You are on page 1of 145

‫الكتاب‪ :‬قصص عجيبة للعلماء‬

‫المؤلف‪ :‬مجموعة من المؤلفين‬


‫* قام الشاعر الدكتور الشيخ الفاضل‪ /‬محمد تقي الدين الهاللي ـ رحمه اهلل ـ وهو من علمتم إمامته‬
‫في هذا الفن‪ ،‬كتب قصيدة ال يمدح فيها الشيخ فحسب‪ ،‬وإنما يمدح فيها آل باز عمومًا ‪.‬‬

‫كتب هذه القصيدة الطويلة‪ ،‬فلما اطلع الشيخ ـ رحمه اهلل ـ على القصيدة كتب رًاّد عليها فقال رحمه‬
‫اهلل‪ ( :‬قد اطلعت على قصيدة نشرت في العدد التاسع من مجلة الجامعة اإلسالمية في الهند لفضيلة‬
‫الدكتور تقي الدين الهاللي‪ ،‬وقد كّد رتني كثيرًا‪ ،‬وأسفت أن تصدر من مثله‪ ،‬وذلك لما تضمنته من‬
‫الغلو في المدح لي ولعموم قبيلتي‪ .. ،‬إلى أن قال رحمه اهلل‪ :‬وإنني أنصح فضيلته من العود إلى مثل‬
‫ذلك وأن يستغفر اهلل مما صدر منه ) ‪ ...‬إلى آخر كالمه رحمه اهلل تعالى ‪.‬‬

‫فتأمل ـ يا رعاك اهلل ـ كيف أن الشيخ أنكر على مادحه‪ ،‬ثم مع إنكاره لمادحه تّو ج هذا اإلنكار‬
‫بالتلطف‪ ،‬فقال عن المادح وهو يرد عليه‪ :‬لفضيلة الدكتور تقي الدين الهاللي‪ ،‬ثم قال‪ :‬وإني ألنصح‬
‫فضيلته‪.‬‬

‫* كتب أحد طلبة العلم قصيدة في مدح هذا اإلمام ‪ ،‬فلما قرأها األخ ‪ :‬فهد البكران ( من مجلة الدعوة‬
‫) على فضيلة الشيخ ‪ ،‬قال الشيخ ‪ :‬هل تريدون نشرها في مجلة الدعوة ؟‬

‫قال فهد ‪ :‬إذا أذنتم بذلك يا سماحة الشيخ ‪.‬‬

‫فقال الشيخ ‪ :‬ال ال ال ‪ ،‬مزقها‪ ،‬مزقها ‪.‬‬

‫يقول فهد ‪ :‬ثم إن الشيخ توجه بوجهه إلى الوجهة األخرى ـ يعني صرف نظره عن فهد ـ وقال ‪ :‬ـ أي‬
‫الشيخ ـ وهو يستغفر ويقول ال حول وال قوة إال باهلل ‪ ،‬ال حول وال قوة إال باهلل ‪ ،‬ال حول وال قوة إال‬
‫باهلل ‪ ،‬وتغّير وجهه‪.‬‬

‫* في عام ‪1415‬هـ خصصت جريدة المدينة ملحق األربعاء للحديث عن سماحة الشيخ ‪ ،‬وأعد‬
‫الملحق ‪ ،‬وجّهز للطبع‪ ،‬واستوفيت المعلومات ‪ .‬لكن ما أن علم سماحة اإلمام بذلك حتى منع من‬
‫إخراج الملحق وأصّر وأخبر أن العبد بحاجة إلى اإلخالص والكتمان ولعل اهلل سبحانه وتعالى أن‬
‫يقبله والحالة هذه ‪ ،‬فاستجابت الجريدة ومنع طبع هذا الملحق عن سماحته رحمه اهلل تعالى ‪.‬‬
‫لقد كان رحمه اهلل تعالى مخفيًا ألعماله‪ ،‬إال أن اهلل عز وجل كتب لها الظهور لما علمه اهلل تعالى من‬
‫صدق نيته وجهاده في اهلل حق جهاده‪ ،‬وال تعجبوا أيها األحبة فإن اهلل سبحانه وتعالى كما في‬
‫الحديث‪ :‬إذا أحّب عبدًا نادى جبريل فقال‪ :‬يا جبريل إني أحب فالنًا فأحبه ‪ ،‬فيحبه جبريل ‪ ،‬ثم ينادي‬
‫جبريل في أهل السماء ‪ :‬يا أهل السماء إن اهلل يحب فالنًا فأحبوه ‪ ،‬فيحبه أهل السماء‪ ،‬ثم يوضع له‬
‫القبول في األرض ‪.‬‬

‫وأحسب اإلمام من أولئك رحمه اهلل تعالى ‪.‬‬

‫محمد الدحيم‬
‫(حبسي خلوة‪ ،‬وقتلي شهادة‪ ،‬ونفيي سياحة) رحمك اهلل يا شيخ اإلسالم !!‬

‫سقطت (بغداد) في يد التتار‪ ،‬فأخذوا يخربون البالد‪ ،‬ويأسرون العباد‪ ،‬والناس يفرون من أمامهم‪،‬‬
‫وقد ساد الناس ذعر شديد‪ ،‬وفي هذا الوقت العصيب ُو ِلد (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية)‬
‫في (حران) بالغرب من دمشق في يوم االثنين ‪ 10‬ربيع األول ‪661‬هـ الموافق ‪ 12‬يناير ‪1263‬م‪،‬‬
‫بعد سقوط بغداد في أيدي التتار بثالث سنوات‪.‬‬

‫وخوًفا من بطش التتار انتقل به والده إلى (دمشق) وكانت مليئة بالعلماء والمدارس‪ ،‬فأخذ يتلقى العلم‬
‫على علمائها وشيوخها حتى وصل عدد شيوخه إلى (‪ )200‬شيخ‪ ،‬وتفوق (ابن تيمية) في دراسة‬
‫الحديث والفقه والخط والحساب والتفسير وسنه ال تتجاوز عشر سنوات‪ ،‬فقد كان الطفل الصغير‬
‫(ابن تيمية) سريع الحفظ‪ ،‬قوي الذاكرة‪ ،‬حتى أدهش أساتذته وشيوخه من شدة ذكائه‪.‬‬

‫ولم يكن الطفل الصغير (ابن تيمية) كغيره من األطفال يلعب ويلهو‪ ،‬بل كان يسارع إلى مجالس‬
‫العلماء يستمع إليهم‪ ،‬ويستفيد منهم‪ ،‬ولما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ في التأليف واإلفتاء‪،‬‬
‫فاتسعت شهرته وذاع صيته‪ ،‬ولما توفي والده الذي كان من كبار الفقهاء في الفقه الحنبلي؛ تولى‬
‫التدريس بدًال منه‪.‬‬

‫كان اإلمام (ابن تيمية) جريًئا في إظهار رأيه‪ ،‬مدافًع ا عن الُّس َّنة حتى سمي بـ(محيي السنة)‪ ..‬عاش‬
‫ابن تيمية فترة صباه أيام حكم الملك الظاهر بيبرس لمصر والشام الذي ُع ني بالجهاد في سبيل اهلل‪،‬‬
‫فوقف (ابن تيمية) معه ثم مع السلطان قالوون‪ ،‬وجاهد بسيفه ضد التتار الذين هجموا على البالد‪،‬‬
‫وذهب على رأس وفد من العلماء وقابل (قازان) ملك التتار‪ ،‬وأخذ يخوفه مرة ويقنعه مرة أخرى‬
‫حتى توقف زحف التتار على دمشق‪ ،‬وأطلق سراح األسرى‪.‬‬
‫وكان ابن تيمية قوي اإليمان‪ ،‬فصيح اللسان‪ ،‬شجاع القلب‪ ،‬غزير العلم‪ ،‬وكان وحده قوة عظمى‬
‫يحسب لها األعداء ألف حساب‪ ،‬فازداد الناس تعلًقا به‪ ،‬والتفاًفا حوله‪ ،‬وظل ابن تيمية يقضي وقته‬
‫بين التدريس في المساجد‪ ،‬وتبصير الناس بأمور دينهم‪ ،‬وبيان ما أحل اهلل وحرم‪ ،‬والدفاع عن سنة‬
‫الرسول صلى اهلل عليه‬

‫وسلم‪ ،‬ولكن أعداءه ومنافسيه كانوا له بالمرصاد‪ ،‬فأوقعوا بينه وبين سلطان مصر والشام (ركن‬
‫الدين بيبرس الجاشنكير) فنقل إلى مصر وتمت محاكمته بحضور القضاة وكبار رجال الدولة‪،‬‬
‫فحكموا عليه بالحبس سنة ونصف في القلعة‪ ،‬ثم أخرجوه من السجن‪ ،‬وعقدوا جلسة مناظرة بينه‬
‫وبين منافسيه وخصومه‪ ،‬فكسب (ابن تيمية) المناظرة‪ ،‬ورغم ذلك لم يتركه الخصوم فُنِفي إلى‬
‫الشام‪ ،‬ثم عاد مرة أخرى إلى مصر وحبس‪ ،‬ثم نقل إلى اإلسكندرية حيث حبس هناك ثمانية أشهر‪.‬‬

‫واستمرت محنة (ابن تيمية) واضطهاده إلى أن عاد إلى القاهرة حيث قرر السلطان الملك (الناصر‬
‫محمد بن قالوون) براءته من التهم الموجهة إليه‪ ،‬وأعطاه الحق في عقاب خصومه الذين كانوا‬
‫السبب في عذابه واضطهاده‪ ،‬لكن اإلمام (ابن تيمية) فَّض ل أن يعفو عنهم !! وهكذا تكون شيم‬
‫الكرام‪.‬‬

‫وظل (ابن تيمية) في القاهرة ينشر العلم‪ ،‬ويفسر القرآن الكريم‪ ،‬ويدعو المسلمين إلى التمسك بكتاب‬
‫اهلل وسنة رسوله‪ ،‬ثم رحل إلى (دمشق) بعد أن غاب عنها سبع سنين‪ ،‬وخالل وجوده هناك أفتى في‬
‫مسألة‪ ،‬فأمره السلطان بأن يغير رأيه فيها‪ ،‬لكنه لم يهتم بأوامر السلطان وتمسك برأيه وقال‪( :‬ال‬
‫يسعني كتمان العلم) فقبضوا عليه وحبسوه ستة أشهر‪ ،‬ثم خرج من سجنه‪ ،‬ورجع يفتي بما يراه‬
‫مطابًقا لكتاب اهلل وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫لكن خصومه انتهزوا فرصة إفتائه في مسألة شد الرحال إلى قبور األنبياء والصالحين‪ ،‬فقد كان (ابن‬
‫تيمية) يرى أن تلك الزيارة ليست واجبة على المسلمين‪ ،‬فشَّنعوا عليه حتى حبس هو وأخوه الذي‬
‫كان يخدمه‪ ،‬ورغم ذلك لم ينقطع عن التأليف والكتابة‪ ،‬لكنهم منعوه من ذلك‪ ،‬فأرادوا كتمان صوت‬
‫علمه أيًض ا‪ ،‬فأخرجوا ما عنده من الحبر والورق‪ ،‬فلم تلن عزيمته ولم تضعف همته وتحداهم‪ ،‬فكان‬
‫يكتب بالفحم على أوراق مبعثرة هنا وهناك‪ ،‬وكان من أقواله (حبسي خلوة‪ ،‬وقتلي شهادة‪ ،‬ونفيي‬
‫سياحة)‪.‬‬

‫وقد توفي (ابن تيمية) عام ‪728‬هـ وهو على حاله صابًر ا مجاهًد ا‪ ،‬مشتغًال بالعلم‪ ،‬وحضر جنازته‬
‫أكثر من خمسمائة ألف مسلم‪ ،‬وله مؤلفات كثيرة تجاوزت ثالثمائة مجلد أغلبها في الفقه وأصوله‬
‫والتفسير‪ ،‬ومن أهم كتبه (منهاج السنة)‬

‫و(درء تعارض العقل والنقل) و(اقتضاء الصراط المستقيم) و(الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء‬
‫الشيطان) و(الصارم المسلول على شاتم الرسول) و(الفتاوى الكبرى) و(مجموع الفتاوى) و(السياسة‬
‫الشرعية في صالح الراعي والرعية‬
‫كان يوم وفاته يوًم ا مشهوًد ا‪ ،‬اجتمع في تشييع جنازته من الناس ما ال يحصيهم إال اهلل‪ ،‬حتى كادت‬
‫تتوقف حركة الحياة بمصر‪ ،‬يتقدمهم سلطان مصر والخليفة العباسي والوزراء واألمراء والقضاة‬
‫والعلماء‪ ،‬وصَّلت عليه البالد اإلسالمية صالة الغائب‪ ،‬في مكة وبيت المقدس‪ ،‬والخليل‪ ..‬وغيرها‪،‬‬
‫ورثاه الشعراء بقصائدهم‪ ،‬والكتاب برسائلهم‪.‬‬

‫إنه شيخ اإلسالم (شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقالني) المصري المولد‬
‫والنشأة‪ ،‬المعروف بابن حجر‪ ،‬وهو لقب لبعض آبائه‪ُ ،‬و ِلد بمصر العتيقة (الفسطاط) في ‪ 12‬شعبان‬
‫سنة ‪773‬هـ‪ ،‬ونشأ يتيًم ا‪ ،‬فما كاد يتم الرضاعة حتى فقد أمه‪ ،‬وما إن بلغ الرابعة من عمره حتى‬
‫توفي أبوه في رجب ‪777‬هـ‪ ،‬تارًك ا له مبلًغ ا من المال أعانه على تحمل أعباء الحياة‪ ،‬ومواصلة طلب‬
‫العلم‪.‬‬

‫وبعد موت أبيه‪ ،‬كفله (زكي الدين الخروبي) كبير تجار مصر‪ ،‬الذي قام بتربيته والعناية به‪ ،‬فحفظ‬
‫ابن حجر القرآن الكريم‪ ،‬وجَّو ده وعمره لم يبلغ التاسعة‪ ،‬ولما رحل الخروبي إلى الحج سنة ‪784‬هـ‬
‫رافقه ابن حجر وهو في نحو الثانية عشرة من عمره‪ ،‬ليدرس في مكة الحديث النبوي الشريف على‬
‫يد بعض علمائها‪.‬‬

‫ولما عاد إلى القاهرة‪ ،‬درس على عدد كبير من علماء عصره أمثال‪( :‬سراج الدين بن الملقن)‬
‫و(البلقيني) و(العز بن جماعة) و(الشهاب البوصيري) ثم قام ابن حجر برحالت دراسية إلى الشام‬
‫والحجاز واليمن‪ ،‬واتصل بمجد الدين الشيرازي‪ ،‬وتعلم اللغة صاحب (القاموس المحيط) عليه يديه‪،‬‬
‫غير أن ابن حجر وجد في نفسه ميال وحًّبا إلى حديث النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فأقبل عليه منكًّبا‬
‫على علومه مطالعة‬

‫وقراءة‪ ،‬وأجازه معظم شيوخه بالرواية وإصدار الفتاوى والقيام بالتدريس‪ ،‬فكانت تقام له حلقات‬
‫الدرس‪ ،‬ويجلس فيها العلماء في كل بلد يرحل إليه‪ ،‬حتى انتهت إليه الرياسة في علم الحديث في‬
‫الدنيا بأسرها‪ ،‬وبلغت شهرته اآلفاق‪ ،‬وارتحل أئمة العلم إليه من كل أنحاء العالم اإلسالمي‪.‬‬
‫وقد َأَّه َله علمه الغزير أن يشغل عدة مناصب مهمة‪ ،‬فقام بتدريس الحديث والتفسير في المدرسة‬
‫الحسنية‪ ،‬والمنصورية‪ ،‬والجمالية‪ ،‬والشيخونية والصالحية‪ ..‬وغيرها من المدارس الشهيرة بمصر‪،‬‬
‫كما تولى مشيخة المدرسة البيبرسية‪ ،‬وولي اإلفتاء‬

‫بدار العدل‪ ،‬وتولى ابن حجر منصب القضاء‪ ،‬واستمر في منصبه نحو عشرين سنة شهد له فيها‬
‫الناس بالعدل واإلنصاف‪ ،‬وإلى جانب ذلك تولى الخطابة في الجامع األزهر ثم جامع عمرو بن‬
‫العاص ‪.‬‬

‫وكان من عادة ابن حجر أن يختم في شهر رمضان قراءة صحيح البخاري على مسامع تالميذه‬
‫شرًح ا وتفسيًر ا‪ ،‬وكانت ليلة الختام بصحيح البخاري كالعيد؛ حيث يجتمع حوله العلماء والمريدون‬
‫والتالميذ‪ ،‬ثم توج حَّبه لصحيح البخاري وشغفه به بأن أَّلف كتاًبا لشرحه سماه (فتح الباري بشرح‬
‫صحيح البخاري) استغرق تأليفه ربع قرن من الزمان!! حيث بدأ التأليف فيه في أوائل سنة ‪817‬هـ‬
‫وانتهى منه في غرة رجب سنة ‪842‬هـ‪.‬‬

‫وهذا الكتاب يصفه تلميذه (السخاوي) بأنه لم يكن له نظير‪ ،‬حتى انتشر في اآلفاق وتسابق إلى طلبه‬
‫سائر ملوك األطراف‪ ،‬وقد بيع هذا الكتاب آنذاك بثالثمائة دينار وقد كتب اهلل البن حجر القبول في‬
‫زمانه‪ ،‬فأحبه الناس؛ علماؤهم وعوامهم‪ ،‬كبيرهم وصغيرهم‪ ،‬رجالهم ونساؤهم‪ ،‬وأحبه أيًض ا‬
‫النصارى‪ ،‬وكانت أخالقه الجميلة وسجاياه الحسنة هي التي تحملهم على ذلك‪ ،‬فكان يؤثر الحلم‬
‫واللين‪ ،‬ويميل إلى الرفق وكظم الغيظ في معالجة األمور‪ ،‬يصفه أحد تالميذه بقوله‪ :‬كل ذلك مع شدة‬
‫تواضعه وحلمه وبهائه‪ ،‬وتحريه في مأكله ومشربه وملبسه وصيامه وقيامه‪ ،‬وبذله وحسن عشرته‬
‫ومحاضراته النافعة‪ ،‬ورضي أخالقه‪ ،‬وميله ألهل الفضائل‪ ،‬وإنصافه في البحث ورجوعه إلى الحق‬
‫وخصاله التي لم تجتمع ألحد من أهل عصره‪.‬‬

‫وقد ترك لنا ابن حجر ثروة ضخمة من الكتب تزيد على المائة والخمسين كتاًبا‪ ،‬أهمها‪:‬‬
‫(فتح الباري بشرح صحيح البخاري) و(تهذيب التهذيب) في تراجم رجال الحديث و(بلوغ المرام من‬
‫أدلة األحكام) في الفقه و(اإلصابة في تمييز الصحابة)‬

‫و(الدرر الكامنة) في أعيان المائة الثامنة‪ ،‬و(القول المسدد في الذِّب عن مسند اإلمام أحمد)‪..‬‬
‫وغيرها‪ ،‬وفي ليلة السبت ‪ 28‬ذي الحجة سنة ‪852‬هـ توفي شيخ اإلسالم‪ ،‬وحامل لواء السنة (ابن‬
‫حجر العسقالني)‪.‬‬
‫ُم َناي ِمَن الُّدْنَيا ُع ُلوٌم َأُبُّثَه ا‬
‫َو َأْنُش ُر َه ا في ُكِّل‬
‫َباٍد َوَح اِض ِر‬
‫ُد َع اٌء إلى اْلُقْر آِن َو الُّس َنِن اَّلِتي‬
‫ْك‬
‫َتَناَس ى ِذ ُر َه ا ِفي الَمَح اِض ِر‬
‫قد تحققت أمنيتك أيها الفقيه‪ ،‬فأفكارك وكتبك لها مكانة عظيمة في نفوس الكثيرين من أبناء اإلسالم‪،‬‬
‫يدرسونها بعناية‪ ،‬ويستفيدون منها‪ ،‬ويتخذون منها مصباًح ا كلما ضل بهم الطريق‪.‬‬

‫في (مدينة) قرطبة الساحرة‪ ،‬إحدى مدن األندلس وفي قصر أحد الوزراء‪ ،‬في أواخر شهر رمضان‬
‫في عام ‪384‬هـ‪ ،‬كان ميالد طفل مبارك أصبح له بعد ذلك شأن كبير‪ ،‬فرح به والده فرًح ا شديًد ا‪،‬‬
‫وشكر اهلل سبحانه وتعالى على نعمته وعطائه‪.‬‬

‫نشأ الغالم في قصر أبيه نشأة كريمة‪ ،‬فقد كان أبوه وزيًر ا في الدولة العامرية وتعلم القرآن الكريم‪،‬‬
‫والحديث النبوي‪ ،‬والشعر العربي‪ ،‬وفنون الخط والكتابة‪ ،‬وتمر األيام ويكبر الغالم‪ ،‬فيجعله أبوه في‬
‫صحبة رجل صالح يشرف عليه‪ ،‬ويشغل وقت فراغه‪ ،‬ويصحبه إلى مجالس العلماء‪ ..‬إنه‪( :‬علي بن‬
‫أحمد بن سعيد األندلسي) الشهير بابن حزم األندلسي‪.‬‬

‫كانت أسرته لها مكانة مرموقة وعراقة في النسب‪ ،‬فـ(بنو حزم) كانوا من أهل العلم واألدب‪ ،‬ومن‬
‫ذوي المجد والحسب‪ ،‬تولى أكثر من واحد منهم الوزارة‪ ،‬ونالوا بقرطبة جاًه ا عريًض ا‪.‬‬

‫وكان (أحمد بن سعيد) والد (ابن حزم) من عقالء الرجال‪ ،‬الذين نالوا حًّظ ا وافًر ا من الثقافة والعلم‪،‬‬
‫ولذلك كان يعجب ممن يلحن في الكالم‪ ،‬ويقول‪( :‬إني ألعجب ممن يلحن في مخاطبة أو يجيء بلفظة‬
‫قلقة في مكاتبة‪ ،‬ألنه ينبغي له إذا شك في شيء أن يتركه‪ ،‬ويطلب غيره‪ ،‬فالكالم أوسع من هذا)‪.‬‬
‫وكانت هذه الثقافة الواسعة‪ ،‬والشخصية المتزنة العاقلة هي التي أهلت والد ابن حزم لتولي منصب‬
‫الوزارة للحاجب المنصور ابن أبي عامر في أواخر خالفة بني أمية في األندلس‪ ،‬وفي القصر عاش‬
‫ابن حزم عيشة هادئة رغدة‪ ،‬ونشأ نشأة مترفة‪ ،‬تحوط بها النعمة‪ ،‬وتالزمها الراحة والترف‪ ،‬فال‬
‫ضيق في رزق وال حاجة إلى مال‪ ،‬وحوله الجواري الحسان ورغم هذه المغريات عاش ابن حزم‬
‫عفيًفا لم يقرب معصية‪ ..‬يقول في ذلك‪( :‬يعلم اهلل وكفي به عليًم ا‪ ،‬أني بريء الساحة‪ ،‬سليم اإلدام‬
‫(أي‪ :‬آكل حالًال) صحيح البشرة‪ ،‬نقي الحجزة‪ ،‬وأني أقسم باهلل أجل األقسام‪ ،‬أني ما حللت مئزري‬
‫على فرج حرام قط‪ ،‬وال يحاسبني ربي بكبيرة الزنى منذ عقلت إلى يومي هذا)‪.‬‬

‫وتغيرت األحوال؛ فقد مات الخليفة‪ ،‬وجاء خليفة آخر‪ ،‬فانتقل ابن حزم مع والده إلى غرب قرطبة‬
‫بعيًد ا عن الفتنة‪ ،‬ومن يومها والمحن تالحق ابن حزم‪ ،‬فالحياة ال تستقُّر على حال‪ ،‬فقد كشرت له عن‬
‫أنيابها‪ ،‬وأذاقته من مرارة كأسها‪ ،‬بعدما كانت له نعم الصديق‪ ،‬واضطر(ابن حزم)إلى الخروج من‬
‫قرطبة إلى (الَم ِر َّية) سنة ‪404‬هـ وبعدها عاش في ترحال مستمر بسبب السياسة واضطهاد الحكام‬
‫له‪ ،‬وكان ابن حزم واسع االطالع‪ ،‬يقرأ الكثير من الكتب في كافة المجاالت‪ ،‬ساعده على ذلك‬
‫ازدهار مكتبات قرطبة بالكتب المتنوعة‪ ،‬واهتمام أهل األندلس بالعلوم واآلداب‪ ،‬واشتهر ابن حزم‬
‫بعلمه الغزير‪ ،‬وثقافته الواسعة‪ ،‬فكان بحق موسوعة علمية أحاطت بالكثير من المعارف التي كانت‬
‫في عصره في تمكن وإحاطة‪.‬‬

‫قال عنه أحد العلماء (أبو عبد اهلل الحميدي)‪ :‬كان ابن حزم حافًظ ا للحديث‬

‫وفقهه‪ ،‬مستنبًط ا لألحكام من الكتاب والسنة‪ ،‬متفِّنًنا في علوم جَّمة عامًال بعلمه‪ ،‬ما رأينا مثله فيما‬
‫اجتمع له من الذكاء‪ ،‬وسرعة الحفظ‪ ،‬وكرم النفس والتدين‪..‬‬
‫وبعد أن بلغ ابن حزم رتبة االجتهاد في األحكام الشرعية‪ ،‬طالب بضرورة األخذ بظاهر النصوص‬
‫في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف‪ ،‬وكان ابن حزم متنوع الكتابات‪ ،‬كتب في علوم القرآن‬
‫والحديث‪ ،‬والفقه واألديان‪ ،‬والرد على اليهود والنصارى‪ ،‬والمنطق‪ ..‬وغيرها من العلوم‪ ،‬قال عنه‬
‫أحد المؤرخين‪ :‬كان ابن حزم أجمع أهل األندلس قاطبة لعلوم اإلسالم‪ ،‬وأوسعهم معرفة مع توسعه‬
‫في علم اللسان‬

‫(أي علوم اللغة) وزيادة حظه من البالغة والشعر والمعرفة بالسير واألخبار‪ ..‬وقد بلغ ما كتبه ابن‬
‫حزم أربعمائة مجلد‪ ،‬تشتمل على ثمانين ألف ورقة تقريًبا‪ ،‬كما قال ابنه الفضل‪ ..‬يقول عنه اإلمام‬
‫(أبو حامد الغزالي)‪ :‬وجدت في أسماء اهلل تعالى كتاًبا ألفه (ابن حزم األندلسي) يدل على عظيم‬
‫حفظه وسيالن ذهنه‪.‬‬

‫شغل ابن حزم منصب الوزارة ثالث مرات‪ ،‬وكان وفًّيا للبيت األموي الحاكم في األندلس‪ ،‬وموالًيا‬
‫لهم‪ ،‬يعمل على إعادة الخالفة للدولة األموية‪ ،‬ويرى أحقيتها في الخالفة‪ ،‬وبسبب ذلك كان يعِّر ض‬
‫نفسه لألسر أو السجن أو النفي‪ ،‬وقد دبر له خصومه المكائد‪ ،‬وأوقعوا بينه وبين السلطان حسًد ا‬
‫وحقًد ا عليه‪ ،‬حتى أحرقت كتبه في عهد (المعتضد بن عباد) فقال ابن حزم في ذلك‪:‬‬

‫فإن تحرقوا الِقْر طاس ال َتْح ِر ُقوا الذي‬

‫تضَّمنه القرطاُس َبْل ُه َو ِفي َص ْد ِر ي‬

‫َيِس ُير َم ِعي َح ْيُث اْس َتَقلْت َر َك ائبي‬

‫َو َيْنِز ُل ِإْن أنزل ُو يْد فن في قبري‬

‫وقد منح اهلل ابن حزم ذاكرة قوية وبديهة حاضرة‪ ،‬فكان متواضًع ا هلل‪ ،‬شاكًر ا‬

‫له‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه ال خصلة لك فيه‪ ،‬وأنه موهبة من اهلل مجردة‪،‬‬
‫َو َه َبَك إياها رُّبك تعالى‪ ،‬فال تقابلها بما يسخطه‪ ،‬فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها‪ ،‬تولد عليك نسيان‬
‫ما علمَت وحفظَت )‪.‬‬
‫وكان عزيز النفس‪ ،‬واثق الكلمة أمام خصومه وأعدائه‪ ،‬ال ينافق الحكام‪ ،‬ويرفض قبول هداياهم حتى‬
‫لو سبب له ذلك الكثير من المتاعب‪ ،‬وكانت صفة الوفاء مالزمة له‪ ،‬فكان وفًّيا لدينه وإخوانه‬
‫وشيوخه‪ ،‬ولكل من اتصل به‪.‬‬

‫وتفرغ ابن حزم للتأليف؛ فأخرج كتًبا كثيرة‪ ،‬مثل‪( :‬المحَّلى) في الفقه و(الفصل بين أهل اآلراء‬
‫والنحل) و(اإلحكام في أصول األحكام) و(جمهرة أْنَس اب العرب) و(جوامع السير) و(الرد على من‬
‫قال بالتقليد) و(شرح أحاديث الموطأ) كما يعد كتاب (طوق الحمامة) من أشهر كتبه‪ ،‬وفيه الكثير من‬
‫الشعر الذي قاله في مختلف المناسبات‪.‬‬

‫وعاش هذا الفقيه في محراب العلم‪ ،‬يتصدى للظلم والجهل‪ ،‬ويجاهد مع ذلك هوى نفسه‪ ،‬وبعد حياة‬
‫حافلة بالكفاح والعلم والصبر على اإليذاء‪ ،‬لقي ابن حزم ربه في الثامن والعشرين من شعبان سنة‬
‫‪ 564‬هـ عن عمر يقارب إحدى وسبعين سنة‪ ،‬ويقف (أبو يوسف يعقوب المنصور) ثالث خلفاء دولة‬
‫الموحدين أمام قبره خاشًع ا ولم يتمالك نفسه‪ ،‬فيقول‪ :‬كل الناس عيال على ابن حزم‪.‬‬
‫ولد (أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد) الشهير بابن رشد الحفيد في مدينة (قرطبة) عام‬
‫‪520‬هـ‪ ،‬وكانت آنذاك عاصمة من عواصم الثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬كان أبوه قاضًيا‪ ،‬أما جده فقد‬
‫كان قاضي القضاة باألندلس‪ ،‬فهو ينتمي ألسرة عريقة في العلم‬

‫والقضاء‪.‬‬

‫نشأ بقرطبة وتعلم الفقه والرياضيات والطب على يد كبار األساتذة في عصره‪ ،‬وتولى القضاء‬
‫بقرطبة‪ ،‬ولم يشغله هذا المنصب عن القراءة‪ ،‬حتى قالوا عنه‪ :‬إنه لم يترك ليلة من عمره بال درس‬
‫وال تأليف إال ليلة عرسه وليلة وفاة أبيه!!‬

‫كانت سعادة ابن رشد الحقيقية عندما يكون مع كتبه‪ ،‬وكان يحس بحب زائد تجاه كتب الفلسفة التي‬
‫كان يحسبها بعض الناس في عصره من الكفر والضاللة!! فلم يهتم بما ُيقال عنها؛ ألنه واثق كل‬
‫الثقة في عقيدته ودينه‪ ،‬فأخذ يقرأ لكبار الفالسفة مثل أرسطو‪ ..‬وغيره‪ ،‬حتى أصبح عالًم ا بالفلسفة‬
‫إلى جانب سعة علمه في الفقه وسائر علوم عصره‪.‬‬

‫ونظًر ا لمكانته العلمية استدعاه (المنصور أبو يعقوب) سلطان دولة الموحدين إلى مراكش‪ ،‬فأكرمه‬
‫وقدره تقديًر ا كبيًر ا‪ ،‬ولم يكن ابن رشد يرتاد مجالس الطرب‪ ،‬بل كان يتعفف عن حضور هذه‬
‫المجالس‪ ،‬وبلغ من تعففه أنه أحرق شعره في الغزل أيام شبابه‪ ،‬وكان ابن رشد طبيًبا‪ ..‬يقول‪( :‬من‬
‫اشتغل بعلم التشريح ازداد إيماًنا باهلل) إنه يرى أن من يعمل في مهنة الطب‪ ،‬يرى عن قرب إعجاز‬
‫اهلل في خلقه‪ ،‬ويشاهد أعضاء الجسم وهي على نظام دقيق؛ فيزداد إيمانه قوة ورسوًخ ا‪.‬‬

‫والبن رشد كتب كثيرة في الطب؛ أهمها كتاب (العلل) وهو من الكتب التي تتعرض لألدوية‪ ،‬وقد‬
‫كان ابن رشد فقيًها عالًم ا‪ ،‬قال عنه ابن األنبار‪ :‬كان يفزع إلى فتواه في الطب‪ ،‬كما يفزع إلى فتواه‬
‫في الفقه‪ ،‬وله كتاب في الفقه سماه‪( :‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد) وغير ذلك من الكتب الكثيرة‬
‫التي بلغت خمسين كتاًبا‪.‬‬
‫وبعد هذه الرحلة العلمية المباركة‪ ،‬مرض ابن رشد مرًض ا شديًد ا ومات ليلة الخميس ‪ 9‬صفر سنة‬
‫‪595‬هـ‪ ،‬ونقل جثمانه من(مراكش) إلى قرطبة حسب وصيته حيث المنشأ واألجداد‪.‬‬
‫يا للعجب!! هاهي ذي أرض الفرس‪ ،‬التي كانت أرًض ا للكفر تنجب الكثير من رجال اإلسالم وأعمدة‬
‫دفاعه‪ ،‬ويظهر منها عدد كبير من كبار المحدثين والفقهاء‪ ،‬يحفظون سنة النبي ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬وأصحابه‪ ،‬وتحققت بذلك نبوءة رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فعن أبي هريرة ‪-‬رضي اهلل‬
‫عنه‪ -‬قال‪ :‬كَّنا جلوًس ا عند النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فأنزلت عليه سورة الجمعة‪ ،‬وفيها قول اهلل‬
‫تعالى‪{ :‬وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} [الجمعة‪ ]3 :‬فقلت‪ :‬من هم يا رسول اهلل؟‬

‫فلم يجبه الرسول صلى اهلل عليه وسلم حتى سأله أبو هريرة ثالث مرات‪ ،‬فوضع الرسول ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬يده على سلمان الفارسي ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬ثم قال‪( :‬لو كان اإليماُن عند الثريا لناله رجال‬
‫‪-‬أو رجل‪ -‬من هؤالء) [متفق عليه]‪.‬‬

‫ففي بلدة (قزوين) التي تقع في أذربيجان‪ ،‬ولد (أبو عبداهلل محمد بن يزيد القزويني) الشهير بابن‬
‫ماجه‪ ،‬نسبة إلى لقب والده سنة (‪209‬هـ) وكانت والدته في زمن الخليفة المأمون الذي كان عهده‬
‫مليًئا بأئمة الفقه والحديث‪ ،‬وكانت (قزوين) قد فتحت في خالفة عثمان ابن عفان ‪-‬رضي اهلل عنه‪-‬‬
‫في سنة ‪24‬هـ‪ ،‬وأصبحت ذات شهرة كبيرة في رواية الحديث النبوي الشريف‪ ،‬فمن أرضها خرج‬
‫كبار المحدثين الذين يحفظون أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وينشرونها بين الناس‪.‬‬

‫وقد حفظ ابن ماجه القرآن الكريم‪ ،‬وتعلم الحديث الشريف على يد المشايخ والمحدثين الكبار أمثال‪:‬‬
‫(إسماعيل بن توبة القزويني) وهو محدث وفقيه مشهور‪ ،‬و(هارون بن موسى بن حيان التميمي)‬
‫و(على بن محمد أبو الحسن الطنافسي)‪ ..‬وغيرهم‪.‬‬
‫رحل ابن ماجه في طلب العلم‪ ،‬وأخذ ينتقل من بلد إلى آخر‪ ،‬ليتعلم ويسمع من أحاديث رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فذهب إلى خراسان‪ ،‬والعراق‪ ،‬والحجاز ومصر‪ ،‬والشام‪ ..‬وغيرها من البالد‪،‬‬
‫ثم أنهى ابن ماجه رحالته في طلب الحديث وعاد إلى بلده (قزوين) وأمضى بها بقية عمره في خدمة‬
‫الحديث إلى أن توفي في عهد الخليفة العباسي (المعتمد على اهلل) في يوم االثنين‪ ،‬ودفن يوم الثالثاء‬
‫الموافق الثاني والعشرين من رمضان سنة ‪273‬هـ عن عمر يقارب الرابعة والستين‪.‬‬

‫وكانت البن ماجه مؤلفات في التفسير والتاريخ‪ ،‬إال أن أشهر كتبه (السنن) الذي استحق به اإلمامة‬
‫في الحديث الشريف‪ ،‬فهو من كتب الحديث المعتمدة عند علماء الحديث‪ ،‬وأحد كتب الحديث الستة‬
‫المعروفة‪ ،‬وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي‬
‫وسنن ابن ماجه‪ ،‬وقد احتوت سنن ابن ماجه على كثير من األحاديث التي لم تروها كتب الحديث‬
‫األخرى‪ ،‬كما تضم سنن ابن ماجه أربعة آالف من أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫في إقليم صغير مجاور إلقليم السند يدعي (سجستان) ولد (أبو داود سليمان بن األشعث بن بشر بن‬
‫شداد بن إسحق السجستاني) سنة ‪ 202‬هـ‪ ،‬وأحب الحديث منذ صغره‪ ،‬فطاف البالد يسمع األحاديث‬
‫من المشايخ الكبار في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان‪ ..‬وغيرها من أمثال (أحمد بن‬
‫حنبل) و(يحيي بن معين) و(مسدد بن مسرهد) و(قتيبة بن سعيد)‪.‬‬

‫تألق نجم أبي داود في الحديث واشتهر بعلمه وعمله‪ ،‬حتى أصبح من كبار أئمة اإلسالم في عصره‪،‬‬
‫وروي عنه الترمذي والنسائي وغيرهما من األئمة األعالم‪ ،‬ذهب أبو داود إلى بغداد ومنها إلى‬
‫البصرة ويروى في سبب رحيله إليها‪ :‬أنه ذات يوم طرق باب أبي داود طارق؛ ففتح له الخادم‪ ،‬فإذا‬
‫باألمير (أبو أحمد الموفق) ولي عهد الخليفة العباسي يستأذن‪ ،‬فأذن له أبو داود‪ ،‬فدخل األمير وأقبل‬
‫عليه‪ ،‬فقال له أبو داود‪ :‬ما جاء باألمير في هذا الوقت؟! فقال‪ :‬خالل ثالث‪ ،‬يعني أسباب ثالثة‪:‬‬

‫أما األولى‪ :‬أن تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطًنا‪ ،‬ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار األرض‪ ،‬فتعمر‬
‫بك‪ ،‬بعد أن خربت وانقطع عنها الناس بعد محنة الزنج‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬أن تروي ألوالدي كتاب (السنن)‪.‬‬

‫والثالثة‪ :‬أن تفرد لهم مجلًس ا ألن أبناء الخلفاء ال يجلسون مع العامة!! فقال أبو داود‪ :‬أما الثالثة فال‬
‫سبيل إليها ألن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء‪.‬‬

‫وحاز كتاب السنن الذي جمعه أبو داود وُع ِر َف بـ(سنن أبي داود) إعجاب الناس وتقدير العلماء‪ ،‬فقد‬
‫روي أنها ُقرئت على ابن األعرابي فأشار إلى النسخة‪ ،‬وهي بين يديه‪ ،‬وقال‪ :‬لو أن رجال لم يكن‬
‫عنده من العلم إال كتاب اهلل عز وجل ثم هذا الكتاب يقصد سنن أبي داود‪ ،‬لم يحتج إلى شيء من العلم‬
‫بعد ذلك‪ ،‬وهذا الكتاب الذي يبلغ عدد أحاديثه نحو أربعة آالف حديث وثماني مائة حديث اختارها أبو‬
‫داود من بين خمس مائة ألف حديث كتبها عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وكان أبو داود متمسًك ا بسنة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬حريًص ا كل الحرص على تطبيقها‪ ،‬وبيان‬
‫أهميتها للناس ليقوموا بأدائها‪ ،‬وكان ألبي داود منهج أشبه بمنهج الصحابة في اتباع السنة النبوية‬
‫والتسليم بها‪ ،‬وترك الجدل في األمور التي تشعل نار الفتنة بين المسلمين‪.‬‬

‫مات أبو داود عن ثالثة وسبعين عاًم ا‪ ،‬قضاها في خدمة السنة النبوية المطهرة‪ ،‬بعد أن ترك له ابًنا‬
‫يشبهه في كثير من صفاته هو‪ :‬الحافظ (أبو بكر عبد اهلل بن أبي داود) الذي كان تلميًذ ا نجيًبا لوالده‪،‬‬
‫وشارك أباه في التتلمذ على شيوخه بمصر والشام‪ ،‬وسمع الحديث عن كبار العلماء ببغداد وخراسان‬
‫وأصبهان وسجستان وشيراز‪ ،‬فصار عالًم ا فقيًها‪ ،‬وألف كتاب (المصابيح)‪.‬‬

‫رحم اهلل أبا داود وجزاه اهلل عن اإلسالم خيًر ا‪ ،‬لقد كان للسنة النبوية الشريفة حصًنا منيًع ا‬
‫في مدينة الكوفة ولد أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم األنصاري سنة ‪113‬هـ‪ ،‬وتطلع إلى العلم‬
‫والدراسة فلم يجد خيًر ا من مجلس الفقيه الكبير (أبي حنيفة) فتتلمذ على يديه‪ ،‬ودرس عنده أصول‬
‫الدين والحديث والفقه‪.‬‬

‫ولصحبته ألبي حنيفة قصة يرويها لنا (أبو يوسف) فيقول‪ :‬كنت أطلب الحديث والفقه عند أبي‬
‫حنيفة‪ ،‬وأنا مقل (يعني قليل المال) رث الحال والهيئة‪ ،‬فجاءني أبي يوًم ا فانصرفت معه‪ ،‬فقال لي‪ :‬يا‬
‫بني‪ ،‬ال تمد رجلك مع أبي حنيفة (أي ال تذهب إليه) فإن أبا حنيفة خبزه مشوي (يقصد أنه غني‬
‫وقادر على أن يعيش عيشة كريمة) وأنت تحتاج إلى معاش (عمل حتى تنفق على نفسك وال تنقطع‬
‫للعلم)‪ ،‬فقصرت عن كثير من الطلب (أي طلب العلم) وآثرت طاعة أبي‪ ،‬فتفقدني أبو حنيفة وسأل‬
‫عني‪ ،‬فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه؛ فقال لي‪ :‬ما شغلك عنا ؟ قلت‪ :‬الشغل بالناس وطاعة‬
‫والدي‪ ،‬وجلست حتى انصرف الناس‪ ،‬ثم دفع لي صرة وقال‪:‬‬

‫استمتع بها‪.‬‬

‫فنظرت فإذا فيها مائة درهم وقال‪ :‬الزم الحلقة وإذا أفرغت هذه (إذا أنفقتها) فأعلمني‪ ،‬فلزمت الحلقة‪،‬‬
‫فلما قضيت مدة يسيرة‪ ،‬دفع إلَّي مائة أخرى‪ ،‬ثم كان يتعهدني (يرعاني) وما أعلمته بقلة قط‪ ،‬وال‬
‫أخبرته بنفاد شيء‪ ،‬وكأنه يخبر بنفادها وظل كذلك حتى استغنيت‪.‬‬

‫ولم يكن ألبي حنيفة تلميذ في نجابة أبي يوسف وذكائه‪ ،‬فقد استمر في تلقي العلم حتى حفظ التفسير‬
‫والحديث والمغازي وأيام العرب‪ ،‬وسار أبو يوسف على نهج أستاذه أبي حنيفة في الفقه‪ ،‬إال أنه‬
‫كانت له اجتهادات خاصة به‪ ،‬وألف كتًبا كثيرة أشهرها كتاب (الخراج) وهو رسالة في إدارة المال‬
‫العام والقضاء‪ ،‬وقد قربه الخليفة (هارون الرشيد) إليه‪ ،‬وواله القضاء‪ ،‬ومنحه لقب قاضي القضاة‪،‬‬
‫وكان يستشيره في أمور الدين والدنيا‪.‬‬
‫وفي عام (‪182‬هـ) مات أبو يوسف وهو يقول‪ :‬اللهم إنك تعلم أنني لم أجر في حكم حكمت فيه بين‬
‫اثنين من عبادك تعمًد ا‪ ،‬وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وكلما أشكل علَّي أمر جعلت أبا حنيفة بيني وبينك‪ ،‬ومات الفقيه أبو يوسف‪ ،‬فحزن عليه الناس‬
‫جميًع ا؛ وقال صديقه‬

‫أبو يعقوب الحريمي‪( :‬اليوم مات الفقيه)‪ ..‬فرحم اهلل أبا يوسف وأسكنه فسيح جناته‬
‫في مدينة (الري) القريبة من (طهران) ولد (أبو بكر محمد بن زكريا) سنة ‪251‬هـ‪865/‬م وسمي‬
‫بالرازي نسبة إلى مدينة (الري) التي ولد فيها‪ ،‬أحب الرازي الغناء والضرب على العود في بداية‬
‫حياته‪ ،‬ثم هجر ذلك كله واتجه إلى الطب والكيمياء‪ ،‬يقرأ فيهما كثيًر ا‪ ،‬وأراد أن يجري إحدى‬
‫التجارب الكيميائية‪ ،‬فاستنشق غاًز ا ساًّم ا سبب له مرًض ا شديًد ا‪ ،‬وعالجه أحد األطباء حتى شفي‪،‬‬
‫وكان له صديق يعمل بالصيدلة‪ ،‬فأخذ يتردد عليه‪ ،‬وطالع كثيًر ا من الكتب عن الطب‪ ،‬حتى أصبح‬
‫طبيًبا مشهوًر ا‪.‬‬

‫ولما بلغ سن األربعين‪ ،‬صار أشهر أطباء عصره‪ ،‬فطلب منه الخليفة العباسي (المقتدر باهلل جعفر بن‬
‫المعتضد) إنشاء مستشفى في مدينة (بغداد) عاصمة الخالفة ففكر طويًال واستشار أصدقاءه‬
‫وتالميذه‪ ،‬وأخذ يناقش معهم أنسب األماكن إلقامة المستشفى‪ ،‬وبعد طول بحث ونقاش أدهش الجميع‬
‫بفكرته الرائعة‪ ،‬حين أخذ قطعة لحم كبيرة‪ ،‬وقطعها إلى قطع صغيرة‪ ،‬ووضعها في أماكن مختلفة‬
‫من ضواحي مدينة بغداد‪ ،‬وانتظر بضعة أيام‪ ،‬ثم طاف على األماكن التي وضع القطع فيها ليرى‬
‫تأثير الجو والزمن عليها‪ ،‬فإذا َتِلَفْت القطعة بسرعة اعتبر أن هذه المنطقة ال تصلح إلقامة‬
‫المستشفى‪ ،‬أما إذا ظلت قطعة اللحم كما هي دون أن يصيبها التلف‪ ،‬أو تأخر‪ ،‬فهذا دليل على طيب‬
‫هواء المنطقة‪ ،‬وصالحيتها إلقامة المشروع‪ ،‬وهكذا وقع اختياره على المكان المناسب إلقامة‬
‫مستشفاه‪.‬‬
‫ذهب الرازي إلى الخليفة ينصحه ببناء المستشفى في هذا المكان‪ ،‬فأعجب الخليفة بذكائه‪ ،‬وأمر‬
‫أشهر المهندسين‪ ،‬وأمهر البنائين بتشييدها وبنائها‪ ،‬حتى تَّم البناء‪ ،‬فكان الرازي هو مدير ذلك‬
‫المستشفى ورئيس أطبائه بتكليف من الخليفة‪ ،‬واعتاد الرازي أن يشرك تالميذه في استشاراته‬
‫الطبية‪ ،‬فكان يجلس في بهو المستشفى الكبير ومن حوله األطباء أصحاب الخبرة في الدائرة القريبة‬
‫منه‪ ،‬ثم األطباء المبتدئون في الدائرة الخارجية‪ ،‬وعند حضور أحد المرضى يعرض حالته أوًال على‬
‫المبتدئين‪ ،‬فإذا لم يستطيعوا معرفة نوع المرض‪ ،‬انتقل المريض إلى الدائرة الداخلية ليفحصه‬
‫األطباء المتمرسون‪ ،‬فإذا لم يعرفوا تشخيص حالة المريض‪ ،‬تولى الرازي بنفسه فحص المريض‬
‫ومعالجته‪.‬‬

‫وكانت طريقة الرازي مميزة في العالج إذ أنه كان يتعرف أوال على أعراض المرض في دقة‬
‫وصبر‪ ،‬ثم يحصر االحتماالت التي تشير إلى حقيقته‪ ،‬ثم يستبعد منها ما توحي خبرته ومالحظاته‬
‫بضرورة استبعاده‪ ،‬فإذا عرف المرض وتأكد منه‪ ،‬وصف له العالج‪ ،‬وتتبع حالة المريض‪ ،‬وكان‬
‫النجاح يحالفه في أكثر الحاالت التي عرضت عليه‪.‬‬

‫وكان الرازي دائًم ا ينصح تالميذه أن يساعدوا الفقراء بأن يعالجوهم مجاًنا‪ ،‬ويعلمهم أن مهنتهم مهنة‬
‫الرحمة بالضعفاء والمعذبين‪ ،‬وأن عليهم مساعدة مرضاهم على الشفاء بالكلمة الطيبة‪ ،‬وإحياء األمل‬
‫في نفوسهم ورفع روحهم المعنوية‪ ،‬كما كان ينصحهم بالمدوامة على القراءة والبحث واالطالع في‬
‫المراجع الطبية مهما بلغوا من العمر والخبرة‪ ،‬كما نصحهم بالتعفف عند الكشف على النساء‪،‬‬
‫وااللتزام بالشريعة اإلسالمية السمحة‪ ،‬ونهاهم عن الكبر والخيالء‪.‬‬
‫وفي مكتبة البيمارستان (المستشفى) كان الرازي يقرأ على تالميذه ما قاله الفالسفة من األطباء‬
‫القدماء عن األمراض المختلفة‪ ،‬وكان من رأيه أنه يجب على األطباء أن يعرفوا تشريح أعضاء‬
‫الجسم‪ ،‬لذلك كان يأتي بالقرود من بالد زنجبار في أفريقيا ويجري عليهم تجاربه أمام تالميذه‪ ،‬فإذا‬
‫نجحت التجربة على الحيوان يقوم بإجرائها على اإلنسان‪.‬‬

‫وكان الرازي من أشد المعجبين بجابر بن حيان‪ ،‬فقرأ كتبه‪ ،‬واستطاع أن يطور الكثير مما اكتشفه‬
‫أستاذه (جابر) وأجرى مئات التجارب الكيمائية‪ ،‬وكان دائم البحث عن أدوية جديدة ووسائل مبتكرة‬
‫تنفع في عالج المرضى‪ ،‬فحصل على (الكحول) من تقطير المواد النشوية والسكرية المتخمرة‪،‬‬
‫واستعمله في عالج بعض األمراض‪ ،‬وصنع األدوية الطبية‪ ،‬واخترع األنبوب الذي يخرج الدم‬
‫الفاسد خارج الجرح‪ ،‬ونجحت تجاربه في خياطة أجهزة الجسم الداخلية بخيوط تصنع من أمعاء‬
‫الحيوانات‪.‬‬

‫ومن أهم إنجازات الرازي العلمية والطبية أنه اكتشف مرض الحساسية‪ ،‬وكذلك (اليرقان) الناجم عن‬
‫تكسر الدم‪ ،‬ومَّيز بينه وبين التهاب الكبد المعدي‪ ،‬واكتشف أيًض ا مرض الحصبة‪ ،‬ومَّيز بينه وبين‬
‫مرض الجدري‪ ،‬واستعمل الرازي خبرته كعالم كيميائي في إدخال بعض المركبات الكيمائية ألول‬
‫مرة في العالج‪.‬‬
‫وكان الرازي من أوائل األطباء الذين يعالجون مرضاهم بأسلوب نفسي بدون أدوية‪ ..‬ويأتي‬
‫بالقصاصين إلى المستشفى ليقُّص وا على المرضى القصص والحكايات ليرفهوا عنهم‪ ،‬وينسوهم آالم‬
‫المرض‪ ،‬واستمر الرازي في خدمة مرضاه‪ ،‬وكلما اكتشف شيًئا جديًد ا؛ ازداد تواضًع ا وحًّبا لعمله‪،‬‬
‫وظل الرازي يبحث ويفكر ويكتب الكثير من الكتب؛ فترك لنا نحو ‪ 224‬كتاًبا في الطب والصيدلة‬
‫والكيمياء وغيرها من العلوم المختلفة‪ ،‬ومن أشهر كتبه‪ :‬كتاب (الحاوي) الذي يعد من الكتب المهمة‬
‫في مجال الطب‪ ،‬وكان مرجًع ا لألطباء‪ ،‬وترجمه األوربيون واستفادوا منه‪ ،‬وقد سماه (الرازي)‬
‫الحاوي ألن كتابه هذا يعد موسوعة علمية طبية تحوي كل الكتب واألقاويل الطبية القديمة من أهل‬
‫صناعة الطب‪ ،‬ويقع في عشرين مجلًد ا‪ ،‬ويتناول الكتاب جميع األمراض الموجودة في جسم‬
‫اإلنسان‪ ،‬ومعالجتها وكيفية الوقاية منها قبل وقوعها‪.‬‬

‫ومن كتبه المهمة‪( :‬رسالة في الجدري والحصبة) وهي رسالة علمية هامة‪ ،‬وكتاب (أخالق الطبيب)‬
‫الذي شرح فيه الرازي العالقة اإلنسانية بين األطباء والمرضي‪ ،‬وبينهم وبين بعضهم‪ ،‬وبينهم وبين‬
‫الحكام‪ ،‬كما تحدث فيه أيًض ا عن نصائح عامة للمرضى في تعاملهم مع األطباء‪ ،‬وكتاب‬
‫(المنصوري) وهو أقل حجًم ا من الحاوي فقد جعله الرازي عشرة أقسام في أبواب الطب‪ ،‬وفي‬
‫القسم الثامن تجارب أجراها على الحيوانات الختبار أساليب جديدة في العالج‪ ،‬وكتاب (سر‬
‫األسرار) من أشهر مؤلفاته في الكيمياء‪.‬‬

‫ومن كتبه األخرى‪( :‬قصص وحكايات المرضى) و(المدخل الصغير إلى الطب) و(الطب‬
‫الروحاني) و(رسالة في الداء الخفي) و(المدخل التعليمي) و(مجموعة الرسائل الفلسفية)‪ ..‬وغير ذلك‬
‫من كتب كثيرة تحتوي على كثير من المعارف والعلوم التي درسها الرازي‪ ،‬واستمر الرازي يجري‬
‫التجارب حتى أثرت أبخرة المواد الكيميائية على عينيه؛ فضعف بصره‪ ،‬وفي ليلة من ليالي عام‬
‫‪311‬هـ‪923/‬م مات الرازي‪ ،‬بعد أن ترك تراًثا طبًّيا عظيًم ا‪.‬‬
‫في مدينة (طوس) إحدى مدن بالد (فارس) وبالتحديد في قرية (غزالة) جلس طفالن صغيران‬
‫ينظران إلى والدهما وهو يغزل الصوف‪ ،‬أخذا يتأمالن أصابعه؛ ويتابعانه في إعجاب شديد‪ ،‬ترك‬
‫األب مغزله وأخذ ينظر إلى ولديه (محمد وأحمد)‪.‬‬

‫شعر الشقيقان أن أباهما يريد أن يقول لهما شيًئا‪ ،‬لقد فهما ذلك من نظرات عينيه‪ ،‬وفجأة‪ ..‬انهمرت‬
‫الدموع من عيني األب الذي عرف بالتقوى والصالح‪ ،‬فقد تملكه إحساس جارف بأنه سيموت قريًبا‪،‬‬
‫ولم يترك لولديه شيًئا من المال يعينهما على تحمل أعباء الحياة‪ ،‬غادر األب دكانه‪ ،‬وذهب إلى‬
‫صديق وفي له؛ فأوصاه بتربية ولديه الصغيرين‪ ،‬وترك له ما كان معه من مال‪ ،‬وكان قليًال‪ ،‬ومات‬
‫األب‪ ،‬فعمل الصديق بالوصية‪ ،‬فنَّش أ الطفلين تنشئة دينية صحيحة‪ ،‬وعاملهما معاملة طيبة وألحقهما‬
‫بإحدى المدارس‪ ،‬وكانت أمهما ترعاهما بعناية كبيرة‪ ،‬وتتابع دراستهما‪ ،‬فنبغ الطفالن‪ ،‬وتفَّو قا على‬
‫أقرانهما‪ ،‬وبخاصة (محمد الغزالي) الذي تعلم مبادئ النحو واللغة‪ ،‬وحفظ القرآن الكريم‪ ،‬وتعلم اللغة‬
‫الفارسية‪.‬‬

‫وسافر محمد إلى (جرجان) لسماع دروس اإلمام (أبو نصر اإلسماعيلي)‪ ،‬وفي أثناء عودته إلى‬
‫بلدته (طوس) قطع اللصوص عليه الطريق‪ ،‬وأخذوا منه مخلته التي فيها كتبه وكراريسه‪ ،‬ظًّنا منهم‬
‫أن فيها نقوًد ا ومتاًع ا‪ ،‬وساروا في طريقهم؛ فتبعهم (أبو حامد الغزالي) وأخذ يلح عليهم أن يعطوه‬
‫أوراقه وكتبه التي هاجر من أجلها ومعرفة ما فيها؛ فضحك كبير اللصوص وقال له‪ :‬كيف تزعم أنك‬
‫عرفت علمها‪ ،‬وعندما أخذناها منك‪ ،‬أصبحَت ال تعلم شيًئا وبقيت بال علم؟! ولكنه أشفق عليه وسلمه‬
‫الكتب‪.‬‬
‫وكان هذا درًس ا عظيًم ا للغزالي‪ ،‬فعندما وصل إلى طوس مكث ثالث سنوات يحفظ ما كتب في هذه‬
‫األوراق‪ ،‬حتى ال يتعرض علمه للضياع مرة أخرى‪ ،‬وانتقل الغزالي إلى مدينة (نيسابور) سنة‬
‫‪473‬هـ‪1080/‬م‪ ،‬فتعلم الفقه والمنطق والفلسفة‪ ،‬وأصول الفقه وغيرها من العلوم على يد (أبي‬
‫المعالي الجويني) الملقب بإمام الحرمين وكان الغزالي أحد تالمذته األذكياء فبرع في الفقه وأتقن‬
‫الجدل‪ ،‬وبدأ في تصنيف الكتب‪.‬‬

‫والزم الغزالي أستاذه‪ ،‬يتعلم على يديه‪ ،‬حتى انتقل إمام الحرمين إلى ربه سنة ‪478‬هـ‪1085/‬م‪،‬‬
‫فخرج الغزالي من نيسايور إلى العسكر حيث لقي الوزير السلجوقي (نظام الملك) الذي أكرمه وبالغ‬
‫في إكرامه‪ ،‬وكان الغزالي حينئذ متزوًج ا وله ثالث بنات وولد اسمه (حامد) لذلك كني أبا حامد‪.‬‬

‫وناظر الغزالي وناقش فكرة الجهاد ضد الباطل سواء داخل أو خارج بالد اإلسالم مع األئمة‬
‫والعلماء في مجلس الوزير‪ ،‬فبهرهم غزارة علمه وقوة منطقه‪ ،‬وأعجب به (نظام الملك) فواله‬
‫منصب التدريس في المدرسة النظامية ببغداد سنة ‪484‬هـ‪1091/‬م‪ ،‬فأقبل عليه الطالب إقباال شديًد ا‪،‬‬
‫واتسعت حلقاته‪ ،‬وذاع صيته واشتهر؛ حتى لقب بإمام بغداد‪ ،‬فكلفه الخليفة العباسي (المستظهر باهلل)‬
‫بالرِّد على بعض الفرق التي انحرفت عن اإلسالم؛ فكتب الغزالي في الرد عليهم‪( :‬القسطاس‬
‫المستقيم) و(حجة الحق)‪ ..‬وغيرهما من الكتب التي كشفت فساد وضالل هذه الفرق‪.‬‬
‫وترك (الغزالي) التدريس بالمدرسة النظامية‪ ،‬واتجه إلى طريق الزهد والعبادة‪ ،‬ورحل إلى عدة مدن‬
‫إسالمية‪ ،‬فرحل إلى (دمشق) وأقام مدة قصيرة‪ ،‬ثم رحل إلى بيت المقدس‪ ،‬ومنها ذهب إلى (مكة)‬
‫واختار طريق التصوف وفَّض له على كل الطرق‪ ،‬ولم يزل الغزالي على حالته في الزهد والعبادة‬
‫حتى طلب منه السلطان العودة مرة أخرى إلى نيسابور للتدريس ونشر العلم‪ ،‬لكنه لم يمكث بها مدة‬
‫طويلة‪ ،‬فقد عاد بعد سنتين إلى طوس‪ ،‬وهناك أنشأ الغزالي زاوية للزهاد والصوفية وطلبة الفقه‬
‫والعلوم الشرعية‪ ،‬وظل بـ(طوس) حتى توفاه اهلل في ‪ 14‬جمادى اآلخرة عام ‪505‬هـ‪1111/‬م عن‬
‫خمسة وخمسين عاًم ا قضاها في العلم والتعلم ونشر الفكر اإلسالمي الصحيح بين المسلمين‪ ،‬والدفاع‬
‫عن اإلسالم ضد أهل الديانات األخرى والفرق الضالة‪ ،‬ومن هنا ُلِّقب الغزالي بـ (حجة اإلسالم)‪.‬‬

‫وللغزالي مؤلفات كثيرة تزيد على أربعمائة؛ منها‪( :‬إحياء علوم الدين) و(الوسيط) في الفقه الشافعي‬
‫و(تهافت الفالسفة) و(المستصفي في أصول الفقه)‪ ..‬وغير ذلك‪ ،‬ومع غزارة إنتاج الغزالي‪ ،‬فإن‬
‫أسلوبه يتسم بالعبارة السهلة‪،‬والبعد عن التعقيد‪ ..‬فجزاه اهلل خيًر ا عما قدم لإلسالم من خدمات جليلة‪.‬‬
‫كان كثير العبادة‪ ،‬ال ينام الليل إال قليال؛ حتى سموه (الوتد) لكثرة صالته‪ ،‬يبكي حتى يسمع جيرانه‬
‫بكاءه فيشفقون عليه مما هو فيه من خوف ووجل من اهلل!!‬

‫وأبوه (ثابت) كان تاجًر ا غنًّيا أسلم فحسن إسالمه‪ ،‬قيل‪ :‬إنه التقى باإلمام على بن أبي طالب ‪-‬رضي‬
‫اهلل عنه‪ -‬فدعا له اإلمام ولذريته بالخير والبركة‪ ،‬واستجاب اهلل الدعاء‪ ،‬ورزق اهلل ثابًتا بطفل أسماه‬
‫النعمان وكناه (أبا حنيفة النعمان بن ثابت) وكانت والدته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الكوفة‪.‬‬

‫نشأ أبو حنيفة في مدينة الكوفة‪ ،‬فوجد الحلقات العلمية منتشرة في كل مكان‪ ،‬ورأى طالب العلم‬
‫يتعلمون ويجتهدون في الدراسة؛ فتلقى العلم على يد شيوخ وأساتذة كبار‪ ،‬منهم‪ :‬فقيه الكوفة (حماد‬
‫بن أبي سليمان) واإلمام (جعفر الصادق) و(عطاء) و(الزهري) و(قتادة)‪ ..‬وغيرهم‪ ،‬وكان(حماد)‬
‫من أكثر شيوخه الذين يحبهم؛ فكان أبو حنيفة يحفظ أقواله ويرددها‪ ،‬وأعجب حماد هو اآلخر بتلميذه‬
‫(أبي حنيفة) حتى قال لمن حوله‪ :‬ال يجلس في صدر الحلقة بجواري غير أبي حنيفة‪.‬‬

‫وبعد موت حماد تولى ابن له اسمه إسماعيل حلقة الدرس بدال من أبيه‪ ،‬لكنه ترك مجلس الفقه وانتقل‬
‫إلى النحو لحبه له‪ ،‬فجاء الناس إلى (أبي حنيفة) يطلبون منه أن يجلس إليهم ويعلمهم أمور دينهم؛‬
‫فقبل أبو حنيفة‪ ،‬وأخذ يدرس للناس حتى اشتهر فقهه بين البسطاء واألمراء‪ ،‬لكنه لم يْنَس فضل‬
‫شيخه وأستاذه (حماد) بل ظل يذكره بالخير‪ ،‬ويدعو له حتى قال أبو حنيفة‪( :‬ما صليُت قط إال‬
‫ودعوُت لشيخي (حماد) ولكل من تعلمُت منه علًم ا أو علمته)‪.‬‬

‫وكان أبو حنيفة يهتم بملبسه ومظهره‪ ،‬ويكثر التعطر‪ ،‬وُيرى وقوًر ا حليًم ا‪ ،‬فهو الذي يقول‪( :‬اللهم‬
‫من ضاق بنا صدره‪ ،‬فإن قلوبنا قد اتسعت له) ولقد سبه أحد الناس بقوله‪ :‬يا مبتدع‪ ،‬يا زنديق‪ ،‬فرَّد‬
‫عليه بقوله‪ :‬غفر اهلل لك‪ ،‬اهلل يعلم مني خالف ذلك‪ ،‬وأني ما عدلت به (أي ما أشركت به أحًد ا) منذ‬
‫عرفته‪ ،‬وال أرجو إال عفوه‪ ،‬وال أخاف إال عقابه‪.‬‬
‫وكان أبو حنيفة كريًم ا واسع الكرم‪ ،‬وتاجًر ا أميًنا ماهًر ا‪ ،‬ظل يعمل بالتجارة طوال حياته‪ ،‬وكان له‬
‫دكان معروف في (الكوفة) كان أبو حنيفة ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬يحب العمل حتى ينفق على نفسه‪ ،‬فكان‬
‫يبيع الخز (وهو نسيج من الصوف)‪.‬‬

‫سمع أبو حنيفة رجًال يقول آلخر‪ :‬هذا أبو حنيفة ال ينام الليل؛ فقال‪ :‬واهلل ال يتحدث عني بما لم أفعل؛‬
‫فكان يحيي الليل صالة وتضرًع ا‪ ،‬فكان ورًع ا‪ ،‬وال يحدث بالحديث الذي يحفظه‪ ،‬وال يحدث بما ال‬
‫يحفظ‪ ،‬وكان يتورع عن القسم خشية الهالك‪ ،‬حتى إنه جعل على نفسه إن حلف باهلل صادًقا أن‬
‫يتصدق بدينار‪.‬‬

‫وكان واسع الصدر هادئ الطبع في حديثه مع الناس‪ ،‬فلقد روي أن رجًال قال له‪ :‬اتق اهلل‪ ،‬فانتفض‪،‬‬
‫وطأطأ رأسه‪ ،‬وأطرق‪ ..‬وقال له‪ :‬يا أخي جزاك اهلل خيًر ا‪ ،‬ما أحوج الناس في كل وقت إلى من‬
‫يذكرهم اهلل تعالى‪ ،‬وكان يخاف عاقبة الظلم؛ لذا رفض تولي القضاء للخليفة المنصور العباسي‪.‬‬

‫ومات سنة ‪150‬هـ‪ ،‬وصلى عليه خمسون ألف رجل‪ ،‬ودفن في بغداد‪ ،‬ويقال إنه مات في نفس الليلة‬
‫التي ولد فيها اإلمام الشافعي‪.‬‬

‫وأبو حنيفة هو مؤسس المذهب الحنفي أحد المذاهب الفقهية األربعة‪ ،‬وقد انتشر مذهبه في العراق‬
‫والهند وبالد المشرق‪ ،‬يقول عنه الشافعي‪( :‬الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة) وقال عنه النضر‬
‫بن شميل‪ :‬كان الناس نياًم ا في الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة‪ ،‬وقيل‪ :‬لو وزن علم اإلمام أبي حنيفة بعلم‬
‫أهل زمانه لرجح علمه عليهم‪ ،‬وقال عنه ابن المبارك‪( :‬ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة) وقال عنه‬
‫يزيد بن هارون‪( :‬ما رأيت أحًد ا أحلم من أبي حنيفة)‪.‬‬
‫قال د ‪ .‬محمد بن سعد الشويعر ‪:‬‬

‫في حج عام ‪ 1406‬هـ قدم للمملكة أول وفد رسمي من حجاج الصين الشعبية ويتقدم هذا الوفد بعض‬
‫العلماء فجاءوا للسالم على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وكان رئيس الوفد شيخا طاعنا في السن‬
‫قد درس في األزهر وهو يتقدمهم في المقابلة وعددهم سبعة ‪..‬‬

‫فقال لي بعد أن سلموا ‪ :‬أين الشيخ عبد العزيز بن باز ؟ ومتى يحضر ؟ فقلت له ‪ :‬هاهو ذا الذي‬
‫سلمت عليه قبل قليل ‪ ،‬فلم يصدق وكان يتحدث العربية بطالقة فقال ‪ :‬أريد أن أراه في سفرتي هذه ‪،‬‬
‫وكأنه لم يصدقني ‪..‬‬

‫فقلت له ‪ :‬هاهو ذا ثم أكدت له ذلك فقام من مجلسه وتقدم للمرة الثانية ليسلم على الشيخ فأخبرت‬
‫الشيخ عن رغبته هذه ‪ ،‬فقام إليه وتعانقا ورأيت هذا الشيخ الصيني يضم الشيخ إلى صدره بحنو‬
‫ويبكي ويقول ‪ :‬الحمد هلل الذي أراني إياك ‪..‬‬

‫فكنا نسمع عنك ونحن في الصين بأنك أمل المسلمين ومنقذهم والمدافع عنهم ‪ ،‬ثم قال احد مرافقي‬
‫هذا الشيخ الصيني ‪ :‬أدعو اهلل يا شيخ أن تأخذ من عمري عشر سنين لمالك من نفع لإلسالم وأهله ‪،‬‬
‫أما أنا فإنسان عادي كغيري من أبناء اإلسالم ‪..‬‬

‫ثم زاد الشيخ في البكاء ومعاودة السالم والمعانقة وهو يردد ‪ :‬الحمد هلل الذي أراني إياك قبل موتي‬
‫فقد كنت أتمنى ذلك طول عمري ‪.‬‬

‫( شريط وانطفأ السراج ) ‪.‬‬


‫خرجت صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من مدينة (مرو) وهي تحمل في بطنها جنيًنا‪،‬‬
‫وما إن وصلت إلى بغداد حتى ولدت (أحمد بن حنبل) في شهر ربيع األول سنة ‪164‬هـ‪.‬‬

‫كان والده قائًد ا في جيش خراسان‪ ،‬أما جده فكان والًيا لألمويين في بلدة تسمى (سرخس) تابعة لبالد‬
‫خراسان‪ ،‬وحين بلغ أحمد من العمر ثالث سنوات توفي‬

‫والده‪ ،‬فنشأ يتيًم ا‪ ،‬تكفله أمه وترعاه‪ ،‬وتقوم على تربيته والعناية به‪ ،‬وعاش أحمد عيشة فقيرة‪ ،‬فلم‬
‫يترك له والده غير منزل ضيق‪ ،‬مما دفعه إلى العمل وهو طفل صغير‪ ،‬فكان يلتقط بقايا الزروع من‬
‫الحقول بعد استئذان أهلها‪ ،‬وينسج الثياب ويبيعها‪ ،‬ويضطر في بعض األوقات أن يؤجر نفسه ليحمل‬
‫أمتعة الناس في الطريق‪ ،‬وكان ذلك عنده أفضل من أن يمد يده إلى غيره‪.‬‬

‫حفظ أحمد القرآن الكريم‪ ،‬ولما بلغ أربع عشرة سنة‪ ،‬درس اللغة العربية‪ ،‬وتعلم الكتابة‪ ،‬وكان يحب‬
‫العلم كثيًر ا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم‪ ،‬وقد‬
‫حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر‪ ،‬فجذبته أمه من‬
‫ثوبه‪ ،‬وقالت له‪ :‬يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس‪.‬‬

‫ومضت األيام حتى بلغ أحمد الخامسة عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬من كبار العلماء والشيوخ‪ ،‬فلم يترك شيًخ ا في بغداد إال وقد استفاد منه‪ ،‬ومن شيوخه‪:‬‬
‫أبو يوسف‪ ،‬وهشيم بن مشير‪.‬‬

‫وفَّك ر أحمد أن يطوف ببالد المسلمين ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم األحاديث التي‬
‫حفظوها‪ ،‬فزار الكوفة والبصرة‪ ،‬ومكة‪ ،‬والمدينة‪ ،‬واليمن‪ ،‬والشام والعراق وفارس وغيرها من بالد‬
‫اإلسالم‪ ،‬فكان في رحالته إذا لم يجد دابة‬

‫يركبها يمشي حتى تتشقق قدماه ليلتقي بكبار العلماء في هذه البالد‪ ،‬وظل أحمد طيلة حياته ينتقل من‬
‫بلد إلى آخر‪ ،‬ليتعلم الحديث حتى أصبح من كبار العلماء‪.‬‬
‫سأله أحد أصحابه ذات يوم‪ :‬إلى متى تستمر في طلب العلم‪ ،‬وقد أصبحت إماًم ا للمسلمين وعالًم ا‬
‫كبيًر ا؟! فقال له‪( :‬مع المحبرة إلى المقبرة) ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت‬
‫ويدخل القبر‪ ،‬ولم يكن في عصره أحد أحفظ منه لحديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬حتى‬
‫َس َّم ْو ه (إمام السنة وفقيه المحدثين) وقالوا‪ :‬إنه كان يحفظ ألف ألف حديث!! شملت المكرر من‬
‫الحديث واآلثار‪ ،‬وفتوى التابعين ونحو ذلك‪.‬‬

‫وبعد أن تعلم اإلمام أحمد بن حنبل ما تعلم‪ ،‬وحفظ ما حفظ من أحاديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ -‬جلس في المسجد الجامع ببغداد سنة (‪24‬هـ) وعمره أربعون سنة‪ ،‬ليعلم الناس أمور دينهم؛‬
‫فأقبل الناس على درسه إقباال عظيًم ا‪ ،‬فكانوا يذهبون إلى المسجد في الصباح الباكر ليتخذوا لهم‬
‫مكاًنا يجلسون فيه‪.‬‬

‫وكان أغلى شيء عند اإلمام أحمد بن حنبل ما جمعه من حديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫لذلك كان يكتبه في أوراق يحفظها في مكان أمين‪ ،‬وقد حدث ذات يوم أن سرق لص منزله‪ ،‬فأخذ‬
‫مالبسه وكل ما في بيته‪ ،‬فلما جاء اإلمام أحمد إلى البيت‪ ،‬لم يسأل عن شيء إال عن األوراق التي‬
‫يكتب فيها أحاديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ولما وجدها اطمأن قلبه ولم يحزن على ما‬
‫سرق منه‪.‬‬

‫ولم يكن اإلمام أحمد بن حنبل مجرد حافظ ألحاديث الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬بل كان يعمل بما‬
‫في هذه األحاديث‪ ،‬فيقول عن نفسه‪ :‬ما كتبُت حديًثا إال وقد عملُت به‪ ،‬وكان اإلمام أحمد زاهًد ا في‬
‫الدنيا‪ ،‬يرضى بالقليل‪ ،‬فقد كان كثير العبادة والذكر هلل‪.‬‬
‫وقد تعرض اإلمام أحمد ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬للتعذيب واألذى بسبب شجاعته من مواجهة الفتن والبدع‬
‫التي حدثت في زمانه‪ ،‬تلك الفتن التي تعرض من أجلها للضرب والسجن في عهد الخليفة المعتصم‪،‬‬
‫فكان ُيضرب بالسياط‪ ،‬حتى أغمي عليه عدة مرات‪ ،‬ودخل السجن وظل فيه عامين ونصف‪ ،‬ثم‬
‫خرج منه مريًض ا يشتكي من الجراح‪ ،‬وظل في منزله بعض الوقت؛ حتى شفي وعاد إلى درسه‪،‬‬
‫ولما تولى الخليفة (الواثق) الخالفة لم يتعرض اإلمام أحمد لإليذاء‪ ،‬لكنه منعه من االجتماع بالناس‪،‬‬
‫فظل معزوًال عنهم‪ ،‬حتى مات الخليفة (الواثق) وتولى (المتوكل) الخالفة الذي عامل اإلمام أحمد‬
‫معاملة حسنة وعرض عليه المال‪ ،‬فرفضه‪ ،‬لكنه ألح عليه أن يأخذه‪ ،‬فتصدق به كله على الفقراء‪.‬‬

‫ورغم انشغال اإلمام أحمد الشديد بالعلم وضيق وقته فإنه كان شديد االهتمام بمظهره‪ ،‬فقد كان من‬
‫أنظف الناس بدًنا‪ ،‬وأنقاهم ثوًبا‪ ،‬شديد االهتمام بتهذيب شعر رأسه‪ ،‬وكان اإلمام أحمد يميل إلى‬
‫الفقراء‪ ،‬ويقربهم منه في مجلسه‪ ،‬وكان حليًم ا‪ ،‬كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار‪ ،‬وكان إذا جلس‬
‫في مجلسه بعد العصر ال يتكلم حتى ُيسأل‪ ،‬كما كان ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬شديد الحياء‪ ،‬كريم األخالق‪،‬‬
‫سخًّيا‪ ،‬وكان مع لينه شديد الغضب هلل‪.‬‬

‫واإلمام أحمد مؤسس المذهب الحنبلي أحد المذاهب الفقهية األربعة‪ ،‬وقد ترك اإلمام أحمد كتًبا كثيرة‬
‫منها‪( :‬المسند) وهو أكبر كتبه وأهمها بل هو أكبر دواوين السنة النبوية‪ ،‬إذ يحتوي على أربعين ألف‬
‫حديث‪ ،‬وكتاب (الزهد) و(الناسخ والمنسوخ)‪.‬‬

‫ومرض اإلمام أحمد ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬واشتد عليه المرض يوم خميس‪ ،‬فتوضأ‪ ،‬فلما كانت ليلة‬
‫الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع األول سنة ‪241‬هـ‪ ،‬وفي بغداد صعدت روحه إلى بارئها‪ ،‬فحزن‬
‫عليه المسلمون حزًنا شديًد ا‪ ،‬وصاح الناس‪ ،‬وعال‬
‫بكاؤهم‪ ،‬حتى كأن الدنيا قد ارتجت‪ ،‬وامتألت السكك والشوارع‪ ،‬وأخرجت الجنازة بعد انصراف‬
‫الناس من صالة الجمعة‪ ،‬وشيعه ما يقرب من ست مائة ألف إنسان‪ ،‬باإلضافة إلى الذين صعدوا إلى‬
‫أسطح المنازل ليلقوا نظرة الوداع األخيرة على اإلمام أحمد بن حنبل‪.‬‬

‫إسم الكاتب تاريخ اإلضافة التقييم ‪ /‬المقيمين زيارات القصة‬

‫موسوعة القصص ‪211 0 / 0 01/04/2008‬‬


‫في سنة ‪1217‬هـ‪1852 /‬م سعدت (بغداد) بميالد (أبي الثناء شهاب الدين محمود األلوسي) أمير‬
‫المفسرين في العصر الحديث!!‬

‫تطلع منذ صغره إلى العلم‪ ،‬فأخذ العلم عن كبار العلماء في عصره أمثال الشيخ (خالد النقشبندي)‬
‫والشيخ (علي السويدي) فضًال عن والده الذي تعلم على يديه‪ ،‬ظهرت عالمات النبوغ والذكاء على‬
‫شهاب الدين األلوسي منذ صغره‪ ،‬حتى إنه اشتغل بالتدريس وهو في الثالثة عشرة من عمره‪ ،‬وهبه‬
‫اهلل قوة الذاكرة‪ ،‬يقول عن نفسه‪ :‬ما استودعت ذهني شيًئا فخانني‪ ،‬وال دعوت فكري لمعضلة إال‬
‫وأجابني‪.‬‬

‫لم يترك األلوسي علًم ا من علوم الدين إال وقرأ فيه‪ ،‬فكان يسهر الليالي‪ ،‬ويضِّح ي براحته وصحته‬
‫طلًبا للمعرفة‪ ،‬ورغم هذا المجهود الكبير الذي كان يبذله فإنه كان يشعر بسعادة كبيرة‪ ،‬وفي داره قام‬
‫بتدريس علوم الدين‪ ،‬فتتلمذ على يديه الكثيرون‪ ،‬ولم يكن يفيض عليهم من علمه الواسع فحسب‪ ،‬بل‬
‫كان يعطف عليهم ويرعاهم‪ ،‬ويعطيهم من ملبسه ومأكله ويسكنهم بيته!!‬

‫ولما ترك األلوسي منصب اإلفتاء بالعراق‪ ،‬تفرغ لتفسير القرآن الكريم‪ ،‬وتعلقت نفسه رغبة إلتمام‬
‫هذا العمل‪ ،‬فكان في أحيان كثيرة يقوم من نومه‪ ،‬ويترك فراشه حين يخطر بذهنه معنى جديد لم‬
‫يذكره المفسرون السابقون عليه‪ ،‬وال يهدأ له بال حتى يسجل خواطره في كراريسه‪ ،‬وعندئذ يعود‬
‫إليه الهدوء‪ ،‬ويزول عنه القلق والتوتر‪ ،‬ويذهب إلى فراشه حيث يستسلم للنوم‪.‬‬
‫وكان يجمع كل ما كتبه غيره في التفسير‪ ،‬وينقيها من كل شائبة (اإلسرائيليات) ويظهر الحقيقة جلية‬
‫واضحة‪ ،‬كل ذلك في أسلوب رائع جذاب‪ ،‬حتى أصبح تفسيره الذي سمي (روح المعاني في تفسير‬
‫القرآن العظيم والسبع المثاني) من أحسن التفاسير جامًع ا آلراء السلف‪ ،‬مشتمال على أقوال الخلف‬
‫بكل أمانة وعناية‪ ،‬فهو جامع لخالصة كل ما سبقه من كتب التفاسير‪ ..‬وكانت مؤلفات اإلمام‬
‫األلوسي في أنواع مختلفة من العلوم والمعارف‪ ،‬أهمها تفسيره الشهير بـ(تفسير األلوسي) و(دقائق‬
‫التفسير) و(غرائب االغتراب)‪ ..‬وغير ذلك من الكتب‪.‬‬

‫توفي اإلمام الكبير في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة سنة ‪1270‬هـ‪1854 /‬م‬
‫بعد أن مأل األرض علًم ا‪ ،‬ودفن مع أهله في مقبرة الشيخ (معروف الكرخي) في (الكرخ)‪.‬‬
‫نسبه و مولده‬

‫هو إمام األمة أبو عبداهلل محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن َبرِدزَبة الجعفي البخاريأصله فارسي ‪..‬‬
‫فقد كان جده المغيرة مولى لليمان البخاري والي بخارى ‪ ..‬فانتسب إليه بعد إسالمهولد ببخارى سنة‬
‫‪ 194‬هـ ونشأ يتيما و أخذ يحفظ الحديث وهو دون العاشرة‬

‫رحالته في طلب العلم‬

‫رحل شيخنا في طلب العلم إلى الشام و مصر و الجزيرة و العراق ‪ ..‬وأقام في الحجاز ستة أعوام‬
‫يأخذ الحديث عن أربابه ‪ ..‬وتلقى عنه الناس الحديث ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره ‪ ..‬سمع من‬
‫نحو ألف شيخ وأخذ الحديث عنهم ‪ ..‬ال يسمع بشيخ في الحديث إال رحل إليه وسأل عنه وأخذ عنه‬
‫علمه‬

‫قال عن نفسه مبينا رحالته إلى األمصار اإلسالمية (( دخلت الشام و مصر و الجزيرة مرتين وإلى‬
‫البصرة أربع مرات و أقمت بالحجاز ستة أعوام وال أحصي كم دخلت إلى الكوفة و بغداد مع‬
‫المحدثين )) ‪ ...‬وجمع من الحديث أكثر من ستمائة ألف حديث ‪.‬‬

‫حياته‬

‫كان رحمه اهلل تعالى شديد الورع و التقوى ‪ ..‬قليل األكل ال ينام من الليل إال أقله و كان مجدا في‬
‫تحصيل العلم وتأليف الكتب فيه ‪ ..‬يقوم من الليل ثماني عشرة مرة أو أكثر يسرج المصباح ويتذكر‬
‫األحاديث فيكتبها و يدقق البعض اآلخر فيعلم عليها‬

‫لم يكن له هم سوى الحديث النبوي ‪ ..‬كان شغله الشاغل ليله و نهاره ‪ ..‬كثير اإلحسان إلى الطلبة‬
‫رفيقا بهم ‪ ,‬مهذب العبارة حتى مع المخالفين له ‪ ..‬ولم يطلق لسانه في الساقطين متروكي الحديث ‪..‬‬
‫فإذا أراد جرح راٍو قال ‪ :‬فيه نظر أو سكتوا عنه وكان ينقل رأي النقاد في رواة الحديث ‪ ..‬كتب اهلل‬
‫له القبول في قلوب العلماء ‪ ..‬قال محمود بن النضر سهل الشافعي (( دخلت البصرة و الشام و‬
‫الحجاز و الكوفة و رأيت علمائها ‪ ..‬كلما جرى ذكر محمد بن اسماعيل البخاري فضلوه على أنفسهم‬
‫))‬
‫كان آية في الحفظ والذكاء و اإلتقان ‪ ..‬كأن اهلل سبحانه قد اختاره لحراسة و حفظ الحديث النبوي ‪...‬‬
‫وقد جرت له في بغداد حادثة مشهورة تشهد له بذلك ‪ ..‬تداولها علماء التاريخ و الحديث في كتبهم ‪...‬‬
‫ذلك أن علماء بغداد أرادوا اختبار حفظه و ذكائه و إتقانه ‪ ,‬فجاء أصحاب الحديث بمائة حديث فقلبوا‬
‫متونها و أسانيدها ‪ ..‬ودفعوها إلى عشرة رجال ‪ ..‬إلى كل رجل عشرة أحاديث ‪ ..‬وأمروهم إذا‬
‫حضروا اإلجتماع يلقون هذه األحاديث المقلوبة على البخاري فلما اجتمعوا كلهم مع حشد من الناس‬
‫انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث فقال ال أعرفه ‪ ,‬فما زال يلقي عليه حديثا بعد آخر حتى‬
‫فرغ من عشرته ‪ ..‬وهكذا حتى فرغوا من األحاديث المائة المقلوبة ‪ ..‬والبخاري ال يزيدهم على ((‬
‫ال أعرفه )) ‪ ..‬فاستغرب الناس كيف ال يعرف األحاديث كلها ‪ ..‬فلما علم أنهم فرغوا التفت إلى‬
‫األول منهم فقال ‪ :‬أما حديثك األول فهو كذا ‪ ..‬وحديثك الثاني فهو كذا و هكذا إلى آخر األحاديث‬
‫المائة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه ‪ ..‬فأقر له الناس بالحفظ و أذعنوا له بالفضل‬

‫يقول الحافظ بن حجر رحمه اهلل عن هذه الحادثة ‪ :‬ليس العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان‬
‫حافظا ‪ ..‬بل العجب من حفظه الخطأ على ترتيب ماألقوه عليه من مرة واحدة‬

‫شهد له العلماء بالفضل و العلم ‪ ..‬قال شيخ البخاري محمد بن بشار الحافظ (( حفاظ الدنيا أربعة ‪:‬‬
‫أبو زرعة بالري ‪ ,‬ومسلم بن الحجاج بنيسابور ‪ ,‬وعبداهلل بن عبدالرحمن الدرامي بسمرقند ‪ ,‬ومحمد‬
‫بن اسماعيل ببخارى ))‬

‫وقال عنه اإلمام الترمذي (( لم أر بالعراق وال بخراسان في معنى العلل و التاريخ و معرفة األسانيد‬
‫أحدا أعلم من محمد بن اسماعيل ))‬

‫أشهر كتبه‬

‫كان كتاب (( الجامع الصحيح المسند من حديث رسول اهلل وسننه وأيامه )) ‪..‬‬
‫أشهر كتبه على اإلطالق ‪ ..‬وهو أصح كتاب بعد كتاب اهلل سبحانه وتعالى ‪ ..‬وهو أول من جمع‬
‫األحاديث الصحيحة مجردة عن غيرها ‪ ..‬ولكنه لم يستوعب كل الصحيح ‪ ..‬فقد ترك من الحديث‬
‫الصحيح أكثر مما أثبته لئال يطول الكتاب ‪.‬‬

‫ابتدأ تأليفه بالحرم النبوي الشريف ولبث في تصنيفه ست عشرة سنة و أتمه ببخارى ‪ ..‬وماكان يضع‬
‫حديثا إال بعد أن يغتسل و يصلي ركعتين ويستخير اهلل في وضعه ‪ ..‬فقد قال (( ماأدخلت في‬
‫الصحيح حديثا إال بعد أن استخرت اهلل و تيقنت صحته ))‬

‫ومما ألف أيضا كتاب (( التاريخ الكبير )) جمع فيه أسامي من روى عنه الحديث من زمن الصحابة‬
‫إلى زمنه ‪ ..‬وله أيضا (( التاريخ األوسط )) و (( التاريخ الصغير )) و (( األدب المفرد )) و ((‬
‫الكنى )) و (( الوحدان )) و (( الضعفاء ))‬

‫وفاته‬

‫توفي ليلة السبت بعد صالة العشاء ‪ ,‬وكانت ليلة عيد الفطر ‪ ,‬ودفن يوم الفطر ‪ ..‬بعد صالة الظهر‬
‫سنة ست وخمسين ومائتين ‪ 256‬هـ بَخ رَتنك وهي قرية بالقرب من بخارى وهي القرية التي ولد فيها‬

‫رحمه اهلل تعالى فقد خدم السنة النبوية ‪ ,‬ووقف حياته لها ‪ ,‬وخلف تراث األمة اإلسالمية ‪ ..‬أصح‬
‫كتاب بعد كتاب اهلل تعالى ‪ :‬صحيح البخاري ‪ ..‬فجزاه اهلل عن األمة خير الجزا‬

‫مر البخاري رحمه اهلل بمحنتين‬

‫محنته مع أهل نيسابور‬

‫قال الحاكم في تاريخه‪ :‬قدم اإلمام البخاري نيسابور سنة ‪ ، 250‬فأقام بها مدة يحدث على الدوام‪ ،‬قال‬
‫فسمعت محمد بن حامد البزار يقول‪ :‬سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول‪ :‬سمعت محمد بن يحيى‬
‫الذهلي يقول‪ :‬اذهبوا الى هذا الرجل فاسمعوا منه‪ ،‬قال‪ :‬فذهب الناس إليه فأقبلوا على السماع منه‬
‫حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى‪ ،‬قال‪َ :‬فُتُكِّلَم فيه بعد ذلك‬

‫قال أحمد بن عدي‪ :‬ذكر لي جماعة من المشايخ‪ ،‬أن محمد بن اسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع‬
‫الناس عنده حسده بعض شيوخ الوقت‪ ،‬فقال ألصحاب الحديث‪ :‬إن محمد بن اسماعيل يقول‪ :‬لفظي‬
‫بالقرآن مخلوق‪.‬‬
‫فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال‪ :‬يا أبا عبد اهلل ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أو غير‬
‫مخلوق؟‬

‫فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثالثا‪ ،‬فألح عليه‪ ،‬فقال البخاري‪ :‬القرآن كالم اهلل غير مخلوق‪،‬‬
‫وأفعال العباد مخلوقة‪ ،‬و االمتحان بدعة‪ ،‬فشغب الرجل و قال‪ :‬قد قال‪ :‬لفظي بالقرآن مخلوق‬

‫و قال أبو حامد الشرقي‪ :‬سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول‪ :‬القرآن كالم اهلل غير مخلوق و من‬
‫زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع‪ ،‬و ال يجالس و ال يكلم‪ ،‬ومن ذهب بعد هذا الى محمد بن‬
‫اسماعيل البخاري فاتهموه فإنه ال يحضر الى مجلسه إال من كان على مذهبه‬

‫وقال الحاكم‪ :‬ولما وقع بين البخاري وبين الذهلي في مسألة اللفظ‪ ،‬انقطع الناس عن البخاري إال‬
‫مسلم بن الحجاج و أحمد بن سلمة‬

‫قال أبو عمر أحمد بن نصر النيسابوري يوما للبخاري‪ :‬يا أبا عبد اهلل ههنا من يحكي عنك أنك تقول‪:‬‬
‫لفظي بالقرآن مخلوق‪ .‬فقال‪ :‬يا أبا عمرو احفظ عني من زعم من أهل نيسابور‪ ،‬وسمى غيرها من‬
‫البلدان بالدا كثيرة‪ ،‬أنني قلت‪ :‬لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإنني لم أقله إال أني قلت أفعال العباد‬
‫مخلوقة‬

‫محنته مع أمير بخارى‬

‫قال أحمد بن منصور الشيرازي‪ :‬لما رجع عبد اهلل البخاري الى بخارى نصبت له قباب على فرسخ‬
‫البلد‪ ،‬واستقبله عامة أهل البلد‪ ،‬حتى لم يبق مذكور‪ ،‬ونثر عليه الدراهم و الدنانير‪ ،‬فبقي مدة ثم وقع‬
‫بينه وبين األمير فأمره بالخروج من بخارى‪ ،‬فخرج الى بيكند‬

‫و قال الحاكم‪ :‬سمعت محمد بن العباس الضبي يقول‪ :‬سمعت أبا بكر بن أبي عمرو يقول‪ :‬كان سبب‬
‫مفارقة أبي عبد اهلل البخاري البلد‪ ،‬أن خالد بن طاهر سأله أن يحضر منزله فيقرأ التاريخ و الجامع‬
‫على أوالده‪ ،‬فامتنع من ذلك‪ .‬وقال‪ :‬ال يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوما آخرين فاستعان خالد‬
‫بحريث ابن أبي الورقاء و غيره من أهل بخارى حتى تكلموا في مذهبه‪ ،‬فنفاه عن البلد‬
‫المرجع ‪ :‬كتاب (( معالم السنة النبوية )) للدكتور عبدالرحمن عتر رحمه اهلل تعالى ‪ ...‬بتصرف‬
‫فتح عينيه على الحياة فوجد العلم يحيط به من كل جانب‪ ،‬وشاهد منذ طفولته حلقات الحديث والفقه‬
‫والتفسير تموج بطالبي العلم حول شيخ أو معلم زاده العلم بهاًء ووقاًر ا‪ ،‬فأحب أن يكون مثل هؤالء‬
‫وتطلعت نفسه إلى تحقيق ذلك‪ ،‬فكان له ما أراد؛ فمأل الدنيا علًم ا‪ ،‬ورددت األلسنة ذكره إعجاًبا‬
‫وإجالًال‪ ،‬أليس هو صاحب صحيح البخاري‪ ،‬إنه اإلمام (محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة)‬
‫اإلمام الحافظ البخاري‪.‬‬

‫ولد بمدينة (بخارى) وهي تقع في جمهورية أوزبكستان سنة ‪194‬هـ‪ ،‬وكان والده عالم كبير يحفظ‬
‫آالف األحاديث النبوية‪ ،‬ورحل في طلب العلم إلى المدينة المنورة‪ ،‬وتتلمذ على أيدي كبار العلماء‬
‫والمحدثين‪ ،‬أمثال‪ :‬مالك بن أنس‪ ،‬وحماد بن زيد وغيرهما‪ ،‬وكان رجال غنًّيا‪ ،‬أنعم اهلل عليه بثروة‬
‫كبيرة كان ينفقها في الخيرات على الفقراء والمساكين‪.‬‬

‫توفي والد البخاري وتركه طفًال مع والدته بعد أن ترك له ماال كثيًر ا وعلًم ا نافًع ا‪ ،‬وظلت أمه تعطف‬
‫عليه وتحيطه بحنانها ورعايتها لتعوضه عن فقد أبيه‪ ،‬وما إن بلغ البخاري سن العاشرة حتى ظهرت‬
‫عليه عالمات الذكاء والتفوق؛ فحفظ القرآن الكريم وكثيًر ا من األحاديث النبوية‪ ،‬وتردد على حلقات‬
‫علماء الحديث في بلده ليتعلم على أيديهم‪ ،‬وعمره إحدى عشرة سنة‪ ،‬وكان مع صغر سنه يصحح‬
‫ألساتذته وشيوخه ما قد يخطئون فيه‪.‬‬
‫ومن ذلك ما روي عنه أنه دخل يوًم ا على أستاذه (الداخلي) فقال الداخلي‪ :‬عن سفيان عن أبي الزبير‬
‫عن إبراهيم‪ ،‬فقال له البخاري‪ :‬إن أبا الزبير لم يرِو عن إبراهيم وقال له‪ :‬ارجع إلى األصل إن كان‬
‫عندك‪ ،‬فدخل فنظر فيه‪ ،‬ثم رجع فقال‪ :‬كيف هو يا غالم؟ فقلت‪ :‬هو الزبير بن عدي عن إبراهيم‪،‬‬
‫فأخذ القلم وأصلح كتابه‪ ،‬وقال لي‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد ساعد البخاري على ذلك حفظه الجيد لألحاديث‪،‬‬
‫وذاكرته القوية والكتب الكثيرة التي تركها له والده‪ ،‬فحفظها ودرسها دراسة جيدة‪ ،‬وأصبح البخاري‬
‫‪-‬ذلك الغالم الصغير‪ -‬يحترمه الشيوخ ويقدرونه حق قدره‪ ،‬وِلَم ال‪ ،‬وهو يحفظ في هذه السن كتب ابن‬
‫المبارك ووكيع بن الجراح وهما من أئمة الحديث النبوي وكثير من األحاديث؟!‬

‫فقد قرأ على زمالئه خمسة عشر ألف حديث عن ظهر قلب‪ ،‬وفي كل يوم كان البخاري يزداد علًم ا‪،‬‬
‫وكان مشايخه يأملون له خيًر ا ويتوقعون له مستقبال كريًم ا‪ ،‬وكان من الممكن أن يقنع الفتي الصغير‬
‫بذلك القدر من العلم‪ ،‬ولكنه رحل مع والدته وأخيه األكبر أحمد إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج‬
‫وعمره ستة عشر عاًم ا ولما أدى الفريضة استقر هناك يتعلم الحديث على أيدي علماء مكة‬
‫وشيوخها‪ ،‬ثم رحل إلى المدينة المنورة فزار قبر الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫وظل في المدينة المنورة سنة‪ ،‬ثم رحل إلى البصرة ليسمع الحديث‪ ،‬ومكث بها خمس سنوات‪ ،‬كان‬
‫يتردد فيها على مكة المكرمة في مواسم الحج؛ ليلتقي فيها بعلماء المسلمين‪ ،‬وظل البخاري ينتقل في‬
‫بالد اإلسالم لطلب العلم‪.‬‬

‫يقول البخاري عن نفسه‪ :‬لقيت أكثر من ألف رجل‪ ،‬أهل الحجاز والعراق والشام ومصر لقيتهم‬
‫مرات؟ أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين‪ ،‬وأهل البصرة أربع مرات‪ ،‬ومكثت بالحجاز ستة‬
‫أعوام‪ ،‬وال أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محِّد ثي خراسان‪.‬‬
‫كتب البخاري الحديث وسمعه عن ألف وثمانين من الشيوخ وحفاظ الحديث‪ ،‬وكان يدِّو ن األحاديث‬
‫الصحيحة‪ ،‬ويترك األحاديث التي يشك في أن الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قالها‪ ،‬وقد أدهش‬
‫البخاري العلماَء والشيوَخ لسرعة حفظه لألحاديث حتى ظنوه يشرب دواًء للحفظ‪ ،‬فقد كان البخاري‬
‫ينظر إلى الكتاب مرًة واحدة فيحفظ ما فيه من أحاديث ال يستطيع غيره أن يحفظها في شهور عديدة‪.‬‬

‫وفي أحد رحالته إلى بغداد أراد العلماء أن يختبروه فاجتمعوا واختاروا مائة حديث‪ ،‬وقلبوا متونها‬
‫وأسانيدها أي أسندوا األحاديث إلى غير رواتها‪ ،‬ليمتحنوا حفظه‪ ،‬ودفعوا إلى كل واحد عشرة‬
‫أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس‪ ،‬فقام أحدهم فسأل البخاري عن حديث من عشرته‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ال أعرفه‪ ،‬وسأله عن آخر فقال‪ :‬ال أعرفه وهكذا حتى فرغ من أحاديثه العشرة‪ ،‬ثم قام آخر فسأل‬
‫البخاري‪ ،‬وكذلك الثالث والرابع إلى آخر العشرة‪..‬‬

‫فلما فرغوا التفت البخاري إلى األول منهم فقال له‪ :‬أما أحاديثك‪ :‬فاألول قلت كذا وصحته كذا‪،‬‬
‫والثاني قلت كذا وصحته كذا ‪ ...‬إلى آخر العشرة أحاديث؛ وفعل باآلخرين مثل ذلك‪ ،‬عندئذ أقر له‬
‫الناس بالحفظ‪.‬‬

‫وكان البخاري عالًم ا كبيًر ا إذ كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح‪ ،‬ومائتي ألف حديث غير صحيح‪،‬‬
‫مما جعل عشرات اآلالف من طالب العلم يلتفوا حوله؛ لينهلوا منه ويتتلمذوا عليه‪ ،‬ومن أشهرهم‬
‫اإلمام مسلم صاحب كتاب الجامع الصحيح‪ ،‬وقد أثني العلماء على البخاري‪ ،‬فقال ابن خزيمة‪ :‬ما‬
‫تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري‪ ..‬وقال قتيبة بن سعيد‪ :‬جالست‬
‫الفقهاء والعباد والزهاد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل (البخاري) وهو في زمانه كعمر‬
‫في الصحابة ‪.‬‬
‫وكان البخاري كثير العبادة هلل ‪-‬عز وجل‪ -‬يجتمع مع أصحابه في أول شهر رمضان‪ ،‬فيصلى بهم‬
‫ويقرأ في كل ركعة عشرين آية‪ ،‬ويظل هكذا إلى أن يختم القرآن‪ ،‬وكان يقرأ في السحر ما بين‬
‫النصف إلى الثلث من القرآن‪ ،‬وكان يختم بالنهار في كل يوم ختمة ويقول‪ :‬عند كل ختمة دعوة‬
‫مستجابة‪ ،‬وكذلك كان ينفق من أمواله الكثيرة التي ورثها عن أبيه على الفقراء من المسلمين‪ ،‬وتعلم‬
‫البخاري رمي السهام‪ ،‬ولم يشغله طلب العلم عن ذلك‪ ،‬بل إنه كان يرى ذلك واجًبا على كل مسلم؛‬
‫حتى يستطيع الدفاع عن ديار المسلمين‪.‬‬

‫وعاد البخاري إلى بلدته (بخارى) فاستقبله أهلها أروع استقبال‪ ،‬ومن فرحتهم الشديدة بقدومه نثروا‬
‫عليه الدراهم والدنانير‪ ،‬فعقد جلسات للعلم في مسجده ومنزله ليورث علمه للمسلمين‪ ،‬ولم يبخل‬
‫البخاري بعلمه على أحد‪ ،‬غير أن أمير بخارى (خالد بن أحمد) طلب منه أن يأتيه بكتبه؛ حتى‬
‫يسمعها له وألوالده في قصره وحدهم‪ ،‬فرفض البخاري أن يستجيب لطلبه‪ ،‬وقال‪ :‬من أراد أن يتعلم‬
‫فليأت إلى مجلس العلم‪ ،‬فالعلم يؤتى له وال يأتي‪ ،‬وال يمكنني أن أحرم الناس اآلخرين من علمي‪،‬‬
‫وقال لرسول األمير قل له‪ :‬إني ال أذل العلم وال أحمله إلى أبواب السالطين فإن كان له إلَّي شيء‬
‫منه حاجة فليحضر في مسجدي أو في داري‪ ،‬وإن لم يعجبه هذا فإنه سلطان فليمنعني من الجلوس‪،‬‬
‫ليكون لي ُع ذر عند اهلل يوم القيامة لئال أكتم العلم‪.‬‬

‫وظل اإلمام البخاري عزيًز ا كريًم ا‪ ،‬ال يخضع ألحد مهما كان مركزه وقدره‪ ،‬فأحبه الناس‪ ،‬وأراه اهلل‬
‫في حياته قبل مماته منزلته ومكانته‪ ،‬حيث كان الناس ينصرونه بأنفسهم حفًظ ا للعلم والعلماء‪ ،‬وكتب‬
‫إليه أهل بغداد يوًم ا قائلين‪:‬‬

‫المْس ِلَم وَن ِبَخ ْيِر َم ا َبِقيَت َلَهْم‬


‫َو َلْيَس َبْع َد َك َخ ْيٌر ِح يَن ُتْف َتَقُد‬
‫وقد كتب اإلمام البخاري الكثير من الكتب النافعة؛ من أشهرها‪ :‬كتابه (الجامع الصحيح) المعروف‬
‫بصحيح البخاري الذي كان يغتسل ويصلى ركعتين هلل قبل أن يكتب أي حديث فيه‪ ،‬وقد كتبه في ست‬
‫عشرة سنة‪ ،‬ويعد أصح كتب الحديث على اإلطالق وألف أيًض ا (التاريخ الكبير) في تراجم رجال‬
‫الحديث‪ ،‬و(األدب المفرد)‪.‬‬

‫وقد توفي البخاري ليلة عيد الفطر سنة ‪256‬هـ بعد أن مأل الدنيا بعلمه وأضاءها بإخالصه‪ ..‬رحم اهلل‬
‫البخاري جزاء ما بذل وقدم‪.‬‬
‫بين أحضان والدين حريصين على تنشئة أبنائهما تنشئة إسالمية صحيحة‪ ،‬ولد عبد الملك بن عبد اهلل‬
‫بن يوسف سنة ‪419‬هـ في جوين (وهي مدينة بين بسطام ونيسابور) ببالد فارس‪ ،‬فوالده (عبد اهلل‬
‫الجويني) كان يعقد في (نيسابور) ببالد فارس المجالس للمناظرة والفتوى‪ ،‬وتعليم الخاصة والعامة‪،‬‬
‫وكان يحب العلم حًّبا شديًد ا حتى إنه كان يدعو ويقول‪( :‬اللهم ال تعقنا عن العلم بعائق وال تمنعنا عنه‬
‫بمانع) وكان زاهًد ا عابًد ا يحرص حرًص ا شديًد ا على أال يقع في الشبهات‪ ،‬حتى إنه كان يحتاط في‬
‫أداء الزكاة فيؤديها في السنة مرتين‪ ،‬خوًفا من النسيان وزيادة في القربى‪.‬‬

‫والزم الطفل الصغير (عبد الملك) والده الفقيه المحدث المتكلم‪ ،‬فتعلم الفقه واللغة العربية على يديه‪،‬‬
‫كما تعلم من والده االلتزام بأخالق اإلسالم كاألمانة والصدق وحب الخير؛ فقد كان والده خير قدوة‬
‫له‪ ،‬وتفوق الجويني على زمالئه ممن كانوا يتعلمون على يد أبيه‪ ،‬ولم يقتصر إمام الحرمين على‬
‫قراءة العلوم اإلسالمية وحدها‪ ،‬بل إنه أخذ يطالع في كل العلوم‪ ،‬يصل ليله بنهاره قراءة واطالًع ا‪.‬‬

‫وقبل أن يبلغ (عبد الملك) سن العشرين أصبح أحد األئمة الكبار‪ ،‬وما إن توفي والده‪ ،‬حتى قعد مكانه‬
‫للتدريس‪ ،‬إال أنه استمر في تحصيل العلم‪ ،‬فكان يذهب إلى (أبي القاسم اإلسفراييني) وهو من العلماء‬
‫الكبار يتعلم منه الفقه واألصول‪ ،‬ويذهب في الوقت نفسه إلى مجالس (عبد اهلل محمد بن علي‬
‫النيسابوري الخبازي) ليتلقى عنه علوم القرآن‪.‬‬
‫وظل طوال الفترة التي أقامها بنيسابور يدرس علوم الدين‪ ،‬وكان بارًع ا في مناظرة الخصوم‪،‬‬
‫يحاورهم في ذكاء شديد‪ ،‬وال يبغي من وراء ذلك إال إظهار الحق‪ ،‬إال أن أعداءه أخذوا يكيدون له‪،‬‬
‫فترك (نيسابور) إلى بغداد واشتهر هناك‪ ،‬ووفد إليه الناس من كل مكان للتعلم على يديه‪ ،‬لكنه لم يقم‬
‫بها طويًال‪ ،‬وإنما توجه إلى مكة‪ ،‬وظل بها أربع سنوات تفرغ فيها للعلم والعبادة ينشر العلم‪ ،‬ويلقي‬
‫الدروس‪ ،‬ويجمع طرق المذهب الشافعي‪ ،‬وكانت هذه الفترة سبًبا في تسميته بإمام الحرمين تكريًم ا‬
‫له واعتزاًز ا بمجهوده وقدره‪.‬‬

‫وكان يقضي نهاره في تعليم الناس‪ ،‬وهدايتهم إلى طريق الحق والنور‪ ،‬ويقضي ليله بجوار الكعبة‬
‫الشريفة في عبادة اهلل‪ ،‬وبعد أن قضى أربع سنوات في مكة رجع إمام الحرمين إلى (نيسابور) وقام‬
‫بالتدريس بالمدرسة النظامية‪ ،‬التي بناها له الوزير (نظام الملك) ليتولى الجويني التدريس بها لما‬
‫علمه عنه من رسوخ في العلم ونبوغ لم يتوافر لغيره‪ ،‬وظل بها نحو ثالثين سنة‪ ،‬وجاء إليه‬
‫الكثيرون من شتى البالد يطلبون العلم على يديه‪ ،‬ومن أشهر تالميذه‪ :‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬والكيا‬
‫الهراسي‪ ،‬وعبد الغافر بن إسماعيل الفارسي‪.‬‬

‫وقد ترك (الجويني) مؤلفات عديدة من أهمها‪ :‬كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) وهو كتاب‬
‫كبير في الفقه الشافعي و(البرهان في أصول الفقه) و(اإلرشاد في أصول الدين) و(الرسالة النظامية)‬
‫ومن كتبه أيًض ا‪( :‬غياث األمم في التياث الظلم) في الفقه السياسي اإلسالمي و(الورقات) في أصول‬
‫الفقه وأدلته‪ ..‬وغيرها من الكتب المهمة‪ ،‬وقد مرض إمام الحرمين في أيامه األخيرة‪ ،‬وتوفي وله من‬
‫العمر ‪ 59‬سنة‪ ،‬وكان ذلك سنة ‪478‬هـ‪.‬‬
‫قال له اإلمام مالك‪ :‬إن اهلل تعالى قد ألقى في قلبك نوًر ا فال تطفئه بالمعصية‪ ،‬واتق اهلل فإنه سيكون‬
‫لك شأن!!‬

‫في غزة بأرض فلسطين سنة ‪150‬هـ‪ ،‬وضعت (فاطمة بنت عبد اهلل األزدية) مولودها (محمد بن‬
‫إدريس الشافعي) في نفس العام الذي توفي فيه اإلمام (أبو حنيفة) ليموت عالم ويولد عالم‪ ،‬يمأل‬
‫األرض علًم ا ويحيي سنة رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ويلتقي الشافعي مع الرسول ‪-‬صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ -‬في الجِّد األعلى‪.‬‬

‫فتح الشافعي عينيه على الحياة‪ ،‬فلم يجد والده بجانبه‪ ،‬حيث مات بعد والدته بزمن قصير‪ ،‬فنشأ يتيًم ا‪،‬‬
‫لكن أمه الطاهرة عوضته بحنانها عن فقدان أبيه‪ ،‬وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن سنتين‪ ،‬ففيها أهله‬
‫وعشيرته وعلماء اإلسالم‪ ،‬وظلت تربيه تربية صالحة‪ ،‬وترعاه‪ ،‬وتأمل أن يكون من العلماء‬
‫الصالحين؛ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‪.‬‬

‫حفظ الشافعي القرآن الكريم وسنه سبع سنين‪ ،‬ثم شرع في حفظ أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وأمه تشجعه وتشد من أزره وتحنو عليه‪ ،‬ولما كان الشافعي ال يقوى على دفع أجر المحفظ أو‬
‫شراء الورق الذي يسجل فيه محفوظاته؛ كان يطوف شوارع وطرقات مكة يجمع قطع الجلود‬
‫وسعف النخيل وعظام الجمال ليكتب عليها!!‬

‫وكما أتقن الشافعي تحصيل العلم أتقن الرمي‪ ،‬حتى كان يرمي عشرة سهام‪ ،‬فال يخطئ في سهم‬
‫واحد منها‪ ،‬ثم أرسلته أمه إلى قبيلة (هذيل) في البادية‪ ،‬وهي قبيلة معروفة بالفصاحة والبالغة؛‬
‫فمكث بينهم سبع سنين يتعلم لغتهم‪ ،‬ويحفظ‬

‫أشعارهم‪ ،‬حتى عاد إلى مكة فصيح اللسان‪ ،‬ينشد األشعار‪ ،‬ويذكر اآلداب وأخبار العرب إلى أن‬
‫اتجه إلى طريق الفقه والحديث‪ ،‬فرحل الشافعي إلى مدينة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ليلتقي‬
‫بعالم المدينة اإلمام (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة‪ ،‬ولما التقي به قال له اإلمام مالك‪ :‬إن اهلل تعالى‬
‫قد ألقى على قلبك نوًر ا‪ ،‬فال تطفئه بالمعصية‪ ،‬واتق اهلل فإنه سيكون لك شأن‪.‬‬
‫وأخذ الشافعي بتلك النصيحة الغالية‪ ،‬فما مال إلى شٍّر ‪ ،‬وال جنح إلى لهو أو مجون‪ ،‬بل كان قانًع ا بما‬
‫قسم اهلل له‪ ،‬يرضى بالقليل‪ ،‬ويقنع باليسير‪ ،‬ويزداد زهًد ا كلما وقف على قيمة الدنيا‪ ،‬ويعيش في‬
‫محراب الحق مسبًح ا مناجًيا‪ ،‬يعبد اهلل بلسانه وقلبه‪ ،‬وظل الشافعي يتتلمذ على يد اإلمام (مالك) حتى‬
‫انتقل عالم المدينة إلى جوار ربه‪ ،‬لكن الشافعي رحل من بلد إلى أخرى‪ ،‬يتعلم على أيدي علمائها‬
‫وشيوخها‪ ،‬فتعلم في العراق على يد (محمد بن الحسن) تلميذ أبي حنيفة وغيره‪ ،‬وهناك ظهرت‬
‫صالبة الشافعي وقوته وقدرته على التحمل والصبر؛ حيث إن بعض الوشاة قد اتهموه عند أمير‬
‫المؤمنين (هارون الرشيد) بالتشيع ومناصرة العلويين‪ ،‬ولكنه استطاع بثقته في اهلل ورباطة جأشه أن‬
‫ينفي هذه التهمة عن نفسه‪.‬‬

‫ثم ترك بغداد إلى مكة حيث تعلم على يد (مسلم بن خالد الزنجي) و(سفيان بن عيينة) وفي الحرم‬
‫المكي أخذ الشافعي يلقي دروسه‪ ،‬وحضر مجلسه أناس من جميع األقطار والبلدان‪ ،‬والتقى به كبار‬
‫العلماء وخاصة في مواسم الحج‪ ،‬ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة ‪195‬هـ‪ ،‬وكان له بها مجلس علم‬
‫يحضره العلماء يستزيدون من‬

‫علمه‪ ،‬ويقصده الطالب من كل مكان‪.‬‬

‫وجاء الشافعي إلى مصر في عام ‪198‬هـ‪ ،‬لينشر مذهبه فيها‪ ،‬وليبتعد عن جو االضطرابات السياسية‬
‫في العراق‪ ،‬وألقى دروسه بجامع (عمرو بن العاص) وأحبه المصريون وأحبهم‪ ،‬وبقي في (مصر)‬
‫خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم ومن أشهر مؤلفاته‪:‬‬
‫كتاب (األم) في الفقه‪ ،‬وكتاب (الرسالة) في أصول الفقه‪ ،‬وهو ُيعُّد أول كتاب ُيصنف في هذا العلم‪.‬‬

‫وقد لقي الشافعي تقديًر ا كبيًر ا من فقهاء عصره ومن بعدهم‪ ،‬سأل عبد اهلل بن‬

‫أحمد بن حنبل والده عن الشافعي فقال‪ :‬يا بني‪ ،‬كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن‪.‬‬

‫وقيل فيه ‪:‬‬

‫وَم ْن َيُك ِع لُم الشافعي إَم امَه‬

‫فمرتعه في باحة العلم واسع‬


‫وكان أحمد بن حنبل ‪-‬أحد تالميذه‪ -‬يحرص على أال يفوته درس الشافعي‪ ،‬ويقول ألحد أصحابه‪( :‬يا‬
‫أبا يعقوب‪ ،‬اقتبس من الرجل‪ ،‬فإنه ما رأت عيناي مثله) وكان (سفيان بن عيينة) أستاذ الشافعي‬
‫يستفسر منه عن بعض األحكام الفقهية التي لم يقف عليها‪.‬‬

‫وكان الشافعي يقضي الساعات الطوال في دروس متصلة‪ ،‬ينتقل من علم إلى‬

‫علم‪ ،‬يجلس في حلقته إذا صلى الفجر‪ ،‬فيأتيه من يريدون تعلم القرآن‪ ،‬فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء‬
‫طالب الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه‪ ،‬فإذا انتهوا جاء بعدهم من يريدون تعلم العربية والعروض‬
‫والنحو الشعر‪ ،‬ويستمر الشافعي في دروسه من بعد صالة الفجر حتى صالة الظهر!!‬

‫وكما كان الشافعي فقيًها ومحدًثا كبيًر ا‪ ،‬كان أيًض ا شاعًر ا رقيًقا فاض شعره بالتقرب إلى اهلل‪ ،‬فها هو‬
‫ذا يستغفر اهلل ويدعوه قائال‪:‬‬

‫ولما َقسا َقْلبي وضاَقْت مذاهبي‬

‫جعلُت رجائي نحو عفِو ك ُس َّلًم ا‬


‫تعاَظ َم ني َذ نْبي فلَّما ِقَر ْنُتُه‬

‫بعْف ِو َك رِّبي كان عُفوك َأْع َظ ما‬

‫ويوصي الشافعي من خالل شعره بأال نرد على السفيه قائًال‪:‬‬

‫إذا نطق السفيه فال تجبه‬

‫فخير من إجابته السكوت‬

‫فإن كلمته فرجت عنه‬

‫وإن خليته كمًد ا يموت‬

‫ويصور عزة نفسه‪ ،‬وإن كانت ثيابه قديمه بالية‪ ،‬فتحتها نفس أبية عزيزة غالية ال مثيل لها فيقول‪:‬‬

‫علَّي ثياب لو يباع جميعها‬

‫بفلس لكان الفلس منهن أْكَثرا‬

‫وفيهن نفٌس لو ُيقاُس ببْعِض ها‬


‫ْك‬ ‫َّل‬
‫نفوٌس الورى كانت أجَّل وأْك َبرا‬

‫ومرض الشافعي‪ ،‬وقربت ساعة وفاته؛ فدخل عليه أحد أصحابه وقال له‪ :‬كيف أصبحت؟ فأجاب‬
‫الشافعي‪ :‬أصبحت من الدنيا راحًال‪ ،‬وإلخواني مفارًقا‪ ،‬ومن كأس المنية شارًبا‪ ،‬ولسوء عملي مالقًيا‪،‬‬
‫وعلى الكريم سبحانه وارًد ا‪ ،‬وال واهلل ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها‪.‬‬
‫ومات الشافعي ليلة الجمعة من آخر رجب عام ‪204‬هـ‪ ،‬وبعد صالة العصر خرجت الجنازة من بيت‬
‫الشافعي (بمصر) مخترقة شوارع الفسطاط وأسواقها‪ ،‬حتى وصلت إلى درب السباع؛ حيث أمرت‬
‫السيدة نفيسة ‪-‬رضي اهلل عنها‪ -‬بإدخال النعش إلى بيتها‪ ،‬ثم نزلت إلى فناء الدار وصلت عليه صالة‬
‫الجنازة‪ ،‬وقالت‪ :‬رحم اهلل الشافعي إنه كان يحسن الوضوء‪.‬‬
‫في بالد (طبرستان)‪ ..‬بالد العلم واألدب والفقه‪ ،‬وفي أجمل مدنها‪..‬مدينة (آُمل) العريقة عاصمة‬
‫طبرستان‪ ،‬والتي تقع اآلن في دولة أذربيجان‪ ،‬جنوب بحر قزوين‪ُ ،‬و لد حَّج ة العلوم‪ ،‬وعالم العلماء‬
‫في عصره‪ ،‬اإلمام (محمد بن جرير الطبري) سنة ‪224‬هـ‪ ،‬وُلقب بالطبري ألن أهل طبرستان جميًع ا‬
‫ُيْنَس بون إليها؛ فيقال لكل واحد منهم طبري‪ ،‬فكان أهل طبرستان كثيري الحروب‪ ،‬فكان كل منهم‬
‫يحمل سالحه في يده‪ ،‬وهو نوع من األشجار يسمى (الطبر)‪.‬‬

‫لم يكد الطبري يبلغ السن التي تؤهله للتعلم حتى عهد به والده إلى علماء (آُمل) وسرعان ما تفتح‬
‫عقله‪ ،‬وبدت عليه عالمات النبوغ‪ ،‬فكان هذا النبوغ المبكر حافًز ا ألبيه على إكمال تعليم ابنه‪،‬‬
‫وبخاصة أنه رأى رؤية تفاءل من تأويلها‪ ،‬قال الطبري‪( :‬رأى أبي في النوم أنني بين يدي رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومعي ِمخالة مملوءٌة باألحجار‪ ،‬وأنا أرمي بين يديه) وقَّص رؤياه على مفسر‬
‫لألحالم‪ ،‬فقال له‪ :‬إن ابنك إن كبر نصح في دينه‪ ،‬ودافع عن شريعته‪ ،‬فحرص أبي على معونتي من‬
‫أجل طلب العلم وأنا حينئذ صبي صغير‪.‬‬

‫أخذ ابن جرير الطبري يرحل في طلب العلم‪ ،‬فتعلم الفقه ببغداد‪ ،‬والمغازي والسير في الكوفة‪ ،‬ثم‬
‫توجه ناحية مصر‪ ،‬وفي طريقه إليها مَّر ببيروت‪ ،‬وقضى بها عدة أيام حتى قرأ القرآن برواية‬
‫الشاميين‪ ،‬ثم واصل مسيرته‪ ،‬وفي مصر تلقى الطبري العلم‪ ،‬فأخذ من علمائها قراءة (حمزة)‬
‫(َوَو ْر ش) ثم عاد إلى بغداد مرة أخرى‪ ،‬وانقطع للعلم والدراسة والتأليف في كثير من األوقات‪ ،‬وكان‬
‫يتاجر بقية الوقت ليأتي برزقه‪.‬‬

‫وكان الطبري عالي الهمة‪،‬عظيم االجتهاد؛ ومما يحكى عنه‪ :‬أن رجًال جاءه يسأله في الَع ُر وض‬
‫(وهو علم يعرف به الشعر من النثر) ولم يكن الطبري له إلمام كبير بهذا العلم فقال له‪ :‬علي قوٌل أال‬
‫أتكلم اليوم في شيء من العروض‪ ،‬فإذا كان في غد فتعاَل إلي‪ ،‬ثم طلب أبو جعفر كتاب العروض‪،‬‬
‫فتدارسه في ليلته‪ ،‬وقال‪ :‬أمسيت غير َع ُر وضي‪ ،‬وأصبحت عروضًّيا‪.‬‬
‫وقد تمكن ابن جرير من نواحي العلم‪ ،‬وأدلى بدلوه فيها‪ ،‬حتى أصبح إمام عصره بغير منازع‪ ،‬وقد‬
‫قيل عنه‪ :‬كان كالقارئ الذي ال يعرف إال القرآن‪ ،‬وكالمحدث الذي ال يعرف إال الحديث‪ ،‬وكالفقيه‬
‫الذي ال يعرف إال الفقه‪ ،‬وكالنحوي الذي ال يعرف إال النحو‪ ..‬وظل الطبري أربعين عاًم ا يكتب كل‬
‫يوم أربعين ورقة‪ ،‬قاصًد ا بذلك وجه اهلل‪ ،‬بما ينفع به اإلسالم والمسلمين‪ ،‬وكان رحمه اهلل من العباد‬
‫الزهاد‪ ،‬يقوم الليل‪ ،‬نظيًفا في ظاهره وباطنه‪ ،‬ظريًفا‪ ،‬حسن العشرة‪ ،‬مهذًبا في جميع أحواله‪.‬‬
‫من مؤلفاته العظيمة‪( :‬تفسير القرآن) المعروف بتفسير الطبري في ‪ 30‬جزًء ا‪ ،‬وهو من أجِّل‬
‫التفاسير وأعظمها‪ ،‬و(تاريخ الرسل والملوك) في ‪ 11‬مجلًد ا‪ ،‬وهو يعد َأْو َفى عمل تاريخي بين‬
‫مصنفات العرب‪ ،‬و(لطيف القول في أحكام شرائع اإلسالم)‪ ..‬وغير ذلك الكثير‪ ..‬وفي يوم السبت‬
‫ليومين بقيا من شوال سنة ‪310‬هـ فاضت روحه إلى بارئها‪ ،‬تارًك ا للمسلمين تراًثا علمًّيا ضخًم ا‪ ،‬نفع‬
‫اإلسالم والمسلمين‪ ،‬فجزاه اهلل خير الجزاء‪.‬‬
‫الخشية من اهلل والبكاء يالزمانه‪ ،‬ال ُيرى إال وعيناٍه تفيض من الدمع‪ ،‬كلما ذكر اسم اهلل تعالى عنده‬
‫ظهر عليه الخوف والوجل‪ ،‬وارتعشت كل أعضاء جسده‪ ،‬ترى من يكون هذا الرجل الذي غمر‬
‫اإليمان قلبه ؟!‬

‫كان عاصًيا فتاب اهلل عليه‪ ،‬وجعله من عباده المؤمنين‪ ،‬تحول من قاطع طريق يروع اآلمنين إلى‬
‫عابد زاهد‪ ،‬وكان سبب توبته؛ أنه كان يتسلق جدران أحد المنازل بالليل؛ فسمع صوًتا يتلو قوله‬
‫تعالي‪{ :‬ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اهلل وما نزل من الحق} [الحديد‪ ]16 :‬فلما سمعها‬
‫قال‪ :‬بلي يا رب‪ ،‬قد آن‪.‬‬

‫فرجع فمَّر على أرض خربة‪ ،‬فوجد بها قوًم ا‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬نرحل‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬ننتظر حتى‬
‫نصبح‪ ،‬فإن الفضيل يقطع علينا الطريق‪ ،‬قال (أي‪ :‬الفضيل)‪ :‬ففكرت وقلت‪ :‬أنا أسعى بالليل في‬
‫المعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني !! وما أرى اهلل ساقني إليهم إال ألرتدع (أي أن اهلل قدر‬
‫لي أن آتي إلى هذا المكان ألتوب وأرجع إليه) اللهم إني قد تبت إليك‪ ،‬وجعلت توبتي مجاورة البيت‬
‫الحرام‪ ..‬لقد جعل مظاهر توبته مجاورته لبيت اهلل حيث الرحمة والبركة‪ ،‬يدعو اهلل ويستغفره‪ ،‬ويندم‬
‫على ما فرط في حقه‪.‬‬

‫في أرض خراسان ولد (الفضيل بن عياض) ثم رحل إلى الكوفة في العراق‪ ،‬فسمع األحاديث النبوية‬
‫الشريفة والفقه من العلماء؛ أمثال (األعمش) و(يحيي بن سعيد األنصاري) و(جعفر الصادق) فأثرت‬
‫تأثيًر ا كبيًر ا في شخصيته‪ ،‬حتى أصبح من الزهاد الذين يرون أن الدنيا ال تساوي عند اهلل جناح‬
‫بعوضة‪ ،‬وال تستحق أن يتكالب الناس عليها‪ ،‬ويتصارعون من أجلها‪ ،‬فهي فانية زائلة‪ ،‬بل األولى‬
‫أن يعمل الناس‬

‫ألخراهم‪ ،‬فهي الباقية الدائمة بفعل الخير‪ ،‬وتجنب المعاصي‪ ،‬ثم انتقل إلى مكة وأقام بها حتى توفي‪.‬‬

‫وكان إذا خرج في جنازة مع الناس‪ ،‬يعظهم ويذكرهم باآلخرة‪ ،‬حتى إذا وصل إلى المقبرة‪ ،‬جلس في‬
‫حزن شديد‪ ،‬وظل يبكي وال ينقطع بكاؤه‪ ،‬سأله الخليفة‬
‫(هارون الرشيد) ما هي صفات المؤمن أيها الزاهد؟ فقال له الفضيل‪ :‬صفات‬

‫المؤمن؛ صبر كثير‪ ،‬ونعيم طويل‪ ،‬وعجلة قليلة‪ ،‬وندامة طويلة‪.‬‬

‫ومَّر الفضيل بن عياض على جماعة أغنياء‪ ،‬فوجدهم يلعبون ويشربون ويلهون؛ فقال لهم بصوت‬
‫عال‪ :‬إن مفتاح الخير كله هو الزهد في الدنيا‪ ،‬وقد سأله أحدهم‪ :‬وما الزهد في الدنيا ؟ فقال‪ :‬القناعة‬
‫والرضا وهما الغنى الحقيقي‪ ،‬فليس الغنى في كثرة المال والعيال‪ ،‬إنما الغنى غنى النفس بالقناعة‬
‫والرضا في الدنيا‪ ،‬حتى نفوز في اآلخرة‪ ،‬ثم توجه إلى اهلل داعًيا‪ :‬اللهم زهدنا في الدنيا‪ ،‬فإنه صالح‬
‫قلوبنا وأعمالنا وجميع طلباتنا ونجاح حاجتنا‪.‬‬

‫وحَّج هارون الرشيد ذات مرة؛ فسأل أحد أصحابه أن يدله على رجل يسأله؛ فدله على الفضيل‪،‬‬
‫فذهبا إليه‪ ،‬فقابلهما الفضيل وقال للرشيد‪ :‬إن عمر بن عبد العزيز لما وِّلي الخالفة دعا أناًس ا من‬
‫الصالحين فقال لهم‪ :‬إني قد ابتليت بهذا البالء‬

‫(يعني الحكم) فأشيروا علي‪ ..‬فعَّد عمر الخالفة بالء‪ ،‬وعددتها أنت وأصحابك‬

‫نعمة‪ ،‬فبكى الرشيد‪ ،‬فقال له صاحب الرشيد‪ :‬ارفق بأمير المؤمنين‪ ،‬فقال الفضيل‪ :‬تقتله أنت‬
‫وأصحابك وأرفق به أنا ؟ (يقصد أن عدم نصحه كقتله) فقال له الرشيد‪ :‬زدني يرحمك اهلل‪..‬‬

‫فأخذ يعظه وينصحه‪ ،‬ثم قال له‪ :‬يا حسن الوجه أنت الذي يسألك اهلل عن هذا الخلق يوم القيامة‪ ،‬فإن‬
‫استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل‪ ،‬وإياك أن تصبح‬

‫وتمسي وفي قلبك غش ألحد من رعيتك‪ ،‬فإن النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‪:‬‬

‫(ما من واٍل يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاٌش لهم إال َح َّر َم اهلل عليه الجنة) [متفق عليه]‬
‫فبكي هارون وقال له‪ :‬أعليك دين أقضيه عنك؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬دين لربي لم يحاسبني عليه‪ ،‬والويل لي‬
‫إن ناقشني‪ ،‬فالويل لي إن لم ألهم حجتي‪ ،‬قال‪ :‬إنما أعني من دين العباد‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن ربي لم يأمرني بهذا؛ أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره‪ ،‬فقال الرشيد‪ :‬هذه ألف دينار‬
‫خذها فأنفقها على عيالك وتقَّو بها على عبادة ربك‪ ،‬فقال الفضيل‪ :‬سبحان اهلل‪،‬أنا أدلك على طريق‬
‫النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا‪ ،‬سَّلمك اهلل ووَّفقك‪ ،‬ثم صمت فلم يكلمنا؛ فخرج الرشيد وصاحبه‪،‬‬
‫وكان الفضيل شديد التواضع‪ ،‬يشعر دائًم ا بأنه مقصر في حق اهلل‪ ،‬رغم كثرة صالته وعبادته‪.‬‬

‫وتمضي األيام‪ ،‬ويتقدم السن بالفضيل بن عياض وذات مرة كان بعض الناس جلوًس ا عنده‪ ،‬فقالوا له‪:‬‬
‫كم سنك ؟ فقال‪:‬‬

‫بلغُت الَّثمانين أوُج ْز تَه ا‬

‫َفَم اذا ُأؤِّم ُل َأو َأَْنتِظ ْر‬

‫َع َلْتني الِّس ُنون فأْبَلْينَني‬

‫َفَد َّق الِعظاُم َو َك َّل الَبَص ْر‬

‫ومرض الفضيل‪ ،‬فُس ِمع يقول‪ :‬ارحمني بحبي إياك‪ ،‬فليس شيء أحب إلي منك‪ ،‬وأقام الزاهد العابد‬
‫الفضيل بن عياض بـ(مكة) حتى توفي عام ‪187‬هـ وأطلق عليه‬

‫هناك (شيخ الحرم المكي‬


‫هلل درك يا إمام‪ ..‬لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم‪ :‬العلم‪ ،‬والعمل‪ ،‬والزهد والورع‪.‬‬

‫في سنة ‪94‬هـ‪ ،‬وفي أحد أيامها المباركة ولد الليث بن سعد‪ ،‬في قرية (قرقشندة) من قرى مصر‪،‬‬
‫ونشأ ذلك الطفل بين ربوع تلك القرية‪ ،‬فوجد األطفال يتعلمون القراءة والكتابة ويحفظون القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬فأسرع الليث إلى منزله‪ ،‬وأحضر أوراقه وقلمه‪ ،‬وبدأ يحفظ القرآن الكريم‪ ،‬ثم درس الحديث‬
‫والفقه والعلوم العربية‪ ،‬فسبق زمالءه‪ ،‬وساعده على ذلك نبوغه المبكر‪ ،‬وذكاؤه الفريد‪.‬‬

‫واصل الليث الدراسة والتعلم والحفظ‪ ،‬فكان كلما قرأ شيًئا في الفقه أو الحديث َع َلَق بذاكرته وحفظه‬
‫فال ينساه أبًد ا‪ ،‬فقد كان قوي الذاكرة‪ ،‬جيد الحفظ‪ ،‬ولفت الفتى الليث األنظار إليه بعلمه وورعه‪،‬‬
‫وأصبحت له مكانة كبيرة بين أهله‪ ،‬يعرفون فضله‪ ،‬ويقدمونه على من سواه‪ ،‬ولكن الفتى لم يغتَّر‬
‫بهذه الشهرة‪ ،‬ولم يخلد إليها وال إلى التقدير الذي كان له وسط العلماء‪ ،‬بل استمر يتعلم ويتزود‬
‫وينهل من غيره من العلماء‪ ،‬حتى صار أستاًذ ا يدرس للعلماء‪.‬‬

‫واشتاقت نفس الليث يوًم ا لزيارة بيت اهلل الحرام وزيارة المصطفى ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فشَّد‬
‫رحاله وأعد نفسه للسفر‪ ،‬وهناك في تلك األراضي المقدسة كانت حلقات العلم منتشرة في كل مكان؛‬
‫والتقى هناك بـ(عطاء بن أبي رباح) و(ابن أبي مليكة) و(نافع مولى ابن عمر) و(ابن شهاب‬
‫الزهري)‪ ..‬وغيرهم‪ ،‬فأخذ عنهم ونهل منهم رغم رسوخه في العلم‪ ،‬ومضت األيام والسنون‪ ،‬وأصبح‬
‫الليث شيًخ ا جاوز الخمسين من عمره‪ ،‬وهو ال يمل العلم والتعلم؛ حتى أصبح من كبار العلماء في‬
‫عصره‪.‬‬

‫وكان اإلمام الفقيه الليث بن سعد غنًّيا‪ ،‬ينفق كل سنة على الفقراء والمساكين أكثر من خمسين ألف‬
‫دينار وال يدخر منها شيًئا لنفسه‪ ،‬ويتصدق في كل صالة على ثالثمائة مسكين‪ ،‬ويطعم الناس عسل‬
‫النحل وسمن البقر في الشتاء‪ ،‬واللوز والسكر في الصيف‪.‬‬
‫جاءته امرأة ذات يوم وقالت له‪ :‬يا شيخنا‪ ،‬إن لي ابًنا مريًض ا يشتهي أكل العسل‪ ،‬فقال الليث‪ :‬يا‬
‫غالم‪ ،‬أعطها مرًط ا من عسل (والمرط‪ :‬مائة وعشرون رطًال) وكان مع المرأة إناء صغير الحجم‪،‬‬
‫فلما رآه الغالم قال‪ :‬يا شيخنا إنها تطلب قليًال من العسل‪ ،‬فقال الليث‪ :‬إنها طلبت على َقْد ِر َه ا ونحن‬
‫نعطيها على قدرنا‪ ،‬وأمره أن يعطيها المرط‪.‬‬

‫ولم يكن الليث بن سعد كريًم ا على أهل بلده فحسب‪ ،‬بل كان سخًّيا كريم اليد على اآلخرين‪ ،‬فيحكى‬
‫عنه أنه لما جاء إلى المدينة المنورة بعث إليه اإلمام مالك بن أنس بطبق من الرطب‪ ،‬فلم يشأ الليث‬
‫أن يرد الطبق إلى اإلمام مالك خاوًيا‪ ،‬فوضع في الطبق ألف دينار ورده إليه‪.‬‬

‫وقد شهد له كثير من علماء عصره بعلمه وفضله؛ سئل اإلمام أحمد بن حنبل ذات مرة عن الليث‪،‬‬
‫فقال‪ :‬الليث بن سعد كثير العلم‪ ،‬صحيح الحديث‪ ،‬وقال عنه يحيى بن بكير‪ :‬ما رأيت أحًد ا أكمل من‬
‫الليث بن سعد‪ ،‬كان فقيه البدن‪ ،‬عربي اللسان‪ ،‬يحسن القرآن والنحو‪ ،‬ويحفظ الحديث والشعر‪ ،‬حسن‬
‫المذاكرة‪ ،‬لم َأَر مثله‪.‬‬

‫وقد عرض عليه الخليفة المهدي ذات يوم أن يتولى القضاء‪ ،‬ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم‪،‬‬
‫فرفض وقال‪ :‬إني عاهدت اهلل أال ألي شيًئا‪ ،‬وأعيذ أمير المؤمنين باهلل أال أفي بعهدي‪ ،‬فقال له‬
‫المهدي‪ :‬اهلل‪ ..‬قال الليث‪ :‬اهلل‪ ..‬قال المهدي‪ :‬انطلق فقد أعفيتك‪ ،‬وكان الليث زاهًد ا في حكام الدنيا‪،‬‬
‫مشغوًال عن الجاه والسلطان بغرس األخالق العظيمة في نفوس الناس‪ ،‬وكان يصل النهار بالليل في‬
‫العلم والعبادة ليرضي ربه‪.‬‬

‫وفي سنة ‪175‬هـ توفي اإلمام الكبير الليث بن سعد‪ ،‬فحزن الناس عليه حزًنا شديًد ا‪ ،‬وكان الشافعي‬
‫‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬يحب لقاءه‪ ،‬فلم يمهله القدر فوقف يوًم ا على قبره وقال‪ :‬هلل درك يا إمام‪ ،‬لقد حزت‬
‫أربع خصال لم يكملن لعالم‪:‬‬

‫العلم‪ ،‬والعمل‪ ،‬والزهد‪ ،‬والورع‬


‫حفظ اهلل دينك‪ ،‬كما حفظت علينا ديننا)‪ ..‬كلمة قالها الخليفة العباسي (القادر باهلل) وذلك بعد أن قرأ‬
‫كتاًبا للماوردي في الفقه فأعجب به وأثنى عليه‪ ،‬فمن ذلك الرجل الذي حفظ دين اإلسالم؟!‬

‫في شوارع البصرة وفي زمن العباسيين‪ ،‬كان هناك طفل صغير لم يتجاوز الرابعة من عمره‪ ،‬ورث‬
‫عن أبيه صناعة (ماء الورد) يقضي النهار كله أمام أبواب المساجد‪ ،‬يبيع ماء الورد لطالب العلم‬
‫ورواد المدارس مقابل دراهم معدودة‪ ،‬يتقَّو ى بها على متاعب الحياة‪.‬‬

‫وقد أصبح هذا الصبي من قادة الفكر وحملة مشاعل العلم ومن أبرز رجال السياسة‪ ،‬وقاضًيا من‬
‫أعدل القضاة‪ ،‬وأديًبا ناضًج ا ومؤلًفا عظيًم ا في شتى فروع ثقافة أمته‪ ..‬إنه (أبو الحسن علي بن محمد‬
‫بن حبيب البصري البغدادي) الشهير بالماوردي‪ ..‬ولد‬

‫عام ‪364‬هـ‪974-‬م في مدينة البصرة‪ ،‬ونشأ فيها يسقي طالب العلم ماء الورد‪ ،‬ويرتوي من علم‬
‫العلماء المشهورين في زمانه‪ ،‬وظل في البصرة حتى سمع أن عالًم ا ببغداد يقصده الطالب من كافة‬
‫األنحاء هو (أبو حامد اإلسفراييني) فتعلم على يديه الفقه والعلوم الشرعية‪ ،‬وأصبح من مريديه‪،‬‬
‫ومازال يرحل ويتنقل في بالد المسلمين طلًبا للمعرفة حتى عاد إلى بغداد‪ ،‬ليبدأ فيها رحلة الدرس‬
‫والتأليف‪ ،‬يتلقى عنه الطالب القادمون من بالد كثيرة‪.‬‬

‫وتولى الماوردي القضاء في البالد التي رحل إليها‪ ،‬كما تولى وظيفة قاضي القضاة في نيسابور‪،‬‬
‫وذاعت شهرته‪ ،‬ولقب بأقضى القضاة سنة ‪429‬هـ‪ ،‬وكان أول من لقب بذلك في تاريخ اإلسالم‪،‬‬
‫وعلم الماوردي أن توليه القضاء ليس تشريًفا له‪ ،‬ولكنها رسالة وأمانة في عنقه؛ فكان يتمهل قبل أن‬
‫يصدر أحكامه‪ ،‬ويقرأ كتاب اهلل وأحاديث رسوله‪ ،‬حتى ال يضل الطريق؛ فيقضي بحكم فيه ظلم‬
‫ألحد‪ ،‬كما كان جريًئا عادًال‪ ،‬ال تأخذه في اهلل لومة الئم‪ ،‬يحكم بالحق حتى على أولي القربى‬
‫وأصحاب السلطان‪.‬‬
‫فقد أمر الخليفة العباسي أن يلقب (جالل الدين بن بويه) بلقب شاهنشاه األعظم ملك الملوك‪ ،‬واختلف‬
‫الفقهاء ما بين موافق‪ ،‬وغير موافق ألن هذا اللقب ال يجوز إال في حق اهلل‪ ،‬وانحاز عوام الناس إلى‬
‫رأي الفقهاء المانعين‪ ،‬وانتظر الجميع رأي القاضي الماوردي الذي كانت تربطه بجالل الدين‬
‫البويهي صلة ود وصداقة؛ وظهرت شجاعة الماوردي‪ ،‬فانحاز إلى جانب الحق‪ ،‬وضرب مثال فريًد ا‬
‫في الثبات على الحق‪ ،‬فأفتى بالمنع‪ ،‬وأعجب جالل الدين بصدقه وشجاعته فقال له‪( :‬أنا أعلم أنك لو‬
‫حابيت أحًد ا لحابيتني‪ ،‬لما بيني وبينك من أواصر المحبة‪ ،‬وما حملك إال الدين‪ ،‬فزاد بذلك محلك‬
‫عندي)‪.‬‬

‫ولما ذاعت شهرة الماوردي أثناء فترة إقامته ببغداد لما ُع ِر َف عنه من فضل وعلم‪ ،‬وحسن رأي‪،‬‬
‫وجاللة قدر؛ اختير ليكون سفيًر ا بين رجال الدولة في بغداد‪ ،‬وبني بويه في أصبهان من سنة‬
‫‪381‬هـ‪991 /‬م إلى ‪422‬هـ‪1030 /‬م‪ ،‬وكان لقربه من الحياة السياسية في عصره‪ ،‬واختالطه‬
‫باألمراء والوزراء أثر كبير‪ ،‬فقام بكتابة العديد من المؤلفات السياسية الرائعة التي صدرت عن‬
‫خبرة كبيرة ودراسة واسعة مثل (األحكام السلطانية والواليات الدينية) وكانت له مكانة ممتازة عند‬
‫األمراء والملوك في عصره‪ ،‬فكان يتصدر المراسم واالحتفاالت الرسمية‪ ،‬وأسندوا إليه عقد قران‬
‫الخليفة القائم بأمر اهلل على خديجة بنت داود أخي السلطان (طغرلبك) سنة ‪448‬هـ‪.‬‬

‫واشتهر الماوردي بالحلم والوقار واألدب والتعفف عن سؤال غيره‪ ،‬كما عرف عنه التدين والتنزه‬
‫عن اللهو والهزل‪ ،‬وشهد المعاصرون للماوردي بالصالح والتقوى‪ ،‬وهم محقون في ذلك‪ ،‬فقد أخفى‬
‫مؤلفاته عن الناس في عصره خوًفا من أن يكون قد خالطها الرياء وهو يؤلفها‪ ،‬وعهد إلى صديٍق له‬
‫أال يظهرها إال بعد وفاته‪ ،‬وترك الماوردي العديد من المؤلفات منها‪ :‬كتاب في التفسير و(الحاوي)‬
‫في الفقه الشافعي و(قانون الوزارة وسياسة الملك) و(أدب الدنيا والدين)‪.‬‬
‫والماوردي مفكر سياسي إسالمي يعد من أوائل من اهتموا بعلم السياسة وأصول الحكم اإلسالمي‪،‬‬
‫يأخذ أفكاره وآراءه من وحي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة‪ ،‬وظل الماوردي في خدمة العلم‬
‫إلى أن فاضت روحه إلى بارئها في يوم الثالثاء آخر شهر ربيع األول سنة ‪450‬هـ‪ ،‬وحضر جنازته‬
‫جمع من الخطباء والعلماء والقضاة يودعونه إلى مثواه األخير‪.‬‬
‫قال علي بن عبد اهلل ألدربي ‪ :‬من القصص التي وقفت عليها وتأثرت منها جدا هي أنه قام أربعة‬
‫رجال من إحدى الهيئات اإلغاثة في المملكة بالذهاب إلى أدغال أفريقيا لتوزيع المعونات من قبل‬
‫هذه الدولة المباركة المملكة العربية السعودية ‪..‬‬

‫وبعد مسير أربع ساعات على األقدام وبعد أن أضناهم السير مَّر وا على عجوز في خيمة فسلموا‬
‫عليها وأعطوها بعض المعونات فقالت لهم ‪ :‬من أي بالد أنتم فقالوا ‪ :‬نحن من المملكة العربية‬
‫السعودية ‪..‬‬

‫فقالت ‪ :‬بلغوا سالمي للشيخ بن باز ‪ .‬فقالوا ‪ :‬يرحمِك اهلل وما يدري ابن باز عنك في هذه األماكن‬
‫البعيدة ‪.‬‬

‫فقالت ‪ :‬واهلل إنه يرسل لي في كل شهر ألف ريال بعد أن أرسلت له رسالة أطلبه المساعدة والعون‬
‫بعد اهلل عز و جل ‪.‬‬

‫( جريدة المدينة عدد ‪. )13182 :‬‬


‫في مدينة الكوفة‪ ،‬ولد (سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري) أحد األئمة األعالم‬

‫سنة ‪97‬هـ‪ ،‬وتفتحت عينا سفيان على الحياة‪ ،‬فوجد كتب الحديث والفقه تحيط به من كل جانب‪ ،‬فقد‬
‫كان والده من العلماء الكبار الذين يحفظون أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫نشأ سفيان في أسرة فقيرة صالحة تعبد اهلل حق عبادته‪ ،‬وكانت أمه تنظر إليه وهو مازال طفًال‬
‫وتقول له‪( :‬اطلب العلم وأنا أعولك بمغزلي‪ ،‬وإذا كتبت عشرة أحرف‪ ،‬فانظر هل ترى في نفسك‬
‫زيادة في الخير‪ ،‬فإن لم َتَر ذلك فال تتعبن نفسك)‪ ..‬فيالها من أم صالحة!! ال تفكر في الجاه وال‬
‫الثراء‪ ،‬ولكن كل ما كانت ترجوه لولدها أن يتعلم علًم ا نافًع ا يبتغي به وجه اهلل‪ ،‬وبدأ (سفيان) يتعلم‬
‫ويجعل من والده قدوة صالحة له‪ ،‬ويستجيب لرغبة والدته التي أحبها من قلبه‪.‬‬

‫ومرت األيام‪ ،‬وأصبح سفيان شاًّبا فتًّيا‪ ،‬وفي إحدى الليالي أخذ يفكر ويسأل نفسه‪ :‬هل أترك أمي تنفق‬
‫علي؟ البد من الكسب والعمل ‪ ..‬ألن أخلف عشرة آالف درهم أحاسب عليها‪ ،‬أحب إلَّي من أن أحتاج‬
‫إلى الناس؛ فالمال ضروري لإلنسان حتى ولو كان عابًد ا زاهًد ا‪ ،‬ومن أجل ذلك عمل سفيان‬
‫بالتجارة‪ ،‬ولم يكن المال هدفه في الحياة‪ ،‬بل وهب سفيان نفسه للعلم وأخذ يتعلم ويحفظ أحاديث‬
‫رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وأصبح في دنياه ال يطلب إال العلم‪ ،‬فكان يقول‪( :‬الرجل إلى العلم‬
‫أحوج منه إلى الخبز واللحم)‪.‬‬

‫واشتهر سفيان بين الناس بعلمه وزهده وخوفه من اهلل‪ ،‬وظل طالب علم‪ ،‬متواضًع ا يتعلم ويستفيد من‬
‫اآلخرين‪ ،‬يستمع إليهم‪ ،‬ويحفظ ما يقولون‪ ،‬وينشر ما تعلمه على الناس‪ ،‬يأمر بالمعروف‪ ،‬وينهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬ويملي عليهم أحاديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وكان سفيان الثوري إذا لقي شيًخ ا‬
‫سأله‪ :‬هل سمعت من العلم شيًئا؟ ولقد منحه اهلل ذاكرة قوية فحفظ اآلالف من أحاديث رسول اهلل‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬التي كان يحبها أكثر من نفسه‪.‬‬
‫كان ينصح العلماء ويقول لهم‪( :‬األعمال السيئة داء‪ ،‬والعلماء دواء‪ ،‬فإذا فسد العلماء فمن يشفي‬
‫الداء؟!) وكان يقول‪( :‬إذا فسد العلماء‪ ،‬فمن بقي في الدنيا يصلحهم) ثم ينشد‪:‬‬

‫يا معشَر العلماِء يا ِم ْلَح البلْد‬

‫ما يصلح الملَح إذا الملح َفَس ْد‬

‫وبمرور األيام‪ ،‬كانت شهرة سفيان الثوري تزداد في بالد اإلسالم‪ ،‬ويزداد معها احترام الناس له‪،‬‬
‫لخلقه الطيب‪ ،‬وعلمه الغزير‪ ،‬وحبه لرسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وصحابته‪ ،‬حتى إن أحد‬
‫العلماء قال عنه‪ :‬ما رأيت أحًد ا أعلم من سفيان‪ ،‬وال أورع من سفيان‪ ،‬وال أفقه من سفيان‪ ،‬وال أزهد‬
‫من سفيان‪ ،‬وكان الناس يتسابقون إلى مجلسه ويقفون بباب داره في انتظار خروجه‪ ..‬قال عنه شعبة‬
‫وغيره‪ :‬سفيان أمير المؤمنين في الحديث‪ ،‬وقال عبد الرحمن بن مهدي‪ :‬ما رأيت أحفظ للحديث من‬
‫الثوري‪.‬‬

‫ولذلك كان ينصح الناس قائًال‪ :‬أكثروا من األحاديث؛ فإنها سالح‪ ،‬وكان يتجه إلى الشباب الذي كان‬
‫ينتظر خروجه من منزله ويقول لهم‪( :‬يا معشر الشباب تعجلوا بركة هذا العلم) وكان سفيان ال‬
‫يخشى أحًد ا إال اهلل‪ ،‬كثير القراءة للقرآن الكريم‪ ،‬فإذا تعب من القراءة وضعه على صدره‪ ،‬حريًص ا‬
‫على الصالة في الثلث األخير من الليل‪ ،‬وإذا نام قام ينتفض مرعوًبا ينادي‪ :‬النار النار‪ ..‬شغلتني‬
‫النار عن النوم الشهوات‪ ،‬ثم يطلب ماء‪ ،‬فيتوضأ ثم يصلى فيبكي بكاء شديًد ا‪.‬‬

‫عاش سفيان حياته كلها يدعو إلى اهلل‪ ،‬وكانت سعادته في هداية إنسان عاٍص أحب إليه من الدنيا وما‬
‫فيها‪ ،‬وعرض عليه أن يكون قاضًيا فهرب خوًفا من الحساب أمام اهلل‪ ،‬وأرسلت إليه هدايا الملوك‬
‫واألمراء فرفضها‪ ،‬فعاش حياته هلل‪ ،‬وفي سبيل اهلل‪ ،‬وبعد هذه الحياة الكريمة في خدمة اإلسالم‬
‫والمسلمين‪ ،‬مات سفيان الثوري بالبصرة في شعبان سنة ‪161‬هـ‪.‬‬
‫اإلمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي‪ .‬المصلح العظيم‬
‫وباعث النهضة اإلسالمية في العصر الحديث‪.‬‬

‫ولد في بلدة العيينة في نجد سنة ‪1115‬هـ وقرأ القرآن قبل بلوغ العاشرة وكان ذكيا حاد الفهم أخذ‬
‫العلم عن والده وغيره‪ .‬ثم ذهب لطلب العلم إلى البصرة ومكة والمدينة و األحساء وغيرها‪ ،‬ثم عاد‬
‫إلى نجد‪.‬‬

‫كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر داعيا إلى توحيد اهلل وإقامة حدوده ونبذ الشرك والبدع التي‬
‫انتشرت في وقته والقى في سبيل ذلك أذى كثيرا رحمه اهلل‪.‬‬

‫ولما اشتهر أمره عاداه كثير من الناس ـ كما هي سنة اهلل فيمن دعا إلى الحق ـ إما جهال أو حسدا‬
‫وعنادا للحق‪.‬‬

‫ثم انتقل إلى الدرعية والتقى بأميرها محمد بن سعود فناصره‪ ،‬ومنها بدأ أمر دعوته في االستقرار‬
‫والظهور فاهتم بنشر العلم وتوافد الناس عليه من البلدان المجاورة للدرعية‪.‬‬

‫ثم بدأ بمكاتبة أهل البلدان المجاورة وتبيين ما هم عليه من الباطل بالدليل من الكتاب والسنة‪ .‬فلم‬
‫يستجب له أكثر الناس وعاداه كثير من العلماء المبتدعة وأثاروا الناس عليه وبثوا عنه وعن دعوته‬
‫األكاذيب من أنه يكفر الناس وينتقص الرسول صلى اهلل عليه وسلم واألولياء‪.‬‬

‫فبدأ بالجهاد بالسيف مع الدعوة إلخراج الناس من الشرك وإدخالهم في التوحيد‪ ،‬فخضع لهم كثير من‬
‫البلدان المجاورة‪.‬‬

‫أثنى عليه وعلى دعوته الكثير من العلماء المعاصرين له‪ ،‬والذين أتوا من بعده‪ ،‬منهم عالم اليمن‬
‫الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني الذي كان معاصرا له‪ ،‬وكذلك العالمة محمد بن علي الشوكاني‬
‫الذي أتى بعده‪.‬‬

‫تتلخص أصول دعوته في األمور اآلتية‪:‬‬

‫‪1‬ـ الدعوة إلى التوحيد الخالص من شوائب الشرك صغيره وكبيره‪.‬‬

‫‪2‬ـ االتباع التام لسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الخالص من شوب البدعة ولو كان يسيرا‪.‬‬
‫‪3‬ـ الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة‪ ،‬بفهم علماء السلف‪ ،‬وجعلهما المصدر األساس للدين‬
‫والبعد عن الجمود على التقليد إذا استبان الدليل‪ ،‬مع البعد عن علم الكالم‪.‬‬

‫‪4‬ـ األمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلزم من ذلك من نشر العلم الشرعي والجهاد في سبيل‬
‫اهلل وإقامة الحدود والرد على أهل الباطل‪.‬‬

‫‪5‬ـ إحياء مبدأ الوالء للمؤمنين ولو كانوا أبعد الناس والبراء من المشركين والملحدين ولو كانوا‬
‫أقرب الناس‪.‬‬
‫هذه ترجمة مختصرة لسيرة الشيخ رحمه اهلل‬

‫هو صاحب الفضيلة الشيخ العالم العالمة (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اهلل آل سعدي) المولود‬
‫بمدينة "عنيزة" بالقصيم في إقليم نجد بالمملكة العربية السعودية‪ ،‬وكان أبواه قد توفيا في صغره‪ ،‬إال‬
‫أنه كان على قدر وفير من الذكاء والفطنة والرغبة في طلب العلم‪ ،‬وقد بدأ حفظ القرآن في سن‬
‫مبكرة حتى أتمه وأتقنه في الثانية عشر من عمره وشرع في طلب العلوم وأخذ يتلقاها عن علماء‬
‫بلده وغيرهم ممن قدم إليها وبذل جهده في سبيل ذلك حتى نال الحظ األوفر والنصيب األكبر من‬
‫العلوم والمعارف‪.‬‬

‫وفي سن الثالثة والعشرين ابتدأ الجمع بين طلب العلم وتدريسه واستفادته وإفادته وقضى في ذلك‬
‫جميع وقته طول حياته وقد تلقى الكثيرون عنه وانتفعوا به‪.‬‬

‫ومن شيوخه الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر وكان أول من قرأ عليه‪.‬‬

‫الشيخ صالح بن عثمان قاضي عنيزة أخذ عنه األصول والفقه والتوحيد والتفسير والعربية‪ ،‬والزمه‬
‫إلى وفاته‪ ،‬وكان الشيخ ذا معرفة تامة بالفقه وأصوله وخبرة كاملة بالتوحيد ومسائله بسبب اشتغاله‬
‫بالكتب المعتبرة واهتمامه بتصانيف ابن تيمية وابن القيم خاصة‪ .‬كما كان ذا عناية فائقة بالتفسير‬
‫وفنونه‪ ،‬فقرأه حتى برع فيه وأتقنه‪ ،‬وصارت له اليد الطولى فيه‪ ،‬وله من المؤلفات في التفسير‪:‬‬

‫تيسير الكريم المنان في تفسير كالم الرحمن في ثمانية أجزاء‪.‬‬

‫تيسير اللطيف المنان في خالصة تفسير القرآن‪.‬‬

‫القواعد الحسان لتفسير القرآن‪.‬‬

‫ومن مؤلفاته التي ينصح باقتنائها واالستفادة منها سوى ما تقدم‪:‬‬

‫اإلرشاد إلى معرفة األحكام‪.‬‬

‫الرياض الناضرة‪.‬‬

‫بهجة قلوب األبرار‪.‬‬

‫منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين‪.‬‬

‫حكم شرب الدخان وبيعه وشرائه‪.‬‬

‫الفتاوى السعدية‪.‬‬
‫له ثالثة دواوين خطب منبرية نافعة‪.‬‬

‫الحق الواضح المبين بشرح توحيد األنبياء والمرسلين‪.‬‬

‫توضيح الكافية الشافية (نونية ابن القيم)‪.‬‬


‫وله مؤلفات كثيرة في الفقه والتوحيد والحديث واألصول واألبحاث االجتماعية والفتاوى المختلفة‪.‬‬

‫وفاته‪ :‬وقد أصيب بمرض شديد مفاجئ أنذر بدنو منيته‪ ،‬حيث وافاه األجل في ليلة الخميس الثالث‬
‫والعشرين من جمادى اآلخرة سنة ‪1376‬هـ بمدينة عنيزة‪ ،‬وقد ترك أثرًا وحزنًا عميقًا في نفس كل‬
‫من عرفه أو سمع عنه أو قرأ له رحمه اهلل رحمة واسعة ونفعنا بعلمه ومؤلفاته‪ .‬آمين‪.‬‬
‫* مولده‪:‬‬

‫ولد في ذي الحجة سنة ‪1330‬هـ بمدينة الرياض وكان بصيرا ثم أصابه مرض في عينه عام‬
‫‪1346‬هـ وضعف بصره ثم فقده عام ‪1350‬هـ‪.‬‬

‫* طلبه للعلم‪:‬‬

‫حفظ القرآن الكريم قبل سن البلوغ ثم جد في طلب العلم على العلماء الرياض‪ ،‬ولما برز في العلوم‬
‫الشرعية واللغة‪ ،‬عين في القضاء عام ‪1357‬هـ ولم ينقطع عن طلب العلم حتى اليوم‪ ،‬حيث الزم‬
‫البحث والتدريس ليل نهار‪ ،‬ولم تشغله المناصب عن ذلك مما جعله يزداد بصيرة ورسوخا في كثير‬
‫من العلوم‪ ،‬وقد ُع ني عناية خاصة بالحديث وعلومه حتى أصبح حكمه على الحديث من حيث‬
‫الصحة والضعف محل اعتبار وهي درجة قل أن يبلغها أحد خاصة في هذا العصر‪ ،‬وظهر أثر على‬
‫كتاباته وفتواه حيث كان يتخير من األقوال ما يسنده الدليل‪.‬‬

‫* مشائخه‪:‬‬

‫تلقى العلم على أيدي كثير من العلماء ومن أبرزهم‪:‬‬

‫الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪.‬‬

‫الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪.‬‬

‫الشيخ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض‪.‬‬

‫الشيخ حمد بن فارس وكيل بيت المال في الرياض‪.‬‬

‫سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية‪ ،‬وقد الزم‬
‫حلقاته نحوا من عشر سنوات‪ ،‬وتلقى عنه جميع العلوم الشرعية ابتداء من سنة ‪1347‬هـ إلى سنة‬
‫‪1357‬هـ‪.‬‬

‫الشيخ سعد وقاص البخاري من علماء مكة المكرمة‪ ،‬أخذ عنه علم التجويد في عام ‪1355‬هـ‪.‬‬

‫* من مواقفه‪:‬‬

‫احتاج أحد الطالب من الجامعة إلى مساعدة (مائتي ريال) فكأن كاتب الشيخ قرأها ـ خطأـ ألفين‬
‫ريال‪ ،‬فأمر الشيخ بصرف المبلغ له‪ ،‬وعند مراجعة األوراق اتضح أن الطالب طلب مائتي ريال‪،‬‬
‫فأراد الكاتب تصحيح األمر‪ ،‬فنهاه الشيخ قائال‪ :‬لعله كان محتاجا لأللفين واستحيا‪ ،‬فرزقه اهلل‪ ..‬أعطه‬
‫األلفين‪.‬‬
‫* آثاره‪:‬‬
‫منذ تولى القضاء في مدينة الخرج عام ‪1357‬هـ وهو مالزم التدريس في حلقات منتظمة إلى يومنا‬
‫هذا‪ ،‬ففي الخرج كانت حلقاته مستمرة أيام األسبوع‪ ،‬عدا يومي الثالثاء والجمعة ولديه طالب‬
‫متفرغون لطلب العلم من أبرزهم‪:‬‬

‫‪ )1‬الشيخ عبد اهلل الكنهل‪.‬‬

‫‪ )2‬الشيخ عبد اهلل بن صالح الخنين‪.‬‬

‫‪ )3‬الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك‪.‬‬

‫‪ )4‬الشيخ عبد اللطيف بن شديد‪.‬‬

‫‪ )5‬الشيخ عبد اهلل بن حسن بن قعود‪.‬‬

‫‪ )6‬الشيخ عبد الرحمن بن جالل‪.‬‬

‫‪ )7‬الشيخ صالح بن هليل وغيرهم‪.‬‬

‫في عام ‪1372‬هـ انتقل إلى الرياض للتدريس في معهد الرياض للتدريس في معهد الرياض العلمي‪،‬‬
‫ثم في كلية الشريعة بعد إنشائها سنة ‪1373‬هـ في علوم الفقه والحديث والتوحيد‪ ،‬إلى أن نقل نائبا‬
‫لرئيس الجامعة اإلسالمية بالمدينة المنورة عام ‪1381‬هـ‪ .‬وقد أسس حلقة للتدريس في الجامع الكبير‬
‫بالرياض منذ انتقل إليها وال زالت هذه الحلقة مستمرة إلى يومنا هذا‪ ،‬وإن كانت في السنوات‬
‫األخيرة اقتصرت على بعض أيام األسبوع بسبب كثرة األعمال‪ .‬والزمها كثير من طلبة العلم‪،‬‬
‫وأثناء وجوده بالمدينة المنورة من عام ‪1381‬هـ نائبا لرئيس الجامعة ورئيسا لها من عام ‪1390‬هـ‬
‫إلى ‪1395‬هـ عقد حلقة للتدريس في المسجد النبوي‪ .‬ومن المالحظ أنه إذا انتقل إلى غير مقر إقامته‬
‫استمرت إقامة الحلقة في المكان الذي ينتقل إليه مثل الطائف أيام الصيف‪ .‬وقد نفع اهلل بهذه الحلقات‪.‬‬

‫* مؤلفاته‪:‬‬

‫‪ )1‬مجموع فتاوى ومقاالت متنوعة صدر منه اآلن ثالثة أجزاء‪.‬‬

‫‪ )2‬الفوائد الجلية في المباحث الفرضية‪.‬‬

‫‪ )3‬التحقيق واإليضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة (توضيح المناسك)‪.‬‬

‫‪ )4‬التحذير من البدع ويشتمل على أربع مقاالت مفيدة (حكم االحتفال بالمولد النبوي‪ ،‬وليلة اإلسراء‬
‫والمعراج‪ ،‬وليلة النصف من شعبان‪ ،‬وتكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية المسمى‬
‫الشيخ أحمد)‪.‬‬
‫‪ )5‬رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام‪.‬‬

‫‪ )6‬العقيدة الصحيحة وما يضادها‪.‬‬


‫‪ )7‬وجوب العمل بالسنة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وكفر من أنكرها‪.‬‬

‫‪ )8‬الدعوة إلى اهلل وأخالق الدعاة‪.‬‬

‫‪ )9‬وجوب تحكيم شرع اهلل ونبذ ما خالفه‪.‬‬

‫‪ )10‬حكم السفور والحجاب ونكاح الشغار‪.‬‬

‫‪ )11‬نقد القومية العربية‪.‬‬

‫‪ )12‬الجواب المفيد في حكم التصوير‪.‬‬

‫‪ )13‬الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته‪.‬‬

‫‪ )14‬ثالث رسائل في الصالة‪( :‬أ) كيفية صالة النبي صلى اهلل عليه وسلم (ب) وجوب أداة الصالة‬
‫في جماعة‪( .‬ج) أين يضع المصلي يديه حين الرفع من الركوع‪.‬‬

‫‪ )15‬حكم اإلسالم فيمن طعن في القرآن أو في رسول اهلل صلى اله عليه وسلم‪.‬‬

‫‪ )16‬حاشية مفيدة على فتح الباري وصل فيها إلى كتاب الحج‪.‬‬

‫‪ )17‬رسالة األدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون األرض وإمكان الصعود إلى‬
‫الكواكب‪.‬‬

‫‪ )18‬إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير اهلل أو صدق الكهنة والعرافين‪.‬‬

‫‪ )19‬الجهاد في سبيل اهلل‪.‬‬

‫‪ )20‬الدروس المهمة لعامة األمة‪.‬‬

‫‪ )21‬فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة‪.‬‬

‫‪ )22‬وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة‪.‬‬

‫‪ )23‬هذا ما تم طبعه ويوجد له تعليقات على بعض الكتب مثل‪ :‬بلوغ المرام‪ ،‬تقريب التهذيب للحافظ‬
‫ابن حجر (لم تطبع)‪ ،‬تحفة األخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من‬
‫األدعية واألذكار (طبع)‪ ،‬التحفة الكريمة في بيان كثير من األحاديث الموضوعة والسقيمة‪ ،‬تحفة‬
‫أهل العلم واإليمان بمختارات من األحاديث الصحيحة والحسان‪ ،‬إلى غير ذلك‪.‬‬
‫األعمال التي يزاولها غير ما ذكر‪:‬‬

‫‪ )1‬صدر األمر الملكي بتعيينه رئيسا إلدارات البحوث العلمية واإلفتاء والدعوة واإلرشاد إلى جانب‬
‫ذلك‪:‬‬

‫‪ )2‬عضوا لهيئة كبار العلماء‪.‬‬

‫‪ )3‬رئيسا للجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء التي أصدرت هذه الفتاوى‪.‬‬

‫‪ )4‬رئيسا وعضوا للمجلس التأسيسي لرابطة العالم اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ )5‬رئيسا للمجلس األعلى العالمي للمساجد‪.‬‬

‫‪ )6‬رئيسا للمجمع الفقهي اإلسالمي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ )7‬عضوا للمجلس األعلى للجامعة اإلسالمية في المدينة المنورة‪.‬‬

‫‪ )8‬عضوا في الهيئة العليا للدعوة اإلسالمية‪.‬‬

‫ولم يقتصر نشاطه على ما ذكر‪ ،‬فقد كان يلقي المحاضرات‪ ،‬ويحضر الندوات العلمية‪ ،‬ويعلق عليها‬
‫ويعمر المجالس الخاصة والعامة التي يحضرها بالقراءة والتعليق باإلضافة إلى األمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر الذي أصبح صفة مالزمة له‪.‬‬

‫* كيف كان يقضي وقته‪:‬‬

‫يبدأ البرنامج بصالة الفجر في المسجد‪ ،‬ثم يبدأ بذكر اهلل تعالى وقتا معينا‪ ،‬ثم يلتفت إلى طالبه إعالنا‬
‫ببدء الدروس اليومية وهي بعد صالة الفجر وهي عبارة عن دراسة ستة علوم إسالمية‪ :‬الفقه‬
‫والحديث والتفسير والعقيدة والرقائق (ولما كنت حاضرا في تلك الفترة كان يقرأ عليه حادي‬
‫األرواح البن القيم‪ ،‬وتستغرق الدروس عادة ساعة والنصف ثم بعد ذلك يختم المجلس بصالة‬
‫الشروق ثم يتجه الشيخ إلى بيته قليال ثم يذهب إلى عمله وهو المفتي العام للمملكة‪.‬‬

‫وفي مقر عمله يباشر الشيخ رحمه اهلل من الفتوى ومقابلة الوفود اإلسالمية من كل مكان وخدمة‬
‫المسلمين والواسطات وحل النزاعات بين الجماعات وطلبة العلم ومساعدة المسلمين بكل ما يملك‬
‫من وقت ومال وجهد وهو في الثمانين من عمره‪.‬‬

‫حدثنا الشيخ سلمان العودة قال‪ :‬لقد عرف عن الشيخ ابن باز رحمه اهلل خدمته لإلسالم والمسلمين ما‬
‫يعجز عنه األشداء حتى قيل‪ :‬لو أن رجال من أهل الرياض انقطعت عنه الكهرباء للجأ للشيخ ابن باز‬
‫في حلها‪.‬‬

‫وقد علم الناس أن الشيخ ابن باز ال يكفيه راتبه الذي يستلمه من الدولة إال أياما ثم يتسلف من إخوانه‬
‫وقد ذكر ذلك العالم الجليل عبد الرزاق عفيفي رحمه اهلل‪ ..‬أنه كان يتسلف منه حتى يسد دينا أو يعين‬
‫محتاجا‪.‬‬
‫وال أنسى هنا أن أذكر أن الرد على فتاوى المستفتين يأخذ من الشيخ الوقت والجهد العظيم وقد‬
‫شهدت أنا شيئا منه ولو كنت مكان الشيخ ‪ -‬وأستغفر اهلل من هذا ‪ -‬ألغلقت السماعة في وجه‬
‫المتصلين! لكن الشيخ بصبره وحلمه يساعد هذا ويعين هذا‪ ،‬ومن الغرائب أن الشيخ ال يكتفي‬
‫باإلجابة بل أنه يسعى بحلها تماما كما سأله أحدهم عن دية القتل غير المتعمد فقال له الشيخ‪ :‬عتق‬
‫رقبة فقال السائل عبر الهاتف ما فيه رقبة هذه األيام فقال الشيخ‪ :‬بلى يوجد تعال عندي وأنا أشتري‬
‫لك من‪ ...‬وذكر أحد البلدان التي فيها هذا األمر‪.‬‬

‫ثم بعد الدوام يذهب الشيخ للبيت وهناك ينتظره الغداء الجماعي اليومي لكل من حضر بدعوة أو غير‬
‫دعوة من كبار الناس وفقرائهم عربهم وعجمهم‪..‬‬

‫وبعد الغداء فتاوى على الهاتف ثم راحة ثم صالة العصر وبعد العصر درس وفتوى ولقاء حتى‬
‫المغرب تدرس حتى العشاء‪ ..‬نفعنا اهلل بعلمه وأسكنه بفسيح جناته اللهم آمين‪.‬‬

‫* وفاته‪:‬‬

‫انتقل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز إلى جوار ربه في فجر يوم الخميس ‪ 27/1/1420‬هـ في‬
‫مدينة الطائف إثر نوبة قلبية‪ .‬وقد أقيمت صالة الميت على جثمانه ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬في المسجد الحرام‬
‫بعد صالة الجمعة‪ ،‬وقد أدى الصالة عليه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود‬
‫وسمو ولي العهد األمير عبداهلل بن عبدالعزيز آل سعود وسمو النائب الثاني األمير سلطان بن‬
‫عبدالعزيز آل سعود وعدد كبير من األمراء والوزراء والمسئولين وجمع غفير من المسلمين‪ ،‬كما‬
‫أديت عليه صالة الغائب في جميع مساجد المملكة وعدد كبير من الدول اإلسالمية والعربية‪ ،‬غفر اهلل‬
‫لشيخنا وأسكنه فسيح جناته‪.‬‬
‫اسمه ونسبه‬

‫هو أبو عبد اهلل محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي‪.‬‬

‫مولده ونشأته‬

‫ولد الشيخ أبو عبد اهلل في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم عام ‪1347‬هـ في السابع والعشرين من‬
‫شهر رمضان المبارك في عائلة معروفة بالدين واالستقامة‪.‬‬

‫تتلمذ الشيخ على بعض أفراد عائلته أمثال جده ألمه الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ‪ ،‬رحمه‬
‫اهلل‪ ،‬فقد قرأ عليه القران فحفظه ثم اتجه لطلب العلم فتعلم الخط والحساب وبعض فنون اآلداب‪.‬‬

‫وكان الشيخ قد رزق ذكاء وهمة عالية وحرصا على التحصيل العلمي في مزاحمة الركب لمجالس‬
‫العلماء وفي مقدمتهم الشيخ العالمة المفسر الفقيه عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪ ،‬رحمه اهلل‪.‬‬

‫ولم يرحل الشيخ لطلب العلم إال إلى الرياض حين فتحت المعاهد العلمية عام ‪ 1372‬فألتحق بها‪.‬‬

‫وبعد وفاة شيخه عبد الرحمن السعدي رشح الشيخ محمد بن صالح العثيمين إلمامة الجامع الكبير‬
‫عندها تصدى للتدريس مكان شيخه‪.‬‬

‫ولم يتصدى للتأليف إال عام ‪ 1382‬حين ألف أول كتاب له وهو فتح رب البريه بتلخيص الحموية‬
‫وهو تلخيص لكتاب شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬الحموية في العقيدة‪.‬‬

‫واستغل الشيخ وجوده في الرياض بالدراسة على الشيخ عبد العزيز بن باز فقرأ عليه صحيح‬
‫البخاري وبعض رسائل شيخ اإلسالم ابن تيمية وبعض الكتب الفقهية‪.‬‬

‫مشايخه‬

‫الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه اهلل‬

‫الشيخ عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز رحمه اهلل‬

‫الشيخ محمد األمين الشنقيطي رحمه اهلل‬

‫الشيخ علي بن حمد الصالحي حفظه اهلل‬

‫الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع رحمه اهلل‬


‫الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان رحمه اهلل‬

‫الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ رحمه اهلل‬

‫منهجه العلمي‬
‫لقد أوضح الشيخ حفظه اهلل منهجه وصرح به مرات عديدة أنه يسير على الطريقة التي انتهجها‬
‫شيخه العالمة عبد الرحمن الناصر السعدي وهو منهج خرج به عن المنهج الذي يسير عليه علماء‬
‫الجريرة عامتهم أو غالبتهم‪ ،‬حيث اعتماد المذهب الحنبلي في الفروع من مسائل األحكام الفقهية‬
‫واالعتماد على كتاب زاد المستقنع في فقه األمام أحمد بن حنبل‪ ،‬فكان الشيخ عبد الرحمن السعدي‬
‫معروفا بخروجه عن المذهب الحنبلي وعد التقيد به في مسائل كثيرة‪.‬‬

‫ومنهج الشيخ السعدي هو كثيرا ما يتبنى آراء شيخ اإلسالم ابن تيميه وتلميذه ابن القيم ويرجحهما‬
‫على المذهب الحنبلي فلم يكن عنده جمود تجاه مذهب معين بل كان متجردا للحق وقد انطبعت فيه‬
‫هذه الصفة وانتقلت إلى تلميذه محمد الصالح العثيمين‪.‬‬

‫وللشيخ حفظه اهلل آثار علمية عديدة تجاوزت الخمسين مؤلفا‪.‬‬

‫نسأل اهلل العلي القدير أن يرحمه ويدخله فسيح جناته‬

‫والحمد هلل رب العالمين‪..‬‬


‫لقد فجع المسلمون في مشارق األرض ومغاربها بوفاة العالمة الجهبذ والمحدث الكبير‪ ،‬ناصر‬
‫السنة‪ ،‬وقامع البدعة‪ ،‬فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي األلباني رحمه اهلل وأسكنه‬
‫فسيح جناته‪ ،‬وغفر له ونور ضريحه‪ ،‬وألهم ذويه الصبر والسلوان‪ ،‬إنا هلل وإنا إليه راجعون‪.‬‬

‫فموته خسارة على المسلمين ال تعوض ورزية عظيمة وثلمة ال ترفأ‪ ،‬كيف ال وهو علم من أكبر‬
‫أعالم اإلسالم ومرجع للسنة من أكبر المراجع‪ ،‬أفنى شبابه وحياته في الدعوة إلى اهلل وطلب العلم‬
‫ونشره والعناية بسنة رسول اهلل‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قيضه اهلل لدراسة أحاديث المصطفى‪ ،‬صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وإبرازها للناس بعد تصنيفها وتحقيقها وبيان الصحيح منها من الضعيف‪ ،‬والموضوع‬
‫من غيره فرد عنها غلو الغالين وتحريف المحرفين‪ ،‬وكيد الكائدين‪.‬‬

‫فلقد ولد رحمه اهلل عام ‪1332‬هـ في مدينة اشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك‪ ،‬ونشأ في أسرة فقيرة ومن‬
‫بيت علم‪ ،‬حيث نزح مع والده من ألبانيا إلى سوريا بعد تولي الحاكم الهالك أحمد زوغو‪ ،‬الذي حول‬
‫الحكم في ألبانيا لتكون دولة علمانية تحارب اإلسالم وأهله‪.‬‬

‫بدأ الشيخ دراسته االبتدائية في دمشق ثم تابع دراسته على المشايخ فتعلم القرآن وختمه على يد والده‬
‫مع بعض الفقه الحنبلي‪ ،‬وقرأ على الشيخ سعيد البرهاني مراقي الفالح وشذور الذهب وبعض كتب‬
‫البالغة‪ ،‬ومنحه الشيخ محمد راغب الطباخ إجازة في الحديث‪ ،‬وكان رحمه اهلل يكتسب رزقه من‬
‫مهنة إصالح الساعات حيث ورثها من والده‪ ،‬وقد توجه في بداية العشرين من عمره إلى علم‬
‫الحديث متأثرًا بأبحاث مجلة المنار التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا‪.‬‬
‫أخذ رحمه اهلل يتردد على المكتبة الظاهرية والمكتبات الخاصة مثل مكتبة سليم القصيباني والمكتبة‬
‫العربية الهاشمية‪ ،‬وكان الشيخ يلبث في المكتبة وقتًا طويال للبحث واالطالع إلى درجة أنه خصص‬
‫له بالمكتبة الظاهرية غرفة خاصة للبحث واالطالع‪ ،‬وقد ذكر عنه أنه يصعد السلم ليتناول أحد‬
‫الكتب من الرفوف فإذا تناول الكتاب جلس ساعة أو أكثر يقرأ وهو على السلم‪ ،‬وقد نسي نفسه‬
‫ووضعه على السلم وذلك من شغفه وحبه للقراءة‪ ,‬وقد قدم للمملكة العربية السعودية في عام‬
‫‪1381‬هـ للتدريس في الجامعة اإلسالمية بترشيح من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه اهلل‬
‫ودَّر س في الجامعة ثالث سنوات ثم رجع إلى سوريا ثم إلى األردن‪.‬‬

‫وقد رشحه الملك خالد رحمه اهلل عضوًا في المجلس األعلى للجامعة اإلسالمية بالمدينة المنورة من‬
‫عام ‪1395‬هـ وقد فاز رحمه اهلل بجائزة الملك فيصل العالمية لعام ‪1419‬هـ في فرع الدراسات‬
‫اإلسالمية‪ ،‬نظير جهده واجتهاده وتفانيه في خدمة اإلسالم والعناية بسنة رسول اهلل‪ ،‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫وقد ألف رحمه اهلل العديد من الكتب النافعة تربو على مائة كتاب منها سبعون كتابًا مطبوعة منشورة‬
‫ومن هذه الكتب‪:‬‬

‫‪ -1‬سلسلة األحاديث الصحيحة‪.‬‬

‫‪ -2‬سلسلة األحاديث الضعيفة‪.‬‬

‫‪ -3‬إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل‪.‬‬

‫‪ -4‬تلخيص أحكام الجنائز‪.‬‬

‫‪ -5‬تخليص صفة صالة النبي‪.‬‬

‫‪ -6‬التوسل أنواعه واحكامه‪.‬‬

‫‪ -7‬حجة النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪ -8‬دفاع عن الحديث النبوي والسيرة‪.‬‬

‫‪ -9‬الحديث حجة بنفسه‪.‬‬

‫‪ -10‬جلباب المرأة المسلمة‪.‬‬

‫وخشية اإلطالة نكتفي بذكر هذا العدد من كتبه الكثيرة‪.‬‬


‫وذكر أن الشيخ رحمه اهلل قد أوصى بأن تودع مكتبته‪ ،‬مكتبة الجامعة االسالمية‪.‬‬
‫وكان الشيخ رحمه اهلل لشدة محافظته على الوقت إذا رغب أحد في زيارته واالستفادة منه حدد له‬
‫وقتًا للزيارة‪ ،‬حيث يقول أحد من زاره‪ :‬اتصلنا بالشيخ ليحدد لنا وقتًا لمقابلته فقال تأتون ساعة واحدة‬
‫من التاسعة إلى العاشرة‪ ،‬يقول فحضرنا متأخرين‪ ،‬أي التاسعة والنصف‪ ،‬فالمنا الشيخ على ذلك وما‬
‫أن أشارت الساعة إلى العاشرة‪ ،‬وإذا بالشيخ يقول‪ :‬انصرفوا راشدين‪ ،‬ألن هناك من رتب معه‬
‫موعدًا بعد العاشرة‪.‬‬

‫وهذا مما يدل على حرصه ودقته في المواعيد وضبطه للوقت لالستفادة منه‪ ،‬فيا للعجب كم يضيع‬
‫علينا من األوقات بال فائدة؟‬

‫وقد أثنى عليه علماء كثر منهم‪ :‬سماحة الشيخ العالمة ابن باز‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬حيث قال لي أحد الثقات‬
‫أنه سمعه في برنامج نور على الدرب يقول‪ :‬ال نعلم أحدًا أعلم بالحديث منه يعني بذلك األلباني‪ ،‬وقد‬
‫نقل كثيرًا عن العالمة ابن باز أنه قال‪ :‬ما تحت أديم السماء عالم بالحديث في العصر الحديث مثل‬
‫العالمة محمد ناصر الدين األلباني أو كلمة نحوها‪ ،‬وقد ألف محمد الشيباني كتابًا عن حياة األلباني‬
‫وذلك قبل وفاته فمن أراد االستزادة فليرجع إليه‪.‬‬

‫وممن أثنى عليه بعد موته‪ :‬معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ وزير الشؤون‬
‫اإلسالمية واألوقاف والدعوة واإلرشاد حيث قال‪ :‬الحمد هلل على قضائه وقدره (إنا هلل وإنا إليه‬
‫راجعون) وال شك أن فقد العالمة الشيخ محمد ناصر الدين األلباني‪ :‬مصيبة ألنه علم من أعالم األمة‬
‫ومحدث من محدثيها وبهم حفظ اهلل جل وعال هذا الدين ونشر اهلل بهم السنة‪ ,,‬الخ ‪.‬‬
‫وقال معالي الشيخ الدكتور عبد اهلل بن صالح العبيد األمين العامة لرابطة العالم اإلسالمي بمكة‬
‫المكرمة‪ :‬الشك بأن فقد األمة اإلسالمية بوفاة الشيخ محمد ناصر الدين األلباني تعتبر خسارة فادحة‪،‬‬
‫وقال‪ :‬وشواهد الشيخ وإسهاماته جليلة وكبيرة من خالل عمله في المؤسسات االسالمية الكبرى مثل‬
‫الجامعة اإلسالمية بالمدينة المنورة وغيرها من المؤسسات اإلسالمية الكبرى وقد كان فضيلته‪،‬‬
‫رحمه اهلل‪ ،‬موضع التقدير واالحترام من قبل المسلمين أفرادًا وهيئات وجماعات ودوًال‪ ،‬وقد توج‬
‫ذلك بمنحه جائزة الملك فيصل لخدمته الجليلة للدراسات المتعلقة بالحديث‪.‬‬

‫ويذكر أن إمرأًة اتصلت هاتفيًا من الجزائر بالشيخ رحمه اهلل فقالت‪ :‬إني رأيت في المنام الرسول‬
‫محمدًا صلى اهلل عليه وسلم يمشي وأنت تمشي خلفه‪ ،‬فبكى الشيخ رحمه اهلل من هذه الرؤيا وأخذ‬
‫يجهش في البكاء‪.‬‬

‫وأما صلته بالعلماء‪ ،‬فقد التقى رحمه اهلل بالعديد منهم كالشيخ حامد الفقي‪ ،‬والشيخ أحمد شاكر‪،‬‬
‫والشيخ عبد الرزاق حمزة‪ ،‬والشيخ محمد بن إبراهيم‪ ،‬والشيخ عبد العزيز بن باز فقد كان له به‬
‫عالقة قوية وجلسات علمية عديدة مفيدة‪.‬‬

‫وللشيخ األلباني دروس أسبوعية كثيرة في كتب كثيرة‪ ،‬كفتح المجيد والروضة الندية‪ ،‬وفقه السنة‪،‬‬
‫ومنهاج اإلسالم‪ ،‬حيث درس عليه نخبة طيبة من طلبة العلم منهم‪ :‬الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي‪،‬‬
‫والدكتور ربيع بن هادي المدخلي‪ ،‬والشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق‪ ،‬والشيخ محمد بن إبراهيم‬
‫شقرة‪ ،‬والشيخ يسلم بن عيد الهاللي‪ ،‬وغيرهم كثير‪.‬‬

‫ومن أول مؤلفاته الفقهية كتاب تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد‪ ،‬وأول عمل في الحديث ُع ني‬
‫به الشيخ هو نسخ كتاب المغني عن حمل األسفار في األسفار‪ ،‬وكذلك من أوائل كتب التخريج‪ ،‬كتاب‬
‫الروض النضير في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير‪ ،‬وال يزال مخطوطًا‪.‬‬
‫وأما عن أوالده‪ :‬فقد رزق الشيخ بسبعة أوالد وست بنات‪ ،‬حيث أنه رحمه اهلل تزوج من أربع نساء‪،‬‬
‫جعل اهلل ذريته خير خلف لخير سلف وبارك اهلل فيهم وحفظهم وأعظم أجرهم في وفاة والدهم فقيد‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫ولم تأل جهدًا حكومة خادم الحرمين الشريفين حفظه اهلل في األمر على من يلزم باستقبال الشيخ‬
‫وعالجه في أرقى المستشفيات بالمملكة وذلك بشفاعة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه‬
‫اهلل ولكن ظروف الشيخ األلباني األسرية وتأجيله للقدوم للمملكة حالت دون ذلك‪ ،‬وكل شيء بإرادة‬
‫اهلل ومشيئته سبحانه‪ ،‬حيث وافاه األجل المحتوم مساء يوم السبت ‪22/6/1420‬هـ في أحد مستشفيات‬
‫عمان عاصمة األردن‪ ،‬بعد معاناة طويلة مع المرض‪.‬‬

‫وقد شيعه وصلى عليه خلق كثير‪ ،‬رحمه اهلل وغفر له واسكنه فسيح جناته وجزاه اهلل عن اإلسالم‬
‫والمسلمين خيرًا وجبر مصيبتهم فيه وأخلفهم خيرًا منه‪ ،‬إنا هلل وإنا إليه راجعون‪.‬‬

‫الشيخ محمد بن سعد السعّيد إمام وخطيب جامع سلطانة الشرقي بالرياض‪.‬‬
‫للشيخ مزاح كثير‪ ،‬وعنده دعابة ومرح رحمه اهلل تعالى ‪.‬‬

‫* إذا جاء أحد إلى الشيخ في بيته‪ ،‬قال له ـ أي الشيخ ـ ‪ :‬العشاء معنا‪ ،‬فإذا قال أنا يا شيخ ال أستطيع‪،‬‬
‫قال‪ :‬أنت تخاف من زوجتك ؟! تعشى معنا ‪.‬‬

‫* زوج حفيدة الشيخ جاء إليه وقال ‪ :‬يا شيخ نريدك تأتي إلى بيتنا‪ ،‬ونستضيفك ‪ .‬قال الشيخ ‪ :‬ال‬
‫مانع‪ ،‬إذا تزوجت مرة ثانية نأتي إلى الوليمة إن شاء اهلل تعالى ‪.‬‬

‫فذهب هذا وأخبر حفيدة الشيخ ‪ ،‬وقال الشيخ يقول نأتي إليكم إذا تزوجت ‪ .‬فأخذت الهاتف وتكلمت‬
‫مع جدها الشيخ وقالت ‪ :‬كيف يا شيخ ‪ ...‬؟ فقال ‪ :‬نحن نمزح معه‪ ،‬ال نريده يتزوج ‪ ،‬نأتي بغير‬
‫زواج ‪.‬‬

‫* الشيخ إذا جلس يسجل نوٌر على الدرب‪ ،‬يخلع شماغه وطاقيته‪ ،‬ويقول ‪ :‬من يحمل األمانة ؟ فإن‬
‫قال أحد الجالسين ‪ :‬أنا‪ ،‬قال ‪ :‬خذ‪.‬‬

‫* في أحد المرات كان عنده أحد األخوة وكان الشيخ يريد أن يسجل " نوٌر على الدرب" ‪ ،‬وكان‬
‫الشيخ يريد هذا أن يخرج ‪ ،‬لكن بأدب ‪ ،‬فقال‪ :‬يا هذا نحن نريد أن نسجل حلقتين متواصالت وأظن‬
‫يطول عليك‪ ،‬قال‪ :‬ال إن شاء اهلل أجلس وأستفيد‪ ،‬قال الشيخ ‪ :‬أخاف تكح ‪ ،‬تعرف التسجيل ما فيه كح‬
‫وال شيء‪ ،‬قال‪ :‬ال إن شاء اهلل ما فيني كحة‪ ،‬قال الشيخ ‪ :‬ال الكحة تجيك‪ ،‬قال ‪ :‬ففهمت وخرجت ‪.‬‬

‫محمد الدحيم‪.‬‬
‫في مدينة (مرو) سنة ‪118‬هـ ولد (عبد اهلل بن المبارك) ونشأ بين العلماء نشأة صالحة‪ ،‬فحفظ القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وتعلم اللغة العربية‪ ،‬وحفظ أحاديث كثيرة من أحاديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫ودرس الفقه‪ ،‬وأنعم اهلل عليه بذاكرة قوية منذ صغره‪ ،‬فقد كان سريع الحفظ‪ ،‬ال ينسى ما يحفظه أبًد ا‪،‬‬
‫يحكي أحد أقربائه واسمه (صخر بن المبارك) عن ذلك فيقول‪ :‬كنا غلماًنا في الكتاب‪ ،‬فمررت أنا‬
‫وابن المبارك ورجل يخطب‪ ،‬فأطال خطبته‪ ،‬فلما انتهى قال لي ابن المبارك‪ :‬قد حفظتها‪ ،‬فسمعه‬
‫رجل من القوم‪ ،‬فقال‪ :‬هاتها‪ ،‬أسمعنا إن كنت حفظتها كما تَّد عي‪ ،‬فأعادها عليه‬

‫ابن المبارك وقد حفظها ولم يخطئ في لفظ منها‪.‬‬

‫وفي الثالثة والعشرين من عمره رحل عبد اهلل إلى بالد اإلسالم الواسعة طلًبا للعلم‪ ،‬فسافر إلى‬
‫العراق والحجاز‪ ..‬وغيرهما‪ ،‬والتقى بعدد كبير من علماء عصره فأخذ عنهم الحديث والفقه‪ ،‬فالتقى‬
‫باإلمام مالك بن أنس‪ ،‬وسفيان الثوري‪ ،‬وأبي حنيفة النعمان‪ ،‬وكان عبد اهلل كلما ازداد علًم ا‪ ،‬ازداد‬
‫خوًفا من اهلل وزهًد ا في الدنيا‪ ،‬وكان إذا قرأ كتاًبا من كتب الوعظ يذكره باآلخرة وبالجنة والنار‪،‬‬
‫وبالوقوف بين يدي اهلل للحساب‪ ،‬بكى بكاء شديًد ا‪ ،‬واقشعر جسمه‪ ،‬وارتعدت فرائصه‪ ،‬وال يكاد يتكلم‬
‫أحد معه‪.‬‬

‫وكان عبد اهلل يكسب من تجارته ماال كثيًر ا‪ ،‬وها هو ذا يعطينا درًس ا بليًغ ا في السلوك الصحيح‬
‫للمسلم‪ ،‬وذلك حين أتاه أحد أصدقائه واسمه (أبو علي) وهو يظن أن الزهد والتجارة ال يجتمعان‬
‫قائًال لعبد اهلل‪ :‬أنت تأمرنا بالزهد‪ ،‬ونراك تأتي بالبضائع من بالد (خراسان) إلى (البلد الحرام) كيف‬
‫ذا ؟! فقال له عبد اهلل بن المبارك‪ :‬يا أبا علي‪ ،‬إنما أفعل ذا ألصون وجهي‪ ،‬وُأْك ِر م عرضي‪،‬‬
‫وأستعين به على طاعة ربي‪ ،‬ال أرى هلل حًّقا إال سارعت إليه حتى أقوم به‪ ،‬وكان عبد اهلل بن‬
‫المبارك ال يبخل على أحد بماله‪ ،‬بل كان كريًم ا سخًّيا‪ ،‬ينفق على الفقراء والمساكين في كل سنة مائة‬
‫ألف درهم‪.‬‬
‫وكان ينفق على طالب العلم بسخاء وجود‪ ،‬حتى عوتب في ذلك فقال‪ :‬إني أعرف مكان قوم لهم‬
‫فضل وصدق‪ ،‬طلبوا الحديث‪ ،‬فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم‪ ،‬احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم‪،‬‬
‫وإن أعناهم بثوا العلم ألمة محمد ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ال أعلم بعد النبوة أفضل من بِّث العلم‪.‬‬

‫وكان ابن المبارك يحُّب مكة‪ ،‬ويكثر من الخروج إليها للحج والزيارة‪ ،‬وكان كلما خرج من مكة قال‪:‬‬

‫ُبْغُض الحياِة وخْو ُف اِهَّلل أخرجَِني‬

‫َو بيُع َنْف سي بما َليَس ْت َلُه ثَم َنا‬

‫إني وزْنُت اَّلذي يْبَقي ِليْع دَله‬

‫ما ليس يْبقي َفال واِهَّلل ما اَّتَز َنا‬

‫وكان عبد اهلل بن المبارك يجاهد في سبيل اهلل بسيفه‪ ،‬حتى إن كثيًر ا ممن أتوا ليستمعوا إلى علمه‪،‬‬
‫كانوا يذهبون إليه فيجدونه في الغزو‪ ،‬وكان يرى أن الجهاد فريضة يجب أن يؤديها المسلمون كما‬
‫أداها الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ويروى عنه أنه أرسل إلى صاحبه الفضيل بن عياض يحُّثه‬
‫على قتال األعداء‪ ،‬ويدعوه إلى ترك البكاء عند البيت الحرام قائًال له‪:‬‬

‫يا عاِبَد الحَر مْين لو أْبَص ْر َتنا‬

‫َلعِلْم َت أَّنَك في العَبادِة َتْلَع ُب‬

‫من كان َيْخ ِض ُب خَّد ه بُد ُموِع ه‬

‫فنحُو رنا بدماِئنا تتخَّض ب‬

‫أْو كان ُيْتعب خيَله في باطل‬

‫فخيوُلنا يوم الصبيحة َتْتعُب‬

‫ريح العبير لكم‪ ،‬ونحن عبيُر نا‬

‫َر َه ُج الَّس َنابك والغباُر األطيُب‬

‫وأحَّب عبد اهلل بن المبارك أحاديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬حًّبا عظيًم ا وكان ال يجيب أحًد ا‬
‫يسأله عن حديث منها وهو يمشي‪ ،‬ويقول للسائل‪( :‬ليس هذا من توقير العلم) وكان حَّفاظ الحديث في‬
‫الكوفة إذا اختلفوا حول حديث قالوا‪:‬‬
‫مروا بنا إلى هذا الطبيب نسأله (يقصدون عبد اهلل بن المبارك)‪.‬‬
‫ولقد اجتمع نفر من أصحابه يوًم ا وقالوا‪ :‬تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫جمع العلم‪ ،‬والفقه‪ ،‬واألدب‪ ،‬والنحو‪ ،‬واللغة‪ ،‬والشعر‪ ،‬والفصاحة والزهد‪ ،‬والورع‪ ،‬واإلنصاف‪،‬‬
‫وقيام الليل‪ ،‬والعبادة‪ ،‬والفروسية‪ ،‬والشجاعة‪ ،‬والشدة في بدنه‪ ،‬وترك الكالم في ما ال يعنيه‪ ..‬حتى‬
‫أجهدهم العُّد ‪.‬‬

‫ولقد قدر الناس عبد اهلل بن المبارك وزادت مهابته لديهم على مهابة هارون الرشيد‪ُ ..‬ر وي أن‬
‫هارون الرشيد قدم ذات يوم إلى (الرَّقة) فوجد الناس يجرون خلف عبد اهلل بن المبارك لينظروا إليه‪،‬‬
‫ويسلموا عليه‪ ،‬فنظرت زوجة هارون الرشيد من شباك قصرها‪ ،‬فلما رأت الناس قالت‪ :‬ما هذا ؟!‬
‫قالوا‪ :‬عالم من خراسان قدم (الرَّقة) يقال له (عبد اهلل بن المبارك) فقالت‪ :‬هذا واهلل الملك‪ ،‬ال ملك‬
‫هارون الذي ال يجمع الناس إال بالشرطة واألعوان‪.‬‬

‫وفي يوم من أيام شهر رمضان سنة ‪181‬هـ توفي عبد اهلل بن المبارك وهو راجع من الغزو‪ ،‬وكان‬
‫عمره ثالثة وستين عاًم ا‪ ،‬ويقال‪ :‬إن الرشيد لما بلغه موت عبداهلل‪ ،‬قال‪ :‬مات اليوم سيد العلماء‪.‬‬
‫قل لي باهلل عليك‪ ..‬مالك ال تخاف سطوًة وال سلطاًنا‪ ..‬تهابك الملوك والسالطين‪ ،‬وأنت الذي ال تحمل‬
‫في يدك سوًط ا وال سيًفا‍؟! عفًو ا يا سلطان العلماء‪ ،‬ال تجب‪ ،‬فقد تذكرت أنك كنت عبًد ا طائًع ا هلل‪،‬‬
‫تطيع أوامره‪ ،‬وتجتنب نواهيه‪ ،‬يعلو صوتك بالحق في وجه الطغاة‪ ،‬فمنحك اهلل قوة وعزة!!‬

‫تمكن التتار من إسقاط الخالفة اإلسالمية في بغداد عام ‪656‬هـ‪ ،‬وواصلوا غزوهم إلى الشام ومصر‬
‫حاملين معهم الخراب والدمار‪ ،‬فهاجر إلى مصر والشام أعداد غفيرة من العلماء‪ ،‬وأصبحت هذه‬
‫البالد مركًز ا للعلم حيث انتشرت فيها المساجد والمدارس‪ ،‬ووفد إليها طالب العلم‪ ،‬من كل مكان‬
‫ليدرسوا علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والنحو والصرف والتاريخ‪ ،‬إلى جانب الفلسفة والفلك‬
‫والهندسة والرياضيات‪ ..‬وغيرها‪.‬‬

‫وسط هذا الجو الذي يشجع على التعُّلم والدراسة‪ ،‬ولد بدمشق عام ‪577‬هـ‬

‫(عز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد السالم) ففتح عينيه على الحياة ليجد أسرته تعاني من الفقر‬
‫وضيق العيش‪ ،‬ونشأ عز الدين على حب العلم‪ ،‬فسمع الحديث الشريف من العالم الجليل (فخر الدين‬
‫ابن عساكر) الذي اشتهر بعلمه وزهده‪ ،‬وتعلم على يد قاضي قضاة (دمشق) الشيخ (جمال الدين بن‬
‫الحرستاني) وغيرهما من األساتذة الكبار‪ ،‬حتى أصبح عالًم ا له مكانته المرموقة بين أساتذته‪.‬‬

‫وكان منصب الخطابة في الجامع األموي (بدمشق) منصًبا عظيًم ا ال يتواله إال كبار العلماء‪ ،‬فتواله‬
‫(عز الدين بن عبد السالم) فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر‪ ،‬وصدع بكلمة الحق‪ ،‬ولم يكن يخشى‬
‫في اهلل لومة الئم‪ ،‬فحارب كل بدعة‪ ،‬وأمات كل ضاللة‪ ،‬وكان يقول‪( :‬طوبى لمن تولى شيًئا من‬
‫أمور المسلمين‪ ،‬فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن)‪.‬‬
‫وفي عام ‪635‬هـ واله السلطان الكامل األيوبي قضاء دمشق‪ ،‬لكنه لم يستمر فيه طويال‪ ،‬بل تركه في‬
‫العام نفسه عندما تولى الحكم (الصالح إسماعيل) الذي كان على خالف مع الشيخ عز الدين؛ ألن‬
‫الملك الصالح تحالف مع الصليبيين‪ ،‬وأعطاهم بيت المقدس وطبرية وعسقالن‪ ،‬وسمح لهم بدخول‬
‫دمشق‪ ،‬وترك لهم حرية الحركة فيها‪ ،‬وشراء السالح منها‪ ،‬وفوق ذلك وعد الصليبيين بجزء من‬
‫مصر إذا هم نصروه على أخيه نجم الدين أيوب سلطان مصر‪ ،‬فلم يرَض الشيخ عز الدين بهذا‬
‫الوضع المهين‪ ،‬فهاجم السلطان في خطبه من فوق منبر المسجد األموي هجوًم ا عنيًفا‪ ،‬وقطع الدعاء‬
‫له في خطب الجمعة‪ ،‬وأفتى بتحريم بيع السالح للصليبيين أو التعاون معهم‪ ،‬ودعا المسلمين إلى‬
‫الجهاد‪.‬‬

‫غضب السلطان الصالح إسماعيل‪ ،‬وأمر بعزل (عز الدين) من إمامة المسجد األموي‪ ،‬ومنعه من‬
‫الفتوى واالتصال بالناس‪ ،‬ولم يكتف بذلك‪ ،‬بل منعه من الخروج من بيته‪ ،‬فقرر عز الدين الهجرة‬
‫من (دمشق) إلى (مصر) فلما خرج منها عام ‪638‬هـ ثار المسلمون في (دمشق) لخروجه‪ ،‬فبعث إليه‬
‫السلطان أحد وزرائه‪ ،‬فلحق به في نابلس‪ ،‬وطلب منه العودة إلى دمشق‪ ،‬فرفض‪ ،‬فقال له الوزير‪:‬‬
‫بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وإلى ما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان‪ ،‬وتعتذر إليه وتقبل‬
‫يده ال غير‪.‬‬

‫فقال عز الدين‪ :‬واهلل يا مسكين‪ ،‬ما أرضى أن يقبل السلطان يدي‪ ،‬فضًال عن أن أقبل يده‪ ،‬يا قوم أنتم‬
‫في واٍد وأنا في واٍد‪ ..‬الحمد هلل الذي عافاني مما ابتالكم به‪ ،‬فقال له الوزير‪ :‬قد أمرني السلطان بذلك‪،‬‬
‫فإما أن تقبله‪ ،‬وإال اعتقلتك‪ ،‬فقال‪ :‬افعلوا ما بدا لكم!!‬

‫واعتقله جنود السلطان في نابلس‪ ،‬وظل في محبسه‪ ،‬حتى جاءت جنود مصر وخلصته‪ ،‬وجاء الشيخ‬
‫عز الدين إلى القاهرة عام ‪639‬هـ فرحب به (نجم الدين أيوب) سلطان مصر‪ ،‬وواله منصب قاضي‬
‫القضاة‪ ،‬وخطيب مسجد عمرو بن العاص‪ ،‬واشتهر الشيخ بالعدالة في القضاء‪ ،‬والجرأة في الحق‪،‬‬
‫حتى أحبه الناس والتفوا حوله‪.‬‬
‫وقد حدثت له حادثة أثناء توليه القضاء تدل على شجاعته وعدله‪ :‬فقد أفتى العز بن عبد السالم أن‬
‫أمراء المماليك حكام مصر في ذلك الوقت مازالوا عبيًد ا رقيًقا‪ ،‬وأنه يجب بيع هؤالء األمراء لصالح‬
‫بيت مال المسلمين وذلك لتحريرهم من عبوديتهم وعتقهم بالطريق الشرعي‪ ،‬حتى يجوز لهم أن‬
‫يتصرفوا تصرف األحرار‪ ،‬فكانت هذه الفتوى ضربة قاضية لهم‪ ،‬حطمت كبرياءهم‪ ،‬وعطلت‬
‫مصالحهم بل إنهم أصبحوا مصدًر ا لسخرية الناس بعد أن قوي نفوذهم‪ ،‬وزاد طغيانهم‪ ،‬وكثرت‬
‫مظالمهم‪.‬‬

‫غضب األمراء المماليك غضًبا شديًد ا‪ ،‬وقدموا شكوى إلى السلطان‪ ،‬وطالبوه بأن يقنع العز بن عبد‬
‫السالم‪ ،‬بالعدول عن رأيه‪ ،‬فتحدث معه السلطان في ذلك‪ ،‬وطلب منه أن يتركهم وشأنهم‪ ،‬فغضب‬
‫عز الدين واستقال من منصب قاضي القضاة‪ ،‬وعزم على مغادرة مصر‪ ،‬فحمل أمتعته على حمار‪،‬‬
‫وحمل أهله على حمار آخر‪ ،‬وسار خلفهم على قدميه خارًج ا من القاهرة؛ وعندما علم الناس خرجوا‬
‫وراءه‪ ،‬فخاف السلطان من الثورة‪ ،‬وقال له أعوانه‪ :‬متى خرج عز الدين من مصر ضاع ملكك!!‬
‫فركب السلطان بنفسه ولحق بالشيخ وطيب خاطره‪ ،‬لكنه لم يقبل أن يعود معه إلى القاهرة إال بعد أن‬
‫وافق السلطان على بيع األمراء المماليك في مزاد علني‪.‬‬

‫رجع الشيخ وأمر بأن ينادي على األمراء في المزاد‪ ،‬وكان من بين الذين سيباعون في المزاد نائب‬
‫السلطنة‪ ،‬فغضب واشتد غيظه‪ ،‬ورفض أن يباع كما تباع الماشية‪ ،‬وصاح في كبرياء‪ :‬كيف ينادي‬
‫علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك األرض؟! واهلل ألضربنه بسيفي‪.‬‬
‫ركب نائب السلطان فرسه وأخذ معه جماعة من األمراء‪ ،‬وذهبوا إلى بيت الشيخ يريدون قتله‪،‬‬
‫وطرقوا الباب‪ ،‬فخرج ابن الشيخ فلما رآهم فزع ورجع إلى أبيه خائًفا يخبره بما رأى‪ ،‬ابتسم الشيخ‬
‫في وجهه‪ ،‬وقال له‪ :‬يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل اهلل‪ ،‬ثم خرج إلى أمراء المماليك‪ ،‬فنظر‬
‫إليهم نظرة عزة وإباء‪ ،‬وأطال النظر إلى نائب السلطان الذي كان شاهًر ا سيفه؛ فارتعدت مفاصل‬
‫نائب السلطان وسقط السيف من يده‪ ،‬ثم بكى وسأل الشيخ أن يعفو عنه ويدعو له‪ ،‬وتَّم للشيخ ما أراد‬
‫وباع األمراء في المزاد واحًد ا واحًد ا‪ ،‬وغالى في ثمنهم‪ ،‬ثم صرفه في وجوه الخير‪.‬‬

‫وكانت لسلطان العلماء (العز بن عبد السالم) مواقف إيمانية في ميدان الجهاد ضد التتار أعداء‬
‫اإلسالم والمسلمين‪ ،‬وكان له دور فعال في هذا األمر‪ ،‬ولم َيْر َض أن تتحمل جماهير الشعب وحدها‬
‫نفقات الجهاد‪ ،‬وهو يعلم أن السلطان ورجاله لديهم أموال كثيرة فقال‪ :‬إذا طرق العدو بالد اإلسالم‬
‫وجب قتالهم‪ ،‬وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم‪ ،‬بشرط أال يبقى في بيت‬
‫المال شيء‪ ،‬وأن يؤخذ كل ما لدى السلطان واألمراء من أموال وذهب وجواهر وحلي‪ ،‬ويبقى لكل‬
‫الجند سالحه‪ ،‬وما يركبه ليحارب عليه ويتساووا هم والعامة‪ ،‬وأما أخذ أموال الناس مع بقاء ما في‬
‫أيدي الجند من األموال‪ ،‬فال‪.‬‬

‫وقد اشترك الشيخ (عز الدين) بنفسه في الجهاد المسلح ضد العدو‪ ،‬وكان دائًم ا يحرض السلطان‬
‫(قطز) على حرب التتار حتى كتب اهلل له النصر في (عين جالوت) عام ‪658‬هـ(‪1260‬م) وكان‬
‫(العز بن عبد السالم) شجاًع ا مقداًم ا‪ ،‬فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة‪ ،‬فشاهد‬
‫األمراء والخدم والحشم يقبلون األرض أمام السلطان‪ ،‬وشاهد الجند صفوًفا أمامه‪ ،‬ورأى األبهة‬
‫والعظمة تحيط به من كل جانب‪ ،‬فتقدم الشيخ إلى السلطان‪ ،‬وناداه باسمه مجرًد ا‪ ،‬وقال‪ :‬يا أيوب‪ ،‬ما‬
‫حجتك عند اهلل إذا قال لك‪ :‬ألم أبوئ لك مصر‪ ،‬ثم تبيح الخمور؟‬
‫فقال السلطان نجم الدين أيوب‪ :‬هل جرى هذا؟‬

‫قال الشيخ‪ :‬نعم تباع الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات‪ ،‬وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة‪،‬‬
‫وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون‪.‬‬

‫فقال السلطان‪ :‬يا سيدي هذا أنا ما عملته‪ ،‬هذا من زمان أبي‪.‬‬

‫فقال الشيخ‪ :‬أنت من الذين يقولون‪ :‬إنا وجدنا آباءنا على أمة‪..‬‬

‫فأصدر السلطان أوامره بإغالق تلك الحانات‪ ،‬ومنع تلك المفاسد‪ ،‬وشاع الخبر بين جمهور المسلمين‬
‫وأهل القاهرة‪ ،‬فسأل أحد تالميذ الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام خدمه وعساكره‬
‫في مثل هذا اليوم الكريم؟ فقال الشيخ‪:‬‬

‫يا بني‪ ،‬رأيُت السلطان في تلك العظمة‪ ،‬فأردُت أن أذكره لئال تكبر عليه نفسه فتؤذيه‪ ..‬قال التلميذ‪:‬‬
‫أما خفته؟ قال عز الدين‪ :‬واهلل يا بني‪ ،‬استحضرُت هيبة اهلل تعالى فلم أخف منه‪.‬‬

‫وكان (العز بن عبد السالم) رغم فقره كريًم ا كثير الصدقات‪ ،‬فيحكى أنه لما كان بدمشق‪ ،‬وحدثت‬
‫ضائقة‪ ،‬وعانى الناس من قلة المال‪ ،‬وانخفضت أسعار البساتين فأعطته زوجته مصاغها‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫اشتِر لنا بثمنه بستانا نصِّيف فيه‪ ،‬فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه‪ ،‬فسألته زوجته‪ :‬هل اشتريت‬
‫لنا بستاًنا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬بستاًنا في الجنة‪ ،‬إني وجدت الناس في شدة‪ ،‬فتصدقُت بثمنه‪ ،‬فقالت‪ :‬جزاك اهلل‬
‫خيًر ا‪.‬‬

‫وعاش الشيخ (عز الدين) ‪ 83‬عاًم ا يدعو إلى اهلل ويجاهد في سبيله‪ ،‬يأمر بالمعروف وينهي عن‬
‫المنكر إلى أن توفي عام ‪660‬هـ‪ ،‬فخرج الرجال والنساء والشباب واألطفال يودعون سلطان‬
‫العلماء‪ ،‬وصلى عليه سلطان مصر والشام ‪-‬في ذلك الوقت‪ -‬الظاهر (بيبرس)‪.‬‬

‫وقد أشاد به العلماء والمؤرخون حتى أطلق عليه تلميذه شيخ اإلسالم‬

‫(تقي الدين بن دقيق العيد) لقب (سلطان العلماء)‪ ..‬رحم اهلل العز بن عبد السالم رمز العزة واإلباء‪.‬‬
‫" الرقة ولين الفؤاد صفتان جميلتان مدح بهما الرسول صلى اهلل عليه وسلم قومًا من الناس ‪ ,‬وذم‬
‫آخرين يوم أن اتصفوا بنقيضها ‪ .‬وشيخنا العالمة الكبير محمد بن صالح العثيمين _ رحمه اهلل _‬
‫ممن ُع رف بالقوة والحياة الجادة والثبات والشدة في الحق والكل يعرف عنه ذلك ‪ ,‬لكن مما اتصف‬
‫به شيخنا _ رحمه اهلل _ مع ذلك رأفة القلب وصفاء النفس ومحبة الخير والسعي لنفع الناس ‪..‬وعدد‬
‫ما شئت مما يتصف به العلماء ‪ .‬وبين يدي قصة عشتها وأثرت فَّي أحداثها ‪.‬‬

‫عبد الرحمن بن داوود من خيرة طالب شيخنا وأحاسنهم أخالقًا من يمن اإليمان والحكمة له في‬
‫قلوب الجميع محبة ومكانة ‪. ..‬‬

‫حصل له حادث توفي على أثره وهو في طريقه لمدينة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ,‬حزن‬
‫الجميع للنبأ وسلمنا لقضاء اهلل وقدره ووضعت الجنازة بعد صالة المغرب ليتقدم شيخنا _ رحمه اهلل‬
‫– ويصلي عليه ‪ ,‬ثم ُتحمل الجنازة إلى المقبرة ‪.‬‬

‫وفجأة بعد الصالة إفتقدنا الشيخ رحمه اهلل فقال البعض لعله تبع الجنازة وقال آخرون لعل الشيخ‬
‫صائم فذهب لإلفطار كما هي عادته وسيعود بعد ربع ساعة أما البعض فقد رأوا شيخنا عندما نزل‬
‫بعد الصالة إلى قبو المسجد ‪ ,‬فجلسوا حول كرسي الشيخ في إنتظار صعوده للدرس اليومي ‪.‬‬

‫ثم قام أحد األخوة من طلبة الشيخ المعروفين_ ممن لم ير الشيخ _ فنزل إلى القبو ريثما يعود الشيخ‬
‫‪ ,‬وفجأة وهو ينزل إذ بالشيخ _ رحمه اهلل _ يصعد من القبو وهو يمسح الدموع عن وجهه ‪ ,‬وقد‬
‫ظهر على وجهه التأثر الشديد والبكاء ‪ ,‬هنا ألقى صاحبنا على شيخنا السالم ثم صعد ‪ ,‬أما الشيخ فقد‬
‫كفكف دمعه وصعد إلى مكان الدرس وجلس على كرسيه والجميع حوله ثم ترحم على إخينا _ عبد‬
‫الرحمن _ وذكره بخير ثم استمر في درسه وكأن شيئًا لم يكن ‪ .‬ما ذا نقول ‪.‬؟! ثبات و قوة في رقة و‬
‫إيمان ‪..‬‬

‫رحم اهلل عبد الرحمن بن داود ورحم اهلل شيخنا فقد لحق المعلم بالطالب ونحن على األثر‪.‬‬
‫يقول الشيخ عبد السالم العييري وهو يتكلم عن الشيخ علي الطنطاوي رحمه اهلل وهو يتحدث عن‬
‫موقف أثر فيه كثيرًا يقول‪:‬‬

‫ياللعار! أنتم أيها الناس تأكلون وتشربون وتنامون على الفرش الوفيرة وتصغون إلى أصوات‬
‫المذياع وتتمددون على مقاعد المقاهي وإخوانكم هناك يخوضون في الدم‪ ،‬يا للعار!‪.‬‬

‫إني ألكتب هذه الكلمة وأنا أبكي ولقد مرت علي أيام شداد ومصائب جسام فما بكيت وال ترقرقت في‬
‫مقلتي دمعة‪ ،‬ولكني أقسم باهلل العظيم أبكي اآلن من أعماق قلبي‪.‬‬

‫أتدرون لماذا؟‪.‬‬

‫كنت قاعدًا أشرب بعض الشاي وأشتغل بكتابي الذي أؤلفه فما سمعت إال ضجة في الدار وكالمًا لم‬
‫أتبينه ولهجة لم آلفها ‪.‬‬

‫فسألت فإذا في الدار امرأة من فلسطين شريفة غنية من أسرة كبيرة كشفت مالءة عليها بالية فإذا‬
‫ليس تحتها شيء وإذا هي عارية ليس على جسمها إال سراويل وإذا هي قد قصفها الجوع‪.‬‬

‫وانطلقت تصف ما جرى عليها منذ قتلوا زوجها وأخاها وطفلها إلى أن نجت بالباقين وهي عارية‬
‫من المال والثياب إلى أن وصلت إلى محطة الشام فتركت أطفالها في المحطة تحت حرارة الشمس‬
‫ومشت على غير هدى حتى وجدت هذا الباب فولجته‪.‬‬

‫انطلقت تحكي وأهل الدار يبكون حتى كادت تصير الدار كأنها مناحة‪ ،‬ثم وضعوا بين يديها كل ما‬
‫يقدرون عليه‪ ،‬ثم ذهبت ال أدري إلى أين وال أدري ماذا تصنع غدًا وال الذي بعده‪ ،‬وال أعلم من معها‬
‫وماذا جرى لغيرها؟‪.‬‬

‫فهل في الناس من يعلم ويدري‪ ،‬وهل في الناس من يحب أن يعلم‪ ،‬وهل في البلد مسلم‪ ،‬هل في البلد‬
‫عربي‪ ،‬هل في البلد إنسان؟!‪.‬‬

‫سيبكي بعض القراء وينتحب ثم ينام وال يدفع شيئًا‪.‬‬

‫سيهز بعض الموظفين أكتافه ويقول‪ :‬أنا ال أشتغل بالسياسية‪ ،‬ثم يذهب إلى السينما أو البار أو دار‬
‫القمار‪.‬‬

‫سيفرك الشيخ كفه ويقول‪ :‬إنا هلل وإنا إليه راجعون‪ ،‬ثم يذهب يعد قروشه على سبحته‪.‬‬

‫سيلوح التاجر بيديه ويقول‪ :‬التجارة واقفة‪ ،‬ماذا نصنع؟ ‪.‬‬


‫ال يا سادة‪ ،‬ال البكاء ينفعنا وال الحوقلة‪ ،‬إن هذه ليست سياسة ولكنها واجب وطني ديني إنساني‪.‬‬

‫إن أصغر تاجر يستطيع أن يساعد فلسطين‪.‬‬

‫يا أيها الناس! إن المئات من النساء يضلن في الطرقات جائعات عاريات في مدن فلسطين وفي‬
‫أراضي الشام‪.‬‬

‫إن المرأة التي ذهبت اآلن من دارنا مثال من هؤالء النساء‪ ،‬فمن يتطوع للبحث عنهن‪ ،‬من يتقدم‬
‫فيستأجر لهن الدور ويجمع من الناس فينفق عليهن‪.‬‬

‫أتذهب هذه الكلمة صيحة في واد‪ ،‬ألم يبق في البلد مسلم؟! ألم يبق عربي؟! ألم يبق شريف؟!‬

‫أتعاد مأساة أندلس جديدة وأنتم تنظرون؟ ألم يكف هذا الموقف المخجل الذي وقفه رؤساء العرب‪،‬‬
‫أتكون الشعوب العربية أيضًا مقصرة‪.‬‬

‫مائة وعشرة أيام مرت على فلسطين‪ ،‬ال البائع باع فيها وال الصانع اشتغل‪ ،‬وال األجير أخذ أجرته‪.‬‬

‫فمن أين يعيش فقراء فلسطين؟! من أين يجدون ثمن الخبز؟! ألم تفكروا في هذا‪ ،‬ألم يخطر لكم على‬
‫بال؟!‬

‫أتأكلون وتشربون وتلعبون وتطربون وأهل فلسطين يموتون؟!‬

‫يا للعار يا للعار‪.‬‬

‫المصدر‪ :‬شريط ( من أعالم العصر ) ‪.‬‬


‫• إلى هذه الدرجة الدقة‬

‫قال الشيخ محمد بن صالح المنجد ‪:‬‬


‫كان متحريًا للدقة حتى في تصحيح درجات الطالب فربما يعطي واحدا من خمس وأربعين وواحدًا‬
‫من ثمانين فيقول له بعض من حوله من المدرسين ‪ :‬إلى هذه الدرجة الدقة فقال ‪ :‬ال أستطيع أن أزيده‬
‫فأظلم غيره وال أن أنقصه فأظلمه ‪.‬‬

‫• خصم مكافأة من المحاضرات‬

‫قال األمير فيصل بن بندر ‪:‬‬

‫كان العالمة الراحل أستاذًا في فرع جامعة اإلمام محمد بن سعود ‪ ،‬ومعروف أن األساتذة لهم رواتب‬
‫في ضوء ما يقدمونه من محاضرات ‪.‬‬

‫وقد يحدث أحيانًا أن يكون للشيخ ارتباطات في عمله في هيئة كبار العلماء أو في الحج أو في أي‬
‫ارتباطات أخرى‪ ،‬ومن ثم ال يتمكن من حضور بعض هذه المحاضرات ‪ ،‬فلما جاءت أوراق تسلم‬
‫الرواتب طلب من المسؤول عنها خصم مكافأة جميع المحاضرات التي أعتذر عنها ‪.‬‬

‫• الراحة في خدمة المسلمين‬

‫قال الشيخ بدر بن نادر المشاري ‪:‬‬

‫رغم مرض الشيخ ( رحمه اهلل ) حرص على خطب الجمعة في الجامع الكبير واإلمامة واإللتقاء‬
‫بالناس لإلجابة على أسئلتهم واستفساراتهم رغم كل معاناته حتى قيل له في وقت مرضه ‪ :‬أرح‬
‫نفسك يا شيخ ‪.‬‬

‫قال ‪ :‬الراحة في خدمة المسلمين ‪...‬‬

‫• صالة وقراءة قرآن‬

‫قال الشيخ سعد بن عبد اهلل البريك ‪:‬‬

‫إن هذا العالم الجليل حتى آخر لحظة من لحظات عمره كما يخبرني الطبيب الذي كان معه آخر أيام‬
‫حياته وقابلته بعد موته بساعة أو ساعتين في المستشفى التخصصي في جدة قال ‪ :‬إني كنت آخر‬
‫األيام مع الشيخ فسألته ما كان دأبه في األيام أألخيرة قال ‪ :‬ما رأيت عليه سوى الصالة وقراءة‬
‫القرآن ‪ ،‬ما اشتغل بغير ذلك بشيء أبدًا ‪.‬‬
‫• كلمة تدون بماء الذهب‬

‫قال الشيخ بدر بن نادر المشاري ‪:‬‬


‫لما رجع من أمريكا بعد العالج سئل عن حالته العالجية والصحية فقال الشيخ كلمه تدون بماء الذهب‬
‫قال‪ :‬اعلموا أن المرض ال يقدم اآلجال وأن العافية ال تؤخر اآلمال واآلجال وأن أجلي مكتوب‬
‫وأجلكم مكتوب من قبل أن يخلق اهلل السماوات واألرض فآمنوا بهذا فإني قد آمنت به ‪.‬‬

‫• أصابه ألم في ركبته‬

‫قال الشيخ علي بن عبد اهلل السلطان ‪:‬‬

‫اذكر أنه من حرص الشيخ ( رحمه اهلل ) على التعليم أنه قبل سنة ألف وأربعمائة للهجرة أصيب في‬
‫ركبته أو أصابه ألم في ركبته أقعده حيث لم يتمكن معه الذهاب إلى الجامع الكبير فترًة من الزمن ‪،‬‬
‫فما كان منه ( رحمه اهلل ) إال أن نقل الدرس إلى المسجد الذي في جوار بيته مسجد ‪ ،‬كل ذلك‬
‫حرصًا على عدم انقطاع الدرس ‪...‬‬

‫• اعملوا ما شئتم وسألقي الدرس‬

‫قال الشيخ محمد رابع سليمان ‪:‬‬

‫سجل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين خالل شهر رمضان الماضي موقفًا مؤثرًا أمام أطبائه‬
‫الذين كانوا يشرفون على حالته الصحية داخل المسجد الحرام فقد كانت حالة الشيخ الصحية تستدعي‬
‫راحته في تلك الليلة وعدم إلقائه الدرس بعد صالة التراويح ألن األطباء يرغبون في إضافة دم‬
‫للشيخ وعمل بعض الفحوصات ‪ ،‬لكن الشيخ قال لهم ‪ :‬اعملوا ما شئتم وسألقي الدرس ‪ ،‬فكان يتحدث‬
‫ويلقي المحاضرة واألطباء يضعون اإلبر في جسده لزيادة الدم واستكمال الفحوصات والتأكد من‬
‫درجة الحرارة والضغط والحالة الصحية العامة ‪ ،‬فهكذا وإلى هذه الدرجة كان حرصه على نشر‬
‫العلم وتعليم الناس حتى آخر يوم من رمضان قبل مغادرته المسجد الحرام ‪.‬‬
‫• بكى بكاًء شديدًا‬

‫قال خالد بن عبد اهلل الحمودي ‪:‬‬

‫قبل وفاته رحمه اهلل حضرنا مجلسا ًوكنت معه فتليت قصيدًة في هذا المجلس عن الموت فبكى الشيخ‬
‫بكاًء شديدًا وهو يسأل اهلل قائًال ‪ :‬اللهم أعنا على الموت وكان ذلك قبل وفاته بأشهر قليلة ‪.‬‬

‫• بحث في المساجد‬

‫قال الشيخ محمد بن صالح المنجد ‪:‬‬


‫دخل مرًة البلد والمساجد مغلقة ‪ ،‬بعدما رجع من سفر فبحث في المساجد حتى وجد واحدًا مفتوحًا‬
‫فبدأ به بركعتين تطبيقًا للسنة إذا دخل البلد يبدأ بالمسجد ويصلي ركعتين ‪.‬‬

‫• قليل الكالم و كثير الحمد‬

‫قال الشيخ بدر بن نادر المشاري ‪:‬‬

‫قال الطبيب المعالج للشيخ أن الشيخ محمد ( رحمُة اهلل عليه ) كان يقرأ القرآن الكريم ثم دخل في‬
‫غيبوبة قبل وفاته بساعة ‪ ،‬وكان الشيخ قليل الكالم وكثير الحمد واالستغفار ‪ ،‬يقول الطبيب ‪ :‬سمعته‬
‫مرة يقرأ سورة الفاتحة وتارة كان يتمتم لصعوبة حالته الصحية ‪ ،‬وعندما ُس ئل أبناؤه عما يتمتم به‬
‫الشيخ ذكروا بأنه كان يقرأ القرآن ‪.‬‬

‫كتاب ‪ /‬صفحات مشرقة من حياة الشيخ محمد العثيمين رحمه اهلل‬


‫كان ابن باز رحمه اهلل تعالى من العلماء الربانيين وكان من منهجه في الفتوى أن يقول ‪ :‬ال أدري‬
‫للشيء الذي ال يعلمه ‪..‬‬

‫وهذا منهج نبوي ‪ ،‬فقد قالها محمد صلى اهلل عليه وسلم !!‬

‫لما سئل الرسول صلى اهلل عليه وسلم أي البقاع أحب إلى اهلل ؟ وأي البقاع أبغض إلى اهلل ؟ قال‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ال أدري حتى يأتي أخي جبريل فأسأله ‪.‬‬

‫فقول العالم ال أدري تزيد من مكانته‪ ،‬ويفتح اهلل عليه فتوحًا لم تكن بالحسبان‪ ،‬ألنه وكل العلم إلى‬
‫عالمه‪ ،‬والشيخ رحمه اهلل مع سعة علمه واطالعه يقف عند المسائل التي ال علم له بها‪.‬‬

‫* سئل ـ رحمه اهلل ـ عن رجل قرأ في الصالة " آية الَّد ْين " فقسمها بين الركعتين‪ ،‬فتوقف الشيخ‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬ألول مرة أسأل عن هذه المسألة ‪.‬‬

‫ثم قال ‪ :‬إن قرأها فال بأس‪ ،‬لكن األولى أن يقرأها في ركعة واحدة ‪.‬‬

‫فعلى كثرة المسائل والفتاوى التي تعرض عليه‪ ،‬يعترف ويقول على مسامع الطلبة ببساطة‪ :‬أنا أول‬
‫مرة تمر علي هذه المسألة ‪.‬‬

‫الشاهد قوله ‪ :‬ألول مرة تعرض علي هذه المسألة‪ ،‬بعكس المتعالم الذي كل شيء يعلمه وعلى اطالع‬
‫بكل شيء‪ ،‬أما الشيخ رحمه اهلل تعالى فكان العالم الحق الذي يخشى اهلل عز وجل‪ ،‬هكذا نحسبه واهلل‬
‫حسيب الجميع ‪.‬‬

‫* حصل كثيرا جدًا أن يقول الشيخ ‪ :‬هذه المسألة تحتاج إلى مراجعة‪ ،‬فيحيل هذه المسألة إلى بعض‬
‫طلبة العلم في الدرس فيقول ‪ :‬يا فالن هل تبحث لنا المسألة ولك منا الدعاء ؟ فيقول الطالب ‪ :‬نعم‪ ،‬ثم‬
‫يأتي بالبحث ويقرأه على الشيخ ‪ ،‬ثم يعلق عليه رحمه اهلل ‪ .‬وقد صدر في ذلك أجزاء حديثية مما قرأ‬
‫على الشيخ مما أمر ببحثه‪.‬‬

‫* جاء رجل واستفتى الشيخ رحمه اهلل أثناء الدرس‪ ،‬وكان الشيخ يفتي الذين خارج الدرس حتى أثناء‬
‫الدرس؛ يقول‪ :‬هم أصحاب حاجات‪ ،‬يعني ال عالقة لهم بالدرس‪ ،‬فهذا الرجل استفتى الشيخ‪ ،‬فقال‬
‫الشيخ ‪ :‬ال أدري ‪ ،‬ال أعرف ‪.‬‬

‫فقال الرجل ‪ :‬أنت تقول ال أعرف ‪.‬‬

‫قال الشيخ ‪ّ :‬أّذ ن في اآلفاق أن ابن باز ال يعرف‪.‬‬


‫محمد الدحيم‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫لمحة عن حياة اإلمام ابن تيمية‬


‫‪ 728 - 661‬هو شيخ اإلسالم ابن تيمية اإلمام المحدث الحافظ الناقد والمفسر الغواص في معاني‬
‫القرآن والمؤرخ المطلع على أحداث التاريخ المبرز في العلوم النقلية والعقلية على كبار‬
‫المتخصصين فيها واآلمر بالمعروف الناهي عن المنكر الزاهد العابد المجاهد المظفر في ميادين‬
‫القتال وفي ميادين الدفاع عن حياض اإلسالم بالحجة والبرهان‪.‬‬

‫سيف اهلل المسلول على الفالسفة والملحدين وعلى الغالة المبتدعين‪ ،‬جندت كثير من األقالم لترجمته‬
‫وإبراز شخصيته الفذة وسطرت في هذا الشأن عشرات من المجلدات(‪ )1‬وفي ذلك ما يغني القارئ‬
‫عن أن أترجم له في هذه المقدمة‪ ،‬غير أني أرى أن أتحف القارئ بشذرات مما زكاه به كبار علماء‬
‫عصره تتناول بعض الجوانب من حياته وأن أعطيه فكرة مجملة عن كثرة مصنفاته الدالة على‬
‫تبحره في العلوم وامتالك نواصيها‪.‬‬

‫‪ - 1‬قال اإلمام الحافظ أبو عبد اهلل محمد بن أحمد بن عبدالهادي (ت‪" :)744‬هو الشيخ اإلمام الرباني‬
‫إمام األئمة‪ ،‬ومفتي األمة‪ ،‬وبحر العلوم‪ ،‬سيد الحفاظ‪ ،‬وفارس المعاني واأللفاظ‪ ،‬فريد العصر وقريع‬
‫الدهر‪ ،‬شيخ اإلسالم‪ ،‬وعالمة الزمان ترجمان القرآن‪ ،‬علم الزهاد‪ ،‬أوحد العباد وقامع المبتدعين‬
‫وآخر المجتهدين‪ ،‬تقي الدين أبوالعباس‪ ،‬أحمد بن الشيخ اإلمام العالمة شهاب الدين أبي المحاسن‪،‬‬
‫عبد الحليم بن الشيخ اإلمام العالمة‪ ،‬شيخ اإلسالم مجد الدين أبي البركات‪ ،‬عبد السالم بن أبي محمد‬
‫عبد اهلل بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد اهلل ابن تيمية الحراني‪ ،‬نزيل‬
‫دمشق‪ ،‬صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها"(‪.)2‬‬
‫‪ - 2‬وقال اإلمام الحافظ الفقيه األديب ابن سيد الناس فتح الدين أبوالفتح محمد بن محمد اليعمري‬
‫المصري الشافعي‪ :‬وهو يتحدث عن المزي‪" :‬وهو الذي حداني على رؤية الشيخ اإلمام شيخ اإلسالم‬
‫تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السالم بن تيمية‪ ،‬فألفيته ممن أدرك من العلوم‬
‫حظًا‪ ،‬وكاد أن يستوعب السنن واآلثار حفظًا‪ .‬إن تكلم في التفسير‪ ،‬فهو حامل رايته‪ ،‬أو أفتى في‬
‫الفقه‪ ،‬فهو مدرك غايته‪ ،‬أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته‪ ،‬أو حاضر بالملل‬
‫والنحل‪ ،‬لم ير أوسع من نحلته في ذلك‪ ،‬وال أرفع من درايته‪ .‬برز في كل فن على أبناء جنسه‪ ،‬ولم‬
‫تر عين من رآه مثله وال رأت عينه مثل نفسه(‪.)3‬‬

‫‪ - 3‬وقال اإلمام الحافظ الناقد أبوالحجاج يوسف المزي (ت‪:)742‬‬

‫ما رأيت مثله‪ ،‬وال رأى هو مثل نفسه‪ ،‬وما رأيت أحًد ا أعلم بكتاب اهلل وسنة رسوله وال أتبع لهما‬
‫منه"‪.‬‬

‫‪ - 4‬وقال العالمة كمال الدين ابن الزملكاني‪:‬‬

‫"كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه ال يعرف غير ذلك الفن‪ ،‬وحكم أن أحًد ا ال‬
‫يعرفه مثله‪ ،‬وكان الفقهاء من سائر الطوائف‪ ،‬إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا‬
‫قد عرفوه قبل ذلك‪ ،‬وال يعرف أنه ناظر أحًد ا فانقطع معه وال تكلم في علم من العلوم سواء أكان من‬
‫علوم الشرع أم غيرها إال فاق فيه أهله والمنسوبين إليه‪ ،‬وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف‬
‫وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين‪ ..‬واجتمعت فيه شروط االجتهاد على وجهها"(‪.)4‬‬

‫وقال اإلمام الحافظ أبوعبد اهلل شمس الدين الذهبي (ت ‪ )748‬وقد ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬‬
‫رحمه اهلل ‪:-‬‬
‫"كان آية في الذكاء وسرعة اإلدراك رأسًا في معرفة الكتاب والسنة‪ ،‬واالختالف‪ ،‬بحرًا في النقليات‪،‬‬
‫هو في زمانه فريد عصره علمًا وزهدًا وشجاعة وسخاء وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر وكثرة‬
‫التصانيف وقرأ وحصل وبرع في الحديث والفقه وتأهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة‬
‫وتقدم في علم األصول وجميع علوم اإلسالم‪ :‬أصولها وفروعها‪ ،‬ودقها وجلها سوى علم القراءات‬
‫فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه‪ ،‬وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق‪ ،‬وإن حضر الحفاظ نطق‬
‫وخرسوا وسرد وُأبلسوا واستغنى وأفلسوا وإن سمي المتكلمون فهو فردهم‪ ،‬وإليه مرجعهم‪ ،‬وإن الح‬
‫ابن سيناء يقدم الفالسفة فَّلهم وتَّيسهم وهتك أستارهم وكشف عوراهم وله يد طولى في معرفة‬
‫العربية والصرف واللغة‪ ،‬وهو أعظم من أن يصفه كلمي أو ينبه على شأوه قلمي‪ ،‬فإن سيرته‬
‫وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقالته تحتمل أن توضع في مجلدتين وهو بشر من البشر له ذنوب فاهلل‬
‫يغفر له ويسكنه أعلى الجنة فإنه كان رباني األمة فريد الزمان وحامل لواء الشريعة وصاحب‬
‫معضالت المسلمين‪ ،‬وكان رأسا في العلم يبالغ في إطراء قيامه في الحق‪ ،‬والجهاد واألمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة ما رأيتها وال شاهدتها من أحد‪ ،‬وال لحظتها من فقيه‪.‬‬

‫وقال في مكان آخر‪ :‬قلت‪ :‬وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ومعرفة بفنون‬
‫الحديث وبالعالي والنازل وبالصحيح وبالسقيم مع حفظه لمتونه الذي انفرد به‪ ،‬فال يبلغ أحد في‬
‫العصر رتبته‪ ،‬وال يقاربه وهو عجب في استحضاره واستخراج الحجج منه وإليه المنتهى في عزوه‬
‫إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال‪" :‬كل حديث ال يعرفه ابن تيمية فليس بحديث"‬
‫لكن اإلحاطة هلل غير أن يغترف من بحر‪ ،‬وغيره من األئمة يغترفون من السواقي‪.‬‬
‫وأما التفسير فمسلم إليه‪ ،‬وله في استحضار اآليات من القرآن ‪ -‬وقت إقامة الدليل بها على المسألة ‪-‬‬
‫قوة عجيبة‪ ،‬وإذا رآه المقرئ تحير فيه‪ ،‬ولفرط إمامته في التفسير وعظم إطالعه يبين خطأ كثير من‬
‫أقوال المفسرين ويوهي أقواًال عديدة وينصر قوًال واحًد ا موافقًا لما دل عليه القرآن والحديث‪.‬‬

‫ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من األصلين أو من الرد على الفالسفة واألوائل‬
‫نحًو ا من أربعة كراريس أو أزيد‪ ،‬وما أبعد أن تصانيفه اآلن تبلغ خمسمائة مجلدة‪ ،‬وله في غير‬
‫مسألة مصنف مفرد في مجلد(‪.)5‬‬

‫شيوخه‬

‫بلغ عدد شيوخه أكثر من مائتي شيخ‪ ،‬من أبرزهم والده عبد الحليم بن عبد السالم بن تيمية (ت‬
‫‪ ،)682‬والمحدث أبوالعباس أحمد ابن عبد الدائم (ت‪ ،)668‬وابن أبي اليسر‪ ،‬والشيخ شمس الدين‬
‫عبد الرحمن المقدسي الحنبلي (ت‪ ،)689‬وابن الظاهري الحافظ أبوالعباس الحلبي الحنفي (ت‪.)690‬‬

‫تالميذه‬

‫َأَّما تالميذه فال يحصون كثرة‪ ،‬فمن تالميذه البارزين والمبرزين‪:‬‬

‫‪ - 1‬شمس الدين أبوعبد اهلل محمد بن أبي بكر الزرعي ابن قيم الجوزية المتوفى سنة (‪.)751‬‬

‫‪ - 2‬والحافظ أبو عبد اهلل محمد بن أحمد بن عبد الهادي (ت ‪.)744‬‬

‫‪ - 3‬والحافظ أبوالحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي المتوفى (‪.)742‬‬

‫‪ - 4‬والحافظ المؤرخ أبو عبد اهلل محمد بن عثمان الذهبي (ت‪.)748‬‬

‫‪ - 5‬وأبوالفتح ابن سيد الناس محمد بن محمد اليعمري المصري (ت‪.)734‬‬

‫‪ - 6‬والحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي (ت‪.)739‬‬

‫مؤلفاته‪:‬‬

‫إن مؤلفات هذا اإلمام كثيرة جدًا بحيث عجز تالميذه ومحبوه عن إحصائها‪ ،‬قال تلميذه النجيب شمس‬
‫الدين أبوعبد اهلل محمد بن أبي بكر المشهور بابن القيم ‪ -‬رحمه اهلل ‪:-‬‬
‫"أما بعد‪ :‬فإن جماعة من محبي السنة والعلم سألني أن أذكر له ما ألفه الشيخ اإلمام العالمة الحافظ‬
‫أوحد زمانه‪ ،‬تقي الدين أبوالعباس أحمد ابن تيمية ‪ -‬رضي اهلل عنه ‪ -‬فذكرت لهم أني عجزت عن‬
‫حصرها وتعدادها لوجوه أبديتها لبعضهم وسأذكرها إن شاء اهلل فيما بعد‪."...‬‬

‫ثم قال‪:‬‬

‫‪" - 1‬فمما رأيته في التفسير" فذكر اثنين وتسعين مؤلفا ما بين رسالة وقاعدة(‪.)6‬‬

‫‪ - 2‬قال‪" :‬ومما صنفه في األصول مبتدًئا أو مجيبًا لمعترض أو سائل" فذكر عشرين مؤلفًا ما بين‬
‫كتاب ورسالة وقاعدة(‪.)7‬‬

‫‪ - 3‬ثم قال‪" :‬قواعد وفتاوى" فذكر خمسة وأربعين ومائة ما بين كتاب وقاعدة ورسالة(‪.)8‬‬

‫‪" - 4‬الكتب الفقهية" وسرد خمسة وخمسين مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة وقاعدة(‪.)9‬‬

‫‪" - 5‬وصايا وإجازات ورسائل تتضمن علومًا" بلغت اثنتين وعشرين(‪.)10‬‬

‫وذكر الحافظ ابن عبد الهادي كثيًر ا من مؤلفات شيخ اإلسالم مع ذكر نماذج لبعض المؤلفات‬
‫والتنويه بمكانتها في كتابه العقود الدرية(‪ )11‬من مناقب شيخ اإلسالم ابن تيمية‪.‬‬

‫هذه لمحة خاطفة عن حياة هذا اإلمام العظيم ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬وأسكنه فسيح جناته‪.‬‬

‫المصدر‪ :‬مقدمة كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة‬


‫ُبِّش ر أنس بن مالك بن أبي عامر ذات يوم ببشرى سعيدة‪ ،‬فقد رزقه اهلل بمولود أسماه (مالًك ا) كان‬
‫ذلك الحدث السعيد سنة ثالث وتسعين من الهجرة على بقعة من أطهر بقاع األرض وهي المدينة‬
‫المنورة‪ ،‬البلد الذي هاجر إليه رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وأصحابه‪ ،‬فاستنارت بهم وازدانت‪.‬‬

‫فتح مالك عينيه على الحياة‪ ،‬فوجد التقدير والمهابة يعم المدينة وأهلها‪ ،‬وكيف ال وقد حوى ترابها‬
‫جثمان رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ودفن فيها‪ ،‬وضمت أرجاؤها حلقات العلم التي تنتشر في‬
‫كل مكان‪.‬‬

‫نشأ الطفل في أسرة تشتغل بالعلم‪ ،‬فجده (مالك بن أبي عامر) من كبار التابعين فشجعه ذلك على‬
‫حفظ القرآن الكريم‪ ،‬فأتم حفظه وأتقن تالوته‪ ،‬لكنه لم يكتِف بذلك بل إنه أراد حفظ أحاديث رسول اهلل‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فذهب إلى أمه وقال لها‪ :‬يا أماه إني أحب رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫وأريد أن أحفظ أحاديثه‪ ،‬فكيف لي بذلك؟! ابتسمت أمه ابتسامة صافية‪ ،‬وضمته إليها‪ ،‬ثم ألبسته ثياًبا‬
‫جميلة وعممته وقالت له‪ :‬اذهب إلى (ربيعة الرأي) ‪-‬وكان فقيًها كبيًر ا‪ -‬وتعلم من أدبه قبل علمه‪.‬‬
‫فجلس الطفل الصغير ‪-‬مالك بن أنس‪ -‬يستمع إلى شيخه وينهل من علمه‪ ،‬وبعد انتهاء الدرس يسرع‬
‫بالجلوس تحت ظالل األشجار ليحفظ ما سمعه من معلمه؛ حتى ال ينساه‪ ،‬وقد رأته أخته ذات مرة‬
‫وهو على هذه الحال؛ فذهبت إلى أبيها وقصت عليه ما شاهدته‪ ،‬فقال لها‪ :‬يا بنيتي إنه يحفظ أحاديث‬
‫رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وكان مالك بن أنس كغيره من األطفال الصغار يحب اللعب؛‬
‫فشغله ذلك عن الدرس والعلم قليًال إلى أن حدث له موقف كان له أثر كبير في حياته‪ ،‬فقد سأله أبوه‬
‫يوًم ا في مسألة هو وأخوه النضر‪ ،‬فأصاب النضر‪ ،‬وأخطأ مالك في الرد على السؤال؛ فغضب منه‬
‫والده‪ ،‬فكانت هذه الحادثة سبًبا في عزمه على الجد واالجتهاد في العلم‪ ،‬فذهب من فوره إلى (ابن‬
‫هرمز) وهو عالم كبير‪ ،‬فأخذ يتلقى العلم عليه سبع سنوات‪ ،‬وكان شديد الحرص على االستفادة منه‬
‫خاللها‪.‬‬

‫قال (ابن هرمز) لجاريته في يوم من األيام‪ :‬انظري من بالباب‪ ،‬فلم تر إال (مالًك ا) فرجعت إلى الشيخ‬
‫وقالت له‪ :‬ال يوجد إال ذلك الغالم األشقر (تعني مالًك ا) فقال لها‪ :‬دعيه يدخل فذلك عالم الناس!! وتعلم‬
‫منه مالك كيف يرد على أصحاب البدع والضالالت‪ ،‬وأراد مالك المزيد‪ ،‬فذهب إلى نافع (مولى عبد‬
‫اهلل بن عمر) أحد الرواة العظام الذين رووا عن ابن عمر أحاديث الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫وكان ينتظره في شدة الحر يترقب خروجه من منزله‪ ،‬ثم يصطحبه إلى المسجد‪ ،‬حتى إذا ما انتهى‬
‫(نافع) من أداء الصالة ومكث برهة؛ انتهز الصبي الصغير الفرصة وسأله في الحديث والفقه‪ ،‬فنهل‬
‫من علمه وأخذ عنه ما في رأسه من نور رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ثم الزم مالك بن أنس المحدث الكبير (ابن شهاب الزهري) ليتعلم على يديه‪ ،‬وحرص على أال يفوته‬
‫درس من دروس هذا الشيخ‪ ،‬حتى يوم العيد نفسه وهو اليوم الذي يلهو فيه الصبيان ويمرحون‪،‬‬
‫روي عن مالك أنه قال‪ :‬شهدت العيد‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب‪ ،‬فانصرفت من المصلى‬
‫حتى جلست على بابه‪ ،‬فسمعته يقول لجاريته‪ :‬انظري من بالباب‪ ،‬فنظرت‪ ،‬فسمعتها تقول‪ :‬موالك‬
‫األشقر مالك‪ ..‬قال‪ :‬أدخليه‪ ،‬فدخلت‪ ،‬فقال‪ :‬ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬هل‬
‫أكلت شيًئا ؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬اطعم‪ ،‬قلت‪ :‬ال حاجة لي فيه‪ ،‬قال‪ :‬فما تريد؟ قلت‪ :‬تحدثني‪ ..‬قال لي‪:‬‬
‫هات‪ ،‬فأخرجت ألواحي‪ ،‬فحدثني بأربعين حديًثا فقلت‪ :‬زدني‪ ،‬قال‪ :‬حسبك‪ ،‬إن كنت رويت هذه‬
‫األحاديث (أي يكفيك هذه األحاديث إن كنت حفظتها) فأنت من الحفاظ‪ ،‬قلت‪ :‬قد رويتها‪ ،‬فجذب‬
‫األلواح من يدي‪ ،‬ثم قال حدث‪ ،‬فحدثته بها‪ ،‬فردها إلَّي ‪ ..‬أي األلواح‪.‬‬

‫ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالًك ا في العلم والفقه‪ ،‬والحفظ‪ ،‬والعزة ولم يجلس للفتوى‬
‫حتى شهد له سبعون من جلة العلماء أنه أهل لذلك‪ ،‬يقول اإلمام مالك‪( :‬ما أجبت في الفتوى حتى‬
‫سألت من هو أعلم مني‪ :‬هل تراني موضًع ا لذلك؟ سألت ربيعة‪ ،‬وسألت يحيى بن سعيد‪ ،‬فأمراني‬
‫بذلك‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬فلو أنهم نهوك؟ قال مالك‪ :‬كنت أنتهي‪ ،‬ال ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى‬
‫يسأل من هو أعلم منه)‪.‬‬

‫اشتهر اإلمام مالك بكتابه (الموطأ) وهو كتاب حديث وفقه مًع ا‪ ،‬جمع فيه ما قوي عنده من حديث‬
‫أهل الحجاز وأضاف إليه أقوال الصحابة وفتاوى التابعين‪ ،‬ثم رتبه على أبواب الفقه كالطهارة‬
‫والصالة والزكاة‪ ،‬وقد عمل في هذا الكتاب نحو أربعين عاًم ا‪ ،‬وقد تلقاه الناس بالقبول‪ ،‬وسمى مالك‬
‫كتابه بهذا االسم ألنه مهد به للناس ما اشتمل عليه من الحديث والفقه‪ ،‬أو ألن العلماء المعاصرين له‬
‫بالمدينة واطئوه ووافقوه عليه‪ ،‬وقد ُط ِبَع الكتاب كثيًر ا في مصر والهند‪.‬‬
‫واإلمام مالك هو مؤسس المذهب المالكي الذي انتشر في المغرب العربي وبالد األندلس وصعيد‬
‫مصر‪ ،‬فهذا هو مالك بن أنس شيخ األئمة‪ ،‬وإمام دار الهجرة‪ ،‬مات بالمدينة سنة ‪179‬هـ وهو ابن‬
‫تسعين سنة‬
‫قال الشيخ ناصر العمر في شريط ما الهم الذي تحمله سأحدثكم عن رجل واحد (كان) يعيش بيننا‬
‫أضرب به مثال من أجل شحذ الهمم والعزائم‪ ،‬وأريد أن أقول عندما أحدثكم عن هذا العلم وعن هذا‬
‫القدوة‪ ،‬فسأتحدث عن جانب واحد فقط وهو جانب حمله لهم اإلسالم حتى يكون لنا عبرة وقدوة‪ ،‬أال‬
‫وهو‪:‬‬

‫سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اهلل بن باز (رحمه اهلل)‪ .‬أيها األخوة‪ ،‬لو تحدثت وتحدثت لما وفيته‬
‫حقه‪ ،‬ولكني سأقتصر على الجزء الذي أشرت إليه والذي يتعلق بحمله لهم اإلسالم‪ ،‬وسأذكر لكم‬
‫حقائق ووقائع تؤكد هذه الحقيقة وتبينها لعله يكون دافعا لنا‪ ،‬خذوا هذه الحقائق‪ ،‬خذوا هذه الدرر‪ :‬منذ‬
‫عرفت الشيخ منذ أكثر من عشرين سنة ال أعرف أنه أخذ إجازة‪ :‬ال شهر في السنة وال يوم أبدا‪،‬‬
‫وكنت أتحدث في هذا الكالم في عدة مجالس أنني منذ عرفته في بداية التسعينات‪ ،‬أي التقيت معه ال‬
‫أعرف أنه أخذ إجازة يوما واحد‪ .‬واذكر لكم حقيقة تبين هذا األمر حيث ذهبت في عام ‪1391‬هـ إلى‬
‫المدينة من أجل لقاء مع سماحته وكان معي أحد المشايخ‪ .‬ذهبنا بتوصية من أحد مشايخنا في‬
‫الرياض بارك اهلل في الجميع وفيكم‪ ،‬فجئنا إلى الشيخ بعد أن وصلنا المدينة ليلة الجمعة كهذه الليلة‪.‬‬
‫ثم بعد صالة الفجر في المسجد النبوي خرجنا ننتظر خروج الشيخ‪ ،‬فلما خرج قلنا يا سماحة الشيخ‬
‫نحن جئنا من الرياض ومعنا لك رسالة ونريد أن نلتقي معك‪ .‬فقال لنا يا أبنائي هذا اليوم يوم الجمعة‬
‫وهو مخصص لألوالد ‪ ،‬فلعلكم تأتون غدا إلى الجامعة اإلسالمية (عندما كان رئيسا للجامعة‬
‫اإلسالمية)‪ .‬فقال له صاحبي يا فضيلة الشيخ نحن مسافرون وورائنا أعمال ودراسة‪( ،‬وقد كنا طالب‬
‫في كلية الشريعة وقته) ‪ ،‬فلعلك تستقبلنا هذا اليوم‪ .‬فقال إذا ائتوني ضحى في بيتي وسأحاول أن‬
‫أقضي حاجتكم‪ .‬فقلت ألخي الشيخ الذي معي ال يليق أن نذهب إلى الشيخ هذا اليوم وقد خصصه‬
‫ألوالده ‪ ،‬فهو اليوم جالس مع أوالده ومع زوجاته وهو يوم جمعة‪.‬‬
‫فلو انتظرنا إلى الغد ونحن على خير‪ ،‬نصلي في المسجد النبوي والحمد هلل والصالة فيه بألف صالة‬
‫لعلنا ننتظر إلى الغد‪ .‬قال ال نذهب استثمارا للوقت‪ .‬ذهبنا وكنت أقدم رجال وأخر أخرى وأتصور أن‬
‫الشيخ سيكون بين أوالده وننتزعه من بينهم‪ ،‬فلما وصلنا إلى بيته‪ ،‬طرقنا الباب وكان مفتوحا‪ .‬وكنت‬
‫أنا الطارق حيث كان صاحبي ورفيقي كفيف البصر ال كفيف البصيرة‪ ،‬بل أنار اهلل بصيرته بكتاب‬
‫اهلل جل وعال‪ .‬كنت أطرق الباب فجاءنا رجل أعرابي من أهل المدينة وقال تطرقون بيت من ؟‬
‫فخشيت أنني أخطأت‪ ،‬فقلت أليس هذا بيت الشيخ عبد العزيز ابن باز‪ ،‬فقال وهل بيت الشيخ عبد‬
‫العزيز ابن باز يطرق ؟ أدخلوا ودخل أمامنا‪ .‬فدخلنا فإذا الشيخ في مجلسه وإذا المجلس مكتظ‬
‫بالناس‪ .‬سبحان اهلل‪ ،‬سبحان اهلل‪ .‬قدمنا للشيخ الكتاب فقال إذا تتغذون معنا‪ ،‬فقلنا خيرا إن شاء اهلل‪ .‬فلما‬
‫صلينا قال لي صاحبي مرة أخرى لنذهب إلى الشيخ‪ .‬فقلت له يا أخي الكريم أخذنا عليه الضحى وال‬
‫نريد أن نأخذ عليه وقت الغذاء وعلى األقل يتغداء مع أوالده‪ .‬قال سنذهب واختلفنا والخالف شر‪.‬‬
‫ولذلك تأخرنا على الشيخ وذهبنا في النهاية‪ ،‬فدخلنا المجلس ولم يشعر الشيخ بنا‪ ،‬وجلسنا وإذا‬
‫المجلس مليء بالناس‪ .‬فإذا الشيخ يقول هل حظر فالن وفالن (يسمينا بأسمائنا)؟ قالوا نعم‪ ،‬قال‬
‫أعطونا الغذاء‪ .‬إذا يا أحبتي الكرام هذا اليوم الذي قال لنا سماحة الشيخ أنه مخصص ألوالده‪ ،‬هكذا‬
‫قضاه‪ .‬قبل رمضان كنت جالسا مع أحد المالزمين للشيخ فتحدثنا في هذه القضايا فإذا هو يقول لي‬
‫إنني سمعت بأذني سماحة الشيخ يقول منذ أيام ألحد المشايخ‪ :‬منذ ثمان وخمسين سنة لم أخذ إجازة‬
‫يوم واحد‪.‬‬
‫هذا يحمل هم ماذا ؟ هم الدنيا ‍‍؟!! واهلل أنني منذ عرفت الشيخ وجلست معه ما سمعته يوما يتكلم بأمر‬
‫من أمور الدنيا‪ :‬التي تتعلق بالبيع والشراء والتجارة أبدا‪ ،‬أبدا إال إذا كانت في صالح المسلمين‪ ،‬أما‬
‫أن يتكلم عن أسعار األراضي‪ ،‬أو السيارات‪ ،‬أو البيوت‪ ،‬أو الوظائف ال يعرف فيها شيء‪ .‬أقول لكم‬
‫منذ عشرين سنة لم أسمعه يوما واحدا يتكلم إال في ما يخص أمور المسلمين‪ ،‬ويرضي ربه جل وعال‬
‫من ذكر وتسبيحا وقراءة قرآن وكلمات طيبة وحل مشاكل المسلمين‪ .‬هذا يحمل هم ماذا أيها األخوة ؟‬
‫سماحة الشيخ عبد العزيز (رحمه اهلل) وعمره فوق الثمانين سنة‪ :‬وكان ال ينام إال بحدود أربع إلى‬
‫خمس ساعات فقط‪ ،.‬والباقي عشرين ساعة كلها في ذكر اهلل وطاعته وعبادته وقضاء حوائج‬
‫المسلمين‪ ،‬قال لنا أكثر من مرة أنه مستحق للتقاعد منذ سبعة عشر عاما بكامل الراتب ‪ ،‬ولكن واهلل‬
‫ما بقيت إال من أجل أن أخدم المسلمين‪ .‬نعم أيها األخوة هذه حقائق‪ .‬حقائق أيها المسلمون‪ .‬قلت لكم‬
‫هذا الرجل (كان) يعيش بيننا هذا همه ومع ذلك هل هو يفتر في عبادته؟ الذي أعرفه عن سماحة‬
‫الشيخ أنه (لم يكن) يترك ورده من القرآن يوميا أبدا وخذوا هذه القصص‪ :‬يقول أحد كّتاب الشيخ‪،‬‬
‫ذهبت أنا وإياه إلى مكة وجلست أقرأ عليه المعامالت بعد العشاء إلى حدود الساعة الحادية عشر‬
‫ليال‪ .‬فقال سماحة الشيخ بأدبه وتواضعه يبدو أننا تعبنا‪ ،‬الشيخ ما تعب ولكن الذي تعب هو الموظف‪،‬‬
‫فالشيخ بأدبه ما أراد أن يقول للموظف هل تعبت‪ ،‬فقال يبدو أننا تعبنا‪ .‬يقول الموظف فقلت له نعم يا‬
‫شيخ‪ .‬قال إذا ننام‪ ،‬يقول فوضعت المعامالت وقام الشيخ يصلي‪ .‬يقول قمت فصليت ما كتب اهلل لي‬
‫ثم نمت‪ .‬فاستيقظت بعد الثانية عشرة فإذا الشيخ يصلي‪ ،‬ثم استيقظت قبل الفجر فإذا الشيخ يصلي‪.‬‬
‫ويقول أحد إخوانه الذين جاءوا معه من الطائف إلى الرياض عن طريق البر‪ ،‬ولم صرنا في‬
‫منتصف الليل بعد الساعة الثانية ليال تقريبا قال الشيخ لمرافقيه‪ :‬يبدو أننا تعبنا وسهرنا‪ ،‬قفوا لننام في‬
‫الطريق‪ .‬يقول فوقفنا فما لمست أقدامنا األرض إال ونمنا والجيد منا من استطاع أن يصلي ركعة أو‬
‫ثالث ركعات‪ ،‬وشرع الشيخ في الصالة‪ ،‬فلما استيقظنا قبل صالة الفجر فإذا الشيخ يصلي‪ .‬يحدثني‬
‫أحد المالزمين للشيخ قبل أسبوعين فيقول ما ترك الشيخ كلمة بعد صالة العصر إذا صلى في أي‬
‫مسجد إال وألقى كلمة حتى يوم الجمعة‪ ،‬ما تركها أبدا‪ .‬ندوة الجامع الكبير‪ ،‬إذا كان الشيخ في‬
‫الرياض ال يترك حضور ندوة الجامع الكبير أبدا إال لعارض صحي‪ .‬إذا يا أخوان‪ ،‬هذه حقائق ممن‬
‫يحمل هم اإلسالم ‪ .‬وأختم الحديث عن حياته بقصة حدثني فيها أحد الموظفين بدار اإلفتاء منذ عدة‬
‫سنوات فيقول‪ :‬جاءت رسالة من الفلبين لسماحة الشيخ‪ :‬فإذا فيه امرأة تقول أن زوجي مسلم أخذوه‬
‫النصارى فألقوه في بئر‪ ،‬فأصبح أطفالي يتامى‪ ،‬وأصبحت أرملة وليس لي أحد بعد اهلل جل وعال‪.‬‬
‫وسألت من يمكن أن اكتب له في األرض ؟ قالوا ال يوجد إال الشيخ عبد العزيز أبن باز‪ ،‬فآمل أن‬
‫تساعدني‪ .‬كتب عليها الشيخ للجهات المسؤولة في دار اإلفتاء لمساعدتها‪ ،‬فجاءته إجابة أن يا سماحة‬
‫الشيخ ال يوجد بند من البنود عندنا لمساعدة امرأة وضع زوجها في البئر‪ ،‬فالبنود المالية محددة‪،‬‬
‫فيقول الشيخ لكاتبه‪ ،‬أكتب مع التحية ألمين الصندوق أن أخصم من راتبي عشرة آلالف ريال‬
‫وأرسله إلى هذه المرأة‪ .‬معذرة فالحديث عنه ال يمل‪ ،‬بقول لي أحد الزمالء في الجامعة‪ :‬وقد ذهب‬
‫في دورة إلى دولة أفريقية‪ ،‬يقول جاءتنا عجوزا في وسط أفريقيا ثم سألتنا عبر المترجم من أين أنتم؟‬
‫قالوا لها إنهم من السعودية‪ ،‬فقالت بلغوا سالمي الشيخ عبد العزيز ابن باز‪ .‬عجوز في وسط أفريقيا‪،‬‬
‫كيف عرفت الشيخ عبد العزيز أبن باز ؟ ألنه يحمل همها‪.‬‬
‫في قرية (العيينة) من قرى (نجد) شمال غرب مدينة الرياض‪ ،‬ولد (محمد بن عبد الوهاب بن‬
‫سليمان بن علي التميمي الحنبلي النجدي) في عام ‪1115‬هـ ونشأ بين أحضان أسرة صالحة‪ ،‬تقتدي‬
‫في أفعالها برسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وتهتدي بسنته‪ ،‬وكان والده قاضًيا في بلدة العيينة‪ ،‬فقام‬
‫بتحفيظ ولده الصغير القرآن الكريم‪ ،‬وعلمه الفقه‪ ،‬فنشأ (محمد) نشأة صالحة‪ ،‬واجتهد في الدراسة‪،‬‬
‫وأخذ يحفظ كثيًر ا من أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫فلما كبر اشتاق إلى زيارة بيت اهلل الحرام‪ ،‬وهناك تتلمذ على بعض علماء الحرم الشريف‪ ،‬ثم توجه‬
‫إلى المدينة المنورة‪ ،‬واجتمع بعلمائها وشيوخها وتعلم على أيديهم‪ ،‬ثم عقد (محمد بن عبد الوهاب)‬
‫العزم على السفر إلى (العراق) لطلب العلم‪.‬‬

‫وفي مدينة (البصرة) كانت بداية دعوته إلى جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم من كتاب اهلل وسنة‬
‫رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ودعا في جرأة العالم المسلم الذي يحاول أن يبعد عن دينه كل ما‬
‫التصق به من خرافات ومبتدعات‪ ،‬مما عرضه لثورة بعض علماء البصرة‪ ،‬الذين اجتمعوا لمحاربته‬
‫وإيذائه‪ ،‬فخرج حزيًنا مهموًم ا إلى بلده‪ ،‬فوجد والده قد انتقل إلى بلدة (حد يمال) فانتقل حيث صار‬
‫والده‪ ،‬واستقر هناك واشتهر بالتقوى وصدق التدين‪ ،‬وأخذ يأمر بالمعروف‪ ،‬وينهي عن المنكر‪،‬‬
‫ويطالب األمراء بتطبيق حدود اهلل‪ ،‬ومعاقبة المجرمين الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب‬
‫واإليذاء‪ ،‬حتى تآمر عليه بعض خصومه لقتله وللخالص منه‪.‬‬
‫وعلم (محمد بن عبد الوهاب) بنيتهم وغدرهم‪ ،‬فرحل إلى بلدته (العيينة) ورحب به أمير البلدة‬
‫(عثمان بن محمد بن معمر) وأكرمه وقال له‪ :‬قم فادع إلى اهلل ونحن معك‪ ،‬فأخذ (محمد) يعلم الناس‬
‫أمور دينهم‪ ،‬يدعوهم إلى الخير‪ ،‬ويأمرهم بالمعروف‪ ،‬وينهاهم عن المنكر حتى اشتهر في بلدته‬
‫والقرى المجاورة‪ ،‬فجاء إليه الناس يستمعون إليه ويستفيدون من علمه الواسع‪ ،‬وظل ينير لهم‬
‫الطريق‪ ،‬ويدعوهم إلى طريق الحق والنور‪ ،‬وينصحهم بالبعد عن طريق الظلمات‪ ،‬حتى أحبه‬
‫الناس‪ ،‬والتفوا حوله‪ ،‬فقوي نفوذ (محمد بن عبد الوهاب) وصار يحكم بين أتباعه وأنصاره بشرع‬
‫اهلل‪.‬‬

‫ولما علم أمير اإلحساء بأمر (محمد بن عبد الوهاب) خاف على سلطانه‪ ،‬فسعى لقتله‪ ،‬فانتقل محمد‬
‫بن عبد الوهاب‪ ،‬إلى بلدة تسمى (الدرعية) وكان أميرها (محمد بن سعود) رجال صالًح ا‪ ،‬فألهمه اهلل‬
‫أن يذهب إلى محمد بن عبد الوهاب في منزله بالدرعية‪ ،‬فسلم عليه وقال له‪ :‬يا شيخ محمد أبشر‬
‫بالنصرة‪ ،‬وأبشر باألمن وأبشر بالمساعدة‪ ،‬فقال له الشيخ‪ :‬وأنت أبشر بالنصرة والتمكين والعافية‬
‫الحميدة‪ ،‬هذا دين اهلل‪ ،‬من نصره‪ ،‬نصره اهلل‪ ،‬ومن أيده؛ أيده اهلل فقال‪:‬يا شيخ‪ ،‬سأبايعك على دين اهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬وعلى الجهاد في سبيل اهلل‪ ،‬ولكنني أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك اهلل على أعداء‬
‫اإلسالم‪ ،‬أن تبتغي غير أرضنا‪ ،‬وأن تنتقل عنا إلى أرض أخرى‪ ،‬فقال‪ :‬ال أبايعك على هذا‪ ،‬أبايعك‬
‫على أن الدم بالدم والهدم بالهدم ال أخرج من بالدك أبًد ا‪.‬‬
‫وتعاهد األمير والشيخ على أن ينصرا دين اهلل‪ ،‬وظل الشيخ محمد يحاول إزالة الخرافات واألباطيل‬
‫التي ال يرضاها اإلسالم‪ ،‬ومن ذلك ما انتشر في (نجد) وما حولها من سحرة وكهنة يخدعون الناس‪،‬‬
‫ويدعون أنهم يعلمون الغيب‪ ،‬كما انتشر فيها بعض المجانين والمعتوهين الذين يدعون أنهم أولياء‬
‫اهلل‪ ،‬بل وجد بها من يعبد األشجار واألحجار من دون اهلل عز وجل‪ ،‬فأخذ الشيخ (محمد) يدعوهم‬
‫بمساعدة األمير (محمد بن سعود) إلى دين اهلل‪ ،‬ويلقي الدروس في الفقه والتفسير والحديث ‪ ..‬وغير‬
‫ذلك من العلوم النافعة‪ ،‬ويرسل إلى أمراء البلدان المجاورة ينصحهم بالعمل بكتاب اهلل وسنة رسوله‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وبتطبيق شرع اهلل فازدادت شهرة الشيخ في كل بالد اإلسالم‪ ،‬وتأثر بدعوته‬
‫أناس كثيرون في الهند‪ ،‬ومصر‪ ،‬وأفغانستان والشام وغيرها‪ ،‬وتحمل الشيخ الكثير من األذى‪ ،‬وظل‬
‫يجاهد في نصرة دين اهلل بلسانه أوًال‪ ،‬ثم بسيفه لينصر الحق‪ ،‬ويبطل الباطل‪ ،‬وساعده أنصاره من آل‬
‫سعود‪.‬‬

‫واستمر في جهاده أكثر من خمسين عاًم ا يدعو إلى دين اهلل‪ ،‬فكان له فضل كبير في عودة الناس إلى‬
‫االلتزام بشرع اهلل‪ ،‬والبعد عن الباطل‪ ،‬والعودة إلى الحق‪ ،‬فانتشر نور اهلل في الجزيرة العربية وما‬
‫حولها وازدحمت المساجد بتدريس كالم اهلل والسنة المطهرة‪ ،‬حتى توفي الشيخ في عام ‪1206‬هـ‪،‬‬
‫واستمر أبناؤه وأحفاده وتالميذه وأنصاره في الدعوة والجهاد‪ ،‬وتحذير الناس من البدع والخرافات‪،‬‬
‫وما تزال دعوته لها أنصارها ومؤيدوها في جزيرة العرب وما حولها حتى اليوم‪.‬‬
‫يقول الشيخ عطية سالم رحمه اهلل‪:‬‬

‫في ذات يوم رفعت إلي من قبل الشرطة شكوى من امرأة توفي زوجها وخلف لها عدة أطفال‪ ،‬وقد‬
‫وجدت في أوراقه أن له ديونًا عند بعض الناس مقابل أعمال له‪.‬‬

‫فأحضرت الشرطة هؤالء الذين يطالبهم الزوج بالديون‪ ،‬فأنكروا أن يكون في ذمتهم حق للمتوفى‪،‬‬
‫وأظهروا استعدادهم لليمين وأنهم يستطيعون أن يحلفوا‪.‬‬

‫وحضرت األرملة مع أطفالها إلى المحكمة وتبين لي أن ال بينة لديها سوى تلك القيود‪.‬‬

‫يقول‪ :‬وفي الجلسة األولى حضرت المدعية وأحد الغرماء‪ ،‬واستوقفت الكاتب عن كتابة الدعوى‪ ،‬ثم‬
‫استدنيت الرجل وقربته مني وأجريت معه هذا الحوار‪.‬‬

‫فقلت له‪ :‬هل تعرف خصمك في هذه القضية؟‪.‬‬

‫فقال‪ :‬نعم‪ ،‬هذه المرأة الحاضرة‪.‬‬

‫قلت‪ :‬كال‪ ،‬إن خصمك هو زوجها‪ ،‬فهل تعلم أين هو؟ لقد توفي‪ ،‬حقًا لقد توفي وترك هذه األرملة‬
‫وهؤالء األيتام وال شك لديك أنك ماض إلى ما مضى إليه وأنك معروض معه على اهلل عز وجل‬
‫الذي سيسألك عن دعواه‪ ،‬وهو أعلم بما أنتما عليه‪ ،‬وال يحتاج إلى بينة‪ ،‬وال تخفى عنه خافية‪.‬‬

‫فما الذي يؤّمنك أنه يخلصك من عذابه ذلك اليوم فأجب به اآلن‪ ،‬واليوم أوسع لك من ذلك الموقف‬
‫الذي ال درهم فيه وال دينار‪ ،‬فماذا تقول في دعوى هذه المرأة؟‪.‬‬

‫فأطرق الرجل مليًا ثم قال‪ :‬أمهلني يا شيخ في اإلجابة إلى الغد‪.‬‬

‫وسألته‪ :‬ولم اإلمهال؟‪.‬‬

‫قال‪ :‬ألراجع حسابي مع المتوفى‪.‬‬

‫ولمست في هيئته ولهجته أنه يريد الحق فأخرته أسبوعًا‪ ..‬وهكذا فعلت مع بقية الغرماء‪ ،‬وكانت‬
‫النتيجة واحدة مع الجميع‪.‬‬

‫وفي اليوم المحدد أدلى كل منهم باعتراف يفوق المبلغ المدعى به عليه‪ ،‬ومنهم من أحضر المال‬
‫فسدد ما عليه‪ ،‬واستمهل بعضهم إلى موعد الراتب آخر الشهر‪.‬‬

‫ولن أنسى وقع هذا الموقف في نفس تلك األرملة‪ ،‬لقد غلبتها دموع الفرح ورفعت يديها بالشكر‬
‫الحار إلى اهلل عز وجل الذي وفق إلى كل هذا الخير‪.‬‬
‫وإني ألسأل في غبطة ال توصف هل بقي مثل هذا التجاوب العالي مع الحق في غير نفوس المؤمنين‬
‫الذين إذا ذكر اهلل وجلت قلوبهم‪.‬‬

‫المصدر‪ :‬شريط ( من أعالم العصر ) للشيخ عبد السالم العييري‪.‬‬


‫بعد نظر يفوق الوصف ‪:‬‬

‫قال محمد عبد الرحمن العيسى ‪ :‬لقد كان رحمه اهلل يحسن الظن في معظم الناس وكان لديه بعد نظر‬
‫يفوق الوصف ‪ ..‬ومن ذلك يأتيه أحيانا من يطلب شفاعته وعليه أثر معصية فيقال له عن حاله فيقول‬
‫ربما أن هذه الشفاعة تكون سببا في استقامته ‪ ( .‬األسرة ـ عدد ‪) 72 :‬‬

‫بعد العشاء على العادة ‪:‬‬

‫قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن جالل ‪ :‬ذهبنا كعادتنا وسلمنا على الشيخ في المسجد في‬
‫المغرب وطلب مني وإخواني أن نجلس بعد المغرب في المجلس العام وقال ‪ :‬وبعد العشاء البد من‬
‫العشاء والجلوس قلت ‪ :‬طيب هذه روضتي وعندما قارب أذان العشاء قمت أتوضأ ومررت بالمكتب‬
‫‪..‬‬

‫فقال لي أحد كتابه وأظنه محمد بن موسى ‪ :‬جئتم اليوم والشيخ مشغول عنكم ال يمكن أن تجلسوا معه‬
‫بعد العشاء فقلت ‪ :‬عساه خير إن شاء اهلل ماذا عند الشيخ قال ‪ :‬عنده زواج ابنته الليلة ‪..‬‬

‫قلت ‪ :‬خير إن شاء اهلل بدل الليلة ليلة أخرى وذهبت وجلست بجانب الشيخ وبعد ما أذن وقام الشيخ‬
‫قبلت رأسه وقلت ‪ :‬أستودعك اهلل واسمح لنا سمعت أنكم مشغولون الليلة وبدل الليلة ليلة أخرى قال ‪:‬‬
‫أبدا عندنا زواج البنت والوفود اآلتين عندهم األوالد أما أنتم فأنا وإياكم بعد العشاء على العادة ‪.‬‬

‫وفعال صلينا العشاء ورجعنا ودخل بنا في المكتبة وجلسنا معه وضيوفه عند أبنائه في المجلس‬
‫وجلسنا حتى جاء موعد العشاء فجاءه ابنه عبد اهلل وقال يا أبي العشاء جاهز ‪ .‬فقال ‪ :‬قوموا تفضلوا‬
‫وذهبنا وتعشينا مع ضيوفه وكان الزواج مختصرا وبعد العشاء قال ‪ :‬تفضلوا وجلسنا معه في‬
‫المكتبة مرة أخرى والزوج ومن معه قابلهم أوالد الشيخ وأدخلوهم على بنت الشيخ وانتهوا ‪.‬‬

‫( شريط لقاءات مع طلبة العلم وأعيان أهل الدلم )‬


‫* الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه اهلل‪:‬‬

‫لقد كان سماحة اإلمام ابن باز أنموذجًا فريدًا في حرصه على نفع األمة وقضاء حوائجهم واإلجابة‬
‫على إشكاالتهم ومسائلهم ‪.‬‬

‫ففي إحدى الليالي المباركة يوم الجمعة وبينما كنا نستعد للتسجيل مع الشيخ داخل مكتبته إذا بباب‬
‫المكتبة يقرع ‪ ،‬وإذا بأحد المشايخ يدخل وهو فضيلة الشيخ محمد الموسى‪ ..‬يهمس في أذن الشيخ‬
‫قائًال‪ :‬إن هناك امرأة كبيرة في السن ‪ ،‬جاءت من مكان بعيد في شمال المملكة ‪ ،‬وتريد أن تسأل‬
‫سماحتكم عن موضوع رضاع؛ ألنها ستسافر في هذه الليلة‪ ،‬فاستأذن سماحة الشيخ رحمه اهلل قائًال ‪:‬‬
‫أرجو أن تأذنوا لنا دقائق ‪.‬‬

‫ثم قام سماحة الشيخ وقضى حاجتهم‪ ،‬ثم رجع إلينا قائًال‪ :‬هذه امرأة جاءت من مكان بعيد فأفتيناها‬
‫وأجبناها على أسئلتها‪.‬‬

‫رحمك اهلل يا َع لم األمة على هذا التواضع الجم والخلق الرفيع‪ ..‬إن هذه األعمال تذكرنا بمواقف‬
‫السلف الصالح ‪.‬‬

‫وفي موعد آخر مع سماحته أصر ابني خالد على الذهاب معي للتسجيل وهو في الصف الثالث‬
‫االبتدائي‪ ،‬وأثناء سالمنا على الشيخ وتقبيل رأسه قلت‪ :‬هذا ابني خالد يريد السالم عليك ‪ ،‬فسلم خالد‬
‫على الشيخ وقبل رأسه ‪ .‬وسأله الشيخ ‪ :‬من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأجابه خالد على األسئلة ‪،‬‬
‫فدعا له الشيخ بالتوفيق والهداية ‪ .‬وهذه دروس في التعامل مع الصغار ومؤانستهم‪.‬‬

‫* الشيخ صالح بن غصون رحمه اهلل‪:‬‬

‫في أيام حرب الخليج وفي ذروتها كنا نسجل البرنامج مع فضيلته ليًال ‪ ،‬وكان لسانه قبل التسجيل‬
‫وبعده ال يفتر عن ذكر اهلل ‪ ،‬والدعاء لهذه البالد المباركة بالنصر والتمكين والعزة والرفعة‪ ،‬وأن‬
‫يحفظها اهلل من كيد األشرار واألعداء‪ ،‬وقد سمعته يلح بالدعاء كثيرًا بأن يحفظ اهلل هذه البالد‪ ..‬قبلة‬
‫المسلمين ومأوى أفئدتهم ومنطلق رسالة التوحيد‪.‬‬
‫ال أذكر أن الشيخ رحمه اهلل اعتذر يومًا عن التسجيل‪ ،‬أو سوف‪ ،‬أو تراخى على مدى ‪ 14‬سنة‪ ،‬إنما‬
‫هي همة الرجال ( دعوة وعمل ) في بذل الخير ونفع المسلمين ‪ ،‬رجال عاهدوا اهلل على المضي في‬
‫الطريق الصعب ‪ ،‬فاشتروا اآلخرة وعملوا لها ‪.‬‬

‫كان الشيخ رحمه اهلل محبًا إلذاعة القرآن الكريم‪ ،‬فكان قبل كل تسجيل يسأل عن الجديد في إذاعة‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وعن برامجها ومواعيدها‪ ،‬وكان فضيلته رحمه اهلل يخصص لي أسبوعين كاملين‬
‫عدا يوم الجمعة في بعض األحيان؛ ألنه يجتمع بأوالده وأسرته‪ ،‬فكان يسجل حلقات الدورة اإلذاعية‬
‫كاملة (‪ )24‬حلقة دون كلل أو ملل‪.‬‬

‫وقد تعلمت من الشيخ رحمه اهلل كيف يكون المسلم حريصًا على الدعوة إلى اهلل وعلى أهمية الوقت‬
‫في حياة المسلم واحترام المواعيد والدقة فيها‪.‬‬

‫* الشيخ محمد بن عثيمين رحمه اهلل‪:‬‬

‫كان سماحته رحمه اهلل مضرب في ضبط الوقت واالعتناء به‪ ،‬فقد كان صادق الوعد‪ ،‬حافظ العهد‪،‬‬
‫دقيق الموعد‪.‬‬

‫وقد كانت حياته جدًا وجهادًا‪ ،‬وعلمًا وتعليمًا‪ ،‬ودعوة وإفتاء‪ ،‬وفقهًا وتأليفًا‪ ،‬وما هذا العلم المبثوث في‬
‫األشرطة واإلذاعات والكتب والرسائل إال ثمرة استغالل الوقت والدقة في االنتفاع به‪ ،‬فرحم اهلل‬
‫الشيخ كم كان حريصًا على نفع األمة بوقته‪.‬‬

‫كنت أقرع الباب الساعة التاسعة تمامًا فيفتح سماحته الباب فأسلم عليه ويرد بأحسن منه‪ ،‬وأقبل‬
‫رأسه‪ ،‬ويأذن لي بالدخول‪ ،‬ثم يخرج ساعة من جيبه وينظر إليها ويقول‪ :‬على الموعد يا أبا خالد ‪..‬‬
‫جزاك اهلل خيرًا‪.‬‬

‫كان حريصًا على هذا البرنامج وحلقاته وعدم انقطاعه‪ ،‬فكان ال يتوانى في نشر الخير وتبليغ العلم‬
‫والدعوة إلى اهلل‪.‬‬

‫واستمر سماحته رحمه اهلل مواصًال لتسجيالته اإلذاعية في منزله القديم‪ ..‬في مجلس كبير جدًا فرش‬
‫بقطع من الزل المتواضع‪ ،‬حيث كان سماحته رحمه اهلل إمامًا في الزهد والتواضع‪ ،‬فكان يجلس في‬
‫ركن من أركان المجلس ويقرب هذا الركن موقد نار توضع حوله أواني الشاي والقهوة فأجلس قريبًا‬
‫منه‪.‬‬
‫ومن المواقف مع سماحته رحمه اهلل أنه كان حريصًا على تطبيق السنة ناصرًا لها ذابًا عنها‪ ،‬محاربًا‬
‫للبدعة محذرًا منها‪ ،‬فكان من تطبيقه للسنة‪ :‬البشاشة والمصافحة والتبسم لمن قابله‪ ،‬آخذًا بالحديث‪( :‬‬
‫تبسمك في وجه أخيك صدقة ) فكان حريصًا على إدخال السرور على المسلمين‪.‬‬

‫وكنا إذا تناولنا طعام الغداء بعد التسجيل فكان الشيخ رحمه اهلل يلعق الصفحة آخذًا بالحديث الوارد‬
‫ويشرب الماء ثالثًا‪.‬‬

‫محمد الجهني‪.‬‬

‫المصدر‪ :‬مواقف وذكريات مع كبار العلماء‪.‬‬


‫نماذج لرجال من السلف ‪. .‬‬

‫يحدث أبو حاتم الرازي عن نفسه وجهاده في طلب العلم فيقول ‪ :‬بقيت في البصرة ثمانية أشهر وكان‬
‫في نفسي أن أقيم بها سنة كاملة ‪ ،‬لكن انقطعت نفقتي فجعلت أبيع ثيابي حتى نفذت وبقيت بال نفقة‪،‬‬
‫ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة وأسمع إلى المساء‪ ،‬فانصرف رفيقي فجعلت أطوف‬
‫معه في سماع الحديث على جوع شديد‪ ،‬وانصرفت جائعا‪ ،‬فلما كان من الغد غدا علي فقال ‪ :‬مر بنا‬
‫إلى المشايخ ‪ ،‬قلت ‪ :‬أنا ضعيف ال يمكنني ‪ .‬قال ‪ :‬فما ضعفك ؟ قلت ‪ :‬ال أكتمك أمري ‪ ،‬قد مضى‬
‫يومان ما طعمت فيهما شيئا‪ .‬فقال ‪ :‬قد بقي معي دينار فنصفه لك ونجعل النصف االخرفي الكرى‪،‬‬
‫فخرجنا من البصرة وأخذت منه نصف الدينار" ‪ .‬هكذا كان حرص العلماء على أوقاتهم على الرغم‬
‫من الشدة التي تقابلهم‪. .‬‬

‫* نموذج آخر يذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ ‪ ،‬وفي سيرأعالم النبالء عن ابن أبي حاتم صاحب‬
‫الجرح والتعديل يقول ‪ .‬كنا في مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة‪ ،‬كل نهارنا مقسم لمجالس‬
‫الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة‪ ،‬فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هو عليل ‪ ،‬فرأينا في طريقنا‬
‫سمكة أعجبتنا فاشتريناها فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس فلم يمكنا إصالح هذه السمكة‬
‫ومضينا إلى المجلس ‪ ،‬فلم نزل حتى أتى على السمكة ثالثة أيام وكادت أن تتغير فأكلناها نيئة‪ ،‬لم‬
‫يكن لنا فراغ أن نشوي السمك ‪ .‬ثم قال ‪ .‬إن العلم ال يستطاع براحة الجسد" * وعبدالغني المقدسي‬
‫الجماعيلي المتوفي في القرن السابع أيضا حكى عنه الذهبي ووضع فصال في حفظه ألوقاته فقال ‪:‬‬
‫كان ال يضيع شيئا من أوقاته بال فائدة‪ ،‬كان يصلي الفجر ويلقن القران وربما قرأ شيئا من الحديث‬
‫تلقينا ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثالثمائة‬
‫ركعة با لفاتحة والمعوذتين إلى قبل الظهر‪ ،‬وينام نومة ثم يصلي الظهر و يشتغل إما بالتسميع أو‬
‫بالنسخ الى المغرب ‪ ،‬فإن كان صائما أفطر وإال صلى من المغرب إلى العشاء ‪ ،‬ثم يصلي العشاء‬
‫وينام إلى نصف الليل أو بعده ثم قام كأن إنسانا يوقظه فيتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر‪ ،‬وربما‬
‫توضأ سبع مرات أوثمان في الليل ‪ .‬وقال ‪ :‬ما تطيب لي الصالة إال مادامت أعضائي رطبة ثم ينام‬
‫نومة يسيرة إلى الفجر وهذا دأبه " ‪ .‬وحفظ األوقات ليس قصرا على الرجال وحدهم بل كانت لدينا‬
‫نماذج من النساء حافظات ألوقاتهن ‪. .‬‬

‫* وفي مقدمة هؤالء النسوة أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها التي كانت محل استشارة الصحابة ‪،‬‬
‫وحينما يشكل عليهم أمر من األمور في الدين ‪ ،‬بالفقه أو بالفرائض أو بغيرها تكون أم المؤمنين‬
‫عاثشة رضي اهلل تعالى عنها هي مرجعهم ‪ ،‬ويقال عن عائشة أنه لو وزن علمها بعلم النساء مجتمعة‬
‫لوزن علم عائشة علم النساء كلهن ‪ ،‬لم تحصل عائشة على هذا العلم الجليل الذي أصبحت به من‬
‫رواة الحديث المشهورين إالبحفظها وحرصهاعلى وقتها‪ . .‬وهذه أيضا عمرة بنت عبدالرحمن بن‬
‫سعد بن زرارة األنصارية المدنية وقد كانت في حجر عائشة وروت عنها‪ ،‬قال عنها ابن سعد ‪ :‬إنها‬
‫كانت عالمة ‪ . .‬وربيبة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة بنت أم سلمة أم‬
‫المؤمنين رضي اهلل تعالى عنها يقال ‪ :‬إنها كانت أفقه إمرأة بالمدينة في وقتها ‪ . .‬وأم الدرداء رضي‬
‫اهلل تعالى عنها كانت من العالمات وكانت من الحافظات ألوقاتها ولذلك كانت تحرص على حلق‬
‫العلم وحلق الدروس مع أبي الدرداء رضي اهلل تعالى عنه وكانت هناك حلقة للنساء خاصة‪ . .‬ومن‬
‫النساء أيضا جليلة بنت علي بن الحسين بن الحسين الشجري كانت كما يقول عنها العلماء محدثة‬
‫قارئة للقرآن وهي من سجستان ‪ ،‬وطلبت الحديث بالعراق وخراسان وكتب عنها الصمعاني وكانت‬
‫تعلم الصبيان القران الكريم ‪.‬‬
‫* وخيرة أم الحسن البصري أيضاوهي موالة أم سلمة رضي اهلل تعالى عنها نمؤنج من نماذج النساء‬
‫الحافظات ألوقاتهن ‪ ،‬وأنتج هذا الحفظ علما غزيرا وفقها كثيرا وعبادة جليلة وكانت خيرة كما قيل‬
‫عنها تقص على النساء وتعلمهن أمور دينهن ‪ . .‬بل يصل األمر أيها األخت المسلمة لحفظ بعض‬
‫النساء ألوقاتهن أن أصبح منهن إمرأة تعتبر من شيوخ اإلمام الشافعي ‪ -‬رحمه اهلل ‪ ،-‬واإلمام‬
‫الشافعي من هو في العلم وفي الحفظ ومع ذلك هذه المرأة التي تدعى نفيسة بنت الحسن بن زيد بن‬
‫الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اهلل عنهم ‪ ،‬هذه كانت من شيوخ اإلمام الشافعي ‪ ،‬بل إن العجب‬
‫ليأخذني ويأخذكم أيضا حينما تعلمون أنها كانت أمية ومع ذلك كانت تحفظ القرآن الكريم وتحفظ‬
‫الكثيرمن أحاديث الرسول صلى اهلل عليه وسلم األمر الذي جعلها واحدة من مشايخ اإلمام الشافعي ‪،‬‬
‫قال عنها ابن كثيرأيضا ‪ :‬كانت عابدة زاهدة كثيرة الخير وكانت أيضا ذات مال فأحسنت إلى الناس‬
‫وأنفقت على الزمنى والمرضى وعموم الناس ‪ . .‬وكان من النساء أيضا على وقت الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬من كانت مثاال لحفظ الوقت ‪ ،‬تغزو معه إذا غزا وتتعلم منه وهي نسيبة بنت كعب‬
‫األنصارية رضي اهلل عنها وهي المرأة المجاهدة العالمة وهي نموذج من هذه النماذج ‪ ،‬وقد كان‬
‫جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت كما ساق ذلك ابن حجرفي‬
‫تهذيب التهذيب ‪ ،‬وكانت في المغازي تمرض المرضى وتداوي الجرحى وشهدت غسل ابنة النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪..‬‬
‫ما أن كادت دموعنا تجف ‪ ،‬وقلوبنا عن اضطرابها تخف ؛ حتى ُفجعنا بعد عصر ‪ / 22‬جمادى‬
‫األولى ‪ 1420 /‬هـ ‪ ،‬الموافق ‪ 1999 / 10 / 2‬مـ بوفاة إمام السَّنة ‪ ،‬وعلم الحديث ‪ ،‬اإلمام المحدث‬
‫شيخنا الشيخ محمد ناصر الدين األلباني رحمه اهلل ‪.‬‬

‫وكان لزامًا علينا أن نعِّر ف األمة بشيٍء من حياته ‪ ،‬وترجمة مختصرة عن أعماله ‪ ،‬لعله أن يكتسب‬
‫بسببها دعوة ِمن محٍٍّب ‪ ،‬أو عدل من منصف ‪.‬‬

‫اسمه ومولده‬

‫هو ناصر الدين بن نوح بن نجاتي األلباني ‪ ،‬وقد أضاف إلى اسمه اسم محمد لما في اسمه الذي‬
‫سمي به من تزكية ‪ ،‬فكان أحق الناس أن يكون ناصر الدين هو نبينا محمد ‪.‬‬

‫وقد ولد في مدينة (( أشقودرة )) في ألبانيا ‪ ،‬سنة ‪ 1355‬هـ ‪ ،‬الموافق ‪ 1914‬م ‪ ،‬وقد توفي بعد عمر‬
‫في هذه الفانية بلغ حوالي ‪ 85‬سنة ‪.‬‬

‫هجرته واستقراره‬

‫هاجر هو وأهله من ألبانيا ‪ ،‬وكان عمره آنذاك تسع سنوات ‪ ،‬حفاظًا من والده على دين أهله ‪،‬‬
‫واستقر به المقام في دمشق عاصمة سوريا ‪ ،‬ثم تنقل بين بيروت واإلمارات حتى استقر به المقام في‬
‫عَّمان األردن ‪ ،‬حيث توفي فيها ‪.‬‬

‫طلبه للعلم‬

‫كانت بدايته في طلبه للعلم – رجمه اهلل – مع كتاب الحافظ العراقي (( المغني عن حمل األسفار )) ‪،‬‬
‫وهو كتاب خَّر ج فيه الحافظ العراقي كتاب "إحياء علوم الدين" ألبي حامد الغزالي ‪ ،‬فقام الشيخ‬
‫األلباني بنقل كتاب العراقي ‪ ،‬وأتم أحاديثه ‪ ،‬وشرح غريبه ‪ ،‬وقد انتفع بهذا الكتاب كثيرًا كما قال هو‬
‫رحمه اهلل ‪.‬‬

‫وقد كان لمجلة المنار ‪ ،‬وباألخص مقاالت صاحبها محمد رشيد رضا أعظم األثر في حياة الشيخ‬
‫رحمه اهلل وتوجهه للعلم ‪.‬‬

‫جلده في طلب العلم‬

‫ونذكر في ذلك حادثتين ‪:‬‬

‫األولى ‪ :‬أنه أصيب في عينه أيامه األولى في الشام ‪ ،‬وطلب منه الطبيب أن يمكث شهرًا ال يعمل‬
‫بمهنة الساعات ‪ ،‬و ال يقرأ شيئًا ! فمكث أيامًا ‪ ،‬ثم أصابه الملل ‪ ،‬فطلب من بعض إخوانه أن ينسخ‬
‫له من المكتبة الظاهرية في دمشق كتاب "ذم المالهي " البن أبي الدنيا ‪.‬‬
‫فنسخ الناسخ حتى وصل إلى مكان فيه ورقة ضائعة ‪ ،‬قطعت اتصال الكالم ‪ ،‬فلما أخبر الشيخ بذلك‬
‫طلب إليه الشيخ أن يستمر بالنسخ ‪ .‬فلما فرغ الناسخ وانتهت مدة العالج ؛ ذهب الشيخ يبحث عن‬
‫تلك الورقة الضائعة في المكتبة الظاهرية ‪ ،‬فظل الشيخ ينقب عن تلك الورقة ‪ ،‬فلم يجدها ‪ ،‬وفي تلك‬
‫األثناء كان يدون األحاديث التي يقف عليها في المخطوطات ‪ ،‬حتى دَّو ن أكثر من أربعين مجلدًا من‬
‫األحاديث بخط يده !! وكان عدد المخطوطات آنذلك حوالي عشرة آالف مخطوطة !!‬

‫الثانية ‪ :‬وقد بلغت الهمة والجَلد عند الشيخ رحمه اهلل أنه كان ينسى معهما الطعام والشراب ‪ ،‬فكان‬
‫يأتي إلى مكتبة الظاهرية قبل موظفيها ‪ ،‬ويخرج بعدهم !!‬

‫ويأتيه أهله بطعام اإلفطار ‪ ،‬فيظل على ما هو عليه إلى موعد الغداء ‪ ،‬فيؤخذ طعام اإلفطار ويوضع‬
‫طعام الغداء ! وهكذا مع الَع شاء ‪.‬‬

‫وقد ظل الشيخ اإلمام رحمه اهلل على هذه الهمة إلى أن توفاه اهلل ‪ ،‬فإذا كان يعجز عن البحث قرأ ‪،‬‬
‫فإذا عجز عن القراءة ُقِر أ عليه ‪.‬‬

‫ومن رأى همة الشيخ ونشاطه قبل مرضه األخير لم يفرق بين أول حياته وبين هذه األيام ‪.‬‬

‫وإذا قيل للشيخ في رحالته أن يرتاح ‪ ،‬قال ‪ :‬إن راحتي في الكالم والبيان !! ال في السكوت ‪.‬‬

‫رجوعه إلى الحق‬

‫والشيخ رحمه اهلل عرف عنه رجوعه إلى الحق ‪ ،‬حتى أصبح متميزًا به ‪ ،‬فكم من حديث صححه‬
‫وانتشر في اآلفاق بسببه ‪ ،‬ولما تبين له ضعفه من بعد الطلبة تراجع عنه بقوة وإنصاف ‪ ،‬ومثال ذلك‬
‫حديث دخول المنزل (( اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج )) فهو حديث صححه الشيخ ثم‬
‫تراجع عنه ‪.‬‬
‫وقل األمر نفسه في المسائل الفقهية العملية ‪ ،‬كما هو الحال في مسألة جماع الزوجة بعد طهرها من‬
‫الحيض ‪ ،‬حيث كان الشيخ يرى أنه يكتفى بانقطاع الدم دون الغسل ‪ ،‬ثم تراجع عنه إلى قول‬
‫الجمهور ‪ ،‬وهو عدم جواز الجماع إال بعد الغسل ‪ .‬وهذا األمر – أعني تراجعه إذا تبين له الحق –‬
‫استغله بعض الجهلة والحساد لبيان أن ذلك من تناقضه ولم يدر هؤالء أن هذا من أعظم أخالق الدين‬
‫‪ ،‬وقد قل أهله في هذا الزمان ‪ ،‬فكم من إنسان جادل بالباطل من بعد ما تبين له الحق فأصر مستكبرًا‬
‫كأن لم يسمع الحق ؟!!‬

‫والشيخ برأه اهلل من ذلك وكتبه طافحة برجوعه عن أقواله التي تبين فيها خطؤه مليًا ‪ ،‬ولم ينقصه‬
‫ذلك بل رفعه اهلل به ‪ ،‬ولكن عند المنصفين العقالء ‪ ،‬وهذا هو المهم‪ ،‬واألهم أنه كان يراقب ربه وال‬
‫يهمه ما يقال بعد لك ‪.‬‬

‫تعظيمه العتقاد السلف ومنهجهم‬

‫وقد كان الشيخ رحمه اهلل من أعظم المدافعين والمنافحين عن دين اهلل عز وجل في هذا القرن ‪ ،‬حتى‬
‫عَّد ه بعض األفاضل – وهو الشيخ مقبل الوادعي ‪ -‬من المجِّد دين لهذا الدين ‪ ،‬وقد سلك سبًال كثيرة‬
‫في توضيح اعتقاد السلف الصالح والدفاع والذب عنه ‪ ،‬فكان أن أخرج للناس مختصر العلو للذهبي‬
‫وضمنه تلك المقدمة الماتعة في بيان اعتقاد سلف هذه األمة ‪ ،‬وبيان زيغ أعدائها وضاللهم ‪.‬‬

‫وكذلك أخرج للناس كتابه (( تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد )) وقد حذر فيه كثيرًا من عمل‬
‫المشركين الذي سرى إلى المسلمين في بناء األضرحة والمقامات ودعاء األولياء األموات ‪ ،‬والذبح‬
‫والنذر عندها ‪.‬‬

‫وأما منهج السلف وفهمهم للكتاب والسنة ‪ ،‬فقد كان رحمه اهلل من أعظم المتمسكين به في نفسه ‪،‬‬
‫الداعين له من خالل كتبه وأشرطته ‪ ،‬وقد كان قوله تعالى ‪ (( :‬ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين‬
‫له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا )) شعارًا له رحمه‬
‫اهلل ‪.‬‬

‫كتبه ومؤلفاته‬
‫وهي بحمد اهلل كثيرة نافعة ‪ ،‬وال ُيعلم له رسالة مكررة أو أنه يمكن للباحث أن يستغني عن العلم‬
‫الذي فيها ‪ ،‬وقد بلغ المطبوع منها حوالي ‪ 40‬ما بين تحقيق وتأليف ‪ ،‬وله من المؤلفات المخطوطة‬
‫في خزانته ما لعله أن يبلغ ضعف هذا العدد ‪.‬‬

‫وقد نفع اهلل بكتبه كثيرًا من الناس ‪ ،‬فنهلوا من علمها واستفادوا من التحقيق الذي فيها ‪ ،‬وإن كان‬
‫بعضهم سطا عليها سرقة منها دون أن يشير ولو بأدنى إشارة أنها لغيره‪ ،‬ويصدق على هذا قوله‬
‫تعالى ‪ (( :‬وال تحسبن الدين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ‪ ))..‬وينطبق عليهم‬
‫قوله‪ (( :‬المتشبع بما لم يعط كالبس ثوبي زور )) ‪.‬‬

‫ثناء العلماء عليه‬

‫وقد أثنى عليه أهل العلم ثناء عطرًا ‪ ،‬وهو يستحق أكثر منه ‪ ،‬فقد قال الشيخ عبد العزيز بن باز‬
‫رحمه اهلل ‪ (( :‬ما علمت تحت أديم السماء أعلم بالحديث من الشيخ األلباني )) ‪ ،‬وللشيخ محمد بن‬
‫صالح العثيمين ثناء عليه وقد وصفه بالعالمة المحدث ‪ ،‬وقد أثنى عليه غيرهما ‪ ،‬وقيلت فيه أشعار‬
‫لطيفة يمكن للقارئ أن ينظرها في كتاب (( حياة األلباني )) ألخينا محمد بن إبراهيم الشيباني ‪.‬‬

‫عداُء أهل البدعة له‬

‫ال يحب األلباني إال صاحب سَّنة ‪ ،‬أو فطرة سليمة ‪ ،‬وال يبغضه إال صاحب بدعة ‪ ،‬أو جاهل بقدره ‪،‬‬
‫وقديمًا قال السلف ‪ (( :‬من عالمة أهل البدع الوقيعة في أهل األثر )) ‪.‬‬

‫وقد تكالب على الشيخ رحمه اهلل أهل البدع والضالل من جميع الطوائف والفرق ‪ ،‬فكان رحمه اهلل‬
‫كالطود الشامخ يرد على هذا ‪ ،‬ويفند شبهة هذا ‪ ،‬حتى أتى على بنيانهم من قواعده فخر عليهم السقف‬
‫من فوقهم ‪.‬‬

‫فتوى الهجرة من فلسطين‬

‫وقد شنع على شيخنا بعض المشاغبين من أهل الجهل ؛ فراح ُيلبس الشيخ رداًء ليس له ‪ ،‬ويحِِّمل‬
‫كالمه ما لم يحتمله ‪ ،‬أو يزِّو ر الحقائق التي أتى بها الناس ‪.‬‬
‫وملخص هذه المسألة أن الشيخ رحمه اهلل سئل عن أناس يعيشون في بالٍد ال يستطيعون إظهار‬
‫شعائر دينهم فيها ‪ ،‬فقال لهم الشيخ بوجوب الهجرة إلى بالد يستطيعون فيها ذلك استدالًال بقول اهلل‬
‫تعالى ‪ (( :‬قالوا ألم تكن أرض اهلل واسعة فتهاجروا فيها )) وهذا تبكيت من المالئكة لمن ظَّل بين‬
‫الكفار أو العصاة فأثر ذلك في دينه فاحتج على فعله بغيره ‪.‬‬

‫ولما سئل الشيخ ‪ :‬هل هذا ينطبق على فلسطين ؟ قال ‪ :‬على كل بالد الدنيا ‪ ،‬ما الفرق بين فلسطين‬
‫وغيرها ؟! كما أن مكة أعظم عند اهلل من فلسطين ‪ ،‬ومع هذا هاجر منها المسلمون وعلى رأسهم‬
‫نبينا محمد صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ومن الصحابة من هاجر إلى الحبشة وهي بالد كفر ‪ ،‬لما لم يكن‬
‫يستطيع إظهار دينه ‪.‬‬

‫فقام وطبل وزمر لهذه الفتوى أهل التطبيل والتزمير من أهل الجهل والضالل وكان ذلك قرب موعد‬
‫االنتخابات النيابية ‪ ،‬ظَّنًا منه أنه يستطيع استعطاف الناس للحصول على األصوات !! أما أن تكون‬
‫القضية قضية دين فال ‪ ،‬فهو غارٌق في تصوف باٍل ‪ ،‬وسادر في جهل فاضح ‪.‬‬

‫والعجب من أولئك المشايخ ‪ -‬وأغلبهم دكاترة في الشريعة ‪ -‬اجتماعهم على تخطئة الشيخ رحمه اهلل ‪،‬‬
‫ولم نَر اجتماعهم هذا على تضليل الحبشي مثًال ‪ ،‬أو على التحذير من فسٍق أو فجور أو ضالل ‪،‬‬
‫وبعض من وَّقع على ذلك يعتبر من غالة األشاعرة ‪ ،‬وبعضهم ال يدرى منهجه أو اعتقاده !!‬
‫وبعضهم على خير لكن استجر على التوقيع ‪.‬‬

‫والقضية علمية شرعية تكلم فيها الشيخ بعلم وأدلة ‪ ،‬ومن خالف لم يحسن من ذلك شيئًا ‪ ،‬وبعضهم –‬
‫لغباء أو جهل أو شرود ذهن – ظن أن أهل فلسطين يقفون على الحدود رافعين جوازاتهم ينتظرون‬
‫فتوى األلباني ليغادروا فلسطين !! واألكثر ال يهمهم دين من بقي بين اليهود ‪ ،‬فتخلق بأخالقهم‬
‫وتعودوا على عاداتهم ‪ ،‬فمنهم من زوج ابنته ليهودي !! ومنهم من شكك في كفرهم !!‪.‬‬

‫والمهم عند هؤالء أال يخرج من فلسطين ولو ضيع دينه أي أن المهم أال تضيع األرض !!‬
‫نشاطه في الدعوات والزيارات العلمية‬

‫والشيخ رحمه اهلل من النشيطين في الدعوة إلى اهلل ‪ ،‬فلم يكن ليكتفي بالتأليف حتى أضاف إليه‬
‫الخروج إلى الناس وزياراتهم في بلدانهم وقراهم ‪.‬‬

‫فمنذ أن كان بالشام وهو يسافر إلى حلب وحماة وإدلب و غيرها ‪ ،‬وحدثني بعض من كان هناك أن‬
‫الشيخ كان يأتيهم كل أسبوع على دراجة هوائية ‪ ،‬وكانت المسافة من دمشق إليهم حوالي ‪ 45‬كيلو‬
‫مترًا !!‬

‫وقد سافر الشيخ رحمه اهلل إلى أسبانيا والكويت واإلمارات وقطر وطاف في مناطق المملكة العربية‬
‫السعودية جميعها تقريبًا !!‬

‫وكذا أمره عندنا في األردن ‪ ،‬فما من أحٍد يدعو الشيخ إال ويلبي دعوته ويزوره ويلقي عندهم ما يسر‬
‫اهلل من العلم النافع ‪ ،‬وكان الشيخ قد شرفني بزيارة إلى بيتي في إربد ‪ ،‬وسجل اللقاء تحت عنوان "‬
‫مسائل فقهية " ‪ ،‬ولم تكن هذه الزيارة هي األولى له إلى الشمال ‪ ،‬فقد سبقها أخوات لها ‪.‬‬

‫نماذج من أخالق الشيخ رحمه اهلل‬

‫كراهيته للمدح‬

‫لم يكن الشيخ رحمه اهلل يحب أن يمدحه أحد ‪ ،‬وخاصة في وجهه ‪ ،‬وكتبه كلها ليس فيها لفظ ((‬
‫الشيخ )) قبل اسمه !! وقد مدحه مرة الشيخ محمد إبراهيم شقرة في وجهه فبكى ‪ ،‬ومدحه آخر فبكى‬
‫وأنكر على من مدحه ‪.‬‬

‫خوفه من الرياء‬
‫وجاءه مرة بعض إخواننا من بنغالدش – من أهل الحديث – وقالوا للشيخ ‪ :‬إن عددهم حوالي أربعة‬
‫ماليين وأنهم يودون زيارة الشيخ لهم هناك ‪ ،‬وقد جهزوا ملعبًا يتسع ألعداد كبيرة للقائه واالستماع‬
‫إليه ‪ ،‬فرفض الشيخ الدعوة ‪ .‬فقال الداعي ‪ :‬إنها أسبوع يا شيخ !! فرفض الشيخ ‪ :‬فأنزل المدة إلى‬
‫ثالثة أيام !! فرفض الشيخ فأنزلها إلى يوم واحد !! فرفض الشيخ وبشدة ‪ ،‬فقال الداعي في النهاية ‪:‬‬
‫نريد محاضرة وتغادر على نفس الطائرة !! فرفض الشيخ وبشدة أيضًا فتعجب الرجل من رفض‬
‫الشيخ وكذلك الذين معه ‪ ،‬وانصرف الرجل حزينًا ‪ ،‬فسأل األُخ أبو ليلى ‪ -‬وهو الذي حدثني بهذه‬
‫القصة – الشيَخ ‪ :‬لم رفضت يا شيخ ؟ فرد عليه رحمه اهلل ‪ :‬ألم تسمع ماذا قال ؟ فقال أبو ليلى ‪:‬‬
‫وماذا قال يا شيخ ؟ فقال ‪ :‬ألم تسمع قوله إنهم أربعة ماليين !! فتصور أني أحاضر بمثل هذا العدد ‪،‬‬
‫فهل آمن على نفسي من الرياء ؟!! وكان درسًا عظيمًا من الشيخ لتالميذه وللناس جميعًا بالبعد عن‬
‫المواضع المهلكة للداعية ‪.‬‬

‫تفقده إلخوانه‬

‫‪ -‬كنا مرة في رحلة معه ‪ ،‬فانتهينا منها في الواحدة ليًال وكنا في خمس سيارات ‪ ،‬وأنا أقود واحدة‬
‫منها ‪ ،‬فسبقنا الشيخ ‪ ،‬ففوجئت بأن إطار سيارتي قد ذهب هواؤه ‪ ،‬فأصلحته وقد ذهبْت السيارات‬
‫جميعًا ‪ ،‬فما هي إال لحظات حتى رجع إلينا الشيخ مع السيارات ‪ ،‬وسأل عن سبب التأخر ‪ ،‬فلما رأى‬
‫السبب علم بالحال ‪ ،‬وكان رحمه اهلل قد افتقدنا في الطريق ورأى أن سيارة قد نقصت ‪ ،‬فسأل عنها ‪،‬‬
‫فلما لم ُيعَط جوابًا فرجع من طريقه فرآنا على تلك الحال ‪ ،‬فطلبنا من الشيخ أن يذهب إلى أهله وبيته‬
‫ونحن نصلح اإلطار ‪ ،‬ونلحق بهم ‪،‬فأبى رحمه اهلل إال أن ينتظرنا لننتهي مما نحن فيه ‪ ،‬وكان ذلك‬
‫وغادرنا سويًا ‪.‬‬
‫‪ -‬وحدثني بعض تالمذته أنه كان يتصل بالشيخ كل يوم ‪ ،‬وفي يوٍم من األيام لم يفعل ذلك‪ ،‬فما هو إال‬
‫أن يدق جرس الهاتف ‪ ،‬ويتبين لألخ أنه الشيخ اإلمام األلباني !! وأنه افتقد هذا األخ لعدم اتصاله ‪،‬‬
‫فسارع للسؤال عنه ‪.‬‬

‫‪ -‬ودخل هذا األخ نفسه المستشفى لحادث وقع له ‪ ،‬وإذ بالشيخ اإلمام يأتي لزيارته في المستشفى !!‬
‫قال ‪ :‬فأثرت هذه الزيارة فَّي وفي أهلي الشيء الكثير ‪.‬‬

‫مقابلته اإلحسان باإلحسان‬

‫وكان بعض تجار عمان على عالقة بالشيخ رحمه اهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬ففاجأني الشيخ يومًا بزيارة إلى محلي‬
‫!! وجاء معه بمجموعة قيمة من الكتب وقَّد مها هدية لي !!‬

‫بكاؤه‬

‫والشيخ رحمه اهلل – على خالف ما يظن الكثيرون – رقيق القلب ‪ ،‬غزير الدمع ‪ ،‬فهو ال ُيحَّد ث‬
‫بشيء فيه ما يبكي إال وأجهش في البكاء ‪ ،‬ومن ذلك ‪:‬‬
‫أ‪ .‬حدثته امرأة جزائرية أنها رأته يسأل عن الطريق الذي سلكه النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فُد َّل‬
‫عليه فسار على خطواته ال يخطئها ‪ ،‬فلم يحتمل كالمها ‪ ،‬وأجهش بالبكاء ‪.‬‬

‫ب‪ .‬وفي آخر لقاء لي به رحمه اهلل ‪ ،‬حدثته عن رؤيا رآها بعض إخواننا ‪ ،‬وهي أنه رأى هذا األخ‬
‫النبَّي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فسأله ‪ :‬إذا أشكل علَّي شيء في الحديث َم ن أسأل ؟ فقال النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬سل محمد ناصر الدين األلباني ‪.‬‬

‫فما أن انتهيت من حديثي حتى بكى بكاًء عظيمًا ‪ ،‬وهو يردد " اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون ‪،‬‬
‫واغفر لي ما ال يعلمون " ‪.‬‬

‫ج‪ .‬وحدثه بعض إخواننا عن سب والده للرب والدين – والعياذ باهلل – فبكى الشيخ لما سمع من جرأة‬
‫من ينتسب للدين على بعض هذه القبائح و العظائم في حق اهلل ‪ ،‬وحكم على والده بأنه مرتد كافر ‪.‬‬

‫د‪ .‬وأخبره بعض إخواننا عن مشكلة حصلت معه‪ ،‬وأنه في ورطة ‪ ،‬فقال األخ ‪ :‬فما هو إال أن رأيت‬
‫الشيخ وقد دمعت عيناه ودعا لي بأن يفرج اهلل كربي ‪ ،‬فكان ذلك ‪.‬‬

‫هـ ‪ .‬وهذا غير ما سبق من بكائه عند مدحه في وجهه ‪.‬‬

‫زوجاته وأوالده‬
‫تزوج الشيخ اإلمام رحمه اهلل من أربع نسوة ‪:‬‬

‫أ ‪ .‬فأنجب من األولى ‪ :‬عبد الرحمن ‪ ،‬و عبد اللطيف ‪ ،‬و عبد الرزاق ‪.‬‬

‫ب ‪ .‬ومن الثانية ‪ :‬عبد المصور ‪ ،‬و عبد المهيمن ‪ ،‬ومحمد ‪ ،‬وعبد األعلى ‪ ،‬و أنيسة ‪ ،‬و آسية ‪ ،‬و‬
‫سالمة ‪ ،‬و حَّس انة ‪ ،‬و سكينة ‪.‬‬

‫ت ‪ .‬ومن الثالثة ‪ :‬هبة اهلل ‪.‬‬

‫ث ‪ .‬ولم ينجب من الرابعة ‪ ،‬وهي " أم الفضل " ‪ ،‬وهي التي ظلت معه إلى آخر أيامه ‪.‬‬

‫مرضه ووفاته‪.‬‬

‫وقد أصابت الشيخ أواخر حياته أمراض مؤلمة ‪ ،‬نزل وزنه بسببها إلى أن وصل يوم وفاته إلى أقل‬
‫من ‪ 30‬كيلو ‪.‬‬

‫وقد أكرمه اهلل بصفاء ذهنه وعدم تخليط عقله ‪ ،‬وكان يعرف زواره ؛ بعضهم بأسمائهم ‪ ،‬وبعضهم‬
‫بصورهم وأشكالهم ‪.‬‬

‫وقد كان يبذل جهدًا كبيرًا في الكالم وكان أغلب وقته في الفراش ‪.‬‬

‫وكان رحمه اهلل ال يهدأ في أوقات القدرة عن البحث والمطالعة وإذا لم يستطع ذلك أمر بعض أبنائه‬
‫أو من عنده بأن يحضر له كتابًا معينًا ويقرأ منه ‪.‬‬

‫وهكذا قضى رحمه اهلل أكثر من ستين سنة بين كتب أهل العلم دراسة وتدريسًا ‪ ،‬علمًا وتعليمًا ‪ ،‬إلى‬
‫آخر أيام حياته ‪.‬‬

‫فما أحالها من حياة وما أكرمها من أيام ‪ ،‬وما أجملها من سنوات ‪ ،‬وما أغالها من لحظات تلك التي‬
‫قضاها إمامنا وشيخنا غفر اهلل له ‪ ،‬وألحقنا به على خير ‪.‬‬

‫واهلل أعلم وصلى اهلل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫‪:‬الكتاب‬
‫قصص عجيبة للعلماء‬
‫‪:‬المؤلف‬
‫)مجموعة من المؤلفين (معاصر‬
‫‪:‬ترقيم الكتاب‬
‫غير موافق للمطبوع‬
‫الكتب الترجمة‬

‫‪:‬االسم‬
‫)مجموعة من المؤلفين (معاصر‬
‫‪:‬الوفاة‬
‫معاصر‬

‫)كتب المؤلف (‪32‬‬


اإلسالم والعنف األسري‬

نظام مقرأة إلكترونية متطور لتعليم القرآن الكريم وعلومه حسب الضوابط الشرعية‬

أولئك الرجال حقا رجال المساجد‬

الجواسيس والمرتدين ‪ ...‬مقاالت ورسائل‬

أبو بكر الصديق‬

قصص عجيبة للعلماء‬

كيف تتقن القراءة‬

مقاالت موقع األلوكة‬

مقاالت حول االعتصام بالكتاب والسنة‬

إصدارات علمية وتربوية من جمعية السراج المنير اإلسالمية ‪ -‬بيروت‬

فوائد وقواعد حديثية متنوعة‬

من أوراق مجلة األنصار‬

والحق ماشهدت به األعداء‬

روايات‬

من أوراق نشرة األنصار‬

الحجاب‬

فائدة علمية ‪1000‬‬

رسالة إلى األخوات المسلمات‬

مفهوم الثقافة اإلسالمية‬

‪ ..‬قرأت لك‬

من أوراق مجلة نداء اإلسالم‬

من أوراق مجلة الفجر‬

من أوراق مجلة المجاهدون‬

مسابقات على أشرطة‬

تعلم دينك إسالم ‪ -‬إيمان ‪ -‬إحسان‬

مجموعة فوائد من كشكولي الخاص‬

رومانسيات‬

اإلسالم في مواجهة العواصف‬

مقاالت‬

من أوراق مجلة الجماعة‬

واصبروا ان اهلل يحب الصابرين‬
‫عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه‬

‫الترجمة‬

‫)مجموعة من المؤلفين(‬

‫توسم بها (في حقل المؤلف) بعض الكتب والموسوعات التي ُتعد من ِقَبل هيئات ولجان مخصصة أو‬

مجالت‪ ،‬ونحو ذلك‬
‫أو كتاب يشترك فيه عّد ة مؤلفين‬

You might also like