You are on page 1of 273

‫معرفة الله‬

‫مفتاح تحقيق العبادة‬

‫دكتور‬
‫حسين البشبيشي‬
‫مؤسسة يسطرون للطباعة والنرش والتوزيع‬

‫رئيس جملس اإلدارة‬


‫الطبعة‪ :‬األويل‬
‫عماد سامل‬
‫الكتـــــــاب ‪ :‬معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬
‫الكاتب ‪ :‬ح�سني الب�شبي�شي‬
‫التصميم واإلخراج‪ / :‬حسن عبد احلليم‬
‫املقاس‪24 × 17 :‬‬
‫رقم اإليداع‪2020 / 22014 :‬‬
‫املدير العام‬
‫الرتقيم الدوىل‪978 - 977 - 993 - 504 - 1 :‬‬
‫رنا عماد‬

‫العنوان ‪3 :‬ش صفوت ‪ -‬حمطة املطبعة شارع امللك فيصل ‪ -‬اجليزة‬


‫التليفون ‪01157760052 - 01229300029 :‬‬
‫‪Email : Yastoron@gmail.com‬‬
‫موقعنا على الفيس بوك ‪ :‬مؤسسة يسطرون لطباعة وتوزيع الكتب‬
‫مجيع احلقوق حمفوظة للمؤلف‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫‪3‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫املقدمة‬
‫‪¢‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين والصالة والسالم على سيد األولين واآلخرين‪.‬‬


‫�أما بعد‪:‬‬
‫ـ كل لذات الدنيا وآالمها ليست بشيء أمام لذات وآالم اآلخرة‪،‬‬
‫وسنوات العمر الطويلة ليست بشيء أمام الخلود يف اآلخرة‪ ،‬وانتقال‬
‫اإلنسان إلى حياة أخرى من جديد هو أمر خطير ومثير‪ ،‬ورغم ذلك‬
‫فالبعض ال تتأثر مشاعرهم وال همومهم وال أهدافهم وال حياهتم إال‬
‫بأمور الدنيا‪ ،‬وذلك ألهنم لم ينتبهوا لمدى خطورة الحياة يف اآلخرة‪،‬‬
‫فهؤالء جاهلين باآلخرة ليس ألهنم لم يسمعوا عنها أو ألهنم لم يفهموا‬
‫معناها ولكنه جهل لعدم االنتباه لخطورة األمر‪.‬‬
‫ـ وهذا الجهل يؤدي إلى عدم التأثر بالخالق واآلخرة فتغيب أعمال‬
‫العبادة الباطنة كالحب والخوف والرجاء والشعور بالخضوع والرضا‬
‫والتوكل‪ ،‬وتبقى بعض أعمال العبادة الظاهرة مفتعلة أو عادة أو تقليدا أو‬
‫مجرد مظاهر روتينية‪ ،‬ويصبح االنسان كالذي ال يدري ما يفعل‪ ،‬وتصبح‬
‫العبادة ال معنى لها‪.‬‬
‫ـ العبادة هي أن يعيش االنسان خاضعا هلل بقلبه وجوارحه‪ ،‬ولكن‬
‫لماذا يختار اإلنسان أن يعيش حياته خاضعا؟؛ إذا عرف اإلنسان الخالق‬
‫واآلخرة معرفة حقيقية (مع وجود اليقين) تحقق يف قلبه حبا وخوفا ورجاء‬
‫شديدا جعله يعيش خاضعا هلل تعظيما له (حبا يف عظمته) وخوفا ورجاء‪،‬‬
‫ومن هنا تعرف العالقة بين معرفة اهلل والعبادة‪ ،‬فالعبادة هي أثر لمعرفة اهلل‬

‫‪4‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫تعالى‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان ال يقبل أن يعيش خاضعا إال إذا كان لديه الدافع إلى‬
‫الخضوع وهو شدة الحب والخوف والرجاء للخالق‪ ،‬ولن يتحقق هذا‬
‫الدافع إال إذا عرف اإلنسان الخالق معرفة حقيقية‪.‬‬
‫ـ والمانع من تحقيق العبادة هو غفلة االنسان عما يوقن به‪ ،‬فهو يوقن‬
‫بالخالق واآلخرة ونزول كالم الخالق للناس على رسله ويوقن بأن الدنيا‬
‫ضئيلة وزائلة وال قيمة لها وأن الحياة الحقيقية األبدية يف اآلخرة ورغم‬
‫ذلك ال يحقق العبادة ألنه غافل عن خطورة ما يوقن به‪ ،‬وبالتالي ال يتحقق‬
‫الحب والخوف والرجاء الذي هو أساس العبادة والدافع إليها وبالتالي ال‬
‫تتحقق العبادة‪.‬‬
‫ـ فالطريق الوحيد لتحقيق العبادة هو تحقيق المعرفة الحقيقية باهلل‬
‫واآلخرة مع وجود اليقين باهلل واآلخرة والرسل ألن معرفة أسماء اهلل‬
‫وصفاته ومعرفة أوامر اهلل نعرفها من الرسل‪.‬‬
‫ـ ال قوي بحق إال اهلل وكل ما سوى اهلل ضعيف‪ ،‬والعالقة بين‬
‫الضعيف والقوى هي الخضوع‪ ،‬فمعرفة اهلل تؤدي إلى معرفة االنسان‬
‫بضعفه وبالتالي يخضع هلل تعظيما هلل (حبا يف عظمته) وخوفا ورجاءًَ‪،‬‬
‫وهذا الخضوع هو العبادة ويتمثل يف أربعة نواحي هي الخضوع يف طريقة‬
‫المعيشة والخضوع بالقلب والخضوع بالجوارح والخضوع باللسان‪.‬‬
‫ـ العبادة هي أعمال باطنة وظاهرة المقصود منها تحقيق معنى‬
‫الخضوع‪ ،‬وأساس العبادة هو الحب والخوف والرجاء‪ ،‬وبسبب الغفلة‬
‫عن اهلل غاب أساس العبادة وضاع المعنى المقصود من العبادة وغابت‬
‫اعمال العبادة الباطنة وبقيت بعض أعمال ظاهرة مفتعلة أو عادة أو تقليدا‬
‫أو مجرد مظاهر روتينية‪ ،‬فأصبح االنسان كالذي ال يدري ما يفعل‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫******‬
‫ـ الطبيعي أنه بمجرد أن يعرف اإلنسان بوجود الخالق واآلخرة ويوقن‬
‫بذلك فإن نظرة االنسان لألشياء تتغير فيرى األشياء على حقيقتها وبالتالي‬
‫يرى عظمة الخالق وخطورة اآلخرة ويرى ضعف نفسه وضآلة الدنيا‬
‫وبالتالي تتعلق مشاعره وهمومه وأهدافه باهلل واآلخرة وال تتعلق بالدنيا‬
‫وتتغير حياته كلها من مشاعر وأهداف وطموحات وسلوك وتصرفات‬
‫وانفعاالت وفرح وحزن وغضب وأخالق وكالم ونية وعمل بزاوية مائة‬
‫وثمانين درجة‪.‬‬
‫ـ لكن ألننا نعيش يف زمن الغفلة فالكثير من الناس ال يعلمون أن مجرد‬
‫المعرفة الحقيقية بالخالق واآلخرة (مع وجود اليقين) هو أمر خطير جدً ا‬
‫ومؤثر جدً ا إلى هذه الدرجة‪ ،‬لكنهم سوف يعلمون ذلك عندما يجدون‬
‫أنفسهم واقفين على أرض المحشر يف اآلخرة‪ ،‬فهذه المعلومة البسيطة‬
‫مات معناها‪ ،‬وأصبحت الغفلة هي الوضع الطبيعي المألوف الذي اعتاد‬
‫عليه الكثير فإذا جاء أحد ليقول لهم تعالوا نعرف من جديد معنى أن لنا‬
‫خالقا ومعنى أننا ذاهبون الى اآلخرة لقالوا إنه مجنون أو متخلف!‬
‫ـ لو قيل لرجل أن هناك أسد يقرتب منه ولكنه لم تتأثر مشاعره فيخاف‬
‫ولم تتأثر جوارحه فيجري ويهرب فكيف يمكن أن يحدث ذلك؟‬
‫ـ واالجابة أنه من المستحيل أن يعلم االنسان بأمر خطير ثم ال تتأثر‬
‫مشاعره وجوارحه‪ ،‬وهو يف حقيقة أمره بين أمرين ال ثالث لهما هما إما‬
‫أنه غير مقتنع باألمر أو أنه لم يعلم باألمر فهو جاهل به‪ ،‬والجهل باألمر‬
‫نوعين‪:‬‬
‫‪1‬ـ الجهل ألنه لم يسمع عن األمر أصال أو لم يفهم معناه‪ ،‬وهو جهل‬
‫يزول بمجرد السماع والفهم‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫‪2‬ـ أو الجهل بسبب غياب االنتباه وهو الغفلة‪ ،‬وهو جهل ال يزول‬
‫بالسماع والفهم ألن سببه عدم االنتباه وليس السماع والفهم‪ ،‬فهو عندئذ‬
‫غافل غير منتبه لخطورة معنى أنه أسد‪.‬‬
‫ـ وهذا هو السبب الذي يمنع الكثير من الناس من التأثر بالغيبيات‪،‬‬
‫ألن أكثر الناس مقتنعون بالخالق واآلخرة والرسل وسمعوا عن ذلك‬
‫ويفهمون معنى ذلك‪ ،‬لكن بعضهم جاهل باألمر بسبب عدم االنتباه‬
‫(الغفلة)‪ ،‬لذلك فموضوع الكتاب هو شرح لمعنى الجهل بسبب عدم‬
‫االنتباه (الغفلة) وكيفية معالجته‪.‬‬
‫ـ غياب معرفة اهلل معناه الجهل باهلل‪ ،‬لكن البعض يحسب أن الجهل‬
‫باهلل مسألة مجازية ألنه ال أحد يجهل اهلل‪ ،‬وسبب هذه المشكلة هو أن‬
‫هناك مفهوما خاطئا عن معنى الجهل بالشيء‪ ،‬فالكثير يحسب أن معناه‬
‫عدم السماع أو عدم الفهم لهذا الشيء ولكن هناك سبب ثالث للجهل‬
‫وهو عدم االنتباه لخطورة ذلك األمر‪ ،‬وهذا معناه أنك مهما سمعت عن‬
‫األمر وفهمت معناه فأنت ال تزال جاهال به طالما أنك ال تزال لم تنتبه له‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان يكون جاهال باألمر إذا لم يسمع عنه‪ ،‬ويكون جاهال باألمر‬
‫إذا سمع عن األمر ولكن لم يفهم معناه‪ ،‬ويكون جاهال باألمر إذا سمع‬
‫عنه وفهمه ولكن لم ينتبه لخطورته‪ ،‬فالجاهل باهلل واآلخرة هو سمع‬
‫وفهم ولكن لم ينتبه‪ ،‬وهذا النوع الثالث من الجهل وهو الغفلة‪.‬‬
‫ـ إذن مهما حدثتك عن معلومات هائلة عن الخالق وعن اآلخرة‬
‫وأفهمتك المعاين فأنت ال تزال جاهل باهلل واآلخرة طالما أنك ال تزال‬
‫لم تنتبه لخطورة األمر‪ ،‬وإذا تحقق هذا االنتباه فهنا فقط تحققت المعرفة‬
‫الحقيقية باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫******‬

‫‪7‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ إذن هناك نوع من الجهل اسمه (الجهل لعدم االنتباه) وهو ما ورد يف‬
‫الشرع تحت اسم (الغفلة)‪ ،‬لذلك اهتم القرآن بمسألة الغفلة وخطورهتا‬
‫وعالجها‪.‬‬
‫ـ الغافل عن اهلل واآلخرة هو ال يزال ال يعرف أن له خالقا وأن هناك‬
‫آخرة رغم أنه قد يكون على يقين تام باهلل واآلخرة‪ ،‬والغفلة عن اهلل‬
‫واآلخرة هي جهل متعمد ال عذر فيه‪.‬‬
‫ـ أخطر قضية يف الدين هي أن يعيش اإلنسان يف غيبوبة ثم يفيق بعد‬
‫أن يموت ويكتشف أن هذه الحياة التي كان يعيشها يف الدنيا هي حياة‬
‫كاذبة ألن الحياة الحقيقية يف اآلخرة‪ ،‬ويكتشف أنه كان ً‬
‫غافل‪ ،‬ففي هذا‬
‫الكتاب نبين حقيقة الغفلة التي يعيشها أهل الدنيا ونبين خطرها وكيفية‬
‫النجاة منها‪.‬‬
‫ـ الغفلة معناها أن هناك رجال يبحث عن شيء ما‪ ،‬ثم بعد فرتة نسي ما‬
‫يبحث عنه‪ ،‬ولكنه استمر يف البحث ألنه وجد آخرين مثله يبحثون وهم‬
‫أيضا نسوا ما يبحثون عنه‪ ،‬فأصبحت عملية البحث نفسه هي الهدف‪،‬‬
‫فهذا هو حال الغافل نسي المغزى والمعنى والهدف المقصود من الدين‬
‫والعبادة‪ ،‬فالمعنى مات والروح ماتت والظاهر موجود‪ ،‬لذلك فهذا‬
‫الكتاب هو إحياء للمغزى والمعنى والهدف المقصود من الدين والعبادة‪.‬‬
‫ـ كلمات (العبادة) و(الخالق) و(اآلخرة) و(الجنة) و(النار) موجودة‬
‫عند الغافل لكن مات معناها فأصبحت كأنه لم يسمع عنها أو كأنه ال يفهم‬
‫معناها أو كأنه ال يوقن هبا أو كأن تلك الكلمات شيء تافه غير مؤثر أو كأن‬
‫تلك األشياء غير موجودة أصال‪.‬‬
‫ـ فالمشكلة أن المعرفة الحقيقية بالخالق واآلخرة ال تزال لم تتحقق‬
‫عند البعض!‪ ،‬فرغم أن كل الناس يعلمون أن لهم خالقا وأهنم ذاهبون الى‬

‫‪8‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫اآلخرة وأن اهلل أرسل لهم الرسل لكن حال البعض يقول أهنم ال يعلمون‬
‫شيئا من ذلك فهذه المعلومة البسيطة مات معناها‪ ،‬وأصبحت الغفلة هي‬
‫الوضع الطبيعي المألوف الذي اعتاد عليه الكثير فإذا جاء أحد ليقول لهم‬
‫تعالوا نعرف من جديد معنى أن لنا خالقا ومعنى أننا ذاهبون الى اآلخرة‬
‫لقالوا إنه مجنون أو متخلف!‬
‫ـ فنحن ال نتكلم يف هذا الكتاب عن معلومات عويصة يف الدين ولكننا‬
‫فقط نتكلم عن أبسط معلومة يف الدين وهي أن لنا خالقا وأن هناك آخرة‬
‫باإلضافة‪ ،‬ونتحدث عن الخالق واآلخرة بغرض تحقيق المعرفة الحقيقية‬
‫باهلل واآلخرة وليس بغرض مزيد من المعلومات للسماع والفهم‪.‬‬
‫ـ لذلك أنصح بقراءة هذا الكتاب مرات كثيرة والقراءة والسماع عن‬
‫كل من يتحدث عن اهلل واآلخرة بغرض تحقيق المعرفة الحقيقية‪ ،‬وكذلك‬
‫أنصح الخطباء بكثرة الحديث عن اهلل واآلخرة بطريقة تؤدي إلى الخروج‬
‫من الغفلة عن اهلل واآلخرة (تحقيق المعرفة الحقيقية باهلل واآلخرة)‪.‬‬
‫******‬
‫ـ االنسان له وظائف باطنة ووظائف ظاهرة‪ ،‬الوظائف الباطنة هي‬
‫وظائف العقل والقلب وهي التفكير واالنتباه والهموم واالهداف‬
‫والمشاعر واليقين‪ ،‬والوظائف الظاهرة هي مبدأ العمل وعمل الجوارح‪.‬‬
‫ـ الدين يشمل كل وظائف االنسان‪ ،‬والموجود منها فقط عند البعض‬
‫هو اليقين وبعض أعمال الجوارح وقول الشهادتين وباقي الوظائف غير‬
‫موجودة‪ ،‬وهذا معناه أن البعض يحتاج الى عقل وقلب جديدين ويحتاج‬
‫إلى إعادة ضبط المبدأ الذي تعمل به جوارحه وإعادة ضبط سلوكه‬
‫وتصرفاته‪ ،‬أي نحتاج إلى تكوين انسان جديد تماما‪.‬‬
‫ـ فالكثير يحتاج إلى إعادة ضبط طريقة التفكير ليكون تفكيره سليم‬
‫لكي يستخدم عقله يف التذكر لحقائق األشياء‪ ،‬ووظيفة االنتباه لحقيقة‬

‫‪9‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫األشياء غائبة فنظرة االنسان الى األشياء خاطئة‪ ،‬ووظيفة الهم معطلة‬
‫فينشغل الهم باألمور التافهة وال ينشغل باألمور الهامة‪ ،‬واألهداف تكون‬
‫ألمور الدنيا الفانية‪ ،‬والمشاعر تتعلق بالدنيا وال تتعلق باهلل واآلخرة‪،‬‬
‫ومبدأ العمل ينبني على أساس الحرية والغرور بالنفس وليس على أساس‬
‫الخضوع وبعض العمل غائب‪.‬‬
‫ـ يف هذا الكتاب نعيد ضبط وظائف العقل والقلب (ما عدا اليقين على‬
‫اعتبار أنه موجود) ونعيد ضبط مبدأ عمل الجوارح ونعيد ضبط سلوك‬
‫االنسان وطبيعة تصرفاته وانفعاالته وفرحه وحزنه وغضبه وأخالقه‬
‫وكالمه ونيته‪.‬‬
‫ـ هذا الكتاب يتحدث عن هذه الوظائف الغائبة وكيفية تحقيقها‪.‬‬
‫ـ أهم وظائف االنسان هي المشاعر وهي الحب والخوف والرجاء‬
‫والشعور بالخضوع وهي من شروط االيمان‪ ،‬والمشكلة أن االنسان قد‬
‫يحسب أن هذه المشاعر متحققة والحقيقة أهنا ليس لها وجود‪.‬‬
‫ـ جميع وظائف االنسان تتحقق تلقائيا بتحقيق وظيفة واحدة فقط‬
‫هي االنتباه (مع وجود اليقين)‪ ،‬واالنتباه معناه االنتقال من الغفلة الى‬
‫المعرفة الحقيقية‪ ،‬والوسيلة التي تستخدم للوصول الى االنتباه هي التذكر‬
‫واالستمرار عليه‪.‬‬
‫ـ هذه الوظائف تنقسم الى قسمين‪ ،‬القسم األول هو العالقة بين‬
‫الخالق والعبد وتشمل المشاعر والهموم واالهداف ومبدأ العمل وعمل‬
‫الجوارح‪ ،‬والقسم الثاين هو الطريق الى إيجاد هذه العالقة بين الخالق‬
‫والعبد وهي التذكر واالنتباه واليقين‪.‬‬
‫ـ قد يحسب اإلنسان أنه يعرف اهلل ويحبه ويخافه ويرجوه ويشعر‬
‫بالخضوع له ويحسب أن هدفه رضا اهلل والجنة والحقيقة أنه ال يعرف‬
‫غير الدنيا وال يحب وال يخاف وال يرجو غيرها وال هدف له غيرها ‪،‬‬

‫‪10‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫كما يحسب أنه يعبد اهلل وهو لم يحقق معنى العبادة وهو الخضوع ولم‬
‫يحقق أساس العبادة وهو الحب والخوف والرجاء ولم يحقق أعمال‬
‫العبادة الباطنة كالشعور بالخضوع والرضا والتوكل وتبقى بعض أعمال‬
‫ظاهرة مفتعلة أو عادة أو تقليدا أو مجرد مظاهر روتينية‪ ،‬فيصبح االنسان‬
‫كالذي ال يدري ما يفعل‪ ،‬بل إنه ال يعرف المعني الصحيح لمعنى ال إله‬
‫إال اهلل ومفهوم العبادة ومفهوم الغفلة ومفهوم الهداية ومفهوم معرفة اهلل‬
‫ومفهوم الجهل باهلل‪ ،‬ففي هذا الكتاب نبين لك حقيقة هذه األمور‪ ،‬كما‬
‫نبين لك الطريق الوحيد الذي تتحقق به العبادة وتدخل به الجنة‪ ،‬لذلك‬
‫فهذا هو أخطر كتاب يمكن أن تقرأه يف حياتك‪.‬‬
‫ـ الغفلة لها معاين مختلفة كثيرة‪ ،‬نحن هنا يف هذا الكتاب نتحدث عن‬
‫الغفلة عن اهلل واآلخرة التي تمنع تحقيق مشاعر االيمان األربعة وهي‬
‫الحب والخوف والرجاء والشعور بالخضوع والتي يستحيل تحقيق هذه‬
‫المشاعر األربعة إال بزوالها‪ ،‬فالغفلة التي نقصدها هي المعنى الوارد يف‬
‫وب َل‬ ‫الن ِ‬
‫ْس َل ُه ْم ُق ُل ٌ‬ ‫ج ِّن َو ْ ِ‬ ‫﴿و َل َقدْ َذر ْأنَا ل ِ َج َهنَّم كَثِيرا مِ َن ا ْل ِ‬
‫اآليات التالية‪َ :‬‬
‫َ ً‬ ‫َ‬
‫ون بِ َها ُأو َلئِ َك‬
‫ان َل َي ْس َم ُع َ‬ ‫ون بِ َها َو َل ُه ْم َأ ْع ُي ٌن َل ُي ْب ِص ُر َ‬
‫ون بِ َها َو َل ُه ْم آ َذ ٌ‬ ‫َي ْف َق ُه َ‬
‫ون ﴾ [األعراف‪ُ ﴿ ]179 :‬أو َلئِ َك‬ ‫َالَ ْن َعا ِم َب ْل ُه ْم َأ َض ُّل ُأو َلئِ َك ُه ُم ا ْل َغافِ ُل َ‬
‫ك ْ‬
‫ار ِه ْم َو ُأو َلئِ َك ُه ُم ا ْل َغافِ ُل َ‬
‫ون ]‬ ‫اهَّلل َع َلى ُق ُلوبِ ِه ْم َو َس ْم ِع ِه ْم َو َأ ْب َص ِ‬
‫ا َّلذي َن َط َب َع ُ‬
‫ِ‬
‫[النحل‪ ، ]108 :‬ونقصد بمعرفة اهلل أي عدم الغفلة عن اهلل ‪ ،‬فالمعرفة‬
‫باهلل عكس الغفلة عن اهلل‪ ،‬أي أن معرفة اهلل التي نقصدها هي الطريق‬
‫الوحيد (مع وجود اليقين) لتحقيق هذه المشاعر األربعة‪ ،‬والتي بدوهنا‬
‫ال تتحقق هذه المشاعر األربعة‪.‬‬
‫ـ هذا الكتاب هو بحث منهجي يف إطار القرآن والسنة‪ ،‬والمادة العلمية‬
‫يف هذا الكتاب مستقاة من نصوص القرآن والسنة الصحيحة المحققة‬
‫ومن خالل كتب التفسير وأقوال العلماء والسلف الصالح وأمهات كتب‬
‫الرتاث‪ ،‬وجميع ذلك محقق ويف شكل منهجي ذو عناصر محددة واضحة‬

‫‪11‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ويف إطار منهج أهل السنة والجماعة‪.‬‬


‫ونظرا لخطورة القضية التي يعرضها الكتاب فقد استخدمنا أسلوب‬ ‫ً‬ ‫ـ‬
‫الشرح المبسط الواضح بعناصر محددة وتكرار شرح المعنى الواحد بأكثر‬
‫من صيغة لمزيد من اإليضاح‪ ،‬وكل قضية نذكرها يف الكتاب نذكر األدلة‬
‫القاطعة عليها من القرآن والسنة الصحيحة وكتب التفسير وأقوال العلماء‪.‬‬
‫واهلل املستعان وعليه التكالن‪.‬‬
‫******‬

‫‪12‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل األول‬
‫مفهوم العبادة (مفهوم اخل�ضوع)‬

‫ـ لماذا نعيش؟‪ :‬نحن نعيش من أجل عبادة اهلل تعالى‪ ،‬ولماذا نعبد اهلل؟‪:‬‬
‫نعبد اهلل تعظيما له (حبا يف عظمته) وخوفا من عقابه ورجاء يف ثوابه‪ ،‬ولماذا‬
‫نحبه ونخافه ونرجوه؟‪ :‬إذا عرفنا اهلل وعرفنا اآلخرة معرفة حقيقية (مع وجود‬
‫اليقين) تحقق يف قلوبنا حبا وخوفا ورجاء شديدا جعلنا نعيش لعبادته‪.‬‬
‫ـ فالطريق الوحيد لتحقيق العبادة هو تحقيق المعرفة الحقيقية باهلل‬
‫واآلخرة مع وجود اليقين باهلل واآلخرة والرسل ألن معرفة أسماء اهلل‬
‫وصفاته ومعرفة أوامر اهلل نعرفها من الرسل‪.‬‬
‫ـ فإذا عرفت اهلل عبدته‪ ،‬وال تتحقق العبادة حتى تعرف اهلل تعالى‪،‬‬
‫وطالما أن االنسان ما زال غافال عن اهلل فال تزال العبادة لم تتحقق بعد‪،‬‬
‫والطريق الوحيد لتحقيق العبادة هو زوال الغفلة عن اهلل تعالى (مع وجود‬
‫اليقين)‪ ،‬ومن هنا تعرف العالقة بين الغفلة عن اهلل (غياب معرفة اهلل) وبين‬
‫تحقيق العبادة‪ ،‬فمن هنا تعرف كيف تنشأ العبادة من معرفة اهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ ت�صحح املفهوم اخلاطئ عن معنى القوي وال�ضعيف‪:‬‬
‫ـ لكي نفهم معنى العبادة يجب أوال أن نصحح المفهوم الخاطئ عن‬
‫معنى القوي والضعيف‪ ،‬فعندما نتحدث عن القوي والضعيف يحسب‬
‫البعض أننا نتحدث عن الظالم والمظلوم لذلك تجدهم يقفون مع‬
‫الضعيف ويحبونه ضد القوي ويكرهونه‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ الذي يظلم يفعل ذلك ألنه لديه احتياج ألمر ما يستمده من غيره‪،‬‬
‫وهذه صفة ضعف ونقص‪ ،‬فالقوي بحق ليس لديه احتياج أو نقص ليظلم‬
‫غيره‪ ،‬بل إنه من صفات القوة أن يعين القوي الضعيف‪ ،‬فالقوي محمود‬
‫ومحبوب دائما‪.‬‬
‫ـ وصفات الضعف والنقص هي صفات بغيضة مكروهة‪ ،‬فمثال عندما‬
‫تنظر الى إنسان أعمى أو فيه عاهة ما أو غبي أو جاهل فإنك تشمئز عندما‬
‫تراه أو تتعامل معه‪ ،‬بينما لو سمعت عن رجل حقق رقما قياسيا يف لعبة ما‬
‫أو حاز على جائزة ما أو تفوق يف أمر ال يستطيعه أكثر الناس فإنك تحبه‬
‫وتسعد بلقائه‪.‬‬
‫ـ الناس كلهم ضعفاء ألن ما عندهم من قوة إنما هو عطاء من اهلل لهم‪،‬‬
‫فالقوة ليست نابعة من أنفسهم وال هم أوجدوها ألنفسهم‪ ،‬والضعف‬
‫صفة ذم‪ ،‬والقوة صفة مدح‪.‬‬
‫ـ الناس كلهم فقراء ألن ما عندهم من مال هو مال اهلل‪ ،‬والفقر صفة ذم‬
‫والغنى صفة مدح‪.‬‬
‫ـ صفات الضعف والنقص كلها عند االنسان‪ ،‬فاألصل أن االنسان‬
‫أعمى ال يرى وما عنده من عين إنما هي ملك هلل وليست ملكا له وليس‬
‫هو الذي أوجدها لنفسه وإنما هي أمانة يسرتدها اهلل منه‪ ،‬وهكذا يف كل‬
‫النعم‪ ،‬بل إننا إذا أخذنا جميع النعم من االنسان أصبح ال شيء‪.‬‬
‫ـ فصفات اهلل سبحانه تجعلك تتحير وتندهش وتتعجب وتنبهر وتذهل‬
‫من مدى عظمته‪ ،‬وهذا هو معنى كلمة (إله) يف اللغة‪ ،‬ففي تاج العروس‪:‬‬
‫وغير ذل ِ َك مِن‬
‫ِ‬ ‫وجالل ِ ِه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿أل َه َي ْأ َل ُه إذا َت َح َّي َر‪ُ ،‬يريدُ إذا َو َق َع ال َع ْبدُ يف َع َظ َمة اهَّلل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يميل ق ْل ُبه إلى‬
‫الناس حتى ما َ‬ ‫توه ُمه إليها‪َ ،‬أ ْب َغ َض َ‬ ‫ف ّ‬ ‫وص َر َ‬
‫الر ُبوب َّية َ‬ ‫ص َفات ُّ‬
‫َأ َح ٍد)‪.)1( ‬‬

‫((( تاج العروس من جواهر القاموس ـ دار الهداية (‪.)322 / 36‬‬

‫‪14‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ هناك فرق بين القدرة والقدر‪ ،‬فالقدرة مثل القدرة على السمع‬
‫والقدرة على البصر والقدرة على عمل األشياء‪ ،‬أما القدر فمعناه المكانة‬
‫والعظمة‪ ،‬فمن كان له قدرة كبيرة كان له قدر كبير ومكانة كبيرة وشأن‬
‫كبير وعظمة‪.‬‬
‫ـ االنسان يحب صفات القدرة والقوة لعظمتها ومكانتها أي إعجابا‬
‫بعظمتها‪ ،‬فاإلنسان يخضع هلل تعظيما وإجالال وتوقيرا‪.‬‬
‫ـ والحظ أننا يف هذا الكتاب نقصد بصفات القوة كل الصفات‬
‫الحميدة‪ ،‬ونقصد بصفات الضعف كل الصفات الذميمة‪.‬‬
‫******‬
‫ـ أصل قضية الدين هي عالقة خضوع بين القوي والضعيف‪ ،‬فالقوى‬
‫هو اهلل والضعيف هو اإلنسان‪ ،‬والنفس تستكرب أن تعيش معيشة الخضوع‪.‬‬
‫ـ اإلله هو الذي يمتلك صفات العظمة والقوة‪ ،‬ومن يمتلك صفات‬
‫النقص والضعف فعليه أن يخضع ويسجد لإلله‪ ،‬ألن الضعيف عليه أن‬
‫يسجد للقوي‪.‬‬
‫ـ ال إله بغير خضوع‪ ،‬وجود الخضوع معناه وجود إله ووجود عبد‬
‫ووجود دين‪ ،‬وبغير الشعور بالخضوع فال معنى ألن يقول اإلنسان أنه‬
‫عبد وأن له إله‪ ،‬فإذا رفعنا الخضوع من كلمة « عبد » أصبحت كلمة‬
‫مفرغة من المعنى‪ ،‬فالعبد هو الخاضع‪ ،‬والذي ال يشعر بأنه خاضع هو ال‬
‫يريد أن يكون عبدا وهو مستكرب‪.‬‬
‫ـ اإلله هو الذي يمتلك صفات العظمة والقوة‪ ،‬والعبد هو الذي‬
‫يمتلك صفات الضعف والنقص‪ ،‬فمن شعر بضعفه وقدرة الخالق عليه‬
‫فقد تحقق عنده الشعور بالخضوع‪ ،‬ومن لم يشعر بضعفه وقوة الخالق‬
‫فلن يشعر بالخضوع‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ العالقة بين الضعيف والقوي هي الخضوع تعظيما له (حبا يف‬


‫عظمته) وخوفا ورجاء‪.‬‬
‫ـ كل الصفات الحميدة هي صفات محبوبة لذلك فالضعيف يخضع‬
‫للقوي حبا يف صفاته‪ ،‬كما يخضع له ألنه يحتاج إليه رجاء يف عطاءه وخوفا‬
‫من منعه‪.‬‬
‫ـ والحظ أن البشر ليس فيهم ضعيف وقوي‪ ،‬فجميعهم ضعفاء واهلل‬
‫اب َأ َّن ا ْل ُق َّو َة ل ِ َّل ِه‬ ‫ِ‬
‫﴿و َل ْو َي َرى ا َّلذي َن َظ َل ُموا إِ ْذ َي َر ْو َن ا ْل َع َذ َ‬
‫وحده هو القوي‪َ :‬‬
‫َج ِمي ًعا﴾(‪ ،)1‬وما عند الناس من صور القوة ما هي إال عطاء من اهلل إليهم‬
‫وليست ملكا لهم‪ ،‬فالقوي بحق هو الذي يمتلك صفات القوة والقدرة‪.‬‬
‫ـ فال قوي بحق إال اهلل وكل ما سوى اهلل ضعيف‪ ،‬والعالقة بين‬
‫الضعيف والقوى هي العبادة‪ ،‬والعبادة هي الخضوع تعظيما هلل (حبا يف‬
‫عظمته) وخوفا ورجا ًَء‪ ،‬والخضوع يتمثل يف أربعة نواحي هي الخضوع‬
‫يف طريقة المعيشة والخضوع بالقلب والخضوع بالجوارح والخضوع‬
‫باللسان‪.‬‬
‫ـ وإذا كان الضعيف نفسه من صنع القوي وملكا له ويعيش يف ملكه‬
‫ويعيش بنعمه فهذا معناه الضعف التام للضعيف وبالتالي الشعور بأنه ال‬
‫حول له وال قوة وعندئذ يشعر االنسان بالذل والخضوع تعظيما للقوي‬
‫(حبا يف عظمته) وخوفا ورجاء‪.‬‬
‫ـ ما الذي يريده ويطلبه القوي من الضعيف والخالق من المخلوق‬
‫والملك من العبيد؟‪ ،‬هو ال يحتاج أي شيء‪ ،‬لذلك الذي يطلبه أنه يريد‬
‫منهم أن يذلوا له تعظيما ويذلوا له طمعا يف عطاءه ويذلوا له خوفا من‬
‫عقابه‪.‬‬

‫((( البقرة‪ :‬من اآلية ‪‌165‬‬

‫‪16‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ اهلل يريد من الناس أن يذلوا له ويركعوا له ويخضعوا له ويسجدوا‬


‫له ويعيشوا معيشة الخضوع ويعيشوا عبيدا أذالء لسيدهم رب العالمين‪،‬‬
‫اهَّلل َما َل ُك ْم مِ ْن إِ َل ٍه َغ ْي ُر ُه‪،)1( ‬‬
‫لذلك جاءت الرسل تنادي يف الناس‪﴿ :‬ا ْع ُبدُ وا َ‬
‫ولكن الناس يهربون ال يريدون الخضوع‪ ،‬ألن مفهوم الحياة سوف يتغير‬
‫فيعيشون حياة العبد لسيده‪ ،‬ويعيشون حياة الخائف الهارب من النار‪،‬‬
‫ويعيشون حياة المسافر المستعد للرحيل‪ ،‬ويعيشون حياة الطالب يف لجنة‬
‫االمتحان تحت مراقبة تحسب عليه كل حركاته وسكناته‪ ،‬وذلك ألهنم‬
‫مخدوعون بأنفسهم ويحسبون أنه أقوياء بما عندهم من إرادة ونعم‪.‬‬
‫******‬
‫ـ قد يحسب االنسان أنه يعبد اهلل ويف الحقيقة هو لم يحقق العبادة‬
‫وذلك ألنه لم يحقق أصل العبادة وهو الحب والخوف والرجاء والشعور‬
‫بالخضوع‪.‬‬
‫ـ وال تتحقق العبادة إال يف ثالث خطوات بالرتتيب‪ ،‬الخطوة األولى‬
‫هي تحقيق المعرفة الحقيقية (مع اليقين)‪ ،‬وذلك يؤدي إلى الخطوة‬
‫الثانية وهي الحب والخوف والرجاء‪ ،‬وذلك يؤدي إلى الخطوة الثالثة‬
‫وهي الخضوع‪.‬‬
‫ـ والمشكلة تكمن يف الخطوة األولى وهي غياب المعرفة الحقيقية‬
‫(الغفلة) وبالتالي لن تتحقق الخطوة الثانية والثالثة‪.‬‬
‫ـ تحقيق المعرفة الحقيقية (مع وجود اليقين) يؤدي تلقائيا الى تحقيق‬
‫العبادة‪ ،‬لذلك فهذا الكتاب كله تقريبا هو شرح لكيفية تحقيق المعرفة‬
‫الحقيقية باعتبارها الطريق الوحيد لتحقيق العبادة (مع وجود اليقين)‪،‬‬
‫والمشكلة أن اإلنسان قد يحسب أنه يعرف اهلل واآلخرة ويف الحقيقة أنه‬

‫((( األعراف‪59 :‬‬

‫‪17‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ال يعرف غير الدنيا‪ ،‬ألن المعرفة الحقيقية باهلل واآلخرة غير موجودة‪.‬‬
‫ـ مفهوم العبادة‪:‬‬
‫العبادة هي الخضوع تعظيما هلل (حبا يف عظمته) وخوفا ورجاء‪ ،‬وتنشأ‬
‫من معرفة قدرة الخالق وضعف االنسان‪ ،‬والخضوع يتمثل يف أربعة أمور‬
‫هي الخضوع يف طريقة المعيشة والخضوع بالقلب والخضوع بالجوارح‬
‫والخضوع باللسان‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان يعبد اهلل لسببين‪ ،‬السبب األول هو تعظيما هلل (من شدة‬
‫حبه واعجابه بعظمته الهائلة)‪ ،‬والسبب الثاين هو شدة الخوف والرجاء‪،‬‬
‫والبد من وجود السببين معا‪ ،‬فهو يعبد اهلل حبا من أجل تعظيمه ورضاه‬
‫والبعد عن سخطه حتى ولو لم يكن هناك ثواب وعقاب‪ ،‬ويعبد اهلل خوفا‬
‫من النار ورجا ًَء يف الجنة‪ ،‬وال يدخل الجنة إال إذا عبد اهلل تعظيما له (حبا‬
‫يف عظمته) وخوفا ورجا ًَء معا‪.‬‬
‫ـ فمثال الخضوع خوفا مثلما يرفع عليك أحدا من الناس سالحا‬
‫ويقول لك افعل كذا وإال قتلتك فانت تخضع له خوفا منه‪.‬‬
‫ـ ومثال الخضوع رجا ًَء مثل الشحاذ الذي يسأل الناس أن يعطوه‬
‫ويتوسل لهم ويتذلل لهم ويظهر ضعفه أمامهم ويخفض رأسه لهم طمعا‬
‫يف إحساهنم له‪.‬‬
‫ـ ولكي نفهم معنى الخضوع حبا فالبد أن نعرف أن االنسان مفطور‬
‫على حب من يتصف بالصفات الحميدة الخارقة‪ ،‬ومفطور أيضا على‬
‫الخضوع إذا زاد هذا الحب لدرجة هائلة وذلك عندما تكون الصفات‬
‫الخارقة هائلة جدا‪ ،‬ولكن المشكلة يف غفلة االنسان عن هذه الصفات‪،‬‬
‫فإذا حدث االنتباه واالنبهار والتعجب والدهشة وبالتالي تحققت المعرفة‬
‫الحقيقية فعندئذ يحس االنسان من داخله بالفرح والحب لمن يتصف‬

‫‪18‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫هبذه الصفات ويصبح محبوبه الذي يأنس به‪ ،‬وإذا زاد حبك له بشدة‬
‫فعندئذ تخضع له من شدة حبك تعظيما واعجابا بقدراته‪.‬‬
‫ـ فالحب الحقيقي هو فقط هلل ألن كل أحد غير اهلل هو ضعيف وما‬
‫عنده من قدرة إنما هي عطاء من اهلل‪.‬‬
‫ـ معنى أن اهلل هو المالك أي أن اهلل له ملكية كل شيء‪ ،‬وهذا معناه أن‬
‫يتجرد اإلنسان عن كل ما يملك وعن نفسه لينسب ذلك إلى اهلل المالك‬
‫الحقيقي فيشعر أن كل ما عنده هو محض تكرم وإنعام من اهلل فيحبه‬
‫ويذل لعطاءه مدين له بالوالء مرهونا وأسيرا لفضله منكسر النفس غير‬
‫حر ألنه عنده النقص والعوز معرتفا بذلك غير قادر على أن يقيت نفسه‬
‫(فاهلل هو المقيت أي الذي يعطيه القوت) واهلل يمده باللقمة التي يأكلها‬
‫وهو أسير وعبد إلحسانه منكسر المشاعر يشعر بالعجز أمامه ويشعر بأنه‬
‫ما له حول وال قوة‪.‬‬
‫ـ فالخضوع رجا ًَء معناه أن تعيش مرهونا بعطائه فمن غيره تموت‪،‬‬
‫ذليال لعطائه محتاجا لعطائه‪ ،‬فبغير عطاءه ونعمه ال تستطيع أن تتنفس‪،‬‬
‫فالنفس والهواء نعمة‪ ،‬فأنت عبد إحسانه خاضع لما يجود به عليك‪،‬‬
‫وكما يقولون فاإلنسان أسير اإلحسان‪.‬‬
‫ـ والحظ أن الخضوع ال ينشأ من مجرد الحب والخوف والرجاء‬
‫ولكن من الحب الشديد والخوف الشديد والرجاء الشديد فذلك الذي‬
‫يجعلك تخضع وتنقاد‪.‬‬
‫ـ اخل�ضوع نوعني‪:‬‬
‫ـ أوال‪ :‬خضوع غير مرتبط بالثواب والعقاب‪ :‬وهو الخضوع تعظيما‬
‫هلل (حبا يف عظمته)‪ ،‬فلو افرتضنا أنه ال توجد جنة وال نار لوجب على‬
‫االنسان أن يخضع هلل تعظيما وإجالال من شدة حبه يف عظمة اهلل‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ ثانيا‪ :‬خضوع مرتبط بالثواب والعقاب‪ :‬وهو الخضوع خوفا ورجا ًَء‪.‬‬
‫ـ والبد من وجود النوعين معا‪.‬‬
‫ـ والخضوع يتمثل يف أربعة أمور هي الخضوع يف طريقة المعيشة‬
‫والخضوع بالقلب والخضوع بالجوارح والخضوع باللسان‪:‬‬
‫‪1‬ـ اخل�ضوع يف طريقة املعي�شة (يعي�ش معي�شة اخلا�ضع)‪:‬‬
‫ـ اإلنسان إذا كان هو الذي صنع نفسه بنفسه فأوجد لنفسه عينه وأنفه‬
‫وأذنيه وأوجد لنفسه ما يمتلك من نعم وأموال وأوالد فهي ملكا له وليس‬
‫ألحد سلطة عليه أو عطاء أو صنع له شيئا‪ ،‬ففي هذه الحالة فاإلنسان له أن‬
‫يعيش وفق مراد نفسه وما يشتهيه وهذا حقه فهو حر يفعل ما يشاء‪.‬‬
‫ـ ولكن الحاصل عكس ذلك فاإلنسان هو نفسه عبارة عن مادة‬
‫مصنوعة يمتلكها من صنعها‪ ،‬فاإلنسان ال يملك شيئا وال حتى نفسه فكل‬
‫ما عنده من نعم وشهوات هو محض عطاء من اهلل‪ ،‬ففي هذه الحالة يجب‬
‫على اإلنسان أن يعيش وفقا لمراد من صنعه ويمتلكه خاضعا هلل ألنه ال‬
‫يملك شيئا وال حتى عقله فكل ذلك من صناعة الخالق‪.‬‬
‫ـ الخضوع يف طريقة المعيشة معناه اختيار االنسان لطريقة الحياة‬
‫ونمط الحياة التي يريد أن يعيشها أي إما أن يعيش حياته عبدا خاضعا‬
‫لغيره أو يعيش لنفسه حرا غير ذليل أو خاضع ألحد‪.‬‬
‫ـ أي أن يعيش على أساس أنه عبد مثلما كان العبيد قديما يباعون‬
‫ويشرتون يف سوق العبيد‪ ،‬فهو يعيش خادما لسيده يوجهه كيف يشاء‬
‫ويفعل به ما يشاء وليس له حق يف أي شيء‪ ،‬فيعيش معيشة العبد لسيده‪،‬‬
‫والعبد ليس له هدف غير إرضاء سيده وقبول كل ما يفعل به سيده‪ ،‬أي‬
‫يختار أن يعيش حياة الخضوع والذل لغيره (هلل تعالى)‪ ،‬أي تصبح وظيفته‬
‫يف الحياة ومهمته التي يكرس حياته من أجلها هي أن يعمل عند اهلل عبدا‬

‫‪20‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫كما يعمل الخادم عند سيده فيعيش عمره كله على هذا‪ ،‬فهذا اختار أن‬
‫يكون عبدا هلل ‪ ،‬أما غيره فاختار أن يعيش حرا كأنه ال أحدا يملكه وال يتبع‬
‫ألحد وكأنه هو الذي أوجد نفسه أو ال أحد أوجده‪.‬‬
‫ـ بمعنى أننا إذا استطعنا تلخيص حياتك بما فيها من مشاعر وهموم‬
‫وأهداف وطموحات وأعمال فهل هي معيشة إنسان خاضع لغيره (هلل‬
‫تعالى) أم معيشة من أجل أمور الدنيا ومشاغلها المتنوعة؟‬
‫ـ فاإلنسان أمامه أمران هما‪ :‬إما أن تكون له حياته المستقلة به فيدير‬
‫أموره بنفسه ويفعل ما يريد ويرغب‪ ،‬فيعيش حياته حرا يفعل ما يشاء‪ ،‬وإما‬
‫أن يجعل حياته ألحد غير نفسه‪ ،‬فيعيش عبدا خاضعا لسيده ومواله رب‬
‫العالمين‪ ،‬فيضع نفسه وما يملك ورغباته وحياته تحت تصرف سيده‪.‬‬
‫ـ معنى الخضوع أي االستسالم أي إسالم النفس وكل ما تملك إلى‬
‫مالكها الحقيقي وهو اهلل سبحانه‪ ،‬أي التجرد من كل ما تملك لتنسبه إلى‬
‫مالكه الحقيقي وهو اهلل سبحانه‪ ،‬فتكون كالميت بين يدي مغسله يفعل به‬
‫ما يشاء‪ ،‬أي تكون كالميت بين يدي اهلل يفعل بك ما يشاء‪.‬‬
‫ـ ملاذا يرف�ض النا�س دعوة الر�سل لعبادة اهلل تعاىل؟‪:‬‬
‫ـ الضعيف عليه أن يشعر بالخضوع والذل‪.‬‬
‫ـ والقوي له أن يشعر بالقدر والعظمة والكربياء أي يشعر بأنه عظيم‬
‫وذو قيمة ومكانة‪.‬‬
‫ـ فالشعور بالخضوع عكس الشعور بالعظمة والكربياء‪.‬‬
‫ـ االنسان ضعيف ويف نفس الوقت ال يريد الخضوع ألن معيشة‬
‫الخضوع هي أمر صعب جدا على النفس فماذا يصنع؟‪ :‬يتغافل عن‬
‫اهلل واآلخرة وبالتالي يرى نفسه قويا بما عنده من النعم فيشعر بالمكانة‬
‫والقدر بدال من أن يشعر بالخضوع‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ الحظ أن قيمة الشيء تعرف بالمقارنة بغيره فإذا غفل االنسان عن‬
‫اهلل واآلخرة رأى نفسه قويا بما عنده من صفات وبما عنده من نعم‪.‬‬
‫ـ معي�شة اخل�ضوع هي �أمر �صعب جدا على النف�س‪:‬‬
‫ـ تصور أنه تم بيعك يف سوق العبيد مثلما كان يحدث يف الماضي‬
‫فأصبحت عبدً ا وخاد ًما لسيدك‪ ،‬هل تقبل هذه الحال اآلن وأنت يف عصر‬
‫الحرية؟!‪ ،‬هل تقبل أن تضع نفسك تحت تصرف غيرك؟!‪ ،‬وهل تقبل‬
‫أن يتحكم فيك غيرك؟!‪ ،‬وهل تتحمل هذه الحالة النفسية من الخضوع‬
‫وطوال عمرك؟!‪ ،‬إنك مطالب بما هو أصعب من ذلك أن تكون عبدا‬
‫لسيدك وموالك رب العالمين‪ ،‬فلماذا ال تشعر أنك واقع تحت سيطرة‬
‫َم ْن يتحكم فيك وأنت عليك أن تقبل الخضوع والذل؟‪ ،‬فأنت تخضع‬
‫له خضوع َم ْن شعر بأنه القهار المهيمن‪ ،‬وخضوع المحتاج إلى نعماءه‪،‬‬
‫وتحب الذل إليه ليعطيك ‪ ،‬كما يفعل الشحاذ حين يسأل الناس فإنه‬
‫يخفض رأسه ويمد يده للناس ليعطوه ‪ ،‬فهل تخفض رأسك وتمد يدك هلل‬
‫ليعطيك؟‪ ،‬إذن أين هذه الحالة النفسية المميزة للخضوع؟‪.‬‬
‫ـ فالطبيعي أن اإلنسان يعيش حياته بنا ًء على ما يريده هو لنفسه وما‬
‫يحبه ويهواه لنفسه وما يحقق رغباته‪ ،‬ولكن هذا األمر صحيح فقط إذا‬
‫كان اإلنسان غير مملوكا لغيره وليس هناك أحدا يسيطر عليه ويستطيع‬
‫أن يفعل به ما يشاء وإذا كانت قدرات اإلنسان من القوة والرؤية والسماع‬
‫والكالم هو الذي أوجدها لنفسه‪.‬‬
‫ـ هل يستطيع اإلنسان أن يعيش لغيره أي ال يعيش من أجل نفسه هو‬
‫ولكن من أجل أحدً ا غيره‪ ،‬إن الخضوع معناه أن تعيش لغيرك‪ ،‬وتعيش‬
‫ذليل خاض ًعا‪ ،‬إن‬ ‫مستسلما ً‬‫ً‬ ‫تحت سلطة وسيطرة غيرك عليك وتقبل ذلك‬
‫أيضا هلل‪ُ ﴿ :‬ق ْل إِ َّن َصالتِي َون ُُسكِي َو َم ْح َياي‬
‫المسلم يعيش هلل بل ويموت ً‬

‫‪22‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫َو َم َماتِي ل ِ َّل ِه َر ِّب ا ْل َعا َل ِمي َن﴾(‪.)1‬‬


‫ـ النفس تستكرب أن تعيش معيشة العبيد‪ ،‬واإلنسان ال يريد أن يذل‬
‫ألحد أو يعيش كأسير أو خادم يلبي أوامر سيده‪ ،‬وال يريد أن يلغي إرادته‬
‫ورغباته وشخصيته المستقلة ويعيش تاب ًعا منهز ًما تحت إرادة قاهر له‪،‬‬
‫ويرفض أن يقيد نفسه بأوامر ألحد عليه‪ ،‬وال يريد أن يتخلى عن حريته‬
‫ليعيش خاض ًعا كالعبد الذي كان يباع ويشرتى يف الماضي‪.‬‬
‫ـ فهل تتصور لو أنك تعيش حياتك بنا ًء على ما يريده ويحبه شخص‬
‫آخر‪ ،‬فكأنك إنسان آلي تسير بالريموت كنرتول فما يريده هذا الشخص‬
‫تفعله له وما يحبه تفعله له‪ ،‬فاإلنسان اآللي ليس له حياته الخاصة وليس‬
‫له رغبات وال يسير من تلقاء نفسه وإنما تب ًعا لما يريده منه هذا الشخص‪.‬‬
‫ـ فمعنى أن يعيش اإلنسان عبدً ا هو أن يعيش حياته وف ًقا ألوامر اهلل‬
‫تعالى وأكثرها أوامر تخالف رغبات نفسه‪ ،‬وهذه المخالفة مقصودة من‬
‫اهلل تعالى حتى يتبين أن اإلنسان خاضع هلل وليس لما يريده هو لنفسه‪:‬‬
‫ون﴾(‪ ،)2‬وبتعبير آخر هو تغليب مراد‬ ‫﴿ َلن َتنَا ُلوا ا ْلبِر حتَّى ُتن ِْف ُقوا مِما ُت ِ‬
‫ح ُّب َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ‬ ‫ْ‬
‫اهلل والدين على مراد نفسك وما تحبه نفسك‪ ،‬وأصعب شيء على اإلنسان‬
‫هو أن يتنازل عن إرادته‪.‬‬
‫ـ واإلنسان عليه أن يختار لنفسه الطريقة التي على أساسها يعيش‪،‬‬
‫هل يبني حياته وف ًقا لرغبات نفسه أم مخالفة نفسه ووفقا لمراد اهلل؟ فلمن‬
‫ِ‬
‫تستجيب؟ ﴿ َف َأ َّما َم ْن َط َغى (‪َ )37‬وآ َث َر ا ْل َح َيا َة الدُّ ْن َيا (‪َ )38‬فإِ َّن ا ْل َجح َ‬
‫يم‬
‫اف َم َقا َم َر ِّب ِه َون ََهى النَّ ْف َس َع ِن ا ْل َه َوى (‪)40‬‬
‫ِه َي ا ْل َم ْأ َوى (‪َ )39‬و َأ َّما َم ْن َخ َ‬
‫َفإِ َّن ا ْل َجنَّ َة ِه َي ا ْل َم ْأ َوى﴾(‪.)3‬‬

‫((( األنعام‪.162 :‬‬


‫((( آل عمران‪.92 :‬‬
‫((( النازعات‪ 37 :‬ـ ‪.41‬‬

‫‪23‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ اإلنسان مغرور بنفسه وبما يملك‪ ،‬فهو يريد أال يعيش ً‬


‫ذليل خاض ًعا‬
‫ألحد (هلل) مقيدً ا بالدين‪ ،‬وهذا معناه استكبار عن عبادة اهلل‪﴿ :‬إِ ْن فِي‬
‫ور ِه ْم إِ َّل كِ ْب ٌر﴾(‪.)1‬‬
‫ُصدُ ِ‬

‫ـ فهو يريد أن يعيش يف الدنيا حرا غير خاضع ويعيش على أساس أن‬
‫السعادة يف الدنيا‪ ،‬ويختار ً‬
‫شكل يعجبه من أشكال السعادة يف الدنيا ويعيش‬
‫له‪ ،‬فيعيش للمال أو للشهوات أو للمظاهر أو أي شيء أو مجموعة من‬
‫األشياء من أمور الدنيا‪.‬‬
‫ـ االستكبار هو تكبير قدر النفس وما معها من نعم مع تجاهل قدر اهلل‬
‫تعالى كأنه ليس له قدر‪ ،‬فهو ال يريد أن يعرتف أمام نفسه بضعفه وعظمة‬
‫اهلل وقدرته عليه ‪ ،‬فأصعب شيء على اإلنسان هو االعرتاف بضعفه‬
‫ونقصه وعجزه واستسالمه واحتياجه وانقياده لغيره ‪ ،‬واالعرتاف بأنه‬
‫مقهور ومغلوب وخاضع تحت سيطرة أحدا غيره ‪ ،‬واالعرتاف بالذل‬
‫وأن يعيش عيشة الذل وعيشة العبيد لسيد يملكه ويملك التصرف فيه ‪،‬‬
‫فاإلنسان يعرف أن هلل كل صفات العظمة والعلو ‪ ،‬وأن اإلنسان فيه كل‬
‫صفات الضعف والعجز لكنه يأبى أن يشعر بذلك ويتعاظم األمر يف نفسه‬
‫أن يكون كذلك‪.‬‬
‫ـ إن النفس مجبولة على حب الشهوات والسعادة وما فيه الراحة‬
‫واللذة وتكره الذلة واالنكسار والخضوع ألي أحد أو أي شيء ألن يف‬
‫ذلك ألم لها‪ ،‬لذلك فالنفس ال تحب الخضوع هلل والدين فرتيد أن تتحرر‬
‫من ذلك‪ ،‬فالنفس من داخلها تتكرب وتأبى أن تستسلم‪﴿ :‬إِ ْن فِي ُصدُ ِ‬
‫ور ِه ْم‬
‫إال كِ ْب ٌر﴾(‪.)2‬‬

‫((( غافر‪.56 :‬‬


‫((( غافر ‪ :‬من اآلية ‪56‬‬

‫‪24‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫‪2‬ـ اخل�ضوع باجلوارح‪:‬‬


‫ـ المقصود من العمل ليس مجرد موافقة العمل للشرع ولكن باعتباره‬
‫تنفيذا ألوامر الغير مع عدم االعتبار ألوامر النفس‪ ،‬فهذا هو المقصود من‬
‫العمل وهو إذاللك وإخضاعك لألوامر‪.‬‬
‫ـ فخضوع الجوارح هو طاعة األوامر‪ ،‬أي الخضوع واالستسالم‬
‫لألوامر‪ ،‬وخضوع الجوارح هلل هو طاعة أوامر اهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ طاعة األوامر خضوع‪ ،‬فاإلنسان أمامه أمران إما أن يطيع أوامر غيره‬
‫أو ال يتبع أوامر أحد ويعيش وفقا لمرادات نفسه‪.‬‬
‫ـ الطاعة ليست مطلوبة لذاهتا ولكن كدليل على الخضوع وتعبير‬
‫عن الخضوع وصورة من صور الخضوع وأثر للخضوع‪ ،‬فاهلل ال يريد‬
‫منا الطاعة لذاهتا ولكن يريد منا الطاعة كتنفيذ أوامر ولو خالف العقل‬
‫والهوى وما تحبه النفس‪ ،‬ألن مخالفة الهوى وعدم الرجوع للعقل يف‬
‫األمر دليل على الخضوع‪َ ﴿ :‬لن َتنَا ُلوا ا ْلبِر حتَّى ُتن ِْف ُقوا مِما ُت ِ‬
‫ح ُّب َ‬
‫ون﴾(‪.)1‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ‬ ‫ْ‬
‫ـ الطاعات تعني أن اإلنسان يقبل أن يعيش تبعا ألوامر الخالق وليس‬
‫وفقا لما يريده هو لنفسه‪ ،‬فهو بذلك يقبل الخضوع‪ ،‬والمعاصي تعني إما‬
‫أنه يرفض أن يعيش تبعا ألوامر غيره أو أن قبوله للخضوع ضعيف‪.‬‬
‫ـ األمر والنهي صفة قوة‪ ،‬وتنفيذ األوامر صفة ضعف‪ ،‬فاآلمر تكون له‬
‫السلطة والسيادة والكربياء‪ ،‬والمأمور يكون له الضعف والذل وليس له‬
‫إال تنفيذ األوامر حتى فيما يريده هو لنفسه‪ ،‬اهلل وحده هو الذي له األمر‬
‫والنهي وكل ما سواه عليه التنفيذ مهما كان األمر‪.‬‬
‫ـ ومن أوامر اهلل طاعة الرسول ﷺ وطاعة أولي األمر فأنت تطيعهم‬

‫((( آل عمران ‪92 :‬‬

‫‪25‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫تنفيذا ألمر اهلل‪ ،‬فاآلمر الحقيقي هو اهلل‪ ،‬فاألصل أن األمر يكون من‬
‫األعلى إلى األدنى‪ ،‬واهلل وحده هو األعلى وجميع البشر أدنى‪ ،‬فأوامر‬
‫اهلل هي أوامر عليا إلى العبيد من البشر‪ ،‬فهي أوامر من المتكرب إلى الذليل‪.‬‬
‫ـ وقد يؤدي اإلنسان الطاعة لكن ال يريد أن يشعر أن أحدا يلزمها عليه‬
‫إلزاما ويفرضها عليه فرضا‪ ،‬كأنه يوافق على الطاعة بمزاجه كأنه يقتنع‬
‫أوال باألوامر ثم يؤديها أو يؤدي الطاعة لمجرد موافقة العمل للشرع‪،‬‬
‫ولكن يجب أن يؤدي الطاعة باعتبارها تنفيذا لألوامر على أساس أهنا‬
‫مسألة خضوع وعالقة بين قوي وضعيف‪ ،‬وأن المقصود منها هو إذاللك‬
‫وإخضاعك لألوامر وليس لك أن تناقش أو تسأل إال لمعرفة الحكمة‬
‫لتزداد إيمانا‪ ،‬وليس لذلك عالقة بتنفيذ األمر سواء عرفت الحكمة أم لم‬
‫تعرف واهلل سبحانه ال يسأل عما يفعل‪َ ﴿ :‬ل ُي ْس َأ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َو ُه ْم ُي ْس َأ ُل َ‬
‫ون‬
‫(‪[ ﴾)23‬األنبياء‪.]23 :‬‬
‫ـ أصل معنى خضوع الجوارح هو السجود‪ ،‬فال إله بغير سجود له‪،‬‬
‫وكذلك أصل معنى الصالة السجود‪ ،‬واألصل يف الصالة أهنا خمسين‬
‫صالة ولكنها خففت فأصبحت خمسين يف األجر وخمس يف الفعل‪ ،‬أي‬
‫من صلى خمس صلوات كأنه صلى خمسين صالة أي كأنه يف سجود‬
‫دائم طوال الليل والنهار‪.‬‬
‫ـ الدافع اىل الطاعة‪:‬‬
‫ـ طاعة األوامر هي صورة من صور الخضوع‪ ،‬والدافع إليها يكون‬
‫تعظيما هلل (حبا يف عظمة اهلل) وخوفا من عقابه ورجا ًَء يف ثوابه‪.‬‬
‫‪1‬ـ طاعة الأوامر تعظيما هلل (حبا يف عظمة اهلل)‪:‬‬
‫ـ عظمة األمر من عظمة اآلمر‪ ،‬فلو أمرك ملك من ملوك الدنيا بأمر‬
‫هو يف نظرك بسيط لكنه يكون عظيما لعظمة من أمر به‪ ،‬يف حين لو أمرك‬

‫‪26‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫طفل من األطفال بنفس األمر فإنك ال تأبه به‪ ،‬ولو أمرك حبيب لك وتحبه‬
‫وفضله عليك عظيم ألسرعت‪ ،‬ولو أمرك أبوك بأمر ألسرعت ألنك‬
‫توقره‪ ،‬ويف تفسير ابن كثير‪﴿ :‬قال بِ ْشر بن الحارث الحايف‪ :‬لو تفكر الناس‬
‫يف عظمة اهلل تعالى لما عصوه﴾(‪ ،)1‬فإذا ذكر اإلنسان عظمة اهلل ندم‪ :‬كيف‬
‫أعصي ربي وهو الذي خلقني ورزقني ؟ فيندم كما لو عصى اإلنسان أباه‬
‫فإنه يندم‪.‬‬
‫ـ مالك الشيء له أن يفعل بما يملك ما يشاء‪ ،‬فالطاعة هنا غير مبنية‬
‫على مبدأ النفع والضرر‪ ،‬فأنت ال تطيع بناء على أن ذلك العمل فيه نفع‬
‫أو ضرر‪ ،‬ولكنك تطيع بناء على أن هذا حق اهلل عليك تعظيما له سبحانه‪.‬‬
‫ـ نعم اهلل عليك ال تحصى‪ ،‬ولو عبدت اهلل ليال وهنارا لم توفه نعمة‬
‫واحدة كالعين مثال‪ ،‬فالعاقل يستحي من أن يعصي من يكرمه ويحسن‬
‫إليه تعظيما له‪ ،‬فكيف تعصيه وأنت تعيش يف ملكه وتقف على أرضه‬
‫وتأكل من رزقه‪.‬‬
‫‪2‬ـ طاعة الأوامر خوفا ورجاءًَ‪:‬‬
‫ـ الخوف والرجاء يؤدي إلى ترك المعاصي والمسارعة يف الخيرات‪:‬‬
‫اجدً ا َو َقائِ ًما َي ْح َذ ُر اآلخرة َو َي ْر ُجو َر ْح َم َة َر ِّب ِه‬
‫﴿ َأم ْن ُه َو َقانِ ٌت آنَاء ال َّل ْي ِل س ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫ون َوا َّلذي َن َل َي ْع َل ُمون﴾ ‪.‬‬
‫َ (‪)2‬‬ ‫ِ‬
‫ُق ْل َه ْل َي ْست َِوي ا َّلذي َن َي ْع َل ُم َ‬
‫ـ لو كان الجندي يخاف من القائد أن يعصيه فيفتك به لما عصاه‪،‬‬
‫كذلك لو كان اإلنسان يشعر بالخوف والقلق من مدى قدرة اهلل وبطشه‬
‫وجربوته لما عصاه‪ ،‬ولو أن إنسانا يمسك بمسدس ويصوبه نحوك‬
‫ويأمرك بأمر فهل يمكن أن تخالفه؟‪ ،‬إنك تطيعه وأنت تشعر بالخوف‬

‫تفسير ابن كثير ـ دار طيبة للنشر والتوزيع (ج ‪ / 2‬ص ‪)185‬‬ ‫(((‬
‫((( الزمر ‪9 :‬‬

‫‪27‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫وترتعد فرائصك‪ ،‬فاأللم يف اآلخرة شديد جدا ولن يقدر اإلنسان على أن‬
‫يتحمله لفظاعته ولكن من يعقل؟‬
‫ـ لو قيل إلنسان أنه إذا وقع يف شهوة من الشهوات فإنه سوف يوضع‬
‫يف داخل الفرن الذي ينضج فيه الخرب بأحد األفران مثال حتى يشوى جلده‬
‫ولحمه‪ ،‬فإنه لن يقع يف شهوة أبدا‪ ،‬وكلما عرضت له شهوة تذكر « فرن‬
‫الخبز »!‬
‫ـ فاألمر مرعب وخطير‪ ،‬فمن خاف لم يستطع أن ينام وال يهدأ وال‬
‫يرتاح ويسارع يف الخيرات وترك المعاصي‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬من خاف‬
‫أدلج ومن أدلج بلغ المنزل أال إن سلعة اهلل غالية أال إن سلعة اهلل الجنة‬
‫﴾‪.)1( ‬‬
‫******‬
‫‪ 3‬ـ اخل�ضوع بالل�سان‪:‬‬
‫ـ الخضوع باللسان معناه أن يقر االنسان بلسانه بأنه خاضع‪ ،‬أي أنه‬
‫يخضع بقلبه وجوارحه وحياته ويقر بلسانه أنه خاضع بقلبه وجوارحه‬
‫وحياته‪ ،‬وذلك بقول شهادة التوحيد (ال إله إال اهلل) صادقا من قلبه‪ ،‬ألنه‬
‫إذا لم يكن صادقا فيها فلن تدخله الجنة‪.‬‬
‫ـ البعض يتعامل مع عبارة (ال إله إال اهلل) على أهنا تعني ال رب إال اهلل‪،‬‬
‫وهذا خطأ كبير‪.‬‬
‫ـ معنى عبارة (ال �إله اال اهلل)‪:‬‬
‫ـ أي (أعيش خاضعا هلل وحده)‪ ،‬وهي تعني ثالثة أمور‪ ،‬األمر األول هو‬
‫(أعيش خاضعا) وهذا هو مبدأ العبادة‪ ،‬واألمر الثاين هو (أعيش خاضعا‬

‫تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 6222 :‬يف صحيح الجامع)‬ ‫(((‬

‫‪28‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫هلل) وهو تحديد لمن يكون الخضوع والعيش من أجله‪ ،‬واألمر الثالث هو‬
‫(أعيش خاضعا هلل وحده) أي ال يكون الخضوع ألي أحد إال اهلل تعالى‪.‬‬
‫******‬
‫‪ 4‬ـ خ�ضوع القلب‪:‬‬
‫ـ الخضوع بالقلب معناه الشعور بالذل والضعف واالستكانة‬
‫واالستسالم واالهنزام أمام الخالق سبحانه‪ ،‬وهو أصل العبادة وبغيره‬
‫ال تتحقق العبادة‪ ،‬وينشأ هذا الشعور بالخضوع من الحب والخوف‬
‫والرجاء‪ ،‬بمعنى أن اإلنسان إذا أحب شيئا ما لدرجة كبيرة فإنه يشعر‬
‫بالذل حبا وإعجابا وتعظيما واحرتاما وإجالال‪ ،‬وإذا خاف من شيء ما‬
‫لدرجة كبيرة فإنه يشعر بالذل خوفا منه‪ ،‬وإذا رجا شيئا واشتاق إليه لدرجة‬
‫كبيرة فإنه يشعر بالذل رجا ًَء فيه‪.‬‬
‫ـ قلب االنسان فيه مشاعر كالحب والخوف والرجاء‪ ،‬وهذه المشاعر‬
‫إما أن تتعلق بالمال والدنيا أو تتعلق باهلل واآلخرة‪ ،‬وإذا تعلقت باهلل‬
‫واآلخرة وزاد هذا التعلق وصلت الى درجة الخضوع تعظيما هلل (حبا يف‬
‫عظمته) وخوفا ورجا ًَء‪.‬‬
‫ـ الشعور بالخضوع هو الشعور بالضعف والذل واالنكسار‬
‫واالستسالم واالهنزام‪ ،‬وهو ما يشعر به العبد عند سيده‪ ،‬وهو شعور كأن‬
‫أحدً ا سلب منه إرادته فأصبح تاب ًعا منقا ًدا‪ ،‬فاإلنسان بداخله متكرب‪ ،‬فإذا‬
‫انكسر هذا التكرب والغرور بالنفس شعر اإلنسان باالستسالم واالهنزام‪.‬‬
‫ـ والشعور بالخضوع معناه شعور اإلنسان بضعف قدرته وعجزه أمام‬
‫قدرة اهلل وشعور باالنكسار والتسليم وأن اإلنسان واقع تحت تصرف من‬
‫له القدرة عليه وخائف منه وأنه ال يستطيع أن يقوم بأمر نفسه وال يستطيع‬

‫‪29‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أن يتنفس إال بأمر اهلل‪.‬‬


‫ـ احلالة النف�سية املميزة لل�شعور باخل�ضوع‪:‬‬
‫ـ أنظر إلى خادم يعمل يف بيت من بيوت السادة‪ ،‬إن الحالة النفسية التي‬
‫يشعر هبا هذا الخادم هي التي تسمي خضوع‪ ،‬فإذا كنت تدعي الخضوع هلل‬
‫فهل عندك هذه الحالة النفسية؟‬
‫ـ أنظر إلى الرجل الفقير المعدوم الذي يسأل الناس ليعطوه‪ ،‬بماذا‬
‫يشعر؟‪ ،‬إنه يشعر بالخضوع والذل والحاجة إلى إنعام الناس عليه‪ ،‬إن‬
‫الحالة النفسية التي عند هذا الرجل هي التي تسمي خضوع‪ ،‬فإذا كنت‬
‫تدعي الخضوع هلل فهل عندك هذه الحالة النفسية ؟!‪ ،‬كما أنك تجد هذا‬
‫لم ْن يعطيه محبة له‪ ،‬وإذا كان هذا الرجل فقير إلى‬
‫الرجل يظل يدعوا َ‬
‫إنعام الناس من أموال‪ ،‬ومحب لما يعطونه‪ ،‬فكيف بك وقد أنفق عليك‬
‫اهلل فأعطاك عينا وأعطاك الهواء الذي تتنفسه ونعما ال تحصي (والمشكلة‬
‫أننا ال نشعر بنعم اهلل)‪.‬‬
‫ـ تصور أن أحدا ما رفع يف وجهك سالحا وطلب منك أن تستسلم‪،‬‬
‫ماذا يكون شعورك عندئذ؟ هذا الشعور هو شعور بالهزيمة واالستسالم‬
‫واالنقياد‪ ،‬إن الحالة النفسية التي تشعر هبا عندئذ هي التي تسمي خضوع‬
‫واستسالم‪ ،‬فإذا كنت تدعي الخضوع هلل‪ ،‬فهل عندك هذه الحالة النفسية؟‬
‫واهلل هو الجبار المنتقم ذو البطش المتكرب شديد العقاب سريع الحساب‪.‬‬
‫ـ ادعاء الهدف والعبادة‪:‬‬
‫ـ قد يكون االنسان على اقتناع تام بأن هدفه الذي يعيش من أجله هو‬
‫عبادة اهلل لنيل رضاه وجنته ويف الحقيقة هو يعيش للدنيا ‪ ،‬فحقيقة هدف‬
‫االنسان هو ما يحبه ويخافه ويرجوه‪ ،‬فالشيء الذي تحبه وتخافه وترجوه‬
‫على مستوى كل عمل على حدة فهذا هو نيتك من القيام به وعلى مستوى‬

‫‪30‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الحياة وجميع االعمال فهذا هو هدفك من الحياة‪ ،‬فإذا كان أكرب ما يطمح‬
‫إليه اإلنسان ويرجوه ويتمناه ويحلم به ويرغبه ويأمله من حياته هو تجارة‬
‫أو مال أو شهوات أو منصب وجاه‪ ،‬فهذا معناه أن هدفه الدنيا‪ ،‬وإذا كان‬
‫أكرب ما يطمح إليه اإلنسان ويرجوه ويتمناه ويحلم به ويرغبه ويأمله من‬
‫حياته هو رضا اهلل والجنة‪ ،‬فهذا معناه أن هدفه عبادة اهلل لنيل رضاه وجنته‬
‫(والفصل الخامس والسادس هو بيان لحقيقة الحب والخوف والرجاء‬
‫وكيف ينشأ من معرفة اهلل تعالى)‪.‬‬
‫ـ بل إن اإلنسان قد يحسب أنه يحب اهلل ويخافه ويرجوه ويعيش من‬
‫أجله‪ ،‬ويف الحقيقة هو ال يحب إال الدنيا وال يخاف إال منها وال يرجو‬
‫غيرها وال يعيش إال لها‪ ،‬لذلك قمنا ببيان حقيقة الهدف والمشاعر‬
‫والحالة النفسية المميزة لها حتى يكتشف اإلنسان حقيقة ما يف قلبه‪.‬‬
‫ـ فقد يكذب اإلنسان على نفسه ويحسب أنه يعيش هلل وال يدري أنه‬
‫ال يعيش إال للدنيا‪ ،‬فهمه ومشاعره وسلوكه وانفعاالته وكالمه وعمله‬
‫يكشف حقيقة هدفه‪ ،‬فتجد اإلنسان يلهث وراء المال وقلبه يتقطع على‬
‫المال وال هم له وال عمل له غير الحصول على المال ورغم ذلك تجده‬
‫على اقتناع تام بأنه ال يعيش من أجل المال ويحسب أنه يعيش من أجل‬
‫اهلل واآلخرة رغم أنه ال يعرف اهلل الذي يدعي أنه يعيش من أجله وال‬
‫يعرف اآلخرة التي يدعي أنه يعيش من أجلها! ألنه لو عرف اهلل واآلخرة‬
‫لعاش هلل وليس للمال‪.‬‬
‫ـ والشيء الذي تشعر بالخضوع له من شدة الحب والخوف والرجاء‬
‫هو هدفك وأنت تعبده‪ ،‬فاذا كنت تشعر بالخضوع تجاه الخالق فانت تعبد‬
‫اهلل‪ ،‬وإذا كنت تشعر بالخضوع تجاه شيء غير اهلل فانت تعبد ذلك الشيء‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ وبعض الناس يدعون أهنم خاضعين هلل وهم يتناسون معنى أن يعيش‬
‫اإلنسان خاض ًعا ً‬
‫ذليل لغيره طول حياته‪ ،‬فهم ال يقبلون أن يعيشوا معيشة‬
‫الذل ويعتربون أنفسهم أحرارا وال يقبلون أن يستعبدهم أحد فيكونون‬
‫عبيدً ا له!‬
‫ـ من �صور خ�ضوع القلب‪:‬‬
‫‪1‬ـ الر�ضا بالق�ضاء والقدر‪:‬‬
‫ـ من صفات الخاضع الرضا بالقضاء والقدر‪ ،‬فليس له أن يعرتض أو‬
‫يبدي رأيه أو يسأل لماذا؟ وليس له أي حقوق‪ ،‬وسيده له الحق يف أن يفعل‬
‫به ما يشاء وهو يف منتهى الرضا واالستسالم‪ ،‬فعدم الرضا والتسليم بأنه‬
‫خاضع معناه أنه ال يزال يشعر بأنه ليس بضعيف وأن القوة التي يحسب أنه‬
‫يمتلكها سلبها منه غيره بغير حق (االبتالء) لذلك فهو غير راض‪.‬‬
‫ـ الرضا بالقضاء والقدر معناه أن يسلم أمره هلل ويقول هلل‪ :‬افعل بي ما‬
‫ٍ‬
‫راض بأي شيء سواء كان عطا ًء أو من ًعا‪.‬‬ ‫تشاء‪ ،‬فهو‬
‫ـ اإلنسان الذي يف يده قطعة من الطين الصلصال له أن يفعل هبا ما‬
‫يشاء ويشكلها كيفما يشاء ألنه قوي يقدر على أن يشكلها كيفما شاء وهو‬
‫مالكها وهي ال حول لها وال قوة‪ ،‬فالقوي بحق له أن يفعل ما يشاء بما‬
‫صنعه وامتلكه‪ ،‬والعبد الضعيف ليس له أن يفعل إال ما يأمره به سيده‪،‬‬
‫فهذه هي العالقة بين القوي والضعيف‪.‬‬
‫ـ إن الذي يشعر بأن اهلل هو المالك لكل النعم فإنه يصرب علي سلب‬
‫النعمة ألهنا ليست ملكا له وليست حقا له ويرضى بذلك ‪ ،‬شرح ابن كثير‬
‫معنى ( إنا هلل ) يف اآلية ‪ ﴿ :‬ا َّل ِذي َن إِ َذا َأ َصا َبت ُْه ْم ُم ِصي َب ٌة َقا ُلوا إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا‬
‫ون ﴾(‪ )1‬أي ‪ ﴿ ﴿ :‬ا َّل ِذي َن إِذا َأصا َبت ُْه ْم ُم ِصي َب ٌة قا ُلوا إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا‬ ‫إليه ر ِ‬
‫اج ُع َ‬ ‫َ‬
‫((( البقرة‪156 :‬‬

‫‪32‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ون ﴾ َأ ْي َت َس َّل ْوا بِ َق ْول ِ ِه ْم َه َذا َع َّما َأ َصا َب ُه ْم َو َعلِ ُموا َأن َُّه ْم مِ ْل ٌك ل ِ َّل ِه‬ ‫إِ َل ْي ِه ِ‬
‫راج ُع َ‬
‫يد ِه بِ َما َي َشا ُء ﴾(‪ ، )1‬فمالك الشيء له الحق يف أن يفعل بما‬ ‫ف فِي َعبِ ِ‬ ‫َيت ََص َّر ُ‬
‫يملك ما يشاء ‪ ،‬بل إن اهلل لو عذب جميع الخلق لعذهبم وهو غير ظالم‬
‫لهم ألنه مالكهم له الحق أن يفعل بما يملك ما يشاء ففي الحديث ‪ ﴿ :‬لو‬
‫أن اهلل عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذهبم وهو غير ظالم لهم‪ ،‬ولو‬
‫رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم‪ ،‬ولو كان لك مثل أحد ذهبا‬
‫أو مثل جبل أحد ذهبا تنفقه يف سبيل اهلل ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر‬
‫كله فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك‬
‫وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار ﴾(‪ ،)2‬إن الذي يشعر بأن حياته‬
‫وكل شيء ملك هلل وإنما هي نعم وعارية يسرتدها مالكها فعند الموت‬
‫يكون راضيا ألن اهلل يأخذ ما يملكه ويكون شاكرا هلل ألنه أعطاه هذه‬
‫النعم طوال هذه المدة تنعم هبا بغير استحقاق فتخرج الروح سهلة ‪ ،‬لكن‬
‫اإلنسان الذي يشعر أنه هو الذي جلب النعمة لنفسه من عقله وكده وتعبه‬
‫‪ ،‬فعند الموت ال يريد أن يرتك النعم فتخرج روحه بصعوبة لتعلقها هبذه‬
‫النعم ‪ ،‬ويكره َم ْن يقبض روحه ‪ ،‬فعندما يأتيه الموت يكره هذا القدر ‪.‬‬
‫ـ فالذي يعرف أن اهلل هو المالك معرفة حقيقية فإنه يستسلم هلل متقبال‬
‫أي شيء يحدث له‪ ،‬فال يحزن بشيء وال يفرح بشيء‪ ،‬فهو ال يملك‬
‫شيئا حتى يحزن على فقده‪ ،‬فاإلنسان كالدمية يفعل هبا صاحبها ما يشاء‪،‬‬
‫واالستكبار معناه أن اإلنسان يرفض أن يكون كالدمية يفعل هبا صاحبها‬
‫ما يشاء فال يريد أن يتحكم فيه أحد فيريد أن يكون حرا وليس عبدا‪.‬‬
‫ـ احلالة النف�سية لل�شعور بالر�ضا‪:‬‬
‫ـ اإلنسان ال يملك شي ًئا وال يستحق شي ًئا‪ ،‬وبالتالي إذا لم يجد غير‬

‫((( تفسير ابن كثير ـ دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت (‪)338 / 1‬‬
‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن ابن ماجه ج‪ ،1 :‬ص‪ ،29 :‬برقم ‪)77‬‬

‫‪33‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫مسرورا هبا؛ ألن األصل أنه‬


‫ً‬ ‫لقمة صغيرة ال تسد جوفه فإنه يكون سعيدً ا‬
‫ال يمتلك شي ًئا‪ ،‬فما عنده من عين وأنف وما عنده من مال وزوجة وأوالد‬
‫وكل شيء هو ملك هلل وهو عطاء من اهلل لإلنسان‪ ،‬وبالتالي يشعر اإلنسان‬
‫بالسعادة والراحة ولو كان يف أشد األزمات والمحن ألنه ً‬
‫أصل لم يكن‬
‫مال ًكا ألي شيء افتقده‪ ،‬فالرضا بالقضاء والقدر هو شعور نفسي بالراحة‬
‫والطمأنينة‪.‬‬
‫ـ عندما يشعر اإلنسان أن كل شيء بقدر اهلل ومشيئته‪ ،‬وأن الخالق من‬
‫حقه أن يفعل بمخلوقه ما يشاء‪ ،‬فإنه يرضى بما يفعله اهلل ويسلم نفسه هلل‬
‫يفعل هبا ما يشاء‪ ،‬فيعيش يف حالة من االرتياح والسعادة النفسية‪ ،‬فهو ال‬
‫يقلق بشأن ما حدث أو ما سيحدث فكله بقدر اهلل‪ ،‬فيعمل وهو هادئ‬
‫مطمئن قد أسلم أمره هلل وتوكل عليه سبحانه‪ ،‬فاإلنسان يشعر بالسعادة‬
‫والراحة ولو كان يف أشد األزمات والمحن ألنه أصال لم يكن مالكا ألي‬
‫شيء افتقده‪ ،‬فالرضا بالقضاء والقدر هو شعور نفسي بالراحة والطمأنينة‪.‬‬
‫ـ ادعاء الر�ضا بالق�ضاء والقدر‪:‬‬
‫ـ قد يحدث لإلنسان مصيبة فيقول الحمد هلل ولكن قلبه ساخط غير‬
‫ٍ‬
‫راض‪ ،‬وتجده يقول (الحمد هلل) لكنه من باب الروتين‬ ‫ٍ‬
‫راض وإن قال‪ :‬أنا‬
‫والتعود يف الكالم‪ ،‬ويف الحقيقة قلبه ساخط‪ ،‬ونحن قد ندعي الصرب‪ ،‬فما‬
‫ورد يف القرآن هو الصرب الجميل وهو حبس القلب عن التسخط وحبس‬
‫اللسان عن الشكوى‪ ،‬وهو أن تتجرع المر وأنت مبتسم يف منتهى األريحية‬
‫واالنبساط‪ ،‬فيتقبل اإلنسان المصيبة برضا‪ ،‬وهو سكون القلب تحت مدار‬
‫األحكام وشعور باالستسالم واالنقياد واطمئنان للعاقبة وانتظار للفرج‬
‫واحتساب لألجر‪.‬‬
‫ـ قد ينظر اإلنسان إلى أي فعل من أفعال اهلل كابتالء ً‬
‫مثل نظرة اعرتاض‪،‬‬
‫أو يرى إنسانًا ال حيلة له ورزقه عظيم فينظر إلى اهلل نظرة اعرتاض‪ ،‬فهذا‬

‫‪34‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ٍ‬
‫راض بقضاء اهلل وقدره‪ ،‬فاهلل ال يسأل‬ ‫ٍ‬
‫راض عن اهلل وغير‬ ‫معناه أنه غير‬
‫لماذا يفعل كذا أو كذا‪.‬‬
‫فقيرا‪ ،‬وفالنًا يتعب يف عمله ورزقه‬
‫ـ لقد جعل اهلل فالنًا غن ًيا وفالنًا ً‬
‫قليل‪ ،‬وفالنًا ال يعمل أو عمله قليل ورزقه كبير‪ ،‬وفالن أجاب اهلل دعاءه‬
‫رغم معاصيه وفالن لم يستجب له رغم تقواه‪ ،‬وفالن ُيبتلى ويزيده اهلل‬
‫ابتال ًء رغم دعائه وعبادته‪ ،‬وفالن يؤذي الناس يف دنياهم ودينهم ويظلمهم‬
‫ويزيده اهلل يف الرتقي يف المناصب والمزيد من الدنيا فيتمكن من ظلمهم‬
‫أكثر‪ ،‬وفالن حرمه اهلل من البنين‪ ،‬وفالن أعطاه الكثير‪ ،‬وفالن ترك ً‬
‫عمل‬
‫مال حرا ًما ثم سعى للبحث عن عمل فلم يجد‪.‬‬ ‫ألنه كان يكسب منه ً‬
‫ـ طالما أن اإلنسان مع اهلل ويطيعه فالبد أن يكون اهلل معه‪ ،‬ولكن قد‬
‫يظن اإلنسان أن ذلك معناه أنه البد أن ينقذه اهلل من الشدائد ويعطيه من‬
‫فورا‪ ،‬وقد يظن اإلنسان أن معاصيه أمور بسيطة وأنه‬ ‫الدنيا ويستجيب له ً‬
‫ال يستحق هذا العقاب الدنيوي من اهلل بابتالئه‪.‬‬
‫ـ لكن الذي يشعر بأن اهلل هو المالك‪ ،‬وأن مالك الشيء له الحق‬
‫أن يفعل بما يملك ما يشاء‪ ،‬فإنه يرضى بكل ما يفعله اهلل ألن هذا حقه‬
‫وشأنه‪ ،‬ويعلم أن كل ما يفعله اهلل هو بعلم وحكمة يعلمها سبحانه وليس‬
‫كبيرا سبحانه‪ ،‬ويرضى بما قسمه اهلل له‬
‫علوا ً‬‫تخب ًطا تعالى اهلل عن ذلك ً‬
‫وبما يفعله اهلل يف عباده‪.‬‬
‫ـ وكل من شعر بمدى عظمة اهلل وضآلة نفسه تعلم األدب مع اهلل‬
‫وعلم أن هلل أن يفعل ما يشاء وشعر بالمهابة من عظمته‪.‬‬
‫ـ ثان ًيا‪ :‬التوكل (اال�ستعانة)‪:‬‬
‫ـ العجز معناه عدم قدرة اإلنسان على القيام بما يحتاج إليه واحتياجه‬
‫لغيره ليساعده ويقضي له حاجته‪ ،‬وبالتالي يستعين العاجز بالقادر ليمده‬

‫‪35‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫بما يحتاجه‪ ،‬وهذا هو التوكل‪.‬‬


‫ـ القادر إذا أمر العاجز بأمر ما فإن العاجز يستعين بالقادر على أداء هذا‬
‫األمر ألنه بغير ذلك ال يستطيع القيام باألمر‪ ،‬فكذلك إذا أمر اهلل اإلنسان‬
‫بالعبادة فإنه يستعين باهلل على القيام هبذه العبادة كما أراد اهلل تعالى‪ ،‬فيقول‬
‫اك ن َْست َِعي ُن﴾(‪ ،)1‬كأنه يقول هلل أعني على نفسي‬
‫اك َن ْع ُبدُ َوإِ َّي َ‬
‫تعالى‪﴿ :‬إِ َّي َ‬
‫وساعدين وكن معي‪ ،‬فالعاجز إذا لم يستعن بالقادر دل ذلك على أنه ال‬
‫يشعر بأنه عاجز أو يقينه بذلك ضعيف‪.‬‬
‫ـ ال يتوكل االنسان على غيره من البشر ألهنم عاجزون مثله ضعفاء‬
‫ال حول لهم وال قوة واهلل وحده القادر المعين‪ ،‬وهذا معناه أن يفوض‬
‫االنسان أمره إلى اهلل ويتوكل عليه‪.‬‬
‫ـ اإلنسان يستعين بغيره عندما يشعر بثالثة أمور هي‪ :‬الشعور باالحتياج‬
‫والنقص (الشعور بضعف اإلنسان)‪ ،‬والشعور بقدرة من يعينه على إعانته‬
‫(الشعور بقدرة اهلل)‪ ،‬واالطمئنان والثقة يف أن َمن يستعين به سيعينه‬
‫(الشعور بأن اهلل هو الوكيل والكفيل والكايف والرزاق والولي)‪ ،‬واإلنسان‬
‫يتوكل على اهلل وحده إذا شعر بأن غير اهلل ضعيف وال ينفع وال يضر‪.‬‬
‫ـ اهلل وحده القوي والقادر والنافع والضار وغيره ال يقدر وال ينفع‬
‫وال يضر‪ ،‬فمن عرف ذلك أسلم نفسه هلل وفوض أمره إليه فهذا هو معنى‬
‫التوكل‪.‬‬
‫ـ الضعيف يعتز ويفرح بانتمائه إلى القوي ألنه يرى قوة القوى قوة له‬
‫وألنه يستمد منه العزة والقوة ويحتمي به ويعترب ذلك قوة له ضد غيره‪،‬‬
‫فإذا أراد أن يعتدي عليه أحد لجأ إلى القوى الذي يحتمي به لينصره عليه‪.‬‬

‫((( الفاتحة‪.5 :‬‬

‫‪36‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فأنت ال تستطيع أن تضرب طفال ألن أبوه قوي ينتقم منك‪ ،‬فالطفل‬
‫ليست له قوة ولكنه يستمدها من أبوه‪ ،‬فالطفل يشعر بالعزة ويكون‬
‫شجاعا أمام األقوياء ألن أبوه أقوى منهم رغم أنه ضعيف‪ ،‬فكذلك العزة‬
‫عند المؤمنين يستمدوهنا من انتماءهم هلل‪.‬‬
‫ـ احلالة النف�سية املميزة للتوكل‪:‬‬
‫ـ التوكل على اهلل يؤدي إلى عدم انشغال الهموم بجلب الرزق‬
‫وتحصيل الدنيا‪ ،‬فالحالة النفسية المميزة للتوكل هي الشعور باالطمئنان‬
‫والراحة النفسية من هموم الدنيا ومن الهم بجلب الرزق وتحصيل الدنيا‬
‫فال تكون هدف اإلنسان وقضيته‪ ،‬كما أن الشعور بأن غير اهلل ال ينفع وال‬
‫هما لما سوى اهلل‪ ،‬وكلما‬ ‫يضر يؤدي إلى االرتياح النفسي؛ ألنه ال يحمل ً‬
‫نقص إيمان العبد كلما نقص توكله وانشغل همه بالدنيا‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان قد يشعر باالطمئنان والثقة والراحة إلى أن له مصدر دخل‬
‫ثابت شهر ًيا من عمل حكومي أو معاش ً‬
‫مثل يويف له ما يريد (وذلك ينشأ‬
‫من ضعف معرفته بأن اهلل هو الرزاق أو من غياب تلك المعرفة)‪ ،‬كذلك‬
‫المتوكل على اهلل يشعر باالطمئنان والثقة والراحة إلى أن هناك من يمده‬
‫بما يحتاجه فهو يطمئن إلى اهلل الوكيل والرزاق‪ ،‬فهو مطمئن إلى رزقه‪.‬‬
‫ـ فالتوكل هو شعور بضعف اإلنسان واستسالمه هلل واهنزامه بين يدي‬
‫اهلل وتفويض أمره هلل ليفعل اهلل به ما يشاء‪ ،‬مثل شعور اليتيم الذي يحتاج‬
‫إلى من يكفله وينفق عليه‪ ،‬ومثل شعور األعمى الذي يحتاج إلى المبصر‬
‫ليحدد له اتجاه سيره ويسير به حيث يريد‪ ،‬ومثل شعور الذي يجلس على‬
‫كرسي بعجالت ويحتاج إلى من يقوده‪ ،‬ومثل شعور السائل (الشحاذ)‬
‫الذي يحتاج إلى الناس فيسألهم أن يعطوه‪ ،‬ومثل شعور الفقير الذي ذاق‬
‫طعم الفقر فهو يحتاج إلى الغني ليعطيه‪ ،‬ومثل شعور الطفل الذي يحتاج‬
‫إلى أبويه يف طعامه وشرابه ونومه ورعايته‪ ،‬ومثل شعور التائه الذي َّ‬
‫ضل‬

‫‪37‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الطريق فهو يحتاج إلى من يهديه‪ ،‬ومثل شعور الجائع الذي ذاق طعم‬
‫الجوع فهو يحتاج إلى الغني ليعطيه طعا ًما‪ ،‬ولذلك ففي الحديث القدسي‬
‫عن رب العزة سبحانه‪« :‬يا عبادي كلكم ضال إال من هديته فاستهدوين‬
‫أهدكم‪ ،‬يا عبادي كلكم جائع إال من أطعمته فاستطعموين أطعمكم‪ ،‬يا‬
‫عار إال من كسوته فاستكسوين أكسكم»(‪ ،)1‬وحقيقة اإلنسان‬ ‫عبادي كلكم ٍ‬
‫هو أنه أعمى ال يبصر؛ ألن عينه ليست ملكه وإنما هي ملك هلل تعالى‬
‫أعطاها اهلل له‪ ،‬وهو أصم وأبكم ألنه ال يملك األذن وال اللسان‪ ،‬وهو‬
‫فقير؛ ألن المال الذي عنده هو ملك هلل‪ ،‬وهو مجرد من كل شيء وال يعلم‬
‫شي ًئا ألن عقله ملك هلل‪ ،‬فهو مثلما كان يف بطن أمه يف المراحل األولى‬
‫ون ُأ َّم َهاتِ ُك ْم َل‬
‫حيث كان ال يسمع وال يرى‪﴿ :‬واهَّلل َأ ْخرج ُكم مِن ب ُط ِ‬
‫َ ُ َ َ ْ ْ ُ‬
‫ون﴾(‪.)2‬‬ ‫الس ْم َع َو ْالَ ْب َص َار َو ْالَ ْفئِدَ َة َل َع َّل ُك ْم َت ْش ُك ُر َ‬
‫ون شي ًئا َو َج َع َل َل ُك ُم َّ‬
‫َت ْع َل ُم َ‬
‫ـ فاإلنسان إذا شعر بأن غير اهلل ال ينفع وال يضر فشعر بأنه هو نفسه ال‬
‫ينفع وال يضر وبأن األسباب ال تنفع وال تضر وبأن كل الناس واألشياء‬
‫ال تنفع وال تضر‪ ،‬والشيء الذي ال ينفع وال يضر هو شيء ال قيمة له‬
‫فإنه عندئذ يشعر باالستسالم واالهنزام ويشعر بأنه يف حاجة إلى من يكفله‬
‫ويقوم بأمره ويرعاه؛ ألنه عاجز عن أن ينفع نفسه‪ ،‬فيلجأ إلى اهلل ليستعين‬
‫به ويحتمي به‪ ،‬فيكون كالطفل كلما احتاج إلى أمر لجأ إلى أبويه وهو‬
‫يثق بأن أبويه لن يخذالنه؛ ألن القوي ال يخذل الضعيف‪ ،‬ولذلك يقول‬
‫شيخ اإلسالم ابن القيم‪( :‬فإن قلت فما معنى التوكل واالستعانة‪ ،‬قلت هو‬
‫حال للقلب ينشأ عن معرفته باهلل واإليمان بتفرده بالخلق والتدبير والضر‬
‫والنفع والعطاء والمنع وأنه ما شاء كان ‪-‬وإن لم يشأ الناس‪ -‬وما لم يشأ‬
‫وتفويضا إليه‬
‫ً‬ ‫لم يكن ‪-‬وإن شاءه الناس‪ -‬فيوجب له هذا اعتما ًدا عليه‬

‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 4345 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬
‫((( النحل‪.78 :‬‬

‫‪38‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫وطمأنينة به وثقة به ويقينا بكفايته لما توكل عليه فيه وأنه ملي به وال يكون‬
‫إال بمشيئته شاءه الناس أم أبوه‪ ،‬فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما‬
‫ينويه من رغبة ورهبة هما مليان هبما‪ ،‬فانظر يف تجرد قلبه عن االلتفات‬
‫إلى غير أبويه وحبس همه على إنزال ما ينويه هبما‪ ،‬فهذه حال المتوكل‪،‬‬
‫﴿و َم ْن َيت ََوك َّْل َع َلى‬
‫ومن كان هكذا مع اهلل فاهلل كافيه والبد قال اهلل تعالى‪َ :‬‬
‫اهَّللِ َف ُه َو َح ْس ُب ُه﴾ [الطالق‪ ]3/‬أي كافيه)(‪.)1‬‬
‫ـ ﴿قيل لحاتم األصم‪ :‬عالم بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال‪ :‬على‬
‫أربع خالل‪ :‬علمت أن رزقي ال يأكله غيري فلست أهتم له‪ ،‬وعلمت أن‬
‫عملي ال يعمله غيري فأنا مشغول به‪ ،‬وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا‬
‫أبادره‪ ،‬وعلمت أين بعين اهلل يف كل حال فأنا أستحيي منه﴾(‪.)2‬‬
‫ـ قلق اإلنسان من عدم وجود عمل يتكسب منه‪ ،‬أو خوفه من أنه قد‬
‫يرتك العمل‪ ...‬إلخ‪ ،‬فكل ذلك يدل على عدم توكله على اهلل (يستثنى‬
‫مليما فليس‬
‫القلق الفطري الخارج عن إرادة اإلنسان)‪ ،‬وكذلك من سرق ً‬
‫حتما‪ ،‬واإلنسان إذا‬
‫بمتوكل؛ ألنه استعجل رزقه الذي كان سوف يأتيه ً‬
‫مليما ليس من رزقه فلن يستطيع إنفاقه أو أنه َيضيع منه أو يصرفه يف‬
‫أخذ ً‬
‫شيء ال قيمة له أو يمرض أو يمرض أحد من أبنائه فيصرفه يف العالج‪ ،‬أو‬
‫يصاب بابتالء بفقد شيء من ممتلكاته‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫ـ ثال ًثا‪ :‬ال�شعور باحلياء‪:‬‬
‫ـ تخيل أنك تعيش يف مسكن أحد الناس وتأكل من طعامه وينفق عليك‬
‫من ماله فبماذا تشعر وكيف يكون حالك؟ وكذلك الحال مع اهلل فالمسكن‬
‫الذي تسكن فيه ليس مل ًكا لك‪ ،‬إنما هو ملك هلل‪ ،‬وكذلك المال الذي معك‬

‫((( التفسير القيم البن القيم ‪-‬دار ومكتبة الهالل‪ -‬بيروت (ج‪ ،1 :‬ص‪.)76 :‬‬
‫((( شعب اإليمان للبيهقي ـ مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض (ج‪ ،2 :‬ص‪.)456 :‬‬

‫‪39‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫إنما أعطاك إياه اهلل وهو مال اهلل‪ ،‬ولذلك إذا أردت أن تعصي اهلل فاخرج من‬
‫تحت سمائه ومن فوق أرضه واخرج من ملكه إن استطعت!!‬
‫ـ فاإلنسان يرتك الذنب خشية أنه عندما يقف أمام اهلل فماذا يقول له؟‬
‫فهو يستحيي أن يضع نفسه يف هذا الموقف المخجل حيث يأكل من رزق‬
‫اهلل ويعيش على أرضه وينعم بنعمه ثم يقف أمامه وقد عصاه فماذا يقول له؟‬
‫*****‬
‫ـ �أثر املعرفة بحقيقة النف�س والدنيا على ال�سعادة النف�سية‪:‬‬
‫ـ المعرفة بضآلة الدنيا تؤدي إلى عدم الخوف من آالم الدنيا أو الحزن‬
‫الشديد عليها‪ ،‬ويؤدي كذلك إلى عدم الرجاء وطول األمل يف نعيمها أو‬
‫الفرح الشديد هبا‪ ،‬وهذا يجعل اإلنسان يف راحة واطمئنان ال يهمه شيء‬
‫وال يخيفه شيء‪.‬‬
‫ـ كما أن الذي يشعر بضآلة متع الدنيا وضآلة آالمها فإنه ال يبالي هل‬
‫أقبلت الدنيا أم أدبرت‪.‬‬
‫ـ كما أن الذي يشعر بأنه مفارق للناس ومفارق لما كان يعمله يف الدنيا‬
‫ومفارق لألموال والدنيا وما فيها ومن فيها فإنه يعيش سعيدا مسرورا ألنه‬
‫ال يبالي بشيء‪ ،‬فإذا افتقد شيئا من أمور الدنيا فال يبالي ألنه سوف يرتك‬
‫ذلك الشيء وكل شيء حتما حينما يموت‪.‬‬
‫ـ عندما يشعر اإلنسان بأن كل ما هو غير اهلل ضعيف وال ينفع وال يضر‬
‫فإنه عندئذ ال يخاف من أي شيء سوى اهلل وال يحب أي شيء غير اهلل وال‬
‫يرجو أي شيء غير اهلل وال يخضع ألي شيء غير اهلل وال يستعين ويتوكل‬
‫على أي شيء غير اهلل وال يحزن أو يفرح بأي شيء ألن كل شيء ال قيمة له‬
‫والقدر كله والعظمة هلل وحده‪ ،‬فهو عندئذ تنقطع مشاعره وهمومه وأهدافه‬
‫عن الدنيا وعن أي شيء سوى اهلل‪ ،‬وهذا يؤدي إلى الشعور بالراحة النفسية‬
‫والسعادة النفسية وراحة البال تجاه أمور الدنيا (حالوة اإليمان)‪.‬‬
‫******‬

‫‪40‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل الثاين‬
‫املفهوم اخلاطئ عن معنى اجلهل بال�شيء‬

‫ـ غياب معرفة اهلل معناه الجهل باهلل‪ ،‬لكن البعض يحسب أن الجهل‬
‫باهلل مسألة مجازية ألنه ال أحد يجهل اهلل‪ ،‬وسبب هذه المشكلة هو أن‬
‫هناك مفهوما خاطئا عن معنى الجهل بالشيء‪ ،‬فالكثير يحسب أن معناه‬
‫عدم السماع أو عدم الفهم لهذا الشيء ولكن هناك سبب ثالث للجهل‬
‫وهو عدم االنتباه لخطورة ذلك األمر‪ ،‬وهذا معناه أنك مهما سمعت عن‬
‫األمر وفهمت معناه فأنت ال تزال جاهال به طالما أنك ال تزال لم تنتبه له‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان يكون جاهال باألمر إذا لم يسمع عنه‪ ،‬ويكون جاهال باألمر‬
‫إذا سمع عن األمر ولكن لم يفهم معناه‪ ،‬ويكون جاهال باألمر إذا سمع‬
‫عنه وفهمه ولكن لم ينتبه لخطورته‪ ،‬فالجاهل باهلل واآلخرة هو سمع‬
‫وفهم ولكن لم ينتبه‪ ،‬وهذا النوع الثالث من الجهل وهو الغفلة‪.‬‬
‫ـ إذن هناك نوع من الجهل اسمه (الجهل لعدم االنتباه) وهو ما ورد يف‬
‫الشرع تحت اسم (الغفلة)‪ ،‬لذلك اهتم القرآن بمسألة الغفلة وخطورهتا‬
‫وعالجها‪ ،‬فهذا الكتاب تقريبا هو الكتاب الوحيد الذي يبين المعنى‬
‫الصحيح بصورة واضحة لمعنى الغفلة وهي أن الغفلة تعني الجهل لعدم‬
‫االنتباه‪.‬‬
‫ـ إذن مهما حدثتك عن معلومات هائلة عن الخالق وعن اآلخرة‬
‫وأفهمتك المعاين فأنت ال تزال جاهل باهلل واآلخرة طالما أنك ال تزال‬

‫‪41‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫لم تنتبه لخطورة األمر‪ ،‬وإذا تحقق هذا االنتباه فهنا فقط تحققت المعرفة‬
‫الحقيقية باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ فهذا الكتاب يتحدث عن الخالق واآلخرة بغرض تحقيق المعرفة‬
‫الحقيقية باهلل واآلخرة وليس بغرض مزيد من المعلومات للسماع والفهم‪.‬‬
‫ـ ولكن ما الهدف من تحقيق المعرفة الحقيقية باهلل واآلخرة؟‪ ،‬الهدف‬
‫من ذلك هو َّ‬
‫أن تحقيق المعرفة الحقيقية باهلل واآلخرة يؤدي الى المعرفة‬
‫الحقيقية بضعف االنسان أمام الخالق وبالتالي تتحقق الصلة بين االنسان‬
‫والخالق وهي الخضوع وهي العبادة‪.‬‬
‫ـ فالطريق الوحيد لتحقيق العبادة (الخضوع) هو تحقيق المعرفة‬
‫الحقيقية باهلل واآلخرة مع وجود اليقين باهلل واآلخرة والرسل ألن معرفة‬
‫أسماء اهلل وصفاته ومعرفة أوامر اهلل نعرفها من الرسل‪.‬‬
‫ـ �شروط املعرفة احلقيقية‪:‬‬
‫ـ حتى تكون معرفة االنسان بالشيء معرفة حقيقية فالبد من وجود‬
‫ثالثة شروط هي السماع والفهم واالنتباه‪.‬‬
‫ـ فالجهل له ثالثة أنواع بحسب سبب هذا الجهل هي‪ :‬الجهل‬
‫لعدم السماع والجهل لعدم الفهم والجهل لعدم االنتباه لخطورة األمر‬
‫(الغفلة)‪.‬‬
‫ـ الفرق بني اجلاهل ب�سبب عدم ال�سماع �أو عدم الفهم واجلاهل ب�سبب‬
‫عدم االنتباه (الغافل)‪:‬‬
‫ـ إذا لم يسمع اإلنسان ما تقوله له فهو ال يعرف‪ ،‬وإذا سمع ولم يفهم‬
‫ما تقوله له فهو ال يعرف‪ ،‬وإذا سمع وفهم ولكن لم ينتبه ويعي خطورة ما‬
‫تقوله له فهو ال يزال ال يعرف‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فالجهل شيء واحد ولكن له أسباب مختلفة‪ ،‬فهناك الجهل لعدم‬


‫السماع والجهل لعدم الفهم والجهل لعدم االنتباه (الغفلة)‪.‬‬
‫ـ مجرد أن سمع االنسان عن األمر وفهمه فهذه معرفة نظرية فقط‪،‬‬
‫ولكي تكون معرفة حقيقية البد من وجود شرط ثالث وهو االنتباه‬
‫لخطورة األمر‪.‬‬
‫ـ الجهل لعدم االنتباه يسمى بالغفلة‪ ،‬فالغفلة هي الجهل لعدم االنتباه‪،‬‬
‫وعكس الغفلة هو المعرفة الحقيقية‪.‬‬
‫ـ فالجاهل الذي سمع وفهم ولم ينتبه مثل الجاهل الذي لم يسمع‬
‫عن األمر مطل ًقا فهو يعيش كأنه لم يسمع عن الخالق وكأنه لم يسمع عن‬
‫شيء اسمه اآلخرة‪ ،‬فيعيش للدنيا رغم علمه النظري ويقينه باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ وكذلك فالجاهل الذي سمع وفهم ولم ينتبه مثل الجاهل الذي سمع‬
‫ولكن لم يفهم‪ ،‬فهو يعيش كأنه ال يفهم معنى الغيبيات‪ ،‬كأن الغيبيات‬
‫طالسم وأمور مبهمة ال يفهمها‪ ،‬كأنه ال يفهم ما معنى الخالق وما معنى‬
‫اآلخرة فيعيش للدنيا رغم علمه النظري ويقينه باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ فالجاهل بسبب عدم السماع أو عدم الفهم والجاهل بسبب عدم‬
‫االنتباه جميعهم ال عالقة بينهم وبين الغيبيات كأن هذه الغيبيات غير‬
‫موجودة‪ ،‬وجميعهم ال يتأثرون باألمر كأنه غير موجود‪.‬‬
‫ـ الفرق هو أن الجاهل لعدم االنتباه (الغافل) يحسب أنه يعرف وهو ال‬
‫يعرف؛ ألنه سمع وفهم األمر‪ ،‬لذلك يسمى هذا النوع من الجهل بالجهل‬
‫الخفي‪ ،‬فالمحصلة واحدة وهي أنه ال ترتبط مشاعره وهمومه وانفعاالته‬
‫وطموحه وسلوكه وكالمه وعمله باألمر ال سل ًبا وال إيجا ًبا (إال ً‬
‫قليل من‬
‫الظاهر) كأنه لم يسمع عنه أو كأنه ال يفهم معناه‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ مفهوم اجلهل لعدم االنتباه (الغفلة)‪:‬‬


‫ـ قد يسمع اإلنسان عن أمر ما ويفهمه ويتكلم به ويوقن به ويحسب‬
‫ً‬
‫جاهل به ال يعرفه‬ ‫أنه يعرفه تما ًما‪ ،‬ويف الحقيقة ورغم كل ذلك هو ال زال‬
‫ألنه غير منتبه إليه‪.‬‬
‫ـ المعروف والمشهور عند الناس أن اإلنسان طالما أنه سمع عن األمر‬
‫وفهمه فقد عرفه‪ ،‬وهذا األمر خاطئ؛ فهناك عنصر آخر وهو االنتباه‪ ،‬فإذا‬
‫سمع وفهم وهو غير منتبه فهو ال زال ال يعرف األمر‪.‬‬
‫ـ فال زال كثير من الناس يحسبون أهنم يعرفون اهلل واآلخرة ويف‬
‫الحقيقة هم ال يعرفون لعدم انتباههم لخطورة األمر‪.‬‬
‫ـ اجلهل باهلل واجلهل بالآخرة يق�صد به اجلهل لعدم االنتباه (الغفلة)‪:‬‬
‫ـ الجهل باهلل واآلخرة يقصد به الجهل لعدم االنتباه لخطورة معنى‬
‫الخالق واآلخرة‪ ،‬والمعرفة باهلل واآلخرة يقصد هبا االنتباه إلى خطورة‬
‫معنى الخالق وخطورة معنى اآلخرة‪.‬‬
‫ـ فالجهل بالغيبيات معناه أن يكون اإلنسان كالسكران تجاه الغيبيات‬
‫فهو يسمع ويفهم معنى الكالم لكن ال يعرف األمر ألنه فاقد االنتباه‪.‬‬
‫ـ �صفات اجلاهل لعدم االنتباه (الغافل)‪:‬‬
‫ـ يوصف بأنه يسمع‪ ،‬ويوصف بأنه ال يسمع فكيف يكون ذلك؟‪ ،‬هو‬
‫يسمع ولكن ال فائدة من سماعه ألنه يسمع بغير انتباه لما يسمعه فكأنه ال‬
‫يسمع‪ ،‬فيوصف بعدم السماع مجازا ألنه من ناحية النتيجة مثل الذي لم‬
‫يسمع أصال‪.‬‬
‫ـ وبالمثل يوصف بأنه يفهم ويعقل ويرى‪ ،‬ويوصف بأنه ال يفهم‬

‫‪44‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫﴿ص ٌّم ُب ْك ٌم ُع ْم ٌي َف ُه ْم ال‬


‫وال يعقل وال يرى مجازا‪ ،‬لذلك يقول تعالى‪ُ :‬‬
‫َي ْع ِق ُل َ‬
‫ون﴾(‪.)1‬‬
‫ـ املفهوم اخلاطئ ملعنى املعرفة باهلل والآخرة‪:‬‬
‫ـ المعرفة النظرية هي السماع والفهم‪ ،‬والمعرفة الحقيقية هي السماع‬
‫والفهم واالنتباه لخطورة ما يسمعه‪.‬‬
‫ـ قد يقول اإلنسان أنه يعرف اهلل ويعرف اآلخرة‪ ،‬ويف الحقيقة هو‬
‫غير واع لما يقول‪ ،‬ألنه لو عرف من هو اهلل وما هي اآلخرة لتغيرت كل‬
‫مشاعره وهمومه وأعماله بزاوية مائة وثمانين درجة‪.‬‬
‫ـ فيحسب اإلنسان أنه يعرف اهلل واآلخرة تما ًما‪ ،‬ويف الحقيقة فهذه‬
‫المعرفة هي معرفة نظرية فقط‪ ،‬أما المعرفة الحقيقية فهي غير موجودة‬
‫وهو جاهل‪.‬‬
‫ـ وقد يكون اإلنسان عبقر ًيا من علماء الذرة‪ ،‬وقد يبذل اإلنسان‬
‫عشرين سنة يف التعليم وعشرين أخرى فيما يكتسبه من خربة يف عمله‬
‫حتى يرتقي بخربته إلى أعلى المناصب ولكن يكتشف بعد كل هذا أنه ال‬
‫زال ال يعرف ماذا تعني كلمة (خالق) وال يعرف ماذا تعني كلمة (آخرة)؟!‬
‫ـ هناك أمور قد تبدو بسيطة جدً ا إلى أبعد ما يمكن مثل معرفة اإلنسان‬
‫أن له خال ًقا ومعرفة وجود الجنة والنار‪ ،‬فهي أمور تناسب سن األطفال‬
‫ليعرفوها‪ ،‬لكن العجيب جدً ا أن يكتشف اإلنسان بعد أن يبلغ من الكرب‬
‫عت ًيا وبعد أن امتأل عقله من بحار العلم يف أمور الدنيا والدين يكتشف أنه‬
‫يف حاجة إلى هذه المعرفة البسيطة وأهنا لم تكن عنده سوى معرفة نظرية‪،‬‬

‫((( البقرة‪ :‬من اآلية ‪.171‬‬

‫‪45‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫وأنه يحتاج ليرجع إلى الوراء عشرات السنين ليعرف أن له ر ًبا وأن هناك‬
‫آخرة هبا جنة ونار معرفة حقيقية‪.‬‬
‫ـ إن مجرد العلم بأن لنا خال ًقا فهذه ليست معلومة سهلة؛ ألن معناها‬
‫أننا نعيش حياتنا خاضعين للخالق‪ ،‬وكذلك مجرد العلم بأن هناك آخرة‬
‫فهذه ليست معلومة سهلة؛ ألن معناها أننا نعيش حياتنا مرتقبين ليوم‬
‫المعاد‪ ،‬ولكن ال يزال البعض يعيش يف غيبوبة أو يف غفلة وسكر لم يفق‬
‫بعد إلى حجم الخطر الذي ينتظره وال يدري بما هو صائر إليه بعد لحظات‬
‫من الخطر العظيم‪.‬‬
‫ـ ففي هذا الكتاب قد تكتشف أن معرفتك باهلل واآلخرة هي فقط معرفة‬
‫نظرية وتكتشف أن حقيقة أمرك أنك جاهل ال تعرف اهلل وال اآلخرة وأنت‬
‫ال تدري‪.‬‬
‫ـ وملاذا يح�سب الإن�سان �أنه يعرف اهلل والآخرة وهو ال يعرف؟‪:‬‬
‫ـ ألن أصل المعرفة موجود‪ ،‬ألنه سمع عن اهلل واآلخرة ويفهم ما‬
‫معنى الخالق واآلخرة‪.‬‬
‫ـ فالعنصر المفقود يف المعرفة هو فقدان االنتباه لخطورة المعنى‪،‬‬
‫فمهما سمع وفهم ال يزال ال ينتبه‪.‬‬
‫ـ مفهوم الغفلة (اجلهل لعدم االنتباه ـ غياب املعرفة احلقيقية)‪:‬‬
‫ـ الغفلة هي الجهل باألمر لعدم االنتباه (غياب المعرفة الحقيقية)‪.‬‬
‫ـ فالجهل نوعين هما الجهل لعدم السماع أو الفهم والجهل لعدم‬
‫االنتباه لألمر‪ ،‬والغفلة هي الجهل لعدم االنتباه لألمر‪ ،‬فالغفلة هي نوع من‬
‫أنواع الجهل وهي جهل متعمد ال يعذر االنسان به‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ الغفلة هي جهل ال يزول بال�سماع والفهم‪:‬‬


‫ـ سبب هذا الجهل هو عدم االنتباه وليس السماع والفهم‪ ،‬لذلك فهما‬
‫أسمعته وأفهمته فلن يعرف األمر ألنه ال ينتبه لألمر‪.‬‬
‫ـ فالغفلة هي الجهل لعدم القدرة على االنتباه‪ ،‬لذلك فالغافل عندما‬
‫يقرأ القرآن تمر عليه عبارات الخالق واآلخرة كأنه لم يسمع عنها ولم‬
‫يقرأها‪.‬‬
‫ـ الغفلة معناها عدم وجود المعرفة الحقيقية باألمر بسبب عدم القدرة‬
‫أو فقدان القدرة على االنتباه لخطورة ما يسمعه أو يفهمه‪ ،‬فاإلنسان لديه‬
‫وظيفة طبيعية فطرية عند التعامل مع أي معلومة يسمعها ويفهمها هي‬
‫أنه ينتبه لخطورهتا وبالتالي تتأثر مشاعره هبذا األمر‪ ،‬لكن إذا فقد هذه‬
‫الوظيفة الطبيعية أصبح سماع المعلومة وفهمها واليقين هبا ال قيمة له‬
‫كأنه لم يسمعها‪.‬‬
‫ـ العالقة بني الغفلة والعبادة‪:‬‬
‫ـ الجاهل بالشيء ال يتأثر به سواء سلبا أو إيجابا وال عالقة له به‬
‫ويعيش كأنه غير موجود‪ ،‬فكذلك الجاهل باهلل واآلخرة ال يتأثر بوجود‬
‫الخالق واآلخرة سواء سلبا أو إيجابا وال عالقة له هبما ويعيش كأهنما غير‬
‫موجودان‪ ،‬وبالتالي ال تتحقق العبادة‪.‬‬
‫ـ فالمانع من تحقيق العبادة هو الجهل باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ الجهل له أسباب متعددة‪ ،‬فقد يكون الجهل بسبب عدم السماع‬
‫لألمر أو عدم فهم معناه أو عدم االنتباه لخطورته‪.‬‬
‫ـ الجهل بسبب عدم االنتباه بخطورة األمر يسمى بالغفلة‪ ،‬وقد يكون‬

‫‪47‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫معه يقين‪ ،‬فالغافل يتعامل مع الخالق واآلخرة كأنه لم يسمع عنهما رغم‬
‫وجود اليقين التام‪.‬‬
‫ـ فالطريق الوحيد لتحقيق العبادة هو الخروج من الغفلة (تحقيق‬
‫المعرفة الحقيقية)‪ ،‬ألن االنسان إذا عرف الخالق عرف ضعف نفسه‬
‫فخضع هلل وعبده‪.‬‬
‫ـ المعرفة الحقيقية باهلل (مع اليقين) تؤدي تلقائيا إلى عبادة اهلل تعالى‪،‬‬
‫وغفلة االنسان عما يوقن به هو الذي يمنع من تحقيق العبادة‪ ،‬فالغفلة‬
‫عكس المعرفة الحقيقية‪.‬‬
‫ـ فهو يوقن بالخالق واآلخرة ونزول كالم الخالق للناس على رسله‬
‫ويوقن بأن الدنيا ضئيلة وزائلة وال قيمة لها وأن الحياة الحقيقية األبدية يف‬
‫اآلخرة وأن اإلنسان ضعيف أمام الخالق ورغم ذلك ال يحقق العبادة ألنه‬
‫غافل عن خطورة ما يوقن به‪.‬‬
‫ـ فال تتحقق العبادة إال بزوال الغفلة عن اهلل واآلخرة‪ ،‬وما يفعله‬
‫االنسان من أمور العبادة وهو غافل عن المعبود ال معنى له وهو كالذي ال‬
‫يدري ما يفعل‪.‬‬
‫ـ خطورة الغفلة‪:‬‬
‫ـ أخطر قضية يف الدين هي أن يعيش اإلنسان يف غيبوبة ثم يفيق بعد‬
‫أن يموت ويكتشف أن هذه الحياة التي كان يعيشها يف الدنيا هي حياة‬
‫غافل‪ ،‬ويكتشف‬ ‫كاذبة ألن الحياة الحقيقية يف اآلخرة‪ ،‬ويكتشف أنه كان ً‬
‫أن الناس نيام فلما ماتوا انتبهوا‪ ،‬ففي هذا الكتاب نبين حقيقة الغفلة التي‬
‫يعيشها أهل الدنيا ونبين خطرها وكيفية النجاة منها‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فلو أن ً‬
‫رجل عاش يف اآلخرة ثم جاء إلى أهل الدنيا ماذا يمكن أن‬
‫يقول لهم؟ إن هذا الكتاب هو تصور لما يمكن أن يقوله هذا الرجل‪.‬‬
‫ـ أعجب شيء أن يسمع االنسان عن شيء ويفهمه ولكنه ال يزال‬
‫جاهال به كأنه لم يسمعه‪ ،‬واألعجب منه أن يكون ذلك األمر الذي يجهله‬
‫هو من أبسط المعلومات التي يعرفها البشر وهو وجود الخالق واآلخرة‪،‬‬
‫واألعجب من كل ذلك أن االنسان قد يكون من العلماء المتخصصين يف‬
‫الدين ولديه معلومات كثيرة عن الخالق واآلخرة لكنه ال يزال رغم كل‬
‫ذلك جاهال بالخالق واآلخرة تماما كالذي لم يسمع مطلقا عن الخالق‬
‫واآلخرة‪ ،‬فذلك هو الجهل لعدم االنتباه (الغفلة)‪.‬‬
‫ـ الغفلة معناها أن هناك رجال يبحث عن شيء ما‪ ،‬ثم بعد فرتة نسي ما‬
‫يبحث عنه‪ ،‬ولكنه استمر يف البحث ألنه وجد آخرين مثله يبحثون وهم‬
‫أيضا نسوا ما يبحثون عنه‪ ،‬فأصبحت عملية البحث نفسه هي الهدف‪،‬‬
‫فهذا هو حال الغافل نسي المغزى والمعنى والهدف المقصود من الدين‬
‫والعبادة‪ ،‬فالمعنى مات والروح ماتت والظاهر موجود‪ ،‬لذلك فهذا‬
‫الكتاب هو إحياء للمغزى والمعنى والهدف المقصود من الدين والعبادة‪.‬‬
‫ـ كلمات (العبادة) و(الخالق) و(اآلخرة) و(الجنة) و(النار) موجودة‬
‫عند الغافل لكن مات معناها فأصبحت كأنه لم يسمع عنها أو كأنه ال‬
‫يفهم معناها أو كأنه ال يوقن هبا أو كأن تلك الكلمات شيء تافه غير مؤثر‬
‫أو كأن تلك األشياء غير موجودة أصال‪.‬‬
‫ـ فال تتأثر هبا مشاعره وال همومه وال أهدافه وال حياته ال سل ًبا وال‬
‫إيجا ًبا لكونه غافل عنها وغير منتبه لخطورة معناها وليس ألنه لم يسمع‬
‫عنها أو ألنه ال يفهم معناها أو ألنه ال يوقن هبا أو ألن تلك الكلمات شيء‬

‫‪49‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫تافه غير مؤثر أو ألن تلك األشياء غير موجودة أصال‪.‬‬


‫ـ فهناك ستة أسباب تجعل االنسان ال يتأثر بالشيء سواء سلبا أو‬
‫إيجابا‪ ،‬الموجود منها هنا فقط هو عدم االنتباه‪ ،‬أما باقي األسباب الخمسة‬
‫السابق ذكرها فهي غير موجودة‪.‬‬
‫ـ مفهوم الغفلة عن اهلل والآخرة (اجلهل باهلل والآخرة)‪:‬‬
‫ـ الغفلة عن اهلل واآلخرة هي الجهل باهلل واآلخرة لعدم االنتباه وليس‬
‫الجهل باهلل ألنه لم يسمع عن اهلل واآلخرة أو ألنه ال يفهم معنى الخالق‬
‫واآلخرة‪ ،‬والجهل شيء واحد ولكن األسباب متعددة‪.‬‬
‫ـ بمجرد أن تخرب أي إنسان بأمر ما فإنه بذلك يكون قد عرفه‪ ،‬ولكن‬
‫العجيب أن تخرب إنسان بأمر ما عدة مرات لكن ال يزال جاهال باألمر لم‬
‫يعرفه بعد!‪ ،‬رغم أنه سمع األمر وفهمه مرات كثيرة ولكن ال يزال جاهل‬
‫به لم يعرفه بعد!‬
‫ـ فهذا االنسان لديه خلل ومرض منعه من المعرفة‪ ،‬هذا المرض هو‬
‫عدم القدرة على االنتباه ألهمية األمر‪.‬‬
‫ـ اجلهل لعدم االنتباه (الغفلة) هو جهل متعمد‪:‬‬
‫ـ الحجة تقوم على االنسان بالمعرفة ولكن إذا كان االنسان هو‬
‫المتسبب يف تعطيل هذه المعرفة فهو غير معذور بجهله‪ ،‬بمعنى أن الرسل‬
‫أخربته بالخالق واآلخرة فسمع وفهم ولكنه تجاهل األمر وتغافل عنه حتى‬
‫ماتت عنده حاسة االنتباه فتعطلت عنده المعرفة فأصبح تماما كالذي لم‬
‫يسمع أو كالذي لم يفهم ما قالته الرسل رغم أنه سمع وفهم وأيقن بما‬
‫قالته الرسل‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ الحظ أن الغفلة التي نتكلم عنها يف هذا الكتاب هي الغفلة التي تمنع‬
‫تحقيق المشاعر األربعة (الحب والخوف والرجاء والشعور بالخضوع)‬
‫وهذه الغفلة متعمدة وهي جهل متعمد وهي كفر إعراض قلبي حيث يمنع‬
‫نفسه من معرفة اهلل واآلخرة فيبقى غافال كأنه لم يسمع عن اهلل واآلخرة‪:‬‬
‫ون بِ َها‬‫وب َل َي ْف َق ُه َ‬ ‫الن ِ‬
‫ْس َل ُه ْم ُق ُل ٌ‬ ‫﴿و َل َقدْ َذر ْأنَا ل ِ َج َهنَّم كَثِيرا مِ َن ا ْل ِ‬
‫ج ِّن َو ْ ِ‬ ‫َ‬
‫َ ً‬ ‫َ‬
‫ون بِ َها ُأو َلئِ َك ك ْ‬
‫َالَ ْن َعا ِم َب ْل‬ ‫َو َل ُه ْم َأ ْع ُي ٌن َل ُي ْب ِص ُر َ‬
‫ون بِ َها َو َل ُه ْم آ َذ ٌ‬
‫ان َل َي ْس َم ُع َ‬
‫ون﴾ [األعراف‪.]179 :‬‬ ‫ُه ْم َأ َض ُّل ُأو َلئِ َك ُه ُم ا ْل َغافِ ُل َ‬
‫ـ املعرفة احلقيقية واملعرفة الكاذبة‪:‬‬
‫ـ المعرفة الحقيقية لها ثالثة شروط هي السماع والفهم واالنتباه‪ ،‬أما‬
‫المعرفة الكاذبة فيتحقق فيها السماع والفهم مع غياب االنتباه (الغفلة)‪،‬‬
‫ومعنى المعرفة الكاذبة هو أن االنسان يحسب أنه يعرف ويف الحقيقة هو‬
‫جاهل ال يعرف األمر‪ ،‬لذلك فمعرفة اهلل واآلخرة والرسل ينبغي أن تكون‬
‫معرفة حقيقية حتى تؤدي أثرها مع وجود اليقين‪.‬‬
‫********‬
‫ـ اجلمع بني اجلهل لعدم االنتباه (الغفلة) واليقني‪:‬‬
‫ـ هل يمكن إلنسان أن يكون موقنا بشيء يجهله؟‪ ،‬نعم قد يحدث‬
‫ذلك ولكن هذا الجهل هو جهل الغفلة وليس جهال لعدم السماع أو‬
‫الفهم‪.‬‬
‫ـ اليقين يف هذه الحالة موجود وهو يقين حقيقي وصحيح شرعا‬
‫وحجة على اإلنسان ولكنه يقين ميت ال معنى له وال فائدة منه ويصبح‬
‫كالجسد الميت ألنه يوقن بشيء يجهله‪ ،‬ألن الغفلة غطت على اليقين‬

‫‪51‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫وحجبته فأصبح يقينا ال أثر له كالعدم‪ ،‬فأصبحت حقيقة االنسان عندئذ‬


‫أنه جاهل وهذا الجهل سببه عدم االنتباه لخطورة األمر وليس لعدم‬
‫السماع أو الفهم‪.‬‬
‫ـ الجمع بين الجهل واليقين معناه أن اإلنسان ال يدرك خطورة ما يوقن‬
‫به‪ ،‬فهو يوقن باألمر ولكنه يتعامل معه كالجاهل الذي لم يسمع عنه فال‬
‫يتأثر به وال يعمل له‪ ،‬والجهل هنا ليس ألنه لم يسمع عن األمر أو ألنه لم‬
‫يفهم معناه ولكنه جهل ألنه لم ينتبه لخطورته‪.‬‬
‫ـ فاجلهل نوعني ‪:‬‬
‫ـ النوع األول هو جهل لغياب أصل المعرفة (لعدم السماع أو عدم‬
‫الفهم)‪ :‬وهذا الجهل ال يمكن أن يجتمع مع اليقين‪ ،‬ألنه كيف يوقن بشيء‬
‫لم يسمع عنه أو بشيء ال يعرف معناه‪.‬‬
‫ـ والنوع الثاين هو جهل بسبب غياب االنتباه (الغفلة)‪ :‬فهو سمع‬
‫وعرف المعنى‪ ،‬وبالتالي فأصل المعرفة موجود وهو السماع ومعرفة‬
‫المعنى وبالتالي يمكن أن يجتمع هذا النوع من الجهل مع اليقين‪ ،‬فهو‬
‫عندئذ يوقن بشيء هو غافل عنه ال ينتبه لخطورته‪.‬‬
‫ـ الميزة الوحيدة بين الجاهل الذي معه يقين والجاهل الذي ليس معه‬
‫يقين هي أن الجاهل الذي معه يقين يحتاج فقط إلى تحقيق المعرفة‪ ،‬أما‬
‫الجاهل الذي ليس معه يقين يحتاج إلى تحقيق المعرفة وتحقيق اليقين‪.‬‬
‫ـ المرض المنتشر يف كثير من الناس هو الجهل مع اليقين‪ ،‬أي الجهل‬
‫باهلل واآلخرة (الغفلة عن اهلل واآلخرة) مع اليقين باهلل واآلخرة‪ ،‬والمسلم‬
‫مطالب بتحقيق المعرفة واليقين‪ ،‬فإذا لم يحقق المعرفة وحقق اليقين‬

‫‪52‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫فعليه تحقيق المعرفة‪ ،‬رغم أن تحقيق اليقين قبل المعرفة أمر معكوس‪،‬‬
‫فالطبيعي تحقيق المعرفة أوال ثم اليقين‪.‬‬

‫ـ معنى اليقين مع الغفلة (الجهل لعدم االنتباه) أي أنه يتعامل مع‬


‫المعلومة مثل جهاز الكمبيوتر تعطي له معلومات ومعطيات فيعطي لك‬
‫نتيجة سواء كانت النتيجة مكسب أو خسارة فهو ال يشعر بخطورة النتيجة‬
‫فليس لديه شعور بالقيمة (االنتباه) وليس عنده فرق بين أن يكون حجم‬
‫النتيجة كبير جدً ا أو صغير‪ ،‬وليس لديه فرق بين رقم مليون ورقم واحد‪،‬‬
‫فكالهما بالنسبة له مجرد أرقام‪ ،‬فليس لديه مشاعر ليفرح بالمكسب أو‬
‫يحزن بالخسارة‪ ،‬فال يوجد أي تفاعل سواء سل ًبا أو إيجا ًبا‪ ،‬فالكمبيوتر‬
‫يعطي نتيجة بأن هناك آخرة وغيبيات وأن ذلك حق فقط‪.‬‬

‫ـ فهو يتعامل مع المعلومة عن طريق الحسابات والنتائج فقط بغض‬


‫النظر عن طبيعة المعطيات وطبيعة النتائج‪ ،‬فاألمر ال يهمه وال يعنيه يف‬
‫شيء‪ ،‬وال يتأثر بأهمية أو خطورة هذه المعطيات أو النتائج‪ ،‬فالمسألة‬
‫ال تزيد عن كوهنا حسابات ونتائج ال أكثر‪ ،‬بغض النظر عن ما هي ِ‬
‫هذه‬
‫الحسابات وما هي ِ‬
‫هذه النتائج‪ً ،‬‬
‫فمثل هو يصدق على أنه لو وضع عود‬
‫كربيت مشتعل على البنزين فإنه يحدث حري ًقا‪ ،‬لكن ال يهمه األمر مطل ًقا‬
‫وال يتصور مدى خطورته (ال ينتبه لخطورته)‪.‬‬

‫*******‬

‫‪53‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الفصل الثالث‬
‫العن�صر املفقود يف املعرفة احلقيقية (االنتباه)‬

‫ـ مجرد أن يسمع االنسان عن شيء ما ويفهم معناه ال يكفي‪ ،‬فالبد أن‬


‫يشعر ويحس بمعنى ذلك الشيء وينشأ عن ذلك أن يتأثر به إذا كان مؤثرا‬
‫ويعيش هبذا المعنى‪ ،‬فشعوره بالشيء واحساسه بقيمته هو االنتباه وهو‬
‫العنصر المفقود يف المعرفة‪.‬‬
‫ـ االنتباه واليقظة هي وظيفة فطرية يف اإلنسان الطبيعي السليم‪ ،‬هذه‬
‫الوظيفة إذا غابت أصبح االنسان مريضا بمرض الغفلة‪.‬‬
‫ـ االنتقال من الغفلة إلى المعرفة الحقيقية معناه إيجاد العنصر المفقود‬
‫يف المعرفة الحقيقية وهو االنتباه‪ ،‬ويتم ذلك من خالل التذكر‪.‬‬
‫ـ االنتباه لألمر الخطير معناه وجود عالمات االنتباه وهي انفعال‬
‫ودهشة وتعجب وتحير واستغراب وذهول وهتيب وانزعاج وانبهار‬
‫وتيقظ وافاقة وخوف المهابة وفزع‪ ،‬واالنتباه لألمر التافه معناه زوال‬
‫عالمات االنتباه‪.‬‬
‫ـ االنتباه لمدى قدرة اهلل وخطورة اآلخرة معناه وجود عالمات االنتباه‬
‫تجاه الخالق واآلخرة‪ ،‬واالنتباه لمدى ضعف االنسان وضآلة الدنيا معناه‬
‫زوال عالمات االنتباه تجاه النفس والدنيا‪.‬‬
‫*******‬

‫‪54‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ مفهوم االنتباه‪:‬‬
‫ـ االنتباه هو رؤية اإلنسان ونظرته لقيمة الشيء وشعوره بمدى‬
‫خطورته وإحساسه بمدى أهميته‪.‬‬
‫ـ فقد يرى الشيء خطيرا أو تافها‪.‬‬
‫ـ واالنتباه نوعين بحسب هل الشيء خطيرا أم تافها‪.‬‬
‫ـ االنتباه لألمر الخطير معناه وجود عالمات االنتباه وهي انفعال‬
‫ودهشة وتعجب وتحير واستغراب وذهول وهتيب وانزعاج وانبهار‬
‫وتيقظ وافاقة وخوف المهابة وفزع‪ ،‬وكلما زادت أهمية وخطورة الشيء‬
‫كلما زاد انفعاله ودهشته وتعجبه وتحيره واستغرابه وذهوله باألمر‪.‬‬
‫ـ واالنتباه لألمر التافه معناه زوال عالمات االنتباه‪.‬‬
‫ـ االنتباه لمدى قدرة اهلل وخطورة اآلخرة معناه وجود عالمات االنتباه‬
‫تجاه الخالق واآلخرة‪ ،‬واالنتباه لمدى ضعف االنسان وضآلة الدنيا معناه‬
‫زوال عالمات االنتباه تجاه النفس والدنيا‪.‬‬
‫ـ مفهوم االنتباه �إىل ال�شيء اخلطري‪:‬‬
‫ـ الطبيعي أن الشيء العظيم الخطير المعجز الخارق لألسباب‬
‫العجيب المدهش المبهر الرهيب المهيب المخيف الغريب المحير‬
‫المزعج المذهل المؤثر هو شيء الفت لالنتباه ويدعو إلى التعجب‬
‫والدهشة واالنبهار والرهبة والمهابة واالستغراب والتحير واالنزعاج‬
‫والذهول والتهيب والتيقظ واإلحساس بالمفاجأة واإلحساس بالخطر‬
‫والشعور بالخطر وخوف المهابة‪ ،‬والنظر إلى الشيء نظرة تعظيم وانبهار‬
‫واستغراب ودهشة وتعجب وتحير وقلق‪ ،‬واالنفعال الذهني بالشيء‪،‬‬
‫فهذه هي عالمات االنتباه‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ عالمات االنتباه للأمر اخلطري‪:‬‬


‫ـ فاالنتباه لألمر الخطير له عالمات هي التعجب والدهشة واالنبهار‬
‫والرهبة والمهابة واالستغراب والتحير واالنزعاج والذهول والتهيب‬
‫واإلعجاب والتيقظ واإلفاقة واإلحساس بالمفاجأة واإلحساس بالخطر‬
‫والشعور بالخطر وخوف المهابة‪ ،‬والنظر إلى الشيء نظرة تعظيم وانبهار‬
‫واستغراب ودهشة وتعجب وتحير وتأله وقلق من روعة وهول وغرابة‬
‫وخطورة األمر‪ ،‬واالنفعال الذهني بالشيء‪.‬‬
‫أمرا‬
‫ـ وهي شعور بالفزع والذعر والقشعريرة عندما يرى أو يسمع ً‬
‫غري ًبا مفاج ًئا لم يكن يتوقعه‪ ،‬وهي ما يشعر به اإلنسان عندما يقوم من‬
‫نومه فيجد نفسه يف مكان موحش أو يف قصر ً‬
‫مثل‪ ،‬أو ما يشعر به اإلنسان‬
‫الذي أغمي عليه عندما يفيق من اإلغماء‪ ،‬أو ما يشعر به اإلنسان إذا رأى‬
‫عفريتًا أو ما شابه ذلك‪.‬‬
‫ـ فعالمات االنتباه عبارة عن حالة نفسية فيها قلق وتحير واضطراب‬
‫وانفعال من هول األمر‪.‬‬
‫ـ عالمات االنتباه تزيد بح�سب مقدار ما يف ال�شيء من �أهمية وخطر‪:‬‬
‫ـ يزداد االنتباه والدهشة بحسب مقدار ما يف الشيء من أهمية وخطر‪،‬‬
‫تافها ال خطر فيه فال‬
‫فكلما كان الخطر أكرب كانت الدهشة أشد‪ ،‬وإذا كان ً‬
‫دهشة منه وال عجب وال يلتفت له وال يلقي له ً‬
‫بال وال يوجد أي انفعال‬
‫ذهني تجاه ذلك األمر‪.‬‬
‫ـ فالتعامل مع المعلومات يتناسب بحسب قيمة ومقدار المعلومة‪،‬‬
‫فالمعلومة فائقة القيمة يكون معها تفاعل شديد جدً ا وانفعال ذهني‬
‫فمثل يكاد اإلنسان يصعق ويموت عندما يسمع بخرب وفاة أهله‬ ‫ً‬ ‫كبير‪،‬‬
‫واحرتاق بيته‪ ،‬أو إذا سمع بأنه تم اختياره لينال جائزة هائلة‪ ،‬واإلنسان‬

‫‪56‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫العاقل يحرتق من داخله ويسرع بالفرار عندما يعلم بوجود الجنة والنار‬
‫والحساب يف اآلخرة واقرتاب أجله‪ ،‬فإذا لم يحرتق من داخله أو يتأثر‬
‫خو ًفا ورهبة وترقب فهذا معناه أنه ال عقل له وأنه غير منتبه لما يحدث‬
‫حوله أو أنه كالميت‪ ،‬وهذا حال الغافلين عن اآلخرة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ـ مفهوم االنتباه �إىل خطورة الغيبيات (عالمات االنتباه للغيبيات)‪:‬‬
‫ـ عالمات االنتباه للغيبيات معناها التعجب والدهشة واالنبهار‬
‫والرهبة والمهابة والتيقظ واإلفاقة واالستغراب والتحير واالنزعاج‬
‫والذهول والتهيب واإلعجاب واالستغراب من روعة وهول وغرابة‬
‫الغيبيات‪ ،‬وخوف المهابة من الغيبيات‪ ،‬والشعور بخطورة الغيبيات‪،‬‬
‫واإلحساس بخطورة الغيبيات‪ ،‬والشعور بمهابة الغيبيات‪.‬‬
‫ـ وكون ذلك الشيء غيبي ال تراه فهذا يزيد من اإلثارة والقلق‬
‫والتخوف والحيرة والدهشة‪ ،‬فالمالئكة والجن حولك وأنت ال تراهم‪،‬‬
‫فهذا أمر معجز خارق للعادة‪.‬‬
‫ـ والحظ أن خوف المهابة من الجنة والنار وأهوال القيامة ليس‬
‫خوف عقاب ولكنه خوف مهابة ودهشة تجعل اإلنسان يقشعر بدنه‬
‫متحيرا قل ًقا من وجود حياة أخرى أبدية لإلنسان فيها نار رهيبة‬
‫ً‬ ‫ويجعله‬
‫وجنة رهيبة‪.‬‬
‫ـ �أمثلة تو�ضح عالمات االنتباه للأمر اخلطري‪:‬‬
‫ـ لو قالوا لك أن هناك رجال يسير اآلن يف الشارع طوله ثالثة أمتار‬
‫وأنت قد سمعت وصدقت األمر ولم يكن لديك أي انفعال أو رد فعل أو‬
‫انتباه واستغراب ودهشة من األمر وتحرك لرؤيته فهذا معناه أنك ال تزال‬
‫لم تعرف األمر بعد‪.‬‬
‫ساحرا‪ ،‬فإنه يحدث لك خوف مهابة مما يصنع‬
‫ً‬ ‫ـ أنت إذا رأيت‬

‫‪57‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫وحب إعجاب بما يصنع‪َ ﴿ :‬ق َال َأ ْل ُقوا َف َل َّما َأ ْل َق ْوا َس َح ُروا َأ ْع ُي َن الن ِ‬
‫َّاس‬
‫وه ْم﴾(‪.)1‬‬
‫است َْر َه ُب ُ‬
‫َو ْ‬
‫ـ انظر إلى حال رجل يذهب لمقابلة ملك من ملوك الدنيا‪ ،‬فإنه يستعد‬
‫ويتهيأ نفس ًيا ألنه أمر رهيب‪ ،‬إنه يكون يف قلق واضطراب‪ ،‬وعندما يقف‬
‫عند الملك قد يتلعثم من هيبة الموقف‪ ،‬إن الحالة النفسية التي عنده هي‬
‫التي تسمي الشعور بالمهابة‪ ،‬فإذا كنت تدعي الشعور بالمهابة من اهلل فهل‬
‫عندك هذه الحالة النفسية؟!‬
‫ـ انتقال البشر جميعهم من الحياة على هذه الكرة األرضية الى الحياة‬
‫يف مكان آخر على أرض غير هذه األرض هي مسألة مثيرة جدا وعجيبة‬
‫لكن ذلك عند البعض هو أمر عادي جدا ال شيء فيه غريب أو يدعو‬
‫للدهشة والعجب‪.‬‬
‫ـ عالمات االنتباه ال عالقة لها بالثواب والعقاب‪:‬‬
‫ـ عالمات االنتباه موجودة مع األمر الخطير سواء كان فيه ثواب أو‬
‫عقاب أو ليس فيه ثواب أو عقاب‪ ،‬فاإلنسان يتعجب ويندهش من النار‬
‫ومن الجنة ومن قدرة اهلل ومن أي أمر خطير‪.‬‬
‫ـ عالمات االنتباه موجودة مع األمر الخطير الذي فيه ثواب أو عقاب‬
‫ليس لكونه فيه ثواب وعقاب ولكن لكونه أمر خطير‪ ،‬فاإلنسان يتعجب‬
‫من هول النار سواء كانت تضره أو بعيدة عنه‪ ،‬ويف نفس الوقت يخاف‬
‫من النار إذا كانت قريبة منه ويمكن أن تضره‪ ،‬فالتعجب هو من عالمات‬
‫االنتباه‪ ،‬أما الخوف يكون من العقاب‪ ،‬ولكي يتحقق الخوف من النار‬
‫البد أوال حدوث االنتباه والتعجب من خطورهتا‪.‬‬

‫((( األعراف‪.116 :‬‬

‫‪58‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ واإلنسان إذا ذهب إلى قسم الحرائق بأي مستشفى ورأى ما فعلته‬
‫النار هبؤالء المرضى فإنه يتألم رغم أنه لم يصب بأي أذى من النار‪ ،‬فهذا‬
‫هو الشعور بالمهابة من النار‪ ،‬وينشأ عن ذلك الخوف من أن يقرتب من‬
‫النار أو تدركه النار فيصاب مثلهم‪ ،‬وهذا هو خوف العقاب أي خوف‬
‫الوصول للنار‪ ،‬فإذا لم يشعر اإلنسان بالتألم لهؤالء المرضى فهذا معناه‬
‫أنه ال يعرف ماذا تعني كلمة نار معرفة حقيقية‪ ،‬وهو ليس حي وال عقل‬
‫له‪ ،‬وبالتالي فلن يخاف من العقاب‪.‬‬
‫ـ وألن قدرة اهلل هي أعظم من كل شيء فمن انتبه لذلك خاف من‬
‫﴿وا َّل ِذي َن َي ِص ُل َ‬
‫ون َما أمر‬ ‫مهابة قدرته سبحانه‪ ،‬ففي تفسير النيسابوري‪َ :‬‬
‫ون سوء ا ْل ِ‬ ‫ِ‬
‫اب﴾ ‪ ...‬الخشية‬ ‫ح َس ِ‬ ‫اهَّلل بِه َأ ْن ُي َ‬
‫وص َل َو َي ْخ َش ْو َن َر َّب ُه ْم َو َي َخا ُف َ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫نوعان‪ :‬خشية الجالل كالعبد إذا حضر بين يدي السلطان ومن ذلك‬
‫خشية المالئكة ﴿يخافون رهبم من فوقهم﴾ [النحل‪ ]50 :‬وإلى هذا‬
‫أشار بقوله‪﴿ :‬ويخشون رهبم﴾‪ ،‬وخشية أن يقع يف العبادة خلل أو نقص‬
‫يوجب فسادها أو نقصان ثواهبا‪ .‬وإليه اإلشارة بقوله‪﴿ :‬ويخافون سوء‬
‫الحساب﴾)(‪ ،)1‬ويف تفسير الرازي‪﴿ :‬وقال أصحاب الحقائق‪ :‬الخوف‬
‫على قسمين‪ :‬خوف العقاب‪ ،‬وخوف العظمة والجالل‪ ،‬أما خوف العقاب‬
‫فهو للعصاة‪ ،‬وأما خوف الجالل والعظمة فهو ال يزول عن قلب أحد‬
‫مرسل‪ ،‬وذلك ألنه تعالى‬ ‫ً‬ ‫من المخلوقين‪ ،‬سواء كان مل ًكا مقر ًبا أو نب ًيا‬
‫غني لذاته عن كل الموجودات‪ ،‬وما سواه من الموجودات فمحتاجون‬
‫إليه‪ ،‬والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني يهابه ويخافه‪ ،‬وليست تلك‬
‫محتاجا إليه‬
‫ً‬ ‫الهيبة من العقاب‪ ،‬بل مجرد علمه بكونه غن ًيا عنه‪ ،‬وكونه‬

‫((( تفسير النيسابوري [غرائب القرآن ورغائب الفرقان] ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (ج‪،4 :‬‬
‫ص‪.)153 :‬‬

‫‪59‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أيضا‪﴿ :‬قال العارفون‪:‬‬ ‫يوجب تلك المهابة﴾(‪ ،)1‬ويف تفسير الرازي ً‬


‫الخوف خوفان‪ :‬خوف العقاب وخوف الجالل‪ ،‬واألول نصيب أهل‬
‫الظاهر‪ ،‬والثاين نصيب أهل القلب‪ ،‬واألول يزول‪ ،‬والثاين ال يزول﴾(‪،)2‬‬
‫اف و ِع ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿و َلن ُْسكِنَنَّ ُك ُم ْالَ ْر َض مِ ْن َب ْع ِد ِه ْم َذل ِ َك ل ِ َم ْن َخ َ‬
‫يد(‪.)3‬‬ ‫اف َم َقامي َو َخ َ َ‬ ‫َ‬
‫ب َو َجا َء بِ َق ْل ٍ‬
‫الر ْح َم َن بِا ْل َغ ْي ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫ويف تفسير النيسابوري‪َ ﴿ :‬م ْن َخش َي َّ‬
‫يب﴾ قال أهل االشتقاق‪ :‬إن تركيب (خ ش ى) يلزمها الهيبة ومنه‬ ‫ُمن ِ ٍ‬
‫للسيد ولكبير السن‪ ،‬وتركيب الخوف يدل على الضعف ومنه الخفاء‪،‬‬
‫وكل موضع ذكر فيه الخشية أريد هبا معنى عظمة المخشي منه﴾(‪ ،)4‬ويف‬
‫ات َي َت َف َّط ْر َن مِنْ ُه﴾ أي‪:‬‬ ‫او ُ‬ ‫تفسير ابن كثير‪﴿ :‬وقال الضحاك‪َ ﴿ :‬ت َكا ُد َّ‬
‫الس َم َ‬
‫يتشققن َف َر ًقا من عظمة اهلل﴾(‪.)5‬‬
‫ـ ا�ستمرارية االنتباه للأمر اخلطري‪:‬‬
‫قائما البد من استمرارية االنتباه‪ ،‬فطالما أن‬
‫ـ طالما أن الخطر ما زال ً‬
‫قدرة اهلل دائمة فاالنتباه لخطورهتا يكون دائما‪ ،‬وطالما أن اآلخرة لم ِ‬
‫تأت‬ ‫ً‬
‫مستمرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بعد فاالنتباه لخطورة مجيئها يكون‬
‫ـ �أهمية وظيفة االنتباه‪:‬‬
‫ـ االنتباه هو مولد ومحرك المشاعر والهموم والجوارح بشرط وجود‬
‫اليقين‪.‬‬

‫((( تفسير الرازي [مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير] ‪-‬دار إحياء الرتاث العربي‪ -‬بيروت (‪/ 15‬‬
‫‪.)443‬‬
‫((( تفسير الرازي [مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير] ‪-‬دار إحياء الرتاث العربي‪ -‬بيروت (ج‪،3 :‬‬
‫ص‪.)482 :‬‬
‫((( إبراهيم‪.14 :‬‬
‫((( تفسير النيسابوري [غرائب القرآن ورغائب الفرقان] ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (ج‪ ،6 :‬ص‪:‬‬
‫‪.)179‬‬
‫((( تفسير ابن كثير ـ دار طيبة للنشر والتوزيع (ج‪ ،5 :‬ص‪.)266 :‬‬

‫‪60‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ً‬
‫جميل حميدً ا‪ ،‬وخافه إذا كان‬ ‫ـ ألنه إذا انتبه إلى الشيء أحبه إذا كان‬
‫مخي ًفا‪ ،‬وكرهه إذا كان ً‬
‫كريها وينشأ عن ذلك العمل‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫ـ اإلنسان يتأثر باألمر ويعمل له على قدر شعوره بخطورته (االنتباه‬
‫خطيرا ولم يشعر بخطورته فلن يتأثر به‬
‫ً‬ ‫أمرا‬
‫لمدى خطورته)‪ ،‬فإذا كان ً‬
‫ولن يعمل له‪.‬‬
‫ـ فإذا عرف اإلنسان الخالق واآلخرة معرفة حقيقية فإن كل ما يتعلق‬
‫بحياته ومعيشته من مشاعر وأهداف وهموم وسلوك وانفعاالت وأخالق‬
‫وكالم وعمل سوف يتعلق بالخالق واآلخرة مبتعدً ا عن الدنيا وسوف‬
‫تتغير حياته كلها بزاوية مائة وثمانين درجة‪.‬‬
‫ـ فاالنتباه لخطورة معنى الخالق واآلخرة والرسل مع وجود اليقين‬
‫باهلل واآلخرة والرسل يؤدي إلى تلقائيا إلى العبادة وهو الطريق الوحيد‬
‫لتحقيق العبادة‪.‬‬
‫ـ فأول االستجابة للدين هي أن ينتبه اإلنسان لخطورة الغيبيات‪،‬‬
‫ود َّي ِة ا ْل َي َق َظ ُة َو ِه َي‬
‫َاز ِل ا ْلعب ِ‬
‫ُُ‬ ‫لذلك يقول شيخ اإلسالم ابن القيم‪َ ﴿ :‬ف َأ َّو ُل َمن ِ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ان ِْز َعاج ا ْل َق ْل ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫الر ْو َعةَ‪،‬‬ ‫ب ل َر ْو َعة النْت َباه م ْن َر ْقدَ ة ا ْل َغافلي َن‪َ ،‬وال َّله َما َأ ْن َف َع َهذه َّ‬ ‫ُ‬
‫وك! َف َم ْن َأ َح َّس بِ َها‬ ‫وما َأ ْع َظم َقدْ ر َها و َخ َطر َها‪ ،‬وما َأ َشدَّ إِ َعا َنتَها َع َلى الس ُل ِ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ات ا ْل َغ ْف َل ِة َفإِ َذا ا ْن َتبه َشمر ل ِ َّلهِ‬‫َف َقدْ َأحس واهَّللِ بِا ْل َف َلحِ ‪ ،‬وإِ َّل َفهو فِي س َكر ِ‬
‫َ َ َّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الس َف ِر إِ َلى َمن ِ‬ ‫ِِ‬
‫َازله ْالُو َلى‪َ ،‬و َأ ْو َطانه ا َّلتي ُسبِ َي من َْها﴾( )‪.‬‬ ‫بِ ِه َّمته إِ َلى َّ‬
‫‪1‬‬

‫ـ مفهوم االنتباه ملدى قدرة اخلالق‪:‬‬


‫ـ معنى كلمة (إله) يف اللغة‪ :‬أي الذي تتحير وتندهش وتتعجب‬
‫وتعجب وتنبهر من مدى عظمة صفاته والتي تتمثل يف خرق األسباب‬

‫((( مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (‪.)142 /1‬‬

‫‪61‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫فتحبه إعجا ًبا بمدى قدرته الهائلة وتخاف من هيبته‪ ،‬ففي النهاية يف غريب‬
‫األثر‪( :‬أل ِ َه يأ َل ُه إذا َت َح َّير‪ُ ،‬يريد إذا وقع العبد يف عظمة ال ّله تعالى وجالله‬
‫وغير ذلك من صفات الربوبية وصرف وهمه إليها أ ْب َغض الناس حتى ال‬
‫يميل قلبه إلى أحد)(‪ ،)1‬ويف غريب الحديث البن قتيبة‪َ ( :‬أل ِ َه َي ْأ َله إذا تح ِّير‬
‫رجة‬ ‫كأ َّن ال ُقلوب ْتأ َل ُه عند التف ّكر يف َع َظمة ال ّله‪ ...‬إذا َو َقع ال َع ْبد يف هذه الدَّ َ‬
‫َ‬
‫حب إال اهلل عز َّ‬
‫وجل)(‪.)2‬‬ ‫جب ُه َأحد ولم ُي ّ‬ ‫لم ُي ْع ِ‬

‫*******‬

‫((( النهاية يف غريب األثر ‪-‬المكتبة العلمية‪ -‬بيروت (‪.)62 / 1‬‬


‫((( غريب الحديث البن قتيبة ‪-‬مطبعة العاين‪ -‬بغداد (‪ 728 / 3‬ـ ‪.)728‬‬

‫‪62‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل الرابع‬
‫الغرور بالنعم (يرى نف�سه قويا)‬

‫ـ االنسان إما مغرور بنفسه فال يخضع أو يشعر بضعفه فيخضع‪،‬‬


‫فالسبب الوحيد لعدم الخضوع هو الغرور بالنفس (الغرور بما فيه وما‬
‫عنده من النعم)‪ ،‬والسبب الوحيد للخضوع هو الشعور بالضعف‪.‬‬
‫ـ الغافل عن اهلل واآلخرة يرى الدنيا عظيمة ويرى نفسه قويا بما عنده‬
‫من النعم ألنه ال يرى غير الدنيا‪ ،‬وهذا الغرور يؤدي الى شعور بالقيمة‬
‫والمكانة والقدر (عكس الخضوع)‪ ،‬وبالتي ال يخضع‪.‬‬
‫ـ أما من عرف اهلل واآلخرة فقد عرف ضعف نفسه وبالتالي يخضع‪.‬‬
‫ـ فعكس المعرفة الحقيقية بضعف االنسان هو المعرفة الخادعة بقوة‬
‫االنسان (الغرور بالنعم)‪.‬‬
‫ـ فأساس العبادة والهداية هي االنتقال من الغرور بالنفس الى الشعور‬
‫بضعف النفس‪ ،‬أي االنتقال من الشعور الخادع بالمكانة والعظمة إلى‬
‫الشعور بالخضوع‪ ،‬وذلك من خالل االنتقال من الغفلة إلى المعرفة‬
‫الحقيقية بالنفس‪.‬‬
‫ـ فال تتحقق العبادة حتى يزول تعظيم قيمة النفس والمال والممتلكات‬
‫من قلب اإلنسان‪ ،‬وال يحدث هذا إال إذا زالت الغفلة عن اهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ مفهوم النعم‪:‬‬

‫‪63‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ النعم عبارة عن أمرين هما االنسان نفسه والدنيا‪ ،‬فاإلنسان هو نفسه‬


‫عبارة عن نعم كالسمع والكالم والرؤية والمعدة والعقل والقلب وكل‬
‫شيء يف االنسان‪ ،‬وكذلك الدنيا كلها نعم كالماء والهواء وتشمل أيضا ما‬
‫يتمتع به االنسان كالمال واألوالد والشهوات والتكنولوجيا‪ ،‬فاهلل جعل‬
‫كل شيء مسخر لإلنسان وبالتالي فكل شيء هو نعم لإلنسان‪.‬‬
‫ـ مفهوم الغرور بالنعم (يرى نف�سه قويا)‪:‬‬
‫ـ الغرور بالنعم معناه أن االنسان يرى نفسه قويا بما عنده من النعم‪،‬‬
‫وسبب ذلك الغفلة عن اهلل واآلخرة‪ ،‬ألنه لو عرف اهلل واآلخرة لعرف‬
‫حقيقة ضعفه‪.‬‬
‫ـ االنسان إما أنه يعرف الحق أو يجهل الحق أو يعرف عكس الحق‪،‬‬
‫فالمعرفة بالحق هي المعرفة باهلل والمعرفة بحقيقة النفس‪ ،‬والجهل بالحق‬
‫هو الغفلة عن اهلل‪ ،‬والمعرفة بعكس الحق هو الغرور بالنفس‪.‬‬
‫ـ فالناس صنفين الصنف األول يعرف اهلل ويعرف نفسه‪ ،‬والصنف‬
‫الثاين غافل عن اهلل ومغرور بنفسه (أي جاهل باهلل ويعرف عكس حقيقة‬
‫نفسه)‪.‬‬
‫ـ وسبب الغرور بالنفس هو الغفلة عن اهلل‪ ،‬ألنه إذا عرف اهلل فقد عرف‬
‫حقيقة نفسه‪.‬‬
‫ـ المعرفة الحقيقية بالخالق واآلخرة تؤدي إلى المعرفة الحقيقية‬
‫بضعف االنسان‪ ،‬والمعرفة الحقيقية بضعف االنسان تؤدي الى الخضوع‪.‬‬
‫ـ الغرور بالنعم عكس المعرفة الحقيقية‪ ،‬والغرور بالنعم هو المعرفة‬
‫الخادعة بقوة االنسان لما عنده من النعم‪ ،‬ويؤدي الى شعور االنسان بأن له‬
‫قدر ومكانة وقيمة وعظمة وأنه ليس بضعيف ويؤدي الى عدم الخضوع‪.‬‬
‫ـ اإلنسان له قوة واهلل سبحانه له قوة‪ ،‬قوة اإلنسان تتمثل يف النعم التي‬

‫‪64‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫أنعم اهلل هبا على اإلنسان من إرادة وعقل وسمع ومال ومسكن وزروع ‪...‬‬
‫الخ‪ ،‬اإلنسان عليه أن يستسلم لقوة اهلل ألن قوة اهلل أعظم من قوة اإلنسان‬
‫وألن ما عند اإلنسان من قوة هي يف حقيقتها نعم من اهلل وليست قوة له‪،‬‬
‫فمثال لو أن إنسانا وجد أمامه جيشا هائال مسلحا بكل أنواع األسلحة‬
‫فإن عليه أن يستسلم ويلقي بسالحه يف األرض‪ ،‬ولكن اإلنسان األحمق‬
‫يتعامل مع قوة هذا الجيش كأنه ال يراه حتى ال يستسلم فيتناسى وجود‬
‫هذا الجيش‪.‬‬
‫ـ وبدال من أن تكون النعم سببا لمعرفة قدرة اهلل وقوته وإنعامه اغرت‬
‫هبا اإلنسان على أهنا ملك له وأنه أوجدها لنفسه واعتربها قوة له‪ ،‬لذلك‬
‫ال يريد أن يستسلم‪.‬‬
‫ـ نعم اهلل على االنسان عبارة عن نعم يف ذات االنسان كالصحة والسمع‬
‫والكالم والرؤية ونعم الدنيا كالمال واألوالد والشهوات والتكنولوجيا‪.‬‬
‫ـ النعم التي يف ذات االنسان ضئيلة بالمقارنة بقدرة اهلل تعالى‪ ،‬فالقدرة‬
‫على السمع ليست بشيء أمام قدرة اهلل على السمع‪ ،‬وهكذا يف كل شيء‪،‬‬
‫واهلل سبحانه ال يتعب وال يمرض وال ينام وال يموت سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ـ ونعم الدنيا بالمقارنة بنعم اآلخرة فهي ضئيلة جدا وإلى زوال سواء‬
‫بالمقارنة بين مدة بقاءها أمام الخلود يف اآلخرة أو بقيمتها أمام مدى قيمة‬
‫النعيم يف الجنة‪.‬‬
‫ـ كما أن نعم الدنيا ضئيلة يف حد ذاهتا فال يستطيع االنسان أن يكثر‬
‫من متع الدنيا عن حد معين‪ ،‬فمثال إذا أسرف يف الطعام تعب‪ ،‬كما أن‬
‫الحصول على متع الدنيا ليس باألمر السهل فالمتنافسين عليها كثير‪ ،‬كما‬
‫أن اهلل وضع لإلنسان قدر معين من المتع والرزق ال يستطيع أن يستزيد‬
‫منه كما أن االنسان ال يستطيع أن يمنع المرض واالبتالءات‪...‬الخ‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ اإلنسان مغرور بما أعطاه اهلل من نعم كالعين واألنف والهواء وبما‬
‫أعطاه من متع الدنيا كالمال وشهوات النساء والطعام والشراب‪ ،‬فهو ال‬
‫يقبل أن ينظر إلى الماليين من األموال على أهنا تافهة‪ ،‬وال يقبل أن ينظر‬
‫على متع الشهوات على أهنا تافهة‪ ،‬وال يوافق على أن كل النعم مجرد‬
‫عطاء من اهلل عليه‪ ،‬رغم أن كل ذلك هو مقتنع به‪ ،‬لكنه مغرور بنفسه‬
‫وبالدنيا وال يريد أن يشعر بأنه ليس بضعيف‪.‬‬
‫ـ ملاذا ال ينتبه الإن�سان �إىل حقيقة نف�سه وحقيقة الدنيا فرياها‬
‫عظيمة القيمة على عك�س حقيقتها؟‪:‬‬
‫ـ االنسان يوقن بأن النعم ضئيلة وإلى زوال ويف نفس الوقت ينظر اليها‬
‫نظرة تعظيم وانبهار فتتعلق مشاعره بنفسه وبالدنيا ويغرت بنفسه وبما عنده‬
‫من نعم ويرى نفسه قويا بذلك فال يخضع باعتبار أنه قوي‪.‬‬
‫ـ قيمة الشيء تعرف بالمقارنة بشيء آخر‪ ،‬فوجود اآلخرة جعل الدنيا‬
‫شيء تافه ال قيمة له‪ ،‬وإذا لم يكن هناك رب وال آخرة لكانت الدنيا عظيمة‬
‫جدً ا؛ ألنه ليس أمام اإلنسان شيء غيرها‪.‬‬
‫ـ فإذا انتبه اإلنسان ً‬
‫أول إلى حقيقة اآلخرة رأى الدنيا على حقيقتها‬
‫وبالتالي لم يحدث له انفعال ذهني أو تعجب أو دهشة أو انبهار أو رهبة‬
‫أو مهابة أو استغراب أو تحير أو انزعاج أو ذهول أو هتيب أو إعجاب‬
‫بقيمة المال أو الشهوات أو المناصب أو أي أمر من أمور الدنيا‪ ،‬وينظر‬
‫إلى المال والشهوات والدنيا نظرة احتقار وليس نظرة تعظيم‪.‬‬
‫ـ تصور ظاهر األمر مع عدم تصور مقارنته بغيره يؤدي إلى رؤية‬
‫تافها‪ ،‬وينشأ عن ذلك شعور‬ ‫عظيما ورؤية الشيء العظيم ً‬
‫ً‬ ‫الشيء التافه‬
‫خادع بقيمة الدنيا فيراها عظيمة القيمة رغم ضآلتها وفنائها‪ ،‬فيرى األمور‬
‫مقلوبة‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فتكون نظرة اإلنسان للمال وأصحاب الثروات نظرة انبهار وإعجاب‬


‫وتعظيم وتقدير لعظيم قيمته‪ ،‬وكذلك نظرته إلى حجم المتعة من شهوة‬
‫النساء أو النظر إلى العورات وهكذا‪ ،‬يف حين نظرته إلى قدر اهلل مثل‬
‫نظرته إلى أي شيء ال ينفع وال يضر‪ ،‬فقدرة اهلل ال تلفت نظره ً‬
‫أصل وال‬
‫يستشعر يف ذلك أثر أو أهمية‪ ،‬وكذلك نظرته إلى اآلخرة تكون مثل نظرته‬
‫إلى الحواديت وهكذا‪.‬‬
‫ـ أما إذا نظر اإلنسان إلى حقائق األشياء تغيرت نظرته إلى ما حوله‪،‬‬
‫ألنه يكتشف حقيقة الدنيا فيشعر بضآلتها‪ ،‬ويكتشف حقيقة اآلخرة فيشعر‬
‫بخطورهتا‪ ،‬فتكون نظرته لألشياء نظرة أخروية وليست نظرة دنيوية‪،‬‬
‫فمثل ال ينظر إلى أصحاب الجاه والسلطان نظرة انبهار ولكن يتذكر أهنم‬ ‫ً‬
‫صائرون إلى القبور ويرتكون كل شيء‪ ،‬وكذلك ينظر إلى الظلمة على‬
‫أهنم ضعفاء مساكين وهم يف النار يعذبون فيشفق عليهم يف الدنيا وهم‬
‫ِ ٍ (‪)1‬‬
‫يوردون أنفسهم موارد الهالك‪﴿ :‬إِنِّي َأ َخ ُ‬
‫اف َع َل ْي ُك ْم َع َذ َ‬
‫اب َي ْو ٍم َعظيم‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫ـ لماذا يرى اإلنسان شهوات الدنيا كبيرة وال يستطيع مقاومتها؟ ذلك‬
‫ألنه لم يقارهنا بشهوات الجنة أو بالعقاب على هذه الشهوات فال وجه‬
‫للمقارنة‪ ،‬فمعنى أن اإلنسان ال يزال ال يستطيع مقاومة شهوات الدنيا هو‬
‫أنه ال يزال لم يعرف اآلخرة‪ ،‬وكذلك طالما أن اإلنسان ال يزال يغضب‬
‫وينفعل ويتأثر بآالم الدنيا ومشاكلها هو أنه ال يزال لم يعرف أن الدنيا إلى‬
‫فناء وأن آالم الدنيا ليست بشيء أمام آالم النار‪.‬‬
‫ـ قيمة الشيء تعرف بالمقارنة بغيره‪ ،‬فإذا أغمض اإلنسان عينه عن‬
‫صفات وقدرات الخالق فنظر إلى نفسه ولم ينتبه إلى عظمة الخالق تكون‬

‫((( الشعراء‪.135 :‬‬

‫‪67‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫لديه معرفة خاطئة بحقيقة نفسه فيرى نفسه قويا‪ ،‬فيغرت بنفسه بما لديه من‬
‫صفات وقدرات وحياة يتمتع هبا وبما عنده من الدنيا‪.‬‬
‫ـ فالبد من المقارنة بين قوة اهلل وقوة اإلنسان‪ ،‬ورؤية اهلل ورؤية اإلنسان‬
‫وقدرة السمع عند اهلل وقدرة السمع عند اإلنسان وبين األمر الطبيعي‬
‫واألمر الخارق لألسباب‪ ،‬وبين قيمة الدنيا وقيمة اآلخرة‪ ،‬والمقارنة بين‬
‫صحة اإلنسان يف الدنيا وصحته يف الجنة‪ ،‬وقصر عمره يف الدنيا أمام طول‬
‫عمره يف اآلخرة‪ ،‬والمقارنة بين الشهوات والعقاب عليها‪ ،‬وهكذا حتى‬
‫يفيق اإلنسان من الغيبوبة وينتبه من غفلته إلى أن قدرة اهلل وهول اآلخرة‬
‫خطر واقع رهيب‪ ،‬وعندئذ تتحقق المعرفة باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ فإذا أغمض اإلنسان عينه عن اآلخرة فلم ينتبه لخطورهتا رأى الدنيا‬
‫على عكس حقيقتها‪ ،‬لذلك فهو يراها عظيمة ألنه ليس أمامه غير الدنيا‬
‫فهو يتعجب ويندهش وينبهر ويرهب ويهاب ويستغرب ويتحير ويذهل‬
‫ويتهيب وينبهر من مدى عظمة وأهمية وقيمة المال ومن مدى حالوة‬
‫﴿و َم ْن‬
‫الشهوات ومن مدى عظمة المناصب وغير ذلك من أمور الدنيا‪َ :‬‬
‫يل﴾(‪ ،)1‬ويؤدي ذلك‬ ‫َان فِي َه ِذ ِه َأ ْع َمى َف ُه َو فِي اآلخرة َأ ْع َمى َو َأ َض ُّل َسبِ ً‬
‫ك َ‬
‫إلى أن تتعلق مشاعره بالدنيا ويعيش لها‪ ،‬لذلك فالعالج الوحيد لتعلق‬
‫اإلنسان بالدنيا والشهوات والمعاصي هو معرفة اهلل واآلخرة‪ ،‬ومن‬
‫المستحيل أن يرتك اإلنسان الشهوات والمعاصي إال إذا عرف اآلخرة‬
‫معرفة حقيقية مع وجود اليقين‪.‬‬
‫ـ وكلما ضعف االنتباه لحقيقة اآلخرة كلما رأى الدنيا عظيمة‪ ،‬وكلما‬
‫قوي االنتباه لحقيقة اآلخرة كلما رأى الدنيا ضئيلة‪.‬‬
‫ـ فإذا لم يشعر اإلنسان بقوة ما هو قوي وضعف ما هو ضعيف ففي‬

‫((( اإلسراء‪.72 :‬‬

‫‪68‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫عقله خلل‪ ،‬هذا الخلل هو عدم مقدرته على الشعور بقيمة األشياء‪ ،‬وإذا‬
‫فقد اإلنسان الشعور بقيمة األشياء رأى القوة والعظمة يف المال أو الجاه‬
‫أو الشهوات ولم يشعر بقوة اهلل وعظمته فكان خوفه وخضوعه وتعظيمه‬
‫وحبه ورجاءه يف الدنيا وتوكله عليها وعمله من أجلها فهذا هو عبادة‬
‫الهوى‪.‬‬
‫ـ النعم قد ت�ؤدي �إىل الهداية وقد ت�ؤدي �إىل ال�ضالل بح�سب نظرة‬
‫االن�سان �إليها‪:‬‬
‫ـ إذا نظر االنسان إلى النعم على حقيقتها (أي على أهنا ضئيلة) وعلى‬
‫أهنا نعم من اهلل لإلنسان قادته الى الهداية وعبادة اهلل‪ ،‬وإذا نظر االنسان‬
‫إلى النعم على عكس حقيقتها (أي على اهنا عظيمة القيمة) فاغرت هبا‬
‫جعلته يرفض أن يعيش خاضعا هلل تعالى‪.‬‬
‫ـ هل النعم عظيمة �أم �ضئيلة؟‪:‬‬
‫ـ بدون المقارنة بشيء فالنعم عظيمة ألهنا مهمة جدا لإلنسان وبدون‬
‫هذه النعم ال يستطيع أن يعيش فهو يف حاجة شديدة لها‪ ،‬وال يعرف قيمة‬
‫النعمة إال من فقدها‪ ،‬فوجودها دليل على قوة االنسان وعدم وجودها‬
‫دليل على ضعف االنسان‪.‬‬
‫ـ لكن بالمقارنة بغيرها فهي ضئيلة جدا‪ ،‬فالنعم عبارة عن أمران هما‬
‫صفات يف االنسان كالقدرة على السمع والقدرة على الرؤية ونعم الدنيا‬
‫كالماء والهواء والتكنولوجيا‪ ،‬إذا قارنا بين النعم التي هي قدرات يف‬
‫االنسان وبين قدرات الخالق فهي ال شيء‪ ،‬وإذا قارنا بين نعم الدنيا ونعم‬
‫الجنة فهي ال شيء‪ ،‬إذن فحقيقة النعم أهنا ضئيلة جدا‪.‬‬
‫ـ فإذا لم يكن هناك خالق وال آخرة فالنعم عظيمة جدا لإلنسان‪ ،‬ويف‬
‫هذه الحالة ال تسمى نعم على افرتاض أن االنسان هو الذي يملكها وهو‬

‫‪69‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الذي صنعها لنفسه‪ ،‬ففي هذه الحالة فالنعم عظيمة ومصدر قوة لإلنسان‪.‬‬
‫ـ ضآلة النعم التي عند االنسان دليل على ضعفه‪ ،‬وهذا لو افرتضنا أن‬
‫االنسان يمتلك النعم وهو الذي اوجدها لنفسه فهي ضئيلة بالمقارنة‪ ،‬فما‬
‫بالك واالنسان ال يملك هذه النعم الضئيلة وال هو الذي اوجدها لنفسه‬
‫فهذا دليل على الضعف التام لإلنسان‪.‬‬
‫ـ غرور االنسان بالنعم واعتبارها قوة له دليل على أنه غافل عن اهلل‬
‫واآلخرة ودليل على أنه يتعامل مع النعم كأنه ال خالق وال آخرة وكأنه‬
‫ال أحد خلقها له وأنعم هبا عليه وإنما هو الذي أوجدها لنفسه وهو الذي‬
‫ب ا ْل َف ِر ِحي َن)‬ ‫ِ‬
‫(ل َت ْف َر ْح إِ َّن َ‬
‫اهَّلل َل ُيح ُّ‬ ‫يملكها‪ ،‬فقوم قارون عندما قالوا له‪َ :‬‬
‫قال لهم‪( :‬إِن ََّما ُأوتِي ُت ُه َع َلى ِع ْل ٍم ِعن ِْدي)‪ ،‬ويف تفسير البحر المحيط‪:‬‬
‫﴿﴿و َلئِ ْن َأ َذ ْقنَا ُه َر ْح َم ًة مِنَّا مِ ْن َب ْع ِد َض َّرا َء َم َّس ْت ُه َل َي ُقو َل َّن َه َذا لِي﴾ [فصلت‪:‬‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اجت َهادي‪َ ،‬و َل َي َر َاها َأن ََّها م َن اهَّلل ﴾(‪.)1‬‬ ‫‪َ ﴿]50‬ل َي ُقو َل َّن َه َذا لي﴾ َأ ْي بِ َس ْعيِي َو ْ‬
‫ـ النعم دليل على الخالق ألن االنسان ال يستطيع إيجادها وعلمه قاصر‬
‫ٍ‬
‫معجزة تلبي احتياج االنسان‪ ،‬ولكن االنسان يتغافل عن‬ ‫على إتقاهنا ٍ‬
‫بدقة‬
‫ذلك ويتعامل مع النعم على أهنا قوة له وأنه هو الذي أوجدها لنفسه‪.‬‬
‫*******‬
‫ـ التعامل مع النعم على �أنها دليل على قوة االن�سان‪:‬‬
‫ـ هناك طريقتني للتعامل مع النعم‪:‬‬
‫ـ إما أن يتعامل االنسان مع النعم على أهنا دليل على ضعف االنسان‪،‬‬
‫وهذا هو التعامل الصحيح‪ ،‬أو يتعامل االنسان مع النعم على أهنا دليل‬
‫على قوة االنسان وهذا هو الغرور بالنعم‪.‬‬

‫البحر المحيط يف التفسير ـ دار الفكر ‪ -‬بيروت (‪)316 /9‬‬ ‫(((‬

‫‪70‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ عندما يغمض عينه عن قدرات الخالق وخطورة اآلخرة يرى النعم‬


‫عظيمة فيجعلها هدفه ويعيش لها‪ ،‬فينظر االنسان الى النعم على أهنا ملكا‬
‫له وأنه هو الذي أوجدها لنفسه ولم يعطها أحد له‪ ،‬ففي هذه الحالة يغرت‬
‫هبا ويراها قوة له‪.‬‬
‫ـ ويف هذه الحالة المذموم ليس النعم ولكن المذموم هو االغرتار هبا‪،‬‬
‫فالنعم كالصحة والنظر والمال واألوالد والتكنولوجيا يف حد ذاهتا ليست‬
‫مشكلة بل هي فضل من اهلل نرجو منه االستزادة‪ ،‬ولكن المشكلة هي هل‬
‫االنسان مغرور هبا ويحسب أنه يمتلكها ويعتربها مصدر قوة له وبالتالي‬
‫ال يخضع باعتبار أنه قوي أم ال؟‬
‫ـ قدرة االنسان على صنع المعجزات وصنع الحياة المدنية الحديثة‬
‫من خالل العلم المادي هائلة جدا لكنها ال شيء أمام قدرة اهلل تعالى‪،‬‬
‫فمن أغمض عينه عن قدرة اهلل اغرت بقدرة االنسان ورأي أن االنسان قوي‬
‫وبالتالي ال يعيش معيشة الخضوع وهو يف القرن الحادي والعشرين‪ ،‬ففي‬
‫َات َف ِر ُحوا بِ َما ِعنْدَ ُه ْم‬
‫تفسير مفاتيح الغيب‪َ ﴿ :‬ف َلما جاء ْتهم رس ُلهم بِا ْلبين ِ‬
‫َّ َ َ ُ ْ ُ ُ ُ ْ َ ِّ‬
‫مِ َن ا ْل ِع ْل ِم﴾ [غافر‪ ...]83 :‬يجوز أن يكون المراد علمهم بأمور الدنيا‬
‫ظاهر ًا مِن ا ْلح ِ‬
‫ياة الدُّ نْيا َو ُه ْم‬ ‫ون ِ‬ ‫ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى ‪َ :‬ي ْع َل ُم َ‬
‫َ َ‬
‫ون [ الروم ‪ ، ] 7 :‬ذل ِ َك َم ْب َل ُغ ُه ْم مِ َن ا ْل ِع ْل ِم [ النجم ‪:‬‬ ‫َع ِن اآلخرة ُه ْم غافِ ُل َ‬
‫‪ ] 30‬فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات وهي معرفة ال ّله تعالى ومعرفة‬
‫المعاد وتطهير النفس عن الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزؤا هبا‪ ،‬واعتقدوا‬
‫أنه ال علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به )(‪ ،)1‬ويف التفسير‬
‫ون فِي ْالَ ْر ِ‬
‫ض بِ َغ ْي ِر‬ ‫القرآين للقرآن ‪ :‬قوله تعالى ‪ ﴿ :‬ذل ِ ُك ْم بِما ُكنْت ُْم َت ْف َر ُح َ‬
‫ون ﴾ أي ذلكم الذي أنتم فيه من بالء وعذاب يف‬ ‫ا ْل َح ِّق َوبِما ُكنْت ُْم َت ْم َر ُح َ‬

‫مفاتيح الغيب ـ دار إحياء التراث العربي ‪ -‬بيروت (ج‪ ،27 :‬ص‪)535 :‬‬ ‫(((‬

‫‪71‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫اآلخرة ‪ ،‬هو بسبب ما كنتم عليه يف الدنيا من غرور بما ملكتم فيها ‪ ،‬وزهو‬
‫وعجب بما بين أيديكم من زخرفها ومتاعها ‪ ،‬فصرفكم ذلك عن أن‬
‫تنظروا إلى ما وراء يومكم الذي أنتم فيه ‪ ،‬فقطعتم حياتكم يف فرح ومرح‪،‬‬
‫ولهو وعبث ﴾(‪ )1‬أي فرح غرور بالدنيا كأهنم هم الذين جلبوا متع الدنيا‬
‫ألنفسهم فهي ملكهم وهو أقوياء بذلك فاستكربوا عن الشعور بالخضوع‬
‫هلل القوي فمصيرهم النار باستكبارهم ‪.‬‬
‫ـ لقد رفض كفار قريش اإلسالم ألنه يسويهم بالعبيد ألهنم ال يريدون‬
‫أن يرتكوا جاههم وسلطاهنم فأغلقوا عقولهم عن دعوة الرسول ﷺ‪.‬‬
‫ـ فبدال من أن تكون نعم اهلل سببا لمعرفة اهلل وشكره ومحبته جعلها‬
‫بعض الناس سببا لرفض دعوة الرسل ألهنم اغرتوا هبذه النعم وحسبوا‬
‫أهنم أقوياء هبا ولم يعتربوها نعم من اهلل ولكن اعتربوا أهنم مالكوها‬
‫وصانعوها وأهنم أقوياء هبا فرفضوا الخضوع فأهلكهم اهلل وأهلك النعم‬
‫التي اغرتوا هبا‪ ،‬فقوم عاد كان عندهم من صور القوة والمدنية الكثير‪:‬‬
‫ض بِ َغ ْي ِر ا ْل َح ِّق َو َقا ُلوا َم ْن َأ َشدُّ مِنَّا ُق َّو ًة َأ َو َل ْم‬
‫اس َت ْك َب ُروا فِي ْالَ ْر ِ‬ ‫﴿ َف َأ َّما َعا ٌد َف ْ‬
‫ون﴾(‪،)2‬‬ ‫اهَّلل ا َّل ِذي َخ َل َق ُه ْم ُه َو َأ َشدُّ مِن ُْه ْم ُق َّو ًة َوكَانُوا بِآياتِنَا َي ْج َحدُ َ‬ ‫َي َر ْوا َأ َّن َ‬
‫ون ﴾(‪،)3‬‬ ‫ون َم َصانِ َع َل َع َّل ُك ْم َت ْخ ُلدُ َ‬ ‫َّخ ُذ َ‬ ‫ون ‪ ،‬و َتت ِ‬
‫ُون بِ ُك ِّل ِري ٍع آ َي ًة َت ْع َب ُث َ َ‬
‫﴿ َأ َت ْبن َ‬
‫﴿و َأ َّما َعا ٌد َف ُأ ْهلِ ُكوا بِ ِريحٍ َص ْر َص ٍر َعاتِ َي ٍة ‪َ ،‬س َّخ َر َها َع َل ْي ِه ْم‬ ‫فكان مصيرهم‪َ :‬‬
‫يها َص ْر َعى كأهنم َأ ْع َج ُاز ن ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫س ْب َع َل َي ٍ‬
‫َخ ٍل‬ ‫ال َو َث َمان َي َة َأ َّيا ٍم ُح ُسومًا َفت ََرى ا ْل َق ْو َم ف َ‬ ‫َ‬
‫او َي ٍة﴾(‪ ،)4‬وهذا هو مصير الذين يغرتون بأنفسهم ويدعون القوة بما‬ ‫َخ ِ‬

‫التفسير القرآين للقرآن ـ دار الفكر العربي ‪ -‬القاهرة (ج‪ ،12 :‬ص‪)1269 :‬‬ ‫(((‬
‫((( فصلت‪15 :‬‬
‫((( الشعراء‪129 ،128 :‬‬
‫((( الحاقة‪7 :‬‬

‫‪72‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫َان َعاقِ َب ُة‬ ‫فك َ‬ ‫ض َف َينْ ُظ ُروا َك ْي َ‬ ‫عندهم من النعم‪َ ﴿ :‬أ َو َل ْم َي ِس ُيروا فِي ْالَ ْر ِ‬
‫وها َأ ْك َث َر مِ َّما‬ ‫ا َّل ِذي َن مِ ْن َق ْبلِ ِه ْم كَانُوا َأ َشدَّ مِن ُْه ْم ُق َّو ًة َو َأ َث ُاروا ْالَ ْر َض َو َع َم ُر َ‬
‫اهَّلل ل ِ َي ْظلِ َم ُه ْم َو َلكِ ْن كَانُوا‬ ‫َان ُ‬ ‫َات َف َما ك َ‬ ‫وها وجاء ْتهم رس ُلهم بِا ْلبين ِ‬
‫َع َم ُر َ َ َ َ ُ ْ ُ ُ ُ ْ َ ِّ‬
‫َّاه ْم‬ ‫ون﴾(‪َ ﴿ ،)1‬أ َل ْم َي َر ْوا ك َْم َأ ْه َل ْكنَا مِ ْن َق ْبلِ ِه ْم مِ ْن َق ْر ٍن َم َّكن ُ‬ ‫َأ ْن ُف َس ُه ْم َي ْظلِ ُم َ‬
‫الس َما َء َع َل ْي ِه ْم مِدْ َرار ًا َو َج َع ْلنَا ْالَن َْه َار‬
‫ض َما َل ْم ن َُم ِّك ْن َل ُك ْم َو َأ ْر َس ْلنَا َّ‬ ‫فِي ْالَ ْر ِ‬
‫آخ ِري َن ‪، )2( ‬‬ ‫َاه ْم بِ ُذنُوبِ ِه ْم َو َأن َْش ْأنَا مِ ْن َب ْع ِد ِه ْم َق ْرنًا َ‬
‫َت ْج ِري مِ ْن َت ْحتِ ِه ْم َف َأ ْه َل ْكن ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّاه ْم‬ ‫﴿وك َْم َأ ْه َل ْكنَا َق ْب َل ُه ْم م ْن َق ْرن ُه ْم َأ ْح َس ُن َأ َثاثًا َو ِرئْيًا﴾(‪َ ، )3‬‬
‫﴿و َل َقدْ َم َّكن ُ‬ ‫َ‬
‫يه َو َج َع ْلنَا َل ُه ْم َس ْمعًا َو َأ ْب َصار ًا َو َأ ْفئِدَ ًة َف َما َأ ْغنَى َعن ُْه ْم‬ ‫فِيما إِ ْن م َّكنَّاكُم فِ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫آيات اهَّللِ‬‫ون بِ ِ‬ ‫َس ْم ُع ُه ْم َوال َأ ْب َص ُار ُه ْم َوال َأ ْفئِدَ ُت ُه ْم مِ ْن َشي ٍء إِ ْذ كَانُوا َي ْج َحدُ َ‬
‫ْ‬
‫ُون﴾(‪.)4‬‬ ‫اق بِ ِه ْم َما كَانُوا بِ ِه َي ْست َْه ِزئ َ‬ ‫َو َح َ‬
‫********‬

‫الروم‪9 :‬‬‫(((‬
‫((( األنعام‪6 :‬‬
‫((( مريم‪74 :‬‬
‫((( األحقاف‪26 :‬‬

‫‪73‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الفصل الخامس‬
‫كيف ت�ؤدي املعرفة احلقيقية �إىل ت�أثر امل�شاعر؟‬

‫ـ حتقيق امل�شاعر‪:‬‬
‫ـ يحسب البعض أن المشاعر يمكن تحقيقها بافتعالها وإيجادها‬
‫تعمدً ا مثلما يفعل مع أعمال الجوارح‪ ،‬وهذا خاطئ‪ ،‬فمثال إذا كنت تريد‬
‫من إنسان أن يحب شي ًئا ما أو يكرهه فال يمكن أن تجعله أن يفعل ذلك‬
‫أبدً ا إال بطريقة واحدة هي أن تجعله يعرف ذلك الشيء وصفاته الجميلة‬
‫معرفة حقيقية فيحبه‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان لن يستطيع أبدً ا أن يحقق حب اهلل والخوف منه ورجاءه إال‬
‫كأثر تلقائي لمعرفة اهلل مع وجود اليقين‪.‬‬
‫ـ وقد يحسب البعض أن حب اهلل معناه طاعته‪ ،‬فحب اهلل هو شعور‬
‫من المشاعر التي يف القلب وليست عمال بالجوارح‪ ،‬والطاعة هي أثر لهذا‬
‫اهَّلل َفا َّتبِ ُعونِي﴾(‪)1‬‬
‫ون َ‬
‫الحب ودليل عليه‪ ،‬ومعنى اآلية‪ُ ﴿ :‬ق ْل إِ ْن ُكنْتُم ُت ِ‬
‫ح ُّب َ‬ ‫ْ‬
‫أي إذا كنت فعال صادقا محققا لحب اهلل يف قلبك فلماذا ال تطيعه‪.‬‬
‫ـ كيف تت�أثر امل�شاعر باهلل والآخرة؟‪:‬‬
‫ـ العالقة بين الضعيف والقوي‪ ،‬أو العالقة بين العاجز والقادر‪ ،‬أو‬
‫العالقة بين العبد والسيد‪ ،‬أو العالقة بين الذليل والعزيز‪ ،‬أو العالقة بين‬
‫الفقير والغني‪ ،‬أو العالقة بين المملوك والمالك‪ ،‬أو العالقة بين الذي ال‬

‫((( آل عمران‪.31 :‬‬

‫‪74‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ينفع وال يضر والنافع الضار‪ ،‬هي عالقة خضوع ناشئ من الحب الشديد‬
‫إعجابا بقوته ورجاء يف ثوابه وخوفا من عقابه‪.‬‬
‫ـ معرفة اإلنسان باهلل تؤدي إلى حبه سبحانه‪ ،‬ومعرفة اإلنسان باآلخرة‬
‫تؤدي إلى خوف العقاب ورجاء الثواب‪.‬‬
‫ـ الغيبيات هي أعجب من الخيال والسحر‪ ،‬فلو كانت الجنة خيال‬
‫أو حدوته لما صدقها أحد‪ ،‬ألنه كيف إلنسان أن يعيش بال موت وال‬
‫مرض وال شيخوخة ويف متع ال تحصى؟!‪ ،‬فما بالك والجنة حقيقة‬
‫وليست ً‬
‫خيال‪ ،‬والقضية ليست يف التصديق فقط ولكن يف انتباه اإلنسان‬
‫لهذا العجب العجاب وتأثير هذا األمر المدهش على مشاعره وانفعاالته‬
‫وتصرفاته وترقبه طوال عمره لهذا الكنز الحقيقي الذي هو أعظم من‬
‫الكنوز التي تذكرها القصص والخياالت‪.‬‬
‫ـ فإذا تكرر التذكر لخطورة الغيبيات على هذا النحو يؤدي ذلك إلى‬
‫االنتباه لخطورهتا‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى الحب والخوف والرجاء والشعور‬
‫بالخضوع‪.‬‬
‫ـ لكن الذي يتعامل مع الجنة يف برود تام هو مغيب عن الوعي‪.‬‬
‫ـ املعرفة احلقيقية ب�صفات اهلل تعاىل ت�ؤدي �إىل ت�أثر امل�شاعر‪:‬‬
‫ـ صفات الخالق كلها صفات حميدة وخطورهتا تفوق الوصف‬
‫وتجعل اإلنسان يتحير فيها من مدى عظمتها‪ ،‬وهذا التحير هو التأله‪،‬‬
‫وهذه الصفات نتعامل معها من أربعة أوجه هي‪:‬‬
‫‪1‬ـ صفات حميدة‪.‬‬
‫‪2‬ـ صفات خارقة‪.‬‬
‫‪3‬ـ صفات مسيطرة وغالبة‪.‬‬
‫‪4‬ـ توحيد الصفات‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ� ً‬
‫أول‪� :‬صفات اهلل هي �صفات حميدة‪:‬‬
‫ـ اإلنسان يحب القوي ويكره المريض الضعيف‪ ،‬والحظ أن هناك‬
‫فرق بين القوي وبين الظالم‪ ،‬وهناك فرق بين الضعيف وبين المظلوم‪،‬‬
‫فالظلم من صفات الضعف وليس من صفات القوة‪.‬‬
‫ـ الصفات الحميدة محبوبة‪ ،‬فاإلنسان يحب الصفات الحميدة ويحب‬
‫من يتصف هبا‪ ،‬ويكره الصفات الذميمة وصفات النقص والعجز‪ ،‬ويكره‬
‫فمثل اإلنسان ال يحب النظر إلى إنسان أعمى أو معوق‬‫من يتصف هبا‪ً ،‬‬
‫أو أصابه حرق أو مريض‪ ،‬وكذلك ال يحب أن يصاحب إنسانًا غب ًيا أو‬
‫ظالما‪ ...‬إلخ‪ ،‬وعلى‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بخيل أو ليس بجميل المنظر أو‬ ‫ضعيف البنية أو‬
‫َ‬
‫العكس فاإلنسان القوي الذكي الكريم حسن المنظر يحبه الناس‪.‬‬
‫ـ الصفات الحميدة يف اإلنسان مثل الشجاعة والكرم والنجدة‬
‫والقوة‪ ...‬إلخ هي صفات محبوبة‪ ،‬والصفات السيئة مثل الجشع والظلم‬
‫والقسوة والطمع‪ ...‬إلخ هي صفات مكروهة‪ ،‬اهلل سبحانه له كل الصفات‬
‫الحميدة فهو ينعم على الناس وال يريد شي ًئا منهم ويرحمهم ويغفر لهم‬
‫ويحلم عليهم ويتصف بكل الصفات الحميدة الجميلة‪.‬‬
‫ـ ومن الصفات الحميدة الكرم واإلنعام‪ ،‬فاإلنسان يحب الكريم ولو‬
‫لم يعطه شي ًئا فاإلنسان يحب اهلل ألنه الكريم المنعم‪.‬‬
‫ـ والقوة من الصفات الحميدة‪ ،‬والحظ أنه لو أن إنسانًا اعتدى على‬
‫غيره فأفقده قواه بغير حق أو أخذ منه ماله بغير حق فهو ظالم‪ ،‬والظلم‬
‫صفة نقص وذم‪ ،‬واالحتياج إلى الغير صفة نقص وذم‪.‬‬
‫ـ ومن صفات الضعف يف اإلنسان أنه يتعرض للمرض والموت‬
‫ويتعرض لزوال النعم التي يحسب أنه هبا قوي‪.‬‬
‫ـ وكل صفات اهلل تعالى محبوبة‪ ،‬والتكرب عكسه الخضوع‪ ،‬فالتكرب‬

‫‪76‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫صفة قوة والخضوع صفة ضعف ونقص‪ ،‬وهناك فرق بين تكرب الظالم‬
‫على المظلوم‪ ،‬وتكرب القوي ح ًقا على الضعيف ح ًقا‪ ،‬فالظالم ليست له‬
‫قوة حقيقية ولكنه أخذها من المظلوم‪ ،‬والمظلوم كانت له قوة فسلبت‬
‫منه‪ ،‬أما إذا كان المتكرب ليس ظالما فهو يف ذاته قوى ولم يأخذ قوته من‬
‫أصل فلم يسلب منه أحد قوة‪ ،‬فذلك‬ ‫أحد‪ ،‬وتكرب على من ليست له قوة ً‬
‫التكرب صفة مدح‪ ،‬فاإلنسان ليس له أن يتكرب على غيره ألن جميع البشر‬
‫ال قوة لهم‪ ،‬فما عندهم من قوة هو نعمة من اهلل عليهم وليست مل ًكا لهم‪،‬‬
‫فالقوى بحق يتكرب على الضعيف الذي ال قوة له فلم يسلب منه أحد‬
‫قوته‪.‬‬
‫أيضا صفات محبوبة؛‬ ‫ـ فصفات اهلل مثل الجبار والمتكرب والقهار هي ً‬
‫ألن صفات القوة واإلرادة عند البشر هي صفات مخلوقة فيهم وليسوا‬
‫هم أقوياء من ذوات أنفسهم وحقيقتهم أهنم ضعفاء وما عندهم من قوة‬
‫هو محض تكرم من اهلل عليهم‪ ،‬لذلك فاإلنسان ليس له أن يتكرب ألنه ليس‬
‫بقوي‪ ،‬والقوي بحق هو الذي له أن يتكرب على الضعيف‪.‬‬
‫ـ ويف تفسير الرازي‪( :‬واعلم أن المتكرب يف حق الخلق اسم ذم‪ ،‬ألن‬
‫المتكرب هو الذي يظهر من نفسه الكرب‪ ،‬وذلك نقص يف حق الخلق‪ ،‬ألنه‬
‫ليس له كرب وال علو‪ ،‬بل ليس معه إال الحقارة والذلة والمسكنة‪ ،‬فإذا أظهر‬
‫العلو كان كاذ ًبا‪ ،‬فكان ذلك مذمو ًما يف حقه أما الحق سبحانه فله جميع‬
‫أنواع العلو والكربياء‪ ،‬فإذا أظهره فقد أرشد العباد إلى تعريف جالله‬
‫وعلوه‪ ،‬فكان ذلك يف غاية المدح يف حقه سبحانه ولهذا السبب لما ذكر‬
‫ُون﴾ كأنه قيل‪ :‬إن المخلوقين‬ ‫هذا االسم قال‪﴿ :‬سبحان اهلل َع َّما ُي ْش ِرك َ‬
‫قد يتكربون ويدعون مشاركة اهلل يف هذا الوصف لكنه سبحانه منزه عن‬
‫التكرب الذي هو حاصل للخلق ألهنم ناقصون بحسب ذواهتم‪ ،‬فادعاؤهم‬
‫الكرب يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذايت‪ ،‬أما الحق سبحانه فله‬

‫‪77‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫العلو والعزة‪ ،‬فإذا أظهره كان ذلك ضم كمال إلى كمال‪ ،‬فسبحان اهلل عما‬
‫يشركون يف إثبات صفة المتكربية للخلق﴾(‪.)1‬‬
‫ـ واإلنسان يحب اهلل ألنه الوكيل‪ ،‬فهو يتكفل بما يحتاجه العبد‪،‬‬
‫فيتوكل العبد على اهلل ويف ذلك راحة وسعادة‪ ،‬ويحب اهلل ألنه تواب غفور‬
‫رحيم ودود فيتوب على من أذنب ويغفر له ويتودد إلى عباده‪ ،‬فأنت إذا‬
‫أخطأت يف حق ملك من ملوك الدنيا وخالفت أمره فقد يبطش بك ولكن‬
‫اهلل يظل يغفر لك طالما أنك تتوب مهما كثرت الذنوب‪ ،‬فذلك يؤدي‬
‫تلقائ ًيا إلى محبته‪.‬‬
‫ـ واهلل يرشد اإلنسان لطريق الهداية ويهديه فهو الهادي‪ ،‬واإلنسان‬
‫يحب من يرشده للخير ويحب من يهديه‪ ،‬فاهلل يعرف اإلنسان بطريق‬
‫الهداية ويعينه عليه ويحب له الخير وأرسل إليه الرسل ليرشده إلى ما فيه‬
‫نجاته وسعادته‪.‬‬
‫ـ واإلنسان يحب اهلل؛ ألنه يجيب الدعاء‪ ،‬فكلما احتجت إلى أي‬
‫شيء دعوته يف أي وقت‪ ،‬فاهلل عنده القوة التي تحميك وعنده كل ما تريد‬
‫وتطلب يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ـ واإلنسان يحب اهلل؛ ألن اهلل يريد لإلنسان الخير‪ ،‬وما يحدث‬
‫لإلنسان من ابتالءات هو خير له لكي يفيق من غفلته‪ ،‬كما أن االبتالءات‬
‫والمصائب فيها تكفير للذنوب‪ ،‬ويف الحديث‪َ ﴿ :‬ي َو ُّد َأ ْه ُل ا ْل َعافِ َي ِة َي ْو َم‬
‫اب َل ْو َأ َّن ُج ُلو َد ُه ْم كَان َْت ُق ِر َض ْت يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ا ْلق َيا َمة حي َن ُي ْع َطى َأ ْه ُل ا ْل َبالَء ال َّث َو َ‬
‫يض﴾(‪.)2‬‬ ‫ار ِ‬ ‫الدُّ ْن َيا بِا ْل َم َق ِ‬

‫((( تفسير الرازي [مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير] ‪-‬دار إحياء الرتاث العربي‪ -‬بيروت (ج‪،29 :‬‬
‫ص‪.)514 :‬‬
‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬حسن (جامع الرتمذي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،603 :‬برقم ‪.)2402‬‬

‫‪78‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ واإلنسان يحب اهلل ألنه يعطي الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف لمن‬
‫يشاء‪ ،‬والسيئة بمثلها فقط‪.‬‬
‫ـ ومن الصفات الحميدة الجمال‪ ،‬فاإلنسان يحب اهلل لجمال ذاته‪،‬‬
‫والحظ أنه ال يمكن تصور صفات الذات‪َ ﴿ :‬ل ْي َس ك َِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء﴾(‪ )1‬ألن‬
‫جمال اهلل ال يقارن بأي جمال يف العالم لمدى عظمته‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان يستطيع أن ينظر إلى جمال الطبيعة كالورود واألسماك‬
‫والجبال فيرى الجمال الخالب‪ ،‬لكنه ال يستطيع أن يتصور مدى جمال‬
‫الخالق ألنه ليس له شبيه وال نظير وال يمكن قياسه على جمال الدنيا كلها‬
‫ألنه جمال ٍ‬
‫عال جدً ا جدً ا‪ ،‬فهو جمال أمتع من كل متع الجنة نفسها‪.‬‬
‫ـ ثان ًيا‪� :‬صفات اهلل هي �صفات خارقة وغالبة‪:‬‬
‫ـ القدرات الهائلة للخالق هي معجزات فوق األسباب‪ ،‬كقدرة اهلل‬
‫على أن يسمع كل شيء ويرى كل شيء وال ينسى شي ًئا مما يفعله العباد‬
‫من صغيرة أو كبيرة منذ بدأ الخلق إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫ـ اإلنسان يحب الصفات الحميدة عند البشر‪ ،‬وحبه أكرب لمن تتميز‬
‫هذه الصفات الحميدة عنده فتكون أعلى من الناس‪ ،‬فيحب من يضرب به‬
‫رقما قياس ًيا يف بطولة‬
‫المثل يف اإلنفاق أو أعمال الخير‪ ،‬ويحب من يحقق ً‬
‫رياضية ً‬
‫مثل‪ ،‬ويحب االنتماء إليه ومودته والعزة به‪ ،‬وقد يعلق صوره يف‬
‫بيته ويكثر من الحديث عنه وينسب نفسه إليه ويفتخر بقدرة ذلك اإلنسان‬
‫الذي جعله ً‬
‫مثل أعلى له‪.‬‬
‫ساحرا يقوم بأعمال سحر فأنت تعجب به وتنبهر بما‬‫ً‬ ‫فمثل إذا رأيت‬‫ـ ً‬
‫يعمله‪ ،‬فإن قدرة اهلل أكرب مما يعمله الساحر يف أهنا قدرة كبيرة على عمل أي‬

‫((( الشورى‪.11 :‬‬

‫‪79‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫فمثل عندما خرجت‬ ‫ً‬


‫وخيال‪ً ،‬‬ ‫سحرا‬
‫ً‬ ‫شيء‪ ،‬ويف أهنا قدرة حقيقية وليست‬
‫ناقة صالح من الصخرة لم تكن ً‬
‫خيال حتى أهنم ذبحوها وأكلوها‪ ،‬وقدرة‬
‫سحرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫اهلل على خلق السماوات أعجب من السحر وهي حقيقة وليست‬
‫ـ ثال ًثا‪� :‬صفات اهلل هي �صفات م�سيطرة‪:‬‬
‫ـ قدرة اهلل تعالى مسيطرة على اإلنسان وكل شيء وتجعل اإلنسان‬
‫خاض ًعا لها‪ ،‬فمن مدى قدرة اهلل أهنا محيطة باإلنسان وال يستطيع اإلنسان‬
‫الهروب منها فاهلل يقدر عليه يف أي مكان وأي وقت ويقدر أن يفعل به أي‬
‫شيء‪ ،‬فمن الممكن أن يحوله لخنزير ً‬
‫مثل بكن فيكون‪ ،‬كما أن سمع اهلل‬
‫وبصره يصله يف أي مكان وأي وقت‪ ،‬واهلل ال يغفل وال ينام ففي جميع‬
‫األوقات يقدر عليك ويسمعك ويراك‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان ضعيف ال حول له وال قوة ال يستطيع أن يهرب من هيمنة اهلل‬
‫وسيطرته عليه ومراقبته له ورؤيته له وعلمه به يف كل وقت وال يجد حيلة‬
‫ليفلت من قدرة اهلل المحاصرة له فيشعر باالستسالم والذل والخضوع‬
‫تعظيما لقدرة اهلل وعلمه الذي بلغ كل شيء (حبا يف عظمة اهلل تعالى)‪.‬‬
‫ـ راب ًعا‪ :‬توحيد ال�صفات‪:‬‬
‫ـ الخالق سبحانه له جميع الصفات الحميدة‪ ،‬وال يقتصر األمر على‬
‫ذلك فهذه الصفات تصل إلى درجة الكمال وفوق كل تصورات اإلنسان‪،‬‬
‫وما عند الناس من الصفات الحميدة هو مجرد عطاء من اهلل لهم وليست‬
‫صفات أصيلة فيهم‪ ،‬فاهلل وحده الغني والناس الفقراء‪ ،‬واهلل وحده العليم‬
‫والناس ال يعلمون شي ًئا‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ـ صفات القوة عند اإلنسان والتي تتمثل يف قوة جسمية وجاه وسلطان‬
‫ومال وممتلكات ونعم يتمتع هبا‪ ،‬كل هذه الصفات ليست قوة له وهو‬
‫ضعيف؛ ألنه ال يملك شي ًئا منها وما هي إال نعم من اهلل عليه‪ ،‬واهلل هو‬

‫‪80‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الذي يملك كل شيء‪ ،‬فجميع الناس ضعفاء وليس فيهم قوى‪ ،‬وال قوي‬
‫قوة حقيقية إال اهلل ﴿ َأ َّن ا ْل ُق َّو َة ل ِ َّل ِه جمي ًعا﴾(‪.)1‬‬
‫ـ فكل ما سوى اهلل فيه كل صفات النقص والعجز والضعف وما عند‬
‫االنسان من صفات حميدة إنما هي مجرد عطاء من اهلل وليست أصيلة فيه‬
‫مدحا لمن أعطاها إياه‪.‬‬
‫مدحا له وإنما ً‬
‫وبالتالي ليست ً‬
‫ـ فمن عرف اهلل لم يخف من مهابة أحد غيره ولم يحب غيره ولم‬
‫يرجو غيره ولم يخف من غيره‪ ،‬ووجود قدر من الشعور بالمهابة أو من‬
‫الخوف أو الرجاء من غير اهلل فهذا ينشأ من ضعف المعرفة باهلل أو ضعف‬
‫اليقين باهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ املعرفة بتوحيد ال�صفات ي�ؤدي �إىل حب اهلل لذاته وبغ�ض جميع‬
‫املخلوقات لذاتها‪:‬‬
‫ـ جميع المخلوقات هي يف ذاهتا فيها كل الصفات المذمومة وما عند‬
‫المخلوقات من صفات حميدة هي عطاء من الخالق وليست أمور يف‬
‫ذاهتا‪ ،‬فالمخلوقات يف ذاهتا ال تمتلك شي ًئا وليس لها حول أو قوة أو علم‪،‬‬
‫كما أن الذي لديه صفات حميدة معرضة ألن تسلب منه فهذه صفات ذم‪،‬‬
‫وجميع الصفات الحميدة هي للخالق وحده‪ ،‬فهي صفات ذاتية يف ذات‬
‫الخالق سبحانه لم يكتسبها من أحد ولم يعطيها أحد له وال يستطيع أحد‬
‫أن يسلبها منه سبحانه‪ ،‬إذن فال يحب لذاته إال اهلل‪ ،‬وجميع المخلوقات‬
‫يبغضها اإلنسان لذاهتا لضعفها ونقصها‪ ،‬وما يحبه اإلنسان يف المخلوقات‬
‫هو من حب اهلل أي هو حب يف اهلل وليس حب لذات المخلوق؛ ألن‬
‫المخلوق يف ذاته ال يملك وال يعلم شي ًئا وما عنده من إرادة هي عطاء من‬
‫اهَّلل َع َل ْي ِه‬
‫اهلل ومعرضة ألن يسلبها اهلل منه يف أي وقت‪ ،‬فحب الرسول َص َّلى ُ‬
‫((( البقرة‪ :‬من اآلية ‪.‌165‬‬

‫‪81‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫َو َس َّل َم هو حب يف اهلل أي هو من حب اهلل تعالى وكذلك حب المؤمنين‪.‬‬


‫ـ فمعنى كلمة (إله) يف اللغة أي الذي يجعلك تتحير وتندهش بشدة‬
‫من مدى عظمته‪ ،‬ففي النهاية يف غريب األثر‪﴿ :‬أل ِ َه يأ َل ُه إذا َت َح َّير‪ُ ،‬يريد‬
‫إذا وقع العبد يف عظمة ال ّله تعالى وجالله وغير ذلك من صفات الربوبية‬
‫وصرف وهمه إليها أ ْب َغض الناس حتى ال يميل قلبه إلى أحد﴾(‪ ،)1‬ويف‬
‫كأ َّن ال ُقلوب ْتأ َل ُه عند التف ّكر‬ ‫غريب الحديث البن قتيبة‪َ ﴿ :‬أل ِ َه َي ْأ َله إذا تح ِّير َ‬
‫جب ُه َأحد ولم ُي ّ‬
‫حب إال‬ ‫رجة لم ُي ْع ِ‬ ‫يف َع َظمة ال ّله‪ ...‬إذا َو َقع ال َع ْبد يف هذه الدَّ َ‬
‫اهلل عز َّ‬
‫وجل﴾(‪.)2‬‬
‫ـ إذن المؤمن ينظر إلى صاحب الصولجان والجاه والسلطان يف الدنيا‬
‫ً‬
‫متصل باهلل فيحب ما فيه من صلة باهلل‬ ‫على أنه تافه ال قيمة له ما لم يكن‬
‫وليس يحب ذاته‪.‬‬
‫ـ والمؤمن ال يحب إال اهلل وال يخاف إال من اهلل وال يخضع إال هلل وال‬
‫يرجو إال اهلل وال يتوكل إال على اهلل‪ ،‬وهذا من كمال اإليمان‪ ،‬فإذا أحب‬
‫شي ًئا غير اهلل (ولكن كان حبه هلل أكرب) فذلك من ضعف المعرفة أو ضعف‬
‫اليقين‪.‬‬
‫ـ فالمعرفة بأن اهلل وحده هو النافع الضار يؤدي إلى الشعور بالتسليم‬
‫والخضوع حيث يعلم اإلنسان أنه ضعيف ال يملك لنفسه حول وال قوة‬
‫وال يملك لنفسه نفع وال ضر‪.‬‬
‫ـ كما يؤدي إلى التوكل على اهلل والشعور باالحتياج إليه واالعتماد‬
‫عليه؛ ألن اإلنسان ال يستطيع أن يجلب لنفسه النفع ويبعد عن نفسه الضر‬
‫ويحتاج إلى من يجلب له النفع ويبعد عنه الضرر‪.‬‬

‫((( النهاية يف غريب األثر ‪-‬المكتبة العلمية‪ -‬بيروت (‪.)62 / 1‬‬


‫((( غريب الحديث البن قتيبة ‪-‬مطبعة العاين‪ -‬بغداد (‪ 728 / 3‬ـ ‪.)728‬‬

‫‪82‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫أيضا إلى عدم وجود مشاعر أو هموم أو أهداف متعلقة‬ ‫ـ كما يؤدي ً‬
‫بالدنيا (إال بالقدر الذي يحتاجه المسافر أثناء سفره)؛ ألن الشيء الذي‬
‫ال ينفع وال يضر ال قيمة له وال يهتم به أحد‪ ،‬فال يخاف من بطش أحد‬
‫ويعيش هادئًا سعيدً ا‪.‬‬
‫ـ انتقال امل�شاعر‪:‬‬
‫ـ المشاعر إما أن تتعلق باهلل وتبتعد عن الدنيا‪ ،‬وإما أن تتعلق بالدنيا‬
‫وتبتعد عن اهلل‪ ،‬فإذا تعلقت المشاعر بالدنيا ولم تتعلق باهلل تعالى فهذا‬
‫دليل ٍ‬
‫كاف على أن اإلنسان ال يعرف اهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ كلما نقص حب الدنيا زاد حب اهلل تعالى والعكس صحيح‪ ،‬وإذا لم‬
‫يكن يف القلب سوى حب المال والشهوات والدنيا فال يوجد شيء اسمه‬
‫حب اهلل مطل ًقا‪.‬‬
‫ـ اإلنسان لديه خوف وقلق بشأن وجود وظيفة ومسكن والتغلب على‬
‫أعباء الحياة والتغلب على مشاكله الخاصة والحصول على النفقات التي‬
‫تمكنه من الزواج وغير ذلك من أمور الدنيا ومخاوفها‪ ،‬وقد يكون خوفه‬
‫وقلقه بشأن النجاة من النار وأهوال القيامة‪ ،‬وكلما زاد خوفه من مخاوف‬
‫الدنيا قل خوفه من مخاوف اآلخرة‪ ،‬والعكس صحيح‪.‬‬
‫ـ اإلنسان يعيش حياته خائ ًفا وراج ًيا‪ ،‬فإما أن يعيش خائ ًفا من ضياع‬
‫الدنيا والمال ورجا ًء يف الحصول على الدنيا والمال‪ ،‬أو يعيش حياته‬
‫خائ ًفا مرتق ًبا لقاء اهلل تعالى مشتا ًقا إلى الجنة‪.‬‬
‫ـ مشاعر اإلنسان إما أن تتجه للدنيا أو تتجه إلى اهلل واآلخرة‪ ،‬وإذا‬
‫قليل يف الجانب اآلخر‪ ،‬فكلما زاد ارتباط‬ ‫كثيرا يف جانب كانت ً‬
‫كانت ً‬
‫اإلنسان بالدنيا وأمورها كلما نقص ارتباطه باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ فيقول شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ُ ﴿ :‬ك َّل َما َق ِو َي ْت َم َح َّب ُة ا ْل َع ْب ِد ل ِ َم ْو َل ُه‬

‫‪83‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ات َو َق َّل ْت‪َ ،‬و ُك َّل َما َض ُع َف ْت َك ُث َر ْت َم ْح ُبو َبا ُت ُه‬ ‫َص ُغ َر ْت ِعنْدَ ُه ا ْل َم ْح ُبو َب ُ‬
‫ف ا ْل َع ْب ِد‬ ‫الر َجا ُء َو َما َأ ْش َب َه َذل ِ َك‪َ ،‬فإِ ْن ك َُم َل َخ ْو ُ‬
‫ف َو َّ‬ ‫َوا ْنت ََش َر ْت‪َ ،‬وك ََذا ا ْل َخ ْو ُ‬
‫ت اهَّللِ‬ ‫ون ِرس َال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مِ ْن َر ِّب ِه َل ْم َي َخ ْ‬
‫اهَّلل َت َعالى ﴿ا َّلذي َن ُي َب ِّل ُغ َ َ‬ ‫ف شي ًئا س َوا ُه َق َال ُ‬
‫اف مِ ْن ا ْلم ْخ ُل ِ‬ ‫ص َخ ْو ُف ُه َخ َ‬ ‫اهَّلل﴾ َوإِ َذا َن َق َ‬
‫وق‬ ‫َ‬ ‫َو َي ْخ َش ْو َن ُه َو َل َي ْخ َش ْو َن أحدً ا إال َ‬
‫ف ك ََما َذك َْرنَا فِي ا ْل َم َح َّب ِة‬‫ون ا ْل َخ ْو ُ‬‫ف َو ِز َيا َدتِ ِه َي ُك ُ‬
‫ص ا ْل َخو ِ‬
‫ْ‬ ‫َو َع َلى َقدْ ِر َن ْق ِ‬

‫َوك ََذا َّ‬


‫الر َجا ُء َو َغ ْي ُر ُه﴾(‪.)1‬‬

‫ـ ويقول شيخ اإلسالم ابن القيم‪﴿ :‬اعلم أن القلب إذا خلى من‬
‫االهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رياسة أو صورة وتعلق باآلخرة‬
‫واالهتمام هبا من تحصيل العدة والتأهب للقدوم على اهلل عز وجل فذلك‬
‫أول فتوحه وتباشير فجره﴾(‪.)2‬‬

‫********‬

‫((( مجموع الفتاوى ـ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف‪ ،‬المدينة النبوية (‪.)94 / 1‬‬
‫((( مدارج السالكين دار الكتاب العربي‪ -‬بيروت (‪.)352 / 3‬‬

‫‪84‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل السادس‬
‫ادعاء احلب واخلوف والرجاء هلل (ادعاء النية والهدف)‬
‫ـ �أهمية امل�شاعر يف الإ�سالم‪:‬‬
‫ـ هل تصدق أن هناك شيء يف الدين نحن مطالبين بتحقيقه عبارة عن‬
‫مشاعر؟‪ ،‬وهل تصدق أن تحقيق هذه المشاعر أهم من الصالة والصوم‬
‫وجميع األعمال‪.‬‬
‫ـ هذه المشاعر هي الشعور بالحب والخوف والرجاء والذل‬
‫والخشوع والتوكل‪.‬‬
‫ـ الكثير يحسبون أن كلمة المشاعر تستخدم فقط يف الغناء واللهو‪.‬‬
‫ـ والكثير إذا أرادوا أن يلتزموا بالدين اجتهدوا يف األعمال وال يعلمون‬
‫أن تحقيق هذه المشاعر هي األصل‪ ،‬والمشكلة األكرب أهنم يحسبون أهنا‬
‫متحققة عندهم والحقيقة أهنا على العكس تما ًما فال حب لهم إال للمال‬
‫والشهوات وال خوف وال رجاء إال يف أمور الدنيا‪.‬‬
‫ـ والمشكلة األخرى هي أن معاين الحب والخوف والرجاء والذل‬
‫ماتت فأصبحنا يف حاجة إلى شرح ماذا تعني كلمة (حب) وكلمة (خوف)‬
‫وهكذا‪ ،‬وأصبح الكثير يتوهمون أن حب اهلل والخوف منه ورجاءه والذل‬
‫له تمأل قلوهبم‪.‬‬
‫ـ وظيفة احلب واخلوف والرجاء‪:‬‬
‫ـ االنسان لكي يعمل أي عمل سواء كان خيرا أم شرا البد من وجود‬
‫ثالثة دوافع هي الحب والخوف والرجاء‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ االنسان يعمل العمل هلل حبا وخوفا ورجا ًَء‪ ،‬وكذلك يعمل العمل‬
‫للدنيا حبا وخوفا ورجا ًَء‪ ،‬ويعبد اهلل حبا وخوفا ورجا ًَء‪ ،‬ويشعر بالخضوع‬
‫حبا وخوفا ورجا ًَء‪ ،‬وطريقة الحياة التي يختارها لنفسه سواء هلل أو للدنيا‬
‫تكون حبا وخوفا ورجا ًَء‪.‬‬
‫ـ فكل إنسان لديه الحب والخوف والرجاء‪ ،‬وهو إما أن يكون الحب‬
‫والخوف والرجاء يف اهلل أو يف الدنيا‪.‬‬
‫ـ معنى أن االنسان يعمل العمل هلل هو أنه يعمله حبا يف اهلل أو خوفا من‬
‫اهلل أو رجا ًَء يف اهلل‪ ،‬ومعنى أن االنسان يعمل معصية ما هو أنه يعملها حبا‬
‫يف الدنيا أو خوفا من فواهتا أو رجاء يف الحصول عليها‪.‬‬
‫ـ فإذا كان الدافع الى العمل هو حب اهلل أو خوفا منه أو رجا ًَء فيه فهو‬
‫يعمله هلل‪ ،‬وإذا كان الدافع الى العمل هو حب الدنيا أو خوفا من فواهتا أو‬
‫رجاء الحصول عليها فهو يعمله للدنيا‪.‬‬
‫ـ وذلك يكشف حقيقة من يدعي أنه يعيش هلل ويعمل هلل وهو ال يعيش‬
‫وال يعمل بدافع الحب هلل أو بدافع الخوف من اهلل أو بدافع الرجاء يف اهلل‪.‬‬
‫ـ النية اخلا�صة والعامة هي احلب واخلوف والرجاء كالتايل‪:‬‬
‫‪1‬ـ النية اخلا�صة (الهدف من كل عمل على حدة)‪:‬‬
‫ـ أي عمل تعمله سواء كان خيرا أو شرا أو عمال عاديا البد له من دافع‬
‫هو الذي دفعك الى القيام هبذا العمل‪ ،‬هذا الدافع هو الخوف أو الرجاء أو‬
‫الحب او جميعهم معا‪ ،‬فاإلنسان يعمل العمل إما خوفا من ضرر وعقاب‬
‫أو رجا ًَء يف نفع وثواب أو حبا يف أمر ما‪.‬‬
‫ـ النية نوعين فهو يعمل العمل خوفا من حصول ضرر دنيوي ما أو‬
‫خوفا من عقاب اهلل يف الدنيا أو اآلخرة وكذلك يعمل العمل رجا ًَء يف نفع‬
‫دنيوي أو رجاء ثواب اهلل تعالى وكذلك يعمل العمل من أجل أمر دنيوي‬

‫‪86‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫يحبه أو تعظيما هلل ألنه يحبه‪.‬‬


‫ـ النية قد تتعدد فهو يعمل هذا العمل هلل وعمل آخر للدنيا‪.‬‬
‫‪2‬ـ النية العامة (الهدف من احلياة)‪:‬‬
‫ـ إذا كان حب االنسان وخوفه ورجاءه هلل فالهدف من حياته أنه يعيش‬
‫هلل‪ ،‬وإذا كان حب االنسان وخوفه ورجاءه للمال أو الشهوات أو الدنيا‬
‫فالهدف من حياته أنه يعيش للمال أو الشهوات او الدنيا‪.‬‬
‫ـ كل الناس يريدون الشهوات واللذات وتحقيق السعادة وتجنب‬
‫المضار واآلالم‪ ،‬وهم يف ذلك صنفين هما‪:‬‬
‫ـ الصنف األول يرى السعادة يف شهوات الدنيا ولذاهتا وتجنب مشاكل‬
‫الدنيا وآالمها فيكون تفكيره يف شهوات الدنيا وهمه يف الحصول عليها‪،‬‬
‫وهؤالء كل خوفهم ورجائهم يف الدنيا‪.‬‬
‫ـ الصنف الثاين يرى السعادة يف شهوات الجنة ولذاهتا وتجنب‬
‫عذاب النار وآالمها فيكون تفكيره يف شهوات الجنة والحور العين‬
‫وهمه يف الحصول عليها‪ ،‬وهؤالء هم المؤمنون‪ ،‬وهؤالء هم العاقلين‬
‫الذين يصربون أنفسهم عن شهوات الدنيا القليلة ليتمتعوا بالنعيم األبدي‬
‫يف اآلخرة‪ ،‬والدنيا يف نظرهم ما هي إال صرب ساعة‪ ،‬وهؤالء خوفهم‬
‫ورجاؤهم يف اهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ ادعاء الإن�سان ب�أنه يعي�ش هلل‪:‬‬
‫ـ إذا كان اإلنسان يدعي أن هدفه اآلخرة والجنة والنجاة من النار‬
‫فأهم ما يكشف حقيقته هو وجود الشعور بالخوف والقلق من دخول‬
‫النار واالشتياق والرغبة واألمل والتطلع إلى الجنة‪ ،‬ويؤدي ذلك إلى أن‬
‫تكون اآلخرة همه وشغله الشاغل ويعمل لتحقيق ذلك الهدف‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ فإذا كان أكرب ما يطمح إليه اإلنسان ويرجوه ويتمناه ويحلم به ويرغبه‬
‫ويأمله هو تجارة أو مال أو شهوات أو منصب وجاه‪ ،‬فهذا معناه أن هدفه‬
‫الدنيا‪ ،‬وإذا كان أكرب ما يطمح إليه اإلنسان ويرجوه ويتمناه ويحلم به‬
‫ويرغبه ويأمله هو رضا اهلل والجنة‪ ،‬فهذا معناه أن هدفه رضا اهلل والجنة‪.‬‬
‫ـ فإذا قال إنسان‪ :‬أنا أعيش هلل وليس لنفسي‪ ،‬فيكون السؤال‪ :‬لماذا‬
‫تعظيما له (حبا يف عظمته) أو خو ًفا من‬
‫ً‬ ‫تعيش هلل وليس لنفسك؟‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫العقاب أو رجا ًء يف الثواب‪ ،‬فإذا كانت هذه المشاعر غير موجودة عنده‬
‫على سبيل الحقيقة فهو كذاب‪.‬‬
‫ـ فالمشكلة هي أن اإلنسان قد يحسب أنه يحب اهلل ويخافه ويرجوه‬
‫ويعيش من أجله‪ ،‬ويف الحقيقة هو ال يحب إال الدنيا وال يخاف إال منها وال‬
‫يرجو غيرها وال يعيش إال لها‪ ،‬لذلك قمنا ببيان حقيقة الهدف والمشاعر‬
‫والحالة النفسية المميزة لها حتى يكتشف اإلنسان حقيقة ما يف قلبه‪.‬‬
‫ـ فقد يكذب اإلنسان على نفسه ويحسب أنه يعيش هلل وال يدري أنه‬
‫ال يعيش إال للدنيا‪ ،‬فهمه ومشاعره وسلوكه وانفعاالته وكالمه وعمله‬
‫يكشف حقيقة هدفه‪ ،‬فتجد اإلنسان يلهث وراء المال وقلبه يتقطع على‬
‫المال وال هم له وال عمل له غير الحصول على المال ورغم ذلك تجده‬
‫على اقتناع تام بأنه ال يعيش من أجل المال ويحسب أنه يعيش من أجل اهلل‬
‫واآلخرة رغم أنه ال يعرف اهلل الذي يدعي أنه يعيش من أجله وال يعرف‬
‫اآلخرة التي يدعي أنه يعيش من أجلها! ألنه لو عرف اهلل واآلخرة لعاش‬
‫هلل وليس للمال‪.‬‬
‫ـ والحظ أنه الهدف (النية) له أثر على الظاهر‪ ،‬لكن هذا الظاهر ال يعني‬
‫وجود أو عدم وجود ذلك الهدف‪ ،‬فالظاهر يعطي احتماال ال أكثر‪ ،‬فال يعلم‬
‫هدف االنسان (نيته) إال اهلل واالنسان يف نفسه مهما كان ظاهر االنسان‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ احلياة من �أجل الدنيا جهد �ضائع وعمر �ضائع‪:‬‬


‫ـ االنسان إما أن يكون هدفه الذي يعيش له هو رضا اهلل والجنة أو‬
‫هدفه المال أو الشهوات أو التغلب على عقبات الحياة وغير ذلك‪ ،‬ويف‬
‫الحالتين هو يبذل مجهودا كبيرا ليحقق هدفه بنجاح‪.‬‬
‫ـ الذي يعمل للدنيا يتعب ويكد طول عمره ثم يف النهاية يكون تعبه‬
‫منثورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وكده هبا ًء‬
‫ـ فحال الذي يعيش من أجل أمور الدنيا ويتناسى تحقيق العبادة مثل‬
‫مثل رغم أن االمتحان الذي سوف‬ ‫حال الطالب الذي يذاكر مادة الكيمياء ً‬
‫يمتحنه يف مادة التاريخ ً‬
‫(مثل) فهل ينفعه ما اجتهد؟‬
‫ـ ادعاء وجود امل�شاعر املتعلقة باهلل والآخرة‪:‬‬
‫ـ المشاعر عبارة عن أحاسيس وليست كال ًما أو اقتنا ًعا أو ً‬
‫عمل أو‬
‫أمورا هالمية‪ ،‬فحب اهلل والخوف منه ورجاؤه عبارة عن أحاسيس إذا لم‬‫ً‬
‫يحس هبا اإلنسان فهذه المشاعر غير موجودة عنده‪.‬‬
‫ـ كل إنسان يدعي أنه يحب اهلل ويخضع له ويخافه ويرجوه‪ ،‬وال يسأل‬
‫نفسه هل هو يشعر يف قلبه بحب اهلل ح ًقا؟ وهل يشعر بالذل واالستسالم‬
‫هلل ح ًقا؟ وهل هو يخاف من اآلخرة ويحمل لها هما ح ًقا؟ وهل هو يشتاق‬
‫ويتلهف إلى الجنة ح ًقا؟ وال يتبين طبيعة وحقيقة هذه المشاعر‪ ،‬وال يهمه‬
‫األمر كأن المسألة غير مهمة‪ ،‬ولكي يهرب من مواجهة نفسه أمام نفسه قد‬
‫يدعي أن هذه األمور موجودة بالفطرة عند كل الناس مسلمين وكافرين‬
‫أو يدعي أن هذه األمور هي عند المقربين وهي لمن يريد الدرجات العليا‬
‫يف الجنة وليست مسألة خلود يف الجنة أو خلود يف النار‪ ،‬أو يدعي أن‬
‫هذه المشاعر موجودة بالفعل عنده يف حين ال توجد عنده الحالة النفسية‬
‫المميزة لكل شعور من هذه المشاعر‪ ،‬فهذه المشاعر غائبة تما ًما من قلبه‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ مشاعر حب اهلل والخوف منه ورجائه والخضوع له والخوف من‬


‫اآلخرة تحولت عند بعض المسلمين إلى عبارات محفوظة مقدسة‬
‫وليست مشاعر حقيقية يحس هبا اإلنسان يف داخله‪ ،‬فليس لها وجود يف‬
‫قلوهبم رغم أهنم يدعون وجود هذه المشاعر يف أنفسهم‪ ،‬وهي يف الحقيقة‬
‫أصبحت مفرغة من معناها‪.‬‬
‫ـ لقد أصبح بعض الناس مخدوعون يف أنفسهم يظنون أهنم يحبون‬
‫اهلل ويخافونه ويخضعون له ويخافون اآلخرة رغم أنه ال يوجد عندهم‬
‫ولو ذرة واحدة من ذلك‪ ،‬فرغم أن هذه المعاين بسيطة ويعرفها الصغار‬
‫والكبار لكن مات معناها الحقيقي‪ ،‬لذلك أصبحنا نحتاج إلى توصيف‬
‫وتعريف معنى شعور اإلنسان بالخوف أو بالحب أو بالخضوع حتى‬
‫يستطيع أن يعرف اإلنسان يف نفسه بدقة هل هذه المشاعر موجودة أم ال؟‬
‫ـ ورغم بساطة هذه المشاعر فهي من شروط اإليمان‪ ،‬ومع ذلك ال‬
‫يهتم أحد بتوصيفها للتأكد من وجودها أم ال‪ ،‬وقد يعترب توصيف هذه‬
‫المشاعر نو ًعا من الفلسفة! رغم أهميتها‪.‬‬
‫ـ وقد أوضحنا حقيقة الحب وخوف العقاب ورجاء الثواب والذل‪،‬‬
‫وقمنا بتحليل كل شعور من هذه المشاعر من داخل النفس وأوضحنا‬
‫الحالة النفسية المميزة لكل شعور من هذه المشاعر حتى يتبين لمن يدعى‬
‫حب اهلل والخضوع له وأن اهلل غايته أنه مخدوع وأن مشاعر اإليمان غير‬
‫موجودة عنده وأن اقتناعه بوجودها هو مجرد وهم وخداع يخدع اإلنسان‬
‫به نفسه‪.‬‬
‫ـ ولذلك نبين حقيقة الحب والخوف والرجاء والحالة النفسية المميزة‬
‫لكل منهم كالتالي‪:‬‬

‫‪90‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ معنى حب اهلل تعاىل‪:‬‬


‫ـ المعرفة الحقيقية بالخالق تؤدي إلى الحب الشديد وليس مجرد‬
‫الحب اعجابا بعظمة الخالق‪.‬‬
‫ـ حب اهلل معناه اإلعجاب واالنبهار من روعة وجمال وعظمة‬
‫الصفات المبهرة الهائلة للخالق سبحانه‪.‬‬
‫ـ الحب هو أحلى وألذ ما يشعر به القلب‪ ،‬ونحن يف زمان كثر فيه‬
‫الكالم عن الحب‪ ،‬فال تحتاج إلى أن أذكر لك فوائد ومزايا وجمال ولذة‬
‫ومتعة الحب‪.‬‬
‫ـ حب اهلل عبارة عن متعة وسعادة يحس هبا اإلنسان عندما يعرف‬
‫مدى جمال صفات اهلل وعندما يعلم معنى لذة النظر إلى جمال ذاته يف‬
‫الجنة فيشتاق إلى لقائه والنظر إليه ويأنس به ويحب ذكره‪.‬‬
‫ـ فالحب هو الشعور بالراحة والميل واإلعجاب والسعادة والطمأنينة‬
‫والسكينة بالشيء لما فيه من صفات جميلة‪ ،‬فإذا كنت تشعر هبذا الشعور‬
‫تجاه اهلل فأنت تحب اهلل‪.‬‬
‫ـ معنى ال�شعور بالرجاء‪:‬‬
‫ـ هو شعور باالشتياق والرغبة واألمل والتطلع واللهفة‪ ،‬وفيه فرح‬
‫وانشغال الهم باألمر الذي يتمناه ويحلم به ويرغبه ويأمله‪.‬‬
‫ـ معنى ال�شعور باخلوف‪:‬‬
‫ـ هو شعور بالقلق من خطر ما‪ ،‬وإذا زاد الخوف قد يكون معه توتر‬
‫وفزع وهلع واضطراب وتوجس‪ ،‬وقد تكون له أعراض جسدية مثل زيادة‬
‫نبضات القلب وعدم القدرة على الرتكيز النشغال همه باألمر والتعرق‬
‫وغير ذلك‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ اخلوف من النار هو يف حقيقته خوف من اهلل‪ ،‬ورجاء اجلنة هو يف‬


‫حقيقته رجاء اهلل‪:‬‬
‫ـ الخوف من النار هو يف الحقيقة خوف من اهلل؛ ألن النار ليست‬
‫هي التي أوجدت نفسها وليست هي التي تريد أن تعاقب أحدً ا‪ ،‬ولكنها‬
‫عقوبة من اهلل‪ ،‬لذلك فالخوف من النار يف الحقيقة هو خوف من اهلل من‬
‫أن يعاقبك بالنار‪ ،‬وكذلك رجاء الجنة هو يف الحقيقة رجاء اهلل يف أن ينعم‬
‫عليك بالجنة‪ ،‬وكذلك الخوف من أهوال اآلخرة هو يف الحقيقة خوف‬
‫وسا‬ ‫َخ ُ ِ‬
‫من اهلل يف أن يقيك هول ذلك اليوم‪﴿ :‬إِنَّا ن َ‬
‫اف م ْن َر ِّبنَا يو ًما َع ُب ً‬
‫َق ْم َط ِر ًيرا﴾(‪.)1‬‬
‫**********‬
‫ـ احلالة النف�سية املميزة لكل �شعور من امل�شاعر جتاه اخلالق والآخرة‪:‬‬
‫ـ الحالة النفسية لكل شعور من المشاعر تكشف اإلنسان أمام نفسه‬
‫حتى ال يظن أنه يخاف اهلل وليس يف قلبه ذرة من الخوف أو يحسب أنه‬
‫يحبه وليس يف قلبه ذرة من الحب‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فالذي يدعي الخوف من اهلل‬
‫البد أن يشعر بما يشعر به اإلنسان الذي يخاف من أمر من أمور الدنيا بل‬
‫أشد‪ ،‬والذي يدعي حب اهلل البد أن يشعر بما يشعر به اإلنسان الذي يحب‬
‫أمرا ما من أمور الدنيا بل أشد‪ ،‬والذي يدعي الخضوع هلل البد أن يشعر بما‬
‫ً‬
‫يشعر به اإلنسان الذي يعمل خاد ًما عند سيد له بل أشد‪ ،‬فالبد من وجود‬
‫الحالة النفسية والوجدانية والمزاجية والحالة االنفعالية المناسبة لكل‬
‫شعور وما فيها من الشعور بالضيق أو األلم أو الشعور بالفرح والسرور‪،‬‬
‫وإال فإن هذا الشعور غير موجود وهو مجرد ادعاء‪ ،‬فالخوف فيه شعور‬
‫بالقلق واضطراب داخلي‪ ،‬والحب فيه شعور بالشوق والفرح واالرتياح‬

‫((( اإلنسان‪.10 :‬‬

‫‪92‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫النفسي واإلعجاب‪ ،‬والخضوع فيه شعور باالنكسار والذلة والمسكنة‪،‬‬


‫وهكذا‪.‬‬
‫ـ فحب اهلل والخوف منه والخضوع له ليست أشياء هالمية غير‬
‫مفهومة وإنما هي من نفس جنس المشاعر التي يعرفها اإلنسان ويشعر‬
‫مثل فنقول هي‬‫هبا يف الدنيا‪ ،‬فإذا أردنا تعريف الحالة النفسية للخوف ً‬
‫الحالة النفسية التي تحدث للشخص عندما يتعرض لخطر ما ً‬
‫(مثل طالب‬
‫ينتظر نتيجة امتحان)‪ ،‬وتفسير هذه الحالة النفسية من داخل النفس واضح‬
‫مثل الغضب‬ ‫يشعر به كل إنسان وإن صعب عليه التعبير عما يحس به‪ ،‬أو ً‬
‫ً‬
‫انفعال عصب ًيا داخل ًيا يشعر به اإلنسان الغاضب كما يظهر على‬ ‫تجد له‬
‫سلوكه وانطباعاته‪ ،‬أو ً‬
‫مثل الطمأنينة هو حالة نفسية فيها شعور باالرتياح‬
‫والسكينة‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫ـ لمعرفة هل المشاعر عندك متعلقة باهلل واآلخرة أم متعلقة بالدنيا‬
‫فكل شعور من المشاعر له حالة نفسية مميزة لهذا الشعور كالشعور‬
‫بالحب أو الشعور بالخوف سواء من اهلل أو أمر من أمور الدنيا‪ ،‬فغياب‬
‫مثل هذه الحالة النفسية تجاه الخالق واآلخرة معناه غياب ذلك الشعور‪.‬‬
‫ـ احلالة النف�سية املميزة للحب‪:‬‬
‫ـ إذا رأيت شي ًئا تكرهه تشعر باأللم والضيق والحزن والضجر‪ ،‬وإذا‬
‫رأيت شي ًئا تحبه تشعر باالرتياح والسكينة واالطمئنان والفرح والسرور‬
‫﴿و َت ْط َمئِ ُّن ُق ُلو ُب ُه ْم بِ ِذك ِْر اهَّللِ﴾‬
‫وينشرح صدرك‪ ،‬ففي التفسير الوسيط‪َ :‬‬
‫[الرعد‪ ]28 :‬إذا سمعوا ذكر اهلل أحبوه‪ ،‬واستأنسوا به﴾(‪.)1‬‬
‫ـ الحالة النفسية للخوف وللرجاء‪:‬‬
‫ـ انظر إلى طالب يف الثانوية العامة‪ ،‬فإنه قد يأخذ حالة طوارئ ويتهيأ‬

‫((( التفسير الوسيط للواحدي (‪.)15 /3‬‬

‫‪93‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫نفس ًيا؛ ألنه أمر مصيري يتحدد عليه مستقبله‪ ،‬إنه يكون يف قلق واضطراب‬
‫وخوف وترقب حتى تظهر النتيجة‪ ،‬إن الحالة النفسية التي عنده هي التي‬
‫تسمي خوف وقلق‪ ،‬فإذا كنت تدعي الخوف من اآلخرة فهل عندك هذه‬
‫الحالة النفسية؟ وانظر إلى حالته وهو يف انتظار النتيجة‪ ،‬انظر إلى حالته‬
‫المزاجية وانشغال باله بالنتيجة‪ ،‬فإن الشعور الحقيقي يظهر على الوجه‬
‫ويؤثر يف وجدانه وربما يأرق من النوم وتقل شهيته للطعام‪.‬‬
‫ـ انظر إلى إنسان مطلوب منه أن يقوم بعمل معين وإال يتعرض ً‬
‫مثل‬
‫للفصل من العمل‪ ،‬انظر إلى حالته النفسية قبل وأثناء وبعد تأدية العمل‬
‫فتجد حالة نفسية مميزة للخوف‪ ،‬وانظر إلى قوة هذه الحالة النفسية‬
‫واستمراريتها والشعور هبا‪ ،‬وحتى بعد العمل يظل خائ ًفا هل أداه على ما‬
‫يجب أم أهنم لن يرضوا عن هذا العمل‪.‬‬
‫ـ مثال آخر‪ :‬هل خوفك من القيام بعمل يعاقب عليه القانون مثل‬
‫خوفك من القيام بمعصية؟‪ ،‬فأين خوفك من عقاب اهلل؟‪ ،‬وهل ندمك‬
‫وحزنك على الوقوع يف معصية مثل حزنك على ضياع مائة جنيه ً‬
‫مثل؟‪،‬‬
‫وهل الحالة النفسية التي تشعر هبا يف هذا مثل هذا؟!‬
‫ـ اإلنسان الذي يعيش من أجل الدنيا كلما مر عليه يوم شعر بأنه اقرتب‬
‫منتظرا لقاء‬
‫ً‬ ‫من تحقيق طموحه الدنيوي فيزداد نشا ًطا للدنيا‪ ،‬والذي يعيش‬
‫اهلل كلما مر عليه يوم شعر بأنه اقرتب من الموت ولقاء اهلل‪ ،‬فالرجاء فيه‬
‫شوق وحنين وفرح وحب وتطلع وانطالق وشعور بالهدف الذي تسعى‬
‫إليه‪ ،‬فإذا كنت تدعي أنك ترجو اهلل واليوم اآلخر فهل عندك مثل الحالة‬
‫النفسية التي تكون عند من يرجو ويهدف إلى القيام بعمل دنيوي كمشروع‬
‫تجاري أو السعي لمنصب أو جاه أو شهوة؟‬
‫ـ ال�شعور املميز للمعرفة احلقيقية باقرتاب الآخرة‪:‬‬

‫‪94‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ هو الشعور بقلق االنتظار لآلخرة وانشغال الهم باقرتاهبا باعتبارها‬


‫نتيجة االمتحان والقلق من كونه أين يصير من الثواب أو العقاب الهائل‪.‬‬
‫ـ مالحظة‪:‬‬
‫ـ مهما وصفت لك الحالة النفسية لكل شعور من المشاعر فلن تكون‬
‫فعل‪ ،‬فمهما وصفت لك حال الطالب‬ ‫مثل الحالة النفسية إلنسان حققها ً‬
‫عند االمتحان وما ينتابه من قلق وخوف فلن يكون مثلما تعاين أنت هذا‬
‫األمر فتشعر هبذا الشعور‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬ليس المخرب كالمعاين﴾(‪.)1‬‬
‫ـ ومهما وصفت لك عن طبيعة المشاعر التي ينبغي أن يشعر هبا‬
‫المسلم من حب اهلل والذل له والخوف منه ورجائه والخوف من اآلخرة‬
‫فهي أمور شعورية وليست أمور معرفية‪ ،‬واإلنسان الذي يشعر بألم أو‬
‫بلذة قد ال يستطيع أن يصف لك ما يشعر به‪ ،‬ألن األلم واللذة هو شيء له‬
‫طعم يذوقه ويشعر به وقد ال يستطيع أن يعرب عنه‪.‬‬
‫ـ إذا لم تكن تشعر بشيء من الحالة النفسية للشعور بحب الخالق أو‬
‫بشيء من الحالة النفسية للشعور بالخضوع له فهذا معناه غياب المعرفة‬
‫باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ الفرق بني حتقيق م�شاعر الإميان واالقتناع بالعمل على حتقيقها‪:‬‬
‫ـ إن العربة بتحقيق مشاعر اإليمان‪ ،‬وليست العربة باالقتناع هبا‬
‫وتمني التحلي هبا والدعوة إليها وتعليمها الناس وال حتى السعي نحوها‬
‫دون الوصول لتحقيقها‪َ ،‬ف َم ْن هذا حاله فال فائدة من عمله‪َ ﴿ :‬أ َت ْأ ُم ُر َ‬
‫ون‬
‫ون﴾(‪ ،)2‬ويف‬ ‫َاب َأ َفال َت ْع ِق ُل َ‬ ‫النَّاس بِا ْلبِر و َتنْسو َن َأ ْن ُفس ُكم و َأ ْنتُم َت ْت ُل َ ِ‬
‫ون ا ْلكت َ‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫ِّ َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫الحديث‪( :‬مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء‬

‫((( التخريج‪ :‬صحيح (تخريج الطحاوية‪ ،‬ص‪.)377 :‬‬


‫((( البقرة‪.44 :‬‬

‫‪95‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫عالما ً‬
‫عامل بكل أمور‬ ‫للناس وتحرق نفسها)( )‪ ،‬وحتى لو كان اإلنسان ً‬
‫‪1‬‬

‫الدين والدنيا من غير أن يحقق مشاعر اإليمان فال يغني ذلك عنه شي ًئا‪ ،‬ومن‬
‫الناس َم ْن يظل طول عمره يقول أنا مقصر يف هذه المشاعر وأريد تحقيقها‪:‬‬
‫﴿ َقا ُلوا َيا َو ْي َلنَا إِنَّا ُكنَّا َظال ِ ِمي َن‪َ ،‬ف َما َزا َل ْت تِ ْل َك َد ْع َو ُاه ْم َحتَّى َج َع ْلن ُ‬
‫َاه ْم‬
‫َح ِصيدً ا َخامِ ِدي َن﴾(‪ ،)2‬فهذه المشاعر من الثوابت التي يقرها الجميع‬
‫فعل؟!‬ ‫وعلى اقتناع تام بأهميتها وأهمية تحقيقها‪ ،‬ولكن َم ْن يحققها ً‬
‫ون﴾(‪ ،)3‬وإنك لتجد الكثير‬ ‫ون َما ال َت ْف َع ُل َ‬ ‫﴿ َيا َأ ُّي َها ا َّل ِذي َن آ َمنُوا ل ِ َم َت ُقو ُل َ‬
‫اهَّلل ا َّل ِذي َن َصدَ ُقوا َو َل َي ْع َل َم َّن‬
‫مم ْن يدعي أهنا متحققة يف نفسه‪َ ﴿ :‬ف َل َي ْع َل َم َّن ُ‬ ‫َ‬
‫اهَّلل ا َّل ِذي َن آ َمنُوا َو َل َي ْع َل َم َّن ا ْل ُمنَافِ ِقي َن﴾‪.)5( ‬‬ ‫ا ْل َكاذبِي َن﴾(‪َ ،)4‬‬
‫﴿و َل َي ْع َل َم َّن ُ‬
‫ِ‬

‫*******‬

‫تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 5837 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬ ‫(((‬
‫األنبياء‪.15 ،14 :‬‬ ‫(((‬
‫الصف‪.2 :‬‬ ‫(((‬
‫العنكبوت‪ :‬من اآلية ‪.3‬‬ ‫(((‬
‫العنكبوت‪.11 :‬‬ ‫(((‬

‫‪96‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل السابع‬
‫�أثر املعرفة احلقيقية على م�شاعر االن�سان وحياته‬

‫ـ العبادة هي �أثر املعرفة احلقيقية (مع وجود اليقني)‪:‬‬


‫ـ أساس العبادة عبارة عن مشاعر كالحب والخوف والرجاء والشعور‬
‫بالخضوع والرضا والتوكل‪ ،‬ومعنى العبادة أن يعيش االنسان خاضعا هلل‬
‫بقلبه وجوارحه‪ ،‬وال تتحقق هذه المشاعر وال يعيش االنسان خاضعا إال‬
‫إذا عرف الخالق واآلخرة معرفة حقيقية‪.‬‬
‫ـ المعرفة الحقيقية بضعف االنسان أمام الخالق (مع وجود اليقين باهلل‬
‫واآلخرة والرسل) تؤثر على مشاعر االنسان وعمله وحياته‪ ،‬وهذا التأثر‬
‫يتمثل يف شدة الحب والخوف والرجاء‪ ،‬وهذا التأثر يؤدي إلى الخضوع‬
‫تعظيما هلل (حبا يف عظمته) وخوفا ورجاء‪ ،‬وهذا هو معنى العبادة‪.‬‬
‫ـ فهذه ثالثة أمور مرتتبة على بعضها‪ ،‬فمعرفة اهلل واآلخرة (مع‬
‫وجود اليقين) تؤدي الى ثالثة مشاعر (الحب والخوف والرجاء)‪ ،‬وهذه‬
‫المشاعر تؤدي الى العبادة (خضوع القلب والجوارح واللسان والخضوع‬
‫يف طريقة المعيشة)‪.‬‬
‫ـ فالعبادة هي أثر المعرفة الحقيقية (مع وجود اليقين)‪ ،‬وبالتالي مجرد‬
‫تحقيق المعرفة الحقيقية يؤدي الى تحقيق العبادة (على افرتاض وجود‬
‫اليقين)‪.‬‬
‫ـ مفهوم �أثر املعرفة احلقيقية (مع وجود اليقني)‪:‬‬

‫‪97‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ لو قيل لرجل أن هناك أسد يقرتب منه ولكنه لم تتأثر مشاعره فيخاف‬
‫ولم تتأثر جوارحه فيجري ويهرب فكيف يمكن أن يحدث ذلك؟‬
‫ـ واالجابة أنه من المستحيل أن يعلم االنسان بأمر خطير ثم ال تتأثر‬
‫مشاعره وجوارحه‪ ،‬وهو يف حقيقة أمره بين أمرين ال ثالث لهما هما إما‬
‫أنه غير مقتنع باألمر أو أنه لم يعلم باألمر فهو جاهل به‪ ،‬والجهل باألمر‬
‫نوعين‪:‬‬
‫‪1‬ـ الجهل ألنه لم يسمع عن األمر أصال أو لم يفهم معناه‪ ،‬وهو جهل‬
‫يزول بمجرد السماع والفهم‪.‬‬
‫‪2‬ـ الجهل بسبب غياب االنتباه وهو الغفلة‪ ،‬وهو جهل ال يزول‬
‫بالسماع والفهم ألن سببه عدم االنتباه وليس السماع والفهم‪ ،‬فهو عندئذ‬
‫غافل غير منتبه لخطورة معنى أنه أسد‪.‬‬
‫ـ وهذا هو السبب الذي يمنع الكثير من الناس من التأثر بالغيبيات‪،‬‬
‫ألن أكثر الناس مقتنعون بالخالق واآلخرة والرسل وسمعوا عن ذلك‬
‫ويفهمون معنى ذلك‪ ،‬لكن بعضهم جاهل باألمر بسبب عدم االنتباه‬
‫(الغفلة)‪ ،‬لذلك فموضوع الكتاب هو شرح لمعنى الجهل بسبب عدم‬
‫االنتباه (الغفلة) وكيفية معالجته‪.‬‬
‫ـ مجرد أن يعرف االنسان بوجود الخالق واآلخرة معرفة حقيقية فإن‬
‫مشاعره كلها سوف تتغير‪ ،‬وكل حياته سوف تتغير بزاوية مائة وثمانين‬
‫درجة‪ ،‬ولكن ألننا نعيش يف زمن الغفلة فقد يتعجب االنسان ويسأل وهل‬
‫الغيبيات خطيرة جدا الى هذه الدرجة؟‪ ،‬وسبب هذا السؤال أنه غافل‬
‫وليس لديه تصور لمدى خطورة األمر‪ ،‬وطالما أن االنسان ال يزال لم‬
‫تتأثر مشاعره بالغيبيات فهو ال يزال ال الغيبيات‪ ،‬وربما كان ممنوعا من‬
‫االنتباه لها مهما سمعها طوال عمره فذلك هو الطبع على القلب‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ كل الناس يعلمون أن لهم خالقا وأهنم ذاهبون الى اآلخرة وأن اهلل‬
‫أرسل لهم الرسل لكن حال البعض يقول أهنم ال يعلمون شيئا من ذلك‬
‫فهذه المعلومة البسيطة مات معناها وتحولت لمجرد مظاهر روتينية‪،‬‬
‫فهؤالء الناس مخدرين غافلين كأهنم لم يسمعوا عن ذلك تماما‪.‬‬
‫ـ لذلك قد يبدو هذا الكتاب غريبا ألن حال الغفلة أصبح هو الوضع‬
‫الطبيعي المألوف الذي اعتاد عليه الجميع فإذا جاء أحد ليقول لهم تعالوا‬
‫نعرف من جديد معنى أن لنا خالقا ومعنى أننا ذاهبون الى اآلخرة لقالوا‬
‫إنه مجنون أو متخلف!‬
‫ـ فنحن ال نتكلم يف هذا الكتاب عن معلومات عويصة يف الدين ولكننا‬
‫فقط نتكلم عن أبسط معلومة يف الدين وهي أن لنا خالقا وأن هناك آخرة‬
‫باإلضافة الى ما يخدم شرح هذه المعلومة‪.‬‬
‫ـ فالمانع من تحقيق العبادة هو غفلة االنسان عما يوقن به‪ ،‬فهو يوقن‬
‫بالخالق واآلخرة ونزول كالم الخالق للناس على رسله ويوقن بأن الدنيا‬
‫ضئيلة وزائلة وال قيمة لها وأن الحياة الحقيقية األبدية يف اآلخرة ورغم‬
‫ذلك ال يحقق العبادة ألنه غافل عن خطورة ما يوقن به‪.‬‬
‫ـ وهذا مثال يوضح األمر أكثر‪ :‬فاإلنسان يعرف أن القنبلة شيء خطير‬
‫جدً ا ويعرف أن الكرة شيء تافه رغم أن كالهما متشابه يف الشكل‪ ،‬لكن‬
‫إذا تعامل مع القنبلة مثلما يتعامل مع الكرة دل ذلك على أنه ال يزال ال‬
‫يعرف معنى كلمة (قنبلة)‪ ،‬فمعرفته لكلمة (قنبلة) ال تكون معرفة حقيقية‬
‫حتى يشعر بالخوف منها ويحتاط عند التعامل معها‪ ،‬فعندئذ فقط يكون‬
‫قد عرف معنى كلمة (قنبلة)‪.‬‬
‫كأسا‬
‫ـ فإذا كنت أحدثك عن قنبلة موجودة اآلن أمامك وأنت تشرب ً‬
‫من الخمر‪ ،‬فأنت عندئذ قد علمت نظريا أن الشيء الذي أمامك هو قنبلة‬

‫‪99‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫لكن لم تنتبه لخطورة األمر‪ ،‬فلم تخف ولم ِ‬


‫تجري هر ًبا؛ وذلك ألنك‬
‫سكران‪ ،‬فحقيقة األمر أنك ال تعرف ماذا تعني كلمة قنبلة‪.‬‬
‫ـ نفس الشيء فاآلخرة عبارة عن قنبلة أمامك ألهنا أمر خطير جدً ا‬
‫فهي مستقبلك وحياتك وتوشك أن تبلغ وفيها األهوال‪ ،‬فعندما أخربك‬
‫باآلخرة فال تنتبه لخطورهتا وتتعامل مع اآلخرة كأهنا كلمة عادية وال هتاهبا‬
‫وال تستعد لها وترتقب مجيئها فهذا معناه أنك يف غيبوبة تامة كالسكران‬
‫الذي ال يدري بشيء‪ ،‬فعندئذ أنت ال تعرف ماذا تعني كلمة (اآلخرة)‪.‬‬
‫ـ ونفس الشيء فمعنى وجود الخالق أي وجود من له القدرة الهائلة‬
‫المسيطرة القاهرة على كل شيء وأنت ال تنتبه لخطورة ذلك وال تتأثر‬
‫مشاعرك بذلك‪ ،‬فأنت يف غيبوبة ال تدري ماذا يعني أن لك خال ًقا‪ ،‬رغم‬
‫أنك تعرف يف اللغة والشرع ماذا يعني الخالق وما هي صفاته لكن غير‬
‫منتبه‪ ،‬لذلك فأنت ال تعرف الخالق‪.‬‬
‫ـ درجة الت�أثر‪:‬‬
‫ـ إذا كان األمر خطيرا فالبد أن يكون التأثر كبيرا‪ ،‬وإذا كان األمر خطيرا‬
‫جدا فالبد أن يكون التأثر به شديدا جدا‪.‬‬
‫ـ فمثال عندما يعلم االنسان بوجود حريق ما أو وجود خطر يهدد‬
‫حياته أو عثر على مبلغ هائل لم يكن يتوقعه أو ينتظر إعالن نتيجة امتحان‬
‫الثانوية العامة مثال وهكذا‪ ،‬فهنا تتأثر مشاعره وتتفاعل باألمر بشدة‪.‬‬
‫ـ وهذا التأثر يكون أشد إذا كانت المعلومة خطيرة جدا‪.‬‬
‫ـ المعلومة التي تقول بوجود الخالق واآلخرة ونزول كالم الخالق‬
‫نقرأه بين أيدينا ووجود حياة أخرى أبدية هي معلومة خطيرة جدا‪ ،‬ولكن‬
‫البعض يتعامل معها بدون تأثر كأنه لم يسمع عنها‪.‬‬
‫ـ فالمطلوب ليس مجرد التأثر ولكن التأثر الشديد‪ ،‬أي شدة الحب‬

‫‪100‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫والخوف والرجاء الذي يؤدي الى خضوع القلب والجوارح واللسان‬


‫والمعيشة‪ ،‬فالضعيف يحب القوي حبا شديدا لدرجة الخضوع‪ ،‬ويخاف‬
‫من عقابه خوفا شديدا لدرجة الخضوع‪ ،‬ويرجو ثوابه رجاء شديدا لدرجة‬
‫الخضوع‪.‬‬
‫ـ غياب �أثر املعرفة احلقيقية دليل على اجلهل‪:‬‬
‫ـ الجاهل بأمر ما ال عالقة له به فال يتأثر به ال سلبا وال إيجابا‪ ،‬فال يؤثر‬
‫ذلك األمر يف مشاعره أو انفعاالته أو حياته فال صلة له به‪ ،‬وليس له أي رد‬
‫فعل تجاهه ال سلبا وال إيجابا ألنه أصال جاهل به سواء كان جهال بسبب‬
‫عدم السماع أو الفهم أو جهال بسبب عدم االنتباه (الغفلة)‪ ،‬وقد يكون‬
‫عمل االنسان مفتعال أو عادة أو تقليدا أو مجرد مظاهر روتينية وليس‬
‫ناشئا عن تأثره باألمر‪.‬‬
‫ـ الشيء الذي ال تخافه وال ترجوه وال تحبه وال تكرهه وال تشعر‬
‫تجاهه بأي شيء هو إما شيء غير موجود أو ال قيمة له أو أنك ال تعرفه‬
‫أو أنك ال توقن بوجوده‪ ،‬فكذلك عدم الشعور بأي شيء تجاه الخالق‬
‫واآلخرة معناه غياب المعرفة الحقيقية باهلل واآلخرة أو غياب اليقين باهلل‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫ـ وطالما أن عالم الغيب أمر خطير وأنت توقن به ولم تتأثر مشاعرك‬
‫وحياتك به فسبب ذلك هو أنك ال تزال ال تعرفه معرفة حقيقية كأنك لم‬
‫تسمع عنه أو كأنك ال تفهم معناه‪.‬‬
‫ـ ومعنى أن مشاعر االنسان تتفاعل بشدة بأمور الدنيا من المال‬
‫والشهوات ومشكالت الحياة يف حين ال تتفاعل مع أمور اآلخرة‬
‫دليل عن أن االنسان ال يزال جاهال تماما عن اآلخرة تماما كالذي لم‬
‫يسمع عن شيء اسمه اآلخرة‪ ،‬فمشاعره وأهدافه وطموحاته وتطلعاته‬

‫‪101‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫وانفعاالته وسلوكه وفرحه وحزنه ونيته وأكثر كالمه وأكثر عمله ال عالقة‬
‫له بالغيبيات‪ ،‬فلو ذكرته بعقاب اآلخرة ال يؤثر ذلك يف نفسه شي ًئا‪ ،‬يف حين‬
‫لو أخربته بفقد شي ًئا من ماله لطاش عقله وتأثرت مشاعره‪.‬‬
‫ـ انتقال اإلنسان إلى حياة أخرى من جديد يف مكان آخر غير كوكب‬
‫األرض هو أمر خطير ومثير ومؤثر جدً ا‪ ،‬وكل لذات الدنيا وآالمها ليست‬
‫بشيء أمام لذات وآالم اآلخرة ‪ ،‬وعودة اإلنسان إلى شباب دائم وبال‬
‫موت أو مرض يف قصور مبنية من الذهب والفضة فيها نساء فاتنات‬
‫وخمور وكل ألوان السعادة فوق كل التصورات وال تخطر على بال‬
‫بشر هو امر مذهل‪ ،‬وسنوات العمر الطويلة يف الدنيا ليست بشيء أمام‬
‫الخلود يف اآلخرة‪ ،‬واألخطر من كل هذا هو قدرة الخالق وعلمه الهائل‬
‫ووجوده معنا بقدرته وعلمه (وليس بذاته) واألخطر أننا ال نراه رغم أنه‬
‫يرانا ويحيط بنا بقدرته وعلمه الهائل ولسنا إال جزءا من ملكه وكل أمرنا‬
‫بيده وكل ما عندنا وحولنا هو الذي خلقه وتحت أمره‪ ،‬إذن كل هذا إذا لم‬
‫يؤثر يف مشاعر االنسان فيتعجب أشد العجب ثم يمتأل بالحب والخوف‬
‫والرجاء ثم يزيد حبه وخوفه ورجاءه لدرجة الشعور بالخضوع والذل ثم‬
‫يعيش خاضعا معرتفا ومستسلما لقدرة الخالق سبحانه‪ ،‬فإذا لم يؤثر كل‬
‫هذا على مشاعر االنسان وحياته فهذا معناه أنه ال يزال جاهال لم يعرف‬
‫الخالق وال اآلخرة ‪.‬‬
‫ـ فالطبيعي أنه بمجرد أن يعرف اإلنسان بوجود الخالق واآلخرة‬
‫ويوقن بذلك فإن حياته كلها من مشاعر وأهداف وطموحات وسلوك‬
‫وتصرفات وانفعاالت وفرح وحزن وغضب وأخالق وكالم ونية وعمل‬
‫كبيرا‪ ،‬وسوف تتغير حياته بزاوية مائة وثمانين درجة‪.‬‬
‫تأثرا ً‬
‫سوف تتأثر ً‬
‫مؤثرا وأيقن به‬
‫أمرا ما ً‬
‫ـ فهناك قاعدة فطرية هي أن اإلنسان إذا عرف ً‬
‫أمرا ممتعا فإنه‬
‫أمرا مخيفا فإنه يخافه‪ ،‬وإذا عرف ً‬
‫فإنه يتأثر به‪ ،‬فإذا كان ً‬

‫‪102‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫يشتاق إليه وهكذا‪ً ،‬‬


‫فمثل إذا عرف وأيقن أن أمامه قنبلة يمكن أن تنفجر‬
‫يف أي وقت فإنه يشعر بالخوف ويفر هار ًبا‪.‬‬
‫ـ فأي أمر هام وخطير ومؤثر البد وبالضرورة أن تتأثر به المشاعر‪،‬‬
‫فإذا لم تتأثر المشاعر فهذا يدل على عدم المعرفة باألمر أو عدم اليقين به‪.‬‬
‫حتما وتلقائ ًيا سوف بجد‬
‫ـ فمن عرف اهلل واآلخرة مع اليقين فإنه ً‬
‫نفسه يحب اهلل ويحب الجنة ويخاف من النار‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان يتأثر باألمر ويعمل له على قدر شعوره بخطورته‪ ،‬فإذا‬
‫خطيرا ولم يشعر بخطورته فلن يتأثر به ولن يعمل له‪ ،‬والشعور‬‫ً‬ ‫أمرا‬
‫كان ً‬
‫بخطورة األمر (االنتباه لخطورته) هو العنصر المفقود يف المعرفة‪.‬‬
‫ـ فإذا كان اإلنسان يوقن بأن هناك آخرة وجنة ونار ولكن لم تتأثر‬
‫مشاعره باآلخرة فال يخافها وال يرتقبها وال يحب الجنة ويتمناها وال‬
‫يرهب النار وكذلك لم يعمل لآلخرة والنجاة من النار فهذا اإلنسان ال‬
‫يعرف ما هي اآلخرة‪.‬‬
‫ـ وكذلك إذا كان اإلنسان يوقن بمدى قدرة اهلل على إيجاد كل هذا‬
‫الكون ومدى علمه يف تدبير كل شيء يف الكون والمخلوقات ولم يؤدي‬
‫ذلك إلى التهيب من مدى قدرته وعلمه وحب اإلعجاب بمدى هذه‬
‫القدرة والخوف من غضبه ورجاء نعمائه والعمل من أجل رضاه فهو ال‬
‫يعرف اهلل‪.‬‬
‫ـ وطالما أن اإلنسان الموقن باهلل واآلخرة ال يزال يقع يف المعاصي‬
‫والشهوات فهذا معناه أن معرفته باهلل واآلخرة ضعيفة أو غير موجودة‪.‬‬
‫*******‬

‫‪103‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ غياب امل�شاعر املتعلقة باهلل والآخرة يدل على اجلهل ك�أن الأمر تافه‬
‫غري م�ؤثر ك�أنه لعب ولهو‪:‬‬
‫ـ أنت إذا وقفت أمام أسد حقيقي ولم تتصور خطورة األمر فلم تشعر‬
‫بالخوف فهذا معناه أن هذا األسد يف حقيقته بالنسبة لك هو تمثال أو‬
‫صنم‪ ،‬والفرق بين األسد الحقيقي واألسد الصنم أن األخير ال ينفع وال‬
‫يضر‪ ،‬وهما مشرتكان فقط يف االسم‪ ،‬فاألول له اسم حقيقي والثاين له اسم‬
‫مخرتع‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان الذي ال يشعر إطال ًقا بألم الخوف من مهابة النار أو بلذة‬
‫الشوق إلى الجنة هو يف حقيقة أمره ال يعرف شيء اسمه النار وال شيء‬
‫اسمه الجنة‪ ،‬فهي يف مشاعره أمور مثل األمور التي ال تنفع وال تضر فيقتنع‬
‫هبا ولكن ال يعرفها‪ ،‬فهو بذلك قد سلب خاصية األلم من النار وخاصية‬
‫اللذة من الجنة فأصبحت أمور نظرية ال قيمة لها‪ ،‬وكذلك إذا لم يشعر‬
‫إطال ًقا بشيء من ألم الخوف من مهابة اهلل أو شيء من لذة الحب هلل فهو‬
‫ال يعرف ماذا تعني كلمة (الخالق)‪ ،‬وإن كانت كلمات (الخالق) و(النار)‬
‫و(الجنة) موجودة يف االقتناع واليقين‪ ،‬فهي غير موجودة يف شعور اإلنسان‬
‫وال تتأثر هبا مشاعره وهمومه وأهدافه وأمانيه وعمله‪.‬‬
‫********‬
‫ـ الأ�سباب ال�ستة لعدم الت�أثر بالأمر‪:‬‬
‫ـ هناك ستة أسباب تجعل االنسان ال يتأثر بالشيء سواء سلبا أو إيجابا‬
‫وهي عدم السماع عنه أو عدم الفهم أو عدم االنتباه أو عدم اليقين أو أن‬
‫ذلك الشيء تافه غير مؤثر أو أن ذلك الشيء غير موجود أصال‪.‬‬
‫ـ عدم التأثر بالخالق واآلخرة يرجع إلى سبب واحد فقط من هذه‬
‫األسباب الستة‪ ،‬فهو فقط لم ينتبه ولكنه سمع وفهم وأيقن والخالق‬

‫‪104‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫واآلخرة أمر موجود ومؤثر‪ ،‬وألن المحصلة واحدة وهي عدم التأثر‬
‫فهو يعيش كأنه لم يسمع أو كأنه لم يفهم أو كأنه ال يوقن أو كأن الخالق‬
‫واآلخرة مسألة غير مؤثرة أو كأن الخالق واآلخرة ال وجود لهما‪.‬‬
‫ـ غياب واحد من الثالثة أسباب األولى (السماع أو الفهم أو االنتباه)‬
‫معناه الجهل باألمر‪ ،‬والجاهل بالشيء ال عالقة له به وال يتأثر به‪ ،‬والجهل‬
‫باهلل واآلخرة سببه عدم االنتباه وليس عدم السماع أو عدم الفهم‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان الجاهل باألمر ليس له أي عالقة به فال تتأثر به مشاعره ال‬
‫سل ًبا وال إيجا ًبا‪ ،‬فال يحبه وال يكرهه وال يفرح به وال يحزن عليه‪ ،‬وليس‬
‫معه وال ضده‪ ،‬وال يعمل له حسا ًبا وال يهتم به أو ينشغل به ألنه ال يعرفه‬
‫ً‬
‫أصل‪ ،‬فال تربطه به أي عالقة سواء سل ًبا أو إيجا ًبا‪.‬‬
‫ـ أي يصبح وجود الجنة والنار ال يؤثر فيه‪ ،‬ووجود قدرة الخالق‬
‫المحيطة به والغالبة عليه ال تؤثر فيه ال يف مشاعره وال يف عمله‪ ،‬وكذلك‬
‫مسألة الحالل والحرام ال تؤثر فيه‪ ،‬فهو يفعل ما يراه لدنياه غير مهتم بأن‬
‫هذا األمر موافق أم مخالف للدين‪.‬‬
‫ـ فاألمر الذي ال تشعر تجاهه بأي شيء وال تتأثر به هو إما أنه شيء‬
‫غير موجود أو شيء تافه ال قيمة له أو أنك ال توقن بوجوده أو أنك ال‬
‫تعرفه‪.‬‬
‫ـ القليل من الناس ليس لديه يقين‪ ،‬فهذا سبب آخر لعدم التأثر‪.‬‬
‫ـ فإذا سمع االنسان عن أمر ما خطير وفهمه وأيقن به لكنه غفل عنه‬
‫فلم يتأثر به فهو يعيش كأنه لم يسمع عنه أو كأنه لم يفهمه أو كأنه لم يوقن‬
‫به أو كأن األمر تافه ليس بخطير أو كأن األمر غير موجود أصال‪.‬‬
‫*******‬

‫‪105‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ �أثر املعرفة باهلل والآخرة على حل م�شاكل املجتمع‪:‬‬


‫ـ إذا أردنا أن نحل مشاكل المجتمع فالحل هو تحقيق المعرفة‬
‫بالغيبيات عند الناس‪ ،‬فهم عندئذ ينظرون إلى حقيقة المال والدنيا‬
‫والشهوات وحقيقة مشاكل الدنيا بالمقارنة بمشكلة اآلخرة‪ ،‬وعندئذ لن‬
‫تكون هناك سرقات ومشاكل‪ ...‬إلخ‪ ،‬بل إن مفهوم المشكلة سوف يتغير‬
‫فلن تكون مشاكل الحياة هي المشاكل التي يعاين منها الناس وإنما سوف‬
‫تكون مشكلة الناس الوحيدة هي النجاة من النار ودخول الجنة‪ ،‬ولن تمثل‬
‫مشاكل الحياة شيء؛ ألهنا يف نظرهم عابرة وهم عابري سبيل‪ ،‬فالمشكلة‬
‫الحقيقية ليست اقتصادية وال اجتماعية وال سياسية وال غير ذلك وإنما‬
‫المشكلة هي يف عقول وقلوب الناس وهي أن يعيش اإلنسان هلل هبمومه‬
‫ومشاعره وأهدافه‪ ،‬أما مشاكل الدنيا فهينة وزائلة بزوال الدنيا‪ ،‬وما الدنيا‬
‫إال أيام قليلة نعيشها كيفما اتفق‪ ،‬فلن تزول مشاكل المجتمع إال إذا تغيرت‬
‫اهَّلل ال ُي َغ ِّي ُر َما بِ َق ْو ٍم َحتَّى ُي َغ ِّي ُروا َما بِ َأ ْن ُف ِس ِه ْم﴾(‪،)1‬‬
‫العقول والقلوب‪﴿ :‬إِ َّن َ‬
‫فحب الدنيا وتعلق المشاعر والهموم هبا إذا خرج من العقول والقلوب‬
‫فسوف يختفي التنافس على الدنيا وبالتالي تختفي المشاكل؛ ألن كل‬
‫المشاكل تأيت من التنافس على الدنيا‪ ،‬كما يكون عند الناس عندئذ الرضا‬
‫والقناعة؛ ألهنم علموا أن أقل شيء عندهم هو نعمة عظيمة من اهلل عليهم‬
‫فيحمدوا اهلل تعالى‪ ،‬كما أن مفهوم السعادة سوف يتغير فال تكون السعادة‬
‫عندهم يف المال والدنيا وإنما تكون السعادة عندهم يف رضا اهلل ودخول‬
‫الجنة‪ ،‬أما إذا لم تكن اآلخرة لها وجود حقيقي يف هم اإلنسان ومشاعره‬
‫فإنه لن يسامح أحدً ا؛ ألنه ال يشعر بأن هناك جزا ًء على ما يفعل‪ ،‬وسيعيش‬
‫حياته يحصل أكرب ما يستطيع من المتع والمال ولو من غيره من الناس‪،‬‬
‫حريصا على عمره؛ ألن ما يف حقيقة مشاعره أنه إذا مات فلن‬ ‫ً‬ ‫ويكون‬

‫((( الرعد‪ :‬من اآلية ‪.11‬‬

‫‪106‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫يجد شي ًئا وأن الحياة هنا فقط وال حياة أخرى فيجتهد أن يحصل كل ما‬
‫يستطيع قبل أن ينتهي كل شيء فتكون السرقات وكل أنواع الظلم ويعيش‬
‫الناس كالوحوش يف الغابة؛ القوي يأكل الضعيف‪ ،‬والناس عندئذ هم‬
‫يف الحقيقة يتعبون أنفسهم بأنفسهم‪ ،‬وهم يف الحقيقة يسرقون أموال‬
‫بعضا ويرتشي بعضهم من بعض ويصنعون المتاعب ألنفسهم‬ ‫بعضهم ً‬
‫ويستمدون السعادة من أمور يخرتعوهنا ويصنعون تعقيدات للحياة بدون‬
‫دا ٍع وهكذا‪ ،‬ويتكون مجتمع من المنافقين يتحدثون فيما بينهم بمعسول‬
‫الكالم وقلوهبم حاقدة بعضهم على بعض‪ ،‬والقضية أنه لن ينصلح حال‬
‫المجتمع إال إذا انصلحت ضمائر الناس فيكون الوازع الداخلي الذي‬
‫يجعلهم يرتكون الشر والفساد هو من خشية اهلل‪ ،‬فإذا لم يتحقق ذلك‬
‫فمهما صنعت من القوانين فلن يجدي‪ ،‬ومهما وضعت من األجهزة‬
‫الرقابية فستأخذ الرشاوى وستحتاج إلى أجهزة أخرى تراقب عليها وهي‬
‫بدورها ستحتاج إلى من يراقبها وهكذا‪ ،‬فالبد أن يكون األصل أن الناس‬
‫ترتك الشر والفساد خو ًفا من اهلل وليس خو ًفا من القانون وهذا هو الذي‬
‫ينفعهم يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫مغرورا بالدنيا فهو ال يريد أن يفرط فيها؛ ألهنا‬
‫ً‬ ‫ـ واإلنسان إذا كان‬
‫كبيرة عنده فيريد أن يأخذ ما عند الناس ويظلمهم ويأخذ حقوقهم ويكره‬
‫الخير لهم‪ ،‬أما عندما يعقل اإلنسان حقيقة الدنيا وضآلتها فإنه ال يبالي هبا‬
‫فيعطي مما عنده من الدنيا والمال للفقراء؛ ألهنم مثله ضعفاء فقراء أمام‬
‫اهلل وما يعطيهم من مال ليس ماله وإنما يعطيهم من مال اهلل‪.‬‬
‫ـ فالبد أن يتغير مفهوم المشكلة‪ ،‬فالسعادة ليست يف حل المشاكل‬
‫الدنيوية ولكن السعادة هي يف الجنة‪ ،‬ولو أن جميع مشاكل المجتمع‬
‫الدنيوية تم حلها فلن يصل الناس إلى تحقيق السعادة؛ ألن الدنيا ليست‬
‫دارا للسعادة‪ ،‬فاهلل حكم أهنا دار شقاء وتعب وليست دار‬
‫مؤهلة لتكون ً‬

‫‪107‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫سعادة‪َ ﴿ :‬ل َقدْ َخ َل ْقنَا اإلنسان فِي َك َب ٍد﴾(‪ ،)1‬ولكن هناك من ال يزال يتسابق‬
‫يف جمع الدنيا من األموال واألوالد والمناصب والشهوات‪ ،‬فهو كمن‬
‫يخبط رأسه يف الحائط؛ ألنه لن يجني شيء‪ ،‬كما أنه كلما تم حل مشاكل‬
‫طموحا آخر‬
‫ً‬ ‫طموحا يستجد‬
‫ً‬ ‫تستجد مشاكل أخرى‪ ،‬وكلما حقق اإلنسان‬
‫ويموت اإلنسان وعنده طول أمل ولم يحقق السعادة!!‪.‬‬
‫ـ فعدم الشعور بالغيبيات عند أفراد المجتمع أو أكثرهم يؤدي إلى‬
‫توجه المجتمع تجاه الدنيا والمادة والشهوات‪ ،‬وتصبح القضايا العامة‬
‫التي هتم الناس هي كيف يعيشوا حياهتم الدنيوية ويتمتعوا هبا من التنافس‬
‫على المال والنظر إلى عورات النساء والمظاهر والتلهي هبموم الحياة‬
‫والطعام والشراب‪ ...‬إلخ‪ ،‬وتصبح المشاكل والهموم التي تشغل الناس‬
‫هما‪،‬‬
‫كلها أمور دنيوية وكأن اآلخرة ليست مشكلة وال يحمل أحد لها ً‬
‫وكأن الموت ليس بمشكلة‪ ،‬وكأنه ليس أحدً ا مهي ًبا يف السماء يهيمن على‬
‫كل شيء‪ ،‬وكأن الغيبيات ال تمثل أي مشكلة‪ ،‬وعندئذ يكون رأي اإلنسان‬
‫ومزاجه وهواه وما يشتهيه هو المقياس الذي تقوم عليه الحياة‪.‬‬

‫********‬

‫((( البلد‪.4 :‬‬

‫‪108‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل الثامن‬
‫التذكر (التفكري ال�سليم)‬

‫ـ التفكير السليم معناه أن يجعل االنسان تفكيره يف حقائق األمور‬


‫وليس يف ظاهرها ويقارن األمور ببعضها‪ ،‬أما التفكير الخاطئ فمعناه أنه‬
‫يبعد تفكيره عن األمور الهامة ويحصر تفكيره يف األمور التافهة وال يفكر‬
‫﴿و َقا ُلوا َل ْو ُكنَّا ن َْس َم ُع َأ ْو َن ْع ِق ُل‬
‫يف حقيقة األشياء فتكون النتيجة أنه يضل‪َ :‬‬
‫الس ِع ِير﴾(‪.)1‬‬ ‫َما ُكنَّا فِي َأ ْص َح ِ‬
‫اب َّ‬
‫ـ التفكير يف حقيقة األمور هو التذكر والتفكر وهو التفكير العميق يف‬
‫خطورة األمر بطريقة تثير حاسة االنتباه المخدرة لتعود وظيفة االنتباه‬
‫واليقظة لخطورة األمر‪.‬‬
‫ـ الهدف من التذكر هو عودة وظيفة االنتباه‪.‬‬
‫ـ وبالتالي فالتذكر هو الوسيلة التي تؤدي الى االنتقال من الغفلة‬
‫(الجهل بسبب عدم االنتباه) إلى المعرفة الحقيقية‪.‬‬
‫ـ والتذكر هو وسيلة لتحقيق الهداية‪ ،‬ألن الهداية هي التغير الذي‬
‫يحدث يف حياة االنسان نتيجة انتقاله من الغفلة الى االنتباه واليقظة‪.‬‬
‫ـ عندما تسأل عن سبب هداية بعض الناس فيكون الجواب أنه‬
‫تعرض لموقف ذكره بالموت أو اآلخرة كواقع هائل فأفاق من الغفلة‬
‫وانتبه وتغيرت حياته تماما بسبب ذلك الموقف‪ ،‬فهو انتقل من الجهل‬

‫((( الملك‪.10 :‬‬

‫‪109‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫باهلل واآلخرة الى معرفة اهلل واآلخرة‪ ،‬فمعرفة اهلل هي باب الهداية‪.‬‬
‫ـ فالسبب الذي يمنع اإلنسان من الهداية هو الجهل باهلل واآلخرة‪،‬‬
‫ومفتاح الهداية الذي به هتتدي وتكون من أهل الجنة هو معرفة اهلل‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫ـ لماذا ال يتعظ االنسان ولماذا ال تؤثر فيه المواعظ وهو كل يوم يرى‬
‫من مات ومن ابتلي وغير ذلك؟‪ ،‬فذلك بسبب هذا الجهل ولكن تكرار‬
‫التذكر من خالل المواعظ أو وجود موعظة لها أثر قوي على االنسان قد‬
‫تفك جهله وتنقله الى الهداية‪.‬‬
‫ـ سبب الغفلة هو عدم االنتباه‪ ،‬واالنتباه هو وظيفة طبيعية ولكنها تكون‬
‫نائمة أو مخدرة أو ميتة‪ ،‬لذلك فعالج الغفلة هو استعادهتا من خالل إثارة‬
‫حاسة االنتباه لخطورة ما يوقن به االنسان من خالل التذكر فيؤدي ذلك‬
‫يف لحظة ما أن يفيق من الغفلة ويصحو من الغيبوبة وينتبه لخطورة األمر‪.‬‬
‫ـ فهذه هي لحظة الهداية التي تكون سببا لهداية الكثير من الناس‪ ،‬فقد‬
‫يذكر لك أحد الناس أن سبب هدايته أنه تأثر بموت قريب له أو ابتالء ما‬
‫أو موقف ما أعاد له وظيفة االنتباه فأفاق من غفلته وعرف اهلل واآلخرة‬
‫معرفة حقيقية فتغيرت حياته بسبب ذلك‪.‬‬
‫ـ واستثارة حاسة االنتباه تتم باالستمرار يف التذكر والتفكر والتدبر يف‬
‫مدى خطورة وأهمية األمر حتى تعود هذه الحاسة وتتحقق‪.‬‬
‫ـ يقول شيخ اإلسالم ابن القيم‪﴿ :‬التفكر والتذكر أصل ا ْلهدى والفالح‬
‫الس َعا َدة َول ِ َه َذا وسعنا ا ْل َك َلم فِي التفكر فِي َه َذا ا ْل َو ْجه لعظم‬
‫وهما قطبا َّ‬
‫ا ْل َمنْ َف َعة َوشدَّ ة ا ْل َحاجة إليه‪َ ،‬ق َال ا ْلحسن‪َ :‬ما َز َال أهل ا ْلعلم يعودون بالتذكر‬
‫على التفكر وبالتفكر على الت ََّذكُّر ويناطقون ا ْل ُق ُلوب َحتَّى نطقت َفإِذا َل َها‬

‫‪110‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫﴿والت ََّذك ُُّر‬


‫أيضا‪َ :‬‬ ‫أسماع وأبصار﴾(‪ ،)1‬ويقول شيخ اإلسالم ابن القيم ً‬
‫الحس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان َأنْواع ا ْلمع ِ ِ‬ ‫وال َّت َف ُّكر من ِْز َل ِن ي ْث ِمر ِ‬
‫ان‪،‬‬ ‫ارف‪َ ،‬و َح َقائ َق اإليمان َو ْ ْ َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ف َل َي َز ُال َي ُعو ُد بِ َت َف ُّك ِر ِه َع َلى َت َذك ُِّر ِه‪َ ،‬وبِت ََذك ُِّر ِه َع َلى َت َف ُّك ِر ِه‪َ ،‬حتَّى‬ ‫ار ُ‬‫َوا ْل َع ِ‬
‫يم‪َ ،‬ق َال ا ْل َح َس ُن ا ْل َب ْص ِر ُّي‪َ :‬ما َز َال َأ ْه ُل‬ ‫ُي ْفت ََح ُق ْف ُل َق ْلبِ ِه بِإِ ْذ ِن ا ْل َف َّتاحِ ا ْل َعلِ ِ‬
‫ون بِالت ََّذك ُِّر َع َلى ال َّت َف ُّك ِر‪َ ،‬وبِال َّت َف ُّك ِر َع َلى الت ََّذك ُِّر‪َ ،‬و ُينَاطِ ُق َ‬
‫ون‬ ‫ا ْل ِع ْل ِم َي ُعو ُد َ‬
‫أيضا‪﴿ :‬فالفكر إِذا ُه َو المبدأ والمفتاح‬ ‫وب َحتَّى َن َط َق ْت﴾(‪ ،)2‬ويقول ً‬ ‫ا ْل ُق ُل َ‬
‫كلها َو َه َذا ي ْكشف َلك َعن فضل التفكر وشرفه وأنه من أفضل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ل ْل َخ ْي َرات َ‬
‫أعمال ا ْلقلب وانفعها َل ُه َحتَّى قيل تف ُّكر َسا َعة خير من ع َبا َدة سنة‪ ،‬فالفكر‬
‫ُه َو ا َّل ِذي ينْقل من موت الفطنة إلى َح َياة ا ْل َي َق َظة﴾(‪.)3‬‬
‫ـ الغرض من التذكر هو إثارة وتحفيز حاسة االنتباه على العمل مثل‬
‫إيقاظ النائم‪.‬‬
‫ـ إذا أخربت إنسانًا بأمر ما مؤثر ولم يتأثر به فهو عندئذ لم يعرف األمر‬
‫ألنه غافل لم ينتبه‪ ،‬وهو يحتاج ألن تكرر له األمر أي تذكره به حتى يعرفه‬
‫معرفة حقيقية فيخرج من الغفلة وينتبه‪ ،‬فالتذكير وسيلة إليجاد االنتباه‬
‫وبالتالي تحقيق المعرفة الحقيقية‪ ،‬ولكن ليس بالضرورة فقد تظل تذكر‬
‫إنسانًا باألمر فال ينتبه‪ ،‬أي ال يعرف األمر معرفة حقيقية‪.‬‬
‫ـ المعرفة النظرية باهلل موجودة عند جميع الناس‪ ،‬أما المعرفة الحقيقية‬
‫فهي التي تؤثر على مشاعر االنسان وحياته‪ ،‬وتتحقق المعرفة الحقيقية‬
‫من خالل التذكر‪ ،‬لذلك يقول شيخ اإلسالم البن القيم‪﴿ :‬معرفة اهلل‬
‫تعالى نوعان‪ ،‬النوع األول‪ :‬معرفة واقرار‪ ،‬وهي التي اشرتك فيها الناس‪،‬‬
‫الرب والفاجر‪ ،‬والمطيع والعاصي‪ ،‬النوع الثاين‪ :‬معرفة توجب الحياء منه‪،‬‬

‫((( مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة (‪- )213 /1‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫((( مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (‪.)440 /1‬‬
‫((( مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة (‪.)183 /1‬‬

‫‪111‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫والمحبة له‪ ،‬وتعلق القلب به‪ ،‬والشوق الى لقائه‪ ،‬وخشيته‪ ،‬واإلنابة إليه‪،‬‬
‫واألنس به‪ ،‬والفرار من الخلق إليه‪ .‬وهذه هي المعرفة الخاصة الجارية‬
‫على لسان القوم‪ ،‬وتفاوهتم فيما ال يحصيه اال الذي عرفهم بنفسه‪،‬‬
‫وكشف لقلوهبم من معرفته ما أخفاه عن سواهم‪ ... ،‬ولهذه المعرفة بابان‬
‫واسعان‪ :‬باب التف ّكر والتأ ّمل يف آيات القرآن كلها‪ ،‬والفهم الخاص عن‬
‫اهلل ورسوله ﷺ‪ .‬والباب الثاين‪ :‬التف ّكر يف آياته المشهودة‪ ،‬وتأمل حكمته‬
‫فيها‪ ،‬وقدرته ولطفه‪ ،‬واحسانه وعدله‪ ،‬وقيامه بالقسط على خلقه‪ .‬وجماع‬
‫وتفرده بذلك‪،‬‬‫ذلك‪ :‬الفقه يف معاين أسمائه الحسنى‪ ،‬وجاللها وكمالها‪ّ ،‬‬
‫وتع ّلقها بالخلق واألمر﴾(‪.)1‬‬
‫ـ �أنواع الغفلة من حيث قابلية العالج‪:‬‬
‫ـ الغفلة نوعني هما‪:‬‬
‫‪1‬ـ غفلة ميكن عالجها من خالل التذكر‪:‬‬
‫ـ الغفلة هي جهل سببه عدم االنتباه وليس عدم السماع أو الفهم لذلك‬
‫فالجاهل بسبب عدم االنتباه (الغافل) مهما أسمعته ومهما أفهمته فسيظل‬
‫جاهال ولكن إذا تكرر التذكير بغرض إثارة االنتباه فقد يفيق وتعود إليه‬
‫وظيفة االنتباه‪.‬‬
‫ـ والغفلة لها درجات متفاوتة فهناك من تذكره مرات كثيرة فال يتذكر‬
‫ولكن قد يتذكر يف مرة بعد كثير من التذكير فيفيق ويهتدي‪ ،‬وقد يهتدي‬
‫االنسان من أول شيء يمر عليه يذكره باهلل واآلخرة‪ ،‬والهداية من اهلل‬
‫تعالى‪.‬‬

‫((( كتاب الفوائد البن القيم‪( :‬ص‪.)186 :‬‬

‫‪112‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫‪ 2‬ـ غفلة ال ميكن عالجها من خالل التذكر‪:‬‬


‫ـ الغفلة يف المراحل األولى يمكن عالجها‪ ،‬لكن يف المراحل المتأخرة‬
‫مع االستمرار عليها تصبح الغفلة محكمة غير قابلة للعالج وتسمى عندئذ‬
‫بالطبع على القلب والختم والران والختم والغشاوة وغير ذلك ويصبح‬
‫الرجل ال يفقه عن اهلل وال عن اآلخرة مهما ذكرته وال يستجيب للعالج‪.‬‬
‫ـ فالطبع على القلب هو جهل بسبب موت وظيفة االنتباه وال يمكن‬
‫إيجاد هذه الوظيفة مرة أخرى‪ ،‬أي هو غفلة ال يمكن عالجها‪.‬‬
‫ـ فكثرة تذكيره باألمر ال يفيد‪ ،‬ومهما ذكرته ال يتذكر‪ ،‬وسبب هذا‬
‫الجهل هو موت وظيفة االنتباه‪ ،‬وهو عقاب ونتيجة لالستمرار يف الغفلة‬
‫التي يمكن عالجها وما ينشأ عنها من االستمرار يف المعاصي أو ما ينشأ‬
‫عنها من االستمرار يف الكفر‪.‬‬
‫ـ الطبع على القلب معناه أنك مهما حدثته عن اهلل واآلخرة ال يحدث‬
‫االنتباه واالنفعال بما تقول والدهشة والتعجب واالنبهار من غرابة‬
‫األمر وخطورته‪ ،‬وبالتالي ال تتأثر مشاعره حبا وخوفا ورجاءًَ وبالتالي ال‬
‫يخضع بقلبه وجوارحه‪ ،‬فإذا ذكَّره أحد باهلل واآلخرة ال يؤثر ذلك فيه وال‬
‫تؤثر فيه المواعظ فهو غير قادر على معرفة اهلل واآلخرة مهما أخربته عن‬
‫اهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ مفهوم التفكري ال�سليم (مفهوم التذكر)‪:‬‬
‫ـ الطبيعي أن يوجه اإلنسان التفكير والتصور للشيء الخطير‪ ،‬فإذا‬
‫شغل االنسان تفكيره يف الشيء التافه أو يف ظاهر األشياء ولم يشغل‬
‫تفكيره يف الشيء المهم فهو يحتاج إلعادة ضبط طريقة التفكير لكي‬
‫يستخدم عقله يف التذكر لحقائق األشياء‪.‬‬
‫ـ ما الشيء الذي يستحق أن تفكر فيه وينشغل به همك؟ هل الدنيا أم‬

‫‪113‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫اآلخرة؟ أيهما يستحق التفكير أكثر؟ العاقل يوجه تفكيره للشيء الخطير‬
‫وينشغل تفكيره وهمه به‪ ،‬والذي ال ينشغل تفكيره وهمه بأمر خطير هو ال‬
‫يعقل وهو يعطل عقله‪.‬‬
‫ـ هل يوجد شيء أخطر من اقرتاب الموت والسفر إلى اآلخرة ولقاء‬
‫اهلل؟ فهذا األمر ال يمكن أن يفارق ذهن إنسان عاقل أبدً ا‪ ،‬وكيف ينسى‬
‫اإلنسان اهلل وهو يعيش يف ملكه ويأكل من نعمه!‬
‫ـ على أي أساس يجب أن تكون القضايا التي يشغل االنسان هبا همه؟‪:‬‬
‫ـ هناك قضايا كثيرة تشغل هم الناس وتحرك مشاعرهم وجوارحهم‪،‬‬
‫وهذه األمور فيها تفاوت كبير جدا بين الناس‪ ،‬فمن هذه األمور المال‬
‫والسعي عليه ومنها التمتع بملذات الدنيا وشهوات النساء ومنها القيام‬
‫بواجبات الحياة يف التعليم ويف الزواج وتربية األوالد ويف العمل لكسب‬
‫لقمة العيش ومنها العمل على حل مشاكل تواجه االنسان كالفقر‬
‫والمرض والمشاكل العائلية ومنها قضية العالم اآلخر الذي يسافر إليه‬
‫الناس ( اآلخرة ) وقضية وجود الخالق فوقنا بقدرته العظيمة ووجوده‬
‫معناه بقدرته ورؤيته لنا وإرادته لما يحدث يف حياتنا من أمور وأمره بأن‬
‫نعيش حياتنا خاضعين له‪.‬‬
‫ـ هذه القضايا منها ما هو مهم ومنها ما هو أهم ومنها ما هو للتسلية‬
‫المباحة كمشاهدة مباريات الكرة ومنها ما فيه ضرر وعقاب يف اآلخرة‬
‫كالشهوات وسرقة المال والمعاصي مما ال يجب أصال أن يشغل هم‬
‫االنسان ويؤثر على حياته‪.‬‬
‫ـ يجب أوال التفريق بين القضايا المهمة والقضايا األهم ومعرفة مدى‬
‫الفارق يف األهمية بينهم‪ ،‬فمن القضايا المهمة عمارة األرض واتقان العمل‬
‫والتعليم وتربية األوالد والعيش يف سعادة وسالم‪ ،‬ولكن القضايا األهم‬

‫‪114‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫هي وجود الخالق ومراده منا واالنتقال الى اآلخرة حيث الحياة األبدية‪.‬‬
‫ـ والفارق بين هذين النوعين من القضايا كالفارق بين السماء واألرض‬
‫ألن كل القضايا التي على الكرة األرضية تزول بزوال الدنيا‪ ،‬لذلك فكال‬
‫النوعين من القضايا يجب أن يشغل الهم ولكن مع وجود الفارق‪ ،‬فيجب‬
‫أن يكون الفارق بين انشغال الهم بالقضايا األهم أكرب بكثير من انشغال‬
‫الهم بالقضايا المهمة تماما كالفارق بين السماء واالض‪ ،‬وكذلك الفارق‬
‫بين تأثيرها على المشاعر كالفارق بين السماء واالرض‪ ،‬ولكن بالنسبة‬
‫للعمل فقد يأخذ العمل بأمور الدنيا قدرا متفاوتا إلعداد الزاد الدنيوي‬
‫الذي يأخذه المسافر أثناء سفره من طعام وشراب ولكن تظل الدنيا يف‬
‫يده وليست يف قلبه ومشاعره وهمومه وأهدافه‪.‬‬
‫ـ لذلك فالذين ينادون بالتقدم العلمي والتكنولوجي والعمل من أجل‬
‫سعادة البشر يف الدنيا هم على حق وذلك من أعظم األمور ولكن مع‬
‫األخذ يف االعتبار بين األهم والمهم‪ ،‬فاألهم هو االنشغال بمعرفة الخالق‬
‫واآلخرة وما يتعلق باآلخرة ثم يأيت بعد ذلك أمور الدنيا ويكون الفارق‬
‫بينهما كالفارق بين السماء واألرض مع التفاوت يف عمل الجوارح‪.‬‬
‫ـ فإذا كان همك منشغل بإتقان أمور الدنيا فأنت على حق وذلك شيء‬
‫جميل جدا ولكن أين انشغال همك باآلخرة وهل انشغال همك هبا أكرب‬
‫بكثير من أمور الدنيا أم ال؟‬
‫ـ فاإلنسان الذي يسافر إلى مكان مجهول ال يعرفه‪ ،‬وهناك يتم عرضه‬
‫على محكمة تحكم عليه إما بالخلود يف العذاب أو النعيم‪ ،‬فهو خائف‬
‫من هول األمر الذي هو مقبل عليه ألنه يتوقف عليه مصيره وحياته كلها‪،‬‬
‫ولكن هناك مخاوف أخرى مؤقتة بسيطة أثناء سفره إلى هذه المحكمة‬
‫وهي هل يجد اسرتاحات قريبة يسرتيح فيها أم ال؟‪ ،‬وهل ينفد ما عنده‬
‫من ماء؟‪ ،‬وهل يجد مكانًا قري ًبا فيه ماء؟‪ ،‬وهل يوجد شيء يعرضه لألذى‬

‫‪115‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أثناء سفره؟‪ ،‬كل هذه مخاوف يحمل لها هما ولكنها ليست بشيء أمام‬
‫الخوف األكرب الذي يسيطر عليه وهو ماذا يجد وماذا يكون مصيره عندما‬
‫يصل إلى ذلك المكان الرهيب؟!‪.‬‬
‫ـ فكذلك الدنيا هناك بعض األمور التي يخاف منها اإلنسان والتي قد‬
‫تعرضه لألذى لكنها مخاوف مؤقتة عابرة وخوفه األكرب من يوم القيامة‬
‫والحساب ومن لقاء اهلل تعالى وهو خوف دائم ال يفارقه‪.‬‬
‫ـ فال يمكن لعاقل أال ينشغل ذهنه بأخطر شيء ينتظره وينشغل‬
‫بتفاهات تزول سريعا‪ ،‬لكننا نتناسى لقاء اهلل واآلخرة وننشغل بغير ذلك‪،‬‬
‫والعاقل يفكر يف الشيء الخطير وينشغل عن التافه‪ ،‬ولكن إذا حدث خلل‬
‫يف تفكير اإلنسان فأصبح يفكر يف التافه وينشغل عن األمر الخطير أصبح‬
‫يف عقله وتفكيره خلل‪.‬‬
‫ـ الهدف من خلق ال�سمع والب�صر والعقل هو ا�ستعمالها للتذكر وبالتايل‬
‫معرفة اهلل تعاىل‪:‬‬
‫ـ السمع والبصر والعقل هي وسائل يستخدمها اإلنسان من أجل‬
‫التذكر لحقيقة األشياء‪ ،‬فإذا منع اإلنسان نفسه من التذكر والتفكر يف األمر‬
‫فقد أضاع الفائدة من السمع والبصر والعقل‪.‬‬
‫وأبصارا َو َأ ْفئِدَ ةً﴾‬
‫ً‬ ‫﴿و َج َع ْلنَا َل ُه ْم َس ْم ًعا‬
‫ـ ففي تفسير أبي السعود‪َ :‬‬
‫يطت ِبه معرفتُه من فنونِ‬ ‫ِ‬
‫بكل منَها ما ن ْ‬ ‫لقت ل ُه ويعر ُفوا َ‬
‫فيما ُخ ْ‬ ‫ليستعم ُل َ‬
‫وها َ‬
‫كره(‪.)1‬‬ ‫وجل ويداو ُموا على ُش ِ‬ ‫عز َّ‬ ‫منعمها َّ‬ ‫شؤون ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النعم ويستد ُّلوا هبا على‬
‫ـ ويف صفوة التفاسير‪﴿ :‬وهو الذي أنشأ لكم السمع واألبصار‬
‫واألفئدة﴾ أي خلق لكم هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا‪ ،‬وفيه‬
‫توبيخ للمشركين حيث لم يصرفوا النعم يف مصارفها‪ ،‬ألن السمع خلق‬

‫((( تفسير أبي السعود دار إحياء الرتاث العربي ‪ -‬بيروت (‪.)144 / 6‬‬

‫‪116‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ليسمع به اإلنسان ما يرشده‪ ،‬والبصر ليشاهد به اآليات الكونية يف اآلفاق‪،‬‬


‫والعقل ليتأمل به يف مصنوعات اهلل وباهر قدرته‪ ،‬فمن لم يصرف تلك‬
‫فاقدها‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬فما أغنى عنهم‬ ‫النعم يف مصارفها‪ ،‬فهو بمنزلة ِ‬
‫سمعهم وال أبصارهم وال أفئدهتم من شيء﴾(‪.)1‬‬
‫صارا َو َأ ْفئِدَ ةً﴾ يعني‬ ‫﴿و َج َع ْلنا َل ُه ْم َس ْم ًعا َو َأ ْب ً‬‫ـ ويف تفسير الخازن‪َ :‬‬
‫إنا أعطيناهم هذه الحواس ليستعملوها فيما ينفعهم يف أمر الدين فما‬
‫استعملوها إال يف طلب الدنيا ولذاهتا فال جرم َفما َأ ْغنى َعن ُْه ْم َس ْم ُع ُه ْم‬
‫صار ُه ْم َوال َأ ْفئِدَ ُت ُه ْم مِ ْن َش ْي ٍء﴾(‪.)2‬‬
‫َوال َأ ْب ُ‬
‫﴿و َج َع ْلنَا َل ُه ْم َس ْم ًعا َو َأ ْب َص ًارا َو َأ ْفئِدَ ة﴾ والمعنى‬
‫ـ ويف تفسير الرازي‪َ :‬‬
‫أنا فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سم ًعا فما استعملوه يف سماع‬
‫الدالئل وأعطيناهم أبصار ًا فما استعملوها يف تأمل العرب وأعطيناهم أفئدة‬
‫فما استعملوها يف طلب معرفة اهلل تعالى بل صرفوا كل هذه القوى إلى‬
‫طلب الدنيا ولذاهتا فال جرم ما أغنى سمعهم وال أبصارهم وال أفئدهتم‬
‫من عذاب اهلل شي ًئا﴾(‪.)3‬‬
‫ـ طرق التذكر (طرق التفكري ال�سليم)‪:‬‬
‫ـ التذكر البد أن يكون بطريقة معينة تثير حاسة االنتباه‪ ،‬فهناك ستة‬
‫طرق إلثارة حاسة االنتباه وهي‪:‬‬
‫‪1‬ـ املقارنة وتكرار ذلك‪:‬‬
‫فمثل‪ :‬هل ألف جنيه هو‬‫ـ قيمة الشيء تعرف من خالل مقارنته بغيره ً‬
‫مبلغ كبير أم صغير؟ بدون المقارنة بشيء ال نعرف‪ ،‬بالمقارنة بالمليون‬
‫جنيه فهو تافه‪ ،‬وبالمقارنة بالجنيه فهو عظيم القيمة‪.‬‬

‫((( صفوة التفاسير ‪-‬دار الصابوين‪ -‬القاهرة (‪.)239 / 2‬‬


‫((( تفسير الخازن ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (‪.)134 / 4‬‬
‫((( تفسير الرازي‪ :‬مفاتيح الغيب ‪-‬دار إحياء الرتاث العربي‪ -‬بيروت (‪.)25 / 28‬‬

‫‪117‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ قيمة الشيء تعرف بالمقارنة بشيء آخر‪ ،‬فوجود اآلخرة جعل الدنيا‬
‫شيء تافه ال قيمة له‪ ،‬وإذا لم يكن هناك رب وال آخرة لكانت الدنيا عظيمة‬
‫جدً ا؛ ألنه ليس أمام اإلنسان شيء غيرها‪.‬‬
‫ـ فإذا انتبه اإلنسان ً‬
‫أول إلى حقيقة اآلخرة رأى الدنيا على حقيقتها‬
‫وبالتالي لم يحدث له انفعال ذهني أو تعجب أو دهشة أو انبهار أو رهبة‬
‫أو مهابة أو استغراب أو تحير أو انزعاج أو ذهول أو هتيب أو إعجاب‬
‫بقيمة المال أو الشهوات أو المناصب أو أي أمر من أمور الدنيا‪ ،‬وينظر‬
‫إلى المال والشهوات والدنيا نظرة احتقار وليس نظرة تعظيم‪.‬‬
‫ـ فالبد من المقارنة بين قوة اهلل وقوة اإلنسان‪ ،‬ورؤية اهلل ورؤية اإلنسان‬
‫وقدرة السمع عند اهلل وقدرة السمع عند اإلنسان وبين األمر الطبيعي‬
‫واألمر الخارق لألسباب‪ ،‬وبين قيمة الدنيا وقيمة اآلخرة‪ ،‬والمقارنة بين‬
‫صحة اإلنسان يف الدنيا وصحته يف الجنة‪ ،‬وقصر عمره يف الدنيا أمام طول‬
‫عمره يف اآلخرة‪ ،‬والمقارنة بين الشهوات والعقاب عليها‪ ،‬وهكذا حتى‬
‫يفيق اإلنسان من الغيبوبة وينتبه من غفلته إلى أن قدرة اهلل وهول اآلخرة‬
‫خطر واقع رهيب‪ ،‬وعندئذ تتحقق المعرفة باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الت�صور والو�صف للآخرة ك�أنك تراها وكذلك قدرة اهلل ولي�س‬
‫ذاته وتكرار ذلك‪:‬‬
‫ـ ال يمكن تصور صفات الذات للخالق سبحانه؛ ألنه سبحانه ليس‬
‫كمثله شيء‪ ،‬ولكننا نستطيع أن نتصور الصفات المعنوية كالقدرة والعلم‪،‬‬
‫فالذي يتصور مدى قدرة اهلل ومدى علمه فال يمكن أن يفارق ذهنه صورة‬
‫هذه القدرة المذهلة وهذا العلم الهائل‪ ،‬فنتصور مدى قدرة اهلل على‬
‫السمع‪ ،‬فسبحانه له القدرة على أن يسمع كل الكائنات وكل المخلوقات‬
‫يف آن واحد‪ ،‬وكذلك نتصور مدى قدرة اهلل على رؤية كل شيء حتى الذي‬
‫يف الظلمات والذي يف الجحور والذي يف السماء والذي يف األرض ويرى‬

‫‪118‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫كل ما تعمله المخلوقات يف آن واحد‪ ،‬ونتصور مدى قدرة اهلل على العلم‬
‫بكل شيء حتى الذي سوف يحدث يف المستقبل هو يعلمه ومدى علمه‬
‫سبحانه وحكمته يف تدبير أمور جميع المخلوقات وما يحدث داخل‬
‫الذرات ويف المجرات بدقة متناهية كاملة بالغة سبحانه‪ ،‬ونستطيع أن‬
‫نتصور مدى قوة اهلل إذا قورنت بقوة المخلوقات فهو يستطيع أن يبيد‬
‫البشرية والكون وينشئهم من جديد‪.‬‬
‫ـ وكذلك تصور اآلخرة وما يحدث فيها وتشبيه ما فيها بما يف الدنيا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التخيل ك�أنك يف الآخرة وتكرار ذلك‪:‬‬
‫ـ تخيل أنك تقف اآلن على أرض المحشر يف اآلخرة أو أنك اآلن‬
‫داخل جنة اآلخرة أو أنك اآلن داخل نار اآلخرة‪ ،‬أنت اآلن فقط تعرف‬
‫قيمة الدنيا وأهنا بكل ما فيها من لذات وآالم لم تكن سوى لعب ولهو‪،‬‬
‫وأنت اآلن تدرك أن الناس الذين يعيشون يف الدنيا يف غفلة تامة عن اآلخرة‬
‫وأن اآلخرة خطر هائل جدً ا فوق كل تصورات الناس‪ ،‬وأنت تدرك اآلن‬
‫أن األمور معكوسة تما ًما فكل تفكير الناس ومشاعرهم وأعمالهم هي يف‬
‫أمور الدنيا وأنت تقول‪ :‬أهؤالء أغبياء ال عقل لهم!‬
‫ـ اإلنسان العاقل هو الذي ال يحتاج إلى أن يذهب لآلخرة لكي يعرف‬
‫مدى هذا الخطر ويشعر به ولكي يشعر بأن الدنيا ما كانت إال لعب ولهو‪،‬‬
‫وإنما هو يستطيع أن يدرك ذلك بأن يتصور خطورة األمر وهو ما زال يف‬
‫الدنيا وهذا هو العاقل‪.‬‬
‫ـ فلو أن إنسانًا ُغمس يف النار غمسة واحدة ثم عاد إلى الدنيا فكل آالم‬
‫الدنيا ومشاكلها يف نظره لهو ولعب وال قيمة لها‪ ،‬ولو أن إنسانًا ُغمس يف‬
‫الجنة غمسة واحدة ثم عاد إلى الدنيا فكل متع الدنيا ولذاهتا يف نظره لهو‬
‫ولعب وال قيمة لها‪ ،‬ولو إن إنسانًا عاد من اآلخرة إلى الدنيا فسوف ينظر‬

‫‪119‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫إلى السنوات الطويلة التي يقضيها يف الدنيا على أهنا ثواين معدودة ال قيمة‬
‫ض‬ ‫لها وأنه باقي على قيام اآلخرة ثواين معدودة‪َ ﴿ :‬ق َال ك َْم َلبِ ْثت ُْم فِي ْالَ ْر ِ‬
‫اس َأ ِل ا ْل َعا ِّدي َن (‪َ )113‬ق َال‬ ‫ِ ِ‬
‫عَدَ َد سني َن (‪َ )112‬قا ُلوا َلبِ ْثنَا َي ْو ًما أو َب ْع َض َي ْو ٍم َف ْ‬
‫ون﴾(‪ ،)1‬ويف الحديث‪ُ ﴿ :‬ي ْؤ َتى َي ْو َم‬ ‫إِ ْن َلبِ ْثت ُْم إال ً‬
‫قليل َل ْو َأ َّن ُك ْم ُكنْت ُْم َت ْع َل ُم َ‬
‫َّار َغ ْم َسةً‪َ ،‬ف ُي ْغ َم ُس‬ ‫ار َف ُي َق ُال ا ْغ ِم ُسو ُه يف الن ِ‬‫ا ْل ِق َيا َم ِة بِ َأ ْن َع ِم َأ ْه ِل الدُّ ْن َيا مِ َن ا ْل ُك َّف ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم‬ ‫ال َما َأ َصا َبني نَع ٌ‬ ‫ول َ‬ ‫يم َق ُّط‪َ ،‬ف َي ُق ُ‬‫ف َيها ُث َّم ُي َق ُال َل ُه أي ُفالن َه ْل َأ َصا َب َك نَع ٌ‬
‫ضرا َو َبالَ ًء‪َ ،‬ف ُي َق ُال ا ْغ ِم ُسو ُه َغ ْم َس ًة يف ا ْل َجن َِّة‪،‬‬ ‫ِِ‬
‫َق ُّط‪َ ،‬و ُي ْؤ َتى بِ َأ َشدِّ ا ْل ُم ْؤمني َن ً‬
‫ول َما‬ ‫َف ُي ْغ َم ُس فِ َيها َغ ْم َس ًة َف ُي َق ُال َل ُه أي ُفالن َه ْل َأ َصا َب َك ُض ٌّر َق ُّط أو َبالَ ٌء َف َي ُق ُ‬
‫ال َبالَ ٌء﴾(‪.)2‬‬ ‫َأ َصا َبنِي َق ُّط ُض ٌّر َو َ‬
‫‪ 4‬ـ ت�صور الأمر ك�أنه ي�سمع عنه لأول مرة‪:‬‬
‫ـ يتصور األمر كأنه يسمع عنه أول مرة‪ ،‬ويكرر تصوره لألمر‪ ،‬ويف كل‬
‫مرة يتصور األمر كأنه يسمع عنه ألول مرة‪.‬‬
‫ـ أخطر مشكلة هي التعود على األمر‪ ،‬فكل يوم ينظر اإلنسان إلى‬
‫السماء ويرى الشمس وال مشكلة يف ذلك‪ ،‬والحل هو أنه ينظر إلى السماء‬
‫كأنه يراها ألول مرة‪ ،‬وينظر إلى الشمس كأنه يراها ألول مرة وكأنه ألول‬
‫مرة يسمع عن كلمة غريبة اسمها (الشمس) ً‬
‫مثل‪.‬‬
‫ـ االعتياد على سماع أهوال القيامة لن يغير من حقيقة األهوال القادمة‬
‫شيء‪.‬‬
‫كثيرا يف حياهتم هي أن لهم خال ًقا‬
‫ـ أكثر المعلومات التي يسمعها الناس ً‬
‫وأن هناك آخرة‪ ،‬ولكن هذا األمر أصبح عند البعض تعود ومعلومات‬
‫روتينية باهتة‪ ،‬فالبد أن يتصور اإلنسان معنى الخالق ومعنى اآلخرة كأنه‬

‫((( المؤمنون‪.114 – 112 :‬‬


‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن ابن ماجه ج‪ ،2:‬ص‪ ،1445 :‬برقم‪.)4321 :‬‬

‫‪120‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫يسمع عن ذلك ألول مرة‪.‬‬


‫فمثل البد أن يتعامل اإلنسان مع النوم والموت كأنه يسمع عن‬ ‫ـ ً‬
‫مدهشا يلفت النظر ويستوجب‬ ‫ً‬ ‫ذلك األمر ألول مرة‪ ،‬فيجد األمر عجي ًبا‬
‫انشغال البال‪ ،‬وكلما أراد أن ينام كأنه يسمع عن النوم ألول مرة فيتساءل‬
‫ماذا يعني النوم؟ إنه سلب للسمع والبصر والكالم والحركة‪ ،‬فمن الذي‬
‫رغما عن اإلنسان ويجربه على النوم مرات ومرات‪،‬‬ ‫يسلب هذه الصفات ً‬
‫فهو دليل على قدرة هائلة مهيمنة على اإلنسان ودليل على ضعف‬
‫اإلنسان‪ ،‬وكذلك كلما قام من نومه يتساءل من أين عادت هذه الصفات‬
‫إليه؟‪ ،‬لكن تعودنا أن ننام ونصحوا وتعودنا أن نسمع كل يوم‪ :‬مات فالن‪،‬‬
‫﴿اهَّلل َيت ََو َّفى ْالَ ْن ُف َس ِحي َن َم ْوتِ َها َوا َّلتِي‬
‫ُ‬ ‫ولم نتخيل اليوم الذي نموت فيه‪:‬‬
‫َل ْم َت ُم ْت فِي َمنَامِ َها َف ُي ْم ِس ُك ا َّلتِي َق َضى َع َل ْي َها ا ْل َم ْو َت َو ُي ْرس ُل ْالُ ْخ َرى‬
‫ِ‬
‫ون﴾(‪ ،)1‬ويف الحديث‪:‬‬ ‫ات ل ِ َق ْو ٍم َي َت َف َّك ُر َ‬
‫إِ َلى َأج ٍل مسمى إِ َّن فِي َذل ِ َك َلي ٍ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ ًّ‬
‫﴿النوم أخو الموت وال ينام أهل الجنة﴾(‪.)2‬‬
‫ـ عندما يأكل اإلنسان برتقالة ً‬
‫مثل البد أن ينظر إليها كأنه يراها ألول‬
‫مرة‪ ،‬ويتساءل من أين أتت؟ ويف أي مصنع أو شركة تم تصنيعها؟ ولماذا‬
‫صنعت هبذا الشكل؟‪ ،‬واإلجابة أنه ال أحد من البشر يستطيع صنعها وإنما‬
‫خرجت من الطين لتكون طعا ًما مناس ًبا ومعدً ا لإلنسان ومحفو ًظا بطريقة‬
‫معينة بحيث ال تفسد‪ ،‬فالبد من قوة خفية لها قدرة هائلة وخربة هائلة‬
‫وبراعة على صناعة هذه الربتقالة والبد أن الذي صنعها يحب اإلنسان‬
‫شاكرا ممتنًا لمن أعطاه هذه‬
‫ً‬ ‫ويرسل له ما يفيده‪ ،‬فعندئذ يكون اإلنسان‬
‫الربتقالة وكل هذه النعم‪ ،‬وكلما أكل برتقالة ال تغيب هذه الصورة عن‬
‫عينه‪ ،‬فعندئذ قد تصور اإلنسان معنى كلمة (برتقالة)‪.‬‬

‫((( الزمر‪.42 :‬‬


‫((( التخريج‪ :‬صحيح‪( :‬السلسلة الصحيحة ج‪ ،3 :‬ص‪ 74 :‬برقم‪.)1087 :‬‬

‫‪121‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ كذلك يتعامل مع قضية البعث كأنه يسمع عنها ألول مرة فيتعجب‬
‫من األمر ومن غرابته ثم يدرك هذه الحقيقة المذهلة‪.‬‬
‫ـ والعاقل هو الذي يرى األمر كأنه أول مرة ولو تكرر مئات المرات‬
‫ألن التعود يجعل اإلنسان ال يتصور األمر‪.‬‬
‫ـ كل إنسان يعلم أن اهلل يسمعه ويراه وال يتأثر بذلك‪ ،‬ولكن عندما‬
‫تتصور أنه ألول مرة تعلم أن هناك أحدا ال تراه له القدرة على أن يراك‬
‫ويسمعك يف أي مكان وطوال الليل والنهار‪ ،‬فال تستطيع أن تتحرك إال‬
‫وأنت مكشوف ومراقب‪ ،‬فهذا يجعل اإلنسان يف ذهول وال يغيب ذلك‬
‫عن ذهنه أبدا ألنه كلما عمل عمال فهناك أحدا رآه‪.‬‬
‫‪5‬ـ ت�صور �أ�صل الق�ضية‪:‬‬
‫ـ أصل القضية هي أهم شيء فيها‪ ،‬فإذا تناسى اإلنسان األصل أصبحت‬
‫القضية بال معنى وال قيمة‪ ،‬فالعاقل يفكر يف أصل القضية وحقيقتها وليس‬
‫يف تفاصيلها متناس ًيا أصل القضية‪.‬‬
‫ـ تصور أصل القضية معناه أن يستمر يف السؤال لماذا؟ وما حقيقة‬
‫األمر؟ فاإلنسان يأكل ويعيش وال يسأل لماذا يأكل ولماذا يعيش؟‪ ،‬وهدفه‬
‫كذا وكذا وال يسأل ماذا بعد تحقيق أهدافه؟ فهي أهداف وراءها أهداف‪،‬‬
‫فالبد أن يستمر السؤال‪ :‬وماذا بعد؟ اإلجابة أنه بعد كل هذا يموت وتأيت‬
‫القيامة وكل ما حققه من أهداف دنيوية تفنى ويأيت الحساب عليها‪ ،‬فمن‬
‫يتصور ذلك لن يعيش من أجل أهداف دنيوية وسوف يكون هدفه شي ًئا‬
‫واحدً ا هو اإلعداد ليوم موته وما بعده من حياة‪.‬‬
‫ـ إذا وصل إلى علم اإلنسان بأن هناك شيء غامض أو لغز أو مشكلة أو‬
‫أمر خطير ومهم‪ ،‬فذلك يجعل اإلنسان يفكر ما هو هذا الشيء وماذا أصنع؟‬
‫ـ وجود هذا الكون الهائل هو لغز يدعو اإلنسان لمعرفة سر وجوده‪،‬‬

‫‪122‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫والموت لغز يدعو اإلنسان لمعرفة ما هو وماذا بعده؟‪ ،‬ووجود اإلنسان‬


‫لغز يدعو اإلنسان لمعرفة سر وجوده والهدف من وجوده‪.‬‬
‫ـ فذلك يدعو اإلنسان لمعرفة حقائق األشياء من حوله كيف وجدت‬
‫ولماذا وجدت ومن أوجدها ومن الذي أوجد اإلنسان وما الهدف من‬
‫ذلك؟ وماذا عليه أن يفعل؟ ولماذا يعيش وما الهدف من حياته؟ وليس‬
‫المطلوب المعرفة النظرية على هذه األسئلة فهي معروفة ولكن يستشعر‬
‫خطورة هذه المعرفة وما تدل عليه‪.‬‬
‫ـ والجاهل ال يفكر إال يف قيمة المال يف الدنيا وال يفكر يف ضآلة المدة‬
‫التي ينتفع هبا بالمال وزواله سري ًعا وعدم نفعه يف اآلخرة وأن ما يزيد عن‬
‫طعام يسد جوفه وملبس يسرته ومكان ينام فيه ال يحتاج إليه‪ ،‬فالسعادة‬
‫المادية يف الدنيا ضئيلة وتتحقق بثالثة أشياء هي ما جاء يف الحديث ‪:‬‬
‫﴿من أصبح منكم آمنا يف سربه معاىف يف جسده عنده قوت يومه فكأنما‬
‫حيزت له الدنيا بحذافيرها ﴾(‪ ، )1‬فاإلنسان ال يحتاج من الدنيا سوى‬
‫إلى ثالثة أمور هي ‪ :‬مكان ينام فيه و لقمة يأكلها وأن يكون غير مصاب‬
‫باألمراض التي تعيقه عن أن يعيش سويا ‪ ،‬ويف الحديث ‪﴿ :‬إنما يكفي‬
‫أحدكم ما كان يف الدنيا مثل زاد الراكب﴾(‪ ،)2‬وعن لقمان بن عامر أن أبا‬
‫الدرداء قال‪﴿ :‬أهل األموال يأكلون ونأكل‪ ،‬ويشربون ونشرب‪ ،‬ويلبسون‬
‫ونلبس‪ ،‬ويركبون ونركب‪ ،‬لهم فضول أموال ينظرون إليها(‪ )3‬وننظر‬
‫إليها معهم عليهم حساهبا ونحن منها براء﴾(‪ ،)4‬كما أن المتعة بين النساء‬
‫متشاهبة ففي الحديث‪﴿ :‬إن المرأة إذا أقبلت أقبلت يف صورة شيطان فإذا‬

‫تحقيق األلباين‪ :‬حسن (انظر حديث رقم‪ 6042 :‬يف صحيح الجامع)‬ ‫(((‬
‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 2384 :‬يف صحيح الجامع)‬
‫((( يريد أنهم ال ينتفعون بها وإنما يقتصرون على النظر إليها‪ ،‬وليس يف النظر نفع على الحقيقة‪.‬‬
‫((( الزهد والرقائق البن المبارك ـ دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت (ج‪ ،1 :‬ص‪)210 :‬‬

‫‪123‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن الذي معها مثل الذي معها﴾‬
‫ٍ‬
‫متساو بين النساء ك ِّلهن لذلك فالعاقل‬ ‫(‪ ، )1‬إذن فمحل الوطء واإلصابة‬
‫ال ينخدع بظاهر المرأة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ت�صور عجز الأ�سباب عن تف�سري الأمر‪:‬‬
‫ـ أهم شيء يمنع اإلنسان من معرفة اهلل هو أن يحصر تفكيره يف حدود‬
‫األسباب فقط‪.‬‬
‫ـ سبب عدم االتعاظ من االبتالءات هو تصور أن الفاعل لالبتالءات‬
‫مثل وينسى من‬ ‫هي األسباب‪ ،‬فالمرض بسبب الفيروس وحرارة الجو ً‬
‫ومريضا‪،‬‬
‫ً‬ ‫الذي صنع الفيروس وجعله يقدر على اإلنسان ويجعله ضعي ًفا‬
‫ويحسب أن سبب تعرض السفينة لالنقالب هو الريح واألمواج وينسى‬
‫من الذي يسير الريح‪ ،‬ويتصور أن الزمن هو الفاعل للشيخوخة‪.‬‬
‫ـ األسباب عبارة عن قوانين تسير هبا األشياء فمن الذي وضع هذه‬
‫القوانين؟ اهلل هو الذي خلق القانون الذي يسير به الكون‪ ،‬ففي تفسير‬
‫الشعراوي‪﴿ :‬فال تظن أن الكون قائم على قانون ُيديره‪ ،‬بل على القيومية‬
‫القائمة على كل أمر من أمور الكون﴾(‪ ،)2‬فاإلنسان إما أن يؤمن باهلل الذي‬
‫يخرق األسباب وإما أن يؤمن باألسباب فيكون ماد ًيا‪ ،‬فإما أن يعبد اهلل‬
‫وإما أن يعبد األسباب‪ ،‬فاألسباب هي قوانين مخلوقة ال تنفع وال تضر‪،‬‬
‫وهذه القوانين عند البشر فقط وليست عند اهلل‪ ،‬والبشر ال يستطيعون‬
‫إلغاء األسباب ولكن اهلل يستطيع أن يلغي األسباب ألنه هو الذي خلقها‬
‫ووضعها‪.‬‬
‫ـ ً‬
‫فمثل قانون الجاذبية هو الذي يجعل الشيء الذي يسقط من يدك‬

‫(((‬
‫تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 1939 :‬يف صحيح الجامع)‬
‫((( تفسير الشعراوي ـ مطابع أخبار اليوم (ج‪ ،1 :‬ص‪.)5585 :‬‬

‫‪124‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫يقع على األرض‪ ،‬فهذا القانون مخلوق يلزمك أنت ولكن ال يلزم اهلل‪،‬‬
‫فاهلل إذا أراد أال يقع على األرض ما يسقط من يدك لفعل‪ ،‬كما أن قانون‬
‫الجاذبية ال يستطيع أن يفعل شيء فليس هو الفاعل الحقيقي‪ ،‬ولكن‬
‫الفاعل هو اهلل سبحانه‪ ،‬فإذا سقط شيء من يدك فوقع على األرض فنقول‬
‫مجازا‪ ،‬لكن يف الحقيقة اهلل هو الذي أوقع‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫أن سبب ذلك قانون الجاذبية‬
‫ما سقط من يدك على األرض؛ ألن اهلل هو الذي صمم هذا القانون‪.‬‬
‫ـ وكذلك فالدواء ال يشفي والشايف هو اهلل‪ ،‬واهلل هو الذي جعل الدواء‬
‫يؤدي إلى الشفاء؛ ألنه هو الذي خلق القانون الذي به يستطيع الدواء‬
‫أن يؤدي إلى الشفاء‪ ،‬أي أن اهلل هو الذي خلق الخواص المعينة التي يف‬
‫الدواء والخواص المعينة الموجودة يف الجسم بحيث إذا وضع الدواء‬
‫نتج الشفاء‪ ،‬واإلنسان فقط يكتشف ويعرف ما هو موجود فيستفيد من‬
‫خواصه وليس يخرتع ويبتكر الخواص التي تؤدي إلى الشفاء‪ ،‬وقد يريد‬
‫اهلل للمريض أن يشفى بغير دواء وال أسباب‪ ،‬وقد يبقيه على مرضه وإن‬
‫أخذ بكل األسباب‪ ،‬واإلنسان مطالب بأن يأخذ باألسباب فقط ألن اهلل‬
‫أمره بذلك؛ ألن عدم األخذ باألسباب معصية‪.‬‬
‫ـ وقد يوقف اإلنسان تصوره عند الحدود المادية فقط‪ ،‬فهو يتصور‬
‫ما يحدث داخل النبات من أسباب‪ ،‬وعندما يسأل عن السبب يجد له‬
‫سبب آخر‪ ،‬وعندما يصل إلى كيفية اختيار النبات لعناصر معينة يحتاجها‬
‫من الرتبة وبدقة متناهية لتكوين مادة الربتقالة مثال (وتسمى بالنفاذية‬
‫االختيارية) ال يجد لذلك سب ًبا ويعلم أن هناك قوة خفية هي التي تصنع‬
‫ذلك لكنه ال يتصور ذلك األمر وال يلفت انتباهه إليه وال يشغل همه به‬
‫رغم أنه يرى الربتقالة ويمسكها بيده ويأكلها!‬
‫ـ عندما تتفكر يف أي أمر ينبغي عدم التوقف عند الحدود المادية‬
‫لألسباب‪ ،‬فعندما تتفكر يف أي أمر تجد له مربرات علمية لحدوثه‪،‬‬

‫‪125‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫فتبحث عن سبب هذه المربرات فتجد لها مربرات أخرى وهكذا‪ ،‬وعليك‬
‫أن تستمر يف هذا حتى يعجز العلم المادي ويقول هذه ال أجد لها مربرات‬
‫فتعرف أن هناك قوة خفية خارجية خارقة لألسباب هي التي أحدثت ذلك‬
‫األمر‪ ،‬وعندئذ تشعر أن هناك قوة قاهرة هتيمن على كل شيء وتسيطر على‬
‫كل شيء سيطرة كاملة وهيمنة كاملة وعلى الجميع االستسالم والخضوع‬
‫الكامل للخالق‪ُ ﴿ :‬ثم ار ِج ِع ا ْلبصر كَر َتي ِن ينْ َقلِب إِ َلي َك ا ْلبصر َخ ِ‬
‫اس ًئا َو ُه َو‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َ َ َّ ْ َ ْ ْ‬ ‫َّ ْ‬
‫َح ِس ٌير﴾(‪ ،)1‬أما التوقف عند الحدود المادية لألسباب يجعل اإلنسان‬
‫يشعر أن األسباب هي التي أوجدت وصنعت وخلقت هذه األمور‪ ،‬وإن‬
‫كان مقتن ًعا أن الخالق هو الذي أوجدها‪ ،‬فيعيش بمشاعره يف دنيا األسباب‪،‬‬
‫فينبغي أن تكون نظرة اإلنسان إلى كل شيء على هذا النحو‪.‬‬
‫ـ فالمشكلة أننا ال نرتك أنفسنا نصل إلى عجز العلم عن تفسير األمر‬
‫وال نتفكر يف هذه النقطة لكن تفكيرنا يتوقف عند حدود األسباب العلمية‪.‬‬
‫فمثل األشياء المصنوعة جاءت من خامات‪ ،‬وهذه الخامات من‬ ‫ـ ً‬
‫خامات أخرى‪ ،‬فالبد أن هناك خامات أو أشياء بدأت من العدم‪ ،‬وهذا ال‬
‫يقدر عليه غير الخالق سبحانه‪ ،‬فاإلنسان ال يستطيع إيجاد نفسه‪ ،‬واألشياء‬
‫ال تستطيع إيجاد نفسها‪.‬‬
‫ـ عجز علم اإلنسان عن تفسير وفهم األمور يدل على وجود قوة‬
‫خارقة لألسباب‪ ،‬مثل وجود الروح وخروجها‪.‬‬
‫ـ المشكلة أن اإلنسان قد يقطع هذا التصور ويعتربه فلسفة‪ ،‬فيكون مثل‬
‫الذي سار يف الطريق ونسي هدفه‪ ،‬فالغرض من التصور تحقيق االنتباه‪.‬‬
‫********‬

‫((( الملك‪.4 :‬‬

‫‪126‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل التاسع‬
‫الإعرا�ض عن التذكر (التفكري اخلاطئ)‬
‫ـ الغفلة عكس المعرفة الحقيقية‪.‬‬
‫ـ نتيجة الغفلة عن اهلل واآلخرة هي الغرور بالنعم (يرى نفسه قويا)‪،‬‬
‫والغرور بالنعم يؤدي الى شعور بالقيمة والمكانة والقدر (عكس‬
‫الخضوع)‪.‬‬
‫ـ ونتيجة المعرفة الحقيقية باهلل واآلخرة هي الشعور بالضعف (يرى‬
‫نفسه ضعيفا)‪ ،‬والشعور بالضعف يؤدي الى الخضوع‪.‬‬
‫ـ واالنسان إما أن يختار الغرور بالنعم (يرى نفسه قويا)‪ ،‬وبالتالي‬
‫يشعر بالقيمة والمكانة والقدر (عكس الخضوع)‪ ،‬أو يختار الشعور‬
‫بالضعف (يرى نفسه ضعيفا)‪ ،‬وبالتالي يعيش خاضعا‪.‬‬
‫ـ النفس تريد االختيار األول فماذا تصنع؟‪ :‬تتغافل ألن الغفلة تؤدي‬
‫الى هذا االختيار‪ ،‬والتغافل هو االبتعاد عن التذكر ألنه يؤدي الى المعرفة‬
‫الحقيقية وهو ال يريد ذلك‪.‬‬
‫********‬
‫ـ االنسان ضعيف ويف نفس الوقت ال يريد الخضوع ألن معيشة‬
‫الخضوع هي أمر صعب جدا على النفس فماذا يصنع؟‪ :‬يتغافل ويتناسى‬
‫أنه ضعيف‪.‬‬
‫ـ إذا علمت هناك من هو أقوى منك‪ ،‬فهذا معناه أنك تشعر بضعف‬
‫نفسك والذل له ومعناه أن تخضع ألمره إذا أمرك وإال عاقبك‪ ،‬وأنت‬

‫‪127‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫مستكرب ال تريد أن تشعر بالضعف وال تريد أن تخضع ألمر أحد فماذا‬
‫تصنع؟ تتجاهل أن هناك من هو أقوى منك فتنسى ذلك األمر (وهذه‬
‫وسيلة الحمقى)‪ ،‬فتكون النتيجة أن تعيش معيشة الحر غير الخاضع‬
‫ألحد‪.‬‬
‫ـ فالمانع من تحقيق العبادة هو غفلة االنسان عما يوقن به‪ ،‬فهو يوقن‬
‫بالخالق واآلخرة ونزول كالم الخالق للناس على رسله ويوقن بأن الدنيا‬
‫ضئيلة وزائلة وال قيمة لها وأن الحياة الحقيقية األبدية يف اآلخرة وأنه‬
‫ضعيف أمام الخالق ورغم ذلك ال يحقق العبادة ألنه غافل عن خطورة‬
‫ما يوقن به‪.‬‬
‫ـ الهروب من اخل�ضوع‪:‬‬
‫ـ عدم الخضوع يكون بطريقة مباشرة أو بطريقة الهروب‪.‬‬
‫ـ الطريقة المباشرة معناها أن يقول االنسان بأنه ال يريد أن يعيش‬
‫خاضعا أو بأنه غير موقنا بأن عليه أن يخضع‪.‬‬
‫ـ طريقة الهروب من الخضوع معناها أن االنسان موقنا بأن عليه أن‬
‫يخضع‪ ،‬ويف نفس الوقت هو ال يريد أن يخضع وال يريد أن يقول بأنه ال‬
‫يريد ان يعيش خاضعا فماذا يصنع؟‪ :‬يبتعد عن الخضوع بطريقة الهروب‬
‫وليس بطريقة المواجهة بمعنى أنه ال يقول بأنه ال يريد أن يعيش خاضعا‪،‬‬
‫ويبتعد عن موجبات الخضوع بطريقة الهروب بمعنى أنه ال يقول بانه ال‬
‫يريد سماع ما يذكره باآلخرة مثال ولكن يهرب عن سماع ذلك بطريقة‬
‫المراوغة‪.‬‬
‫ـ طرق الهروب من اخل�ضوع (االعرا�ض عن موجبات اخل�ضوع)‪:‬‬
‫ـ موجبات الخضوع هي التذكر لمعنى العبادة والتذكر لمعنى ضعف‬
‫االنسان امام الخالق والتذكر لمعنى الخضوع الكوين والتذكر للغرض من‬

‫‪128‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ارسال الرسل وهو عبادة اهلل تعالى‪ ،‬وطرق الهروب من الخضوع هي‬
‫عدم تذكر هذه األمور واالبتعاد عن كل ما يذكر هبا‪ ،‬وطرق الهروب من‬
‫الخضوع كالتالي‪:‬‬
‫ـ أوال‪ :‬عدم التذكر لموجبات الخضوع ألهنا تجعله خاضعا‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪1‬ـ ال يتذكر معنى الخضوع حتى أصبحنا نعيش يف زمن ضاع فيه معنى‬
‫العبادة ومقصودها‪ ،‬لذلك قمنا بتصحيح معنى العبادة‪.‬‬
‫‪2‬ـ ال يتذكر مدى خطورة صفات الخالق وبالتالي مدى ضعف‬
‫االنسان‬
‫‪3‬ـ ال يتذكر معنى الخضوع الكوين‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ال يتذكر الغرض األساسي من نزول القرآن ودعوة الرسل؛‬
‫فالرسل جاءت لتأمر الناس بصورة مباشرة لعبادة اهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ ثانيا‪ :‬االعراض عن التذكير بموجبات الخضوع ألهنا تدفعه الى أن‬
‫يتذكر موجبات الخضوع‪:‬‬
‫ـ وتشمل أمرين هما‪:‬‬
‫‪1‬ـ االبتعاد عن كل ما يذكر بموجبات الخضوع‪.‬‬
‫‪2‬ـ التلهي بشغل الذهن والوقت والجوارح بأمور الدنيا حتى ال يفكر‬
‫يف شيء غيرها‪.‬‬
‫ـ الإعرا�ض عن التذكر‪:‬‬
‫ـ رغم أن اإلنسان يعلم بأن عليه أن يخضع هلل لكنه ال يريد أن يشعر‬
‫بالخضوع فيتناسى أنه واقع تحت قدرة اهلل ومراقبته ويتناسى أنه لن‬
‫يستطيع أن يفلت منه‪ ،‬فكل شيء يدعوه إلى الخضوع فهو يتناساه كأنه‬
‫ال يعلمه‪ ،‬فاآليات الكونية وصفات الخالق ووجود اآلخرة ونزول القرآن‬

‫‪129‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫وإرسال الرسل يدعوه للخضوع‪ ،‬فهو يتناسى كل ذلك‪.‬‬


‫ـ المعرفة الحقيقية بما يوقن به االنسان تدعوه إلى الخضوع وهو‬
‫ال يريد الخضوع‪ ،‬فيتناسى ما يوقن به ويهرب منه‪ ،‬فاإلنسان إما أن ينتبه‬
‫لخطورة ما يوقن به أو يتناساه ويتغافل عنه كأنه ال يعلمه‪.‬‬
‫ـ يعرض عن تذكر الغيبيات ألنه ال يحب حياة الخضوع فيهرب من‬
‫الخضوع ليعيش للدنيا‪ ،‬فهو يؤثر الحياة العاجلة التي يراها ويعيش فيها‬
‫اآلن عن الحياة اآلجلة الغيبية التي ال يراها‪ ،‬فال يريد ترك محبته للدنيا‪،‬‬
‫وال يعترب الدنيا مؤقتة للسفر وال دار امتحان‪ ،‬لذلك فهو يتجاهل اآلخرة‪.‬‬
‫ـ المعرفة الحقيقية بالخالق واآلخرة (مع اليقين) هي السبب الذي‬
‫يجعل اإلنسان تلقائ ًيا يعيش عبدً ا‪ ،‬لذلك فهو يتناسى اهلل واآلخرة حتى‬
‫يبتعد عن السبب الذي يجعله يعيش ذليال‪.‬‬
‫ـ فهو يريد ويرجو أال يكون هناك آخرة وحساب ‪-‬رغم أن القضية‬
‫ليست بمزاجه‪-‬ألن وجود اآلخرة يفسد عليه حياته ويجعله يعيش‬
‫لآلخرة‪ ،‬فيلجأ إلى تجاهل اآلخرة (نسيان اآلخرة)‪﴿ :‬إِ َّن ا َّل ِذي َن َل َي ْر ُج َ‬
‫ون‬
‫اة الدُّ ْن َيا َوا ْط َم َأنُّوا بِ َها َوا َّل ِذي َن ُه ْم َع ْن آ َياتِنَا َغافِ ُل َ‬
‫ون (‪)7‬‬ ‫ل ِ َقاءنَا ور ُضوا بِا ْلحي ِ‬
‫ََ‬ ‫َ ََ‬
‫ون﴾(‪.)1‬‬ ‫ُأو َلئِ َك َم ْأ َو ُاه ُم الن َُّار بِ َما كَانُوا َي ْك ِس ُب َ‬
‫ـ ولماذا ال يريد الخضوع؟‪ :‬ألنه مستكرب والخضوع مؤلم بالنسبة له‬
‫وألنه اختيار صعب‪.‬‬
‫ـ عدم تذكر اآلخرة والموت كأنه ال وجود لهما‪:‬‬
‫اآلخرة والموت تذكر االنسان بضعفه لضآلة ما يمتلكه من دنيا فانية‬

‫(((‬
‫يونس‪8 ،7 :‬‬

‫‪130‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫لذلك فهو ال يريد لن يتذكر ذلك‬


‫ـ الذي يريد أن يعيش للمتع العاجلة يف الدنيا ال يريد أن يذهب إلى‬
‫ونظرا ألنه ال يستطيع أن يمنع نفسه من الذهاب لآلخرة فيلجأ‬
‫ً‬ ‫اآلخرة‪،‬‬
‫إلى حيلة وهي أنه يغمض عينه عن اآلخرة ويتناساها فيعيش كأنه ال آخرة‬
‫رغم اليقين التام هبا‪ ،‬وهذه حيلة األحمق‪.‬‬
‫ـ كل إنسان يوقن يقينًا تا ًما بأنه سيموت‪ ،‬ولكن اإلنسان ال يريد أن‬
‫يموت‪ ،‬فيلجأ إلى حيلة وهي أنه يتجاهل قضية الموت ويتغافل عنها وال‬
‫يشغل همه هبا ويعيش كأنه لن يموت وبذلك يتوهم أنه لن يموت!‬
‫رغما عنهم سواء‬
‫ـ كل الناس مسافرون إلى اآلخرة ولقاء اهلل تعالى ً‬
‫رغما عنهم‪،‬‬
‫رضوا بذلك أم لم يرضوا‪ ،‬وكل الناس ذاهبون إلى الموت ً‬
‫والفرار من اآلخرة ومن لقاء اهلل ومن الموت وتناسي ذلك والتغافل عنه‬
‫وتجاهله لن يفيدهم شي ًئا‪َ ﴿ ،‬ب ْل كَانُوا َل َي ْر ُج َ‬
‫ون ن ُُش ً‬
‫ورا﴾(‪.)1‬‬
‫ـ فالهروب من اآلخرة بالتغافل عنها لن يمنع من مجيئها ولكنها حيلة‬
‫األحمق‪ ،‬فاآلخرة قادمة وشيكة واأللم شديد والموت قادم‪ ،‬فهو عندئذ‬
‫مثل النعامة التي تضع رأسها يف الرتاب حتى ال يراها األعداء‪ ،‬أي كأهنا‬
‫تقول لنفسها أنه طالما أهنا ال ترى األعداء إذن فهم غير موجودون وال‬
‫أحد يطاردها!‬
‫ـ نحن نعرف أن قدرة البشر فوقها قدرة اهلل وأننا نعيش تحت سيطرته‬
‫وهيمنته علينا‪ ،‬ونعرف أن هذه الحياة ليست حياتنا المعدة لمعيشتنا‪،‬‬
‫ونعرف أننا يف انتظار اآلخرة عن قريب‪ ،‬لكننا نتناسى ذلك ونعيش حياة‬
‫الهارب من سيطرة اهلل ومن خطر الموت واآلخرة‪ ،‬ونتشاغل عن ذلك‬
‫بالتلهي بالدنيا ومشاغلها ومظهر الدين حتى يأيت الموت‪ ،‬وسواء رضينا‬

‫((( الفرقان‪.40 :‬‬

‫‪131‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أم أبينا فنحن مقهورون تحت قدرة اهلل وغدا اللقاء‪ ،‬فماذا نحن صانعون؟‬
‫ـ فيمكن تشبيه ذلك بإنسان يعيش يف منزل آيل للسقوط‪ ،‬لكنه ال يريد‬
‫أن يغادر المنزل فماذا يصنع؟ يتناسى األمر كأنه غير حاصل ويشغل‬
‫تفكيره بأمور أخرى حتى ال ينشغل تفكيره بذلك األمر‪ ،‬وهذا من الغباء‬
‫طب ًعا‪.‬‬
‫ـ كذلك الذي سوف تنتهي حياته يف أي لحظة‪ ،‬لكنه ال يريد أن يرتك‬
‫الدنيا التي يعتربها داره وفيها متاعه فماذا يصنع؟ يتناسى األمر كأنه غير‬
‫حاصل ويشغل تفكيره بأمور أخرى حتى ال ينشغل تفكيره بذلك األمر‪،‬‬
‫منشغل هبذا األمر طالما أنه‬ ‫ً‬ ‫وهذا من الغباء طب ًعا‪ ،‬أما العاقل فيظل تفكيره‬
‫مقيما يف هذه الدنيا‪.‬‬ ‫ما زال ً‬
‫﴿و َلت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ ﴿ ُق ْل إِ َّن ا ْلمو َت ا َّل ِذي َت ِفر َ ِ‬
‫َجدَ ن َُّه ْم‬ ‫ون منْ ُه فإنه ُمالقي ُك ْم﴾(‪َ ،)1‬‬ ‫ُّ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َّاس َع َلى َح َياة َوم َن ا َّلذي َن َأ ْش َركُوا َي َو ُّد َأ َحدُ ُه ْم َل ْو ُي َع َّم ُر َأ ْل َ‬
‫ف‬ ‫ص الن ِ‬ ‫َأ ْح َر َ‬
‫ون﴾(‪.)2‬‬ ‫اهَّلل َب ِص ٌير بِ َما َي ْع َم ُل َ‬
‫اب َأ ْن ُي َع َّم َر َو ُ‬‫َسن ٍَة َو َما ُه َو بِ ُم َز ْح ِز ِح ِه مِ َن ا ْل َع َذ ِ‬
‫ـ الهروب من تذكر معنى اخل�ضوع الكوين‪:‬‬
‫ـ هناك فرق بين الخضوع الكوين والشعور بالخضوع وخضوع‬
‫الجوارح‪ ،‬فالخضوع الكوين معناه أن كل الناس أذالء مستسلمون‬
‫قهرا‪ ،‬وال يستطيعون الخروج عن سلطان اهلل؛ ألهنم جمي ًعا‬ ‫خاضعون ً‬
‫واقعين تحت سيطرته وسلطانه وقوته وهم ضعفاء أمام قدرته وهيمنته‬
‫رغما عنه‪ ،‬واإلنسان إذا عرف معنى الخضوع‬ ‫عليهم‪ ،‬فاإلنسان خاضع ً‬
‫الكوين معرفة حقيقية تحقق عنده الشعور بالخضوع وأدى ذلك إلى‬
‫خضوع الجوارح فيعيش حياته خاض ًعا هلل تعالى‪.‬‬

‫((( الجمعة‪ :‬من اآلية ‪.8‬‬


‫((( البقرة‪.96 :‬‬

‫‪132‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫يرض‪ ،‬وسواء شعر به‬ ‫ـ وسواء رضي اإلنسان بالخضوع الكوين أم لم َ‬


‫رغما عن أنفه وال يستطيع الخروج عن الخضوع‬ ‫أم لم يشعر فهو خاضع ً‬
‫هلل إال إذا استطاع أن يخرج من ملكه ومن تحت سمائه ومن فوق أرضه‪،‬‬
‫وإال إذا استطاع أن يمنع نفسه من الموت ومن المرض ومن البعث‬
‫والوقوف بين يدي اهلل تعالى!‪ ،‬فاإلنسان خاضع هلل ومشيئته خاضعة هلل‬
‫تعالى‪ ،‬واإلنسان ال يريد أن يعرتف بأنه خاضع هلل كون ًيا حتى ال يشعر‬
‫بالخضوع أو يعيش خاض ًعا‪ ،‬فيتناسى أنه واقع تحت قدرة اهلل ومراقبته‬
‫ويتناسى أنه لن يستطيع أن يفلت منه‪ ،‬فكل شيء يدعوه إلى الشعور‬
‫بالخضوع يتناساه‪ ،‬واإلنسان الذي يريد الهروب من الخضوع الكوين مثل‬
‫الذي يريد الهروب من الموت يتناسى مسألة الخضوع الكوين ويعيش‬
‫كأنه غير خاضع‪ ،‬فهو بذلك يحسب أنه يهرب من الخضوع الكوين‪ ،‬وهذا‬
‫من الغباء‪ ،‬ألنه يكون كالنعامة التي تدفن رأسها يف الرتاب حتى ال يراها‬
‫األعداء!‪.‬‬
‫ـ االعرا�ض عن التذكري (االبتعاد عن كل ما ي�ؤدي �إىل التفكري يف‬
‫خطورة الغيبيات)‪:‬‬
‫ـ أي االبتعاد عن التذكير بالغيبيات من سماع أو رؤية أو كالم عن‬
‫الغيبيات‪ ،‬أي يبتعد بسمعه وبصره وكالمه وهمه عن الغيبيات وكل ما‬
‫يتعلق هبا فيبتعد عن التذكير أو التفكير يف الغيبيات وما يتعلق هبا‪.‬‬
‫ـ فهو يمنع نفسه من التفكير يف مدى قدرة اهلل وخطورة اآلخرة ويمنع‬
‫نفسه من كل ما يذكره باهلل واآلخرة ويستمر على ذلك حتى يفقد االنتباه‬
‫إلى خطورة قدرة اهلل وخطورة لقائه وخطورة اآلخرة فيكون كالسكران‬
‫الذي ال يدري ما اهلل وما اآلخرة ويؤدي ذلك إلى أن يعيش حياته كأنه لم‬
‫يسمع عن اهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ أي يرفض أن يذكره أحد باألمر وال يذكر نفسه باألمر لتغييب االنتباه‬

‫‪133‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫باألمر‪ ،‬أي أنه يتجاهل األمر كأنه لم يسمع عنه فال يفكر فيه ويبتعد عن ما‬
‫يذكر به‪.‬‬
‫ـ فال يحب أن يذكره أحد باهلل واآلخرة والموت واآليات الكونية وال‬
‫يرد على المتحدث إذا تكلم يف ذلك‪ ،‬ويهرب من سماع ذلك‪ ،‬ويبتعد عن‬
‫كل ما يذكره باهلل واآلخرة كاألذكار والقرآن وغير ذلك‪.‬‬
‫ـ فالقضايا التي تشغل همه وتفكيره وكالمه ونقاشاته وطموحاته كلها‬
‫أمور الدنيا ومشاغلها وليس فيها اآلخرة‪ ،‬ويتجاهل أي شيء فيه تذكير‬
‫باهلل واآلخرة كأنه ال يسمع‪.‬‬
‫ـ ومن صور إبعاد التفكير يف األمر الالمباالة وعدم االهتمام وعدم‬
‫االعتناء والتعامل مع األمر كأنه لعب ولهو وأساطير وهزل ومزاح وليس‬
‫تافها ال قيمة له وغير مهم‪ ،‬أي التعامل مع األمر بمبدأ‬
‫جدً ا‪ ،‬أي كأنه شي ًئا ً‬
‫(انس األمر أو كرب دماغك وعيش حياتك)‪ ،‬أي الهروب والتولي واالبتعاد‬ ‫َ‬
‫واإلعراض عن األمر‪.‬‬

‫*********‬

‫‪134‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫التلهي‬

‫ـ التلهي ي�شمل �أمرين هما‪:‬‬


‫‪1‬ـ شغل الهم بقضايا الدنيا على حساب تذكر اآلخرة‪.‬‬
‫‪2‬ـ شغل الوقت والجوارح باألعمال التي تذكر بالدنيا على حساب‬
‫االعمال التي تذكر باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫‪1‬ـ �شغل الهم بق�ضايا الدنيا على ح�ساب تذكر الآخرة‪:‬‬
‫ـ قد يشغل االنسان كل تفكيره يف قضايا الدنيا ومشاغل الحياة‬
‫وبالتالي ال يعطي لنفسه فرصة لتذكر اآلخرة‪ ،‬فكلما شغل االنسان همه‬
‫بأمور الدنيا كلما لم يجد يف ذهنه فرصة للتذكر‪.‬‬
‫ـ فقد يكون كل هم االنسان طوال حياته هو التغلب على أعباء الحياة‬
‫ومشاكلها اليومية والتغلب على ما عنده من مشاكل وصراعات دنيوية‬
‫والخروج من الفقر أو نقص المال وغير ذلك‪ ،‬أو يعيش كل حياته من‬
‫أجل أن يمد زوجته وأوالده بكل ما يحتاجونه فيكون مور ًدا مال ًيا فقط‬
‫ويكون ذلك أكرب سعادة له ثم يكتشف يف النهاية أنه كان يحصد الهواء‬
‫ويموت ويرتك أوالده يتنعمون بما ترك لهم وهم ال يقيمون له وزنًا يف‬
‫أنفسهم سواء يف حياته أو بعد موته‪.‬‬
‫ـ كثرة مشاغل الحياة يف حد ذاهتا ليست مشكلة‪ ،‬ولكن المشكلة يف‬
‫أهنا قد تكون على حساب وجود فراغ للهم ليتذكر االنسان ويكتشف هل‬
‫هو يعيش للدنيا أم هلل وهل هو غافل أم ال؟ وهل هو حقق العبادة أم ال؟‬
‫وهل حبه وخوفه ورجاءه هلل أم للدنيا؟ وهل ينتظر ويرتقب الحياة اآلخرة‬

‫‪135‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أم ينشغل عنها؟ ويفكر يف حقيقة الدنيا أمام اآلخرة وحقيقة نفسه أمام‬
‫الخالق وقد يكتشف أنه ال يزال ال يعرف اهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ الفرق بيننا وبين السلف الصالح هو أن اآلخرة ولقاء اهلل هو الذي‬
‫كان يشغل عقولهم أما نحن فما يشغل عقولنا هو الدنيا وأمورها‪.‬‬
‫ـ مشاغل الحياة ومشاكلها وكثرة االعمال الدنيوية والواجبات الكثيرة‬
‫التي يجب على االنسان القيام هبا كل ذلك يسرق وقت االنسان ويسرق‬
‫عمره ويشغل همه طول وقته فال يرتك له أي فراغ من وقت أو هم ليتذكر‬
‫اهلل‬ ‫ِ‬
‫هم المعاد ‪ ،‬كفاه ُ‬ ‫هما واحدً ا َّ‬
‫ويتفكر‪ ،‬ويف الحديث‪ :‬من جعل الهمو َم ًّ‬
‫أي‬‫اهلل يف ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هم ُدنياه ‪ ،‬ومن تش َّع َب ْت به الهمو ُم ( يف ) أحوال الدنيا لم ُيبال ُ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫اهلل‬
‫همه ‪ ،‬جعل ُ‬ ‫أوديته ه َلك))( )‪ ،‬ويف حديث آخر‪ (( :‬من كانت اآلخر ُة َّ‬
‫‪1‬‬

‫غناه يف قلبِه ‪ ،‬وجمع له شم َله وأتتْه الدُّ نيا وهي راغم ٌة ومن كانت الدنيا‬
‫وفرق عليه شم َله ولم يأتِه من الدنيا إال ما‬ ‫فقره بين عينَيه َّ‬
‫اهلل َ‬
‫همه جعل ُ‬ ‫َّ‬
‫ُقدِّ َر له))( )‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫ـ والعجيب أن االنسان إذا وجد فراغا يف الوقت وقلة ما يشغل همه من‬
‫أمور الدنيا فانه يتضايق ويبحث عن ما يسلي وقته ويجعل وقته يمر مثل‬
‫كثرة الجلوس على المقاهي وغير ذلك أو يشغل وقته يشيء ال يحتاج إليه‬
‫وبدون داعي‪.‬‬
‫ـ استغراق اإلنسان يف أعمال الدنيا وأمورها يؤدي إلى سرقة عمر‬
‫اإلنسان فيموت ولم يجد وقتًا يشغل فيه همه بمعرفة اهلل واآلخرة‪ ،‬فهو‬
‫يعيش الحياة ويخوض فيها وينشغل بأمور الدنيا وال يفكر فيما سواها‪ ،‬ففي‬
‫اهرا مِن ا ْلحي ِ‬
‫تفسير البغوي‪﴿﴿ :‬يع َلم َ ِ‬
‫اة الدُّ ْن َيا﴾ يعني‪ :‬أمر معاشهم‪،‬‬ ‫ون َظ ً َ َ َ‬ ‫َْ ُ‬
‫كيف يكتسبون ويتجرون‪ ،‬ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون‪ ،‬وكيف‬
‫يبنون ويعيشون‪ ،‬قال الحسن‪ :‬إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر‬

‫((( التخريج ‪ :‬حسن لغيره ( صحيح الرتغيب ‪) 3171‬‬


‫((( التخريج‪ :‬صحيح لغيره ( صحيح الرتغيب والرتهيب ‪.)9613‬‬

‫‪136‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ون﴾‬‫﴿و ُه ْم َع ِن اآلخرة ُه ْم َغافِ ُل َ‬


‫وزنه وال يخطئ وهو ال يحسن يصلي‪َ ،‬‬
‫ساهون عنها جاهلون هبا‪ ،‬ال يتفكرون فيها وال يعملون لها﴾(‪ ،)1‬ويف‬
‫تفسير الشيخ المراغي‪﴿﴿ :‬ذل ِ َك َم ْب َل ُغ ُه ْم مِ َن ا ْل ِع ْل ِم﴾ أي أن منتهى‬
‫علمهم أن يتفهموا شئون الحياة الدنيا‪ ،‬ويتمتعوا باللذات‪ ،‬ويتصرفوا يف‬
‫التجارات‪ ،‬ليحصلوا على ما يكون لهم فيها من بسطة يف المال‪ ،‬وسعة‬
‫يف الرزق‪ ،‬ويكونوا ممن يشار إليهم بالبنان‪ ،‬وما به يذكرون لدى الناس‪،‬‬
‫وال يعنون بما وراء ذلك‪ ،‬فشئون اآلخرة دبر أذهنم‪ ،‬ووراء ظهورهم‪ ،‬ال‬
‫يعرفون منها قبيال من دبير﴾(‪.)2‬‬
‫‪2‬ـ �شغل الوقت واجلوارح بالأعمال التي تذكر بالدنيا على ح�ساب‬
‫االعمال التي تذكر باهلل والآخرة (االن�شغال بغذاء اجل�سد على‬
‫ح�ساب غذاء الروح)‪:‬‬
‫ـ أعمال الجوارح نوعين هما أعمال هي غذاء للروح وأعمال هي‬
‫غذاء للجسد‪ ،‬األعمال التي تغذي الروح هي االعمال التي تذكر االنسان‬
‫باهلل واآلخرة كالدعاء واألذكار وقراءة القرآن والصالة وقيام الليل‬
‫والصيام والحج والذكر واالستغفار والتفكر والرقائق وسماع الخطب‬
‫والمواعظ والكالم الذي يتعلق باهلل واآلخرة وغير ذلك‪ ،‬واألعمال‬
‫التي تغذي الجسد هي األعمال التي تتعلق بالدنيا كالسعي على المال‬
‫والطعام والشراب والزراعة والصناعة وإعمار األرض والتقدم العلمي‬
‫والتكنولوجي والتعليم واألخالق والمعامالت الحسنة بين الناس وغير‬
‫ذلك‪ ،‬والبد من وجود االثنين معا ألنه بغير غذاء الروح يموت القلب‬
‫وتختفي المشاعر التي تتعلق باهلل واآلخرة‪ ،‬وبغير وجود غذاء الجسد‬
‫يعيش االنسان يف كرب كما أنه ال يستطيع القيام باألعمال التي تغذي‬
‫الروح‪ ،‬لذلك فاإلسالم يأمر بغذاء الروح وغذاء الجسد‪.‬‬
‫ـ وغذاء الجسد هو أمر مشرتك بين جميع الناس سواء كانوا مسلمين‬

‫((( تفسير البغوي ‪-‬دار إحياء الرتاث العربي‪ -‬بيروت (ج‪ ،3 :‬ص‪.)571 :‬‬
‫((( تفسير الشيخ المراغي ـ شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر (ج‪ ،27 :‬ص‪.)56 :‬‬

‫‪137‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أو غير مسلمين ألن غذاء الجسد مطلوب للجميع ليعيش الناس يف سعادة‬
‫وهناء‪ ،‬لذلك ينادي به الجميع‪.‬‬
‫ـ األعمال التي هي غذاء للروح تؤدي الى إحياء االنتباه ودوام بقاءه‬
‫وتقويته باستمرار‪ ،‬وحيث أننا نعيش اليوم يف زمن الغفلة فنحن أحوج الى‬
‫اإلكثار من األعمال التي هي غذاء للروح على حساب األعمال التي هي‬
‫غذاء للجسد‪.‬‬
‫ـ وإهمال غذاء الروح يؤدي إلى موت وظيفة االنتباه‪ ،‬فاإلنسان هو‬
‫الذي يقوم بتعطيل هذه الوظيفة فتموت‪ ،‬مثلما يمتنع االنسان عن سقي‬
‫األرض فيموت الزرع‪ ،‬فهو المسئول عن الغفلة التي وقع فيها‪.‬‬
‫ـ وغذاء الروح أهم بكثير من غذاء الجسد‪ ،‬والبد من التوازن بينهما‪،‬‬
‫ولكن البعض قد يركز أكثر على اتقان األعمال التي تتعلق بغذاء الجسد‬
‫ويعتربها أهم من األعمال التي تتعلق بغذاء الروح ويسأل كثيرا عن رأي‬
‫الدين فيما يختص بالحالل والحرام يف هذه األعمال التي تتعلق بغذاء‬
‫الجسد ويهمل األعمال التي تتعلق بغذاء الروح‪ ،‬وربما يختزل الدين يف‬
‫األعمال التي تتعلق بغذاء الجسد فقط‪.‬‬
‫ـ االنسان يعيش حياة يف الدنيا وحياة يف اآلخرة‪ ،‬ولكن الحياة الدنيا ال‬
‫تزيد عن كوهنا ثانية أو أقل بالنسبة للحياة يف اآلخرة لذلك فانشغال الهم‬
‫وتعلق القلب بالحياة يف اآلخرة البد أن يكون أكرب بكثير من انشغال الهم‬
‫وتعلق القلب بالحياة التي يف الدنيا وما يتعلق هبا من غذاء الجسد‪.‬‬
‫********‬
‫ـ �أثر االعرا�ض عن التذكر واالعرا�ض عن التذكري على الظاهر‪:‬‬
‫ـ اإلعراض عن التذكر له أثر على الظاهر‪ ،‬لكن ال نعرف هل هذا‬
‫الظاهر ناشئ من إعراضه التام عن التذكر أم من قلة تذكره‪.‬‬
‫ـ ويظهر ذلك اإلعراض من خالل سلوك اإلنسان وانفعاالته وردود‬
‫أفعاله وكالمه‪ ،‬فتجده يبتعد بسمعه وبصره وكالمه وهمه عن الغيبيات‬

‫‪138‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫وكل ما يتعلق هبا ويرتك أي عمل يتعلق بالغيبيات بطريقة الهروب‬


‫والتجاهل وعدم الحديث يف األمر والتعامل كأنه لم يسمع عن الغيبيات‪،‬‬
‫وال هم له إال المال والدنيا وال كالم له إال عن أمور الدنيا‪ ،‬وهو يعيش‬
‫كأنه لم يسمع عن الدين أو كأنه ال يفهم معنى الخالق أو معنى اآلخرة‪،‬‬
‫فال هو مع الدين وال ضد الدين وال يوالي وال يعادي وال يتأثر به‪ ،‬ويبدو‬
‫من سلوكه أنه إنسان مادي كل تفكيره يف أمور الدنيا وكل عمله للدنيا‪،‬‬
‫فالقضايا التي تشغل همه وتفكيره وكالمه ونقاشاته وطموحاته كلها أمور‬
‫الدنيا ومشاغلها وليس فيها اآلخرة‪ ،‬ويتجاهل أي شيء فيه تذكير باهلل‬
‫واآلخرة كأنه لم يسمع‪ ،‬فال يحب أن يذكره أحد باهلل واآلخرة والموت‬
‫واآليات الكونية والحالل والحرام وال يرد على المتحدث إذا تكلم‬
‫يف ذلك‪ ،‬ويهرب من سماع ذلك‪ ،‬وال يتكلم يف األمر مع أي أحد‪ ،‬كأن‬
‫أصل كأنه أمر تافه‪ ،‬وال ُي َذكِّر نفسه بذلك وال يفكر يف‬
‫األمر غير مطروح ً‬
‫ذلك وال يتحدث بذلك مع الناس ويبتعد عن كل ما يذكره باهلل واآلخرة‬
‫كاألذكار والقرآن وغير ذلك‪ ،‬فاآلخرة ليست يف همه وال على باله وال يف‬
‫حساباته وال يف مشاعره وليست هدفه‪.‬‬
‫ـ وقد يبدو من سلوكه حرصه الشديد على المال وكل همه وحزنه‬
‫وفرحه على المال وكل عمله للمال وكل كالمه عن المال والحسد‬
‫والحقد على من يملك المال‪.‬‬
‫ـ ويعيش كأنه ال عالقة له بالغيبيات‪ ،‬فال يتأثر قلبه وال عمله بالغيبيات‪،‬‬
‫كأنه ال رب وال آخرة‪ ،‬فيعيش للدنيا فتكون مشاعره وهمومه وأهدافه‬
‫للدنيا‪ ،‬فمشاعره ليس فيها أي تعلق بالدين ال حب وال كره وال خوف وال‬
‫رجاء وكل تعلق مشاعره بالدنيا‪ ،‬وكذلك أهدافه للدنيا فقط‪.‬‬
‫ـ وهو إنسان مادي دنيوي يعيش للدنيا‪ ،‬وهدفه أن يعيش يف سعادة‪،‬‬
‫وإما أنه يريد السعادة لنفسه فقط أو يدعو إلى السعادة للجميع‪ ،‬فإذا كان‬
‫يريد السعادة للجميع فهو عندئذ على خلق ال يغش أو يسرق أو يظلم غيره‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الفصل العارش‬
‫االنتقال من الغرور بالنعم �إىل املعرفة ب�ض�آلة النعم من خالل التذكر‬

‫ـ االنتقال من الغرور بالنعم إلى المعرفة بضآلة النعم معناه تغيير نظرة‬
‫اإلنسان للنعم‪ ،‬فبدال من أن يرى نفسه عظيما يرى نفسه ضئيلة‪ ،‬وبدال‬
‫من أن يرى الدنيا عظيمة يراها ضئيلة‪ ،‬أي االنتقال من الغرور بالنعم إلى‬
‫المعرفة الحقيقية بضعف االنسان وضآلة الدنيا‪.‬‬
‫ـ كل إنسان يعرف أن الدنيا ضئيلة ولكن ذلك ال يزيد عن كونه مجرد‬
‫معرفة نظرية وليست معرفة حقيقية‪ ،‬فالمعرفة الحقيقية بحقيقة الدنيا‬
‫والنفس تعني إزالة الغرور بالدنيا والنفس‪.‬‬
‫ـ أصعب شيء على االنسان أن يغير نظرته للحياة ولألشياء ويغير‬
‫مشاعره ويغير هدفه‪ ،‬ألن هذا معناه أنه يحتاج إلى أن يغير عقله وقلبه‬
‫بعقل وقلب جديدين!‪ ،‬يف هذا الكتاب نبين لك كيف تغير نظرتك للحياة‬
‫ولألشياء وكيف تغير مشاعرك وهدفك‪.‬‬
‫ـ إذا تم تصحيح نظرة اإلنسان لألشياء رأى األشياء على حقيقتها‬
‫واكتشف أنه لم يكن يعرف حقيقة هذه األشياء‪ ،‬وبنا ًء عليه فمشاعره‬
‫وأهدافه تتغير بناء على ذلك‪.‬‬
‫ـ كيفية إزالة الغرور بالنعم (كيفية تحقيق المعرفة الحقيقية بضعف‬
‫االنسان)‪:‬‬
‫ـ ال يتحقق الخضوع حتى يزول غرور اإلنسان بأنه يمتلك النعم‬

‫‪140‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫كالعين والعقل والقدرة والحركة واإلرادة والمال والشهوات‪ ،‬ألنه‬


‫يحسب أنه قوي بامتالكه لهذه النعم والقوي ال يخضع‪.‬‬
‫ـ إزالة الغرور بالنعم (المعرفة الحقيقية بضعف االنسان) مع وجود‬
‫اليقين هو الطريق الى الهداية وتحقيق العبادة‪.‬‬
‫ـ يقول شيخ اإلسالم ابن القيم‪﴿ :‬إعلم أن القلب إذا خلى من‬
‫االهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رياسة أو صورة وتعلق‬
‫باآلخرة واالهتمام هبا من تحصيل العدة والتأهب للقدوم على اهلل عز‬
‫وجل فذلك أول فتوحه وتباشير فجره﴾(‪.)1‬‬
‫ـ وإزالة الغرور بالنعم يتم من خالل التذكر كالتالي‪:‬‬
‫‪1‬ـ تذكر عدم امللكية للنعم‪:‬‬
‫ـ الملكية قوة وعدم الملكية ضعف‪ ،‬فالذي ال يملك ً‬
‫مال وال متا ًعا‬
‫ويشعر بملكية كل شيء هلل يشعر بافتقاره وضعفه أمام اهلل تعالى‪ ،‬ولن‬
‫يخضع اإلنسان طالما أنه يشعر بأنه يمتلك‪ ،‬فالنفس تأبى أن تنكسر وتريد‬
‫أن تكون هي المالكة وال تريد أن يمن أحد عليها بعطاء أو يتكرم عليها‬
‫بفضل‪ ،‬وأصعب شعور على النفس هو الشعور بالذل‪.‬‬
‫ـ اإلنسان مغرور بنفسه وبالدنيا‪ ،‬فعندما يعلم بأنه ضعيف وال يملك‬
‫شي ًئا وبأن الدنيا ضئيلة فانية يكون شعوره مثل شعور اإلنسان الذي‬
‫تخسر تجارته ويفقد وظيفته ويرتكه أهله ويعيش عالة على الناس‪ ،‬فهو ال‬
‫يستطيع أن يتمتع وال يكون لديه طموح حيث ال يملك قدرات‪ ،‬ويكون‬
‫سلوكه سلوك الذي ال يستطيع أن يفعل شيء وهو معتمد على اهلل يف كل‬
‫شيء‪ ،‬فكلما أراد أن يفعل شي ًئا أو يصل لشيء قال‪ :‬يا رب‪ ،‬وهذا ال ينفي‬

‫مدارج السالكين ـ دار الكتاب العربي ‪ -‬بيروت (‪)352 / 3‬‬ ‫(((‬

‫‪141‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أخذه باألسباب‪ ،‬فالخضوع هو الشعور بالضعف واالنكسار والتبعية‬


‫وعدم الحرية وأن مشيئتك ال تستطيع أن تخرج هبا عن مشيئة اهلل‪.‬‬
‫ـ البد أن تشعر بأنك عاري من كل شيء ومحتاج إلى غيرك أي أنك‬
‫أوال تنفي كل شيء من نفسك وثانيا تثبت وتنسب كل شيء هلل ‪ ،‬أي الرضا‬
‫بأن اهلل له كل شيء ‪ ،‬وأنك جزءا من ملكه وهو يقوم بأمرك ‪ ،‬وأنك ذليل‬
‫إلى اهلل محتاج إليه ‪ ،‬فالمشكلة هي عدم وجود المعرفة الحقيقية بأن اهلل هو‬
‫المالك لكل شيء حتى النفس الذي تتنفسه‪ ،‬وأنت محتاج إليه فمن غيره‬
‫تموت وهتلك ‪ ،‬فطالما أن اإلنسان يظن أن ما عنده من قوة ومال وقدرات‬
‫مادية ومعنوية وصحة وهواء ‪....‬الخ هي ملكا له ‪ ،‬فلن يشعر بالحاجة‬
‫إلى اهلل ليعطيه هذه األشياء ‪ ،‬يقول تعالى‪﴿ :‬ك ََّل إِ َّن اإلنسان َل َي ْط َغى ‪َ ،‬أ ْن‬
‫اس َت ْغنَى﴾(‪ ، )1‬ففي ظنه أنه يمتلك من أسباب القوة ما يجعله يف غنى‬ ‫َرآ ُه ْ‬
‫عنه ـ سبحانه ـ وعندما يستبدل حاله من اليسر إلى العسر فإنه يتجه بكليته‬
‫إلى اهلل ـ عز وجل ـ بعد أن زالت عنه عوارض القوة وعاش يف حقيقة فقره‬
‫وضعفه واستشعر حاجته الماسة إليه سبحانه ‪ ،‬فرتاه يعود إليه متضرعا‬
‫منكسرا مخلصا له الدين ‪َ ﴿ :‬و َما بِ ُكم ِّمن ِّن ْع َم ٍة َف ِم َن اهَّللِ ُث َّم إِ َذا َم َّس ُك ُم‬
‫الض َّر َعن ُك ْم إِ َذا َف ِر ٌيق ِّمن ُكم بِ َر ِّب ِه ْم‬ ‫ف ُّ‬ ‫ون (‪ُ )53‬ث َّم إِ َذا ك ََش َ‬ ‫الض ُّر َفإِ َل ْي ِه َت ْج َأ ُر َ‬
‫ُّ‬
‫﴿ه َو‬‫ون ﴾(‪ُ ،)2‬‬ ‫ف َت ْع َل ُم َ‬ ‫ُون (‪ )54‬ل ِ َي ْك ُف ُرو ْا بِ َما آ َت ْين ُ‬
‫َاه ْم َفت ََم َّت ُعو ْا َف َس ْو َ‬ ‫ُي ْش ِرك َ‬
‫ك َو َج َر ْي َن بِ ِه ْم بِ ِريحٍ‬ ‫ا َّل ِذي يسيركُم فِي ا ْلبر وا ْلبح ِر حتَّى إِ َذا ُكنْتُم فِي ا ْل ُف ْل ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ِّ َ َ ْ َ‬ ‫ُ َ ِّ ُ ْ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ف َو َجا َء ُه ُم ا ْل َم ْو ُج م ْن ك ُِّل َم َكان َو َظنُّوا‬ ‫يح َعاص ٌ‬ ‫َط ِّي َبة َو َف ِر ُحوا بِ َها َجا َء ْت َها ِر ٌ‬
‫اهَّلل ُم ْخلِ ِصي َن َل ُه الدِّ ي َن َلئِ ْن َأن َْج ْي َتنَا مِ ْن َه ِذ ِه َلنَ ُكو َن َّن مِ َن‬‫يط بِ ِه ْم َد َع ُوا َ‬‫أهنم ُأ ِح َ‬
‫الشاكِ ِري َن﴾(‪.)3‬‬ ‫َّ‬

‫(((‬
‫العلق‪7 ،6 :‬‬
‫سورة النحل‪ 53 :‬ـ ‪55‬‬ ‫(((‬
‫((( يونس‪22 :‬‬

‫‪142‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ إذا سلبت النعم من اإلنسان فأصبح بغير عين وال أنف وال مال‬
‫وال سلطان فعندئذ يشعر بالضعف والعجز والنقص والخضوع ‪ ،‬وإذا‬
‫لم تسلب هذه النعم من اإلنسان فينبغي أن يشعر بنفس هذه المشاعر (‬
‫أي بالضعف والعجز والنقص والخضوع ) ألهنا ليست ملكا له ‪ ،‬فحقيقته‬
‫أنه معدوم مسلوب النعم ال يملك شيئا ‪ ،‬وينبغي عليه أن يشعر باالهنزام‬
‫واالستسالم والتذلل لمن يعطي هذه النعم له ‪ ،‬وينبغي أن يشعر أن الذي‬
‫يعطيه هذه النعم قوي متكرب ومتعالي بما يمتلك من هذه النعم التي‬
‫يعطيها لهذا الفقير المحتاج المسكين الذليل ‪ ،‬كما ينبغي أن يشعر بالحب‬
‫لمن يمن عليه ويتكرم عليه ويتفضل عليه هبذا اإلحسان بغير أن يكون‬
‫مستحقا لهذا العطاء ‪ ،‬كما ينبغي أن يشعر أنه ال يستطيع هو بنفسه مهما‬
‫سعى وعمل أن يحصل على هذه النعم ويجلبها لنفسه فيشعر بالتوكل‬
‫واالعتماد على من يعطيها له ‪.‬‬
‫ـ فإذا لم يشعر اإلنسان هبذه المشاعر تجاه الخالق‪ ،‬فهذا معناه أنه‬
‫يشعر بأنه مالك لهذه النعم وأنه حصل عليها بكده وتعبه‪ ،‬أو أهنا موجودة‬
‫من تلقاء نفسها أو تجاهل الشعور بقيمة ملكيتها هلل تعالى‪ ،‬أي أن اإلنسان‬
‫يقول عندئذ بمشاعره أن اهلل ليس هو الرزاق الكريم المنعم الوهاب‪،‬‬
‫وإنما هذه النعم ملكا لإلنسان‪.‬‬
‫‪2‬ـ تذكر املقارنة بني �صفات املخلوق و�صفات اخلالق‪ ،‬واملقارنة بني‬
‫الدنيا وما بها من نعم يغرت بها االن�سان والآخرة‪:‬‬
‫ـ معرفة اهلل تؤدي الى معرفة حقيقة النفس وهذا يؤدي الى إزالة‬
‫الشعور بالقدر والمكانة والعظمة والكربياء للنفس‪ ،‬أي ترك العجب‬
‫والغرور بالنفس وما ينشأ عن ذلك من األماين واالستكبار‪.‬‬
‫ـ فقيمة الشيء تعرف بالمقارنة بشيء آخر‪ ،‬فوجود اآلخرة هو الذي‬
‫جعل الدنيا ال قيمة لها‪ ،‬فإذا لم تكن هناك آخرة لكانت الدنيا عظيمة‬

‫‪143‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫القيمة‪ ،‬وكذلك إذا لم ينتبه اإلنسان لخطورة اآلخرة فكأنه ال آخرة‪ ،‬فيرى‬
‫الدنيا عظيمة القيمة ألنه ال يرى غيرها فتتأثر هبا حياته‪ ،‬فهو قد يرى المال‬
‫خطيرا جدً ا يف قيمته‪ ،‬فهو عندئذ يعيش للمال وتتأثر مشاعره‬ ‫ً‬ ‫أمرا‬
‫عندئذ ً‬
‫وتعظيما لقيمته وينشغل همه بقيمة‬
‫ً‬ ‫بالمال ح ًبا ورجا ًء وخو ًفا من ضياعه‬
‫وفرحا وغض ًبا‪،‬‬
‫ً‬ ‫المال وكيفية الحصول عليه وانفعاالته تتأثر بالمال حزنًا‬
‫وخلقه السيء يرتبط بالمال حسدً ا لغيره وحقدً ا وطم ًعا يف المال‪ ،‬وأكثر‬
‫كالمه عن المال وكيفية الحصول عليه‪ ،‬وكل عمله للحصول على المال‬
‫وربما يقع يف السرقة والرشوة للحصول على المال وغير ذلك‪ ،‬كل ذلك‬
‫ينشأ من كونه يرى المال عظيم القيمة جدً ا‪.‬‬
‫ـ إذا أغمض اإلنسان عينه عن اآلخرة رأى الدنيا عظيمة فتتعلق هبا‬
‫مشاعره وأهدافه‪ ،‬وإذا نظر إلى اآلخرة رأى الدنيا ضئيلة فتعلقت مشاعره‬
‫وأهدافه باآلخرة ولم تتعلق بالدنيا‪ ،‬وكذلك إذا أغمض اإلنسان عينه عن‬
‫الخالق رأى نفسه عظيمة فتتعلق هبا مشاعره وأهدافه‪ ،‬وإذا نظر إلى الخالق‬
‫رأى نفسه ضئيلة فتعلقت مشاعره وأهدافه بالخالق ولم تتعلق بنفسه‪.‬‬
‫ـ فهذه ثالثة أعمال قلبية يجب تغييرها هي نظرة اإلنسان لألشياء‬
‫ومشاعره وهدفه‪ ،‬والذي يسعى لتحقيق هذه األعمال القلبية يبدو يف‬
‫الظاهر أنه ال يفعل شي ًئا؛ ألهنا أعمال قلبية غير ظاهرة رغم أنه يحقق أخطر‬
‫شيء يف الدين‪ ،‬والمشكلة أن اإلنسان قد يحسب أن هذه األعمال القلبية‬
‫متحققة عنده يف حين أهنا قد تكون غير موجودة تما ًما‪ ،‬فيحسب أنه يعرف‬
‫اهلل ويحبه ويعيش له‪ ،‬ويف الحقيقة هو أنه ال يعرف غير الدنيا وال يحب‬
‫غيرها وال يعيش إال لها‪.‬‬
‫ـ إذا قارنا الدنيا باآلخرة فالدنيا لعب ولهو مثل لعب ولهو األطفال؛‬
‫﴿و َما‬
‫أصل‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫ألهنا حياة قصيرة جدً ا وتافهة جدً ا‪ ،‬بل إهنا ليست بحياة‬
‫ان َل ْو كَانُوا‬‫ب َوإِ َّن الدَّ َار اآلخرة َل ِهي ا ْل َح َي َو ُ‬ ‫َه ِذ ِه ا ْلحيا ُة الدُّ ْنيا إِ َّل َلهو و َل ِ‬
‫ع‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌْ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬

‫‪144‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ِ‬
‫ب َو َل ْه ٌو َو َللدَّ ُار اآلخرة َخ ْي ٌر‬ ‫﴿و َما ا ْل َح َيا ُة الدُّ ْن َيا إِ َّل َلع ٌ‬‫ون﴾(‪َ ،)1‬‬ ‫َي ْع َل ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ون َأ َف َل َت ْع ِق ُل َ‬
‫ل ِ َّل ِذي َن َي َّت ُق َ‬
‫ب َو َل ْه ٌو﴾(‪،)3‬‬ ‫ون﴾(‪﴿ ،)2‬إِن ََّما ا ْل َح َيا ُة الدُّ ْن َيا َلع ٌ‬
‫ب َوإِ َّن الدَّ َار اآلخرة َل ِهي ا ْل َح َي َو ُ‬
‫ان‬ ‫﴿وما َه ِذ ِه ا ْلحيا ُة الدُّ ْنيا إِ َّل َلهو و َل ِ‬
‫ع‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌْ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬
‫ون﴾(‪ ، )4‬واللعب واللهو هو الشيء الذي ليس له قيمة فال‬ ‫َل ْو كَانُوا َي ْع َل ُم َ‬
‫ينفع وال يضر وليس له أهمية وال يهتم اإلنسان به وال يكرتث به‪.‬‬
‫ـ وجود اآلخرة هو الذي جعل الدنيا ال قيمة لها‪ ،‬ألن الدنيا بالمقارنة‬
‫باآلخرة تساوي صفر وكل آالمها ولذاهتا تساوي صفر ومدة البقاء فيها‬
‫تساوي صفر رغم أهنا سنوات طويلة لكنها يف حقيقتها تساوي صفرا أمام‬
‫مدة البقاء الال هنائية يف اآلخرة‪ ،‬ولكن الشيطان يزين لإلنسان أن الحياة يف‬
‫(مثل) التي يحياها يف الدنيا أعمار طويلة‪.‬‬‫الدنيا طويلة‪ ،‬وأن الستين سنة ً‬
‫ـ الدنيا وما هبا من مال وشهوات ومتع ال تساوي شي ًئا بالمقارنة‬
‫باآلخرة‪ ،‬فمن يعرف اآلخرة ويوقن هبا تكون كل أموال الدنيا وشهواهتا‬
‫ومناصبها هي مثل الطين يف نظره؛ ألنه يقارهنا باآلخرة فال تساوي شي ًئا‪،‬‬
‫وهو ينظر إلى من عنده قدر كبير من أموال الدنيا ومناصبها وشهواهتا‬
‫على أنه عنده قدر كبير من الطين‪ ،‬فال ينظر له نظرة انبهار‪ ،‬وينظر إلى‬
‫الفقير المعدوم على أنه عنده قدر قليل من الطين‪ ،‬وإذا ظلمه أحد فال‬
‫يتألم ويشتد حزنه؛ ألنه يعلم أن ذلك الظالم مسكين قد أتعب نفسه وأخذ‬
‫قدرا من الطين‪ ،‬وهذا ال يمنع من أن يطالب بحقه‪ ،‬أما الذي ال يعرف‬ ‫منه ً‬
‫فقيرا فإنه يكون دائم التسخط والتألم الشديد‬‫اآلخرة إذا كان مظلو ًما أو ً‬
‫والحزن الشديد ودائم الشكوى‪ ،‬وإذا خسر يف تجارة أو أصابه مصاب‬

‫العنكبوت‪.64 :‬‬ ‫(((‬


‫األنعام‪.32 :‬‬ ‫(((‬
‫محمد‪36 :‬‬ ‫(((‬
‫العنكبوت‪64 :‬‬ ‫(((‬

‫‪145‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ظالما أو غن ًيا فإنه‬


‫قد يصاب بسكتة قلبية أو اكتئاب شديد جدً ا‪ ،‬وإذا كان ً‬
‫يكون دائم التهلل والفرح الشديد ويعجب بنفسه بشدة ويتكرب على غيره‪،‬‬
‫والذي ال يعرف اآلخرة يكون خائ ًفا خو ًفا شديدً ا جدً ا على صحته وعلى‬
‫عمره لدرجة الهلع كأنه ال يريد أن يموت‪ ،‬وكذلك فهو خائف بشدة على‬
‫أال يفوته أو ينقص منه شيء من متع الدنيا وحريص بشدة كبيرة جدً ا على‬
‫أن يفقد غيره من الناس متع الدنيا وأال يحصلوا على شيء من متعها حتى‬
‫يكون هو األعلى‪ ،‬وذلك ألن الدنيا ومناصبها وأموالها وشهواهتا هي يف‬
‫نظره عظيمة وكبيرة جدً ا ويوم القيامة ُيفاجأ بأن كل ذلك كان مجرد طين‬
‫حريصا على جمع الطين!‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأنه كان‬
‫ـ وعندما يعرف اإلنسان اآلخرة تتغير نظرته تجاه صاحب األموال‬
‫الهائلة الذي يعيش من أجل جمع المال يراه مسكينًا غب ًيا ُيورد نفسه موارد‬
‫الهالك‪ ،‬وعلى العكس فإنه ينظر إلى اإلنسان المتصل باهلل نظرة إكبار‬
‫وتعظيم ويحسده على ما عنده من إيمان‪ ،‬وينظر إلى األعمال الهائلة التي‬
‫لهوا ولع ًبا رغم أهنا عند أهل الدنيا‬‫يعملها الذين يعيشون للدنيا فيراها ً‬
‫أعمال عظيمة جدً ا‪.‬‬
‫ـ فالناس أمامهم جبل من الذهب الحقيقي وجبل من الطين‪ ،‬وهم‬
‫يتهافتون ويتنافسون على جبل الطين الذي هو أموال الدنيا وشهواهتا‬
‫ومناصبها‪ ،‬ويرتكون جبل الذهب الذي هو رضا اهلل وجنات النعيم‪.‬‬
‫ـ فالتأثر الشديد بظلم الظالم هو من الغباء؛ ألن الدنيا ليست إال طينًا‪،‬‬
‫كثيرا من الطين والمظلوم عنده قليل من الطين‪.‬‬‫فالظالم أخذ ً‬
‫ـ لو كانت قيمة الدنيا أكرب من صفر ولو بذرة واحدة لمنع اهلل الكافر من‬
‫الحصول على أي شيء من الدنيا ولو حتى شربة ماء لن يأخذها‪ ،‬ولكن ألن‬
‫الدنيا ال تساوي شي ًئا فالذي معه من الدنيا مثل الذي ليس معه شيء‪ ،‬فإن‬

‫‪146‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫اهلل يعطي للجميع‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬كنا مع رسول اهلل ﷺ بذي الحليفة‬
‫فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها‪ ،‬فقال‪ :‬أترون هذه هينة على صاحبها‪،‬‬
‫فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على اهلل من هذه على صاحبها‪ ،‬ولو‬
‫كافرا منها قطرة أبدً ا﴾(‪)1‬‬
‫كانت الدنيا تزن عند اهلل جناح بعوضة ما سقى ً‬
‫ـ فالدنيا أشبه بحلم يف المنام ثم يفيق منه اإلنسان‪﴿ ،‬عن يونس بن‬
‫عبيد‪ ،‬قال‪ :‬ما شبهت الدنيا إال كرجل نام فرأى يف منامه ما يكره وما‬
‫يحب‪ ،‬فبينما هو كذلك إذ انتبه‪ ...‬قيل لبعض الحكماء‪ :‬أي شيء أشبه‬
‫بالدنيا؟ قال‪« :‬أحالم النائم»﴾(‪ ،)2‬ويف إحياء علوم الدين‪﴿ :‬وكتب‬
‫رجل إلى أخ له‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإن الدنيا حلم واآلخرة يقظة والمتوسط بينهما‬
‫الموت ونحن يف أضغاث أحالم والسالم﴾(‪.)3‬‬
‫‪3‬ـ تذكر املقارنة بني ق�صر العمر يف الدنيا �أمام اخللود يف الآخرة‪:‬‬
‫ـ الخلود يف اآلخرة جعل عمر اإلنسان يف الدنيا مجرد ٍ‬
‫ثوان‪ ،‬فهل يهتم‬
‫اإلنسان بحياة مدهتا ٍ‬
‫ثوان أم بحياة مدهتا ما ال هناية؟ وهل يهتم بما يحدث‬
‫شر يف مدة ال تزيد عن ٍ‬
‫ثوان؟‬ ‫خير أو ٍ‬
‫له من ٍ‬
‫ـ الخلود يف اآلخرة ليس أمر بسيط يمكن أن نمر عليه مر الكرام‪،‬‬
‫فالخلود يف النار معناه أن يظل اإلنسان يف العذاب داخل النار ليس لمدة‬
‫ساعة ‪-‬وإن كان ذلك مروع جدً ا‪ -‬وليس لمدة يوم كامل‪ ،‬وال لمدة شهر‬
‫وال سنة وال مائة سنة وال مليون سنة وال مليار سنة‪ ،‬ولكن لألبد من‬
‫غير أن يموت‪ ،‬فمقارنة ذلك بأيام الدنيا وآالمها تكون الدنيا لحظات‪،‬‬
‫حتى لو عاش اإلنسان يف الدنيا مائة عام تكون لحظات تمضي سريعة‪،‬‬
‫وكذلك الخلود يف نعيم الجنة وملذات الجنة ليس لمدة يوم ‪ -‬وإن كان‬

‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن ابن ماحة‪ ،‬ج ‪ ،3‬برقم‪.)1376 :‬‬
‫((( الزهد البن أبي الدنيا ـ دار ابن كثير‪ ،‬دمشق (ج‪ ،1 :‬ص‪.)32 ،31 :‬‬
‫((( إحياء علوم الدين ‪-‬دار المعرفة‪ -‬بيروت (‪.)455 / 4‬‬

‫‪147‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ذلك غاية يف المتعة ‪ -‬وليس لمدة شهر وال سنة وال مائة سنة وال مليون‬
‫سنة وال مليار سنة‪ ،‬ولكن لألبد من غير أن يموت‪ ،‬إهنا السعادة األبدية‬
‫يف متعة ولذة بال حدود وإلى األبد ومع الجميالت الفاتنات الساحرات‬
‫من الحور العين‪ ،‬قارن هذا أمام السنوات الحقيرة المعدودة يف الدنيا‪ ،‬فال‬
‫وجه للمقارنة ً‬
‫أصل‪ ،‬فإنك يف الجنة سوف تبقى شبا ًبا لألبد بال مرض وال‬
‫ضعف وال موت مع كل ألوان المتع‪.‬‬
‫ـ فإذا كانت مشاعر اإلنسان تتعلق بسعادة مدهتا ثانية ‪-‬هي سعادة‬
‫ٍ‬
‫موقن باآلخرة‪ ،‬وهو‬ ‫الدنيا‪ -‬فهو ال يزال ال يعرف ما هي اآلخرة أو هو غير‬
‫أحمق ال يعقل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫خالد فهو عظيم‪ ،‬فالدنيا‬ ‫ـ إن كل شيء ٍ‬
‫منته فهو ضئيل‪ ،‬وكل شيء‬
‫زائلة ومنتهية وليس فيها خلود‪ ،‬والمتع والشهوات التي تنتهي ال قيمة لها‪،‬‬
‫ولكي يشعر اإلنسان بذلك يسأل نفسه‪ :‬وماذا بعد أن يأكل ويشرب وينام‬
‫ويعمل ويتمتع ويقوم بأمور الدنيا؟ فاإلجابة‪ :‬إن كل ذلك إلى زوال وبعد‬
‫ذلك القيامة‪.‬‬
‫ـ قال مالك بن دينار‪﴿ :‬لو كانت الدنيا من ذهب يفنى واآلخرة من‬
‫خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى‪ ،‬فكيف‬
‫واآلخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى﴾(‪.)1‬‬
‫ـ فالعمر ما هو إال يومان‪ ،‬يوم ذهب وباقي يوم‪ ،‬وإذا لم يشعر اإلنسان‬
‫بالمهابة والقلق من اقرتابه من اآلخرة فهذا يدل على أنه ال يعرف اآلخرة‬
‫أو ال يوقن هبا‪ ،‬وبالتالي ال يتعامل مع هذه األمور على أهنا جد ال هزل فيه‬
‫وتظل هذه المعاين مجرد كالم ال يؤثر فيه؛ ألن خاصية االنتباه لآلخرة قد‬
‫ماتت عنده‪ ،‬وغدً ا ُيفاجأ باآلخرة أمام عينه حقيقة واقعة يف أقل من ثانية‬

‫((( أضواء البيان ‪-‬دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع‪ -‬بيروت ‪ -‬لبنان (ج‪ ،8 :‬ص‪.)504 :‬‬

‫‪148‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ولكن ال ينفع الندم‪.‬‬


‫َاه ْم ِسنِي َن (‪ُ )205‬ث َّم َجا َء ُه ْم َما كَانُوا ُيوعَدُ َ‬
‫ون‬ ‫ـ ﴿ َأ َف َر َأ ْي َت إِ ْن َم َّت ْعن ُ‬
‫ض‬ ‫ون﴾(‪َ ﴿ ،)1‬ق َال ك َْم َلبِ ْثت ُْم فِي ْالَ ْر ِ‬ ‫(‪َ )206‬ما َأ ْغنَى َعن ُْه ْم َما كَانُوا ُي َم َّت ُع َ‬
‫اس َأ ِل ا ْل َعا ِّدي َن (‪)113‬‬ ‫ِ ِ‬
‫عَدَ َد سني َن (‪َ )112‬قا ُلوا َلبِ ْثنَا َي ْو ًما َأ ْو َب ْع َض َي ْو ٍم َف ْ‬
‫﴿و َي ْو َم َي ْح ُش ُر ُه ْم ك ََأ ْن‬
‫ون﴾(‪َ ،)2‬‬ ‫قليل َل ْو َأ َّن ُك ْم ُكنْت ُْم َت ْع َل ُم َ‬ ‫َق َال إِ ْن َلبِ ْثت ُْم إِ َّل ً‬
‫ار َي َت َع َار ُف َ‬
‫ون َب ْين َُه ْم﴾(‪.)3‬‬ ‫َل ْم َي ْل َب ُثوا إال َسا َع ًة مِ َن الن ََّه ِ‬
‫اك َن ْعلِ ِه‪َ ،‬والن َُّار مِ ْث ُل‬
‫ـ ويف الحديث‪﴿ :‬ا ْلجنَّ ُة َأ ْقرب إلى َأح ِدكُم مِن ِشر ِ‬
‫َ ْ ْ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َذل ِ َك﴾(‪ ،)4‬ويف الحديث َع ْن َع ْب ِد اهَّلل ْب ِن َع ْم ٍرو َق َال‪﴿ :‬مر علينا رسول اهلل‬
‫خصا لنا فقال‪ :‬ما هذا؟ فقلنا‪ :‬قد َو َهى فنحن نصلحه‪،‬‬ ‫ﷺ ونحن نعالج ً‬
‫قال‪ :‬ما أرى األمر إال أعجل من ذلك﴾(‪ )5‬أي اآلخرة قريبة ووشيكة‬
‫حتى كأنه ال وقت لالنشغال بشيء غيرها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تذكر �ضعف الإن�سان يف ذاته‪:‬‬
‫ـ فاإلنسان مغرور رغم أنه ضئيل القيمة فأوله نطفة مذرة (أي نطفة ال‬
‫قيمة لها وال حياة فيها) وآخره جيفة قذرة‪ ،‬وهو بين ذلك يحمل العذرة‬
‫(أي يحمل يف أمعاءه الرباز النتن أثناء حياته)‪.‬‬
‫ـ الغرور بالنعم دليل على غياب املعرفة احلقيقية (الغفلة)‪:‬‬
‫ـ معرفة الخالق تؤدي إلى أن يعرف اإلنسان حقيقة نفسه فيشعر بالذل‬
‫فيرى ضآلة نفسه فال يغرت بنفسه وال يعيش من أجل نفسه ولكن من أجل‬
‫الخالق‪ ،‬فإذا تعلق قلبه بتحقيق رغبات نفسه فهذا دليل على أن اإلنسان‬

‫الشعراء‪205 :‬ـ ‪.207‬‬ ‫(((‬


‫المؤمنون‪.114 – 112 :‬‬ ‫(((‬
‫يونس‪ :‬من اآلية ‪.45‬‬ ‫(((‬
‫تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 3115 :‬يف صحيح الجامع)‌‪.‬‬ ‫(((‬
‫قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (جامع الرتمذي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،568 :‬برقم‪.)2335 :‬‬ ‫(((‬

‫‪149‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ال يزال لم يعرف حقيقة نفسه وسبب ذلك أنه ال يزال لم يعرف الخالق‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫ـ وكذلك فمعرفة اآلخرة تؤدي إلى أن يعرف اإلنسان حقيقة الدنيا‬
‫فال يتعلق هبا قلبه وال يعيش لها‪ ،‬فإذا تعلق قلبه بالدنيا فهذا دليل على أن‬
‫اإلنسان ال يزال لم يعرف حقيقة الدنيا وسبب ذلك أنه ال يزال لم يعرف‬
‫اآلخرة‪.‬‬
‫ـ وطالما أن اإلنسان ال يزال ينظر إلى األموال والشهوات والمناصب‬
‫نظرة انبهار على أهنا ذات قيمة كبيرة فهذا يدل على أن معرفته باآلخرة لم‬
‫موقن‪ ،‬ألن من عرف حقيقة اآلخرة وحقيقة ما هبا من‬‫ٍ‬ ‫تتحقق أو أنه غير‬
‫نعيم فإنه بالضرورة ينظر إلى شهوات الدنيا واألموال نظرة احتقار‪.‬‬

‫*******‬

‫‪150‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل الحادي عرش‬


‫حتقيق املعرفة احلقيقية بالغيبيات من خالل التذكر‬

‫ـ تحقيق المعرفة الحقيقية بالغيبيات يتم من خالل التذكر لمدى‬


‫خطورة الغيبيات‪ ،‬والتذكر والتفكر هو التفكير العميق بطريقة تثير حاسة‬
‫االنتباه النائمة حتى تصحو ويفيق االنسان بعد الغفلة‪.‬‬
‫ـ لو أن إنسانًا سكرانًا يقف يف ميدان المعركة‪ ،‬والقنابل والرصاص‬
‫يدور من حوله يف كل اتجاه‪ ،‬ولكنه هادئ جدً ا غير مضطرب ألنه سكران‪،‬‬
‫فعندما تحدثه بالخطر الهائل من حوله ليفيق تجده يتعجب من قولك وال‬
‫يلقي له ً‬
‫بال‪ ،‬فقدرة اهلل الهائلة تحيط بنا ويف أقل من لحظة نرحل إلى حياة‬
‫كل ما فيها هائل وعجيب لكننا هادئين تما ًما!‬
‫ـ عدم االنتباه لخطورة األمر وعدم التأثر به معناه أن اإلنسان ال يزال‬
‫ال يعرف ما هي الغيبيات وكأنه لم يسمع عنها‪ ،‬فالغيبيات من أخطر ما‬
‫يمكن ولكن لماذا ال تؤثر فينا ونتأثر هبا؟ ذلك ألننا غافلون نعيش يف‬
‫غيبوبة ال ندري ما اهلل وما اآلخرة يف حقيقة األمر‪.‬‬
‫ـ المتغافل عن حقيقة وجوده وحكمة خلقه هو مثل رجل دخل مغارة‬
‫مظلمة يف مكان موحش‪ ،‬فوجد عند مدخلها بقايا لجثة إنسان‪ ،‬فما كان‬
‫منه إال أن وضع رأسه وأسلم جفنيه للنوم‪ ،‬غير آبه بما يحتمل أن يكون‬
‫يف جوف هذه المغارة من وحوش ضارية‪ ،‬وهو يمنّي نفسه بالفرار إذا‬
‫استيقظ‪ ،‬مع أن الموت قد يفاجئه يف أي لحظة‪ ،‬ولذلك ففي الحديث‪:‬‬

‫‪151‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫﴿ما رأيت مثل النار نام هارهبا وال مثل الجنة نام طالبها﴾(‪.)1‬‬
‫ـ فهذا الرجل على يقين تام بأن هذه المغارة فيها مخاطر كبيرة ورغم‬
‫ذلك فهو يتجاهل هذه المخاطر وينام كأنه ال شيء‪ ،‬فهذا الرجل ليس لديه‬
‫شعور بخطورة األمر‪.‬‬
‫ـ لو افرتضنا أن الناس يرون الغيبيات من حولهم‪ ،‬فهم يرون المالئكة‬
‫تسير حولهم ويرى كل واحد قرينه من الشيطان يسير معه‪ ،‬وكذلك يرون‬
‫اهلل ويرون الكرسي والعرش ويرون الجنة ويرون نور الحور العين التي‬
‫تطل من نوافذ الجنة‪ ،‬ولكن كان هناك إنسانًا أعمى يعيش وحوله الناس‬
‫مبصرون‪ ،‬والناس يقولون له حولك اآلن مالئكة هائلة مخيفة ويسير‬
‫معك اآلن قرين من الجن ويراك الخالق فبماذا يشعر هذا األعمى؟ إنه‬
‫يشعر بالرهبة والرعب والخوف وربما ما استطاع أن ينام وهمه منشغل‬
‫هبذا األمور المذهلة‪.‬‬
‫ـ لقد خلق اهلل الناس وأعماهم عن رؤية الغيبيات من حولهم‬
‫ليختربهم‪َ ﴿ :‬ل َقدْ ُكن َْت فِي َغ ْف َل ٍة مِ ْن َه َذا َف َك َش ْفنَا َعن َْك ِغ َطا َء َك َف َب َص ُر َك‬
‫ا ْل َي ْو َم َح ِديدٌ ﴾(‪.)2‬‬
‫مثل ليسوا مصنوعين من مادة كالهواء بحيث‬ ‫ـ فالمالئكة والجن ً‬
‫ال تراها ولكن المشكلة عندك هي أن عينك ممنوعة من رؤية المالئكة‬
‫والجن الموجودين معك اآلن وأنت تقرأ هذه السطور‪.‬‬
‫رجل عاش يف اآلخرة ثم جاء إلى أهل الدنيا ماذا يمكن أن‬ ‫ـ لو أن ً‬
‫يقول لهم؟ إنه سوف يجد أهل الدنيا يعيشون يف حالة من السكر يف غياب‬
‫تام عن االنتباه لما يف اآلخرة من خطر فينادي عليهم‪ :‬أفيقوا من الغيبوبة!‬

‫((( تحقيق األلباين‪ :‬حسن (انظر حديث رقم‪ 5622 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬
‫((( ق‪.22 :‬‬

‫‪152‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فالمشكلة أن رد فعل اإلنسان وانفعاالته ومشاعره ال تتناسب مع‬


‫حجم األلم أو اللذة الشديدة جدً ا فوق كل التصورات‪ ،‬فالجنة فيها متع‬
‫ونفع كبير جدً ا فوق كل التصورات لكن اإلنسان ال يشعر بلذة الشوق‬
‫تجاهها‪ ،‬وإذا كان عنده شعور بلذة الشوق لها فال يتناسب أبدً ا مع حجم‬
‫المتع والملذات الهائل جدً ا الذي يفوق كل التصورات‪.‬‬
‫ـ والنار فيها ضرر كبير جدً ا فوق كل التصورات لكن اإلنسان ال يشعر‬
‫بألم الخوف من مهابتها وألم الخوف من دخولها‪ ،‬وإذا كان عنده شعور‬
‫بألم الخوف من مهابتها فال يتناسب أبدً ا مع حجم الضرر واأللم الهائل‬
‫جدً ا الذي يفوق كل التصورات‪.‬‬
‫ـ بل إن اإلنسان مهما كان يقينه ففي يوم القيامة سوف يكتشف أن‬
‫حجم األلم أو اللذة كان يفوق كل تصوراته عندما يرى المالئكة ويرى‬
‫الجنة والنار ويجد أن الدنيا قد انتهت وأهنا ليست بشيء على اإلطالق!‪،‬‬
‫فهو عندئذ يعلم الحقيقة واضحة ولكن بعد فوات األوان‪ ،‬فالناس يف‬
‫غفلة فإذا ماتوا انتبهوا‪ ،‬ففي اللحظة التي يموت فيها اإلنسان فإنه يرى‬
‫المالئكة ويرى األهوال ويعلم أنه كان يف الدنيا أعمى ال يرى شي ًئا واآلن‬
‫أصبح يرى‪ ،‬وأنه كان أحم ًقا ال عقل له واآلن أدرك الحقائق ولكن ال‬
‫يستطيع أن يعود ولو للحظة واحدة‪ ،‬فالغافل يرى أمر اآلخرة بعيدا جدً ا‬
‫وال يعلم أنه يف لحظة واحدة مفاجأة مباغتة من ليل أو هنار قد يأتيه عذاب‬
‫ج ُل مِنْ ُه‬
‫اآلخرة فورا‪ُ ﴿ :‬ق ْل َأر َأ ْيتُم إِ ْن َأ َتاكُم َع َذا ُب ُه َب َيا ًتا أو ن ََهارا ما َذا َيس َت ْع ِ‬
‫ْ‬ ‫ً َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ً‬
‫ِ ُ َ ‪1‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون (‪َ )50‬أ ُث َّم إ َذا َما َو َق َع آ َمنْت ُْم بِه ْآل َن َو َقدْ ُكنْت ُْم بِه َت ْس َت ْعجلون( )‪.‬‬ ‫ا ْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫ـ اهلل سبحانه له قدرات هائلة جدً ا فوق كل التصورات ولو اجتمع‬
‫البشر جمي ًعا لن يستطيعوا أن يصنعوا شي ًئا ولو بسي ًطا مما يصنعه الخالق‬

‫((( يونس‪.51 ،50 :‬‬

‫‪153‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫مثل‪ ،‬وعلم اهلل بكل شيء حتى ما سيكون ومقدرته‬ ‫كأن يخلقوا ذبابة ً‬
‫على كل شيء فوق كل التصورات‪ ،‬ولكن اإلنسان ال يشعر بالخوف‬
‫من مهابة هذه القدرات‪ ،‬وال يشعر باالنبهار واإلعجاب والحب لهذه‬
‫الصفات الخارقة التي تصل إلى الكمال‪ ،‬وال يشعر بالشوق والرجاء يف‬
‫الجنة بما فيها من المتع والحور العين والخمور والملذات التي تفوق كل‬
‫التصورات‪ ،‬وال يشعر بالخوف والرعب والفزع من آالم النار المحرقة‪.‬‬
‫ـ وجميع آالم الدنيا وملذاهتا ليست بشيء أمام اآلخرة ورغم ذلك‬
‫تتفاعل معها مشاعر اإلنسان وانفعاالته يف حين ال تتفاعل وتتأثر بالغيبيات‪،‬‬
‫فذلك يدل على حماقة اإلنسان وعدم وجود المعرفة الحقيقية بالغيبيات‪.‬‬
‫ـ العجيب أن اإلنسان يعيش يف هدوء تام وغفلة تامة عن هذه المخاطر‬
‫الهائلة‪ ،‬فهو يوقن هبا ولكن ال يشعر بخطرها مطل ًقا‪.‬‬
‫ـ وأراد اهلل أن تكون الدنيا معزولة تما ًما عن هذه المخاطر وهادئة‬
‫تما ًما‪ ،‬فاإلنسان ال يرى الغيبيات بعينه فال يرى تلك المخاطر‪ ،‬وجعل‬
‫اهلل ذلك ليخترب اإلنسان‪ ،‬والرسل جاءت تحذر من هذه المخاطر ولكن‬
‫ال حياة لمن تنادي‪ ،‬ولكن بعد لحظات من اآلن نجد أنفسنا واقفين على‬
‫أرض المحشر لنتذكر تحذير الرسل ولكن ذلك ال ينفع‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان يعيش وسط خطر رهيب وعلى حافة هاوية سحيقة وأمامه‬
‫كم هائل ال يستطيع تصوره من شهوات الحور العين والملذات والطعام‬
‫والشراب‪ ،‬لكنه معزول تما ًما عن رؤية كل هذا وهو يعيش يف هدوء تام‪،‬‬
‫بل على العكس تبدو الحياة حلوة خضرة بما فيها من شهوات تبدو عظيمة‬
‫القيمة يف حين أن الحقيقة عكس ذلك تما ًما‪ ،‬فالمتع التي نعيشها ليست‬
‫هي المتع‪ ،‬واآلالم التي نعايشها ليست بآالم‪ ،‬وإنما المتع هي متع الجنة‬
‫واآلالم هي آالم النار ونحن نوقن بذلك ولكننا نتناسى ونتغافل‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ احلياة عند حلظات وقوع اخلطر‪:‬‬


‫ـ عندما تقع كارثة معينة أو توشك أن تقع أو عندما يتعرض الناس‬
‫لخطر معين ما الذي يحدث؟‪ ،‬إن الناس يعيشون لحظات الخطر يف‬
‫رعب وخوف وهلع وترقب لما يمكن أن يحدث‪ ،‬كل الناس يرتكون‬
‫عملهم ولعبهم ويتوقفون عن الطعام والشراب وال ينشغلون بأمور الدنيا‬
‫مطل ًقا‪ ،‬منهم من يجري ومنهم يموت من هول الصدمة ومنهم من يصاب‬
‫بالهستيريا‪.‬‬
‫ـ السنوات التي نعيشها يف هذه الحياة ولو كانت مائة سنة ليست إال‬
‫لحظات وقوع الخطر‪ ،‬والخطر الذي نتعرض له هو أننا اآلن مسافرون يف‬
‫لحظات إلى اآلخرة بكل ما فيها من أهوال لنعيش فيها حياة أبدية وبال‬
‫رجعة‪ ،‬وكذلك الخطر الهائل جدً ا الذي هو قدرة اهلل وعلمه ومراقبته‬
‫لنا‪ ،‬فقدرة اهلل معنا يف كل مكان أينما ذهبنا ولو يف الحصون والمخابئ‬
‫المحصنة‪ ،‬وقدرة اهلل هائلة جدً ا فهي أمر مخيف ومرعب‪ ،‬وكذلك علم‬
‫اهلل ومراقبته لنا ورؤيته لنا يف كل مكان ولو يف الظالم ولو داخل الحجرات‬
‫المغلقة‪ ،‬نحن نعيش يف حصار تام ونخضع لهيمنة تامة لن نستطيع أن‬
‫نفلت أو هنرب‪.‬‬
‫ـ أعمال الدنيا كلها عند لحظة وقوع الخطر ما هي إال لعب ولهو‪،‬‬
‫والدنيا ما هي إال لحظات الخطر‪ ،‬والعجيب أن هناك نائمون وآخرون‬
‫يلعبون والخطر يحيط هبم فهؤالء ال عقل لهم قد ماتت عقولهم‪ ،‬وهناك‬
‫آخرون قد أخرجوا كل أعمال الدنيا من قلوهبم وشمروا سواعدهم‬
‫والذوا بالفرار يف رعب وخوف ال يأمنون ما الذي يمكن أن يحدث لهم‬
‫أو يصيبهم من هذا الخطر الهائل‪ ،‬فهؤالء هم أصحاب العقول وهؤالء‬
‫هم أولوا األلباب‪َ ﴿ :‬أ َف َأمِ َن َأ ْه ُل ا ْل ُق َرى َأ ْن َي ْأتِ َي ُه ْم َب ْأ ُسنَا َب َيا ًتا َو ُه ْم نَائِ ُم َ‬
‫ون‬
‫ون (‪َ )98‬أ َف َأمِنُوا‬‫(‪َ )97‬أ َو َأمِ َن َأ ْه ُل ا ْل ُق َرى َأ ْن َي ْأتِ َي ُه ْم َب ْأ ُسنَا ُض ًحى َو ُه ْم َي ْل َع ُب َ‬

‫‪155‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫م ْكر اهَّللِ َف َل ي ْأمن م ْكر اهَّللِ إِ َّل ا ْل َقوم ا ْل َخ ِ‬


‫اس ُر َ‬
‫ون﴾(‪.)1‬‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ـ الفارق بني اخليال وال�سحر وبني الغيبيات‪:‬‬
‫ـ الفارق يف أمرين هما‪:‬‬
‫‪1‬ـ الغيبيات أعجب وأغرب من الخيال والسحر‪ً ،‬‬
‫فمثل الجنة فيها ما‬
‫ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر‪ ،‬واهلل يقول للشيء‬
‫كن فيكون وال يعجزه شيء‪.‬‬
‫‪2‬ـ الغيبيات حقيقة‪ ،‬أما الخيال والسحر فهو وهم‪.‬‬
‫ـ مثال يو�ضح حجم اخلطر الهائل الواقع علينا‪:‬‬
‫ـ الدنيا عبارة عن حجرة هادئة تما ًما وساكنة‪ ،‬وداخل هذه الحجرة‬
‫يوجد رجل يلهو ويلعب وسط هذا الجو الهادئ‪ ،‬وخارج الحجرة توجد‬
‫نار هائلة تقرتب وتوشك أن تشتعل بالحجرة‪ ،‬والرسل جاءت تدق الباب‬
‫عال‪ :‬احذروا النار احذروا النار! وتنادي على من‬ ‫بشدة وتنادي بصوت ٍ‬
‫يف الحجرة أن ينظر إلى الشباك ليرى النار‪ ،‬وتدله على ممر للنجاة وسط‬
‫النار يؤدي إلى حدائق وقصور فيها األمان والمتع والملذات (الجنة)‪،‬‬
‫فسمع الرجل النداء ورأى النار من الشباك‪ ،‬ولكنه تجاهل األمر وتغافل‬
‫عنه كأنه لم يسمع النداء وكأنه لم َير النار من الشباك وكأنه لم يفهم ما قالته‬
‫الرسل‪ ،‬واستمر يف لعبه ولهوه وسط الجو الهادئ داخل الحجرة‪ ،‬ولم‬
‫تتأثر مشاعره ولم يتحرك للهرب‪ ،‬فكأن هذا الرجل ال سمع له وال بصر‬
‫له وال عقل له وال مشاعر له وكأن جوارحه ال تعمل فكأنه ميت‪ ،‬فرغم‬
‫أن هذا الرجل يلعب ويلهو لكنه يف الحقيقة ميت! فمهما أخذت تنادي‬
‫فيه‪ :‬احذر النار! فكأنما تكلم ميتًا ال روح فيه‪﴿ :‬إِن ََّك َل ُت ْس ِم ُع ا ْل َم ْو َتى‬

‫((( األعراف‪.99 – 97 :‬‬

‫‪156‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الص َّم الدُّ َعا َء إِ َذا َو َّل ْوا ُمدْ بِ ِري َن﴾(‪ ،)1‬فهذا الرجل كاألنعام يأكل‬ ‫ِ‬
‫َو َل ُت ْسم ُع ُّ‬
‫ويشرب ويتناسل وينام‪ ،‬والبهائم ال تفقه خطاب البشر مهما ناديتها‪:‬‬
‫ون بِ َها‬
‫وب ال َي ْف َق ُه َ‬ ‫ج ِّن َو ْالِن ِ‬
‫ْس َل ُه ْم ُق ُل ٌ‬ ‫﴿و َل َقدْ َذر ْأنَا ل ِ َج َهنَّم كثيرا مِ َن ا ْل ِ‬
‫َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ون بِ َها ُأو َلئِ َك كَاألنعام َب ْل‬ ‫ان ال َي ْس َم ُع َ‬ ‫َو َل ُه ْم َأ ْع ُي ٌن ال ُي ْب ِص ُر َ‬
‫ون بِ َها َو َل ُه ْم آ َذ ٌ‬
‫ون﴾(‪ ،)2‬فما زالت الرسل تدق الباب وتنادي‬ ‫ُه ْم َأ َض ُّل ُأو َلئِ َك ُه ُم ا ْل َغافِ ُل َ‬
‫وهو يستمع إليهم وهو يلعب مثلما يستمع إلى أمر تافه أو ال قيمة له‪:‬‬
‫يه ْم مِ ْن ِذك ٍْر‬‫ون (‪َ )1‬ما َي ْأتِ ِ‬ ‫َّاس ِح َسا ُب ُه ْم َو ُه ْم فِي َغ ْف َل ٍة ُم ْع ِر ُض َ‬ ‫﴿ا ْقت ََر َب لِلن ِ‬
‫ون‪ِ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫اله َي ًة ُق ُلو ُب ُه ْم﴾(‪.)3‬‬ ‫است ََم ُعو ُه َو ُه ْم َي ْل َع ُب َ‬‫م ْن َر ِّب ِه ْم ُم ْحدَ ث إال ْ‬
‫اهَّلل َع َل ْي ِه َو َس َّل َم جاء إلى‬ ‫ـ ويمكن تشبيه ذلك بأن الرسول َص َّلى ُ‬
‫الناس ليحذرهم من أن هناك خطر عظيم سوف يجتاحهم‪ ،‬هذا الخطر‬
‫هو جيش جرار جاء ليقضي عليهم‪ ،‬فكان طائفة منهم لم يتأثروا ولم‬
‫ينتبهوا لخطورة األمر ولم يشعروا بالخوف والرعب‪ ،‬ومن أثر ذلك‬
‫أهنم لم يتحركوا من مكاهنم ولم يهربوا‪ ،‬وكأن شي ًئا لم يكن‪ ،‬وكأهنم لم‬
‫يسمعوا‪ ،‬وكأهنم كالحائط الذي ال يحس‪ ،‬وبقوا مكاهنم منشغلين بحياهتم‬
‫وطعامهم وشراهبم‪ ،‬فهؤالء جاء الجيش إليهم فقضى عليهم‪ ،‬وطائفة‬
‫أخرى تحركت مشاعرهم وشعروا بالخوف والذوا بالفرار فنجو من‬
‫اهَّلل َع َل ْي ِه َو َس َّل َم‪ ،‬ففي‬
‫الجيش‪ ،‬وهذا المثل هو ما أوضحه الرسول َص َّلى ُ‬
‫الحديث‪﴿ :‬إنما َم َثلي ومثل ما بعثني اهلل به كمثل رجل أتى قو ًما فقال يا‬
‫قوم إين رأيت الجيش بعيني وإين أنا النذير العريان فالنجاء النجاء‪ ،‬فأطاعه‬
‫طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا‪ ،‬وكذبت طائفة منهم‬
‫فأصبحوا مكاهنم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم‪ ،‬فذلك مثل‬

‫((( النمل‪.80 :‬‬


‫((( األعراف‪.179 :‬‬
‫((( األنبياء‪ 1 :‬ـ ‪.3‬‬

‫‪157‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاين وكذب بما جئت به من‬
‫َان على َم َكان َعال َف َبصر‬ ‫الحق(‪ ،)1‬ومعنى (النذير العريان) أن الرجل إِذا ك َ‬
‫بالعدو نزع َث ْوبه فأالح بِ ِه لينذر القوم‪َ ،‬فيبقى ُعر َيانا‪ ،‬وعري النذير أبلغ فِي‬
‫علموا َأن األمر َعظِيم‪ ،‬وقيل معناه أنَا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْالن َْذار؛ لَن القوم إِذا َر َأ ْو ُه ُعر َيانًا ُ‬
‫الن َِّذير ا َّل ِذي َأ ْد َركَنِي َج ْي ُش ا ْل َعدُ ّو‪َ ،‬ف َأ َخ َذ ثِ َيابِي‪ ،‬فانفلت منهم‪َ ،‬ف َأنَا ُأن ِْذرك ُْم‬
‫نارا فلما أضاءت ما‬ ‫ُع ْر َيانًا‪ ،‬ويف حديث آخر‪﴿ :‬مثلي كمثل رجل استوقد ً‬
‫حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن يف النار يقعن فيها وجعل‬
‫يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها‪ ،‬فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم‬
‫عن النار هلم عن النار هلم عن النار فتغلبوين فتقتحمون فيها﴾(‪‌.)2‬‬
‫ـ فاإلنسان الغافل يعيش كأن حياة البشر على األرض والمنظومة‬
‫الكونية ليس لها أحد يسيطر عليها ويحكمها وكأن كل إنسان يعيش حياته‬
‫كيف يشاء‪ ،‬كأن البشر موجودون من تلقاء أنفسهم وال توجد حكمة من‬
‫إيجادهم‪ ،‬ويتغافل عن كل األخطار التي حوله ويعيش يف الحياة هادئًا‬
‫ٍ‬
‫وراض‬ ‫مطمئنًا كأن حياته إنما هي على ظهر هذه األرض‪ ،‬فهو مطمئن‬
‫بالحياة الدنيا رغم أن وجود اإلنسان على األرض ليس حياة يقيم فيها‬
‫ويسكن ولكنها مجرد طريق وسفر واختبار وليست معدة للمعيشة‪،‬‬
‫والحياة التي يعيشها الناس ويقيمون فيها هي يف اآلخرة‪﴿ :‬إِ َّن ا َّل ِذي َن ال‬
‫اة الدُّ ْن َيا َوا ْط َم َأنُّوا بِ َها َوا َّل ِذي َن ُه ْم َع ْن آ َياتِنَا‬
‫ون ل ِ َقاءنَا ور ُضوا بِا ْلحي ِ‬
‫ََ‬ ‫َي ْر ُج َ َ َ َ‬
‫ون﴾(‪ ،)3‬فالحياة التي يعيش‬ ‫ون‪ُ ،‬أو َلئِ َك َم ْأ َو ُاه ُم الن َُّار بِ َما كَانُوا َي ْك ِس ُب َ‬
‫َغافِ ُل َ‬
‫فيها اإلنسان ويأكل ويشرب ويلبس ويقيم هي اآلخرة أما هذه الحياة التي‬
‫نعيشها فهي حياة كاذبة مؤقتة مثل الحياة التي يعيشها عابر السبيل ليصل‬
‫ب َوإِ َّن الدَّ َار اآلخرة‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫﴿و َما َهذه ا ْل َح َيا ُة الدُّ ْن َيا إال َل ْه ٌو َو َلع ٌ‬
‫إلى بيته ووطنه‪َ :‬‬
‫أيضا يف صحيح الجامع برقم ‪.)5860‬‬
‫((( متفق عليه (مشكاة المصابيح ج‪ ،1:‬برقم ‪ ،148‬وهو ً‬
‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 5858 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬
‫((( يونس‪.8 ،7 :‬‬

‫‪158‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ون﴾(‪« ،)1‬الحيوان» أي الحياة الحقيقية ويف‬ ‫َل ِهي ا ْل َح َي َو ُ‬


‫ان َل ْو كَانُوا َي ْع َل ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اآلية‪َ ﴿ :‬يقول َيا ل ْيتَني قدَّ ْم ُت ل َح َياتي﴾( ) أي لحياته يف اآلخرة‪ ،‬لذلك‬
‫‪2‬‬

‫من الناس من تكون قضيته كيف يعيش حياته وكيف يقوم بشئون معيشته‬
‫وكيف يدبر أموره المعيشية وهو ال يدري أهنا ليست بحياة وأهنا مجرد‬
‫سفر أوشك أن ينتهي‪ ،‬أما الذي يدرك أنه على سفر فهو منشغل بسفره‬
‫عن هذه األمور المعيشية المؤقتة فهو ال يبالي بلقيمات تعينه على سفره‬
‫كيفما اتفق‪ ،‬وال يبالي كيف تكون هذه الحياة المعيشية العابرة؛ ألهنا زائلة‬
‫سري ًعا فتكون عنده كيفما اتفق‪.‬‬
‫ـ عدم ر�ؤية اخلطر ال مينع وقوعه‪:‬‬
‫ـ عدم رؤية المالئكة والجن من حولنا‪ ،‬وعدم رؤية اهلل‪ ،‬وعدم رؤية‬
‫الجنة والنار الموجودتين اآلن كل هذا ال يغير من حقيقة األمر شي ًئا‪ ،‬فكل‬
‫هذا واقع سواء رضينا أم أبينا‪ ،‬سواء تجاهلنا األمر أم انتبهنا له‪ ،‬ونحن بعد‬
‫وقت وشيك من اآلن سوف نجد أنفسنا يف اآلخرة ونجد أنفسنا واقفين‬
‫أمام اهلل ونرى المالئكة والجنة والنار أمامنا‪ ،‬سواء رضينا أم أبينا‪ ،‬سواء‬
‫تجاهلنا ذلك أم انتبهنا له‪.‬‬
‫ـ فنحن نعيش يف عزلة تامة عن الخطر الهائل يف حياة هادئة تما ًما‬
‫مناقضة تما ًما للحياة الحقيقية‪ ،‬ونحن معزولون تما ًما عن رؤية الخالق‬
‫ورؤية المالئكة والجن‪ ،‬ومعزولون تما ًما عن رؤية ما يحدث يف القرب‬
‫ورؤية أهوال الحساب ورؤية الجنة والنار‪ ،‬وعلى العكس تما ًما نعيش يف‬
‫حياة خادعة تما ًما يف ظاهرها‪ ،‬فتبدو كأهنا حياة اإلقامة والخلود وكأنه ال‬
‫حياة بعدها‪.‬‬
‫ـ فظاهر األمور يف الدنيا على عكس حقيقتها‪ ،‬وهذه خدعة كبيرة جدً ا‬

‫((( العنكبوت‪.64 :‬‬


‫((( الفجر‪.24 :‬‬

‫‪159‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ال يفطن إليها إال الذي يتأمل ويتدبر الحقيقة دون أن ينخدع بالظاهر‪ ،‬ويف‬
‫ور﴾ َأي ِهي متَاع َف ٍ‬ ‫تاع ا ْل ُغ ُر ِ‬
‫ان‬ ‫ْ َ َ ٌ‬ ‫﴿﴿و َما ا ْل َحيا ُة الدُّ نْيا إِ َّل َم ُ‬ ‫َ‬ ‫تفسير ابن كثير‪:‬‬
‫ج ُب ُه َحتَّى َي ْعت َِقدَ َأ َّن ُه َل َد َار ِس َو َاها َو َل‬ ‫َغار لِم ْن ر َك َن إِ َل ْي ِه‪َ ،‬فإِ َّن ُه َي ْغتَر بِ َها َو ُت ْع ِ‬
‫ُّ‬ ‫ٌّ َ َ‬
‫َم َعا َد َو َرا َء َها‪َ ،‬وه َي حقيرة قليلة بالنسبة إلى دار اآلخرة﴾(‪.)1‬‬ ‫ِ‬

‫بسور هائ ٍل جدً ا‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬


‫ومحاط‬ ‫هدوء تا ٍم جدً ا‬‫ٍ‬ ‫ـ وبالتالي يعيش اإلنسان يف‬
‫يعزله تما ًما عن الخطر الذي يحيط به من كل جانب‪ ،‬وبالتالي كلما نظر‬
‫اإلنسان إلى ما وراء الحائط تذكر ثم إذا نظر داخل الحائط نسي‪ ،‬والعاقل‬
‫هو الذي ال يغفل نظره عن الواقع الحقيقي الذي هو الخطر المحيط به‬
‫وليس الواقع المزيف الذي هو مجرد سور يعزله عن الخطر‪.‬‬
‫ـ املعرفة احلقيقية بوجود املالئكة واجلن من حولنا‪:‬‬
‫ـ ربما تسمع أساطير عن إنسان رأى عفاريت وأشباح أو أن مكانًا‬
‫معينًا مسكونًا بالعفاريت‪ ،‬هذه أمور مرعبة‪ ،‬فالمالئكة من حولنا اآلن أشد‬
‫رع ًبا من هذه العفاريت ً‬
‫فضل عن أهنا حقيقة‪ ،‬فأي عاقل يوقن بأنه يعيش‬
‫وحوله كائنات أكثر رع ًبا من العفاريت ثم ال يشعر بالقلق والخوف من‬
‫مهابتها‪ ،‬وأي عاقل يوقن بأنه سوف يرى هذه المالئكة ويرى األهوال يوم‬
‫القيامة ثم ال يشعر بالقلق والخوف من مهابة األمر!‬
‫ـ وجود كائنات تختلف عن البشر وال يراها الناس ولها قدرات هائلة‬
‫هو أمر مدهش وعجيب ومذهل‪ ،‬لكن بالنسبة للغافل هو أمر عادي؛ ألنه‬
‫يف حقيقة األمر هو يجهل هذا األمر‪.‬‬
‫ـ فهذه الكائنات عجيبة من حيث تكوينها وصفاهتا وقدراهتا ومن‬
‫حيث وجودها معنا ومن حيث أننا ال نراها‪ ،‬لكن كل هذا ال يثير انتباه‬
‫الغافل عنها‪ ،‬وهو يعيش كأهنا كالعدم أو كأهنا كائنات عادية جدً ا وليس‬
‫فيها أمور تدعو للدهشة‪ ،‬وذلك رغم يقينه التام بوجودها‪.‬‬

‫((( تفسير ابن كثير ط العلمية (‪.)57 /8‬‬

‫‪160‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ لو قيل لك أن هناك اثنين من الكائنات الفضائية العمالقة يسيران‬


‫معك يف كل لحظة وهما يف حالة اختفاء فال تستطيع رؤيتهما ويحمالن‬
‫كاميرات مراقبة خفية ويسجالن عليك كل حركة وسكنه وكل كلمة‬
‫حيث تحاسب على كل شيء‪ ،‬إنك عندئذ تشعر بخطورة األمر‪ ،‬فأنت‬
‫تعيش وصورة هذه الكاميرات وهي ترصدك ال تكاد تفارق ذهنك يف كل‬
‫أعمالك‪ ،‬أما لو قيل أن هناك ملكين يسجالن عليك كل شيء فقد تنظر‬
‫إلى ذلك كما تنظر إلى أمر ال قيمة له أو كأنه أمر ال يخصك فال تشعر‬
‫بأي قيمة أو خطورة لهذا األمر فهذا يدل على أنك غافل تما ًما عن وجود‬
‫الملكين معك اآلن ويف كل وقت‪.‬‬
‫ـ وكيف تكون حياة الناس لو أن اهلل جعل الناس يرون الرقيب والعتيد‬
‫وهما يسيران مع كل واحد يف كل لحظة؟! وهل عدم رؤية الناس لهم‬
‫أيضا لو أن اهلل كشف الحجب‬ ‫تغير من حقيقة وجودهم معنا شي ًئا؟ وماذا ً‬
‫فرأى الناس اهلل وهم يف الدنيا؟ وهل هذا يغير من حقيقة وجود اهلل شي ًئا؟‬
‫ولكن ال يشعر اإلنسان بالمهابة من وجود اهلل ومن وجود المالئكة رغم‬
‫وجود االقتناع التام بوجود الخالق ووجود المالئكة‪.‬‬
‫ـ فالبد أن يشعر اإلنسان بأن وجود الجن والمالئكة حقيقة واقعة‬
‫حوله اآلن يف هذه اللحظة ويف كل وقت‪ ،‬وال يمكن إلنسان عاقل أن‬
‫تغيب صورة هذه المالئكة والشياطين وهي تعيش معه وتالزمه عن ذهنه‬
‫أبدً ا‪.‬‬
‫ـ تصور لو أن الناس ترى المالئكة حولها ويف الطرقات لصعق الناس‬
‫جمي ًعا وماتوا من هول ما يشاهدونه‪ ،‬ففي تفسير الخازن‪﴿﴿ :‬ولو جعلناه‬
‫رجل﴾ يعني ولو أرسلنا إليهم مل ًكا لجعلناه يف صورة رجل‪،‬‬
‫مل ًكا لجعلناه ً‬
‫وذلك أن البشر ال يستطيعون أن ينظروا إلى المالئكة يف صورهم التي‬
‫خلقوا عليها‪ ،‬ولو نظر إلى الملك ناظر لصعق عند رؤيته‪ ،‬ولذلك كانت‬
‫المالئكة تأيت األنبياء يف صورة األنس‪ ،‬كما جاء جربيل إلى النبي (ﷺ) يف‬

‫‪161‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫صورة دحية الكلبي‪ ،‬وكما جاء الملكان إلى داود عليه السالم يف صورة‬
‫رجلين‪ ،‬وكذلك أتى المالئكة إلى إبراهيم ولوط عليهما السالم‪ ،‬ولما رأى‬
‫النبي (ﷺ) جربيل يف صورته التي ُخلق عليها صعق لذلك وغشي عليه﴾‬
‫(‪ ،)1‬ويف تفسير القرطبي‪﴿ :‬ولو أنزلنا مل ًكا لقضي األمر﴾ قال ابن عباس‪:‬‬
‫لو رأوا الملك على صورته لماتوا؛ إذ ال يطيقون رؤيته﴾(‪ ،)2‬ويف تفسير‬
‫الثعالبي‪﴿ :‬لماتوا من هول رؤية الملك يف صورته﴾(‪ ،)3‬ويف تفسير روح‬
‫المعاين‪﴿﴿ :‬ولو أنزلنا مل ًكا لقضي األمر﴾ أي أمر هالكهم لعدم قدرهتم‬
‫على تحمل مشاهدته﴾(‪ ،)4‬أي يموت اإلنسان من شدة الرعب والفزع من‬
‫رؤية هذه المخلوقات المرعبة جدً ا الهائلة يف ضخامة خلقتها‪.‬‬
‫ـ لماذا تخاف المالئكة من اهلل؟ إهنا تخاف من هيبة اهلل تعالى‪:‬‬
‫الرعْدُ بِ َح ْم ِد ِه َوا ْل َمالئِ َك ُة مِ ْن ِخي َفتِ ِه﴾(‪ ،)5‬وهذا الخوف يؤدي‬
‫﴿و ُي َس ِّب ُح َّ‬
‫َ‬
‫هبم إلى عمل دائم هو أهنم يسبحون اهلل تعالي‪ ،‬ويف الحديث‪﴿ :‬مررت‬
‫ليلة أسري بي بالمأل األعلى وجربيل كالحلس(‪ )6‬البالي من خشية‬
‫اهلل(‪ ،)7‬إن المالئكة عرفت عظمة اهلل وعظمة قدره وعظمة قدرته معرفة‬
‫أيضا إذا كنت تعرف‬‫حقيقية أدت إلى الشعور بالمهابة والحب هلل‪ ،‬وأنت ً‬
‫قدرة اهلل معرفة حقيقية فالبد أن ينشأ عن ذلك الشعور بالمهابة والحب‬
‫هلل تعالى‪.‬‬
‫********‬

‫تفسير الخازن ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (‪.)120 / 2‬‬ ‫(((‬


‫تفسير القرطبي ‪-‬دار الكتب المصرية‪ -‬القاهرة (‪.)393 / 6‬‬ ‫(((‬
‫تفسير الثعالبي ‪-‬دار إحياء الرتاث العربي‪ -‬بيروت (ج‪ ،21 :‬ص‪.)447 :‬‬ ‫(((‬
‫تفسير روح المعاين ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (ج‪ ،7 :‬ص‪.)107 :‬‬ ‫(((‬
‫الرعد‪ :‬من اآلية ‪.13‬‬ ‫(((‬
‫الحلس هو كساء رقيق يوضع على ظهر البعير تحت السرج‪.‬‬ ‫(((‬
‫تحقيق األلباين‪ :‬حسن (انظر حديث رقم‪ 5864 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬ ‫(((‬

‫‪162‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل الثاين عرش‬


‫املعرفة احلقيقية بخطورة احلياة يف الآخرة‬

‫ـ تتحقق المعرفة الحقيقية بخطورة الحياة يف اآلخرة من خالل التذكر‬


‫لمدى خطورهتا‪.‬‬
‫ـ اآلخرة شيء مهيب ومخيف ومرعب ومفزع ويدعو إلى القلق‪،‬‬
‫فبدون أن يحدث خوف مهابة من اآلخرة فاإلنسان ال يزال ال يعرف ما‬
‫هي اآلخرة‪.‬‬
‫ـ وطالما أن مشاعر اإلنسان لم تتأثر باآلخرة (الخوف والرجاء)‬
‫وطالما أن المال والدنيا والشهوات ما زالت هدف اإلنسان فهو ال يزال‬
‫ال يعرف ما هي اآلخرة وكأنه لم يسمع عنها‪.‬‬
‫ـ فال تتحقق المعرفة باآلخرة حتى تكون اآلخرة حقيقة واقعة يف ذهن‬
‫المؤمن يشعر بخطورهتا وبالتالي تؤثر على مشاعره وهمومه وتفكيره‬
‫وأمانيه؛ ألهنا الخطر المرتقب والحياة المنتظرة‪.‬‬
‫ـ لو قالوا لك أن الكرة األرضية معرضة لخطر ما محقق ووشيك مثل‬
‫نزول نيزك ضخم يحطم األرض أو تعرض األرض ألشعة هتلك البشر‬
‫وأن هذا الخطر حقيقة سوف تقع‪ ،‬فماذا يمكن أن يكون سلوك الناس‬
‫عندئذ؟‪ ،‬هل يكون همهم مشاغل الحياة واألكل والشرب والبحث عن‬
‫نص ًّبا على هذا األمر الذي‬
‫الشهوات والذهاب للعمل أم يكون همهم ُم َ‬
‫فعل وهو أنك سوف‬ ‫سوف يهلك البشرية كلها‪ ،‬إن هذا الخطر واقع ً‬

‫‪163‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫تموت قري ًبا وسوف يموت كل البشر وسوف تدمر األرض وكل الكون‪،‬‬
‫فلماذا ال يشغل هذا األمر بال الناس ويفكرون فيه؟ ذلك ألهنم يتجاهلونه‬
‫بينما يفكرون ويهتمون بأمور الدنيا‪.‬‬
‫حدث كوين كبير ثم قيل إن القيامة سوف تقوم‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫حدث‬ ‫ـ وكذلك لو‬
‫مثل‪ ،‬فماذا يمكن أن يفعل الناس؟ إهنم لن ينشغلوا بأي أمر من‬ ‫اآلن ً‬
‫أمور الدنيا وسوف يهرعون إلى الصالة والعبادة خائفين وجلين مرتقبين‬
‫َّاس ِح َسا ُب ُه ْم وهم يف غفلة معرضون﴾(‪.)1‬‬
‫اآلخرة‪﴿ :‬ا ْقت ََر َب لِلن ِ‬
‫ـ ونو�ضح الأمر مبثال �آخر‪:‬‬
‫ـ كان أحد الناس يجلس على مكتبه داخل أحد المباين الكبيرة يؤدي‬
‫عمله يف هدوء‪ ،‬ثم فجأة دق جرس اإلنذار‪ ،‬لكنه لم ينزعج وبقي هادئًا‬
‫جالسا على مكتبه‪ ،‬رغم أنه كان يعلم أن جرس اإلنذار يعني‬ ‫ً‬ ‫يف مكانه‬
‫أن هناك حريق بالمبنى وأنه سوف يسقط ويوقن بذلك تما ًما‪ ،‬وأسرع‬
‫الناس يف المبنى يلوذون بالفرار وهم ينادون على هذا الرجل الجالس‬
‫على مكتبه‪ :‬احذر النار احذر النار! أال تعلم أن هناك حريق كبير بالمبنى؟‬
‫منشغل بأعماله‪ ،‬وظل‬ ‫ً‬ ‫فيقول لهم يف برود أعلم ذلك‪ ،‬وبقي يف هدوءه‬
‫الناس ينادون عليه حتى نبح صوهتم من كثرة النداء‪ ،‬لكن ال حياة لمن‬
‫أصما ال يسمع أو ينادون‬ ‫رجل ال عقل له أو ينادون ً‬ ‫تنادي‪ ،‬فكأنما ينادون ً‬
‫رجل ميتًا ليس لديه أي إحساس أو عقل‬ ‫جما ًدا من الجمادات أو ينادون ً‬
‫فعل ميت وليس بحي‪ ،‬وكما يقول الشاعر‪ :‬لقد أسمعت إذ‬ ‫أو وعي‪ ،‬إنه ً‬
‫لم ْن تنادي‪ ،‬فمهما أنذرته فلن يستجيب إال إذا‬ ‫ناديت ح ًيا‪ ،‬ولكن ال حياة َ‬
‫ح َّق ا ْل َق ْو ُل َع َلى ا ْل َكافِ ِري َن﴾(‪﴿ ،)2‬إِن ََّك‬
‫َان حيا وي ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫كان ح ًيا‪﴿ :‬ل ُينْذ َر َم ْن ك َ ً َ َ‬
‫((( األنبياء‪.1 :‬‬
‫((( يس‪.70 :‬‬

‫‪164‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الص َّم الدُّ َعا َء إِ َذا َو َّل ْوا ُمدْ بِ ِري َن﴾(‪﴿ ،)1‬إِن ََّما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َل ُت ْسم ُع ا ْل َم ْو َتى َو َل ُت ْسم ُع ُّ‬
‫اهَّلل ُث َّم إليه ُي ْر َج ُع َ‬
‫ون﴾(‪.)2‬‬ ‫يب ا َّل ِذي َن َي ْس َم ُع َ‬
‫ون َوا ْل َم ْو َتى َي ْب َع ُث ُه ُم ُ‬ ‫َج ُ‬‫َيست ِ‬
‫ْ‬
‫ـ فهذا الرجل كان عليه أن يتصور خطورة األمر فيشعر بالمهابة‪،‬‬
‫ويخاف من الضرر إذا لحقته النار‪ ،‬ثم يسرع للهرب‪.‬‬
‫ـ فكذلك الذي يقول بأنه يوقن باآلخرة وبسقوط الدنيا وبأنه راحل‬
‫إلى اآلخرة ثم هو ال يتصور هذا الخطر وال يخافه وال يسرع باالستعداد‬
‫منشغل بأمور الدنيا التي سوف تسقط ً‬
‫حال‬ ‫ً‬ ‫لذلك ويعيش يف الدنيا هادئًا‬
‫يسمع الموسيقى ويأكل الحلوى!‬
‫ـ إن الرسل جاءت لتنذر الناس بوجود اآلخرة والجنة والنار‪ ،‬وهذا‬
‫اإلنذار أشد من اإلنذار بوجود حريق أو خطر ما‪ ،‬ورغم ذلك هناك من ال‬
‫ينزعج لألمر وال يتصور خطورته ويدعي أنه يخاف اآلخرة‪.‬‬
‫ـ معرفة اإلنسان بأن هناك عالم آخر غير عالمنا الذي نعيش فيه مجهز‬
‫ومعد الستقبالنا حينما نصل إليه البد أن تكون معرفة حقيقية‪ ،‬لكن مات‬
‫المعنى لكلمة (اآلخرة)‪ ،‬وإلحياء هذا المعنى يجب التعامل مع اآلخرة‬
‫كأن اإلنسان يسمع عنها ألول مرة‪.‬‬
‫نواح هي‪:‬‬
‫ـ ت�صور خطورة الآخرة يكون من �أربع ٍ‬
‫‪1‬ـ تصور اآلخرة كعالم آخر رهيب‪ ،‬وهذا يدعو إلى الشعور بالمهابة‬
‫من اآلخرة‪:‬‬
‫مثل أن اآلخرة فيها جنة فقط‪ ،‬وكل الناس ينتقلون من‬ ‫ـ فلو افرتضنا ً‬
‫حياة الدنيا إلى الحياة يف الجنة‪ ،‬فهذا أمر رهيب يدعو إلى الشعور بالمهابة‬
‫فهو انتقال من حياة إلى حياة مختلفة تما ًما وأعلى بكثير جدً ا مما يدعو‬

‫((( النمل‪.80 :‬‬


‫((( األنعام‪.36 :‬‬

‫‪165‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫إلى الشعور بالمهابة‪ ،‬ولو افرتضنا ً‬


‫جدل أن كل الناس لن يدخلوا النار‬
‫فوجود النار نفسها تدعو إلى الشعور بالمهابة من مدى ضخامتها وشدهتا‬
‫وعجبها رغم أهنم لن يدخلوها‪ ،‬وكذلك الوقوف على أرض المحشر وما‬
‫أيضا أمر رهيب يدعو‬
‫يحدث على أرض المحشر من أمور الحساب هو ً‬
‫إلى الشعور بالمهابة‪.‬‬
‫ـ فالبد أن يتصور اإلنسان أنه يسمع عن اآلخرة وما فيها ألول مرة‬
‫فيتعجب من األمر‪.‬‬
‫ـ كما يؤدي هذا التصور إلى كراهية النار وحب الجنة‪.‬‬
‫‪2‬ـ تصور اآلخرة كصورة من صور قدرة اهلل‪ :‬وتتمثل يف قدرته على‬
‫البعث وقدرته على الثواب والعقاب الهائل وقدرته على خلق الجنة‬
‫والنار الهائلتين‪ ،‬وهذا يدعو إلى الشعور بالمهابة من اهلل سبحانه‪.‬‬
‫‪3‬ـ تصور اآلخرة كثواب وعقاب‪ ،‬وهذا يدعو إلى الشعور بالمهابة من‬
‫مبدأ الثواب والعقاب وخوف العقاب ورجاء الثواب‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تصور معنى الخلود يف اآلخرة‪.‬‬
‫ـ املعرفة احلقيقية بعذاب القرب و�س�ؤال امللكني‪:‬‬
‫ـ أنت توقن تا ًما بعذاب القرب وسؤال الملكين‪ ،‬لكن لو قام إليك أحد‬
‫الموتى ليخربك عما كان من سؤال الملكين وعذاب القرب فتقول له وأنت‬
‫بارد القلب‪ :‬أنا أعرف ذلك وأكثر منه‪ ،‬فلو جاء بعصاة وضربك هبا لكان‬
‫مح ًقا ويقول لك‪ :‬أنت ليس لديك أي تصور عن عذاب القرب؛ ألنك ال‬
‫تشعر بمدى خطورة هذا األمر وألم هذا العذاب‪.‬‬
‫ـ فإذا لم يحدث لك خوف مهابة من عذاب القرب وسؤال الملكين‬
‫فأنت تماما مثل الذي لم يسمع عن شيء اسمه عذاب القرب أو سؤال‬
‫الملكين برغم وجود اليقين بذلك‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ املعرفة احلقيقية بقدرة اهلل على البعث‪:‬‬


‫ـ لو أن إنسانًا مات منذ سنين وبلي جسمه ثم أخربوك أنه سوف‬
‫يقوم ح ًيا يسعى إليك وتراه وتتحدث معه‪ ،‬إنه أمر مرعب يجعلك ترتعد‬
‫وتخاف‪ ،‬وسبب هذا الرعب أن ذلك األمر خارق لألسباب‪ ،‬إن هذا‬
‫األمر سوف يحدث بالفعل لجميع الناس ولكن أنت ستكون واحدً ا من‬
‫هؤالء الذين يقومون بعد أن ماتوا وفنيت أجسامهم‪ ،‬إن هذا األمر حقيقة‬
‫فعلية وقادمة قري ًبا‪ ،‬فإذا لم تتحير وتتعجب من مدى قدرة اهلل على إحياء‬
‫األموات وتشعر بالمهابة من البعث ويتأثر همك هبذا الحدث المنتظر‬
‫القريب الهائل حينما تقوم من موتك ويقوم معك كل الناس فهذا معناه أن‬
‫قضية البعث ليس لها قيمة يف مشاعرك‪ ،‬فأنت غافل عنها كأهنا لن تحدث‬
‫على وجه الحقيقة‪ ،‬فالبعث والحياة يف اآلخرة هي أخطر قضية يف حياة‬
‫أي عاقل‪ ،‬فلماذا ال ينشغل هبا عقل اإلنسان ويشعر بالمهابة؟ ذلك ألنه ال‬
‫يزال جاهال ال يعرف البعث واآلخرة تماما مثل الجاهل الذي لم يسمع‬
‫عن شيء اسمه البعث أو اآلخرة‪.‬‬
‫ـ بل إنك كنت ميتًا ثم أحياك اهلل‪ ،‬فكنت نطفة ميتة ال روح فيها يف رحم‬
‫أمك ثم نفخ اهلل فيك الروح فأصبحت ح ًيا‪ ،‬وهذا ما تراه كل يوم لجميع‬
‫الناس حيث يخلق اهلل األطفال يف األرحام من نطفة ال قيمة لها وينفخ‬
‫سحرا ولكنه حقيقة وخرق‬ ‫ً‬ ‫فيها الروح‪ ،‬إن ذلك أشد عج ًبا وغرابة وليس‬
‫لألسباب‪ ،‬فلماذا ال تشعر بالتحير والتعجب من مدى عظمة الخالق‬
‫وقدرته فتشعر باالستسالم والخضوع لقدرة اهلل‪ُ ﴿ :‬قتِ َل اإلنسان َما َأ ْك َف َر ُه‪،‬‬
‫مِ ْن َأ ِّي َش ْي ٍء َخ َل َق ُه‪ ،‬مِ ْن ُن ْط َف ٍة َخ َل َق ُه َف َقدَّ َر ُه﴾(‪ ،)1‬ولماذا ال تشعر بضعفك‬
‫وضآلتك حيث يفعل اهلل بك ما يشاء فيحييك ثم يميتك ثم يحييك؟‪:‬‬

‫((( عبس‪ 17 :‬ـ ‪.19‬‬

‫‪167‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ون بِاهَّللِ َو ُكنْت ُْم َأ ْم َوا ًتا َف َأ ْح َياك ُْم ُث َّم ُي ِمي ُت ُك ْم ُث َّم ُي ْحيِي ُك ْم ُث َّم إليه‬
‫ف َت ْك ُف ُر َ‬‫﴿ َك ْي َ‬
‫ون﴾(‪.)1‬‬ ‫ُت ْر َج ُع َ‬
‫ـ األرض بقيت بدون بشر لمدة أكثر من ‪ 4‬مليار سنة‪ ،‬والحيوانات‬
‫والنباتات كانت تعيش على األرض ألكثر من ‪ 200‬مليون سنة ولم يكن‬
‫هناك بشر على األرض طوال هذه المدة‪ ،‬واإلنسان ضئيل جدا وعمره منذ‬
‫ان ِحي ٌن مِ َن‬
‫النْس ِ‬
‫ِ‬
‫﴿ه ْل َأ َتى َع َلى ْ َ‬
‫خلق ادم هو فقط عشرة أالف عام تقريبا‪َ :‬‬
‫ُورا﴾ [اإلنسان‪ ،]1 :‬وهذا معناه أن يشعر االنسان‬ ‫الدَّ ْه ِر َل ْم َي ُك ْن َش ْي ًئا َم ْذك ً‬
‫بضعفه‪.‬‬
‫ـ والزروع تراها أمام عينك بذور ميتة تتحول إلى أشجار حية تتنفس‬
‫وتكرب ثم تموت‪ ،‬فإذا لم يؤثر كل هذا يف اإلنسان فيشعر بالرهبة من أمر‬
‫البعث وخطورته ويشعر بالخضوع واالستسالم هلل‪ ،‬فهذا معناه أنه ال يزال‬
‫ال يعرف خطورة معنى البعث وال اآلخرة‪.‬‬
‫ـ فلو أن إنسانًا وضع يف يده حفنة من الرتاب ثم قال لك انظر إلى‬
‫هذا الرتاب فلما نظرت إليه وجدته يتحول إلى برتقالة! إنك تقول إن هذا‬
‫اإلنسان ساحر‪ ،‬إن هذا األمر يحدث بالفعل ولكن الساحر هنا ليس إنسانًا‬
‫ولكنه بذرة الربتقال حيث تستطيع بذرة شجرة الربتقال أن تستخدم تراب‬
‫األرض وتحوله إلى برتقال! وهكذا كل النباتات والزروع‪ ،‬ويف الحقيقة‬
‫فإن بذرة الربتقال ليس لديها القدرة على عمل ذلك‪ ،‬ولكن هناك قوة‬
‫خارجية خفية هي التي تمكن بذرة الربتقال من هذا العمل‪ ،‬فالبذرة هي‬
‫ف‬ ‫ت اهَّللِ َك ْي َ‬
‫ار رحم ِ‬
‫جماد تحول إلى كائن حي (نبات)‪َ ﴿ :‬فا ْن ُظ ْر إِ َلى آ َث ِ َ ْ َ‬
‫يي ا ْل َم ْو َتى َو ُه َو َع َلى ك ُِّل َش ْي ٍء‬‫يي ْالَ ْر َض َب ْعدَ َم ْوتِ َها إِ َّن َذل ِ َك َل ُم ْح ِ‬
‫ُي ْح ِ‬

‫((( البقرة‪.28 :‬‬

‫‪168‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫َق ِد ٌير﴾(‪.)1‬‬
‫ـ الذي يعيش لآلخرة يتعامل مع البعث واآلخرة على أهنا حقيقة واقعة‬
‫وجد ال هزل فيه وخطر محقق‪ ،‬والذي يعيش للدنيا يتعامل مع البعث‬
‫واآلخرة كأهنا لعب أو أمر غير مهم وال يأخذها مأخذ الجد ويتغافل عنها‬
‫رغم اليقين هبا‪.‬‬
‫ـ ت�صور خطورة الآخرة‪:‬‬
‫ـ إن اآلخرة فوق مستوى الخيال وأشد رع ًبا من كابوس مرعب وأشد‬
‫رع ًبا من رؤية أشباح وأعجب من السحر‪ ،‬لكن اآلخرة يف مشاعر البعض‬
‫هي عالم عادي جدً ا ال خطورة منه وال مشكلة فيه مثل حواديت‪ ،‬فمثل‬
‫هؤالء يفاجئون بعد الموت بعالم حقيقي أخطر وأعجب وأغرب من هذه‬
‫﴿ون ُِف َخ فِي‬ ‫األشياء‪ ،‬فيرون المالئكة ويفاجئون بالحساب والجنة والنار‪َ :‬‬
‫ون (‪َ )51‬قا ُلوا َيا َو ْي َلنَا َم ْن‬ ‫اث إلى َر ِّب ِه ْم َين ِْس ُل َ‬
‫الصور َفإِ َذا ُهم مِن ْالَجدً ِ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫الر ْح َم ُن َو َصدَ َق ا ْل ُم ْر َس ُل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون﴾( )‪.‬‬ ‫َب َع َثنَا م ْن َم ْر َقدنَا َه َذا َما َوعَدَ َّ‬
‫‪2‬‬

‫كابوسا مرع ًبا فإنه قد ال ينام عدة أيام؛ ألنه كلما‬


‫ً‬ ‫ـ عندما يرى اإلنسان‬
‫منزعجا وصورة‬
‫ً‬ ‫متوترا خائ ًفا‬
‫ً‬ ‫نام رأى الكابوس‪ ،‬ويكون يف حياته قل ًقا‬
‫الكابوس ال تفارق عينه وال يستطيع أن ينساها‪ ،‬فاآلخرة أشد يف خطورهتا‬
‫فضل عن أهنا حقيقة‬‫أهوال أشد من أي كابوس‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫من أي كابوس؛ ألن فيها‬
‫كابوسا‪ ،‬فالذي يعرف خطورة معنى اآلخرة ال تفارق صورة‬ ‫ً‬ ‫وليست‬
‫اآلخرة ذهنه‪.‬‬
‫ـ من الناس َم ْن ليس عنده أي هم باآلخرة رغم ما هبا من أهوال وأهنا‬
‫المصير‪ ،‬لدرجة أنك قد تجد المرء يستغرب ولماذا الهم باآلخرة؟! وكأنه‬

‫((( الروم‪.50 :‬‬


‫((( يس‪.52 ،51 :‬‬

‫‪169‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ال يوجد أي شيء يدعو للهم باآلخرة! فهو يف غفلة تامة عن اآلخرة فال‬
‫يوجد أي تأثر باآلخرة سواء سل ًبا أو إيجا ًبا فال يخاف اآلخرة وال يكرهها‬
‫أصل وكذلك كل الغيبيات‪.‬‬ ‫وال يحبها؛ ألنه ال يشعر هبا ً‬
‫ـ المعرفة الحقيقية باآلخرة مع وجود اليقين تؤدي إلى أن يعيش‬
‫اإلنسان حياته من أجل اإلعداد لآلخرة‪ ،‬فتكون حياته كلها كالذي يرتب‬
‫أموره ويعد حقائبه ويجهز نفسه ويستعد للرحيل‪ ،‬فال يعيش حياة المقيم‪،‬‬
‫وإنما حياة اإلعداد والرتتيب واالستعداد النفسي والتأهب للمرحلة‬
‫القادمة الخطيرة‪.‬‬
‫ـ عندما يشعر اإلنسان باآلخرة فإن حساباته يف الحياة سوف تختلف‬
‫تما ًما‪ ،‬وإنه سوف يسقط أمور الدنيا والناس من حساباته؛ ألنه يشعر أن‬
‫الدنيا ضئيلة‪ ،‬ويشعر بأن السعادة إنما هي يف الجنة‪ ،‬فتكون الجنة هدفه‬
‫وطموحه وغايته ومستقبله؛ ألنه سوف يشعر بأن الحياة التي نعيشها اآلن‬
‫بكل ما فيها من األعمال الضخمة هي حياة كاذبة ومجرد لعب ولهو مثل‬
‫ب َوإِ َّن الدَّ َار اآلخرة‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫﴿و َما َهذه ا ْل َح َيا ُة الدُّ ْن َيا إال َل ْه ٌو َو َلع ٌ‬ ‫لهو ولعب األطفال‪َ :‬‬
‫ون﴾(‪ ،)1‬فالمكان الطبيعي لمعيشة البشر ليس‬ ‫َل ِهي ا ْل َح َي َو ُ‬
‫ان َل ْو كَانُوا َي ْع َل ُم َ‬
‫َ‬
‫الكرة األرضية وإنما هو اآلخرة‪ ،‬والكرة األرضية ليست إال مكانًا هبط إليه‬
‫آدم ليتم اختباره وذريته ثم يعودون إلى حيث ديارهم وأهليهم وأوطاهنم‬
‫غافل تلهيه الدنيا فغدً ا سوف يشعر باآلخرة‬ ‫يف اآلخرة‪ ،‬أما إذا ظل اإلنسان ً‬
‫ول َيا َل ْيتَنِي َقدَّ ْم ُت ل ِ َح َياتِي‪.)2( ‬‬ ‫حين ال ينفع الندم‪َ ﴿ :‬ي ُق ُ‬
‫ـ الدنيا هادئة متا ًما ومعزولة عن خطر الآخرة الهائل‪:‬‬
‫ـ الدنيا لها ظاهر وباطن‪ ،‬واآلخرة كذلك‪ ،‬والظاهر عكس الباطن‬

‫((( العنكبوت‪ ،64:‬ومعنى (الحيوان) أي الحياة الحقيقية‪.‬‬


‫((( الفجر‪ ،24 :‬ومعنى (لحيايت) أي حياته الحقيقية يف اآلخرة‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫تما ًما‪ ،‬فظاهر اآلخرة أننا ال نراها‪ ،‬وظاهر الدنيا زينة هائلة توحي بأن الدنيا‬
‫عظيمة يف متعها وآالمها‪ ،‬والعاقل هو الذي ال ينخدع بالظاهر ويفكر يف‬
‫الباطن ليعرف حقيقة الشيء‪.‬‬
‫فمثل لو كان يف يدك ظرف فارغ ال شيء فيه ومكتوب عليه مليون‬ ‫ـ ً‬
‫جنيه‪ ،‬فالذي ينظر إلى المكتوب على ظاهر الظرف وال ينظر إلى حقيقة‬
‫ما بداخله هو أحمق ال عقل له‪ ،‬فالمكتوب على الظرف هو زينة الدنيا‪،‬‬
‫وما بداخل الظرف هو حقيقة الدنيا‪ ،‬والعكس لو كان يف يدك ظرف‬
‫مكتوب عليه صفر ولكن بداخله مليون جنيه فالعاقل هو الذي ينظر إلى‬
‫داخل هذا الظرف ليعرف حقيقته‪ ،‬فالدنيا واآلخرة كاذبتان تقوالن عكس‬
‫ما بداخليهما تما ًما‪.‬‬
‫ـ العاقل هو الذي ال ينخدع هبدوء الدنيا كأنه ال خطر يتعرض له أو‬
‫يوشك أن يلحق به‪ ،‬ويسارع بالفرار قبل الكارثة والطامة الكربى‪.‬‬
‫ـ الغفلة التامة عن اخلطر العظيم (الآخرة)!!‪:‬‬
‫ـ مجرد العلم بأن هناك آخرة فهذه ليست معلومة سهلة؛ ألن معناها أننا‬
‫نعيش حياتنا مرتقبين ليوم المعاد‪ ،‬ولكن ال يزال البعض يعيش يف غيبوبة‬
‫أو يف حالة سكر لم يفق بعد إلى حجم الخطر الذي ينتظره وال يدري بما‬
‫هو صائر إليه بعد لحظات من الخطر العظيم‪ ،‬فنحن مقبلون على خطر‬
‫عظيم وحدث هام جدً ا‪ ،‬والعد التنازلي مستمر اآلن‪ ،‬ويوشك أن نلحق‬
‫باآلخرة‪ ،‬لكننا ال نشعر بذلك‪ ،‬ونظن أن األيام طويلة والعمر مديد‪ ،‬وإذا‬
‫كان هناك أحد عنده شيء من الشعور بقدر اآلخرة فتكون درجة شعوره‬
‫ودرجة إفاقته ال تتناسب أبدً ا مع خطورة الحدث‪ ،‬فالبد أن تشعر بمدى‬
‫الفرق الهائل بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬فعندئذ تشعر بمدى خطورة اآلخرة‬
‫ومدى ضآلة الدنيا فتشعر بالمهابة من ذلك الخطر العظيم (اآلخرة)‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ إن تصور لحظة واحدة من الحياة يف القرب أو الحياة يف اآلخرة يجعل‬


‫اإلنسان ينسى الحياة الدنيا‪ ،‬وبالتالي فالعاقل هو الذي يتجه تفكيره‬
‫واهتمامه وتصوره إلى الحياة يف اآلخرة وليس الدنيا‪.‬‬
‫رجل عاد إلينا من اآلخرة‪ ،‬ماذا يمكن أن يقوله؟ إن هذا‬ ‫ً‬ ‫ـ فلو أن‬
‫الكتاب عبارة عن تصور لما يمكن أن يقوله ذلك الرجل‪ ،‬إنه سوف يجد‬
‫الناس على يقين واقتناع تام باهلل واليوم اآلخر وكل ثوابت الدين‪ ،‬وربما‬
‫عندهم تفاصيل قد أيقنوا هبا أكثر منه هو نفسه‪ ،‬ورغم ذلك فاهلل واآلخرة‬
‫ليس لهما وجود يف شعور البعض ومشاعرهم وهمومهم وأهدافهم‪ ،‬إنه‬
‫سوف َيعجب من هذا االنفصام التام الذي يتمثل يف وجود مسلمين يقرون‬
‫بالغيبيات‪ ،‬ولكن الغيبيات غائبة تما ًما من شعور بعضهم ومشاعرهم‬
‫وهمومهم وأهدافهم‪ ،‬فكيف يوقن اإلنسان باآلخرة التي هي المستقبل‬
‫والمصير ثم ال يشعر بالمهابة وخوف العقاب وكيف ال يشعر بالغربة‬
‫وهو مسافر إليها؟! وكيف يوقن اإلنسان باهلل الذي صنع بقدرته كل البشر‬
‫والكون وهم مقهورون تحت قدرته ثم ال يشعر بالمهابة والحب إعجا ًبا‬
‫بقدرته وخوف العقاب ورجاء الثواب؟! ذلك ألن المعرفة بخطورة األمر‬
‫لم تتحقق بعد‪.‬‬
‫ـ اإلنسان قد يتجاهل اآلخرة فتصبح كأهنا ال قيمة لها‪ ،‬فهي عندئذ غير‬
‫موجودة يف شعوره‪ ،‬وهو بذلك قد أفرغ الكلمة من محتواها‪ ،‬مثل الطفل‬
‫الذي يف يده أسد مصنوع من البالستيك فهو يلعب به رغم أنه يوقن تما ًما‬
‫أنه أسد لكنه مسلوب القوة‪ ،‬فكلمة (اآلخرة) تعني األهوال والمصير‬
‫والمستقبل‪ ،‬لكن كلمة (اآلخرة) عند الغافل هي كلمة ودودة أليفة ال‬
‫مشكلة فيها وليس لها تأثير على المشاعر والهموم واألهداف‪.‬‬
‫ـ اآلخرة هي الحقيقة الكربى المرعبة‪َ ﴿ :‬ي ْو َم َت َر ْون ََها َت ْذ َه ُل ك ُُّل‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫َّاس ُس َك َارى‬ ‫ُم ْرض َعة َع َّما َأ ْر َض َع ْت َو َت َض ُع ك ُُّل َذات َح ْم ٍل َح ْم َل َها َو َت َرى الن َ‬

‫‪172‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب اهَّلل َشديدٌ ﴾( )‪ُ ﴿ ،‬ق ْل ُه َو َن َب ٌأ َعظ ٌ‬
‫يم‪َ ،‬أ ْنت ُْم‬ ‫َو َما ُه ْم بِ ُس َك َارى َو َلك َّن َع َذ َ‬
‫‪1‬‬

‫ون﴾(‪ ،)2‬وقد سبقنا إليها الكثير والدور علينا‪ ،‬ورغم ذلك‬ ‫َعنْ ُه ُم ْع ِر ُض َ‬
‫فإن مشاعر الناس تجاه اآلخرة وأمور الدين فاترة باردة‪ ،‬يف حين تتفاعل‬
‫مشاعرهم وانفعاالهتم تجاه أمور الدنيا الفانية‪ ،‬فاآلخرة أمر جاد جدً ا‬
‫وخطير جدً ا وال يحتمل الرتاخي‪ ،‬ونحن نتعامل معه بال مباالة وفتور‬
‫شديد بغير جدية وإدراك لخطورته‪ ،‬هذا معناه أن هناك غفلة تامة عن‬
‫الخطر العظيم الذي نحن مقبلون عليه‪ ،‬إن اآلخرة هي خطر عظيم جدً ا‬
‫حتما بعد وقت ضئيل جدً ا يمر سري ًعا دون أن ندري‪.‬‬ ‫نحن مقبلون عليه ً‬
‫اهَّلل َع َل ْي ِه َو َس َّل َم إذا خطب على المنرب فذكر‬ ‫ـ وكان الرسول َص َّلى ُ‬
‫اآلخرة تحركت مشاعره وانفعل بشدة ففي الحديث‪﴿ :‬وكان إذا ذكر‬
‫الساعة احمرت وجنتاه وعال صوته واشتد غضبه كأنه نذير جيش يقول‬
‫صبحكم مساكم﴾(‪.)3‬‬
‫ـ ال�شعور ب�أن الآخرة خطر واقع ال اختيار فيه‪:‬‬
‫ـ إنك مهما حاولت التغافل والهروب عن الحقيقة والمصير القادم‪،‬‬
‫ترض‪ ،‬أعجبك األمر أم لم‬ ‫فإهنا أيام قصيرة وغدً ا اللقاء رضيت أم لم َ‬
‫يعجبك‪ ،‬شعرت بذلك أم لم تشعر‪ ،‬ومهما كانت الظروف واألوضاع من‬
‫ٍ‬
‫معاص‪ ،‬ومهما تبدلت‬ ‫الفقر أو الغنى‪ ،‬من الراحة أو التعب من طاعات أو‬
‫الظروف واألوضاع فذلك لن يغير من حقائق األمور شيء‪ ،‬وقد سبقك‬
‫فعل وتكاد تصل‪ ،‬وهذا‬ ‫الكثير إلى هناك والدور يف انتظارك قد أوشك ً‬
‫التغافل والتعامي لن يغير من حقائق األمر شي ًئا‪ ،‬فالملكين من حولك‪،‬‬
‫ترض‪ ،‬سواء‬ ‫واهلل ناظر إليك‪ ،‬واآلخرة أمامك‪ ،‬سواء رضيت أم لم َ‬

‫((( الحج‪.2 :‬‬


‫ص‪.68 ،67 :‬‬ ‫((( ّ‬
‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن النسائي ج‪ ،3 :‬ص‪ ،188 :‬برقم ‪.)1578‬‬

‫‪173‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أخذت تربر لنفسك ما تفعل أم لم تأخذ‪ ،‬فالحقائق الغيبية التي نعيش فيها‬
‫والتي هي يف انتظارنا رهيبة‪ ،‬ولكن أين َم ْن عنده مشاعر يحس هبا‪﴿ :‬إِ َّن‬
‫الس ْم َع َو ُه َو َش ِهيدٌ ﴾(‪ ،)1‬فإنك‬ ‫ب أو َأ ْل َقى َّ‬ ‫فِي َذل ِ َك َل ِذك َْرى ل ِ َم ْن ك َ‬
‫َان َل ُه َق ْل ٌ‬
‫تظن أنك تفر من الموت بأن تتغافل عن أن تشعر به وإن كنت مقتن ًعا به‬
‫تما ًما وأنه مالقيك‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬أتاين جربيل‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد عش‬
‫ما شئت فإنك ميت‪ ،‬وأحبب من شئت فإنك مفارقه‪ ،‬واعمل ما شئت‬
‫مجزى به‪ ،‬واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل‪ ،‬وعزه استغناؤه عن‬ ‫فإنك ً‬
‫الناس﴾(‪ ،)2‬وكل الناس سوف يذهبون إلى اآلخرة‪ ،‬فإذا لم يعجبك األمر‬
‫ت َو َما‬ ‫ون َل ٍ‬ ‫فامتنع عن الذهاب إلى اآلخرة إن استطعت!‪﴿ :‬إِ َّن َما ُتوعَدُ َ‬
‫ف‬ ‫ج ِزي َن (‪ُ )134‬ق ْل َيا َق ْو ِم ا ْع َم ُلوا َع َلى َم َكانَتِ ُك ْم إِنِّي َعامِ ٌل َف َس ْو َ‬ ‫َأ ْنتُم بِم ْع ِ‬
‫ْ ُ‬
‫ون َل ُه َعاق َب ُة الدَّ ِار﴾(‪ ،)3‬فالقضية حاسمة وخطيرة وال‬ ‫ِ‬ ‫ون َم ْن َت ُك ُ‬ ‫َت ْع َل ُم َ‬
‫تحتمل الرتاخي ولكننا يف غفلة‪ ،‬وغدً ا تنتهي الحياة‪ ،‬فماذا أنت صانع؟!‪.‬‬
‫رجل عاد من اآلخرة إلى الناس ماذا يمكن أن يقول‬‫ـ تصور لو أن ً‬
‫لهم؟ إنه سوف يقول للناس‪ :‬ليس أمامكم إال ثواين معدودة والعد‬
‫التنازلي مستمر‪ ،‬فأنتم مقبلون على خطر هائل جدً ا من أشد ما يمكن‬
‫ويوشك أن تلحقوا باآلخرة فأدركوا أنفسكم‪ ،‬لكنه سوف يجد الناس‬
‫هادئين تما ًما ويعتربون أن هذه الحياة التي يعيشوهنا سنوات طويلة وعمر‬
‫مديد وليست ثواين معدودة‪ ،‬ويعتربون الذهاب إلى اآلخرة مثلما يتسلى‬
‫اإلنسان بلعبة مملة قد مل منها‪ ،‬إنه سوف يجد الناس يعيشون يف هروب‬
‫وتجاهل للموت‪ ،‬وهروب وتجاهل لآلخرة‪ ،‬وهروب وتجاهل وتغافل‬
‫عن اهلل‪ ،‬رغم أن هذا الهروب وهذا التجاهل والتغافل لن يغير من حقائق‬

‫((( ّق‪.37 :‬‬


‫((( تحقيق األلباين‪ :‬حسن (انظر حديث رقم‪ 73 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬
‫((( األنعام‪.135 ،134 :‬‬

‫‪174‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫األمور شي ًئا‪ ،‬فالخطر قائم وهم مقبلون عليه‪ ،‬رضوا أم لم يرضوا واألمر‬
‫يم‪َ ،‬أ ْنت ُْم َعنْ ُه ُم ْع ِر ُض َ‬‫ِ‬
‫ون﴾(‪ ،)1‬فهم يعيشون‬ ‫خطير وعظيم‪ُ ﴿ :‬ق ْل ُه َو َن َب ٌأ َعظ ٌ‬
‫الس ْك ْران الذي ال يدري ما الذي ينتظره‪ ،‬وإذا كان هناك أحد‬ ‫يف غيبوبة مثل ُّ‬
‫عنده شيء من الشعور بقدر اآلخرة فتكون درجة شعوره ودرجة إفاقته ال‬
‫تتناسب أبدً ا مع خطورة الحدث‪ ،‬فينظر إلى اآلخرة بفتور شديد ومشاعر‬
‫باردة‪ ،‬رغم أن اآلخرة هي الحقيقة الكربى المرعبة‪َ ﴿ :‬ي ْو َم َت َر ْون ََها َت ْذ َه ُل‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ك ُُّل ُم ْرض َعة َع َّما َأ ْر َض َع ْت َو َت َض ُع ك ُُّل َذات َح ْم ٍل َح ْم َل َها َو َت َرى الن َ‬
‫َّاس‬
‫اب اهَّللِ َش ِديدٌ ﴾(‪ ،)2‬وقد سبقنا إليها‬ ‫ِ‬
‫ُس َك َارى َو َما ُه ْم بِ ُس َك َارى َو َلك َّن َع َذ َ‬
‫الكثير والدور علينا‪.‬‬
‫ـ ال�شعور مبدى اخلطر يف الآخرة‪:‬‬
‫ـ إن كلمة اآلخرة تعني المصير المرعب والمخيف الذي أنت مقبل‬
‫عليه‪ ،‬وتعني األهوال العظيمة‪ ،‬فلماذا ال تشعر بالمهابة والقلق من‬
‫أهوال القيامة؟‪ ،‬فمن أسماء اآلخرة (يوم الحسرة) و(يوم الزلزلة) و(يوم‬
‫تشخص فيه األبصار)‪ ،‬و(الغاشية)‪ ،‬ويف تفسير البحر المحيط‪﴿﴿ :‬هل‬
‫أتاك حديث الغاشية﴾ والغاشية‪ :‬الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يوم‬
‫ان ِشي ًبا﴾(‪ ،)4‬إن اآلخرة هي أخطر شيء‬
‫القيامة﴾(‪﴿ ،)3‬يو ًما َي ْج َع ُل ا ْل ِو ْلدَ َ‬
‫يف حياة اإلنسان‪ ،‬وأهوال القيامة من أشد ما يمكن ومن أخطر ما يمكن‪،‬‬
‫وما نشعر به من ذلك الخطر ال يساوي واحد على مليون من خطورة‬
‫اآلخرة‪ ،‬فاألمر يقابله البعض بربود يف حين مع أي أمر من أمور الدنيا تجد‬
‫المشاعر تتفاعل والخوف شديد‪ ،‬وانظر إلى شدة خوف الرسول َص َّلى‬
‫اهَّلل َع َل ْي ِه َو َس َّل َم والصحابة والتابعين والصالحين من اآلخرة‪ ،‬فلو جاء إلينا‬
‫ُ‬
‫ص‪.68 ،67 :‬‬ ‫ّ‬ ‫(((‬
‫الحج‪.2 :‬‬ ‫(((‬
‫البحر المحيط ‪-‬دار الفكر‪ -‬بيروت (ج‪ ،10 :‬ص‪.)480 :‬‬ ‫(((‬
‫المزمل‪ :‬من اآلية ‪.17‬‬ ‫(((‬

‫‪175‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫إنسان من اآلخرة فرأى حالنا ألصابته سكتة قلبية من حال البعض وبرود‬
‫أعصاهبم تجاه هذا الخطر المحدق‪ ،‬انظر كيف يعرب القرآن عن هذا الخطر‪:‬‬
‫﴿يوم َترونَها َت ْذ َه ُل ك ُُّل مر ِضع ٍة َعما َأر َضع ْت و َت َضع ك ُُّل َذ ِ‬
‫ات َح ْم ٍل َح ْم َل َها‬ ‫ُ ْ َ َّ ْ َ َ ُ‬ ‫َْ َ َ ْ َ‬
‫ِ‬
‫اب اهَّلل َش ِديدٌ ﴾(‪ ،)1‬فهل‬ ‫ِ‬
‫َّاس ُس َك َارى َو َما ُه ْم بِ ُس َك َارى َو َلك َّن َع َذ َ‬
‫َو َت َرى الن َ‬
‫الس ْكر من شدة العذاب‪ ،‬إن الذي يقول إن ما يحدث‬ ‫رأيت إنسانًا أصابه ُّ‬
‫حال من الغافل عن اآلخرة رغم‬ ‫يف اآلخرة هو خيال ال يصدق هو أفضل ً‬
‫خطأه الفادح‪ ،‬وإن الذي يشعر بخطورة اآلخرة على أهنا فيلم مرعب يثير‬
‫مم ْن‬ ‫حال َ‬ ‫الفزع والرعب من أفالم السينما فهو رغم خطأه الفادح أفضل ً‬
‫تكون اآلخرة يف شعوره عادي! فالبد أن تشعر بمدى ما أنت مقبل عليه‪،‬‬
‫وكيف ال يهتم إنسان بأن يشعر بما هو مقبل عليه‪.‬‬
‫ـ إن اآلخرة التي يف مشاعر البعض تختلف عن اآلخرة الحقيقية‪ ،‬فإن‬
‫اآلخرة التي يف مشاعر بعض الناس اليوم هي آخرة أليفة ودودة ال مشكلة‬
‫فيها وال خطر فيها‪ ،‬وإن شعورهم باآلخرة مثل شعورهم بأي شيء عادي!‬
‫إنك لو قارنت بين خطر اآلخرة وبين أي أخطار أو مخاوف يف الدنيا‬
‫خطرا حقيق ًيا أو أهمية حقيقية‬
‫فسوف تجد أن اآلخرة ال تمثل يف مشاعرك ً‬
‫مثل أي خطر تواجهه أو تتعرض له يف الدنيا فتجد المشاعر متفاعلة به‬
‫والبال مشغول‪ ،‬وذلك رغم الفارق العظيم بين كل أخطار ومخاوف الدنيا‬
‫وبين خطر اآلخرة‪ ،‬إن الذي ال يتأثر بشيء مؤثر جدً ا فإنه غافل عنه كأنه‬
‫لم يسمع عنه‪ ،‬فهو ال عقل له‪ ،‬إن اآلخرة أمر مؤثر جدً ا وخطير جدً ا ولكن‬
‫ال يوجد تأثر هبا!!‬
‫ـ فكلمة (اآلخرة) عند من لم يشعر بخطورهتا تختلف عن كلمة‬
‫(اآلخرة) عند من يشعر بخطورهتا وأهنا أمر فعلي حقيقي وحقيقة ماثلة‬

‫((( الحج‪.2 :‬‬

‫‪176‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫أمرا عاد ًيا ومجيئها ال يمثل خطورة‪ ،‬والثاين خائف‬ ‫فعل‪ ،‬فاألول يراها ً‬ ‫ً‬
‫ون مِن َْها‬
‫ُون بِ َها َوا َّل ِذي َن آ َمنُوا ُم ْش ِف ُق َ‬
‫ج ُل بِ َها ا َّل ِذي َن ال ُي ْؤمِن َ‬ ‫منها‪َ ﴿ :‬يس َت ْع ِ‬
‫ْ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الل َبعيد﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون في السا َعة َلفي َض ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون أهنا ا ْل َح ُّق أال إِ َّن ا َّلذي َن ُي َم ُار َ‬ ‫َو َي ْع َل ُم َ‬
‫َّ‬
‫(‪ ،)1‬واألول سوف ُيفاجأ المفاجأة الرهيبة بيوم القيامة كأهنا مفاجأة لم‬
‫يكن يسمع عنها ألنه لم يكن يشعر بخطورة اآلخرة‪ ،‬أما الثاين فكان يعيش‬
‫وعنده هتيئة نفسية فال يفاجأ باآلخرة وإنما هو منتظر مجيئها ومنتظر‬
‫تحقيق وعد اهلل تعالى‪.‬‬
‫اسما فقط بال‬
‫ـ عدم االنتباه لخطورة اآلخرة جعل كلمة (اآلخرة) ً‬
‫مسمى حيث تم إفراغ الكلمة من المعنى والقيمة‪ ،‬فأصبحت اآلخرة مجرد‬
‫شكل فقط تم تفريغه من قيمته وتم حجب جميع أثره حيث حدث إفراغ‬
‫لكلمة (اآلخرة) من محتواها الحقيقي فأصبحت كأهنا عديمة األهمية‪،‬‬
‫فهو يتعامل مع كلمة (اآلخرة) كأهنا تتحدث عن بشر غير موجودين على‬
‫األرض وأن هؤالء البشر سوف يذهبون لعالم آخر غير األرض‪ ،‬إذن‬
‫فالقضية ال تخصه هو وال تعنيه وال تضره وال تنفعه فال يشعر بقيمتها‪،‬‬
‫وال مانع من أن يوافق عليها فال يستشعر خطورهتا ألهنا ال تخصه‪ ،‬فهو‬
‫بشرا آخرين يف كوكب آخر ليسوا على‬ ‫يتعامل مع المعلومة كأهنا تخاطب ً‬
‫موجها له‪ ،‬أو كأن هذا الكالم‬
‫ً‬ ‫األرض فال يخصه األمر‪ ،‬كأن الكالم ليس‬
‫باللغة اإلنجليزية وهو ال يعرف غير العربية فبالنسبة له كأنه طالسم‪.‬‬
‫ـ ال�شعور باملهابة من هول الآخرة‪:‬‬
‫ـ اإلنسان يف حياته قد يواجهه مشاكل حياتية كثيرة‪ ،‬عند كل مشكلة قد‬
‫يغضب ويثور ويتضايق وينفعل‪ ،‬أما اآلخرة عنده فليست بمشكلة رغم‬
‫أهنا الخطر المرتقب واالمتحان العصيب والحياة األبدية‪ ،‬ورغم أن الدنيا‬

‫((( الشورى‪.18 :‬‬

‫‪177‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أيام قليلة تفنى بمشاكلها‪ ،‬أما الذي يشعر بحجم الخطر يف مشكلة اآلخرة‬
‫أمام ضآلة مشاكل الدنيا فتهون عليه مشاكل الدنيا وتنفعل مشاعره ويقلق‬
‫ويغضب ويضطرب أمام مشكلة اآلخرة‪.‬‬
‫ـ إن الطالب إذا دخل االمتحان فمن هول الموقف قد يتلعثم وال‬
‫يستطيع اإلجابة‪ ،‬وبعض الناس إذا تعرض لصدمة شديدة فإنه قد يفقد‬
‫الذاكرة‪ ،‬فنحن يف الدنيا يف حالة امتحان عصيب عليه رقيب وعتيد لكننا‬
‫غافلون عنه‪.‬‬
‫ـ جاء يف تفسير المحرر الوجيز‪﴿ :‬يوم يجمع اهلل الرسل فيقول ماذا‬
‫أجبتم قالوا ال علم لنا﴾ [المائدة‪ ]109 :‬واختلف الناس يف معنى قولهم‬
‫عليهم السالم ﴿ال علم لنا﴾ فقال الطربي‪ :‬ذهلوا عن الجواب لهول‬
‫المطلع‪ ،‬وذكر عن الحسن أنه قال‪ :‬ال علم لنا من هول ذلك اليوم‪ ،‬وعن‬
‫السدي أنه قال‪ :‬نزلوا ً‬
‫منزل ذهلت فيه العقول فقالوا‪ :‬ال علم لنا‪ ،‬ثم نزلوا‬
‫منزل آخر شهدوا على قومهم‪ ،‬وعن مجاهد أنه قال‪ :‬يفزعون فيقولون ال‬ ‫ً‬
‫علم لنا﴾(‪.)1‬‬
‫ـ ويف الحديث‪﴿ :‬إنكم تحشرون حفاة عراة‪ ،‬قلت‪ :‬الرجال والنساء‬
‫ينظر بعضهم إلى بعض‪ ،‬قال‪ :‬إن األمر أشد من أن يهمهم ذلك﴾(‪،)2‬‬
‫وذلك من شدة الخوف من هول الموقف‪.‬‬
‫ـ إن الذي يقف أمام القاضي ينتظر حكم المحكمة هل يحكم عليه‬
‫بالسجن أم بالرباءة فهو قلق جدً ا لدرجة أنه قد ال يستطيع الوقوف على‬
‫رجليه فيجلس على ركبتيه من هول الرتقب واالنتظار وليس من التعب‪،‬‬
‫ففي أيسر التفاسير‪﴿ :‬وترى كل أمة جاثية﴾‪ :‬أي كل أمة ذات دين جاثية‬

‫((( تفسير المحرر الوجيز ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (ج‪ ،2 :‬ص‪.)256 :‬‬
‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن النسائي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،114 :‬برقم‪.)2084 :‬‬

‫‪178‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫على ركبها تنتظر حكم اهلل فيها﴾(‪ ،)1‬ويف تفسير الخازن‪﴿ :‬وترى كل أمة‬
‫جاثية﴾ أي باركة على الركب وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم‬
‫ينتظر القضاء‪ ،‬قال سلمان الفارسي‪ :‬إن يف القيامة ساعة هي عشر سنين‬
‫يخر الناس فيها جثاة على الركب حتى إبراهيم ينادي ربه ال أسألك إال‬
‫أيضا‪﴿ :‬وترى كل أمة جاثية﴾ قلت‬ ‫نفسي﴾(‪ ،)2‬ويف تفسير الخازن ً‬
‫وصفوا بالجثو على العادة المعهودة يف مواقف المقاالت والمناقالت‪،‬‬
‫وذلك لما فيه من القلق مما يدهمهم من شدة األمور التي ال يطيقون معها‬
‫جثوا﴾(‪.)3‬‬
‫القيام على أرجلهم فيجثون على ركبهم ً‬
‫******‬

‫((( أيسر التفاسير للجزائري مكتبة العلوم والحكم‪ ،‬المدينة المنورة‪ ،‬السعودية (ج‪ ،4:‬ص‪.)62 :‬‬
‫((( تفسير الخازن ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (ج ‪ ،5‬ص‪.)402 :‬‬
‫((( تفسير الخازن ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (ج ‪ ،4‬ص‪.)355 :‬‬

‫‪179‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الفصل الثالث عرش‬


‫املعرفة احلقيقية بخطورة احلياة يف اجلنة والنار‬

‫ـ الجنة هي حياة مليئة باألفراح والورود وبكل ألوان السعادة‬


‫والملذات والفتيات الجميالت والخمور والشهوات والقصور وكل ما‬
‫تتخيله من ألوان المتع‪.‬‬
‫ـ إذا كنت ال تزال ال تشعر بالمهابة من مدى ما يف الجنة والنار من‬
‫عجب وخطر فأنت ال تزال ال تعرف ما هي الجنة وما هي النار‪ ،‬وإذا كنت‬
‫ال تزال ال تشعر بالشوق للجنة وحب الحور العين والخوف من النار‬
‫فأنت ال تزال ال تعرف ما هي الجنة وما هي النار‪.‬‬
‫ـ إن متع الدنيا تجد المشتاقين إليها‪ ،‬فأين المشتاقون إلى الجنة؟‬
‫ذلك ألن الجنة غير موجودة يف المشاعر‪ ،‬و َم ْن يدَّ عي أنه يشتاق إلى الجنة‬
‫وليس عنده نفس الحالة النفسية لشخص يشتاق إلى محبوبه فهو كذاب‪.‬‬
‫ـ إذا سمع اإلنسان عن وجود كنز وتأكد من وجوده يف مكان ما‪ ،‬فإنه‬
‫يسعى ويلهث وراءه ويحلم بأن يجد فيه الذهب والياقوت والمرجان‬
‫ويكون ذلك هدفه‪ ،‬ولكن إذا سمع عن وجود الجنة التي هي كنز هائل‬
‫به الذهب والياقوت والمرجان فال تجده يلهث وراءه وال يشتاق إليه وال‬
‫ينشغل به همه وال يتخيله وال يحلم به‪ ،‬ذلك ألنه ال يزال ال يعرف الجنة‬
‫أو أنه يشك يف وجودها‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ املعرفة احلقيقية باجلنة‪:‬‬


‫ـ يتحدد ذلك من خالل وجود عنصر االنتباه أو وجود أثر المعرفة‬
‫كالتالي‪:‬‬
‫‪1‬ـ وجود عنصر االنتباه‪ :‬ويتمثل ذلك يف الشعور بالمهابة من مدى‬
‫ما يف الجنة من متع ولذات عجيبة جدً ا ومذهلة وتفوق كل التصورات‬
‫واالنبهار هبا‪.‬‬
‫‪2‬ـ وجود أثر المعرفة الحقيقية‪ :‬أي وجود الشعور بالشوق والحب‬
‫للجنة والشعور باألمل والرجاء فيها والشعور بالخوف من فواهتا‪،‬‬
‫والشعور بالصرب والرتقب واالنتظار للوصول إليها‪.‬‬
‫ـ فعندما يسمع اإلنسان أن هناك شي ًئا فيه ألوان هائلة من المتع‪ ،‬فإنه‬
‫يحب ذلك الشيء‪ ،‬فالجنة فيها كل ألوان المتع والملذات فإذا لم تشعر‬
‫بلذة الحب للجنة‪ ،‬فهذا معناه أن اإلنسان ال يزال ال يعرف الجنة أو أنه‬
‫غير موقن بالجنة‪.‬‬
‫ـ والبد من وجود حقيقي للمشاعر وليس التوهم بوجودها‪ ،‬ويتضح‬
‫ذلك من خالل وجود الحالة النفسية المميزة للحب والشوق والرغبة يف‬
‫الجنة‪ ،‬فالحب عبارة عن متعة ولذة‪ ،‬فمن لم يجد يف محبة الجنة متعة‬
‫ولذة فهو ال يحب الجنة‪.‬‬
‫ـ وكثير من الناس يدَّ عون حب الجنة والشوق إلى الحور العين‪ ،‬فهل‬
‫عندك نفس الحالة النفسية الموجودة عند محب يشتاق إلى محبوبته؟‬
‫إذن فالحور العين ال وجود لها يف مشاعرك‪ ،‬كأهنا مصنوعة من البالستيك‬
‫وليست نساء جميالت‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ االنتباه �إىل خطورة ال�شهوات والآالم!‪:‬‬


‫ـ هذه الحياة التي نعيشها يف الدنيا هي حياة كاذبة؛ ألن الحياة الحقيقية‬
‫يف اآلخرة‪ ،‬وإنما الدنيا عبارة عن طريق يؤدي إلى اآلخرة‪ ،‬فنحن اآلن يف‬
‫حالة سفر وليس إقامة‪.‬‬
‫ـ فكلمة (الشهوات) تعني الجنة‪ ،‬وكلمة (اآلالم) تعني النار‪ ،‬ولكن‬
‫مجازا ويقصد هبا شهوات الدنيا‪ ،‬لكن يف‬‫ً‬ ‫قد تطلق كلمة (الشهوات)‬
‫الحقيقة ال وجود للشهوات إال يف الجنة‪ ،‬وكذلك قد تطلق كلمة (اآلالم)‬
‫مجازا ويقصد هبا آالم الدنيا‬
‫ً‬ ‫وما يف معناها كالمتاعب والمشاكل وغيرها‬
‫ومتاعبها ومشاكلها وهمومها لكن يف الحقيقة ال وجود لآلالم والمتاعب‬
‫والمشاكل واألحزان إال يف النار‪.‬‬
‫ـ وكذلك كلمة (إقامة) وما يف معناها كالسكن والمأوى تعنى اإلقامة‬
‫والسكن والمأوى يف الحياة اآلخرة وليس يف الحياة الدنيا ألن الدنيا ليست‬
‫دار إقامة وسكن ومأوى‪ ،‬إنما هي مجرد طريق يمر فيه اإلنسان ليصل إلى‬
‫مجازا ويقصد هبا الحياة الدنيا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اآلخرة‪ ،‬ولكن قد تطلق هذه العبارات‬
‫﴿و َب ِّش ِر‬
‫ـ فما يف الدنيا من طعام وشهوات ليس إال مجرد اسم فقط‪َ :‬‬
‫َّات َت ْج ِري مِ ْن َت ْحتِ َها ْالَن َْه ُار‬ ‫ات َأ َّن َلهم جن ٍ‬
‫ُ ْ َ‬
‫ا َّل ِذين آمنُوا و َع ِم ُلوا الصالِح ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ُك َّل َما ُر ِز ُقوا مِن َْها م ْن َث َم َرة ِر ْز ًقا َقا ُلوا َه َذا ا َّلذي ُر ِز ْقنَا م ْن َق ْب ُل َو ُأ ُتوا بِه ُمت ََشابِ ًها‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ون﴾(‪ ،)1‬ويف الحديث‪﴿ :‬ليس يف‬ ‫اج ُم َط َّه َر ٌة َو ُه ْم فِ َيها َخالِدُ َ‬ ‫يها َأ ْز َو ٌ‬
‫ِ‬
‫َو َل ُه ْم ف َ‬
‫الجنة شيء مما يف الدنيا إال األسماء﴾(‪ ،)2‬ويف الحديث‪﴿ :‬إن َمطعم ابن‬
‫مثل للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير﴾(‪ ،)3‬ويف‬ ‫آدم قد ضرب ً‬
‫حديث آخر‪﴿ :‬واهلل ما الدنيا يف اآلخرة إال مثل ما يجعل أحدكم أصبعه‬

‫((( البقرة‪.25 :‬‬


‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 5410 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬
‫((( تحقيق األلباين‪ :‬حسن (انظر حديث رقم‪ 2195 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫هذه يف اليم فلينظر بم يرجع﴾(‪ ،)1‬ويف الحديث‪﴿ :‬يؤتى يوم القيامة بأنعم‬
‫أهل الدنيا من الكفار فيقال‪ :‬اغمسوه يف النار غمسة فيغمس فيها‪ ،‬ثم يقال‬
‫له‪ :‬أي فالن هل أصابك نعيم قط؟ فيقول ال ما أصابني نعيم قط‪ ،‬ويؤتى‬
‫ضرا وبال ًء فيقال‪ :‬اغمسوه غمسة يف الجنة‪ ،‬فيغمس فيها‬
‫بأشد المؤمنين ً‬
‫غمسة‪ ،‬فيقال له‪ :‬أي فالن هل أصابك ضر قط أو بالء؟ فيقول‪ :‬ما أصابني‬
‫قط ضر وال بالء﴾(‪.)2‬‬
‫ـ إذن فالسبب وراء الوقوع يف شهوات الدنيا‪ ،‬وسبب عدم رضا‬
‫اإلنسان وانفعاله بآالم الدنيا هو ضعف أو غياب المعرفة بشهوات الجنة‬
‫وآالم النار أو ضعف أو غياب اليقين‪ ،‬فقد يكون اإلنسان موقنًا بالجنة‬
‫والنار لكنه يعيش شهوات الدنيا على أهنا هي الجنة ويعيش آالم الدنيا‬
‫على أهنا هي النار بالنسبة له لغياب أو ضعف المعرفة‪.‬‬
‫ـ كل الناس يحبون الشهوات ويحبون النظر إلى العورات‪ ،‬فمنهم‬
‫من يرى ذلك يف الدنيا فيحبون شهوات الدنيا ويحبون النظر إلى نساء‬
‫الطين‪ ،‬ومنهم من يرى ذلك يف الجنة فيحبون شهوات الجنة ويتصورون‬
‫يف عقولهم الحور العين وجمالهن ويشتاقون لهن ويعدون المهر الذي‬
‫يصلون به إلى الحور العين باإليمان والتقوى‪ ،‬وهؤالء هم العقالء‪.‬‬
‫ـ اإلنسان يحب متع النساء والخمور والقصور ويعيش لذلك‪ ،‬فمن‬
‫الناس من يرى أن هذه المتع يف الدنيا فيعيش لها‪ ،‬ومنهم َمن يرى أن هذه‬
‫المتع يف الجنة فيعيش لها وقلبه يشتاق إلى نساء الحور العين وجمالهن‬
‫ولذة الخمور وفخامة القصور‪.‬‬
‫ـ فالذي يبحث عن شهوة النساء الفاتنات ال يجب أن يبحث عنها‬

‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 7100 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬
‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن ابن ماجة ج‪ ،2 :‬ص‪.)1445 :‬‬

‫‪183‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫يف الدنيا وإنما يبحث عنها يف الجنة‪ ،‬والذي يتطلع إلى مسكن فاره أو‬
‫قصر مشيد يتطلع إلى ذلك يف الجنة‪ ،‬والذي يتطلع إلى أن يشرب الخمور‬
‫ويرقص مع النساء يتطلع إلى ذلك يف الجنة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ـ إذن فمن ال يشعر بأي قدر من حب الجنة والشوق لها والتعجب‬
‫(الشعور بالمهابة) من مدى ما فيها من ألوان النعيم هو يف حقيقته يقول‬
‫بمشاعره أن الجنة أساطير األولين وحواديت الشاطر حسن! رغم اليقين‬
‫التام بالجنة‪ ،‬فالحور العين بالنسبة له كأهنن نساء خيالية وليست نساء‬
‫حقيقية فيها لذة أمتع من كل نساء العالم!‪ ،‬فلو كان يشعر بمدى جمالهن‬
‫ح ًقا لعاش من أجل الوصول إليهن وزهد يف نساء الطين!‬
‫ـ �شهوات اجلنة فوق م�ستوى اخليال و�أعجب من ال�سحر‪:‬‬
‫ـ الجنة هي أعجب من الخيال والسحر‪ ،‬فلو كانت الجنة خيال أو‬
‫حدوته لما صدقها أحد؛ ألنه كيف إلنسان أن يعيش بال موت وال مرض‬
‫وال شيخوخة ويف متع ال تحصى‪ ،‬فما بالك والجنة حقيقة وليست ً‬
‫خيال‪،‬‬
‫والقضية ليست فقط يف التصديق ولكن يف انتباه اإلنسان لهذا العجب‬
‫العجاب وتأثير هذا األمر المدهش على مشاعره وانفعاالته وتصرفاته‬
‫وترقبه طوال عمره لهذا الكنز الحقيقي الذي هو أعظم من الكنوز التي‬
‫تذكرها القصص والخياالت‪.‬‬
‫ـ كل ما يمكن أن تتخيله من المتع والشهوات من نساء فاتنة ساحرة‬
‫وخمور وكل ألوان الطعام والشراب وكل ألوان المرح والرتفيه فشهوات‬
‫الجنة أكرب من ذلك‪ ،‬وكل شيء بمجرد أن تتمناه يتحقق لك كأنه سحر‬
‫لكنه حقيقة‪ ،‬وكل هذا موجود اآلن يف الجنة‪﴿ :‬وفِيها ما َت ْشت َِه ِ‬
‫يه ْالَ ْن ُف ُس‬ ‫َ َ َ‬

‫‪184‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫﴿و َل ُك ْم‬
‫ون﴾(‪َ ،)2‬‬ ‫﴿و ُه ْم فِي َما ْاشت ََه ْت َأ ْن ُف ُس ُه ْم َخالِدُ َ‬‫َو َت َل ُّذ ْالَ ْع ُي ُن﴾(‪َ ،)1‬‬
‫ون﴾(‪َ ﴿ ،)3‬لهم ما ي َشاء َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يها‬‫ون ف َ‬ ‫ُ ْ َ َ ُ‬ ‫يها َما َتدَّ ُع َ‬ ‫يها َما َت ْشت َِهي َأ ْن ُف ُس ُك ْم َو َل ُك ْم ف َ‬
‫ف َ‬
‫َو َلدَ ْينَا َم ِزيدٌ ﴾(‪ ،)4‬ويف الحديث القدسي‪﴿ :‬أعددت لعبادي الصالحين ما‬
‫ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر‪ ،‬وتصديق ذلك يف‬
‫كتاب اهلل عز وجل‪﴿ :‬فال تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما‬
‫كانوا يعملون﴾﴾(‪.)5‬‬
‫ـ والساحر يسحر لك أشيا ًء تدعو للدهشة والعجب فيحدث خوف‬
‫من مهابة األمر‪ ،‬أما شهوات الجنة فهي فوق مستوى الخيال وأعجب‬
‫سحرا‪ ،‬فلماذا ال يحدث خوف‬ ‫ً‬ ‫فضل عن أهنا حقيقة وليس‬‫من السحر‪ً ،‬‬
‫من مهابة األمر؟ ولماذا يحدث الحب والرجاء لشهوات الدنيا ونساءها‬
‫يف حين ال يحدث ذلك لشهوات الجنة التي هي أعظم بكثير؛ ذلك ألن‬
‫اإلنسان إما أنه ال يعرف الجنة كأنه لم يسمع عنها مطل ًقا أو أنه ال يوقن‬
‫هبا‪.‬‬
‫ـ ال�شعور بوجود اجلنة‪:‬‬
‫ـ تصور لو أن هناك كوك ًبا آخر يف السماء غير األرض عليه سكان‬
‫من البشر يعيشون حياة غاية يف التطور والرفاهية‪ ،‬فمن يعيش على هذا‬
‫الكوكب يعيش يف متع متناهية ال حد لها‪ ،‬وينال كل ما يشتهي ويتمنى وال‬
‫يتعب وال يعمل‪ ،‬ولكن تركيبة البشر هناك مختلفة عن تركيبة البشر على‬
‫األرض‪ ،‬فهم يف شباب دائم وصحة دائمة وأجسادهم مصممة بحيث‬
‫أهنا غير قابلة للمرض أو الموت وهم يأكلون ويتنعمون كيفما شاءوا‬

‫الزخرف‪.71 :‬‬ ‫(((‬


‫األنبياء‪.102 :‬‬ ‫(((‬
‫فصلت‪.31،32 :‬‬ ‫(((‬
‫ق‪.35 :‬‬ ‫(((‬
‫قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (جامع الرتمذي ج‪ ،5 :‬ص‪ ،346 :‬برقم‪.)3197 :‬‬ ‫(((‬

‫‪185‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫فورا وكأنه سحر‪ ،‬لذلك من أراد الوصول إلى‬‫وكل ما يريدونه يتحقق ً‬


‫هذا الكوكب من سكان األرض فالبد أن يتغير جسده ويتكون من جديد‬
‫حيث يموت ً‬
‫أول ثم يتشكل جسده من جديد ثم ُيصعد به إلى هناك بدون‬
‫مركبة فضائية‪.‬‬
‫ـ فكذلك الجنة موجودة اآلن‪ ،‬وسكاهنا اآلن هم الحور العين‪ ،‬ومن‬
‫يصل إليها هم المؤمنون‪ ،‬وفيها عالم آخر كامل من المعيشة يف حياة‬
‫الخلود‪ ،‬ويف الجنة اآلن الحور العين وهن ينظرن إليك ويرونك اآلن يف‬
‫الدنيا‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬ال تؤذي امرأة زوجها يف الدنيا إال قالت زوجته من‬
‫الحور العين ال تؤذيه قاتلك اهلل فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك‬
‫إلينا﴾(‪.)1‬‬
‫ـ ال�شعور باملهابة وال�شوق للجنة‪:‬‬
‫رجل أخربك بأنه على موعد مع فتاة جميلة ولكنها تسكن‬ ‫ـ تخيل لو أن ً‬
‫يف مكان ما فوق السحاب‪ ،‬وأنه لن يصعد إليها بطائرة‪ ،‬ولكنه سوف يصعد‬
‫إليها بعد أن يموت! ألنه سوف تحل الروح يف جثته ثم يطير فوق السحاب‬
‫ليلقاها! إنك سوف تقول‪ :‬إن هذا هراء وأساطير وخرافات‪ ،‬فما بالك أن‬
‫فعل على موعد مع فتيات‬ ‫وجود الحور العين أمر أعجب من ذلك‪ ،‬فأنت ً‬
‫حسناوات جميالت يف مكان آخر غير العالم الذي نعيش فيه‪ ،‬وسوف‬
‫تلقاهن بعد أن تموت ويتحلل جسدك يف الرتاب‪ ،‬ثم تحل فيك الروح‬
‫وتذهب للقائهن إن كنت من أهل اإليمان‪ ،‬وهذا األمر قري ًبا جدً ا‪ ،‬فما‬
‫العمر يف الدنيا إال لحظات! فإذا لم يشعر اإلنسان بالمهابة من هذا األمر‬
‫العجيب فكأنه لم يسمع عن شيء اسمه الجنة أو أنه ال يوقن هبا‪.‬‬
‫ـ تخيل أن رجل يحب امرأة جميلة‪ ،‬ويشتاق إلى لقائها بماذا يشعر؟‬

‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 7192 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫فإن الحور العين أجمل من ذلك بكثير واللقاء هبن حق‪ ،‬فلماذا ال تشعر‬
‫بالحب للحور العين؟ ولماذا ال تشتاق وتحلم بلقائهن؟ ولماذا ال تسبح‬
‫بخيالك مع فتاة أحالمك من الحور العين فإن كل محبوب يفكر يف‬
‫محبوبه؟ أليست الحور العين حقيقة أم أهنا مصنوعة من البالستيك؟‬
‫وأليس الوصول إليهن قري ًبا جدً ا؟ ففي الحديث‪﴿ :‬ا ْل َجنَّ ُة َأ ْق َر ُب إلى‬
‫اك َن ْعلِ ِه‪َ ،‬والن َُّار مِ ْث ُل َذل ِ َك﴾(‪ ،)1‬وإذا كانت حور الطين‬
‫َأح ِدكُم مِن ِشر ِ‬
‫َ ْ ْ َ‬
‫يلهث وراءها الكثيرون ويعيشون من أجلها فما بالك بحور العين‪ ،‬إن‬
‫لكل إنسان مقعده من الجنة ومقعده من النار‪ ،‬فهل تشعر أن الحور العين‬
‫اآلن تشتاق إليك وتنتظرك إلى أن تلقاها‪ ،‬إن كلمة (الحور العين) هي‬
‫كلمة موجودة وراسخة يف االقتناع لكن يف المشاعر ال يوجد شيء اسمه‬
‫الحور العين وال يزال اإلنسان ال يعرف شي ًئا اسمه (الحور العين)‪.‬‬
‫ـ تخيل مكانًا ما به كل ألوان المتع والملذات من نساء وخمور ورقص‬
‫وطعام وشراب‪ ،‬فإن الجنة هبا أعجب من كل ذلك‪ ،‬فلماذا ال تشعر بحب‬
‫الجنة وتشتاق للوصول إلى متعها؟ أين الرغبة الحقيقية والشوق إلى‬
‫الجنة؟‬
‫ـ تخيل لو علم الناس بوجود كنز كبير يمكن الوصول إليه‪ ،‬تصور‬
‫كيف ستكون مشاعرهم متجهة بالشوق للوصول لهذا الكنز‪ ،‬وسوف‬
‫يشغل ذلك الكنز بالهم وأكثر همهم‪ ،‬فالجنة كنز حقيقي هائل ال ينفد‪،‬‬
‫فلماذا ال تتجه إليه المشاعر والتطلعات مثلما تتجه لكنز من كنوز الدنيا؟‬
‫ذلك ألن ذلك الكنز الحقيقي (الجنة) يف مشاعر البعض إنما هو كالم‬
‫نظري فقط كأساطير األولين!!‬
‫ـ تخيل أن العلم قد توصل إلى طريقة تجعل اإلنسان يعود من‬

‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 3115 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الشيخوخة إلى الشباب وال يمرض وال يموت‪ ،‬فسوف تجد الناس‬
‫يتسابقون إلى ذلك ويدفعون يف ذلك كل ما يملكون ولكان ذلك كل همهم‬
‫وكل هدفهم وكل مشاعرهم‪ ،‬فاإلنسان يف الجنة يعود من الشيخوخة إلى‬
‫الشباب وال يمرض وال يموت ويعيش يف متع أبدية وال يوجد ما يعكر‬
‫مزاجه أو يشغل باله‪ ،‬ورغم ذلك ال تجد أي شعور أو رغبة أو انشغال‬
‫الهم هبذا اإلعجاز الهائل القريب جدً ا؛ ذلك ألن اإلنسان غير منتبه‬
‫لخطورة الجنة وبالتالي ال يزال ال يعرف ما هي الجنة كأنه لم يسمع عنها‪.‬‬
‫ـ ويف الحديث‪﴿ :‬إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل يف‬
‫األكل والشرب والشهوة والجماع‪ ،‬حاجة أحدهم عرق يفيض من جلده‬
‫فإذا بطنه قد ضمر﴾(‪ ،)1‬ويف حديث آخر‪﴿ :‬يعطى المؤمن يف الجنة قوة‬
‫مائة يف النساء﴾(‪ ،)2‬فالجماع يف الجنة مائة ضعف الجماع يف الدنيا وهو‬
‫يف ريعان الشباب (يف سن ‪ 33‬سنة) ويستطيع اإلنسان ذلك ألنه يعطى‬
‫قوة مائة ففي حديث آخر‪﴿ :‬يعطى المؤمن يف الجنة قوة كذا وكذا من‬
‫الجماع‪ ،‬قيل يا رسول اهلل‪ :‬أويطيق ذلك‪ ،‬قال يعطى قوة مائة﴾(‪ ،)3‬ويف‬
‫حديث آخر‪﴿ :‬إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي ٍ‬
‫مناد إن لكم أن تصحوا‬
‫فال تسقموا أبدً ا‪ ،‬وإن لكم أن تحيوا فال تموتوا أبدً ا‪ ،‬وإن لكم أن تشبوا‬
‫فال هترموا أبدً ا‪ ،‬وإن لكم أن تنعموا فال تبأسوا أبدً ا‪ ،‬وذلك قول اهلل عز‬
‫وجل‪﴿ :‬ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون﴾﴾(‪ ،)4‬ويف‬
‫حديث آخر‪ ...﴿ :‬قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون‬
‫ذرا ًعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى اآلن﴾(‪ ،)5‬فلماذا ال تشعر بالحب‬

‫تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 1627 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬ ‫(((‬
‫تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 8106 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬ ‫(((‬
‫قال الشيخ األلباين‪ :‬حسن صحيح (جامع الرتمذي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،677 :‬برقم‪.)2536 :‬‬ ‫(((‬
‫التخريج‪ :‬صحيح (صحيح الرتغيب والرتهيب ج‪ 3 :‬ـ رقم‪.)3771 :‬‬ ‫(((‬
‫متفق عليه (مشكاة المصابيح ج‪ ،3 :‬رقم‪.)4628 :‬‬ ‫(((‬

‫‪188‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ألن تكون كذلك؟ إن اإلنسان الذي يعيش للدنيا هدفه أن يأكل ويشرب‬
‫ويتمتع بكل ألوان الراحة‪ ،‬وكذلك اإلنسان الذي يعيش لآلخرة يريد أن‬
‫يأكل ويشرب ويتمتع بكل ألوان الراحة ولكن أي طعام وأي متعة؟ إنه‬
‫يريد المتع الحقيقية التي ال تفنى والتي ال يحيطها مخاوف بالمرض أو‬
‫الشيخوخة أو الموت أو سلب النعمة‪ ،‬إنه يريد المتع الدائمة والشباب‬
‫الدائم وحياة ال يموت فيها وال يمرض‪ ،‬وحياة هبا الفاتنات الحسناوات‬
‫من الحور العين‪.‬‬
‫ون فِ َيها َو َلدَ ْينَا َم ِزيدٌ ﴾(‪ ،)1‬فكل‬
‫ـ تأمل قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ل ُه ْم َما َي َشا ُء َ‬
‫رجل من‬‫سحرا‪ ،‬فقد ورد أن ً‬‫ً‬ ‫فورا وتراه حقيقة وليس‬
‫ما تتمنى يتحقق ً‬
‫أهل الجنة اشتهى أن يزرع فبذر فنما الزرع سري ًعا وكان كالجبال‪ ،‬ففي‬
‫الحديث‪﴿ :‬إن ً‬
‫رجل من أهل الجنة استأذن ربه يف الزرع‪ ،‬فقال له‪ :‬ألست‬
‫فيما شئت؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬ولكن أحب أن أزرع‪ ،‬فبذر فبادر الطرف نباته‬
‫واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال‪ ،‬فيقول اهلل‪ :‬دونك يا ابن آدم‬
‫فإنه ال يشبعك شيء﴾(‪.)2‬‬
‫مثل وهي يف‬‫ـ لو أن امرأة من نساء أهل الجنة نظرت من نافذة ً‬
‫الجنة إلى األرض فإن نور جمالها سوف يضيء الدنيا‪ ،‬ورائحة العطر‬
‫الذي فيها سوف يمأل الدنيا عب ًقا‪ ،‬والزينة التي تظهر على رأسها أجمل‬
‫من كل الجمال الذي يف الدنيا‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬ولو اطلعت امرأة من‬
‫ريحا وألضاءت ما بينهما‬
‫نساء أهل الجنة إلى األرض لمألت ما بينهما ً‬
‫ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها﴾(‪ ،)3‬فأين الذين يبحثون‬
‫عن الشهوات؟ فهذه هي الشهوات الحقيقية‪.‬‬

‫((( ق‪.35 :‬‬


‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 2080 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬
‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 5116 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ تخيل أننا اآلن يف الجنة ونذكر أيام الدنيا وما كان فيها‪ ،‬فما قيمتها وما‬
‫قدرها عندئذ؟ إهنا كانت أيا ًما قليل ًة وحيا ًة ضئيل ًة انتهت وال قيمة لها‪ ،‬أما‬
‫نحن اآلن (يف الجنة) فهذه هي ح ًقا الحياة نعيش فال نموت وال نمرض‬
‫ونتمتع كيفما نشاء‪.‬‬
‫ـ انظر إلى مدى لذة النظر إلى اهلل تعالى التي هي أعظم من كل لذات‬
‫الجنة‪ ،‬فهل من مشتاق إلى الجنة من أجل أن يستمتع بلذة النظر إلى وجه‬
‫اهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ إذا نظر اإلنسان إلى منزل جميل واسع أو شقة جميلة واسعة هبا كل‬
‫أدوات الرتفيه والراحة أو إذا نظر إلى سيارة فارهة أو قصر مشيد أو‪...‬‬
‫إلخ‪ ،‬فإن اإلنسان قد يحدث عنده شعور باالنبهار واإلعجاب والشوق‬
‫ألن يكون عنده مثل ذلك‪ ،‬وقد يسعى سنوات طويلة وعنده طول أمل‬
‫أن يحصل على سيارة فارهة أو شقة واسعة أو‪ ...‬إلخ‪ ،‬إذن هذا اإلنسان‬
‫بداخله أمل وشوق وشعور باإلعجاب واالنبهار‪ ،‬فإذا كانت الجنة أفضل‬
‫من الشقة الواسعة أو السيارة الفارهة أو‪ ...‬إلخ‪ ،‬فلماذا ال يشعر اإلنسان‬
‫هبذا اإلعجاب وهذا األمل والشوق للوصول إليها؟ ذلك ألن الجنة غير‬
‫موجودة يف المشاعر‪ ،‬ففي المشاعر هي خيال أو وهم أو شيء مصنوع من‬
‫البالستيك ال معنى له‪ ،‬أو شيء بعيد االحتمال تما ًما أو كال ًما نظر ًيا فقط‬
‫كأساطير األولين‪ ،‬رغم وجود االقتناع التام واليقين التام بوجود الجنة‪،‬‬
‫لكن ال يزال ال يعرف ما هي الجنة؟‬
‫ـ إن شهوات الدنيا ضئيلة حتى وإذا حاول اإلنسان أن يكثر منها فإن‬
‫اللذة منها تقل عندئذ حتى تنتفي‪ ،‬كأن يكثر من الطعام أو الشراب أو‬
‫الجماع أو ينظر إلى عورات النساء‪ ،‬بل يتعرض عندئذ لألمراض‪ ،‬كما أن‬
‫المتع تقل مع كرب عمر اإلنسان خاصة عندما يصل إلى الشيخوخة ويعود‬
‫طفل ضعي ًفا‪ ،‬ولذلك يقول تعالى‪َ :‬‬
‫﴿و َم ْن ُن َع ِّم ْر ُه‬ ‫إلى الضعف مثلما كان ً‬

‫‪190‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ون﴾(‪ ،)1‬أما يف الجنة فال يحدث أن تقل اللذة‬ ‫ُننَ ِّك ْس ُه فِي ا ْل َخ ْل ِق َأ َفال َي ْع ِق ُل َ‬
‫ون﴾(‪،)2‬‬‫ون َعن َْها َوال ُين ِْز ُف َ‬
‫مهما أكثر اإلنسان من ألوان المتع‪﴿ :‬ال ُي َصدَّ ُع َ‬
‫أيضا والبد من‬
‫إن شهوات الدنيا كما أهنا ضئيلة فليست سهلة المنال ً‬
‫أمرا ً‬
‫سهل‪ ،‬فإن المتنافسين‬ ‫السعي والتعب‪ ،‬فالحصول على الدنيا ليس ً‬
‫على الدنيا كثير وطالب الدنيا كثير‪ ،‬وهم يتقاتلون ويتشاحنون عليها‪،‬‬
‫ويتشبثون هبا بأيديهم وأسناهنم‪ ،‬ومن يأيت بينهم ليتنافس على الدنيا ال‬
‫يرقبون فيه ًإل وال ذمة فيأكلوه‪ ،‬أما شهوات وطعام وفواكه الجنة ﴿ال‬
‫َم ْق ُطو َع ٍة َوال َم ْمنُو َع ٍة﴾(‪ ،)3‬ويف الحديث‪﴿ :‬قالوا يا رسول اهلل‪ :‬رأيناك‬
‫تناولت شي ًئا يف مقامك هذا‪ ،‬ثم رأيناك تكعكعت‪ ،‬قال‪ :‬إين رأيت الجنة أو‬
‫ُأريت الجنة فتناولت منها عنقو ًدا ولو أخذته ألكلتم منه ما بقيت الدنيا‪.)4( ‬‬

‫ـ فال يزول تعظيم قيمة المال وقيمة الشهوات الدنيوية وقيمة الطعام‬
‫والشراب الدنيوي يف نظر اإلنسان حتى تتحقق المعرفة الحقيقية بالجنة‪.‬‬

‫*******‬

‫يـس‪.68 :‬‬ ‫(((‬


‫الواقعة‪.19 :‬‬ ‫(((‬
‫الواقعة‪.33 :‬‬ ‫(((‬
‫قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن النسائي ج‪ ،3 :‬ص‪ ،146 :‬برقم‪.)1493 :‬‬ ‫(((‬

‫‪191‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ املعرفة الحقيقية بخطورة الحياة داخل النار‬

‫ـ ال يمكن لعاقل أبدً ا يوقن بالنار أن ينسى النار‪ ،‬ذلك المصير المرعب‬
‫الذي يخشاه كل عاقل‪ ،‬فالعاقل يكون دائم التفكير يف ذلك الخطر الهائل‬
‫وكيفية تفاديه‪.‬‬
‫ـ ال�شعور بوجود النار‪:‬‬
‫ـ إن الغرض األصلي من وجود النار يف الدنيا هو أهنا تذكِرة لنار اآلخرة‪:‬‬
‫َاها َت ْذكِ َر ًة َو َمتَا ًعا ل ِ ْل ُم ْق ِوي َن﴾(‪ ،)1‬ولو كانت نار اآلخرة مثل‬
‫﴿ن َْح ُن َج َع ْلن َ‬
‫نار الدنيا لكفت‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬ناركم هذه التي توقدون جزء واحد من‬
‫سبعين جز ًءا من حر جهنم‪ ،‬قالوا‪ :‬واهلل إن كانت لكافية يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فإهنا فضلت بتسعة وستين جز ًءا كلهن مثل حرها﴾(‪.)2‬‬
‫ـ لو كانت الشمس هي نار اآلخرة لكانت كافية‪ ،‬فيمكن أن نتخيل‬
‫أن الشمس هي نار اآلخرة‪ ،‬فإذا رأينا مدى حجمها وشدة نارها بحيث‬
‫أهنا يمكن أن تبتلع األرض ومن عليها وال يمثل ذلك سوى واحد على‬
‫مليون من حجمها‪ ،‬وشدة نارها تصل إلى ماليين الدرجات المئوية‪ ،‬وحر‬
‫الصيف الذي نعيشه هو مجرد اقرتاب بسيط جدً ا من الشمس فنحن على‬
‫مسافة هائلة منها‪ ،‬فالشمس عبارة عن كتلة هائلة من النار معلقة يف الفضاء‬
‫ونحن على الكرة األرضية ندور حول هذه الشمس يف دورة كل عام‪ ،‬فإذا‬
‫ما تصورنا حجم هذه النار ووجودها وأننا ندور حولها وأثرها الواصل‬

‫((( الواقعة‪.73 :‬‬


‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (جامع الرتمذي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،709 :‬برقم ‪.)2589‬‬

‫‪192‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫إلينا فيمكننا أن نتصور مدى خطورة نار اآلخرة األكثر شدة والتها ًبا‪.‬‬
‫ـ وحيث أن وجود هذه الشمس التي هي نار معلقة يف الفضاء هبذه‬
‫الشدة وااللتهاب وحيث أهنا ما زالت موقدة ولم تنطفئ على مدى ماليين‬
‫أساسا‪ ،‬فما بالك إذن بنار اآلخرة؟!‬
‫السنين من قبل خلق البشر ً‬
‫ـ وجميع النجوم مثل الشمس عبارة عن نار هائلة معلقة يف الفضاء‪،‬‬
‫ومنها ما هو أضخم من الشمس ماليين المرات‪ ،‬وهذه النجوم ما هي إال‬
‫زينة للسماء فانظر إلى مدى قدرة اهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ ونار اآلخرة موجودة اآلن وبالطبع هي أضخم من كل هذه النجوم‪.‬‬
‫ـ ال�شعور مبدى عذاب و�أمل النار‪:‬‬
‫ـ إذا ذهبت إلى قسم الحرائق بأحد المستشفيات ونظرت كيف تفعل‬
‫النار يف الجسم‪ ،‬بماذا تشعر؟‪ ،‬وهذا بعد أن حدث الحريق فما بالك لو‬
‫رأيت حادثة ما فيها أحدً ا يحرتق‪ ،‬وما بالك إذا كنت أنت المصاب يف هذه‬
‫أزيزا من االحرتاق مثلما توضع‬
‫الحادثة؟‪ ،‬إن أهل النار يسمع لجلودهم ً‬
‫ُشوى‪ ،‬فما بالك لو أنك أنت يف مكان هذه الدجاجة!‬
‫الدجاجة يف النار لت َ‬
‫ـ فإذا لم يتحقق عندك الشعور بالخوف من مهابة النار والخوف من‬
‫الوقوع فيها فإن النار يف مشاعرك ال تنفع وال تضر مثل النار التي وضع‬
‫فيها سيدنا إبراهيم عليه السالم‪ ،‬فإن نار اآلخرة يف االقتناع عذاهبا شديد‪،‬‬
‫أما نار اآلخرة يف مشاعر البعض فإهنا نار ال تحرق قد سلبت منها خاصية‬
‫اإلحراق‪ ،‬فنار اآلخرة ال وجود لها يف مشاعر البعض‪.‬‬
‫ـ ومما ورد يف عذاب أهل النار ما جاء يف تفسير ابن كثير‪ُ ﴿﴿ :‬ث َّم فِي‬
‫اس ُل ُكو ُه﴾ قال ابن عباس‪﴿ :‬فاسلكوه﴾‬ ‫ِس ْل ِس َل ٍة َذر ُعها سبع َ ِ‬
‫ون ذ َراعًا َف ْ‬ ‫ْ َ َ ُْ‬

‫‪193‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫تدخل يف إسته ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد يف‬
‫العود حين يشوى﴾(‪ ،)1‬ويف تفسير القرطبي‪﴿ :‬وقال مقاتل لو أن حلقة‬
‫منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص‪ ،‬وقال كعب‪:‬‬
‫إن حلقة من السلسلة التي قال اهلل تعالى ﴿ذرعها سبعون ذرا ًعا﴾ إن‬
‫حلقة منها مثل جميع حديد الدنيا﴾(‪ ،)2‬ويف الحديث‪﴿ :‬لو كان يف هذا‬
‫المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصاهبم‬
‫نفسه الحرتق المسجد ومن فيه﴾(‪ ،)3‬ويف الحديث‪﴿ :‬إن يف النار حيات‬
‫أمثال أعناق البخت يلسعن اللسعة فيجد حموهتا أربعين خري ًفا‪ ،‬إن فيها‬
‫لعقارب كالبغال الموكفة يلسعن اللسعة فيجد حموهتا أربعين خريفا﴾‬
‫(‪ ،)4‬ويف الحديث‪﴿ :‬لو أن قطرة من الزقوم قطرت يف دار الدنيا ألفسدت‬
‫على أهل الدنيا معايشهم‪ ،‬فكيف بمن تكون طعامه﴾(‪.)5‬‬
‫ـ ال�شعور ب�ض�آلة �آالم الدنيا �أمام �أمل النار‪:‬‬
‫ـ إن نار اآلخرة أمر أبعد من كل تصوراتنا وخطر من أشد ما يمكن‪،‬‬
‫وإذا وضعت مقارنة بين نار اآلخرة وكل مخاوف الدنيا وآالمها فإهنا ال‬
‫ار‪،‬‬‫تساوي شي ًئا‪ ،‬ويف الحديث‪ُ ﴿ :‬ي ْؤ َتى َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة بِ َأ ْن َع ِم َأ ْه ِل الدُّ ْن َيا مِ َن ا ْل ُك َّف ِ‬
‫يها‪ُ ،‬ث َّم ُي َق ُال َل ُه‪ :‬أي ُفالن َه ْل‬ ‫ِ‬ ‫َف ُي َق ُال‪ :‬ا ْغ ِم ُسو ُه يف الن ِ‬
‫َّار َغ ْم َسةً‪َ ،‬ف ُي ْغ َم ُس ف َ‬
‫يم َق ُّط‪َ ،‬و ُي ْؤ َتى بِ َأ َشدِّ ا ْل ُم ْؤمِنِي َن‬ ‫ِ ِ‬
‫ال َما َأ َصا َبني نَع ٌ‬
‫ِ‬
‫َأ َصا َب َك نَع ٌ‬
‫يم َق ُّط؟ َف َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬‬
‫ضرا َو َبالَ ًء‪َ ،‬ف ُي َق ُال‪ :‬ا ْغ ِم ُسو ُه َغ ْم َس ًة يف ا ْل َجن َِّة‪َ ،‬ف ُي ْغ َم ُس فِ َيها َغ ْم َسةً‪َ ،‬ف ُي َق ُال‬ ‫ً‬
‫ال‬ ‫ِ‬
‫ول‪َ :‬ما َأ َصا َبني َق ُّط ُض ٌّر َو َ‬ ‫َل ُه‪ :‬أي ُفالن َه ْل َأ َصا َب َك ُض ٌّر َق ُّط أو َبالَ ٌء؟ َف َي ُق ُ‬

‫تفسير ابن كثير ـ دار طيبة للنشر والتوزيع (ج‪ ،8 :‬ص‪.)216 :‬‬ ‫(((‬
‫تفسير القرطبي [الجامع ألحكام القرآن] ‪-‬دار الكتب المصرية‪ -‬القاهرة (ج‪ ،18 :‬ص‪.)272 :‬‬ ‫(((‬
‫حديث صحيح (صحيح الرتغيب والرتهيب برقم ‪.)3668‬‬ ‫(((‬
‫حديث صحيح (السلسلة الصحيحة برقم ‪.)3429‬‬ ‫(((‬
‫تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 5250 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬ ‫(((‬

‫‪194‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫َبالَ ٌء﴾(‪.)1‬‬
‫ـ فال ألم يف ألم بعده الجنة‪ ،‬وال راحة يف راحة بعدها النار‪ ،‬لذلك‬
‫فالعاقل يستوي عنده ألم الدنيا مع نعيمها‪ ،‬فكالهما لعب ولهو‪ ،‬فقارن‬
‫بين مخاوف الدنيا الفانية وبين الشقاء إلى األبد فتعيش يف عذاب بال‬
‫حدود وإلى األبد‪ ،‬فإن كل آالم الدنيا وهمومها وأحزاهنا ومشاكلها ليست‬
‫رجل يجر على وجهه من يوم‬‫بشيء أمام آالم النار‪ ،‬ويف الحديث‪﴿ :‬لو أن ً‬
‫ولد إلى يوم يموت هر ًما يف مرضاة اهلل تعالى لحقره يوم القيامة﴾(‪.)2‬‬
‫ـ إن كل آالم الدنيا ومشاكلها وهمومها ليست بشيء أمام ألم النار‬
‫يوم القيامة‪ ،‬فمن كان يشعر بألم الكراهية والضيق آلالم الدنيا ومشاكلها‬
‫وهمومها وخطورهتا وال يشعر بألم الكراهية والضيق واالشمئزاز آلالم‬
‫النار يف اآلخرة (الشعور بالمهابة من شدة النار وخوف الوقوع فيها)‬
‫فذلك ألن النار يف مشاعره خيال وأساطير األولين!‬
‫ـ إذا قارنت بين الحالة النفسية المميزة للشعور بالخوف من أي أمر‬
‫دنيوي وبين الحالة النفسية للخوف من اآلخرة والنار تجد حالة خوف‬
‫حقيقية هائلة يف النفس من األمر الدنيوي يف حين ال تجد أي شعور نفسي‬
‫حقيقي عند َم ْن يدعي الخوف من النار‪ ،‬وإذا افرتضنا أنه ُوجد فال يساوي‬
‫واحد على ألف من أقل شيء مخيف يف الدنيا‪ ،‬إذن فالنار ال وجود لها يف‬
‫مشاعرك‪ ،‬إنما هي يف االقتناع وليست يف الشعور‪ ،‬كأهنا حدوتة تستخدم‬
‫لتخويف األطفال!‬

‫******‬

‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن ابن ماجه ج‪ ،2:‬ص‪ ،1445 :‬برقم‪.)4321 :‬‬
‫((( تحقيق األلباين‪ :‬حسن (انظر حديث رقم‪ 5249 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الفصل الرابع عرش‬


‫املعرفة احلقيقية ب�أن الدنيا دار �سفر‬

‫ـ السفر هو انتقال من الحياة المؤقتة يف الدنيا إلى الحياة الدائمة يف‬


‫اآلخرة‪ ،‬وهذا معناه الشعور بالمهابة والرتقب وقلق االنتظار‪.‬‬
‫ـ ت�صور خطورة هذا ال�سفر‪:‬‬
‫ـ هل على اإلنسان أن يعيش طوال عمره يعد نفسه للرحيل‪ ،‬أي يعيش‬
‫منتظرا يوم موته؟!‪ ،‬إن هذه الحياة التي نعيشها ما خلقت إال لهذا الغرض‪،‬‬
‫ً‬
‫فالدنيا ما هي إال طريق لآلخرة‪ ،‬فهل يمكن إلنسان عاقل أن يبني سكنه‬
‫يف الطريق أو الشارع الذي يسير فيه الناس ويعيش ويقيم يف طريق المارة‪،‬‬
‫فال تصلح المعيشة يف الطريق‪ ،‬إنما هو مجرد سفر أي معيشة مؤقتة عابرة‬
‫لضرورة الرتحال وإلعداد الحقائب‪.‬‬
‫ـ لو قيل إن بعض الناس يستعدون للسفر إلى كوكب آخر عرب الفضاء‬
‫لكان ذلك العجب والدهشة‪ ،‬فهل تتصور أننا مسافرون لما هو أعجب‬
‫من ذلك وأبعد من ذلك إلى الدار اآلخرة؟!‪ ،‬فهل أنت يف انتظار حياة غير‬
‫الحياة التي تعيشها اآلن وطعام غير الطعام الذي تأكله وسكن غير السكن‬
‫الذي تسكن فيه؟!‪ ،‬وهل تتصور أن البيت الذي تسكن فيه اآلن ليس هو‬
‫بيتك‪ ،‬إنما بيتك هناك‪ ،‬وأن هناك َم ْن ينتظرك اآلن من الحور العين (إن‬
‫شاء اهلل تعالى)؟!‪ ،‬هل يف تصورك أن الطعام الذي تأكله هو طعام مؤقت‪،‬‬
‫وأن السكن الذي تسكن فيه هو سكن مؤقت‪ ،‬أم أنك تتصور أنه سكن‬
‫كثيرا بطعام‬
‫دائم؟! إن الذي يري أن طعامه إنما هو يف اآلخرة فإنه ال يهتم ً‬

‫‪196‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الدنيا فهو كيفما اتفق‪ ،‬وإنما هو يأخذ زاد المسافر‪ ،‬وكذلك سكن الدنيا‬
‫ومتطلباهتا‪ ،‬وقد كان اإلمام أحمد بن حنبل يقول‪﴿ :‬إنما هو طعام دون‬
‫طعام‪ ،‬ولباس دون لباس‪ ،‬وإهنا أيام قالئل﴾(‪ ،)1‬فهل تشعر بالرتقب‬
‫واالنتظار ليوم العودة إلى وطنك وأهلك؟!‪ ،‬وهل تشعر أنك تعيش‬
‫اآلن يف بلد الغربة (الدنيا)؟! وهل عندك شعور بأنك مفارق الناس وكل‬
‫ما تملك؟ وهل تشعر بالرتقب واالنتظار لمجيء اليوم الذي تصل فيه‬
‫فعل بعالم الغيب فإنه يشعر‬ ‫إلى بيتك بعد سفر طويل؟!‪ ،‬إن الذي يشعر ً‬
‫بالموت على أنه مجرد مرحلة ينتقل هبا إلى حياة أخرى فال يكره الموت‬
‫وال يكن مرعو ًبا منه‪ ،‬وعندما يأتيه الموت فإنما يأتيه َم ْن كان ينتظره على‬
‫موعد‪ ،‬وأنه ليس النهاية وإنما هو البداية للحياة الحقيقية‪ ،‬أما الذي ال‬
‫يشعر بعالم الغيب فإنه يعيش كأنه لن يموت‪ ،‬وعندما يأتيه الموت يشعر‬
‫أنه هو النهاية‪ ،‬وال يريد أن يموت‪ ،‬ويكره َم ْن يقبض روحه؛ ألنه يرى‬
‫الدنيا دار سعادة ويرى يف الموت النهاية وليس بداية الحياة الحقيقية (يف‬
‫اآلخرة)‪ ،‬وهذا يمثل الحقيقة الموجودة يف مشاعره‪ ،‬وإن كان يف اقتناعه‬
‫عكس ذلك تما ًما فهو على يقين تام بأن الدنيا فانية ضئيلة وأن الموت‬
‫مجرد انتقال إلى الحياة الباقية لكنه جاهل بما يوقن به!‪.‬‬
‫ـ الدنيا دار غربة نحن اآلن مسافرون منها عائدين إلى وطننا وأهلينا‪،‬‬
‫فنحن اآلن مسافرون سفر العودة والرجوع وليس سفر الذهاب بعيدً ا عن‬
‫الوطن واألهل‪ ،‬فوطن اإلنسان وأهله هو يف اآلخرة وليس يف الدنيا‪ً ،‬‬
‫فمثل‬
‫الذي يسافر من بلده مصر إلى السعودية هو سفر ذهاب بعيدً ا عن األهل‪،‬‬
‫وهو ال يريد السفر إلى السعودية إال مؤقتًا ويف ذهنه العودة إلى أهله‪ ،‬أما‬
‫سفر العودة والرجوع هو أنه موجود يف السعودية ويريد أن يسافر سفر‬
‫العودة إلى مصر حيث بلده وأهله‪ ،‬وهذا هو السفر المقصود‪ ،‬ففي تفسير‬

‫((( صيد الخاطر ‪-‬دار القلم‪ -‬دمشق (‪.)447 / 1‬‬

‫‪197‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫البغوي‪﴿﴿ :‬إِ َّن إِلى َر ِّب َك ُّ‬


‫الر ْجعى﴾ َأ ِي المرجع يف اآلخرة﴾(‪.)1‬‬
‫ـ ويمكن تشبيه ذلك بأن إنسانًا ركب سيارة أجرة ليصل إلى مكان ما‪،‬‬
‫دخل السيارة فوجد فيها ركا ًبا آخرين مثله‪ ،‬ربما يتحدث معهم أو يتعرف‬
‫على أحد منهم‪ ،‬وعندما يصل إلى المكان الذي يريده ينزل من السيارة‬
‫ويرتك الركاب الموجودين فيها‪ ،‬فالدنيا هي وقت اإلنسان الذي يقضيه‬
‫داخل السيارة‪ ،‬والركاب الموجودين داخل السيارة هم الناس الموجودين‬
‫يف الدنيا‪ ،‬واإلنسان مهما تعامل معهم فليسوا أهله ولكنهم غر ًباء مسافرين‬
‫مثله‪ ،‬وعندما ينزل من السيارة ال يشعر بألم الفراق؛ ألنه ال تربطهم به‬
‫سوى أنه تقابل معهم أثناء الطريق‪.‬‬
‫ـ فينبغي أن تشعر أنك اآلن يف دار الغربة‪ ،‬واألصح أن تشعر بأنك اآلن‬
‫أثناء السفر منتقل من دار الغربة إلى مكان اإلقامة والمعيشة فأنت عابر‬
‫ول اهَّللِ ﷺ‬ ‫اه ٍد َع ِن ا ْب ِن ُع َم َر َق َال‪َ :‬أ َخ َذ َر ُس ُ‬
‫سبيل‪ ،‬ففي الحديث َعن مج ِ‬
‫ْ ُ َ‬
‫يب أو َعابِ ُر َسبِيلٍ‪َ ،‬وعُدَّ َن ْف َس َك يف‬ ‫بمنكبي َف َق َال‪ُ ﴿ :‬ك ْن يف الدُّ ْن َيا ك ََأن ََّك َغ ِر ٌ‬
‫ث َن ْفس َك بِا ْلمس ِ‬ ‫َأ ْه ِل ا ْل ُق ُب ِ‬
‫اء‪،‬‬ ‫َ َ‬ ‫ور‪َ ،‬ف َق َال لي ا ْب ُن ُع َم َر‪ :‬إِ َذا َأ ْص َب ْح َت َفالَ ُت َحدِّ ْ َ‬
‫الص َباحِ َو ُخ ْذ مِ ْن ِص َّحتِ َك َق ْب َل َس َق ِم َك‬ ‫ث َن ْف َس َك بِ َّ‬ ‫َوإِ َذا َأ ْم َس ْي َت َفالَ ُت َحدِّ ْ‬
‫ِ‬ ‫َومِ ْن َح َياتِ َك َق ْب َل َم ْوتِ َك‪َ ،‬فإِن ََّك َ‬
‫اس ُم َك َغدً ا﴾(‪،)2‬‬ ‫ال َتدْ ِري َيا َع ْبدَ اهَّلل َما ْ‬
‫و(أو) يف الحديث بمعنى (بل) لإلضراب‪ ،‬أي كن يف الدنيا كأنك غريب‬
‫بل عابر سبيل‪.‬‬
‫ـ فالدنيا إما أهنا دار إقامة مؤقتة أو أهنا مجرد طريق يسير فيه السائر‬
‫ليصل إلى بيته‪ ،‬ومن لم يشعر هبذا أو هبذا فهو يعترب الدنيا دار إقامة دائمة‬
‫وأهنا بيته‪ ،‬وبالتالي فهو ال يعرف اآلخرة أو ال يوقن هبا‪.‬‬

‫((( تفسير البغوي [معالم التنزيل يف تفسير القرآن] ‪-‬دار إحياء الرتاث العربي‪ -‬بيروت (‪.)281 /5‬‬
‫((( حديث صحيح (جامع الرتمذي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،567 :‬برقم ‪.)2333‬‬

‫‪198‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ تذكر �أن الدنيا لي�ست دارا للإقامة‪:‬‬


‫ـ هناك من بنى حياته على أساس البقاء كأنه يبقى فيعيش كأنه خالد لن‬
‫يموت‪ ،‬فال هم له وال عمل له وال كالم له إال للمال والدنيا‪ ،‬وهو منكب‬
‫على الدنيا يلهث وراء األموال والشهوات‪ ،‬وهناك من بنى حياته على‬
‫أساس أنه مفارق الناس جمي ًعا وكل شيء وأن من حوله لن يدومون وأنه‬
‫سوف يفارق كل شيء وكل الناس‪ ،‬فهو يعيش كأنه غريب أو عابر سبيل‪.‬‬
‫ـ الشعور بالغربة هو شعور اإلنسان الذي يعيش بعيدً ا عن أهله ووطنه‬
‫(وأهله ووطنه يف اآلخرة) فهو يعيش يف ترقب ليوم العودة إلى أهله‬
‫ووطنه‪.‬‬
‫ـ فالدنيا يف نظر المؤمن هي مجرد حياة مؤقتة وجيزة تمضي سري ًعا‬
‫وكل شيء فيها مؤقت فهي مجرد ممر يسير فيه ليصل إلى اآلخرة فهو‬
‫ال ينظر إليها ولكن ينظر إلى ما هو ذاهب إليه فال يبالي زادت أم نقصت‪.‬‬
‫ـ فالدنيا ليست المكان المعد والمجهز والمناسب إلقامة اإلنسان‬
‫فيه‪ ،‬ولكن الدنيا عبارة عن سفينة أو مركبة تحمل اإلنسان إلى بيته أو داره‬
‫ومكان إقامته‪ ،‬وداخل هذه السفينة يعيش اإلنسان حياة مؤقتة عابرة فيها‬
‫مكان مؤقت ينام فيه وطعام وشراب مؤقت‪.‬‬
‫ـ واإلنسان الذي يتعامل مع الدنيا كأهنا دار إقامة عندما يشعر باقرتاب‬
‫الموت أو قبل موته يحدث له اكتئاب شديد وخوف وهلع؛ ألنه ال يريد‬
‫أن يرتك ما اعتاد عليه‪.‬‬
‫مقيما وليس‬ ‫ـ الرضا واالطمئنان بالدنيا معناه أن االنسان يعترب نفسه ً‬
‫مسافرا‪ ،‬أي أنه يشعر باالستقرار يف الدنيا ويتعامل مع الدنيا على أن‬ ‫ً‬
‫معيشته فيها‪ ،‬فهو بذلك جعل الدنيا دار مقر وليست دار ممر وارتحال‪:‬‬
‫اة الدُّ ْن َيا َوا ْط َم َأنُّوا بِ َها َوا َّل ِذي َن ُه ْم‬
‫ون ل ِ َقاءنَا ور ُضوا بِا ْلحي ِ‬
‫ََ‬
‫ِ‬
‫﴿إِ َّن ا َّلذي َن ال َي ْر ُج َ َ َ َ‬

‫‪199‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ون﴾(‪َ ﴿ ،)1‬م ْن ك َ‬
‫َان‬ ‫ون‪ُ ،‬أو َلئِ َك َم ْأ َو ُاه ُم الن َُّار بِ َما كَانُوا َي ْك ِس ُب َ‬‫َع ْن آ َياتِنَا َغافِ ُل َ‬
‫أعماله ْم فِ َيها َو ُه ْم فِ َيها َل ُي ْب َخ ُس َ‬
‫ون‬ ‫ُ‬ ‫ُي ِريدُ ا ْل َح َيا َة الدُّ ْن َيا َو ِزينَت ََها ن َُو ِّ‬
‫ف إِ َل ْي ِه ْم‬
‫(‪ُ )15‬أو َلئِ َك ا َّل ِذي َن َل ْي َس َل ُه ْم فِي اآلخرة إِ َّل الن َُّار َو َحبِ َط َما َصنَ ُعوا فِ َيها‬
‫ون﴾(‪ ،)2‬أما المؤمن فيشعر بأنه غريب عن هذه‬ ‫َو َباطِ ٌل َما كَانُوا َي ْع َم ُل َ‬
‫الحياة؛ ألهنا ليست وطنه‪ ،‬فهو غير مطمئن هبا وال يألف المعيشة فيها؛‬
‫ألنه يعيش بين غرباء ينتظر الرحيل إلى وطنه وأهله‪.‬‬
‫ـ إن الشخص الذي يعيش يف غربة ليست قضيته أن يبحث عن الراحة‬
‫والطعام والشراب‪ ،‬فإنه ينتظر الراحة والطعام والشراب عند العودة إلى‬
‫وطنه‪ ،‬أما طعامه وشرابه ومكان نومه وعيشه يف بلد الغربة فهو كيفما اتفق‬
‫يرضى بأي شيء يؤدي الغرض‪ ،‬فهل يف شعورك أن الطعام الذي تأكله هو‬
‫طعام مؤقت وأن السكن الذي تسكن فيه هو سكن مؤقت أم أنك تشعر‬
‫أنه سكن دائم؟‬
‫ـ إذا لم يشعر اإلنسان بالغربة يف هذه الدنيا ويشعر بالرتقب والتطلع‬
‫واالنتظار لآلخرة وتعلقت مشاعره بالمال والشهوات حبا وخوفا ورجا ًء‬
‫وكان هدفه الذي يلهث وراءه هو المال أو الشهوات فهو ال يزال ال يعرف‬
‫أنه مسافر إلى اآلخرة‪.‬‬
‫ـ ت�صور خطورة االنتقال للآخرة يف �أي حلظة‪:‬‬
‫ـ ليست المشكلة فقط يف قصر عمر الدنيا وأهنا دار سفر‪ ،‬فاألخطر من‬
‫ذلك أن االنتقال إلى اآلخرة يكون يف لحظة مفاجئة مباغتة وبال مقدمات‬
‫اء اهَّللِ َحتَّى إِ َذا َجا َء ْت ُه ُم‬
‫وينتهي كل شيء لألبد‪َ ﴿ :‬قدْ َخ ِسر ا َّل ِذين ك ََّذبوا بِلِ َق ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫السا َع ِة إال‬ ‫﴿و َما َأ ْم ُر َّ‬
‫ِ‬
‫السا َع ُة َب ْغ َت ًة َقا ُلوا َيا َح ْس َر َتنَا َع َلى َما َف َّر ْطنَا ف َيها﴾(‪َ ،)3‬‬
‫َّ‬
‫((( يونس‪.8 ،7 :‬‬
‫((( هود‪.16 ،15 :‬‬
‫((( األنعام‪.31 :‬‬

‫‪200‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫اهَّلل َع َلى ك ُِّل َش ْي ٍء َق ِد ٌير﴾(‪ ،)1‬فيفتح اإلنسان‬ ‫َك َل ْمحِ ا ْل َب َص ِر أو ُه َو َأ ْق َر ُب إِ َّن َ‬


‫عينيه فال يجد بيته الذي كان يسكن فيه وعمله الذي كان يعمل فيه وأهله‬
‫ف المعيشة معهم‪ ،‬فجأة يفتح عينه ليجد كل شيء قد‬ ‫وأصدقاءه الذين َأل ِ َ‬
‫اث إلى َر ِّب ِه ْم َين ِْس ُل َ‬
‫ون‬ ‫ور َفإِ َذا ُهم مِن ْالَجدً ِ‬
‫ْ َ‬ ‫الص ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫﴿ونُف َخ في ُّ‬ ‫تغير يف لحظة‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ْح َم ُن َو َصدَ َق‬ ‫(‪َ )51‬قا ُلوا َيا َو ْي َلنَا َم ْن َب َع َثنَا م ْن َم ْر َقدنَا َه َذا َما َوعَدَ َّ‬
‫ون﴾(‪ ،)2‬فالمعرفة الحقيقية بأن الموت يأيت يف أي لحظة وينتقل‬ ‫ا ْل ُم ْر َس ُل َ‬
‫اإلنسان لآلخرة معناه الشعور بالمهابة من خطورة االنتقال إلى اآلخرة يف‬
‫ول اهَّللِ ﷺ‬ ‫اه ٍد َع ِن ا ْب ِن ُع َم َر‪َ :‬ق َال َأ َخ َذ َر ُس ُ‬
‫أي لحظة‪ ،‬ففي الحديث َعن مج ِ‬
‫ْ ُ َ‬
‫يب أو َعابِ ُر َسبِيلٍ‪َ ،‬وعُدَّ َن ْف َس َك يف‬ ‫بمنكبي َف َق َال‪ُ ﴿ :‬ك ْن يف الدُّ ْن َيا ك ََأن ََّك َغ ِر ٌ‬
‫ث َن ْفس َك بِا ْلمس ِ‬ ‫َأ ْه ِل ا ْل ُق ُب ِ‬
‫اء‪،‬‬ ‫َ َ‬ ‫ور‪َ ،‬ف َق َال لي ا ْب ُن ُع َم َر‪ :‬إِ َذا َأ ْص َب ْح َت َفالَ ُت َحدِّ ْ َ‬
‫الص َباحِ ‪َ ،‬و ُخ ْذ مِ ْن ِص َّحتِ َك َق ْب َل َس َق ِم َك‪،‬‬ ‫ث َن ْف َس َك بِ َّ‬ ‫َوإِ َذا َأ ْم َس ْي َت َفالَ ُت َحدِّ ْ‬
‫ِ‬ ‫َومِ ْن َح َياتِ َك َق ْب َل َم ْوتِ َك‪َ ،‬فإِن ََّك َ‬
‫اس ُم َك َغدً ا﴾(‪.)3‬‬ ‫ال َتدْ ِري َيا َع ْبدَ اهَّلل َما ْ‬
‫ـ ال�شعور باملهابة من خطورة ال�سفر للآخرة ولقاء اهلل تعاىل‪:‬‬
‫ـ مسألة السفر إلى حياة أخرى غير عالمنا الذي نعيش فيه هي أمر‬
‫خطير يدعو إلى االنتباه والشعور بالمهابة وبالتالي انشغال الهم وتأثر‬
‫المشاعر والجوارح بإعداد العدة لما بعد هذا السفر‪.‬‬
‫ـ مدة البقاء يف دار اإلقامة المؤقتة (الدنيا) قصير جدً ا والسفر فوري‬
‫جاهزا بحقائبه مرتد ًيا‬
‫ً‬ ‫يف أي لحظة من ليل أو هنار فالبد أن يكون اإلنسان‬
‫مالبس سفره يف كل وقته‪.‬‬
‫ـ لو قيل لك أنه قد تحدد لك موعد سفرك من أرض الدنيا إلى أرض‬
‫المحشر بعد شهر من اآلن‪ ،‬وأن جواز سفرك قد تم التأشير عليه بالهجرة‬

‫((( النحل‪.77 :‬‬


‫((( يس‪.52 – 51 :‬‬
‫((( حديث صحيح (جامع الرتمذي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،567 :‬برقم ‪.)2333‬‬

‫‪201‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫وهنارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫بال عودة من الدنيا‪ ،‬إن هذا األمر عندئذ سوف يشغل تفكيرك ً‬
‫ليل‬
‫ستظل تفكر يف لقاء اهلل وتتهيب األمر حيث تقف أمامه لتجيب عليه وهو‬
‫يسألك عن أعمالك‪ ،‬وسوف تتعامل مع أهلك والناس تعامل المودع لهم‬
‫الراحل عنهم‪ ،‬إنه تفكير دائم وشعور بالتهيب من األمر (الشعور بالمهابة‬
‫من فراق من اعتدت على رؤيتهم يف الدنيا والشعور بالمهابة من الوصول‬
‫إلى لقاء اهلل نفسه)‪ ،‬وهو شعور بالرتقب وانتظار اآلخرة (االستعداد‬
‫النفسي والتطلع إلى اآلخرة)‪.‬‬
‫ـ إنه بالفعل قد تحدد لك موعد سفرك وهو قريب جدً ا ولكن لم يتم‬
‫إعالمك به‪ ،‬فلماذا ال يتوجه تفكيرك إلى هذا األمر ولماذا ال تتهيب األمر‬
‫طوال وقتك؟ ذلك ألنك تبعد تفكيرك عن هذا األمر وتتناساه وتتجاهله‬
‫وتتغافل عنه كأنك لن تسافر وترحل ولن تقابل اهلل نفسه سبحانه‪.‬‬
‫ـ كل إنسان يرتقب اليوم الذي يحقق فيه هدفه أو اليوم الذي يحدث‬
‫ً‬
‫منشغل هبذا اليوم‪ ،‬فالطالب يرتقب يوم االمتحان‬ ‫فيه أمر خطير فيظل همه‬
‫والسجين يرتقب يوم اإلفراج‪ ،‬والعاقل الذي يشعر بخطورة اآلخرة فإنه‬
‫يعيش حياته مرتق ًبا يوم لقاء اهلل واآلخرة ومرتق ًبا يوم موته حيث يلقى‬
‫منشغل بالتطلع إلى يوم اللقاء المهيب حيث تكون‬‫ً‬ ‫اآلخرة فيظل ذهنه‬
‫الدنيا ال قيمة لها‪.‬‬
‫ـ اقرتاب اآلخرة أمر خطير ورهيب يدعو إلى االنتباه والتأثر به‪ ،‬ففي‬
‫الحديث‪﴿ :‬كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع اإلذن متى‬
‫يؤمر بالنفخ فينفخ‪ ،‬فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي ﷺ فقال لهم‪:‬‬
‫قولوا حسبنا اهلل ونعم الوكيل على اهلل توكلنا﴾(‪.)1‬‬
‫رغما عن أنفك‬
‫ـ اآلخرة واقع قادم والسفر ال اختيار فيه‪ ،‬فهو إجباري ً‬
‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (جامع الرتمذي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،620 :‬برقم‪.)2431 :‬‬

‫‪202‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫وموعد السفر قد تحدد وهو يف وقت قريب جدً ا‪ ،‬وإذا جاء موعد السفر‬
‫فال رجعة سوا ًء كنت مستعدً ا للرحيل أم غير مستعد وال انتظار ولو ثانية‬
‫اب َر ِّب َك َل َواقِ ٌع‬
‫واحدة وانتهت القضية وقد ُأقفل دفرت حياتك‪﴿ :‬إِ َّن َع َذ َ‬
‫(‪َ )7‬ما َل ُه مِ ْن َدافِعٍ﴾(‪.)1‬‬
‫ـ فهل لديك شعور بأن هذا السفر هو سفر هنائي وأنه سفر بال‬
‫عوده؟!‪ ،‬وقد سبقك إليه الكثيرون والدور يف انتظارك‪ ،‬والرحيل مفاجئ‬
‫وفوري وبال رجعة‪ ،‬فالقضية حاسمة وخطيرة وال تحتمل الرتاخي ولكننا‬
‫يف غفلة‪ ،‬وغدً ا تنتهي الحياة فماذا أنت صانع؟ إهنا ليست موعظة ورقائق‪،‬‬
‫ولكنها حقائق ومشاعر حقيقية يف النفس‪ ،‬يتضح اآلن أن عالم الغيب‬
‫ليس له وجود يف مشاعرك‪ ،‬فمشاعرك تقول أننا لسنا يف دار غربة ولسنا‬
‫على سفر‪ ،‬ومشاعرك تقول‪﴿ :‬إِ ْن ِه َي إال َح َيا ُتنَا الدُّ ْن َيا ن َُم ُ‬
‫وت َون َْح َيا َو َما‬
‫ن َْح ُن بِ َم ْب ُعوثِي َن﴾(‪ )2‬رغم أن االقتناع تام باآلخرة‪.‬‬
‫ـ إذن فالقضية حاسمة وخطيرة وال تحتمل الرتاخي‪ ،‬ولكننا يف غفلة‪،‬‬
‫وليس لإلنسان أن يجرب أو يتغافل‪ ،‬فنحن ضيوف على وجه هذه الكوكبة‬
‫األرضية‪ ،‬إذن يتضح اآلن أن عالم الغيب إما أنك جاهل به أو غير موقن‬
‫به‪ ،‬وليس له وجود يف مشاعرك‪.‬‬
‫ـ إن الذي ال يشعر بأنه مقبل على عالم آخر فإنه يعيش كأنه لن يموت‪،‬‬
‫وعندما يأتيه الموت يشعر أنه هو النهاية‪ ،‬وال يريد أن يموت‪ ،‬ويكره َم ْن‬
‫يقبض روحه‪.‬‬
‫ـ إهنا ليست موعظة ورقائق ولكنها حقائق ومشاعر حقيقية يف النفس‪،‬‬
‫فعل شعور بالغربة والحنين أم أنك تدعي ذلك؟‪،‬‬‫لذلك انظر هل عندك ً‬

‫((( الطور‪.8 ،7 :‬‬


‫((( المؤمنون‪.37 :‬‬

‫‪203‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫والشعور بالغربة أمر خطير؛ ألن عدم وجود الشعور بالغربة يعني أن‬
‫الذهاب إلى اآلخرة ال وجود له يف مشاعرك‪.‬‬
‫ـ انظر إلى الحالة النفسية لشخص سجين‪ ،‬إنه يشعر بالحنين إلى أهله‬
‫ووطنه‪ ،‬ويشعر بالضيق مما هو فيه‪ ،‬فهذا حال المؤمن ففي الحديث‪:‬‬
‫﴿الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر﴾(‪ ،)1‬فهل تشعر يف نفسك بالغربة‬
‫مثلما يشعر اإلنسان الغريب أو عابر السبيل أو المسافر أو السجين؟!‪.‬‬
‫ـ ال�شعور بالرتقب واالنتظار للقاء اهلل والآخرة‪:‬‬
‫ـ إذا كان لديك موعدا هاما ألمر ما فأنت تظل يف حالة ترقب وتأهب‬
‫وقلق وتطلع يف انتظار ذلك الموعد الهام وينشغل ذهنك به طول فرتة‬
‫االنتظار‪.‬‬
‫ـ فاآلخرة هي أخطر موعد تنتظره ألنه يتحدد فيه مصيرك وهو حياتك‬
‫ومستقبلك‪ ،‬فعدم وجود هذا الشعور باالستعداد والتأهب والتطلع إلى‬
‫اآلخرة معناه عدم وجود المعرفة الحقيقية باقرتاب اآلخرة وعدم اتخاذ‬
‫اآلخرة هدفا لك‪.‬‬
‫ـ فالذي يشعر باقرتاب اآلخرة يعيش سنوات عمره يف حالة تأهب‬
‫وترقب واستعداد نفسي متطلعا إلى اليوم المحتوم الذي يعيش من أجله‬
‫منتظرا مجيء اليوم الذي يصل فيه إلى بيته بعد سفر طويل!‪ ،‬وهو يعيش‬
‫حياته معيشة المسافر عابر السبيل الذي ينظر إلى الحياة الدنيوية على أهنا‬
‫مؤقتة فانية وأنه راحل إلى حياة الخلود حيث داره وأهله ومعيشته‪ ،‬وهو‬
‫يعيش يف حالة قلق وإشفاق وخوف من اآلخرة‪ ،‬ويستمر ذلك طوال حياته‬
‫وأثناء أداءه لألعمال‪.‬‬

‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (جامع الرتمذي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،562 :‬برقم ‪.)2324‬‬

‫‪204‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ وعنده صرب طويل‪ ،‬فهو يصرب على الدنيا منتظرا اآلخرة‪ ،‬والصرب‬
‫على الدنيا معناه أن يصرب اإلنسان مدة الستين سنة أو أكثر أو أقل حسب‬
‫عمر اإلنسان باعتبار أن هذه السنوات ما هي إال لحظات منتهية ضئيلة‬
‫يف عمر اآلخرة‪ ،‬فالذي يوقن باآلخرة ويشعر هبا فإنه يصرب على أيام هذه‬
‫الدنيا حتى تنقضي؛ ألن اإلنسان منشغل عن الدنيا بانتظار اآلخرة‪ ،‬وألنه‬
‫اصبِ ْر َص ْب ًرا َج ِم ً‬
‫يل‪ ،‬إهنم َي َر ْو َن ُه‬ ‫يشعر بأن الدنيا عابرة وتمر سري ًعا‪َ ﴿ :‬ف ْ‬
‫بعيدً ا‪َ ،‬ون ََرا ُه َق ِري ًبا﴾(‪.)1‬‬
‫ـ فالذي يشعر باقرتاب اآلخرة يعيش يف الدنيا معيشة من يقف يف‬
‫دائما‬
‫مكان ما ينتظر أحدً ا على موعد لمقابلته وهو قلق ينظر يف الساعة ً‬
‫ً‬
‫وشمال لعل من ينتظره قادم اآلن‪ ،‬فلحظات االنتظار هذه‬ ‫ويتلفت يمينًا‬
‫هي فرتة عمره يبقى طوال حياته الدنيوية يف حالة ترقب وانتظار وتوقع‬
‫مجيء الموت واآلخرة ولقاء اهلل يف أي لحظة وإعالن النتيجة لما يصنعه‬
‫يف الدنيا‪.‬‬
‫ـ احلالة النف�سية لل�شعور بالرتقب واالنتظار للقاء اهلل والآخرة‬
‫(اال�ستعداد النف�سي والت�أهب والتطلع �إىل الآخرة)‪:‬‬
‫ـ إن الذي ينتظر أحدً ا يف موعد‪ ،‬فأثناء فرتة االنتظار يكون قل ًقا‪ ،‬ويزيد‬
‫ذلك القلق إذا كان لقا ًء ها ًما جدً ا يرتتب عليه مصير اإلنسان‪ ،‬كما يزيد‬
‫القلق إذا لم يكن يعرف الموعد بالضبط‪ ،‬ويزيد القلق إذا علم أن الموعد‬
‫وشيك وقريب جدً ا‪ ،‬ويزيد القلق إذا لم يكن يعلم هل نتيجة هذا اللقاء‬
‫تؤدي إلى الشقاء والمصائب أم إلى السعادة والراحة؟‪ ،‬وهل سيلقى‬
‫الرتحيب هبذا اللقاء أم الزجر والويل والثبور؟‪ ،‬كما يزيد القلق إذا علم‬
‫أن من سيقابله له مكانة كبيرة مثل ملك من الملوك أو زعيم من الزعماء‪،‬‬

‫((( المعارج‪ 5 :‬ـ ‪.7‬‬

‫‪205‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫هذا بالنسبة ألمور الدنيا‪ ،‬فما بالك بلقاء اهلل ولقاء اآلخرة والحساب الذي‬
‫ينبني عليه الشقاء األبدي أو السعادة األبدية‪ ،‬فالبد أن ينزعج ذهن المؤمن‬
‫وينشغل باله طوال فرتة حياته قل ًقا على ما ينتظره وما يحدث له من أهوال‬
‫ومخاطر قادمة حتمية وقريبة‪.‬‬
‫ـ وكذلك الذي ينتظر لقاء محبوبته الجميلة‪ ،‬فأثناء فرتة االنتظار‬
‫يكون قل ًقا‪ ،‬ويزيد ذلك القلق إذا كان ال يعلم هل ستأيت أم ال؟‪ ،‬كما يزيد‬
‫القلق إذا لم يكن يعرف الموعد بالضبط‪ ،‬ويزيد القلق إذا علم أن الموعد‬
‫وشيك وقريب جدً ا‪ ،‬هذا بالنسبة ألمور الدنيا فما بالك بلقاء الحور العين‬
‫وملذات الجنة‪ ،‬فالبد أن يعيش المؤمن حياته يف انتظار الحور العين ويف‬
‫انتظار النعيم المقيم‪ ،‬والبد أن ينزعج ذهن المؤمن وينشغل باله طوال‬
‫فرتة حياته قل ًقا على ما ينتظره وما يحدث له هل سيصل إلى الحور العين‬
‫أم إلى الجحيم؟‬
‫ـ لماذا تؤمل يف متع من الدنيا ضئيلة وتنتظرها وتفكر فيها يف حين أنك‬
‫قريبا جدً ا تصل إلى متع بال هناية بال حدود‪ ،‬فالجنة بعد لحظات ولكنك‬
‫ال تدري‪ ،‬فما سنوات العمر إال لحظات‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬ا ْل َجنَّ ُة َأ ْق َر ُب‬
‫فابق كما أنت تؤمل‬ ‫اك َن ْعلِ ِه‪َ ،‬والن َُّار مِ ْث ُل َذل ِ َك﴾(‪َ ،)1‬‬ ‫إلى َأح ِدكُم مِن ِشر ِ‬
‫َ ْ ْ َ‬
‫يف متع وملذات ولكن يف متع وملذات الجنة‪ ،‬ويف الحديث عن عب ِد اهَّللِ‬
‫َ ْ َْ‬
‫ول اهَّللِ ﷺ َون َْح ُن ُن َعال ِ ُج ُخ ًّصا َلنَا َف َق َال‪َ :‬ما‬‫ْب ِن َع ْم ٍرو َق َال‪َ ﴿ :‬م َّر َع َل ْينَا َر ُس ُ‬
‫ول اهَّللِ ﷺ‪َ :‬ما ُأ َرى‬ ‫ص َلنَا َو َهى ن َْح ُن ن ُْصلِ ُح ُه‪َ ،‬ف َق َال َر ُس ُ‬ ‫َه َذا؟‪َ ،‬ف ُق ْل ُت ُخ ٌّ‬
‫األمر إال َأ ْع َج َل مِ ْن َذل ِ َك﴾(‪.)2‬‬
‫ـ ال�شعور باملهابة من لقاء اهلل وحما�سبته للعبد‪:‬‬
‫ـ لو قيل لك أن لديك موعد قريب تقابل فيه رئيس الدولة شخص ًيا‪،‬‬

‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 3115 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬
‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن ابن ماجه ج‪ ،2 :‬ص‪ ،1393 :‬برقم‪.)4160 :‬‬

‫‪206‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫فإنك تشعر بالمهابة من هذا اللقاء‪ ،‬فما بالك برب العالمين‪ ،‬ولماذا ال‬
‫تشعر بالمهابة من هذا اللقاء؟ فذلك ألن لقاء اهلل ال وجود له يف مشاعرك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫قاض‬ ‫ـ وكذلك لو قيل لك إنك على موعد يف محكمة من المحاكم مع‬
‫من القضاة ليناقشك فيما عملته ويقول حكمه على ما فعلته بماذا تشعر؟‪،‬‬
‫ولماذا ال تشعر هبذا الشعور من لقاء اهلل ليحاسبك على ما فعلت؟‪ ،‬وبماذا‬
‫تشعر لو علمت أن هذا الموعد اقرتب وينعقد يف أي لحظة؟‪ ،‬وبماذا تشعر‬
‫عندما تعلم أن األمرين م ًعا‪ ،‬فأنت تقابل رب العالمين وهو سبحانه الذي‬
‫يحاسبك؟‬
‫ـ ال�شعور برتقب املوت (على �أ�سا�س �أنه انتقال للآخرة)‪:‬‬
‫ـ إذا لم يكن عند اإلنسان شعور مستمر بالقلق وتوقع الموت يف أي‬
‫لحظة‪ ،‬فهذا معناه أنه ال يزال ال يعرف ما هو الموت وال يزال ال يعرف أن‬
‫الموت قد يأتيه بغتة يف أي لحظة‪ ،‬وهذا معناه أنه مطمئن بالدنيا‪ ،‬فالمؤمن‬
‫عنده استعداد نفسي ألن يرتك أهله وزوجته وأوالده وأصحابه ووطنه‬
‫وأعماله التي تعود عليها وماله وكل شيء‪ ،‬وهو يشعر أن ذلك وشيك‬
‫وسوف يحدث خالل أيام قليلة هي ما بقي له من أيام الدنيا القليلة‪.‬‬
‫ـ يقول أبو حامد الغزالي‪﴿ :‬وقال إبراهيم التيمي‪ :‬شيئان قطعا عني‬
‫لذة الدنيا‪ :‬ذكر الموت‪ ،‬والوقوف بين يدي اهلل عز وجل‪ ،‬وقال كعب‪:‬‬
‫من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها﴾(‪ ،)1‬وأنت تسمع‬
‫كل يوم أن مات فالن ومات فالن وسوف يأيت اليوم الذي ينادى فيه‬
‫باسمك!!‪.‬‬
‫ـ عندما يمرض اإلنسان ال يخطر على باله أنه من الممكن أن يكون‬
‫ذلك مرض الموت‪ ،‬ويظل يدعو اهلل ويصلي من أجل أن يشفيه اهلل فقط‬

‫((( إحياء علوم الدين ‪-‬دار المعرفة‪ -‬بيروت (ج‪ ،4 :‬ص‪.)451 :‬‬

‫‪207‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫وليس من أجل اآلخرة‪ ،‬فإذا كان ذلك مرض الموت فعندما يوشك على‬
‫الموت فإنه ال يرضى بقضاء اهلل بعدم شفائه‪ ،‬وألنه يرى أن الموت هو‬
‫النهاية وليس انتقال لآلخرة‪.‬‬
‫ـ فالبد أن يعيش المؤمن حياته من أجل اإلعداد ليوم ينادى فيه على‬
‫الموتى ويحمل على األعناق و ُيذهب به إلى لقاء اهلل تعالى‪ ،‬فالمؤمن‬
‫يعيش حياته ويف ذهنه ترقب وانتظار وتطلع إلى لقاء اهلل‪َ ﴿ :‬م ْن ك َ‬
‫َان َي ْر ُجو‬
‫يم﴾(‪.)1‬‬ ‫ت َو ُه َو الس ِم ُ ِ‬
‫يع ا ْل َعل ُ‬ ‫َّ‬ ‫ل ِ َقا َء اهَّللِ َفإِ َّن َأ َج َل اهَّللِ َ َ‬
‫ل ٍ‬

‫ـ الموت مرحلة خطيرة جدً ا ينتقل فيها اإلنسان من دار إلى دار‪ ،‬فهي‬
‫تستدعي الشعور بالمهابة من ذلك‪ ،‬وليس خو ًفا من أن الموت هناية‬
‫للحياة؛ ألن الموت بداية للحياة الحقيقية‪ ،‬وليس خو ًفا من ترك األحباب؛‬
‫ألن المؤمن يعيش غري ًبا يف الدنيا وأحبابه وأهله يف اآلخرة‪.‬‬
‫ـ �أنواع ال�شعور باملهابة من املوت‪:‬‬
‫ـ هناك خمسة أنواع من الشعور بالمهابة المرتبط بالموت هي‪:‬‬
‫الشعور بالمهابة من مفارقة هذه الحياة (فهناك قدر من الحب الفطري يف‬
‫اإلنسان بالمال واألهل والدنيا‪ ،‬فمفارقة ذلك أمر خطير يستدعي الشعور‬
‫بالمهابة)‪ ،‬والشعور بالمهابة من ألم الموت وسكرات الموت‪ ،‬والشعور‬
‫بالمهابة من أن الموت يأيت يف أي وقت‪ ،‬والشعور بالمهابة من أن الموت‬
‫انتقال إلى لقاء اهلل وإلى اآلخرة‪ ،‬والشعور بالمهابة من أن الموت هو‬
‫إعالن لنتيجة امتحان الدنيا‪.‬‬
‫ـ �أثر املعرفة احلقيقية ب�أن الدنيا دار �سفر على العمل‪:‬‬
‫ـ إذا عرف اإلنسان أنه مسافر إلى اآلخرة ال ينشغل همه بالدنيا إال‬
‫يف حدود ما يحتاجه عابر السبيل أثناء سفره‪ ،‬وال تتأثر مشاعره بالدنيا‬

‫((( العنكبوت‪.5 :‬‬

‫‪208‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫وشهواهتا إال يف حدود ما يحتاجه عابر السبيل‪ ،‬وال تنشغل جوارحه‬


‫بالعمل فيها إال بما ينشغل به عابر السبيل‪.‬‬
‫ـ ويكون عمل اإلنسان مثل عمل الغريب أو عابر السبيل المسافر‬
‫ً‬
‫فمثل‬ ‫المستعد للرحيل‪ ،‬وال يكون عمله مثل عمل المقيم يف بلده‪،‬‬
‫الشخص الذي يعيش يف غربة يف بلد ما ليست قضيته أن يبحث عن الراحة‬
‫والطعام والشراب‪ ،‬فإنه ينتظر الراحة والطعام والشراب عند العودة إلى‬
‫وطنه‪ ،‬أما طعامه وشرابه ومكان نومه وعيشه يف بلد الغربة فهو كيفما اتفق‬
‫يرضى بأي شيء يؤدي الغرض‪ ،‬فإن الذي يرى أن طعامه إنما هو يف‬
‫كثيرا بطعام الدنيا فهو كيفما اتفق‪ ،‬وإنما هو يأخذ زاد‬ ‫اآلخرة فإنه ال يهتم ً‬
‫المسافر‪ ،‬وكذلك سكن الدنيا ومتطلباهتا‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬عن ابن عباس‬
‫رضي اهلل عنهما أن رسول اهلل ﷺ دخل عليه عمر وهو على حصير قد‬
‫فراشا أوثر من هذا‪ ،‬فقال ما لي‬ ‫أثر يف جنبه فقال يا رسول اهلل‪ :‬لو اتخذت ً‬
‫وللدنيا‪ ،‬ما مثلي ومثل الدنيا إال كراكب سار يف يوم صائف فاستظل تحت‬
‫شجرة ساعة ثم راح وتركها﴾(‪ ،)1‬ويف الحديث َع ْن َع ْب ِد اهَّللِ ْب ِن َع ْم ٍرو َق َال‬
‫ِ‬ ‫مر ع َلينَا رس ُ ِ‬
‫ص‬ ‫ول اهَّلل ﷺ َون َْح ُن ُن َعال ُج ُخ ًّصا َلنَا َف َق َال‪َ :‬ما َه َذا؟‪َ ،‬ف ُق ْل ُت ُخ ٌّ‬ ‫َ َّ َ ْ َ ُ‬
‫ول اهَّللِ ﷺ‪َ ﴿ :‬ما ُأ َرى األمر إال َأ ْع َج َل مِ ْن‬ ‫َلنَا َو َهى ن َْح ُن ن ُْصلِ ُح ُه‪َ ،‬ف َق َال َر ُس ُ‬
‫َذل ِ َك﴾(‪ ،)2‬وقد كان اإلمام أحمد بن حنبل يقول‪﴿ :‬إنما هو طعام دون‬
‫طعام‪ ،‬ولباس دون لباس‪ ،‬وإهنا أيام قالئل﴾(‪.)3‬‬
‫ـ وهو يؤثر عمل اآلخرة على عمل الدنيا‪ ،‬ففي الحديث‪َ ﴿ :‬م ْن أحب‬
‫دنياه أضر بآخرته و َم ْن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما‬

‫((( التخريج‪ :‬صحيح (صحيح الرتغيب والرتهيب برقم ‪.)3283‬‬


‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن ابن ماجة ج‪ ،2 :‬ص‪ ،1393 :‬برقم‪.)4160 :‬‬
‫((( صيد الخاطر ‪-‬دار القلم‪ -‬دمشق (‪.)447 / 1‬‬

‫‪209‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫يفنى﴾(‪ ،)1‬ويف حديث آخر‪( :‬حلوة الدنيا مرة اآلخرة ومرة الدنيا حلوة‬
‫اآلخرة)(‪ )2‬يعني ال تجتمع الرغبة يف الدنيا والرغبة يف اهلل واآلخرة‪،‬‬
‫ويف حديث آخر‪( :‬إن أطول الناس جو ًعا يوم القيامة أكثرهم شب ًعا يف‬
‫الدنيا)‪ ،)3( ‬ويف حديث آخر‪( :‬ومن أراد اآلخرة ترك زينة الدنيا)(‪ ،)4‬ويف‬
‫حديث آخر‪( :‬الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)(‪.)5‬‬
‫********‬

‫التخريج‪ :‬صحيح (صحيح الرتغيب والرتهيب ج‪ ،3 :‬برقم‪.)3247 :‬‬ ‫(((‬


‫تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 3155 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬ ‫(((‬
‫حديث صحيح (السلسلة الصحيحة ج‪ ،7 :‬برقم‪.)3372 :‬‬ ‫(((‬
‫قال الشيخ األلباين‪ :‬حسن (جامع الرتمذي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،637 :‬برقم ‪.)2458‬‬ ‫(((‬
‫قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (جامع الرتمذي ج‪ ،4 :‬ص‪ ،562 :‬برقم ‪.)2324‬‬ ‫(((‬

‫‪210‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل الخامس عرش‬


‫املعرفة احلقيقية ب�أن الدنيا دار امتحان‬

‫ـ االمتحان الذي خلقنا من أجله هو امتحان تحقيق العبادة‪ ،‬فمن حقق‬


‫العبادة نجح وفاز بالخلود يف النعيم‪ ،‬ومن لم يحقق العبادة خسر وعوقب‬
‫بالخلود يف الجحيم‪ ،‬فهو امتحان عصيب ألن نتيجته خطيرة جدا‪.‬‬
‫ـ الكرة األرضية هي مكان االمتحان ومدة االمتحان هي المدة من‬
‫تاريخ بلوغك وحتى تاريخ وفاتك‪ ،‬واالمتحان ليس له دور ثاين أو فرصة‬
‫أخرى فلحظة الوفاة هي لحظة انتهاء االمتحان بال رجعة‪.‬‬
‫ـ تخيل أن هناك كاميرات سرية موضوعة لك يف كل مكان وأنت يتم‬
‫رصدك وتسجيل كل تصرفاتك وحركاتك وسكناتك بل وما تفكر فيه‪،‬‬
‫أال تشعر بالخوف والقلق‪ ،‬فإن اهلل يسمعك ويراك ويراقبك‪.‬‬
‫ـ إن كل إنسان على اقتناع تام بأن هناك رقي ًبا وعتيدً ا يسيران معه يف‬
‫كل لحظة ال يفارقانه‪ ،‬فهل عنده شعور بأنه مراقب وأن ما قاله وفعله منذ‬
‫قليل تم تسجيله؟ وهل يشعر بما سيكتبوه يف صحيفته اآلن وبعد قليل؟‬
‫فإذا لم يشعر بشيء من ذلك يف حياته فهذا يعني أن الرقيب والعتيد غير‬
‫موجودين يف مشاعره‪ ،‬فاإلنسان عندما يتصور أنه مراقب يف كل لحظة وأن‬
‫هناك من يعدون عليه كلماته وكل حركاته يأخذه الشعور بالمهابة‪ ،‬كما أنه‬
‫عندما يتصور أن اثنين يسيران معه ليسوا من البشر بل أقوى بكثير‪ ،‬وفوق‬
‫ذلك أهنما لهما القدرة على إخفاء نفسيهما بحيث ال يراهما أحد‪ ،‬ولهما‬
‫قدرة هائلة أعظم من كل قدرات البشر فهذا يؤدي إلى الشعور بالمهابة‬
‫من الملكين الرقيب والعتيد بسبب مدى قدرهتما وبسبب خطورة أمر‬

‫‪211‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫تسجيلهما لكل شيء‪.‬‬


‫ـ لو قيل لك أن هناك اثنين من الكائنات الفضائية العمالقة يسيران‬
‫معك يف كل لحظة وهما يف حالة اختفاء فال تستطيع رؤيتهما ويحمالن‬
‫كاميرات مراقبة خفية ويسجالن عليك كل حركة وسكنه وكل كلمة‬
‫حيث تحاسب على كل شيء‪ ،‬إنك عندئذ تشعر بخطورة األمر‪ ،‬فأنت‬
‫تعيش وصورة هذه الكاميرات وهي ترصدك ال تكاد تفارق ذهنك يف كل‬
‫أعمالك‪ ،‬أما لو قيل أن هناك ملكين يسجالن عليك كل شيء فقد تنظر‬
‫إلى ذلك كما تنظر إلى أمر ال قيمة له أو كأنه أمر ال يخصك فال تشعر‬
‫بأي قيمة أو خطورة لهذا األمر فهذا يدل على أنك غافل تما ًما عن وجود‬
‫الملكين معك اآلن ويف كل وقت‪.‬‬
‫ـ املعرفة احلقيقية ب�أننا نعي�ش الآن يف حالة امتحان وانتها�ؤه يف �أي حلظة‪:‬‬
‫ـ خلق اهلل اإلنسان وأسكنه الكرة األرضية لتكون مكان اختباره‪،‬‬
‫أما زمن االختبار فهو فرتة حياته التي يمكثها على األرض‪ ،‬والنجاح يف‬
‫االختبار هو أن يعبد اإلنسان الخالق‪.‬‬
‫ـ عدم شعورك بأنك اآلن داخل لجنة االمتحان وأنك يف أي لحظة‬
‫تنتهي من االمتحان (بالموت) معناه أنك ال تزال ال تعرف اآلخرة ومعناه‬
‫أنك تحسب أن الدنيا دار إقامة رغم اليقين التام باآلخرة وبأن الدنيا معربة‬
‫لآلخرة‪ ،‬ومعناه أن اإلنسان يقول بمشاعره أن اهلل خلق البشر وتركهم‬
‫يفعلون ما يشاءون فهو خلقهم عب ًثا‪ ،‬فاهلل لم يخلقنا ثم يرتكنا يعيش كل‬
‫واحد كيفما يريد وكل واحد يفعل ما يريد‪ ،‬ولم يخلق اهلل الناس ويحدث‬
‫ما يحدث بينهم ويرتكهم وشأهنم‪ ،‬وإنما خلقهم لحكمة وغاية هي أن‬
‫يعيشوا وفق ما يريده اهلل أي لعبادته‪َ ﴿ :‬أ َف َح ِس ْبت ُْم َأن ََّما َخ َل ْقنَاك ُْم عب ًثا َو َأ َّن ُك ْم‬
‫ون﴾(‪.)1‬‬ ‫إِ َل ْينَا ال ُت ْر َج ُع َ‬
‫ـ تصور خطورة أن االختبار يحدث اآلن وانتهاؤه يف أي لحظة هو‬
‫شعور مخيف ومرعب‪ ،‬فنحن نعيش يف حالة اختبار‪ ،‬وكل شيء مراقب‬

‫((( المؤمنون‪.115 :‬‬


‫‪212‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ومحسوب عليك سواء ما يف قلبك أو ما تعمله طوال حياتك‪ ،‬فما نعيشه‬


‫ليس حياتنا ولكنها حياة اختبار‪.‬‬
‫ـ تصور لو أن هناك كاميرات مراقبة موضوعة لك يف كل مكان يف‬
‫بيتك ويف الشارع تسجل كل شيء عنك‪ ،‬فهذا يؤدي إلى الخوف الشديد‬
‫من مهابة األمر وخطورته‪.‬‬
‫ـ إن الدنيا مزرعة لآلخرة‪ ،‬فالدنيا كلها بمثابة امتحان‪ ،‬فلم تخلق الدنيا‬
‫لتكون مناسبة لنعيش ونقيم فيها ونبحث فيها عن السعادة‪ ،‬وإنما هي دار‬
‫اختبار‪ ،‬فيكون هم المؤمن وشعوره طيلة حياته مثل شعور الطالب قبل‬
‫االمتحان بل أعظم بكثير‪ ،‬فنحن نعيش اآلن يف مرحلة اختبار هي أيام‬
‫عمرنا يف هذه الحياة‪ ،‬والمطلوب تحديدً ا حتى نكون من أهل الجنة هو‬
‫النجاح يف اختبار الدنيا‪.‬‬
‫ـ واالختبار يشمل كل ما تفعله وتقوله وتشعر به منذ أن بلغت حتى‬
‫اللحظة التي تموت فيها‪ ،‬فاالختبار يشمل كل األعمال الظاهرة والباطنة‬
‫طوال الحياة الدنيا‪.‬‬
‫ـ البد أن يشعر اإلنسان أنه داخل يف مسابقة لها جوائز‪ ،‬ولكن وجه‬
‫االختالف عن مسابقات الدنيا أن كل ناجح يف هذه المسابقة ينال جائزة‬
‫كبيرة‪ ،‬وكل خاسر عليه عقاب شديد‪ ،‬وأن هذا السباق ينتهي فجأة‪،‬‬
‫فمرحلة الدنيا هي مرحلة سباق وتنافس يف تحصيل اإليمان وجمع‬
‫ض السم ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٍ ِ‬
‫اء‬ ‫﴿سابِ ُقوا إلى َم ْغف َرة م ْن َر ِّب ُك ْم َو َجنَّة َع ْر ُض َها َك َع ْر ِ َّ َ‬
‫الحسنات‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و ْالَر ِ ِ‬
‫س‬ ‫ض ُأعدَّ ْت ل َّلذي َن َآ َمنُوا بِاهَّلل َو ُر ُسلِه﴾(‪َ ،)1‬‬
‫﴿وفي َذل َك َف ْل َي َتنَا َف ِ‬ ‫َ ْ‬
‫ون﴾( )‪.‬‬
‫‪2‬‬ ‫ِ‬
‫ا ْل ُم َتنَاف ُس َ‬
‫ـ اإلنسان أثناء السباق أو أثناء االمتحان البد أن يشعر بالقلق والرتقب‪،‬‬
‫والبد أن يشعر بالتحمس والتحفز كلما قطع خطوات‪ ،‬ويشعر بالضيق كلما‬

‫((( الحديد‪ :‬من اآلية ‪.21‬‬


‫((( المطففين‪ :‬من اآلية ‪.26‬‬

‫‪213‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أخطأ‪ ،‬وهذا السباق خطير ومصيري؛ ألنه يرتتب عليه العذاب األليم األبدي‬
‫أو النعيم المقيم‪ ،‬وبالتالي إذا لم يشعر اإلنسان بالقلق وبالمشاعر التي يشعر‬
‫هبا أي إنسان أثناء االختبار فهذا معناه أنه ال يزال ال يعرف أنه يعيش حياته‬
‫اآلن يف مرحلة اختبار‪ ،‬ومعناه أنه ال يزال ال يعرف شي ًئا اسمه اآلخرة‪.‬‬
‫نرضى‪ ،‬وسواء شعرنا بذلك أم لم نشعر‪ ،‬فنحن‬ ‫ـ وسواء رضينا أم لم َ‬
‫دخلنا اآلن يف لجنة امتحان منذ سن البلوغ‪ ،‬ونحن واقعين اآلن ويف أثناء‬
‫هذه اللحظة التي تقرأ فيها هذا الكتاب ويف كل اللحظات تحت رقابة تامة‬
‫ومتابعة تامة من الخالق نفسه ومن الملكين الرقيب والعتيد‪ ،‬ويتم تسجيل‬
‫كل شيء بمنتهى الدقة‪ ،‬ومدة االمتحان هي كل فرتة عمرنا يف هذه الدنيا‪،‬‬
‫فورا الحساب حيث‬ ‫وينتهي االمتحان فجأة يف أي لحظة ويبدأ بعدها ً‬
‫احتساب الدرجات والنتيجة‪.‬‬
‫ـ إن البعض قد يرى مباراة كرة يف منافسة ما أهنا مصيرية وحاسمة‬
‫فتحوذ على اهتمامه وتؤثر على أعصابه ومشاعره‪ ،‬أال يرى هؤالء أننا‬
‫نعيش يف حالة منافسة مصيرية أشد من هذه المباراة هي االمتحان الذي‬
‫نعيشه يف الدنيا والذي ينتهي بالخلود يف الجنة أو الخلود يف النار فكيف ال‬
‫يؤثر ذلك على أعصاهبم ومشاعرهم‪ ،‬فأي المنافستين أشد وأخطر وأهم؟‬
‫ـ وقت االمتحان وجيز جدً ا؛ ألن عمر اإلنسان يف الدنيا ال يساوي‬
‫شي ًئا أمام عمره يف اآلخرة‪ ،‬كما أن االمتحان ينتهي يف أي لحظة‪ ،‬وال يوجد‬
‫إعادة يف امتحان آخر‪ ،‬فنحن يف سباق ومسارعة‪ ،‬وهذا االمتحان خطير‬
‫جدً ا ومصيري ألنه يرتتب عليه أن يوضع اإلنسان داخل نار هائلة لمدة‬
‫أكرب من ماليين السنين هي الخلود يف النار‪ ،‬أو أن يعيش يف كل ما تشتهي‬
‫األنفس وتلذ األعين يف شباب دائم ومتع دائمة وشهوات ال تنقطع هي‬
‫الخلود يف الجنة‪ ،‬كما أنه امتحان صعب؛ ألن النفس تميل للشهوات‪ ،‬ويف‬
‫الحديث‪( :‬حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)(‪.)1‬‬
‫أيضا فرصة ذهبية ال تعوض لنيل‬
‫ـ وكما أن االختبار شيء مرعب فهو ً‬

‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 3147 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الجنة والنجاة من النار‪ ،‬فاإلنسان طالما ال يزال ح ًيا يف هذه الدنيا فالفرصة‬
‫ال تزال قائمة أمامه ليغير من مساره ويعمل إلنقاذ نفسه من النار والفوز‬
‫بالجنة ويتزود من الطاعة‪ ،‬وهذا معناه شعور بالشوق والرجاء واألمل‬
‫والتطلع إلى الجنة‪ ،‬فالذين ذهبوا للقبور يتمنون لحظة واحدة ليعودوا‬
‫ويعملوا أي شيء لعله ينقذهم من النار أو يرتقي هبم درجات أعلى يف‬
‫الجنة فال يسمح لهم‪.‬‬
‫ـ فتخيل أنك قد جاءت لحظة موتك وذهبوا بك للقبور‪ ،‬فطلبت‬
‫من اهلل أن يعطيك فرصة لتعود‪ ،‬وها أنت اآلن قد عدت للدنيا وأمامك‬
‫الفرصة فماذا أنت صانع؟‬
‫ـ االنتباه �إىل خطورة �أن املوت �إعالن لنتيجة االمتحان‪:‬‬
‫ـ هل الوقت الذي يقضيه اإلنسان طوال عمره وطوال أيامه ولياليه‬
‫هو إعداد للموت وما بعده؟!‪ ،‬نعم الدنيا دار استعداد للموت وما بعده‪،‬‬
‫دائما يفكر فيه ومنشغل بانتظاره ومستعد‬
‫فالموت أمام عين اإلنسان العاقل ً‬
‫له‪ ،‬وجعل اهلل اإلنسان يموت كل يوم بنومه ثم يصحو حتى يتذكر الموت‬
‫كل يوم ال ينساه وحتى يكون ذلك حجة عليه‪.‬‬
‫ـ فلماذا تأكل ولماذا تشرب ولماذا تأيت وتذهب ولماذا تعمل‬
‫الطاعات؟ لكي تستعد للموت وما بعده‪.‬‬
‫*******‬

‫‪215‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الفصل السادس عرش‬


‫حتقيق املعرفة احلقيقية باخلالق من خالل التفكر‬

‫ـ البعض يحسب أن الهدف من التفكر هو فقط لتحقيق اليقين‬


‫بوجود الخالق‪ ،‬لذلك فهو ال يرى داعي للتفكر‪ ،‬ولكن هناك هدف‬
‫أهم وهو تحقيق المعرفة الحقيقية بضعف االنسان أمام الخالق وتقويه‬
‫دائما وهو من أهم ما يمكن‪،‬‬‫هذه المعرفة‪ ،‬وبالتالي فالتفكر مطلوب ً‬
‫فالمطلوب دوام التفكر بغرض الخروج من الغفلة عن ضعف االنسان‬
‫أمام الخالق وبالتالي تحقيق العبادة وليس لمجرد تحقيق اليقين بالخالق‬
‫فهو موجود عند أغلب أهل األرض إن لم يكن كلهم‪.‬‬
‫ـ فالتفكر معناه التصور لمدى قدرة اهلل‪ ،‬وبالتالي التصور لمدى ضعف‬
‫االنسان أمام قدرة اهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ كيف ننتبه �إىل خطورة قدرة اخلالق من خالل الآيات الكونية؟‪:‬‬
‫ـ اآليات الكونية تدل على وجود قوة خفية أعظم من كل قدرات‬
‫البشر‪ ،‬هي قدرة الخالق سبحانه‪ ،‬فالمعنى العام لكلمة (رب) أي الذي له‬
‫قدرات فوق قدرات كل الكائنات‪ ،‬وهذه القدرات تفوق كل التصورات‪.‬‬
‫ـ معرفة اهلل معناها تحقيق عالمات االنتباه لألمر الخطير تجاه الخالق‬
‫(التحير من مدى غرابة األمر والتعجب والشعور بالمهابة من مدى‬
‫قدرات الخالق سبحانه)‪ ،‬ومعرفة ضعف االنسان أمام قدرة الخالق هي‬
‫إزالة الغرور بالنفس فيؤدي ذلك إلى الشعور بالذل واالستسالم من مدى‬

‫‪216‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ضعف قدرات البشر حبا وخوفا ورجاء‪ ،‬وهذا هو معنى العبادة‪.‬‬


‫ـ والتفكر يف مدى خطورة قدرة اخلالق من خالل الآيات الكونية يتم‬
‫من خالل خم�سة �أمور هي‪:‬‬
‫‪1‬ـ ت�صور مدى قدرة اخلالق‪:‬‬
‫ـ عندما نجد أشيا ًء ال يستطيع البشر أو أي كائنات صنعها‪ ،‬وعجز‬
‫اإلنسان عن إيجاد ذلك الشيء فيدل ذلك على أن هناك قوة خفية هائلة‬
‫جدً ا فوق قدرة البشر هي التي أوجدت ذلك الشيء‪.‬‬
‫ـ معنى كلمة (معجزة) أي أن ذلك الشيء ال يستطيع البشر أو غيرهم‬
‫من المخلوقات القيام بذلك األمر‪ ،‬إذن فكل شيء حول اإلنسان هو‬
‫معجزة‪.‬‬
‫ـ والمعجزة أمر خطير جدً ا يلفت االنتباه ويجعل اإلنسان يشعر‬
‫بالمهابة من حدوث ذلك األمر‪.‬‬
‫ـ وصاحب القوة الخارقة التي استطاعت إيجاد ذلك الشيء يشعر‬
‫اإلنسان بالمهابة من مدى قوته وبحب اإلعجاب بمدى قوته والشعور‬
‫بالضعف والخضوع تجاه هذه القوة‪.‬‬
‫ـ ً‬
‫فمثل هذا الكون ال يمكن أن يكون هو الذي أنشأ نفسه‪ ،‬وال يستطيع‬
‫اإلنسان إيجاده‪ ،‬فالبد من وجود أحدً ا ال نراه له قدرة هائلة فوق قدرة‬
‫اإلنسان هو الذي أوجده‪ ،‬وكذلك الحيوانات‪ ،‬وكذلك اإلنسان نفسه‪.‬‬
‫ـ واألشجار تعني خروج كائن حي من بذرة ميتة وتعني تحول الطين‬
‫إلى خشب وثمار ومن غير أن نرى أحدً ا يقوم هبذه األمور الهائلة‪ ،‬وهذه‬
‫األمور فوق قدرة اإلنسان وفوق قدرة الشجرة نفسها فهي إعجاز خارق‬
‫لألسباب‪ ،‬فالبد أن الذي يقوم هبذه األمور ال نراه والبد أن له قدرة هائلة‬
‫فوق قدرة اإلنسان‪ ،‬فهو يقدر على أن يحي الموتى ويقدر على تحويل‬

‫‪217‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الطين إلى طعام مقصود به اإلنسان‪ ،‬وهذا معناه شعور بالتحير والذهول‬
‫واالنبهار من مدى قدرة الخالق‪ ،‬وشعور بالضعف والعجز أمام قدرته‪،‬‬
‫أما الذي ألف النظر إلى األشجار ولم يشعر بذلك فهو ال يزال ال يعرف‬
‫ماذا تعني كلمة (شجرة)؟! وهكذا‪.‬‬
‫ـ الذي يستطيع أن يخرق األسباب يكون إلها‪ ،‬والذي يكون محكوما‬
‫باألسباب يكون عبدا لمن وضع هذه األسباب‪ ،‬فمثال سيدنا موسى جاء‬
‫ليثبت أن اهلل هو اإلله الحق عن طريق أن يثبت أن اهلل يستطيع خرق‬
‫األسباب التي يعهدها البشر فوضع العصا فإذا هي حية حقيقية‪.‬‬
‫‪2‬ـ ت�صور مدى علم اخلالق‪:‬‬
‫أمورا تتحرك وتتم بحسابات يف منتهى الدقة رغم أهنا‬
‫ـ عندما نجد ً‬
‫وهنارا فهي فوق مستوى عقل وعلم كل‬‫ً‬ ‫حسابات معقدة جدً ا وتتم ً‬
‫ليل‬
‫الكائنات‪ ،‬إذن فهناك أحدً ا له علم وحكمة هائلة جدً ا فوق علم البشر‬
‫والكائنات هو الذي صنعها‪.‬‬
‫ـ عجز علم اإلنسان أو علم الشيء نفسه عن القيام بوظائف معقدة‬
‫غاية يف الدقة يدل على أن هناك علم هائل هو الذي صمم هذه الوظيفة‬
‫المعقدة بمنتهى الدقة‪.‬‬
‫ـ يسأل اإلنسان نفسه‪ :‬من الذي أوجد هذه الوظائف المتداخلة‬
‫المعقدة داخل جسمه؟ اإلنسان ال يستطيع ذلك بل إنه ال يعرف ما الذي‬
‫يحدث داخل جسمه؟‪ ،‬وال يمكن أن تحدث هذه الوظائف من تلقاء‬
‫نفسها‪ ،‬فالبد من وجود أحد ال نراه له علم هائل فوق علم اإلنسان هو‬
‫الذي صمم هذه الوظائف المعقدة‪.‬‬
‫ـ الكائنات الحية تعمل أشيا ًء أكرب من مستوى قدراهتا وإمكانياهتا‬
‫وعلمها مما يدل على أن هناك قوة خارجية هي التي تعمل ذلك‪ً ،‬‬
‫فمثل‬

‫‪218‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الجنين فور الوالدة يتجه لثدي أمه ويرضع‪ ،‬فمن علمه ذلك؟ والحيوانات‬
‫تقوم بأعمال تحميها من العدو‪ ،‬وبعض النباتات تتحور بشكل يحافظ‬
‫عليها‪ ،‬فتقوم الكائنات بأعمال فطرية هي ال تعقلها رغم أهنا أعمال يف‬
‫منتهى العقل والحكمة‪ ،‬فالبد أن هناك من علمها ذلك‪ ،‬وأن هناك قوة‬
‫خارجية هي التي تحركها وتعلمها‪ ،‬واألمثلة على ذلك ال حصر لها‪،‬‬
‫وذلك مصدا ًقا لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬ق َال َر ُّبنَا ا َّل ِذي َأ ْع َطى ك َُّل َش ْي ٍء َخ ْل َق ُه ُث َّم‬
‫َهدَ ى﴾(‪ ،)1‬والكرة األرضية متناسبة يف البعد عن الشمس بحيث ال تكون‬
‫جليدً ا وال تكون منصهرة من الحرارة حتى تكون متناسبة لمعيشة اإلنسان‬
‫وهكذا‪ ،‬فكل ذلك يدل على أن كل هذه األمور موضوعة بحكمة وبقصد‬
‫وأن هناك من رتب لها ذلك‪ ،‬فكل شيء محسوب بحسابات يف منتهى‬
‫الدقة بحيث لو زادت أو قلت ذرة واحدة الختل األمر سواء يف جسم‬
‫اإلنسان أو يف األجرام السماوية أو يف أي شيء‪ ،‬فهذا يدل على وجود‬
‫صانع عليم حكيم خبير‪.‬‬
‫ـ إنه ال يمكن لسمكة زينة أن تكون هي التي تختار ألواهنا وهبذه‬
‫الروعة والدقة الفائقة‪ ،‬فالبد من قوة خارقة وعلم هائل لتصميم هذا‬
‫الجمال واإلبداع‪.‬‬
‫‪3‬ـ ت�صور ق�صد النفع للإن�سان‪:‬‬
‫خصيصا‬
‫ً‬ ‫ـ عندما ينظر االنسان إلى األشياء من حوله يجدها مصممة‬
‫لتناسب االنسان وتكون مفيدة له‪ ،‬رغم أن هذه األشياء ليس لديها معرفة‬
‫باإلنسان ومعرفة بما يفيده‪ ،‬فيدل ذلك على أن هناك من يقصد تسخير‬
‫هذه األشياء إلفادة اإلنسان تحديدً ا‪.‬‬
‫ً‬
‫فمثل أشجار الفاكهة لمن تخرج هذه الفاكهة؟ إنه أمر مقصود‬ ‫ـ‬

‫((( طـه‪.50:‬‬

‫‪219‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ليتناوله اإلنسان‪ ،‬وهل تدري هذه األشجار باإلنسان؟ ولماذا تقصد وتعد‬
‫أصل أن تصنع‬ ‫له هذه الفاكهة المناسبة لتكون طعاما له؟ وكيف تستطيع ً‬
‫هذه الفاكهة وهي من مادة مختلفة تما ًما عن مادة البذرة ومادة األرض‬
‫التي نبتت منها؟ إن هذه األشجار ال يمكن أن يكون لها هذا العقل الهائل‬
‫وهذه القدرة الهائلة‪ ،‬إذن البد من وجود قوة خارجية قاصدة مريدة هي‬
‫التي أرادت لهذه الشجرة أن ُت َك ِّون هذه الفاكهة وتصنعها لإلنسان‪ ،‬فإن‬
‫َّات مِن ن ِ‬
‫َخي ٍل َو َأ ْعن ٍ‬
‫َاب َو َف َّج ْرنَا‬ ‫اهلل أراد ذلك فقال تعالى‪﴿ :‬وجع ْلنَا فِيها جن ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫يه ْم َأ َف َل َي ْش ُك ُرون‪.) ( ‬‬
‫َ ‪1‬‬ ‫ون (‪ )34‬ل ِ َي ْأ ُك ُلوا مِ ْن َث َم ِره َو َما َعم َل ْت ُه َأ ْيد ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فِيها مِن ا ْلعي ِ‬
‫َ َ ُُ‬
‫وأيضا البقرة لمن تخرج هذه الكمية من اللبن الزائدة عن حاجة‬ ‫ـ ً‬
‫أصل‬‫أوالدها؟ هل البقرة تعي اإلنسان وتريد له ذلك؟ طب ًعا ال‪ ،‬وهل ً‬
‫تستطيع البقرة وتفهم هذه المصانع المعقدة يف جسمها والتي تقوم بتصنيع‬
‫ذلك اللبن؟ طب ًعا ال‪ ،‬إذن البد من وجود قوة خارجية قاصدة مريدة هي‬
‫التي أرادت ذلك‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬نُس ِقي ُكم مِما فِي ب ُطونِ ِه مِن بي ِن َفر ٍ‬
‫ث َو َد ٍم‬ ‫ْ َْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َّ‬ ‫ْ‬
‫اربِي َن﴾(‪ )2‬فقال‪( :‬نسقيكم) أي هو سبحانه الذي‬ ‫خالصا َسائِ ًغا ل ِ َّ‬
‫لش ِ‬ ‫ً‬ ‫َل َبنًا‬
‫قصد ذلك لإلنسان وصنع ذلك له‪ ،‬فذلك يعني حب من صنع لك هذا‬
‫وقصده لك والمهابة من عظيم قدرته على فعل ذلك ومدى هذا‬ ‫الغذاء َ‬
‫العلم‪.‬‬
‫‪4‬ـ ت�صور عجز الإن�سان عن دفع ال�ضرر واالبتالءات عن نف�سه‪:‬‬
‫ـ عجز اإلنسان عن دفع الضرر واالبتالءات عن نفسه يدل على أن‬
‫هناك قوة أعلى منه تتحكم فيه وتدل على أنه ضعيف ال يستطيع أن يدفع‬
‫عن نفسه البالء‪:‬‬

‫((( يس‪.35 ،34 :‬‬


‫((( النحل‪ :‬من اآلية ‪.66‬‬

‫‪220‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫فمثل الحكمة من وجود الزالزل والرباكين وخسوف الشمس‬ ‫ً‬ ‫ـ‬


‫وإهالك األمم كعاد وثمود ومعجزات الرسل وغير ذلك من عجائب‬
‫يسيرا من قدرته حتى يشعروا‬ ‫ً‬ ‫بعضا‬
‫قدرة اهلل هو أن اهلل يظهر للناس ً‬
‫بمدى قدرة اهلل فيخافوا من مهابته ويخافوا من عقابه‪ ،‬ففي الحديث‪:‬‬
‫(خسفت الشمس‪ ،‬فقام النبي ﷺ فز ًعا يخشى أن تكون الساعة‪ ،‬فقام‬ ‫ُ‬
‫حتى أتى المسجد‪ ،‬فقام يصلي بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته يفعله‬
‫يف صالته قط‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن هذه اآليات التي يرسل اهلل ال تكون لموت‬
‫أحد وال لحياته‪ ،‬ولكن اهلل يرسلها يخوف هبا عباده‪ ،‬فإذا رأيتم منها شي ًئا‬
‫﴿و َما ن ُْر ِس ُل‬ ‫فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره)(‪ ،)1‬ويقول تعالى‪َ :‬‬
‫يات إال َت ْخ ِوي ًفا﴾(‪ ،)2‬فاهلل يريد أن يخاف الناس من مهابته ومن عقابه‬ ‫بِ ْال ِ‬
‫ُخ ِّو ُف ُه ْم َف َما‬
‫﴿ون َ‬
‫هبذه اآليات التي تظهر قدرته ولكن هناك من ال يخاف‪َ :‬‬
‫َي ِزيدُ ُه ْم إال ُط ْغ َيانًا ً‬
‫كبيرا﴾(‪.)3‬‬
‫ـ اهلل قدَّ ر على اإلنسان الشيخوخة والموت واإلنسان ال يستطيع أن‬
‫رغما عنه و ُي ْسلب‬ ‫رغما عنه ويموت ً‬ ‫يمنع ذلك عن نفسه‪ ،‬واإلنسان ينام ً‬
‫عندئذ السمع والبصر والحركة فمن الذي أجربه على ذلك‪ ،‬إذن هناك من‬
‫﴿اهَّلل َيت ََو َّفى ْالَ ْن ُف َس ِحي َن َم ْوتِ َها َوا َّلتِي َل ْم َت ُم ْت فِي َمنَامِ َها‬
‫ُ‬ ‫هو أقوى منه‪:‬‬
‫َف ُي ْم ِس ُك ا َّلتِي َق َضى َع َل ْي َها ا ْل َم ْو َت َو ُي ْر ِسل ْالُ ْخ َرى إلى َأ َج ٍل ُم َس ًّمى إِ ّن فِي‬
‫ون﴾(‪ ،)4‬لكن اإلنسان ينام ويتغافل عن قضية‬ ‫ات ل ِ َق ْو ٍم َي َت َف َّك ُر َ‬
‫َذل ِ َك َلي ٍ‬
‫َ‬
‫النوم ويتغافل عن ما يحدث له ومن يفعل به ذلك وكأنه ال شيء رغم أنه‬
‫أمر خارق لألسباب‪.‬‬

‫قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن النسائي ج‪ ،3 :‬ص‪ ،153 :‬برقم‪.)1503 :‬‬ ‫(((‬
‫اإلسراء‪ :‬من اآلية ‪.59‬‬ ‫(((‬
‫اإلسراء‪ :‬من اآلية ‪.60‬‬ ‫(((‬
‫الزمر‪.42 :‬‬ ‫(((‬

‫‪221‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫مثل فتأثرت مشاعرهم‬ ‫ـ بعض الناس اهتدوا بسبب أهنم رأوا أحدً ا مات ً‬
‫وأيقنوا بالموت وبأهنم سيموتون وأهنم ال يستطيعون مقاومة الموت وال‬
‫الدفاع عن أنفسهم‪ ،‬فالذي يستطيع أن يميتهم يستطيع أن يفعل هبم أي‬
‫َّاس إِ ْن‬ ‫شيء فيخضعوا لمن يستطيع أن يتوفاهم ويعبدوه‪ُ ﴿ :‬ق ْل َيا َأ ُّي َها الن ُ‬
‫ون اهَّللِ َو َلكِ ْن َأ ْع ُبدُ‬
‫ون مِن د ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُكنْت ُْم في َش ٍّك م ْن ديني َفال َأ ْع ُبدُ ا َّلذي َن َت ْع ُبدُ َ ْ ُ‬
‫اهَّلل ا َّل ِذي َيت ََو َّفاك ُْم﴾(‪ ،)1‬وكذلك بعض الناس اهتدوا بسبب أهنم تعرضوا‬ ‫َ‬
‫لمحنة فاكتشفوا فيها ضعف أنفسهم واحتياجهم إلى اهلل وقدرة اهلل عليهم‪،‬‬
‫فمنهم من استمر شعوره هبذه المحنة التي هي آية تدل على اهلل فاستمرت‬
‫هدايته‪ ،‬ومنهم من نسي هذه اآلية فرتك الهداية بمجرد أن مرت المحنة‪.‬‬
‫ـ فالنفس بطبيعتها متكربة‪ ،‬واالبتالءات تجعل النفس تنكسر وتعرتف‬
‫بأهنا ضعيفة فتخضع‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ت�صور احلكمة‪:‬‬
‫درسا‬
‫فمثل خروج النبات من البذرة هو خروج حي من ميت ليكون ً‬ ‫ـ ً‬
‫عمل ًيا لإلنسان على البعث‪ ،‬وكذلك نوم اإلنسان ويقظته كل يوم تذكير له‬
‫بالموت والبعث كل يوم‪ ،‬والنار التي تطهي الطعام تذكير له بنار اآلخرة‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫ـ حتى يتحقق الت�صور حلقيقة الأ�شياء من حولنا البد �أن نتعامل مع‬
‫الأ�شياء ك�أننا نراها لأول مرة‪:‬‬
‫ـ أي ينظر اإلنسان إلى ما حوله من األشياء كأنه يراها ألول مرة ويسأل‪:‬‬
‫ما هذا؟ وكيف وجد؟ ومن الذي أوجده؟ ويتصور مدى قوة وعلم من‬
‫صنعها‪ ،‬ويف كل مرة يرى الشيء يكون كأنه يراه ألول مرة ولو رآه ألف‬
‫مرة وذلك لخطورة ما يرى ومدى غرابته‪.‬‬

‫((( يونس‪ :‬من اآلية ‪.104‬‬

‫‪222‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فكل شيء هو خارق لألسباب‪ ،‬واإلنسان العاقل ينشغل ذهنه باألمور‬


‫الخارقة لألسباب‪ ،‬وال يمكن إلنسان أن يتعود النظر على أمر خارق‬
‫لألسباب من غير أن يتعجب من عظمته وعظمة صانعه‪ ،‬ولكن اإلنسان‬
‫هو الذي يتغافل عن عظمة ما يراه فينظر إلى الشمس كأهنا موجودة من‬
‫تلقاء نفسها وكأنه ال أحد أوجدها وكأن تصميمها هبذا الشكل وبقاءها‬
‫ماليين السنين متوهجة أمر عادي‪ ،‬وكأن فوائدها لإلنسان والمصممة‬
‫بدقة متناهية ال أحد صممها أو موجودة هكذا‪ ،‬وهكذا يف كل شيء من‬
‫الماء والهواء والرتاب والزروع والنجوم وكل شيء‪.‬‬
‫ـ لو جاءك ساحر فسحر لك أشياء مذهلة‪ ،‬هذا معناه أن الساحر له‬
‫قدرة أعلى من قدرتك‪ ،‬ولكنك ال تريد أن تشعر بضعف قوتك أمام قوته‪،‬‬
‫فتتجاهل ما قام به من السحر كأنه لم يسحر شي ًئا وكأهنا أمور عادية‪ ،‬وكل‬
‫يوم يأتيك الساحر فيسحر لك أشياء مذهلة وأنت ال تبالي فقد تعودت‬
‫على رؤية ما يأيت به‪ ،‬فتجاهلك لهذا السحر لن يغير من حقيقة األمر شيء‬
‫فقوتك ضعيفة‪.‬‬
‫سحرا‪ ،‬فأنت‬
‫ً‬ ‫سحرا فما بالك لو كان حقيقة وليس‬
‫ً‬ ‫ـ هذا األمر إذا كان‬
‫حولك أمور هي معجزات وهي أعجب من السحر‪ ،‬فخروج النبات‬
‫بألوانه وثماره من تراب أسود هو أعجب من السحر وهو أمر خارق‬
‫لألسباب‪ ،‬وكذلك كل اآليات الكونية‪ ،‬ولكن اإلنسان تعود النظر إلى‬
‫السماء واألشياء من حوله على أهنا أمور عادية‪.‬‬
‫ـ كل األشياء هي أدلة على الخالق فهي آيات اهلل الكونية‪ ،‬ولكن الناس‬
‫يتعاملون مع هذه األدلة بصورة خاطئة‪ ،‬فيتعاملون مع هذه األشياء ال‬
‫دليل على الخالق‪ ،‬ولكن باعتبارها أشياء موجودة ويستفيدون‬ ‫باعتبارها ً‬
‫منها‪ ،‬فالشمس تضيء لإلنسان وال يفكر لماذا تضيء ومن الذي جعلها‬
‫تضيء؟ والزرع يخرج من األرض ليفيد اإلنسان وال يفكر لماذا يخرج‬

‫‪223‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ومن الذي جعله يفيد اإلنسان؟ والبرتول يف باطن األرض يفيد اإلنسان‬
‫وال يسأل من الذي وضعه يف باطن األرض ولماذا؟ واإلنسان موجود‬
‫على األرض يسعى ويتحرك وال يفكر من الذي أوجده ولماذا؟ وهكذا‪،‬‬
‫وإذا فكر يف األمر فيفكر يف ظاهر األمر وليس يف حقيقته‪ ،‬وكل الناس‬
‫يعرفون اإلجابة على هذه األسئلة ولكنها معرفة نظرية فقط وليست معرفة‬
‫حقيقية‪ ،‬أما إذا عقل اإلنسان حقيقة األمر فإن صورة قدرة الخالق الهائلة‬
‫وعلمه الهائل ال تكاد تفارق ذهنه‪.‬‬
‫ـ فإذا تصور اإلنسان ذلك شعر بضعف قوته وشعر بخضوعه لقوة‬
‫الخالق الذي له كل هذه القدرة‪ ،‬وبالتالي فالعاقل كلما رأى شي ًئا تذكر‬
‫ضعف نفسه وقدرة من أوجد هذا الشيء فشعر بالخضوع هلل تعالى وشعر‬
‫بحب اإلعجاب بقوته وخاف من مهابة قوته‪ ،‬وهذا هو التعامل الصحيح‬
‫مع األدلة على الخالق‪.‬‬
‫ـ الشعور بمدى الفارق الهائل بين قدرة اإلنسان وقدرة الخالق‪:‬‬
‫ـ لو كانت قدرة الخالق أكرب من قدرة اإلنسان مرتين أو ثالثة ً‬
‫مثل‬
‫كثيرا‪ ،‬وإذا كانت قدرة الخالق أكرب من قدرة‬
‫فربما ذلك ال يثير االنتباه ً‬
‫اإلنسان ألف مرة‪ ،‬فذلك يجعل العاقل يتصور يف ذهنه مدى هذه القدرة‬
‫الهائلة ويشعر بالتعجب واالنبهار والدهشة من هذه القدرة العجيبة‪،‬‬
‫ويستمر انشغال ذهنه هبذا األمر العجيب‪.‬‬
‫ـ ولكن قدرة الخالق أكرب من قدرة اإلنسان إلى ما ال هناية‪ ،‬فإذا لم‬
‫يشعر اإلنسان بالتحير والتعجب من مدى هذه القدرة وإذا لم ينشغل باله‬
‫هبذا األمر العجيب ويستمر هذا الشعور بالتعظيم والتحير من مدى هذه‬
‫ٍ‬
‫وتناس وإعراض‬ ‫القدرة فهذا معناه أن اإلنسان ال يعقل‪ ،‬وهذا تجاهل‬
‫عن آيات اهلل ونسيان للخالق؛ ألنه ال يوجد شيء أخطر من هذا األمر يف‬

‫‪224‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫حياة اإلنسان‪ ،‬فكيف ينشغل اإلنسان بأي شيء يف أمور حياته من طعام‬
‫وشراب وشهوات وأعمال وال ينشغل بأن كل هذه الحياة موضوعة على‬
‫ظهر الكرة األرضية المعلقة يف الفضاء والتي هي مجرد نقطة تافهة وسط‬
‫األجرام الهائلة والكون الهائل!‪.‬‬
‫ـ �أثر ت�صور الآيات الكونية على امل�شاعر وعلى حياة الإن�سان‪:‬‬
‫ـ اإلنسان يكفيه أن يشعر باإلعجاز يف آية واحدة من آيات اهلل المنظورة‬
‫وعندئذ تتغير مشاعره وهمومه وتفكيره وتتغير حياته كلها ولن يحتاج‬
‫أكثر من آية واحدة سواء يف السماء أو يف األرض أو يف نفسه أو يف أحوال‬
‫الدنيا ومصائر السابقين أو أي شيء‪.‬‬
‫ـ إن نظرة واحدة متأملة يف الكون وحقائق األشياء قد تضع يف النفس‬
‫من اإليمان ما يغير حياة اإلنسان كلها‪ً ،‬‬
‫مثل كأن ينظر إلى الكرة األرضية‬
‫وهي هباءة بين األجرام فهنا يعرف اإلنسان معرفة حقيقية بضآلة حجمه‪،‬‬
‫يف حين لو تع َّلم اإلنسان كل علوم الدين والدنيا طوال عمره فقد ال يتكون‬
‫يف نفسه شيء من مشاعر اإليمان (الحب وخوف العقاب ورجاء الثواب)‪.‬‬
‫ـ �أمثلة تبني املعرفة احلقيقية للآيات الكونية‪:‬‬
‫ـ مثال (‪:)1‬‬
‫ـ لو أن ً‬
‫رجل يقوم ببناء بيت له وقد أتم بناء الحوائط والسقف ولكن‬
‫ليس يف البيت كهرباء وال ماء وال مفروشات‪ ،‬ودخل بيته ذات مرة فوجد‬
‫البيت فيه كهرباء وماء ورأى منضدة كبيرة يف الصالة موضوع عليها طعام‬
‫سريرا موضو ًعا يف حجرة النوم ووجد كرة موضوعة يف‬‫ً‬ ‫وشراب ووجد‬
‫البيت‪ ،‬فإذا به يأكل من الطعام ويلعب الكرة وينام على السرير دون أن‬
‫يسأل من أحضر كل هذه األشياء ومن أدخل الكهرباء والماء إلى المنزل‬
‫ولم يشعر بأي تعجب أو ذهول أو غرابة وكأن كل شيء عادي‪ ،‬وكل‬

‫‪225‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫شيء موجود ألنه موجود كما هو‪ ،‬وظل على ذلك سنوات عمره كل يوم‬
‫إذا دخل بيته يجد الطعام موضوع فيأكل ويلعب وينام‪ ،‬فهذا حال اإلنسان‬
‫الذي ال يعقل‪.‬‬
‫ـ وإذا كان هذا الرجل ً‬
‫عاقل ورأى ذلك فإنه ُيفاجأ ويندهش ويشعر‬
‫بالرهبة من غرابة األمر ويشعر بالحب لمن أحضر هذا‪.‬‬
‫ـ إن اهلل ينبت الزروع من األرض ليأكل منها اإلنسان كأهنا منضدة‬
‫أعدت ليوضع عليها الطعام لإلنسان‪ ،‬واألهنار تحمل المياه العذبة له‪،‬‬
‫وليل‪ ،‬واإلنسان خرج من بطن‬ ‫هنارا ً‬ ‫والشمس والقمر والنجوم تضيء له ً‬
‫أمه وكرب وعاش سنوات عمره كأن كل هذه األشياء أمور عادية هو الذي‬
‫وضعها لنفسه‪ ،‬كأنه هو الذي جعل األرض تنبت وصمم نظام السحاب‬
‫بحيث يتجمع الماء العذب يف األهنار وجعل نظام إضاءة فصنع الشمس‬
‫والقمر حتى ال يعيش يف الظالم! أو كأن الزرع يخرج من تلقاء نفسه ليفيد‬
‫اإلنسان‪ ،‬وكأن الماء والهواء هو الذي أوجد نفسه ويفيد اإلنسان من تلقاء‬
‫ات‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫نفسه‪َ ﴿ :‬أ ْم ُخلِ ُقوا مِ ْن َغ ْي ِر َشي ٍء َأ ْم ُه ُم ا ْل َخال ِ ُق َ‬
‫ون (‪َ )35‬أم َخ َل ُقوا السماو ِ‬
‫ْ‬
‫ُون﴾(‪.)1‬‬ ‫َو ْالَ ْر َض َب ْل َل ُيوقِن َ‬
‫ـ مثال (‪ :)2‬ت�صور ال�صلة بني الإن�سان والكون!‪:‬‬
‫ـ هل تصدق أننا نعيش وسط النجوم؟!‪ ،‬كان الناس يظنون أن هذه‬
‫النجوم الكثيرة وهذا الفضاء الواسع هو فوقنا فقط‪ ،‬لكن اكتشف العلماء‬
‫أن هذه النجوم وهذا الفضاء حول األرض من كل اتجاه وليس فوقنا فقط‪،‬‬
‫فنحن نعيش على أرض معلقة يف الفضاء‪ ،‬وهناك نجوم أسفل األرض‬
‫ونجوم أعالها‪.‬‬
‫عرفنا كلمة (السماء) على أهنا الفضاء وما فيه من النجوم فهذا‬
‫ـ وإذا َّ‬
‫((( الطور‪.36 ،35 :‬‬

‫‪226‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫معناه أننا نعيش يف السماء!‪ ،‬ولكي تدرك هذه الحقيقة جيدً ا تحتاج إلى‬
‫تصور ذهني وتخيل لمكان الكرة األرضية بالنسبة للنجوم‪:‬‬
‫ـ فالكون عبارة عن فضاء تسبح فيه نجوم هائلة العدد‪ ،‬وكل نجم تدور‬
‫حوله بعض الكواكب‪ ،‬ومن بين هذه النجوم والكواكب الهائلة العدد يف‬
‫الكون يوجد نجم اسمه الشمس وكوكب اسمه األرض‪ ،‬فكوكب األرض‬
‫هو كرة معلقة يف الفضاء يحيط هبا النجوم من كل اتجاه‪ ،‬فالنجوم ليست‬
‫فقط فوق األرض ولكنها تحيط بالكرة األرضية من كل اتجاه‪.‬‬
‫ـ إذن نحن نعيش يف الفضاء على ظهر كرة تسبح بنا يف الفضاء وحولنا‬
‫النجوم من كل اتجاه!‬
‫ـ تخيل لو أن الكرة األرضية لم تعد معلقة يف الفضاء وسقطت فأين‬
‫تذهب؟ إن تحت الكرة األرضية فضاء ونجوم!‬

‫‪227‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ عندما صعدت سفن الفضاء يف الفضاء البعيد التقطت صورة لألرض‬


‫وحولها الشمس والنجوم‪ ،‬فكانت األرض عبارة عن نقطة زرقاء باهتة‬
‫وسط النجوم (والصورة التوضيحية تبين ذلك)‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ إن هذه الدنيا التي نعيشها بكل ما فيها ليست إال حياة ضئيلة جدً ا‬
‫موضوعة على نقطة زرقاء باهتة وسط الفضاء والنجوم‪ ،‬فاألرض ومن‬
‫عليها من البشر مجرد جزء صغير جدً ا من منظومة كبيرة جدً ا هي الكون‪،‬‬
‫فيتكون شعور بضعف البشر وعجزهم وشعور بمدى عظمة هذا الكون‬
‫واتساعه فال يقدر البشر على إيجاد شيء منه وال التحكم فيه وبالتالي‬
‫الشعور بمدى قدرة وعظمة خالق الكون‪.‬‬
‫ـ أي القضيتين تشغل الذهن أكثر؟ قضية تجمع البشر جمي ًعا يف مكان‬
‫واحد هو الكرة األرضية فال يزيد حجم كل هذه البشرية عن نقطة تافهة‬
‫يف فضاء سحيق! أم القضايا والمسائل والمشاغل التي بين البشر بعضهم‬
‫البعض وهموم الحياة وأعمالها؟‪ ،‬فما قيمة ما يحدث بين البشر وما‬
‫يتشاغلون به من أعمال وهم جمي ًعا عبارة عن كتلة ضئيلة جدً ا من النمل‬
‫تتحرك يف نقطة ال تكاد تراها يف مشهد الفضاء والنجوم‪ ،‬طب ًعا العاقل‬
‫يشغله القضية األولى عن أي شيء آخر من مشاغل الحياة وهمومها‬
‫وشهواهتا ومن العلوم والمعارف المختلفة‪ ،‬ولكن البعض يغفل عن‬
‫هذا األمر ويعطل عقله عن النظر فيه وال يشغل عقله بغير ما يحدث من‬
‫مشاغل الحياة وهمومها وشهواهتا وأعمالها‪ ،‬وهؤالء هم غافلون عن‬
‫هذه اآلية من آيات اهلل ومشغولون بما سوى ذلك‪.‬‬
‫ـ مثال (‪ :)3‬ال�شم�س والكواكب جريان لنا يف الف�ضاء!‪:‬‬
‫ـ تصور وضعك مع حركة األرض حول نفسها‪ ،‬وحدوث الليل‬
‫والنهار‪ ،‬فهذا يؤدي إلى الشعور بأن هناك قوة أعلى من اإلنسان تفعل به‬
‫ما تشاء‪ ،‬وتؤدي إلى الشعور بضآلة اإلنسان‪ ،‬وبالتالي الشعور باالستسالم‬
‫والخضوع للخالق‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ تخيل لو أنك كنت بالليل وقمت بعمل ثقب يف الكرة األرضية‬


‫فسيصل إليك نور الشمس!‬

‫ـ مثال (‪ :)4‬نحن ندور حول نار هائلة معلقة يف الف�ضاء!‪:‬‬


‫نارا هائل ًة جدً ا معلقة يف الفضاء وأننا ندور‬
‫ـ هل تصدق أن هناك ً‬
‫حولها مثلما يدور الفراش حول النار المشتعلة؟!‪ ،‬إن الشمس عبارة عن‬
‫كتلة من النار هائلة مشتعلة يف الفضاء ونحن اآلن ندور حولها على ظهر‬
‫مركبة فضائية تطير بنا يف الفضاء المظلم هي األرض يف رحلة تستغرق‬
‫عام كامل‪ ،‬ففي اللحظة التي تقرأون أنتم فيها هذه السطور تدور األرض‬
‫يف مدارها حول الشمس يف رحلة طولها ‪ 950‬مليون كيلو مرت‪ ،‬نقطعها يف‬
‫سفر مدته سنة ثم تبدأ من جديد دون توقف‪ ،‬وحر الصيف وبرد الشتاء‬
‫يحدث بسبب اقرتابنا أو بعدنا عن نار الشمس أثناء هذه الرحلة‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فنحن نسير اآلن بسرعة ‪ 108‬ألف كيلو مرت يف الساعة (‪ 30‬كم يف‬
‫الثانية)‪ ،‬ويمكنكم أن تعرفوا ضخامة هذه السرعة على النحو التالي‪ :‬إن‬
‫أقصى سرعة يمكنكم أن تصلوا إليها عند قيادة سيارة عادية هي ‪ 200‬كيلو‬
‫مرت يف الساعة‪ ،‬يعني أن األرض تدور حول الشمس بسرعة تبلغ ‪ 540‬مرة‬
‫بحجم سرعة السيارة‪ ،‬ويمكن أن نفهم األمر بشكل أوضح من خالل هذا‬
‫أيضا‪ :‬فسرعة الرصاصة تبلغ ‪ 1800‬كيلو مرت يف الساعة‪ ،‬وسرعة‬ ‫المثال ً‬
‫األرض يف دوراهنا حول الشمس تبلغ ‪ 60‬مرة حجم سرعة الرصاصة!‪،‬‬
‫ومع سرعة األرض الهائلة هذه تكون قوة جاذبية الشمس غاية يف األهمية‪،‬‬
‫فلو أنه حصل نقص يف قوة جاذبية الشمس فإن األرض تضيع يف الفضاء‬
‫أيضا صحيح‪ ،‬بمعنى أنه‬‫بسرعة غير عادية‪ ،‬وذلك يمثل هنايتها‪ ،‬والعكس ً‬
‫لو حدثت زيادة يف قوة جاذبية الشمس فإن األرض تتجه نحو الشمس‬
‫أيضا سوف نتبخر معها‪،‬‬ ‫بسرعة هائلة وتذوب وتتبخر‪ ،‬وبالتأكيد فنحن ً‬
‫ولو كانت جاذبية األرض لما عليها من البشر واألشياء أقل مما هي عليه‬
‫أيضا يف الفضاء‪.‬‬
‫كل شيء ولطشنا نحن ً‬ ‫لطاش ّ‬
‫اآلن َ‬
‫ـ فنحن اآلن نطير يف الفضاء حول هذه النار يف دورة كل عام‪ ،‬ويف هذا‬
‫شعور بالرهبة والخوف‪ ،‬والشعور بأن هناك قوة أعلى من اإلنسان تفعل‬

‫‪231‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫به ما تشاء‪ ،‬والشعور بمدى ضآلة اإلنسان‪ ،‬وبالتالي الشعور باالستسالم‬


‫والخضوع للخالق‪.‬‬

‫ـ هناك حدثان يحدثان يف آن واحد هما أنك تتحرك اآلن على كرة‬
‫تطير بك يف الفضاء‪ ،‬والحدث الثاين هو أحداث الحياة وصراعاهتا‬
‫ومشاغلها وهمومها وعلومها وشهواهتا وما يدور من حولك من أمور‬
‫يف دنيا الناس والذهاب واإلياب والحوارات والمشاغل‪ ،‬فأي الحدثين‬
‫يشغل بالك أكثر؟ وهل يمكن أن تنسى هذا الحدث األكرب أنك تسير اآلن‬
‫يف الفضاء؟ طب ًعا العاقل يشغله األمر األول عن الثاين‪ ،‬ولكن البعض يغفل‬
‫عن هذا األمر ويعطل عقله عن النظر فيه وال يشغل عقله بغير ما يحدث‬
‫من مشاغل الحياة وهمومها وشهواهتا وأعمالها‪ ،‬وهؤالء هم غافلون عن‬
‫هذه اآلية من آيات اهلل ومشغولون بما سوى ذلك‪.‬‬
‫ـ ال يمكن إلنسان عاقل أبدً ا أن ينسى أنه يسير اآلن على متن مركبة يف‬
‫فضاء سحيق‪ ،‬ومن يعقل ذلك فإنه يركع ويسجد على متن هذه المركبة‬
‫لمن يحركه على هذه المركبة يف فضاء الكون الهائل!‬

‫ـ مثال (‪ :)5‬الأر�ض كرة معلقة يف الف�ضاء!‪:‬‬


‫ـ عندما صعد العلماء إلى القمر رأوا األرض صغيرة وكأهنا القمر‬
‫بالنسبة لهم‪ ،‬تخيل نفسك هناك على سطح القمر وتشير إلى األرض من‬
‫بعيد‪ :‬هناك بيتي وأوالدي وأهلي يف انتظاري حتى أعود‪ ،‬إن اآلخرة مثل‬
‫ذلك‪ ،‬وانظر كيف أن األرض كرة معلقة يف الفضاء!‬

‫‪232‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫‪233‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ مثال (‪ :)6‬ات�ساع الكون الهائل‪:‬‬


‫ـ الضوء يقطع المسافة بيننا وبين أقرب نجم إلينا يف مدة أربع سنوات‬
‫وربع‪ ،‬ومن النجوم ما يبعد عنا مسافة يقطعها الضوء يف مائة سنة‪ ،‬ومنها ما‬
‫مسافرا منها إلينا‬ ‫ً‬ ‫يسافر منها الضوء إلينا يف ألف سنة‪ ،‬ومنها ما يبقى الضوء‬
‫مسافرا منها إلينا يف مدة ماليين‬ ‫ً‬ ‫يف مدة مليون سنة‪ ،‬ومنها ما يبقى الضوء‬
‫ِ‬
‫السنين!! [سرعة الضوء (‪ )300‬ألف كيلومرت يف الثانية]‪َ ﴿ :‬ف َل ُأ ْقس ُم‬
‫يم﴾(‪.)1‬‬ ‫بِمواقِ ِع النُّجو ِم (‪ )75‬وإِ َّنه َل َقسم َلو َتع َلم َ ِ‬
‫ون َعظ ٌ‬ ‫َ ُ َ ٌ ْ ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫ـ ال يكفي أن يشعر اإلنسان بمدى ضخامة حجم النجوم وعددها‬
‫أيضا بعظمة المسافات بينها‪ ،‬فذلك يجعل اإلنسان‬ ‫الهائل‪ ،‬فالبد أن يشعر ً‬
‫العاقل ُيجن ويخر ساجدً ا‪ ،‬فإن أرقام المسافات واألحجام هائلة ومبهرة‬
‫ض َأ ْك َب ُر مِ ْن‬ ‫جدً ا وال يمكن تصورها أو تخيلها‪َ ﴿ :‬ل َخ ْل ُق السماو ِ‬
‫ات َو ْالَ ْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ون﴾(‪.)2‬‬ ‫َّاس َو َلكِ َّن َأ ْك َث َر الن ِ‬
‫َّاس َل َي ْع َل ُم َ‬ ‫َخ ْل ِق الن ِ‬
‫وأيضا تأمل أن الفضاء كله ظالم‪ ،‬والنور موجود فقط يف قشرة طفيفة‬
‫ـ ً‬
‫على األرض‪.‬‬
‫ـ املعرفة احلقيقية باحلقائق العلمية‪:‬‬
‫ـ إذا علم اإلنسان حقائق علمية مثل اكتشاف أن األرض كرة معلقة يف‬
‫الفضاء أو دوران األرض حول نفسها أو دوراهنا حول الشمس‪ ،‬وكل هذه‬
‫أمور عجيبة ومذهلة وأعجب من السحر‪ ،‬فإذا لم يشعر اإلنسان بالتعجب‬
‫والتحير ويشعر بضآلة اإلنسان أمام عظمة هذا الكون وأنه أشد ضآلة‬
‫أمام خالق الكون فيشعر بالخضوع واالستسالم هلل فهو ال يزال ال يعرف‬
‫خطورة معنى هذه األمور ويتجاهلها‪ ،‬فإذا كان تعامله كذلك مع كل ما‬
‫يراه من آيات اهلل من أرض وسماء وزرع وجبال وكائنات وكذلك مع‬
‫إعجاز القرآن والسنة فهو قد نسي اهلل تعالى‪.‬‬

‫((( الواقعة‪.76 ،75 :‬‬


‫((( غافر‪.57 :‬‬

‫‪234‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫الفصل السابع عرش‬


‫حتقيق املعرفة احلقيقية باهلل من خالل التذكر‬

‫ـ اإلنسان يكون قويا إذا كان يمتلك من القدرة أو المال أو الجاه أو‬
‫غير ذلك من النعم‪ ،‬ويكون ضعيفا إذا كان ال يمتلك شيئا من ذلك‪ ،‬ولكن‬
‫جميع الناس ضعفاء ألهنم جميعا ال يملكون شيئا‪ ،‬والذي ال يملك شيئا‬
‫فبماذا يدعي القوة إذا؟‪ ،‬فجميع مظاهر القوة هلل جميعا ﴿ َأ َّن ا ْل ُق َّو َة ل ِ َّل ِه‬
‫َج ِميعًا﴾(‪.)1‬‬
‫ـ حقيقة اإلنسان أنه مخلوق ضعيف من الطين ال حول له وال قوة‪،‬‬
‫ولكن ما يبدو من اإلنسان عكس ذلك تماما فله قوة تتمثل يف أن له إرادة‬
‫وعقل ويمتلك ماال وجاها وشهوات وكل شيء يف األرض مسخر له‬
‫يسير طوع أمره‪ ،‬فينخدع اإلنسان ويظن أن هذه المظاهر من القوة تنبع من‬
‫ذاته فيغرت بنفسه‪ ،‬ولكنها مجرد عطاء من الخالق وأمانة يسرتدها صاحبها‬
‫ـ وهو الخالق سبحانه ـ وقتما شاء‪.‬‬
‫ـ الذي أوجد الشيء ويملكه هو قوي له أن يتعالى بما يملك‪ ،‬والذي‬
‫لم يصنع الشيء فال يملكه هو ضعيف عليه أن يخضع لمالك الشيء‪.‬‬
‫ـ اإلنسان يظن أنه قوي بما عنده من النعم ويتعامل مع النعم كأنه هو‬
‫الذي أوجدها وأهنا ملكا له‪ ،‬وبالتالي ال يريد الخضوع لمالك هذه النعم‪،‬‬
‫رغم يقينه التام بأهنا نعم من اهلل وأن اهلل هو الذي أوجدها وهي ملك له‪.‬‬

‫البقرة‪ :‬من اآلية ‪‌165‬‬ ‫(((‬

‫‪235‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ فبدال من أن تكون النعم سببا لمعرفة اهلل والخضوع له يجعلها‬


‫اإلنسان سببا لرفض الخضوع هلل تعالى‪.‬‬
‫ـ الخالق له صفات تختلف عن صفات البشر فقدرته ال حد لها‬
‫وخارقة لكل ما يعهده البشر‪ ،‬فهذا أمر مدهش وعجيب ومذهل‪ ،‬لكن‬
‫بالنسبة للغافل الجاهل هو أمر عادي ال يثير انتباهه؛ ألنه يف حقيقة األمر‬
‫﴿و َلئِ ْن َس َأ ْلت َُه ْم َم ْن َخ َل َق‬
‫هو يجهل الخالق وذلك رغم يقينه التام بالخالق‪َ :‬‬
‫ون‪.)1( ‬‬ ‫اهَّلل ُق ِل ا ْل َح ْمدُ ل ِ َّل ِه َب ْل َأ ْك َث ُر ُه ْم َل َي ْع َل ُم َ‬ ‫السم ِ‬
‫اوات َو ْالَ ْر َض َل َي ُقو ُل َّن ُ‬
‫َّ َ َ‬
‫ـ الشعور بقدر ضآلة اإلنسان يؤدي إلى الشعور بالخضوع هلل تعالى‬
‫حبا يف عظمته وخوفا ورجاء‪ ،‬وإذا لم يشعر اإلنسان بضآلته فلن يشعر‬
‫بالخضوع هلل تعالى‪.‬‬
‫ـ املعرفة احلقيقية مبدى عظمة �صفات اهلل تعاىل‪:‬‬
‫ـ ال يكفي أن يتصور اإلنسان صفات اهلل‪ ،‬وإنما البد أن يتصور مدى‬
‫مقدار وعظمة هذه الصفات‪ ،‬فاهلل هو الخالق ولكنه لم يخلق واحدً ا من‬
‫البشر أو شي ًئا واحدً ا ولكن قدرته على الخلق هائلة فهو خلق كل هذه‬
‫البشرية التي ال تعد وال تحصى‪ ،‬وكل هذا الكون الهائل جدً ا‪ ،‬واهلل هو‬
‫العليم ولكن علمه ليس لما يحدث مع إنسان واحد أو اثنان ولكن علمه‬
‫مع كل البشرية وكل الذرات والجزيئات وكل ساكن وكل متحرك ويف‬
‫نفس الوقت‪ ،‬واهلل يرى كل شيء والحواجز ال تمنعه من رؤية أي شيء‬
‫حتى ما يكون يف الظالم ويرى ما يحدث داخل الذرة‪ ،‬وكذلك يسمع‬
‫كل من يتكلم وكل ما يصدر عنه صوت حتى ولو كان دبيب نملة على‬
‫األرض وكل ذلك يف آن واحد‪ ،‬واهلل يستطيع أن يلغي الزمان والمكان‬
‫ويلغي قوانين األسباب ويفعل كل ما يريد يف أقل من لحظة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫((( لقمان‪.25 :‬‬

‫‪236‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فصفات اهلل سبحانه ليست مجرد صفات موجودة ولكنها تصل‬


‫إلى حد الكمال من العظمة بحيث تجعلك تتحير وتندهش وتتعجب‬
‫وتعجب وتنبهر وتذهل من مدى عظمة الخالق وقدرته سبحانه‪ ،‬وهذا‬
‫هو معنى كلمة (إله) يف اللغة‪ ،‬ففي تاج العروس‪﴿ :‬أل ِ َه َي ْأ َل ُه إذا َت َح َّي َر‪ُ ،‬يريدُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إذا و َقع العبدُ يف َع َظم ِة اهَّللِ وجالل ِ ِه ِ ِ ِ‬
‫ف‬ ‫وص َر َ‬
‫الر ُبوب َّية َ‬ ‫وغير ذل َك من ص َفات ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َْ‬
‫ٍ‬
‫يميل ق ْل ُبه إلى َأ َحد﴾(‪.)1‬‬ ‫توه ُمه إليها‪َ ،‬أ ْب َغ َض َ‬
‫الناس حتى ما َ‬ ‫ّ‬
‫ـ عدم وجود عالمات االنتباه معناه أن اإلنسان ال يزال ال يعرف من‬
‫هو الخالق وكأنه لم يسمع عنه‪.‬‬
‫ـ وكذلك فعدم تأثر مشاعر اإلنسان معناه أن اإلنسان ال يزال ال يعرف‬
‫من هو الخالق وكأنه لم يسمع عنه‪.‬‬
‫ـ أين اهلل؟‪:‬‬
‫ـ اهلل تعالى ال يحويه مكان وال يحده زمان؛ ألن المكان والزمان‬
‫مخلوقان‪.‬‬
‫ـ قبل خلق الكون واألشياء لم يكن شي ًئا سوى اهلل سبحانه‪ ،‬فال شيء‬
‫قبله وال شيء غيره‪ ،‬فال كواكب وال شمس وال فضاء وال سماء وال بشر‬
‫وال مخلوقات وال شيء سوى اهلل سبحانه‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬كان اهلل‬
‫ولم يكن شيء قبله﴾(‪.)2‬‬
‫ـ من �صفات الذات و�صفات الأفعال‪:‬‬
‫ـ اهلل سبحانه له وجه وعين وساق ويد وأصابع و َقدَ م‪ ،‬لكن أصابعه‬
‫ليست كأصابع اإلنسان وهكذا يف كل صفاته‪َ ﴿ :‬ل ْي َس ك َِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء﴾(‪.)3‬‬

‫((( تاج العروس من جواهر القاموس ـ دار الهداية (‪.)322 / 36‬‬


‫((( التخريج‪ :‬صحيح (صحيح الطحاوية ص‪.)139 :‬‬
‫((( الشورى‪.11 :‬‬

‫‪237‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ـ واهلل سبحانه يسمع ويرى ويتكلم ويغضب ويفرح ويضحك ويرضى‬


‫وينزل ويجيء‪ ،‬ونزوله ليس كنزول اإلنسان‪ ،‬وضحكه ليس كضحك‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهكذا يف كل صفاته‪.‬‬
‫ـ حجم الكر�سي والعر�ش‪:‬‬
‫ـ الكرسي يسع الكون كله‪﴿ :‬و ِسع كُر ِسيه السماو ِ‬
‫ات َو ْالَ ْر َض﴾(‪،)1‬‬ ‫َ َ ْ ُّ ُ َّ َ َ‬
‫ويف الحديث‪﴿ :‬ما السماوات السبع يف الكرسي إال كحلقة بأرض فالة‬
‫وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفالة على تلك الحلقة﴾(‪)2‬‬
‫ـ املعرفة احلقيقية مبدى قدرة اخلالق �سبحانه‪:‬‬
‫رجل خار ًقا يستطيع أن ينقل الجبال أو يستطيع أن يبيد‬ ‫ـ لو سمعت أن ً‬
‫الناس يف لحظة أو‪ ...‬إلخ‪ ،‬بماذا تشعر؟‪ ،‬إنك تشعر بالهيبة والرهبة‪ ،‬فإن‬
‫ال َف ُق ْل َين ِْس ُف َها َر ِّبي‬ ‫﴿و َيس َألون ََك َع ِن ا ْل ِ‬
‫ج َب ِ‬
‫اهلل يستطيع ما هو أعظم من ذلك َ ْ‬
‫ن َْس ًفا﴾(‪ ،)3‬ويستطيع أن يبيد كل البشرية يف أقل من لحظة‪ ،‬فلماذا ال تشعر‬
‫بنفس الشعور السابق؟‪ ،‬وإذا كنت تدعي أنك تشعر بالهيبة والرهبة من‬
‫اهلل ففي الحالة األولى كانت هناك حالة نفسية وانفعاالت داخلية مميزة‬
‫للشعور بالرهبة والهيبة‪ ،‬فهل عندك هذه الحالة النفسية أم أنه مجرد ادعاء‬
‫بأن عندك الهيبة والرهبة والتعظيم هلل؟!‪.‬‬
‫ـ أنت إذا قابلت مل ًكا من ملوك الدنيا فإنك تشعر بالخوف والرهبة‬
‫والمهابة‪ ،‬فإذا لم تشعر بأي شيء من هذا فأنت ال تعرف أن من قابلته هو‬
‫ملك من الملوك‪ ،‬فهو بالنسبة لك مثل أي رجل عادي يمر بك يف الطريق‪،‬‬
‫هذا هو الحال مع اهلل الملك فأنت ال تشعر بماذا يعني أن اهلل هو الملك‪،‬‬
‫إن الملك هو الذي بيده كل شيء وكل ما يملكه ملوك الدنيا هو أقل من‬

‫((( البقرة‪.255 :‬‬


‫((( التخريج‪ :‬صحيح (السلسلة الصحيحة ج‪ ،1 :‬ص‪ ،223 :‬برقم‪.)109 :‬‬
‫((( طـه‪.105 :‬‬

‫‪238‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫دائما يراك وال تغيب‬


‫ذرة من ملكه‪ ،‬وهو الجبار المهيمن وأنت بين يديه ً‬
‫عنه فأين هذه المشاعر؟‪ ،‬إذن فصفات اهلل وأسماؤه موجودة يف اقتناعك‬
‫وال وجود لها يف مشاعرك‪.‬‬
‫ـ القدرة على خلق السماوات بما فيها من مجرات ال حصر لها هي‬
‫متحيرا‪َ ﴿ :‬ف ْار ِج ِع‬ ‫ً‬ ‫عاجزا‬
‫ً‬ ‫قدرة خارقة وهائلة جدً ا يقف اإلنسان أمامها‬
‫ب إِ َل ْي َك ا ْل َب َص ُر‬ ‫ا ْل َب َص َر َه ْل َت َرى مِ ْن ُف ُط ٍ‬
‫ور (‪ُ )3‬ث َّم ْار ِج ِع ا ْل َب َص َر ك ََّر َت ْي ِن َينْ َقلِ ْ‬
‫اس ًئا َو ُه َو َح ِس ٌير﴾ (‪.)1‬‬‫َخ ِ‬

‫ـ فإذا حدث انبهار وتعجب ودهشة من مدى خطورة األمر والشعور‬


‫بالمهابة فعندئذ قد عرف اإلنسان قدرة اهلل معرفة حقيقية‪.‬‬
‫ـ الساحر يستطيع أن يصنع أي شيء ولكن يف الخيال وليس يف‬
‫الحقيقة‪ ،‬فهو يسحر أعين الناس‪ ،‬أما الخالق فيستطيع أن يصنع أي شيء‬
‫يف الحقيقة وليس يف الخيال‪ ،‬فقدرة اهلل أعظم من السحر‪ ،‬فيصنع أي‬
‫شيء بدون أسباب أو يحول شيء إلى شيء آخر مختلف تما ًما بدون أي‬
‫أسباب وبمجرد قوله كن فيكون‪ ،‬فهذه قدرة هائلة ال يستطيعها أي بشر‪.‬‬
‫ـ فالساحر يستطيع أن يخرج لك ناقة من الحائط ولكن غير حقيقية‪،‬‬
‫واهلل أخرج ناقة صالح من الحائط وهي حقيقية حتى أهنم كانوا يشربون‬
‫لبنها وذبحوها بأيديهم وأكلوها‪.‬‬
‫ـ وسحرة فرعون صنعوا ثعابين من الحبال ولكنها خيالية‪ ،‬واهلل صنع‬
‫ثعبانًا من الحبل ولكنه حقيقي‪.‬‬
‫أمرا عجي ًبا ويورث يف النفس الدهشة واالنبهار‬
‫ـ فإذا كان السحر ً‬
‫واإلعجاب فالقدرة الحقيقية أعجب من السحر فلماذا ال يحدث يف‬

‫((( الملك‪.4 ،3 :‬‬

‫‪239‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫النفس الدهشة واإلعجاب بقدرة اهلل تعالى؟؛ ذلك ألن المعرفة الحقيقية‬
‫بقدرة اهلل غير موجودة‪.‬‬
‫******‬
‫ـ املعرفة احلقيقية مبدى قدرة اخلالق على العلم وال�سمع والر�ؤية‪:‬‬
‫ـ اهلل سبحانه يرى ما يحدث داخل جسمك فيرى القلب يف حركته‬
‫ويرى ما يحدث داخل خاليا جسمك‪ ،‬يف حين أنت ال تستطيع أن ترى‬
‫شيئا من ذلك‪.‬‬
‫ـ هل يستطيع العلم الحديث أن يرصد تحركات أحد الناس من خالل‬
‫كاميرا تسير معه يف ليله وهناره طوال أيام عمره كلها؟‪ ،‬وهل يستطيع عمل‬
‫ذلك مع كل البشرية منذ خلق آدم وإلى قيام الساعة؟‪ ،‬وهل يستطيع أن‬
‫يصنع ذاكرة بحيث يستطيع أن يحدد يف اللحظة المعينة منذ ستين عا ًما‬
‫ماذا عمل فالن وأين سقطت ورقة الشجرة التي كانت يف مكان ما؟‪،‬‬
‫اهلل يستطيع ما هو أعظم من ذلك‪ ،‬فاهلل يعلم ما يفكر فيه اإلنسان يف هذه‬
‫اللحظة وما يدور يف أذهان البشرية منذ خلق آدم وإلى قيام الساعة‪ ،‬واهلل‬
‫يستطيع أن يعلم ماذا سيحدث يف المستقبل وال تسأل كيف؟ فهي قدرة‬
‫اهلل سبحانه‪.‬‬
‫ـ وكذلك فاهلل يراك مهما كان مكانك على األرض كأنه معك حتى لو‬
‫كنت داخل الحجرات ويف الظالم ويسمعك حتى لو تكلمت يف سرك كأنه‬
‫﴿و ُه َو َم َع ُك ْم َأ ْي َن َما ُكنْت ُْم﴾‬ ‫معك‪ ،‬فال تستطيع أن هترب من علمه بك‪َ :‬‬
‫(‪ ،)1‬واهلل يسمع ويرى ويعلم كل ما يحدث وكل ما يعمله ماليين الخالئق‬
‫الص ْخ َرة الصماء‬ ‫الس ْو َداء على َّ‬ ‫واألشياء يف آن واحد‪ ،‬ويعلم َدبِيب النملة َّ‬
‫﴿و ِعنْدَ ُه َم َفاتِ ُح ا ْل َغ ْي ِ‬
‫ب َل َي ْع َل ُم َها‬ ‫ِ‬
‫في ال َّل ْي َلة الظلماء‪ ،‬فهذه قدرة هائلة جدً ا‪َ :‬‬
‫((( الحديد‪.4 :‬‬

‫‪240‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫إِ َّل ُه َو َو َي ْع َل ُم َما فِي ا ْل َب ِّر َوا ْل َب ْح ِر َو َما َت ْس ُق ُط مِ ْن َو َر َق ٍة إِ َّل َي ْع َل ُم َها َو َل َح َّب ٍة فِي‬
‫ين﴾(‪.)1‬‬ ‫َاب ُمبِ ٍ‬ ‫س إِ َّل فِي كِت ٍ‬ ‫ب َو َل َيابِ ٍ‬ ‫ض َو َل َر ْط ٍ‬ ‫ات ْالَ ْر ِ‬ ‫ُظ ُلم ِ‬
‫َ‬
‫﴿ه َذا‬
‫ـ واألكثر من ذلك أن اهلل يسجل كل ما يحدث وبمنتهى الدقة‪َ :‬‬
‫كِتَا ُبنَا َينْطِ ُق َع َل ْي ُك ْم بِا ْل َح ِّق إِنَّا ُكنَّا ن َْس َتن ِْس ُخ َما ُكنْت ُْم َت ْع َم ُل َ‬
‫ون﴾(‪.)2‬‬
‫ـ علم الخالق بكل ما يحدث يف األرض والسماء ورؤيته وسمعه لكل‬
‫متحيرا‪ ،‬فإذا لم‬
‫ً‬ ‫عاجزا‬
‫ً‬ ‫شيء هي قدرة خارقة وهائلة يقف اإلنسان أمامها‬
‫ينتبه اإلنسان لذلك ويشعر بالمهابة من هول هذه القدرة الهائلة فهو ال‬
‫ً‬
‫جاهل باهلل تعالى‪.‬‬ ‫يزال‬
‫*******‬
‫ـ املعرفة احلقيقية مبدى قدرة اهلل على الإن�سان ومراقبته له يف كل‬
‫حلظة‪:‬‬
‫ـ تخيل أن هناك كاميرات سرية موضوعة لك يف كل مكان وأنت يتم‬
‫رصدك وتسجيل كل تصرفاتك وحركاتك وسكناتك بل وما تفكر فيه‪،‬‬
‫أال تشعر بالخوف والقلق‪ ،‬فإن اهلل يسمعك ويراك ويراقبك‪.‬‬
‫ـ والشعور بالمراقبة يقوي ويضعف حسب الشعور بقوة الرقيب‪ ،‬فلو‬
‫افرتضنا أن اإلنسان يراقبه طفل من األطفال‪ ،‬فلن يعبأ بأوامره وبكالمه‬
‫ولن يوقره ويحرتمه؛ ألنه طفل قوته ضعيفة رغم أنه يعلم أن الطفل يسير‬
‫معه ويرقب كل ما يفعله‪ ،‬أما إذا افرتضنا أن اإلنسان يسير معه قوة مسلحة‬
‫من الجيش بالدبابات من حوله والطائرات الحربية من فوقه واأللغام‬
‫والمتفجرات موضوعة يف كل مكان يذهب فيه‪ ،‬فال يمكن أن ينشغل ذهنه‬
‫عن هذه الرقابة الهائلة‪ ،‬فقوة اهلل سبحانه أعظم من كل الجيوش يف العالم‬

‫((( األنعام‪.59 :‬‬


‫((( الجاثية‪.29 :‬‬

‫‪241‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫مجتمعة وهي معك يف كل لحظة‪.‬‬


‫ـ إن قدرة اهلل فوق مستوى الخيال وأشد رع ًبا من قدرة أي شيء مرعب‬
‫يمكن أن تتصوره‪ ،‬لكن قدرة اهلل يف مشاعر البعض هي شيء عادي جدً ا‬
‫فمثل اإلنسان إذا علم أن المخابرات‬ ‫ال خطورة منها وال مشكلة فيها‪ً ،‬‬
‫األمريكية هتتم بأمره وترسل له قوة مسلحة تتخفى وترصده يف كل مكان‬
‫فإنه قد ال ينام عدة أيام أو قد ال ينام مطل ًقا‪ ،‬فما بالك بقدرة اهلل عليك‬
‫التي ترصدك يف كل مكان وتعد عليك أنفاسك‪ ،‬فالعاقل يكون يف حياته‬
‫منزعجا وصورة قدرة اهلل ال تفارق عينه وال يستطيع أن‬
‫ً‬ ‫متوترا خائ ًفا‬
‫ً‬ ‫قل ًقا‬
‫ينساها‪ ،‬فقدرة اهلل أشد يف خطورهتا من قدرة أي شيء مخيف يمكن أن‬
‫تتصوره‪.‬‬
‫ـ من الناس َم ْن ليس عنده أي هم بقدرة اهلل رغم أهنا تحيط به لدرجة‬
‫أنك قد تجد المرء يستغرب ولماذا الهم بمدى قدرة اهلل ومراقبته؟!‪ ،‬وكأنه‬
‫ال يوجد أي شيء يدعو لالنزعاج!‬
‫ـ مجرد العلم بأن لنا خالقا فهذه ليست معلومة سهلة؛ ألن معناها أننا‬
‫نعيش حياتنا خاضعين خائفين من مهابته وخائفين من عقابه‪ ،‬ولكن ال‬
‫يزال البعض يعيش يف غيبوبة أو يف حالة سكر لم يفق بعد إلى حجم الخطر‬
‫الذي يتمثل يف قدرة اهلل التي تحيط به ومراقبة اهلل الذي يعلم ما بداخلك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اح َذ ُرو ُه﴾(‪َ ﴿ ،)1‬ي ْو َم‬ ‫اهَّلل َي ْع َل ُم َما في َأ ْن ُفس ُك ْم َف ْ‬
‫﴿وا ْع َل ُموا َأ َّن َ‬
‫وما تفكر فيه‪َ :‬‬
‫س ما َع ِم َل ْت مِن َخي ٍر مح َضرا وما َع ِم َل ْت مِن س ٍ‬
‫وء َت َو ُّد َل ْو َأ َّن‬ ‫ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫ْ ْ ُ ْ ً َ َ‬ ‫َتجدُ ك ُُّل َن ْف ٍ َ‬
‫َب ْين ََها َو َب ْينَ ُه َأ َمدً ا بعيدً ا َو ُي َح ِّذ ُرك ُُم ُ‬
‫اهَّلل َن ْف َس ُه﴾(‪.)2‬‬
‫ـ قد يسأل سائل‪ :‬هل صفات الخالق تدعو للتحير والتعجب والشعور‬

‫((( البقرة‪.235 :‬‬


‫((( آل عمران‪.30 :‬‬

‫‪242‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫بالمهابة وانشغال البال؟ والجواب‪ :‬وهل هناك شيء بعد اهلل يدعو للتحير‬
‫والتعجب والشعور بالمهابة وانشغال البال؟‬
‫ـ ويف أيسر التفاسير‪﴿﴿ :‬وهو معكم أينما كنتم﴾ أي بعلمه بكم وقدرته‬
‫﴿﴿ون َْح ُن َأ ْق َر ُب إِ َل ْي ِه مِ ْن‬
‫َ‬ ‫عليكم أينما كنتم﴾(‪ ،)1‬ويف تفسير مراح لبيد‪:‬‬
‫يد﴾ أي ونحن أقرب إلى اإلنسان من العرق الذي يجري فيه‬ ‫حب ِل ا ْلو ِر ِ‬
‫َْ َ‬
‫الدم‪ ،‬ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن بعلمنا بحاله وبنفوذ قدرتنا‬
‫فيه‪ ،‬يجري فيه أمرنا كما يجري الدم يف عروقه﴾(‪ ،)2‬ويف تفسير القرطبي‪:‬‬
‫الر ْؤ َي ِة‪َ ،‬ق َال َعامِ ُر ْب ُن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫﴿﴿ون َْح ُن َأ ْق َر ُب إِ َل ْيه منْ ُك ْم﴾ َأ ْي بِا ْل ُقدْ َرة َوا ْلع ْل ِم َو ُّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫اهَّلل َت َعالى َأ ْق َر َب إِ َل َّي منْ ُه﴾(‪.)3‬‬ ‫َع ْب ِد ا ْل َق ْي ِ‬
‫رت إلى شيء إِ َّل َر َأ ْي ُت َ‬ ‫س‪َ :‬ما َن َظ ُ‬
‫ـ إن اإلنسان عندما يشعر بقدرة اهلل المحيطة به فإن حساباته يف الحياة‬
‫سوف تختلف تما ًما‪ ،‬وإنه سوف يسقط أمور الدنيا والناس من حساباته؛‬
‫ألنه يشعر أن الدنيا ضئيلة‪.‬‬
‫ـ املعرفة احلقيقية ملعنى امللك والقاهر والقهار‪:‬‬
‫ـ معنى (الملك) أي النَّافِذ األمر فِي ملكه‪ ،‬فهو يقدر على غيره‪ ،‬وغيره‬
‫ال يقدرون عليه‪ ،‬وألن اهلل يقدر على ملوك الدنيا وأمره نافذ فيهم فهم يف‬
‫الحقيقة ليسوا بملوك‪ ،‬ففي الحديث‪﴿ :‬يقبض اهلل األرض يوم القيامة‬
‫ويطوي السموات بيمينه‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنا الملك‪ ،‬أين ملوك األرض؟﴾(‪.)4‬‬
‫ـ فالملك والقاهر والقهار والمهيمن والمسيطر أي الذي له السيادة‬
‫المطلقة والسلطة الكاملة فهو يستطيع أن يعمل أي شيء ألي أحد‪،‬‬
‫فورا‪ ،‬فله قدرات أن يفعل‬
‫فيجازي هذا ويعاقب هذا ويأمر بأي أمر فينفذ ً‬
‫أيسر التفاسير للجزائري ـ مكتبة العلوم والحكم‪ ،‬المدينة المنورة‪ ،‬السعودية (‪.)259 /5‬‬ ‫(((‬
‫مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (‪.)446 /2‬‬ ‫(((‬
‫تفسير القرطبي ‪-‬دار الكتب المصرية‪ -‬القاهرة (‪.)231 /17‬‬ ‫(((‬
‫تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 8125 :‬يف صحيح الجامع)‪.‬‬ ‫(((‬

‫‪243‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أي شيء ويخضع له كل شيء فال يستطيع أحد أن يخرج عن أمره‪ ،‬فهو‬
‫الذي يهدي وهو الذي يضل وهو الذي يشفي وهو الذي يمرض وهو‬
‫ون إِ َّل َأ ْن‬
‫﴿و َما َت َشا ُء َ‬
‫الذي يعاقب ويثيب ومشيئته فوق مشيئة اإلنسان‪َ :‬‬
‫اهَّلل َر ُّب ا ْل َعا َل ِمي َن﴾(‪ ،)1‬فال يتحرك متحرك وال يسكن ساكن إال بأمر‬
‫َي َشا َء ُ‬
‫اهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ تصور أن هناك أحدً ا ما أو شي ًئا ما ذو قوة قاهرة يمكن أن يقضي عليك‬
‫ويزهق روحك فبماذا تشعر عندما تتعامل معه أو يأمرك بشيء؟‪ ،‬إن اهلل‬
‫هو القهار الجبار الذي سوف يزهق روحك ولن تفلت منه (فهو المميت)‬
‫وهو يراك اآلن ولن تستطيع أن تفلت منه أو هترب عن نظره‪ ،‬فلماذا ال تجد‬
‫مثل هذا الشعور؟ بل إن اهلل هو الذي يميتك كل يوم ويحييك فأين قدرتك‬
‫لم ْن يقهرك‬ ‫وقوتك وإرادتك وأنت نائم؟!‪ ،‬فلماذا ال تشعر باالستسالم َ‬
‫ويقدر عليك كل يوم وكل لحظة؟‪ ،‬ولماذا ال تشعر أنك مقبل على حياة‬
‫أبدية؟‪ ،‬فالذي يحييك كل يوم سوف يحييك يوم الدين والذي يميتك كل‬
‫يوم سوف يميتك ويسلب منك كل شيء‪ ،‬فلماذا ال تشعر باالستسالم‬
‫﴿اهَّلل َيت ََو َّفى األن ُف َس ِحي َن َم ْوتِ َها َوا َّلتِي َل ْم َت ُم ْت فِي َمنَامِ َها‬
‫ُ‬ ‫والخضوع هلل؟‬
‫َف ُي ْم ِس ُك ا َّلتِي َق َضى َع َل ْي َها ا ْل َم ْو َت َو ُي ْر ِس ُل ْالُ ْخ َرى إلى َأ َج ٍل ُم َس ّم ًى إِ َّن فِي‬
‫ون﴾(‪.)2‬‬ ‫يات ل ِ َق ْو ٍم َي َت َف َّك ُر َ‬
‫َذل ِ َك َل ٍ‬

‫ـ فاهلل هو القهار المسيطر‪ ،‬والعبد يكون مقهورا واقعا تحت سيطرته‪،‬‬


‫واهلل يكون قادرا والعبد ال يقدر على شيء‪ ،‬فالذي يستطيع أن يسيطر‬
‫على غيره ويقدر عليه‪ ،‬ويستطيع أن يعطيه أو يمنعه ويحرمه فهو قوي‬
‫مسيطر واآلخر ضعيف خاضع‪ ،‬فاهلل هو الملك على كل الناس وكل‬
‫شيء‪ ،‬والمسيطر على كل الناس وكل شيء‪ ،‬ويستطيع أن يهلك الناس‬

‫((( التكوير‪.29 :‬‬


‫((( الزمر‪.42 :‬‬

‫‪244‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫أو يعطيهم أو يمنعهم‪ ،‬وهذا يستلزم قدرة وعلم على عمل ذلك األمر‪.‬‬
‫ـ إذا شعر اإلنسان بالمهابة والذل فهذا معناه أنه انتبه إلى هذه الصفات‬
‫وعرف معناها‪.‬‬
‫********‬
‫ـ املعرفة احلقيقية ملعنى العبادة العامة ي�ؤدي �إىل العبادة اخلا�صة‪:‬‬
‫ـ العبادة ق�سمان‪:‬‬
‫‪1‬ـ عبادة عامة‪ :‬وهي الخضوع ألمر اهلل الكوين‪ ،‬وهي عامة لجميع‬
‫الخلق‪ ،‬فكلهم عباد اهلل‪ ،‬المؤمن والكافر‪ ،‬والفاسق والمنافق‪ ،‬بمعنى أهنم‬
‫تحت تصرفه وقهره‪ ،‬فال يستطيع أحد أن يخرج عن قبضته وسلطانه؛‬
‫فمثال ال يستطيع أحد أن يرفع المرض أو الموت عن نفسه؟‪ ،‬كما قال‬
‫ِ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬إِ ْن ك ُُّل من فِي السماو ِ‬
‫ض إِ َّل آتي َّ‬
‫الر ْح َم ِن َع ْبدً ا﴾(‪.)1‬‬ ‫ات َو ْالَ ْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫‪2‬ـ عبادة خاصة‪ :‬وهي الخضوع ألمر اهلل الشرعي‪ ،‬وهي خاصة‬
‫ض َه ْونًا(‪،)2‬‬ ‫الر ْح َم ِن ا َّل ِذي َن َي ْم ُش َ‬
‫ون َع َلى ْالَ ْر ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿وع َبا ُد َّ‬ ‫بالمؤمنين كما قال‪َ :‬‬
‫ان﴾(‪.)3‬‬ ‫﴿إِ َّن ِعب ِ‬
‫ادي َل ْي َس َل َك َع َل ْي ِه ْم ُس ْل َط ٌ‬ ‫َ‬
‫ـ فمن عرف أنه خاضع ألمر اهلل الكوين عرف ضعفه وخضع ألمر اهلل‬
‫الشرعي‪.‬‬
‫ـ فالخضوع الكوين (العبادة العامة) معناه أن كل المخلوقات خاضعة‬
‫هلل قهرا ال تستطيع الخروج عن أمر اهلل‪ ،‬ومعناه بأننا واقعون تحت سيطرة‬
‫قوة قاهرة أكرب من قوى العالم‪ ،‬وأن كل األمور وكل شيء يخضع لهيمنة‬
‫كامل‪ ،‬فنحن وكل ما عندنا عبارة عن جزء من‬ ‫ً‬ ‫اهلل وسيطرته خضو ًعا‬

‫((( مريم‪.93 :‬‬


‫((( الفرقان‪.63 :‬‬
‫((( الحجر‪.42 :‬‬

‫‪245‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫ممتلكاته سبحانه وكل أمرنا بيده‪ ،‬وهذا معناه الشعور بأننا ضعفاء ال‬
‫نملك شي ًئا وال حتى أنفسنا‪ ،‬وال نستطيع أن نجلب أي نفع ألنفسنا‪.‬‬
‫*******‬
‫ـ املعرفة احلقيقية ملعنى (املالك)‪:‬‬
‫ـ لو أن إنسانًا وجد ً‬
‫مال يف الطريق فأخذه واعترب أن هذا المال ليس له‬
‫صاحب واعتربه مل ًكا له‪ ،‬فهذا ما يحدث مع الغافل‪ ،‬فاهلل وضع يف األرض‬
‫برتول ومعادن وزروع وهبائم بقصد أهنا نِعم لإلنسان‪ ،‬واإلنسان وجد هذه‬
‫األشياء وتجاهل أن هذه األشياء لها صاحب يملكها فأخذها واعتربها‬
‫مل ًكا له فاغرت بنفسه‪.‬‬
‫ـ أما العاقل فينتبه إلى أن اهلل هو مالكها وأهنا مهداة إليه من الخالق‬
‫وهذا معناه أن ملكيتها ال تزال هلل رغم أنه يستفيد منها‪.‬‬
‫ـ فالمالك للشيء هو الذي صنعه وقدر على إيجاده لنفسه بقدرته‪،‬‬
‫أما الذي وجد شي ًئا يف الطريق فهو ليس بمالك‪ ،‬والسعي على الرزق هو‬
‫مجرد أنه يأخذ ما وضع له من رزق وليس معناه أنه هو الذي أوجده لنفسه‬
‫من كده وتعبه‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان لم يصنع الزروع ولم يصنع البهائم ولم يصنع المعادن يف‬
‫باطن األرض وإنما هو وجدها واكتشفها‪ ،‬وهي موضوعة بقصد أن تكون‬
‫مفيدة لإلنسان أي مسخرة له‪.‬‬
‫ـ إن هذا الكون الهائل البد له من خالق‪ ،‬والذي يخلق شي ًئا فإنه يملكه‪،‬‬
‫إذن فهو المالك لكل شيء‪.‬‬
‫ـ وملكية اإلنسان لألشياء هي مسألة مجازية فقط‪ ،‬فاإلنسان ليس له‬
‫بيت يأويه وإنما يسكن يف ملك اهلل ويأكل من رزق اهلل‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فكل شيء ملك هلل‪ ،‬وهذا معناه أن عقود التمليك التي عندنا يف الدنيا‬
‫مجازية للتعامل بيننا يف الدنيا فقط وليست عقود حقيقية‪ ،‬ألنه يف الحقيقة‬
‫ال أحد يملك شي ًئا فاهلل هو المالك لكل شيء وإنما هي أمانة وعارية ملك‬
‫فم ْن اعتقد أنه يملك شي ًئا مل ًكا‬ ‫هلل ويسرتدها اهلل منا وقتما يشاء‪ ،‬لذلك َ‬
‫ض﴾(‪﴿ ،)1‬أال إِ َّن ل ِ َّل ِه‬ ‫ات َو ْالَ ْر ِ‬ ‫حقيقيا فقد أشرك‪﴿ :‬ول ِ َّل ِه م ْل ُك السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ً‬
‫﴿و َل ُه ك ُُّل َش ْي ٍء﴾(‪ُ ﴿ ،)3‬ق ْل‬ ‫ض﴾(‪َ ،)2‬‬ ‫ات َو َم ْن فِي ْالَ ْر ِ‬ ‫من فِي السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫الس ْم َع َو ْالَ ْب َص َار َو َم ْن ُي ْخ ِر ُج‬ ‫ِ‬ ‫من ير ُز ُق ُكم مِن السم ِ‬
‫ض َأ َّم ْن َي ْمل ُك َّ‬
‫اء َو ْالَ ْر ِ‬ ‫ْ َ َّ َ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫اهَّلل‬
‫ون ُ‬ ‫ت َو ُي ْخ ِر ُج ا ْل َم ِّي َت مِ َن ا ْل َحي َو َم ْن ُيدَ ِّب ُر األمر َف َس َي ُقو ُل َ‬‫ا ْلحي مِن ا ْلمي ِ‬
‫َ َّ َ َ ِّ‬
‫ِّ‬
‫ون﴾(‪.)4‬‬ ‫َف ُق ْل َأ َف َل َت َّت ُق َ‬
‫ـ إن كل ما عندك وكل ما معك من مال ومسكن وزوجة وأوالد وكل‬
‫النعم وكل شيء مل ًكا هلل تعالى بل أنت نفسك مل ًكا هلل؛ ألن الذي خلق‬
‫شي ًئا فهو يملكه‪ ،‬ولكن اإلنسان يظن أن ما به من يد وعين وأنف‪ ...‬إلخ‬
‫مل ًكا له‪.‬‬
‫ال اهَّللِ ا َّل ِذي‬
‫وهم مِ ْن م ِ‬
‫َ‬ ‫﴿وآ ُت ُ ْ‬
‫ـ فالمال ملك هلل وليس من كدك وتعبك‪َ :‬‬
‫َخ َل ِفين فِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يه﴾(‪.)6‬‬ ‫﴿و َأنْف ُقوا م َّما َج َع َل ُك ْم ُم ْست ْ َ‬
‫آ َتاك ُْم﴾(‪َ ، )5‬‬
‫ـ كل ما يعمله اإلنسان من عمارات وسيارات وغير ذلك فكل ذلك‬
‫مصدره مادة األرض أو من النبات أو من الحيوان‪ ،‬وكل ذلك ملك هلل‬
‫تعالى‪ ،‬ففي تفسير الطربي‪﴿ :‬عن قتادة‪﴿ :‬واهلل خلقكم وما تعملون﴾‬

‫الفتح‪ :‬من اآلية ‪.14‬‬ ‫(((‬


‫يونس‪.66 :‬‬ ‫(((‬
‫النمل‪.91 :‬‬ ‫(((‬
‫يونس‪.31 :‬‬ ‫(((‬
‫النور‪ :‬من اآلية ‪.33‬‬ ‫(((‬
‫الحديد‪ :‬من اآلية ‪.7‬‬ ‫(((‬

‫‪247‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫(‪ )1‬بأيديكم﴾ (‪.)2‬‬


‫ـ والمخرتعات تنشأ من تطويع مواد األرض‪ ،‬وقابلية تحويل المواد‬
‫من مادة إلى مادة أخرى هي من خواص أودعها اهلل فيها فقد سخرها اهلل‬
‫اهَّلل َس َّخ َر َل ُك ْم َما فِي‬
‫لإلنسان لتقبل التحويل إلى مادة أخرى‪َ ﴿ :‬أ َل ْم َت َر َأ َّن َ‬
‫ض جمي ًعا مِنْ ُه‬‫ات َو َما فِي ْالَ ْر ِ‬ ‫ض﴾(‪﴿ ،)3‬وس َّخر َل ُكم ما فِي السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ‬ ‫ْالَ ْر ِ‬
‫يات ل ِ َق ْو ٍم َي َت َف َّك ُر َ‬
‫ون﴾ (‪.)4‬‬ ‫إِ َّن فِي َذل ِ َك َل ٍ‬

‫ـ أعضاء اإلنسان من أنف وعين وكلية‪ ...‬إلخ هي ملك هلل‪ُ ﴿ :‬ق ْل َم ْن‬
‫الس ْم َع َو ْالَ ْب َص َار َو َم ْن ُي ْخ ِر ُج‬ ‫ِ‬ ‫ير ُز ُق ُكم مِن السم ِ‬
‫ض َأ َّم ْن َي ْمل ُك َّ‬‫اء َو ْالَ ْر ِ‬ ‫ْ َ َّ َ‬ ‫َْ‬
‫اهَّلل‬
‫ون ُ‬ ‫ت َو ُي ْخ ِر ُج ا ْل َم ِّي َت مِ َن ا ْل َحي َو َم ْن ُيدَ ِّب ُر األمر َف َس َي ُقو ُل َ‬‫ا ْلحي مِن ا ْلمي ِ‬
‫َ َّ َ َ ِّ‬
‫ِّ‬
‫ون﴾(‪.)5‬‬ ‫َف ُق ْل َأ َفال َت َّت ُق َ‬
‫ـ والطعام الذي تأكله ليس مل ًكا لك ولم تحضره من كدك وتعبك إنما‬
‫هو ملك هلل وهو الذي أنعم به عليك‪ ،‬وكذلك المالبس التي تلبسها هي‬
‫مل ًكا هلل وليست مل ًكا لك وقد أنعم اهلل هبا عليك‪ ،‬لذلك ففي الحديث‪:‬‬
‫﴿من أكل طعا ًما ثم قال‪ :‬الحمد هلل الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من‬
‫غير حول مني وال قوة ُغفر له ما تقدم من ذنبه‪ ،‬ومن لبس ثو ًبا فقال‪ :‬الحمد‬
‫هلل الذي كساين هذا ورزقنيه من غير حول مني وال قوة غفر له ما تقدم من‬
‫ذنبه وما تأخر﴾(‪ ،)6‬ويف الحديث القدسي‪﴿ :‬يا عبادي كلكم ضال إال من‬
‫هديته فاستهدوين أهدكم‪ ،‬يا عبادي كلكم جائع إال من أطعمته فاستطعموين‬

‫الصافات‪.96 :‬‬ ‫(((‬


‫تفسير الطربي [جامع البيان يف تأويل القرآن] ـ مؤسسة الرسالة (ج‪ ،21 :‬ص‪.)70 :‬‬ ‫(((‬
‫الحج‪ :‬من اآلية ‪.65‬‬ ‫(((‬
‫الجاثـية‪.13 :‬‬ ‫(((‬
‫يونس‪.31 :‬‬ ‫(((‬
‫تحقيق األلباين‪ :‬حسن (انظر حديث رقم‪ 6086 :‬يف صحيح الجامع)‌‪.‬‬ ‫(((‬

‫‪248‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫أطعمكم‪ ،‬يا عبادي كلكم ٍ‬


‫عار إال من كسوته فاستكسوين أكسكم﴾(‪.)1‬‬
‫ـ اإلنسان ليس صاحب النعمة وال الذي أنعم هبا على نفسه‪ ،‬فاإلنسان‬
‫قد يظن أنه هو الذي أوجد النعمة لنفسه من عقله وكده وتعبه كما قال‬
‫قارون‪﴿ :‬إِن ََّما ُأوتِي ُت ُه َع َلى ِع ْل ٍم ِعن ِْدي﴾(‪ )2‬كالمال والمسكن والعمل‬
‫والجاه والسلطان فيظن أهنا ملك له وأنه مستحق لها‪ ،‬لذلك عند الموت‬
‫ال يريد أن يرتك النعم كالمال والمسكن والزوجة واألوالد والجاه‬
‫والسلطان أو نعم كالعين واألنف والصحة‪ ...‬إلخ‪ ،‬وألنه يظن أهنا مل ًكا له‬
‫ظالما فعند الموت تخرج روحه‬ ‫وال يحق ألحد أن يأخذها منه وإال كان ً‬
‫بصعوبة لتعلقها هبذه النعم‪ ،‬ويكره َم ْن يقبض روحه ألنه ال يشعر بأهنا‬
‫أمانة أو عارية يسرتدها صاحبها (وهو اهلل سبحانه)‪ ،‬وال يشعر أنه هو نفسه‬
‫اهَّلل َع َل ْي ِه َو َس َّل َم أن نقول إذا‬
‫ملك هلل تعالى‪ ،‬ولذلك علمنا الرسول َص َّلى ُ‬
‫تويف أحد‪﴿ :‬هلل ما أخذ وما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل﴾(‪.)3‬‬
‫ـ من أهم المشاعر الناشئة عن المعرفة الحقيقية بأن اهلل هو المالك هو‬
‫عدم الخوف من أي ابتالء ولو فقد كل شيء دفعة واحدة‪ ،‬ألن اإلنسان‬
‫إذا فقد شي ًئا ال يخصه وال يملكه لم ِ‬
‫يبك عليه‪ ،‬فما عنده من أمانة يأخذها‬
‫صاحبها؛ ألهنا تكون تحت تصرف صاحبها سواء بقيت معك أو أخذها‬
‫منك‪ ،‬وكذلك الرضا بقضاء اهلل وقدره؛ ألن اإلنسان وما معه هو ملك هلل‬
‫ومالك الشيء له الحق أن يفعل بما يملك ما يشاء‪.‬‬
‫ـ �صعوبة ال�شعور ب�أن اهلل هو املالك (�صعوبة ال�شعور باخل�ضوع)‪:‬‬
‫ـ ما يملكه اإلنسان من ممتلكات يمثل حياة اإلنسان وراحته ويجد‬
‫فيها متعه وشهواته‪ ،‬وبالتالي أصعب شيء على اإلنسان هو أن يتجرد من‬

‫((( تحقيق األلباين‪ :‬صحيح (انظر حديث رقم‪ 4345 :‬يف صحيح الجامع)‌‪.‬‬
‫((( القصص‪ :‬من اآلية ‪.78‬‬
‫((( قال الشيخ األلباين‪ :‬صحيح (سنن أبو داود ج‪ ،3 :‬ص‪ ،193 :‬برقم ‪.)3125‬‬

‫‪249‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫كل ما يملك لينسبه إلى مالكه الحقيقي وهو اهلل سبحانه (أي الشعور بأن‬
‫اهلل هو المالك) كما يتجرد من كل الصفات التي يعتز هبا كالقوة واإلرادة‬
‫والسمع والبصر لينسب كل األشياء إلى مالكها الحقيقي وهو اهلل سبحانه‪،‬‬
‫وأصعب شيء على النفس هو التجرد من كل الممتلكات واألهل والمال‬
‫والشهوات واالعرتاف بملكية هذه األمور لصاحبها وهو اهلل‪ ،‬فيصبح‬
‫عاري من كل شيء متجرد من كل شيء ال يملك شيئا وال حتى يملك‬
‫نفسه ‪ ،‬فيصبح ضعيفا واهلل هو القوي‪ ،‬فال تتحقق العبادة حتى يزول‬
‫تعظيم قيمة النفس والمال والممتلكات من قلب اإلنسان‪.‬‬
‫ـ والنفس فيها الكرب عن أن أحدا غيرها هو الذي يقوم على أمرها‬
‫ورعايتها كأهنا قاصرة أو عاجزة‪ ،‬فالنفس تريد أن يكون لها سلطة وزعامة‬
‫وأن تكون هي التي تدير نفسها‪.‬‬
‫ـ فالبد أن ينسب اإلنسان لنفسه كل صفات النقص والعوز والعجز‬
‫والحاجة والضعف ‪ ،‬وينسب كل صفات الكمال هلل ‪ ،‬وهذا معناه النقص‬
‫والضعف واالحتياج إلى اهلل ‪ ،‬والنفس ال تريد أن تكون تابعة لغيرها ‪،‬‬
‫تريد أن تكون مستقلة متحررة ذاتية معتمدة علي نفسها ال معتمدة علي‬
‫غيرها (اهلل سبحانه) فال تريد أن يكون فيها نقص أو عوز ‪ ،‬كما تريد أن‬
‫تكون مالكة تدير نفسها وترزق نفسها‪ ،‬واإلنسان يظن أنه غير محتاج‬
‫لغيره‪ ،‬والنفس ال تريد أن تخضع وتركع لمن يمن عليها ولمن له قدرة‬
‫عليها كما ترفض أن تعرتف بعجزها أمام من هو أقوى‪ ،‬فالنفس تريد أن‬
‫تتصرف كما لو كانت هي التي أوجدت نفسها أو أنه ال أحد أوجدها‪ ،‬رغم‬
‫أنه يف االقتناع النظري تعلم بأن لها خالق‪َ ﴿ :‬أ ْم ُخلِ ُقوا مِ ْن َغ ْي ِر َش ْي ٍء َأ ْم ُه ُم‬
‫ون﴾(‪.)1‬‬ ‫ا ْل َخال ِ ُق َ‬

‫الطور‪35 :‬‬ ‫(((‬

‫‪250‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فالنفس تأبي أن تنكسر وتريد أن تكون هي المالكة وال تريد أن يمن‬


‫أحد عليها بعطاء أو يتكرم عليها بفضل‪ ،‬وأصعب شعور على النفس هو‬
‫الذل فال تريد أن تركع وتسجد‪.‬‬
‫*******‬
‫ـ املعرفة احلقيقية ملعنى �صفات الإنعام‪:‬‬
‫ـ هناك أشياء كثيرة مصممة ومعدة خصيصا لتكون نافعة لإلنسان‬
‫ومحسوبة لتالئم وتناسب احتياجاته بمنتهى الدقة‪ ،‬فمثال الزروع لمن‬
‫تصنع الفاكهة رغم أن الزروع ال تحتاج إليها لنفسها كما أهنا ال تعرف‬
‫االنسان وال تعرف احتياجاته لتخرج له ثمرة تناسبه‪ ،‬فهناك من أمرها‬
‫بإخراج هذه الفاكهة لإلنسان‪ ،‬وكذلك البقرة تخرج لبنا زائدا عن حاجة‬
‫أوالدها فلمن تخرجه؟‪ ،‬وكذلك النحلة لمن تخرج العسل الزائد عن‬
‫حاجتها؟‪ ،‬وكيف تم ضبط مقادير العناصر يف جسم االنسان بحيث لو‬
‫زادت أو نقصت قليال لمات االنسان‪ ،‬وهذا معناه أن هناك من يهتم‬
‫بحالك ويعطيك ما تحتاج إليه وبال مقابل‪ ،‬فهذا أمر عجيب يدعو إلى‬
‫الشعور بالمهابة والحب والشكر واالمتنان لصاحب هذا العطاء‪ ،‬فمن‬
‫شعر هبذه المشاعر هو فقط الذي قد عرف معنى كلمة (نِعم)‪ ،‬أما غيره‬
‫فيقولون وال يدرون ما يقولون!‪.‬‬
‫ـ أنت ال تستطيع أن تصنع الربوتين أو الزروع أو البرتول‪ ،‬وما تدفعه‬
‫من ثمن لهذه األشياء كان عليك أن تدفعه لمن صنع لك هذه األشياء‪،‬‬
‫ولكنه صنع ذلك لك مجانًا فال يمنعك من أخذ هذه األشياء‪ ،‬وما تدفعه‬
‫إنما هو لمن أعد لك هذه األشياء ونقلها لك‪.‬‬
‫ـ فالمال الذي تدفعه عندما تشرتي فاكهة ً‬
‫مثل ليس هو ثمن الفاكهة‪،‬‬
‫فال يستطيع أحد أن يدفع ثمن الفاكهة‪ ،‬إنما هذا المال سبب وهذه الفاكهة‬

‫‪251‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫هي مجانية لمن يريد اهلل إعطاءها له‪ ،‬فالبائع ليس صاحبها وال الزارع‬
‫وإنما صاحبها هو الذي صنعها وهو اهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬فال يستطيع أحد‬
‫أن يدفع ثمن نعمة العين أو األنف أو الماء أو غيرها‪.‬‬
‫ـ وثمن البيضة يأخذها من صنعها وليس من أعدها أو جمعها‪ ،‬ومن‬
‫صنعها ليست الدجاجة فهي ليس لها عقل يستطيع صناعتها وإنما صنعها‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وإنما أنت أحضرت القمح والحبوب للدجاجة‪،‬‬
‫ونفس الشيء أنت لم تصنع الحبوب وال تعرف كيفية صناعتها وال ما‬
‫بداخلها فأنت فقط تسقي الماء‪ ،‬فالنِعم مجانية ومقصودة لإلنسان‪.‬‬
‫ـ كل األشياء مسخرة ومفيدة لإلنسان‪ ،‬فكل شيء نِعم لإلنسان‪،‬‬
‫فاإلرادة نِعمة‪ ،‬والعقل نِعمة‪ ،‬والروح التي يحيا هبا نِعمة‪ ،‬والعين نِعمة‪،‬‬
‫واللسان نِعمة‪ ،‬والماء نِعمة‪ ،‬والهواء نِعمة‪ ،‬والمال والزوجة واألوالد‬
‫نِعمة‪ ،‬والبرتول يف باطن األرض نِعمة‪ ،‬وكل شيء هو نعم من اهلل سبحانه‪.‬‬
‫ـ فمن عرف حقيقة النِعمة فإنه يتعامل مع النِعم على أهنا ملك هلل وأهنا‬
‫رزق لإلنسان مقدر ال دخل لإلنسان فيه وال يزيد أو ينقص بسعيه أو عدم‬
‫عظيما ويحب من‬ ‫ً‬ ‫فرحا‬
‫سعيه‪ ،‬وأهنا هدية عظيمة أهديت له فيفرح هبا ً‬
‫أعطاها له‪ ،‬أما الغافل فإنه يتعامل مع النعم على أنه مالكها وهو الذي أتى‬
‫هبا بكده وسعيه‪ ،‬أو أهنا موجودة من تلقاء نفسها‪ ،‬أو أن غيره من البشر هو‬
‫الذي أوجدها وأعطاها له‪ ،‬أو أن الزمان أو الدنيا أو األسباب هي التي‬
‫أوجدهتا‪ ،‬ويتعامل مع النعم على أهنا تزيد وتنقص حسب سعي اإلنسان‬
‫‪-‬يف نظره‪ -‬رغم وجود اليقين التام بأن النعم ملك هلل وأن اهلل هو الذي‬
‫يعطي النعم ويسلبها بما يشاء‪ ،‬وأنه النافع الضار وغيره ال ينفع وال يضر‪،‬‬
‫وأن الرزق مضمون ومقدر!‪.‬‬
‫ـ كل الناس يعرتفون بأن كل شيء هو نعم من اهلل تعالى عليهم‪،‬‬

‫‪252‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ولكنهم يتعاملون مع النعم على عكس ذلك تما ًما كأهنم هم الذين‬
‫أوجدوها ألنفسهم ولم تأهتم من اهلل وكأهنا مل ًكا لهم وليست مل ًكا هلل‬
‫تعالى‪ ،‬والملكية قوة‪ ،‬فيحسبون أهنم أقوياء فال يخضعون لغير أنفسهم‪.‬‬
‫وبدل من أن تكون النِعم سب ًبا لمعرفة قدرة اهلل وقوته وإنعامه اغرت‬
‫ً‬ ‫ـ‬
‫هبا اإلنسان كأهنا ملك له وكأنه أوجدها لنفسه واعتربها قوة له‪ ،‬لذلك ال‬
‫يريد أن يستسلم‪.‬‬
‫ـ حب اهلل لإنعامه والذل لالحتياج لنعمائه‪:‬‬
‫ـ األصل أن اإلنسان محروم من كل النعم ثم أعطاه اهلل هذه النعم‪،‬‬
‫وإذا ُحرم اإلنسان من كل النعم فهو ميت أو عدم؛ ألن كل شيء هو نِعم‬
‫لإلنسان‪ ،‬فاألصل أنك أعمى ثم أبصرت‪ ،‬فانظر كيف يشعر إنسان أعمى‬
‫إذا أبصر‪ ،‬إنه عندئذ فقط يشعر بنعمة البصر‪ ،‬ويشعر بحب عميق جدً ا‬
‫ون بِاهَّللِ‬
‫ف َت ْك ُف ُر َ‬
‫لمن أنعم عليه بأن جعله يبصر‪ ،‬وهكذا يف كل النعم‪َ ﴿ :‬ك ْي َ‬
‫َو ُكنْت ُْم َأ ْم َواتًا َف َأ ْح َياك ُْم﴾(‪.)1‬‬
‫ـ إذا لم يكن لديك شي ًئا على اإلطالق من طعام أو شراب وأتاك أحد‬
‫شاكرا‪ ،‬وهذا الماء بالنسبة لك هو نعيم‬
‫ً‬ ‫بشربة ماء فأنت حينئذ تكون ممتنًا‬
‫ونعمة كبيرة؛ ألنه جاءك ولم تكن تستحقه وهو ذو قيمة كبيرة وأنت يف‬
‫احتياج كبير له‪ ،‬فالبد أن تشعر بأنك تعيش يف نعيم مهما كان حالك من‬
‫الفقر والمرض‪.‬‬
‫ـ فالنعم أمانة أو عارية يسرتدها صاحبها وهو اهلل سبحانه يف أي وقت‬
‫شاء‪ ،‬لذلك فأنت تشكر اهلل لما أعطاك‪ ،‬وال تكرهه لما سلب منك؛ ألنه‬
‫أعطاك أمانة تمتعت هبا فرتة من الزمن بغير استحقاق منك‪ ،‬فأنت تشكره‬
‫لما استفدت به من هذه النعمة خالل هذه الفرتة‪ ،‬وكذلك ال يحزن العاقل‬

‫((( البقرة‪.28 :‬‬

‫‪253‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫إذا فقد نعمة؛ ألنه ال يملك شي ًئا ً‬


‫أصل فهذا هو األمر الطبيعي بالنسبة له‪.‬‬
‫ـ فيتحقق الشعور بأن اهلل هو المالك وأن له صفات اإلنعام بأن يشعر‬
‫اإلنسان بعظمة نعم اهلل عليه‪ ،‬وبمدى احتياجه إلى هذه النعم وأنه ال تقوم‬
‫حياته بغيرها وأنه غير مستحق ألي منها‪ ،‬وأنه لم يحصل عليها ال من‬
‫كسب وال كد وال تعب فهذه مجرد أسباب وإنما هذه النعم هي محض‬
‫تكرم وإنعام من اهلل العظيم إلى العبد الفقير المعدوم الذي ال يملك حتى‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ـ أنت إذا ُطلِب منك أن تبيع عينك مقابل مائة ألف جنيه فهل توافق؟‬
‫طب ًعا ال‪ ،‬وإذا طلب منك أن تبيع سمعك مقابل مائة ألف جنيه فهل توافق؟‬
‫طب ًعا ال‪ ،‬وهكذا‪ ،‬إذن أنت تملك مئات اآلالف من الجنيهات‪ ،‬وال يعرف‬
‫قيمة النعمة إال من فقدها‪.‬‬
‫ـ إذا سلبت النعم من اإلنسان فأصبح بغير عين وال أنف وال مال‬
‫وال سلطان فعندئذ يشعر بالضعف والعجز والنقص والخضوع‪ ،‬وإذا لم‬
‫تسلب هذه النعم من اإلنسان فينبغي أن يشعر بنفس هذه المشاعر (أي‬
‫بالضعف والعجز والنقص والخضوع) ألهنا ليست مل ًكا له‪ ،‬فحقيقته‬
‫أنه معدوم مسلوب النعم ال يملك شي ًئا‪ ،‬وينبغي عليه أن يشعر باالهنزام‬
‫واالستسالم والتذلل لمن يعطي هذه النعم له‪ ،‬وينبغي أن يشعر أن الذي‬
‫ٍ‬
‫ومتعال بما يمتلك من هذه النعم التي يعطيها‬ ‫يعطيه هذه النعم قوي متكرب‬
‫لهذا الفقير المحتاج المسكين الذليل‪ ،‬كما ينبغي أن يشعر بالحب لمن‬
‫يمن عليه ويتكرم عليه ويتفضل عليه هبذا اإلحسان بغير أن يكون مستح ًقا‬
‫لهذا العطاء‪ ،‬كما ينبغي أن يشعر أنه ال يستطيع هو بنفسه مهما سعى وعمل‬
‫أن يحصل على هذه النعم ويجلبها لنفسه فيشعر بالتوكل واالعتماد على‬
‫من يعطيها له‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ فإذا لم يشعر اإلنسان هبذه المشاعر تجاه الخالق‪ ،‬فهذا معناه أنه ال‬
‫يزال ً‬
‫غافل ال يعرف معنى (الخالق)‪.‬‬
‫مال وبيتًا ومرت ًبا شهر ًيا وزوجك وتكفل‬ ‫رجل أعطاك ً‬ ‫ً‬ ‫ـ لو أن‬
‫برعايتك وتودد إليك فلماذا ال تحبه؟ فيجب عليك ً‬
‫أول أن تشعر بالتجرد‬
‫تأت بالنعم من كدك أو تعبك وأهنا ليست‬ ‫واالحتياج إلى النعم وأنك لم ِ‬
‫مل ًكا لك وأنك يف أمس الحاجة إليها‪ ،‬ثم تتصور أن أحدً ا يعطيك هذه‬
‫اللقمة التي تأكلها عن جوع واحتياج وبدون ثمن وال مقابل فتحبه‪،‬‬
‫وكذلك تصور أن أحدً ا يعطيك ما تلبس وما تملك من عنده وبال مقابل‪،‬‬
‫إنك عندئذ تشعر بالحب له‪ ،‬أما إذا كنت تتصور أن ما عندك إنما هو من‬
‫كدك وتعبك وأنه ملك لك أو أن أحدً ا أعطاك ح ًقا لك وواج ًبا عليه وهو‬
‫ملك لك فلن تشعر بالحب هلل‪.‬‬
‫ـ وتصور أنك تقابلت مع شخص هو الذي كان قد أنفق عليك ورعاك‬
‫طوال سنوات عمرك منذ أن كنت رضي ًعا وأعطاك السكن الذي تسكن فيه‬
‫وكل شيء فبماذا تشعر؟ ولماذا ال تجد مثل هذا الشعور واهلل هو المالك‬
‫لكل شيء المنعم عليك وأنت بين يديه وال تغيب عنه طول وقتك‪.‬‬
‫ـ وتصور لو أنك ذهبت إلى مكان ما وقيل لك أن مصاريف اإلقامة‬
‫والطعام والشراب والملبس على حساب فالن‪ ،‬تصور ً‬
‫فعل أن إقامتك يف‬
‫هذه الدنيا مدفوعة الحساب (فأنت ال تملك أن تدفع حساب شربة ماء‬
‫واحدة) إذا لماذا ال تحب اهلل؟ ولماذا تتوكل على غير اهلل كأن تعتمد على‬
‫نفسك؟ ولماذا يكون كل همك يف إحضار الرزق؟‬
‫ـ إذا شعرت ً‬
‫فعل بأن النعم من اهلل فإنك إذا أكلت أكلة أو شربت شربة‬
‫فإنك تستشعر أن هذه األكلة أو هذه الشربة هي ملك هلل ليس لك فيها‬
‫حق‪ ،‬ولم تستطع أن تأكل اللقمة أو تشرب الشربة إال بعد أن أذن اهلل لك‬

‫‪255‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫خاصا بك ومل ًكا‬


‫بذلك‪ ،‬وكذلك تستشعر أن السكن الذي تسكن فيه ليس ً‬
‫لك وإنما هو ملك هلل ومحض تكرم من اهلل عليك‪ ،‬بل إن يدك وجسمك‬
‫ليس مل ًكا لك وإنما هو ملك هلل تعالى وكونه معك فهو محض تكرم من‬
‫اهلل عليك‪.‬‬
‫ـ املعرفة احلقيقية ب�ضعف االن�سان عند �سماع كالم اخلالق‪:‬‬
‫ـ إذا وقفت أمام ملك من الملوك تستمع إليه وهو يكلمك فقد ترتعد‬
‫فرائصك ويقشعر بدنك ويقف شعر رأسك وانت مطأطئ الرأس‪ ،‬وإذا‬
‫طلب منك شيئا فقد تتلعثم وترتبك يف الرد وذلك من هول وعظمة المتكلم‬
‫يث‬‫ـ فما بالك وملك الملوك يتحدث إليك‪﴿ :‬اهَّلل ن ََّز َل َأحسن ا ْلح ِد ِ‬
‫ْ َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫كِتَا ًبا ُمت ََشابِ ًها َم َثانِ َي َت ْق َش ِع ُّر مِنْ ُه ُج ُلو ُد ا َّل ِذي َن َي ْخ َش ْو َن َر َّب ُه ْم ُث َّم َتلي ُن ُج ُلو ُد ُه ْم‬
‫ِ‬
‫َو ُق ُلو ُب ُه ْم إلى ِذك ِْر اهَّللِ﴾(‪ُ ﴿ ،)1‬ق ْل آمِنُوا بِ ِه َأ ْو َل ُت ْؤمِنُوا إِ َّن ا َّل ِذي َن ُأو ُتوا ا ْل ِع ْل َم‬
‫ون ُس ْب َح َ‬
‫ان‬ ‫ان ُسجدً ا (‪َ )107‬و َي ُقو ُل َ‬ ‫ون ل ِ ْ َ‬
‫ل ْذ َق ِ‬ ‫خ ُّر َ‬‫مِن َقبلِ ِه إِ َذا ي ْت َلى َع َلي ِهم ي ِ‬
‫ْ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ‬
‫ون َو َي ِزيدُ ُه ْم‬ ‫ِ‬
‫ل ْذ َقان َي ْب ُك َ‬ ‫ِ‬
‫ون ل ْ َ‬ ‫ِ‬
‫ول (‪َ )108‬و َيخ ُّر َ‬ ‫َان َوعْدُ َر ِّبنَا َل َم ْف ُع ً‬ ‫َر ِّبنَا إِ ْن ك َ‬
‫ُخ ُشو ًعا﴾(‪.)2‬‬
‫اهَّلل َو ِج َل ْت‬ ‫ِ‬ ‫ـ ويف تفسير البحر المديد‪﴿﴿ :‬إِنَّما ا ْلم ْؤمِن َ ِ‬
‫ُون ا َّلذي َن إِ َذا ُذك َر ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ُق ُلو ُب ُه ْم﴾(‪ )3‬خافت واقشعرت لذكره استعظا ًما له وهيبة من جالله﴾( )‪،‬‬
‫‪4‬‬

‫ويف تفسير القرطبي‪( :‬لما قرأ النبي ﷺ (أفمن هذا الحديث تعجبون‬
‫مبتسما حتى‬ ‫ً‬ ‫وتضحكون وال تبكون وأنتم سامدون) لم ُير ضاح ًكا إال‬
‫مات ﷺ)(‪.)5‬‬

‫الزمر‪ :‬من اآلية ‪.23‬‬ ‫(((‬


‫اإلسراء‪.109 – 107 :‬‬ ‫(((‬
‫األنفال‪ :‬من اآلية ‪.2‬‬ ‫(((‬
‫تفسير البحر المديد ‪-‬الناشر‪ :‬الدكتور حسن عباس زكي‪ -‬القاهرة (‪.)4 / 3‬‬ ‫(((‬
‫تفسير القرطبي ‪-‬دار الكتب المصرية‪ -‬القاهرة (ج‪ ،17 :‬ص‪.)124 :‬‬ ‫(((‬

‫‪256‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ جاء يف فتح القدير‪﴿﴿ :‬وهم من خشيته مشفقون﴾ فإذا أذن لهم‬


‫يف الشفاعة فزعوا لما يقرتن بتلك الحالة من األمر الهائل‪ ...‬وقيل هذا‬
‫الفزع يكون للمالئكة يف كل أمر يأمر به الرب﴾(‪ ،)1‬ويف تفسير القرطبي‪:‬‬
‫﴿وهم من خشيته مشفقون» [األنبياء‪ ]28 :‬والمعنى‪ :‬أنه إذا أذن لهم يف‬
‫الشفاعة وورد عليهم كالم اهلل فزعوا‪ ،‬لما يقرتن بتلك الحال من األمر‬
‫الهائل والخوف أن يقع يف تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير﴾(‪.)2‬‬
‫ـ جاء يف تفسير المحرر الوجيز‪﴿﴿ :‬يوم يجمع اهلل الرسل فيقول ماذا‬
‫أجبتم قالوا ال علم لنا﴾ [المائدة‪ ]109 :‬واختلف الناس يف معنى قولهم‬
‫عليهم السالم ﴿ال علم لنا﴾ فقال الطربي‪ :‬ذهلوا عن الجواب لهول‬
‫المطلع‪ ،‬وذكر عن الحسن أنه قال‪ :‬ال علم لنا من هول ذلك اليوم‪ ،‬وعن‬
‫منزل ذهلت فيه العقول فقالوا‪ :‬ال علم لنا‪ ،‬ثم نزلوا‬ ‫السدي أنه قال‪ :‬نزلوا ً‬
‫منزل آخر شهدوا على قومهم‪ ،‬وعن مجاهد أنه قال‪ :‬يفزعون فيقولون ال‬ ‫ً‬
‫علم لنا﴾(‪.)3‬‬
‫ول َما َذا َأ َج ْبت ُُم ا ْل ُم ْر َسلِي َن‬ ‫ـ ويف تفسير النيسابوري‪﴿﴿ :‬ويوم ين ِ‬
‫َاد ِ‬
‫يه ْم َف َي ُق ُ‬ ‫ََْ َُ‬
‫ون﴾ [القصص‪،65 :‬‬ ‫(‪َ )65‬ف َع ِم َي ْت َع َل ْي ِه ُم ْالَ ْن َبا ُء َي ْو َمئِ ٍذ َف ُه ْم َل َيت ََسا َء ُل َ‬
‫‪ ]66‬ومعنى (عميت عليهم األنباء) أن أخبار المرسلين والمرسل إليهم‬
‫صارت كالعمى عليهم جمي ًعا ال يهتدون إليهم فهم ال يتساءلون كما‬
‫بعضا يف المشكالت ألهنم متساوية األقدام يف العجز‬ ‫يسأل بعض الناس ً‬
‫عن الجواب‪ ،‬وإذا كانت األنبياء لهول ذلك اليوم يتلعثمون يف الجواب‬
‫عن مثل هذا السؤال كما قال سبحانه‪﴿ :‬يوم يجمع اهلل الرسل فيقول ماذا‬

‫((( فتح القدير للشوكاين ‪-‬دار ابن كثير‪ -‬دمشق (ج‪ ،4 :‬ص‪.)461 :‬‬
‫((( تفسير القرطبي ‪-‬دار الكتب المصرية‪ -‬القاهرة (ج‪ ،14 :‬ص‪.)295 :‬‬
‫((( تفسير المحرر الوجيز ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (ج‪ ،2 :‬ص‪.)256 :‬‬

‫‪257‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أجبتم قالوا ال علم لنا﴾ فما ظنك بضالل أممهم؟!(‪.)1‬‬


‫ـ املعرفة احلقيقية ب�صول كالم من اخلالق للب�شر‪:‬‬
‫ـ إذا ألقى أحد الرؤساء أو الزعماء أو القادة خطبة فإنك تجد اهتمام‬
‫الناس واإلعالم بكالم وتصريحات الرؤساء والزعماء وتحليل أقوالهم‪،‬‬
‫وذلك ألنه طالما أن الكالم صادر عن مسئول كبير أو عن عظيم فكالمه‬
‫مهم وعظيم يهتم به الناس‪ ،‬وإذا أهمل الناس وتجاهلوا كالم زعيم من‬
‫الزعماء فهذا يعني أن ذلك الزعيم ليس ذو أهمية يف نظرهم‪ ،‬إذن عظمة‬
‫الكالم تأيت من عظمة قائلها‪ ،‬فالقرآن هو خطاب اهلل إلى البشر‪ ،‬فإذا كنت‬
‫ال تشعر بقدر وعظمة القرآن‪ ،‬فإن القرآن يف مشاعرك هو كالم عادي مثل‬
‫كالم أي شخص عادي‪ ،‬وإن كان يف االقتناع هو كالم اهلل العظيم وهو‬
‫القرآن العظيم‪.‬‬
‫ـ وجود كالم ليس من البشر هو أمر مثير‪ ،‬ونزول كالم من الخالق‬
‫ألهل األرض هو أمر يف غاية األهمية واإلثارة‪ ،‬ولو علم الناس أن هناك‬
‫كال ًما سوف ينزل من الخالق يف وقت ما لكان العالم كله يف ترقب وانتظار‬
‫لمعرفة هذا الكالم‪ ،‬لكن كل هذا ال يثير دهشة وانتباه اإلنسان الغافل‬
‫الجاهل؛ ألنه غير منتبه لخطورة معنى كالم اهلل للبشر فهو جاهل بكالم‬
‫اهلل رغم يقينه التام بنزول كالم اهلل للبشر!‬
‫ـ فتصور أننا ال نعرف الطريقة التي يصل هبا كالم اهلل إلينا ولم يصلنا‬
‫شي ًئا من كالمه ثم فجأة سمعنا أن أحد الناس قال أنَّه نزل إليه ملك مرسل‬
‫من عند اهلل وأبلغه بكالم اهلل وكلفه تبليغ كالمه ماذا يكون موقفك ورد‬
‫فعلك؟ إنك سوف تندهش وتنبهر من هول المفاجئة وخطورة الحدث‬
‫وستشتاق إلى معرفة ماذا يقوله ربنا وماذا يريده منا وستعيش حياتك كلها‬

‫((( تفسير النيسابوري ‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت (ج‪ ،5 :‬ص‪.)355 :‬‬

‫‪258‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫بنا ًء على هذا الحدث‪ ،‬فهذا ما كنت تنتظره وتتوقعه‪.‬‬


‫ـ لو كان القرآن الذي بين أيدينا اآلن هو كالم لرجل يف عالم اآلخرة‬
‫ينصحنا فيه ويعرفنا بما يكون من أمر اآلخرة لكان له شأن عظيم‪ ،‬فما‬
‫بالك وهو كالم الخالق وهو يخربنا بما يكون من أمر المستقبل يف اآلخرة‪.‬‬
‫ـ تصور رسالة نزلت إلينا من السماء مكتوب فيها‪« :‬مِن اهلل تعالى إلى‬
‫مثل فكيف تشعر بكالم اهلل وكيف تتعامل مع كالم اهلل من‬ ‫الناس‪ً »...‬‬
‫أمرا عاد ًيا وإنما يدعو إلى‬
‫العظمة؟‪ ،‬فإن نزول القرآن من عند اهلل ليس ً‬
‫الشعور باالنبهار والوجل والتعظيم‪.‬‬
‫ـ ولكنك تجد أن القرآن نزل على اإلنسان فلم يتأثر به يف حين لو نزل‬
‫اش ًعا ُمت ََصدِّ ًعا مِ ْن َخ ْش َي ِة اهَّللِ‪َ ﴿ :‬ل ْو َأن َْز ْلنَا َه َذا‬
‫القرآن على جبل َلر َأي َته َخ ِ‬
‫َ ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آن َع َلى َج َب ٍل َل َر َأ ْي َت ُه َخاش ًعا ُمت ََصدِّ ًعا م ْن َخ ْش َية اهَّلل﴾(‪ ،)1‬وما أكثر ما‬ ‫ا ْل ُق ْر َ‬
‫ورد عن الصحابة والتابعين عن تأثرهم بالقرآن لمجرد أهنم شعروا أنه‬
‫كالم الخالق العظيم سبحانه إلى العبيد من البشر‪.‬‬
‫ـ إن الذي يحمل مصح ًفا وال ينتبه لخطورة ما يحمل وبالتالي ال يتأثر‬
‫به وال يعمل به فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا‪َ ﴿ :‬م َث ُل ا َّل ِذي َن ُح ِّم ُلوا‬
‫ار َي ْح ِم ُل َأ ْس َف ًارا﴾ [الجمعة‪]5 :‬‬ ‫وها كَم َث ِل ا ْل ِ‬
‫ح َم ِ‬ ‫ِ‬
‫الت َّْو َرا َة ُث َّم َل ْم َي ْحم ُل َ َ‬
‫ـ الغفلة عن نزول كالم الخالق معناه أن اإلنسان يعيش كأن اهلل خلق‬
‫الخلق وتركهم يفعلون ما شاءوا ولم يخربهم بمراده منهم‪َ ﴿ :‬أ َف َح ِس ْبت ُْم‬
‫َأن ََّما َخ َل ْقنَاك ُْم عب ًثا َو َأ َّن ُك ْم إِ َل ْينَا َل ُت ْر َج ُع َ‬
‫ون﴾(‪.)2‬‬
‫********‬

‫((( الحشر‪ :‬من اآلية ‪.21‬‬


‫((( المؤمنون‪.115 :‬‬

‫‪259‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫اخلامتة‬
‫ـ هناك مفهوما خاطئا عن معنى الجهل بالشيء‪ ،‬فالكثير يحسب أن‬
‫معناه عدم السماع أو عدم الفهم لهذا الشيء‪ ،‬ولكن هناك سبب ثالث‬
‫للجهل وهو عدم االنتباه لخطورة ذلك األمر‪ ،‬وهذا معناه أنك مهما‬
‫سمعت عن األمر وفهمت معناه فأنت ال تزال جاهال به طالما أنك ال‬
‫تزال لم تنتبه له‪ ،‬وهذا النوع من الجهل هو الغفلة‪.‬‬
‫ـ فاإلنسان يكون جاهال باألمر إذا لم يسمع عنه‪ ،‬ويكون جاهال باألمر‬
‫إذا سمع عن األمر ولكن لم يفهم معناه‪ ،‬ويكون جاهال باألمر إذا سمع‬
‫عنه وفهمه ولكن لم ينتبه لخطورته‪ ،‬فالجاهل باهلل واآلخرة هو سمع وفهم‬
‫ولكن لم ينتبه‪ ،‬وهذا هو النوع الثالث من الجهل وهو الغفلة‪.‬‬
‫ـ معرفة البعض بوجود الخالق ووجود اآلخرة ضاع منها الشرط‬
‫الثالث (االنتباه) رغم أن اليقين عندهم باهلل واآلخرة جازما‪ ،‬فأصبحوا‬
‫ال يدركون وال ينتبهون لخطورة ما يقولون ويوقنون‪ ،‬فهؤالء أعرضوا عن‬
‫معرفة اهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ الجاهل باألمر لعدم االنتباه هو سمع وفهم األمر فلديه أصل المعرفة‬
‫لذلك هو يحسب أنه يعرف وحقيقة أمره أنه جاهل باألمر‪ ،‬لذلك قد‬
‫يحسب االنسان أنه يعرف اهلل واآلخرة ويف الحقيقة هو جاهل تماما باهلل‬
‫واآلخرة وذلك رغم وجود اليقين التام باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ فالغافل عن اهلل واآلخرة هو ال يزال جاهال ال يعرف أن له خالقا‬
‫وأن هناك آخرة رغم وجود اليقين التام وهو كالجاهل الذي لم يسمع‬

‫‪260‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫عن وجود اهلل واآلخرة‪ ،‬فال يزال البعض جاهال بوجود الخالق واالخرة‬
‫رغم يقينهم التام باهلل واآلخرة‪ ،‬وكل واحد منا يحسب أنه أبعد ما يكون‬
‫عن هذا الجهل‪ ،‬والسبب أنه ال يعرف أن الغفلة هي نوع من الجهل‪ ،‬فهذا‬
‫الكتاب هو دعوة الى تحقيق المعرفة الحقيقية بوجود الخالق واآلخرة‬
‫من جديد!‬
‫ـ فالغفلة عن اهلل واآلخرة هي جهل حقيقي بوجود الخالق واالخرة‬
‫وليست جهال مجازيا وهي جهل متعمد ال عذر لإلنسان فيه‪ ،‬والجهل‬
‫معناه أن االنسان ال عالقة له بالشيء الذي يجهله فال يؤثر يف مشاعره‬
‫أو انفعاالته أو حياته فال صلة له به‪ ،‬وقد يكون عمله مفتعال أو عادة أو‬
‫تقليدا أو مجرد مظاهر روتينية وليس ناشئا عن تأثره باألمر‪ ،‬فالجهل‬
‫باهلل واآلخرة هو المانع من تحقيق أساس العبادة وهو الحب والخوف‬
‫والرجاء وهو المانع من تحقيق أعمال العبادة الباطنة كالشعور بالخضوع‬
‫والرضا والتوكل وهو المانع من تحقيق مفهوم العبادة فال يعيش االنسان‬
‫حياته على مبدأ الخضوع وهو سبب كل الشرور يف المجتمع وهو السبب‬
‫الذي يمنع اإلنسان من الهداية‪ ،‬وعكس ذلك هو معرفة اهلل واالخرة فهي‬
‫مفتاح الهداية الذي به هتتدي وتكون من أهل الجنة‪ ،‬وهي مفتاح السعادة‬
‫الذي يجعلك تعيش سعيدً ا يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ـ كل لذات الدنيا وآالمها ليست بشيء أمام لذات وآالم اآلخرة‪،‬‬
‫وسنوات العمر الطويلة ليست بشيء أمام الخلود يف اآلخرة‪ ،‬وانتقال‬
‫اإلنسان إلى حياة أخرى من جديد هو أمر خطير ومثير‪ ،‬ورغم ذلك‬
‫فالبعض ال تتأثر مشاعرهم وال همومهم وال أهدافهم وال حياهتم إال‬
‫بأمور الدنيا‪ ،‬وذلك ألهنم لم ينتبهوا لمدى خطورة الحياة يف اآلخرة‪،‬‬

‫‪261‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫فهؤالء جاهلين باآلخرة ليس ألهنم لم يسمعوا عنها أو ألهنم لم يفهموا‬


‫معناها ولكنه جهل لعدم االنتباه لخطورة األمر‪.‬‬
‫ـ فالطبيعي أنه بمجرد أن يعرف اإلنسان بوجود الخالق واآلخرة‬
‫ويوقن بذلك فإن حياته كلها من مشاعر وأهداف وطموحات وسلوك‬
‫وتصرفات وانفعاالت وفرح وحزن وغضب وأخالق وكالم ونية وعمل‬
‫كبيرا‪ ،‬وسوف تتغير حياته بزاوية مائة وثمانين درجة‪.‬‬
‫سوف تتأثر تأثرا ً‬
‫ـ لكن المشكلة أن الكثير من الناس ال يعلمون أن مجرد المعرفة‬
‫الحقيقية بالخالق واآلخرة (مع وجود اليقين) هو أمر خطير جدً ا ومؤثر‬
‫جدً ا إلى هذه الدرجة‪ ،‬لكنهم سوف يعلمون ذلك عندما يجدون أنفسهم‬
‫واقفين على أرض المحشر يف اآلخرة‪.‬‬
‫ـ فإذا لم تتأثر حياة اإلنسان باهلل واآلخرة هبذا التأثر الكبير جدً ا‪ ،‬أو كان‬
‫تأثرها قليل جدً ا أو شكل ًيا يف بعض المظاهر فهذا يدل على أن اإلنسان إما‬
‫موقن بالخالق واآلخرة‪.‬‬‫ٍ‬ ‫أنه ال يزال لم يعرف الخالق واآلخرة أو أنه غير‬
‫ـ الغفلة عن اهلل واآلخرة تؤدي إلى شعور خادع بقيمة الدنيا فيراها‬
‫االنسان عظيمة القيمة رغم ضآلتها وفنائها ألنه ال يرى غيرها‪ ،‬وبالتالي‬
‫تتعلق مشاعره وهمومه وأهدافه بالدنيا وال تتعلق باهلل واآلخرة‪.‬‬
‫ـ فال تتحقق العبادة حتى يزول تعظيم قيمة النفس والمال والممتلكات‬
‫من قلب اإلنسان‪ ،‬وال يزول ذلك التعظيم إال بزوال الغفلة عن اهلل واآلخرة‬
‫وتحقيق المعرفة الحقيقية‪ ،‬فالمانع من تحقيق العبادة هو غفلة االنسان‬
‫عما يوقن به‪ ،‬فهو يوقن بالخالق واآلخرة ونزول كالم الخالق للناس على‬
‫رسله ويوقن بأن الدنيا ضئيلة وزائلة وال قيمة لها وأن الحياة الحقيقية‬

‫‪262‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫األبدية يف اآلخرة ورغم ذلك ال يحقق العبادة ألنه غافل عن خطورة ما‬
‫يوقن به‪.‬‬
‫ـ فلكي تتحقق العبادة البد من تغيير طبيعة تفكير االنسان بدوام‬
‫التذكر والتفكر من خالل المقارنة بين صفات الخالق والمخلوق وبين‬
‫حقيقة اآلخرة والدنيا‪ ،‬وبالتالي تتغير نظرة االنسان لألشياء ويرى األشياء‬
‫على حقيقتها وبالتالي يرى عظمة الخالق وخطورة اآلخرة ويرى ضعف‬
‫نفسه وضآلة الدنيا وبالتالي تتعلق مشاعره وهمومه وأهدافه باهلل واآلخرة‬
‫وال تتعلق بالدنيا‪ ،‬فتتغير أهدافه وهمومه ومشاعره ويصبح إنسانا جديدا‬
‫بعقل وقلب جديدين تماما‪ ،‬وأصعب شيء على االنسان هو أن يغير‬
‫نظرته للحياة ويغير أهدافه التي يعيش لها ويغير همومه ويغير مشاعره‬
‫فيصبح يحب شيئا غير الذي كان يجب ويرجو شيئا غير الذي كان يرجو‬
‫ويخاف من شيء آخر غير الذي كان يخاف ‪ ،‬وكل هذا يحدث اذا تحققت‬
‫المعرفة الحقيقية بوجود الخالق واآلخرة ‪.‬‬
‫ـ فاآلخرة ولقاء اهلل تعالى من أخطر ما يمكن ولكن لماذا ال يؤثر فينا‬
‫ونتأثر به؟ ذلك ألننا نعيش يف غيبوبة ال ندري ما اهلل وما اآلخرة يف حقيقة‬
‫األمر‪.‬‬
‫ـ نحن نعيش يف هروب وتجاهل للموت وهروب وتجاهل لآلخرة‬
‫وهروب وتجاهل وتغافل عن اهلل‪ ،‬وهذا الهروب وهذا التجاهل والتغافل‬
‫لن يغير من حقائق األمور شي ًئا؛ فالخطر قائم ونحن مقبلون عليه رضينا‬
‫يم‪َ ،‬أ ْنت ُْم َعنْ ُه ُم ْع ِر ُض َ‬‫ِ‬
‫ون﴾‬ ‫أم أبينا‪ ،‬واألمر خطير وعظيم‪ُ ﴿ :‬ق ْل ُه َو َن َب ٌأ َعظ ٌ‬

‫‪263‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫(‪ ،)1‬إنك مهما حاولت التغافل والهروب عن الحقيقة والمصير القادم‪،‬‬


‫ترض‪ ،‬شعرت بذلك أم لم‬
‫فإهنا أيام قصيرة وغدً ا اللقاء رضيت أم لم َ‬
‫تشعر‪ ،‬وقد سبقك الكثير إلى هناك‪ ،‬فالقضية حاسمة وخطيرة وال تحتمل‬
‫الرتاخي ولكننا يف غفلة‪ ،‬وغدً ا تنتهي الحياة فماذا أنت صانع؟!‬
‫ـ هذا الكتاب يجوز طبعه ونشره بأي وسيلة وألي أحد دون‬
‫الرجوع للمؤلف‪ ،‬كما يجوز ترجمته ألي لغة دون الرجوع للمؤلف‪،‬‬
‫ولعمل تعديل يف الكتاب أو عمل رقم إيداع جديد يمكن التواصل‬
‫‪ ، h05ny@yahoo.com‬وأسألكم الدعاء‪.‬‬

‫َ ُ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ َّ َ ِّ ْ َ َ َ‬
‫﴿وآ ِخر دعواهم أ ِن الحمد ِلل ِه رب العال ِمني﴾‬
‫[يونس‪]10 :‬‬

‫((( ص‪.68 ،67 :‬‬

‫‪264‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫فهر�س املو�ضوعات‬
‫الف�صل الأول ‪ :‬مفهوم العبادة (مفهوم اخل�ضوع)‪12......................‬‬
‫تصحح المفهوم الخاطئ عن معنى القوي والضعيف‪13.................:‬‬
‫الخضوع نوعين‪19..................................................... :‬‬
‫الخضوع يف طريقة المعيشة (يعيش معيشة الخاضع)‪19................. :‬‬
‫لماذا يرفض الناس دعوة الرسل لعبادة اهلل تعالى؟‪21....................:‬‬
‫معيشة الخضوع هي أمر صعب جدا على النفس‪21..................... :‬‬
‫الخضوع بالجوارح‪24.................................................. :‬‬
‫الدافع الى الطاعة‪26.................................................... :‬‬
‫طاعة األوامر تعظيما هلل (حبا يف عظمة اهلل)‪26........................... :‬‬
‫طاعة األوامر خوفا ورجا ًَء‪27........................................... :‬‬
‫الخضوع باللسان‪27.................................................... :‬‬
‫معنى عبارة (ال إله اال اهلل)‪28........................................... :‬‬
‫خضوع القلب‪28....................................................... :‬‬
‫الحالة النفسية المميزة للشعور بالخضوع‪29............................ :‬‬
‫ادعاء الهدف والعبادة‪30................................................ :‬‬
‫من صور خضوع القلب‪31..............................................:‬‬
‫الرضا بالقضاء والقدر‪31............................................. :‬‬
‫الحالة النفسية للشعور بالرضا‪33....................................... :‬‬
‫ادعاء الرضا بالقضاء والقدر‪33......................................... :‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬التوكل (االستعانة)‪35.............................................:‬‬
‫الحالة النفسية المميزة للتوكل‪37....................................... :‬‬
‫ـ ثال ًثا‪ :‬الشعور بالحياء‪39................................................:‬‬
‫‪265‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫أثر المعرفة بحقيقة النفس والدنيا على السعادة النفسية‪40............... :‬‬


‫الف�صل الثاين ‪ :‬املفهوم اخلاطئ عن معنى اجلهل بال�شيء ‪41.............‬‬
‫شروط المعرفة الحقيقية‪42............................................. :‬‬
‫الفرق بين الجاهل بسبب عدم السماع أو عدم الفهم والجاهل بسبب عدم‬
‫االنتباه (الغافل)‪42..................................................... :‬‬
‫مفهوم الجهل لعدم االنتباه (الغفلة)‪44..................................:‬‬
‫الجهل باهلل والجهل باآلخرة يقصد به الجهل لعدم االنتباه (الغفلة)‪44.. :‬‬
‫صفات الجاهل لعدم االنتباه (الغافل)‪44................................:‬‬
‫المفهوم الخاطئ لمعنى المعرفة باهلل واآلخرة‪45........................ :‬‬
‫ولماذا يحسب اإلنسان أنه يعرف اهلل واآلخرة وهو ال يعرف؟‪46........:‬‬
‫مفهوم الغفلة (الجهل لعدم االنتباه ـ غياب المعرفة الحقيقية)‪46.........:‬‬
‫الغفلة هي جهل ال يزول بالسماع والفهم‪47............................ :‬‬
‫العالقة بين الغفلة والعبادة‪47........................................... :‬‬
‫خطورة الغفلة‪48....................................................... :‬‬
‫مفهوم الغفلة عن اهلل واآلخرة (الجهل باهلل واآلخرة)‪50................. :‬‬
‫الجهل لعدم االنتباه (الغفلة) هو جهل متعمد‪50.........................:‬‬
‫المعرفة الحقيقية والمعرفة الكاذبة‪51................................... :‬‬
‫الجمع بين الجهل لعدم االنتباه (الغفلة) واليقين‪51..................... :‬‬
‫الجهل نوعين ‪52....................................................... :‬‬
‫الف�صل الثالث ‪ :‬العن�صر املفقود يف املعرفة احلقيقية (االنتباه)‪54......‬‬
‫مفهوم االنتباه‪55........................................................:‬‬
‫مفهوم االنتباه إلى الشيء الخطير‪55.....................................:‬‬
‫عالمات االنتباه لألمر الخطير‪56........................................:‬‬
‫عالمات االنتباه تزيد بحسب مقدار ما يف الشيء من أهمية وخطر‪56.....:‬‬
‫‪266‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫مفهوم االنتباه إلى خطورة الغيبيات (عالمات االنتباه للغيبيات)‪57...... :‬‬


‫أمثلة توضح عالمات االنتباه لألمر الخطير‪57.......................... :‬‬
‫عالمات االنتباه ال عالقة لها بالثواب والعقاب‪58....................... :‬‬
‫استمرارية االنتباه لألمر الخطير‪60...................................... :‬‬
‫أهمية وظيفة االنتباه‪60..................................................:‬‬
‫مفهوم االنتباه لمدى قدرة الخالق‪61................................... :‬‬
‫الف�صل الرابع ‪ :‬الغرور بالنعم (يرى نف�سه قويا) ‪63....................‬‬
‫مفهوم الغرور بالنعم (يرى نفسه قويا)‪64................................:‬‬
‫لماذا ال ينتبه اإلنسان إلى حقيقة نفسه وحقيقة الدنيا فيراها عظيمة القيمة‬
‫على عكس حقيقتها؟‪66............................................... :‬‬
‫النعم قد تؤدي إلى الهداية وقد تؤدي إلى الضالل بحسب نظرة‬
‫االنسان إليها‪69.........................................................:‬‬
‫هل النعم عظيمة أم ضئيلة؟‪69.......................................... :‬‬
‫التعامل مع النعم على أهنا دليل على قوة االنسان‪70..................... :‬‬
‫هناك طريقتين للتعامل مع النعم‪70......................................:‬‬
‫الف�صل اخلام�س ‪ :‬كيف ت�ؤدي املعرفة احلقيقية �إىل ت�أثر امل�شاعر؟ ‪74..‬‬
‫تحقيق المشاعر‪74......................................................:‬‬
‫كيف تتأثر المشاعر باهلل واآلخرة؟‪74................................... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية بصفات اهلل تعالى تؤدي إلى تأثر المشاعر‪75.......... :‬‬
‫ً‬
‫أول‪ :‬صفات اهلل هي صفات حميدة‪76................................. :‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬صفات اهلل هي صفات خارقة وغالبة‪79........................... :‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬صفات اهلل هي صفات مسيطرة‪80................................ :‬‬
‫راب ًعا‪ :‬توحيد الصفات‪80............................................... :‬‬
‫‪267‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫المعرفة بتوحيد الصفات يؤدي إلى حب اهلل لذاته وبغض جميع المخلوقات‬
‫لذاهتا‪81............................................................... :‬‬
‫انتقال المشاعر‪83...................................................... :‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س ‪ :‬ادعاء احلب واخلوف والرجاء هلل (ادعاء النية والهدف)‪85...‬‬
‫أهمية المشاعر يف اإلسالم‪85........................................... :‬‬
‫وظيفة الحب والخوف والرجاء‪85..................................... :‬‬
‫النية الخاصة والعامة هي الحب والخوف والرجاء كالتالي‪86........... :‬‬
‫النية الخاصة (الهدف من كل عمل على حدة)‪86........................:‬‬
‫النية العامة (الهدف من الحياة)‪87.......................................:‬‬
‫ادعاء اإلنسان بأنه يعيش هلل‪87.......................................... :‬‬
‫الحياة من أجل الدنيا جهد ضائع وعمر ضائع‪89........................ :‬‬
‫ادعاء وجود المشاعر المتعلقة باهلل واآلخرة‪89.......................... :‬‬
‫معنى حب اهلل تعالى‪91................................................. :‬‬
‫معنى الشعور بالرجاء‪91................................................ :‬‬
‫معنى الشعور بالخوف‪91............................................... :‬‬
‫الخوف من النار هو يف حقيقته خوف من اهلل‪ ،‬ورجاء الجنة هو يف‬
‫حقيقته رجاء اهلل‪92..................................................... :‬‬
‫الحالة النفسية المميزة لكل شعور من المشاعر تجاه الخالق واآلخرة‪92.... :‬‬
‫الحالة النفسية المميزة للحب‪93....................................... :‬‬
‫الشعور المميز للمعرفة الحقيقية باقرتاب اآلخرة‪94..................... :‬‬
‫الفرق بين تحقيق مشاعر اإليمان واالقتناع بالعمل على تحقيقها‪95..... :‬‬
‫الف�صل ال�سابع ‪� :‬أثر املعرفة احلقيقية على م�شاعر االن�سان وحياته ‪97..........‬‬
‫العبادة هي أثر المعرفة الحقيقية (مع وجود اليقين)‪97...................:‬‬
‫مفهوم أثر المعرفة الحقيقية (مع وجود اليقين)‪97....................... :‬‬
‫‪268‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫ـ درجة التأثر‪100......................................................... :‬‬


‫غياب أثر المعرفة الحقيقية دليل على الجهل‪101......................... :‬‬
‫غياب المشاعر المتعلقة باهلل واآلخرة يدل على الجهل كأن األمر تافه غير‬
‫مؤثر كأنه لعب ولهو‪104................................................. :‬‬
‫األسباب الستة لعدم التأثر باألمر‪104.....................................:‬‬
‫أثر المعرفة باهلل واآلخرة على حل مشاكل المجتمع‪106.................. :‬‬
‫الف�صل الثامن ‪ :‬التذكر (التفكري ال�سليم) ‪109.................................‬‬
‫أنواع الغفلة من حيث قابلية العالج‪112.................................. :‬‬
‫الغفلة نوعين هما‪112.................................................... :‬‬
‫غفلة يمكن عالجها من خالل التذكر‪112................................ :‬‬
‫غفلة ال يمكن عالجها من خالل التذكر‪113............................. :‬‬
‫مفهوم التفكير السليم (مفهوم التذكر)‪113............................... :‬‬
‫الهدف من خلق السمع والبصر والعقل هو استعمالها للتذكر وبالتالي‬
‫معرفة اهلل تعالى‪116..................................................... :‬‬
‫طرق التذكر (طرق التفكير السليم)‪117.................................. :‬‬
‫المقارنة وتكرار ذلك‪117................................................ :‬‬
‫التصور والوصف لآلخرة كأنك تراها وكذلك قدرة اهلل وليس ذاته‬
‫وتكرار ذلك‪118......................................................... :‬‬
‫التخيل كأنك يف اآلخرة وتكرار ذلك‪119................................. :‬‬
‫تصور األمر كأنه يسمع عنه ألول مرة‪120................................ :‬‬
‫تصور أصل القضية‪122.................................................. :‬‬
‫تصور عجز األسباب عن تفسير األمر‪124................................ :‬‬

‫‪269‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫الف�صل التا�سع ‪:‬الإعرا�ض عن التذكر (التفكري اخلاطئ) ‪127....................‬‬


‫الهروب من الخضوع‪128............................................... :‬‬
‫طرق الهروب من الخضوع (االعراض عن موجبات الخضوع)‪128...... :‬‬
‫اإلعراض عن التذكر‪129.................................................:‬‬
‫الهروب من تذكر معنى الخضوع الكوين‪132............................. :‬‬
‫االعراض عن التذكير (االبتعاد عن كل ما يؤدي إلى التفكير يف‬
‫خطورة الغيبيات)‪133................................................... :‬‬
‫التلهي ‪135................................................................‬‬
‫التلهي يشمل أمرين هما‪135............................................. :‬‬
‫شغل الهم بقضايا الدنيا على حساب تذكر اآلخرة‪135.................... :‬‬
‫شغل الوقت والجوارح باألعمال التي تذكر بالدنيا على حساب االعمال التي‬
‫تذكر باهلل واآلخرة (االنشغال بغذاء الجسد على حساب غذاء الروح)‪137..........:‬‬
‫أثر اإلعراض عن التذكر واإلعراض عن التذكير على الظاهر‪138......... :‬‬
‫الف�صل العا�شر ‪ :‬االنتقال من الغرور بالنعم �إىل املعرفة ب�ض�آلة النعم من خالل التذكر ‪140.‬‬
‫تذكر عدم الملكية للنعم‪141............................................. :‬‬
‫تذكر المقارنة بين صفات المخلوق وصفات الخالق‪ ،‬والمقارنة بين‬
‫الدنيا وما هبا من نعم يغرت هبا االنسان واآلخرة‪143........................:‬‬
‫تذكر المقارنة بين قصر العمر يف الدنيا أمام الخلود يف اآلخرة‪147........ :‬‬
‫تذكر ضعف اإلنسان يف ذاته‪149..........................................:‬‬
‫الغرور بالنعم دليل على غياب المعرفة الحقيقية (الغفلة)‪149.............:‬‬
‫الف�صل احلادي ع�شر ‪ :‬حتقيق املعرفة احلقيقية بالغيبيات من خالل التذكر ‪151.‬‬
‫الحياة عند لحظات وقوع الخطر‪155..................................... :‬‬
‫الفارق بين الخيال والسحر وبين الغيبيات‪156............................:‬‬
‫‪270‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫مثال يوضح حجم الخطر الهائل الواقع علينا‪156......................... :‬‬


‫عدم رؤية الخطر ال يمنع وقوعه‪159..................................... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية بوجود المالئكة والجن من حولنا‪160.................. :‬‬
‫الف�صل الثاين ع�شر ‪ :‬املعرفة احلقيقية بخطورة احلياة يف الآخرة ‪163.........‬‬
‫تصور خطورة اآلخرة يكون من أربع نواحٍ هي‪165....................... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية بعذاب القرب وسؤال الملكين‪166....................... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية بقدرة اهلل على البعث‪167.............................. :‬‬
‫تصور خطورة اآلخرة‪169................................................ :‬‬
‫الدنيا هادئة تما ًما ومعزولة عن خطر اآلخرة الهائل‪170................... :‬‬
‫الغفلة التامة عن الخطر العظيم (اآلخرة)!!‪171.......................... :‬‬
‫الشعور بمدى الخطر يف اآلخرة‪175..................................... :‬‬
‫الشعور بالمهابة من هول اآلخرة‪177..................................... :‬‬
‫الف�صل الثالث ع�شر ‪ :‬املعرفة احلقيقية بخطورة احلياة يف اجلنة والنار ‪180....‬‬
‫المعرفة الحقيقية بالجنة‪181..............................................:‬‬
‫االنتباه إلى خطورة الشهوات واآلالم!‪182............................... :‬‬
‫شهوات الجنة فوق مستوى الخيال وأعجب من السحر‪184.............. :‬‬
‫الشعور بوجود الجنة‪185.................................................:‬‬
‫الشعور بالمهابة والشوق للجنة‪186...................................... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية بخطورة الحياة داخل النار‪192...........................‬‬
‫الشعور بوجود النار‪192..................................................:‬‬
‫الشعور بمدى عذاب وألم النار‪193...................................... :‬‬
‫الشعور بضآلة آالم الدنيا أمام ألم النار‪194............................... :‬‬
‫الف�صل الرابع ع�شر ‪ :‬املعرفة احلقيقية ب�أن الدنيا دار �سفر ‪196................‬‬
‫تصور خطورة هذا السفر‪196............................................ :‬‬
‫‪271‬‬
‫ح�سني الب�شبي�شي‬ ‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬

‫تذكر أن الدنيا ليست دارا لإلقامة‪199.....................................:‬‬


‫تصور خطورة االنتقال لآلخرة يف أي لحظة‪200.......................... :‬‬
‫الشعور بالمهابة من خطورة السفر لآلخرة ولقاء اهلل تعالى‪201............:‬‬
‫الشعور بالرتقب واالنتظار للقاء اهلل واآلخرة‪204......................... :‬‬
‫الحالة النفسية للشعور بالرتقب واالنتظار للقاء اهلل واآلخرة (االستعداد‬
‫النفسي والتأهب والتطلع إلى اآلخرة)‪205............................... :‬‬
‫الشعور بالمهابة من لقاء اهلل ومحاسبته للعبد‪206......................... :‬‬
‫الشعور برتقب الموت (على أساس أنه انتقال لآلخرة)‪207............... :‬‬
‫أنواع الشعور بالمهابة من الموت‪208.................................... :‬‬
‫أثر المعرفة الحقيقية بأن الدنيا دار سفر على العمل‪208.................. :‬‬
‫الف�صل اخلام�س ع�شر ‪ :‬املعرفة احلقيقية ب�أن الدنيا دار امتحان‪211............‬‬
‫ـ المعرفة الحقيقية بأننا نعيش اآلن يف حالة امتحان وانتهاؤه يف أي لحظة‪212.... :‬‬
‫االنتباه إلى خطورة أن الموت إعالن لنتيجة االمتحان‪215................ :‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س ع�شر ‪ :‬حتقيق املعرفة احلقيقية باخلالق من خالل التفكر ‪216..‬‬
‫كيف ننتبه إلى خطورة قدرة الخالق من خالل اآليات الكونية؟‪216....... :‬‬
‫والتفكر يف مدى خطورة قدرة الخالق من خالل اآليات الكونية يتم من خالل‬
‫خمسة أمور هي‪217......................................................:‬‬
‫تصور مدى قدرة الخالق‪217.............................................:‬‬
‫تصور مدى علم الخالق‪218............................................. :‬‬
‫تصور قصد النفع لإلنسان‪219............................................:‬‬
‫تصور عجز اإلنسان عن دفع الضرر واالبتالءات عن نفسه‪220........... :‬‬
‫تصور الحكمة‪222....................................................... :‬‬
‫حتى يتحقق التصور لحقيقة األشياء من حولنا البد أن نتعامل مع‬
‫األشياء كأننا نراها ألول مرة‪222..........................................:‬‬
‫‪272‬‬
‫معرفة اهلل مفتاح حتقيق العبادة‬ ‫ح�سني الب�شبي�شي‬

‫أثر تصور اآليات الكونية على المشاعر وعلى حياة اإلنسان‪225.......... :‬‬
‫أمثلة تبين المعرفة الحقيقية لآليات الكونية‪225...........................:‬‬
‫مثال (‪ :)2‬تصور الصلة بين اإلنسان والكون!‪226........................ :‬‬
‫مثال (‪ :)3‬الشمس والكواكب جيران لنا يف الفضاء!‪229.................. :‬‬
‫مثال (‪ :)4‬نحن ندور حول نار هائلة معلقة يف الفضاء!‪230................:‬‬
‫مثال (‪ :)5‬األرض كرة معلقة يف الفضاء!‪232............................. :‬‬
‫مثال (‪ :)6‬اتساع الكون الهائل‪233....................................... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية بالحقائق العلمية‪234................................... :‬‬
‫الف�صل ال�سابع ع�شر ‪ :‬حتقيق املعرفة احلقيقية باهلل من خالل التذكر ‪235......‬‬
‫المعرفة الحقيقية بمدى عظمة صفات اهلل تعالى‪236...................... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية بمدى قدرة الخالق سبحانه‪240.........................:‬‬
‫المعرفة الحقيقية بمدى قدرة الخالق على العلم والسمع والرؤية‪238..... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية بمدى قدرة اهلل على اإلنسان ومراقبته له يف كل لحظة‪241....... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية لمعنى الملك والقاهر والقهار‪243...................... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية لمعنى العبادة العامة يؤدي إلى العبادة الخاصة‪245......:‬‬
‫العبادة قسمان‪245....................................................... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية لمعنى (المالك)‪246................................... :‬‬
‫صعوبة الشعور بأن اهلل هو المالك (صعوبة الشعور بالخضوع)‪249...... :‬‬
‫المعرفة الحقيقية لمعنى صفات اإلنعام‪251.............................. :‬‬
‫حب اهلل إلنعامه والذل لالحتياج لنعمائه‪253............................. :‬‬
‫المعرفة الحقيقية بضعف االنسان عند سماع كالم الخالق‪156............ :‬‬
‫المعرفة الحقيقية بصول كالم من الخالق للبشر‪258.......................:‬‬

‫‪273‬‬

You might also like