Professional Documents
Culture Documents
قصص عجيبة للعلماء
قصص عجيبة للعلماء
كتب هذه القصيدة الطويلة ،فلما اطلع الشيخ ـ رحمه اهلل ـ على القصيدة كتب رًاّد عليها فقال رحمه
اهلل ( :قد اطلعت على قصيدة نشرت في العدد التاسع من مجلة الجامعة اإلسالمية في الهند لفضيلة
الدكتور تقي الدين الهاللي ،وقد كّد رتني كثيرًا ،وأسفت أن تصدر من مثله ،وذلك لما تضمنته من
الغلو في المدح لي ولعموم قبيلتي .. ،إلى أن قال رحمه اهلل :وإنني أنصح فضيلته من العود إلى مثل
ذلك وأن يستغفر اهلل مما صدر منه ) ...إلى آخر كالمه رحمه اهلل تعالى .
فتأمل ـ يا رعاك اهلل ـ كيف أن الشيخ أنكر على مادحه ،ثم مع إنكاره لمادحه تّو ج هذا اإلنكار
بالتلطف ،فقال عن المادح وهو يرد عليه :لفضيلة الدكتور تقي الدين الهاللي ،ثم قال :وإني ألنصح
فضيلته.
* كتب أحد طلبة العلم قصيدة في مدح هذا اإلمام ،فلما قرأها األخ :فهد البكران ( من مجلة الدعوة
) على فضيلة الشيخ ،قال الشيخ :هل تريدون نشرها في مجلة الدعوة ؟
يقول فهد :ثم إن الشيخ توجه بوجهه إلى الوجهة األخرى ـ يعني صرف نظره عن فهد ـ وقال :ـ أي
الشيخ ـ وهو يستغفر ويقول ال حول وال قوة إال باهلل ،ال حول وال قوة إال باهلل ،ال حول وال قوة إال
باهلل ،وتغّير وجهه.
* في عام 1415هـ خصصت جريدة المدينة ملحق األربعاء للحديث عن سماحة الشيخ ،وأعد
الملحق ،وجّهز للطبع ،واستوفيت المعلومات .لكن ما أن علم سماحة اإلمام بذلك حتى منع من
إخراج الملحق وأصّر وأخبر أن العبد بحاجة إلى اإلخالص والكتمان ولعل اهلل سبحانه وتعالى أن
يقبله والحالة هذه ،فاستجابت الجريدة ومنع طبع هذا الملحق عن سماحته رحمه اهلل تعالى .
لقد كان رحمه اهلل تعالى مخفيًا ألعماله ،إال أن اهلل عز وجل كتب لها الظهور لما علمه اهلل تعالى من
صدق نيته وجهاده في اهلل حق جهاده ،وال تعجبوا أيها األحبة فإن اهلل سبحانه وتعالى كما في
الحديث :إذا أحّب عبدًا نادى جبريل فقال :يا جبريل إني أحب فالنًا فأحبه ،فيحبه جبريل ،ثم ينادي
جبريل في أهل السماء :يا أهل السماء إن اهلل يحب فالنًا فأحبوه ،فيحبه أهل السماء ،ثم يوضع له
القبول في األرض .
محمد الدحيم
(حبسي خلوة ،وقتلي شهادة ،ونفيي سياحة) رحمك اهلل يا شيخ اإلسالم !!
سقطت (بغداد) في يد التتار ،فأخذوا يخربون البالد ،ويأسرون العباد ،والناس يفرون من أمامهم،
وقد ساد الناس ذعر شديد ،وفي هذا الوقت العصيب ُو ِلد (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية)
في (حران) بالغرب من دمشق في يوم االثنين 10ربيع األول 661هـ الموافق 12يناير 1263م،
بعد سقوط بغداد في أيدي التتار بثالث سنوات.
وخوًفا من بطش التتار انتقل به والده إلى (دمشق) وكانت مليئة بالعلماء والمدارس ،فأخذ يتلقى العلم
على علمائها وشيوخها حتى وصل عدد شيوخه إلى ( )200شيخ ،وتفوق (ابن تيمية) في دراسة
الحديث والفقه والخط والحساب والتفسير وسنه ال تتجاوز عشر سنوات ،فقد كان الطفل الصغير
(ابن تيمية) سريع الحفظ ،قوي الذاكرة ،حتى أدهش أساتذته وشيوخه من شدة ذكائه.
ولم يكن الطفل الصغير (ابن تيمية) كغيره من األطفال يلعب ويلهو ،بل كان يسارع إلى مجالس
العلماء يستمع إليهم ،ويستفيد منهم ،ولما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ في التأليف واإلفتاء،
فاتسعت شهرته وذاع صيته ،ولما توفي والده الذي كان من كبار الفقهاء في الفقه الحنبلي؛ تولى
التدريس بدًال منه.
كان اإلمام (ابن تيمية) جريًئا في إظهار رأيه ،مدافًع ا عن الُّس َّنة حتى سمي بـ(محيي السنة) ..عاش
ابن تيمية فترة صباه أيام حكم الملك الظاهر بيبرس لمصر والشام الذي ُع ني بالجهاد في سبيل اهلل،
فوقف (ابن تيمية) معه ثم مع السلطان قالوون ،وجاهد بسيفه ضد التتار الذين هجموا على البالد،
وذهب على رأس وفد من العلماء وقابل (قازان) ملك التتار ،وأخذ يخوفه مرة ويقنعه مرة أخرى
حتى توقف زحف التتار على دمشق ،وأطلق سراح األسرى.
وكان ابن تيمية قوي اإليمان ،فصيح اللسان ،شجاع القلب ،غزير العلم ،وكان وحده قوة عظمى
يحسب لها األعداء ألف حساب ،فازداد الناس تعلًقا به ،والتفاًفا حوله ،وظل ابن تيمية يقضي وقته
بين التدريس في المساجد ،وتبصير الناس بأمور دينهم ،وبيان ما أحل اهلل وحرم ،والدفاع عن سنة
الرسول صلى اهلل عليه
وسلم ،ولكن أعداءه ومنافسيه كانوا له بالمرصاد ،فأوقعوا بينه وبين سلطان مصر والشام (ركن
الدين بيبرس الجاشنكير) فنقل إلى مصر وتمت محاكمته بحضور القضاة وكبار رجال الدولة،
فحكموا عليه بالحبس سنة ونصف في القلعة ،ثم أخرجوه من السجن ،وعقدوا جلسة مناظرة بينه
وبين منافسيه وخصومه ،فكسب (ابن تيمية) المناظرة ،ورغم ذلك لم يتركه الخصوم فُنِفي إلى
الشام ،ثم عاد مرة أخرى إلى مصر وحبس ،ثم نقل إلى اإلسكندرية حيث حبس هناك ثمانية أشهر.
واستمرت محنة (ابن تيمية) واضطهاده إلى أن عاد إلى القاهرة حيث قرر السلطان الملك (الناصر
محمد بن قالوون) براءته من التهم الموجهة إليه ،وأعطاه الحق في عقاب خصومه الذين كانوا
السبب في عذابه واضطهاده ،لكن اإلمام (ابن تيمية) فَّض ل أن يعفو عنهم !! وهكذا تكون شيم
الكرام.
وظل (ابن تيمية) في القاهرة ينشر العلم ،ويفسر القرآن الكريم ،ويدعو المسلمين إلى التمسك بكتاب
اهلل وسنة رسوله ،ثم رحل إلى (دمشق) بعد أن غاب عنها سبع سنين ،وخالل وجوده هناك أفتى في
مسألة ،فأمره السلطان بأن يغير رأيه فيها ،لكنه لم يهتم بأوامر السلطان وتمسك برأيه وقال( :ال
يسعني كتمان العلم) فقبضوا عليه وحبسوه ستة أشهر ،ثم خرج من سجنه ،ورجع يفتي بما يراه
مطابًقا لكتاب اهلل وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم.
لكن خصومه انتهزوا فرصة إفتائه في مسألة شد الرحال إلى قبور األنبياء والصالحين ،فقد كان (ابن
تيمية) يرى أن تلك الزيارة ليست واجبة على المسلمين ،فشَّنعوا عليه حتى حبس هو وأخوه الذي
كان يخدمه ،ورغم ذلك لم ينقطع عن التأليف والكتابة ،لكنهم منعوه من ذلك ،فأرادوا كتمان صوت
علمه أيًض ا ،فأخرجوا ما عنده من الحبر والورق ،فلم تلن عزيمته ولم تضعف همته وتحداهم ،فكان
يكتب بالفحم على أوراق مبعثرة هنا وهناك ،وكان من أقواله (حبسي خلوة ،وقتلي شهادة ،ونفيي
سياحة).
وقد توفي (ابن تيمية) عام 728هـ وهو على حاله صابًر ا مجاهًد ا ،مشتغًال بالعلم ،وحضر جنازته
أكثر من خمسمائة ألف مسلم ،وله مؤلفات كثيرة تجاوزت ثالثمائة مجلد أغلبها في الفقه وأصوله
والتفسير ،ومن أهم كتبه (منهاج السنة)
و(درء تعارض العقل والنقل) و(اقتضاء الصراط المستقيم) و(الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء
الشيطان) و(الصارم المسلول على شاتم الرسول) و(الفتاوى الكبرى) و(مجموع الفتاوى) و(السياسة
الشرعية في صالح الراعي والرعية
كان يوم وفاته يوًم ا مشهوًد ا ،اجتمع في تشييع جنازته من الناس ما ال يحصيهم إال اهلل ،حتى كادت
تتوقف حركة الحياة بمصر ،يتقدمهم سلطان مصر والخليفة العباسي والوزراء واألمراء والقضاة
والعلماء ،وصَّلت عليه البالد اإلسالمية صالة الغائب ،في مكة وبيت المقدس ،والخليل ..وغيرها،
ورثاه الشعراء بقصائدهم ،والكتاب برسائلهم.
إنه شيخ اإلسالم (شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقالني) المصري المولد
والنشأة ،المعروف بابن حجر ،وهو لقب لبعض آبائهُ ،و ِلد بمصر العتيقة (الفسطاط) في 12شعبان
سنة 773هـ ،ونشأ يتيًم ا ،فما كاد يتم الرضاعة حتى فقد أمه ،وما إن بلغ الرابعة من عمره حتى
توفي أبوه في رجب 777هـ ،تارًك ا له مبلًغ ا من المال أعانه على تحمل أعباء الحياة ،ومواصلة طلب
العلم.
وبعد موت أبيه ،كفله (زكي الدين الخروبي) كبير تجار مصر ،الذي قام بتربيته والعناية به ،فحفظ
ابن حجر القرآن الكريم ،وجَّو ده وعمره لم يبلغ التاسعة ،ولما رحل الخروبي إلى الحج سنة 784هـ
رافقه ابن حجر وهو في نحو الثانية عشرة من عمره ،ليدرس في مكة الحديث النبوي الشريف على
يد بعض علمائها.
ولما عاد إلى القاهرة ،درس على عدد كبير من علماء عصره أمثال( :سراج الدين بن الملقن)
و(البلقيني) و(العز بن جماعة) و(الشهاب البوصيري) ثم قام ابن حجر برحالت دراسية إلى الشام
والحجاز واليمن ،واتصل بمجد الدين الشيرازي ،وتعلم اللغة صاحب (القاموس المحيط) عليه يديه،
غير أن ابن حجر وجد في نفسه ميال وحًّبا إلى حديث النبي -صلى اهلل عليه وسلم -فأقبل عليه منكًّبا
على علومه مطالعة
وقراءة ،وأجازه معظم شيوخه بالرواية وإصدار الفتاوى والقيام بالتدريس ،فكانت تقام له حلقات
الدرس ،ويجلس فيها العلماء في كل بلد يرحل إليه ،حتى انتهت إليه الرياسة في علم الحديث في
الدنيا بأسرها ،وبلغت شهرته اآلفاق ،وارتحل أئمة العلم إليه من كل أنحاء العالم اإلسالمي.
وقد َأَّه َله علمه الغزير أن يشغل عدة مناصب مهمة ،فقام بتدريس الحديث والتفسير في المدرسة
الحسنية ،والمنصورية ،والجمالية ،والشيخونية والصالحية ..وغيرها من المدارس الشهيرة بمصر،
كما تولى مشيخة المدرسة البيبرسية ،وولي اإلفتاء
بدار العدل ،وتولى ابن حجر منصب القضاء ،واستمر في منصبه نحو عشرين سنة شهد له فيها
الناس بالعدل واإلنصاف ،وإلى جانب ذلك تولى الخطابة في الجامع األزهر ثم جامع عمرو بن
العاص .
وكان من عادة ابن حجر أن يختم في شهر رمضان قراءة صحيح البخاري على مسامع تالميذه
شرًح ا وتفسيًر ا ،وكانت ليلة الختام بصحيح البخاري كالعيد؛ حيث يجتمع حوله العلماء والمريدون
والتالميذ ،ثم توج حَّبه لصحيح البخاري وشغفه به بأن أَّلف كتاًبا لشرحه سماه (فتح الباري بشرح
صحيح البخاري) استغرق تأليفه ربع قرن من الزمان!! حيث بدأ التأليف فيه في أوائل سنة 817هـ
وانتهى منه في غرة رجب سنة 842هـ.
وهذا الكتاب يصفه تلميذه (السخاوي) بأنه لم يكن له نظير ،حتى انتشر في اآلفاق وتسابق إلى طلبه
سائر ملوك األطراف ،وقد بيع هذا الكتاب آنذاك بثالثمائة دينار وقد كتب اهلل البن حجر القبول في
زمانه ،فأحبه الناس؛ علماؤهم وعوامهم ،كبيرهم وصغيرهم ،رجالهم ونساؤهم ،وأحبه أيًض ا
النصارى ،وكانت أخالقه الجميلة وسجاياه الحسنة هي التي تحملهم على ذلك ،فكان يؤثر الحلم
واللين ،ويميل إلى الرفق وكظم الغيظ في معالجة األمور ،يصفه أحد تالميذه بقوله :كل ذلك مع شدة
تواضعه وحلمه وبهائه ،وتحريه في مأكله ومشربه وملبسه وصيامه وقيامه ،وبذله وحسن عشرته
ومحاضراته النافعة ،ورضي أخالقه ،وميله ألهل الفضائل ،وإنصافه في البحث ورجوعه إلى الحق
وخصاله التي لم تجتمع ألحد من أهل عصره.
وقد ترك لنا ابن حجر ثروة ضخمة من الكتب تزيد على المائة والخمسين كتاًبا ،أهمها:
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري) و(تهذيب التهذيب) في تراجم رجال الحديث و(بلوغ المرام من
أدلة األحكام) في الفقه و(اإلصابة في تمييز الصحابة)
و(الدرر الكامنة) في أعيان المائة الثامنة ،و(القول المسدد في الذِّب عن مسند اإلمام أحمد)..
وغيرها ،وفي ليلة السبت 28ذي الحجة سنة 852هـ توفي شيخ اإلسالم ،وحامل لواء السنة (ابن
حجر العسقالني).
ُم َناي ِمَن الُّدْنَيا ُع ُلوٌم َأُبُّثَه ا
َو َأْنُش ُر َه ا في ُكِّل
َباٍد َوَح اِض ِر
ُد َع اٌء إلى اْلُقْر آِن َو الُّس َنِن اَّلِتي
ْك
َتَناَس ى ِذ ُر َه ا ِفي الَمَح اِض ِر
قد تحققت أمنيتك أيها الفقيه ،فأفكارك وكتبك لها مكانة عظيمة في نفوس الكثيرين من أبناء اإلسالم،
يدرسونها بعناية ،ويستفيدون منها ،ويتخذون منها مصباًح ا كلما ضل بهم الطريق.
في (مدينة) قرطبة الساحرة ،إحدى مدن األندلس وفي قصر أحد الوزراء ،في أواخر شهر رمضان
في عام 384هـ ،كان ميالد طفل مبارك أصبح له بعد ذلك شأن كبير ،فرح به والده فرًح ا شديًد ا،
وشكر اهلل سبحانه وتعالى على نعمته وعطائه.
نشأ الغالم في قصر أبيه نشأة كريمة ،فقد كان أبوه وزيًر ا في الدولة العامرية وتعلم القرآن الكريم،
والحديث النبوي ،والشعر العربي ،وفنون الخط والكتابة ،وتمر األيام ويكبر الغالم ،فيجعله أبوه في
صحبة رجل صالح يشرف عليه ،ويشغل وقت فراغه ،ويصحبه إلى مجالس العلماء ..إنه( :علي بن
أحمد بن سعيد األندلسي) الشهير بابن حزم األندلسي.
كانت أسرته لها مكانة مرموقة وعراقة في النسب ،فـ(بنو حزم) كانوا من أهل العلم واألدب ،ومن
ذوي المجد والحسب ،تولى أكثر من واحد منهم الوزارة ،ونالوا بقرطبة جاًه ا عريًض ا.
وكان (أحمد بن سعيد) والد (ابن حزم) من عقالء الرجال ،الذين نالوا حًّظ ا وافًر ا من الثقافة والعلم،
ولذلك كان يعجب ممن يلحن في الكالم ،ويقول( :إني ألعجب ممن يلحن في مخاطبة أو يجيء بلفظة
قلقة في مكاتبة ،ألنه ينبغي له إذا شك في شيء أن يتركه ،ويطلب غيره ،فالكالم أوسع من هذا).
وكانت هذه الثقافة الواسعة ،والشخصية المتزنة العاقلة هي التي أهلت والد ابن حزم لتولي منصب
الوزارة للحاجب المنصور ابن أبي عامر في أواخر خالفة بني أمية في األندلس ،وفي القصر عاش
ابن حزم عيشة هادئة رغدة ،ونشأ نشأة مترفة ،تحوط بها النعمة ،وتالزمها الراحة والترف ،فال
ضيق في رزق وال حاجة إلى مال ،وحوله الجواري الحسان ورغم هذه المغريات عاش ابن حزم
عفيًفا لم يقرب معصية ..يقول في ذلك( :يعلم اهلل وكفي به عليًم ا ،أني بريء الساحة ،سليم اإلدام
(أي :آكل حالًال) صحيح البشرة ،نقي الحجزة ،وأني أقسم باهلل أجل األقسام ،أني ما حللت مئزري
على فرج حرام قط ،وال يحاسبني ربي بكبيرة الزنى منذ عقلت إلى يومي هذا).
وتغيرت األحوال؛ فقد مات الخليفة ،وجاء خليفة آخر ،فانتقل ابن حزم مع والده إلى غرب قرطبة
بعيًد ا عن الفتنة ،ومن يومها والمحن تالحق ابن حزم ،فالحياة ال تستقُّر على حال ،فقد كشرت له عن
أنيابها ،وأذاقته من مرارة كأسها ،بعدما كانت له نعم الصديق ،واضطر(ابن حزم)إلى الخروج من
قرطبة إلى (الَم ِر َّية) سنة 404هـ وبعدها عاش في ترحال مستمر بسبب السياسة واضطهاد الحكام
له ،وكان ابن حزم واسع االطالع ،يقرأ الكثير من الكتب في كافة المجاالت ،ساعده على ذلك
ازدهار مكتبات قرطبة بالكتب المتنوعة ،واهتمام أهل األندلس بالعلوم واآلداب ،واشتهر ابن حزم
بعلمه الغزير ،وثقافته الواسعة ،فكان بحق موسوعة علمية أحاطت بالكثير من المعارف التي كانت
في عصره في تمكن وإحاطة.
قال عنه أحد العلماء (أبو عبد اهلل الحميدي) :كان ابن حزم حافًظ ا للحديث
وفقهه ،مستنبًط ا لألحكام من الكتاب والسنة ،متفِّنًنا في علوم جَّمة عامًال بعلمه ،ما رأينا مثله فيما
اجتمع له من الذكاء ،وسرعة الحفظ ،وكرم النفس والتدين..
وبعد أن بلغ ابن حزم رتبة االجتهاد في األحكام الشرعية ،طالب بضرورة األخذ بظاهر النصوص
في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ،وكان ابن حزم متنوع الكتابات ،كتب في علوم القرآن
والحديث ،والفقه واألديان ،والرد على اليهود والنصارى ،والمنطق ..وغيرها من العلوم ،قال عنه
أحد المؤرخين :كان ابن حزم أجمع أهل األندلس قاطبة لعلوم اإلسالم ،وأوسعهم معرفة مع توسعه
في علم اللسان
(أي علوم اللغة) وزيادة حظه من البالغة والشعر والمعرفة بالسير واألخبار ..وقد بلغ ما كتبه ابن
حزم أربعمائة مجلد ،تشتمل على ثمانين ألف ورقة تقريًبا ،كما قال ابنه الفضل ..يقول عنه اإلمام
(أبو حامد الغزالي) :وجدت في أسماء اهلل تعالى كتاًبا ألفه (ابن حزم األندلسي) يدل على عظيم
حفظه وسيالن ذهنه.
شغل ابن حزم منصب الوزارة ثالث مرات ،وكان وفًّيا للبيت األموي الحاكم في األندلس ،وموالًيا
لهم ،يعمل على إعادة الخالفة للدولة األموية ،ويرى أحقيتها في الخالفة ،وبسبب ذلك كان يعِّر ض
نفسه لألسر أو السجن أو النفي ،وقد دبر له خصومه المكائد ،وأوقعوا بينه وبين السلطان حسًد ا
وحقًد ا عليه ،حتى أحرقت كتبه في عهد (المعتضد بن عباد) فقال ابن حزم في ذلك:
وقد منح اهلل ابن حزم ذاكرة قوية وبديهة حاضرة ،فكان متواضًع ا هلل ،شاكًر ا
له ،يقول في ذلك( :وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه ال خصلة لك فيه ،وأنه موهبة من اهلل مجردة،
َو َه َبَك إياها رُّبك تعالى ،فال تقابلها بما يسخطه ،فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها ،تولد عليك نسيان
ما علمَت وحفظَت ).
وكان عزيز النفس ،واثق الكلمة أمام خصومه وأعدائه ،ال ينافق الحكام ،ويرفض قبول هداياهم حتى
لو سبب له ذلك الكثير من المتاعب ،وكانت صفة الوفاء مالزمة له ،فكان وفًّيا لدينه وإخوانه
وشيوخه ،ولكل من اتصل به.
وتفرغ ابن حزم للتأليف؛ فأخرج كتًبا كثيرة ،مثل( :المحَّلى) في الفقه و(الفصل بين أهل اآلراء
والنحل) و(اإلحكام في أصول األحكام) و(جمهرة أْنَس اب العرب) و(جوامع السير) و(الرد على من
قال بالتقليد) و(شرح أحاديث الموطأ) كما يعد كتاب (طوق الحمامة) من أشهر كتبه ،وفيه الكثير من
الشعر الذي قاله في مختلف المناسبات.
وعاش هذا الفقيه في محراب العلم ،يتصدى للظلم والجهل ،ويجاهد مع ذلك هوى نفسه ،وبعد حياة
حافلة بالكفاح والعلم والصبر على اإليذاء ،لقي ابن حزم ربه في الثامن والعشرين من شعبان سنة
564هـ عن عمر يقارب إحدى وسبعين سنة ،ويقف (أبو يوسف يعقوب المنصور) ثالث خلفاء دولة
الموحدين أمام قبره خاشًع ا ولم يتمالك نفسه ،فيقول :كل الناس عيال على ابن حزم.
ولد (أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد) الشهير بابن رشد الحفيد في مدينة (قرطبة) عام
520هـ ،وكانت آنذاك عاصمة من عواصم الثقافة والفنون واآلداب ،كان أبوه قاضًيا ،أما جده فقد
كان قاضي القضاة باألندلس ،فهو ينتمي ألسرة عريقة في العلم
والقضاء.
نشأ بقرطبة وتعلم الفقه والرياضيات والطب على يد كبار األساتذة في عصره ،وتولى القضاء
بقرطبة ،ولم يشغله هذا المنصب عن القراءة ،حتى قالوا عنه :إنه لم يترك ليلة من عمره بال درس
وال تأليف إال ليلة عرسه وليلة وفاة أبيه!!
كانت سعادة ابن رشد الحقيقية عندما يكون مع كتبه ،وكان يحس بحب زائد تجاه كتب الفلسفة التي
كان يحسبها بعض الناس في عصره من الكفر والضاللة!! فلم يهتم بما ُيقال عنها؛ ألنه واثق كل
الثقة في عقيدته ودينه ،فأخذ يقرأ لكبار الفالسفة مثل أرسطو ..وغيره ،حتى أصبح عالًم ا بالفلسفة
إلى جانب سعة علمه في الفقه وسائر علوم عصره.
ونظًر ا لمكانته العلمية استدعاه (المنصور أبو يعقوب) سلطان دولة الموحدين إلى مراكش ،فأكرمه
وقدره تقديًر ا كبيًر ا ،ولم يكن ابن رشد يرتاد مجالس الطرب ،بل كان يتعفف عن حضور هذه
المجالس ،وبلغ من تعففه أنه أحرق شعره في الغزل أيام شبابه ،وكان ابن رشد طبيًبا ..يقول( :من
اشتغل بعلم التشريح ازداد إيماًنا باهلل) إنه يرى أن من يعمل في مهنة الطب ،يرى عن قرب إعجاز
اهلل في خلقه ،ويشاهد أعضاء الجسم وهي على نظام دقيق؛ فيزداد إيمانه قوة ورسوًخ ا.
والبن رشد كتب كثيرة في الطب؛ أهمها كتاب (العلل) وهو من الكتب التي تتعرض لألدوية ،وقد
كان ابن رشد فقيًها عالًم ا ،قال عنه ابن األنبار :كان يفزع إلى فتواه في الطب ،كما يفزع إلى فتواه
في الفقه ،وله كتاب في الفقه سماه( :بداية المجتهد ونهاية المقتصد) وغير ذلك من الكتب الكثيرة
التي بلغت خمسين كتاًبا.
وبعد هذه الرحلة العلمية المباركة ،مرض ابن رشد مرًض ا شديًد ا ومات ليلة الخميس 9صفر سنة
595هـ ،ونقل جثمانه من(مراكش) إلى قرطبة حسب وصيته حيث المنشأ واألجداد.
يا للعجب!! هاهي ذي أرض الفرس ،التي كانت أرًض ا للكفر تنجب الكثير من رجال اإلسالم وأعمدة
دفاعه ،ويظهر منها عدد كبير من كبار المحدثين والفقهاء ،يحفظون سنة النبي -صلى اهلل عليه
وسلم -وأصحابه ،وتحققت بذلك نبوءة رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -فعن أبي هريرة -رضي اهلل
عنه -قال :كَّنا جلوًس ا عند النبي -صلى اهلل عليه وسلم -فأنزلت عليه سورة الجمعة ،وفيها قول اهلل
تعالى{ :وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} [الجمعة ]3 :فقلت :من هم يا رسول اهلل؟
فلم يجبه الرسول صلى اهلل عليه وسلم حتى سأله أبو هريرة ثالث مرات ،فوضع الرسول -صلى اهلل
عليه وسلم -يده على سلمان الفارسي -رضي اهلل عنه -ثم قال( :لو كان اإليماُن عند الثريا لناله رجال
-أو رجل -من هؤالء) [متفق عليه].
ففي بلدة (قزوين) التي تقع في أذربيجان ،ولد (أبو عبداهلل محمد بن يزيد القزويني) الشهير بابن
ماجه ،نسبة إلى لقب والده سنة (209هـ) وكانت والدته في زمن الخليفة المأمون الذي كان عهده
مليًئا بأئمة الفقه والحديث ،وكانت (قزوين) قد فتحت في خالفة عثمان ابن عفان -رضي اهلل عنه-
في سنة 24هـ ،وأصبحت ذات شهرة كبيرة في رواية الحديث النبوي الشريف ،فمن أرضها خرج
كبار المحدثين الذين يحفظون أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وينشرونها بين الناس.
وقد حفظ ابن ماجه القرآن الكريم ،وتعلم الحديث الشريف على يد المشايخ والمحدثين الكبار أمثال:
(إسماعيل بن توبة القزويني) وهو محدث وفقيه مشهور ،و(هارون بن موسى بن حيان التميمي)
و(على بن محمد أبو الحسن الطنافسي) ..وغيرهم.
رحل ابن ماجه في طلب العلم ،وأخذ ينتقل من بلد إلى آخر ،ليتعلم ويسمع من أحاديث رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،فذهب إلى خراسان ،والعراق ،والحجاز ومصر ،والشام ..وغيرها من البالد،
ثم أنهى ابن ماجه رحالته في طلب الحديث وعاد إلى بلده (قزوين) وأمضى بها بقية عمره في خدمة
الحديث إلى أن توفي في عهد الخليفة العباسي (المعتمد على اهلل) في يوم االثنين ،ودفن يوم الثالثاء
الموافق الثاني والعشرين من رمضان سنة 273هـ عن عمر يقارب الرابعة والستين.
وكانت البن ماجه مؤلفات في التفسير والتاريخ ،إال أن أشهر كتبه (السنن) الذي استحق به اإلمامة
في الحديث الشريف ،فهو من كتب الحديث المعتمدة عند علماء الحديث ،وأحد كتب الحديث الستة
المعروفة ،وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي
وسنن ابن ماجه ،وقد احتوت سنن ابن ماجه على كثير من األحاديث التي لم تروها كتب الحديث
األخرى ،كما تضم سنن ابن ماجه أربعة آالف من أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
في إقليم صغير مجاور إلقليم السند يدعي (سجستان) ولد (أبو داود سليمان بن األشعث بن بشر بن
شداد بن إسحق السجستاني) سنة 202هـ ،وأحب الحديث منذ صغره ،فطاف البالد يسمع األحاديث
من المشايخ الكبار في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان ..وغيرها من أمثال (أحمد بن
حنبل) و(يحيي بن معين) و(مسدد بن مسرهد) و(قتيبة بن سعيد).
تألق نجم أبي داود في الحديث واشتهر بعلمه وعمله ،حتى أصبح من كبار أئمة اإلسالم في عصره،
وروي عنه الترمذي والنسائي وغيرهما من األئمة األعالم ،ذهب أبو داود إلى بغداد ومنها إلى
البصرة ويروى في سبب رحيله إليها :أنه ذات يوم طرق باب أبي داود طارق؛ ففتح له الخادم ،فإذا
باألمير (أبو أحمد الموفق) ولي عهد الخليفة العباسي يستأذن ،فأذن له أبو داود ،فدخل األمير وأقبل
عليه ،فقال له أبو داود :ما جاء باألمير في هذا الوقت؟! فقال :خالل ثالث ،يعني أسباب ثالثة:
أما األولى :أن تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطًنا ،ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار األرض ،فتعمر
بك ،بعد أن خربت وانقطع عنها الناس بعد محنة الزنج.
والثالثة :أن تفرد لهم مجلًس ا ألن أبناء الخلفاء ال يجلسون مع العامة!! فقال أبو داود :أما الثالثة فال
سبيل إليها ألن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
وحاز كتاب السنن الذي جمعه أبو داود وُع ِر َف بـ(سنن أبي داود) إعجاب الناس وتقدير العلماء ،فقد
روي أنها ُقرئت على ابن األعرابي فأشار إلى النسخة ،وهي بين يديه ،وقال :لو أن رجال لم يكن
عنده من العلم إال كتاب اهلل عز وجل ثم هذا الكتاب يقصد سنن أبي داود ،لم يحتج إلى شيء من العلم
بعد ذلك ،وهذا الكتاب الذي يبلغ عدد أحاديثه نحو أربعة آالف حديث وثماني مائة حديث اختارها أبو
داود من بين خمس مائة ألف حديث كتبها عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
وكان أبو داود متمسًك ا بسنة الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،حريًص ا كل الحرص على تطبيقها ،وبيان
أهميتها للناس ليقوموا بأدائها ،وكان ألبي داود منهج أشبه بمنهج الصحابة في اتباع السنة النبوية
والتسليم بها ،وترك الجدل في األمور التي تشعل نار الفتنة بين المسلمين.
مات أبو داود عن ثالثة وسبعين عاًم ا ،قضاها في خدمة السنة النبوية المطهرة ،بعد أن ترك له ابًنا
يشبهه في كثير من صفاته هو :الحافظ (أبو بكر عبد اهلل بن أبي داود) الذي كان تلميًذ ا نجيًبا لوالده،
وشارك أباه في التتلمذ على شيوخه بمصر والشام ،وسمع الحديث عن كبار العلماء ببغداد وخراسان
وأصبهان وسجستان وشيراز ،فصار عالًم ا فقيًها ،وألف كتاب (المصابيح).
رحم اهلل أبا داود وجزاه اهلل عن اإلسالم خيًر ا ،لقد كان للسنة النبوية الشريفة حصًنا منيًع ا
في مدينة الكوفة ولد أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم األنصاري سنة 113هـ ،وتطلع إلى العلم
والدراسة فلم يجد خيًر ا من مجلس الفقيه الكبير (أبي حنيفة) فتتلمذ على يديه ،ودرس عنده أصول
الدين والحديث والفقه.
ولصحبته ألبي حنيفة قصة يرويها لنا (أبو يوسف) فيقول :كنت أطلب الحديث والفقه عند أبي
حنيفة ،وأنا مقل (يعني قليل المال) رث الحال والهيئة ،فجاءني أبي يوًم ا فانصرفت معه ،فقال لي :يا
بني ،ال تمد رجلك مع أبي حنيفة (أي ال تذهب إليه) فإن أبا حنيفة خبزه مشوي (يقصد أنه غني
وقادر على أن يعيش عيشة كريمة) وأنت تحتاج إلى معاش (عمل حتى تنفق على نفسك وال تنقطع
للعلم) ،فقصرت عن كثير من الطلب (أي طلب العلم) وآثرت طاعة أبي ،فتفقدني أبو حنيفة وسأل
عني ،فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه؛ فقال لي :ما شغلك عنا ؟ قلت :الشغل بالناس وطاعة
والدي ،وجلست حتى انصرف الناس ،ثم دفع لي صرة وقال:
استمتع بها.
فنظرت فإذا فيها مائة درهم وقال :الزم الحلقة وإذا أفرغت هذه (إذا أنفقتها) فأعلمني ،فلزمت الحلقة،
فلما قضيت مدة يسيرة ،دفع إلَّي مائة أخرى ،ثم كان يتعهدني (يرعاني) وما أعلمته بقلة قط ،وال
أخبرته بنفاد شيء ،وكأنه يخبر بنفادها وظل كذلك حتى استغنيت.
ولم يكن ألبي حنيفة تلميذ في نجابة أبي يوسف وذكائه ،فقد استمر في تلقي العلم حتى حفظ التفسير
والحديث والمغازي وأيام العرب ،وسار أبو يوسف على نهج أستاذه أبي حنيفة في الفقه ،إال أنه
كانت له اجتهادات خاصة به ،وألف كتًبا كثيرة أشهرها كتاب (الخراج) وهو رسالة في إدارة المال
العام والقضاء ،وقد قربه الخليفة (هارون الرشيد) إليه ،وواله القضاء ،ومنحه لقب قاضي القضاة،
وكان يستشيره في أمور الدين والدنيا.
وفي عام (182هـ) مات أبو يوسف وهو يقول :اللهم إنك تعلم أنني لم أجر في حكم حكمت فيه بين
اثنين من عبادك تعمًد ا ،وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى اهلل عليه وسلم،
وكلما أشكل علَّي أمر جعلت أبا حنيفة بيني وبينك ،ومات الفقيه أبو يوسف ،فحزن عليه الناس
جميًع ا؛ وقال صديقه
أبو يعقوب الحريمي( :اليوم مات الفقيه) ..فرحم اهلل أبا يوسف وأسكنه فسيح جناته
في مدينة (الري) القريبة من (طهران) ولد (أبو بكر محمد بن زكريا) سنة 251هـ865/م وسمي
بالرازي نسبة إلى مدينة (الري) التي ولد فيها ،أحب الرازي الغناء والضرب على العود في بداية
حياته ،ثم هجر ذلك كله واتجه إلى الطب والكيمياء ،يقرأ فيهما كثيًر ا ،وأراد أن يجري إحدى
التجارب الكيميائية ،فاستنشق غاًز ا ساًّم ا سبب له مرًض ا شديًد ا ،وعالجه أحد األطباء حتى شفي،
وكان له صديق يعمل بالصيدلة ،فأخذ يتردد عليه ،وطالع كثيًر ا من الكتب عن الطب ،حتى أصبح
طبيًبا مشهوًر ا.
ولما بلغ سن األربعين ،صار أشهر أطباء عصره ،فطلب منه الخليفة العباسي (المقتدر باهلل جعفر بن
المعتضد) إنشاء مستشفى في مدينة (بغداد) عاصمة الخالفة ففكر طويًال واستشار أصدقاءه
وتالميذه ،وأخذ يناقش معهم أنسب األماكن إلقامة المستشفى ،وبعد طول بحث ونقاش أدهش الجميع
بفكرته الرائعة ،حين أخذ قطعة لحم كبيرة ،وقطعها إلى قطع صغيرة ،ووضعها في أماكن مختلفة
من ضواحي مدينة بغداد ،وانتظر بضعة أيام ،ثم طاف على األماكن التي وضع القطع فيها ليرى
تأثير الجو والزمن عليها ،فإذا َتِلَفْت القطعة بسرعة اعتبر أن هذه المنطقة ال تصلح إلقامة
المستشفى ،أما إذا ظلت قطعة اللحم كما هي دون أن يصيبها التلف ،أو تأخر ،فهذا دليل على طيب
هواء المنطقة ،وصالحيتها إلقامة المشروع ،وهكذا وقع اختياره على المكان المناسب إلقامة
مستشفاه.
ذهب الرازي إلى الخليفة ينصحه ببناء المستشفى في هذا المكان ،فأعجب الخليفة بذكائه ،وأمر
أشهر المهندسين ،وأمهر البنائين بتشييدها وبنائها ،حتى تَّم البناء ،فكان الرازي هو مدير ذلك
المستشفى ورئيس أطبائه بتكليف من الخليفة ،واعتاد الرازي أن يشرك تالميذه في استشاراته
الطبية ،فكان يجلس في بهو المستشفى الكبير ومن حوله األطباء أصحاب الخبرة في الدائرة القريبة
منه ،ثم األطباء المبتدئون في الدائرة الخارجية ،وعند حضور أحد المرضى يعرض حالته أوًال على
المبتدئين ،فإذا لم يستطيعوا معرفة نوع المرض ،انتقل المريض إلى الدائرة الداخلية ليفحصه
األطباء المتمرسون ،فإذا لم يعرفوا تشخيص حالة المريض ،تولى الرازي بنفسه فحص المريض
ومعالجته.
وكانت طريقة الرازي مميزة في العالج إذ أنه كان يتعرف أوال على أعراض المرض في دقة
وصبر ،ثم يحصر االحتماالت التي تشير إلى حقيقته ،ثم يستبعد منها ما توحي خبرته ومالحظاته
بضرورة استبعاده ،فإذا عرف المرض وتأكد منه ،وصف له العالج ،وتتبع حالة المريض ،وكان
النجاح يحالفه في أكثر الحاالت التي عرضت عليه.
وكان الرازي دائًم ا ينصح تالميذه أن يساعدوا الفقراء بأن يعالجوهم مجاًنا ،ويعلمهم أن مهنتهم مهنة
الرحمة بالضعفاء والمعذبين ،وأن عليهم مساعدة مرضاهم على الشفاء بالكلمة الطيبة ،وإحياء األمل
في نفوسهم ورفع روحهم المعنوية ،كما كان ينصحهم بالمدوامة على القراءة والبحث واالطالع في
المراجع الطبية مهما بلغوا من العمر والخبرة ،كما نصحهم بالتعفف عند الكشف على النساء،
وااللتزام بالشريعة اإلسالمية السمحة ،ونهاهم عن الكبر والخيالء.
وفي مكتبة البيمارستان (المستشفى) كان الرازي يقرأ على تالميذه ما قاله الفالسفة من األطباء
القدماء عن األمراض المختلفة ،وكان من رأيه أنه يجب على األطباء أن يعرفوا تشريح أعضاء
الجسم ،لذلك كان يأتي بالقرود من بالد زنجبار في أفريقيا ويجري عليهم تجاربه أمام تالميذه ،فإذا
نجحت التجربة على الحيوان يقوم بإجرائها على اإلنسان.
وكان الرازي من أشد المعجبين بجابر بن حيان ،فقرأ كتبه ،واستطاع أن يطور الكثير مما اكتشفه
أستاذه (جابر) وأجرى مئات التجارب الكيمائية ،وكان دائم البحث عن أدوية جديدة ووسائل مبتكرة
تنفع في عالج المرضى ،فحصل على (الكحول) من تقطير المواد النشوية والسكرية المتخمرة،
واستعمله في عالج بعض األمراض ،وصنع األدوية الطبية ،واخترع األنبوب الذي يخرج الدم
الفاسد خارج الجرح ،ونجحت تجاربه في خياطة أجهزة الجسم الداخلية بخيوط تصنع من أمعاء
الحيوانات.
ومن أهم إنجازات الرازي العلمية والطبية أنه اكتشف مرض الحساسية ،وكذلك (اليرقان) الناجم عن
تكسر الدم ،ومَّيز بينه وبين التهاب الكبد المعدي ،واكتشف أيًض ا مرض الحصبة ،ومَّيز بينه وبين
مرض الجدري ،واستعمل الرازي خبرته كعالم كيميائي في إدخال بعض المركبات الكيمائية ألول
مرة في العالج.
وكان الرازي من أوائل األطباء الذين يعالجون مرضاهم بأسلوب نفسي بدون أدوية ..ويأتي
بالقصاصين إلى المستشفى ليقُّص وا على المرضى القصص والحكايات ليرفهوا عنهم ،وينسوهم آالم
المرض ،واستمر الرازي في خدمة مرضاه ،وكلما اكتشف شيًئا جديًد ا؛ ازداد تواضًع ا وحًّبا لعمله،
وظل الرازي يبحث ويفكر ويكتب الكثير من الكتب؛ فترك لنا نحو 224كتاًبا في الطب والصيدلة
والكيمياء وغيرها من العلوم المختلفة ،ومن أشهر كتبه :كتاب (الحاوي) الذي يعد من الكتب المهمة
في مجال الطب ،وكان مرجًع ا لألطباء ،وترجمه األوربيون واستفادوا منه ،وقد سماه (الرازي)
الحاوي ألن كتابه هذا يعد موسوعة علمية طبية تحوي كل الكتب واألقاويل الطبية القديمة من أهل
صناعة الطب ،ويقع في عشرين مجلًد ا ،ويتناول الكتاب جميع األمراض الموجودة في جسم
اإلنسان ،ومعالجتها وكيفية الوقاية منها قبل وقوعها.
ومن كتبه المهمة( :رسالة في الجدري والحصبة) وهي رسالة علمية هامة ،وكتاب (أخالق الطبيب)
الذي شرح فيه الرازي العالقة اإلنسانية بين األطباء والمرضي ،وبينهم وبين بعضهم ،وبينهم وبين
الحكام ،كما تحدث فيه أيًض ا عن نصائح عامة للمرضى في تعاملهم مع األطباء ،وكتاب
(المنصوري) وهو أقل حجًم ا من الحاوي فقد جعله الرازي عشرة أقسام في أبواب الطب ،وفي
القسم الثامن تجارب أجراها على الحيوانات الختبار أساليب جديدة في العالج ،وكتاب (سر
األسرار) من أشهر مؤلفاته في الكيمياء.
ومن كتبه األخرى( :قصص وحكايات المرضى) و(المدخل الصغير إلى الطب) و(الطب
الروحاني) و(رسالة في الداء الخفي) و(المدخل التعليمي) و(مجموعة الرسائل الفلسفية) ..وغير ذلك
من كتب كثيرة تحتوي على كثير من المعارف والعلوم التي درسها الرازي ،واستمر الرازي يجري
التجارب حتى أثرت أبخرة المواد الكيميائية على عينيه؛ فضعف بصره ،وفي ليلة من ليالي عام
311هـ923/م مات الرازي ،بعد أن ترك تراًثا طبًّيا عظيًم ا.
في مدينة (طوس) إحدى مدن بالد (فارس) وبالتحديد في قرية (غزالة) جلس طفالن صغيران
ينظران إلى والدهما وهو يغزل الصوف ،أخذا يتأمالن أصابعه؛ ويتابعانه في إعجاب شديد ،ترك
األب مغزله وأخذ ينظر إلى ولديه (محمد وأحمد).
شعر الشقيقان أن أباهما يريد أن يقول لهما شيًئا ،لقد فهما ذلك من نظرات عينيه ،وفجأة ..انهمرت
الدموع من عيني األب الذي عرف بالتقوى والصالح ،فقد تملكه إحساس جارف بأنه سيموت قريًبا،
ولم يترك لولديه شيًئا من المال يعينهما على تحمل أعباء الحياة ،غادر األب دكانه ،وذهب إلى
صديق وفي له؛ فأوصاه بتربية ولديه الصغيرين ،وترك له ما كان معه من مال ،وكان قليًال ،ومات
األب ،فعمل الصديق بالوصية ،فنَّش أ الطفلين تنشئة دينية صحيحة ،وعاملهما معاملة طيبة وألحقهما
بإحدى المدارس ،وكانت أمهما ترعاهما بعناية كبيرة ،وتتابع دراستهما ،فنبغ الطفالن ،وتفَّو قا على
أقرانهما ،وبخاصة (محمد الغزالي) الذي تعلم مبادئ النحو واللغة ،وحفظ القرآن الكريم ،وتعلم اللغة
الفارسية.
وسافر محمد إلى (جرجان) لسماع دروس اإلمام (أبو نصر اإلسماعيلي) ،وفي أثناء عودته إلى
بلدته (طوس) قطع اللصوص عليه الطريق ،وأخذوا منه مخلته التي فيها كتبه وكراريسه ،ظًّنا منهم
أن فيها نقوًد ا ومتاًع ا ،وساروا في طريقهم؛ فتبعهم (أبو حامد الغزالي) وأخذ يلح عليهم أن يعطوه
أوراقه وكتبه التي هاجر من أجلها ومعرفة ما فيها؛ فضحك كبير اللصوص وقال له :كيف تزعم أنك
عرفت علمها ،وعندما أخذناها منك ،أصبحَت ال تعلم شيًئا وبقيت بال علم؟! ولكنه أشفق عليه وسلمه
الكتب.
وكان هذا درًس ا عظيًم ا للغزالي ،فعندما وصل إلى طوس مكث ثالث سنوات يحفظ ما كتب في هذه
األوراق ،حتى ال يتعرض علمه للضياع مرة أخرى ،وانتقل الغزالي إلى مدينة (نيسابور) سنة
473هـ1080/م ،فتعلم الفقه والمنطق والفلسفة ،وأصول الفقه وغيرها من العلوم على يد (أبي
المعالي الجويني) الملقب بإمام الحرمين وكان الغزالي أحد تالمذته األذكياء فبرع في الفقه وأتقن
الجدل ،وبدأ في تصنيف الكتب.
والزم الغزالي أستاذه ،يتعلم على يديه ،حتى انتقل إمام الحرمين إلى ربه سنة 478هـ1085/م،
فخرج الغزالي من نيسايور إلى العسكر حيث لقي الوزير السلجوقي (نظام الملك) الذي أكرمه وبالغ
في إكرامه ،وكان الغزالي حينئذ متزوًج ا وله ثالث بنات وولد اسمه (حامد) لذلك كني أبا حامد.
وناظر الغزالي وناقش فكرة الجهاد ضد الباطل سواء داخل أو خارج بالد اإلسالم مع األئمة
والعلماء في مجلس الوزير ،فبهرهم غزارة علمه وقوة منطقه ،وأعجب به (نظام الملك) فواله
منصب التدريس في المدرسة النظامية ببغداد سنة 484هـ1091/م ،فأقبل عليه الطالب إقباال شديًد ا،
واتسعت حلقاته ،وذاع صيته واشتهر؛ حتى لقب بإمام بغداد ،فكلفه الخليفة العباسي (المستظهر باهلل)
بالرِّد على بعض الفرق التي انحرفت عن اإلسالم؛ فكتب الغزالي في الرد عليهم( :القسطاس
المستقيم) و(حجة الحق) ..وغيرهما من الكتب التي كشفت فساد وضالل هذه الفرق.
وترك (الغزالي) التدريس بالمدرسة النظامية ،واتجه إلى طريق الزهد والعبادة ،ورحل إلى عدة مدن
إسالمية ،فرحل إلى (دمشق) وأقام مدة قصيرة ،ثم رحل إلى بيت المقدس ،ومنها ذهب إلى (مكة)
واختار طريق التصوف وفَّض له على كل الطرق ،ولم يزل الغزالي على حالته في الزهد والعبادة
حتى طلب منه السلطان العودة مرة أخرى إلى نيسابور للتدريس ونشر العلم ،لكنه لم يمكث بها مدة
طويلة ،فقد عاد بعد سنتين إلى طوس ،وهناك أنشأ الغزالي زاوية للزهاد والصوفية وطلبة الفقه
والعلوم الشرعية ،وظل بـ(طوس) حتى توفاه اهلل في 14جمادى اآلخرة عام 505هـ1111/م عن
خمسة وخمسين عاًم ا قضاها في العلم والتعلم ونشر الفكر اإلسالمي الصحيح بين المسلمين ،والدفاع
عن اإلسالم ضد أهل الديانات األخرى والفرق الضالة ،ومن هنا ُلِّقب الغزالي بـ (حجة اإلسالم).
وللغزالي مؤلفات كثيرة تزيد على أربعمائة؛ منها( :إحياء علوم الدين) و(الوسيط) في الفقه الشافعي
و(تهافت الفالسفة) و(المستصفي في أصول الفقه) ..وغير ذلك ،ومع غزارة إنتاج الغزالي ،فإن
أسلوبه يتسم بالعبارة السهلة،والبعد عن التعقيد ..فجزاه اهلل خيًر ا عما قدم لإلسالم من خدمات جليلة.
كان كثير العبادة ،ال ينام الليل إال قليال؛ حتى سموه (الوتد) لكثرة صالته ،يبكي حتى يسمع جيرانه
بكاءه فيشفقون عليه مما هو فيه من خوف ووجل من اهلل!!
وأبوه (ثابت) كان تاجًر ا غنًّيا أسلم فحسن إسالمه ،قيل :إنه التقى باإلمام على بن أبي طالب -رضي
اهلل عنه -فدعا له اإلمام ولذريته بالخير والبركة ،واستجاب اهلل الدعاء ،ورزق اهلل ثابًتا بطفل أسماه
النعمان وكناه (أبا حنيفة النعمان بن ثابت) وكانت والدته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الكوفة.
نشأ أبو حنيفة في مدينة الكوفة ،فوجد الحلقات العلمية منتشرة في كل مكان ،ورأى طالب العلم
يتعلمون ويجتهدون في الدراسة؛ فتلقى العلم على يد شيوخ وأساتذة كبار ،منهم :فقيه الكوفة (حماد
بن أبي سليمان) واإلمام (جعفر الصادق) و(عطاء) و(الزهري) و(قتادة) ..وغيرهم ،وكان(حماد)
من أكثر شيوخه الذين يحبهم؛ فكان أبو حنيفة يحفظ أقواله ويرددها ،وأعجب حماد هو اآلخر بتلميذه
(أبي حنيفة) حتى قال لمن حوله :ال يجلس في صدر الحلقة بجواري غير أبي حنيفة.
وبعد موت حماد تولى ابن له اسمه إسماعيل حلقة الدرس بدال من أبيه ،لكنه ترك مجلس الفقه وانتقل
إلى النحو لحبه له ،فجاء الناس إلى (أبي حنيفة) يطلبون منه أن يجلس إليهم ويعلمهم أمور دينهم؛
فقبل أبو حنيفة ،وأخذ يدرس للناس حتى اشتهر فقهه بين البسطاء واألمراء ،لكنه لم يْنَس فضل
شيخه وأستاذه (حماد) بل ظل يذكره بالخير ،ويدعو له حتى قال أبو حنيفة( :ما صليُت قط إال
ودعوُت لشيخي (حماد) ولكل من تعلمُت منه علًم ا أو علمته).
وكان أبو حنيفة يهتم بملبسه ومظهره ،ويكثر التعطر ،وُيرى وقوًر ا حليًم ا ،فهو الذي يقول( :اللهم
من ضاق بنا صدره ،فإن قلوبنا قد اتسعت له) ولقد سبه أحد الناس بقوله :يا مبتدع ،يا زنديق ،فرَّد
عليه بقوله :غفر اهلل لك ،اهلل يعلم مني خالف ذلك ،وأني ما عدلت به (أي ما أشركت به أحًد ا) منذ
عرفته ،وال أرجو إال عفوه ،وال أخاف إال عقابه.
وكان أبو حنيفة كريًم ا واسع الكرم ،وتاجًر ا أميًنا ماهًر ا ،ظل يعمل بالتجارة طوال حياته ،وكان له
دكان معروف في (الكوفة) كان أبو حنيفة -رضي اهلل عنه -يحب العمل حتى ينفق على نفسه ،فكان
يبيع الخز (وهو نسيج من الصوف).
سمع أبو حنيفة رجًال يقول آلخر :هذا أبو حنيفة ال ينام الليل؛ فقال :واهلل ال يتحدث عني بما لم أفعل؛
فكان يحيي الليل صالة وتضرًع ا ،فكان ورًع ا ،وال يحدث بالحديث الذي يحفظه ،وال يحدث بما ال
يحفظ ،وكان يتورع عن القسم خشية الهالك ،حتى إنه جعل على نفسه إن حلف باهلل صادًقا أن
يتصدق بدينار.
وكان واسع الصدر هادئ الطبع في حديثه مع الناس ،فلقد روي أن رجًال قال له :اتق اهلل ،فانتفض،
وطأطأ رأسه ،وأطرق ..وقال له :يا أخي جزاك اهلل خيًر ا ،ما أحوج الناس في كل وقت إلى من
يذكرهم اهلل تعالى ،وكان يخاف عاقبة الظلم؛ لذا رفض تولي القضاء للخليفة المنصور العباسي.
ومات سنة 150هـ ،وصلى عليه خمسون ألف رجل ،ودفن في بغداد ،ويقال إنه مات في نفس الليلة
التي ولد فيها اإلمام الشافعي.
وأبو حنيفة هو مؤسس المذهب الحنفي أحد المذاهب الفقهية األربعة ،وقد انتشر مذهبه في العراق
والهند وبالد المشرق ،يقول عنه الشافعي( :الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة) وقال عنه النضر
بن شميل :كان الناس نياًم ا في الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة ،وقيل :لو وزن علم اإلمام أبي حنيفة بعلم
أهل زمانه لرجح علمه عليهم ،وقال عنه ابن المبارك( :ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة) وقال عنه
يزيد بن هارون( :ما رأيت أحًد ا أحلم من أبي حنيفة).
قال د .محمد بن سعد الشويعر :
في حج عام 1406هـ قدم للمملكة أول وفد رسمي من حجاج الصين الشعبية ويتقدم هذا الوفد بعض
العلماء فجاءوا للسالم على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وكان رئيس الوفد شيخا طاعنا في السن
قد درس في األزهر وهو يتقدمهم في المقابلة وعددهم سبعة ..
فقال لي بعد أن سلموا :أين الشيخ عبد العزيز بن باز ؟ ومتى يحضر ؟ فقلت له :هاهو ذا الذي
سلمت عليه قبل قليل ،فلم يصدق وكان يتحدث العربية بطالقة فقال :أريد أن أراه في سفرتي هذه ،
وكأنه لم يصدقني ..
فقلت له :هاهو ذا ثم أكدت له ذلك فقام من مجلسه وتقدم للمرة الثانية ليسلم على الشيخ فأخبرت
الشيخ عن رغبته هذه ،فقام إليه وتعانقا ورأيت هذا الشيخ الصيني يضم الشيخ إلى صدره بحنو
ويبكي ويقول :الحمد هلل الذي أراني إياك ..
فكنا نسمع عنك ونحن في الصين بأنك أمل المسلمين ومنقذهم والمدافع عنهم ،ثم قال احد مرافقي
هذا الشيخ الصيني :أدعو اهلل يا شيخ أن تأخذ من عمري عشر سنين لمالك من نفع لإلسالم وأهله ،
أما أنا فإنسان عادي كغيري من أبناء اإلسالم ..
ثم زاد الشيخ في البكاء ومعاودة السالم والمعانقة وهو يردد :الحمد هلل الذي أراني إياك قبل موتي
فقد كنت أتمنى ذلك طول عمري .
كان والده قائًد ا في جيش خراسان ،أما جده فكان والًيا لألمويين في بلدة تسمى (سرخس) تابعة لبالد
خراسان ،وحين بلغ أحمد من العمر ثالث سنوات توفي
والده ،فنشأ يتيًم ا ،تكفله أمه وترعاه ،وتقوم على تربيته والعناية به ،وعاش أحمد عيشة فقيرة ،فلم
يترك له والده غير منزل ضيق ،مما دفعه إلى العمل وهو طفل صغير ،فكان يلتقط بقايا الزروع من
الحقول بعد استئذان أهلها ،وينسج الثياب ويبيعها ،ويضطر في بعض األوقات أن يؤجر نفسه ليحمل
أمتعة الناس في الطريق ،وكان ذلك عنده أفضل من أن يمد يده إلى غيره.
حفظ أحمد القرآن الكريم ،ولما بلغ أربع عشرة سنة ،درس اللغة العربية ،وتعلم الكتابة ،وكان يحب
العلم كثيًر ا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم ،وقد
حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر ،فجذبته أمه من
ثوبه ،وقالت له :يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس.
ومضت األيام حتى بلغ أحمد الخامسة عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول اهلل -صلى اهلل
عليه وسلم -من كبار العلماء والشيوخ ،فلم يترك شيًخ ا في بغداد إال وقد استفاد منه ،ومن شيوخه:
أبو يوسف ،وهشيم بن مشير.
وفَّك ر أحمد أن يطوف ببالد المسلمين ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم األحاديث التي
حفظوها ،فزار الكوفة والبصرة ،ومكة ،والمدينة ،واليمن ،والشام والعراق وفارس وغيرها من بالد
اإلسالم ،فكان في رحالته إذا لم يجد دابة
يركبها يمشي حتى تتشقق قدماه ليلتقي بكبار العلماء في هذه البالد ،وظل أحمد طيلة حياته ينتقل من
بلد إلى آخر ،ليتعلم الحديث حتى أصبح من كبار العلماء.
سأله أحد أصحابه ذات يوم :إلى متى تستمر في طلب العلم ،وقد أصبحت إماًم ا للمسلمين وعالًم ا
كبيًر ا؟! فقال له( :مع المحبرة إلى المقبرة) ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت
ويدخل القبر ،ولم يكن في عصره أحد أحفظ منه لحديث رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -حتى
َس َّم ْو ه (إمام السنة وفقيه المحدثين) وقالوا :إنه كان يحفظ ألف ألف حديث!! شملت المكرر من
الحديث واآلثار ،وفتوى التابعين ونحو ذلك.
وبعد أن تعلم اإلمام أحمد بن حنبل ما تعلم ،وحفظ ما حفظ من أحاديث رسول اهلل -صلى اهلل عليه
وسلم -جلس في المسجد الجامع ببغداد سنة (24هـ) وعمره أربعون سنة ،ليعلم الناس أمور دينهم؛
فأقبل الناس على درسه إقباال عظيًم ا ،فكانوا يذهبون إلى المسجد في الصباح الباكر ليتخذوا لهم
مكاًنا يجلسون فيه.
وكان أغلى شيء عند اإلمام أحمد بن حنبل ما جمعه من حديث رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم-
لذلك كان يكتبه في أوراق يحفظها في مكان أمين ،وقد حدث ذات يوم أن سرق لص منزله ،فأخذ
مالبسه وكل ما في بيته ،فلما جاء اإلمام أحمد إلى البيت ،لم يسأل عن شيء إال عن األوراق التي
يكتب فيها أحاديث رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -ولما وجدها اطمأن قلبه ولم يحزن على ما
سرق منه.
ولم يكن اإلمام أحمد بن حنبل مجرد حافظ ألحاديث الرسول -صلى اهلل عليه وسلم -بل كان يعمل بما
في هذه األحاديث ،فيقول عن نفسه :ما كتبُت حديًثا إال وقد عملُت به ،وكان اإلمام أحمد زاهًد ا في
الدنيا ،يرضى بالقليل ،فقد كان كثير العبادة والذكر هلل.
وقد تعرض اإلمام أحمد -رضي اهلل عنه -للتعذيب واألذى بسبب شجاعته من مواجهة الفتن والبدع
التي حدثت في زمانه ،تلك الفتن التي تعرض من أجلها للضرب والسجن في عهد الخليفة المعتصم،
فكان ُيضرب بالسياط ،حتى أغمي عليه عدة مرات ،ودخل السجن وظل فيه عامين ونصف ،ثم
خرج منه مريًض ا يشتكي من الجراح ،وظل في منزله بعض الوقت؛ حتى شفي وعاد إلى درسه،
ولما تولى الخليفة (الواثق) الخالفة لم يتعرض اإلمام أحمد لإليذاء ،لكنه منعه من االجتماع بالناس،
فظل معزوًال عنهم ،حتى مات الخليفة (الواثق) وتولى (المتوكل) الخالفة الذي عامل اإلمام أحمد
معاملة حسنة وعرض عليه المال ،فرفضه ،لكنه ألح عليه أن يأخذه ،فتصدق به كله على الفقراء.
ورغم انشغال اإلمام أحمد الشديد بالعلم وضيق وقته فإنه كان شديد االهتمام بمظهره ،فقد كان من
أنظف الناس بدًنا ،وأنقاهم ثوًبا ،شديد االهتمام بتهذيب شعر رأسه ،وكان اإلمام أحمد يميل إلى
الفقراء ،ويقربهم منه في مجلسه ،وكان حليًم ا ،كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار ،وكان إذا جلس
في مجلسه بعد العصر ال يتكلم حتى ُيسأل ،كما كان -رضي اهلل عنه -شديد الحياء ،كريم األخالق،
سخًّيا ،وكان مع لينه شديد الغضب هلل.
واإلمام أحمد مؤسس المذهب الحنبلي أحد المذاهب الفقهية األربعة ،وقد ترك اإلمام أحمد كتًبا كثيرة
منها( :المسند) وهو أكبر كتبه وأهمها بل هو أكبر دواوين السنة النبوية ،إذ يحتوي على أربعين ألف
حديث ،وكتاب (الزهد) و(الناسخ والمنسوخ).
ومرض اإلمام أحمد -رضي اهلل عنه -واشتد عليه المرض يوم خميس ،فتوضأ ،فلما كانت ليلة
الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع األول سنة 241هـ ،وفي بغداد صعدت روحه إلى بارئها ،فحزن
عليه المسلمون حزًنا شديًد ا ،وصاح الناس ،وعال
بكاؤهم ،حتى كأن الدنيا قد ارتجت ،وامتألت السكك والشوارع ،وأخرجت الجنازة بعد انصراف
الناس من صالة الجمعة ،وشيعه ما يقرب من ست مائة ألف إنسان ،باإلضافة إلى الذين صعدوا إلى
أسطح المنازل ليلقوا نظرة الوداع األخيرة على اإلمام أحمد بن حنبل.
تطلع منذ صغره إلى العلم ،فأخذ العلم عن كبار العلماء في عصره أمثال الشيخ (خالد النقشبندي)
والشيخ (علي السويدي) فضًال عن والده الذي تعلم على يديه ،ظهرت عالمات النبوغ والذكاء على
شهاب الدين األلوسي منذ صغره ،حتى إنه اشتغل بالتدريس وهو في الثالثة عشرة من عمره ،وهبه
اهلل قوة الذاكرة ،يقول عن نفسه :ما استودعت ذهني شيًئا فخانني ،وال دعوت فكري لمعضلة إال
وأجابني.
لم يترك األلوسي علًم ا من علوم الدين إال وقرأ فيه ،فكان يسهر الليالي ،ويضِّح ي براحته وصحته
طلًبا للمعرفة ،ورغم هذا المجهود الكبير الذي كان يبذله فإنه كان يشعر بسعادة كبيرة ،وفي داره قام
بتدريس علوم الدين ،فتتلمذ على يديه الكثيرون ،ولم يكن يفيض عليهم من علمه الواسع فحسب ،بل
كان يعطف عليهم ويرعاهم ،ويعطيهم من ملبسه ومأكله ويسكنهم بيته!!
ولما ترك األلوسي منصب اإلفتاء بالعراق ،تفرغ لتفسير القرآن الكريم ،وتعلقت نفسه رغبة إلتمام
هذا العمل ،فكان في أحيان كثيرة يقوم من نومه ،ويترك فراشه حين يخطر بذهنه معنى جديد لم
يذكره المفسرون السابقون عليه ،وال يهدأ له بال حتى يسجل خواطره في كراريسه ،وعندئذ يعود
إليه الهدوء ،ويزول عنه القلق والتوتر ،ويذهب إلى فراشه حيث يستسلم للنوم.
وكان يجمع كل ما كتبه غيره في التفسير ،وينقيها من كل شائبة (اإلسرائيليات) ويظهر الحقيقة جلية
واضحة ،كل ذلك في أسلوب رائع جذاب ،حتى أصبح تفسيره الذي سمي (روح المعاني في تفسير
القرآن العظيم والسبع المثاني) من أحسن التفاسير جامًع ا آلراء السلف ،مشتمال على أقوال الخلف
بكل أمانة وعناية ،فهو جامع لخالصة كل ما سبقه من كتب التفاسير ..وكانت مؤلفات اإلمام
األلوسي في أنواع مختلفة من العلوم والمعارف ،أهمها تفسيره الشهير بـ(تفسير األلوسي) و(دقائق
التفسير) و(غرائب االغتراب) ..وغير ذلك من الكتب.
توفي اإلمام الكبير في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1270هـ1854 /م
بعد أن مأل األرض علًم ا ،ودفن مع أهله في مقبرة الشيخ (معروف الكرخي) في (الكرخ).
نسبه و مولده
هو إمام األمة أبو عبداهلل محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن َبرِدزَبة الجعفي البخاريأصله فارسي ..
فقد كان جده المغيرة مولى لليمان البخاري والي بخارى ..فانتسب إليه بعد إسالمهولد ببخارى سنة
194هـ ونشأ يتيما و أخذ يحفظ الحديث وهو دون العاشرة
رحل شيخنا في طلب العلم إلى الشام و مصر و الجزيرة و العراق ..وأقام في الحجاز ستة أعوام
يأخذ الحديث عن أربابه ..وتلقى عنه الناس الحديث ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره ..سمع من
نحو ألف شيخ وأخذ الحديث عنهم ..ال يسمع بشيخ في الحديث إال رحل إليه وسأل عنه وأخذ عنه
علمه
قال عن نفسه مبينا رحالته إلى األمصار اإلسالمية (( دخلت الشام و مصر و الجزيرة مرتين وإلى
البصرة أربع مرات و أقمت بالحجاز ستة أعوام وال أحصي كم دخلت إلى الكوفة و بغداد مع
المحدثين )) ...وجمع من الحديث أكثر من ستمائة ألف حديث .
حياته
كان رحمه اهلل تعالى شديد الورع و التقوى ..قليل األكل ال ينام من الليل إال أقله و كان مجدا في
تحصيل العلم وتأليف الكتب فيه ..يقوم من الليل ثماني عشرة مرة أو أكثر يسرج المصباح ويتذكر
األحاديث فيكتبها و يدقق البعض اآلخر فيعلم عليها
لم يكن له هم سوى الحديث النبوي ..كان شغله الشاغل ليله و نهاره ..كثير اإلحسان إلى الطلبة
رفيقا بهم ,مهذب العبارة حتى مع المخالفين له ..ولم يطلق لسانه في الساقطين متروكي الحديث ..
فإذا أراد جرح راٍو قال :فيه نظر أو سكتوا عنه وكان ينقل رأي النقاد في رواة الحديث ..كتب اهلل
له القبول في قلوب العلماء ..قال محمود بن النضر سهل الشافعي (( دخلت البصرة و الشام و
الحجاز و الكوفة و رأيت علمائها ..كلما جرى ذكر محمد بن اسماعيل البخاري فضلوه على أنفسهم
))
كان آية في الحفظ والذكاء و اإلتقان ..كأن اهلل سبحانه قد اختاره لحراسة و حفظ الحديث النبوي ...
وقد جرت له في بغداد حادثة مشهورة تشهد له بذلك ..تداولها علماء التاريخ و الحديث في كتبهم ...
ذلك أن علماء بغداد أرادوا اختبار حفظه و ذكائه و إتقانه ,فجاء أصحاب الحديث بمائة حديث فقلبوا
متونها و أسانيدها ..ودفعوها إلى عشرة رجال ..إلى كل رجل عشرة أحاديث ..وأمروهم إذا
حضروا اإلجتماع يلقون هذه األحاديث المقلوبة على البخاري فلما اجتمعوا كلهم مع حشد من الناس
انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث فقال ال أعرفه ,فما زال يلقي عليه حديثا بعد آخر حتى
فرغ من عشرته ..وهكذا حتى فرغوا من األحاديث المائة المقلوبة ..والبخاري ال يزيدهم على ((
ال أعرفه )) ..فاستغرب الناس كيف ال يعرف األحاديث كلها ..فلما علم أنهم فرغوا التفت إلى
األول منهم فقال :أما حديثك األول فهو كذا ..وحديثك الثاني فهو كذا و هكذا إلى آخر األحاديث
المائة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه ..فأقر له الناس بالحفظ و أذعنوا له بالفضل
يقول الحافظ بن حجر رحمه اهلل عن هذه الحادثة :ليس العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان
حافظا ..بل العجب من حفظه الخطأ على ترتيب ماألقوه عليه من مرة واحدة
شهد له العلماء بالفضل و العلم ..قال شيخ البخاري محمد بن بشار الحافظ (( حفاظ الدنيا أربعة :
أبو زرعة بالري ,ومسلم بن الحجاج بنيسابور ,وعبداهلل بن عبدالرحمن الدرامي بسمرقند ,ومحمد
بن اسماعيل ببخارى ))
وقال عنه اإلمام الترمذي (( لم أر بالعراق وال بخراسان في معنى العلل و التاريخ و معرفة األسانيد
أحدا أعلم من محمد بن اسماعيل ))
أشهر كتبه
كان كتاب (( الجامع الصحيح المسند من حديث رسول اهلل وسننه وأيامه )) ..
أشهر كتبه على اإلطالق ..وهو أصح كتاب بعد كتاب اهلل سبحانه وتعالى ..وهو أول من جمع
األحاديث الصحيحة مجردة عن غيرها ..ولكنه لم يستوعب كل الصحيح ..فقد ترك من الحديث
الصحيح أكثر مما أثبته لئال يطول الكتاب .
ابتدأ تأليفه بالحرم النبوي الشريف ولبث في تصنيفه ست عشرة سنة و أتمه ببخارى ..وماكان يضع
حديثا إال بعد أن يغتسل و يصلي ركعتين ويستخير اهلل في وضعه ..فقد قال (( ماأدخلت في
الصحيح حديثا إال بعد أن استخرت اهلل و تيقنت صحته ))
ومما ألف أيضا كتاب (( التاريخ الكبير )) جمع فيه أسامي من روى عنه الحديث من زمن الصحابة
إلى زمنه ..وله أيضا (( التاريخ األوسط )) و (( التاريخ الصغير )) و (( األدب المفرد )) و ((
الكنى )) و (( الوحدان )) و (( الضعفاء ))
وفاته
توفي ليلة السبت بعد صالة العشاء ,وكانت ليلة عيد الفطر ,ودفن يوم الفطر ..بعد صالة الظهر
سنة ست وخمسين ومائتين 256هـ بَخ رَتنك وهي قرية بالقرب من بخارى وهي القرية التي ولد فيها
رحمه اهلل تعالى فقد خدم السنة النبوية ,ووقف حياته لها ,وخلف تراث األمة اإلسالمية ..أصح
كتاب بعد كتاب اهلل تعالى :صحيح البخاري ..فجزاه اهلل عن األمة خير الجزا
قال الحاكم في تاريخه :قدم اإلمام البخاري نيسابور سنة ، 250فأقام بها مدة يحدث على الدوام ،قال
فسمعت محمد بن حامد البزار يقول :سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول :سمعت محمد بن يحيى
الذهلي يقول :اذهبوا الى هذا الرجل فاسمعوا منه ،قال :فذهب الناس إليه فأقبلوا على السماع منه
حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى ،قالَ :فُتُكِّلَم فيه بعد ذلك
قال أحمد بن عدي :ذكر لي جماعة من المشايخ ،أن محمد بن اسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع
الناس عنده حسده بعض شيوخ الوقت ،فقال ألصحاب الحديث :إن محمد بن اسماعيل يقول :لفظي
بالقرآن مخلوق.
فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال :يا أبا عبد اهلل ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أو غير
مخلوق؟
فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثالثا ،فألح عليه ،فقال البخاري :القرآن كالم اهلل غير مخلوق،
وأفعال العباد مخلوقة ،و االمتحان بدعة ،فشغب الرجل و قال :قد قال :لفظي بالقرآن مخلوق
و قال أبو حامد الشرقي :سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول :القرآن كالم اهلل غير مخلوق و من
زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع ،و ال يجالس و ال يكلم ،ومن ذهب بعد هذا الى محمد بن
اسماعيل البخاري فاتهموه فإنه ال يحضر الى مجلسه إال من كان على مذهبه
وقال الحاكم :ولما وقع بين البخاري وبين الذهلي في مسألة اللفظ ،انقطع الناس عن البخاري إال
مسلم بن الحجاج و أحمد بن سلمة
قال أبو عمر أحمد بن نصر النيسابوري يوما للبخاري :يا أبا عبد اهلل ههنا من يحكي عنك أنك تقول:
لفظي بالقرآن مخلوق .فقال :يا أبا عمرو احفظ عني من زعم من أهل نيسابور ،وسمى غيرها من
البلدان بالدا كثيرة ،أنني قلت :لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإنني لم أقله إال أني قلت أفعال العباد
مخلوقة
قال أحمد بن منصور الشيرازي :لما رجع عبد اهلل البخاري الى بخارى نصبت له قباب على فرسخ
البلد ،واستقبله عامة أهل البلد ،حتى لم يبق مذكور ،ونثر عليه الدراهم و الدنانير ،فبقي مدة ثم وقع
بينه وبين األمير فأمره بالخروج من بخارى ،فخرج الى بيكند
و قال الحاكم :سمعت محمد بن العباس الضبي يقول :سمعت أبا بكر بن أبي عمرو يقول :كان سبب
مفارقة أبي عبد اهلل البخاري البلد ،أن خالد بن طاهر سأله أن يحضر منزله فيقرأ التاريخ و الجامع
على أوالده ،فامتنع من ذلك .وقال :ال يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوما آخرين فاستعان خالد
بحريث ابن أبي الورقاء و غيره من أهل بخارى حتى تكلموا في مذهبه ،فنفاه عن البلد
المرجع :كتاب (( معالم السنة النبوية )) للدكتور عبدالرحمن عتر رحمه اهلل تعالى ...بتصرف
فتح عينيه على الحياة فوجد العلم يحيط به من كل جانب ،وشاهد منذ طفولته حلقات الحديث والفقه
والتفسير تموج بطالبي العلم حول شيخ أو معلم زاده العلم بهاًء ووقاًر ا ،فأحب أن يكون مثل هؤالء
وتطلعت نفسه إلى تحقيق ذلك ،فكان له ما أراد؛ فمأل الدنيا علًم ا ،ورددت األلسنة ذكره إعجاًبا
وإجالًال ،أليس هو صاحب صحيح البخاري ،إنه اإلمام (محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة)
اإلمام الحافظ البخاري.
ولد بمدينة (بخارى) وهي تقع في جمهورية أوزبكستان سنة 194هـ ،وكان والده عالم كبير يحفظ
آالف األحاديث النبوية ،ورحل في طلب العلم إلى المدينة المنورة ،وتتلمذ على أيدي كبار العلماء
والمحدثين ،أمثال :مالك بن أنس ،وحماد بن زيد وغيرهما ،وكان رجال غنًّيا ،أنعم اهلل عليه بثروة
كبيرة كان ينفقها في الخيرات على الفقراء والمساكين.
توفي والد البخاري وتركه طفًال مع والدته بعد أن ترك له ماال كثيًر ا وعلًم ا نافًع ا ،وظلت أمه تعطف
عليه وتحيطه بحنانها ورعايتها لتعوضه عن فقد أبيه ،وما إن بلغ البخاري سن العاشرة حتى ظهرت
عليه عالمات الذكاء والتفوق؛ فحفظ القرآن الكريم وكثيًر ا من األحاديث النبوية ،وتردد على حلقات
علماء الحديث في بلده ليتعلم على أيديهم ،وعمره إحدى عشرة سنة ،وكان مع صغر سنه يصحح
ألساتذته وشيوخه ما قد يخطئون فيه.
ومن ذلك ما روي عنه أنه دخل يوًم ا على أستاذه (الداخلي) فقال الداخلي :عن سفيان عن أبي الزبير
عن إبراهيم ،فقال له البخاري :إن أبا الزبير لم يرِو عن إبراهيم وقال له :ارجع إلى األصل إن كان
عندك ،فدخل فنظر فيه ،ثم رجع فقال :كيف هو يا غالم؟ فقلت :هو الزبير بن عدي عن إبراهيم،
فأخذ القلم وأصلح كتابه ،وقال لي :صدقت ..وقد ساعد البخاري على ذلك حفظه الجيد لألحاديث،
وذاكرته القوية والكتب الكثيرة التي تركها له والده ،فحفظها ودرسها دراسة جيدة ،وأصبح البخاري
-ذلك الغالم الصغير -يحترمه الشيوخ ويقدرونه حق قدره ،وِلَم ال ،وهو يحفظ في هذه السن كتب ابن
المبارك ووكيع بن الجراح وهما من أئمة الحديث النبوي وكثير من األحاديث؟!
فقد قرأ على زمالئه خمسة عشر ألف حديث عن ظهر قلب ،وفي كل يوم كان البخاري يزداد علًم ا،
وكان مشايخه يأملون له خيًر ا ويتوقعون له مستقبال كريًم ا ،وكان من الممكن أن يقنع الفتي الصغير
بذلك القدر من العلم ،ولكنه رحل مع والدته وأخيه األكبر أحمد إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج
وعمره ستة عشر عاًم ا ولما أدى الفريضة استقر هناك يتعلم الحديث على أيدي علماء مكة
وشيوخها ،ثم رحل إلى المدينة المنورة فزار قبر الرسول صلى اهلل عليه وسلم.
وظل في المدينة المنورة سنة ،ثم رحل إلى البصرة ليسمع الحديث ،ومكث بها خمس سنوات ،كان
يتردد فيها على مكة المكرمة في مواسم الحج؛ ليلتقي فيها بعلماء المسلمين ،وظل البخاري ينتقل في
بالد اإلسالم لطلب العلم.
يقول البخاري عن نفسه :لقيت أكثر من ألف رجل ،أهل الحجاز والعراق والشام ومصر لقيتهم
مرات؟ أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين ،وأهل البصرة أربع مرات ،ومكثت بالحجاز ستة
أعوام ،وال أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محِّد ثي خراسان.
كتب البخاري الحديث وسمعه عن ألف وثمانين من الشيوخ وحفاظ الحديث ،وكان يدِّو ن األحاديث
الصحيحة ،ويترك األحاديث التي يشك في أن الرسول -صلى اهلل عليه وسلم -قالها ،وقد أدهش
البخاري العلماَء والشيوَخ لسرعة حفظه لألحاديث حتى ظنوه يشرب دواًء للحفظ ،فقد كان البخاري
ينظر إلى الكتاب مرًة واحدة فيحفظ ما فيه من أحاديث ال يستطيع غيره أن يحفظها في شهور عديدة.
وفي أحد رحالته إلى بغداد أراد العلماء أن يختبروه فاجتمعوا واختاروا مائة حديث ،وقلبوا متونها
وأسانيدها أي أسندوا األحاديث إلى غير رواتها ،ليمتحنوا حفظه ،ودفعوا إلى كل واحد عشرة
أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس ،فقام أحدهم فسأل البخاري عن حديث من عشرته ،فقال:
ال أعرفه ،وسأله عن آخر فقال :ال أعرفه وهكذا حتى فرغ من أحاديثه العشرة ،ثم قام آخر فسأل
البخاري ،وكذلك الثالث والرابع إلى آخر العشرة..
فلما فرغوا التفت البخاري إلى األول منهم فقال له :أما أحاديثك :فاألول قلت كذا وصحته كذا،
والثاني قلت كذا وصحته كذا ...إلى آخر العشرة أحاديث؛ وفعل باآلخرين مثل ذلك ،عندئذ أقر له
الناس بالحفظ.
وكان البخاري عالًم ا كبيًر ا إذ كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح ،ومائتي ألف حديث غير صحيح،
مما جعل عشرات اآلالف من طالب العلم يلتفوا حوله؛ لينهلوا منه ويتتلمذوا عليه ،ومن أشهرهم
اإلمام مسلم صاحب كتاب الجامع الصحيح ،وقد أثني العلماء على البخاري ،فقال ابن خزيمة :ما
تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري ..وقال قتيبة بن سعيد :جالست
الفقهاء والعباد والزهاد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل (البخاري) وهو في زمانه كعمر
في الصحابة .
وكان البخاري كثير العبادة هلل -عز وجل -يجتمع مع أصحابه في أول شهر رمضان ،فيصلى بهم
ويقرأ في كل ركعة عشرين آية ،ويظل هكذا إلى أن يختم القرآن ،وكان يقرأ في السحر ما بين
النصف إلى الثلث من القرآن ،وكان يختم بالنهار في كل يوم ختمة ويقول :عند كل ختمة دعوة
مستجابة ،وكذلك كان ينفق من أمواله الكثيرة التي ورثها عن أبيه على الفقراء من المسلمين ،وتعلم
البخاري رمي السهام ،ولم يشغله طلب العلم عن ذلك ،بل إنه كان يرى ذلك واجًبا على كل مسلم؛
حتى يستطيع الدفاع عن ديار المسلمين.
وعاد البخاري إلى بلدته (بخارى) فاستقبله أهلها أروع استقبال ،ومن فرحتهم الشديدة بقدومه نثروا
عليه الدراهم والدنانير ،فعقد جلسات للعلم في مسجده ومنزله ليورث علمه للمسلمين ،ولم يبخل
البخاري بعلمه على أحد ،غير أن أمير بخارى (خالد بن أحمد) طلب منه أن يأتيه بكتبه؛ حتى
يسمعها له وألوالده في قصره وحدهم ،فرفض البخاري أن يستجيب لطلبه ،وقال :من أراد أن يتعلم
فليأت إلى مجلس العلم ،فالعلم يؤتى له وال يأتي ،وال يمكنني أن أحرم الناس اآلخرين من علمي،
وقال لرسول األمير قل له :إني ال أذل العلم وال أحمله إلى أبواب السالطين فإن كان له إلَّي شيء
منه حاجة فليحضر في مسجدي أو في داري ،وإن لم يعجبه هذا فإنه سلطان فليمنعني من الجلوس،
ليكون لي ُع ذر عند اهلل يوم القيامة لئال أكتم العلم.
وظل اإلمام البخاري عزيًز ا كريًم ا ،ال يخضع ألحد مهما كان مركزه وقدره ،فأحبه الناس ،وأراه اهلل
في حياته قبل مماته منزلته ومكانته ،حيث كان الناس ينصرونه بأنفسهم حفًظ ا للعلم والعلماء ،وكتب
إليه أهل بغداد يوًم ا قائلين:
وقد توفي البخاري ليلة عيد الفطر سنة 256هـ بعد أن مأل الدنيا بعلمه وأضاءها بإخالصه ..رحم اهلل
البخاري جزاء ما بذل وقدم.
بين أحضان والدين حريصين على تنشئة أبنائهما تنشئة إسالمية صحيحة ،ولد عبد الملك بن عبد اهلل
بن يوسف سنة 419هـ في جوين (وهي مدينة بين بسطام ونيسابور) ببالد فارس ،فوالده (عبد اهلل
الجويني) كان يعقد في (نيسابور) ببالد فارس المجالس للمناظرة والفتوى ،وتعليم الخاصة والعامة،
وكان يحب العلم حًّبا شديًد ا حتى إنه كان يدعو ويقول( :اللهم ال تعقنا عن العلم بعائق وال تمنعنا عنه
بمانع) وكان زاهًد ا عابًد ا يحرص حرًص ا شديًد ا على أال يقع في الشبهات ،حتى إنه كان يحتاط في
أداء الزكاة فيؤديها في السنة مرتين ،خوًفا من النسيان وزيادة في القربى.
والزم الطفل الصغير (عبد الملك) والده الفقيه المحدث المتكلم ،فتعلم الفقه واللغة العربية على يديه،
كما تعلم من والده االلتزام بأخالق اإلسالم كاألمانة والصدق وحب الخير؛ فقد كان والده خير قدوة
له ،وتفوق الجويني على زمالئه ممن كانوا يتعلمون على يد أبيه ،ولم يقتصر إمام الحرمين على
قراءة العلوم اإلسالمية وحدها ،بل إنه أخذ يطالع في كل العلوم ،يصل ليله بنهاره قراءة واطالًع ا.
وقبل أن يبلغ (عبد الملك) سن العشرين أصبح أحد األئمة الكبار ،وما إن توفي والده ،حتى قعد مكانه
للتدريس ،إال أنه استمر في تحصيل العلم ،فكان يذهب إلى (أبي القاسم اإلسفراييني) وهو من العلماء
الكبار يتعلم منه الفقه واألصول ،ويذهب في الوقت نفسه إلى مجالس (عبد اهلل محمد بن علي
النيسابوري الخبازي) ليتلقى عنه علوم القرآن.
وظل طوال الفترة التي أقامها بنيسابور يدرس علوم الدين ،وكان بارًع ا في مناظرة الخصوم،
يحاورهم في ذكاء شديد ،وال يبغي من وراء ذلك إال إظهار الحق ،إال أن أعداءه أخذوا يكيدون له،
فترك (نيسابور) إلى بغداد واشتهر هناك ،ووفد إليه الناس من كل مكان للتعلم على يديه ،لكنه لم يقم
بها طويًال ،وإنما توجه إلى مكة ،وظل بها أربع سنوات تفرغ فيها للعلم والعبادة ينشر العلم ،ويلقي
الدروس ،ويجمع طرق المذهب الشافعي ،وكانت هذه الفترة سبًبا في تسميته بإمام الحرمين تكريًم ا
له واعتزاًز ا بمجهوده وقدره.
وكان يقضي نهاره في تعليم الناس ،وهدايتهم إلى طريق الحق والنور ،ويقضي ليله بجوار الكعبة
الشريفة في عبادة اهلل ،وبعد أن قضى أربع سنوات في مكة رجع إمام الحرمين إلى (نيسابور) وقام
بالتدريس بالمدرسة النظامية ،التي بناها له الوزير (نظام الملك) ليتولى الجويني التدريس بها لما
علمه عنه من رسوخ في العلم ونبوغ لم يتوافر لغيره ،وظل بها نحو ثالثين سنة ،وجاء إليه
الكثيرون من شتى البالد يطلبون العلم على يديه ،ومن أشهر تالميذه :أبو حامد الغزالي ،والكيا
الهراسي ،وعبد الغافر بن إسماعيل الفارسي.
وقد ترك (الجويني) مؤلفات عديدة من أهمها :كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) وهو كتاب
كبير في الفقه الشافعي و(البرهان في أصول الفقه) و(اإلرشاد في أصول الدين) و(الرسالة النظامية)
ومن كتبه أيًض ا( :غياث األمم في التياث الظلم) في الفقه السياسي اإلسالمي و(الورقات) في أصول
الفقه وأدلته ..وغيرها من الكتب المهمة ،وقد مرض إمام الحرمين في أيامه األخيرة ،وتوفي وله من
العمر 59سنة ،وكان ذلك سنة 478هـ.
قال له اإلمام مالك :إن اهلل تعالى قد ألقى في قلبك نوًر ا فال تطفئه بالمعصية ،واتق اهلل فإنه سيكون
لك شأن!!
في غزة بأرض فلسطين سنة 150هـ ،وضعت (فاطمة بنت عبد اهلل األزدية) مولودها (محمد بن
إدريس الشافعي) في نفس العام الذي توفي فيه اإلمام (أبو حنيفة) ليموت عالم ويولد عالم ،يمأل
األرض علًم ا ويحيي سنة رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -ويلتقي الشافعي مع الرسول -صلى اهلل
عليه وسلم -في الجِّد األعلى.
فتح الشافعي عينيه على الحياة ،فلم يجد والده بجانبه ،حيث مات بعد والدته بزمن قصير ،فنشأ يتيًم ا،
لكن أمه الطاهرة عوضته بحنانها عن فقدان أبيه ،وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن سنتين ،ففيها أهله
وعشيرته وعلماء اإلسالم ،وظلت تربيه تربية صالحة ،وترعاه ،وتأمل أن يكون من العلماء
الصالحين؛ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
حفظ الشافعي القرآن الكريم وسنه سبع سنين ،ثم شرع في حفظ أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،وأمه تشجعه وتشد من أزره وتحنو عليه ،ولما كان الشافعي ال يقوى على دفع أجر المحفظ أو
شراء الورق الذي يسجل فيه محفوظاته؛ كان يطوف شوارع وطرقات مكة يجمع قطع الجلود
وسعف النخيل وعظام الجمال ليكتب عليها!!
وكما أتقن الشافعي تحصيل العلم أتقن الرمي ،حتى كان يرمي عشرة سهام ،فال يخطئ في سهم
واحد منها ،ثم أرسلته أمه إلى قبيلة (هذيل) في البادية ،وهي قبيلة معروفة بالفصاحة والبالغة؛
فمكث بينهم سبع سنين يتعلم لغتهم ،ويحفظ
أشعارهم ،حتى عاد إلى مكة فصيح اللسان ،ينشد األشعار ،ويذكر اآلداب وأخبار العرب إلى أن
اتجه إلى طريق الفقه والحديث ،فرحل الشافعي إلى مدينة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ليلتقي
بعالم المدينة اإلمام (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة ،ولما التقي به قال له اإلمام مالك :إن اهلل تعالى
قد ألقى على قلبك نوًر ا ،فال تطفئه بالمعصية ،واتق اهلل فإنه سيكون لك شأن.
وأخذ الشافعي بتلك النصيحة الغالية ،فما مال إلى شٍّر ،وال جنح إلى لهو أو مجون ،بل كان قانًع ا بما
قسم اهلل له ،يرضى بالقليل ،ويقنع باليسير ،ويزداد زهًد ا كلما وقف على قيمة الدنيا ،ويعيش في
محراب الحق مسبًح ا مناجًيا ،يعبد اهلل بلسانه وقلبه ،وظل الشافعي يتتلمذ على يد اإلمام (مالك) حتى
انتقل عالم المدينة إلى جوار ربه ،لكن الشافعي رحل من بلد إلى أخرى ،يتعلم على أيدي علمائها
وشيوخها ،فتعلم في العراق على يد (محمد بن الحسن) تلميذ أبي حنيفة وغيره ،وهناك ظهرت
صالبة الشافعي وقوته وقدرته على التحمل والصبر؛ حيث إن بعض الوشاة قد اتهموه عند أمير
المؤمنين (هارون الرشيد) بالتشيع ومناصرة العلويين ،ولكنه استطاع بثقته في اهلل ورباطة جأشه أن
ينفي هذه التهمة عن نفسه.
ثم ترك بغداد إلى مكة حيث تعلم على يد (مسلم بن خالد الزنجي) و(سفيان بن عيينة) وفي الحرم
المكي أخذ الشافعي يلقي دروسه ،وحضر مجلسه أناس من جميع األقطار والبلدان ،والتقى به كبار
العلماء وخاصة في مواسم الحج ،ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195هـ ،وكان له بها مجلس علم
يحضره العلماء يستزيدون من
وجاء الشافعي إلى مصر في عام 198هـ ،لينشر مذهبه فيها ،وليبتعد عن جو االضطرابات السياسية
في العراق ،وألقى دروسه بجامع (عمرو بن العاص) وأحبه المصريون وأحبهم ،وبقي في (مصر)
خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم ومن أشهر مؤلفاته:
كتاب (األم) في الفقه ،وكتاب (الرسالة) في أصول الفقه ،وهو ُيعُّد أول كتاب ُيصنف في هذا العلم.
وقد لقي الشافعي تقديًر ا كبيًر ا من فقهاء عصره ومن بعدهم ،سأل عبد اهلل بن
أحمد بن حنبل والده عن الشافعي فقال :يا بني ،كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن.
وكان الشافعي يقضي الساعات الطوال في دروس متصلة ،ينتقل من علم إلى
علم ،يجلس في حلقته إذا صلى الفجر ،فيأتيه من يريدون تعلم القرآن ،فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء
طالب الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه ،فإذا انتهوا جاء بعدهم من يريدون تعلم العربية والعروض
والنحو الشعر ،ويستمر الشافعي في دروسه من بعد صالة الفجر حتى صالة الظهر!!
وكما كان الشافعي فقيًها ومحدًثا كبيًر ا ،كان أيًض ا شاعًر ا رقيًقا فاض شعره بالتقرب إلى اهلل ،فها هو
ذا يستغفر اهلل ويدعوه قائال:
ويصور عزة نفسه ،وإن كانت ثيابه قديمه بالية ،فتحتها نفس أبية عزيزة غالية ال مثيل لها فيقول:
ومرض الشافعي ،وقربت ساعة وفاته؛ فدخل عليه أحد أصحابه وقال له :كيف أصبحت؟ فأجاب
الشافعي :أصبحت من الدنيا راحًال ،وإلخواني مفارًقا ،ومن كأس المنية شارًبا ،ولسوء عملي مالقًيا،
وعلى الكريم سبحانه وارًد ا ،وال واهلل ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها.
ومات الشافعي ليلة الجمعة من آخر رجب عام 204هـ ،وبعد صالة العصر خرجت الجنازة من بيت
الشافعي (بمصر) مخترقة شوارع الفسطاط وأسواقها ،حتى وصلت إلى درب السباع؛ حيث أمرت
السيدة نفيسة -رضي اهلل عنها -بإدخال النعش إلى بيتها ،ثم نزلت إلى فناء الدار وصلت عليه صالة
الجنازة ،وقالت :رحم اهلل الشافعي إنه كان يحسن الوضوء.
في بالد (طبرستان) ..بالد العلم واألدب والفقه ،وفي أجمل مدنها..مدينة (آُمل) العريقة عاصمة
طبرستان ،والتي تقع اآلن في دولة أذربيجان ،جنوب بحر قزوينُ ،و لد حَّج ة العلوم ،وعالم العلماء
في عصره ،اإلمام (محمد بن جرير الطبري) سنة 224هـ ،وُلقب بالطبري ألن أهل طبرستان جميًع ا
ُيْنَس بون إليها؛ فيقال لكل واحد منهم طبري ،فكان أهل طبرستان كثيري الحروب ،فكان كل منهم
يحمل سالحه في يده ،وهو نوع من األشجار يسمى (الطبر).
لم يكد الطبري يبلغ السن التي تؤهله للتعلم حتى عهد به والده إلى علماء (آُمل) وسرعان ما تفتح
عقله ،وبدت عليه عالمات النبوغ ،فكان هذا النبوغ المبكر حافًز ا ألبيه على إكمال تعليم ابنه،
وبخاصة أنه رأى رؤية تفاءل من تأويلها ،قال الطبري( :رأى أبي في النوم أنني بين يدي رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،ومعي ِمخالة مملوءٌة باألحجار ،وأنا أرمي بين يديه) وقَّص رؤياه على مفسر
لألحالم ،فقال له :إن ابنك إن كبر نصح في دينه ،ودافع عن شريعته ،فحرص أبي على معونتي من
أجل طلب العلم وأنا حينئذ صبي صغير.
أخذ ابن جرير الطبري يرحل في طلب العلم ،فتعلم الفقه ببغداد ،والمغازي والسير في الكوفة ،ثم
توجه ناحية مصر ،وفي طريقه إليها مَّر ببيروت ،وقضى بها عدة أيام حتى قرأ القرآن برواية
الشاميين ،ثم واصل مسيرته ،وفي مصر تلقى الطبري العلم ،فأخذ من علمائها قراءة (حمزة)
(َوَو ْر ش) ثم عاد إلى بغداد مرة أخرى ،وانقطع للعلم والدراسة والتأليف في كثير من األوقات ،وكان
يتاجر بقية الوقت ليأتي برزقه.
وكان الطبري عالي الهمة،عظيم االجتهاد؛ ومما يحكى عنه :أن رجًال جاءه يسأله في الَع ُر وض
(وهو علم يعرف به الشعر من النثر) ولم يكن الطبري له إلمام كبير بهذا العلم فقال له :علي قوٌل أال
أتكلم اليوم في شيء من العروض ،فإذا كان في غد فتعاَل إلي ،ثم طلب أبو جعفر كتاب العروض،
فتدارسه في ليلته ،وقال :أمسيت غير َع ُر وضي ،وأصبحت عروضًّيا.
وقد تمكن ابن جرير من نواحي العلم ،وأدلى بدلوه فيها ،حتى أصبح إمام عصره بغير منازع ،وقد
قيل عنه :كان كالقارئ الذي ال يعرف إال القرآن ،وكالمحدث الذي ال يعرف إال الحديث ،وكالفقيه
الذي ال يعرف إال الفقه ،وكالنحوي الذي ال يعرف إال النحو ..وظل الطبري أربعين عاًم ا يكتب كل
يوم أربعين ورقة ،قاصًد ا بذلك وجه اهلل ،بما ينفع به اإلسالم والمسلمين ،وكان رحمه اهلل من العباد
الزهاد ،يقوم الليل ،نظيًفا في ظاهره وباطنه ،ظريًفا ،حسن العشرة ،مهذًبا في جميع أحواله.
من مؤلفاته العظيمة( :تفسير القرآن) المعروف بتفسير الطبري في 30جزًء ا ،وهو من أجِّل
التفاسير وأعظمها ،و(تاريخ الرسل والملوك) في 11مجلًد ا ،وهو يعد َأْو َفى عمل تاريخي بين
مصنفات العرب ،و(لطيف القول في أحكام شرائع اإلسالم) ..وغير ذلك الكثير ..وفي يوم السبت
ليومين بقيا من شوال سنة 310هـ فاضت روحه إلى بارئها ،تارًك ا للمسلمين تراًثا علمًّيا ضخًم ا ،نفع
اإلسالم والمسلمين ،فجزاه اهلل خير الجزاء.
الخشية من اهلل والبكاء يالزمانه ،ال ُيرى إال وعيناٍه تفيض من الدمع ،كلما ذكر اسم اهلل تعالى عنده
ظهر عليه الخوف والوجل ،وارتعشت كل أعضاء جسده ،ترى من يكون هذا الرجل الذي غمر
اإليمان قلبه ؟!
كان عاصًيا فتاب اهلل عليه ،وجعله من عباده المؤمنين ،تحول من قاطع طريق يروع اآلمنين إلى
عابد زاهد ،وكان سبب توبته؛ أنه كان يتسلق جدران أحد المنازل بالليل؛ فسمع صوًتا يتلو قوله
تعالي{ :ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اهلل وما نزل من الحق} [الحديد ]16 :فلما سمعها
قال :بلي يا رب ،قد آن.
فرجع فمَّر على أرض خربة ،فوجد بها قوًم ا ،فقال بعضهم :نرحل ،وقال بعضهم :ننتظر حتى
نصبح ،فإن الفضيل يقطع علينا الطريق ،قال (أي :الفضيل) :ففكرت وقلت :أنا أسعى بالليل في
المعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني !! وما أرى اهلل ساقني إليهم إال ألرتدع (أي أن اهلل قدر
لي أن آتي إلى هذا المكان ألتوب وأرجع إليه) اللهم إني قد تبت إليك ،وجعلت توبتي مجاورة البيت
الحرام ..لقد جعل مظاهر توبته مجاورته لبيت اهلل حيث الرحمة والبركة ،يدعو اهلل ويستغفره ،ويندم
على ما فرط في حقه.
في أرض خراسان ولد (الفضيل بن عياض) ثم رحل إلى الكوفة في العراق ،فسمع األحاديث النبوية
الشريفة والفقه من العلماء؛ أمثال (األعمش) و(يحيي بن سعيد األنصاري) و(جعفر الصادق) فأثرت
تأثيًر ا كبيًر ا في شخصيته ،حتى أصبح من الزهاد الذين يرون أن الدنيا ال تساوي عند اهلل جناح
بعوضة ،وال تستحق أن يتكالب الناس عليها ،ويتصارعون من أجلها ،فهي فانية زائلة ،بل األولى
أن يعمل الناس
ألخراهم ،فهي الباقية الدائمة بفعل الخير ،وتجنب المعاصي ،ثم انتقل إلى مكة وأقام بها حتى توفي.
وكان إذا خرج في جنازة مع الناس ،يعظهم ويذكرهم باآلخرة ،حتى إذا وصل إلى المقبرة ،جلس في
حزن شديد ،وظل يبكي وال ينقطع بكاؤه ،سأله الخليفة
(هارون الرشيد) ما هي صفات المؤمن أيها الزاهد؟ فقال له الفضيل :صفات
ومَّر الفضيل بن عياض على جماعة أغنياء ،فوجدهم يلعبون ويشربون ويلهون؛ فقال لهم بصوت
عال :إن مفتاح الخير كله هو الزهد في الدنيا ،وقد سأله أحدهم :وما الزهد في الدنيا ؟ فقال :القناعة
والرضا وهما الغنى الحقيقي ،فليس الغنى في كثرة المال والعيال ،إنما الغنى غنى النفس بالقناعة
والرضا في الدنيا ،حتى نفوز في اآلخرة ،ثم توجه إلى اهلل داعًيا :اللهم زهدنا في الدنيا ،فإنه صالح
قلوبنا وأعمالنا وجميع طلباتنا ونجاح حاجتنا.
وحَّج هارون الرشيد ذات مرة؛ فسأل أحد أصحابه أن يدله على رجل يسأله؛ فدله على الفضيل،
فذهبا إليه ،فقابلهما الفضيل وقال للرشيد :إن عمر بن عبد العزيز لما وِّلي الخالفة دعا أناًس ا من
الصالحين فقال لهم :إني قد ابتليت بهذا البالء
(يعني الحكم) فأشيروا علي ..فعَّد عمر الخالفة بالء ،وعددتها أنت وأصحابك
نعمة ،فبكى الرشيد ،فقال له صاحب الرشيد :ارفق بأمير المؤمنين ،فقال الفضيل :تقتله أنت
وأصحابك وأرفق به أنا ؟ (يقصد أن عدم نصحه كقتله) فقال له الرشيد :زدني يرحمك اهلل..
فأخذ يعظه وينصحه ،ثم قال له :يا حسن الوجه أنت الذي يسألك اهلل عن هذا الخلق يوم القيامة ،فإن
استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل ،وإياك أن تصبح
وتمسي وفي قلبك غش ألحد من رعيتك ،فإن النبي -صلى اهلل عليه وسلم -قال:
(ما من واٍل يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاٌش لهم إال َح َّر َم اهلل عليه الجنة) [متفق عليه]
فبكي هارون وقال له :أعليك دين أقضيه عنك؟ فقال :نعم ،دين لربي لم يحاسبني عليه ،والويل لي
إن ناقشني ،فالويل لي إن لم ألهم حجتي ،قال :إنما أعني من دين العباد.
قال :إن ربي لم يأمرني بهذا؛ أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره ،فقال الرشيد :هذه ألف دينار
خذها فأنفقها على عيالك وتقَّو بها على عبادة ربك ،فقال الفضيل :سبحان اهلل،أنا أدلك على طريق
النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا ،سَّلمك اهلل ووَّفقك ،ثم صمت فلم يكلمنا؛ فخرج الرشيد وصاحبه،
وكان الفضيل شديد التواضع ،يشعر دائًم ا بأنه مقصر في حق اهلل ،رغم كثرة صالته وعبادته.
وتمضي األيام ،ويتقدم السن بالفضيل بن عياض وذات مرة كان بعض الناس جلوًس ا عنده ،فقالوا له:
كم سنك ؟ فقال:
ومرض الفضيل ،فُس ِمع يقول :ارحمني بحبي إياك ،فليس شيء أحب إلي منك ،وأقام الزاهد العابد
الفضيل بن عياض بـ(مكة) حتى توفي عام 187هـ وأطلق عليه
في سنة 94هـ ،وفي أحد أيامها المباركة ولد الليث بن سعد ،في قرية (قرقشندة) من قرى مصر،
ونشأ ذلك الطفل بين ربوع تلك القرية ،فوجد األطفال يتعلمون القراءة والكتابة ويحفظون القرآن
الكريم ،فأسرع الليث إلى منزله ،وأحضر أوراقه وقلمه ،وبدأ يحفظ القرآن الكريم ،ثم درس الحديث
والفقه والعلوم العربية ،فسبق زمالءه ،وساعده على ذلك نبوغه المبكر ،وذكاؤه الفريد.
واصل الليث الدراسة والتعلم والحفظ ،فكان كلما قرأ شيًئا في الفقه أو الحديث َع َلَق بذاكرته وحفظه
فال ينساه أبًد ا ،فقد كان قوي الذاكرة ،جيد الحفظ ،ولفت الفتى الليث األنظار إليه بعلمه وورعه،
وأصبحت له مكانة كبيرة بين أهله ،يعرفون فضله ،ويقدمونه على من سواه ،ولكن الفتى لم يغتَّر
بهذه الشهرة ،ولم يخلد إليها وال إلى التقدير الذي كان له وسط العلماء ،بل استمر يتعلم ويتزود
وينهل من غيره من العلماء ،حتى صار أستاًذ ا يدرس للعلماء.
واشتاقت نفس الليث يوًم ا لزيارة بيت اهلل الحرام وزيارة المصطفى -صلى اهلل عليه وسلم -فشَّد
رحاله وأعد نفسه للسفر ،وهناك في تلك األراضي المقدسة كانت حلقات العلم منتشرة في كل مكان؛
والتقى هناك بـ(عطاء بن أبي رباح) و(ابن أبي مليكة) و(نافع مولى ابن عمر) و(ابن شهاب
الزهري) ..وغيرهم ،فأخذ عنهم ونهل منهم رغم رسوخه في العلم ،ومضت األيام والسنون ،وأصبح
الليث شيًخ ا جاوز الخمسين من عمره ،وهو ال يمل العلم والتعلم؛ حتى أصبح من كبار العلماء في
عصره.
وكان اإلمام الفقيه الليث بن سعد غنًّيا ،ينفق كل سنة على الفقراء والمساكين أكثر من خمسين ألف
دينار وال يدخر منها شيًئا لنفسه ،ويتصدق في كل صالة على ثالثمائة مسكين ،ويطعم الناس عسل
النحل وسمن البقر في الشتاء ،واللوز والسكر في الصيف.
جاءته امرأة ذات يوم وقالت له :يا شيخنا ،إن لي ابًنا مريًض ا يشتهي أكل العسل ،فقال الليث :يا
غالم ،أعطها مرًط ا من عسل (والمرط :مائة وعشرون رطًال) وكان مع المرأة إناء صغير الحجم،
فلما رآه الغالم قال :يا شيخنا إنها تطلب قليًال من العسل ،فقال الليث :إنها طلبت على َقْد ِر َه ا ونحن
نعطيها على قدرنا ،وأمره أن يعطيها المرط.
ولم يكن الليث بن سعد كريًم ا على أهل بلده فحسب ،بل كان سخًّيا كريم اليد على اآلخرين ،فيحكى
عنه أنه لما جاء إلى المدينة المنورة بعث إليه اإلمام مالك بن أنس بطبق من الرطب ،فلم يشأ الليث
أن يرد الطبق إلى اإلمام مالك خاوًيا ،فوضع في الطبق ألف دينار ورده إليه.
وقد شهد له كثير من علماء عصره بعلمه وفضله؛ سئل اإلمام أحمد بن حنبل ذات مرة عن الليث،
فقال :الليث بن سعد كثير العلم ،صحيح الحديث ،وقال عنه يحيى بن بكير :ما رأيت أحًد ا أكمل من
الليث بن سعد ،كان فقيه البدن ،عربي اللسان ،يحسن القرآن والنحو ،ويحفظ الحديث والشعر ،حسن
المذاكرة ،لم َأَر مثله.
وقد عرض عليه الخليفة المهدي ذات يوم أن يتولى القضاء ،ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم،
فرفض وقال :إني عاهدت اهلل أال ألي شيًئا ،وأعيذ أمير المؤمنين باهلل أال أفي بعهدي ،فقال له
المهدي :اهلل ..قال الليث :اهلل ..قال المهدي :انطلق فقد أعفيتك ،وكان الليث زاهًد ا في حكام الدنيا،
مشغوًال عن الجاه والسلطان بغرس األخالق العظيمة في نفوس الناس ،وكان يصل النهار بالليل في
العلم والعبادة ليرضي ربه.
وفي سنة 175هـ توفي اإلمام الكبير الليث بن سعد ،فحزن الناس عليه حزًنا شديًد ا ،وكان الشافعي
-رضي اهلل عنه -يحب لقاءه ،فلم يمهله القدر فوقف يوًم ا على قبره وقال :هلل درك يا إمام ،لقد حزت
أربع خصال لم يكملن لعالم:
في شوارع البصرة وفي زمن العباسيين ،كان هناك طفل صغير لم يتجاوز الرابعة من عمره ،ورث
عن أبيه صناعة (ماء الورد) يقضي النهار كله أمام أبواب المساجد ،يبيع ماء الورد لطالب العلم
ورواد المدارس مقابل دراهم معدودة ،يتقَّو ى بها على متاعب الحياة.
وقد أصبح هذا الصبي من قادة الفكر وحملة مشاعل العلم ومن أبرز رجال السياسة ،وقاضًيا من
أعدل القضاة ،وأديًبا ناضًج ا ومؤلًفا عظيًم ا في شتى فروع ثقافة أمته ..إنه (أبو الحسن علي بن محمد
بن حبيب البصري البغدادي) الشهير بالماوردي ..ولد
عام 364هـ974-م في مدينة البصرة ،ونشأ فيها يسقي طالب العلم ماء الورد ،ويرتوي من علم
العلماء المشهورين في زمانه ،وظل في البصرة حتى سمع أن عالًم ا ببغداد يقصده الطالب من كافة
األنحاء هو (أبو حامد اإلسفراييني) فتعلم على يديه الفقه والعلوم الشرعية ،وأصبح من مريديه،
ومازال يرحل ويتنقل في بالد المسلمين طلًبا للمعرفة حتى عاد إلى بغداد ،ليبدأ فيها رحلة الدرس
والتأليف ،يتلقى عنه الطالب القادمون من بالد كثيرة.
وتولى الماوردي القضاء في البالد التي رحل إليها ،كما تولى وظيفة قاضي القضاة في نيسابور،
وذاعت شهرته ،ولقب بأقضى القضاة سنة 429هـ ،وكان أول من لقب بذلك في تاريخ اإلسالم،
وعلم الماوردي أن توليه القضاء ليس تشريًفا له ،ولكنها رسالة وأمانة في عنقه؛ فكان يتمهل قبل أن
يصدر أحكامه ،ويقرأ كتاب اهلل وأحاديث رسوله ،حتى ال يضل الطريق؛ فيقضي بحكم فيه ظلم
ألحد ،كما كان جريًئا عادًال ،ال تأخذه في اهلل لومة الئم ،يحكم بالحق حتى على أولي القربى
وأصحاب السلطان.
فقد أمر الخليفة العباسي أن يلقب (جالل الدين بن بويه) بلقب شاهنشاه األعظم ملك الملوك ،واختلف
الفقهاء ما بين موافق ،وغير موافق ألن هذا اللقب ال يجوز إال في حق اهلل ،وانحاز عوام الناس إلى
رأي الفقهاء المانعين ،وانتظر الجميع رأي القاضي الماوردي الذي كانت تربطه بجالل الدين
البويهي صلة ود وصداقة؛ وظهرت شجاعة الماوردي ،فانحاز إلى جانب الحق ،وضرب مثال فريًد ا
في الثبات على الحق ،فأفتى بالمنع ،وأعجب جالل الدين بصدقه وشجاعته فقال له( :أنا أعلم أنك لو
حابيت أحًد ا لحابيتني ،لما بيني وبينك من أواصر المحبة ،وما حملك إال الدين ،فزاد بذلك محلك
عندي).
ولما ذاعت شهرة الماوردي أثناء فترة إقامته ببغداد لما ُع ِر َف عنه من فضل وعلم ،وحسن رأي،
وجاللة قدر؛ اختير ليكون سفيًر ا بين رجال الدولة في بغداد ،وبني بويه في أصبهان من سنة
381هـ991 /م إلى 422هـ1030 /م ،وكان لقربه من الحياة السياسية في عصره ،واختالطه
باألمراء والوزراء أثر كبير ،فقام بكتابة العديد من المؤلفات السياسية الرائعة التي صدرت عن
خبرة كبيرة ودراسة واسعة مثل (األحكام السلطانية والواليات الدينية) وكانت له مكانة ممتازة عند
األمراء والملوك في عصره ،فكان يتصدر المراسم واالحتفاالت الرسمية ،وأسندوا إليه عقد قران
الخليفة القائم بأمر اهلل على خديجة بنت داود أخي السلطان (طغرلبك) سنة 448هـ.
واشتهر الماوردي بالحلم والوقار واألدب والتعفف عن سؤال غيره ،كما عرف عنه التدين والتنزه
عن اللهو والهزل ،وشهد المعاصرون للماوردي بالصالح والتقوى ،وهم محقون في ذلك ،فقد أخفى
مؤلفاته عن الناس في عصره خوًفا من أن يكون قد خالطها الرياء وهو يؤلفها ،وعهد إلى صديٍق له
أال يظهرها إال بعد وفاته ،وترك الماوردي العديد من المؤلفات منها :كتاب في التفسير و(الحاوي)
في الفقه الشافعي و(قانون الوزارة وسياسة الملك) و(أدب الدنيا والدين).
والماوردي مفكر سياسي إسالمي يعد من أوائل من اهتموا بعلم السياسة وأصول الحكم اإلسالمي،
يأخذ أفكاره وآراءه من وحي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ،وظل الماوردي في خدمة العلم
إلى أن فاضت روحه إلى بارئها في يوم الثالثاء آخر شهر ربيع األول سنة 450هـ ،وحضر جنازته
جمع من الخطباء والعلماء والقضاة يودعونه إلى مثواه األخير.
قال علي بن عبد اهلل ألدربي :من القصص التي وقفت عليها وتأثرت منها جدا هي أنه قام أربعة
رجال من إحدى الهيئات اإلغاثة في المملكة بالذهاب إلى أدغال أفريقيا لتوزيع المعونات من قبل
هذه الدولة المباركة المملكة العربية السعودية ..
وبعد مسير أربع ساعات على األقدام وبعد أن أضناهم السير مَّر وا على عجوز في خيمة فسلموا
عليها وأعطوها بعض المعونات فقالت لهم :من أي بالد أنتم فقالوا :نحن من المملكة العربية
السعودية ..
فقالت :بلغوا سالمي للشيخ بن باز .فقالوا :يرحمِك اهلل وما يدري ابن باز عنك في هذه األماكن
البعيدة .
فقالت :واهلل إنه يرسل لي في كل شهر ألف ريال بعد أن أرسلت له رسالة أطلبه المساعدة والعون
بعد اهلل عز و جل .
سنة 97هـ ،وتفتحت عينا سفيان على الحياة ،فوجد كتب الحديث والفقه تحيط به من كل جانب ،فقد
كان والده من العلماء الكبار الذين يحفظون أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
نشأ سفيان في أسرة فقيرة صالحة تعبد اهلل حق عبادته ،وكانت أمه تنظر إليه وهو مازال طفًال
وتقول له( :اطلب العلم وأنا أعولك بمغزلي ،وإذا كتبت عشرة أحرف ،فانظر هل ترى في نفسك
زيادة في الخير ،فإن لم َتَر ذلك فال تتعبن نفسك) ..فيالها من أم صالحة!! ال تفكر في الجاه وال
الثراء ،ولكن كل ما كانت ترجوه لولدها أن يتعلم علًم ا نافًع ا يبتغي به وجه اهلل ،وبدأ (سفيان) يتعلم
ويجعل من والده قدوة صالحة له ،ويستجيب لرغبة والدته التي أحبها من قلبه.
ومرت األيام ،وأصبح سفيان شاًّبا فتًّيا ،وفي إحدى الليالي أخذ يفكر ويسأل نفسه :هل أترك أمي تنفق
علي؟ البد من الكسب والعمل ..ألن أخلف عشرة آالف درهم أحاسب عليها ،أحب إلَّي من أن أحتاج
إلى الناس؛ فالمال ضروري لإلنسان حتى ولو كان عابًد ا زاهًد ا ،ومن أجل ذلك عمل سفيان
بالتجارة ،ولم يكن المال هدفه في الحياة ،بل وهب سفيان نفسه للعلم وأخذ يتعلم ويحفظ أحاديث
رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -وأصبح في دنياه ال يطلب إال العلم ،فكان يقول( :الرجل إلى العلم
أحوج منه إلى الخبز واللحم).
واشتهر سفيان بين الناس بعلمه وزهده وخوفه من اهلل ،وظل طالب علم ،متواضًع ا يتعلم ويستفيد من
اآلخرين ،يستمع إليهم ،ويحفظ ما يقولون ،وينشر ما تعلمه على الناس ،يأمر بالمعروف ،وينهي عن
المنكر ،ويملي عليهم أحاديث رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -وكان سفيان الثوري إذا لقي شيًخ ا
سأله :هل سمعت من العلم شيًئا؟ ولقد منحه اهلل ذاكرة قوية فحفظ اآلالف من أحاديث رسول اهلل
-صلى اهلل عليه وسلم -التي كان يحبها أكثر من نفسه.
كان ينصح العلماء ويقول لهم( :األعمال السيئة داء ،والعلماء دواء ،فإذا فسد العلماء فمن يشفي
الداء؟!) وكان يقول( :إذا فسد العلماء ،فمن بقي في الدنيا يصلحهم) ثم ينشد:
وبمرور األيام ،كانت شهرة سفيان الثوري تزداد في بالد اإلسالم ،ويزداد معها احترام الناس له،
لخلقه الطيب ،وعلمه الغزير ،وحبه لرسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -وصحابته ،حتى إن أحد
العلماء قال عنه :ما رأيت أحًد ا أعلم من سفيان ،وال أورع من سفيان ،وال أفقه من سفيان ،وال أزهد
من سفيان ،وكان الناس يتسابقون إلى مجلسه ويقفون بباب داره في انتظار خروجه ..قال عنه شعبة
وغيره :سفيان أمير المؤمنين في الحديث ،وقال عبد الرحمن بن مهدي :ما رأيت أحفظ للحديث من
الثوري.
ولذلك كان ينصح الناس قائًال :أكثروا من األحاديث؛ فإنها سالح ،وكان يتجه إلى الشباب الذي كان
ينتظر خروجه من منزله ويقول لهم( :يا معشر الشباب تعجلوا بركة هذا العلم) وكان سفيان ال
يخشى أحًد ا إال اهلل ،كثير القراءة للقرآن الكريم ،فإذا تعب من القراءة وضعه على صدره ،حريًص ا
على الصالة في الثلث األخير من الليل ،وإذا نام قام ينتفض مرعوًبا ينادي :النار النار ..شغلتني
النار عن النوم الشهوات ،ثم يطلب ماء ،فيتوضأ ثم يصلى فيبكي بكاء شديًد ا.
عاش سفيان حياته كلها يدعو إلى اهلل ،وكانت سعادته في هداية إنسان عاٍص أحب إليه من الدنيا وما
فيها ،وعرض عليه أن يكون قاضًيا فهرب خوًفا من الحساب أمام اهلل ،وأرسلت إليه هدايا الملوك
واألمراء فرفضها ،فعاش حياته هلل ،وفي سبيل اهلل ،وبعد هذه الحياة الكريمة في خدمة اإلسالم
والمسلمين ،مات سفيان الثوري بالبصرة في شعبان سنة 161هـ.
اإلمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي .المصلح العظيم
وباعث النهضة اإلسالمية في العصر الحديث.
ولد في بلدة العيينة في نجد سنة 1115هـ وقرأ القرآن قبل بلوغ العاشرة وكان ذكيا حاد الفهم أخذ
العلم عن والده وغيره .ثم ذهب لطلب العلم إلى البصرة ومكة والمدينة و األحساء وغيرها ،ثم عاد
إلى نجد.
كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر داعيا إلى توحيد اهلل وإقامة حدوده ونبذ الشرك والبدع التي
انتشرت في وقته والقى في سبيل ذلك أذى كثيرا رحمه اهلل.
ولما اشتهر أمره عاداه كثير من الناس ـ كما هي سنة اهلل فيمن دعا إلى الحق ـ إما جهال أو حسدا
وعنادا للحق.
ثم انتقل إلى الدرعية والتقى بأميرها محمد بن سعود فناصره ،ومنها بدأ أمر دعوته في االستقرار
والظهور فاهتم بنشر العلم وتوافد الناس عليه من البلدان المجاورة للدرعية.
ثم بدأ بمكاتبة أهل البلدان المجاورة وتبيين ما هم عليه من الباطل بالدليل من الكتاب والسنة .فلم
يستجب له أكثر الناس وعاداه كثير من العلماء المبتدعة وأثاروا الناس عليه وبثوا عنه وعن دعوته
األكاذيب من أنه يكفر الناس وينتقص الرسول صلى اهلل عليه وسلم واألولياء.
فبدأ بالجهاد بالسيف مع الدعوة إلخراج الناس من الشرك وإدخالهم في التوحيد ،فخضع لهم كثير من
البلدان المجاورة.
أثنى عليه وعلى دعوته الكثير من العلماء المعاصرين له ،والذين أتوا من بعده ،منهم عالم اليمن
الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني الذي كان معاصرا له ،وكذلك العالمة محمد بن علي الشوكاني
الذي أتى بعده.
2ـ االتباع التام لسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الخالص من شوب البدعة ولو كان يسيرا.
3ـ الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ،بفهم علماء السلف ،وجعلهما المصدر األساس للدين
والبعد عن الجمود على التقليد إذا استبان الدليل ،مع البعد عن علم الكالم.
4ـ األمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلزم من ذلك من نشر العلم الشرعي والجهاد في سبيل
اهلل وإقامة الحدود والرد على أهل الباطل.
5ـ إحياء مبدأ الوالء للمؤمنين ولو كانوا أبعد الناس والبراء من المشركين والملحدين ولو كانوا
أقرب الناس.
هذه ترجمة مختصرة لسيرة الشيخ رحمه اهلل
هو صاحب الفضيلة الشيخ العالم العالمة (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اهلل آل سعدي) المولود
بمدينة "عنيزة" بالقصيم في إقليم نجد بالمملكة العربية السعودية ،وكان أبواه قد توفيا في صغره ،إال
أنه كان على قدر وفير من الذكاء والفطنة والرغبة في طلب العلم ،وقد بدأ حفظ القرآن في سن
مبكرة حتى أتمه وأتقنه في الثانية عشر من عمره وشرع في طلب العلوم وأخذ يتلقاها عن علماء
بلده وغيرهم ممن قدم إليها وبذل جهده في سبيل ذلك حتى نال الحظ األوفر والنصيب األكبر من
العلوم والمعارف.
وفي سن الثالثة والعشرين ابتدأ الجمع بين طلب العلم وتدريسه واستفادته وإفادته وقضى في ذلك
جميع وقته طول حياته وقد تلقى الكثيرون عنه وانتفعوا به.
ومن شيوخه الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر وكان أول من قرأ عليه.
الشيخ صالح بن عثمان قاضي عنيزة أخذ عنه األصول والفقه والتوحيد والتفسير والعربية ،والزمه
إلى وفاته ،وكان الشيخ ذا معرفة تامة بالفقه وأصوله وخبرة كاملة بالتوحيد ومسائله بسبب اشتغاله
بالكتب المعتبرة واهتمامه بتصانيف ابن تيمية وابن القيم خاصة .كما كان ذا عناية فائقة بالتفسير
وفنونه ،فقرأه حتى برع فيه وأتقنه ،وصارت له اليد الطولى فيه ،وله من المؤلفات في التفسير:
الرياض الناضرة.
الفتاوى السعدية.
له ثالثة دواوين خطب منبرية نافعة.
وفاته :وقد أصيب بمرض شديد مفاجئ أنذر بدنو منيته ،حيث وافاه األجل في ليلة الخميس الثالث
والعشرين من جمادى اآلخرة سنة 1376هـ بمدينة عنيزة ،وقد ترك أثرًا وحزنًا عميقًا في نفس كل
من عرفه أو سمع عنه أو قرأ له رحمه اهلل رحمة واسعة ونفعنا بعلمه ومؤلفاته .آمين.
* مولده:
ولد في ذي الحجة سنة 1330هـ بمدينة الرياض وكان بصيرا ثم أصابه مرض في عينه عام
1346هـ وضعف بصره ثم فقده عام 1350هـ.
* طلبه للعلم:
حفظ القرآن الكريم قبل سن البلوغ ثم جد في طلب العلم على العلماء الرياض ،ولما برز في العلوم
الشرعية واللغة ،عين في القضاء عام 1357هـ ولم ينقطع عن طلب العلم حتى اليوم ،حيث الزم
البحث والتدريس ليل نهار ،ولم تشغله المناصب عن ذلك مما جعله يزداد بصيرة ورسوخا في كثير
من العلوم ،وقد ُع ني عناية خاصة بالحديث وعلومه حتى أصبح حكمه على الحديث من حيث
الصحة والضعف محل اعتبار وهي درجة قل أن يبلغها أحد خاصة في هذا العصر ،وظهر أثر على
كتاباته وفتواه حيث كان يتخير من األقوال ما يسنده الدليل.
* مشائخه:
الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية ،وقد الزم
حلقاته نحوا من عشر سنوات ،وتلقى عنه جميع العلوم الشرعية ابتداء من سنة 1347هـ إلى سنة
1357هـ.
الشيخ سعد وقاص البخاري من علماء مكة المكرمة ،أخذ عنه علم التجويد في عام 1355هـ.
* من مواقفه:
احتاج أحد الطالب من الجامعة إلى مساعدة (مائتي ريال) فكأن كاتب الشيخ قرأها ـ خطأـ ألفين
ريال ،فأمر الشيخ بصرف المبلغ له ،وعند مراجعة األوراق اتضح أن الطالب طلب مائتي ريال،
فأراد الكاتب تصحيح األمر ،فنهاه الشيخ قائال :لعله كان محتاجا لأللفين واستحيا ،فرزقه اهلل ..أعطه
األلفين.
* آثاره:
منذ تولى القضاء في مدينة الخرج عام 1357هـ وهو مالزم التدريس في حلقات منتظمة إلى يومنا
هذا ،ففي الخرج كانت حلقاته مستمرة أيام األسبوع ،عدا يومي الثالثاء والجمعة ولديه طالب
متفرغون لطلب العلم من أبرزهم:
في عام 1372هـ انتقل إلى الرياض للتدريس في معهد الرياض للتدريس في معهد الرياض العلمي،
ثم في كلية الشريعة بعد إنشائها سنة 1373هـ في علوم الفقه والحديث والتوحيد ،إلى أن نقل نائبا
لرئيس الجامعة اإلسالمية بالمدينة المنورة عام 1381هـ .وقد أسس حلقة للتدريس في الجامع الكبير
بالرياض منذ انتقل إليها وال زالت هذه الحلقة مستمرة إلى يومنا هذا ،وإن كانت في السنوات
األخيرة اقتصرت على بعض أيام األسبوع بسبب كثرة األعمال .والزمها كثير من طلبة العلم،
وأثناء وجوده بالمدينة المنورة من عام 1381هـ نائبا لرئيس الجامعة ورئيسا لها من عام 1390هـ
إلى 1395هـ عقد حلقة للتدريس في المسجد النبوي .ومن المالحظ أنه إذا انتقل إلى غير مقر إقامته
استمرت إقامة الحلقة في المكان الذي ينتقل إليه مثل الطائف أيام الصيف .وقد نفع اهلل بهذه الحلقات.
* مؤلفاته:
)4التحذير من البدع ويشتمل على أربع مقاالت مفيدة (حكم االحتفال بالمولد النبوي ،وليلة اإلسراء
والمعراج ،وليلة النصف من شعبان ،وتكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية المسمى
الشيخ أحمد).
)5رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام.
)14ثالث رسائل في الصالة( :أ) كيفية صالة النبي صلى اهلل عليه وسلم (ب) وجوب أداة الصالة
في جماعة( .ج) أين يضع المصلي يديه حين الرفع من الركوع.
)15حكم اإلسالم فيمن طعن في القرآن أو في رسول اهلل صلى اله عليه وسلم.
)16حاشية مفيدة على فتح الباري وصل فيها إلى كتاب الحج.
)17رسالة األدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون األرض وإمكان الصعود إلى
الكواكب.
)18إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير اهلل أو صدق الكهنة والعرافين.
)23هذا ما تم طبعه ويوجد له تعليقات على بعض الكتب مثل :بلوغ المرام ،تقريب التهذيب للحافظ
ابن حجر (لم تطبع) ،تحفة األخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من
األدعية واألذكار (طبع) ،التحفة الكريمة في بيان كثير من األحاديث الموضوعة والسقيمة ،تحفة
أهل العلم واإليمان بمختارات من األحاديث الصحيحة والحسان ،إلى غير ذلك.
األعمال التي يزاولها غير ما ذكر:
)1صدر األمر الملكي بتعيينه رئيسا إلدارات البحوث العلمية واإلفتاء والدعوة واإلرشاد إلى جانب
ذلك:
)3رئيسا للجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء التي أصدرت هذه الفتاوى.
)6رئيسا للمجمع الفقهي اإلسالمي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم اإلسالمي.
)7عضوا للمجلس األعلى للجامعة اإلسالمية في المدينة المنورة.
ولم يقتصر نشاطه على ما ذكر ،فقد كان يلقي المحاضرات ،ويحضر الندوات العلمية ،ويعلق عليها
ويعمر المجالس الخاصة والعامة التي يحضرها بالقراءة والتعليق باإلضافة إلى األمر بالمعروف
والنهي عن المنكر الذي أصبح صفة مالزمة له.
يبدأ البرنامج بصالة الفجر في المسجد ،ثم يبدأ بذكر اهلل تعالى وقتا معينا ،ثم يلتفت إلى طالبه إعالنا
ببدء الدروس اليومية وهي بعد صالة الفجر وهي عبارة عن دراسة ستة علوم إسالمية :الفقه
والحديث والتفسير والعقيدة والرقائق (ولما كنت حاضرا في تلك الفترة كان يقرأ عليه حادي
األرواح البن القيم ،وتستغرق الدروس عادة ساعة والنصف ثم بعد ذلك يختم المجلس بصالة
الشروق ثم يتجه الشيخ إلى بيته قليال ثم يذهب إلى عمله وهو المفتي العام للمملكة.
وفي مقر عمله يباشر الشيخ رحمه اهلل من الفتوى ومقابلة الوفود اإلسالمية من كل مكان وخدمة
المسلمين والواسطات وحل النزاعات بين الجماعات وطلبة العلم ومساعدة المسلمين بكل ما يملك
من وقت ومال وجهد وهو في الثمانين من عمره.
حدثنا الشيخ سلمان العودة قال :لقد عرف عن الشيخ ابن باز رحمه اهلل خدمته لإلسالم والمسلمين ما
يعجز عنه األشداء حتى قيل :لو أن رجال من أهل الرياض انقطعت عنه الكهرباء للجأ للشيخ ابن باز
في حلها.
وقد علم الناس أن الشيخ ابن باز ال يكفيه راتبه الذي يستلمه من الدولة إال أياما ثم يتسلف من إخوانه
وقد ذكر ذلك العالم الجليل عبد الرزاق عفيفي رحمه اهلل ..أنه كان يتسلف منه حتى يسد دينا أو يعين
محتاجا.
وال أنسى هنا أن أذكر أن الرد على فتاوى المستفتين يأخذ من الشيخ الوقت والجهد العظيم وقد
شهدت أنا شيئا منه ولو كنت مكان الشيخ -وأستغفر اهلل من هذا -ألغلقت السماعة في وجه
المتصلين! لكن الشيخ بصبره وحلمه يساعد هذا ويعين هذا ،ومن الغرائب أن الشيخ ال يكتفي
باإلجابة بل أنه يسعى بحلها تماما كما سأله أحدهم عن دية القتل غير المتعمد فقال له الشيخ :عتق
رقبة فقال السائل عبر الهاتف ما فيه رقبة هذه األيام فقال الشيخ :بلى يوجد تعال عندي وأنا أشتري
لك من ...وذكر أحد البلدان التي فيها هذا األمر.
ثم بعد الدوام يذهب الشيخ للبيت وهناك ينتظره الغداء الجماعي اليومي لكل من حضر بدعوة أو غير
دعوة من كبار الناس وفقرائهم عربهم وعجمهم..
وبعد الغداء فتاوى على الهاتف ثم راحة ثم صالة العصر وبعد العصر درس وفتوى ولقاء حتى
المغرب تدرس حتى العشاء ..نفعنا اهلل بعلمه وأسكنه بفسيح جناته اللهم آمين.
* وفاته:
انتقل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز إلى جوار ربه في فجر يوم الخميس 27/1/1420هـ في
مدينة الطائف إثر نوبة قلبية .وقد أقيمت صالة الميت على جثمانه -رحمه اهلل -في المسجد الحرام
بعد صالة الجمعة ،وقد أدى الصالة عليه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود
وسمو ولي العهد األمير عبداهلل بن عبدالعزيز آل سعود وسمو النائب الثاني األمير سلطان بن
عبدالعزيز آل سعود وعدد كبير من األمراء والوزراء والمسئولين وجمع غفير من المسلمين ،كما
أديت عليه صالة الغائب في جميع مساجد المملكة وعدد كبير من الدول اإلسالمية والعربية ،غفر اهلل
لشيخنا وأسكنه فسيح جناته.
اسمه ونسبه
هو أبو عبد اهلل محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي.
مولده ونشأته
ولد الشيخ أبو عبد اهلل في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم عام 1347هـ في السابع والعشرين من
شهر رمضان المبارك في عائلة معروفة بالدين واالستقامة.
تتلمذ الشيخ على بعض أفراد عائلته أمثال جده ألمه الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ ،رحمه
اهلل ،فقد قرأ عليه القران فحفظه ثم اتجه لطلب العلم فتعلم الخط والحساب وبعض فنون اآلداب.
وكان الشيخ قد رزق ذكاء وهمة عالية وحرصا على التحصيل العلمي في مزاحمة الركب لمجالس
العلماء وفي مقدمتهم الشيخ العالمة المفسر الفقيه عبد الرحمن بن ناصر السعدي ،رحمه اهلل.
ولم يرحل الشيخ لطلب العلم إال إلى الرياض حين فتحت المعاهد العلمية عام 1372فألتحق بها.
وبعد وفاة شيخه عبد الرحمن السعدي رشح الشيخ محمد بن صالح العثيمين إلمامة الجامع الكبير
عندها تصدى للتدريس مكان شيخه.
ولم يتصدى للتأليف إال عام 1382حين ألف أول كتاب له وهو فتح رب البريه بتلخيص الحموية
وهو تلخيص لكتاب شيخ اإلسالم ابن تيمية ،الحموية في العقيدة.
واستغل الشيخ وجوده في الرياض بالدراسة على الشيخ عبد العزيز بن باز فقرأ عليه صحيح
البخاري وبعض رسائل شيخ اإلسالم ابن تيمية وبعض الكتب الفقهية.
مشايخه
منهجه العلمي
لقد أوضح الشيخ حفظه اهلل منهجه وصرح به مرات عديدة أنه يسير على الطريقة التي انتهجها
شيخه العالمة عبد الرحمن الناصر السعدي وهو منهج خرج به عن المنهج الذي يسير عليه علماء
الجريرة عامتهم أو غالبتهم ،حيث اعتماد المذهب الحنبلي في الفروع من مسائل األحكام الفقهية
واالعتماد على كتاب زاد المستقنع في فقه األمام أحمد بن حنبل ،فكان الشيخ عبد الرحمن السعدي
معروفا بخروجه عن المذهب الحنبلي وعد التقيد به في مسائل كثيرة.
ومنهج الشيخ السعدي هو كثيرا ما يتبنى آراء شيخ اإلسالم ابن تيميه وتلميذه ابن القيم ويرجحهما
على المذهب الحنبلي فلم يكن عنده جمود تجاه مذهب معين بل كان متجردا للحق وقد انطبعت فيه
هذه الصفة وانتقلت إلى تلميذه محمد الصالح العثيمين.
فموته خسارة على المسلمين ال تعوض ورزية عظيمة وثلمة ال ترفأ ،كيف ال وهو علم من أكبر
أعالم اإلسالم ومرجع للسنة من أكبر المراجع ،أفنى شبابه وحياته في الدعوة إلى اهلل وطلب العلم
ونشره والعناية بسنة رسول اهلل ،صلى اهلل عليه وسلم ،قيضه اهلل لدراسة أحاديث المصطفى ،صلى
اهلل عليه وسلم وإبرازها للناس بعد تصنيفها وتحقيقها وبيان الصحيح منها من الضعيف ،والموضوع
من غيره فرد عنها غلو الغالين وتحريف المحرفين ،وكيد الكائدين.
فلقد ولد رحمه اهلل عام 1332هـ في مدينة اشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك ،ونشأ في أسرة فقيرة ومن
بيت علم ،حيث نزح مع والده من ألبانيا إلى سوريا بعد تولي الحاكم الهالك أحمد زوغو ،الذي حول
الحكم في ألبانيا لتكون دولة علمانية تحارب اإلسالم وأهله.
بدأ الشيخ دراسته االبتدائية في دمشق ثم تابع دراسته على المشايخ فتعلم القرآن وختمه على يد والده
مع بعض الفقه الحنبلي ،وقرأ على الشيخ سعيد البرهاني مراقي الفالح وشذور الذهب وبعض كتب
البالغة ،ومنحه الشيخ محمد راغب الطباخ إجازة في الحديث ،وكان رحمه اهلل يكتسب رزقه من
مهنة إصالح الساعات حيث ورثها من والده ،وقد توجه في بداية العشرين من عمره إلى علم
الحديث متأثرًا بأبحاث مجلة المنار التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا.
أخذ رحمه اهلل يتردد على المكتبة الظاهرية والمكتبات الخاصة مثل مكتبة سليم القصيباني والمكتبة
العربية الهاشمية ،وكان الشيخ يلبث في المكتبة وقتًا طويال للبحث واالطالع إلى درجة أنه خصص
له بالمكتبة الظاهرية غرفة خاصة للبحث واالطالع ،وقد ذكر عنه أنه يصعد السلم ليتناول أحد
الكتب من الرفوف فإذا تناول الكتاب جلس ساعة أو أكثر يقرأ وهو على السلم ،وقد نسي نفسه
ووضعه على السلم وذلك من شغفه وحبه للقراءة ,وقد قدم للمملكة العربية السعودية في عام
1381هـ للتدريس في الجامعة اإلسالمية بترشيح من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه اهلل
ودَّر س في الجامعة ثالث سنوات ثم رجع إلى سوريا ثم إلى األردن.
وقد رشحه الملك خالد رحمه اهلل عضوًا في المجلس األعلى للجامعة اإلسالمية بالمدينة المنورة من
عام 1395هـ وقد فاز رحمه اهلل بجائزة الملك فيصل العالمية لعام 1419هـ في فرع الدراسات
اإلسالمية ،نظير جهده واجتهاده وتفانيه في خدمة اإلسالم والعناية بسنة رسول اهلل ،صلى اهلل عليه
وسلم.
وقد ألف رحمه اهلل العديد من الكتب النافعة تربو على مائة كتاب منها سبعون كتابًا مطبوعة منشورة
ومن هذه الكتب:
وهذا مما يدل على حرصه ودقته في المواعيد وضبطه للوقت لالستفادة منه ،فيا للعجب كم يضيع
علينا من األوقات بال فائدة؟
وقد أثنى عليه علماء كثر منهم :سماحة الشيخ العالمة ابن باز ،رحمه اهلل ،حيث قال لي أحد الثقات
أنه سمعه في برنامج نور على الدرب يقول :ال نعلم أحدًا أعلم بالحديث منه يعني بذلك األلباني ،وقد
نقل كثيرًا عن العالمة ابن باز أنه قال :ما تحت أديم السماء عالم بالحديث في العصر الحديث مثل
العالمة محمد ناصر الدين األلباني أو كلمة نحوها ،وقد ألف محمد الشيباني كتابًا عن حياة األلباني
وذلك قبل وفاته فمن أراد االستزادة فليرجع إليه.
وممن أثنى عليه بعد موته :معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ وزير الشؤون
اإلسالمية واألوقاف والدعوة واإلرشاد حيث قال :الحمد هلل على قضائه وقدره (إنا هلل وإنا إليه
راجعون) وال شك أن فقد العالمة الشيخ محمد ناصر الدين األلباني :مصيبة ألنه علم من أعالم األمة
ومحدث من محدثيها وبهم حفظ اهلل جل وعال هذا الدين ونشر اهلل بهم السنة ,,الخ .
وقال معالي الشيخ الدكتور عبد اهلل بن صالح العبيد األمين العامة لرابطة العالم اإلسالمي بمكة
المكرمة :الشك بأن فقد األمة اإلسالمية بوفاة الشيخ محمد ناصر الدين األلباني تعتبر خسارة فادحة،
وقال :وشواهد الشيخ وإسهاماته جليلة وكبيرة من خالل عمله في المؤسسات االسالمية الكبرى مثل
الجامعة اإلسالمية بالمدينة المنورة وغيرها من المؤسسات اإلسالمية الكبرى وقد كان فضيلته،
رحمه اهلل ،موضع التقدير واالحترام من قبل المسلمين أفرادًا وهيئات وجماعات ودوًال ،وقد توج
ذلك بمنحه جائزة الملك فيصل لخدمته الجليلة للدراسات المتعلقة بالحديث.
ويذكر أن إمرأًة اتصلت هاتفيًا من الجزائر بالشيخ رحمه اهلل فقالت :إني رأيت في المنام الرسول
محمدًا صلى اهلل عليه وسلم يمشي وأنت تمشي خلفه ،فبكى الشيخ رحمه اهلل من هذه الرؤيا وأخذ
يجهش في البكاء.
وأما صلته بالعلماء ،فقد التقى رحمه اهلل بالعديد منهم كالشيخ حامد الفقي ،والشيخ أحمد شاكر،
والشيخ عبد الرزاق حمزة ،والشيخ محمد بن إبراهيم ،والشيخ عبد العزيز بن باز فقد كان له به
عالقة قوية وجلسات علمية عديدة مفيدة.
وللشيخ األلباني دروس أسبوعية كثيرة في كتب كثيرة ،كفتح المجيد والروضة الندية ،وفقه السنة،
ومنهاج اإلسالم ،حيث درس عليه نخبة طيبة من طلبة العلم منهم :الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي،
والدكتور ربيع بن هادي المدخلي ،والشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق ،والشيخ محمد بن إبراهيم
شقرة ،والشيخ يسلم بن عيد الهاللي ،وغيرهم كثير.
ومن أول مؤلفاته الفقهية كتاب تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد ،وأول عمل في الحديث ُع ني
به الشيخ هو نسخ كتاب المغني عن حمل األسفار في األسفار ،وكذلك من أوائل كتب التخريج ،كتاب
الروض النضير في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير ،وال يزال مخطوطًا.
وأما عن أوالده :فقد رزق الشيخ بسبعة أوالد وست بنات ،حيث أنه رحمه اهلل تزوج من أربع نساء،
جعل اهلل ذريته خير خلف لخير سلف وبارك اهلل فيهم وحفظهم وأعظم أجرهم في وفاة والدهم فقيد
المسلمين.
ولم تأل جهدًا حكومة خادم الحرمين الشريفين حفظه اهلل في األمر على من يلزم باستقبال الشيخ
وعالجه في أرقى المستشفيات بالمملكة وذلك بشفاعة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه
اهلل ولكن ظروف الشيخ األلباني األسرية وتأجيله للقدوم للمملكة حالت دون ذلك ،وكل شيء بإرادة
اهلل ومشيئته سبحانه ،حيث وافاه األجل المحتوم مساء يوم السبت 22/6/1420هـ في أحد مستشفيات
عمان عاصمة األردن ،بعد معاناة طويلة مع المرض.
وقد شيعه وصلى عليه خلق كثير ،رحمه اهلل وغفر له واسكنه فسيح جناته وجزاه اهلل عن اإلسالم
والمسلمين خيرًا وجبر مصيبتهم فيه وأخلفهم خيرًا منه ،إنا هلل وإنا إليه راجعون.
الشيخ محمد بن سعد السعّيد إمام وخطيب جامع سلطانة الشرقي بالرياض.
للشيخ مزاح كثير ،وعنده دعابة ومرح رحمه اهلل تعالى .
* إذا جاء أحد إلى الشيخ في بيته ،قال له ـ أي الشيخ ـ :العشاء معنا ،فإذا قال أنا يا شيخ ال أستطيع،
قال :أنت تخاف من زوجتك ؟! تعشى معنا .
* زوج حفيدة الشيخ جاء إليه وقال :يا شيخ نريدك تأتي إلى بيتنا ،ونستضيفك .قال الشيخ :ال
مانع ،إذا تزوجت مرة ثانية نأتي إلى الوليمة إن شاء اهلل تعالى .
فذهب هذا وأخبر حفيدة الشيخ ،وقال الشيخ يقول نأتي إليكم إذا تزوجت .فأخذت الهاتف وتكلمت
مع جدها الشيخ وقالت :كيف يا شيخ ...؟ فقال :نحن نمزح معه ،ال نريده يتزوج ،نأتي بغير
زواج .
* الشيخ إذا جلس يسجل نوٌر على الدرب ،يخلع شماغه وطاقيته ،ويقول :من يحمل األمانة ؟ فإن
قال أحد الجالسين :أنا ،قال :خذ.
* في أحد المرات كان عنده أحد األخوة وكان الشيخ يريد أن يسجل " نوٌر على الدرب" ،وكان
الشيخ يريد هذا أن يخرج ،لكن بأدب ،فقال :يا هذا نحن نريد أن نسجل حلقتين متواصالت وأظن
يطول عليك ،قال :ال إن شاء اهلل أجلس وأستفيد ،قال الشيخ :أخاف تكح ،تعرف التسجيل ما فيه كح
وال شيء ،قال :ال إن شاء اهلل ما فيني كحة ،قال الشيخ :ال الكحة تجيك ،قال :ففهمت وخرجت .
محمد الدحيم.
في مدينة (مرو) سنة 118هـ ولد (عبد اهلل بن المبارك) ونشأ بين العلماء نشأة صالحة ،فحفظ القرآن
الكريم ،وتعلم اللغة العربية ،وحفظ أحاديث كثيرة من أحاديث رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم-
ودرس الفقه ،وأنعم اهلل عليه بذاكرة قوية منذ صغره ،فقد كان سريع الحفظ ،ال ينسى ما يحفظه أبًد ا،
يحكي أحد أقربائه واسمه (صخر بن المبارك) عن ذلك فيقول :كنا غلماًنا في الكتاب ،فمررت أنا
وابن المبارك ورجل يخطب ،فأطال خطبته ،فلما انتهى قال لي ابن المبارك :قد حفظتها ،فسمعه
رجل من القوم ،فقال :هاتها ،أسمعنا إن كنت حفظتها كما تَّد عي ،فأعادها عليه
وفي الثالثة والعشرين من عمره رحل عبد اهلل إلى بالد اإلسالم الواسعة طلًبا للعلم ،فسافر إلى
العراق والحجاز ..وغيرهما ،والتقى بعدد كبير من علماء عصره فأخذ عنهم الحديث والفقه ،فالتقى
باإلمام مالك بن أنس ،وسفيان الثوري ،وأبي حنيفة النعمان ،وكان عبد اهلل كلما ازداد علًم ا ،ازداد
خوًفا من اهلل وزهًد ا في الدنيا ،وكان إذا قرأ كتاًبا من كتب الوعظ يذكره باآلخرة وبالجنة والنار،
وبالوقوف بين يدي اهلل للحساب ،بكى بكاء شديًد ا ،واقشعر جسمه ،وارتعدت فرائصه ،وال يكاد يتكلم
أحد معه.
وكان عبد اهلل يكسب من تجارته ماال كثيًر ا ،وها هو ذا يعطينا درًس ا بليًغ ا في السلوك الصحيح
للمسلم ،وذلك حين أتاه أحد أصدقائه واسمه (أبو علي) وهو يظن أن الزهد والتجارة ال يجتمعان
قائًال لعبد اهلل :أنت تأمرنا بالزهد ،ونراك تأتي بالبضائع من بالد (خراسان) إلى (البلد الحرام) كيف
ذا ؟! فقال له عبد اهلل بن المبارك :يا أبا علي ،إنما أفعل ذا ألصون وجهي ،وُأْك ِر م عرضي،
وأستعين به على طاعة ربي ،ال أرى هلل حًّقا إال سارعت إليه حتى أقوم به ،وكان عبد اهلل بن
المبارك ال يبخل على أحد بماله ،بل كان كريًم ا سخًّيا ،ينفق على الفقراء والمساكين في كل سنة مائة
ألف درهم.
وكان ينفق على طالب العلم بسخاء وجود ،حتى عوتب في ذلك فقال :إني أعرف مكان قوم لهم
فضل وصدق ،طلبوا الحديث ،فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم ،احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم،
وإن أعناهم بثوا العلم ألمة محمد -صلى اهلل عليه وسلم -ال أعلم بعد النبوة أفضل من بِّث العلم.
وكان ابن المبارك يحُّب مكة ،ويكثر من الخروج إليها للحج والزيارة ،وكان كلما خرج من مكة قال:
وكان عبد اهلل بن المبارك يجاهد في سبيل اهلل بسيفه ،حتى إن كثيًر ا ممن أتوا ليستمعوا إلى علمه،
كانوا يذهبون إليه فيجدونه في الغزو ،وكان يرى أن الجهاد فريضة يجب أن يؤديها المسلمون كما
أداها الرسول -صلى اهلل عليه وسلم -ويروى عنه أنه أرسل إلى صاحبه الفضيل بن عياض يحُّثه
على قتال األعداء ،ويدعوه إلى ترك البكاء عند البيت الحرام قائًال له:
وأحَّب عبد اهلل بن المبارك أحاديث رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم-حًّبا عظيًم ا وكان ال يجيب أحًد ا
يسأله عن حديث منها وهو يمشي ،ويقول للسائل( :ليس هذا من توقير العلم) وكان حَّفاظ الحديث في
الكوفة إذا اختلفوا حول حديث قالوا:
مروا بنا إلى هذا الطبيب نسأله (يقصدون عبد اهلل بن المبارك).
ولقد اجتمع نفر من أصحابه يوًم ا وقالوا :تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير ،فقالوا:
جمع العلم ،والفقه ،واألدب ،والنحو ،واللغة ،والشعر ،والفصاحة والزهد ،والورع ،واإلنصاف،
وقيام الليل ،والعبادة ،والفروسية ،والشجاعة ،والشدة في بدنه ،وترك الكالم في ما ال يعنيه ..حتى
أجهدهم العُّد .
ولقد قدر الناس عبد اهلل بن المبارك وزادت مهابته لديهم على مهابة هارون الرشيدُ ..ر وي أن
هارون الرشيد قدم ذات يوم إلى (الرَّقة) فوجد الناس يجرون خلف عبد اهلل بن المبارك لينظروا إليه،
ويسلموا عليه ،فنظرت زوجة هارون الرشيد من شباك قصرها ،فلما رأت الناس قالت :ما هذا ؟!
قالوا :عالم من خراسان قدم (الرَّقة) يقال له (عبد اهلل بن المبارك) فقالت :هذا واهلل الملك ،ال ملك
هارون الذي ال يجمع الناس إال بالشرطة واألعوان.
وفي يوم من أيام شهر رمضان سنة 181هـ توفي عبد اهلل بن المبارك وهو راجع من الغزو ،وكان
عمره ثالثة وستين عاًم ا ،ويقال :إن الرشيد لما بلغه موت عبداهلل ،قال :مات اليوم سيد العلماء.
قل لي باهلل عليك ..مالك ال تخاف سطوًة وال سلطاًنا ..تهابك الملوك والسالطين ،وأنت الذي ال تحمل
في يدك سوًط ا وال سيًفا؟! عفًو ا يا سلطان العلماء ،ال تجب ،فقد تذكرت أنك كنت عبًد ا طائًع ا هلل،
تطيع أوامره ،وتجتنب نواهيه ،يعلو صوتك بالحق في وجه الطغاة ،فمنحك اهلل قوة وعزة!!
تمكن التتار من إسقاط الخالفة اإلسالمية في بغداد عام 656هـ ،وواصلوا غزوهم إلى الشام ومصر
حاملين معهم الخراب والدمار ،فهاجر إلى مصر والشام أعداد غفيرة من العلماء ،وأصبحت هذه
البالد مركًز ا للعلم حيث انتشرت فيها المساجد والمدارس ،ووفد إليها طالب العلم ،من كل مكان
ليدرسوا علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والنحو والصرف والتاريخ ،إلى جانب الفلسفة والفلك
والهندسة والرياضيات ..وغيرها.
وسط هذا الجو الذي يشجع على التعُّلم والدراسة ،ولد بدمشق عام 577هـ
(عز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد السالم) ففتح عينيه على الحياة ليجد أسرته تعاني من الفقر
وضيق العيش ،ونشأ عز الدين على حب العلم ،فسمع الحديث الشريف من العالم الجليل (فخر الدين
ابن عساكر) الذي اشتهر بعلمه وزهده ،وتعلم على يد قاضي قضاة (دمشق) الشيخ (جمال الدين بن
الحرستاني) وغيرهما من األساتذة الكبار ،حتى أصبح عالًم ا له مكانته المرموقة بين أساتذته.
وكان منصب الخطابة في الجامع األموي (بدمشق) منصًبا عظيًم ا ال يتواله إال كبار العلماء ،فتواله
(عز الدين بن عبد السالم) فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ،وصدع بكلمة الحق ،ولم يكن يخشى
في اهلل لومة الئم ،فحارب كل بدعة ،وأمات كل ضاللة ،وكان يقول( :طوبى لمن تولى شيًئا من
أمور المسلمين ،فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن).
وفي عام 635هـ واله السلطان الكامل األيوبي قضاء دمشق ،لكنه لم يستمر فيه طويال ،بل تركه في
العام نفسه عندما تولى الحكم (الصالح إسماعيل) الذي كان على خالف مع الشيخ عز الدين؛ ألن
الملك الصالح تحالف مع الصليبيين ،وأعطاهم بيت المقدس وطبرية وعسقالن ،وسمح لهم بدخول
دمشق ،وترك لهم حرية الحركة فيها ،وشراء السالح منها ،وفوق ذلك وعد الصليبيين بجزء من
مصر إذا هم نصروه على أخيه نجم الدين أيوب سلطان مصر ،فلم يرَض الشيخ عز الدين بهذا
الوضع المهين ،فهاجم السلطان في خطبه من فوق منبر المسجد األموي هجوًم ا عنيًفا ،وقطع الدعاء
له في خطب الجمعة ،وأفتى بتحريم بيع السالح للصليبيين أو التعاون معهم ،ودعا المسلمين إلى
الجهاد.
غضب السلطان الصالح إسماعيل ،وأمر بعزل (عز الدين) من إمامة المسجد األموي ،ومنعه من
الفتوى واالتصال بالناس ،ولم يكتف بذلك ،بل منعه من الخروج من بيته ،فقرر عز الدين الهجرة
من (دمشق) إلى (مصر) فلما خرج منها عام 638هـ ثار المسلمون في (دمشق) لخروجه ،فبعث إليه
السلطان أحد وزرائه ،فلحق به في نابلس ،وطلب منه العودة إلى دمشق ،فرفض ،فقال له الوزير:
بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وإلى ما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان ،وتعتذر إليه وتقبل
يده ال غير.
فقال عز الدين :واهلل يا مسكين ،ما أرضى أن يقبل السلطان يدي ،فضًال عن أن أقبل يده ،يا قوم أنتم
في واٍد وأنا في واٍد ..الحمد هلل الذي عافاني مما ابتالكم به ،فقال له الوزير :قد أمرني السلطان بذلك،
فإما أن تقبله ،وإال اعتقلتك ،فقال :افعلوا ما بدا لكم!!
واعتقله جنود السلطان في نابلس ،وظل في محبسه ،حتى جاءت جنود مصر وخلصته ،وجاء الشيخ
عز الدين إلى القاهرة عام 639هـ فرحب به (نجم الدين أيوب) سلطان مصر ،وواله منصب قاضي
القضاة ،وخطيب مسجد عمرو بن العاص ،واشتهر الشيخ بالعدالة في القضاء ،والجرأة في الحق،
حتى أحبه الناس والتفوا حوله.
وقد حدثت له حادثة أثناء توليه القضاء تدل على شجاعته وعدله :فقد أفتى العز بن عبد السالم أن
أمراء المماليك حكام مصر في ذلك الوقت مازالوا عبيًد ا رقيًقا ،وأنه يجب بيع هؤالء األمراء لصالح
بيت مال المسلمين وذلك لتحريرهم من عبوديتهم وعتقهم بالطريق الشرعي ،حتى يجوز لهم أن
يتصرفوا تصرف األحرار ،فكانت هذه الفتوى ضربة قاضية لهم ،حطمت كبرياءهم ،وعطلت
مصالحهم بل إنهم أصبحوا مصدًر ا لسخرية الناس بعد أن قوي نفوذهم ،وزاد طغيانهم ،وكثرت
مظالمهم.
غضب األمراء المماليك غضًبا شديًد ا ،وقدموا شكوى إلى السلطان ،وطالبوه بأن يقنع العز بن عبد
السالم ،بالعدول عن رأيه ،فتحدث معه السلطان في ذلك ،وطلب منه أن يتركهم وشأنهم ،فغضب
عز الدين واستقال من منصب قاضي القضاة ،وعزم على مغادرة مصر ،فحمل أمتعته على حمار،
وحمل أهله على حمار آخر ،وسار خلفهم على قدميه خارًج ا من القاهرة؛ وعندما علم الناس خرجوا
وراءه ،فخاف السلطان من الثورة ،وقال له أعوانه :متى خرج عز الدين من مصر ضاع ملكك!!
فركب السلطان بنفسه ولحق بالشيخ وطيب خاطره ،لكنه لم يقبل أن يعود معه إلى القاهرة إال بعد أن
وافق السلطان على بيع األمراء المماليك في مزاد علني.
رجع الشيخ وأمر بأن ينادي على األمراء في المزاد ،وكان من بين الذين سيباعون في المزاد نائب
السلطنة ،فغضب واشتد غيظه ،ورفض أن يباع كما تباع الماشية ،وصاح في كبرياء :كيف ينادي
علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك األرض؟! واهلل ألضربنه بسيفي.
ركب نائب السلطان فرسه وأخذ معه جماعة من األمراء ،وذهبوا إلى بيت الشيخ يريدون قتله،
وطرقوا الباب ،فخرج ابن الشيخ فلما رآهم فزع ورجع إلى أبيه خائًفا يخبره بما رأى ،ابتسم الشيخ
في وجهه ،وقال له :يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل اهلل ،ثم خرج إلى أمراء المماليك ،فنظر
إليهم نظرة عزة وإباء ،وأطال النظر إلى نائب السلطان الذي كان شاهًر ا سيفه؛ فارتعدت مفاصل
نائب السلطان وسقط السيف من يده ،ثم بكى وسأل الشيخ أن يعفو عنه ويدعو له ،وتَّم للشيخ ما أراد
وباع األمراء في المزاد واحًد ا واحًد ا ،وغالى في ثمنهم ،ثم صرفه في وجوه الخير.
وكانت لسلطان العلماء (العز بن عبد السالم) مواقف إيمانية في ميدان الجهاد ضد التتار أعداء
اإلسالم والمسلمين ،وكان له دور فعال في هذا األمر ،ولم َيْر َض أن تتحمل جماهير الشعب وحدها
نفقات الجهاد ،وهو يعلم أن السلطان ورجاله لديهم أموال كثيرة فقال :إذا طرق العدو بالد اإلسالم
وجب قتالهم ،وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم ،بشرط أال يبقى في بيت
المال شيء ،وأن يؤخذ كل ما لدى السلطان واألمراء من أموال وذهب وجواهر وحلي ،ويبقى لكل
الجند سالحه ،وما يركبه ليحارب عليه ويتساووا هم والعامة ،وأما أخذ أموال الناس مع بقاء ما في
أيدي الجند من األموال ،فال.
وقد اشترك الشيخ (عز الدين) بنفسه في الجهاد المسلح ضد العدو ،وكان دائًم ا يحرض السلطان
(قطز) على حرب التتار حتى كتب اهلل له النصر في (عين جالوت) عام 658هـ(1260م) وكان
(العز بن عبد السالم) شجاًع ا مقداًم ا ،فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة ،فشاهد
األمراء والخدم والحشم يقبلون األرض أمام السلطان ،وشاهد الجند صفوًفا أمامه ،ورأى األبهة
والعظمة تحيط به من كل جانب ،فتقدم الشيخ إلى السلطان ،وناداه باسمه مجرًد ا ،وقال :يا أيوب ،ما
حجتك عند اهلل إذا قال لك :ألم أبوئ لك مصر ،ثم تبيح الخمور؟
فقال السلطان نجم الدين أيوب :هل جرى هذا؟
قال الشيخ :نعم تباع الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات ،وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة،
وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون.
فقال السلطان :يا سيدي هذا أنا ما عملته ،هذا من زمان أبي.
فقال الشيخ :أنت من الذين يقولون :إنا وجدنا آباءنا على أمة..
فأصدر السلطان أوامره بإغالق تلك الحانات ،ومنع تلك المفاسد ،وشاع الخبر بين جمهور المسلمين
وأهل القاهرة ،فسأل أحد تالميذ الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام خدمه وعساكره
في مثل هذا اليوم الكريم؟ فقال الشيخ:
يا بني ،رأيُت السلطان في تلك العظمة ،فأردُت أن أذكره لئال تكبر عليه نفسه فتؤذيه ..قال التلميذ:
أما خفته؟ قال عز الدين :واهلل يا بني ،استحضرُت هيبة اهلل تعالى فلم أخف منه.
وكان (العز بن عبد السالم) رغم فقره كريًم ا كثير الصدقات ،فيحكى أنه لما كان بدمشق ،وحدثت
ضائقة ،وعانى الناس من قلة المال ،وانخفضت أسعار البساتين فأعطته زوجته مصاغها ،وقالت:
اشتِر لنا بثمنه بستانا نصِّيف فيه ،فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه ،فسألته زوجته :هل اشتريت
لنا بستاًنا؟ قال :نعم ،بستاًنا في الجنة ،إني وجدت الناس في شدة ،فتصدقُت بثمنه ،فقالت :جزاك اهلل
خيًر ا.
وعاش الشيخ (عز الدين) 83عاًم ا يدعو إلى اهلل ويجاهد في سبيله ،يأمر بالمعروف وينهي عن
المنكر إلى أن توفي عام 660هـ ،فخرج الرجال والنساء والشباب واألطفال يودعون سلطان
العلماء ،وصلى عليه سلطان مصر والشام -في ذلك الوقت -الظاهر (بيبرس).
وقد أشاد به العلماء والمؤرخون حتى أطلق عليه تلميذه شيخ اإلسالم
(تقي الدين بن دقيق العيد) لقب (سلطان العلماء) ..رحم اهلل العز بن عبد السالم رمز العزة واإلباء.
" الرقة ولين الفؤاد صفتان جميلتان مدح بهما الرسول صلى اهلل عليه وسلم قومًا من الناس ,وذم
آخرين يوم أن اتصفوا بنقيضها .وشيخنا العالمة الكبير محمد بن صالح العثيمين _ رحمه اهلل _
ممن ُع رف بالقوة والحياة الجادة والثبات والشدة في الحق والكل يعرف عنه ذلك ,لكن مما اتصف
به شيخنا _ رحمه اهلل _ مع ذلك رأفة القلب وصفاء النفس ومحبة الخير والسعي لنفع الناس ..وعدد
ما شئت مما يتصف به العلماء .وبين يدي قصة عشتها وأثرت فَّي أحداثها .
عبد الرحمن بن داوود من خيرة طالب شيخنا وأحاسنهم أخالقًا من يمن اإليمان والحكمة له في
قلوب الجميع محبة ومكانة . ..
حصل له حادث توفي على أثره وهو في طريقه لمدينة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ,حزن
الجميع للنبأ وسلمنا لقضاء اهلل وقدره ووضعت الجنازة بعد صالة المغرب ليتقدم شيخنا _ رحمه اهلل
– ويصلي عليه ,ثم ُتحمل الجنازة إلى المقبرة .
وفجأة بعد الصالة إفتقدنا الشيخ رحمه اهلل فقال البعض لعله تبع الجنازة وقال آخرون لعل الشيخ
صائم فذهب لإلفطار كما هي عادته وسيعود بعد ربع ساعة أما البعض فقد رأوا شيخنا عندما نزل
بعد الصالة إلى قبو المسجد ,فجلسوا حول كرسي الشيخ في إنتظار صعوده للدرس اليومي .
ثم قام أحد األخوة من طلبة الشيخ المعروفين_ ممن لم ير الشيخ _ فنزل إلى القبو ريثما يعود الشيخ
,وفجأة وهو ينزل إذ بالشيخ _ رحمه اهلل _ يصعد من القبو وهو يمسح الدموع عن وجهه ,وقد
ظهر على وجهه التأثر الشديد والبكاء ,هنا ألقى صاحبنا على شيخنا السالم ثم صعد ,أما الشيخ فقد
كفكف دمعه وصعد إلى مكان الدرس وجلس على كرسيه والجميع حوله ثم ترحم على إخينا _ عبد
الرحمن _ وذكره بخير ثم استمر في درسه وكأن شيئًا لم يكن .ما ذا نقول .؟! ثبات و قوة في رقة و
إيمان ..
رحم اهلل عبد الرحمن بن داود ورحم اهلل شيخنا فقد لحق المعلم بالطالب ونحن على األثر.
يقول الشيخ عبد السالم العييري وهو يتكلم عن الشيخ علي الطنطاوي رحمه اهلل وهو يتحدث عن
موقف أثر فيه كثيرًا يقول:
ياللعار! أنتم أيها الناس تأكلون وتشربون وتنامون على الفرش الوفيرة وتصغون إلى أصوات
المذياع وتتمددون على مقاعد المقاهي وإخوانكم هناك يخوضون في الدم ،يا للعار!.
إني ألكتب هذه الكلمة وأنا أبكي ولقد مرت علي أيام شداد ومصائب جسام فما بكيت وال ترقرقت في
مقلتي دمعة ،ولكني أقسم باهلل العظيم أبكي اآلن من أعماق قلبي.
أتدرون لماذا؟.
كنت قاعدًا أشرب بعض الشاي وأشتغل بكتابي الذي أؤلفه فما سمعت إال ضجة في الدار وكالمًا لم
أتبينه ولهجة لم آلفها .
فسألت فإذا في الدار امرأة من فلسطين شريفة غنية من أسرة كبيرة كشفت مالءة عليها بالية فإذا
ليس تحتها شيء وإذا هي عارية ليس على جسمها إال سراويل وإذا هي قد قصفها الجوع.
وانطلقت تصف ما جرى عليها منذ قتلوا زوجها وأخاها وطفلها إلى أن نجت بالباقين وهي عارية
من المال والثياب إلى أن وصلت إلى محطة الشام فتركت أطفالها في المحطة تحت حرارة الشمس
ومشت على غير هدى حتى وجدت هذا الباب فولجته.
انطلقت تحكي وأهل الدار يبكون حتى كادت تصير الدار كأنها مناحة ،ثم وضعوا بين يديها كل ما
يقدرون عليه ،ثم ذهبت ال أدري إلى أين وال أدري ماذا تصنع غدًا وال الذي بعده ،وال أعلم من معها
وماذا جرى لغيرها؟.
فهل في الناس من يعلم ويدري ،وهل في الناس من يحب أن يعلم ،وهل في البلد مسلم ،هل في البلد
عربي ،هل في البلد إنسان؟!.
سيهز بعض الموظفين أكتافه ويقول :أنا ال أشتغل بالسياسية ،ثم يذهب إلى السينما أو البار أو دار
القمار.
سيفرك الشيخ كفه ويقول :إنا هلل وإنا إليه راجعون ،ثم يذهب يعد قروشه على سبحته.
يا أيها الناس! إن المئات من النساء يضلن في الطرقات جائعات عاريات في مدن فلسطين وفي
أراضي الشام.
إن المرأة التي ذهبت اآلن من دارنا مثال من هؤالء النساء ،فمن يتطوع للبحث عنهن ،من يتقدم
فيستأجر لهن الدور ويجمع من الناس فينفق عليهن.
أتذهب هذه الكلمة صيحة في واد ،ألم يبق في البلد مسلم؟! ألم يبق عربي؟! ألم يبق شريف؟!
أتعاد مأساة أندلس جديدة وأنتم تنظرون؟ ألم يكف هذا الموقف المخجل الذي وقفه رؤساء العرب،
أتكون الشعوب العربية أيضًا مقصرة.
مائة وعشرة أيام مرت على فلسطين ،ال البائع باع فيها وال الصانع اشتغل ،وال األجير أخذ أجرته.
فمن أين يعيش فقراء فلسطين؟! من أين يجدون ثمن الخبز؟! ألم تفكروا في هذا ،ألم يخطر لكم على
بال؟!
كان العالمة الراحل أستاذًا في فرع جامعة اإلمام محمد بن سعود ،ومعروف أن األساتذة لهم رواتب
في ضوء ما يقدمونه من محاضرات .
وقد يحدث أحيانًا أن يكون للشيخ ارتباطات في عمله في هيئة كبار العلماء أو في الحج أو في أي
ارتباطات أخرى ،ومن ثم ال يتمكن من حضور بعض هذه المحاضرات ،فلما جاءت أوراق تسلم
الرواتب طلب من المسؤول عنها خصم مكافأة جميع المحاضرات التي أعتذر عنها .
رغم مرض الشيخ ( رحمه اهلل ) حرص على خطب الجمعة في الجامع الكبير واإلمامة واإللتقاء
بالناس لإلجابة على أسئلتهم واستفساراتهم رغم كل معاناته حتى قيل له في وقت مرضه :أرح
نفسك يا شيخ .
إن هذا العالم الجليل حتى آخر لحظة من لحظات عمره كما يخبرني الطبيب الذي كان معه آخر أيام
حياته وقابلته بعد موته بساعة أو ساعتين في المستشفى التخصصي في جدة قال :إني كنت آخر
األيام مع الشيخ فسألته ما كان دأبه في األيام أألخيرة قال :ما رأيت عليه سوى الصالة وقراءة
القرآن ،ما اشتغل بغير ذلك بشيء أبدًا .
• كلمة تدون بماء الذهب
اذكر أنه من حرص الشيخ ( رحمه اهلل ) على التعليم أنه قبل سنة ألف وأربعمائة للهجرة أصيب في
ركبته أو أصابه ألم في ركبته أقعده حيث لم يتمكن معه الذهاب إلى الجامع الكبير فترًة من الزمن ،
فما كان منه ( رحمه اهلل ) إال أن نقل الدرس إلى المسجد الذي في جوار بيته مسجد ،كل ذلك
حرصًا على عدم انقطاع الدرس ...
سجل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين خالل شهر رمضان الماضي موقفًا مؤثرًا أمام أطبائه
الذين كانوا يشرفون على حالته الصحية داخل المسجد الحرام فقد كانت حالة الشيخ الصحية تستدعي
راحته في تلك الليلة وعدم إلقائه الدرس بعد صالة التراويح ألن األطباء يرغبون في إضافة دم
للشيخ وعمل بعض الفحوصات ،لكن الشيخ قال لهم :اعملوا ما شئتم وسألقي الدرس ،فكان يتحدث
ويلقي المحاضرة واألطباء يضعون اإلبر في جسده لزيادة الدم واستكمال الفحوصات والتأكد من
درجة الحرارة والضغط والحالة الصحية العامة ،فهكذا وإلى هذه الدرجة كان حرصه على نشر
العلم وتعليم الناس حتى آخر يوم من رمضان قبل مغادرته المسجد الحرام .
• بكى بكاًء شديدًا
قبل وفاته رحمه اهلل حضرنا مجلسا ًوكنت معه فتليت قصيدًة في هذا المجلس عن الموت فبكى الشيخ
بكاًء شديدًا وهو يسأل اهلل قائًال :اللهم أعنا على الموت وكان ذلك قبل وفاته بأشهر قليلة .
• بحث في المساجد
قال الطبيب المعالج للشيخ أن الشيخ محمد ( رحمُة اهلل عليه ) كان يقرأ القرآن الكريم ثم دخل في
غيبوبة قبل وفاته بساعة ،وكان الشيخ قليل الكالم وكثير الحمد واالستغفار ،يقول الطبيب :سمعته
مرة يقرأ سورة الفاتحة وتارة كان يتمتم لصعوبة حالته الصحية ،وعندما ُس ئل أبناؤه عما يتمتم به
الشيخ ذكروا بأنه كان يقرأ القرآن .
وهذا منهج نبوي ،فقد قالها محمد صلى اهلل عليه وسلم !!
لما سئل الرسول صلى اهلل عليه وسلم أي البقاع أحب إلى اهلل ؟ وأي البقاع أبغض إلى اهلل ؟ قال
صلى اهلل عليه وسلم :ال أدري حتى يأتي أخي جبريل فأسأله .
فقول العالم ال أدري تزيد من مكانته ،ويفتح اهلل عليه فتوحًا لم تكن بالحسبان ،ألنه وكل العلم إلى
عالمه ،والشيخ رحمه اهلل مع سعة علمه واطالعه يقف عند المسائل التي ال علم له بها.
* سئل ـ رحمه اهلل ـ عن رجل قرأ في الصالة " آية الَّد ْين " فقسمها بين الركعتين ،فتوقف الشيخ ،ثم
قال :ألول مرة أسأل عن هذه المسألة .
ثم قال :إن قرأها فال بأس ،لكن األولى أن يقرأها في ركعة واحدة .
فعلى كثرة المسائل والفتاوى التي تعرض عليه ،يعترف ويقول على مسامع الطلبة ببساطة :أنا أول
مرة تمر علي هذه المسألة .
الشاهد قوله :ألول مرة تعرض علي هذه المسألة ،بعكس المتعالم الذي كل شيء يعلمه وعلى اطالع
بكل شيء ،أما الشيخ رحمه اهلل تعالى فكان العالم الحق الذي يخشى اهلل عز وجل ،هكذا نحسبه واهلل
حسيب الجميع .
* حصل كثيرا جدًا أن يقول الشيخ :هذه المسألة تحتاج إلى مراجعة ،فيحيل هذه المسألة إلى بعض
طلبة العلم في الدرس فيقول :يا فالن هل تبحث لنا المسألة ولك منا الدعاء ؟ فيقول الطالب :نعم ،ثم
يأتي بالبحث ويقرأه على الشيخ ،ثم يعلق عليه رحمه اهلل .وقد صدر في ذلك أجزاء حديثية مما قرأ
على الشيخ مما أمر ببحثه.
* جاء رجل واستفتى الشيخ رحمه اهلل أثناء الدرس ،وكان الشيخ يفتي الذين خارج الدرس حتى أثناء
الدرس؛ يقول :هم أصحاب حاجات ،يعني ال عالقة لهم بالدرس ،فهذا الرجل استفتى الشيخ ،فقال
الشيخ :ال أدري ،ال أعرف .
سيف اهلل المسلول على الفالسفة والملحدين وعلى الغالة المبتدعين ،جندت كثير من األقالم لترجمته
وإبراز شخصيته الفذة وسطرت في هذا الشأن عشرات من المجلدات( )1وفي ذلك ما يغني القارئ
عن أن أترجم له في هذه المقدمة ،غير أني أرى أن أتحف القارئ بشذرات مما زكاه به كبار علماء
عصره تتناول بعض الجوانب من حياته وأن أعطيه فكرة مجملة عن كثرة مصنفاته الدالة على
تبحره في العلوم وامتالك نواصيها.
- 1قال اإلمام الحافظ أبو عبد اهلل محمد بن أحمد بن عبدالهادي (ت" :)744هو الشيخ اإلمام الرباني
إمام األئمة ،ومفتي األمة ،وبحر العلوم ،سيد الحفاظ ،وفارس المعاني واأللفاظ ،فريد العصر وقريع
الدهر ،شيخ اإلسالم ،وعالمة الزمان ترجمان القرآن ،علم الزهاد ،أوحد العباد وقامع المبتدعين
وآخر المجتهدين ،تقي الدين أبوالعباس ،أحمد بن الشيخ اإلمام العالمة شهاب الدين أبي المحاسن،
عبد الحليم بن الشيخ اإلمام العالمة ،شيخ اإلسالم مجد الدين أبي البركات ،عبد السالم بن أبي محمد
عبد اهلل بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد اهلل ابن تيمية الحراني ،نزيل
دمشق ،صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها"(.)2
- 2وقال اإلمام الحافظ الفقيه األديب ابن سيد الناس فتح الدين أبوالفتح محمد بن محمد اليعمري
المصري الشافعي :وهو يتحدث عن المزي" :وهو الذي حداني على رؤية الشيخ اإلمام شيخ اإلسالم
تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم بن تيمية ،فألفيته ممن أدرك من العلوم
حظًا ،وكاد أن يستوعب السنن واآلثار حفظًا .إن تكلم في التفسير ،فهو حامل رايته ،أو أفتى في
الفقه ،فهو مدرك غايته ،أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته ،أو حاضر بالملل
والنحل ،لم ير أوسع من نحلته في ذلك ،وال أرفع من درايته .برز في كل فن على أبناء جنسه ،ولم
تر عين من رآه مثله وال رأت عينه مثل نفسه(.)3
ما رأيت مثله ،وال رأى هو مثل نفسه ،وما رأيت أحًد ا أعلم بكتاب اهلل وسنة رسوله وال أتبع لهما
منه".
"كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه ال يعرف غير ذلك الفن ،وحكم أن أحًد ا ال
يعرفه مثله ،وكان الفقهاء من سائر الطوائف ،إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا
قد عرفوه قبل ذلك ،وال يعرف أنه ناظر أحًد ا فانقطع معه وال تكلم في علم من العلوم سواء أكان من
علوم الشرع أم غيرها إال فاق فيه أهله والمنسوبين إليه ،وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف
وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين ..واجتمعت فيه شروط االجتهاد على وجهها"(.)4
وقال اإلمام الحافظ أبوعبد اهلل شمس الدين الذهبي (ت )748وقد ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية -
رحمه اهلل :-
"كان آية في الذكاء وسرعة اإلدراك رأسًا في معرفة الكتاب والسنة ،واالختالف ،بحرًا في النقليات،
هو في زمانه فريد عصره علمًا وزهدًا وشجاعة وسخاء وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر وكثرة
التصانيف وقرأ وحصل وبرع في الحديث والفقه وتأهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة
وتقدم في علم األصول وجميع علوم اإلسالم :أصولها وفروعها ،ودقها وجلها سوى علم القراءات
فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه ،وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق ،وإن حضر الحفاظ نطق
وخرسوا وسرد وُأبلسوا واستغنى وأفلسوا وإن سمي المتكلمون فهو فردهم ،وإليه مرجعهم ،وإن الح
ابن سيناء يقدم الفالسفة فَّلهم وتَّيسهم وهتك أستارهم وكشف عوراهم وله يد طولى في معرفة
العربية والصرف واللغة ،وهو أعظم من أن يصفه كلمي أو ينبه على شأوه قلمي ،فإن سيرته
وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقالته تحتمل أن توضع في مجلدتين وهو بشر من البشر له ذنوب فاهلل
يغفر له ويسكنه أعلى الجنة فإنه كان رباني األمة فريد الزمان وحامل لواء الشريعة وصاحب
معضالت المسلمين ،وكان رأسا في العلم يبالغ في إطراء قيامه في الحق ،والجهاد واألمر
بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة ما رأيتها وال شاهدتها من أحد ،وال لحظتها من فقيه.
وقال في مكان آخر :قلت :وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ومعرفة بفنون
الحديث وبالعالي والنازل وبالصحيح وبالسقيم مع حفظه لمتونه الذي انفرد به ،فال يبلغ أحد في
العصر رتبته ،وال يقاربه وهو عجب في استحضاره واستخراج الحجج منه وإليه المنتهى في عزوه
إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال" :كل حديث ال يعرفه ابن تيمية فليس بحديث"
لكن اإلحاطة هلل غير أن يغترف من بحر ،وغيره من األئمة يغترفون من السواقي.
وأما التفسير فمسلم إليه ،وله في استحضار اآليات من القرآن -وقت إقامة الدليل بها على المسألة -
قوة عجيبة ،وإذا رآه المقرئ تحير فيه ،ولفرط إمامته في التفسير وعظم إطالعه يبين خطأ كثير من
أقوال المفسرين ويوهي أقواًال عديدة وينصر قوًال واحًد ا موافقًا لما دل عليه القرآن والحديث.
ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من األصلين أو من الرد على الفالسفة واألوائل
نحًو ا من أربعة كراريس أو أزيد ،وما أبعد أن تصانيفه اآلن تبلغ خمسمائة مجلدة ،وله في غير
مسألة مصنف مفرد في مجلد(.)5
شيوخه
بلغ عدد شيوخه أكثر من مائتي شيخ ،من أبرزهم والده عبد الحليم بن عبد السالم بن تيمية (ت
،)682والمحدث أبوالعباس أحمد ابن عبد الدائم (ت ،)668وابن أبي اليسر ،والشيخ شمس الدين
عبد الرحمن المقدسي الحنبلي (ت ،)689وابن الظاهري الحافظ أبوالعباس الحلبي الحنفي (ت.)690
تالميذه
- 1شمس الدين أبوعبد اهلل محمد بن أبي بكر الزرعي ابن قيم الجوزية المتوفى سنة (.)751
مؤلفاته:
إن مؤلفات هذا اإلمام كثيرة جدًا بحيث عجز تالميذه ومحبوه عن إحصائها ،قال تلميذه النجيب شمس
الدين أبوعبد اهلل محمد بن أبي بكر المشهور بابن القيم -رحمه اهلل :-
"أما بعد :فإن جماعة من محبي السنة والعلم سألني أن أذكر له ما ألفه الشيخ اإلمام العالمة الحافظ
أوحد زمانه ،تقي الدين أبوالعباس أحمد ابن تيمية -رضي اهلل عنه -فذكرت لهم أني عجزت عن
حصرها وتعدادها لوجوه أبديتها لبعضهم وسأذكرها إن شاء اهلل فيما بعد."...
ثم قال:
" - 1فمما رأيته في التفسير" فذكر اثنين وتسعين مؤلفا ما بين رسالة وقاعدة(.)6
- 2قال" :ومما صنفه في األصول مبتدًئا أو مجيبًا لمعترض أو سائل" فذكر عشرين مؤلفًا ما بين
كتاب ورسالة وقاعدة(.)7
- 3ثم قال" :قواعد وفتاوى" فذكر خمسة وأربعين ومائة ما بين كتاب وقاعدة ورسالة(.)8
" - 4الكتب الفقهية" وسرد خمسة وخمسين مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة وقاعدة(.)9
وذكر الحافظ ابن عبد الهادي كثيًر ا من مؤلفات شيخ اإلسالم مع ذكر نماذج لبعض المؤلفات
والتنويه بمكانتها في كتابه العقود الدرية( )11من مناقب شيخ اإلسالم ابن تيمية.
هذه لمحة خاطفة عن حياة هذا اإلمام العظيم -رحمه اهلل -وأسكنه فسيح جناته.
فتح مالك عينيه على الحياة ،فوجد التقدير والمهابة يعم المدينة وأهلها ،وكيف ال وقد حوى ترابها
جثمان رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -ودفن فيها ،وضمت أرجاؤها حلقات العلم التي تنتشر في
كل مكان.
نشأ الطفل في أسرة تشتغل بالعلم ،فجده (مالك بن أبي عامر) من كبار التابعين فشجعه ذلك على
حفظ القرآن الكريم ،فأتم حفظه وأتقن تالوته ،لكنه لم يكتِف بذلك بل إنه أراد حفظ أحاديث رسول اهلل
-صلى اهلل عليه وسلم -فذهب إلى أمه وقال لها :يا أماه إني أحب رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم-
وأريد أن أحفظ أحاديثه ،فكيف لي بذلك؟! ابتسمت أمه ابتسامة صافية ،وضمته إليها ،ثم ألبسته ثياًبا
جميلة وعممته وقالت له :اذهب إلى (ربيعة الرأي) -وكان فقيًها كبيًر ا -وتعلم من أدبه قبل علمه.
فجلس الطفل الصغير -مالك بن أنس -يستمع إلى شيخه وينهل من علمه ،وبعد انتهاء الدرس يسرع
بالجلوس تحت ظالل األشجار ليحفظ ما سمعه من معلمه؛ حتى ال ينساه ،وقد رأته أخته ذات مرة
وهو على هذه الحال؛ فذهبت إلى أبيها وقصت عليه ما شاهدته ،فقال لها :يا بنيتي إنه يحفظ أحاديث
رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -وكان مالك بن أنس كغيره من األطفال الصغار يحب اللعب؛
فشغله ذلك عن الدرس والعلم قليًال إلى أن حدث له موقف كان له أثر كبير في حياته ،فقد سأله أبوه
يوًم ا في مسألة هو وأخوه النضر ،فأصاب النضر ،وأخطأ مالك في الرد على السؤال؛ فغضب منه
والده ،فكانت هذه الحادثة سبًبا في عزمه على الجد واالجتهاد في العلم ،فذهب من فوره إلى (ابن
هرمز) وهو عالم كبير ،فأخذ يتلقى العلم عليه سبع سنوات ،وكان شديد الحرص على االستفادة منه
خاللها.
قال (ابن هرمز) لجاريته في يوم من األيام :انظري من بالباب ،فلم تر إال (مالًك ا) فرجعت إلى الشيخ
وقالت له :ال يوجد إال ذلك الغالم األشقر (تعني مالًك ا) فقال لها :دعيه يدخل فذلك عالم الناس!! وتعلم
منه مالك كيف يرد على أصحاب البدع والضالالت ،وأراد مالك المزيد ،فذهب إلى نافع (مولى عبد
اهلل بن عمر) أحد الرواة العظام الذين رووا عن ابن عمر أحاديث الرسول -صلى اهلل عليه وسلم-
وكان ينتظره في شدة الحر يترقب خروجه من منزله ،ثم يصطحبه إلى المسجد ،حتى إذا ما انتهى
(نافع) من أداء الصالة ومكث برهة؛ انتهز الصبي الصغير الفرصة وسأله في الحديث والفقه ،فنهل
من علمه وأخذ عنه ما في رأسه من نور رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
ثم الزم مالك بن أنس المحدث الكبير (ابن شهاب الزهري) ليتعلم على يديه ،وحرص على أال يفوته
درس من دروس هذا الشيخ ،حتى يوم العيد نفسه وهو اليوم الذي يلهو فيه الصبيان ويمرحون،
روي عن مالك أنه قال :شهدت العيد ،فقلت :هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب ،فانصرفت من المصلى
حتى جلست على بابه ،فسمعته يقول لجاريته :انظري من بالباب ،فنظرت ،فسمعتها تقول :موالك
األشقر مالك ..قال :أدخليه ،فدخلت ،فقال :ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟ قلت :ال ،قال :هل
أكلت شيًئا ؟ قلت :ال ،قال :اطعم ،قلت :ال حاجة لي فيه ،قال :فما تريد؟ قلت :تحدثني ..قال لي:
هات ،فأخرجت ألواحي ،فحدثني بأربعين حديًثا فقلت :زدني ،قال :حسبك ،إن كنت رويت هذه
األحاديث (أي يكفيك هذه األحاديث إن كنت حفظتها) فأنت من الحفاظ ،قلت :قد رويتها ،فجذب
األلواح من يدي ،ثم قال حدث ،فحدثته بها ،فردها إلَّي ..أي األلواح.
ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالًك ا في العلم والفقه ،والحفظ ،والعزة ولم يجلس للفتوى
حتى شهد له سبعون من جلة العلماء أنه أهل لذلك ،يقول اإلمام مالك( :ما أجبت في الفتوى حتى
سألت من هو أعلم مني :هل تراني موضًع ا لذلك؟ سألت ربيعة ،وسألت يحيى بن سعيد ،فأمراني
بذلك ،فقال له رجل :فلو أنهم نهوك؟ قال مالك :كنت أنتهي ،ال ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى
يسأل من هو أعلم منه).
اشتهر اإلمام مالك بكتابه (الموطأ) وهو كتاب حديث وفقه مًع ا ،جمع فيه ما قوي عنده من حديث
أهل الحجاز وأضاف إليه أقوال الصحابة وفتاوى التابعين ،ثم رتبه على أبواب الفقه كالطهارة
والصالة والزكاة ،وقد عمل في هذا الكتاب نحو أربعين عاًم ا ،وقد تلقاه الناس بالقبول ،وسمى مالك
كتابه بهذا االسم ألنه مهد به للناس ما اشتمل عليه من الحديث والفقه ،أو ألن العلماء المعاصرين له
بالمدينة واطئوه ووافقوه عليه ،وقد ُط ِبَع الكتاب كثيًر ا في مصر والهند.
واإلمام مالك هو مؤسس المذهب المالكي الذي انتشر في المغرب العربي وبالد األندلس وصعيد
مصر ،فهذا هو مالك بن أنس شيخ األئمة ،وإمام دار الهجرة ،مات بالمدينة سنة 179هـ وهو ابن
تسعين سنة
قال الشيخ ناصر العمر في شريط ما الهم الذي تحمله سأحدثكم عن رجل واحد (كان) يعيش بيننا
أضرب به مثال من أجل شحذ الهمم والعزائم ،وأريد أن أقول عندما أحدثكم عن هذا العلم وعن هذا
القدوة ،فسأتحدث عن جانب واحد فقط وهو جانب حمله لهم اإلسالم حتى يكون لنا عبرة وقدوة ،أال
وهو:
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز (رحمه اهلل) .أيها األخوة ،لو تحدثت وتحدثت لما وفيته
حقه ،ولكني سأقتصر على الجزء الذي أشرت إليه والذي يتعلق بحمله لهم اإلسالم ،وسأذكر لكم
حقائق ووقائع تؤكد هذه الحقيقة وتبينها لعله يكون دافعا لنا ،خذوا هذه الحقائق ،خذوا هذه الدرر :منذ
عرفت الشيخ منذ أكثر من عشرين سنة ال أعرف أنه أخذ إجازة :ال شهر في السنة وال يوم أبدا،
وكنت أتحدث في هذا الكالم في عدة مجالس أنني منذ عرفته في بداية التسعينات ،أي التقيت معه ال
أعرف أنه أخذ إجازة يوما واحد .واذكر لكم حقيقة تبين هذا األمر حيث ذهبت في عام 1391هـ إلى
المدينة من أجل لقاء مع سماحته وكان معي أحد المشايخ .ذهبنا بتوصية من أحد مشايخنا في
الرياض بارك اهلل في الجميع وفيكم ،فجئنا إلى الشيخ بعد أن وصلنا المدينة ليلة الجمعة كهذه الليلة.
ثم بعد صالة الفجر في المسجد النبوي خرجنا ننتظر خروج الشيخ ،فلما خرج قلنا يا سماحة الشيخ
نحن جئنا من الرياض ومعنا لك رسالة ونريد أن نلتقي معك .فقال لنا يا أبنائي هذا اليوم يوم الجمعة
وهو مخصص لألوالد ،فلعلكم تأتون غدا إلى الجامعة اإلسالمية (عندما كان رئيسا للجامعة
اإلسالمية) .فقال له صاحبي يا فضيلة الشيخ نحن مسافرون وورائنا أعمال ودراسة( ،وقد كنا طالب
في كلية الشريعة وقته) ،فلعلك تستقبلنا هذا اليوم .فقال إذا ائتوني ضحى في بيتي وسأحاول أن
أقضي حاجتكم .فقلت ألخي الشيخ الذي معي ال يليق أن نذهب إلى الشيخ هذا اليوم وقد خصصه
ألوالده ،فهو اليوم جالس مع أوالده ومع زوجاته وهو يوم جمعة.
فلو انتظرنا إلى الغد ونحن على خير ،نصلي في المسجد النبوي والحمد هلل والصالة فيه بألف صالة
لعلنا ننتظر إلى الغد .قال ال نذهب استثمارا للوقت .ذهبنا وكنت أقدم رجال وأخر أخرى وأتصور أن
الشيخ سيكون بين أوالده وننتزعه من بينهم ،فلما وصلنا إلى بيته ،طرقنا الباب وكان مفتوحا .وكنت
أنا الطارق حيث كان صاحبي ورفيقي كفيف البصر ال كفيف البصيرة ،بل أنار اهلل بصيرته بكتاب
اهلل جل وعال .كنت أطرق الباب فجاءنا رجل أعرابي من أهل المدينة وقال تطرقون بيت من ؟
فخشيت أنني أخطأت ،فقلت أليس هذا بيت الشيخ عبد العزيز ابن باز ،فقال وهل بيت الشيخ عبد
العزيز ابن باز يطرق ؟ أدخلوا ودخل أمامنا .فدخلنا فإذا الشيخ في مجلسه وإذا المجلس مكتظ
بالناس .سبحان اهلل ،سبحان اهلل .قدمنا للشيخ الكتاب فقال إذا تتغذون معنا ،فقلنا خيرا إن شاء اهلل .فلما
صلينا قال لي صاحبي مرة أخرى لنذهب إلى الشيخ .فقلت له يا أخي الكريم أخذنا عليه الضحى وال
نريد أن نأخذ عليه وقت الغذاء وعلى األقل يتغداء مع أوالده .قال سنذهب واختلفنا والخالف شر.
ولذلك تأخرنا على الشيخ وذهبنا في النهاية ،فدخلنا المجلس ولم يشعر الشيخ بنا ،وجلسنا وإذا
المجلس مليء بالناس .فإذا الشيخ يقول هل حظر فالن وفالن (يسمينا بأسمائنا)؟ قالوا نعم ،قال
أعطونا الغذاء .إذا يا أحبتي الكرام هذا اليوم الذي قال لنا سماحة الشيخ أنه مخصص ألوالده ،هكذا
قضاه .قبل رمضان كنت جالسا مع أحد المالزمين للشيخ فتحدثنا في هذه القضايا فإذا هو يقول لي
إنني سمعت بأذني سماحة الشيخ يقول منذ أيام ألحد المشايخ :منذ ثمان وخمسين سنة لم أخذ إجازة
يوم واحد.
هذا يحمل هم ماذا ؟ هم الدنيا ؟!! واهلل أنني منذ عرفت الشيخ وجلست معه ما سمعته يوما يتكلم بأمر
من أمور الدنيا :التي تتعلق بالبيع والشراء والتجارة أبدا ،أبدا إال إذا كانت في صالح المسلمين ،أما
أن يتكلم عن أسعار األراضي ،أو السيارات ،أو البيوت ،أو الوظائف ال يعرف فيها شيء .أقول لكم
منذ عشرين سنة لم أسمعه يوما واحدا يتكلم إال في ما يخص أمور المسلمين ،ويرضي ربه جل وعال
من ذكر وتسبيحا وقراءة قرآن وكلمات طيبة وحل مشاكل المسلمين .هذا يحمل هم ماذا أيها األخوة ؟
سماحة الشيخ عبد العزيز (رحمه اهلل) وعمره فوق الثمانين سنة :وكان ال ينام إال بحدود أربع إلى
خمس ساعات فقط ،.والباقي عشرين ساعة كلها في ذكر اهلل وطاعته وعبادته وقضاء حوائج
المسلمين ،قال لنا أكثر من مرة أنه مستحق للتقاعد منذ سبعة عشر عاما بكامل الراتب ،ولكن واهلل
ما بقيت إال من أجل أن أخدم المسلمين .نعم أيها األخوة هذه حقائق .حقائق أيها المسلمون .قلت لكم
هذا الرجل (كان) يعيش بيننا هذا همه ومع ذلك هل هو يفتر في عبادته؟ الذي أعرفه عن سماحة
الشيخ أنه (لم يكن) يترك ورده من القرآن يوميا أبدا وخذوا هذه القصص :يقول أحد كّتاب الشيخ،
ذهبت أنا وإياه إلى مكة وجلست أقرأ عليه المعامالت بعد العشاء إلى حدود الساعة الحادية عشر
ليال .فقال سماحة الشيخ بأدبه وتواضعه يبدو أننا تعبنا ،الشيخ ما تعب ولكن الذي تعب هو الموظف،
فالشيخ بأدبه ما أراد أن يقول للموظف هل تعبت ،فقال يبدو أننا تعبنا .يقول الموظف فقلت له نعم يا
شيخ .قال إذا ننام ،يقول فوضعت المعامالت وقام الشيخ يصلي .يقول قمت فصليت ما كتب اهلل لي
ثم نمت .فاستيقظت بعد الثانية عشرة فإذا الشيخ يصلي ،ثم استيقظت قبل الفجر فإذا الشيخ يصلي.
ويقول أحد إخوانه الذين جاءوا معه من الطائف إلى الرياض عن طريق البر ،ولم صرنا في
منتصف الليل بعد الساعة الثانية ليال تقريبا قال الشيخ لمرافقيه :يبدو أننا تعبنا وسهرنا ،قفوا لننام في
الطريق .يقول فوقفنا فما لمست أقدامنا األرض إال ونمنا والجيد منا من استطاع أن يصلي ركعة أو
ثالث ركعات ،وشرع الشيخ في الصالة ،فلما استيقظنا قبل صالة الفجر فإذا الشيخ يصلي .يحدثني
أحد المالزمين للشيخ قبل أسبوعين فيقول ما ترك الشيخ كلمة بعد صالة العصر إذا صلى في أي
مسجد إال وألقى كلمة حتى يوم الجمعة ،ما تركها أبدا .ندوة الجامع الكبير ،إذا كان الشيخ في
الرياض ال يترك حضور ندوة الجامع الكبير أبدا إال لعارض صحي .إذا يا أخوان ،هذه حقائق ممن
يحمل هم اإلسالم .وأختم الحديث عن حياته بقصة حدثني فيها أحد الموظفين بدار اإلفتاء منذ عدة
سنوات فيقول :جاءت رسالة من الفلبين لسماحة الشيخ :فإذا فيه امرأة تقول أن زوجي مسلم أخذوه
النصارى فألقوه في بئر ،فأصبح أطفالي يتامى ،وأصبحت أرملة وليس لي أحد بعد اهلل جل وعال.
وسألت من يمكن أن اكتب له في األرض ؟ قالوا ال يوجد إال الشيخ عبد العزيز أبن باز ،فآمل أن
تساعدني .كتب عليها الشيخ للجهات المسؤولة في دار اإلفتاء لمساعدتها ،فجاءته إجابة أن يا سماحة
الشيخ ال يوجد بند من البنود عندنا لمساعدة امرأة وضع زوجها في البئر ،فالبنود المالية محددة،
فيقول الشيخ لكاتبه ،أكتب مع التحية ألمين الصندوق أن أخصم من راتبي عشرة آلالف ريال
وأرسله إلى هذه المرأة .معذرة فالحديث عنه ال يمل ،بقول لي أحد الزمالء في الجامعة :وقد ذهب
في دورة إلى دولة أفريقية ،يقول جاءتنا عجوزا في وسط أفريقيا ثم سألتنا عبر المترجم من أين أنتم؟
قالوا لها إنهم من السعودية ،فقالت بلغوا سالمي الشيخ عبد العزيز ابن باز .عجوز في وسط أفريقيا،
كيف عرفت الشيخ عبد العزيز أبن باز ؟ ألنه يحمل همها.
في قرية (العيينة) من قرى (نجد) شمال غرب مدينة الرياض ،ولد (محمد بن عبد الوهاب بن
سليمان بن علي التميمي الحنبلي النجدي) في عام 1115هـ ونشأ بين أحضان أسرة صالحة ،تقتدي
في أفعالها برسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -وتهتدي بسنته ،وكان والده قاضًيا في بلدة العيينة ،فقام
بتحفيظ ولده الصغير القرآن الكريم ،وعلمه الفقه ،فنشأ (محمد) نشأة صالحة ،واجتهد في الدراسة،
وأخذ يحفظ كثيًر ا من أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
فلما كبر اشتاق إلى زيارة بيت اهلل الحرام ،وهناك تتلمذ على بعض علماء الحرم الشريف ،ثم توجه
إلى المدينة المنورة ،واجتمع بعلمائها وشيوخها وتعلم على أيديهم ،ثم عقد (محمد بن عبد الوهاب)
العزم على السفر إلى (العراق) لطلب العلم.
وفي مدينة (البصرة) كانت بداية دعوته إلى جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم من كتاب اهلل وسنة
رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -ودعا في جرأة العالم المسلم الذي يحاول أن يبعد عن دينه كل ما
التصق به من خرافات ومبتدعات ،مما عرضه لثورة بعض علماء البصرة ،الذين اجتمعوا لمحاربته
وإيذائه ،فخرج حزيًنا مهموًم ا إلى بلده ،فوجد والده قد انتقل إلى بلدة (حد يمال) فانتقل حيث صار
والده ،واستقر هناك واشتهر بالتقوى وصدق التدين ،وأخذ يأمر بالمعروف ،وينهي عن المنكر،
ويطالب األمراء بتطبيق حدود اهلل ،ومعاقبة المجرمين الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب
واإليذاء ،حتى تآمر عليه بعض خصومه لقتله وللخالص منه.
وعلم (محمد بن عبد الوهاب) بنيتهم وغدرهم ،فرحل إلى بلدته (العيينة) ورحب به أمير البلدة
(عثمان بن محمد بن معمر) وأكرمه وقال له :قم فادع إلى اهلل ونحن معك ،فأخذ (محمد) يعلم الناس
أمور دينهم ،يدعوهم إلى الخير ،ويأمرهم بالمعروف ،وينهاهم عن المنكر حتى اشتهر في بلدته
والقرى المجاورة ،فجاء إليه الناس يستمعون إليه ويستفيدون من علمه الواسع ،وظل ينير لهم
الطريق ،ويدعوهم إلى طريق الحق والنور ،وينصحهم بالبعد عن طريق الظلمات ،حتى أحبه
الناس ،والتفوا حوله ،فقوي نفوذ (محمد بن عبد الوهاب) وصار يحكم بين أتباعه وأنصاره بشرع
اهلل.
ولما علم أمير اإلحساء بأمر (محمد بن عبد الوهاب) خاف على سلطانه ،فسعى لقتله ،فانتقل محمد
بن عبد الوهاب ،إلى بلدة تسمى (الدرعية) وكان أميرها (محمد بن سعود) رجال صالًح ا ،فألهمه اهلل
أن يذهب إلى محمد بن عبد الوهاب في منزله بالدرعية ،فسلم عليه وقال له :يا شيخ محمد أبشر
بالنصرة ،وأبشر باألمن وأبشر بالمساعدة ،فقال له الشيخ :وأنت أبشر بالنصرة والتمكين والعافية
الحميدة ،هذا دين اهلل ،من نصره ،نصره اهلل ،ومن أيده؛ أيده اهلل فقال:يا شيخ ،سأبايعك على دين اهلل
ورسوله ،وعلى الجهاد في سبيل اهلل ،ولكنني أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك اهلل على أعداء
اإلسالم ،أن تبتغي غير أرضنا ،وأن تنتقل عنا إلى أرض أخرى ،فقال :ال أبايعك على هذا ،أبايعك
على أن الدم بالدم والهدم بالهدم ال أخرج من بالدك أبًد ا.
وتعاهد األمير والشيخ على أن ينصرا دين اهلل ،وظل الشيخ محمد يحاول إزالة الخرافات واألباطيل
التي ال يرضاها اإلسالم ،ومن ذلك ما انتشر في (نجد) وما حولها من سحرة وكهنة يخدعون الناس،
ويدعون أنهم يعلمون الغيب ،كما انتشر فيها بعض المجانين والمعتوهين الذين يدعون أنهم أولياء
اهلل ،بل وجد بها من يعبد األشجار واألحجار من دون اهلل عز وجل ،فأخذ الشيخ (محمد) يدعوهم
بمساعدة األمير (محمد بن سعود) إلى دين اهلل ،ويلقي الدروس في الفقه والتفسير والحديث ..وغير
ذلك من العلوم النافعة ،ويرسل إلى أمراء البلدان المجاورة ينصحهم بالعمل بكتاب اهلل وسنة رسوله
-صلى اهلل عليه وسلم -وبتطبيق شرع اهلل فازدادت شهرة الشيخ في كل بالد اإلسالم ،وتأثر بدعوته
أناس كثيرون في الهند ،ومصر ،وأفغانستان والشام وغيرها ،وتحمل الشيخ الكثير من األذى ،وظل
يجاهد في نصرة دين اهلل بلسانه أوًال ،ثم بسيفه لينصر الحق ،ويبطل الباطل ،وساعده أنصاره من آل
سعود.
واستمر في جهاده أكثر من خمسين عاًم ا يدعو إلى دين اهلل ،فكان له فضل كبير في عودة الناس إلى
االلتزام بشرع اهلل ،والبعد عن الباطل ،والعودة إلى الحق ،فانتشر نور اهلل في الجزيرة العربية وما
حولها وازدحمت المساجد بتدريس كالم اهلل والسنة المطهرة ،حتى توفي الشيخ في عام 1206هـ،
واستمر أبناؤه وأحفاده وتالميذه وأنصاره في الدعوة والجهاد ،وتحذير الناس من البدع والخرافات،
وما تزال دعوته لها أنصارها ومؤيدوها في جزيرة العرب وما حولها حتى اليوم.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه اهلل:
في ذات يوم رفعت إلي من قبل الشرطة شكوى من امرأة توفي زوجها وخلف لها عدة أطفال ،وقد
وجدت في أوراقه أن له ديونًا عند بعض الناس مقابل أعمال له.
فأحضرت الشرطة هؤالء الذين يطالبهم الزوج بالديون ،فأنكروا أن يكون في ذمتهم حق للمتوفى،
وأظهروا استعدادهم لليمين وأنهم يستطيعون أن يحلفوا.
وحضرت األرملة مع أطفالها إلى المحكمة وتبين لي أن ال بينة لديها سوى تلك القيود.
يقول :وفي الجلسة األولى حضرت المدعية وأحد الغرماء ،واستوقفت الكاتب عن كتابة الدعوى ،ثم
استدنيت الرجل وقربته مني وأجريت معه هذا الحوار.
قلت :كال ،إن خصمك هو زوجها ،فهل تعلم أين هو؟ لقد توفي ،حقًا لقد توفي وترك هذه األرملة
وهؤالء األيتام وال شك لديك أنك ماض إلى ما مضى إليه وأنك معروض معه على اهلل عز وجل
الذي سيسألك عن دعواه ،وهو أعلم بما أنتما عليه ،وال يحتاج إلى بينة ،وال تخفى عنه خافية.
فما الذي يؤّمنك أنه يخلصك من عذابه ذلك اليوم فأجب به اآلن ،واليوم أوسع لك من ذلك الموقف
الذي ال درهم فيه وال دينار ،فماذا تقول في دعوى هذه المرأة؟.
ولمست في هيئته ولهجته أنه يريد الحق فأخرته أسبوعًا ..وهكذا فعلت مع بقية الغرماء ،وكانت
النتيجة واحدة مع الجميع.
وفي اليوم المحدد أدلى كل منهم باعتراف يفوق المبلغ المدعى به عليه ،ومنهم من أحضر المال
فسدد ما عليه ،واستمهل بعضهم إلى موعد الراتب آخر الشهر.
ولن أنسى وقع هذا الموقف في نفس تلك األرملة ،لقد غلبتها دموع الفرح ورفعت يديها بالشكر
الحار إلى اهلل عز وجل الذي وفق إلى كل هذا الخير.
وإني ألسأل في غبطة ال توصف هل بقي مثل هذا التجاوب العالي مع الحق في غير نفوس المؤمنين
الذين إذا ذكر اهلل وجلت قلوبهم.
قال محمد عبد الرحمن العيسى :لقد كان رحمه اهلل يحسن الظن في معظم الناس وكان لديه بعد نظر
يفوق الوصف ..ومن ذلك يأتيه أحيانا من يطلب شفاعته وعليه أثر معصية فيقال له عن حاله فيقول
ربما أن هذه الشفاعة تكون سببا في استقامته ( .األسرة ـ عدد ) 72 :
قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن جالل :ذهبنا كعادتنا وسلمنا على الشيخ في المسجد في
المغرب وطلب مني وإخواني أن نجلس بعد المغرب في المجلس العام وقال :وبعد العشاء البد من
العشاء والجلوس قلت :طيب هذه روضتي وعندما قارب أذان العشاء قمت أتوضأ ومررت بالمكتب
..
فقال لي أحد كتابه وأظنه محمد بن موسى :جئتم اليوم والشيخ مشغول عنكم ال يمكن أن تجلسوا معه
بعد العشاء فقلت :عساه خير إن شاء اهلل ماذا عند الشيخ قال :عنده زواج ابنته الليلة ..
قلت :خير إن شاء اهلل بدل الليلة ليلة أخرى وذهبت وجلست بجانب الشيخ وبعد ما أذن وقام الشيخ
قبلت رأسه وقلت :أستودعك اهلل واسمح لنا سمعت أنكم مشغولون الليلة وبدل الليلة ليلة أخرى قال :
أبدا عندنا زواج البنت والوفود اآلتين عندهم األوالد أما أنتم فأنا وإياكم بعد العشاء على العادة .
وفعال صلينا العشاء ورجعنا ودخل بنا في المكتبة وجلسنا معه وضيوفه عند أبنائه في المجلس
وجلسنا حتى جاء موعد العشاء فجاءه ابنه عبد اهلل وقال يا أبي العشاء جاهز .فقال :قوموا تفضلوا
وذهبنا وتعشينا مع ضيوفه وكان الزواج مختصرا وبعد العشاء قال :تفضلوا وجلسنا معه في
المكتبة مرة أخرى والزوج ومن معه قابلهم أوالد الشيخ وأدخلوهم على بنت الشيخ وانتهوا .
لقد كان سماحة اإلمام ابن باز أنموذجًا فريدًا في حرصه على نفع األمة وقضاء حوائجهم واإلجابة
على إشكاالتهم ومسائلهم .
ففي إحدى الليالي المباركة يوم الجمعة وبينما كنا نستعد للتسجيل مع الشيخ داخل مكتبته إذا بباب
المكتبة يقرع ،وإذا بأحد المشايخ يدخل وهو فضيلة الشيخ محمد الموسى ..يهمس في أذن الشيخ
قائًال :إن هناك امرأة كبيرة في السن ،جاءت من مكان بعيد في شمال المملكة ،وتريد أن تسأل
سماحتكم عن موضوع رضاع؛ ألنها ستسافر في هذه الليلة ،فاستأذن سماحة الشيخ رحمه اهلل قائًال :
أرجو أن تأذنوا لنا دقائق .
ثم قام سماحة الشيخ وقضى حاجتهم ،ثم رجع إلينا قائًال :هذه امرأة جاءت من مكان بعيد فأفتيناها
وأجبناها على أسئلتها.
رحمك اهلل يا َع لم األمة على هذا التواضع الجم والخلق الرفيع ..إن هذه األعمال تذكرنا بمواقف
السلف الصالح .
وفي موعد آخر مع سماحته أصر ابني خالد على الذهاب معي للتسجيل وهو في الصف الثالث
االبتدائي ،وأثناء سالمنا على الشيخ وتقبيل رأسه قلت :هذا ابني خالد يريد السالم عليك ،فسلم خالد
على الشيخ وقبل رأسه .وسأله الشيخ :من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأجابه خالد على األسئلة ،
فدعا له الشيخ بالتوفيق والهداية .وهذه دروس في التعامل مع الصغار ومؤانستهم.
في أيام حرب الخليج وفي ذروتها كنا نسجل البرنامج مع فضيلته ليًال ،وكان لسانه قبل التسجيل
وبعده ال يفتر عن ذكر اهلل ،والدعاء لهذه البالد المباركة بالنصر والتمكين والعزة والرفعة ،وأن
يحفظها اهلل من كيد األشرار واألعداء ،وقد سمعته يلح بالدعاء كثيرًا بأن يحفظ اهلل هذه البالد ..قبلة
المسلمين ومأوى أفئدتهم ومنطلق رسالة التوحيد.
ال أذكر أن الشيخ رحمه اهلل اعتذر يومًا عن التسجيل ،أو سوف ،أو تراخى على مدى 14سنة ،إنما
هي همة الرجال ( دعوة وعمل ) في بذل الخير ونفع المسلمين ،رجال عاهدوا اهلل على المضي في
الطريق الصعب ،فاشتروا اآلخرة وعملوا لها .
كان الشيخ رحمه اهلل محبًا إلذاعة القرآن الكريم ،فكان قبل كل تسجيل يسأل عن الجديد في إذاعة
القرآن الكريم ،وعن برامجها ومواعيدها ،وكان فضيلته رحمه اهلل يخصص لي أسبوعين كاملين
عدا يوم الجمعة في بعض األحيان؛ ألنه يجتمع بأوالده وأسرته ،فكان يسجل حلقات الدورة اإلذاعية
كاملة ( )24حلقة دون كلل أو ملل.
وقد تعلمت من الشيخ رحمه اهلل كيف يكون المسلم حريصًا على الدعوة إلى اهلل وعلى أهمية الوقت
في حياة المسلم واحترام المواعيد والدقة فيها.
كان سماحته رحمه اهلل مضرب في ضبط الوقت واالعتناء به ،فقد كان صادق الوعد ،حافظ العهد،
دقيق الموعد.
وقد كانت حياته جدًا وجهادًا ،وعلمًا وتعليمًا ،ودعوة وإفتاء ،وفقهًا وتأليفًا ،وما هذا العلم المبثوث في
األشرطة واإلذاعات والكتب والرسائل إال ثمرة استغالل الوقت والدقة في االنتفاع به ،فرحم اهلل
الشيخ كم كان حريصًا على نفع األمة بوقته.
كنت أقرع الباب الساعة التاسعة تمامًا فيفتح سماحته الباب فأسلم عليه ويرد بأحسن منه ،وأقبل
رأسه ،ويأذن لي بالدخول ،ثم يخرج ساعة من جيبه وينظر إليها ويقول :على الموعد يا أبا خالد ..
جزاك اهلل خيرًا.
كان حريصًا على هذا البرنامج وحلقاته وعدم انقطاعه ،فكان ال يتوانى في نشر الخير وتبليغ العلم
والدعوة إلى اهلل.
واستمر سماحته رحمه اهلل مواصًال لتسجيالته اإلذاعية في منزله القديم ..في مجلس كبير جدًا فرش
بقطع من الزل المتواضع ،حيث كان سماحته رحمه اهلل إمامًا في الزهد والتواضع ،فكان يجلس في
ركن من أركان المجلس ويقرب هذا الركن موقد نار توضع حوله أواني الشاي والقهوة فأجلس قريبًا
منه.
ومن المواقف مع سماحته رحمه اهلل أنه كان حريصًا على تطبيق السنة ناصرًا لها ذابًا عنها ،محاربًا
للبدعة محذرًا منها ،فكان من تطبيقه للسنة :البشاشة والمصافحة والتبسم لمن قابله ،آخذًا بالحديث( :
تبسمك في وجه أخيك صدقة ) فكان حريصًا على إدخال السرور على المسلمين.
وكنا إذا تناولنا طعام الغداء بعد التسجيل فكان الشيخ رحمه اهلل يلعق الصفحة آخذًا بالحديث الوارد
ويشرب الماء ثالثًا.
محمد الجهني.
يحدث أبو حاتم الرازي عن نفسه وجهاده في طلب العلم فيقول :بقيت في البصرة ثمانية أشهر وكان
في نفسي أن أقيم بها سنة كاملة ،لكن انقطعت نفقتي فجعلت أبيع ثيابي حتى نفذت وبقيت بال نفقة،
ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة وأسمع إلى المساء ،فانصرف رفيقي فجعلت أطوف
معه في سماع الحديث على جوع شديد ،وانصرفت جائعا ،فلما كان من الغد غدا علي فقال :مر بنا
إلى المشايخ ،قلت :أنا ضعيف ال يمكنني .قال :فما ضعفك ؟ قلت :ال أكتمك أمري ،قد مضى
يومان ما طعمت فيهما شيئا .فقال :قد بقي معي دينار فنصفه لك ونجعل النصف االخرفي الكرى،
فخرجنا من البصرة وأخذت منه نصف الدينار" .هكذا كان حرص العلماء على أوقاتهم على الرغم
من الشدة التي تقابلهم. .
* نموذج آخر يذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ ،وفي سيرأعالم النبالء عن ابن أبي حاتم صاحب
الجرح والتعديل يقول .كنا في مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة ،كل نهارنا مقسم لمجالس
الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة ،فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا ،فقالوا :هو عليل ،فرأينا في طريقنا
سمكة أعجبتنا فاشتريناها فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس فلم يمكنا إصالح هذه السمكة
ومضينا إلى المجلس ،فلم نزل حتى أتى على السمكة ثالثة أيام وكادت أن تتغير فأكلناها نيئة ،لم
يكن لنا فراغ أن نشوي السمك .ثم قال .إن العلم ال يستطاع براحة الجسد" * وعبدالغني المقدسي
الجماعيلي المتوفي في القرن السابع أيضا حكى عنه الذهبي ووضع فصال في حفظه ألوقاته فقال :
كان ال يضيع شيئا من أوقاته بال فائدة ،كان يصلي الفجر ويلقن القران وربما قرأ شيئا من الحديث
تلقينا ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثالثمائة
ركعة با لفاتحة والمعوذتين إلى قبل الظهر ،وينام نومة ثم يصلي الظهر و يشتغل إما بالتسميع أو
بالنسخ الى المغرب ،فإن كان صائما أفطر وإال صلى من المغرب إلى العشاء ،ثم يصلي العشاء
وينام إلى نصف الليل أو بعده ثم قام كأن إنسانا يوقظه فيتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر ،وربما
توضأ سبع مرات أوثمان في الليل .وقال :ما تطيب لي الصالة إال مادامت أعضائي رطبة ثم ينام
نومة يسيرة إلى الفجر وهذا دأبه " .وحفظ األوقات ليس قصرا على الرجال وحدهم بل كانت لدينا
نماذج من النساء حافظات ألوقاتهن . .
* وفي مقدمة هؤالء النسوة أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها التي كانت محل استشارة الصحابة ،
وحينما يشكل عليهم أمر من األمور في الدين ،بالفقه أو بالفرائض أو بغيرها تكون أم المؤمنين
عاثشة رضي اهلل تعالى عنها هي مرجعهم ،ويقال عن عائشة أنه لو وزن علمها بعلم النساء مجتمعة
لوزن علم عائشة علم النساء كلهن ،لم تحصل عائشة على هذا العلم الجليل الذي أصبحت به من
رواة الحديث المشهورين إالبحفظها وحرصهاعلى وقتها . .وهذه أيضا عمرة بنت عبدالرحمن بن
سعد بن زرارة األنصارية المدنية وقد كانت في حجر عائشة وروت عنها ،قال عنها ابن سعد :إنها
كانت عالمة . .وربيبة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة بنت أم سلمة أم
المؤمنين رضي اهلل تعالى عنها يقال :إنها كانت أفقه إمرأة بالمدينة في وقتها . .وأم الدرداء رضي
اهلل تعالى عنها كانت من العالمات وكانت من الحافظات ألوقاتها ولذلك كانت تحرص على حلق
العلم وحلق الدروس مع أبي الدرداء رضي اهلل تعالى عنه وكانت هناك حلقة للنساء خاصة . .ومن
النساء أيضا جليلة بنت علي بن الحسين بن الحسين الشجري كانت كما يقول عنها العلماء محدثة
قارئة للقرآن وهي من سجستان ،وطلبت الحديث بالعراق وخراسان وكتب عنها الصمعاني وكانت
تعلم الصبيان القران الكريم .
* وخيرة أم الحسن البصري أيضاوهي موالة أم سلمة رضي اهلل تعالى عنها نمؤنج من نماذج النساء
الحافظات ألوقاتهن ،وأنتج هذا الحفظ علما غزيرا وفقها كثيرا وعبادة جليلة وكانت خيرة كما قيل
عنها تقص على النساء وتعلمهن أمور دينهن . .بل يصل األمر أيها األخت المسلمة لحفظ بعض
النساء ألوقاتهن أن أصبح منهن إمرأة تعتبر من شيوخ اإلمام الشافعي -رحمه اهلل ،-واإلمام
الشافعي من هو في العلم وفي الحفظ ومع ذلك هذه المرأة التي تدعى نفيسة بنت الحسن بن زيد بن
الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اهلل عنهم ،هذه كانت من شيوخ اإلمام الشافعي ،بل إن العجب
ليأخذني ويأخذكم أيضا حينما تعلمون أنها كانت أمية ومع ذلك كانت تحفظ القرآن الكريم وتحفظ
الكثيرمن أحاديث الرسول صلى اهلل عليه وسلم األمر الذي جعلها واحدة من مشايخ اإلمام الشافعي ،
قال عنها ابن كثيرأيضا :كانت عابدة زاهدة كثيرة الخير وكانت أيضا ذات مال فأحسنت إلى الناس
وأنفقت على الزمنى والمرضى وعموم الناس . .وكان من النساء أيضا على وقت الرسول صلى اهلل
عليه وسلم ،من كانت مثاال لحفظ الوقت ،تغزو معه إذا غزا وتتعلم منه وهي نسيبة بنت كعب
األنصارية رضي اهلل عنها وهي المرأة المجاهدة العالمة وهي نموذج من هذه النماذج ،وقد كان
جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت كما ساق ذلك ابن حجرفي
تهذيب التهذيب ،وكانت في المغازي تمرض المرضى وتداوي الجرحى وشهدت غسل ابنة النبي
صلى اهلل عليه وسلم ..
ما أن كادت دموعنا تجف ،وقلوبنا عن اضطرابها تخف ؛ حتى ُفجعنا بعد عصر / 22جمادى
األولى 1420 /هـ ،الموافق 1999 / 10 / 2مـ بوفاة إمام السَّنة ،وعلم الحديث ،اإلمام المحدث
شيخنا الشيخ محمد ناصر الدين األلباني رحمه اهلل .
وكان لزامًا علينا أن نعِّر ف األمة بشيٍء من حياته ،وترجمة مختصرة عن أعماله ،لعله أن يكتسب
بسببها دعوة ِمن محٍٍّب ،أو عدل من منصف .
اسمه ومولده
هو ناصر الدين بن نوح بن نجاتي األلباني ،وقد أضاف إلى اسمه اسم محمد لما في اسمه الذي
سمي به من تزكية ،فكان أحق الناس أن يكون ناصر الدين هو نبينا محمد .
وقد ولد في مدينة (( أشقودرة )) في ألبانيا ،سنة 1355هـ ،الموافق 1914م ،وقد توفي بعد عمر
في هذه الفانية بلغ حوالي 85سنة .
هجرته واستقراره
هاجر هو وأهله من ألبانيا ،وكان عمره آنذاك تسع سنوات ،حفاظًا من والده على دين أهله ،
واستقر به المقام في دمشق عاصمة سوريا ،ثم تنقل بين بيروت واإلمارات حتى استقر به المقام في
عَّمان األردن ،حيث توفي فيها .
طلبه للعلم
كانت بدايته في طلبه للعلم – رجمه اهلل – مع كتاب الحافظ العراقي (( المغني عن حمل األسفار )) ،
وهو كتاب خَّر ج فيه الحافظ العراقي كتاب "إحياء علوم الدين" ألبي حامد الغزالي ،فقام الشيخ
األلباني بنقل كتاب العراقي ،وأتم أحاديثه ،وشرح غريبه ،وقد انتفع بهذا الكتاب كثيرًا كما قال هو
رحمه اهلل .
وقد كان لمجلة المنار ،وباألخص مقاالت صاحبها محمد رشيد رضا أعظم األثر في حياة الشيخ
رحمه اهلل وتوجهه للعلم .
األولى :أنه أصيب في عينه أيامه األولى في الشام ،وطلب منه الطبيب أن يمكث شهرًا ال يعمل
بمهنة الساعات ،و ال يقرأ شيئًا ! فمكث أيامًا ،ثم أصابه الملل ،فطلب من بعض إخوانه أن ينسخ
له من المكتبة الظاهرية في دمشق كتاب "ذم المالهي " البن أبي الدنيا .
فنسخ الناسخ حتى وصل إلى مكان فيه ورقة ضائعة ،قطعت اتصال الكالم ،فلما أخبر الشيخ بذلك
طلب إليه الشيخ أن يستمر بالنسخ .فلما فرغ الناسخ وانتهت مدة العالج ؛ ذهب الشيخ يبحث عن
تلك الورقة الضائعة في المكتبة الظاهرية ،فظل الشيخ ينقب عن تلك الورقة ،فلم يجدها ،وفي تلك
األثناء كان يدون األحاديث التي يقف عليها في المخطوطات ،حتى دَّو ن أكثر من أربعين مجلدًا من
األحاديث بخط يده !! وكان عدد المخطوطات آنذلك حوالي عشرة آالف مخطوطة !!
الثانية :وقد بلغت الهمة والجَلد عند الشيخ رحمه اهلل أنه كان ينسى معهما الطعام والشراب ،فكان
يأتي إلى مكتبة الظاهرية قبل موظفيها ،ويخرج بعدهم !!
ويأتيه أهله بطعام اإلفطار ،فيظل على ما هو عليه إلى موعد الغداء ،فيؤخذ طعام اإلفطار ويوضع
طعام الغداء ! وهكذا مع الَع شاء .
وقد ظل الشيخ اإلمام رحمه اهلل على هذه الهمة إلى أن توفاه اهلل ،فإذا كان يعجز عن البحث قرأ ،
فإذا عجز عن القراءة ُقِر أ عليه .
ومن رأى همة الشيخ ونشاطه قبل مرضه األخير لم يفرق بين أول حياته وبين هذه األيام .
وإذا قيل للشيخ في رحالته أن يرتاح ،قال :إن راحتي في الكالم والبيان !! ال في السكوت .
والشيخ رحمه اهلل عرف عنه رجوعه إلى الحق ،حتى أصبح متميزًا به ،فكم من حديث صححه
وانتشر في اآلفاق بسببه ،ولما تبين له ضعفه من بعد الطلبة تراجع عنه بقوة وإنصاف ،ومثال ذلك
حديث دخول المنزل (( اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج )) فهو حديث صححه الشيخ ثم
تراجع عنه .
وقل األمر نفسه في المسائل الفقهية العملية ،كما هو الحال في مسألة جماع الزوجة بعد طهرها من
الحيض ،حيث كان الشيخ يرى أنه يكتفى بانقطاع الدم دون الغسل ،ثم تراجع عنه إلى قول
الجمهور ،وهو عدم جواز الجماع إال بعد الغسل .وهذا األمر – أعني تراجعه إذا تبين له الحق –
استغله بعض الجهلة والحساد لبيان أن ذلك من تناقضه ولم يدر هؤالء أن هذا من أعظم أخالق الدين
،وقد قل أهله في هذا الزمان ،فكم من إنسان جادل بالباطل من بعد ما تبين له الحق فأصر مستكبرًا
كأن لم يسمع الحق ؟!!
والشيخ برأه اهلل من ذلك وكتبه طافحة برجوعه عن أقواله التي تبين فيها خطؤه مليًا ،ولم ينقصه
ذلك بل رفعه اهلل به ،ولكن عند المنصفين العقالء ،وهذا هو المهم ،واألهم أنه كان يراقب ربه وال
يهمه ما يقال بعد لك .
وقد كان الشيخ رحمه اهلل من أعظم المدافعين والمنافحين عن دين اهلل عز وجل في هذا القرن ،حتى
عَّد ه بعض األفاضل – وهو الشيخ مقبل الوادعي -من المجِّد دين لهذا الدين ،وقد سلك سبًال كثيرة
في توضيح اعتقاد السلف الصالح والدفاع والذب عنه ،فكان أن أخرج للناس مختصر العلو للذهبي
وضمنه تلك المقدمة الماتعة في بيان اعتقاد سلف هذه األمة ،وبيان زيغ أعدائها وضاللهم .
وكذلك أخرج للناس كتابه (( تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد )) وقد حذر فيه كثيرًا من عمل
المشركين الذي سرى إلى المسلمين في بناء األضرحة والمقامات ودعاء األولياء األموات ،والذبح
والنذر عندها .
وأما منهج السلف وفهمهم للكتاب والسنة ،فقد كان رحمه اهلل من أعظم المتمسكين به في نفسه ،
الداعين له من خالل كتبه وأشرطته ،وقد كان قوله تعالى (( :ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين
له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا )) شعارًا له رحمه
اهلل .
كتبه ومؤلفاته
وهي بحمد اهلل كثيرة نافعة ،وال ُيعلم له رسالة مكررة أو أنه يمكن للباحث أن يستغني عن العلم
الذي فيها ،وقد بلغ المطبوع منها حوالي 40ما بين تحقيق وتأليف ،وله من المؤلفات المخطوطة
في خزانته ما لعله أن يبلغ ضعف هذا العدد .
وقد نفع اهلل بكتبه كثيرًا من الناس ،فنهلوا من علمها واستفادوا من التحقيق الذي فيها ،وإن كان
بعضهم سطا عليها سرقة منها دون أن يشير ولو بأدنى إشارة أنها لغيره ،ويصدق على هذا قوله
تعالى (( :وال تحسبن الدين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ))..وينطبق عليهم
قوله (( :المتشبع بما لم يعط كالبس ثوبي زور )) .
وقد أثنى عليه أهل العلم ثناء عطرًا ،وهو يستحق أكثر منه ،فقد قال الشيخ عبد العزيز بن باز
رحمه اهلل (( :ما علمت تحت أديم السماء أعلم بالحديث من الشيخ األلباني )) ،وللشيخ محمد بن
صالح العثيمين ثناء عليه وقد وصفه بالعالمة المحدث ،وقد أثنى عليه غيرهما ،وقيلت فيه أشعار
لطيفة يمكن للقارئ أن ينظرها في كتاب (( حياة األلباني )) ألخينا محمد بن إبراهيم الشيباني .
ال يحب األلباني إال صاحب سَّنة ،أو فطرة سليمة ،وال يبغضه إال صاحب بدعة ،أو جاهل بقدره ،
وقديمًا قال السلف (( :من عالمة أهل البدع الوقيعة في أهل األثر )) .
وقد تكالب على الشيخ رحمه اهلل أهل البدع والضالل من جميع الطوائف والفرق ،فكان رحمه اهلل
كالطود الشامخ يرد على هذا ،ويفند شبهة هذا ،حتى أتى على بنيانهم من قواعده فخر عليهم السقف
من فوقهم .
وقد شنع على شيخنا بعض المشاغبين من أهل الجهل ؛ فراح ُيلبس الشيخ رداًء ليس له ،ويحِِّمل
كالمه ما لم يحتمله ،أو يزِّو ر الحقائق التي أتى بها الناس .
وملخص هذه المسألة أن الشيخ رحمه اهلل سئل عن أناس يعيشون في بالٍد ال يستطيعون إظهار
شعائر دينهم فيها ،فقال لهم الشيخ بوجوب الهجرة إلى بالد يستطيعون فيها ذلك استدالًال بقول اهلل
تعالى (( :قالوا ألم تكن أرض اهلل واسعة فتهاجروا فيها )) وهذا تبكيت من المالئكة لمن ظَّل بين
الكفار أو العصاة فأثر ذلك في دينه فاحتج على فعله بغيره .
ولما سئل الشيخ :هل هذا ينطبق على فلسطين ؟ قال :على كل بالد الدنيا ،ما الفرق بين فلسطين
وغيرها ؟! كما أن مكة أعظم عند اهلل من فلسطين ،ومع هذا هاجر منها المسلمون وعلى رأسهم
نبينا محمد صلى اهلل عليه وسلم ،ومن الصحابة من هاجر إلى الحبشة وهي بالد كفر ،لما لم يكن
يستطيع إظهار دينه .
فقام وطبل وزمر لهذه الفتوى أهل التطبيل والتزمير من أهل الجهل والضالل وكان ذلك قرب موعد
االنتخابات النيابية ،ظَّنًا منه أنه يستطيع استعطاف الناس للحصول على األصوات !! أما أن تكون
القضية قضية دين فال ،فهو غارٌق في تصوف باٍل ،وسادر في جهل فاضح .
والعجب من أولئك المشايخ -وأغلبهم دكاترة في الشريعة -اجتماعهم على تخطئة الشيخ رحمه اهلل ،
ولم نَر اجتماعهم هذا على تضليل الحبشي مثًال ،أو على التحذير من فسٍق أو فجور أو ضالل ،
وبعض من وَّقع على ذلك يعتبر من غالة األشاعرة ،وبعضهم ال يدرى منهجه أو اعتقاده !!
وبعضهم على خير لكن استجر على التوقيع .
والقضية علمية شرعية تكلم فيها الشيخ بعلم وأدلة ،ومن خالف لم يحسن من ذلك شيئًا ،وبعضهم –
لغباء أو جهل أو شرود ذهن – ظن أن أهل فلسطين يقفون على الحدود رافعين جوازاتهم ينتظرون
فتوى األلباني ليغادروا فلسطين !! واألكثر ال يهمهم دين من بقي بين اليهود ،فتخلق بأخالقهم
وتعودوا على عاداتهم ،فمنهم من زوج ابنته ليهودي !! ومنهم من شكك في كفرهم !!.
والمهم عند هؤالء أال يخرج من فلسطين ولو ضيع دينه أي أن المهم أال تضيع األرض !!
نشاطه في الدعوات والزيارات العلمية
والشيخ رحمه اهلل من النشيطين في الدعوة إلى اهلل ،فلم يكن ليكتفي بالتأليف حتى أضاف إليه
الخروج إلى الناس وزياراتهم في بلدانهم وقراهم .
فمنذ أن كان بالشام وهو يسافر إلى حلب وحماة وإدلب و غيرها ،وحدثني بعض من كان هناك أن
الشيخ كان يأتيهم كل أسبوع على دراجة هوائية ،وكانت المسافة من دمشق إليهم حوالي 45كيلو
مترًا !!
وقد سافر الشيخ رحمه اهلل إلى أسبانيا والكويت واإلمارات وقطر وطاف في مناطق المملكة العربية
السعودية جميعها تقريبًا !!
وكذا أمره عندنا في األردن ،فما من أحٍد يدعو الشيخ إال ويلبي دعوته ويزوره ويلقي عندهم ما يسر
اهلل من العلم النافع ،وكان الشيخ قد شرفني بزيارة إلى بيتي في إربد ،وسجل اللقاء تحت عنوان "
مسائل فقهية " ،ولم تكن هذه الزيارة هي األولى له إلى الشمال ،فقد سبقها أخوات لها .
كراهيته للمدح
لم يكن الشيخ رحمه اهلل يحب أن يمدحه أحد ،وخاصة في وجهه ،وكتبه كلها ليس فيها لفظ ((
الشيخ )) قبل اسمه !! وقد مدحه مرة الشيخ محمد إبراهيم شقرة في وجهه فبكى ،ومدحه آخر فبكى
وأنكر على من مدحه .
خوفه من الرياء
وجاءه مرة بعض إخواننا من بنغالدش – من أهل الحديث – وقالوا للشيخ :إن عددهم حوالي أربعة
ماليين وأنهم يودون زيارة الشيخ لهم هناك ،وقد جهزوا ملعبًا يتسع ألعداد كبيرة للقائه واالستماع
إليه ،فرفض الشيخ الدعوة .فقال الداعي :إنها أسبوع يا شيخ !! فرفض الشيخ :فأنزل المدة إلى
ثالثة أيام !! فرفض الشيخ فأنزلها إلى يوم واحد !! فرفض الشيخ وبشدة ،فقال الداعي في النهاية :
نريد محاضرة وتغادر على نفس الطائرة !! فرفض الشيخ وبشدة أيضًا فتعجب الرجل من رفض
الشيخ وكذلك الذين معه ،وانصرف الرجل حزينًا ،فسأل األُخ أبو ليلى -وهو الذي حدثني بهذه
القصة – الشيَخ :لم رفضت يا شيخ ؟ فرد عليه رحمه اهلل :ألم تسمع ماذا قال ؟ فقال أبو ليلى :
وماذا قال يا شيخ ؟ فقال :ألم تسمع قوله إنهم أربعة ماليين !! فتصور أني أحاضر بمثل هذا العدد ،
فهل آمن على نفسي من الرياء ؟!! وكان درسًا عظيمًا من الشيخ لتالميذه وللناس جميعًا بالبعد عن
المواضع المهلكة للداعية .
تفقده إلخوانه
-كنا مرة في رحلة معه ،فانتهينا منها في الواحدة ليًال وكنا في خمس سيارات ،وأنا أقود واحدة
منها ،فسبقنا الشيخ ،ففوجئت بأن إطار سيارتي قد ذهب هواؤه ،فأصلحته وقد ذهبْت السيارات
جميعًا ،فما هي إال لحظات حتى رجع إلينا الشيخ مع السيارات ،وسأل عن سبب التأخر ،فلما رأى
السبب علم بالحال ،وكان رحمه اهلل قد افتقدنا في الطريق ورأى أن سيارة قد نقصت ،فسأل عنها ،
فلما لم ُيعَط جوابًا فرجع من طريقه فرآنا على تلك الحال ،فطلبنا من الشيخ أن يذهب إلى أهله وبيته
ونحن نصلح اإلطار ،ونلحق بهم ،فأبى رحمه اهلل إال أن ينتظرنا لننتهي مما نحن فيه ،وكان ذلك
وغادرنا سويًا .
-وحدثني بعض تالمذته أنه كان يتصل بالشيخ كل يوم ،وفي يوٍم من األيام لم يفعل ذلك ،فما هو إال
أن يدق جرس الهاتف ،ويتبين لألخ أنه الشيخ اإلمام األلباني !! وأنه افتقد هذا األخ لعدم اتصاله ،
فسارع للسؤال عنه .
-ودخل هذا األخ نفسه المستشفى لحادث وقع له ،وإذ بالشيخ اإلمام يأتي لزيارته في المستشفى !!
قال :فأثرت هذه الزيارة فَّي وفي أهلي الشيء الكثير .
وكان بعض تجار عمان على عالقة بالشيخ رحمه اهلل ،قال :ففاجأني الشيخ يومًا بزيارة إلى محلي
!! وجاء معه بمجموعة قيمة من الكتب وقَّد مها هدية لي !!
بكاؤه
والشيخ رحمه اهلل – على خالف ما يظن الكثيرون – رقيق القلب ،غزير الدمع ،فهو ال ُيحَّد ث
بشيء فيه ما يبكي إال وأجهش في البكاء ،ومن ذلك :
أ .حدثته امرأة جزائرية أنها رأته يسأل عن الطريق الذي سلكه النبي صلى اهلل عليه وسلم ،فُد َّل
عليه فسار على خطواته ال يخطئها ،فلم يحتمل كالمها ،وأجهش بالبكاء .
ب .وفي آخر لقاء لي به رحمه اهلل ،حدثته عن رؤيا رآها بعض إخواننا ،وهي أنه رأى هذا األخ
النبَّي صلى اهلل عليه وسلم ،فسأله :إذا أشكل علَّي شيء في الحديث َم ن أسأل ؟ فقال النبي صلى اهلل
عليه وسلم :سل محمد ناصر الدين األلباني .
فما أن انتهيت من حديثي حتى بكى بكاًء عظيمًا ،وهو يردد " اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون ،
واغفر لي ما ال يعلمون " .
ج .وحدثه بعض إخواننا عن سب والده للرب والدين – والعياذ باهلل – فبكى الشيخ لما سمع من جرأة
من ينتسب للدين على بعض هذه القبائح و العظائم في حق اهلل ،وحكم على والده بأنه مرتد كافر .
د .وأخبره بعض إخواننا عن مشكلة حصلت معه ،وأنه في ورطة ،فقال األخ :فما هو إال أن رأيت
الشيخ وقد دمعت عيناه ودعا لي بأن يفرج اهلل كربي ،فكان ذلك .
زوجاته وأوالده
تزوج الشيخ اإلمام رحمه اهلل من أربع نسوة :
أ .فأنجب من األولى :عبد الرحمن ،و عبد اللطيف ،و عبد الرزاق .
ب .ومن الثانية :عبد المصور ،و عبد المهيمن ،ومحمد ،وعبد األعلى ،و أنيسة ،و آسية ،و
سالمة ،و حَّس انة ،و سكينة .
ث .ولم ينجب من الرابعة ،وهي " أم الفضل " ،وهي التي ظلت معه إلى آخر أيامه .
مرضه ووفاته.
وقد أصابت الشيخ أواخر حياته أمراض مؤلمة ،نزل وزنه بسببها إلى أن وصل يوم وفاته إلى أقل
من 30كيلو .
وقد أكرمه اهلل بصفاء ذهنه وعدم تخليط عقله ،وكان يعرف زواره ؛ بعضهم بأسمائهم ،وبعضهم
بصورهم وأشكالهم .
وقد كان يبذل جهدًا كبيرًا في الكالم وكان أغلب وقته في الفراش .
وكان رحمه اهلل ال يهدأ في أوقات القدرة عن البحث والمطالعة وإذا لم يستطع ذلك أمر بعض أبنائه
أو من عنده بأن يحضر له كتابًا معينًا ويقرأ منه .
وهكذا قضى رحمه اهلل أكثر من ستين سنة بين كتب أهل العلم دراسة وتدريسًا ،علمًا وتعليمًا ،إلى
آخر أيام حياته .
فما أحالها من حياة وما أكرمها من أيام ،وما أجملها من سنوات ،وما أغالها من لحظات تلك التي
قضاها إمامنا وشيخنا غفر اهلل له ،وألحقنا به على خير .
واهلل أعلم وصلى اهلل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
:الكتاب
قصص عجيبة للعلماء
:المؤلف
)مجموعة من المؤلفين (معاصر
:ترقيم الكتاب
غير موافق للمطبوع
الكتب الترجمة
:االسم
)مجموعة من المؤلفين (معاصر
:الوفاة
معاصر
اإلسالم والعنف األسري
نظام مقرأة إلكترونية متطور لتعليم القرآن الكريم وعلومه حسب الضوابط الشرعية
أولئك الرجال حقا رجال المساجد
الجواسيس والمرتدين ...مقاالت ورسائل
أبو بكر الصديق
قصص عجيبة للعلماء
كيف تتقن القراءة
مقاالت موقع األلوكة
مقاالت حول االعتصام بالكتاب والسنة
إصدارات علمية وتربوية من جمعية السراج المنير اإلسالمية -بيروت
فوائد وقواعد حديثية متنوعة
من أوراق مجلة األنصار
والحق ماشهدت به األعداء
روايات
من أوراق نشرة األنصار
الحجاب
فائدة علمية 1000
رسالة إلى األخوات المسلمات
مفهوم الثقافة اإلسالمية
..قرأت لك
من أوراق مجلة نداء اإلسالم
من أوراق مجلة الفجر
من أوراق مجلة المجاهدون
مسابقات على أشرطة
تعلم دينك إسالم -إيمان -إحسان
مجموعة فوائد من كشكولي الخاص
رومانسيات
اإلسالم في مواجهة العواصف
مقاالت
من أوراق مجلة الجماعة
واصبروا ان اهلل يحب الصابرين
عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه
الترجمة
)مجموعة من المؤلفين(
توسم بها (في حقل المؤلف) بعض الكتب والموسوعات التي ُتعد من ِقَبل هيئات ولجان مخصصة أو
مجالت ،ونحو ذلك
أو كتاب يشترك فيه عّد ة مؤلفين