You are on page 1of 13

‫ال شك في أنو يصعب تعريف الفمسفة السياسية‬

‫– كما يصعب تحديد وتأطير ذاتيا‪ ،‬ألنو يمكن أن يضم‬


‫كل ما يتعمق بالحياة السياسية لمجتمع ما من‬
‫المجتمعات‪ ،‬لو تنظيم معين‪ ،‬وسمطة معينة ‪ .‬وىذا‬
‫يعني أن مثل ىذه الفمسفة تتناول عالقة الفرد بغيره‬
‫من الفراد ضمن نطاق األطر السياسية المحددة‪،‬‬
‫وعالقة ىؤالء بالسمطة الحامية حكماً ليذه األطر‪،‬‬
‫وكذلك تتناول ىذه الفمسفة نوع السمطة المشار إلييا ؛‬
‫وبعبارة أخري فإن الفمسفة السياسية‪ ،‬إنما ىي محاولة‬
‫فكرية لمعرفة طبيعة الدولة‪ ،‬أي لمعرفة أسسيا‬
‫السياسية ‪ .‬إنيا ليست عمماً موضوعياً لبحث الظواىر‬
‫السياسية في الدولة‪ ،‬بل ىي محاولة لفيم حياة شعب‬
‫من الشعوب‪ ،‬وبالتالي فكل فمسفة سياسية فمسفة‬
‫سياسية البد أن تتضمن نوعاً من البحث األنثربولوجي‬
‫‪.‬‬
‫ولو أخذنا ىذا التعريف ودرسناه عمي ضوئو الفكر‬
‫(‪062‬ىـ‪877-‬م‪339/‬ىـ‪-‬‬ ‫السياسي عند الفارابي‬
‫‪952‬م) لما وجدناه يخرج عنو ‪ .‬فالمعمم الثاني‪ ،‬قد‬
‫حاول أن يحدد طبيعة الدولة المثالية‪ ،‬والشروط التي‬
‫يجب توفرىا في رئيسيا‪ ،‬وأول ما يافت النظر في‬
‫التفكير السياسي لدي الفارابي ىو ربطو بين ىذين‬
‫القطبين المذين ال يمتقيان عمي صعيد الممارسة‬
‫السياسية إال ناد ارً أال وىما‪ :‬األخالق والسياسة‪ ،‬وىذا‬
‫ىو اإلطار الذي نممسو في كتاب " آراء أىل المدينة‬
‫الفاضمة" و"نحصيل السعادة" و"السياسة المدنية" و"‬
‫رسالة في التنبيو عمي سبيل السعادة "‪ ،‬بل في "‬
‫إحصاء العموم" أيضا ‪.‬‬

‫وقد عاش الفارابي في زمن انعطفت فيو الدولة‬


‫العباسية نحو الضعف وتفسخت فيو الخالفة‪ ،‬فقد‬
‫عاش الفارابي في بداية القرن الرابع اليجري‪ ،‬حيث‬
‫أخذت الدولة العباسية في االنحالل‪ ،‬وزالت ىيبتيا في‬
‫نفوس شعوبيا بسبب تسمط العنصر التركي عمى‬
‫مموكيا ؛ فكان من المحتم أن تصدم ىذه األحوال‬
‫المتبدلة وعي المفكرين المسممين عامة إبان عصرىم‬
‫ذلك‪ ،‬ويظير أن الفارابي قد أصابو شيء غير ىين من‬
‫ىذه الصدمة‪ ،‬فمجأ إلي إقامة فكرة السياسي عمى‬
‫أساس البحث النظري أو الخيالي أو المجرد‪ ،‬نتيجة‬
‫الشعور بعدم االقتناع أو بعدم الرضا باألوضاع‬
‫القائمة‪ ،‬والرغبة في إقامة نظام مثالي يتالفي عيوب‬
‫النظام الموجود ويحقق الم ازيا المنشودة‪.‬‬

‫فالمدينة الفاضمة ىي المدينة التي تسير فييا المور‬


‫بصورة خيرة وسعيدة‪ ،‬حيث ال مجال فييا سوي‬

‫لمفضائل‪ ،‬وحيث األإلراد يشكمون مجتمعاً واحداً‬


‫متماسكا‪ .‬فإذا لم يتوفر ىذا في " المدينة" بطمت عنيا‬
‫صفة األفضمية‪ ،‬وأصبحت إما "جاىمية" ال تطمح إلي‬
‫السعادة‪ ،‬وال ترغب إال في نوازل األبدان والتمتع‬
‫بيا‪،‬وجمع الثروة‪ ،‬والتصرف وفق اليواء الشخصية بال‬
‫ضوابط وال قيم‪ ،‬واما " فاسقة" يعرف أىميا طريق الخير‬
‫ولكنيم يتبعون طريق الشر؛ واما "مبتذلة" يسير أىميا‬
‫أوالً في درب أىل المدينة الفاضمة‪ ،‬ثم ينقمبون عمي‬
‫أعقابيم ‪ ،‬واما "ضالة" تسير خمف رئيس مخادع يدعي‬
‫إليية ق ارراتو ‪.‬‬

‫ويعرف الفارابى المدينة الفاضمة‪ :‬بأنياالمدينة القائمة‬


‫عمى التعاون عمى األشياء التى تنال بيا السعادة وىى‬
‫تشبو الجسم الصحيح الذى يتعاون كل أعضائو عمى‬
‫تتميم الحياة وحفظيا‪ ،‬وسكان المدينة الفاضمة ليم‬
‫صفات مشتركة وكل فرد منيم لو معارف وأعمال‬
‫تختمف عن غيره ‪.‬‬
‫ويذكر الفاربي مضاداتيا من المدن األخرى التى قسميا‬
‫فى أربعة أقسام كبيرة ىى‪ :‬المدينة الجاىمة وىى التى‬
‫لم يعرف أىميا السعادة الحقيقية واعتقدوا أن غاية‬
‫السعادة فى اتباع الشيوات والتمتع بالممذات‪ ،‬وىناك‬
‫المدينة الفاسقة وىى التى يعمم أىميا كل ما يعممو أىل‬
‫المدينة الفاضمة ولكن أفعاليم مثل أفعال أىل المدينة‬
‫الجاىمة‪ ،‬وىناك المدينة المتبدلة وىى التى كانت آراءىا‬
‫فى القديم آراء أىل المدينة الفاضمة ولكنيا تبدلت‬
‫وأصبحت آراء فاسدة‪ ،‬وىناك المدينة الضالة وىى التى‬
‫يعتقد أىميا آراء فاسدة فى اهلل والعقل الفعال‪ ،‬ويكون‬
‫رئيسيا ممن أوىم أنو يوحى لو وىو ليس كذلك‪.‬‬

‫ويرى الفارابى أن كل نفس من أىل المدينة الفاضمة‬


‫عممت الحقيقة والعقل الفعال تكون قد اكتسبت الخمود‬
‫وخمدت فى السعادة‪ ،‬وأنفس أىل المدينة الجاىمة‬
‫مصيرىا الزوال والعدم وأنفس أىل المدن الفاسقة تخمد‬
‫فى الشقاء‪ ،‬أما أنفس أىل المدن الضالة فمصيرىا‬
‫الزوال‪ .‬يتحدث الفارابى فى نياية كتابو عن رأى أىل‬
‫المدينة الجاىمة فى العدل فيو قائم عندىم عمى قير‬
‫القوى لمضعيف والقضاء عميو واستعباده‪ ،‬واذا طبق‬
‫العدل عندىم فى البيع والشراء ورد الودائع فإن مرد‬
‫ذلك يكون الخوف ال حب العدالة‪.‬‬

‫ولكن الفارابى يؤكد العدل بمعناه الحقيقى الذى تقوم‬


‫عمى أساسو الحياة الصحيحة فى المدن الفاضمة وىو‬
‫نفس ما طالب بو مفكرو الفقو السياسى اإلسالمى‪.‬‬
‫ومن الطريف فى الكتاب أن الفارابى يحذر الناس ممن‬
‫يحث القوم عمى تعظيم اهلل‪ ،‬وعمى الصالة والعبادة‬
‫وترك خيرات الدنيا بحجة الحصول عمى خيرات اآلخرة‪،‬‬
‫ويرى أن كل ذلك أبواب من الحيل والمكيدة لالنفراد‬
‫بالحصول عمى خيرات اآلخرين‪.‬‬
‫وىنا لجأ الفارابي في فمسفتو السياسة‪ ،‬من خالل‬
‫كتابو‪" :‬آراء أىل المدينة الفاضمة" إلى التطمع إلى‬
‫مدينة فاضمة شأنيا أن تعكس أصالة مجتمع فاضل‬
‫تتحقق في كنفو السعادة والكماالت الضرورية‬
‫لممجتمع‪ ،‬وأن ىذه المدينة تمثل لديو أكثر من داللة‬
‫روحية واجتماعية وسياسية لحركة المجتمع اإلسالمي‬
‫‪.‬‬

‫واذا كان المجتمع الفاضل ىو المحور الذي قامت عمى‬


‫أساسو نظرية الفارابي السياسية‪ ،‬فإن ىذا المجتمع‬
‫يقوم عمى دعامتين رئيستين‪ :‬مدينة فاضمة تتحقق فييا‬
‫السعادة باعتبارىا اليدف المنشود‪ ،‬ورئيس أو ممك‬
‫ليذه المدينة يكون أكمل إنسان أو عضو فييا‪ ،‬ويكون‬
‫بالنسبة ليا بمثابة العقل من البدن ‪ .‬ولذلك نجد‬
‫الفارابي يتحدث في كتابو‪" :‬آراء أىل المدينة الفاضمة"‬
‫يتحدث عن ماىية المدينة الفاضمة ومكانتيا بين أنواع‬
‫التجمعات البشرية‪ ،‬وكذلك يتحدث عن رئيس المدينة‬
‫أو الدولة كما تصورىا الفارابي ‪.‬‬

‫ولتحقيق ىذا الغرض نجد الفارابي يبدأ كتابو بمدخل‬


‫فمسفي حول واجب الوجود وصفاتو‪ ،‬ثم يعرض لمنفس‬
‫اإلنسانية وقواىا‪ ،‬وكيفية تكونيا‪ ،‬ثم يتناول األسباب‬
‫الداعية لالجتماع البشري‪ ،‬ولماذا يحتاج إليو اإلنسان‪،‬‬
‫وما الضرورة التي تفرض وجود رئيس‪ ،‬وصفات المدن‬
‫الفاضمة ومضاداتيا‪ ،‬والصناعات الواجب توافرىا فييا‬
‫وآراء أىل المدن الجاىمة والفاسقة‪ ،‬ويرى أن‬
‫المجتمعات البشرية فييا الكامل وفييا غير الكامل‪،‬‬
‫والكامل منقسم إلى ثالث‪ ،‬العظمي‪ ،‬وسطى‪ ،‬والصغرى‪،‬‬
‫وىي المعمورة‪ ،‬واألمة‪ ،‬والمدينة‪ ،‬وغير الكامل‪ :‬مثل‬
‫القرية‪ ،‬والمحمة‪ ،‬والسكة‪ ،‬والمنزل‪ ،‬ويرى أن الخير‬
‫األفضل ينال بالمدينة‪ ،‬وليس بأنواع االجتماع البشري‬
‫األقل منيا‪ .‬ثم يؤكد أن الغرض من تأليف كتابو‬
‫المدينة الفاضمة ذكر قوانين سياسية يعم نفعيا جميع‬
‫من استعمميا من طبقات الناس في سموكو مع كل‬
‫طائفة من أىل طبقتو‪ ،‬ومن فوقو ومن دونو؛ حيث إن‬
‫لكل نوع من ىؤالء سياسة تختمف عن اآلخر‪ .‬ثم‬
‫يتناول قوى اإلنسان الناطقة والبييمية ويربطيا‬
‫بالسموك السياسي‪ ،‬ويعرض لتكوين المجتمع السياسي‬
‫ودور النبوات‪ ،‬ويتناول سموك اإلنسان السياسي من‬
‫خالل مجموعة من القيم مثل العدل والمشاورة‬
‫والنصيحة وتحصين األسرار ‪.‬‬

‫وفي كتابو "السياسة المدنية" يبدأ الفارابي في حديثو‬


‫عن العقل الفعال‪ ،‬ويميز بين اإلنسان والحيوان من‬
‫حيث دور العقل‪ ،‬ثم يتناول االجتماعات المدنية‬
‫ويقسميا إلى ثالث‪ :‬عظمي‪ ،‬ووسطى‪ ،‬وصغري‪ ،‬ويقسم‬
‫موضع اإل نسان إلى اثنين‪ :‬األول يرأس وال يرأسو آخر‪،‬‬
‫ويقصر األول عمى الحاكم الفيمسوف ثم يعرض لممدينة‬
‫الفاضمة ومضاداتيا من مدن فاسقة وظالمة وجاىمة ‪.‬‬

‫ولم يقف الفارابي عند ىذا الحد‪ ،‬بل إننا نجده في كتابو‬
‫"تحصيل السعادة" يربط بين السياسة واألخالق‪ .‬مبينا‬
‫أن الغاية النيائية منيا ىي تحقيق السعادة لألمة‬
‫البشرية‪ .‬لذلك نراه يحدد موضوع العمم المدني في‬
‫كتابو ىذا بأنو‪" :‬الفحص عن الغاية في وجود اإلنسان‪،‬‬
‫وىي الكمال‪ ،‬ثم الفحص عن الوسائل التي ينال بيا‬
‫ذلك الكمال وىي الخيرات والفضائل"‪ ،‬ويقسم الفارابي‬
‫الفضائل أربعة أجناس‪ :‬الفضائل النظرية‪ ،‬والفضائل‬
‫الخمقية‪ ،‬والفضائل الفكرية‪ ،‬والصناعات العممية‪ ،‬ثم‬
‫يحدد الفضيمة الواجبة لكل فئة من فئات المجتمع‪،‬‬
‫فمثال الجيش البد أن يركز عمى فضيمة القوة الفكرية‬
‫مع القوة البدنية‪ ،‬ويركز عمى دور الممك في تربية‬
‫أمتو‪ ،‬ورعيتو‪ ،‬عمى الفضيمة حتى تتحقق ليم السعادة‪.‬‬
‫د‪ .‬محمود محمد عمي‬

‫رئيس قسم الفمسفة وعضو مركز دراسات المستقبل –‬


‫جامعة أسيوط‬

‫‪...........................‬‬

‫‪ -1‬د‪ .‬أحمد عمي‪ :‬مدينة السماء ومدينة األرض‪ :‬بحث‬


‫في جدل األخالق والسياسة عند الفارابي‪ ،‬أعمال‬
‫المؤتمر الدولي الرابع‪ :‬السياسي في البالد اإلسالمية ‪-‬‬
‫الفكر واألنماط واألماكن‪ ،‬جامعة منوبة ‪ -‬مخبر النخب‬
‫والمعارف والمؤسسات الثقافية بالمتوسط‪.0215 ،‬‬

‫‪ -0‬عبد الرازق عيسي ‪« :‬الفارابى»‪ ..‬الفيمسوف فى‬


‫رحمة البحث عن «المدينة الفاضمة»‪ ..‬مقال بجريدة‬
‫المصري اليوم‪.0202 ،‬‬
‫‪ -3‬وليد فستق‪ :‬السياسة في الفمسفة اإلسالمية ‪:‬‬
‫الفكر السياسي عند الفارابي‪ ،‬مجمة الفكر العربي‬
‫المعاصر‪ ،‬ع ‪.1981 ،15,17‬‬

‫‪ -7‬محمود محمد عمي وآخرون‪ :‬الفكر السياسي‬


‫اإلسالمي منذ الينابيع األولي وحتي القرن التاسع‬
‫اليجري‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪ ،‬االسكندرية‪،‬‬
‫‪.0216‬‬

You might also like