Professional Documents
Culture Documents
ﺗﺄﻟﻴﻒ
ﻣﺤﻤﺪ ﻓﺮﻳﺪ أﺑﻮ ﺣﺪﻳﺪ
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻣﺤﻤﺪ ﻓﺮﻳﺪ أﺑﻮ ﺣﺪﻳﺪ
ﱠ
إن ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻏري ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ آراء املﺆﻟﻒ وأﻓﻜﺎره ،وإﻧﻤﺎ ﱢ
ﻳﻌﱪ اﻟﻜﺘﺎب ﻋﻦ آراء ﻣﺆﻟﻔﻪ.
ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮق اﻟﻨﴩ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺘﺼﻤﻴﻢ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب وﺗﺼﻤﻴﻢ اﻟﻐﻼف ُﻣ َﺮ ﱠﺧﺼﺔ ﺑﻤﻮﺟﺐ رﺧﺼﺔ
املﺸﺎع اﻹﺑﺪاﻋﻲ :ﻧ َ ْﺴﺐُ ا ُملﺼﻨﱠﻒ ،اﻹﺻﺪار .٤٫٠ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮق اﻟﻨﴩ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻨﺺ اﻟﻌﻤﻞ
اﻷﺻﲇ ﺧﺎﺿﻌﺔ ﻟﻠﻤﻠﻜﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ.
اﳌﺤﺘﻮﻳﺎت
6
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ ﺣﻮادث ﺻﻐرية ﻟﻴﺲ ﻟﻮاﺣﺪة ﻣﻨﻬﺎ ﰲ ذاﺗﻬﺎ ﻣﺎ ﻳَﺴﱰﻋﻲ اﻧﺘﺒﺎﻫﻨﺎ ﰲ
اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺮ ﺑﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﺎ إذا ﺑَﻌﺪﻧﺎ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،وأﺻﺒﺢ ﻣﻦ ا ُملﺤﺎل أن ﻧﻌﻮد أدراﺟﻨﺎ
ﻔﻄﻦ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺤﻮادث اﻟﺼﻐرية ﺗﺒني ﻟﻨﺎ أن ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳُﻘ ﱢﺮر ﻣَ ﺼﺎﺋﺮﻧﺎ ،وﻟﻮ ُﻛﻨﺎ ﻧ َ ِ ﱠ
ﺗﻮﺧﻲ اﻟﺤﻜﻤﺔ وﺗﺠﻨﱡﺐ اﻷﺧﻄﺎء ،وﻟ ِﻜﻨﱠﺎ ﺑﴩ اﻟﺨﻄرية ﰲ اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﺤﺎﺳﻤﺔ ﻟﺤَ ﺮﺻﻨﺎ ﻋﲆ ﱢ
ﻧَﻜﺘﺐ ﺑﺄﺧﻄﺎﺋﻨﺎ ﺳﻠﺴﻠﺔ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ،واﻟﺤﻮادث اﻟﺘﻲ ﺗﻤ ﱡﺮ ﺑﻨﺎ ﺗُﺨﻠﻒ ﻓﻴﻨﺎ آﺛﺎ ًرا ﻻ ﺗُﻤﺤﻰ،
وﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﻤﻴﻖ ﻳُﺸﺒﻪ ﻧﺪوب اﻟﺠﺮاح ﺑﻌﺪ اﻟﺘﺌﺎﻣﻬﺎ، ُ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺣﺎﺋﻞ ﻳﺴﻨﺢ ﻟﻨﺎ ﰲ ذﻛﺮﻳﺎت ﻋﺎﺑﺮة، ُ
وﻫﺬه اﻟﺨﻄﻮط اﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﱢ ﻪ ﺗﻔﻜريﻧﺎ وﺗﻘﻮد ﻣﺸﺎﻋﺮﻧﺎ وﺗُﺤ ﱢﺮك إرادﺗﻨﺎ .ﻫﺬا ﻣﺎ ﺑﺪا
ﱄ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ وأﻧﺎ ﰲ ﻏﺮﻓﺘﻲ اﻟﺼﻐرية ﻣﻦ ﺳﺠﻦ اﻻﺳﺘﺌﻨﺎف أﺟﻮل ﺑﺨﻴﺎﱄ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺬﻛﺮى
ﻷُﺳﺠﱢ ﻞ ﻣﺎ أﻇﻨﻪ ﺟﺪﻳ ًﺮا ﺑﺎﻟﺬﻛﺮ ﻣﻦ ﺣﻮادث ﺣﻴﺎﺗﻲ.
ﻃﻮﻳﻼ ﺣﺘﻰ وﻗﻊ اﻟﺤﺎدث اﻷول ً ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻃﻔﻮﻟﺘﻲ ﻣُﺘﻤﻴﱢﺰة ﺑﴚء ﻳﺴﺘﺤﻖ أن أﻗﻒ ﻋﻨﺪه
وﻏري اﺗﺠﺎه ﺣﻴﺎﺗﻲ وﻫﻮ وﻓﺎة واﻟﺪي. اﻟﺬي زﻟﺰل وﺟﻮدي ﱠ
ﻛﻨﺖ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﰲ ﻧﺤﻮ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻋﴩة ﻣﻦ ﻋﻤﺮي ،وﻛﻨﺖ أﺳﺘﻌﺪ ﻻﻣﺘﺤﺎن ﺷﻬﺎدة اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ُ
ﻓﺸﻌﺮت ﻛﺄﻧﻲ أﻫﻮي ﰲ ﻓﺮاغ ﻻ ﻗﺮار ﻟﻪ .ﻛﺎن أﺑﻲ واﻟﺪًا ُ اﻟﻌﺎﻣﺔ ،ووﻗﻌﺖ اﻟﺼﺪﻣﺔ ﻋﲇ ﱠ ﻓﺠﺄ ًة،
وﺻﺪﻳﻘﺎ ﻳﻤﻸ ﻛﻞ ﺣﻴﺎﺗﻲ ،وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺨﻄﺮ ﱄ أﻧﻪ إﻧﺴﺎن زاﺋﻞ ﻗﺪ ﻳُﻨﺘﺰع ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮد ﰲ ﻟﺤﻈﺔ، ً
ﻓﻠﻤﺎ ﻋﺪت ﻣﻦ املﺪرﺳﺔ ذات ﻳﻮم ووﺟﺪﺗُﻪ ﻣُﺴﺠٍّ ﻰ ﰲ ﴎﻳﺮه واﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳﺒﻜﻮن ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ ،وﻗﻔﺖ
ﻄﻰ ،وأﺧﺬت أﺗﺄﻣﻞ اﻟﻮﺟﻮه اﻟﺤﺰﻳﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﻮﻟﻪ وأﻧﺎ ذاﻫﻞ، أﻧﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﺑﻐري أن أرى وﺟﻬَ ﻪ ا ُملﻐ ﱠ
ُ
ﻓﺎﻧﺪﻓﻌﺖ ﻧﺤﻮه ﻷرﻓﻊ ﻋﻨﻪ وﻋﻮﻳﻼ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأوﻧﻲ،ً ً
ﴏاﺧﺎ ﻓﻤﺎ راﻋﻨﻲ إﻻ أن اﻟﺠﻤﻴﻊ ازدادوا
ﻗﴪا .ﻟﻢاﻟﻐﻄﺎء وأﻧﺎدﻳَﻪ ﻷوﻗﻈﻪ ،ﻓﺒﺎدر ﻣَ ﻦ ﻫﻨﺎك إﱄ ﱠ ودﻓﻌﻮﻧﻲ وأﺧﺮﺟﻮﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ ً
ﻈﺎ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﺣﺎﻟﻮا ﺑﻴﻨﻲ وﺑني أﺑﻲ ،وﻟﻢ ﻳُﺤﺎول ﺗﻜﻦ ﰲ ﻋﻴﻨﻲ دﻣﻮع ،ﺑﻞ ﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﻔﻴﺾ ﻏﻴ ً
ﻳﺘﻤﺴﻚ ﺑﻪ ،ﺑﻞ ﺳﻠﻤﻮا ﺑﺄﻧﻪ ﻗﺪ ﻣﺎت واﻧﺘﻬﻰ ﺑﻐري ﻣﺠﺎدَﻟﺔ .ﺛﻢ رأﻳﺘُﻪ ﺑﻌﺪ ﺣني ﱠ أﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ أن
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻳُﺤﻤَ ﻞ ﰲ ﻧﻌﺸﻪ وﻳﺘﱠﺠﻬﻮن ﺑﻪ إﱃ املﻘﱪة ﻛﺎﻷﻣﻮات ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﴎت ﻣﻊ اﻟﺴﺎﺋﺮﻳﻦ ﺣﺘﻰ وﻗﻔﻨﺎ
ُﺪﱃ ﻓﻴﻬﺎ وﻛﻞ ﻣﻦ ﻫﻨﺎك ﺟﺎﻣﺪ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ ﻳَﺒﻜﻲ ﺑﻐري أن إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﺣﻔﺮة ،ورأﻳﺖ ﺟﺜﻤﺎﻧﻪ ﻳ ﱠ
ﻳُﺤﺎول أن ﻳﺘﻤﺴﻚ ﺑﻪ ،ﻓﺎﻧﺪﻓﻌﺖ ﻛﺎملﺠﻨﻮن وأردت أن أﺗﻌﻠﻖ ﺑﻪ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻨﺎس اﺟﺘﻤﻌﻮا ﺣﻮﱄ
ﻗﴪا ،وﺟﻌﻠﻮا ﻳُﻮاﺳﻮﻧﻨﻲ ﺑﻜﻼم ﻟﻢ أﻓﻬﻢ ﻣﻌﻨﺎه ،ﻓﺎﻧﻔﺠﺮت ﺑﺎﻛﻴًﺎ ﻛﻤﺎ ﻟﻢ أﺑﻚ وأﻣﺴﻜﻮا ﺑﻲ ً
ﻳﻮﻣً ﺎ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻲ ،وملﺎ ﻋُ ﺪﻧﺎ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ وﺣﺪَﻧﺎ ﺷﻌﺮت ﺑﺤﺰن ﻻ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺤﺰن ،وﺑ َﻠﻮﻋﺔ
ﻻ ﺗُﺸﺒﻪ ﻟﻮﻋﺔ اﻟﺼﺒﻲ ﰲ ﻓﻘ ِﺪ أﺑﻴﻪ ،ﺑﻞ ﻫﻲ أﻗﺮب إﱃ ﺣﴪة املﻘﻬﻮر اﻟﻌﺎﺟﺰ أﻣﺎم ﻗﻮة ﺟﺒﺎرة
ﺗﺘﻘﺎذَف ﺑﻪ ﰲ ﻗﺴﻮة ،وﻛﺎﻧﺖ ﺻﻮرة أﺑﻲ ﺗﺘﻤﺜﱠﻞ ﱄ ﻻ ﺗﻔﺎرﻗﻨﻲ ﰲ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﻴﻘﻈﺔ وﻻ ﰲ
ﻣﻨﺎﻇﺮ اﻷﺣﻼم ،واﻋﱰاﻧﻲ ﺷﻌﻮر ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺤﻘﺪ واﻟﻌﺪاوة ﻟﻜﻞ ﻣﺎ ﻳُﺬﻛﺮﻧﻲ ﺑﻔﻘﺪه؛ وﻟﻬﺬا ﻟﻢ
أذﻫﺐ ﻣﺮة ﻟﺰﻳﺎرة ﻗﱪه ،ﺑﻞ ﻟﻘﺪ ﻛﻨﺖ أﺗﺤﺎﳽ اﻻﻗﱰاب ﻣﻨﻪ أو اﻟﺴري ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ املﺆدﻳﺔ إﻟﻴﻪ.
ﻓﺨﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن اﻟﺤﻴﺎة ﺧﺎﻟﻴﺔ ﺧﺎوﻳﺔ ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻬﺎ ﻇﻞ ﻣﻦ ﻓﻮﻗﻲ واﻣﺘﻸ ﻗﻠﺒﻲ ﺑﻮﺣﺸﺔ ﺷﺪﻳﺪةُ ،
ﻟﺰﻣﺖ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﰲُ ﻣﺠﻠﺲ ﺣﺘﻰ ﻟﻘﺪ ٍ ُ
وﻧﻔﺮت ﻣﻦ ﻛﻞ وﻻ ﻗﺮار ﻣﻦ ﺗﺤﺘﻲ ،وﺣُ ﺒﱢﺒﺖ إﱄ ﱠ اﻟﻌﺰﻟﺔ
اﻟﺒﻴﺖ ﻛﻠﻤﺎ ﻋﺪت ﻣﻦ املﺪرﺳﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ أﻣﻲ ﺗﺄﺗﻲ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻟﺘُﺆﻧ َِﺴﻨﻲ ﻓﺘﺠﻠﺲ إﱃ ﺟﻨﺒﻲ وﺗﺮﻗﺒﻨﻲ
ﱡ
وأﺣﺲ أن اﻟﺤﻴﺎة رﻫﻴﺒﺔ. ﰲ ﻋﻄﻒ ﺣﺰﻳﻦ ،ﻓﻼ ﻳﺰﻳﺪﻧﻲ ذﻟﻚ إﻻ وﺣﺸﺔ
ﻓﴫت أﺧﺮج وﺣﺪي إﱃ ُ وﺷﻴﺌًﺎ ﺑﻌﺪ ﳾء ﺑﺪأت أﺿﻴﻖ ﺑﺎﻟﺠﻮ اﻟﺮﻫﻴﺐ اﻟﺬي ﺧﻴﱠﻢ ﻋﲇﱠ،
اﻟﺤﻘﻮل اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ أﺟﻮل ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻐري ﻗﺼﺪ ﺳﻮى اﻟﺴري ﰲ اﻟﻬﻮاء اﻟﻄﻠﻖ ،وﻳﺪور ذﻫﻨﻲ
إن اﻟﺤﻘﻮل ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻏﺎﻣﻀﺔ ﻳﺸﻮﺑﻬﺎ ﺣﺰن ﻏﺎﻣﺾ ،ﺣﺘﻰ ﱠ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ أﺛﻨﺎء ﺳريي ﰲ أﻓﻜﺎر ِ ﺣﻮل ِ
ً ُ
وﻛﻨﺖ أﺣﻴﺎﻧﺎ أﺟﻠﺲ ﱠ
ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺒﺪو ﰲ ﻋﻴﻨﻲ ﰲ إﻃﺎر ﻛﺌﻴﺐ ﻣﻊ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﱪﱠج ﰲ ﺣﻠﺔ اﻟﺮﺑﻴﻊ،
ﻧﻔﺲ ﺑﻪ ﻋﻦ أﻓﻜﺎري اﻟﺤﺰﻳﻨﺔ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ،ﻓﺈذا ﰲ ﻣﻜﺎن ﻣُﻨﻌﺰل ،ﻓﺄﻛﺘﺐ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳُﺸﺒﻪ اﻟﺸﻌﺮ أ ُ ﱢ
ﻛﺂﺑﺔ ﻷﻧﻪ ﻳﺪور ﺣﻮل ﻣﻌﻨًﻰ واﺣﺪ؛ ﻣﻌﻨﻰ ﺑﺎدرت ﺑﺘﻤﺰﻳﻘﻪ؛ إذ ﻛﺎن ﻳﺰﻳﺪﻧﻲ ً ُ ُ
ﻛﺘﺒﺖ ُ
ﻗﺮأت ﻣﺎ
زوال اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻠﻨﺎ ﺑﺮﻏﻤﻨﺎ وﺗﻘﺬف ﺑﻨﺎ ﺣﻴﺚ ﺗﺸﺎء ،وﻛﺎﻧﺖ أﺳﺌﻠﺔ واﺣﺪة ﺗﺘﺨ ﱠﻠﻞ ﻛﻞ
ﺟﺌﺖ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة؟ وﻟ َﻢ أﺑﻘﻰ ﻓﻴﻬﺎ؟ وأﻳﻦ ﻧﺬﻫﺐ إذا ﺧﺮﺟﻨﺎ ﻣﻨﻬﺎ؟ وﻣﺎ ﻫﻮ ُ ﻣﺎ أﻛﺘﺐ :ﻟﻢ
ُ
ﺑﺪأت أرى ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻓﻴﻬﺎ أن أﺟﻌ َﻠﻪ ﻏﺎﻳﺘﻲ؟ وﻣﻤﺎ زادَﻧﻲ ﺷﻌﻮ ًرا ﺑﺎﻟﺮﻫﺒﺔ أﻧﻲ ﱡ ﻗﺼﺪﻫﺎ؟ وﻣﺎذا
ﺿﻴﻘﺎ ﺗُﺤﺎول أن ﺗُﺨﻔﻴﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻳﻈﻬﺮ واﺿﺤً ﺎ ﰲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺣﻮﻟﻨﺎ. ً أﻣﻲ ﺗُﻌﺎﻧﻲ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ
ﱠدت أن أﻧﻔﻘﻬﺎ ﰲ »اﻟﺸﱪﻗﺔ« ﻣﻊ رﻓﺎﻗﻲ ﺑﺎملﺪرﺳﺔ ،ﺣﺘﻰ ﺻﺎرت ﻻ ﺗُﻌﻄﻴﻨﻲ اﻟﻨﻘﻮد اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮ ُ
ﴏت ﻻ أَﻗﺪر ﻋﲆ ﻣُﺠﺎراﺗﻬﻢ ،وﻻ ﺗﺸﱰي ﱄ وﻻ ﻷﺧﺘﻲ اﻟﺼﻐرية ﻣﺎ ﺗﻌﻮﱠدﻧﺎ اﻧﺘﻈﺎره ﻣﻦ
ُ
وﺷﻌﺮت ﺑﺎﻟﺬﻟﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺖ ﺗﺸﱰ ﻟﻨﺎ املﻼﺑﺲ اﻟﺠﺪﻳﺪة،ِ اﻟﻬﺪاﻳﺎ اﻟﺼﻐرية ،وملﺎ ﺟﺎء اﻟﻌﻴﺪ ﻟﻢ
ﻛﻞ زﻣﻼﺋﻲ ﻳﻨﻈﺮون إﱃ ﺑﺪﻟﺘﻲ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺮﻓﻮﻧﻬﺎ ،وأذﻛﺮ أﻧﻲ ذﻫﺒﺖ إﱃ أﻣﻲ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻓﺴﺄﻟﺘﻬﺎ:
أﺗﻜﺴﺐ ﻣﻨﻪ؟ﱠ ﻣﺎذا ﺗﻘﻮﻟني ﻳﺎ أﻣﻲ ﰲ أن أﺷﺘﻐﻞ ﺑﻌﻤﻞ
8
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
9
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﺻﺎ ﻛﺜرية ﻟﻠﻤُﺼﺎدﻣﺎت ﻛﻲ أُﻇﻬ َﺮ اﻣﺘﻴﺎزي، وﻗﺪ وﺟﺪت ﰲ ﺻﺤﺒﺔ ﻫﺆﻻء اﻟﺰﻣﻼء ُﻓ َﺮ ً
وﻛﺎﻧﺖ ﺟﻮﻻﺗﻲ ﻣﻌﻬﻢ ﺗَﻨﺘﻬﻲ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن ﺑﻤﻌﺮﻛﺔ أﺻﻴﺐُ ﻓﻴﻬﺎ ﻏريي أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺠﺮاح
أو ﻛﺪﻣﺎت ،ﻛﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﻋﻮد ﻣﻨﻬﺎ إﱃ ﻣﻨﺰﱄ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺜﻴﺎب ﻣﻤ ﱠﺰﻗﺔ ،وﺧﺪوش ﻛﺜرية ،وﻛﻨﺖ ﰲ
أول اﻷﻣﺮ أﺗﺴﻠﻞ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﻋﻨﺪ ﻋﻮدﺗﻲ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ ﺣﺘﻰ ﻻ أﺗﻌ ﱠﺮض ﻟﻠﻮم أﻣﻲ ،وﻟﻜﻨﻲ ﺑﻌﺪ أن
ﺗﻌﺮﺿﺖ ﻟﻠﻮﻣﻬﺎ ﻣﺮة ﺑﻌﺪ ﻣﺮة ﴏت ﻻ أرﻫﺐ ﺷﻴﺌًﺎ وﻻ أﺑﺎﱄ ﻟﻮﻣً ﺎ ،وﻣﺎ أزال إﱃ اﻵن أﺷﻌﺮ
ﻛﻨﺖ أﻗﻒ أﻣﺎم أﻣﻲ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ وأُﺟﺎدﻟﻬﺎ وأراﺟﻌﻬﺎ وأﺗﺤﺪﱠاﻫﺎ ﺑﻐري ﺑﺎﻟﺨﺠﻞ ﻛﻠﻤﺎ ﺗﺬﻛﺮت ﻛﻴﻒ ُ
ﺗﺠﻤﱡ ﻞ.
وﻛﺎن ﻣﻦ ﺑني ﺻﺒﻴﺎن اﻟﺤﺎرة اﺛﻨﺎن اﺳﺘﻤﺮت ﺻﻠﺘﻲ ﺑﻬﻤﺎ ﻣﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ؛ وﻟﻬﺬا
أرى أﻧﻬﻤﺎ ﺟﺪﻳﺮان ﺑﺄن أذﻛﺮﻫﻤﺎ ،وأوﻟﻬﻤﺎ »ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ« اﻟﺬي ذﻛﺮﺗْﻪ ﱄ أﻣﻲ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ
اﻟﻠﻮم ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻓﻀﻴﺖ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺮﻏﺒﺘﻲ ﰲ اﻟﻌﻤﻞ.
ﻛﺎن ﺣﻤﺎدة ﻓﺘًﻰ ﺿﺌﻴﻞ اﻟﺠﺴﻢ أﺻﻔﺮ اﻟﻠﻮن ﻳﻌﺮﻓﻪ ﺻﺒﻴﺎن اﻟﺤﺎرة ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﺑﺎملﻜﺮ
واﻟﺨﺒﺚ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻣﻊ ﻫﺬا ﻳُﻌﺠﺒﻮن ﺑﻤﻬﺎرﺗِﻪ ﰲ اﺧﱰاع اﻷﻻﻋﻴﺐ وﺗﺪﺑري املﻜﺎﺋﺪ ،وﻛﺎن ﻳﻤﺘﺎز
ﺟﺴﻤﻪ ﻻ ﻳُﺤﺐ ِ ِ
ﻟﻀﻌﻒ ﺑﺠﺮأة ﻋﻈﻴﻤﺔ ﰲ اﻟﻜﻼم ،وﻟﻪ أﺳﻠﻮب َﻓ ِﻜ ٌﻪ ﺳﺎﺧﺮ ﻻذع ،وﻟﻜﻨﻪ
املﺼﺎدﻣﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ ﻣﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻨﱡﻦ ﰲ اﻟﺼﻔري اﻟﻌﺎﱄ ﺑﺄن ﻳَﻀﻊ إﺻﺒﻌَ ﻴﻪ ﰲ ﻓﻤﻪ وﻳﻨﻔﺦ
ﻓﻴُﺨﺮج أﺻﻮاﺗًﺎ ﻳﺘﺤﻜﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺸﺎء ،ﻓﻴﻘﻠﺪ ﺻﻮت اﻟﻘﺎﻃﺮة اﻟﺒﺨﺎرﻳﺔ أو اﻟﻌﺼﺎﻓري ،أو
ﻳﻘﻄﻊ اﻟﺼﻔري ﰲ ﻣﻘﺎﻃﻊ ﺗﺠﻌﻠﻪ ﻳُﺸﺒﻪ اﻟﻨﻄﻖ إذا أراد أن ﻳﺪﻋﻮﻧﺎ ﻣﻦ ﻣﻨﺎزﻟﻨﺎ ﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻨﺎ ،وﻛﺎن
ﻫﻮ زﻋﻴﻢ اﻟﺼﺒﻴﺎن ﰲ اﻟﺤﺎرة ﻗﺒﻞ أن أدﺧﻞ ﰲ زﻣﺮﺗﻬﻢ ،ﻓﻠﻤﺎ اﺗﺼﻠﺖ ﺑﻬﻢ ﺷﻌﺮت أﻧﻪ ﻏري
ﻣﺮﺗﺎح إﱃ وﺟﻮدي ﻣﻌﻬﻢ ﻣﻨﺬ أول ﻳﻮم؛ ﻷﻧﻪ وﺟﺪﻧﻲ ﻏري ﻣُﺴﺘﻌ ﱟﺪ ﻟﻘﺒﻮل زﻋﺎﻣﺘﻪ.
ﺗﻤﺾ ﺳﻮى ﺑﻀﻌﺔ أﺳﺎﺑﻴﻊ ﻋﲆ وﺟﻮدي ﻣﻊ اﻟﺰﻣﺮة ﺣﺘﻰ وﺟﺪت اﻟﺠﻤﻴﻊ ِ وﻟﻢ
وملﺖ ﻧﻔﴘ ﻟﻮﻣً ﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﻋﲆ اﻧﺤﺪاري إﱃ ﻣﺼﺎﺣﺒﺘﻬﻢ، ﻳﻘﺎﻃﻌﻮﻧﻨﻲ وﻳﺒﺎﻋﺪوﻧﻨﻲ ،ﻓﺎﻋﺘﺰﻟﺘُﻬﻢ ُ
واﻗﺘﴫت ﻋﲆ اﻟﺨﺮوج وﺣﺪي إﱃ اﻟﺤﻘﻮل اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ ﻷﺗﻨ ﱠﺰه وأﻛﺘﺐ ﺑﻌﺾ ﺧﻮاﻃﺮي ،وﻟﻜﻦ
اﻟﺰﻣﺮة ﻟﻢ ﺗَﺪﻋْ ﻨﻲ وﺣﺪي ﰲ ﺳﻼم ،ﺑﻞ أﺧﺬ أﻓﺮادﻫﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﺮﺿﻮن ﱄ ﰲ ذﻫﺎﺑﻲ وإﻳﺎﺑﻲ ،وﻳَﻘﺬﻓﻮن
ﺑﻌﺾ أﻟﻔﺎظ اﻟﺘﻌﺮﻳﺾ ﻧﺤﻮي ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ،ﻓﻜﻨﺖ أﺗﺠﺎﻫﻞ أﻣﺮﻫﻢ ﻷُﻇﻬ َﺮ ﻣﻘﺪار ﻫﻮاﻧﻬﻢ ﻋﻨﺪي.
وﻛﺎن ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ وﻟﺪ ﻣﻦ أﺑﻨﺎء اﻟﺘﺠﺎر اﺳﻤﻪ »ﺣﻤﺎدة اﻟﺒﺎرودي« وﻫﻮ ﻗﺰم ﻗﺼري ذو
ﻃﻮﻳﻼ ﻓﺼﻴﺤً ﺎ ،وﻟﻪ ﻣﻘﺪرة ﻛﺒرية ﻋﲆ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ اﻟﻼذﻋﺔ ،ﻓﻜﺎن ً رأﺳني ،وﻟﻜﻦ ﻟﺴﺎﻧﻪ ﻛﺎنَ
ﻛ ﱠﻠﻤﺎ رآﻧﻲ ﻗﺬﻓﻨﻲ ﺑﺄﻟﻔﺎﻇﻪ اﻟﺴﺎﺧﺮة ،ا ُملﻀﺤﻜﺔ ،وﻣﺎ ﻳﺰال ﻛﺬﻟﻚ ﺣﺘﻰ أﻏﻴﺐ ﻋﻦ ﺑﴫه وأﻧﺎ
أﺳﻤﻊ ﺿﺤﻜﺎﺗﻪ وﺿﺤﻜﺎت أﺻﺤﺎﺑﻪ ﻓﺄﺗﱠﻘﺪ ﻏﻴ ً
ﻈﺎ ،وملﺎ رأت اﻟﺰﻣﺮة أﻧﻲ ﻻ أﻋريﻫﻢ اﻟﺘﻔﺎﺗًﺎ زادوا
ﺟﺮأة ﻋﲇﱠ ،وأﺧﺬوا ﻳﺴريون وراﺋﻲ ﻟﻴﻄﻴﻠﻮا ﻣﺪة اﺿﻄﻬﺎدﻫﻢ إﻳﺎي ،وﻛﺎﻧﻮا ﻳُﺮﺳﻠﻮن أﻣﺎﻣﻬﻢ
10
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
ُﺼﻔﻘﻮن وﻳَﻀﺤﻜﻮن ،وﺣﻤﺎدة ﺻﻔﺎ ﻳ ﱢ ﺣﻤﺎدة اﻟﺒﺎرودي ﻟﻴﻜﻮن ﻃﻠﻴﻌﺔ ،وﻳﺴريون ﻣﻦ ﺧﻠﻔﻪ ٍّ
اﻷﺻﻔﺮ ﻳُﺼﻔﺮ ﻟﻬﻢ ﺻﻔريًا ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻨﻐﻤﺎت واﻟﻨﱪات ،وملﺎ زاد ﻏﻴﻈﻲ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ أن
أواﺟﻬﻬﻢ ﰲ ﻣﻮﻗﻌﺔ ﺣﺎﺳﻤﺔ ،ﻓﻤﺎ ﻛﺎدت اﻟﺰﻣﺮة ﺗﺴري ﻣﻦ ﺧﻠﻔﻲ ﻛﻌﺎدﺗﻬﺎ ذات ﻳﻮم ،وﻣﺎ ﻛﺎد
ً
ﺣﺎﻧﻘﺎ ﺣﻤﺎدة اﻟﺒﺎرودي ﻳﺴري ﰲ ﻃﻠﻴﻌﺘﻬﺎ وﻳَﺼﻴﺢ ﺑﺄول ﻛﻠﻤﺔ ﺳﺎﺧﺮة ،ﺣﺘﻰ ﻋﺪت أدراﺟﻲ
ﻗﺎﺋﻼ :أﺗﻘﺼﺪﻧﻲ ﺑﻤﺎ ﺗﻘﻮل؟ وﺧﺎﻃﺒﺖ اﻟﻘﺰم ً
ﻓﺎرﺗ ﱠﺪ ﺣﻤﺎدة اﻟﺒﺎرودي إﱃ اﻟﻮراء ﺻﺎﻣﺘًﺎ وﻧﻈﺮ إﱃ وراﺋﻪ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻟﻢ أ َد ْع ﻟﻪ ﻓﺮﺻﺔ
ﻗﺎﺋﻼ :أﺗُﺮﻳﺪ أن ﺗﻜﻮن ﻋﺪوﱢي؟ ﻟﻜﻠﻤﺔ أﺧﺮى ،وأﻣﺴﻜﺖ ذراﻋﻪ ﻓﻬﺰزﺗﻬﺎ ﰲ ﻋﻨﻒ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﻧﺎ ﻣﺼﺎﻟﺤﻚ! ﻓﻠﻤﺎ رأى أن أﺻﺤﺎﺑﻪ ﻻ ﻳُﴪﻋُ ﻮن ﻟﻨﺠﺪﺗﻪ أﺟﺎب ً
واﻧﺪﻓﻌﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ ﻧﺤﻮ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ا ُملﻨﺘﻈﺮة.
ُ ﺛﻢ اﻧﺤﺎز إﱃ ﺟﻨﺐ ووﻗﻒ ﻳﻨﻈﺮ ﻣﺎذا أﻓﻌﻞ،
وﻗﺼﺪت ﻋﺎﻣﺪًا إﱃ زﻋﻴﻤﻬﻢ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻓﻠﻢ أﺧﺎﻃﺒﻪ ﺑﻜﻠﻤﺔ ،ﺑﻞ ﻟﻜﻤﺘُﻪ ﰲ ﺻﺪﻏﻪ
ﺻﺎرﺧﺎ ،ﻓﻌﺎﺟﻠﺘُﻪ ﺑﻠﻜﻤﺔ أﺧﺮى ﺳﻘﻂ ً ﻟﻜﻤﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﺟﻌﻠﺘﻪ ﻳﱰﻧﱠﺢ وﻳﻀﻊ ﻳﺪه ﻋﲆ وﺟﻬﻪ
ﻣﻨﻬﺎ ﻋﲆ اﻷرض ﻳﴫخ وﻳﺒﻜﻲ وﻳﺸﺘﻤُﻨﻲ ،ﻓﺠﺬﺑﺘﻪ ﻣﻦ ﻳﺪه ﺣﺘﻰ أوﻗﻔﺘﻪ أﻣﺎﻣﻲ ﻛﺄﻧﻪ ﻃﻔﻞ
ﻟﺤﻈﺔ ﻗﺼري ٍة اﻧﻘﻠﺐ أﻓﺮاد اﻟﺰﻣﺮة ﻣﻦ ﻋﺪاوة ﻣُﺘﺤﻤﱢ ﺴﺔ إﱃ ٍ ﻣُﺬﻧِﺐ ،وأﺧﺬت أﺷﺘﻤﻪ وأﻫﺪده ،وﰲ
ﺻﺪاﻗﺔ ﻣﺘﺤﻤﱢ ﺴﺔ ،وأﺧﺬوا ﻳﺼﻔﻘﻮن ﱄ ،وﺟﺎء ﺣﻤﺎدة اﻟﺒﺎرودي ﻳُﺸﺎرك ﰲ املﻠﻬﺎة اﻟﺠﺪﻳﺪة،
ﻓﺄﺧﺬ ﻳﺼﻴﺢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺘﻪ اﻟﺴﺎﺧﺮة املﻀﺤﻜﺔ :ﻣﺎ ﻟﻚ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة ﻳﺎ أﺻﻔﺮ! ﺣﺮام ﻋﻠﻴﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ.
ﺗﺎب وﷲ اﻟﻌﻈﻴﻢ! ﺟﺪع ﻳﺎ ﺳﻴﺪ .ﻫﻴﻪ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة!
وﻛﺎن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳَﻀﺤﻜﻮن وﻳﺼﻔﻘﻮن ،وﻛﺎن ﺧﺬﻻن ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﺣﺎﺳﻤً ﺎ ،ﻓﻌﺰل ﻧﻔﺴﻪ
ﻋﻦ زﻋﺎﻣﺘﻪ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم وﺗﺮﻛﻨﻲ زﻋﻴﻤً ﺎ ﻟﻠ ﱡﺰﻣﺮة وﺣﺪي ،وﻟﻢ ﻳﻈﻬﺮ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻋﺪة
أﺳﺎﺑﻴﻊ ،ﺛﻢ ﻋﺎد إﻟﻴﻨﺎ ﺧﺎﺿﻌً ﺎ ﻣُﺴﺎ ًملﺎ.
وأﻣﺎ اﻟﺼﺒﻲ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻬﻮ »ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة« ،وﻛﺎن ﻫﻮ املﻬﺮج املﻀﺤﻚ ﺑﻌﺪ اﻋﺘﺰال
ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ .ﻛﺎن وﻟﺪًا ﺿﺨﻢ اﻟﺠﺴﻢ ،ﻟﻪ وﺟﻪ ﻏﻠﻴﻆ أﺣﻤﺮ ﻗﺎﺗﻢ ،وﻓﻴﻪ آﺛﺎر ﻣﻦ اﻟﺠﺪري
ﺗﺒﺪو ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﻛﺄﻧﻬﺎ زرﻗﺎء ،وﺗﻌﻠﻮ وﺟﻬﻪ داﺋﻤً ﺎ ملﻌﺔ ﻛﺄﻧﻪ ﻣﺪﻫﻮن ﺑﺰﻳﺖ ،وﻛﺎن ﻟﻪ ﺻﻮت
ﻣﺠﻮﱠف ﻏﻠﻴﻆ ،وﻳﻨﻄﻖ ﺑﺄﻟﻔﺎﻇﻪ ﰲ ﺑﻂء ﻓﻴﺜري اﻟﻀﺤﻜﺎت ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﻛﻠﻤﺔ ،وﻛﺎن ﻳﺠﻤﻊ ﺑني
اﻟﺴﺬاﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺮب ﻣﻦ اﻟﺒﻼﻫﺔ وﺑني املﻴﻞ إﱃ اﻟﺪس واﻟﻨﻤﻴﻤﺔ ،وﻟﻪ ﻣﻘﺪرة ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻋﲆ
اﺧﱰاع اﻷﻛﺎذﻳﺐ اﻟﺘﻲ ﻳَﺴﻌﻰ ﺑﻬﺎ ﺑني رﻓﺎﻗﻪ ،ﻓﺈذا ﻋﺮف زﻣﻼؤه ﺣﻘﻴﻘﺔ أﻛﺎذﻳﺒﻪ ﻟﻢ ﻳَﺨﺠﻞ
وﻟﻢ ﻳُﻨﻜِﺮ ،ﺑﻞ ﻳﻨﻄﻖ ﺑﺒﻌﺾ أﻟﻔﺎﻇﻪ اﻟﺒﻠﻬﺎء ﺛﻢ ﻳﻀﺤﻚ ﺿﺤﻜﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وﻳﺘﺤﻤﱠ ﻞ ﻣﺎ ﻳﻮﺟﻪ
ﺳﺒﻴﻼ ﻷﻧﻪ ﻟﻢً إﻟﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺸﺘﺎﺋﻢ ،وﻛﺎن ﻳَﻐﻴﻈﻨﻲ ﻛﺜريًا ﺑﺒﻼدﺗﻪ وﺧﺒﺜﻪ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺟﺪ ﻋﻠﻴﻪ
ﱡ
أﻗﺘﺺ ﻣﻨﻪ ﻋﲆ أﻛﺎذﻳﺒﻪ. ﻳُﺤﺎول ﻣﺮة ﻣﻦ املﺮات أن ﻳﺘﺤﺪى أو ﻳﻘﺎوم ﻋﻨﺪﻣﺎ ُ
ﻛﻨﺖ
11
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻫﻮ ﻳﺘﻴﻢ اﻷﺑﻮﻳﻦ ،ﻳﻘﻴﻢ ﻣﻊ ﺟﺪﺗﻪ اﻟﻌﺠﻮز وﻳَﻌُ ﻮﻟﻬﺎ ﺑﻤﺎ ﻳَﻜﺘﺴﺐ ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻪ ﰲ ﻣﺤﻠﺞ
اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﺗﺎﺟﺮ اﻷﻗﻄﺎن ،اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻣﻦ ﺳﻜﺎن اﻟﺤﺎرة ،وﻫﻮ داﺋﻤً ﺎ ﻳُﺒﺎﻫﻲ
ﺑﺄن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻳﻌﺮف ﺟﺪﺗﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﻳُﻘﻴﻢ ﰲ ﺣﺎرﺗﻨﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻳُﺒﺎﻫﻲ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﺄﺧﺬ ﺳﺘﺔ
ﺟﻨﻴﻬﺎت ﻣﺮﺗﺒًﺎ ﺷﻬﺮﻳٍّﺎ.
وﻗﺪ ﺣﺪث ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم أن ذﻫﺒﻨﺎ إﱃ ﻣﻮﻟﺪ ﺳﻴﺪي »ﻋﻄﻴﺔ أﺑﻮ اﻟﺮﻳﺶ« ،وأﺧﺬﻧﺎ
ﻧﻠﻌﺐ اﻟﻜﺮة ﰲ ﺳﺎﺣﺔ ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ ﻣﻜﺎن املﻮﻟﺪ ،واﺟﺘﻤﻊ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻨﺎ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺎرة ،وﻗﺪ
أﺣﺴﻨﺖ ﰲ اﻟﻠﻌﺐ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم ،وﻛﻨﺖ اﻟﻼﻋﺐ اﻷوﺳﻂ ﰲ اﻟﻬﺠﻮم ،ﻓﺄﺧﺬ اﻟﻨﻈﺎرة ﻳﻬﺘﻔﻮن ُ
ﺑﺎﺳﻤﻲ ﺣﺘﻰ داﺧﻠﻨﻲ زﻫﻮ ﻛﺒري ،وﺟﺎءت ﻓﱰة اﻟﺮاﺣﺔ ﺑني دو َري اﻟﻠﻌﺐ ﻓﺬﻫﺒﺖ ﻷﴍب
ﻛﻮﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﺮوب ،وﻣﺮرت ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻲ ﺑﺤﻠﻘﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺤﻴﻂ ﺑﻤﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة وﺗﻀﺤﻚ ﻣﻨﻪ،
وﺳﻤﻌﺖ ﺻﻮﺗﻪ اﻷﺟﻮف ﻳﻨﻄﻖ ﺑﺎﺳﻤﻲ ﰲ ﻋﺒﺎرة ﺗﻬﻜﻢ اﻧﻔﺠ َﺮ ْت ﻋﲆ أﺛﺮﻫﺎ ﺿﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ،
اﻣﺘﻸت ﺑﻪ ﰲ أﺛﻨﺎء اﻟﻠﻌﺐ ،واﻧﺪﻓﻌﺖ ﻧﺤﻮ ﻣﺼﻄﻔﻰ ُ ﻓﺸﻌﺮت ﺑﺤﻨﻖ ﺷﺪﻳﺪ ﻋﻘﺐ اﻟﺰﻫﻮ اﻟﺬي ُ
ُ
أﺗﺒﻌﺖ ذﻟﻚ ﻋﺠﻮة ﺑﻐري ﺗﻔﻜري ﻓﺄﻫﻮﻳﺖ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ اﻟﺴﻤني ﺑﻜﻞ ﻗﻮﺗﻲ ﺑﺼﻔﻌﺔ رﻧﺖ ﻋﺎﻟﻴًﺎ ،ﺛﻢ
ﺑﺒﻀﻊ ﺷﺘﺎﺋﻢ ﺷﺪﻳﺪة.
وﻟﻢ ﻳُﺤﺎول ﻣﺼﻄﻔﻰ أن ﻳﺮ ﱠد ﻋﲆ اﻻﻋﺘﺪاء ﺑﻤﺜﻠﻪ ،ﻣﻊ أﻧﻪ ﻛﺎن ﰲ ﻣﺜﻞ ﻃﻮﱄ ،وأﺿﺨﻢ ﻣﻨﱢﻲ
ﻗﺎﺋﻼ» :ﺷﺎﻫﺪﻳﻦ ﻳﺎ ﺟﻤﺎﻋﺔ؟« ﺟﺴﻤً ﺎ ،ﺑﻞ رﻓﻊ ذراﻋﻪ إﱃ رأﺳﻪ ﻟﻴَﺤﻤﻲ وﺟﻬﻪ ،وأﺧﺬ ﻳﺼﻴﺢ ً
وﺗﻌﺎﻟﺖ اﻷﺻﻮات ﻣُﺨﺘﻠِﻄﺔ ،وﺗﻘﺪﱠم أﻓﺮاد ﻛﺜريون ﻟﻴﺤﺠﺰوﻧﻲ ﻋﻨﻪ وﺷﻬﺪوا ﻋﲇ ﱠ ﺑﺎﻻﻋﺘﺪاء،
ً
ﻛﺌﻮﺳﺎ ﻣﻦ ﴍاب اﻟﺨﺮوب ﻓﻔﻌﻠﺖ. وأﻟﺰﻣﻮﻧﻲ أن أﺳﻘﻴَﻬﻢ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ
ﻫﻜﺬا اﻧﺤﺪرت ﻣﻊ ﻫﺬه اﻟﺰﻣﺮة إﱃ ﺣﻴﺎة ﻣُﻀﻄﺮﺑﺔ ﻣﺪة اﻟﺼﻴﻒ ﻛﻠﻪ ،وﻋﺰﻓﺖ ﻧﻔﴘ ﻋﻦ
ﻣﻮاﺻﻠﺔ اﻟﺪراﺳﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﺪأ اﻟﻌﺎم اﻟﺪراﳼ اﻟﺠﺪﻳﺪ ،وﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ اﻻﻧﻘﻄﺎع ﻷﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻋﻤﻞ
أﺗﻜﺴﺐ ﻣﻨﻪ ،وأﻋﻠﻨﺖ ﻷﻣﻲ ﰲ ﴏاﺣﺔ أﻧﻨﻲ ﻟﻦ أﻃﻴﻖ اﻻﺳﺘﻤﺮار ﰲ املﺪرﺳﺔ ،وﻟﻢ أﻋﺒﺄ ﺑﺎﻟﺤﺰن ﱠ
اﻟﺸﺪﻳﺪ اﻟﺬي أﺻﺎﺑﻬﺎ.
وملﺎ رأت أﻣﻲ أﻧﻨﻲ رﻛﺒﺖ رأﳼ ﴏﻓﺖ وﺟﻬﻬﺎ ﻋﻨﻲ ،وﻟﺰﻣﺖ اﻟﺼﻤﺖ ﺣﺘﻰ ﺻﺎرت ﻻ
ﺗﺨﺎﻃﺒﻨﻲ ﰲ ﳾء.
وﻋﺰﻣﺖ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﻧﻔﴘ ﻋﲆ أن أﻇﻬﺮ ﻟﻬﺎ أﻧﻨﻲ ُ وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﺰدﻧﻲ إﻻ ﻋﻨﺎدًا،
ﻃﻔﻼ ،وأﻧﻨﻲ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺛﺒﺖ وﺟﻮدي وأﺷﻖ ﻃﺮﻳﻘﻲ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ،وﻟﻜﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﺪأت ﻟﺴﺖ ً ُ
أﻓﻜﺮ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻋﻤﻞ ﻟﻢ أﺟﺪ أﻣﺎﻣﻲ ﺑﺎﺑًﺎ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻃﺮﻗﻪ ،ﻷﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﻗﻠﻴﻞ اﻟﺨﱪة
ﻻ أﻛﺎد أﻋﺮف ﻋﻦ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻛﺎن أول ﻣﺎ ﺧﻄﺮ ﱄ أن أﺷﺘﻐﻞ ﺑﺎﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﰲ اﻟﺼﺤﻒ؛
ﻛﻨﺖ ﰲ املﺪرﺳﺔ ﻋﻀﻮًا ﰲ ﻟﺠﻨﺔ املﺠﻠﺔ ،وﻛﺎن اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ واملﺪرﺳﻮن ﻳُﺴﻤﻮﻧﻨﻲ ُ وذﻟﻚ ﻷﻧﻲ
12
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
ﻄﻊ اﻟﺘﻲ أﻛﺘﺒﻬﺎ وﻳُﻈﻬﺮون اﻹﻋﺠﺎب »اﻟﻜﺎﺗﺐ اﻟﺼﻐري« ،وﻳَﻄﻠﺒﻮن ﻣﻨﻲ أن أﻗﺮأ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻘِ َ
ﻣﻘﺎﻻ ﻣﻦ إﻧﺸﺎﺋﻲ إﱃ إﺣﺪى اﻟﺼﺤﻒ ﻟﻢ أﻟﺒﺚ أن أﺗﻠﻘﻰ اﻟﺮد وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻨﻲ إذا أرﺳﻠﺖ ً ﺑﻬﺎُ ،
ﻣﺤﺘﻮﻳًﺎ ﻋﲆ ﺑﻀﻌﺔ ﺟﻨﻴﻬﺎت أذﻫﺐ ﺑﻬﺎ إﱃ أﻣﻲ ﻷﻗﻮل ﻟﻬﺎ» :اﻧﻈﺮي ﻛﻴﻒ أﻛﺴﺐ!« وﻗﻀﻴﺖ
ُ
وﺑﻌﺜﺖ أﺗﻤﻤﺖ ﺑﻀﻊ ﻣﻘﺎﻻت وﻛﺘﺒﺘﻬﺎ ﺑﺨﻂ ﺣﺴﻦ ﰲ ورق ﺟﻴﺪ، ُ ﺑﻀﻊ ﻟﻴﺎل ﰲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺣﺘﻰ
أﻧﺲ أن أﺑﻌﺚ ﺑﺈﺣﺪاﻫﺎ إﱃ ﺟﺮﻳﺪة »اﻟﻨﱪاس« ﰲ دﻣﻨﻬﻮر. ﺑﻬﺎ إﱃ اﻟﺼﺤﻒ املﻌﺮوﻓﺔ ،وﻟﻢ َ
أﺟﻦ ﻣﻦ وراء ﻣﻘﺎﻻﺗﻲ إﻻ إن اﻧﺘﻈﺎري ﻗﺪ ﻃﺎل ﻋﺒﺜًﺎ وﻟﻢ ِ وﻻ ﺣﺎﺟﺔ ﺑﻲ إﱃ أن أﻗﻮل :ﱠ
ﺧﺴﺎرة أﺛﻤﺎن اﻟﺼﺤﻒ اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ أﺷﱰﻳﻬﺎ ﻛﻞ ﻳﻮم أو ﻛﻞ أﺳﺒﻮع ﻷرى ﻫﻞ ﻧَﴩَت ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ
ﻛﺘﺎﺑﺘﻲ .ﻫﺬا ﻓﻮق ﻣﺎ ﺧﴪﺗﻪ ﰲ ﺛﻤﻦ اﻟﻮرق واﻟﻈﺮوف وأﺛﻤﺎن ﻃﻮاﺑﻊ اﻟﱪﻳﺪ وزﺟﺎﺟﺔ ﻣﻦ
اﻟﺤﱪ ا ُملﻤﺘﺎز.
وﻛﺪت ﻳﻮﻣً ﺎ أﻃري ﻓﺮﺣً ﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺮأت ﻣﻘﺎﻟﺔ ﺑﺎﺳﻤﻲ ﰲ ﺟﺮﻳﺪة »اﻟﻨﱪاس« ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ ُ
ﻈﺮ اﻟﺬي ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت. أﺗﻠﻖ اﻟﺨﻄﺎب ا ُملﻨﺘ َ ﱠ
اﻟﺘﻜﺴﺐ ﺑﺎﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﰲ اﻟﺼﺤﻒ ﻓﻜﺮت ﰲ اﻻﺷﺘﻐﺎل ﺑﺎﻷﻋﻤﺎل اﻟﻜﺘﺎﺑﻴﺔ ﰲ ﱡ ﻳﺌﺴﺖ ﻣﻦُ وملﺎ
اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺤﻜﻮﻣﻴﺔ ،ﻓﺒﻌﺜﺖ إﱃ ﻣﺼﺎﻟﺢ ﻛﺜرية أﻋﺮض ﻋﻠﻴﻬﺎ اﺳﺘﻌﺪادي ﻟﻠﻌﻤﻞ ،وﻛ ﱠﻠﻔﻨﻲ ﻫﺬا
ﻗﺮﺷﺎ ﰲ أﺛﻤﺎن اﻟﻮرق وﻃﻮاﺑﻊ اﻟﺘﻤﻐﺔ وﻃﻮاﺑﻊ اﻟﱪﻳﺪ ،واﻧﺘﻈﺮت أﻳﻀﺎ ﻣﺎ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﺧﻤﺴني ً ً
ﻣﺘﻠﻬﻔﺎ ﻋﲆ اﻟﺮدود ،وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳَﺼﻞ إﱄ ﱠ ر ﱞد ﻣﻨﻬﺎ. ً أﺳﺒﻮﻋً ﺎ ﺑﻌﺪ أﺳﺒﻮع
وﺑﺪأت أﺣﺲ ﺑﺎﻟﻀﻴﻖ ﻣﻦ اﻟﺒﻄﺎﻟﺔ ﻓﻮق إﺣﺴﺎﳼ ﺑﺎﻟﺨﺠﻞ واﻟﺨﻴﺒﺔ؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﺛﺒﺖ
َﺜﻘﻞ ﻋﲆ ﺻﺪري ،ﻓﻜﻨﺖ أﺧﺮج إﱃ اﻟﺮﻳﻒ املﺠﺎور وﺟﻮدي ،وﻣﺮ اﻟﺨﺮﻳﻒ واﻟﺸﺘﺎء وﺑﺪأ اﻟﻬ ﱡﻢ ﻳ ُ
ﻟﻠﻤﺪﻳﻨﺔ ﻷﻓﺮج ﻋﻦ ﻧﻔﴘ ﺑﺎﻟﻨﺰﻫﺔ ﺑني اﻟﺤﻘﻮل ﰲ ﻣﻄﺎﻟﻊ اﻟﺮﺑﻴﻊ ،وﻛﺎن ﺟﻤﺎل ﻣﻨﻈﺮ ﺣﻘﻮل
اﻟﻘﻤﺢ وﻫﻲ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻣﻦ اﻟﺨﴬة إﱃ اﻟﺼﻔﺮة ﻳﺄﺧﺬ ﺑﻤﺠﺎﻣﻊ ﻗﻠﺒﻲ ،ﻓﺄﺟﻠﺲ ﺑﻴﻨﻬﺎ وأﻛﺘﺐ ﻣﺎ
ﻳﺨﻄﺮ ﱄ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر ،أو أؤﻟﻒ ﻣﺎ ﻳﺠﻴﺶ ﰲ ﺻﺪري ﻣﻦ اﻷﺷﻌﺎر ،وﻛﺎن أﻛﺜﺮ ذﻟﻚ ﺗﻌﺒريًا
ﻋﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺠﺜﻢ ﻋﲆ ﻗﻠﺒﻲ ﻣﻦ اﻟﻀﻴﻖ واﻟﺤرية.
وﺧﻴﱢﻞﻓﻜﺪت أﻃري ﻓﺮﺣً ﺎُ ،
ُ ورأﻳﺖ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم إﻋﻼﻧًﺎ ﻋﻦ وﻇﻴﻔﺔ ﺑﻤﺠﻠﺲ املﺪﻳﺮﻳﺔ ُ
ُ
وﻛﺘﺒﺖ ﻃﻠﺒًﺎ إﱄ ﱠ أن اﻷﻗﺪار ﻗﺪ ﺳﺎﻗﺖ إﱄ ﱠ ﺗﻠﻚ اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻋﻤﺪًا واﺧﺘﺎرﺗﻬﺎ ﰲ دﻣﻨﻬﻮر ﻣﻦ أﺟﲇ،
ﱠدت ﺧﻄﻪ ،وذﻫﺒﺖ ﻷﻗﺪﻣﻪ إﱃ رﺋﻴﺲ املﻜﺘﺐ ﺑﻨﻔﴘ ﺣﺘﻰ ﻻ أُﺿﻴﱢﻊ ﺗﺄﻧﻘﺖ ﰲ إﻧﺸﺎﺋﻪ وﺟﻮ ُ
أﺧﺬت أﺳﺄل ﻋﻦ رﺋﻴﺲ املﻜﺘﺐ ،ﻓﺪﻟﻨﻲ ُ ﻳﻮﻣً ﺎ ﰲ إرﺳﺎﻟﻪ ﺑﺎﻟﱪﻳﺪ ،وملﺎ ذﻫﺒﺖ إﱃ دﻳﻮان املﺠﻠﺲ
ﻓﺎﺳﺘﺒﴩت ﺑﺎﻟﺨري ودﺧﻠﺖ إﱃ اﻟﻐﺮﻓﺔ ،وﻛﺎن ﻓﻴﻬﺎ ُ أﺣﺪ اﻟﺤُ ﺠﺎب ﻋﲆ ﺣﺠﺮﺗﻪ وﻫﻮ ﻳﺒﺘﺴﻢ،
ﺛﻼﺛﺔ ﻳﺠﻠﺲ أﺣﺪﻫﻢ ﰲ اﻟﺼﺪر ﺧﺎﻟﻌً ﺎ ﻃﺮﺑﻮﺷﻪ وﻳﺄﻛﻞ ﻣﻦ ﻃﺒﻖ أﻣﺎﻣﻪ ﻓﻴﻪ ﺑﻘﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻮل
ﻣﱰﻓﻘﺎ وﻗﻠﺖ :ﺣﴬﺗﻜﻢ اﻟﺮﺋﻴﺲ؟ ً املﺪﻣﺲ ،ﻓﻌﺮﻓﺖ أﻧﻪ اﻟﺮﺋﻴﺲ وﺗﻘﺪﻣﺖ ﻧﺤﻮه
13
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
14
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
ُ
ﻓﻬﺰزت رأﳼ ﻣﺴﺘﻔﻬﻤً ﺎ.
ﻓﻘﺎل :ﺧﻤﺴﺔ ﺟﻨﻴﻬﺎت!
ﻓﺴﻘﻂ ﻗﻠﺒﻲ ﰲ ﺻﺪري .ﺧﻤﺴﺔ ﺟﻨﻴﻬﺎت واﻟﺒﺎﻗﻲ ﺑﻌﺪ اﻟﻘﺒﺾ؟ وأﻳﻦ ﱄ ﺧﻤﺴﺔ
ﺟﻨﻴﻬﺎت؟ أأذﻫﺐ إﱃ أﻣﻲ ﻷﻃﻠﺐ إﻟﻴﻬﺎ ذﻟﻚ املﺒﻠﻎ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ :ﻣﺎذا ﺗﻘﺼﺪ؟
ﻓﻨﻈﺮ إﱄ ﻛﺄﻧﻪ ﻳَﺸﺘﻤُﻨﻲ وارﺗﺴﻤﺖ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺧﺎوﻳﺔ ،ﺛﻢ رﻓﻊ رأﺳﻪ ﻓﺠﺄة
ﻣﺘﻄﻠﻌً ﺎ إﱃ أﻗﴡ املﻤﺮ املﺠﺎور ﻟﻠﻐﺮﻓﺔ ،وﺻﺎح ﻳﻨﺎدي ﻋﺎﻣ َﻞ اﻟﻘﻬﻮة :أﻳﻦ ﻓﻨﺠﺎن اﻟﻘﻬﻮة
املﻀﺒﻮﻃﺔ ﻳﺎ زﻓﺖ!
ﺣﺎﻻ ﻳﺎ ﻋﻢ ﻗﺮﻧﻲ! وﺻﺎح اﻟﻌﺎﻣﻞً :
ووﻗﻔﺖ ﺛﺎﺑﺘًﺎ ﻛﺎﻷﺑﻠﻪ ﻻ أدري ﻣﺎذا أﺻﻨﻊ.
ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ اﻟﺤﺎﺟﺐ ﻧﺤﻮي ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﻧﺖ ﺣﺮ!
ﻓﴪت أﺟﺮ ﻗﺪﻣﻲ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ُ وﺗﺮﻛﻨﻲ ﻟﻴﺄﺧﺬ اﻟﻘﻬﻮة ﻣﻦ اﻟﺼﺒﻲ اﻟﺬي ﺟﺎء ﻣُﴪﻋً ﺎ ﺑﻬﺎ،
ﻣﺲ اﻟﻬﻮاء ﻳﻠﻄﻒ ﺣﺮارة وﺟﻬﻲ املﺘﻘﺪ، ﻛﺎملﺬﻫﻮل ،ﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﱰﻋﺔ ،وﻛﺎن ﱡ
وﻣﺎ زﻟﺖ أﺳري ﺣﺘﻰ ﻋﺪت إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ﻣﺘﻌﺒًﺎ ﺑﻌﺪ دورة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺣﻮل املﺪﻳﻨﺔ.
وﺑﻌﺪ ﻧﻬﺎر ﻗﻠﻖ وﻟﻴﻠﺔ ﻣُﻀﻄﺮﺑﺔ ﻗﻤﺖ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺒﺎﻛﺮ ذاﻫﺒًﺎ إﱃ دﻳﻮان ﻣﺠﻠﺲ املﺪﻳﺮﻳﺔ
ﻋﺎزﻣً ﺎ ﻋﲆ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ اﻟﺴﻴﺪ رﺋﻴﺲ اﻟﻜﺘﺒﺔ ،ﻟﻌﻠﻪ ﻳﻜﻮن أرﻓﻖ ﻣﻦ اﻷﻣﺲ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻣﺎ ﻛﺪت أﻗﱰب
ﻣﻦ اﻟﺒﺎب ﺣﺘﻰ اﺳﺘﻮﻗﻔﻨﻲ ﻋﻢ ﻗﺮﻧﻲ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﻤﻨﻮع ﻳﺎ أﻓﻨﺪي!
وﻧﻈﺮ إﱄ ﱠ ﻧﻈﺮة ﺟﺎﻣﺪة ﻛﺄﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ َﺮﻧﻲ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ.
َ
وﻛﺪت أﻗﻮل ﻟﻪ ﻛﻠﻤﺔ أﺳﱰﺿﻴﻪ ﺑﻬﺎ ،وﺣﺪﺛﺖ ﻧﻔﴘ أن أﻋﺪَه ُ ﻓﻮﻗﻔﺖ ﻟﺤﻈﺔ أﻧﻈﺮ إﻟﻴﻪ،
ﻗﻠﺖ ﻟﻚ ﻗﺒﻀﺖ املﺮﺗﱠﺐ ،وﻟﻜﻨﱠﻪ ﻟﻢ ﻳُﻌﻄﻨﻲ ﻓﺮﺻﺔ ﻟﻠﻜﻼم ﺑﻞ أﻋﺎد ﻛﻠﻤﺘﻪ ً
ﻗﺎﺋﻼُ : ُ ﺑﻤﺎ ﻳﺮﺿﻴﻪ إذا
ﻣﻤﻨﻮع ﻳﺎ أﻓﻨﺪي!
واﻗﱰب ﻣﻨﱢﻲ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺪﻓﻌﻨﻲ ﻋﻦ اﻟﺒﺎب.
ﻓﺸﻌﺮت ﺑﺼﺪري ﻳﺰدﺣﻢ ﺑﺎﻟﻐﻴﻆ ،وﺗﻤﻨﻴﺖ ﻟﻮ دﻓﻌﻨﻲ ﻷﺟﺪ ﺳﺒﺒًﺎ ﻳَﺠﻌﻠﻨﻲ أﻓﺮغ ﻓﻴﻪ
ﺣﻨﻘﻲ ﺑﻠﻜﻤﺔ ﰲ ﺻﺪﻏﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ أدار ﱄ ﻇﻬﺮه وأﻣﺴﻚ ﺑﺄﻛﺮة اﻟﺒﺎب.
ﺳﺒﻴﻼ إﻻ أن أﺑﻠﻊ ﻏﻴﻈﻲ وأﻧﴫف وﰲ ﻗﻠﺒﻲ ﺑُﺮﻛﺎن ﻳﻔﻮر. ً ﻓﻠﻢ أﺟﺪ ﱄ
ﺿﻴﻘﺎ أﻧﻨﻲً وزاد ﺿﻴﻘﻲ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة وﺑﺪأت أﺳﺄل ﻧﻔﴘ ﻋﻦ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ وﺗﻔﺎﻫﺘﻬﺎ ،وزادﻧﻲ
ﺑﺪأت أﻧﺪم ﻋﲆ اﻧﻘﻄﺎﻋﻲ ﻋﻦ اﻟﺪراﺳﺔ وإﻏﻀﺎب أﻣﻲ ،وﺑﻠﻎ ﺑﻲ اﻟﺤﻨﻖ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ وﻏريي أن
ﻃﻔﻞ ﺿﺎ ﱟل، ٍ وﴏت أﻗﴤ أﻛﺜﺮ أوﻗﺎﺗﻲ ﻫﺎﺋﻤً ﺎ ﰲ اﻟﺤﻘﻮل ﻣﺜﻞ ُ ُ
اﻧﻘﻄﻌﺖ ﻋﻦ اﻟﻨﺎس ﻛﺎﻓﺔ،
15
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
16
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
وﻛﺪت أﺿﺤﻚ ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮة وﻟﻜﻨﻲ ﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻚ ﺗﺮﻳﺪ أن أﻣﺜﻞ ﻣﻌﻜﻢ؟ ُ
ﻓﺄﺟﺎب ﰲ ﺟﺪ :أﻧﺖ رﺟﻞ أدﻳﺐ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،ﻛ ﱡﻞ اﻟﻨﺎس ﻳﻘﻮﻟﻮن ﻫﺬا .رأﻳﺖ اﺳﻤﻚ
ﺑﻌﻴﻨﻲ ﰲ اﻟﻨﱪاس ،واﻷﻋﻴﺎ ُن ﻛ ﱡﻠﻬﻢ ﻳﺤﺴﺒﻮن ﺣﺴﺎﺑﻚ إذا ﻋﺮﻓﻮا أﻧﻚ ﻣﻌﻨﺎ .ﻛﻠﻤﺔ واﺣﺪة ﰲ
رأس أﻛﱪ ﻋﻈﻴﻢ ﻫﻨﺎ .ﻋﴩﻳﻦ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ﺗﻘﺒﻀﻬﺎ ﺟﺮﻳﺪة اﻟﻨﱪاس ﺗﻘﻠﺐ اﻟﺒﻠﺪ ﻋﲆ ِ
ﻣﻘﺪﻣً ﺎ .ﻣﺎ رأﻳﻚ؟
وﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ وﻣﻦ ﺳﻮء اﻟﻈﻦ ﺑﻬﺬا اﻟﺼﺎﺣﺐ اﻟﻘﺪﻳﻢ ،وﺟﺪت
ﻧﻔﴘ أﻓﻜﺮ ﰲ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت اﻟﻌﴩﻳﻦ ،وﺗﺼﻮﱠرت ﻧﻔﴘ وأﻧﺎ أﺣﻤﻞ ﻫﺬا املﺒﻠﻎ اﻟﻀﺨﻢ إﱃ أﻣﻲ
ﻗﺎﺋﻼ ﻟﻬﺎ» :اﻧﻈﺮي ﻛﻴﻒ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻛﺘﺴﺐ ﺑﻌﻤﲇ!« ً
وﺳﺄﻟﺘُﻪ :أأﻧﺖ ﺟﺎد ﻓﻴﻤﺎ ﺗﻘﻮل؟
ﻓﻘﺎل ﻣﺆ ﱢﻛﺪًا :ﺟﺎد؟ وﻫﻞ ﺟﺌﺖ ﻷﻣﺰح؟ ﻻ ﺗُﻔﻜﺮ ﰲ ﳾء واﺗﺮك ﱄ ﺗﺪﺑري اﻷﻣﺮ ﻛﻠﻪ .اﻟﺮواﻳﺔ
ﺣﺎﴐة ،واملﻼﺑﺲ ﻛﺎﻣﻠﺔ ،واملﻨﺎﻇﺮ ﻣﺠﻬﱠ ﺰة .رواﻳﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ،وﻣﻼﺑﺲ ﺑﺎﻟﻘﺼﺐ ،واﻟﻀﺤﻚ ﻻ
ﻳﻨﻘﻄﻊ.
ً
وﺷﺎدِ ر اﻟﺒﻄﻴﺦ ﻳﺘﺴﻊ ﻷﻟﻒ ﺷﺨﺺ .أﻟﻒ ﰲ ﻋﴩﻳﻦ ﻗﺮﺷﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،ﻛﻢ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﱠ
أﻓﻨﺪي؟
ﻓﻘﻠﺖ ﺳﺎﺧ ًﺮا :ﻣﺎﺋﺘﺎن.
ً
ﻓﻘﺎل ﺟﺎدٍّا :ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ،واملﻘﺎﻋﺪ اﻷﻣﺎﻣﻴﺔ ﺑﺜﻼﺛني ﻗﺮﺷﺎ ،وﻛﻞ املﻘﺎﻋﺪ ﺑﺎﻟﺜﻤﻦ .ﻻ ﻫﺪاﻳﺎ وﻻ
ﻣﺠﺎﻧًﺎ وﻻ ﻣﺠﺎﻣَ ﻠﺔ .اﻟﺠﺪ ﺟﺪ .اﻻﺟﺘﻤﺎع ﻏﺪًا ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﻌﺎﴍة ﺻﺒﺎﺣً ﺎ ﰲ واﺑﻮر اﻟﻄﺤني
ﺑﺠﻮار ﴐﻳﺢ ﺳﻴﺪي »أﺑﻮ ﻃﺎﻗﻴﺔ« ﻣﺎ رأﻳﻚ؟ أﻧﺼﺎر اﻟﻔﻦ أو املﴪح اﻟﻮﻃﻨﻲ؟
ﻗﻠﻴﻼ ﺛﻢ ﻗﻠﺖ :املﴪح اﻟﻮﻃﻨﻲ. ﻓﻔﻜﺮت ً
ﻗﺎﺋﻼ :أدﻳﺐ ﻋﻈﻴﻢ وﷲ! املﴪح اﻟﻮﻃﻨﻲ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ .اﻧﺘﻬﻴﻨﺎ! ﻓﺼﻔﻖ ً ﱠ
ﻣﺸﻐﻮﻻ ﺑﺄﺳﺌﻠﺔ ﻛﺜرية ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت اﻟﻌﴩﻳﻦ ً وﻟﻢ أﺟﺒﻪ ﺑﻜﻠﻤﺔ ﻷن ذﻫﻨﻲ ﻛﺎن
ﺧﺠﻠﺖ ﻣﻦ ﺳﺆاﻟﻪ ﺣﺘﻰ ﻻ أﻇﻬﺮ ﻟﻬﻔﺘﻲ ،وﺟﻌﻠﺖ ُ ﻓﻬﻞ ﻳﺪﻓﻌﻬﺎ ﱄ ﻣﻘﺪﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل؟ وﻟﻜﻨﻲ
أﻓﻜﺮ ﰲ إﻣﻜﺎن ﺑﻴﻊ اﻟﺘﺬاﻛﺮ ﻛﻠﻬﺎ.
ُ
وملﺎ رأى ﺣﻤﺎدة أﻧﻲ ﺻﺎﻣﺖ ﻗﺎل ﱄ :ﻗﻠﺖ ﻟﻚ ﻻ ﺗﻔﻜﺮ .رواﻳﺔ ﻣﺪﻫﺸﺔ .ﻛﻼم ﻧﻬﺎﺋﻲ؟ ﰲ
اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﻌﺎﴍة ﺻﺒﺎﺣً ﺎ؟
وﻋﺪت إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﻣﺴﺘﺒﴩًا أﻋﻴﺪ ﻣﺎ ﺳﻤﻌﺖ ُ وﺗﺮﻛﻨﻲ ﺑﻌﺪ أن ﻫ ﱠﺰ ﻳﺪي ﰲ ﺻﻔﺎء وﻣﻮدة،
ﻣﻦ ﺣﻤﺎدة ﺣﺘﻰ ﻏ َﻠﺒَﻨﻲ اﻟﻨﻮم وأﻧﺎ أﻧﺎﺟﻲ أﻣﲇ.
واﺟﺘﻤﻌﻨﺎ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ ﰲ »واﺑﻮر اﻟﻄﺤني« ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﺮﻗﺔ ﻫﻲ اﻟﺰﻣﺮة اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻣﻊ
زﻳﺎدة ﺑﻌﺾ أﺷﺨﺎص آﺧﺮﻳﻦ ﻟﻠﻘﻴﺎم ﺑﺎﻷدوار اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ ،وﻗﺮأﻧﺎ اﻟﻘﺼﺔ ﻓﻮﺟﺪْﻧﺎﻫﺎ ﻣُﺪﻫِ ﺸﺔ
17
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﺣﻘﺎ .رﺟﻞ ﻣﻦ ﻛﺒﺎر اﻷﻏﻨﻴﺎء ﻳﺘﺰاﺣَ ﻢ اﻟﺸﺒﺎن ﻋﲆ ﺧﻄﺒﺔ اﺑﻨﺘﻪ وﻳﺮﻓﺾ أن ﻳﺰوﺟﻬﺎ ﻷﺣﺪ ٍّ
ﻣﻨﻬﻢ ،ﺛﻢ ﻳﺄﺗﻲ إﻟﻴﻪ ﺳﻤﺴﻤﺎر ﻳُﻮﻫﻤﻪ ﺑﺄﻧﻪ رﺳﻮل ﻣﻦ ﻗِ ﺒَﻞ أﺣﺪ اﻷﻋﻴﺎن ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﺠﺎورة
ﻟﺨﻄﺒﺔ اﺑﻨﺘﻪ ،وﻛﺎن ﻣُﺘﺂﻣ ًﺮا ﻣﻊ وﻛﻴﻞ اﻟﺪاﺋﺮة ﻋﲆ ﺗﺰوﻳﺞ اﻟﻔﺘﺎة ﻣﻦ رﺟﻞ ﻣُﻔﻠِﺲ ﻣﻦ أﴎة
ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﻃﻤﻌً ﺎ ﰲ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﺛﺮوة واﻟﺪﻫﺎ.
ﻨﻜﺸﻒ املﺆاﻣﺮة ﺑﻌﺪ ﻛﺘﺎﺑﺔ اﻟﻌﻘﺪ ،ﻓﻴَﻐﻀﺐ واﻟﺪ اﻟﻔﺘﺎة وﻳُﺮﻳﺪ اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﺪ، ﺛﻢ ﺗَ ِ
وﺑﻌﺪ ﻣُﺮاﺟﻌﺎت ﻛﺜرية وﻣﺼﺎدﻣﺎت وﻣﻀﺎرﺑﺎت ﻣﻀﺤﻜﺔ ﻳَﺮﴇ اﻟﺰوج املﻔﻠﺲ ﺑﺄن ﻳﻔﺴﺦ
ً
ﺗﻌﻮﻳﻀﺎ ﻣﺎﻟﻴٍّﺎ ﻛﺒريًا. اﻟﻌﻘﺪ ﺑﻌﺪ أن ﻳﺄﺧﺬ
وﺗ ﱠﻢ اﻻﺗﻔﺎق ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻋﲆ ﺗﻮزﻳﻊ اﻷدوار ،ﻓﻜﻨﺖ أﻧﺎ ﺳﻌﺎدة اﻟﺒﻚ ،وﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ اﻟﺸﻴﺦ
ﻣﻨﺼﻮر اﻟﺴﻤﺴﺎر ،وﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة وﻛﻴﻞ اﻟﺪاﺋﺮة ،وﺣﻤﺎدة اﻟﺒﺎرودي اﺑﻨﺔ اﻟﺒﻚ ،وﻫﻜﺬا ،وﻟﻢ
ﻧﺨﺘﻠﻒ إﻻ ﻋﲆ ﳾء واﺣﺪ؛ وﻫﻮ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳَﴬب ﺑﻬﺎ وﻛﻴﻞ اﻟﺪاﺋﺮة وﺟﻪ ﺳﻌﺎدة اﻟﺒﻚ
ردٍّا ﻋﲆ اﻟﺼﻔﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻮﺟﱢ ﻬﻬﺎ إﻟﻴﻪ اﻟﺒﻚ ﰲ أﺛﻨﺎء املﺸﺎدة اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﺪم ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ،وملﺎ ﻟﻢ َ
أرض
ﺑﺤﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال ،ﺗ ﱠﻢ اﻻﺗﻔﺎق ﺑﻴﻨﻨﺎ ﺑﻌﺪ أﺧﺬ ور ﱟد ﻃﻮﻳ َﻠني ﻋﲆ ٍ أن ﻳﴬﺑﻨﻲ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة
أن ﻳﻘﻨﻊ ﻣﺼﻄﻔﻰ وﻛﻴﻞ اﻟﺪاﺋﺮة ﺑﺎﻟﺘﻬﺠﱡ ﻢ ﻋﲆ اﻟﺒﻚ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ.
ُ
أﺗﻘﻨﺖ ﺣﻔﻈﻪ، ُ
وﻛﻨﺖ ﺣﻔﻈﺖ دوري؟ُ وﺑﻌﺪ ﺑﻀﻌﺔ أﻳﺎم ﺟﺎء ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻟﻴﺴﺄﻟﻨﻲ ﻫﻞ
ﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺣﺘﻰ رﺿﻴﺖ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ ،ودﻓﻊ ﱄ ﺣﻤﺎدة ﺟﻨﻴﻬَ ني ﻣﻘﺪﻣً ﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ رﻓﻀﺖ أن وﺗﻤ ﱠﺮ ُ
أﺷﺘﻐﻞ إﻻ إذا ﻧﻔﺬ اﻟﴩط املﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻪ ،ووﻋَ ﺪﻧﻲ ﺑﺄن ﻳﺪﻓﻊ اﻟﺒﺎﻗﻲ ﰲ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﺤﻔﻠﺔ.
وﺟﺎءت اﻟﺴﺎﻋﺔ املﻮﻋﻮدة وﺑﺪأ اﻻﺣﺘﻔﺎل ﰲ ﺷﺎدر اﻟﺒﻄﻴﺦ ،ورأﻳﺖ اﻟﻨﻈﺎرة ﻳﻤﻠﺌﻮن املﻘﺎﻋﺪ
ﻧﻈﺮت إﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﺛﻘﺐ اﻟﺴﺘﺎرة ،وﻟﻢ أرد أن أﻋﻜﺮ ﺻﻔﺎء اﻟﺤﻔﻠﺔ ﺑﺎﻹﴏار ﻋﲆ أﺧﺬ ُ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﺑﺎﻗﻲ اﻟﻌﴩﻳﻦ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ؛ ﻷﻧﻲ ﺷﻌﺮت ﺑﺎﻻﻃﻤﺌﻨﺎن إﱃ أن اﻟﺮﺑﺢ ﺳﻴﻜﻮن ﻛﺎﻓﻴًﺎ اﻟﺠﻤﻴﻊ.
وﺳﺎرت اﻟﺮواﻳﺔ ﺳريًا ﺣﺴﻨًﺎ ،وﻛﺎن إﻋﺠﺎب اﻟﻨﻈﺎرة ﻇﺎﻫ ًﺮا ﻣﻦ ﺗﺼﻔﻴﻘﻬﻢ وﺻﻔريﻫﻢ
وﺧﺒﻄﻬﻢ ﺑﺎﻷرﺟﻞ ﻋﲆ اﻷرض ،وﻛﺎن ﺣﻤﺎدة ﻳﺬﻫﺐ وﻳَﺠﻲء ﻣﻦ وراء املﴪح وﻫﻮ ﺑﺎدي
ﻛﺴﻤﺴﺎر ﺧﺒﻴﺚ ٍّ
ﺣﻘﺎ. اﻟﴪور ،وﻛﻠﻤﺎ ﺟﺎء دوره ذﻫﺐ ﻟﻴﺆدﻳﻪ أداء ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ِ
ﺸﻔﺖ ﺧﻴﺎﻧﺘُﻪ ﻓﺠﻌﻠﺖ أﺷﺘﻤﻪ ﺛﻢ ﺟﺎء ﻣﻨﻈﺮ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة وﻛﻴﻞ اﻟﺪاﺋﺮة ﺑﻌﺪ أن ُﻛ َ
وأُﻫﺪده وﺻﻔﻌﺘﻪ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ ﺻﻔﻌﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﻛﻤﺎ ﻳُﺤﺘﱢﻤﻪ املﻮﻗﻒ ﰲ اﻟﺮواﻳﺔ ﺑﺤﺴﺐ اﻻﺗﻔﺎق،
ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻨﻪ إﻻ أن أدى دوره اﻷﺻﲇ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻜﺘﻮب ﰲ اﻟﺮواﻳﺔ ،ورﻓﻊ ﻳﺪه اﻟﻀﺨﻤﺔ
ﺤﺖ ﻣﻦ ﺛﻘﻠﻬﺎ ،ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻏري اﻧﺘﻈﺎر ﻣﻨﻲ وﴐﺑﻨﻲ ﻋﲆ وﺟﻬﻲ ﴐﺑﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﺗﺮﻧ ﱠ ُ
ﻣﻨﻲ إﻻ أن ﻫﺠﻤﺖ ﻋﻠﻴﻪ وﻟﻜﻤﺘُﻪ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ ﻟﻜﻤﺎت ﻣﺘﻌﺎﻗﺒﺔ وأﻧﺎ أﺷﺘﻤﻪ وأﻟﻌﻨﻪ ﺣﺘﻰ وﻗﻊ
وﺑﺮﻛﺖ ﻓﻮﻗﻪ أﻛﻴ ُﻞ ﻟﻪ اﻟﻠﻜﻤﺎت ﰲ ﻏﻴﻆ واﻟﻨﺎس ﻳﻀﺠﻮن ﺑﺎﻟﻀﺤﻚ واﻟﺘﺼﻔﻴﻖ ُ ﻋﲆ اﻷرض،
18
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
رﺧﻲ اﻟﺴﺘﺎر ،واﺿﻄﺮب اﻟﺸﺎدر ،وﺟﺎء ﺣﻤﺎدة ﻳﺠﺮي ﻧﺤﻮي وﻳﻠﻄﻢ وﺟﻬﻪ واﻟﺼﻔري ،وأ ُ َ
ً
ﻗﺎﺋﻼ» :ﺿﻌﻨﺎ!«
وﻟﻢ أﻫﺘ ﱠﻢ ﺑﻘﻮﻟﻪ وﻻ ﺑﺄﻗﻮال اﻟﺰﻣﻼء اﻵﺧﺮﻳﻦ ،واﻧﴫﻓﺖ ذاﻫﺒًﺎ إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ﻓﺄﻏﻠﻘﺖ ﻋﲇ ﱠ
ﺑﺎﺑﻲ وأﺧﺬت أﺑﻜﻲ ﺑﻜﺎء ﻣ ٍّﺮا ،وﻛﺎن ﺷﻌﻮري ﺑﺎﻟﺨِ ﺰي ﻳُﺨﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن أذﻫﺐ إﱃ أﻣﻲ ﻷوﻗﻈﻬﺎ
ﻣﻦ اﻟﻨﻮم وأﻗﺒﱢﻞ رأﺳﻬﺎ وأﻋﺘﺬر إﻟﻴﻬﺎ وأﺳﺄﻟﻬﺎ اﻟﺼﻔﺢ ﻋﻨﱢﻲ .أﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ أﺻﺎﺑﻨﻲ ﻧﺘﻴﺠﺔ
ﻟﻐﻀﺒﻬﺎ؟
وملﺎ ﻃﻠﻊ ﻋﲇ ﱠ اﻟﺼﺒﺎح ﺳﺎرﻋﺖ إﻟﻴﻬﺎ وﻗﺒﻠﺖ رأﺳﻬﺎ ،وأﺧﺬت أﻋﱰف ﻟﻬﺎ ﺑﺴﻮء ﻣﺴﻠﻜﻲ
ُﺨﻠﺼﺎ أن ﺗﺼﻔﺢ ﻋﻨﻲ وﺗﺪﻋﻮ ﱄ ﺑﺎﻟﻬﺪاﻳﺔ ،وﺷﻌﺮت ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﺣﺪث ﱄ ،وﺳﺄﻟﺘُﻬﺎ ﻣ ً
ﻣﺴﺤﺖ ﻋﲆ رأﳼ ﺑﻴﺪﻫﺎ وأﺧﺬت ﺗﺮﻗﻴﻨﻲ أﻧﻲ أﻟﻮذُ ﺑﺎملﻠﺠﺄ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻟﺠﺄ إﻟﻴﻪ
داﺋﻤً ﺎ وأﺟﺪ اﻷﻣﻦ ﰲ ﻇﻼﻟﻪ.
19
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﲏ
ﺨﻔﻲ ﺗﺄﺛﱡﺮﻫﺎ وأﻧﺎ أُﺣﺪﱢﺛﻬﺎ ﻋﻦ ﻣُﺤﺎوَﻻﺗﻲ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﻌﻤﻞ وﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﻣﻲ ﺗُﺤﺎول أن ﺗُ َ
وﻟﻜﻦ ﻋﻴﻨَﻴﻬﺎ اﻟﺮﻃﺒﺘني ﻛﺎﻧﺘﺎ ﺗﺪﻻن ﻋﲆ ﻣﻘﺪار رﺛﺎﺋﻬﺎ.
ﱠ ﻟﻘﻴﺘُﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﻴﺒﺔ،
وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﰲ ﺗﺮدد :وﻻ ﺑﺪ ﱄ ﻣﻦ أن أُﻋﻴﺪ اﻟﻜ ﱠﺮة ﻣﺮ ًة أﺧﺮى؛ ﻓﺎملﺪرﺳﺔ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﺴﺘﺤﻴﻠﺔ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ :ﻻ أﺣﺐ أن أﻋﺎرﺿﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ،ﻓﻔ ﱢﻜﺮ ﰲ ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻚ ﻛﻤﺎ ﺗﺤﺐ.
ﻓﻘﻠﺖ :ﻳﻤﻜﻨﻨﻲ أن أﺗﻘﺪم ﻟﻼﻣﺘﺤﺎن ﻣﻦ ﻣﻨﺰﱄ ،املﻬﻢ أن اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﺗَﺤﺘﺎج إﱃ اﻟﻮاﺳﻄﺔ.
ﻛﻞ ﳾء ﰲ ﻫﺬه اﻷﻳﺎم ﻳﺤﺘﺎج إﱃ اﻟﻮاﺳﻄﺔ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ :أﺗﺬﻫﺐ ﻟﻌﻤﱢ ﻚ؟
وﻟﻢ أﻛﻦ أﻧﺘﻈﺮ ﻣﻨﻬﺎ أن ﺗُﻔ ﱢﻜﺮ ﰲ ﻫﺬا؛ ﻷﻧﻲ أﻋﺮف أن ﻋﻤﻲ ﻛﺎن ﻋﲆ ﺧﻼف ﺷﺪﻳﺪ ﻣﻊ
أﺑﻲ ﻗﺒﻞ وﻓﺎﺗﻪ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُ
َﺤﴬ إﻟﻴﻨﺎ ﻋﻨﺪ ﻣﻮﺗﻪ.
ﺗﺨﲆ ﻋﻨﻲ؟ أﻇﻨﻚِ ﺗﻌﺮﻓني اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل. وﻗﻠﺖ ﻷﻣﻲ :ﻻ أذﻫﺐ إﻟﻴﻪ أﺑﺪًا ،وﻣﺎذا ﻟﻮ ﱠ
ﻗﻠﺖ ذﻟﻚ ﻷﻧﻲ ﺗﺬ ﱠﻛﺮت أن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﺟﺎرﻧﺎ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻛﺎن ﻛﻠﻤﺎ رآﻧﻲ ﻳﺒﺪؤﻧﻲ
ﺑﺎﻟﺴﻼم ،وﻛﺎن ﻣﻦ أول ﻣَ ﻦ زارﻧﺎ ﻟﻠﺘﻌﺰﻳﺔ ،وﻛ ﱠﺮر ﻋﲇ ﱠ أن أزو َره إذا اﺣﺘﺠﺖ إﱃ ﻣﺴﺎﻋﺪة.
ﻓﻘﺎﻟﺖ أﻣﻲ ﻣﺮﺗﺎﺣﺔ :ﺟﺎرﻧﺎ اﻟﻘﺪﻳﻢ وﷲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ،ﻻ ﻣﺎﻧﻊ أﺑﺪًا .ﻫﻮ ﺻﺎﺣﺐ ﻛﻠﻤﺔ ﻣﺴﻤﻮﻋﺔ
واﻟﺴﺖ ﻧﻮر ﷲ ﻳَﺤﻤﻴﻬﺎ ،وﷲ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻮاﺟﺐ أن أزورﻫﺎ ﻣﻦ زﻣﻦ.
واﺗﻔﻘﻨﺎ ﻋﲆ أن ﻧﻘﻮم ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺘﻨﺎ إﱃ ﺑﻴﺖ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،وﻛﺎن ﻗﺪ اﻧﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﺣﺎرﺗﻨﺎ
ﻣﻨﺬ ﻋﴩ ﺳﻨﻮات إﱃ ﺑﻴﺘﻪ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﰲ ﺣﻲ »أﺑﻮ اﻟﺮﻳﺶ«.
وﻛﺎن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﰲ ﻣﺒﺪأ أﻣﺮه ﺗﺎﺟ ًﺮا ﺻﻐريًا ،ﺛﻢ اﺗﺴﻌﺖ ﺗﺠﺎرﺗﻪ وأﻧﺸﺄ ﻣﺤﻠﺠً ﺎ
ً
ﺻﺪﻳﻘﺎ ﻷﺑﻲ ،وﻛﺜريًا ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ،وأﺻﺒﺢ ﰲ ﻣﺪة اﻟﺤﺮب اﻷﺧرية أﻛﱪ ﺗﺎﺟﺮ ﻗﻄﻦ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ ،وﻛﺎن
ﻣﺎ ﻛﺎن أﺑﻲ ﻳَﺒﻌﺜﻨﻲ إﻟﻴﻪ ﺑﺨﻄﺎب ﻵﺧﺬَ ﻣﻨﻪ ُﺳﻠﻔﺔ ﻋﲆ اﻟﻘﻄﻦ ﰲ ﻣﺪة اﻟﺼﻴﻒ ﻛﻤﺎ ﻫﻲ ﻋﺎدة
اﻟﺰراع.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﻳُﻘﻴﻢ ﰲ ﺣﺎرﺗﻨﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﻣﻲ ﺗﺰاور اﻣﺮأﺗﻪ اﻟﺴﻴﺪة ﻧﻮر ،وﻛﻨﺖ ﻛﺜريًا ﻣﺎ
أذﻫﺐ ﻣﻌﻬﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ اﺑﻨﺘﻪ ﻣﻨﻰ ﻃﻔﻠﺔ ﺻﻐرية ﻇﺮﻳﻔﺔ ﺗُﺸﺒﻪ اﻟﺪﻣﻴﺔ ذات اﻟﺸﻌﺮ اﻷﺻﻔﺮ ،ﻓﺈذا
ذﻫﺒﺖ إﱃ ﻫﻨﺎك أﴎﻋﺖ ﺗَﺠﺮي ﻧﺤﻮي ،وﻃﻠﺒﺖ ﻣﻨﱢﻲ أن أرﻛﺒﻬﺎ ﻓﻮق ﻛﺘﻔﻲ ﻛﺄﻧﻲ ﺣﺼﺎن ،ﺛﻢ
ﺗﺪﱄ رﺟﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ أﻣﺎم ﺻﺪري وﺗﻬﺰﻫﺎ ﻓﺄﺟﺮي ﺑﻬﺎ ﻣُﻘﻠﺪًا وﺛﺒﺎت اﻟﺨﻴﻞ وأﺻﻬﻞ ﻛﻤﺎ ﻳﺼﻬﻞ
اﻟﺤﺼﺎن ﻓﺘﻀﺤﻚ ﻣﻜﺮﻛﺮة ،وﺗﻄﻠﺐ أن أﻋﻴﺪ اﻟﺠﺮي واﻟﺼﻬﻴﻞ ﻣﺮة أﺧﺮى ،وأذﻛﺮ أﻧﻲ ذﻫﺒﺖ
ﻣﻊ أﻣﻲ ﻟﻠﺰﻳﺎرة ﻣﺮ ًة ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ أﻳﺎم اﻟﺸﺘﺎء وﻛﺎﻧﺖ أﺧﺘﻲ ﻣﻨرية ﻣﻌﻨﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻃﻔﻠﺔ ﰲ
ﻣﺜﻞ ﺳﻦ ﻣﻨﻰ ﰲ ﺣﻮاﱄ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ أو اﻟﺮاﺑﻌﺔ ،ورﻛﺒﺖ ﻣﻨﻰ ﻓﻮق ﻛﺘﻔﻲ ﻛﻌﺎدﺗﻬﺎ وﻃﻠﺒﺖ ﻣﻨﱢﻲ
أن أﺟﺮي ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﺎرة زﻟﻘﺔ ﻋﲆ أﺛﺮ ﻣﻄﺮة ﺛﻘﻴﻠﺔ ﻓﺎﻧﺰﻟﻘﺖ ﺑﻬﺎ ووﻗﻌﻨﺎ ﻣﻌً ﺎ ﰲ ﺑﺮﻛﺔ ﻣﻦ
اﻟﻄني ،ﻓﺒﻜﺖ ﻣﻨﻰ وأﺧﺬت ﻣﻨرية ﺗﺒﻜﻲ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى وﻫﻲ واﻗﻔﺔ ﻋﲆ اﻟﺮﺻﻴﻒ ،وﺗﺤﻤﱠ ﻠﺖ
ُ
ﺗﺴﺒﺒﺖ وﰲ وﻗﻮع ﻣﻨﻰ. وﺣﺪي ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم ﻟﻮﻣً ﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﻣﻦ أﻣﻲ؛ ﻷﻧﻲ
وﻣﻊ أﻧﻲ أﻧﺎ اﻟﺬي اﻗﱰﺣﺖ ﻋﲆ أﻣﻲ أن ﺗﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،ﻓﺈﻧﻲ ﺷﻌﺮت
اﺳﺘﺼﻌﺒﺖ أن أُﻃﻠﻊ ذﻟﻚ اﻟﺠﺎر اﻟﻘﺪﻳﻢ
ُ ﺑﻀﻴﻖ ﺷﺪﻳﺪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺰﻟﻨﺎ ﻣﺘﺠﻬَ ني إﱃ ﻣﻨﺰﻟﻪ؛ ﻷﻧﻲ
ﻋﻤﻼ ﺣﺘﻰ ﻟﺠﺄت إﱃ ﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻪ ﻟﻴﺠ َﺪ ﱄ ﻋﲆ أﻧﻲ ﺗﻠﻤﻴﺬ ﺧﺎﺋﺐ ﻗﻄﻌﺖ دراﺳﺘﻲ ،وﻟﻢ أﺟﺪ ً
وﻇﻴﻔﺔ أﺗﻜﺴﺐ ﻣﻨﻬﺎ.
وﻟﻜﻨﻲ ﺗﻐﻠﺒﺖ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ وﺟﺎﻫﺪت ﺷﻌﻮر املﺮارة اﻟﺬي ﻏﻤَ ﺮﻧﻲ ،وﻟﻢ أﻧﻄﻖ ﺑﻜﻠﻤﺔ ﺣﺘﻰ
وﺻﻠﻨﺎ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ ،وﻛﺎن ﺑﻨﺎءً ﻓﺨﻤً ﺎ ﺗﺤﻴﻂ ﺑﻪ ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻳﺎﻧﻌﺔ واﺳﻌﺔ ،ودﺧﻠﺖ أﻣﻲ إﱃ اﻟﺪار
وذﻫﺒﺖ أﻧﺎ إﱃ ﺟﻨﺎح اﻟﻀﻴﻮف ،وﻛﺎن ﻣﻦ ﺣﺴﻦ ﺣﻈﻲ أن اﻟﺴﻴﺪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ،ﻓﺎﺳﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ُ
ﻣُﺮﺣﱢ ﺒًﺎ ،وأذﻫﺒﺖ ﺳﻤﺎﺣﺘﻪ ﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ اﻻﻧﻜﺴﺎر ،وﻃﻠﺐ ﱄ ﴍاﺑًﺎ ﻣﻦ املﻨﺠﺔ ،وأﺧﺬ
ﻳُﺤﺪﺛﻨﻲ ﺣﺪﻳﺚ ﺟﺎر ﻗﺪﻳﻢ ﻻ ﺗَﻜ ﱡﻠﻒ ﻓﻴﻪ ،وﻷول ﻣﺮة ﺑﺪأت أﻋﺮف اﻟﺮﺟﻞ؛ ﻷﻧﻲ ُ
ﻛﻨﺖ ﻻ أراه
رﺟﻼ ،وﺷﻌﺮت ﺑﴚء ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺮﴇ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﺪأ ً ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ إﻻ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﻛﻤﺎ ﻳﺮى اﻟﻄﻔﻞ
ﻳُﺤﺪﺛﻨﻲ ﻛﺮﺟﻞ.
ﺷﺎﺋﻘﺎ ﻳَﺠﺮي ﻫﻨﺎ وﻫﻨﺎك ﰲ ﻣﻮاﺿﻴﻊ ﺷﺘﱠﻰ ،ﻓﺤﺪﺛﻨﻲ ﻋﻦ أﺑﻲ وﻋﻦ ً ً
ﺳﻬﻼ وﻛﺎن ﺣﺪﻳﺜﻪ
ﻋﻤﻲ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺣﻜﻤﺪا ًرا ﰲ دﻣﻨﻬﻮر ،ﻛﻤﺎ ﺣﺪﺛﻨﻲ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﺻﻐريًا
ً
ﻋﺎﻣﻼ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺎح ﻓﻘريًا ،وﺗﻌﺠﺒﺖ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﴚء ﻣﻦ اﻷﻧ َ َﻔﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل أﻧﻪ ﺑﺪأ ﺣﻴﺎﺗﻪ
ﻋﲇ ﻣﻄﺎوع ﺗﺎﺟﺮ اﻟﻐﻼل ،وأﻧﻪ اﻗﺘﺼﺪ ﻣﻦ أﺟﺮه ﺑﻀﻌﺔ ﺟﻨﻴﻬﺎت ﺑﺪأ ﺑﻬﺎ ﺗﺠﺎرة ﺻﻐرية،
ﻓﺎﺷﱰى ﺑﻌﺾ ﻗﻨﺎﻃري ﻣﻦ اﻟﻘﻄﻦ ﻛﺎن ﻳﺠﻤﻌﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺣني رﻃﻠني أو ﺑﻀﻌﺔ أرﻃﺎل ﰲ
ﻛﻞ ﺻﻔﻘﺔ ،ﺛﻢ ﺣﻤﻞ ﻣﺎ اﺷﱰاه ﻋﲆ ﻋﺮﺑﺔ ﻧﻘﻞ ﻓﻜﺎن ﻳﺴري إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻬﺎ ﺣﻴﻨًﺎ وﻳﺮﻛﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ
ﺣﻴﻨًﺎ آﺧﺮ ﺣﺘﻰ وﺻﻞ إﱃ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ،وﺑﺎع ﻣﺎ اﺷﱰاه ﺑﺮﺑﺢ ﻛﺒري ﺷﺠﱠ ﻌﻪ ﻋﲆ اﻻﺳﺘﻤﺮار ﰲ
22
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ
ﻗﺎﺋﻼ :إذا ﺷﺌﺖ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي أن ﺗَﻨﺠﺢ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻓﻼ ﺗﺘﻌ ﱠﻠﻖ اﻟﺘﺠﺎرة ،وﻧﻈﺮ إﱄ ﱠ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ً
وارﺗﺤﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﻤﻌﺘﻪ ﻳُﻨﺎدﻳﻨﻲ» :ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي«.ُ ﺑﺎملﻈﺎﻫﺮ.
ً
وﺷﺠﻌﻨﻲ ذﻟﻚ ﻋﲆ أن أﻓﺎﺗﺤﻪ ﺑﺄﻧﻲ أرﻳﺪ أن أﺟﺪ وﻇﻴﻔﺔ ﰲ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ .ﻓﺄﺟﺎﺑﻨﻲ ﻗﺎﺋﻼ:
ﻇﻒ ﰲ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ؟ إﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻌﻠﻢ إﻻ اﻟﻜﺴﻞ واﻟﻐﺮور. ملﺎذا ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺘﻮ ﱠ
ﱠ
أﺗﻜﺴﺐ ﻣﻨﻪ؛ ﻷﻧﻲ ﻓﻘري. ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ :أرﻳﺪ ً
ﻋﻤﻼ
وﻟﻢ أﺷﻌﺮ ﺑﺎﻟﺨﺠﻞ أن أﻗﻮل ﻟﻪ إﻧﻲ ﻓﻘري ﺑﻌﺪ أن ﺳﻤﻌﺘُﻪ ﻳﻘﻮل إﻧﻪ ﻛﺎن ﰲ ﺻﻐﺮه ﻓﻘريًا
ﻫﻮ اﻵﺧﺮ.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﺬا ﺣﺴﻦ ،وأﻧﺎ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﺷﺎبﱟ ﻣﺜﻠﻚ ﻟﻠﻌﻤﻞ ﻫﻨﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻋﲆ ﴍط، ﻓﺘﺒﺴﻢ ً
ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎ ﻣﻜﺎﺗﺐ وﻻ ُﺳﻌﺎة وﻻ أﺟﺮاس وﻻ أواﻣﺮ .ﻫﻨﺎ ﻋﻤ ٌﻞ إذا ﻛﻨﺖ ٍّ
ﺣﻘﺎ ﺗﺮﻳﺪ اﻟﻌﻤﻞ .اﻟﻌﻤﻞ
ﻣﻦ اﻟﺼﺒﺎح إﱃ املﺴﺎء ،واﻷﻋﻤﺎل ﻛﻠﻬﺎ ﺳﻮاء .ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎ ﻋﻤﻞ ﻣُﻬﻢ وآﺧﺮ ﺗﺎﻓﻪ .ﻛﻞ ﳾء ﻣﻬﻢ
ﻛﺎﻵﺧﺮ ،ﻛﺘﺎﺑﺔ اﻟﻨﻴﺸﺎن ﻋﲆ اﻟﺒﺎﻻت ﻣﺜﻞ أﻣﺎﻧﺔ اﻟﺨﺰاﻧﺔ ،ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ اﻷﻣﺎﻧﺔ واﻟﺪﻗﺔ واﻟﺠﺪ.
وﻛﺎﻧﺖ ﻃﺮﻳﻘﺘﻪ ﰲ اﻟﻜﻼم ﺑﺴﻴﻄﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺣﺎﺳﻤﺔ ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ :ﻳﴪﻧﻲ أن أﻋﻤﻞ ﻣﻌﻚ.
ﻓﺘﺒﺴﻢ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻟﻢ أﻓﻬﻢ ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗُﺸﺒﻪ ﻗﻮﱄ :ﺳﻨﺮى. ﱠ
وﻗﺎل :ﺳﺄﻧﺘﻈﺮك إذا ﺷﺌﺖ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح .اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻳﺒﺪأ اﻟﻌﻤﻞ ،وأﻧﺎ ﻫﻨﺎ ﻣﻨﺬ
اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ واﻟﻨﺼﻒ.
ِﺼﺎ وﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺨﻔﻖ ﴎو ًرا .ﻫﻜﺬا وﺟﺪت اﻟﻌﻤﻞ ﰲ ﻟﺤﻈﺔ وﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﺑﻲ ﻓﺸﻜﺮﺗُﻪ ﻣُﺨﻠ ً
ﺣﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﻮﺳﺎﻃﺔ ﻟﻠﺒﺤﺚ ﻋﻦ وﻇﻴﻔﺔ ﰲ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ.
ﻨﴫف دﻋﺎﻧﻲ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻷﺟﻮل ﻣﻌﻪ ﺟﻮﻟﺔ ﰲ أﻧﺤﺎء اﺳﺘﺄذﻧﺖ ﻷدﻋﻮ أﻣﻲ ﻟﻨ َ ِ
ُ وملﺎ
اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣُﻨﻰ ﺗﻠﻌﺐ ﻫﻨﺎك ،ﻓﻠﻤﺎ رأﺗْﻨﻲ ﻋﺮﻓﺘﻨﻲ ﻣﻦ أول ﻧﻈﺮة ،وﻟﻜﻨﱠﻬﺎ ﻟﻢ ِ
ﺗﺠﺮ
ﻧَﺤﻮي وﻟﻢ ﺗﻄﻠﺐ أن ﺗﺮﻛﺐ ﻓﻮق ﻛﺘﻔﻲ .ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻓﺘﺎة ﰲ ﻧﺤﻮ اﻟﺤﺎدﻳﺔ ﻋﴩة أو
اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻋﴩة ،واﺗﱠﺠﻬَ ﺖ ﻧﺤﻮي ﻓﴪت إﻟﻴﻬﺎ ﻷُﺣﻴﻴﻬﺎ ،وﻛﺎن وﺟﻬﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﺰال وﺟﻪ اﻟﻄﻔﻠﺔ اﻟﺘﻲ
ﺗُﺸﺒﻪ اﻟﺪﻣﻴﺔ ،ﺷﻌﺮﻫﺎ اﻷﺻﻔﺮ وﻋﻴﻨﺎﻫﺎ اﻟﺰرﻗﺎوان واﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻬﺎ اﻟﻮدﻳﻌﺔ واﻟﻐﻤﺎزﺗﺎن اﻟﻠﺘﺎن ﰲ
وﺟﻨﺘَﻴﻬﺎ ،وأﺧﺬﻫﺎ واﻟﺪﻫﺎ ﺗﺤﺖ إﺑﻄﻪ وﺟﻌﻞ ﻳﺪاﻋﺒﻬﺎ وﻳﺴﺄﻟﻬﺎ :ﻫﻞ ﺗَﻌﺮﻓﻨﻲ؟ ﻓﻬ ﱠﺰت رأﺳﻬﺎ
ﻨﻄﻖ ﺑﻜﻠﻤﺔ. ﺑﺎﺳﻤﺔ وﻟﻢ ﺗَ ِِ
ﻓﻄﻠﺐ ﻣﻨﻬﺎ أن ﺗﺼﻌﺪ إﱃ اﻟﺪار ﻟﺘﺪﻋﻮ واﻟﺪﺗﻲ ،ﻓﺄﴎﻋﺖ ﺗﺠﺮي وﺷﻌ ُﺮﻫﺎ اﻟﺬﻫﺒﻲ ﻳﻬﺘﺰ
ﻋﲆ ﻛﺘﻔﻴﻬﺎ.
وﺟﺎءت ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﺗَﺴري ﻫﺎدﺋﺔ إﱃ ﺟﻨﺐ أﻣﻲ ﻣُﻤﺴﻜﺔ ﺑﻴﺪﻫﺎ ،ﻓﻘﺒﱠﻠﺘﻬﺎ أﻣﻲ ﻣﻦ ﺟﺒﻴﻨﻬﺎ،
وﺳﻠﻤﺖ ﻋﲆ اﻟﺴﻴﺪ.
23
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
24
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ
ﻄﻒ ﺑﻲ وﻳﱰﻓﻖ ﰲ ﻣﻌﺎﻣﻠﺘﻲ وﻻ ﻳُﺨﺎﻃﺒﻨﻲ إﻻ ﺑﺎﺳﻢ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي، وﻛﺎن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻳﺘﻠ ﱠ
وﻛﺜريًا ﻣﺎ دﻋﺎﻧﻲ إﱃ اﻟﺠﻠﻮس ﻣﻌﻪ ﰲ ﻣﻜﺘﺒﻪ ،وﻫﺬا ﴍف ﻻ ﻳﻨﺎﻟﻪ ﰲ املﺤﻠﺞ أﺣﺪ ﻏريي .ﻛﺎن
ﻳﺘﻠﻘﻰ أﻣﺮه ﺛﻢ ﻳﺨﺮج ،وأﻣﺎ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻳﺪﺧﻞ إﻟﻴﻪ ﰲ املﻜﺘﺐ ﻓﻴﻘﻒ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﺣﺘﻰ ﱠ
املﻮﻇﻔﻮن اﻵﺧﺮون ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﺠﺮءون ﻋﲆ اﻟﺪﺧﻮل إﱃ ﻣﻜﺘﺒﻪ.
أﻋﻤﺎﻻ ﺗﺸﺒﻪ اﻟﺨﺪﻣﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،ﻓﻴﺒﻌﺜﻨﻲ ً أﻳﻀﺎ ﻳُﻜﻠﻔﻨﻲ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ً
ﻷوﺻﻞ إﻟﻴﻪ رﺳﺎﻟﺔ أو ﻧﻘﻮدًا ،ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻧﻔﴘ ﰲ أول اﻷﻣﺮ ﱢ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ ﻷﺣﻤﻞ إﻟﻴﻪ ﻓﺎﻛﻬﺔ أو
وﻛﺪت ﻣﺮة أرﻓﺾ ﻃﻠﺒﻪ ﻟﻮﻻ أن ﻣﻠﻜﺖ ﺷﻌﻮري ﺣﺘﻰ ﻻ أُﻏﻀﺒَﻪ ،وﻟﻜﻨﻲ ُ ﺗﺜﻮر ﻋﲆ ذﻟﻚ،
ﺻﺎدﻓﺖ ﻣﻨﻰ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ،ﺣﺘﻰ ﴏت ﻓﻴﻤﺎ ُ ﻛﻨﺖ أﺟﺪ ﺗﺮﺿﻴﺔ ﻛﺎﻓﻴﺔ ﺗﻨﺴﻴﻨﻲ ﻏﻀﺒﻲ إذا ُ
وﻛﻨﺖ أﺟﺪﻫﺎ ﰲ ﻛﺜريُ ﺑﻌﺪ أﺷﻌﺮ ﺑﺎﻻرﺗﻴﺎح ﻛﻠﻤﺎ ﻛﻠﻔﻨﻲ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺨﺪﻣﺔ أذﻫﺐ ﻓﻴﻬﺎ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ،
ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن ﺗﻠﻌﺐ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ ﺻﺎﺣﺒﺎﺗﻬﺎ إذ ﻳﻘﻔﺰن ﻓﻮق اﻟﺤﺒﻞ أو ﻳَﻠﻌﺒﻦ »اﻷوﱃ« أو ﻟﻌﺒﺔ
اﻻﻧﺘﺒﺎه ،ﻓﺈذا رأﺗﻨﻲ أﴎﻋﺖ إﱄ ﱠ وأﴏت ﻋﲆ أن أﻟﻌﺐ ﻣﻌﻬﺎ دو ًرا ،وﻛﺎن ﻫﺬا ﻳُﺆﺧﺮﻧﻲ أﺣﻴﺎﻧًﺎ،
ﺗﺄﺧﺮي ،وﻗﺪ ﺗﻌﺮﺿﺖ وﻳُﻌ ﱢﺮﺿﻨﻲ ﻟﻠﻮم اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻓﻼ أﺟﺮؤ ﻋﲆ أن أﻗﻮل ﻟﻪ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﱡ
ﻣﺮة ملﻮﻗﻒ ﻣﺤﺮج ﻣﻦ ﺟﺮاء إﴏار »ﻣﻨﻰ« ﻋﲆ ﻣﺸﺎرﻛﺘﻬﺎ اﻟﻠﻌﺐ؛ إذ ذﻫﺒﺖ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻛﺎﻟﻌﺎدة
وﺗﻤﺴﻜﺖ ﺑﻲ »ﻣﻨﻰ« ﻷﻟﻌﺐ ﻣﻌﻬﺎ ﻟﻌﺒﺔ »اﻻﻧﺘﺒﺎه«؛ وذﻟﻚ ﺑﺄن أﺣﺠﻞ ﱠ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ أﺣﻤﻞ ﻓﺎﻛﻬﺔ،
ﻋﲆ رﺟﻞ واﺣﺪة وﻫﻲ ﺗﺠﺮي أﻣﺎﻣﻲ ﰲ ﺣﺪود ﻣﺮﺑﻊ ﻣﺮﺳﻮم ﻋﲆ اﻷرض ،وأﺧﺬت أﺣﺠﻞ
ﺑﺤﻤﺎﺳﺔ وﻫﻲ ﺗﺠﺮي وﺗﺰوغ ﻣﻨﱢﻲ ﺣﺘﻰ أﻛﺎد أﻗﻊ واﺳﺘﻤﺮ اﻟﺪور أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻋﴩ دﻗﺎﺋﻖ ﺣﺘﻰ
اﺳﺘﻄﻌﺖ أن أملﺲ ﻛﺘﻔﻬﺎ ،وملﺎ اﻟﺘﻔﺖ إﱃ وراﺋﻲ وأﻧﺎ أﻟﻬﺚ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺐ وﺟﺪت اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ
ﻓﺎرﺗﻜﺒﺖ ارﺗﺒﺎ ًﻛﺎ ﺷﺪﻳﺪًا وﺷﻌﺮت ﺑﺄن وﺟﻬﻲ ﻳﺘﱠﻘﺪ وذﻫﺒﺖ
ُ ﺟﻼل ً
واﻗﻔﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻨﺎ،
ﻧﺤﻮه أﺟﺮر ﻗﺪﻣﻲ ،وﻻ أدري ﻣﺎذا أﻗﻮل ﻟﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻣﻨﻰ ﺻﺎﺣﺖ ﺑﻲ ﻏﺎﺿﺒﺔ ﺗﺪﻋﻮﻧﻲ إﱃ
إﺗﻤﺎم اﻟﺪور اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻟﺘَﻨﺘﻘﻢ ﻣﻨﻲ ،ﻓﻠﻤﺎ رأت واﻟﺪﻫﺎ أﴎﻋﺖ إﻟﻴﻪ ﺗﻄﻠﺐ ﻣﻨﻪ ﰲ ﺣﻤﺎﺳﺔ أن
ﻓﺘﺒﺴﻢ اﻟﺴﻴﺪ وأﺧﺬﻫﺎ ﻣﻦ ﻳﺪﻫﺎ ﻣﺘﺠﻬً ﺎ ﻧﺤﻮ ﻣﻴﺪان اﻟﻠﻌﺐ ﱠ ﻳﱰﻛﻨﻲ ﺣﺘﻰ أﻟﻌﺐ اﻟﺪور اﻟﺜﺎﻧﻲ
ﱠ
ﻓﺼﻔ َﻘﺖ ﻣﻨﻰ وﻗﺎل ﱄ» :أﻛﻤﻞ دورك ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،وﻫﺬا ﺟﻨﻴﻪ ﻳﺎ ﻣﻨﻰ ﻟﻠﻔﺎﺋﺰ ﻣﻨﻜﻤﺎ«.
ً
ﻣﴪورة وﺑﺪأﻧﺎ اﻟﻠﻌﺐ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺗﺤﻤﱠ ﺲ ،ﻓﺼﺎﺣﺖ ﻣﻨﻰ ﻏﺎﺿﺒﺔ وﺳﺎﻋﺪﻫﺎ أﺑﻮﻫﺎ ﻗﺎﺋﻼ:
»ﻳﺠﺐ أن ﺗﺒﺬل ﺟﻬﺪك ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻮن اﻻﻧﺘﺼﺎر ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ «.ﻓﺎﻧﺪﻓﻌﺖ ﰲ اﻟﻠﻌﺐ ﺑﻜﻞ ﻗﻮﺗﻲ ﺣﺘﻰ
ﺗﻤﺴﻨﻲ ،وﺳﻠﻤﻨﻲ اﻟﺴﻴﺪ اﻟﺮﻫﺎن، ﺗﻌﺒﺖ ﻣﻨﻰ ووﺿﻌﺖ ﻗﺪﻣﻬﺎ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻋﲆ اﻷرض ﺑﻐري أن ﱠ
وﻛﺎن ﴎور ﻣﻨﻰ ﺑﻔﻮزي أﺿﻌﺎف ﴎورﻫﺎ ﺑﺎﻧﺘﺼﺎرﻫﺎ ﻋﲇ ﱠ ﰲ املﺮات اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وﻗﺪ ﻋﺮﻓﺖ
ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻫﻮ اﻟﺬي ﺳﻌﻰ ﻋﻨﺪ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،وﺟﻌﻠﻪ ﻳﺘﺒﻌﻨﻲ إﱃ
ﻋﺪت ﻣﻊ اﻟﺴﻴﺪ إﱃُ املﻨﺰل ﻟريى أن ﺳﺒﺐ ﻏﻴﺎﺑﻲ ﻫﻮ اﻧﺸﻐﺎﱄ ﺑﺎﻟﻠﻌﺐ ﻣﻊ ﻣﻨﻰ ،ﻓﺈﻧﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ
25
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
املﺤﻠﺞ ﺳﻤﻌﺘﻪ ﻳﺴﺘﺪﻋﻲ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة وﻳﺸﺘﻤﻪ ﺑﺼﻮت ﻣﺮﺗﻔﻊ وﻳﻠﻌﻨﻪ وﻳﺄ ُﻣ ُﺮه ﺑﺄﻻ ﻳﺮى
وﺟﻬﻪ ﻣﺮ ًة أﺧﺮى.
وﺟﺎء ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﺑﻌﺪ ﺗﻠﻚ املﻘﺎﺑﻠﺔ اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ وﺟﻌﻞ ﻳﺘﻮدﱠد إﱄ ﱠ وﻳَﺤﻠﻒ ﱄ أﻧﻪ ﻳﺤﻤﻞ
ً
إﺧﻼﺻﺎ ﻻ ﺣﺪ ﻟﻪ. ﱄ
ﻋﲆ ﻫﺬا اﺳﺘﻘﺮ ﻋﻤﲇ ﺑﺎملﺤﻠﺞ ،وزال ﻋﻨﻲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﻨﻔﴘ وﺑﻀﺂﻟﺔ وﻇﻴﻔﺘﻲ،
ﴏت آﻧﺲ إﻟﻴﻬﻢ ،ﻻ ﻳﺸ ﱡﺬ ﻣﻨﻬﻢ ﺳﻮى ُ ﻇﻔﻮن اﻵﺧﺮون ﻳﺄﻧﺴﻮن إﱄ ﱠ ﻛﻤﺎ وﻛﺎن اﻟﻌﻤﺎل واملﻮ ﱠ
ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة؛ إذ ﻛﺎن ﻳُﺬﻛﺮﻧﻲ داﺋﻤً ﺎ ﺑﺄﻧﻪ ﻣﺎ زال اﻟﺼﺒﻲ اﻟﺨﺒﻴﺚ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﻤﻠﺆﻧﻲ ﻏﻴ ً
ﻈﺎ
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﻨﺎ ﻣﻌً ﺎ ﰲ زﻣﺮة ﺣﺎرة »أﺑﻲ ﻃﺎﻗﻴﺔ«.
وﻛﺎن ﻣﻦ ﻋﺎدة اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل أن ﻳَﺤﺘﻔﻞ ﰲ ﻛﻞ ﻋﺎم ﰲ ﺷﻬﺮ رﻣﻀﺎن ﺑﺈﻃﻌﺎم
اﻟﻌﻤﺎل واﻟﻔﻘﺮاء وﺗﻮزﻳﻊ املﻼﺑﺲ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﰲ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻌﻴﺪ ،ﻓﻠﻤﱠ ﺎ ﻣ ﱠﺮت اﻟﺴﻨﺔ اﻷوﱃ ﻣﻦ ﻋﻤﲇ
ﺑﺎملﺤﻠﺞ ﻋﻬﺪ إﱄ ﱠ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ أن أﻗﻮم ﻋﲆ ﺗﺪﺑري ﻣﺎ ﻳﺠﺐ ﺗﺪﺑريه ﻟﺬﻟﻚ اﻟﺸﻬﺮ ﻣﻦ ﻃﻌﺎم
وﻛﴗ ،ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎن ﻳَﻜِﻞ ذﻟﻚ إﱃ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة.
ﺗﻮﻓﺮت ﻋﲆ إﺣﻜﺎﻣﻬﺎ ،وأﻇﻦ أن اﻟﺴﻴﺪ ارﺗﺎح إﱃ ﻋﻤﲇ ﻓﺼﺎر ﻳﻌﻬﺪ ُ ُ
ﻓﻮﺿﻌﺖ ﻟﺬﻟﻚ ﺧﻄﺔ
إﱄ ﱠ ﺑﺬﻟﻚ ﰲ ﻛﻞ ﻋﺎم ﻛﻠﻤﺎ أﻗﺒﻞ رﻣﻀﺎن ،وﻛﻨﺖ أﺟﺪ ﰲ ﻗﻴﺎﻣﻲ ﺑﻪ ارﺗﻴﺎﺣً ﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ملﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ
اﻟﱪ ،ﻛﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﻏﺘﺒﻂ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ دﻻﻟﺔ ﻋﲆ ﺛﻘﺔ اﻟﺴﻴﺪ ﺑﻲ واﻋﺘﻤﺎده ﻋﲇﱠ ،وﻟﻢ أﻓﻄﻦ إﱃ أن
ﻋﻤﲇ ﻫﺬا ﻳﺜري ﻋﲇ ﱠ ﻏﻴﻆ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة إﻻ ﺑﻌﺪ ﻋﺪة ﺳﻨﻮات ﻋﻨﺪﻣﺎ وﻗﻌﺖ ﺣﺎدﺛﺔ ﺻﻐرية
ﰲ ﺷﻬﺮ ﻣﻦ ﺷﻬﻮر رﻣﻀﺎن املﺘﻌﺎﻗﺒﺔ ،ﻛﺎن ﻟﻬﺎ ﻋﲆ ﺻﻐﺮﻫﺎ أﺛﺮ ﻛﺒري ﰲ ﺗﻐﻴري اﺗﺠﺎه ﺣﻴﺎﺗﻲ.
وأﻋﺪدت اﻟﻌﺪة ملﺎ ﻳﺠﺐ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻛﻞ ﳾء، ُ أﻗﺒﻞ ﺷﻬﺮ رﻣﻀﺎن ﰲ أﺣﺪ اﻷﻋﻮام املﺘﺘﺎﻟﻴﺔ
ﻳﺖ أن أﻃﺮف اﻟﻌﻤﺎل واﻟﻔﻘﺮاء ﺑني ﺣني وآﺧﺮ ﺑﺄﻧﻮاع ﻣﻦ ﻣﻬﺘﺪﻳًﺎ ﺑﺘﺠﺎرﺑﻲ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وﺗﺤ ﱠﺮ ُ
ﻃﺮف اﻟﻄﻌﺎم ﻷدﺧﻞ ﻋﲆ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ اﻟﴪور ،وﻛﻨﺖ أﻗﴤ ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻳﻮم ﰲ ﺗﺪﺑري
ﺷﺌﻮن املﻄﺒﺦ ﺛﻢ أﻣﻜﺚ ﺣﺘﻰ اﻟﻐﺮوب ﰲ ﺧﺪﻣﺔ اﻟﻄﺎﻋﻤني ﺣﺘﻰ ﻳَﻔ ُﺮﻏﻮا ﻣﻦ اﻹﻓﻄﺎر ،وأذﻫﺐ
ﻓﺮﺻﺎ ﻛﺜرية ﻟﻼﺳﺘﻤﺎع إﱃ ً ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ﻷﻓﻄﺮ ،وﻗﺪ أﺗﺎﺣﺖ ﱄ ﺳﺎﻋﺎت وﺟﻮدي ﻣﻌﻬﻢ
ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻮن وﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ أن ﺻﺎﺣﺒﺘﻬﻢ ﺳﻨﺔ ﺑﻌﺪ ﺳﻨﺔ وأَﻧ ُِﺴﻮا إﱃ ﻣﻮدﺗﻲ.
وﺑﺪأت أﺣﺎدﻳﺜﻬﻢ اﻟﴫﻳﺤﺔ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﺗُﻄﻠﻌﻨﻲ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻋﺠﻴﺐ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ
ﺣﻘﺎ أن اﻟﻨﺎس ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮﻟﻮن» :ﺻﻨﺎدﻳﻖ ﻣﻘﻔﻠﺔ« ﺗُﺨﻔﻲ وﺑﺪأت أﺗﻌﻠﻢ ٍّ
ُ ﻟﻢ أﻓﻄﻦ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ،
ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ.
ﻛﻨﺖ ﻳﻮﻣً ﺎ أﺟﻠﺲ ﰲ ﺣﻠﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺎل ﺣﻮل إﺣﺪى املﻮاﺋﺪ ﺑﻘﺼﺪ ﻣﺆاﻧﺴﺘﻬﻢ ﻓﺴﻤﻌﺖ
أﺣﺪﻫﻢ ﻳﺘﺤﺪث ﺳﺎﺧ ًﺮا ﺑﺎﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل.
26
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ
ﱡ
ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻣﻨﻚ ﻫﺬا ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ. ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ رﻓﻖ :إﻧﻪ ﻻ
ﻓﺄﺟﺎﺑﻨﻲ ﰲ دﻓﻌﺔ :أﺗﻘﺼﺪ أﻧﻪ ﻳُﻄﻌﻤﻨﺎ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻻ أﻗﺼﺪ ذﻟﻚ ،ﺑﻞ أﻗﻮل ﻟﻚ إﻧﻪ ﺻﺪﻳﻖ ﻳﻌﻤﻞ داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ إﻇﻬﺎر ﻣﻮدﺗﻪ ﻟﻨﺎ ،وﻣﺎ
ﻟﻔﺘﺔ ﻛﺮﻳﻤﺔ ﻻ ﺗﺴﺘﺤﻖ إﻻ اﻟﺸﻜﺮ. ﻫﺬه املﻮاﺋﺪ إﻻ ً
ﻓﻘﺎل ﻣُﺴﺘﻤ ٍّﺮا ﰲ ﺳﺨﺮﻳﺘﻪ :أي ﺷﻜﺮ ﻳﺎ ﻋﻢ؟ ﻫﻮ ﻳﻘﻄﻊ ﻣﻦ ﻟﺤﻤﻨﺎ ﻟﻴُﻄﻌﻤﻨﺎ ،ﻓﺪﻋﻨﺎ ﻧﺄﻛﻞ
ﻟﺤﻤﻪ وﻧﻘﻄﻊ ﻓﺮوه.
ُ
ﻓﻘﻤﺖ واﻧﻄﻠﻘﺖ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﺿﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻠﻘﺔ ﻛﻠﻬﺎ ،وﻛﺎن ﻟﻬﺎ وﻗﻊ ﺑﺸﻊ ﰲ ﻧﻔﴘ، َ
ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ وﻗﻠﺒﻲ ﺛﺎﺋﺮ وﺻﺪري ﻣُﻨﻘﺒﺾ ﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ،ﻓﺄﻓﻄﺮت ﺑﴚء ﻳﺴري وأﻧﺎ
ﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ أن أﺳﱪ ﻏﻮر اﻟﺤﻠﻘﺎت اﻷﺧﺮى ،ﻓﻜﻨﺖ أﺳﺘﻤﻊ ُ ﻛﺎﺳﻒ اﻟﺒﺎل ،وﰲ اﻟﻠﻴﺎﱄ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ
إﱃ ﻓﻜﺎﻫﺎﺗﻬﻢ وﻣﻨﺎﻗﺸﺎﺗﻬﻢ ،وﺗﺒﻴﻨﺖ أن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻻ ﻳُﻄﻌﻢ إﻻ ﺑﻄﻮﻧًﺎ ﺟﺎﺋﻌﺔ .ﻛﺎﻧﺖ
ﻗﻠﻮب اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻻ ﺗﺤﻤﻞ ﻟﻪ ﻣﻮدة وﻻ ﺗﺠﺰﻳﻪ ﰲ ﻗﺮارﺗﻬﺎ إﻻ ﺑﺎﻟﺴﺨﺮﻳﺔ أو اﻟﺤﻘﺪ.
وذﻫﺒﺖ ذات ﻟﻴﻠﺔ ﻛﻌﺎدﺗﻲ إﱃ ﺑﻴﺖ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻷﻗﴤَ اﻟﺴﻬﺮة ﺑﻌﺪ أن ﻓﺮﻏﺖ ﻣﻦ
ﺟﺎﻟﺴﺎ ﰲ ﺣﻠﻘﺔ ﺿﻴﻮﻓﻪ املﻌﺘﺎدة ،وﺳﻤﻌﺖ أول ﻣﺎ ﺳﻤﻌﺖ ً ﺗﻌﻬﱡ ﺪ إﻓﻄﺎر اﻟﻔﻘﺮاء ،وﻛﺎن اﻟﺴﻴﺪ
ُ
ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ اﻟﺠﺎﻟﺴني ﻗﻮل اﻟﺸﻴﺦ اﻟﻘﺮش :ﻣﺎ رأﻳﻜﻢ ﰲ أن ﻧﺴﻤﱢ َﻲ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل »ﺣﺎﺗﻢ
دﻣﻨﻬﻮر«؟ ﻓﺘﻌﺎﻟﺖ اﻷﺻﻮات ﺑﺎملﻮاﻓﻘﺔ وأﺧﺬ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻳﻘﻮل ﰲ ﺗﻮاﺿﻊ :أﺳﺘﻐﻔﺮ ﷲ!
وﻛﻨﺖ أﻋﺮف اﻟﺸﻴﺦ اﻟﻘﺮش ﻣﻨﺬ ﻧﺸﺄﺗﻲ ،وﻫﻮ ﺗﺎﺟﺮ ﻋﺠﻴﺐ اﻟﻄﺒﺎع ﺑﺪأ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻓﻼﺣً ﺎ
ﻓﻘريًا ،ﺛﻢ ﺻﺎر ﻃﺎﻟﺐ ﻋﻠﻢ ﺑﺎﻷزﻫﺮ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻗﴣ ﻋﴩ ﺳﻨﻮات ﰲ دراﺳﺔ ﻟﻢ ﺗُﻔِ ﺪه ﺷﻴﺌًﺎ
ﺳﻮى ﻋﻤﺎﻣﺔ ﻛﺒرية ،ﻓﺎﺷﺘﻐﻞ ﺑﺎﻟﺘﺠﺎرة ،واﺗﺨﺬ ﻟﻨﻔﺴﻪ دﻛﺎﻧًﺎ ﺻﻐريًا ﰲ اﻟﺴﻮق ﻳﺠﻤﻊ ﻓﻴﻪ
أﻧﻮاﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ ﻻ ﺻﻠﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ ،ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎم واﻟﺒﻘﻮل واملﻼﺑﺲ واﻷواﻧﻲ ،ﻛﻤﺎ ﺟﻌﻞ ﻋﻨﺪ
ﺻﻨﺪوﻗﺎ ﻟﺒﻴﻊ اﻟﺴﺠﺎﺋﺮ وآﺧﺮ ﻟﻠﻤﺮﻃﺒﺎت املﺜﻠﺠﺔ ،وﻛﺎن ﻳﻀﻊ أﻣﺎم دﻛﺎﻧﻪ ﺑﻌﺾ ً ﻣﺪﺧﻠﻪ
اﻟﻜﺮاﳼ وﻳﺠﻤﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ أﺻﺤﺎﺑﻪ ،ﻓﺈذا ﺟﺎء وﻗﺖ اﻟﺼﻼة ﻗﺎم ﻟﻴﺼﲇ ﺑﻬﻢ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻓﻮق
اﻟﺮﺻﻴﻒ ،وﻛﺎن ﻣﻦ أﻗﻮاﻟﻪ املﺄﺛﻮرة» :اﻟﻘﺮش اﻷﺑﻴﺾ ﻳﻨﻔﻊ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻷﺳﻮد «.ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻘﻮل
ً
ﻣﻌﺮوﻓﺎ داﺋﻤً ﺎ إذا ُﺳﺌﻞ ﻋﻦ أﺻﻠﻪ» :أﺻﻠﻚ ﻗﺮﺷﻚ «.ﻟﻬﺬا ﺳﻤﺎه اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﺸﻴﺦ اﻟﻘﺮش ،وﻛﺎن
ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺑﺎﻟﺤﻤﺎﻗﺔ واﻟﴩاﻫﺔ واﻟﺮﻳﺎء.
ً
وﻻ ﺷﻚ أن وﺟﻬﻲ ﻛﺎن ﻳﻨ ﱡﻢ ﻋﻦ اﻟﻐﻴﻆ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﻤﻌﺘﻪ ﻳﺴﺘﻤﺮ ﻗﺎﺋﻼ ﻟﻠﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ :ﻟﺴﻨﺎ
وﺣﺪﻧﺎ ﻧﻘﻮل ﻫﺬا ،ﻟﻬﺆﻻء املﺌﺎت ﻣﻦ اﻟﻔﻘﺮاء ﻳﻘﻮﻟﻮﻧﻪ وﻫﻢ ﻳﺄﻛﻠﻮن ﻃﻌﺎﻣﻚ.
وﻛﻨﺖ ﻣﻨﺬ أﻳﺎم أﻓﻜﺮ ﰲ أن أﺗﺤﺪث إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﰲ إﺑﻄﺎل ﻫﺬه املﺂدب اﻟﺘﻲ ﻳُﻘﻴﻤﻬﺎ
وﻻ ﻳُﺠﺰى ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﺸﻜﺮ ،وأﻗﱰح ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺰﻳﺪ ﰲ أﺟﻮر ﻋﻤﺎﻟﻪ ﺑﻤﻘﺪار ﻣﺎ ﻳُﻨﻔﻘﻪ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ
ً
ﺣﺎﻧﻘﺎ. ﺳﻤﻌﺖ ﻗﻮل اﻟﺸﻴﺦ اﻟﻘﺮش ﻧﻈﺮت إﻟﻴﻪ ُ اﻷﻣﻮال ،ﻓﻠﻤﺎ
27
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
28
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ
ﻓﻌﺎد اﻟﺸﻴﺦ إﱃ ﺛﻮرﺗﻪ ،وﺟﻌﻞ ﻳﻬﺰ ذراﻋﻪ ﻣﻬﺪدًا ،وﺻﺎح ﻣﺘﻔﺠ ًﺮا :ﻫﻞ ﺟﺌﺖ ﻫﻨﺎ ﻟﺘﺸﺘﻤﻨﺎ
ﱢ
وﺗﺴﻔﻪ أﺣﻼﻣﻨﺎ وﺗﺘﱠﻬﻤَ ﻨﺎ ﺑﺎﻟﺮﻳﺎء؟
ﻟﺴﺖ أﺟﻴﺐ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻷﻟﻔﺎظ اﻟﺮﺧﻴﺼﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺮﻫﺒﻨﻲ .أﺑﻄﻞ ُ ﻓﺎﻧﻔﺠﺮت ﻛﺬﻟﻚ ً
ﻗﺎﺋﻼ:
أردت اﻹﺣﺴﺎن اﻟﺼﺤﻴﺢ ،ﻓﺎﺟﻌﻞ ﺛﻤﻦ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ زﻳﺎدة َ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ﻫﺬه املﺂدب واﻟﻮﻻﺋﻢ ،وإذا
ﰲ أﺟﺮ ﻋﻤﺎﻟﻚ .دﻋﻬﻢ ﻳﺬﻫﺒﻮن إﱃ ﺑﻴﻮﺗﻬﻢ ﻟﻴﺄ ُﻛﻠُﻮا ﻣﻊ أوﻻدﻫﻢ وﻧﺴﺎﺋﻬﻢ وﻫﻢ ﻳﺸﻌﺮون أﻧﻬﻢ
َﺤﺮﺻﻮن ﻋﲆ ﻋﻤﻠﻚ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ وﻳﺸﻜﺮوﻧﻪ ﻟﻚ ﻛﻤﺎ ﻳﺸﻜﺮ اﻟﺮﺟﻞ ﻣﺪﻳﻨﻮن ﻟﻌﻤﻠﻬﻢ وﺣﺪه .ﺳﻴ ُ
اﻟﺤﺮ ﺻﺎﺣﺒﻪ.
اﻟﺬﻳﻦ ﻳَﺮﻛﻌُ ﻮن ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻴﻚ ﻟﻴﺸﻜﺮوك ﻋﲆ ﻋﻄﺎﺋﻚ ﻻ ﻳﺤﻤﻠﻮن ﻟﻚ ﻏري اﻟﺮﻫﺒﺔ .ﺣ ﱢﺮر
ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻣﻦ أﴎ اﻹﺣﺴﺎن ا ُملﺬِل ،وﻻ ﺗَﺴﺘﻌﺒﺪﻫﺎ.
وﻛﺎن وﺟﻪ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻳﺪ ﱡل ﻋﲆ ﺷﺪة ﺿﻴﻘﻪ وارﺗﺒﺎﻛﻪ ،وﺑﺪأت أﺷﻌﺮ ﺑﺄﻧﻲ أﺳﺄت
ﻣﺴﺖ ﺻﻤﻴﻢ إﻟﻴﻪ إﺳﺎءة ﻛﱪى ،وﻏﻤﺮﻧﻲ اﻟﺨﺠﻞ ﻷﻧﻲ ﻋﺮﺿﺘُﻪ ملﻨﺎﻗﺸﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻻ ﺷ ﱠﻚ ﰲ أﻧﻬﺎ ﱠ
ﻛﱪﻳﺎﺋﻪ.
ووﺟﺪت أن ﺑﻘﺎﺋﻲ ﻫﻨﺎك ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻣﻮﻗﻔﻲ إﻻ ﺣﺮﺟً ﺎ ﻓﻘﻠﺖ ﻣﻌﺘﺬ ًرا :أﻧﺎ آﺳﻒ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي
وﻛﻨﺖ أﺗﻤﻨﻰ ﻟﻮ ﻟﻢ أﺗﺪﺧﻞ ﻓﻴﻪ.ُ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻛﻠﻪ،
واﻟﺘﻔﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ ﻷﺧﺮج وﰲ داﺧﲇ ﻣﺮﺟﻞ ﻳﻐﲇ وﻋﲆ ﺟﺴﻤﻲ ﻓﻴﺾ ﻣﻦ اﻟﻌﺮق. ﱡ
ﺧﻠﻮت ﰲ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ أﺧﺬت أﻓﻜﺮ ﻓﻴﻤﺎ أﻓﻌﻞ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺘﺎﱄ .أأذﻫﺐ إﱃ ُ وملﺎ
ﻋﻤﲇ أم أﻧﻘﻄﻊ ﻋﻨﻪ؟ وﻛﺎن أول رأﻳﻲ أن أﻧﻘﻄﻊ ﻷن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﻜﻮن ﻏﺎﺿﺒًﺎ ﻋﲇ ﱠ
وﺣﺰﻧﺖ ﺣﺰﻧًﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﻟﺘﻮرﻃﻲ ﰲ ﺷﺄن ﻛﻨﺖ ﰲ ﻏِ ﻨًﻰ ﻋﻦ اﻟﺘﻮرط ﻓﻴﻪ. ُ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﺣﺪث ﻣﻨﱢﻲ،
وﻟﻜﻨﻲ ﻋﺪت إﱃ ﻧﻔﴘ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ،وﻗﻠﺖ :إﻧﻲ ﻟﻢ أﻗﱰف ﰲ ﺣﻖ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﺮﻳﻤﺔ أﻟﻮم
إﺧﻼﺻﺎ ووﻻءً ﻻ ﺷﺎﺋﺒﺔ ﻓﻴﻬﻤﺎ ،وأﻋﺮف أﻧﻪ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻔﻀﻞ ً ﻧﻔﴘ ﻋﻠﻴﻬﺎ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﻨﺖ أﺣﻤﻞ ﻟﻪ
ﻋﲇ ﱠ وأﻧﻪ ﻳُﻜﺮﻣﻨﻲ ،وﻻ ﻳَﻨﺒﻐﻲ ﱄ أن أﺣﺰن ﻣﻦ أﺟﻞ ﻧﺼﻴﺤﺔ ﴏﻳﺤﺔ ﻗﻠﺘُﻬﺎ ﻟﻪ أﺑﺘﻐﻲ ﺑﻬﺎ
ﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ أن أﺧﻮض املﻌﺮﻛﺔ ﺣﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺘﻬﺎ، ُ ﻣﺼﻠﺤﺘﻪ .ﻟﻢ أﻛﻦ ﻣﺘﻬﻤٍّ ﺎ أﻣﺎم ﺿﻤريي؛ وﻟﻬﺬا
واﺳﺘﻘ ﱠﺮ رأﻳﻲ ﻋﲆ أن أﺑﻘﻰ ﰲ ﺧﺪﻣﺘﻪ ،وأواﺻﻞ ﻋﻤﲇ ﺣﺘﻰ ﻳﺒﺪأ ﻫﻮ ﺑﺎﻟﺘﺨﲇ ﻋﻨﻲ إذا ﺷﺎء.
وﺻﺎﺣﺒﻨﻲ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ إﺣﺴﺎس ﻗﻮيﱞ ﺑﺎﻻﻋﺘﺰاز ﺑﺄﻧﻲ إﻧﺴﺎن أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺟﻬﺮ ﺑﺮأﻳﻲ
وﻻ أﺗﺮدد ﰲ اﻟﺜﻘﺔ ﺑﻨﺰاﻫﺔ ﺿﻤريي ،وﻛﻠﻤﺎ ﻣ ﱠﺮت ﺑﺬﻫﻨﻲ ذﻛﺮى ﻫﺬه اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻋﺮﻓﺖ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ
ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻈﺎت اﻟﴪﻳﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺮ ﺑﻨﺎ ،ﻓﻼ ﻧَﻔﻄﻦ إﻟﻴﻬﺎ ﰲ وﻗﺘﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﱠﺎ ﻧﻌﺮف ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ أﻧﻬﺎ
ُ
ﺑﺪأت أﺷﻌﺮ ﻣﻨﺬ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺤﻈﺔ ﺧﻄرية ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻔﺮق ﻣﻦ ﻣﻔﺎرق اﻟﻄﺮق ﰲ اﻟﺤﻴﺎة.
ﻇﻒ ﺑﻤﺤﻠﺞ ﻳﻜﺘﺐ اﻷرﻗﺎم ﻋﲆ ﺑﺎﻻت اﻟﻘﻄﻦ. ﺑﺄن ﱄ وﺟﻮدًا ،وإن ﻛﻨﺖ ﻻ أزﻳﺪ ﻋﲆ ﻣﻮ ﱠ
29
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
ﻋﻨﺪﻣﺎ ذﻫﺒﺖ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ إﱃ املﺤﻠﺞ وﺟﺪت اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻋﲆ ﻋﺎدﺗﻪ ﻣﻬﺬﺑًﺎ ﺳﻤﺤً ﺎ
ُ
اﻫﺘﺪﻳﺖ إﻟﻴﻪ ،وزادت ُ
ﻓﺤﻤﺪت ﷲ ﻋﲆ اﻟﺮأي اﻟﺬي ﻛﺄن ﻟﻢ ﻳَﺤﺪُث ﳾء ﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ،
ﺛﻘﺘﻲ ﰲ اﻟﺮﺟﻞ وزاد ﺷﻌﻮري ﺑﺎﻟﻮﻻء ﻟﻪ ،واﺳﺘﻤﺮ اﻟﺴﻴﺪ ﰲ ﺗﻜﻠﻴﻔﻲ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺘﺪﺑري اﻟﻄﻌﺎم
ﻟﻠﻌﻤﺎل ﰲ اﻷﻳﺎم اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ ﻣﻦ رﻣﻀﺎن ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﱄ أن أراﺟﻌﻪ ﰲ ذﻟﻚ ،ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻪ أن
ﻳﻘﻄﻊ ﻋﺎدﺗﻪ ﰲ أﺛﻨﺎء اﻟﺸﻬﺮ ﺑﻌﺪ أن ﺑﺪأﻫﺎ.
وﺑﻘﻴﺖ ﰲ ﻋﻤﲇ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺷﻬ ًﺮا ﺑﻌﺪ ﺷﻬﺮ ﻻ أﻛﺎد أﻓﻄﻦ إﱃ ﻣﺮور اﻟﺰﻣﻦ إﻻ ﰲ أول ﻛﻞ ُ
ﻗﺒﻀﺖ ﻣﺮﺗﺒﻲ ،وﻗﺪ زاد اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ذﻟﻚ املﺮﺗﺐ ﺑﻌﺪ ﺑﺪء املﻮﺳﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻓﺠﻌﻠﻪ ُ ﺷﻬﺮ إذا
ﺧﻤﺴﺔ ﻋﴩ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ ،وﺟﻌَ ﻠﻨﻲ و ﱠزاﻧًﺎ ﻓﺎﺧﺘﻔﻰ ﺷﻌﻮري ﺑﺎﻟﺼﻐﺮ واﻟﺘﻔﺎﻫﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﺑﻌﺪ ﳾء.
وﻛﺎن اﻟﻌﻤﻞ ﰲ أﻳﺎم اﻟﺨﺮﻳﻒ واﻟﺸﺘﺎء ﻻ ﻳﺪ ُع ﱄ ﻓﺮﺻﺔ ﻛﺒرية ﰲ اﻟﻘﺮاءة؛ ﻷﻧﻲ ﻛﻨﺖ
أﻋﻤﻞ ﻃﻮل اﻟﻨﻬﺎر إﱃ املﺴﺎء ﺑﻐري راﺣﺔ إﻻ ﺳﺎﻋﺔ ﻗﺼرية ﻋﻨﺪ اﻟﻈﻬﺮ ،وﺻﺎر اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ
ﻻ ﻳُﻜﻠﻔﻨﻲ اﻟﺬﻫﺎب إﱃ اﻟﺒﻴﺖ ﻟﻘﻀﺎء اﻟﺨﺪﻣﺎت اﻟﺼﻐرية ،ﻓﻠﻢ أذﻫﺐ إﱃ ﻫﻨﺎك إﻻ ﻣﺮ ًة واﺣﺪة
ﰲ ﻣﻄﺎﻟﻊ اﻟﺮﺑﻴﻊ ﻷﺣﻤﻞ ﻫﺪﻳﺔ ﺟﺎءت إﻟﻴﻪ ﻣﻦ أﺣﺪ أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ﰲ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ،وﻫﻲ ﻋﻠﺒﺔ
ﺑﺪﻳﻌﺔ اﻟﺼﻨﻊ ﻣﻦ ﻗﻄﻴﻔﺔ اﻟﺤﺮﻳﺮ ﻳﺪ ﱡل ﻣﻈﻬﺮﻫﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﺣﻠﻴﺔ ﺛﻤﻴﻨﺔ ،وذﻫﺒﺖ
إﱃ اﻟﺒﻴﺖ وﻛﻨﺖ ﻟﻢ أﻗﺎﺑﻞ ﻣﻨﻲ ﻣﻨﺬ ﺷﻬﻮر وﻛﺎن ﻳﻮﻣً ﺎ ﻣﻦ أﻳﺎم ﻣﺎرس واﻟﻬﻮاء اﻟﺪاﻓﺊ ﻳُﻌﻠِﻦ
أن اﻟﺤﻴﺎة ﺑﺪأت ﺗﺪبﱡ ﰲ اﻟﻜﻮن .ﻛﺎﻧﺖ أﻋﻮاد اﻷﺷﺠﺎر وأوراﻗﻬﺎ اﻟﺮﻃﺒﺔ واﻷزﻫﺎر ا ُملﺘﱪﱢﺟﺔ
ﺑﺄﻟﻮاﻧﻬﺎ اﻟﺰاﻫﻴﺔ ورواﺋﺤﻬﺎ اﻟﻌﻄﺮة ﺗﻘﻮل» :ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺮﺑﻴﻊ« ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﻴﻮر املﺮﺣﺔ ﻛﺬﻟﻚ
ﺗَﺘﻮاﺛﺐ وﺗُﺰﻗﺰق وﺗُﻐﻨﱢﻲ ﻗﺎﺋﻠﺔ :إن اﻟﺤﻴﺎة ﺗُﺠﺪﱢد ﺷﺒﺎﺑﻬﺎ ،ورأﻳﺖ ﻣﻨﻰ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﺗﺘﻤﴙ ﰲ
ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻌﴫ ﺑني ﻇﻼل اﻟﺸﺠﺮ وﺣﺪﻫﺎ .ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﻠﻌﺐ ﻛﻤﺎ اﻋﺘﺎدت وﻟﻢ ﺗُﴪع إﱄ ﱠ ﺻﺎﺋﺤﺔ
ﻣﺮﺣﺒﺔ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻔﻌﻞ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ .ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم ﻣﺜﻞ زﻫﺮة اﻟﻔﻮل اﻷﻧﻴﻘﺔ اﻟﻨﺎﴐة إذا
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﺑ ﱠﻠﻠﻬﺎ اﻟﻨﺪى ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ،وﻛﺎن ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺛﻮب ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺮ اﻷﺑﻴﺾ ووﺟﻬﻬﺎ اﻟﺒﺎرع اﻟﺤﺴﻦ ﻳﺰﻳﻨﻪ
ﻛﺄﻧﻪ ﺟﻮﻫﺮة .ﻛﺎن ﻟﻮن وﺟﻬﻬﺎ اﻟﻮردي وﻟﻮن ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ اﻟﻼزوردي وﺷﻌﺮﻫﺎ املﺘﻤﻮج اﻟﺬﻫﺒﻲ،
ﻛﺎن ﻛ ﱡﻞ ذﻟﻚ ﻳﺒﺪو أروع ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻨﺎﻇﺮ اﻟﺮﺑﻴﻊ اﻟﺠﺪﻳﺪ ،وملﺎ رأﺗْﻨﻲ أﺣﻨﺖ رأﺳﻬﺎ ﺑﺎﺑﺘﺴﺎﻣﺔ
ً
ﻣﺘﺄﻣﻼ. ﺻﻐرية ﻓﺬﻫﺒﺖ إﻟﻴﻬﺎ ﻷﺣﻴﻴﻬﺎ ،وﻣﺪﱠت إﱄ ﱠ ﻳﺪﻫﺎ ﰲ ﻫﺪوء ،وﻷول ﻣﺮة ﻧﻈﺮت إﱃ وﺟﻬﻬﺎ
رأﻳﺘﻬﺎ ﻣﺜﻞ وردة ﻛﺎﻧﺖ ﰲ املﺴﺎء ﻧﺎﻋﺴﺔ ﰲ ﻛﻤﱢ ﻬﺎ ،ﺛﻢ ﺗﻔﺘﺤﺖ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻋﻦ ﺗﻤﺎﻣﻬﺎ وزﻳﻨﺘﻬﺎ
أﴎار اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﺘﻔﻨﻨﺔ ﰲ اﻹﺑﺪاع ،وﺟﺪﺗﻬﺎ أﻣﺎﻣﻲ ﻓﺠﺄة وﻫﻲ ﻓﺘﺎة ﻻ ﻃﻔﻠﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻧﻈﺮﺗﻬﺎ
ﴏﻳﺤﺔ ﻛﺎﻟﻌﺎدة ،وﻟﻜﻦ ﻋﻴﻨَﻴﻬﺎ ﻛﺎﻧﺘﺎ ﰲ ﻟﻮن اﻟﺒﺤﺮ اﻟﺼﺎﰲ اﻟﻌﻤﻴﻖ ،ﻓﻮﻗﻔﺖ أﻣﺎﻣﻬﺎ ﻣﺒﻬﻮﺗًﺎ
ُ
ﻣﺪدت إﻟﻴﻬﺎ ﻳﺪي ﺑﺎﻟﻬﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ أﺣﻤﻠﻬﺎ ،ﻟﻢ أﺑﺘﺴﻢ أﺗﺄﻣﻞ ﺻﻮرﺗﻬﺎ ﻛﺄﻧﻲ ﻟﻢ أرﻫﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،وملﺎ
ُ
وارﺗﺒﻜﺖ وﺧﺸﻴﺖ أن ﺗﺴﻤﻊ دﻗﺎت وﻟﻢ أﻧﻄﻖ ﺑﻜﻠﻤﺔ ،ﺑﻞ إﻧﻲ ﻟﻢ أﺟﺐ ﻋﲆ ﺳﺆاﻟﻬﺎ» :ﻣﺎ ﻫﺬا؟«
ﻫﻤﻤﺖ ﺑﺎﻻﻧﴫاف ،وﻧﻈﺮت ﻣﻨﻰ إﱃ اﻟﺤﻠﻴﺔ ُ ﻗﻠﺒﻲ ،وﻣﺎ ﻛﺎدت ﺗﺄﺧﺬ اﻟﻌﻠﺒﺔ وﺗﻔﺘﺤﻬﺎ ﺣﺘﻰ
وﻧﻄﻘﺖ ﺑﺼﻴﺤﺔ إﻋﺠﺎب ﺧﺎﻓﺘﺔ ،ﺛﻢ ﻧﻈﺮت إﱄ ﱠ ﻟﺘﺸﻜﺮﻧﻲ ،وﺷﻌﺮت ﺑﺄن وﺟﻬﻲ ﻳﺘﱠﻘﺪ ﺣﻤﺮة، َ
وﻟﻢ أﺟﺪ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﺨﻼص ﻣﻦ ارﺗﺒﺎﻛﻲ إﻻ ﺑﺄن أﻧﻄﻖ ﺑﺘﺤﻴﺔ ﻗﺼرية ﺛﻢ اﻧﴫﻓﺖ ووﻟﻴﺘﻬﺎ
ﻇﻬﺮي ،وﻣﺎ ﻛﺪت أﺻﻞ إﱃ اﻟﺒﺎب ﺣﺘﻰ ﻫﺒﱠﺖ ﻋﲇ ﱠ ﻋﺎﺻﻔﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﺤﻨﻖ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ ،وﻟﻢ
وﴎت ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻛﺄﻧﻨﻲ ﻫﺒﺎءة ﺗﻀﻞ ﰲ ﻓﺮاغ ﺣﺘﻰ ﻋﺪت إﱃ املﺤﻠﺞ ُ أَﻋُ ﺪ أرى ﺷﻴﺌًﺎ أﻣﺎﻣﻲ،
وأﻏﺮﻗﺖ ﻧﻔﴘ ﺑني أﻛﻴﺎس اﻟﻘﻄﻦ ﰲ ﳾء ﻳُﺸﺒﻪ اﻟﺤﻨﻖ ،وأﺧﺬت أﻛﺘﺐ اﻷرﻗﺎم ﺗﺎرة وأزن
اﻷﻗﻄﺎن ﺗﺎرة أﺧﺮى ﻻ أدع ﻟﻨﻔﴘ ً
ﻓﺮاﻏﺎ ﺣﺘﻰ أﻇﻠﻤﺖ اﻟﺪﻧﻴﺎ.
وملﺎ ذﻫﺒﺖ إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﺷﻬﺪت ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻣﻦ أﻋﻨﻒ املﻌﺎرك اﻟﺘﻲ اﺿﻄﺮﺑﺖ ﻓﻴﻬﺎ
ﺧﻮاﻃﺮي ،ﻛﻴﻒ وﻗﻔﺖ أﻣﺎم ﻣﻨﻰ ﻫﻜﺬا ﻛﺎﻟﺼﻨﻢ اﻷﺑﻜﻢ ﻻ أﻧﻄﻖ وﻻ أﺗﺤﺮك؟ أﻟﻴﺴﺖ ﻫﻲ ﻣﻨﻰ
اﻟﺼﻐرية اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ أﻟﻌﺐ ﻣﻌﻬﺎ ﻷدﺧﻞ اﻟﴪور إﱃ ﻗﻠﺒﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻟﻘﻠﺒﻲ ﻛﺎن ﻳﺨﻔﻖ ﻛﺎملﺠﻨﻮن
وأﻧﺎ أﻧﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ؟ وﻛﺎﻧﺖ ﺻﻮرﺗﻬﺎ ﺗﺘﻤﺜﱠﻞ ﱄ وﻋِﻄﺮﻫﺎ ﻳﻨﻔﺬ إﱃ أﻋﻤﺎق ﺻﺪري ،وﻋﻴﻨﺎﻫﺎ ﺗُﺸﻌﱠ ﺎن
ﺑﺎﻟﻨﻮر ﰲ ﺧﻴﺎﱄ ،وأﺻﺪاء ﺻﻮﺗﻬﺎ اﻟﻬﺎدئ ﺗﱰدﱠد ﰲ ﺳﻤﻌﻲ ﻣﺜﻞ أﻧﻐﺎم املﻮﺳﻴﻘﻰ ،وﺧﻄﺮ ﱄ
ﺳﺆال ﻋﺠﻴﺐ ﰲ ﺛﻨﺎﻳﺎ ﺧﻮاﻃﺮي» :ﻟﻴﺖ ﺷﻌﺮي ﻛﻴﻒ أﺑﺪو ﰲ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ؟« ﺛﻢ ﺣﻨﻘﺖ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ
وﻋﺪت إﻟﻴﻬﺎ أﻟﻮﻣﻬﺎ ﻋﲆ ذﻟﻚ اﻟﺴﺆال اﻷﺣﻤﻖ ،وﺣﺎوﻟﺖ أن أﴏف ذﻫﻨﻲ إﱃ ﳾء ﻳﺸﻐﻠﻪ ُ
ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺨﻮاﻃﺮ اﻟﻌﻘﻴﻤﺔ ﻓﺄﺧﺬت أﻗﺮأ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻓﻬﻢ ﺳﻄ ًﺮا ﻣﻤﺎ ﻗﺮأت .ﺛﻢ أﺧﺬت أﻛﺘﺐ
ﻄﺎ ﻋﲆ ﺣﻤﺎﻗﺘﻲ. أﺷﻌﺎ ًرا وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ أُﴎع إﱃ ﺗﻤﺰﻳﻘﻬﺎ ﺳﺎﺧ ً
ً
إﺣﺴﺎﺳﺎ وﻃﻠﻊ ﻋﲇ ﱠ اﻟﺼﺒﺎح ﺑﻌﺪ إﻏﻔﺎءة ﻗﺼرية ﰲ آﺧﺮ اﻟﻠﻴﻞ ،وﻛﻨﺖ أﻛﺜﺮ ﻫﺪوءًا ،وﻟﻜﻦ
ﻗﻠﻘﺎ ﺟﺪﻳﺪًا دبﱠ إﱃ ﻧﻔﴘ ،وﻫﻮ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ أن أﺗﺮك اﻟﺨﺪﻣﺔ ﺑﺎملﺤﻠﺞ ،وﻗﻀﻴﺖ ﺳﺎﺋﺮ ﺟﺪﻳﺪًا أو ً
اﻟﻴﻮم ﻏﺎﺋﺒًﺎ ﰲ أﺣﻼم اﻟﻴﻘﻈﺔ ،أﻓ ﱢﻜﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن أﺷﺘﻐﻞ ﺑﻪ ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل إذا ﺗﺮﻛﺖ ﻋﻤﲇ
32
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
ﻣﻮﻇﻔﺎ ﺻﻐريًاً ﺑﺎملﺤﻠﺞ ،وﺗﺴﺎءﻟﺖ ﻣﺮا ًرا» :ملﺎذا ﻻ أﺳﺘﻘ ﱡﻞ ﺑﺘﺠﺎرة أﻛﻮن ﻓﻴﻬﺎ ﺻﺎﺣﺐ ﻋﻤﻞ ﻻ
ﰲ ﻣﺤﻠﺞ؟«
ملﺎذا ﻻ أﻛﻮن ﻣﺜﻞ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل اﻟﺬي ﺑﺪأ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻓﻘريًا ﻣﺜﲇ ،ﺛﻢ اﺳﺘﻄﺎع ﺑﻜﺪﱢه أن
ﻳﺒﻨﻲ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﺗﺠﺎرة ﻋﻈﻴﻤﺔ؟
وﻗﺪ اﺳﺘﻮﻟﺖ ﻋﲇ ﱠ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺠﺪﻳﺪة ،ﻓﺼﺎرت أﻣﻨﻴﺔ داﺋﻤﺔ ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم ،ﺗﺨﺒﻮ
أﺣﻴﺎﻧًﺎ وﺗﺒﺪو أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ داﺋﻤً ﺎ ﻫﻨﺎك ﰲ أﻋﻤﺎﻗﻲ.
أﺗﺮﻗﺐ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أن ﻳﺒﻌﺜﻨﻲ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ إﱃ ﺑﻴﺘﻪ ﻟﺘﺄدﻳﺔ ﺧﺪﻣﺔ ﻟﻌﻞ ﻋﻴﻨﻲ ﺗﻘﻊ وﻛﻨﺖ ﱠ
ﺷﻖ اﻷﻣﺮ ﻋﲇ ﱠ ﻣﻊ ﻣﺮة أﺧﺮى ﻋﲆ ﻣﻨﻰ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻄﻠﺐ إﱄ ﱠ ﺧﺪﻣﺔ ملﺪة أﺷﻬﺮ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﱠ
ﻛﻨﺖ داﺋﻤً ﺎ أذﻛﺮ ﻣﻨﻰ وﻫﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺣﺎوﻟﺘﻪ ﻣﻦ ﴏف ﻓﻜﺮي ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﻣﻨﻴﺔ وﺗﺴﺨﻴﻔﻲ ﻟﻬﺎُ .
ﺗﺴري ﺗﺤﺖ ﻇﻼل اﻟﺸﺠﺮ ﰲ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻌﴫ وﺷﻌﺮﻫﺎ اﻟﺬﻫﺒﻲ ﻳﺸﺒﻪ أﺷﻌﺔ اﻟﺸﻤﺲ املﻀﻴﺌﺔ.
وﻣﺮت أﻳﺎم املﻮﺳﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻌﺎم ،ﻓﺎﺗﱠﺴﻊ وﻗﺖ ﻓﺮاﻏﻲ ،واﺷﺘﺪت ﻋﲇ ﱠ وﻃﺄة اﻟﻔﻜﺮ،
ﻓﻜﻨﺖ أﻗﺮأ ﻛﺜريًا وأﻛﺘﺐ ﻛﺜريًا وأَﺧ ُﺮج إﱃ اﻟﺤﻘﻮل ﻷﻟﻬﻮ ﻋﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻣﻨﻰ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ
داﺋﻤً ﺎ أﺧﺮج ﻣﻦ املﻴﺪان ﻣﻨﻬﺰﻣً ﺎ ،وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻛﺎن ﻗﻠﻘﻲ ﻳَﺤﻤﻠﻨﻲ ﻋﲆ اﻟﺤﻤﺎﻗﺔ ،ﻓﺄﺗﻌﻤﺪ املﺮور
ﻓﻜﻨﺖ إذاُ ﻣﻦ أﻣﺎم ﺑﻴﺖ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﰲ ذﻫﺎﺑﻲ إﱃ ﺧﺎرج املﺪﻳﻨﺔ ﻟﻌﲇ أملﺢ ﻣﻨﻰ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ،
ملﺤﺘﻬﺎ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻋﺪت إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ﻛﺄﻧﻨﻲ أﻃري ﻋﲆ اﻟﻬﻮاء وأﺗﺼﱪ ﺑﺎﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺘﻲ ﻓﺰت ﺑﻬﺎ ﻋﺪة
ﻷﻧﻔﺲ ﻋﻦ ﻗﻠﺒﻲ ﺑﺠﻮﻟﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ. أﻳﺎم ،وأﻣﺎ إذا ﻟﻢ أﻓﺰ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻠﻤﺤﺔ ذﻫﺒﺖ إﱃ اﻟﺤﻘﻮل ﻛﺌﻴﺒًﺎ ﱢ
ﺑﻤﻨﺰل أﻧﻴﻖ ﻟﻪ ﺳﻮر ﻣﻦ أﺷﺠﺎر ٍ ُ
ﻓﻤﺮرت وﺣﺪث ﻳﻮﻣً ﺎ أﻧﻨﻲ ﺧﺮﺟﺖ إﱃ ﺷﻤﺎل املﺪﻳﻨﺔ،
ﺷﺎﺋﻜﺔ ﺗﺘﺴﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﻋﻮا ٌد ﻣُﺰدﻫﺮة ذات أزﻫﺎر ﺑﺪﻳﻌﺔ اﻷﺷﻜﺎل واﻷﻟﻮان ،وﻫﺰﻧﻲ ذﻟﻚ املﻨﻈﺮ
ﱡ
ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ ﺣﺘﻰ وﺟﺪت ﻧﻔﴘ أﺳﺒﺢ ﰲ ﺧﻴﺎﱄ ،ﻓﻠﻢ أﺗﻨﺒﱠﻪ إﻻ ﻋﲆ ﺻﻮت ﺑﻮق ﻳﺼﻴﺢ ﻣﻦ وراﺋﻲ،
ﻓﺈذا ﻫﻲ ﻋﺮﺑﺔ ﻛﺒرية ﺗﻜﺎد ﺗﺪوﺳﻨﻲ ،ﻓﺄﴎﻋﺖ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﻐﻴﻆ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ
ﻣﺎ ﻛﺪت أﺑﴫ ﻣﻦ ﰲ داﺧﻞ اﻟﻌﺮﺑﺔ ﺣﺘﻰ وﺛﺐ ﻗﻠﺒﻲ دﻫﺸﺔ وﺳﻌﺎدة .ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﻰ ﻫﻨﺎك ﺗَﺒﺘﺴﻢ
وﻟﻮﺣﺖ ﱄ ﺑﻴﺪﻫﺎ ،ﺛﻢ اﻧﻄﻠﻘﺖ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺮﺑﺔ وأﻧﺎ ﺛﺎﺑﺖ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ .ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺜﻞ اﻷزﻫﺎر اﻟﺘﻲ
ﺑﺪَت ﱄ ﻣﻨﺬ ﻟﺤﻈﺔ ﻓﻮق اﻟﺴﻮر اﻟﻌﺎﱄ اﻟﺸﺎﺋﻚ ،ﺗﺒﺘﺴﻢ وﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ ،وﺗﻌﻠﻘﺖ
ﻋﻨﻴﻔﺎ وأﻧﻔﺎﳼ ﺗَﻀﻄﺮب، ﻋﻴﻨﻲ ﺑﺎﻟﻌﺮﺑﺔ ﺣﺘﻰ اﺧﺘﻔﺖ ﻋﻨﻲ ﺛﻢ ﴎت ﻋﲆ اﻟﻄﺮﻳﻖ وﻗﻠﺒﻲ ﻳﺪق ً
وﻋﺎدت اﻟﻌﺮﺑﺔ ﺑﻌﺪ ﺣني وأﻧﺎ ﻣﺎ أزال ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻲ ،ﻓﻠﻤﺎ اﻗﱰﺑﺖ ﻣﻨﻰ ﻫﺪأت ﴎﻋﺘﻬﺎ ،ﻓﺎﺗﱠ ُ
ﺠﻬﺖ
إﱃ ﻣﻨﻰ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻟﺤﻈﺔ ﻣﻦ أﺳﻌﺪ ﻟﺤﻈﺎت ﺣﻴﺎﺗﻲ؛ إذ رأﻳﺘُﻬﺎ ﺗُﻠﻮﱢح ﺑﻴﺪﻫﺎ ﻧﺤﻮي وﺗﺒﺘﺴﻢ ﰲ
ﻣﺮح ،وﻗﺪ ﺑﻘﻴَﺖ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة ﻋﺎﻟﻘﺔ ﺑﺨﻴﺎﱄ ﻻ أﻧﺴﺎﻫﺎ ،وﻫﻲ ﻣﺎ ﺗﺰال ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ ﻋﻨﺪي ﰲ
اﻟﻘﻄﻌﺔ ﱢ
اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ أ ﱠﻟﻔﺘﻬﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﺑﻌﻨﻮان» :زﻫﺮة اﻟﺴﻮر اﻟﻌﺎﱄ«.
33
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻣﺮ ﻋﲇ ﱠ ذﻟﻚ اﻟﺼﻴﻒ ﰲ ﻏﻤﺮة ﻻ أﻛﺎد أﺗﻨﺒﻪ ﻓﻴﻬﺎ إﱃ ﳾء ﻏري ﺻﻮرة ﻣﻨﻰ ،ﺣﺘﻰ ﺑﺪأ
املﻮﺳﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ،وﺑﺪأت أﻋﻮد إﱃ أﻛﻴﺎس اﻟﻘﻄﻦ املﻜﺪﱠﺳﺔ ﰲ املﺤﻠﺞ ،وﻋﺎد إﱄ ﱠ ﻗﻠﻘﻲ وﺿﻴﻘﻲ
ﺣﺒﺴﺖ ﻧﻔﴘ ﻓﻴﻪ ،وﻫﻞ أﻫ َﻮ ُن ﻣﻦ و ﱠزان ﰲ ﻣﺤﻠﺞ؟ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ُ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺮﺧﻴﺺ اﻟﺬي
اﻟﻔﻜﺮة ﺗﻌﺬﺑﻨﻲ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح واملﺴﺎء وﺗﺰداد ﺑﻲ ﻗﺴﻮة ﻛﻠﻤﺎ اﻗﱰﻧﺖ ﺑﻬﺎ ﺻﻮرة ﻣﻨﻰ.
ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ً وﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم ﻃﻠﺐ ﻣﻨﱢﻲ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ أن أﺣﻤﻞ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ
واﺛﻘﺎ أن ﻣﻨﻰ ﻻ ﺗﻜﻮن ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ »اﻟﻔﻜﺔ« ،وﻛﺎن اﻟﻮﻗﺖ ﻇﻬ ًﺮا واﻟﺠﻮ ﻣﻄريًا ،ﻓﻜﻨﺖ ً
ﰲ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ،وﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﺈﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﺳﻌﻴﺪًا ﺑﺄن أذﻫﺐ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ وﻟﻮ ﻟﻢ أرﻫﺎ ،ودﻗﻘﺖ اﻟﺠﺮس
ﻋﻨﺪ ﺑﺎب املﻨﺰل اﻟﺪاﺧﲇ ،ﻷدﻋﻮ اﻟﺨﺎدم ،واﻧﻔﺘﺢ اﻟﺒﺎب ،وﻇﻬﺮت أﻣﺎﻣﻲ ﻣﻨﻰ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،وﻛﺎن
وﺟﻬُ ﻬﺎ ﻳُﴤء ﺑﺎﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻫﺎدﺋﺔ ،وﻋﻴﻨﺎﻫﺎ ﺗُﺸﻌﱠ ﺎن ﺑﺎﻟﻨﻮر اﻟﺼﺎﰲ اﻟﺬي أﻋﺮﻓﻪ ،وﺻﺎﺣﺖ ﺻﻴﺤﺔ
ﺧﺎﻓﺘﺔ :ﺳﻴﺪ!
ﻓﻤﺪدت ﻛﻠﺘﺎ ﻳﺪيﱠ ﻧﺤﻮﻫﺎ ً
ﻗﺎﺋﻼ: ُ ُﺴﻌﻔﻨﻲ اﻟﻨﻄﻖ ﻷن دﻗﺎت ﻗﻠﺒﻲ ﻋﻮﱠﻗﺖ ﻟﺴﺎﻧﻲ،وﻟﻢ ﻳ ْ
ﻣَ ﻔﺎﺟﺄة ﺳﻌﻴﺪة.
ﺛﻢ أُرﺗﺞ ﻋﲇ ﱠ ﻓﻠﻢ أﺟﺪ ﻛﻠﻤﺔ أﺧﺮى ،ﻓﺄﺧﺮﺟﺖ ﻇﺮف اﻟﻨﻘﻮد ﻣﻦ ﺟﻴﺒﻲ وﻗﺪﻣﺘﻪ إﻟﻴﻬﺎ.
ﺣﻘﺎ ﻣﻔﺎﺟﺄة ﺳﻌﻴﺪة ،ﻫﺬا إﺳﻌﺎف أﺷﻜﺮك ﻓﻘﺎﻟﺖ ﺿﺎﺣﻜﺔ وﻫﻲ ﺗﺄﺧﺬ اﻟﻈﺮف :ﻫﻲ ٍّ
ُ
وﻛﻨﺖ أﺳﺄل ﻋﻠﻴﻪ ﻷﻧﻲ ﻣﻔﻠﺴﺔ ،واﻟﻴﻮم ﻋﻴﺪ ﻣﻴﻼدي ،وﻋﻨﺪي وﻟﻴﻤﺔ ﻟﺒﻌﺾ ﺻﺎﺣﺒﺎﺗﻲ …
ﻧﻔﴘ ﻣﻦ ذا ﻳﺸﱰي ﱄ ﻓﺎﻛﻬﺔ ﻣﻤﺘﺎزة ،ﻓﻬﻞ ﺗﺤﺴﻦ اﻻﺧﺘﻴﺎر ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﺳﻌﻴﺪًا :ﻟﻴﺲ أﺧﱪ ﻣﻨﱢﻲ ﺑﺄﺻﻨﺎف اﻟﻔﻮاﻛﻪ ﻳﺎ ﻣﻨﻰ ،وﻛﺎﻧﺖ دﻗﺎت ﻗﻠﺒﻲ ﻗﺪ ﻫﺪأت
ﻗﺎﺋﻼ :وأرﺟﻮ أن ﺗﻘﺒﻠﻴﻬﺎ ﻫﺪﻳﺔ ﻣﻨﱢﻲ ﻟﻌﻴﺪ ﻣﻴﻼدك.واﺳﺘﻄﻌﺖ أن أﺳﺘﻤﺮ ً
ُ ً
ﻗﻠﻴﻼ،
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ ﺑﺴﺎﻃﺔ :أﺷﻜﺮك .ﻟﺴﻨﺎ ﻋﺪدًا ﻛﺒريًا .أﻗﺔ واﺣﺪة ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺎح وأﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﻜﻤﺜﺮى،
وﺑﻌﺾ وﺣﺪات ﻣﻦ اﻟﱪﺗﻘﺎل .دﻋﻨﻲ أذﻫﺐ ﻷُدرك اﻟﻜﻌﻜﻌﺔ ﻗﺒﻞ أن ﺗﺸﻴﻂ.
وأﺣﻨﺖ رأﺳﻬﺎ ﺑﺎﺳﻤﺔ ﺛﻢ اﻧﴫﻓﺖ ﻣﴪﻋﺔ ،وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﻤﺎء ﻣﻔﺘﻮﺣﺔ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻻﻧﻄﻠﻘﺖ
وﴎت ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ واﻟﻬﻮاء اﻟﺒﺎرد ﻳُﺮﺣﱢ ﺐ ﺑﻲ وﻧﻮر اﻟﺴﻤﺎءُ إﻟﻴﻬﺎ ﻷن اﻷرض ﻛﺎﻧﺖ ﻻ ﺗﺴﻌﻨﻲ،
ً
اﻟﺨﺎﻓﺖ ﻳﺒﺘﺴﻢ ﱄ واﻟﺮذاذ املﺘﺴﺎﻗﻂ ﻳﺮف ﻋﲆ وﺟﻬﻲ رﻓﻴﻘﺎ واﻟﻜﻮن ﻛﻠﻪ ﻳُﻐﻨﻲ ،وﻛﺎن املﻄﺮ
وﻣﻠﺖ ﻋﲆ دﻛﺎن ﻓﺎﻛﻬﻲ ُ ﻳَﺘﺰاﻳﺪ وأﻧﺎ ﺳﺎﺋﺮ ﺣﺘﻰ ﺻﺎر ﻳَﻬﻄﻞ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺻﻠﺖ إﱃ اﻟﺴﻮق،
ﻓﺎﺧﱰت أﺣﺴﻦ ﻣﺎ ﻋﻨﺪه وﺑﻌﺜﺖ ﺑﻪ اﻟﺼﺒﻲ إﱃ ﺑﻴﺖ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺑﻌﺪ أن ﻧﻔﺤﺘُﻪ ﺑﻘﻄﻌﺔ ﻣﻦ
اﻟﻘﺮﺷني ،وﻃﻠﺒﺖ ﻣﻨﻪ أن ﻳﻌﻮد إﱄ ﱠ ﰲ اﻟﻘﻬﻮة املﺠﺎورة ﺑﻌﺪ أن ﻳﻮﺻﻞ اﻟﻔﺎﻛﻬﺔ إﱃ َ ذوات
اﻟﺒﻴﺖ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻘﻬﻮة ﻣﻜﺎﻧًﺎ ﻣﺨﺘﺎ ًرا ﻟﻜﺜري ﻣﻦ زﻣﻼﺋﻲ ﰲ املﺤﺎﻟﺞ ،ورأﻳﺖ ﺟﻤﻌً ﺎ ﻣﻨﻬﻢ
ً
ﺧﺎﻧﻘﺎ وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻀﺤﻜﻮن ﺑﺄﺻﻮات ﻋﺎﻟﻴﺔ ﺣﻮل اﺛﻨني ﻣﻨﻬﻢ ﻳﻠﻌﺒﺎن اﻟﻨﺮد ،وﻛﺎن ﺟﻮ اﻟﻘﻬﻮة
34
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
ﻓﺨﻠﻌﺖ ﺳﱰﺗﻲ وﻧﺼﺒﺘﻬﺎ ﻋﲆ ﻛﺮﳼ ﻟﺘﺠﻒ ﻣﻦ أﺛﺮ املﻄﺮ ،ﺛﻢ ﺟﻠﺴﺖ وﺣﺪي ُ ﻛﺎن داﻓﺌًﺎ
وﻃﻠﺒﺖ ﻓﻨﺠﺎﻧًﺎ ﻣﻦ اﻟﺸﺎي ﻷﺳﺘﺪﻓﺊ ،وﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻋﺎد ﺻﺒﻲ ُ ﻋﲆ ﻣﻨﻀﺪة ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ اﻟﺰﺣﺎم،
اﻟﻔﺎﻛﻬﻲ وأﻋﻄﺎﻧﻲ ورﻗﺔ ﺻﻐرية ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ» :أﻟﻒ ﺷﻜﺮ «.وﺗﺤﺘﻬﺎ اﻻﺳﻢ
اﻟﺼﺒﻲ ﻗﻄﻌﺔ أﺧﺮىﱠ ُ
وأﻋﻄﻴﺖ اﻟﻌﺰﻳﺰ »ﻣﻨﻰ« ،وﻗﺮأت اﻟﻮرﻗﺔ ﻣﺮا ًرا ﺛﻢ دﺳﺴﺘُﻬﺎ ﰲ ﺟﻴﺒﻲ
ﻃﺮﻃﻮره ﻣُﺴﻠﻤً ﺎ وﺟﺮى
ِ ﻣﻦ ذوات اﻟﻘﺮﺷني ،ﻓﻔﺮح ﺑﻬﺎ واﺑﺘﺴﻢ ﺑﺴﻤﺔ ﻋﺮﻳﻀﺔ ورﻓﻊ ﻳﺪه إﱃ
ً
ﻧﻈﻴﻔﺎ واﺿﺤً ﺎ ﺧﺎرﺟً ﺎ ،ﻓﺄﺧﺮﺟﺖ اﻟﻮرﻗﺔ ﻣﻦ ﺟﻴﺒﻲ وﺟﻌﻠﺖ أﻧﻈﺮ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻛﺎن ﺧﻄﻬﺎ ً
أﻧﻴﻘﺎ
ﴏﻳﺤً ﺎ أو ﻫﻜﺬا ﺗﺼﻮرﺗﻪ وأﻧﺎ أرى ﻓﻴﻪ ﺻﻮرة ﻣﻨﻰ ﻛﺄﻧﻬﺎ زﻧﺒﻘﺔ ،وأﺧﺬت أﴍب ﻣﻦ اﻟﺸﺎي
ً
ﻣﺴﺘﻐﺮﻗﺎ ﰲ ﺗﺄﻣﱡ ﻠِﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﻨﺒﻬﺖ ﻋﲆ ﺣﺮﻛﺔ ﰲ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺴﺎﺧﻦ وأﻧﺎ أُردﱢد ﺑﴫي ﰲ اﻟﻮرﻗﺔ
اﻷﺧﺮى ﻣﻦ املﻨﻀﺪة ،ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ ﰲ ﻏري اﻫﺘﻤﺎم ﻷرى أﻣﺎﻣﻲ وﺟﻪ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﺑﺎﺳﻤً ﺎ ﺑﺴﻤﺘَﻪ
دس اﻟﻮرﻗﺔ ﰲ ﺟﻴﺒﻲ وﻋﺪت أﴍب ﻣﻦ اﻟﺸﺎي ﰲ ُ
وأﴎﻋﺖ إﱃ ﱢ اﻟﻜﺎﻟﺤﺔ ،ﻓﺎﻧﻘﺒﺾ ﺻﺪري
وﻛﻨﺖ ﻟﻢ أﺟﺘﻤﻊ ﺑﻪ ﻣﻨﺬ ﻟﻴﻠﺔ رﻣﻀﺎن اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ ،ﻓﺨﻄﺮ ﱄ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﻗﻌﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ ُ ﺻﻤﺖ،
أن أﴎع ﰲ ﴍب اﻟﺸﺎي ﺛﻢ أﻧﴫف إﱃ ﻣﻨﺰﱄ ﻷﺗﻐﺪى ﺛﻢ أﻋﻮد إﱃ املﺤﻠﺞ.
وﻟﻜﻨﻪ ﴍع ﻳﺤﺪﺛﻨﻲ ﻓﻘﺎل :أأﻧﺖ ﻏﺎﺿﺐ ﻣﻨﻲ؟
ﻓﻠﻢ أُﺟﺒْﻪ ،وأﺧﺬت أرﺷﻒ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺸﺎي ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺨﺠﻞ وﻋﺎد ﻳﺤﺪﺛﻨﻲ ﻣﺨﻠ ً
ﻄﺎ ﺑﺄﻗﻮال
ﺷﺘﻰ ﺗﺎﻓﻬﺔ ﻻ ﺗﻌﻨﻴﻨﻲ ،وﻣﻦ اﻟﻌﺠﻴﺐ أﻧﻨﻲ ﺑﺪأت أﺳﺘﻤﻊ إﱃ أﻗﻮاﻟﻪ ﺑﴚء ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺮﴇ أو
اﻻرﺗﻴﺎح إﱃ اﺳﺘﻄﺮاده ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻮع إﱃ آﺧﺮ ،وأﻋﺠﺐ ﻣﻦ ذﻟﻚ أﻧﻨﻲ ﺑﺪأت أرد ﻋﻠﻴﻪ وأﺑﺎدﻟﻪ
اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﻌﺪ دﻗﺎﺋﻖ ،وﻛﺎن ﻣﻨﻈﺮ وﺟﻬﻪ اﻟﻐﻠﻴﻆ اﻷزرق ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﻔﺮ ﺻﻐرية ﻳﺸﺒﻪ ﰲ
ﺒﺢ ﺗﻔﺎﺻﻴﻠﻪ ﻳﺴﺘﻬﻮي اﻟﺒﴫ ﻋﻴﻨﻲ ﻗﻄﻌﺔ ﻋﺠﻴﺒﺔ ﻣﻦ ﺻﻨﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﺧﻴﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻪ ﻣﻦ ُﻗ ِ
ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﻪ ،وﻣﺎ زال ﻳﺴﺘﺪرﺟﻨﻲ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺣﺘﻰ ﺳﺄﻟﻨﻲ :أﺗﻌﺮف ﻣﺤﻤﻮد ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ
ﺧﻠﻒ؟
ً
وﻛﺎن ﺳﺆاﻻ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻻ ﻣﻮﺿﻊ ﻟﻪ وﻟﻜﻦ ﻏﺮاﺑﺘﻪ ﺟﻌﻠﺘﻨﻲ أﺗﻄﻠﻊ ملﺎ ﺑﻌﺪه.
ً
ﺳﺨﻴﻔﺎ ﻣﻐﺮو ًرا ﻗﺎﺋﻼ» :ﻛﺎن ﺗﻠﻤﻴﺬًا ﻣﻌﻲ ﰲ املﺪرﺳﺔ «.وﻛﺎن ﻣﺤﻤﻮد ﻫﺬا ﺻﺒﻴٍّﺎ
ﻓﺄﺟﺒﺘﻪ ً
ﻏﺒﻴٍّﺎ ،ﺗﻌﻮﱠد أن ﻳﺮﺷﻮ ﺟرياﻧﻪ ﻟﻴُﻤﻠﻮا ﻋﻠﻴﻪ اﻹﺟﺎﺑﺔ ،وﻛﺎن ﻛﻠﻤﺎ ﻗﺎﺑﻠﻨﺎ ﻓﺘﺢ ﻟﻨﺎ ﻛﻔﻴﻪ ً
ﻗﺎﺋﻼ:
»اﻧﻈﺮوا إﱃ ﻫﺬا اﻟﻮﺳﺦ اﻟﺬي ﰲ ﻳﺪي ،إﻧﻪ ﺻﺪأ اﻟﺬﻫﺐ اﻟﺬي ﰲ ﺧﺰاﻧﺔ أﺑﻲ «.ﻓﻜﻨﺎ ﻛﻠﻤﺎ ﻟﻘﻴﻨﺎه
ﻛﻔﻴﻚ ﻳﺎ ﻣﺤﻤﻮد «.ﻓﻴﻔﺘﺤﻬﻤﺎ وﻳُﻌﻴﺪ ﻛﻠﻤﺘﻪ املﻌﺮوﻓﺔ ،وﻛﻨﺎ ﻧﻀﺤﻚ ﻣﻨﻪ ﺑﺪأﻧﺎه ﻗﺎﺋﻠني» :أرﻧﺎ ﱠ
ﻛﺜريًا وﻫﻮ ﻣﻐﺘﺒﻂ ﺑﻀﺤﻜﻨﺎ ،وﻛﺎن ﺛﺮﺛﺎ ًرا ﻛﺜري اﻻدﻋﺎء ﻳﻔﺎﺧﺮﻧﺎ داﺋﻤً ﺎ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﺄﺧﺬ ﻛﻞ ﻳﻮم
وﻛﻨﺖ أﺗﻤﺜﱠﻞ ﺻﻮرﺗﻪ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل ﻣﺼﻄﻔﻰ :ﺣﻈﻮظ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ُ ً
دروﺳﺎ ﺧﺎﺻﺔ ﰲ ﻣﻨﺰﻟﻪ،
أﻓﻨﺪي .اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺣﻈﻮظ.
35
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
36
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
ﻓﻘﺎل :أﻧﺖ ﺗﴘء اﻟﻈﻦ ﺑﻲ داﺋﻤً ﺎ ،أﻧﺎ أﺗﻤﻨﱠﻰ ﻟﻚ ﺧﺪﻣﺔ وأﻧﺖ ﻻ ﺗﺜﻖ ﰲ ﱠ أﺑﺪًا ،وﻟﻮ ﻛﺎن
ﻛﻨﺖ أﻫﺘ ﱡﻢ أﺑﺪًا وﻟﻜﻨﻚ ﻻ ﺗﺼﺪق .اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻳﻘﺪرك ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي وﻟﻮ ﻏريك ﻣﺎ ُ
ﻛﺎن ﻏريك ﻗﺎل ﻛﻠﻤﺔ واﺣﺪة ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻚ ﰲ ﻟﻴﻠﺔ رﻣﻀﺎن … ﻛﺎن ﻃﺎر ﰲ ﺳﺎﻋﺘﻬﺎ ،ﻫﻮ ﻳُﺤﺒﻚ
أﻳﻀﺎ ﺑﻐري ﺷ ﱟﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي. ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ وﻳﺜﻖ ﻓﻴﻚ وﻫﻮ ﻋﲆ ﺣﻖ ،وﻫﻲ ً
وﻋﺠﺒﺖ ﻛﻴﻒ ﺳﺎﻗﻨﻲ ﻫﺬا اﻟﺨﺒﻴﺚ إﱃ ﻫﺬا املﺪى ﰲ ُ وﺷﻌﺮت ﻛﺄن ﺣﺠ ًﺮا ﺻﺪﻣﻨﻲ
اﻧﻜﻤﺸﺖ ﺣﺘﻰ أﺧﺘﻔﻲ ﻣﻦ وﺟﻬﻪ اﻟﺴﻤﺞ أو أن أﻗﻮم ﻣﴪﻋً ﺎ ُ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﺗﻤﻨﻴﺖ ﻟﻮ أﻧﻨﻲ
ﺟﺎﻟﺴﺎ ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺴﻤﺎع ﻛﻞ ﻣﺎ ﻋﻨﺪه ،ﻛﺄن ﺷﻴﺌًﺎ ﻳُﻤﺴﻜﻨﻲ ً وأﺗﺮﻛﻪ وراﺋﻲ وﻟﻜﻨﻲ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﺑﻘﻴﺖ
ﺑﺮﻏﻤﻲ ،وﻟﺴﺖ أدري ﻣﺎ اﻟﺬي ﺳﻞ ﻣﻨﻲ اﻹرادة وﻋﻘﺪ ﻟﺴﺎﻧﻲ ﻓﻠﻢ أﺗﺤﺮك وﻟﻢ أﺗﻜﻠﻢ ﺑﻞ ﻧﻈﺮت
ﻗﺎﺋﻼ :ﻗﻠﺖ ﻟﻚ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺣﻈﻮظ. إﱃ وﺟﻬﻪ اﻟﻐﻠﻴﻆ ﺟﺎﻣﺪًا ﻛﺄﻧﻲ ﰲ ﻛﺎﺑﻮس ﺛﻘﻴﻞ ،وأﻋﺎد ﻛﻠﻤﺘﻪ ً
دﻋﻨﺎ ﻧﺤﻦ ﰲ ﺑﺆﺳﻨﺎ.
ﻈﺎ ﻗﺎﺋﻼ :اﺳﻤﻊ أﻳﻬﺎ اﻟﻮﻏﺪ ،أﻋﺮف أﻧﻚ ﻻ ﺗﺮﻳﺪ إﻻ أن ﺗﻤﻸ ﻗﻠﺒﻲ ﻏﻴ ً ووﺟﺪت ﻧﻔﴘ أﻧﺪﻓﻊ ً
ﻏﻼ وﺣﻘﺪًا ،اﻋﻠﻢ أﻧﻲ ﻻ أﻫﺘﻢ ﺑﴚء ﻣﻤﺎ ﺗﻘﻮل وﻻ ﺑﻬﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وأﺣﺐﱡ أن أﻣﻸ ﻗﻠﺒﻚ اﻷﺳﻮد ٍّ
أﻋﺒﺄ ﺑﻤﺤﻤﻮد وﻻ ﺑﻐري ﻣﺤﻤﻮد ،وأﺷﻌﺮ ﺑﺄﻧﻲ ﻻ أﻗ ﱡﻞ ﻋﻦ أﺣﺪ وﻻ ﻳُﻬﻤﻨﻲ ﻣﺎ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺪﻧﻴﺎ
ﺤﴩﻧﻲ ﻣﻌﻚ .ﻫﻞ ﺗﻈﻦ أﻧﻲ أﻗﻞ ﻣﻦ أﺣﺪ؟ ﺣﻈﻮظ .ﻗﻞ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻚ ﻣﺎ ﺗﺸﺎء وﻟﻜﻦ ﻻ ﺗَ ُ
ﻛﻨﺖ أرﻳﺪ … وﺗﺮد ُ
ﱠدت ﻓﻠﻢ أﻧﻄﻖ ﺑﻤﺎ ﻛﻨﺖ أرﻳﺪ. ﻣﺎ ﻣﻌﻨﻰ ﺣﻈﻮظ وﻏري ﺣﻈﻮظ؟ ﻟﻮ ُ
ﻓﻘﺎل ﻣﺼﻄﻔﻰ :اﻟﺤﻖ ﻋﲇ ﱠ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي .ﻫﺬا ﺟﺰاء املﻮدة واﻹﺧﻼص اﻟﺤﻖ ﻋﲇ
ﻳﺎ ﺳﻴﺪي واﻟﻨﺎﺻﺢ داﺋﻤً ﺎ ﻣﻜﺮوه.
ﻓﻘﻠﺖ :ﻣﺎ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻚ ﺗﺘﻜ ﱠﻠﻢ ﻋﻦ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ؟ وملﺎذا ﺗﻘﻮل ﱄ إن اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺣﻈﻮظ وإﻧﻨﺎ
ﺑﺎﺋﺴﺎ أﻧﺖ إذا ﺷﺌﺖ وﻟﻜﻨﻲ ﻻ أرى أﻧﻲ أﻗﻞ ﻣﻦ أﺣﺪ ،وﻫﻞ ﻳﺒﻌﺪ أن أﺻري ﻏﻨﻴٍّﺎ ﺑﺆﺳﺎء ،ﻛﻦ ً
أﻧﺎ اﻵﺧﺮ؟ ملﺎذا ﻻ أﻛﻮن ﻏﻨﻴٍّﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻧﻔﺴﻪ.
ﻓﻀﺤﻚ ﺿﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ وﻗﺎل ﰲ وﻗﺎﺣﺔ :ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،ﻻ ﻣﺎﻧﻊ أﺑﺪًا ،ﺗﺸﺠﻊ
وأﴎع ﻗﺒﻞ ﻓﻮات اﻟﻮﻗﺖ.
ﻟﻔﺖ أﻧﻈﺎر ﻣﻦ ﰲ اﻟﻘﻬﻮة وﻣﻦ ﺗﻨﺎﻗﻞ اﻷﺣﺎدﻳﺚ اﻟﻜﺎذﺑﺔ وإﺛﺎرة وﻟﻮﻻ أﻧﻲ ﺧﺸﻴﺖ ﻣﻦ ِ
ﻟﻘﻤﺖ إﱃ ذﻟﻚ اﻟﻮﻏﺪ وأﻓﺮﻏﺖ ﻓﻴﻪ ﻏﻴﻈﻲ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻻ ﻳﻨﺴﺎﻫﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ُ ﻗﺼﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ،
ﺑﻠﻌﺖ ﺷﺘﺎﺋﻤﻲ وﻛﺘﻤﺖ ﺣﻨﻘﻲ وﻗﻤﺖ ﻣﻦ ﻣﺠﻠﴘ ﻣﴪﻋً ﺎ ﻓﻠﺒﺴﺖ ﺳﱰﺗﻲ وﺧﺮﺟﺖ ﺑﻐري أن
أﺣﺲ ﺑﺮدًا وﻻ أﺑﺎﱄ املﻄﺮ وﻻ ﻓﴪت ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻻ ﱡ ُ أﻧﻈﺮ إﻟﻴﻪ ،وﻛﺎن املﻄﺮ ﻣﺎ ﻳﺰال ﻳﻘﻄﺮ
»أﺣﻘﺎ ﺧﻄﺒﻬﺎ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ؟ وﻫﻞ ﻳﺮﴇ أﺑﻮﻫﺎ؟ ٍّ اﻟﻮﺣﻞ وﰲ ﻋﻘﲇ ﺳﺆال واﺣﺪ ﻣﺘﺸﻌﺐ وﻫﻮ:
ﻫﻞ ﺗﺮﴇ ﻫﻲ؟ أﻫﻲ ﺟﺎرﻳﺔ ﺗﺒﺎع ﻣﻦ أﺟﻞ ﺛﺮوة اﻟﺒﺎﺷﺎ؟«
37
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وملﺎ ﴏت ﰲ ﻏﺮﻓﺘﻲ أﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﺟﻴﺒﻲ ﻗﺼﺎﺻﺔ اﻟﻮرق اﻟﺘﻲ ﺑﻌﺜﺘﻬﺎ ﻣﻨﻰ ،وأﺧﺬت
ﻣﱰﻓﻘﺎ ﰲ ﻇﺮف وﺟﻌﻠﺘﻬﺎ ﰲ ً أﻗﺮؤﻫﺎ وأﻋﻴﺪ ﻗﺮاءﺗﻬﺎ وأﻧﺎ ﺣﺰﻳﻦ ﺑﺎﺋﺲ ،ﺛﻢ ﻗﺒﻠﺘﻬﺎ ووﺿﻌﺘﻬﺎ
ﻣﺼﺤﻒ ﺻﻐري أﺿﻌﻪ ﰲ درج ﻣﻜﺘﺒﻲ.
ً
ﻓﻜﺬﺑﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻗﺎﺋﻼ إﻧﻲ أﻛﻠﺖ ،وﻗﻤﺖ إﱃ ﴎﻳﺮي ﻓﺎﺳﺘﻠﻘﻴﺖ ُ وﺟﺎءت أﻣﻲ ﺗﺪﻋﻮﻧﻲ ﻟﻠﻐﺪاء
ﻣﺘﻌﺒًﺎ ﻣﻀﻄﺮﺑًﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺑني اﻟﻨﻮم واﻟﻴﻘﻈﺔ ﺗﺸﺒﻪ اﻟﺬﻫﻮل أو اﻟﺪوار ،وأﺧﺬت اﻟ ﱡﺮؤى ﺗﺘﻮاﱃ
ﻋﲇ ﱠ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺣﻘﺎﺋﻖ ،ﻓﺮأﻳﺖ ﻛﺄﻧﻲ أﻋﻮم ﰲ ﺑﺤﺮ ﺻﺎف أﺷﻖ ﻣﺎءه ﰲ رﻓﻖ وﻫﺪوء ،ﺛﻢ ﻛﺎن
اﻟﺒﺤﺮ ﻳﺘﺤﻮل ﻓﺠﺄة إﱃ ﻫﻮاء أﺳﺒﺢ ﻓﻴﻪ ﻣﺜﻞ اﻟﻄري وﻳﻤﻠﺆﻧﻲ ﺷﻌﻮر ﺑﺎﻻﺳﺘﻌﻼء وأﻧﺎ أﴍف
ﻋﲆ اﻷودﻳﺔ واﻟﺠﺒﺎل ﰲ اﻃﻤﺌﻨﺎن ﺛﻢ ﺗﻬﺐ ﻋﺎﺻﻔﺔ ﻓﺄﺟﺪ ﻧﻔﴘ أﺟﺎﻫﺪ ﰲ ﻣﻮج ﻋﺎل ﻟﻪ رءوس
ﺑﻴﺾ ﺗﺸﺒﻪ أﻛﻮام اﻟﻘﻄﻦ وﺗﻌﻠﻮ ﰲ أﻧﻔﻲ راﺋﺤﺔ ﻋﻄﻨﺔ ﺗﺸﺒﻪ اﻟﺮواﺋﺢ اﻟﺘﻲ أﻋﺮﻓﻬﺎ ﰲ ﺣﺎرات
دﻣﻨﻬﻮر ﺑﻌﺪ ﻧﺰول املﻄﺮ ،ﻓﺄﻛﺎد أَﺧﺘﻨﻖ وأﻗﻮم ﻣﻦ ﻏﻔﻮﺗﻲ ﻻﻫﺜًﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻻ أﻟﺒﺚ أن أرى
واﺳﻊ ﰲ آﺧﺮه ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻣُﺰدﻫِ ﺮة أرﻳﺪ أن أذﻫﺐ إﻟﻴﻬﺎ ﻓﺈذا ﻟﺼﻮص ﻳﺨﺮﺟﻮن ﻛﺄﻧﻲ ﰲ ﺑﺮاح ِ
ﻋﲇ ﱠ وﻳﻬﺎﺟﻤﻮﻧﻨﻲ وﻳﺘﻘﺪم ﻣﻨﻲ أﺣﺪﻫﻢ ﺑﻮﺟﻪ ﻏﻠﻴﻆ ﻳُﺮﻳﺪ أن ﻳﻄﻌﻨﻨﻲ ﺑﺨﻨﺠﺮه ،وﻳﺤﺎول
أن ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻨﱢﻲ اﻟﻮرﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻌﺜﺘﻬﺎ ﻣﻨﻰ ،ﻓﺄﻫﺠﻢ ﻋﻠﻴﻪ وأﻧﺰع ﻣﻨﻪ اﻟﺨﻨﺠﺮ وأرﻓﻌﻪ ﻷﴐﺑﻪ
ﻓﻴﺼﻴﺢ ﺻﻴﺤﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﺑﺼﻮت ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻓﺄﻗﻮم ﻣُﻨﺰﻋﺠً ﺎ ،ﺛﻢ أﻋﻮد ﻣﺮة أﺧﺮى ﻓﺘﺒﺪو
ﱄ ﻣﻨﻰ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﻓﺄﴎع ﻧﺤﻮﻫﺎ ﻷﻋﺘﺬر إﻟﻴﻬﺎ وﻻ أدري ملﺎذا أﻋﺘﺬر ،ﻓﺄﻗﻒ أﻣﺎﻣﻬﺎ ﺻﺎﻣﺘًﺎ
ً
ﻣﻐﻠﻘﺎ ﻓﺎرﺗ ﱠﺪ أﻣ ﱡﺪ إﻟﻴﻬﺎ ﻳﺪي ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺨﺘﻔﻲ ﻓﺄﴍد وراءﻫﺎ ﰲ اﺗﺠﺎﻫﺎت ﺷﺘﻰ ﺣﺘﻰ أرى ﺑﺎﺑًﺎ
ﺣﺎﻧﻘﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ أﺟﺪ اﻷرض زﻟﻘﺔ ﻓﺄﺣﺎول أن أﻗﻔﺰ ﻣﻨﻬﺎ إﱃ ﺳﻄﺢ رﺧﺎﻣﻲ أﺳﻔﻞ ﻣﻨﱢﻲ ً ﻋﻨﻪ
ﺑﻨﺤﻮ ﻣﱰَﻳﻦ ﻓﺄرى ﻛﻼﺑًﺎ ﻏﺮﻳﺒﺔ اﻟﺸﻜﻞ ﻣﺨﻴﻔﺔ ﺗﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮي ﻣُﻬﺪﱢدة ﻓﺄﺳﺘﻴﻘﻆ وﻗﻠﺒﻲ ﻳﺨﻔﻖ
ﺧﻔﻘﺎﻧًﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ،وﻛﺎن املﺴﺎء ﻗﺪ ﺑﺪأ ﻳﻬﺒﻂ ﺑﻈﻼﻣﻪ ﻓﻮﺛﺒﺖ ﻣﻦ ﴎﻳﺮي ﻷوﻗﺪ املﺼﺒﺎح وﺳﻤﻌﺖ
ﺻﻮت أﻣﻲ ﺗﻨﺎدﻳﻨﻲ :أﺻﺤﻮت ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟
وﻓﺘﺤﺖ اﻟﺒﺎب ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻗﻢ ﻟﺘَﺬُوق اﻟﻜﻌﻜﺔ اﻟﺘﻲ أرﺳﻠﺘْﻬﺎ ﻣﻨﻰ .ﻳﺎ رب ﻳﺎ اﺑﻨﻲ أﻋﻴﺶ ﺣﺘﻰِ
ﻋﺮوﺳﺎ ﻣﺜﻠﻬﺎ ،ﻗﻢ ﻣﻌﻲ ﻓﻘﺪ ﺟﻬﺰت اﻟﺸﺎي ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﱪد. ً أرى ﻟﻚ
ﻓﻘﻤﺖ آﺧﺬًا ﺑﺬراﻋﻬﺎ وﻛﻨﺖ ﺳﻌﻴﺪًا ﻷﻗﻮم ﻣﻦ ﻏﻔﻮﺗﻲ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺒﴩى ،ﻫﺪﻳﺔ ﻣﻨﻰ؟
وﻗﻠﺖ ﻷﻣﻲ :أﻧﺖ أﺟﻤﻞ اﻷﻣﻬﺎت ﺟﻤﻴﻌً ﺎ.
واﻧﺤﻨﻴﺖ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ ،وأﴍت إﻟﻴﻬﺎ إﺷﺎرة ﻣﺘﺄﻧﱢﻘﺔ ﻟﺘﺠﻠﺲ ﰲ ﺻﺪر املﺎﺋﺪة ،ﻓﺠﻠﺴﺖ
ﺗﻀﺤﻚ ﺿﺤﻜﺘﻬﺎ اﻟﻄﻴﺒﺔ وﺟﺴﻤﻬﺎ ﻳﺮﺗﺞﱡ وأﺧﺬت ﺗﺪﻋﻮ ﱄ.
وﻗﻠﺖ :أﻳﻦ ﻣﻨرية؟
ﻧﺴﻴﺖ أن أﻗﻮل ﻟﻚ .ذﻫﺒﺖ ﻣﻊ ﻣﻨﻰ. ُ ﻓﻘﺎﻟﺖ:
38
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
39
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ٌ
ُﻨﴫف اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ اﻋﻤﻞ اﻟﺠﻤﻴﻞ وارﻣﻪ ﰲ اﻟﺒﺤﺮ .ﻋﲆ ﻓﻜﺮة .ملﺎذا ﻟﻢ ﺗَ ُﻘﻞ ﱄ اﻟﺴﻼم ﻋﻠﻴﻜﻢ وأﻧﺖ ﻣ
ﺑﺎﻷﻣﺲ.
ﻓﺎﺣﺼﺎ وﻟﻢ أﻧﻄﻖ ﺑﺤﺮف واﺳﺘﻤﺮ ﻫﻮ ﻳﻘﻮل: ً وﺿﻴﻘﺖ ﻋﻴﻨﻲ وأﻧﺎ أﻧﻈﺮ إﱃ وﺟﻬﻪ
ً
ﺟﺎﻫﻼ«. اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ﻋﲆ رأي اﻟﺸﺎﻋﺮ» :ﺗﻈﻬﺮ ﻟﻚ اﻷﻳﺎم ﻣﺎ ﻛﻨﺖ
أوﻻ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻧﺼﻴﺤﺘﻚ ﻳﺎ ﻣﺼﻄﻔﻰ. أﻳﻀﺎ؟ ﻗﻞ ﱄ ً ﻗﺎﺋﻼ :وﺗﺤﻔﻆ اﻟﺸﻌﺮ ً وﺿﺤﻜﺖ ﺑﺮﻏﻤﻲ ً
ﻓﻘﺎل :ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺮﻛﺘُﻚ ﺑﺎﻟﻠﻴﻞ ﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺘﺄﻟﻢ ﻣﻦ أﺟﻠﻚ ،وإن ﻛﻨﺖ ﺗﺮﻛﺘﻨﻲ ﺑﻐري ﺳﻼم.
ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻨﺎ ،وﻓ ﱠﻜﺮت ﻃﻮل اﻟﻠﻴﻞ ﰲ ﺷﺄﻧﻚ واﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻤﻜِﻦ ﺑﻬﺎ أن أﺧﺪﻣﻚ وأزﻳﻞ ﻣﺎ ﻋﻨﺪك
ﺟﺌﺖ اﻟﻴﻮم ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻛﺎن ﻛﻞ ذِ ﻫﻨﻲ ﻳُﻔ ﱢﻜﺮ ﰲُ ﻣﻦ ﺳﻮء اﻟﻈﻦ ﺑﺼﺪﻳﻘِﻚ .اﻟﺸﺎﻫﺪ أﻧﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
ﻓﻘﻠﺖ ﺳﺎﺧ ًﺮا :ﻣﺴﺄﻟﺘﻲ؟ وﻣﺎ ﻫﻲ؟
َﺤﻤﻞ ﻛﻮﺑني ﻣﻦ اﻟﺸﺎي ،ﻓﺎﺗﱠﺠﻪ إﻟﻴﻪ ﻣﺼﻄﻔﻰ وﻃﻠﺐ ﻣﻨﻪ وﺟﺎء اﻟﺨﺎدم ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻳ ِ
ﻗﻄﻌﺘني أُﺧﺮﻳَني ﻣﻦ اﻟﺴ ﱠﻜﺮ وﻛﻮﺑًﺎ ﻣﻦ املﺎء ،ﺛﻢ أﺧﺬ ﻳُﻘ ﱢﻠﺐ اﻟﺸﺎي ﺑﺎملﻌﻠﻘﺔ ﰲ ﺑﻂء وذاق ﻣﻨﻪ
رﺷﻔﺔ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺘﻜ ﱠﻠﻢ.
ﻗﺎل :أﻧﺖ ﺗﻌﺮف أﻧﻲ اﻟﺴﺎﻋﺪ اﻷﻳﻤﻦ ﻟﻠﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل.
واﻧﺘﻈﺮ ﻟﻴَﺴﻤﻊ رأﻳﻲ ﻓﻠﻢ أﺟﺪ ﴐورة ﻟﺘﻜﺬﻳﺒﻪ.
ﻗﺎﺋﻼ :أﻧﺎ ﻫﻨﺎ ﰲ ا َملﺤﻠﺞ ﻣﻦ ﻋﴩ ﺳﻨﻮات ﻗﺒﻞ أن ﺗﺪﺧﻠﻪ أﻧﺖ ،وﻟﻮﻻ ﻣﻼﺣﻈﺘﻲ ﻓﺎﺳﺘﻤﺮ ً
وﻣﺮاﻗﺒﺘﻲ وﺧﻮف اﻟﻌﻤﺎل ﻣﻨﱢﻲ ﻛﺎن اﻟﻨﺎس أﻛﻠُﻮه وﴍﺑﻮه.
ورﺷﻒ رﺷﻔﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻣﻦ ﻛﻮب اﻟﺸﺎي ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮل» :ﴍﺑﻮه ﻫﻜﺬا«.
ﺛﻢ ﻗﺎل :واﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻳﺜﻖ ﺑﻲ ﺛﻘﺔ ﺗﺎﻣﱠ ﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻌﺮف أﻧﻪ ﻳَﻀﻴﻊ ﻟﻮ ﺗﺮك أﻋﻤﺎﻟﻪ ﻟﻐريي.
ﻫﻮ ﻳﻌﻠﻢ أﻧﻲ أﺧﺪﻣﻪ ﻣﺠﺎﻧًﺎ .ﻧﻌﻢ ﻣﺠﺎﻧًﺎ .ﺳﺘﺔ ﺟﻨﻴﻬﺎت ﰲ اﻟﺸﻬﺮ ﻻ ﺗُﺴﺎوي ﺛﻤﻦ ﻋﴩﻳﻦ
رﻃﻞ ﻗﻄﻦ ﻳﺄﺧﺬﻫﺎ أﺣﺪ اﻟﻌﻤﺎل ﰲ ﺟﻴﺒﻪ .اﻟﺸﺎﻫﺪ! اﻧﺘﻬﺰت ﻓﺮﺻﺔ ﺟﻠﻮﺳﻪ وﺣﺪه ﰲ املﻜﺘﺐ،
أﺟﺲ ﻟﻚ ﻧﺒﻀﻪ. ُ
وأﺧﺬت ﱡ
ﻓﻔﺰﻋﺖ وﻗﻠﺖ ﰲ دﻓﻌﺔ :ملﺎذا؟ ُ
أﺟﺲ ﻟﻚ ﻧﺒﻀﻪ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻓﺮﺷﻒ رﺷﻔﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺸﺎي ﺛﻢ ﻗﺎل :ﻫﻞ ﻳُﻐﻀﺒﻚ أن ﱠ
ﻣﻨﻰ؟
ﻓﻮﺛﺒﺖ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻐﻴﻆ وﻗﻠﺖ :ﻫﺬا ﻟﺆم.
ﻓﻘﺎل ﻏﺎﺿﺒًﺎ :ﻋُ ﺪﻧﺎ إﱃ اﻟﺸﺘﻢ؟ اﻟﺤﻖ ﻋﲇ ﻳﺎ ﳼ ﺳﻴﺪ وﻻ داﻋﻲ ﻟﻠﻜﻼم.
وﻫﻢ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎم.
40
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
41
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻧﻈﺮت إﻟﻴﻪ ﻧﻈﺮة ﻧﺎرﻳﺔ واﻧﴫﻓﺖ ﻣﻦ اﻟﻘﻬﻮة وﻗﻠﺒﻲ ﻳﻐﲇ ،واﺗﺠﻬﺖ إﱃ ﻣﻨﺰﱄ ﻓﻠﻢ ُ
أﻋﺪ إﱃ املﺤﻠﺞ ﺣﺘﻰ أﻧﺘﻈﺮ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺑﻐري أن أﺣ ﱢﺮك ﺳﺎﻛﻨًﺎ ،وﻗﻠﺖ ﻟﻨﻔﴘ إن أﻛﱪ ﻣﺎ أﺧﺸﺎه
أن ﻳﻄﺮدﻧﻲ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ،وملﺤﺖ ﰲ ﻗﻠﺒﻲ ﻟﻮﻧًﺎ ﻣﻦ اﻟﴪور ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻓﻜﺮت ﰲ ﻫﺬا ﻷﺗﺨ ﱠﻠﺺ ﻣﻦ
ﻋﻤﲇ ﰲ املﺤﻠﺞ ﺑﻐري أن أﻛﻮن أﻧﺎ اﻟﺒﺎدئ ﺑﺎﻟﻘﻄﻴﻌﺔ ،ﻓﻠﻤﺎذا ﻻ أﺑﺪأ ﺑﺎﻟﺘﺠﺎرة وﻗﺪ ﺗﺠﻤﱠ ﻊ ﱄ
أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﻨﺪ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﺪأ ﺑﺎﻟﺘﺠﺎرة؟ وﻗﻀﻴﺖ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم واﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻌﺪه
أﺣﺎول أن أﺷﻐﻞ ﻧﻔﴘ ﺑﴚء ﻋﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻧﻔﴘ ،ﻓﺄﺧﺬت أﻗﺮأ ﺣﻴﻨًﺎ وأﻛﺘﺐ ﺣﻴﻨًﺎ آﺧﺮ وﻟﻜﻦ
أﺷﻖ ﻃﺮﻳﻘﻲ ﰲ اﻷﺳﻮاق؟ ﻋﻨﺪ ﻓﻜﺮي ﻛﺎن داﺋﻤً ﺎ ﻳﻌﻮد إﱃ اﻟﺘﺠﺎرة .ملﺎذا ﻻ أﺑﺪأ ﻣﻦ اﻟﻐﺪ ﺑﺄن ﱠ
ذﻟﻚ ﻓﻘﻂ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺗﻘﺪم إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل وأﻗﻮل ﻟﻪ ﻣﺎ أﺷﺎء ،وﻟﻜﻦ أﻟﻢ ﻳَﺨﻄﺒﻬﺎ
ﺣﻘﺎ؟ وﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗَﺤﺪُث ﺧﻄﺒﺘﻬﺎ ﻫﻜﺬا ﺑﻐري أن ﻳﻌﺮف ﻋﻨﻬﺎ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ؟ ﻫﻞ ﺧﻄﺒﻬﺎ ٍّ
أﺣﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ﺳﻮى ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة؟ وﺟﻌﻠﺖ أﺳﺘﻌﺮض املﴩوﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن أﺑﺪأ اﻟﺘﺠﺎرة
ﻓﻴﻬﺎ .ﺟﻨﻴﻬﺎت ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﰲ ﻳﺪي ،وﻣﺎذا ﺗﻜﻔﻲ؟ ﻫﻞ أذﻫﺐ إﱃ اﻷﺳﻮاق ﻷﺷﱰيَ ﺑﻌﺾ
اﻟﻘﻄﻦ ﺑﺎﻟﺮﻃﻞ واﻟﺮﻃﻠني واﻟﻌﴩة ﺛﻢ أﺑﻴﻌﻬﺎ؟ ﻛﺎن ﻫﺬا ﻣﻤﻜﻨًﺎ ﻣﻨﺬ ﺧﻤﺴني ﺳﻨﺔ وﻛﺎن ﻛﺎﻓﻴًﺎ
ﻟﻴُﺼﺒﺢ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻏﻨﻴٍّﺎ ،وﻟﻜﻦ ملﺎذا ﻻ أﺣﺎول؟ وﻣﻦ ﻳﺪري؟
وﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﻣﻨﺰﱄ ﻫﺎﺋﻤً ﺎ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ وﻣﺎ ﺣﻮﻟﻬﺎ ﻣُﺘﻠﻔﺘًﺎ ﺣﻮﱄ إﱃ املﺘﺎﺟﺮ وإﱃ وﺟﻮه
املﺎرة .ملﺎذا ﻻ أﴐب ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺜﻞ ﻫﺆﻻء؟ ﻫﻞ ﻛﻞ ﻫﺆﻻء ﻳﻌﻤﻠﻮن ﰲ املﺤﺎﻟﺞ؟ وﻧﻤﺖ ﰲ آﺧﺮ
وﴎرت ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﻤﺖ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻫﺎدﺋًﺎ ﻧﺸﻴ ً
ﻄﺎ. ُ
ﺗﻌﺒﺖ ﻣﻦ اﻟﺴريُ ، ً
ﻋﻤﻴﻘﺎ ﺑﻌﺪ أن اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻧﻮﻣً ﺎ
وذﻫﺒﺖ إﱃ املﺤﻠﺞ ﺑﻐري ﺗﺮدﱡد ﻣﺘﻮﻗﻌً ﺎ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻗﺪ وﺟﺪ اﻟﻔﺮﺻﺔ اﻟﻜﺎﻓﻴﺔ
ﻹﺗﻤﺎم ﻣﻜﻴﺪﺗﻪ :وﻛﺎن ﻛ ﱡﻞ ﻫﻤﻲ أن أﺳﺘﻄﻠﻊ ﻣﺎ ﻳﺨﺒﺌﻪ ﱄ اﻟﻴﻮم ﻣﻦ املﻔﺎﺟﺂت.
وﻟﻜﻦ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ اﺳﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ﻛﺎﻟﻌﺎدة ﺳﻤﺤً ﺎ ﻣﻬﺬﺑًﺎ وﻗﺎل :ﻻ ﺑﺄس ﻋﻠﻴﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي؟
ﺤﴬ ﺑﺎﻷﻣﺲ ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ. ﻟﻢ ﺗَ ُ
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ :أﺷﻜﺮك ﻳﺎ ﺳﻴﺪي .ﻛﻨﺖ ﻣﺘﻮﻋﱢ ًﻜﺎ ً
ﻗﻠﻴﻼ.
وﺑﺪأت أﺣﺴﺐ أن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻛﺎن ادﻋﺎءً وﻛﺬﺑًﺎ ﻻ ﻳُﺮﻳﺪ ﺑﻪ إﻻ أن ﻳﻤﻸ
وأﻗﺒﻠﺖ ﻋﲆ ﻋﻤﲇ ﻣﻨﴩﺣً ﺎ ،وﻛﺎن اﻟﺰﺣﺎم ﺣﻮﱄ ﻋﲆ أﺷﺪه ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﺣﴬ ﺑﺎﻷﻣﺲ ُ ﻗﻠﺒﻲ ﻏﻴ ً
ﻈﺎ،
ً
رﻏﻴﻔﺎ وﻗﻄﻌﺔ ُ
ﻓﺒﻌﺜﺖ أﺷﱰي ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ ،وﻟﻢ أﺟﺪ وﻗﺘًﺎ ﻟﻠﺬﻫﺎب ﰲ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻈﻬﺮ ﻟﻠﻐﺬاء،
ﻗﻠﻴﻼ إﱃﺟﺒﻦ وأﻛﻠﺖ وأﻧﺎ أﻋﻤﻞ ،وﻟﻢ ﻳﱰﻛﻨﻲ ﻣﺼﻄﻔﻰ ،ﺑﻞ ﺟﺎء إﱄ ﱠ ﻗﺒﻞ اﻟﻐﺮوب ،ووﻗﻒ ً
ﺟﻨﺒﻲ وﻻﺣﻈﺖ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻘﺮأ اﻷرﻗﺎم اﻟﺘﻲ أﻛﺘﺒﻬﺎ وﻳﻨﻈﺮ إﱃ املﻴﺰان ،وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه أول ﻣﺮة
ً
ﺗﺠﺎﻫﻼ ﻣﻨﻲ ﻟﻪ. أراه ﻳَﻘﱰب ﻣﻨﻲ ﻫﻜﺬا ُﻟرياﻗﺐ ﻋﻤﲇ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻋﺒﺄ ﺑﻪ وﻟﻢ أوﺟﻪ إﻟﻴﻪ ﻛﻠﻤﺔ
وﻟﻢ أ َره ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺣﺘﻰ ﺳﺎﻋﺔ اﻻﻧﴫاف ﻓﺠﺎء إﱄ ﱠ وﻗﺎل ﰲ ﻣﺮح :ﺳﺄﺳﻘﻴﻚ ﺷﺎﻳًﺎ ﻋﲆ
ﺣﺴﺎﺑﻲ.
42
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
43
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
44
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
ﺗﻠﻄﻔﺎ ﻣﻤﺎ ﻛﺎن ﰲ أي ﻳﻮم آﺧﺮ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﻤﻮع اﻟﺘﻲ ﺣﻮﱄ ﺗَﺘﺰاﺣﻢ ﻋﲇ ﱠ وﺗَﺼﻴﺢ ً اﻟﻴﻮم أﻗﻞ
ﻓﻖﺑﻲ ﺗﺴﺘﻌﺠﻠﻨﻲ ،وﺗﺤﺮﻳﺖ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم ﺗﺤﺮﻳًﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﰲ أن ﻳﻜﻮن وزﻧﻲ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ،وﻟﻢ أ ُ ْ
ﻣﻦ ﻏﻤﺮة ﻋﻤﲇ إﻻ ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ ،ﻓﺄﴎﻋﺖ ﺧﺎرﺟً ﺎ ﻵﻛﻞ ﻟﻘﻤﺔ ،وﺧﻄﺮ ﱄ
أوﻻ ﻛﺎﻟﻌﺎدة ،وﻛﺎﻧﺖ دورة املﻴﺎه ﻋﲆ ﻣﻘﺮﺑﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﺎب املﺆدي إﱃ أن أﻏﺴﻞ ﻳﺪي ووﺟﻬﻲ ً
ﻄﺎ ﺑﻌﻴﺪًا ﻳﺸﺒﻪ ﺻﻮت اﻟﻌﺮاك ﰲ ﺑﻨﺎء آﻻت اﻟﺤﻼﺟﺔ ،وﻓﻴﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﺟﻔﻒ وﺟﻬﻲ ﺳﻤﻌﺖ ﻟﻐ ً
داﺧﻞ ﻋﻨﱪ اﻵﻻت ،ﻓﺬﻫﺒﺖ ﻷرى ﻣﺎ ﻫﻨﺎك ﻓﺈذا ﺟﻤﻊ ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺎل ﻳﻀﻄﺮب وﻳﻤﻮج ﰲ
ﻓﺄﴎﻋﺖ ﻷﻋﺮف اﻟﺴﺒﺐ ودﺧﻠﺖ ﺑني اﻟﻌﻤﺎل ﻛﻤﺎ ﻳﺪﺧﻞ ُ داﺧﻞ اﻟﻌﻨﱪ ﺣﻮل ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة،
اﻟﻄﻔﻞ اﻟﻐﺮﻳﺮ ﰲ املﺂزق اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻌﺮف ﺧﻄﺮﻫﺎ ،واﻗﱰﺑﺖ ﻣﻦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻷﺳﺄﻟﻪ ﻣﺎ
اﻟﺨﱪ ،وﻣﺎ ﻛﺎد ﻳَﺮاﻧﻲ ﺣﺘﻰ ﺛﺎر ﺛﻮرة ﺷﺪﻳﺪة ،وﺟﻌﻞ ﻳﺴﺐﱡ اﻟﻌﻤﺎل وﻳﴫخ ﻓﻴﻬﻢ ﻣﻬﺪدًا،
ودﻓﻊ أﺣﺪﻫﻢ ﺑﻴﺪه ﰲ ﺻﺪره ﻓﺎﺗﱠ َﻘﺪت ﺣﻤﺎﺳﺔ زﻣﻼﺋﻪ ،وﺻﺎﺣﻮا ﻫﺎﺋﺠني ،ورﻓﻊ أﺣﺪﻫﻢ ﻳﺪه
ﻓﻠﻄﻢ ﺑﻬﺎ وﺟﻪ ﻣﺼﻄﻔﻰ ،وأﺧﺬ اﻵﺧﺮون ﻳﺸﺘﻤﻮﻧﻪ وﻳﻠﻌﻨﻮﻧﻪ.
وزاد ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻫﻴﺎﺟً ﺎ وﺗﻬﺪﻳﺪًا وﻗﺎل :إﻧﻪ ﺳﻴُﺒﻠﻎ اﻷﻣﺮ إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻟﻴﺨﺮب
ﺑﻴﻮﺗﻬﻢ.
ﻓﻤﺎ ﻛﺎد اﻟﻌﻤﺎل ﻳﺴﻤﻌﻮن ذﻟﻚ ﺣﺘﻰ اﻧﺪﻓﻌﻮا ﻳﺸﺘﻤﻮﻧﻪ وﻳﺸﺘﻤﻮن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﺛﻢ
أﺧﺬوا ﻳﻠﻜﻤﻮﻧﻪ ﺑﻘﺒﻀﺎت أﻳﺪﻳﻬﻢ وﻳَﺮﻛﻠﻮﻧﻪ ﺑﺄﻗﺪاﻣﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﻛﺎد ﻳﻬﻠﻚ ﺑﻴﻨﻬﻢ ،وﻫﻮ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﻻ
ﺑﻌﻀﺎ ﻋﲆ ﺗﺪﻣري املﺤﻠﺞ ،ﻓﺼﺤﺖ ﺑﻌﻀﻬﻢ ً ﻳﻨﻘﻄﻊ ﻋﻦ اﻟﺴﺐ واﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ،وﺗﺼﺎﻳَﺤُ ﻮا ﻳُﺤ ﱢﺮض ُ
وﻣﻀﺖ ﻟﺤﻈﺔ ﻫﺪوء ﻗﺼرية َ ﻗﺎﺋﻼ» :اﺳﻤﻊ أﻧﺖ وﻫﻮ!« واﻟﺘﻔﺖ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻧﺤﻮي ﺑﺄﻋﲆ ﺻﻮﺗﻲ ً
اﻧﺘﻬﺰﺗﻬﺎ ﻟﻜﻲ أﺧﺎﻃﺒﻬﻢ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎ ﻫﺬا أﻳﻬﺎ اﻹﺧﻮان؟
ﻓﺄﺧﺬت أﺧﺎﻃﺒﻬﻢ ﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻬﻢ ﰲ ﻧﻐﻤﺔ ﻋﺘﺎب أﻟني ﻓﻴﻬﺎ ُ وﻛﺎن ﻓﻴﻬﻢ وﺟﻮه ﻛﺜرية أﻋﺮﻓﻬﺎ
ﺣﻴﻨًﺎ وأﻋﻨﻒ ﺣﻴﻨًﺎ ،وأﻗﺒﻠﻮا ﻋﲇ ﱠ ﻳَﺸ ُﻜﻮن ﱄ ﻣﺎ أﺻﺎﺑﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة.
وﺻﺎح ﻣﺼﻄﻔﻰ :أﺗﻔﺘَﺢ أذﻧﻚ ﻟﻬﺆﻻء وأﻧﺖ ﺗﺴﻤﻊ ﺷﺘﺎﺋﻤﻬﻢ.
واﻧﺪﻓﻊ ﻏﺎﺿﺒًﺎ ﻳﺸﻖ اﻟﺰﺣﺎم ﺧﺎرﺟً ﺎ وﻫﻮ ﻳُﻬﺪدﻧﻲ ﻣﻌﻬﻢ ﻓﺸﻴﻌﻪ اﻟﻌﻤﺎل ﺑﻀﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ
رﺟﻼ ﻏﺎﺋﺒًﺎﺳﺎﺧﺮة ﻣﻦ أﻟﻔﺎظ اﻟﺴﺒﺎب املﻘﺬع ،ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻬﻢ :أﻳﻠﻴﻖ ﺑﻜﻢ أﻳﻬﺎ اﻹﺧﻮان أن ﺗﺴﺒﱡﻮا ً
ﻟﻢ ﻳُﺴﺊ إﱃ أﺣﺪ ﻣﻨﻜﻢ؟ أﻻ ﺗﻌﺮﻓﻮن ﻋﻄﻒ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺣﺘﻰ ﺗُﺠﺎ ُزوه ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬه
اﻟﺸﺘﺎﺋﻢ؟
ﱢ
ﻓﺼﺎح أﺣﺪﻫﻢ وﻫﻮ أﻛﱪﻫﻢ :ﻫﻮ ﻳُﺴﻠﻂ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺷﻴﻄﺎﻧﻪ ﻫﺬا ﻳﻌﺬﺑﻨﺎ ﻛﻞ ﻳﻮم ،وﻳﺬﻟﻨﺎ و…
ُﺆﺧﺮﻧﺎ وﺻﺎح آﺧﺮ :وذﻧﺒﻨﺎ أﻧﻨﺎ ﻓﻘﺮاء ﻳﻌﻨﻲ؟ وﻫﺬا املﺼﻄﻔﻰ اﻟﻌﺠﻮة ﻳُﻌﺎﻗﺒﻨﺎ ﻷن املﻄﺮ ﻳ ﱢ
ﰲ اﻟﺼﺒﺎح؟
45
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
اﻟﻘﺮﺷني وذﻫﺐ ﰲ داﻫﻴﺔ ﻟﻜﺎن أﻫﻮن ﻣﻦ ﻟﺴﺎﻧﻪ املﺮ .ﻟﺴﺎن َ وﺻﺎح ﺛﺎﻟﺚ :وﻟﻮ ﻗﻄﻊ
ﻳﻘﻄﺮ اﻟﺴﻢ.
وﻗﺎل راﺑﻊ :ﻛﻞ ﻳﻮم ﺷﺘﻴﻤﺔ وإﻫﺎﻧﺔ؛ »اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻳﻄﻌﻤﻨﺎ واﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻳﻜﺴﻮﻧﺎ ،ﻛﺄﻧﻪ
ﻳﻘﻮل ﻟﻨﺎ ﺑﺎﻟﺴﻢ اﻟﻬﺎري«.
وﺻﺎح ﻛﺒريﻫﻢ اﻷول :أﺣﺐﱡ أن أﻓﻬﻢ اﻟﺪاﻫﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻬﺪدﻧﺎ ﺑﻬﺎ ﳼ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻛﻞ
ﻳﻮم .ﻫﻞ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻓﻮﴇ؟ ﻧﺮوح ﰲ داﻫﻴﺔ ﻷﻧﻪ ﻳﺸﻜﻮﻧﺎ ﻟﻠﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ؟ ﻷ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي .ﻧﻜﴪ دﻣﺎغ
ﳼ ﻣﺼﻄﻔﻰ وﻧﺮوح ﰲ داﻫﻴﺔ ﺑﺤﻖ.
ﻄﻊ أﺟﺴﺎﻣﻨﺎ ﻣﺠﺎﻧًﺎ ،وأوﻻدﻧﺎ ﺗﻤﻮت وﻻ ﻳﻌﺠﺐ ﳼ ﻣﺼﻄﻔﻰ وﺻﺎح آﺧﺮ :واﻟﺪوﻻب ﻳُﻘ ﱢ
أن ﻧﺤﺰن ،وإذا ﻣﺮﺿﻨﺎ رﻣﻮﻧﺎ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ.
وﺻﺎح ﺷﺎبﱞ إﱃ ﺟﻨﺒﻲ :وﻫﺬا اﻟﺼﺒﻲ ﻣﺎ ذﻧﺒﻪ؟ ﻫﺬا املﺴﻜني ﻳﻘﻄﻊ ﻣﻨﻪ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺧﻤﺴﺔ
ﻗﺮوش ﻷﻧﻪ ﺗﺄﺧﺮ رﺑﻊ ﺳﺎﻋﺔ؟
وﻛﺎن اﻟﺼﺒﻲ اﻟﺬي أﺷﺎر إﻟﻴﻪ ﻻ ﻳَﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﻃﻔﻞ ﰲ ﺳﻦ اﻟﻌﺎﴍة ووﺟﻬﻪ اﻟﻨﺤﻴﻞ اﻷﺻﻔﺮ
ﻳﺰداد اﺻﻔﺮا ًرا ﻣﻦ اﻟﺪﻣﻮع املﻨﺤﺪرة ﻋﲆ ﺧﺪه.
ﻓﻨﺎدﻳﺘُﻪ :ﺗﻌﺎل ﻳﺎ أﺧﻲ.
ﺣﻘﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﺪأ ﻳﺴﻌﻞ وزادت دﻣﻮﻋﻪووﺿﻌﺖ ذراﻋﻲ ﺣﻮل ﻋﻨﻘﻪ ،وﻛﺎن ﻣﻨﻈﺮه ﻣﺤﺰﻧًﺎ ٍّ
اﻧﺤﺪا ًرا.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎذا ﺟﺮى ﻟﻚ؟ ﻣﺎ اﺳﻤﻚ؟وﻣﺴﺤﺖ ﻋﲆ رأﺳﻪ ًُ
ﻓﻘﺎل ﺑﺼﻮت ﺧﺎﻓﺖ :ﻋﻤﺮ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻋﻄﻒ :ﻋﻴﺐ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﻋﻤﺮ .ﻻ ﺗﺒﻚِ ﻛﺎﻟﻄﻔﻞ.
ﻓﻘﺎل وﻫﻮ ﻳﺠﻔﻒ دﻣﻌﻪ :ﻗﻄﻊ ﻋﻢ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻣﻨﱢﻲ ﺧﻤﺴﺔ ﻗﺮوش.
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ ﻣُﻀﺎﺣ ًﻜﺎ :ﻓﺪاك ﻳﺎ أﺧﻲ.
وﻛﺎدت اﻟﺪﻣﻮع ﺗﻔ ﱡﺮ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻲ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ .ﻛﺎن ﺟﺴﻤﻪ ﻳﺨﺘﻠﺞ وﻫﻮ ﻳﺴﻌﻞ ﻛﺄﻧﻪ ﻋﻮد ﰲ
ﻋﺎﺻﻔﺔ.
وﺻﺎح ﻋﺎﻣﻞ ﻣﻦ اﻟﺨﻠﻒ :ﻟﻮ ﻛﺎن اﻟﻮﻟﺪ ﻳُﺨﻮﱢﻓﻪ ﻟﻘﻄﻊ ﻣﻨﻪ ﻗﺮﺷني ﻓﻘﻂ .أﻣﻪ ﻣﺮﻳﻀﺔ
وأﺑﻮه ﻣﻴﺖ .ﺣﻈﻪ أﺳﻮد ﻣﻨﻴﻞ .ﻳﺎ اﺑﻨﻲ اﻟﺤﻖ ﺑﺎﻟﻮاﻟﺪ أﺣﺴﻦ ﻣﻦ اﻟﻌﺬاب.
وﻣﺴﺤﺖ ﻣﺮة أﺧﺮى ﻋﲆ رأس اﻟﺼﺒﻲ وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﺗﻌﺎلُ وﺳﺎد ﺻﻤﺖ رﻫﻴﺐ ﻋﲆ اﻟﺠﻤﻴﻊ،
ﻣﻌﻲ ﻳﺎ ﻋﻤﺮ .ﻳﻼ ﻳﺎ ﺟﻤﺎﻋﺔ ،ﺳﺄذﻫﺐ إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ وأﻋﺘﺬر ﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﻋﻨﻜﻢ .ﱠ
ﻳﻼ ﻟﻠﻐﺪاء
وارﺟﻌُ ﻮا ﻷﻋﻤﺎﻟﻜﻢ واﻧﺴﻮا ﻫﺬه اﻟﻐﻀﺒﺔ.
46
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
47
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ
ﻋﺪت إﱃ املﺤﻠﺞ وﺑﺪأت ﻋﻤﲇ وﻧﺴﻴﺖ ﻓﻴﻪ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺣﺪث ﰲ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻈﻬﺮ، ُ ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ
وﻟﻜﻨﻲ ﺗﻨﺒﱠﻬﺖ ﻋﲆ ﺻﻮت ﺣﺎﺟﺐ ﻣﻜﺘﺐ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻳﺪﻋﻮﻧﻲ إﻟﻴﻪ.
وﻛﺎﻧﺖ املﺴﺎﻓﺔ ﺑﻴﻨﻲ وﺑني املﻜﺘﺐ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﻣﺎﺋﺔ ﻣﱰ ،ﻓﺄﺧﺬت أﺟﻤﻊ ﺷﻮارد أﻓﻜﺎري
ﺣﺘﻰ أﺣﺪﺛﻪ ﻋﻤﺎ وﻗﻊ ﺑني اﻟﻌﻤﺎل وﺑني ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻟﻴﻌﻤﻞ ﻋﲆ إزاﻟﺔ ﻣﺎ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ إﺛﺎرة
ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻋﻠﻴﻪ وﻋﲆ ﻋﻤﻠﻪ.
ً
ورأﻳﺖ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة واﻗﻔﺎ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ املﻜﺘﺐ وﻳﺪاه ﻣﻀﻤﻮﻣﺘﺎن إﱃ ﺻﺪره ﻣﻦ أﻣﺎم
ﻗﺎﺋﻼ :ﺳ ﱢﻠﻢ ﻋُ ﻬﺪﺗﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
وﻟﻮﻧﻪ ﻗﺎﺗﻢ ﻳﻜﺎد ﻳﻜﻮن أﺳﻮد ،وﺑﺎدرﻧﻲ اﻟﺴﻴﺪ ً
ﻓﻮﻗﻔﺖ أﻣﺎﻣﻪ ﻟﺤﻈﺔ وأﻧﺎ دﻫﺶ ﻛﺄﻧﻲ ﻟﻢ أﺳﻤﻊ ﻗﻮﻟﻪ .ﻟﻢ أﺗﻮﻗﻊ ﻫﺬه اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﰲ ﺗﻠﻚ
اﻟﺴﺎﻋﺔ ﺑﺎﻟﺬات ،وﻟﻮ ﻃ َﺮدَﻧﻲ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺴﺎﺑﻖ أو اﻟﺬي ﻗﺒﻠﻪ أو ﰲ ﺻﺒﺎح ذﻟﻚ
اﻟﻴﻮم ﻧﻔﺴﻪ ملﺎ وﺟﺪت ﰲ ذﻟﻚ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ اﻟﺪﻫﺸﺔ أو اﻟﺴﺨﻂ ،وأﻣﺎ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻓﺈﻧﻲ
ﺻﻨﻌﺖ ﻟﻪ .ﻛﺎن اﻟﻌﻤﺎل ﻋﲆ وﺷﻚ ﺗﺪﻣري املﺤﻠﺞ ﺑﻐري ُ ﻛﻨﺖ أﻧﺘﻈﺮ ﻣﻨﻪ ﻛﻠﻤﺔ ﺷﻜﺮ ﻋﲆ ﻣﺎ
ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻏري اﻟﺸﻜﺮ .أﻳﻄﺮدﻧﻲ ﺑﻌﺪ أن أﺧﻤﺪت ﱡ ُ
ﻓﻌﻠﺖ ﳾء ﺷﻚ ﻟﻮﻻ وﺟﻮدي ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﻴﻤﺎ
ﺛﻮرة ﻛﺎن ﻳﺸﻌﻠﻬﺎ ﻫﺬا املﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة اﻟﻮاﻗﻒ إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻪ ﻳﻨﻔﺦ اﻟﻬﻮاء ﻣﻦ أﻧﻔﻪ اﻟﻀﺨﻢ؟
أﻳﻄﺮدﻧﻲ ﻷﻧﻲ أزﻟﺖ ﻣﺎ ﰲ ﻧﻔﻮس ﻋﻤﺎﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﻨﻖ ﻋﻠﻴﻪ وﻗﻠﺖ ﻟﻬﻢ إﻧﻲ ﺳﺄﻋﺘﺬر إﻟﻴﻪ ﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺑﺔ
ﻛﻨﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ ذﻫﺒﺖ إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ أﺗﻮﻗﻊ أن ﻳﻔﺎﺟﺌﻨﻲ ﺑﻬﺬه اﻟﻜﻠﻤﺔ ﺑﻐري ﻣﻘﺪﻣﺎت ﻋﻨﻬﻢ؟ وﻟﻮ ُ
ﻷﺑني ﻟﻪ أﻧﻪ ﻣﺨﻄﺊ ،أو أن اﻟﺬي ﺑﻠﻐﻪ ﻛﺬب ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻷﻋﺪدت ﻧﻔﴘ ﻟﺬﻟﻚ وراﺟﻌﺘُﻪ ﱢ
ُ
أﺑﻴﺖ أن أراﺟﻌﻪ ﺑﻜﻠﻤﺔ ﻣﻊ ﻣﺴﺖ ﺻﻤﻴﻢ ﻛﱪﻳﺎﺋﻲ؛ وﻟﻬﺬا ﻣﻔﺎﺟﺄة أﺣﺪﺛﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ ﺻﺪﻣﺔ ﱠ
أﻧﻲ ﻛﻨﺖ أﻗﻮل ﰲ ﴎي» :أﻫﺬا ﺟﺰاﺋﻲ؟«
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وأدرت ﻇﻬﺮي ﻟﻪ ﺻﺎﻣﺘًﺎ وﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ املﻜﺘﺐ ﻷﺳ ﱢﻠﻢ ﻋﻬﺪﺗﻲ ،وﻣﺎ ﻫﻲ ﻋﻬﺪﺗﻲ؟ ﺑﻀﻊ
دﻓﺎﺗﺮ وأوراق وأﻗﻼم ودواة وﻋﻠﺒﺔ ﻧﻴﺸﺎن وﻓﺮﺷﺔ ﺑﻘﻴﺖ ﻋﻨﺪي ﻣﻨﺬ ﻛﻨﺖ أرﻗﻢ اﻟﺒﺎﻻت .ﻫﺬه
ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻬﺪﺗﻲ ،وﻛﺎن ﺷﻌﻮري وأﻧﺎ ﺧﺎرج ﻣﻦ املﻜﺘﺐ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﺷﻌﻮر رﺟﻞ ﺗﺴﺄﻟﻪ» :ﻛﻢ
اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻵن؟« ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ ﻧﻔﴘ ذ ﱠرة ﻣﻦ اﻷﺳﻒ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ.
ﺣﺎﻣﻼ ِﻣﻌﻄﻔﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ وأﻧﺎ ﻋﺎﱄ اﻟﺮأس ﻳُﺨﻴﱠﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻲ أﻧﺎ اﻟﺬي ً وﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ املﺤﻠﺞ
أﻃﺮد املﺤﻠﺞ وﻣﻦ ﻓﻴﻪ.
وﴎت ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻣﺘﺠﻬً ﺎ ﺣﻴﺚ ﺗﻘﻮدﻧﻲ ﻗﺪﻣﺎي؛ ﺷﺎرع »أﺑﻮ اﻟﺮﻳﺶ« ،واﻟﺴﻮق ،وﻋﺮﺟﺖ ُ
ﺑﺪأت أﻓ ﱢﻜﺮ أﻧﻲ ﻟﻢ أﺗﺮك
ُ ﻄﺎ ﻧﺤﻮ ﺧﺎرج املﺪﻳﻨﺔ ،وملﺎ وﺻﻠﺖ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﱰﻋﺔ إﱃ اﻟﻴﻤني ﻫﺎﺑ ً
وﴎت أُﺟ ﱢﺮر ﻗﺪﻣﻲ
ُ أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل واﻟﺪ ﻣﻨﻰ،املﺤﻠﺞ ﻓﻘﻂ ،ﺑﻞ ﻗﻄﻌﺖ ﺻﻠﺘﻲ ً
ﺑﺪأت أﺷﻌﺮ ﺑﺄﻧﻲ ﺧﴪت ﺧﺴﺎرة ﻓﺎدﺣﺔ. ُ ﺑﻘﻠﺐ ﻣﻈﻠﻢ ﻛﺴري .ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻓﻘﻂ
وﻋ ﱠﺮﺟﺖ إﱃ اﻟﻴﻤني ﺑﻐري أن أﻋﺮف أن ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻧﺐ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻵﺧﺮ ،وﻛﺎن اﻟﺠﻮ ﺑﺎردًا
وﻟﻜﻦ اﻟﺴﻤﺎء ﻛﺎﻧﺖ ﺻﺎﻓﻴﺔ واﻟﺸﻤﺲ ﺗﻤﻴﻞ إﱃ اﻟﻐﺮب ﰲ ﻣﻮﻛﺐ راﺋﻊ ﻣﻦ اﻷﻟﻮان اﻟﺒﺪﻳﻌﺔ،
وﺷﻌﺮت ﺑﻮﺟﻬﻲ املﺘﱠﻘﺪ ﻳﻠﺬﱡ ﻣﺲ اﻟﻬﻮاء وﺻﺪري اﻟﻀﺎﺋﻖ ﻳﺮﺣﺐ ﺑﺎﻟﻬﻮاء اﻟﻄﻠﻖ ،وﻛﺎﻧﺖ
اﻟﺤﻘﻮل ﺗﻤﺘﺪ ﺗﺤﺖ ﺑﴫي ﺧﴬاء رﻃﺒﺔ ﺗﺮﺗﺎح اﻟﻌني إﱃ اﻻﻧﴪاح ﻓﻴﻬﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺪوابﱡ
ﻣُﺤﻤﱠ ﻠﺔ ﺑﺄﺣﻤﺎل ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻣﻦ وراﺋﻬﺎ ﻗﻄﻌﺎن املﺎﺷﻴﺔ ﺗﻌﻮد إﱃ ﺑﻴﻮﺗﻬﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﻈﻼم ،ﻓﺠﻌﻠﺖ
ﻣﺘﺄﻣﻼ أﺷﻜﺎﻟﻬﺎ وأﺣﺠﺎﻣﻬﺎ وأﻗﺎﻳﺲ ﺑني أﻟﻮاﻧﻬﺎ وﻣﻼﻣﺤﻬﺎ ،وذﻫﻨﻲ ﻳﺪور ﻛﺄﻧﻪ ً أﻧﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ
ﺑﻤﺆﺧﺮ ﻋﻴﻨﻪ وﻳُﻄﺄﻃﺊﱠ ُﻨﻔﺼﻞ ﻋﻨﱢﻲ .ﻫﺬا ﺷﺎب ﺑﻘﺮ ﻗﻮي ﻳﻈﻬﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌﻨﻒ وﻳﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮي ﻣ ِ
واﻗﻔﺎ إﱃ ﺟﻨﺐ املﻜﺘﺐ ،وﻫﺬا رأﺳﻪ ﻣﻬﺪدًا ،ووﺟﻪ ﻳﺸﺒﻪ ﻣﻼﻣﺢ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ً
ﻣﻄﺮﻗﺎ ،وﻳﻠﻮي رأﺳﻪ ﻟﻌﻠﻪ ً ﺛﻘﻴﻼ ﻣﻦ اﻟﱪﺳﻴﻢ وﻳﺰﺣﻒ ﺗﺤﺘﻪ ً ً
ﺣﻤﻼ ﺣﻤﺎر أﻋﺠﻒ ﻳﺤﻤﻞ
ﻳﻘﺪر أن ﻳﺼﻞ ﺑﻔﻤﻪ إﱃ ﻗﻀﻤﺔ ﻣﻦ أﻋﻮاد اﻟﱪﺳﻴﻢ اﻟﺬي ﻓﻮق ﻇﻬﺮه ،وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺼﻞ إﻟﻴﻬﺎ.
ﻣﺎ أﺷﺒﻬﻪ ﺑﺎﻟﺼﺒﻲ املﺴﻜني ﻋﻤﺮ ﻏري أﻧﻪ ﻻ ﻳﺒﻜﻲ ،وﻫﻜﺬا ﴎت ﻫﺎﺋﻢ اﻟﻔﻜﺮ ﺣﺘﻰ وﺟﺪت
ﻧﻔﴘ ﻣﺮة أﺧﺮى ﻋﻨﺪ »ﻛﻮﺑﺮي أﺑﻮ اﻟﺮﻳﺶ« ﻓﻌﺮﺟﺖ إﱃ اﻟﻴﻤني وﺳﺄﻟﺖ ﻧﻔﴘ» :إﱃ أﻳﻦ؟«
وملﺎ اﻗﱰﺑﺖ ﻣﻦ اﻟﻔﻀﺎء اﻟﺬي ﻳﺒﺪأ ﻣﻨﻪ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ ﻣَ ﺤﻠﺞ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻛﺎن اﻟﻈﻼم ﻗﺪ
ﻫﺒﻂ ﻋﲆ اﻷرض وﺗﺒﻴﻨﺖ ﰲ ﻗﺮارة ﻧﻔﴘ أﻣﻨﻴﺔ ﻏﺎﻣﻀﺔ ،وﻫﻲ أن أُﺻﺎدف اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل
ُ
ووﻗﻔﺖ أﻓﻜﺮ ،ﻛﺄﻧﻲ أرﻳﺪ ﺧﺎرﺟً ﺎ ﻣﻦ املﺤﻠﺞ ،واﻗﱰﺑﺖ ﻣﻦ رﻛﻦ ﻣﺴﺘﻮر ﻋﻨﺪ ﻣﺪﺧﻞ اﻟﻄﺮﻳﻖ
أن أﺗﺬﻛﺮ ﺷﻴﺌًﺎ ﻧﺴﻴﺘﻪ ،وﻣﺮ وﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ وأﻧﺎ ﻫﻨﺎك ذاﻫﻞ ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء وﻻ أدري ﻣﺎذا أرﻳﺪ،
ُﻘﺒﻼ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ املﻈﻠﻢ ﻓﺨﻄﺮ ﱄ أﻧﻪ »ﻫﻮ« .ﻟﻢ ﻳَﻌُ ﺪ اﻷﻣﺮ ﺧﺎﻓﻴًﺎ ﻋﲇ ﱠ وﻇﻬﺮ ﺷﺨﺺ ﻣ ً
50
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ
وﻟﻔﻲﻓﺈﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﻫﻨﺎك أﻧﺘﻈﺮ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،وﻣﺎ ﻛﺎن ﺳريي ﻋﲆ اﻟﱰﻋﺔ وﻛﻞ دوراﻧﻲ ﱢ
ﻟﻌﲇ أﻟﻘﻰ اﻟﺮﺟﻞ ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ اﻟﺸﺨﺺ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ »ﻫﻮ« إﻻ ﺑﻘﺼ ٍﺪ ﺧﻔﻲ أن أﻋﻮد إﱃ املﺤﻠﺞ ﱢ
ﻓﺘﺪا َرﻳﺖ ﰲ ﻇﻞ اﻟﺠﺪار ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺮاﻧﻲ ،وﺑﻘﻴﺖ ً
واﻗﻔﺎ ﻫﻨﺎك ﻣﺴﺘﻨﺪًا إﱃ اﻟﺠﺪار وأﻧﺎ ﻓﺎﺗﺮ
وﻛﺪت أﺛﺐ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺖ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ُ اﻟﺬﻫﻦ ﻻ أدري إﱃ ﻣﺘﻰ أﺑﻘﻰ ً
واﻗﻔﺎ ﻫﻨﺎك،
ﻳﺨﺮج ﻣﻦ ﺑﺎب املﺤﻠﺞ ﰲ املﻮﻋﺪ اﻟﺬي ﺗﻌﻮﱠد أن ﻳﺬﻫﺐ ﻓﻴﻪ إﱃ ﺑﻴﺘﻪ ،وملﺎ اﻗﱰب ﻣﻨﱢﻲ أﴎﻋﺖ
إﻟﻴﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﴪع اﻟﺼﺪﻳﻖ إﱃ ﺻﺪﻳﻘﻪ ﻳُﺤﺎول أن ﻳﺰﻳﻞ ﻋﻨﻪ ﺟﻔﻮة ﻃﺮأت ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺘﻬﻤﺎ ،وﻟﻢ
ﻳﻈﻬﺮ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ رآﻧﻲ ﳾء ﻳﺪ ﱡل ﻋﲆ اﻟﻐﻀﺐ أو اﻟﺮﴇ أو اﻟﺪﻫﺸﺔ ﻛﺄﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻨﺘﻈﺮ
ﻗﺎﺋﻼ» :ﺗﻌﺎ َل ﻣﻌﻲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي «.ﻓﺨﻔﻖ ﻗﻠﺒﻲ أن ﻳﺠﺪﻧﻲ ﻫﻨﺎك ،وﺳﻠﻢ ﻋﲇ ﰲ ﺑﺴﺎﻃﺔ ً
ﴎو ًرا واﺳﺘﺒﴩت ﺑﻜﻠﻤﺘﻪ ،وﴎت وراءه ﺑﺨﻄﻮة ﻗﺼرية ،وﻟﻜﻨﱠﻪ دﻋﺎﻧﻲ ﻷﺳري إﱃ ﺟﻨﺒﻪ،
وﺗﻤﻨﱠﻴﺖ ﺑﻜﻞ ﻗﻠﺒﻲ أن أﻗﺪر ﻋﲆ إزاﻟﺔ ﻣﺎ ﻋﻨﺪه ﻣﻦ اﻟﻐﻀﺐ ﻋﲇ ﱠ وﻟﻢ أﺷﻌﺮ ﺑﴚء ﻣﻦ اﻟﺬﻟﺔ أو
اﻻﻣﺘﻌﺎض؛ ﻷﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﻋﺎ ًملﺎ أﻧﻲ ﺑﺮيء وأﻧﻪ ﻟﻢ ﻳَﻌﺮف ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎ ﻋﻨﺪي.
وملﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ دﺧﻠﻨﺎ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ املﻜﺘﺐ ،وأﺧﺮج اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺳﻴﺠﺎرة ﻓﺄﺷﻌﻠﻬﺎ ﺛﻢ
ﺟﻠﺲ وأﺷﺎر إﱃ ﻛﺮﳼ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻨﻪ ﻷﺟﻠﺲ ﻋﻠﻴﻪ .ﺛﻢ ﺻﻔﻖ وأﻣﺮ اﻟﺨﺎدم أن ﻳﺄﺗﻲ ﻟﻨﺎ ﺑﻔﻨﺠﺎﻧني
ﻣﻦ اﻟﻘﻬﻮة.
ﺛﻢ اﻟﺘﻔﺖ إﱄ ﱠ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﻴﻪ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺗﺮدﱡد :ﻟﺴﺖ أدري اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻃﺮدي ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ،وﻟﻢ أﺟﺮؤ أن أراﺟﻌﻚ ﻋﻨﺪﻣﺎ
أﻳﻀﺎ ﺟﻌﻠﺘﻨﻲ ﻻ أﻓﻜﺮ ﰲ ﻣﺮاﺟَ ﻌﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺣﺴﻦ ﺣﻈﻲ ﻛﻨﺖ ﻏﺎﺿﺒًﺎ ،واﻟﺤﻖ أن دﻫﺸﺘﻲ ً
أﻧﻲ أﻣ ﱡﺮ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﰲ اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺨﺮج ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ املﺤﻠﺞ.
واﺣﻤ ﱠﺮ وﺟﻬﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﻠﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﺬﺑﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻧﺎﻇ ًﺮا إﱃ اﻷﻣﺎم ﻣﺴﺘﻨﺪًا ﺑﻈﻬﺮه ﻋﲆ
اﻟﻜﺮﳼ اﻟﻄﻮﻳﻞ ﻓﻠﻢ ﻳﻨﻈﺮ إﱃ وﺟﻬﻲ.
وﻗﺎل ﰲ ﺑﻂء :املﺴﺄﻟﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﴎي :ﺑﺴﻴﻄﺔ!
ﻋﻨﻴﻔﺎ .إﻧﻪ ﻫﺎدئ ﻛﺄﻧﻪ ﺟﺪار ﻣﺼﻤﺖ! وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﻣﺘﻤﺎﻟ ًﻜﺎ ﻧﻔﴘ :ﻫﻲ ﻃﺒﻌً ﺎ ً وﺧﻔﻖ ﻗﻠﺒﻲ
ﺑﺴﻴﻄﺔ ،وﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﺗُﺆﺛﱢﺮ ﰲ ﻣﻮدﺗﻲ ﻟﻚ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻻ أﻋﺮف اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻃﺮدي .ﻻ أﻋﺮف ﺳﺒﺒًﺎ
ﻏﻀﺐ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻴﻮم ﺑﺎﻟﺬات ﻷﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﻻ أﻧﺘﻈﺮ ﻓﻴﻪ إﻻ اﻟﺸﻜﺮ .أﻇﻨﱡﻚ ﻟﻢ ﺗﻌﺮف أﻧﻲ ٍ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ
ً
ﺣﺎﺋﻼ ﺑني اﻟﻌﻤﺎل وﺑني ﺗﺪﻣري املﺤﻠﺞ. وﻗﻔﺖ
ﻓﺮﻓﻊ ﺟﺎﻧﺒﻴﻪ وﻫﻮ ﻳﻠﺘﻔﺖ إﱄ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﺗﺪﻣري املﺤﻠﺞ؟
51
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻟﺴﺖ أﻋﺠﺐ ﻷﻧﻚ ﻟﻢ ﺗﻌﺮف اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﻷن ُ ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺣﻤﺎﺳﺔ :ﻧﻌﻢ ﺗﺪﻣري املﺤﻠﺞ،
َﻨﻘﻞ إﻟﻴﻚ أﺧﺒﺎ ًرا ﻣﺸﻮﱠﻫﺔ ﻋﻨﻲ.ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻳﺘﻌﻤﺪ داﺋﻤً ﺎ أن ﻳ ُ
وﻧﻈﺮت إﱃ وﺟﻬﻪ ﻟﻌﲇ أملﺢ ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺪﻟﻨﻲ ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺷﻌﻮره وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻫﺎدﺋًﺎ
ﻛﺎﻟﺼﻮرة املﻌ ﱠﻠﻘﺔ أﻣﺎﻣﻲ ﻋﲆ اﻟﺠﺪار.
وأﺧﺬت أﺻﻒ ﻟﻪ ﻣﺎ ﺣﺪث ﺑني ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة واﻟﻌﻤﺎل ﰲ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻈﻬﺮ ،وﻣﺎ ﺣﺪث ﻣﻨﱢﻲ
ﺣﺮﻓﺎ وﺧﺘﻤﺖ ﺣﺪﻳﺜﻲ ﺑﻌﺒﺎرة ﺣﻤﺎﺳﻴﺔ ﻓﻘﻠﺖ :إﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﻣﺪﻓﻮﻋً ﺎ إﱃ ﺗﺪﺧﲇ ﺑﺸﻌﻮري ﺣﺮﻓﺎ ً
ً
اﻟﻘﻮي ﻧﺤﻮه وﺑﺄﻧﻲ أؤدي واﺟﺒﻲ ﻧﺤﻮ رﺟﻞ أﺣﺒﱡﻪ وأﺣﱰﻣﻪ ،وﺷﻌﺮت ﺑﺎﻟﺪم ﻳﺜﻮر ﰲ وﺟﻬﻲ
ﻣﺮة أﺧﺮى ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺟﺪت أﻧﻪ ﻣﺎ ﻳﺰال ﻫﺎدﺋًﺎ.
وﺟﺎء اﻟﺨﺎدم ﻳﺤﻤﻞ ﻓﻨﺠﺎﻧني ﻣﻦ اﻟﻘﻬﻮة ﻓﺄﺧﺬ ﻳﺮﺷﻒ ﻣﻦ ﻓﻨﺠﺎﻧﻪ وﻗﺎل ﱄ :ﺗﻔﻀﻞ!
أﺗﻮﻗﻊ ﻣﻨﻚ أن ﺗﻄﺮدﻧﻲ ،وﻛﺎﻧﺖ دﻫﺸﺘﻲ وﻟﻜﻨﻲ ﺷﻜﺮﺗﻪ وﻣﻀﻴﺖ ﰲ ﻛﻼﻣﻲ :ﻟﻬﺬا ﻟﻢ ﱠ
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﻤﻌﺘﻚ ﺗﻘﻮل ﱄ ﺳﻠﻢ ﻋﻬﺪﺗﻚ أﺷﺪ ﻣﻦ أن أﺣﺎول اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﻧﻔﴘ ،واﻟﺤﻖ أﻧﻲ ً
أﻳﻀﺎ
وﻟﺴﺖ أرﻳﺪ ﺑﻜﻼﻣﻲ ﻫﺬا ﺷﻴﺌًﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أن أﻋﺮف اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻏﻀﺒﻚ؛ ُ أﺧﺬت ﻋﲆ ﺧﺎﻃﺮي،
ﻷن اﻟﺬي ﻳﻬﻤﻨﻲ ﻫﻮ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻴﻨﻨﺎ.
ﻓﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮي ﺑﺎﺳﻤً ﺎ ﻷول ﻣﺮة ،وﻟﻜﻦ اﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﻤﻞ ﻣﻌﻨﻰ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮل» :وﻣﺎ
ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻴﻨﻨﺎ؟«
ﻂ ﻳﺮﻗﺪ ﻋﲆ ﻓﺮاش وﺛري. واﻋﺘﺪل ﰲ ﺟﻠﺴﺘﻪ ﻓﺼﺎر أﻛﺜﺮ ﻫﺪوءًا ﻛﺄﻧﻪ ﻗ ﱞ
وﻗﺎل ﺑﺼﻮت ﺧﺎﻓﺖ :ﻟﻢ أﻛﻦ أﻋﺮف ﻣﻦ ﻗﺒﻞ أﻧﻨﻲ ﻣﻬﺪﱠد ﺑﻜﺎرﺛﺔ .ﻫﺬا ﳾء ﺟﺪﻳﺪ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ
أﻓﻨﺪي ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻠﻤﺎذا ﻟﻢ ﺗﺪ َِع اﻟﻌﻤﺎل وﺷﺄﻧﻬﻢ؟ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﻚ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﺄﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
دﻋﻬﻢ ﻳﺎ أﺧﻲ ﻳﺜﻮروا إذا ﺷﺎءوا وﻳُﺪﻣﺮوا املﺤﻠﺞ ،وأﻧﺎ أﻋﺮف ﻛﻴﻒ أﻋﺎﻣﻠﻬﻢ .ﻛﻨﺖ داﺋﻤً ﺎ أﻋﺮف
ﻛﻴﻒ أﻋﺎﻣﻠﻬﻢ ﻗﺒﻞ أن ﺗُﴩﱢف املﺤﻠﺞ.
وأﺣﺴﺴﺖ ﺑﺎﻟﻌﺮق ﻳﻨﻀﺢ ﻣﻦ ﺟﺴﻤﻲ ﻛﺄن إﻧﺎء ﻣﻦ املﺎء اﻟﺒﺎرد ﺻﺐ ﻓﻮق رأﳼ. ُ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻻ ﺗَﻐﻀﺐ ﻣﻦ ﻗﻮﱄ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ﻓﺄﻧﺖ ﻣﺜﻞ وﻟﺪي وﻛﻨﺖ أرﺟﻮ أن ﱠ
ﺗﺸﻖ واﺳﺘﻤﺮ ً
ﻃﺮﻳﻘﻚ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻌﻲ .ﻻ أﻧﻜﺮ أﻧﻚ أﻣني وذﻛﻲ ،وأﻧﺎ أﻗﺪﱢرك وأُﺣﺒﱡﻚ وأﻋﺮف أﻧﻚ ﻣﻦ ﺑﻴﺖ
ﻃﻴﺐ .ﻛﻨﺖ أود ﻟﻮ ﺑﻘﻴﺖ ﻣﻌﻲ ﺣﺘﻰ ﺗَﻘﺪر أن ﺗﺸﺘﻐﻞ ﺑﻌﻤﻞ ﻳﻨﻔﻌﻚ ﻫﻨﺎ أو ﻏري ﻫﻨﺎ ،وﻛﻨﺖ
أﺣﺐ أن ﺗﻔﺘﺢ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﻟﻠﺤﻘﺎﺋﻖ وﺗﺘﻌﺮف أﻣﻮر اﻟﺪﻧﻴﺎ؛ ﻷن اﻟﺘﺠﺎرب ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌﻠﻤﻨﺎُ .
ﻛﻨﺖ
أﺗﻤﻨﱠﻰ أن ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻌﻲ وﺗﺘﻌﻠﻢ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻢ ﻫﺆﻻء ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺼري ﻣﺜﻞ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة.
وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺔ اﻷﺧرية ﻓﻮق ﻃﺎﻗﺘﻲ ﻓﻘﻠﺖ ﻣﻨﺪﻓﻌً ﺎ :اﺳﻤﺢ ﱄ أن أﻗﻮل إﻧﻲ ﻻ أرﴇ
ﺑﺄن أُﻗﺎ َرن ﺑﻤﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة.
52
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻟﺴﺖ أﺑﺎﱄ ﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﺑني ﺑﻌﺾ املﻮﻇﻔني وﺑﻌﺾ ﻣﻦ ﻫﺬه وﺗﺒﺴﻢ ً ﱠ ﻓﺮﻓﻊ ﺣﺎﺟﺒَﻴﻪ
املﻨﺎﻓﺴﺎت ،وﻻ أﺣﺐ أن أﻓﺘﺢ أذﻧﻲ ﻟﻬﺎ .ﻫﺬا ﳾء ﻃﺒﻴﻌﻲ وﻻ أﻋريه اﻟﺘﻔﺎﺗًﺎ ﻛﺜريًا ،واﻟﺬي
ﺑﻘﻴﺖ ﻣﻌﻲ ﺣﺘﻰ ﺗﻄﻤﱧ ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻚ .ﻫﺬا ﻛﻞ ﳾء. َ أﻗﺼﺪه أﻧﻲ ُ
ﻛﻨﺖ أو ﱡد ﻟﻮ
وﺳﻜﺖ ﻟﺤﻈﺔ ﺛﻢ اﺗﺴﻌﺖ ﺑﺴﻤﺘﻪ وﻫﻮ ﻳﻘﻮل :وﻟﻜﻨﱠﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﻘﻔﺰ دﻓﻌﺔ َ
واﺣﺪة ،ﰲ وﺛﺒﺔ واﺣﺪة.
وﻃﻘﻄﻖ ﺑﺈﺻﺒﻌﻴﻪ ﻣﺤﺮ ًﻛﺎ ﻳﺪه إﱃ ﻓﻮق.
وأﻋﻘﺐ ذﻟﻚ ﺑﻀﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻷول ﻣﺮة.
وﺧﻄﺮ ﱄ أﻧﻪ ﻳُﻠﻤﱢ ﺢ إﱃ اﻷﻗﻮال اﻟﺘﻲ ﺳﻤﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻋﻦ ﺗﻄﻠﻌﻲ إﱃ ﻣﻨﻰ،
ﻓﺜﺎرت ﻛﱪﻳﺎﺋﻲ وﻗﻠﺖ ﻣﻨﺪﻓﻌً ﺎ :أﺗﻘﺼﺪ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي أﻧﻲ ﻏري ﺟﺪﻳﺮ ﺑﺄن أﺗﻄ ﱠﻠﻊ إﱃ أﻋﲆ؟
ﻟﺴﺖ أﻗﺼﺪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أﻧﻚ ُ ﻓﻘﺎل ﻣﱰاﺟﻌً ﺎ :أﺑﺪأ! ﻻ أﻗﺼﺪ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻳﻔﻬﻢ ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻲ.
ﺣﻖ ﻷﺣﺪ ﰲ ﻣﻨﻌﻚ ﻣﻦ ﳾء. ﺗﻨﺪﻓﻊ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي .أﻧﺖ ﺟﺪﻳﺮ ﺑﺄن ﺗﺘﻄ ﱠﻠﻊ ﻛﻤﺎ ﺗﺸﺎء ،وﻻ ﱠ
ﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،وأﻧﺎ أرﺟﻮ داﺋﻤً ﺎ أن أﺳﻤﻊ ﻋﻨﻚ ﻣﺎ ﻳﴪﻧﻲ.
وأﺣﺴﺴﺖ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺑﺄﻧﻲ أﺻﻄﺪِم ﰲ ﺟﺪار ﻣﺼﻤﺖ ،وﺑﺪأت أﺛﻮر ﰲ داﺧﲇ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ
ﻳﱰك ﱄ ﻓﺮﺻﺔ ﻟﻸﻣﻞ ﰲ ﻣﺼﺎﻓﺎﺗﻪ.
ﺣﺎل ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ،وأﻧﺎ ﻣﴪور ﻣﻦ أﻧﻲ أدﻳﺖ وﻗﻠﺖ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﻌﻨﻒ :أﺷﻜ ُﺮ َك ﻋﲆ ﻛﻞ ٍ
ﻟﺴﺖ أﻧﴗ أن أﺷﻜ َﺮك ُ ﻨﺼﻔﻨﻲ،ﻛﺎﻣﻼ ،وﻳﺰﻳﺪﻧﻲ ﴎو ًرا أن أﺷﻌﺮ ﺑﺄﻧﻚ ﻟﻢ ﺗُ ِ ً ﻧﺤ َﻮ َك واﺟﺒﻲ
ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺳﻤﻌﺘﻪ ﻣﻨﻚ وﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻟﻘﻴﺘﻪ ﻣﻦ ﻋﻄﻔﻚ وﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻚ .ﻟﺴﺖ أﻧﴗ أﻧ َﻚ ﻣﺪدت إﱄ ﱠ
ُ
ﻟﺴﺖ أﻗﻞ أﻳﻀﺎ أن ﺗﻌﺮف أﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﺻﻐريًا ﻻ أﺟﺪ أﺣﺪًا ﻳﻤ ﱡﺪ ﻳﺪه إﱄ ﱠ ،وﻟﻜﻦ أﺣﺐ ً ﻳﺪك ﻋﻨﺪﻣﺎ ُ
ﻣﻦ أﺣﺪ .ﻫﺬا ﻣﺎ أﺷﻌﺮ ﺑﻪ ﰲ ﻗﺮارة ﻧﻔﴘ ،وإذا ﻛﻨﺖ أﺗﻄﻠﻊ إﱃ ﻓﻮق ،ﻓﻠﻴﺲ ﻫﺬا أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ
ﻳﻨﺒﻐﻲ ﱄ.
وﻧﻈﺮت إﱃ وﺟﻬﻪ ﰲ ﺛﺒﺎت ،ﻓﻮﻗﻌﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﰲ ﻋﻴﻨﻪ وملﺤﺖ أن ﻧﻈﺮﺗﻪ ُ وﻗﻤﺖ ﻷﻧﴫف ُ
رأﻳﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺤرية أو اﻻرﺗﺒﺎك ،وﻟﻜﻨﻪ ُ ﻟﻢ ﺗَﺜﺒُﺖ أﻣﺎﻣﻲ ،وﻷول ﻣﺮة ﻣﻨﺬ ﻋﺮﻓﺘﻪ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻟﻌ ﱠﻠﻨﺎ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ﻧﻠﺘﻘﻲ ﰲ أوﻗﺎت ﻟﻢ ﻳﻨﻄﻖ ﺑﻜﻠﻤﺔ ،ﻓﺮﻓﻌﺖ ﻳﺪي ﻣﺴﻠﻤً ﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ً
أﺧﺮى أﻛﺜﺮ ﻣﻮدة ،إﱃ اﻟﻠﻘﺎء ﻳﺎ ﺳﻴﺪي.
ﺪت أن أرﻓﻊ رأﳼ ،وﻛﻨﺖ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻣﻤﻠﻮءًا ﺑﺎﻟﺜﻘﺔ وﺧﺮﺟﺖ ﺑﻐري أن أﻧﺘﻈﺮ ،وﺗﻌﻤﱠ ُ
وﺻﻠﺖ إﱃ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﺑﺎب اﻟﺤﺮﻳﻢ ﻟﻢ أﻣﻠﻚ أن أﻧﻈﺮ ﻧﺤﻮه ﻧﻈﺮة ﻣُﺘﻠﻬﱢ ﻔﺔ ُ واﻻﻃﻤﺌﻨﺎن ،وملﺎ
»أﺣﻘﺎ ﻫﺬه آﺧﺮ ﻣﺮة ٍّ ﻛﺄﻧﻲ أودﻋﻪ ،وﺛﺎرت ﻓﻮق ﻋﻴﻨﻲ ﻏﺸﺎوة ﻣﻦ اﻟﺪﻣﻊ وﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ:
أﻗﱰب ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ؟«
53
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻋﺪت إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ﻓﺄﺧﱪت أﻣﻲ ﺑﻤﺎ ﺣﺪث ،ﻓﻠﻢ أﺳﻤﻊ ﻣﻨﻬﺎ إﻻ دﻋﻮة ﻃﻴﺒﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺗﻠﻚ ُ
اﻟﻠﻴﻠﺔ أﻛﺜﺮ ﻣ َﺮﺣً ﺎ واﺳﺘﺒﺸﺎ ًرا ﻣﻤﺎ أﻧﺘﻈﺮ ،وأﺧﺬﻧﺎ ﻧﺘﺤﺪﱠث ﻓﻴﻤﺎ أﻋﻤﻞ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ،ﻓﻠﻤﺎ ﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ
أﻧﻲ أﻋﺘﺰم اﻟﺘﺠﺎرة أﻇﻬﺮت ﱄ رﺿﺎءً ﻣُﺘﺤﻤﱢ ًﺴﺎ ،وﻛﺮرت دﻋﺎءﻫﺎ إﱃ ﷲ أن ﻳﻮﻓﻘﻨﻲ ،وﻛﺎﻧﺖ
رﺿﻴﺖ ﻋﻦ اﻟﻈﺮف اﻟﺬي اﺿﻄ ﱠﺮﻧﻲ إﱃ ﻗﻄﻊ ﺻﻠﺘﻲ ُ ﻟﻴﻠﺘﻲ ﻫﺎدﺋﺔ ﻋﲆ ﻏري اﻧﺘﻈﺎر ،ﺑﻞ إﻧﻲ
ُ
ﻓﻜﺮت ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺮا ًرا ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ ﰲ املﺤﻠﺞ ،ورأﻳﺖ أﻧﻪ ﺟﻌﻠﻨﻲ أﻗﺪم ﺑﻐري أﺳﻒ ﻋﲆ اﻟﺨﻄﻮة اﻟﺘﻲ
ﺑﻐري أن أﺟﺮؤ ﻋﲆ أن أﺧﻄﻮﻫﺎ ،ﺳﺄذﻫﺐ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ إﱃ اﻟﺴﻮق ﻷﺟ ﱢﺮب ﺣﻈﻲ ،وﻟﻜﻦ ﺷﻴﺌًﺎ
ﻗﻄﻌﺖ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﻲ وﺑني واﻟﺪ ﻣﻨﻰ .ﻟﻢ أﻋﱰف ُ واﺣﺪًا ﻛﺎن ﻳﻌﻜﺮ ﺷﻌﻮري ﺑﺎﻟﺮﺿﺎ ،وذﻟﻚ أﻧﻲ
ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﻧﻔﴘ أن ﻫﺬا آﺧﺮ اﻟﻌﻬﺪ ﺑﻴﻨﻨﺎ ،وﻛﺎن ﺗﺤﺖ ﻛﻞ ﻣﺸﺎﻋﺮي أﻣ ٌﻞ ﻏﺎﻣﺾ أن
أﺳﺘﻄﻴﻊ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم أن أﻋﻮد إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ً
ﻗﺎﺋﻼ ﻟﻪ» :أﻧﺎ ﺳﻴﺪ زﻫري«.
وﻛﺎن اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ ﺳﻮق ﻗﺮﻳﺔ اﻟﺪﻟﻨﺠﺎت ،ﻓﻌﺰﻣﺖ ﻋﲆ أن أﻗﻮم ﻣﺒﻜ ًﺮا ﻵﺧﺬ ﻓﻄﺎر اﻟﺼﺒﺎح،
وأﺟﺲ املﺨﺎﺿﺔ ﻗﺒﻞ أن أﻧﺰل ﰲ املﺎء ،وﰲ ﱠ وﻟﻮ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ؛ ﻷرى ﺷﺌﻮن اﻷﺳﻮاق،
أﺧﺬت ﻣﻌﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻌﻲ ﻣﻦ اﻟﻨﻘﻮد اﻟﺘﻲ ادﺧﺮﺗﻬﺎ ﻃﻮال اﻟﺴﻨﻮات ُ اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺒﺎﻛﺮ
املﺎﺿﻴﺔ ﻷﺑﺪأ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻛﻤﺎ ﺑﺪأ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﺣﻴﺎﺗﻪ ،وﻛﺎن اﻟﻈﻼم ﻣﺎ ﻳﺰال ﺣﺎﻟ ًﻜﺎ ﺗﺤﺖ
اﻟﺴﻤﺎء اﻟﻘﺎﺗﻤﺔ.
وﻻ ﻳُﻤﻜﻦ أن أﺻﻒ ﺷﻌﻮري ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺷﻤﻤﺖ راﺋﺤﺔ اﻟﻬﻮاء اﻟﺮﻃﺐ ،وﴎت ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ
اﻟﺼﺎﻣﺘﺔ ﻋﺎ ًملﺎ ﺑﺄن اﻟﻨﺎس ﻣﺎ ﻳﺰاﻟﻮن ﻧﻴﺎﻣً ﺎ ﰲ ﻓﺮاﺷﻬﻢ ،وﻛﺎن املﻄﺮ ﻗﺪ ﺳﻘﻂ ﰲ اﻟﻠﻴﻞ ﻏﺰﻳ ًﺮا،
ﻓﺨﻀﺖ ﻓﻴﻬﺎ؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﺟﺪ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ٍّ
ﺟﺎﻓﺎ ُ وﺗﺠﻤﻌﺖ ﻣﻨﻪ ﺑﺮﻛﺔ واﺳﻌﺔ ﺗﻤﻸ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ املﺤﻄﺔ،
ﺧﻔﻔﺖ اﻟﺒﻠﻞ ﻋﻦ ﻗﺪﻣﻲ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء، ﻣﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ أﺳري ﻓﻴﻪ ،وﻛﺎن ﺣﺬاﺋﻲ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ﻟﻪ رﻗﺒﺔ ﱠ
وملﺎ ﻗﺮﺑﺖ ﻣﻦ ﴐﻳﺢ ﺳﻴﺪي »أﺑﻮ ﻃﺎﻗﻴﺔ« ﻗﺮأت اﻟﻔﺎﺗﺤﺔ ﻛﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﻓﻌﻞ ﻣﻨﺬ ﻃﻔﻮﻟﺘﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﻛﻨﺖ ﺗﻠﻤﻴﺬًا ﰲ املﻜﺘﺐ املﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺎﺳﻤﻪ.
ُ
وﻟﻢ أﻗﺪر أن أﺻﻞ إﱃ املﺤﻄﺔ إﻻ ﺑﻌﺪ رﺑﻊ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻊ أن املﺴﺎﻓﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ
ﺛﻼﺛﻤﺎﺋﺔ ﻣﱰ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻋﺮﺑﺔ اﻟﺪرﺟﺔ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻣُﺰدﺣﻤﺔ ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻮﺿ ٌﻊ ﻟﻘﺪم ،ﻓﺎﺿﻄﺮرت إﱃ
اﻟﺠﻠﻮس ﻋﲆ ﻃﺮد ﰲ املﻤﺮ ﺑني املﻘﺎﻋﺪ ،وﻛﺎن ﻃﺮد ﻗﻤﺎش ﻷﺣﺪ اﻟﺘﺠﺎر اﻟﺬاﻫﺒني إﱃ ﺳﻮق
اﻟﺪﻟﻨﺠﺎت.
ﻗﻠﻴﻼ أُﻣﻴﱢﺰﻫﻢ ﺑﻮﺟﻮﻫﻬﻢ ،وﻟﻜﻨﻲ دﻫﺸﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﻛﻨﺖ ﻻ أﻋﺮف ﻣﻦ املﺴﺎﻓﺮﻳﻦ إﻻ ﻋﺪدًا ً
ﻄﻰ اﻟﻄﺮود ﰲ املﻤﺮ ﺣﺘﻰ ﺟﻠﺲ ﺟﺎء ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻗﺒﻞ ﻗﻴﺎم اﻟﻘﻄﺎر ﺑﺪﻗﻴﻘﺘني ،ﻓﺠﺎء ﻳﺘﺨ ﱠ
ﻗﺎﺋﻼ :ﺻﺒﺎح اﻟﺨري ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي. ﻋﲆ ﻃﺮد ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻨﻲ وﺣﻴﺎﻧﻲ ً
54
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ
وﻟﻢ ﻳﺨ ُﻞ ﺟﻮاﺑﻲ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻤﺎ ﻫﺠﻢ ﻋﲇ ﱠ ﻣﻦ اﻟﻀﻴﻖ ﻋﻨﺪ اﻗﱰاﺑﻪ ﻣﻨﻲ ،وﻛﺎن ﰲ ﻳﺪه
رﻏﻴﻒ ﻣﻘﺪﱠد ﻣﻦ أرﻏﻔﺔ دﻣﻨﻬﻮر املﻨﻔﻮﺧﺔ وﻗﺪ أﻛﻞ أﻋﻼه وﺑﻘﻲ أﺳﻔﻠﻪ ﰲ ﻳﺪه ﻣﺜﻞ اﻟﻄﺒﻖ
وﺑﻪ ﻗﻄﻌﺔ ﺟﺒﻦ ﻗﺪﻳﻢ أﻏﱪ اﻟﻠﻮن.
وﻗﺎل ﱄ وﻫﻮ ﻳﻤﻀﻎ :إﱃ أﻳﻦ اﻟﻌﺰم؟
ﱡ
ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ إﻟﻴﻪ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺮﺛﺎء واﻟﺘﻘﺰز ﻣﻌً ﺎ وﻗﻠﺖ ﰲ اﺣﺘﻘﺎر :اﻟﺪﻟﻨﺠﺎت. ﱡ
ﺗﺤﻮﻻ واﺻﻔﺮا ًرا ،وﻛﺎﻧﺖ ﺣﻮل ﻋﻴﻨَﻴﻪ داﺋﺮﺗﺎن ﺧﴬاوان ً وﺑﺪا ﱄ أن املﺴﻜني ﻗﺪ زاد
املﻨﻘﻂ ﺑﺎﻟﻨﻤﺶ اﻷﺳﻮد ﻳُﺸﺒﻪ ﺧﺮﻗﺔ ﻗﺬرة. ووﺟﻬﻪ ﱠ
وﻗﺎل ﰲ ﺻﻮت ﺧﺎﻓﺖ :إﱃ اﻟﺴﻮق؟
وﻫﻤﻤﺖ أن أﺻﺪه ﺑﻜﻠﻤﺔ ﺟﺎﻓﻴﺔ وﻟﻜﻦ ﻣﻨﻈ َﺮه ﺟﻌﻠﻨﻲ أﻣﺘﻠﺊ ﺷﻔﻘﺔ ،وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﻧﻌﻢ،
وأﻧﺖ؟
أﺳﱰزق .رﺑﻚ ﻛﺮﻳﻢ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي. ِ ﻓﻘﺎل:
وﻛﺎن رﻛﺎب اﻟﻌﺮﺑﺔ ﰲ ﻫﺬه اﻷﺛﻨﺎء ﻳﺨﺘﻠﺴﻮن اﻟﻨﻈﺮات ﻧﺤﻮي ،وﻳﺘﻜﻠﻤﻮن ﺑﺄﺻﻮات
ﻋﺎل ﻳﻨﺒﻌﺚ ﻣﻨﻬﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل أﺣﺪﻫﻢ :ﻗﻮﻣﻮا ﺑﻨﺎ ﻟﻨﺒﻴﻊ ﺧﺎﻓﺘﺔ ،ﺛﻢ اﺳﱰﻋﻰ ﺳﻤﻌﻲ ﺿﺤ ٌﻚ ٍ
اﻟﺘﺬاﻛﺮ وﻧﻌﻮد ﻳﺎ ﻋﻢ ﻋﲇ.
ﻗﺎﺋﻼ :رﺑﻚ ﻳﺴﱰ ﻳﺎ ﺷﻴﺦ ﻋﻔﻴﻔﻲ ،وﻳﺠﻌﻞ اﻟﺪور اﻟﻴﻮم ﻋﲆ املﻌﻴﺰ. ﻓﺮد ﻋﻢ ﻋﲇ ً
وﻋ َﻠﺖ ﺿﺤﻜﺔ أﺧﺮى أﻃﻮل ﻣﻦ اﻷوﱃ ،واﺳﺘﻤﺮ اﻟﺮﻛﺎب ﻳﻨﻈﺮون ﻧﺤﻮي وﻳﺘﻬﺎﻣﺴﻮن،
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎذا ﺗُﺮﻳﺪ أن ﺗﺸﱰي؟وﺳﺄﻟﻨﻲ ﺣﻤﺎدة ً
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ ﳾء ﻣﻦ املﺒﺎﻫﺎة :ﻗﻄﻦ ﻃﺒﻌً ﺎ.
ﻗﺎﺋﻼ :أﺑﴩوا ﻳﺎ ﺟﻤﺎﻋﺔ … ﻓﺮﺟﺖ! وﺳﻤﻌﻨﻲ أﺣﺪ اﻟﺮﻛﺎب ،وﻛﺎن إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻲ ﻓﺼﺎح ً
اﻷﻓﻨﺪي ﺗﺎﺟﺮ ﻗﻄﻦ!
أﺑﴩ ﻳﺎ ﻋﻢ ﻋﲇ.ﻓﺼﺎح اﻟﺸﻴﺦ ﻋﻔﻴﻔﻲِ :
ﻓﻘﺎل اﻟﺸﻴﺦ ﻋﲇ :ﻗﻠﺖ ﻟﻜﻢ ﻣﻦ اﻷول .اﻷﻓﻨﺪي أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺾ واﻟﻔﺮاخ.
وﻋﺎد اﻟﻀﺤﻚ وﺻﺎ َر ﻋﺎﻣٍّ ﺎ ،وﺷﺎرﻛﺖ ﻓﻴﻪ؛ ﻷﻧﻲ ﺑﺪأت أﻓﻬﻢ ﺳﺒﺐ اﻟﺘﻬﺎﻣﺲ واملﺰاح،
وأﺧﺬ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳﺘﺤﺪﱠﺛﻮن ﻋﻤﺎ ﺣﺪث ﰲ ﻳﻮم اﻟﺜﻼﺛﺎء املﺎﴈ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺟﺎء أﻓﻨﺪي ﻣﻦ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ
ﺑﺄﺛﻤﺎن ﻋﺎﻟﻴﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻣﻦ املﻮ ﱢردﻳﻦ ﻟﻠﺠﻴﻮش؛
ٍ واﺷﱰى ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ اﻟﺴﻮق ﻣﻦ اﻟﺪﺟﺎج واﻟﺒﻴﺾ
وﻟﻬﺬا ﻟﻢ ﻳﻘﺪر ﻋﻢ ﻋﲇ واﻟﺸﻴﺦ ﻋﻔﻴﻔﻲ ﻋﲆ ﴍاء ﳾء ﻣﻨﻬﺎ وﻫﻤﺎ ﻣﻦ ﺗﺠﺎر اﻟﺪﺟﺎج ،ﻓﻠﻤﺎ
ﺟﺌﺖ ﻷزاﺣﻢ ﰲ ﴍاء اﻟﺪﺟﺎج واﻟﺒﻴﺾ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ُ رآﻧﻲ اﻟﺮﻛﺎب ﺣﺴﺒﻮا أﻧﻲ أﻓﻨﺪي آﺧﺮ
اﻵﺧﺮ ،وﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﺒﺎدﻟﻮن اﻟﻔﻜﺎﻫﺎت ﻋﻨﱢﻲ وأﻧﺎ ﻏﺎﻓﻞ ﻋﻨﻬﻢ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻐﻠﻄﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﺟﺪﻳﺪًا
ﻟﻠﻔﻜﺎﻫﺔ اﺳﺘﻤﺮ اﻟﺮﻛﺎب ﻳﺘﻨﺎﻗﻠﻮﻧﻪ ﻣﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﻓﺴﻬﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻗﻄﻊ اﻟﻄﺮﻳﻖ.
55
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﺳﺄﻟﻨﻲ ﺟﺎري ﻋﻦ اﺳﻤﻲ ،ﻓﻠﻤﺎ ﻗﻠﺘُﻪ ﻟﻪ ﻋﺮف أﺑﻲ وأﺧﺬ ﻳﱰﺣﻢ ﻋﻠﻴﻪ ،وﺑﺪأ اﻵﺧﺮون
ﻳﺘﻮدﱠدون إﱄ ﱠ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﺧﺬ ﺟﺎري ﻳُﻌ ﱢﺮﻓﻬﻢ ﺑﺄﺑﻲ وﻳﺬﻛﺮﻫﻢ ﺑﻪ.
ﻓﺘﻠﻘﻴﺖ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺠﻠﺴﺔ أول دروﳼ ﰲ وأﺧﺬﻧﺎ ﻧﺘﺤﺪث ﻣﻌً ﺎ ﻋﻦ اﻷﺳﻮاق وأﴎارﻫﺎ ،ﱠ
ﺗﺠﺎرة اﻷﺳﻮاق ،وﺧﺮﺟﺖ ﺑﻔﻮاﺋﺪ ﻻ ﺗُﺘﺎح إﻻ ملﻦ ﻳَﺘﺒﺎدﻟﻮن أﻧﻔﺎﺳﻬﻢ ﻣﻊ اﻟﻨﺎس ،وﻳﻌﺮﻓﻮن ﻣﻦ
ُ
وﻋﺰﻣﺖ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﻧﻔﴘ أن أﺣﻔﻆ ﻣﺎ أﺳﻤﻊ اﻟﺤِ َﻜﻢ ﻣﺎ ﻻ ﺗُﻌ ﱢﻠﻤﻪ ﻟﻬﻢ اﻟﻘﺮاءة أو اﻟﺘﺄﻣﻞ،
ﻳﺘﻠﻘﻮن ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻮن ﻋﻦ أﺣﺪ .إن ﻛﻞ ﻛﻠﻤﺔ ﻳﻘﻮﻟﻮﻧﻬﺎ ﺗﺼﺪر ﻋﻦ ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻦ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﱠ
ُﺘﻮاﺿﻌﺔ ﻻ ﺗﺪﻋﻲ اﻟﺤﻜﻤﺔ ،وﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﻠﻤﻮﻧﻬﺎ ﻣﻦ وﺧﺰات اﻟﺤﻮادث وﻏﻤﺮات املﺂزق. ﻣ ِ
وﺑﻠﻐﻨﺎ اﻟﺪﻟﻨﺠﺎت آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ،وﻧﺰﻟﻨﺎ ﻧﺘﺪﻓﻖ ﻣﻦ اﻟﻌﺮﺑﺔ إﱃ اﻟﻔﻀﺎء اﻟﻮاﺳﻊ ﻣﺘﺠﻬني إﱃ
اﻟﺴﻮق ،وﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﺎ ﻳَﺤﻤﻞ ﰲ ﻳﺪه ﻣﺎ أﻋﺪه ﻟﻠﺒﻴﻊ أو ﻟﻠﴩاء ،وﻛﻨﺖ ﻻ أﺣﻤﻞ ﰲ ﻳﺪي إﻻ ﻣﻴﺰاﻧًﺎ ﰲ
ﻛﻴﺲ ﻣﻦ أﻛﻴﺎس اﻟﺨﻴﺶ ،وﻛﺎن ﻣﻨﻈﺮ ﻫﺬا اﻟﺠﻤﻊ اﻟﻜﺒري وﻫﻮ ﻳﺘﺠﻪ ﰲ ﺻﻒ ﻃﻮﻳﻞ أﺷﺒﻪ
ﺑﻤﻨﻈﺮ اﻟﺠﻴﺶ اﻟﺰاﺣﻒ.
وﻛﺎن ﺣﻤﺎدة ﻳَﺠﺘﻬﺪ أن ﻳﺒﻘﻰ ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻨﻲ ،ﻣﻊ أﻧﻲ ﺗﻌﻤﺪت أﻻ أﻟﺘﻔﺖ إﻟﻴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺰﻟﺖ،
ﻛﻴﺴﺎ ﻻ أﻋﺮف ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ،وﻳﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮي ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﱰدﱡد ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ وﻛﺎن ﻳﺤﻤﻞ ﻋﲆ ﻛﺘﻔﻪ ً
َ
اﻟﺘﻔﺖ إﱄ ﱠ ﺗﺠﺮأ وﻗﺎل ﱄ :أﻟﺴﺖ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﺳﺒﻴﻼ إﱃ أن ﻳﻜﻠﻤﻨﻲ ،وملﺎ ﻟﻢ ﻳَﺠﺪﻧﻲ ً أن ﻳﺠﺪ
ﻣﻦ ﻳﺴﺎﻋﺪك ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي؟
ً
إﺷﻔﺎﻗﺎ ﻋﻠﻴﻪ وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﰲ أي ﳾء ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة؟ وﻛﺎن ﰲ ﺻﻮﺗﻪ اﻧﻜﺴﺎر زادَﻧﻲ
ﻗﺎﺋﻼ :ﰲ أي ﳾء ،أﺣﻤﻞ ﻟﻚ ﻣﺎ ﺗﺸﱰي أو أﺳﺎﻋﺪك ﰲ ﻓﺸﺠﻌﻪ ﺟﻮاﺑﻲ واﻗﱰب ﻣﻨﻲ ً
اﻟﴩاء ،وأﻧﺎ ﺧﺒري ﺑﺎﻷﺳﻮاق.
ً
ﻗﺎﺋﻼ :وﻣﻦ أﺟﻞ املﺴﺎﻋﺪة أﻳﻀﺎ ،ﻓﻮﷲ إﻧﻲ ﻟﻢ آﻛﻞ ﻣﻨﺬ اﻷﻣﺲ إﻻ ﻫﺬه اﻟﻠﻘﻤﺔ ﺛﻢ ﻫﻤَ ﺲ ً
اﻟﺘﻲ رأﻳﺘﻬﺎ ﰲ ﻳﺪي.
َ
ﻋﺎﻃﻔﺎ :وﻫﻞ ﺗﺠﻲء إﱃ اﻟﺴﻮق ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺼﺒﺎح ﺑﻐري وﺟﻬﺔ؟ ً ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ
ﻓﻘﺎل :وﻣﺎذا أﻋﻤﻞ؟ أﻗﺼﺪ ﺑﺎب ﷲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي .ﻫﻮ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺬي أﻗﺪر ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺎ دام
اﻟﻨﺎس ﻻ ﻳُﺮﻳﺪون أن أﻋﻤﻞ ﻣﻌﻬﻢ .ﻛ ﱡﻞ ﻣﻦ أﻋﻤﻞ ﻋﻨﺪه ﻳﻄﺮدﻧﻲ .ملﺎذا؟ ﻻ أدري .ﻧﺤﺲ .ﺷﺆم،
ﺑﺨﺘﻲ زﻓﺖ.
ُ
ﻓﻘﻠﺖ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :وﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺠ ﱢﺮب ﺣﻈﻚ ﻣﺮة أﺧﺮى ﻣﻌﻲ؟
ﻓﻘﺎل :ﺧﻠﻴﻬﺎ ﻋﲆ ﷲ! وﷲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ﻫﻮ اﻟﺒَﺨﺖ .ﻟﻜﻦ ﻳﻤﻜﻦ .ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺨﺘﻚ ﻳﻐﻠﺐ
ﻳﺎ أﺧﻲ .ﺟ ﱢﺮب ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،وﷲ ﻛﻠﻬﻢ ﻛﺴﺒﻮا ورﺑﺤﻮا ﻣﻌﻲ وﻟﻜﻨﻲ ﻣﻨﺤﻮس ،ﻓﺎزوا
ُ
ﺣﻤﻠﺖ ﻓﻴﻪ املﻴﺰان ﻓﻘﺒﻀﺖ ﺑﺎملﻜﺎﺳﺐ وﻃﺮدوﻧﻲ ،وﻣﺪ ﻳﺪَه إﱄ ﻟﻴﺄﺧﺬ ﻣﻨﻲ اﻟﻜﻴﺲ اﻟﺬي
ذراﻋﻲ وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﻫﺬا ﻣﻴﺰاﻧﻲ وأﻧﺎ أوﱃ ﺑﺤﻤﻠﻪ .أﻳﻦ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﺴﻮق؟
56
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ
57
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
58
اﻟﻔﺼﻞ اﳋﺎﻣﺲ
ﻣ ﱠﺮ ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ ﻣﻮﺳﻢ اﻟﻘﻄﻦ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﺎم وأﻧﺎ داﺋﺐ ﻋﲆ اﻟﺬﻫﺎب إﱃ اﻷﺳﻮاق املﺤﻴﻄﺔ
ﺑﺪﻣﻨﻬﻮر ﰲ ﺻﺤﺒﺔ ﺣﻤﺎدة ،ﻧﺸﱰي داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺘﻪ ،ﺛﻢ ﻧﺠﻤﻊ ﻣﺎ ﻧﺸﱰي وﻧﺤﻤﻠﻪ ﻋﲆ
ﻋﺮﺑﺔ ﻧﺴري إﱃ ﺟﻨﺒﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻧﺼ َﻞ إﱃ أﻗﺮب ﻣﺤﻄﺔ ﻟﻠﻘﻄﺎر ﻓﻨﺮﺳﻠﻪ ﻣﻨﻬﺎ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ،وﻛﺎن
ﺑﺸﺨﺼﻪ ﻋ َﻠﻤً ﺎ ﻳَﺴﱰﻋﻲ اﻷﺑﺼﺎر
ِ ﺣﻤﺎدة ﻳﺘﻔﻨﻦ ﰲ وﺳﺎﺋﻞ اﻹﻋﻼن واﺟﺘﺬاب اﻷﻧﻈﺎر ،وﻛﺎن ﻫﻮ
وﴏﻧﺎ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ِﻣﻦ أﺷﻬَ ِﺮ
واﻷﺳﻤﺎع ﺑﻘﺎﻣﺘﻪ اﻟﻘﺼرية وﺻﻔريه اﻟﻌﺎﱄ وﺗﺼﻔﻴﻘﻪ وﻓﻜﺎﻫﺘﻪِ ،
ﻣَ ﻦ ﻳﺮﺗﺎد اﻷﺳﻮاق ،وأﺻﺒﺢ اﺳﻢ ﺳﻴﺪ زﻫري وﺗﺠﺎرة اﻷﻣﺎﻧﺔ واﻷﺟﻮاد ﻣﻤﺎ ﻳَﺠﺮي ﻋﲆ أﻟﺴﻨﺔ
أﻫﻞ اﻟﻘﺮى ،وإن ﻛﺎن ﻣﺘﺠﺮﻧﺎ ﰲ ﻛﻞ ﻣﺮة ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﻇﻞ ﺷﺠﺮة ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻄﺮﻳﻖ،
واﺳﺘﻄﻌﺖ أن أﻗﺘﺼﺪ ﻣﻦ أرﺑﺎح ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺎرة أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺎﺋﺘﻲ ﺟﻨﻴﻪ ﻓﻮق اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت اﻟﻌﴩﻳﻦ
اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻲ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،ﺑﻌﺪ ﻛﻞ ﻣﺎ أﻧﻔﻘﺘﻪ ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺖ ﺣﺘﻰ ﺣﻞ املﻮﺳﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ،وﻻ ﺷ ﱠﻚ ﰲ
أن اﻟﻔﻀﻞ اﻷﻛﱪ ﰲ ﻧﺠﺎﺣﻲ ﻫﺬا ﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﺣﻤﺎدة ،وﻻ أدري ﻣﺎذا ﻛﻨﺖ أﺻﻨﻊ ﻟﻮ ﻟﻢ أُﺻﺎدﻓﻪ
ﰲ أول ﻳﻮم ﻋﲆ ﻏري ﻣﻮﻋﺪ.
ﺗﺘﻮاﺿﻊ وﺗَﻌﺮف ﻣﻮﺿﻌﻬﺎ ﻣﻦ املﻘﺎدﻳﺮ ،وﻣﺎ َ وﻣﺎ أﺟﺪر ﻫﺬه اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﻀﻌﻴﻔﺔ أن
أﻛﺜﺮ اﻷدﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪ ﱡﻟﻨﺎ ﻋﲆ أن اﻟﻨﺠﺎح واﻹﺧﻔﺎق ﻳﺘﻮﻗﻔﺎن ﻋﲆ ﻋﻮاﻣﻞ ﻋﺪة أﻗﻠﻬﺎ إرادﺗﻨﺎ ،وﻛﺎن
ﺣﻤﺎدة ﻣﺎدة ﻋﺰﻳﺰة ﻟﻠﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﰲ ذاﺗﻪ ،ﻓﻜﻨﺖ أراه وأﺳﺘﻤﻊ إﻟﻴﻪ ﻛﺄﻧﻪ ﻛﺘﺎب ﺣﻲ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ
اﻟﺼﻔﺮاء اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻛﻨﻮز ﻣﻦ املﻌﺎرف؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻌﺮف اﻟﻨﺎس وﻳﺘﻌﻤﱠ ﻖ ﺣﻘﺎﺋﻘﻬﻢ
ﺑﻔﻄﺮﺗﻪ اﻟﺴﺎذﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺨﺪﻋﻬﺎ ﻣﻈﺎﻫﺮﻫﻢ وﻻ ﻳُﻀ ﱢﻠﻠﻬﺎ ﻣﺎ ﺗﻌﺎرﻓﻮا ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ املﻌﺎﻳري اﻟﺘﻲ
ً
ﻃﺮﻳﻘﺎ ﰲ اﻟﺘﺠﺎرة وﻳﺴﺘﻘ ﱠﻞ ﺣريﻧﻲ ﻣﻨﻪ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أن ﱠ
ﻳﺸﻖ ﻟﻪ ﺧﻠﻘﻮﻫﺎ ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ،وﻗﺪ ﱠ
ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻊ أﻧﻪ ﻛﺎن ﺑﻐري ﺷﻚ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻔﻀﻞ ﰲ ﻛﻞ ﻧﺠﺎح أﺻﺒﺘُﻪ ﰲ ﺗﺠﺎرﺑﻲ ،وﻗﺪ
ﺳﺄﻟﺘﻪ ﻳﻮﻣً ﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻓﻠﻢ ﻳ َُﻘﻞ ﺳﻮى أﻧﻪ ﻣﻮﻟﻮد ﰲ ﺳﺎﻋﺔ ﻧﺤﺲ.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
60
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ
وﻟﻜﻦ ﺷﻴﺌًﺎ واﺣﺪًا ﻛﺎن ﻳﻈﻬﺮ ﱄ واﺿﺤً ﺎ وﻫﻮ أن ﺣﻤﺎدة ﻛﺎن ﻳﻨﻄﻮي ﰲ داﺧﻠﻪ ﻋﲆ أﻧﻮاع ﻣﻦ
ﻋﺪت إﱃ ﻋﺰﻟﺘﻲ وﻻ أﺧﻔﻲ أﻧﻨﻲ املﺨﺎوف ﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ ﻛﺸﻔﻬﺎ ،وملﺎ ﻓﺮﻏﺖ ﻣﻦ ﻣﺸﺎﻏﻞ اﻷﺳﻮاق ُ
ﺣﺴﻪ ﻧﺤﻮهﻛﻨﺖ أ ُ ﱡ
ﺷﻌﺮت ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻻرﺗﻴﺎح؛ ﻷﻧﻲ ﺗﺨﻠﺼﺖ ﻣﻦ ﺻﺤﺒﺔ ﺣﻤﺎدة ﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﺎ ُ
ﻣﻦ اﻟﺮﺣﻤﺔ ،وﻛﺎن ﻓﺮاﻏﻲ ﻣﻦ ﻣﺸﺎﻏﻞ اﻷﺳﻮاق ﻳﺠﻌﻠﻨﻲ أﻓﺮغ إﱃ أﺣﺎدﻳﺚ ﻛﺜرية ﻣﻊ ﻧﻔﴘ،
وﻛﺎﻧﺖ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺪور ﺣﻮل ﺻﻮرة واﺣﺪة :ﻣﻨﻰ.
وﺑﺪت ﱄ اﻟﺸﻬﻮر اﻟﺘﻲ ﻣﻀﺖ ﻋﲇ ﱠ ﻣﻨﺬ ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﺧﺪﻣﺔ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻛﺄﻧﻬﺎ دﻫﺮ ْ
ُ
ﻧﻘﻴﺴﻪ ﺑﺎﻟﺴﺎﻋﺎت واﻷﻳﺎم ﻃﻮﻳﻞ ﻣﻦ اﻟﺴﻨني .ﻛﻴﻒ ﻧَﻘﻴﺲ اﻟﺰﻣﺎن ﻧﺤﻦ ﻣﻌﺎﴍ اﻟﺒﴩ؟ إﻧﻨﺎ
ٌ
أﺧﻴﻠﺔ ﻻ ﺗﺪ ﱡل ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺧﺎرج ﻧﻔﻮﺳﻨﺎ. واﻟﺴﻨني ﻣﻊ أن ﻫﺬه ﻛﻠﻬﺎ
َ
وﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺻﻒ اﻟﺤُ ﺮﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺸﻤﻞ ﻗﻠﺒﻲ ﻛﻠﻤﺎ ﺗﺼﻮﱠرت أﻧﻲ ﻓﻘﺪت ﻛﻞ
أﻣﻞ ﰲ رؤﻳﺔ ﻣﻨﻰ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻛﻨﺖ أﺟﺎدل ﻧﻔﴘ وأﺗﱠﻬﻤﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﻤﺎﻗﺔ واﻟﺴﺨﻒ ،ﻓﺄﻳﻦ أﻧﺎ
وأﻳﻦ ﻣﻨﻰ؟ ﻛﻨﺖ أﻛﺮه أن أﻗﻮل ﰲ ﻧﻔﴘ» :ﻣﻦ أﻧﺎ؟« وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﻣﻊ ذﻟﻚ أﻗﻮل ذﻟﻚ وأﺟﺪ
ﻣﺬاﻗﺎ ﻛﺎﻟﺤﻨﻈﻞ ،وﻛﻨﺖ أُﻛﺜ ُﺮ ﻣﻦ اﻟﺨﺮوج إﱃ أﻃﺮاف املﺪﻳﻨﺔ وأﺳﺘﺼﺤﺐ ﻣﺎ أرﻳﺪ ﻗﺮاءﺗﻪ ﻟﻪ ً
ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ ﻃﺎﻣﻌً ﺎ أن أﻟﻬﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﻋﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻣﻨﻰ ،وﻟﻜﻨﻲ ُ
ﻛﻨﺖ داﺋﻤً ﺎ أﴍد إﻟﻴﻬﺎ وﻻ أﻃﻴﻖ
اﻻﺳﺘﻤﺮار ﰲ اﻟﻘﺮاءة؛ ﻷن ﺻﻮرﺗﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﱄ ﰲ ﻛﻞ ﺳﻄﺮ وراء ﻛﻞ ﺧﺎﻃﺮة ،وﻛﻨﺖ
ﱠدت أن أﻋﺮج ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﻨﺪ أﻃﺮاف املﺪﻳﻨﺔ وﻣﻌﻲ ﻛﻮﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﻒ ﺟﺎﻟﺴﺎ ﰲ ﻗﻬﻮة ﺗﻌﻮ ًُ ﻳﻮﻣً ﺎ
واملﺠﻼت ،وأﺧﺬت أﻗﺮأ ﻷﻟﻬﻮ ﻋﻦ أﺣﺎدﻳﺜﻲ ﻧﻔﴘ ﺑﺘﻠﻚ اﻷﺧﺒﺎر اﻟﺘﻲ اﻋﺘﺎدت اﻟﺼﺤﻒ أن
ﻳﺘﺴﲆ ﺑﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦﱠ ﺗﻀﻊ ﻟﻬﺎ اﻟﻌﻨﺎوﻳﻦ اﻟﻀﺨﻤﺔ ذات اﻟﻠﻮن اﻷﺣﻤﺮ ،وأي ﳾء أﺣﻖ ﺑﺄن
اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ؟ إن اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ﻫﻲ ﻣﻠﺠﺄ اﻷﺷﻘﻴﺎء إذا أرادوا أن ﻳَﺤُ ﻮﻟﻮا ﺑني أﻧﻔﺴﻬﻢ وﺑني املﻮت
ﻛﻤﺪًا .ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺧﺒﺎر ﻛﻠﻬﺎ ﺗﻨﻄﻖ ﺑﺄﻧﻨﺎ ﻣُﻨﻬﺰﻣُﻮن ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ،ﺳﻮاء ﰲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ أو
اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ،وﻣﻊ ﻫﺬا ﻛﺎن اﻟﺴﺎدة ﻋﲆ أﺣﺴﻦ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن اﻟﻨﺎس رﺿﺎءً ﻋﻦ أﻧﻔﺴﻬﻢ ،ورﺿﺎءً
ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة .ﻫﺎ ﻫﻮ ذا وزﻳﺮ ﻳُﻘﻴﻢ ﺣﻔﻠﺔ ﺳﺎﻫﺮة ﺗﺸﻐﻞ أﺧﺒﺎرﻫﺎ اﻟﺼﻔﺤﺔ اﻷوﱃ ﻣﻦ اﻟﺠﺮﻳﺪة
اﻟﻌﻈﻤﻰ؛ ﻷﻧﻪ ﺑﻠﻎ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ واﻟﺴﺘني ﻣﻦ ﻋﻤﺮه املﺒﺎرك ،وﻫﺎ ﻫﻮ ذا اﺣﺘﻔﺎل آﺧﺮ ﺑﺰواج اﺑﻨﻪ
اﻟﺜﺮي اﻟﻜﺒري املﻌﺮوف ،وﻓﻴﻪ ﺗﺪﻓﻘﺖ اﻟﺸﻤﺒﺎﻧﻴﺎ ﰲ اﻟﻘﴫ اﻟﺸﺎﻫﻖ ﺣﺘﻰ أﻏﺮﻗﺘْﻪ ﺑﺎملﺮح ،ﻫﻜﺬا
ﺗﻘﻮل اﻟﺠﺮﻳﺪة ﺑﻐري ﺧﺠﻞ ،وﻫﺬا ﺧﱪ ﺛﺎﻟﺚ أﻛﺜﺮ ﺟﺪٍّا وﴏاﻣﺔ ﻷﻧﻪ اﺣﺘﻔﺎل ﺣﺰب ﻛﺒري ﰲ
ﻋﺎﺻﻤﺔ ﻣﺪﻳﺮﻳﺔ ﻛﱪى ﺗﻌﺎﻟﺖ ﻓﻴﻪ اﻷﺻﻮات ﺑﺎﻟﺤﻤﺎﺳﺔ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ وا أﺳﻔﺎه ﻻ
ﺗﺰﻳﺪ ﻋﲆ اﻟﺤﻤﺎﺳﺔ ﰲ املﻨﺎداة ﺑﺴﻘﻮط اﻟﺤﺰب املﻨﺎﻓﺲ وﻣَ ﻦ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺰﻋﻤﺎء .ﻫﻜﺬا ﻛﺎن
ﻣﻨﺎﻓﺴﻪ اﻟﺤﺰب اﻷﺧﴬ ﰲ اﻟﻘﺴﻄﻨﻄﻴﻨﻴﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ِ اﻟﺤﺰب اﻷﺻﻔﺮ ﻳﺘﺤﻤﱠ ﺲ ﰲ املﻨﺎداة ﺑﺴﻘﻮط
ﻛﺎن ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻔﺎﺗﺢ اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻲ ﻋﲆ أﺑﻮاﺑﻬﺎ ،وﰲ ﺻﺪر اﻟﺼﻔﺤﺔ اﻟﻮﺳﻄﻰ ُﻛﺘﺒﺖ ﺑﴩى ﺑﻌﻨﻮان
61
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ً
اﺣﺘﻔﺎﻻ ﺑﻌﻴﺪ اﻟﺪﺳﺘﻮر، إن ﻣﻴﺎدﻳﻦ املﺪﻳﻨﺔ ﺳﺘُﻀﺎء ﺑﻌﺪ ﻳﻮﻣني ﺑﺎﻷﻧﻮار اﻟﺴﺎﻃﻌﺔﺿﺨﻢ ﺗﻘﻮل ﱠ
ﻄﻞ املﺼﺎﻟﺢ اﻟﺤﻜﻮﻣﻴﺔ وﺗﻔﺘﺢ ﺳﺠﻼت اﻟﺘﴩﻳﻔﺎت ﰲ اﻟﻘﴫ ﻟﻴﺬﻫﺐ املﻬﻨﺌﻮن ﻣﻦ وﺳﺘُﻌ ﱠ
ً
ﺗﺄدﻳﺔ ﻟﻮاﺟﺐ اﻟﻮﻻء ﻟﻠﻤﻠﻚ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﺪَع ﺑﺮملﺎﻧًﺎ واﺣﺪًا ﻳُﺴﻘﻂ اﻟﻌﻈﻤﺎء وﻳﻜﺘﺒﻮا ﺑﻬﺎ أﺳﻤﺎءﻫﻢ
ﺣﻘﺎ،وزارة … وﺗﻌﺠﺒﺖ ﻣﺎذا ﻳﻔﻌﻞ اﻟﻨﺎس ﺑﻬﺬه اﻷﻧﻮار ﻛﻠﻬﺎ إذا أرادوا أن ﻳﺒﺘﻬﺠﻮا ﺑﺎﻟﻌﻴﺪ ٍّ
ﻟﻠﻔﺮاش ﻛﻠﻤﺎ رأﻳﺘﻪ ﻳﻘﺬف ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ اﻷﻧﻮار اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺮﻗﻪ ،وأﺧﺬت أﻗﺮأ ﻛﻞ ﻣﺎ إﻧﻨﻲ أرﺛﻲ َ
رأﻳﺖ إﻋﻼﻧًﺎ ﻋﻦ آﺧﺮ ﻣﻮﻋﺪ ﻟﻠﺘﻘﺪم ﻻﻣﺘﺤﺎن اﻟﺒﻜﺎﻟﻮرﻳﺎ،
أﻣﺎﻣﻲ ﻣﻦ اﻷﺧﺒﺎر ﺣﺘﻰ اﻟﻮﻓﻴﺎت إﱃ أن ُ
وﻫﻮ ﻳﻮم اﻷﺣﺪ املﻘﺒﻞ ،ﻓﺬﻛﺮﻧﻲ ﻫﺬا اﻹﻋﻼن ﺑﺤﻴﺎﺗﻲ املﺎﺿﻴﺔ وأﺧﺬت أﻋﺪ اﻟﺴﻨﻮات اﻟﺘﻲ ﻣﺮت
ﻋﲇ ﺑﻌﺪ ﺗﺮك املﺪرﺳﺔ .ﺳﺒﻊ ﺳﻨﻮات ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻟﻢ أﺷﻌﺮ ﺑﻤﺮورﻫﺎ ﻛﺄﻧﻬﺎ ُﻗﻄﻌﺖ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻲ،
ﺷﺨﺼﺎ آﺧﺮ ﰲ ﻧﻈﺮ ً ﻛﻨﺖ واﺻﻠﺖ اﻟﺪراﺳﺔ ﻟﻜﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺴﻨﻮات ﻛﻔﻴﻠﺔ ﺑﺄن ﺗﺠﻌﻞ ﻣﻨﱢﻲ وﻟﻮ ُ
واﻗﻔﺎ ﰲ ﻣﻜﺎن ﻛﺄﻧﻲ أﻗﻔﺰ ﻛﻨﺖ ً ﻧﻔﴘ وﰲ ﻧﻈﺮ ﻏريي ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا أﺻﺒﺤﺖ ﺑﻌﺪ ﻫﺬه املﺪة؟ ُ
واﻗﻔﺎ ،وﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﻣﺜﻞ زﻣﻼﺋﻲ اﻟﺬﻳﻦ واﺻﻠﻮا اﻟﺪراﺳﺔ ﺣﺘﻰ إﱃ أﻋﲆ ﺛﻢ أﺳﻘﻂ ﺣﻴﺚ ﻛﻨﺖ ً
ﺣﺼﻠﻮا ﻋﲆ اﻟﺸﻬﺎدات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻟﻜﻨﺖ أذﻫﺐ إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻷﻗﻮل ﻟﻪ» :أﻧﺎ ﺳﻴﺪ زﻫري!«
ﺿﺎﺋﻘﺎ ﺑﻨﻔﴘ ﻓﻌﺪت إﱃ ﻣﻨﺰﱄ وأﻏﻠﻘﺖ ﻋﲆ اﻟﺒﺎب ،وﺟﻌﻠﺖ أﻗﺮأ ً ُ
وﻗﻤﺖ ﻣﻦ اﻟﻘﻬﻮة
ﻗﺼﺔ إﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﺑﺪأت ﰲ ﻗﺮاءﺗﻬﺎ ﻣﻨﺬ ﻟﻴﻠﺔ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻟﻢ أﻓﻬﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻛﺎن ذﻫﻨﻲ ﻳَﴩد
ﺑﺮﻏﻤﻲ ﻋﺎﺋﺪًا إﱃ ﻓﻜﺮة اﻟﺒﻜﺎﻟﻮرﻳﺎ ،وﺟﺌﺖ ﺑﺎﻟﺠﺮﻳﺪة ﻓﺄﺧﺬت أﻗﺮأ إﻋﻼن اﻻﻣﺘﺤﺎن ﻣﺮة أﺧﺮى،
ووﻗﻔﺖ ﻋﻨﺪ آﺧﺮ ﻣﻮﻋﺪ ﻟﺘﻘﺪﻳﻢ اﻟﻄﻠﺒﺎت .ﻫﻮ ﻳﻮم اﻷﺣﺪ وﻟﻢ ﻳﺒﻖ ﻋﻠﻴﻪ إﻻ اﻟﺠﻤﻌﺔ واﻟﺴﺒﺖ،
وﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن أﻋﺪ اﻟﺠﻤﻌﺔ ﻷﻧﻬﺎ ﻋﻄﻠﺔ ،وﻗﻤﺖ إﱃ ﻣﻜﺘﺒﻲ ﻓﺄﺧﺮﺟﺖ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺪراﺳﻴﺔ
ُ
وﺗﺜﺎءﺑﺖ، وأﺧﺬت أﻧﺘﻘﻞ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻗﺎرﺋًﺎ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ وﻣﻦ ﻫﻨﺎك ﺣﺘﻰ ﺛﻘﻠﺖ ﻋﻴﻨﺎي ودارت رأﳼ
وﻟﻜﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ أردت اﻟﻨﻮم ﻟﻢ أﺳﺘﻄﻌﻪ وﻣﻀﻴﺖ ﰲ ﺗﻔﻜريي» :ﻣﺎذا أﻓﻌﻞ إذا أردت اﻟﺘﻘﺪم
ﺳﺒﺤﺖ ﰲ اﻷﻓﻜﺎر وأﺧﺬت أﺣﺴﺐ ﻣﺎ أﺣﺘﺎج إﻟﻴﻪ ﻣﻦ املﴫوﻓﺎت ﰲ ُ ﻟﻠﺒﻜﺎﻟﻮرﻳﺎ؟« ﺑﻞ إﻧﻲ
اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﻟﻮ دﺧﻠﺖ اﻻﻣﺘﺤﺎن ﺛﻢ ﻧﺠﺤﺖ ﰲ اﻟﺒﻜﺎﻟﻮرﻳﺎ ،وﺗﺴﻠﻞ اﻟﻨﻮم آﺧﺮ اﻷﻣﺮ إﱃ ﺟﻔﻨﻲ
ﺣﺘﻰ اﺳﺘﻴﻘﻈﺖ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح وأﻧﺎ ﻋﺎزم ﻋﲆ أن أﺗﻘﺪم ﻟﺬﻟﻚ اﻻﻣﺘﺤﺎن.
ً
ﻣﺪرﺳﺎ ﰲ املﺪرﺳﺔ اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ ﺑﻌﺪ ﺗﺨ ﱡﺮﺟﻪ ً
ﺻﺪﻳﻘﺎ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ﻣﻦ زﻣﻼﺋﻲ أﺻﺒﺢ وﺗﺬﻛﺮت أن ﱄ
وﻛﻨﺖ أراه ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ،وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ أﻃﻴﻊ دﻓﻌﺘﻲ ُ ﻣﻦ ﻛﻠﻴﺔ اﻵداب،
اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﻓﺄﻋﺮج إﱃ أﻗﺮب ﻋﻄﻔﻪ ﺣﺘﻰ أﺗﺤﺎﳽ ﻣﻘﺎﺑﻠﺘﻪ ،وﻛﺎن أول ﻣﺎ ﺧﻄﺮ ﱄ أن أذﻫﺐ إﻟﻴﻪ
ﻷﻃﻠﺐ ﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻪ ﻋﲆ اﻟﺘﻘﺪم ﻟﻼﻣﺘﺤﺎن ،وﺷﻌﺮت ﺑﺎﻟﺨﺠﻞ ﻣﻦ ﻧﻔﴘ؛ إذ ﻟﻢ أﻓﻜﺮ ﰲ زﻳﺎرﺗﻪ
إﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ اﺿﻄﺮﺗﻨﻲ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﻟﻴﻪ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻋﺰﻣﺖ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ﻋﲆ أن أﺟﻤﻊ ﻋﺰﻳﻤﺘﻲ وأﻃﺮد
اﻟﱰدﱡد وأذﻫﺐ إﻟﻴﻪ.
62
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ
وﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﺒﺎد — ذﻟﻚ اﻟﺰﻣﻴﻞ اﻟﻘﺪﻳﻢ — ﺷﺎبﱞ ﺟﻤﻌﺘﻨﻲ ﺑﻪ ﺻﻠﺔ وﺛﻴﻘﺔ ﰲ أﻳﺎم
اﻟﺘﻠﻤﺬة ،وﻫﻮ ﻣﻦ أﺑﻨﺎء دﻣﻨﻬﻮر ،وﻛﺎن واﻟﺪاﻧﺎ ﺻﺪﻳﻘني وﻳﺪﺧﻞ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﺎ ﺑﻴﺖ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﻛﺄﻧﻪ
ﺷﻌﺮت ﺑﻪ ﻣﻦ اﻷﺳﻒ ُ أﺣﺪ أﻓﺮاد أﴎﺗﻪ ،وﻟﻢ أﺷﻌﺮ ملﻘﺎﻃﻌﺔ أﺣﺪ ﻣﻦ زﻣﻼﺋﻲ اﻟﻘﺪاﻣﻰ ﺑﻤﺎ
ملﻘﺎﻃﻌﺘﻪ ،وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺣﺪﺛﺖ ﻧﻔﴘ أن أذﻫﺐ إﻟﻴﻪ ﻷﻋﺎود ﻣﻮدﺗﻪ ﻣﻌﺘﺬ ًرا ﻋﻦ ﻣﺠﺎﻓﺎﺗﻲ ﻟﻪ ،وﻟﻜﻦ
اﻟﻜﱪﻳﺎء ﺣﺎﻟﺖ ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﻣﺎ ﺣﺪﺛﺖ ﺑﻪ ﻧﻔﴘ ،وﻛﺎن ﻣﻦ املﻤﺘﺎزﻳﻦ ﰲ ﻗﻮة اﻟﺘﻔﻜري وﻛﺜﺮة
اﻟﻘﺮاءة ،وإن ﻛﺎن ﻣﻦ أﻛﺜﺮ اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ اﻧﺰواءً .ﻛﺎن ﻻ ﻳﺸﺎرك ﰲ اﻷﻟﻌﺎب وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻪ ﻧﺼﻴﺐ
ﻣﻦ اﻟﻈﻬﻮر ﰲ ﻣﺤﺎﻓﻞ أواﺧﺮ اﻷﻋﻮام ،وﻛﻨﺎ ﻟﻬﺬا ﻧﻌﺮﻓﻪ ﺑﺎﺳﻢ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻻ ﺗﻜﺮﻳﻤً ﺎ ﻟﻪ وﻻ
ﱠ
ﻳﺘﻤﺴﻚ ﺑﻬﺎ ﺗﻘﺪﻳ ًﺮا ﻟﺬﻛﺎﺋﻪ ،ﺑﻞ ﺗﻔ ﱡﻜﻬً ﺎ ﻳﻘﺮب ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺳﺨﺮﻳﺔ ،وﻛﺎن ﻳﺘﺨﺬ ﻟﻨﻔﺴﻪ آراء
ﺟﺪاﻻ ،وﻛﺜريًا ﻣﺎ اﻧﺘﻬﺖ ﻣﻨﺎﻗﺸﺘﻨﺎ ﻣﻌﻪ إﱃ املﺸﺎدة أو املﻨﺎﻓﺮة ،وﻛﺎن ﰲ أﺛﻨﺎء ً وﻻ ﻳﻘﺒﻞ ﻓﻴﻬﺎ
ﻗﻮﻻ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺎﻗﺸﻪ وﻳﺤﻠﻠﻪ ،وﻻ ﻳُﺒﺎﱄ ﻣﺎ ﻳﺆدي إﻟﻴﻪ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺪروس ﻻ ﻳَﻘﺒَﻞ ﻣﻦ املﺪرﺳني ً
ﺿﻴﻘﻬﻢ ﺑﻪ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ،وﻛﺎن ﻧﻘﻮل ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻨﺎ إﻧﻪ ﻣﻦ أﺗﺒﺎع اﻟﺤﺰب اﻟﻮﻃﻨﻲ وإن ﻛﻨﺎ
ﻻ ﻧﻌﺮف ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺒﺎدئ اﻟﺤﺰب اﻟﻮﻃﻨﻲ ،وﻛﺎن ﻫﺎدئ اﻟﻄﺒﻊ ﰲ أﻛﺜﺮ أﺣﻮاﻟﻪ ،ﻓﺈذا ﺗﺤﻤﱠ ﺲ ﰲ
ﺗﺪﻓﻖ وﺗﻬﻮﱠر وﻏﻀﺐ واﻋﺘﺰل أﺻﺤﺎﺑﻪ ﻳﻮﻣني أو ﺛﻼﺛﺔ أﻳﺎم ﰲ ﻛﻞ ﻣﺮة ﻗﺒﻞ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﱠ
أن ﻳﺴﺘﻌﻴﺪ ﺳﻤﺎﺣﺘﻪ ووداﻋﺘﻪ ،وﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ زﻳﺎرﺗﻪ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح وﻛﺎن اﻟﻴﻮم ﺟﻤﻌﺔ ،ورأﻳﺖ أن
أﺧﺘﴫ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ ﺑﻴﺘﻪ ﺑﺄن أﻋﱪ ﴍﻳﻂ اﻟﺴﻜﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ﻣﻦ ﺟﻨﻮب املﺤﻄﺔ وراء ﻣﺨﺎزن
ﻮﻓﺮ ﰲ اﻟﺴري دورة اﻟﺒﻀﺎﻋﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺗﺮﺑﺔ ﻣﺘﻌ ﱢﺮﺟﺔ ﺗﻤﺮ ﺑني املﻘﺎﺑﺮ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗُ ﱢ
ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺗﺸﺒﻪ ﻧﺼﻒ داﺋﺮة ،وملﺎ وﺟﺪت ﻧﻔﴘ ﺑني املﻘﺎﺑﺮ ﺗﺬﻛﺮت أن أزور ﻣﻘﱪة أﺑﻲ ،وﻛﻨﺖ
ﻣﻨﺬ وﻓﺎﺗﻪ أﺗﺤﺎﳽ اﻻﻗﱰاب ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺪﻓﻮﻋً ﺎ ﺑﺸﻌﻮر اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ ﺑﻐري ﺗﻔﻜري ،وملﺎ وﻗﻔﺖ إﱃ ﺟﻮار
اﻟﻘﱪ ﻏﻤﺮﻧﻲ ﺣﻨني ﺷﺪﻳﺪ واﻧﻬﻤﺮ اﻟﺪﻣﻊ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻲ ﺑﺤﺮﻗﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ وﻫﺠﻤَ ْﺖ ﻋﲆ ﻣﻮﺟﺔ ﻣﻦ
اﻷﺳﻒ واﻟﻨﺪم ﻋﲆ أﻧﻲ ﻟﻢ أذﻫﺐ ﻛﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﻨﻮات ﻷزور ذﻟﻚ اﻟﻮاﻟﺪ اﻟﻌﺰﻳﺰ وأﺗﺮﺣﱠ ﻢ ﻋﻠﻴﻪ
وأﻣﻼ ،وﺗﺬﻛﺮت وأﻧﺎ واﻗﻒ ﻫﻨﺎك ً وأذرف ﻋﻨﺪه دﻣﻮﻋﻲ ،وﻫﻮ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﻤﻸ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﺑﻬﺠﺔ
ذاﻫﻼ ﻣﻊ املﻮﻛﺐ اﻟﺤﺰﻳﻦ ﻷودع ﺟﺜﻤﺎﻧﻪ ،وﻋﺎد إﱄ ﱠ اﻟﺸﻌﻮر ً ُ
ﴎت ﻓﻴﻪ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم اﻟﺒﻌﻴﺪ اﻟﺬي
ﻣﺤﻤﻮﻻ إﱃ اﻟﺤﻔﺮة ﻟﻴﺪﻓﻦ ﻓﻴﻬﺎ .ﻛﻨﺖ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ أﺗﻤﻨﻰ ﻟﻮ ً ﺑﺎﻟﻠﻬﻔﺔ اﻟﺘﻲ أﺣﺴﺴﺘُﻬﺎ وأﻧﺎ أراه
ﺑﻘﻴﺖ ﻣﻌﻪ وﻧﺎزﻋﺖ ﻣﻦ ﺣﻮﱄ ﻷﺗﻤﺴﻚ ﺑﻪ؛ إذ ُﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻐريه ﺗﻜﻮن ﻣﻮﺣﺸﺔ ﺧﺎوﻳﺔ
ﻣﺨﻴﻔﺔ ،وأﺧﺬت أﻗﺮأ اﻟﻔﺎﺗﺤﺔ ﻣﺮ ًة ﺑﻌﺪ ﻣﺮة وأﻧﺎ ﰲ ﻏﻤﺮة ﻣﻦ اﻟﺤﺰن وﻗﺮأت ﻣﺎ ﺗﺬﻛﺮﺗﻪ ﻣﻦ
وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ أن اﻵﻳﺎت اﻷﺧﺮى ،ووﺟﺪت ﰲ ذﻟﻚ راﺣﺔ ﻻ أﻗﺪر ﻋﲆ وﺻﻔﻬﺎُ ،
أﺣﺲ روﺣﻪ ﺗﺨﺎﻃﺒﻨﻲ ﻗﺎﺋﻠﺔ» :إن اﻟﺤﻴﺎة ﺗﻨﺎدﻳﻚ ﻳﺎ وﻟﺪي!« ﻗﺮﺣﺔ ﰲ داﺧﲇ ﺗﻨﺪﻣﻞ وأﻧﻨﻲ ﱡ
ﻣﺘﺼﻼ ﺑﻪ ﺑﻌﺪ املﻮت ،وأﻧﻪ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﻲ وﻳﺒﺎرﻛﻨﻲ، ً وﻷول ﻣﺮة ﻣﻨﺬ ﻓﻘﺪﺗﻪ ﺗﺒني ﱄ أﻧﻨﻲ ﻣﺎ أزال
63
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻛﺎن ﻛﻴﺎﻧﻲ ﻛﻠﻪ ﻳﻨﺒﺾ ﺑﺸﻌﻮر ﻣﺒﻬﻢ ﺑﺄن اﻟﺤﻴﺎة ودﻳﻌﺔ ﻓﻴﻨﺎ ،وأﻧﻬﺎ ﻣﺘﺼﻠﺔ ﺑﺎﻷﺟﺪاد ﻣﻦ
ﻗﺒﻠﻨﺎ وﻣﺘﺼﻠﺔ ﺑﺎﻟﺤﻔﺪة ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻧﺎ وأﻧﻬﺎ واﺟﺐ ﻣﺴﺘﻤﺮ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺆدﻳﻪ إذا أردﻧﺎ أن ﻧﺸﺎرك
ﰲ ﺗﺤﻤﱡ ﻞ أﻣﺎﻧﺘﻬﺎ ،وﻣﻀﻴﺖ ﺑﻌﺪ ﺣني ﻋﻦ اﻟﻘﱪ وﻗﻠﺒﻲ ﻳُﻌﺎﻫﺪﻧﻲ ﻋﲆ أن أؤدﱢي واﺟﺐ ﺣﻴﺎﺗﻲ،
أﺣﺲ ﺑﺄن ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﺒريًا ﱠ
ﺗﻐري ﰲ ﻧﻔﴘ. ﴎت ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻲ إﱃ ﺑﻴﺖ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﺒﺎد ﻛﻨﺖ ﱡ ُ ﻓﻠﻤﺎ
واﺳﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻛﻤﺎ ﻋﺮﻓﺘُﻪ ﰲ ﺳﻤﺎﺣﺘﻪ ووداﻋﺘﻪ وﺟﻠﺴﻨﺎ ﺳﺎﻋﺔ ﻧﺘﺬاﻛﺮ أﻳﺎم
املﺪرﺳﺔ وﻣﺎ ﻛﺎن ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ أﺣﺪاث ﺻﻐرية ،وﻛﺎن ﻳُﺬ ﱢﻛﺮﻧﻲ ﺑﺄﺷﻴﺎء ﻏﺎﺑﺖ ﻋﻦ ذاﻛﺮﺗﻲ ،ﻛﺄﻧﻲ
ﻃﻮﻳﺘﻬﺎ ﰲ أﻏﻮار ﻋﻤﻴﻘﺔ ﺗُﺨﻔﻴﻬﺎ ﻋﻨﻲ ،واﺳﺘﻤﻌﺖ إﻟﻴﻪ ﻛﺄﻧﻲ أرى ﺻﻮ ًرا ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﻌﻴﺪ ،ﺻﻮ ًرا
ﺷﺎﺣﺒﺔ ذﻫﺒﺖ ﻣﻼﻣﺤﻬﺎ واﻧﻤﺤﺖ أﻟﻮاﻧﻬﺎ ﻣﻦ ذﻫﻨﻲ ،وﻟﻜﻦ أﺻﺪاءﻫﺎ ﻣﺎ ﺗﺰال ﺑﺎﻗﻴﺔ ،ﻓﺬﻛﺮ
اﻷﻳﺎم اﻟﺜﺎﺋﺮة اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻬ ﱡﺰ أﻋﻤﺎق ﻧﻔﻮﺳﻨﺎ ﰲ ﺳﻨﺔ ١٩٣٥واﺟﺘﻤﺎﻋﺎﺗﻨﺎ اﻟﴪﻳﺔ اﻟﺘﻲ ُﻛﻨﺎ
ﻧُﺨﻔﻴﻬﺎ ﻋﻦ اﻷﻧﻈﺎر ،وﺗﻠﻚ املﺆاﻣﺮات اﻟﺼﻐرية اﻟﺘﻲ أﺣﻄﻨﺎﻫﺎ ﺑﺎﻟﻜﺘﻤﺎن واﻟﺨﻄﺐ اﻟﻨﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ
واملﻨﺎﻗﺸﺎت اﻟﻌﻨﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺎرزﻧﺎ ﺑﻬﺎ ،واﻟﺨﻄﺎب اﻟﺬي ﺣﺎوﻟﻨﺎ ﻛﺘﺎﺑﺘﻪ ﺑﺪﻣﺎﺋﻨﺎ ﰲَ ﺗﺒﺎدَﻟﻨﺎﻫﺎ،
ُ
رﻋﻮﻧﺔ اﻟﺼﺒﺎ ﻟﻨﺒﻌﺚ ﺑﻪ إﱃ املﻠﻚ ﻟﻨﻄﺎﻟﺒﻪ ﺑﺤﺮﻳﺎﺗﻨﺎ ،وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن ﻫﺬه اﻟﺴﻨﻮات اﻟﺘﻲ ﻓﺎرﻗﺖ
ﻓﻴﻬﺎ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻗﺪ ﻧﺰﻋﺘﻨﻲ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ وﻣﻦ ﺣﻴﺎة إﱃ ﺣﻴﺎة ،وﺣﺪدت ﱄ اﻷﻓﻖ اﻟﺬي
أﺟﻮل ﻓﻴﻪ وﺟﻌﻠﺘﻨﻲ أﻧﺤﴫ ﰲ ﻃﻲ ﻧﻔﴘ وأﻧﺴﺎق ﻣﻊ ﻇﺮوﰲ ﻛﻤﺎ ﺗﺪﻓﻌﻨﻲ ،واﻋﱰاﻧﻲ ارﺗﺒﺎك
أدر ﻛﻴﻒ أﻓﺘﺢ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻟﺬي ﺟﺌﺖ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ، ﺷﺪﻳﺪ ﻋﻨﺪﻣﺎ دارت ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﰲ رأﳼ وﻟﻢ ِ
وﻧﻈﺮ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻧﺤﻮي ﰲ ﻋﻄﻒ وﻗﺎل وﻫﻮ ﻳﺴﺘﻨﺪ إﱃ ﻇﻬﺮ اﻷرﻳﻜﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺎ ﺟﺎﻟﺴني ﻋﻠﻴﻬﺎ:
ﻟﻘﺪ ﻣ ﱠﺮت ﺑﻨﺎ اﻟﺴﻨﻮات ﻳﺎ ﺳﻴﺪ وﻛﺄﻧﻬﺎ ﻟﺤﻈﺎت ،ﻓﻜﻴﻒ أﺣﻮاﻟﻚ وﻛﻴﻒ ﺗﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺤﻴﺎة؟
ﺣﻘﺎ ،وﻫﺬهﻓﺎرﺗﺤﺖ إﱃ ﻗﻮﻟﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﺧ ﱠﻠﺼﻨﻲ ﻣﻦ ارﺗﺒﺎﻛﻲ وﻗﻠﺖ :ﻫﻲ ﺳﻨﻮات ﻛﺜرية ٍّ ُ
آﺛﺎرﻫﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﻋﲆ ﺷﻌﺮك.
وﻛﺎن اﻟﺸﻴﺐ ﻳُﻐﱪ ﻓﻮدﻳﻪ ووﺳﻂ ﻧﺎﺻﻴﺘﻪ.
ﻈﺎ َ
ﺑﺸﻌﺮك اﻷﺳﻮد. ﻓﻘﺎل ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :وﻟﻜﻨﱠﻚ ﻣﺎ ﺗﺰال ﻣُﺤﺘﻔ ً
ﻷن اﻟﺴﻨﻮات ﻣ ﱠﺮت ﺑﻲ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻗﻄﺎر ﴎﻳﻊ وأﻧﺎ واﻗﻒ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ أﻧﻈﺮ ﻓﻘﻠﺖ ﻣﺒﺎد ًرا :ﻫﺬا ﱠ
إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ.
ﺮﺳﻤﻬﺎ ﰲ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت إﻧﺸﺎﺋﻚ .ﻟﻢ َ ً
ﻓﻘﺎل ﻫﺎدﺋﺎ :ﻳُﺬ ﱢﻛﺮﻧﻲ ﻗﻮﻟﻚ ﻫﺬا ﺑﺎﻟﺼﻮر اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ ﺗ ُ
ُ
ﻗﺮأت ﻟﻚ ِﺷﻌ ًﺮا ﰲ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ وﻣﻘﺎﻻت ﰲ اﻟﻨﱪاس. ﻻ ﺗﻜﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻓﻘﺪ
ﻋﺸﺖ ﻫﺬه اﻟﺴﻨني ﻻ أﻓﻜﺮ ﰲ ﳾء ﺳﻮى أن أﻃﻔﻮ ﻋﲆ ُ ُ
ﻟﺴﺖ أدري. ﻓﺄﺟﺒﺘﻪ ﰲ ﻓﺘﻮر:
ﺳﻄﺢ اﻟﺘﻴﺎر وأﺗﺠﻪ ﻣﻌﻪ ﺣﻴﺚ ﻳُﺮﻳﺪ أن ﻳﺤﻤﻠﻨﻲ .ﻟﻢ أﻓﻜﺮ ﰲ ﳾء وﻟﻢ أرﻏﺐ ﰲ ﳾء وأﻛﺎد
ﺑﺄن ﱄ ﺷﻴﺌًﺎ أﻋﻴﺶ ﻣﻦ ذاﻫﻼ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ .ﻗﻀﻴﺖ ﻫﺬه اﻟﺴﻨﻮات اﻟﺴﺒﻊ وأﻧﺎ ﻏري ﺷﺎﻋﺮ ﱠ ً أﻛﻮن
64
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ
ذاﻫﻼ .ﻛﻨﺖ آﺗﻴًﺎ إﻟﻴﻚ ﻣﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖً آت إﻟﻴﻚ ﺑﺪأت أﺷﻌﺮ ﺑﺄﻧﻲ ُ
ﻛﻨﺖ أﺣﻴﺎ أﺟﻠﻪ ،واﻵن ﻓﻘﻂ وأﻧﺎ ٍ
ﻓﻌﺮﺟﺖ ﻋﲆ ﻗﱪ أﺑﻲ ﻷزو َره .أﺗُﺼﺪﱢق أﻧﻲ ﻟﻢ أذﻫﺐ ﻟﺰﻳﺎرﺗﻪ ﻣﺮ ًة ﻛﻞ ﻫﺬهُ اﻟﺬي ﻳﻤﺮ ﺑﺎملﻘﺎﺑﺮ
اﻟﺴﻨﻮات؟ ﻛﻨﺖ ﻣﺜﻞ ﻗﺸﺔ ﺗﻄﻔﻮ ﻋﲆ املﺎء وﻳﺪﻓﻌﻬﺎ اﻟﺘﻴﺎر ﻫﻨﺎ أو ﻫﻨﺎك وﻫﻲ ﻻ ﺗُﺮﻳﺪ ﻟﻨﻔﺴﻬﺎ
ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﻗﻔﺖ ﻋﻨﺪ ﻗﱪ أﺑﻲ ُﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن روﺣﻪ ﺗﺴﺘﻘﺒﻠﻨﻲ وﺗُﺤﺪﱢﺛﻨﻲ ،وﺗﻘﻮل ﱄ:
»إن اﻟﺤﻴﺎة ﺗﻨﺎدﻳﻚ ﻳﺎ وﻟﺪي «.وﻷول ﻣﺮة ﺑﺪأت أﻓﻜﺮ وأﻧﺎ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻲ إﻟﻴﻚ وأﺳﺄل ﻧﻔﴘ ﻣﺎ ﱠ
ذﻟﻚ اﻟﺬي ﺗﻨﺎدﻳﻨﻲ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ أﺟﻠﻪ؟
وﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻳﺴﺘﻤﻊ إﱄ ﰲ اﻫﺘﻤﺎم وﻋﻄﻒ وﻗﺎلَ :ﺳﻞ ﻧﻔﺴﻚ ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﻋﻦ اﻟﻐﺎﻳﺔ
اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻳﺪﻫﺎ أﻧﺖ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎدﻳﻚ.
وﺷﻌﺮت ﺑﺎﻟﺮﻫﺒﺔ ﺗﻐﻤﺮﻧﻲ وأﻧﺎ أﺣﺎول أن أﺟﺪ ﻟﻪ ﺟﻮاﺑًﺎ ،وﻟﻜﻨﱠﻪ اﺳﺘﻤﺮ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﻇﻨﻚ
ﻣﻐﺎﻟﻴًﺎ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺰﻣﻦ ﻗﺪ ﻣﺮ ﺑﻚ ﻛﺎﻟﻘﻄﺎر وأﻧﺖ واﻗﻒ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ،وﻣﺎ اﻟﺰﻣﻦ؟
إﻧﻪ ﺧﺮاﻓﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻣﴪو ًرا :ﻫﺬا ﻣﺎ ُ
ﻛﻨﺖ أﻗﻮﻟﻪ ﻟﻨﻔﴘ.
إﻧﻪ ﻣﻦ ﺻﻨﻊ ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ ﻧﺤﻦ أﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ؟
ﻣﻮاﻓﻘﺎ :ﻻ ﺷﻚ ﰲ ﻫﺬا ،وﻟﻜﻨﻪ ﻣﻊ ﻫﺬا ﻳﻤﺜﻞ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ .ﻫﻮ ﻳﻤﺜﻞ اﻟﺤﺮﻛﺔ ً ﻓﻘﺎل
اﻟﺘﻲ ﻓﻴﻨﺎ واﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﻮﻟﻨﺎ .اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻫﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻴﻨﺎ ،وﻻ ﻋﱪة ﺑﻤﺎ
ﻧﺴﻤﻴﻪ اﻟﺰﻣﻦ إﻻ ﺑﻤﻘﺪار ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ .اﻟﺴﻜﻮن واﻟﺠﻤﻮد ﻻ ﻳﻜﻮن إﻻ ﻟﻸﻣﻮات.
ٍ
ﺣﺎﻟﺔ إﱃ أﺧﺮى. ﺗﺘﻐري وﺗﺘﺤﻮﱠل ﻣﻦﺑﻞ إن اﻷﻣﻮات ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺗﺘﺤ ﱠﺮك واﻟﺠﻤﺎدات ﺗﺘﺤ ﱠﺮك ﻷﻧﻬﺎ ﱠ
ﻟﻢ ﺗﻜﻦ أﻧﺖ ﺳﺎﻛﻨًﺎ وﻻ ﺟﺎﻣﺪًا ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﻨﻮات وﻻ ﻳُﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﺟﺎﻣﺪًا؛ ﻷﻧﻚ ﻛﻨﺖ ﺗﻨﻤﻮ
ﺤﻘﻖ ﻷﻧﻔﺴﻨﺎ ﻏﺎﻳﺔ ﻛﻨﺎوﺗﺠﺮب ،ﺳﻮاء ﻓﻄﻨﺖ إﱃ ذﻟﻚ أو ﻟﻢ ﺗَﻔﻄﻦ .ﻗﺪ ﻧَﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﻘﻠﻖ ﻷﻧﻨﺎ ﻟﻢ ﻧ ُ ﱢ
ﻧﺤﺲ ﰲ أﻋﻤﺎﻗﻨﺎ ﺑﻮﺟﻮد ﻏﺎﻳﺔ ﻣُﺒﻬَ ﻤﺔ ،وﻣﺎ ﺷﻌﻮرﻧﺎ ﱡ ﱠ
ﻧﺘﺤﻘﻖ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻣﻌﻨﺎه أﻧﻨﺎ ﻧﺤﺐﱡ أن
ﺑﺎﻟﻘﻠﻖ إﻻ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻫﺬه اﻟﻐﺎﻳﺔ املﺒﻬَ ﻤﺔ ،وﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻟﺬي ﺧﻴﱢﻞ إﻟﻴﻚ أﻧﻚ ﺳﻤﻌﺘَﻪ وأﻧﺖ
واﻗﻒ إﱃ ﺟﻮار ﻗﱪ أﺑﻴﻚ ﻣﺎ ﻫﻮ إﻻ ﺣﺪﻳﺚ ﻫﺬه اﻟﻐﺎﻳﺔ املﺒﻬَ ﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ ﱡ
ﺤﺴﻬﺎ وﻟﻢ ﺗﻘﺪر ﺑﻌ ُﺪ
ﻋﲆ ﺗﺤﺪﻳﺪﻫﺎ.
أﺳﺘﻄﻊ وﻻ أﻇﻨﻨﻲِ ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺗﺮدﱡد :أﻗﻮل ﻟﻚ ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﰲ ﴏاﺣﺔ أﻧﻲ ﺧﺎﺋﺐ ﺣﺎﺋﺮ ﻟﻢ
أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻋﺮف أﻳﻦ أﺗﺠﻪ.
ﻓﻘﺎل وﻫﻮ ﻳَﻨﺤﻨﻲ إﱃ اﻷﻣﺎم وﻳﺘﱠﻜﺊ ﺑﺬراﻋَ ﻴﻪ ﻋﲆ رﻛﺒﺘَﻴﻪ ﰲ اﻫﺘﻤﺎم :أﻻ ﻳُﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن
ﻫﺬا ﻣﻦ ﺻﻨﻌﻚ أﻧﺖ؟ دﻋْ ﻨﻲ أُﺣﺪﺛﻚ ﰲ ﴏاﺣﺔ ،ﻳُﺨﻴﱠﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻚ آﺳﻒ؛ ﻷﻧﻚ ﻟﻢ ﺗﺴﺘﻤﺮ ﰲ
اﻟﺪراﺳﺔ؛ وﻟﻬﺬا ﺗﻘﻮل إن اﻟﺴﻨﻮات ﻣ ﱠﺮت ﺑﻚ ﻛﺎﻟﻘﻄﺎر اﻟﴪﻳﻊ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ،وﻟﻜﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن
65
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ُﺤﻘﻘﻬﺎ ﻗﺪ ﻧﺴﺨﺎ ﻣﻜ ﱠﺮرة ﻣﻦ ﺻﻮرة واﺣﺪة .ﻟﻜﻞ ﻣﻨﱠﺎ ﺻﻮرة ﻣُﻤﻜﻨﺔ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳ ﱠ ً ﻧﻜﻮن
ﺗﻜﻮن ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﻟﻠﺼﻮر اﻷﺧﺮى ،وﻫﺬا ﻻ ﻳَﻤﻨﻊ ﻣﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻣﺴﺎوﻳﺔ ﻟﻬﺎ أو ﺧريًا ﻣﻨﻬﺎ .أﻧﺖ
ﺗﺎﺟﺮ وأﻧﺎ ﻣﻌﻠﻢ وﻏريﻧﺎ ﻃﺒﻴﺐ أو ﻋﺎﻣﻞ أو ﻓﻼح ،وﻛﻞ ﻣﻨﺎ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺜﻞ اﻵﺧﺮﻳﻦ
ﺣﻘﻖ ﺻﻮرﺗﻪ ﻛﺎﻣﻠﺔ. أو ﺧريًا ﻣﻨﻬﻢ إذا ﱠ
ﺻﻮت ﻳُﻮﻗﻈﻪ ،ﻛﺎن اﻟﺘﺄﺛﺮ ﺑﺎدﻳًﺎ ﻋﻠﻴﻪ وﺻﻮﺗﻪ ٍ وﺗﻨﺒﱠﻬﺖ إﱃ ﻗﻮﻟﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻨﺒﱠﻪ اﻟﺤﺎﻟﻢ إﱃ
ﻳﺘﺪﻓﻖ ﰲ ﺣﻤﺎﺳﺘﻪ ﻟﻠﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ ﱠ ﻳﺘﻬﺪج وﻋﻴﻨﺎه ﺗﻠﻤﻌﺎن ،ﻓﺬ ﱠﻛﺮﻧﻲ ﺑﺄﻳﺎم اﻟﺘﻠﻤﺬة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن
وﺑﺪأت أﺳﺄل ﻧﻔﴘ أﺳﺌﻠﺔ ﻛﺜرية وأﻧﺎ أﻋﺒﺚ ﺑﺄﺻﺎﺑﻌﻲ ﻛﻤﺎ ُ
ﻛﻨﺖ أﻓﻌﻞ داﺋﻤً ﺎ إذا ُ ﻳﻘﺘﻨﻊ ﺑﻬﺎ،
ﻛﻨﺖ ﻣﺮﺗﺒ ًﻜﺎ أو ﺳﺎﺑﺤً ﺎ ﰲ أﻓﻜﺎر ﺣﺎﺋﺮة.
ُ
ُ
ﺟﺌﺖ إﻟﻴﻪ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ. ُ
وﻟﻢ أﺟﺮؤ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻋﲆ أن أﺣﺪﺛﻪ ﻋﻦ اﻻﻣﺘﺤﺎن اﻟﺬي
وﻗﻤﺖ ﻷﻧﴫف. ُ ﻓﺎﺳﺘﺄذﻧﺖ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ
ﻓﻘﺎل ﱄ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :ﻣﺘﻰ أراك ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟ أﺷﻜﺮك ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺰﻳﺎرة وأرﺟﻮ أﻻ ﺗﻜﻮن اﻷﺧرية.
ﻓﻘﻠﺖ ﺿﺎﺣ ًﻜﺎَ :
ﺳﱰاﻧﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﺗُﺤﺐﱡ ﻳﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺮﺣﺒًﺎ ﺑﻚ داﺋﻤً ﺎ ،وﺣﺎول إذا اﺳﺘﻄﻌﺖ أن ﺗُﻜﺜِﺮ ﻣﻦ زﻳﺎراﺗﻚ ﻓﻀﻐﻂ ﻋﲆ ﻳﺪي ً
ﺣﺘﻰ أﺿﻴﻖ ﺑﻬﺎ.
66
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس
ﺑﺄﻓﻜﺎر ﺷﺘﱠﻰ ،وﻛﺄن رأﳼ ﻳﺪور وﻗﻠﺒﻲ ﻳﺸﺒﻪ ٍ اﻧﴫﻓﺖ ﻣﻦ ﻋﻨﺪ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ وذِﻫﻨﻲ ﻣﺘﱠﻘﺪ
أﴎ ﻃﻔﻞ ﻏﺮﻳﺮ ﻳﻘﺬف ﺑﻪ ﰲ ﻋﻨﻒ وﻳَﺠﺬﺑﻪ ﰲ ﻗﺴﻮة. ﻋﺼﻔﻮ ًرا ﰲ ِ
ﻛﻨﺖ أﺳﺄل ﻧﻔﴘ ﻣﺌﺎت اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ أﺟﺪ ﻟﻬﺎ ﺟﻮاﺑًﺎ ﺷﺎﻓﻴًﺎ ،وأﺧﺬت أﺳﺨﺮ ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮة
اﻟﺘﻲ دﻓﻌﺘْﻨﻲ إﻟﻴﻬﺎ ﺣِ ريﺗﻲ ،ﻓﻬﻞ أﻋﻮد أدراﺟﻲ ﻷﻛﻮن ﻣﺮ ًة أﺧﺮى ﺗﻠﻤﻴﺬًا وأﺗﻘﺪم ﻟﻼﻣﺘﺤﺎن
ﺣﻘﺎ ﻋﻦ اﻟﻨﻤﻮ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﻨني ﰲ اﻟﺒﻜﺎﻟﻮرﻳﺎ؟ أﻫﻨﺎك ﺑﺮﻫﺎن أﻗﻮى ﻣﻦ ﻫﺬا ﻋﲆ أﻧﻲ وﻗﻔﺖ ٍّ
ﻛﺄﻧﻲ ﻓﻼح ﻣﺴﻜني ﰲ ﺣﻘﻠﻪ واﻟﻘﻄﺎر اﻟﴪﻳﻊ ﻳﻤﺮ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ؟
وأﺧﺬت أﻋﻴﺪ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ ﻣﺎ ﻗﻠﺘﻪ وﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ .ﻟﻴﺲ اﻟﺰﻣﻦ ﺳﻮى ﺧﺮاﻓﺔ ﻣﻦ
ﺻﻨﻊ ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ ﻧﺤﻦ واﻟﺤﺮﻛﺔ ﻫﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة .ﻛﻞ ﳾء ﻳﺘﺤ ﱠﺮك ﺣﺘﻰ اﻟﺤﺠﺎرة ،وأﻣﺎ أﻧﺎ
ﻓﺈﻧﻲ ﻟﻢ ﱠ
أﺗﻐري وإن ﻛﺎن ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻳﻘﻮل ﱄ إﻧﻲ ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﺗﻐريت.
ووﺻﻠﺖ إﱃ ﻣﻨﺰﱄ وأﻧﺎ أﻗﻠﺐ ﻫﺬه اﻷﺣﺎدﻳﺚ ﰲ ﻧﻔﴘ ،ودﺧﻠﺖ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ واﺳﺘﻠﻘﻴﺖ ﻋﲆ
اﻟﻜﺮﳼ اﻷﺳﻴﻮﻃﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﺬي اﺷﱰﻳﺘُﻪ ﻣﻨﺬ ﺷﻬﺮ ﻣﻦ أﺣﺪ ﺗﺠﺎر اﻷﺛﺎث ا ُملﺴﺘﻌﻤَ ﻞ ،وﺟﻌﻠﺖ
وأﺣﺴﺴﺖ أﻧﻬﺎ ﺗَﻀﻴﻖ ﺑﻲ وأن ﺟﺪراﻧﻬﺎ ﺗَﻘﱰب ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﻬﺔ ﻟﺘﻨﻄﺒﻖ ُ أدﻳﺮ ﺑﴫي ﰲ اﻟﻐﺮﻓﺔ،
أﺗﺤﻘﻖ ﻣﻦ أن اﻟﺠﺪران ﺛﺎﺑﺘﺔ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ وﻛﺎﻧﺖ ﱠ ُ
وﻗﻤﺖ ﻷﺳري ﻓﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻄﻤﻨﻲ،ﻋﲇ ﱠ وﺗُﺤ ﱢ
اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻻ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﺛﻼﺛﺔ أﻣﺘﺎر ﰲ أرﺑﻌﺔ ،ﻓﻤﺎ أﻛﺎد أﺧﻄﻮ ﺑﻬﺎ ﺧﻄﻮﺗَني ﺣﺘﻰ أرﺗ ﱠﺪ إﱃ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ
وﺣﺶ ﰲ ﺣﻈرية ،ﻓﻌﺪت إﱃ اﻟﻜﺮﳼ واﺳﺘﻨﺪت ﺑﺮأﳼ إﱃ ﻇﻬﺮه وﺟﻌﻠﺖ أﺳﺒﺢ ٌ اﻷﺧﺮى ﻛﺄﻧﻲ
ﻛﻨﺖ ﻣﻨﺬ ﺳﺒﻊﰲ أﻓﻜﺎر ﻫﺎﺋﻤﺔ .ﻛﻞ ﳾء ﻳﺘﺤ ﱠﺮك ﺣﺘﻰ اﻟﺠﻤﺎدات وأﻣﺎ أﻧﺎ ﻓﺈﻧﻲ ﻣﺎ أزال ﻛﻤﺎ ُ
ﺗﻐري ﻣﻨﻲ .ﻣﺎذا ﻳﺪل ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻮ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻳﺘﺤﺪﱠث ﺳﻨﻮات ،وﻻ أدري ﻣﺎذا ﱠ
ﻋﻨﻪ؟
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وملﺎذا أﺧﺠﻞ ﻣﻦ ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻘﺪم ﻻﻣﺘﺤﺎن اﻟﺒﻜﺎﻟﻮرﻳﺎ؟ اﻟﻴﻮم اﻟﺠﻤﻌﺔ وﻏﺪًا اﻟﺴﺒﺖ وآﺧﺮ
ُ
وﻗﻤﺖ ﺧﺎرﺟً ﺎ ﻣﻦ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﻋﺎزﻣً ﺎ ﻋﲆ ﻣﻮﻋﺪ ﻟﻠﻘﻴﺪ ﰲ اﻻﻣﺘﺤﺎن ﻳﻮم اﻷﺣﺪ ،ﻓﺈﻣﺎ اﻵن وإﻣﺎ ﻻ،
ﺑﻠﻐﺖ ﴐﻳﺢ أﺑﻮ ﻃﺎﻗﻴﺔ ُ أن أﻋﻮد إﱃ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻷﻓﺎﺗﺤﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻗﺼﺪﺗﻪ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ ﻣﻨﺬ ﻗﻠﻴﻞ ،وملﺎ
ُ
وﺻﻠﺖ إﱃ ﺑﻴﺖ ﺻﺪﻳﻘﻲ ،وملﺎ وأﴎﻋﺖ ﰲ ﺳريي ﺣﺘﻰ ُ وﻗﻔﺖ ﻷﻗﺮأ اﻟﻔﺎﺗﺤﺔ واﻧﴩَ حَ ﺻﺪري
ﺳﱰاﻧﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﺗﺤﺐ؟ ﻗﻠﺖ ﻟﻚ إﻧﻚ َ ﻗﺎﺋﻼ :أﻣﺎ ُﺗﺒﺴﻤﺖ ً ﻟﻘﻴﺘُﻪ ﱠ
ﻗﺎﺋﻼ :اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﻴﻨَﻨﺎ ﻟﻢ ِ
ﻳﻨﺘﻪ ﺑﻌﺪ. ﻓﺠﺬﺑﻨﻲ ﻣﻦ ﻳﺪي ً
ﻓﻘﻠﺖ ﻣﺒﺎد ًرا :ﻟﻢ أﻋﺪ إﻟﻴﻚ ﻷﺗﻤﻢ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻻ أرﻳﺪ أن أﺿﻴﻊ وﻗﺘﻚ ،أو ﺑﻘﻮل آﺧﺮ:
ً
ﺳﺨﻴﻔﺎ ﺛﻢ ﻛﻨﺖ آﺗﻴًﺎ إﻟﻴﻚ أول ﻣﺮة ﻷﻗﻮل ﻟﻚ ﺷﻴﺌًﺎ ﻻ أرﻳﺪ أن أﺿﻴﱢﻊ وﻗﺘﻲ ،ﻓﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻧﻲ ُ
ﺧﺠﻠﺖ أن أﻗﻮﻟﻪ .أﻟﻴﺲ ﻣﻦ ا ُملﻀﺤﻚ أن أﻓﻜﺮ ﰲ اﻟﺘﻘﺪم إﱃ اﻟﺒﻜﺎﻟﻮرﻳﺎ ﺑﻌﺪ ﻫﺬه املﺪة اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ؟
وﺳﻜﺖ ﻷرى أﻣﺎرات اﻟﺪﻫﺸﺔ ﻋﲆ وﺟﻪ ﺻﺎﺣﺒﻲ ،وﻟﻜﻦ وﺟﻬﻪ ﻛﺎن أﺻﻔﻰ ﻣﻦ ﺻﻔﺤﺔ ﱡ
ﻏﺪﻳﺮ راﺋﻖ.
ﱡ
وﻗﺎل ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :أﻇﻨﻬﺎ ﻓﻜﺮة ﺣﺴﻨﺔ.
ً
وﻛﻨﺎ ﻗﺪ ﺑﻠﻐﻨﺎ ﻏﺮﻓﺔ اﻻﻧﺘﻈﺎر ،وﺟﻠﺲ إﱃ ﺟﻨﺒﻲ ﻗﺎﺋﻼ :أﻋﺘﻘﺪ أﻧﻚ ﻟﻦ ﺗﺠﺪ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﰲ
اﻟﻨﺠﺎح.
ﻓﻮﺛﺐ ﻗﻠﺒﻲ إﱃ ﺣﻠﻘﻲ ﻣﻦ اﻟﴪور وﻗﻠﺖ :أﺗﻈﻦ ﻫﺬا؟
ﻓﻘﺎل :أﻋﺮف أﻧﻚ ﻛﻨﺖ داﺋﻤً ﺎ ﺗﺤﺐﱡ اﻟﻘﺮاءة ،وﻻ ﺷﻚ ﰲ أﻧﻚ ﻛﻨﺖ ﺗﻘﺮأ وﺗﻜﺘﺐ.
وﺷﻌﺮت ﻣﻦ ﻧﻈﺮﺗﻪ وﻣﻦ ﻧﱪات ﺻﻮﺗﻪ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﺎﻣﻞ وﻻ ﻳﻘﺼﺪ أن ﻳﺸﺠﻌﻨﻲ ،ﻓﻘﻠﺖ:
ﺳﺄﻗﺪم ﻋﲆ املﻐﺎﻣﺮة وآﺧﺬ ﻧﺼﻴﺒﻲ .إذن ﻓﺄﻧﺖ ﺗﺮى أﻧﻬﺎ ﻓﻜﺮة ﻻ ﺗﺒﻠﻎ ﻣﻦ اﻟﺴﺨﺎﻓﺔ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ
أﻇﻦ.
ﻓﻘﺎل ﻣُﺒﺎد ًرا :ﻫﻲ إن ﺷﺌﺖ ﻣﻐﺎﻣﺮة وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻘﺎﻣﺮة ﻋﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل .ﻫﻨﺎك أﻟﻮف
ُﻔﻠﺴﻮن ﻳُﺮﻳﺪون أن ﻳﺤﺼﻠﻮا ﻣﻦ اﻟﺸﺒﺎن ﻳﺠﻌﻠﻮن ﻣﻦ اﻻﻣﺘﺤﺎن ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ املﻘﺎﻣﺮة؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻣ ُ
ﻋﲆ ﺛﺮوة ﺑﻐري ﻣﻘﺎﺑﻞ ،وﻟﻜﻨﻚ ﻻ ﺗُﻘﺎﻣﺮ ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﻷﻧﻚ ﺗﻄﻠﺐ ﺷﻴﺌًﺎ ﺗﻌﺮف ﻗﻴﻤﺘﻪ وﺗُﺮﻳﺪ أن
واﻗﻔﺎ ﻛﻤﺎ زﻋﻤﺖ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻄﺮﻳﻖ واﻟﻘﻄﺎر اﻟﴪﻳﻊ ﻳﻤ ﱡﺮ ﺑﻚ. ﺗﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺜﻤﻨِﻪ .ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ً
وﻟﺴﺖ أﻗﺼﺪ أن أﺟﺎﻣﻠﻚ وﻟﻜﻨﱢﻲ أﻇﻦ أﻧﻚ أﺣﺴﻨﺖ. ُ ﻻ أﺣﺐ أن أﺟﺎﻣﻠﻚ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻗﻮال
وﻗﻤﺖ ﻣﺴﺘﺄذﻧًﺎ وﻗﻠﺖ :ﺳﺄﻣﺮ ﻋﻠﻴﻚ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح. ُ ﻓﻤﻸﻧﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺛﻘﺔ
ﻛﻨﺖ ﻻ أﺑﺪأ ﻋﻤﲇ ﻗﺒﻞ اﻟﻌﺎﴍة ،وأﺣﺐ ﻓﻘﺎل :ﺳﺄﻛﻮن ﻫﻨﺎك ﻣﻨﺬ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ،وإن ُ
أن أُذ ﱢﻛﺮك ﺑﺄﻧﻲ ﻣُﻌﻠﻢ.
أﻳﻀﺎ إﻧﻲ أﺻﺒﺤﺖ ﺗﻠﻤﻴﺬًا ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ،وأرﺟﻮ أن ﻗﺎﺋﻼ :وأﺣﺐﱡ أن أﻗﻮل ﻟﻚ ً ﻓﺘﺒﺴﻤﺖ ً ﱠ
أﻛﻮن ﺗﻠﻤﻴﺬًا ﻣُﺠﺘﻬﺪًا.
68
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس
وﻣﺪدت ﻳﺪي إﻟﻴﻪ ،وﺿﻐﻄﺖ ﻋﲆ ﻳﺪه ﺑﻐري أن أﺷﻜﺮه ﺑﻠﺴﺎﻧﻲ ،وﺑﺪأت ﻣﻦ ﻟﻴﻠﺘﻲ أُﻋ ﱡﺪ ُ
اﻟﻌﺪة ﻟﻠﻤﺬاﻛﺮة ،وﻻ أذﻛﺮ أﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﰲ وﻗﺖ ﻣﻦ أوﻗﺎت ﺗﻠﻤﺬﺗﻲ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻤﺎﺳﺔ ﻟﻠﺘﻌﻠﻢ.
ﺣﻘﺎ إﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﺮف ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ ﻗﻴﻤﺔ إﻻ إذا ﺷﻌﺮﻧﺎ ٍّ
ﺣﻘﺎ ﺑﺄن ﻟﻨﺎ ﻏﺎﻳﺔ ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﺤﻘﻘﻬﺎ ﻣﻦ وراﺋﻪ. ٍّ
وﻛﺎﻧﺖ اﻷﺷﻬﺮ اﻟﺜﻼﺛﺔ اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ ﻋﲆ اﻻﻣﺘﺤﺎن أﻛﺜﺮ أوﻗﺎت ﺣﻴﺎﺗﻲ ازدﺣﺎﻣً ﺎ ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ واﻟﻜﺪ.
ﻛﻨﺖ ﻣﺜﻞ ﺷﺨﺺ ﻏﺮﻗﺖ ﺑﻪ اﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﰲ ﻟﻴﻠﺔ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﻣﻦ ﻟﻴﺎﱄ اﻟﺸﺘﺎء اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ ،ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﻠﺘﻔﺖ
َﺤﴫ ﻛ ﱠﻞ ﻫﻤﻪ ﰲ اﻷﻧﻮار اﻟﺒﻌﻴﺪة
إﱃ رﻫﺒﺔ اﻟﻈﻼم وﻻ إﱃ ﺑﺮد املﺎء وﻻ إﱃ ﺷﺪﱠة اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ ،ﺑﻞ ﻳ ُ
ً
اﻟﺘﻲ ﺗﺨﻔﻖ ﻋﲆ اﻟﺸﺎﻃﺊ ،وﻳﺠﺎﻫﺪ ﺑﻜﻞ ﻗﻄﺮة ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻟﻴﺼﻞ إﱃ اﻟﱪﱢ ﺳﺎملﺎ .ﻟﻢ أﻛﺪ أﺧﺘﻄﻒ
ﰲ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ إﻻ ﺳﺎﻋﺎت ﻣﻦ اﻟﻨﻮم ،وﻟﻢ أﻛﺪ أذوق ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎم إﻻ ﻣﺎ ﻳُﻤﺴﻚ اﻟﺮﻣﻖ .ﻛﻨﺖ أﺗﺤﺮك
وأﻋﻤﻞ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺬﻫﻮل ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء ﺳﻮى ﻣﺎ أدرﺳﻪ ،وﻻ أﻛﺎد أﺣﺲ ﺑﴚء ﻣﻤﺎ ﺣﻮﱄ
وﻻ ﺑﺄﺣﺪ ﻣﻤﻦ ﺣﻮﱄ ،وملﺎ ﺟﺎء اﻻﻣﺘﺤﺎن آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ذﻫﺒﺖ إﱃ ﻣﻘﺮ اﻟﻠﺠﻨﺔ ،ودﺧﻠﺖ إﱃ اﻟﺨﻴﻤﺔ
وﺟﻠﺴﺖ ﻋﲆ املﻘﻌﺪ اﻟﺬي ﻋﻠﻴﻪ رﻗﻢ ﺟﻠﻮﳼ وأﻧﺎ ﰲ ﺣﺎل ﺗُﺸﺒﻪ ﺣﺎﻟﺔ ُ املﻌﺪة ﻟﺠﻠﻮس اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ
اﻟﺤﺎﻟﻢ .ﻟﻢ أﻟﺘﻔﺖ إﱃ وﺟﻪ ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮه اﻟﺘﻲ ﺣﻮﱄ ،وﻻ إﱃ ﺻﻮت ﻣﻦ اﻷﺻﻮات اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮن
ﰲ أذﻧﻲ ،ﺑﻞ ﻛﻨﺖ ﻻ أﻛﺎد أﻓﻄﻦ إﱃ أوراق اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻮﺿﻊ أﻣﺎﻣﻲ ،ﻛﺄن ﻋﻴﻨًﺎ أﺧﺮى
ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺒﴫ ﱄ ،وﻛﺄن إرادة أﺧﺮى ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﺮﻛﻨﻲ ،وﻛﺄن ذﻫﻨًﺎ آﺧﺮ ﻫﻮ
اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﻔﻜﺮ ﱄ ،وﻟﺴﺖ أﺑﺎﻟﻎ إذا ﻗﻠﺖ إﻧﻲ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ أﻛﺘﺐ ﻓﻴﻬﺎ ﻫﺬه اﻷﺳﻄﺮ
ﻳﺒﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ ذاﻛﺮﺗﻲ ﺳﻮى ﺳﻤﻌﺖ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم اﻟﺘﻲ ﻟﻢ َُ ُ
رأﻳﺖ وﻻ ﻣﻤﺎ ﻻ أﻛﺎد أذﻛﺮ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻤﺎ
ﺻﻮر ﺣﺎﺋﻠﺔ ﺗُﻘﺮب ﻣﻦ ﺻﻮر اﻷﺣﻼم اﻟﺒﻌﻴﺪة.
وﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻳﺴﺄﻟﻨﻲ ﰲ ﻛﻞ ﻳﻮم ﻋﻦ إﺟﺎﺑﺘﻲ ﻓﺄﺣﺎول أن أﻋﻴﺪﻫﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻼ
ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ إﻃﻼﻋﻪ ﻋﲆ أﺧﻄﺎﺋﻲ، ﻳﺘﻬﻴﺄ ﱄ ﺗﺬﻛﺮ ﳾء ﻣﻨﻬﺎ ،ﺣﺘﻰ ُﺧﻴﱢﻞ إﻟﻴﻪ أﻧﻲ أﺗﻌﻤﱠ ﺪ إﺧﻔﺎءﻫﺎ ً
ُ
وﻧﺪﻣﺖ وملﺎ ﻣﻀﺖ أﻳﺎم اﻻﻣﺘﺤﺎن اﻋﱰﺗﻨﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﻬﻢ واﻟﻐﻢ واﻟﺴﺨﻂ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ،
ﻋﲆ اﻟﺤﻤﺎﻗﺔ اﻟﺘﻲ دﻓﻌﺘﻨﻲ إﻟﻴﻬﺎ ﻓﻜﺮة ﺳﺨﻴﻔﺔ ،وﻣ ﱠﺮ ﻋﲇ ﱠ ﺷﻬﺮ ﻛﺎﻣﻞ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻘﻠﻖ ﺿﺎﺋﻘﺎً
ﻧﻔﺲ ﻋﻦ ﻛﺮﺑﻲ ﻓﻼ أﻋﻮد إﱃ ﺑﻴﺘﻲ إﻻ ﺑﻌﺪ أن ﺑﻨﻔﴘ وﺑﻤﻦ ﺣﻮﱄ ﻓﻜﻨﺖ أﺧﺮج إﱃ اﻟﻔﻀﺎء ﻷ ُ ﱢ
ﻳُﺠﻬﺪﻧﻲ اﻟﺘﻌﺐ ﺣﺘﻰ أﴎع إﱃ اﻟﻨﻮم.
وﻛﻨﺖ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم ﻋﺎﺋﺪًا ﻣﻦ رﺣﻠﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﰲ اﻟﺮﻳﻒ ﺣﻮل املﺪﻳﻨﺔ ،وﻋﺮﺟﺖ ُ
ﺻﺒﻲ ﻣﻦ ﺑﺎﻋﺔ اﻟﺼﺤﻒ ﻳَﺼﻴﺢ» :ﻧﻤﺮ ﱞ ﻗﻠﻴﻼ ﻗﺒﻞ اﻟﺬﻫﺎب إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ،ﻓﺄﻗﺒﻞ ﻋﲆ ﻗﻬﻮة ﻷﺳﱰﻳﺢ ً
ﱠ
وﻟﻜﻦ ﻋﻴﻨﻲ ﻓﺎﺷﱰﻳﺖ ﻣﻨﻪ ﺻﺤﻴﻔﺔ وأﻧﺎ ﻣُﺘﻠﻬﱢ ﻒ ،وأﺧﺬت أﺟﻴﻞ ﺑﴫي ﰲ اﻷرﻗﺎم ُ اﻟﺘﻼﻣﺬة!«
ﺳﺒﺤﺖ ﰲ اﻷﻋﻤﺪة املﺮﺻﻮﺻﺔ ،وﻟﻢ أﺗﺬﻛﺮ رﻗﻢ ﺟﻠﻮﳼ ،ورأﻳﺖ أرﻗﺎم املﺘﻘﺪﻣني ﻣﻦ املﻨﺎزل ﰲ
دﻣﻨﻬﻮر ﻓﻠﻢ أﺟﺪ إﻻ رﻗﻤً ﺎ واﺣﺪًا وﻫﻮ .٢٨٥٥أﻛﺎن ﻫﺬا رﻗﻤﻲ؟ أﻛﺎن ﰲ رﻗﻤﻲ ﻋﺪد ﻣﻜﺮر؟
69
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺨﻔﻖ ﻛﺎ َملﺠﻨﻮن اﻟﺜﺎﺋﺮ ﻣﻊ أﻧﻲ ﻃﺎملﺎ وﻃﻨﺘﻪ ﻋﲆ أﻧﻲ راﺳﺐ ،وأﺧﺬت أﺳﺄل
ووﺿﻌﺖ ﻳﺪي ﰲ ﺟﻴﻮﺑﻲ واﺣﺪًا ﺑﻌﺪ واﺣﺪ،ُ ﻧﻔﴘ أﻳﻦ ذﻫﺐ رﻗﻢ ﺟﻠﻮﳼ .أﻻ ﻳﻜﻮن ﰲ ﺟﻴﺒﻲ؟
وأﺧﺮﺟﺖ ﻣﺤﻔﻈﺘﻲ ﻟﻌﻞ اﻟﻮرﻗﺔ ﺗﻜﻮن ﻓﻴﻬﺎ .ﻫﺎ ﻫﻲ ُ وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺟﺪ اﻟﻮرﻗﺔ ﰲ ﺟﻴﺐ ﻣﻨﻬﺎ،
ُ
ذي! إﻧﻬﺎ ﻫﻲ ﺑﻌﻴﻨﻬﺎ وﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﺪد املﻜﺮر ،وﺧﻔﻖ ﻗﻠﺒﻲ أﻛﺜﺮ ﺟﻨﻮﻧًﺎ وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن أﻗﻮم ﻓﺄﻗﻮل
أن اﻟﻨﺎس ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻳﻨﻈﺮون ﻧﺤﻮي وﻳﻌﺮﻓﻮن أﻧﻲ ملﻦ ﰲ اﻟﻘﻬﻮة ﺟﻤﻴﻌً ﺎ إﻧﻲ ﻧﺠﺤﺖُ ،
وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ ﱠ
ُ
ﻟﺠﺮﻳﺖ ﺑﺄﴎع واﻗﻔﺎ وﻟﻮﻻ ﺧﻮﰲ ﻣﻦ اﻷﻧﻈﺎر وﻗﻤﺖ ً ُ أرﻳﺪ أن أﺻﻴﺢ ﺑﻬﻢ ﻣُﻌﻠﻨًﺎ إﻟﻴﻬﻢ ﻧﺠﺎﺣﻲ،
ﻣﺎ أﺳﺘﻄﻴﻊ ﻣﻦ اﻟﴪﻋﺔ ﺣﺘﻰ أﺻﻞ إﱃ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ ﻷﺧﱪﻫﻤﺎ ﺑﺎﻟﻨﺒﺄ اﻟﺴﻌﻴﺪ ،ﺛﻢ إﱃ ﺑﻴﺖ
ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﺒﺎد ﻷﺣﻤﻞ إﻟﻴﻪ ﺑُﴩى ﻧﺠﺎﺣﻲ ،وﴎت ﻣُﴪﻋً ﺎ واﻟﺠﺮاﺋﺪ اﻟﺜﻼث ﺗﺮف
ﻷﺧﺬت أﺿﺤﻚ ُ ﰲ ﻳﺪي ،ﻟﻢ أﺟﺪ وﻗﺘًﺎ ﻷﻃﻮﻳﻬﺎ ﰲ رزﻣﺔ ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ ،وﻟﻮ أﻃﻠﻘﺖ ﻟﻨﻔﴘ اﻟﻌﻨﺎن
ﻛﻨﺖ ﻟﻢ أﺿﺤﻚ ﻓﺈن ﻗﻠﺒﻲ وأﺿﺤﻚ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ اﻟﻐﺮﻳﻖ ﺑﻌﺪ أن ﻳﺼﻞ إﱃ اﻟﱪ ﺳﺎ ًملﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ إن ُ
وﻣﺮرت ﻋﲆ ﻣﻨﺰل ﺻﺎﺣﺒﻲ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻲ، ُ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻞ ﻧﻴﺎﺑﺔ ﻋﻨﻲ ﻛﺄﻧﻪ أﺻﻴﺐ ﺑﻨﻮﺑﺔ ﻫﺴﺘريﻳﺔ،
وأﻇﻦ أﻧﻲ ﻗﻄﻌﺖ املﺴﺎﻓﺔ ﺑني اﻟﻘﻬﻮة وﺑني ﺑﻴﺘِﻪ ﰲ أﻗﻞ ﻣﻦ ﺧﻤﺲ دﻗﺎﺋﻖ ﻣﻊ أﻧﻪ ﻛﺎن ﰲ
اﻟﻌﺎدة ﻳﺒﻌﺪ ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﻘ ﱡﻞ ﻋﻦ ﻋﴩ ،وﻃﺮﻗﺖ اﻟﺒﺎب ﻓﻨﺰﻟﺖ إﱄ ﱠ اﻟﺨﺎدﻣﺔ ﺗﻘﻮل ﱄ إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ
ﻣﻨﴫﻓﺎ وﻟﻢ أﻗﻞ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ أﻧﺎ.ً ﻫﻨﺎك ،ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻬﺎ» :ﻗﻮﱄ ﻟﻪ إذا ﻋﺎد أﻧﻲ ﻧﺠﺤﺖ «.ﺛﻢ أﴎﻋﺖ
واﺗﺠﻬﺖ إﱃ ﻣﻨﺰﱄ ﻷﺣﻤﻞ اﻟﻨﺒﺄ إﱃ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ ،وﺗﺬﻛﺮت ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻓﻘﻂ أن أﺧﺘﻲ ﻣﻨرية
ﻓﻮﻗﻔﺖ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ ورﻓﻌﺖ اﻟﺠﺮﻳﺪة أﻣﺎم ﺑﴫي ﺗﺤﺖ ﻣﺼﺒﺎح ُ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﺗﻨﺘﻈﺮ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ،
اﻟﺸﺎرع ﻷﺑﺤﺚ ﻋﻦ رﻗﻢ أﺧﺘﻲ ،وﻛﺎن ُﺷﻌﻮري ﺑﺎﻟﺨﺠﻞ ﻣﻦ ﻧﻔﴘ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﻫﺘ ﱠﻢ ﺑﺘﺬﻛﺮ
رﻗﻢ ﺟﻠﻮﺳﻬﺎ ،وزاغ ﺑﴫي ﻣﺮة أﺧﺮى ﰲ اﻷرﻗﺎم — ﻟﺠﻨﺔ دﻣﻨﻬﻮر ،ﻣﺪرﺳﺔ اﻟﺒﻨﺎت — وﻟﻜﻨﻬﺎ
ﻛﺎﻧﺖ أرﻗﺎﻣً ﺎ ﻛﺜرية ،ﻓﻄﻮﻳﺖ اﻟﺼﺤﻴﻔﺔ وﴎت ﻓﺎﺗ ًﺮا ﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ إﱃ ﺑﻴﺘﻲ وﻟﻢ ِ
أدر ﻣﺎذا أﻓﻌﻞ،
وملﺤﺖ ﻣﻨرية اﻟﺠﺮﻳﺪة ﰲ ﻳﺪي ورأﻳﺖ اﻷرﻗﺎم ،ﻓﻮﺛﺒﺖ إﱄ ﱠ وﺧﻄﻔﺘﻬﺎ وأﺧﺬت ﺗﻔﺤﺺ اﻷﻋﻤﺪة
املﺮﺻﻮﺻﺔ وأﻧﺎ أﻧﺘﻈﺮ ﰲ ﻟﻬﻔﺔ ،ﺛﻢ رأﻳﺘﻬﺎ ﺗﻠﻘﻲ اﻟﺠﺮﻳﺪة ﻣﻦ ﻳﺪﻫﺎ وﺗﺬﻫﺐ ﺻﺎﻣﺘﺔ ووﺟﻬﻬﺎ
ﻳﻨﻢ ﻋﻦ ﺣﺰﻧﻬﺎ ،ﻓﺎﻧﻘﻠﺐ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ أﺣﺴﻪ ﻣﻦ اﻟﻔﺮح املﻔﺮط إﱃ وﺟﻮم ﻣﻔﺮط ،ورﺛﺎء وﻣﻮاﺳﺎة،
ﴎي ﻋﻨﻬﺎ ،وﺟﺎءت أﻣﻲ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻓﺸﺎرﻛﺘﻨﻲ ﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺘﻲ ﺣﺘﻰ وذﻫﺒﺖ وراءﻫﺎ إﱃ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻷ ُ ﱢ
ُ
ﻋﺎدت ﻣﻨرية إﱃ ﻫﺪوﺋﻨﺎ وﺿﺎﻋﺖ ﻋﲇ ﱠ اﻟﻔﺮﺻﺔ ﰲ ﻣﻔﺎﺟﺄة ﻣﴪﺣﻴﺔ ﻛﻨﺖ أﻃﻤﻊ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻮ ُ
ﻛﻨﺖ
أﻋﻠﻨﺖ ﻧﺠﺎﺣﻲ ﻷﻣﻲ وأﺧﺘﻲ ﺑﻐري أن ﺗﻜﻮن ﻋﻨﺪﻫﻤﺎ ﻓﻜﺮة ﻋﻦ ﺗﻘﺪﻣﻲ ﻟﻼﻣﺘﺤﺎن. ُ
أﺧﺬت أﻓﻜﺮ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ ووﺟﺪﺗﻪ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن وﻟﻢ ُ وملﺎ ﻣ ﱠﺮت ﻫﺬه اﻟﻬﺰة اﻟﺘﻲ اﻋﱰﺿﺘْﻨﻲ
ﻳُﻔﺪﻧﻲ اﻟﻨﺠﺎح ﺷﻴﺌًﺎ ﰲ إزاﻟﺔ اﻟﻐﻴﻮم اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗَﻠُﻔﻪ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﺎﻧﺐ ،ﻓﻬﻞ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻟﺘﺤﻖ
ﺑﺎﻟﺠﺎﻣﻌﺔ؟ وﻛﻴﻒ أﺣﺼﻞ ﻋﲆ رزﻗﻲ ورزق أﻫﲇ؟ وﻣﺎ ﻓﺎﺋﺪة اﻟﻨﺠﺎح إذا ﻟﻢ أﻟﺘﺤﻖ ﺑﺎﻟﺠﺎﻣﻌﺔ؟
70
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس
ﻓﻬﻞ أﻗﻨﻊ ﺑﻬﺬه اﻟﺸﻬﺎدة ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺣﻠﻴﺔ ﺗُﺰﻳﱢﻦ ﺻﺪري ﻋﻨﺪ ذﻫﺎﺑﻲ إﱃ اﻷﺳﻮاق ﻣﻊ ﺣﻤﺎدة
ﻟﻨﺸﱰي اﻟﻘﻄﻦ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺣني املﺴﺎﻛني؟ وﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻷﻣﺮ ﻓﺈﻧﻲ ﻗﻀﻴﺖ ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ
ﺷﻬﻮر اﻟﺼﻴﻒ ﰲ اﻟﻘﺮاءة واﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،وأﻗﺒﻞ ﺷﻬﺮ أﻛﺘﻮﺑﺮ ﻓﺬﻛﺮﻧﻲ ﺑﺎﻷﺳﻮاق وﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ،
وﻣﺎ ﺗُﻜ ﱢﻠﻔﻨﺎ ﺑﻪ ﻇﺮوف اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ ﺗﺤﻤﻞ ﻣﺎ ﻧﻜﺮه ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻌﻴﺶ .ﻟﻢ أﺷﻌﺮ ﺑﺄن اﻟﺘﺠﺎرة
رﺿﻴﺖ أن أﻋﻮد إﱃ اﻷﺳﻮاق أﺑﺪًا ،وﻫﻞ ﻛﻨﺖُ ﻃﺮﻳﻘﻲ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ،وﻟﻮﻻ ﺣﺎﺟﺘﻲ إﱃ اﻟﺮزق ملﺎ
ﺣﻘﺎ؟ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﱄ ﻣﻨﻬﺎ ﺳﻮى أن أذﻫﺐ ﻣﻊ ﺣﻤﺎدة وأﺣﻤﻞ اﻟﻨﻘﻮد أﻧﺎ اﻟﺬي أﺷﺘﻐﻞ ﺑﺎﻟﺘﺠﺎرة ٍّ
ﻛﻨﺖ ﰲ ﻣﺒﺪأ ﻷﻣﺮ أﺣﺴﺐ أﻧﻬﺎ ﻣﻐﺎﻣﺮة ﻣُﺜرية ﻓﻮﺟﺪت ﰲ ﺟﻴﺒﻲ ﻷدﻓﻊ أﺛﻤﺎن اﻷﻗﻄﺎن ﻣﻨﻬﺎُ .
أﻧﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﱢﺴﺒﺔ إﱄ ﱠ ﻻ ﺗَﺰﻳﺪ ﻋﲆ ُﺳﺨﺮة ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻘﻮت.
ﻓﺎﺗﺠﻬﺖ ﻧﺤﻮ ﺷﺎﻃﺊُ وﰲ ﺻﺒﺎح ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم ﻧﺰﻟﺖ ﻣﻦ ﻣﻨﺰﱄ ﻻ أدري أﻳﻦ أذﻫﺐ،
اﻟﱰﻋﺔ ﻷﻣﻸ ﺻﺪري ﻣﻦ ﻫﻮاء اﻟﺨﺮﻳﻒ.
وﺳﻤﻌﺖ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺻﻮﺗًﺎ ﻳُﻨﺎدﻳﻨﻲ ﻣﻦ وراﺋﻲ وﻛﺎن ﺻﻮﺗﺎ أﻋﺮﻓﻪ ،وﺗﺒﺴﻤﺖ ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ
ً ُ
ُ
رأﻳﺖ أﻣﺎﻣﻲ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﴩﻧﻮﺑﻲ زﻣﻴﲇ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﺬي ﻛﻨﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ »اﻟﻔﻼح« ﻓﻴﻤﺎ ُ ﺿﻴﻘﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﺑﻴﻨﻨﺎ.
وﻗﺎل ﱄ ﺑﺎﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻪ اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ :أﻳﻦ أﻧﺖ ﻳﺎ ﺷﻴﺦ؟
ﻓﻘﻠﺖ :وأﻳﻦ أﻧﺖ ﻳﺎ أﻳﻬﺎ اﻟﻔﻼح.
ﻓﻘﺎل :ﰲ اﻟﻐﻴﻂ ﻃﺒﻌً ﺎ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻚ ﰲ اﻟﺴﻮق.
ﻓﻘﻠﺖ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :وﻣﻦ ﻗﺎل ﻟﻚ؟
ﻓﻘﺎل :وﻫﻞ ﻳﺠﻬﻞ أﺣﺪ »ﺗﺠﺎرة اﻷﻣﺎﻧﺔ«؟ ﺗﻌﺎ َل ﺑﺎهلل ﻣﻌﻲ وﻧﺠﱢ ﻨﻲ ﻣﻦ ﻫﺆﻻء اﻟﺘﺠﺎر
اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﺮﻳﺪون ﴎﻗﺘﻲ.
وﻗﻠﺖ ﻣﺒﺎد ًرا :ﺗﺤﺖ أﻣﺮك ﻳﺎ ﺣﺎج ﴍﻧﻮﺑﻲ.
وﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ» :ﻫﺬا ﳾء آﺧﺮ .ﻻ ﺑﺄس أن أذﻫﺐ ﻣﻊ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻫﺬا ﻷﺷﱰي ﻣﺎ ﻋﻨﺪه،
ﻓﻬﺬا ﺧري ﻣﻦ اﻟﺠﻠﻮس ﻋﲆ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﻄﺮق ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ أدراﻧﻲ ﻟﻌ ﱠﻞ اﻟﻘﻄﻦ اﻟﺬي ﻋﻨﺪه رديء،
وﻫﻮ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺗﺎﺟﺮ ﺳﺎذج ﻟﻴﺒﻴﻌﻪ ﻟﻪ«.
وأﺧﺬﻧﻲ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻣﻦ ذراﻋﻲ ﻣﺘﺠﻬً ﺎ ﺑﻲ ﻧﺤﻮ املﺤﻄﺔ ،وأﺧﺬت أﺣﺪث ﻧﻔﴘ ﺻﺎﻣﺘًﺎ.
إﻧﻬﺎ ﺣﻤﺎﻗﺔ ﻻ ﻣﺜﻴﻞ ﻟﻬﺎ ،وﻣﺎذا أﻋﺮف ﻋﻦ ﺗﺠﺎرة اﻷﻗﻄﺎن ،وﻣﺎ أدراﻧﻲ ﻛﻢ ﻗﻨﻄﺎ ًرا ﻋﻨﺪه؟
أوﻻ .اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻵن اﻟﻌﺎﴍة وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ ﻫﺪوء :أرﺟﻮك أن ﺗﺄذن ﱄ أن أذﻫﺐ إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ً
َ
أﻟﺴﺖ داﺋﻤً ﺎ ﰲ إﻳﺘﺎي اﻟﺒﺎرود؟ وأﻇﻦ اﻟﻘﻄﺎر ﻻ ﻳﺄﺗﻲ إﻻ ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻋﴩة.
ﻓﻘﺎل :ﻟﻢ ﺗﻨﺲ ﺑﻌﺪ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي؟ ﺳﺄﻧﺘﻈﺮك ﻫﻨﺎ ،وﻛﻨﺎ أﻣﺎم ﻗﻬﻮة ﻣﻈﻬﺮ ،ﻓﻮاﻋﺪﺗﻪ
ﻟﻌﲇ أﻋﺜﺮ ﻋﲆ ﻣﻨﻄﻠﻘﺎ إﱃ ﺷﺎرع »أﺑﻮ اﻟﺮﻳﺶ« ﱢ ً أن أﻋﻮد إﻟﻴﻪ ﻗﺒﻞ ﻣﴤﱢ ﺳﺎﻋﺔ ،وأﴎﻋﺖ
71
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ُ
ﻋﺜﺮت ﻋﻠﻴﻪ ﰲ وﻛﻨﺖ ﻟﻢ أﺻﺎدﻓﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻷﺷﻬﺮ اﻷﺧرية ،وﺑﻌﺪ دورة ﻃﻮﻳﻠﺔ ُ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ،
ﺧﻤﺎرة ﺑﺰﻗﺎق ﻣُﻈﻠﻢ دﻟﻨﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺻﺒﻲ اﻟﻘﻬﻮة اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮﱠدﻧﺎ أن ﻧﺠﻠﺲ ﻓﻴﻬﺎ ،وﺟﺮرﺗﻪ ﻣﻌﻲ ﰲ
ﳾء ﻣﻦ اﻟﻘﴪ ،وذﻫﺒﺖ ﺑﻪ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ ﻵﺧﺬ ﻣﺎ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ اﻟﻨﻘﻮد ،ﺛﻢ ذﻫﺒﻨﺎ إﱃ اﻟﻘﻬﻮة ﻟﻨَﻠﻘﻰ
ﻣﺤﻤﺪ اﻟﴩﻧﻮﺑﻲ.
وﻛﻨﺖ ﰲ أﺛﻨﺎء اﻟﺴﻔﺮ إﱃ إﻳﺘﺎي اﻟﺒﺎرود أﺣﺪث ﻧﻔﴘ ﰲ ﺣرية ﻋﻤﺎ أﻧﺎ ﻣﻘﺪم ﻋﻠﻴﻪ،
وﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﻋﺰﺑﺔ اﻟﴩﻧﻮﺑﻲ اﺟﺘﻤﻊ ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻟﻔﻼﺣﻮن وﺷﺎرﻛﻮا زﻣﻴﲇ اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻣﺘﻸت رﻫﺒﺔ ،وملﺎ َ
ﻧﺴﻴﺖ ﻗﻠﻘﻲ وداﺧﻠﻨﻲ ﺷﻌﻮر ﺑﺎرﺗﻴﺎح ﻣﻤﺰوج ﺑﺎﻟﺰﻫﻮ ،وذﻫﺒﻨﺎ ُ ﰲ ﺧﺪﻣﺘﻨﺎ واﻟﱰﺣﻴﺐ ﺑﻨﺎ ﺣﺘﻰ
إﱃ ﻣﺨﺰن اﻟﻘﻄﻦ وﻛﺎن ﻓﻴﻪ ﺧﻤﺴﻮن ﻗﻨﻄﺎ ًرا ﻛﺎﻣﻠﺔ.
ﻗﻠﻴﻼ .ﺧﻤﺴﻮن ﻗﻨﻄﺎ ًرا ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي! ﻋﺎل وﻟﻜﻨﱠﻪ وﺳﺦ ً وﻫﻤﺲ ﱄ ﺣﻤﺎدة :ﻗﻄ ٌﻦ ٍ
ﻫﺎﻣﺴﺎ :ﻛﻢ ﻳﺴﺎوي؟ً ﻓﻘﻠﺖ
ﻓﻘﺎل :ﻻ أﻗﻞ ﻣﻦ اﺛﻨﻲ ﻋﴩ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ .ﻟُﻘﻄﺔ!
ﻇﻦ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ؟ أﻻ ﻳﻜﻮن ﻣﻐﺎﻟﻴًﺎ ﰲ ﻓﻔﻜﺮت ﰲ ﻧﻔﴘ .ﻣﺎذا أﺻﻨﻊ؟ وﻫﻞ ﻳَﺼﺪُق ﱡ
اﻟﺜﻤﻦ؟ أﻻ ﻳﻨﺰل ﺳﻌﺮه ﰲ ﻣﺪة ﻳﻮم أو ﻳﻮﻣني ﻗﺒﻞ أن ﻧُﺤﻤﱢ ﻠﻪ ﻟﺒﻴﻌﻪ ﰲ دﻣﻨﻬﻮر؟
وﻟﻜﻨﻲ ﻣﻠﻜﺖ ﻧﻔﴘ وﻟﻢ أﻇﻬﺮ ﺗﺮددًا.
ﻓﺮاﺷﺎ ﰲ ﺣﺠﺮة ﻋﻠﻴﺎ ﻓﻮق املﺨﺰن ،وذﺑﺢ ﻟﻨﺎ ﺟﺪﻳًﺎ ﺳﻤﻴﻨﺎً وملﺎ أﺗﻰ اﻟﻠﻴﻞ أﻋﺪ ﻟﻨﺎ ﺻﺎﺣﺒﻲ ً
وﻗﻀﻴﻨﺎ ﰲ اﻟﺪوار ﻣﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﰲ ﺳﻤﺮ ﻗﺒﻞ أن ﻧﺬﻫﺐ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ اﻟﻨﻮم ،وﻟﻜﻨﺎ ﻟﻢ ﻧﺬق ﻟﻠﻨﻮم
ﻃﻌﻤً ﺎ واﺿﻄﺮرﻧﺎ أﻧﺎ وﺣﻤﺎدة إﱃ ﻗﻀﺎء ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ؛ ﻷن ﻟﺴﻌﺎت اﻟﺒﻌﻮض
واﻟﱪاﻏﻴﺚ ﻟﻢ ﺗﺪع ﻟﻨﺎ ﻓﺮﺻﺔ ﻟﻠﺮﻗﺎد ،وﻛﺎن ﻣﻤﺎ زادﻧﺎ اﺿﻄﺮا ًرا إﱃ اﻷﺣﺎدﻳﺚ أن املﻄﺮ ﺑﺪأ
ﻳﺘﴪب املﺎء إﻟﻴﻪ ،وﻧﺴﺘﻨﺪ
ﱠ ﻳﻬﻄﻞ ﺑﻌﺪ ﻧﺼﻒ اﻟﻠﻴﻞ ،ﻓﻜﺎن ﻻ ﺑﺪ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺠﻠﺲ ﰲ اﻟﺮﻛﻦ اﻟﺬي ﻻ
ﺑﻈﻬﺮﻳﻨﺎ إﱃ اﻟﺠﺪار ،وﻛﺎن ﺣﺪﻳﺚ ﺣﻤﺎدة ﻣﺴﻠﻴًﺎ ﺑﺮﻏﻢ اﻟﺘﻌﺐ وﻣﻀﺎﻳﻘﺔ اﻟﻠﺴﻌﺎت ،وﻛﺎن ﻛﻞ
وﻟﺴﺖ أدري ﻛﻴﻒ ﻋﺮف ﺣﻤﺎدة ﻛﻞ ﻫﺬه اﻷﴎار اﻟﺘﻲ أﺧﺬ ﻳﺤﻜﻴﻬﺎ ُ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ أﻫﻞ املﺪﻳﻨﺔ،
ً
ﻣﻊ أﻧﻲ ﻻ أﻋﺮف ﻣﻨﻬﺎ ﺷﻴﺌﺎ وأﻧﺎ أﻋﻴﺶ ﻣﻌﻪ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،وﻛﺎن ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ إﱃ
آﺧﺮ ذاﻛ ًﺮا ﻣﻦ ﻋﻴﻮب ﻋﻈﻤﺎء املﺪﻳﻨﺔ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻜﺎد ﻳﺼﺪق ،وﻗﺪ أﺧﺬت ذﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻗﺼﺺ
ﻄﻤﺔ ،وﻫﻞ ﻛﻨﺖ ﻣﻦ ﻧﺴﻴﺞ اﻟﺨﻴﺎل أو ﻣﻦ رﻏﺒﺔ اﻟﺘﺸﻨﻴﻊ ،وﻫﻲ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺗﻠﺠﺄ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻨﻔﻮس املﺤ ﱠ
ﴎا ﺑﺎﻣﺮأة ﺳﺎﻗﻄﺔ ،أو أن ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ ﺧﻠﻒ ﻳﻌﻴﺶ ﻷﺻﺪق أن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻳﻘﱰن ٍّ
ﻣﻦ ﺛﺮوة اﻣﺮأﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﺗَﴬﺑُﻪ ﺑﺤﺬاﺋﻬﺎ؟
وﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻷﻣﺮ ﻓﻘﺪ ﻣﺮت اﻟﻠﻴﻠﺔ وﺑﺎدرﻧﺎ ﻣﻨﺬ اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺒﺎﻛﺮ ﻟﻨﺴﺘﻌﺪ ﻟﻠﻌﻤﻞ ،وﻟﻢ
أﺗﺮدﱠد ﰲ اﻟﴩاء ﻛﻤﺎ ﻧﺼﺤﻨﻲ ﺣﻤﺎدة ودﻓﻌﺖ ﻟﺼﺎﺣﺒﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻌﻲ وﻫﻮ املﺎﺋﺘﺎ ﺟﻨﻴﻪ،
ُ
اﺳﺘﻠﻤﺖ اﻟﺒﻀﺎﻋﺔ ﰲ دﻣﻨﻬﻮر. وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ ﺑﺴﺎﻃﺔ إﻧﻲ أدﻓﻊ ﻟﻪ ﻣﺎ ﺑﻘﻲ ﻣﻦ اﻟﺜﻤﻦ إذا
72
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس
وملﺎ ﺧﺮﺟﻨﺎ ﻣﻦ املﺰرﻋﺔ ﻣﺘﺠﻬني إﱃ املﺤﻄﺔ ﻫﻤﺲ ﺣﻤﺎدة ﰲ أذﻧﻲ :ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻬﻪ ﻳﺎ ﻋﻢ!
ﻓﻘﻠﺖ :ﻣﺎذا ﺗﻘﺼﺪ؟
ﻓﺄﺟﺎب :ﻫﺬا اﻟﻘﻄﻦ ﻻ ﻳُﺴﺎوي أﻗﻞ ﻣﻦ اﺛﻨﻲ ﻋﴩ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ ،وﻗﺪ رﴈَ ﻫﺬا املﻐﻔﻞ ﺑﺄن
ﻳﺒﻴﻌﻪ ﺑﻌﴩة .ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ﻳﺎ ﻋﻢ ،ﻳﺪك!
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﱪوك ،وﷲ زﻣﺎن ﻳﺎ ﺑﻮ زﻫري! وﺳﺤﺐ ﻳﺪي ﻓﻘﺒﺾ ﻋﻠﻴﻬﺎ ً
وﻟﻢ أﺣﺐ أن أﺗﻮرط ﰲ اﻵﻣﺎل اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻷواﻧﻬﺎ ،ﻓﻠﻢ أﻗﻞ ﺷﻴﺌًﺎ وأﺧﺬ ﺣﻤﺎدة ﻳُﺤﺪﺛﻨﻲ
ﻋﻦ آﺧﺮ أﺧﺒﺎر اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ ﻻ أﻋﺒﺄ ﺑﻬﺎ ﻛﺜريًا ،ﻓﺎﻻﻧﺘﺨﺎﺑﺎت ﻋﲆ وﺷﻚ اﻻﺑﺘﺪاء واﻟﺴﻴﺪ
أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻳﺴﺘﻌ ﱡﺪ ملﻮاﺟﻬﺔ ﺧﺼﻤﻪ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ ﺧﻠﻒ ،وﺳﺘﻜﻮن ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻃﺎﺣﻨﺔ؛ ﻷن رﺋﻴﺲ
اﻟﻮزارة املﻨﺘﻈﺮ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ ،وﺟﻤﻌﻴﺔ ﺷﺒﺎب دﻣﻨﻬﻮر ﺗﺴﺘﻌ ﱡﺪ ﻟﻼﺟﺘﻤﺎع ﻣﺮ ًة أﺧﺮى
ﻷول ﻣﺮة ﻣﻨﺬ اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﺎت املﺎﺿﻴﺔ ،وﺳﺘﻜﻮن أﺳﻌﺎر املﻈﺎﻫﺮات وأﺛﻤﺎن اﻷﺻﻮات أﻋﲆ ﻣﻦ
اﻷﺳﻌﺎر اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ.
وملﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ﻟﻢ أدر إﱃ أﻳﻦ أذﻫﺐ ﺑﻬﺬه اﻟﺼﻔﺔ اﻟﻜﺒرية .ﻛﻨﺖ أﺑﻴﻊ ﻣﺎ أﺷﱰي
ﻣﻦ اﻷﻗﻄﺎن ﰲ ﻛﻞ ﻣﺮة ،وﻫﻲ ﻻ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﻋﴩة ﻗﻨﺎﻃري أو ﺧﻤﺴﺔ ﻋﴩ ﻗﻨﻄﺎ ًرا ،وﻟﻜﻦ
أﺧﴪه ﰲ اﻟﻘﻨﻄﺎر ﻳﺆدي إﱃ ﺿﻴﺎع رﺑﻊ ُ ﺧﻤﺴني ﻗﻨﻄﺎ ًرا ﺗﺤﺘﺎج إﱃ اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ،ﻓﺠﻨﻴﻪ واﺣﺪ
ﻣﺎ ﺟﻤﻌﺘﻪ ﰲ ﺧﺒﻄﺔ واﺣﺪة ،وﻛﺎن اﻷﻓﻀﻞ ﰲ ﻧﻈﺮي أن أُﴎع إﱃ اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺤﻤﻞ
اﻟﺜﻘﻴﻞ ﻗﺒﻞ أن أﻗﻊ ﰲ ورﻃﺔ؛ ﻓﺎﻷﺳﻌﺎر ﻻ ﺗﺜﺒﺖ ﻋﲆ ﺣﺎل ،واﻟﻴﻮم أﻗﺮب إﱃ اﻻﻃﻤﺌﻨﺎن ﻣﻦ
اﻟﻐﺪ ،واﺗﱠﺠﻪ ذﻫﻨﻲ أول ﳾء إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻓﻘﺼﺪت إﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺗﻮي ﺑﻐري أن أﺗﺮدد.
ودﺧﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﻣﻜﺘﺒﻪ وﻛﺎن ﻟﻘﺎؤه ﺳﻤﺤً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻋﻮدﻧﻲ داﺋﻤً ﺎ ﻛﺄن ﻟﻢ ﻳﺤﺪث ﺑﻴﻨﻨﺎ ﳾء
ﻳُﻌ ﱢﻜﺮ اﻟﺼﻔﺎء ،وﻗﺎل ﱄ وﻫﻮ ﻳﺸري إﱄ ﱠ ﺑﺎﻟﺠﻠﻮس :أﻳﻦ أﻧﺖ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي؟ ﻣﺎ ﻫﺬه اﻟﻐﻴﺒﺔ؟
ﻓﺄﺟﺒﺖ ﰲ ﻫﺪوء أﺻﺤﺎب اﻷﻋﻤﺎل :ﺗﺤﺖ اﻷﻧﻈﺎر ﻳﺎ ﺳﻴﺪي!
ﻛﻨﺖ أﻇﻦ أﻧﻚ ﻻ ﺗﱰﻛﻨﺎ ﻫﻜﺬا. ﻓﻘﺎل ﻣﺒﺘﺴﻤً ﺎُ :
ﻓﺄﺟﺒﺖ ﰲ زﻫﻮ :أﺷﻜ ُﺮك ،وﻟﻜﻨﻬﺎ املﺸﺎﻏﻞ.
ﻗﻠﻴﻼ وﻧﺘﺴﺎءل ﻋﻦ اﻷﺣﻮال ﻛﻤﺎ ﺟﺮت اﻟﻌﺎدة ،وﺗﻌﻤﺪت أن أﺳﺄﻟﻪ ﻋﻦ وﺑﺪأﻧﺎ ﻧﺘﺤﺪث ً
ً
ﻣﺠﺎﻣﻼ ﰲ آﺧﺮ ﺣﺪﻳﺜﻲ :أﻧﺎ ﻣﺪﻳﻦ ﻟﻚ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ وﺻﻠﺖ ُ
وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﺻﺤﺔ اﻷﴎة واﻵﻧﺴﺔ اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ،
إﻟﻴﻪ.
ً
ﻓﺎﺣﺼﺎ ﻷرى أﺛﺮ ﻛﻠﻤﺘﻲ. وﻧﻈﺮت إﱃ وﺟﻬﻪ
وﻻ ﺷﻚ أن ﻛﻠﻤﺘﻲ اﺳﱰﻋﺖ ﺳﻤﻌﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ رﻓﻊ ﺣﺎﺟﺒﻴﻪ ملﺪة ﻟﺤﻈﺔ ﻗﺼرية ،ﺛﻢ أﴎع إﱃ
ﺗﻤ ﱡﻠﻚ ﻧﻔﺴﻪ وﻋﺎد وﺟﻬﻪ ﻫﺎدﺋًﺎ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ.
73
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
َ
ﺑﺪأت ﻣﺜﺎﻻ ﱄ وﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ أن أﺑﺪأ ﺣﻴﺎة ﺟﺪﻳﺪة ﻛﻤﺎ ﻓﻤﻀﻴﺖ أﻗﻮل ﻣُﺘﻌﻤﱢ ﺪًا :ﺟﻌﻠﺘُ َﻚ ً
أﻧﺖ ،ﻛﺎن ﻋﻨﺪي ﻋﴩون ﺟﻨﻴﻬً ﺎ وﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ اﻹﺗﺠﺎر ﺑﻬﺎ ،وﻗﺪ ﺟﺌﺖ إﻟﻴﻚ اﻟﻴﻮم ﺑﺨﻤﺴني
ﻗﻨﻄﺎ ًرا ﻣﻦ اﻟﻘﻄﻦ اﻟﺠﻴﺪ.
ُ
وﻗﺪﻣﺖ إﻟﻴﻪ اﻟﻌﻴﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻲ.
ﻓﺄﺧﺬﻫﺎ اﻟﺴﻴﺪ وﺟﻌﻞ ﻳُﻘ ﱢﻠﺒﻬﺎ ﺑﺄﺻﺎﺑﻌﻪ وﻳﻔﺤﺺ ﺗﻴﻠﺘﻬﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻼﻣﺢ وﺟﻬﻪ ﺗﺪل ﻋﲆ
اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻟﺸﺪﻳﺪ.
وﻗﺎل ﰲ ﻧﻐﻤﺔ ﺗﺸﺠﻴﻊ :ﺣﺴﻦ ﺟﺪٍّا ،ﻗﻄ ٌﻦ ﻃﻴﺐ ،وﻟﻜﻦ ﻓﻴﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻮﺳﺦ ،ﺑﻜﻢ اﺷﱰﻳﺘﻪ؟
ﻓﺘﺒﺴﻤﺖ ﰲ ﴎي وﻟﻢ أﺟﺐ ﺑﻞ ﺳﺄﻟﺘﻪ :ﻛﻢ ﻳﺴﺎوي؟
ﻗﺎﺋﻼ :ﻟﻘﺪ أﺻﺒﺤﺖ ﺗﺎﺟ ًﺮا ﻣﺎﻫ ًﺮا .ﺣﺴﻦ ﺟﺪٍّا ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﻓﻀﺤﻚ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﺑﻐري ﺗﺤﻔﻆ ً
أﻓﻨﺪي .ﻫﻜﺬا ﻳﻜﻮن اﻟﺘﺎﺟﺮ اﻟﺤﻜﻴﻢ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻜﺸﻒ ﻷﺣﺪ ﻋﻦ أوراﻗﻪ؛ وﻟﻬﺬا ﺳﺄﻋﺎﻣﻠﻚ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ
اﻟﻨﺪ ﻟﻠﻨﺪ ،ﺗﺎﺟﺮ ﻣﻊ ﺗﺎﺟﺮ ﺑﻐري ﺗﻌﻄﻒ وﻻ ﻣﺠﺎﻣﻠﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻟﻬﺠﺔ اﻟﻨﺪ :ﻻ أﻃﻠﺐ ﻏري ﻫﺬا.
وملﻌﺖ ﻋﻴﻨﺎه ملﻌﺔ ﻟﻢ أﻋﺮف ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل :ﻫﺬا اﻟﻘﻄﻦ ﻳﺴﺎوي ﺧﻤﺴﺔ ﻋﴩ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ
ﻟﻠﻘﻨﻄﺎر.
وﰲ ملﺢ اﻟﺒﴫ ﺣﺴﺒﺖ ﻣﻘﺪار رﺑﺤﻲ ،ﻣﺎﺋﺘني وﺧﻤﺴني ﺟﻨﻴﻬً ﺎ ،وﻫﺰﺗﻨﻲ ﻣﻮﺟﺔ ﻣﻦ
اﻟﴪور.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﺬه أﺳﻌﺎر اﻟﻴﻮم إﱃ ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ وﺗﺒﺴﻢ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺑﺴﻤﺔ ﰲ ﻟﻮن ﻣﻦ اﻟﺪﻫﺎء ً ﱠ
ﻛﻤﺎ أﻋﺮف ،وﻣﻦ ﻳﺪري؟ ﻟﺴﺖ أﻋﺮف إذا ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺴﻌﺮ ﻳﺰﻳﺪ أو ﻳﻨﻘﺺ ﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ واﺣﺪة،
وﻟﻚ اﻟﺨﻴﺎر ﻃﺒﻌً ﺎ ﰲ أن ﺗﺒﻴﻊ اﻵن أو ﰲ اﻟﻐﺪ.
ً
ﻣﺘﻜﻠﻔﺎ اﻟﻬﺪوء :ﻻ ﻣﺎﻧﻊ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﻊ اﻵن. ﻓﻘﻠﺖ
اﺷﱰﻳﺖ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،واﻟﻘﻄﻦ ﻛﻠﻪ ﻣﻦ ﻧﻔﺲ اﻟﻌﻴﻨﺔ .ﻫﺬا ﻣﺆﻛﺪ ُ ﻓﻘﺎل ﰲ ﺑﺴﺎﻃﺔ:
ﻃﺒﻌً ﺎ!
ﻓﻘﻠﺖ :ﻫﺬا ﻣﺆﻛﺪ.
ً
وﻛﻨﺖ ﻣﺘﻔﻘﺎ ﻣﻊ اﻟﴩﻧﻮﺑﻲ ﻋﲆ أن ُ وواﻋﺪﺗﻪ أن أﺣﴬ إﻟﻴﻪ ﻏﺪًا ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﺑﺎﻟﺒﻀﺎﻋﺔ،
ﻳﺼﻞ اﻟﻘﻄﻦ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ﻗﺒﻞ ﻃﻠﻮع اﻟﺸﻤﺲ ،وﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ املﻜﺘﺐ ﺑﻌﺪ أن ﺻﺎﻓﺤﺖ اﻟﺴﻴﺪ
أﺣﻤﺪ ﺟﻼل راﻓﻌً ﺎ رأﳼ ،واﺗﺠﻬﺖ إﱃ اﻟﻘﻬﻮة اﻟﺘﻲ واﻋﺪت ﺣﻤﺎدة أن أﻟﻘﺎه ﻓﻴﻬﺎ ،وأﻧﺎ أﻛﺎد
أﻃري ﻣﻦ اﻟﻔﺮح ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺟﺪ ﺣﻤﺎدة ﻫﻨﺎك ،ﻓﴩﺑﺖ ﻓﻨﺠﺎﻧًﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﻬﻮة ،وﺟﻌﻠﺖ أﺣﺪث
ﻧﻔﴘ ﻣﺴﺘﻌﻴﺪًا ﻛﻠﻤﺎت اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل وﺣﺮﻛﺎﺗﻪ وﻣﻼﻣﺢ وﺟﻬﻪ ،ﻣﺎذا ﻗﺼﺪ ﺑﻘﻮﻟﻪ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ
74
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس
اﻟﻨﺪ ﻟﻠﻨﺪ؟ وﻣﺎذا ﻛﺎن ﻳﻈﻦ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ؟ وملﺎذا ﻗﺒﻞ أن ﻳﺸﱰي اﻟﻘﻄﻦ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﻴﻠﺔ إذا ﻛﺎن
ﻳﺨﴙ أن ﻳﻬﺒﻂ اﻟﺴﻌﺮ ﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ؟ وﺗﺬﻛﺮت ﻗﻮل ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻋﻨﻪ إﻧﻪ ﻣﺜﻞ ﺑﱤ ﻋﻤﻴﻘﺔ
ﻻ ﻳﻌﺮف أﺣﺪ ﻗﺮارﻫﺎ ،وﺑﺪأت أﺷﻌﺮ ﺑﴚء ﻣﻦ اﻟﻘﻠﻖ ،واﻧﺘﻈﺮت ﺳﺎﻋﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ وﻟﻜﻦ ﺣﻤﺎدة
ﻟﻢ ﻳﺤﴬ ،وﻛﻨﺖ ﻣُﺘﻌﺒًﺎ ﺑﻌﺪ ﺟﻬﺪ اﻟﻴﻮم وﺑﻌﺪ ﺳﻬﺮ اﻟﻠﻴﻠﺔ املﺎﺿﻴﺔ ﻓﻘﻤﺖ ذاﻫﺒًﺎ إﱃ ﺑﻴﺘﻲ وﻟﻢ
ً
ﻋﻤﻴﻘﺎ. أﻟﺒﺚ أن ﻧﻤﺖ ﻧﻮﻣً ﺎ
وﺑﻜﺮت ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﺧﺎرﺟً ﺎ إﱃ ﻣﻴﺪان املﺤﻄﺔ ﻛﻤﺎ واﻋﺪت اﻟﴩﻧﻮﺑﻲ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﻴﺎرات
ﻓﺠﻠﺴﻨﺎ ﻧﻨﺘﻈﺮ ﰲ املﻜﺘﺐ، ْ ﻫﻨﺎك ﻣﺤﻤﻠﺔ ،وذﻫﺒﻨﺎ إﱃ املﺤﻠﺞ وﻟﻜﻦ اﻟﺴﻴﺪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺪ،
وﻛﺎن ﺑﻪ ﺑﻌﺾ ﻣﺠﻼت وﺻﺤﻒ أﺧﺬﻧﺎ ﻧﺘﺼﻔﺤﻬﺎ ﺑﻐري اﻫﺘﻤﺎم ،وﻛﺎﻧﺖ ﻋﻨﺎوﻳﻨﻬﺎ اﻟﻜﺒرية
ُ
وﻋﺠﺒﺖ ﻛﻴﻒ ﻛﺎﻟﻌﺎدة ﺗُﻐﻨﻲ ﻋﻦ ﻗﺮاءة ﻣﺎ ﺗﺤﺘﻬﺎ ،ﺛﻢ وﺟﺪت ﻗﺼﺔ ﰲ ﺟﺮﻳﺪة »ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار«
ﻳﺠﺮؤ أﺻﺤﺎب اﻟﺼﺤﻒ ﻋﲆ ﻧﴩ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺴﺨﻒ ،وﻛﻴﻒ ﻳﺮﴇ اﻟﻨﺎس أن ﻳﻘﺮءوه .ﻛﺎﻧﺖ
ﻗﺼﺔ ﻓﺘًﻰ ﻣُﺪﻟﻪ ﺑﻐﺎﻧﻴﺔ ﻣﺘﺰوﺟﺔ ﺗﻌﺒﺚ ﺑﻪ ﻛﻤﺎ ﺗﻌﺒﺚ ﺑﺰوﺟﻬﺎ .ﻣﺮﺣﻰ! ورﻣﻴﺖ ﺑﺎﻟﺠﺮﻳﺪة
ﺣﻘﺎ أﺳﻠﻮﺑًﺎ ﺑﺎرﻋً ﺎ ﻣﺘﺄﻣﻼ أﺳﻠﻮﺑﻬﺎ ،ﻛﺎن ٍّ
ً ﺣﺎﻧﻘﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻋﺪت ﻓﺄﺧﺬﺗﻬﺎ وأﺧﺬت أﻋﻴﺪ ﻗﺮاءﺗﻬﺎ ً
ﺳﻬﻼ ﻳﺤﻤﻞ ﻋﲆ اﻟﻘﺮاءة ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ إﻏﺮاء ،وﻟﻮ ﺗﺄﺗﱠﻰ ﻫﺬا اﻷﺳﻠﻮب اﻟﺒﺎرع ﻟﺮأس ً ً
ﺧﻔﻴﻔﺎ
ﻣﻸى وﻗﻠﺐ ﻛﺒري وﻧﻈﺮة ﻋﻤﻴﻘﺔ ﰲ ﺷﺌﻮن اﻟﺤﻴﺎة ﻟﻜﺎن أدب ﻫﺬا اﻟﺸﺒﺎب اﻟﻨﺎﺷﺊ ﺟﺪﻳ ًﺮا ﺑﻜﻞ
ﺺ ﻣﻦ اﻟﺘﻜﻠﻒ واﻟﻐﻤﻮض واﻟﺤﺬﻟﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺠﻌﻞ ﻣﻦ اﻷدب إﻋﺠﺎب .إﻧﻪ أﺳﻠﻮب ﺗﺨ ﱠﻠ َ
ﻟﻐ ًﺰا ﻳﺤﺘﺎج إﱃ اﻟﺤﻞ ﻗﺒﻞ أن ﻳُﻔﻬﻢ ،وﻟﻜﻦ أدﺑﺎء اﻟﺸﺒﺎب ﻻ ﻳﺮﻳﺪون أن ﻳﺮﺗﻔﻌﻮا ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة؛ ﻷﻧﻬﺎ
ﺗﻐﺮﻗﻬﻢ وﺗﺠﺮﻓﻬﻢ ﻣﻌﻬﺎ ،واﻷدﻳﺐ ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻪ أن ﻳﻐﺮق ﰲ اﻟﺤﻴﺎة وﻻ أن ﻳﻨﺠﺮف ﻣﻌﻬﺎ ،ﻫﻮ
ﻳﻌﻴﺶ ﻓﻴﻬﺎ وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺴﺒﺢ ﻓﻴﻬﺎ وﻳَﻌﺮف اﺗﺠﺎﻫﻪ ،ﻫﻜﺬا ﻛﻨﺖ أﻓﻜﺮ ﻋﻨﺪﻣﺎ دﺧﻞ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ
ﺟﻼل وﻗﻄﻊ ﻋﲇ ﱠ اﻟﺘﻔﻜري ﺑﺘﺤﻴﺘﻪ اﻟﺴﻤﺤﺔ.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﺬا ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻘﻄﻦ؟ وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﻠﻢ ﻋﲇ اﻟﴩﻧﻮﺑﻲ ﺗﺒﺴﻢ ً
رﻗﻴﻘﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ،وﻟﻢ أﻓﻄﻦ إﻻ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ ً وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن ﺑﺴﻤﺘﻪ ﺗﺤﻤﻞ ﻣﻌﻨﻰ ُ
إﱃ اﻟﺨﻄﺄ اﻟﺬي ارﺗﻜﺒﺘُﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺟﺌﺖ ﺑﺎﻟﴩﻧﻮﺑﻲ ﻣﻌﻲ .أﻟﻴﺲ ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﺒﺾ ﻣﻨﱢﻲ
ﺛﻤﻦ ﻗﻄﻨﻪ ﺑﻌﺪ؟ أﻟﻴﺲ ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا أﻧﻨﻲ ﻟﻢ أﻛﻦ ﺑﻌ ُﺪ ﺗﺎﺟ ًﺮا ﻳﺸﱰي اﻟﺨﻤﺴني ﻗﻨﻄﺎ ًرا وﻳﺪﻓﻊ
ﺛﻤﻨﻬﺎ ﻣﻘﺪﻣً ﺎ؟ واﻋﱰاﻧﻲ ﳾء ﻣﻦ اﻻرﺗﺒﺎك واﻟﺨﺠﻞ وﻟﻜﻨﻲ ﺟﺎﻫﺪت أن أﻛﻮن ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ.
وأﺗﻢ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﴐﺑﺘﻪ ﺑﺄن ﻓﺘﺢ اﻟﺨﺰاﻧﺔ وأﺧﺮج ﻣﻨﻬﺎ ﺳﺖ ورﻗﺎت ﻣﻦ ذوات
ً
ﻫﺎﻣﺴﺎ :ﺗﺤﺖ اﻟﺤﺴﺎب ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي. املﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ودﺳﻬﺎ ﰲ ﻳﺪي
وأﺣﺴﺴﺖ اﻟﺤﺮارة ﰲ أذﻧﻲ ووﺟﻬﻲ ،واﺳﺘﺄذﻧﺖ ﺧﺎرﺟً ﺎ ﻣﻊ ﺻﺎﺣﺒﻲ وﻗﻠﺖ ﻟﻠﺴﻴﺪ
أﺣﻤﺪ :إﻧﻲ ﻋﺎﺋﺪ ﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ.
75
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ً
ﻣﺸﻐﻮﻻ ﻣﻊ ﺷﻴﻌﺖ ﺻﺎﺣﺒﻲ إﱃ املﺤﻄﺔ ،ﻓﻮﺟﺪت اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ُ وﻋﺪت إﱃ املﺤﻠﺞ ﺑﻌﺪ أن
ﻋﻤﻼﺋﻪ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻠﺘﻔﺖ إﱄ ﱠ إﻻ ﺑﻨﻈﺮة ﺑﺎﺳﻤﺔ ﻗﺼرية ،وﺟﻠﺴﺖ ﰲ رﻛﻦ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮة ﺣﺘﻰ ﻳﻔﺮغ،
ُ
وﻋﺪت أﺳﺄل واﻧﴫﻓﺖ ﺑﺬﻫﻨﻲ أﺗﺄﻣﻞ ﻃﺮﻳﻘﺘﻪ ﰲ املﻌﺎﻣﻠﺔ واﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﻛﺄﻧﻲ أﻗﺮأ ً
درﺳﺎ ﺟﺪﻳﺪًا،
ﻧﻔﴘ أي ﻓﺮق ﺑني ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ وﺑني ﺣﻤﺎدة؟ ﻣﺎ اﻟﻔﺮق ﺑني اﻟﺬﻫﺐ واﻟﻨﺤﺎس وﻛﻼﻫﻤﺎ ﻣﻌﺪن؟
وﺟﺎء دوري ﺑﻌﺪ ﺣني ﻓﻤﺪ اﻟﺴﻴﺪ ﻳﺪه ﻧﺤﻮي ﺑﻮﺛﻴﻘﺔ ﺑني إﺻﺒﻌﻴﻪ اﻟﺴﺒﺎﺑﺔ واﻟﻮﺳﻄﻰ ً
ﻗﺎﺋﻼ:
ﻛﻢ اﻟﺒﺎﻗﻲ؟
وﻗﺮأت اﻟﻮرﻗﺔ وﻛﺎن وزن اﻟﻘﻄﻦ ﻣﻜﺘﻮﺑًﺎ ﻋﻠﻴﻪ :ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ وأرﺑﻌﻮن ﻗﻨﻄﺎ ًرا وﻧﺼﻒ.
ﻓﺼﺤﺖ ﺻﻴﺤﺔ ﻣﻜﺘﻮﻣﺔ :ﻫﻲ ﺧﻤﺴﻮن ﻗﻨﻄﺎ ًرا. ُ
ﻓﻘﺎل ﻫﺎدﺋًﺎ :ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻮزن اﻟﺮﺳﻤﻲ.
ﱠدت ﰲ اﺳﱰﺟﺎع اﻟﻘﻄﻦ؛ ﻷﻧﻲ وﻟﻮﻻ أﻧﻲ دﻓﻌﺖ إﱃ اﻟﴩﻧﻮﺑﻲ ﺑﻘﻴﺔ ﺛﻤﻦ ﻗﻄﻨﻪ ملﺎ ﺗﺮد ُ
ﻛﻨﺖ ً
واﺛﻘﺎ أن وزﻧﻪ ﻻ ﻳﻘ ﱡﻞ ﻋﻦ ﺧﻤﺴني ﻗﻨﻄﺎ ًرا واﻓﻴﺔ.
وﻗﺎل اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ وﻫﻮ ﻳﻔﺘﺢ اﻟﺨﺰاﻧﺔ :ﻳﺒﻘﻰ ﻟﻚ ﻣﺎﺋﺔ وﺳﺒﻌﺔ وﻋﴩون ﺟﻨﻴﻬً ﺎ وﻧﺼﻒ.
أﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ؟
ﻓﻠﻢ أﺟﺒﻪ وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﻤﻨﻌﻪ ﻣﻦ ﻋﺪ اﻟﻨﻘﻮد ووﺿﻌﻬﺎ أﻣﺎﻣﻲ.
وأﺧﺬت اﻟﻨﻘﻮد ﺻﺎﻣﺘًﺎ وﺣﻴﻴﺘُﻪ ﺗﺤﻴﺔ ﻫﺎدﺋﺔ ،واﻧﴫﻓﺖ وأﻧﺎ أﻗﻮل ﻟﻨﻔﴘ» :ﻛﻴﻒ ﻳﺤﺪث
ﻫﺬا؟« وذﻫﺒﺖ ﻋﺎﺋﺪًا إﱃ اﻟﻘﻬﻮة ﻟﻌﲇ أﻟﻘﻰ ﺣﻤﺎدة ﺣﺘﻰ أﻋﻄﻴَﻪ ﻧﺼﻴﺒﻪ ﻣﻦ اﻟﺮﺑﺢ ،وﻛﻨﺖ ﻣﻦ
ﻗﺒﻞ ﻋﺎزﻣً ﺎ ﻋﲆ أن أﻋﻄﻴﻪ ﻋﴩة ﰲ املﺎﺋﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﺑﺢ ،ﻓﻠﻢ أرض أن أﻗﻠﻠﻬﺎ ﻋﻦ ﺧﻤﺴﺔ وﻋﴩﻳﻦ
ﺟﻨﻴﻬً ﺎ.
ﻣﺸﻐﻮﻻ ﻃﻮل اﻟﻮﻗﺖ ﺑﻨﻘﺺ وزن اﻟﻘﻄﻦ ،ﻻ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت اﻟﺘﻲ ً وﻛﺎن ﻓﻜﺮي
ً ُ
ﻓﻘﺪﺗﻬﺎ ،ﺑﻞ ﻣﻦ أﺟﻞ املﻌﻨﻰ اﻟﺬي وراء ذﻟﻚ اﻟﻨﻘﺺ .ﻛﻨﺖ واﺛﻘﺎ ﻣﻦ أن وزن اﻟﻘﻄﻦ ﺧﻤﺴﻮن
ﻗﻨﻄﺎ ًرا ،وﻗﺪ وزﻧﺘﻪ ﺑﻨﻔﴘ وﻫﺬه ﺻﻨﺎﻋﺘﻲ .أﻻ ﻳﻜﻮن ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻫﻮ اﻟﺬي وزﻧﻬﺎ؟
ُ
وﺗﺬﻛﺮت اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﺬي ﻛﺎن أﻳُﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻋﺎ ًملﺎ ﺑﺄن ﻣﻮازﻳﻨﻪ ﻇﺎملﺔ؟
أرﺿﻴﺖ ﻧﻔﴘ ﻋﻤﺎ أﺻﺒﺖ ﻣﻦ ُ ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﻣﺼﻄﻔﻰ وﻛﺎن ﺣﻨﻘﻲ ﺷﺪﻳﺪًا ،وﻟﻜﻨﻲ ﻣﻊ ﻫﺬا
اﻟﺮﺑﺢ ،ﻓﺈﻧﻲ ﻟﻢ أﺣﻠﻢ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم أن أرﺑﺢ ﻣﺎﺋﺘﻲ ﺟﻨﻴﻪ ﰲ ﻟﻴﻠﺔ واﺣﺪة.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﱪوك ﻳﺎ ﺳﻴﺪ واﺳﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ﺣﻤﺎدة ﰲ اﻟﻘﻬﻮة ﻓﺎﺗﺤً ﺎ ذراﻋَ ﻴﻪ ﻟﻴﻀﻤﻨﻲ إﱃ ﺻﺪره ً
أﻓﻨﺪي!
وﻛﺎن ﺻﻮﺗﻪ ﻣﺴﻤﻮﻋً ﺎ ﰲ آﺧﺮ اﻟﻘﻬﻮة.
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻌﺠﻴﺐ أن ﻳﻬﻨﺌﻨﻲ ﻋﲆ اﻟﺮﺑﺢ اﻟﻌﻈﻴﻢ ،ﻓﺈن ﺧﻤﺴﺔ ﺟﻨﻴﻬﺎت ﰲ اﻟﻘﻨﻄﺎر
اﻟﻮاﺣﺪ ﰲ ﻟﻴﻠﺔ واﺣﺪة رﻗﻢ ﻗﻴﺎﳼ ﰲ اﻟﺘﺠﺎرة ،وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﻣﱪوك ﻋﻠﻴﻚ ً
أﻳﻀﺎ!
76
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس
77
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
78
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
ﻟﻢ ﻳﻘﻊ ﺑﴫي ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم ﻋﲆ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻛﺄﻧﻪ اﺧﺘﻔﻰ ﻣﻦ املﺪﻳﻨﺔ ،وﻟﻢ أﻋﺜﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻊ
ﻣﺤﺎوﻻﺗﻲ اﻟﻜﺜرية ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻨﻪ ﰲ اﻟﻘﻬﺎوي واﻷزﻗﺔ املﻈﻠﻤﺔ ،وﻟﻢ أﺟﺮؤ ﻋﲆ أن أذﻫﺐ وﺣﺪي
إﱃ اﻷﺳﻮاق ،ﻓﺈﻧﻲ ﻛﻨﺖ أﺷﻌﺮ أﻧﻲ ﻟﻦ أﺳﺘﻄﻴﻊ ﺷﻴﺌًﺎ إﻻ إذا ﻛﺎن ﺣﻤﺎدة ﻣﻌﻲ؛ ﻓﻬﻮ اﻟﺬي
ﻳﺨﺘﺎر املﻜﺎن اﻟﺬي ﻧﺬﻫﺐ إﻟﻴﻪ ،وﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻔﺮز اﻷﻗﻄﺎن وﻳﻘﺪر أﺛﻤﺎﻧﻬﺎ ﰲ ﺧﱪة وﻣﻬﺎرة ﻟﻢ
ﻗﻠﻘﺎ؛ ﻷن ﺻﻔﻘﺔ اﻟﴩﻧﻮﺑﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺎدل ﺗﺨﻄﺊ ﰲ ﻣﺮة ﻣﻦ املﺮات ،وﻟﻜﻨﻲ ﻣﻊ ﻫﺬا ﻟﻢ أﻛﻦ ً
ﻋﴩ ﺻﻔﻘﺎت ﻣﺘﻔﺮﻗﺔ ﻣﻤﺎ اﻋﺘﺪت أن أﻋﻘﺪﻫﺎ ﰲ أﺳﻮاق اﻟﻘﺮى.
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻘﺮاءة ﺗﺸﻐﻞ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻛﺒريًا ﻣﻦ أوﻗﺎﺗﻲ ،وﻛﺘﺒﺖ ﺑﻀﻊ ﻣﻘﺎﻻت ﻟﺠﺮﻳﺪة اﻟﻨﱪاس؛
ﻷن ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ زارﻧﻲ وﻃﻠﺐ ﻣﻨﱢﻲ املﺴﺎﻋﺪة ﻋﲆ ﺧﺪﻣﺔ املﺪﻳﻨﺔ ﰲ أﻳﺎم اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﺎت ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻣﻊ
ﺿﻴﻘﺎ ﻳﻘﺮب ﺑﻲ ﻣﻦ اﻟﺜﻮرة ﻋﲆ ﻧﻔﴘ وﻋﲆ اﻟﻘﻴﻮد اﻟﻜﺜرية اﻟﺘﻲ ً ﻫﺬا ﻛﻨﺖ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أﺣﺲ
ﺗﻘﻴﺪﻧﻲ ،واﻟﺴﺪود املﻨﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﱰض ﺳﺒﻴﲇ ،ﻓﻤﺎذا ﺻﻨﻌﺖ ﺑﻬﺬه اﻟﺸﻬﺎدة اﻟﺘﻲ أﺷﻘﻴﺖ
ﻧﻔﴘ ﺑﺎﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻬﺎ؟ وﻣﺎذا أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻓﻌﻞ ﰲ ﻣﺴﺎﻋﺪة أﺧﺘﻲ ﺑﻌﺪ أن ﻧﺠﺤﺖ ﰲ اﻟﺪور
اﻟﺜﺎﻧﻲ؟ ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺳﺎﻋﺪﻫﺎ ﻋﲆ اﻻﺳﺘﻤﺮار ﰲ اﻟﺪراﺳﺔ ،وﻻ ﺗﻠﻮح ﱄ ﺑﺎرﻗﺔ أﻣﻞ ﰲ أن
أﺧﺮج ﻣﻦ اﻟﺪاﺋﺮة املﻘﺪورة اﻟﺘﻲ أﺣﺎﻃﺖ ﺑﻬﺎ اﻷﻗﺪار ﺣﻴﺎﺗﻲ.
وأﻣﺎ اﻟﺘﺠﺎرة ﻓﻬَ ﺒْﻨﻲ اﺳﺘﻄﻌﺖ أن أﺟﻤﻊ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻮﺳﻢ ﺑﻀﻊ ﻣﺌﺎت ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ،ﻓﻤﺎذا
ﺗﺠﺪي ﻋﲇ ﻫﺬه املﺌﺎت؟ ﻫﻞ أﺟﺮؤ ﺑﻬﺎ أن أذﻫﺐ إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ً
ﻗﺎﺋﻼ :إﻧﻲ ﺟﺌﺖ إﻟﻴﻚ
ﺧﺎﻃﺒًﺎ؟
وﺟﺎء إﱄ ﺣﻤﺎدة ﰲ ﻣﻨﺰﱄ ﺑﻌﺪ اﻧﻘﻄﺎع ﺷﻬﺮ ﻛﺎﻣﻞ ،وﻛﺎن وﺟﻬﻪ أﺷﺪ ﺻﻔﺮة ﻣﻤﺎ ﻛﺎن،
وﻋﻴﻨﺎه ذاﺑﻠﺘني ،وﺻﺎرت اﻟﺰرﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﻮﻟﻬﻤﺎ إﱃ ﻣﺎ ﻳﻘﺮب ﻣﻦ اﻟﺴﻮاد ،وﻟﻢ ﻳَﺒﺘﺴﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ُ
وملﺤﺖ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ ﻣﺎ ﻳﻨ ﱡﻢ ﻋﻦ اﻟﺤﺰن واﻟﺤﻨﻖ. ﻟﻘﻴﻨﻲ
وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :أﻳﻦ ﻛﻨﺖ؟
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
80
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
أﴎي ﻋﻨﻬﺎ ،واﺳﺘﻤﺮت ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺗﻌﻮد إﱄ ﻛﻞ ﻳﻮم ﺑﻘﺼﺔ ﺟﺪﻳﺪة وﺑﻐري أﻧﻲ ﺻﺪﻗﺘﻬﺎ وأﺧﺬت ﱢ
ُ
ﻓﺬﻫﺒﺖ أﺑﺤﺚ ﻋﻨﻬﺎ، ﻄﻌﺖ ﻋﻨﻲ دﺟﺎج ﺣﺘﻰ ﻓﺮغ ﻣﺎ ﰲ ﺟﻴﺒﻲ ،وملﺎ ﻋﺮﻓﺖ أﻧﻲ أﻓﻠﺴﺖ اﻧﻘ َ
أﺗﻌﺮف أﻳﻦ وﺟﺪﺗﻬﺎ؟ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻠﻌﻴﻨﺔ واﻗﻔﺔ ﻋﻨﺪ دﻛﺎن ﺑﻘﺎل اﻟﻘﺮﻳﺔ ﺗُﻀﺎﺣ ُﻜﻪ ﺑﻐري ﺧﺠﻞ،
وملﺎ ﺳﺄﻟﺘﻬﺎ :ﻣﺎذا ﺗﻔﻌﻞ ﻫﻨﺎك ﻗﺎﻟﺖ ﰲ وﻗﺎﺣﺔ» :وأﻧﺖ ﻣﺎﻟﻚ؟« وﺟﻌﻠﺖ ﺗﺴﺨﺮ ﻣﻨﻲ .ﻗﻞ إﻧﻲ
ﻣﺠﻨﻮن ،ﻗﻞ إﻧﻲ وﻏﺪ ،ﻗﻞ إﻧﻲ أي ﳾء واﺟﻌﻠﻨﻲ أﺳﱰﻳﺢ.
ﺛﻢ ﺣ ﱠﺮك إﺻﺒﻌﻴﻪ ﻳﻄﻠﺐ اﻟﻨﻘﻮد.
رأﻳﺖ أﻣﺎﻣﻲ ﺣﴩة ﻗﺬرة ُ وﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺻﻒ اﻻﺷﻤﺌﺰاز اﻟﺬي ﻏﻤﺮﻧﻲ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ،ﻓﻠﻮ
ﻟﻜﺎن أﻫﻮن ﻋﲇ ﱠ ﻣﻦ رؤﻳﺔ ﻫﺬا اﻹﻧﺴﺎن املﺤﻄﻢ.
وأﴎﻋﺖ ﺑﺈﻋﻄﺎﺋﻪ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ ﻷﴏﻓﻪ ﻋﻨﻲ ،ووﻗﻔﺖ أﻧﻈﺮ ﰲ أﻋﻘﺎﺑﻪ ﺑﺸﻌﻮر ﻣﻦ ﻳﺮى ﺧﻨﺰﻳ ًﺮا
ﻳﺨﺮج ﻣﻦ ﺑﺮﻛﺔ ﻃني.
ً
وداﺧﻠﻨﻲ ﺳﺨﻂ ﺷﺪﻳﺪ ﻻ ﻋﻠﻴﻪ وﺣﺪه ،ﺑﻞ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ أﻳﻀﺎ ،ﻓﻜﻴﻒ ﻋﻤﻴﺖ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ
رﻓﻴﻘﺎ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺮﺑﺢ ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺎرة؟ وﻛﻴﻒ ﺳﻤﺤﺖ ﻟﻨﻔﴘ أن أﻗﺮن ً ورﺿﻴﺖ ﺑﺄن أﺗﺨﺬه
ﻧﻔﴘ ﺑﻪ وأﻧﺎ ﻛﺒري ﻋﺎﻗﻞ ،وﻫﻮ اﻟﺬي ﻧﻔﺮت ﻣﻦ ﺻﺤﺒﺘﻪ وأﻧﺎ ﺻﺒﻲ ﺟﺎﻫﻞ.
وﻧﺰﻟﺖ إﱃ املﺪﻳﻨﺔ ﺳﺎﻟ ًﻜﺎ ﻃﺮﻳﻘﻲ املﻌﺘﺎد ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﺖ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﱰﻋﺔ ،وﻛﺎن اﻟﺠﻮ داﻓﺌًﺎ
ﻳﺘﻨﻔﺲ ﺑﺮواﺋﺢ اﻟﺨﺮﻳﻒ.
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ ،ﻓﻌﺰﻣﺖ ﻋﲆ أن أﺟﻮ َل ﺑني اﻟﺤﻘﻮل ﺑﻘﻴﺔ
اﻟﻨﻬﺎر ،وﻛﺎن ﻣﻌﻲ ﻛﺘﺎب ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺮب ،وﻋﻨﻮاﻧﻪ ﺑﺎﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ
ﻣﻌﻨﺎه» :املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ« ،وﻫﻮ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ املﺂﳼ اﻟﺘﻲ أﺻﺎﺑﺖ املﺪﻧﻴﺔ اﻷورﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﻓﺴﺎد
ﻈﻢ ،اﻟﺤﺎل واﺣﺪة ﰲ ﻛﻞ اﻷﺣﻜﺎم واﺿﻄﺮاب اﻟﻨﻈﻢ ،وﻓﺴﺎد اﻟﻘﺎﺋﻤني ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻷﺣﻜﺎم واﻟﻨ ﱡ ُ
ﻣﻜﺎن ﻣﻊ ﻓﺎرق واﺣﺪ ،وﻫﻮ أن اﻟﻨﺎس ﻫﻨﺎك ﻳﻜﺘﺒﻮن ﻋﻦ ﻋﻴﻮﺑﻬﻢ ﻟﻴﻠﺘﻤﺴﻮا اﻟﺪواء ﻟﻬﺎ.
ﱠ
ﺗﺘﻤﺴﻚ ﺑﺎﻟﺒﻘﺎء ﻓﻴﻪ، وﻛﺎﻧﺖ أﺷﻌﺔ اﻟﺸﻤﺲ اﻟﺨﺎﻓﺘﺔ ﺗﺮﻧﻮ ﻛﺎملﺮﻳﻀﺔ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي
وأوراق اﻟﺸﺠﺮ ﺗﻠﻤﻊ ﻣﻦ أﺛﺮ ﻗﻄﺮات ﺧﻔﻴﻔﺔ ﺗﺘﺴﺎﻗﻂ ﻣﻦ ﻏﻤﺎﻣﺔ ﻋﺎﺑﺮة.
وﺑﻘﻴﺖ ﻫﻨﺎك إﱃ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻐﺮوب ،ﺛﻢ ﻋﺪت إﱃ املﺪﻳﻨﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ راﺋﺤﺔ اﻟﻬﻮاء رﻃﺒﺔ ﺗﻔﻮح
ﺑﻌﺒﻖ ﻋﻄﻦ ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ وﺻﻔﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺜﻘﻞ ﻋﲆ اﻟﺼﺪر ،وملﺎ وﺻﻠﺖ إﱃ ﺷﺎرع املﺪﻳﺮﻳﺔ
ﻓﺎﺗﺠﻬﺖ إﱃ ﻫﻨﺎك ﻣﴪﻋً ﺎ ،وﻛﺎن املﻴﺪان ﻳﻤﻮج ُ ﺳﻤﻌﺖ ﺿﺠﺔ ﺑﻌﻴﺪة ﰲ ﻣﻴﺪان املﺤﻄﺔ،
ﺑﺠﻤﻮع ﻛﺒرية ﻣﻦ ﺷﺒﺎن وأﻃﻔﺎل ﻳُﻠﻮﱢﺣﻮن ﺑﺄﻳﺪﻳﻬﻢ وﻳَﺘﻮاﺛﺒُﻮن ﰲ اﺿﻄﺮاب ،وﻋﻼ ﺻﻮت
ُ
وﺿﺤﻜﺖ ﻷﻋﺮف ﻣﺎ ﻫﻨﺎك،َ ُ
ﻓﺬﻫﺒﺖ إﱃ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﺳﻮر املﺤﻄﺔ ﻫﺘﺎف ﻣﻦ وﺳﻂ املﻴﺪان،
ﺿﺤﻜﺔ ﻣ ﱠﺮة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺒﻴﻨﺖ أﻧﻬﺎ ﻣﻈﺎﻫﺮة ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ،وﻛﺎن اﻟﻬﺘﺎف ﻳﺘﻌﺎﻗﺐ ﺑني ﺣﻴﺎة اﻟﺴﻴﺪ
أﺣﻤﺪ ﺟﻼل وﺑني ﺳﻘﻮط ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ ﺧﻠﻒ.
81
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻣﺤﻤﻮﻻ ﻋﲆ اﻷﻛﺘﺎف ﻳﻬﺰ ﻳﺪﻳﻪ ﰲ ﻋﻨﻒ ،وﻳﺼﻴﺢ ﺑﺄﻋﲆ ﺻﻮﺗﻪ ً ورأﻳﺖ ﻋﻦ ﺑُﻌﺪ ﺷﺎﺑٍّﺎ
ُﻮﻗﻌﻪ ﺗﻮﻗﻴﻌً ﺎ ﻣﻨﻈﻤً ﺎ ﻛﺄﻧﻪ ﻣﻨﺸﺪ ﻣُﺤﱰف :ﻳﺤﻴﺎ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،ﻳﺤﻴﺎ ﻣﺘﺄﻧﻘﺎ ﰲ ﻧﺪاﺋﻪ ﻳ ﱢ
ً
ﺣﺎﺗﻢ دﻣﻨﻬﻮر! ﻳﺤﻴﺎ املﺨﻠﺺ اﻷﻣني ،وﻛﺎن ﻳﻔﺼﻞ ﺑني ﻛﻞ ﺣﻴﺎة وأﺧﺮى ﺑﻬﺘﺎف آﺧﺮ ﻣﻦ
وﻛﺪت أﻧﴫف ﻣﻦ املﻼل ﻟﻮﻻ أن ﺳﻤﻌﺖ ﺻﻔريًا ﻋﺎﻟﻴًﺎ ﻳﺸﺒﻪ ُ اﻟﺴﻘﻮط ﻟﻠﻤُﻨﺎﻓﺲ اﻟﺒﺎﺋﺲ،
ﺻﻔري ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ،أﻳﻜﻮن ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﺸﺎب املﺤﻤﻮل ﻋﲆ اﻷﻋﻨﺎق؟ وﻟﻢ ﻳَﺨِ ﺐ ﻇﻨﱢﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﺷﻘﻘﺖ اﻟﺼﻔﻮف واﻗﱰﺑﺖ ﻣﻨﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻛﺎن ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻣﻠﺘﻔﺘًﺎ ﰲ اﺗﺠﺎﻫﻲ ،وأﺧﺬ ﻳُﻠﻘﻲ ﻋﲆ اﻟﺠﻤﻊ ُ
املﺤﺘﺸﺪ ﺣﻮﻟﻪ ﺣﺪاءً واﻟﺠﻤﻊ ﻳُﺮدﱢد وراءه اﺳﻢ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل :املﺤﺴﻦ اﻟﻜﺮﻳﻢ ،اﻟﺴﻴﺪ
ﺟﻼل ،اﻟﻮﻃﻨﻲ اﻟﻜﺒري ،اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل وﻫﻜﺬا ﺣﺘﻰ أﺗﻢ ﻧﺤﻮ ﻋﴩﻳﻦ ﺣﺪاءً ،واﻟﺠﻤﻮع
ﺗﺮدد اﺳﻢ اﻟﺴﻴﺪ ﻣﻦ وراﺋﻪ.
ٍّ
وﺿﺤﻜﺖ ﺑﺮﻏﻤﻲ ﻣﻊ ﺷﺪة ﺣﻨﻘﻲ؛ ﻓﺈن ﺣﻤﺎدة ﻛﺎن ﺣﻘﺎ ﺑﺎرﻋً ﺎ ﰲ ﺗﻤﺜﻴﻞ دوره ،وملﺎ ﻓﺮغ
ﻣﻦ ﺣﺪاﺋﻪ رﻓﻊ ﻳﺪه إﱃ ﻓﻤﻪ ﻓﺼﻔﺮ ﺻﻔريًا ﻋﺎﻟﻴًﺎ اﻧﻄﻠﻘﺖ ﺑﻌﺪه ﺿﺤﻜﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﻊ اﻟﻜﺒري،
وﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ أن أﻣﻨﻊ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ املﺸﺎرﻛﺔ ﻓﻴﻬﺎ ،ﺛﻢ ﻧﺰل ﻣﻦ ﻓﻮق اﻷﻛﺘﺎف ،وأﺧﺬ املﺘﻈﺎﻫﺮون
ُﺴﺘﻐﺮﻗﺎ ﰲ دﻫﺸﺘﻲ ،واﻗﱰب ﻣﻨﻲ ﺣﻤﺎدة ً ُ
وﺑﻘﻴﺖ أﻧﺎ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻣ ﻳﻨﴫﻓﻮن ﰲ اﺗﺠﺎﻫﺎت ﺷﺘﻰ،
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎذا ﺗَﺼﻨﻊ ﻫﻨﺎ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي؟ ﺑﻌﺪ أن ﻫﺪأ اﻟﺰﺣﺎم وﻧﺎداﻧﻲ ً
ﻓﻘﻠﺖ ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ :أﺗﻔ ﱠﺮج ﻋﻠﻴﻚ.
ُ
ﺗﻈﻦ ﻳﺎ ﻋﻢ؟ أﻧﻤﻮت ﻣﻦ اﻟﺠﻮع أم ﻧَﻨﺘﺤِ ﺮ؟ ﻫﺎت ﱡ ﻓﻤ ﱠﺪ ﻳﺪه ﻧﺤﻮي ﻣﺴﻠﻤً ﺎ وﻗﺎل :وﻣﺎذا
ﻧﻘﻮدًا أﺻﻔﺮ ﻟﻚ وأﺻﻔﻖ وأﻫﺘﻒ ،أﺗﻈﻦ أﻧﻲ أﺑﻠﻪ؟ ﺧﻤﺴﺔ ﺟﻨﻴﻬﺎت ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺷﻐﻠﺔ
ﺳﺎﻋﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ :ﻓﻘﻂ؟
ﴎرت ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻘﺘﻲ؟َ ﻓﻘﺎل :ﺗﺠﺮﺑﺔ أوﱃ ،وﻻ ﺷﻚ أن اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ أﻏﲆ ،ﻫﻞ
ﻓﻘﻠﺖ ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ :ﺟﺪٍّا ،ﻣُﻬ ﱢﺮج ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻷوﱃ داﺋﻤً ﺎ.
ﻓﻀﺤﻚ ﺣﺘﻰ ﺑﺪت أﺳﻨﺎﻧﻪ اﻟﺼﻔﺮاء وﻗﺎل :أﻧﺎ وﷲ ﻣُﻌﺠﺐ ﺑﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،أﺗﻌﺮف
وﻛﻨﺖ داﺋﻤً ﺎ ﻫﻜﺬا ،ﻻ ﻳُﻌﺠﺒﻚ أﺣﺪ وﻻ ﻳُﻬﻤﻚ أﺣﺪ. َ ﻣﺎذا ﻳُﻌﺠﺒﻨﻲ ﻓﻴﻚ؟ أﻋﺮﻓ َﻚ ﻣﻦ اﻟﺼﻐﺮ
أﻓﻼﻃﻮن!
واﻗﱰب ﻣﻨﻲ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻀﻊ ذراﻋﻪ ﺣﻮل ﻋﻨﻘﻲ ﻟﻠﺪﻻﻟﺔ ﻋﲆ إﻋﺠﺎﺑﻪ ،ﻓﺸﻤﻤﺖ راﺋﺤﺔ
ً
ﻛﺎرﻫﺎ. اﻟﺨﻤﺮ ﺗﻔﻮح ﻣﻨﻪ ،راﺋﺤﺔ ﺧﻤﺮ رﺧﻴﺼﺔ ﺟﻌﻠﺘْﻨﻲ أُﺑﻌﺪُه ﻋﻨﻲ
ﻓﻘﺎل :أﻟﻢ أﻗﻞ ﻟﻚ؟ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺎ ﻋﻢ .ملﺎذا ﻟﻢ ﺗﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل؟
ﻓﻘﻠﺖ :وﻣﺎذا أﺻﻨﻊ ﻋﻨﺪه؟
82
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
ﻓﻘﺎل :أﺗُﻨﻜﺮ ﻣﻨﻰ؟ أﻟﻢ ﻳﺒﻌﺖ إﻟﻴﻚ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة؟ واملﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ﻳﺎ ﻋﻢ ﺳﻴﺪ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺣﻨﻖ :أي ﻣﺎﺋﺔ؟
ﻓﻘﺎل :ﻫﻞ ﺗﻈﻦ أﻧﻲ ﻃﺎﻣﻊ ﻓﻴﻚ وأرﻳﺪ ﻣﻘﺎﺳﻤﺘﻚ؟
إن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ أرﺳﻞ إﱃ ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ؟ وملﺎذا؟ﻓﻘﻠﺖ ﻏﺎﺿﺒًﺎ :ﻫﺬا ﻛﺬب .أﺗﻘﻮل ﱠ
ﻓﻘﺎل :وملﺎذا ﺗﻐﻀﺐ ﻳﺎ أﺧﻲ؟ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﺎ ﻟﻪ أﺟﺮﺗﻪ :أﻧﺎ ﺧﻤﺴﺔ وأﻧﺖ ﻣﺎﺋﺔ ،ﻫﺬا أﻗﻞ ﻣﺎ
اﺣﺘﺠﺖ إﱃ ﳾء ﻓﺄﻧﺎ ﰲ ﺧﺪﻣﺘﻚ ،ﺳﻜﺮﺗري ،ﻣﺤﺼﻞ، َ ﻳﻠﺰم ،اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺎ ﻋﻢ أﻧﺎ ﺗﺤﺖ اﻷﻣﺮ ،وإذا
وﻛﻴﻞ ،ﻛﻤﺎ ﺗﺸﺎء ،أي ﺧﺪﻣﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻓﻌﺔ :ﻣﺎ ﻫﺬه اﻷﻟﻐﺎز ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة؟
ﺧﺎل .ﻫﺎ .ﻫﺎ .ﻫﺎ.
ﻓﻘﺎل :اﺳﻤﻊ ﻳﺎ ﻋﻢ :ﺟﻴﺒﻲ ﻋﺎﻣﺮ ورﻳﻘﻲ ﻧﺎﺷﻒ وﺟﻮﰲ ٍ
ﻃﻮﻳﻼ ﻋﻨﺪ ﻫﺮاﺋﻪً واﻧﴫف ﻋﻨﱢﻲ ﻓﺠﺄة ﺑﻐري أن أﻋﺮف ﻣﻌﻨﻰ أﻗﻮاﻟﻪ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻗﻒ
املﺨﻤﻮر.
ً
وﻛﻨﺖ ﻟﻢ أﻃﻌﻢ ﺷﻴﺌﺎ ﻣﻨﺬ اﻟﺼﺒﺎح ،ﻓﻌﺮﺟﺖ ﻋﲆ ﻣﻄﻌﻢ ﻳﺒﻴﻊ اﻟﻔﻮل املﺪﻣﺲ وأﻛﻠﺖ
ُﺠﺎورة ﻟﻪ ،وﺟﻠﺴﺖ أﺳﺘﻌﺮض ﺑﺸﺎﻫﻴﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ،ﺛﻢ ﴍﺑﺖ ﻓﻨﺠﺎﻧًﺎ ﻣﻦ اﻟﺸﺎي ﰲ ﻗﻬﻮة ﻣ ِ
ﻣﻨﺎﻇﺮ ﻳﻮﻣﻲ ﻣﻨﺬ ﺟﺎءﻧﻲ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﰲ ﻣﻨﺰﱄ ،وﻋﺎد إﱄ ﱠ ﺷﻌﻮر اﻟﻀﻴﻖ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳَﻤﻸ
ﺻﺪري ،وﻋﺎ َودَﻧﻲ ﺳﺆاﱄ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺑﱰدﱡد ﰲ إﻟﺤﺎح :ﻣﺎذا أﻗﺼﺪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة؟ وﺑﺪت ﱄ ﺣﻴﺎة
ﻓﺎرﻏﺔ ﻻ ﻳﻤﻠﺆﻫﺎ ﳾء ،ﺑﻞ ﺗﻄﻔﻮ وﻫﻲ ﺟﻮﻓﺎء ﻣﻊ دﻓﻌﺎت اﻟﺘﻴﺎر اﻟﺬي ﻳﺘﻘﺎذف ﺑﻬﺎ ،ﻟﻢ أُﻓﻠِﺢ
ً
ﻋﺎﻣﻼ وﻻ ﺗﺎﺟ ًﺮا ﻛﻤﺎ ﻟﻢ أﻓﻠﺢ ﻃﺎﻟﺒًﺎ ،واﺗﺠﻬﺖ ﻛﺎﻟﺤﺎﺋﺮ ﻗﺒﻞ املﴩق واملﻐﺮب واﺻﻄﺪﻣﺖ ﰲ
ﻛﻞ ﻣﺮة ﰲ آﺧﺮ ﺳريى ﺑﻨﻬﺎﻳﺔ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،ﻓﻌﺮﻓﺖ أﻧﻲ أﺳري ﰲ ﻋﻄﻔﺔ ﻣﺴﺪودة.
ُ
وﻗﻤﺖ ﻣﻦ اﻟﻘﻬﻮة أﺳري ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻻ أﻗﺼﺪ إﱃ وﺟﻬﺔ ،ﻓﺪﺧﻠﺖ ﺷﺎرع املﺪﻳﺮﻳﺔ ﺛﻢ ﺷﺎرع
اﻟﺴﻮق ،ووﺻﻠﺖ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ إﱃ ﺷﺎرع »أﺑﻮ اﻟﺮﻳﺶ« ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﺮﻳﻖ املﺆدﻳﺔ إﱃ ﻣﺤﻠﺞ اﻟﺴﻴﺪ
أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﺗﺘﻸﻷ ﺑﺄﻧﻮار املﺼﺎﺑﻴﺢ اﻟﻘﻮﻳﺔ ،وﺑﺎب املﺤﻠﺞ ﻳﺒﺪو ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﻣﺜﻞ ﻗﴫ ﻣﺰﺧﺮف
ﺑﺒﺎﻗﺎت ﻣﻦ اﻷﺿﻮاء املﻠﻮﻧﺔ ،ﻓﻌﺮﺟﺖ إﱃ ﻳﺴﺎري ودﺧﻠﺖ إﱃ اﻟﴪادق اﻟﻜﺒري اﻟﺬي ﻛﺎن ﰲ
ً
ﺟﺎﻟﺴﺎ ﰲ اﻟﺼﺪر ،ﻓﻠﻤﺎ وﻗﻊ ﺑﴫُه ﻋﲇ ﱠ ﻧﺎداﻧﻲ ﰲ رﺣﺒﺔ املﺤﻠﺞ ،وﻛﺎن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل
ﻣﻮدة :ﺗﻔﻀﻞ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي!
ً
وﻗﻮﻓﺎ ﻣﻊ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ، وﻗﺎم ﻻﺳﺘﻘﺒﺎﱄ ،ﻓﺎﺗﺠﻬﺖ اﻷﻧﻈﺎر ﻧﺤﻮي ،وﻗﺎم ﻣَ ﻦ ﻫﻨﺎك
ﻓﺴﻠﻤﺖ ﺑﺘﺤﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﺑﻌﺪ أن ﺻﺎﻓﺤﺖ اﻟﺴﻴﺪ ،واﺳﺘﺄﻧﻒ اﻟﺠﺎﻟﺴﻮن اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﻓﻘﺎل اﻟﺴﻴﺪ
أﺣﻤﺪ :ﻧﺤﻦ ﻧﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﺘﻌﻴﻨﻮن ﺑﺎﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،ﻣﻊ أﻧﻬﻢ
ﻳﻘﻮﻟﻮن إن اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﺎت ﺣﺮة.
83
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻓﺼﺎح ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة :دﻋﻬﻢ ﻳﻔﻌﻠﻮن ﻣﺎ ﻳﺸﺎءون ﻓﻨﺤﻦ اﻷﻗﻮﻳﺎء ،اﻟﺸﻌﺐ ﻳُﻐﺮق
أﺻﻮاﺗﻬﻢ.
وﻧﻈﺮ إﱄ ﱠ وﻛﺎن وﺟﻬﻪ أزرق ﻣُﺤﺘﻘﻨًﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻤﺲ ،ﻓﻮﺿﻌﺖ ﻳﺪي ﻋﲆ وﺟﻬﻲ ﻷداري
اﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻲ ،واﻟﺘﻔﺖ اﻟﺴﻴﺪ ﻧﺤﻮي ً
ﻗﺎﺋﻼ :وﻣﺎ رأﻳﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﰲ أي ﳾء؟
ﻓﻘﺎل :ﻛﻨﺎ ﻧﺘﻜ ﱠﻠﻢ ﰲ إﻧﺸﺎء ﺟﺮﻳﺪة.
ﻓﺒﺎدر ﻣﺼﻄﻔﻰ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻓﻜﺮة ﻋﻈﻴﻤﺔ.
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ اﻟﻔﻜﺮة ﻣﺎ ﻳﻤﻨﻌﻨﻲ ﻣﻦ أن أﻗﻮل إﻧﻬﺎ ﻋﻈﻴﻤﺔ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﻤﻌﺖ ﺻﻮت
ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﺷﻌﺮت ﺑﺮﻏﺒﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﰲ املﺨﺎﻟﻔﺔ ،وﻟﻢ أﺟﺐ ﻋﻦ اﻟﺴﺆال ﻷن أﺻﻮاﺗًﺎ أﺧﺮى
ﺗﺴﺎﺑﻘﺖ إﱃ اﻹﺟﺎﺑﺔ.
ﻓﻘﺎل اﻟﺸﻴﺦ اﻟﻘﺮش :ﻓﻜﺮة ﻣُﺪﻫِ ﺸﺔ ﺑﻐري ﺷﻚ.
وﻗﺎل اﻟﻮزان اﻟﺬي ﺣ ﱠﻞ ﻣﺤﲇ واﺳﻤﻪ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺴﻠﻢ :ﻣﴩوع وﻃﻨﻲ.
وﻗﺎم ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﺻﺎﺋﺤً ﺎ :ﻳﺤﻴﺎ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل.
ﻓﺼﻔﻖ اﻟﺤﺎﴐون وﺻﺎﺣﻮا ﻳﺮددون اﻟﻬﺘﺎف ،واﻟﺘﻔﺖ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻧﺤﻮي ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﻞ ﱠ
ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﲆ اﻟﻔﻜﺮة؟
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻫﺪوء :املﻬﻢ ﻫﻮ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻟﻐﺮض ﻣﻨﻬﺎ.
ﻓﻘﺎل ﻣُﻈﻬ ًﺮا اﻻرﺗﻴﺎح :ﻋﻈﻴﻢ.
ﻗﺎﺋﻼ :ﺣﺴﻦ ﺟﺪٍّا ،اﻵن اﺗﻔﻘﻨﺎ ،أﺗُﻮاﻓﻘﻨﺎ ﻋﲆ اﻗﱰاح اﻟﺸﻴﺦ اﻟﻘﺮش؟ واﻟﺘﻔﺖ إﱃ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎ رأﻳﻚ ﰲ أن ﻳﻜﻮن اﺳﻢ اﻟﺠﺮﻳﺪة »اﻟﻮاﻋﻆ«؟ وﻧﻈﺮ إﱄ ﱠ ً
ﻓﻘﻠﺖ :ﻳُﻤﻜﻨُﻨﺎ أن ﻧﺠﺪ اﻻﺳﻢ املﻨﺎﺳﺐ ﰲ ﻛﻞ وﻗﺖ.
أوﻻ ،اﻻﺳﻢ ﻫﻮ ﻧﻌﻢ اﻟﻌﻨﻮان. ﻓﺼﺎح اﻟﺸﻴﺦ اﻟﻘﺮش :اﻻﺳﻢ ً
وﺻﺎح ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻣﻌ ﱢﺰ ًزا :ﻧﻌﻢ اﻟﻌﻨﻮان.
ﻓﻘﺎل أﺣﺪ اﻟﺠﻠﻮس :اﻟﻮاﻋﻆ ﻳﺎ ﻣﻮﻻﻧﺎ ﻳَﺼﻠُﺢ ﻟﺠﺮﻳﺪة دﻳﻨﻴﺔ ،املﻨﺎر أﺣﺴﻦ.
واﻗﻔﺎ وﻗﺎل ﰲ ﻏﻀﺐ :اﻟﻮاﻋﻆ ﻳﺪ ﱡل ﻋﲆ املﻌﻨﻰ واﺿﺤً ﺎ ،ﻓﻴﻪ ﻛﻞ ﻓﻘﺎم اﻟﺸﻴﺦ اﻟﻘﺮش ً
املﻌﺎﻧﻲ.
ﻓﺼﺎح ﺷﻴﺦ آﺧﺮ :ﻧُﺴﻤﻴﻬﺎ املﺸﻜﺎة.
وﺿﺤﻚ اﻟﺤﺎﴐون ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﰲ ﺳﺨﺮﻳﺔ :املﺸﻜﺎة؟
ﻮر ِه َﻛ ِﻤ ْﺸ َﻜﺎ ٍة ﻓِ ﻴﻬَ ﺎ ِﻣ ْ
ﺼﺒَﺎحٌ ﴾. وﻗﺎل اﻟﺸﻴﺦ :ﻗﺎل ﷲ ﺗﻌﺎﱃ﴿ :ﻣَ ﺜ َ ُﻞ ﻧ ُ ِ
84
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
85
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
86
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
87
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻓﻠﺴﺖ أرﻫﺐ ﺳﻄﻮﺗﻚ ،أﻧﺖ ﻻ ﺗﻤﻠﻚ ُ ﻣﺎ ﺗﻘﺪر ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻠﺴﺖ أﻋﺒﺄ ﺑﺘﻬﺪﻳﺪك ،اﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﺗﻘﺪر ﻋﻠﻴﻪ
ﻣﻦ أﻣﺮي ﺷﻴﺌًﺎ؛ ﻷﻧﻲ ﻏري ﻣُﺤﺘﺎج إﻟﻴﻚ ﰲ ﳾء ،أﻧﺖ ﻻ ﺗَﺰﻳﺪ ﰲ ﻧﻈﺮي ﻋﲆ ﺻﻨﺪوق ﻣﻤﻠﻮء
ﺑﺎﻟﺬﻫﺐ ﰲ ﻗﺎع املﺤﻴﻂ.
وﺗﺮﻛﺘُﻪ ﻣُﺒﺎد ًرا ﻗﺒﻞ أن ﻳﺠﻴﺒﻨﻲ ،وﻛﺎن ﻳﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮي ﻫﺎﺋﺠً ﺎ ﻳﻨﺘﻔﺾ ﻣﻦ اﻟﻐﻴﻆ.
واﺳﺘﻠﻘﻴﺖ اﻟﻬﻮاء اﻟﺒﺎرد أﺣﺴﺴﺖ أن ﺟﺴﻤﻲ ﻛﻠﻪ ﻳﺸﺘﻌﻞ َ ُ
ﴏت ﰲ ﻓﻨﺎء املﺤﻠﺞ وملﺎ
ﺣﺮارة ،وﺧﺮﺟﺖ ﻣُﺘﺒﺎﻋﺪًا ﻋﻦ املﻜﺎن اﻟﺬي ﻓﻴﻪ اﻟﴪادق ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳَﺮاﻧﻲ أﺣﺪ ،وﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﻐﲇ
آﺳﻔﺎ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺛﺎرت ﻓﺠﺄة. ﻈﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻋﻴﻨﻪ ﺣﺰﻳﻨًﺎ ً ﻏﻴ ً
ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﻌﺎﴍة ﻣﻦ املﺴﺎء ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﻣﺤﻠﺞ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،وﴎت ﰲ
اﻟﻄﺮﻳﻖ املﺆدﻳﺔ إﱃ ﺟﴪ اﻟﱰﻋﺔ وأﻧﺎ ﻣﻮ ﱠزع ﺑني اﻟﺮﺿﺎ واﻷﺳﻒ واﻟﻘﻠﻖ :أﻣﺎ اﻟﺮﺿﺎ ﻓﻸﻧﻲ ﻛﻨﺖ
ُ
وﺗﺤﺪﻳﺖ أﺣﺲ وﺟﻮدي ﻣﻨﺬ وﻗﻔﺖ أﻣﺎم اﻟﺴﻴﺪ اﻟﻜﺒري وﺟﺒﻬﺘُﻪ ﺑﺮأﻳﻲ ورددت ﻋﻠﻴﻪ إﻫﺎﻧﺘﻪ
ﻓﻀﻞ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻛﻨﺖ أ ُ ﱢ
ﺳﻠﻄﺎﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻫﺪدﻧﻲ ﺑﺄن ﻳَﺴﺤﻘﻨﻲ وﻳﺤﻄﻤﻨﻲ ،وأﻣﺎ اﻷﺳﻒ واﻟﻘﻠﻖ ﻓﻸﻧﻲ ُ
ﺳﺒﻴﻼ ﺑﻴﻨﻨﺎ إﱃ اﻷﻣﻞ ﰲ ﺣﻔﻆ ﻣﻈﺎﻫﺮ ً أﺻﻄﺪم ﺑﺎﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻻﺻﻄﺪام اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳ َﺪ ْع
ﻄﻊ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﻲ وﺑﻴﻨﻪ ﻗﻄﻌً ﺎ ﻳﺤُ ﻮل املﻮدة واملﺴﺎملﺔ ،ﻓﺈﻧﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﺧﺪﻣﺘﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻟﻢ أﻗ َ
دون اﻟﺮﺟﻮع إﱃ ﻣﺼﺎﻓﺎﺗﻪ؛ وﻟﻬﺬا ﻟﻢ أﺗﺮدد ﰲ أن أذﻫﺐ إﻟﻴﻪ ﻷﺑﻴﻊ ﻟﻪ ﻗﻄﻦ اﻟﴩﻧﻮﺑﻲ ،وﻟﻢ
ﻳﱰدﱠد ﻫﻮ ﰲ أن ﻳﺒﻌﺚ إﱄ ﱠ ﻷﻛﻮن ﻣﻌﻪ ﰲ أﻳﺎم اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﺎت ،وﻟﻜﻦ ﺗﻠﻚ املﺼﺎدﻣﺔ اﻷﺧرية ﺟﻌﻠﺖ
ﻛﻨﺖ أﺣﺮص ﻋﲆ ﳾء ﻣﻮﻗﻒ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻨﺎ ﻧﺤﻮ اﻵﺧﺮ ﻻ ﻳﻘ ﱡﻞ ﻋﻦ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﻌﺪاوة اﻟﴫﻳﺤﺔ ،وﻣﺎ ُ
ﻣﺜﻞ ﺣﺮﴆ ﻋﲆ ﺣﻔﻆ ﻣﻈﺎﻫﺮ املﻮدة ﺑﻴﻨﻪ وﺑﻴﻨﻲ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،وﻗﺪ ﺗﺤ ﱠﺮج املﻮﻗﻒ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻓﺠﺄة،
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺨﻄﺮ ﺑﺒﺎﱄ أن ذﻫﺎﺑﻲ إﻟﻴﻪ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻳﺆدي إﱃ ﻣﺜﻞ ﺗﻠﻚ املﻐﺎﺿﺒﺔ.
ﴎت ﰲ اﻟﻈﻼم أراﺟﻊ ﻧﻔﴘ وأﺟﺎدﻟﻬﺎ ،واﻟﺪواﻓﻊ املﺘﻌﺎرﺿﺔ ﺗﺘﻘﺎذف ﺑﻲ ﺣﺘﻰ اﻗﱰﺑﺖ
ُ
ﻓﻠﻤﺤﺖ ﻋﻨﺪﻫﺎ ﺟﻤﻌً ﺎ ﻛﺒريًا ﻣﻦ ﻣﻦ ﻋﻄﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻄﻔﺎت اﻟﺼﻐرية اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻬﻲ إﱃ اﻟﺠﴪ،
رﺟﺎل وﻧﺴﺎء وأﻃﻔﺎل ﺗﻌﻠﻮا أﺻﻮاﺗﻬﻢ ﰲ ﺳﻜﻮن اﻟﻠﻴﻞ ،وﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻨﻬﻢ ﰲ اﻟﻈﻼم إﻻ أﺷﺒﺎح
ﺗﺘﺤ ﱠﺮك ﰲ اﻷﺷﻌﺔ اﻟﺨﺎﻓﺘﺔ ﻣﻦ ﻣﺼﺒﺎح ﺿﺌﻴﻞ ﻋﻨﺪ رأس اﻟﻌﻄﻔﺔ ،وﻟﻢ أﺟﺪ ﺑﻘﺮﺑﻲ ﻋﻄﻔﺔ
أﺧﺮى أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻧﻔﺬ ﻣﻨﻬﺎ إﱃ املﺪﻳﻨﺔ ﺣﺘﻰ أﺗﻔﺎدى املﺴري ﺑني ذﻟﻚ اﻟﺠﻤﻊ ،ﻓﻠﻢ أﺟﺪ ﺣﻴﻠﺔ
ُﺼﻔﻘﻮن ﰲ زﻳﺎط، ﺳﻮى أن أﺗﻘﺪم وأﺷﻖ ﻃﺮﻳﻘﻲ ،وﻛﺎن اﻟﻨﺎس ﻳﺘﺰاﺣﻤﻮن وﻳﺘﻮاﺛﺒﻮن وﻳ ﱢ
وﻳﺜريون اﻟﻐﺒﺎر اﻟﻘﺬر ﺑﺄﻗﺪاﻣﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﺿﺎﻗﺖ أﻧﻔﺎﳼ ﻣﻦ رواﺋﺤﻪ ،ﻓﺄﴎﻋﺖ ﰲ اﻟﺴري ﻛﺎﺗﻤً ﺎ
اﺟﺘﺰت ﺑﻬﻢ وﺑﺪأت أﻣﻸ ﺻﺪري ﻣﻦ اﻟﻬﻮاء اﻟﺨﺎﻟﺺ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﻌﺪت ﻋﻨﻬﻢ ،وﻟﻜﻨﻲ ُ ﻧﻔﴘ ﺣﺘﻰ
ﺳﻤﻌﺖ ﻣﻦ ﺧﻠﻔﻲ ﺻﻴﺤﺎت ﻣﺬﻋﻮرة ﺗﻨﺎدي» :اﻹﺳﻌﺎف« ،وأﺻﻮات أﺧﺮى ﺗﺼﻴﺢ» :ﻟﻘﺪ
ﻣﺎت!« ﻓﺘﻮﻗﻔﺖ ﻋﻦ ﺳريي ﺛﻢ اﻧﺪﻓﻌﺖ ﺑﻐري ﺗﻔﻜري ﻋﺎﺋﺪًا إﱃ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﺰﺣﺎم ﻷﺳﺄل ﻣﻦ ﻫﻨﺎك
88
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
ُ
وﺗﺪﺳﺴﺖ ﺑني اﻟﺠﻤﻊ ً
ﻏﺮﻳﻘﺎ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ إﺳﻌﺎف، ﻋﻤﺎ ﺣﺪث ،وﻛﺎن أول ﻣﺎ ﺧﻄﺮ ﱄ أن ﻫﻨﺎك
ُﻠﻘﻰ ﻓﻮق ﻛﻮﻣﺔ ﻣﻦﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ إﱃ ﻗﻠﺐ اﻟﺤﻠﻘﺔ ،ﻓﺈذا أﻧﺎ أﻣﺎم ﺷﺨﺺ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻣ ً
اﻟﱰاب ﻻ ﻳﻌﻲ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ ﺑﺮﻛﺔ ﻗﺬرة ﻣﻦ املﻮاد اﻟﻌﻔﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻃﺮدَﻫﺎ ﻣﻦ ﺟﻮﻓﻪ ،وﺷﻌﺮت
ُ
وﻣﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﻗﻠﻖ ﻷﺳﺘﻤﻊ إﱃ دﻗﺎت دق ﰲ أﻋﲆ ﺻﺪﻏﻲ، ﺑﻮﺧﺰة ﻣﺆملﺔ ﰲ رأﳼ ﻛﺄن ﻣﺴﻤﺎ ًرا ﱠ
ﻗﻠﺒﻪ ،وأﻧﺎ ﻣﺘﻘ ﱢﺰز ﻣﻦ اﻟﺮاﺋﺤﺔ اﻟﻜﺮﻳﻬﺔ املﻨﺒﻌﺜﺔ ﻣﻨﻪ وﻣﻦ اﻟﻜﻮﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﻮﻟﻪ ،وﻛﺎن ﺟﺴﻤﻪ
ً
ﺿﻌﻴﻔﺎ ،ﻓﻠﻢ أدر ﻣﺎذا أﻓﻌﻞ ،ﻓﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﻗﺪر ﻋﲆ أن رﺧﻮًا ﺗﻐﻄﻴﻪ رﻃﻮﺑﺔ ﻟﺰﺟﺔ ،وﻗﻠﺒﻪ ﻳﺪق
أﺗﺮﻛﻪ ﻫﻨﺎك وأﻣﴤ ﰲ ﺳﺒﻴﲇ ،وﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﻛﺬﻟﻚ أﻗﺪر ﻋﲆ اﻟﺒﻘﺎء ﰲ ذﻟﻚ املﻜﺎن اﻟﻘﺬر ﻷﺷﺎرك
املﺘﺰاﺣﻤني ﺣﻮﻟﻪ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻋﺒﺜًﺎ أﻳﻦ اﻹﺳﻌﺎف ،ﻓﺄﺧﺮﺟﺖ ﻣﻨﺪﻳﻠني ﻣﻦ ﺟﻴﻮﺑﻲ ،وأﺧﺬت
أﻣﺴﺢ وﺟﻬﻪ ورﻗﺒﺘﻪ وﻳﺪﻳﻪ ﻣﻤﺎ ﻋﻠﻖ ﺑﻬﻤﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﺬر وأﻟﻘﻴﺖ ﺑﻬﻤﺎ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ،وﺻﺤﺖ ﰲ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﻴﺎ ﺑﻨﺎ أﻳﻬﺎ اﻟﺮﻓﺎق ﻧﺤﻤﻠﻪ إﱃ ﺟﻬﺔ ﻧﺠﺪ ﻓﻴﻬﺎ اﻹﺳﻌﺎف. اﻟﺠﻤﻊ ً
وﻟﻜﻦ اﻟﻮاﻗﻔني ﻧﻈﺮوا ﻧﺤﻮي ﰲ ﺗﺮدﱡد ،وﻧﻈﺮ ﺑﻌﻀﻬﻢ إﱃ ﺑﻌﺾ ،ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻬﻢ :أﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎ
ﺻﻴﺪﻟﻴﺔ ﻗﺮﻳﺒﺔ؟
ﻓﻘﺎل أﺣﺪﻫﻢ :ﰲ اﻟﺴﻮق.
ﻣﺘﻮﺳﻼ :أرﺟﻮ أن ﺗﺴﺎﻋﺪوﻧﻲ ﻋﲆ ﻧﻘﻠﻪ إﱃ ﻣﻜﺎن ﻗﺮﻳﺐ ﻧﻄﻠﺐ ﻣﻨﻪ اﻹﺳﻌﺎف. ً ﻓﻘﻠﺖ
ﻓﺎﺳﺘﺠﺎب ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻦ اﻟﺸﺒﺎن إﱃ ﻧﺪاﺋﻲ ،وﻣﺎﻟﻮا ﰲ ﺻﻤﺖ إﱃ اﻟﺠﺜﺔ اﻟﻬﺎﻣﺪة ورﻓﻌﻮﻫﺎ
ﻣﻌﻲ ،واﺗﺠﻬﻨﺎ إﱃ ﻧﺎﺣﻴﺔ »أﺑﻮ اﻟﺮﻳﺶ« وﻫﻲ اﻷﻗﺮب إﱃ اﻟﻌﻤﺮان ،وملﺎ ﴎﻧﺎ ﻧﺤﻮ ﻣﺎﺋﺘﻲ ﻣﱰ
ﺑﻠﻐﻨﺎ اﻟﺒﺎب اﻟﺨﻠﻔﻲ ملﺤﻠﺞ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،ﻓﺼﺎح اﻟﺸﺒﺎن ﰲ ﻧﻔﺲ واﺣﺪ :ﻫﻨﺎ!
وﻋﺮﺟﻮا إﱃ اﻟﺒﺎب ﻟﻴﻠﻘﻮا ﻓﻴﻪ ﺣﻤﻠﻬﻢ ﻗﺒﻞ أن أﺟﺪ وﻗﺘًﺎ ملﻨﺎﻗﺸﺘﻬﻢ ،وﻫﻨﺎك ﻇﻬﺮ وﺟﻪ
ﺣﻤﺎدة ﰲ ﺿﻮء املﺼﺎﺑﻴﺢ اﻟﻜﻬﺮﺑﺎﺋﻴﺔ اﻟﻘﻮﻳﺔ أﺑﻴﺾ ﻣﺜﻞ وﺟﻪ املﻮﺗﻰ ،وﻫﺐﱠ اﻟﺒﻮاب وﻣﻌﻪ
ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺎل ﻳﻤﻨﻌﻮﻧﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﺪﺧﻮل ،وﻟﻢ ﻳُﺠﺪِﻧﻲ ﻧﻔﻌً ﺎ أن ﻗﻠﺖ ﻟﻬﻢ إﻧﻪ »ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ«،
وﺗﻠﻔﺖ ﺣﻮﱄ ﻷرى ﻣﻮﺿﻌً ﺎ ﻧﻀﻊ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺠﺴﺪ اﻟﺬي ﻧﺤﻤﻠﻪ ،ﻓﻮﺟﺪت دﻛﺔ اﻟﺒﻮاب ﻓﻄﺮﺣﻨﺎه
ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وﺻﺎح اﻟﺒﻮاب ﺑﻨﺎ ﻏﺎﺿﺒًﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻟﺘﻔﺖ إﱃ أﻗﻮاﻟﻪ ،وأﺧﺬت أﻣﺴﺢ اﻟﻌﺮق اﻟﺬي
ﻛﺎن ﻳﺘﺼﺒﺐ ﻣﻨﻲ ،وأﺧﺬ اﻟﺸﺒﺎن اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻳﺘﺸﺎورون ﺑﺎﻟﻨﻈﺮات ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻔﻌﻠﻮن ،وﺻﺎح أﺣﺪ
اﻟﻌﻤﺎل ﺑﻨﺎ» :اﻣﺸﻮا ﻣﻦ ﻫﻨﺎ«.
ُ
ﻓﺼﺤﺖ ﺑﻪ» :أﻣﺎ ﺗﺮاه ﻳﺎ رﺟﻞ؟ ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﻄﻠﺐ اﻹﺳﻌﺎف«.
ﻓﻘﺎل ﻣﻬﺪدًا :ﺧﺬه ﻣﻦ ﻫﻨﺎ واﻧﴫف.
ﻓﺼﺤﺖ ﺑﻪ ﰲ ﻏﻴﻆ :ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﰲ املﻐﺮب ﻳَﻬﺘﻒ ﻟﻠﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ.
ﻓﺼﺎح ﻣﺮة أﺧﺮى ﰲ ﻟﻬﺠﺔ أﻋﻨﻒ :ﻗﻠﺖ ﻟﻜﻢ اﻣﺸﻮا ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ،واﻗﱰب اﻟﺒﻮاب واﻟﻌﺎﻣﻼن
اﻵﺧﺮان ﻟﻴﺠﻌﻼﻫﺎ ﻣﻌﺮﻛﺔ ،وﻟﻜﻦ ﺣﻤﺎدة ﺗﻘﻠﺐ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ واﺧﺘﻠﺞ ﺟﺴﻤﻪ ﺧﻠﺠﺎت
89
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﺷﺪﻳﺪة ،وأﺧﺬ ﻳﻄﺮد ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﰲ ﺟﻮﻓﻪ ﻣﻦ اﻟﻔﻀﻼت اﻟﻌﻔﻨﺔ ،ﻓﺒﻌﺪ اﻟﺒﻮاب واﻟﻌﻤﺎل
ﺻﺎﺋﺤني ﺷﺎﺗﻤني ،وﻟﻢ ﻧﺠﺪ ﺑﺪٍّا ﻣﻦ ﺣﻤﻠﻪ واﻟﺬﻫﺎب ﺑﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺟﺎء اﻟﺒﻮاب وأﺻﺤﺎﺑﻪ ﻳﻌﻴﺪان
اﻟﻜﺮة ﻋﻠﻴﻨﺎ ،ﻓﺼﺤﺖ ﺑﻬﻢ :ﻗﻮﻟﻮا ﻟﻠﺴﻴﺪ إن ﻫﺬه اﻟﱪﻛﺔ اﻟﻌﻔﻨﺔ ﻫﻲ ﺑﻀﺎﻋﺘﻪ ردت إﻟﻴﻪ ،ﻫﻲ
اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت اﻟﺨﻤﺴﺔ اﻟﺘﻲ أﺧﺬﻫﺎ ﺣﻤﺎدة ﺛﻤﻨًﺎ ﻟﻠﻬﺘﺎف ﰲ املﻈﺎﻫﺮة.
وﺣﻤﻠﻨﺎ ﺣﻤﺎدة وﴎﻧﺎ ﺑﻪ ﰲ اﻟﻈﻼم ﻋﲆ اﻟﺸﺎﻃﺊ املﻮﺣﺶ ،وأﺧﺬ اﻟﺸﺒﺎن ﻳﱪﻃﻤﻮن
ﻏﻀﺒًﺎ ،واﻗﱰﺑﻨﺎ ﻣﻦ ﻣﺨﺰن ﻗﻄﻊ ﺳﻴﺎرات ﻗﺪﻳﻤﺔ ،ﻓﺄﴎع اﻟﺸﺒﺎن إﻟﻴﻪ ،وأﻟﻘﻮا ﺑﺎﻟﺠﺜﺔ ﻋﻨﺪ
ﺑﺎﺑﻪ وﻋﺎدوا أدراﺟﻬﻢ ﻣﴪﻋني.
ً
ﻣﺴﺘﻌﻄﻔﺎ :ﺑﻌﺾ املﺎء ﻣﻦ ﻓﻀﻠﻚ. وﺟﺎء ﺻﺎﺣﺐ املﺨﺰن ﻳﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﰲ اﺳﺘﻨﻜﺎر ،ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ
وﻣﻠﺖ ﻋﲆ ﺣﻤﺎدة أدﻟﻚ ﻳﺪﻳﻪ ،واﺳﺘﻤﻌﺖ إﱃ دﻗﺎت ﻗﻠﺒﻪ ﻣﺮة أﺧﺮى ،وﺳﻤﻌﺖ ﺻﺎﺣﺐ
املﺨﺰن ﻳﺪﻣﺪم ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎ ﻫﺬه اﻟﺪاﻫﻴﺔ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ :ﻫﺬا ﺑﺎﺋﺲ ﻣﺴﻜني وﺟﺪﺗُﻪ ﻣﻐﻤﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ.
وﻳﻈﻬﺮ أن اﻟﺮﺟﻞ أﺣﺲ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ اﻟﺮﺣﻤﺔ ،ﻓﺄﺗﻰ ﺑﻜﻮز ﻣﻦ املﺎء ﻓﺮﺷﺸﺖ ﻣﻨﻪ ﻋﲆ وﺟﻪ
اﻟﴫﻳﻊ وﻛﺎﻧﺖ دﻫﺸﺘﻲ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺘﻪ ﻳﺘﺤ ﱠﺮك ،ﻓﻨﺎدﻳﺘﻪ ﻣﴪو ًرا وﻟﻜﻨﻪ أﺧﺬ ﻳﻄﺮد ﻣﻦ
ﺟﻮﻓﻪ ﻓﻀﻼت أﺧﺮى ،ﻓﺒﻌﺪت ﻋﻨﻪ ﻛﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﻋﻨﻪ ﺻﺎﺣﺐ املﺨﺰن ﻣُﺸﻤﺌ ٍّﺰا وﻫﻮ ﻳﻠﻌﻦ ً
ﻗﺎﺋﻼ:
ﻣﻦ ﻳﻤﺴﺢ ﻫﺬا؟
وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :أﻧﺎ آﺳﻒ ﻹزﻋﺎﺟﻚ ،وأرﺟﻮ أن ُ ﻓﺄﺧﺮﺟﺖ ﻟﻪ ورﻗﺔ ﻣﻦ ذوات ﻧﺼﻒ اﻟﺮﻳﺎل
ﺗﺪﻋﻮ ﻣﻦ ﻳﺴﺎﻋﺪك ﻋﲆ ﺗﻨﻈﻴﻔﻪ.
وﺟﻬﻪ ﻓﻮﺟﺪﺗﻪ ﻳﻨﻄﻖ ﻏﻀﺒًﺎ وﻏﻴﻈﺎً. ﻓﺄﺧﺬ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻨﻘﻮد ﺻﺎﻣﺘًﺎ ،وﻧﻈﺮت إﱃ ِ
ﻓﻨﺎدﻳﺖ ﰲ ﺣﻨﻖ :ﺣﻤﺎدة!
ﻓﺘﺤ ﱠﺮك وأراد اﻟﻘﻴﺎم وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﺪر ،ﻓﺄﴎﻋﺖ إﻟﻴﻪ ﻷﺳﺎﻋﺪه ،وﻛﺎن ﺟﺴﻤﻪ ﻻ ﻳﻜﺎد
ﻳﺘﻤﺎﺳﻚ ،ﺛﻢ اﺳﺘﻄﺎع آﺧﺮ اﻷﻣﺮ أن ﻳﻘﻮم ﻣﺴﺘﻨﺪًا ﻋﲆ ﻛﺘﻔﻲ وﻗﺎل ﺑﺼﻮت ﺿﻌﻴﻒ :ﺳﻴﺪ
أﻓﻨﺪي؟
ﻓﻘﻠﺖ :أﺗﻘﻮى ﻋﲆ اﻟﺴري؟
ﻓﻬﺰ رأﺳﻪ وﻟﻢ ﻳﺠﺐ وﺳﺎر ﻳﺠﺮ رﺟﻠﻴﻪ وأﻧﺎ أﻛﺎد أﺣﻤﻠﻪ ،ووﺟﺪت ﺻﻌﻮﺑﺔ ﻛﱪى ﰲ أﺧﺬ
أﻧﻔﺎﳼ؛ ﻷن راﺋﺤﺘﻪ اﻟﻜﺮﻳﻬﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗَﻨﻔﺬ إﱃ ﺧﻴﺎﺷﻴﻤﻲ.
وﻛﺎن ﻣﻦ ﺣﺴﻦ اﻟﺤﻆ أن ﻣﺮت ﺑﻲ ﻋﺮﺑﺔ ﻧﻘﻞ ﻣﻤﺎ ﻳَﺤﻤﻞ اﻟﻘﻄﻦ ،ﻓﺼﺤﺖ أﻧﺎدي اﻟﺴﺎﺋﻖ
أن ﻳﻘﻒ ﻟﻴﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ،وﻟﻢ ﻳُﺨﻴﱢﺐ اﻟﺮﺟﻞ رﺟﺎﺋﻲ ،ﻓﻮﻗﻒ وﺟﺎء ﻳﺴﺎﻋﺪﻧﻲ ،وﺳﺄﻟﺖ ﺣﻤﺎدة :أﻳﻦ
ﻳﻘﻴﻢ؟ ﻓﺄﺟﺎب ﰲ ﺻﻮت ﺿﻌﻴﻒ ﺳﺎﺧﺮ :ﻻ أﻋﺮف.
90
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
91
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻗﺮﺷﺎ وﻗﺬﻓﺘُﻬﺎ أﻣﺎﻣﻪ ،ودﻓﻌﺖ إﱃ ﺧﺎدم اﻟﻘﻬﻮة ﻓﺄﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﺟﻴﺒﻲ ورﻗﺔ ﺑﺨﻤﺴني ً
ﺛﻤﻦ اﻟﺸﺎي ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻗﺪ ﺑﻠﻐﺖ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻠﻴﻞ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﺤﻤﺎدة :أﻇﻨﻚ ﺗﻘﺪر ﻋﲆ اﻟﺴري وﺣﺪك .أﻻ ﺗُﺤﺎول أن ﺗﻜﻮن ً
رﺟﻼ؟
رﺟﻼ؟ اذﻫﺐ إذا ﺷﺌﺖ ودﻋﻨﻲ ،أﻧﺎ ً ﻗﺎﺋﻼ :وﻣﻦ ﻗﺎل ﻟﻚ إﻧﻲ أرﻳﺪ أن أﻛﻮن ﻓﻀﺤﻚ ً
ﺣﴩة ،أﻧﺎ ﻛﻠﺐ ﺿﺎل ،دﻋﻨﻲ أﴎع ،دﻋﻨﻲ أﺟﺮي ،ﻃﺮﻳﻖ ﻋﻔﻨﺔ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﺧﻮف وﻗﺬارة،
ﺧﻮف ﺑﺎﻟﻠﻴﻞ واﻟﻨﻬﺎر وﺧﻮف ﻣﻦ أﻣﺎﻣﻲ وﻣﻦ ﺧﻠﻔﻲ ،ﻗﻠﺒﻲ وﻋﻴﻨﻲ وﺳﻤﻌﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺨﺎوف،
اﻷﻣﺲ ﻣُﺨﻴﻒ واﻟﻐﺪ ﻣُﺨﻴﻒ واﻟﺤﺎﴐ ﻓﺰع ،وأﻧﺎ أﺟﺮي وأﺟﺮي أﻃﻠﺐ اﻟﻨﺠﺎة ،وﻟﻜﻨﻲ أﺗﻌﺜﺮ
وأﻗﻊ وأﺗﺨﺒﻂ واﻟﻄﺮﻳﻖ ﻣﻈﻠﻢ واﻷوﺣﺎل ﺗﺠﻌﻠﻨﻲ أﻧﺰﻟﻖ ،وﻣﻦ وراﺋﻲ أﺷﺒﺎح ﻛﺜرية ﺗُﻄﺎردﻧﻲ،
ﻓﺄُﴎع ﻟﻜﻲ أﺗﺨ ﱠﻠﺺ ،أﺗﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة وﻣﻦ اﻷﺷﺒﺎح اﻟﺘﻲ ﺗﻄﺎردﻧﻲ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻻ
ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻟﻠﻬﺮب ،أﺗﻌﺮف اﻟﺨﻮف ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي؟ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻠﻨﻲ أﻫﺮب ،وﻟﻜﻨﻲ ً أرى أﻣﺎﻣﻲ
ﻋﻨﺪﻣﺎ أﺣﺎول اﻟﻬﺮب ﻻ أﺟﺪ ﻣﻜﺎﻧًﺎ أﻫﺮب إﻟﻴﻪ ،ﻓﺄﻫﺮب ﻣﻦ ﻧﻔﴘ ،أرﻳﺪ اﻟﻨﺴﻴﺎن ﻷﻫﺮب ،أرﻳﺪ
املﺮأة ﻷﻫﺮب ،أرﻳﺪ اﻟﺨﻤﺮ ﻷﻫﺮب ،اذﻫﺐ ﻋﻨﻲ أﻧﺖ ودﻋﻨﻲ.
واﻣﺘﻸ ﻗﻠﺒﻲ ﻏﻤٍّ ﺎ ﻣﻤﺎ ﺳﻤﻌﺖ ،وﻛﺎن ﻣﻨﻈﺮه وﻫﻮ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻳﺸﺒﻪ ﻣﻨﻈﺮ املﺠﻨﻮن اﻟﺜﺎﺋﺮ،
ﻓﺎﻧﴫﻓﺖ ﻣﻦ أﻣﺎﻣﻪ ﺣﺰﻳﻨًﺎ أﺳﺎﺋﻞ ﻧﻔﴘ :ﻫﻞ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أﺣﺪ أن ﻳُﻨﻘﺬ ذﻟﻚ املﺴﻜني؟ وﻋﺪت
إﱃ املﺪﻳﻨﺔ وأﻗﻮال ﺣﻤﺎدة اﻟﺒﺎﺋﺲ اﻟﻴﺎﺋﺲ ﺗﱰدد ﰲ ذﻫﻨﻲ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﺮق ﺧﺎﻟﻴﺔ ﻣﻮﺣﺸﺔ
ﻟﻄﻴﻔﺎ ،وملﺎ وﺻﻠﺖ إﱃ ﻛﻮﺑﺮي اﻟﺴﻜﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ً واﻟﺪﻛﺎﻛني ﻣﻐﻠﻘﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺠﻮ ﻛﺎن رﻃﺒًﺎ
اﺗﺠﻬﺖ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ املﺆدي إﱃ ﺷﱪا ،وﻫﻮ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﻈﻠﻢ زاده اﻟﺴﻜﻮن رﻫﺒﺔ ﻟﻮﻻ رﺟﻞ ﻣﺨﻤﻮر
آﺧﺮ ﻳﺴري ﻣﺘﻄﻮﺣً ﺎ وﻳﻐﻨﻲ» :اﻟﻔﺠﺮ أﻫﻮ ﻻح ﻗﻮﻣﻮا ﻳﺎ ﺗﺠﺎر اﻟﻨﻮم!« ﻫﻮ اﻵﺧﺮ ﻳُﺤﺎول اﻟﻬﺮب
واﻟﻨﺴﻴﺎن وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻐﻨﻲ ،وﺗﺮﻛﺘﻪ وراﺋﻲ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺘﻘﺪم ﺧﻄﻮة وﻳﺘﺄﺧﺮ ﺧﻄﻮة ،ﻛﻢ ﺑني اﻟﻨﺎس
ﻣﻦ ﻫﺆﻻء املﺴﺎﻛني اﻟﺬي ﻳﺤﻄﻤﻬﻢ اﻟﺨﻮف! أﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أﺣﺪ أن ﻳﻤﺪ إﻟﻴﻬﻢ ﻳﺪ املﺴﺎﻋﺪة؟
وﺑﻠﻐﺖ ﻣﻨﺰﱄ وﻛﺎﻧﺖ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ ﺗﻨﺘﻈﺮان ﰲ ﻗﻠﻖ ﻣﻦ ﻏﻴﺎﺑﻲ ،وﺣﺎوﻟﺖ أن أﻇﻬﺮ ﻟﻬﻤﺎ
ﻫﺎدﺋًﺎ ،ﺑﻞ ﺣﺎوﻟﺖ أن أﻛﻮن ﻣَ ِﺮﺣً ﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ اﺳﺘﺄذﻧﺖ ﻷذﻫﺐ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ ،وﻣﺎ ﻛﺪت أدﺧﻠﻬﺎ
ﺣﺘﻰ وﺟﺪت ﻧﻔﴘ أﺑﻜﻲ ﺑﻜﺎءً ﻣ ٍّﺮا.
وﻛﺎن ذﻫﻨﻲ ﻳَﻀﻄﺮم ﺑﺸﻌﻮر ﻣﺨﺘﻠﻂ ﻣﻦ اﻟﺤﺰن واﻟﻐﻢ واﻟﺮﺛﺎء واﻟﻌﺠﺰ واﻟﻀﺂﻟﺔ ،ﻛﺎﻧﺖ
ﺻﻮرة ﺣﻤﺎدة ﺗﻤﺮ ﰲ ﺧﻴﺎﱄ ﰲ أوﺿﺎع ﺷﺘﻰ ﺑني ﺗﺎﺟﺮ اﻷﺳﻮاق املﺮح وﺑني ﻗﺎﺋﺪ املﻈﺎﻫﺮة
املﻬ ﱢﺮج وﺑني اﻟﺴ ﱢﻜري اﻟﺒﺎﺋﺲ ا ُملﺤ ﱠ
ﻄﻢ.
وأﺧﺬت ﻗﻠﻤﻲ وﺟﻌﻠﺖ أﻛﺘﺐ وﻻ أدري ﻣﺎذا أرﻳﺪ أن أﻛﺘﺐ ،وﻟﻜﻦ اﻷﺷﺒﺎح اﻟﺘﻲ ﻛﺎن
ﺣﻤﺎدة ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻨﻬﺎ ﺻﺎرت ﺗﻄﺎردﻧﻲ وأﻧﺎ أﻛﺘﺐ ،وﻛﺎن ﻗﻠﻤﻲ ﻳﴪع ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺠﺪ ﻫﻮ
ً
ﺳﺒﻴﻼ إﱃ اﻟﻬﺮوب. اﻵﺧﺮ
92
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
ﺗﻌﺒﺖ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ وﺿﻌﺖ ﻳﺪي ﻋﲆ رأﺳﻪ ﻓﻮﺟﺪﺗﻪ ﻳﺘﱠﻘﺪ ﺣﺮارة ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺗﻮﻗﻒ ُ وملﺎ
أﻟﻘﻴﺖ ﺑﻬﺎ ﻋﲆ اﻷرض ﻓﺘﻄري وﺗﻘﻊ ﺣﻴﺚ ﺗﺸﺎء ،وﻟﻢ ُ ﻋﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،وﻛﻠﻤﺎ ﻓﺮﻏﺖ ﻣﻦ ورﻗﺔ
ﱠ
أﺷﻌﺮ ﺑﻤﴤ اﻟﻮﻗﺖ وﻛﻨﺖ ﻻ أﻛﺎد أﻋﻲ ﻣﺎ أﻛﺘﺐ ،وﻛﻠﺖ ﻳﺪي ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺗﻮﻗﻒ
ﺣﺘﻰ ﻓﺮﻏﺖ ﻣﻦ اﻟﻘﺼﺔ ،وﻟﺴﺖ أدري أﻛﺎن ﻓﺮاﻏﻲ ﻣﻨﻬﺎ ﻫﻮ اﻟﺬي ﺟﻌَ ﻠﻨﻲ أ ُ ﱡ
ﺣﺲ اﻹﻋﻴﺎء أم
اﺳﺘﻠﻘﻴﺖ ﻋﲆ ﴎﻳﺮي ﺑﻤﻼﺑﴘ، َ أن اﻹﻋﻴﺎء ﻫﻮ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻨﻲ أﻓﺮغ ﻣﻨﻬﺎ ،وﻗﻤﺖ أﺗﺮﻧﱠﺢ ﺣﺘﻰ
ﱡ
ﺗﺮف وﻛﺎن رأﳼ ﻳﺪور وﻳﻬﺘ ﱡﺰ ﻛﺄن ﰲ داﺧﻠﻪ ﻋﺎﺻﻔﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻋﻀﻼت ﺟﺴﻤﻲ ﺗَﻨ ِﺒﺾ ﻛﻤﺎ
ﻃﺮﻗﺎ ﻋﲆ اﻟﺒﺎب ،وﻟﻢ أﻋﺮف ﻣﻦ اﻟﻄﺎرق ،وﻛﺎن آﺧﺮ ﻣﺎ ً ُ
وأﺣﺴﺴﺖ ﰲ ﻇﻬﺮ وﻋﻴﻲ اﻟﻌني،
ً
ُﻐﻤﺾ ﻋﻴﻨﻲ ﻛﺄن ﴍﻳﻄﺎ أﻏﱪ اﻟﻠﻮن ﻳﻤﺮ أﻣﺎم ﺑﴫي ﰲ ﴎﻋﺔ. ُ
رأﻳﺖ وأﻧﺎ ﻣ ِ أذﻛﺮ أﻧﻲ
93
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ
ً
ﻣﻨﺪﻳﻼ ﻓﺘﺤﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻋﲆ أﺛﺮ ملﺴﺔ ﻓﻮق ﺟﺒﻴﻨﻲ ،ورأﻳﺖ أﻣﻲ ﺟﺎﻟﺴﺔ إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻲ وﻫﻲ ﺗﻀﻊ
ﻣﺒﻠﻼ ﻋﲆ رأﳼ ،وﺷﻤﻤﺖ راﺋﺤﺔ »ﻛﻮﻟﻮﻧﻴﺎ« ،وﻛﺎﻧﺖ أﺧﺘﻲ ﻣﻨرية واﻗﻔﺔ ﻋﲆ ﺑُﻌ ِﺪ ﺧﻄﻮة ً
ﻣﻨﻬﺎ ﺟﺎﻋﻠﺔ ذراﻋﻴﻬﺎ ﻋﲆ ﺻﺪرﻫﺎ ،وﺗﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮي ﰲ ﻟﻬﻔﺔ وﻋﲆ وﺟﻬﻬﺎ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺣﺰﻳﻨﺔ،
ﺷﺨﺼﺎ آﺧﺮ ﻳﻘﻒ ﰲ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﺮى ﻣﻦ املﻨﻀﺪة اﻟﺘﻲ ﰲ وﺳﻂ اﻟﻐﺮﻓﺔ ،وﺳﻤﻌﺘﻪ ً وملﺤﺖ
ُ
ﻓﻬﻤﺴﺖ ﺑﺼﻮت ﺧﺎﻓﺖ» :ﻣﺎذا ﻳﻘﻮل» :ﺻﺒﺎح اﻟﺨري ﻳﺎ ﺳﻴﺪ «.وﻛﺎن ﺻﻮت ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﺒﺎد،
ﺟﺮى؟«
وﻗﺎﻟﺖ أﻣﻲ ﰲ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺿﺌﻴﻠﺔ :ﻛﻴﻒ أﻧﺖ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺪﻣﻮع ﺗﻤﻸ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ.
وأردت أن أﺗﺤﺮك ﻷﺟﻠﺲ ،وﻟﻜﻦ وﺳﻄﻲ وﻣﻔﺎﺻﲇ وﻋﻴﻨﺎي آملﺘﻨﻲ ،ﻓﻌﺪﻟﺖ ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ
ﺳﻌﺎﻻ ﺷﺪﻳﺪًا ،ﻓﺬﻫﺒَﺖ ﻣﻨرية إﱃ املﻨﻀﺪة وﻣﻸت ﻣﻠﻌﻘﺔ ﻣﻦ زﺟﺎﺟﺔ ﻫﻨﺎك ً وﺑﺪأت أﺳﻌﻞ
وﺟﺎءت إﱄ ﱠ ﻷﴍﺑﻬﺎ ،وﻗﺎﻟﺖ وﻫﻲ ﺗﺘﻈﺎﻫﺮ ﺑﺎملﺮح» :أﺧﺮج ﻫﺬا اﻟﱪد اﻟﺬي ﻣﻸ ﺟﺴﻤﻚ«.
ﻓﺎﺳﺘﺴﻠﻤﺖ ﻟﻬﺎ وﴍﺑﺖ اﻟﺪواء ،ﻓﻤﺪﱠت ﻣﻨرية ﻳﺪﻫﺎ إﱄ ﱠ ﺑﻤﻘﻴﺎس اﻟﺤﺮارة ،ﻓﻔﺘﺤﺖ ﻓﻤﻲ
وﻋﺪت أﺳﺄل ﺳﺆال ﻋﻨﺪﻣﺎ أﺧﺮﺟﺖ ﻣﻨرية ﻣﻘﻴﺎس اﻟﺤﺮارة ﻣﻦ ﻓﻤﻲ ُ ﻫﺎدﺋًﺎ ﻛﺄﻧﻲ ﻃﻔﻞ ﻣﻄﻴﻊ،
ﻓﻘﻠﺖ :ﻣﺎذا ﺟﺮى؟
ﻛﻨﺖ ﻏﺎﺋﺒًﺎ ﻋﻦ اﻟﻮﻋﻲ ﻣﻨﺬ ﻳﻮﻣني ،ﺛﻢ ﺑﺪأت ﺗﻔﻴﻖﻓﻘﺎل ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ» :املﺴﺄﻟﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔَ .
اﻵن ،وﻛﺎﻧﺖ ﺣﺮارﺗﻚ أرﺑﻌني درﺟﺔ ﻓﺼﺎرت اﻵن ﺳﺒﻌﺔ وﺛﻼﺛني«.
وﺑﺪأت أﺗﺬ ﱠﻛﺮ أﻧﻲ ﻛﻨﺖ أﻛﺘﺐ ﻗﺼﺔ،
ُ وﻟﻢ ﻳُﺪﻫﺸﻨﻲ ﻫﺬا اﻟﺨﱪ ﻛﺄﻧﻲ ﻛﻨﺖ أﻋﺮﻓﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ،
ﻓﺤﺮﻛﺖ رأﳼ ﻷﻧﻈﺮ إﱃ أرض اﻟﻐﺮﻓﺔ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻫﻨﺎ أوراق؟
ﻓﻘﺎل ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﰲ ﻣﺮح :ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ ،وملﺎذا ﻻ ﺗَﻜﺘﺐ ﻋﲆ ﻛﻞ ورﻗﺔ رﻗﻤﻬﺎ؟
وﺟﺪت ﺻﻌﻮﺑﺔ ﻛﺒرية ﰲ ﺗﺮﺗﻴﺐ اﻷوراق ﻗﺒﻞ أن أﻗﺮأﻫﺎ.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
96
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ
وﻋﲆ ﻓﻜﺮة ،ﻛﺎن اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﺻﺎﺣﺐ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار ﻣﻦ أﻗﺮب أﺻﺪﻗﺎﺋﻲ ﰲ
اﻟﺪراﺳﺔ.
ﻻ ﻣﺆاﺧﺬة إذا ﺗﺮﻛﺘُﻚ اﻵن ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ؟ وﺳﺄﺣﴬ ﰲ املﺴﺎء ﺑﻌﺪ إﻟﻘﺎء دروﳼ.
ﻓﻀﻐﻄﺖ ﻋﲆ ﻳﺪه ﺷﺎﻛ ًﺮا ،وﻟﻜﻦ ﻳﺪي ﻛﺎﻧﺖ ﺿﻌﻴﻔﺔ ،ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ: ُ ً
ﻣﻨﴫﻓﺎ واﺳﺘﺄذن
أﺷﻜﺮك ﺑﻜﻞ ﻗﻠﺒﻲ.
وﻟﻢ أﺣﺴﺐ أن ذﻟﻚ املﺮض ﻳﻄﻮل ﺑﻲ ﺧﻤﺴﺔ ﻋﴩ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻛﺎﻣﻠﺔ ،ﺛﻢ ﻻ ﻳﻔﺎرﻗﻨﻲ إﻻ ﻫﺰﻳﻼً
ﺿﻌﻴﻔﺎ ،ﻓﻮق ذﻟﻚ اﻟﺴﻌﺎل اﻟﺸﺪﻳﺪ اﻟﺬي اﺳﺘﻤﺮ ﻳﻀﺎﻳﻘﻨﻲ ﻣﺪة ﺷﻬﺮﻳﻦ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻀﻌﻒ ً
واﻟﻬﺰال واﻟﺴﻌﺎل ﻟﻢ ﺗﻌﻜﺮ ﻋﲆ اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺘﻲ ﻏﻤﺮﺗﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﺮﻓﺖ ﻣﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ أن ﺑﺮﻳﺪ
اﻷﺣﺮار ﺳﺘﻨﴩ ﻗﺼﺘﻲ ،وﺑﺪأت أﺧﺮج إﱃ املﺪﻳﻨﺔ ﺑﻌﺪ ﺷﻬﺮ ﻣﻦ ﺑﺪء ﻣﺮﴈ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺣﺮﻛﺔ
اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﺎت ﺗﺠﺘﺎﺣﻬﺎ وﺗﻠﻬﺒﻬﺎ ،ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻤﻮع املﻈﺎﻫﺮات ﺗﺘﺪﻓﻖ وﺗﺘﺼﺎدم ﻛﻞ ﻳﻮم ،وﻛﺎﻧﺖ
اﻟﻼﻓﺘﺎت ﻣﻌﻠﻘﺔ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ،ﻓﻮق اﻷﻋﻤﺪة وﻋﲆ ﺟﺪران املﻨﺎزل وﻋﲆ أﺑﻮاب اﻟﺪﻛﺎﻛني ،وﻛﺎﻧﺖ
املﻜﱪة ﻟﻠﺼﻮت ﺗﺼﻴﺢ ﰲ ﻛﻞ رﻛﻦ ،وذﻫﺒﺖ ﻋﻨﺪ أول ﺧﺮوﺟﻲ إﱃ ﻣﻄﺒﻌﺔ اﻟﻌﺠﻤﻲ اﻷﺑﻮاق ﱢ
ُ
ﻓﻮﺟﺪت ً
زﻣﻴﻼ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ﰲ املﺪرﺳﺔ، ﻷﻋﺮف ﻣﺎذا ﺗ ﱠﻢ ﰲ ﺟﺮﻳﺪة اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،وﻛﺎن اﻟﻌﺠﻤﻲ
ﻋﻨﺪه ﺟﻤﻌً ﺎ ﻛﺒريًا ﻣﻦ املﻮﻇﻔني واﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ووﻛﻼء املﺤﺎﻣني ووزاﻧﻲ املﺤﺎﻟﺞ ﻳﺴﺘﻤﻌﻮن إﱃ
ﺧﻄﺒﺔ ﻳُﻠﻘﻴﻬﺎ »ﻣﻬﻨﻲ أﻓﻨﺪي« وﻛﻴﻞ اﻷﺳﺘﺎذ زﻛﺮﻳﺎ إﺑﺮاﻫﻴﻢ املﺤﺎﻣﻲ ،وﺳﻤﻌﺘُﻪ ﻳﺘﻜ ﱠﻠﻢ ﻋﻦ ﺛﻮرة
اﻟﺸﺒﺎب ﻋﲆ »ﻋﻤﻼء اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ«.
وملﺎ رآﻧﻲ اﻟﻌﺠﻤﻲ رﺣﱠ ﺐ ﺑﻲ ،وﻗﺪﻣﻨﻲ إﱃ اﻟﺤﺎﴐﻳﻦ ﻋﲆ أﻧﻲ ﻛﺎﺗﺐ دﻣﻨﻬﻮر اﻟﻌﺒﻘﺮي،
وأﺧﺬ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﻗﺼﺘﻲ »اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف املﺤﻄﻢ« اﻟﺘﻲ ﻧﴩﺗﻬﺎ »ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار« ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺼﺒﺎح
ﺑﺎﻟﺬات ،ﻓﺎﺳﺘﻘﺒﻠﻨﻲ اﻟﺠﻤﻊ ﺑﺎﻟﺘﺼﻔﻴﻖ ،وﻃﻠﺒﻮا أن ﻳﺴﺘﻤﻌﻮا إﱃ ﻛﻠﻤﺔ ﻣﻨﱢﻲ ،ﻓﺎﺿﻄﺮرت أن
أﻗﻒ ﺧﻄﻴﺒًﺎ ﻷول ﻣﺮة ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﺑﻌﺪ أن ﻓﺮغ اﻷﺳﺘﺎذ ﻣﻬﻨﻲ ﻣﻦ ﺧﻄﺎﺑﺘﻪ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺧﻄﺒﺘﻲ
ﻜﻤﻪﻄﻢ اﻟﺬي ﻳﻨﺘﻈﺮ ﻣﻦ ﻳﺄﺧﺬ ﺑﻴﺪه ،وﻻ ﻳﺠﺪ ﻣﻦ اﻟﻘﺎﺋﻤني ﻋﲆ ﺣُ ِ ﺗﺪور ﺣﻮل اﻟﺸﻌﺐ املﺤ ﱠ
إﻻ اﻟﻄﻐﻴﺎن واﻷﻧﺎﻧﻴﺔ واملﺒﺎﻟﻐﺔ ﰲ ﺗﺤﻄﻴﻤﻪ ،وأﺣﺴﺴﺖ وأﻧﺎ أﺧﻄﺐ أن املﻌﺎﻧﻲ ﺗﺘﺪﻓﻖ ﻋﲆ
ﻟﺴﺎﻧﻲ وﻛﻨﺖ أﺟﺪ ﺻﺪى ﺣﻤﺎﺳﺘﻲ ﰲ اﻟﺴﺎﻣﻌني اﻟﺬﻳﻦ ﻗﺎﻃﻌﻮا ﻛﻠﻤﺘﻲ ﺑﺎﻟﺘﺼﻔﻴﻖ اﻟﻌﺎﱄ.
ﺳﺄﻟﺖ اﻟﻌﺠﻤﻲ ﻋﻦ اﻟﺠﺮﻳﺪة ﺑﻌﺪ اﻧﴫاف اﻟﺠﻤﻊ ﻗﺎل ﱄ :ﻟﻦ ﻧﻌﻤﻞ ﻟﺤﺴﺎب أﺣﺪ ُ وملﺎ
ﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ ﺗﺮﺷﻴﺢ ﻧﻔﴘ.ُ ﻣﻦ ﻫﺆﻻء ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ ،وﻗﺪ
ﻓﻜﺎن ذﻟﻚ ﻧﺒﺄ ً ﺳﻌﻴﺪًا ﻋﻨﺪي ووﻋﺪﺗﻪ ﺑﺄن أﺟﺎﻫﺪ ﻣﻌﻪ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ أﺳﺘﻄﻴﻊ ،ﺣﺘﻰ ﺗﴬب
ﻣﺜﻼ ﰲ اﻧﺘﺨﺎب ا ُملﺨﻠِﺼني وإن ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻦ ﺻﻔﻮف اﻟﺸﻌﺐ. دﻣﻨﻬﻮر ً
ُ
وﺑﺪأت ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم وﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم أﻗﺒﻠﺖ ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻛﺔ اﻻﻧﺘﺨﺎب ﻓﺠﻌﻠﺘُﻬﺎ ﻣﻌﺮﻛﺘﻲ،
ﺑﻮﺿﻊ ﺧﻄﺔ ﻣﻊ »أﻧﺼﺎر اﻟﺸﺒﺎب« ﻟﻨ َ ِ
ﻜﺘﺴﺢ املﺮﺷﺤني ﻣﻦ »املﻨﺎﻓﻘني«.
97
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وأﺧﺬﻧﺎ ﻧُﻌ ﱡﺪ اﻟﻼﻓﺘﺎت وﻛﺘﺒﻨﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺨﻂ أﻳﺪﻳﻨﺎ ﻋﺒﺎرات ﺗﺴﱰﻋﻲ اﻷﻧﻈﺎر ﻣﺜﻞ» :اﻷﻋﻴﺎن
ﻂ اﻟﱪملﺎن ﺣﻜﻮﻣﺔ؟« و»ﺑﺮملﺎن اﻷﻋﻴﺎن ﺑﻨﺎء ﻣﻦ اﻟﻘﺶ« وأﻣﺜﺎل أﻋﻮان اﻟﻄﻐﻴﺎن« و»ﻣﺘﻰ ﻳُﺴﻘ ُ
ﻫﺬه ﻣﻦ ﻋﺒﺎرات اﻟﺪﻋﺎﻳﺔ اﻟﺸﺪﻳﺪة.
وﻛﺘﺒﺖ ﺑﻴﺪي ﻻﻓﺘﺔ وﺿﻌﺘﻬﺎ ﰲ وﺳﻂ اﻟﻄﺮﻳﻖ أﻣﺎم ﻣﻄﺒﻌﺔ اﻟﻌﺠﻤﻲ وﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﺒﺎرة ُ
»أﻳﻬﺎ اﻟﺸﻌﺐ … أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ« ،وﻧﺴﻴﺖ ﰲ وﺳﻂ ﻫﺬه اﻟﺤﻤﺎﺳﺔ ذﻛﺮ ﻗﺼﺘﻲ وﻣﺎ ﻛﻨﺖ أﻋﻠﻘﻪ
وﻛﻨﺖ أﻗﴤ ﻳﻮﻣﻲ ﻛﻠﻪ وﺟﺰءًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻟﻠﻴﻞ ﰲ اﺟﺘﻤﺎﻋﺎت وﺧﻄﺎﺑﺔ ُ ﻋﲆ ﻧﴩﻫﺎ ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم
وﺗﺪﺑري اﻟﺨﻄﻂ واﺟﺘﺬاب اﻷﻧﺼﺎر ،واﺟﺘﻤﻊ ﻟﻨﺎ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ ﺷﺒﺎن املﺪﻳﻨﺔ ،وﻟﻜﻦ ﺻﺎﺣﺒﻲ
ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ أﴏﱠ ﻋﲆ اﻻﺑﺘﻌﺎد ﻋﻦ ﻫﺬه »املﻬﺰﻟﺔ« وﻗﺎل ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻓﺎﺗﺤﺘﻪ ﰲ اﻻﻧﻀﻤﺎم إﻟﻴﻨﺎ :ﻟﻘﺪ
ﺷﺎﻫﺪت ﻫﺬه املﻠﻬﺎة اﻟﺘﺎﻓﻬﺔ ﻣﺮا ًرا ﺣﺘﻰ ﻣﻠﻠﺘﻬﺎ.
وﻟﻜﻦ رﻓﻀﻪ اﻻﻧﻀﻤﺎم إﻟﻴﻨﺎ ﻟﻢ ﻳ َِﺰدﻧﻲ إﻻ إﴏا ًرا ﻋﲆ ﻋﺰﻳﻤﺘﻲ ،وﺑﺪأت أﺣﺲ أن إﻳﻤﺎﻧًﺎ
ﺟﺪﻳﺪًا ﺑﺪأ ﻳﻘﻮى وﻳﺘﺠﺪﱠد ﰲ ﻧﻔﴘ ،ﻫﺆﻻء املﺴﺎﻛني اﻟﺬﻳﻦ ﺗﻄﺤﻨﻬﻢ اﻟﺤﻴﺎة ﻻ ﻳﺠﺪون ﻟﺴﺎﻧًﺎ
ﻳﻨﻄﻖ ﺑﺂﻻﻣﻬﻢ ،ﻓﻌﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻨﻄﻖ ﻧﺤﻦ ﻣﻦ أﺟﻠﻬﻢ ،ﻫﺬه اﻷﻟﻮف املﺆﻟﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻴﺎع اﻟﻌُ ﺮاة
اﻟﺠﻬَ ﻠﺔ ﻻ ﻳﺠﺪون ﻣﻦ ﻳﻌﻄﻒ ﻋﻠﻴﻬﻢ ،وﻋﻠﻴﻨﺎ ﻧﺤﻦ أن ﻧﻌﻤﻞ ﻣﻦ أﺟﻠﻬﻢ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺨﻄﺐ
اﻟﺘﻲ أﻟﻘﻴﻬﺎ ﺗﺰﻳﺪ ﻳﻮﻣً ﺎ ﺑﻌﺪ ﻳﻮم واﻷﻧﺼﺎر اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﺤﻴﻄﻮن ﺑﻨﺎ ﻳﺘﻀﺎﻋﻔﻮن ﺳﺎﻋﺔ ﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ،
واﻋﺘﻘﺪﻧﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ أن اﻟﻌﺠﻤﻲ ﻗﺪ اﺟﺘﺎح ﻣﻨﺎﻓﺴﻴﻪ ﰲ اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﺎت ﺑﻐري ﺟﺪال.
وﺗﻮاﻋَ ﺪﻧﺎ ﻗﺒﻞ ﻣﻮﻋﺪ اﻻﻧﺘﺨﺎب ﺑﺄرﺑﻌﺔ أﻳﺎم ﻋﲆ ﻋﻘﺪ اﺟﺘﻤﺎع ﻛﺒري ﰲ ﻣﺴﺠﺪ اﻟﺘﻮﺑﺔ ﺑﻌﺪ
اﻟﻌﺸﺎء؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻛﻨﺎ ﻻ ﻧﻘﺪر ﻋﲆ إﻗﺎﻣﺔ ﴎادق ﻛﺒري ﻳﺘﺴﻊ ﻟﻠﺠﻤﻮع اﻟﺘﻲ اﻋﺘﺎدت أن ﺗﺘﻮاﻓﺪ ﻋﲆ
ﻣﺤﺎﻓﻠﻨﺎ.
ﺗﻌﺎﻗﺐَ اﻟﺨﻄﺒﺎء واﺣﺪًا ﺑﻌﺪ واﺣﺪ ﻳﺘﺤﺪﺛﻮن ﻋﻦ اﻟﺸﺒﺎب املﺨﻠﺺ َ وملﺎ ﺑﺪأ اﻻﺟﺘﻤﺎع
واﻷﺣﺰاب املﺰﻳﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺿﻠﺖ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،واﻟﺤﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻄ ﱠﻠﺐ اﻟﺪﻣﺎء ،واﻟﺠﻬﺎد اﻟﻮﻃﻨﻲ ﻣﻦ
أﺟﻞ اﻟﺠﻼء ،وﺟﺎء دوري ﻓﺄﻋﻠﻦ ﻣﻨﻈﻢ اﻟﺤﻔﻠﺔ اﺳﻤﻲ ووﺻﻔﻨﻲ ﺑﺎﻷدﻳﺐ اﻟﻜﺒري واﻟﺨﻄﻴﺐ
اﻟﻘﺪﻳﺮ ،وأﺿﺎف إﱃ ذﻟﻚ ﻋﺪدًا آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت ﺟﻌﻠﻨﻲ أﺧﺠﻞ ،وإن ﻛﻨﺖ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻋﻴﻨﻪ
اﻣﺘﻸت زﻫﻮًا وﺛﻘﺔ ﺑﻨﻔﴘ.
وﻗﻤﺖ ﻷﺗﻜﻠﻢ ﻓﺒﺪأت ﺑﻄﻴﺌًﺎ ﻫﺎدئ اﻟﺼﻮت ،ورﺗﻠﺖ ﺑﻌﺾ ﻋﺒﺎرات ﻣﻮزوﻧﺔ ﻛﻨﺖ ﻧﻤﻘﺘﻬﺎ
ﻇﺎ رﻧﺎﻧﺔ وﺳﺠﻌﺎت ﻣﺨﺘﺎرة ﻓﻄﺮب اﻟﺴﺎﻣﻌﻮن ﻟﻬﺎ ،وﺗﻌﺎﱃ وﺣﻔﻈﺘﻬﺎ ،وأﺿﻔﺖ إﻟﻴﻬﺎ أﻟﻔﺎ ً
ﺗﺼﻔﻴﻘﻬﻢ إﻋﺠﺎﺑًﺎ واﻃﻤﺄﻧﱠﺖ ﻧﻔﴘ إﱃ ذﻟﻚ وﺑﺪأت أﺗﺪﻓﻖ ،ﻓﻤﻦ ﺷﺎء أن ﻳﻜﻮن ﺧﻄﻴﺒًﺎ ﻧﺎﺟﺤً ﺎ، ُ
أوﻻ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻴﻼء ﻋﲆ ﻋﻮاﻃﻒ ﺳﺎﻣﻌﻴﻪ ﻓﻴﻜﻮن ﺑﺬﻟﻚ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻌﻮم ﻋﲆ اﺗﺠﺎه ﱠ
ﻳﺘﺤﻘﻖ ً ﻓﻌﻠﻴﻪ أن
ﺗﻴﺎر املﺎء.
98
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ
وﻛﺎن ﻟﺬﻟﻚ اﻻﺟﺘﻤﺎع دويﱞ ﻛﺒري ﰲ املﺪﻳﻨﺔ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ ،وﺗﺤﺪث ﺑﻪ اﻟﻨﺎس ﻣﺮددﻳﻦ
ﻣﺎ ﻗﻴﻞ ،وﺗﺠﺎ َدﻟُﻮا ﻓﻴﻪ ﺑﻤﺠﺎﻟﺴﻬﻢ ،ﻓﻤﻨﻬﻢ ﻣﻦ أﻧﻜﺮه ووﺻﻔﻪ ﺑﺎﻟﺪﻋﻮة إﱃ اﻟﺜﻮرة ،وﻣﻨﻬﻢ
ﻣﻦ رﴈ ﻋﻨﻪ ووﺻﻔﻪ ﺑﺎﻹﺻﻼح ،وﻟﻜﻦ اﻟﺠﻤﻴﻊ آﻣﻨﻮا ﺑﺄن اﻷﻣﺮ ﻗﺪ اﻧﺘﻬﻰ إﱃ ﻓﻮز ﻣﺮﺷﺢ
اﻟﺸﺒﺎب ﻣﺤﻤﻮد اﻟﻌﺠﻤﻲ.
ﻳﺒﻖ ﻋﲆ ﻳﻮم اﻻﻧﺘﺨﺎب إﻻ ﻳﻮﻣﺎن ،ﻓﺎﺳﺘﻘﺮ رأﻳﻨﺎ ﻋﲆ أن ﻧﴬب اﻟﴬﺑﺔ اﻷﺧرية وﻟﻢ َ
ﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ املﻘﺒﻠﺔ ،وﺗﻮاﻋﺪﻧﺎ ﻋﲆ اﻟﺬﻫﺎب ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺸﺎء إﱃ املﺴﺠﺪ وأذﻋﻨﺎ ﰲ أﻧﺤﺎء املﺪﻳﻨﺔ أﻧﻪ
اﻻﺟﺘﻤﺎع اﻷﺧري ،وﻟﻢ ﻧﺪﺧﺮ وﺳﻌً ﺎ ﰲ ﻧﴩ اﻟﺪﻋﺎﻳﺔ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ اﺳﺘﻄﻌﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ،ﺣﺘﻰ ﻟﻘﺪ
اﺳﺘﺄﺟﺮﻧﺎ ﺛﻼث ﺳﻴﺎرات ﺗﺠﻮب اﻷﺣﻴﺎء ،وﰲ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺬﻳﺎع ﻹﻋﻼن ﻣﻮﻋﺪ اﻻﺟﺘﻤﺎع وﻣﻜﺎﻧﻪ.
وﺑﻜﺮت ﻗﺒﻞ املﻮﻋﺪ ﺑﻨﺼﻒ ﺳﺎﻋﺔ ذاﻫﺒًﺎ إﱃ املﺴﺠﺪ ،وﻛﻨﺖ ﻗﺪ أﻋﺪدت ﰲ ﻧﻔﴘ ﺣﺪﻳﺜًﺎ
ﻧﺎرﻳٍّﺎ ﺗﺨريت ﻟﻪ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻣﺴﺠﻮﻋﺔ ﺗﺄﻧﻘﺖ ﰲ ﻋﺒﺎراﺗﻬﺎ ،وﻛﻨﺖ وأﻧﺎ ﺳﺎﺋﺮ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ املﺴﺠﺪ
أرددﻫﺎ وأﺳﺘﻤﻊ إﱃ ﺟﺮس ﺗﺮﺗﻴﻠﻬﺎ ﻷﻗﺪر ﻣﻮﻗﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﻧﻔﻮس اﻟﺴﺎﻣﻌني إذا ﺑﺪأﺗﻬﻢ ﺑﻬﺎ ،وملﺎ
وﺻﻠﺖ إﱃ ﻣﻨﻌﺮج اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ اﻟﺸﺎرع اﻟﻀﻴﻖ اﻟﺬي ﻓﻴﻪ املﺴﺠﺪ ،وﺟﺪت ﺑﻌﺾ ﺟﻨﻮد اﻟﴩﻃﺔ
ﻳﺴﺪﱡون ﻣﻨﻔﺬ اﻟﻄﺮﻳﻖ وﻫﻢ ﻳَﻠﺒﺴﻮن اﻟﺨﻮذ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ ،وﻳُﻤﺴﻜﻮن ﰲ أﻳﺪﻳﻬﻢ اﻟﻌﴢ اﻟﻐﻠﻴﻈﺔ،
وﻫﺐ اﻟﻀﺎﺑﻂ رﺋﻴﺴﻬﻢ ﻋﻦ ﻛﺮﺳﻴﻪ ﻓﺴﺄﻟﻨﻲ ﻋﻦ وﺟﻬﺘﻲ ،ﻓﻠﻤﺎ أﺟﺒﺘﻪ ﻗﺎل ﱄ ﰲ ﺟﻔﺎء :ﱠ
»إن
املﺴﺠﺪ ﻣُﻐ َﻠﻖ «.ﻓﺄدﻫﺸﺘﻨﻲ املﻔﺎﺟﺄة وأﺧﺬت أﺟﺎدﻟُﻪ ﻓﺄﻣﺴﻚ ﺑﻜﺘﻔﻲ ﰲ ﻏﻠﻈﺔ ودﻓﻌﻨﻲ ً
ﻗﺎﺋﻼ:
»ﺗﻔﻀﻞ!«
وﻫﻤﻤﺖ أن أدﻓﻌﻪ ﻛﻤﺎ دﻓﻌﻨﻲ ،وﻟﻜﻨﻲ ﺗﺬﻛﺮت أن ذﻟﻚ ﻗﺪ ﻳﺆدي إﱃ ﻋُ َﻘﺪ ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن
ُ
ﺑﻌﺪت ﻋﻨﻪ وﻗﻔﺖ أﺗﻮرط ﻓﻴﻬﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،واﻧﴫﻓﺖ ﻋﻨﻪ ﰲ ﻣﻈﻬﺮ اﻟﺘﺤﺪي اﻟﺼﺎﻣﺖ ،وملﺎ
ﻣﱰددًا أﻓﻜﺮ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻄﺎرئ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻧﺘﻮﻗﻌﻪ ،وﻟﻢ أدر ﻛﻴﻒ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﺘﺪارك اﻷﻣﺮ،
وﺗﻠﻔﺖ ﺣﻮﱄ ﻟﻌﲇ أرى أﺣﺪًا ﻣﻦ أﺻﺤﺎﺑﻲ وأﻧﺎ ﻗﻠﻖ ﺣﺎﻧﻖ ،ﻓﺮأﻳﺖ ﺑﻌﺪ ﺑﻀﻊ دﻗﺎﺋﻖ أرﺑﻌﺔ ﱡ
ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺠ ﱡﺮون أﻗﺪاﻣﻬﻢ ﰲ ﺧﺬﻻن وﻳُﻘﺒﻠﻮن ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻃﺮﻳﻖ املﺴﺠﺪ ،ﻓﺄﴎﻋﺖ إﻟﻴﻬﻢ ﻟﻴُﻔﺮغ
ﻛﻞ ﻣﻨﺎ ﺣﻨﻘﻪ إﱃ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،وﻛﺎد ﺷﻌﻮرﻧﺎ ﺑﺎﻟﺨﻴﺒﺔ ﻳﴫﻓﻨﺎ إﱃ أن ﻧﻴﺌﺲ وﻧﻨﻔﺾ أﻳﺪﻳﻨﺎ ﻣﻦ
اﻷﻣﺮ ﻛﻠﻪ ،ﺛﻢ اﺗﻔﻘﻨﺎ ﻋﲆ أن ﻧﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﻌﺠﻤﻲ ﻟﻨﺮى رأﻳﻪ ،وﻟﻌﻠﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﻋﻨﺪه ﺑﻌﺾ أﺻﺤﺎﺑﻨﺎ
اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻓﻨﺘﺪاول اﻟﺮأي ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺼﻨﻊ ﺑﻌﺪ ﻫﺬه اﻟﺼﺪﻣﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ أﻓﻮاه اﻟﻄﺮق إﱃ ﺑﻴﺘﻪ ﻣﻐﻠﻘﺔ
ﻄﺮرﻧﺎ إﱃ أن ﻧﺘﻔﺮق أﻓﺮادًا وﻧﺘﺴﻠﻞ ﻣﻦ اﻟﺤﻮاري اﻟﻀﻴﻘﺔ ﺑﺠﻤﺎﻋﺎت ﻣﻦ رﺟﺎل اﻟﴩﻃﺔ ،ﻓﺎﺿ ُ
ﺣﺎﻧﻘﺎ ﻷﻧﻪ ﺳﺒﻘﻨﺎ إﱃ املﺴﺠﺪ وﺣﺪث ﻟﻪ ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﺣﺪث ً إﱃ اﻟﺒﻴﺖ ،وﻛﺎن اﻟﻌﺠﻤﻲ ﻫﻨﺎك ﻳَﻐﲇ
ﻟﻨﺎ ،واﺟﺘﻤﻊ إﻟﻴﻨﺎ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻋﺪد ﻛﺒري ﻣﻦ أﺻﺤﺎﺑﻨﺎ وأﻏﻠﻘﻨﺎ ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻷﺑﻮاب وأﻃﻔﺄﻧﺎ اﻷﻧﻮار إﻻ
ﺷﻤﻌﺔ ﺿﺌﻴﻠﺔ ﰲ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺎ ﺑﻬﺎ ﰲ آﺧﺮ اﻟﺒﻴﺖ.
99
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ً
ﴎداﻗﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻴﻢ اﻵﺧﺮون وﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺟﺪال ﻋﻨﻴﻒ أﺟﻤﻌﻨﺎ اﻟﺮأي ﻋﲆ أن ﻧُﻘﻴﻢ ﻟﻨﺎ
ﺳﺒﻴﻼ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻣﺎ داﻣﺖ ﺗﺒﻴﺢ ذﻟﻚ ﻟﻐريﻧﺎ ،وﺗﱪﻋﺖ ﰲ ً ﴎادﻗﺎت ﻟﻬﻢ ،ﻓﺈن اﻹدارة ﻟﻦ ﺗﺠﺪ
ﺣﻤﺎﺳﺘﻲ ﺑﺨﻤﺴﺔ ﺟﻨﻴﻬﺎت ،واﻧﺪﻓﻊ ﺑﻌﺾ اﻷﺻﺤﺎب ﻳﺘﱪﻋﻮن ﺣﺘﻰ اﺟﺘﻤﻊ ﻟﻨﺎ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ
ﻹﻗﺎﻣﺔ اﻟﴪادق واﺳﺘﺌﺠﺎر اﻷﺛﺎث واملﺼﺎﺑﻴﺢ ،وﻟﻢ أﻋﺪ إﱃ ﻣﻨﺰﱄ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ إﻻ ﰲ ﺳﺎﻋﺔ
اﻟﻔﺠﺮ ﺑﻌﺪ أن اﺗﻔﻘﻨﺎ ﻣﻊ اﻟﻔﺮاش ﻋﲆ إﻗﺎﻣﺔ ﴎادﻗﻨﺎ ﰲ ﻓﻀﺎء واﺳﻊ ﰲ ﺟﻨﻮب املﺪﻳﻨﺔ.
وﻛﺎن اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ آﺧﺮ أﻳﺎم اﻟﺪﻋﺎﻳﺔ ،وﻻ ﺑﺪ ﻟﻨﺎ ﻣﻦ أن ﻧﴬب ﻓﻴﻪ ﴐﺑﺘﻨﺎ اﻷﺧرية،
ﻓﺘﻔﺮﻗﻨﺎ ﰲ أﻧﺤﺎء املﺪﻳﻨﺔ ﻧﻌﻠﻦ ﻋﲆ اﻟﻨﺎس ﻧﺒﺄ اﻻﺟﺘﻤﺎع ﰲ اﻟﴪادق اﻟﻜﺒري اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ اﺳﻢ
»ﺷﺒﺎب دﻣﻨﻬﻮر«.
وﻗﻀﻴﺖ ﺳﺎﻋﺘَني ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ ﰲ إﻋﺪاد ﺧﻄﺒﺘﻲ ،ﺛﻢ أﻟﻘﻴﺘﻬﺎ ﻣﺮﺗني ﻷﺳﻤﻊ ﺻﻮﺗﻲ وأﻗﺪر ُ
ﻣﺎ ﻳﻜﻮن وﻗﻌﻬﺎ ﰲ اﻷﺳﻤﺎع ،ﻓﻠﻤﺎ ﺣﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ املﻮﻋﻮدة ﻛﻨﺖ ﻣﺴﺘﻌﺪٍّا ﻣﻄﻤﺌﻨٍّﺎ ،وﺧﻔﻖ
ﻗﻠﺒﻲ ﴎو ًرا ﻋﻨﺪﻣﺎ ذﻫﺒﺖ إﱃ اﻟﴪادق ﻓﻮﺟﺪﺗُﻪ ﻣﺰدﺣﻤً ﺎ ﺑﺄﻟﻮف ﻣﻦ أﻫﻞ املﺪﻳﻨﺔ ،واﺳﺘﻘﺒﻠﻨﻲ
ﺟﻤﻌﻬﻢ ﺑﺎﻟﺘﺼﻔﻴﻖ واﻟﻬﺘﺎف ﻛﺄﻧﻲ أﺻﺒﺤﺖ زﻋﻴﻤً ﺎ.
واﺛﻘﺎ ﻣﻦ ﻋﻄﻒ ﻣﺘﻤﻬﻼ وأﺧﺬت أﺧﻄﺐ ﻫﺎدﺋًﺎ ًً وﻗﺪﻣﻨﻲ اﻷﺻﺤﺎب ﻷﺗﻜﻠﻢ ً
أوﻻ ،وﺻﻌﺪت
اﻷﺳﻤﺎع ،ﻓﻤﺎ ﻫﻲ إﻻ دﻗﺎﺋﻖ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﻛﻨﺖ أﺷﻌﺮ ﺑﺄﻧﻲ أﺳﺒﺢ ﻣﻊ اﻟﺘﻴﺎر ،وﻋﻼ ﺻﻮﺗﻲ ﺷﻴﺌًﺎ
ﻓﺸﻴﺌًﺎ واﺗﻘﺪت ﺣﻤﺎﺳﺘﻲ ﺣﺘﻰ ﻟﻢ أﺟﺪ داﻋﻴًﺎ إﱃ ﻗﺮاءة ﺧﻄﺒﺘﻲ ،ﻓﻮﺿﻌﺖ اﻷوراق وﺗﺪﻓﻘﺖ
ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﺗﺤﺮﻛﺖ وﻛﺎﻧﺖ املﻌﺎﻧﻲ واﻟﺼﻮر ﺗﺘﻤﺜﻞ ﱄ وﺗﺴﺘﻮﱄ ﻋﲆ اﻧﺘﺒﺎﻫﻲ ﺣﺘﻰ ﻛﺪت ﻻ
أﺑﴫ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻤﺎ ﺗﻘﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻴﻨﻲ ،ﻓﻠﻢ أﺗﻨﺒﱠﻪ إﱃ ﳾء إﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ملﺤﺖ ﻓﺠﺄة أن ﻫﻨﺎك ﺣﺮﻛﺔ
ﰲ اﻟﺼﻔﻮف املﺘﺰاﺣﻤﺔ ﰲ اﻟﴪادق ،وﺳﻤﻌﺖ أﺻﻮاﺗًﺎ ﺗﺘﻌﺎﱃ ﻋﻨﺪ املﺪﺧﻞ ،ﻓﺘﻮﻗﻔﺖ ً
ﻗﻠﻴﻼ ﻷرى
ﻣﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻄﺎرﺋﺔ ،ﻓﺈذا اﻟﺼﻔﻮف املﱰاﺻﺔ ﺗﺘﺤﺮك ﺛﻢ ﺗَﴪي اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻠﻴﻬﺎ وﻣﺎ
ﻫﻲ إﻻ دﻗﻴﻘﺔ ﻗﺼرية ﺣﺘﻰ ﺻﺎر اﻟﴪادق ﻛﻠﻪ إﱃ ﻓﻮﴇ ﺷﺎﻣﻠﺔ ،وﺑﺪأ اﻟﺒﻌﺾ ﻳﺘﻤﺎﺳﻚ
ﺑﺎﻟﺒﻌﺾ ﻋﻨﺪ املﺪﺧﻞ ،وﺗﻌﺎ َﻟﺖ اﻟﻜﺮاﳼ وﻫﺒﻄﺖ واﻫﺘﺰت املﺼﺎﺑﻴﺢ واﻧﻄﻔﺄ أﻛﺜﺮﻫﺎ ،وﺗﺪاﻓﻊ
اﻟﻨﺎس ﺧﺎرﺟني إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﺎﻧﺐ ،ﻓﻠﻢ أﻓﻬﻢ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺣﺪث إﻻ أن اﻻﺟﺘﻤﺎع ﻗﺪ
ﻓﺸﻞ وﺣ ﱠﻠﺖ ﻣﺤﻠﻪ ﻣﻌﺮﻛﺔ.
وأﴎﻋﺖ إﱃ ﻣﺪﺧﻞ اﻟﴪادق ﻣﺘﺤﻔ ًﺰا ﻟﻠﻌﺮاك ،واﻟﻐﻀﺐ ﻳﻜﺎد ﻳﻨﻔﺠﺮ ﺑﺼﺪري ،ﻓﻠﻤﺎ
ﺑﻠﻐﺖ ﻣﻜﺎن املﻌﺮﻛﺔ رأﻳﺖ ﺑﻌﺾ أﺻﺤﺎﺑﻲ ﻣُﺸﺘﺒﻜني ﰲ ﴏاع ﻋﻨﻴﻒ ،ﻓﺎﻧﺪﻓﻌﺖ ﻣﻌﻬﻢ
أﴐب ﺑﻴﺪي وﻗﺪﻣﻲ ،وأﺻﺎﺑﺘﻨﻲ ﻟﻜﻤﺎت ﻛﺜرية ﻟﻢ أﻋﺒﺄ ﺑﻤﺎ ﻧﺎﻟﻨﻲ ﻣﻨﻬﺎ ،وﻟﻢ أﻗﻒ ﻷﻓﻜﺮ ﰲ
ﺟﺪوى ذﻟﻚ اﻟﻌﺮاك ﺑﻌﺪ أن ﺿﺎع ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻛﻞ ﺗﺪﺑريﻧﺎ ،وﻓﻴﻤﺎ أﻧﺎ ﻣﻨﴫف ﺑﻜﻞ ﺟﻮارﺣﻲ إﱃ
املﻌﺮﻛﺔ رأﻳﺖ ﺟﻤﻌً ﺎ ﻛﺒريًا ﻳﻬﺒﻂ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻣﻦ أﻗﴡ اﻟﻄﺮﻳﻖ وﰲ أﻳﺪﻳﻬﻢ ﻫﺮاوات ﻳُﻠﻮﱢﺣﻮن ﺑﻬﺎ
100
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ
ﰲ اﻟﻬﻮاء وﻳﺼﻴﺤﻮن» :ﻳﻼ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ «.ﻓﱰﻛﺖ أﻧﺎ وأﺻﺤﺎﺑﻲ ﻣﻦ ﻛﺎن ﰲ أﻳﺪﻳﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﺼﻮم،
ووﻗﻔﺖ ﻣﺒﻬﻮﺗًﺎ ﻻ أﻛﺎد أﺻﺪق ﻋﻴﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺖ ﰲ ﻃﻠﻴﻌﺔ اﻟﻌﺼﺎﺑﺔ ﺷﺨﺺ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ
ﻗﺎﺋﻼ» :ﻳﻼ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ!« ﻓﺄﻏﻤﺎﻧﻲ ﻳﺤﻤﻞ ﰲ ﻳﺪه ﻫﺮاوة أﻃﻮل ﻣﻦ ﻗﺎﻣﺘﻪ ،وﻳﺸري ﺑﻬﺎ ﻧﺤﻮي ً
ﻗﺎﺋﻼ» :أﻧﺖ ﺗﻘﻮل ﱄ ﻫﺬا؟« وأﺣﺎط ﺑﻲ اﻟﻐﻴﻆ ﻋﻦ ﻛﻞ ﺣﻜﻤﺔ واﻧﺪﻓﻌﺖ ﻧﺤﻮه آﺧﺬًا ﺑﺘﻼﺑﻴﺒﻪ ً
أﺻﺤﺎﺑﻪ ووﺟﻮﻫﻬﻢ ﺗﻨﻄﻖ ﺑﺎﻟﴩ ،ﻓﺘﺨﻠﺺ ﺣﻤﺎدة ﻣﻦ ﻳﺪي وارﺗ ﱠﺪ إﱃ اﻟﻮراءً ،
ﻗﺎﺋﻼ ﰲ وﻗﺎﺣﺔ:
»ﻻ ﺗﻤ ﱠﺪ ﻳﺪك إﱄ ﱠ ،ﻳﻼ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ،ﻗﻠﺖ ﻟﻚ «.ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺣﻘﺪ» :أﻳﻬﺎ اﻟﻨﺬل ،أﻳﻬﺎ اﻟﻌﺒﺪ!«
ﻓﻀﺤﻚ ﺿﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﺑﺪت أﺳﻨﺎﻧﻪ وﻧﻈﺮ إﱃ أﺻﺤﺎﺑﻪ اﻟﺬﻳﻦ اﻧﺪﻓﻌﻮا ﻧﺤﻮي
وﺻﺎح ﺑﻬﻢ» :دﻋﻮه ﻳﺎ ﺟﻤﺎﻋﺔ ،ارﻓﻊ ﻳﺪك أﻧﺖ وﻫﻮ! ﺛﻢ اﺗﺠﻪ إﱄ ﱠ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎ ﻟﻚ أﻧﺖ؟ أﻧﺎ ﻧﺬل
وﻋﺒﺪ وﻛﻠﺐ اﺑﻦ ﻛﻠﺐ .ﻣﺎ ﻟﻚ أﻧﺖ؟ ﻳﻼ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ!«
ﺛﻢ وﺿﻊ إﺻﺒﻌﻴﻪ ﰲ ﻓﻤﻪ ،وﺻﻔﺮ ﺻﻔريًا ﻋﺎﻟﻴًﺎ وﻗﺎل» :اﺳﻤﻌﻮا ﻳﺎ ﺟﻤﺎﻋﺔ! ﻳﺤﻴﺎ اﻟﺴﻴﺪ
أﺣﻤﺪ ﺟﻼل!« ﻓﺼﺎح اﻟﺠﻤﻊ ﺑﻌﺪه ﻳﺮددون ﻫﺘﺎﻓﻪ وﺻﻔﺮ ﻟﻬﻢ ﻣﺮة أﺧﺮى وﺻﻔﻖ وﺿﺤﻚ
ﺻﺎﺋﺤً ﺎ» :ﻫﻴﺴﻪ!« ﻣﻊ املﺪ اﻟﻄﻮﻳﻞ ،ﻓﻀﺤﻜﻮا ﺟﻤﻴﻌً ﺎ وﺻﺎﺣﻮا ﻣﺜﻠﻪ ،ﺛﻢ ﺻﻔﺮ ﻣﺮة ﺛﺎﻟﺜﺔ ﻣﺜﻞ
اﻟﻘﻄﺎر ورﻓﻊ ﻫﺮاوﺗﻪ إﱃ ﻛﺘﻔﻪ وﺟﺮى أﻣﺎم أﺻﺤﺎﺑﻪ وﻫﻢ ﻣﻦ وراﺋﻪ ﻳﺼﻴﺤﻮن وﺗﺮﻛﻮﻧﻲ
ﻳﺒﻖ ﺑﻪ ﻏريي ،وﻛﺎن ﺣﻨﻘﻲ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻠﻴﻪ إﻻ ﺧﺠﲇ وﺷﻌﻮري واﻗﻔﺎ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ اﻟﺬي ﻟﻢ َ ً
وﺗﻠﻔﺖ ﺣﻮﱄ ﻛﺎملﺬﻫﻮل ﻓﻠﻤﺤﺖ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻳﻌﺎﻧﻖ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﰲ آﺧﺮ ﱡ ﺑﺎﻟﺨﻴﺒﺔ،
اﻟﻄﺮﻳﻖ ،وا أﺳﻔﺎه! وﻃﻔﺮت اﻟﺪﻣﻮع ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻲ وﺷﻌﺮت ﺑﻘﻠﺒﻲ ﻛﺄن ﻳﺪًا ﻗﺎﺳﻴﺔ ﺗﻌﴫه ،أﻫﺬا
ﻳﺎﺋﺴﺎ أﺣﺪث ﻧﻔﴘ أﻧﻬﺎ ﻣﺄﺳﺎة ﻣﻀﺤﻜﺔ ﺣﻘﺎ؟ وﻋﺪت إﱃ ﻣﻨﺰﱄ ً ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ اﻟﺬي أراه ٍّ
ﻣﺒﻜﻴﺔ ،ﻫﻜﺬا ﻳ ُ
َﺤﺸﺪ اﻟﺴﺎدة ﻋﺒﻴﺪﻫﻢ املﺤﻄﻤني داﺋﻤً ﺎ ﻟﻴﴬﺑﻮا ﻟﻬﻢ أﻋﺪاءﻫﻢ ،ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻤﻜﻨﻮا
ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أن ﻳﻌﻮدوا إﻟﻴﻬﻢ ﻟﻴَﺠﻠﺪُوا ﻇﻬﻮرﻫﻢ ﺑﺎﻟﺴﻴﺎط!
101
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ
ﺗﻴﻘﻈﺖ ﻣﻦ ﻧﻮﻣﻲ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻋﲆ ﺻﻮت أﻣﻲ وأﻧﺎ دﻫﺶ ﻣﻦ أﺛﺮ اﻟﺴﻬﺮ واﻟﺘﻌﺐ ،ورأﻳﺘﻬﺎ
ﺗﻤ ﱡﺪ إﱃ ﻳﺪﻫﺎ ﺑﻮرﻗﺔ ،ﻓﺴﺄﻟﺘﻬﺎ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻓﻘﺎﻟﺖ» :ﺟﺎء ﺑﻬﺎ رﺟﻞ وﻗﺎل :إﻧﻬﺎ ﻣﺴﺘﻌﺠﻠﺔ«.
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻮرﻗﺔ ﺑﺨﻂ رديء ﺑﺎﻟﻘﻠﻢ اﻟﺮﺻﺎص وﻓﻴﻬﺎ» :ﺳﻴﺪ زﻫري ﺷﻴﺎﺧﺔ أﺑﻮ ﻃﺎﻗﻴﺔ
ﺻﻨﺎﻋﺘُﻪ و ﱠزان ،ﻳُﻨﺒﱠﻪ ﻋﲆ املﺬﻛﻮر ﺑﺎﻟﺤﻀﻮر ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﺻﺒﺎﺣً ﺎ ﻷﻣﺮ ﻫﺎم إﱃ ﻣﺮﻛﺰ
اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ«.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ :ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ؟ ﻣﺎذا أﻓﻌﻞ ﻫﻨﺎك؟ وﺑﺪأت أﺗﺬﻛﺮ ﻣﺎ ﺣﺪث ﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ
اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ،ﻓﺎﻟﻮﻗﺖ ﻣﺘﱠ ِﺴﻊ ﻷﻓﻄﺮ وأﴍب ﻓﻨﺠﺎﻧًﺎ ﻣﻦ اﻟﺸﺎي،
وﻗﻤﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ ﻷﺳﺘﺤﻢ وأﺗﻮﺿﺄ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ ُ وأرﺗﺐ ﰲ ذﻫﻨﻲ اﻟﺤﻮادث اﻟﺘﻲ وﻗﻌﺖ،
اﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﻠﻐﺖ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ،وﻟﻢ أﻛﻦ ﺧﺒريًا ﺑﺄﴎار ﻣﻜﺎﺗﺐ املﺮﻛﺰ ،ﻓﻌﺮﺟﺖ
ﻋﲆ أول ﺣﺠﺮة ﻗﺎﺑﻠﺘﻨﻲ ،وﺳﺄﻟﺖ اﻟﺠﻨﺪي اﻟﺬي ﻛﺎن ﻓﻴﻬﺎ ،ﻓﻠﻢ ﻳﺮد ﻋﲇ ﱠ ﻻﻧﺸﻐﺎﻟﻪ ﺑﺘﻠﻤﻴﻊ
ﺣﺬاﺋﻪ ،وذﻫﺒﺖ إﱃ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻴﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ املﻜﺘﺐ ﻛﺎن ﺧﺎﻟﻴًﺎ ،ﻓﻤﺎ زﻟﺖ أﺧﺮج ﻣﻦ ﻏﺮﻓﺔ إﱃ
أﺧﺮى ﻟﺴﺒﺐ أو ﻵﺧﺮ ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﺖ آﺧﺮ اﻟﺮدﻫﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻣُﻈﻠﻤﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﺣﺎﺋﻂ ﻋﲆ اﻟﻴﻤني
وأﺑﻮاب ﻋﲆ اﻟﻴﺴﺎر ،ووﺟﺪت ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻏﺮﻓﺔ ﻣﺰدﺣﻤﺔ ﺑﺄﺧﻼط ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻈﻬﺮ
اﻟﺒﺆس واﻟﴩاﺳﺔ ،ﻓﻌﺮﺟﺖ ﻋﲆ اﻟﻴﻤني ﰲ ردﻫﺔ أﺧﺮى ،ﻓﻮﺟﺪت ﰲ ﺻﺪرﻫﺎ ﺣﺠﺮة ﺻﻐرية
ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻜﺘﺐ ﻳﺠﻠﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﺟﻨﺪي ﺿﺨﻢ ﻟﻪ أرﺑﻌﺔ أﴍﻃﺔ ﺣﻤﺮاء ﻋﲆ ذراﻋﻪ ،وﺷﺎرب ﻣﻔﺘﻮل ﰲ
وﺟﻬﻪ ،وﻫﻤﻤﺖ أن أﺳﺄﻟﻪ ﻋﻦ ﺳﺒﺐ دﻋﻮﺗﻲ وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺟﺮؤ؛ ﻷﻧﻪ ﺑﺪأ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻳﺼﻴﺢ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﻦ أﻧﺖ؟ ﻣﻦ أﻧﺖ ﺣﺘﻰ ﺗُﺠﻴﺒَﻨﻲ ﺑﻬﺬه اﻟﻠﻬﺠﺔ؟
ﺑﺄﻋﲆ ﺻﻮﺗﻪ ﻳﺨﺎﻃﺐ ﺷﺎﺑٍّﺎ أﻣﺎﻣﻪ ً
وﻛﺎن اﻟﺸﺎب اﻟﺬي أﻣﺎﻣﻪ ﻃﻮﻳﻞ اﻟﻘﺎﻣﺔ ﻳﻠﺒﺲ ﺟﻠﺒﺎﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﺼﻮف ﻋﲆ زي أﻫﻞ دﻣﻨﻬﻮر،
ُ
ﻓﺎﺳﺘﻨﺘﺠﺖ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ ﻋﺎﻣﺔ اﻟﺸﻌﺐ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ وﻋﲆ رأﺳﻪ ﻃﺮﺑﻮش وﰲ ﻗﺪﻣﻴﻪ ﺣﺬاء،
أر وﺟﻬﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﺘﺠﻬً ﺎ إﱃ املﻜﺘﺐ ،وﺳﻤﻌﺘُﻪ ﻳﺠﻴﺐ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻷﻧﻔﺔ :أﻧﺎ ﻋﲇ اﻟﺤﻔﺎر؟
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻓﺼﺎح ﺑﻪ اﻟﺠﻨﺪي :اﻟﺤﻔﺎر؟ ﺗﴩﻓﻨﺎ ﻳﺎ ﺣﴬة ،ﻳﻌﻨﻲ ﺣﴬﺗﻚ ﺣﻔﺎر ﻗﺒﻮر؟ أو ﻫﻲ
ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﻮاﻟﺪ؟
ﻛﻨﺖ ﻻ ﺗﻌﺮﻓﻨﻲ ﻓﻼ داﻋﻲ ﻟﻬﺬا اﻟﻜﻼم ،ﺳﺄﻟﺘﻨﻲ ﻋﻦ اﺳﻤﻲ ﻓﻘﺎل اﻟﺸﺎب ﰲ ﺣﻨﻖ :إذا َ
وﻫﺬا ﻫﻮ اﺳﻤﻲ ،وأﻧﺎ ﺗﺎﺟﺮ ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺒﻠﺪ.
ﻓﻘﺎل اﻟﺠﻨﺪي :ﺗﴩﱠﻓﻨﺎ ﻳﺎ أﻓﻨﺪم .أﻗﻮم ﻟﻚ وأﴐب اﻟﺴﻼم؟ أﻫﻜﺬا ﺗﺨﺎﻃﺒﻨﻲ وﺗﺼﻴﺢ ﰲ
وﺟﻬﻲ ﻳﺎ ﻗﻠﻴﻞ اﻷدب؟ أﻫﻜﺬا ﺗُﻜﻠﻢ …؟
ﻓﻘﺎﻃﻌﻪ اﻟﺸﺎب ﻏﺎﺿﺒًﺎ :ﻻ ﺗﺨﺮج ﻋﻦ ﺣﺪودك.
ﻓﻘﺎم اﻟﺠﻨﺪي ﻫﺎﺋﺠً ﺎ ﻣﻦ ﻣﻘﻌﺪه ،وﺧﺮج ﻣﻦ وراء املﻜﺘﺐ ﺻﺎﺋﺤً ﺎ :ﺣﺪودي؟ ﻣﺎ ﻫﻲ
ﺣﺪودي ﻳﺎ وﻟﺪ؟ أﻧﺖ ﻗﻠﻴﻞ اﻷدب .ﻗﻠﻴﻞ اﻷدب أﻟﻒ ﻣﺮة وﺗﺴﺘﺤﻖ اﻟﺘﺄدﻳﺐ.
وأﻗﺒﻞ ﻫﺎﺟﻤً ﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﴬﺑﻪ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ ﴐﺑﺔ ﺷﺪﻳﺪة اﻫﺘﺰ ﻟﻬﺎ اﻟﺸﺎب وﺛﺎر راﻓﻌً ﺎ ﻳﺪه
ﻓﺄﴎﻋﺖ ﻣﻦ وراﺋﻪ ﺑﻐري ﺗﻔﻜري ،وأﻣﺴﻜﺖ ﺑﺬراﻋﻪ ،ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ إﱄ ﱠ ﻏﺎﺿﺒًﺎ وﻧﺰع ُ ﻟﻺﺟﺎﺑﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ،
ﻳﺪه ﻣﻨﻲ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ أﻫﺪﺋﻪ :ﺗﻤﻬﱠ ﻞ ﻳﺎ أﺧﻲ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺘﻌﻠﻞ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﺑﺄﻧﻚ اﻋﺘﺪﻳﺖ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻛﻨﺖ واﻗﻔﺎً
ﻫﻨﺎ ورأﻳﺖ ﻛﻞ ﳾء وﺳﺄﺷﻬﺪ ﺑﻤﺎ ﺣﺪث.
ﻗﺎﺋﻼ :ﺑﺄي ﺣﻖ ﺗﻌﺘﺪي ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺸﺎب؟ واﺗﺠﻬﺖ إﱃ اﻟﺠﻨﺪي ً
ُ
ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ ﻣﻀﺾ ،ووﻗﻒ ﻳﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮ اﻟﺠﻨﺪي ﰲ ﺣﻨﻖ ،ﻓﻀﺤﻚ اﻟﺠﻨﺪي وﻫﺪﱠأ اﻟﺸﺎبﱡ َ
ﻗﺎﺋﻼ :وﺣﴬﺗﻚ ﻣﺤﺎم؟ واﺗﺠﻪ إﱄ ﱠ ً
وﻧﻈﺮ إﱄ ﱠ ﻳﻔﺤﺼﻨﻲ ﻣﻦ أﻋﲆ ﻃﺮﺑﻮﳾ إﱃ ﻛﻌﺐ ﺣﺬاﺋﻲ ،ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ ﻏﻴﻆ :ﻟﻴﺲ ﻟﻚ
ﺣﻖ ﰲ ﴐب أﺣﺪ ،ﻟﻴﺲ اﻟﻨﺎس ﻋﺒﻴﺪًا ﻟﻚ.
واﻗﻔﺎ ﻓﻮﺿﻊ ﻳﺪه ﰲ ﺧﴫه وﻣﺪ رأﺳﻪ ﻧﺤﻮي ﻣﺜﻞ دﻳﻚ ﻣﺤﺎرب ،وﻗﺎل: وﻛﺎن ﻣﺎ ﻳﺰال ً
أوﻻ؟ ﻣﻦ أﻧﺖ ﻳﺎ ﺣﴬة؟ وﻣﻦ أﻧﺖ ً
ﻓﺄﺟﺒﺘﻪ ﻣﺘﺤﺪﻳًﺎ ،اﺳﻤﻊ أﻧﺖ ﻳﺎ ﺣﴬة ،أﻧﺎ اﻟﺬي أﺳﺄﻟﻚ ﻣﻦ أﻧﺖ ﺣﺘﻰ ﺗﴬب اﻟﻨﺎس
وﺗﺸﺘﻤﻬﻢ؟ اﻟﻘﺎﻧﻮن ﻻ ﻳَﺴﻤﺢ ﺑﻬﺬا ،وﻳﺠﺐ أن ﺗﻌﺮف اﻟﻄﺮق اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺒﻌﻬﺎ.
ﻓﺘﻘﺪم ﻧﺤﻮي ﺛﺎﺋ ًﺮا وﻗﺎل :ﻳﻈﻬﺮ أﻧﻚ ﺗُﺮﻳﺪ أن ﺗﻌﺮف اﻟﻘﺎﻧﻮن .اﻟﻘﺎﻧﻮن ﻫﻮ ﻫﺬا.
ﻗﺎﺋﻼ :اﺧﺮج ﻣﻦ ﻫﻨﺎ .ﻟﻴﺲ ﻫﺬا املﻜﺘﺐ ﻗﻬﻮة ودﻓﻌﻨﻲ ﰲ ﺻﺪري ﺑﻌﻨﻒ ﻟﻴﺨﺮﺟﻨﻲ ً
ﻟﺘﺪﺧﻠﻪ ﻫﻜﺬا.
وﻟﺴﺖ أدري ﻣﺎذا ﺟﻌﻠﻨﻲ أﻓﻘﺪ اﺗﺰاﻧﻲ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ،وأﻗﺪم ﻋﲆ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺬي ﻣﻨﻌﺖ ﻣﻨﻪ
ورﻓﻌﺖ ﻳﺪي ﺑﻘﻮة ،ودﻓﻌﺖ اﻟﺠﻨﺪي ﺑﻘﺒﻀﺔ ﻳﺪي دﻓﻌﺔ ُ اﻟﺸﺎب ،ﻓﺈﻧﻲ اﻧﺪﻓﻌﺖ ﺑﻐري ﺗﻔﻜري،
104
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ
ﺷﺪﻳﺪة؟ ﺻﺪره ارﺗﺪ ﻣﻨﻬﺎ إﱃ اﻟﻮراء ،وﻫﻮ ﻳﺘﻄﻮﱠح ،وﺳﺨﻦ رأﳼ ﻓﻮﻗﻔﺖ ﻣُﺴﺘﻌﺪٍّا ﻷﻋﻴﺪ
ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻜﺮة إذا ﻋﺎد ملﻬﺎﺟﻤﺘﻲ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﻘﺪم ﻧﺤﻮي ﺑﻞ ذﻫﺐ إﱃ ﻣﻜﺘﺒﺘﻪ ،وﺧﺒﻂ ﺑﻴﺪه ﻋﲆ
اﻟﺠﺮس ﺻﺎﺋﺤً ﺎ :ﻣﺎ ﻫﺬه املﺼﻴﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺒﺤﻨﺎ؟ ﻣﺎ ﻫﺬا اﻟﺸﻴﻄﺎن اﻟﴩس اﻟﺬي ﻃﻠﻊ ﻋﻠﻴﻨﺎ؟
ﻳﺎ ﻗﺮﻧﻲ! ﻳﺎ ﻋﲇ ﻳﺎ ﻣﺒﺎرك! ﻳﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﻳﺎ ﺑﻮ زﺑﻄﺔ!
ودﺧﻞ ﺟﻨﺪي وراء آﺧﺮ ،ﻓﴬﺑﻮا اﻟﺴﻼم وﻧﻈﺮوا إﱃ اﻟﺠﻨﺪي ،ﺛﻢ اﻟﺘﻔﺘُﻮا إﱄ ﱠ وإﱃ اﻟﺸﺎب
اﻵﺧﺮ ﰲ دﻫﺸﺔ.
ﻓﺼﺎح ﺑﻬﻢ ﺻﺎﺣﺐ اﻷﴍﻃﺔ اﻟﺤﻤﺮاء :ﺧﺬوا ﻫﺬا اﻟﻠﻌني ،ﺧﺬوا ﻫﺬا املﺠﺮم اﺑﻦ املﺠﺮم.
ﻓﺼﺤﺖ :اﺧﺮس.
واﻧﺪﻓﻊ ﻫﺎﺋﺠً ﺎ :ﺳﺄﻋﺮف ﻛﻴﻒ أؤدﺑﻚ .ﺗﴬﺑُﻨﻲ أﻧﺎ؟ ﻧﻬﺎرك أﺳﻮد ،وﺗﻘﻮل ﱄ :اﺧﺮس؟
واﻗﻔﺎ ﻫﻜﺬا ﻳﺎ ﻋﲇ ﻳﺎ ﻣﺒﺎرك؟ﺣﺎﻻ! ﻣﺎﻟﻚ ًﺣﺎﻻ! أﻣﺎ ﺗﺴﻤﻊ ﻳﺎ ﻗﺮﻧﻲ؟ إﱃ اﻟﺴﺠﻦ ً إﱃ اﻟﺴﺠﻦ ً
ﻳﺎ ﺑﻮ زﺑﻄﺔ ﻳﺎ ﺣﻤﺎر!
ُ
ﻓﺎرﺗﺪدت إﱃ اﻟﻮراء ﺻﺎﺋﺤً ﺎ ﰲ ﺛﻮرة :ﻻ ﺗﻘﱰﺑﻮا ﻣﻨﻲ! ﻓﺄﺣﺎط اﻟﺠﻨﻮد ﺑﻲ ﻟﻴﻘﺒﻀﻮا ﻋﲇ،
وﺗﺤﻔﺰت ﻷداﻓﻊ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ ،ﻓﺘﻘﺪﻣﻮا ﻧﺤﻮي واﺣﺪًا وراء اﻵﺧﺮ ،ودﻓﻌﺘﻬﻢ ﻋﻨﻲ واﺣﺪًا ﱠ
ﺑﻌﺪ واﺣﺪ ،ﻓﻐﻀﺒﻮا وﻫﺠﻤﻮا ﻋﲇ ﱠ ﻫﺠﻤﺔ واﺣﺪة ﻳﴬﺑﻮﻧﻨﻲ وﻳﺠ ﱡﺮوﻧﻨﻲ وﺻﺎﺣﺐ اﻷﴍﻃﺔ
اﻟﺤﻤﺮاء ﻳﺼﻴﺢ ﺑﻬﻢ :إﱃ اﻟﺴﺠﻦ إﱃ اﻟﺴﺠﻦً ،
ﺣﺎﻻ! املﺠﺮم! اﻟﻜﻠﺐ! اﺑﻦ اﻟ…
ﻓﻤﺎ ﻛﺪت أﺳﻤﻌﻪ ﻳﻬﻢ ﺑﺬﻛﺮ أﺑﻲ ﺣﺘﻰ اﻧﻄﻠﻘﺖ ﻣﻦ ﻓﻤﻲ ﺷﺘﺎﺋﻢ ﻻ أدري ﻛﻴﻒ ﺗﺪﻓﻘﺖ
ذراﻋﻲ اﻻﺛﻨﺘني وﻋﲆ رﻗﺒﺘﻲ ﻣﺜﻞ ﻛﻤﺎﺷﺎت اﻟﺤﺪﻳﺪ، ﱠ ﻣﻦ ﻓﻤﻲ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻗﺒﻀﺔ اﻟﺠﻨﻮد ﻋﲆ
ﻓﺤﻤﻠﻮﻧﻲ ﻏﺼﺒًﺎ وﻗﺬﻓﻮا ﺑﻲ ﰲ ﻋﻨﻒ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ ،وأﻏﻠﻘﻮا ﺑﺎﺑﻬﺎ وراﺋﻲ ،وﻛﺎد ﻳُﻐﻤﻰ ﻋﲇ ﱠ ﻣﻦ
اﻷﻟﻢ واﻟﻐﻴﻆ ،ﻓﻠﻢ أﺗﻨﺒﻪ إﱃ ﻣﺎ ﺣﻮﱄ إﻻ ﺑﻌﺪ ﻟﺤﻈﺎت ،ﻓﻘﻤﺖ وأﻋﻀﺎﺋﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﻨﺒﺾ أ ًملﺎ
وﺟﻌﻠﺖ أﺗﺤﺴﺲ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﻐﺮﻓﺔ املﻈﻠﻤﺔ ،ﻓﻌﻠﻤﺖ أﻧﻲ ﰲ ﺟﺤﺮ ﺿﻴﻖ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﻣﱰﻳﻦ ﰲ
ﻣﱰﻳﻦ ،وأرﺿﻪ ﻣﻦ اﻟﺒﻼط وﻫﻮاؤه ﻋﻔﻦ اﻟﺮاﺋﺤﺔ.
وﻛﺎدت روﺣﻲ ﺗﺰﻫﻖ ﻣﻦ اﻟﻀﻴﻖ واﻟﺤﻨﻖ واﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻹﻫﺎﻧﺔ واﻟﻈﻠﻢ ،واﻧﺪﻓﻌﺖ ﻣﺜﻞ
ُﺒﺎل ﻣﺎ ﻳﺼﻴﺒﻨﻲ ﻣﻦ اﻷﻟﻢ، املﺠﻨﻮن أﺻﻴﺢ ﺑﺄﻋﲆ ﺻﻮﺗﻲ ،وأﺧﺒﻂ ﻋﲆ اﻟﺒﺎب ﺑﺠﻤﻊ ﻳﺪي ﻏري ﻣ ٍ
وﺟﻌﻠﺖ أﻧﻄﻖ ﺑﺸﺘﺎﺋﻢ ﻣﻘﺬﻋﺔ وأﻟﻔﺎظ ﻋﺠﻴﺒﺔ ﻟﻮ ﺳﻤﻌﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﻏريي ﻟﻀﺤﻜﺖ ﺳﺨﺮﻳﺔ ﻣﻨﻬﺎ،
ﻗﺎﺋﻼ» :اﻓﺘﺤﻮا ﱄ أﻳﻬﺎ املﺠﺮﻣﻮن … أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ … اﻓﺘﺤﻮا ﱄ أﻳﻬﺎ اﻟﻠﺼﻮص، ﻛﻨﺖ أﺻﻴﺢ ً
وﺳﺘﺠﺪون ﺟﺰاءﻛﻢ … أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ … أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ …« وﻟﻜﻦ ﺻﻴﺤﺎﺗﻲ وﺷﺘﺎﺋﻤﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺗ ﱡﺪ إﱃ
ُ
ﻓﺘﻜﻮﻣﺖ أذﻧﻲ ﺳﺎﺧﺮة ﺿﺎﻏﻄﺔ ﻗﺎﺳﻴﺔ ،وﻛ ﱠﻠﺖ ﻳﺪاي ﻣﻦ اﻟﺨﺒﻂ وﺧﺎرت ﻗﻮاي وﺑُﺢﱠ ﺻﻮﺗﻲ،
وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻲ اﻧﺘﻘﻠﺖ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ ﻓﻈﻴﻊ ﻣﻤﻘﻮت ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻋﲆ اﻷرض ﻣﺴﺘﻨﺪًا إﱃ ﻇﻬﺮ اﻟﺒﺎبُ ،
105
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻋﺎﻟﻢ اﻹﻧﺴﺎن ،وأﺧﺬت أﺳﺄل ﻧﻔﴘ» :أﻫﻜﺬا ﻳُﻌﺎﻣَ ﻞ اﻟﻠﺼﻮص واملﺠﺮﻣﻮن؟« ﻓﻠﻮ ﻛﻨﺖ ﻣﺠﺮﻣً ﺎ
ﻟﺼﺎ ﺻﻐريًا ﺛﻢ ﻋُ ﻮﻣﻠﺖ ﻫﺬه املﻌﺎﻣﻠﺔ ﻟﺨﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻐﺮﻓﺔ وأﻧﺎ ﻣﺼﻤﻢ ﻋﲆ أن ﺑﺎدﺋًﺎ أو ٍّ
أﻛﻮن ﻗﺎﻃﻊ ﻃﺮﻳﻖ وﺳﻔﺎك دﻣﺎء.
وﻣﺮت اﻟﻠﺤﻈﺎت ﺑﻄﻴﺌﺔُ ،
وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻨﻲ ﺳﺄﺑﻘﻰ ﻫﻨﺎك ﻃﻮل ﺣﻴﺎﺗﻲ ﺑﻐري أن ﻳﻬﺘﻢ أﺣﺪ
ﺑﺄﻣﺮي ،أو ﻳﻘﺪر أﺣﺪ ﻋﲆ إﻃﻼﻗﻲ ،ﻛﺄﻧﻨﻲ ﺣﴩة أو ﻓﺄر أو ﻛﻠﺐ ،وﻋﺪت أﺳﺄل ﻧﻔﴘ :أأﻧﺎ
اﻟﺸﻌﺐ اﻟﺬي ﻛﻨﺖ أﺗﺤﺪث ﻋﻨﻪ ﰲ ﺧﻄﺒﺘﻲ ﰲ املﺴﺠﺪ وﰲ اﻟﴪادق؟ ﻫﻞ أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ اﻟﺬي
ﻄﺐ اﻟﺴﺎد ُة ودﱠه ﰲ دﻋﺎﻳﺎﺗﻬﻢ اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﻴﺔ ،وﻣﻦ أﺟﻠﻪ ﻳُﻨﺸﺌﻮن ﻣﻘﺎﻻت اﻟﺘﻤﺠﻴﺪ ﰲ اﻟﺠﺮاﺋﺪﻳَﺨ ُ
اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ؟
ﻓﺄﺣﺴﺴﺖ ﻗﺸﻌﺮﻳﺮة ﰲ ﺟﻮﰲ وأ ًملﺎ ﰲ رأﳼ ،وﻏﺜﻴﺎﻧًﺎ ﰲ
ُ وﺗﺼﺎﻋَ ﺪ ﺑﺮد اﻟﺒﻼط إﱃ ﻋﻈﺎﻣﻲ
ُﻨﺘﻔﻀﺎ ،وﺗﻀﺎﻋﻒ ﺣﻨﻘﻲ ﺣﺘﻰ ﻛﺪت أﺧﺮج ﻋﻦ وﻋﻴﻲ ،وأﺧﺬت أﺧﺒﻂ اﻟﺒﺎب ﻧﻔﴘ ،ﻓﻘﻤﺖ ﻣ ً
ﻣﺮة أﺧﺮى ﺑﻴﺪي اﻻﺛﻨﺘني وأﺻﻴﺢ ﺑﺄﻋﲆ ﺻﻮﺗﻲ وأﺷﺘﻢ وأﻟﻌﻦ وأُﻫﺪد ،وﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ أن أواﺻﻞ
اﻟﺨﺒﻂ ﺣﺘﻰ ﺗﺘﺤﻄﻢ ﻳﺪاي ﺛﻢ أﺧﺒﻂ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻘﺪﻣﻲ ﺣﺘﻰ ﺗﺘﻜﴪا ،وﺑﺮأﳼ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻔﺘﺖ،
وﻟﺴﺖ أدري ﻛﻴﻒ اﺳﺘﻄﻌﺖ أن أﺳﺘﻤﺮ ﻋﲆ اﻟﺨﺒﻂ واﻟﺼﻴﺎح ﻫﺬه املﺪة اﻟﺘﻲ ﻣ ﱠﺮت ﻛﺄﻧﻬﺎ
ﺳﺎﻋﺎت ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﺛﻢ ﺳﻤﻌﺖ ﺑﻌﺪ ﺣني ﺻﻮت املﻔﺘﺎح ﻳﺪور ﰲ اﻟﻘﻔﻞ ،واﻧﻔﺮج اﻟﺒﺎب وﺗﺪﻓﻖ
ً
ﺣﺎﻧﻘﺎ وأﻧﺎ أﻟﻬﺚ ﻣﻦ اﻟﺜﻮرة ،وﻻ ﺷﻚ أن ﻣﻨﻈﺮي ﻛﺎن ﺷﻌﺎع ﻣﻦ اﻟﻨﻮر ﰲ اﻟﻈﻼم ،وﺗﻨﻔﺴﺖ
ﻷن اﻟﺠﻨﺪي اﻟﺬي ﻓﺘﺢ اﻟﺒﺎب ﺗﻨﺤﻰ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﻲ ﰲ ﻓﺰع ،وﻛﺎﻧﺖ ﻳﺪاي ﺗﻠﺘﻬﺒﺎن ﻣﻦ ً
ﻣﺨﻴﻔﺎ؛ ﱠ
اﻷﻟﻢ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻋﺒﺄ ﺑﻬﻤﺎ وﺧﺮﺟﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ ﻓﺎﺗﺠﻬﺖ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ اﻟﺠﻨﺪي ذي اﻷﴍﻃﺔ اﻟﺤﻤﺮاء
ﻋﺎزﻣً ﺎ ﻋﲆ أن أﻗﺘﺺ ﻣﻨﻪ ﻏري ﻣﺒﺎل ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﺑﻌﺪﻫﺎ.
وﺻﺤﺖ ﺑﺄﻋﲆ ﺻﻮﺗﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ اﻗﱰﺑﺖ ﻣﻦ ﻏﺮﻓﺘﻪ ً
ﻗﺎﺋﻼ» :أﻳﻦ أﻧﺖ أﻳﻬﺎ اﻟﻨﺬل اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ،
أﻳﻬﺎ اﻟﻌﻨﻜﺒﻮت اﻟﺤﻘري!« وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺟﺪه وراء املﻜﺘﺐ ،ﻓﻘﻠﺖ ﻣﺴﺘﻤ ٍّﺮا ﰲ ﺻﻴﺎﺣﻲ» :أﻳﻦ
ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺸﻮارب املﺼﺒﻮﻏﺔ؟ أﻳﻦ اﻟﻌﻨﻜﺒﻮت اﻟﺬي ﻛﺎن ﻫﻨﺎ؟« ﻓﻀﺤﻚ اﻟﻀﺎﺑﻂ اﻟﺸﺎب اﻟﺬي
ﺟﺎﻟﺴﺎ وراء املﻜﺘﺐ ،وﻗﺎل» :ﺗﻔﻀﻞ ﻫﻨﺎ «.وأﺷﺎر إﱃ ﻛﺮﳼ ﺑﺠﺎﻧﺒﻪ ،وﻛﺎن وﺟﻬﻪ ﻳﺘﺄﻟﻖً ﻛﺎن
ِﺑﴩًا ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮى ﻣﻨﻈ ًﺮا ﻣﺴﻠﻴًﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻣﻨﻈﺮه ﻫﺪأ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻓﻮرة ﻧﻔﴘ ،وﻛﺎن ﻓﺘﻰ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ
ﻋﲆ اﻟﺨﻤﺲ واﻟﻌﴩﻳﻦ ﻛﺄﻧﻪ ﺗﻠﻤﻴﺬ ﺣﺴﻦ اﻟﻬﻴﺌﺔ ،وأﺳﻨﺎﻧﻪ ﺑﻴﻀﺎء ﺗﻠﻤَ ﻊ ﻣﻦ وراء اﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻪ،
ووﺟﻬُ ﻪ اﻷﺳﻤﺮ اﻟﻮدﻳﻊ اﻟﺬي ﺧﻼ ﻣﻦ اﻟﺸﻮارب ﻳﺨﺎﻟﻒ ﰲ ﻛﻞ ﳾء ﺷﻜﻞ ﺻﺎﺣﺐ اﻷﴍﻃﺔ
اﻟﺤﻤﺮاء.
وأﻋﺎد اﻟﻀﺎﺑﻂ ﻗﻮﻟﻪ» :ﺗﻔﻀﻞ ﻫﻨﺎ «.ﻣﺸريًا إﱃ اﻟﻜﺮﳼ اﻟﺬي أﻣﺎﻣﻪ ،ﻓﺠﻠﺴﺖ ﺻﺎﻣﺘﺎً
أﻓﺮك ﻳﺪي وأﻧﺎ أﻧﻬﺞ ﻣﻦ اﻟﺠﻬﺪ ،وﻛﺎن رأﳼ ﺳﺎﺧﻨًﺎ وﺣﻠﻘﻲ ﻣُﻠﺘﻬﺒًﺎ ،ﻓﻘﺪم اﻟﻀﺎﺑﻂ إﱃ ﻓﻨﺠﺎن
106
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ
اﻟﻘﻬﻮة اﻟﺬي ﻛﺎن أﻣﺎﻣﻪ ﻓﻠﻢ أﺗﺮدد ﰲ أﺧﺬه ﺷﺎﻛ ًﺮا ،وﻛﺎن أﻟﺬ ﳾء ﻋﻨﺪي ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ،
ُﻄﺮﻗﺎ ﻓﻮق املﻜﺘﺐ ﻳﻨﻘﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﻘﻠﻢ ذﻫﺒﻲ ﰲ ﻳﺪه ،وﺧﺎﺗﻤﻪ املﺎﳼ وﻛﺎن اﻟﻀﺎﺑﻂ ﰲ ﺗﻠﻚ املﺪة ﻣ ً
ﻳﻠﻤﻊ ﺑﺄﺷﻌﺔ ﺑﺮاﻗﺔ ﻣﻊ ﺣﺮﻛﺔ ﻳﺪه ،ودق ﺟﺮس اﻟﺘﻠﻴﻔﻮن ﻓﺎﺳﺘﻨﺪ إﱃ ﻇﻬﺮ ﻛﺮﺳﻴﻪ ،واﺑﺘﺴﻢ
ﻣﺴﱰﺳﻼ ﻛﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ﺳﻮى ذﻟﻚ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﻓﻜﺎن ﻳُﺸري ﺑﻴﺪه
ً ﻄﺎوأﺧﺬ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻣﺘﺒﺴ ً
إﺷﺎرات رﺷﻴﻘﺔ ﻣﻌﱪة ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺆﺛﺮ ﰲ ﺳﺎﻣﻌﻪ ﻋﲆ اﻟﻄﺮف اﻵﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻚ ،وﻛﺎن
أﻧﻴﻘﺎ ﻟﻪ ﻧﻐﻤﺔ ﻇﺮﻳﻔﺔ ﺳ ﱠﻠﺖ ﻣﻦ ﻧﻔﴘ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺣﻨﻘﻲ ،وﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ أﺳﻠﻮﺑﻪ ﰲ اﻟﻀﺤﻚ ً
أن أﻟﺘﻔﺖ إﱃ ﻣﻮﺿﻮع ﺣﺪﻳﺜﻪ؛ ﻷﻧﻲ ُﺷﻐﻠﺖ ﻋﻦ ذﻟﻚ ﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺪور ﰲ رأﳼ ﻣﻦ اﻷﺣﺎدﻳﺚ
اﻟﺤﺎﻧﻘﺔ.
وملﺎ ﻓﺮغ ﻣﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻋﺘﺪل ﰲ ﻣﺠﻠﺴﻪ ،وﻧﻈﺮ إﱄ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﻴﻪ؟
ﻓﻠﻢ أدر ﺑﺄي ﳾء أﺟﻴﺒﻪ وﻻ ﻛﻴﻒ أﻋﱪ ﻟﻪ ﻋﻦ ﺳﺨﻄﻲ واﺣﺘﺠﺎﺟﻲ ،وﻣﺎ ذﻧﺒﻪ ﻫﻮ إذا
ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺸﻮارب اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﻗﺪ أﺳﺎء إﱄ ﱠ وﻇﻠﻤﻨﻲ؟ وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﻫﺎدﺋًﺎ :ﻟﺴﺖ أدري ﻳﺎ ﺳﻴﺪي
ﻫﻨﺖ ﻫﻨﺎ وأوذﻳﺖ واﻋﺘُﺪيَ ﻋﲆ ﺣﺮﻳﺘﻲ وﻟﻦ أﺗﻨﺎزل ﻋﻦ ﺣﻘﻲ. ﻣﺎذا أﻗﻮل ﻟﻚ ،وﻟﻜﻨﻲ أ ُ ُ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﺬا ﳾء آﺧﺮ .ﻋﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل اﻟﺤﺎج أﻣني ﻣُﺨﻄﺊ ،وﻟﻜﻨﻪ رﺟﻞ ﻓﻨﻘﺮ ﻋﲆ املﻜﺘﺐ ً
ﻃﻴﺐ ،وﻛﺎن ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺒﺪأ ﺑﻜﺘﺎﺑﺔ املﺤﴬ ﺑﻐري دﺧﻮل ﰲ ﻣﻨﺎﻗﺸﺎت ﻻ ﻓﺎﺋﺪة ﻣﻨﻬﺎ ،وﻻ
ﴐورة ﻟﻬﺎ ،ﻋﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل ﻻ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﺗﻜﺒري ﻫﺬه املﺴﺎﺋﻞ اﻟﺼﻐرية.
ﻓﺼﺤﺖ :أﻳﱠﺔ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺻﻐرية؟
ﻓﻘﺎل :ﻫﺬا ﻣﻮﺿﻮع آﺧﺮ ﻧﻌﻮد إﻟﻴﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ،ﻫﻞ أﻧﺖ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي زﻫري.
ُﻫﺸﺖ وﻛﺪت أﻋﻮد إﱃ ﻏﻀﺒﻲ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻗﻠﺖ ﰲ اﺳﺘﻨﻜﺎر :ﻧﻌﻢ أﻧﺎ ﺳﻴﺪ زﻫري. ُ ﻓﺪ
ﻓﻘﺎل :ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ أﺳﺌﻠﺔ ﺻﻐرية وإن ﻛﺎﻧﺖ ﺧﻄرية ،ﻧﻌﻢ ﻫﻲ أﺳﺌﻠﺔ ﺻﻐرية ﻳﺠﺐ أن
أوﻻ …ﺗﺴﺘﻮﰲ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ً
ﻄﺎوﻟﻜﻦ اﻟﺘﻠﻴﻔﻮن ﻗﻄﻊ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻣﺮة أﺧﺮى ،ﻓﺎﺳﺘﻨﺪ ﻋﲆ ﻛﺮﺳﻴﻪ ،وأﺧﺬ ﻳﺘﺤﺪث ﻣﺘﺒﺴ ً
وﺑﺪأت أُﺣﺪﱢث ﻧﻔﴘ ﰲ أﺛﻨﺎء ذﻟﻚ ﻋﻤﺎ أﺻﺎﺑﻨﻲ ﻣﻦ اﻟﺪﻓﻊ واﻟﺠﺮ ُ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﰲ املﺮة اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ،
وﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ ﻏﺎﺿﺒًﺎ ﻫﻞ ﻳﺮﻳﺪ ﻫﺬا اﻟﺸﺎب أن ﻳﱰك ﻛﻞ ﻫﺬا ُ وﻋﻦ اﻟﺠﺤﺮ اﻷﺳﻮد املﻈﻠﻢ،
ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﻬﻮﻟﺔ وﻳُﺴﻤﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ وﻗﻊ ﱄ »ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺻﻐرية«؟
وملﺎ ﻓﺮغ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ ﻏﻀﺐ ﻣﻜﺘﻮم :أﺣﺐ أن أﻋﺮف ﻣﻌﻨﻰ ﻛﻞ ﻫﺬا ،ﻟﻢ د ُ
ُﻋﻴﺖ
إﱃ ﻫﻨﺎ؟ وﻣﺎذا ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﻔﻌﻞ ﻟﺘﻘﺘﺺ ﱄ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺠﻨﺪي اﻟﻔﻆ؟ أﻧﺎ ﻓﺮد ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺐ ،أﻧﺎ
ﺷﺌﺖ ،ﻓﻬﻞ ﺗُﻬﺪَر ﻛﺮاﻣﺘﻲ ﻫﻜﺬا ،وأُﻟﻘﻰ ﰲ اﻟﺴﺠﻦ ﻣﺜﻞ ﻛﻞ ﻋﻘﻮر ﺛﻢ ﻳﻘﺎل ﱄ: َ اﻟﺸﻌﺐ إذا
»ﻫﺬه ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺻﻐرية؟«
107
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
أوﻻ ﻫﻞ ﺧﻄﺒﺖ ﰲ ﻣﺴﺠﺪ ﻓﻘﺎل اﻟﻀﺎﺑﻂ ﻣﺒﺘﺴﻤً ﺎ :ﺣﺼﻞ ﺧري ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي .ﻗﻞ ﱄ ً
اﻟﺘﻮﺑﺔ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻫﺸﺔ :وﻣﺎ ﻋﻼﻗﺔ ﻫﺬا ﺑﻤﻮﺿﻮﻋﻨﺎ؟
ﻓﻘﺎل ﰲ ﻫﺪوء :ﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﻮﺿﻮﻋﻨﺎ ،ﻫﻨﺎ ﺷﻜﻮى ﻻ ﻳُﻤﻜﻨﻨﻲ أن أﺳﻜﺖ ﻋﻨﻬﺎ ،ﻛﻨﺖ أﺗﻤﻨﻰ
أن ﺗﻤﺮ ﻫﺬه اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﺎت ﺑﺴﻼم ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا أﺻﻨﻊ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺸﻜﻮى؟
ﻓﺼﺤﺖ :أﻳﺔ ﺷﻜﻮى؟ ﻛﻨﺖ أﺣﺴﺐ أﻧﻲ دُﻋﻴﺖ ﻟﻜﻲ ﺗﺴﻤﻌﻮا اﻟﺸﻜﻮى اﻟﺘﻲ ﻋﻨﺪي ،ﻛﻨﺎ
ﺣﺴﺒﺖ أن ﰲ ﻫﺬا اﻟﺒﻠﺪ ﺣﻜﻮﻣﺔ ُ ﺑﺎﻷﻣﺲ ﺿﺤﺎﻳﺎ اﻋﺘﺪاء ﻓﻈﻴﻊ ﻣﻦ أﻧﺼﺎر املﺮﺷﺢ املﻨﺎﻓﺲ ﻟﻨﺎ،
ﺣﺴﺒﺖ أﻧﻲ ﻣﺪﻋ ﱞﻮ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ. ُ ﺗﻤﻨﻊ اﻻﻋﺘﺪاء وﺗﺤﻔﻆ ﻋﲆ اﻟﺸﻌﺐ ﺣﺮﻳﺘﻪ ،ﻫﺬا ﻣﺎ
ﻓﻘﺎل اﻟﻀﺎﺑﻂ ﻣﺤﺮ ًﻛﺎ ﻳﺪه ﰲ رﺷﺎﻗﺔ :ﻫﺬا ﻣﻮﺿﻮع آﺧﺮ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
وﻣ ﱠﺪ ﻳﺪه إﱃ دﻓﱰ وﺟﻌﻞ ﻳُﻘ ﱢﻠﺐ ﺻﻔﺤﺎﺗﻪ.
ﻣﺤﺎوﻻ أن أﻛﺘﻢ ﻏﻴﻈﻲ :وﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻨﻈﺮ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع اﻵﺧﺮ؟ ً ﻓﻘﻠﺖ
أوﻻ وﻫﻲ ﺗﻘﻮل أﻧﻚ ﻓﻘﺎل ﰲ ﻫﺪوء :ﻻ ﺑﺪ أن ﻛﻞ اﻷﻣﻮر ﺗﺄﺧﺬ ﻣﺠﺮاﻫﺎ ،ﻫﺬه اﻟﺸﻜﻮى ً
اﻋﺘﺪﻳﺖ ﻋﲆ اﻟﺬات املﻠﻜﻴﺔ.
ﻓﺼﺤﺖ ﻣﻦ املﻔﺎﺟﺄة :ﺧﱪ أﺳﻮد!
َ
وﻓﺮﻗﺖ ﺑني اﻟﻄﺒﻘﺎت. َ
وﺣﺮﺿﺖ ﻋﲆ ﻗﻠﺐ ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ، َ
وأﻫﻨﺖ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ، واﺳﺘﻤﺮ ً
ﻗﺎﺋﻼ:
ﻣﺘﻜﻠﻔﺎ اﻟﻬﺪوء :ﻣﺘﻰ ﻓﻌﻠﺖ ﻛﻞ ﻫﺬا؟ ً ﻓﻘﻠﺖ
ً
ﻳﺪق ﻋﻨﻴﻔﺎ ،وﻧﺴﻴﺖ املﻮﺿﻮع اﻵﺧﺮ. وأﺧﺬ ﻗﻠﺒﻲ ﱡ
وﻗﺎل اﻟﻀﺎﺑﻂ :ﻫﺬه أﻗﻮاﻟﻚ ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ ،وإذا ﺷﺌﺖ ﻓﺎﻗﺮأﻫﺎ.
وﻣﺪ ﻳﺪه إﱄ ﱠ ﺑﺎﻟﻮرﻗﺔ وأﺧﺬت أﻗﺮؤﻫﺎ وأﻧﺎ ﻻ أﺻﺪق ﻋﻴﻨﻲ .ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﺾ أﻗﻮاﱄ ﻫﻨﺎك
ﺣﻘﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻘﺘﻄﻔﺎت ﻣﻘﻄﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ وﻫﻨﺎك ،ووُﺿﻌَ ﺖ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻋﺒﺎرات ﻣﺘﱠﺼﻠﺔ، ٍّ
ﻓﻬﻲ أﺷﺒﻪ ﳾء ﺑﻤﻮاد اﻟﺪﻳﻨﺎﻣﻴﺖ املﺘﻔﺠﺮة إذا أُﺧﺬ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﲆ ﺣﺪة ﻛﺎن ﻣﺄﻣﻮن اﻟﺠﺎﻧﺐ،
وأﻣﺎ إذا ُر ﱢﻛﺐ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺎدة ﻣﺪﻣﺮة ،وﺑﻠﻌﺖ رﻳﻘﻲ ﻣﺮا ًرا وأﻧﺎ أﻗﺮأ واﻟﻀﺎﺑﻂ
ﻳﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﺻﺎﻣﺘًﺎ وﻫﻮ ﻳﻨﻘﺮ ﻋﲆ املﻜﺘﺐ ﺑﻘﻠﻤﻪ اﻟﺬﻫﺒﻲ ،ﻓﻠﻤﺎ ﻓﺮﻏﺖ ﻣﻦ اﻟﻘﺮاءة ﻧﻈﺮت إﻟﻴﻪ
ﻣﺒﻬﻮﺗًﺎ ،ﻓﻘﺎل ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :ﻫﻴﻪ؟
ُﺼ ﱢﻠ َ
ني﴾ ﺑﻐري ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺛﺒﺎت :ﻫﺬا ﺗﺸﻮﻳﻪ ﻣﻘﺼﻮد .ﻫﺬا ﻣﻦ ﻧﻮع ﻗﺮاءةَ :
﴿ﻓ َﻮﻳْ ٌﻞ ِﻟ ْﻠﻤ َ
ﺗَﻜﻤﻠﺔ اﻵﻳﺔ.
ﻓﻀﺤﻚ ﻣﴪو ًرا ﻣﻦ اﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ،وﻗﺎل :وﻟﻜﻨﱠﻬﺎ ﻣﻦ أﻗﻮاﻟﻚ أﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻧﻌﻢ ﻣﻦ أﻟﻔﺎﻇﻲ وﻟﻜﻨﱠﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ أﻗﻮاﱄ.
108
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ
109
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻧﺴﻴﺖ ﻧﻔﴘ وأﻧﺎ ﻣﻨﺪﻓﻊ ﰲ أﻗﻮاﱄ ﻓﻠﻢ أﺗﻨﺒﻪ إﱃ أن اﻟﺘﻠﻴﻔﻮن دق ﻣﺮة أﺧﺮى ،وﺑﺪأ ُ
وﺳﻜﺖ ﺣﺘﻰ ﻓﺮغ ﻣﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ ُ
وﺧﻴﱢﻞ إﱄ أﻧﻪ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻣﻊ ﱡ اﻟﻀﺎﺑﻂ ﻳﺘﺤﺪث ﺑﻄﺮﻳﻘﺘﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ،
ﻗﺎﺋﻼ :ﺣﺎﴐ ﻳﺎ ﻓﻨﺪم! ً
ﺣﺎﻻ ﻳﺎ ﻓﻨﺪم! ﺷﺨﺺ ﻛﺒري؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺠﻴﺐ ً
ﻗﺎﺋﻼ :اذﻫﺐ أﻧﺖ اﻵن وﺳﻨﺪﻋﻮكوﻋﺠﺒﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺿﻊ اﻟﺴﻤﺎﻋﺔ ،وﻧﻈﺮ إﱃ ﻣﺼﻄﻔﻰ ً
إذا اﺣﺘﺠﻨﺎ إﻟﻴﻚ.
ودُﻫﺸﺖ ﻟﻬﺬا اﻻﻧﻘﻼب اﻟﻔﺠﺎﺋﻲ ،وﻛﺪت أﻗﻮل ﻟﻪ» :أرﻳﺪ إذن أن أﻋﺮف ﻣﺎذا ﺗﻨﻮي أن
ﺗﻔﻌﻞ ﻣﻊ ﺻﺎﺣﺐ اﻷﴍﻃﺔ اﻟﺤﻤﺮاء ،وﻣﻊ اﻟﺬﻳﻦ أﻓﺴﺪوا ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺣﻔﻠﺘﻨﺎ اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﻴﺔ «.وﻟﻜﻨﻲ
ﺗﻌﺬﺑﺖ ﻓﻴﻪ ﻣﻨﺬ اﻟﺼﺒﺎح ،وﻛﺎن أﺣﺐ ﳾء ﻋﻨﺪيُ ً
ﻛﺎرﻫﺎ ﻟﻠﺒﻘﺎء ﰲ ذﻟﻚ املﻜﺎن اﻟﺬي ﻛﻨﺖ ﻣﺘﻌﺒًﺎ
أن أﻋﻮد إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ﻷﺳﱰﻳﺢ ﻣﻦ أﺛﺮ ﻣﺎ ﻋﺎﻧﻴﺖ ﻣﻦ اﻵﻻم واﻟﻬﺰات اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻣﻊ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ
اﻟﻀﻌﻒ ﻣﻦ آﺛﺎر املﺮض.
أﻳﻀﺎ إذا ﺷﺌﺖ ،وﺳﺄدﻋﻮك إذا ﻗﻀﺖ اﻟﴬورة«. وﻗﺎل ﱄ اﻟﻀﺎﺑﻂ» :ﺗﻔﻀﻞ اﻵن ً
ُ
ﻓﻘﻤﺖ ﻓﺎﺗ ًﺮا وﻗﺎم اﻟﻀﺎﺑﻂ ﻟﻴُﺤﻴﻴﻨﻲ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ ،وﺷﻜﺮﺗﻪ ﺑﻜﻠﻤﺘني ﻣﺒﻬﻤﺘني ،وﴎت ﺧﺎرﺟً ﺎ
أﺳﺄل ﻧﻔﴘ ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ ﻛﻞ ﻫﺬا ،اﻟﺠﺤﺮ املﻈﻠﻢ واﻟﺬات املﻠﻜﻴﺔ واﻟﻄﺒﻘﺎت وﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة،
ﺛﻢ ﻫﺬا اﻻﻧﻘﻼب اﻟﴪﻳﻊ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ إﱃ اﻟﺘﺤﻴﺔ اﻟﺒﺎﺳﻤﺔ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ُ
ﻛﻨﺖ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ إﻋﻴﺎء ،وﻛﻨﺖ
أﴎة أرﻳﺪ أن أﺳﺘﻠﻘﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ.
ﺗﻠﻮح أﻣﺎم ﻋﻴﻨﻲ ﰲ ﻛﻞ ﺧﻄﻮة أﺧﻄﻮﻫﺎ ﻣﻨﺎﻇﺮ ﱠ
وﻓﺘﺤﺖ ﺑﺎب اﻟﺒﻴﺖ ودﺧﻠﺖ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ﻣ ً
ُﺘﺴﻠﻼ؛ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺮاﻧﻲ أﺣﺪ ،واﺳﺘﻠﻘﻴﺖ
ﻋﲆ اﻟﴪﻳﺮ ﺑﻤﻼﺑﴘ.
110
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻌﺎﴍ
ﻛﻨﺖ أﺣﺴﺐ أن اﻟﻨﻮم ﻳﺴﻌﻔﻨﻲ ﻟﺸﺪة ﺗﻌﺒﻲ ،وﻟﻜﻨﻲ أﺣﺴﺴﺖ ﺑﺄن ﻛﻞ ﻋﺼﺐ ﰲ ﺟﺴﻤﻲ
ﱡ
ﻳﺮف ،وأن ﻫﻤﻮم اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺘﺠﻤﻊ ﰲ أﻋﻤﺎق ﻣﺸﺪود إﱃ ﻣﺪاه ،وأن ﻛﻞ ﻋِ ﺮق ﰲ ﺑﺪﻧﻲ
ﺻﺪري ،ﻓﻮﺿﻌﺖ ﻳﺪي ﺗﺤﺖ رأﳼ وﻧﻈﺮت إﱃ ﺳﻘﻒ اﻟﻐﺮﻓﺔ ،وأﺧﺬت أﻋﺪ ﻋﺮوق اﻟﺨﺸﺐ
ﻣﺮة ﺑﻌﺪ ﻣﺮة ﻟﻌﲇ أﻏﻔﻞ وأﻏﻤﺾ ﻋﻴﻨﻲ ،وﻫﻲ ﺣﻴﻠﺔ ﻛﻨﺖ أﻟﺠﺎ إﻟﻴﻬﺎ ﻷﺻﻄﺎد اﻟﻨﻮم إذا ﴍَد
أﻋﺪت اﻟﻌﺪ ﺣﺘﻰ ﻣﻠﻠﺖ ،ورأﳼ ﻣﺎ ﻳﺰال ﻣﺸﺪودًا ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻨﻔﺠﺮ ،وﺟﻌﻠﺖ ُ ﻋﻨﻲ ،وﻟﻜﻨﻲ
أدﻗﻖ ﰲ اﻟﻌﺮوق اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺴﻤﺮاء ،وﻛﺎﻧﺖ ﻛﺜرية اﻟﻌُ َﻘﺪ ،وﺟﻠﺖ ﺑﻨﻈﺮي ﰲ اﻷﻟﻮاح اﻟﻐﱪاء اﻟﻠﻮنﱢ
اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﻬﺎ ،وﻗﺪ زاﻟﺖ ﻋﻨﻬﺎ ﻗﻄﻊ واﺳﻌﺔ ﻣﻦ دﻫﺎﻧﻬﺎ اﻟﺠريي اﻟﻘﺪﻳﻢ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﺾ أﻧﺴﺠﺔ
اﻟﻌﻨﻜﺒﻮت ﺗﻠﺘﺼﻖ ﰲ ﺣﻨﺎﻳﺎﻫﺎ وزواﻳﺎﻫﺎ ،واﻟﻌﻨﺎﻛﺐ اﻟﺴﻮداء ﰲ داﺧﻠﻬﺎ ﺗﱰﺑﺺ ﺑﻔﺮاﺋﺴﻬﺎ
وﺗُﺪاﻋﺐ ﺧﻴﻮﻃﻬﺎ ﺑﺄرﺟﻠﻬﺎ اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ راﺿﻴﺔ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،ورأﻳﺖ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻨﻜﺒﻮﺗًﺎ ﺿﺨﻤﺔ ﺗﺘﺤﻔﺰ
ﻟﺬﺑﺎﺑﺔ ﺣﻤﻘﺎء ﺗﻘﱰب ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻬﺎ ،ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ» :ﻫﺬا ﻫﻮ!« وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﻨﻜﺒﻮت
ﺷﻜﻜﺖ ﰲ أن ﷲ ﻗﺪ ﻣﺴﺦ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﺠﻨﺪي اﻟﻔﻆ ﺻﺎﺣﺐ اﻷﴍﻃﺔ اﻟﺤﻤﺮاء، ُ ﺷﺎرة ﺣﻤﺮاء ملﺎ
ً
ﺑﺮﺻﺎ ﻛﺒريًا ﻟﻪ ﻟﻮن أﺣﻤﺮ ﻗﺎﺗﻢ ،وﻛﺎن واﻗﻔﺎ ﰲ رﻛﻦ اﻟﺴﻘﻒ ،ﻓﺘﻌﺠﺒﺖ ﻛﻴﻒ ﻻ ﻳﻬﻮي ورأﻳﺖ ً
إﱃ اﻷرض وﻫﻮ ﻳﻤﴚ ﻣﻘﻠﻮﺑًﺎ ﺑﺮﺟﻠﻴﻪ إﱃ أﻋﲆ ،وﻛﺎن ﻏﻠﻴﻆ اﻟﺠﺴﻢ ﻛﺒري اﻟﺮأس ،وﻛﺎن وﺟﻬﻪ
ﻄﺎ ﺑﺂﺛﺎر ﺗﺸﺒﻪ آﺛﺎر اﻟﺠﺪري ﻛﺄﻧﻪ وﺟﻪ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ،ﻫﺬه اﻟﺤﴩات اﻟﻘﺬرة اﻟﺘﻲ ﻣﻨﻘ ً
ﺗﱰﺑﱠﺺ ﺑﻔﺮاﺋﺴﻬﺎ وﺗﻠﺘﺼﻖ ﺑﺄﻗﺪاﻣﻬﺎ إﱃ اﻟﺴﻘﻒ وﺗُﺪﱄ رءوﺳﻬﺎ إﱃ أﺳﻔﻞ!
وﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺛﻘﺐ ﰲ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻠﻮح ﻳَﺼﻠُﺢ أن ﻳﺨﺘﻔﻲ ﻓﻴﻪ اﻟﱪص وﻳﺘﺪارى ﻋﻦ ﻋﻴﻨﻲ،
وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻞ ،ﺣﺘﻰ اﻷﺑﺮاص ﻻ ﺗﺤﺐﱡ اﻟﺠﺤﻮر املﻈﻠﻤﺔ ،وأﻣﺎ أﻧﺎ ﻓﺈﻧﻲ أُﺳﺠَ ﻦ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻐﺮﻓﺔ
اﻟﺨﺎﻧﻘﺔ وﻳﻐﻠﻖ ﻋﲇ اﻟﺒﺎب ،وﻣﺎ ﺗﺰال ﻗﺒﻀﺔ ﻳﺪي ﺗﺆملﻨﻲ ﻣﻦ أﺛﺮ اﻟﺨﺒﻂ وﻣﺎ ﺗﺰال أﻧﻔﺎﳼ
ﺗﻀﻄﺮب ﻣﻦ أﺛﺮ اﻟﻐﻴﻆ.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وأرﻫﻔﺖ ﺳﻤﻌﻲ إﱃ ُ وﻧﻈﺮت إﱃ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﰲ ﻳﺪي ،ﻓﻮﺟﺪﺗُﻬﺎ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ،
ُ
ﻋﻤﻴﻘﺎ ﰲ ﻳﻮم اﻟﺠﻤﻌﺔ وأﻣﻲ ً ﺣﺴﺎ ،وﻛﺎن ﻋﺠﻴﺒًﺎ أن ﻳﻜﻮن اﻟﻬﺪوءﺣﺮﻛﺔ اﻟﺒﻴﺖ ﻓﻠﻢ أﺳﻤﻊ ٍّ
وأﺧﺘﻲ ﺑﺎملﻨﺰل ،وﺷﻌﺮت ﺑﴚء ﻣﻦ اﻟﺨﻴﺒﺔ؛ ﻷﻧﻲ ﺑﻘﻴﺖ ﰲ اﻟﻐﺮﻓﺔ وﺣﺪي ،وﻟﻢ ﻳﺴﺄل أﺣﺪ
ﻋﻨﻲ.
وﻋﺪت أﻧﻈﺮ إﱃ اﻟﺴﻘﻒ ،وﻏﺎﻇﻨﻲ ﻣﻨﻈﺮ اﻟﱪص واﻟﻌﻨﻜﺒﻮت ﻓﺄﻏﻠﻘﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﺣﺘﻰ أﺗﺠﻨﺐ
اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﻤﺎ.
وﻟﻢ أدر ﻛﻢ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﺪأت أﻏﻔﻮ؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﺗﻨﺒﻪ ﻣﻦ ﻧﻮﻣﻲ إﻻ ﺑﻌﺪ املﺴﺎء،
وﻛﺎﻧﺖ أﻣﻲ ﺟﺎﻟﺴﺔ ﰲ ﺳﻜﻮن إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﴎﻳﺮي ﺗﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮي ،واﻟﺪﻣﻮع ﺗﺴﻴﻞ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ
اﻟﺤﻤﺮاوﻳﻦ ،ﻓﻠﻤﺎ ﻓﺘﺤﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻗﺎﻣﺖ إﱄ ﱠ وأﻫﻮت ﻋﲆ ﺟﺒﻴﻨﻲ ﺗﻘﺒﻠﻨﻲ وﻫﻲ ﺗﺒﻜﻲ ﺑﻜﺎء ﻣ ٍّﺮا.
وﻗﺎﻟﺖ ﰲ ﺑﻜﺎﺋﻬﺎ :ﻟ َﻢ ﺗُﻌ ﱢﺮض ﻧﻔﺴﻚ ﻟﻸذى ﻳﺎ وﻟﺪي؟
وﺟﻠﺴﺖ ﻋﲆ اﻟﻜﺮﳼ ﺗﻤﺴﺢ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ،وﻗﺎﻟﺖ :ﻟﻢ ﻧﻌﺮف ﻣﺎ ﺣﺪث إﻻ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻮرﻗﺔ اﻟﺘﻲ
ﺗﺮﻛﺘﻬﺎ ﻋﲆ املﻨﻀﺪة ،ﻟﻢ ﺗَ ُﻘﻞ ﱄ ﻛﻠﻤﺔ وأﻧﺖ ﺧﺎرج وﺗﺮﻛﺘﻨﺎ ﻫﻜﺬا ﻻ ﻧﻌﺮف أﻳﻦ أﻧﺖ … وملﺎ
ﻗﺮأت ﻣﻨرية اﻟﻮرﻗﺔ اﺻﻔﺮ وﺟﻬﻬﺎ ﻛﺄﻧﻪ ﻟﻴﻤﻮﻧﺔ ،ﻓﻌﺮﻓﺖ أن ﰲ اﻟﻮرﻗﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺰﻋﺠً ﺎ … إﻧﻬﺎ
داﻫﻴﺔ ﻛﺒرية ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ،وﺣﻤﺎك ﷲ ﻣﻦ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ وﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺆذﻳﻚ ،وأﻣﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ
ﻓﺎهلل ﻳﺒﺎرك ﻓﻴﻪ … ﻫﺬه دﻋﻮة ﺧﺎﻟﺼﺔ ﻣﻦ ﻗﻠﺒﻲ … ﷲ ﻳﺤﻤﻴﻪ ﻷﻣﻪ املﺴﻜﻴﻨﺔ … ﻟﻢ أر أﻣﻪ
ﻣﻨﺬ ﺳﻨني ،وملﺎ رأﻳﺘﻬﺎ وﺟﺪت ﻛﺄﻧﻲ ﻟﻢ أﻧﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻨﺬ ﻣﺎﺋﺔ ﺳﻨﺔ … وﻃﻠﺒﺖ ﻣﻨﻬﺎ أن ﺗﺮﺟﻮ
ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ أﻓﻨﺪي ﻟﻴﺬﻫﺐ ﻣﻌﻲ إﱃ أﺣﺪ املﺤﺎﻣني وإﱃ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ﻟﻨﻌﺮف اﻟﺴﺒﺐ ﰲ
دﻋﻮﺗﻚ إﱃ ﻫﻨﺎك … وﰲ دﻗﻴﻘﺔ واﺣﺪة ﻛﺎن ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ أﻣﺎﻣﻲ ،وأراد أن ﻳﺨﺮج وﺣﺪه ﻟﻴﻌﻤﻞ
ﻛﻞ ﳾء وﻫﻮ ﻻ ﻳَﻌﻠﻢ أن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺸﺘﻌﻞ … ﻫﻜﺬا اﻟﺸﺒﺎب داﺋﻤً ﺎ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن ﻗﻠﻮب اﻷﻣﻬﺎت،
وﻟﻜﻨﻲ ﻗﻤﺖ ﻣﻌﻪ ﻷراك وﻟﻮ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ … ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ؟ إﻧﻬﺎ داﻫﻴﺔ ﻛﺒرية ،ورﻛﺒﻨﺎ ﻋﺮﺑﺔ
وﻟﻢ أﻋﺮف ﻣﺎذا ﻗﺎل ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ أﻓﻨﺪي ﻟﻠﺴﺎﺋﻖ ،ﺣﺘﻰ ﻧﺰﻟﻨﺎ أﻣﺎم ﺑﻴﺖ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل …
ﻓﻮﺛﺒﺖ ﻣﻦ ﴎﻳﺮي وﻗﻠﺖ ﰲ ﺻﻴﺤﺔ ﻣﺒﺤﻮﺣﺔ :اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ أﻣﻲ :ﷲ ﻳﺴﱰه اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ وﻳﺤﻤﻴﻪ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ،وﷲ ﻟﻮﻻ ﻫﻮ ملﺎ أﻣﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻌﻤﻞ
ﺷﻴﺌًﺎ … وﻣَ ﻦ ﻛﺎن ﻳﻘﺪر أن ﻳُﻜ ﱢﻠﻢ اﻟﺤُ ﱠﻜﺎم ﻛﻤﺎ ﻛ ﱠﻠﻤﻬﻢ؟ … وﻣﻦ ﻛﺎن ﻳﻘﺪر أن ﻳﺠﻌﻞ املﺪﻳﺮ
ﻳﺄﻣﺮ اﻟﻀﺎﺑﻂ …
ﻓﻘﺎﻃﻌﺘﻬﺎ ﰲ ﺿﻴﻖ :ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﺠﺮة املﻈﻠﻤﺔ أﻫﻮن ﻋﲇ ﱠ ﻣﻦ ﻫﺬا.
ﻓﺼﺎﺣﺖ وﻫﻲ ﺗﺨﺒﻂ ﺻﺪرﻫﺎ :اﻟﺤﺠﺮة املﻈﻠﻤﺔ؟ ﻳﺎ ﻟﻠﻤﺼﻴﺒﺔ! ﻗﻠﺒﻲ أﺣﺲ ﺑﻬﺬا ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﻋﺮﻓﺖ أﻧﻚ ﰲ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ،ﺣﻴﺚ ﻳﺬﻫﺐ اﻟﻠﺼﻮص وﻗﻄﺎع اﻟﻄﺮﻳﻖ واﻟﻔﻼﺣﻮن ا ُملﺠﺮﻣﻮن
… ﷲ ﻳﺒﺎرك ﻓﻴﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻳﺎ ﺟﻼل.
112
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻌﺎﴍ
ﻓﻌﺪت ﻣﺴﺘﻠﻘﻴًﺎ ﻋﲆ ﻇﻬﺮي ،ووﺿﻌﺖ ﻳﺪي ﺗﺤﺖ رأﳼ ،وﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ أن أﺳﺘﻐﺮق ﰲ ُ
اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻟﻌﻨﻜﺒﻮت؛ ﻷﴏف ﻧﻔﴘ ﻋﻦ ﺳﻤﺎع أﻗﻮال أﻣﻲ ،ووﺿﻌﺖ أﻣﻲ ﻳﺪﻫﺎ ﻋﲆ رأﳼ
وأﺧﺬت ﺗﺮﻗﻴﻨﻲ ،ودﺧﻠﺖ ﻣﻨرية ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ ﻣﺮح :اﻟﺤﻤﺪ هلل ﻋﲆ اﻟﺴﻼﻣﺔ ،ﻛﻔﺎرة
ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﺑﻚ!
ﻓﻠﻢ أر ﱠد ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وﻓﺮﻏﺖ أﻣﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺮاءة ﻓﺎﻟﺘﻔﺘَﺖ إﱃ ﻣﻨرية ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻻ ﺗﻨﴘ أن ﺗﺰوري
ﻣﻨﻲ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﺘﻲ ،ﺣﻤﺎﻫﺎ ﷲ وﺣﻤﻰ اﻟﺸﺒﺎب ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺤﻴﻲ أﺧﺘﻚ ﻛﺄﻧﻬﺎ أﺧﺘﻬﺎ وﺟﻠﺴﺖ
ﻃﻮل اﻟﻮﻗﺖ ﺟﻨﺒﻲ وﻣﺎﻟﺖ ﻋﲆ ﻳﺪي وﻫﻲ ﺗﺴﻠﻢ ﻋﲇ ﱠ ﻋﻨﺪ اﻧﴫاﰲ.
ﻋﺮوﺳﺎ ﻣﺜﻠﻬﺎ ،ﻛﺎﻧﺖ أﻣﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﺮﺣﺔ ﻣﺜﻞ ﺷﺎﺑﺔً ﻳﺎ رب ﻳﺎ اﺑﻨﻲ أﻋﻴﺶ ﺣﺘﻰ أرى ﻟﻚ
ﺑﻨﺖ ﻋﴩﻳﻦ ﺳﻨﺔ ،اﻟﻌﻘﺒﻰ ﻟﻚ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ،ﻛﺎن اﻟﺒﺎﺷﺎ ﻫﻨﺎك ﻟﻴﻘﺪم اﻟﺸﺒﻜﺔ.
وأﺣﺴﺴﺖ ﺑﺮأﳼ ﻳﺪور ﻻﻧﺘﻘﺎل أﻣﻲ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻮع إﱃ آﺧﺮ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻣﺎ ﻛﺪت ُ
أﺳﻤﻊ ذﻛﺮﻫﺎ ملﻨﻰ ﺣﺘﻰ ﺗﺤﻮﻟﺖ ﻛﻞ أﻋﺼﺎﺑﻲ املﺸﺪودة إﱃ آذان ،ﻋﺮوس ﻣﺜﻠﻬﺎ؟ واﻟﻌﻘﺒﻰ ﻟﻚ
ً
ﺻﺎدﻗﺎ؟ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ؟ واﻟﺒﺎﺷﺎ ﻳﻘﺪم اﻟﺸﺒﻜﺔ؟ ﻓﻬﻞ ﻛﺎن ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة
وﻗﻠﺖ ﰲ ﺻﻮت ﺧﺎﻓﺖ :ﺷﺒﻜﺔ ﻣَ ﻦ؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ أﻣﻲ :ﺷﺒﻜﺔ ﻣﻨﻰ ،وﻋﺮﻳﺴﻬﺎ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ ،ﷲ ﻳﺤﻤﻲ اﻟﺸﺒﺎب ﻳﺎ اﺑﻨﻲ.
ﻓﻄﻨﱠﺖ أذﻧﺎي وﺣﺎوﻟﺖ أن أﴏف اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺴﻘﻒ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أر أﻣﺎﻣﻲ ﺷﻴﺌًﺎ ،ودوت
ﰲ رأﳼ رﺣﻰ ﺗﻘﻮل ﻛﻠﻤﺔ واﺣﺪة» :ﺷﺒﻜﺔ ﻣﻨﻰ!«
وﻟﻮﻻ وﺟﻮد أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻲ ﻷدرت وﺟﻬﻲ إﱃ املﺨﺪة وﺑﻜﻴﺖ ﺣﺘﻰ أﺧﻔﻒ
اﻟﻀﻐﻂ اﻟﺬي ﻣﻸ ﻗﻠﺒﻲ.
ﻣﺘﻜﻠﻔﺎ اﻟﻬﺪوء :أﺣﺐ أن أﺳﱰﻳﺢ ً
ﻗﻠﻴﻼ. ً وﻗﻠﺖ ﻷﻣﻲ
ووﻟﻴﺘﻬﺎ ﻇﻬﺮي ﻛﺄﻧﻲ أرﻳﺪ أن أﻧﺎم.
وملﺎ أﻏﻠﻖ اﻟﺒﺎب ﻣﻦ وراء أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ وﺟﺪت ﻧﻔﴘ أﻧﻔﺠﺮ ﺑﺎﻛﻴًﺎ ﻛﺄﻧﻲ ﻃﻔﻞ ﺑﺎﺋﺲ،
وﻣﺮت ﻋﲇ ﱠ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﻗﺒﻞ أن أﺳﻤﻊ ﺻﻮت أﻣﻲ ﻣﻦ ﺧﺎرج اﻟﺒﺎب ﺗﻨﺎدﻳﻨﻲ :أﻧﺖ ﺻﺎح
ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻓﺘﻮر :ﻣﻦ؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ :ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ أﻓﻨﺪي ﻫﻨﺎ.
ﻓﻘﻠﺖ :ﺳﺄﺣﴬ ً
ﺣﺎﻻ.
أوﻻ ،وﺗﻌﻤﱠ ﺪت أن أﺑﺪل ﻗﻤﻴﴢ ،وأﻣﺸﻂ ﺷﻌﺮي ﺣﺘﻰ وﻗﻤﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ ﻷﻏﺴﻞ وﺟﻬﻲ ً
ﻄﺎ وذﻫﺒﺖ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ اﻟﺠﻠﻮس ،ﻓﺄﺧﺬﻧﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﺑني ذراﻋَ ﻴﻪ وﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﻔﻴﺾ أﺑﺪو ﻧﺸﻴ ً
ﺑﺸﻜﺮه ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻗﻞ ﻟﻪ ﺳﻮى ﻛﻠﻤﺔ ﻋﺘﺎب :أﻫﻜﺬا ﺗُﺤﻤﱢ ﻠﻨﻲ ﺟﻤﻴﻞ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل؟
113
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ُ
أدرﻛﺖ ﻣﻦ أول اﻷﻣﺮ أﻧﻪ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻓﻘﺎل ﰲ ﺟﺪ :ﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﻣﺎﻣﻲ إﻻ أن أﻟﺠﺄ إﻟﻴﻪ ﻫﻮ،
ﺣ ﱠﺮك ﻋﻠﻴﻚ اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ،وأﻧﻪ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳَﻘﺪر ﻋﲆ ﴏف اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ﻋﻨﻚ.
وﺷﻌﺮت ﺑﻜﻠﻤﺘﻪ ﺗَﻠﺬﻋﻨﻲ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أ ُ ِﺟﺐ ﺑﻞ أﺧﺬت أﻗﻮل ﰲ ﻧﻔﴘ ﺳﺎﺧ ًﺮا» :أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ!«
وأﺧﺮج ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻣﻦ ﺟﻴﺒﻪ ﺑﻌﺾ أوراق ،ﺛﻢ ﻣ ﱠﺪ إﱄ ﱠ ﻳﺪه ﺑﻈﺮف أﻧﻴﻖ ﻗﺮأت ﻋﻠﻴﻪ اﺳﻢ
»ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار« ،ﻓﺄﺧﺬﺗﻪ ﻣﻨﻪ ﰲ ﻓﺘﻮر ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎ ﻫﺬا؟
ﻓﻘﺎل :ﻫﺬا ﺧﻄﺎب ﺟﺎء إﱄ ﱠ اﻵن ﻣﻦ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ،ﻓﺎﻗﺮأه وﻗﻞ ﱄ رأﻳﻚ.
وأﺧﺬت أﻗﺮأ اﻟﺨﻄﺎب وﻋﻴﻨﺎي ﺗﻘﻔﺰان ﻓﻮق اﻷﺳﻄﺮ ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﺖ آﺧﺮه ووﺟﺪﺗﻪ ﻳﺴﺘﺤﻖ
أن ﻳﻘﺮأ ﰲ ﻋﻨﺎﻳﺔ ،ﻓﺄﻋﺪت ﻗﺮاءﺗﻪ ﻣﺮة أﺧﺮى وﻻ ﺷﻚ أن وﺟﻬﻲ ﻛﺎن ﻳﻨﻄﻖ ﺑﻤﺎ ﰲ ﻧﻔﴘ
ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ،ﻣُﺤ ﱢﺮر ﰲ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار؟ وﻋﴩون ﺟﻨﻴﻬً ﺎ ﰲ اﻟﺸﻬﺮ دﻓﻌﺔ واﺣﺪة ﺳﻮى أﺟﺮ
اﻟﻘﺼﺺ اﻟﺘﻲ أﻛﺘﺒﻬﺎ؟ ﺧﻤﺴﺔ ﺟﻨﻴﻬﺎت ﻟﻠﻘﺼﺔ اﻟﻮاﺣﺪة؟
وأﻋﺪت اﻟﺨﻄﺎب إﱃ ﺻﺎﺣﺒﻲ وأﻧﺎ ﺻﺎﻣﺖ وذﻫﻨﻲ ﻣُﺸﺘﻌﻞ ،وﻣﺎذا ﺑﻘﻲ ﱄ ﰲ دﻣﻨﻬﻮر؟
ﺣﴬ ﺣﻔﻠﺔ ﺧﻄﺒﺔ ﻣﻨﻰ؟ ﻳﺎ ﻟﻠﺴﺨﺮﻳﺔ! وﻟﻜﻨﻲ ﺗﺬﻛﺮت املﻌﺮﻛﺔ اﻟﺘﻲ دﺧﻠﺖ ﻣﻦ أأﺑﻘﻰ ﻫﻨﺎك ﻷ َ ُ
أﺟﻠﻬﺎ اﻟﺤﺠﺮة اﻟﺴﻮداء ،وﻗﻠﺖ ﻟﺼﺎﺣﺒﻲ ﰲ دﻓﻌﻪ :ﻟﻦ أﺳﺘﺴﻠﻢ ﻫﻜﺬا.
ُ
ﻟﺴﺖ أﻓﻬﻢ. ﻓﻘﺎل:
ﻨﺘﻬﻲ املﻌﺮﻛﺔ. َ
ﻓﻘﻠﺖ :ﺳﺄﺑﻘﻰ ﻫﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺗ َ
ﻓﻘﺎل :ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا اﻟﺠﻤﻴﻞ اﻟﺬي ﻗﺪﱠﻣﻪ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل؟
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻋﻨﺎد :ﺑﻞ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻫﺬا اﻟﺠﻤﻴﻞ.
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺗﻬﻜﻢ :وﻟﻜﻦ املﻌﺮﻛﺔ ﻛﺎدت ﺗَﻨﺘﻬﻲ أو ﻗﺪ اﻧﺘﻬﺖ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻣﺘﺤﺪﻳًﺎ :إﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺒﺪأ ﺑﻌﺪ ،ﺳﻴﻌﺮف اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل أﻧﻲ ﻻ أرﻫﺒﻪ ،ﺳﻴﻌﺮف
َﺴﺤﻘﻨﻲ وأن ﻳُﺤﻄﻤﻨﻲ ،وأﻇﻨﻪأﻧﻪ ﻻ ﻳﻘﺪر ﻋﲆ ﺗﺤﻄﻴﻤﻲ ،ﻟﻘﺪ ﻗﺎل ﱄ ﻣﺮة إﻧﻪ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳ َ
ﻳﺤﺴﺐ اﻵن أﻧﻪ ﺟﻌﻠﻨﻲ أﻋﺮف ﻣﻘﺪرﺗﻪ ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻟﻦ أﺗﺮك دﻣﻨﻬﻮر ﺣﺘﻰ ﻳﻌﺮف أﻧﻪ ﻻ
ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺤﻄﻤﻨﻲ.
ﻓﻘﺎل ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﰲ ﻫﺪوء :إذا ﺷﺌﺖ أن ﺗُﺤﺎرب وﺣﺪك ﻓﺎﻓﻌﻞ .اﺟﻌﻠﻬﺎ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻣﻦ
ﺟﺎﻧﺐ واﺣﺪ ﻣﺜﻞ دون ﻛﻴﺸﻮت إذا ﺷﺌﺖ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻏﻴﻆ :ﻟﻦ أﺗﺮك املﻌﺮﻛﺔ.
ﻓﻘﺎل :ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ أن ﺗَﻨﺎزل اﻟﻌﺠﻤﻲ؟
ُ
ﻓﺼﺤﺖ :ﻣُﺴﺘﺤﻴﻞ!
ﻓﻘﺎل :ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻟﻘﺪ ﺗﻨﺎزل اﻟﻌﺠﻤﻲ ﻋﻦ ﺗﺮﺷﻴﺤﻪ.
114
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻌﺎﴍ
115
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻛﺬﻟﻚ وأﺳﺘﻤﺮ ﻋﲆ ﺟﻬﺎدي ﰲ ﻣﺪرﺳﺘﻲ ،ﻻ أﻣ َﻞ ﻟﻨﺎ ﰲ ﳾء إﻻ أن ﻧُﻌ ﱢﻠﻢ وﻧُﻌ ﱢﻠﻢ وﻧُﻌ ﱢﻠﻢ ﺣﺘﻰ
ﺗﺬﻫﺐ ﻫﺬه اﻷﺟﻴﺎل املﻠﻮﱠﺛﺔ ،ﺛﻢ ﻳﺨﺮج ﺟﻴﻞ ﺟﺪﻳﺪ ،أﻧﺎ أُﻋ ﱢﻠﻢ ﰲ املﺪرﺳﺔ وأﻧﺖ ﺗُﻌ ﱢﻠﻢ ﺑﻘﻠﻤﻚ ﰲ
اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺸﺄ ﺟﻴﻞ ﺟﺪﻳﺪ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻔﻬﻢ اﻟﺤﺮﻳﺔ واﻷﻣﺎﻧﺔ واﻟﺼﺪق.
ﻟﺴﺖ أﻗﺼﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻤﺎ ﺗﻘﻮل ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ،ﻫﺬا ُ ﻓﺼﺤﺖ ﻣﻨﺪﻓﻌً ﺎ :ﻫﺬا ﻋني اﻟﺨﻄﺄ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي،
ﺧﻄﺄ ﻳﻘﻊ ﻓﻴﻪ ﻛﻞ اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﻔﻜﺮون ﺑﻌﻘﻮﻟﻬﻢ وﺣﺪﻫﺎ .ﻣﺎذا ﻳﻌﻨﻴﻨﻲ ﻣﻦ ﻗﻠﻤﻲ وﻣﻦ ﻣﺪرﺳﺘﻚ؟
إذا ﻛﺎن ﻻ ﺑﺪ ﻟﻨﺎ أن ﻧﻨﺘﻈﺮ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺸﺄ ﺟﻴﻞ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻬﻢ اﻟﺤﺮﻳﺔ واﻷﻣﺎﻧﺔ واﻟﺼﺪق ﻓﻠﻨﻨﺘﻈﺮ
ً
ﻃﻮﻳﻼ .ﻻ أﻓﻬﻢ ﻫﺬا أﺑﺪًا.
ﻓﻘﺎل :وﻣﺎذا ﺗﻔﻬﻢ إذن؟
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻏﻞ :ﻻ أﻓﻬﻢ ﺳﻮى ﻣﺎ ﻳَﻔﻬﻤﻪ ﻛﻞ ﺣﻲ ،أﻓﻬﻢ أن أذﻫﺐ ﻷﺟﺎﻫﺪ ،وأﺟﻤﻊ اﻟﻨﺎس
ﻣﻦ أﻫﻞ ﻫﺬا اﻟﺠﻴﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻴﺠﺎﻫﺪوا ،ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ أﻋﻴﺶ ﺑﻴﻨﻬﻢ وأراﻫﻢ وأﻋﺎﻣﻠﻬﻢ ﻫﻢ اﻟﺬﻳﻦ
ﻳﻘﻊ ﻋﻠﻴﻬﻢ واﺟﺐ اﻟﺠﻬﺎد ﻣﻦ أﺟﻞ ﺣﺮﻳﺘﻬﻢ وﻛﺮاﻣﺘﻬﻢ وﺣﻘﻮﻗﻬﻢ املﺴﻠﻮﺑﺔ ،ﻻ ﳾء ﻏري أن
ﻳﻘﻮم اﻟﻌﺒﻴﺪ ﺑﺎﻟﺜﻮرة ﻣﻦ أﺟﻞ ﺣﺮﻳﺘﻬﻢ.
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺛﺒﺎت :ﻫﺬا ﺗﻜﻠﻴﻒ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻓﻮق ﻃﺎﻗﺘﻬﺎ ،اﻟﻌﺒﻴﺪ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﺤﺮﻳﺔ وﻻ
ﻳﺘﺤﻤﱠ ﺴﻮن ﻟﻬﺎ وﻻ ﻳُﺠﺎﻫﺪون ﻣﻦ أﺟﻠﻬﺎ ،اﻷدب واﻟﻌﻠﻢ ﻣﺜﻞ ﻗﻄﺮات املﺎء ﺗﻨﺰل ﻋﲆ اﻟﺼﺨﻮر
ﻗﻄﺮة ﻗﻄﺮة ﻓﺘُﺬﻳﺒﻬﺎ وﺗُﺤ ﱢﻠﻠﻬﺎ.
ُﺤﻘﻖ وإن ﻛﺎن ﻳﺤﺘﺎج إﱃ زﻣﻦ. ﻫﺬا ﻣ ﱠ
أﻟﺴﺖ أﻧﺖ اﻟﺬي ﻗﻠﺖ إن اﻟﺰﻣﻦ ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻪ إﻻ ﰲ َ ﻓﺼﺤﺖ ﺳﺎﺧ ًﺮا :اﻟﺰﻣﻦ! اﻟﺨﺮاﻓﺔ! ُ
ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ؟ ﻣﺎ ﻫﺬه اﻟﺘﺸﺒﻴﻬﺎت املﻀ ﱢﻠﻠﺔ؛ املﺎء واﻟﺼﺨﺮة واﻟﻘﻄﺮات اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺰل ﻧﻘﻄﺔ ﻧﻘﻄﺔ؟ ﻫﺬه
ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻐﺎﻟﻄﺎت ﻧﻠﺠﺄ إﻟﻴﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻻ ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧُﻌ ﱢﺮض أﻧﻔﺴﻨﺎ ﻟﻠﻤﺠﻬﻮدات اﻟﺸﺎﻗﺔ أو اﻷﺧﻄﺎر
اﻟﺸﺪﻳﺪة.
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺗﺤﺪﱟ :ﻛﺄﻧﻚ ﺗﺮﻳﺪ اﻟﺜﻮرة.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻏﻴﻆ :أﺗُﺮﻳﺪ أن ﺗُﺮﻫﺒﻨﻲ ﺑﻬﺬا اﻟﺴﺆال؟ ﻧﻌﻢ أرﻳﺪ اﻟﺜﻮرة وﻻ ﳾء ﻏري اﻟﺜﻮرة.
ﻗﺎﺋﻼ :أﻧﺎ أﺧﺎﻟﻔﻚ ﻫﻨﺎ .اﻟﺜﻮرة اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﺗُﺪﻣﱢ ﺮ وﻻ ﺗُﻔ ﱢﻜﺮ ،وﻟﻮ ﻓﺮﺿﻨﺎ أن اﻟﺜﻮرة ﻓﻬﺰ رأﺳﻪ ً
ﻧﺠﺤﺖ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻟﻦ ﺗﺠﺪ اﻟﺸﻌﺐ اﻟﺬي ﻳﺤﺴﻦ اﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻨﻬﺎ .ﻗﺪ ﻧﺮﴇ ﻋﻦ اﻟﺜﻮرة اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻣﺮ
ً
ﻣﺤﻀﺎ. إذا ﺟﻨَﻴﻨﺎ ﻣﻦ وراﺋﻬﺎ ﺧريًا ،وﻟﻜﻦ اﻟﺜﻮرة اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳُﺴﺘﻔﺎد ﻣﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﻜﻮن إﻻ ﴍٍّا
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻋﻨﺎد :وﻣﺎذا ﻳﻤﻨﻊ ﻣﻦ أن ﻧﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻦ اﻟﺜﻮرة؟ ﻟﻘﺪ ﻗﺮأت ﻛﺜريًا ﻋﻦ ﺛﻮرات
اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،وﺗﻌ ﱠﻠﻤﺖ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﺣﻘﻴﻘﺔ واﺣﺪة ﺧﺎﻟﺪة ،ﻧﺤﻦ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﴩ وﻓﻴﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ
116
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻌﺎﴍ
ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺨري واﻟﴩ ،وﻓﻴﻨﺎ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﻘﻮة واﻟﻀﻌﻒ ،ﰲ ﻧﻔﻮﺳﻨﺎ اﻷﻧﺎﻧﻴﺔ واﻟﺘﻀﺤﻴﺔ ،وﻓﻴﻨﺎ
اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ واﻟﺠﺒﻦ ،وﻓﻴﻨﺎ اﻟﻌﺪل واﻟﻄﻐﻴﺎن ،ﻧﺤﻦ ﻧَﻨﻄﻮي ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻋﻴﻨﻪ ﻋﲆ اﻟﺴﻤﺎﺣﺔ واﻟﻠﺆم
وﻋﲆ اﻟﺴﻤﻮ واﻹﺳﻔﺎف ،ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻐ ﱠﻠﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﴩ اﻟﺘﻲ ﻓﻴﻨﺎ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻣﻦ
املﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻐ ﱠﻠﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺨري ،اﻟﻌﱪة ﺑﺎﻟﻘﻮة اﻟﺘﻲ ﺗُﺜري ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ أو ﺗﻠﻚ.
ﻣﺘﻮﻗﻔﺔ ﻋﲆﱢ ﻓﻘﺎل ﰲ ﻫﺪوء :ﻋﻈﻴﻢ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ،وﻟﻜﻦ ﻫﻞ ﻧﺴﻴﺖ أﻧﻚ ﺗﺠﻌﻞ ﻛﻞ اﻷﻣﻮر
ﴍط ﻏري ﻣﻮﺟﻮد؟ أﻳﻦ ﻫﺬا املﺤ ﱢﺮك اﻟﺬي ﻳﺒﻌﺚ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺨري؟ ﻫﺬا ا ُملﺤ ﱢﺮك ﻻ وﺟﻮد ﻟﻪ إﻻ
ﰲ داﺧﻠﻨﺎ ،وﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺨﻠﻘﻪ ﰲ اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻷدب واﻟﱰﺑﻴﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻋﻨﺎد :املﺴﺄﻟﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﺤﻠﻘﺔ املﻔﺮﻏﺔ ،ﻟﻦ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﺼﻠﺢ داﺧﻠﻨﺎ ﻣﺎ داﻣﺖ
اﻟﺴﻴﺎدة ﰲ أﻳﺪي اﻷﻧﺬال واﻷﴍار واﻟﺴﻔﻠﺔ.
وﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﺼﻠﺢ أﻣﻮرﻧﺎ إﻻ إذا أﺻﻠﺤﻨﺎ داﺧﻠﻨﺎ ،ﺣﻠﻘﺔ ﻣﻔﺮﻏﺔ ﻻ ﻧﻌﺮف أﻳﻦ
ﻃﺮﻓﺎﻫﺎ.
ﻟﻴﺲ أﻣﺎﻣﻨﺎ إﻻ أن ﻧﺜﻮر ﻋﲆ ﻫﺆﻻء اﻟﺴﺎدة املﻔﺴﺪﻳﻦ ﻟﻨَﺨﻠﻊ ﻋﻨﱠﺎ ﻧريﻫﻢ وﻧُﺤ ﱠﻞ ﰲ ﻣﺤﻠﻬﻢ
ﻣَ ﻦ ﻳُﺜري ﰲ اﻟﻨﺎس ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺨري ،ﻧﺤﻦ اﻟﺸﻌﺐ ،ﻧﺤﻦ اﻟﻌﺒﻴﺪ املﺤﻄﻤﻮن ،ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺜﻮر إذا
ﺷﺌﻨﺎ أن ﻧﻨﺠﻲ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺎر وﻧﺤﻤﻲ ﻇﻬﻮرﻧﺎ ﻣﻦ ﴐب اﻟﺴﻴﺎط ،اﻟﺜﻮرة وﻻ ﳾء ﻏري
اﻟﺜﻮرة!
ﻓﻘﺎل ﺻﺎﺣﺒﻲ ﰲ ﻧﻐﻤﺔ ﺣﺰﻳﻨﺔ :ﻗﺪ أواﻓﻘﻚ إذا أﻣﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن اﻟﺜﻮرة ﻋﺎﻗﻠﺔ ﻻ ﺗﻬﺪم ﺑﻞ
ﺗﺒﻨﻲ وﺗﻀﻊ اﻷﻣﻮر ﰲ أﻳﺪي اﻟﺤﻜﻤﺎء ﻻ اﻟﺤﻤﻘﻰ ،وﻟﻜﻦ ﻫﻴﻬﺎت!
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺗﱪﱡم :ﻫﺎدئ ﻣﺜﻞ املﻼﺋﻜﺔ!
ﻓﺮﻓﻊ رأﺳﻪ وﻛﺎن وﺟﻬﻪ ﻣﺤﺘﻘﻨًﺎ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺘﻘﻦ ﰲ ﺻﺒﺎه إذا ﻛﺒﺖ ﺷﻌﻮره ،ﺛﻢ ﻗﺎل:
ﻛﻨﺖ داﺋﻤً ﺎ ﺗﺘﱠﻬﻤﻨﻲ ﺑﺎﻟﻬﺪوء وﺗﻘﺼﺪ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﻔﺘﻮر؛ ﻷﻧﻲ ﻻ أُرﺿﻴﻚ ﺑﺎﻟﺘﺤﻤﺲ اﻟﺜﺎﺋﺮ ،ﻻ َ
ﻓﺄﻧﺖ ﻻ ﺗﻌﺮف ﻣﺎ ﰲ داﺧﻞ ﻗﻠﺒﻲ ،ﻟﺴﺖ أﺧﴙ اﻟﺜﻮرة وﻟﻜﻨﻲ أﺧﴙ اﻟﻔﻮﴇ. َ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي
وﺿﺎق ﺻﺪري ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺠﺪل ،ﻓﻘﻠﺖ وأﻧﺎ ﻗﺎﺋﻢ :ﻫﺬا أﺳﻠﻮﺑﻚ ﰲ اﻟﺘﻔﻜري داﺋﻤً ﺎ :أﻧﺖ
ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﻨﺘﻈﺮ ﻣﻊ اﻟﺰﻣﻦ ﻣﻊ أﻧﻚ ﺗﺆﻣﻦ ﺑﺄن اﻟﺰﻣﻦ ﺧﺮاﻓﺔ ،وأن اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻫﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وأﻧﺎ
أرﻳﺪ أن أﺳﺘﻌﺠﻞ اﻷﻣﺮ ﺑﺈﺣﺪاث اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻘﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺨﺘﴫ اﻟﺰﻣﻦ.
ﻓﻘﺎم وﻣ ﱠﺪ ﻳﺪه ﻣﺼﺎﻓﺤً ﺎ وﻗﺎل ﻣﺒﺘﺴﻤً ﺎ :ﻫﺬا ﺣﺴﻦ ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ ،دﻋﻨﻲ أﻣﺪ ﻟﻚ ﻳﺪي ﻷﻗﻮل
ﺣﻘﺎ ﰲ اﻷﺳﻠﻮب وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻏﺎﻳﺘﻨﺎ واﺣﺪة ،ﻟﻌ ﱠﻞ ﰲ ﻃﺒﻌﻚ أن ﺗﻜﻮن ﻣﺠﺎﻫﺪًا ﻟﻚ :إﻧﻨﺎ ﻣُﺨﺘﻠﻔﺎن ٍّ
ﰲ اﻟﻄﻠﻴﻌﺔ ،ﻓﺪﻋﻨﻲ أﻧﺎ ﻷﻛﻮن ﻣﺠﺎﻫﺪًا ﰲ املﺆﺧﺮة.
117
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﺷﻌﺮت ﺑﺎﻷﺳﻒ ﻋﲆ ﻋﻨﻔﻲ :أﺣﺐ أن ﺗﻌﺮف ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﻣﺒﻠﻎ ﺷﻌﻮري ﺑﺄﻧﻲ ُ ﻓﻘﻠﺖ وﻗﺪ
ﻣﺪﻳﻦ ﻟﻚ.
وﺷﺪدت ﻋﲆ ﻳﺪه ﰲ إﺧﻼص ،ﺛﻢ ﻗﻠﺖ :ﺳﺄُﺣﺎول أن أﻋﻮد إﻟﻴﻚ ﺑني ﺣني وآﺧﺮ؛ ﻷﺗﺰود
ﻣﻦ أﺣﺎدﻳﺜﻚ ،ﻓﺈﻧﻚ ﺑﻤﻨﺎﻗﺸﺎﺗﻚ ﺗﻔﺘﺢ ﱄ ً
آﻓﺎﻗﺎ ﺟﺪﻳﺪة ﻣﺎ ُ
ﻛﻨﺖ أراﻫﺎ.
وﻗﻤﺖ ﻷﺷﻴﻌﻪ إﱃ اﻟﺒﺎب وأﻧﺎ ﺷﺎﻋﺮ ﺑﺄﻧﻲ أﺷﻴﻊ أﺳﺘﺎذي.
118
اﻟﻔﺼﻞ اﳊﺎدي ﻋﴩ
ﻗﻤﺖ ﻣﺒﻜ ًﺮا ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ ﻷﺳﺎﻓﺮ ﰲ أول ﻗﻄﺎر إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،وﺟﻠﺴﺖ ﻟﻺﻓﻄﺎر ﻣﻊ أﻣﻲ
وأﺧﺘﻲ ،وأﺣﺴﺴﺖ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﺑﺄﻧﻲ ﻣﻘﺪم ﻋﲆ ﺧﻄﻮة ﺧﻄرية ،ﺳﺄﻓﺎرق ﻛﻞ ﻣﻦ ﱄ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة،
وﺳﺄﺗﺮك دﻣﻨﻬﻮر اﻟﺘﻲ ﻋﺮﻓﺘُﻬﺎ ﺣﺎرة ﺣﺎرة وﺑﻴﺘًﺎ ﺑﻴﺘًﺎ ودﻛﺎﻧًﺎ دﻛﺎﻧًﺎُ ،
وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻬﺎ أﻋﺰ اﻟﺒﻼد
ﻗﺒﻮﻻ ﻷﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻓﻨﺠﺎن ﻣﻦ اﻟﺸﺎي ﺑﺎﻟﻠﺒﻦ ،وﻗﺒ ُ
ﱠﻠﺖ وإن ﻛﻨﺖ ﻗﺎﺳﻴﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﻗﺎﺳﻴﺖ ،وﻟﻢ أﺟﺪ ً
وﻋﺮﺿﺖ ﻋﲇ ﱠ ﻣﻨرية أن ﺗُﺴﺎﻳﺮﻧﻲ ﰲ ذﻫﺎﺑﻬﺎ إﱃ املﺪرﺳﺔ َ ﻳﺪ أﻣﻲ ﰲ ﺷﻐﻒ ،وﺣﻤﻠﺖ ﺣﻘﻴﺒﺘﻲ
ﺣﺘﻰ ﻧﺒﻠﻎ املﺤﻄﺔ ،وﻧﺰﻟﻨﺎ ودﻋﻮات أﻣﻲ ﺗﺸﻴﻌﻨﺎ ﻣﻦ ﻓﻮق اﻟﺴﻠﻢ ،وﻟﻢ أﻧﺲ أن أﻗﺮأ اﻟﻔﺎﺗﺤﺔ
ﻟﺴﻴﺪي »أﺑﻮ ﻃﺎﻗﻴﺔ« ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻣﺮرت ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻨﻪ ،وأﺧﺬت أﺣﺪث أﺧﺘﻲ ﻋﻦ ﺧﻄﺘﻲ اﻟﺘﻲ ﻋﻘﺪت
اﻟﻨﻴﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ :وﻫﻲ أن أﻓﺎرق دﻣﻨﻬﻮر اﻟﻌﺰﻳﺰة إﱃ اﻷﺑﺪ ،وﺷﻌﺮت ﺑﻐﺼﺔ ﰲ ﺣﻠﻘﻲ وأﻧﺎ أﻗﻮل
ِ
أﻋﺪدت ﺛﻮﺑﻚ ﻟﻬﺎ ﻫﺬا ،وﻛﺪت أﺣﺪﺛﻬﺎ ﻋﻦ ﻣﻨﻰ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺟﺮؤ ،ﻓﺎﻛﺘﻔﻴﺖ ﺑﺄن ﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ :ﻫﻞ
اﻟﺠﺪﻳﺪ؟
ﺗﺬﻛﺮت أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗُﺪ َع ﻟﺤﻔﻠﺔ اﻟﺨﻄﺒﺔ إﻻ ﻣﻨﺬ ﻟﻴﻠﺔ ،ﻓﺄﴎﻋﺖ ً
ﻗﺎﺋﻼ: ُ ُ
ارﺗﺒﻜﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﻟﻜﻨﻲ
ﻋﻨﺪك أﺳﺒﻮع ﻛﺎﻣﻞ ﻟﺘَﺬﻫﺒﻲ إﱃ ﺧﻴﱠﺎﻃﺔ ﻣﺎﻫﺮة ،ﺳﺘﻜﻮﻧني ﺑﻐري ﺷﻚ أﺟﻤﻞ ﻓﺘﺎة ﻫﻨﺎك.
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﺑﺎﺳﻤﺔ :ﻣﺎ ﻋﺪا ﻣﻨﻰ ﻃﺒﻌً ﺎ ،إﻧﻬﺎ أﻇﺮف ﻓﺘﺎة ﻋﺮﻓﺘﻬﺎ وﻛﺄﻧﻲ ﻟﻢ أﻓﺎرﻗﻬﺎ ﻣﻨﺬ ﻛﻨﺎ
ً
أﻃﻔﺎﻻ.
وﻛﺎن ﺑﻮدﱢي أن أﺳﺄﻟﻬﺎ :ﻫﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻌﻴﺪة؟ وﻫﻞ ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ ﺧﻄﻴﺒﻬﺎ؟ وﻫﻞ
ﺳﺄﻟﺘﻬﺎ ﻋﻨﻲ؟ وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻟﻢ أﺟﺮؤ ،وﺗﺮﻛﺘُﻬﺎ ﺗﺴﺄﻟﻨﻲ ﻋﻦ ﻧﻴﺘﻲ ﰲ اﻹﻗﺎﻣﺔ ﺑﺎﻟﻘﺎﻫﺮة ،وﻫﻞ أﻋﺘﺰم
اﻹﻗﺎﻣﺔ وﺣﺪي أم ﻧﻨﺘﻘﻞ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻟﻨﻜﻮن ﻣﻌً ﺎ ،وأﺧﺬت أﺟﻴﺒﻬﺎ إﺟﺎﺑﺎت ﻣﺒﻬﻤﺔ؛ ﻷﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﰲ
اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ أدري ﺑﻢ أﺟﻴﺐ.
وﺑﻠﻐﻨﺎ املﺤﻄﺔ ﻓﺼﺎﻓﺤﺘﻬﺎ ﺑﻬﺰة ﻣﻦ ﻳﺪي وأﺧﺮى ﻣﻦ ﻗﻠﺒﻲ ،وﴎت ﻣﴪﻋً ﺎ واﻟﺤﻘﻴﺒﺔ
وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن ﻣﻨﻈﺮ املﻴﺪان وﻣﺎ ﺣﻮﻟﻪ ﻣﻦ اﻷﺑﻨﻴﺔ أﺟﻤﻞ املﻨﺎﻇﺮ، اﻟﺨﻔﻴﻔﺔ ﺗﻬﺘﺰ ﰲ ﻳﺪيُ ،
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وأن ﻧﺴﻴﻢ اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺮﻃﺐ أروح اﻷﻧﺴﺎم ،وﻋﺮﺟﺖ ﻋﲆ ﺷﺒﺎك اﻟﺘﺬاﻛﺮ ،ﻓﺎﺷﱰﻳﺖ ﺗﺬﻛﺮة ﻣﻦ
اﻟﺪرﺟﺔ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ودﻓﻌﺖ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت اﻟﻌﴩة اﻟﺘﻲ أﺧﺬﺗُﻬﺎ ﻣﻦ أﻣﻲ ﻗﺒﻞ ﺧﺮوﺟﻲ،
ﱡ
ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ ﺛﻢ ﴎت ﻷﻫﺒﻂ إﱃ املﺤﻄﺔ ﻓﺴﻤﻌﺖ ﺻﻮﺗًﺎ ﻣﻦ ﺧﻠﻔﻲ ﻳﺼﻴﺢ ً
ﻗﺎﺋﻼ» :ﻳﺎ أﻓﻨﺪي«.
ﻓﻌﺪت إﱃ ﺷﺒﺎك ُ ﻗﺎﺋﻼ» :ﻧﺴﻴﺖ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺠﻨﻴﻪ«. إﱃ وراﺋﻲ ،وﻛﺎن أﺣﺪ اﻟﺤﻤﺎﻟني ﻳﻨﺎدﻳﻨﻲ ً
ﺑﻘﻲ ﱄ ،ﺛﻢ اﺷﱰﻳﺖ ﻧﺴﺨﺔ ﻣﻦ »ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار« ﻣﻦ ﺑﺎﺋﻊ اﻟﺼﺤﻒ اﻟﺘﺬاﻛﺮ واﺳﱰددت ﻣﺎ َ
وﻛﺎن ﻣﻨﻈﺮﻫﺎ ﰲ ﻋﻴﻨﻲ ﺑﺪﻳﻌً ﺎ ،وأﺧﺬت أﺗﺄﻣﻞ ﻋﻨﺎوﻳﻨﻬﺎ اﻟﻜﱪى ﺑﺎﻟﻠﻮن اﻷﺣﻤﺮ واﻟﻠﻮن اﻷﺳﻮد
واﻟﺼﻮر اﻷﻧﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺰﻳﻦ ﺻﻔﺤﺎﺗﻬﺎ ،وداﺧﻠﻨﻲ ﺷﻌﻮر ﺑﺎﻻﻋﺘﺰاز ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺟﺮﻳﺪﺗﻲ.
ﻓﺎﺳﺘﻄﻌﺖ ﺑﻌﺪ ﺟﻬﺪ أن أدﺧﻞ اﻟﻌﺮﺑﺔ وأﺿﻊ ُ وﺟﺎء اﻟﻘﻄﺎر وﻛﺎن اﻟﺰﺣﺎم ﺷﺪﻳﺪًا،
ووﻗﻔﺖ ﻋﲆ ﻣﻘﺮﺑﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﺎب ،وارﺗﻜﻨﺖ ﻋﲆ ﻇﻬﺮ املﻘﻌﺪ اﻟﺬي ُ ﺣﻘﻴﺒﺘﻲ ﻋﲆ ﻃﺮف اﻟﺮف،
وراﺋﻲ ،وأﺧﺬت أﻗﻠﺐ ﺻﻔﺤﺎت اﻟﺠﺮﻳﺪة ﻋﲆ ﻣﻬﲇ.
وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻘﻮل اﻟﺨﴬ ﻛﺎﻧﺖ ﺗَﻨﺘﺰع ﻧﻈﺮي ﻣﻦ اﻟﺼﺤﻴﻔﺔ ،ﻓﻠﻢ أﺳﺘﻄﻊ أن أﻗﺮأ ﺷﻴﺌًﺎ،
ﻃﺎ أﺧﴬ ﻣﻦ اﻟﻘﻤﺢ واﻟﱪﺳﻴﻢ ﺗﺰدﻫﺮ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻮار واﻟﺒﻘﺮ ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺑﺴﺎ ً
ﻃﻔﻼ ﻋﺎرﻳًﺎ ﻛﻤﺎ وﻟﺪﺗﻪ أﻣﻪ ﻳﺘﻤﺮغ ﰲ ﻃني ً واﻟﻐﻨﻢ واﻷﻃﻔﺎل ﰲ ﻣﻼﺑﺴﻬﻢ املﻠﻮﻧﺔ ،ورأﻳﺖ
وﺑﺼﻖ ﰲ وﺟﻬﻲ ﻣﻦ ﱠﺣﺖ ﻟﻪ ﺑﻴﺪي ورد ﻋﲇ ﱠ اﻟﺘﺤﻴﺔ ﺑﺄن ﻗﺬﻓﻨﻲ ﺑﺤﻔﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﻄنيَ ، ﺑﺮﻛﺔ ،ﻓﻠﻮ ُ
ﻛﻨﺖ ﺳﺎﺑﺤً ﺎ ﰲ أﻓﻜﺎريﺑﻌﻴﺪ ،ﻣﺴﻜني ﻫﻮ اﻵﺧﺮ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺮف ﻟﻠﺘﺤﻴﺔ ردٍّا ﺳﻮى ﻫﺬا ،وﻓﻴﻤﺎ ُ
ﺷﻌﺮت ﺑﻴﺪ ﺗﺴﺤﺐ اﻟﺠﺮﻳﺪة ﻣﻦ ﺗﺤﺖ إﺑﻄﻲ ،ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ إﱃ اﻟﻮراء ﻷرى ً
رﺟﻼ ﺿﺨﻤً ﺎ ﰲ املﻘﻌﺪ
ﻗﺎﺋﻼ» :ﺗﺴﻤﺢ؟« وﻟﻢ ﻳﻨﺘﻈﺮ ﺣﺘﻰ أﺳﻤﺢ وأﺧﺬ اﻟﺠﺮﻳﺪة ﻗﺒﻞ أن أﻗﻮل اﻟﺬي وراﺋﻲ ﻳﺒﺘﺴﻢ ﱄ ً
ﻟﻪ» :ﺗﻔﻀﻞ«.
وملﺎ وﻗﻒ اﻟﻘﻄﺎر ﰲ املﺤﻄﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﺧﻼ املﻘﻌﺪ اﻟﺬي إﱃ ﺟﻨﺐ اﻟﺮﺟﻞ ،ﻓﺪﻋﺎﻧﻲ ﻟﻠﺠﻠﻮس
وﺑﺪأ ﻳﺤﺪﺛﻨﻲ ،ﻓﻘﺎل :إﱃ أﻳﻦ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﻣُﺨﺘﴫًا :إﱃ ﻣﴫ.
ﻇﻒ؟ – أﻧﺖ ﻣﻮ ﱠ
وﺗﻤﻨﻴﺖ ﻟﻮ ﺳﻜﺖ وﻟﻜﻨﻪ اﺳﺘﻤﺮ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﻧﺖ أﺑﻮﻧﻴﻪ؟
– ﻻ.
– ﻻ ﻣﺆاﺧﺬة ،أﻇﻨﱡﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﻣﺨﻄﺌًﺎ ،ﻫﻮ ﻳﺸﺒﻬﻚ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ.
– ﻣﻦ ﻫﻮ؟
– ﻋﲇ أﻓﻨﺪي ﻣﺒﺎرك اﻷﺑﻮﻧﻴﻪ .اﺳﻢ اﻟﻜﺮﻳﻢ؟
– ﺳﻴﺪ زﻫري.
120
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺤﺎدي ﻋﴩ
– ﺗﴩﻓﻨﺎ ،ﻛﻨﺖ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ ﺳﻨﺘني — وﻻ ﻣﺆاﺧﺬة — ﻛﻨﺖ أرﻛﺐ ﻫﺬا اﻟﻘﻄﺎر ﻧﻔﺴﻪ،
وﻛﻨﺖ ﻻ أﻋﺮﻓﻪ ،وﺗﻌﺎرﻓﻨﺎ ﻛﻤﺎ ﻧﺘﻌﺎرف ﻧﺤﻦ اﻵن، ُ ﻓﺮﻛﺐ ﻋﲇ أﻓﻨﺪي اﻷﺑﻮﻧﻴﻪ ﻣﻦ دﻣﻨﻬﻮر،
وﻧﺼﺐ ﻋﲇ ﱠ ﰲ ﺟﻨﻴﻬني.
ﻓﺒﻘﻴﺖ ﺻﺎﻣﺘﺎً.
ُ وﻟﻢ أﺟﺪ ﺟﻮاﺑًﺎ
ﴏت أﺗﻮﻗﻊ أن أراه ﻛﻠﻤﺎ ﻣﺮرت ﺑﻤﺤﻄﺔ دﻣﻨﻬﻮر ،وﻣﻦ ُ واﺳﺘﻤﺮ ﻳﻘﻮل :ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم
اﻟﻌﺠﻴﺐ أن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳُﺸﺒﻬﻮﻧﻪ؛ وﻟﻬﺬا ﺳﺄﻟﺘﻚ ﻫﻞ أﻧﺖ أﺑﻮﻧﻴﻪ.
ﺣﺎل ﻟﺴﺖ أﻧﺎ.ﻓﺎﻧﻔﺠﺮت ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ وﻗﻠﺖ :أﺷﻜﺮك ،ﻋﲆ ﻛﻞ ٍ ُ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻻ ﻣﺆاﺧﺬة ،ﻳﺨﻠﻖ ﻣﻦ اﻟﺸﺒﻪ أرﺑﻌني … ﻓﻀﺤﻚ ﻫﻮ اﻵﺧﺮ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻓﺮﺻﺔ ﺳﻌﻴﺪة ﻋﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل ،أﻧﺎ اﻟﺤﺎج ﻋﺒﺪه وﻣﺪ رﺟﻠﻴﻪ واﺳﺘﻨﺪ إﱃ اﻟﻜﺮﳼ ً
ﺻﺎﺣﺐ ﻣﺤﻞ اﻟﺼﺎﺑﻮن اﻟﻌﻄﺮي.
ﻓﻘﻠﺖ :ﻣﺼﻨﻊ؟
ﻓﺄﺟﺎب ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ :ﻛﻞ اﻟﻨﺎس ﻳﻘﻮﻟﻮن ﻫﺬا إذا ﺳﻤﻌﻮا اﻻﺳﻢ ،وﻟﻜﻨﻪ ﺻﺎﻟﻮن ﺣﻼﻗﺔ وأرﺟﻮ
أن ﺗُﴩﱢ ﻓﻨﺎ ،ﺷﺎرع املﺤﻄﺔ ﺑﻜﻔﺮ اﻟﺰﻳﺎت ،ﻣﻊ اﻟﺴﻼﻣﺔ!
وﻛﺎن اﻟﻘﻄﺎر ﻗﺪ ﻫﺪأ ﴎﻋﺘﻪ ﻟﻠﻮﻗﻮف ﰲ املﺤﻄﺔ ،ﻓﻘﺎم اﻟﺮﺟﻞ ﻳﺴﺘﻌﺪ ﻟﻠﻨﺰول ،وﺳﺄﻟﻨﻲ
أن أﺳﺎﻋﺪه ﻋﲆ ﺣﻤﻞ رﺑﻄﺎﺗﻪ اﻟﻜﺜرية ،ﻓﻨﺎوﻟﺘﻪ إﻳﺎﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﻓﺬة واﻧﺸﻐﻞ ﻋﻨﱢﻲ ﺑﻤﻘﺎوﻟﺔ ﺣﻤﺎل
املﺤﻄﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﺤﺮك اﻟﻘﻄﺎر.
وﺟﻠﺴﺖ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻨﺎﻓﺬة ﰲ املﻜﺎن اﻟﺬي ﺧﻼ ﻣﻦ اﻟﺮﺟﻞ ،وأﺧﺬت أﻧﻈﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﺣﻮﱄ ،ﺛﻢ
ﻟﺒﺚ أن اﺷﱰك ﺳﺎﺋﺮ اﻟﺮﻛﺎب ﰲ املﻨﺎﻗﺸﺔ، اﺳﱰﻋﻰ ﺳﻤﻌﻲ ﺧﺼﺎم رﺟﻠني ﻣﻦ اﻟﺮﻛﺎب ،وﻣﺎ َ
وأﺻﻐﻴﺖ إﱃ ﺣﺪﻳﺜﻬﻢ اﻟﺤﺎﻧﻖ ﻣﺮﻏﻤً ﺎ ،وأﻧﺎ أﻋﺠﺐ ﻣﻦ ﺣﺮﺻﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﻨﺰاع ﻣﻊ أﻧﻬﻢ ﰲ رﺣﻠﺔ،
وﻟﻜﻨﻲ رﺟﻌﺖ إﱃ ﻧﻔﴘ ﻓﻘﻠﺖ :إن اﻟﺨﺼﺎم أﻣﺮ ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻻ ﺣﻴﻠﺔ ﻟﻠﻨﺎس ﻓﻴﻪ وإن ﻛﺎﻧﻮا ﰲ
رﺣﻠﺔ ﻗﺼرية ،وﻫﻞ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ﻧﺤﻦ إﻻ رﺣﻠﺔ ﻗﺼرية ﻣﻬﻤﺎ ﻃﺎﻟﺖ؟
واﺳﺘﻤ ﱠﺮت املﻨﺎﻗﺸﺔ ﺗﺨﺒﻮ ﺣﻴﻨًﺎ وﺗَﺴﺘﻌِ ﺮ ﺣﻴﻨًﺎ ﺣﺘﻰ اﻗﱰﺑﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺗﺴﻠﻴﺔ
أﻟﺴﻨﺎ ﻧﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻘﴤ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ﻣﻔﻴﺪة ﺳﻬﱠ َﻠﺖ ﻋﲆ اﻟﺮﻛﺎب ﻗﻄﻊ اﻟﻮﻗﺖ ﺑﻐري أن ﻳﻤ ﱡﻠﻮاْ ،
ﰲ ﺧﺼﻮﻣﺎت ﻣﺘﺼﻠﺔ؟
ووﺻﻠﺖ إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة أﺧريًا ورﻛﺒﺖ اﻟﱰام إﱃ »ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار« ،وملﺎ ﴏت أﻣﺎم املﺒﻨﻰ
اﻟﻜﺒري وﻗﻔﺖ ﰲ ﺣرية ﻻ أدري ﻣﺎذا أﺻﻨﻊ ﺑﺤﻘﻴﺒﺘﻲ ،وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻘﻴﺒﺔ ﻣﺤﱰﻣﺔ ملﺎ ﻫﻤﻨﻲ
أﻣﺮﻫﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻣﻦ اﻟﻮرق املﻘﻮﱠى وﻻ أﻋﺮف ﻛﻴﻒ أُﺳﻤﻲ ﻟﻮﻧﻬﺎ؛ ﻷﻧﻲ ﻧﺴﻴﺖ
ﻣﺎذا ﻛﺎن ﻟﻮﻧﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺟﺪﻳﺪة ،وﻛﺎن ﻟﻬﺎ ﻗﻔﻞ واﺣﺪ ﺳﻠﻴﻢ ﻳﻌﻠﻮه اﻟﺼﺪأ ،وأﻣﺎ اﻵﺧﺮ
121
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻓﻜﺎن ﻳﺄﺑﻰ إﻻ أن ﻳﻤﺪ ﻟﺴﺎﻧﻪ إﱃ ﻓﻮق ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺴﺨﺮ ﻣﻨﱢﻲ ،ورأﻳﺖ ﻋﲆ ﻣﻘﺮﺑﺔ ﻣﻦ اﻟﺪار دﻛﺎن
ﺑﻘﺎل ﻓﺬﻫﺒﺖ إﻟﻴﻬﺎ ﻟﻌﻞ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﻳﺮﴇ ﺑﺈﻳﺪاع اﻟﺤﻘﻴﺒﺔ ﻋﻨﺪه ﺣﺘﻰ أﻋﻮد ﻣﻦ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ اﻷﺳﺘﺎذ ﱠ
ﻛﻬﻼ ﻟﻪ ﻟﺤﻴﺔ وﺧﻄﻬﺎ اﻟﺸﻴﺐ وﺗﺒﺪو ﻋﲆ ﻣﻼﻣﺤﻪ رﺟﻼ ً ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ،وﻛﺎن ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺪﻛﺎن ً
ً
ﺧﺸﻴﺔ اﻟﻄﻴﺒﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﺑﻌﺪ أن رد ﻋﲆ اﻟﺴﻼم ﰲ ﺑﺸﺎﺷﺔ ﻟﻢ ﻳﺮض أن أودع اﻟﺤﻘﻴﺒﺔ ﻋﻨﺪه
ﻣﻦ أوﻻد اﻟﺤﺮام اﻟﺬﻳﻦ اﻋﺘﺎدوا أن ﻳﻀﻌﻮا ﰲ ﺣﻘﺎﺋﺒﻬﻢ أﺷﻴﺎء ﺧﺒﻴﺜﺔ ﻳﺪﺳﻮﻧﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻨﺎس
ﻟﻴُﻮﻗﻌﻮﻫﻢ ﰲ اﻟﺘﱡﻬَ ﻢ.
ﻓﻔﺘﺤﺘﻬﺎ ﻟﻪ وأﻧﺎ ﰲ ﺧﺠﻞ ﺷﺪﻳﺪ ﻣﻨﻬﺎ ،وأﺧﺬت أﻧﻔﺾ ﻟﻪ ﻛﻞ ﻗﻄﻌﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻟريى ﺑﺮاءﺗﻬﺎ
ﺣﺘﻰ َﻗ ِﺒ َﻞ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ أن ﻳُﻮدﻋﻬﺎ ﻋﻨﺪه.
122
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﲏ ﻋﴩ
ﻛﺎﻧﺖ املﻘﺎﺑﻠﺔ اﻷوﱃ ﺑﻴﻨﻲ وﺑني اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻣُﺮﺿﻴﺔ ﻟﻜﱪﻳﺎﺋﻲ؛ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ﰲ
ﻣﻜﺘﺒﻪ اﻷﻧﻴﻖ ﻣُﺮﺣﱢ ﺒًﺎ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ وﻧﺎداﻧﻲ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺮﺣﺒًﺎ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ.
وﻫﻮ ﺷﺎبﱞ ﺻﻐري اﻟﺠﺴﻢ ﻟﻪ ﻧﻈﺮة ﺗﺪﻋﻮ إﱃ اﻹﻳﻨﺎس وﺻﻮت ﻣﲇء ﻳﺒﻌﺚ اﻟﺜﻘﺔ ،وﻧﻈﺮ
ﰲ وﺟﻬﻲ أو ﺑﻘﻮل آﺧﺮ ﻧﻈﺮ ﰲ ﻋﻴﻨﻲ وﻟﻢ ﻳﻔﺤﺺ ﺑﻨﻈﺮاﺗﻪ ﻣﻼﺑﴘ وﻻ ﺣﺬاﺋﻲ ،ﺑﻞ ﻟﻢ ﻳَﻠﺘﻔﺖ
إﱃ ﻟﺤﻴﺘﻲ اﻟﺘﻲ ﻃﺎل ﺷﻌﺮﻫﺎ ،وﻫﻮ ﰲ ﻣﺜﻞ ﺳﻨﱢﻲ ،وﻳﺴﱰﻋﻲ اﻟﻨﻈﺮ ﺑﻌﻨﺎﻳﺘﻪ ﺑﻤﻼﺑﺴﻪ وﺷﻌﺮه
ورﺑﺎط رﻗﺒﺘﻪ ،وﰲ ﻳﺪه ﺧﺎﺗﻢ ﻳﻠﻤﻊ ﰲ ﺿﻮء اﻟﻜﻬﺮﺑﺎء ،وﰲ ﺻﺪره دﺑﻮس ذﻫﺒﻲ ﻟﻪ ﻓﺺ ﻻ
ﻳﻘ ﱡﻞ ﻋﻨﻪ ملﻌﺎﻧًﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻘﻢ ﻻﺳﺘﻘﺒﺎﱄ ﺑﻞ ﻣﺪ ﻳﺪه ﻧﺤﻮي وﻫﻮ ﺟﺎﻟﺲ وأﺷﺎر إﱃ ﻛﺮﳼ ﺑﺠﻮاره
ودق اﻟﺠﺮس ﺛﻢ ﻃﻠﺐ ﻓﻨﺠﺎﻧني ﻣﻦ اﻟﻘﻬﻮة.
وﻟﻢ ﻳ ُِﻀﻊ وﻗﺘًﺎ ﰲ ﻛﻼم ﻛﺜري ،وﻟﻜﻨﻲ ﺷﻌﺮت ﻣﻦ أول ﻟﺤﻈﺔ ﺑﺎرﺗﻴﺎح واﻃﻤﺌﻨﺎن؛ وﻟﻬﺬا
ﻟﻢ أﺗﺤﻔﻆ ﰲ ﻛﻼﻣﻲ ﻛﻤﺎ ﻛﻨﺖ ﻋﺎزﻣً ﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ .ﺳﺄﻟﻨﻲ :ﻣﺘﻰ وﺻﻠﺖ إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻇﻬﺮ اﻟﻴﻮم.
ﻓﻘﺎل :آﺳﻒ إذا ﻓﺎﺗَﺘْﻨﻲ ﻓﺮﺻﺔ اﻟﻐﺪاء ﻣﻌﻚ.
ﻓﻘﻠﺖ ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ :ﻓﺎﺗﺘْﻨﻲ أﻧﺎ.
ﻓﻘﺎل ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :وأﻳﻦ ﻧﺰﻟﺖ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻻ ﺗﺰال ﺣﻘﻴﺒﺘﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺣﺴﻨني ،وﻫﻮ ﺑﻘﺎل ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ.
ﻓﻀﺤﻚ ﻣﻞء ﺻﺪره ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﺑﺪاﻳﺔ ﺣﺴﻨﺔ.
وﺗﺬﻛﺮت ﻛﻠﻤﺔ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﻗﺎﻟﻬﺎ ﱄ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﰲ ﻣﻮﻗﻒ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻛﻞ اﻻﺧﺘﻼف ﻋﻦ
ﻣﻮﻗﻔﻨﺎ ﻫﺬا ،وﻣﻊ اﻧﴫاﰲ اﻟﺘﺎم إﱃ ﺣﺪﻳﺚ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻟﻢ أﻣﻠﻚ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ اﻟﻌﻮدة ﺣﻴﻨًﺎ
إﱃ ﺻﻮرة ﻣﻨﻰ ،أﻣﺎ ﻣﻦ ﺳﺒﻴﻞ ﻷُﻋﻠﻤَ ﻬﺎ ﺑﺄﻧﻲ أﺻﺒﺤﺖ ﰲ اﻟﻘﺎﻫﺮة وﻣﺤﺮ ًرا ﰲ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار؟
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﺟﺎء اﻟﻔﺮاش ﻳَﺤﻤﻞ اﻟﻘﻬﻮة ﻓﺄﺗﺎح ﱄ ﻓﺮﺻﺔ ﻟﺘﺄﻣﻞ ﺻﻮرة ﻣﻨﻰ ،ﻟﻘﺪ ﺑﺪت ﱄ ﰲ آﺧﺮ ﻣﺮة
رأﻳﺘﻬﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﺰﻫﺮة اﻟﺒﺪﻳﻌﺔ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ ﺑﺴﺘﺎن راﺋﻊ ﻣﻦ وراء اﻟﺴﻮر اﻟﺸﺎﺋﻚ ،ﻓﺮﺳﻤﺘﻬﺎ ﰲ
ﻗﺼﻴﺪﺗﻲ وﻧﺎﺟﻴﺘﻬﺎ ﻛﻤﺎ أُﻧﺎﺟﻲ اﻟﺰﻫﺮة اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻣ ﱠﺪ إﻟﻴﻬﺎ ﻳﺪي ،وﻫﺎ ﻫﻲ
ذي اﻷﻳﺎم ﺗﻈﻬﺮ ﱄ أن ذﻟﻚ اﻟﺨﺎﻃﺮ ﻛﺎن أﺻﺪق ﻣﻦ ﻧﺒﻮءة.
ﻓﺎﺣﺼﺎ ،ﻓﺎﻋﱰاﻧﻲ ﳾء ﻣﻦ ً رﻓﻌﺖ ﺑﴫي إﱃ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر وﺟﺪﺗﻪ ﻳﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ُ وملﺎ
اﻻرﺗﺒﺎك وﻟﻜﻨﻲ ﺳﺎرﻋﺖ إﱃ اﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﻠﻴﻪ ،وأﺧﺬ ﻳﺴﺄﻟﻨﻲ ﻋﻦ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻓﻔﺘﺢ ﱄ
ﺑﺎﺑًﺎ واﺳﻌً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،واﻧﻄﻠﻘﺖ أُﺣﺪﺛُﻪ ﻋﻦ اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺬي ﺑني ﻧﻈﺮﺗﻲ إﱃ اﻷﻣﻮر وﺑني
ﻧﻈﺮﺗﻪ ،ﺑني اﻟﺜﻮرة اﻟﴪﻳﻌﺔ وﺑني اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺬي ﻳﻨﺘﻈﺮ ﻣﺮور اﻟﻘﺮون ﻗﺒﻞ أن ﻳﻬﻴﺊ اﻟﺸﻌﺐ
ﻟﻠﺤﺮﻳﺔ.
وﻛﺎن ﻳﺴﺘﻤﻊ إﱄ ﱠ ﰲ ﺻﻤﺖ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺴﱪ أﻏﻮاري.
وملﺎ ﻓﺮﻏﺖ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺜﻲ وﺟﺪﺗﻪ ﻣﺎ ﻳﺰال ﻳﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ وﻗﺎل :أﺷﻜﺮك ﻋﲆ اﻹﴎاع إﱃ
إﺟﺎﺑﺔ رﺟﺎﺋﻲ ،وأﻋﺘﺬر إﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﻗ ﱠﻠﺔ املﺮﺗﺐ اﻟﺬي ﻋﺮﺿﺘﻪ ﻋﻠﻴﻚ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ :ﻫﺬا ﻓﻮق اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ.
ﻗﺎﺋﻼ :أﻧﺖ رﺟﻞ ﻃﻴﺐ ﻓﱰﴇ ﻫﻜﺬا ﴎﻳﻌً ﺎ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺠﺮﻳﺪة ﺗﺸﻖ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﺑﺮﻏﻢ ﻓﺘﺒﺴﻢ ً
ﻜﱪ ﻣﻌً ﺎ. ﻛﻞ ﳾء ،وﺳﻨ َ ُ
ﻣﺘﺤﻤﺴﺎ :أﻧﺎ ﺳﻌﻴﺪ ﺑﺄن أﻋﻤﻞ ﻣﻌﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي.ً ﻓﻘﻠﺖ
ﻓﻘﺎل ﻣﺒﺎد ًرا :أﺣﺐ أن أﺑني ﻟﻚ ﻃﺮﻳﻘﺘﻲ ﰲ اﻟﻌﻤﻞ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺪاﺧﻠﻚ ﳾء ﻣﻦ ﺳﻮء اﻟﻈﻦ
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻌﺮف أﻧﻚ ﺳﺘﺒﺪأ ﻋﻤﻠﻚ ﺑﻘﺮاءة اﻟﱪوﻓﺎت ،ﻫﺬه ﻫﻲ ﻃﺮﻳﻘﺘﻲ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﴎي» :ﻫﻜﺬا أﺑﺪأ داﺋﻤً ﺎ :ﻛﺘﺎﺑﺔ اﻷرﻗﺎم ﻋﲆ اﻟﺒﺎﻻت ﻫﻨﺎك وﻗﺮاءة اﻟﱪوﻓﺎت
ﻫﻨﺎ«.
وأﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﺟﻴﺒﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷوراق ﻓﻴﻬﺎ ﻗﺼﺔ ﺟﺪﻳﺪة ،وﻣﺪدت ﺑﻬﺎ ﻳﺪي ﻧﺤﻮه.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻗﺼﺔ أﺧﺮى؟ أُﻫﻨﺌﻚ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ ﺑﱪاﻋﺔ أﺳﻠﻮﺑﻚ ،وﻻ ﺗﻈﻦ أﻧﻲ أﻗﻠﻞ ﻓﺄﺧﺬﻫﺎ ً
ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻚ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻃﻠﺐ ﻣﻨﻚ أن ﺗُﺮاﺟﻊ اﻟﱪوﻓﺎت ،ﻫﺬه ﻃﺮﻳﻘﺘﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺪﺧﻞ إﱃ اﻷﴎة
وأﺣﺴ ُﻦ وﺳﻴﻠﺔ
َ ﻋﻀﻮ ﺟﺪﻳﺪ ،أﺣﺐ أن ﻳﺘﻌﺮف ﻫﺬا اﻟﻌﻀﻮ اﻟﺠﺪﻳﺪ إﱃ ﻛﻞ اﻷﻋﻀﺎء اﻵﺧﺮﻳﻦ
ملﻌﺮﻓﺘﻬﻢ ﻫﻲ ﻗﺮاءة أﻓﻜﺎرﻫﻢ ﰲ دﻗﺔ واﻫﺘﻤﺎم ،ﺳﺘﻌﺮف أﻓﺮاد ﻫﺬه اﻷﴎة ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺘﻬﺎ اﻟﻬﺎﻣﺔ
وﻫﻲ أﻗﻼﻣﻬﺎ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻣﴪو ًرا :ﻫﺬه ﻧﻈﺮة ﺻﺎﺋﺒﺔ وأﻧﺎ ﺳﻌﻴﺪ ﺑﺄن أﻋﻤﻞ ﻣﻌﻚ.
124
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ
125
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
126
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ
ﻣُﺴﻠﻴًﺎ ﻛﺄﻧﻪ ﻓِ ﻠﻢ ﺳﻨﻤﺎﺋﻲ ﻻ ﺗﻨﻘﻄﻊ ﻓﻴﻪ اﻟﺤﺮﻛﺔ ،ﻓﺨﻄﺮ ﱄ أن أﻗﻴﺪ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻲ ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗَﴩد
ﻣﻨﱢﻲ ﺗﺸﺒﱡﻬً ﺎ ﺑﺒﻌﺾ ﻣﻦ ﻗﺮات ﻋﻨﻬﻢ ﻣﻦ اﻷدﺑﺎء ،وﻓﺘﺤﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻟﻜ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﺮ ﺑﻲ ،وأﺧﺮﺟﺖ
ﻛﺮاﺳﺔ ﺻﻐرية ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺟﻴﺒﻲ ،وأﺧﺬت أﻧﻈﺮ وأﻛﺘﺐ ،ﻳﺎ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﻟﺤﻈﺎت ﺳﺨﻒ ﻣﺎ أزال
ﻈﺎ ﺑﻬﺬه اﻟﻜﺮاﺳﺔ اﻟﺼﻐرية ﻛﺘﺬﻛﺎر أﺿﺤﻚ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﻠﻤﺎ ﺗﺬﻛﺮﺗﻬﺎ ،وﻣﺎ أزال إﱃ اﻟﻴﻮم ﻣﺤﺘﻔ ً
ﻟﻬﺬه اﻟﺠﻠﺴﺔ.
وأﺿﺎءت اﻷﻧﻮار إﻳﺬاﻧًﺎ ﺑﺎﻗﱰاب املﺴﺎء ،ﻓﻘﻤﺖ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺴﺎدﺳﺔ ،ﻓﻠﻤﺎ وﺻﻠﺖ
ﺟﺎﻟﺴﺎ ﻋﲆ اﻟﺪﻛﺔ ﻋﻨﺪ ﻣﺪﺧﻞ اﻟﺪﻛﺎن ،وإﱃ ً إﱃ دﻛﺎن اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ وﺟﺪﺗﻪ ﻣﺎ ﻳﺰال
ﺟﻮاره ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻳﺄﻛﻠﻮن وﻫﻢ وﻗﻮف وﻳﺘﺤﺪﺛﻮن أﺣﺎدﻳﺚ ﺷﺘﻰ ﺗﺘﺨﻠﻠﻬﺎ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ،
وﻳﻤﻀﻐﻮن ﻛﻠﻤﺎﺗﻬﻢ ﻣﻊ اﻟﻠﻘﻢ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻀﻤﻮﻧﻬﺎ ﻣﻦ اﻷرﻏﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﰲ أﻳﺪﻳﻬﻢ ،ﻫﻲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ
داﺋﻤً ﺎ.
ﻓﺠﻠﺴﺖ ﻋﲆ اﻟﺪﻛﺔ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺸﻴﺦ ،وﺷﺎرﻛﺖ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻛﺎن ﻳﺪور ﺣﻮل ﻣﺎ ﻳﺘﻨﺎﻗﻠﻪ
اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﻓﻀﺎﺋﺢ ،ﻛﺄن املﺪﻳﻨﺔ ﻗﺪ ﺧ َﻠﺖ إﻻ ﻣﻦ أﻋﻮان اﻟﺸﻴﻄﺎن.
وﻛﺎن اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻣﺤﻮر ﺗﻠﻚ اﻷﺣﺎدﻳﺚ ،ﻳُﻀﻴﻒ إﱃ ﻛﻞ ﻗﻮل ﻛﻠﻤﺔ ﻣﻦ رأﻳﻪ ﺗﺜري
ﺿﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ.
ً
ﻃﻮﻳﻼ ،ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻠﺸﻴﺦ :ﻣﺘﻰ ﺗﻌﻮد إﱃ وملﺎ ﺻﺎرت اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ﴏت ﻻ أﺣﺘﻤﻞ اﻟﺒﻘﺎء
املﻨﺰل؟
ﻓﻨﻈﺮ إﱃ ﺳﺎﻋﺘﻪ وﻗﺎل :ﻳﺎ ﺳﻼم! أﺗﺤﺐﱡ أن ﻧﺬﻫﺐ اﻵن؟
ﻓﻘﻠﺖ :أﺣﺐ أن أﺳﱰﻳﺢ إذا أﻣﻜﻦ ذﻟﻚ ،ﻓﻨﻈﺮ إﱃ أﺻﺤﺎﺑﻪ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻋﻦ إذﻧﻜﻢ ﻳﺎ ﺟﻤﺎﻋﺔ،
ﻮﺻﻞ ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻫﺬا.ﺗﻌﺎﻟﻮا ﻧﺘﻢ ﺳﻬﺮﺗﻨﺎ ﰲ املﻨﺰل وﻧ ُ ﱢ
وأﻏﻠﻖ دﻛﺎﻧﻪ وﴎﻧﺎ ﰲ ﺣﻠﻘﺔ ﺻﺎﺧﺒﺔ ﻧﺘﺒﺎدَل اﻟﻔﻜﺎﻫﺎت ﻋﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﴫﻧﺎ
وأدﻫﺸﻨﻲ اﻟﺸﻴﺦ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن أﻛﺜﺮﻫﻢ ﻣﺮﺣً ﺎ وﻃﺮﺑًﺎ ،ﺣﺘﻰ ُﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻪ ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﻏري اﻟﺬي
رأﻳﺘﻪ ﰲ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻈﻬﺮ.
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ املﻨﺰل ﺑﻌﻴﺪًا ﻓﺪﺧﻠﻨﺎ ﻣﻦ ﺑﺎﺑﻪ اﻟﺨﺸﺒﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ إﱃ ردﻫﺔ ﻣُﻈﻠﻤﺔ ﴎﻧﺎ
ﻓﻴﻬﺎ ﻋﲆ ﺿﻮء أﻋﻮاد اﻟﻜﱪﻳﺖ ،ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﻨﺎ ﻓﻨﺎءً ﻣﺮﺑﻌً ﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﺼﺒﺎح ﺑﱰول ﺻﻐري ﻋﲆ
ً
ﺣﺎﻣﻼ إﻟﻴﻬﺎ ﺣﺎﻣﻞ ﺧﺸﺒﻲ ﻣﺜﺒﺖ ﰲ اﻟﺠﺪار ،وﻓﺘﺢ اﻟﺸﻴﺦ اﻟﻐﺮف اﻟﺘﻲ ﰲ ﺻﺪر اﻟﻔﻨﺎء
املﺼﺒﺎح ،ودﻋﺎ أﺻﺤﺎﺑﻪ ﻟﻠﺪﺧﻮل ﻓﻴﻬﺎ ﺣﻴﺚ ﺟﻠﺴﻮا ﻋﲆ ﺣﺼري ﺣﻮﻟﻪ ﺑﻌﺾ »اﻟﺸﻠﺖ«
اﻟﺼﻐرية ،ﺛﻢ ﻋﺎد وأوﻗﺪ ﻋﻮدًا ﻣﻦ اﻟﻜﱪﻳﺖ ﻟﻴﴤء ﱄ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ أﻋﲆ اﻟﺴﻄﺢ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ
ﻏﺮﻓﺘﻲ.
127
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻛﺎن اﻟﻘﻤﺮ ﺳﺎﻃﻌً ﺎ ﻓﺄﻏﻨﺎﻧﺎ ﻋﻦ إﺷﻌﺎل اﻟﻜﱪﻳﺖ ﰲ اﻟﺴﻄﺢ ،وﻓﺘﺢ اﻟﺸﻴﺦ ﺑﺎب اﻟﺤﺠﺮة،
رف ﺧﺸﺒﻲ ﻓﻴﻬﺎ ،ﻓﺎﺳﺘﻄﻌﺖ أن أرى ﻣﻨﺰﱄ اﻟﺠﺪﻳﺪ. وأوﻗﺪ ﻣﺼﺒﺎﺣً ﺎ ﻋﲆ ﱟ
وﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﴎﻳﺮ ﻗﺪﻳﻢ وﻟﻜﻨﻪ ﻧﻈﻴﻒ ،وﻛﺮﳼ أﺳﻴﻮﻃﻲ و»ﻛﻠﻴﻢ« ﺻﻐري وﻣﻨﻀﺪة
ُ
اﻋﺘﺪت اﻟﻨﻮم ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻤﻨﺰﱄ ،ﻓﺄﻇﻬﺮت وﻛﻨﺒﺔ ،وﻟﻢ أﺟﺪ ً
ﻓﺮﻗﺎ ﻛﺒريًا ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ
اﻻرﺗﻴﺎح وﺷﻜﺮت اﻟﺸﻴﺦ ،ﻓﺎﺳﺘﺄذن ﻣﴪو ًرا ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﺮف أن اﻟﻐﺮﻓﺔ أﻋﺠﺒﺘﻨﻲ.
128
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ
أﻟﻔﺖ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،وﺑﺪأت أﻋﺘﺎد ﺿﺠﱠ ﺘﻬﺎ وﴎﻋﺔ ﺣﺮﻛﺘﻬﺎ وﺿﺨﺎﻣﺔ ﻫﻴﻜﻠﻬﺎ ،وﺑﺪأت
أﺗﺬوق ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ وأﻃﻼل اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ.
ﻣﺘﺄﻣﻼ ﻣﺎ ﻫﻨﺎك ً ﻓﻜﻨﺖ ﰲ ذﻫﺎﺑﻲ إﱃ ﺑﻴﺘﻲ أﻣﺮ ﺑﺸﺎرع ﻓﺆاد ،وأﻧﻘﻞ ﺑﴫي ﻓﻴﻪ
ﻣﻦ ﺗﱪﱡج وﺑﺮاﻋﺔ وﺳﺬاﺟﺔ وﴏاﺣﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﺷﺒﻪ ﻣﻦ ﺑﻼﻫﺔ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ املﺪ ﱠﻟﻠﺔ املﻐﺮورة ،ﺛﻢ
أﻣﴤ ﰲ ﺳﺒﻴﲇ ﺣﺘﻰ إذا اﻗﱰﺑﺖ ﻣﻦ ﻣﺴﺠﺪ أﺑﻲ اﻟﻌﻼء وﺟﺪت ﻧﻔﴘ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ
ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻋﺎﻟﻢ ﻗﺪﻳﻢ ﻛﺎن ﻳﻤﺘﺎز ﺑﺎﻟﻐﻤﻮض واﻟﻜﱪﻳﺎء واﻟﻮﻋﻲ اﻟﻐﺮﻳﺰي ،وﻟﻜﻨﻪ ﻋﺎﻟﻢ اﻧﺪﺛ َ َﺮ وﻟﻢ
ﻳﺒﻖ ﻣﻨﻪ إﻻ روح ﻣﺘﻤ ﱢﺮد ﺟﺒﺎر ﻳﺘﺤﺼﻦ ﰲ ﺑﻘﺎﻳﺎ اﻷﻃﻼل املﺘﺪاﻋﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗﻘﻬﺮه املﺪﻧﻴﺔ َ
اﻟﺠﺪﻳﺪة.
اﻗﱰﺑﺖ ﻣﻦ ﺑﻴﺖ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺣﺴﻨني ُ ُ
اﻗﱰﺑﺖ ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻲ ،أو ﺑﻘﻮل آﺧﺮ :إذا ﻓﺈذا
وﻟﺴﺖ أدري ﻣﺎ ُ أﻳﻀﺎ أﻧﻨﻲ اﻧﺘﻘﻠﺖ ﻣﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ إﱃ أﺧﺮى أو ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ آﺧﺮ، ُﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ ً
اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻨﻲ أرﺗﺎح إﱃ اﻹﻗﺎﻣﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺤﻲ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻗﺬارة وﻇﻼم وﻓﻮﴇ ،ﻓﺈﻧﻲ ﻣﻊ
ﺷﻌﻮري ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻋﻴﻮب ﻛﻨﺖ أﺟﺪ ﰲ ﺟﻮه ﺷﻴﺌًﺎ ﻣ ً
ُﺆﻧﺴﺎ ﺳﺎﺣ ًﺮا ﻻ أدري ﻣﺎ ﻫﻮ.
وﻛﺎﻧﺖ ﻋﻄﻔﺔ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻻ ﺗﻜﺎد ﺗﺒﻠﻎ ﰲ ﺳﻌﺘﻬﺎ أرﺑﻌﺔ أﻣﺘﺎر ،وﻛﺎﻧﺖ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺒﻠﻠﺔ
ﺑﻤﺎ ﻳُﻠﻘﻰ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ املﺎء اﻟﻘﺬر ﻣﻦ أﻋﲆ اﻟﺒﻴﻮت أو ﻣﻦ أﺳﻔﻞ اﻷﺑﻮاب ،وأﻣﺎ ﺟﺪران اﻟﺒﻴﻮت
ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻋﺎرﻳﺔ ﺗﱪز ﻣﻨﻬﺎ أﺳﻨﺎن ﻣﻦ اﻟﻄﻮب اﻷﺣﻤﺮ املﺘﺂﻛﻞ ،وﺗﺘﺨ ﱠﻠﻠﻬﺎ ﻧﻮاﻓﺬ ﻻ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﺛﻘﻮب
ﺗﺴﱰﻫﺎ ﻗﻄﻊ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﻴﺢ أو اﻟﻘﻤﺎش أو ﺟﺎﻧﺐ ﻗﻔﺺ ﻣﻦ اﻟﺠﺮﻳﺪ ،وﻣﻊ ﻫﺬه ﻓﺈﻧﻬﺎ أﺻﺒﺤﺖ
وأﻟﻔﺖ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﺣﺘﻰ ﴏت ﻻ أﺟﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ اﻟﻀﻴﻖ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﻨﺖ أﺿﻄ ﱡﺮ ُ ﻣﺄﻟﻮﻓﺔ ﻋﻨﺪي،
ﻟﻼﺳﺘﺤﻤﺎم ﰲ »ﻣﺤﻞ اﻷدب« ﻣﻦ ﺻﻔﻴﺤﺔ ﻣﺎء ،وﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﻬﻮاء اﻟﺒﺎرد ﻳﻬﺐﱡ ﻋﲇ ﱠ ﰲ
ﺳﺎﻋﺔ اﻟﺼﺒﺎح ﻣﻦ اﻟﻨﺎﻓﺬة املﻜﺴﻮرة.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻛﻨﺖ ﰲ ﻛﻞ ﻳﻮم أﻗﴤ ﺳﺎﻋﺔ ﺑﻌﺪ ﻋﻮدﺗﻲ إﱃ املﻨﺰل ﻷُﻋ ﱠﺪ ﻋﺸﺎﺋﻲ ﻣﻤﺎ أﺣﻤﻠﻪ ﻣﻌﻲ ﻣﻦ
اﻟﺒﻴﺾ واﻟﺠﺒﻦ واﻟﺰﻳﺘﻮن ،ﺛﻢ أﺟﻠﺲ ﺳﺎﻋﺔ ﻗﺼرية أﴍب ﺑﻌﺾ أﻛﻮاب ﺻﻐرية ﻣﻦ اﻟﺸﺎي
اﻟﺬي ﻛﻨﺖ أﺗﺤﺮى ﰲ اﺧﺘﻴﺎره وأﺗﺄﻧﱠﻖ ﰲ إﻋﺪاده ،وأﺑﺪأ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ ﻋﻤﻞ اﻟﻠﻴﻞ وﻫﻮ اﻟﻘﺮاءة
واﻟﻜﺘﺎﺑﺔ.
واﺷﱰﻳﺖ ﻣﺼﺒﺎﺣً ﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻗﻮي اﻟﻀﻮء ﺣﺘﻰ ﻻ أُﺗﻌﺐ ﺑﴫي ﺑﻀﻮء املﺼﺒﺎح اﻟﺼﻐري
اﻟﺬي أﻋﺪه اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻟﺴﺎﻛﻦ ﻏﺮﻓﺘﻪ ،ﻓﻜﺎن ذﻟﻚ ﻳُﺴﺎﻋﺪﻧﻲ ﻋﲆ اﻻﺳﺘﻤﺮار ﰲ اﻟﻘﺮاءة
واﻟﻜﺘﺎﺑﺔ إﱃ ﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻧﺼﻒ اﻟﻠﻴﻞ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻨﻮم اﻟﻌﻤﻴﻖ اﻟﺬي ﻛﻨﺖ أﻏﺮق ﻓﻴﻪ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا
ﻄﺎ ﺻﺎﰲ اﻟﺬﻫﻦ ﻣﺴﺘﺒﴩًا. ﻛﺎن ﻳﺠﻌﻠﻨﻲ أﻫﺐﱡ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻧﺸﻴ ً
ﻫﻜﺬا ﻗﻀﻴﺖ اﻟﺸﻬ َﺮﻳﻦ اﻷوﱠﻟني ﻣﻦ إﻗﺎﻣﺘﻲ ﺑﺎملﻨﺰل ﺣﺘﻰ رأﻳﺖ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻓﻄﻮﻣﺔ اﺑﻨﺔ اﻟﺸﻴﺦ
ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺗﺄﺗﻲ إﱄ ﱠ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺒﺎﻛﺮ ،وﻓﻮق رأﺳﻬﺎ ﺻﻴﻨﻴﺔ ﻛﺒرية ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻃﻌﺎم ﻣﻦ اﻟﻔﻮل
املﺪﻣﺲ واﻟﻄﻌﻤﻴﺔ واﻟﺒﻴﺾ املﻘﲇ وﻓﻨﺠﺎن ﻣﻦ اﻟﺸﺎي اﻟﺜﻘﻴﻞ اﻟﻘﺎﺗﻢ اﻟﻠﻮن.
ُﺨﻠﺼﺎ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺨﺪﻣﺔ؛ ﻷﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﺑﺪأت أﺿﻴﻖ ﺑﺨﺪﻣﺔ ﻧﻔﴘ ،ﻓﺼﺎرت وﺷﻜﺮﺗﻬﺎ ﻣ ً
اﻟﻔﺘﺎة ﺗﺤﻤﻞ إﱄ ﱠ إﻓﻄﺎري ﻛﻞ ﺻﺒﺎح ﻓﺘﻀﻌﻪ ﻋﲆ ﻋﺘﺒﺔ اﻟﺒﺎب ﺣﺘﻰ إذا ﻗﻤﺖ ﻣﻦ اﻟﻨﻮم وﺟﺪﺗﻪ
ﺗﱰﻗﺐ املﻴﻌﺎد اﻟﺬي أﺳﺘﻴﻘﻆ ﻓﻴﻪ، ﻳﻨﺘﻈﺮﻧﻲ ،وملﺎ ﻣﻀﺖ ﺑﻀﻌﺔ أﺳﺎﺑﻴﻊ أﺧﺮى ﺑﺪأت ﻓﻄﻮﻣﺔ ﱠ
ﻓﺈذا أﺣﺴﺖ ﺑﺄﻧﻨﻲ أﺗﻤﻤﺖ ﻟﺒﴘ ﺻﻌﺪت إﱄ ﱠ ﺗﺤﻤﻞ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ ،ﻓﺘﻀﻌﻬﺎ ﻋﲆ املﻨﻀﺪة ،ﺛﻢ
ﺗﺠﻠﺲ ﻋﻨﺪ ﻋﺘﺒﺔ اﻟﺒﺎب ﺣﺘﻰ أﻓﺮغ ﻣﻦ اﻷﻛﻞ ﻓﺘﺤﻤﻠﻬﺎ ،وﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﴬوري أن أﺗﱠﻔﻖ ﻋﲆ
ﺛﻤﻦ ﻫﺬا اﻟﻄﻌﺎم ،ورﺿﻴﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺑﻌﺪ ﺗﻤﻨﱡﻊ ﻛﺜري أن أدﻓﻊ ﻛﻞ ﺷﻬﺮ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ واﺣﺪًا ،وﻟﻜﻨﱢﻲ
ﻗﺮﺷﺎ؛ ﻷن ﻫﺬا أﻗﻞ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ أﻓﻄﺮ ﺑﻪ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ ﻓﻮق ﻣﺎ ﰲ ﻛﻨﺖ أدﻓﻊ ﻟﻬﺎ ﻣﺎﺋﺔ وﺧﻤﺴني ً
ﻃﻌﺎم اﻟﺒﻴﺖ ﻣﻦ ﻛﺮاﻣﺔ وراﺣﺔ وﻧﻈﺎﻓﺔ ،وملﺎ ﻣﻀﺖ أﺷﻬﺮ اﻟﺮﺑﻴﻊ أﺻﺒﺤﺖ ﰲ املﻨﺰل ﻛﺄﻧﻲ
وﴏت ﻻ أﻏﺾ ﻃﺮﰲ ﻛﻠﻤﺎ ﻣﺮرت ﺑﺸﻘﺔ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ،ﻛﻤﺎ ﺻﺎرت ُ أﺣﺪ أﻓﺮاد اﻷﴎة،
ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺗﺼﻌﺪ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﰲ أوﻗﺎت ﻣُﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻴﻮم وﺗﻘﴤ ﻣﻌﻲ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺳﺎﻋﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ
ﺗﺜﺮﺛﺮ وﺗﻐﻨﻲ.
وﻛﺎﻧﺖ ﻓﺘﺎة ﰲ ﻧﺤﻮ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﻋﴩة ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺮ ،وﻟﻜﻨﱠﻬﺎ ﺗﺒﺪو ﰲ أﺣﺎدﻳﺜﻬﺎ وﻣﻌﺎﻣﻼﺗﻬﺎ
ﺗﻘﺺ ﻋﲇ ﱠ ﱡ أﻛﱪ ﺳﻨٍّﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا ،ﻛﺎﻧﺖ وﻫﻲ ﺗﻨﺘﻈﺮ ﻓﺮاﻏﻲ ﻣﻦ اﻹﻓﻄﺎر ﺗﺠﻠﺲ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺎب
رﺟﺎﻻ وﻧﺴﺎءً ،وﺗُﻌﻴﺪ ﻋﲇ ﱠ اﻷﺧﺒﺎر
ً أﺣﺎدﻳﺚ ﺷﺘﻰ ﻣﻦ اﻟﴩق واﻟﻐﺮب ﻋﻦ أﻣﻬﺎ وأﺑﻴﻬﺎ وﺟرياﻧﻬﺎ
اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻠﻘﻔﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ وﻣﻦ ﺣﻮاﻧﻴﺖ اﻟﺴﻮق ،وﻛﻨﺖ أﻋﺠﺐ أﺷﺪ اﻟﻌﺠﺐ ﻣﻦ إملﺎﻣﻬﺎ ملﺎ ﻻ
ﺗﻠ ﱡﻢ ﺑﻪ ﺻﻐرية ﻣﺜﻠﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﻋﺠﺐ ﻣﻦ دﻗﺔ ﻧﻈﺮاﺗﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻨ ﱡﻢ ﻋﻦ أﻧﻬﺎ ﻋﲆ ﻣﻘﺪار ﻋﻈﻴﻢ
ﻣﻦ اﻟﺬﻛﺎء اﻟﻔﻄﺮي.
130
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ
131
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻣﺎذا ﻳُﺠﺪﻳﻨﻲ اﻻﺳﱰﺳﺎل ﰲ اﻟﺘﻌﻠﻖ ﺑﻬﺎ وﻫﻲ ﻻ ﺗَﺰﻳﺪ ﻋﲆ أﻣﻞ ﺑﻌﻴﺪ ﻳُﺸﺒﻪ اﻟﻨﺠﻢ ﰲ اﻟﺴﻤﺎء
أو اﻷﻓﻖ وراء اﻟﺠﺰﻳﺮة أو اﻟﴪاب ﰲ اﻟﺼﺤﺮاء ،ﻛﻨﺖ أﴏف ﻧﻔﴘ ﻋﻨﻬﺎ ﻋﺎﻣﺪًا ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻌﻤﱠ ﺪ
ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ اﻻﻧﻬﻴﺎر ﰲ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﻮداع ،وﻟﻜﻦ املﺴﺎﻓﺮ أن ﻳﴫف ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻦ اﻟﺤﺒﻴﺐ اﻟﺬي ﻳﻔﺎرﻗﻪ ً
اﻟﻌﺠﻴﺐ ﰲ أﻣﺮي ﳾء آﺧﺮ ﻗﺪ ﻻ ﻳﺨﻄﺮ ﻋﲆ ﺑﺎل أﺣﺪ ،وذﻟﻚ أن ﻓﻄﻮﻣﺔ اﻟﺴﺎذﺟﺔ املﺴﻜﻴﻨﺔ
اﻟﺼﻐرية ﺑﺪأت ﺗُﺆﻧﺴﻨﻲ ﻛﻠﻤﺎ ﺟﺎءت إﱄ ﱠ ﺗﺤﻤﻞ ﺻﻴﻨﻴﺔ اﻹﻓﻄﺎر.
ﺑﺪأت ﺗﺘﺠﺮأ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ،وﺗﺪﺧﻞ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻟﺘﺠﻠﺲ ﻋﲆ ْ وﺑﻌﺪ ﻣﺮور ﻋﺪة أﺷﻬُ ﺮ
ً
وﻛﻨﺖ أﺣﻴﺎﻧﺎ أﺿﻴﻖ ﺑﻬﺎ إذا ﺗﻜﻠﻤﺖ ﻋﻦ أﺷﻴﺎء ﻻ ُ ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺠﻠﻮس ﻋﲆ اﻟﻌﺘﺒﺔ،ﻃﺮف اﻟﻜﻨﺒﺔ ً
أﻋﺮف ﻋﻨﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ،أو ﻻ ﺗﻬﻤﻨﻲ ،أو ﺗُﺜﻘِ ﻞ ﻋﲆ ﺳﻤﻌﻲ ﻓﺄﻗﻮل ﻟﻬﺎ ﰲ ﻋﻨﻒ» :ﻣﺎﱄ وﻛﻞ ﻫﺬا؟«
وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻻ ﺗﻐﻀﺐ ﺑﻞ ﺗﻀﺤﻚ ﻗﺎﺋﻠﺔ» :وﻣﺎ ﻟﻪ؟«
ُ
ﻓﻜﻨﺖ ﻻ أردﱡﻫﺎ ﻋﻦ زﻳﺎراﺗﻲ، وﺗﺒني ﱄ ﺑﻌﺪ ﺣني أن ﻟﻬﺎ ﺑﺮاﻋﺔ ﰲ اﻟﻐﻨﺎء واﻟﻔﻜﺎﻫﺔ، ﱠ
وأدﻋﻬﺎ ﺗﻤﴤ ﻋﲆ ﺳﺠﻴﺘﻬﺎ ﻛﻄﻔﻠﺔ ﻣﺮﺣﺔ ﺧﻔﻴﻔﺔ اﻟﺮوح ،وأﺟﺪ ﰲ اﻧﻄﻼﻗﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﺮﻓﻪ ﻋﻨﻲ
إذا ﻛﻨﺖ ﻣﺘﻌﺒًﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺗُﺜري رﺣﻤﺘﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺬﻛﺮ أﻧﻬﺎ ﺗَﺸﺘﻬﻲ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ
أن ﺗﺸﱰﻳﻪ ﻓﺄﻋﻄﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﺗﺸﱰﻳﻪ ﺑﻪ ،وأﺟﺪ ﺟﺰاءً واﻓﻴًﺎ ﰲ ﺗﻌﺒريﻫﺎ ﻋﻦ ﴎورﻫﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺘﻬﺎ
اﻟﺴﺎذﺟﺔ ،إذ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻬﺐ ﻛﺎﻟﻌﺎﺻﻔﺔ وﺗُﻄﻮﱢق ﻋﻨﻘﻲ ﺑﺬراﻋَ ﻴﻬﺎ وﺗُﻐﻨﻲ أﻏﻨﻴﺔ ﺑﻠﺪﻳﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺪاﻋﺒﺔ
ً
ﺗﻌﻨﻴﻔﺎ ﻳﺴريًا ﻻ ﻳَﺰﻳﺪﻫﺎ إﻻ ﻣﻌﺎﺑﺜﺔ ﺟﺮﻳﺌﺔ ،ﻓﺄﻧﺰع ذراﻋﻴﻬﺎ ﻋﻦ ﻋﻨﻘﻲ ﰲ ﺗﺮﻓﻖ وأﻋﻨﻔﻬﺎ
وﻣﺮﺣً ﺎ.
ﻧﻮاح أﺧﺮى ﻟﻢ أﺗﻮﻗﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،ﻓﻘﺪ ﺣﺪث ﺗﺘﻜﺸﻒ ﻋﻦ ٍ ﱠ وﻟﻜﻦ املﺴﻜﻴﻨﺔ ﺑﺪأت ﺑﻌﺪ ﺣني
ﻳﻮﻣً ﺎ أن ﺟﺎءت إﱄ ﱠ وﻣﻌﻬﺎ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ ﻣﺎدة ﺳﻤﺮاء رﻓﻌﺘﻬﺎ أﻣﺎم ﻋﻴﻨﻲ ﺑني أﺻﺎﺑﻌﻬﺎ ﻗﺎﺋﻠﺔ:
اﺣﺰر ﻣﺎ ﻫﺬه.
ﻓﺴﺄﻟﺘﻬﺎ :ﻣﺎ ﻫﺬا؟
ﱢ
وﻫﻤﻤﺖ ﺑﺄن آﺧﺬﻫﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﻷﻓﺤﺼﻬﺎ ،ﻓﺎﺑﺘﻌﺪت ﻋﻨﻲ ﺿﺎﺣﻜﺔ ،وﻗﺎﻟﺖ ﻫﺎﻣﺴﺔ :ﻧﺼﻒ
رﻳﺎل.
ﻓﺄﻋﺪت ﺳﺆاﱄ :ﻣﺎ ﻫﺬا؟
ﻓﻀﺤﻜﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻓﺮﻓﻮﺷﺔ!
ﻓﺴﺄﻟﺘﻬﺎ ﻣﺘﻌﺠﺒًﺎ ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ »ﻓﺮﻓﻮﺷﺔ« ﻓﻀﺤﻜﺖ ﺿﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺘﺒﺬل،
رﻳﺎﻻ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻚ ﺑﻨﺼﻒ وﻗﺎﻟﺖ :ﻛﺎن ﺷﻬﺎب أﻓﻨﺪي ﻳَﻄﻠُﺐ ﻣﻨﻲ ﻛﻞ ﻳﻮم ﻗﻄﻌﺔ وﻳﻌﻄﻴﻨﻲ ً
رﻳﺎل ،ﻛﻨﺖ أﻣﻮت ﻣﻦ اﻟﻀﺤﻚ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﺳﻤﻌﻪ ﻳﺘﻜ ﱠﻠﻢ ﺑﻌﺪ أن ﻳﻀﻌﻬﺎ ﰲ ﺳﻴﺠﺎرة وﻳَﴩﺑﻬﺎ ،أﻻ
ﺗﻌﺮﻓﻬﺎ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي؟ ﺟﺮب! ﺿﻌﻬﺎ ﰲ ﺳﻴﺠﺎرة وأﺷﻌﻠﻬﺎ ﺗﺠﺪ ﻧﻔﺴﻚ ﺳﻌﻴﺪًا.
132
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ
133
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻳﺘﺪﺧﻠﻮن ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وأدﻫﺸﻨﻲ أن اﻟﺰﻋﻴﻢ ﱠ ﻓﻜﱪ ﻗﻮﱄ ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻟﺴني ﰲ اﻟﺤﻠﻘﺔ ،وﺑﺪءوا
ﻗﺎﺋﻼ :اﺧﺮس أﻧﺖ! ﺑﺪﻻ ﻣﻦ أن ﻳﻨﻔﺠﺮ ﰲ ﱠ أﻧﺎ وﴏخ ﻓﻴﻪ ً اﻧﻔﺠﺮ ﰲ أﺣﺪﻫﻢ ً
ﻓﻌﻼ ،واﻧﺰوى ﰲ رﻛﻨﻪ ﺻﺎﻣﺘًﺎ ﻣﻊ ﺧﺮس ًَ وأدﻫﺸﻨﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ أن ذﻟﻚ اﻟﺴﻴﺪ اﻟﺘﺎﺑﻊ
أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳَﻨﺘﻔِ ﺶ إذا ﻇﻬﺮ أﻣﺎم اﻟﻨﺎس ﻛﺎﻟﺪﻳﻚ اﻟﺮوﻣﻲ.
ﻓﻀﻠﺖ أن أدﻋ َﻮ َك إﱃ ﻫﻨﺎ ﻷُﻛ ﱢﻠﻤَ ﻚ ﺣﺘﻰ ﺗﻌﻠﻢ أﻧﻲ ﻻ أرﻳﺪ
ُ واﺗﺠﻪ اﻟﺰﻋﻴﻢ إﱄ ﱠ ً
ﻗﺎﺋﻼ :إﻧﻲ
ﺑﻚ إﻻ ﻛﻞ ﺧري ،ﺑﻞ إﻧﻲ ﻓﻜﺮت ﰲ أن أُﺳﻨﺪ إﻟﻴﻚ وﻇﻴﻔﺔ.
ﻓﺎﺑﺘﺴﻤﺖ ﰲ ﴎي وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :أﺷﻜﺮك ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ﻷﻧﻲ ﻻ أﻃﻠﺐ وﻇﻴﻔﺔ. ُ
ﻓﺰاد وﺟﻬُ ﻪ اﺣﻤﺮا ًرا ،وﺑﺪأ ﻳﺮﻓﻊ ﺻﻮﺗﻪ ﰲ املﻨﺎﻗﺸﺔ ،وﻛﺎن ﻛ ﱠﻠﻤﺎ ﺳﻤﻊ أﺣﺪ أﺗﺒﺎﻋﻪ ﻳﺘﻜﻠﻢ
ﻳﺼﻴﺢ ﺑﻪ ﰲ ﺟﻔﺎء ً
ﻗﺎﺋﻼ» :اﺳﻜﺖ أﻧﺖ!«
ُﻨﻔﺲ ﻣﻦ ﻏﻴﻈﻪ ﺑﺎﻻﻧﻔﺠﺎر ﰲ ﻫﺆﻻء وﻛﺎﻧﺖ ﻟﻔﺘﺎﺗُﻪ وﻧﻐﻤﺔ ﺻﻮﺗﻪ ﺗﺪ ﱡل ﻋﲆ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳ ﱢ
اﻷﺗﺒﺎع اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺮف أﻧﻬﻢ ﺣﻮﻟﻪ ﻣﺜﻞ اﻟﻜﻼب اﻷﻟﻴﻔﺔ.
واﺳﺘﻤ ﱠﺮت ﺑﻴﻨَﻨﺎ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺣﺮارة اﻟﺰﻋﻴﻢ ﺗﺰداد ﺷﻴﺌًﺎ ﻓﺸﻴﺌًﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻄﻞ
ﱠ
املﺘﻮﻗﻊ ،ﻓﺈﻧﻪ أﺧﺬ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻳَﺨﺒﻂ ﺑﻴﺪَﻳﻪ ﻋﲆ املﻜﺘﺐ اﻟﺬي أﻣﺎﻣﻪ ،وﻳَﺼﻴﺢ اﻧﺘﻈﺎري ﻟﻼﻧﻔﺠﺎر
ُ
ﺑﺄﻋﲆ ﺻﻮﺗﻪ :ﻣﻦ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻣﻌﻲ أﺣﻄﻤﻪ! ﻣﻦ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻣﻌﻲ أﻛﴪه!
ﻓﻀﺤﻜﺖ ﰲ رﺛﺎء ،وﻛﺎﻧﺖ ﺿﺤﻜﺘﻲ ﻫﺬه املﺮة ُ وﺧﻴﱢﻞ إﱄ أﻧﻨﻲ ﺣِ ﻴﺎل ﻣﺠﻨﻮن ﻫﺎﺋﺞ، ُ
ﻇﺎﻫﺮة ،وﺗﺬﻛﺮت ﻣﻮﻗﻔﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻣﻊ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل ﱄ ﻫﻮ اﻵﺧﺮ إﻧﻪ ﻳﺤﻄﻤﻨﻲ،
وﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ :إن ﻫﺆﻻء ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻻ ﻳﻌﺘﻤﺪون إﻻ ﻋﲆ ﻣﻘﺪرﺗﻬﻢ ﰲ اﻟﺘﺪﻣري واﻟﺘﺤﻄﻴﻢ ،ﻓﻠﻨﻨﻈﺮ!
وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﻫﺎدﺋًﺎ :وﻣﺎذا ﻳﺪﻋﻮك إﱃ ﺗﺤﻄﻴﻤﻲ؟
ﺣﻨﻘﺎ ﻣﻦ ﻫﺪوﺋﻲ ،واﺳﺘﻤﺮ ﻳﺨﺒﻂ ﺑﻴﺪﻳﻪ اﻻﺛﻨﺘني ﻋﲆ املﻜﺘﺐ ﻛﺄﻧﻪ ﺛﻮر ﻣﺴﻌﻮر، ﻓﺰاد ً
واﻧﺘﻔﺨﺖ أوداﺟُ ﻪ ﺣﺘﻰ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻨﻔﻠﻖ.
ﺮت ﻣﻮﻗﻔﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻣﻦ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،وﻣﺎ ﻗﻠﺘﻪ ﻟﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻫﺪدﻧﻲ ﻓﺎﻧﺪﻓﻌﺖ وﺗﺬ ﱠﻛ ُ
ﺻﺎرﺧﺎ ﰲ وﺟﻬﻪ :اﻋﻠﻢ أﻧﻚ ﻻ ﺗَﻘﺪر أن ﺗُﺤﻄﻤﻨﻲ وﻻ أن ﺗﻜﴪﻧﻲ ،وﻣﻦ أﻧﺖ ﺣﺘﻰ ﺗﺤﻄﻤﻨﻲ؟ ً
ﻟﺴﺖ إﻟﻬً ﺎ وﻟﺴﺖ ﺻﺎﻋﻘﺔ ،وﻣﺎ أﻧﺖ إﻻ ﺑﴩ ﻣﺜﲇ ،ﻻ ﺗُﺼﺪﱢق أﻧﻚ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺤﻄﻢ أﺣﺪًا إﻻ
ﻄﻢ ﻧﻔﺴﻚ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻐﺮور اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻠﻚ ﺗﻈﻦ أﻧﻚ إذا ﻛﺎن ﻫﻮ ﻳﺤﻄﻢ ﻧﻔﺴﻪ ،إﻧﻚ أﻧﺖ ﺗُﺤ ﱢ
ﺳﺒﻴﻼ ﻋﲇﱠ؛ ﻷﻧﻲ ﻻ أﻃﻤﻊ ﰲ ﳾء ﻋﻨﺪك. ً إﻟﻪ ،ﻟﻴﻜﻦ ﺳﻠﻄﺎﻧﻚ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻓﺈﻧﻚ ﻟﻦ ﺗﺠﺪ
ﻗﴪا ،وﺗﻌﺠﺒﺖ ﻣﻦ اﻟﺰﻋﻴﻢ اﻟﻜﺒري ﻋﻨﺪﻣﺎ
وﻗﻤﺖ ﻷﻧﴫف ،ﻓﺘﻤﺴﻚ ﺑﻲ أﺗﺒﺎﻋﻪ وأﺟﻠﺴﻮﻧﻲ ً ُ
رأﻳﺘﻪ ﻳﻬﺪأ ﻋﲆ أﺛﺮ دﻓﻌﺘﻲ ،ﺑﻞ إﻧﻪ أﺧﺬ ﻳُﺨﺎﻃﺒﻨﻲ ﺧﻄﺎﺑًﺎ ﻟﻴﻨًﺎ ،وﻳﻘﻮل ﱄ ﰲ ﻫﺪوء» :إﻧﻚ
أﺳﺄت ﻓﻬﻤﻲ وﻟﻢ أﻗﺼﺪك ﺑﻜﻠﻤﺘﻲ ،وﻣﺎ أﻧﺖ إﻻ ﻣﺜﻞ وﻟﺪي«.
134
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ
وﻟﻢ أﺑﻖ ﰲ املﺠﻠﺲ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ إﻻ رﻳﺜﻤﺎ ﻳﻬﺪأ اﻟﺠﻮ ﺑﻌﺪ املﻨﻈﺮ اﻟﻌﺎﺻﻒ ،ﺛﻢ ُ
ﻗﻤﺖ ﺧﺎرﺟً ﺎ
رﻓﻌﺖ ﺻﻮﺗﻲ ﰲ ﺣﴬة اﻟﺰﻋﻴﻢ ُ ﻓﻘﺎم وراﺋﻲ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﺗﺒﺎع ،وﺟﻌﻠﻮا ﻳَﻠﻮﻣُﻮﻧﻨﻲ ﻋﲆ أﻧﻲ
اﻟﺬي ﻻ ﻳﺠﺮؤ وزﻳﺮ ﻋﲆ أن ﻳﺮﻓﻊ ﺻﻮﺗﻪ أﻣﺎﻣﻪ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻬﻢ ﰲ ﻫﺪوء :أﺣﻤﺪ ﷲ ﻋﲆ أن ﱄ ﺻﻮﺗًﺎ أرﻓﻌﻪ.
ً
ﻣﻘﺎﻻ آﺧﺮ ﻋﻦ »اﻟﺰﻋﻤﺎء املﺰﻳﻔني«. ﺛﻢ ﻣﻀﻴﺖ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺘﻲ إﱃ »ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار« ﻷﻛﺘﺐ
135
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ
وﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﻋﻨﺪ اﻷﺳﺘﺎذ وأﻧﺎ أﺳﺄل ﻧﻔﴘ ﻛﻴﻒ ﻳُﻔ ﱢﻜﺮ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ،وأي ﻧﻮع ﻣﻦ املﻘﺎﻻت ُ
ﻳﺮﻳﺪ ﻣﻨﻲ؟ أﻫﻲ دﻋﺎﻳﺔ ﻟﻠﺴﻴﺪ اﻟﻮﺟﻴﻪ؟ أم ﻫﻲ دﻋﺎﻳﺔ ﻟﻸﻣري وﱄ ﻋﻬﺪ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺼﺪﻳﻘﺔ؟ أم
ﻫﻲ ﺧﻄﺔ ﻻ أﻋﺮﻓﻬﺎ ﻟﻠﺒﺪء ﰲ ﻣﻌﺮﻛﺔ؟ ﻟﻘﺪ ﻋ ﱠﻠﻤﺘﻨﻲ اﻷﺷﻬﺮ اﻟﺘﻲ ﻋﻤﻠﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻊ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ
ﻣﺨﺘﺎر أﻧﻪ رﺟﻞ ﻋﻤﻴﻖ اﻷﻏﻮار.
وﺳﺄﻟﺖ ﻧﻔﴘ إﱃ أﻳﻦ أذﻫﺐ؟ وﻟﻜﻨﻲ رﻛﺒﺖ ﻋﺮﺑﺔ اﻷﺳﺘﺎذ ،وﻗﻠﺖ ﻟﻠﺴﺎﺋﻖ أول اﺳﻢ ﺧﻄﺮ
ﱄ :ﻣﺤﻞ ﻣﺎﻧﻮﻳﻞ.
ﺛﻢ ﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ :ﻣﺎذا أﺻﻨﻊ ﺑﻬﺬه اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ﻛﻠﻬﺎ؟ ﺑﺪﻟﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ وﺣﺬاء ﺟﺪﻳﺪ ﻃﺒﻌً ﺎ
أﻳﻀﺎ؟ رﺑﺎط رﻗﺒﺔ وﻣﻨﺪﻳﻞ وﻗﻤﻴﺼﺎن ً
ﻣﺜﻼ ،ﺛﻢ ﻣﺎذا؟ أﻇﻦ أن اﻟﺒﺎﺋﻊ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﻼﻣﻊ وﻣﺎذا ً
ﺳﻴﻔﺘﺢ ﱄ أﺑﻮاب اﻟﴩاء ﻋﲆ وﺳﻌﻬﺎ ،ﻓﻼ ﺣﺎﺟﺔ ﺑﻲ إﱃ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻃﺮﻳﻘﺔ اﻹﻧﻔﺎق ﻣﻨﺬ اﻵن،
وﺗﺤﻘﻖ ﻇﻨﻲ ﻓﻠﻢ أﺟﺪ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﰲ ﴏف اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ﻋﻨﺪﻣﺎ دﺧﻠﺖ إﱃ ﻣﺤﻞ »ﻣﺎﻧﻮﻳﻞ« ،ﻛﻤﺎ
ﻟﻢ أﺟﺪ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﰲ اﺧﺘﻴﺎر املﻼﺑﺲ واﻷﻟﻮان ،أﺧﺬَ ِت اﻟﻨﻘﻮد ﺗﻄري ﻣﻨﻲ ﻛﺎﻟﻌﺼﺎﻓري ،ﻗﻤﻴﺺ
ﺑﺨﻤﺴﺔ ﺟﻨﻴﻬﺎت ورﺑﺎط رﻗﺒﺔ ﺑﺜﻼﺛﺔ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ املﻨﺎﺳﺐ أن ﻳﻜﻮن ﱄ ﻗﻤﻴﺺ واﺣﺪ ،أو
ﺮت أﻧﻲ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﻣﻼﺑﺲ رﺑﺎط رﻗﺒﺔ واﺣﺪ ،واﻟﺒﺪﻟﺔ ﺑﺜﻼﺛني ﺟﻨﻴﻬً ﺎ واﻟﺤﺬاء ﺑﺨﻤﺴﺔ ،وﺗﺬ ﱠﻛ ُ
ﺗﺤﺘﺎﻧﻴﺔ؛ ﻷن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺒﺪﻟﺔ ﻻ ﻳﻠﻴﻖ ﺑﻬﺎ أن ﺗﻌﺘﲇ ﻣﻼﺑﴘ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﺑﻌﺾ ﻣﻨﺎدﻳﻞ ﺣﺮﻳﺮﻳﺔ
وﺟﻮارب وﻋﻠﺒﺔ ﺳﺠﺎﺋﺮ وﻗﻔﺎز وﺑﻌﺾ زﺟﺎﺟﺎت ﻋﻄﻮر.
وﻣُﺠﻤﻞ اﻟﻘﻮل أﻧﻲ ﴏﻓﺖ أﻛﺜﺮ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت اﻟﺘﻲ أﺧﺬﺗﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﺘﺎذ ،وﻟﻢ ﻳﺒﻖ ﰲ ﺟﻴﺒﻲ
ﱠ
ﻣﻔﺼﻠﺔ ﻋﲆ ﻗﺪﱢي، وﻟﺒﺴﺖ اﻟﺒﺪﻟﺔ ﻷُﺟ ﱢﺮﺑﻬﺎ ﻓﻮﺟﺪﺗﻬﺎ ﺑﺪﻳﻌﺔ ﻛﺄﻧﻬﺎ
ُ إﻻ ﺑﻌﺾ ﺟﻨﻴﻬﺎت »ﻓﻜﺔ«،
ﺣﻘﺎ ،ﺑﻞ إﻧﻲ ﻛﻨﺖوﻟﺴﺖ أﺑﺎﻟﻎ إذا ﻗﻠﺖ أﻧﻲ ﻛﻨﺖ وﺟﻴﻬً ﺎ ٍّ ُ وﻧﻈﺮت إﱃ ﺻﻮرﺗﻲ ﰲ املﺮآة
ﻠﺖ ﻧﻔﴘ ً
واﻗﻔﺎ أﻣﺎم ﻣﻨﻰ أﻗﻮل ﻟﻬﺎ» :أﻣﺎ ﺗُﻌﺠﺒﻚ ﻫﺬه اﻟﺒﺪﻟﺔ أوﺟﻪ ﻣﻦ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ ،وﺗﻤﺜ ﱠ ُ
اﻟﺴﻮداء؟«
وﺣﻤﻞ ﻋﺎﻣﻞ املﺘﺠﺮ ﻣﺎ اﺷﱰﻳﺖ إﱃ اﻟﺴﻴﺎرة ،ﻓﻨﻔﺤﺘﻪ ﺑﺮﺑﻊ رﻳﺎل ﺛﻢ رﻛﺒﺖ ﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ
إﱃ ﻣﺪﺧﻞ ﺣﺎرة اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ،وﻟﻢ ﺗُﻬﻤﱠ ﻨﻲ ﻧﻈﺮة اﻟﺴﺎﺋﻖ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻣﺮﺗْﻪ ﺑﺎﻟﻮﻗﻮف ﻫﻨﺎك
ُﻨﺘﺼﻒ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻣﻦأﻣﺎم ﺣﺎرة ﺿﻴﻘﺔ ﻗﺬرة ،وﻃﻠﺒﺖ ﻣﻨﻪ ﰲ ﺗﻌﺎل أن ﻳﻌﻮد إﱄ ﱠ ﻗﺒﻞ ﻣ َ
املﺴﺎء.
وﻟﻢ أﺟﺪ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﰲ ﺣﻤﻞ اﻟﺮﺑﻂ اﻟﺘﻲ اﺷﱰﻳﺘﻬﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺿﺨﻤﺔ ،وﻋﺮﺟﺖ ﻋﲆ
رﻏﻴﻔﺎ وﺑﻌﺾ اﻟﺠﺒﻦ وﻋﻠﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﺎﻛﻬﺔ املﺤﻔﻮﻇﺔ، ً ﺑﻘﺎل ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ املﻨﺰل ،ﻓﺎﺷﱰﻳﺖ ﻣﻨﻪ
وﴎت إﱃ املﻨﺰل وأﻧﺎ أﺗﺄﻣﱠ ﻞ ﰲ ﺗﻔﺎﻫﺔ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت املﺎﺋﺔ اﻟﺘﻲ أﺣﻤﻞ ﻣﺎ اﺷﱰﻳﺘﻪ ﺑﻬﺎ ﰲ ﻳﺪي ُ
اﻟﻴُﻤﻨﻰ وﺗﺤﺖ إﺑﻄﻲ.
138
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ
ُ
واﺳﺘﺤﻤﻤﺖ وأﻛﻠﺖ ُ
ﻓﺤﻠﻘﺖ ذﻗﻨﻲ وﻗﻀﻴﺖ ﺑﻌﺪ ﻇﻬﺮ اﻟﻴﻮم ﰲ اﻻﺳﺘﻌﺪاد ﻟﻠﺤﻔﻠﺔ،
ﺑﺪأت أﻟﺒﺲ ﻣﻼﺑﴘ ﻣﻦ ﺗﺤﺘﺎﻧﻴﺔ وﻓﻮﻗﺎﻧﻴﺔ، ُ واﺳﱰﺣﺖ إﱃ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻐﺮوب ،ﺛﻢ ُ
ُ
وﻟﺴﺖ أدري ﻣﺎ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻬﺎ ﺗﺄﺗﻲ إﱄ ﱠ ﰲ ﺗﻠﻚ وﺷﻌﺮت ﺑﻮﻗﻊ ﺧﻄﻮات ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺧﺎرج اﻟﺒﺎب،
ﺧﺠﻠﺖ ﻣﻦ اﻟﻈﻬﻮر ﺑﻬﺎ أﻣﺎﻣﻬﺎ. ُ اﻟﺴﺎﻋﺔ وأﻧﺎ ﰲ ﻣﻼﺑﴘ اﻷﻧﻴﻘﺔ ،ﻓﻘﺪ
وﻗﻔﺖ أﻣﺎﻣﻲ ﺗُﺤﻤﻠِﻖ ﰲ وﺟﻬﻲ ﻣُﻨﺪﻫﺸﺔ ،ﺛﻢ ﺷﻬﻘﺖ وﴐﺑﺖ ﺻﺪرﻫﺎ وملﺎ رأﺗْﻨﻲ اﻟﻔﺘﺎة َ
ﺑﻴﺪﻫﺎ ،واﻧﺪﻓﻌﺖ ﻧﺤﻮي ﺗُﻄﻮﱢق ﻋﻨﻘﻲ ﺑﺬراﻋﻴﻬﺎ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻣﱪوك!
ﻛﻨﺖ ﺗﺬﻛﺮﺗﻬﺎ ﻷﺷﱰي ﻟﻬﺎ ﻫﺪﻳﺔ وﻟﻢ أﻋﺮف ﻛﻴﻒ أرد ﻫﺬه اﻟﺘﺤﻴﺔ اﻟﻌﻨﻴﻔﺔ ،وﺗﻤﻨﱠﻴﺖ ﻟﻮ ُ
ﺗﻔﺮح ﺑﻬﺎ ،وﺧﻄﺮ ﱄ ﺑﻌﺪ ﻟﺤﻈﺔ أن أﻫﺪﻳﻬﺎ أﺣﺪ املﻨﺎدﻳﻞ اﻟﺤﺮﻳﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ اﺷﱰﻳﺘﻬﺎ ،ﻓﺄﺧﺮﺟﺘُﻪ
ﻣﻦ رﺑﻄﺘﻪ وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﻛﺎذﺑًﺎ :ﻫﺬا املﻨﺪﻳﻞ ﻫﺪﻳﺔ اﺷﱰﻳﺘُﻬﺎ ﻟﻚِ ﻳﺎ ﻓﻄﻮﻣﺔ.
ﻓﻤﺴﺤﺖ ﻳﺪﻳﻬﺎ ﰲ ﺛﻴﺎﺑﻬﺎ ،وأﺧﺬت املﻨﺪﻳﻞ وﻫﻲ ﺗَﺼﻴﺢ ﰲ ﻓﺮح ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﷲ!
وﺟﻌﻠﺖ ﺗﻨﻈﺮ إﱃ املﻨﺪﻳﻞ ﺑﻌﺪ أن ﻧﴩﺗﻪ أﻣﺎم ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ،وأﺧﺬت ﺗَﺼﻴﺢ ﰲ ﻓﺮﺣﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ:
»ﷲ ﻳﺨﻠﻴﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي «.وﻧﻔﻀﺘْﻪ وﺛﻨﺘﻪ وﻧﻈﺮت إﱃ أﻟﻮاﻧﻪ ﻣﻌﺠﺒﺔ ،ﺛﻢ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﺣﻮل
ﻛﺘﻔﻴﻬﺎ ،وأﻣﺴﻜﺖ ﻃﺮﻓﻴﻪ ﺑﻴﺪﻫﺎ ﻓﻮق ﺻﺪرﻫﺎ ،وﺗﻤﺎﻳﻠﺖ ﰲ ﺗﺄﻧﻖ إﱃ اﻟﻴﻤني واﻟﺸﻤﺎل وﻫﻲ
ﺗﻀﺤﻚ ﻗﺎﺋﻠﺔ :أﻟﺴﺖ أﻋﺠﺒﻚ ﻫﻜﺬا؟
وأﺧﺬت ﺗَﺴري ﻣﺘﻤﺎﻳﻠﺔ ﰲ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﰲ زﻫﻮ ،ﺛﻢ رﻓﻌﺖ املﻨﺪﻳﻞ وﺷﻤﺖ راﺋﺤﺘﻪ ،وﻗﺎﻟﺖ ﰲ
دﻫﺸﺔ :ﷲ!
راﺋﺤﺔ اﻟﺴﺖ ﻫﺪى! أﻻ ﺗﻌﺮﻓﻬﺎ؟
وﻟﻢ أﻋﺮف ﻣﻦ ﻫﻲ اﻟﺴﺖ ﻫﺪى؛ ﻷن ﻓﻄﻮﻣﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻐﻤﺮﻧﻲ ﰲ أﺣﺎدﻳﺜﻬﺎ ﺑﺄﺳﻤﺎء ﻻ
اﻧﴫﻓﺖ ﻋﻨﻲ ﺣﺘﻰ أﺳﺘﻌﺪ ﻟﻠﺨﺮوج ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺟﺮؤ أن أﻃﻠﺐ ﻣﻨﻬﺎ ْ ﺣﴫ ﻟﻬﺎ ،ووددت ﻟﻮ
أن ﺗﺨﺮج.
واﻗﱰﺑﺖ ﻣﻨﻲ وﺟﻌﻠﺖ ﺗﻔﺤﺺ ﺛﻴﺎﺑﻲ ﻗﺎﺋﻠﺔ :أﻳﻦ ﺗﺬﻫﺐ اﻟﻠﻴﻠﺔ؟ ْ
ﻓﻘﻠﺖ ﺑﻐري اﻫﺘﻤﺎم :إﱃ ﺣﻔﻠﺔ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ دﻓﻌﻪ :ﻓﻴﻬﺎ ﺳﺘﺎت؟
ﻓﺄﴍت ﺑﺮأﳼ :ﻧﻌﻢ.
وﻗﻠﺖ ﻷَﴏﻓﻬﺎ :أرﻳﺪ أن أﺗﻢ اﺳﺘﻌﺪادي ﻟﻠﻨﺰول ﻳﺎ ﻓﻄﻮﻣﺔ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺤﻨﻖ :ﻃﺒﻌً ﺎ! ﺣﻔﻠﺔ ﺳﺘﺎت ،وﺗُﺮﻳﺪ أن أذﻫﺐ ﻣﻦ ﻋﻨﺪك.
ووﺿﻌﺖ املﻨﺪﻳﻞ ﻋﲆ أﻧﻔﻬﺎ وﺷﻤﺘﻪ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻫﻲ ﻫﻲ اﻟﺮاﺋﺤﺔ .ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﺗﺬﻫﺐ إﱃ
اﻟﺤﻔﻼت ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗُﺮﻳﺪ أن ﺗﺄﺧﺬﻧﻲ ،أﺗﺪري ملﺎذا؟
139
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻧﻈﺮت إﱄ ﰲ ﺧﺒﺚ ،ﺛﻢ ﺿﺤﻜﺖ ﺿﺤﻜﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ وﻫﻤﺴﺖ» :ﺗﻘﻮل ﱄ إﻧﻲ ﻣﺎ زﻟﺖ
ﺻﻐرية اﻵن«.
وﺗﻘﺪﻣﺖ ﻣﻨﻲ ﻣﺮة أﺧﺮى وﺟﻌﻠﺖ ﺗُﺒﺪي إﻋﺠﺎﺑﻬﺎ ﺑﻠﻮن رﺑﺎط رﻗﺒﺘﻲ ﺑﻌﺒﺎرات ﺳﺎذﺟﺔ،
وﻗﺎﻟﺖ :ﺣﺘﻰ اﻟﺴﻨﻤﺎ ﻻ أذﻫﺐ إﻟﻴﻬﺎ؛ ﻷن أﺑﻲ ﻻ ﻳﺮﴇ.
أﺗﺪري ملﺎذا؟
وﻫﻤﺴﺖ ﻣﺮة أﺧﺮى :ﻷﻧﻲ ﺻﻐرية وﻫﻮ ﻻ ﻳُﺮﻳﺪ أن أرى اﻟﺮواﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻠﻢ اﻟﺤﺐ.
وﺿﺤﻜﺖ ﺿﺤﻜﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ أﺧﺮى.
وﺗﻌ ﱠﻠﻘﺖ ﺑﺬراﻋﻲ ﻓﺠﺄة وﻫﻲ ﺗﻘﻮل :ﺧﺪﻧﻲ ﻣﻌﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي .ﺳﺄﺿﻊ املﻨﺪﻳﻞ ﻫﻜﺬا
ﺣﻮل ﻛﺘﻔﻲ ،وﺳﺄﻟﺒﺲ اﻟﻔﺴﺘﺎن اﻟﺠﺪﻳﺪ ،ﺑﺠُ ﻨﻴﻪ املﱰ اﻟﻮاﺣﺪ ،اﺷﱰاه ﱄ ﺷﻬﺎب أﻓﻨﺪي ،وأراد
أن أذﻫﺐ ﻣﻌﻪ إﱃ اﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﻣﻦ وراء أﺑﻲ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻟﻢ أذﻫﺐ ،ﺳﺄذﻫﺐ ﻣﻌﻚ وﻟﻦ ﻳﻌﻠﻢ أﺑﻲ؛
ﻷﻧﻪ ﰲ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ﻳﺪﺧﻞ إﱃ »املﻨﺪرة« ﻣﻊ أﺻﺤﺎﺑﻪ وﻳُﻐﻠﻘﻬﺎ ،وﻳُﻤﻜﻨﻨﻲ أن أﺧﺮج وأﻋﻮد ﻗﺒﻞ أن
ﻳﻔﺘﺢ اﻟﺒﺎب.
ً
وﻋﺎدت ﺗﻀﺤﻚ ﺿﺤ ًﻜﺎ ﻃﻮﻳﻼ.
واﻧﺪﻓﻌﺖ ﻋﲇ ﱠ ﻓﺠﺄة ،ﻓﻄﻮﱠﻗﺖ ﻋﻨﻘﻲ ﺑﺬراﻋﻴﻬﺎ ،ورﻓﻌﺖ وﺟﻬﻬﺎ ﻧﺤﻮي.
وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻔﺎﺟﺄة ﻟﻢ أﺗﻮﻗﻌﻬﺎ ﻓﺬُﻫﻠﺖ ورﻓﻌﺖ ﻳﺪي إﱃ ﻳﺪَﻳﻬﺎ ﻷﺑﻌﺪﻫﻤﺎ ﺑﺮﻓﻖ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ
ُ
وﻣﻠﺖ ﺑﺮﻓﻖ، ُ
ﻓﻤﺴﺤﺖ ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ ِ ﺗﻤﺴﻜﺖ ﺑﻌﻨﻘﻲ وﻧﻈﺮت إﱄ ﱠ ﻧﻈﺮة اﻟﺘﺠﺎء ﻗﻮﻳﺔ اﻟﺘﻌﺒري،
ﻋﲆ وﺟﻬﻬﺎ املﺮﻓﻮع ﻓﻘﺒﻠﺖ ﺟﺒﻴﻨﻬﺎ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن آﺧﺬك ﻫﺬه املﺮة ﻳﺎ ﻓﻄﻮﻣﺔ ،وأﻋﺪكِ
أن أذﻫﺐ ﺑﻚ إﱃ اﻟﺴﻴﻨﻤﺎ ﰲ ﻟﻴﻠﺔ أﺧﺮى ﺑﻌﺪ اﺳﺘﺌﺬان واﻟﺪك.
ﻓﺤ ﱠﻠﺖ ﻳﺪﻳﻬﺎ ﰲ ﺣﻨﻖ ،وﴏﻓﺖ وﺟﻬﻬﺎ ﻋﻨﻲ ﻧﺎﻓﺮة وﻫﻲ ﺗﻘﻮل :ﻃﻴﺐ ﺧﻼص!
ﺛﻢ اﻧﻔﻠﺘﺖ ﻣﴪﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ.
وﻧﻈﺮت ﺧﻠﻔﻬﺎ وﻫﻲ ﺧﺎرﺟﺔ وملﺤﺖ ﺻﻮرﺗﻬﺎ وﻫﻲ ﻣﻄﺒﻮﻋﺔ أﻣﺎم ﺿﻮء اﻟﻘﻤﺮ اﻟﺬي
ﻳﻐﻤﺮ اﻟﺴﻄﺢ ،وﻷول ﻣﺮة ﻋﺮﻓﺖ أن اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ أﻣﺎﻣﻲ اﻣﺮأة ﻻ ﻃﻔﻠﺔ ،ﻛﺎن ﻗﻮاﻣﻬﺎ وﻫﻲ
ﺗﺘﺤ ﱠﺮك ﻣﴪﻋﺔ ﰲ ﻏﻀﺒﻬﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﻗﻮام أﻧﺜﻰ ﻣﻦ اﻟﻮﺣﺶ ﺗﻨﺴﺎب ﰲ ﻏﺎﺑﺔ ،ﺟﺴﻢ ﻟﺪن ﻣﲇء
ﺣﺴﻦ اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ ،وﻣﻼﻣﺢ ﻳﻔﻴﺾ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺸﺒﺎب اﻟﻘﻮي ،ودﻓﻌﺔ وﺣﺸﻴﺔ ﺗﻤﺘﺎز ﺑﺮﺷﺎﻗﺔ ﺗُﺸﺒﻪ
رﺷﺎﻗﺔ اﻟﻨﻤﻮر ﰲ ﺣﺮﻛﺘﻬﺎ ،وﻻ أدري ﻛﻴﻒ أﺻﻒ ﺷﻌﻮري وأﻧﺎ واﻗﻒ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ أﻧﻈﺮ ﰲ
أﻋﻘﺎﺑﻬﺎ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﺰﻳﺠً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﻄﻒ واﻟﻨﻔﻮر واﻹﻋﺠﺎب واﻟﺘﻘ ﱡﺰز ﻣﻊ ﺷﻌﻮر آﺧﺮ ﻣﻦ إدراك
ﻣﻮﻗﻔﺎ ﺣﺎﺳﻤً ﺎ ،وارﺗﻤﻴﺖ ﻋﲆ ً ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺤﺎﺳﻦ وﻣﻦ ﻟﻮم اﻟﻨﻔﺲ ﻋﲆ أﻧﻲ ﻟﻢ أﺗﱠﺨﺬ ﻣﻌﻬﺎ
اﻟﻜﺮﳼ اﻟﻄﻮﻳﻞ ﺣﺎﺋ ًﺮا ﺣﺰﻳﻨًﺎ ﻣُﻀﻄﺮﺑًﺎ ﺑني ﻫﺬه املﺸﺎﻋﺮ املﺘﻀﺎرﺑﺔ ﻻ أدري ﻣﺎذا ﻳﻨﺒﻐﻲ ﱄ
140
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ
أن أﻓﻌﻞ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا ،ﻓﻬﻞ أﺻﺪﻣﻬﺎ ﴏاﺣﺔ وأﻗﻮل ﻟﻬﺎ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻧﺴﺘﻤ ﱠﺮ ﰲ ﻫﺬه املﻬﺰﻟﺔ،
ﻋﺎملني ﻣُﺨﺘﻠﻔني ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﺎن أن ﻳﻤﺘﺰﺟﺎ؟ وﻟﻜﻦ أﺗﻔﻬﻢ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﻗﺼﺪي إذا ﻗﻠﺖ َ وأﻧﻨﺎ ﻣﻦ
ﻟﻬﺎ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﻮل؟ وﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻔﻬﻢ أن ﺗﻌ ﱡﻠﻘﻬﺎ ﺑﺮﻗﺒﺘﻲ ﻫﻜﺬا ﻣﻬﺰﻟﺔ؟ وﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻨﻨﻲ
أن أﻋﺮف ﻣﺎ ﻳﺪور ﰲ أﻋﻤﺎق ﻧﻔﺴﻬﺎ وﻫﻲ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺮﻗﺒﺘﻲ؟
وﻟﺴﺖ أُﺧﻔﻲ أﻧﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﰲ ﻗﺮارة ﻧﻔﴘ أﺧﴙ أن أﺻﺪﻣﻬﺎ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻐري ﺷﻚ ُ
ﺗُﺪﺧِ ﻞ ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻷﻧﺲ إﱃ وﺣﺪﺗﻲ ،ﻓﻜﻴﻒ ﺗﻜﻮن اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﻫﺬه اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺤﻘرية ﺑﻐري ﻓﻄﻮﻣﺔ
ﺤﻤﻞ إﱄ ﱠ إﻓﻄﺎري وﺗُﺜﺮﺛﺮ ﱄ وﺗﻐﻨﻲ وﺗﺠﻤﻊ ﻣﻼﺑﴘ إذا اﺗﱠﺴﺨﺖ ،وﺗﻌﻮد ﺑﻬﺎ إﱄ ﻧﻈﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗَ ِ
أﺣﺲ ﺑﺄﻧﻲ ﻏﺮﻳﺐ ﻋﻦ ﺑﻴﺘﻲ. ﻣﻜﻮﻳﺔ ،وﺗﻨﻈﻢ ﱄ ﺣﺠﺮﺗﻲ ﰲ ﻋﻨﺎﻳﺔ وذوق ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺤﺖ ﻻ ﱡ
ﺛﻢ ﻫﻲ ﻓﻮق ذﻟﻚ ﺗﺒﻌﺚ إﱃ وﺣﺪﺗﻲ ﺷﻴﺌًﺎ آﺧﺮ أﺧﻔﻰ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻫﺬا ﻋﲆ إدراك اﻟﻌﻘﻞ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ
ﺣﻘﺎ أﺷﺠﻌﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﻌﻠﻖ ﺑﻲ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻻ أﻓﻄﻦ إﱃ أﻧﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺆﻧﺴﻨﻲ ﺑﺸﺨﺼﻬﺎ ،أﻟﻢ أﻛﻦ ٍّ
أﺷﺠﻌﻬﺎ؟ أﻟﻢ أﻛﻦ أﺑﺘﺴﻢ ﻟﻬﺎ ﻛﻠﻤﺎ ﺟﺎءت إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ وأُﺣﻴﱢﻴﻬﺎ وأﻋﻄﻴﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻘﻮد ﺑني
ﺣني وآﺧﺮ؟
ُﺤﺎﺳﺒﺔ ﻧﻔﴘ وﺗﺸﺪﻳﺪ اﻟﻠﻮم ﻋﻠﻴﻬﺎ ،واﻧﺘﻬﻰ ذﻟﻚ ﻀﻄﺮب إﱃ ﻣ َ ِ واﻧﺘﻘﻞ ﺑﻲ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﻜري ا ُمل
إﱃ ﻋﺰﻣﻲ املﺆ ﱠﻛﺪ ﻋﲆ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ ﺣﺘﻰ ﻻ أدع ﻟﻬﺎ وﻻ ﻟﻨﻔﴘ ﻓﺮﺻﺔ أﺧﺮى ملﺜﻞ ﻫﺬا
ﻓﻮﺟﺪت أن ﻣﻮﻋﺪي ﻣﻊ ﺳﺎﺋﻖُ أﻳﻀﺎ ،وﻧﻈ َﺮت إﱃ ﺳﺎﻋﺘﻲ املﻮﻗﻒ املﺤﻔﻮف ﺑﺎملﺨﺎﻃﺮ ﻟﻬﺎ وﱄ ً
اﻟﺴﻴﺎرة ﻗﺪ ﻓﺎت ،ﻓﻘﻤﺖ ﻣُﴪﻋً ﺎ وﻗﻔﺰت ﻋﲆ اﻟﺴﻼﻟﻢ اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ ﻣﺪﺧﻞ ﺷﻘﺔ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺣﺘﻰ
ﻻ ﺗَﺮاﻧﻲ ،وملﺎ ﺑﻠﻐﺖ اﻟﺸﺎرع ﻛﺎن ا ُملﺼﻮﱢرون وﺳﺎﺋﻖ اﻟﻌﺮﺑﺔ َﻗﻠِﻘني ﰲ اﻧﺘﻈﺎري ﻋﻨﺪ ﻣﺪﺧﻞ
اﻟﺤﺎرة اﻟﻀﻴﱢﻘﺔ وﻫﻢ ﻻ ﻳَﻌﺮﻓﻮن أﻳﻦ ﻣﻨﺰﱄ ،وﰲ ﻟﺤﻈﺎت ﻛﻨﺎ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ ﻣﴫ اﻟﺠﺪﻳﺪة،
ﻏﺎﻣﻀﺎ وأﺟﺎدل ﻧﻔﴘ ﰲ ﻣﻮﻗﻔﻲ ﻣﻦ ﻓﻄﻮﻣﺔ؛ ً أﺣﺲ ﰲ أﻋﻤﺎﻗﻲ ﺣﺰﻧًﺎ وﻣﺎ زﻟﺖ ﰲ أﺛﻨﺎء اﻟﺴري ﱡ
وﻟﻬﺬا ﻟﻢ أﺷﻌﺮ ﺑﻄﻮل اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺣﺘﻰ وﻗﻔﺖ اﻟﻌﺮﺑﺔ ووﺟﺪت ﻧﻔﴘ أﻣﺎم ﻗﴫ اﻟﺴﻴﺪ اﻟﻮﺟﻴﻪ
ﺣﺴﺎم اﻟﺪﻳﻦ ،ﻓﻨﺰﻟﺖ وأﻗﺒﻞ ﺧﺪم اﻟﻘﴫ ﻧﺤﻮي واﻧﺤﻨﻮا ﻟﺘﺤﻴﺘﻲ ،ورددت ﻋﲆ اﻟﺘﺤﻴﺔ ﻣ ً
ُﺘﻨﺎزﻻ
داﺧﻼ وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻣﺎ ﻛﺪت أرى املﻨﻈﺮ اﻟﺬي أﻣﺎﻣﻲ ﺣﺘﻰ ﺗﺴﻤﱠ ﺮت ً ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ اﻟﻌﻈﻤﺎء ،واﺗﱠ ُ
ﺠﻬﺖ
ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ وﺳﺄﻟﺖ ﻧﻔﴘ :أﻳﻦ أﻧﺎ؟ ﻫﻞ أﻧﺎ ﰲ ﻣﴫ اﻟﺠﺪﻳﺪة أم ﰲ ﻣﴫ اﻟﻘﺮون اﻟﻮﺳﻄﻰ؟
ﺻﻔني ﻋﲆ ﻣﺪﺧﻞ اﻟﻘﴫ املﻨﻴﻒ. وﻣﻦ أي ﺳﻮق اﺷﱰﻳﺖ ﻫﺬه اﻟﺠﻮاري اﻟﺤﺴﺎن اﻟﻮاﻗِ ﻔﺎت ﰲ ﱠ
ﻧﻌﻢ ﻛﺎن أﻣﺎﻣﻲ ﺻﻔﺎن ﻣﻦ ﻓﺘﻴﺎت ﻳَﻠﺒﺴﻦ ﺛﻴﺎﺑًﺎ ﺣﺮﻳﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻃﺮاز أﻟﻒ ﻟﻴﻠﺔ وﻟﻴﻠﺔ ﺗُﺒﺪي
أﺟﺴﺎﻣﻬﻦ وﺗُﻈﻬﺮ ﻟني ُﻗﺪودﻫﻦ ،وﻟﺴﺖ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺻﻒ ﻣﺎ اﻋﱰاﻧﻲ ﱠ ﻣﺤﺎﺳﻨﻬﻦ وﺗﺼﻒ
ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮر ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺷﻌﻮري ﻛﻤﺎ ﻳُﻨﺘﻈﺮ ﴎو ًرا ﺑﺎملﻨﻈﺮ اﻟﺮاﺋﻊ وﻻ اﻓﺘﺘﺎﻧًﺎ ﺑﺎﻟﺤﺴﻦ
141
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻛﺪت أﺻﻴﺢ ﺑﺎﻟﺬﻳﻦ رأﻳﺘﻬﻢ أﻣﺎﻣﻲ ُ اﻟﺒﺎرع ،ﺑﻞ ﺷﻌﺮت ﺑﻐﺼﺔ ﰲ ﺣﻠﻘﻲ وﺛﻮرة ﰲ ﻗﻠﺒﻲ،
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎ ﻫﺬا؟ ﻣﺎ ﻫﺬا اﻟﺘﺠﻨﻲ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ؟ ﻣﺎ ﻫﺬا اﻻﻣﺘﻬﺎن ﻟﻶدﻣﻴﱢني؟ ﻫﻞ ﻋﺎدت ﻟﻨﺎ ً
ﻋﻬﻮد اﻟﺮق اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ املﺮأة ﺗُﺸﱰى ﻓﻴﻬﺎ ﻟﺘﻜﻮن ﻣﺘﻌﺔ ﻟﻠﻌني أو ﻟﻌﺒﺔ ﻟﻠﻬﻮ؟ وﻟﻮﻻ أﻧﻲ ﻛﻨﺖ
ﻣﻮﻓﺪًا ﻣﻦ »ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار« ﻷؤدي وﻇﻴﻔﺘﻲ اﻟﺼﺤﻔﻴﺔ ﻟﻮﻗﻔﺖ ﺣﻴﺚ ﻛﻨﺖ ،وأﻟﻘﻴﺖ ﻣﺤﺎﴐة
ﺻﻔﻲ اﻟﻔﺘﻴﺎت ﻛﻤﺎ ﻳ ُ
َﺪﺧﻞ املﻘﺎﺗﻞ إﱃ ﰲ ﻛﺮاﻣﺔ اﻹﻧﺴﺎن ،وﻟﻜﻨﻲ ﺗﻤﺎﻟﻜﺖ ﻧﻔﴘ ودﺧﻠﺖ ﺑني ﱠ
ﻣﻴﺪان ﺣﺮب وﻗﻠﺒﻪ ﻣﻔﻌﻢ ﺑﺎﻟﻘﺘﺎل ،وﻟﻢ ﺗﻄﺎوﻋﻨﻲ ﻧﻔﴘ أن أﻧﻈﺮ إﱃ ﻳﻤﻴﻨﻲ أو ﻳﺴﺎري،
ﻓﺎﺗﺠﻬﺖ ﺑﻌﻴﻨﻲ إﱃ اﻷرض ،وﻛﺎﻧﺖ اﻷرض ﻣﻔﺮوﺷﺔ ﺑﻤﻤﴙ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﺎﺟﻴﺪ اﻟﻔﺎﺧﺮة اﻟﺘﻲ
ﺗُﺰري ﺑﺄﻟﻮان اﻷزﻫﺎر ﰲ أﺣﻮاض اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ املﺤﻴﻄﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﺎﻧﺒَني ،وﻛﺎﻧﺖ اﻷﻧﻮار املﻠﻮﱠﻧﺔ ﻋﲆ
ﺟﺎﻧﺒَﻲ املﻤﴙ ﺗﺨﻠﻊ ﻋﲆ اﻟﺰﻫﺮ ﺑﻬﺎءً ﻓﻮق ﺑﻬﺎء اﻟﺮﺑﻴﻊ واﻷﻧﻮار اﻟﺴﺎﻃﻌﺔ ﰲ اﻟﻘﴫ ﺗُﻨﺎدي
ﻫﺎﻣﺴﺎ ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ ﻓﺈذا ﻫﻮ ﻣُﺼﻮﱢر ﻳﺴﺘﻠﻔﺖ ً ُ
وﺳﻤﻌﺖ ﻣﻦ ﺧﻠﻔﻲ ﻧﺪاءً ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﺑﺎﻟﻌﻈﻤﺔ واﻷﺑﻬﺔ،
ﺻﻔﻲ اﻟﻔﺘﻴﺎت ،وﻳﻄﻠﺐ أﻣﺮي أن ﻳﺄﺧﺬ ﻟﻬﻤﺎ ﺻﻮرة ،ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ اﺧﺘﺼﺎر» :ﺧﺬ ﻧﻈﺮي إﱃ ﱠ
أﻧﺖ وأﺻﺤﺎﺑﻚ ﻣﺎ ﺗﺸﺎءون ﻓﺄﻧﺘﻢ أﺧﱪ ﻣﻨﻲ ﺑﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ«.
وﺗﺮﻛﺘﻬﻢ ﺧﻠﻔﻲ وﴎت ﻣﺘﱠﺠﻬً ﺎ إﱃ اﻟﻘﴫ ،ﻓﺼﻌﺪت ﻋﲆ اﻟﺴﻠﻢ اﻟﺮﺧﺎﻣﻲ اﻟﻮاﺳﻊ ﺣﺘﻰ
ﻛﻨﺖ ﰲ رﺣﻠﺔ ﺷﺎﻗﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ، إذا ﻣﺎ ﺑﻠﻐﺖ اﻟﺒﻬﻮ ﻛﻨﺖ ﰲ ﺟﻬﺪ ﺷﺪﻳﺪ أرﻳﺪ أن أﺳﱰﻳﺢ ﻛﺄﻧﻨﻲ ُ
وﺗﻬﺎﻟﻜﺖ ﻋﲆ ﻣﻘﻌﺪ ووﺿﻌﺖُ ﻓﻤﺎ ﻛﺪت أدﺧﻞ ﺣﺘﻰ ﻋﻤﺪت إﱃ رﻛﻦ ﻣﻦ اﻷرﻛﺎن اﻟﺒﻌﻴﺪة
ﺳﺎﻗﺎ ﻋﲆ أﺧﺮى ،واﺳﺘﻨﺪت إﱃ اﻟﻈﻬﺮ وأﺧﺬت أرﻗﺐ ﻣﻦ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ ﻳﺪﺧﻠﻮن ﻣﻦ اﻟﺒﺎب ورأﳼ ً
ﻣﺸﺘﻌﻞ ﺑﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺤﻤﻰ.
وﻛﺎن املﺮح ﻳﺸﻴﻊ ﰲ اﻟﺠﻮ اﻟﺪاﻓﺊ ،واﻟﺤﺴﺎن اﻟﻜﺜريات ﻳُﻘ ﱢﻠﺒﻦ أﺑﺼﺎرﻫﻦ ﰲ اﻟﺤﻀﻮر
ﻣﻦ وراء أﻛﺘﺎف اﻟﺮﺟﺎل اﻟﺠﺎﻟﺴني ﺣﻮﻟﻬﻦ ،وﻳُﻮ ﱢزﻋﻦ اﻟﺒﺴﻤﺎت اﻟﻔﺎﺗﻨﺔ ﻫﻨﺎ وﻫﻨﺎك.
ورأﻳﺖ ﺣﺴﻨﺎء ﺗَﺠﻠﺲ وﺣﺪﻫﺎ ﰲ رﻛﻦ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻨﻲ ،وﺗﺸﻌﻞ ﺳﻴﺠﺎرة ،وﺗﻀﻊ ً
ﺳﺎﻗﺎ ﻋﲆ
اﻷﺧﺮى ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻠﺖ أﻧﺎ ،وﻟﺴﺖ أدري ﻣﺎذا ﺟﻌﻠﻨﻲ أﺑﺘﺴﻢ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺘﺎﻓﻬﺔ ،ﻓﺤﺴﺒ َِﺖ
اﻟﺤﺴﻨﺎء أﻧﻨﻲ أﺑﺘﺴﻢ ﻟﻬﺎ ﻓﺮدت ﺑﺎﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻋﺎﻃﻔﺔ ،وﺟﺎء ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺪار اﻟﺸﺎب ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ،
ﻓﺤﻴﺎﻫﺎ وﺗﺤﺪﱠث ﻣﻌﻬﺎ ﺑﻜﻠﻤﺘني ﰲ رﻗﺔ ،ﺛﻢ أﻗﺒﻞ ﻋﲇ ﱠ ﻳُﺤﻴﱢﻴﻨﻲ ،وملﺎ ﻋﺮف أﻧﻲ ﻣﻨﺪوب »ﺑﺮﻳﺪ
ُ
ﻓﻘﻤﺖ ﻣﻌﻪ وﺑﺪأت أﺗﻌ ﱠﺮف إﱃ اﻷﺣﺮار« رﺣﺐ ﺑﻲ ﺗﺮﺣﻴﺒًﺎ ﻛﺮﻳﻤً ﺎ ،ودﻋﺎﻧﻲ إﱃ اﺳﺘﻘﺒﺎل اﻷﻣري،
ﺑﻌﺾ اﻟﻮﺟﻮه املﺰدﺣﻤﺔ ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ ﻣﺪﺧﻞ اﻟﺒﻬﻮ ،وﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺻﺤﻔﻲ ﻋﺮﻓﺘﻪ ذات ﻳﻮم ﰲ دار
اﻟﻨﻘﺎﺑﺔ ،وﻫﻮ ﺷﺎبﱞ ﻳﻤﺘﺎز ﺑﺸﺨﺼﻴﺔ ﻋﺠﻴﺒﺔ اﺳﱰﻋﺖ ﻧﻈﺮي ﻣﻨﺬ أول ﺟﻠﺴﺔ ،وملﺎ رآﻧﻲ أﴎع
وﺻﺎﻓﺤﻨﻲ ووﻗﻒ إﱃ ﺟﻨﺒﻲ ،واﻟﻈﺎﻫﺮ أﻧﻪ اﺳﺘﺄﻧﺲ ﺑﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ رآﻧﻲ ﻛﻤﺎ اﺳﺘﺄﻧﺴﺖ َ ﻧﺤﻮي
ﺑﻪ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻛﻨﺎ ﻏﺮﻳﺒﺎن ﻫﻨﺎك ،وأﺧﺬ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﻄﻴﺔ ﻳُﺤﺪﺛﻨﻲ أﺣﺎدﻳﺚ ﻻذﻋﺔ ﻋﻦ اﻟﻮاﻗﻔني ﺣﻮﻟﻨﺎ
142
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ
ﰲ ﻫﻤﺴﺎت ﻋﺎﻟﻴﺔ ﺷﻌﺮت ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺤﺮج ﺷﺪﻳﺪ ،وأﺷﺎر ﰲ أﺛﻨﺎء ﺣﺪﻳﺜﻪ إﱃ اﻟﺤﺴﻨﺎء اﻟﺴﻤﺮاء
ﻗﺎﺋﻼ :أﺗﻌﺮف ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﺎﺗﻨﺔ؟اﻟﺘﻲ ﺑﺎدﻟﺘُﻬﺎ اﻻﺑﺘﺴﺎم ﻋﻦ ﻏري ﻗﺼﺪ ،وأﺧﺬ ﻳُﺤﺪﺛﻨﻲ ﻋﻨﻬﺎ ً
ﻓﻘﻠﺖ :ﻟﻢ أرﻫﺎ إﻻ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ ،وﻟﻜﻨﺎ ﺗﺒﺎدﻟﻨﺎ اﻻﺑﺘﺴﺎم.
ﻓﻀﺤﻚ ﺿﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﺛﻢ ﻗﺎل ﺑﻬﻤﺴﺘﻪ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ :ﺣﺎذِ ر ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺟﺒﺎرة ،ﻫﻲ
اﻟﺴﺖ ﻫﺪى اﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ.
ﺳﻤﻌﺖ اﺳﻤَ ﻬﺎ ،وﺗﺬ ﱠﻛﺮت اﺳﻢ اﻟﺴﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﺤ ﱠﺪﺛَﺖ ﻋﻨﻬﺎ ﻓﻄﻮﻣﺔ،
ُ ُ
وﻛﺪت أﺻﻴﺢ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﻛﺎﻣﻼ :ﺻﺤﻔﻴﺔ وﺗﺎﺟﺮة وﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ً واﺳﺘﻤﺮ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﻄﻴﺔ ﻳﻘﻮل :ﻫﻲ ﺗَﺠﻤﻊ ﰲ ﺷﺨﺼﻬﺎ ﻋﺎ ًملﺎ
وﻣﻮ ﱢردة ﻟﻠﺠﻴﻮش وواﺳﻄﺔ ﺧري ﰲ ﻛﻞ ﳾء ،وﻏري ذﻟﻚ ﻣﺎ ﻳﺨﻄﺮ وﻣﺎ ﻻ ﻳﺨﻄﺮ ﻋﲆ ﺑﺎﻟﻚ،
ﺛﻢ ﻫﻲ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺻﺎﺣﺒﺔ ﺻﺎﻟﻮن ﻣُﺪﻫِ ﺶ ﻟﻠﻜﺒﺎر ﻣﻦ املﴫﻳني واﻷﺟﺎﻧﺐ وﻟﻜ ﱢﻞ ﻣَ ﻦ ﻟﻪ ﻣﻮﻫﺒﺔ
ﻣﻦ اﻟﺸﺒﺎب ﻣﻦ اﻟﺠﻨﺴني.
وﺿﺤﻚ ﺿﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ أﺧﺮى.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻓﻀﻮل :وأﻳﻦ ﺗﺴﻜﻦ؟
ﻓﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﰲ ﺧﺒﺚ وﻗﺎل :ﻫﻜﺬا ﴎﻳﻌً ﺎ؟ ﻫﻲ ﺗَﺴﻜﻦ ﰲ ﻛﻞ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،ﻟﻬﺎ ﺑﻴﻮت ﰲ ﻛﻞ
اﻷﺣﻴﺎء ﻣﻦ اﻟﺴﻴﺪة إﱃ ﺑﻮﻻق وﻣﻦ ﺟﺎردن ﺳﻴﺘﻲ إﱃ ﻣﴫ اﻟﺠﺪﻳﺪة.
وﺣﺪﺛﺖ ﺣﺮﻛﺔ ﰲ ا ُملﺴﺘﻘ ِﺒﻠني ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺟﺎء اﻷﻣري وﺗﺴﺎﺑﻖ ﻣﻦ ﻫﻨﺎك إﱃ اﻟﺘﻘﺪم ﺑني ﻳﺪﻳﻪ
ﻓﻮﻗﻔﺖ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ ،وﺟﻌﻠﺖ أﻗﺮأ اﻟﺤﺮﻛﺎت ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ،وﻛﺎن اﻷﻣري ﺷﺎﺑٍّﺎ أﺳﻤﺮ اﻟﻮﺟﻪ وﺳﻴﻤً ﺎ
واﻟﺘﺤﻔﻆ ،واﺗﺠﻪ ﰲ ﺣﻠﻘﺔﱡ ﻄﻒ ﺗﺒﺪو ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻼﺋﻢ اﻟﻔﺘﻮﱠة ،وﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﻴﺎﺗﻪ ﺗَﺠﻤﻊ ﺑني اﻟﺘﻌ ﱡ
ﻣُﺴﺘﻘ ِﺒﻠﻴﻪ إﱃ ﻣﻜﺎن اﻟﺼﺪر ،واﺑﺘﺪأت ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﺮاﺳﻢ اﻟﺤﻔﻠﺔ.
وأﺧﺬت أﺟﻤﻊ ﰲ وﻋﻴﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗَﻘﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻴﻨﻲ ،اﻟﺤﺴﺎن ﻳﺘﻬﺎﻓﺘﻦ ﻋﲆ اﻷﻣري ﻛﺄﻧﻬﻦ
ﺑﻌﻀﻬﻦ إﱃ ﺧﺪﻣﺔ اﻟﻀﻴﻮف ﰲ املﻘﺼﻒ وﻫﻦ ﺷﺒﻪ اﻟﻔﺮاﺷﺎت ﻳﺘﺪاﻓﻌﻦ ﻧﺤﻮ اﻷﻧﻮار ،وﺳﺎرع ُ
ﻋﺎرﻳﺎت ،ﻓﻤﺎ ﻫﺬه املﻼﺑﺲ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺴﱰُ إﻻ ﻣﺎ دون اﻷﻛﺘﺎف ،وﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ ﻫﻲ املﺮة اﻷوﱃ
اﻟﺘﻲ أرى ﻓﻴﻬﺎ ﻧﺴﺎءً ﰲ ﻫﺬا اﻟﺰي ﺑﻌﻴﻨﻲ ،إﻧﻬﺎ ﻣﻼﺑﺲ ﺗﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﻣﻔﺎﺗﻦ اﻟﺠﺴﻢ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ
وﻗﺪﱢﻣﺖ ﻛﺌﻮس اﻟﺸﻤﺒﺎﻧﻴﺎ ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺗﺘﻸﻷ ﰲ أﻳﺪﻳﻬﻦ وﺗُﺒﺎﻫﻲ ﺧﻮاﺗﻴﻢ املﺎس ﺗﺪﻋﻲ أﻧﻬﺎ ﺗﺴﱰﻫﺎُ ،
اﻟﺘﻲ ﰲ أﺻﺎﺑﻌﻬﻦ.
ﻣﺘﻌﻄﺸﺎ إﱃ اﻟﴩب وإﱃ اﻟﺘﻤﺘﱡﻊ ﺑﺎملﻨﻈﺮ اﻟﺒﺪﻳﻊ، ً وأﻗﺒﻞ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﻄﻴﺔ ﻋﲆ املﻘﺼﻒ
ﻓﺒﻘﻴﺖ وﺣﺪي أﺣﺎول أن أﺗﻨﺎول ﻣﺎ أﻋﺮﻓﻪ ﻣﻦ اﻷﺻﻨﺎف وﻫﻮ ﻗﻠﻴﻞ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﺎ ﻻ أﻋﺮف،
وﺑﻌﺪ أن ﻟﻌﺐ اﻟﴩاب ﰲ اﻟﺮءوس ﺑﺪأ دور املﻮﺳﻴﻘﻰ ،وذﻫﺐ اﻟﺮاﻗﺼﻮن اﺛﻨني اﺛﻨني إﱃ
املﺮﺗﻊ اﻟﺼﻘﻴﻞ اﻟﺬي ﻳﺘﻮﺳﻂ اﻟﺒﻬﻮ اﻟﻔﺴﻴﺢ ،ﻓﺬﻫﺒﺖ إﱃ رﻛﻨﻲ اﻷول اﻟﺬي ﻛﻨﺖ ﻓﻴﻪ ،وﺟﻠﺴﺖ
143
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﺳﺎﻗﺎ ﻋﲆ أﺧﺮى ،وﺟﺎءت اﻟﺴﻴﺪة اﻟﺴﻤﺮاء ذات اﻟﻌﻴﻨني اﻟﻮاﺳﻌﺘني اﻟﻼﻣﻌﺘَني ﺗﺘﺄﺑﻂ واﺿﻌً ﺎ ً
ﺣﻘﺎ أم ﺗﺨﺪﻋﻨﻲ ﻋﻴﻨﻲ؟ وﻣﺎذا ﻳﺼﻨﻊ ﻫﻨﺎ؟ وﺗﺬ ﱠﻛ ُ
ﺮت أﻧﻴﻘﺎ … أﻫﻮ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ٍّ رﺟﻼ ًً
ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ أﻧﻪ أﺻﺒﺢ ﻧﺎﺋﺐ دﻣﻨﻬﻮر ،وأﻧﻪ ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻪ أن ﻳَﻐﻴﺐ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻔﻠﺔ اﻟﺘﻲ
ﺗﺤﺘﻮي ﻛﻞ اﻟﻌﻈﻤﺎء … وﺟﻠﺲ ﻣﻌﻬﺎ ﰲ رﻛﻦ ﻗﺮﻳﺐ ﻳﺘﻔﺮﺟﺎن ﻋﲆ اﻟﺮاﻗﺼني ،وﻳَﻤﻴﻞ إﱃ
ﻫﺎﻣﺴﺎ ﺛﻢ ﺗَﻨﻄﻠِﻖ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺿﺤﻜﺔ ﻣﺮﺣﺔ.ً ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ﺑني ﺣني وآﺧﺮ
ووددت ﻟﻮ أﻣﻜﻨﻨﻲ أن أﺳﻠﻢ ﻋﻠﻴﻪ ،وأرى ﻛﻴﻒُ وﻫ ﱠﻢ ﺑﻨﻔﴘ أن أﻣﺮ أﻣﺎﻣﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺮاﻧﻲ،
وﺑﻘﻴﺖ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ أﻗﺮأ اﻟﻮﺟﻮه واﻟﺤﺮﻛﺎت ،وﺗﺪاﻓﻊ اﻟﺮاﻗﺼﻮن ُ ﻳﺴﺘﻘﺒﻠﻨﻲ وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻓﻌﻞ،
ﰲ رﺷﺎﻗﺔ وﻫﻢ ﻳﺘﻨﺎﻇﺮون ﺑﻠﺤﺎظ واﻧﻴﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻼﺑﺲ اﻟﻨﺴﺎء ﺗﻠﻤﻊ ﺗﺤﺖ اﻷﻧﻮار ﻛﺄﻧﻬﺎ
ﻗﻮس ﻗﺰح ،واﻟﻮﺟﻮه اﻟﺤﺴﺎن اﻟﺴﺎﺑﺤﺔ ﻓﻮق ا َملﺮﺗﻊ ﺗﱪق ﺑﺎﻷدﻫﺎن واﻷﻟﻮان ﻣﻦ ﻓﻮق أﻛﺘﺎف
ُﺨﺎﴏوﻫﻦ ،وﻳ ُِﺠﻠﻦ ﻋﻴﻮﻧﻬﻦ اﻟﻨﺠﻞ ﰲ اﻵﺧﺮﻳﻦ واﻷﺧﺮﻳﺎت ﻳَﻔﺤﺼﻦ أﻳﻬﻦ ﱠ اﻟﻔﺮﺳﺎن اﻟﺬﻳﻦ ﻳ
روﻧﻘﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻈﻬﻮر اﻟﺒﻀﺔ اﻟﻌﺎرﻳﺔ ﺗﺘﻤﻢ ﻣﺤﺎﺳﻦ اﻟﻨﺤﻮر اﻟﻐﻀﺔ اﻟﺴﺎﻓﺮة، ً وأﻳﻬﻢ أﺑﻬﻰ
وأﻃﺮاف املﻼﺑﺲ اﻟﺰاﻫﻴﺔ ﺗﺘﻄ ﱠﻠﻊ ﻧﺤﻮ اﻟﺼﺪور املﺮﻣﺮﻳﺔ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﻌﺠﺐ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﺑﻤﺤﺎﺳﻨﻬﺎ،
وﺗﺬﻛﺮت ﻓﻄﻮﻣﺔ وﺿﺤﻜﺖ ﰲ ﴎي وأﻧﺎ أﻗﻮل ﻟﻨﻔﴘ» :ﻣﺎذا ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺼﻨﻊ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎ؟«
وﻛﺎن املﺼﻮرون ﰲ ﺷﻐﻞ ﺟﺎد ﻳﻠﺘﻘﻄﻮن املﻨﺎﻇﺮ وأﻧﺎ ﺳﺎﻛﻦ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ ،ﻓﺮأﻳﺖ اﻷﺳﺘﺎذ
ﻋﻄﻴﺔ ﻳﺘﺠﻪ إﱃ اﻟﺴﻴﺪة اﻟﺴﻤﺮاء اﻟﺠﺎﻟﺴﺔ ﻣﻊ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل وﻳَﻄﻠُﺐ ﻣﻨﻬﺎ ﰲ ﻇﺮف أن
ﺗﻘﻮم ملﺮاﻗﺼﺘﻪ ،ﻓﻘﺎﻣﺖ ﺗﺮاﻗﺼﻪ ﺑﻌﺪ أن ﻧﻈﺮت إﱃ اﻟﺴﻴﺪ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺴﺘﺄذﻧﻪ ﺑﺎﺑﺘﺴﺎﻣﺔ أﻧﻴﻘﺔ.
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ اﻟﺤﺎدﻳﺔ ﻋﴩة ،وﺟﺎء املﺼﻮرون ﻟﻴﻘﻮﻟﻮا إﻧﻬﻢ ﻗﺪ ﻓﺮﻏﻮا ﻣﻦ
ﻓﺸﻌﺮت ﺑﺎرﺗﻴﺎح إﱃ أﻧﻲ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺧﺮج ﻣﻦ اﻟﺤﻔﻠﺔ ،وﻗﻤﺖ ﻣﻌﻬﻢ ﺧﺎرﺟً ﺎ ﺑﻐري ُ اﻟﺘﺼﻮﻳﺮ،
أن أﺣﺎول أن أﺳﺘﺄذن اﻟﺴﻴﺪ اﻟﻮﺟﻴﻪ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺪار.
وﺗﻌﻤﱠ ﺪت ﰲ ﺧﺮوﺟﻲ أن أﻗﱰب ﻣﻦ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل وأﻣﺮ ﻣﻦ أﻣﺎﻣﻪ ،واﻟﺘﻔﺖ ﻧﺤﻮه
أﻇﻬﺮت دﻫﺸﺘﻲ ﻣﻦ رؤﻳﺘﻪ ﻫﻨﺎك ﻛﺄﻧﻨﻲ رأﻳﺘﻪ ﻓﺠﺄة ،وﻣﺪدت ﻳﺪي إﻟﻴﻪ ُ ﱡ
اﻟﺘﻔﺖ ﻋﻔﻮًا ﺛﻢ ﻛﺄﻧﻨﻲ
ﻷﺣﻴﻴﻪ وﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺻﻒ دﻫﺸﺘَﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ رآﻧﻲ أﻣﺎﻣﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺎم ﻣُﺮﺗﺒ ًﻜﺎ وﺣﻴﺎﻧﻲ ﻣﺮﺣﺒًﺎ
ُﻨﴫﻓﺎ ﺑﺮأسً اﻋﺘﺬرت وﺣﻴﻴﺘُﻪ ﻣ
ُ ﺗﺤﻴﺔ ﺻﺪﻳﻖ ﻋﺰﻳﺰ ﻗﺪﻳﻢ ،ودﻋﺎﻧﻲ إﱃ اﻟﺠﻠﻮس ﻣﻌﻪ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ
اﻟﺨﺒﺚ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺖ أﻣﺎرات اﻟﺪﻫﺸﺔ وداﺧ َﻠﻨﻲ زﻫﻮ ﻋﻈﻴﻢ وﴎور ﻓﻴﻪ ﻛﺜري ﻣﻦ ُ َ ﻣﺮﻓﻮع،
واﻻرﺗﺒﺎك اﻟﺘﻲ ﺑﺪَت ﻋﲆ وﺟﻬﻪ ﻋﻨﺪ اﻧﴫاﰲ.
وﺑﻘﻲ رأﳼَ ارﺗﻤﻴﺖ ﻋﲆ ﻣﻘﻌﺪي ﻛﺄﻧﻲ ﺧﺎرج ﻣﻦ ﴏاع ﻋﻨﻴﻒ، ُ وملﺎ وﺻﻠﺖ إﱃ اﻟﻌﺮﺑﺔ
ﻳﺪور ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺼﻮر ﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ إﱃ »ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار« ،ودﺧﻠﺖ إﱃ ﻣﻜﺘﺒﻲ وأﺧﺬت أﻛﺘﺐ
وﺻﻒ اﻻﺣﺘﻔﺎل.
144
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ
وﻟﺴﺖ أدري ﺑﺄي أﺳﻠﻮب ﻛﺘﺒﺖ وﻻ ﻣﺎذا ﻛﺘﺒﺖ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻫﻨﺎك،
ُ
وﺑﻘﻴﺖ ﰲ ﻣﻜﺘﺒﻲ ﺣﺘﻰ ﻗﺮأت وﻟﻜﻨﻪ ﺗﺮك أﻣ ًﺮا ﺑﺈﻋﺪاد وﺻﻒ اﻟﺤﻔﻠﺔ ﻟﻠﻨﴩ ﰲ اﻟﺼﻔﺤﺔ اﻷوﱃ،
اﻟﱪوﻓﺔ ،وﺧﺮﺟﺖ ذاﻫﺒًﺎ إﱃ ﻣﻨﺰﱄ ،وﻛﺎن اﻹﻋﻴﺎء اﻟﻨﻔﴘ واﻟﺬﻫﻨﻲ ﻗﺪ ﺑﻠﻎ ﻣﻨﻲ ً
ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ،
ﻓﻤﺎ ﻛﺪت أﺧﻠﻊ ﻣﻼﺑﴘ ،وأرﻗﺪ ﻋﲆ ﴎﻳﺮي ﺣﺘﻰ ﻏﺒﺖ ﰲ اﻟﻨﻮم ﻓﻠﻢ أﺷﻌﺮ ﺑﴚء ﺣﺘﻰ ﺿﺤﻰ
اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ.
145
اﻟﻔﺼﻞ اﳋﺎﻣﺲ ﻋﴩ
ﻧﺰﻟﺖ ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا ﰲ اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺘﺎﱄ ﻣﻦ أﺛﺮ اﻟﺴﻬﺮ ﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،ﻓﻠﻤﺎ وﺻﻠﺖ إﱃ دﻛﺎن اﻟﺸﻴﺦ
ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﺗﻘﱰب ﻣﻦ اﻟﻈﻬﺮ ،وﺣﻴﺎﻧﻲ اﻟﺸﻴﺦ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﻟﻒ ﻣﺮﺣﺒًﺎ.
وﻛﺎﻧﺖ اﻷﻟﺴﻨﺔ ﻣﻨﺬ ﺣني ﺗﻠﻮك ﻗﺼﺔ اﻟﻮزﻳﺮ اﻟﺬي ﻳَﺴﺘﻘ ِﺒﻞ ﻗﺎﺻﺪﻳﻪ ﺑﻌﺪد ﻣﻦ ا ُملﺮﺣﱢ ﺒﺎت
وﻫﻮ ﻳﻘﺼﺪ اﻟﺠُ ﻨﻴﻬﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻄﻠﺒﻬﺎ ﻣﻨﻬﻢ ﻟﻘﺎء ﻗﻀﺎء ﺣﺎﺟﺎﺗﻬﻢ.
ﻓﻘﻠﺖ ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ :ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ وﷲ ﻳﺎ ﺷﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ.
ﺤﺘﻤﻞ ﻋﴩ ﻣُﺮﺣﱢ ﺒﺎت ،وﻋﲆ ﻓﻘﺎل ﱄ ﻣﻘﻬﻘﻬً ﺎ :ﻻ ﺗَﺨﻒ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ﻓﺄﻧﺎ أﻋﺮف أﻧﻚ ﻻ ﺗَ ِ
ﻓﻜﺮة أرﺟﻮ أن ﺗﺪﻓﻊ ﱄ املﺮﺣﺒﺎ اﻟﺘﻲ ﻋﻨﺪك؛ ﻓﻘﺪ ﻛﴪوا ﺻﻨﺪوﻗني ﻣﻦ »اﻟﻜﻮﻛﺎﻛﻮﻻ«.
وﻻﺣﻈﺖ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ أن أﻣﺎم اﻟﺪﻛﺎن ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﺰﺟﺎﺟﺎت املﺤﻄﻤﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ :ﻣﺎ ﻫﺬا؟
ﺧﻠﺼﺖ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﺠﻠﺪي ،ﻳﺎ ﺣﻔﻴﻆ ﻳﺎ رب ،ﺗﻘﻮل :أﻟﻔني ُ ﻓﻘﺎل :اﻟﺤﻤﺪ هلل ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي
ﺗﻘﻮل :ﻋﴩة آﻻف ،وﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ ﺗﻜﺴري »ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار«.
ﻓﺼﺤﺖ ﰲ ﻓﺰع :ﻣﻦ ﻫﻢ؟ ُ
ﻓﻘﺎل اﻟﺸﻴﺦ :ﻏﻴﻼن! ﻣﺠﺎﻧني! أﻋﻮذ ﺑﺎهلل ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ .أﺧﺬوا ﻛﻞ اﻷرﻏﻔﺔ وﴍﺑﻮا
اﻟﻜﻮﻛﺎﻛﻮﻻ وﻛﴪوا زﺟﺎﺟﻬﺎ وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻤﺪ هلل ،ﻛﻢ ﺷﺒﺎك ﻣﻦ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار وﻫﺘﻔﻮا ﺑﺴﻘﻮط
اﻟﺨﺎﺋﻦ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر واﻧﴫﻓﻮا.
وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﱄ أﻧﺎ؟
وأﴎﻋﺖ ذاﻫﺒًﺎ إﱃ اﻟﺠﺮﻳﺪة ﻷرى ﻣﺎ أﺻﺎﺑﻬﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﺳﻮى آﺛﺎر ﺗﺤﻄﻴﻢ ﻗﻠﻴﻞ، ُ
ﻓﺬﻫﺒﺖ إﱃ ﻣﻜﺘﺐ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻷﻋﺮف ﻣﻨﻪ ﻣﺎ ﺣﺪث ،وﻛﺎن ﻇﺎﻫﺮ اﻟﻮﺟﻮم ﻳﺪﺧﻦ
ﺳﻴﺠﺎرﺗﻪ ﺻﺎﻣﺘًﺎ.
ﻗﺎﺋﻼ :أﺗﻌﺮف ﻣﺎذا ﺣﺪث؟! وﺑﺪأﻧﻲ ً
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻛﻨﺖ أﺗﻮﻗﻊ أن ﻳﺤﺪﺛﻨﻲ ﻋﻦ املﻈﺎﻫﺮة ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻓﻌﺔ :ﻫﺬا إﻋﻼن إﻓﻼس ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ، ُ
ﻫﻲ ﻟﻌﺒﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﺮذوﻟﺔ.
ﻋﺒﺚ ﻻ ﻳﻬﻤﻨﻲ ،ﺑﻌﺾ ٌ ﻗﺎﺋﻼ :ﺗﻘﺼﺪ املﻈﺎﻫﺮة؟ ﻫﺬا ﻓﺄﺷﺎر ﺑﻴﺪه إﺷﺎرة اﺳﺘﺨﻔﺎف ً
ﺻﻴﺤﺎت وﺑﻌﺾ أﻟﻮاح ﻣﻦ اﻟﺰﺟﺎج وﺑﻌﺾ ﻣﻀﺎﻳﻘﺎت ﺻﻐرية ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﺻﺎدروا اﻟﻌﺪد ،أﻟﻒ
ﺟﻨﻴﻪ ﺧﺴﺎرة ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،ﻣﺎﺋﺔ أﻟﻒ ﻧﺴﺨﺔ ﻛﻞ ﻧﺴﺨﺔ ﺑﻘﺮش.
وﺗﺒﺴﻢ ﰲ ﻣﺮارة وﻫﻮ ﻣﺴﺘﻤﺮ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻪ :وﻟﻜﻦ اﻷﻣﺮ ﻟﻢ ﻳﻘﻒ ﻋﻨﺪ ﻫﺬا اﻟﺤﺪ ،وأﻧﺎ آﺳﻒ ﱠ
ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي؛ ﻷﻧﻚ ﺗﺄﺑﻰ إﻻ أن ﺗﻜﺘﺐ ﺑﺈﻣﻀﺎﺋﻚ ،ﻛﺎن ﻳُﻤﻜﻨﻨﻲ أن أﺗﺤﻤﻞ املﺴﺌﻮﻟﻴﺔ وﺣﺪي
وأﺣﻤﻴﻚ أﻧﺖ ﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﺗﻜﺘﺐ ﺑﻐري إﻣﻀﺎء أو ﺑﺎﺳﻢ ﻣُﺴﺘﻌﺎر ﻛﻤﺎ ﻧﺼﺤﺘﻚ ،ﻓﺄﻧﺖ ﻣﻄﻠﻮب ﻣﻌﻲ
ﻟﻠﻨﻴﺎﺑﺔ ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ.
ﻗﺎﺋﻼ :أوه ،ﻗﻢ ﺑﻨﺎ ﻓﺈن املﻮﻋﺪ ﻗﺪ ﺟﺎء. وﻧﻈﺮ إﱃ ﺳﺎﻋﺘﻪ ً
وﻗﺎم ﻋﻦ ﻣﻜﺘﺒﻪ ﻟﻨﺬﻫﺐ إﱃ دار ﻧﻴﺎﺑﺔ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ،وأﻧﺎ ﺷﺎﻋﺮ ﰲ ﻗﺮارة ﻧﻔﴘ أﻧﻨﻲ املﺴﺌﻮل
ﻋﻦ ﻛﻞ ﻫﺬه املﺘﺎﻋﺐ ،وﻣﻤﺎ زاد ﺿﻴﻘﻲ أﻧﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﻋﺎزﻣً ﺎ ﻋﲆ اﻟﺴﻔﺮ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ﰲ املﺴﺎء ﺑﻌﺪ
َ
ووﻗﻔﺖ ﺑﻨﺎ اﻟﻌﺮﺑﺔ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ أﻣﺎم دار ﻧﻴﺎﺑﺔ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ اﻧﻘﻄﺎﻋﻲ ﻋﻦ أﻫﲇ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻬﺮ،
وﻧﺰﻟﺖ وراءه ﺣﺘﻰ دﺧﻠﻨﺎ إﱃ ﻣﻜﺘﺐ اﻟﺴﻜﺮﺗري وﻛﺎن ﻣﺰدﺣﻤً ﺎ ُ وﻧﺰل اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر،
ﺑﺎﻟﺠﺎﻟﺴني ،ﻓﺬﻫﺐ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ إﱃ اﻟﺠﺎﻟﺲ ﻋﲆ املﻜﺘﺐ وﻫﻤﺲ ﻟﻪ ﺑﻜﻠﻤﺎت.
ﻓﻬ ﱠﺰ اﻟﺸﺎب رأﺳﻪ وﺗﻠﻔﺖ ﺣﻮﻟﻪ ﰲ ﻓﺘﻮر ،ﺛﻢ ﻗﺎم ودﺧﻞ إﱃ ﻣﻜﺘﺐ ﻣﺤﻘﻖ اﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﻓﺒﻘﻰ
ﻓﻴﻪ ﺣﻴﻨًﺎ ،ﺛﻢ ﻋﺎد إﱃ اﻷﺳﺘﺎذ ﻓﺪﻋﺎه ﻟﻠﺪﺧﻮل.
ﻃﺎ ﻻ أﻋﺮف ﻣﻨﻬﻢ وﺟﻬً ﺎ،أﺗﻠﻔﺖ ﺣﻮﱄ إﱃ وﺟﻮه اﻟﺠﺎﻟﺴني وﻛﺎﻧﻮا أﺧﻼ ً وﺑﻘﻴﺖ وﺣﺪي ﱠ
ُ
وﻛﻨﺖ ﰲ ﻣﻼﺑﴘ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻓﺨﺸﻴﺖ أن ﺗﺤﺘﻘﺮﻧﻲ ُ وﺗﻄﻠﻌﺖ ﻧﺤﻮي ﻋﻴﻮن ﻛﺜرية ﺗﻔﺤﺼﻨﻲ،
ﱠ
اﻷﻧﻈﺎر ،ﻓﺮﻓﻌﺖ رأﳼ وﴎت ﰲ ﻫﺪوء واﺳﺘﻌﻼء ﻧﺤﻮ اﻟﻨﺎﻓﺬة اﻟﻘﺮﻳﺒﺔ ،ﻓﺎﺗﻜﺄت ﻋﻠﻴﻬﺎ
ُ
وﺟﻌﻠﺖ أﻧﻔﺦ دﺧﺎﻧﻬﺎ وأﺷﻌﻠﺖ ﻟﻔﺎﻓﺔ ﻣﻦ ﺻﻨﺪوق اﻟﺴﺠﺎﺋﺮ اﻟﻔﺎﺧﺮ اﻟﺬي اﺷﱰﻳﺘُﻪ ﺑﺎﻷﻣﺲ،
وأﻧﺎ أدﻳﺮ ﺑﴫي ﰲ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﺛﺎﺑﺘًﺎ.
ﻄﻞ ﺑﻘﺎﺋﻲ ﻫﻨﺎك ﺛﻢ رن اﻟﺠﺮس وﻗﺎم اﻟﺴﻜﺮﺗري ﻣﴪﻋً ﺎ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ املﺤﻘﻖ وﻫﻮ وﻟﻢ ﻳَ ُ
املﺪﻋﻲ اﻟﻌﺎم ﻧﻈ ًﺮا ﻟﺨﻄﻮرة اﻟﺘﻬﻤﺔ.
ﻓﺄﻟﻘﻴﺖ ﻋﻘﺐ اﻟﺴﻴﺠﺎرة ﻋﲆ اﻷرض ودﺳﺘﻬﺎ ﺑﻘﺪﻣﻲ ُ ﺛﻢ ﺧﺮج ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ وﻧﺎدى ﺑﺎﺳﻤﻲ،
ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺘﺤﺪﱢي ،وﴎت ﻧﺤﻮ اﻟﻐﺮﻓﺔ راﻓﻌً ﺎ رأﳼ ،ﺣﺘﻰ دﻓﻊ اﻟﺴﻜﺮﺗري اﻟﺒﺎب ﺑﻴﺪه ،وﻧﻘﺮ
ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺄﺻﺒﻌﻪ ﻣﺴﺘﺄذﻧًﺎ ﻓﺪﺧﻠﺖ ﺑﻐري أن أﻟﺘﻔﺖ إﻟﻴﻪ ،ووﺟﺪت ﻧﻔﴘ ﰲ ﻏﺮﻓﺔ ﺻﻐرية ﻟﻴﺲ
ﻓﻴﻬﺎ ﺳﻮى ﻛﺮﳼ ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺠﻠﺪ ﻳﺠﻠﺲ ﻋﻠﻴﻪ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ،وﻛﺮﳼ آﺧﺮ ﻳﺠﻠﺲ ﻋﻠﻴﻪ
ﻛﺎﺗﺐ اﻟﻨﻴﺎﺑﺔ.
148
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ
ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ ﺣﻮﱄ ﻟﻔﺘﺔ ﺗﻮﺣﻲ ﺑﺄﻧﻲ أﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻛﺮﳼ ﻷﺟﻠﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻘﺎل املﺤﻘﻖ ﻫﺎدﺋًﺎ :ﻻ ﱡ
ﻣﺆاﺧﺬة ﻓﺈن املﻘﺎﻋﺪ ﻗﻠﻴﻠﺔ ،وﻟﻦ ﻧﺤﺘﺎج إﱃ وﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ.
وأﺧﺬ ﻳُﻘﻠﺐ ﰲ ﻣﻠﻒ اﻷوراق اﻟﺘﻲ أﻣﺎﻣﻪ ﻋﲆ املﻜﺘﺐ ،وﻛﺎد اﻟﻐﻀﺐ ﻳﺪﻓﻌﻨﻲ إﱃ أن أﺣﺘﺞ
ﻟﻮﻻ أن اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻧﻈﺮ إﱄ ﱠ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ ،وأﺷﺎر إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺮﺳﻴﻪ اﻟﺠﻠﺪي ﻷﺟﻠﺲ ﻋﻠﻴﻪ،
ﻓﻮﺟﺪﺗﻬﺎ ﻓﺮﺻﺔ ﻹﻇﻬﺎر ﻣﺎ ﰲ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﺪﱢي ،وﺟﻠﺴﺖ ﻋﲆ ﻃﺮف ذراع اﻟﻜﺮﳼ ووﺿﻌﺖ
ﺳﺎﻗﺎ ﻋﲆ أﺧﺮى. ً
ﻳﺨﻒ ﻋﻨﱢﻲ ﻣﺎ داﺧﻞ املﺪﻋﻲ اﻟﻌﺎم ﻣﻦ اﻻﻣﺘﻌﺎض ،ﻓﺸﻌﺮت ﺑﺎرﺗﻴﺎح ﺟﻌﻠﻨﻲ أﻧﺘﻈﺮ َ وﻟﻢ
ﻫﺎدﺋًﺎ.
ﻗﺎﺋﻼ ﺑﻌﺪ املﻘﺪﻣﺎت املﻌﺮوﻓﺔ :ﻣﺎذا ﺗﻘﺼﺪ ﺑﻘﻮﻟﻚ» :ﻫﺬا اﻟﻌﻬﺪ اﻟﺘﻌﺲ؟« وﺳﺄﻟﻨﻲ ً
أوﻻ ﻣﺎ ﻫﻲ ﺗُﻬﻤﺘﻲ ،ﻣﺎ ﻫﻮ املﻮﺿﻮع اﻟﺬي ﺟﺌﺖ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ؟ ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻓﺘﻮر :ﻟﺴﺖ أﻓﻬﻢ ً
ﻣﻘﺎﻻ أم ﺗﻘﺼﺪ ﻛﻠﻤﺔ ﻗﻠﺘﻬﺎ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ؟ ً وأي ﻣﻘﺎل ﻫﺬا اﻟﺬي ﺗﺸري إﻟﻴﻪ؟ وﻫﻞ ﺗَﻘﺼﺪ
ﻓﻘﺎل ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻻﻣﺘﻌﺎض :ﻃﺒﻌً ﺎ ﻫﻨﺎ ﻧﻴﺎﺑﺔ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ،وﻫﺬا ﻣﻘﺎﻟﻚ اﻟﺬي ﻛﺘﺒﺘﻪ
ﺑﺎﻷﻣﺲ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻓﻌﺔ :ﻫﺬا ﻛﻼم ﺑﺴﻴﻂ واﺿﺢٌ ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻪ ﻏﻤﻮض ،أﻗﺼﺪ ﻫﺬا اﻟﻌﻬﺪ اﻟﺘﻌﺲ
اﻟﺬي ﻧﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ اﻟﻴﻮم ،ﻫﺬا اﻟﻌﻬﺪ اﻟﺬي أُﻫﺪ َرت ﻓﻴﻪ اﻟﻘﻴﻢ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وﻛﻞ اﻷﻗﺪاس اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ
وﻛﻞ أﺻﻮل اﻟﺤﻜﻢ املﺴﺘﻘﻴﻤﺔ ،ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻎ اﻷﻣﺮ إﱃ ﻣﺎ ﻧﺮاه ﻛ ﱠﻞ ﻳﻮ ٍم وﻧﺴﻤﻌُ ﻪ ﻛ ﱠﻞ ﻳﻮم ،وﺣﺘﻰ
أﺻﺒﺢ اﻟﻨﺎس ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن أن …
وﻛﺪت أﻣﴤ ﰲ ﺷﺒﻪ ﻣﺤﺎﴐة ﻋﻦ ﻓﺴﺎد اﻷﺣﻮال ،وﻟﻜﻦ املﺪﻋﻲ اﻟﻌﺎم ﻗﺎﻃﻌﻨﻲ ً
ﻗﺎﺋﻼ: ُ
ﻓﺈن اﻟﻌﺎدة أن ﺗُﺴﺘﻌﻤَ ﻞ ﻛﻠﻤﺔ اﻟﻌﻬﺪ
ﻫﺬا ﻏري ﻣﺎ أﻗﺼﺪ ،ﻓﺈﻧﻲ أﺳﺄﻟﻚ ﻋﻤﺎ ﺗﻘﺼﺪ ﺑﻜﻠﻤﺔ اﻟﻌﻬﺪ ،ﱠ
إذا ﻗﺼﺪ املﻠﻚ.
وﻛﺎﻧﺖ ﺻﺪﻣﺔ ﺷﺪﻳﺪة ذ ﱠﻛﺮﺗﻨﻲ ﺑﺎﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﺬي ﺑﺪأ ﻓﻴﻪ اﻟﻀﺎﺑﻂ ﰲ دﻣﻨﻬﻮر ،وﻟﻢ أﻣﻠﻚ
ﻧﻔﴘ ﻣﻦ اﻟﻀﺤﻚ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﻫﻲ اﻟﻠﻌﺒﺔ املﻌﺮوﻓﺔ؟
ﻓﺼﺎح ﻏﺎﺿﺒًﺎ :أرﺟﻮ أن ﺗﺰن أﻟﻔﺎﻇﻚ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ.
أﻇﻦ أﻧﻲ أﻋﺮف ﻛﻴﻒ أزﻧﻬﺎ؛ ﻷﻧﻲ أﻗﺼﺪ ﻣﺎ ﻗﻠﺘﻪ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ :ﻫﻲ ﻟﻌﺒﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ؛ ﻓﻘﻠﺖ ﻣﻨﺪﻓﻌً ﺎ :ﱡ ُ
ﻷن ﻫﺬه ﻟﻴﺴﺖ املﺮة اﻷوﱃ اﻟﺘﻲ أﺳﻤﻊ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ،إﻧﻨﺎ ﻧَﻜﺘُﺐ ﻟﻠﻘﺎﺋﻤني ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ
وﻟﺴﻨﺎ ﻧﻘﺼﺪ ﻣﻦ وراء ﻫﺬا أن ﻧﺨﺎﻃﺐ املﻠﻚ ،املﻠﻚ ﻻ ﻳَﺤ ُﻜﻢ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻧﺺ اﻟﺪﺳﺘﻮر ،ﻓﻤﺎذا
ﺣﻘﺎ إﻻ إذا ﻗﺼﺪ ﻣﻨﻬﺎﻳﺪﻋﻮﻛﻢ إﱃ ﺗﺄوﻳﻞ ﻗﻮﱄ ﻋﲆ أﻧﻲ أﻗﺼﺪ املﻠﻚ؟ ﻓﻬﻞ ﻛﻠﻤﺔ اﻟﻌﻬﺪ ﻻ ﺗُﻘﺎل ٍّ
املﻠﻚ؟
149
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ً
ﻣﻄﻠﻘﺎ .ﻟﻜﺎن ﻫﺬا اﻟﻘﻮل اﻟﺬي ﻟﻮ ﻛﻨﺎ ﰲ ﺑﻠﺪ ﺗﻘﻮل ﰲ ﴏاﺣﺔ :ﱠ
إن املﻠﻚ ﻳَﺤﻜﻤﻬﺎ ﺣُ ﻜﻤً ﺎ
ﻣﻌﻘﻮﻻ ،وﻟﻜﻨﺎ ﰲ ﺑﻠﺪ ﻳﺰﻋﻢ أن ﻟﻪ ﺣﻜﻮﻣﺔ دﺳﺘﻮرﻳﺔ ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﺗﻌﻮد ً ﱢ
املﺤﻘﻖ ﺗﻘﻮﻟﻪ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي
ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻛﻞ ﺗﺒﻌﺎت اﻟﺤﻜﻢ إذا ﻛﺎن ﻓﺎﺳﺪًا ،املﻠﻚ ﻳَﺤ ُﻜﻢ ﺑﻮاﺳﻄﺔ وزراﺋﻪ ،وﻻ ﻳُﻌﻔﻲ اﻟﻮزﻳﺮ ﻣﻦ
املﺴﺌﻮﻟﻴﺔ أن ﻳﻮﺟﻪ إﻟﻴﻪ املﻠﻚ أﻣ ًﺮا ﻛﺘﺎﺑﻴٍّﺎ ﻳﺨﺎﻟﻒ اﻟﻘﺎﻧﻮن .أﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺪﺳﺘﻮر؟ ﺳﻠﻨﻲ
ﺣﻘﺎ ﺗﺠﺪ ﻋﻨﺪي ﻣﻦ اﻷدﻟﺔ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ إذا ﺷﺌﺖ ﻋﻦ اﻟﱪاﻫني اﻟﺘﻲ ﺗﺪ ﱡل ﻋﲆ أن ﻫﺬا اﻟﻌﻬﺪ ﺗﻌﺲ ٍّ
إن اﻷوﱃ ﺑﺎملﺤﺎﻛﻤﺔ ﻫﻢ ﻫﺆﻻء اﻟﺠﺎﻟﺴﻮن ﰲ ﻣﻘﺎﻋﺪ اﻟﺤﻜﻢ، ﻟﻠﱪﻫﺎن ﻋﲆ أﻧﻪ ﺗﻌﺲ ﻗﺬر ﻧﺠﺲ .ﱠ
ﻓﻼ ﺗُﺤﺎورﻧﻲ ﺑﺎﻟﺘﻌﺮﻳﺞ ﻋﲆ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﺮش ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻟﻌﺒﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ ﻛﻤﺎ ﻗﻠﺖ.
ﻓﻀﺤﻚ املﺤﻘﻖ ﺳﺎﺧ ًﺮا وﻗﺎل :ﻳﻈﻬﺮ أﻧﻚ ﻗﺪﻳﻢ اﻟﻌﻬﺪ ﺑﺎﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﰲ ﻣﻌﻨﻰ ﻛﻠﻤﺔ »اﻟﻌﻬﺪ«.
ﻣﺘﻰ ﻛﺎن ذﻟﻚ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ؟
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﻞ دُﻋﻴﺖ إﱃ ﻫﻨﺎ ﻷﺳﻤﻊ ﺳﺨﺮﻳﺔ؟ ﻣﺎ ﺗﻬﻤﺘﻲ ﺣﺘﻰ أﻋﺮف ﰲ ﻓﻮﺛﺒﺖ ﻋﲆ ﻗﺪﻣﻲ ًُ
أي ﻣﻮﺿﻮع ﺗﺴﺄﻟﻨﻲ؟ أم ﻫﻮ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻏري ﻣﺤﺪﱠد ﻳﺸﻤﻞ ﻛﻞ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺳﺎﺑﻖ ﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﻮﻗﺖ
اﻟﺤﺎﴐ؟ أﺣﺐ أن ﺗُﺜ ِﺒﺖ ﰲ ﻫﺬا املﺤﴬ أﻧﻲ ﻣﺤﺘﺞﱞ ﻋﲆ ﺳﺆاﱄ ﰲ ﻣﻮﺿﻮع ﺳﺎﺑﻖ ﻻ ﺗَﻌﺮف
ﻋﻨﻪ ﺷﻴﺌًﺎ إﻻ ﻣﻦ ﻛﻠﻤﺔ ﻋﺎرﺿﺔ ﻗﻠﺘﻬﺎ.
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺟﻤﻮد :ﻟﻚ أن ﺗﻘﻮل ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﺗﺤﺐ ،وﻫﺬا اﻟﻜﺎﺗﺐ ﻳﺜﺒﺖ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﺠﻴﺐ ﺑﻪ ،ﻓﻘﻞ ﱄ
اﻵن ﻣﺎذا ﻛﺎن ﻣﻮﺿﻮع ﺗُﻬﻤﺘﻚ اﻷوﱃ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺗﺤﺪﱟ :ﻟﻢ ﺗﻮﺟﻪ إﱄ ﱠ ﺗﻬﻤﺔ.
ﻓﻘﺎل :أﻟﻢ ﺗَ ُﻘﻞ إﻧﻬﺎ ﻟﻌﺒﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ ،وإن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺘﻬﻤﺔ وﺟﻬﺖ إﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ.
ﻓﻘﻠﺖ :أﻗﻮل ﻟﻚ :إﻧﻪ ﻟﻢ ﺗﻮﺟﻪ إﱄ ﱠ ﺗﻬﻤﺔ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻌﺒﺔ أراد ﺑﻌﺾ ُﺧﺼﻮﻣﻲ أن ﻳﻠﻌﺒﻮﻫﺎ
ﻓﻠﻢ ﻳﻨﺠﺤﻮا ،أرادُوا أن ﻳُﻬﻮﱢﺷﻮا ﻋﲇ ﱠ ﺑﺄﻟﻌﻮﺑﺔ اﻟﻌﻴﺐ ﰲ اﻟﺬات املﻠﻜﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ َ
ﻧﻔﺴﻪ
ﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﻣﻦ ﻣﺼﻠﺤﺘﻪ اﻟﺘﻮ ﱡرط ﰲ اﻟﻠﻌﺒﺔ ،ﻓﴫف املﻮﺿﻮع ﺑﻐري أن ﻳُﻌ ﱢﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ أﻫﻤﻴﺘﻪ ،ﺣﺘﻰ
إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﺘﺐ ﱄ ﻣﺤﴬً ا .ﻫﺬا ﻛﻞ ﳾء.
ﻓﺎﺳﺘﻤﺮ ﰲ ﺟﻤﻮده وﻗﺎل :ﻣﻦ ﻫﻮ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ اﻟﺬي ﻳُﻔﺴﺪ اﻷﺧﻼق وﻳﻬﺪم ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﺒﻼد؟
ﻓﺸﻌﺮت ﺑﺎﻟﺨﻄﺮ وﻟﻢ أﺗﺬﻛﺮ أﻧﻲ ﻛﺘﺒﺖ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻫﺸﺔ :أرﺟﻮك أن ﺗﻘﺮأ
ﱄ اﻟﻔﻘﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﻟﻴﻬﺎ.
ﻓﺄﺧﺬ ﻳﻘﺮأ ﰲ ﻫﺪوء» :وﻛﺎن أول ﻣﺎ ﻃﺎ َﻟﻌﻨﻲ ﻣﻨﻈﺮ ﻫﺬه اﻟﻔﺘﻴﺎت ﰲ ﺛﻴﺎﺑﻬﻦ اﻟﺤﺮﻳﺮﻳﺔ
املﻠﻮﱠﻧﺔ …«
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﺬا ﻣﺜﺎل ﻟﻢ ﻳﻈﻬﺮ ﻷﻧﻪ ﻋﺪد اﻟﺠﺮﻳﺪة ﺻﻮدر. ﻓﺼﺤﺖ ً
ﻓﻘﺎل :وﻟﻜﻨﱠﻚ ﻛﺘﺒﺖ ﻫﺬا أﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ؟
150
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ
151
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻛﺎن ﴎور اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر أﺷ ﱠﺪ ﻣﻦ ﴎوري وأوﺿﺢ ،ﻓﻤﺎ ﻛﺪﻧﺎ ﻧﺼﺎﻓﺢ املﺤﻘﻖ،
ﻗﺎﺋﻼ :ﻟﻦ ﺗَﺒﻘﻰ ﰲوﻧﺨﺮج ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﺣﺘﻰ أﻣﺴﻚ ﺑﺬراﻋﻲ وﺿﻤﻬﺎ إﻟﻴﻪ وﻧﺤﻦ ﺳﺎﺋﺮان ً
اﻟﺴﻮق ﻧﺴﺨﺔ واﺣﺪة ﻣﻦ ﻋﺪد اﻟﻴﻮم ﺑﻌﺪ ﻫﺬه املﺼﺎدَرة املﺆﻗﺘﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ :وأﻇﻨﱡﻚ ﺗﺴﻤﺢ ﱄ ﺑﺎﻟﺴﻔﺮ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ﻟﻘﻀﺎء ﻳﻮﻣني ﻣﻜﺎﻓﺄة ﱄ ﻋﲆ ﻫﺬا.
ﻓﻘﺎل ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ :ﻫﺬا ﻏري ﻣُﻤﻜﻦ .ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻦ ﻛﻞ اﻟﻈﺮوف اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻬﻴﺄ ﻟﻨﺎ ،ﻏﺪًا
ﺻﺒﺎﺣً ﺎ ﺳﻴَﻈﻬﺮ ﻣﻘﺎ ٌل ﻣﻦ أﻋﻨﻒ ﻣﻘﺎﻻﺗﻚ ﰲ ﻣﻬﺎﺟﻤﺔ اﻟﺠﺒﻨﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺪارون وراء اﻟﻌﺮش
ﻟﻴﺴﱰدوا ﻓﺴﺎد ﺣﻜﻤﻬﻢ.
ﺮرت أن أﺳﺘﺄذﻧﻪ ﻗﺒﻞ أن ﺗُﻐ َﻠﻖ أﺑﻮاب ﻣﻜﺎﺗﺐ اﻟﱪﻳﺪ ﻹرﺳﺎل ﺣﻮاﻟﺔ ﺑﺮﻳﺪﻳﺔ إﱃ ﻄ ُ واﺿ ُ
ُﻮﺻ َﻠﻬﺎ إﱃ أﻣﻲ ﻛﻤﺎ أﻓﻌﻞ داﺋﻤً ﺎ ﰲ أول ﻛﻞ ﺷﻬﺮ.
ﺻﺪﻳﻘﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﻴﺎد؛ ﻟﻜﻲ ﻳ ﱢ
152
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ
ﻣﴣ ﻋﲇ ﱠ أﺳﺒﻮع وأﻧﺎ ﻻ أﻛﺎد أﻓﻴﻖ ﻟﻨﻔﴘ ﻣﻦ ﻏﻤﺮة اﻟﻌﻤﻞ ،وﻛﻨﺖ ﻻ أﻛﺎد أﺟﺪ ً
ﻓﺮاﻏﺎ إﻻ ﰲ
ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻈﻬﺮ ﻷﺧﻄﻒ ﻟﻘﻤﺔ ﺻﻐرية ﺣﻴﺚ أﻛﻮن.
وذﻫﺒﺖ ﰲ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻈﻬﺮ ﰲ أﺣﺪ اﻷﻳﺎم إﱃ دﻛﺎن اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺣﺴﻨني ﻷﺷﱰي ﻏﺪاﺋﻲ،
ﻓﺴﻤﻌﺘﻪ ﻳﺒﺎدرﻧﻲ ً
ﻗﺎﺋﻼ :اﻟﺒﻘﻴﺔ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻟﻬﻔﺔ :ﻣﺎذا ﺣﺪث؟
وﻛﻨﺖ ﻟﻢ أﻗﺮأ ﺻﺤﻒ ُ ﻓﻘﺎل :أﻟﺴﺖ ﻣﻦ دﻣﻨﻬﻮر؟ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل :ﺗﻌﻴﺶ أﻧﺖ!
ُ
ﻓﺄﺧﺬت »اﻷﻫﺮام« اﻟﺘﻲ ﻣ ﱠﺪ اﻟﺸﻴﺦ ﺑﻬﺎ ﻳﺪه ،وأﺧﺬت أﻗﺮأ» :ﺟﺎءﻧﺎ اﻟﺼﺒﺎح ﻣﻦ ﻛﺜﺮة ﻣﺸﺎﻏﲇ،
ﻣﻦ ﻣﺮاﺳﻠﻨﺎ ﰲ دﻣﻨﻬﻮر أن املﺪﻳﻨﺔ ُروﱢﻋﺖ ﻋﲆ ﻏري اﻧﺘﻈﺎر ﰲ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﺘﺄﺧﺮة ﻣﻦ اﻟﻠﻴﻠﺔ املﺎﺿﻴﺔ
ﺑﻮﻓﺎة ﻣُﺤﺴﻨِﻬﺎ اﻟﻜﺒري وزﻋﻴﻤﻬﺎ اﻟﻮﻃﻨﻲ اﻟﻌﻈﻴﻢ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل!«
وﺗﺨﺎذﻟﺖ ﻗﻮﺗﻲ ﻓﺠﻠﺴﺖ ﻋﲆ اﻟﺪﻛﺔ وأﻧﺎ ذاﻫﻞ أﻋﻴﺪ ﻗﺮاءة اﻟﺨﱪ ﻣﺮ ًة ﺑﻌﺪ ﻣﺮة ،ﻛﺄﻧﻲ
ﻻ أﺻﺪق ﻋﻴﻨﻲ ،أﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ ﺗﻤﺎم ﺻﺤﱠ ﺘﻪ وﻗﻮﺗﻪ ﰲ ﻟﻴﻠﺔ اﻻﺣﺘﻔﺎل ﺑﺪار اﻟﺴﻴﺪ اﻟﻮﺟﻴﻪ ﺟﻤﺎل
اﻟﺪﻳﻦ ﻣﻨﺬ أﺳﺒﻮع؟
وﻛﻨﺖ ﻛ ﱠﻠﻤﺎ ﻗﺮأت اﻟﺨﱪ ﻣﺮة ﻗﻠﺖ ﰲ ﺗﺄﺛﺮ :ﻻ ﺣﻮل وﻻ ﻗﻮة إﻻ ﺑﺎهلل ،إﻧﺎ هلل وإﻧﺎ إﻟﻴﻪ
ُ
راﺟﻌﻮن.
ﻛﻨﺖ ﻓﻘﺪت أﻋﺰ اﻟﻨﺎس ﻋﻨﺪي ملﺎ ﺷﻌﺮت ﺑﻬﺰة أﺷﺪ ﻣﻦ اﻟﻬﺰة اﻟﺘﻲ ﺷﻌﺮت ﺑﻬﺎ وﻟﻮ ُ
وﻗﺖ واﺣﺪ ،وﻏﻠﺒﺘْﻨﻲ ﻋﻴﻨﻲ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ،واﻣﺘﺰج ﰲ ﻗﻠﺒﻲ اﻷﺳﻒ واﻟﺮﺛﺎء واﻟﺤﺰن واﻟﺪﻫﺸﺔ ﰲ ٍ
وﺳﺒﺤﺖ ﰲ ﺗﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﺧﺸﻮع اﻟﻌﺎﺟﺰ اﻟﺬي ُ ﻓﺠﻌﻠﺘﻨﻲ ﻻ أﺑﴫ ﻣﻦ وراء ﻏﻼف اﻟﺪﻣﻊ،
ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻪ ﻋﺠﺰه ﻋﲆ ﺣني ﻓﺠﺄ ًة وﻫﻮ ﺳﺎ ٍه ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺨﺎﻟِﺪة ﰲ ﺿﺠﺔ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺰاﺋﻠﺔ ،إﻧﻬﺎ
دﻧﻴﺎ ﺻﻐرية ﻓﻴﻬﺎ أﺷﺒﺎح ﺗﺄﺗﻲ ﺻﻮرﻫﺎ وﺗﺬﻫﺐ ﻓﻮق ﺳﺤﺎﺑﺔ ،وﻟﻜﻨﱠﻨﺎ — ﻣﻌﴩ اﻟﻔﺎﻧني —
ﻧَﺤﺴﺒﻬﺎ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﺛﺎﺑﺘﺔ.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻧﺎداﻧﻲ اﻟﺸﻴﺦ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﺗﻌﺮﻓﻪ؟
ﻄﻞﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺻﻮت ﺧﺎﻓﺖ :ﻛﺎن ﻟﻪ ﻓﻀﻞ ﻋﻈﻴﻢ ﻋﲇﱠ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻈﺮوف ﻗﻄﻌﺖ ﺑﻴﻨﻨﺎ وﻟﻢ ﺗَ ُ
ﺑﻪ اﻷﻳﺎم ﺣﺘﻰ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أوﰲ َ ﻟﻪ دَﻳﻨﻲ.
ﻣﺎت وﻣﺎ زال دﻳﻨُﻪ ﺑﺎﻗﻴًﺎ ﰲ ﻋﻨﻘﻲ.
وﻫﺰ اﻟﺮﺟﻞ رأﺳﻪ ﻣﺘﺄﺛ ًﺮا وﻗﺎل :اﻟﺒﻘﻴﺔ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،دﻧﻴﺎ زاﺋﻠﺔ ،دﻧﻴﺎ ﻓﺎﻧﻴﺔ،
ﻫﻞ ﺗﺮك أوﻻدًا؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻓﺘﺎة وﺣﻴﺪة.
وﺧﻔﻖ ﻗﻠﺒﻲ ﺧﻔﻘﺎﻧًﺎ ﺷﺪﻳﺪًا وأﻧﺎ أﺗﺼﻮﱠر ﺣﺰن ﻣﻨﻰ اﻟﺸﺪﻳﺪ ﰲ وﺣﺪﺗﻬﺎ.
ً
ﻣﺮﻳﻀﺎ؟ ﻓﻘﺎل :أﻛﺎن
ﻓﻘﻠﺖ :رأﻳﺘﻪ ﰲ أﺗ ﱢﻢ ﺻﺤﺔ ﻣﻨﺬ أﺳﺒﻮع.
ﻓﻬﺰ رأﺳﻪ ﻣﺮة أﺧﺮى ً
ﻗﺎﺋﻼ :آﺟﺎل ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
ُ
اﻧﴫﻓﺖ إﱃ أﻓﻜﺎري اﻟﺤﺰﻳﻨﺔ وإﱃ ﻣﻨﻰ. وﻟﻢ أﺳﻤﻊ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ؛ ﻷﻧﻲ
ﻓﻜﺘﺒﺖ ورﻗﺔ وﺳﻠﻤﺘﻬﺎُ وﻗﻤﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ ﺑﻐري أن أﻟﺘﻔﺖ وراﺋﻲ ،وذﻫﺒﺖ إﱃ دار اﻟﺠﺮﻳﺪة،
ﻟﻠﺒﻮاب ﻟﻴُﻮﺻ َﻠﻬﺎ ﻟﻸﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر إذا ﻋﺎد ﰲ املﺴﺎء ،وذﻫﺒﺖ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺘﻲ إﱃ املﺤﻄﺔ ﻷﺳﺎﻓﺮ
ﰲ أول ﻗﻄﺎر أﺟﺪه ﻋﲆ اﻟﺮﺻﻴﻒ ،وﻛﺎن ﻣﻦ ﺣﺴﻦ ﺣﻈﻲ أن وﺟﺪت ﻗﻄﺎ ًرا ﻳﻘﻮم ﺑﻌﺪ رﺑﻊ
ﻏﺎرﻗﺎ ﰲ ﺣﺪﻳﺚ داﺧﲇ ﻣﺴﺘﻤﺮ ،أﻳﻦ دﻣﻨﻬﻮر وﻣﺎ ﻟﻠﻘﻄﺎر ﻳﺴري ً ﺳﺎﻋﺔ ،وﻛﻨﺖ ﻃﻮال اﻟﻄﺮﻳﻖ
ﺑﻄﻴﺌًﺎ؟ ﻫﻜﺬا اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺗﻤﴤ ﴎﻳﻌﺔ ﺑﻨﺎ وﻧﺤﻦ ﻧَﺴﺘﺒﻄﺊ اﻷﻳﺎم واﻟﻠﻴﺎﱄ واﻟﺸﻬﻮر ،واﻟﻘﻄﺎر
ﻳﺴري داﺋﻤً ﺎ إﱃ اﻷﻣﺎم ﻻ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﻮراء ﺧﻄﻮة ،وﻳﻘﻄﻊ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺷﱪًا ﺷﱪًا ﺣﺘﻰ ﻳﺠﻤﻊ
اﻷﻣﻴﺎل ﺑﻌﺪ اﻷﻣﻴﺎل ﻟﻜﻲ ﻳﺼﻞ أﺧريًا إﱃ دﻣﻨﻬﻮر إﱃ اﻟﻐﺎﻳﺔ اﻷﺧرية ﻛﻤﺎ ﺗﻔﻌﻞ ﺑﻨﺎ اﻟﺤﻴﺎة،
ﻫﻜﺬا ﺑﻠﻎ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻄﺮﻳﻖ .اﻻﻧﺘﺨﺎﺑﺎت واﻟﴪادﻗﺎت واملﻈﺎﻫﺮات وﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة
وﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ وﻛﻞ ذﻟﻚ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﰲ ﻟﺤﻈﺔ ،ووﻗﻒ اﻟﻘﻄﺎر ﰲ ﻃﻨﻄﺎ ،وﺑﺪأ اﻟﻨﺎس ﻳﻨﺰﻟﻮن
وﻳَﺼﻌﺪ ﻏريﻫﻢ إﱃ اﻟﻌﺮﺑﺔ ،ﻛﻞ ﻫﺆﻻء ﻳﺠﺘﻤﻌﻮن وﻳﺘﺤﺎدﺛﻮن وﻳﺘﺠﺎدﻟﻮن ﺛﻢ ﻳﻬﺒﻄﻮن ﻣﻦ
اﻟﻘﻄﺎر ﻟﻜﻲ ﻳﺴﺘﻘﺒﻞ اﻟﻘﻄﺎر ﻃﺎﺋﻔﺔ أﺧﺮى ﻏريﻫﻢ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺰل اﻟﺠﻤﻴﻊ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ إذا ﺟﺎءت
ﺮت ﻳﻮم ﺳﺎﻓﺮت إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة أول ﻣﺮة ورأﻳﺖ راﻛﺒَني ﻳﺘﻌﺎرﻛﺎن ،ﻫﻞ ﻫﻨﺎك اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،وﺗﺬ ﱠﻛ ُ
أﺣﻤﻖ ﻣﻦ راﻛﺐ ﰲ ﻗﻄﺎر ﻳُﻌﺎرك ﺟرياﻧَﻪ؟ إﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﻠﺒﺚ أن ﻳﱰﻛﻬﻢ أو ﻳﱰﻛﻮه!
وﻛﺎﻧﺖ ﻋﻮدﺗﻲ إﱃ ﻣﻨﺰﱄ ﻣُﻔﺎﺟَ ﺄة ،وﺑ َﻜﺖ ﻣﻨرية ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﺗﻨﻲ ،وأﻣﺎ أﻣﻲ ﻓﻘﺪ ﺿﻤﺘﻨﻲ
إﱃ ﺻﺪرﻫﺎ ،وﻗﺎﻟﺖ ﰲ ﺣﺰن :ﻃﺒﻌً ﺎ ﻋﺮﻓﺖ املﺼﻴﺒﺔ اﻟﻜﱪى ،ﻣﺴﻜﻴﻨﺔ ﻣﻨﻰ!
ُ
وﻗﻠﺖ :ﻫﻞ ذﻫﺒﺖ ﻟﻠﻌﺰاء؟ ووﺛﺐ ﻗﻠﺒﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﻤﻌﺖ اﺳﻤﻬﺎ،
154
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ
ﻓﻘﺎﻟﺖ :ﻃﺒﻌً ﺎ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ،ﻣﻦ ﻛﺎن ﻳﺤﺴﺐ أﻧﻪ ﻳﻤﻮت ﻫﻜﺬا؟ وﻣﺎذا أﺧﺬ املﺴﻜني ﻣﻌﻪ؟ إﻧﻬﺎ
ﻗﺴﻤﺔ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ،وﻣﻨﻰ املﺴﻜﻴﻨﺔ! ﺗﻜﺎد ﺗﻘﺘﻞ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺒﻜﺎء ،ﻟﻮ أﻧﺼﻔﺖ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻟﻜﺎﻧﺖ ﻣﻨﻰ
ﻣﻦ ﻧﺼﻴﺒﻚ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ.
ﻳﺎ ﻟﻴﺘﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻏﻨﻴﺔ ،ﻣﻨﻰ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ اﻟﻮدﻳﻌﺔ! ﻣﺴﻜﻴﻨﺔ.
ﻗﺎﺋﻼ :وﻫﻞ ﻫﻲ أول ﻓﺘﺎة ﻣﺎت أﺑﻮﻫﺎ؟ وﻛﺪت أﺻﻴﺢ» :ﻣﺎ اﻟﺨﱪ؟« وﻟﻜﻨﱢﻲ دارﻳﺖ ﻟﻬﻔﺘﻲ ً
ﻓﺨﻔﻀﺖ أﻣﻲ ﺻﻮﺗﻬﺎ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻛﻔﺎﻧﺎ ﷲ اﻟﴩ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ وﻛﻔﺎﻧﺎ ﺷﻤﺎﺗﺔ اﻷﻋﺪاء ،ﻻ أﺣﺐ أن ْ
أﻋﻴﺪ ﻣﺎ ﻗﻴﻞ؛ ﻷﻧﻪ ﻓﻈﻴﻊ ،ورﺑﻨﺎ ﻳﺴﱰ أﻋﺮاض اﻟﻨﺎس.
ﻓﻮﺛَﺐ ﻗﻠﺒﻲ إﱃ ﺣﻠﻘﻲ ،وأردت أن أﺳﺄل أﻣﻲ ﻋﻦ ﻗﺼﺪﻫﺎ ،ﻓﻠﻢ أﻗﺪر ﻋﲆ اﻟﻨﻄﻖ،
واﺳﺘﻤﺮت أﻣﻲ ﺗﻘﻮل :املﻮت ﻣﺤﺘﻮم ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻔﻀﻴﺤﺔ ﻳﺎ وﻟﺪي ،إﻧﻬﺎ ﻣﺼﻴﺒﺔ،
ﺗﺼﻮر ﻳﺎ وﻟﺪي أن اﻣﺮأة ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻬﺎ ﺗﻘﺘﻞ اﻟﺮﺟﻞ ،ﻧﻌﻢ اﻣﺮأة ﺣﻘرية ﻗﺘﻠﺘْﻪ؛ ﻷﻧﱠﻬﺎ ﻣﻸت املﺪﻳﻨﺔ
أﻳﻀﺎ ،وﻳﻘﻠﺐ املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ ﻓﻮﻗﻬﺎ إﱃ ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﺤﺔ ،واﻷدﻫﻰ ﻣﻦ ذﻟﻚ أن ﻳﻘﻮم رﺟﻞ ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻪ ً
ﺗﺤﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﺸﻨﻴﻊ ﻋﲆ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ املﺴﻜني .أﺗَﻌﺮف ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ؟
ﻟﺴﺖ أﻓﻬﻢ ﻣﺎذا ﺗﻘﺼﺪﻳﻦ ﻳﺎ أﻣﻲ ﺑﻜﻞ ﻫﺬا؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﺳﻤﻊ ﺑﴚء ﻋﻦ ُ ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺣﻨﻖ:ُ
اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﺳﻮى أﻧﻪ ﻣﺎت ،ﻣﺎ ﻫﺬه اﻟﻔﻀﻴﺤﺔ؟ وﻣﻦ ﻫﻲ املﺮأة اﻟﺘﻲ ﻗﺘﻠﺘﻪ؟ وﻣﺎ دﺧﻞ
ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﰲ ﻫﺬا؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ أﻣﻲ :ﻣﻦ ﻳُﺼﺪﱢق أن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻳﺘﺰوج ﺑﺎﻣﺮأة ﺣﻘرية؟ وﻣﻦ ﻳﺼﺪق أﻧﻬﺎ
وﻟﺪت ﻣﻨﻪ وﻟﺪًا ﻣﻊ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣُﺴﺘﻌﺪٍّا ﻟﻠﺘﺼﺪﱡق ﺑﻨﺼﻒ ﻣﺎﻟﻪ إذا وﻟﺪت ﻟﻪ زوﺟﺘﻪ وﻟﺪًا ،ذﻫﺒﺖ
املﺮأة ﰲ ﻛﻞ أﻧﺤﺎء املﺪﻳﻨﺔ ﺗُﻌﻴﺪ ﻫﺬا اﻟﻘﻮل ﻟﺘﻔﻀﺤﻪ ،وﻗﺎم ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻣﻌﻬﺎ ﻳُﺴﺎﻋﺪﻫﺎ،
ورﻓﻊ ﻟﻬﺎ ﻗﻀﻴﺔ ﰲ املﺤﺎﻛﻢ ،ﻣﺴﻜني اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،ﺑﻌﺪ ﺛﻼﺛﺔ أﻳﺎم ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻀﻴﺤﺔ
ﻣﺮﻳﻀﺎ وﻣﺎت ﰲ ﻟﻴﻠﺔ واﺣﺪة ،أﻳُﺼﺪﱢق أﺣﺪ ﻫﺬا؟ً رﻗﺪ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ َ
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻫﺪوء :وﻟﻢ ﻻ؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ ﻟﻮ ٍم :أﻧﺖ ً
أﻳﻀﺎ ﺗﻘﻮل ﻫﺬا؟
ﻣﺘﻮﻗﻔﺎ ﻋﲆ ﻗﻮﱄ ،املﻬﻢ ﻫﻮ ﻫﻞ ﻫﺬه املﺮأة زوﺟﺘﻪ؟ ً ﻟﺴﺖ أﻗﻮل ﻫﺬا وﻟﻴﺲ اﻷﻣﺮ ُ ﻓﻘﻠﺖ:
ﻫﻞ ﻋﻨﺪﻫﺎ وﺛﻴﻘﺔ زواج؟ ﻫﺬا ﻫﻮ املﻬﻢ.
ﻓﺼﺎﺣﺖ أﻣﻲ :ﻣﺎ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ﻳﺎ اﺑﻨﻲ؟ ﻻ ﻳُﻤﻜﻦ! ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أﺑﺪًا .أﺗﻘﻮل ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل اﻟﻨﺎس
ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟ ﻋﻴﺐ ﻳﺎ وﻟﺪي ،ﻫﻞ ﻛﺎن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻣﺨﺘ ﱠﻞ اﻟﻌﻘﻞ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺰوج اﻣﺮأة ﻣﺜﻠﻬﺎ ،إﻧﻬﺎ
ﻣﺼﻴﺒﺔ! وﺗﻘﻮل ﻣﻊ ﻫﺬا أن املﻬﻢ ﻫﻮ اﻟﻮﺛﻴﻘﺔ؟
وﺳﺒﺤﺖ ﰲ ﺗﺄﻣﻞ ﻫﺬه اﻷﻗﻮال ﺻﺎﻣﺘًﺎ وأﻣﻲ ﺗﺘﺤﺪﱠث ﰲ ﺻﻮت ﻏﺎﺿﺐ ﺣﺰﻳﻦ ﺑﺄﻗﻮال ﻟﻢ
ً
اﻧﺘﺒﺎﻫﺎ إﻟﻴﻬﺎ. أﻟﻖ
ِ
155
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻛﻨﺖ أﺳﺄل ﻧﻔﴘ :ﻣﻦ ﺗﻜﻮن ﻫﺬه املﺮأة؟ وﻣﺎ ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﻮﻟﺪ؟ وﻫﻞ ﻫﻮ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ُ
ﻳﻈﻬﺮ ﻣﺮة أﺧﺮى ﺑﺈﺣﺪى أﻻﻋﻴ ِﺒﻪ اﻟﺨﺒﻴﺜﺔ؟ أﺗﻜﻮن ﻫﻲ املﺮأة اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﻨﻲ ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﰲ
اﻟﴪ ﰲ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺒﺪأ ﻓﻀﻴﺤﺘﻬﺎ إﻻ ﰲ ﻫﺬه اﻷﻳﺎم ﻣﻊ ﻫﺬﻳﺎﻧﻪ :زﻳﻨﺐ اﻟﺸﻘﺮاء أو اﻟﺴﻤﺮاء؟ وﻣﺎ ﱡ
أن ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﻬﺎ إن ﻛﺎﻧﺖ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺗﺒﺪأ ﻣﻨﺬ ﺳﻨﻮات؟ وﻛﺎﻧﺖ ﺻﻮرة ﻣﻨﻰ داﺋﻤً ﺎ أﻣﺎﻣﻲ ﺣﺰﻳﻨﺔ
ﺗﺒﻜﻲ وﺗﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﺬﻟﺔ.
ُ
ﻓﻘﻤﺖ ﻓﺎﺗ ًﺮا ﻣُﺴﺘﺴﻠﻤً ﺎ وﺗﻨﺒﻬﺖ ﺑﻌﺪ ﺣني إﱃ ﺻﻮت أﻣﻲ وﻫﻲ ﺗﺪﻋﻮﻧﻲ إﱃ اﻟﻌﺸﺎء، ُ
ﺧﻔﻴﻔﺎ ﺣﺘﻰ ﻻ أُﻇﻬﺮ ﻣﺒﻠﻎ اﺿﻄﺮاﺑﻲ ً وأﻛﻠﺖ ﺷﻴﺌًﺎ
ُ وذﻫﺒﺖ ﻷﻏﺴﻞ رأﳼ ﻣﻦ ﺗﺮاب اﻟﺴﻔﺮ،
ﻗﻤﺖ ﻷذﻫﺐ إﱃ دار اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ املﺴﻜني؛ ﻷؤدﱢي واﺟﺒﻲ ﰲ اﻟﻌﺰاء. واﻫﺘﻤﺎﻣﻲ ،ﺛﻢ ُ
وﻛﺎن ﰲ ﻓﻨﺎء املﺤﻠﺞ ﴎادق ﻛﺒري ﰲ املﻜﺎن اﻟﺬي ﻛﺎن ﻓﻴﻪ اﻟﴪادق اﻟﻀﺨﻢ ﰲ آﺧﺮ
ﺑﻨﻔﺲ ﺟﻴﱠﺎﺷﺔ أﺳري ﻋﲆ ﻣﻬﲇ ﺣﺘﻰ ٍ ُ
ﻓﺪﺧﻠﺖ ﻟﻴﻠﺔ ذﻫﺒﺖ ﻓﻴﻬﺎ إﱃ املﺤﻠﺞ ﰲ أﻳﺎم اﻻﻧﺘﺨﺎب،
ﺟﻠﺴﺖ ﰲ أﻗﺮب ﻣﻜﺎن ﻣﻦ اﻟﴪادق ،وأﻗﺒﻞ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻣﴪﻋً ﺎ ﻧﺤﻮي وﺣﻴﺎﻧﻲ ﺷﺎﻛ ًﺮا
َﻬﻤﺲ ﱄ ﺑﻌﺒﺎرات املﺠﺎﻣﻠﺔ املﻌﺘﺎدة ،وأﺟﺒﺘﻪ ﻛﺄﻧﻪ ﺻﺎﺣﺐ »املﻌﺰى« ،وﺟﻠﺲ إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻲ ﻳ ِ
ﺑﺎﻟﻌﺒﺎرات املﺄﻟﻮﻓﺔ ﰲ اﻟﺮد ﻋﻠﻴﻬﺎ.
ﻗﺎﺋﻼ :أﺗﺤﺐﱡ أن ﺗﺼﻌﺪ إﱃ اﻟﺪار ﻟﻠﻌﺰاء؟ وﻣﺎل ﻋﲇ ﱠ ً
ﻓﺸﻌﺮت ﻟﻪ ﺑﻤﺎ ﻳُﺸﺒﻪ اﻟﺸﻜﺮ وﻗﻠﺖ :إذا ﻛﺎن ذﻟﻚ ﻣﻤﻜﻨًﺎ.
ﻓﻘﺎم آﺧﺬًا ﺑﻴﺪي ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﻨﺎ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ وﺗﻘﺪﱠﻣﻨﻲ إﱃ رأس اﻟﺴﻠﻢ وﺻﻔﻖ ﻟﻠﺨﺎدﻣﺔ
وﻫﻤﺲ ﻟﻬﺎ ﺑﻜﻠﻤﺎت ﻗﻠﻴﻠﺔ ،وﺑﻌﺪ ﻟﺤﻈﺔ ﺟﺎءت اﻟﺴﻴﺪة ﻧﻮر ﰲ ﻣﻼﺑﺲ اﻟﺤﺪاد ،وﻛﻨﺖ ﻟﻢ أرﻫﺎ
ﻣﻨﺬ أﺷﻬﺮ ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﻓﻤﺎ وﻗﻌﺖ ﻋﻴﻨﻬﺎ ﻋﲇ ﱠ ﺣﺘﻰ أﺟﻬﺸﺖ ﺑﺎﻟﺒﻜﺎء ،ﻓﺎﺧﺘﻨﻖ ﺻﻮﺗﻲ ﺑﺮﻏﻤﻲ وﻟﻢ
أﺳﺘﻄﻊ أن أﻧﻄﻖ ،واﺳﺘﻐﺮﻗﺖ اﻟﺴﻴﺪة ﰲ اﻟﺒﻜﺎء ﺣﺘﻰ اﺗﱠﻜﺄت ﻋﲆ ﺣﺎﺟﺰ اﻟﺴﻠﻢ ،ووﺿﻌﺖ
ﻗﺎﺋﻼ :ﺗﺠ ﱠﻠﺪي ﻳﺎ ﺳﻴﺪﺗﻲ. ﻣﻨﺪﻳﻠﻬﺎ ﻋﲆ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ﻣﻔﺤﻮﻣﺔ … ﻓﺎﻗﱰﺑﺖ ﻣﻨﻬﺎ ً
ﻓﻘﺎﻟﺖ :أﺷﻜﺮك ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،وأرﺟﻮ أن أراك ﻗﺒﻞ ﻋﻮدﺗﻚ إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،ﻧﺤﻦ ﻫﻨﺎ
وﺣﺪﻧﺎ وأﻧﺖ ﻣﺜﻞ وﻟﺪي.
ﻓﻘﻠﺖ ﻣﺘﺄﺛ ًﺮا :ﻫﻮ ﻣﺼﺎﺑﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ وأﻧﺎ ﺗﺤﺖ أﻣﺮك ﰲ ﻛﻞ وﻗﺖ.
وملﺎ ﻣﺪت ﻳﺪﻫﺎ إﱄ ﱠ اﻧﺤﻨﻴﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻷﻗﺒﱠﻠﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺳﺤﺒﺘﻬﺎ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﷲ ﻳﺒﺎرك ﻓﻴﻚ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ.
وﻋﺪت إﱃ أﺳﻔﻞ اﻟﺪار وﻗﺪ ﻣﻸﻧﻲ ﺷﻌﻮر املﻮاﺳﺎة واﻟﻌﻄﻒ ،ﻛﻤﺎ أرﺿﻴﺖ ﻛﱪﻳﺎﺋﻲ ُ
ﻋﺪت إﱃ اﻟﴪادق ذﻫﺒﺖ أﺳري ﺑني ﺑﺄﻧﻨﻲ ﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﻮﺿﻊ اﻷﻣﻞ ﻋﻨﺪ اﻟﺴﻴﺪة أم ﻣﻨﻰ ،وملﺎ ُ
وأﺧﺬت ﻣﺠﻠﴘ ﻋﲆ ﻣﻘﺮﺑﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﺎب ﻷﺗﻠﻘﻰ ُ ﺻﻔﻮف املﻌﺰﻳني ﻷﺣﻴﻴﻬﻢ ﺷﺎﻛ ًﺮا ﻟﻬﻢ ﺳﻌﻴﻬﻢ،
ﻫﺎﻣﺴﺎ :ﻻ ﺷﻚ أﻧﻚ ً اﻟﻌﺰاء ﻋﻨﺪ ﺧﺮوج املﻌﺰﻳني ﻛﺄﻧﻲ أﺣﺪ أﻓﺮاد اﻷﴎة ،وﻣﺎل ﻋﲇ ﱠ ﻣﺼﻄﻔﻰ
156
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ
ﺳﻤﻌﺖ ﺑﻜﻞ ﳾء؛ ﻷن ﻫﺬه اﻟﺒﻠﺪة ﻣﺜﻞ اﻟﻘﺪر ﺗَﻐﲇ وﺗﻔﻮر ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ ،وأﻫﻠﻬﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﺴﻤﻚ ﻳﺄﻛﻞ
ﺳﻤﻌﺖ ﺣﻜﺎﻳﺔ املﺮأة ﻃﺒﻌً ﺎ وﷲ ﻳﺮﺣﻢ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻄﻴﺐ ،اﻟﺸﺎﻫﺪ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي َ ﺑﻌﻀﻪ ً
ﺑﻌﻀﺎ،
ﻟﻮ ﻛﺎن أﻃﺎﻋﻨﻲ ﻣﻦ أول اﻷﻣﺮ ﻷﻋﻄﻰ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻛﻞ ﻣﺎ أراد ،ﻛﺎن ﻻ ﻳﺮﻳﺪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ
ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ،وﻟﻮ أﻋﻄﺎه اﻟﺴﻴﺪ ذﻟﻚ املﺒﻠﻎ ملﺎ ﺣﺪث ﳾء ،وﻟﻜﻨﻪ ﻃ َﺮدَه وﺷﺘﻤﻪ ﻓﺨﺮج اﻟﺨﺒﻴﺚ
ﻳُﻬﺪد ،وأﻧﺎ أﻋﺮف ﻣَ ﻦ ﻫﻮ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ،ﺗﺼﻮر أن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻄﻴﺐ ﻳﴘء اﻟﻈﻦ ﺑﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﻧﺼﺤﺘﻪ ﺑﺄن ﻳﺪﻓﻊ ﻟﺤﻤﺎدة ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ،واﺗﻬﻤﻨﻲ ﺑﺄﻧﻲ أرﻳﺪ ﻣﺸﺎرﻛﺘﻪ؟ ﷲ ﻳﺴﺎﻣﺤﻪ وﻳﺮﺣﻤﻪ،
ﻫﺬه اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﺜﻞ أﺣﺠﺎر اﻟﻄﺎﺣﻮن ﺗﻄﺤﻦ ﻣﻦ ﻓﻮق وﻣﻦ ﺗﺤﺖ ،اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي! ﰲ ﻟﻴﻠﺔ
واﺣﺪة راح اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻄﻴﺐ وﺗﺮك وراءه اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺗﺨﺒﻂ ﺗﻘﻠﺐ ،ﻓﻤﺎذا ﻳﺄﺧﺬ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ
اﻟﺴﺖ زﻳﻨﺐ ﺗﺨﺮج ﺑﺄﻛﺜﺮ اﻟﱰﻛﺔ ﻻﺑﻨﻬﺎ املﺤﺮوس؟ ﻳﺎ ﺳﻼم! ﻓﻀﻴﺤﺔ ﻟﻠﺴﻤﺎء وﺧﺮاب ﺑﻴﻮت
ورﺑﻚ ﻳﺴﱰ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻗﺪ ﺑﻠﻐﺖ اﻟﻌﺎﴍة واﻟﻨﺼﻒ ،وﻓﺮغ املﻘﺮئ ﻣﻦ اﻟﻘﺮاءة ،وﻗﻤﻨﺎ
ﻷﺧﺬ اﻟﻌﺰاء ﻣﻦ اﻟﺨﺎرﺟني ،واﻧﴫﻓﺖ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻌﺘﺬ ًرا إﱃ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﺑﺄﻧﻲ ذاﻫﺐ إﱃ
ﻣﻮﻋﺪ ﻫﺎم ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺴري ﻣﻌﻲ ،واﺗﺠﻬﺖ ﻧﺤﻮ ﺷﺎﻃﺊ اﻟﱰﻋﺔ ﻷﻋﻴﺪ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ ﰲ ﻫﺪوء اﻟﻠﻴﻞ
ﻣﺎ ﺳﻤﻌﺖ ﻣﻦ ﻣﺼﻄﻔﻰ.
ﻓﴪت ﻋﲆ ﻣﻬﲇ ُ وﻛﺎن اﻟﺒﺪر ﺳﺎﻃﻌً ﺎ ﰲ اﻟﺴﻤﺎء اﻟﺼﺎﻓﻴﺔ واﻟﺠﻮ داﻓﺌًﺎ واﻟﺸﺎﻃﺊ ﺳﺎﻛﻨًﺎ،
ﻃﻲ اﻟﺨﻔﺎء ﺣﻮل ﺟﺜﺔ رﺟﻞ ﻟﻢ ﻳَﻤُﺖ إﻻ ﺑﺎﻷﻣﺲ، أﻓﻜﺮ ﰲ ﻫﺬه املﻌﺮﻛﺔ اﻟﻌﻨﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪور ﰲ ﱢ
ﻫﺬه املﺮأة ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗُﺼﺒﺢ ﻣﻦ أﻛﱪ أﻏﻨﻴﺎء املﺪﻳﻨﺔ ،وﻫﺬا اﻟﻮﻟﺪ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺪري أﺣﺪ ﻣﻦ أﻳﻦ
ﺟﺎءت ﺑﻪ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳُﺼﺒﺢ ﻣﻦ أﻋﻈﻢ اﻟﺴﺎدة ﰲ اﻟﺒﻼد ،ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻮق اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮ ﱢزع
ﺑﻬﺎ املﻘﺎدﻳﺮ اﻟﺨﻄﻮط وﻫﻲ ﻣُﻐﻤﻀﺔ اﻟﻌﻴﻨَني! ﻣﻦ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﻠﻜﻮن اﻷﻟﻮف ﻣﻦ اﻷﻓﺪﻧﺔ
َﻜﱪون ﻟﻴﺼريوا ﺳﺎدة وﻳَﻨﴗ وأﻟﻮف اﻷﻟﻮف ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت اﻟﺬﻫﺒﻴﺔ؟ أﺑﻨﺎء اﻹﻣﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻳ ُ
ﻄﺎع اﻟﻄﺮق وأﺑﻨﺎء ﺗﺠﺎر اﻟﺤﺸﻴﺶ وﺗﺠﺎر اﻟﻨﺎس أﻧﻬﻢ أﺑﻨﺎء اﻹﻣﺎء ،وأﺑﻨﺎء اﻟﻠﺼﻮص ُ
وﻗ ﱠ
وﻣﺼﺎﴆ ﱠ اﻷﻋﺮاض ،وأﺑﻨﺎء اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻼﺗﻲ ﻳﺒﻌﻦ أﺟﺴﺎدﻫﻦ وأﺑﻨﺎء وﺳﻄﺎء اﻟﺨﻴﺎﻧﺔ واﻟﺪﻧﺲ
اﻟﻀﻴﺎع وﻳَﻤﻠﻜﻮن اﻟﺨﺰاﺋﻦ،اﻟﺪﻣﺎء ،ﻛﻞ ﻫﺆﻻء ﻳﺒﺴﻄﻮن ﺳﻠﻄﺎﻧﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﺤﻴﺎة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮﺛﻮن ﱢ
ﻫﺎ ﻫﻢ ﻳﺮﻳﺪون أن ﻳﺰﻳﺪوا اﻣﺮأة ﺳﺎﻗﻄﺔ ووﻟﺪًا دﻋﻴٍّﺎ!
واﻟﺘﻬﺐ ﻗﻠﺒﻲ ﺑﻬﺬا اﻟﺘﻔﻜري ﺣﺘﻰ ﺑﺪا ﱄ أن ﻣﻨﻰ أﻛﱪ ﻣﻦ أن ﺗﻜﻮن ﺻﺎﺣﺒﺔ آﻻف اﻷﻓﺪﻧﺔ
وآﻻف آﻻف ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ،ملﺎذا ﻻ ﺗﺘﺠ ﱠﺮد ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﻮال اﻟﻌَ ﻔِ ﻨﺔ وﺗﱰﻛﻬﺎ ﻟﻠﻤﺮأة ووﻟﺪﻫﺎ
وﺗﻌﻮد وﻫﻲ إﻧﺴﺎﻧﺔ ﺳﻠﻴﻤﺔ؟ ملﺎذا ﻻ ﺗﺨﻠﻊ ﻫﺬه اﻷدﻫﻨﺔ اﻟﻠﺰﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ اﻟﺬﺑﺎب ﻳﺘﺴﺎﻗﻂ
ﻋﻠﻴﻬﺎ :ﻣﺤﻤﺪ ﺧﻠﻒ واﺑﻨﻪ ﻣﺤﻤﻮد اﻷﺑﻠﻪ؟ ملﺎذا ﻻ ﺗﻌﻮد إﱄ ﱠ أﻧﺎ وﻧﻬﺮب ﻣﻌً ﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا ا ُمل َ
ﺴﺘﻨﻘﻊ
اﻟﻌﻔﻦ.
157
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﺿﺎق ﺻﺪري وأﺣﺴﺴﺖ أن اﻟﻬﻮاء راﻛﺪ ﺧﺎﻧﻖ ،وأن راﺋﺤﺘﻪ اﻟﻌﻄﻨﺔ ﺗﻜﺘُﻢ أﻧﻔﺎﳼ،
ُ
وﻓﻜﺮت ﰲ اﻟﺘﺒﻜري ﺻﺒﺎﺣً ﺎ؛ وﻋﺮﺟﺖ إﱃ أول ﻃﺮﻳﻖ ﻳﺘﱠﺠﻪ إﱃ داﺧﻞ املﺪﻳﻨﺔ؛ ﻷذﻫﺐ إﱃ ﺑﻴﺘﻲ
ﻷﻋﻮد إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﺗﺎر ًﻛﺎ ﻫﺬه املﻌﺮﻛﺔ اﻟﺴﺨﻴﻔﺔ ﻷﺻﺤﺎﺑﻬﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺣﺎرة ﻣُﻨﺤﺪِرة
ﻗﺬرة ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻬﺎوي واﻟﺤﺎﻧﺎت اﻟﺤﻘرية ،ﻣﺼﺎﺑﻴﺢ ﺑﱰول ﺧﺎﻓﺘﺔ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺒني
ﻣﻌﻠﻘﺔ ﻓﻮق املﺪاﺧﻞ ،وﺟﻤﺎﻋﺎت ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻣُﻬﻠﻬَ ﻠﺔ اﻟﺜﻴﺎب ﺗﴩب أﻛﻮاﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﺸﺎي اﻷﺳﻮد ،وﻟﻢ
أدر ﻣﺎ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻨﻲ أﻧﻈﺮ إﱃ اﻟﺤﺎﻧﺔ املﻈﻠﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﺮﺟﺖ إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﻌﺎم ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺒﻬﺎ وﻛﺎن
وأوان
ٍ ﰲ وﺳﻄﻬﺎ ﻣﺼﺒﺎح ﺑﱰول زﺟﺎﺟﻲ وﰲ ﺻﺪرﻫﺎ ﻣﻨﻀﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ زﺟﺎﺟﺎت
ﻣُﺒﻌﺜَﺮة ،وﻛﺎن املﺼﺒﺎح ﻳُﻠﻘﻲ ﺿﻮءه اﻟﺨﺎﻓﺖ ﻋﲆ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺤﺎﻧﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ وﻫﻮ واﺿﻊ ﻳﺪَﻳﻪ
ﰲ ﺟﻴﺒﻪ أﻣﺎم ﻣﻨﻀﺪة ﺻﻐرية ﻳﺠﻠﺲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ.
ً
داﺧﻼ ﻛﺄﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﻳﺎ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻓﺄر َﻗﺬِر ﻳَﺨﺘﺎر اﻟﺠُ ﺤﺮ املﻼﺋﻢ ﻟﻪ ،ووﺟﺪت ﻧﻔﴘ أﻧﺪﻓﻊ
أﺑﺤﺚ ﻋﻨﻪ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻜﺄس اﻟﺘﻲ أﻣﺎﻣﻪ ﻣﺎ ﺗﺰال ﻧﺼﻒ ﻣﻤﻠﻮءة ﻣﻦ ﺧﻤﺮ ﻗﺎﺗﻤﺔ اﻟﻠﻮن ،وﺣﻤﻠﻖ
ﺣﻤﺎدة ﰲ وﺟﻬﻲ ﻟﺤﻈﺔ ﺛﻢ وﺛَﺐ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ وﻫﻮ ﻳﱰﻧﱠﺢ ،ﺛﻢ ﻓﺘَﺢ ذراﻋﻴﻪ وﺗﻘﺪم ﻧﺤﻮي ﻳﺮﻳﺪ أن
ﻳﺄﺧﺬﻧﻲ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ،وﺻﺎح ﺻﻴﺤﺎت ﻣﺨﺘ ﱠﻠﺔ ﻟﻢ أﻓﻬﻢ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﺑﻬﺎ ﺳﻮى أﻧﻬﺎ ﺗﺮﺣﻴﺐ ﻣﺨﺘﻠﻂ
ﺑﺎﻷﺳﻒ واﻻﻋﺘﺬار.
ُ
ورددﺗُﻪ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺘﻘ ﱡﺰز؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أ ِﻃﻖ راﺋﺤﺘﻪ ،ﻓﱰاﺟﻊ ﻋﻨﻲ وﻛﺎﻧﺖ ﻧﻈﺮﺗﻪ ﺑﻠﻬﺎء
ﻣﻨﻜﴪة ﺑﻌﻴﻨني زاﺋﻐﺘني وﺷﻔﺘني ﻣﺘﺪﻟﻴﺘَني ﻇﻬﺮت ﻣﻦ ﺗﺤﺘﻬﻤﺎ أﺳﻨﺎﻧﻪ اﻟﺼﻔﺮ »املﴩﴍة«.
وﺻﺎح ﺑﺼﺎﺣﺐ اﻟﺤﺎﻧﺔ ﺑﻠﺴﺎن ﻣﻌﻮج :ﻣﺎذا ﻋﻨﺪك ﻳﺎ ﻣﻨﻮﱄ؟ ﻣﺎ ﻟ َﻚ ً
واﻗﻔﺎ ﻫﻜﺬا ﻛﺎﻟﻠﻮح؟
أﻻ ﺗﻌﺮف ﻣﻦ ﻫﺬا؟ أﴍف رﺟﻞ ﰲ دﻣﻨﻬﻮر وأﺣﺴﻦ ﻛﺎﺗﺐ ﰲ اﻟﺪﻧﻴﺎ.
أﺳﺘﺤﻖ أن ﺗﺠﻠﺲ ﻣﻌﻲ،ﱡ ﻗﺎﺋﻼ :ﺗﻔﻀﻞ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﺑﻚ ،ﺗﻔﻀﻞ وإن ﻛﻨﺖ ﻻ واﺗﺠﻪ ﻧﺤﻮي ً
أﻧﺎ وﻏﺪ ،أﻧﺎ ﺣﴩة ،أﻧﺎ دون ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﺑﻚ ،ﻟﻚ اﻟﺤﻖ ﰲ أن ﺗَﻐﻀﺐ ﻋﲇ ﱠ وأن ﺗﻘﻮل إﻧﻲ ﻧﺬل
ووﻏﺪ وﺣﴩة ،ﻗﻞ ﱄ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪ ﰲ وﺟﻬﻲ ﻓﺄﻧﺎ أﺳﺘﺤﻖ.
ﻫﺎت اﻟﻜﺮﳼ ﻳﺎ ﺧﻮاﺟﺔ ،ﻧﻈﻔﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﻗﺬر ﻣﺜﻠﻚ وﻣﺜﲇ ،ﻫﺎ ﻫﺎ ﻫﺎ ،ﻳﺎ ﻣﻨﻮﱄ ﻳﺎ ﺧﻮاﺟﺔ
اﻷﻧﺬال ،ﻳﺎ ﺧﻮاﺟﺔ اﻟﺮﻋﺎع.
وﺟﺎء ﻣﻨﻮﱄ ﺑﻜﺮﳼ وﻣﺴﺤﻪ ﺑﻔﻮﻃﺘﻪ وﻧﻈﺮ إﱄ ﱠ ﻣﺴﺘﻔﻬﻤً ﺎ.
ﻓﺠﻠﺴﺖ وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﻻ أرﻳﺪ ﺷﻴﺌًﺎ.
ﻓﺼﺎح ﺣﻤﺎدة :أﻗﺴﻢ ﺑﺎهلل أن ﺗﴩب ﺷﻴﺌًﺎ ،ﻻ ﺑﺪ أن ﺗﴩب ،ﺑﴩﰲ ،ﻫﺎ ﻫﺎ ﻫﺎ ،أﻟﻴﺲ
ﻋﻨﺪك ﻏري ﻫﺬا اﻟﺮوم اﻟﺰﻓﺖ ﻳﺎ ﻣﻨﻮﱄ؟
ورﻓﻊ اﻟﻜﺄس ﻓﺄﻓﺮغ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ،وﺧﺒﻂ ﺑﻬﺎ ﻋﲆ املﻨﻀﺪة.
158
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ
159
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ُ
ﻃﻠﺒﺖ ﻣﻨﻪ ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ﻓﻄﺮدﻧﻲ ،أﻣﺎ اﻟﻴﻮم وﻣﻬﻨﻰ أﻓﻨﺪي ﻳﻘﻮل :اﻧﺘﻬﻰ ِ
وﴏﻧﺎ ﻣﻦ اﻷﻋﻴﺎن!
وﻻ ﻋﴩﻳﻦ أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ وﻻ ﺧﻤﺴني أﻟﻒ وﻻ ﻣﺎﺋﺔ أﻟﻒ! وأﺧﺬ ﻳﺼﻔﻖ ﺑﻴﺪَﻳﻪ وﻳُﻐﻨﻲ ﺻﺎﺋﺤً ﺎ:
وﻻ ﺧﻤﺴني أﻟﻒ ﻳﺎ ﻋﻴﻨﻲ! وﻻ ﻣﺎﺋﺔ أﻟﻒ ﻳﺎ ﻟﻴﻞ! ودار رأﳼ ﻣﻦ اﺿﻄﺮاب ﻫﺬﻳﺎﻧﻪ وﻣﻦ
راﺋﺤﺔ أﻧﻔﺎﺳﻪ ،وذﻫﺒﺖ ﻋﻨﻪ ﻣﴪﻋً ﺎ ﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ إﱃ ﻣﻨﺰﱄ وأﻧﺎ ﻻ أﻛﺎد أﻗﺪر ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ
وﻏﺴﻠﺖ وﺟﻬﻲ واﺳﺘﻨﺸﻘﺖ ﺑﻤﺎء ﻛﺜري ﻷُذﻫﺐ راﺋﺤﺔ اﻟﺨﻤﺮ اﻟﺮﺧﻴﺼﺔ ﻣﻦ ﺧﻴﺎﺷﻴﻤﻲُ ﳾء،
ﻃﻮﻳﻼ ﻣﻦ ﻣﻨﺎﻇﺮ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﺎن ً واﺳﺘﻠﻘﻴﺖ ﻷﺳﱰﻳﺢ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ اﻟﻨﻮم؛ ﻷن ﴍﻳ ً
ﻄﺎ
ُﴪع أﻣﺎم ﺑﴫي.ﻳ ِ
160
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ
ﻛﺎن أول ﻣﺎ ﺧﻄﺮ ﱄ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح أن أﺳﺎﻓﺮ إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة وأﺑﻌﺪ ﻋﻦ دﻣﻨﻬﻮر وﰲ دﺧﻴﻠﺔ وﻋﻴﻲ
أﺳﺌﻠﺔ ﻣﺤرية ﻛﺜرية ،وﻟﻜﻨﻲ ﺑﻘﻴﺖ ﻣﱰ ﱢددًا ﺣﺘﻰ ﺻﺎرت اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﻌﺎﴍة ،وﺗﺒﺪﱠل ﻋﺰﻣﻲ إﱃ
ﴐورة اﻟﺒﻘﺎء ﺣﺘﻰ أرى ﺧﺎﺗﻤﺔ اﻟﻘﺼﺔ ا ُملﺤﺰﻧﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺜﻠﻬﺎ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ وﴍﻳﻜﺘﻪ زﻳﻨﺐ،
ُ
وﻋﺮﺟﺖ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻲ ﻋﲆ وﻧﺰﻟﺖ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ ﻋﲆ ﻧﻴﺔ اﻟﺬﻫﺎب إﱃ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﻴﺎد،
ﻗﱪ واﻟﺪي ﻷﻗﺮأ ﻋﻨﺪه اﻟﻔﺎﺗﺤﺔ ،ﺛﻢ ﻣﻀﻴﺖ ﰲ ﺳﺒﻴﲇ ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﺖ ﻣُﻔﱰق اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺑني ﺷﺎرع
»أﺑﻮ اﻟﺮﻳﺶ« واﻟﺤﺎرة اﻟﺘﻲ ﺗﺘﱠﺠﻪ إﱃ ﺑﻴﺖ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ،وﻣﻦ اﻟﻌﺠﻴﺐ أﻧﻨﻲ اﺗﺠﻬﺖ ﺑﻐري ﺗﺮدﱡد
إﱃ ﺑﻴﺖ املﺮﺣﻮم أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻛﺄﻧﻨﻲ ﻛﻨﺖ أﻗﺼﺪ اﻟﺬﻫﺎب إﻟﻴﻪ ﻣﻨﺬ اﻟﺒﺪاﻳﺔ.
وﺟﺪت ﺟﻮﱠه ﻳﺒﻌﺚ اﻟﻜﺂﺑﺔ واﻟﺤﺰن ،وﻗﺎدﺗﻨﻲ اﻟﺨﺎدﻣﺔ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ ُ وملﺎ دﺧﻠﺖ إﱃ اﻟﺪار
اﻻﻧﺘﻈﺎر ،وﻛﺎن أﺛﺎﺛﻬﺎ ﻓﺨﻤً ﺎ وأﺿﻮاء اﻟﻨﻮاﻓﺬ ﺗﻨﻌﻜﺲ ﻋﲆ ﻗﻄﻊ اﻟﺒﻠﻮر ﰲ ﺛﺮﻳﺎت اﻟﺴﻘﻒ
واﻷرﻛﺎن ،وﻟﻜﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻊ ﻫﺬا ﺗﺒﺪو ﻣﻈﻠﻤﺔ ،ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺘﺤﻒ اﻟﺜﻤﻴﻨﺔ ﻣﻨ ﱠﻜﺴﺔ ﻋﲆ
ﺣﻮاﻣﻠﻬﺎ ،واﻟﺴﺘﺎﺋﺮ واﻷﺑﺴﻄﺔ ﻣﻘﻠﻮﺑﺔ ﻋﲆ وﺟﻮﻫﻬﺎ ،واﻟﺼﻮرة اﻟﻜﺒرية املﻌﻠﻘﺔ ﰲ اﻟﺼﺪر
وﺟﻠﺴﺖ أﺗﺄﻣﻞ ﻣﺎ ﺣﻮﱄ وﺳﺒﺤﺖُ ﻣﺠ ﱠﻠﻠﺔ ﺑﺎﻟﺴﻮاد ﺗُﻈﻬﺮ رب اﻟﺒﻴﺖ اﻟﺮاﺣﻞ ﻛﺄﻧﻪ ﻫﻮ اﻟﺤﺰﻳﻦ،
ﰲ ﺗﺄﻣﻞ ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة وﺳﺨﻒ أﻃﻤﺎﻋﻬﺎ وﻣﻨﺎﻓﺴﺎﺗﻬﺎ وﻣﺼﺎدﻣﺎﺗﻬﺎ ،ﻓﻠﻢ أﺳﺘﻴﻘﻆ ﻣﻦ
ﺳﺒﺤﻲ إﻻ ﻋﲆ ﺷﺨﺺ ﻣﻨﻰ ﻳُﴩق ﻛﺄﻧﻪ ﺷﻌﺎع ﻧﻮر ﰲ ﺑﻜﺮة اﻟﺼﺒﺎح ،ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻲ ﺑﻌﻴﻨَﻴﻬﺎ
ُ
وﻗﻤﺖ اﻟﻠﺘَني ﺗﺸﺒﻬﺎن ُزرﻗﺔ اﻟﺒﺤﺮ اﻟﺼﺎﰲ وﻗﺎﻣﺘﻬﺎ املﻤﺸﻮﻗﺔ ﻳﺰﻳﺪﻫﺎ ﻟﺒﺲ اﻟﺴﻮاد رﺷﺎﻗﺔ،
ﻷﺣﻴﻴﻬﺎ ،ﻓﻨﻈﺮت إﱄ ﱠ ﺷﺎﻛﺮة وﰲ ﻋﻴﻨَﻴﻬﺎ دﻣﻌﺔ ،ﻓﺘﺠﻠﺪت ﺣﺘﻰ ﻻ أﺑﻜﻲ وﻏﻤﺮﻧﻲ ﺣﺰن ﻋﻤﻴﻖ
أﻳﻀﺎ ﻣﻔﺠﻮع ﺑﻮاﻟﺪﻫﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻣﻊ ﻫﺬا اﻟﺤﺰن اﻟﻌﻤﻴﻖ ﺷﻌﺮت ﻛﺄﻧﻲ ﺳﻌﻴﺪ؛ ﻷﻧﻲ ﻛﺄﻧﻲ أﻧﺎ ً
رأﻳﺖ ﻣﻨﻰ ﻋﲆ ﻏري اﻧﺘﻈﺎر ،وﻟﻢ أﺟﺪ ﻛﻠﻤﺔ أﻗﻮﻟﻬﺎ ﺳﻮى املﺠﺎﻣﻠﺔ املﻌﺘﺎدة :اﻟﺒﻘﻴﺔ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻚ
ﻳﺎ ﻣﻨﻰ.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
162
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ
ُﻘﺼﺪ ﻣﻦ وراﺋﻬﺎ إﻻ ﺗﺤﻘﻴﻖ وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﻣﺴﺘﻤ ٍّﺮا :ﻻ ﺗﺤﺰﻧﻲ ﻫﻜﺬا ﻣﻦ أﺟﻞ أﻗﻮال ﻻ ﻳ َ
أﻃﻤﺎع ﻫﺰﻳﻠﺔ.
ﻓﻠﻴﺄﺧﺬُوا ﻣﺎ ﻳﺸﺎءون وﻟﻴﱰﻛﻮا أﺑﻲ
ُ ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ ﺣﺮارة :إذا ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻻ ﻳَﺰﻳﺪ ﻋﲆ أﻃﻤﺎع
ً
ﴍﻳﻔﺎ املﺴﻜني راﻗﺪًا ﰲ ﺳﻼم ،ﻟﻴﺄﺧﺬوا ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﺮﻛﻪ أﺑﻲ ﻣﻦ اﻷﻣﻮال وﻳﺪﻋﻮا ﱄ اﺳﻤﻪ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن
ﻧﺒﻴﻼ ،ﺧري ﱄ أن أﻛﻮن أﻓﻘﺮ اﻟﻨﺎس وأﻧﺎ اﺑﻨﺔ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل اﻟﻜﺮﻳﻢ اﻟﻨﺒﻴﻞ ﻣﻦ أن أﻛﻮن ً
ﻄﺦ ﺑﺎﻷوﺳﺎخ. أﻏﻨﻰ اﻟﻨﺎس واﺳﻢ أﺑﻲ ﻣﻠ ﱠ
واﻧﺪﻓﻌﺖ ﺗﺒﻜﻲ ﺑﻜﺎء ﺷﺪﻳﺪًا.
ووﺟﺪت ﻧﻔﴘ أﺑﻜﻲ ً
أﻳﻀﺎ.
ﺧﻔﺖ ﺣﺪة اﻟﺒﻜﺎء :ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧُﻔﻜﺮ ﰲ اﻷﻣﺮ ﺗﻔﻜريًا ﻫﺎدﺋًﺎ ،واﺳﻤﺤﻲ ﱄ وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﺑﻌﺪ أن ﱠ
ﺗﺪﺧ ًﻼ ﻓﻴﻤﺎ ﻻ ﻳﻌﻨﻴﻨﻲ.أن أﺷﺎرﻛﻚ ﰲ اﻟﺘﻔﻜري إذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ذﻟﻚ ﱡ
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ دﻓﻌﺔ :وﻛﻴﻒ ﻻ ﻳَﻌﻨﻴﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟
ﻓﺰادت ﺟﺮأﺗﻲ وﻗﻠﺖ ﰲ ﳾء ﻳُﺸﺒﻪ اﻟﺘﺤﺪي :ﻫﻞ ﱄ أن أﺗﺪﺧﻞ ﰲ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ؟ أﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك
ﻣَ ﻦ ﻻ ﻳَﺮﴇ ﻋﻦ ﺗﺪﺧﲇ؟
ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺪﻫﺸﺔ :ﻣﺎذا ﺗﻌﻨﻲ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺛﺒﺎت :ﻟﻴﺲ ﱄ ﻃﺒﻌً ﺎ أن أﻓﺮض ﻧﻔﴘ ،أﻻ ﺗﻈﻨني أن ذﻟﻚ ﻗﺪ ﻳﻐﻀﺐ ﻣﺤﻤﻮد
ﺑﻚ ً
ﻣﺜﻼ؟
ﻧﻄﻘﺖ ﺑﺎﺳﻢ »ﻣﺤﻤﻮد ﺑﻚ«. ُ ﻛﺄن ﻃﻌﻨﺔ أﺻﺎﺑﺖ ﺻﺪري ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺷﻌﺮت ﱠ
وﻧﻈﺮت إﱃ وﺟﻬﻬﺎ ﻷرى أﺛﺮ ﻗﻮﱄ ﻓﻮﺟﺪﺗﻬﺎ ﻣُﻄﺮﻗﺔ ﰲ وﺟﻮم وﻫﻲ ﺗﻌﺒﺚ ﺑﺄﺻﺎﺑﻌﻬﺎ،
ﺗﺘﺪﺧﻞ وﻟﻴﺲ ﻷﺣﺪ أن ﻳﻐﻀﺐ ﻣﻦ ذﻟﻚ. ﱠ ﺛﻢ أﺟﺎﺑﺖ ﺑﻌﺪ ﺣني ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻃﺒﻌً ﺎ ﻟﻚ أن
ﻷن اﻟﺤﺠﺮة ﻛﺎﻧﺖ ﻻ ﺗﺘﺴﻊ ﱄ. ﻟﺤﻠﻘﺖ ﰲ اﻟﺠﻮ اﻟﻮاﺳﻊ؛ ﱠ ُ وﻟﻮ ﻛﺎن ﱄ أﺟﻨﺤﺔ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ
ﻗﺎﺋﻼ :أﺷﻜﺮك ﻳﺎ ﻣﻨﻰ. وﻗﻤﺖ أﺳﺘﺄذن ً
ﺻﻨﻌﺖ ﺣﺘﻰ ﻛﻨﺖ ﻗﺪ رﻓﻌﺘﻬﺎ إﱃ ﺷﻔﺘﻲ، ُ أدر ﻣﺎ
ﻣﻠﻬﻮﻓﺎ وﻟﻢ ِ ً وملﺎ ﻣﺪﱠت ﻳﺪﻫﺎ إﱄ ﱠ ﺧﻄﻔﺘﻬﺎ
ﻣﻨﴫﻓﺎ ﺣﺘﻰ ﻻ أرى ﺗﻌﺒري وﺟﻬﻬﺎ ً
ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ أن أملﺢ ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ اﻹﻧﻜﺎر. ً ﺛﻢ أﴎﻋﺖ
وملﺎ ﴏت ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺗﺪاﻓﻌﺖ ﻋﲇ ﱠ أﻣﻮاج ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر املﻀﻄﺮﺑﺔ ﺗﺘﻮارد ﻣﻦ ﺟﻬﺎت
ﺷﺘﻰ ،واﺗﺠﻬﺖ ﺣﻴﺚ ﺗﺤﻤﻠﻨﻲ ﻗﺪﻣﺎي ،ﻓﺈذا أﻧﺎ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺎﻧﺔ اﻟﻘﺬرة اﻟﺘﻲ اﻋﺘﺎد
ﺟﺎﻟﺴﺎ ﻫﻨﺎك ﻳﴩب ﻣﻦ ﻛﺄس ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺨﻤﺮ اﻟﺤﻤﺮاء ً ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ أن ﻳﺠﻠﺲ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻛﺎن
اﻟﺪاﻛﻨﺔ.
ودﺧﻠﺖ ﻫﺎﺟﻤً ﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﻛﺄﻧﻲ أﺧﴙ أن ﻳُﻔﻠﺖ ﻣﻨﻲ ،وملﺎ اﻗﱰﺑﺖ ﻣﻨﻪ ﻗﺎم ﻳﱰﻧﺢ ،وﻓﺘﺢ
ذراﻋﻴﻪ ﺑﺤﺮﻛﺔ ﻏري إرادﻳﺔ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻌﺎﻧﻘﻨﻲ.
163
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
164
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ
165
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻗﺒﻀﺖ ﻋﲆ ذراﻋﻪ ﺑﺸﺪة ،وﺻﺤﺖ ﺑﻪ ﰲ ﺿﺠﺮ :أﺗﻌﻨﻲ ُ وأﴎﻋﺖ وراءه ﻷُدرﻛﻪ ﺣﺘﻰ
أﻧﻚ ﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ اﻻﺳﺘﻤﺮار ﰲ املﺆاﻣﺮة؟ أﻧﺖ ﺗﻌﺮف أﻧﻬﺎ ﻣﺆاﻣﺮة ﻣﻠﻔﻘﺔ ،وأﻧﺎ أﻋﺮف أﻧﻬﺎ ﻛﺬﻟﻚ.
ﻓﻘﺎل ﺻﺎﺋﺤً ﺎ ﰲ وﺟﻬﻲ :ﻃﻴﺐ ،وﻣﺎذا ﺗﺮﻳﺪ؟
ﻓﻘﻠﺖ وأﻧﺎ أُﻫﺪئ ﻧﻔﴘ :أرﻳﺪ أن أُذ ﱢﻛﺮك ﺑﺄﻧﻚ ﻗﻠﺖ ﱄ ﺑﻠﺴﺎﻧﻚ أﻧﻚ ﻣُﺰوﱢر ،ﻫﺬا اﻟﻌﻘﺪ
اﻟﺬي ﺗُﻬﺪﱢد ﺑﻪ ﻻ ﻳُﺴﺎوي ﻣﻠﻴﻤً ﺎ.
ﻓﺼﺎح :ﻣﻦ ﻗﺎل ﻫﺬا؟
ﻗﻠﺖ ﱄ إﻧﻚ ﺗﺰوﺟﺖ ﻣﻦ املﺮأة؟ أﻧﺴﻴﺖ أﻧﻚ ﺗﺰوﺟﺘﻬﺎ ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺛﺒﺎت :أﻧﺖ .أﻻ ﺗﺬﻛﺮ أﻧﻚ َ
وأﻧﻬﺎ دﻓﻌﺖ اﻟﺠﻨﻴﻪ ﻟﻠﻤﺄذون؟ ﻓﻤَ ﻦ ﻫﺬا اﻟﻮﻟﺪ اﻟﺬي وﻟﺪﺗﻪ املﺮأة؟
ﻓﺼﺎح ﰲ ﻏﻴﻆ :ﻛﻼم ﻓﺎرغ.
ﺑني ذﻟﻚ ﻟﻠﻨﻴﺎﺑﺔ ﻻ ﻟﻚ أﻧﺖ. ُ
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻫﺪوء :ﺳﻨَﻌﺮف أﻧﻪ ﻛﻼم ﻣﻶن .ﺳﺄ ﱢ
ﻓﻮﻗﻒ ﻳﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﰲ ﺣﻨﻖ وﻗﺎل :ﺗﻔﻀﻞ .اذﻫﺐ إﱃ اﻟﻨﻴﺎﺑﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ :ﺳﺄَﻓﻌﻞ ﺑﻐري ﺷﻚ ﰲ ﺻﺒﺎح اﻟﻐﺪ إذا ﺟﺎءت اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﺻﺒﺎﺣً ﺎ ،أﻣﺎﻣﻚ ﻣﺪة
ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺗﻔﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ اﻋﻠﻢ أﻧﻲ أﻗﻮل ﻟﻚ ﻛﻠﻤﺘﻲ اﻷﺧرية ،ﻟﻦ أرﺟﻊ إﱃ اﻟﻮراء أﺑﺪًا ،اﻵن
ً
ﻋﺮﺿﺎ ﺳﺨﻴٍّﺎ ﻻ ﻋﻦ ﻓﺮﺻﺘﻚ اﻟﻮﺣﻴﺪة ،وﻟﻦ أﻗﻮل ﻟﻚ ﻛﻠﻤﺔ أﺧﺮى ﺳﻮى أﻧﻲ أﻋﺮض ﻋﻠﻴﻚ اﻵن
ﺗﺮدﱡد ﰲ ﻋﺰﻣﻲ ،ﺑﻞ ﻷﻧﻲ ﻣﺎ أزال أﺷﻔﻖ ﻋﻠﻴﻚ ﺑﺮﻏﻤﻲ وﺑﺮﻏﻤﻚ ،ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ﰲ ﻧﻈري اﻟﻮرﻗﺔ
اﻟﺘﻲ ﻣﻌﻚ.
وﻛﺎن ﻳﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﰲ أﺛﻨﺎء ﻫﺬا ﰲ دﻫﺸﺔ وﺣﺸﻴﺔ ،ﺛﻢ ﻗﺎل ﺑﺼﻮت ﺣﺎﻧﻖ :ﻟﻢ أﺗﺰوﱠج ﻣﻦ
أﺣﺪ ،وﻫﺬه اﻟﻮرﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻌﻲ ﻻ أﺗﺮﻛﻬﺎ ﺑﻤﺎﺋﺔ أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ.
داﺧﻼ إﱃ ﺣﺎرة ﺿﻴﻘﺔ ،وﴎت ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻲ ﻋﲆ اﻟﱰﻋﺔ ﺣﺘﻰ ً وﺗﺮﻛﻨﻲ واﻧﴫف ﻣُﴪﻋً ﺎ
وﺻﻠﺖ إﱃ »ﻛﻮﺑﺮي ﻓﻼﻗﺔ« ،وأﻧﺎ ﺣﺎﺋﺮ ﻣُﺮﺗ ِﺒﻚ اﻟﺬﻫﻦ ﻻ أدري ﻣﺎذا أﻓﻌﻞ.
وﻋﺪت إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ودﺧﻠﺖ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ ،وارﺗﻤﻴﺖ ﻋﲆ ﴎﻳﺮي ﺑﻤﻼﺑﴘ ،واﻟﺤرية ﺗﻤﻠﻚ ﻋﲇ ﱠ
ﻛﻞ ﻣﺸﺎﻋﺮي وﻣﺴﺎﻟﻚ أﻓﻜﺎري.
وﻛﺬﺑﺖ ﻋﲆ أﻣﻲ ،ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻬﺎ :إﻧﻲ ﺗﻐﺪﻳﺖ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ .ﻟﻜﻲ ﺗﱰ َﻛﻨﻲ وﺣﺪي ﻣﻊ اﻷﻣﻮاج ُ
املﺘﺪاﻓﻌﺔ ﰲ رأﳼ.
166
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ
ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺴﺎدﺳﺔ واﻟﻨﺼﻒ ﻣﺴﺎء ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺟﺎءت أﻣﻲ ﻟﺘﺪﻋﻮﻧﻲ إﱃ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﻃﺎرق ﻋﻨﺪ
ﻓﻘﻤﺖ ﰲ ﺿﻴﻖ وﻧﺰﻟﺖ ﻷﻓﺘﺢ ﻟﻪ ،وﻛﺎﻧﺖ دﻫﺸﺘﻲ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺟﺪت أﻧﻪ ﺣﻤﺎدة ُ اﻟﺒﺎب،
َ
اﻷﺻﻔﺮ ﺑﻮﺟﻬﻪ اﻟﻨﺤﻴﻞ وأﺳﻨﺎﻧﻪ اﻟﺼﻔﺮ وﻗﺎﻣﺘﻪ اﻟﻀﺌﻴﻠﺔ ،ﻓﻮﺛﺐَ ﻗﻠﺒﻲ وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﻣﺒﺎد ًرا :ﻫﻴﻪ
ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة!
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺟﻤﻮد :ﻻ ﺗﺤﺴﺐ أﻧﻲ ﺟﺌﺖ ﻷرﺟﻮَك ﰲ ﳾء ،أو أﻧﻲ ﺧﻔﺖ ﻣﻦ ﺗﻬﺪﻳﺪك ،ﻟﻴﺲ
ﻋﻨﺪي ﻋﻘﻮد زواج وﻻ ﻋﻘﻮد ﻃﻼق ،وﻛﻞ أﻗﻮاﻟﻚ ﻻ ﺗُﺨﻴﻔﻨﻲ ،اﺳﻤﻊ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،إذا ﻛﻨﺖ
ﻓﺄﻧﺖ ﻣﺨﻄﺊ ،وﻣﺎذا ﺗﻔﻌﻞ اﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﺑﻲ؟ اﻟﺴﺠﻦ؟ ﻃﻴﺐ ﻳﺎ ﻋﻢ، َ ﺗﺤﺴﺐ أن اﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﺗُﺨﻴﻔﻨﻲ
ﻧﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﺴﺠﻦ ،أﻫﺬا ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﻘﺼﺪ؟ أﻟﻢ أﻗﻞ ﻟﻚ إﻧﻲ ﺣﴩة وﻛﻠﺐ ﻋﻘﻮر ووﻏﺪ؟ وﻟﻜﻦ
أﻣﻮال اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﺣﺮام ﻋﲇ ﱠ أﻧﺎ وﺣﻼل ﺑﻼل ﻟﻚ وملﺤﻤﻮد ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺧﻠﻒ وواﻟﺪه
ﺳﻌﺎدة اﻟﺒﺎﺷﺎ ،أﻫﺬا ﻣﺎ ﺗُﺮﻳﺪ ﻳﺎ ﺣﴬة اﻷدﻳﺐ اﻟﻜﺒري؟ ﻃﻴﺐ ﻳﺎ ﻋﻢ ،ﺧﺬ أﻧﺖ ﻧﺼﻴﺒﻚ وﻧﺄﺧﺬ
ﻧﺤﻦ ﻧﺼﻴﺒﻨﺎ .اﻟﻔﻠﻮس ﻟﻜﻢ واﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﻟﻨﺎ ،أﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻘﺴﻤﺔ اﻟﻌﺎدﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮﱠدﻧﺎﻫﺎ ﻣﻦ
اﻟﺤﻴﺎة؟ ﺑﺲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ،ﻫﺬا ﻣﺎ ﺟﺌﺖ ﻷﻗﻮﻟﻪ ،وﺣﻮﱠل وﺟﻬﻪ ﻋﻨﻲ ﻟﻴﻨﴫف ،وﺛﺎرت ﰲ ﻧﻔﴘ
ُ
ﻫﻤﻤﺖ أن أرﻛﻠﻪ ﺑﻘﺪﻣﻲ ﻣﺸﺎﻋﺮ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻓﻘﺪ ﺣﺰﻧﺖ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ وأﺷﻔﻘﺖ ﻋﲆ ﺑﺆﺳﻪ ،وﻣﻊ ﻫﺬا
ﻟﺴﺖ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ أن أﻗﻮل ﻟﻚ أﻛﺜﺮ ُ ُ
وﺟﻤﻌﺖ ﻛﻞ إرادﺗﻲ وﻗﻠﺖ ﻟﻪ: وأﻣﺮﻏﻪ ﰲ ﺗﺮاب اﻟﺤﺎرة،
ﻣﻤﺎ ﻗﻠﺖ أﻧﺖ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻚ ،ﻓﻬﻞ ﺟﺌﺖ ﱄ ٍّ
ﺣﻘﺎ ﻟﺘﻘﻮل ﻫﺎﺗني اﻟﻜﻠﻤﺘني؟
أﺗﻈﻦ أﻧﻲ ﻻ أﻓﻬﻢ اﻟﴪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﻤﺎﺳﺔ اﻟﺸﺪﻳﺪة؟ أﻟﺴﺖ أﻧﺖ ﱡ ﻓﻮﻗﻒ وﻗﺎل ﰲ ﻣﺮارة:
ﻛﻨﺖ أﻛﱪ ﺧﺼ ٍﻢ ﻟﻠﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل؟ ﺳﺒﺤﺎن ﷲ! ﺳﺒﺤﺎن ﷲ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﻳﺎ ﻋﻈﻴﻢ! ﻫﻜﺬا اﻟﺬي َ
ﺗﻨﻘﻠﺐ ﻣﻦ ﺣﺮب ﻃﺎﺣﻨﺔ إﱃ ﺻﺪاﻗﺔ ﻃﺎﺣﻨﺔ ﻟﻮﺟﻪ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ؟ أﺗُﺮﻳﺪ أن ﺗﻘﻮل ﱄ إﻧﻚ ﻣﺘﻄﻮع
ﻟﺨﺪﻣﺔ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ ﻟﻮﺟﻪ ﷲ؟
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻛﻨﺖ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ أن أرﻛﻞ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﺑﻘﺪﻣﻲ ﻓﺄﺣﻄﻢ وﻣﻦ اﻟﻌﺠﻴﺐ أﻧﻲ ﺑﻌﺪ أن ُ
ﱠﻨﺖ أﻧﻲ ﻣُﺘﻨﺎﻗﺾ ﻣﻊ ﺑﺪأت أﺟﺪ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﺑﻜﻠﻤﺎﺗﻪ اﻟﻼذﻋﺔ ،وﻷول ﻣﺮة ﺗﺒﻴ ُ
ُ ﻋﻈﺎﻣﻪ،
ﻧﻔﴘ ﻛﻤﺎ ﺗﺒﻴﻨﺖ أن ﻣﻮﻗﻔﻲ ﻣُﻌ ﱠﺮض ﻟﻠﺘﻬﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻬﺮ ﺑﻬﺎ ذﻟﻚ اﻟﻮﻏﺪ ،وﻛﺎن أﻛﱪ ﻣﺎ ﻳﺆملﻨﻲ
ﺳﺨﺮ ﻧﻔﴘ ﻟﺨﺪﻣﺔ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ ،ودﻋﻮﺗﻪ ﻟﻠﺪﺧﻮل ﻣﻌﻲ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ أن ﻳﺬﻫﺐ ﻇﻦ أﺣﺪ أﻧﻲ أ ُ ﱢ
ﻷﺳﻤﻊ ﻣﻨﻪ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻋﻨﺪه ﺑﻌﻴﺪﻳﻦ ﻋﻦ اﻷﻧﻈﺎر واﻷﺳﻤﺎع ،وﻟﻜﻨﻪ ﻣﺎﻧﻊ ﺣﺘﻰ ﺟﺮرﺗُﻪ ﺟ ٍّﺮا ﻣﻦ
ذراﻋﻪ ،وﺻﻌﺪت ﺑﻪ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ.
ُ
ﻟﺴﺖ أﺑﺎﱄ أن ﺗﻜﻮن أﺳﻔﻞ ﻣﺨﻠﻮق ﰲ وملﺎ ﴏﻧﺎ وﺣﺪﻧﺎ ﻗﻠﺖ ﻟﻪ :اﺳﻤﻊ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة.
اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻟﻜﻨﻲ أﺣﺐ أن أﻗﻮل ﻟﻚ ﻛﻠﻤﺔ ،ﻣﺎذا ﻳﻬﻤﻚ أﻧﺖ إذا ﻛﻨﺖ أﻋﻤﻞ ﻟﺤﺴﺎب ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ
أو ﻏري ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ؟ ﻣﺎذا ﻳُﻬﻤﱡ ﻚ أﻧﺖ إذا ﻛﻨﺖ ﺳﺄﺳﺘﻮﱄ ﻋﲆ ﺳﻤﴪﺗﻲ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﻘﺔ
َ
ﻋﺰﻣﺖ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻋﲆ أن ﺗﺴﺘﻤﺮ ﰲ وأُﻟﻘﻲ ﺑﻚ ﰲ اﻟﺴﺠﻦ؟ ﻣﺎذا ﻳﻐري ﻫﺬا ﻣﻦ ﻣﻮﻗﻔﻚ أﻧﺖ؟ ﻫﻞ
ﺣﻘﺎ ﻻ ﺗﺒﺎﱄ أن ﺗﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﺴﺠﻦ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻣَ ﻜﻴﺪة ﻓﺎﺷﻠﺔ؟ وأﻗﺴﻢ ﻟﻚ ﺑﺮﺣﻤﺔ ﻣﺆاﻣﺮﺗﻚ؟ وﻫﻞ ٍّ
أﺑﻲ أﻧﻲ ﻟﻦ أﺗﺮﻛﻚ إذا ﻟﻢ ﺗﺘﻨﺎزل ﻋﻦ ﻋﻨﺎدك ،ﻓﻤﺎ رأﻳﻚ اﻷﺧري؟
وﺑﻘﻲ ﻣﺪ ًة ﺻﺎﻣﺘًﺎ وﻫﻮ ﻳﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﻛﺄﻧﻪ ﺛﻌﺒﺎن ﻳﺘﺤﻔﺰ ﻟﻠﻬﺠﻮم ،وﻛﺎن
َ ﻓﺘﻠﻮﱠى ﰲ ﻣﻘﻌﺪه،
ﻋﲆ وﺟﻬﻪ ﺷﺒﺢ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻣﺴﻤﻮﻣﺔ.
ﺛﻢ ﻗﺎل ﰲ ﻣﺮارة :ﻳﻌﻨﻲ اﻧﺘﻬﻴﻨﺎ؟
ً
ﻋﺎﻗﻼ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة. ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻟﻬﻔﺔ :ﻛﻦ
ﻓﻘﺎل :ﻳﻌﻨﻲ ﻧﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﺴﺠﻦ أو ﻧﺨﺮج ﻣﻦ املﻮﻟﺪ ﺑﻼ ﺣﻤﺺ؟ ﻳﻌﻨﻲ ﻳﺎ ﳼ ﺳﻴﺪ
ﻟﻴﺲ أﻣﺎﻣﻲ إﻻ أن أﺧﺘﺎر ﺑني اﻟﺴﺠﻦ واملﻮت ﺟﻮﻋً ﺎ؟ ﻃﺒﻌً ﺎ ﺳﺘﻄﺮدﻧﻲ املﺮأة إذا ﻟﻢ أذﻫﺐ
ﻗﺎﺋﻼ» :رح ﰲ داﻫﻴﺔ ﻳﺎ ﺣﻤﺎر «.ﻧﻌﻢإﱃ اﻟﺴﺠﻦ ،وﻃﺒﻌً ﺎ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة ﻳُﺨﺮج ﱄ ﻟﺴﺎﻧﻪ ً
أﻧﺎ ﺣﻤﺎر وﺧﻤﺴني أﻟﻒ ﺣﻤﺎر؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أرض ﺑﻤﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ،وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :وﻻ ﺧﻤﺴني أﻟﻒ .ﻟﻢ
أﻋﺮف ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ أن ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي زﻫري ﺳﻴﻌﻮد إﻟﻴﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﻟﻴﻘﻮل ﱄ :ﻳﺎ وﻏﺪ اذﻫﺐ
إﱃ اﻟﺴﺠﻦ.
واﻗﻔﺎ ﻳﺮﻳﺪ اﻻﻧﴫاف ،وﻷول ﻣﺮة رأﻳﺖ ﻋﻠﻴﻪ أﺛﺮ اﻻﺿﻄﺮاب واﻻﻧﺨﺬال. وﻗﺎم ً
ﻓﺠﺬﺑﺘُﻪ ﻣﻦ ذراﻋﻪ ﻷﻗﻌﺪه ،ﻓﺎرﺗﻤﻰ ﻋﲆ اﻟﻜﺮﳼ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺘﻬﺪم وﻗﺎل ﰲ ﺿﻌﻒ :دﻋﻨﻲ
أذﻫﺐ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ﻷُﻓ ﱢﻜﺮ ﰲ اﺧﺘﻴﺎر اﻟﺴﺠﻦ أو املﻮت ﺟﻮﻋً ﺎ.
ﻄﻢ ،وﺷﻌﺮت وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻲ أرى أﻣﺎﻣﻲ أﻧﻘﺎض إﻧﺴﺎن ﻣﺤ ﱠوﻧﻈﺮت إﻟﻴﻪ ﻟﺤﻈﺔ ﰲ ﺻﻤﺖ ُ
ﻣﻦ أﺟﻠﻪ ﺑﺤﺰن ﺻﺎدق ،وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ رﻗﺔ :أﻧﺎ ﻣُﺴﺘﻌ ﱞﺪ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة أن أﻣﺪ ﻳﺪي إﻟﻴﻚ ،وإن ﻛﻨﺖ
168
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ
واﺛﻘﺎ أﻧﻲ أﻣﺪﻫﺎ إﱃ اﻟﺜﻌﺒﺎن اﻟﺠﺮﻳﺢ اﻟﺬي ﻻ ﻳﱰدﱠد أن ﻳﻔﺮغ ﻓﻴﻬﺎ ﺳﻤﻪ إذا اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﺼﻞ ً
ﺑﺄﻧﻴﺎﺑﻪ إﻟﻴﻬﺎ.
وﻛﺎن ﻳﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮي ﻧﻈﺮة ﺧﺎوﻳﺔ ﺗﺪ ﱡل ﻋﲆ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻏﺎﺋﺒًﺎ ﺑﻔﻜﺮه ﻋﻨﻲ ،وﻛﺎن ﺗﻌﺒري
وﺟﻬﻪ ﻳﻨ ﱡﻢ ﻋﻦ أﻟﻢ داﺧﲇ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻋﻨﻴﻔﺔ ،وﺷﻌﺮت ﺑﺄﻧﻨﻲ ﺣﻴﺎل ﺟﺪار ﻣﻨﻴﻊ ﻳﺤﻮل ﺑﻴﻨﻲ
وﺑني اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻗﺮارة ﻧﻔﺲ ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻬﺰﻳﻞ اﻟﺠﺎﻟﺲ أﻣﺎﻣﻲ ،وإن ﻛﻨﺖ أﻗﺪر ﻋﲆ أن
أﴏع ﺟﺴﻤﻪ اﻟﻨﺤﻴﻞ ﺑﴬﺑﺔ واﺣﺪة ﻣﻦ ﻳﺪي ،ﻛﺎن واﺿﺤً ﺎ أن ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ
ﻓِ ﻄﺮة وﺣﺸﻴﺔ ﻋﻨﻴﻔﺔ ﻋﻨﻴﺪة ﺗﺴﺘﻌﴢ ﻋﲆ إرادﺗﻲ وﺗﺘﻤﻠﺺ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﺤﺎوﻻﺗﻲ ﰲ ﺗﺄﻧﻴﺴﻬﺎ.
وﻟﺒﺜﻨﺎ ﻣﺪة ﻏري ﻗﺼرية وﻧﺤﻦ ﺻﺎﻣﺘﺎن ،وﻛﻞ ﻣﻨﺎ ﻳﺘﺤﺪث ﻣﻊ ﻧﻔﺴﻪ ،وﺗﺤﺮك ﻫﻮ آﺧﺮ
واﻗﻔﺎ ،وﻗﺎل :ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﻀﺤﻚ ﻋﲇ ﱠ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ؟ اﻷﻣﺮ ً
ً
ﻣﻄﺮﻗﺎ ﺣﺘﻰ ﺧﺮﺟﻨﺎ وﻗﻤﺖ ﺻﺎﻣﺘًﺎ ،وﴎت أﻣﺎﻣﻪ
ُ ﻓﺰﻣﻤﺖ ﺷﻔﺘﻲ ﺑﺤﺮﻛﺔ ﻏري إرادﻳﺔ،
إﱃ اﻟﺤﺎرة ،وﻫﻤﻤﺖ أن أدﺧﻞ وأﻏﻠﻖ اﻟﺒﺎب وراﺋﻲ ،وﻟﻜﻨﻪ وﻗﻒ ﻣﱰ ﱢددًا ﺛﻢ ﻗﺎل :ﻳﻌﻨﻲ ﻻ ﺗﺮﻳﺪ
أن أﺧﺮج ﺑﴚء؟
ُﻨﻔﺠ ًﺮا :اﺑﻌﺪ ﻋﻨﻲ أﻳﻬﺎ اﻷﺣﻤﻖ ،وﻻ ﺗﺮﻧﻲ وﺟﻬﻚ ﻫﻨﺎ.ﻓﻘﻠﺖ ﻣ ِ
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺧﺸﻮع :أﺷﻜﺮك ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي .ﻟﻴﺲ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ﺟﺪﻳﺪًا ﻋﲇﱠ ،ﻛﻞ اﻟﻨﺎس ﻳﻘﻮﻟﻮن
ﱄ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا.
ُ
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺟﻔﺎء :وﻣﺎذا ﺗﺮﻳﺪ؟
ﻓﻘﺎل ﰲ وﻗﺎﺣﺔ :ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﻨﻴﻤﺔ.
وﻟﻢ أﺟﺪ ﻓﺎﺋﺪة ﰲ ﻣﻨﺎﻗﺸﺘﻪ ،وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ اﺧﺘﺼﺎر :وﰲ ﻧﻈري ذﻟﻚ؟
أوراﻗﺎ وﻫﻮ ﻳَﱰاﺟﻊ إﱃ اﻟﻮراء ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺨﴙ أن أﺧﻄﻔﻬﺎ،ً ﻓﻮﺿﻊ ﻳﺪه ﰲ ﻋﺒﻪ وأﺧﺮج ﻣﻨﻪ
ﻓﺨﻔﻖ ﻗﻠﺒﻲ ﺷﺪﻳﺪًا ،وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ ﺻﻮت أﺟﺶ :وﻣﺎ أدراﻧﻲ ﻣﺎ ﻫﺬه اﻷوراق؟ ﻣﺎ أدراﻧﻲ أﻧﻬﺎ
ﺗﺎﻓِ ﻬﺔ ﻻ ﺗﺴﺎوي ً
ﻗﺮﺷﺎ واﺣﺪًا.
ﴍف ﻟﺤﻠﻔﺖ ﻟﻚ ﺑﻪ أن ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻮرﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻳﺪﻫﺎ. ٌ ﻓﻘﺎل ﻣﱰددًا :ﻟﻮ ﻛﺎن ﱄ
وﻫ ﱠﺰ ورﻗﺔ ﻗﺬرة ﰲ ﻳﻤﻴﻨﻪ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻣُﺘﻜ ﱢﻠ ًﻔﺎ اﻟﻬﺪوء :إذن ﻧﻌﻮد إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﻷرى اﻟﻮرﻗﺔ وأﻋﻄﻴﻚ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪ.
ﻓﻘﺎل ﰲ ﻋﻨﻒ وﺣﴚ ووﻗﺎﺣﺔ :ﻟﻊ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي! ﺳﺄﻧﺘﻈﺮ ﻫﻨﺎ املﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ً
أوﻻ.
وأدرﻛﺖ ﻣﺎ ﻳﻘﺼﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،وﻟﻢ أَﻋﺠﺐ ﻣﻦ أن ﻣﺜﻠﻪ ﻳﺨﴙ أن ﻳﺪﺧﻞ ﻣﻌﻲ ً
ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ
أن أﺣﺒﺴﻪ ﰲ ﻏﺮﻓﺘﻲ وأﻏﺘﺼﺐ ﻣﻨﻪ اﻟﻮرﻗﺔ ،وﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﻫﺎدﺋًﺎ :إذن ﻓﺎﻧﺘﻈﺮ ﺣﺘﻰ أﻋﻮد إﻟﻴﻚ.
ودﺧﻠﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ ﻓﻮﺛﺒﺖ ﻋﲆ اﻟﺴﻠﻢ ﻏري ﻣُﺼﺪﱢق أﻧﻪ ﻳﻨﺘﻈﺮﻧﻲ ﺣﺘﻰ أﻋﻮد ،وﻛﺎﻧﺖ أﻣﻲ
ﱠﺧﺮ ﻋﻨﺪﻫﺎ ،ﻓﻘﺎﻣﺖﻣﺸﻐﻮﻟﺔ ﰲ ﺣﻴﺎﻛﺔ ﺛﻮب ﻷﺧﺘﻲ ،ﻓﺎﺳﺘﻌﺠﻠﺘُﻬﺎ ﻟﺘﻌﻄﻴﻨﻲ ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ﻣﻦ املﺪ َ
169
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻫﻲ ﺗﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﻣﺴﺘﻐﺮﺑﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺴﺄﻟﻨﻲ ﻋﻦ ﳾء ،وذﻫﺒﺖ إﱃ درج »اﻟﺪوﻻب« اﻟﺬي
ُ
ﻓﺄﺧﺬت ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺤﻔﻆ ﻓﻴﻪ اﻟﻨﻘﻮد ،ﻓﺄﺗﺖ ﱄ ﺑﺮزﻣﺔ اﻟﻨﻘﻮد ﻛﻠﻬﺎ وﻗﺪﻣﺘﻬﺎ إﱄ ﱠ وﻫﻲ ﺻﺎﻣﺘﺔ،
ﻧﺎزﻻ ﰲ ﻟﻬﻔﺔ ،وﺷﻌﺮت ورﻗﺘني ﻣﻦ ذوات اﻟﺨﻤﺴني ﺟﻨﻴﻬً ﺎ ،ورددت إﻟﻴﻬﺎ اﻟﺒﺎﻗﻲ ،وأﴎﻋﺖ ً
ﺑﺎرﺗﻴﺎح ﻋﻈﻴﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺟﺪت ﺣﻤﺎدة ﻣﺎ ﻳﺰال ً
واﻗﻔﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺎب ،ﻓﻤ ﱠﺪ ﻳﺪه إﱄ ﱠ وأﺧﺬ اﻟﻮرﻗﺘَني
ﻣﻦ ﻳﺪي ﻗﺒﻞ أن ﻳُﺴﻠﻢ ورﻗﺘﻪ ﺛﻢ اﻧﴫف ﺑﻐري أن ﻳﻠﺘﻔﺖ إﱄ ﱠ.
ﻋﻤﻴﻘﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺟﺪﺗﻬﺎً ﺴﺖ ً
ﻧﻔﺴﺎ ﱠ
وﺗﻨﻔ ُ وﻧﻈﺮت إﱃ اﻟﻮرﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﰲ ﻳﺪي ﻷرى ﻣﺎ ﻫﻲ،
ﻣﻤﻀﺎة ﺑﺎﻹﻣﻀﺎء اﻟﺘﻲ أﻋﺮﻓﻬﺎ ﻟﻠﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ،ﻛﺎﻧﺖ ورﻗﺔ زواج ﻋﺮﰲ ،وﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ أن
أﻗﺮأ ﻣﻦ اﻷﺳﻤﺎء اﻟﺘﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﻮى اﺳﻢ اﻟﺴﻴﺪ املﺮﺣﻮم واﺳﻢ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة؛ ﻷن اﺳﻢ
اﻟﺸﺎﻫﺪ اﻵﺧﺮ ﻛﺎن ﻏري واﺿﺢ املﻌﺎﻟﻢ ﻛﺄن ﺻﺎﺣﺒﻪ أراد أن ﻳﺴﺘﺨﻔﻲ.
وداﺧﻠﻨﻲ ﴎور ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺻﻔﻪ ﺣﺘﻰ ﻟﻘﺪ ﺳﺄﻟﺖ ﻧﻔﴘ :أأﻧﺎ ﰲ ﺣﻠﻢ ﺻﻮﱠره ﱄ َ
اﻟﺘﻤﻨﻲ ،أم أﻧﺎ ﰲ ﻳﻘﻈﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ أﻗﺒﺾ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻴﺪي ﻋﲆ وﺛﻴﻘﺔ ﻳَﺒﻠُﻎ ﺛﻤﻨﻬﺎ ﻣﺌﺎت اﻷﻟﻮف ﻣﻦ
اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ،وﻣﻦ ﻓﻮﻗﻬﺎ ﺳﻌﺎدة ﻣﻨﻰ وﺳﻤﻌﺔ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل؟ وﻗﻔﺖ ﺛﺎﺑﺘًﺎ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻗﺮﻳﺒًﺎ
ﻣﻦ ﺑﺎب اﻟﺒﻴﺖ ﻻ أدري ﻣﺎذا أﻓﻌﻞ ،وﺧﻼ ذﻫﻨﻲ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻓﻜﺮة ﻛﺄﻧﻪ ﺗﻮﻗﻒ ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ،
وأﺧﺮﺟﺖ ﺳﺎﻋﺘﻲ ﻓﻮﺟﺪت أﻧﻬﺎ ﺻﺎرت اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ﻣﻦ املﺴﺎء ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳَﺤﻤﻞ إﱃ ﻓﻜﺮي
ﺣﺮﻓﺎ ً
ﺣﺮﻓﺎ ﻷﺳﺘﻮﺛﻖ ﻣﻌﻨًﻰ ،وأﻏﻠﻘﺖ اﻟﺒﺎب وراﺋﻲ ،وﺻﻌﺪت إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ ،وأﺧﺬت أﻗﺮأ اﻟﻮرﻗﺔ ً
ﻣﻦ أﻧﻬﺎ ﻫﻲ اﻟﻮرﻗﺔ املﻄﻠﻮﺑﺔ ،وﺟﺎءت أﻣﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﻤﻌﺖ ﺣﴘ ،ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ ﻫﺪوء :ﻣﻦ ﻛﺎن
ﻣﻌﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ ﺻﻴﺤﺔ ﻣﻜﺘﻮﻣﺔ :وﻫﺬه اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت ﻟﻪ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :ﱠ
ﺗﻔﻀﲇ ﻳﺎ أﻣﻲ واﺟﻠﴘ ﻫﻨﺎ.
وأﺧﺬت أﺣﻜﻲ ﻟﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻣ ﱠﺮ ﺑﻲ ﻣﻨﺬ اﻟﺼﺒﺎح ،ﻓﻜﺄن ﺗﻌﻠﻴﻘﻬﺎ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ﻗﺎﻟﺖ :ﷲ
ﻳﺒﺎرك ﻓﻴﻚ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ!
ﺛﻢ ﻗﺎﻣﺖ ووﺿﻌﺖ ﻳﺪﻫﺎ ﻋﲆ رأﳼ ،وﺟﻌ َﻠﺖ ﺗﻘﺮأ واﻟﺪﻣﻊ ﻳﱰﻗﺮق ﰲ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ.
ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ :رﺣﻢ ﷲ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳﺎ وﻟﺪي؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ً
رﺟﻼ ﻛﺮﻳﻤً ﺎ ،ﺣﻤﺎك
ﷲ ﻣﻦ اﻟﻔﻀﺎﺋﺢ ﻳﺎ وﻟﺪي!
وملﺎ ﺧﺮﺟﺖ أﻣﻲ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﺑﺪأت أﺳﺄل ﻧﻔﴘ :ﻣﺎذا ﻳﻨﺒﻐﻲ ﱄ أن أﻓﻌﻞ؟ وﻛﺎن أول
ﺧﺎﻃﺮ ﺳﻨﺢ ﱄ أن أﴎع إﱃ ﻣﻨﻰ؛ ﻷُﺧﱪَﻫﺎ أن املﺸﻜﻠﺔ ﻗﺪ زاﻟﺖ ،ﺛﻢ أﺳﻠﻢ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻮرﻗﺔ وأﺗﻤﺘﻊ
ﺑﺎﻟﺴﻌﺎدة ﻋﻨﺪﻣﺎ أراﻫﺎ ﺗﺒﺘﺴﻢ ﱄ ﺷﺎﻛﺮة ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻟﺒﺚ أن ﺳﺨﺮت ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ،وﺑﺪا ﱄ
170
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ
أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻤﺜﻴﻠﻴﺔ ﺳﺨﻴﻔﺔ ،ﺛﻢ ﻣﺎذا ﻳﻜﻮن ﻟﻮ أن ﻣﻨﻰ ﺳﺄﻟﺘﻨﻲ ﻛﻴﻒ ﺣﺼﻠﺖ
ﺻﻨﻌﺖ ،وأﻧﻲ دﻓﻌﺖ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت املﺎﺋﺔ ﺛﻤﻨًﺎ ﻟﻬﺎ؟ وﻫﻞ ﻳﻠﻴﻖ أن ُ ﻋﲆ اﻟﻮرﻗﺔ؟ أأﺣﻜﻲ ﻟﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﺎ
أذﻫﺐ إﱃ ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺪ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ﻣﺴﺎءً؟ وﺧﻄﺮ ﱄ أن أﺑﺎدر ﺑﺎﻟﺴﻔﺮ إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﰲ ﻗﻄﺎر
اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺒﺎﻛﺮ ﺑﻐري أن أﺧﱪ ﻣﻨﻰ ﺑﴚء ﻣﻤﺎ ﺣﺪث ،وﺗﺄﻣﻠﺖ ﻣﻘﺪار اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﻜﱪى اﻟﺘﻲ
أﻓﻮز ﺑﻬﺎ إذا ﻋﻠﻤﺖ ﻣﻨﻰ ﻣﻦ ﺗﻠﻘﺎء ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﺑﺄﻧﻨﻲ أدﻳﺖ ﻟﻬﺎ ﻫﺬه اﻟﺨﺪﻣﺔ اﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﰲ
ﺻﻤﺖ ﺑﻐري أن أﻧﺘﻈﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﺟﺰاءً ،وﻟﻜﻨﻲ ﺳﺨﺮت ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ً
أﻳﻀﺎ ،وﺑﺪا ﱄ أﻧﻬﺎ أﻗﺮب
إﱃ أن ﺗﻜﻮن إﻣﻌﺎﻧًﺎ ﰲ اﻟﺮﻳﺎء.
ُ
ﻓﺄﻋﺪت ﻗﺮاءة اﻟﻮرﻗﺔ ﺛﻢ ﻣﺰﻗﺘﻬﺎ وﺿﺎق ﺻﺪري ﻣﻦ ﻫﺬه املﺠﺎدﻻت اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ اﻟﺠﻮﻓﺎء،
وأﻟﻘﻴﺖ ﺑﺎﻟﻘﻄﻊ ﰲ ﺳﻠﺔ املﻬﻤﻼت ،وﻗﻤﺖ ﻷﻧﺰل ﺣﺘﻰ ﻻ ُ ﻗﻄﻌً ﺎ ﺻﻐرية ﰲ ﺑﻂء وذﻫﻨﻲ ﺳﺎدِ ر،
أﺑﻘﻰ ﰲ اﻟﺤﺠﺮة املﻐﻠﻘﺔ وﺣﺪي ،واﺗﺠﻬﺖ إﱃ ﺑﻴﺖ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ،وﺟﻠﺴﻨﺎ ﰲ املﻨﻈﺮة
املﺄﻟﻮﻓﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻧﻈﺮة ﺻﺎﺣﺒﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺪﻫﺸﺔ واﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻪ ﺗﺪ ﱡل ﻋﲆ اﻟﺘﺴﺎؤل.
وﻗﺎل ﰲ ﻧﻐﻤﺔ ﻋﺘﺎب :أﻧﺖ ﻫﻨﺎ ﻣﻨﺬ أﻳﺎم؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻣﻨﺬ ﻳﻮﻣني اﺛﻨَني وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺎ ﻣﻤﺘﻠﺌني.
وأﺧﺬت أﻗﺺ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺎ ﺣﺪث ﻣﻨﺬ ﻋﺪت إﱃ دﻣﻨﻬﻮر.
ﻓﻘﺎل ﻣﺒﺘﺴﻤً ﺎ :ﺣﺴ ٌﻦ ﺟﺪٍّا ﻳﺎ دون ﻛﻴﺸﻮت.
ﻓﻘﻠﺖ :أرﺟﻮك أﻻ ﺗُﺮﻫﺒﻨﻲ ﺑﺴﺨﺮﻳﺘﻚ ،ﻓﻬﻞ ﻛﻨﺖ ﻷﺗﺮك ﻣﻨﻰ وﺣﻴﺪة ﻟﺮﺣﻤﺔ ﻗﻄﻴﻊ ﻣﻦ
اﻟﺬﺋﺎب.
ﻗﺎﺋﻼ :آه .ﻫﺬا ﳾء آﺧﺮ .أﻇﻨﱡﻨﻲ ﺑﺪأت أﻓﻬﻢ ،أﻧﺖ ﺗﺤﺒﻬﺎ؟ ﻓﺘﺒﺘﺴﻢ ً
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺟﺪ :ﻻ أﻛﺬﺑﻚ ،ﻓﺄﻧﺖ ﻏري ﻣُﺨﻄﺊ.
ﻓﻘﺎل وﻣﺎ ﻳﺰال ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :وﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﺨﻄﻮة اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻻ ﳾء ،ﺳﺄُﺳﺎﻓﺮ ﻏﺪًا ﺻﺒﺎﺣً ﺎ.
ﻓﻘﺎل ﰲ دﻫﺸﺔ :ﻫﻜﺬا ﻳﻔﻌﻞ دون ﻛﻴﺸﻮت!
ﻓﻘﻠﺖ :وﻣﺎ ﺣﻴﻠﺘﻲ؟ ﻣﺎذا ﺗَﻔﻌﻞ ﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﰲ ﻣﻮﻗﻔﻲ.
ُ
ﻟﺴﺖ أدري ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﻻ أﺳﺎﻓﺮ ﻏﺪًا إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،ﻟﻢ ﻻ ﻧﺬﻫﺐ ﻓﻘﺎل وﻫﻮ ﻳﻘﻒ:
ﻏﺪًا إﻟﻴﻬﺎ ﻟﺘﺴﺄﻟﻬﺎ ﺑﻐري ﻣﻘﺪﻣﺎت :ﻫﻞ ﺗَﺮﴇ ﺑﻚ زوﺟً ﺎ؟ أﻧﺖ أﺻﻠﺢ ﻟﻬﺎ ﺑﻐري ﺷﻚ ﻣﻦ ذﻟﻚ
اﻟﺸﺎب اﻷﺑﻠﻪ ،ﻣﺎذا ﺗﻨﺘﻈﺮ؟
ً
ﻓﻠﻢ أﺟﺒﻪ ﺑﴚء؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﺟﺪ ﺷﻴﺌﺎ أﻗﻮﻟﻪ ،وأﺧﺬت أﻋﻴﺪ اﻟﺴﺆال ﻧﻔﺴﻪ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﻣﺜﻞ
ﻣﺬﻫﻮل ﻻ ﻳﻌﻲ ﻣﺎ ﻳَﺴﻤﻊ.
171
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻗﻤﺖ ﺳﺎﻫﻤً ﺎ وﻟﻴﺲ ﰲ ذﻫﻨﻲ ﻓﻜﺮة ،وأﺧﺬ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﺑﺬراﻋﻲ ﺣﺘﻰ ﻧﺰل ﻣﻌﻲ إﱃ ُ ﺛﻢ
ُ
وﻛﻨﺖ ﻣﺎ أزال أﻓﻜﺮ ﰲ اﻟﺴﺆال اﻟﺬي وﺟﱠ ﻬﻪ إﱄ ﱠ وﻟﻢ اﻟﺒﺎب ﺑﻐري أن ﻳﻘﻮل أﺣﺪﻧﺎ ﻟﻶﺧﺮ ﻛﻠﻤﺔ،
أﻫﺘ ِﺪ إﱃ ﺟﻮاب ﻟﻪ ،وﻛﺎن ﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﻳﻔﻜﺮ وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻋﺮف ﻓﻴﻢ ﻛﺎن ﻳﻔﻜﺮ ،وملﺎ ﺻﺎﻓﺤﺘُﻪ آﺧﺮ
اﻷﻣﺮ ﻃﻠﺒﺖ ﻣﻨﻪ أن ﻳُﺒﻠﻎ ﺗﺤﻴﺎﺗﻲ ﻟﻠﺴﻴﺪة اﻟﻜﺒرية ،وﻛﺎﻧﺖ دﻫﺸﺘﻲ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل ﱄ:
وﺷﻌﺮت ﺑﺨﺠﻞ ﺷﺪﻳﺪ وأﻧﺎ أﻋﺘﺬر إﻟﻴﻪُ إﻧﻬﺎ ﻣﺮﻳﻀﺔ وإن اﻟﻄﺒﻴﺐ ﻻ ﻳﺴﻤﺢ ﻷﺣﺪ ﺑﺰﻳﺎرﺗﻬﺎ،
ﻣﻦ أﻧﻲ أﺧﺬت ﻣﻦ وﻗﺘﻪ ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻷﺣﺪﺛﻪ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ وﻫﻮ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻈﺮف اﻟﻘﺎﳼ ،ﻓﻠﻢ
ﻗﺎﺋﻼ» :ﺣﺪﻳﺜﻚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻚ أﺣﺐ إﱄ ﱠ ،وﻣﺎذا ﻛﻨﺖ ﺗﻔﻴﺪﻧﻲ ﻟﻮ ﺣﺪﺛﺘﻚ أﻧﺎ ﻳ َِﺰد ﻋﲆ أن أﺟﺎﺑﻨﻲ ً
ُﺴﻴﻄﺮ ﻋﲆ ﻗﻠﺒﻪ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻛﺄﻧﻪ ﻋﻘﻞ ﻣﺠﺮد ﻻ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ؟« ﻫﺬا اﻟﺼﺪﻳﻖ اﻟﻌﺠﻴﺐ ﻳ ِ
ﺗﺘﻄﻮﱠح ﺑﻪ اﻟﻌﻮاﻃﻒ واملﻴﻮل ،وﻻ ﻳﻌﺼﻒ ﺑﻪ ﺿﻌﻒ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﻟﻮﻻ أن ﻟﻪ ﻗﻠﺒًﺎ ﻛﺒريًا ﻳﻌﺮف
ﻟﻘﻠﺖ :إﻧﻪ ﺧِ ﻠﻘﺔ ﺷﺎذة ،وﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ أﻣﺮيُ ﻛﻴﻒ ﻳﻮاﳼ وﻛﻴﻒ ﻳﺸﺎرك ﰲ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﻐريه،
اﻧﴫﻓﺖ ﻣﻦ ﻋﻨﺪه وأﻧﺎ ﻣﻮ ﱠزع اﻟﻘﻠﺐ ﺑني اﻹﻋﺠﺎب ﺑﻪ واﻟﺪﻫﺸﺔ ﻣﻨﻪ واﻟﺤرية ﺑني اﻟﺘﺴﻠﻴﻢُ ﻓﻘﺪ
ﺑﺂراﺋﻪ ورﻓﻀﻬﺎ.
172
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ
ﻋﺪت ﻣﻦ دﻣﻨﻬﻮر إﱃ دواﻣﺔ اﻟﻌﻤﻞ ﻣﺮ ًة أﺧﺮى ،وﻻ أذﻛﺮ أﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ أﻳﺎم ﺣﻴﺎﺗﻲ
ً
ﻓﺮاﻏﺎ أﺣﺲ أن اﻟﺤﻴﺎة أﺻﺒﺤﺖ ﻛﻨﺖ ﱡ ﻛﻨﺖ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎمُ ،
ﻗﻠﻘﺎ وﺷﻌﻮ ًرا ﺑﺎﻟﻮﺣﺸﺔ ﻣﻤﺎ ُ أﺷﺪ ً
ً
ﺣﺎﻧﻘﺎ ﺿﻴﻘﺎ ﺑﻨﻔﴘً ﺧﺎوﻳًﺎ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻓﻮﻗﻪ ﺳﻤﺎء ﺗﻈﻠﻨﻲ وﻻ ﻣﻦ ﺗﺤﺘﻪ وﻃﺎء ﻳﺤﻤﻠﻨﻲ ،ﺑﻞ ﻛﻨﺖ
ﻣﻮﻓ ًﻘﺎ ﰲ ﻋﻤﲇ وﻛﺎن اﻷﺳﺘﺎذ ﻛﻨﺖ ﱠ
ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻐري أن ﻳﻜﻮن ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻲ املﻌﺘﺎدة ﻣﺎ أﺷﻜﻮ ﻣﻨﻪُ ،
أوﺳﻊ داﺋﺮة ﻋﻼﻗﺎﺗﻲ ﺑﺰﻣﻼﺋﻲ ﻣﻦ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻳﺰداد ﺗﻘﺪﻳ ًﺮا ﱄ ﻳﻮﻣً ﺎ ﺑﻌﺪ ﻳﻮم ،وﻛﻨﺖ داﺋﻤً ﺎ ﱢ
اﻟﺼﺤﻔﻴني وﺑﻐريﻫﻢ ﻣﻦ رﺟﺎل اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ واﻟﺤﻜﻢ ،وأﻏﺘﺒﻂ ﺑﻤﺎ أﺟﺪه ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺪﻳﺮ
وﻛﻨﺖ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻲ اﻟﺨﺎﺻﺔ أﺷﺒﻪ ﺑﺄن أﻛﻮن ﺳﻌﻴﺪًا ﺧﺎﻟﻴًﺎ ﻣﻤﺎ ﻳُﺜري اﻟﻬﻤﻮم ،وﻟﻜﻨﻲ ُ واﻟﺘﻜﺮﻳﻢ،
ﻛﻨﺖ أﺣﺲ ﻛﺄن ﻗﻠﺒﻲ ﰲ ﻗﺒﻀﺔ ﻣﺎرد ﺟﺒﺎر ﻳﻌﴫه ﺑﻐري رﺣﻤﺔ ،واﺳﺘﻮﱃ ﻋﲆ ﻗﻠﺒﻲ ﻣﻊ ﻫﺬا ُ
ﺧﻴﺎل واﺣﺪ ﻻ ﻳﻜﺎد ﻳﻔﺎرﻗﻨﻲ ﰲ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﻴﻞ أو اﻟﻨﻬﺎر ،ﻓﻴﺘﻤﺜﻞ ﱄ إذا ﺟﻠﺴﺖ ﻷﻛﺘﺐ
ﴎت ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻲ أو ﺟﻠﺴﺖ ﰲ ﺣﺠﺮﺗﻲ املﻨﻌﺰﻟﺔ ﰲ املﺴﺎء أو ُ ﻣﻘﺎﻻﺗﻲ ﰲ دار اﻟﺠﺮﻳﺪة ،وإذا
ﻏﺎرﻗﺎ ﰲ زﺣﻤﺔ اﻟﻨﺎس وﺿﺠﺔ اﻟﺤﻴﺎة ً أﻏﻤﻀﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻷﻧﺎم ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﻛﺎن ﻻ ﻳﻔﺎرﻗﻨﻲ إذا ﻛﻨﺖ
اﻟﺼﺎﺧﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻬﺎ إﻻ ﻣﻦ ﻋ َﺮف ﻣﻬﻨﺔ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ؛ ﻛﺎن ذﻟﻚ ﺧﻴﺎل ﻣﻨﻰ.
وﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻋﻨﺪﻣﺎ أذﻫﺐ إﱃ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار ﻛﺎن أول ﺳﺆال أﺳﺄﻟﻪ» :ﻫﻞ ﺟﺎء إﱄ ﱠ ﺧﻄﺎب؟«
ﻧﻈﺮت إﱃ ﺧﻂ اﻟﻌﻨﻮان ﰲ ﻟﻬﻔﺔ ،ﻓﺈذا ﻛﺎن ﻣﻦ ﻋﻨﺪ أﺧﺘﻲ ذﻫﺒﺖ إﱃ ُ ُ
وﺟﺪت ﺧﻄﺎﺑًﺎ ﻓﺈذا
ﻟﻌﲇ أﺟﺪ ﻓﻴﻪ ﻛﻠﻤﺔ ﺗُﺸري إﱃ ﻣﻨﻰ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﰲ أﻛﺜﺮ اﻷﺣﻮال ﻧﺎﺣﻴﺔ وﺗﻔ ﱠﺮﻏﺖ ﻟﻘﺮاءﺗﻪ ﱢ
أﻃﻮي اﻟﺨﻄﺎب ﺧﺎﺋﺒًﺎ؛ ﻷن أﺧﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻜﺘﺐ ﱄ ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء ﺗﺎﻓﻪ ،وﻻ ﺗﻜﺘﺐ ﱄ ﻋﻦ ﻣﻨﻰ
ﺗﺄﺧﺮت ﻣﺪة ﻳﻮﻣني اﺛﻨَني ﰲ اﻟﺮد ﻋﲆ أﺧﺘﻲ ،ﻛﺎن ﻗﺼﺪي ﻣﻦ ذﻟﻚ أن ﻛﻠﻤﺔ ،وﻻ أذﻛﺮ أﻧﻲ ﱠ
ﻛﻨﺖ ﻟﻢ أُﺣﺪﱢد ﺑﺎﻟﺬات
أﺟﻌﻠﻬﺎ ﺗﻜﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ إﱄ ﱠ ﻟﻌﻠﻬﺎ ﺗﻘﻮل ﱄ اﻟﴚء اﻟﺬي أﻧﺘﻈﺮه ،وإن ُ
ﻫﺬا اﻟﴚء اﻟﺬي أﻧﺘﻈﺮه ،ﻛﺎن ﰲ ذﻫﻨﻲ ﺳﺆال واﺣﺪ ﻛﺒري ﻏري ﻣﺤﺪﱠد ،وﻫﻮ أﻧﻲ ﺗﺮﻛﺖ دﻣﻨﻬﻮر
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﺑﻐري أن أﻟﻘﺎﻫﺎ أو أﺑﻌﺚ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻜﻠﻤﺔ ،ﺑﻌﺪ أن ﻣﺰﻗﺖ اﻟﻮﺛﻴﻘﺔ اﻟﺨﻄرية اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﻳﺪ ﺣﻤﺎدة
اﻷﺻﻔﺮ ،ﻓﻼ أﻋﺮف إن ﻛﺎﻧﺖ اﻷﻣﻮر ﻗﺪ ﺗﻄﻮرت أو اﺳﺘﻘ ﱠﺮت ﻋﲆ ﺻﻮرة ﻣﻦ اﻟﺼﻮر ،ﻓﻬﻞ
ﺪت ٍّ
ﺣﻘﺎ ﺣﻘﺎ ﻛﻤﺎ وﺻﻔﻨﻲ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ أﺣﻤﻖ ﻣﺜﻞ دون ﻛﻴﺸﻮت؟ ﻫﻞ ﻣﻬﱠ ُ ﻛﻨﺖ ٍُّ
ملﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ أن ﻳﺼري زوﺟﺎ ملﻨﻰ؟ وﻣﺎ اﻟﺬي ﻣﻨﻌﻨﻲ ﻣﻦ أن أذﻫﺐ إﻟﻴﻬﺎ ﻗﺒﻞ ﺳﻔﺮي ﻷﻗﻮل
ﻣﺰﻗﺖ اﻟﻮﺛﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﺸﺎﻫﺎ ﺛﻢ أﺟﻬﺮ ﻟﻬﺎ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻧﻔﴘ وأﻋﱰف ﻟﻬﺎ وملﻦ ُ ﻟﻬﺎ :إﻧﻲ
ﻳﺤﻴﻂ ﺑﻬﺎ وﺑﻲ ﺑﺄﻧﻲ أﺣﺒﻬﺎ وﻻ أﻋﻴﺶ إﻻ ﻣﻦ أﺟﻠﻬﺎ؟ ﻣﺎ اﻟﺬي ﺣﻤﻠﻨﻲ ﻋﲆ اﻟﺘﺴ ﱡﻠﻞ ﻫﻜﺬا ﻣﻦ
دﻣﻨﻬﻮر ﺑﻐري أن أﻧﺼﻒ ﻧﻔﴘ ،وﺗﺮﻛﺖ اﻷﻣﻮر ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺗﺠﺮي ﰲ ﻣﺠﺮاﻫﺎ؟ أﻛﻨﺖ أﺧﴙ أن
ﺗﺴﺨﺮ ﻣﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻓﴤ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﺐ اﻟﺬي أﺣﻤﻠﻪ ﻟﻬﺎ؟ أم ﻛﻨﺖ أﺧﴙ أن ﻳﺴﺨﺮ اﻟﻨﺎس ﻣﻨﱢﻲ
ﻛﻨﺖ ﺟﻬﺮت ﻟﻬﺎ وﻟﻠﻨﺎس وﺗﺮﻛﺘُﻬﻢ ﻳﺴﺨﺮون وﻳﺘﻬﻤﻮا اﻟﺪواﻓﻊ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻓﻌﻨﻲ؟ وﻣﺎذا ﻋﲇ ﱠ ﻟﻮ ُ
ﺑﻲ ﻛﻤﺎ ﻳﺸﺎءون؟ ﻋﲆ أن اﻟﺪﻧﻴﺎ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻮﱄ ﻟﻢ ﺗﻌﺒﺄ ﺑﻀﻴﻘﻲ وﻻ ﺑﻘﻠﻘﻲ ،وﻛﺎن ﻛﻞ ﳾء
ﻳﺴري ﰲ ﻣﺠﺮاه ﻣﺜﻞ اﻵﻟﺔ اﻟﻀﺨﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻘﻒ إذا اﻋﱰﺿﻬﺎ ﺑﺎﺋﺲ ﻣﺴﻜني ،ﻓﺤﻄﻤﺘْﻪ ﰲ
ﺳﺒﻴﻠﻬﺎ ،ﻛﺎﻧﺖ ﺟﺮﻳﺪة »ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار« ﺗﻈﻬﺮ ﻛﻞ ﻳﻮم ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻋﲆ ﻋﺎدﺗﻬﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ املﺠﺎﻣﻊ
ﻀﻄﺮب ﻓﻴﻤﺎ ﺣﻮﱄ وﺗﻐﻤ ُﺮﻧﻲ ﰲ ﺿﺠﱠ ﺘﻬﺎ ﺑﻤﺎ أﻧﻄﻮي ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﻘﻠﻖ ِ واملﺼﺎﻟﺢ واﻷﺣﺰاب ﺗَ
واﻟﺤرية ﻛﻤﺎ ﺗﻐﻤﺮ اﻟﺪواﻣﺔ اﻟﺸﺪﻳﺪة ﺣﴩة ﻏﺮﻳﻘﺔ.
ُ
وﺟﺪت املﺼﺒﺎح اﻟﻀﺌﻴﻞ ﻳﺴﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ﰲ اﻟﺪﻫﻠﻴﺰ املﻈﻠﻢ، ُ
ﻋﺪت إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ﰲ املﺴﺎء ﻓﺈذا
ﺛﻢ أدﺧﻞ إﱃ اﻟﻔﻨﺎء اﻟﺮﻃﺐ وأملﺢ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ورﻓﺎﻗﻪ ﺑﻌﺪ
اﻟﻌﻮدة ﻣﻦ اﻟﺪﻛﺎن ﻟﻴﺘﻤﻮا اﻟﺴﻬﺮة وﻫﻢ ﺳﻌﺪاء ﺑﺎﻟﻨﺴﻴﺎن ،ﺛﻢ أﺻﻌﺪ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﻷﺧﻠﻮ ﻣﻊ
ﻛﺘﺒﻲ وﻗﻠﻤﻲ وﻫﻮاﺟﴘ.
وﻣﻤﺎ زادﻧﻲ ﺷﻌﻮ ًرا ﺑﺎﻟﻀﻴﻖ أﻧﻨﻲ أﺻﺒﺤﺖ ﻣُﻀﻄ ٍّﺮا ﻟﺨﺪﻣﺔ ﻧﻔﴘ ﺑﻌﺪ أن ﻏﻀﺒﺖ
ﻓﻄﻮﻣﺔ ﻣﻨﱢﻲ ﻋﻘﺐ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ذﻫﺒﺖ ﻓﻴﻬﺎ إﱃ ﺣﻔﻠﺔ اﺳﺘﻘﺒﺎل اﻷﻣري اﻟﴩﻗﻲ ﰲ ﻗﴫ
اﻟﻮﺟﻴﻪ ﺣﺴﺎم اﻟﺪﻳﻦ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ اﻣﺘﻨﻌﺖ ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻋﻦ ﺗﺮﺗﻴﺐ ﻏﺮﻓﺘﻲ وإﻋﺪاد إﻓﻄﺎري وﻏﺴﻞ
ﻣﻨﺎدﻳﲇ وﻣﻼﺑﴘ ،وﻛﻨﺖ ﻟﻬﺬا ﻣﻀﻄ ٍّﺮا إﱃ أن أﻋﻤﻞ ﺑﻴﺪي ﻛﻞ ﻣﺎ أﺣﺘﺎج إﻟﻴﻪ أو أﺑﺤﺚ ﻋﻤﻦ
ﺮت ﰲ اﻻﻧﺘﻘﺎل إﱃ ﻣﺴﻜﻦ ﺟﺪﻳﺪ،ﻳﻘﻮم ﱄ ﺑﻌﻤﻠﻪ ،وﻛﺎن ذﻟﻚ ﻳﺤريﻧﻲ وﻳﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﺿﻴﻘﻲ ،وﻓ ﱠﻜ ُ
وﻟﻜﻦ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻮﻟﺖ ﻋﲇ ﺟﻌﻠﺘﻨﻲ ﻻ أﻗﺪر ﻋﲆ ﺗﺮﻛﻴﺰ أﻓﻜﺎري ﰲ أﻣﺮ ﻣﻦ
ﻣﻀﺖ اﻷﺷﻬﺮ ﺑﻲ ﺣﺘﻰ اﺷﺘﺪ ﻓﺼﻞ اﻟﺼﻴﻒ ﺑﺤ ﱢﺮه اﻷﻣﻮر أو ﺟﻤﻊ إرادﺗﻲ ﻟﺘﻨﻔﻴﺬه ،وﻫﻜﺬا َ
وﺑﺤﻮادﺛﻪ اﻟﻜﺜرية اﻟﺘﻲ ﺑﻌﺜﺖ إﱃ اﻟﺠﻮ اﻟﺴﻴﺎﳼ ﺣﺮارة أﺷﺪ ﻣﻦ ﺣﺮ اﻟﺼﻴﻒ ،وزاد ﻧﺼﻴﺒﻲ
ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ ﻓﺼﺎر اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻳُﻜﻠﻔﻨﻲ ﺑﺄﻋﻤﺎل ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﻠﻤﺎ ﺟﺪﱠت ﻓﻀﻴﺤﺔ ﻣﻦ
اﻟﻔﻀﺎﺋﺢ املﺘﻌﺪدة اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻮاﱃ أﺳﺒﻮﻋً ﺎ ﺑﻌﺪ أﺳﺒﻮع؛ ﻓﻀﻴﺤﺔ اﻟﻘﻄﻦ وﻓﻀﻴﺤﺔ ﺗﺠﺎرة
174
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ
املﺨﺪرات وﻓﻀﻴﺤﺔ اﻟﺮاﻗﺼﺔ اﻟﺘﻲ رﻓﻌﺖ رأس رﺋﻴﺲ وزراء ﻣﴫ ﻋﺎﻟﻴًﺎ ﰲ ﻣَ ﺤﺎﻓﻞ أوروﺑﺎ
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﺮﺿﺖ رﻗﺼﺎﺗﻬﺎ املﺒﺘﺬﻟﺔ ﰲ ﻣﻮاﺧريﻫﺎ ،وﺟﺰﻳﺮة ﻛﺎﺑﺮي اﻟﺘﻲ ﺻﺎرت ﺑﻘﻌﺔ ﻣﻘﺪﱠﺳﺔ
ُﻈﻬﺮ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ أﻧﻪ آﻣﻮن املﻌﺒﻮد اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﻳَﺮﻛﻊ ﻟﻪ ﺷﻌﺐ ﻣﻦ ﻣﻨﺬ ﺣﻞ ﺑﻬﺎ املﻠﻚ اﻟﺨﻠﻴﻊ ﻟﻴ ِ
اﻟﻌﺒﻴﺪ ،ﻓﻜﻨﺖ ﰲ ﻛﻞ ﻳﻮم أﻓﺮغ ﺿﻴﻘﻲ وﺣﻨﻘﻲ ﰲ ﻣﻘﺎل ﺗﺤﺖ ﻋﻨﻮان» :أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ« ،اﻟﺬي
أﺻﺒﺢ ﻳﻮﻣﻴٍّﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎن أﺳﺒﻮﻋﻴٍّﺎ ،وﻣﻦ أﺟﻞ ﻫﺬا ﻛﻨﺖ ﻻ أﻛﺎد أﻓﺮغ ﻣﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﰲ ﻧﻴﺎﺑﺔ
اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﺣﺘﻰ أﺑﺪأ ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻖ آﺧﺮ ،ﺣﺘﻰ ﺳﻤﱠ ﺎﻧﻲ زﻣﻼﺋﻲ أملﻊ ﻧﺠﻮم اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ.
وﻋﺪت ﰲ ﻟﻴﻠﺔ ﻣﺒﻜ ًﺮا إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ﻣﻨﻘﺒﺾ اﻟﺼﺪر ﺑﻌﺪ ﺻﺒﺎح ﻃﻮﻳﻞ ﻗﻀﻴﺘﻪ ﰲ ﻧﻴﺎﺑﺔ ُ
اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ،وﻋﻤﻞ ﻣﺘﺼﻞ ﰲ اﻟﺠﺮﻳﺪة ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ إﱃ ﻏﻴﺎب اﻟﺸﻤﺲ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻟﻴﻠﺔ ﺷﺪﻳﺪة اﻟﺤﺮ
اﺟﺘﻤﻊ ﱄ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻤﺎ ﻳﺰﻳﺪ ﺿﻴﻘﻲ وﻫﻤﻲ ،ﻣﻦ ﺗﻌﺐ اﻟﺠﺴﻢ وﺗﻮﺗﺮ اﻷﻋﺼﺎب وﺧﻴﺒﺔ
اﻟﺮﺟﺎء؛ ﻷﻧﻲ ﻛﻨﺖ أرﺳﻠﺖ إﱃ أﺧﺘﻲ ﺧﻄﺎﺑًﺎ ﻣﻨﺬ أﺳﺒﻮع ﺳﺄﻟﺘﻬﺎ ﻓﻴﻪ ﺑﻐري إﺑﻬﺎم أن ﺗُﺨﱪﻧﻲ
ﻋﻦ أﺣﻮال ﻣﻨﻰ ،ﻓﺠﺎءﻧﻲ اﻟﺮد ﻗﺒﻞ ﺧﺮوﺟﻲ ﻣﻦ دار اﻟﺠﺮﻳﺪة ﻓﻔﺘﺤﺘُﻪ ﰲ ﻟﻬﻔﺔ وﻗﺮأت ﻓﻴﻪ
ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻷﺣﺎدﻳﺚ املﻔﺼﻠﺔ ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء ﺳﻮى ﻣﻨﻰ ،ﻟﻢ ﺗﻜﺘﺐ ﱄ ﻣﻨرية ﻋﻨﻬﺎ إﻻ ﺟﻤﻠﺘني
ﺻﻐريﺗني ﰲ آﺧﺮ اﻟﺨﻄﺎب ﺗﻘﻮل ﻓﻴﻬﻤﺎ أن ﻣﻨﻰ ﺑﺨري ،وﺗﺴﺄل ﻋﻦ ﺻﺤﺘﻲ!
ﻓﺄردت أن أﻓﺮج ﻋﻦ ﻧﻔﴘ ﺑﺠﻠﺴﺔ ﻫﺎدﺋﺔ ﺗﺤﺖ اﻟﺴﻤﺎء اﻟﺼﺎﻓﻴﺔ، ُ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻣﻘﻤﺮة
وأﺧﺮﺟﺖ اﻟﻜﺮﳼ اﻟﻄﻮﻳﻞ إﱃ اﻟﺴﻄﺢ ،واﺳﱰﺧﻴﺖ ﰲ ﺟﻠﺴﺘﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺴﺘﻨﺪًا ﺑﺮأﳼ إﱃ ﻇﻬﺮه،
وﺳﺒﺤﺖ ﰲ ﺳﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻴﻈﺔ اﻟﺤﺎملﺔ ،ﻫﻲ ﺑﺨري وﺗﺴﺄل ﻋﻦ ﺻﺤﺘﻲ! ﻫﻜﺬا ﻳﻘﻮل اﻟﻨﺎس إذا
ﺗﻼﻗﻮا ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻋﻔﻮًا» :ﻛﻴﻒ ﺻﺤﺘﻚ؟« ﺛﻢ ﻳَﻨﴫف ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ،ﻫﻜﺬا أﻧﺎ أﺳﺄل
ﻋﻨﻬﺎ وﻫﻲ ﺗﺴﺄل ﻋﻦ ﺻﺤﺘﻲ وﻳﻤﴤ ﻛﻞ ﻣﻨﺎ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ،أﻧﺎ ﻫﻨﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺒﻴﺖ أﻧﺎﺟﻲ ﻫﻤﻮﻣﻲ
وأﺣﺎول أن أﻓﺮج ﻋﻦ ﻧﻔﴘ ﺑﺎﻟﺠﻠﻮس ﺗﺤﺖ اﻟﺴﻤﺎء ﻓﻮق ﺳﻄﺢ ﻣﻨﺰل اﻟﺤﺎج ﻣﺼﻄﻔﻰ ،وﻣﻦ
وراﺋﻲ ﻫﺬه اﻟﻐﺮﻓﺔ املﺴﻜﻴﻨﺔ ،وأﻣﺎ ﻫﻲ ﻓﺘﺴﺄل ﻋﻦ ﺻﺤﺘﻲ وﺗﻤﴤ ﰲ ﺳﺒﻴﻠﻬﺎ ،ﻟﺘﺴﺘﻌ ﱠﺪ ﻟﻴﻮم
اﻟﺰﻓﺎف وﺗُﺠﻬﱢ ﺰ اﻟﺜﻴﺎب واﻷﺛﺎث ﻻﺳﺘﻘﺒﺎل ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ ،ودارت ﰲ داﺧﲇ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻋﻨﻴﻔﺔ
ﺷﺨﺼني ﻣﻨﻔﺼ َﻠني ﻳﺘﻨﺎزﻋﺎن ﰲ ﺣﺪة وﺣﺮارة ،وﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻳﺜري ﻣﻦ َ ﻛﻨﺖ أﻧﻄﻮي ﻋﲆ ﻛﺄﻧﻲ ُ
ﻧﺎﺣﻴﺘﻪ اﻵﻻم ﰲ ﻗﻠﺒﻲ ،ﻛﺄن أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻳُﺨﺠﻠﻨﻲ ﻣﻦ ﻧﻔﴘ؛ ﻷﻧﻲ أﺗﻄﻠﻊ إﱃ أﻣﻮر ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ
ملﺜﲇ أن ﻳﺘﻄ ﱠﻠﻊ إﻟﻴﻬﺎ وﻳﺘﱠﻬﻤﻨﻲ ﰲ ﴏاﺣﺔ أﻧﻨﻲ أُﺷﺒﻪ املﻤﻠﻮك ﰲ اﻷزﻣﺎن اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن
َﺮﻓﺾ وﻳﺘﻬﻤﻨﻲ ﺑﺎﻟﺘﻘﺼري ﰲ ﺣﻖ ﻧﻔﴘ وﺣﻖ ﻳﺘﻄ ﱠﻠﻊ إﱃ اﺑﻨﺔ ﺳﻴﺪه ،وﻛﺎن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻳَﻐﻀﺐ وﻳ ُ
واﺟﻪ ﻣﻮﻗﻔﻲ ﻛﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﺮﺟﻞ اﻟﺤﺮﻣﻨﻰ؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﺗﻘﺪم ﻧﺤﻮ أﻣﻨﻴﺘﻲ ﺟﺮﻳﺌًﺎ ﴏﻳﺤً ﺎ ،وﻟﻢ أ ُ ِ
اﻟﺬي ﻳﺤﱰم ﻧﻔﺴﻪ أن ﻳﻔﻌﻞ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻫﺬه املﺤﺎورة اﻟﺨﺎﻧﻘﺔ أﻧﻨﻲ ﻟﻢ أﺷﻌﺮ ﺑﺄﻧﺲ إﱃ
وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن اﻟﻔﻀﺎء أﺷﺪ ﻇﻠﻤﺔ ﻣﻦ ﺟﺪران اﻟﺠﺤﺮ اﻷﺳﻮد اﻟﺬي ﻋﺮﻓﺘﻪ ﰲ ﺿﻮء اﻟﻘﻤﺮُ ،
175
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻣﺮﻛﺰ دﻣﻨﻬﻮر ،وﻛﻤﺎ ﻳُﻔﻴﻖ اﻟﺤﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﻧﻮﻣﻪ رأﻳﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺗﺼﻌﺪ ﻣﻦ اﻟﺴ ﱠﻠﻢ وﺗﺘﺴﻠﻞ ﰲ ﺿﻮء
ُ
ووﺟﺪت اﻟﻘﻤﺮ إﱃ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺴﻄﺢ ،ﺛﻢ ﺗﻘﻒ ﻫﻨﺎك ﻣﻄﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﺤﺎرة اﻟﻀﻴﻘﺔ،
ﻧﻔﴘ أﻧﻜﻤﺶ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻛﺄﻧﻲ أرﻳﺪ أن أﺧﺘﻔﻲ ،وﺧﻄﺮ ﱄ أن أﻗﻮم ﻣﻦ ﻣﺠﻠﴘ ﻓﺄدﺧﻞ إﱃ
اﻟﻐﺮﻓﺔ وأﻏﻠﻖ ﺑﺎﺑﻬﺎ وراﺋﻲ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﺑﻘﻴﺖ ﺛﺎﺑﺘًﺎ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻛﺄﻧﻲ ﻫﺎﻣﺪ ﻻ أﻗﻮى ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻛﺔ،
وﺑﻘﻴﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ دﻗﻴﻘﺔ أو دﻗﻴﻘﺘني ﺛﻢ ارﺗﺪﱠت ﻣﺘﺠﻬﺔ ﻧﺤﻮي ،وﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴري ﻣﺘﺒﺎﻃﺌﺔ
وﺗﺘﻠﻔﺖ ﺣﻮﻟﻬﺎ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺮاﻧﻲ ،وملﺎ اﻗﱰﺑﺖ ﻣﻨﻲ زاد اﻧﻜﻤﺎﳾ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻟﻢ أﺟﺪ ﺑﺪٍّا ﻣﻦ أن
ﻓﺘﻜﻠﻔﺖ اﻟﺜﺒﺎت وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﻫﺎدﺋًﺎ :ﻣﺴﺎء اﻟﺨري ﻳﺎ ﻓﻄﻮﻣﺔ.
ُ أﻋﱰف ﺑﻮﺟﻮدﻫﺎ،
ﻓﺄﺟﺎﺑﺘْﻨﻲ ﰲ ﻧﻐﻤﺔ ﻋﺎﺑﺴﺔ ﻣﺘﺤﻔﺰة :ﻣﺴﺎء اﻟﺨري ﻳﺎ ﻋﻴﻨﻲ.
ووﻗﻔﺖ أﻣﺎﻣﻲ وﻛﺎن وﺟﻬُ ﻬﺎ ﻣُﺼﻔ ٍّﺮا ﺗﺤﺖ ﺿﻮء اﻟﻘﻤﺮ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﻔﺮة ﺗﺸﺒﻪ ملﻌﺔ َ
اﻟﺜﻮب اﻟﺤﺮﻳﺮي اﻷﻧﻴﻖ ،أﻫﺬه ﻓﺎﻃﻤﺔ؟ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻴﻨﺎﻫﺎ ﺗَﺄﺗِﻠﻘﺎن ﺑﻨﻮر ﺧﺎﻃﻒ ﻣﻦ ﺑني رﻣﻮﺷﻬﺎ
اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ املﻜﺤﻠﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻼﻣﺢ وﺟﻬﻬﺎ ﺗَﻨﻄﻖ ﺑﻌﺎﻃﻔﺔ ﺛﺎﺋﺮة ،ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ أول ﻣﺮة رأﻳﺘﻬﺎ
ﻓﻴﻬﺎ ﰲ ﻣﺜﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻮرة.
ﻛﺎﻧﺖ ﰲ زﻳﻨﺔ ﺛﻘﻴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﲇ ﰲ ﻳﺪﻳﻬﺎ وﰲ أﺻﺎﺑﻌﻬﺎ ،وﻛﺎن ﻗﺮﺻﺎن واﺳﻌﺎن ﻳﺘﺪﻟﻴﺎن
ﻣﻦ أذﻧﻴﻬﺎ إﱃ ﻗﺮب ﻛﺘﻔﻴﻬﺎ …
ﻣﺬﻫﺒﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل ﺗﻮﺣﻲ ﻟﺴﺖ أدري ﻫﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺤﲇ ذﻫﺒﻴﺔ أم ﱠ ُ
ﺑﺄن أﻣﺎﻣﻲ اﻣﺮأة ﺛﺎﺋﺮة ﺗﺘﺤﺪﱠىُ ،
وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﻃﻮل ﻗﺎﻣﺔ وأرﺷﻖ ﻗﻮاﻣً ﺎ ﻣﻦ أﺛﺮ ﻛﻌﺒﻬﺎ
اﻟﻌﺎﱄ وﺛﻮﺑﻬﺎ اﻷﻧﻴﻖ.
ووﻗﻔﺖ أﻣﺎﻣﻲ واﺿﻌﺔ ﻳﺪﻳﻬﺎ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺒَﻲ ﺧﴫﻫﺎ اﻟﺪﻗﻴﻖ ،ﻓﻈﻬﺮت ﺗﻘﺎﺳﻴﻢ ﺟﺴﻤﻬﺎ َ
ﺑﺪﻳﻌﺔ اﻟﺘﻨﺎﺳﻖ ،وأﻣﺎ وﺟﻬﻬﺎ ﻓﻜﺎن ﻳُﺸﺒﻪ زﻫﺮة ﻣﺎردة ﰲ ﻏﺎﺑﺔ اﺳﺘﻮاﺋﻴﺔ ،وملﺎ ردﱠت ﻋﲆ
ﺗﺤﻴﺘﻲ ﻛﺎن ﻋﲆ وﺟﻬﻬﺎ ﳾء ﻳﺸﺒﻪ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺿﺌﻴﻠﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﻗﺮب إﱃ أن ﺗﻜﻮن دﻋﻮة
ﻓﻜﺄن ﻣﻈﻬﺮﻫﺎ ﰲ ﺟﻤﻠﺘﻪ ﻳُﺸﺒﻪ ﻏﺠﺮﻳﺔ ﺣﺴﻨﺎء ﺗُﻤﺴﻚ ﰲ ﻳﺪﻫﺎ ﺧﻨﺠ ًﺮا ،وﺗﻘﻒ ﱠ ﻟﺒﺪء ﻣﻌﺮﻛﺔ،
ﻟﺘﺤﺎﺳﺐ ﻏﺮﻳﻤﻬﺎ اﻟﺬي أﺛﺎر ﻏﻀﺒﻬﺎ.
ﻗﻠﻴﻼ؟ أأﺟﻲء ﻟﻚ ﺑﻜﺮﳼ؟ وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﰲ ﺻﻮت ﺧﺎﻓﺖ :أﻻ ﺗَﺠﻠﺴني ً
وﻫﻤﻤﺖ ﺑﺄن أﻗﻮم ﻷُﺣﴬَ ﻟﻬﺎ ﻛﺮﺳﻴٍّﺎ وﻟﻜﻦ ردﻫﺎ ﻛﺎن ﺣﺎﺳﻤً ﺎ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻫﺰت رأﺳﻬﺎ ﰲ
ﺳﺨﺮﻳﺔ وﻗﺎﻟﺖ :ﻷ ﻣﺮﳼ.
ُ
وﺑﺪأت وﻓﺘﺤﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻣﻦ اﻟﺪﻫﺸﺔ؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﺳﻤﻌﻬﺎ ﺗﻨﻄﻖ ﺑﻤﺜﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻐﻤﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ،
اﻧﻜﻤﺎﺷﺎ وارﺗﺒﺎ ًﻛﺎ ،وﺧﻄﺮ ﱄ أن أﻗﻒ ﺣﺘﻰ ﻻ أﺣﺎدﺛﻬﺎ وأﻧﺎ ﺟﺎﻟﺲ وﻟﻜﻨﱢﻲ ﺗﺮددت وﻟﻢ ً أزﻳﺪ
أﻓﻌﻞ.
176
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ
177
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
أن ﺗﻘﻮل ﱄ ﻛﻴﻒ ﺣﺎﻟﻚ ﻳﺎ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﻳﺎ ﺑﻨﺖ آدم ،ﺗﻈﻦ أن اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﺧﻠﺖ وﻻ أﺟﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ
ﻳﺴﺄل ﻋﻨﻲ؟
وأﺧريًا ﺟﺌﺖ إﱃ ﻫﻨﺎ ووﻗﻔﺖ أﻣﺎﻣﻚ وﻛﴪت ﻋﲆ ﻧﻔﴘ ﺑﺼﻠﺔ ،ﻓﻼ أﺳﻤﻊ ﻣﻨﻚ إﻻ ﻫﺬه
اﻟﻜﻠﻤﺔ؟ ﺗﻘﻮل ﱄ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻣﻘﺼﻮدة؟ ﺣﺘﻰ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻜﻮن ﻋﲆ ﻃﺮف ﻟﺴﺎﻧﻚ وأﻋﺮف أﻧﻬﺎ
ﰲ ﺿﻤريك ،ﻧﻌﻢ أﻋﺮف أﻧﻬﺎ ﰲ ﺿﻤريك ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻻ ﺗﺮﴇ أن ﺗﻨﻄﻖ ﺑﻬﺎ وﺗﺤﺴﺒﻨﻲ ﺑﻠﻬﺎء،
ُﺘﻜﱪ وﻣﻐﺮور ،وﺗُﻘﺎﺑﻠﻨﻲ ﻛﺄﻧﻲ ﺧﺎدﻣﺔ،
ﻛﺬاب وأﻟﻒ ﻣﺮة ﻛﺬاب ،وأﻧﺖ ﺗﻌﺮف أﻧﻚ ﻛﺬاب وﻣ ﱢ
ﻳﺎ ﺟﺎﻣﺪ ﻳﺎ ﺑﺎرد ﻳﺎ ﺛﻘﻴﻞ!
وﻛﻨﺖ أﺳﺘﻤﻊ إﱃ دويﱢ اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ وأﻧﺎ ﺧﺎﺷﻊ ﻻ أﺗﺤﺮك وﻻ أﻧﻄﻖ ،وﻣﻦ اﻟﻌﺠﻴﺐ أﻧﻲ ﻟﻢ
ﻟﻌﲇ ﻛﻨﺖ أﻗﺮب إﱃ اﻻﻏﺘﺒﺎط ،وأردت إﱃ أن أﻫﺪﺋﻬﺎ ﻓﻘﻤﺖ ﻋﻦ اﻟﻜﺮﳼ أﺷﻌﺮ ﺑﺎﻹﻫﺎﻧﺔ ،ﺑﻞ ﱢ
ﺑﺎﺳﻤً ﺎ وﻗﻠﺖ ﰲ ﺑﺴﺎﻃﺔ :أﺷﻜﺮك ﻳﺎ ﻓﻄﻮﻣﺔ ،أإﱃ ﻫﺬا اﻟﺤﺪ ﺗﻜﺮﻫﻴﻨﻨﻲ؟ إﱃ ﻫﺬا اﻟﺤﺪ ﺑﻠﻎ
ﻏﻀﺒُﻚ ﻋﲇﱠ؟ اﻟﺤﻖ ﻋﲇ ﱠ ﻳﺎ ﻓﻄﻮﻣﺔ وأﻧﺎ ِ
آﺳﻒ وأﻗﺮ ﻟﻚ ﺑﺄﻧﻲ ﻣﺨﻄﺊ.
وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻻﻋﺘﺬار ﻟﻢ ﻳُﻬﺪئ ﻏﻀﺒﻬﺎ ،ﺑﻞ زادت ﻗﺴﻮة ﰲ ﺗﻌﺒري وﺟﻬﻬﺎ ،واﺳﺘﻤﺮت
ﺗَﻘﺬﻓﻨﻲ ﺑﻬﺠﻤﺎت أﺷﺪ وأﻋﻨﻒ ﺣﺘﻰ ﺧﺘﻤَ ﺖ ﻗﻮﻟﻬﺎ ﺑﺪﻓﻌﺔ ﻫﺴﺘريﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﻜﺎء ،وﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻮل
ﰲ ﺑﻜﺎﺋﻬﺎ :اﻟﺬﻧﺐ ذﻧﺒﻲ أﻧﺎ ،ﻓﻄﻮﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺗﻲ إﻟﻴﻚ ﻛﻞ ﻳﻮم ﺑﺼﻴﻨﻴﺔ اﻹﻓﻄﺎر وﺗُﻐﻨﱢﻲ ﻟﻚ
وﻧﺠﻠﺲ ﻋﲆ اﻷرض ﻋﻨﺪ رﺟﻠﻴﻚ ،ﻓﻄﻮﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻄﻊ أﺻﺎﺑﻌﻬﺎ ﰲ ﻣﺴﺢ ﻏﺮﻓﺘﻚ وﻏﺴﻞ
ﻣﻼﺑﺴﻚ وﺗﺮﻗﻴﻊ ﺟﻮارﺑﻚ ،ﻓﻄﻮﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﻨﱠﻰ رﺿﺎك وﺗﻌﺮض ﻋﻠﻴﻚ اﻟﺬﻫﺎب ﻟﻠﺴﻨﻤﺎ ،ﻻ
ﺗﺴﺘﺤﻖ أن ﺗﻠﺘﻔﺖ إﻟﻴﻬﺎ ،واﻵن ﻓﻘﻂ ﺗﻌﺘﺬر ﺑﺄﻧﻚ ﻣﺨﻄﺊ وﺗﻘﻮل» :اﻟﺤﻖ ﻋﲇ ﱠ ﻳﺎ ﻓﻄﻮﻣﺔ!«
واﻧﺘﻬﻰ اﻷﻣﺮ ﻛﺄﻧﻲ ﻃﻔﻠﺔ ،ﻛﻠﻤﺔ ﻻ ﺗﻜﻠﻔﻚ أي ﺗﻌﺐ ﺗﻤﻦ ﺑﻬﺎ ﻋﲇ ﱠ ﻛﺄﻧﻲ ﺳﺎﺋﻠﺔ أﻃﻠﺐ ﻣﻨﻚ
اﻹﺣﺴﺎن ،ﻻ ﻳﺎ ﳼ ﺳﻴﺪ ،وﻓﺮ اﻹﺣﺴﺎن ﻟﻐريي ووﻓﺮ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﻟﻔﺘﺎة أﺧﺮى ﺗﻠﻴﻖ ﺑﻤﻘﺎﻣﻚ.
واﻧﴫﻓﺖ ﻣﴪﻋﺔ ﻗﺒﻞ أن أﺗﻤ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺘﻤﺴﻚ ﺑﻬﺎ واﻻﻋﺘﺬار إﻟﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺮﴇ ،وﺗﺮﻛﺘﻨﻲ
ً
ﻣﺨﺒﻮﻻ ،وﺗﺴﻠﻘﺖ ﻋﲆ أﺷﻌﺔ اﻟﻘﻤﺮ. ﺿﺖ ﻟﻪ ﺟﻨﻴﺔ وﺗﺮﻛﺘﻪ ً
واﻗﻔﺎ ﻣﺜﻞ ﺷﺨﺺ ﺗﻌ ﱠﺮ َ
ً
أﺿﻌﺎﻓﺎ ﻣﻤﺎ ﻛﺎن وﻋﺪت إﱃ ﻣﺠﻠﴘ ﻛﺎﺳﻒ اﻟﺒﺎل ﺣﺎﺋ ًﺮا ،وﺟﺜﻢ ﻋﲆ ﺻﺪري ﺿﻴﻖ أﺷﺪ
ﻓﻴﻪ ،وﻏﻤﺮﻧﻲ ﺷﻌﻮر ﺑﺎﻟﺨﺰي ﻛﺄﻧﻲ ارﺗﻜﺒﺖ ﺟﺮﻣً ﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ أﻟﻔﺎظ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺗﺮن ﰲ ﺳﻤﻌﻲ
ﻛﺄﻧﻬﺎ ﴐﺑﺎت ﺳﻮط وﺗﺄﺑﻰ إﻻ أن ﺗﻌﻮد إﱃ ﻛﻠﻤﺎ ﺣﺎوﻟﺖ أن أﺑﻌﺪﻫﺎ ،وﻛﺎن رﻧني ﺿﺤﻜﺘﻬﺎ
اﻟﺴﺎﺧﺮة ﻳﺠﻌﻞ ﻗﻠﺒﻲ ﻳﻐﻮص ﰲ ﺻﺪري ،وﻗﻮﻟﺘﻬﺎ» :ﻛﺬاب!« اﻟﺘﻲ ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﺣﻠﻘﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ
ﻟﺴﺖ أدري ﻛﻴﻒ ﺗﻤﻜﻨﺖ ﻫﺬه اﻟﻔﺘﺎة أن ﺗﻌﺮف ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺪور ﰲ ﻧﻔﴘ ﻋﻨﺪﻣﺎ ُ ﻛﺎﻟﻘﺬﻳﻔﺔ،
ﻫﻤﻤﺖ أن أﻗﻮل ﻟﻬﺎ» :إﻧﻚ ﺳﺎﺣِ ﺮة ﰲ ﻫﺬه اﻟﺰﻳﻨﺔ وﻫﺬا اﻟﺤﻠﻖ اﻟﻜﺒري!« ﻣﻊ أﻧﻲ ﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ
أن أﺟﺪ اﻷﻟﻔﺎظ اﻟﺘﻲ أﻧﻄﻖ ﺑﻬﺎ ،ﻫﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻔﺘﺶ ﰲ أﻋﻤﺎق ﺻﺪري ﺣﺘﻰ ﻋﺮﻓﺖ أﻧﻲ ﺗﻌﻤﺪت
اﻟﻜﺬب واﻟﻬﺮوب ﻣﻦ ﺣُ ﺴﻨِﻬﺎ اﻟﺮاﺋﻊ املﺨﻴﻒ؟
178
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ
وأﺧﺬت أﻟﻮم ﻧﻔﴘ ﻋﲆ اﻟﺮﻫﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺷ ﱠﻠﺖ ﺣﺮﻛﺘﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﻗﻊ ﻧﻈﺮي ﻋﻠﻴﻬﺎ ،ﻓﻬﻞ ﻛﺎن
ﻳﻨﺒﻐﻲ ﱄ أن أﻧﻜﻤﺶ ﻫﻜﺬا ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺘﻬﺎ؟ ﻣﺎذا ﺟﻌﻠﻨﻲ أﻧﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﺄﺧﻮذًا ﻛﻤﺎ ﻳﻨﻈﺮ اﻟﺼﻮﰲ
املﺘﻌﺒﱢﺪ إﱃ ﻛﺄس ﻣﻦ اﻟﴩاب املﺜ ﱠﻠﺞ وﻫﻮ ﺻﺎﺋﻢ ﰲ ﻳﻮم ﺻﺎﺋﻒ؟ اﻟﺼﻮﰲ ﻳﺘﺤﻤﱠ ﻞ اﻟﻌﻄﺶ
واﻟﺤﺮ وﻳﺮﻓﺾ اﻟﻜﺄس اﻟﺤﻠﻮة املﺜ ﱠﻠﺠﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺠﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻴﺶ ﻣﻦ أﺟﻠﻬﺎ ،وأﻣﺎ أﻧﺎ ﻓﻠﻢ
ﺗﻜﻦ ﱄ ﺟﻨﺔ أﻋﻴﺶ ﻣﻦ أﺟﻠﻬﺎ!
ﻟﻢ أﻛﻦ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺑﺎﺋﺲ ﻳَﺴﺘﻌﺒﺪ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻌﺒﻮدﻳﺔ ،وﻳُﺸﻘﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ أﺟﻞ
اﻟﺸﻘﺎء وﻻ ﻳﺮﺟﻮ ﻣﻦ وراء ذﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﺟﺰاءً.
وﺳﻨﺢ ﱄ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺣريﺗﻲ وﺣﻨﻘﻲ ﺧﺎﻃﺮ ﻛﺄﻧﻪ ﺻﻮت ﻳ ِ
َﻬﻤﺲ ﰲ أذﻧﻲ ﻣﱰ ﱢددًا ﺧﻴﻔﺔ أن
ﺷﻘﺔ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﻓﺄﻗﻒ ﻋﻨﺪ ﺑﺎﺑﻬﺎ أرﺟﻮﻫﺎ ﻳﺴﻤﻌﻪ أﺣﺪ ﻏريي ،ﺧﻄﺮ ﱄ أن أﻧﺰل ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺘﻲ إﱃ ﱠ
وأﺳﺘﺴﻤﺤﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺮﴇ ﻋﻨﻲ ،وﻧﻈﺮت إﱃ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻓﻮﺟﺪﺗُﻬﺎ اﻟﻌﺎﴍة إﻻ رﺑﻌً ﺎ وﻛﺎﻧﺖ أﻧﻮار
اﻟﻘﺎﻫﺮة ﺗﺘﺼﺎﻋﺪ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﺻﺎﺧﺒﺔ ﺣﺎرة.
ﻧﻌﻢ ﻓﻤﺎ ﻳﺰال اﻟﻮﻗﺖ ﻣُﻨﺎﺳﺒًﺎ واﻟﻨﺎس ﻻ ﻳﻨﺎﻣﻮن ﰲ اﻟﺼﻴﻒ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ ،وﻟﻜﻨﻲ
ُﻘﺼﺪ ﻣﻦ وراﺋﻬﺎ ﻟﻢ أﺗﺤ ﱠﺮك ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻛﺄن ذﻟﻚ اﻟﺨﺎﻃﺮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺳﻮى ﻓﻜﺮة ﻣﺠﺮدة ﻻ ﻳ َ
أﻧﻔﺬ ﻋﺰﻣﻲ ﻋﲆ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ ﻫﺬا املﺴﻜﻦ ﻣﻊ أﻧﻲ و ﱠﻛ ُ
ﺪت ﻋﻤﻞ ،وأﺧﺬت أﺳﺄل ﻧﻔﴘ ملﺎذا ﻟﻢ ﱢ
ﻠﺖ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﻫﺬه املﺴﻜﻴﻨﺔ ﻣﻊ ﻛﻞ ذﻟﻚ اﻟﻌﺰم ﰲ ﺿﻤريي ﻣﺮة ﺑﻌﺪ ﻣﺮة ،وملﺎذا ﺗﺤﻤﱠ ُ
ﻣﺎ ﻋﺎﻧﻴﺘﻪ ﻣﻦ املﺸﻘﺔ ﰲ ﺧﺪﻣﺔ ﻧﻔﴘ ﺑﻌﺪ اﻧﻘﻄﺎع ﻓﻄﻮﻣﺔ ﻋﻨﻲ؟ وﻟﺴﺖ أﺣﺐ أن أُﺧﻔﻲ أﻧﻨﻲ
أﺧﺬت أﺗﺒني ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ أن أﻛﺎﺑﺮ ﻓﻴﻬﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻇﻬﺮت ﱄ واﺿﺤﺔ ﺑﻌﺪ أن
ﻛﺎﻧﺖ ﺧﺎﻓﻴﺔ ﻋﻨﻲ ﰲ املﺴﺎرب اﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ﻣﻦ ﻧﻔﴘ ،وﻫﻜﺬا ﻧﺤﻦ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻻ ﻧﻌﺮف ﻣﻦ أﻧﻔﺴﻨﺎ
إﻻ ﻣﺎ ﻧُﺮﻳﺪ أن ﻧﻌﺮف ،ﺣﺘﻰ ﱠ
ﺗﺘﺒني ﻟﻨﺎ ﻓﺠﺄة ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺎ ﻧَﺠﻬﻠﻬﺎ إذا أﺛﺎرﺗﻬﺎ
ﻫﺰة ﻗﻮﻳﺔ ﻣﻦ أﻋﻤﺎﻗﻨﺎ ،واﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻨﺎ ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺘﺨﲆ ﻋﻦ املﻜﺎﺑﺮة وﻳﻘ ﱡﺮ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ
ً
ﻣﺘﻌﻠﻘﺎ ﺑﻬﺬه اﻟﻔﺘﺎة اﻟﺠﺎﻫﻠﺔ ﻛﺎن ﻳﺠﻬﻠﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﱄ ﺑﺪ ﻣﻦ أن أﻋﱰف ﺑﺄﻧﻲ ﻛﻨﺖ
اﻟﺤﻤﻘﺎء اﻟﻮﺣﺸﻴﺔ اﻟﺴﺨﻴﻔﺔ ،ﻛﻨﺖ أﺗﻌﻠﻖ ﺑﻬﺎ ﺑﺠﺎﻧﺐ واﺣﺪ ﻣﻦ ﻃﺒﻌﻲ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺧﺮ
ﻛﺎن ﻳَﻌﺮف أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗُﺨ َﻠﻖ ﱄ وﻟﻢ أﺧﻠﻖ ﻟﻬﺎ.
ﻛﻨﺖ أﺗﺪاري وراء ﻓﻜﺮة اﻟﻌﻄﻒ ﻋﻠﻴﻬﺎ أو اﻟﺮﺛﺎء ﻟﻬﺎ أو اﻹﺣﺴﺎن إﻟﻴﻬﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻛﻞ ﻫﺬه
املﻈﺎﻫﺮ ﺗُﺨﻔﻲ ﻋﻨﱢﻲ ﻣﺎ ﺗﺤﺘﻬﺎ ،وﻫﻮ أﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﻣ ً
ُﺘﻌﻠﻘﺎ ﺑﻬﺎ ﺗﻌﻠﻖ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺒﺎﱄ اﻟﻌﻘﻞ
ﰲ ﺗﴫﻓﻬﺎ.
ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻓﻘﻂ ﻋﺮﻓﺖ ﻛﻴﻒ أُﻓ ﱢﺮق ﺑني اﻟﺤﺐ واملﻴﻞ اﻟﻐﺮﻳﺰي ،ﺑني اﻟﻄﺒﻊ اﻟﺬي ﻳﺨﺘﺎر
واﻟﻄﺒﻊ اﻟﺬي ﻳَﻨﺠﺬِب ،ﺑني أﻓﻖ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻤﻊ اﻟﻜﻞ إﱃ اﻟﻜﻞ أﺑﺪ اﻟﺪﻫﺮ وﺑني أﻓﻖ
179
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺪﻧﻴﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻓﻊ اﻟﺒﻌﺾ إﱃ اﻟﺒﻌﺾ ﻣﺎ ﺑﻘﻴَﺖ اﻟﺪﻓﻌﺔ ،ﺑني اﻟﺴﻼم اﻟﺬي ﻳﴪي ﺑني
روﺣني ﻋﻨﺪ اﻟﺘﻘﺎء ﻧﺼﻔني ﺷﻘﻴﻘني وﺑني اﻻﺿﻄﺮاب واﻟﻘﻠﻖ اﻟﺬي ﻳُﻔﴤ إﻟﻴﻪ ﺗﺪوال اﻟﺘﺠﺎذب
ﻋﺮﻓﺖ ﻛﻴﻒ أُﻓ ﱢﺮق ﺑني ﻓﻄﻮﻣﺔ وﻣﻨﻰ،
ُ َ
ﻣﺘﻮاﻓﻘني ،ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻓﻘﻂ واﻟﺘﻨﺎﻓﺮ ﺑني ﻃﺮﻓني ﻏري
ﻛﻨﺖ ﻣ ً
ُﺘﻌﻠﻘﺎ ﺑﻬﺎ وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﻛﻨﺖ أﻧﺠﺬب إﱃ ﻓﻄﻮﻣﺔ وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻛﻨﺖ أﺧﺸﺎﻫﺎ وأﻧﻔﺮ ﻣﻨﻬﺎُ ،
ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻋﻴﻨﻪ أﻧﻜﻤﺶ ﻋﻨﻬﺎ وأرﻫﺐ ﺻﻠﺘﻲ ﺑﻬﺎ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ أﻧﺜﻰ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺣﺒﻴﺒﺔ،
وﻣﺎ أﺷﺪ ﺧﻄﺄ ﻣﻦ ﻳَﺨﻠﻄﻮن ﺑني اﻟﺘﻌﻠﻖ وﺑني املﺤﺒﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ!
وﻗﻤﺖ ﻣﻦ ﻣﺠﻠﴘ ﻓﺪﺧﻠﺖ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ وﺑﺪأت أﺧﻠﻊ ﻣﻼﺑﴘ ﻷﺳﺘﻌﺪ ﻟﻠﻨﻮم اﻟﺬي ﻃﺎوع ُ
ﺧﺮج ﻣﺎ ﰲ ﺟﻴﻮﺑﻲ ﻣﻦ اﻷوراق ﺟﻔﻨﻲ ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎن ﻧﺎﻓ ًﺮا ﻋﻨﻬﻤﺎ ،وﻛﺎن ﻣﻦ ﻋﺎدﺗﻲ أن أ ُ ِ
ﱠ
ﻷﺿﻌﻬﺎ ﰲ ﻃﺮﺑﻮﳾ ﻗﺒﻞ أن أﻧﺎم ،ﻓﻠﻤﺎ أﺧﺮﺟﺘُﻬﺎ رأﻳﺖ ﺑﻴﻨﻬﺎ اﻟﺼﺤﻴﻔﺔ اﻟﺰرﻗﺎء اﻟﺘﻲ ﺟﺎءﺗﻨﻲ
ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻣﻦ أﺧﺘﻲ ،ﻓﺠﻠﺴﺖ أﻗﺮؤﻫﺎ ﻣﺮة أﺧﺮى وأﻧﺎ أﻫﺪأ َ ﻣﻤﺎ ﻛﻨﺖ ﰲ املﺴﺎء ،وﻛﺎن ﻋﺠﺒﻲ
ﺷﺪﻳﺪًا ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺻﻠﺖ إﱃ آﺧﺮ اﻟﺨﻄﺎب ،وﻗﺮأت اﻟﺤﺎﺷﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﺘﻬﺎ ﻣﻨرية؛ ﻓﻘﺪ ﻇﻬﺮ ﱄ أن
ﻟﻠﺤﺎﺷﻴﺔ ﺑﻘﻴﺔ ﻋﲆ ﻇﻬﺮ اﻟﺼﻔﺤﺔ ،واﻟﻌﺒﺎرة اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻫﻲ» :وأﻣﺎ ﻣﻨﻰ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺑﺨري وﺗُﺴ ﱢﻠﻢ ﻋﻠﻴﻚ
وﺗﺴﺄل ﻋﻦ ﺻﺤﺘﻚ وﺑﻬﺬه املﻨﺎﺳﺒﺔ أﻗﻮل ﻟﻚ إن أﻣﻲ ﻛﻠﻔﺘﻨﻲ أن أﻛﺘﺐ إﻟﻴﻚ ﻫﺬا اﻟﺨﻄﺎب
ﻣﺴﺘﻌﺠﻼ ﻷرﺟﻮك أن ﺗﺤﴬ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر وﻟﻮ ﻳﻮﻣً ﺎ واﺣﺪًا ﻟﺘﻘﻮل ﻟﻚ ﺷﻴﺌًﺎ ﻫﺎﻣٍّ ﺎ!«
ً
ً
ﻣﺴﺘﻌﺠﻼ وﻛﻨﺖ ﻗﺪ رﻣﻴﺖ ﺑﺎﻟﻈﺮف ﰲ ﺳﻠﺔ اﻷوراق املﻬﻤﻠﺔ ﺑﻤﻜﺘﺒﻲ ،وﻟﻢ أﻻﺣﻆ أﻧﻪ ﻛﺎن
ملﺎ ﻛﻨﺖ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺐ ،ﻓﻤﺎ ﻛﺪت أﻗﺮأ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻫﺎﺟﺖ ﻣَ ﺨﺎوﰲ وﺗﺤﻔﺰت ﻛﻞ ﻣﺸﺎﻋﺮي
وﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ :ﺷﻴﺌًﺎ ﻫﺎﻣٍّ ﺎ! ﻻ ﺷﻚ أﻧﻪ ﻳﺘﺼﻞ ﺑﻤﻨﻰ ،وﻣﺎذا ﻳﻜﻮن ﻳﺎ ﺗﺮى؟ وﺑﻐري أن أﻗﻒ
ﻟﻠﺘﻔﻜري ﻟﺤﻈﺔ ﻧﻈﺮت ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ وﻛﺎﻧﺖ ﻗﺪ ﺑﻠﻐﺖ اﻟﺤﺎدﻳﺔ ﻋﴩة إﻻ رﺑﻌً ﺎ.
ﻓﺎﻟﻘﻄﺎر اﻟﺼﻌﻴﺪي ﻣﺎ ﻳﺰال ﻳﻨﺘﻈﺮ ﻋﲆ اﻟﺮﺻﻴﻒ ،وأﺳﺘﻄﻴﻊ أن أدرﻛﻪ إذا ﺑﺎدرت ﺑﺎﻟﺴري
ﻛﻨﺖ ﺧﺎرج اﻟﺒﺎب وﺟﺮﻳﺖ إﱃ اﻟﺸﺎرع ﻷﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﺳﻴﺎرة ﻣﻦ ﻟﺤﻈﺘﻲ ،وﰲ دﻗﻴﻘﺔ واﺣﺪة ُ
أﺟﺮة ،ﻓﻜﻨﺖ ﰲ املﺤﻄﺔ ﻗﺒﻞ ﺳﻔﺮ اﻟﻘﻄﺎر ﺑﺨﻤﺲ دﻗﺎﺋﻖ.
180
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻌﴩون
ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻮدﺗﻲ إﱃ ﻣﻨﺰﻟﻨﺎ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻣﻔﺎﺟﺄة ﺳﺎرة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻓﺘﺤﺖ أﻣﻲ اﻟﺒﺎب ورأﺗﻨﻲ أﻣﺎﻣﻬﺎ،
وﺻﺎﺣﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﺳﻴﺪ؟ ﺻﺒﺎح اﻟﺨري ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﻲ ،ﺻﺒﺎح اﻟﻨﻮر!
وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨرية واﻗﻔﺔ وراءﻫﺎ ﺗﻘﻮل ﰲ ﻣ َﺮح :ﻃﺒﻌً ﺎ ﻳﺎ ﺳﺘﻲ ﻫﻞ اﻟﻬﻼل.
ً
وﺻﺎﻓﺤﺘﻨﻲ ﺑﻌﺪ أن ﺗﺮﻛﺘﻨﻲ أﻣﻲ وﻫﺰت ﻳﺪي ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻫﺎ ﻫﻮ ذا ﻟﻢ ﻳﻨﻘﺺ ﺷﻴﺌﺎ ﻳﺎ أﻣﻲ،
أﺗﺪري ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻧﻬﺎ ﺣﻠﻤَ ﺖ ﺑﺎﻷﻣﺲ أﻧﻬﺎ رأت اﻟﻬﻼل ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻬﺎ ﻣﺜﻞ ﺧﻴﻂ رﻓﻴﻊ ﻓﺎﻋﺘﻘﺪت أﻧﻚ
ﻣﺮﻳﺾ؟ اﻟﺤﻤﺪ هلل ﻋﲆ اﻟﺴﻼﻣﺔ!
وأﺧﺬت أﻣﻲ ﺗﺪﻋﻮ ﱄ وﻧﺤﻦ ﺻﺎﻋﺪُون ﰲ اﻟﺴﻠﻢ ،واﺳﺘﻤﺮت ﻣﻨرية ﺗﺘﺤﺪث ﻣﻦ وراﺋﻨﺎ
ﻗﺎﺋﻠﺔ :أﺗﻌﺮف ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﻣﻦ ﻛﺎن ﻋﻨﺪﻧﺎ أﻣﺲ؟ أﻻ ﺗَﺬ ُﻛﺮ ﻋﻤﱠ ﺘﻨﺎ »ﺑﻬﺎﻧﺔ«؟ ﻟﻢ أﻛﻦ أﻋﺮف أﻧﻬﺎ
ﻇﺮﻳﻔﺔ ﻫﻜﺬا ،وﻋﻤﻲ ﻣﺤﻤﻮد وأوﻻدﻫﻢ ﻋﻤﺮ وﺳﻴﺪ وﺣﻠﻴﻤﺔ.
وﻗﺎﻟﺖ أﻣﻲ :اﺳﻢ ﷲ ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻴﺪ ،ﻋﺎﺷﺖ اﻷﺳﺎﻣﻲ ،اﻟﺨﺎﻟﻖ اﻟﻨﺎﻃﻖ ﻫﻮ ﺳﻴﺪ ﺑﻌﻴﻨﻪ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨرية :أﻇﻨﻪ أﺟﻤﻞ ً
ﻗﻠﻴﻼ.
وﻛﻨﺖ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺘﻠﻬﻒ إﱃ ﺳﻤﺎع أﺧﺒﺎر ﻣﻨﻰ، ُ وﺿﺤﻜﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ودﺧﻠﻨﺎ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ اﻟﺠﻠﻮس
وﻟﻜﻦ ﻣﻨرية اﺳﺘﻤﺮت ﰲ وﺻﻒ ﻋﻤﺘﻬﺎ وأوﻻدﻫﺎ وزوﺟﻬﺎ اﻟﺴﻤني اﻟﺬي أﺻﺒﺢ ﻏﻨﻴٍّﺎ ﻳﺬﻫﺐ إﱃ
اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﰲ اﻟﺼﻴﻒ.
وﻗﻠﺖ ﻷوﺟﱢ ﻪ اﻟﺤﺪﻳﺚ إﱃ ﻣﻨﻰ :وﺻﻠﻨﻲ اﻟﺨﻄﺎب ﺑﺎﻷﻣﺲ وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻗﺮأه إﻻ ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ
اﻟﺤﺎدﻳﺔ ﻋﴩة إﻻ رﺑﻌً ﺎ؛ وﻟﻬﺬا أﺧﺬت اﻟﻘﻄﺎر »اﻟﺼﻌﻴﺪي« ﻷﻛﻮن ﻫﻨﺎ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح.
ﻓﺼﺎﺣﺖ أﻣﻲ :اﻟﺼﻌﻴﺪي! اﻟﺤﻖ ﻋﲇ ﱠ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ،ﻃﺒﻌً ﺎ اﻧﺸﻐﻞ ﺑﺎﻟﻚ ﻋﻠﻴﻨﺎ.
ﻓﻌﺎدت ﻣﻨرية ﺗﻘﻮل :اﻟﺤﻤﺪ هلل ﻋﲆ اﻟﺴﻼﻣﺔ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ،أﻇﻨﻬﺎ ﻓﺮﺻﺔ ﻃﻴﺒﺔ ﻟﻠﺬﻫﺎب إﱃ
اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﺑﻀﻌﺔ أﻳﺎم» .ﻓﻴﻼ ﻛﻮﻟﻮﻧﺎ« ﻣﺤﻄﺔ ﻓﻠﻤﻨﺞ أول ﺷﺎرع ﻋﲆ اﻟﻴﻤني ،ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻌﻨﻮان
اﻟﺬي ﺗﺮﻛﺘﻪ ﻋﻤﺘﻲ ﺣﺘﻰ ﻧُﺠﻴﺐ دﻋﻮﺗﻬﺎ ،اﺣﻔﻆ اﻟﻌﻨﻮان ﻣﻦ ﻓﻀﻠﻚ.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺮﻳﺪ أن ﺗﻤﴤ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻬﺎ وﻟﻜﻨﻲ ﻗﻠﺖ ﻣﺨﺘﴫًا :ﻣﺎذا ﺣﺪث ملﻨﻰ؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ أﻣﻲ :ﻣﻨﻰ؟ ﻫﻲ ﺑﺨري ﻳﺎ اﺑﻨﻲ! ﻣﺎ ﻟﻬﺎ ﻣﻨﻰ؟
ﻓﻘﻠﺖ :أﻟﻢ ﺗَﻜﺘُﺐ ﱄ ﻣﻨرية أن أﺣﴬ ﻷﻣﺮ ﻫﺎم ﻳﺘﺼﻞ ﺑﻬﺎ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨرية :ﻟﻢ أﻗﻞ إﻧﻪ ﻳﺘﱠﺼﻞ ﺑﻤﻨﻰ ﻳﺎ ﺣﴬة ،ﻻ ﺑﺄس ﻋﲆ اﻟﺬاﻛﺮة!
ﻓﺒﻠﻌﺖ رﻳﻘﻲ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎذا ﺣﺪث إذن؟
ﺣﻘﺎ أن ﻣﻨرية ﻟﻢ ﺗَ ُﻘﻞ إن اﻷﻣﺮ ﻳﺘﺼﻞ ﺑﻤﻨﻰ. وﺗﺬﻛﺮت ٍّ
وﻗﺎﻟﺖ أﻣﻲ :ﻛﻨﺖ ﻣﻦ أﺳﺒﻮع ﻫﻨﺎك ،ﻣﺴﻜﻴﻨﺔ اﻟﺴﺖ ﻧﻮر ،ﻣﻦ ﻳﻮم رﺣﻤﺔ املﺮﺣﻮم وﻫﻲ
داﺋﻤً ﺎ ﺑﺨري ،وﺟﺎءت ﻣﻨﻰ إﱃ ﺟﻨﺒﻲ :ﷲ ﻳﺤﻤﻴﻬﺎ وأﻓﺮح ﻟﻚ ﺑﻌﺮوس ﻣﺜﻠﻬﺎ! واﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺳﻤﻌﺖ
اﻟﺴﺖ ﻧﻮر ﺗﺸﺘﻜﻲ ﻣﻦ دﻓﻊ ﻋﴩة آﻻف ﺟﻨﻴﻪ ﻟﺤﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ.
وﻏﲆ اﻟﺪم ﰲ رأﳼ وﺻﺤﺖ أﻧﺎ اﻵﺧﺮ :ﻋﴩة آﻻف ﺟﻨﻴﻪ!
ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ أﻣﻲ :ﺳﺄﻟﺖ اﻟﺴﺖ ﻧﻮر ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﻓﻘﺎﻟﺖ :إن ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ دﻓﻌﻬﺎ ،ﻃﺒﻌً ﺎ ﻣﻦ
ﻣﺎل املﺮﺣﻮم؛ ﻷﻧﻪ اﻟﺒﺎﺷﺎ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺘﻮﱃ إدارة املﺤﻠﺞ واﻷﻃﻴﺎن ،ﻧﺴﺎﻳﺐ ﻃﺒﻌً ﺎ.
واﻗﻔﺎ ﰲ ﻏﻀﺐ :ﻟﺺ ﻃﺒﻌً ﺎ! أﻟﻢ ﺗَ ُﻘﻮﱄ ﻟﻬﺎ إﻧﻪ ﻟﺺ ،أﻟﻢ ﺗﻘﻮﱄ ﻟﻬﺎ إﻧﻪ ﻧﺼﺎب وﻗﻤﺖ ً
أﻓﺎق دﻧﻲء ﻣﺘﻌﺼﺐ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ أﻣﻲ :أﻗﻮل ﻟﻬﺎ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ؟ أﻗﻮل ﻟﻬﺎ إن اﻟﺒﺎﺷﺎ ﻟﺺ؟ ﻋﻴﺐ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ؟ ﺣﺰﻧﺖ وﷲ
ﴎي ﻳﺎ ﻟﻴﺘﻚ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ﻣﺎ ﺗﻌﺮﺿﺖ ﻟﻠﺨﺒﻴﺚ وﻗﻠﺖ ﰲ ﱢ ُ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺨﺴﺎرة ﺑﻐري اﻟﻔﺎﺋﺪة،
املﺤﺘﺎل ﺣﻤﺎدة.
ﺣﻤﺎدة ﻳﺄﺧﺬ ﻣﻦ اﻟﺴﺖ ﻋﴩة آﻻف ﺟﻨﻴﻪ؟ ﻣﺎ ذﻧﺒﻚ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ﺗﺨﴪ ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ؟ ﻗﻠﺖ
أرﺳﻞ إﻟﻴﻚ ﻛﻠﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﻌﺮف ،ﻟﻜﻦ اﻟﴩح ﰲ اﻟﺨﻄﺎب ﻳﻄﻮل وأﻧﺎ أﺣﺐ أﻧﻚ ﺗﻌﺮف ﻛﻞ ﳾء،
وﺗﺘﴫف ﻣﻊ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻟﺘﺴﱰد ﻣﻨﻪ املﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ،ﻛﺎن ﻳَﻬُ ﻮن ﻋﲇ ﱠ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ دﻓﻊ أي ﻣﺒﻠﻎ،
وﷲ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﰲ اﻟﻠﻴﻞ واﻟﻨﻬﺎر أدﻋﻮ ﻟﻚ؛ ﻷﻧ َﻚ ﺣﻔﻈﺖ ﺟﻤﻴﻞ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل .وﻟﻜﻦ
ﺣﺮام! أﻧﺖ أوﱃ ﺑﻤﺎﻟﻚ وﻣﺎﻟﻚ ﺣﻼل ﺑﻌﺮق اﻟﺠﺒني.
ﻣﻨﴫﻓﺎ إﱃ ﺣﺪﻳﺚ ﺣﺎﻧﻖ ﰲ ﺿﻤريي واﺳﺘﻤ ﱠﺮت أﻣﻲ ﺗﺘﻜﻠﻢ وأﻧﺎ أﺳﺘﻤﻊ إﱃ أﻗﻮاﻟﻬﺎ ً وﻛﻨﺖ
ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻣُﻨﺒﻌﺜﺔ ﻣﻦ ﻏﺮﻓﺔ ﺑﻌﻴﺪة ،وﻛﻨﺖ أﻓﻜﺮ ﰲ اﻟﺒﺎﻋﺚ اﻟﺬي ﺟﻌﻞ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ ﻳﺪﻓﻊ ﻋﴩة
ﻣﺰﻗﺖ اﻟﻮرﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﺣﻤﺎدة ُ آﻻف ﺟﻨﻴﻪ ﻟﺤﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ إن ﻛﺎن ﻗﺪ دﻓﻌﻬﺎ ٍّ
ﺣﻘﺎ ،ﻟﻘﺪ
ﻳﺴﺎوم ﺑﻬﺎ ،ﻣﺰﻗﺘﻬﺎ ﺑﻴﺪي ورأﻳﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ إﻣﻀﺎء اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل اﻟﺘﻲ أﻋﺮﻓﻬﺎ ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ذﻟﻚ
ﺣﻠﻤً ﺎ وأﻣﻲ ﺗﻌﺮف أﻧﻲ أﺧﺬت ﻣﻨﻬﺎ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت املﺎﺋﺔ ﻷدﻓﻌﻬﺎ إﱃ ﺣﻤﺎدة.
وﺳﺄﻟﺖ أﻣﻲ ﰲ دﻫﺸﺔ ﺣﺎﻧﻘﺔ :أﻻ ﺗَﺬ ُﻛﺮﻳﻦ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ أﺧﺬت ﻓﻴﻬﺎ املﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ ﻣﻨﻚ؟ أﻟﻢ
أﻗﻞ ﻟﻚ إﻧﻲ دﻓﻌﺘﻬﺎ إﱃ ﺣﻤﺎدة؟ أﻛﺎد أﺷﻚ ﰲ ﻋﻘﲇ.
182
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻌﴩون
ﻓﺄﺟﺎﺑﺖ أﻣﻲ :ﷲ ﻳﺤﻤﻴﻚ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ وﻳﺤﻤﻲ ﻋﻘﻠﻚ ﻃﺒﻌً ﺎ أﺗﺬﻛﺮ ﻓﺪاك ﻣﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ وأﻟﻒ
ﺟﻨﻴﻪ ،وﻟﻜﻨﻚ ﻣﻌﺬور ﻳﺎ ﺑﻨﻲ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻣﻨﺪﻓﻌً ﺎ :ﻟﻢ ﻳَﺨﻄﺮ ﰲ ﺑﺎﱄ أن ﻫﺬا اﻟﺨﺒﻴﺚ ﻳﺪور ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﺮى ﻣﺜﻞ اﻟﺜﻌﻠﺐ
ﰲ ﺣﻈرية اﻟﺪﺟﺎج … ﺣﻤﺎدة ﻳﺤﻠﻢ ﺑﺄﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ؟ ﺣﻤﺎدة ﻳﺄﺧﺬ ﻋﴩة آﻻف ﺟﻨﻴﻪ؟ ﻻ ﺑﺪ أن ﰲ
اﻷﻣﺮ ﻣﺆاﻣﺮة أﺧﺮى.
وﻛﻨﺖ ﻣُﺘﻌَ ﺒًﺎ إﱃ ﺣﺪ اﻹﻋﻴﺎء ﻣﻦ اﻟﺴﻔﺮ ﰲ اﻟﻠﻴﻞ واﻟﻘﻄﺎر اﻟﺼﻌﻴﺪي اﻟﺒﻄﻲء ،وﻟﻜﻨﻲ ُ
ﻓﻜﺮت ﰲ اﻟﻘﻴﺎم ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺘﻲ ﻟﻠﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻷﻧﺎﻗﺸﻪ اﻟﺤﺴﺎب ،وﻫﻤﻤﺖ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎم
ﻧﺎﻇ ًﺮا ﰲ ﺳﺎﻋﺘﻲ وﻛﺎﻧﺖ ﻣﺎ ﺗﺰال اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﺻﺒﺎﺣً ﺎ.
ﻗﻠﻴﻼ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ وﻻ ﺗﻀﺎﻳﻖ ﻧﻔﺴﻚ ،ﻳﺎ ﻣﻨريةﻓﻘﺎﻟﺖ أﻣﻲ ﰲ دﻫﺸﺔ :إﱃ أﻳﻦ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟ اﻗﻌﺪ ً
ﺟﻬﺰي اﻟﺸﺎي ﻳﺎ ﺑﻨﺘﻲ وﻟﻘﻤﺔ ﺻﻐرية ،ﻣﺴﻜني ﻳﺎ اﺑﻨﻲ اﻟﺤﻖ ﻋﲇ ﱠ ﻷﻧﻲ أزﻋﺠﺘﻚ … ﻣﺴﻜﻴﻨﺔ
ﻳﺎ ﺑﻨﺘﻲ ،ﷲ ﻳﺮﺣﻢ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻛﺎن أﻣﻠﻪ وﻣﻨﻰ ﻋﻴﻨﻪ أن ﻳﺮى ﻋﺮس ﻣﻨﻰ وﻟﻜﻨﻬﺎ آﺟﺎل،
أردت اﻟﻘﻴﺎم ﻗﺎﻣﺖ ﻣﻨﻰ ﺗﻮﺻﻠﻨﻲ وﻗﺎﻟﺖ ﱄ ُ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ اﻟﺤﻤﺪ هلل املﻮﺿﻮع اﻧﺘﻬﻰ ،وملﺎ
ﺑﻠﻐﻲ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي أن املﻮﺿﻮع اﻧﺘﻬﻰ ،وﷲ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ﺧﺮﺟﺖ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻣﻦ ﻟﺴﺎﻧﻲ وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ:
»ﷲ ﻳﺨﻴﺒﻪ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ؛ ﻷﻧﻪ أﺧﺬ اﻟﺜﻤﻦ ﻣﺮﺗني «.ﻻ ﺗﻐﻀﺐ ﻳﺎ ﺑﻨﻲ وﷲ ﻣﺎ ﻣﻠﻜﺖ ﻧﻔﴘ،
واﻧﺪﻫﺸﺖ ﻣﻨﻰ وﻗﺎﻟﺖ» :ﻣﺮﺗني؟« وملﺎ ﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﻇﻬﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺘﺄﺛﺮ ،وﻗﺎﻟﺖ:
»ﻻ ﺑﺪ ﱄ ﻣﻦ ﺳﺆال ﺳﻴﺪ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ «.وﺣ ﱠﻠﻔﺘﻨﻲ أن أﺑﻌﺚ إﻟﻴﻬﺎ ﰲ أول ﻣﺮة ﺗﺄﺗﻲ ﻓﻴﻬﺎ إﱃ
دﻣﻨﻬﻮر ،وﻟﻜﻨﻲ ﺧﻔﺖ أن املﻮﺿﻮع ﻳﱪد وﻗﻠﺖ ملﻨرية :ﻳﺎ ﺑﻨﺘﻲ ﺳﻴﺪ ﻏﺎب ﻋﻨﱠﺎ ﻣﻦ ﺷﻬﻮر،
اﻛﺘﺒﻲ ﻟﻪ ﻳﺤﴬ ﰲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﴐورﻳﺔ ،ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﻧﻄﻤﱧ ﻋﻠﻴﻚ وﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ …
وﻗﻠﺖ ﻣﻘﺎﻃﻌً ﺎ أﻣﻲ :إذن ﻫﻲ ﻣﺆاﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻟﻌﺼﺎﺑﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻷﻧﺬال ﺑﻘﺼﺪ اﻟﺴﻄﻮ
ﻋﲆ ﻣﻨﻰ ،ﻫﺬا اﻟﺒﺎﺷﺎ ﻳُﺮﻳﺪ أن ﻳﻠﻌﺐ ﺑﻬﺎ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﻈﻬﺮ وﻻ ﺑ ﱠﺪ ﱄ أن أﻗﺎﺑﻠﻪ وﺟﻬً ﺎ ﻟﻮﺟﻪ ﻛﻤﺎ
ﻗﺎﺑﻠﺖ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﰲ املﺮة اﻷوﱃ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ أﻣﻲ ﰲ ﻓﺰع :ﻣﺎذا ﻧﻘﻮل ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟ ﺗﻘﺎﺑﻠﻪ وﺟﻬً ﺎ ﻟﻮﺟﻪ؟ ﻳﺎ ﻟﻴﺘﻨﻲ ﻟﻢ أﺑﻌﺚ إﻟﻴﻚ
وﻟﻢ أﻗﻞ ﻟﻚ ﺷﻴﺌًﺎ ،ﻣﺎ ﻟﻨﺎ واﻟﺒﺎﺷﺎ؟ ﻻ ﺗُﻘﺎﺑﻞ اﻟﺒﺎﺷﺎ واﺑﻌﺪ ﻋﻨﻪ وﻛﻔﺎك ﷲ ﴍه ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ،اﻧﺘﻈﺮ
ﺣﺘﻰ ﺗﻬﺪأ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﺛﻢ اذﻫﺐ إﱃ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ.
وﺟﺎءت ﻣﻨرية ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻓﻮﺿﻌﺖ ﺻﻴﻨﻴﺔ اﻟﺸﺎي ﻋﲆ املﻨﻀﺪة وﻗﺮﺑﺘﻬﺎ ﻣﻨﻲ وأﺧﺬت
ﺗﻤﻸ اﻟﻔﻨﺎﺟني ،وﺟﺎﻫﺪت ﻧﻔﴘ ﺣﺘﻰ اﺳﺘﻄﻌﺖ أن أﻧﺘﻈﺮ ،وﻋﺎدت ﻣﻨرية إﱃ ﺣﺪﻳﺚ اﻟﻌﻤﺔ
ً
ﻣﻨﴫﻓﺎ إﱃ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ املﺴﻠﻚ اﻟﺬي ﻳَﻨﺒﻐﻲ ﱄ أن أﺳﻠﻜﻪ ،ﻛﻨﺖ ﺣﺎﺋ ًﺮا وأوﻻدﻫﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ
ﻻ أدري ﻣﻦ أﻳﻦ أﺑﺪأ ،وملﺎ ﻓﺮﻏﺖ ﻣﻦ اﻹﻓﻄﺎر ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﺒﺎح.
183
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻓﻘﻠﺖ ﻷﻣﻲ :أﻇﻦ اﻷﺣﺴﻦ أن ﺗﺄﺗﻲ ﻣﻨرية ﻣﻌﻲ إﱃ »اﻟﺒﻘﺎﻟﺔ اﻟﺮﺷﻴﺪة« ﻟﺘُﺤﺪﱢث ﻣﻨﻰ
ﺑﺎﻟﺘﻠﻴﻔﻮن وﺗُﺨﱪﻫﺎ ﺑﻮﺟﻮدي ﻫﻨﺎ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨرية :ﻣﺎ ﺷﺎء ﷲ! اﺳﺘﻔﺘﺎح ﻋﻈﻴﻢ أن أذﻫﺐ إﱃ املﺤﻞ ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ وأﻃﻠﺐ
أﻳﻀﺎ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﻏﺴﻞ وﺟﻬﻚ وﻣﺴﺢ اﻟﱰاب ﻋﻦ ﻣﻼﺑﺴﻚ، ﻣﻨﻪ ﻛﻠﻤﺔ ﺗﻠﻴﻔﻮﻧﻴﺔ ،أﻻ ﺗﺮى أﻧﻚ ً
ﻛﻤﺎ أﻧﻲ ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ اﻟﺨﺮوج ﻫﻜﺬا؟
وﺗﺬﻛﺮت ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻓﻘﻂ أﻧﻲ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﳾء ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻌﺪاد ﻟﻠﺨﺮوج ﰲ املﺪﻳﻨﺔ ،وأن
اﻟﻨﺎس ﻻ ﻳﺴﺘﻘﺒﻠﻮن أﺣﺪًا ﰲ ﺑﻴﻮﺗﻬﻢ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ.
ﻛﻨﺖ أﻛﺜﺮ ﻫﺪوءًا واﺳﱰاﺣﺔ ﺑﻌﺪ أن اﻏﺘﺴﻠﺖ وﻏريت ﻣﻼﺑﴘ وملﺎ ﺻﺎرت اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ُ
اﻟﺘﺤﺘﺎﻧﻴﺔ وﻧﻈﻔﺖ ﻣﻼﺑﴘ ﻣﻦ اﻟﻐﺒﺎر ،وﻟﻜﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ اﻟﻨﺰول ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨرية ﻣﺎ ﺗﺰال
ﻤﺸﻂ ﺷﻌﺮﻫﺎ ،وملﺎ اﺳﺘﻌﺠﻠﺘﻬﺎ ﺻﺎﺣﺖ ﻣﻦ داﺧﻞ اﻟﻐﺮﻓﺔ :ﺗﻔﻀﻞ أﻧﺖ ﻓﺈﻧﻲ ﻏري ﺗﺴﺘﻌﺪ وﺗُ ﱢ
ﻣُﺤﺘﺎﺟﺔ إﱃ ﺧﻔري.
ً
ﻓﻨﺰﻟﺖ وﺣﺪي ﻣﺘﺠﻬً ﺎ إﱃ املﺤﻄﺔ ﻷﺑﻌﺚ ﺗﻠﻐﺮاﻓﺎ إﱃ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار ﻣُﻌﺘﺬ ًرا ﻋﻦ ﻏﻴﺎﺑﻲ ،ﺛﻢ
واﺻﻠﺖ ﺳريي إﱃ ﺑﻴﺖ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﺑﻌﺪ أن اﺳﺘﻘﺮ رأﻳﻲ ﻋﲆ اﻻﺑﺘﺪاء ﺑﺰﻳﺎرﺗﻪ.
واﺳﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻛﺄﻧﻪ ﻋﲆ ﻣﻮﻋﺪ ﺳﺎﺑﻖ ﻣﻨﻲ ،ﻓﺼﺎﻓﺤﻨﻲ ﰲ ﺣﺮارة وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ
ﺤﻮﻻ أﺷﺪ ﻣﻤﺎ ملﺤﺘﻪ ﰲ املﺮة اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺣﻠﻘﺔ زرﻗﺎء وملﺤﺖ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ ﻧ ُ ً ُ ﻳﻈﻬﺮ دﻫﺸﺔ،
ﺗﺤﻴﻂ ﺑﻌﻴﻨﻴﻪ ،وﺧﻴﻞ إﱄ ﱠ أن ﻇﻬﺮه ﺑﺪأ ﻳﺘﻘﻮس ،وﻟﻜﻦ اﻻﺑﺘﺴﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ أﺿﺎءت وﺟﻬﻪ أزاﻟﺖ
ﻋﻨﻲ ﺷﻌﻮر اﻟﻮﺟﻮم اﻟﺬي ﻫﺠﻢ ﻋﲇ ﱠ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﻗﻌﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ ،ودﺧﻠﻨﺎ إﱃ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ،
وﺑﺪأﻧﺎ ﻧﺘﺤﺪث ﰲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ داﺋﻤً ﺎ! وﻗﻠﺖ ﻷﻏري اﻟﺤﺪﻳﺚ :ﻛﻴﻒ أﻧﺖ؟
ﻓﻘﺎل :ﻛﻤﺎ ﺗﺮاﻧﻲ ،وﻛﻴﻒ ﺣﺎﻟﻚ أﻧﺖ؟
ﻛﻨﺖ ﻣﻨﺬ ﺳﻤﻴﺘﻨﻲ دون ﻛﻴﺸﻮت. ﻓﻘﻠﺖ :ﻛﻤﺎ ُ
ﻓﺎﺑﺘﺴﻢ ﺻﺎﻣﺘًﺎ واﻧﺘﻈﺮ أن أﺳﺘﻤﺮ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻓﻘﻠﺖ :ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﺨﻄﺌًﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﻤﻴﺘَﻨﻲ
ً
ﻋﺎﻃﻔﺎ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﺳﺎﻧﻜﻮ ﺑﺎﻧﺰا. ً
ﺻﺪﻳﻘﺎ ﺑﻬﺬا اﻻﺳﻢ ،وأرﺟﻮ أن ﺗﻜﻮن
ﻓﻘﺎل :إذا ﺷﺌﺖ أن ﻳﻜﻮن اﻟﺸﺒﻪ واﺿﺤً ﺎ ﻛﻞ اﻟﻮﺿﻮح ،ﻓﺄرﺟﻮ أن أﻋﺮف ﻫﻞ ﺗﻤﻜﻨﺖ
ﻣﻦ اﻟﻔﻮز ﺑﻘﻠﺐ اﻷﻣرية اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ :ﻟﻚ أن ﺗﻘﻮل ﻣﺎ ﺷﺌﺖ وﻟﻜﻦ …
ﻗﺎﺋﻼ :أﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻌﺠﻴﺐ أﻧﻚ ﻻ ﺗﺠﺮؤ أن ﺗﻘﻮل ﻟﻬﺎ إﻧﻚ ﺗﺤﺒﻬﺎ؟ ﻫﻞ ﺗﺤﺒﻬﺎ ﻓﻘﺎﻃﻌﻨﻲ ً
ٍّ
ﺣﻘﺎ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻣﺎذا ﻳﺪﻋﻮك ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺆال؟
184
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻌﴩون
ﻓﻘﺎل :اﻟﻨﺎس ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳﻐﺮﻣﻮن ﺑﺎﻟﺨﻴﺎل وﻳﻔ ﱡﺮون ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮاء اﻟﺬﻳﻦ
ﻣﻠﺌﻮا اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﻜﺎءً وﻏﻨﺎءً ﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳُﺤﺒﱡﻮن اﻟﻨﺴﺎء أﻧﻔﺴﻬﻦ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳُﺤﺒﱡﻮن ﺻﻮرﻫﻦ
اﻟﺨﻴﺎﻟﻴﺔ ،ﻓﺈذا أﺗﻴﺤﺖ ﻟﻬﻢ اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻟﻠﻔﻮز ﺑﻤﻦ ﻳﺤﺒﻮن ﺳﻜﺖ ﻏﻨﺎؤﻫﻢ ﻓﺠﺄة ،وﻛﺜريًا ﻣﻨﻬﻢ
أﺻﻴﺒﻮا ﺑﺎﻟﺨﻴﺒﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺣﻨﻖ :وﻣﺎذا ﺗﻘﺼﺪ ﺑﻬﺬا؟
ﻄﺎ وﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ،ﻟﻢ ﻳ َُﻔﺖ اﻟﻮﻗﺖ ﺑﻌﺪ ،ﻻ ﺗَﺪُر
ﻓﻘﺎل ﰲ ﻫﺪوء :أﻗﺼﺪ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ﺷﻴﺌًﺎ ﺑﺴﻴ ً
ﺣﻮل ﻧﻔﺴﻚ ﻫﻜﺬا ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ وﺗﱰك ﺧﺼﻤﻚ ﻳﻨﺘﺰع ﻣﻨﻚ ﻛﻨﺰك ،وﺗُﺴﺎﻋﺪه ﻋﲆ أن ﻳﺄﺧﺬه ﻣﻨﻚ،
َ
أردت ﺣﻘﺎ ﺗﺮﻳﺪ »ﻣﻨﻰ« ﻓﺎذﻫﺐ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺘﻚ ﻫﺬه إﱃ ﺑﻴﺘﻬﺎ واﻓﺘﺢ ﻟﻬﺎ ﺻﺪرك ،وإذا إذا ﻛﻨﺖ ٍّ
أن ﺗُﻤﺜﱢﻞ دور دون ﻛﻴﺸﻮت إﱃ ﻧﻬﺎﻳﺘﻪ ﻓﺈﻧﻚ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺮﻛﻊ ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻴﻬﺎ وﺗُﻘﺒﱢﻞ ﻃﺮف
ﺣﻠﺘﻬﺎ اﻟﺤﺮﻳﺮﻳﺔ وﺗﻘﻮل ﻟﻬﺎ» :ﻫﺎ أﻧﺎ ذا أﺿﻊ ﻗﻠﺒﻲ ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻴﻚ«.
ُ
ورﻧﺖ ﻛﻠﻤﺎﺗﻪ اﻟﺴﺎﺧﺮة ﰲ أذﻧﻲ ﻗﺎﺳﻴﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻣﺜﻠﺖ ﱄ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .أﻟﻢ أﻣﻬﱢ ﺪ ﻟﺨﺼﻤﻲ أن
وﻓﺮرت إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﺑﻐري أن أوﺟﻪ ﻛﻠﻤﺔ إﱃ ﻣﻨﻰ؟ ُ ﻳﻨﻔﺮد ﰲ املﻴﺪان
وأﺧﺬت أﺳﺄل ﻧﻔﴘ ﻋﻦ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي ﻳﻤﻨﻌﻨﻲ ﻣﻦ أن أﻓﺘﺢ ﺻﺪري ﻟﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل
ﺻﺎﺣﺒﻲ .أأﺧﴙ أن ﺗﺴﺨﺮ ﻣﻨﻲ؟ أﻫﺬا ﻣﻤﻜﻦ؟ وﻟﻜﻦ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا ﻣﺎ أﺧﴙ ﻓﻠﻤﺎذا ﻻ أواﺟﻪ
اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واﻧﺘﻬﻰ؟
وﺟﻠﺴﺖ ﺻﺎﻣﺘًﺎ أﻧﻈﺮ إﱃ أﻣﺎﻣﻲ ،واﻧﴫف ﺻﺎﺣﺒﻲ إﱃ داﺧﻞ املﻨﺰل وﺗﺮﻛﻨﻲ وﺣﺪي،
ﻟﻘﻤﺖ ﻣُﴪﻋً ﺎ إﱃ ﺑﻴﺖ ﻣﻨﻰ؛ ﻷﻗﻮل ﻟﻬﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن ُ ﺣﻘﺎوﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ أﻋﺮف ﻣﺎ أرﻳﺪ ٍّ
ﻳﻀﻄﺮم ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﰲ ﺻﺪري ،ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻤﻸ ﻗﻠﺒﻲ ﺳﻮى ﻣﻨﻰ؟ ﻣﻦ ﻳﻤﻜﻦ أن أﻋﻴﺶ
وﻛﻨﺖ ﺑﻔِﻀﻞ ﻣﻬﻨﺘﻲ أﺧﺘﻠﻂ ﺑﻄﺒﻘﺎت ُ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ ﻏريﻫﺎ؟ رأﻳﺖ ﻣﺌﺎت ﻣﻦ اﻟﻔﺘﻴﺎت واﻟﺴﻴﺪات
اﻟﺸﻌﺐ ﻋﲆ اﺧﺘﻼﻓﻬﺎ ،رأﻳﺖ اﻟﺤﺴﺎن واﻷﻧﻴﻘﺎت واﻟﻐﻮاﻧﻲ واملﻐﺎﻣﺮات واملﻄ ﱠﻠﻘﺎت َ
واﻟﺨﻔِ ﺮات
ﺳﻦ وﻟﻮن ،ﻓﻠﻢ أﺟﺪ ﻓﻴﻬﻦ ﻣﻦ ﺗﺴﱰﻋﻲ ﻣﻨﻲ اﻟﺘﻔﺎﺗﺔ ،وﻓﻄﻮﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻲ ﻣﻨﺬ ﻣﻦ ﻛﻞ ﱟ
ﻟﻴﻠﺔ! أﻟﻢ ﺗﺘﺠ ﱠﻞ ﱄ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واﺿﺤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺘﻬﺎ ﺳﺎﺣﺮة اﻟﺤﺴﻦ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﺨﻴﻔﺔ؟ أﻟﻢ أﻋﺮف
أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗُﺨ َﻠﻖ ﱄ وﻟﻢ أُﺧ َﻠﻖ ﻟﻬﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﲆ أﻧﺜﻰ ،أﻟﻢ أﻗﻞ ﻟﻨﻔﴘ إن اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻠﻬﺎ ﻻ
ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻓﺘﺎة ﻏري ﻣﻨﻰ؟ ﻓﻤﺎذا ﻳﺠﻌﻠﻨﻲ أﺗﺮدد؟
ﺣﺎﻣﻼ ﻣﻌﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻔﺎﻛﻬﺔ ،واﻋﺘﺬر ﺑﺄن اﻟﺨﺎدم ﰲ ً ودﺧﻞ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ
ُ
ﻋﺮﻓﺖ ﰲ املﺮة املﺎﺿﻴﺔ أﻧﻬﺎ ﻣﺮﻳﻀﺔ. إﺟﺎزة ،ﻳﺎﻟﻠﻸﻧﺎﻧﻴﺔ ،ﻟﻢ أﺳﺄﻟﻪ ﻋﻦ ﺻﺤﺔ أﻣﻪ اﻟﺘﻲ
وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﻛﻴﻒ ﺣﺎل ﻋﻤﺘﻲ؟
ﻗﻠﻴﻼ وﻗﺎل :ﰲ رﺣﻤﺔ ﷲ ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ. ﻓﺄﻃﺮق ً
185
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وأﻃﺮق ﺣﺰﻳﻨًﺎ.
ﻓﺘﻤﺘﻤﺖ ً
ﻗﺎﺋﻼ :إﻧﺎ هلل وإﻧﺎ إﻟﻴﻪ راﺟﻌﻮن.
ﻋﺘﺒﺖ ﰲ ﺿﻤريي ﻋﲆ أﻣﻲ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺨﱪﻧﻲ.ُ وﺷﻌﺮت ﺑﻮﺧﺰة ﺷﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻷﺳﻒ ﻛﻤﺎ
ﺟﺎﻟﺴﺎ ﰲ ﺻﻤﺖ وﺗﺮدﱡد ﻛﺄن ذﻫﻨﻲ ﻣﺘﻮﻗﻒ ،ﻫﺬا اﻟﺼﺪﻳﻖ اﻟﺬي أﺿﻴﻖ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ً وﺑﻘﻴﺖ
ﺑﺴﺨﺮﻳﺘﻪ واﻟﺬي ﻳﺪﻫﺸﻨﻲ ﺑﻘﻮة إرادﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻞ إﱃ ﺣﺪ اﻟﺠﻤﻮد! ﻫﺬا اﻟﺼﺪﻳﻖ اﻟﻌﺠﻴﺐ
اﻟﺬي ﻳﺒﺪو ﱄ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻛﺎﻟﺤﺠﺮ اﻟﺼﻠﺪ ﻣﻊ أﻧﻲ أﻋﺮﻓﻪ إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﻛﺎﻣﻞ املﺮوءة ﻛﺒري اﻟﻘﻠﺐ واﺳﻊ
اﻟﻌﻘﻞ ،ﻛﻴﻒ ﺗﺠﺘﻤﻊ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻷﺿﺪاد ﰲ ﺷﺨﺼﻴﺔ واﺣﺪة؟ وﻫﺬا اﻟﺤﺰن اﻟﺬي ﻳﻔﻮح ﻣﻦ
ﻧﻈﺮﺗﻪ وﻣﻦ إﻃﺮاﻗﺘﻪ وﻣﻦ أﻧﻔﺎﺳﻪ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺎول ﻛﺘﻤﺎﻧﻬﺎ! املﺴﻜني ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻧريان ﺗﻀﻄﺮم
ُ
وأﺣﺴﺴﺖ ُﻨﻔﺲ ﻋﻨﻬﺎ ،واﻟﺘﻔﺖ إﻟﻴﻪ وﺗﺒﺎدﻟﻨﺎ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺿﺌﻴﻠﺔ ﺣﺰﻳﻨﺔ ﰲ أﻋﻤﺎﻗﻪ وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳ ﱢ
ﻋﻄﻔﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ أن أﻋﱪ ﻋﻨﻪ ﺑﺎﻷﻟﻔﺎظ. ً ﻧﺤﻮه
وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﻣﺘﻰ؟ أﺟﺎب :ﻣﻨﺬ ﺷﻬﺮ.
ﻓﺄﺷﻔﻘﺖ أن أﻧﻄﻖ ﻟﻪ ﺑﻜﻠﻤﺔ ﻣﻮاﺳﺎة؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﺟﺪ ﻛﻠﻤﺔ ﺗﻌﱪ ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﻮاﺳﺎﺗﻲ،
ﻓﻀﻐﻄﺖ ﻋﲆ ﻳﺪه وﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ ﻻ أدري إﱃ أﻳﻦ أﺗﺠﻪ، ُ وﻣﺪدت ﻳﺪي إﻟﻴﻪ ﰲ ﺻﻤﺖ،
ﻫﻞ ﺻﺪﻳﻘﻲ ﻫﺬا إﻧﺴﺎن ﻣﻦ اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﻀﻌﻴﻔﺔ؟ أﻫﺬا ﻧﻘﺺ ﻓﻴﻪ أم ﻫﻮ اﻣﺘﻴﺎز؟
وﴎت ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺣﺎﺋ ًﺮا ﻛﺌﻴﺒًﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻮاﻧﻴﺖ ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺒني ﻣُﺰدﺣﻤﺔ واﻟﺸﺎرع ﻳﻤﻮج
ﺑﺎﻟﻨﺎس ،ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻳﴪع ﻧﺤﻮي ﻟﻴﺤﻴﻴﻨﻲ ،وﺑﻌﻀﻬﻢ ﻳَﺼﻴﺢ ﺑﻲ ﺑﺎﻟﺘﺤﻴﺔ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ وأﻧﺎ أﺗﻜﻠﻒ
اﻟﺒﺸﺎﺷﺔ واﻹﺟﺎﺑﺔ ،واﻧﺤﺪرت ﰲ أول ﻃﺮﻳﻖ ﻋﲆ ﻳﺴﺎري ﻧﺤﻮ اﻟﱰﻋﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك اﻟﺤﺎﻧﺔ
اﻟﻘﺬرة اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮد ﺣﻤﺎدة أن ﻳﺠﻠﺲ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك واﻟﺨﻮاﺟﺔ ﻣﺎﻧﻮﱄ ﻣﺎ ﻳﺰال
واﻗﻔﺎ وراء ﻣﻨﻀﺪﺗﻪ اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺨﺎرج ﻧﻈﺮة ﺟﻮﻓﺎء ،وﺧﻄﺮ ﱄ أن أدﺧﻞ إﱃ اﻟﺤﺎﻧﺔ ً
ﻷﺳﺄل ﻋﻦ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻓﻌﻞ ،وملﺎ ﺑﻠﻐﺖ ﺟﴪ اﻟﱰﻋﺔ ﻋﺮﺟﺖ إﱃ اﻟﻴﺴﺎر ﺣﺘﻰ
وﺻﻠﺖ إﱃ ﻛﻮﺑﺮي ﻗﻼﻗﺔ ،ﺛﻢ اﻧﺤﺪرت إﱃ اﻟﺸﺎرع املﺆدي إﱃ املﺪﻳﻨﺔ ﺗﺎر ًﻛﺎ ﻗﺪﻣﻲ ﺗﺤﻤﻼﻧﻲ
ً
ﻛﺎﺳﻔﺎ ﺣﺰﻳﻨًﺎ ﻛﺄﻧﻲ ﻟﻢ آت إﱃ دﻣﻨﻬﻮر إﻻ ﻟﻜﻲ أﻗﻄﻊ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺣﻴﺚ ﺗﺮﻳﺪان ،وﻋﺪت إﱃ ﻣﻨﺰﱄ
ﻫﻜﺬا ذاﻫﺒًﺎ آﻳﺒًﺎ وأﻧﺎ ﺣﺎﺋﺮ ﺣﺰﻳﻦ.
وملﺎ وﺻﻠﺖ إﱃ ﻣﻨﺰﱄ ﻛﻨﺖ ﻣﺎ أزال أﺣﺪث ﻧﻔﴘ أﺣﺎدﻳﺚ ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺔ ،وﻟﻘﻴﺘﻨﻲ أﻣﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ
أﺣﺴﺖ ﺑﻤﻘﺪﻣﻲ ،ﻓﺒﺎدرﺗﻨﻲ ﻗﺎﺋﻠﺔ» :ﻫﻞ ﻗﺎﺑﻠﺖ اﻟﺒﺎﺷﺎ؟« ﻓﻬﺰزت رأﳼ واﺗﺠﻬﺖ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ، ﱠ
ُ
وﻟﻜﻨﻲ ﺳﻤﻌﺖ ﺻﻮت ﻣﻨرية وﻫﻲ ﺗﻨﺎدﻳﻨﻲ ﻣﻦ املﻄﺒﺦ :أﻧﺖ ﻣﺪﻋﻮ إﱃ اﻟﺸﺎي ﻋﻨﺪي ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ
اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وﺳﻴﻜﻮن ﺿﻴﻒ اﻟﴩف اﻵﻧﺴﺔ ﻣﻨﻰ.
در ﻛﻴﻒ اﺳﺘﻄﻌﺖ أن أﻣﻨﻊ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ ﺻﻴﺤﺔ اﻟﺪﻫﺸﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎدت ﺗﺨﺮج ﻣﻦ وﻟﻢ أ َ ِ
ﺻﺪري ،ﺛﻢ أﺧﺬت أﺳﺄل ﻧﻔﴘ أﻳﻦ ﺗﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﺪﻋﻮة؟ وﰲ أي ﻣﻮﺿﻊ ﻧﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻨﻰ؟
186
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻌﴩون
ودﺧﻠﺖ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ وذﻫﻨﻲ ﻳﺪور ﻣﴪﻋً ﺎ ،ﻣﺎذا أﻓﻌﻞ إذا أﺗﺖ ﻣﻨﻰ؟ ﻫﻞ أﻧﺰل إﱃ اﻟﺒﺎب
ﻷﺳﺘﻘﺒﻠﻬﺎ؟ وأﻳﻦ ﺗﺠﻠﺲ ﰲ ﻫﺬا املﻨﺰل املﺴﻜني؟ إﻧﻬﺎ ﺟﺮأة ﻋﺠﻴﺒﺔ أن ﺗُﻘﺪم ﻣﻨرية ﻋﲆ ﻫﺬه
اﻟﺪﻋﻮة وﻏﺮﻓﺔ اﻻﻧﺘﻈﺎر ﻻ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﺛﻼﺛﺔ أﻣﺘﺎر ﰲ أرﺑﻌﺔ ،وﻻ ﺗﻄ ﱡﻞ إﻻ ﻋﲆ ﻣﻨﻮر ﺑﻨﺎﻓﺬة
ﺻﻐرية.
وﻧﻈﺮت إﱃ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻓﻮﺟﺪﺗﻬﺎ ﻣﺎ ﺗﺰال اﻟﺤﺎدﻳﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ ،ﻛﺄن ﻋﻘﺎرﺑﻬﺎ ﻻ ﺗﺘﺤﺮك،
ووﺟﺪت ﻋﲆ ﻣﻜﺘﺒﻲ ﻗﺼﺔ إﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ رﺧﻴﺼﺔ ،ﻓﺠﻌﻠﺖ أﻗﺮأ ُ وﻗﻤﺖ ﻷﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﳾء أﻗﺮأ ﻓﻴﻪ
ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻌﲇ أﻗﻄﻊ ﺑﻬﺎ اﻟﻮﻗﺖ ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳَﻨﻔﻌﻨﻲ ﺑﴚء؛ ﻷن ذﻫﻨﻲ ﻛﺎن ﻳﺪور ﻣﴪﻋً ﺎ ،وملﺎ
ﺿﻘﺖ ﺑﺎﻟﻘﺮاءة رﻣﻴﺖ ﺑﺎﻟﻘﺼﺔ ﻋﲆ املﻜﺘﺐ وﻗﻤﺖ ﻷﺳﱰﻳﺢ ،وﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ ذﻫﻨﻲ ﻣﻦ
اﻟﺨﻮاﻃﺮ واﻟﻬﻮاﺟﺲ ﻏﻠﺒﺘﻨﻲ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﻨﻮم ،ﻓﻠﻢ أﺳﺘﻴﻘﻆ إﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺎدﺗْﻨﻲ أﻣﻲ ﻟﻠﻐﺪاء
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ واﻟﻨﺼﻒ ،وﺗﻜﻠﻔﺖ أن أﻛﻮن ﻋﺎدﻳٍّﺎ ﰲ ﻣﻈﻬﺮي وﺣﺪﻳﺜﻲ ﻋﲆ املﺎﺋﺪة،
ﺑﻞ إﻧﻲ ﺗﻜﻠﻔﺖ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﻔﺔ واملﺮح وﻗﻠﺖ ﺑﻌﺾ ﻛﻠﻤﺎت ﻣﺠﺎﻣَ ﻠﺔ ﺑﺎﻹﻋﺠﺎب ﺑﺎﻟﻄﻌﺎم.
وﺳﺄﻟﺖ ﻣﻨرية :ﻣﺎ ﻫﺬا اﻟﺸﺎي اﻟﺬي ﺗﺘﻜﻠﻤني ﻋﻨﻪ؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ :ﻋﻨﺪي ﻳﺎ أﻓﻨﺪم ،ﻓﻬﻞ ﺗﺘﻨﺎزل؟
ً
ﺻﺎدﻗﺎ. وﺗﺒﺴ ُ
ﻤﺖ ﻫﺬه املﺮة ﱠ
َ
أﺗﻤﺎﺳﻚ إذا ﻗﺎﺑﻠﺘﻬﺎ؟ أم أرﺗﺒﻚ وﻳﻠﺘﺼﻖ وأﺧﺬ ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺪق ﰲ ﺿﻌﻒ ،وﺳﺄﻟﺖ ﻧﻔﴘ ﻫﻞ
ُ
ﻓﻌﻠﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻣﺮا ًرا. ﻟﺴﺎﻧﻲ ﺑﺤﻠﻘﻲ ﻛﻤﺎ
وأﺧﺬت ﻣُﻨرية ﺗﺼﻒ ﻟﻨﺎ اﻷﺻﻨﺎف اﻟﺘﻲ أﻋﺪﱠﺗﻬﺎ ﻟﻠﺸﺎي ،ودﺧ َﻠﺖ أﻣﻲ ﻣﻌﻬﺎ ﰲ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ
ﻋﻤﻴﻘﺔ ﻟﻢ أﻓﻬﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﲆ ﻣﻘﺎدﻳﺮ اﻟﺰﺑﺪ واﻟﺴﻜﺮ واﻟﺪﻗﻴﻖ واﻟﺒﻴﺾ اﻟﺘﻲ
ﺻﻨﻌﺖ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﻌﻜﺎﺗﻬﺎ وأﻃﺒﺎﻗﻬﺎ ،وﻣﻨرية ﺗﺰﻋﻢ داﺋﻤً ﺎ أﻧﻬﺎ ﰲ ﻫﺬه املﻴﺎدﻳﻦ ﻻ ﺗﺒﺎرى.
ﻋﺪت إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ واﻟﺮﺑﻊ ،ﻓﻤﺎ ﺗﺰال ﺳﺎﻋﺘﺎن وملﺎ ﻓﺮﻏﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎم ُ
إﻻ رﺑﻌً ﺎ ﺑﻴﻨﻨﺎ وﺑني زﻳﺎرة ﻣﻨﻰ.
187
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻮاﺣﺪ واﻟﻌﴩون
ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺪﻗﺎﺋﻖ ﺗﻤﺮ ﺑﻄﻴﺌﺔ وأﻧﺎ ﰲ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﻛﺄن ﻋﻘﺎرﺑﻬﺎ ﻣﺴﻤﺮة ،وﻛﻠﻤﺎ ﺳﻤﻌﺖ ﺻﻮﺗًﺎ أو ﺧﺒﻄﺔ
ُﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻪ ﺑﺎب ﺳﻴﺎرة ﻣﻨﻰ ،ﻓﺄذﻫﺐ إﱃ اﻟﻨﺎﻓﺬة ﻣﴪﻋً ﺎ ﺣﺎﻧﻖ اﻟﻘﻠﺐ ﻓﻼ أرى ﺷﻴﺌًﺎ ،وأﻋﻮد
ﺑﺎﻟﺨﻴﺒﺔ ﻣﺮة ﺑﻌﺪ أﺧﺮى ﺑﻐري أن ﻳﻤﻨﻌﻨﻲ اﻹﺧﻔﺎق ﻣﻦ اﻟﻌﻮدة إﱃ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ،وملﺎ ﺿﺎق ﺻﺪري
ﻣﻦ ذﻟﻚ ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻟﻌﲇ أﻗﻄﻊ اﻟﻮﻗﺖ ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ أو اﻟﺤﺮﻛﺔ ،ﻓﺮأﻳﺖ أﻣﻲ ﺗُﺼﲇ اﻟﻌﴫ
وﻫﻲ ﰲ اﻟﻌﺎدة ﺗﺒﻄﺊ ﰲ اﻟﺼﻼة ﺣﺘﻰ ﻳُﺨﻴﱠﻞ إﱄ ﱠ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﻔﺮغ ﻣﻨﻬﺎ ،ﻓﺬﻫﺒﺖ
أﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻣﻨرية وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺟﺪﻫﺎ ،ﻓﺼﻌﺪت إﱃ اﻟﺴﻄﺢ ﻟﻌ ﱠﻞ اﻟﻬﻮاء اﻟﻄﻠﻖ واﻟﻨﻮر واﺗﺴﺎع
اﻟﻔﻀﺎء ﺗﺪﺧﻞ اﻟﻬﺪوء إﱃ ﻧﻔﴘ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﻤﺎء ﺻﺎﻓﻴﺔ واﻟﺤﻘﻮل ﺧﴬاء واﺳﻌﺔ ﺗﱰاﻣﻰ
ﻣﻦ وراء اﻟﺒﻴﺖ إﱃ ﻣﺪى اﻟﺒﴫ ،واﺳﱰﻋﻰ ﻧﻈﺮي وﺟﻮد ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﻗﺼﺎري اﻟﺰﻫﺮ ﻣﻮزﻋﺔ
ﻓﻮق اﻟﺴﻮر وﻣﻨﺜﻮرة ﰲ اﻷرﻛﺎن ،وﰲ اﻟﺮﻛﻦ اﻷﻗﴡ ا ُملﻄﻞ ﻋﲆ اﻟﺤﻘﻮل ﺑﻌﺾ ﻣﻘﺎﻋﺪ ﺻﻐرية
ﻣﻦ ﻓﻮﻗﻬﺎ أﻏﻄﻴﺔ ﺣﺮﻳﺮﻳﺔ وﻣﻦ ﺗﺤﺘﻬﺎ ﻗﻄﻌﺔ ﻧﻈﻴﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﻠﻴﻢ ،وﻃﺒﻠﻴﺔ ﻣُﺴﺘﺪﻳﺮة ﰲ اﻟﻮﺳﻂ
ﱠ
وﺗﺒﺴﻤﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻏﻄﺎء أﺑﻴﺾ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻣﺎﺋﺪة ،ﻓﺼﺎر اﻟﺮﻛﻦ ﻛﺄﻧﻪ ﻣﺠﻠﺲ أﻧﻴﻖ ﰲ ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻣﻌ ﱠﻠﻘﺔ،
ﻣﺮﺗﺎﺣً ﺎ ﻷن ﻣﻨرية اﺳﺘﻄﺎﻋﺖ ﺑﺬوﻗﻬﺎ وﻟﺒﺎﻗﺘﻬﺎ أن ﺗﺤ ﱠﻞ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻏﺮﻓﺔ اﻻﺳﺘﻘﺒﺎل اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ
أﺣﻤﻞ ﻫﻢ اﻟﺠﻠﻮس ﻓﻴﻬﺎ ،وأﺧﺬت أﺳري ﰲ اﻟﺴﻄﺢ ﺣﻴﻨًﺎ وأﻧﻈﺮ إﱃ ﻣﺎ ﺣﻮل اﻟﺒﻴﺖ ﺣﻴﻨًﺎ ،وﻛﺎن
أرﻓﻖ ﺑﻲ ،وﺣ ﱠﻠﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ وﺟﻌﻠﺖ أرﻫﻒ ﺳﻤﻌﻲ اﻻﻧﺘﻈﺎر ﰲ اﻟﺠﻮ املﻔﺘﻮح َ
ﺣﺴﺎ إﱃ أن ﺻﺎرت اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ واﻟﻨﺼﻒ ﺛﻢ اﻟﺴﺎدﺳﺔ ﺣﺘﻰ اﻧﺘﻈﺎ ًرا ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺳﻤﻊ ٍّ
ﺑﺪأت أﺷﻚ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺰﻳﺎرة املﻮﻋﻮدة.
ﺳﻤﻌﺖ ﺿﺤﻜﺔ ﻣﻨرية وﻫﻲ ﺻﺎﻋﺪة ﻋﲆ اﻟﺴﻠﻢ ﺗﺘﺤﺪث ﰲ ﻣﺮح ،ﻓﻘﻤﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ ووﺛﺐ ُ ﺛﻢ
ﻛﺪت أﺻﻞ إﱃ أول اﻟﺴﻠﻢ ﺣﺘﻰ وﻗﻔﺖ ﻣﱰددًا وﺑﺪأ اﻻرﺗﺒﺎك ُ ﻗﻠﺒﻲ ﻟﻴﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻨﻰ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻣﺎ
ﻳﺴﺘﻮﱃ ﻋﲇﱠ ،ﻓﺘﺒﺎﻋﺪت ﺳﺎﺋ ًﺮا إﱃ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺴﻄﺢ واﻧﺘﻈﺮت ﻫﻨﺎك ،وﻇﻬﺮت ﻣﻨﻰ
ورأﻳﺖ ﻋﲆ وﺟﻬﻬﺎ ﺑﺴﻤﺔ ﺻﻐرية ﺗُﺸﺒﻪ ُ ﻣﺤﺎوﻻ أن أﻇﻬﺮ ﻫﺎدﺋًﺎ،
ً ﺻﺎﻋﺪة ﻓﺄﴎﻋﺖ إﻟﻴﻬﺎ
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ُ
وﻧﻈﺮت ﰲ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ً
وﺳﻬﻼ وﻣﺮﺣﺒًﺎ«. ﻗﺎﺋﻼً :
»أﻫﻼ اﺑﺘﺴﺎم اﻟﺪﻫﺸﺔ ،ﻓﻤﺪدت إﻟﻴﻬﺎ ﻳﺪي اﻻﺛﻨﺘني ً
ﻟﺤﻈﺔ ﻗﺼرية ﻛﺄﻧﻲ أﻧﻈﺮ إﱃ ﺑﺤﺮ ﻋﻤﻴﻖ ﺻﺎف.
وﻗﺎﻟﺖ ﻣﻨرية :أﻧﺖ ﻫﻨﺎ؟ وﺑﻐري إذﻧﻲ؟
ﻣﻨﴫﻓﺎ إﱃ ﻣﻨﻰ أﻗﻮل ﻟﻬﺎ :أي ﻓﺮﺻﺔ ﺳﻌﻴﺪة! ً وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ
وﻛﺎن ﺻﻮﺗﻲ ﻣﺘﻬﺪﺟً ﺎ وﻟﻜﻦ اﻻﺿﻄﺮاب اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﻐﻤﺮﻧﻲ وأﻧﺎ وﺣﺪي ﻟﻢ ﻳﺒﻖ ﻟﻪ أﺛﺮ؛
ﻓﺈن اﻟﺴﻔﻴﻨﺔ اﻟﻀﺎﻟﺔ ﰲ املﺤﻴﻂ وﺟﺪت آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ﻣﺮﻓﺄﻫﺎ.
وأﺷﺎرت ﻣﻨرية إﱃ اﻟﺮﻛﻦ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﺗﻔﻀﻠﻮا.
ﻻ ﻣﺆاﺧﺬة ﻳﺎ ﻣﻨﻰ ﰲ اﺳﺘﻘﺒﺎﻟﻚ ﻫﻨﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ أﻋﻈﻢ ﻛﺎزﻳﻨﻮ ﰲ دﻣﻨﻬﻮر ،ﻛﺎزﻳﻨﻮ أﺑﻮ ﻃﺎﻗﻴﺔ
ﻣﻦ ﻓﻀﻠﻚ!
وﻧﻈﺮت ﻣﻨﻰ إﱃ املﻘﺎﻋﺪ وإﱃ ﻗﺼﺎري اﻟﺰﻫﺮ ﺛﻢ إﱃ اﻟﺤﻘﻮل اﻟﺨﴬاء وﻗﺎﻟﺖ ﰲ ارﺗﻴﺎح:
ﻫﻲ اﻟﺤﻘﻮل اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ أﻋﺮﻓﻬﺎ وﻣﺎ أزال أذﻛﺮ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﻨﺎ ﻧﺨﺮج إﻟﻴﻬﺎ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ،
ﻛﻢ ﺳﻨﺔ ﻣﻀﺖ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻳﺎ ﻣﻨرية؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨرية ﺿﺎﺣﻜﺔ :ﻻ ﺗَﻜﺸﻔﻲ ﻋﻦ أﴎار ﺳﻨﻨﺎ ﻳﺎ ﻣﻨﻰ ،ﻗﻮﱄ :ﻣﻨﺬ ﺧﻤﺲ ﺳﻨﻮات.
ﻓﺎﺑﺘﺴﻤَ ﺖ ﻣﻨﻰ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻟﻢ ﻳَﺤِ ﻦ ﺑﻌﺪ وﻗﺖ إﺧﻔﺎء ﺳﻨﻨﺎ ،رﺑﻤﺎ أﺑﺪأ ﰲ ذﻟﻚ ﺑﻌﺪ ﻋﺎم.
ﺣﻖ ﰲ اﻟﺒﺪء ﻣﻨﺬ اﻵن. ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨرية :ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻨﻲ ﻋﲆ ﱢ
وﺿﺤﻜﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ وﺟﻠﺴﺖ ﻣﻨﻰ ﻋﲆ ﻣﻘﻌﺪ وﻫﻲ ﺗﻘﻮل :ﻫﻞ ﻣﻀﺖ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﺴﻨﻮات
ﴎﻳﻌً ﺎ ،وﻟﻢ ﻳﺘﻐري ﳾء ﺳﻮى أﻧﻨﻲ ﻛﻨﺖ أرى اﻟﺤﺎرة أوﺳﻊ ﻣﻤﺎ ﻫﻲ اﻵن ،ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﻧﻈﺮي
ﻣﺜﻞ ﻋﺎﻟﻢ ﻓﺴﻴﺢ وﻛﺎن اﻟﺮﺻﻴﻒ اﻟﺬي أﻣﺎم ﻣﻨﺰﻟﻨﺎ ﻛﺄﻧﻪ ﻣﻴﺪان.
وﺗﺬ ﱠﻛﺮت ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻨﻰ ﻃﻔﻠﺔ ﺗﺮﻛﺐ ﻓﻮق ﻛﺘﻔﻲ ﻛﻠﻤﺎ رأﺗﻨﻰ وﺗﺪﱄ
ﺳﺎﻗﻴﻬﺎ ﻣﻦ أﻣﺎم ،ﻓﺄﺟﺮي ﺑﻬﺎ ﻛﺄﻧﻲ ﺣﺼﺎن وﻫﻲ ﺗﻬ ﱡﺰ رﺟﻠﻴﻬﺎ وﺗﻀﺤﻚ ﻣﻜﺮﻛﺮة وﺗﺄﺑﻰ أن
أﻗﻒ.
ﺣﻘﺎ وﺳﻮف ﺗﻤﺮ ﴎﻳﻌﺔ داﺋﻤً ﺎ ،وﻣﻦ ﻳﺪري؟ ﻫﻞ ﻧﻘﻒ ﻳﻮﻣً ﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﺴﻨﻮات ﺗﻤﺮ ﴎﻳﻌﺔ ٍّ
ﻋﺪة ﺳﻨﻮات إذا ﺟﻤﻌﺘﻨﺎ املﺼﺎدﻓﺔ ﻣﺮة أﺧﺮى ﻓﺘﻘﻮل ﻣﻨﻰ :إن اﻟﺴﻨني ﺗﻤﺮ ﴎﻳﻌً ﺎ؟ وﻫﺬه
اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺤﻦ ﻓﻴﻬﺎ ﺳﺘﻜﻮن ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﺻﻮرة ﺗﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﻟﺘﻘﻮل :إﻧﻨﺎ اﺟﺘﻤﻌﻨﺎ
ﻗﺎﺋﻼ :إﻧﻨﻲ وﻗﻔﺖ أﻧﻈﺮ إﱃ ﻣﻨﻰ ﻛﻤﺎ أﻧﻈﺮ إﱃ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻫﻨﺎك ﻓﻮق اﻟﺴﻄﺢ ،وﺳﺄﺣﺪث ﻧﻔﴘ ً
روﺿﺔ ﻣﺰدﻫﺮة ﰲ ﻓﺼﻞ اﻟﺮﺑﻴﻊ ،وأﺣﺪث ﻧﻔﴘ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻐري أن أﻗﻮل ﻟﻬﺎ ﻛﻠﻤﺔ ،وﺳﻤﻌﺖ ﻣﻨﻰ
ﺗﻘﻮل :ﻛﻴﻒ ﺗﺮى دﻣﻨﻬﻮر ﺑﻌﺪ ﻋﻮدﺗﻚ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﺎﻫﺮة؟
ﻓﻘﻠﺖ ﻛﺎﻟﺤﺎﻟﻢ :أراﻫﺎ أﻋﺰ اﻟﺒﻼد وأﺟﻤﻠﻬﺎ.
190
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻮاﺣﺪ واﻟﻌﴩون
وﻗﺎﻟﺖ ﻣﻨرية ﺿﺎﺣﻜﺔ :ﻃﺒﻌً ﺎ ﻷﻧﻨﺎ ﻫﻨﺎ ،أﺷﻜ ُﺮك ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﺑﻴﻪ ﺑﺎﻷﺻﺎﻟﺔ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ وﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺑﺔ
أﻳﻀﺎ ،ﻣﺮﺣﺒًﺎ ﻳﺎ ﻣﺎﻣﺎ! ﻋﻦ ﻣﻨﻰ ،وﻋﻦ أﻣﻲ ً
واﻟﺘﻔﺘْﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻟﻨﺮى أﻣﻲ وﻫﻲ ﻣﻘﺒﻠﺔ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺑﻮﺟﻬﻬﺎ اﻷﺑﻴﺾ اﻟﺴﻤني ،ﻫﻲ ً
أﻳﻀﺎ ذات
ﻋﻴﻮن زرﻗﺎء وﻛﺄﻧﻲ ﻟﻢ أ َر ﻟﻮن ﻋﻴﻨَﻴﻬﺎ إﻻ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ ،ﻛﺎﻧﺖ أﻣﻲ ﺗﺒﺘﺴﻢ ﺑﻜﻞ ﺟﻮارﺣﻬﺎ
ِ
ﴍﱠﻓﺖ ﻳﺎ ﻣﻨﻰ! وﻳﻮم ﻋﻨﺪﻣﺎ أﺧﺬت ﻣﻨﻰ ﺑني ذراﻋﻴﻬﺎ ﻗﺎﺋﻠﺔ :أﻟﻒ ﻧﻬﺎر أﺑﻴﺾ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﺘﻲ،
ﺳﻌﻴﺪ ﺑﺤﻀﻮرك إﻟﻴﻨﺎ ،زﻳﺎرة ﻋﺰﻳﺰة ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﺘﻲ!
وﺟﻠﺴﺖ ﻋﲆ املﻘﻌﺪ اﻟﺬي أﺷﺎرت إﻟﻴﻪ ﻣﻨرية ﺑﺤﺮﻛﺔ ﺗﻤﺜﻴﻠﻴﺔ واﺳﺘﻤﺮت أﻣﻲ ﺗﻘﻮل :وﷲ
ﻳﺎ ﺑﻨﺘﻲ ،ﺑﻮدي أن أزورﻛﻢ ﻛﻞ ﻳﻮم وﻟﻜﻦ املﺸﺎﻏﻞ ﺗﻤﻨﻌﻨﻲ.
ﺗﻌﺎﱄ ﻫﻨﺎ إﱃ ﺟﻨﺒﻲ ،رﺑﻨﺎ ﻳﺤﻤﻴﻚ وﻳﻔﺮح ﻗﻠﺐ ﻣﺎﻣﺎ وﻗﻠﺒﻨﺎ ﺑﻚ ،إن ﺷﺎء ﷲ ﺗﻜﻮن
ﺻﺤﺘﻬﺎ ﻣﺘﺤﺴﻨﺔ.
وﺟﻠﺴﺖ ﻣﻨﻰ إﱃ ﺟﻨﺒﻬﺎ ﻗﺎﺋﻠﺔ :اﻟﺤﻤﺪ هلل ﻳﺎ ﺧﺎﻟﺘﻲ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺗﻮ ﱡد أن ﺗﺄﺗﻲ ﻣﻌﻲ.
وﻫﻤﺖ ﻣﻨرية ﻗﺎﺋﻤﺔ وﻫﻲ ﺗﻘﻮل :ﻣﺎ دﻣﺘﻢ ﺗﻌﺎرﻓﺘﻢ ﻫﻜﺬا ﻓﺎﺳﻤﺤﻮا ﱄ أن أُﺟﻬﱢ ﺰ ﻟﻜﻢ
اﻟﺸﺎي ﺑﺼﻔﺘﻲ ﻣﺪﻳﺮة اﻟﻜﺎزﻳﻨﻮ ،ﻛﺎزﻳﻨﻮ أﺑﻮ ﻃﺎﻗﻴﺔ ﻳﺎ ﻣﺎﻣﺎ!
وﺗﻠﻔﺘﺖ أﻣﻲ ﺣﻮﻟﻬﺎ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﺟﻤﻴﻞ واﻟﻨﺒﻲ ﻳﺎ ﺑﻨﺘﻲ ،وﻣﻨﻮر ﺑﻮﺟﻮدﻛﻢ ،ﺗﻌﺎ َل ﻫﻨﺎ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ
ﻳﺎ ﺑﻨﻲ ،واﻟﻨﺒﻲ ﻳﺎ ﺑﻨﺘﻲ ﻣﺎ رﴈ ﻳﻨﺘﻈﺮ ﻟﻠﺼﺒﺢ وﺳﺎﻓﺮ ﻋﲆ ﻫﻨﺎ ﰲ اﻟﻘﻄﺎر اﻟﺼﻌﻴﺪي ،ملﺎ
وﺻﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﺠﻮاب.
وﺟﻠﺴﺖ إﱃ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﺮى ﻣﻦ أﻣﻲ وﺑﺪأ وﺟﻬﻲ ﻳﺘﻘﺪ.
واﺳﺘﻤﺮت أﻣﻲ ﺗﻘﻮل :اﻟﺤﻖ ﻳﺎ ﺑﻨﺘﻲ ملﺎ ﺳﻤﻌﺖ اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ ﻗﻠﺖ ملﻨرية» :اﺑﻌﺜﻲ ﻟﺴﻴﺪ ﻗﻮﱄ
ﺣﺎﻻ« ﻋﴩة آﻻف ﺟﻨﻴﻪ ﻳﺄﺧﺬﻫﺎ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ؟ وﺑﻌﺪ ﻣﺎ أﺧﺬ ﺳﻴﺪ اﻟﻮرﻗﺔ ﻣﻨﻪ؟ ﻟﻪ ﻳﺤﴬ ً
ﻓﺘﻨﻔﺴ ُﺖ ﻣﺮﺗﺎﺣً ﺎ.
ﱠ وﺳﻜﺘﺖ ﻟﺤﻈﺔ ﻣﻦ ﺗﺄﺛﱡﺮﻫﺎ
وﻗﺎﻟﺖ ﻣﻨﻰ ﰲ ﻫﺪوء :املﻬﻢ ﻳﺎ ﺧﺎﻟﺘﻲ أن املﺴﺄﻟﺔ اﻧﺘﻬﺖ ﺑﺨري واﻟﺤﻤﺪ هلل ،وأﻧﺎ آﺳﻔﺔ
ﻟﻬﺬا اﻟﺘﻌﺐ واﻟﺴﻔﺮ ﰲ اﻟﻘﻄﺎر اﻟﺼﻌﻴﺪي.
واﺑﺘﺴﻤﺖ ﻧﺎﻇﺮة ﻧﺤﻮي.
ﻓﻘﺎﻟﺖ أﻣﻲ :وﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ اﻟﺨﺒﻴﺚ؟ ﺣﺮام وﷲ ﻳﺎ ﺑﻨﺘﻲ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻓﻌﺔ :ﻟﻴﺲ املﻬﻢ أن ﻳﺄﺧﺬ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ أو ﻻ ﻳﺄﺧﺬ ،املﻬﻢ أﻧﻨﻲ ﻻ أﻋﺮف
ذﻫﺐ ﻟﻴُﻄﺎﻟِﺐ؟ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﺎﻓﺮت ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﰲ املﺮة املﺎﺿﻴﺔ ﻛﻴﻒ ﺗﻤ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ املﻄﺎﻟﺒﺔ ،ﺑﺄي وﺟﻪ َ
ﻛﺎﻧﺖ املﺸﻜﻠﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﻗﺪ اﻧﺘﻬﺖ.
ﻔﺖ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﻋﺮف ﰲ وﻗﺘﻬﺎ ﺣﺘﻰ أﺷﻜﺮك وﺗﺄﺳ ُﱠ ﻋﻠﻤﺖ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﺧﺎﻟﺘﻲ، ُ ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨﻰ:
ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ،وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ أﻧﻲ ﻃﻠﺒﺖ ﻣﻦ ﺧﺎﻟﺘﻲ أن ﺗﻌﺮﻓﻨﻲ ﺑﺤﻀﻮرك.
191
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺨﺠﻞ :ﻟﻢ أﻓﻌﻞ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﺸﻜﺮ ﻳﺎ ﻣﻨﻰ؛ وﻟﻬﺬا ﺗﻌﻤﺪت أن
ﺣﴬت إﱃ ﻫﻨﺎ .ﺑﺎﻷﻣﺲ ﻓﻘﻂ ُ أﺳﺎﻓﺮ ﺑﻐري أن أذﻫﺐ إﻟﻴﻚ ،ﻟﻢ أﻋﺮف أن ﻫﺬه ﻏﻠﻄﺔ إﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﱠﺒﺖ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺨﺴﺎرة …ﻋﺮﻓﺖ ﻏﻠﻄﺘﻲ وآﺳﻒ ﺟﺪٍّا؛ ﻷﻧﻲ ﺗﺴﺒ ُ
أﻳﻀﺎ ،وﻟﻢ ﻳﺨﻄﺮ ﰲ ﺑﺎﱄ أن وﻗﺎﻃﻌﺘﻨﻲ أﻣﻲ :وﷲ ﻳﺎ ﺑﻨﺘﻲ دﻋﻮت ﻟﻪ ﻟﻴﻠﺘﻬﺎ ودﻋﻮت ﻟﻚ ً
ﺣﻤﺎدة ﺧﺒﻴﺚ ﻟﻬﺬه اﻟﺪرﺟﺔ.
ﺣﺎل اﻧﺘﻬﺖ املﺸﻜﻠﺔ واﻟﺤﻤﺪ هلل ،وأود أن أﻗﻮل :إن
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨﻰ ﺑﺼﻮت ﺧﺎﻓﺖ :ﻋﲆ ﻛﻞ ٍ
اﻟﻔﻀﻞ ﰲ ﺣﻠﻬﺎ ﺑﻜﻞ ﺗﺄﻛﻴﺪ ﻳﺮﺟﻊ إﻟﻴﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ .ﻣﻦ ﻳﺪري ﻣﺎذا ﻛﺎن ﻳﺤﺪث ﻟﻮ ﻟﻢ ﺗﻨﺘﺰع
ﺳﻤﻌﺖ أﻧﻪ أﺧﺬ ﻋﴩة آﻻف ﺟﻨﻴﻪ ﻟﻢ أُﺻﺪﱢق أذﻧﻲ، ُ أﻧﺖ اﻟﻮرﻗﺔ ﻣﻦ ﻳﺪ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ؟ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﻟﻦ أﻧﴗ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻧﻚ وﻗﻔﺖ ﻫﻜﺬا إﱃ ﺟﻨﺒﻲ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ املﻌﺮﻛﺔ داﺋﺮة ﺣﻮل ﺳﻤﻌﺔ
أﺑﻲ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻣﺘﺄﺛ ًﺮا :أﻧﺎ ﺳﻌﻴﺪ ﺟﺪٍّا ﻳﺎ ﻣﻨﻰ ﺑﺄن أﻗﻒ إﱃ ﺟﻨﺒﻚ داﺋﻤً ﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻻ أﻓﻬﻢ ﻛﻴﻒ
ﺗﻮﺻﻞ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ إﱃ اﻟﻌﻮدة إﻟﻴﻜﻢ ﺑﻌﺪ ﺳﻔﺮي ،ﻣﺎذا ﻛﺎن ﰲ ﻳﺪه ﺣﺘﻰ ﻳﺄﺧﺬ ﻫﺬا اﻟﺜﻤﻦ
اﻟﻔﺎدح؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨﻰ :رﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﻧﺎ املﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ ﻛﻞ ﻫﺬا؟ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﻠﻤﻨﺎ ﺑﺴﻔﺮك ﺣﺴﺒﻨﺎ أن
املﻮﻗﻒ ﻟﻢ ﻳﺘﻐري ،وﻣﻊ أﻧﻲ ﻛﻨﺖ أﺷﻌﺮ ﺑﺄﻧﻚ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺴﺎﻓﺮ ﻫﻜﺬا ﻓﺠﺄة ﺑﻐري أن ﺗﻜﻮن
ﻗﺪ ﺗﺪﺧﻠﺖ ﰲ املﻮﺿﻮع ﻛﻤﺎ ﻗﻠﺖ ،ﻓﺈﻧﻲ ﻟﻢ أﻋﺮف اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وﺟﺎء ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ ﻳﻌﺮض ﻋﻠﻴﻨﺎ
ﺧﺮس اﻷﻟﺴﻨﺔ اﻟﻨﺠﺴﺔ وأن أوﻗﻒ ﺗﺴﻮﻳﺔ املﻮﺿﻮع ﻣﻊ ﺣﻤﺎدة ،ﻓﻠﻢ أﻓﻜﺮ ﰲ ﳾء ﺳﻮى أن أ ُ ِ
املﻌﺮﻛﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺪور ﺣﻮل ﺳﻤﻌﺔ واﻟﺪي.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻓﻌﺔ :وﻟﻜﻦ ملﺎذا ﻳﺪﻓﻊ اﻟﺒﺎﺷﺎ ﻋﴩة آﻻف ﺟﻨﻴﻪ؟ ﻧﻈري أي ﳾء؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ :ﻟﻢ ﻧﻔﻜﺮ ﰲ ﳾء ﺳﻮى أن ﺗﻨﺘﻬﻲ املﺸﻜﻠﺔ.
واﺳﺘﻤﺮت دﻓﻌﺘﻲ :واﻟﺒﺎﺷﺎ ،ﻛﻴﻒ ﻳَﺪﻓﻊ ً
ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا ﺑﻐري أن ﻳﻌﺮف ملﺎذا؟ أﻫﻮ أﺑﻠﻪ؟
اﺳﻤﺤﻲ ﱄ ﻳﺎ ﻣﻨﻰ أن أﻗﻮل :إﻧﻲ ﻻ أﻓﻬﻢ ،ﻻ ﻣﺆاﺧﺬة ،ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ذﻟﻚ اﻟﺸﺨﺺ ﻫﻮ
اﻟﺒﺎﺷﺎ ﻟﻘﻠﺖ :إﻧﻪ ﻟِﺺ.
ﻧﻄﻘﺖ ﺑﺼﻮت ﺑﻜﺎء ﻳﺤﺘﺒﺲ :ﻻ ﻣﺆاﺧﺬة ﻳﺎ ﻣﻨﻰ؛ ﻷﻧﻲ أﺗﻜﻠﻢ ﻫﻜﺬا ﻣﻊ ُ ووﻗﻔﺖ ً
ﻗﻠﻴﻼ ﺛﻢ
ﻋﻠﻤﻲ ﺑﺎﻟﺮاﺑﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻄﻚ ﺑﻪ.
ﻓﻀﺤﻜﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ :راﺑﻄﺔ؟ ﻫﺬا ﻣﻮﺿﻮع آﺧﺮ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﻛﻨﺖ أﻋﻤﻞ؟ أﻛﻨﺖ ﺗﻨﺘﻈﺮ ﻣﻨﻲ
أن أﺳﺄﻟﻪ ﻫﺬه اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗَﺬ ُﻛﺮﻫﺎ؟
ﻓﴪت أﺧﻄﻮ ﺑﻄﻴﺌًﺎ ﻧﺤﻮ ﺳﻮر اﻟﺴﻄﺢ وﺟﻌﻠﺖ أﺟﻴﻞ ﺑﴫي ﰲ اﻟﺤﻘﻮل ُ وﻟﻢ أﻓﻬﻢ ﻗﻮﻟﻬﺎ
ﻣﻔﻜ ًﺮا ﰲ ﻣﻌﻨﻰ ﻗﻮﻟﻬﺎ» :ﻫﺬا ﻣﻮﺿﻮع آﺧﺮ «.وملﺎذا ﺿﺤﻜﺖ وﻫﻲ ﺗﻘﻮل» :راﺑﻄﺔ«؟
192
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻮاﺣﺪ واﻟﻌﴩون
ﺣﻘﺎ ﻳﺎ ﻣﻨﻰ .داﺋﻤً ﺎ أﺣﺎول أن أﻣﺴﺢ ﻏﻠﻄﺘﻲ ﰲ ﻏريي ﻗﺎﺋﻼ :إﻧﻲ آﺳﻒ ٍّ واﻟﺘﻔﺖ ﻧﺤﻮﻫﺎ ً
وﻻ أﻋﺮف ﻏﻠﻄﺘﻲ إﻻ ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا.
وﺟﺎءت ﻣﻨرية ﺗﺤﻤﻞ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﻟﺘﻀﻌﻬﺎ ﻋﲆ املﺎﺋﺪة املﻨﺨﻔﻀﺔ.
وﻗﺎﻟﺖ :داﺋﻤً ﺎ ﻻ ﺗﻌﺮف ﻏﻠﻄﺘﻚ إﻻ ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا :وﻟﻬﺬا ﺗﻘﻒ ﻫﻜﺬا ﻛﺄﻧﻚ ﻻ ﺗﺮاﻧﻲ وﻻ ﺗﺘﻘﺪم
ملﺴﺎﻋﺪﺗﻲ.
أﻳﻀﺎ ﻣﻌﻨﺎ وﺟﻌﻞ ﻛﻞ ﻣﻨﺎ ﻳﻌﻤﻞ ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻪ ﻓﺒﺎدرت ﺑﺤﻤﻞ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ ﻋﻨﻬﺎ وﻗﺎﻣﺖ ﻣﻨﻰ ً ُ
ﻋﲆ ﺗﺤﻮﻳﻞ اﻷﻛﻮام املﻜﺪﺳﺔ ﻓﻮق اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ إﱃ ﳾء ﻳﺸﺒﻪ ﻣﺎﺋﺪة ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ :اﻟﻔﻨﺎﺟني وأﻃﺒﺎق
اﻟﺤﻠﻮى واﻟﻔﻄﺎﺋﺮ واﻟﺸﻄﺎﺋﺮ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣُﱰاﻛﻤﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻓﻮق ﺑﻌﺾ.
وأﺧﺬت ﻣﻨرية وﻣﻨﻰ ﺗﺘﻌﺎوﻧﺎن ﰲ اﻟﺨﺪﻣﺔ ،وﻗﺪﻣﺖ ﻣﻨﻰ إﱄ ﱠ ﻓﻨﺠﺎﻧﻲ ،ﻓﺘﻤﻨﻴﺖ ﻟﻮ وﻗﻒ
اﻟﺰﻣﻦ إﱃ اﻷﺑﺪ وأﻧﺎ أﻧﻈﺮ إﱃ ﻋﻴﻨَﻴﻬﺎ اﻟﺒﺎﺳﻤﺘني.
وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﺑﺼﻮت ﻫﺎﻣﺲ ﺑﺎﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ،ﺑﺎﻟﻜﻠﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﻔﻈﺘﻬﺎ ﻋﻨﻬﺎ :أﻟﻒ ﺷﻜﺮ.
وﺗﺬﻛﺮت اﻟﻮرﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﺎ زﻟﺖ أﺣﺘﻔﻆ ﺑﻬﺎ ﰲ ﻗﺮآﻧﻲ اﻟﺼﻐري.
واﺳﺘﺄذﻧﺖ أﻣﻲ ﻟﺘﻨﺰل اﺳﺘﻌﺪادًا ﻟﻺﻓﻄﺎر؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﺎﺋﻤﺔ ﰲ ﻳﻮم ﻧﺼﻒ ﺷﻌﺒﺎن،
وذﻫﺒﺖ ﻣﻨرية ﻣﻌﻬﺎ ﻟﺘﻌ ﱠﺪ ﻟﻬﺎ إﻓﻄﺎرﻫﺎ وﺣﻤﻠﺖ ﻧﺼﻴﺒﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻮﻟﻴﻤﺔ ﰲ ﻃﺒﻖ ﻛﺒري.
ُ
وأﺣﺴﺴﺖ ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺨﻔﻖ ﻓﺠﺎءت ﻣﻨﻰ ﺑﻔﻨﺠﺎﻧﻬﺎ ووﻗﻔﺖ ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻨﻲ ﻣﺘﺠﻬﺔ إﱃ اﻟﺤﻘﻮل،
ﻗﺎﺋﻼ» :أﺗﻌﻠﻤني أﻧﻲ أﺣﺒﻚ ﻛﻤﺎ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أﺣﺪ أن ﻳﺤﺐ؟« ﰲ ﻋﻨﻒ وﻛﺪت أﻫﻤﺲ ﻟﻬﺎ ً
وﻟﻜﻨﻲ ﺳﻤﻌﺖ ﻧﻔﴘ أﻧﺎدﻳﻬﺎ ﺑﺼﻮت ﻣﺘﻬﺪج :ﻣﻨﻰ!
وﺑﻌﺪ أن ﻧﻄﻘﺖ ﺑﺎﺳﻤﻬﺎ ارﺗﺒﻜﺖ وﻟﻢ أﻋﺮف ﻣﺎذا أﻗﻮل ﻟﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا.
ﻗﻠﻴﻼ وﻫﻲ ﺗﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮي. اﻧﻜﻤﺸﺖ ً َ وﺷﻌﺮت أﻧﻬﺎ
ﺗﺘﻨﻔﺲ ﺑﺎﻟﺴﻼموﻛﺎن وﺟﻬﻲ ﻳﺘﻘﺪ ﰲ ارﺗﺒﺎﻛﻲ وﻟﻜﻦ ﻧﻈﺮاﺗﻬﺎ اﻟﴫﻳﺤﺔ اﻟﺼﺎﻓﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﱠ
ﻄﻨَﻌﺔ ﻳُﺸﺒﻪ ﻃﻠﻌﺔ اﻟﻔﺠﺮ ﰲ ﺑﻮاﻛري اﻟﺼﻴﻒ، واﻟﺜﻘﺔ ،وﻛﺎن وﺟﻬُ ﻬﺎ اﻟﺨﺎﱄ ﻣﻦ ﻛﻞ زﻳﻨﺔ ﻣُﺼ َ
ﻓﺎﻣﺘﺰج ﻣﺎ ﰲ ﻗﻠﺒﻲ ﻣﻦ اﻟﺤﺐ اﻟﻌﻤﻴﻖ اﻟﻐﺎﻣﺮ ﺑﺸﻌﻮر آﺧﺮ ﻣﻦ اﻻﺣﱰام واﻟﺮﺣﻤﺔ اﻟﻘﻮﻳﺔ
ﻳﺒﻖ ﻋﻨﺪي أﺛﺮ ﻣﻦاﻟﻐﺎﻣﺮة ،وﺻﺎر أﺑﻌﺪ ﳾء ﻣﻨﱢﻲ أن أﻗﻮل ﻟﻬﺎ ﻛﻠﻤﺔ ﺗُﺴﺒﱢﺐ ﻟﻬﺎ ﺣﺮﺟً ﺎ ،وﻟﻢ َ
اﻻرﺗﺒﺎك ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ :ﻋﻨﺪي ﺳﺆال ﺳﺨﻴﻒ ﻓﺄرﺟﻮ ﻋﻔﻮك ،وﻟﻚ أن ﺗﻤﺘﻨﻌﻲ ﻋﻦ اﻹﺟﺎﺑﺔ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ ﺑﺴﺎﻃﺔ :وﻣﺎذا ﻳﻤﻨﻌﻨﻲ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻫﻤﺴﺔ :ﻫﻞ ﱄ أن أﺳﺄﻟﻚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻚ؟ أأﻧﺖ ﺳﻌﻴﺪة؟ أﻗﺼﺪ ﻫﻞ أﻧﺖ ﺳﻌﻴﺪة
ﺑﻬﺬه اﻟﺨﻄﺒﺔ؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﺑﻐري ﺗﺮدﱡد :ﻟﻢ أﻓﻜﺮ ﰲ ﻫﺬا.
193
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻓﻌﺔ :ﰲ ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻚ؟ ﰲ ﴍﻛﺔ ﺣﻴﺎﺗﻚ؟ أﻫﺬا ﻏري ﺟﺪﻳﺮ ﺑﺎﻟﺘﻔﻜري؟
ﻛﻨﺖ ﰲ ﺣﻴﺎة أﺑﻲ أرى اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺷﺨﺼﻪ، ﻓﻘﺎﻟﺖ :ﺛﻖ أﻧﻲ ﻟﻢ أﻓﻜﺮ ﰲ ﻫﺬاُ ،
وﻛﺎن وﺟﻮدي ﻛﻠﻪ ﻣﻨﻄﻮﻳًﺎ ﰲ وﺟﻮده ،وملﺎ ﻓﻘﺪﺗُﻪ ﻓﺠﺄة ذﻫﻠﺖ ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء ﺣﺘﻰ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ،
ﻓﺮاﻏﺎ ﻟﻠﺘﻔﻜري ﰲ أي ﳾء؟وﻫﺬه اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺮﻓﻬﺎ ،ﻣﺘﻰ ﻛﻨﺖ أﺟﺪ ً
ً
ﺗﻄﻔﻼ. ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻋﻨﺎد :ﻋﻨﺪك ﻓﻜﺮة ﻋﺎﻣﱠ ﺔ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،أرﺟﻮ أﻻ ﻳﻜﻮن ﺳﺆاﱄ
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ ﺣﺮارة :ﺑﻞ إﻧﻲ أﺷﻜﺮك ﻋﲆ اﻫﺘﻤﺎﻣﻚ ،وﻛﻨﺖ داﺋﻤً ﺎ واﺛﻘﺔ ﰲ ﺻﺪاﻗﺘﻚ.
وﺷﻌﺮت ﺑﺄن اﻟﻨﱠﺴﻴﻢ ﻳﺤﻤﻞ إﱃ ﺻﺪري إﻛﺴري اﻟﺴﻌﺎدة وﻗﻠﺖ ﰲ ﻣﺮح :ﻫﺬه اﻟﺤﺎرة
ﺗﺸﻬﺪ ﺑﺼﺪاﻗﺘﻲ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،أﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ؟
أﺗﺬﻛﺮﻳﻦ ﻳﺎ ﻣﻨﻰ ﻃﻔﻮﻟﺘﻚ ﻫﻨﺎ؟ أﻣﺎ ﺗﺬﻛﺮﻳﻦ ﺳﻮى أن ﻫﺬه اﻟﺤﺎرة ﻛﺎﻧﺖ ﻓﺴﻴﺤﺔ.
ﻓﺘﺒﺴﻤﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ :أذﻛﺮ أﺷﻴﺎء ﻛﺜرية .ﺑﺎﺋﻌﺔ اﻟﻔﻮل اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ أﻗ ﱢﻠﺪ ﻧﺪاءﻫﺎ ،واﻟﺸﺤﺎذ اﻷﺳﻮد
اﻟﺬي ﻛﻨﺖ أﻓﺰع ﻣﻨﻪ ،وﺟﺤﺶ ﻋﻢ إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺄﻛﻞ اﻟﺨﺲ ﻣﻦ ﻳﺪي ،واﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي
ﻛﺎن ﻳﺼﻮر ﻟﻨﺎ ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ اﻟﻌﺮاﺋﺲ واﻟﺨﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺤﻼوة اﻟﻌﻨﱪ.
ﻗﺎﺋﻼ :وﺳﻴﺪ زﻫري اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳ ِ
ُﺤﺴﻦ اﻟﺼﻬﻴﻞ. وأﺿﻔﺖ ً
ﺿﺤﻜﺔ َﺧﺠﲆ وﻗﺎﻟﺖ :وﻳﻨﺰﻟﻖ ﰲ ﻳﻮم املﻄﺮ ﺣﺘﻰ ﻧﻘﻊ ﻣﻌً ﺎ ﰲ ﺑﺮﻛﺔ اﻟﻄني. ً ْ
ﻓﻀﺤﻜﺖ
وﻫﺰزت رﺟ َﻠﻴﻚِ ﺑﻌﻨﻒ ﻓﻮق
ِ ﻗﺎﺋﻼ :ﻷﻧﻚ رﻓﻀﺖ أن أﺟﺮي ﻋﲆ ﻣﻬﲇ، ﻓﺸﺎرﻛﺘﻬﺎ اﻟﻀﺤﻚ ً
ﺻﺪري ﻷﺟﺮي.
وﺟﺎءت ﻣﻨرية ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻓﻘﺎﻟﺖ :أرﻳﺪ أن أﺷﺎرك ﰲ اﻟﻔﻜﺎﻫﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ :ﻣﺎ ﺗﺰال ﻣﻨﻲ ﺗﺬﻛﺮ ﻳﻮم وﻗﻌﻨﺎ ﰲ ﺑﺮﻛﺔ اﻟﻄني وأﻧﺎ أﺟﺮي ﺑﻬﺎ ﻛﺎﻟﺤﺼﺎن.
ووﻗﻔﺖ أﻧﺎ ﻋﲆ اﻟﺮﺻﻴﻒ أﺑﻜﻲ ﻣﻌﻜﻤﺎ ،ﻣﺎ ﻟﻜﻤﺎ ﺗﻘﻔﺎن ﻫﻜﺬا ﺑﻔﻨﺠﺎﻧني ﻓﺎرﻏني؟ ُ ﻓﻘﺎﻟﺖ:
إذن ملﺎذا ﺗﻌﺒﺖ ﰲ ﺻﻨﻊ ﻫﺬه اﻟﻔﻄﺎﺋﺮ؟
ﻓﴪﻧﺎ إﱃ اﻟﺮﻛﻦ وأﺧﺬت ﻣﻨرية ﺗﻮزع ﻋﻠﻴﻨﺎ أﺻﻨﺎﻓﻬﺎ ،وﻻ أدري أﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ
ﻣﻤﺘﺎزة أم ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻌﺎدﺗﻲ ﺗﺠﻌﻠﻨﻲ أﻟﺬ ﻛﻞ ﳾء ﺣﻮﱄ ،ﻛﺎن ﺿﻮء اﻟﻘﻤﺮ ﺑﺪﻳﻌً ﺎ ورﻓﻴﻒ
ﻣﻨﻌﺸﺎ وﻛﻞ ﻣﺎ ﺗُﺬوﱢق ﺷﻬﻴٍّﺎ ،وﻛﺎن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻓﻮق ﻫﺬا ﻛﻠﻪ ﻓﻜﻬً ﺎ ﻣﻤﺘﻌً ﺎ ﺑﻔﻀﻞ ﺣﻀﻮر ً اﻟﻨﺴﻴﻢ
ﻣﻨﻰ وإﺷﺎرات أﺧﺘﻲ وﺧﻔﺔ روﺣﻬﺎ.
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ اﺳﺘﺄذﻧﺖ ﻣﻨﻰ ﻟﻠﻌﻮدة إﱃ ﻣﻨﺰﻟﻬﺎ ،وأﴏت ﰲ ﻫﺬه املﺮة
ﺗﺴﺎﻫﻠﻬﺎ ﰲ ﻋﺪة ﻣﺤﺎوﻻت ﺳﺎﺑﻘﺔ. ُ ﺑﻌﺪ
وﻧﺰﻟﺖ ﻷﺳري ﻣﻌﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺮﻛﺐ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻋﺮﺑﺘﻬﺎ واﻗﻔﺔ ﻋﻨﺪ رأس اﻟﺤﺎرة ﻋﲆ ﻣﻘﺮﺑﺔ ﻣﻦ
ﻈﻨﺎ ٍّ
ﺟﺎﻓﺎ ﻋﲆ ﻏري ﻋﺎدة. ﺴﻦ ﺣ ﱢ
ﴐﻳﺢ أﺑﻲ ﻃﺎﻗﻴﺔ ،وﻛﺎن اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻟﺤُ ِ
194
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻮاﺣﺪ واﻟﻌﴩون
وﺿﻐﻄﺖ ﺳﺎﻋﺪﻫﺎ إﱃ ﺻﺪري ُ وﻣﺪدت ذراﻋﻲ ﻟﻬﺎ ﻟﺘﺴﺘﻨﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وأﺧﺬت ﻛﻔﻬﺎ ﰲ ﻳﺪي
ﻋﻨﺪ ﻗﻠﺒﻲ.
وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ :أﻛﻮن أﺳﻌﺪ اﻟﻨﺎس ﻳﺎ ﻣﻨﻰ إذا وﻋﺪت أن أﻛﻮن داﺋﻤً ﺎ ﺻﺪﻳﻘﻚ اﻟﻘﺪﻳﻢ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﰲ ﺑﺴﺎﻃﺔ :وﻫﻞ أﻧﺖ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ وﻋﺪ ﺟﺪﻳﺪ؟ ﻻ ﻓﻀﻞ ﱄ إذا ﻗﺮرت ﻫﺬه
اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ ﺑﺼﻮت ﻣﺘﻬﺪج :وﻣﺎ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻪ؟
ﻣﺜﻼ ﻛﻠﻤﺎ ﻛﻨﺖ ﻫﻨﺎ؟ ﻻ ﺗﻨﺲ أﻧﺖ. ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣُﺘﻬﺎﻧﻔﺔ ﺑﻀﺤﻜﺔ ﺻﻐرية :أن ﺗﺰورﻧﺎ ً
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺣﺮارة :ﻫﺬا واﺟﺒﻲ أﻧﺎ ،أو ﺣﻘﻲ أﻧﺎ ،وأﻣﺎ واﺟﺒﻚ أﻧﺖ أو ﺣﻘﻚ ﻓﻬﻮ أن ﺗﻔﱰﴈ
داﺋﻤً ﺎ أﻧﻲ واﻗﻒ إﱃ ﺟﻨﺒﻚ.
ﺗَﻌﺮﻓني ﻋﻨﻮاﻧﻲ ﻃﺒﻌً ﺎ إذا ﺟ ﱠﺪ ﻣﺎ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ وﺟﻮدي ﻫﻨﺎ ،وأﻣﺎ أﻧﺎ ﻓﻌﻨﻮاﻧﻚ ﻫﻨﺎك أﺑﻌﺚ
إﻟﻴﻪ رﺳﺎﻻت ﰲ اﻟﺼﺒﺎح واملﺴﺎء وﰲ ﻛﻞ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺎت اﻷﻳﺎم.
وأﴍت إﱃ اﻟﺴﻤﺎء اﻟﺼﺎﻓﻴﺔ ﰲ ﺿﻮء اﻟﺒﺪر اﻟﻜﺎﻣﻞ ،وﻛﻨﺎ ﻗﺪ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ اﻟﺸﺎرع ﻓﱰﻛﺖ
ﻣﻨﻰ ذراﻋﻲ ورﻛﺒﺖ ﻋﺮﺑﺘﻬﺎ وﻋﺪت إﱃ ﺑﻴﺘﻲ ﻛﺄﻧﻲ أﺳﺒﺢ ﻓﻮق اﻟﻬﻮاء ،ﻟﻢ ﺗَ ُﻘﻞ ﱄ ﺷﻴﺌًﺎ ﴏﻳﺤً ﺎ
ﻋﻦ ﺧﻄﺒﺔ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻨﺪﻫﺎ أﻣ ًﺮا ﻏري ﺟﺪﻳﺮ ﺑﺄن ﺗﻔﻜﺮ ﻓﻴﻪ ،أﻻ ﻳﻜﻔﻴﻨﻲ
ﻫﺬا؟ أﻻ ﻳﻜﻔﻴﻨﻲ أﻧﻬﺎ ﺗﺮﻛﺖ ﻳﺪﻫﺎ ﰲ ﻳﺪي ﻛﻞ ﻫﺬه املﺴﺎﻓﺔ ﺑني اﻟﺒﻴﺖ واﻟﺸﺎرع؟ أﻻ ﻳﻜﻔﻴﻨﻲ
أﻧﻬﺎ دﻋﺘﻨﻲ إﱃ زﻳﺎرة ﻛﻠﻤﺎ ﻋﺪت إﱃ دﻣﻨﻬﻮر؟ ﻫﺎ ﻫﻮ ذا ﻏﺮض ﻧﺒﻴﻞ أﻋﻴﺶ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ إذا أردت
أن ﻳﻜﻮن ﻟﺤﻴﺎﺗﻲ ﻣﻘﺼﺪ ﻧﺒﻴﻞ؛ ﻷﻧﻪ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻠﻨﻲ أﻗﺪم ﻋﲆ ﻛﻞ ﻋﻤﻞ ﻧﺒﻴﻞ ،ﺳﺄﻋﻴﺶ ﻟﻬﺎ.
195
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﲏ واﻟﻌﴩون
وذﻫﺒﺖ ﻗﺼﺪًا إﱃ دار اﻟﺠﺮﻳﺪة ،وﻗﺒﻞ أن أﻓﺮغ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺔ ُ ﻋﺪت ﰲ اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺘﺎﱄ إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة، ُ
ً
ﻛﻨﺖ أﻛﺘﺒﻬﺎ ﺳﻤﻌﺖ ﻃﺮﻗﺎ ﻋﲆ اﻟﺒﺎب ،وﻛﺎﻧﺖ دَﻫﺸﺘﻲ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ املﻘﺎﻟﺔ اﻟﻨﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ُ
رأﻳﺖ أﻣﺎﻣﻲ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ.
»ﻣﺎذا ﺟﺎء ﺑﻚ إﱃ ﻫﻨﺎ؟«
ﺻﺤﺖ ﺑﻪ ﰲ ﻋﻨﻒ ﻳُﺸﺒﻪ اﻟﺘﻬﺪﻳﺪ. ُ ﻫﺬا ﻣﺎ
ﺷﺨﺼﺎ آﺧﺮً ودﺧﻞ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻣُﺒﺘﺴﻤً ﺎ وﻋﻴﻨﺎه ﺗﻠﻤﻌﺎن ملﻌﺎﻧًﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن
ﻧﻈﻴﻔﺎ ﻓﺎﺧ ًﺮا ﻣﻤﺎ ﻳُﺴﻤﻴﻪ أﻫﻞ دﻣﻨﻬﻮر ﺑﺎﻟ » ِﺑﻨِﺶ«،ً ﻏري اﻟﺬي ﻋﺮﻓﺘﻪ ،ﻛﺎن ﻳَﻠﺒﺲ ﺛﻮﺑًﺎ ﺻﻮﻓﻴٍّﺎ
وﺗﺘﺪﱃ ﻣﻦ ﻛﺘﻔِ ﻪ »ﻛﻮﻓﻴﺔ« ذات ﴍارﻳﺐ ﱠ وﻳﺒﺪو ﻣﻦ ﻓﺘﺤﺔ ﺻﺪره »ﻗﻔﻄﺎن« ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺮ،
اﻟﺸﻌﺮ اﻷﺳﻮد ذات ﻣﻘﺒﺾ ﻣﻦ ﻣﻨﺸﺔ ﻣﻦ ﱠ ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وﻋﲆ رأﺳﻪ ﻃﺮﺑﻮش ﻧﻈﻴﻒ ،وﰲ ﻳﺪِه ﱠ
اﻟﻌﺎج.
وﻟﻢ أﺷﻚ ﰲ أن ﻫﺬا املﻈﻬﺮ اﻷﻧﻴﻖ ﺛﻤﺮة ﻟﻠﴪﻗﺔ اﻟﺘﻲ أﻋﺮﻓﻬﺎ ،وﻟﻢ ﻳُﺠﺒﻨﻲ ﻋﲆ ﺻﻴﺤﺘﻲ ﱠ
ُ
»ﻟﺴﺖ ﻛﺮﳼ ﻓﺠﻠﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﺎدﺋًﺎ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮل ﱄ:
ﱟ إﻻ ﺑﺘﻠﻚ اﻻﺑﺘﺴﺎﻣﺔ اﻟﺠﺎﻣﺪة ،وذﻫﺐ إﱃ أﻗﺮب
وﻗﻤﺖ واﻗﻔﺎً
ُ ودﻓﻌﺖ اﻟﻜﺮﳼ اﻟﺬي أﻧﺎ ﻋﻠﻴﻪ إﱃ اﻟﻮراء، ُ ُ
ﻓﻜﺪت أﻧﻔﺠﺮ ﻣﻦ اﻟﻐﻴﻆ، أﻋﺒﺄ ﺑﻚ«.
ﺪﺧﻞ ﻋﻨﺪي؟ وﻗﻠﺖ ﰲ ﺣﻨﻖ :ﻣﻦ أذن ﻟﻚ أن ﺗَ ُ
ﻟﺴﺖ ﺷﺤﺎذًا ﺣﺘﻰ ُ ﻓﻘﺎل ﺑﺼﻮت ﻫﺎدئ :ﻫﺬا ﻟﻘﺎء اﻟﻀﻴﻒ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي؟ ﻳﺎ أﺧﻲ
ﺗﻄﺮدﻧﻲ ﻫﻜﺬا ،أﻫﺬا ﺟﺰاﺋﻲ ﻷﻧﻲ ﺣﴬت إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﰲ اﻟﺪرﺟﺔ اﻷوﱃ ﻷﺑﺤﺚ ﻋﻨﻚ ،وﻛﻞ
ﻳﻮم ﺟﻨﻴﻪ أﺟﺮة ﺗﺎﻛﴘ أدور ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ،ﺛﻢ أذﻫﺐ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻚ ﻓﺄﺑﻘﻰ ﰲ اﻧﺘﻈﺎرك إﱃ ﻧﺼﻒ
اﻟﻠﻴﻞ ،ﺛﻢ أﻧﺎم ﻋﲆ اﻟﻜﻨﺒﺔ ﺑﺪون ﻏﻄﺎء؟ اﻟﺤﻤﺪ هلل ﻷﻧﻲ ﻻ أرﻳﺪ ﻣﻨﻚ اﻹﺣﺴﺎن ﻳﺎ ﳼ ﺳﻴﺪ،
ﻟﻠﺴﺎﻋﻲ ﻳُﺤﴬ ﱄ ﻗﻬﻮة. اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻳﺎ أﺧﻲ ﺳﺎﻗﻴﺔ واﻟﻘﻮادﻳﺲ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﺗُﻔﺮغ واﻟﺘﺤﺘﺎﻧﻴﺔ ﺗﻤﻸ ،ﻗﻞ ﱠ
ﱠ
وﺻﻔﻖ ﻟﻴﻄﻠﺐ اﻟﻘﻬﻮة.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
198
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ واﻟﻌﴩون
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺣﻨﻖ :ﻫﻞ ﺗﻨﻜﺮ؟ ﻫﻞ ﺗﺠﺮؤ؟ ﻫﺬه املﻼﺑﺲ وﻫﺬه املﻈﺎﻫﺮ واﻟﺪرﺟﺔ اﻷوﱃ ﰲ
اﻟﺴﻜﺔ اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ وﺗﺎﻛﴘ وﻛﻞ ﻳﻮم ﻛﻢ ﺟﻨﻴﻪ ،ﻛﻞ ﻫﺬا وﺗﻘﻮل إﻧﻚ ﻟﻢ ﺗﴪﻗﻪ؟
ﻓﻀﺤﻚ ﺿﺤﻜﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺳﻤﻌﺘﻬﺎ ﻛﺄﻧﻲ أﺳﻤﻊ ﺿﺤﻜﺔ ﺷﻴﻄﺎن ،وﻛﺪت أﻗﻮم إﻟﻴﻪ ﻓﺄﻗﺬف
ﺑﻪ ﻣﻦ اﻟﺒﺎب ،وﻟﻜﻨﻪ ﻧﻈﺮ إﱄ ﱠ ﺛﺎﺑﺘًﺎ وﻗﺎل :ﷲ ﻳﺴﺎﻣﺤﻚ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
اﺳﻤﻊ ﻳﺎ ﳼ ﺳﻴﺪ ﺣﻜﺎﻳﺔ ﻇﺮﻳﻔﺔ وﷲ ،ﺑﻌﺪ ﻣُﻘﺎﺑﻠﺘﻨﺎ ﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ إﻳﺎﻫﺎ ﺟﺎء ﱄ ﻣﺼﻄﻔﻰ
ﻋﺠﻮة ﻳَﺪﻋُ ﻮﻧﻲ ملﻘﺎﺑﻠﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﺎﺷﺎ ﺧﻠﻒ ،ﻓﺬﻫﺒﺖ.
واﻟﺴﻼم ﻋﻠﻴﻜﻢ … ﻋﻠﻴﻜﻢ اﻟﺴﻼم ،اﺗﻔﻀﻞ ﻳﺎ ﳼ ﺣﻤﺎدة وﻫﺎت ﻗﻬﻮة ﻳﺎ وﻟﺪ! وﻛﻴﻒ
اﻷﺣﻮال؟ واﻟﻈﺮف واﻷدب ،وﻗﺎل ﱄ اﻟﺒﺎﺷﺎ» :اﺳﻤﻊ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة ،أﻧﺖ رﺟﻞ ﻧﺒﻴﻪ وﻋﻈﻴﻢ وأﺣﺐ
أن ﺗﺸﺘﻐﻞ ﻋﻨﺪي«.
وﺑﺪأت أﺳﺘﻤﻊ إﻟﻴﻪ ﰲ ﺷﻐﻒ وﺑﺪأت أﺷ ﱡﻢ راﺋﺤﺔ ﻣﻜﻴﺪة.
ﻗﺎﺋﻼ :أﻗﻮل ﻟﻚ اﻟﺤﻖ .ﻟﻌﺐ اﻟﻔﺎر ﰲ ﻋﺒﻲ وﻗﻠﺖ ﻟﻪ:وﺑﻌﺪ ﻟﺤﻈﺔ ﺻﻤﺖ واﺳﺘﻤﺮ ﺣﻤﺎدة ً
»ﺧﺪاﻣﻚ ﻳﺎ ﺑﺎﺷﺎ «.وﻟﻜﻨﻲ ﻗﻠﺖ ﻟﻨﻔﴘ» :ﺧﺪ ﺑﺎﻟﻚ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة!«
وﻋﺮض ﻋﲇ ﱠ ﻣﺮﺗﺐ ﻋﴩﻳﻦ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ ﰲ اﻟﺸﻬﺮ ﻣﺮة واﺣﺪة ،ﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ» :ﻋﺠﻴﺒﺔ!«
وﺣﺴﺴﺖ أﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ ﻣﻨﱢﻲ ﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻪ ﰲ اﻻﻧﺘﺨﺎب ،ﻟﻜﻨﻲ أردت ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻗﺮار اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ وأﻇﻬﺮت
وﺑﺪﻻ ﻣﻦ إﴏاره ﻋﲆ اﻟﻌﴩﻳﻦ زادﻫﺎ إﱃ ﺛﻼﺛني ﻣﺮ ًة واﺣﺪة ،ﻗﻠﺖ :ﺑﺲ ،ﻻ ﺑﺪ أن ً اﻻﻣﺘﻨﺎع،
اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻌﺒﺔ.
وﻣﻠﺖ ﻋﲆ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻋﺠﻮة وﺳﺄﻟﺘﻪ ﻋﻨﻚ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻫ ﱠﺰ ﱄ رأﺳﻪ ،اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻗﻠﺖ :ﻻ ﺑﺪ أن
اﻟﺒﺎﺷﺎ ﻻ ﻳﻌﺮف ﺣﻜﺎﻳﺔ اﻟﻌﻘﺪ وأﻧﻚ أﺧﺬﺗﻪ ﻣﻨﱢﻲ ،ﻗﻠﺖ ﰲ ﻋﻘﲇ» :ﺑﻌﺪك ﻳﺎ ﺳﻴﺪﻧﺎ اﻟﺒﺎﺷﺎ!«
وﻗﻠﺖ ﻟﻪ» :أرﺟﻮك ﻣﻬﻠﺔ إﱃ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻈﻬﺮ «.وﺧﺮﺟﺖ أﺟﺮي إﱃ ﺑﻴﺘِﻚ وﻗﺎﺑﻠﺖ ﻋﻢ ﻋﺒﺪ اﻟﻬﺎدي
َ
وﺳﻠﻤﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ اﻟﺰﻳﺎت ﻋﲆ ﺑﺎب اﻟﺤﺎرة ،وﺳﺄﻟﺘﻪ ﻋﻨﻚ ،ﻗﺎل ﱄ إﻧﻚ ﺳﺎﻓﺮت ﰲ اﻟﺼﺒﺎح
وﻗﺎل ﻟﻚ ﻣﻊ اﻟﺴﻼﻣﺔ ﻳﺎ ﺑﻮ زﻫري ،وﻋﻨﻬﺎ ورﺟﻌﺖ أﺟﺮي ﻟﻠﺒﺎﺷﺎ ودﺧﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻛﺄﻧﻲ ﻣﺠﻨﻮن،
وﻗﻠﺖ ﻟﻪ» :اﺳﻤﻊ ﻳﺎ ﺑﺎﺷﺎ! أﻧﺖ ﺗﻌﺮف أﻧﻲ أﻧﺎ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ﻻ أﺧﺎف وﻻ أﺧﺠﻞ وﻻ أﺣﺪ
ﻳﺨﺪﻋﻨﻲ ،ﻣﻦ ﻗﺎل ﻟﻚ إﻧﻲ ﺣﻤﺎر أو ﻣﻐﻔﻞ ﺣﺘﻰ ﺗﻀﺤﻚ ﻋﲇ ﱠ ﰲ ﻛﻞ ﺷﻬﺮ ﺑﺜﻼﺛني ﺟﻨﻴﻬً ﺎ؟
وأدرت ﻟﻪ ﻇﻬﺮي ﻷﻧﴫف ،ﻓﻘﺎم اﻟﺒﺎﺷﺎ ُ اﻟﻮرﻗﺔ ﻋﻨﺪي واملﺤﺎﻛﻢ ﻣﻮﺟﻮدة وأﻋﺮف ﺷﻐﲇ!«
وأﺧﺬ ﻳﻼﻃﻔﻨﻲ وأﻣﺮ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺑﺎﻻﻧﴫاف ور ﱠد ﺑﺎب اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻋﻠﻴﻨﺎ وﺑﺪأ ﻳﻔﺎوﺿﻨﻲ ،اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻣﻦ
ﻫﻨﺎ ﻟﻬﻨﺎ اﺗﻔﻘﻨﺎ ﻋﲆ أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ ﻳﻘﺪﻣﻬﺎ إﱄ ﱠ ﺑﺼﻔﺔ أﻣﺎﻧﺔ أﻛﺘﺐ ﺑﻬﺎ ورﻗﺔ أﻋﱰف ﺑﺄﻧﻬﺎ أﻣﺎﻧﺔ
ﻟﴩاء أﻗﻄﺎن ،ووﻋﺪ ﺑﺄن ﻳﺸﱰيَ اﻷﻗﻄﺎن ﻣﻨﱢﻲ ﺑﺎﻟﺴﻌﺮ اﻟﺤﺎﴐ ،واملﻜﺴﺐ ﱄ ﻟﻐﺎﻳﺔ ﺷﻬﺮ
دﻳﺴﻤﱪ ،وأﻧﺖ ﺗﻌﺮف اﻟﺤﻆ إذا اﺑﺘﺴﻢ ﻳﺎ ﺑﻮ زﻫري ،ﰲ اﻟﺼﺒﺢ ﺑﺴﺒﻌني رﻳﺎل وﰲ املﺴﺎء
199
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﺑﺜﻤﺎﻧني رﻳﺎل وﺑﻜﺮه ﺑﺘﺴﻌني رﻳﺎل ،اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﰲ ﻣﺪة ﺷﻬﺮﻳﻦ ﻳﺎ ﻋﻢ ﺳﻴﺪ اﻷﻟﻒ وﺻﻠﺖ إﱃ
ﻋﴩة وأرﺟﻌﺖ ﻟﻪ اﻷﻟﻒ ،وﻣ ﱠﺰﻋﻨﺎ املﺴﺘﻨﺪ ورﺟﻌﺖ إﱃ اﻟﺴﻮق ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﺣﻤﺎدة أﻓﻨﺪي وﳼ
ﻛﻨﺖ ﺗَﺘﻨﺎزل وﺗﺰور ﻣﻜﺘﺒﻲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﺑﻴﻪ ﻳﻜﻮن أﻛﱪ ﴍف ،ﻋﴩة ﺣﻤﺎدة وﺣﻤﺎدة ﺑﻚ ،وﻟﻮ َ
آﻻف ﺟﻨﻴﻪ؟ أﻧﺎ أﴎﻗﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺤﻤﱠ ﺪ ﺧﻠﻒ؟ ﻣﺤﻤﺪ ﺧﻠﻒ ﺑﻦ ﻋﻢ ﺧﻠﻒ املﻨﺠﱢ ﺪ ،ﻛﻞ ﺛﺮوﺗﻪ ﻣﻦ
ﴎﻗﺔ اﻷﻳﺘﺎم واﻷراﻣﻞ واﻷﻣﺮاء املﻌﺘﻮﻫني ،اﻻﺧﺘﺼﺎﴆ ﰲ ﻧﻈﺎرة اﻷوﻗﺎف وإﻳﺠﺎرات اﻷﻣﻼك
ﻛﻨﺖ أﻋﺮف اﻟﴪﻗﺔ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،ﻛﻨﺖ أﺷﺒﻊ وأﻛﺘﴘ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،وﻻ أﺧﺪم أﻧﺎ أﴎﻗﻪ؟ ﻟﻮ ُ
اﻟﻠﺌﺎم ،وﻻ أﻧﺎﻓﻖ ،وﻻ أﴍب اﻟﺰﻓﺖ وﻻ أرﺗﻤﻲ ﻋﲆ أﻛﻮام اﻟﻄني ،ﻟﻮ ﻛﻨﺖ أﻋﺮف اﻟﴪﻗﺔ
واﻟﻨﺼﺐ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ أﺟﺮي ﺑﴪﻋﺔ ﻟﻠﻤﻮت وأﺗﻤﻨﱠﻰ ﻳﻮﻣﻪ ،ﻗﻞ ﱄ :دون ،ﻗﻞ ﱄ :ﺣﻘري ،ﻗﻞ ﱄ:
ﺣﴩة .أﺻﺪق ،ﻟﻜﻦ :ﻟﺺ؟ ﻷ .ﻟﻊ! أﺑﺪًا ﺣﻤﺎدة اﻟﻘﺬر اﻟﺠﺎﺋﻊ اﻟﻌﺎري ﻫﻮ ﺟﺴﻢ ﺣﻤﺎدة؛
اﻟﻌﻈﻢ واﻟﻠﺤﻢ واﻟﺪم .ﻳُﻨﺎﻓﻖ ﻟﻴﺄﻛﻞ ،وﻳﺸﺤﺬ ﻟﻴﺄﻛﻞ.
وﻳﺘﺬ ﱠﻟﻞ ﻟﻴﺠﺪ اﻟﺴﻘﻒ ﰲ اﻟﻠﻴﻞ ،وﻳﺮﴇ ﺑﺎﻹﻫﺎﻧﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻘﻠﺐ اﻟﺠﺎﺋﻊ ،وﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺗﺤﺖ
اﻟﺤﻤﺎدة اﻟﺠﺴﻢ ﻳﻮﺟﺪ ﺣﻤﺎدة اﻟﺼﺤﻴﺢ — ﺣﻤﺎدة اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ — ﻻ ﻳَﺮﴇ أن ﻳﴪق أﺑﺪًا.
ﻃﺎوﻋﺖ دﻓﻌﺘﻲ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻟﻘﻤﺖ إﻟﻴﻪ وأﺧﺬﺗﻪ ﺑني ذراﻋﻲ ،وﻗﺒﻠﺘﻪ ﺑني ُ وﻟﻮ ُ
ﻛﻨﺖ
ﻋﻴﻨﻴﻪ املﺘﻘﺪﺗني ﻛﻌﻴﻨﻲ اﻟﺬﺋﺐ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻧﻈﺮت إﻟﻴﻪ ﻛﻤﺎ أﻧﻈﺮ إﱃ ﺟﺪول املﺎء اﻟﺼﺎﰲ اﻟﺬي
ﻳﺨﺮج ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﻣﻮاد املﺠﺎري ﰲ ﻣﺰرﻋﺔ اﻟﺠﺒﻞ اﻷﺻﻔﺮ ،ﻣﺎء راﺋﻖ ﻳﺘﻸﻷ ﰲ ﻧﻮر
اﻟﺸﻤﺲ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻨﻔﺲ ﺗﻌﺎﻓﻪ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗَﻌﺮف أﺻﻠﻪ.
ِﺼﺎ :أﻧﺎ آﺳﻒ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة؛ ﻷﻧﻲ ﻇﻠﻤﺘﻚ ،ﻣﻊ اﻟﺴﻼﻣﺔ. وﻗﻠﺖ ﻟﺤﻤﺎدة ﻣُﺨﻠ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﺑﺎهلل ﻋﻠﻴﻚ ﺻﺎرﺣﻨﻲوﻗﺎم ﺣﻤﺎدة ﻟﻴﻨﴫف ،وﻟﻜﻨﻪ وﻗﻒ ﺣﻴﻨًﺎ ﰲ ﺗﺮدﱡد ﺛﻢ ﺿﺤﻚ ً
ﺑﻜﻠﻤﺔ ،ﻻ أﺣﺐ أن أزاﺣﻤﻚ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ ،وأرﻳﺪ أن ﺗﻘﻮل ﺑﺎﻟﴫاﺣﺔ ،ﻣﺎ ﺷﻌﻮرك ﻣﻦ ﺟﻬﺔ
ﻓﻄﻮﻣﺔ؟
َ
وﻓﺎﺟﺄﻧﻲ ﺳﺆاﻟﻪ ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺣﺪة :أﻣﺎ ﺗﻨﴗ ﻫﺬا اﻟﻬﺮاء؟ ﻣﺘﻰ ﻋﺮﻓﺘﻬﺎ؟
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺣﻤﺎﺳﺔ :ملﺎ ﻃﺮﻓﺖ اﻟﺒﺎب ﻧﺰﻟﺖ ﱄ ﻓﻄﻮﻣﺔ ،ﷲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،وﷲ ﻋﻤﺮي ﻣﺎ
رأﻳﺖ ﻋﻴﻨني ﺗﺸﺒﻪ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ،وﺳﺄﻟﺘُﻬﺎ ﻋﻦ اﺳﻤﻬﺎ ،وﻛﺎن ﺻﻮﺗﻬﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﻜﺮوان ﺑﺎهلل ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ
ﺳﻴﺪ ﺻﺎرﺣﻨﻲ.
داﻋﻲ ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺨﻒ ،إذا ﻛﺎﻧﺖ أﻋﺠﺒﺘﻚ ﻓﺘﻠﻔﻊ ﺑﻬﺎ َ ﻓﻘﻠﺖ ﰲ اﺧﺘﺼﺎر :ﻗﻠﺖ ﻟﻚ :ﻻ
وﺗﻔﻀﻞ.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻃﻴﺐ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،ﺗﻠﻔﻴﻌﺔ ﺣﺮﻳﺮ وﷲ اﻟﻌﻈﻴﻢ ،ﻣﺎ رأﻳﻚ ﻓﻬ ﱠﺰ ﻳﺪي ﻣﺮة أﺧﺮى ً
ﰲ أن ﺗُﻘﺪﻣﻨﻲ ﻟﻠﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺣﺴﻨني؟
200
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ واﻟﻌﴩون
وﻣﻊ أﻧﻲ ﻛﻨﺖ أﻋﺮف أن ﺣﻤﺎدة إذا رأى اﻣﺮأة ﺣﺴﻨﺎء ﺻﺎر ﻛﺎﻟﺬﺑﺎﺑﺔ إذا اﻧﺪﻓﻌﺖ إﱃ
ﻃﺒﻖ ﻣﻦ اﻟﻌﺴﻞ ،ﻓﺈﻧﻲ دُﻫﺸﺖ؛ ﻷﻧﻪ ﺗﺪ ﱠﻟﻪ ﺑﻔﻄﻮﻣﺔ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﴪﻋﺔ ،وﻟﻜﻨﻲ ﺷﻌﺮت
ﺑﺎرﺗﻴﺎح داﺧﲇ ﻟﺴﺖ أدري ﺳﺒﺒﻪ.
ﻣﺮرت ﻋﲇ ﱠ ﺑﻌﺪ أن أﻓﺮغ ﻣﻦ ﻋﻤﲇ ،إﱃ اﻟﻠﻘﺎء اﻵن َ ﻳﴪﻧﻲ أن أﻓﻌﻞ إذا
وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﱡ
ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة.
وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺧﺮج ﻣﻦ ﻋﻨﺪي وﺿﻌﺖ ﻳﺪي ﻋﲆ رأﳼ وﻏﺮﻗﺖ ﰲ أﻓﻜﺎري :أﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺒﺎﺷﺎ
اﻟﺬي ﻳُﺮﻳﺪ أن ﻳﺘﻜﻠﻢ ﺑﺎﺳﻢ اﻷﻣﺔ وﻳﺤﺎﺳﺐ اﻟﻮزراء! أﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻨﺘﺰع ﻣﻨﻰ ﻟﻴَﺘﺠﺮ
اﻟﻨﺨﺎس ﺑﺎﻟﺮﻗﻴﻖ؟ وﻗﻤﺖ ﺛﺎﺋ ًﺮا أﺗﻤﴙ ﰲ ﻏﺮﻓﺘﻲ وأﺳﺄل ﻧﻔﴘ ﻛﻴﻒ ﺑﺄﻣﻮاﻟﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺠﺮ ﱠ
َﺴﺘﺤﻖ أن ﻳﺸﻨﻖ؟ﱡ أﴐب ﴐﺑﺘﻲ ،ﻣﺎ ﱄ أﻛﺘﺐ ﰲ اﻟﻔﺮاغ وﻫﺬا اﻟﻮﻏﺪ ﻳ
ودﺧﻞ ﻋﲇ ﱠ اﻟﺴﺎﻋﻲ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻨﱢﻲ املﻘﺎل اﻟﺬي ﻟﻢ أﻓﺮغ ﻣﻨﻪ ﺑﻌﺪ ،ﻓﺎﺳﺘﻤﻬﻠﺘﻪ
ً
ﻣﻘﺎﻻ ﺷﺪﻳﺪًا وﻋﺪت إﱃ ﻣﻜﺘﺒﻲ وﺑﺪأت أﻗﺮؤه ﻣﺮة أﺧﺮى ،ﻛﻨﺖ ﰲ أول اﻷﻣﺮ أﺣﺴﺒﻪ ُ ً
ﻗﻠﻴﻼ
ً
ﺳﺨﻴﻔﺎ ﻻ ﻳﺤﻤﻞ ﻣﻌﻨﻰ ،وﻟﻢ ﻳُﻌﺠﺐ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر وﻳﻬﻨﺌﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﺑﺪا ﱄ ﻓﺎﺗ ًﺮا
أﻓﻜﺮ ﻣﺮﺗني ﻗﺒﻞ أن أﺟﻤﻊ أوراﻗﻪ وأﻣﺰﻗﻬﺎ ﻗﻄﻌً ﺎ ﺻﻐرية ﺛﻢ أرﻣﻲ ﺑﻬﺎ ﰲ ﺳﻠﺔ املﻬﻤﻼت،
ﻣﻘﺎﻻ ﺟﺪﻳﺪًا ﻋﻨﻮاﻧﻪ» :ﻫﻜﺬا ﻳﻜﻮن اﻟﺒﺎﺷﺎ« ،وﰲ ﻧﺼﻒ ﺳﺎﻋﺔ ُ
ﻛﻨﺖ ﻗﺪ أﺗﻤﻤﺘﻪ ً وﺑﺪأت أﻛﺘﺐ
ووﻗﻌﺘﻪ ﺑﺈﻣﻀﺎﺋﻲ وأﺧﺬت أﻗﺮؤه ﻣﺮة أﺧﺮى ،ﻟﻢ أذﻛﺮ اﺳﻢ اﻟﺒﺎﺷﺎ ،وﻟﻜﻦ أوﺻﺎﻓﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻐري
ﺷﻚ ﺗُﺸري إﻟﻴﻪ ،وﻟﻮﻻ ﻋﻠﻤﻲ ﺑﺄن اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻻ ﻳُﺤﺐﱡ أن ﻳﻬﺎﺟﻢ اﻷﺷﺨﺎص ﻣﻬﺎﺟﻤﺔ
ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻟﻜﻨﺖ ﺣﺪدﺗﻪ ﺑﺎﻻﺳﻢ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻣﻴﺰﺗﻪ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺨﻄﺊ أﺣﺪ ﰲ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ.
201
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ واﻟﻌﴩون
ﻟﻢ أَﻋﺠﺐ ﻋﻨﺪﻣﺎ دﻋﻴﺖ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ إﱃ ﻧﻴﺎﺑﺔ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ؛ ﻷﻧﻲ ﴏت ﻣﻨﺬ ﺣني أﺣﺪ ﻧﺠﻮم
اﻟﺠﺮاﺋﻢ اﻟﺼﺤﻔﻴﺔ ،وﻛﺎن ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻛﺎﻟﻌﺎدة ﻣﺰﻳﺠً ﺎ ﻣﻦ ﺗﻬﻢ ﻣُﺘﻌﺪﱢدة ﺟﺎء ﰲ ﺻﺪرﻫﺎ
ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ذﻛﺮ اﻟﻌﻬﺪ وﻣﺎذا أﻗﺼﺪ ﺑﻪ ،ودراﺳﺔ ﻓﻘﻬﻴﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ملﺎ ﺟﺮى ﺑﻪ اﻟﻌﺮف ﻣﻦ إﻃﻼق
ﻗﺎﺋﻼ ﻛﺎﻟﻌﺎدة ً
أﻳﻀﺎ إﻧﻨﺎ ﰲ ﺑﻠﺪ دﺳﺘﻮري ﻟﻔﻆ اﻟﻌﻬﺪ ﻋﲆ املﻠﻮك وﺣﺪﻫﻢ ،وداﻓﻌﺖ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ ً
ﻻ ﻳﺘﺤﻤﻞ ﻓﻴﻪ املﻠﻚ ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ اﻟﺤﻜﻢ؛ ﻓﺎﻟﻌﻬﺪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن إﻻ ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ،ﻓﺎﻧﺘﻘﻞ
اﻟﺤﻮار إﱃ ﺗﻬﻤﺔ اﻟﻄﻌﻦ ﰲ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ واﻟﺘﺤﺮﻳﺾ ﻋﲆ ﻛﺮاﻫﻴﺔ اﻟﻨﻈﺎم ،واﻧﺘﻘﻠﺖ ﺑﺪﻓﺎﻋﻲ ً
أﻳﻀﺎ
ﺤﻘﻖ اﻻﻛﺘﻔﺎء ﺑﺄول ﺑﺮﻫﺎﻧني، إﱃ ذﻛﺮ اﻟﱪاﻫني اﻟﺘﻲ ﺗﺪل ﻋﲆ ﻓﺴﺎد اﻟﺤﻜﻢ ﺣﺘﻰ رأى ا ُمل ﱢ
ورﻓﺾ أن ﻳﺜﺒﺖ اﻟﱪاﻫني اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻫﻤﻤﺖ ﺑﺄن أذﻛﺮﻫﺎ ،ﺛﻢ وﺟﻪ إﱄ ﱠ اﻟﻄﻌﻨﺔ اﻷﺧرية
اﻟﺘﻲ ﺣﺴﺒَﻬﺎ اﻟﻘﺎﺿﻴﺔ؛ وذﻟﻚ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﺄﻟﻨﻲ ﻣﻦ ﺗﻘﺼﺪ ﺑﺎﻟﺒﺎﺷﺎ اﻷﺑﻠﻪ ،اﻟﺒﺎﺷﺎ اﻟﻠﺺ اﻟﺬي
ﺟﻤﻊ ﺛﺮوﺗﻪ ﻣﻦ ﴎﻗﺔ اﻷﻳﺘﺎم واﻷراﻣﻞ واﻷﻣﺮاء املﻌﺘﻮﻫني ،واﻟﺬي ﺗﺨﺼﺺ ﰲ ﻧﻈﺎرة اﻷوﻗﺎف
وإﻳﺠﺎر اﻷﻣﻼك وﴎﻗﺔ اﻟﻴﺘﺎﻣﻰ؟
وﺷﻌﺮت ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺤرية ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﺔ أﺗﺤﺎﳽ ﺑﻬﺎ إﻗﺤﺎم ﺷﺨﺺ ﺧﻠﻒ
ﻓﺄﺧﺬت أﺑني أﻧﻨﻲ ﻻ أﻗﺼﺪ إﻻ املﻌﻨﻰ اﻟﻌﺎم اﻟﺬي ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻪ ُ ﺑﺎﺷﺎ؛ إذ ﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ،
اﻟﺠﻤﻴﻊ ،وﻫﻮ أن اﻟﺴﺎدة أﺻﺒﺤﻮا ﻣﻦ اﻟﺤﺜﺎﻟﺔ ،ﻓﻮﺟﺪ املﺤﻘﻖ ﻓﺮﺻﺘﻪ وأﺧﺬ ﺑﺘﻼﺑﻴﺒﻲ.
واﺳﺘﻤ ﱠﺮ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻃﻮل اﻟﻴﻮم إﱃ أن دار رأﳼ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺐ وﻋﺮض املﺤﻘﻖ ﻋﲇ ﱠ ﻛﻞ
ﻣﺎ ﻛﺘﺒﺘﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﰲ اﻷﻋﺪاد اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وﻣﺎ زال ﻳُﻀﻴﱢﻖ ﻋﲇ ﱠ اﻟﺨﻨﺎق ﺣﺘﻰ ﻗﺬﻓﻨﻲ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ
ﺑﺎﻟﺘﻌﺮﻳﻒ اﻟﺠﺎﻣﻊ املﺎﻧﻊ ﻟﻠﻌﻴﺐ ﰲ اﻟﺬات املﻠﻜﻴﺔ.
ﻳﻤﺲ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺐ أو ﺑﻌﻴﺪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻓﻘﺮأ» :اﻟﻌﻴﺐ ﰲ اﻟﺬات املﻠﻜﻴﺔ ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﴚء اﻟﺬي ﱡ
ﻣﺒﺎﴍة أو ﻏري ﻣﺒﺎﴍة ﺗﴫﻳﺤً ﺎ أو ﺗﻠﻤﻴﺤً ﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺬات«.
ﻗﺎﺋﻼ :ﺗﻌﺮﻳﻒ ﺟﻤﻴﻞ ﻳﺼﻠﺢ ﻷن ﻳﻜﻮن ﴍَ ًﻛﺎ راﺋﻌً ﺎ! ﻓﻀﺤﻜﺖ ً
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻛﺎن ﺟﻮاﺑﻪ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ﻗﺎل :ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺴﱰﻳﺢ اﻵن ﺣﺘﻰ ﻧَﺴﺘﺄﻧﻒ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻓﻴﻤﺎ
ﺑﻌﺪ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻣﺤﺘﺠٍّ ﺎ :ﻣﺎ ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا؟
ﻓﻘﺎل :اﻷﻣﺮ ﺑﺴﻴﻂ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ،ﺳﺘﺒﻘﻰ ﺗﺤﺖ اﻟﺘﺤﻔﻆ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻢ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ.
املﺤﻘﻖ؟ رﺟﻞ ﻳُﺴﺘﺪﻋﻰ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻟﻜﻲ ﻳﻘﺎل ﻟﻪ ﱢ ﻓﺼﺤﺖ ﰲ ﺣﻨﻖ :أﻳﻦ ﻧﺤﻦ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ُ
ﰲ ﻫﺬه اﻟﺴﺎﻋﺔ أن ﻳﻨﺘﻈﺮ ﻣﺤﺠﻮ ًزا ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻢ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ؟
ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻣﻨﻪ إﻻ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ،ﺛﻢ ﻗﺎل :ﻟﻚ ﻃﺒﻌً ﺎ أن ﺗﻄﻠﺐ ﻣﺎﱡ ﻓﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ ﻛﺄن اﻷﻣﺮ ﻻ
ﺷﺌﺖ ﻓﻠﻚ أن ﺗﺘﺼﻞ ﺗﻠﻴﻔﻮﻧﻴٍّﺎ ﺑﻤﻨﺰﻟﻚ أو ﺑﺈدارة اﻟﺠﺮﻳﺪة.َ ﺗﺸﺎء ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ ،وإذا
وﻧﻈﺮت إﻟﻴﻪ ﰲ ﺣﻘﺪ وﻛﺎﻧﺖ اﺑﺘﺴﺎﻣﺘُﻪ ﻣﺎ ﺗﺰال ﺗُﺜري ﻏﻴﻈﻲ ،وﺗﻤﺜﻠﺖ ﱄ ﺻﻮرة ﻏﺮﻓﺘﻲ
ﺤﴬ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺎ أﺷﺎء ،ﺛﻢ ﺗﺬﻛﺮت اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن أﺗﺼﻞ ﺑﻬﺎ ﺗﻠﻴﻔﻮﻧﻴٍّﺎ ﻷﺳﺘَ ِ
وﺟﻌﻠﺖ أﺳﺄل ﻧﻔﴘ» :أﻻ ﻳﻌﺮف أﻧﻲ ﻫﻨﺎ؟ أﻫﻜﺬا ﻳﱰﻛﻨﻲ ﻟﺸﺄﻧﻲ ﻛﺄﻧﱠﻨﻲ ﻻ أﺳﺘﺤﻖ أن ﻳﻘﻒ
إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻲ؟«
وﻗﻠﺖ ﻟﻠﻤﺤﻘﻖ ﰲ ﺣﻨﻖ :ﻟﺴﺖ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﳾء.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﺬا ﺷﺄﻧﻚ ،وﻟﻢ أﻗﻞ ﻟﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﺳﻮى ﻧﻈﺮة ﻏﺎﺿﺒﺔ وﻫﻮ ﻳﻬﻤﺲ إﱃ ﻓﺮﻓﻊ ﻛﺘﻔﻴﻪ ً
اﻟﴩﻃﻲ اﻟﺬي دﺧﻞ إﱃ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ ،ﻓﺤﻴﺎ اﻟﴩﻃﻲ ﺻﺎدﻋً ﺎ ﺑﺎﻷﻣﺮ وأﺧﺬ ﻣﻨﻪ
اﻟﻮرﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﺪ ﺑﻬﺎ ﻳﺪه إﻟﻴﻪ ،وأﺧﺬﻧﻲ ﻣﻦ ذراﻋﻲ ﺧﺎرﺟً ﺎ ﺑﻲ ﻣﻦ ﺑﺎب اﻟﻐﺮﻓﺔ إﱃ ﺣﻴﺚ ﻻ
أدري.
وﴎت ﻣﻌﻪ وﻗﻠﺒﻲ ﻳَﻐﲇ ﻏﻠﻴﺎﻧًﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺄﻧﻲ أﻣﺎم ﻗﻮة ﺟﺒﺎرة ﻻ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ
ﺷﺨﺺ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﺣﺘﻰ أﺗﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﺣﺮﻳﺘﻲ أﻣﺎﻣﻬﺎ.
اﻟﱰﻓﻖ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻛﻨﺖ أﺣﺲ أﻧﻨﻲ ﻻ أﻗﺪر ﱡ ﻛﺎن اﻟﴩﻃﻲ ﻳَﻘﺒﺾ ﻋﲆ ذراﻋﻲ ﰲ ﳾء ﻣﻦ
ﻫﺎﺋﻼ ﻣﺠ ﱠﺮدًا ﻋﻦ اﻷﺷﺨﺎصﻋﲆ اﻻﻧﻔﻼت ﻣﻨﻪ أو ﻣﻘﺎوﻣﺘﻪ ،وﻷول ﻣﺮة ﺷﻌﺮت أن ﻫﻨﺎك ﺷﻴﺌًﺎ ً
واﻟﻬﻴﺌﺎت اﺳﻤﻪ اﻟﺪوﻟﺔ ،ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺮﻧﻲ ﻣﻦ ذراﻋﻲ إﱃ ﺣﻴﺚ ﺗﺸﺎء وﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أﻧﺎ أو ﻏريي
ﻣﻦ اﻷﻓﺮاد أن ﻳﻘﺎوم ﻗﻮﺗﻬﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ وﺳﻌﻲ أن أﺣﻨﻖ ﻋﲆ ذﻟﻚ اﻟﴩﻃﻲ ،اﻟﺬي ﻳﺠ ﱡﺮﻧﻲ ﻣﻦ
ذراﻋﻲ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺆدي واﺟﺒﻪ ﺑﻐري أن ﻳﻜﻮن ﺑﻴﻨﻲ وﺑﻴﻨﻪ ﻣﺎ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ اﻟﺨﺼﻮﻣﺔ أو اﻟﻜﺮاﻫﺔ،
وﻣﻦ ﻳﺪري ﻟﻌﻞ ﻫﺬا اﻟﴩﻃﻲ ﻛﺎن ﻳﻌﻄﻒ ﻋﲇ ﱠ ﰲ ﻗﺮارة ﻧﻔﺴﻪ؟ ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻓﻴﻤﺎ ﻇﻬﺮ ﱄ ً
رﺟﻼ
ﻃﻴﺒًﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻧﻈﺮﺗﻪ ﻧﺤﻮي ﻣﻬﺬﱠﺑﺔ ودﻳﻌﺔ ﺗﻨﻄﻖ ﻗﺎﺋﻠﺔ» :أﻧﺎ آﺳﻒ وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﺣﻴﻠﺘﻲ؟«
ﻫﺎﻣﺴﺎ» :أﺗﺤﺐﱡ أن ﺗﺸﱰي ﺷﻴﺌًﺎ؟« ً ﺑﻞ إﻧﻪ أﻇﻬﺮ ﻋﻄﻔﻪ ﻋﲇ ﱠ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻣﺎل ﻧﺤﻮي
ﻓﺄﺟﺒﺘﻪ ً
ﻗﺎﺋﻼ» :أﺷﻜﺮك«.
204
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ واﻟﻌﴩون
ﻨﺘﻈﺮ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺎب اﻟﺨﻠﻔﻲ ﻟﻠﻤﺒﻨﻰ ،ﻓﺮﻛﺒﺘُﻬﺎ وأﻏﻠﻖ اﻟﴩﻃﻲ اﻟﺒﺎب، وﻛﺎﻧﺖ ﻋﺮﺑﺔ ﻣُﻐﻠﻘﺔ ﺗَ ِ
ُﻨﻄﻮ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ ،ﺣﺘﻰ وﻗﻔﺖ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ وﻧﺰل ﻣﻨﻬﺎ اﻟﴩﻃﻲ وﺳﺎرت اﻟﻌﺮﺑﺔ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ وأﻧﺎ ﻣ ٍ
ﻟﻴﺄﺧﺬﻧﻲ ﻣﻦ ذراﻋﻲ ،وﻋﺮﻓﺖ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ أﻧﻲ داﺧﻞ إﱃ ﻗﺴﻢ ﻋﺎﺑﺪﻳﻦ ،ﺣﺴﻨﺎ!ً
ودﺧﻠﻨﺎ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ اﻟﻀﺎﺑﻂ ﻓﺤﻴﺎه اﻟﴩﻃﻲ وﻣ ﱠﺪ إﻟﻴﻪ ﻳﺪه ﺑﺎﻟﻮرﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻌﻪ ،ﻓﻘﺮأﻫﺎ
ﻛﻠﻤﺔ ﺳﻮى أﻧﻪ ﻧﻈﺮ ﻧﺤﻮي ﻧﻈﺮة ﻓﺎﺣﺼﺔ ً اﻟﻀﺎﺑﻂ وأﺷﺎر ﺑﻴﺪه ﻧﺤﻮ ﻏﺮﻓﺔ ﺑﻐري أن ﻳﻘﻮل
ﻣﻦ أﻋﲆ رأﳼ إﱃ آﺧﺮ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺮى ﻣﻨﱢﻲ وأﻧﺎ واﻗﻒ وراء ﻣﻜﺘﺒﻪ ،وﻟﻢ أﺟﺪ ﴐورة
ﻹﺟﺎﺑﺘﻪ ﺑﻨﻈﺮة ﻏﺎﺿﺒﺔ؛ ﻷﻧﻲ ﺷﻌﺮت ﺑﻤﺎ ﻳُﺸﺒﻪ اﻻﺳﺘﻌﻼء ﻋﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻷﻓﺮاد ،ﻣﺎ ﱄ وﻫﺆﻻء
ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ﺷﻴﺌًﺎ.
ِ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ؟ إﻧﻬﻢ ﻳﺄﺗﻤﺮون ﺑﺄﻣﺮ آﻟﺔ ﺿﺨﻤﺔ ﻻ ﻳﻤﻠﻜﻮن ﱄ ﻣﻌﻬﺎ وﻻ
وأدﺧﻠﺖ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻜﺘﺐ ﺻﻐري واﺣﺪ ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻬﺎ ﳾء ﻏريُه ﻣﻦ اﻷﺛﺎث ،وﺗﺮﻛﻨﻲ
واﻗﻔﺎ ﺧﺎرﺟﻬﺎ ،وﻧﻈﺮت ً اﻟﴩﻃﻲ ﻓﻴﻬﺎ وأﻏﻠﻖ ﺑﺎﺑﻬﺎ وﻻ أدري أذﻫﺐ إﱃ ﺳﺒﻴﻠﻪ أم ﺑﻘﻲ
إﱃ ﺳﺎﻋﺘﻲ وﻛﻨﺖ ﻟﻢ أﻓﻄﻦ إﱃ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻓﻮﺟﺪﺗﻬﺎ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺮاﺑﻌﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ،
ﻳﺎ ﺳﻼم! ﻟﻢ أﻓﻄﺮ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح وﻟﻢ أﻃﻌﻢ ﺷﻴﺌًﺎ ﻃﻮل اﻟﻨﻬﺎر ،وﻣﻊ ﻫﺬا ﻟﻢ أﺟﺪ ً
ﻓﺮاﻏﺎ ﻟﻼﻫﺘﻤﺎم
ﺑﻄﻠﺐ اﻟﻐﺪاء ،وﻫﺠَ ﻢ ﻋﲇ ﱠ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻟﺠﻮع وﺷﻌﺮت ﺑﺄﻧﻲ ﺿﻌﻴﻒ ﻻ أﻛﺎد أﻗﻮى ﻋﲆ اﻟﻮﻗﻮف،
ﻓﺠﻠﺴﺖ ﻋﲆ ﻇﻬﺮ املﻜﺘﺐ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﺎﻓﺬة اﻟﺘﻲ وراﺋﻲ ﺗُﻄ ﱡﻞ ﻋﲆ ﺧﻠﻒ ﻣﺒﻨﻰ اﻟﻘﺴﻢ ،وأﺳﺘﻄﻴﻊ
أن أرى ﻣﻨﻬﺎ املﺘﺎﺟﺮ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ،ﻓﻐريت ﻣﻮﺿﻌﻲ ﺣﺘﻰ أﻗﺪر ﻋﲆ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺨﺎرج ﻷﺷﻌﺮ
ﺑﴚء ﻣﻦ اﻻﺋﺘﻨﺎس ،وﺳﺄﻟﺖ ﻧﻔﴘ أﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن أﺷﱰي ﺷﻴﺌًﺎ آﻛﻠﻪ؟ وﻧﺰﻟﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ ﻋﻦ املﻜﺘﺐ
ﻣﻐﻠﻘﺎ ﺑﺎملﻔﺘﺎح ،ﻓﺨﺒﻄﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﻴﺪي ﻓﻠﻢ ﻳﻠﺒﺚ أن ُﻓﺘﺢ
ً ﻓﺤﺎوﻟﺖ ﻓﺘﺢ اﻟﺒﺎب ،وﻟﻜﻨﻲ وﺟﺪﺗُﻪ
ورأﻳﺖ ﻋﲆ ﺑﺎﺑﻪ ﴍﻃﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﺟﻨﻮد اﻟﻘﺴﻢ ،وﻫﺰ رأﺳﻪ إﱄ ﱠ ﻣﺴﺘﻔﻬﻤً ﺎ ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ ﰲ ﻫﺪوء :أﻻ
ﻳُﻤﻜﻦ أن أﺷﱰي ﻃﻌﺎﻣً ﺎ؟
ﻓﻘﺎل ﺑﻐري اﻫﺘﻤﺎم :اﺳﺄل ﺣﴬة اﻟﻀﺎﺑﻂ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﻐﻀﺐ :وأﻳﻦ ﻫﻮ؟
ﻓﺄﻏﻠﻖ اﻟﺒﺎب ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﺳﺄﺳﺄﻟﻪ.
وﻛﺪت أﺛﺐ ﻷﻣﻨﻌﻪ ﻣﻦ إﻏﻼق اﻟﺒﺎب ﺑﺎملﻔﺘﺎح وﻟﻜﻨﱠﻪ ﺳﺒﻘﻨﻲ ﻓﺄﻏﻠﻘﻪ ،وﻋﺪت إﱃ املﻜﺘﺐ ُ
ﺟﺎﻟﺴﺎ ﻓﻮق ﻇﻬﺮه وﺟﻠﺴﺖ أﻧﻈﺮ إﱃ املﺎرة ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ وﻫﻢ ﻳﺘﺤ ﱠﺮﻛﻮن ﰲ اﺗﺠﺎﻫﺎت ً ﻓﻮﺛﺒﺖ
ﺷﺘﻰ ،ﺷﺎب ﻳﺮﻛﺐ دراﺟﺔ ﰲ وﺳﻂ اﻟﻄﺮﻳﻖ وﻳﻤﺮ ﺑﺨﻔﺔ ﺑني اﻟﺴﻴﺎرات وﻫﻮ ﻳﺘﻠﻔﺖ ﻳﻤﻴﻨًﺎ
وﻳﺴﺎ ًرا ﻛﺄﻧﻪ ﺑﻬﻠﻮان ﰲ ﴎك ،ﻣﺎ أﻣﻬﺮه ﰲ اﻟﺮﻛﻮب وﻣﺎ أﺷﺪ ﻣﺨﺎﻃﺮﺗﻪ! ﻛﺄﻧﻲ ﺑﻪ ﻳﺴﺘﻬني
ﺑﺤﻴﺎﺗﻪ أو ﻳﺘﻤﺘﱠﻊ ﺑﺸﻌﻮر املﺨﺎﻃﺮة ،وﻟﻢ ﻻ ﻳﺨﺎﻃﺮ اﻟﻨﺎس ﺑﺤﻴﺎﺗﻬﻢ ﰲ ﻛﻞ ﳾء؟ ﱠ
إن املﺨﺎﻃﺮة
ﺗﺒﻌﺚ إﱃ اﻟﻨﻔﻮس ﻧﺸﻮة اﻟﻨﺠﺎة داﺋﻤً ﺎ ،ﻓﺘﻜﻮن اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻠﻬﺎ ﺣﻴﺔ ﻣﺜرية إﱃ أن ﻳﺤني اﻟﻘﻀﺎء
205
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
املﺤﺘﻮم .اﻟﺮﻗﺎﺑﺔ ﺗﺤﻴﻞ اﻟﺤﻴﺎة إﱃ ﺳﺠﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ أﻧﺎ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ إذا ﻛﺎن ﻫﺆﻻء
اﻟﻔﺘﻴﺎن اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﺤﺎورون اﻟﺴﻴﺎرات ﰲ اﻟﻄﺮق ﻣﻦ ﻓﻮق دراﺟﺎﺗﻬﻢ ﻻ ﻳُﺮﻳﺪون ﺑﻌﻤﻠﻬﻢ ﻫﺬا إﻻ
أن ﻳﺸﻌﺮوا ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻳﻘﻮﻣﻮن ﺑﻤﻐﺎﻣﺮة ،ﻓﻠﻤﺎذا أﻏﻀﺐ أﻧﺎ ﻣﻦ أﻧﻲ أواﺟﻪ ﻣﻐﺎﻣﺮﺗﻲ؟
وﻣﴣ ﻋﲇ ﱠ وﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ وأﻧﺎ أﺗﺄﻣﻞ وﺟﻮه املﺎرة ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،وأﻗﺮأ ﻋﲆ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﻢ املﻌﻨﻰ
اﻟﺬي ﺗﺪ ﱡل ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻈﺎﻫﺮﻫﻢ؛ ﻓﻤﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﺴري ﻣﺴﱰﺧﻴًﺎ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺤﻠﻢ ،وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﴪع ﻛﺄﻧﻪ
ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺪرك ﻗﻄﺎ ًرا ﻋﲆ وﺷﻚ اﻟﺴري ،وﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻛﺎن ﻻ ﻳﺮﻳﺪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺘﻠﻔﺖ إﱃ وﺟﻮه
اﻵﺧﺮﻳﻦ.
ﺻﺒﻲ وﻓﺘﺎة ﻻ ﻳَﺰﻳﺪ ﻋُ ﻤ ُﺮﻫﻤﺎ ﻋﲆ اﻟﻌﺎﴍة، ﱞ ً
وﻛﺎن ﻣﻤﱠ ﺎ اﺳﱰﻋﻰ ﻧﻈﺮي أﻳﻀﺎ ﻃﻔﻼن؛
ﻄﺎن ﺿﺎﻻن، َﻌﱪاﻧﻪ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺄﻧﻬﻤﺎ ﻗ ﱠ وﻛﺎﻧﺎ ﻳﻘﻄﻌﺎن اﻟﻄﺮﻳﻖ ذﻫﺎﺑًﺎ وإﻳﺎﺑًﺎ ،وﻳ ُ
وﻛﺎن ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻳﺤﻤﻞ ﰲ ﻳﺪه ﻋﻠﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﻴﺢ ﻣُﻌ ﱠﻠﻘﺔ ﰲ ﺳﺎﻋِ ﺪِه ﺑﺨﻴﻂ ،ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻜﺎد ﻳﺮى
»ﻋﻘﺐ« ﺳﻴﺠﺎرة ﻳﺴﻘﻂ ﻋﲆ اﻷرض ﺣﺘﻰ ﻳَﻬﺒﻂ إﻟﻴﻪ ﻛﺄﻧﻪ ﺻﻘﺮ ،وﺟﻌﻠﺖ أﺗﺄﻣﻞ وﺟﻬَ ﻴﻬﻤﺎ
وأﺗﺼﻮر ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﺷﻜﻠﻬﻤﺎ إذا زال ﰲ اﻟﻮﺳﺦ ﻋﻦ وﺟﻬَ ﻴﻬﻤﺎ وﻟﺒﺴﺎ ﺛﻴﺎﺑًﺎ ﻏري اﻟﺨِ َﺮق املﻤ ﱠﺰﻗﺔ
ﺗﺮف ﻓﻮق ﺟﺴﺪَﻳﻬﻤﺎ اﻟﻨﺤﻴ َﻠني ،وﻟﻢ أﺷ ﱠﻚ ﰲ أﻧﻬﻤﺎ ﻳﻜﻮﻧﺎن ﻇﺮﻳﻔني رﺷﻴﻘني ﻟﻮ أﻛﻼ ﱡ اﻟﺘﻲ
ﻳﺘﻐريان إذا ُﻏﺴﻞ ﻋﻨﻬﻤﺎ اﻟﻮﺳﺦ؟ ﻫﻞ ﻳُﻤﻜِﻦ أن ﻳﺘﺤﻮﱠﻻ وﻟﺒﺴﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ اﻵدﻣﻴﻮن ،وﻟﻜﻦ ٍّ
أﺣﻘﺎ ﱠ
ﺗﴪﺑﺖ إﱃ أﻋﻤﺎﻗﻬﻤﺎ؟ ﻇﺮﻳﻔني؟ وﻛﻴﻒ ﻳُﻤﻜﻦ أن ﺗﺰال اﻷوﺳﺎخ اﻟﺘﻲ ﱠ َ إﱃ ﻃﻔ َﻠني
وﻗﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﴫي ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ﻣﻦ واﻧﻘﺒﺾ ﺻﺪري ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻤﺜﱠﻠﺖ اﻷﻟﻮف اﻟ َﻜﺜرية اﻟﺘﻲ َ
ﱧﰲ ﻫﺆﻻء اﻷﻃﻔﺎل ،وﺳﺄﻟﺖ ﻧﻔﴘ ﻛﻴﻒ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﺘﻤﺘﱠﻊ ﺑﺎﻟﻄﻌﺎم واﻟﴩاب ،وﻛﻴﻒ ﻧﻄﻤ ﱡ
ﺑﻴﻮﺗﻨﺎ وﻣﻊ أﻓﺮاد أﴎاﺗﻨﺎ وﻫﻨﺎك أﻟﻮف ﻣﻦ ﻫﺆﻻء املﺴﺎﻛني ﻳﺴريون ﻫﻜﺬا ﻛﺎﻟﻘﻄﻂ اﻟﻀﺎﻟﺔ؟
ورأﻳﺖ اﻟﴩﻃﻲ اﻟﺬي ﺟﺎء ﺑﻲ إﱃ اﻟﻘﺴﻢ وﺳﻤﻌﺘُﻪ ُ وﻗﻄﻊ ﻋﲇ ﱠ ﺗﻔﻜريي َﻓﺘﺢُ ﺑﺎب اﻟﻐﺮﻓﺔ،
ﻳﺴﺄﻟﻨﻲ :أﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪ ﺷﻴﺌًﺎ؟
رﻏﻴﻔﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﺒﺰ وأي ً ﻓﺸﻜﺮﺗﻪ ﻣﻦ أﻋﻤﺎق ﻗﻠﺒﻲ ،وﻗﻠﺖ ﻟﻪ» :ﻫﻞ ﺗﺘﻜ ﱠﺮم ﺑﺄن ﺗﺸﱰي ﱄ
ﻧﻈﺮت إﱃ ﺳﺎﻋﺘﻲ وﻛﺎﻧﺖ ﻣﺎ ﺗﺰال ُ وﻣﺪدت ﻳﺪي إﻟﻴﻪ ﺑﻨﺼﻒ رﻳﺎل ،ﺛﻢ ُ ﳾء ﻳُﺆ َﻛﻞ ﻣﻌﻪ؟«
َﻘﻴﺴﻮن اﻟﻮﻗﺖ إن اﻟﺬﻳﻦ ﻳ ُ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ،ﻛﻞ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﺳﺎﻋﺔ واﺣﺪة ﻣﻨﺬ دﺧﻠﺖ ﰲ اﻟﻐﺮﻓﺔ؟ ﱠ
ﻳﺪﺧﻠﻮا إﱃ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻟﻴﺴﺠﻨﻮا ﺑﻬﺎ ،أﻟﻴﺲ اﻟﺰﻣﻦ ﺧﺮاﻓﺔ ﻣﻦ ﺗﺄﻟﻴﻒ اﻟﻌﻘﻞ ﺑﺎﻟﺴﺎﻋﺔ ﻟﻢ ُ
اﻟﺒﴩي ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﺒﺎد؟
وذﻫﺐ ﻓﻜﺮي إﱃ دﻣﻨﻬﻮر وﻣ ﱠﺮت ﺑﺬﻫﻨﻲ ﺻﻮر ﻛﺜرية ،ﻳﺎ ﺗﺮى ﻛﻴﻒ ﺣﺎل أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ؟
واﻟﺤﻤﺪ هلل ﻋﲆ أﻧﱠﻬﻤﺎ ﻻ ﺗَﻌﻠﻤﺎن أﻧﻲ ﻫﻨﺎ ،وﻣﻨﻰ؟ ﻫﻞ ﺗﺒﻠﻐﻬﺎ ﺗﺤﻴﺎﺗﻲ اﻟﺘﻲ أﺑﻌﺜﻬﺎ إﻟﻴﻬﺎ ﻛﻞ
ﺻﺒﺎح وﻛﻞ ﻣﺴﺎء ﻣﻊ إﴍاق اﻟﺸﻤﺲ وﻃﻠﻮع اﻟﻨﺠﻢ؟ ﻻ ﺑ ﱠﺪ ﱄ ﻣﻦ أن أُﺳﺎﻓﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻏﺪًا أو
206
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ واﻟﻌﴩون
ُ
ﻗﺎﺑﻠﺖ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﺑﻌﺪ ﻏ ٍﺪ إذا ﻓﺮﻏﺖ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﺴﺨﻴﻒ ،وﻟﻦ أﻧﴗ ﻏﺪًا إذا
أن أﻋﺘﺐ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﺘﺒًﺎ ﺷﺪﻳﺪًا؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺒﺄ ﺑﺎﻟﺤﻀﻮر ﻟﻴﻘﻒ إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻲ أو ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻨﻲ ،ﺑﻞ إﻧﻪ
ﻟﻢ ﻳﻌﺒﺄ أن ﻳُﺮﺳﻞ ﺳﻜﺮﺗريه ﻟﻴﺴﺄل ﻋﻨﻲ.
وﻓﺘﺢ اﻟﺒﺎب ﻣﺮة أﺧﺮى ودﺧﻞ ﴍﻃﻲ ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻢ أره ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،ﻓﻘﺎل ﱄ ﺑﺼﻮت ﺟﺎﻣﺪ: ُ
ﺗﻌﺎل ﻳﺎ أﻓﻨﺪي.
ﻗﺎﺋﻼ ﰲ ﻧﻔﴘ» :ﻫﺬا ﳾء ﻃﺒﻴﻌﻲ وﻟﻢ أﺟﺪ ﴐورة ﻟﺴﺆاﻟﻪ ﻋﻦ ﻗﺼﺪه ﻓﴪت وراءه ً
ﻷﻧﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن أﻗﴤ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﻫﻨﺎ«.
وﺳﺎر ﺑﻲ ﺣﺘﻰ وﻗﻒ ﻋﻨﺪ ﺑﺎب ﻏﺮﻓﺔ أﺧﺮى ﻋﲆ ﺑُﻌﺪ ﻧﺤﻮ ﺧﻤﺲ ﺧﻄﻮات ،وﻓﺘﺤﻬﺎ
ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﺗﻔﻀﻞ ﻫﻨﺎ!
وﻇﻨﻨﺖ ﻃﺒﻌً ﺎ أﻧﻬﺎ ﻏﺮﻓﺔ أُﻋﺪﱠت ﻟﻨﻮﻣﻲ ،ﻓﺪﺧﻠﺘﻬﺎ ﻣﺮﺗﺎﺣً ﺎ وﻟﻢ أﻓﻄﻦ إﱃ أن اﻟﺮﺟﻞ ﺳﻴﻐﻠﻖ
اﻟﺒﺎب وراﺋﻲ ﺑﻬﺬه اﻟﴪﻋﺔ ،وﻣﺎ ﻛﺎد اﻟﺒﺎب ﻳُﻐﻠﻖ ﺣﺘﻰ رأﻳﺖ أﻧﻲ ﰲ ﻏﺮﻓﺔ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﺿﻴﻘﺔ ﻻ
وﺳﻘﻔﻬﺎ ﻻ ﻳﻌﻠﻮ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ أﻣﺘﺎر ،وﻛﺎﻧﺖ ﺣﺠﺮة ﻗﺬرة ُ ﺗﺰﻳﺪ ﺳﻌﺘﻬﺎ ﻋﲆ ﻣﱰﻳﻦ ﰲ ﺛﻼﺛﺔ،
َ
ُﺮش ﻗﺬِر وﻧﺎﻓﺬة ﱠ
اﻟﺠﺪران واﻷرض ،ﻋﺎرﻳﺔ ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻬﺎ ﳾء ﺳﻮى ﻛﺮﳼ ﻧِﺼﻒ ﻣﺤﻄﻢ وﺑ ٍ
ﺻﻐرية ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ إﻻ إذا ﻣﺪدت ﻃﺮف ﻳﺪي.
ﴎي وﻗﻠﺒﻲ ﻳﺘﻤ ﱠﺰق ﻣﻦ اﻟﻐﻴﻆ ،وﺣﺎوﻟﺖ أن أﺟﻠﺲ »وﻣﺎذا أﻓﻌﻞ ﻫﻨﺎ؟« ﻫﻜﺬا ﻗﻠﺖ ﰲ ﱢ
ﻓﻘﻤﺖ ﻏﺎﺿﺒًﺎ ،وﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ:ُ ﻋﲆ اﻟﻜﺮﳼ ﻷﻓ ﱢﻜﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻳَﻨﺒﻐﻲ أن أﺻﻨﻊ ،وﻟﻜﻨﱠﻪ ﻛﺎد ﻳﻨﻬﺎر ﺑﻲ
»ﻫﻞ أﻋﻮد إﱃ اﻟﺤﻤﺎﻗﺔ اﻟﺘﻲ ارﺗﻜﺒﺘُﻬﺎ ﰲ دﻣﻨﻬﻮر ﻋﻨﺪﻣﺎ ُﺳﺠﻨﺖ ﰲ اﻟﺠﺤﺮ املﻈﻠﻢ ﻓﺄﻗﻮم إﱃ
اﻟﺒﺎب ﻷدﻗﻪ ﺑﻴﺪي ورﺟﲇ ورأﳼ ﻛﺄﻧﻨﻲ ﻣﺠﻨﻮن؟« ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻷﺧﺮى ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺗﺆﻧﺴﻨﻲ
ﺑﻨﺎﻓﺬﺗﻬﺎ املﻄﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،وأﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺟﻠﺲ ﻋﲆ املﻜﺘﺐ اﻟﺬي ﻓﻴﻬﺎ ،وﺷﻌﺮت ﺑﻠ ِﺴﻌﺔ ﰲ
ﻓﻠﻤﺴﺖ ﻳﺪي ﺷﻴﺌًﺎ ﺣﺴﺒﺘﻪ ﺑﺮﻏﻮﺛًﺎ ﻓﺮﻓﻌﺘﻪ إﱃ ﻛﻔﻲ َ ﻷﺗﺤﺴﺲ ﻣﻮﺿﻌﻬﺎ، ﱠ ُ
ﻓﻤﻠﺖ أﺳﻔﻞ ﺳﺎﻗﻲ
ﰲ ﺣﺬر ﺧﻮف أن ﻳﻬﺮب ﻣﻨﻲ ،ﻓﺈذا ﻫﻲ ﻗﻤﻠﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺗَﻌﺠﺐ ﻛﻴﻒ ﺗﺼﻞ إﱃ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺤﺠﻢ،
ورﻣﻴﺖ ﺑﻬﺎ ﺑﻌﻴﺪًا ﰲ اﺷﻤﺌﺰاز ،وأﺧﺬت أﺧﺒﻂ اﻟﺒﺎب ﰲ ﻋﻨﻒ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﺷﻌﺮت ﺑﻠﺴﻌﺔ أﺧﺮى
ُ
وﺷﻌﺮت ﻛﺄن ﺑﺪﻧﻲ ﻋﺶ ﻋﺎﻣﺮ ﺑﺎﻟﻘﻤﻞ، وﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن اﻟﱪش اﻟﺬي ﻫﻨﺎك ﱞ ﻓﻜﺪت أﻓﻘﺪ ﺻﻮاﺑﻲُ ،
ﻛﻠﻪ ﻳَﻠﺴﻌﻨﻲ ،وﻛﺄن ﰲ ﻛﻞ ﻗرياط ﻣﻨﻪ دﺑﻴﺐ ﻗﻤﻠﺔ ،وﻓﺰع اﻟﴩﻃﻲ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻦ اﻟﺪق
اﻟﻌﻨﻴﻒ ﻓﻔﺘﺢ اﻟﺒﺎب واﺳﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎ ﻟﻚ ﻳﺎ أﻓﻨﺪي؟
وﻛﺎن ﻛﻞ ﻫﻤﻲ أن أﻧﻔﺬ ﻣﻦ اﻟﺒﺎب ،ﻓﺎﻧﺪﻓﻌﺖ ﺧﺎرﺟً ﺎ وﻗﻠﺖ ﺑﻌﺪ أن ﴏت ﰲ املﻤﺮ :أﻫﺬه
ﻏﺮﻓﺔ ﺗﻌﺬﻳﺐ ﻣﻦ ﺻﻨﻒ ﺟﺪﻳﺪ؟
ً
ﱠﻨﺖ أن اﻟﴩﻃﻲ ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻲ ،وﻗﺪ ﺟﺎء ﻳﺤﻤﻞ ﰲ ﻳﺪﻳﻪ أوراﻗﺎ ﻣﻠﻔﻮﻓﺔ. وﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﺗﺒﻴ ُ
207
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ادﺧﻞ إﻟﻴﻬﺎ دﻗﻴﻘﺔ واﺣﺪة ﻟﺘﻌﺮف ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ وأﻧﺎ أﻛﺜﺮ ﻫﺪوءًا :أﻫﺬه ﻏﺮﻓﺔ ﻧﻮم ﻳﺎ أﺧﻲ؟ ُ
أﻧﻬﺎ ﻋﺶ ﻗﻤﻞ.
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺳﺬاﺟﺔ :اﻟﺤﺎﴐ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ،وأﻳﻦ ﺗﻨﺎم إذن؟
ﻓﻠﻢ أﻣﻠﻚ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ اﻟﻀﺤﻚ ﻣﻊ ﺷﺪة ﻏﻴﻈﻲ وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﺷﻜ ًﺮا ﻟﻚ ﻋﲆ ﻛﺮﻣﻚ وأرﺟﻮك أﻻ
واﻗﻔﺎ ﰲ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻷﺧﺮى ،وﻳُﻤﻜﻨُﻨﻲ أن أﻧﺎم ﻓﻮق املﻜﺘﺐ ﺗﻔﻜﺮ ﰲ أﻣﺮ ﻧﻮﻣﻲ ،ﺳﺄﻗﴤ اﻟﻠﻴﻞ ً
إذا ﺷﺌﺖ ،ﺧ ﱢﻞ ﻫﺬه اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻟﻀﻴﻒ آﺧﺮ ﻳﺤﺘﺎج إﻟﻴﻬﺎ.
واﻟﻈﺎﻫﺮ أن اﻟﻔﻜﺎﻫﺔ أﻋﺠﺒﺘﻪ ﻓﻀﺤﻚ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﻣﺮك ﻳﺎ ﺳﻴﺪي.
ﻗﺎﺋﻼ :رﻏﻴﻒ إﻓﺮﻧﺠﻲ وﺟﺒﻦ روﻣﻲ وأﺧﺬﻧﻲ ﻣﻦ ذراﻋﻲ إﱃ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ ﻓﻴﻬﺎ ً
وﺧﻴﺎر أﺧﴬ ،اﻟﻜﻞ ﺳﺘﺔ ﻗﺮوش.
وﻣ ﱠﺪ ﻳﺪه ﺑﺎﻟﻘﺮوش اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ ﻣﻦ ﻧﺼﻒ اﻟﺮﻳﺎل ،ﻓﺄﴍت إﻟﻴﻪ أﻧﻬﺎ ﻟﻪ ،ﻓﺘﺒﺴﻢ راﺿﻴًﺎ ووﺿﻊ
اﻟﻄﻌﺎم ﻋﲆ املﻜﺘﺐ ﺛﻢ ﻗﺎل :ﺗُﺼﺒﺢ ﻋﲆ ﺧري.
وأﻏﻠﻖ اﻟﺒﺎب وراءه ،وﺗ َﺮﻛﻨﻲ أُﺣﺎول أن أُﻓ ﱢﻜﺮ ﰲ ﺧﻄﺔ ﻟﻘﻀﺎء اﻟﻠﻴﻠﺔ.
وﺟﻠﺴﺖ ﻋﻠﻴﻪ وﺑﺪأت آﻛﻞ ،وﻛﻨﺖ ﻣﻊ ﻛﻞ ﺿﻴﻘﻲ ُ ﻓﺠﺮرت املﻜﺘﺐ ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﻓﺬة، ُ
ﻗﴩ اﻟﺨﻴﺎروأﺧﺬت أ ُ ﱢ
ُ أﺣﺲ ﺟﻮﻋً ﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ،وﻛﺎﻧﺖ ﺷﻬﻮﺗﻲ ﻟﻠﻄﻌﺎم ﻋﻈﻴﻤﺔ ﺣﺘﻰ ُ
أﻛﻠﺖ اﻟﺮﻏﻴﻒ ﱡ
ﻷﺳﺘﻐﻨﻲ ﺑﻪ ﻋﻦ املﺎء واﻟﻔﺎﻛﻬﺔ.
ﻈﻲ أن اﻟﻐﺮﻓﺔ ﺗَﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻣﺼﺒﺎح ﻛﻬﺮﺑﺎﺋﻲ ﺻﻐري ،ﻓﻜﺎن ﻧﻮره ﺣﺴﻦ ﺣ ﱢِ وﻛﺎن ﻣﻦ
ﻣﺴﺎﻋﺪًا ﻟﻠﻀﻮء ا ُملﻨﺒﻌِ ﺚ ﻣﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﰲ إزاﻟﺔ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻮﺣﺸﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺨﻴﱢﻢ ﻋﲆ ﺻﺪري،
ﱠدت أن أﺣﻤ َﻠﻪ ﻣﻌﻲ داﺋﻤً ﺎ ﻷﻗﻄﻊ ﺑﻪ اﻟﻮﻗﺖ ﰲ وأﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﺟﻴﺒﻲ ﻗﺼﺔ إﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻣﻤﺎ ﺗﻌﻮ ُ
ﻟﺘﻠﻘ ِﻒ اﻷﺧﺒﺎر ،وﻛﺎﻧﺖ ﻛﻨﺖ أُﺿﻄ ﱡﺮ ﻟﻘﻀﺎﺋﻬﺎ ﰲ ﻏﺮف اﻻﻧﺘﻈﺎر ﰲ ﺟﻮﻻﺗﻲ ﱡ اﻟﺴﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ُ
ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻟﻘﻴﺔ ﻧﻔﻴﺴﺔ ،وﺷﻐﻠﺘﻨﻲ اﻟﻘﺮاءة ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻣَ ﺘﺎﻋﺒﻲ ،وﻫﻲ ﻗﺼﺔ ﻷﺣﺪ
اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺸﺒﱠﺎن ﻳُﺼﻮﱢر ﻓﺘﺎة ﻣﺜﻞ اﻟﻔﺘﺎة اﻟﺘﻲ رأﻳﺘﻬﺎ ﺗﺠﻤَ ﻊ أﻋﻘﺎب اﻟﺴﺠﺎﻳﺮ ﻣﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ،
ﻛﱪت وﺻﺎرت ﺣﺴﻨﺎء ،ﻓﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺖ أن ﺗُﺼﺒﺢ ﺧﻠﻴﻠﺔ ﺛﻢ راﻗﺼﺔ، ُ ﻈﻬﺎ أﻧﻬﺎ وﻛﺎن ﻣﻦ ﺳﻮء ﺣ ﱢ
ﺛﻢ اﺟﺘﺬﺑﺖ ﻗﻠﺐ أﺣﺪ اﻟﺸﺒﺎب املﻨﻌﱠ ﻤني ،وﻛﺎن ﻣﻦ ﺳﻮء ﺣﻈﻬﺎ أﻧﻬﺎ أﺣﺒﺘﻪ ،ﻓﺄ ﱠﻟ َﻔﺖ ﻟﻬﺎ اﻷﻗﺪار
ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ إﱃ اﻟﻨﱢﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻌﻮﱠاﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻴﺶ ﻓﻴﻬﺎ ،ﻫﻞ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﻫﺬه ِ ﻣﺄﺳﺎةَ ،
وأﻟﻘﺖ
أﻳﻀﺎ أن ﺗَﺴﱰﻋﻲ ﻧﻈﺮ اﻷﻗﺪار؟ اﻟﻄﻔﻠﺔ املﺴﻜﻴﻨﺔ ً
ﻓﺨﻠﻌﺖ ُﺳﱰﺗﻲ وﺟﻌﻠﺘُﻬﺎ ﺗﺤﺖ رأﳼ وﻧﻤﺖ ﻓﻮق املﻜﺘﺐ ُ ﺜﻘﻞ ﻟﻠﻨﻮموأﺧﺬت ﻋﻴﻨﻲ ﺗَ ُ
ﻗﺮب ﺻﺪري. ﺟﺎﻣﻌً ﺎ رﻛﺒﺘﻲ إﱃ ِ
208
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ واﻟﻌﴩون
ﺻﺤﻮت ﻣُﺘﻌَ ﺒًﺎ إﱃ ﺣ ﱢﺪ اﻹﻋﻴﺎء ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺴﺎدﺳﺔ ،ﻓﺠﻠﺴﺖ ﻋﲆ املﻜﺘﺐ ُ
وﻗﻤﺖ أﺗﺮﻧﱠﺢ إﱃ اﻟﺒﺎب
ُ ﺛﻘﻴﻼ وﻣﻔﺎﺻﲇ وأﺿﻼﻋﻲ ﺗﻨﺒﺾ ﺑﺎﻷﻟﻢ، ﺣﺎﺋ ًﺮا ،وﻛﺎن رأﳼ ﻣُﺼﺪﱠﻋً ﺎ ً
ٌ
ﻋﺎﺑﺲ أﺻﻔﺮ اﻟﻮﺟﻪ ﻛﺄﻧﻪ ﴍﻃﻲ
ﱞ ﻓﺪﻗﻘﺘُﻪ دﻗﺘَني ﺣﺘﻰ اﻧﻔﺘﺢ ،وﻛﺎن اﻟﺬي ﺻﺒﱠﺤﻨﻲ ﺑﻮﺟﻬﻪ
ﻫﻮ اﻵﺧﺮ ﻗﴣ ﻟﻴﻠﺔ ﻣﺜﻞ ﻟﻴﻠﺘﻲ.
وﺳﺄﻟﺘﻪ :أأﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻏﺴﻞ وﺟﻬﻲ؟
ﻓﺄﺷﺎر ﺑﻴﺪه إﱄ ﱠ ﺑﻐري أن ﻳﺘﻜ ﱠﻠﻢ ،واﺗﺠﻪ ﺑﻲ إﱃ دورة املﺎء ووﻗﻒ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺎب ﻳﻨﺘﻈﺮﻧﻲ،
ﻣﺤﺼﻨﺔ ﺑﻘﻀﺒﺎن ﺣﺪﻳﺪﻳﺔ ﻣﺘﻴﻨﺔ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى. ﱠ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﻮاﻓﺬ ﻫﻨﺎك
ُ
ﻏﺴﻠﺖ وﺟﻬﻲ ﺑﺎملﺎء اﻟﺒﺎرد ،وﺗﻤﻨﻴﺖ ﻟﻮ أﻣﻜﻨﻨﻲ وﺷﻌﺮت ﺑﴚء ﻣﻦ اﻻﻧﺘﻌﺎش ﺑﻌﺪ أن
أﺗﻮﺿﺄ ﻷﺻﲇ ﻓﺮﻳﻀﺔ اﻟﺼﺒﺢ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮﱠدﺗﻬﺎ ﻣﻨﺬ ﺻﻐﺮي ،وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ أﺧﻠﻊ ﻣﻼﺑﴘ ﱠ أن
أﺗﻮﺿﺄ ﺛﻢ أﺳري ﺣﺎﻓﻴًﺎ إﱃ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻋﲆ اﻷرض اﻟﺘﻲ ُ
ﻛﻨﺖ ﻻ أﻗﺪر ﱠ وﺣﺬاﺋﻲ وأﻳﻦ أﺿﻌﻬﺎ؟ وﻫﻞ
ُ
وﻋﺪت ﰲ ﺟﻔﻔﺖ وﺟﻬﻲ ﰲ ﻣﻨﺪﻳﲇ،ُ ﻴﺖ ﺑﺄن َ
ﻓﺎﻛﺘﻔ ُ ﻋﲆ ﺗﻤﻴﻴﺰ ﻟﻮﻧﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻄني اﻟﺬي ﻓﻮﻗﻬﺎ؟
ﺣﺮاﺳﺔ اﻟﴩﻃﻲ إﱃ ﻣﻘﻌﺪي ﻓﻮق املﻜﺘﺐ ،وﻛﺎﻧﺖ املﺘﺎﺟﺮ ﻣﺎ ﺗﺰال ﻣﻐﻠﻘﺔ واﻟﻄﺮﻳﻖ ﺧﺎﻟﻴًﺎ،
وﻛﻞ ﳾء ﻫﺎدﺋًﺎ ﺗﺤﺖ أﻧﻔﺎس اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺮﻃﺒﺔ ،ﻓﻠﻢ أﺟﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳَﺸﻐﻠُﻨﻲ ﻋﻦ اﻟﻬﻮاﺟﺲ اﻟﻌﻨﻴﻔﺔ
ِ
ﺑﺪأت اﻟﺘﻲ اﻧﻔ َﺮدَت ﺑﻲ؛ وﻟﻬﺬا ﻣﺮت ﻋﲇ ﱠ ﺳﺎﻋﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ أﻃﻮل ﻣﺎ ﻣﺮ ﺑﻲ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻲ ،ﺛﻢ
اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺗﺪبﱡ ﺷﻴﺌًﺎ ﻓﺸﻴﺌًﺎ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،وﻛﺎن ﻣﻦ أول ﻣﻦ ﻇﻬﺮ ﱄ ﻫﺬا اﻟﻄﻔﻼن اﻟﺒﺎﺋﺴﺎن
اﻟﻠﺬان رأﻳﺘﻬﻤﺎ ﺑﺎﻷﻣﺲ ،وﻛﺎﻧﺎ ﻳُﴪﻋﺎن ﻣﻦ رﺻﻴﻒ إﱃ آﺧﺮ ﻛﻌﺼﻔﻮرﻳﻦ ﺟﺎﺋﻌني ﻳﻠﺘﻘﻄﺎن
رزﻗﻬﻤﺎ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﻣﻊ ﻓﺎرق واﺣﺪ ،وﻫﻮ أن اﻟﻌﺼﺎﻓري ﺗﺨ ُﺮج ﻋﻨﺪ ﻣﻄﻠﻊ اﻟﺸﻤﺲ ﻣﻦ أوﻛﺎرﻫﺎ
ﻗﻀﻴﺎ ﻟﻴﻠﺘَﻬﻤﺎ؟ ﻫﻞ ﻫﻤﺎ أخ
ﻓﻠﻴﺖ ِﺷﻌﺮي أﻳﻦ َ
َ اﻟﺘﻲ ﺗﺄوي إﻟﻴﻬﺎ ﰲ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻐﺮوب ،وأﻣﺎ ﻫﺬان
وأﺧﺘﻪ؟ أم ﻫﻤﺎ ﺷﻘﻴﺎن آﺧﻰ ﺑﻴﻨَﻬﻤﺎ اﻟﺸﻘﺎء وأ ﱠﻟﻒ ﺑني ﻗﻠﺒَﻴﻬﻤﺎ؟ أﻳﻜﻮﻧﺎن ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻮاﺳﻌﺔ
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﺣﺪﻫﻤﺎ ﺑﻐري ﺛﺎﻟﺚ؟ وﻣﺎذا ﻳَﻔﻌﻼن ﺑﻬﺬه اﻟﺒﻀﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﻤﻌﺎﻧﻬﺎ ﺑني اﻟﺼﺒﺎح واﻟﻠﻴﻞ؟ وﻫﻞ
ﻫﻲ ﺗﻜﻔﻲ ﻹﻃﻌﺎم ﻫﺬﻳﻦ املﺴﻜﻴﻨَني؟
ورأﻳﺘﻬﻤﺎ ﻳﻘﻔﺎن ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﺪ ﺑﺎب دﻛﺎن ﻓﻮل ﻣﺪﻣﺲ وﻳﺘﻮﺷﻮﺷﺎن ،ﻟﺴﺖ أدري أﻛﺎﻧﺎ
ُ
وﺳﺄﺳﺄت ﻟﻬﻤﺎ وﻧﺎدﻳﺖ ﻳﺘﺂﻣﺮان ﻋﲆ ﴎﻗﺔ رﻏﻴﻒ أم ﻛﺎﻧﺎ ﻳﺘﻨﺎﺟﻴﺎن ﺑﺮاﺋﺤﺔ اﻟﻔﻮل اﻟﺬﻛﻴﺔ؟
ﺑﺄﻋﲆ ﺻﻮﺗﻲ ً
ﻗﺎﺋﻼ :اﺳﻤﻊ ﻳﺎ وﻟﺪ! ﻳﺎ ﺑﻨﺖ!
ﻓﺘ ﱠﻠ َﻔﺘﺎ ﺣﻮﻟﻬﻤﺎ ﰲ ﻓﺰع ،وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻌﺮﻓﺎ أﻳﻦ أﻧﺎ ﺣﺘﻰ أﴍت ﻟﻬﻤﺎ ﺑﻴﺪي ﻣﻦ ﺑني
وﺑﻘﻲ اﻟﻮﻟﺪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﱰﻗﺒًﺎ ،ﻓﻠﻤﺎ ﺻﺎرت
َ اﻟﻘﻀﺒﺎن ،ﻓﺄﻗﺒﻠﺖ اﻟﻔﺘﺎة ﻧَﺤﻮي ﻣُﱰدﱢدة
ﺑﻘﺮﺷني وﻗﻌﺎ ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻴﻬﺎ وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ :اﺟﺮي َ ﻋﲆ اﻟﺮﺻﻴﻒ املﻘﺎﺑﻞ ﻟﻠﻨﺎﻓﺬة ﻗﺬﻓﺖ إﻟﻴﻬﺎ
اﻓﻄﺮي وﻗﻮﱄ ﻟﺼﺎﺣﺐ دﻛﺎن اﻟﻔﻮل ﻳﺒﻌﺖ ﱄ ﻃﺒﻖ ﻓﻮل ﺑﺰﻳﺖ ورﻏﻴﻒ وﺳﻠﻄﺔ ،ﻫﻨﺎ ﰲ
اﻟﻘﺴﻢ ،ﻫﻨﺎ!
اﻟﺼﺒﻲ ﻓﺄﺧﺬﺗْﻪ ﻣﻌﻬﺎ ودﺧﻠﺖ ﻣﻌﻪ إﱃ
ﱢ ﻓﺘﺒﺴﻤَ ﺖ ﻣُﺮﺗﺎﺣﺔ وﻫ ﱠﺰت رأﺳﻬﺎ وأﴎﻋﺖ إﱃ ﱠ
اﻟﺪﻛﺎن ،وﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﺟﺎء ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺪﻛﺎن ﻟﻴَﺴﺄﻟﻨﻲ ﻋﻤﺎ أرﻳﺪ ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ :أﻧﺎ ﻫﻨﺎ ﻣﺤﺒﻮس ﰲ
اﻟﻘﺴﻢ وأرﻳﺪ أن أُﻓﻄﺮ؛ ﻃﺒﻖ ﻓﻮل ﺑﺰﻳﺖ وﺳﻠﻄﺔ ورﻏﻴﻒ.
ﻓﻘﺎل :واﻟﻌﺴﺎﻛﺮ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﺳ ﱢﻠﻢ اﻷﻛﻞ ﻷﺣﺪﻫﻢ واﺗﺮﻛﻪ ﻣﻌﻪ.
وﻗﺬﻓﺖ إﻟﻴﻪ ﺑﻘﻄﻌﺔ ﻓﻀﻴﺔ ذات ﺧﻤﺴﺔ ﻗﺮوش ،ﻓﺎﻗﺘﻨﻊ وذﻫﺐ. ُ
وﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻓﺘﺢ اﻟﺒﺎب ودﺧﻞ اﻟﴩﻃﻲ اﻟﻌﺎﺑﺲ ﻳﺄﻣﺮﻧﻲ ﺑﺎﻟﺬﻫﺎب إﱃ املﺤﻜﻤﺔ.
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ :ﻟﻢ أﻓﻄﺮ ﺑﻌﺪ.
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺟﻔﺎء :ﻫﻞ ﻫﻨﺎ ﻣﻄﻌﻢ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻻ .ﻫﻨﺎ ﻗﺴﻢ ﺑﻮﻟﻴﺲ ،ﻫﻞ ﺣﴬة اﻟﻀﺎﺑﻂ ﻫﻨﺎ؟
ﻓﻘﺎل :ﺣﴬﺗﻚ ﺻﺎﺣﺒﻪ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻧﻌﻢ ،أﺷﻜﺮك ﺟﺪٍّا ،وﻛﺎن اﻟﺸﻜﺮ ﻣُﻮﺟﱠ ﻬً ﺎ إﱃ ﺻﺎﺣﺒﻲ اﻟﴩﻃﻲ اﻵﺧﺮ اﻟﺬي ﺟﺎء
ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻳَﺤﻤﻞ ﻃﺒﻖ اﻟﻔﻮل واﻟﺨﺒﺰ واﻟﺴﻠﻄﺔ.
ﻛﻨﺖ ﰲ اﻟﻌﺮﺑﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺟﺎء اﻟﺮﺟﻞوﻗﺎل ﰲ ﺑﺸﺎﺷﺔ :ﺻﺒﺎح اﻟﺨري ﻳﺎ ﺳﻴﺪﻧﺎ اﻷﻓﻨﺪيُ ،
ﺑﺎﻷﻛﻞ ﻓﻌﺮﻓﺖ أﻧﻪ ﻟﻚ ،ﻣﺎ ﻟﻚ ﻳﺎ ﺣﴬة اﻟﺒﺎﺷﺠﺎوﻳﺶ؟ ﺣﺮام ﻳﺎ رﺟﻞ! اﻟﻨﻬﺎر ﻃﻮﻳﻞ وﻟُﻘﻤﺔ
اﻟﺼﺒﺢ ﺗﺴﻨﺪ ﻗﻠﺒﻪ.
وﻛﺎن ﰲ ﻗﻮﻟﻪ اﻷﺧري ﻣﺘﺠﻬً ﺎ إﱃ اﻟﴩﻃﻲ اﻵﺧﺮ اﻟﺬي ﺣﺎول أن ﻳﻤﻨﻌﻪ ﻣﻦ إدﺧﺎل اﻟﻄﻌﺎم
إﱃ اﻟﻐﺮﻓﺔ.
210
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ واﻟﻌﴩون
ﻓﻮﺿﻊ اﻟﻄﻌﺎم ﻋﲆ املﻜﺘﺐ واﻧﴫف اﻟﴩﻃﻲ اﻟﻌﺎﺑﺲ ﻏﺎﺿﺒًﺎ ،ودﺧﻞ ﺻﺎﺣﺒﻲ اﻵﺧﺮ َ
ﺗﻔﻀﻞ!ﻗﺎﺋﻼ :ﱠً
ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ :ﺑﺴﻢ ﷲ ﻳﺎ أﺧﻲ.
ﻓﻘﺎل :ﺑﺎﻟﻬﻨﺎ واﻟﺸﻔﺎ.
ﻗﺎﺋﻼ :ﺑﻘﻴﺔ رﺑﻊ اﻟﺮﻳﺎل. ﺑﻘﺮﺷني ًَ وﻣ ﱠﺪ إﱄ ﱠ ﻳﺪه
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﻞ أﻓﻄﺮت؟ ﻓﺘﺒﺴﻤﺖ ً
وأﴍت إﻟﻴﻪ أن ﻳﺄﺧﺬ اﻟﻘﺮﺷني. ُ
ﻓﻘﺎل ﻣُﺮﺗﺎﺣً ﺎ :اﻟﺤﻤﺪ هلل .أﺷﻴﺎء رﺿﺎ.
وذﻫﺐ ﺧﺎرﺟً ﺎ وأﺗﻰ إﱄ ﱠ ﺑﻜﻮب ﻣﻦ اﻟﺼﺎج ﻣﻤﻠﻮء ﺑﺎملﺎء ،وﻛﻨﺖ ﻗﺪ ﺑﺪأت آﻛﻞ وأﻧﺎ واﻗﻒ،
ﻗﺎﺋﻼ :ﻋﲆ ﻣﻬﻠﻚ ﻳﺎ أﻓﻨﺪي! وﺗﺒﺎدﻟﻨﺎ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺻﻐرية ﻗﺒﻞ أن ﻳﺨﺮج ً
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ واﻟﻨﺼﻒ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ دار اﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ،وﻟﻜﻦ املﻜﺘﺐ ﻛﺎن ﺧﺎﻟﻴًﺎ،
ﻓﺠﻠﺴﺖ ﰲ ﺣﺠﺮة اﻟﻜﺎﺗﺐ ووﻗﻒ اﻟﴩﻃﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺎب ﻳﺤﺮﺳﻨﻲ.
وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﺮﻛﺔ واﻟﻄﻌﺎم ﻗﺪ أﻋﺎدا إﱄ ﱠ ﻧﺸﺎﻃﻲ ،وذﻫﺐ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ أﺣﺴﻪ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺐ
ﺑﺎﻟﻐﺮﻓﺔ أﺣﺪ ﻓﻄﻠﺒﺖ ﻣﻨﻪ ﻛﻮﺑًﺎ ﻣﻦ واﻟﻮﺣﺸﺔ ،وﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ دﺧﻞ ﺻﺒﻲ املﻘﺼﻒ ﻟريى ﻫﻞ ُ
ﱠ
ﻷﺗﺴﲆ ﺑﺎﻟﺘﺪﺧني. اﻟﺸﺎي ورﺟﻮﺗﻪ أن ﻳﺸﱰي ﱄ ﻋﻠﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﺎﻳﺮ
ﴍﺑﺖ ﺛﻼﺛﺔ أﻛﻮاب ﻣﺘﻔ ﱢﺮﻗﺔ ﻣﻦ اﻟﺸﺎي ﺑني ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ واﻵﺧﺮ ُ وﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻷﻣﺮ ﻓﺈﻧﻲ
وأﺣﺮﻗﺖ ﻧﺼﻒ ﻋﻠﺒﺔ اﻟﺴﺠﺎﻳﺮ ،وﻟﻢ ﻳﺤﴬ أﺣﺪ إﱃ املﻜﺘﺐ ،ﺣﺘﻰ ﺻﺎرت اﻟﺴﺎﻋﺔ ُ ﻧﺤﻮ ﺳﺎﻋﺔ
ﻷن اﻟﺒﻴﻪ ﻣﺸﻐﻮل ﰲ ﻗﻀﻴﺔ ﱠ
اﻟﺤﺎدﻳﺔ ﻋﴩة ،ﺛﻢ ﺟﺎء اﻟﻜﺎﺗﺐ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ وﻗﺎل ﱄ ﰲ ﺧﻔﺔ :آﺳﻒ ﱠ
أﺧﺮى ،وﻻ ﻳﺤﴬ إﱃ ﻫﻨﺎ اﻟﻴﻮم.
ً
ﻣﺘﺜﺎﻗﻼ :وﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا؟ ﻓﻘﻠﺖ
ﻓﻘﺎل :ﻻ ﳾء ،اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻣﺴﺘﻤﺮ ،ﻏﺪًا أو ﺑﻌﺪ ﻏﺪ ،ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﻨﺘﻬﻲ ﻋﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل.
ﺛﻢ ﻣ ﱠﺪ ﻳﺪه إﱃ اﻟﴩﻃﻲ ﺑﻮرﻗﺔ وﺧﺮج ﻣﴪﻋً ﺎ ﻳﺘﻠﻔﺖ ﰲ اﻟﻐﺮﻓﺔ وﻳﻬﺰ ﻳﺪه ﺑﻈﺮف ﻛﺒري
ﻳﺤﻤﻠﻪ ،وﻧﺰﻟﺖ إﱃ اﻟﻌﺮﺑﺔ املﻌﻬﻮدة ﻓﺮﻛﺒﺘﻬﺎ ﻣﻊ اﻟﴩﻃﻲ ،وﻟﻢ أﻋﺮف إﱃ أﻳﻦ ﺣﺘﻰ وﻗﻔﺖ
ﺗﻔﻀﻞ ﻳﺎ أﻓﻨﺪي.اﻟﻌﺮﺑﺔ ،وﻗﺎل اﻟﴩﻃﻲ ﰲ ﺻﻮت ﻧﺤﺎﳼ :ﱠ
ﻓﻘﻠﺖ :إﱃ أﻳﻦ؟
ﻓﻘﺎل :اﻻﺳﺘﺌﻨﺎف!
دﺧﻠﺖ إﱃ ذﻟﻚ اﻟﺴﺠﻦ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻣﺮة ﻋﻨﺪﻣﺎ ذﻫﺒﺖ ﻣﻨﺪوﺑًﺎ ﻋﻦ ُ ﻳﺎ ﺧﱪ! ﺳﺠﻦ اﻻﺳﺘﺌﻨﺎف؟
اﻟﺠﺮﻳﺪة ﻷﺷﻬﺪ إﻋﺪام أﺣﺪ ﻛﺒﺎر املﺠﺮﻣني .ﻛﺎن ﻣَ ﻨﻈ ًﺮا ﻻ أﻧﺴﺎه أﺑﺪًا ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺖ املﺴﻜني ﻗﺒﻞ
211
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
أن ﺗﻌﺼﺐ ﻋﻴﻨﺎه ﻟﻴﺼﻌﺪ ﻓﻮق املﺸﻨﻘﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﻨﻈﺮ ﰲ ﻓﺰع ﺷﺪﻳﺪ إﱃ اﻟﺤﺒﻞ املﻌﻠﻖ اﻟﺬي
ﺳﻴﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻋﻨﻘﻪ ،وﺟﻌﻞ ﻳﻘﻮل ملﻦ ﺣﻮﻟﻪ ﺑﺼﻮت ﻣﺮﺗﻌﺪ» :اﻃﻠﺒﻮا ﱄ اﻟﺮﺣﻤﺔ ﻳﺎ ﻧﺎس!«
ﻓﻠﻢ أ ُ ِﻃﻖ أن أﺳﺘﻤﺮ ﰲ ﻣﻮﻗﻔﻲ؛ إذ ﻛﺎن ﻣﻦ املﺆﻟﻢ ﱄ أن أرى اﻟﺮﺟﻞ ﻳَﻨﻬﺎر ﻫﻜﺬا ،ﻟﻮ
ﻧﻈﺮت إﱃ ذﺋﺐ ﺟﺮﻳﺢ ﻳﻠﻔﻆ أﻧﻔﺎﺳﻪ اﻷﺧرية ملﺎ أﻋﺠﺒﻨﻲ ﻣﻨﻪ أن ﻳُﻤﺄﻣﺊ ﻣﺜﻞ اﻟﺸﺎة ﻣُﺴﺘﻐﻴﺜًﺎ
وﺣﺸﺎ ﻣﺴﺘﻌﺪٍّا ﻟﻠﻬﺠﻮم إﱃ آﺧﺮ ﻟﺤﻈﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ ،ﻛﻨﺖ ً ً
ﻣﺘﺨﺎذﻻ؛ ﻓﺎﻷﺟﺪر ﺑﻪ أن ﻳﻤﻮت ذﺋﺒًﺎ
ﻻ أﺗﺄﻟﻢ ﻫﻜﺬا ﻟﻮ ﺑﻘﻲ ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ ﺟﺒﺎ ًرا ﺳﻔﺎ ًﻛﺎ ﻣﺘﺤﺪﻳًﺎ ﻓﻈﻴﻌً ﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﺻﺎر
ﻣﺜﻞ أرﻧﺐ ﰲ ﻳﺪ اﻟﺠﺰار ﻳﺮﺗﻌﺪ وﻳﻄﻠﺐ اﻟﺪﻋﺎء ﺑﺎﻟﺮﺣﻤﺔ.
وﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم اﻋﺘﻘﺪت أن ﺳﺠﻦ اﻻﺳﺘﺌﻨﺎف ﻫﻮ اﻟﺬي ﺣﻮﱠل ﻫﺬا اﻟﺠﺒﺎر إﱃ رﺟﻞ
ﻣﻨﻬﺎر ،وﻣﻦ أﺟﻞ ﻫﺬا ﻛﺮﻫﺘﻪ.
ﻓﻬﻞ أﻧﺎ ذاﻫﺐ إﻟﻴﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﺬﻫﺐ إﻟﻴﻪ اﻟﻘﺘﻠﺔ؟
ﺗﺮﺟﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻤﺎ أﺣﺴﻪ وﻳﺤﺴﻪ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﻏﻀﺐ ﻋﲆ أأذﻫﺐ إﻟﻴﻪ ﻷﻧﻲ أﻛﺘﺐ ﻣﻘﺎﻻت أ ُ ِ
اﻟﻔﺴﺎد واﻟﻄﻐﻴﺎن واﻟﺤﻜﻢ اﻟﺬي ﻳُﺬﻟﻨﺎ وﻳﺴﻘﻄﻨﺎ وﻳﺪﻧﺲ أرواﺣﻨﺎ؟
ودﺧﻠﻨﺎ ﺳﺠﻦ اﻻﺳﺘﺌﻨﺎف ،وﻣﻨﺬ دﺧﻠﺘﻪ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﺜﻞ ﳾء ﺗﺘﻠﻘﻔﻪ اﻷﻳﺪي وﻻ إرادة ﻟﻪ،
ﺳ ﱠﻠﻤﻨﻲ اﻟﴩﻃﻲ إﱃ املﺄﻣﻮر ،وﺳ ﱠﻠﻤﻨﻲ املﺄﻣﻮر إﱃ ﺳﺠﺎن ،وﺳﺎر ﺑﻲ اﻟﺴﺠﺎن إﱃ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ
ُ
ﴏت رﻗﻤً ﺎ ﻣﺠﺮدًا ﺧﺼﺼﺖ ﱄ ورﻗﻤﻬﺎ ،٢٩٨وﻣﻨﺬ اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﺘﻲ دﺧﻠﺖ ﻓﻴﻬﺎ إﱃ اﻟﻐﺮﻓﺔ
ﺳﺎﺑﺤً ﺎ ﰲ اﻟﻔﺮاغ ،ﻓﺮﻗﻢ ٢٩٨ﻳﺼﻌﺪ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻪ ،ورﻗﻢ ٢٩٨ﻳُﺪﻋﻰ إﱃ اﻟﻨﺰول ،ورﻗﻢ ٢٩٨
أﺣﺴﻦ ﻣﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﻧﺘﻈﺮ؛ إذ ﻛﺎن ﻓﻴﻬﺎ ﻋﲆَ ﻳﺘﻨﺎول ﻃﻌﺎﻣﻪ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ دﺧﻠﺖ ﻓﻴﻬﺎ
اﻷﻗﻞ ﴎﻳﺮ ﻳﻤﻜﻦ أن أﺗﻤﺪد ﻋﻠﻴﻪ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺑﻬﺎ ﻧﺎﻓﺬة ﻋﺎﻟﻴﺔ ذات ﻗﻀﺒﺎن ﻣﺘﻴﻨﺔ ،وﻟﻢ ﻳﻀﺎﻳﻘﻨﻲ
إﻻ ﺳﻮاد ﻟﻮن اﻟﺴﻘﻒ واﻷرض.
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻟﺬﻫﺎب إﱃ دورة املﻴﺎه؛ ﻷن »اﻟﺠﺮدل« ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﰲ
رﻛﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻗﻮم إﻟﻴﻪ ﻷﻗﴤ ﺑﻪ ﺣﺎﺟﺘﻲ ﺑﻐري ﻋﻨﺎء ،ﻣﺮﺣﻰ! ﻻ ﺷﻚ ﰲ أن ﻫﺬا
اﻟﺴﺠﻦ ﺗﺄدﻳﺐ وﺗﻬﺬﻳﺐ وإﺻﻼح ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮﻟﻮن ،وﻻ ﻋﺠﺐ إذا ﻛﺎن اﻟﻘﺎﺗﻞ اﻟﺠﺒﺎر ﻗﺪ ﺗﺤﻮﱠل
ﻓﻴﻪ إﱃ ﺟﺒﺎن رﻋﺪﻳﺪ!
وﺟﻠﺴﺖ ﻋﲆ اﻟﴪﻳﺮ ﰲ ﺷﺒﻪ ذﻫﻮل ﻻ أﻛﺎد أﺗﺤﻘﻖ ﻣﻦ أﻧﻲ أﺻﺒﺤﺖ ﺳﺠﻴﻨًﺎ ،وﻻ أدري
ﻧﻈﻴﻔﺎ ﻋﲆ اﻟﴪﻳﺮ ،وﻣﻊ ﻛﻞً ﺟﺎﻟﺴﺎ ﻫﻜﺬا ﺣﺘﻰ دﺧﻞ ﻋﲇ ﱠ ﺳﺠﺎن ﻟﻴﻀﻊ ﱄ ﻏﻄﺎءً ً ﻛﻢ ﺑﻘﻴﺖ
ﻣﺎ داﺧﻠﻨﻲ ﻣﻦ اﻻرﺗﻴﺎح ﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ أﻇﻬﺮ ﻟﻪ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ.
ﺛ ﱠﻢ ﺟﺎء اﻟﺮﺟﻞ إﱄ ﱠ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﻄﻌﺎم ،وﻟﻜﻨﱠﻨﻲ ﻟﻢ أﺷﻌﺮ ﺑﺠﻮع ،ﻓﺮﻓﻀﺖ أن آﻛﻞ ﺷﻴﺌًﺎ،
وﺑﻘﻴﺖ ﰲ ﺣﺎﻟﺘﻲ اﻟﺬاﻫﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﺟﺎءﻧﻲ اﻟﺴﺠﺎن ﻣﺮ ًة أﺧﺮى ﻳﺪﻋﻮﻧﻲ إﱃ ﻃﺎﺑﻮر اﻟﻨﺰﻫﺔ ﻣﻊ
212
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ واﻟﻌﴩون
ﺳﺎﺋﺮ أرﻗﺎم ﻋﺎ َﻟﻤﻲ ،ﻓﻘﻤﺖ ﺧﺎرﺟً ﺎ ﻷن ﺳﺎﻋﺔ أﻗﻀﻴﻬﺎ ﰲ اﻟﻬﻮاء اﻟﻄﻠﻖ ﺧري ﻣﻦ اﻟﺠﻠﻮس ﰲ
اﻟﻐﺮﻓﺔ املﻐﻠﻘﺔ.
وﻧﺰﻟﺖ إﱃ ﻓﻨﺎء اﻟﺴﺠﻦ وﻫﻮ ﻻ ﻳَﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﻗﻄﻌﺔ ﺻﻐرية ﻣﻦ اﻷرض ﺗُﺤﻴﻂ ﺑﻬﺎ اﻟﺠﺪران
وﴎﻧﺎ ﰲ ﻃﺎﺑﻮر اﻟﻨﺰﻫﺔ رﻗﻤً ﺎ وراء رﻗﻢ ،وﺟﻌﻠﻨﺎ ﻧﺪور ﺣﻮل اﻟﻔﻨﺎء اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﺎﻧﺐِ ،
ﱢ
اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ اﻟﻜﱪﻳﺎء ُ
وﻻﺣﻈﺖ أن املﺴﺎﺟني ﻣﺜﻞ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﻨﺎس ﻻ ﻳَﺴﺘﻄﻴﻌﻮن ﻣﺮ ًة ﺑﻌﺪ أﺧﺮى،
وﺟﺪت أن ﻛﺜريًا ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺘﺄﻧﱠﻖ
ُ ﻣﻊ أﻧﻬﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮن أﻧﻬﻢ ﻻ ﻳَﺰﻳﺪون ﻋﲆ أرﻗﺎم ﻣﺠ ﱠﺮدة ،ﻓﻘﺪ
ﰲ ﻣﻼﺑﺴﻪ ﻟﻴﻈﻬﺮ ﰲ اﻟﻄﺎﺑﻮر ﻛﻤﺎ ﻳَﻨﺒﻐﻲ ملﺜﻠﻪ؛ وذﻟﻚ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ إذا ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻤﱠ ﻦ ﻳُﺴﻤﺢ ﻟﻬﻢ
اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻣﺜﲇ ،وﻗﺒﻞ أن ﻳﻨﺘﻬﻲ ﻃﺎﺑﻮر اﻟﻨﺰﻫﺔ دﻋﺎﻧﻲ ﻣﺄﻣﻮر اﻟﺴﺠﻦ ملﻘﺎﺑﻠﺘﻪ،ﱠ ﺑﻠﺒﺲ املﻼﺑﺲ
ذاﻫﻼ ،وﻛﺎﻧﺖ دﻫﺸﺘﻲ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺟﺪﺗُﻪ ﻳﺴﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ﰲ ﺑﺸﺎﺷﺔ وﻛﻨﺖ ﻣﺎ أزال ً
ُ ﻓﺬﻫﺒﺖ إﻟﻴﻪ
وﻋﻄﻒ ،وﻳُﺠﻠﺴﻨﻲ ﻋﲆ ﻛﺮﳼ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻜﺘﺒﻪ ،ﺛﻢ أﺷﺎر إﱃ ﺣﻘﻴﺒﺔ ﻛﺒرية ﰲ رﻛﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ
ﻗﺎﺋﻼ» :ﻫﺬه ﺣﻘﻴﺒﺘُﻚ «.وأﻋﻄﺎﻧﻲ ﺳﻴﺠﺎرة ﻓﺄﺧﺬﺗﻬﺎ ﺷﺎﻛ ًﺮا ،وداﺧﻠﻨﻲ ﳾء ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﻧﺲ ً
واﻻرﺗﻴﺎح وﺳﺄﻟﺘﻪ :ﻣﻦ ﺟﺎء ﺑﻬﺬه اﻟﺤﻘﻴﺒﺔ؟
ﻓﻘﺎل :ﻻ أدري .رﺟﻞ ﺟﺎء وأراد أن ﻳﺮاك وﻟﻜﻦ ﻻ ﻣ َ
ُﺆاﺧﺬة ﻓﺎﻷواﻣﺮ ﻣﺸﺪدة؟
ﺛﻢ أﺧﺬ ﻳﺤﺪﺛﻨﻲ ﻋﻦ ﻧﺰﻻء ﺳﺠﻨﻪ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻓﻜﻬً ﺎ ﻳﻘﻄﻌﻪ ﺑﺎﻟﻔﻜﺎﻫﺎت املﺮﺣﺔ ،ﻓﺄذﻫﺐَ ﻋﻨﱢﻲ
ﻣﺎ ﻛﺎن ﺑﺼﺪري ﻣﻦ اﻟﻀﻴﻖ.
ﻛﺎن ﻛﻞ رﻗﻢ ﻣﻦ ﻫﺆﻻء اﻟﻨﺰﻻء ﻳﻤﺘﺎز ﻋﻨﺪه ﺑﴚء ﻳﺠﻌﻠﻪ ﺟﺪﻳ ًﺮا ﺑﺎﻟﺘﺤﺪث ،ﻓﺎﻟﺮﻗﻢ
١١٠ﺗﺎﺟﺮ ﰲ ﺧﺎن اﻟﺨﻠﻴﲇ وﻫﻮ ﻣﺘﱠﻬﻢ ﺑﺘﺠﺎرة املﺨﺪرات ،وﺑﻠﻐﺖ أرﺑﺎﺣﻪ ﰲ اﻟﻌﺎم املﺎﴈ
ﻈﻪ إﻻ ﰲ آﺧﺮ ﻣﺮة ﻋﻨﺪﻣﺎ اﺧﺘﻠﻒ ﻣﻊ رﺟﻞ ﻣﻦ وﺣﺪه ﻣﺎﺋﺔ أﻟﻒ ﺟﻨﻴﻪ ،وﻟﻢ ﻳُﻀﺒﻂ ﻟﺴﻮء ﺣ ﱢ
أﻫﻞ اﻟﺼﻌﻴﺪ ﻋﲆ ﴍاء ﺻﻔﻘﺔ ﻛﺒرية ،ﻛﺎن اﻟﺮﺟﻞ ﻳُﺮﻳﺪ أن ﻳَﺸﱰﻳﻬﺎ ﺑﺨﺼﻢ ٪١٠ﻣﻦ ﺛﻤﻦ
اﻟﻘﻄﺎﻋﻲ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺘﺎﺟﺮ أﺑﻰ ﻓﺄﺑﻠﻎ املﺸﱰي رﺟﺎل اﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ﻋﻨﻪ ،واﻧﻘﻠﺐ إﱃ ﻣﺴﺎﻋﺪ ﻟﺮﺟﺎل
ﻧﺎزﻻ ﺑﺎﻟﺴﺠﻦ ﺗﺤﺖ اﻟﺘﺤﻔﻆ ﺣﺘﻰ ﻳﺘ ﱠﻢ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ،وﻟﻜﻨﻪ اﻷﻣﻦ ﺣﺘﻰ ﺗﻤ ﱠﻜﻨُﻮا ﻣﻦ ﺿﺒﻄﻪ ،وﻛﺎن ً
ﻳُﻜ ﱢﻠﻒ املﺄﻣﻮر ﻣﺸﻘﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﰲ ﻣﺮاﻗﺒﺘﻪ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻌﻘﺪ ﺻﻔﻘﺎت ﺟﺪﻳﺪة داﺧﻞ ﺟﺪران اﻟﺴﺠﻦ،
ﻻﺣﻈﺖ ﰲ ﻃﺎﺑﻮر اﻟﻨﺰﻫﺔ أن ذﻟﻚ اﻟﺮﻗﻢ رﺟﻞ ﺿﺨﻢ ﻳﺴري ﺷﺎﻣﺦ اﻷﻧﻒ وﻳﻠﺒﺲ ﺟﻠﺒﺎﺑًﺎ ُ وﻗﺪ
ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺮ اﻷﺑﻴﺾ ،وﻳُﻤﺴﻚ ﰲ ﻳﺪه ﻣﻨﺸﺔ ﺑﻴﻀﺎء أﻧﻴﻘﺔ.
وأﻣﺎ اﻟﺮﻗﻢ ٢١٣ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻦ ﺻﻨﻒ آﺧﺮ ،وﻗﺪ ﻻﺣﻈﺖ أﻧﻪ ﻳﻠﺒﺲ ﺑﻴﺠﺎﻣﺔ ﻓﺎﺧﺮة ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺮ
ﻣﻨﺪﻳﻼ أﺣﻤﺮ ،وﻗﺎل ﻋﻨﻪ ﻣﺄﻣﻮر اﻟﺴﺠﻦ :إن ً املﻠﻮن ،وﻳُﺪﱄ ﻣﻦ ﺟﻴﺒﻬﺎ اﻷﻋﲆ ﻋﲆ ﻳﺴﺎر ﺻﺪره
اﻟﻄﻌﺎم اﻟﻔﺎﺧﺮ ﻳﺄﺗﻲ إﻟﻴﻪ ﻛﻞ ﻳﻮم ﻣﻦ املﺮأة اﻟﺘﻲ ﻳَﻌﻴﺶ ﰲ ﻇﻠﻬﺎ ،وﻫﻲ ﻛﻞ ﻳﻮم ﺗﺤﻤﻞ إﻟﻴﻪ
ً
ﻣﻨﺎﻓﺴﺎ ﺑﺎﻟﺴﻜني ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎم ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ وﺗﺒﻜﻲ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺘﻤ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ رؤﻳﺘﻪ ،وﺗُﻬﻤﺘُﻪ أﻧﻪ ﻃﻌﻦ
أﺟﻞ املﺮأة.
213
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وأﻣﺎ اﻟﺮﻗﻢ ١٩٠ﻓﺈﻧﻪ رﺟﻞ ﺷﺎذﱞ ﻻ ﻳﻜﺎد ﻳﻘﴤ ﻣﺪة اﻟﺴﺠﻦ ﰲ ﺟﺮﻳﻤﺔ ﺧﻠﻘﻴﺔ ﺣﺘﻰ
ﻳﻌﻮد إﱃ ارﺗﻜﺎب ﺟﺮﻳﻤﺔ أﺧﺮى.
وﻛﺎن املﺄﻣﻮر ﺧﺒريًا ﺑﻜﻞ أﺣﻮال رﻋﻴﺘﻪ ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ ﻛﻞ رﻗﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺤﺪﱠث ﺻﺎﺣﺐ
املﺰرﻋﺔ اﻟﻬﺎوي ﻋﻦ اﻟﺴﻼﻻت املﻤﺘﺎزة ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺘﻲ ﰲ ﺣﻈﺎﺋﺮه.
وملﺎ ﻓﺮغ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺜﻪ أﺧﱪﻧﻲ ﺑﺄﻧﻪ ﻗﺪ اﺧﺘﺎر ﱄ ﻏﺮﻓﺔ ﻣﻤﺘﺎزة ﰲ اﻟﺪور اﻷﻋﲆ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺼﺒﺎح
ﻛﻬﺮﺑﺎﺋﻲ وﻓﺮاش ﻧﻈﻴﻒ ،وﻋﲆ ﻣَ ﻘ ُﺮﺑﺔ ﻣﻨﻬﺎ دورة ﻣﻴﺎه ،وﻗﺎل :إﻧﻨﻲ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن آﻣﺮ ﺑﴩاء
أوﺻ َﻠﻨﻲ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ وﻫﻤﺲ ﻗﺒﻞ
ﻣﺎ أرﻳﺪ ﻣﻦ ﻃﻌﺎم ،وأﻣﺮ ﺑﺤﻤﻞ اﻟﺤﻘﻴﺒﺔ وﺻﻌﺪ ﻣﻌﻲ ﺣﺘﻰ َ
أن ﻳﻨﴫف :ﻳﻤﻜﻨﻚ أن ﺗﻘﺮأ اﻟﺼﺤﻒ ﻋﻨﺪي ﰲ اﻟﺼﺒﺎح.
ﻓﺸﻜﺮﺗﻪ ﻣﻦ أﻋﻤﺎق ﻗﻠﺒﻲ وﺻﺎﻓﺤﺘﻪ ﰲ ﺣﺮارة ،وملﺎ دﺧﻠﺖ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﻓﺘﺤﺖ اﻟﺤﻘﻴﺒﺔ،
وأﺧﺬت أﺧﺮج ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ وأرﺗﺒﻪ ﰲ ﻣﻮاﺿﻌﻪ ،ﻓﺎﻟﺮﻛﻦ اﻟﺬي ﻳﲇ ﴎﻳﺮي ﻟﻠﻜﺘﺐ ،وﻣﺎ ﻛﺎن أﻛﺮم
ﻫﺬا اﻟﺼﺪﻳﻖ اﻟﺬي أرﺳﻞ إﱄ ﱠ ،وﻫﻮ ﺑﻐري ﺷﻚ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ،وﻣﻦ ذا ﻳُﻤﻜﻦ أن ﻳﻔﻜﺮ
ﰲ ﻏريه؟ وﻟﻢ أﺿﻊ ﺷﻴﺌًﺎ ﰲ اﻟﺮﻛﻦ اﻟﺬي أﻣﺎﻣﻲ؛ إذ ﻛﺎن ﻻ ﻳﺼﻠﺢ ﻟﴚء ﻟﻘﺮب اﻟﺒﺎب ﻣﻨﻪ،
وأﻣﺎ اﻟﺮﻛﻦ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﺼﻠﺢ ﻷن أﻋﻠﻖ ﻓﻴﻪ ﺷﻤﺎﻋﺘني إﺣﺪاﻫﻤﺎ ﻋﲆ املﺴﻤﺎر اﻷﺳﻔﻞ
واﻷﺧﺮى ﻋﲆ املﺴﻤﺎر اﻷﻋﲆ ،وﻳُﻤﻜﻨﻨﻲ أن أﺿﻊ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﻣﺎ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﺒﺔ ﻣﻦ اﻷﻗﻤﺼﺔ ،وأﻣﺎ
أدوات اﻟﺤﻼﻗﺔ واملﻼﺑﺲ اﻟﺘﺤﺘﺎﻧﻴﺔ واملﻨﺎدﻳﻞ وﻣﺎ إﱃ ذﻟﻚ ،ﻓﻼ ﻳﴬﱡ ﻫﺎ أن ﺗﺒﻘﻰ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﺒﺔ
ﻵﺧﺬ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺎ أﺣﺘﺎج إﻟﻴﻪ ﰲ ﺣﻴﻨﻪ ،واملﺤﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻟﻠﺤﻘﻴﺒﺔ ﻫﻮ اﻟﺮﻛﻦ املﻨﻌﺰل ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻲ
اﻟﴪﻳﺮ ،وﺑﺎ َﻟ َﻎ ﻣﺄﻣﻮر اﻟﺴﺠﻦ ﰲ إﻛﺮاﻣﻲ ﻓﺒﻌﺚ إﱄ ﱠ ﺑﺒﻌﺾ اﻷﻃﻌﻤﺔ اﻟﺨﻔﻴﻔﺔ ﻟﻠﻌﺸﺎء ﻣﻊ
ﻓﻨﺠﺎن ﻟﺬﻳﺬ ﻣﻦ اﻟﺸﺎي ،ﻓﻌﺰﻣﺖ ﻋﲆ أن أُﻛ ﱢﺮر ﻟﻪ ﺷﻜﺮي إذا ﻧﺰﻟﺖ ﰲ اﻟﻐﺪ إﱃ ﻃﺎﺑﻮر اﻟﻨﺰﻫﺔ،
ﻨﺖ ﻧﻔﴘ ﴎﻳﻌً ﺎ ﻋﲆ اﻹﻗﺎﻣﺔ ﰲ ﺳﺠﻦ اﻻﺳﺘﺌﻨﺎف ،وﺑﺬﻟﺖ ﻛ ﱠﻞ ﺟﻬﺪي ﰲ ﴏف ﻃ ُوﻫﻜﺬا و ﱠ
ﻓﻜﺮة إﺗﻤﺎم اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ واﻟﻘﻠﻖ ﻣﻦ اﻻﻧﺘﻈﺎر ،وﺳ ﱠﻠ ُ
ﻤﺖ أﻣﺮي إﱃ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ.
214
اﻟﻔﺼﻞ اﳋﺎﻣﺲ واﻟﻌﴩون
ُﺿﻌﺖ ﺗﺤﺖ اﻟﺘﺤﻔﻆ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ،ُ ﻣﻀﺖ أرﺑﻌﺔ أﻳﺎم ﺑﻐري أن أﺳﻤﻊ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﺬي و َ
ﻛﻨﺖ أﺳﻤﻊ ﰲ ﻛﻞ ﻳﻮم ﺑﺎﻹﻓﺮاج ﻋﻦ ﺑﻌﺾ اﻷرﻗﺎم اﻷﺧﺮى ،وﻣﻦ ﺿﻴﻘﺎ أﻧﻲ ًُ وﻛﺎن ﻣﻤﺎ زادﻧﻲ
ﺠﺮم اﻟﻌﺎﺋﺪ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺠﺮاﺋﻢﺑﻴﻨﻬﺎ اﻟﺘﺎﺟﺮ ﰲ املﺨﺪرات واﻟﺸﺎب اﻟﺬي ﻳﻌﻴﺶ ﰲ ﻇ ﱢﻞ املﺮأة وا ُمل ِ
اﻟﺨﻠﻘﻴﺔ ،ﻛﻞ ﻫﺆﻻء ﻳُﻔ َﺮج ﻋﻨﻬﻢ ﺑﻜﻔﺎﻟﺔ ﻣﺎﻟﻴﺔ ،وأﻣﺎ أﻧﺎ ﻓﺄﺑﻘﻰ ﰲ اﻟﺴﺠﻦ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻢ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ،
وﻣﺘﻰ؟
وذﻫﺒﺖ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺮاﺑﻊ ﻷﺣﴬ ﺟﻠﺴﺔ املﻌﺎرﺿﺔ ،وﺗﻄﻠﻌﺖ إﱃ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ أﻗﻒ ﻓﻴﻬﺎ
أﻣﺎم اﻟﻘﺎﴈ ،وﻟﻢ أﺟﺪ ﰲ املﺤﻜﻤﺔ ﻣﻦ ﻳﻨﺘﻈﺮﻧﻲ ﻏري ﻓ ﱠﺮاش ﻣﻜﺘﺒﻲ اﻟﺬي اﻧﺪﻓﻊ ﻧﺤﻮي ﻣﺴﻠﻤً ﺎ
ﻄﺎ ﻋﲆ ﻳﺪي وﻗﺎل :ﺗﺸﺠﱠ ﻊ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ! ﺿﺎﻏ ً
وﻗﺪم إﱄ ﱠ ﺳﻴﺠﺎرة.
ﻄﻞ ﺑﻲ اﻻﻧﺘﻈﺎر؛ ﻓﺈن اﻟﻘﺎﴈ أﺧﺬ ﻳﺴﺘﻤﻊ إﱃ أﻗﻮاﱄ ﰲ ﻫﺪوء واﻋﺘﺪال ،ﺣﺘﻰ وﻟﻢ ﻳَ ُ
ﺗﻴﻘﻨﺖ أن اﻟﺤﻜﻢ ﺳﻴﻜﻮن ﺑﺎﻹﻓﺮاج.
وﻛﺎﻧﺖ دﻫﺸﺘﻲ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻋﻠﻦ اﻟﻘﺎﴈ أن اﻟﺤﻜﻢ ﺑﻌﺪ أﺳﺒﻮع.
وملﺎ ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻟﻢ أ َ َﻛﺪ أُﺻﺪﱢق ﻋﻴﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺖ أﻣﺎﻣﻲ وﺟﻪ أﻣﻲ اﻟﺒﺎﻛﻴﺔ،
وملﺤﺖ إﱃ ﻳﻤﻴﻨﻬﺎ وﻳﺴﺎرﻫﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﺒﺎد وﻣﻨرية وﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ،وﺳﺒَﺢَ رأﳼ ﰲ
ﺗﻤﺎﺳﻜﺖ وﺳﻠﻤﺖ ﻧﻔﴘ ﻟﻸم املﺴﻜﻴﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ أﻓﻬﻢ ﻣﻤﺎ ُ اﻟﻔﻀﺎء ﺣﺘﻰ ﻛﺪت أﺳﻘﻂ ،ﻟﻮﻻ أن
ُ
ووﺟﺪت أن املﻮﻗﻒ أﺷﺪ ﻣﻦ ﻗﺎﻟﺖ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﺟﺎءت ﻣﻨرية وﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻳُﺤﺎوﻻن أن ﻳﻬﺪﺋﺎﻫﺎ،
ﻃﺎﻗﺘﻲ ،ﻓﺤﺎوﻟﺖ أن أﻗﻮل ﺑﻌﺾ ﻛﻠﻤﺎت أﺧﻔﻒ ﺑﻬﺎ ﻟﻮﻋﺘَﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﱢﻲ ﻟﻢ أﺟﺪ ﺷﻴﺌًﺎ أﻗﻮﻟﻪ.
وﻛﺎن اﻟﴩﻃﻲ املﻜ ﱠﻠﻒ ﺑﺤﺮاﺳﺘﻲ أﻛﺜﺮ إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ أن ﻳَﺠﺬﺑﻨﻲ ﻣﻦ ذراﻋﻲ ،ﻓﺎﻛﺘﻔﻰ
ﺑﺄن ﻗﺎل» :ﻻ داﻋﻲ ﻟﻜ ﱢﻞ ﻫﺬا ،واﻟﻌﺎﻗﺒﺔ ﺧري إن ﺷﺎء ﷲ «.ﻓﻌﺎد إﱄ ﱠ ﳾء ﻣﻦ ﻗﻮﱠة اﻹرادة،
ً
اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻋﲆ ُ
وﺷﺪدت ﻔﺖ ﻗﻠﺔ اﻻﻫﺘﻤﺎم،وﻧﺰﻋﺖ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ ﻳﺪي أﻣﻲ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻟﻌﻨﻒ وﺗﻜ ﱠﻠ ُ
ُ
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻗﺎﺋﻼ :ملﺎذا ﺗُﺰﻋﺠﻮن أﻧﻔﺴﻜﻢ ﺑﺎﻟﺤﻀﻮر إﱃ ﻫﻨﺎ؟ ﻫﺬه ﴍوط املِ ﻬﻨﺔ ﻳﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ،
وﺟﻬﻲ ً
وأﻧﺖ ﻳﺎ ﻣﻨرية أﻻ ﺗُﺮﻳﺪﻳﻦ أن ﺗﻜﻮﻧﻲ ﺻﺤﻔﻴﺔ؟ ﻫﻨﺎك ﺻﺤﻔﻴﺎت ﻛﺜريات أﻗﻞ ﻣﻨﻚ ﺑﺮاﻋﺔ ﰲ
ﺗﻤﺜﻴﻞ أدوار اﻟﺒﻜﺎء ،ﺗﻌﺎﱄ ﻳﺎ آﻧﺴﺘﻲ ﻣﻌﻲ ﻟﱰَي أﻧﻲ أُﻓﻄﺮ ﻋﺴﻞ ﻧﺤﻞ وأﺗﻐﺪﱠى ﻛﺒﺎﺑًﺎ.
وأﻧﺖ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة!
ﻓﺘﻘﺪم ﺣﻤﺎدة إﱄ ﱠ وﻣﺪ ﻳﺪه ﻣُﺴ ﱢﻠﻤً ﺎ ،وﻛﺎن وﺟﻬﻪ ﻳﺪل ﻋﲆ اﻟﺘﺄﺛﺮ ،ﻓﻘﻠﺖ ﻟﻪ :أﻇﻨﻚ أﻧﺖ
املﺴﺌﻮل ﻋﻦ ﻫﺬا؟ ﻣﻦ أﺧﱪ ﻫﺆﻻء ﻏريك؟
ﻓﻘﺎل :ﻳﻌﻨﻲ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ أذﻫﺐ ﻷﺳﺄل ﻋﻨﻚ وأﻋﻠﻢ أﻧﻚ ﰲ اﻟﺴﺠﻦ وﻻ أﺑﻌﺚ إﻟﻴﻬﻢ؟
ﻳﻌﻨﻲ ﻛﻨﺎ ﻛﻠﻨﺎ ﻧﺄﻛﻞ وﻧﴩب وﻧﻨﺎم ﰲ ﺑﻴﻮﺗﻨﺎ وأﻧﺖ ﺗﺄﻛﻞ ﻣﻊ املﺴﺎﺟني؟ ﻛﺎن ﻻ ﺑﺪ أن أﻗﻮل
ﻟﻬﻢ وﻻ ﺑﺪ أن ﻧﻬﺘ ﱠﻢ ﺑﻚ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ،واملﺴﺄﻟﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ؛ ﺗﻠﻐﺮاف» :ﻣﻨﺘﻈﺮﻛﻢ اﻟﻴﻮم ﺑﺎملﺤﻄﺔ ﻷﻣﺮ
ﻫﺎم ﻳﺨﺺ اﻷﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ «.واﻟﺴﺖ اﻟﻜﺒرية دﻋﺖ ﱄ وﻫﻲ ﻣﺮﺗﺎﺣﺔ ﻣﻊ ﻣﻨرية ﻫﺎﻧﻢ ﰲ ﺑﻴﺖ
اﻟﺤﺎج ﻣﺼﻄﻔﻰ ،وأﻧﺎ وﻓﻄﻮﻣﺔ وﻛ ﱡﻠﻨﺎ ﰲ اﻟﺨﺪﻣﺔ ،ووﷲ ﻣﺎ ﻳَﺤﻤﻞ ﻟﻚ اﻷﻛﻞ ﻏريي ،ﻳﺎ ﺳﻼم
ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ! ﺑﻌﺾ ﺧريك وﷲ! وﻛﻞ ﻳﻮم أﻃﻠﺐ ﻣﻘﺎﺑﻠﺘﻚ واملﺄﻣﻮر ﻳﺮﻓﺾ ،إن ﺷﺎء ﷲ رﺑﻨﺎ
ﻳﻔﺮﺟﻬﺎ.
ووﺿﻊ اﻟﴩﻃﻲ ﻳﺪه ﻋﲆ ﻛﺘﻔﻲ ﻣﻨﺒﻬً ﺎ ،ﻓﻨﺰﻋﺖ ﻧﻔﴘ ﻷﺳري ﻣﻌﻪ وأﺧﺬت ﻳﺪ ﺣﻤﺎدة
ﻓﻀﻐﻄﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وأﺑﺖ أﻣﻲ إﻻ أن ﺗﻀﻤﱠ ﻨﻲ إﱃ ﺻﺪرﻫﺎ ﻗﺒﻞ أن أذﻫﺐ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻋﻴﻨﺎ ﻣﻨرية
ﻏﺎرﻗﺘَني ﰲ اﻟﺪﻣﻊ وﻫﻲ ﺗﺴﻠﻢ ﻋﲇ ﱠ ﺻﺎﻣﺘﺔ ،وأﻣﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻓﻬﻤَ ﺲ إﱄ ﱠ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أﻧﺎ ﻣُﻘﻴﻢ ﻫﻨﺎ
ﻓﻼ ﺗُﻔﻜﺮ ﰲ ﳾء ،وﻋﻨﺪي ﻛﻼم ﻛﺜري أﻗﻮﻟﻪ ﻟﻚ ﻗﺮﻳﺒًﺎ.
ُ
وﻗﺎوﻣﺖ اﻟﺪاﻓﻊ اﻟﻘﻮي اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺪﻓﻌﻨﻲ واﻧﴫﻓﺖ ﻣﻊ اﻟﴩﻃﻲ ﻧﺤﻮ اﻟﻌ َﺮﺑﺔ ا ُملﻨﺘ َ
ﻈﺮة، ُ
ﻛﻔﻲ ﻣﻌﺘﻤﺪًا ﺑﺬراﻋﻲﻗﺬﻓﺖ ﺑﺮأﳼ ﻋﲆ ﱢ ُ ﻟﻠﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻮراء ،وملﺎ أﻏﻠﻖ اﻟﴩﻃﻲ اﻟﺒﺎب ﻣﻦ وراﺋﻨﺎ
ﺧﻔﻒ ﻣﻦ ﺷﺪة اﻟﻀﻐﻂ اﻟﺬي ﻛﺎد ﻳﻤﺰق ﻋﲆ رﻛﺒﺘﻲ ،وﺗﻤﻨﻴﺖ ﻟﻮ أﺳﻌﻔﻨﻲ اﻟﺒﻜﺎء ﺣﺘﻰ أ ُ ﱢ
ﻛﻴﺎﻧﻲ.
وﻗﻀﻴﺖ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻷوﱃ ﺑﻌﺪ ﻋﻮدﺗﻲ إﱃ اﻟﺴﺠﻦ ﰲ أﺷﺪ ﻣﻦ اﻟﺠﺤﻴﻢ ،ﻓﻠﻢ أذق ﻃﻌﻢ اﻟﻨﻮم
ﻓﻀﻼ ﻋﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﻋﺎﻧﻴﻪ ﻣﻦ اﻵﻻم واﻟﻬﻮاﺟﺲ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻲ ﻟﻢ أَذُق ﻃﻌﺎﻣً ﺎ ﰲ اﻟﻐﺪاء أو اﻟﻌﺸﺎء،
ً
َﺮﻓﺾ ﻗﺒﻮل أي ﺑﻞ وزﻋﺖ ﻣﺎ ﺟﺎءﻧﻲ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ املﺴﺎﺟني اﻵﺧﺮﻳﻦ ،ورﺟﻮت املﺄﻣﻮر أن ﻳ ُ
ﻃﻌﺎم ﻣﻦ اﻟﺨﺎرج ﻣﻦ أﺟﲇ.
ً
ﻨﻘﻄﻊ آﻻﻣﻲ وﻫﻮاﺟﴘ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ ،وزادﻧﻲ ﻏﻴﻈﺎ أن اﻟﻄﻌﺎم اﺳﺘﻤﺮ ﻳﺄﺗﻲ إﱄ ﱠ وﻟﻢ ﺗَ ِ
وأﻋﺪت اﻟﻜ ﱠﺮة ﻣﺮ ًة
ُ ﻓﻜﻨﺖ أوزﻋﻪ ﻋﲆ زﻣﻼﺋﻲ ﻣﻦ اﻷرﻗﺎم اﻷﺧﺮى،ُ ﺑﺮﻏﻢ إﻟﺤﺎﺣﻲ ﰲ رﻓﻀﻪ،
216
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ واﻟﻌﴩون
ﻗﺎﺋﻼ ﻟﻪ» :إﻧﻨﻲ أﺣﺘﺞﱡ اﺣﺘﺠﺎﺟً ﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﻹرﻏﺎﻣﻲ ﻋﲆ ﻗﺒﻮل ﻃﻌﺎم ﻻ أرﻳﺪ ﺛﺎﻟﺜﺔ ﻋﲆ املﺄﻣﻮر ً
ﻗﺒﻮﻟﻪ«.
أن ﺣﻤﺎدة ﻛﺎن ﻳَﺤﺘﺎل ﻋﲆ إﻳﺼﺎل اﻟﻄﻌﺎم إﱄ ﱠ ﺑﺈﻫﺪاء ﺑﻌﺾ اﻟﻬﺪاﻳﺎ إﱃ ﺣﺮاس واﻟﻈﺎﻫﺮ ﱠ
اﻟﺴﺠﻦ ،ﻓﺈن املﺄﻣﻮر اﺿﻄ ﱠﺮ إﱃ إﺣﻀﺎر رﺋﻴﺲ اﻟﺤﺮاس أﻣﺎﻣﻲ وﻫﺪده ﺑﺎﻟﻌﻘﺎب إذا ﻫﻮ
ﺗﺴﺎﻫﻞ ﰲ إدﺧﺎل أي ﻃﻌﺎم ﻳﺄﺗﻲ ﺑﺎﺳﻤﻲ ،وﺑﻌﺪ ﺛﻼﺛﺔ أﻳﺎم ﻣﻦ ﻫﺬا اﻻﺣﱰاق ا ُملﺴﺘﻤﺮ ﺷﻌﺮت
وﻗﻤﺖ ﰲ ﺻﺒﺎح اﻟﻴﻮم اﻟﺮاﺑﻊ ﻻ أﻛﺎد أﻗﺪر ﻋﲆ ُ ﰲ اﻟﻠﻴﻞ ﺑﻘﺸﻌﺮﻳﺮة ﺷﺪﻳﺪة واﻟﺘﻬﺎب ﰲ اﻟﺰور،
ُ َ
ﻓﺘﺤﻤﻠﺖ آﻻﻣﻲ وﻟﻢ أذق ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﻃﻌﺎم ُ ﱠدت ﰲ أن أﻋﺮض أﻣﺮي ﻋﲆ املﺄﻣﻮر ﺑﻠﻊ رﻳﻘﻲ ،وﺗﺮد ُ
وﺟﺪت ﻟﻪ ﺷﻬﻮة؛ إذ ﻛﺎن ﻟﻮﻧﻪ وﻣﻨﻈﺮه ُ اﻟﺴﺠﻦ اﻟﺬي ﺟﺎء إﱄ ﱠ ،وﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﰲ ﺗﻤﺎم ﺻﺤﺘﻲ ملﺎ
ﱠﻤﺖ ﻋﲆ ﻗﻠﺒﻲ ﻛﺂﺑﺔ ﺷﺪﻳﺪة زادﺗْﻨﻲ أ ًملﺎ ﻋﲆ ﻳﻜﻔﻴﺎن ﻟﺼﺪ اﻟﻨﻔﺲ ﻋﻨﻪ ،وملﺎ أﻗﺒﻞ اﻟﻠﻴﻞ ﺧﻴ ْ
ﺣﺴﻬﺎ ﰲ أﻧﻔﺎﳼ املﻜﺮوﺑﺔ ورأﳼ املﺼﺪﱠع وأﻋﻀﺎﺋﻲ ﻛﻨﺖ أ ُ ﱡ
أﻟﻢ وزادَت ﺣﺮارة ﺟﺴﻤﻲ ﺣﺘﻰ ُ
اﻟﻨﺎﺑﻀﺔ ﺑﺎﻟﻮﺟﻊ ،وﺧﺸﻴﺖ أن ﻳﻜﻮن ﻗﺪ أﺻﺎﺑﻨﻲ ﻣﺮض ﺧﻄري ﻳﻘﴤ ﻋﲇ ﱠ ﻗﺒﻞ اﻟﺼﺒﺎح،
ﻓﺘﺤﺎﻣﻠﺖ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ ﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ إﱃ اﻟﺒﺎب ،ﻓﺪﻗﻘﺘُﻪ ﻷدﻋﻮ اﻟﺴﺠﺎن ،وﺑﻌﺪ ﺣني ُﻓﺘﺢ اﻟﺒﺎب
وﺳﺄﻟﻨﻲ اﻟﺮﺟﻞ ﰲ ﻟﻬﺠﺔ اﻟﻼﺋﻢ ﻋﻤﺎ أرﻳﺪ ،ﻓﻠﻤﺎ ﻋﻠﻢ أن اﻷﻣﺮ ﻻ ﻳَﺰﻳﺪ ﻋﲆ أﻧﻲ ﻣﺮﻳﺾ أﺟﺎﺑﻨﻲ
ﻗﺎﺋﻼ :وﻣﺎذا أﺻﻨﻊ ﻟﻚ؟ً
ﺛﻢ أﻏﻠﻖ اﻟﺒﺎب واﻧﴫف ﻋﻨﱢﻲ ﺑﻐري أن ﻳﺰﻳﺪ ﻛﻠﻤﺔ ،وﻟﻢ أﺟﺪ ﻓﺎﺋﺪة ﰲ إﻋﺎدة اﻟﻜ ﱠﺮة ﻋﻠﻴﻪ
ُ
وأﻏﻠﻘﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻓﺘﻬﺎﻟﻜﺖ ﻋﲆ ﴎﻳﺮي ،وأﻟﻬﺎﻧﻲ اﻟﻮﺟﻊ ﻋﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻓﻈﺎﻇﺔ ذﻟﻚ اﻟﺴﺠﱠ ﺎن، ُ
ﻷﻏﺮﻳﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﻮم ،وﻟﻜﻦ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ أﺧﻴﻠﺔ ﻣَ ﺤﻤﻮﻣﺔ ﻻ ﻣﻌﻨًﻰ ﻟﻬﺎ أﻏﺮﻗﺖ وﻋﻴﻲ ،وﺟﻌﻠﺖ ﺗَﺘﻄﺎرد
وﺗﺘﻮاﺛَﺐ ﰲ ﺷﺒﻪ ﺣﻠﻢ ﻣُﻀﻄﺮب ،وﻋﺎدت إﱄ ﱠ اﻟﻘﺸﻌﺮﻳﺮة أﺷ ﱠﺪ ﻣﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ املﺎﺿﻴﺔ
ﻄﻰ ﺑﻪ ﻓﻠﻢ أﺟﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﺟﻌﻠﺖ أﻧﺘﻔﺾ وأرﺗﻌ ُﺪ ﺳﺎﻋﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﻓﻘﻤﺖ أﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﳾء أﺗﻐ ﱠ ُ
زال اﻟﱪد وﻫﺠﻤَ ﺖ ﻋﲇ ﱠ ﺣﺮارة ﺷﺪﻳﺪة ﻛﺎدت ﺗُﺰﻫﻖ ُروﺣﻲ.
وﻃﻠﺒﺖ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﺎن أن ﻳُﺒﻠﻎ املﺄﻣﻮر أﻧﻲ ﻣﺮﻳﺾ ،ﻓﻤﺎ ﻫﻲ إﻻ ُ وﻃ َﻠﻊ اﻟﺼﺒﺎح آﺧﺮ اﻷﻣﺮ
ﺳﺎﻋﺔ ﻗﺼرية ﺣﺘﻰ ﺟﺎء اﻟﻄﺒﻴﺐ ﻟﻴَﻔﺤﺼﻨﻲ ،وﻟﻮ ﻛﻨﺖ ﻗﻄﺔ ﻣﺪ ﱠﻟﻠﺔ ﻟﻜﺎﻧﺖ ﻋﻨﺎﻳﺔ اﻟﻄﺒﻴﺐ ﺑﻲ
أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﻳﺔ ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺟﺎء إﱄ ﱠ ﻓﻨﻈﺮ إﱃ وﺟﻬﻲ ﺛﻢ ﻗﺎل :ﻣﺎذا ﺗﺸﻜﻮ؟
ً
ﺑﺪأت أﺳﻌﻞ ﰲ آﺧﺮ اﻟﻠﻴﻞ ﺳﻌﺎﻻ ﺷﺪﻳﺪًا، ُ ﻗﺎﺋﻼ :زوري ً
أوﻻ ،وﻗﺪ ﻓﺄﴍت إﱃ زوري ً
وﺟﺴﻤﻲ ﻫﺎﻣﺪ ،ورأﳼ ﻣﺼﺪع ،وﻟﻢ أَذُق اﻟﻨﻮم ،واﻧﺘﺎﺑﺘْﻨﻲ ﰲ اﻟﻠﻴﻞ ﻗﺸﻌﺮﻳﺮة ﺷﺪﻳﺪة.
وأﻇﻦ ﺣﺮارﺗﻲ …
وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺼﱪ ﺣﺘﻰ أﺗ ﱠﻢ ﻗﻮﱄ.
ﺸﺨﺺ املﺮض. ﻳﺒﻖ إﻻ أن ﺗُ ﱢ
ﻓﻘﺎﻃﻌﻨﻲ ﺳﺎﺧ ًﺮا :ﻳﻈﻬﺮ أﻧﻚ ﺗَﻌﺮف ﻛﻞ ﳾء ،ﻓﻠﻢ َ
217
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
218
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس واﻟﻌﴩون
ﻣﺮت ﺳﺎﻋﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻗﺒﻞ أن أﻋﺮف أﻧﻲ ﰲ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ اﻟﺤُ ﻤﻴﺎت ،وأﻧﻲ ﻧُﻘﻠﺖ إﻟﻴﻪ ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ
اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﺒﺎح ،وﻋﺎد إﱄ ﱠ ﳾء ﻣﻦ اﻟﻘﻮة ﰲ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻈﻬﺮ ﻓﺎﺳﺘﻄﻌﺖ أن آﻛﻞ اﻟﻄﻌﺎم
ﻳﺄت اﻟﻠﻴﻞ ﺣﺘﻰ ﻛﻨﺖ أﻗﺪر ﻋﲆ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﺟﺎءت اﻟﺴﻴﺪة اﻟﺘﻲ اﻟﻴﺴري اﻟﺬي ُﻗﺪم إﱄ ﱠ ،وﻟﻢ ِ
ﻓﻘﺎﺳﺖ ﺣﺮارﺗﻲ وﻛﺎﻧﺖ ﺗﺰﻳﺪ درﺟﺔ واﺣﺪة ﻋﻦ َ رأﻳﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ وﻫﻲ ﻛﺒرية ا ُملﻤ ﱢﺮﺿﺎت
ﻧﺴﺎﻓﻮﺟﺪت ﰲ ﺛَﺮﺛﺮﺗﻬﺎ أ ُ ً
ُ اﻟﺤﺮارة اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،وأﺧﺬت ﺗﺤﺪﺛﻨﻲ وﻛﺎﻧﺖ ﻧﻔﴘ ﻣُﺴﺘﻮﺣِ ﺸﺔ
ﻛﺒريًا ،ﺛﻢ أﺧﺬَت ﺗَﺮ ِﺑﻂ ذراﻋﻲ ﻣﻦ ﻓﻮق املﺮﻓﻖ وﻣﻦ ﺗﺤﺘﻪ ُ
ﻟﺘﺄﺧﺬ ﻋﻴﱢﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺪم ،ﻓﻠﻤﺎ أﺗﻤﻤَ ْﺖ
ﻋﻤﻠﻬﺎ أﻫﺪت إﱄ ﱠ ﻗﺼﺔ ﻷﺗﺴﲆ ﺑﻘﺮاءﺗﻬﺎ ،وﻫﻲ اﻣﺮأة ﰲ ﻧﺤﻮ اﻟﺨﻤﺴني ﻣﻦ ﻋﻤﺮﻫﺎ وﻣﺎ ﻳﺰال
ور ﱠﻗﺔ.
ﻓﻴﻬﺎ أﺛﺮ ﻣﻦ ﻧﴬة اﻟﺸﺒﺎب واﻟﺠﻤﺎل ،وزادﺗﻬﺎ ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎ اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ ﺣﺴﻨًﺎ ِ
ﻗﻀﻴﺖ ﺑﻀﻌﺔ أﻳﺎم ﰲ املﺴﺘﺸﻔﻰ ﺑﺪأت اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺗﺘﻮﺛﱠﻖ ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﻣﻦ ﻫﻨﺎك ُ وﺑﻌﺪ أن
ﻣﻦ ا ُملﻤﺮﺿني واملﻮﻇﻔني ،ﺑﻞ ﺗﻮﺛﻘﺖ اﻟﺼﻠﺔ ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﺣُ ﱠﺮاﳼ وﻫﻢ ﻣﻦ ﺟﻨﻮد اﻟﺮدﻳﻒ،
َﻨﺘﻈﺮ اﻧﺘﻬﺎء ﻣﺪﺗﻪ ﰲ اﻟﺠﻨﺪﻳﺔ ،ﻟﻴﻌﻮد وﻛﺎن أﻗﺮﺑﻬﻢ إﱃ ﻣﻮدﺗﻲ اﻟﻔﺘﻰ »ﻣﺠﺎﻫﺪ« اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳ ِ
»ﻫﻨﺎ« ،ﻓﻜﺎن ﻛﻠﻤﺎ ﺟﺎءت ﻧﻮﺑﺘﻪ وﻗﻒ ﻋﻨﺪ ﺑﺎب ﺣﺠﺮﺗﻲ إﱃ ﻗﺮﻳﺘﻪ وﻳﺘﺰوج ﻣﻦ اﺑﻨﺔ ﻋﻤﻪ َ
ﰲ ﺣﺪﻳﻘﺔ املﺴﺘﺸﻔﻰ واﺿﻌً ﺎ ﺑﻨﺪﻗﻴﺘﻪ ﺑني ﻗﺪﻣﻴﻪ ،وأﺧﺬ ﻳُﺤﺪﺛﻨﻲ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ وأﻫﻠﻪ وﻋﺮوﺳﻪ
َ
»ﻫﻨﺎ«.
ﻧﺸﺄت ﺑﻴﻨﻲ وﺑني ﻣَ ﻦ ﰲ املﺴﺘﺸﻔﻰ أﺛﺮ ﻛﺒري ﰲ ﺗﺨﻔﻴﻒ وﻃﺄة ْ وﻛﺎن ﻟﻬﺬه املﻮدة اﻟﺘﻲ
اﻟﺴﺠﻦ ﻋﲇ ﱠ وﰲ ﺗﺴﻬﻴﻞ زﻳﺎرات أﻫﲇ وأﺻﺤﺎﺑﻲ.
وﻛﺎﻧﺖ أول زﻳﺎرة ﻣُﻔﺎﺟﺄ ًة ﺳﺎرة ﺑﻌﺪ ﻋﴩة أﻳﺎم ﻣﻦ اﻧﺘﻘﺎﱄ إﱃ املﺴﺘﺸﻔﻰ ،وذﻟﻚ ﰲ
اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻣﻦ املﺴﺎء ﰲ ﻟﻴﻠﺔ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﻛﺎن اﻟﺤﺎرس »ﻣﺠﺎﻫﺪ« ،أو اﻟﻠﻮاء »ﻣﺠﺎﻫﺪ« ﻛﻤﺎ
ﻛﻨﺖ أﺳﻤﻴﻪ ،ﻳُﺤﺪﺛﻨﻲ ﻛﻌﺎدﺗﻪ ﺑﻠﻬﺠﺘﻪ اﻟﺼﻌﻴﺪﻳﺔ اﻟﻈﺮﻳﻔﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ ﻣﻐﺎﻣﺮاﺗﻪ ﰲ ﺣﺮب ُ
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
َﻤﺰج وﺻﻔﻪ ﻓﻠﺴﻄني ،وﻋﺮى ذراﻋﻪ ﻓﻜﺸﻒ ﱄ ﻋﻦ ﺟﺮح ﻛﺒري ﻓﻴﻬﺎ وأﺧﺬ ﻳَﺤﻜﻲ ﱄ ﻗﺼﺔ وﻳ ِ
ﴬب إﱃ اﻟﻮراء ﻛﺄﻧﻬﺎ اﻟﺴﺎذج ﺑﻔﻜﺎﻫﺎت ﺳﺎﺧﺮة ﻋﻦ اﻟﻘﻨﺎﺑﻞ »اﻟﺮﻓﺎﺳﺔ« اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ داﺋﻤً ﺎ ﺗَ ِ
ﺑﻐﺎل ﺧﺒﻴﺜﺔ ،ورأﻳﺘﻪ ﻳﻠﺘﻔﺖ ﻓﺠﺄة وﻳﺮﻓﻊ ﺑﻨﺪﻗﻴﺘﻪ وﻳﺼﻴﺢ ﰲ ﻋﻨﻒ» :ﻣﻦ ﻫﻨﺎك؟« وﺧﻴﻞ إﱄ ﱠ
ﻗﺎﺋﻼ» :ﻋﻮض ﷲ« ،ﻓﻌﺎد إﱃ وﻗﻔﺘِﻪ اﻷوﱃ، أﻧﻪ ﻋﲆ وﺷﻚ أن ﻳﴬب ،ﻓﺄﺟﺎﺑﻪ أﺣﺪ اﻟﻘﺎدﻣني ً
وﺗﻘﺪم ﻋﻮض ﷲ أﻓﻨﺪي رﺋﻴﺲ اﻟﺘﻮﻣﺮﺟﻴﺔ وﻣﻦ وراﺋﻪ ﺷﺨﺺ ﻳﺘﻌﺜﺮ ﰲ ﻣﻌﻄﻒ أﺑﻴﺾ ﻣﻦ
ﺛﻴﺎب ا ُملﻤﺮﺿني ،وﻟﻢ أﻋﺮف ﻣﻦ ﻫﻮ ﺣﺘﻰ ﺧﺮج ﻣﻦ ﻇﻞ اﻟﺠﺪار وﺑﺪأت أﺷﻌﺔ ﻣﺼﺒﺎح اﻟﻐﺮﻓﺔ
ﻗﺎﺋﻼ» :ﺣﻤﺎدة! ﻣﺎذا ﺟﺎء ﺑﻚ إﱃ ﻫﻨﺎ؟« ﻓﺼﺤﺖ ً ُ ﺗﻘﻊ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ
وﺗﻨﺤﱠ ﻰ اﻟﻠﻮاء ﻣﺠﺎﻫﺪ ﺣﺘﻰ وﻗﻒ ﻋﲆ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﺑﻀﻌﺔ أﻣﺘﺎر ﻣﻨﺎ ،وﻷول ﻣﺮة ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻲ
ذراﻋﻲ ،وﻛﺎن ﻳﺤﻤﻞ ﰲ ﻳﺪه رﺑﻄﺔ وﺿﻌﻬﺎ ﻋﲆ املﻨﻀﺪة ﻗﺒﻞ أن ﻳﻌﺎﻧﻘﻨﻲ ﱠ أﺧﺬت ﺣﻤﺎدة ﺑني
وﻗﻠﺖ ﻟﻪ» :ﻛﻴﻒ ﻋﺮﻓﺖ أﻧﻲ ﻫﻨﺎ؟«
ﻓﻘﺎل ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ :أﻣﺎل ﻳﺎ ﻋﻢ ،ﺗﻬﺮب ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ ﺑﻐري أن ﺗﱰك ﻟﻨﺎ اﻟﻌﻨﻮان اﻟﺠﺪﻳﺪ؟
وﻗﺎم ﻓﺤﻞ اﻟﺮﺑﻄﺔ وأﺧﺮج ﻣﻨﻬﺎ ﺻﻨﺪوق اﻟﺴﺠﺎﻳﺮ وﻋﻠﺐ اﻟﺤﻠﻮى ،وأﺧﺬ ﻳﻘﺪم ﻣﻨﻬﺎ إﱄ ﱠ
وإﱃ ﻋﻮض ﷲ أﻓﻨﺪي واﻟﻠﻮاء ﻣﺠﺎﻫﺪ ،ﺛﻢ أﺧﺬ ﻳُﺤﺪﺛﻨﻲ ﻋﻦ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ وﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ واﻟﺸﻴﺦ
ﺤﴬ ﻣﻌﻪ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻜﺎﺳﻠﺖ ﰲ آﺧﺮ ﻟﺤﻈﺔ. ﻣﺼﻄﻔﻰ وﻓﻄﻮﻣﺔ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗَ ُ
ﻓﻘﻠﺖ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :إذن ﻟﻢ ﺗُﺴﺎﻓِ ﺮ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر.
ﻓﻘﺎل :ﻣﺎ ﱄ أﻧﺎ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ،ﻫﻨﺎ وﻃﻨﻲ.
َ
ﻋﻘﺪت اﻟﻌﻘﺪ؟ ﻓﻘﻠﺖ :واﻧﺘﻬﻴﺖ؟ أﻗﺼﺪ
وذﻫﺒﺖ إﱃ املﻨﺰل ﻋﲆ ﺣﺴﺐ وﻋﺪ اﻟﺤﺎج ﻣﺼﻄﻔﻰ، ُ ﻓﻘﺎل :اﺷﱰﻳﻨﺎ املﻠﺒﺲ واﻟﴩﺑﺎت،
وﻟﻜﻦ اﻟﺴﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺣﻠﻔﺖ ﻣﺎ ﻳُﻤﻜﻦ اﻟﻌﻘﺪ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﺮج ﳼ ﺳﻴﺪ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ ،ﻗﻠﺖ :اﻟﺤﻖ
ﻣﻌﻬﺎ ،ﻳﺎ ﺳﻼم ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ!
وﻛﺎن ﻋﻮض ﷲ أﻓﻨﺪي ﻗﺪ ﻋﺎد إﻟﻴﻨﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻏﺎب ﰲ ﺟﻮﻟﺔ ﺑﺎملﺴﺘﺸﻔﻰ وﻃﻠﺐ ﻣﻦ ﺣﻤﺎدة
َﻨﴫف.
أن ﻳ ِ
وﻗﺎم ﺣﻤﺎدة ﺑﻐري أن ﻳُﺘ ﱠﻢ ﺣﺪﻳﺜﻪ ،وﻛﺎن وداﻋﻪ ﺣﺎ ٍّرا ،وﺳﺎر ﻳﺘﻌﺜﺮ ﰲ ذﻳﻞ ﻣﻌﻄﻔﻪ اﻟﺬي
ُ
وﺑﻘﻴﺖ وﺣﺪي ﻟﻴﺴﺘﺨﻔﻲ ﺑﻪ ،وﻏﺎب وراء رﻛﻦ اﻟﺒﻨﺎء ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ،َ اﺳﺘﻌﺎره ﻣﻦ ﻋﻮض ﷲ
ﺟﺎﻟﺴﺎ ﻋﲆ اﻟﻜﺮﳼ اﻟﻄﻮﻳﻞ ﺳﺎﺑﺤً ﺎ ﰲ ﺗﺄﻣﻞ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻌﺠﻴﺐ ﺣﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ،ﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ ً
أﻃﻔﺎﻻ ،وﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺘﻤ ﱠﺮغ ﰲ اﻷوﺣﺎل ،وﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ أن أﻋﺮف ً أن أﻋﺮف ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻣﻨﺬ ﻛﻨﺎ
ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﺑﻌﺪ وﻫﻮ ﻳﺘﺨﻄﻰ اﻷﺳﻮار وﻳُﻌ ﱢﺮض ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻠﻤﺘﺎﻋﺐ ﻣﻦ أﺟﻞ زﻳﺎرﺗﻲ.
وﻗﻄﻌَ ِﺖ اﻷﺧﺖ ﻣﺮﺳﻴﺪﻳﺎ ﻛﺒرية املﻤﺮﺿﺎت ﺳﻠﺴﻠﺔ أﻓﻜﺎري ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺟﺎءت ﻟﺘﺄﺧﺬ ﻋﻴﻨﺔ
اﻟﺪم ﻣﻦ ذراﻋﻲ ،وﺗُﻌﻄﻴﻨﻲ اﻟﺤﻘﻦ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻔﻌﻞ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ.
220
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس واﻟﻌﴩون
221
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻓﻘﺎﻟﺖ اﻷم ﰲ ﺣﻨﺎن :ﻻ ﺗَﻨﺨﺪﻋﻲ ﺑﺎﻷوﻫﺎم ﻳﺎ ردﻣﻮﻳﺎ ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻘﻮل ﻗﻠﺒﻚ» :ﻻ« ﻗﺪ ﻳﻜﻮن
ﻗﺼﺪه »ﻧﻌﻢ« ،ﻫﻜﺬا ﻧﺤﻦ ﻳﺎ ﺣﺒﻴﺒﺘﻲ إذا ﺗﴪﻋﻨﺎ.
ﻗﻀﻴﺖ ﺷﻬ ًﺮا أُﻏﻨﱢﻲ وأرﻗﺺ ﻟﻌﻞ ﻗﻠﺒﻲ ُ أﺗﴪع ﰲ ﳾء ﻳﺎ أﻣﻲ، ﱠ ﻓﻘﺎﻟﺖ ردﻣﻮﻳﺎ :ﻟﻢ
اﻟﺸﻌﺮى ﻟﻌﻠﻪ ﻳﻬﺪﻳﻨﻲ ،وﻟﻜﻦ ﻗﻠﺒﻲ وﻗﻀﻴﺖ ﺷﻬ ًﺮا آﺧﺮ أﺣﺮق اﻟﺒﺨﻮر ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ﻟﻨﺠﻢ ﱢ
ُ ﻳﺮﴇ،
ﻛﺎن داﺋﻤً ﺎ ﻳﻘﻮل» :ﻟﻴﺲ ﻧﻤﺮادا رﺟﲇ«.
َﺒﺘﺴﻤﻦ ﻟﻪ وﻳﺮﻣﻴﻨﻪ ﱠ
ﻛﻠﻬﻦ ﻳ ِ ﻓﺼﺎﺣﺖ اﻷم ﻏﺎﺿﺒﺔ :ﻻ ﺗﻘﻮل ﻫﺬا ﻓﺘﺎة أﺧﺮى ﰲ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ،
ﺑﺎﻟﺤﴡ ﻣﻦ أﺟﻠِﻚ.
اﻟﴪو ،وﺻﻮﺗﻪ ﻧﺎﻋﻢ ﻛﺼﻮت ﻓﻘﺎﻟﺖ ردﻣﻮﻳﺎ ﰲ ﺗﺄﺛﺮ :ﻟﻴﺲ ﻫﻮ رﺟﲇ ،ﻫﻮ أﻧﻴﻖ ﻣﺜﻞ ﻋﻮد ﱠ
اﻟﻴﻤﺎم ،وﻫﻮ اﺑﻦ ﺷﻴﺦ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ اﻟﺬي ﻳﻤﻠﻚ اﻟﺬﻫﺐ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳُﺤﺴﻦ إﻻ ﺗﺴﻠﻖ اﻟﺸﺠﺮ اﻷﻣﻠﺲ،
ﻻ ﻳﻘﺪر ﻧﻤﺮادا أن ﻳُﺬ ﱢﻟﻞ اﻟﺠﻮاد اﻟﺤﺮون وﻻ ﻳﺸﻖ اﻷﻣﻮاج اﻟﺜﺎﺋﺮة ،ﻟﻴﺲ ﻧﻤﺮادا رﺟﲇ.
ﻓﺼﺎﺣﺖ اﻷم ﰲ ﻳﺄس :رﺟﻠﻚ إذن ﺧﻴﺎل ﰲ اﻟﺴﺤﺎب أو ﺷﺒﺢ ﰲ ﺿﻮء اﻟﻘﻤﺮ.
وﺗﺮﻛﺘﻬﺎ ذاﻫﺒﺔ إﱃ اﻟﺨﻴﻤﺔ ﰲ ﺣﻨﻖ :ووﻗﻔﺖ »ردﻣﻮﻳﺎ« وﺣﺪﻫﺎ ﺗﺤﺖ اﻟﺴﻤﺎء ﺗﻨﻈﺮ إﱃ
اﻟﺸﻌﺮى وﺗُﺤﺪﱢث ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻟﻴﺲ ﻫﻮ ﻧﻤﺮادا. ﻧﺠﻢ ﱢ
ﻫﻜﺬا ﻛﺎﻧﺖ ردﻣﻮﻳﺎ ﺗﺘﺤﺪث؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻌﺮف ﻗﻴﻤﺔ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ،وﻻ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﻀﻴﻌﻬﺎ ،ﻗﻀﺖ
ﺷﻬ ًﺮا ﺗﺤﺮق اﻟﺒﺨﻮر ﻟﻨﺠﻢ اﻟﺸﻌﺮى ﻟﻴﻬﺪﻳﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗﺨﻄﻮ ﺧﻄﻮة ﺣﻤﻘﺎء ﻷﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺜﻠﻨﺎ
ﺗﺘﺨﺒﻂ ﻣﻊ اﻷﻫﻮاء اﻟﺰاﺋﻔﺔ ﰲ أﺧﻄﺮ ﻣﻮﻗﻒ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ،ﻓﺄﻳﻦ ﻫﻲ ﻣﻦ ﻣﻨﻰ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل ﱄ» :ﻟﻢ
أُﻓ ﱢﻜﺮ ﰲ أﻣﺮ ﻫﺬه اﻟﺨﻄﺒﺔ؟«
وﻣﺘﻰ ﺗﻔﻜﺮ إذن؟ أم ﻫﻲ ﺗُﺮﻳﺪ أن ﺗﻬﺐ ﻗﻠﺒﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻮﻫﺐ اﻟﻌﺒﺪ؟
وﺗﻤﻨﻴﺖ ﻟﻮ اﺳﺘﻄﻌﺖ أن أﻛﺘﺐ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم ﻗﺼﺔ ﻣﺜﻞ »ردﻣﻮﻳﺎ« ﻷﻋ ﱢﻠﻢ اﻟﻨﺎس
ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ املﺮأة ﰲ اﺧﺘﻴﺎرﻫﺎ؟ وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﺻﻨﻌﺖ »ردﻣﻮﻳﺎ«؟ أﻳﻦ ﻫﻲ اﻟﻘﺼﺔ؟ أوه! ﻛﺎن ﰲ
ﺗﺄﺗﻲ إﱄ ﱠ ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ
ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺟﻌﲇ أﻧﺘﻈﺮ ﺣﺘﻰ َ وﺳﻊ اﻷﺧﺖ ﻣﺮﺳﻴﺪﻳﺎ أن ﺗﱰ َﻛﻬﺎ ﻫﻨﺎ ً
ﻣﻦ اﻟﺼﺒﺎح.
ﻫﻜﺬا ﺑﻘﻴﺖ أﺣﺪث ﻧﻔﴘ وأﻧﺎ ﻣﻐﻤﺾ اﻟﻌﻴﻨني ،وﻻ أدري ﻣﺘﻰ دﺧﻞ اﻟﻨﻮم إﻟﻴﻬﻤﺎ.
222
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ واﻟﻌﴩون
أﺻﺒﺢ ﻋﺎ َﻟﻤﻲ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﺤﺼﻮ ًرا ﰲ ذﻟﻚ املﺴﺘﺸﻔﻰ وأﻫﻠﻪ؛ اﻷﺧﺖ ﻣﺮﺳﻴﺪﻳﺎ واﻟﻠﻮاء ﻣﺠﺎﻫﺪ
واﻟﺪﻛﺘﻮر ﻋﻮض ﷲ أﻓﻨﺪي ،وﻛﺎﻧﺖ زﻳﺎرات أﻫﲇ وأﺻﺪﻗﺎﺋﻲ ﺗﻘﻄﻊ رﺗﺎﺑﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻬﺎدﺋﺔ
ﺑﻠﻐﺖ ﻣﺒﻠﻎ اﻟﺮﻛﻮد ،وﺗُﺪﺧِ ﻞ إﱃ وﺣﺸﺘﻲ ﺷﻌﺎﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻷﻧﺲ ،ﻓﻜﻨﺖ أﻧﺘﻈﺮﻫﺎ ﰲ ﺗﻠﻬﻒ اﻟﺘﻲ َ
أﺗﺼﱪ ﺑﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺤني اﻟﺰﻳﺎرة اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ،وﻣﻦ ﻋﺠﻴﺐ اﻟﻄﺒﻊ اﻟﺒﴩي ﱠ وأﺗﺨﺬ ﻣﻦ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﺎ ذﺧرية
أﻧﻨﺎ ﻧﻘﺒﻞ ﻣﺎ ﺗُﺤﺘﱢﻤﻪ ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻟﻈﺮوف ،وﻧﻼﺋﻢ ﺑني أﻧﻔﺴﻨﺎ وﺑني اﻷﺣﻮال اﻟﺘﻲ ﻧﺘﻘﻠﺐ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻟﻮ
ﱢ
املﺘﻐرية ملﺎ اﺳﺘﻄﺎع ﻛﺜري ﻣﻨﺎ أن ﻳُﻄﻴﻘﻮا ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻓﻴﻨﺎ ﻫﺬه املﻘﺪرة ﻋﲆ اﻻﻧﻄﺒﺎع ﺑﺎﻟﻈﺮوف
ﺗﻐريت أﺣﻮاﻟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻴُﴪ إﱃ اﻟﻌُ ﴪ أو ﻣﻦ اﻟﻐﻨﻰ إﱃ اﻟﻔﻘﺮ أو ﻣﻦ اﻟﺠﺎه إﱃ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ إذا ﱠ
اﻟﺨﻤﻮل ،وﻟﻮﻻ ﻫﺬا اﻟﻄﺒﻊ ملﺎ اﺳﺘﻄﺎع إﻧﺴﺎن أن ﻳﻌﻴﺶ ﻳﻮﻣً ﺎ واﺣﺪًا إذا ﻓﻘﺪ اﻟﺤﺮﻳﺔ وﻫﻲ
اﻟﻬﺒﺔ اﻷوﱃ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﱢﺰ اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﺗَﺠﻌﻞ ﻟﻬﺎ ﻣﻌﻨًﻰ ،اﻟﻄري واﻟﻮﺣﺶ إذا ﺣُ ﺒﺴﺖ
وﺣﻴﻞ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني ﺣﺮﻳﺔ اﻟﻔﻠﻮات واﻟﻔﻀﺎء ﻻ ﺗﻄﻴﻖ ﺻﱪًا ﻋﲆ اﻷﴎ ،وﻗﺪ ﺗَﻨﺘﺤﺮ أو ﺗﺮﻓﺾ
ﻳﺘﻤﺴﻜﻮن ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة وإن ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺳﺠﻦ ﻣُﻈﻠِﻢ ﱠ اﻟﻄﻌﺎم واﻟﴩاب ﺣﺘﻰ ﺗﻤﻮت ،وﻟﻜﻦ اﻟﻨﺎس
ﺗﺤﺖ أﻃﺒﺎق اﻷرض ،وﻗﺪ ﻋﺠﺒﺖ ﻛﺜريًا وأﻧﺎ ﰲ ﺳﺠﻦ اﻻﺳﺘﺌﻨﺎف ﻣﻦ ﻓﺘًﻰ ﻛﺎن ﻣﺤﻜﻮﻣً ﺎ ﻋﻠﻴﻪ
ﻳﺒﻖ ﻣﻦ ﻋﻤﺮه إﻻ أن ﺗﻨﻈﺮ ﻣﺤﻜﻤﺔ اﻟﻨﻘﺾ ﰲ أﻣﺮه ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻳﺄﻛﻞ وﻳﴩب ﺑﺎﻹﻋﺪام وﻟﻢ َ
وﻳﻀﺤﻚ وﻳُﻬ ﱢﺮج ،وﻻ ﻳﻜﺎد ﻣﻦ ﻳﺮاه ﻳَﺤﺴﺒﻪ ﻣﻬﻤﻮﻣً ﺎ ﺑﴚء ،وﻟﻮ أﻧﻪ ُﺧ ﱢري ﺑني املﻮت وﺑني
اﻟﺒﻘﺎء ﰲ ﺳﺠﻨﻪ ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻪ ملﺎ ﺗﺮدﱠد ﰲ اﺧﺘﻴﺎر اﻟﺴﺠﻦ ﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺿﻴﻖ وﻋﺬاب
وأﻟﻢ ﻻ ﻳُﻘﺎس ﺑﻪ أﻟﻢ اﻹﻋﺪام ﰲ ﻟﺤﻈﺔ ﻗﺼرية.
وﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻷﻣﺮ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻘ ﱠﺮ ﺑﻲ املﻘﺎم ﰲ ﺣﺠﺮﺗﻲ املﻨﻌﺰﻟﺔ ﰲ املﺴﺘﺸﻔﻰ أﺗﺮﻗﺐ
ﻳﱰﻗﺐ اﻟﻄﻔﻞ ﺻﺒﺎح اﻟﻌﻴﺪ ،وﻗﺪ ﺻﺎر اﻟﻨﺎس ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﰲ ﻧﻈﺮي زﻳﺎرات أﻫﲇ وأﺻﺪﻗﺎﺋﻲ ﻛﻤﺎ ﱠ
أﻋ ﱠﺰاء واﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا أﻋ ﱠﺰاء ﻣﻦ ﻗﺒﻞ أﺻﺒﺤﺖ ﺣﻮﻟﻬﻢ ﻫﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻨني ﺗﺸﺒﻪ اﻟﻘﺪﺳﻴﺔ ،وأﻣﺎ أﻫﻞ
ﻋﺎ َﻟﻤﻲ املﺤﺪود ﻓﻘﺪ أﺻﺒﺤَ ﺖ ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻋﻨﺪي ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻪ ،وﻣﻜﺎﻧﺔ ﻻ ﻳﻤﻠﺆﻫﺎ ﺳﻮاه.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻗﺪ ﺟﺎءﻧﻲ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺣﺴﻨني ذات ﻳﻮم ،ﻓﻠﻢ أﺗﻤﺎ َﻟﻚ ﻋﻴﻨﻲ ﻣﻦ اﻟﺪﻣﻊ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﻋﺎﻧﻘﻨﻲ وﻫﻮ ﻳﺒﻜﻲ ،ﻫﻜﺬا ﻧﺤﻦ ﻣﻌﺎﴍ اﻟﺒﴩ ﻧﻘﻴﺲ اﻷﺷﺨﺎص واﻷﺷﻴﺎء واﻷﻣﻮر ﺑﻤﻘﺎﻳﻴﺲ
ﻣﺘﻘ ﱢﻠﺒﺔ ﺗَﺨﺘﻠﻒ ﻣﻊ أﻫﻮاﺋﻨﺎ وﻣﻊ ﻣﺸﺎﻋﺮ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻜﻮن ﻓﻴﻬﺎ.
وﻛﺎن ﺣﻤﺎدة ﻣﻦ أﻛﺜﺮ أﺻﺤﺎﺑﻲ ﺗﺮ ﱡددًا ﻋﲆ زﻳﺎرﺗﻲ وﻣﻦ أﺷﺪﻫﻢ ﻋﻨﺎﻳﺔ ﺑﺄﻣﺮي ،ﻓﻼ ﻳﻜﺎد
ﻳﺨﻠﻮ ﻳﻮم ﻣﻦ زﻳﺎرة ﻳﺆﻧﺴﻨﻲ ﺑﻬﺎ وﺣﺪه أو ﻣﻊ ﻏريه ،وﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺘﻮﺟﱠ ﻊ ﻛﻠﻤﺎ ﺗﺬﻛﺮت أن
ﻣﻨﻰ ﻟﻢ ﺗﺴﺄل ﻋﻨﻲ ،أﻣﺎ ﺳﺄﻟﺖ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻋﻦ أﺧﺘﻲ ﻣﻨرية؟ أﻣﺎ ﻋﺮﻓﺖ أﻧﻬﺎ ﺳﺎﻓﺮت ﻣﻊ أﻣﻲ إﱃ
اﻟﻘﺎﻫﺮة ﻟﺘﻜﻮﻧﺎ ﻗﺮﻳﺒﺘَني ﻣﻨﱢﻲ؟ وﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺨﻔﻰ ﺧﱪ ﺳﺠﻨﻲ ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻊ أن اﻷﺧﺒﺎر ﺗﻨﺘﻘﻞ
ﰲ دﻣﻨﻬﻮر ﻣﺜﻞ ﺗﺮدﱡد اﻟﺼﺪى ﰲ اﻟﻮادي اﻟﻀﻴﻖ؟
وﻟﻜﻦ ﻛﻨﺖ أﻋﻮد داﺋﻤً ﺎ إﱃ ﻧﻔﴘ ﻓﺄراﺟﻌﻬﺎ ﻣﻌﺘﺬ ًرا ﻋﻨﻬﺎ ،ﻓﻤﺎ أدراﻧﻲ أﻧﻬﺎ ﻋﺮﻓﺖ ﻣﺎ
ﻳﺄت ﻟﺰﻳﺎرﺗﻲ ﻣﺮ ًة ،وﻟﻢ ﻳﺤﴬ ﰲ ﻳﻮم ﺟﻠﺴﺔ أﻧﺎ ﻓﻴﻪ؟ وأﻣﺎ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ِ
ﻣﻦ ﺟﻠﺴﺎت املﻌﺎرﺿﺔ ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺒﻌﺚ إﱄ ﱠ ﺑﻜﻠﻤﺔ ﻣﻊ أﺣﺪ أﺗﺒﺎﻋﻪ ،ﻛﺎن ﺳﺎﻋﻲ ﻣﻜﺘﺒﻲ ﻫﻮ
ُ
وﻫﻤﻤﺖ ﻣﺮا ًرا أن أﺳﺄل ﺻﺪﻳﻘﻲ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﺟﺎء ﻟﻴُﻮاﺳﻴﻨﻲ وﻳﻘﻮل ﱄ» :ﺗﺸﺠﻊ«.
ﺗﻜﱪت أن أﺳﺄل ﻋﻦ رﺟﻞ ﻳﺘﺨﲆ ﻋﻨﻲ ﻫﻜﺬا ﻣﻊ أﻧﻪ ﴍﻳﻜﻲ ﰲ ﻛﻞ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﻨﻪ ،وﻟﻜﻨﻲ ﱠ
ﻛﻠﻤﺔ أﻧﴩﻫﺎ.
وﺟﺎءﻧﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﻴﺎد ﻳﻮﻣً ﺎ وﻛﺎن ﻣﻌﻪ أﺣﺪ أﺻﺪﻗﺎﺋﻲ ﻣﻦ املﺤﺎﻣني اﻟﺸﺒﺎن ،وذﻟﻚ
ﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗَﺴﺒﻖ ﺟﻠﺴﺔ املﻌﺎرﺿﺔ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ،وﺑﺪا ﱄ ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻋﲆ ﻏري ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻨﺬ رأﻳﺘﻪ آﺧﺮ
ﻣﺮة ،ﻋﺎد ﻛﻤﺎ ﻋﺮﻓﺘﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻣﺴﺘﻘﻴﻢ اﻟﻌﻮد ﺣﺎد املﻼﻣﺢ ﻫﺎدئ اﻟﺤﺮﻛﺎت رﺻني اﻟﻨﱪات،
وﻛﺎن ﰲ ﻣﻈﻬﺮه ﳾء ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗَﻘ ُﺮب ﻣﻦ اﻟﺘﺄﻧﻖ ،ودار أﻛﺜﺮ ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ ﺣﻮل ﺟﻠﺴﺔ
املﻌﺎرﺿﺔ ،وﻟﻜﻦ املﺤﺎﻣﻲ اﻟﺸﺎب ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ اﻟﻘﻀﻴﺔُ ،
وﺧﻴﱢﻞ إﱄ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻌﺒﺄ
ﻛﺜريًا ﺑﺄن ﻳﻌﺮف ﻋﻨﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ،ﻓﺸﻌﺮت ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻀﻴﻖ ﺣﺘﻰ ﻟﻘﺪ ﺗﻤﻨﱠﻴﺖ ﻟﻮ
ﺣﺪث ﳾء ﻳﺤﻮل ﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﺣﻀﻮر اﻟﺠﻠﺴﺔ ،وملﺎ اﻧﴫف ﺑﻌﺪ زورة ﻗﺼرية ﻣﻊ ﺻﺎﺣﺒﻲ
ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ،ﻫﺠﻢ ﻋﲇ ﱠ ﺳﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻬﻮاﺟﺲ ﺣﺘﻰ ﺻﺎرت اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺑﻌﺪ ﻧﺼﻒ اﻟﻠﻴﻞ،
واﺿﻄﺮﺑﺖ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺴﻮداء ﺣﻮﱄ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﺎﻧﺐ ،وأﺧﺬت أﺳﺄل ﻧﻔﴘ ﻋﻤﺎ ﻳﻜﻮن إذا ﺣﻜﻢ
اﻟﻘﺎﴈ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﺣﺒﴘ ﻣﺮ ًة ﺑﻌﺪ ﻣﺮة ،ﻓﻬﻞ ﺗﺒﻘﻰ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ ﺑﺎﻟﻘﺎﻫﺮة ﺗﻘﻴﻤﺎن ﰲ ﻏﺮﻓﺘﻲ
املﺤﻄﻤﺔ؟ وﻫﻞ ﻋﻨﺪﻫﻤﺎ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﻨﻔﻘﺘﻬﻤﺎ اﻟﺘﻲ ﺿﺎﻋﻔﺘُﻬﺎ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﺑﺤَ ﺒﴘ؟ أم أﺗﺮﻛﻬﻤﺎ ﻫﻜﺬا
ﻟﺼﺎﺣﺒﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻳﻨﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ وأﻧﺎ ﻛﺎملﻔﻘﻮد ﰲ ﺳﺠﻨﻲ؟ وﻗﺪ ﺟﻌﻠﺘﻨﻲ ﻫﺬه اﻟﻬﻮاﺟﺲ
أﺷﻌﺮ ﺑﺄﻧﻨﻲ ﻗﺪ اﻗﱰﻓﺖ ﺟﺮﻳﻤﺔ ﺷﻨﻴﻌﺔ؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﻓﻜﺮ ﰲ أن ﻣﺎ ﻳُﺼﻴﺒﻨﻲ ﻻ ﻳﻘﻒ ﻋﻨﺪ ﺷﺨﴢ،
ﺗﺨﺼﻨﻲ وﻻ ﱡ
ﺗﻤﺲ ﱡ ﻓﻠﻮ ﻛﻨﺖ وﺣﺪي ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻟﻜﺎن ﻣﻘﺎﻣﻲ ﺑﺎﻟﺴﺠﻦ ﻻ ﻳَﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﻣﻐﺎﻣﺮة
224
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ واﻟﻌﴩون
ﻏريي ،وﻟﻜﻨﻲ ﺟﻨﻴﺖ ﻋﲆ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ وأرﻏﻤﺘﻬﻤﺎ ﻋﲆ أن ﺗُﻐﺎﻣﺮا ﻣﻌﻲ ﺑﻐري أن ﻳﻜﻮن ﻟﻬﻤﺎ
ﺷﻌﻮر اﻟﺮﺿﺎ اﻟﺬي ﻳﺼﺎﺣﺐ املﻐﺎﻣﺮة ،وﻗﺪ أﻟﺢ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﻜري ﻋﲇ ﱠ ﺣﺘﻰ ﴏت أﻗﻮل ﻟﻨﻔﴘ:
»ﻣﻦ أﺟﻞ أي ﳾء أُﻗﺪِم ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ؟ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺣﺮﻳﺔ ﺑﻼدي؟ وﻛﻞ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ
ُﺤﺴﻮن ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺣﺮﻳﺔ ﺑﻼدﻫﻢ؟ أﻻ ﻳﺰﻋﻢ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻳﺴﺘﻘ ﱡﺮون ﰲ ﺑﻴﻮﺗﻬﻢ أﻻ ﻳ ﱡ
ﻣﺜﻼ أﻧﻪ ﻣﺠﺎﻫﺪ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺤﺮﻳﺔ؟ وأﻳﻦ ﻫﻮ اﻵن؟ أﻟﻴﺲ ﻳﻘﻴﻢ ﺳﻌﻴﺪًا ﰲ ﺑﻴﺘﻪ؟ وﻣﺎذا ﻳﻜﺘﺐ ً
ﻳﺎ ﺗﺮى ﰲ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار؟ ﻻ ﺷﻚ أﻧﻪ ﻣﺤﺎ ﻋﻨﻮان »أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ« ،وﺟﻌﻞ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ ﻋﻨﻮان ﻗﺼﺔ
ﻋﺎﻃﻔﻴﺔ ﺗﻐﺮي ﺑﺎﻟﻘﺮاءة ﻣﺜﻞ »ﻏﺮام ﻏﺎﻧﻴﺔ« أو »اﻟﺤﺐ املﺤﺮم«.
وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﻠﻎ ﺑﻲ اﻟﺘﻔﻜري إﱃ ﻫﺬا املﺪى ﺗﻨﺒﱠﻬﺖ إﱃ أن اﻟﺠ َﺰ َع ﻗﺪ اﺳﺘﻮﱃ ﻋﲇ ﱠ وﺟﻌﻠﻨﻲ
ُ
آﻣﻨﺖ ﺑﺎﻟﺜﻮرة وﺑﺎﻟﺠﻬﺎد ﻣﻦ ً
ﻫﺎزﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻧﻜﺮ ﻛﻞ ﻋﻘﺎﺋﺪي وأُﺑﺪﱢل ﻛﻞ آراﺋﻲ ،ﻓﻬﻞ ﻛﻨﺖ
ُ
آﻣﻨﺖ ﻟﻀﻌﻔﻲ أن ﻳﻐﻠﺒﻨﻲ ﺣﺘﻰ أﻛﻔﺮ ﺑﺄﻋﺰ ﻣﺎ أﺟﻠﻬﺎ؟ أﻫﻜﺬا أﻧﻜﻞ ﻋﻨﺪ أول ﺻﺪﻣﺔ وأﺳﻤﺢ َ
ﺑﻪ وأﻣﺤﻮ ﺑﻴﺪي ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﻧﺼﺒﺘُﻬﺎ أﻣﺎم ﻋﻴﻨﻲ ﻟﺘﻜﻮن أﻣﻨﻴﺔ ﻛﱪى ﺗﺠﻌﻞ ﻟﺤﻴﺎﺗﻲ
وأﺧﺬت أﺳﺘﻌﻴﺪ ﻟﻨﻔﴘ ذﻛﺮى وﻗﻔﺘﻲ ﻋﻨﺪ ﻗﱪ أﺑﻲ؛ إذ ُﺧﻴﱢﻞ إﱄ أﻧﻲ أﺳﻤﻊ ﺻﻮﺗَﻪ ُ ﻣﻌﻨﻰ؟
ﻳﻘﻮل ﱄ» :إن اﻟﺤﻴﺎة ﺗﻨﺎدﻳﻚ ﻳﺎ وﻟﺪي «.وﺗﺬﻛﺮت أﻧﻲ ﻋﺎﻫﺪﺗﻪ ﻋﲆ أن أُؤدﱢي واﺟﺐ ﺣﻴﺎﺗﻲ،
وﻣﺎذا ﺗﻜﻮن ﻗﻴﻤﺔ ﻫﺬا اﻟﻮاﺟﺐ إذا ﻛﺎن أداؤه ﻻ ﻳﺤﻤﻠﻨﻲ اﻵﻻم وﻻ ﻳُﻜ ﱢﻠﻔﻨﻲ املﺘﺎﻋﺐ؟
وﺛ َ ُﻘﻞ ﺟﻔﻨﺎي آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﻨﻮم ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻧﻮﻣً ﺎ ﻣﺘﻘﻄﻌً ﺎ ﻣُﻀﻄﺮﺑًﺎ ،وﻗﻤﺖ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح
اﻟﺒﺎﻛﺮ ﻷﺳﺘﻌ ﱠﺪ ﻟﻠﺬﻫﺎب إﱃ املﺤﻜﻤﺔ وﺟﺎءت اﻷﺧﺖ ﻣﺮﺳﻴﺪﻳﺎ ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ ﻟﺘﺤﻤﻞ إﱄ ﱠ إﻓﻄﺎري
وﺗُﻮدﱢﻋَ ﻨﻲ ﻣﻌﺘﺬرة ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺳﺘﻜﻮن ﻣﺸﻐﻮﻟﺔ ﻋﻨﱢﻲ ،وﻟﻌﻠﻬﺎ ﻻ ﺗﺮاﻧﻲ ﻗﺒﻞ ﺧﺮوﺟﻲ ،وﻗﺎﻟﺖ ﱄ
وﻫﻲ ﺗﻬﺰ ﻳﺪي» :أرﺟﻮك أن ﺗﺴﺄل ﻋﻨﺎ ﺑﺎﻟﺰﻳﺎرة ﺑﻌﺪ أن ﻳُﻔ َﺮج ﻋﻨﻚ ،ﻓﺴﻴُﻔ َﺮج ﻋﻨﻚ اﻟﻴﻮم
ﺑﻐري ﺷﻚ!« وﻗﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :إﱃ اﻟﻠﻘﺎء ﻳﺎ ﻣﻼﻛﻲ.
ﻤﺖ املﻼﻃﻔﺔ ﻫﻨﺎ. ً
ﺿﺤﻜﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ وﻗﺎﻟﺖ :ﻟﻘﺪ ﺗﻌ ﱠﻠ َ ﻓﻀﺤ َﻜﺖ
واﻧﴩح ﺻﺪري ﻟﻜﻠﻤﺘﻬﺎ واﺳﺘﺒﴩت ﺑﺎﻟﻔﺮج اﻟﻘﺮﻳﺐ ،وﻛﺎن وداع ﻋﻮض ﷲ أﻓﻨﺪي ﻻ
وﻇﺮﻓﺎ ،وﻛﺎن أﺳﻔﻲ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أودﱢع اﻟﻠﻮاء ﻣﺠﺎﻫﺪ؛ إذ ﻛﺎن ذﻟﻚً ﻳﻘ ﱡﻞ ﻋﻦ وداﻋﻬﺎ ِﺑﴩًا
اﻟﻴﻮم ﻏﺎﺋﺒًﺎ ﻋﻦ املﺴﺘﺸﻔﻰ.
ﺧﺮﺟﺖ ﰲ اﻟﻌﺮﺑﺔ ذاﻫﺒًﺎ إﱃ املﺤﻜﻤﺔ ﻇﻬﺮت املﺪﻳﻨﺔ أﻣﺎم ﻋﻴﻨﻲ ﺑﺎﻫﺮة ،ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻣﻨﻈﺮ ُ وملﺎ
وﻛﻨﺖ أﺣﺲ ﰲ ﺑﺪﻧﻲ ﻗﻮة ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻦ أﺛﺮ اﻟﻌﻼج اﻟﺬي ﻛﺎن ُ أﻧﻴﻖ ﻟﻢ ﻳﻘﻊ ﻋﻴﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ،
ﻓﺎﺳﺘﻘﺒﻠﺖ ﻧﺴﻴﻢ اﻟﺼﺒﺎح ﰲ ﺻﺪري رﻃﺒًﺎ ﻋﻄ ًﺮا ﻳﻤﻠﺆﻧﻲُ أﻛﱪ اﻟﻔﻀﻞ ﻓﻴﻪ ﻟﻸﺧﺖ ﻣﺮﺳﻴﺪﻳﺎ،
ً
ﻃﺎ واﺳﺘﺒﺸﺎ ًرا ،وﻛﻨﺖ ﻣﺎ أزال ﻣﺤﺘﻔﻈﺎ ﰲ ﺟﻴﺒﻲ ﺑﺎملﺎﺋﺔ ﺟﻨﻴﻪ اﻟﺘﻲ ردﱠﻫﺎ إﱃ ﺣﻤﺎدة ﻧﺸﺎ ً
اﻷﺻﻔﺮ وﺑﻌﴩﻳﻦ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ أﺧﺮى ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻲ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،ﻓﻤﺎ ﻛﺪت أرى ﺻﺎﺣﺒﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ
225
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
واﻗﻔﺎ ﻋﻨﺪ ﺑﺎب املﺤﻜﻤﺔ ،ﺣﺘﻰ أﺧﺮﺟﺖ املﺤﻔﻈﺔ ودﻓﻌﺘُﻬﺎ إﻟﻴﻪ ﺑﻌﺪ اﻟﺘﺤﻴﺔ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﺧﺬ ﻫﺬه ً
ﻓﺄوﺻﻠﻬﺎ إﱃ أﻣﻲ ،وأرﺟﻮك أن ﺗﺤﻤﻠﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻌﻮدة إﱃ دﻣﻨﻬﻮر إذا ﺣﻜﻢ اﻟﻘﺎﴈ ِ اﻟﻨﻘﻮد
ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﺣﺒﴘ.
ﺣﺎل أرﺟﻮ أن ﻳﻜﻮن اﻟﺤﻜﻢ ﺑﺎﻹﻓﺮاج َ
ﻓﻘﺎل ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :ﻓﺈذا رﻓ َﻀﺖ؟ ﻋﲆ ﻛﻞ ٍ
ﻋﻨﻚ.
وﻟﻢ أﺟﺪ وﻗﺘًﺎ ﻟﻠﻤﺠﺎدﻟﺔ؛ ﻷن اﻟﺤﺎرس ﺟﺬﺑﻨﻲ ﰲ رﻓﻖ ﻣﻦ ذراﻋﻲ ﻟﻴﺴري ﺑﻲ ،وﻗﻠﺖ
ﻟﺘﻘﺪﻳﺮك ،وﻋﲆ ﻓﻜﺮة أرﺟﻮ أن ﺗﺒﻌﺚ إﱄ ﱠ ﺑﺒﻌﺾ أﻋﺪاد ﺑﺮﻳﺪ ِ ﻣﺨﺘﴫًا :أﺗﺮك ﻛﻞ ﳾء
اﻷﺣﺮار.
وﻛﺎﻧﺖ دﻫﺸﺘﻲ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺖ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻳﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﻣﺒﻬﻮﺗًﺎ وﻫﻮ ﻳﺴري إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻲ.
ﻓﻘﻠﺖ :أﻟﻢ ﺗَﺴﻤﻌْ ﻨﻲ؟
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺻﻮت ﺧﺎﻓﺖ :ﻟﻢ أ ُ ِرد إزﻋﺎﺟﻚ ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار.
ﻓﺼﺤﺖ :ﻣﺎذا ﺣﺪث؟
ﻓﻘﺎل :ﻫﻲ ﻣﻐﻠﻘﺔ ﻣﻦ ﻳﻮم اﻟﻘﺒﺾ ﻋﻠﻴﻚ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻓﻌﺔ :واﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر؟
ﻓﻘﺎل :ﻫﻮ ﻣﺜﻠﻚ ﺳﺠني ﻏري أﻧﻪ ﻳﺴﺘﻌ ﱡﺪ ﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺟﺮاﺣﻴﺔ.
ﻓﺮﻓﻌﺖ ﻳﺪي إﱃ رأﳼ ﺑﺤﺮﻛﺔ ﻗﴪﻳﺔ وﻫﺠﻤَ ْﺖ ﻋﲇ ﱠ ﻣﻮﺟﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﻣﻦ ﺣﺰن ﻣﺨﺘﻠﻂ ُ
ﺑﺎﻷﺳﻒ ﻋﲆ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ ﻣﻦ ﺳﻮء ﻇﻨﱢﻲ ﺑﺎﻟﺮﺟﻞ.
ﻗﺎﺋﻼ :وأﺣﺐﱡ أن أﻗﻮل ﻟﻚ :إن ﻣﺮﺗﺒﻚ وﺻﻞ إﱃ اﻟﻮاﻟﺪة ﰲ أول واﺳﺘﻤﺮ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ً
اﻟﺸﻬﺮ ،ﻓﻼ ﺗُﺰﻋﺞ ﻧﻔﺴﻚ ﺑﺎﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﺷﺄﻧﻬﺎ.
وﻛﻨﺎ ﻗﺪ وﺻﻠﻨﺎ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ إﱃ ﻗﺎﻋﺔ املﺤﻜﻤﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ املﻘﺎﻋﺪ ﻣُﺰدﺣِ ﻤﺔ ﺑﻤﻦ ﻓﻴﻬﺎ ،وملﺤﺖ
ﺗﻤﺴﺢ دﻣﻮﻋﻬﺎ ﺑﻤﻨﺪﻳﻠﻬﺎ ﰲ اﻟﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ،وأﻣﺎ ﻣﻨرية ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺗﻨﻈﺮ ﻧﺤﻮي أﻣﻲ وﻫﻲ ﺟﺎﻟﺴﺔ َ
وﻫﻲ ﺟﺎﻟﺴﺔ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ أﻣﻲ وﺗُﺤﺎول أن ﺗﺒﺘﺴﻢ ووﺟﻬﻬﺎ ﻳﺘﺤﺮك ﺣﺰﻳﻨًﺎ ،وﺗﻌﻤﺪت أن أﻇﻬﺮ
أدرت ﺑﴫي ﻋﻨﻬﻤﺎ ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗﻨﻔﺠﺮ دﻣﻮﻋﻲ. ُ ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ﻓﺘﺒﺴﻤﺖ ﻟﻬﻤﺎ وﺣﺮﻛﺖ ﻳﺪي ﻧﺤﻮﻫﻤﺎ ﺛﻢ
ﻣﺸﻐﻮﻻ ﻋﻨﻪ ﺑﻤﺎ ﰲ داﺧﻞ ﻧﻔﴘ،ً ﺛﻢ أﺧﺬ اﻟﻘﺎﴈ ﰲ ﻧﻈﺮ ﻗﻀﻴﺘﻲ وﻫﻮ ﻫﺎدئ ،وﻛﻨﺖ
ً
ﺣني ﻣﺮاﻓﻌﺔ املﺤﺎﻣﻲ ،واﻟﻈﺎﻫﺮ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺠﺪ وﻗﺘﺎ ﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ املﺎﺿﻴﺔ ﻟﻴﻘﺮأ دوﺳﻴﻪ ْ
ﺑﺪأت ﺑﻌﺪ ٍ ﺛﻢ
اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ؛ إذ ﻛﺎن دﻓﺎﻋُ ﻪ ﺳﻘﻴﻤً ﺎ ﻣﱰ ﱢددًا ﻻ روح ﻓﻴﻪ ،وﺧﺘﻢ ﻣﺮاﻓﻌﺘﻪ ﺑﺎﻋﺘﺬار ﺳﺨﻴﻒ ﻳﺰﻋﻢ
ﻓﻴﻪ أﻧﻲ ﻟﻢ أﻗﺼﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ وراء ﻣﺎ ﻛﺘﺒﺖ ،وأﻧﻨﻲ أﺿﻤﺮ ﻟﺮﺟﺎل اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻛﻞ ﺗﻘﺪﻳﺮ وﺗﺒﺠﻴﻞ،
ﻳﺘﺪﻓﻖ إﱃ وﺟﻬﻲ ورأﳼ ،وﻣﺎ ﻛﺎد ﻳﻔﺮغ ﻣﻦ ﱠ ﻓﻜﺪت أﺻﻴﺢ ﺑﻪ أن ﻳﺴﻜﺖ وﺷﻌﺮت ﺑﺎﻟﺪم
226
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ واﻟﻌﴩون
ً
ﻫﺎزﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑني ﰲ وﺿﻮح أﻧﻨﻲ ﻟﻢ أﻛﻦ ﻣﺮاﻓﻌﺘﻪ ﺣﺘﻰ اﻧﺪﻓﻌﺖ أُﻛﺬﱢب ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ،وأﺧﺬت أ ُ ﱢ
ﻋﻤﻴﻘﺎ ﺑﻮاﺟﺒﻲ ﰲ ﻣﺠﺎﻫﺪة اﻟﻔﺴﺎد واﻻﻧﺤﻼل ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ً ﻛﺘﺒﺖ ﻣﻘﺎﻻﺗﻲ ،وأﻧﻨﻲ أﺷﻌﺮ ﺷﻌﻮ ًرا
أﻣﻠﻚ ﻣﻦ ﻗﻮة ،وﻫﻲ ﻗﻮة ﻗﻠﻤﻲ .ﺛﻢ اﻧﻄﻠﻘﺖ أﺗﺤﺪث ﻋﻤﺎ ﺳﻤﻴﺘﻪ »اﻟﺘﱠﻔﺎﻫﺎت املﺴﻜﻴﻨﺔ« اﻟﺘﻲ
أﻏﺮق ﻓﻴﻬﺎ رﺟﺎ ُل اﻟﺤُ ﻜ ِﻢ أﻧﻔﺴﻬﻢ ،وأوﺷﻜﻮا أن ﻳُﻐﺮﻗﻮا ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺒﻼد ﻣﻌﻬﻢ ،وﺧﺘﻤﺖ دﻓﺎﻋﻲ َ
ﺑﺼﻴﺤﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻧﺎدﻳﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﻘﺪر اﻟﻜﺮاﻣﺔ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ واﻟﺤﺮﻳﺔ وﻣﺼﻠﺤﺔ اﻟﺒﻼد أن ﻳﻌﻤﻞ
ﻋﲆ إزاﻟﺔ اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻔﺎﺳﺪ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺠﺪ ﰲ ﻧﻔﻮس اﻷﻣﺔ دﻋﺎﻣﺔ ﻳﺴﺘﻨﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ.
ُ
وﺧﺒﻄﺖ ﻋﲆ اﻟﻘﻀﺒﺎن اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ وﻛﺎﻧﺖ ﻛﻠﻤﺘﻲ اﻷﺧرية ﻣﺼﺤﻮﺑﺔ ﺑﺈﺷﺎرة ﻗﻮﻳﺔ ﻣﻦ ﻳﺪي
ﻗﺎﺋﻼ» :إن اﻟﺤُ ﻜﺎم ﻻ ﻳﺴﺘﻤﺪﱡون ﺳﻠﻄﺎﻧﻬﻢ إﻻ ﻣﻦ اﻷﻣﺔ ،وﻳﻔﻘﺪون ﻛﻞ ﺣﻖ ﰲ اﻟﺘﻲ أﻣﺎﻣﻲ ً
اﻟﺴﻠﻄﺎن إذا ﺗﺨ ﱠﻠﺖ ﻋﻨﻬﻢ اﻷﻣﺔ «.وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻘﺎﻋﺔ ﺳﺎﻛﻨﺔ ﰲ أﺛﻨﺎء دﻓﺎﻋﻲ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺧﺎﻟﻴﺔ ،وملﺎ
ﺗﻠﻔﺖ ﺣﻮﱄ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻮﺟﻮه ﺳﺎﻫﻤﺔ ﺷﺎﺧﺼﺔ ﻧﺤﻮي ،وﻛﺎن ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﺮﻏﺖ ﻣﻦ ﻗﻮﱄ ﱠ
إﱄ ﱠ ﺣﺰﻳﻨًﺎ واﺟﻤً ﺎ ،وأﻣﺎ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ ﻓﺈﻧﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺘﺎ ﺗﺒﻜﻴﺎن ﺑﻜﺎءً ﻣ ٍّﺮا.
ﻗﺎﺋﻼ» :اﻟﺤﻜﻢ ﺑﻌﺪ أﺳﺒﻮع «.ﻫﻜﺬا داﺋﻤً ﺎ! وﻛﺎن وﺟﻬﻪ ﻫﺎدﺋًﺎ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮل: وﻧﻄﻖ اﻟﻘﺎﴈ ً
وﴎت ﻣﻊ ﺣﺎرﳼ ُ وﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﻗﺎﻋﺔ اﻟﺠﻠﺴﺔ ،وﻧﺰﻋﺖ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ ﺣﻠﻘﺔ أﻫﲇ ُ »ﻋﻠﻴﻜﻢ اﻟﺴﻼم«.
ُﻄﺮق ﻻ أﻧﻈﺮ ﺣﻮﱄ ﺣﺘﻰ ﺣﺘﻰ رﻛﺒﻨﺎ اﻟﻌﺮﺑﺔ وﰲ ﻗﻠﺒﻲ ﻋﺎﺻﻔﺔ ،وﺳﺎ َرت اﻟﻌ َﺮﺑﺔ ﺑﻲ وأﻧﺎ ﻣ ِ
وﻗﻔﺖ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﺠﻦ اﻻﺳﺘﺌﻨﺎف.
227
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ واﻟﻌﴩون
ﻟﻢ ﺗﻜﻦ رﻫﺒﺘﻲ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ ﰲ ﻫﺬه املﺮة ﻣﺜﻞ اﻟﺮﻫﺒﺔ اﻟﺘﻲ وﻗﻌﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺟﺌﺖ إﱃ
ﺳﺠﻦ اﻻﺳﺘﺌﻨﺎف أول ﻣﺮة.
وﺑﺪأت ﺗﺴﺘﻮﱄ ﻋﲇ ﱠ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺮد واﻟﺘﺄﻣﻞ ﴏﻓﺘﻨﻲ ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء ،ووﻃﻨﺖ ﻧﻔﴘ ﻋﲆ ْ
أﺳﻮأ ﻣﺎ أﺗﻮﻗﻊ ،واﺗﺠﻬﺖ ﺑﻘﻠﺒﻲ إﱃ ﷲ ﺗﻌﺎﱃ أن ﻳُﺜﺒﱢﺖ ﺟﻨﺎﻧﻲ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺘﺰﻟﺰل ،واﺳﺘﻜﺜﺮت
ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ ﺣﺘﻰ ﺻﺎرت ﱄ ﻣﻜﺘﺒﺔ ﻣﻨﻮﻋﺔ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺗﻨﻘﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎ أﺷﺎء ،وﻛﻨﺖ أﻗﴤ
وﻗﺘﻲ ﺑني اﻟﺘﺄﻣﻞ واﻟﻘﺮاءة واﻟﺼﻼة ،وﻣﺎ أﺷﻘﻰ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺨﻠُﻮ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻣﻦ اﻹﻳﻤﺎن إذا أﻟﺤﺖ
ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻜﺮوب.
وملﺎ ﺟﺎءﻧﻲ ﺧﱪ ﺣﻜﻢ اﻟﻘﺎﴈ ﺑﻌﺪ أﺳﺒﻮع ﺑﺮﻓﺾ املﻌﺎ َرﺿﺔ واﺳﺘﻤﺮار ﺣﺒﴘ ﻟﻢ
أﺑﺘﺌﺲ ﻣﻨﻪ ،ﺑﻞ ﻋﺰﻣﺖ ﻋﲆ أن أﴏف ﻧﻔﴘ ﻋﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ املﻌﺎرﺿﺔ ﺣﺘﻰ ﻻ أزﻋﺰع ﻓﻜﺮي
ُ
ﻓﻜﻨﺖ وﺟﻤﻌﺖ ﻛﻞ إرادﺗﻲ ﻷﺳﺘﻔﻴﺪ ﻣﻦ وﺟﻮدي ﺑﺎﻟﺴﺠﻦ، ُ ﺑﺎﻻﻧﺘﻈﺎر واﻟﺘﻠﻬﻒ واﻟﺘﺴﺎؤل،
أﻧﺘﻬﺰ ﻛﻞ ﻓﺮﺻﺔ ﻟﻠﺘﺤﺪث ﻣﻊ زﻣﻼﺋﻲ ،ووﺟﺪت ﰲ ذﻟﻚ ذﺧ ًﺮا ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﺄﻣﻞ. ِ
ﻳﺘﺤﺼﻨﻮن ﻣﻨﱢﻲ وراءﻫﺎ ،أوﱠ ُ
ﻛﻨﺖ أﺷﻌﺮ ﰲ أول اﻷﻣﺮ ﻛﺄن ﺑﻴﻨﻲ وﺑﻴﻨﻬﻢ ﺳﺪودًا ﻣﻨﻴﻌﺔ
أﺣﺴﻮا ﻣﺤﺎوﻟﺘﻲ ﰲ اﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺿﻤﺎﺋﺮﻫﻢ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻛﺄن ﻟﻬﻢ ﻗﻮاﻗﻊ ﻳ ُ
َﻨﻜﻤﺸﻮن ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻠﻤﺎ ﱡ
اﺳﺘﻄﻌﺖ ﺑﻌﺪ ﺣني أن أﺻﻞ إﱃ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ وﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺻﻔﺤﺎت ﻣﻄﻮﻳﺔ ﰲ اﻟﻈﻠﻤﺎت ،واﻟﺬﻳﻦ ﻻ
َﻌﺮﻓﻮن ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة إﻻ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﻮدﻳﻊ اﻟﻬﺎدئ اﻵﻣﻦ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن ﻣﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﺤﻴﺎة إﻻ ً
ﻗﻠﻴﻼ، ﻳ ُ
ﺟﻔﺖ دﻣﻮﻋﻬﺎ ،وﺗﺤﺠﱠ َﺮ ﻓﺎﻟﺼﻔﺤﺎت املﻄﻮﻳﺔ ﰲ أﻃﺒﺎق ﻗﻠﻮب ﻫﺆﻻء ﺗﺮوي ﻗﺼﺺ املﺂﳼ اﻟﺘﻲ ﱠ
ً
أﻃﻔﺎﻻ أﺑﺮﻳﺎء ﻛﻤﺎ ﻗﻠﺒُﻬﺎ ،وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻛﻨﺖ أﺳﺄل ﻧﻔﴘ ﻫﻞ وﻟﺪ ﻫﺆﻻء ﻫﻜﺬا؟ ﻻ .ﻻ! ﻟﻘﺪ وﻟﺪوا
ﻳﻮﻟﺪ اﻷﻃﻔﺎل ﺑﻐري ﺷﻚ ،وﻛﺎن ﻣﻦ أﻗﺮب ﻧﺰﻻء اﻟﺴﺠﻦ إﱃ ﻣﻮدﺗﻲ ذﻟﻚ اﻟﺴﺠني رﻗﻢ ٩٢اﻟﺬي
َﻨﻘﻄﻊ ﻋﻦ اﻟﻀﺤﻚ ذﻛﺮﺗُﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،وﻫﻮ اﻟﺸﺎب املﺘﱠﻬﻢ ﺑﺎﻟﻘﺘﻞ وﻛﺎن اﺳﻤﻪ »ﻧﻮﻓﻞ« ،وﻛﺎن ﻻ ﻳ ِ
واﻟﻐﻨﺎء واملﺰاح ﻣﻊ ﻋﻠﻤﻪ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﻳَﻨﺘﻈﺮ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة إﻻ رﻳﺜﻤﺎ ﺗﻨﻈﺮ ﻣﺤﻜﻤﺔ اﻟﻨﻘﺾ ﰲ أﻣﺮه،
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﻛﺎن ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ ﺣﻜﻢ اﻹﻋﺪام ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻓﻜﺎﻫﺔ ،وﻗﺪ ﺟﻤﻌَ ﺖ ﺑﻴﻨﻲ وﺑﻴﻨﻪ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﻨﺰﻫﺔ
ً
ﻋﻄﻔﺎ ﻋﺠﻴﺒًﺎ ،وﻟﻢ ﻋﻄﻔﺎ ﻋﺠﻴﺒًﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﺣﺲ ﻣﻨﻪ ً ﰲ ﻓﻨﺎء اﻟﺴﺠﻦ ،وﻛﻨﺖ ﱡ
أﺣﺲ ﻧﺤﻮه
رﺟﻼ ﺳﻔﺎ ًﻛﺎ ﻟﻠﺪﻣﺎء ﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﺤﺎوﻻﺗﻲ اﻟﺘﺪﺳﺲ إﱃ أﺳﺘﻄﻊ أن أدرك اﻟﴪ اﻟﺬي ﺟﻌﻞ ﻣﻨﻪ ً
ﻋﺮﻓﺖ ﻣﻦ أﺣﺎدﻳﺜﻲ ﻣﻌﻪ أﻧﻪ ﻧﺸﺄ ﻳﺘﻴﻤً ﺎ ﻣﻨﺬ ُﻗﺘﻞ أﺑﻮه ﰲ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻣﻦ ﻣﻌﺎرك ُ أﻏﻮار ﻗﻠﺒﻪ ،وﻗﺪ
اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ ﺑﺎﻟﺼﻌﻴﺪ ،وأﺑﻰ أﻫﻠﻪ أن ﻳﺪ ﱡﻟﻮا اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻋﲆ اﻟﻘﺎﺗﻞ ﻟﻴﺒﻘﻰ ﺣﻴٍّﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﻜﱪ اﺑﻦ اﻟﻘﺘﻴﻞ
ﻓﻴَﻨﺘﻘِ ﻢ ﻷﺑﻴﻪ.
ً
ﻣﻘﺪﺳﺎ، وﻇ ﱠﻠﺖ أﻣﻪ ﺗُ ﱢﻠﻘﻨﻪ ﻋﻘﻴﺪة اﻻﻧﺘﻘﺎم ﻣﻨﺬ ﺻﻐﺮه ،ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺢ اﻟﺜﺄر ﻋﻨﺪه إﻳﻤﺎﻧًﺎ
ﻓﻠﻤﺎ ﺻﺎر ﺷﺎﺑٍّﺎ ﺟﻌﻞ ﻛﻞ ﻫﻤﱢ ﻪ أن ﻳﱰﺑﱠﺺ ﺑﺎﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﻗﺘﻞ أﺑﺎه ﺣﺘﻰ ﺗﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﻗﺘﻠﻪ ذات
ﻟﻴﻠﺔ.
ً
وﺟﺎءﻧﻲ ﻧﻮﻓﻞ ذات ﻳﻮم ﰲ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻨﺰﻫﺔ ،واﻧﻔﺮد ﺑﻲ ﻗﺎﺋﻼ :أرﺟﻮك أن ﺗﻮﴆ أﺣﺪ
أﺻﺤﺎﺑﻚ ﺑﴩاء ﺷﻤﻌﺘني ﱄ.
ﻗﺎﺋﻼ :أﺗﺨﺎف ﻣﻦ اﻟﻈﻼم؟ﻓﻀﺤﻜﺖ ً
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺟﺪ :ﻧﺬ ٌر ﻟﻠﺤﺴني ﻳﺎ ﻋﻢ ﺳﻴﺪ!
ﻓﻈﻨﻨﺖ أﻧﻪ ﺳﻤﻊ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ ﺣﻜﻢ اﻟﻨﻘﺾ ،وﻗﻠﺖ ﻟﻪ :ﻣﱪوك! ﻫﻞ ﺟ ﱠﺪ ﳾء؟ ُ
ﻗﺎﺋﻼ :ﺟﺎءﻧﻲ اﻟﺨﱪ ﻣﻦ اﻟﺒﻠﺪ ،ﺟﺎءﻧﻲ وﻟﺪ.ﻓﻀﺤﻚ ً
ﻓﺸﻌﺮت ﺑﺤﺰن ﺷﺪﻳﺪ وﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ :ﻣﺴﻜني!
وأﻣﺎ ﻫﻮ ﻓﺎﺳﺘﻤﺮ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳَﺸﻤَ ﺖ ﺑﻲ أوﻻد ﻋﻮﻛﻞ.
ﻓﻘﻠﺖ :وﻣﻦ ﻫﻮ ﻋﻮﻛﻞ؟
ﻓﻘﺎل ﰲ ﻣﺒﺎﻫﺎة :ﻗﺎﺗﻞ أﺑﻲ.
ﻓﻘﻠﺖ :وﻣﺎذا ﻳﻬﻤﻚ؟
ﻗﺎﺋﻼ :ﻛﺎﻧﺖ اﻣﺮأﺗُﻪ ﺗَﺸﻤﺖ ﺑﻲ؛ ﻷﻧﻲ ﻟﻢ أﺧﻠﻒ وﻟﺪًا.ﻓﻬﺰ رأﺳﻪ ً
ﻓﻘﻠﺖ :أﻟﺴﺖ ﺗﺨﴙ ﻣﺼري ﻫﺬا اﻟﻄﻔﻞ املﺴﻜني؟
ﻓﻘﺎلِ :ﻣﻦ أوﻻد ﻋﻮﻛﻞ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﻃﺒﻌً ﺎ ،أﻟﻴﺴﺖ ﻣﻌﺮﻛﺔ داﺋﻤﺔ؟ ﻛﻞ ﻃﻔﻞ ﻳﺄﺧﺬ ﺑﺜﺄر أﺑﻴﻪ.
ﻓﻘﺎل :وﻟﻜﻦ اﻟﺜﺄر اﻧﺘﻬﻰ ﻋﻨﺪي .ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻞ أوﻻد ﻋﻮﻛﻞ وإﺧﻮﺗﻪ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ إﺧﻮﺗﻲ وأﻋﻤﺎﻣﻲ،
ﺗﺮك أوﻻد ﻋﻮﻛﻞ أﻣ َﺮﻫﻢ ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺔ واﻧﺘﻬﻰ اﻷﻣﺮ ،وﺣﺴﺒُﻮا أن ﻧﻮﻓﻞ اﻧﺘﻬﻰ واﻧﻘﻄﻊ وﻟﺪه.
وﻟﻜﻦ اﻟﺤُ ﺴني ﺟﺪي ،وزارﻧﻲ ﰲ املﻨﺎم ﻳُﻄﺎﻟﺒﻨﻲ ﺑﻨﺬره ،اﺻﻨﻊ اﻟﺠﻤﻴﻞ ﻳﺎ ﻋﻢ ﺳﻴﺪ،
واﺷﱰ ﱄ ﺷﻤﻌﺘني ،اﻟﺤﺴني ﺟﺪي واﻟﻮﻟﺪ ﺳﻤﻴﺘﻪ ﺣﺴني ،ﺑﻮدي وﷲ ﻳﺎ ﻋﻢ ﺳﻴﺪ ،ﺑﻮدي ﻟﻮ
أوص ﱄ ﻋﲆ ﺷﻤﻌﺘني ﺑﺤﻖ اﻟﺤﺴني ﻳﺎ ﻋﻢ ﺳﻴﺪ. أﻃري ﺳﺎﻋﺔ واﺣﺪة ﻟﻨﺠﻊ اﻟﺴﺎﻗﻴﺔ وأﻋﻮدِ ،
230
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ واﻟﻌﴩون
231
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﺎﱄ اﻟﺤﺎرة اﻟﺮاﻛﺪة اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﺜﱠﺮ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺨﺮﻳﻒ ﰲ ﺷﻬﺮ ﺳﺒﺘﻤﱪ،
ُ
واﺳﺘﻠﻘﻴﺖ وزادﻫﺎ ﺷﺪة ﻟﺴﻊ اﻟﺒﻌﻮض اﻟﺼﻐرية اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳ ِ
َﻨﺘﴩ ﻣﺜﻞ ﺳﺤﺎﺑﺔ ﰲ اﻟﻐﺮﻓﺔ،
ﻛﺄﻧﱢﻲ ﺿﺎ ﱞل ﻣُﺠﻬَ ﺪ ﰲ ﻏﺎﺑﺔ ﻛﺜﻴﻔﺔ ﻻ ﻳﻨﻔﺬ اﻟﺒﴫ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻳﺘﺼﺎﻋﺪ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ زﺋري اﻟﻮﺣﻮش،
واﺟﺘﺬبَ ﻧﻮر املﺼﺒﺎح ﺑﴫي ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺠﺘﺬب أﴎاب اﻟﺒﻌﻮض اﻟﺼﻐري ،وﻛﺎﻧﺖ ﺗَﻨﺒﻌِ ﺚ
ﻣﻨﻪ إﱃ ﻋﻴﻨﻲ ﺧﻴﻮط ﻣﻠﻮﻧﺔ ﻣﻦ اﻟﻀﻮء ﺗﻨﺴﺎب ﻣﱰاﻗﺼﺔ وﺗﺨﺘﻠﻂ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺤﻤﺮة ﺑﺎﻟﺰرﻗﺔ
واﻟﺨﴬة ،وﺗﺘﺸﻜﻞ ﰲ رﺳﻮم ﻫﻨﺪﺳﻴﺔ ﺑﺪﻳﻌﺔ ،وﻛﻠﻤﺎ أﻏﻤﻀﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﺛﻢ ﻓﺘﺤﺘﻬﺎُ ،ﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أن
ﺻﻮ ًرا ﻣﻠﻮﱠﻧﺔ ﺗﺘﻄﺎﻳﺮ ﺣﻮل اﻟﺼﺒﺎح وﺗﺴﺒﺢ ﰲ ﺑﻂء ،وﺗﺘﻮاﺛﺐ ﻛﺎﻟﻔﺮاﺷﺎت ﺛﻢ ﺗﺨﺒﻮ أﻟﻮاﻧﻬﺎ
ﺷﻴﺌًﺎ ﻓﺸﻴﺌًﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺰول ،ﻓﺎﺳﺘﻐﺮﻗﺖ ﰲ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ،وﺗﺼﻮرﺗُﻬﺎ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﺧﻔﻴﺔ ﻣﻦ أرواح
ﺟﺎءت ﺗﺴﺒﺢ ﰲ ﺟﻮ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻛﺎﻟﺠﻨﻴﺎت اﻟﺼﻐرية املﺮﺣﺔ اﻟﺘﻲ ﺻﻮرﻫﺎ ﺷﻜﺴﺒري ﰲ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺘﻲ
ﻛﻨﺖ أﻗﺮؤﻫﺎ ﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وﻟﻢ ﻻ؟ إن اﻷوﻫﺎم ﺗﺨﻔﻒ ﻋﻦ اﻟﺒﺆﺳﺎء ﻛﺜريًا ﻣﻤﺎ ﻳﻌﺎﻧﻮﻧﻪ ﻣﻦ
اﻷﺛﻘﺎل وﻟﻮ إﱃ ﺣني ،وﻣﺎ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺘﺤﺪث ﻋﻨﻬﺎ؟ أﻻ ﺗﻜﻮن اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺣﻘﺎﺋﻖ إﻻ
ﴎي ﻋﻨﱢﻲ ً
ﻣﺴﺘﻐﺮﻗﺎ ﰲ ﺗﺄﻣﻞ ﻫﺬه اﻟﺼﻮر ﺣﺘﻰ ُ ﱢ إذا ملﺴﻨﺎﻫﺎ ﺑﺎﻟﻴﺪ أو ذﻗﻨﺎﻫﺎ ﺑﺎﻟﻔﻢ؟ وﻣﺎ زﻟﺖ
ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ،وﺑﺪأت أﺳﺄل ﻧﻔﴘ» :إﱃ ﻣﺘﻰ أﺑﻘﻰ ﻫﻨﺎ ﺳﺠﻴﻨًﺎ؟«
ﺛﻢ ﻫﺒﱠﺖ ﻧﺴﻤﺔ ﺧﻔﻴﻔﺔ ﻗﺒﻞ اﻟﺼﺒﺎح ،ﻓﻠﻄﻔﺖ ﻣﻦ زﻣﺘﺔ اﻟﺤﺮ ،وأﺣﺴﺴﺖ ﺑﺄﺟﻔﺎﻧﻲ
ﺗﺴﱰﺧﻲ.
232
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ واﻟﻌﴩون
ﻛﺎن اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺘﺎﱄ أﻟﻄﻒ ﻫﻮاءً ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻧﻤﺘُﻬﺎ ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻹﻋﺎدة اﻟﻨﺸﺎط إﱃ ﺟﺴﻤﻲ،
ﻓﺎﺳﺘﻘﺒﻠﺖ اﻟﻴﻮم ﻫﺎدﺋًﺎ ﻣﻨﴩﺣً ﺎ ،وﻣﺎ أﻋﺠﺐ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻹﻧﺴﺎن! إﻧﻨﺎ ﻧﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻧﺤﺴﺐ
أﻧﻨﺎ ﻧﺮاه ﺧﺎرﺟﻨﺎ ،وﻣﺎ ﻫﻮ إﻻ ﰲ داﺧﻠﻨﺎ ﻧﺤﻦ ،ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻐﺮﻓﺔ اﻟﻀﻴﻘﺔ ﻫﻲ ﻫﻲ واﻟﻨﺎﻓﺬة اﻟﺼﻐرية
ذات اﻟﻘﻀﺒﺎن اﻟﺤﺪﻳﺪﻳﺔ واﻷرض اﻟﺤﺠﺮﻳﺔ اﻟﻐﱪاء واﻟﺴﻘﻒ اﻷﺳﻮد ا ُملﻄﺄﻃﺊ ،ﻛﻞ ذﻟﻚ ﻛﺎن
ﺑﺎﻗﻴًﺎ ﻟﻢ ﻳﺘﻐري ،وﻟﻜﻦ ﺷﺘﺎن ﺑني ﺻﻮرة ذﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﰲ ﻋﻴﻨﻲ ﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ املﺎﺿﻴﺔ وﺻﻮرﺗﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﻃﻠﻊ اﻟﺼﺒﺎح.
ً
ُﺴﺘﺄﻧﺴﺎ؛ إذ ﻟﻢ أره ﻣﻨﺬ ً ُ
وملﺎ ﺟﺎء ﺣﻤﺎدة ﻟﺰﻳﺎرﺗﻲ ﰲ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﻌﺎﴍة ،اﺳﺘﻘﺒﻠﺘﻪ ﻣﺸﺘﺎﻗﺎ ﻣ
أﻳﺎم ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻏري ﻋﺎدﺗﻪ ﻓﺎﺗ ًﺮا ﺣﺰﻳﻨًﺎ ،وﺑﺎدرﻧﻲ ً
ﻗﺎﺋﻼ :أراك ﰲ ﺧري ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻫﺸﺔ :ﺧري إن ﺷﺎء ﷲ.
ﻣﻨﻜﴪا :ﻣﺴﺎﻓﺮ! راﺟﻊ ﻟﺒﻠﺪي ﻳﺎ ﻋﻢ .ﻛﻔﺎﻳﺔ ﻣﴫ وﻣﺎ ﰲ ﻣﴫ. ً ﻓﺄﺟﺎب
ﻓﻘﻠﺖ :ﻣﺎذا ﺣﺪث؟
ﻓﺄﺟﺎب :ﻻ ﻳﺎ ﻋﻢ! ﻣﺎ ﱄ أﻧﺎ وﻣﺎ ﻟﻬﺎ؟ أﻧﺎ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ وﻫﻲ ﻣﻦ ﻫﻨﺎك؛ ﺣﺪ ﷲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي،
ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻴﻠﺔ زﻓﺖ .ﺗﺼﺪق ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي أن ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺗﻘﻮل ﱄ ﻛﻞ ﻫﺬا؟ ﻳﺎ ﻓﻼح ،ﻳﺎ دون،
ﻣﺆاﺧﺬة ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ.َ ﻳﺎ ﺣﻤﺎر ،وﻻ
ُﺤﺎوﻻ ﺗﺨﻔﻴﻒ اﻷﻣﺮ :أﻫﺬا ﻛﻞ ﳾء؟ ﻓﻘﻠﺖ ﻣ ً
ﻓﻘﺎل ﰲ ﺣﺰن :ﻻ ﻻ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،ﺗَﺒﺤﺚ ﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﺣﻤﺎر ﻏريي ،أذﻫﺐ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺴﻴﺎرة
ﺻﱪ وﻳﻜﻮن ﻫﺬا ﺟﺰاﺋﻲ؟ ﻣﺤﻤﱠ ﻠﺔ ﺑﺎﻟﻬﺪاﻳﺎ وأﺗﺤﻤﱠ ﻞ وأ َ ِ
ﻓﻘﻠﺖ :أﻻ ﺗُﺨﱪﻧﻲ ﻣﺎذا ﺣﺪث؟
ذﻫﺒﺖ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ وﻛﺎﻧﺖ ﺳﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺗﺴﺘﻌﺪ ﻟﻠﺨﺮوج .أﺗﺪري ﻣﻊ ُ ﻓﻘﺎل :اﺳﻤﻊ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي.
ﻣﻦ؟ أﺗﻌﺮف اﻟﺴﺖ ﻫﺪى؟ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،وﺣﻠﻒ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺑﺎﻟﻄﻼق ،وﺑ َﻜﺖ اﻟﺴﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ،
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
واﺳﺘﺴﻤﺤﺖ اﻟﺤﺎج ﻣﺼﻄﻔﻰ ﺣﺘﻰ ﻗﺒﻞ أن ﺗﺬﻫﺐ ﺑﴩط أن أﻛﻮن ﻣﻌﻬﺎ، ُ ﱠ
ورق ﻗﻠﺒﻲ ﻟﻬﺎ
وﻧﻈ َﺮت إﱄ ﱠ اﻟﺴﺖ ﻫﺪى ﺗﻔﺤﺼﻨﻲ ﻣﻦ رأﳼ إﱃ ﻗﺪﻣﻲ ،ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ :ﺑﻜﻞ ﴎور ،و ُرﺣﻨﺎ إﱃ ﺑﻴﺖ
اﻟﺴﺖ ﻫﺪى ﰲ اﻟﺰﻣﺎﻟﻚ ،ﻓﻴﻼ أﻧﻴﻘﺔ وﺣﺪﻳﻘﺔ وﺻﺎﻟﺔ ﻓﺨﻤﺔ وﺟﻠﺴﻨﺎ ﻧﻨﺘﻈﺮ اﻟﻀﻴﻮف .ﻛﺎﻧﺖ
ﺣﻔﻠﺔ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﻓﻴﻬﺎ رﺟﺎل وﻧﺴﻮان ،وﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ اﻣﺘﻸت اﻟﺼﺎﻟﺔ وﺻﺎرت ﻫﻴﺼﺔ .ﺗَﻌﺮف
ﻣﻦ ﻛﺎن اﻟﻀﻴﻒ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ؟ ﳼ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ ،ﻳﺎ ﺧﱪ؛ وﻋﺮﻓﺖ اﻟﻘﺼﺔ ﻣﻦ ﻋﻨﻮاﻧﻬﺎ
ﻛﻔ َﺮت .ﻗﺎﻟﺖ :ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ؛ وﻫﺎت ﻳﺎ ﻓﻼح وﺑﺪأت أﻓﻬﻢ ،وﻗﻠﺖ ﻟﻔﻄﻮﻣﺔ» :ﻳﻼ ﺑﻨﺎ …« وﻛﺄﻧﻲ َ ُ
وﻳﺎ دون وﻳﺎ ﺣﻤﺎر أﺧﺠﻠﺘْﻨﻲ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻗﻠﺖ ﻟﻨﻔﴘ» :ﻫﺪئ ﻧﻔﺴﻚ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة «.وﺑﻌﺪ رﺑﻊ
ﺳﺎﻋﺔ ﺟﺎءت اﻟﺴﺖ ﻫﺪى ﺗَﻀﺤﻚ وﺗﻄﻠﺐ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﻟﻠﻤﻘﺼﻒ .أي ﻣﻘﺼﻒ ﻳﺎ ﺳﺖ ﻫﺪى؟
ورﻧﱠﺖ اﻟﻀﺤﻜﺔ وﻗﺎﻟﺖ ﱄ» :ﺗﻌﺎل ﻣﻌﻨﺎ ﻳﺎ ﳼ ﺣﻤﺎدة!« واﻟﺒﻨﺖ ﺗﻜﺴﻒ اﻟﺒﺪر واﻟﻌﻴﻮن ﻛﻠﻬﺎ
ﻣﺘﱠﺠﻬﺔ إﻟﻴﻨﺎ ،وﻏﲆ دﻣﻲ ،وﻗﻠﺖ :اﻷﻣﺮ هلل ،ﻫﻲ املﺮة اﻷوﱃ واﻷﺧرية ،وﻫﺪﱢئ ﻧﻔﺴﻚ ﻳﺎ ﺣﻤﺎدة،
وذﻫﺒَﺖ ﺳﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ ،وﺟﻠﺴﺖ أﻧﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ وﻫﻲ ﺗﻀﺤﻚ ﻣﻊ اﻟﻀﻴﻮف ،وﻟﻮ ﻛﺎﻧَﺖ
ﺻﺎﻋﻘﺔ ﻧﺰﻟﺖ ﻋﲆ رأﳼ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء ﻛﺎن أﻫﻮن ﻋﲇ ﱠ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،وﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ذﻫﺐ ﻣﺤﻤﻮد
ﻓﻮﻗﻔﺖ ﻋﲆ رﺣﲇ وﻗﻠﺖ :ﻟﻴﻠﺘﻪ زﻓﺖ،ُ وأﺣﺴﺴﺖ ﺑﺮأﳼ ﱡ
ﺗﻠﻒ، ُ إﻟﻴﻬﺎ وﻛ ﱠﻠﻤﻬﺎ وﺿﺤﻚ ﻣﻌﻬﺎ،
وﻟﻜﻦ اﻟﻌﻴﻮن ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻔﺘﺤﺔ ﱄ ،وأﻗﻮل ﻟﻚ اﻟﺤﻖ ،ﺗﺴﻤﱠ ﺮت ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻲ .اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﻓﺎﺗﺖ
اﻟﻠﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﻄﻮل أو ﺑﺎﻟﻌﺮض ،ورﺟﻌﻨﺎ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ وﻃﻮل اﻟﻄﺮﻳﻖ أﺧﺠَ َﻠﺘْﻨﻲ ﻳﺎ ﻓﻼح ﻳﺎ دون
ﻳﺎ ﺣﻤﺎر ﻳﺎ ،ﻳﺎ ،ﻻ ﻣﺆاﺧﺬة ﻳﺎ ﺳﻴﺪ أﻓﻨﺪي ،وﻣﺎ ﺻﺪﻗﺖ أﻧﻨﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ اﻟﺒﻴﺖ وﻗﻠﺖ :ﻳﺤﺮم ﻋﲇ ﱠ
دﺧﻮﻟﻪ .أﻧﺎ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ وﻫﻲ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ .ﺗﺒﺤﺚ ﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﺣﻤﺎر ﻏريي .ﻣﻦ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻣﺴﺎﻓﺮ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر،
ورﺑﻨﺎ ﻳﻠﻄﻒ ﺑﻚ وﺑﻨﺎ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ.
وﺷﻌﺮت ﺑﴚء ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻀﻴﻖ واﻷﺳﻒ .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ُ وﻛﻨﺖ أُﻧﺼﺖ إﻟﻴﻪ ﰲ اﻫﺘﻤﺎم وﻗﻠﻖ،
ُ
ﻋﺪول ﺣﻤﺎدة ﻋﻦ زواج ﻓﻄﻮﻣﺔ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳُﺰﻋﺠﻨﻲ ،ﺑﻞ ﻛﺎن ﻣﺼري ﻓﻄﻮﻣﺔ ،ﺑﻬﺮﺗﻬﺎ أﺿﻮاء
املﺪﻳﻨﺔ ﻛﻤﺎ ﺗﻨﺠﺬب اﻟﻔﺮاﺷﺔ إﱃ املﺼﺒﺎح اﻟﺬي ﻳَﺤﺮﻗﻬﺎ .أﻫﻲ ﺳﻮق رﻗﻴﻖ ﺟﺪﻳﺪة؟ ﺑﺨﻮر
ﻳُﺤ َﺮق ﻟﻠﺸﻴﻄﺎن ﻣﻦ ﺟﺜﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ وأﻣﺜﺎﻟﻬﺎ.
ً
ﱠﻬﺖ إﱃ ﺻﻮت ﺣﻤﺎدة وأﻧﺎ ﻏﺎرق ﰲ ﺗﻔﻜريي ،وﻛﺎن ﻳﺴﺄﻟﻨﻲ ﻗﺎﺋﻼ :ﻣﺎ رأﻳﻚ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ؟ وﺗﻨﺒ ُ
ﻓﻘﻠﺖ ﻏﺎﺋﺒًﺎ :ﰲ أي ﳾء؟
ﻓﻘﺎل :ﰲ زواج ﺻﺎﺣﺒﻚ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ.
ﻓﻘﻠﺖ :ﻫﻞ ﻳُﺮﻳﺪ اﻟﺰواج؟
َ
ﻓﺄﺟﺎب :أﻣﺎ ﻛﻨﺖ أﻗﻮل ﻟﻚ إﻧﻲ أﺣﺐ أن أﻋﺮف رأﻳﻚ؟ إذا ﻛﻨﺖ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺰوﺟﻪ اﻟﺴﺖ
ﻣﻨرية ﻛﺎن ﺑﻬﺎ.
234
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ واﻟﻌﴩون
235
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
اﻟﻈﻼم وملﺢ اﻟﺸﺎﻃﺊ أﻣﺎم ﻋﻴﻨﻴﻪ ،ﻓﻤﻨﺬ ﻋﻠﻤﺖ ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ ﺗﺒﺪﱠل اﺳﺘﺴﻼﻣﻲ إﱃ اﺳﺘﺒﺸﺎر ،وزال
ﺿﻐﻄﻲ ﻋﲆ ﻧﻔﴘ وﻛﺒﺘﻲ ﻟﺨﻠﺠﺎت أﻣﲇ ،وﺑﺪأت أﻃﻠﻖ اﻟﻌﻨﺎن ﻷﺣﻼﻣﻲ وﺳﺒﺤﺎت ﺧﻮاﻃﺮي،
وﻛﺎن ﻛﻞ ﻳﻮم ﻳﻤﺮ ﻳﺒﻌﺚ إﱄ ﱠ ﻫﺰة ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﺘﻄﻠﻊ إﱃ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺴﻌﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﻋﺮﻓﺖ أﻧﻬﺎ
آﺗﻴﺔ ﰲ ﻣﻮﻋﺪﻫﺎ.
وﻣﻦ واﺟﺐ اﻟﻮﻓﺎء ﻋﲇ ﱠ ﻟﻬﺬه اﻷﻳﺎم اﻷﺧرية ﻣﻦ إﻗﺎﻣﺘﻲ ﺑﺎﻟﺴﺠﻦ — وﻗﺪ ﻧﻘﻠﺖ إﱃ ﺳﺠﻦ
ﻣﴫ — أن أذﻛﺮ ﻫﻨﺎ أﻧﻨﻲ ﻣﺪﻳﻦ ﻟﺴﺎﻋﺎﺗﻬﺎ اﻟﻬﺎدﺋﺔ ﺑﻜﺘﺎﺑﺔ أﻛﺜﺮ ﻓﺼﻮل ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺘﻲ
ﺑﺪأﺗﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،وﻛﺎن ﻫﻮاء اﻟﺨﺮﻳﻒ أرﻓﻖ ﺑﻲ ،وﺑﺪأت اﻷﻳﺎم ﺗﻘﴫ ،وﻛﺎن ذﻟﻚ ﻳﺘﻴﺢ ﱄ ً
ﻓﺮاﻏﺎ
ً
إﻗﺒﺎﻻ ﻋﲆ اﻟﻌﻤﻞ ﰲ اﻟﻠﻴﻞ. ﻛﺒريًا ﻟﻠﻘﺮاءة واﻟﻜﺘﺎﺑﺔ؛ ﻷﻧﻲ ﰲ اﻟﻌﺎدة أﻛﺜﺮ
وﻗﺪ ﺣﺪث أﻣﺮ آﺧﺮ ﻛﺎن ﻟﻪ أﺛﺮ ﻛﺒري ﰲ ﻧﻔﴘ ﻗﺒﻞ ﻳﻮم اﻟﺤﺮﻳﺔ املﻮﻋﻮد ﺑﺄﺳﺒﻮع واﺣﺪ؛
إذ ﺟﺎءﻧﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻣﻊ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ ،وﺟﺮى اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﺣﻮل ﻣﻴﻼدي اﻟﺠﺪﻳﺪ ﺑﻌﺪ
ﺧﺮوﺟﻲ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ ،وﻛﺎﻧﺖ أﻣﻲ ﺗُﺮدﱢد رﻏﺒﺘﻬﺎ ﰲ أن أذﻫﺐ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ،وأﻧﻔﺾ ﻳﺪي ﻣﻦ
اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺬف ﺑﻲ إﱃ اﻟﺴﺠﻦ.
وأﻣﺎ ﻣﻨرية ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺗُﻌﺎرض ﻫﺬا اﻟﺮأي ،وﺗﺮﺟﻮ أن أﻗﻴﻢ ﰲ ﺑﻴﺖ ﻣﺤﱰم ﺣﺘﻰ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ
زﻳﺎرﺗﻲ ﺑني ﺣني وآﺧﺮ ،وﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻤﺸﺎﻫﺪ اﻟﻘﺎﻫﺮة اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗَ ُﺰرﻫﺎ ﻣﺮة واﺣﺪة ﰲ ﻣﺪة إﻗﺎﻣﺘﻲ
ﺑﺎﻟﺴﺠﻦ ،وﻗﺪ ﻋﻠﻤﺖ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻷول ﻣﺮة أن ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار ﻋﺎدت إﱃ اﻟﻈﻬﻮر
ﻣﻨﺬ ﺷﻬﺮ ﺑﻌﺪ ﺧﺮوج اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ ،ﻓﻜﺎن ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أن أﻧﺤﺎز إﱃ رأي
ﻣﻨرية ﰲ اﻟﺒﻘﺎء ﺑﺎﻟﻘﺎﻫﺮة.
ُ
ﺣﺎل ﻻ ﻳَﻠﻴﻖ ﺑﻨﺎ أن ﻧﺴﺎﻓﺮ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ﻗﺒﻞ أن ﺗﻘﴤ وﻗﺎﻟﺖ ﻣﻨرية ﰲ ﺣﻤﺎﺳﺔ :ﻋﲆ ﻛﻞ ٍ
ﺑﻀﻌﺔ أﻳﺎم ﻣﻊ ﻣﻨﻰ.
وﺗﻤﺎﻟﻜﺖ ﻧﻔﴘ ﺣﺘﻰ ﻻ أﺻﻴﺢ أو أﺛﺐ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﻲ ،وﻗﻠﺖ ﰲ ﻫﺪوء :أﻳﻦ؟ ُ
ﻧﺴﻴﺖ أن أﻋﻄﻴﻚ ﺧﻄﺎﺑﻬﺎ ،أﻳﻦ ﻫﻮ ﻳﺎ أﻣﻲ؟ ﻫﻞ أﺧﺬﺗﻪ ُ ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨرية :ﻫﻨﺎ ﰲ اﻟﻘﺎﻫﺮة،
ﻣﻨﱢﻲ ﻳﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ؟
ﻣﺤﺎوﻻ أن ﻳﻜﻮن ﺻﻮﺗﻲ ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ :وﻣﺘﻰ ﺑﻌﺜﺖ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﺨﻄﺎب؟ ً ﻓﻘﻠﺖ
ﱢ
ﻓﻘﺎل ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ :ﻃﻠﺒﺖ ﻣﻨرية ﻣﻨﻲ ﰲ اﻷﺳﺒﻮع املﺎﴈ أن أﻣﺮ ﻋﲆ ﺑﻴﺖ ﻣﻨﻰ؛ ﻷﺳﺄل
ﻋﻨﻬﺎ وﻋﻦ ﺻﺤﺔ اﻟﺴﻴﺪة اﻟﻜﺒرية ،ﻓﺄرﺳﻠﺖ ﻣﻨﻰ ﻣﻌﻲ ﻫﺬا اﻟﺨﻄﺎب.
وأﺧﺮﺟﻪ ﻣﻦ ﺟﻴﺒﻪ وﻗﺪﻣﻪ إﱃ ﻣﻨرية.
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﺿﺎﺣﻜﺔ :ملﺎذا أﺧﺬﺗَﻪ ﻣﻨﻲ؟ ﻛﻨﺖ أﺣﺐ أن أﻗﺮأه ﻣﺮة أﺧﺮى.
وﻓﺘﺤﺘﻪ وأﺧﺬت ﺗﻨﻈﺮ ﻓﻴﻪ ،وﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺪق ً
ﻋﻨﻴﻔﺎ.
236
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ واﻟﻌﴩون
ﻗﺬﻓﺖ ﺑﻪ ﻋﲆ ﻣﻘﻌﺪ اﻟﺴﻴﺎرة. ِ وﻗﺎل ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :ﻟﻢ آﺧ ْﺬه إﻻ ﻷﻧﻚِ
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨرية :ﺳﺄﻗﺬف ﺑﻪ ﻣﺮة أﺧﺮى؛ ﻷﻧﻲ ﻻ أﻓﻬﻢ ﻣﻨﻪ ﻛﻠﻤﺔ.
وﻣﺪﱠت ﻳﺪﻫﺎ ﻧﺤﻮي ﺑﺎﻟﻮرﻗﺔ اﻟﺰرﻗﺎء ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ ﺑﺨﻂ ﺻﻐري أﻧﻴﻖ ،ﺗﺬﻛﺮﺗﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ
وﻗﻌﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ .ﻫﻜﺬا ﻛﺘﺒﺖ ﱄ ﻓﻴﻤﺎ ﻣﴣ ورﻗﺔ ﺻﻐرية ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺨﻂ ﺗﻘﻮل ﱄ» :أﻟﻒ
ً
ﺿﻌﻴﻔﺎ ﰲ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ. ﺷﻜﺮ «.وأﺧﺬت أﻗﺮأ ﰲ ﺻﻌﻮﺑﺔ؛ ﻷﻧﻲ ُ
ﻛﻨﺖ أﻧﺎ اﻵﺧﺮ
»ﻛﻨﺖ ﰲ ﻫﺬه اﻷﺷﻬﺮ املﺎﺿﻴﺔ ُ ﻗﺎﻟﺖ ﻣﻨﻰ ﺗُﺨﺎﻃﺐ ﻣﻨرية ﺑﻤﺎ ﻳﻘﺮب ﻣﻦ ﻫﺬا املﻌﻨﻰ:
أﻗﺎﳼ ﻣﺘﺎﻋﺐ ﻛﺜرية ﻣﺎ ﺑني ﻣﺮض أﻣﻲ وﺑﻌﺾ »ﻣﺸﻜﻼت ﻋﻤﻠﻴﺔ« أﺧﺮى ،ﻟﻢ ﻳَﺴ ِﺒﻖ ﱄ
اﻧﻘﻄﻌﺖ ﻋﻨﻲ ،ﺣﺘﻰ ﺧﻔﺖ أن ﺗﻜﻮﻧﻲ ﻣﺮﻳﻀﺔ، ِ ﻋﻬﺪ ﺑﻬﺎ ،وﻛﻨﺖ أﻧﺘﻈﺮ ﻣﻨﻚ زﻳﺎرﺗﻲ وﻟﻜﻨﻚِ
ﻓﺄرﺳﻠﺖ أﺳﺄل ﻋﻨﻚ وﻋﻠﻤﺖ أﻧﻚ ﺳﺎﻓﺮت ﻣﻊ اﻟﻮاﻟﺪة إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،وﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أن أﻓﻬﻢ
ﻣﻦ ذﻟﻚ أﻧﻚ ﺳﺎﻓﺮت ﻟﻠﺘﻤﺘﱡﻊ ﺑﻤﺸﺎﻫﺪة اﻟﻌﺎﺻﻤﺔ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ،ﻓﻌﺪت إﱃ ﻣﺸﺎﻏﲇ اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ،وﻛﻨﺖ
ﻛﻨﺖ أﺗﻤﻨﻰ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﺳﻴﺪ ﻫﻨﺎ ﻟﻴﺘﺤﻤﻞ ﺑﻌﺾ ﻫﺬه ﻛﻨﺖ إﱃ ﺟﺎﻧﺒﻲ ،ﻛﻤﺎ ُ أﺗﻤﻨﻰ ﻟﻮ ِ
املﺘﺎﻋﺐ ﻧﻴﺎﺑﺔ ﻋﻨﻲ«.
أﻋﺪت ﻗﺮاءﺗﻬﺎ ﻣﺮا ًرا ،وﺷﻌﺮت ﺑﺴﻌﺎدة ُ وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺮأت ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎرة
ﻋﻈﻴﻤﺔ ،وﻗﺮأت ﺑﻌﺪ ﻫﺬا» :ﻻ ﻳُﻤﻜﻨﻚِ أن ﺗﺘﺼﻮﱠري ﺑﺮ َد دﻣﻨﻬﻮر ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﺎم وﻻ ﺗﻠﻚ اﻷﻣﻄﺎر
ً
اﻋﺘﻼﻻ؛ ﻟﻬﺬا ﻟﻢ أﺣﺎول أن اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻨﻘﻄﻊ ﰲ اﻟﻠﻴﻞ وﻻ ﰲ اﻟﻨﻬﺎر ،وﻫﺬا ﻣﺎ زاد ﺻﺤﺔ أﻣﻲ
أﻋﺮف ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ أﺧﺒﺎرك ﺣﺘﻰ زارﻧﺎ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻟﻴﺴﺄل ﻋﻨﺎ وﻳُﻬﺪي إﻟﻴﻨﺎ ﺗﺤﻴﺎﺗﻚ
اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ،وﻷول ﻣﺮة ﻋﺮﻓﺖ ﻣﻨﻪ اﻟﺴﺒﺐ املﺆﻟﻢ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻚ ﺗﺴﺎﻓﺮﻳﻦ إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ،ﻓﺄﻧﺖ ﻣﺜﲇ
ﺿﻴﻘﺎ .أﻧﺎ آﺳﻔﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺳﻴﺪ ،وإن ﻛﺎن ﺣﺒﺴﻪ ﻻ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ اﻟﺨﺠﻞ ،وﻻ ً إذن ﺑﻞ أﺷﺪ ﻣﻨﻲ
ﻋﺎر ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳُﺤﺒَﺲ ﰲ ﺗﻬﻤﺔ ﺻﺤﻔﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻋﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻔﺎﺟﺄة ﺷﺪﻳﺪة اﻟﻮﻗﻊ ﻋﲇ ﱠ
وﻋﲆ واﻟﺪﺗﻲ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻬﺎ ﺑﻜﺖ وﻛﺎدت ﺗُﺒﻜﻴﻨﻲ ،وﻣﻤﺎ ﻳﺪﻋﻮ إﱃ اﻻرﺗﻴﺎح أن ﺳﻴﺪ ﺳﻴﺨﺮج ﻛﻤﺎ
ﻋﻠﻤﺖ ﺑﻌﺪ أﺳﺒﻮع واﺣﺪ.
ﻛﺎن اﻷﻃﺒﺎء ﻗﺪ أﺷﺎروا ﻋﲆ أﻣﻲ ﺑﺘﻐﻴري اﻟﻬﻮاء ،ﻓﻌﺮﺿﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ أن ﻧﺴﺎﻓﺮ إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة
ﻓﺮﺣﺒﺖ ﺑﺎﻟﻔﻜﺮة وأﻇﻦ أﻧﻬﺎ ﺳﺘﻜﻮن ﻓﺮﺻﺔ ﻃﻴﺒﺔ ﻟﻨﺮى املﺘﻬﻢ اﻟﱪيء ُ ﻟﻨﻘﻴﻢ ﺑﻬﺎ ﺑﻀﻌﺔ أﻳﺎم،
وﻧﻬﻨﺌﻪ ﺑﺎﻟﺨﻼص ،ﻣﺎ دﻣﻨﺎ ﻟﻢ ﻧﻘﺪر ﻋﲆ ﻣﻮاﺳﺎﺗﻪ ﰲ أﻳﺎﻣﻪ اﻟﻘﺎﺳﻴﺔ ،ﺳﺄﻛﺘﺐ إﻟﻴﻚ ﺑﻴﻮم
ﺣﻀﻮري وإﱃ اﻟﻠﻘﺎء ﻳﺎ ﻣﻨرية ،وأﻧﺎ واﺛﻘﺔ ﻣﻦ أﻧﻚ ﺳﺘﻘﻮﻣني ﻣﻘﺎﻣﻲ ﰲ ﺗﻘﺒﻴﻞ ﻳﺪ اﻟﻮاﻟﺪة
وإﺑﻼغ اﻋﺘﺬاري إﱃ ﺳﻴﺪ …«
ﻋﻨﻴﻔﺎ ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﻛﻠﻤﺔ ﺗﺬﻛﺮﻧﻲ ﻣﻨﻰ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻟﻢ أرﻓﻊ رأﳼ ﻋﻦ اﻟﺨﻄﺎب ً وﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺜﺐ
ﺣﺘﻰ ﻗﺮأﺗﻪ ﻣﺮة أﺧﺮى ووﻗﻔﺖ ﻋﻨﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻓﻘﺮاﺗﻪ ﻷﻗﺮأﻫﺎ ﻣﺮا ًرا.
237
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
أﻳﻀﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ رﻓﻌﺖ رأﳼ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ﻷﻋﻴﺪ اﻟﺨﻄﺎب إﱃ ﻣﻨرية، وﺣﺎوﻟﺖ أن أﻛﻮن ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ً
ﺧﻔﻲ ﺣﻤﺎﺳﺘﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﺄﻟﺘﻨﻲ ﻣﻨرية ﻋﻦ رأﻳﻲ اﻷﺧري ﰲ اﻟﺴﻔﺮ إﱃ وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﺳﺘﻄﻊ أن أ ُ َ
دﻣﻨﻬﻮر ﻋﻘﺐ ﺧﺮوﺟﻲ؛ ﻓﻘﺪ أﺟﺒﺘﻬﺎ ﴎﻳﻌً ﺎ :ﻻ ﺷﻚ أﻧﻨﺎ ﻧ َ ِ
ﻨﺘﻈﺮ ﻫﻨﺎ.
وﻗﺒﻞ أن ﻳﻮدﻋﻨﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻋﺎﺋﺪًا إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ﻫﻤﺲ ﰲ أذﻧﻲ :أﺣﺐ أن أﺣﺘﻔﻞ
ﺑﺨﺮوﺟﻚ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻻ ﺗُﻨﴗ.
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﻫﺪوء :ﻫﻞ ﺗﻜﻮن ﻫﻨﺎ ﰲ اﻷﺳﺒﻮع املﻘﺒﻞ؟
ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﲆ إرادﺗﻚ.ﻓﺄﺟﺎب ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :ﻫﺬا ﱠ
ﻓﻘﻠﺖ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :ﻣﺎذا ﺗﻌﻨﻲ؟
ﻫﺎﻣﺴﺎ :أﻋﻨﻲ أﻧﻲ أﺣﺐ أن أﺳﺄﻟﻚ ﻫﻞ ﺗُﻮاﻓﻖ أن أﺣﺘﻔﻞ ﺑﺨﺮوﺟﻚ ﰲ اﻷﺳﺒﻮع ً ﻓﻘﺎل
ً
اﺣﺘﻔﺎﻻ أﻗﺪم ﻓﻴﻪ ﺷﺒﻜﺔ ﻣﻨرية؟ املﻘﺒﻞ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺒﺘ َﻜﺮة؟ ﻣﺎ رأﻳﻚ ﰲ أن أﻗﻴﻢ ﻟﻚ
ﻓﺎﻧﻄﻠﻘﺖ ﻣﻨﱢﻲ ﺿﺤﻜﺔ ﻟﻢ أﻣﻠﻜﻬﺎ وﻗﻠﺖ :أﺗﺴﺄﻟﻨﻲ أﻧﺎ؟
أﻳﻀﺎ دون ﻛﻴﺸﻮت ﺑﻐري أن أدري .ﻟﻢ أﺟﺮؤ أن أﺳﺄل ﻏريك؟ ﻓﻘﺎل ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ :أﻧﺎ ً
ﻓﻀﻐﻄﺖ ﻋﲆ ﻳﺪه ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻻ ﺗﻜﻦ أﺑﻠﻪ.
وﻻﺣﻈﺖ أﻧﻪ ﺗَﺤﺎﳽ اﻻﻗﱰاب ﻣﻦ ﻣﻨرية وﻫﻮ ﻣﻨﴫف ،ﻛﻤﺎ ﻻﺣﻈﺖ أن ﻣﻨرية ﻧﻈﺮت
إﱄ ﱠ ﰲ ﳾء ﻣﻦ اﻻرﺗﺒﺎك وﻫﻲ ﺗُﻮدﱢﻋﻨﻲ.
ُ
وﻛﻨﺖ أردﱢد اﻟﺪﻋﺎء ﻷﺧﺘﻲ وﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ واﻣﺘﻸ ﻗﻠﺒﻲ ﺑﻌﺪ اﻧﴫاﻓﻬﻢ ﺑﺴﻌﺎدة ﻻ ﺗُﻮﺻﻒ،
ﺑﺎﻟﺴﻌﺎدة ،وﺑﻘﻴﺖ ﻃﻮال اﻷﺳﺒﻮع اﻷﺧري أﻃﻮي ﰲ ﺻﺪري اﻷﻣﻨﻴﺔ اﻟﻜﱪى اﻟﺘﻲ أﻧﺘﻈﺮﻫﺎ؛
ﺳﺄﺧﺮج ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ وأﻟﻘﻰ ﻣﻨﻰ.
238
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﻼﺛﻮن
ﻛﻤﺎ ﻳﻮﻟﺪ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻴﻼدًا ﺟﺪﻳﺪًا ،ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ ﺑني ﺟﺪران اﻟﺴﺠﻦ ،وﺑﺪت ﱄ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﰲ أﻟﻮان
زاﻫﻴﺔ ﻟﻢ ﻳﺴﺒﻖ ﱄ ﻋﻬﺪ ﺑﻤﺜﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،ﺻﺎر اﻟﻬﻮاء ﻳﻤﻸ ﺻﺪري ﻋﺎﻃ ًﺮا ،واﻟﻀﻮء ﻳﻤﻸ
ﻃﺐ ﻗﻠﺒﻲ إذا أﻇ ﱠﻠﺘﻨﻲ ﻇﻼﻟﻬﺎ ،وﻣﺎ ﻛﺎن أﺳﻌﺪﻧﻲ أن أﺳري ﻋﻴﻨﻲ ﺑﻬﻴﺠً ﺎ ،وﻧﴬة اﻷﺷﺠﺎر ﺗُﺮ ﱢ
ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﰲ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﺼﺒﺎح اﻟﺒﺎﻛﺮ ورذاذ املﻄﺮ ﻳﺘﻄﺎﻳﺮ ﰲ وﺟﻬﻲ ،أو ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﻨﺖ أﺟﻮل ﰲ
ﺣﺪاﺋﻖ اﻟﺠﺰﻳﺮة ﰲ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﻌﴫ واﻷزﻫﺎر ﺗَﺘﻨﺎﺟﻰ ﺑﺄﻟﻮاﻧﻬﺎ اﻟﺒﺎﻫﺮة .ﻣﻦ ﻗﺎل إن ﰲ اﻟﻘﺎﻫﺮة
ﺷﺘﺎءً؟ إﻧﻪ رﺑﻴﻊ ﺑﺎﺳﻢ ذﻟﻚ اﻟﺬي اﺳﺘﻘﺒﻠﻨﻲ ﺑﻌﺪ ﺧﺮوﺟﻲ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ وﺟﻌﻠﻨﻲ أزداد ﻏﺮاﻣً ﺎ
ﺑﻬﺬه اﻷرض اﻟﻌﺰﻳﺰة ،وﺑﻌﺪ أن ﻣ ﱠﺮت ﻓﺮﺣﺔ اﻷﻳﺎم ﺑﻌﺪ ﺧﺮوﺟﻲ ،ﺣﻘﻖ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻣﺎ ﻋﻘﺪ
ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻨﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺪم إﱃ ﻣﻨرية ،وﻟﻢ أﺳﻤﺢ ﻷﺣﺪ أن ﻳَﺴﺄﻟﻨﻲ ﻋﻦ ﳾء ﰲ أﻣﺮﻫﺎ ﻣُﻜ ﱢﺮ ًرا ﰲ ﻛﻞ
ﻣﺮة ﻗﻮﱄ» :ﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻲ«.
املﺮأة ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺨﺘﺎر وﻗﺪ ﺧﻠﻘﻬﺎ ﷲ ﻟﺘﺨﺘﺎر وﻋﻠﻴﻬﺎ وﺣﺪﻫﺎ ﻳﻘﻊ ﻛﻞ اﻟﻌﺐء ﰲ اﻻﺧﺘﻴﺎر،
ﻋﻘﻼ ووﻫﺐ ﻟﻬﺎ ﻏﺮﻳﺰة، ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻬﺎ أن ﺗُﻮﺟﻪ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ﻣﺎ دام ﷲ ﻗﺪ وﻫﺐ ﻟﻬﺎ ً
اﻟﻨﺴﺎء ﻳﻨﻄﻘﻦ ﺑﻮﺣﻲ اﻟﻐﺮﻳﺰة ﺑﺄﺻﺪق ﻣﻤﺎ ﺗﻨﻄﻖ اﻟﻌﻘﻮل ،وﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﴬوري أن ﺗﻘﻮل
اﻟﻔﺘﺎة» :ﻧﻌﻢ أرﴇ «.ﻓﺈن ردﻣﻮﻳﺎ وﺣﺪﻫﺎ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻐﻨﻲ وﺗﺮﻗﺺ وﺗﺤﺮق اﻟﺒﺨﻮر ﻟﻨﺠﻢ
اﻟﺸﻌﺮى ،ﺛﻢ ﺗﺴﺄل ﻗﻠﺒﻬﺎ ﻟﻴﻬﺪﻳﻬﺎ ،ﻓﻴﻨﻄﻖ ﻟﺴﺎﻧﻬﺎ ﰲ ﴏاﺣﺔ .ﻟﻢ ﺗﻘﻞ ﻣﻨرية ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﱢ
ﺳﺄﻟﻬﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ» :أﺗﺮﺿني ﺑﻲ ﻳﺎ ﻣﻨرية؟« وﻛﺎﻧﺖ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﰲ ﻏﺮﻓﺔ اﻟﺠﻠﻮس ﺑﻤﻨﺰل ﻋﻤﺔ
ﺼﲇ ﰲ اﻟﺒﻬﻮ املﺠﺎور ،وﻛﻨﺖ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺮاﺑﻊ ﻟﺨﺮوﺟﻲ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ ،وﻛﺎﻧﺖ أﻣﻲ ﺗُ ﱢ
أﻧﺎ ﻏﺎﺋﺒًﺎ ﰲ أول زﻳﺎرة ﻟﻸﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر.
وﻗﺪ أﺧﱪﻧﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻘﻞ ﻟﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ،ﺑﻞ ﺧﺠﻠﺖ وﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﺻﺎﻣﺘﺔ،
واﺛﻘﺎ ﻣﻦ رﺿﺎﻫﺎ ،ﻛﺎن ﻣﺸﻔﻘﺎ أن ﻳﻜﻮن ﻗﺪ آذاﻫﺎ أو ﺳﺒﺐ ﻟﻬﺎ ﺣﺮﺟً ﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ ً
ً وﻛﺎن
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ذﻟﻚ ﻳﺒﺪو واﺿﺤً ﺎ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن ﰲ اﻟﻜﻠﻤﺔ اﻟﻌﺎﺑﺮة واﻟﻨﻈﺮة اﻟﺴﺎﻧﺤﺔ ،وﻟﻢ ﻳَﺨِ ﺐ ﻇﻨﻲ
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﺄﻟﺘﻬﺎ ،ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺟﻬﺖ إﻟﻴﻬﺎ ﺳﺆاﱄ» :أﺗﺮﺿني ﺑﻌﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ؟«
أﺟﺎﺑﺖ ﻗﺎﺋﻠﺔ» :ﻫﺬا ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻚ أﻧﺖ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ «.ﺛﻢ اﻧﴫﻓﺖ ﻣﻦ أﻣﺎﻣﻲ.
وﻛﺎﻧﺖ ﺳﻌﺎدة ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻇﺎﻫﺮة ﰲ ﻧﻈﺮﺗﻪ اﻟﺸﺎﻛﺮة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﻠﺖ ﻟﻪ» :أﻫﻨﺊ ﻧﻔﴘ«.
ﻄﺎ وﺳﻌﻴﺪًا.وﺗ ﱠﻢ اﻻﺣﺘﻔﺎل ﺑﻌﻘﺪ اﻟﺰواج ﺑﻌﺪ ﻳﻮﻣني ،وﻛﺎن ﺑﺴﻴ ً
وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻘﺎﺑﻠﺘﻲ ﻟﻸﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﺻﺪﻣﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﻟﻢ أﻛﻦ أﺗﻮﻗﻌﻬﺎ ،ﻛﻨﺖ ﻣﺘﻮﻗﻌً ﺎ
أﻳﻀﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ ذراﻋﻲ ً
ﱠ ُ
وﻫﻤﻤﺖ أﻧﺎ ﺑﺄن أﺳﺘﻘﺒﻠﻪ ﻓﺎﺗﺤً ﺎ واﻗﻔﺎ ﻟﻴﻔﺘﺢ ﱄ ذراﻋﻴﻪ،ً أن ﻳﻬﺐﱠ
رﺟﻼ آﺧﺮ ﻏري اﻟﺸﺎب اﻟﻮاﺛﻖ ﺑﻨﻔﺴﻪ اﻟﻬﺎدئ اﻟﴩﻛﺎء ﰲ اﻟﺠﻬﺎد ﻋﻘﺐ املﻌﺮﻛﺔ ،وﻟﻜﻨﻲ وﺟﺪﺗﻪ ً
املﺴﻴﻄﺮ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﺗﻘﻄﺮ ﻣﺮار ًة وﻫﻮ ﻳُﺠﻴﺒُﻨﻲ ﻋﻦ أﺳﺌﻠﺘﻲ ،وﻗﺎل ﰲ ﺣﻨﻖ ﻣﻜﺘﻮم :ﻟﻦ أﻗﻴﻢ
ﰲ ﻫﺬا اﻟﺒﻠﺪ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا.
ﻄ ًﻔﺎ :ﻫﺬا ﺷﻌﻮر ﻣﺆﻗﺖ ،وﺳﻴﺰول ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ ﻟﻨﻌﻴ َﺪ اﻟﺠﻬﺎد ﻣﺮة أﺧﺮى.
ُ ﻓﻘﻠﺖ ﻣُﻠ ﱢ
ﻓﻨﻈﺮ إﱄ ﱠ ﻧﻈﺮة ﺣﺎﻧﻘﺔ ،ﺛﻢ ﻗﺎل :ﻣﻦ أﺟﻞ ﻣﻦ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﻣﺤﺘﺠٍّ ﺎ :ﻣﻦ أﺟﻞ ﻣﻦ؟ ﻣﻦ أﺟﻞ أﻧﻔﺴﻨﺎ ،ﻣﻦ أﺟﻠﻚ وﻣﻦ أﺟﲇ ،وﻣﻦ أﺟﻞ ﻛﻞ ﻣﻦ
ﻳﻌﻴﺶ وﻳﺘﺄﻟﻢ ،ﻣﻦ أﺟﻞ أﺑﻨﺎﺋﻨﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﻣﺎ ﻳَﺰاﻟﻮن ﻳﺘﺄملﻮن؛ ﻻ ﺗﺪع ﻫﺬا اﻟﻌﺎرض …
ﻋﺎرﺿﺎ أﻳﻬﺎ اﻟﺮﺟﻞ وﻗﺪ ﻛﺎد ﻳﺬﻫﺐ ﺑﺤﻴﺎﺗﻨﺎ؟ أﻣﺎ ً ﻓﻘﺎل ﰲ دﻓﻌﺔ :ﻋﺎرض؟ أﺗُﺴﻤﱢ ﻴﻪ
ﻗﺎﺳﻴﺖ أﻧﺎ ﻣﺎ ﰲ ﻗﻠﻮب ﻫﺆﻻء ﻣﻦ وﺣﺸﻴﺔ؟ ُ َ
وﻗﺎﺳﻴﺖ أﻧﺖ ﻛﻤﺎ ُ
ﻣﺮﺿﺖ أﻧﺎ، ﻣﺮﺿﺖ أﻧﺖ ﻛﻤﺎ
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ دﻓﻌﺔ أﺧﺮى :ﻓﻠﻴﻜﻦ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ،ﻟﻢ ﻧﻜﻦ ﻫﺎزﻟني ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻌﺮﺿﻨﺎ ﻟﻠﻤﻌﺮﻛﺔ ،ﻛﻨﺎ
ﻧﻌﻠﻢ أﻧﻬﺎ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻋﻨﻴﻔﺔ ﻣﻊ ﻗﻮى ﻃﺎﻏﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻟﻘﺪ ﻋﺰﻣﻨﺎ ﰲ ﺑﺪء اﻷﻣﺮ ﻋﲆ أن ﻧُﺜري املﻌﺮﻛﺔ ﻣﻦ
أﺟﻞ ﻫﺬه اﻟﻘﻮى اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻫﻲ أﻟﻔﺎظ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ﻧﺤﺎول أن ﻧﺨﺪع ﺑﻬﺎ أﻧﻔﺴﻨﺎ ،أﺗﻌﺮف ﻳﺄس ً ﻓﺄﺷﺎر ﺑﻴﺪه إﺷﺎرة ٍ
ﻣﻘﺪار ﻣﺎ أﺻﺎﺑﻨﻲ ﻣﻦ اﻟﺨﺴﺎرة؟ أﻣﺎ ﻋﺮﻓﺖ أﻧﻨﻲ ﻗﻀﻴﺖ أﺳﺒﻮﻋني ﺑني املﻮت واﻟﺤﻴﺎة.
ﻗﺎﺋﻼ :وﻣﺎذا ﻟﻮ ﻟﻘﻴﻨﺎ املﻮت ﻳﺎ ﺳﻴﺪي؟ﻓﺎﻧﺪﻓﻌﺖ ً
ﻓﻀﺤﻚ ﺳﺎﺧ ًﺮا ﻷول ﻣﺮة وﻗﺎل :ﻫﺬا ﳾء آﺧﺮ .ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳﺪﺧﻞ ﰲ ﺣﺴﺎﺑﻲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي،
ﻟﺴﺖ أرﻳﺪ أن أُﺿ ﱢﻠﻠﻚ ،أو أن أﻗﻮل ﻛﻼﻣً ﺎ ﺿﺨﻤً ﺎ ﻷﺧﺪﻋﻚ؛ ﻷﻧﻨﻲ أﻋﺮف أﻧﻚ ﺗﻔﻬﻤﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ُ
أﻗﻮل ﻟﻚ رأﻳﻲ ﴏﻳﺤً ﺎ ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻘﻮل :إﻧﻨﺎ ﻧُﺮﻳﺪ اﻟﺠﻬﺎد ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﻘﺼﺪ أﻧﻨﺎ ﻧُﺠﺎﻫﺪ ﺑﺂراﺋﻨﺎ ﻻ
ﺑﺄﺟﺴﺎﻣﻨﺎ ،أﻇﻨﻨﺎ ﻟﻢ ﻧﻘﺼﺪ أن ﻧﻤﻮت اﻵن ﻳﺎ ﺳﻴﺪي.
ﻓﻘﻠﺖ :إﻧﻨﺎ ﻟﻢ ﻧَﻤُﺖ ﺑﻌﺪ.
ﻓﻘﺎل ﻣﺸريًا ﺑﻴﺪه ﻣﺮة أﺧﺮى إﺷﺎرة اﻟﻴﺄس :ﻫﺬا رأﻳﻚ ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ ،وأﻣﺎ أﻧﺎ ﻓﻘﺪ ﻋﺰﻣﺖ
ﻋﺰﻣً ﺎ أﻛﻴﺪًا ﻋﲆ أن أﺗﺮك ﻫﺬا اﻟﺒﻠﺪ ﰲ أول ﻓﺮﺻﺔ ،ﻻ ﻣﻘﺎم ﱄ ﻫﻨﺎ.
240
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﻼﺛﻮن
241
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻏﺎﺿﺐ أن أﻋﻴﺪ إﻟﻴﻪ ﻣﺮﺗﺐ اﻟﺸﻬﻮر اﻟﺴﺘﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻌﺜَﺖ ﺑﻬﺎ اﻟﺠﺮﻳﺪة إﱃ أﻣﻲ ﰲ ﻣﺪة اﻟﺴﺠﻦ؛
ﻟﻴﻜﻮن ﺟﻮاﺑﻲ ﺷﺎﻓﻴًﺎ ﻟﻐﻀﺒﺔ ﻗﻠﺒﻲ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻢ أﻟﺒﺚ أن ﴎﻳﺖ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ أﺛﺮ ﻫﺬه املﻘﺎﺑﻠﺔ،
وأﻗﺒﻠﺖ ﻋﲆ اﻟﻔﻀﺎء اﻟﻄﻠﻖ أﻋﺐ ﻣﻨﻪ ﺣﺘﻰ أروى ﺑﻌﺪ ﻃﻮل ﺗﻌﻄﴚ إﻟﻴﻪ ،وﻛﺎن ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ
ﻓﻜﻨﺖ أﺧﺮج وﺣﺪي ُ ﻣﺸﻐﻮﻻ ﻋﻨﻲ ﺑﺮﺣﻼﺗﻪ ﻣﻊ ﻣﻨرية،ً ﰲ إﺟﺎزة ﻧﺼﻒ اﻟﺴﻨﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن
ﻛﻞ ﺻﺒﺎح ﻗﺎﺻﺪًا أﺣﺪ اﻷﻃﺮاف اﻟﺒﻌﻴﺪة؛ ﻷﻗﴤ ﻓﻴﻪ ﻳﻮﻣً ﺎ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﺿﺠﺔ املﺪﻳﻨﺔ؛ ﻷﻓﻜﺮ
ﻓﻴﻤﺎ أﺳﺘﻘﺒﻞ ﺑﻪ ﺣﻴﺎﺗﻲ اﻟﺠﺪﻳﺪة .ﻧﻌﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻴﺎة ﺟﺪﻳﺪة ﺑﻌﺪ ﻣﻴﻼد ﺟﺪﻳﺪ ،وذﻫﺒﺖ ﻳﻮﻣً ﺎ إﱃ
اﻷﻫﺮام ﻣﺒﻜ ًﺮا؛ ﻷﺗﻤﺘﻊ ﺑﺠﻮﻟﺔ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻷﺛﺮ اﻷﺷﻴﺐ اﻟﺬي ﻳَﺠﺘﺬب ﻃﻼب اﻟﺮوﻋﺔ ﻣﻦ أرﻛﺎن
اﻷرض ،وﻛﺎن اﻟﻨﺎس ﻫﻨﺎك ﻳﻨﺘﴩون ﰲ اﻟﻬﻀﺒﺔ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻳﺴري ﰲ ﺟﻤﺎﻋﺎت ﻣﺮﺣﺔ ،واﻟﺒﻌﺾ
اﻵﺧﺮ ﻳﺴري ﻣﺜﻨﻰ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣَ ﻦ ﻳﺴري وﺣﺪه ﻏريي ،ﻓﴪت ﰲ ﺻﺤﺒﺔ أﻓﻜﺎري ﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ
إﱃ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ اﻻﺳﱰاﺣﺔ املﻠﻜﻴﺔ ،ﻓﺘﻨﺒﱠﻬﺖ إﱃ ﺻﻮت اﻟﺤﺎرس اﻟﺬي ﻳﺰﺟﺮﻧﻲ ﻷﺑﻌﺪ ،وﻗﻠﺖ ﰲ
ﴎي :ﻓﺮﻋﻮن اﻟﻘﺰم ﻫﻨﺎ؟
ووﺛﺒﺖ إﱃ ﺻﺪري ﻛﻞ ﻣﺸﺎﻋﺮ اﻟﺤﻨﻖ اﻟﺬي ﻛﻨﺖ أﻛﺒﺘﻬﺎ؛ ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗُﻌﺬﺑﻨﻲ ﰲ أﻳﺎم ْ
وﻟﺴﺖ أدري ﻣﻊ ﻣﻦ ﻳﻘﻴﻢ ﰲ ُ ﺳﺠﻨﻲ ،ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺗﻌﺬﱠ ُ
ﺑﺖ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ ﻳُﻘﻴﻢ ﻫﻨﺎك ﻟﻴﺘﻨﺰه،
ﺗﻠﻚ اﻻﺳﱰاﺣﺔ ،ﺑﻨﻰ ﻓﺮﻋﻮن ﺧﻮﻓﻮ ﻫﺬا اﻷﺛﺮ اﻟﺨﺎﻟﺪ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻳَﻄﻠُﺐ ﻣﺜﻮى ﻟﺮوﺣﻪ ،وﻫﺬا
ﻓﺮﻋﻮن اﻟﻘﺰم ﻳﻄﻠﺐ اﺳﱰاﺣﺔ ﻟﺠﺴﺪه ،وﺗﺄﻣﻠﺖ ﻣﻦ ﺑﻌﻴ ٍﺪ ﻫﻨﺪﺳﺔ ﺑﻨﺎء اﻻﺳﱰاﺣﺔ وﻧﻘﻮش
ﻣﺪاﺧﻠﻬﺎ ،ﻓﺒﺪت ﱄ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺴﺨﺮ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،وﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ :ﻫﻜﺬا ﻳُﺰﻳﻒ ﻃﺎﻟﺐ املﺘﻌﺔ ﻓﻦ
اﻟﻘﺪاﻣﻰ ،ﻛﺎن ذﻟﻚ اﻟﻔﻦ ﰲ ﻋﴫه رﻣ ًﺰا ﻟﻠﺠﻼل اﻟﺬي ﻳﻤﻸ اﻟﻘﻠﻮب ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﻨﺎس ﻳﺆﻣﻨﻮن
ﺑﴚء ﺟﻠﻴﻞ ﰲ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ،وﻟﻜﻨﻪ اﻟﻴﻮم ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﺣﻠﻴﺔ ﻣﺰﻳﻔﺔ ،وﺑﺪت اﻻﺳﱰاﺣﺔ ﰲ ﻋﻴﻨﻲ ﻣﺜﻞ
ﻣﺮﻗﺺ ﺧﻠﻴﻊ ﰲ ﻫﻴﻜﻞ ﻋﺒﺎدة ،أﻣﺎ ﻛﺎن أوﱃ ﺑﻔﺮﻋﻮن اﻟﻘﺰم ﻟﻮ ﺑﻌﺪ ً
ﻗﻠﻴﻼ ﻋﻦ اﻷﺛﺮ اﻟﺠﻠﻴﻞ
ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗﺒﺪو اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ واﺿﺤﺔ؟ وأﻳﺔ ﺳﺨﺮﻳﺔ؟ وﻣﺎذا ﻳﺼﻨﻊ ﻛﻞ ﻫﺆﻻء املﻨﺘﴩون ﰲ اﻟﻬﻀﺒﺔ
إﺟﻼﻻ ،ﻣﺎ دام ﻓﺮﻋﻮن اﻟﻘﺰم ﻳﴬب ً ﺳﻮى أن ﻳﺴﺨﺮوا ﻋﻨﺪ أﻗﺪام اﻟﻬﺮم وﻻ ﻳﺸﻌﺮون ﻟﻪ
ﻟﻬﻢ املﺜﻞ ﰲ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ؟ وﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﺘﺎة؟ ﻫﻞ أُﺻﺪﱢق ﻋﻴﻨﻲ؟ أﻫﺬه ﻓﻄﻮﻣﺔ؟
ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻄﻮﻣﺔ ﺗﺴري ﻋﲆ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻣﻨﱢﻲ وﻫﻲ ﺗﻤﻴﻞ ﻋﲆ ذراع ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ ﻋﻨﺪ زاوﻳﺔ
ُ
وﻛﻨﺖ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻣُﺮﺗﺪٍّا ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻻﺳﱰاﺣﺔ ،ووﻗﻔﺖ ﻣُﱰ ﱢددًا ﺑني أن أذﻫﺐ اﻟﻬﺮم اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ،
إﻟﻴﻬﺎ ﻷﺻﻔﻌﻬﺎ ،وﺑني أن أﻟﺘﻤﺲ ﻟﻨﻔﴘ ﻣﻜﺎﻧًﺎ أﺗﻮارى ﻓﻴﻪ ،وﻏﻠﺐ ﻋﲇ ﱠ اﻟﺮأي اﻷﺧري ،ﻓﺎﺗﺠﻬﺖ
ﻣﴪﻋً ﺎ إﱃ ﺣﺮف اﻟﻬﻀﺒﺔ اﻟﻬﺎﺑﻂ إﱃ اﻟﻐﻮر ا ُملﻨﺨﻔِ ﺾ اﻟﺬي ﺗﻠﻮح ﻓﻴﻪ ﺑﺮﻛﺔ ﻣﺎء ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ،
ﻓﺎﻧﺤﺪرت ﻣﺘﻌﺜ ًﺮا ﻓﻮق اﻟﺴﻔﺢ ،ﺛﻢ ﺑﺪا ﱄ ﺳﺨﻔﻲ ،ﻓﻌﺪت أدراﺟﻲ ،واﺗﺠﻬﺖ إﱃ املﻨﺤﺪَر
ﻣﺸﻐﻮﻻ ﺑﺼﻮرة ﻓﻄﻮﻣﺔ اﻟﻐﺎدة ﰲ ﻣﻼﺑﺴﻬﺎ اﻷﻧﻴﻘﺔ ً اﻟﺬي ﻳﺆدي إﱃ ﻣﺤﻄﺔ اﻟﱰام ،وﻛﺎن رأﳼ
242
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﻼﺛﻮن
وﺗﻠﻔﺖ ﻗﺒﻞ أن أﻫﺒﻂ ﰲ ﱡ وﺣﻠﻴﱢﻬﺎ اﻟﻜﺜري ،وﻗﻮاﻣﻬﺎ اﻟﺮﺷﻴﻖ وﻫﻲ ﺗﻤﻴﻞ ﻋﲆ ذراع ﻣﺤﻤﻮد،
املﻨﺤﺪَر ،ﻓﺮأﻳﺘُﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﺑني اﻟﺠﻤﻮع اﻟﻮاﻗﻔﺔ ﺗﺘﻄ ﱠﻠﻊ ﰲ ﻓﻀﻮل ﻧﺤﻮ اﻻﺳﱰاﺣﺔ ﻟﺘﺨﻄﻒ
أﺗﺤﻔﺰ ﻟﴫاع ،وأﴎﻋﺖ ﰲ ﺣﻨﻖ ﻣﺘﱠﺠﻬً ﺎ ﱠ ُ
ﺧﻔﻀﺖ رأﳼ ﻛﺄﻧﻲ ﻧﻈﺮة ﻣﻦ ﻓﺮﻋﻮن اﻟﻘﺰم ،ﺛﻢ
إﱃ ﻣﺤﻄﺔ اﻟﱰام.
وﻗﻀﻴﺖ ﻣﺪة ﺳريي إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﻣُﻀﻄﺮب اﻟﻔﻜﺮ ﺑني أﺣﺎدﻳﺚ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﺘﺪاﻓﻊ ﻟﻴﺤﻞ
ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﺤﻞ ﺑﻌﺾ ﰲ ﻋﻨﻒ ،ذﻟﻚ اﻟﺤﻜﻴﻢ اﻟﺬي ﺻﻤﱠ ﻢ ﺑﻨﺎء اﻟﻬﺮم اﻟﺠﻠﻴﻞ ﻛﺎن ﺷﺎﻋ ًﺮا ﻋﻈﻴﻤً ﺎ
ً
ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ﻛﺒريًا ﻓﻮق أﻧﻪ ﻛﺎن ﻓﻨﱠﺎﻧًﺎ؛ أي إﻳﻤﺎن ذﻟﻚ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳُﺤ ﱢﺮك ﻗﻠﺒﻪ وﻳﺠﻌﻠﻪ ﻳﺠﺮؤ أو
ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ اﻟﻬﺎﺋﻞ؟ وﻓﺮﻋﻮن اﻟﺼﻐري ﻳﻌﻮد ﰲ ﻣﻮﻛﺒﻪ وﻻ ﻳَﺴﻤﺢ ﻟﻠﱰام أن ﻳﺴري ﺣﺘﻰ ﻳﻤ ﱠﺮ
املﻮﻛﺐ ،وﻓﻄﻮﻣﺔ وﻣﺤﻤﻮد ﻳﺒﻘﻴﺎن ﻫﻨﺎك إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻬﺮم ،وا ﺧﺠﻼه! اﻟﺴﺎﺧ ُﺮون اﻟﺬﻳﻦ ﻻ
ﻳﺮﻫﺒﻮن ﻣﻦ ﳾء ﻣﻘﺪس ،واﻷﻏﺒﻴﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﴫ ذﻛﺎؤﻫﻢ ﻋﻦ إدراك املﻌﺎﻧﻲ اﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﻳَﻤﺮﺣُ ﻮن
ُﺤﺴﻮن أﻧﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ اﻟﻬﺎوﻳﺔ ،وﺑﺪﱠﻟﺖ اﻟﱰام ﻋﻨﺪ اﻟﺠﻴﺰة ﺑﻐريﰲ ﺗﻔﺎﻫﺘﻬﻢ ،وﻻ ﻳ ﱡ
وﴎت ﰲ ﺗﺮا ٍم آﺧﺮ ﺑﻐري أن أﻓﻜﺮ ،ﻛﺎن ذﻫﻨﻲ ﻳﺪور ﰲ أﻓﻜﺎره املﻀﻄﺮﺑﺔ ﻋﻮدًا ﻋﲆ ُ أن أﻓ ﱢﻜﺮ،
ﺑﺪء ﺑﻐري ﺗﻮﻗﻒ ،وﺗﻨﺒﱠﻬﺖ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺮﺑﺖ ﻣﻦ ﻣﻴﺪان ﻗﴫ اﻟﻨﻴﻞ ،وﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺻﻒ
ﻃﻮﻳﻞ ﻣﻦ ﻋﺮﺑﺎت اﻟﱰام ﻳﺴﺪ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،ﻓﻨﺰﻟﺖ ﻷرى ﻣﻨﻈ ًﺮا ﻟﻢ ﻳﺨﻄﺮ ﺑﺒﺎﱄ ،وﻛﺎن اﻟﻨﺎس
ﻓﺄﴎﻋﺖ إﱃ ﺷﺎرع ﺳﻠﻴﻤﺎن ُ ﻳﺘﺴﺎ َرﻋﻮن ﰲ ﻛﻞ اﺗﺠﺎه ﰲ ﻫﻠﻊ ،وﻳﻘﻮﻟﻮن» :اﻟﻘﺎﻫﺮة ﺗﺤﱰق«.
ﺑﺎﺷﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨريان ﺗَﻨﺪﻟﻊ ﻣﻦ ﺷﺎرع اﻟﺒﺴﺘﺎن ،واﻟﺠﻤﻮع اﻟﻬﺎﺋﺠﺔ ﺗﺴﻴﻞ ﺑﺎﻟﻄﺮق ﰲ ﻛﻞ
اﺗﺠﺎه.
وﺟﺮﻳﺖ إﱃ ﻣﻴﺪان ﺳﻠﻴﻤﺎن وﻛﺎن ﺷﻌﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﻬﺐ .ﻣﺎذا ﺣﺪث؟ وﺟﺮﻳﺖ إﱃ ﺷﺎرع
وﻛﻨﺖ أﻟﻬﺚ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺐ ،وﻻ أﻗﺪر أن أﻗﻒ ،ﻛﻨﺖ أرﻳﺪ ُ ﻗﴫ اﻟﻨﻴﻞ ﻓﻌﻤﺎد اﻟﺬﻳﻦ ﻓﺸﺎرع ﻓﺆاد،
أن أﻋﺮف إﱃ أﻳﻦ ﻳﻨﺘﻬﻲ اﻟﺤﺮﻳﻖ .ﻫﻞ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﻛ ﱡﻠﻬﺎ ﺗَﺤﱰق؟ ﻫﻞ ﻫﻲ ﺛﻮرة؟ ﻛﺎن ﺷﺎرع
أﻳﻀﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺣﺎﺟ ًﺰا ﻣﻦ اﻟﻠﻬﺐ ﰲ ﻣﻌﺮﻛﺔ دﻣﻮﻳﺔ ،واﻟﺠﻤﻮع املﺘﺪاﻓِ ﻌﺔ ﺗﻨﺴﺎب ﻛﻤﻴﺎه ﻓﺆاد ً
ﺗﺘﺪﻓﻖ ﺻﺎﺋﺤﺔ ﻫﺎﺋﺠﺔ. ﱠ اﻟﺴﻴﻞ ﰲ ﻛﻞ ِﺷﻌﺐ ﻣﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ .ﺟﻤﻮع ﺗﻘﺘﺤﻢ املﺘﺎﺟﺮ وأﺧﺮى
أﻫﻜﺬا ﺗﻨﺪﻟﻊ اﻟﺜﻮرة ﻓﺠﺄة؟ وﻣﺮرت أﻣﺎم ﻣﺘﺠﺮ ﻣﺎﻧﻮﻳﻞ اﻟﻔﺨﻢ ،وﻛﺎﻧﺖ أﻟﺴﻨﺔ اﻟﻠﻬﻴﺐ ﺗُﻄ ﱡﻞ
ﻣﻦ ﻧﻮاﻓﺬ اﻟﻄﺒﻘﺎت املﺘﺘﺎﻟﻴﺔ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺸري إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺗﻄﻠﺐ اﻟﻐﻮث ،وأﻳﻦ اﻹﺳﻌﺎف؟ وﻟﻢ ﻳﻜﻦ
أﻳﻀﺎ رﺟﺎل ﻣﻄﺎﻓﺊ ﻛﺄن املﺪﻳﻨﺔ ﻗﺪ ﺧ َﻠﺖ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ،واﻧﺴﺎب ﻧﻬﺮ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﻮع إﱃ ﻫﻨﺎك ً
ﻣﻴﺪان اﻷوﺑﺮا وﻧﻬﺮ آﺧﺮ إﱃ ﺷﺎرع إﺑﺮاﻫﻴﻢ ،وﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻛﻞ ﻓﺮع ﺑﻌﺾ أﻓﺮاد ﻳﺴريون ﻛﺄﻧﻬﻢ
ﻃﻠﻴﻌﺔ ،أﻫﻲ ﺛﻮرة ﻣﺪﺑﱠﺮة؟ ﻟ َﻢ ﻻ وﻓﺮﻋﻮن اﻟﻘﺰم ﻳَﻠﻬﻮ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﰲ ﻣﺨﺒﺌﻪ؟ وﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ
ﻳﺜﺐ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺘﺪاﻋﻰ ﻣﻊ اﻷﺑﻨﻴﺔ املﻨﻬﺎرة .أﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﺜﻮرة؟ ﻫﻲ ﺟﺎﻧﺐ ﻻ ﻳﻨﻔﺼﻞ ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻢ
243
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
اﻟﻀﻌﻴﻒ املﺰﻳﱠﻒ ،اﻟﺬي ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﻨﺘﻬﻲ إﱃ اﻟﺜﻮرة ،وﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ ﻧﻔﴘ ﻣﻦ اﻟﻬﻢ واﻟﻐﻢ
ﺷﻌﺮت ﺑﺄن ﺷﻴﺌًﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻗﺪ ﺣﺪث.
ﺮت أن أﺧﺘﻲ وﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻛﺎﻧﺎ ﻳﻌﺘﺰﻣﺎن أن ﻳﺨﺮﺟﺎ إﱃ املﺪﻳﻨﺔ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ،ﻓﺠﺮﻳﺖ وﺗﺬ ﱠﻛ ُ
ُ
وﻛﻨﺖ ﻣُﺘﻌَ ﺒًﺎ وﻟﻜﻨﻲ اﻧﺪﻓﻌﺖ ﺑﻘﻮة ﻣﻀﺎﻋﻔﺔ. ﻧﺤﻮ املﻨﺰل ،ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺳﻴﺎرة ﻟﺘَﺤﻤﻠﻨﻲ،
ﻗﻠﻴﻼ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأﻳﺖ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ ﺗﻨﺘﻈﺮان ﰲ ﻟﻬﻔﺔ وﺑﻠﻐﺖ املﻨﺰل آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ،وﻫﺪأت ً
اﻟﺴﻔﲆ ﻣﻦ اﻟﺪار ،وأﺧﺬﺗْﻨﻲ أﻣﻲ ﺑني ذراﻋﻴﻬﺎ ،ﺛﻢ ارﺗﻤﻴﺖ ﻋﲆ ﻛﺮﳼ ﺧﺎﺋﺮ اﻟﻘﻮى. ﺑﺎﻟﻄﺒﻘﺔ ﱡ
244
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻮاﺣﺪ واﻟﺜﻼﺛﻮن
ﺳﺎﻓﺮ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ وﻣﻨرية إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ﺑﻌﺪ إﻗﺎﻣﺔ أﺳﺒﻮﻋني أﻃ َﻠﻘﺎ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﺳﻢ أﺳﺒﻮﻋَ ﻲ اﻟﺠُ ﺒﻦ
ﻻ اﻟﻌﺴﻞ؛ ﻷﻧﻬﻤﺎ ﻟﻢ ﻳَﺨ ُﺮﺟﺎ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻟﻠﻨﺰﻫﺔ ﰲ أرﺑﺎض اﻟﻘﺎﻫﺮة ﰲ اﻟﻨﻬﺎر أو إﱃ ﻣﻼﻫﻴﻬﺎ ﰲ
اﻷﻣﺎﳼ؛ ﻷن ﺣﺮﻳﻖ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﻟﻢ ﻳﺪَع ﻟﻬﻤﺎ اﻧﴩاﺣً ﺎ إﱃ اﻟﺠﻮﻻت اﻟﺘﻲ أﻋﺪا ﺧﻄﻄﻬﺎ ،ﻣﻨﺎزه
ﻃﺮﻳﻖ اﻷﻫﺮام وﺷﻮاﻃﺊ اﻟﻨﻴﻞ ودور اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ واﻟﺴﻴﻨﻤﺎ وأﺑﻬﺎء اﻟﻔﻨﺎدق اﻟﻜﱪى وﻣﻘﺎﺻﻒ
اﻟﺮﻳﻒ ،ﻛﻞ ﻫﺬه ﻛﺎﻧﺖ ﺑني ﻣﺤﱰﻗﺔ أو ﻣُﻐ َﻠﻘﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨرية ﺗﺨﴙ اﻟﺨﺮوج ﻓﻮق ﻫﺬا ً
ﺧﻮﻓﺎ،
أو — ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻟﺖ ﻫﻲ — ﺟﺒﻨًﺎ ﻣﻦ أن ﺗَﻌﱰﺿﻬﺎ ﺛﻮرة ﺟﺪﻳﺪة ﻋﲆ ﺣني ﻏﺮة ،ﻛﻤﺎ اﻋﱰﺿﺘﻨﻲ
ﺤﺮق ﻗﻠﺐ املﺪﻳﻨﺔ ﰲ ﺳﺎﻋﺔ، ﻳﻮم ﺧﺮﺟﺖ ﻟﻠﻨﺰﻫﺔ ﻋﻨﺪ اﻷﻫﺮام ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ،ﻓﺈذا ﻫﻲ ﺗﺜﻮر وﺗَ ِ
ُ
وﻟﺴﺖ وﻗﺪ أﴏا ﻋﲆ أن ﻳﺄﺧﺬا أﻣﻲ ﻣﻌﻬﻤﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻋﺠﺰا ﻋﻦ ﺣﻤﲇ ﻋﲆ اﻟﺮﺟﻮع إﱃ دﻣﻨﻬﻮر،
أﺗﻤﺴﻚ ﺑﺄﻣﻲ ﻟﺘﻌﻴﺶ ﻣﻌﻲ ﱠ أُﺧﻔﻲ أﻧﻨﻲ ارﺗﺤﺖ إﱃ ﻫﺬا اﻟﺮأي ،ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻴﺴري ﻋﲇ ﱠ أن
وأﻧﺎ ﻋﺎﻃﻞ ﻋﻦ اﻟﻌﻤﻞ ﻣﻨﺬ اﻧﻘﻄﻌﺖ ﻋﻦ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار.
ُ
أﻗﺒﻠﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻤﻠﻮءًا ﺑﺎﻷﻣﻞ ُ
ﺑﻘﻴﺖ ﰲ اﻟﻘﺎﻫﺮة وﺣﺪي وﺟﺪﺗﻬﺎ ﻏري اﻟﻘﺎﻫﺮة اﻷوﱃ اﻟﺘﻲ وملﺎ
ﻗﺎﺳﻤﺖ أﻣﻲ ﰲ اﻟﺠﻨﻴﻬﺎت املﺎﺋﺔ واﻟﻌﴩﻳﻦ ُ واﻟﺤﻤﺎﺳﺔ ،ﻛﺎن ﰲ ﺟﻴﺒﻲ ﺳﺘﻮن ﺟﻨﻴﻬً ﺎ ﺑﻌﺪ أن
اﻟﺘﻲ أﻋﺎدﻫﺎ إﱄ ﱠ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ،وﻛﺎن ﻻ ﺑﺪ ﱄ ﻣﻦ اﻻﻗﺘﺼﺎد ﰲ اﻟﻨﻔﻘﺔ ﻷﺳﺘﻜﻔﻲ ﺑﺬﻟﻚ املﺎل
ﻋﻤﻼ ﻟﻴﺲ ﰲ ﺣﺴﺒﺎﻧﻲ. اﻟﻀﺌﻴﻞ أﻃﻮل ﻣﺪة ﻣُﻤﻜﻨﺔ رﻳﺜﻤﺎ ﺗﺴﻮق إﱄ ﱠ اﻷﻗﺪار ً
ﻓﺎﺳﺘﺄﺟﺮت ﻏﺮﻓﺔ ﰲ ﻓﻨﺪق ﺻﻐري ﰲ ﺣﻲ ﺳﻴﺪﻧﺎ اﻟﺤﺴني ،وﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ ﻋﲇ ﱠ أن ُ
أﺟﺪ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳُﻨﺎﺳﺒﻨﻲ ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎم اﻟﺮﺧﻴﺺ ،ﻓﻜﺎﻧﺖ اﻷﻳﺎم ﺗﻤﺮ ﺑﻲ ﻣﻮﺣﺸﺔ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺗﻤﻮج
ﻛﺎﻟﺒﺤﺮ ﰲ أﻋﻘﺎب ﻋﺎﺻﻔﺔ ،ﻛﻞ ﻳﻮم ﺷﺎﺋﻌﺔ ﻋﻦ ﻣﺨﺎوف ﻏﺎﻣﻀﺔ ،واﻷرض ﺗﺘﺰﻟﺰل ﺗﺤﺖ أﻗﺪام
املﺘﻮاﺿﻌﺔ ﺗَﺘﻨﺎﻗﺶ ﰲ
ِ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ أﻋﻘﺒﺖ ﺣﻜﻮﻣﺔ اﻟﺤﺮﻳﻖ ،وﺣﻠﻘﺎت اﻟﻘﻬﺎوي
ﺣﻨﻖ ،وأﻧﺪﻳﺔ اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﺗﺤﻔﻞ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ﺑﻬﻮاة اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،واﺳﺘﻌﻨﺖ ﻋﲆ ﻗﻀﺎء اﻟﻮﻗﺖ
ا ُملﻮﺣِ ﺶ ﺑﺎرﺗﻴﺎد ﺗﻠﻚ املﺠﺎﻟﺲ ﻋﲆ اﺧﺘﻼف أﻟﻮاﻧﻬﺎ وﻣﺸﺎرﺑﻬﺎ ،وﻟﻢ أﺟﺪ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﰲ اﻻﻧﺪﻣﺎج
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻓﻴﻬﺎ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻤﺾ إﻻ أﺳﺎﺑﻴﻊ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﻛﻨﺖ ﻣﻦ أرﻛﺎﻧﻬﺎ وأﻗﻄﺎﺑﻬﺎ ،وﻛﺎن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳﻘﻮﻟﻮن:
إﻧﱠﻨﺎ ﻋﲆ ﺣﺎﻓﺔ ﻫﺎوﻳﺔ ،وﻻ ﻣﻔﺮ ﻟﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﱰدﱢي ﻓﻴﻬﺎ ،ﺑﺄس ﻣﻈﻠﻢ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ،وﺣرية ﻣﻐﻠﻘﺔ
ﰲ ﻗﻠﺒﻲ وﺳﺆال واﺣﺪ ﻳﻌﺎودﻧﻲ ﻛﻞ ﺻﺒﺎح وﻛﻞ ﻣﺴﺎء» :أﻳﻦ أذﻫﺐ؟« وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨرية ﺗﺒﻌﺚ إﱄ ﱠ
ً
واﻧﻘﺒﺎﺿﺎ ،وﰲ ﰲ ﻛﻞ أﺳﺒﻮع ﻣﺮة أو ﻣﺮﺗني ﺑﺨﻄﺎﺑﺎت ﻻ ﺗُﺰﻳﻞ وﺣﺸﺘﻲ ،ﺑﻞ ﺗﺰﻳﺪﻧﻲ وﺣﺸﺔ
ﻛﻞ ﺧﻄﺎب ﺗُﻌﻴﺪ ﻋﲇ ﱠ ﻋﺒﺎر ًة ﺗَﺨﺘﻢ ﺑﻬﺎ ﺣﺪﻳﺜﻬﺎ ،ﻓﺘﻘﻮل أﺣﻴﺎﻧًﺎ» :ﻣﻨﻰ ﺗﺴﻠﻢ ﻋﻠﻴﻚ وﺗﺮﻳﺪ أن
ﺗﺮاك «.وﺗﻘﻮل ﰲ أﺣﻴﺎن أﺧﺮى» :ﻣﻨﻰ ﺗُﻬﺪﻳﻚ ﺳﻼﻣﻬﺎ وﺗﺴﺄل ﻋﻦ ﺻﺤﺘﻚ «.ﻓﻜﻨﺖ أﻓﺮغ ﻣﻦ
ﻗﺮاءة اﻟﺨﻄﺎب ﰲ ﳾء ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺤﻨﻖ ،وأﺿﻌﻪ ﰲ ﺟﻴﺒﻲ ﻣُﻜ ﱢﺮ ًرا ﰲ ﻧﻔﴘ إﻧﻬﺎ ﺗُﺴ ﱢﻠﻢ ﻋﲇ ﱠ وﺗﺴﺄل
أﻗﻮاﻻ أﺧﺮى أﺷﺪ ﻗﺴﻮة؛ ً ﺗﻼﻗﻮا ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،ﺛﻢ أزﻳﺪ ﻋﲆ ذﻟﻚﻋﻦ ﺻﺤﺘﻲ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ اﻟﻨﺎس إذا َ
ﻷﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم ﻗﻮيﱠ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺄﻧﱠﻨﻲ ﻋﺎﻃﻞ ﻻ أﻋﺮف ﻟﻨﻔﴘ وﺟﻬﺔ أﺗﺠﻪ إﻟﻴﻬﺎ ،وﻣﻊ
ﻄﻞ ﻟﻢ ﺗﺴﻤﺢ ﻧﻔﴘ ﺑﺄن أﻋﻮد إﱃ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار، ﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺎﺳﻴﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻮﺣﺸﺔ واﻟﻀﻴﻖ واﻟﺘﻌ ﱡ
وﻟﻢ أُﺣﺎول أن أﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻋﻤﻞ آﺧﺮ ،ﳾء واﺣﺪ ﻛﺎن ﻳﺒﻌﺚ ﰲ ﻗﻠﺒﻲ ﺑﻌﺾ اﻟﺮاﺣﺔ ،وﻫﻮ
اﺗﺼﺎﱄ ﺑﺠﻤﻌﻴﺔ »ﺷﺒﺎن اﻟﻔﺪاء« ،اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻘﺪ ﺟﻠﺴﺎﺗﻬﺎ ﰲ ﺑﻴﺖ أﺣﺪ أﻋﻀﺎﺋﻬﺎ اﻟﻄﺎﻟﺐ ﰲ
ﺗﺤﻔﻆ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻗﺬاﺋﻒ ﻣﻦ ﻛﻠﻴﺔ اﻟﴩﻳﻌﺔ؛ إذ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺨﻄﺐ اﻟﻌﻨﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻄﻠﻖ ﺑﻐري ﺗﺤ ﱡﺮج وﻻ ﱡ
ﺨﻔﻒ ﻣﻦ ﺣﻨﻘﻲ املﻜﺒﻮت ،وﻛﺎن ﻧﺼﻴﺒﻲ ﻣﻨﻬﺎ ﻻ ﻳﻔﻮﺗﻨﻲ ﻛﻠﻤﺎ اﺟﺘﻤﻌﻨﺎ ،ﻓﺄ ُ ِ
ﻓﺮغ اﻟﺮﺻﺎص ﺗُ ﱢ
ﻣﺎ ﰲ ﻗﻠﺒﻲ ﻣﻦ اﻟﺤﻨﻖ ﻋﲆ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ واﻟﻄﻐﻴﺎن واﻟﻔﺎﺟﺮ واﻟﻔﺠﻮر ،ﻏري ﻣُﺘﻮ ﱢرع ﻋﻦ اﻟﺘﴫﻳﺢ
وﻟﺴﺖ أدري ﻛﻴﻒ ﺧﻔﻴﺖ ﻫﺬه اﻷﺣﺎدﻳﺚ ﻋﻦ آذان ﺟﻮاﺳﻴﺲ اﻟﺤﻜﻢ، ُ ﺑﺄﻧﻪ اﻟﻔﺮﻋﻮن اﻟﻘﺰم،
ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻟﻮ ﺑﻠﻐﺘْﻬﺎ ملﺎ اﺣﺘﺎﺟﺖ اﻟﻨﻴﺎﺑﺔ إﱃ ﺗﻔﺴري أو ﺗﺄوﻳﻞ ﰲ إﺛﺒﺎت ﺗُﻬﻤﺔ اﻟﻌﻴﺐ اﻟﺘﻲ ﻗﻀﺖ
ﺧﻤﺴﺔ أﺷﻬﺮ ﰲ إﺛﺒﺎﺗﻬﺎ ﻋﲇ ﱠ ﰲ املﺮة اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وﻟﻜﻨﻲ ﻛﻨﺖ ﰲ ﻛﻞ ﻣﺮة أذﻫﺐ ﻓﻴﻬﺎ إﱃ ﺗﻠﻚ
اﻟﺠﻠﺴﺎت اﻟﺤﺎﻣﻴﺔ أﻋﻮد إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻲ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻠﻴﻞ ﺑﺄﻋﺼﺎب ﻣﺸﺪودة ﺗﻜﺎد ﺗﺘﻤ ﱠﺰق ،وﻛﺎن
ﻳﻀﺎﻳﻘﻨﻲ ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌني ﰲ اﻷﻧﺪﻳﺔ واﻟﻘﻬﺎوي أﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن ﻏﻀﺒًﺎ ،إﻻ إذا ﺗﺤﺪﺛﻮا ﻋﻦ
ﻏﻼء اﻟﻄﻌﺎم واﻟﻜﺴﺎء أو ﻛﺴﺎد اﻟﺘﺠﺎرة أو ﻣﺎ ﻳُﻤﺎﺛﻞ ﻫﺬا ﻣﻦ ﻫﻤﻮم اﻟﺤﻴﺎة ،وﻻ ﻳﻜﺎدون
ﻳﺘﺤﺮﻛﻮن ﻟﻔﻘﺪان اﻟﻜﺮاﻣﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ أو اﻟﺤﺮﻳﺎت أو اﻟﻌﺪاﻟﺔ؛ وﻟﻬﺬا ُ
ﻛﻨﺖ أﻗﱰب ﻳﻮﻣً ﺎ ﺑﻌﺪ ﻳﻮم
ووﻗﻔﺖ ﻛ ﱠﻞ أﻣﲇ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻻ وﺟﻮد
ُ آﻣﻨﺖ ﺑﻬﺎ وﺗﻤﻨﻴﺘُﻬﺎ
ُ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻟﻔﺸﻞ ،وأن اﻟﺜﻮرة اﻟﺘﻲ
ﺧﻔ َﻖ أﺟﻨﺤﺘﻬﺎ ﰲ اﻟﻈﻼم وﺑﺪأت أرى أن اﻟﺜﻮرة اﻟﺘﻲ أرى ﻋﻼﻣﺎﺗﻬﺎ وأﺣﺲ ْ ُ ﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﻘﻠﻮب،
ُ ُ
وﺑﺪأت أﺷﻔﻖ وأﺗﻮﺟﱠ ﺲ ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻮى ﺛﻮرة أﺑﺪان أو ﺛﻮرة ﺧﺬﻻن ﻛﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ أﺣﺮﻗﺖ اﻟﻘﺎﻫﺮة،
وﻳﺄﺳﺎ ،وﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم ﻛﻨﺖ أؤدﱢي ﻓﺮﻳﻀﺔ اﻟﺠﻤﻌﺔ ﰲ ﻣﺴﺠﺪ ً ﺣﺘﻰ اﻣﺘﻸ ﻗﻠﺒﻲ ﻏﻤٍّ ﺎ وﻫﻤٍّ ﺎ
ﱠ
وﻛﺄن اﻟﺤﺴني ،وﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺻﻒ ﺣﺎﱄ وأﻧﺎ ﻗﺎﺋﻢ أﺻﲇ ،ﻛﻨﺖ ﻻ أﻣﻠﻚ دﻣﻌﻲ وأﻧﺎ أﻗﺮأ،
ﻛﻞ ﻋِ ﺮق ﰲ ﺑﺪﻧﻲ ﻳَﻨﺘﻔﺾ ﻣﻦ ﺣﺰن ﻏﺎﻣﺾ ،وﻛﺎن ﻳﺴﺘﻮﱄ ﻋﲇ ﱠ ﺷﻌﻮر ﻳﺸﺒﻪ ﺷﻌﻮري ﻋﻘﺐ
246
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻮاﺣﺪ واﻟﺜﻼﺛﻮن
وﻓﺎة أﺑﻲ وأﻧﺎ ﻓﺘًﻰ ﺻﻐري ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ُﺧﻴﱢﻞ إﱄ ﱠ أﻧﻨﻲ أﻋﻴﺶ ﰲ ﻓﻀﺎء ﻻ وﻃﺎء ﻣﻦ ﺗﺤﺘﻲ وﻻ ﻏﻄﺎء
ﻣﻦ ﻓﻮﻗﻲ ،وﺣﺎوﻟﺖ ﺟﻬﺪي أن أﺗﻤﺎﺳﻚ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺪﻣﻮع ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻐﻠﺒﻨﻲ ،وملﺎ ﻓﺮﻏﺖ ﻣﻦ اﻟﺼﻼة
ﺟﺎﻟﺴﺎ إﱃ ﺟﻨﺒﻲ ،وﺳﻤﻌﺘُﻪ ﻳﻘﻮل ﱄ» :أﻳﻦ ً رأﻳﺖ »ﺧﴬﺟﻲ« ﺳﺎﻋﻲ ﻣﻜﺘﺒﻲ ﰲ ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار
ﻗﺎﺋﻼ» :ﻛﻴﻒ أﺣﻮاﻟﻚ وﻣﻀﺖ ﻟﺤﻈﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻗﺒﻞ أن أﺳﺘﻄﻴﻊ إﺟﺎﺑﺘﻪ ً َ أﻧﺖ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ؟«
ﻳﺎ أﺧﻲ؟«
ﻓﻘﺎل وﻫﻮ ﻳُﺼﺎﻓﺤﻨﻲ» :ﺣﺮﻣً ﺎ! ﺗﺸﺠﱠ ﻊ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ!«
ﻜﺮ ﻋﻤﻴﻖ ،وﻗﻠﺖ ُ ُ
وﺷﻌﺮت ﻧﺤﻮه ﺑﺸ ٍ ﻓﺘﺬﻛﺮت ﻛﻠﻤﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻟﻬﺎ ﱄ ﻳﻮﻣً ﺎ وأﻧﺎ ﰲ املﺤﻜﻤﺔ،
ﻣﺠﻴﺒًﺎ :ﺟﻤﻌً ﺎ إن ﺷﺎء ﷲ! أﺷﻜﺮك ﻳﺎ ﺻﺪﻳﻘﻲ.
وﺿﻐﻂ ﻋﲆ ﻳﺪي ﻗﺒﻞ أن ﻳُﺮﺳﻠﻬﺎ وﻗﺎل :اﻷﺳﺘﺎذ ﻳﺴﺄل ﻋﻨﻚ ﻛﻞ ﻳﻮم.
ً
ﻣﺘﻜﻠﻔﺎ اﻟﻬﺪوء :وﻛﻴﻒ ﺣﺎﻟﻪ؟ ﻓﻘﻠﺖ
ﻓﻘﺎل :ﻣﺴﻜني ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ ،ﺻﺎر ﻻ ﻳُﻄﻴﻖ ﺷﻴﺌًﺎ ،اﻧﺘﻬَ ﺖ ﻣَ ﺠﺎﻟﺴﻪ اﻟﺤﺎﻓﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ
ﺗﺆﻧﺲ اﻟﺠﺮﻳﺪة ،وﰲ ﻛﻞ ﻳﻮم ﻣﺼﺎدَﻣﺔ ﻣﻊ ﻣُﺤ ﱢﺮر أو آﺧﺮ ،وأﻇﻨﻪ اﺳﺘﺨﺮج ﺟﻮا ًزا ﻟﻠﺴﻔﺮ
وﺗﺬﻛﺮت ﻛﻴﻒ ﻛﺎن ﻳﻜﺮﻣﻨﻲ ُ إﱃ أوروﺑﺎ ،وﻟﻢ ﻳﺨ ُﻞ ﻗﻠﺒﻲ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻷﺳﻒ واﻟﻌﻄﻒ،
ُ
ﻓﺘﻤﺴﻜﺖ وﻛﻴﻒ ﻛﺎن ﻳﺸﺎرﻛﻨﻲ ﰲ ﻣﺸﺎﻋﺮي ،وﻗﻤﺖ ﻣﻊ »ﺧﴬﺟﻲ« ﺧﺎرﺟَ ني ﻣﻦ املﺴﺠﺪ،
ﺑﻪ ﻟﻴﺘﻐﺪى ﻣﻌﻲ ،وذﻫﺒﻨﺎ إﱃ ﻣﻄﻌﻢ اﻟﺪﻫﺎن ﻛﻤﺎ ﺗﻌﻮدت أن أذﻫﺐ ﰲ ﻛﻞ ﺟﻤﻌﺔ ﻛﺄﻧﻨﻲ
أدﱠﺧﺮ ﻣﻨﻪ ذﺧرية ملﺪة اﻷﺳﺒﻮع ،وﻗﻀﻴﻨﺎ ﻣﻌً ﺎ ﺑﻀﻊ ﺳﺎﻋﺎت ﺳﻌﻴﺪة ﺑني اﻟﻐﺪاء وﺑني ﴍب
اﻟﺸﺎي ﰲ ﻣﻘﻬﻰ اﻟﻔﻴﺸﺎوي ،وﻻ أُﺧﻔﻲ أﻧﻨﻲ ﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺷﻌﺮت ﺑﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﻌﺎدة ﰲ ﻣﺮاﻓﻘﺔ
»ﺧﴬﺟﻲ« واﻟﺘﻤﺘﱡﻊ ﺑﺤﺪﻳﺜﻪ ،أﺣﺴﺴﺖ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻈﺎت ﺑﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺨﺠﻞ ﻣﻦ أن ﻳﺮاﻧﻲ
ﻛﺒﺤﺖ ﻫﺬا اﻹﺣﺴﺎس ﰲ ﺣﻨﻖ ،وﻛﺮرت ُ ﺳﺎع ﰲ ﺑﺪﻟﺘِﻪ اﻟﺼﻔﺮاء ،وﻗﺪ ً
ﺟﺎﻟﺴﺎ ﻣﻊ ٍ ﺑﻌﺾ ﻣﻌﺎرﰲ
ﻟﻨﻔﴘ أن ﻫﺬا اﻟﺴﺎﻋﻲ ﻟﻮ وﻗﻒ أﻣﺎم ﷲ إﱃ ﺟﻨﺐ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ ﻟﻜﺎن ﻫﻮ اﻷﻛﺮم ﻣﻜﺎﻧًﺎ.
ﻄﺎ ﻟﻢ أﺷﻌﺮ ﻣﻌﻪ ﺑﻤﴤﱢ اﻟﻮﻗﺖ ،ووﺟﺪﺗﻪ ﻣﻠﻤٍّ ﺎ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ وﺣﺪﺛﻨﻲ ﺧﴬﺟﻲ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﺑﺴﻴ ً
ﱠﻨﺖ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻠﻤﺢأﴎار اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،ﻓﺰاد ﻗﺪ ُره ﰲ ﻋﻴﻨﻲ ﻓﻮق ﻣﺎ ﻛﺎن ﻟﻪ ﻣﻦ ﻗﺪر ﰲ ﻧﻔﴘ ،وﺗﺒﻴ ُ
ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﻨﺎس إﻻ إذا ﻓﺘﺤَ ﺖ ﺷﺪاﺋﺪ اﻟﺤﻴﺎة أﻋﻴﻨﻨﺎ ،ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﺎ ﻳﻌﻴﺶ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻳُﻐﻠﻘﻪ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ،
وﻳﻘﻴﻢ ﺣﻮﻟﻪ اﻟﺤﻮاﺟﺰ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻧﺎﺣﻴﺔ ،ﻓﻼ ﻳﺒﴫ اﻵﺧﺮﻳﻦ إﻻ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ،وﻻ ﻳﻤﻴﺰ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻋﲆ
ﺑﻌﺾ إﻻ ﺑﻤﻈﺎﻫﺮﻫﻢ.
واﺳﺘﻤﺮ ﺧﴬﺟﻲ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻮع إﱃ آﺧﺮ ﺣﺘﻰ اﺳﱰﻋﻰ اﻫﺘﻤﺎﻣﻲ ﺑﻘﻮﻟﻪ ﻋﻦ
اﻷﺳﺘﺎذ ﻣﺨﺘﺎر :أﻇﻨﻪ ﺻﺎر ﻳﺨﴙ اﻟﺘﻮرط ،ﻛﻤﺎ ﻳﺨﴙ اﻟﻨﺰول إﱃ اﻟﺒﺤﺮ ﻣَ ﻦ ﻧﺠﺎ ﻣﻦ اﻟﻐﺮق.
ﻓﺴﺄﻟﺘﻪ :ﻣﺎذا ﺗﻘﺼﺪ؟
247
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻓﻀﻴﺤﺔ اﻷﺳﻠﺤﺔ! ﻻ ﻳﺮﴇ أن ﻳﻜﺘﺐ ﻋﻨﻬﺎ ،ﻣﻊ أﻧﻬﺎ ﻓﻤﺎل ﻋﲆ املﺎﺋﺪة اﻟﺘﻲ ﺑﻴﻨﻨﺎ ً
ﺗﻌﻴﺪ ﺗﻮزﻳﻊ اﻟﺠﺮﻳﺪة إﱃ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻛﺎن ﻗﺒﻞ إﻏﻼﻗﻬﺎ.
ﻓﻘﻠﺖ :وﻛﻴﻒ ذﻟﻚ؟
ﻗﺪﻣﺖ اﻟﻘﻬﻮة ﻣﻨﺬ ﻳﻮﻣني ﻟﻀﻴﻔﻪ وﺟﺪﺗﻬﻤﺎ ﻳﺘﻨﺎﻗﺸﺎن ﰲ ﳾء ﻣﻦ ُ ﻓﺄﺟﺎب :ﻋﻨﺪﻣﺎ
ﻓﻮﺿﻌﺖ اﻟﻔﻨﺠﺎﻧني وملﺤﺖ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻷﺳﺘﺎذ ﺗﻠﻚ اﻟﺴﺤﺎﺑﺔ ُ اﻟﺤﻤﺎﺳﺔ وأﻣﺎﻣﻬﻤﺎ ﻇﺮف ﻛﺒري،
اﻟﺘﻲ أﻋﺮﻓﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﰲ ﺣرية ،ﻛﺎن وﺟﻬُ ﻪ ﻣُﺤﺘﻘﻨًﺎ وﻧﻈﺮﺗﻪ ﺗﻄﻠﺐ اﻟﻨﺠﺪة ،وﻻ ﺗﺆاﺧﺬﻧﻲ
إذا اﻋﱰﻓﺖ ﻟﻚ أن اﻟﻔﻀﻮل دﻓﻌﻨﻲ إﱃ اﻟﺘﺠﺴﺲ ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﺧﺮج اﻷﺳﺘﺎذ ﻳُﺸﻴﱢﻊ ﺿﻴﻔﻪ ﻓﺘﺤﺖ
اﻟﻈﺮف ،وﻗﺮأت ﻋﻨﻮان املﻠﻒ» :ﻓﻀﻴﺤﺔ اﻷﺳﻠﺤﺔ اﻟﻔﺎﺳﺪة«.
ُﺘﻤﻬﻼ ووﺟﻬﻪ ﻳﺰداد اﺣﺘﻘﺎﻧًﺎ،
وملﺎ ﻋﺎد اﻷﺳﺘﺎذ ﻃﻠﺐ ﻓﻨﺠﺎﻧًﺎ آﺧﺮ ،وأﺧﺬ ﻳﻘﺮأ اﻷوراق ﻣ ً
وﻋﺎد اﻟﻀﻴﻒ ﺑﺎﻷﻣﺲ ،وﻛﺎﻧﺖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﺸﺎدة ﻋﻨﻴﻔﺔ ،وأرﺳﻠﻨﻲ اﻷﺳﺘﺎذ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻷﺳﺘﺨﺮج ﻟﻪ
ﺟﻮاز ﺳﻔﺮ إﱃ أوروﺑﺎ .أﻻ ﺗﺮى أﻧﻪ ﻳَﺨﺎف ﻣﻦ اﻟﺘﻮرط؟
أﻳﻦ ﺗُﻘﻴﻢ ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ؟
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺗﺮدد :ﰲ ﻓﻨﺪق اﻷﻣرية اﻟﺼﻐرية.
ﺳﻴﴪه ﺟﺪٍّا أن ﻳﻌﺮف ﻋﻨﻮاﻧﻚ ،ﻛﻞ ﻳﻮم ﻳﺴﺄل ﻋﻨﻚ ،إﱃ ﱡ ﻓﻘﺎل وﻫﻮ ﻳﻬ ﱡﻢ ﺑﺎﻻﻧﴫاف:
اﻟﻠﻘﺎء ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ.
وﺑﻘﻴﺖ وﺣﺪي أﺟﱰﱡ ﻣﺎ ﺳﻤﻌﺘﻪ ﻋﲆ ﻣﻬﻞ ُ وﻣﴣ ﺑﻌﺪ أن ﺣﻴﺎﻧﻲ ﺗﺤﻴﺔ ﺣﺎرة وﺷ َﻜﺮﻧﻲ،
ﻣﻊ ﻛﺄس أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺸﺎي ،وﺧﻄﺮ ﱄ أن اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﻟﻴﺲ وﺣﺪه اﻟﺬي ﻳُﺸﻔﻖ ﻋﲆ
ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ اﻟﺘﻮرط ،وأي ﻋﺎﻗﻞ ﻻ ﻳَﺨﴙ أن ﻳﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﺴﺠﻦ ﺑﻌﺪ أن ﻳﺬوﻗﻪ ﻣﺮة؟ ذﻟﻚ اﻟﺴﺠﻦ
اﻟﺬي ﻳُﺤﻮﱢل اﻟﻘﺎﺗﻞ اﻟﺠﺒﺎر إﱃ ﺟﺒﺎن ﻳﺮﺗﻌﺪ ﻫﻠﻌً ﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ ُ
ﻋﺪت إﱃ ﻧﻔﴘ أﻗﻮل :إن اﻟﻠﻮم ﻋﻠﻴﻨﺎ
إذا ﺗﺮﻛﻨﺎ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﻟﻬﺬا اﻟﺨﻮف ﻳﻨﺤﺮف ﺑﻨﺎ ﻋﻦ ﻏﺎﻳﺘﻨﺎ ،ﻓﻠﻮ ﺧﴚَ املﺠﺎﻫِ ﺪ ﰲ ﻣﻴﺪان اﻟﻘﺘﺎل أن
ﻳﺼﺎب ﺑﺠﺮح ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ ملﺎ ﻋﺎد إﱃ املﻴﺪان أﺑﺪًا ،واﻟﺬي ﻳﻨﺠﻮ ﻣﻦ اﻟﻐﺮق ﻣﺮة ﻟﻦ ﻳﻨﺰل إﱃ
املﺎء إذا ﻟﻢ ﻳﻘﺎوم ﺧﻮﻓﻪ ﻣﻦ اﻟﻐﺮق.
ﻣﻀﻴﺖ ﰲ أﻓﻜﺎري ﺣﺘﻰ ﺻﺎرت اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﻈﻬﺮ ،ﻓﻘﻤﺖ أﺳري ﻋﲆ ُ وﻫﻜﺬا
ﻗﺪﻣﻲ ﻧﺤﻮ دار ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار؛ ﻷﻟﻘﻰ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر.
248
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﲏ واﻟﺜﻼﺛﻮن
ﻟﻢ ﻧﻠﺒَﺚ ﺑﻌﺪ أن ﻟﻘﻴﺖ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر أن ﺑﺪأﻧﺎ املﻌﺮﻛﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ ،وأﺧﺬﻧﺎ ﻧُﻮاﺟﻪ املﻮﻗﻒ ﰲ
ﴏاﺣﺔ؛ ﻓﻔﻲ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ ﻟﻌﻮدﺗﻲ إﱃ »ﺑﺮﻳﺪ اﻷﺣﺮار« ﻧُﴩ املﻘﺎل اﻟﺬي ﻛﺘﺒﺘﻪ ﺑﻌﻨﻮان ﻋﺮﻳﺾ
ﻋﲆ أﻧﻬﺎر اﻟﺼﻔﺤﺔ اﻷوﱃ ﻛﻠﻬﺎ» :اﻟﺨﻴﺎﻧﺔ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ اﻟﻜﱪى – ﻓﻀﻴﺤﺔ اﻷﺳﻠﺤﺔ اﻟﻔﺎﺳﺪة –
ﻧﻘﺘﻞ أﺑﻨﺎءﻧﺎ ﺑﺄﻳﺪﻳﻨﺎ!«
ُﺨﻒ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر ﺷﻌﻮره اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ دﺧﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح وﻛﺎن وﻟﻢ ﻳ ِ
ﻳﻘﺮأ املﻘﺎل؛ إذ ﻗﺎل ﱄ ﺑﻐري ﻣﻮارﺑﺔ :ﻫﻲ ﻣﻌﺮﻛﺔ اﻟﺤﻴﺎة أو املﻮت ﻳﺎ أﺳﺘﺎذ ﺳﻴﺪ.
ﱡ
ﺗﺴﺘﺤﻖ اﻟﺤﻴﺎة أن ﻧﺤﺮص ﻋﻠﻴﻬﺎ إذا اﺳﺘﻤﺮت ﻓﻘﻠﺖ :ﺑﻞ ﻣﻌﺮﻛﺔ اﻟﺤﻴﺎة ﻳﺎ ﺳﻴﺪي ،وﻫﻞ
ﻫﻜﺬا؟
ﻓﻀﺤﻚ ً
ﻗﺎﺋﻼ :ﻛﻠﻤﺔ ﺟﻤﻴﻠﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺴﻤﻌﻬﺎ ﺑﺂذاﻧﻨﺎ ﻓﻘﻂ.
ﻓﻘﻠﺖ ﺟﺎدٍّا :ﺑﻞ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﺟﻤﻴﻠﺔ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻧﺆﻣﻦ ﺑﻬﺎ ،ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أن ﻧﺤﺐﱠ اﻟﻌﺎﻓﻴﺔ وﻧﺘﺤﺎﳽ
أﻳﻀﺎ أن ﻧﺨﻮض ﻣﻌﺮﻛﺔ.اﻵﻻم واملﺘﺎﻋﺐ ،وﻟﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ً
أﻳﻀﺎ إﻧﻬﺎ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻣﻬﻨﺘﻨﺎ ،ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﺤﺠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻠﻨﻲ أُﻟﻘﻲ ﺳﻼﺣﻲ،
ﻓﻘﺎل ﺑﺎﺳﻤً ﺎ :ﻗﻞ ً
وﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ﻟﻢ ﻳُﺼﺎدَر ﻋﺪد اﻟﻴﻮم ،وﻫﺬا دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أن اﻟﻘﺬﻳﻔﺔ أﺻﺎﺑﺖ ﻫﺪﻓﻬﺎ.
وأدﻫﺸﻨﻲ ﻣﻦ اﻷﺳﺘﺎذ ﻋﲇ ﻣﺨﺘﺎر أﻧﻪ ﺑﺪأ ﻳﺘﺤﻮﱠل إﱃ ﳾء ﻳُﺸﺒﻪ ﺣﺎﻟﻪ اﻷوﱃ ﺑﻌﺪ ﺑﻀﻌﺔ
أﻳﺎم ،وﻧﺸﻂ ﻣﻦ اﻟﻔﺘﻮر اﻟﺬي ﻃﺮأ ﻋﻠﻴﻪ ،وﻋﺎد ﻣﻜﺘﺒﻪ ﰲ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ﻣﻨﺘﺪًى ﺳﻴﺎﺳﻴٍّﺎ ﻳَﻀﻄﺮم
ﺑﺎﻟﺜﻮرة.
وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻣﻊ ذﻟﻚ ﻻ ﻳﺨﻠﻮ ﻣﻦ اﻟﺘﻮﺟﱡ ﺲ؛ ﻓﻔﻲ ﻛﻞ ﺻﺒﺎح ﻳُﺒﺎدرﻧﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ أذﻫﺐ إﻟﻴﻪ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻟﻢ ﻳﺼﺎدر ﻋﺪد اﻟﻴﻮم ً
أﻳﻀﺎ. ً
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
وﺷﻐﻠﺘﻨﻲ املﻌﺮﻛﺔ اﻟﻌﻨﻴﻔﺔ ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء ﺣﺘﻰ ﻋﻦ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ وﻋﻦ ﻣﻨﻰ ،وﻋﺎدت اﻟﺜﻮرة
ﻧﺘﻮﻗﻊ أن ﺗﻨﺪﻟﻊ ﰲ ﻛﻞ ﺻﺒﺎح ،وﻣﺎذا ﻛﺎن ﻳﺠﻌﻠﻨﺎﺗﺨﻔﻖ ﰲ ﻗﻠﺒﻲ وﺗﻀﻄﺮم ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ،وﻛﻨﺎ ﱠ
ﻧُﺸﻔﻖ ﻣﻦ اﻟﺜﻮرة؟ ﻛﺎن اﻟﻴﺄس ﻳﺪﻓﻌﻨﺎ إﱃ ﻃﻠﺐ اﻟﺘﻐﻴري وﻟﻮ إﱃ ﺣﺮﻳﻖ آﺧﺮ ،وﻛﻤﺎ ﻳﺤﺪث
ﻟﻠﻤﻘﺎﺗﻞ إذا ﺣﻤﻲ اﻟﻘﺘﺎل ﻓﺠﻌﻠﻪ ﻻ ﻳﻔﻜﺮ ﰲ ﳾء ﻏري اﻟﻘﺘﺎل ،ﺟﻌﻠﺘْﻨﺎ املﻌﺮﻛﺔ اﻟﺼﺤﻔﻴﺔ ﻻ
ﻧُﻔﻜﺮ ﰲ ﳾء ﺳﻮى اﻟﻔﻀﻴﺤﺔ املﻘﺒﻠﺔ؛ ﻓﻀﻴﺤﺔ اﻟﻘﻄﻦ وﻓﻀﻴﺤﺔ اﻟﺒﻮرﺻﺔ وﻓﻀﻴﺤﺔ ﺗﺠﺎرة
املﺨﺪرات وﻓﻀﻴﺤﺔ اﻻﻏﺘﻴﺎﻻت اﻟﺠﻬﻨﻤﻴﺔ وﻋﴩات أﺧﺮى ،ﻛﻞ واﺣﺪة ﺗُﺜري زوﺑﻌﺔ ﻗﺒﻞ أن ﺗﻬﺪأ
اﻟﺘﻲ ﺳﺒﻘﺘﻬﺎ ،وﰲ ﻏﻤﺎر ﻫﺬه املﻌﻤﻌﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨرية ﺗﺒﻌﺚ إﱄ ﱠ ﺧﻄﺎﺑﺎﺗﻬﺎ ﺑﻐري اﻧﻘﻄﺎع ،وﻛﻞ
ﻣﻨﻬﺎ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﺑﺎﻟﻌﺒﺎرة املﺄﻟﻮﻓﺔ» :ﻣﻨﻰ ﺗﺴﻠﻢ ﻋﻠﻴﻚ وﺗﺴﺄل ﻋﻨﻚ «.ﻓﺄﻃﻮي اﻟﺨﻄﺎب ﰲ ﳾء ﻣﻦ
اﻟﺤﻨﻖ ،وأﺿﻌﻪ ﰲ درج ﻣﻜﺘﺒﻲ ،وأُرﺳﻞ ﺟﻮاﺑًﺎ ﻗﺼريًا أرد ﻓﻴﻪ اﻟﺘﺤﻴﺔ اﻟﺠﻮﻓﺎء ﺑﻤﺜﻠﻬﺎ» :أرﺟﻮ
أن ﺗﺒﻠﻐﻲ ﻣﻨﻰ ﺳﻼﻣﻲ وﺳﺆاﱄ ﻋﻨﻬﺎ«.
ﻫﻜﺬا ﻣﻀﺖ اﻷﺷﻬﺮ واﺣﺪًا ﺑﻌﺪ واﺣﺪ ﺣﺘﻰ أﺗﻰ إﱄ ﱠ ﺧﻄﺎب ﻣﻦ ﻣﻨرية ،ﻓﻘﺮأﺗﻪ ﻣﴪﻋً ﺎ،
وﺟﺪت ﺗﻐﻴريًا ﰲ اﻟﺨﺎﺗﻤﺔ» :ﻣﻨﻰ ﺗﺴﺄل ﻋﻨﻚُ وﻛﺪت أﺿﻌﻪ ﻣﻊ اﻟﺨﻄﺎﺑﺎت اﻷﺧﺮى ﻟﻮﻻ أﻧﻲ
ﻓﻮﺿﻌﺖ اﻟﺨﻄﺎب أﻣﺎﻣﻲ ،وﻧﻈﺮت إﱃ اﻟﻔﻀﺎء ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﻮرة ﻣﻨﻰ. ُ وﻫﻲ ﻣﺘﺄملﺔ ﻣﻨﻚ«.
ﻣﺎذا ﺗﻨﺘﻈﺮﻳﻦ ﻣﻨﱢﻲ؟ وأﻳﻨﺎ اﻟﺬي ﻳﻐﻀﺐ وﻳﺘﺄﻟﻢ؟ ﻫﻜﺬا ﻗﻠﺖ ﰲ ﻧﻔﴘ وﻧﻈﺮت إﱃ اﻟﺴﺎﻋﺔ
وﻗﻤﺖ ﻷﺳﺘﺄذن ﰲ إﺟﺎزة ﻗﺼرية ،وأﴎﻋﺖ إﱃ املﺤﻄﺔ ﻷﺳﺎﻓﺮ، ُ ﻓﻮﺟﺪﺗﻬﺎ اﻟﺤﺎدﻳﺔ ﻋﴩة،
وأﺧﺬت ﻣﻌﻲ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﻷﻗﻄﻊ ﻋﲆ ﻗﺮاءﺗﻪ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺣﺘﻰ ﻻ أﺣﺲ ﻃﻮل اﻟﺴﻔﺮ ،وذﻫﺒﺖ ﻣﻦ
ﺗ ﱢﻮ وﺻﻮﱄ إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ﻗﺎﺻﺪًا إﱃ ﺑﻴﺖ ﻣﻨﻰ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺮاﺑﻌﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻃﺮﻗﺖ اﻟﺒﺎب،
وﻋﺮﻓﺘْﻨﻲ اﻟﺨﺎدﻣﺔ ﻓﻔﺘَﺤَ ﺖ ﱄ ﻏﺮﻓﺔ اﻻﺳﺘﻘﺒﺎل.
ووﺿﻌﺖ اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﻌﻲ ﻋﲆ ﻣﻨﻀﺪة، ُ وﻛﺎن اﻟﺠﻮ ﺣﺎ ٍّرا ﻓﺨﻠﻌﺖ ﻃﺮﺑﻮﳾ،
ُ
ﻟﻘﻴﺖ ﻣﻨﻰ ،ﻛﺎﻧﺖ وﻣﻜﺜﺖ ﺑﻀﻊ دﻗﺎﺋﻖ أﻧﻈﺮ ﺣﻮﱄ إﱃ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻐﺮﻓﺔ وأﻧﺎ أﻓﻜﺮ ﻓﻴﻤﺎ أﻗﻮل إذا ُ
اﻟﻐﺮﻓﺔ ﻛﻤﺎ ﺗﺮﻛﺘﻬﺎ آﺧﺮ ﻣﺮة ،اﻟﺼﻮرة اﻟﺤﺰﻳﻨﺔ املﺠ ﱠﻠﻠﺔ ﺑﺎﻟﺴﻮاد ،واﻟﺴﺘﺎﺋﺮ املﻘﻠﻮﺑﺔ ،واﻷواﻧﻲ
املﻨﻜﺴﺔ ،وزادﻫﺎ ﻛﺂﺑﺔ ﳾء ﻣﻦ اﻹﻫﻤﺎل ﰲ اﻟﱰﺗﻴﺐ واﻟﺘﻨﻈﻴﻒ ،وﻛﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻣﻤﺘﻠﺌًﺎ ﺑﺎﻹﺷﻔﺎق
واﻟﺤﺰن ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺟﺎءت ﻣﻨﻰ ﻣﺜﻞ زﻧﺒﻘﺔ ﻣﴩﻗﺔ ،وﻣﻼﺑﺴﻬﺎ اﻟﺴﻮد ﺗﺠﻌﻞ ﻋﲆ وﺟﻬﻬﺎ ﻣﺴﺤﺔ
ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺮة ،وﻛﺎن وﺟﻬﻬﺎ اﻟﺒﺎﺳﻢ وﻋﻴﻨﺎﻫﺎ اﻟﺼﺎﻓﻴﺘﺎن ﺗﻘﻮﻻن ﻣﻊ ﻟﺴﺎﻧﻬﺎ» :ﻣﺮﺣﺒًﺎ ،اﻟﺤﻤﺪ
وﻣﺪدت ﻳﺪيﱠ اﻻﺛﻨﺘَني ﻵﺧﺬ ﻳﺪﻳﻬﺎ وأﺿﻐﻂ ﺑﻬﻤﺎ ﻋﲆ ﺻﺪري ،وأﻧﺎ ﻻ أدري ُ هلل ﻋﲆ اﻟﺴﻼﻣﺔ!«
ﻣﺎذا ﻓﻌﻠﺖ ،وﻛﺎن ﺧﻔﻘﺎن ﻗﻠﺒﻲ ﻳﺤﻮل ﺑﻴﻨﻲ وﺑني اﻟﻨﻄﻖ ،وﻗﺎﻟﺖ ﻣﻨﻰ وﻫﻲ ﺗﺠﺬب ﻳﺪﻳﻬﺎ:
أﻫﻜﺬا ﻻ ﺗﺄﺗﻲ إﻟﻴﻨﺎ إﻻ ﺑﺈﻧﺬار؟
ﻓﻘﻠﺖ ﰲ ﺣﺮارةُ :
ﻛﻨﺖ ﰲ اﻻﻧﺘﻈﺎر داﺋﻤً ﺎ.
250
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ واﻟﺜﻼﺛﻮن
251
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ﻟﺤﻤﺎدة اﻷﺻﻔﺮ ،ﻣﻊ أن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وإﻳﺮاد اﻟﻌﺰﺑﺔ اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ ﻳﻬﺒﻂ إﱃ اﻟﻨﺼﻒ،
ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﻓﺪان ﻻ ﻳﺰﻳﺪ إﻳﺮادﻫﺎ ﻋﲆ ﻋﴩة آﻻف ﺟﻨﻴﻪ ﻣﻊ أﻧﻬﺎ ﻣﻦ أﺟﻮد اﻷﻃﻴﺎن ،واﻟﺤﺪﻳﻘﺔ
أﻟﻔﺎ ،اﻷﺳﻌﺎر ﻫﺎﺑﻄﺔ ﻟﻮرﺛﺔ اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﺧﺎﺻﺔ، ﻣﺎﺋﺔ ﻓﺪان ﻻ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﺄﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻋﴩﻳﻦ ً
واﻷﻗﻄﺎن ﻻ ﻳَﺒﻴﻌُ ﻬﺎ ﺑﺴﺒﻌﺔ وﻋﴩﻳﻦ ﺟﻨﻴﻬً ﺎ؛ ﻷن اﻟﱪملﺎن ﺳريﻓﻊ اﻷﺳﻌﺎر ،ﺛﻢ ﻳﻨﺤ ﱡﻞ اﻟﱪملﺎن
واﻟﺴﻴﺪ ﻣﺤﻤﻮد ﺧﻠﻒ ﻳﺒﻘﻰ ﰲ ﻣﴫ ﻟﻴﻤﴚ ﻋﲆ ﻫﻮاه ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺎﻟﺒﺎﺷﺎ ﻳﻄﻠﺐ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻳﻮم
اﻻﺣﺘﻔﺎل ﺑﺎﻟﻌﻘﺪ ﻛﺄن اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل ﻣﺎت ﻣﻦ ﻋﺪة ﺳﻨني ،وإذا ﻃﻠﺒﻨﺎ اﻟﺘﺄﺟﻴﻞ إﱃ ﺑﻌﺪ
ﻣﺮور ﺳﻨﺔ ﻋﲆ اﻟﻮﻓﺎة أﴏ اﻟﺒﺎﺷﺎ ﻋﲆ ﺗﺼﻔﻴﺔ اﻟﺤﺴﺎب وأﺧﺬ اﻷﻃﻴﺎن ،ﻛﻞ اﻷﻃﻴﺎن ،ﺛﻤﺎﻧﻤﺎﺋﺔ
ﻓﺪان ﻣﻦ أﺟﻮد اﻷﻃﻴﺎن ،وﻣﻦ اﻟﺒﺴﺎﺗني ﰲ ﻧﻈري دﻳﻮﻧﻪ ،وﻣﻨﻰ ﺗﺰﻳﺪ اﻷﻣﻮر ﺗﻌﻘﻴﺪًا ﺑﺈﴏارﻫﺎ
ﻋﲆ اﻟﺮﻓﺾ.
وﻧﻈﺮت إﱃ ﻣﻨﻰ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺻﻠﺖ إﱃ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻗﺎﻟﺖ :اﻧﻈﺮ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﻛﻴﻒ ﺻﺎرت
ﻋﻘﻮل ﺑﻨﺎﺗﻨﺎ؟
وﻗﺎﻣﺖ ﻣﻨﻰ ﺧﺎرﺟﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻓﺔ ،ﻓﺎﺳﺘﻄﻌﺖ أن أﻗﻮل :أﻇﻦ أن ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﺗﺤﺘﺎج إﱃ
روﻳﱠﺔ ،وﻻ ﻓﺎﺋﺪة ﻣﻦ ﴎدﻫﺎ ﻫﻜﺬا.
ﻓﻘﺎﻟﺖ اﻟﺴﻴﺪة :وﻣﺎذا ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ؟ ﻧﺤﻦ ﰲ ﻳﺪ اﻟﺒﺎﺷﺎ.
ﻓﻘﻠﺖ :ﻫﺬا ﻣﺎ أﻗﺼﺪه ﺑﻘﻮﱄ :إن ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﺗﺤﺘﺎج إﱃ اﻟﺮوﻳﺔ ،ﺣﺘﻰ ﻻ ﻧﴬ ﺑﻤﺼﻠﺤﺘﻜﻢ
وﻻ ﺑﻤُﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻨﻰ.
ُ
ﺣﻘﺎ إن ﻣﺤﻤﻮد وﻟﺪ ﻓﺎﺳﺪ ،وﻟﻜﻦ ﻫﻜﺬا اﻟﺸﺒﺎن اﻟﻴﻮم ،وأﻇﻨﻚ ﺗﻮاﻓﻖ أن ﻧﺘﴫف ﻓﻘﺎﻟﺖٍّ :
ﺑﺤﻜﻤﺔ.
أوﻻ أن ﻧُﻔ ﱢﺮق ﺑني ﺗﺴﻮﻳﺔ املﺼﺎﻟﺢ وﺑني ﻣﻮﺿﻮع اﻟﻌﻘﺪ. ﻓﻘﻠﺖ :املﻬﻢ ً
ﻓﻘﺎﻟﺖ :اﺳﻤﻊ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ،أﻧﺖ ﻣﺜﻞ وﻟﺪي واﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﻛﺎن ﻳﻘﻮل إﻧﻚ ﺷﺎب ﻋﺎﻗﻞ
وﻣﺜﻞ وﻟﺪه ،وﻳﺠﺐُ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺘﴫﱠ ف ﺑﺤﻜﻤﺔ .ﻳﻌﻨﻲ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ﻧﻀﻴﻊ أﻧﻔﺴﻨﺎ؟ ﻣﺎ ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا
أﻟﺴﺖ ﺗُﻮاﻓﻘﻨﻲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪ ﻋﲆ رأﻳﻲ؟ َ اﻟﻌﻨﺎد وﻛﻠﻤﺎ ﻛﻠﻤﺘﻬﺎ ﻗﺎﻟﺖ» :ﻳﻜﻔﻴﻨﺎ أﻗ ﱡﻞ ﻣﺎ ﻋﻨﺪﻧﺎ«
وﺳﻜﺘﺖ اﻟﺴﻴﺪة ﺗﻨﺘﻈﺮ ﺟﻮاﺑﻲ ،وﻛﻨﺖ ﻻ أﻋﺮف إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻣﺎ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي ﺣﻤَ ﻠﻨﻲ
ُ
وﻛﺪت أﺻﻴﺢ ﻋﲆ اﻹﴎاع إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ﻫﻜﺬا ،وﺷﻌﺮت ﺑﺄﻧﻲ ﰲ أﺣﺮج ﻣﻮﻗﻒ وﻗﻔﺘُﻪ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻲ،
ﻗﺎﺋﻼ ﻟﻠﺴﻴﺪة» :ﻫﻞ ﻣﻨﻰ ﺟﺎرﻳﺔ؟ ﻫﻞ ﺗﺮﻳﺪﻳﻦ ﺑﻴﻌﻬﺎ؟« ً
وﻗﻠﺖ ﺑﻌﺪ ﺻﻤﺖ ﻃﻮﻳﻞ :املﺴﺄﻟﺔ دﻗﻴﻘﺔ ﻳﺎ ﺳﻴﺪﺗﻲ ،وﺗﺤﺘﺎج إﱃ ﻛﻞ ﺣﻜﻤﺘﻨﺎ ،وأول ﻣﺎ
ﻳُﻬﻤﱡ ﻨﺎ ﻫﻮ ﻣﻨﻰ ﻧﻔﺴﻬﺎ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ :ﻃﺒﻌً ﺎ ﻳﺎ اﺑﻨﻲ ،ﻫﺬا ﻣﺎ أﻗﻮﻟﻪ ﻟﻬﺎ ،ﻫﻲ أول ﻣﺎ ﻳُﻬﻤﱡ ﻨﺎ ﻃﺒﻌً ﺎ ،وﻻ ﻧﺮﻳﺪ إﻻ أن ﻧﺨﺘﺎر
أﺣﺴﻦ ﳾء ﻟﻬﺎ.
252
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ واﻟﺜﻼﺛﻮن
253
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
254
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ واﻟﺜﻼﺛﻮن
وﻧﻈﺮت إﱃ ﻋﻴﻨَﻴﻬﺎ ،وﻫﻲ ﺗﺮﻓﻊ وﺟﻬﻬﺎ إﱄ ﱠ ،وﻛﺎﻧﺘﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﺒﺤﺮ اﻟﺼﺎﰲ اﻟﻌﻤﻴﻖ ﰲ ﻳﻮم ُ
ﻣﻦ أﻳﺎم اﻟﺮﺑﻴﻊ اﻟﻬﺎدﺋﺔ ،ودﺧﻠﻨﺎ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ اﻟﻀﻴﻮف ﻷﺳﺘﻌﻴﺪ ﻃﺮﺑﻮﳾ وﻛﺘﺎﺑﻲ ،ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻣﻨﻰ:
ﻟﻢ ﺗَ ُﻘﻞ ﺑﻌﺪ إﻧﻚ ﺳﺘﺄﺗﻲ ﻣﻌﻨﺎ.
وﻛﺎن وﺟﻬُ ﻬﺎ ﰲ ﻋﻴﻨﻲ ﻛﻤﺎ ﻛﻨﺖ أراه داﺋﻤً ﺎ ﻣﺜﻞ زﻫﺮة اﻟﻔﻮل ﰲ اﻟﺼﺒﺎح إذا ﺟﻠﻠﻬﺎ
اﻟﻨﺪى ،وﻋُ ﻮدﻫﺎ اﻟﺮﺷﻴﻖ ﻣﺜﻞ ﺗﻤﺜﺎل راﺋﻊ ،وﻟﻮ أﻃﻌﺖ ﻧﻔﴘ ﻟﺮﻛﻌﺖ ﻋﻨﺪ ﻗﺪﻣﻴﻬﺎ ً
ﻗﺎﺋﻼ ﻟﻬﺎ:
»ﻣﻌﺒﻮدﺗﻲ!«
ﻧﻔﺲ وﻗﻠﺖ ﰲ ٍ ُ ﻛﻔﻲ ،ورﻓﻌﺘﻬﻤﺎ إﱃ ﺻﺪري ﰲ ﻟﻬﻔﺔ، وأﺧﺬت ﻳﺪَﻳﻬﺎ ﻓﻮﺿﻌﺘﻤﻬﺎ ﺑني ﱠ
ﻣﺒﻬﻮر :ﻃﺒﻌً ﺎ ﻳﺎ ﻣﻨﻰ ،وﻫﻞ أرﻓﺾ اﻟﺴﻌﺎدة؟ ﻫﻞ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻗﻮل ﻟﻚ» :ﻻ«؟ وﻟﻜﻨﻲ أﺟﺪ
ﻓﻴﻤﺎ ﺗﻌﺮﺿني ﻋﲇ ﱠ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ املﺮارة ،وإن ﻛﻨﺖ ﻻ أدري ﻛﻴﻒ أرﻓﺾ.
ﻓﻘﺎﻟﺖ :أي ﻣﺮارة؟
ﻟﺴﺖ أﻋﺮف ﻛﻴﻒ ﺗﻨﻈﺮﻳﻦ إﱄ ﱠ وأﻧﺖ ﺗﻄﻠﺒني ﻣﻨﻲ أن أﴍف ﻋﲆ َ ُ ﻓﺄﺟﺒﺖ ﰲ ﻫﺪوء:
ﻋﺸﺖ ﻫﺬه اﻟﺴﻨني راﺟﻴًﺎ أن أﻗﻮﻟﻬﺎ ُ املﺤﻠﺞ ،ﻟﻦ أﺳﺘﻄﻴﻊ ﻋﻨﺪ ذﻟﻚ أن أﻗﻮل ﻟﻚ اﻟﻜﻠﻤﺔ اﻟﺘﻲ
اﺷﺘﻐﻠﺖ ﻋﻨﺪكِ ،وﻻ ﻓﺮق ﺑني أن أﻛﻮن ﰲ املﺤ َﻠ ِﺞ ﻣﺪﻳ ًﺮا
ُ ﻟﻚ ﻳﻮﻣً ﺎ ،ﻟﻦ أﺟﺮؤ أن أﻗﻮﻟﻬﺎ ﻟﻚ إذا
أو وزاﻧًﺎ.
ﻗﺎﺋﻼ :ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﱄ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة إﻻ ﺣﻠﻢ واﺣﺪ وﺗﻮﻗﻔﺖ ﻟﺤﻈﺔ ،ﺛﻢ ﺗﻬﺪج ﺻﻮﺗﻲ وأﻧﺎ أﺳﺘﻤﺮ ً
وﻫﻮ ﺣﺒﻚ ﻳﺎ ﻣﻨﻰ.
ﺷﻔﺘﻲ ﻓﻘﺒﻠﺘﻬﻤﺎ ﰲ ﺣﺮارة.ﱠ ورﻓﻌﺖ ﻳﺪﻳﻬﺎ إﱃ
ﻏﺮﺿﺎ،ً ﻗﺎﺋﻼ :ﺣﺒﻚ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺪﻓﻌﻨﻲ داﺋﻤً ﺎ ،وﻳُﻮﺣﻲ إﱄ ﱠ ،وﻳﺠﻌﻞ ﱄ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة واﻧﺪﻓﻌﺖ ً
وﻟﺴﺖ أﺣﺐ أن أُﻋ ﱢﺮﺿﻪ ﻟﻠﺴﺨﺮﻳﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﻘﻮل أﺣﺪ إﻧﻨﻲ أﺣﺐ ﺳﻴﺪﺗﻲ ،أو ﻳﻘﻮل أﺣﺪ إﻧﻚ ُ
آﺳﻒ إذ أﻗﻮل ﻟﻚ ﻫﺬا ،ﻓﺈﻧﻲ ٌ ﺗُﺮﻳﺪﻳﻦ أن ﺗﺠﻌﻠﻴﻨﻲ إﻧﺴﺎﻧًﺎ وﺗﻘﻮل ﻟﻠﻨﺎس» :ﻫﺬا رﺟﲇ «.وأﻧﺎ
أﺑﺪو ﻟﻨﻔﴘ ﺟﺪﻳ ًﺮا ﺑﺎﻟﺴﺨﺮﻳﺔ وأﻧﺎ أﻗﻮﻟﻪ.
ﻣﺲ رأﺳﻬﺎ ﻛﺘﻔﻲ ،وﻗﺎﻟﺖ ﻓﺄﻃﺮﻗﺖ ﺑﺮأﺳﻬﺎ وﻳﺪاﻫﺎ ﻣﺎ زاﻟﺘﺎ ﻋﲆ ﺻﺪري ،وﻣﺎﻟﺖ ﺣﺘﻰ ﱠ َ
ٍ
ﺑﺼﻮت ﻣُﻨﺨﻔﺾ :ﻟ َﻢ ﺗﻘﻮل ﻫﺬا؟
وﺑﻐري أن أﺷﻌﺮ ﺑﻤﺎ ﻓﻌﻠﺖ ﺿﻤﻤﺘُﻬﺎ إﱃ ﺻﺪري وﻗﺒﻠﺖ ﺟﺒﻴﻨﻬﺎ.
255
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ واﻟﺜﻼﺛﻮن
ﺗﻤ ﱡﺮ ﻋﻠﻴﻨﺎ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻟﺤﻈﺎت ﻃﻮﻳﻠﺔ أو ﻗﺼرية ﻧﻜﻮن ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﺮﻳﺸﺔ ﰲ ﻣﻬﺐﱢ اﻟﺮﻳﺎح املﺘﻌﺎرﺿﺔ
اﺗﺠﺎﻫﺎ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﺣﺪث ﱄ ﺑﻌﺪ ﺧﺮوﺟﻲ ﻣﻦ ﺑﻴﺖ ﻣﻨﻰ ،ﻟﻢ أدر ﻣﺎذا أرﻳﺪ ً ﻻ ﻧَﻌﺮف ﻷﻧﻔﺴﻨﺎ
وﻻ ﻣﺎذا أﺣﺲ ،وﺗﻨﺎزﻋﺘْﻨﻲ دواﻓﻊ ﻣُﺘﻀﺎدة ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻳﺠﻌﻠﻨﻲ أﺷﻚ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ آراﺋﻲ وﺻﺪق
ﻣَ ﺸﺎﻋﺮي .ﻣﻨﻰ ﺗﺴﺄﻟﻨﻲ أن أﻗﻒ إﱃ ﺟﻨﺒﻬﺎ وﺗﻘﻮل ﱄ ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻠﺤﻈﺔ املﻮﻋﻮدة ،وﻫﻨﺎك ﰲ
آﻣﻨﺖ ﺑﺄن اﻟﺤﻴﺎة ﺗﻨﺎدﻳﻨﻲ ﻣﻦ أﺟﻠﻬﺎ ،وﻫﺎ ﻫﻲُ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻛﱪى ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻐﺎﻳﺔ اﻟﺘﻲ
ذي ﻣﻨﻰ ﺗﺴﺘﻤﻊ إﱄ ﱠ وأﻧﺎ أﻗﻮل ﻟﻬﺎ ﰲ أول ﻣﺮة ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻲ» :أﻧﺎ أﻋﻴﺶ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺣﺒﻚ ،وأﺧﴙ
أن أﻛﻮن ﻣﻮﺿﻌً ﺎ ﻟﻠﺴﺨﺮﻳﺔ «.ﻓﺘﻤﻴﻞ ﺑﺮأﺳﻬﺎ ﻋﲆ ﻛﺘﻔﻲ ﻗﺎﺋﻠﺔ» :ﻟ َﻢ ﺗﻘﻮل ﻫﺬا؟«
وﺑﻘﻴﺖ ﺻﻮرﺗﻬﺎ وﻧﻐﻤﺔ ﺻﻮﺗﻬﺎ ﺗﱰدﱠدان ﰲ ﻛﻞ ﻛﻴﺎﻧﻲ ،وأﻧﺎ أﺗﺤﺪث إﱃ أﻣﻲ وأﺧﺘﻲ
وأﺳﺘﻤﻊ إﱃ ﺗﺤﻴﺎﺗﻬﻤﺎ املﻤﺰوﺟﺔ ﺑﺎﻟﻌﺘﺎب ﻋﲆ ﻃﻮل ﻏﻴﺒﺘﻲ ﻋﻨﻬﻤﺎ.
وملﺎ ﺟﺎء ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﰲ ﺳﺎﻋﺔ اﻟﻈﻬﺮ ﻛﺎﻧﺖ دﻫﺸﺘُﻪ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻟﺰﻳﺎرﺗﻲ املﻔﺎﺟﺌﺔ ،وﺳﺄﻟﻨﻲ:
ﻣﺘﻰ ﺟﺌﺖ؟
ﻓﻘﻠﺖ :ﰲ ﻗﻄﺎر اﻟﺼﺒﺎح.
ﻓﺼﺎﺣﺖ ﻣﻨرية :وأﻳﻦ ﻛﻨﺖ؟
ﻓﺄﺟﺒﺖ ﰲ ﻧﺸﻮة :ﻋﻨﺪ ﻣﻨﻰ .أﻟﻢ ﺗﺒﻌﺜﻲ إﱄ ﱠ أﻧﻬﺎ ﻣﺘﺄملﺔ ﻣﻨﻲ؟ ُ
ُ
وأﻓﻀﻴﺖ إﻟﻴﻪ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻗﻠﺖ وﻣﺎ ﻗﻴﻞ ﱄ، وأﺧﺬت ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻟﻨﺠﻠﺲ ﰲ ﻏﺮﻓﺔ اﻟﺠﻠﻮس، ُ
ﻗﺎﺋﻼ :ﻷوﱠل ﻣﺮة ﺗﺴﺘﺤﻖ اﺣﱰاﻣﻲ. ﻓﺨﺒﻂ ﻋﲆ ﻛﺘﻔﻲ ً
ودﺧﻠﻨﺎ ﰲ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻋﻨﺪﻣﺎ ذﻛﺮت ﻟﻪ ﺗﻨﺎزع أﻓﻜﺎري ﺑني إﺟﺎﺑﺔ رﻏﺒﺔ
ﻣﻨﻰ وﺑني ﺗﻠﺒﻴﺔ ﻧﺪاء املﻌﺮﻛﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻨﺎدﻳﻨﻲ.
ﻓﻤﺎ ﻛﺎد ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻤﻴﺪ ﻳﺴﻤﻊ ﻛﻠﻤﺘﻲ ﺣﺘﻰ اﻧﻔﺠﺮ ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ وﻗﺎل :ﻻ ﺗﻜﻦ أﺣﻤﻖ ﺑﻬﺬا
اﻟﻘﺪر ،ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻜﺘﺐ ﻣﺎ ﺗﺸﺎء وأﻧﺖ ﻫﻨﺎ ،وﻟﻜﻨﻚ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻘﻒ إﱃ ﺟﻨﺒﻬﺎ إﻻ ﻫﻨﺎ.
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
واملﻨﺎﻗﺸﺔ ﺗَﺨ ُﺮج ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن إﱃ ﻣﻜﺎﺑﺮة ﻳﻨﺪﻓﻊ إﻟﻴﻬﺎ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﻃﺮﻓﻴﻬﺎ ﻣﻊ
اﻟﻜﱪﻳﺎء ،ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻳﺨﴙ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ اﻟﻬﺰﻳﻤﺔ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻫﺬا ﻣﺎ وﻗﻊ ﺑﻴﻨﻨﺎ ملﺪة ﺳﺎﻋﺘَني ﺣﺘﻰ
ﻛﻨﺖ أﺟﺎد ُل ﺻﺎﺣﺒﻲ وأﻧﺎُﺘﻤﺴﻚ ﺑﺂراﺋﻪ ،وﻣﻦ اﻟﻌﺠﻴﺐ أﻧﻨﻲ ُ ﺟﺎء وﻗﺖ اﻟﻐﺪاء وﻛﻞ ﻣﻨﺎ ﻣ ﱢ
أﺣﺲ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻋﻴﻨﻪ ﺑﴪور ﺧﻔﻲ ﻛﻠﻤﺎ وﺟﺪت ﰲ ﺣُ ﺠﺘﻪ ﻗﻮة ،ﻛﺄﻧﻨﻲ ُ
ﻛﻨﺖ أرﻳﺪ ﻣﻦ املﻨﺎﻗﺸﺔ ﱡ
أن أﻗﻨﻊ ﻧﻔﴘ ﺑﺄن ﻋﻤﲇ ﺳﻴﻜﻮن ﰲ ﻧﻈﺮ اﻟﻨﺎس ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ﻻ ﻣﻮﺿﻊ ﻓﻴﻪ ﻟﻠﺴﺨﺮﻳﺔ.
َ
وﻛﺎن اﻟﻴﻮم اﻟﺘﺎﱄ ﻣﻦ أﺳﻌﺪ أﻳﺎم ﺣﻴﺎﺗﻲ ،ﻓﺬﻫﺒْﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ إﱃ اﻟﻌﺰﺑﺔ وﻫﻲ ﻻ ﺗﺒﻌُ ﺪ ﻋﻦ
ْ
واﻟﺨﺼﺐ واﻟﺬوق دﻣﻨﻬﻮر ﺑﺄﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻋﴩﻳﻦ ﻛﻠﻴﻮﻣﱰًا ،وﻛﺎﻧﺖ ﻗﻄﻌﺔ ﺟﻤﻴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ
اﻟﺠﻤﻴﻞ ،ﰲ ﺗﻨﺴﻴﻖ ﻃﺮﻗﻬﺎ وﻧﴬة زرﻋﻬﺎ وﺑﻬﺎء املﺴﻜﻦ اﻷﻧﻴﻖ اﻟﺬي ﺑﻨﺎه اﻟﺴﻴﺪ أﺣﻤﺪ ﺟﻼل
وذﻫﺒﺖ ﻣﻊ اﻷﻣﺎﻧﻲ إﱃ أﺑﻌﺪ ﻣﺬاﻫﺒﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺨﻴ ُ
ﱠﻠﺖ ﻧﻔﴘ ﻣﻘﻴﻤً ﺎ ﰲ ُ ﻗﺒﻞ ﻣﻮﺗﻪ ﺑﻌﺎم واﺣﺪ،
ﻣﻌﺰل ﻋﻦ اﻟﻨﺎس ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﻣﺮﺣﻨﺎ
ٍ ذﻟﻚ اﻟﻘﴫ ﻣﻊ ﻣﻨﻰ ،وﻣﻦ ﺣﻮﻟﻨﺎ ذﻟﻚ اﻟﺮﻳﻒ اﻟﺠﻤﻴﻞ ﰲ
ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم اﻟﺴﻌﻴﺪ ،ﻛﺄﻧﻨﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻋﺪﻧﺎ إﱃ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ ،ﺣﺘﻰ إن اﻟﺴﻴﺪة اﻟﻜﺒرية وأﻣﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ
أن ﻟﻠﺴﻦ أو ﻵﻻم املﺮﴇ ﴐاﺋﺐ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ اﻻﺣﺘﻴﺎط ﻟﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻌﺎﻗﺒﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﲆ ﻧﺴﻴَﺘﺎ ﱠ
ﻏري اﻧﺘﻈﺎر ﺧﺎﺗﻤﺔ ﻃﻴﺒﺔ ﻟﻠﻴﻮم اﻟﺴﻌﻴﺪ ،ﻓﻘﺪ ﻋﺎدت أﻣﻲ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺮﺣﻠﺔ ﺑﺬﺧرية ﻣﻦ املﺮح
واﻟﻨﺸﺎط ﻛﻤﺎ ﻋﺎدت اﻟﺴﻴﺪة اﻟﻜﺒرية ﺗﺴري ﻋﲆ ﻗﺪﻣﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﺗﻨﺒﺄت ﻣﻨﻰ ،واﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي
ﻋ ﱠﻜﺮ ﺑﻌﺾ ﺻﻔﺎء ﺗﻠﻚ اﻟﺮﺣﻠﺔ أن اﻟﺴﻴﺪة اﺳﺘﻤ ﱠﺮت ﺗُﺠﺎدل ﻣﻨﻰ ﻋﲆ ﻃﻮل ﻃﺮﻳﻘﻨﺎ ﰲ اﻟﻌﻮدة،
وﺗُﴫﱡ ﻋﲆ اﻻﺣﺘﻔﺎظ ﺑﺎﻟﻌﺰﺑﺔ ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻈﺮوف ،وﻟﻜﻦ ﻣﻨﻰ ﺗﺨﻠﺼﺖ ﻣﻦ املﻨﺎﻗﺸﺔ اﻟﺤﺎدة
ﻋﺪت إﱃ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﻛﺎﻧﺖ ُ ﺑﻀﺤﻜﺘﻬﺎ اﻟﻮدﻳﻌﺔ ﻗﺎﺋﻠﺔ :ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﺸﱰيَ أﺣﺴﻦ ﻣﻨﻬﺎ .وملﺎ
اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺗﺒﺪو ﰲ ﻋﻴﻨﻲ ﺑﺄﻟﻮان أﺧﺮى ﻏري اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮدت أن أراﻫﺎ ،وﺑﺪأت أﻧﻈﺮ إﱃ اﻷﻣﻮر ﻧﻈﺮة
ﺟﺪﻳﺪة ﻏري اﻟﺘﻲ ﻛﻨﺖ أﻧﻈﺮ ﺑﻬﺎ.
ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻜﻮﻣﺎت ﺗﺘﻌﺎﻗﺐ ﰲ أﺳﺎﺑﻴﻊ ﻗﻠﻴﻠﺔ ،وﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﺪري أﻳﻦ ﺗﻀﻊ أﻗﺪاﻣﻬﺎ،
وﺳﺄﻟﺖ ﻧﻔﴘ ﻣﺮا ًرا أﻳﻦ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻫﺬه املﻬﺎزل اﻟﺘﻲ ﻳُﻤﺜﱢﻠﻬﺎ ﺻﻐﺎر ﰲ أﺳﻤﺎء ﻣﻨﻔﻮﺧﺔ ،أﺳﺎﻟﻴﺐ
ﻛﻨﺖ ﻛ ﱠﻞ ﻳﻮم
واﺣﺪة وإن ﺗﻌﺪدت اﻷدوار اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺜﻠﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻢ واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ املﺤﺘﻮﻣﺔ واﺣﺪةُ ،
أﺳﺄل ﻧﻔﴘ» :إﱃ أﻳﻦ ﻧﺼري؟« وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺆال إﻻ ر ﱞد واﺣﺪ :ﺛﻮرة أﺧﺮى ﻣﺜﻞ اﻟﺘﻲ
ﻛﻨﺖ أﻋﻮد داﺋﻤً ﺎ ﻓﺄﻗﻮل» :وﻣﺎذا ﻧَﺠﻨﻲ ﻣﻦ ﻣﺜﻞ
وﻗﻌﺖ ﰲ ٢٦ﻳﻨﺎﻳﺮ املﺎﴈ ،وﻟﻢ ﻻ؟ ﻏري أﻧﻲ ُ
ﺗﻠﻚ اﻟﺜﻮرة؟« وﻣﺎذا ﻳَﺠﻨﻲ اﻟﺠﺴﻢ اﻟﻌﻠﻴﻞ اﻟﺬي ﺗﺴﻤﱠ ﻤﺖ دﻣﺎؤه ﻣﻦ اﻧﻔﺠﺎر ﺟﻠﺪِه ُ
ﺑﺎﻟﻘﺮوح
ذات اﻟﺼﺪﻳﺪ؟
ﻘﱰب ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺼﺔ ﻋﲆ ﻓﺠﺄ ٍة ﻛﻤﺎ ﺗﻨﺘﻬﻲ اﻟﻘﺼﺺ اﻟﺮدﻳﺌﺔ ،وإن ﻛﻨﺖ أﻋﺘﺬر واﻵن ﺗَ ِ
ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ املﻔﺎﺟﺌﺔ ﺑﺄﻧﻨﻲ ﻟﻢ أﺗﻌﻤﺪﻫﺎ؛ ﻷن املﻘﺎدﻳﺮ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺘﻬﺎ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻓﺠﺄة،
258
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ واﻟﺜﻼﺛﻮن
املﻘﺎدﻳﺮ ﺗﴫف ﺷﺌﻮن اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻤﺎ ﺗُﺮﻳﺪ ﻫﻲ ﻻ ﻛﻤﺎ ﻳُﺮﻳﺪ اﻷﺣﻴﺎء ،ﺑﻞ إﻧﻲ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻋﺘﺬر
ﻋﻦ املﻘﺎدﻳﺮ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،ﻓﺄﻗﻮل :إﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗُﺪﺑﱢﺮ ﻟﻬﺬه اﻟﻘﺼﺔ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺑﻞ دﺑﱠﺮت ﻟﻘﺼﺔ ﺟﺪﻳﺪة .ﻫﻜﺬا
اﻟﺤﻴﺎة ﺗﺴري ﰲ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺼﺺ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ إﱃ ﺑﺪاﻳﺔ أﺧﺮى ،وﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أﺣﺪ
وﺗﻲ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ،ﻓﻜﻴﻒ أﺳﺘﻄﻴﻊ أﻧﺎ أن أُﻋ ﱢﻠﻠﻬﺎ وﻣﺎ أوﺗﻴﺖ أن ﻳُﻌ ﱢﻠﻞ ﺣﻮادث املﻘﺎدﻳﺮ ﻣﻬﻤﺎ أ ُ َ
ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﺷﻴﺌًﺎ؟ ﻛﻞ ﻣﺎ أﻓﺨﺮ ﺑﻪ أﻧﻲ آﻣﻨﺖ ﺑﺄن اﻟﺤﻴﺎة ﻧﺎدﺗْﻨﻲ وأن ﻟﻸﻗﺪار ﺣﻜﻤﺔ وأﻧﻨﺎ
ﻧﺘﱠﺠﻪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻤﺎ ﺗُﻮﺟﻬﻨﺎ أﴎار ﺻﻐرية ﻋﻈﻴﻤﺔ أو ﻣﻮاﻗﻒ ﺗﺎﻓﻬﺔ ﺧﻄرية ،ﻻ ﻧُﺪرك ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ
ﰲ ﻟﺤﻈﺘﻬﺎ ،وﻻ ﻧﻌﺮف أﻧﻬﺎ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ وﺟﻬﺖ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ إﻻ ﺑﻌﺪ أن ﻧﻤﴤَ ﻋﲆ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،وﻳُﺼﺒﺢ
ﻣﻦ ا ُملﺤﺎل ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻌﻮد أدراﺟﻨﺎ.
وإن اﻟﺤﻮادث اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﻟﻨﺎ ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻗﺪ ﻳﻘﻮل اﻟﺒﻌﺾ :إﻧﻨﺎ ﻧَﻤﻠِﻚ ﻣﺼﺎﺋﺮﻧﺎ ،ﱠ
ﻣﺤﺘﻮﻣﺔ ملﻘﺪﻣﺎت ﺛﺎﺑﺘﺔ ،وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ﺗُﺨﺎﻟﻒ ﻫﺬه اﻟﺴﻨﺔ
اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﻌَ ﺚ اﻟﺪﻫﺸﺔ واﻟﻌﺠﺐ ،وﻟﻘﺪ ﺑﻠﻐﺖ ِ ﻋﲆ ﻣﺎ ﺑﺪا ﱄ ،وﻣﺎ أزال أراﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر
ﺑﻲ اﻟﺤرية أﻧﻨﻲ ﻋﺪدﺗُﻬﺎ ﻛﺮاﻣﺔ ﻣﻦ ﻛﺮاﻣﺎت اﻷوﻟﻴﺎء أو ﻣﻌﺠﺰة ﻣﻦ ﻣﻌﺠﺰات اﻹرادة اﻹﻟﻬﻴﺔ،
ﻛﻨﺖ أﺗﺼﻮﱠر ﻛ ﱠﻞ ذﻟﻚ اﻻﻧﻘﻼب ﰲ اﻷﺳﺎﺑﻴﻊ اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﻀﻴﺘﻬﺎ ﰲ اﻟﻘﺎﻫﺮة ﺑﻌﺪ وإﻻ ﻓﻜﻴﻒ ُ
ﻋﻮدﺗﻲ ﻣﻦ دﻣﻨﻬﻮر؟
وﻗﺖ واﺣﺪ ،ﺑﻞ ﰲ ﺳﺎﻋﺔ واﺣﺪة ،وﻛﺎﻧﺖ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺼﺔ. ﻓﻘﺪ اﺗﱠﻔﻖ وﻗﻮع ﺣﺎدﺛَني ﰲ ٍ
ﰲ ﺻﺒﺎح اﻟﻴﻮم اﻟﺜﺎﻟﺚ واﻟﻌﴩﻳﻦ ﻣﻦ ﺷﻬﺮ ﻳﻮﻟﻴﻮ وﻗﻌﺖ اﻟﺤﺎدﺛﺘﺎن ﻣﻌً ﺎ ،وأﻧﺎ أﺳﺠﻠﻬﻤﺎ
ﻫﻨﺎ؛ ﻷن ﺑﻬﻤﺎ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ،أو ﺑﻘﻮل آﺧﺮ ﺗﺒﺪأ ﻗﺼﺔ ﺟﺪﻳﺪة.
ﺟﺎﻟﺴﺎ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ املﺬﻳﺎع أﺳﺘﻤﻊ إﱃ ﻗﺮآن اﻟﺼﺒﺎح ً ﻓﺄﻣﺎ اﻟﺤﺎدث اﻷول ﻓﻬﻮ أﻧﻨﻲ ﻛﻨﺖ
وإﱃ أﺧﺒﺎر اﻟﻴﻮم اﻟﺠﺪﻳﺪ ،ﻓﺈذا ﺻﻮت ﻳَﻨﻄﻠِﻖ ﻣﻌﻠﻨًﺎ ﻗﻴﺎم ﺛﻮرة ﻣﻦ اﻟﺠﻴﺶ! اﻟﺠﻴﺶ! ﷲ أﻛﱪ!
اﻟﺠﻴﺶ اﻟﺬي ﻛﻨﺎ ﻧَﺨﴙ أن ﻳﻜﻮن ﻫﻮ ﻋﻤﺎد اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ اﻟﺮﻫﻴﺐ؟
اﻟﺠﻴﺶ ﻳﻌﻮد ﻣﺮة أﺧﺮى ﻟﻴﺜﺒﺖ أﻧﻪ ﻣﻦ أﺑﻨﺎء اﻟﻮﻃﻦ ،وأن اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﻳﺴﺨﺮ ﻣﻨﻪ ﻛﻤﺎ
ﻳﺴﺨﺮ ﻣﻦ اﻷﻣﺔ ،وﻳَﻌﺒﺚ ﺑﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﻌﺒﺚ ﺑﺎﻷﻣﺔ! إﻧﻬﺎ ﻟﻜﺮاﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﻮﱄ اﻟﺬي ﺟﺎورﺗُﻪ ﰲ ﻫﺬه
اﻷﺷﻬﺮ املﺎﺿﻴﺔ ،وﻛﻨﺖ أذﻫﺐُ إﻟﻴﻪ ﻛﻞ ﺻﺒﺎح ﻷؤدي ﺻﻼة اﻟﻔﺠﺮ ﺑﻌني داﻣﻌﺔ ،وﻗﻤﺖ ﻣﴪﻋً ﺎ
آﻣﻨﺖ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻛﺮاﻣﺘﻪ ،وإﻻ ﻓﻜﺮاﻣﺔ ﻣﻦ؟ اﻷﻣﺔُ ﻷﺻﲇ ﰲ ﻣﺴﺠﺪ اﻟﺤﺴني؛ ﻷﻧﻲ ﰲ دﻫﺸﺔ املﻔﺎﺟﺄة
ﻛﺎﻧﺖ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ إﻻ ﺛﻮرة ﻣﺜﻞ اﻟﺘﻲ وﻗﻌﺖ ﰲ ﻳﻮم ٢٦ﻳﻨﺎﻳﺮ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه ﺛﻮرة أﺧﺮى ،ﺛﻮرة
ﺑﻴﻀﺎء ﺗﻌﺮف ﻏﺎﻳﺘﻬﺎ.
ﻛﺪت أﻋﻮد إﱃ ﺷﻘﺘﻲ املﺘﻮاﺿﻌﺔ ﰲ ﺑﺎب اﻟﺨﻠﻖ ﺣﺘﻰ ُ وأﻣﺎ اﻟﺤﺎدث اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﺈﻧﻲ ﻣﺎ
وﺟﺪت ﺑﺮﻗﻴﺔ ﺗﻨﺘﻈﺮﻧﻲ! »ﺗﻢ اﻻﺗﻔﺎق وﰲ اﻧﺘﻈﺎرك اﻟﻴﻮم ﺣﺴﺐ اﻻﺗﻔﺎق .ﻣﻨﻰ«.
259
أﻧﺎ اﻟﺸﻌﺐ
ً
ﻣﺨﱰﻗﺎ ﻃﺮق اﻟﻘﺎﻫﺮة وﴎت ﻛﻤﺎ أﻧﺎ ﺑﻮﺿﻮﺋﻲ وﺧﺸﻮﻋﻲ ودﻫﺸﺘﻲ ﻗﺎﺻﺪًا إﱃ املﺤﻄﺔ ُ
ﺑﻌﻀﺎ ﰲ دﻫﺸﺔ» :ﻛﻴﻒ ﺣﺪث املﺰدﺣﻤﺔ ﺑﺄﻣﺜﺎﱄ ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺧﺮﺟﻮا إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻟﻴﺴﺄل ﺑﻌﻀﻬﻢ ً
ﻫﺬا؟«
ُ
وﺳﺎﻓﺮت إﱃ دﻣﻨﻬﻮر ﰲ ﻗﻄﺎر اﻟﺼﺒﺎح ،وﻛﻨﺖ ﻋﲆ ﻃﻮل اﻟﻄﺮﻳﻖ أﻓﻜﺮ ﺧﺎﺷﻌً ﺎ وأﺳﺄل
ذراﻋﻲ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى
ﱠ ُ
وﻓﺘﺤﺖ ﻟﻬﺎ ﻧﻔﴘ» :ﻛﻴﻒ ﻳﺤﺪث ﻫﺬا؟« واﺳﺘﻘﺒﻠﺘْﻨﻲ ﻣﻨﻰ ﺑﺎﺳﻤﺔ،
ﺗﻘﻮل إذ ﺗﻨﺪﻓﻊ إﱃ ﺻﺪري» :ﻛﻴﻒ ﻳﺤﺪث ﻫﺬا؟«
260