Professional Documents
Culture Documents
تعلقات عنيدة
تعلقات عنيدة
ﻨﺎتﻋ
ﻠﻘﺗﻌ
ر
اﺮ
ــ
ـ
ـداﻷﺣاﺮ
ــ
ـ
ـ
ـﻦاﻷﻓ
ــﻤﻊﻣﺘـ
ﺔﻟﻤﺠـ
ـ
ـﻳ
رؤ
ـﻦ
ـﻴ
ـﻟـﺆو
ـ
ـ
ـﻟﻤﺴاـﻦو
ـ
ـ
ــ
ـ
ــ
ﻳﺮ
ــ
ـ
ـ
ــ
ـ
ــ
دﻫﺰـ
ـ
ـ
ـﻤﻟ
او
ﻴﻒ
ﻟﺄ
ﺗ
ﻳﻦ
ﺮﻛﻮ
ﻠﻳﺎ
ﺗ
تعلّقات عنيدة
رؤية ملجتمع من األفراد األحرار واملزدهرين واملسؤولني
تأليف
تايلر كوين
ترجمة
حبيب زريق حازم موس مريا جندي رزان حميدة
مراجعة
أحمد رضا
خالصة
ُ
يريد املؤلف أن يشكر أنجس كاالرد ،وبريان كابالن ،وباترك كوليسون ،وديفيد غوردون ،وروبن هانسون ،ودانييل
جاكوبسون ،وكفن مكايب ،وسارة أوه ،ومغ باترك ،وديريك بارفت ،وهولس روبنز ،وتوم راوند ،وأمني رسيل ،وديفيد
شميدتز ،وألكس تاباروك ،والري متكني ،واملشاركني يف سمنار جامعة بنسلفانيا ،كفن فالري ،وعددًا من املعلقني عىل
دعام بحث ًّيا ناف ًعا.
املسودات األوىل املتعلقة بهذا العمل ،ملا قدموه من تعليقات ومناقشات نافعة .قدم مركز مريكاتس ً
شكر خاص لوكيلتي ترييزا هارتنت ،ولربيانا وولفسن لتصميمها لكتايب ،ولريبيكا هسكت للتحرر ،وباترك كوليسون
الهتاممه بنرش الكتاب مع سرتايب.
ملحة عن املؤلف
تايلر كوين بروفسور يف مؤسسة هولربت إل .هارس يف جامعة جورج ماسون ،ومدير مركز مركاتس .حاز شهادة
دكتوراه يف االقتصاد من جامعة هارفارد عام .1987كان كتابه الركود الكبري :كيف أكلت أمريكا فاكهة التاريخ
الحديث الدانية ومرضت ،وكيف ستشفى (يف النهاية) أفضل كتاب من حيث املبيعات يف نيويورك تاميزُ .وصف كوين
يف استطالع حديث يف مجلة إيكونيميست بأنه واحد من أكّث االقتصاديني تأث ً
ريا يف العقد األخري ،وقبل عدة سنوات
وصفته بلومربغ بزنس ويك بأنه «أشد اقتصاديي أمريكا إثارةً» .وصفته مجلة فورين بولييس بأنه واحد من «أهم مئة
مفكر عاملي» يف .2011يسهم كوين أيضً ا يف مدونة ،marginalrevolution.comوله سلسلة بودكاستات بعنوان
«محادثات مع تايلر» ،وقد أسهم يف تأسيس مرشوع تعليم اقتصادي عىل اإلنرتنت .mruniversity.com ،كان أحدث
كتبه بعنوان الطبقة الراضية :السعي املدمر لنفسه نحو الحلم األمرييك.
قامئة املحتويات
يبدو األمر بسيطاا ج ًّدا :اًلزدهار والحرية الفردية .مل قد يعارض أي أحد هذه
املثل؟ عند الحديث املج َّرد ،لن يعارض هذه القيم إًل فئة قليلة من الناس .ولكن
عمل ًّيا ،لطاملا ألقينا بها وراء ظهورنا .يتجه سعينا إىل أهداف كثرية أخرى،
أهداف كان ينبغي أن نهملها أو نرفضها .إن علينا أن نط ّور تعلّقاا أقوى وأعند
إخالصا باًلزدهار والحرية .عندما ترى مقتضيات هذا التعلق يف الواقع،
ا وأش ّد
قد يزعجك بعضها ،وقد ينفّرك اإلطالق األخالقي الذي تتطلبه .لكن هذه
األهداف –إذا طُلبت برصامةً ،ل بتساهل– ذات أهمية تاريخية لحضارتنا ،وإذا
التزمنا بها جاءت مبقدار هائل من الخري إىل عاملنا.
ولكن كيف نعلم األهداف التي ينبغي أن نطلبها ،وكيف نزن قيمة أمام قيمة
أخرى؟ كيف نتخذ قراراتنا عندما تتنازع القيم األخالقية؟ هذه األسئلة املعتادة
طويال– مل
ا –التي تقدمها مجموعات النقاش يف السنة األوىل وتتأمل فيها
تزل ذات أهمية كربى.
قبل أن ننظر يف طريقة اتخاذ هذه القرارات ،هنا خلفية بسيطة عن موقفي
الفلسفي وما أنوي طرحه.
1
أرى أن ألسئلة الصواب والخطأ أجوبة صحيحة ،عىل األقل من حيث املبدأ.
ينبغي أن نقر بوجود مناطق أخالقية رمادية كبرية ،ولكن الصواب والخطأ
مسألة «حقيقة طبيعية» ،بعبارة كثري من الفالسفة .بعبارة رصيحة :الصواب
املوضوعي موجود ،والخطأ املوضوعي موجود .النسبية مبدأ فاشل ،ومعظم
أصال .يف أعامقهم النفسية ،يرى
الناس ليسوا مخلصني إلطالقاتهم النسبية ا
النسبيون أنهم يعرفون الصواب والخطأ ،وإذا كنت يف شك من هذا فشاهدهم
وهم يلقّنون أطفالهم ،أو باألحرى وهم ينتقدون زمالءهم.
مع هذا ،فلن أدخل يف نقاش معنى الصواب والخطأ ،وهل هام من الله ،وهل
يجب علينا أن نلتزم باألخالق دامئاا .لن أنظر يف ما وراء األخالق ،أي يف
دراسة الطبيعة التي تقوم عليها األحكام األخالقية .بل سأفرتض أن الصواب
والخطأ مفهومان لهام مع انى أسايس يف ذهن القارئ .وحتى إذا مل تشاركني
ريا من حججي عىل نحو يوافق موقفك
هذا الرأي ،فقد تستطيع أن تصوغ كث ا
األخالقي البديل.
يف الحاًلت الواقعية ،يصعب عادة معرفة صواب أو خطأ مسلك من مسالك
الترصفً .ل ينال الشكاك التقدير الذي يستحقهً ،ل سيام يف عرصنا الذي
أصبحت فيه السياسة مستقطبة ،وأصبح كل طرف يرى أنه الصواب وأن
خصمه هو الخطأ املرفوض .العلم هو طريقنا األسايس نحو املعرفة ،ولكنه
ريا ما يقول لنا إننا ًل نعرف .وهذا أص َدق يف العلوم اًلجتامعية ،أما كث ا
اًلقتصاد الكيل فلعله يرتبع عىل قمة العلوم من حيث املحدودية املعرفية .لذا،
عندما ننظر يف عامل السياسةً ،ل ينبغي أن نتعامل كام يف عامل الرياضة،
حيث نبني حلفاا من األفراد الذين يوافقوننا يف التفكري ،ثم نهزم األحالف
2
األخرى ،ونجعل األفضل يف نظرنا قانوناا .هذا املسلك شائع ،وقد يجعلنا نشعر
بأريحية وفوقية ،ولكنه غري مسوغً .ل بد أن نكون متواضعني بشأن ما ميكن
أن نعرفه.
أدرك الفيلسوفان ديفيد هيوم وويليام جيمس كالهام ص َغر العقل اإلنساين
املفرد أمام اتساع الطبيعة واملجتمع ،وأكدا عىل عدم عقالن ّيته عند مواجهة
املشكالت اليومية .إذا أردنا بناء مبادئ للسياسة ،فال بد من اًلعتامد عىل
مناهج منيعة نسب ًّيا من الخطأ اإلنساين ومن النزعة اإلنسانية القوية إىل
خداع النفس ،مناهج تستطيع تجاوز نزعات تفكرينا الجمعي املفرط «إما نحن
وإما هم».
ولكن يف الوقت نفسه ،نحتاج إىل اعتقادات نستطيع أن نؤمن بها حقًّا،
أساسا للنظام اًلجتامعي والسيايسً .ل فائدة من
ا وتستطيع هي أن تقدم
اعتقاد فلسفي مهذَّب مدروس إذا مل يقبله أحد أو مل يستطع قبوله أحد .إن
التوفيق بني ّ
الشك واًلعتقاد من أصعب املهام أمام أي فلسفة .إذا كنا شكّاكني
حقًّا ،فكيف لنا أن نؤمن بأي يشء ذي قيمة حقيقية؟ بعبارة أخرى :كيف
ينبغي أن نوزع أدوار العقل واإلميان ونحن نتقدم؟
ثم إنني أعتقد بأن التعددية حدس أخالقي جوهريً .ل ميكن اختزال ما يصلح
يف حياة أي إنسان يف أي قيمة واحدةً .ل يرجع األمر كله إىل الجامل وحده
أو العدل وحده أو السعادة وحدها .النظريات التعددية أقرب إىل املعقولية ،إذ
تطرح مجموعة من القيم املهمة ،منها الرفاهية والعدل واإلنصاف والجامل
والروائع الفنية التي ينتجها اإلنسان ،والرحمة ،وأنواع كثرية ،بل ومتضادة
أحياناا ،من السعادة .الحياة معقدة! أي ليس يف الحياة قيمة واحدة هي ورقة
3
الطرنيب التي تغلب كل القيم األخرى يف كل الحاًلت ،لذا فإن يف طبيعة الخري
فوضوية جوهرية .قد يبدو إدراك هذه الفوضوية غري متسق مع تعلقنا
مبثل اًلزدهار والحرية؛ هذا التوفيق هو القضية األساسية يف هذا
الصارم ُ
الكتاب.
يقول زماليئ اًلقتصاديون أحياناا إن «تلبية تفضيالت الناس» هي القيمة
الوحيدة املهمة ،ألن هذه القيمة يف رؤيتهم تجمع كل القيم املهمة .لكن هذا
أيضا أن يكون
املنهج ًل ينفعً .ل يحمل هذا املنهج تعددية كافية ،ألن من املهم ا
يف املجتمع العام مبادئ للعدل والجامل وغريهام من القيم التعددية« .الذي
نريده» ًل يكفي لتعريف الخري .إضافة إىل ذلكً ،ل بد أن نحكم عىل تفضيالت
الناس باستعامل قيم أخرى خارجة عن هذه التفضيالت .فلنذكر مثاًلا متطرفاا:
رجال يرضب زوجته ،هل يجب أن نحسب إن كانت معاناة
ا عندما نشجب
الضحية أكرب من متعة الضارب؟ أظ ّن أن ًل .بل وإذا كان األفراد سيئي التعلم،
أو متناقضني ،أو كانت األمور عليهم ملتبسة –وكلنا هكذا تقري ابا ،يف بعض
األحيان– فإن مفهوم «الذي نريده» ليس واض احا دامئاا .لذا ،فأنا وإن كنت
ريا من الحجج اًلقتصادية ،لن أقبل دامئاا
اقتصاديًّا ،وإن كنت سأستعمل كث ا
ريا عىل تلبية تفضيالت
املنهج النمطي يف اختصايص ،الذي يؤكد تأكي ادا كب ا
الناس عىل حساب القيم األخالقية األخرىً .ل بد أن يكون عندنا مجال للعدل
والجامل.
أسمي نفيس أحياناا «ثلثَي نفعي» ألنني أنظر أوًلا إىل سعادة اإلنسان عندما
أحلل الخيارات السياسية .إذا كانت سياسة ما ترض السعادة اإلنسانية ،فتلك
عقبة كبرية أمامي قد ًل أستطيع تجاوزها .إذا كان «فعل الصواب» م ّرة بعد
4
م ّرة ًل يؤدي إىل عامل أجمل من حيث السعادة ،فعلينا أن نتساءل إن كان
مفهومنا عن «الصواب» معقوًلا .ولكن السعادة اإلنسانية ليست هي األولوية
املطلقة دامئاا – من هنا دعابة أن املنفعة عندي هي ثلثا األمر .يجب علينا أحياناا
أن نفعل العدل حقًّا ،وإن كان مؤملاا لكثري من الناس .ليس يل أن أستأصل كلية
من كليتيك باإلكراه ملجرد أنك تستطيع العيش من دونها ،وليس لنا أن ننهي
الحضارة ملجرد فعل العدل ،لكن العدل أهم أحياناا من املنفعة .وًل ميكن اختزال
1
العدل مبا يسعدنا أو يلبي رغباتنا.
باختصار ،نقاط انطالقي الفلسفية هي:
« .1الصواب» و«الخطأ» مفهومات حقيق ّيان ينبغي أن تكون لهام قوة
كبرية.
.2ينبغي أن يكون موقفنا من العقل اإلنساين املفرد هو الشك.
.3الحياة اإلنسانية معقدة وفيها أشياء خرية كثرية مختلفة ،وليس فيها
قيمة تغلب كل القيم األخرى.
بعد ذكر هذا ،فللنتقل إىل سؤال اًلختيار .عند النظر يف اًلختيار ،أرى بعض
نفضل خيا ارا عىل آخر؟ هل منلك
األسئلة األساسية أمام الفرد وأمام املجتمع .مل ّ
أسباباا صالحة ح ًّقا لتفضيالتنا هذه؟ ما هي الخيارات التي يجب أن نتخذها؟
ليك نتقدم يف هذه األسئلة ،أقدم ست قضايا محورية ،كل واحدة منها تساعد
يف حل رصاعات القيمة:
.1الوقت
يقدم سمارت وويليامز ( )1973وشفلر ( )1982وسنغر ( )1993بعض المعامالت المعيارية للعواقبية ،وهي تقدير االختيارات من حيث عواقبها ،وهي 1
فلسفة تتفرع عنها النفعية .يقدم بيتيت ( )1997مقدمة صالحة للمنطق العواقبي وسبب شيوعه.
5
كيف ينبغي أن نزن مصالح الحارض أمام مصالح املستقبل البعيد؟
يتعلق هذا األمر بالسؤال اآلخر األقرب إىل امليتافيزيقيا :هل لنا حجة
لتفضيل الحارض ملجرد أنه هنا واآلن؟ هل يصلح املنهج اًلقتصادي يف
التفضيل الزمني ،الذي يقول إن األهمية األخالقية للمستقبل تنحدر كلام
كان املستقبل أبعد ،وإنه يف تناسب تقريبي مع معدًلت الفائدة يف
السوق؟ (رأيي هوً :ل) .هذا السؤال جوهري يجب النظر فيه عند اتخاذ
قرار مقدار املوارد الذي يجب أن نخصصه لجعل مستقبلنا مكاناا أفضل.
.2التجميع
التجميع هو كيفية حل الخالفات والطريقة التي نفضل بها رغبات فرد
عىل رغبات فرد آخر .هنا مثال بسيط :إذا أرادت ابنتك أن تشاهد مسلسل
كرتون يابان ًّيا عىل التلفزيون ،وأراد ابنك أن يشاهد مسلسل ديزين،
فقول من سيطبق؟ إذا أراد جون مساواة أكرب يف الدخل ،ومل ترد ذلك
سيسيليا ،فعىل أي أساس نفضل رغبة منهام عىل األخرى؟
لهذه املعضالت إجابات معروفة يف اًلقتصاد ،منها مفارقة أرو ،التي
تقول إن مشكالت التجميع حلها صعب ج ًّدا ورمبا مستحيل .يقرأ بعض
املعلقني هذه املفارقة ويرى أنها دليل عىل استحالة اتخاذ القرار
العقالين بشأن تفضيل رغبة عىل أخرى إذا جرى خالف .ولكننا
مضطرون إىل حل مشكلة الرغبات املتنازعة كل يوم تقري ابا يف حياتنا،
لذا فال ميكننا يف الحقيقة أن نتقهقر إىل نوع من العدمية العملية.
سأكشف أوراقي وأقول إين متفائل بإمكانية حل هذه املسألة.
.3القواعد
6
إن فكرة قدرة القواعد واملبادئ العامة عىل حكم خياراتنا وسياساتنا
فكرة مقنعة .ولكن ما الذي يعنيه اًللتزام بهذه القواعد واملبادئ؟ قد
يروقنا أن نفكر أن للقواعد قوة مستقلة جوهرية ،ولكن هذه النظرة
يصعب دفع اًلنتقادات عنها .يف النهاية ،لكل قاعدة استثناءات ،وقد
ٍ
معتد ،مثال يصلح الكذب أخالق ًّيا أحياناا إذا كان سينقذ حياة ضحية من
كالسييك من الفلسفة األخالقية .عندما نقرر متى وهل نخرق قانوناا
معي انا ،نعود إىل محاكمة الحاًلت املفردة ،التي كان يفرتض أن القواعد
أصال.
ستخلصنا منها ا
يطرح الفالسفة أسئلة مشابهة بلغة مختلفة .يتناقشون بشأن فلسفة
نفعية القواعد ،التي تقول إننا يجب أن نختار القواعد التي تبلغ باملنفعة
اًلجتامعية أقصاها .أما عواقبية القواعد ،فهي منهج أوسع وأقرب إىل
التعددية ،يدعو إىل اختيار القواعد التي تحقق تعريفاا أوسع من
العواقب الخرية 2.ولكن هل ميكن اختزال نفعية القواعد (أو عواقبيتها)
بالنفعية العامة؟ أي ،ألسنا دامئاا نشكك يف وجوب التزامنا بالقواعد؟
هل ميكن تسويغ خرق قاعدة ما عندما تحكم الظروف الفردية بأنه
ينبغي خرقها؟
ترى بعض الفلسفات أن القواعد خيال محض ،خدعة زائفة –لكن
مفيدة– ليس لها قوة مستقلة يف حسابنا األخالقي .هل ميكن أن ننشئ
مذه ابا أخالق ًّيا يكون فيه احرتام القواعد واملبادئ غاي اة يف حد ذاته؟ هل
ميكن أن نختار اختيا ارا جوهريًّا أن نفكر بالقواعد واملبادئ املحضة؟ هل
7
ميكن للقواعد أن تستحوذ علينا؟ أو هل ميكن أن نجد أنفسنا كل مرة
يف فخ القلق بشأن اًلستثناءات ،التي تعيدنا مرة أخرى إىل نقطة البدء،
وإىل أن القواعد ليست إًل خياًلا مفي ادا.
سأدافع عن القواعد.
.4اًلرتياب املتطرف
نعم ،أنا شكاك ،ولكنني شكاك مبزاج عميل يدرك الشلل الذي قد يؤدي
إليه الشك .إن من الصعب ج ًّدا توقع املستقبل البعيدً .ل أتكلم هنا عن
صعوبة بناء نظريات صالحة يف العلوم اًلجتامعية واختبار اتساق هذه
النظريات مع البيانات فحسب ،بل علينا كذلك أن نكافح عجزنا األوسع
عن تعقب السالسل الحتمية من األسباب والنتائج يف الشؤون اإلنسانية.
مل تزل تزعجني مشكالت شائعة ج ًّدا من الخيال العلمي والخيال
تفاعال تسلسل ًّيا
ا التخميني .هذا مثال :ميكن ألصغر أفعالنا نظريًّا أن يبدأ
له عواقب بعيدة املدى .تخيل لو أن أبا هتلر –أو ما رأيك بأيب قيرص؟–
وصل إىل رسيره الزوجي بعد ثانية واحدة .كانت لتجتمع يف تلك الحالة
ريا
نطفة مختلفة مع البويضة ،وكان ليتغري مسار التاريخ اإلنساين تغ ا
طفال ،قرأت قصة مرسومة عن فريق من الباحثنيريا ج ًّدا .عندما كنت ا
كب ا
الذين عادوا يف الزمان ليدرسوا الديناصورات .بالخطأ ،تحطّم مركبتهم
ورق اة واحدة ،فيتغري كل التاريخ اإلنساين؛ يف ذلك الواقع البديل ،يغزو
الهنود الحمر أوروبا .إذا كان لهتلر نسخة مستقبلية ،فإن كتابتي لهذا
مهام يف حمله ووًلدته .من يدري؟
الكتاب –وقراءتك له– قد تلعب دو ارا ًّ
8
مع هذا اًلرتياب الكبري ،كيف ميكن أن نتظاهر أننا نستطيع تقدير
العواقب الصالحة والفاسدة ألفعالنا؟ كيف ميكننا اتخاذ أي قرار دون
أن نتقهقر إىل شلل أخالقي كامل وارتياب مطلق؟
عادةا ،يتجاوز الناس هذه املشكلة بالقول إن علينا أن نفعل ما يف وسعنا.
يف هذا الجواب حق كبري ،ولكن السؤال يبقى :كيف ميكن أن نستعمل
تواضعنا املعريف لنتخذ خيارات أفضل؟
.5كيف ميكن أن نؤمن بالحقوق؟
لطاملا برز موضوع الحقوق اإلنسانية الجوهرية يف النقاشات
الفلسفية ،وهو موضوع له يف العامل األوسع قوة معتربة ،منها قوته يف
مثال .ولكن يف الدوائر الفلسفية ،يقوم مفهوم الحقوق
القانون الدويل ا
عادة عىل أسس تعترب غري ثابتة .حتى عندما يُقبل مفهوم الحقوق
ريا عىل مجرد الحدس.
الجوهرية ،يظل هذا املفهوم معتم ادا اعتام ادا كب ا
لن أستدل عىل فهمي للحقوق من الصفر ،لكنني أعتقد بحقوق إنسانية
مطلقة (تقري ابا) .سأطرح يف الكتاب اعتقادي بـ«الحقوق من غري
إحراج» .قد ًل يكون هذا اًلستدًلل بقوة دليل قطعي عىل الحقوق
الجوهرية ،لكن بعض العنارص األساسية يف استدًلًلتنا الفلسفية تدعم
3
حتام ،طبيعتها املقدسة.
مفهوم حقوق اإلنسان املوضوعية ،كام تدعم ،ا
أيضا.
كام قد تتوقع من رجل يدافع عن القواعد ،سأدافع عن الحقوق ا
.6أخالق الحس املشرتك
كثيرا من األسئلة التي أعالجها هنا ،راجع غريفين ( .)2008يستطيع وينار ( )2013كذلك بعض جوانب النقاش
لنظرة حديثة عن الحقوق ،تستطلع ً 3
الحالي ،باإلضافة إلى إسهاماته األصلية .بشأن المذهب الحدسي ،انظر هيومر (.)2005
9
يعتقد أصحاب أخالق الحس املشرتك بأن عىل اإلنسان أن يجتهد يف
عمله ،ويعتني بأرسته ،ويعيش حياة فاضلة ولكن متمركزة عىل ذاته،
وأن يتربع مبا يستطيع ويساعد غريه بني الفينة واألخرى .أما األخالق
النفعية ،فيبدو أنها تدعو إىل درجة أكرب من التضحية بالنفس .مل يجب
عىل األم أن تهتم بابنها إذا كانت تستطيع أن تبيعه وتستعمل أرباحها
لتنقذ عد ادا أكرب من األطفال يف هايتي؟ أليس واج ابا عىل كل متدرب
طبي أن ينتقل إىل إفريقيا جنوب الصحراء الكربى لينقذ أكرب عدد من
الحيوات؟ ما النسبة التي يجب أن تتربع بها من دخلك؟ بالنظر إىل
وجود الفقر املدقع ،أًل ينبغي أن تكون هذه النسبة عىل األقل خمسني
باملئة؟ هل تناول اآليس كريم مهم ج ًّدا؟ تقول أخالق الحس املشرتك إنه
ًل بأس باًلستمتاع بالشوكوًلتة ،أما األخالق النفعية فلها قول مختلف.
كان الفيلسوف الربيطاين هرني سيدغويك متعلقاا بفكرة التوفيق
الواسع بني ما تدعو إليه النفعية وما يدعو إليه الحس املشرتك؛ بعد ذلك،
سلك الفيلسوف الربيطاين ديريك بارفت املسلك نفسه .وإذا مل ميكن
نفضل ،ومل؟
التوفيق بني املنظورين ،فأيّهام ّ
تطرح املشكالت الستة السابقة كلها بعض األسئلة الصعبة .لكنني سأحاول
أن أدافع عن ادعاء جديل :أن هذه املشكالت الصعبة أكرث تشاب اها مام نظن.
حتام ،وبعدد قليل نسب ًّيا من «الحركات» الفكرية
ميكن حل هذه املشكالت ا
سهال سائ اغا؛ بل ستؤدي
ا والفلسفية .لن تجعل هذه الحركات التقدير املعياري
إىل مشكالت جديدة .لكنني سأقرتح أن نبيع مشكالتنا القدمية ونشرتي هذه
10
املشكالت الجديدة .يف الحقيقة ،سأقرتح ،بعد النظر واًلستدًلل ،أن هذا البيع
واجب علينا.
الحركات الفلسفية الجوهرية التي يف ذهني هي اثنتان:
أوًلا ،أنا ًل أعترب قوى اًلقتصاد اإلنتاجية أم ارا بديه ًّيا أو مفروغاا منه .ميكن
لإلنتاج أن يكون أكرث بكثري مام هو اليوم ،وميكن لحياتنا أن تكون أجمل .أو،
إذا ارتكبنا بعض األخطاء الكربى ،ميكن لإلنتاج أن يكون أقل ،وأن يكون
الجميع أفقر .هذه املالحظة البسيطة تسمح لنا أن نجعل اإلنتاج محور
نظريتنا األخالقية ،ألن القيمة مسألة مشكلة لوًل اإلنتاج .رغم كل نقائصها،
كانت آين راند الكاتبة الوحيدة التي فهمت أهمية اإلنتاج يف النظرية
األخالقية–وهي فكرة عربت عنها بحامسة وطول نفس ،وإن كانت بشخصيات
تعيسة .إن إنجازات حضارتنا إمنا تقوم عىل رأس املال والعمل واملوارد
الخالق .سواء أتفقت مع كل آراء راند
ّ الطبيعية ،التي وظفها العقل الفردي
السياسية أم مل تتفق ،فهي مصيبة يف موقفها بشأن أننا ًل ينبغي أن نعترب
وجود الرثوة أم ارا بديه ًّيا.
ثان ايا ،سأحاول أن أراجع بعض افرتاضاتنا الحدسية بشأن البعد األخالقيَ .من
من األفراد ينبغي أن يكون له نفوذ أكرب عىل خياراتنا ،ومن ينبغي أن يكون
له نفوذ أقل؟ سأدافع عن القول بأن األفراد الذين سيعيشون يف املستقبل
ينبغي أن يكونوا أقرب إلينا من حيث األخالق ،أقرب مام يفرتض كثري منا
اليوم .يجب أن يكون ملصالح املستقبليني قوة أكرب يف حساباتنا ،وهو ما يعني
أن علينا أن نستثمر استثام ارا أكرب يف املستقبل .حتى إذا صعب علينا أحياناا
خصوصا املستقبل البعيد،
ا أن نتخيل كيف ستؤثر أفعالنا يف أهل املستقبل،
11
فإن أهميتهم األخالقية تبقى عالية .لذا سأطالب الناس أن يكون إميانهم
باملستقبل أكربً .ل أطالب بهذا اإلميان أن يكون عىل حساب العقل ،ولكن أخذ
املستقبل البعيد هذا بعني اًلعتبار يف حساباتنا يتطلب موقفاا شبي اها ج ًّدا
باإلميان .ليس عبثاا أن معدًلت الخصوبة بني املتدينني أعىل ،أو أنهم
ريا من األعامل طويلة املدى واملشاريع الخريية ،كام ًلحظ ماكس
يخوضون كث ا
فيرب قدمياا.
وأنا أنظر يف األسئلة املطروحة أعاله ،سأركز عىل الحجج املتعارضة وعىل
ريا يف بناء اإلجامعات عىل املواد
خالصة املوضوع .لن أستغرق وقتاا كب ا
املألوفة ،ولن أستطلع قول كل أحد يف كل مسألة ،ولن أخوض يف غري ذلك
من التفاصيل املفرطة .لن أطيل ذكر األصول املألوفة ثم أذكر بعض اًلقرتاحات
الصغرية لحل هذه املشكالت الصعبة يف النهاية .لن أجادل باإلزالة ،أي لن
أركز عىل نقاط ضعف وجهات النظر األخرى وأغض الطرف عن نقاط
ضعفي .بل سأحاول أن أبدأ باألسئلة الصعبة ،وأشري إىل أصعب النقاط عىل
النقاش ،ثم أقيض بقية الوقت أحاول جمع القطع لتكون الحل .هذا ما أحب
أن أقرأه ،لذا فهذا ما أحاول أن أكتبه.
هذا هو موقف نقايش الداخيل .أرجو أن تستمتع به .إذا كنت القارئ الذي
أريده بهذا الكتاب ،فستشعر أنني مل أضغط مبا يكفي عىل األسئلة الصعبة،
مهام ضغطت.
أرجو كذلك أن تكون استجابتك لهذا الكتاب موقفاا أقوى يف الدفاع عن مثل
الحرية واًلزدهار .أرجو أن تنخرط انخراطاا أكرب يف قضية تقوية حضارتنا
وإطالة عمرها وتكثري عجائبها .يف هذا الكتاب ،سأذكر حاجتنا إىل صحوة
12
جذرية .ستثبت هذه الصحوة أنها طريقة جديدة ومقنعة للتأكيد مرة أخرى
عىل قوتنا نحن األفراد.
فلنبق هذا يف ذهننا ،ولنبدأ.
13
الرثوة تدفع العامل إىل الدوران 2
من أين تأيت القيمة؟ وكيف ت ُخلق القيمة وتبقى وتزيد مع مرور الزمن؟
تبدو تلك األسئلة البسيطة مبتذلة ،ولكنها يف صميم األخالق.
فلنتأمل يف فكرة األنظمة ،أو الشبكات ،أو املعايري ،أو السياسات التي تخلق
قيمة متزايدة عىل نحو ممنهج مع مرور الزمن ،دون نهاية ظاهرية .اعتاد
ميلتون فريدمان أن يحتج بأن ال وجود ليشء يُدعى وجبات مجانية ،ولكن
ال بد من هذا خاطئ عىل بعض املستويات .فالكون موجود – من الذي يدفع
مثنه؟ (بل وتؤكد بعض الفرضيات الكونية أن الكون نشأ من اضطرابات
كمية ،وينبعث منه بدوره فرو ًعا ،أو أكوان وليدة ،لألبد ،وكل ذلك
«باملجان») .ويوحي ذلك عىل ما يبدو بوجود وجبة مجانية واحدة كبرية
يف تاريخنا عىل األقل ،ولذا فمن املحتمل أن يكون لها مثيالت أخرى .إذن،
ما الذي مبقدورنا أن نعتربه وجبة مجانية عىل نحو مفيد يف إطار صنع
القرار االجتامعي؟ فرغم كل يشء ،تطور كوكب األرض بطريقة ما من
مجموعة من مفصليات ثالثية الفصوص إىل تريليونات الدوالرات من
الناتج املحيل اإلجاميل ومتحف لوفر ميلء بالرسومات.
14
ومبا أن العثور عىل وجبات باملجان ليست مهمة سهلة دو ًما ،علينا أن
نفكر يف األماكن التي قد تختبئ فيها الوجبات املجانية وسبب كون بعضها
حا من غريها .وتحدي ًدا ،قد نكتشف مكاسب خفية إذا تأملنا بعد
أقل وضو ً
منتظام من املنافع،
ً سيال
ً الزمان عن قرب .فرمبا تصدر بعض خياراتنا
ولكننا ال نراها بوضوح كام ينبغي لنا .فكام الحظ آدم سميث يف القرن
الثامن عرش ،نحن منيل إىل تصور األحداث املستقبلية عىل نحو سيئ للغاية
وبقصور يف الخيال املناسب.
يف االقتصاد ،يوجد عىل األقل مثال واحد (افرتايض) عىل وجبة
مجانية .فقد كتب االقتصادي فرانك نايت عن نبات الكروسونيا ،وهو
محصول خرايف ينمو تلقائ ًيا ويزيد إنتاجه كل فرتة .يكفيك أن تغرس
البذور حتى ينمو النبات مبفرده؛ ولن تحتاج أن تسقيه باملاء أو أن ترعاه.
تخيل ،عىل سبيل املثال ،شجرة تفاح تنتج بضع تفاحات كل عام .وتنتج
أيضا بذور التفاح .وتنبت تلك البذور ،ما ينتج عنه إمداد منتظم
تلك الشجرة ً
ومتزايد من التفاح وأشجار التفاح ،رغم أنه يعتمد عىل قدر ما من الشمس
واألمطار .وقد ينمو نبات الكروسونيا ،بقياس قدرته عىل إنتاج التفاح ،من ًوا
صاف ًيا قدره خمسة يف املائة كل عام .ويف ذات الوقت ،يبدو هذا النبات
كشجرة تفاح متواضعة وال يبدو أنه يحل أي أسئلة أخالقية أو سياسية.
15
قد تبدو فكرة نبات الكروسونيا غري واقعية أو ساذجة بعض اليشء،
ولكنها مثال مفيد يف تحديد طبيعة مسعانا .فالكروسونيا مثال عىل وجبة
مجانية –من التفاح عىل األقل– مبجرد أن تحصل عليها( .وباملناسبة ،إذا
كنت تتساءل عن سبب تسميته بنبات الكروسونيا ،فقد ُسمي ذلك تيمنًا
بجزيرة روبنسون كروسو يف رواية دانيال ديفو ،إذ كانت تلك الجزيرة
مليئة بأشجار تطرح مثا ًرا دون أي مقابل ،ودون الحاجة إىل عمل أو
مجهود يبذله كروسو أو أي شخص آخر .ولذا فقد استمتع كروسو ببعض
الوجبات املجانية الخاصة به).
اقرتح فرانك نايت فكرة نبات الكروسونيا حتى يوضح بعض النقاط
التقنية يف نظرية رأس املال واالستثامر ،ولكن زمن تلك النقاشات قد انتهى.
مدخال لحل مشاكل
ً ويف املقابل ،أرى أن نبات الكروسونيا يصلح أن يكون
التجميع .فنبات الكروسونيا مرغوب فيه أكرث من نبات ميوت بعد شهر دون
جميال ورائ ًعا .وبوسعنا
ً أن يرتك أي خلفاء ،مهام كان النبات قصري األمد هذا
أن نقارن النباتني من نواح عديدة ،مثل لونهام ورائحتهام ،ولكن بعد فرتة
من العائد املجاين املتواصل من نبات الكروسونيا ،يتضح أن الكروسونيا
هو الخيار األفضل .ففي مرحلة ما ،يطغى الرتاكم الهائل للقيمة الناتجة عن
النمو املتواصل لنبات الكروسونيا عىل جميع أوجه املقارنة .وبهذا نحصل
16
عىل مبدأ لكل من األخالق والحكمة :كلام ساورتك الشكوك ،اخرت نبات
الكروسونيا .فحني يتعلق األمر باتخاذ قرارات صعبة ،علينا أن نحاول
تحديد أي عنارص يف زمرة االختيارات املتاحة تشبه نبات الكروسونيا .فإذا
استطعنا أن نحدد الخيارات أو السياسات املعينة التي تطلق العنان ملا يكافئ
عائد نبات الكروسونيا املتواصل ،أو االرتفاعات املستمرة القامئة بذاتها
للقيمة ،فسيغدو الدفاع عن تلك الخيارات أم ًرا مقن ًعا .وعالوة عىل ذلك ،إذا
اتضح أن نباتات الكروسونيا أكرث شيو ًعا مام ظننا يف البداية ،فمن شأن
ذلك أن يخفف مشاكل التجميع بصفة أشمل.
ولذا ،يف وضع اجتامعي ،ما الذي ميكن اعتباره مشاب ًها لنبات
الكروسونيا؟ ابحث عن العمليات االجتامعية املستمرة ،والقامئة بذاتها،
والتي تخلق قيمة متزايدة مع مرور الزمن .واملرشح الطبيعي ملثل تلك
العمليات هو النمو االقتصادي ،أو نسخة معدلة لهذا املفهوم .فإذا كانت
املؤسسات التي تخلق حصيلة إيجابية بشكل مستمر موجودة ،فرمبا نجد
نبات الكروسونيا يف كل مكان .وكام سوف نرى ،ال تستويف التعريفات
املعيارية للنمو االقتصادي جميع خصائص نبات الكروسونيا متا ًما ،ويعزى
ذلك من ناحية إىل أنها تتغاىض عن قابلية االستدامة البيئية ،ومن ناحية
أخرى إىل أنها ال تنسب قيمة كافية لوقت الفراغ .ورغم ذلك ،إذا فكرنا يف
17
النمو االقتصادي بصفة أعم ،سنحظى بنبات الكروسونيا املناسب الذي
سوف نؤسس عليه قراراتنا.
18
ولث بلس :الكمية اإلجاملية للقيمة املنتجة خالل فرتة محددة من
الزمن .ويشمل ذلك القياسات التقليدية للقيمة االقتصادية املستخدمة يف
إحصاءات الناتج املحيل اإلجاميل ،مضافًا إليها قياسات وقت الفراغ،
واإلنتاج املنزيل ،ووسائل الراحة البيئية ،وجميعها محصودة يف قياس
مناسب للرثوة.
ويف هذا السياق ،ال يعني تعظيم الولث بلس أنه ينبغي عىل الجميع
أن يعملوا بأقىص قدر ممكن .إذ قد يعظم جعل يوم عمل مدته 14ساعة
الناتج املحيل اإلجاميل املقاس عىل املدى القصري ،ولكن ذلك سيكون أقل
مالءمة مع مرور الزمن مبجرد أن نأخذ يف االعتبار قيمة وقت الفراغ ،ناهيك
من إمكانية اإلرهاق من العمل .ورغم ذلك ،يقدر ذلك املعيار أخالقيات العمل
1
القوية.
وال يعني تعظيم الولث بلس تدمري البيئة الطبيعية .فمن املفهوم جي ًدا
اآلن أن من شأن املشاكل البيئية أن تقلل من النمو االقتصادي أو أن تدمره
.1فيام يخص توفري إرشادات عملية يف حساب ولث بلس ،أفضل مجهودان أعرفهام هام جونز وكليناو (،)2016
وبيكر وفيليبسون وسورز ( .)2005ولقراءة فقرة جيدة تضع اإلنتاج واإلنتاجية يف محور النظرية األخالقية ،انظر
ستانشيك ( ،)2012وانظر أيضً ا أعامل الفيلسوف ديفيد شميدتز.
19
من خالل تأثريات التغذية املرتدة .ولذا ينبغي علينا أن نحمي البيئة مبا فيه
الكفاية للحفاظ عىل النمو االقتصادي واستدامته حتى املستقبل األبعد.
وبصفة أعم ،يؤكد مبدأ الولث بلس عىل رضورة الحفاظ عىل منو
متزايد مع مرور الزمن ،ال أن نهتم بالنمو االقتصادي خالل سنة واحدة أو
فرتات أقرص من الزمن .وال يعني تعظيم معدل النمو االقتصادي املستدام
ريا ما تكون
السعي إىل النمو الفوري عىل حساب جميع القيم األخرى .فكث ً
السياسات التي متنح األولوية للنمو مبعدالت فائقة غري مستقرة ،من
فمثال ،حاول شاه إيران أن يدخل بلده إىل
ً الناحية االقتصادية والسياسية.
العرص الحديث برسعة هائلة .وبالفعل ،ارتفعت معدالت النمو لفرتة من
الزمن ،ولكن مل يكن من املمكن استدامة تلك املعدالت عىل املدى الطويل.
ومنذ حلول الثورة اإليرانية ،انتكس اقتصاد إيران .فلم تكن الحداثة القرسية
التي فرضها شاه إيران تعظم النمو االقتصادي الحقيقي ،ومن املرجح أن
2
السياسات األكرث حذ ًرا كانت أفضل وأكرث استدامة يف تلك الحالة.
إن مصطلح االستدامة إذن ،كام دمجته داخل فكرة نبات الكروسونيا،
يوجه انتباهنا نحو الرشوط املسبقة إلقامة حضارة معمرة .ورغم أن العديد
من الناس يعيشون حال ًيا يف سلم ورخاء نسبي ،ال ينبغي أن نعترب استمرار
.2لنظرة رسمية عىل مفهوم االستدامة ،انظر هيل (.)1998
20
مسلام به .فإذا نظرنا إىل السجالت التاريخية
ً هذا السلم والرخاء أم ًرا
الشاملة ،سنجد أن النمو االقتصادي ليس القاعدة ،وأن الحضارات هشة.
وقد جمع مايكل شريمر قاعدة بيانات غري رسمية عن البقاء الحضاري
تصنف بداخلها ستني حضارة ،ومن بينها حضارة سومر ،وبالد الرافدين،
وبابل ،وأُرس مرص القدمية الثامنية ،وست حضارات يف اليونان،
والجمهورية الرومانية واإلمرباطورية الرومانية ،وأرس وجمهوريات
متفرقة يف الصني ،وأربعة عصور مختلفة يف أفريقيا ،وثالثة يف الهند،
واثنان يف اليابان ،وستة يف أمريكا الجنوبية وأمريكا املركزية ،وستة يف
أوروبا وأمريكا الحديثتني .ووجد شريمر أن الحضارة املتوسطة صمدت
أيضا أن االضمحالل بات يأيت رسي ًعا مع مرور
ملدة 402.6عا ًما .ووجد ً
الزمن؛ فمنذ سقوط اإلمرباطورية الرومانية ،بات متوسط أعامر الحضارات
3
304.5عا ًما فقط.
ولعلنا نتساءل عام إذا كان مبقدورنا أن نعظم القيم التعددية ذات
الصلة من خالل إقامة مجتمع إنساين بحجم سكان ومستوى اقتصادي
متواضعني للغاية لزمن طويل ج ًدا – أو العيش يف انسجام مع الطبيعة،
إذا جاز التعبري .وعسانا أن نتذكر يف هذا الصدد عرق الهوبيت الطريف يف
رواية تولكني .ولكن املجتمعات األكرث األفقر يف املايض انهارت مرا ًرا
و ،187و ،206و 1,238سنة .ووقعت االنهيارات الصينية بعد فرتات قدرها ،400و ،500و ،442و ،360و،326
و ،69و 936سنة .ووقعت االنهيارات األشورية بعد فرتات قدرها ،157و ،82و ،38و ،143و 312سنة .ويصنف
أرنولد توينبي ،يف عمله الكالسييك دراسة عن التاريخ ،تاريخ العامل إىل ست وعرشين حضارة .ووفقًا لطريقته يف
العد ،مل تعد ست عرشة حضارة موجودة .ويشري عمل صمويل هنتنغتون اشتباك الحضارات ،مستشهدًا مباثيو
ميلكو ( ،)1969إىل اثنتي عرشة حضارة كربى ،هلكت منهم سبع حضارات.
.4يستشهد صمويل هنتنغتون ( )1996بعدة تعريفات للـ«حضارة» ،ومن بينها مفاهيم مثل «االستقرار ،والحرضية،
ريا
ومعرفة القراءة والكتابة» ( )40و«الكيان الثقايف األوسع» ( .)43حدد فرناندي-أرمستو ( ،)20–16 ،2001مش ً
إىل عمل كينيث كالرك ،الحضارة باعتبارها مجتمع يحظى بالثقة الكافية التي متكنه من البناء للمستقبل .نوه كالرك
( )1969بأنه ،رغم عدم معرفته مباهية الحضارة عىل وجه التحديد ،بوسعه أن يتعرف عليها فور رؤيتها .وعلق ماثيو
قائال« :حني تعمل الحضارة بكفاءة ،فمن املرجح أنها ستنمو».
ميلكو (ً )113 ،1969
22
وتكرا ًرا بسبب الضعف العسكري ،واملصائب البيئية ،واملجاعات،
واالستبداد ،والكوارث الطبيعية ،إىل جانب عوامل أخرى.
وعالو ًة عىل ذلك ،من الواضح أن الحروب البدائية كانت تكرر بنفس
أيضا يف الدموية ويف عنفها
معدل الحروب الحديثة عىل األقل ،ومتاثلها ً
العشوايئ 5.فلم تكن املجتمعات املبكرة مثالية أو سلمية .ولذا فالعودة إىل
املايض ،أو محاولة خنق النمو االقتصادي ،ال يضمن تحقيق اآلفاق
.5يركز داميوند ( )2005عىل الكيفية التي دمرت أو خربت بها املصائب البيئية حضارات املايض األقدم .وفيام يتعلق
بوحشية الحروب البدائية ،انظر كييل ( )1996ولوبالنك (.)2003
23
املستقبلية للحضارة ،ناهيك عن مدى الراحة التي توفرها .أو بعبارة أخرى،
عوضا عن السعي إىل حياة ساكنة وهادئة .ورغم
ً علينا أن نتقدم إىل األمام
ذلك يتطلب مسارنا السري عىل حبل مشدود ،واملوازنة بني التقدم
واالستقرار عىل طول الطريق.
ومن الشائع اعتبار أول سؤال من تلك األسئلة موضع اهتامم مييني أو
ليربتاري ،واعتبار الثاين الشغل الشاغل للمحافظني ،ويشيع الربط بني
السؤال الثالث ،ال سيام يف الواليات املتحدة ،بوجهات نظر اليسار
السيايس .ورغم ذلك من األحرى أن تكون تلك األسئلة مركزية ،ال ثانوية،
بالنسبة لكل كيان سيايس .وبوسعنا أن نرى فو ًرا كيف ينبغي إعادة
تشكيل الطيف السيايس ملواجهة تلك الشواغل بالقدر الكايف .فمن
24
األحرى أن تكون السياسة متعلقة بالبحث عن أفضل طرق لتحقيق تلك
الغايات ،ال أن تكون مشغولة بالحط من أهميتها.
يشري تاريخ النمو االقتصادي إىل أن النمو ،مع بعض التحفظات ،يخفف
من البؤس والشقاء ،ويزيد السعادة والفرص ،ويطيل األعامل .إذ تحظى
املجتمعات األكرث ثرا ًء مبستويات معيشية أعىل ،وأدوية أفضل ،واستقاللية
شخصية أكرب ،ومستوى أعىل من الرضا ،ومصادر أكرث للمرح .ورغم أن
الرثوة املقاسة ال تتوافق متا ًما مع الولث بلس ،فقد اقرتب هذان املفهومان
من بعضهام للغاية يف املايض ،وال سيام عرب نطاق النتائج التي رصدناها
(عىل عكس التجارب الفكرية االفرتاضية والتفكري املخالف للواقع).
25
بكثري ،اعتام ًدا عىل طريقة قياس األسعار وقيم املنتجات مع مرور الزمن،
وهو علم غري دقيق للغاية.
26
حني أن تقديرات ساعات العمل السنوية اآلن ترتاوح بني 1,400و2,000
6
ساعة.
أمراضا
ً وحتى وقت قريب ،كان شلل األطفال والجدري والتيفود
شائعة ،حتى يف أوساط األغنياء .وقد أصيب كل من رؤساء الواليات املتحدة
جورج واشنطن ،وجيمس مونرو ،وأندرو جاكسون ،وأبراهام لينكون،
ويوليسيس س .جرانت ،وجيمس أ .جارفيلد باملالريا يف وقت ما يف
حياتهم .فقد وجدت املضادات الحيوية واللقاحات يف جزء ضئيل ج ًدا فقط
يف تاريخ البرشية ،وليس من قبيل املصادفة أنها ظهرت يف أكرث األزمنة
ثرا ًء من بني كل األزمنة التي شهدتها البرشية عىل اإلطالق .فاألطفال
الصغار يبلون بال ًء حسنًا حني يولدون يف البالد األغنى ،وذلك ألن الرثوة
توفر املوارد الالزمة لرعايتهم بشكل أفضل.
.6تلك األرقام مستمدة من مكتب إحصاء الواليات املتحدة ،من خالل ورقة غري منشورة من تأليف برادفورد دولونج
«املحارضة الثانية :النمو البطيء والفقر يف شامل األطليس .»1870–1800 ،وعن ساعات العمل ،انظر هابرمان
ومينز (.)2007
27
يف فرنسا يف القرن الثامن عرش عىل نفس كمية الطاقة التي تجدها يف
حمية رواندا يف عام ،1965وهي أكرث دولة كانت تعاين من سوء التغذية
يف ذلك العام .ومن آثار هذا الحرمان ببساطة هو أن معظم الناس مل تكن
7
لديهم طاقة كبرية لالستمرار يف الحياة.
ويف األزمنة املبكرة ،أدى معظم األفراد أعامالً بدنية شاقة ،وكان
التعليم الجامعي –أو حتى التعليم الثانوي– كان صورة من صور الرتف.
وقد زاد وقت الفراغ مع النمو االقتصادي .ففي ،1880أنفق األفراد نحو
أربع أخامس وقتهم التقديري يف العمل ،طبقًا لالقتصادي روبرت فوجل.
واليوم نحن نقيض نحو تسعة وخمسني يف املائة من وقتنا يف فعل ما
8
يحلو لنا ،وقد ترتفع تلك النسبة إىل خمسة وسبعني بحلول عام .2040
وال تُعترب روائع العامل الحديث مجرد ملهيات تافهة ،بل هي مصادر
مهمة لراحة اإلنسان ورفاهيته .تخيل لو زار مسافر عرب الزمن من القرن
الثامن عرش بيت بيل جيتس اليوم .سيجد أجهزة تلفاز ،وسيارات،
ريا ،ومراحيض
وثالجات ،وتدفئة مركزية ،ومضادات حيوية ،وطعا ًما وف ً
28
مزودة بنظام شطف ،وهواتف محمولة ،وحواسيب شخصية ،وسفر جوي
بأسعار ميرسة ،بجانب منافع رائعة أخرى .إن أكرث مزايا حياة جيتس املثرية
لإلعجاب ،من وجهة نظر شخص من القرن الثامن عرش ،هي مزايا يتمتع
بها معظم مواطني البلدان الرثية اليوم .فهاتفي الذيك يعمل بنفس كفاءة
هاتفه الذيك .ومينح وجود حضارة متقدمة يف حد ذاته –نتيجة النمو
االقتصادي الرتاكمية– منافع هائلة للمواطنني العاديني ،ومن بينها قدرتهم
عىل تعليم وترفيه أنفسهم ،واختيار مسار حياة معني بدالً من مسار آخر.
وملزيد من الحجج عىل هذا املنوال ،أنصح بقراءة أحدث كتاب لستيفن
9
بينكر ،التنوير اآلن :دفا ًعا عن العقل والعلم والنزعة اإلنسانية والتقدم.
أيضا،
ويعود النمو االقتصادي للبلدان الرثية بالفائدة عىل الفقراء ً
رغم وجود بعض التأخري امللحوظ يف بعض األحيان .إذ يتغري توزيع الرثوة
مع مرور الزمن ،وال تنساب كل آثار النمو إىل األسفل ،ولكن مع اعتبار
املتوسط التاريخي اإلجاميل ،تحظى الرشيحة السفلية يف االقتصاد
بنصيبها من النمو 10.وبوسعك أن ترى ذلك مبقارنة الرشيحة السفلية يف
مثال ،بنظائرها يف الهند أو املكسيك.
الواليات املتحدةً ،
وال يتوقف تسلسل املنافع عند هذا الحد .فاملهاجرون يعودون يف
كثري من األحيان إىل بالدهم األصلية ،جالبني معهم مهارات جديدة وعالقات
كل من الهند وإرسائيل مشاهد تكنولوجيا
تجارية جديدة .فقد طورت ٌ
وبرمجية تنبض بالحياة بفضل عالقاتهم الوثيقة مبشهد الرشكات الناشئة
يف الواليات املتحدة عىل وجه التحديد .وقد دربت الجامعات اإلنجليزية يف
البالد املتكلمة باإلنجليزية آالفًا مؤلفة من الطالب اآلسيويني يف العلوم
30
أيضا إىل أعامل تجارية جديدة ،ويف النهاية ،معدالت
والهندسة ،ما أدى ً
منو اقتصادي أعىل يف بلدانهم األصلية.
أيضا
وتشق األدوية والتكنولوجيا الجديدة املطورة يف األمم الرثية ً
طريقها إىل بقية أنحاء العامل ،كام تبني بوضوح شديد يف االنتشار الرسيع
للهواتف املحمولة والهواتف الذكية اآلن .وتتنبأ إحدى الدراسات بأنه إذا
عززت مجموعة البلدان الصناعية الرائدة املؤلفة من إحدى وعرشين دولة
ميزانية البحث والتطوير لديها مبقدار نصف يف املائة فقط من الناتج
املحيل اإلجاميل ،فسريتفع إنتاج الواليات املتحدة وحدها مبقدار خمسة
عرش يف املائة .ولكن األمر ال ينتهي عند هذا الحد :فسريتفع إنتاج كندا
وإيطاليا بنحو خمسة وعرشين يف املائة ،وسريتفع إنتاج كل األمم
الصناعية بنحو 17.5يف املائة ،يف املتوسط .ويف البلدان األقل تطو ًرا يف
11
االقتصاد ،سريتفع إنتاجها بنحو 10.6يف املتوسط.
31
اليونانية واإلمرباطورية الرومانية من التجارة البحرية عرب البحر املتوسط؛
وقد قامت تلك املناطق بدورها بنرش املؤسسات املعززة للنمو يف أنحاء
أوروبا ،وأفريقيا الشاملية ،والرشق األوسط .وأعادت الثورة التجارية يف
العصور الوسطة املتأخرة وعرص النهضة فتح العديد من طرق التجارة
العتيقة ،وويف النهاية متكن البرش من الهروب من الفخ املالتويس الذي
ينطوي عىل أجور منخفضة للغاية للفرد عىل مستوى الكفاف .لقد ساهمت
ثروة الغرب يف متكني معجزات التصدير يف اقتصادات رشق آسيا .واليوم،
تسعى معظم البلدان الفقرية إىل زيادة فرص الوصول لألسواق الغربية
12
واآلسيوية ،وأن تزدهر إذا كان بإمكانها تحقيق ذلك.
32
التكنولوجيا الغربية وتصديرها لألمم األكرث ثرا ًء .وتحولت الصني من أمة
فقرية للغاية إىل أمة «متوسطة الدخل» مع وجود طبقة متوسطة وطبقة
غنية ال بأس بهام.
.13عن انخفاض انعدام املساواة العاملي ،انظر عىل سبيل املثال الكرن وميالنوفيتش (.)2014
33
ويف بعض األحيان ،ال متنح فرتات النمو املطولة منافع كاملة أو
منصفة للطبقات الفقرية أو الطبقات الدنيا ،ومن األمثلة عىل ذلك املرحلة
األوىل من الثورة الصناعية الربيطانية يف أواخر القرن الثامن عرش .ورغم
ذلك ،توحي السجالت التاريخية بأنه كان من األفضل لربيطانيا أن متيض
قد ًما يف النمو االقتصادي ،نظ ًرا ألن ذلك قدم يف النهاية أكرب دفعة يف
مستويات املعيشة شهدها العامل عىل اإلطالق .ومام ال شك فيه أن مثة
سياسات أفضل كان من املمكن تطبيقها حينئذ ،وكان من شأنها أن تؤدي
إىل توزيع أشمل ملنافع النمو االقتصادي (وعىل سبيل املثال ال الحرص،
تقليل عدد الحروب ،وإصالح قانون الفقراء ،ومتكني التجارة الحرة
للربيطانيني) .ولكن حتى مع أخذ السياسات الخاطئة يف االعتبار ،فقد أبلت
عوضا عن التخيل عن
ً بريطانيا بالء أفضل بسعيها إىل النمو االقتصادي
الفكرة كل ًيا ،حتى وإن مل تتحقق أي مكاسب حقيقية يف أجور الطبقة
العاملة حتى أربعينات القرن التاسع عرش.
قدم الفائز بجائزة نوبل ،أمارتيا سن ،فكرة «القدرات» كمحل تركيز
بديال له كل ًيا .وأشار سن إىل أن فرصنا
بديل للنمو االقتصادي ،إن مل يكن ً
اإليجابية يف الحياة عاد ًة ما تحظى بأهمية أكرب من املبلغ النقدي يف
أيضا أن بعض أجزاء العامل ،مثل والية كرياال
حساباتنا البنكية .وقد الحظ ً
34
يف الهند ،تحظى مبؤرشات مرتفعة يف الصحة والتعليم ،رغم أن دخولها
الفردية منخفضة نسبية.
35
من الرثوة ،إىل جانب إنفاق استهاليك أعىل من املتوسط ،وهام عامالن
14
يؤخذان يف االعتبار يف اإلحصاءات التقليدية.
وأنا شخصيًا كتبت عن الركود العظيم ،وهو تباطؤ يف النمو بدأ يخيم
عىل العامل الغريب يف عام 1973تقري ًبا .ولكن االعتقاد بأن التقدم
36
اإلنساين قد استنفد أغراضه ينم عن عجز بالغ يف الخيال .والرؤية األقرب
للعقل هو أن التقدم يتكتل عىل نحو غري متساو عرب الزمن ،ونحن اآلن
نعيش يف عرص يتسم بالبطء يف اآلونة األخرية ،ومثة تطورات جديدة
متنوعة متناثرة ،وعلينا أن نبذل قصارى جهدنا يف دعمها عىل طول
الطريق .وسواء أحببنا ذلك أم ال ،ال يصل النمو االقتصادي والتقدم
التكنولوجي دامئًا بخطى ثابتة.
يزخر تاريخ العامل بسوابق متنوعة لفكرة «تحول عظيم» يؤدي إىل
زيادات ضخمة يف كمية وجودة الحياة البرشية .مل يتنبأ أجدادنا بتطور
البرش ،أو الثورة الزراعية ،أو «الثورة الحرضية» (سومر وبالد الرافدين،
نحو 4000عام قبل امليالد) ،أو الثورة الصناعية .ويف هذا الشأن ،مل تكن
ثورة رشق آسيا يف النمو االقتصادي متوقعة عىل نطاق واسع .وكل تطور
غري الوضع البرشي بدرجة كبرية مع مرور الزمن ،ويف النهاية كان كل ذلك
ر
نحو األفضل .وتاريخ النمو االقتصادي هو ،بدرجة ما ،تاريخ تحديد تبعات
مثل تلك التحوالت غري املتوقعة .ومن غري املرجح أننا شهدنا آخر ما تبقى
من مثل تلك الثورات ،وهذا عىل األقل يعتمد عىل ما إذا نجحت الحضارة يف
البقاء صامدة.
37
وتزداد أهمية مسألة معدل النمو االقتصادي بالنظر إىل املستقبل
فمثال ،يحدث معدل اثنني يف املائة من النمو االقتصادي ،بدالً من
ً البعيد.
ضئيال عرب أفق زمني مقداره عام واحد .ولكن مع مرور
ً واحد يف املائة ،فرقًا
الزمن ،يحدث معدل النمو األعىل زيادة هائلة ج ًدا يف مستوى الرخاء.
ملموسا ،فلنتأمل التجربة اآلتية :أعد تنفيذ
ً وإلثبات هذا املفهوم وجعله
تاريخ الواليات املتحدة ،ولكن افرتض أن اقتصاد البلد منا مبقدار أقل بنسبة
واحد يف املائة كل عام بني 1870و .1990يف هذا السيناريو ،لن يكون
اقتصاد الواليات املتحدة يف 1990أكرث ثراء من اقتصاد املكسيك يف
15
.1990
.15كوين (.)2004
38
وضح روبرت إي .لوكاس ،الفائز بجائزة نوبل يف االقتصاد ،تلك
قائال« :إن التبعات املرتتبة عىل إجابة مثل تلك األسئلة عىل
النقطة بإيجاز ً
رفاهية اإلنسان فادحة :فبمجرد أن نفكر يف (النمو األيس) ،من الصعب
16
علينا أن نفكر يف أي يشء آخر».
39
حني يشكلون رواياتهم الشخصية .أظهر بنجامني م .فريدمان ،يف عمله
الرائع التبعات األخالقية للنمو االقتصادي ،مدى اعتامد العديد من فضائل
17
العامل الحديث عىل مستويات متنامية ومتزايدة من الرثوة.
مييل الكثري منا إىل التكهن أماكن العامل التي تحظى بأعىل مستوى معييش
وأماكن العامل التي يحظى فيها الناس بأعىل مستوى من السعادة .أهي
البلدان األكرث ثرا ًء؟ أم البلدان التي يتسم فيها الناس بأفضل اتجاهات
نفسية؟ أم مثة إجابة أخرى لهذا السؤال؟
.17انظر فريدمان ( .)2006وعن الصلة بني الفنون والنمو االقتصادي ،انظر كوين ( .)1998ولدفاع حديث عن
تعظيم الناتج املحيل اإلجاميل ،انظر أولتون ( .)2012ولدفاع فلسفي حديث عن أهمية النمو االقتصادي يعتمد عىل
اعتبارات تعددية ،انظر مولر ( .)2011ويأخذ ستانشيك ( )2012يف االعتبار أهمية «العدالة املنتجة» ،أي ضامن إنتاج
املخرج يف املقام األول.
40
توحي األبحاث الحديثة أن الرثوة تعزز السعادة ،وينطبق ذلك عىل
طيف متنوع من الناس ،ومن بينهم األغنياء نسب ًيا الذين يدبرون حاجاتهم
األساسية بالفعل .وجد االقتصاديون بيتيس ستيفنسون وجاسنت وولفرز،
يف أشمل دراسة للرابط بني الدخل والسعادة حتى تاريخ الكتابة ،أن
العالقة بني الرفاهية املقاسة والدخل هي عالقة شبه خطية لوغاريتمية ،ما
يدل عىل أن الدخل يعزز السعادة حتى يف املستويات األعىل من الدخول.
وتوصلت دراسة شاملة أجراها الحاصل عىل جائزة نوبل االقتصادي
أنغوس ديتون إىل نتائج مشابهة ،وهي أن الدخل اإلضايف يثمر عن مستوى
18
أعىل من السعادة ،حتى يف األوساط الرثية نسبيًا.
.18انظر عىل سبيل املثال ستيفنسون وولفرز ( ،)2013 ،2008وساكس وستيفنسون وولفرز ( ،)2010وديتون
(.)2007
41
ويحتج بعض املعلقني بأن املنحنى يتسطح عند نصف الدخل األمرييك لكل
فرد تقري ًبا .وتثري تلك النتائج الشكوك بشأن ما إذا كان النمو االقتصادي
19
يثمر حقًا عن فوائد فيام يخص السعادة.
إن رصد عالقة شبه مسطحة بني السعادة والرثوة يدل عىل طبيعة
اللغة أكرث مام يدل عىل طبيعة السعادة .وكمثال ،إذا سألت الناس يف كينيا
عن مدى سعادتهم بصحتهم ،فستحصل عىل معدل مرتفع للغاية عن
ريا عن املعدل املرصود يف البلدان
مستوى الرضا املقر به ،وال يختلف كث ً
األكرث الصحة ،بل وهو أعىل من معدل الرضا املقر به يف الواليات املتحدة.
واالستنتاج الصحيح لذلك ليس أن املستشفيات الكينية تحظى بفضائل
.19عن تسطح املنحنى ،انظر عىل سبيل املثال هيليويل ( .)28 ،2002واملصادر األخرى ذات الصلة هي أرجايل
( ،)1999وأوزوالد ( ،)1997ومايرز ( .)2000ال يرتفع مستوى السعادة الرتاكمي بصفة عامة يف البلدان الرثية حني
تزداد ثرا ًء مع مرور الزمن .ويف بعض الحاالت (الواليات املتحدة يف الفرتة 1991–1946كمثال) ترتبط الزيادة يف
الرثوة مبستويات أقل من السعادة املقر بها ذاتيًا؛ انظر ديرت ( ،)1984وبالنشفالور وأوزوالد ( ،)2000وديرن
وأوييش ( ،)2000ومايرز ( ،)2000وكيني ( ،)1999ولني ( ،)1998وفري وستوترس ( ،)2000وإيسرتلني
( .)1995وعن الواليات املتحدة ،انظر فري وستوترس ( .)77–76 ،2002aولنقد الرابط بني الدخل والسعادة من
منظور استخدام الزمن ،انظر كامنان وآخرين (.)2006
42
خفية أو أن املالريا ال وجود لها يف كينيا ،بل أن الكينيني أعادوا ضبط
استعاملهم للغة ليعكسوا ما ميكن توقعه عىل نحو معقول من تجاربهم
اليومية .وبطريقة مشابهة ،يرفق الناس املعرضون ملواقف غري سعيدة أو
املجتمعات غري السعيدة معان أقل تفاؤالً مع زعمهم بأنهم سعداء .وبالتايل
أي أدلة قامئة عىل االستبيانات ستقلل من مدى سعادة الناس يف البلدان
20
األكرث ثراء.
43
أيضا .بل قد يكون من األيرس أن تعيد ضبط استعاملك للغة من أن
التأطري ً
تعيد ضبط توقعاتك للسعادة.
يفرض األثرياء معايري أعىل عىل الظروف التي يعتربون أنفسهم فيها
«سعداء» أو «سعداء للغاية» .فإذا كنت مليونري تعيش بجوار ملياردير ،فمن
غري املرجح أنك ستقر بأنك يف غاية الرثاء ،رغم أن حياتك اليومية قد تكون
حلوة للغاية .وال يعني عدم إقرارك بأنك تعيش حياة سعيدة للغاية أنك
تقيض وقتك بأكمله تحقد عىل امللياردير أو تتعذب من كونك تحظى مبكانة
نسبية أقل ،بل بوسعك أن تتباهى برثوتك الطائلة أمام غريك من الناس ،إذا
رغبت يف ذلك .ولكن من شأن وجود جار أغنى منك يف حد ذاته أن يجعلك
تفرض معايري أعىل عىل كيفية استخدامك لكلمة «سعيد» أو «سعيد
للغاية».
وبالتايل ،قد ينطوي املستوى الثابت من السعادة املقر بها عىل زيادة
يف السعادة الحقيقية مع مرور الزمن ،وذلك ألن كلمة «سعيد» تنطوي عىل
معان متزايدة يف الطموح كلام جمع املجتمع ثروات أكرب وحظي بتجارب
أغنى .فالتحسن يف أوجه الحياة يجعلنا سعداء بصفة عامة ،يف حني أننا
كال من توقعاتنا للسعادة ومعايري إقرارنا بالسعادة –استعاملنا
نضبط ً
للغة– لألعىل .واالعتقاد القائل بأن الرثوة األكرب ترتبط مبستوى أعىل من
44
السعادة مدعوم باملالحظة املبارشة .إذ يسعى العديد من األفراد أن يحظوا
بدخول أكرب ،حتى بعد تعرضهم لقوة الطموح وتكيفات املتعة .وال يعني
ذلك أنهم يتعرضون للخداع ،بل أنهم يعلمون من داخل أنفسهم أن املال
سيساعدهم يف تحقيق غايات مثينة أو أنه سيساعد عائالتهم .فاألفراد
يقدرون السعادة لعائالتهم بقدر ما يقدرونها ألنفسهم ،حتى لو كانت
وسيلة تحقيق تلك السعادة هذه غري مبارشة وال تنعكس دامئًا عىل مزاجهم
اليومي أو تقاريرهم الذاتية املحدثة لحظة بلحظة.
ونفس املبدأ ينطبق داخل بلد ما ،فاألثرياء يقرون مبستويات أعىل من
السعادة عىل نحو قاطع ،يف املتوسط ،باملقارنة مبن هم أفقر منهم 21.ورغم
كل الحديث عن بعض دراسات السعادة التي تقدم رؤية تصحيحية للرثوة
املادية ،مل يشكك أحد يف صحة تلك النتيجة ،ما يوضح بشكل قاطع أن
الرثوة تؤدي إىل مزيد من السعادة ،يف املتوسط عىل األقل .وإىل حد ما،
تعكس سعادة األثرياء املقر بها ذات ًيا تأثري مكانة نسبية ذات محصلة
صفرية ،أي أن األكرث ثرا ًء يشعرون بأنهم أفضل حاالً ،ولكن ممتلكاتهم
تجعل الفقري يشعر بأنه أسوأ حاالً .ورغم ذلك ،من غري املرجح أن كل
45
املكاسب من الرثوة ،أو حتى معظمها ،تتبدد يف ألعاب ذات محصلة
صفرية .فحياة األثرياء أيرس وأسعد من الناحية املطلقة يف عديد من
النواحي ،كام نوقش أعاله ،وكام هو واضح بنظرة رسيعة عىل أكرث األماكن
التي يتمنى املهاجرون أن يهاجروا إليها ،وهي البلدان األكرث ثرا ًء.
إذا اشرتى رجل ثري سيارة مرسيدس ،فسيظهر جاره استياء أكرب
للفولكسفاغن التي لديه .ولكن إذا امتلك نفس هذا الجار سيارة الدا يف
لينينغراد قرابة عام ،1976فسيعرب عن مستوى عال أو الئق من الرضا يف
استبيان عن السعادة .ولكن من الناحية املطلقة ،سيكون هذا الرجل أفضل
حاالً بكثري إذا امتلك سيارة فولكسفاغن يف أمريكا املعارصة مام إذا امتلك
سيارة الدا يف لينينغراد يف سبعينات القرن العرشين .فالفولكسفاغن
ريا ويصعب تشغيلها .إذن فرغم
سيارة جيدة ج ًدا ،أما الالدا فهي تتعطل كث ً
أن الجار يحسد جاره الرثي عىل املرسيدس التي ميتلكها ،فمكاسب السعادة
التي يحظى بها من الرثوة (ومن السيارات األفضل) ال تتبدد يف صورة
حسد .فالسيارات األفضل تجعلنا أفضل حاالً بالفعل .ولصياغة ذلك بعبارة
أخرى :من األفضل لك أن تحسد جارك عىل سيارته املرسيدس بدالً من أن
تحسده عىل حنطوره .ويا حبذا لو كنت تحسده عىل مركبته األرسع من
الصوت.
46
ريا واح ًدا بسيطًا ميكن
وفوق كل تلك االعتبارات ،السعادة ليست متغ ً
قياسه بطريقة ال لبس فيها .فالسعادة لها معان مختلفة متا ًما عند أشخاص
مختلفني .فقد يسعى بعض الناس إىل محفزات وقتية حني يسعى البعض
اآلخر إىل الشعور بالرضا يف نهاية حياتهم ،ويسعى البعض اآلخر إىل
تعظيم جودة حياتهم اليومية .ويسعى البعض إىل السعادة من خالل عملية
التغلب عىل نظرائه يف املنافسة عىل املكانة ،بينام يلجأ البعض اآلخر إىل
البحث بداخلهم عىل املرسات التأملية .ومن املرجح أننا نسعى إىل خليط من
تلك الغايات ولكن مع الرتكيز عىل غاية أو أخرى بعينها .توفر املجتمعات
فرصا أكرث وحقوقًا أكرث يف تحقيق املفاهيم املفضلة للسعادة،
ً األكرث ثرا ًء
حتى ال يظهر هذا االمتياز دامئًا يف قياسات رقم إجاميل واحد.
47
الطويل ،واالستمتاع باألطفال مقابل خوض حياة مليئة باملسارح والرحالت،
وهلم ج ًرا.
.22انظر شوارتز وسرتاك ( )1998عن بعض تلك املفارقات .يقدم ليفنسون ( )2013مالحظات مثرية لالهتامم عن
دور الذي قد يلعبه اإلسقاط (مع افرتاض الدوام الزائد لألحداث الحالية) يف تلك التقييامت.
48
ال صلة لها بالسعادة ،فالتغريات الكبرية مبا فيه الكفاية يف ظروف الحياة
كفيلة بتعزيز أو إيذاء رفاهيتنا.
وكمثال عىل الكيفية التي تؤثر بها التغريات الكبرية ،تخلق معظم
ريا .ويحظى األفراد املرىض باستقاللية أقل،
بؤسا كب ً
ً كوارث الحياة
ويشعرون بأمل أكرث ،ويواجهون ضغط التعامل مع حالتهم .وموت طفل أو
فرد عائلة قريب يرض رض ًرا بال ًغا بسعادة معظم األفراد ،وتلك التأثريات
تدوم ألعوام طويلة .ويؤدي التعذيب ،والضغط الشديد ،واالغتصاب ،واألمل
أيضا إىل االكتئاب ،والصدمة ،والتعاسة املستمرة .ويعاين األفراد
الحاد ً
الذين خاضوا الحروب ،والثورات ،وانهيار النظام املدين بكرثة من ومضات
ذاكرة متكررة ،وكوابيس ،ورسعة الغضب ،واالكتئاب ،وإدمان الكحول،
والعالقات املضطربة ،والعجز عن الرتكيز .ورغم االضطراب النفيس الذي
حال لتلك املشاكل ،ويف
تبدو عليه املجتمعات الحديثة الرثية ،فالفقر ليس ً
23
الواقع قد يجعلها أسوأ.
.23عن الرابط بني الكوارث والتعاسة ،انظر ديريجروف ( ،)1990ليامن وآخرين ( ،)1987وايس ( ،)1987فريدريك
ولوينشتاين ( ،)1999ليامن وورمتان وويليامز ( ،)1987أرترش ( ،)2001وورمتان وآخرين ( .)1992وألدلة عن
صعوبة التعايف من االغتصاب ،انظر ماير وتيلور ( )1986وويرتز وهاريل (.)1987
49
شكك بعض املعلقني يف ما إذا كانت الكوارث الشديدة تجعل حال
الناس أسوأ .فعىل سبيل املثال ،قد تدفع اإلصابة بإعاقة حادة أو إعاقة بدنية
األفراد إىل تعديل توقعاتهم ملا ستكون عليه حياتهم .وقد يحتفظ هؤالء
األفراد ببعض أو رمبا كل مستويات السعادة األصلية من خالل تقليل
طموحاتهم ،ولهذا السبب قد يقل مقدار السعادة املفقودة .ورغم ذلك ،يقر
ضحايا الكوارث مبستويات أقل من السعادة من األفراد األصحاء نسب ًيا،
ويتحمل الكثري من هؤالء الضحايا أعوا ًما طويلة من املعاناة الكبرية .ويبدو
أن آليات التأقلم ال تعمل بكفاءة ال سيام حني تكون حالة الفرد تسوء بانتظام
24
مع مرور الزمن.
.24عن التأقلم ،انظر بريكامن وكوتس وجانوف-بوملان ( ،)1978وبوملان وورمتان ( ،)1977وكسلر وبرايس
وورمتان ( ،)1985وورمتان وسيلفر ( .)1987وعن فكرة «جوهر األمل» ،انظر فري وستوترس ( ،)56 ،2002aويرتز
وهاريل ( ،)1987سرتويب وآخرين ( .)2001وعن التغريات التي تحدث مرة واحدة فقط مقابل التدهور املستمر،
انظر فريدريك ولوينشتاين (.)1999
50
ومتثل الرثوة اإلضافية كذلك وسادة للحامية من األحداث السيئة
للغاية ،أو عىل األقل حامية من االنخفاضات الالحقة للرثوة .فقبل عرش أو
خمس عرشة سنة ،كان من الشائع أن تسمع الزعم القائل بأنه متى تصل
أمة إىل مستوى الرثوة املادية التي تحظى به اليونان ،يصل مستوى
السعادة إىل خط مستوي ثابت ال يرتفع .وبالفعل ،تلك هي النقطة التي
يبدو أن مستوى السعادة يتوقف عندها .ولكن منذ األزمة االقتصادية
اليونانية التي يعود تاريخها إىل عام ،2009مل يعد أحد يستخدم املثال
اليوناين لتوضيح العالقة املسطحة بني السعادة والدخل .فقد خرس البلد ما
يقرب من ربع مخرجه االقتصادي ،وارتفعت البطالة إىل ما يزيد عن
عرشين يف املائة ،واندلعت أعامل الشغب يف الشوارع ،وانتُخب حزب نازي
جديد يف مجلس الترشيع ،وأضحت األدوية األساسية يف بعض األوقات
غري متوفرة .ولو كان البلد ميتلك احتياطيات إضافية من الرثوة قبل تلك
األزمة لرمبا ساعد ذلك اقتصاد البلد بدرجة كبرية ،ولرمبا حال ذلك دون
وقوع كل تلك املشاكل برمتها بتيسري سداد الديون.
51
فمثال ،ال
ً األكرث ثرا ًء عىل إرجاء الكوارث الحادة أو التخفيف من حدتها.
ميكن لقياسات السعادة أن تتضمن فوائد الزيادة يف متوسط العمر املتوقع.
فليس بوسع املوىت والعجزة أن يشتكوا من الوضع الذي هم فيه من القرب،
أو عىل األقل ليس يف االستبيانات .يرتفع متوسط العمر املتوقع بزيادة
الرثوة ،ولكن التقارير الذاتية عن السعادة تغفل عن هذه الفائدة ألن
الباحثني ال يستفتون املوىت عن آرائهم .وإذا مأل مهاجر ،أو طفل ملهاجر،
استبيانًا عن السعادة ،فلن تجد مقارنة بني أحوالهم الحالية وما قبل الهجرة،
سواء كام كانت أو كام كانت لتكون .وبحكم التصميم ،تستند أبحاث
السعادة إىل مجموعة ثابتة من الناس يعيشون يف ظروف طبيعية نسبيًا.
وذلك يحد من قدرتها عىل قياس بعض أكرب الفوائد التي يثمر عنها النمو
االقتصادي .إذا أردنا أن نكون موجودين حتى يكون لنا خيار اإلجابة عىل
استبيانات السعادة تلك ،فالرثوة ذات أهمية بالغة.
52
التغلب عىل الخالف 3
53
حا مبقدار خمس نقاط مئوية يف معدل النمو ،يجب أن ميتد األفق
طمو ا
الزمني 22.5عا اما فقط للحصول عىل تلك النسبة .3:1
ضع يف اعتبارك أن عدد السنوات املشار إليه يعرب عن زمن الوصول إىل
النسبة ،3:1مبقارنة معدل منو أعىل مع معدل منو أدىن .مبرور الوقت ،إذا
استمر ارتفاع النمو ،فسيتم تجاوز النسبة 3:1عىل أساس مستمر وستزداد
تلك الفجوة باستمرار .ومن أجل تعزيز النمو مبقدار نقطة واحدة،
ونقطتني ،وخمس نقاط مئوية ،سنحتاج إىل ،161و ،81و 33عا اما ،عىل
التوايل ،للوصول إىل خمسة أضعاف الناتج املحيل اإلجاميل .لذا فإن
املطلب 3:1هو مجرد معلم مؤقت عىل الطريق نحو اختالفات أكرب يف
الرثوة والرفاه (عىل األرجح).
يجادل االقتصاديون أحياناا بأن البنية املعروفة باسم مربهنة االستحالة آلرو
مستحيال ،إال أنه فور اعتبار السعادة والرفاه
ا تجعل حل تضارب التفضيالت
ٍ
سامت ذات صلة ملقارنة خيار بآخر ،فإن مربهنة االستحالة آلرو ال تنطبق.
إذ تفرتض مربهنة آرو األصلية ،ويجب أن تفرتض ،أن «حديث السعادة»
(عىل سبيل املثال ،معلومات املنفعة األساسية والشخصية) غائب عن
مقارنات الحاالت االجتامعية .فكر يف مربهنة آرو عىل أنها تقترص عىل
النظر يف نوع املعلومات الذي ميكن تجسيده يف األصوات املرصودة أو
التصنيفات الرتتيبية .وحاملا تُق َّدم مجموعة أغنى من املعلومات ،تضمحل
54
مربهنات االستحالة القياسية ،ولهذا السبب أنا ال أعريها الكثري من االهتامم.
فقد كانت مجرد مشكلة كبرية يف بعض األطر النظرية املحدودة نو اعا ما،
1
ومل تكن أب ادا مشكلة كبرية يف العامل الحقيقي يف األساس.
تتمثل النقطة األساسية ببساطة يف أنه إذا كانت مكاسب املستقبل كبرية
ومستمرة ،فإن تلك املكاسب ينبغي أن تفوق يف نهاية املطاف التكاليف غري
أيضا.
املتكررة بدرجة كبرية ،ومن املرجح أن تأيت بقيم تعددية أخرى ا
قارن كوريا الجنوبية يف الوقت الحايل مع أفريقيا جنوب الصحراء .كام
ناقشنا آنفاا ،إن الزيادة املستدامة يف النمو االقتصادي ،املفهومة بشكل
صحيح ،ستعزز العديد من القيم التعددية عىل املدى املتوسط والطويل.
وبال شك أن بعض الناس سيصبحون أسوأ حاالا ،ولن تؤيَّد بعض القيم،
عىل املدى القصري إىل املتوسط .يف هذه الجوانب ،ال تختفي مشاكل
مثال سن ( .)1984بعيداا عن صلب املوضوع ،فكر كيف يستحرض تحليل التكلفة والفائدة التقليدي مبدأ
.1اقرأ ا
«التعويض املحتمل» لتقييم األهمية النسبية لفائزي السياسة وخارسي السياسة .يف هذا النهج االقتصادي التقليدي،
إن السؤال الرئييس هو هل تتجاوز مكاسب الرابحني خسائر الخارسين ،أو بصياغة أخرى ،هل بإمكان الرابحني
تعويض الخارسين من حيث املبدأ ،كام تقاس بالرثوة املادية .إذا كان األمر كذلك ،فإن تحليل التكلفة والفائدة يويص
بالسياسة ،ألنه من حيث املبدأ ميكن تحويلها إىل حالة يستفيد فيها الجميع .ال يعترب هذا عمو اما مقارنة منفعة
شخصية ،ولكنه من الناحية العملية يؤدي الوظيفة ذاتها .ففي معظم حاالت العامل الحقيقي ،ال يع ِّوض الرابحون
الخارسين أبداا أو حتى يفكروا بجدية بذلك .لذلك نحن نحكم عىل مجموعة واحدة من املكاسب عىل أنها «أكرث قيمة»
اجتامعياا من مجموعة الخسائر عىل الجانب اآلخر من املقياس ،وغالباا ما تكون هوامش الربح الصايف ضئيلة نسبياا.
الحظ باملناسبة أن إجاميل مقارنات الدخل الحقيقي سيحد من نطاق عدم تعدي الناتج ومشاكل التبديل املزدوج
لسيتوفسيك ،كام حددها تشيبامن ومور (.)1978
55
التجميع .ومع ذلك ،ال تعرض الخيارات املتنافسة عمو اما حالة جمود للقيم
واملصالح املتكافئة تقري ابا عىل كل جانب من املقياس ،إذ يبدو أحد الجانبني
مثال ،أفضل حاالا من جمهورية الكونغو
أفضل باعتدال .فكوريا الجنوبية ،ا
الدميقراطية بهامش كبري .وسيوفر ارتفاع بديل النمو يف النهاية رجحاناا
واض احا ومستم ارا للقيم التعددية لصالحه ،سواء كانت مستويات املعيشة ،أو
حقوق املرأة ،أو حرية االختيار ،أو مكافحة الفقر ،أو قيم مهمة أخرى .فلم
2
ال نختار ذلك الخيار ونعرتف أنه يف حوزتنا أسباب عقالنية لتفضيله؟
إن هذا النهج ملشكلة التجميع ينسجم مع أخالق الحس السليم .فال ميكن أن
يكون الجميع سعداء بكل يشء طوال الوقت ،ولكن ينبغي علينا مع ذلك
اختيار الخيار الذي يجعل أكرثية كبرية من الناس أفضل حاالا .وستعم أهم
القيم التعددية.
إن اختيار السياسة املؤيدة للنمو يعالج بعض املشاكل البارزة يف
األخالقيات .عىل سبيل املثال ،يف االقتصاد التقليدي –عىل األقل قبل الثورة
السلوكية واالندماج مع علم النفس– كان يُفرتض عمو اما أن ما يختاره الفرد،
أو سيختاره ،هو مؤرش جيد عىل رفاهه .لكن التفضيالت الفردية ال تعكس
عرب عنها يف
دامئاا اهتاممات األفراد جي ادا .وغال ابا ما تظهر التفضيالت ،كام يُ َّ
.2رونالد دوركني ( )1980يقدم نقداا فلسف ايا ملبدأ التعويض املحتمل .ويناقش بأن الرثوة ال ميكن أن تكون غاية يف
حد ذاتها وبأننا ينبغي أن نويل املزيد من االهتامم املبارش لكل ما نعتقد أن الرثوة متثله.
56
السوق ،العقالنية أو غري متعدية أو حاقدة أو مريبة أخالق ايا ،كام يتضح من
السكَّر املكرر إىل الرغبة امللحة يف
مجموعة واسعة من الرذائل ،من اشتهاء ُّ
املواد اإلباحية فالتوق إىل بطاقات اليانصيب املجحفة إكتوارياا بشكل فادح.
بالنظر إىل هذه العيوب البرشية ،ملاذا ينبغي أن يكون مفهوم إرضاء
التفضيالت بالغ األهمية؟ وحتى لو كنت عىل استعداد لتربير بعض هذه
الخيارات أو الدفاع عنها ،يبدو واض احا يف كثري من الحاالت أن إرضاء
التفضيالت ال يجعل الناس أكرث سعادة وال يجعل العامل مكاناا أفضل.
إن الرتكيز عىل فوائد النمو طويلة األجل يتفادى مثل هذه املعضالت .فوجبة
رسيعة من التشيز برغر ال تستحق يف الواقع 4.89دوالرات ،بالنظر إىل
تأثريها املحتمل عىل صحتي املستقبلية .وعرض التشيز برغر يتالعب
برغبتي املربمجة تطورياا يف املزيد من الدهون ،عىل حساب متوسط العمر
املتوقع .ومع ذلك ،يف الوقت نفسه ،ما يزال العيش يف مجتمع أكرث ثرا اء –
حتى لو كان مجتم اعا يغص بالوجبات الرسيعة– مفي ادا بالنسبة ملعظم
أيضا .فعىل الرغم من الحديث عن مشكلة السمنة
الناس ،وكذلك لصحتهم ا
فعال ،ما يزال متوسط العمر املتوقع يرتفع
يف أمريكا ،وهي مشكلة حقيقية ا
مع الرثاء .يف الحقيقة ،األثرياء واملتعلمون هم األكرث احتامالا ألن يكونوا
نحفاء أو ينجحوا يف نظامهم الغذايئ.
57
عندما يكون ارتفاع معدل النمو االقتصادي عىل املحك ،تصبح املقارنات
ذات الصلة واضحة متا اما بعد مرور وقت ٍ
كاف .فمن املحتمل أن يكون الفرد
أفضل حاالا بالعيش خمس سنوات أخرى ،وتلقي التخدير عند طبيب
األسنان ،والتمتع باملواد الغذائية الوفرية ،والحصول عىل املزيد من سنوات
التعليم ،وعدم فقد أطفال بسبب األمراض املبكرة .وباملثل ،سيكون الناس
بعد مائة عام من اآلن أفضل حاالا بكثري إذا استمر النمو االقتصادي .ويف
مرحلة ما ،ستكون هذه الفوائد الرتاكمية قوية مبا يكفي لرتجح عىل حاالت
معينة من التفضيالت الالعقالنية أو املضللة .بعبارة أخرى ،يحل هذا النهج
أيضا بعض مشاكل تجميع التفضيالت داخل الذات الفردية .فإذا كان جزء
ا
منك يريد التشيز برغر وجزء آخر منك يريد الربوكيل ،قد يصعب التوصل
إىل حكم جيد يراعي كل األمور ملا هو أفضل .أيهام أهم ،اللذة أم صحتك؟
ومع ذلك ،عندما تسنح لنا الفرصة الختيار نبات كروسونيا –معدالت أعىل
للنمو االقتصادي– ميكننا أن نتدبر أمرنا مبجموعة من األحكام الرصيحة
إىل حد ما .فاملجتمع األثرى سيجعل ،مبرور الوقت ،الجميع تقري ابا أفضل
حاالا .
لتلخيص ما سبق ،إذا أجرينا مقارنة واسعة وطويلة مبا يكفي ،فسنجد أنه
بالنسبة للعديد من الخيارات ،ال تكون مشاكل التجميع شديدة الخطورة،
58
عىل األقل ليست كذلك بشكل معوق .وبالنظر إىل ذلك الواقع املبهج إىل حد
ما ،أود تعريف مبدأين لالستدالل العميل .أوالا :
مبدأ النمو :علينا رفع معدل النمو االقتصادي املستدام إىل الحد األقىص،
املحدد مبفهوم مثل ولث بالس.
سيعيد مبدأ النمو االقتصاد إىل جذوره يف آدم سميث ،إذ اتخذ سميث نه اجا
رشا ومنطق ايا لالقتصاد السيايس .وقد أدرك أن فوائد النمو الرتاكمي
مبا ا
مهمة ،ال سيام مبرور الوقت .وليست مصادفة أن رسالته يف االقتصاد كانت
بعنوان بحث يف أسباب وطبيعة ثروة األمم.
فصال واح ادا يف تاريخ البرشية طُ ِّبق فيه مبدأ
ا وباملناسبة ،إنني ال أرى سوى
النمو بشكل واضح ال لبس فيه ،وذلك يف املعجزات االقتصادية لرشق آسيا،
التي تشمل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة
والصني (مع تحذير بشأن االستدامة يف حالة الصني) .عاد اة ما يُنظر إىل
هذه التواريخ عىل أنها نجاحات اقتصادية هائلة ،وهي بالطبع كذلك ،لكن
أيضا أعىل مظهر من مظاهر النفع
مثة ما هو أهم من ذلك :فهي متثل ا
األخالقي يف تاريخ البرشية حتى اآلن .ويف حني اعترب هيغل الدولة
الربوسية يف القرن التاسع عرش تجل ايا إلرادة الله يف التاريخ ،إنني أويل
أهمية مشابهة (لكن علامنية) للمعجزات االقتصادية يف رشق آسيا .وكلمة
فعال.
«معجزة» تنطبق ا
59
أسمي املبدأ الثاين مبدأ النمو والحقوق:
مبدأ النمو والحقوق :حقوق اإلنسان املصونة ،حيثام تطبَّق ،يجب أن تحرص
السعي لتحقيق منو اقتصادي أعىل.
ضع يف اعتبارك أنني أعمل بنهج تعددي وليس بنهج نفعي ضيق.
وسأتطرق إىل حالة هذه الحقوق وطبيعتها الحقاا ،لكن يف الوقت الحايل
فكر فقط يف هذه الحقوق عىل أنها ملزمة ومطلقة .هذا يعني :ال تنتهك
حقوق اإلنسان .فإذا كنا مستعدين ملقايضة هذه الحقوق مبجموعة من
القيم التعددية األخرى ،فعىل أفق زمني طويل مبا يكفي ،ستتفوق الفوائد
من النمو االقتصادي املرتفع عىل الحقوق يف األهمية ،ويف جوهرها ستكف
الحقوق عن كونها ذات صلة .بعبارة أخرى ،إن وجود نباتات الكروسونيا
يعني أن الحقوق –إذا كنا سنؤمن بها ال محالة– يجب أن تكون راسخة
وقريبة ج ادا من املطلقة يف األهمية إذا كانت ستبقى ذات صلة مبقارناتنا.
كتب الفيلسوف روبرت نوزيك عن الحقوق باعتبارها «قيو ادا جانبية» .وال
حاجة إىل أن يتوافق التوصيف املحدد لهذه القيود الجانبية مع رؤية نوزيك
التحررية ،أو مع ارتباطه توافقه املطلق بجميع أشكال امللكية الخاصة أو
حظره ملعظم أشكال الرضائب .ومع ذلك ،ستلبي هذه الحقوق مفهوم
نوزيك عن الحقوق باعتبارها قيو ادا عىل مجموعة خيارات الفرد أو املؤسسة.
أكرر مرة أخرى ،مثة بعض األشياء التي ال ينبغي علينا القيام بها .ففي
60
رأيي ،يؤمن كل شخص تقري ابا بحقوق من نوع ما ،والتفكري مبنطق نباتات
كروسونيا ومشكالت التجميع يساعدنا عىل تحديد كيفية انسجام تلك
الحقوق مع النظرية األخالقية ،أي أنها يجب أن تكون قوية ج ادا وشبه
مطلقة.
الحظ أن املفهومني التقليديني «الحقوق اإليجابية» أو «الحريات اإليجابية»
–كالهام يشري إىل فرص الناس– ال ينسجامن مع مفهوم الحقوق هذا .يعد
مهام ،لكنه مشمول مسبقاا بالواجب لزيادة النمو
مفهوم الحريات اإليجابية ا
املستدام إىل أقىص حد .وال حاجة إىل حساب الحريات اإليجابية مرتني،
ففي الواقع إن القيام بذلك سيكون خطأ .والنتيجة هي أن هذه الحقوق
السلبية ،عىل الرغم من أنها قد تكون مقيدة ،متثل مجموعة مجردة من
القيود األساسية ،وهي سلسلة من األوامر التي تنهى عن مختلف أشكال
القتل والتعذيب واإلساءة.
بعد قويل هذا ،سأناقش الحقاا بأنه ينبغي علينا انتهاك الحقوق ملنع النتائج
مثال،
السلبية للغاية التي تنطوي عىل انقراض القيمة متا اما ،كنهاية العامل ا
كام يُفرتض أحياناا يف التجارب الفكرية الفلسفية .إذا أزلنا جميع الرشوط
املسبقة األساسية من االستدالل األخالقي وجميع التجارب الواسعة وراء
أحكامنا ووراء تكويننا لنباتات كروسونيا ،قد ال تنطبق املفاهيم املعقولة
متقلقال .وبذلك املعنى ،إن هذه
ا للحقوق ،أو عىل األقل يصبح وضعها
61
استخدمت العبارة
ُ رتضة ليست مطلقة متا اما ،ولهذا السبب
الحقوق املف َ
ملموسا ،إين أقرأ
ا «شبه مطلقة» يف وقت سابق .ومع ذلك ،لجعل هذا
يل إيجاد مثال لخيار واقعي
الصحف منذ أكرث من أربعني عا اما ،وما زال ع ّ
يكون خارج الصندوق حتى اآلن بحيث ال أرغب يف تطبيق االستدالل
األسايس حول الحقوق عليه.
أال توجد استثناءات أخرى للقواعد؟
إىل أي مدى ميتد مبدأ تعظيم النمو هذا؟ عىل سبيل املثال ،ماذا لو مل تؤثر
السياسات الفردية الصغرية يف النمو إال عند اعتبارها حزمة جامعية أكرب
لسياسات تعزيز النمو؟ هل يجب علينا إذن أن نكون محايدين تجاه
السياسة الفردية يف تلك الحالة؟ أم ميكننا تجميع تلك السياسات الفردية
م اعا بطريقة ما والتفكري من منظور مجموعة من االلتزامات األكرث إحكا اما
وشمولية؟ وكيف ستمت هذه املسألة بصلة إىل الحقوق؟
للتمعن يف هذه األسئلة مبثال واضح ،دعنا نتناول أحد «األخطاء يف
الرياضيات األخالقية» لديريك بارفيت .وهو عىل النحو التايل :إذا قتلت
شخصا بري ائا ،بحيث
ا فرقة للرمي بالرصاص مكونة من ستة مطلقني للنار
يص ّوب جميعهم النار بدقة عىل قلبه ،فهل ميكننا القول إن كل واحد من
مطلقي النار قاتل؟ يف نهاية املطاف ،إن «الناتج الحدي» ألي مطلق نار
كان صف ارا .فهل ينبغي أن نعاقب أو نستثمر املوارد ملنع مامرسات منفذي
62
إطالق النار؟ وهل يهم من وصلت رصاصته أوالا ؟ هل ينبغي أن نرفض
مقاضاة جرائم القتل الجامعي من هذا النوع؟
سيتفق الجميع تقري ابا عىل أن املشاركة يف عملية إطالق نار كهذه فعل
خاطئ .فعىل الرغم من أن إطالق رصاصة أخرى ال يغري النتيجة املأساوية،
إذا نظرنا إىل تلك الرصاصة كجزء من قاعدة قابلة للتعميم عن كيفية معاملة
اآلخرين –«ال تطلق النار عىل األبرياء»– فإن املجموع الكيل لسلوك اتباع
القاعدة سينقذ حياة الضحية .يف هذه الحالة ،تشري لنا كل من األخالق
الواجبة لحقوق اإلنسان ونهج عواقبي للقواعد إىل االتجاه الصحيح ،أي
عدم إطالق الرصاصة األخرى .عالوة عىل ذلك ،إن نهج «الناتج الحدي
وحده يهم» ألسئلة من هذا النوع سيؤدي إىل عواقب عملية وخيمة .عىل
سبيل املثال ،ستنفَّذ املزيد من جرائم القتل عىل يد مجموعات كبرية يك ال
يتحمل أي فرد املسؤولية .لكن الحكومات ال تريد بجالء السامح بهذه الثغرة
األخالقية أو القانونية ،وهذا أحد األسباب التي تجعل نه اجا لألخالق قامئاا
3
عىل القواعد محتو اما إىل حد ما.
إن مثال مطلق النار منمط ،لكنه يناسب العديد من الحاالت الواقعية .رمبا
ال يرتتب عن عمل فاسد واحد آثار ضارة ،لكن الفساد عمو اما ضار ،وارتكاب
.3اقرأ بارفيت ( )67 ،1987لالستزادة مبثال ذي صلة وأعقد .وملزيد من اآلراء املستجدة حول هذه املعضلة واملشكالت
ذات الصلة ،اقرأ كاغان ( )2011ونيفسيك ( ،)2012واقرأ تيمكن ( )1996عن دور محتمل ملشكلة الكومة.
63
العديد من أعامل الفساد سيدمر الكيان السيايس .فهل لدينا مربر إلدانة
عمل واحد من أعامل الفساد بدرجة معقولة من الرصامة والشدة ،دون القلق
فعال
مهام حقاا عىل املدى الطويل؟ إن ا
ريا هل سيكون عمل فاسد واحد ا
كث ا
ريا ،لكن القيام بالعديد من
ضعيفاا واح ادا قد ال يرض مبصداقية املرء كث ا
األفعال الضعيفة سيلحق الرضر بها .وقد ال يعزز تحسني واحد يف
ريا ،لكن مجموعة أوسع من تحسينات
اإلجراءات صحة العلم اإلجاملية كث ا
ريا .قد تبدو االنتهاكات العديدة للقاعدة أو القانون
كهذه قد تحدث فرقاا كب ا
وخيام حاملا
ا غري مؤذية بشكل كاف ،لكن مقدا ارا كاف ايا منها ميكن أن يكون
نفكر يف تأثريات الحافز والتوقع طويلة املدى .يف العديد من هذه الحاالت،
نحن نحكم عىل الفعل الفردي غري املؤذي ظاهرياا من منظور النمط األوسع
للسلوك الذي ينتمي إليه ،وبذلك ميكننا تصور واجب أخالقي ملحاولة إحداث
4
مجموعة أكرب من األفعال املجمعة.
قد يرتاجع بعضنا مذعو ارا من فكرة الحياة ،أو املجتمع ،التي يخضع فيها
كل يشء لقواعد صارمة دون استثناءات .لكن ال تخف – فالقواعد لن
.4يف ما يتعلق بالقواعد ،اقرأ برينان وبوكنان ( ،)2000إبستاين ( ،)1997وكيدالند وبريسكوت ( ،)1977من بني
آخرين كرث .يقدم كاون ( )2011أفكاري السابقة .ويوضح غليزر وروتينربغ ( )2005عدد قضايا السياسة التي
تنطوي عىل قضايا اتساق الوقت .اقرأ أيضا ا املؤلفات حول نفعية القاعدة مقابل نفعية الفعل ،عىل سبيل املثال
براندت ( ،)1963وليونز ( ،)1965وريغان ( ،)1980وسلوت ( ،)1992وهوكر ( ،)2000ومايك ( ،)1985وسكار
( ،)1996وفيلدمان ( .)1997فقد كانت هذه املشكلة حارضة يف نفعية القاعدة منذ ويليام بييل يف القرن الثامن
عرش؛ اقرأ شنيويند (.)127-125 ،1977
64
تكتسب مثل هذه الصالحيات املتطرفة ،ألن معظم القواعد ليست بأهمية
قاعدة تعظيم النمو .وما يجعل قاعدة تعظيم النمو مقنعة هو تعلقها بنبات
الكروسونيا ،وهي مكاسب كبرية ج ادا ومستمرة ومركبة يف رفاه البرش.
تواجه بعض القواعد ،مثل قاعدة «ال تكذب أب ادا» ،أمثلة معاكسة محرجة إذا
كان بإمكان الكذب أن يحقق فوائد عملية جمة يف حاالت معينة .لكن قاعدة
«تعظيم معدل النمو االقتصادي املستدام» ال تواجه مشكلة مامثلة .فوفقاا
للتعريف ،تخربنا القاعدة أن نتبع النتائج برجحان للفوائد عىل التكاليف.
لذا ،قد تلغي التكاليف العملية بعض القواعد أو تعدلها ،لكنها لن تضع
حدو ادا عىل مبدأ النمو ،الذي لن يكون محد ادا إال بحقوق اإلنسان املطلقة أو
شبه املطلقة.
بعبارة أخرى ،إن اعتبار تعظيم النمو املستدام قاعدة آمرة ال يسمح لقاعدة
مثل «دامئاا رتّب أبجدياا وفق اسم املؤلف بدالا من عنوان الكتاب» بأن تتمتع
فعال بأي قوة .وفور أن نتجاوز حقوق
بقوة أخالقية مامثلة ،إذا كانت تتمتع ا
اإلنسان املطلقة ونصل إىل نبات كروسونيا (يف هذه الحالة ،النمو
االقتصادي املستدام) ،ستكون معظم األخالق املتبقية عملية بطبيعتها،
ريا بحياتنا .ولن
وعرضة لالستثناء ،ومعتمدة عىل السياق ،وغري مستبدة كث ا
65
تتعلق بالرضورة بالقواعد ،ما مل يثبت منظور آخر ،خارج نطاق الحجج
5
املطروحة ،أن القواعد هي بالفعل الطريق الصحيح الذي ينبغي اتباعه.
يف ختام هذه الحجج ،نصل إىل استنتاج مفاجئ .إذا كان األفق الزمني
طويال مبا يكفي ،فإن القيم الوحيدة غري املرتبطة بالنمو التي ستُلزم
ا
القرارات العملية هي القيود الجانبية املطلقة ،أو حقوق اإلنسان املصونة.
بعبارة أخرى ،ستكون املثل املزدوجة لالزدهار والحرية مركزية لألخالق.
سأعود الحقاا إىل بعض الحجج التي تؤيد حقوق اإلنسان املصونة ،ولكن
يف الوقت الحايل يف حوزتنا صيغة واضحة نسب ايا وحرصية («ال تعبد آلهة
أخرى») وعملية «للنمو وحقوق اإلنسان».
سأتطرق اآلن إىل مسألة األفق الزمني مبزيد من التفصيل .فاألفق الزمني
ريا ج ادا ،لن تنجح أي من هذه الحجج. املناسب لقراراتنا إذا كان قص ا
مهام ج ادا وملاذا ينبغي أن نفكر –يف معظم
وسأوضح ملاذا يعد األفق الزمني ا
الحاالت وليس كلها– من منظور آفاق زمنية طويلة ج ادا.
.5لقراءة ممتعة حول مواضيع ذات صلة ألقِ نظرة عىل فريينن (.)2006
66
هل الوقت وهم أخالقي؟ 4
منيل غال ًبا إىل تعجيل املتعة وتأجيل أعاملنا الرتيبة وآالمنا .إن
الحارض حقيقي وحيوي للغاية ،بينام يبدو املستقبل بعي ًدا ومج ّر ًدا.
ال يدرك العديد من الناس أنه عند قدوم املستقبل ،سيكون حقيق ًيا
مثل الحارض اآلن.
67
بعد ثالثة أسابيع 1.ولكن عندما تكون املقارنة بني عشة أعوام
وعشين عا ًما من اليوم ،يبدي الناس مزي ًدا من الصرب ،وقد يقول
الكثي منهم إن الفائدة بعد عشة أعوام من اليوم تساوي تقري ًبا
قيمة الفائدة بعد عشين عا ًما من اليوم.
بعبار ٍة أخرى ،يركز تفضيل الوقت الفردي عاد ًة عىل اآلين مقابل
البعيد إىل حد ما .فإن متكنا من التغلب عىل استعجالنا األويل لتلقي
املكافأة حاالً ،يكون فكرنا قادر يف كثي من األحيان عىل إدراك أنه
يجب أن نهتم باملستقبل البعيد بقدر ما يجب أن نهتم باملستقبل
األقل بع ًدا .عمو ًما ،إننا يف الواقع عقالنيون إىل حد ما بشأن الوقت،
باستثناء هذا التشبث بلحظة «اآلن» وأفق «القريب ج ًدا/الحايل».
إذا كنت من نوع األشخاص الذين مييلون إىل اغتنام الفائدة الحالية،
فستكون أفضل حاالً إن متكنت من إيجاد طريقة لربط هذه املكافآت
اآلنية مبردود أعىل يف املستقبل .يجد الشباب ،وغي املتعلمني ،ومن
يعانون من انخفاض معدل الذكاء ومشاكل يف اإلدراك أو ضبط
النفس صعوب ًة أكرب يف خلق هذا الرابط .يعد هؤالء األشخاص ً
أيضا
أكرث عرض ًة ملشاكل السمنة والقامر والتحكم يف االنفعاالت وحتى
العنف .ال تثبت هذه االرتباطات فلسف ًيا أن خياراتهم املستعجلة غي
صحيحة (قد يكون املقامرون هم الحكامء ونحن الباقون حمقى
لفقداننا بهجة املخاطرة) ،لكنها تدعم فكرة أن هؤالء األفراد يرتكبون
69
خطأً .إنهم يفشلون يف تخيل املستقبل واستياده .وتشي أدلة
أخرى إىل أن األطفال العجولني يواجهون مشاكل أكرث يف املدرسة
2
ويزيد احتامل تعرضهم إلجراءات تأديبية.
.2كاستيلو وآخرون )2011( .انظر أيضً ا موفيت وآخرون )2011( .وميشيل وشودا ورودريغيز ()1989
األحدث .وحول العالقة بني الصرب ومقاييس القدرة اإلدراكية ،انظر فريدريك ( .)2005ايبش وزرغامي
) (2011دراسة العالقة بني التأثي اإليجايب والتفضيل الزمني املنخفض.
.3كون وبارفيت (.)145 ،1992
70
الرسطان ألن كليوباترا أرادت وجبة إضافية من الحلوى يف
إحدى األمسيات .كيف ميكن تربير هذا؟
73
ألصول معينة .فالدوافع وراء هذه السلوكيات لن تحفزنا عىل
الحفاظ عىل البيئة أو تعظيم معدل النمو االقتصادي املستدام .ومر ًة
أخرى ،ال يأتينا عمق االهتامم املناسب باملستقبل البعيد تلقائ ًيا ،عىل
األقل ليس مبجموعة متنوعة من الحاالت.
.4ملعرفة كيف يعمل هذا ،فكر يف مستقبل أكرث ثرا ًء بعد مئة عام من اآلن .رغم ارتفاع الرثوة اإلجاملية ،قد
ميوت بعض األفراد بسبب القرارات الحالية ،مثل اإلهامل البيئي .إن متكن هؤالء األفراد من املزايدة عىل
سياسات اليوم ،سيحاولون زيادة االهتامم باملستقبل .إن اعتربنا أن منو الرثوة يتطابق (تقريبًا) مع معدل
74
دعنا ننظر اآلن يف بعض الخيارات األساسية حول كيفية تقييم
املستقبل البعيد .مر ًة أخرى ،فكر يف صانع القرار الذي يوازن بني
املصالح الحالية واملستقبلية ،أو حياة البش يف هذه الحالة .إن
طريقة عمل الخصم هي كاآليت :إن خصمنا املستقبل بنسبة خمسة
باملئة ،فإن وفاة الشخص اليوم تعادل وفاة 39مليار شخص بعد
خمسمئة عام من اآلن .أو بدالً من ذلك ،وبنفس معدل الخصم هذا،
إن وفاة شخص بعد مئتي عام من اآلن تساوي وفاة 131.5شخص
بعد ثالمثئة عام من اآلن .بعد التفكي ،سيشارك قلة من الناس ،بعد
تنحية مصلحتهم األنانية يف الفرتة الزمنية الحالية ،هذه
5
االستنتاجات كأساس التخاذ القرارات األخالقية.
الفائدة أو الخصم ،فإن عروضهم ،وفقًا لشوط اليوم ،ستكون بنفس أهمية عروضنا .وإذا كان للسياسة
القدرة عىل إحداث تأثي كبي عىل حياتهم ،فمن املمكن أن يكون أفراد األجيال القادمة هم املزايدون
املهيمنون يف تقييم السياسة .ومع ذلك ،فإن أسعار السوق الحالية ال متنحهم أي أهمية ،أو متنحهم أهمية
دليال إضاف ًيا عىل أن األساليب الحالية تقلل من أهمية
من خالل إيثارنا غي الكامل فقط .ميكنك اعتبار هذا ً
تخصيص املوارد لألجيال القادمة.
.5بشأن كيفية استجابة األفراد لالستفسارات حول الحياة الحالية واملستقبلية ،انظر فريدريك (،2003
.)2006
75
أكرث من مليون حياة يف املستقبل .قد يستحق األمر كامل البقاء
طويال كفاي ًة
ً الالحق للجنس البشي ،إن استخدمنا أفقًا زمن ًيا
للمقارنة .يجب أن نشكك ،عىل أقل تقدير ،يف تطبيق معدالت
الخصم اإليجابية عىل كل خيار أمامنا .يجب أن نكون أحيانًا أقل
استعجاالً وأن نويل املستقبل اهتام ًما أكرب.
76
خبزهم يف وقت أبكر .عندما نفكر يف فرتات زمنية طويلة ونحيص
السنوات التي تسبق والدة األفراد ،يجب أن نتجاهل االستعجال
كعامل وثيق الصلة لعدم انطباقه .وبالتايل ،فإن التفضيل الزمني ال
يربر الخصم الكبي للمستقبل البعيد ،حتى لو كان يربر رغبة توم
6
آجال.
عاجال وليس ً
ً يف تناول رشائح اللحم للعشاء
.6الحظ ،باملناسبة ،أن التفضيل الزمني الفردي مفهوم معقد .ماذا لو كنت جائ ًعا جدًا وأرغب يف تناول
تفضيال زمن ًيا؟ أم أن التفضيل الزمني يعني أنه يجب تفضيل
ً الطعام اآلن وليس الحقًا؟ هل يعترب هذا
آجال؟ وإذا حافظنا عىل كل يشء
عاجال وليس ً
ً «تجربة األكل» نفسها –الحفاظ عىل مستوى الجوع ثابت–
ثابت ،فبأي منطق ميكننا القول إن الوقت قد مىض؟ لذا ،فإن مرور الوقت يعني أن رشوط ثبات العوامل ال
ميكن أن تكون دقيقة متا ًما ،ولكننا نعود إىل مسألة ما الذي يجب أن يتغي مع مرور الوقت املفرتض.
ميكن القول إن جميع حاالت «البضائع يف فرتات زمنية مختلفة» هي بضائع مختلفة ببساطة ،مع مالحظة
أن االقتصاديني يع ّرفون «البضائع» من حيث التفضيل الظاهر والسواء .مل تُحل هذه املشاكل الفوضوية،
لكنها تلقي مزيدًا من الشك عىل فكرة عقالنية التفضيل الزمني اإليجايب البحت يف حد ذاته.
77
فأنت تنتقل إىل املستقبل مبعدل رسيع للغاية .ومع ذلك ،يبدو
غري ًبا ،عىل أقل تقدير ،أن نخصم رخاء الناس مع زيادة رسعتهم .إذا
مثال ،مركبة فضائية برسعة تقارب رسعة الضوء ،فإن رواد
أرسلناً ،
الفضاء سيعودون إىل األرض ،بالكاد متقدمني يف العمر ،بعد
ماليني السنني .هل يجب أن نويل اهتام ًما أقل لسالمة مركبتنا
الفضائية ،وبالتايل لرفاه روادنا للفضاء ،ورسعة هذه املركبات؟ هل
يجب علينا –نتيج ًة للخصم اإليجايب– أال نزودهم بالوقود الكايف
للهبوط اآلمن؟ وإذا رفضت الحكم عىل هؤالء الرواد الشجعان
باملوت ،فكيف يختلفون عن غيهم من سكان املستقبل البعيد؟
79
عش االستعامرية آثار مستمرة عىل االزدهار اليوم ،بل إن هناك
بحوثًا تشي إىل أن ازدهار منطقة ما قبل والدة املسيح بفرتة طويلة
7
يحمل قوة تنبؤية الزدهار تلك املناطق اليوم.
لسبب ما ،متيل املؤسسات الجيدة وتاريخ االزدهار إىل امتالك آثار
دامئة .ميكن أن متول الرثوة حكومة أفضل ومتكّنها ،وهذا بدوره
يؤدي إىل ثروة إضافية ومؤسسات أفضل .ميكن أن تستمر
الذكريات املؤسسية للنجاح االقتصادي والحكم الرشيد لفرتات
طويلة من الزمن .وميكن أن تستمر املامرسات الثقافية مثل الدهاء
التجاري أو االهتامم باألسواق الخارجية لعدة قرون.
. 7استطلع سبولوري واتشيارغ ( )2013هذا البحث .يوضح أسيموغلو وجونسون وروبنسون (،2001
)2005 ،2002كيف أن قرارات ومؤسسات الحقبة االستعامرية املبكرة ما تزال تؤثر عىل األداء االقتصادي
اليوم .ويظهر كومني وإيسرتيل غونغ ( )2010إىل أي مدى ما تزال الرثوة اإلقليمية لعام 1000قبل امليالد
تتنبأ بالرثوة اإلقليمية اليوم.
80
بعض هذه املؤسسات عرب املحيطات ،كام حدث عندما استقر
الربيطانيون يف معظم أمريكا الشاملية وحدود الكرة األرضية (وإن
مل تستفد كل املناطق من الجانب املشق للحكم الربيطاين) .وليس
صدف ًة أن تظل العديد من األرايض األصلية لإلمرباطورية الرومانية
أيضا دولة غنية
حا .كانت الصني ً
من أغنى دول العامل وأكرثها نجا ً
نسب ًيا يف السابق ،وهذا االزدهار يعاود الظهور اليوم .فقد أظهر
خاصا يف جميع أنحاء
ً رجال األعامل الصينيون لقرون دها ًء تجاريًا
العامل؛ وهذا مر ًة أخرى له عالقة بالتاريخ.
81
يف املستقبل .مر ًة أخرى ،هذا يعني أن اختيارنا ملعدل الخصم ذات
أهمية بالغة.
82
يوجد ،بالطبع ،العديد من األشكال السيئة لإلميان بالسياسة ،وال
ينبغي لنا أن نشجع املعتقدات السياسية (أو غيها) يف التجاهل
املتعمد للعقل .لكن ال ميكننا التخيل عن اإلميان نفسه كأداة
تحفيزية ،ألن السياسة مبنية بالرضورة عىل نوع من اإلميان .يعد
االفتقار –بل والرفض املتعمد أحيانًا– ملفهوم اإلميان ،كام هو شائع
يف العقالنية العلامنية ،إحدى أكرث سامت العامل املعارص إثار ًة
للقلق .فقد جلب لنا بعض املكاسب الحقيقية للغاية فيام يتعلق
أيضا بتقليل قدرتنا عىل اتخاذ أفضل
بالحرية الشخصية ،لكنه يهدد ً
الخيارات.
حتى اآلن كنا ننظر يف قيمة املستقبل مقارن ًة بالحارض .ولكن هناك
طريقة أخرى ملعالجة مشكلة الوقت ،وهي التساؤل عن قيمة املايض
مقارن ًة بالحارض .هذه هي املعضلة التي نواجهها عندما تثار أسئلة
حول التعويض عن مظامل املايض ،مثل الرسقة أو العبودية
املاضيتني .يف هذه الحاالت ،يجب أن نسأل أنفسنا إىل أي مدى يجب
مراعاة تكلفة املايض يف الوقت الحارض.
83
يطبق أحد األساليب املتبعة يف مشاكل التعويض معدالً قياس ًيا
للخصم اإليجايب عىل التكاليف السابقة لتحويلها إىل قيمة حالية.
لنقل إن معدل الخصم هو سبعة باملئة .إذا رسق سلفي ألف دوالر
من أسالفك يف عام ،1854يجب أن أدفع لك سبعة باملئة مركبة عن
كل عام بني 1854و .2018يفرتض أن يبطل هذا الرضر أو يصحح
الظلم .لكن إذا أجريت الحسابات ،فإن هذا يصل إىل أكرث من 65
مليون دوالر .سيحكم معظم املراقبني بصورة صحيحة أن هذا
الحكم التعوييض مبالغ فيه .لو مل تحدث الرسقة ،فمن غي املرجح
أن يكون لديك أنت أو أحفادك أي يشء يقارب هذا املبلغ اليوم .يف
الواقع ،نظ ًرا ملدى سهولة تبديد املياث ،ستكون محظوظًا المتالك
أي يشء عىل اإلطالق .عالو ًة عىل ذلك ،وبغض النظر عن مدى
مبالغتك يف اإلعالن عن عدالة هذا التحويل ،فليس لدي املاليني
أصال ،فإن مقدار الرسقة األولية
تعويضا ً
ً ألعطيها لك .إذا كنا سنمنح
8
مضاف إليه بعض العالوة املتواضعة للمعاناة أكرث واقعية.
85
رمبا مل تقنعك هذه الحجج .يصعب طرح أسئلة اقتصادية وفلسفية
جدية حول العامل بعد خمسمئة عام من اآلن ،أو حتى بعد مئة عام
من اآلن .وقد كان مثال نظرية آينشتاين هو األغرب .حتى الحديث
عن التفضيل الزمني عرب األجيال أمر محي .لذلك ليس لدينا حجة
واضحة بأن معدل الخصم لرخاء اإلنسان يجب أن يكون صف ًرا
متا ًما .ولكن مع ذلك ،لقد قوضت بشدة فكرة وجوب خصم املستقبل
البعيد مبعدالت عالية ج ًدا وبالتايل منحه أهمية أقل بكثي يف
حساباتنا.
ثان ًيا ،حتى لو وضعنا الرخاء جان ًبا ،فإن املغزى من حجة تكلفة
الفرصة البديلة هو أنه ميكن استثامر الرثوة املادية اليوم وكسب
معدل عائد إيجايب ،عىل األقل يف املتوسط .إنها حجة جيدة
88
لالستثامر الكبي يف املستقبل؛ وليست حجة لتقليل االهتامم
باملستقبل.
89
بدالً من اختيار معدل خصم صفري متا ًما ،أقرتح فرضية أكرث
تواض ًعا ،والتي أرشت إليها بالفعل ولكني سأسميها اآلن رسم ًيا:
القلق العميق عىل املستقبل البعيد .من وجهة النظر هذه ،ال ينبغي
يا ملجرد أن تلك الخسائر
أن نقلل من قيمة الخسائر الكارثية كث ً
بعيدة زمن ًيا .ففي حالة غياب العوامل املؤهلة ،ال ينبغي أن يتسبب
أي مقدار زمني يف حد ذاته يف تضاؤل أهمية املآيس الكربى واسعة
االنتشار يف الوقت الحارض .يجب أن نصدق أن نهاية العامل هي
حدث مروع حقًا ،حتى لو حدث هذا االنهيار يف املستقبل البعيد.
وباملثل ،فإن استمرار الحضارة بعد ثالمثئة عام من اآلن أفضل
بكثي من عدم وجود حضارة أخرى يف ذلك الوقت .إن حضارة
املستقبل األكرث ثرا ًء أفضل بكثي من حضارة املستقبل األقل ثرا ًء.
تلك هي تداعيات القلق العميق عىل املستقبل البعيد.
مهتام تقن ًيا ورياض ًيا ،فيمكنك قراءة امللحق أ الحقًا ،الذي
ً إذا كنت
أضع فيه نسخة مام يسمى معيار التجاوز .إنه طريقة رسمية
لتحديد قلق عميق بشأن املستقبل البعيد ،لكنك لست بحاجة إىل
الرياضيات لفهم الحدس .يتضمن معيار التجاوز ما ييل :نظ ًرا
90
للحركة املتزامنة طويلة األمد للنمو املستدام ورخاء اإلنسان ،إذا كان
أحد مسارات النمو أعىل من اآلخر باستمرار مع مرور الوقت ،فيجب
أن نفضل مسار النمو األعىل .ففي مرحلة ما يف املستقبل ،سيجعل
معدل النمو األعىل الناس أفضل حاالً بكثي ،وهذا املسار يستحق
االختيار حتى لو انطوى عىل بعض التكلفة من حيث االستهالك
الضائع اليوم.
يدفعنا معيار التجاوز نحو تعظيم ويلث بلس ،كام حددنا يف
الفصل السابق ،ولكن دون االلتزام بفكرة أن الرخاء املستقبيل يكافئ
متا ًما الرخاء الحايل .لذا فإن معيار التجاوز ليس وجهة نظر
أخالقية نهائية أو حاسم حول كيفية مقارنة القيم الحالية
واملستقبلية يف كل وجميع الظروف .بل إنه ميثل قاعدة عملية
واحدة ،نو ًعا من التزام بالحد األدىن مبستقبل رخاء اإلنسان.
سأناقش هذا أكرث يف امللحق أ ،ولكني أويص اآلن ببساطة
باالحتفاظ بالحدس واالنتقال إىل الفصل التايل.
91
ماذا عن توزيع الرثوات؟ 5
مل تأكل اآليس كريم وأحدهم ميوت جو ًعا يف ماالوي؟ هذا مثال عن سؤال
قديم يف األخالق ،مل يزل صعب اإلجابة.
يف أي نظرية أخالقية تأخذ بعني االعتبار مصالح الناس بطريقة عاملية ،تبدو
التزاماتنا الشخصية تجاه الفقراء قوية .فعىل سبيل املثال ،يعيش عدة مليارات
إنسان يف العامل اليوم بأقل من دوالرين يف اليوم الواحد .يف العام املايض
مات ماليني األطفال من أمراض ميكن منعها مثل اإلسهال ،وعاىن بعضهم
توقف النمو .إذا ُعرضت علينا هذه األمثلة ،يسهل أن نشعر أن علينا أن نهتم
بهذه املشكالت اهتام ًما أكرب ونوفر لها موارد وطاقة أكرث مام نوفر لها اليوم،
فعال .لكن السؤال األصعب هو :إىل أي مدى تتسع هذه
وهو أمر ينبغي علينا ً
االلتزامات وهل ينبغي أن متنعنا من السعي إىل أهدافنا الشخصية أو
الفردانية؟ خالفًا للفلسفة النفعية ،تقول أخالق الحدس املشرتك إن لنا حقًّا أن
نعيش حياتنا وخططنا فيها.
حسب بعض اآلراء بشأن التزاماتنا لآلخرين ،يجب عىل كل فرد أن يعمل عد ًدا
معينًا من الساعات يف العمل الخريي ،أو أن يرسل معظم دخله إىل الفقراء.
يجب عىل األطباء األغنياء أن يقضوا معظم حياتهم العملية ،أو كلها ،يف القرى
اإلفريقية .يجب عىل ٍ
مزيد منّا أن يصبحوا أطباء أو ممرضني ،إال إذا كان األنفع
رب ًعا غن ًّيا .قد تبدو هذه الخيارات
أن يصبح املرء مستثم ًرا يف وول سرتيت ومت ّ
صالحة يف نظرك ،ولكن ما مدى استعدادك لتطبيقها والعمل مبا تقول؟ هل
أنت مستعد ملساواة مصالح الغرباء مبصالحك أنت ،أو مبصالح أهلك
92
وأصدقائك؟ إذا كنت مقتن ًعا مبنطق الخرييّة النفعي ،فعىل كل أ ٍّم إذن أن ترتك
ابنها أو تبيعه حتى تجمع مبل ًغا من املال وترسل به طعا ًما ألبناء غريها .هنا
يتوقف معظم الناس ويبحثون عن مبدأ أخالقي يح ّد التزاماتنا تجاه الفقراء.
من املشكالت أمامنا أن حاجات الذين يعانون ضخمة ج ًّدا إىل درجة ال
يستطيع معها إال بعض األغنياء أو أصحاب النفوذ أن ينفذوا مشاريع خريية
من اختيارهم .أما معظم الناس فسيصبحون –إذا التزموا بهذه املبادئ– عبي ًدا
للمنفعة العامة ،ال يخدمون إال مصالح اآلخرين وال يأكلون إال الكفاف .النتيجة
ريا من أشكال العواقبية– ينظَر إليها عادة عىل
هي أن النفعية –أو حتى كث ً
أنها فلسفة أخالقية كثرية املطالب .الناس من هذه الفلسفة يف معسكرين:
الذين يرفضون النفعية بسبب مقتضياتها الشديدة املرفوضة ،والذين يلتزمون
باملنطق النفعي التزا ًما متسقًا متطرفًا ويدعون إىل تضحية أكرب ،مثل بيرت
سنغر يف أول حياته.
كام قلت من قبل ،مذهبي هو التعددية وليس النفعية البسيطة .لكن املنفعة
قيمة مركزية ومهمة ،لذا أود أن أواجه هذه املعضالت وأنظر يف مجال
التزاماتنا نحو الفقراء .لكنني ال أريد هنا أن أركز عىل املقارنة بني العمل
الخريي الحكومي والعمل الخريي الخاص .نعم ،هي مسألة عملية مهمة،
لكنني سأركز بدالً منها عىل السؤال املفاهيمي األوسع :هل النمو أم التوزيع
–يف القطاع العام أو الخاص– هو األنفع يف مساعدة الفقراء؟ بهذه الصيغة،
نجد أمامنا قيو ًدا شديدة عىل توزيع الرثوة ،حتى إذا قبلنا اإلطار النفعي.
بعبارة أخرى ،سأدعم موقف أخالق الحدس املشرتك ،التي تسمح (عمو ًما)
بالسعي نحو أهداف الحياة الفردية.
93
ميكن أن نقول قوالً معقوالً ،وصحي ًحا يف رأيي ،أننا ملزمون مبساعدة الفقراء
أكرث مام نساعدهم اآلن .لكن املنهج الصحيح لهذه االلتزامات العاملية ال يؤدي
إىل االستعباد وال إىل إعادة التوزيع الشاملة للرثوة الشخصية .يجب عىل
معظمنا أن يجتهد يف عمله ،ويبتكر ،ويخلص لحضارتنا ،ويبني مؤسسات
صحية ،وي ّدخر ملستقبله ،ويسهم يف بناء ج ٍّو من الثقة يف املجتمع ،ويكون
ناق ًدا عندما يلزم األمر ،ويحب أرسته .إن التزاماتنا األقوى هي اإلسهام يف
النمو االقتصادي املستدام ودعم االنتشار العام للحضارة ،ال مجرد إعادة
توزيع الرثوة باملعنى األضيق .عىل املدى البعيد ،سيساعد النمو االقتصادي
واستقرار الحضارة الفقراء أكرب مساعدة.
ميكن التعبري عن هذه الفكرة كام ييل :يجب أن نوزع الرثوة إىل الدرجة التي
يتحقق فيها أكرب منو اقتصادي مستدام .قد يعني هذا مزي ًدا من إعادة
التوزيع ،وقد يعني نو ًعا آخر من إعادة التوزيع ،هو إعادة التوزيع املعززة
للنمو( .فربامج إعادة التوزيع الحكومية اليوم ال توزع جميعها الرثوة للفقراء،
وال تعزز النمو االقتصادي) .لكن هذا ال يعني الطريقة النفعية أو العواقبية
التي تلزمنا بإعادة توزيع معظم دخلنا الوطني للفقراء .وال يعني أن األفراد
املنتجني ملزمون أخالق ًّيا بقضاء معظم سنني عملهم يف خدمة الفقراء.
مثال،
مع هذا ،مل يزل ميكن تقديم حجة صالحة لدرجة من إعادة التوزيعً .
نظيام ج ّي ًدا التعليم والغذاء
ميكن أن توزع دولة رعاية اجتامعية منظمة ت ً
توزي ًعا أوسع .يستفيد األفراد الذين تدعمهم هذه الدولة ،ويصبحون أقرب إىل
اإلنتاجية ودفع الرضائب ،وأبعد عن إسقاط النظام العام .ومن فوائد إعادة
التوزيع ما ينبع من التحسينات السياسية .تستطيع برامج الرعاية االجتامعية
94
رشاء والء بعض مجموعات الضغط وتقليل مشاعر اليأس ،وهو ما يعزز
النظام االجتامعي .هذا وإن برامج الرعاية االجتامعية تحسن شعور املواطنني
1
تجاه دولتهم ،وهو ما يعزز النظام العام والوفاق السيايس واالستقرار.
تسوغ هذه العوامل بعض االستثامر يف الرعاية االجتامعية –نعم ،يجب أن
نسميه استثام ًرا– ومن ثم تدعم شي ًئا من إعادة التوزيع .ميكننا أن نستخلص
أيضا الطبيعة املناسبة إلعادة التوزيع هذه ،وهي أن تهدف
من هذه العوامل ً
لتعزيز النمو االقتصادي املستدام.
رضا بالنمو
إذا تجاوز توزيع الرثوة هامشً ا مع ّينًا ،وأصبح زائد الك َرم ،أصبح م ًّ
االقتصادي .يف هذه الحالة ،يقل عمل كثري من الناس ،أو يقل اجتهادهم يف
العمل ،وتث ّبط الرضائب املرتفعة ريادة األعامل وقد تؤدي إىل ركود اقتصادي.
سهال ،فسيؤدي هذا إىل كثري من
ً وإذا كان طلب معونة من الدولة أم ًرا نظام ًّيا
التالعب لكسب املال والتواكل والفساد ،ومن ثم سيؤدي إىل اختالالت مالية
وقد يبلغ األمر اإلفالس أو أزمة مالية .باملقابل ،إذا كانت نفقات الحكومة
االجتامعية قليلة التنظيم أو زائدة عن حدها ،فقد تؤدي إىل ثقافة من التواكل
والجرمية ،تهدد النظام االجتامعي .تدل الدراسات التجريبية عىل أن اإلنفاق
الحكومي عىل أي يشء سوى البنية التحتية مرتبط ارتباطًا إيجاب ًّيا بخفض
معدالت النمو ،عىل أن هذه النتائج مستخلصة بحساب الناتج اإلجاميل املحيل
2
التقليدي ،ال باستخدام فكرة بديلة مثل ويلث بلس.
مثال أليسينا ورودريك ( )1994وبريسون وتابليني ( .)1994وانظر غريرن ،وسيملر ،وغونع (–132 ،2005
.1انظر ً
)133الستطالع عن املنشورات املتزايدة عن أثر التوزيع عىل النمو.
مثال ،بارو ( .)1991يجادل غودن وهيدي ومفلز ودريفن ( )1999أن نظام الرعاية االجتامعية يف دولة
.2نظر ً
دميقراطية ال يخفض معدل النمو االقتصادي ،لكنهم ال يستخدمون إال عينيتني من البيانات ،هولندا والواليات املتحدة.
95
التوزيع الزائد سيئ لسبب آخر ،هو أنه يص ّعب إدماج أعداد أكرب من املهاجرين
من البلدان الفقرية .يشعر الناخبون أن املهاجرين عبء عىل ميزانية الحكومة،
سواء أكان هذا الشعور عقالن ًّيا أم ال ،ويسوؤهم أن يروا بعض املهاجرين
يستفيدون من الحكومة .نعم ،تجعل درجة معينة من الرعاية االجتامعية
الهجرة أسهل وتساعد املهاجرين عىل تثبيت أقدامهم واالكتفاء بأنفسهم .لكن
رفع مستوى الفوائد يعني عادة ،بطريقة أو بأخرى ،خفض مستوى الهجرة،
وخفضا موافقًا يف أفضل برنامج اكتشفناه إىل اليوم ملعالجة الفقر .يجب أن
ً
3
أيضا تعلقنا بربامج الرعاية االجتامعية.
يحد هذا األمر ً
لذا بدالً من إعادة توزيع معظم الرثوة ،ميكننا أن نفيد العامل إفادة أكرب
باالستثامر يف األنشطة عالية العوائد ،كدعم املهاجرين وإنتاج تقنيات عاملية
جديدة ،كالهواتف ،وطرائق جديدة لتعزيز اإلنتاجية الزراعية .يستهزئ
كثريون مبصطلح «اقتصاد التقطري» ،لكن معظم الفوائد االجتامعية تأيت عىل
هيئة مقطرة .ينبغي طب ًعا أن نفضل الطوفان عىل القطرة ،وهو ما يعيدنا إىل
رغبتنا يف تعزيز معدل النمو املستدام قدر املستطاع.
هذه االلتزامات الفردية املذكورة ليست بعيدة عن أخالق الحدس املشرتك .ال
شك أننا مل نردم بعد الفجوة بني العقل النفعي وأخالق الحدس املشرتك .حتى
عندما يتفق العقل النفعي والحدس املشرتك عىل تفضيل مسلك معني من
انظر أيضً ا لندرت ( .)2004يجادل لندرت أن اإلنفاق االجتامعي املرتفع يج َمع عادة مع سياسات تعزز النمو ،مثل
خفض الرضائب عىل عوائد رأس املال .لكنه ال يثبت أن زيادة اإلنفاق يف أوروبا الغربية يف حد ذاتها تعزز النمو
االقتصادي.
.3للنظر يف االلتزامات النفعية ،انظر سكار ( .)1996ينتقد سامرت وويليامز ( )1973وراند ( ،)1967وشفلر ()1982
ووولف ( ،)1982وريلتون ( ،)1984وناغل ( )1986أيضً ا فكرة االلتزامات النفعية املتطرفة.
96
السلوك ،يكون هذا التفضيل راج ًعا ألسباب مختلفة .تقول النفعية إن علينا أن
نعمل وندخر ونبتكر لخدمة مصالح اآلخرين ،ومنهم األجيال التي مل تأت بعد.
تقول أخالق الحدس املشرتك إن علينا أن نعمل وندخر ونعتني بأرسنا ألننا
مستقال يف طرائقه وتسويغاته .ولكن،
ًّ نرى قيمة لحياتنا .يبقى كل منظور
إىل الدرجة التي تتفق فيها االستنتاجات العملية للمذهبني ،ميكننا أن نرى
أنهام جانبان من صورة أخالقية أوسع .يف النهاية ،أنا أفضل التعددية ،ال
النفعية وال أخالق الحدس املشرتك بحد ذاتها .بل ،وليك نبني تعددية مجدية،
يكفي أن نعرف أن أداتني من األدوات يف صندوقنا األخالقي تشريان إىل
4
اتجاهات متوافقة عمو ًما.
ميكننا اآلن أن ننظر يف أسباب االختالف الواسع بني األنظمة األخالقية
الحكومية والخاصة .يف النطاق الخاص ،يتفق الجميع عىل أن من حق األم
أن تعتني بطفلها بدالً من أن تبيعه لرتسل ألطفال الغرباء ماالً أو طعا ًما .ولكن
يف النطاق العام ،يؤمن كثري من الناس أن عىل الحكومات أن تكون غري
متحيزة ،عىل األقل يف نطاق حدودها الوطنية 5.ال ينبغي للحكومة أن تفضل
مصالح طفل عىل آخر ،عىل األقل ليس لنفس األسباب التي تجعل األم تفضل
طفلها عىل طفل غريها.
ولكن ،ملاذا تنقسم األخالق هكذا إىل قسمني؟ إن تكرار القول بوجود حدسنا
بشأن هذا األمر لن يس ّوغه .ولكن ،يف نطاق هذا الكتاب ،قد نستطيع أن نرى
.4يطرح هاريل ( )2009سؤاالً :هل تستطيع العواقبية ،حتى إذا حكمت بصوابية مجموعة من األفعال ،أن تنشئ التزا ًما
قويًّا بها؟ يف الرأي التوفيقي الذي أقدمه هنا ،ميكن أن يأيت حس االلتزام من أخالق الحدس املشرتك ،إذا اقتضت
الحاجة.
.5انظر غودين (.)1995
97
سبب اختالف الواجبات األخالقية بني الفرد الذي يترصف يف مجاله الخاص،
والحكومة التي تسعى إىل زيادة معدل النمو االقتصادي املستدام .ليس هذا
يف الحقيقة إال تطبيقًا آخر ملبدأ آدم سميث يف تقسيم العمل .يسهل أن نرى
لِ َم يصلح لآلباء أن يعتنوا بأولويات أرسهم ،ويصلح للحكومات أن تنشئ
نظا ًما قانون ًّيا قامئًا عىل عدم التحيز وعىل حكم القانون .مرة أخرى ،ال أقول
إن هذه الحجة تسويغ دقيق لتعقيدات أخالق الحدس املشرتك كام تظهر يف
العامل ،بكل التواءاتها وتنويعاتها املعتمدة عىل العادات .لكنني ببساطة أذكر
أن الفجوة بني أخالق الحدس املشرتك وتحقيق أكرب منفعة ،إذا فرسناها
ريا صحي ًحا ،أصغر مام تبدو أول األمر.
تفس ً
ميكننا أن نخترب هذه الفرضيات بالنظر إىل الحاالت التي ينبغي فيها أن
مثال ،تصبح حجة
يفضل النفعي أو العواقبي إعادة التوزيع للفقراء املدقعنيً .
إعادة التوزيع أقوى إذا كان العامل سينتهي يف املستقبل القريب .إذا كان األفق
ريا ج ًّدا ،أصبحت فوائد النمو االقتصادي األكرب قليلة وأفق التجميع
الزمني قص ً
مع الوقت محدو ًدا كذلك .يف هذه الحالة ،يصبح للعوائد الفورية لألعامل
الخريية وزن أكرب يف حساب القرار .للتعبري عن هذه الحجة بأقوى صورها،
تخيل أن العامل سينتهي غ ًدا .لن يكون لتعزيز معدل النمو أي فائدة تذكر؛ كل
ما ينبغي أن نفعله هو أن نقيم حفلة ونستهلك ما نستطيع استهالكه (بعد أن
نطعم الجوعى ،طب ًعا).
أو ،قد تصبح عوائد االستثامر سلبية أو صفرية .يف هذه الحالة ،ال ميكن
تجميع العوائد ،ولن يؤدي تطاول الزمن إىل إيجاد نبتة الكروسونيا ،وهنا
أيضا
يزداد الدافع إلعادة توزيع الرثوة .تصلح درجة كبرية من إعادة التوزيع ً
98
مثال ،إذا كانت مجموعة من األفراد
يف كثري من حاالت «قارب النجاة»ً ،
علب اللحم
البائسني عامئني يف البحر املفتوح ويتساءلون كيف يتشاركون َ
افرتاضا ضمن ًّيا هو أن معدل العوائد
ً فيام بينهم .تفرتض هذه الحاالت عاد ًة
من االستثامر صفري أو سلبي ،أو أن االستثامر ببساطة غري ممكن يف هذا
الوضع املفرتض .هنا كذلك ،ليس أمام األفراد نبتة الكروسونيا يسعون إليها.
لذا ،فإن من أهم االنتقادات املوجهة لحججي ،موقف التشاؤم التاريخي .إذا
صدق التشاؤم التاريخي ،كام يقول كثري من املحافظني من املدرسة القدمية،
فإن املعدالت املتوقعة سلبية ،وما من نبتة الكروسونيا مستدامة ،وحججي،
وإن صدقت منطق ًّيا ،ال تنطبق عىل الحال .التشاؤم التاريخي إذن ليس مجرد
ريا
ريا من آرائنا واختياراتنا العملية تغي ً
غري كث ً
مزاج أو موقف؛ ألنه إذا صدقّ ،
ريا .لكن ألهداف حجج نبتة الكروسونيا ،يكفي أن يكون النمو االقتصادي كب ً
اإليجايب ممكنًا محتمالً ؛ هذه حجة من الحجج التي تتكرر بنيتها األساسية
يف فصول هذا الكتاب .يقتيض االحتامل اإليجايب أن حساب النمو سيسود
تقديراتنا للعوائد املتوقعة من االختيارات املختلفة .ميكننا إذن أن نرفض
املوقف العميل النهايئ الذي يتخذه املتشامئون التاريخيون ،حتى إذا أقررنا
أنهم أفضل من املتفائلني بشأن الحجج املوضوعية املتعلقة باملسار املستقبيل
للعامل.
إن اآلراء الحديثة لعلامء االجتامع ال توافق دامئًا هذه االستنتاجات .يبدو أن
خصوصا من غري علامء االقتصاد–
ً ريا من مؤيدي زيادة اإلنفاق الحكومي –
كث ً
تعجبهم فكرة االنخفاض الكبري ملعدل الخصم .يود كثري من هؤالء الناس أن
تخصص الحكومة مزي ًدا من املوارد للتعليم والبنية التحتية وتحسني البيئة،
99
وكل املواقف املرتبطة باليسار السيايس عمو ًما ،عىل األقل يف الواليات
املتحدة .يرى أصحاب هذا االتجاه أن خفض معدل الخصم يدعم كل هذه
السياسات .لكنهم يف الوقت نفسه يدعمون إعادة التوزيع ،حتى عندما
تعارض هذه السياسات النمو االقتصادي .لذا فإن موقف اليسار السيايس
غري متسق مع نفسه تجاه أهمية املستقبل .يعاين كثري من املفكرين اليمينيني
من التناقض املقابل .يفضل هؤالء املفكرون معدالت الخصم التي يحددها
السوق ،التي تكون عالية نسب ًّيا ،ولكن عند الحديث عن إعادة التوزيع ،يظهر
6
قلقهم بشأن العواقب عىل املدى الطويل.
باملقابل ،أرى اهتام ًما عميقًا باملستقبل البعيد يف جميع االتجاهات السياسية.
إن من شأن االهتامم األكرب باملستقبل أن يدعم السياسات التي تفضل اقتصاد
السوق والنمو االقتصادي واالبتكار التقني .بل إن بعض الحجج الداعمة لهذه
ريا باملستقبل البعيد .فعىل سبيل
املؤسسات قد تتطلب يف الحقيقة اهتام ًما كب ً
املثال ،تقتيض معدالت الخصم اإليجابية عادة أن علينا أن نعطي أهمية كبرية
إللغاء املعاناة الحالية .إن تحريرات السوق ،مهام كانت فوائدها عىل املدى
الطويل ،قد تزيد أحيانًا املعاناة الحالية ألنها تتطلب إعادة توزيع املوارد ،إذ
توجب عىل كثري من العامل أن يبحثوا عن عمل جديد .بل إن اقتصاد السوق
عادة يستثمر فائضه يف مشاريع منو عىل املدى الطويل ،وال يوزعها عىل
الفقراء املعانني.
100
يبدو اقتصاد السوق وإصالحات السوق مبظهر أفضل عندما نضع وزنًا أكرب
يف كفة املستقبل البعيد نسب ًّيا .املجتمع الحر اليوم أفضل من املجتمع الفاسد
الشمويل ،ولكن بعد مئة عام ،سيربز الفرق يف السعادة اإلنسانية وغريها من
القيم املهمة بروزًا أكرب بكثري .مع الوقت تعزز موقف الواليات املتحدة من
االتحاد السوفييتي ،ومل ميكن االتفاق بينهام.
من يجب أن يضحي ،ومتى؟
يف الظروف العادية ،وإذا كان األفق الزمني واس ًعا ،قد يبقى اإلطار النفعي أو
العواقبي عىل موقفه الذي ينصح بأن يضحي بعض األفراد بأجزاء كبرية من
حياتهم ،أو أن يخاطروا بهذه التضحيات من أجل املصلحة املجتمعية العامة.
ريا للعامل من ناحية
ريا كب ً
هنا مثال بسيط :لقد قدم مارتن لوثر كينغ األصغر خ ً
العدالة ومن ناحية النمو االقتصادي عىل املدى الطويل .من اإلنصاف أن نقول
إن كنغ اختار الخيار الصحيح عندما سعى إىل مثله العليا ،بدالً من أن يقيض
يومه يف لعب الغولف ،حتى لو أنه خرس حياته يف سعيه هذا .ميكن أن نقول
األمر نفسه عن غاندي .مع هذا ،فإن هذه االلتزامات بالتضحية ال ميكن أن
تكون عامة وال قريبة من العامة .إذا ضحى كل امرئ بأهدافه الفردانية لدرجة
متطرفة ،فلن يبقى بني أيدينا حضارة نتقدم بها .كام رأينا من قبل ،األقرب
إىل العقل رفض نصائح التضحية الجمعية التي تخفض معدل النمو
االقتصادي املستدام.
يف حاالت كثرية ،يجب أن ننظر إىل التزاماتنا عىل مستوى جمعي .ال يثبت
هذا اإلطار مسلكًا صحي ًحا فري ًدا ينبغي عىل كل فرد أن يلتزم به ،لذا فليس
من الواضح من الذي ينبغي أن يضحي .ماذا إذا كانت فتاة صغرية تغرق يف
101
بحرية ،وكان ميكن ألي واحد م ّنا أن يقفز وينقذها؟ يف هذه الحاالت ،يتيح
سؤال «ماذا يجب أن أفعل؟» مجاالً واس ًعا من الخيارات هنا ،وقد يكون إطار
التزام الفرد بوصفه عض ًوا يف الجامعة ،غري محدد .نعم ،يصلح أن أخاطر
بسالمتي وأقفز أنا ألنقذها ،ولكن ال بأس لو قفز غريي .كذلك ،ال يجب أن
تكون مجموعتي أنا هي التي تحتج عىل ظلم الحكومة ،ألن مجموعات كثرية
أيضا .تصبح املسألة هنا مسألة نظرية ألعاب،
أخرى تستطيع أن تفعل ذلك ً
وكام نعلم من نظرية األلعاب ،فإن التزام الفرد الواحد أو املجموعة الواحدة
عاد ًة غري محدد.
تخيل لعبة فيها مكافآت ،يف هذه اللعبة ،يتحسن الحال إذا ضحى فرد واحد
ليحقق غاية ذات قيمة مجتمعية ،ولكنه يسوء إذا ضحى الجميع من أجل هذه
الغاية .إن بنية هذه املسألة مشرتكة يف أسئلة أخالقية كثرية ،منها مشكلة
الفقر العاملي .قد يضحي بعض الناس ليساعدوا ،ولكن ،ليس عىل كل الناس
أن يضحوا ،ألننا يجب أن نحافظ عىل وجود حضارتنا املتقدمة اقتصاديًّا وعىل
سريورتها .ميكن القول إن نظام املكافآت النموذجي هذا ،هو الذي يجب أن
نستعمله لنعالج مسائل الفقر العاملي ،والتضحية وااللتزام.
حسب املبدأ النفعي ،بأبسط أشكاله ،يجب أن يقدم التضحية من يستطيع أن
يقدمها «بأقل تكلفة» .يجعلنا هذا االقرتاح أقرب إىل أخالق الحدس املشرتك،
ميال إليها .يشمل هذا
إذ يقول إن التضحيات يجب أن يقوم بها أكرث األفراد ً
القديسني ،والقديسني األخالقيني ،ونشطاء التغيري املجتمعي ،واألفراد الذين،
ألي سبب كان ،ال يجدون هذه التضحيات كبرية املشقة.
102
فإذا تساوت تكاليف التضحية عند مجموعة من املضحني املحتملني ،وتساوت
الفوائد املجتمعية املتوقعة من تضحيتهم ،ميكن القول حينها إنه يجب عىل
واحد منهم (أو ،بعبارة أوسع ،عىل مجموعة منهم) أن يضحي .يف هذه
الحاالت ،ال ميكن أخالق ًّيا تحديد الذي يجب عليه أن يضحي ،والذي ال يجب
عليه ،أو الذي يجب أن ينتقل إىل ماالوي ليعطي األطفال اللقاحات .هذا الطرح
أقل قم ًعا ،وأقل عدا ًء لخطط الحياة الفردية ،من السيناريوهات النفعية
النمطية التي تريد استعباد األطباء الغربيني لتحقيق مصالح ليست هي
مصالحهم.
عندما يواجه الناس بأسئلة الفقر العاملي أو غريه من املآيس ،يقول كثري منهم
(أو معظمهم) شيئًا من هذا القبيل« :يجب عىل أحدهم أن يفعل شيئًا» .يف
الوقت نفسه ،ال يشعر الواحد من هؤالء أن «أحدهم» هذا يجب أن يكون هو.
قد تبدو هذه الردود الحدسية متناقضة ،أو رمبا أنويّة وغري مسؤولة .لكنها
توافق إحدى حقائق اللعبة .نعم ،يجب عىل أحد أن يفعل شيئًا ،لكن اللعبة
نفسها ال تحدد من أحدهم هذا .النتيجة هي نقص يف املصالح العامة
واستمرار كثري من الناس يف افرتاضهم ،ألسباب أنوية عادةً ،أن «أحدهم» هذا،
حل للعبة
يل اجتامع ًّيا ،بل إن أفضل ٍّ
ليس هم .ال أقول إن ر ّد هؤالء الناس أمث ّ
7
يوافق بعض الخطوط العريضة ألخالق الحدس املشرتك.
.7ميكن أن نحدد املضحي كذلك بالقرعة .أو أن ننظر إىل نظرية األلعاب .ميكننا أن نقول إن األخالق تفرض عىل األفراد
أن يلعبوا ما يسميه االقتصاديون اسرتاتيجات ناش العشوائية ،التي تعني احتامالً معيّنًا من األنوية واحتامالً معيّنًا
من التضحية يف كل فرد ،كام لو أن املرء يلقي بحجر نرد .إذا حددت اسرتاتيجية عشوائية تحديدًا صحي ًحا ،ستؤدي
إىل املقدار الصحيح من التضحية –باملتوسط ،عىل األقل– دون أن تجرب الجميع عىل التضحية .مجموعة
االسرتاتيجيات العشوائية املناسبة هي التي تعزز النمو االقتصادي العاملي املستدام املتوقع.
103
وعىل أي حال ،االحتامل األكرب أن يضحي األفراد أقل من الالزم ال أكرث من
أصال .لذا ميكننا أن
قليال ج ًّدا منهم سيضحي تضحية كبرية ً
الالزم ،وأن عد ًدا ً
ننظر إىل اقرتاح معني من نوع آخر ،حتى لو مل يستطع أن يساعدنا يف معرفة
الفرد الذي يجب أن يضحي .علينا أن نقوي ضامئرنا ،وأمناطنا املجتمعية،
حتى نزيد احتامل استعداد األفراد املناسبني للتضحية التي يحتاج إليها
تبني أنها األفضل .علينا أن نعظّم ونكافئ هذه التضحيات حتى
املجتمع إذا ّ
نزيد احتاملها .مرة أخرى ،ليس هذا بعي ًدا عن أخالق الحدس املشرتك.
هل ينبغي إعادة توزيع املال إىل األغنياء؟
يف حاالت كثرية ،تأيت االقرتاحات النفعية املحضة مبقتضيات غري متوقعة،
بل مبقتضيات تعارض املخاوف املعتادة بشأن األطباء األمريكيني املستعبدين
مثال ،قد تدعم الفلسفة النفعية نقل املوارد من الفقراء
لخدمة األفارقة الفقراءً .
مثال ،يستطيع أن يأيت بقدر أكرب من
إىل األغنياء .رائد األعامل املوهوب ً
العوائد من املوارد املستثمرة ،إذا قورن بجدة عجوز معوقة .وكلنا يعلم
الشكوى الشائعة يف األدب من عدم املساواة ،أن الغني يزداد غنًى والفقري
يزداد فق ًرا ،أو عىل األقل يبقى يف مكانه .إذا صدقنا هذا التصوير ،فاألغنياء
إذن يكتسبون عوائد أكرب من ثروتهم املجمعة ،كام قال عامل االقتصاد الفرنيس
توماس بيكيتي .إذا جمعنا أثر تقطري الرثوة ومعدل خصم صفري ،يسهل
توليد حاالت يجب فيها عىل النفعية أن تقرتح إعادة توزيع الرثوة من الفقري
إىل الغني.
فلنفرتض جدالً ،عىل سبيل املثال ،أن األغنياء يربحون مثانية باملئة عىل
أمالكهم ،سنويًّا وباملتوسط ،أما الفقراء فريبحون واح ًدا باملئة .إذا تقطّر
104
خمس أرباح األغنياء إىل الفقراء مع الوقت ،أصبح الفقراء أفضل حاالً من ج ّراء
ُ
خمس مثانية باملئة ،أي 1.6باملئة،
امتالك األغنياء موارد أكرب .سيأخذ الفقراء ُ
بدالً من أن يأخذوا 1باملئة لو كانت املوارد معهم .عاد ًة ال يصل هذا التقطري
إليهم مبارشة ،لكن مع الوقت ،سيبني األغنياء مصانع أكرث ،ويشرتون
منتجات أكرث ،ويوظفون عامالً منزليني أكرث ،ومي ّولون مزي ًدا من البحث
آجال ،سيستفيد كثري
عاجال أو ً
ً والتطوير ،ويدفعون نحو هجرة أكرب ،وهكذا.
ريا أن معظم
من الفقراء .إذا كان اهتاممنا باملستقبل البعيد عميقًا ،فال يهم كث ً
آجال.
هذه الفوائد سيأيت ً
ستكون نتائج إعادة التوزيع هذه أول األمر مناقضة للمساواة ،ولكن عىل مدى
زمني طويل مبا يكفي ،سيستفيد الفقراء أكرث من املعدل العايل للنمو
االقتصادي .لن تكون النتائج مناقضة للمساواة إذا نظرنا إىل املدى الزمني
حتام مناقضة للمساواة إذا استعملنا أي مقياس شائع ،يركز
املناسب ،ولكنها ً
عىل املدى القصري أو عىل بلد واحد ،وال يتسع منظوره إىل املدى األطول
واألوسع واألكرث عاملية.
ال أقول هنا إن نظرية تعددية صالحة ميكن أن تدعم إعادة توزيع منهجية
للرثوة إىل األغنياء أو املوهوبني .من األسباب املانعة لهذا ،أن هذه قد تكون
حالة من الحاالت التي تفرض فيها الحقوق حدو ًدا عىل االستحسان الجوهري
الذي هو زيادة النمو .لعل أن مدير صندوق االحتياط ال يحق له أن يأخذ موارد
من عامل بناء مهام كان هذا املدير مستثم ًرا جي ًدا .ومن املخاوف األخرى التي
قد تحد إعادة التوزيع إىل األغنياء ،أن توزيع الرثوة إذا بلغ من عدم املساواة
مبل ًغا مع ّي ًنا ،فقد يؤدي إىل تقليل النمو يف بعض القنوات التي نوقشت أعاله.
105
لكن املهم ،هو كيف يزيح هذا التأطري الجديد عبء البينة إذ يطالع تداعيات
معدل الخصم املنخفض ج ًّدا .مل تعد إعادة التوزيع املبارشة قصرية املدى إىل
فقراء اليوم هي الخيار االفرتايض للنظرية األخالقية التي تؤكد عىل سعادة
الفرد ورفاهيته .بل ،يف كثري من الحاالت ،يجب عىل النفعية أن تعمل لتتجنب
استنتاج إعادة توزيع مزيد من املوارد إىل األغنياء .مرة أخرى ،ميكن أن نصوغ
نظرية أخالقية تركز عىل العواقب الصالحة من دون أن نفرض عىل كل إنسان
8
أن يتخىل عن مثانني باملئة من دخله أو يعمل طبي ًبا يف إفريقيا.
ريا ،علينا أن ننظر بدقة إىل مصدر املكتسبات الكبرية التي اكتسبتها أخ ً
اإلنسانية يف املايض ،وأن نؤكد عىل توسيع هذه املكتسبات بدالً من إعادة
التوزيع بحد ذاتها .ميكن القول إن أهم ِهبات الجيل املايض للجيل الحايل أتت
من االستثامرات الحكيمة ،واإلميان بقواعد السلوك العادل ،واملؤسسات
السياسية الصالحة ،والقيم الصالحة ،وعوامل تاريخية أخرى متعلقة مبا
مىض .تتطلب املؤسسات املعززة للنمو اجتها ًدا يف العمل ،ولكن االستثامر
لعبة إيجابية املجموع ،ليست صفرية املجموع ،عرب األجيال .الدافع األخالقي
الناتج هو دافع نحو تقوية القواعد الصالحة التي تؤدي إىل النمو االقتصادي
فهام صحي ًحا ،وهنا مرة أخرى نسلك مسلك أخالق
يف املستقبل ،النمو املفهوم ً
الحدس املشرتك.
واجباتنا نحو املس ّنني
بالنظر إىل حدود واجباتنا نحو الفقراء ،أمام واجباتنا نحو املسنني حدود
مشابهة .يف الحقيقة ،ميكننا أن نفكر يف املسنني عىل أنهم أفراد فقراء يف
106
جانب معني ،هو رأس مالهم اإلنساين املستقبيل .فاحتامل املوت القريب
للمسنني أكرب من احتامل املوت القريب للشباب .ومع أن علينا أن نفعل أشياء
غري قليلة ملساعدة املسنني ،فإن منطق النمو املستدام يفرض قيو ًدا عىل هذه
أيضا.
الواجبات ً
وهنا سؤال أوسع هو مدى تقدير املعيار العواقبي أو النفعي لحياة املسنني.
أتذكر مقابلة عمل يف 1986سألني فيها املقابل ،االقتصادي جوليوس
مارغوليس« ،ملاذا ال نقدر حيوات الناس حسب تكلفة استبدالها؟» .فاجأين
السؤال ،ومل أملك جوابًا ج ّي ًدا له .لكن التحدي بدا خاطئًا يف نظري .أال
يستحق املسنون احرتا ًما أكرب؟ أمل يعش كل مس ٍّن حياة خاصة ،ال ميكن أن
تقاس قيمتها بتشبيهات االستبدال؟ طال تفكريي يف هذا السؤال ألنه يتحدى
ريا من حدسياتنا األخالقية.
كث ً
فلنبدأ مبثال بسيط .إذا قُ ّدر مثن منزل يف السوق مبليون دوالر ،ولكن كان
ميكن بناء هذا املنزل من جديد بتكلفة استبدال هي 500,000دوالر ،فقيمة
البيت الحقيقية حينئذ هي ،500,000عىل األقل إذا رشعنا يف االستبدال.
بعبارة أقوى ،ال يصلح أن ندفع 800,000دوالر لننقذ البيت من الهدم إذا
كان ميكن بناء نسخة مطابقة له بتكلفة 500,000دوالر.
فلنقل إن قيمة حياة اإلنسان هي 4ماليني دوالر ،إذا قدرناها بناء عىل
االستعداد االقتصادي العام للدفع التخاذ إجراءات تقلل املخاطر ،ولكن ميكن
مثال
يف الوقت نفسه إنتاج حياة جديدة بنحو 10آالف دوالر ،بدعم الوالدات ً
أو إنقاذ حياة أخرى بطريقة اقتصادية أكرث يف مكان آخر .دعم الوالدات
سيكون عىل األرجح أرخص بكثري من 4ماليني دوالر نتكلفها إلنقاذ حياة.
107
فكم علينا أن ندفع لننقذ أو نحافظ عىل هذه الحياة؟ هل يجب أن ندفع 4
ماليني؟ أم إن الحياة اإلنسانية ال تساوي أكرث من 10آالف دوالر ،هي تكلفة
استبدالها.
سيتفق جميعنا تقري ًبا عىل أن 10آالف دوالر –وقد تكون أقل– ليست
بالعموم قيمة مناسبة لحياة إنسان ،سواء أكان مس ًّنا أو غري مسن .أوالً ،الحياة
التي سنخرسها والحياة التي ستأيت بدالً منها ليستا متطابقتني .لذا ،فليس
لنا أن نقول بدقة إننا قد استبدلنا حياة جديدة بالحياة التي خرسناها .وقد
نشعر بواجب خاص تجاه األكرب سنًّا بسبب ما قدموه يف تربيتنا وبناء بلدنا
والدفاع عنا يف الحروب السابقة .هذا وإن عدم إنقاذ الحياة األوىل واالستثامر
يف إنتاج حياة جديدة ليسا أمرين مرتبطني سبب ًّيا عادةً .لن يؤدي ترك مس ٍّن
ميوت تلقائ ًّيا إىل زيادة دعم الوالدات أو غري ذلك من اإلجراءات املنقذة للحياة
يف االقتصاد.
لذلك يبعد أن يكون قياس تكلفة االستبدال هو الطريقة الصحيحة لتقدير قيمة
حياة اإلنسان .ولكن القدرة عىل االستبدال ال يجب أن تلغى متا ًما عندما نفكر
يف قيمة حياة .إذا ذهبت حياة وأتت حياة ،فإن الحياة الجديدة تع ّوض عن
بعض القيمة التي ُ
خرست ،عىل األقل من حيث النفع .أو بح ّجة أخرى ،إن
خسارة حضارة ال ميكن استبدال حضارة أخرى بها مأساة أكرب بكثري من
خسارة حضارة بطريقة تتيح والدة حضارة جديدة ومختلفة محلها .لذا فإن
قابلية االستبدال لها وزن يف الحساب ،وإن اختلفنا يف مقدار هذا الوزن.
108
عمل ًّيا ،إن الرثوة املضافة التي تتجمع بسبب االقتصاد يف نفقات إنقاذ الحياة،
تدفع الناس إىل رشاء سيارات أكرث أمنًا والعمل يف مهن أقل خط ًرا ،وهكذا.
لذا ميكن القول إننا سننقذ عد ًدا أكرب من الحيوات إذا قللنا استثامرنا املبارش
يف الحفاظ عىل حياة املسنني .ال نعلم إن كانت زيادة الرثوة املوفرة ستنقذ أو
تحافظ عىل حياة أخرى ،لكن احتامل هذا األمر قائم .وهذا االحتامل يخفض
قيمة دفع كثري من املال لتمديد عمر إنسان .لذا ،يف الوضع املعارص ،يجب
تقدير حياة اإلنسان عىل األرجح بثمن أقل من 4ماليني دوالر ،أو أي رقم
يجمع استعداد الناس للدفع للحفاظ عىل الحياة ،أو يحسب القيمة النفعية
للحياة.
قد ال نعرف عىل وجه الدقة القيمة الصحيحة لحياة الفرد ،لكننا نعلم أن
احتامل التكافؤ ،وتقريب املستقبل ،والتجدد املستمر للحضارة البرشية ،وقيمة
االستثامر يف الحيوات املستقبلية ،إذا اجتمعت كلها شكلت ضغطًا يهبط
باملقدار الذي ينبغي أن نستثمره إلطالة أعامر املسنني اليوم .من هنا ،تقرتح
حججي تقدي ًرا أقل لقيمة الحياة ،ومنها الحياة املسنة ،باملقارنة مع معظم
اإلطارات املعقولة ألخرى ،ألن االستبدال والتجديد عامل يف التدفق الحضاري
ولكنه عامل بني عوامل كثرية أخرى .ال يجب أن يكون القول الفصل لالستبدال
والتجديد ،ولكن نعم ،إن لهام ضغطًا هابطًا قويًّا عىل تقديراتنا لقيمة الحياة.
ريا ج ًّدا عىل املسنني
بعبارة أقرب إىل الواقع ،اليوم يف الواليات املتحدة ننفق كث ً
وال ننفق عىل الشباب ما يكفي .وإذا علمنا أن املسنني هم األكرث تصوي ًتا يف
االنتخابات ،وأن الشباب عادة ال يصوتون أو ال يستطيعون أن يصوتوا ،زال
عجبنا من هذا الخطأ .ينبغي أن تركز الحكومات عىل االستثامر ،لكن يف
109
الواليات املتحدة عىل األقل ،إنفاق الحكومة يف االستثامر يتناقص ،يف
السنوات األخرية ،انخفض استثامر الحكومة إىل نسبة أدىن من متوسط نسبة
اإلنفاق بعد الحرب ،التي كانت خمسة باملئة .ميكن أن نلحظ أمناطًا مشابهة
يف عدة ميزانيات وطنية لدول أوروبية 9.من سوء الحظ ،عندما يجب وضع
حد إلنفاق الحكومة ،تتجه األنظار أوالً إىل االستثامر ،أما االلتزامات برعاية
املسنني فال يقرتب منها أحد .من هذه الناحية ،أقرتح بعض املراجعات
لالتجاهات الحالية هذه.
التغريات الفورية الدامئة وتغريات معدل النمو
فلننظر اآلن يف آخر حجر بناء سنستعمله يف تقرير املجال املناسب إلعادة
التوزيع ،هو طبيعة النمو االقتصادي .بتقسيم عام ج ًّدا ،تنقسم السياسات
النافعة إىل فئتني .أوالً ،السياسات التي قد تأيت مبنافع فورية دامئة :كزيادة
طاقة كل املصابيح لعام واحد .ثان ًيا ،التي تكون منافعها مستم ّرة ومتصاعدة؛
مثل السياسات العلمية التي تزيد رسعة الوترية التي تتطور بها املصابيح (أو
غريها من االبتكارات) .تزيد هذه السياسات معدل النمو االقتصادي ،أو،
بعبارة أخرى ،تعترب نبتة الكروسونيا ،أي مصد ًرا مولّ ًدا لنفسه ومج ّد ًدا لنفسه
من الطاقة املستمرة.
عندما ننظر يف تغري سيايس أو قانون إلعادة التوزيع ،يهم أن نعرف إن كان
يريد تحقيق منفعة (أو تكلفة) فورية دامئة ،أو تعزي ًزا (أو إضعافًا) منظوم ًّيا
يف معدل النمو مع الوقت .هذا التفريق الغريب نو ًعا ما ،املستن َتج من األدبيات
110
االقتصادية عن النمو ،له أهمية كبرية يف الحكم عىل التغريات االجتامعية
املمكنة.
لننظر يف مثال بسيط ،يعتقد كثري من العلامء أن االحرتار العاملي سيزيد عدد
العواصف الشديدة واملستمرة يف كوكبنا .لن يظهر كثري من هذه العواصف
إال بعد حني ،ولكن االهتامم األكرب باملستقبل يقتيض أن علينا أن نستوعب
هذه العواقب .كثري من املشكالت البيئية األخرى يؤثر يف آفاقنا للنمو املستدام
عىل املدى الطويل .أرى أن هذه املشكالت مهمة عىل نحو خاص.
يف الوقت نفسه ،ميكن أن يؤدي االهتامم باملستقبل البعيد إىل إبعادنا عن
بعض االستثامرات البيئية .خالفًا لتهديد العواصف الشديدة املستمرة ،تتخذ
بعض تكاليف التغري املناخي شكل تعديالت فورية تتخذ مرة واحدة ،مثل
تغيري أماكن املستوطنات الساحلية .ميكن أن يعد هذا التغيري خرقًا للحقوق
نو ًعا ما ،لكن من وجهة نظر عواقبية ،فزيادة معدل النمو له األولوية عىل
تجنب التكاليف التي تدفع مرة واحدة والتغيريات التي تحدث مرة واحدة.
حتى لو كانت هذه التكاليف كبرية ،سنستعيدها مع الوقت ،بفضل منطق
مضاعفة النمو .لذا ،خالفًا ملا قد تطرحه األطر الزمنية األخرى ،علينا أن نهتم
اهتام ًما أكرب بالعواصف واهتام ًما أقل بتكاليف نقل املستوطنات.
من املهم ج ًّدا أن نالحظ إن كان االختيار السيايس املعني سيؤثر يف إجاميل
معدل النمو .لكن تفاصيل هذا التفريق معقدة ،ألن النامذج االقتصادية تختلف
أقوالها بشأن التغيريات التي تؤثر يف معدالت النمو ،باملقارنة مع تغيريات أو
تحسينات املرة الواحدة.
111
أبرز املقاربات االقتصادية للنمو ،منوذج سولو ،املسمى باسم عامل االقتصاد
يف معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا واملرشح لجائزة نوبل روبرت سولو،
الذي وضع أسس هذا النموذج يف خمسينيات القرن العرشين .يفرتض منوذج
سولو تابع إنتاج مجرد يشمل االقتصاد كله ،بنا ًء عىل عوائد الحجم الثابتة.
الناتج الوطني هو نتيجة مدخالت رأس املال ومدخالت العمل والتقدم التقني،
الذي يجعل رأس املال والعمل أكرث فعالية 10.يف هذا النموذج ،الطريقة األوىل
لزيادة النمو املستمر هي زيادة معدل االبتكار التقني .ولقد دلّت أبحاث
ريا وراء النمو
عامال كب ً
ً تجريبية كثرية عىل أن التقدم التقني املطبق كان
االقتصادي يف الواليات املتحدة.
يساعدنا منوذج سولو عىل فهم ظاهرة النمو التداريك ،التي كانت مهمة ج ًّدا
يف رشق آسيا .يف هذا النموذج ،يتضاءل معدل عائدات رأس املال كلام زاد
ريا ،كانت عائدات االستثامر ومن
مخزون رأس املال .فإذا مل يكن رأس املال كث ً
ثم دوافع االستثامر قوية ،عىل األقل إذا كانت اليد العاملة جيدة وكانت
املؤسسات تحمي حقوق امللكية للمستثمرين .لذا ينبغي أن تواكب الدول
الفقرية الدول األغنى حني تستورد تقنياتها الجديدة وتزيد رؤوس أموالها
فرصا جديدة ومربحة .كان النمو االقتصادي يف الصني الذي بدأ يف
ً لتوفر
مثانينيات القرن العرشين عىل طريقة التدارك هذه.
يقتيض منوذج سولو كذلك أن االقتصاد يتعاىف رسي ًعا بعد الصدمات السلبية
التي تحدث مرة واحدة كالزالزل أو الحروب .عىل رغم انهيار مخزون رؤوس
ملخصا حديثًا.
ً 10انظر سولو ()1957 ,1956؛ يقدم رومر ()2000
112
األموال من الدمار ،يرتفع معدل العائدات عىل رأس املال بسبب هذا
االنخفاض يف املخزون .تردم املدخرات اإلضافية الفجوة وتستعيد مع الوقت
االقتصاد إىل مسار منوه السابق .يظهر التعايف االقتصادي الرسيع ج ًّدا يف
اليابان وأملانيا بعد الحرب العاملية الثانية هذه اآللية عمل ًّيا .لذا فحسب هذه
منخفضا يف حالة واحدة ،هي أن تقلّص الصدمة
ً النظرية ،يبقى معدل النمو
تقليصا دامئًا أبديًّا.
ً السلبية معدل التقدم التقني
ألسباب مشابهة ،يُنظَر إىل تعزيز االدخار واالستثامر عىل أنه يسهم يف نقل
مسارات النمو ولكنه ال ينقلها إىل حالة منو مستقر عىل املدى الطويل .يف
هذا النموذج ،إذا زاد االدخار فمعناه أن مقدا ًرا مع ّي ًنا من النمو التداريك
11
سيحدث برسعة أكرب ،لكن االدخار ال يزيد معدالت النمو عىل املدى الطويل.
هذا هو منوذج سولو ،لكنني ال أقول هنا إنه أفضل منوذج لفهم عاملنا أو اتخاذ
موقف من إعادة التوزيع .لكنه ببساطة أحد االحتامالت.
خالفًا لنموذج سولو ،يقرتح منوذج العوائد املتزايدة أن النمو يأيت مبزيد من
النمو .يف هذا الرأي ،كلام كرب االقتصاد كان منوه أرسع من منو االقتصادات
األصغر ،وتتجه معدالت النمو إىل الزيادة مع الوقت .تأيت التحسينات مبزيد
من التحسينات وكذلك األحداث السلبية ترتاكم ،لذا ُس ّمي النموذج منوذج
«العوائد املتزايدة».
توصف األفكار عادة ،وطبيعتها غري التنافسية ،بأنها املصدر األسايس للعوائد
املتزايدة .فبعد أن تولد الفكرة ،ميكن أن يستعملها أناس كثريون مختلفون
.11تتيح تعديالت الحقة لنموذج سولو ملعدالت االدخار واالستثامر أن ترتبط بالنمو االقتصادي بطريقة أعم؛ انظر متبل
( .)140–139 ،1999تؤكد توسيعات أوزاوا ( )1965ولوكس ( )1988للنموذج عىل دور رأس املال اإلنساين يف
تعزيز معدل النمو أو الحفاظ عليه.
113
بتكاليف هامشية منخفضة ج ًّدا .تنترش الفكرة األوىل ،وتلد أفكا ًرا الحقة،
فيزداد النمو .وميكن النظر إىل العوائد املتزايدة بطريقة أخرى .تولّد األسواق
األكرب دوافع أقوى إلنتاج األفكار ألن املستثمرين يستطيعون فيها أن يبيعوا
(فمثال ،لن يكون ابتكار اآليفون يستحق
ً منتجاتهم إىل عدد أكرب من املشرتين
املوارد املبذولة فيه لو كان مصنو ًعا للعمالء يف نيوزيلندا فقط) .يقتيض هذا
أن االقتصادات الكبرية تنمو برسعة أكرب من االقتصادات الصغرية .كلام منا
االقتصاد ،كان الدافع أقوى وراء األفكار الالحقة ،التي بدورها تعزز الدافع
للنمو .تؤدي األفكار الجديدة إىل منو أكرب ،يشجع بدوره مزي ًدا من األفكار،
وهكذا.
يشتهر ارتباط منوذج العوائد املتزايدة بعامل االقتصاد بول رومر ،ولكن ميكن
أن نجده قبل ذلك يف آدم سميث ويف البدايات األوىل لالقتصاد بوصفه مجال
دراسة نظام ًّيا .يف منوذج سميث الضمني ،يؤدي حجم السوق األكرب إىل
توزيع أكرب للعمل ،يؤدي بدوره إىل إنتاجية أكرب يف االقتصاد .يف مناذج
أخرى ،كلام زاد االنفتاح عىل التجارة ،أو اتسعت منطقة سوق مشرتكة،
كالواليات املتحدة ،أدى ذلك إىل عملية تزايد عوائد الحجم.
إذا أردنا التعبري عن هذه النظريات بعبارايت ،فإن منوذج العوائد املتزايدة
يقول إن أمامنا نبتات الكروسونيا كثرية ج ًّدا ،أما منوذج سولو فيقول إننا لن
نجد نبتات الكروسونيا إال إذا اعتمدنا سياسات ترفع معدل إنتاج األفكار عىل
رشا .يرى منوذج العوائد املتزايدة أن أي ربح من
وجه الخصوص رف ًعا مبا ً
114
املوارد ميكن أن يرتجم إىل منو أعىل عىل املدى الطويل ،ولن يضمحل يف
12
عملية التكيف.
يف منوذج العوائد املتزايدة ،تلحق صدمة سلبية واحدة رض ًرا مبعدل النمو
عىل املدى الطويل ،وهو ما يقتيض أن علينا االهتامم بتجنب أي صدمة سلبية
محتملة ،أو عىل األقل بالحد منها .يظهر منوذج سولو صورة فيها مناعة أكرب،
ألن آثار التدارك متنع تراكم األخطاء املفردة مع الوقت أن يؤدي إىل انهيار
أكرب.
سيجعلنا منوذج العوائد املتزايدة إذن أشد حذ ًرا من إعادة توزيع الرثوة التي
ال تعزز النمو ،باملقارنة مع منوذج سولو .يف منوذج سولو ،قد تكون تكاليف
إعادة التوزيع تكاليف «تُدفع م ّرة واحدة» ،أي ال تسبب خفض معدل النمو
عىل املدى الطويل .ميكننا أن نعوض عن الخسائر املؤقتة ونعود إىل املكان
الذي كنا سنصل إليه .باملقابل ،يف منوذج العوائد املتزايدة ،أي تراجع سيجعل
االقتصاد أصغر ويحد معدالت النمو يف املستقبل ،وهو أمر له تداعيات مهمة
عىل مستوى املعيشة يف املستقبل البعيد.
يشري هذا الفرق إىل طريقة أخرى يجب فيها إعادة صياغة النقاشات
السياسية التقليدية .يجب أن يكون املؤمنون بنموذج العوائد املتزايدة أشد
تشكيكًا بإعادة التوزيع التي ال تعزز النمو من الذين يؤمنون بنموذج التدارك
لسولو.
12يف منوذج العوائد املتزايدة ،انظر رومر ( .)1990 ،1986يف مقارنة منوذج سولو ومنوذج العوائد املتزايدة ،انظر
ندوة 1994يف مجلة املنظورات االقتصادية .
115
ي املنطقني هو الصحيح؟ منطق منوذج سولو أم
من األسئلة املركزية هنا :أ ّ
منطق منوذج العوائد املتزايدة؟ حتى لو كنت غري مقتنع بكل تفاصيل هذين
النموذجني ،فإن الخيارين اللذين يقدمانهام هام :إما أن تكاليف املرة الواحدة
تؤثر عىل املدى الطويل ،وإما أنها ال تؤثر .سأعامل هذين النموذجني عىل
أنهام ممثالن لرأيني أوسع .السؤال املحوري هو :هل ترتاكم األرباح والخسائر
13
مع الوقت أم تضمحل إىل أن تصبح بال أهمية عىل املدى الطويل؟
مهام يكن رأيك بشأن منوذج سولو ومنوذج العوائد املتزايدة ،فإن منطق
العوائد املتزايدة سيكون له عىل األرجح وزن مهم يف تقديرنا األخري .يف كثري
من األحوال تكون أفضل إجابة نقدمها ،حسب معارفنا الحالية ،هي أن أي
تكلفة معينة يحتمل أن يكون لها أثر مستمر عىل النمو (كام يف منوذج العوائد
املتزايدة) ويحتمل أن تكون تكلفة تعديل تدفع مرة واحدة ،ويلحقها تدارك
اقتصادي (كام يف منوذج سولو) .يف حساباتنا للقيمة املتوقعة ،سيكون هذا
هو األثر املتوقع عىل املعدل طويل املدى للنمو االقتصادي .لذلك يجب أن ندمج
منطق منوذج العوائد املتزايدة يف طريقة تقييمنا للتغيريات االجتامعية ،حتى
إذا مل يكن هذا النموذج هو أفضل نظرية حالية يف النمو االقتصادي .من حيث
القيمة املتوقعة ،سيكون ملعظم اختياراتنا االجتامعية أثر عىل معدالت النمو
.13املقاربات املؤسسية الجديدة أقل رسمية يف صياغتها من منوذج سولو أ منوذج العوائد املشرتكة .تشري هذه املقاربات
إىل أهمية حقوق امللكية ،واملؤسسات الفعالة ،والثقة ،وحكم القانون ،والدوافع االقتصادية الجزئية املتفقة .مع هذا،
فإن هذه اآلراء ال تحدد عادة التغيريات السياسية التي تعزز معدل النمو تعزي ًزا مستم ًّرا ،مقابل تغيريات املرة الواحدة
(الفورية الدامئة) .للنظر يف هذه املقاربات املؤسسية الجديدة ،انظر عمل دوغالس نورث عن التاريخ االقتصادي
األمرييك واألورويب (نورث ،1981نورث وتوماس )1976؛ انظر أيضً ا أولسون ( ،)1984وبيتس وآخرون (،)1998
وأسيموغلو وجونسون (.)2004
116
االقتصادي املستقبلية .نبتات الكروسونيا يف كل مكان ،من حيث القيمة
املتوقعة .كل قراراتنا تتعلق بنبتات الكروسونيا يف آخر املطاف.
ريا ،يؤكد منوذج سولو ومنوذج العوائد املتزايدة كالهام عىل أن األفكار هي
أخ ً
منبع النمو االقتصادي .األفكار الجديدة هي منتجات العقل البرشي ،لقد ع ّرف
أرسطو اإلنسان بأنه حيوان عاقل .لذا فإن االهتامم بالسعي نحو النمو –أو
نحو فكرة معدلة من النمو– يقتيض االهتامم باألفكار ،واالهتامم بتثقيف
العقل البرشي ،واالهتامم بأنه ينبغي عىل اإلنسان أن يحقق طبيعته ويك ّملها
ويوسعها ألنها هي التي تولد األفكار التي تستطيع أن تغري العامل .اشمئ ّز ما
ّ
شئت ،سأشكر هنا آين راند مرة أخرى ،ألنها أكدت عىل هذه الفكرة أكرث من
معظم الفالسفة العقالنيني .إذا كنا نطلب مجموعة تحافظ عىل نفسها وتولد
نجل قوة العقل البرشي.
نفسها من القيم التعددية ،فإننا بطريقة أو بأخرى ّ
117
هل ينبغي أن يشلنا عدم اليقني؟ 6
طفًل ،كنت أحب قصص الخيال العلمي .كنت أحب التفكي يف
عندما كنت ا
كم ميكن لألمور أن تصي مغاير اة متا اما ملا كانت عليه .أثارت إحدى
القصص فضويل بشكل خاص ،وقد وجدت فكرتها الرئيسية نفسها يف
بضعة كتب مختلفة .وهي ما تزال تظهر يف الثقافة الشعبية ،وإذا مل تكن
تحب الخيال العلمي ،جرب فيلم األبواب املنزلقة Sliding Doorsالذي
عرض عام 1998من بطولة غوينث بالرتو ،والذي يسأل كم ميكن لحياة
واحدة أن تتغي مبجرد تفويت بسيط ملوعد القطار.
الفكرة الرئيسية مبارشة إىل حد كبي :إذا استطعت بشكل ما أن تعود يف
يا واح ادا ،فإن تاريخ العامل بأكمله ميكن أن يتغي.
الزمن وتغي حدثاا صغ ا
عطسة واحدة إضافية من رجل كهف واحد قبل آالف السنني قد تقلب
رأسا عىل عقب؟ قصة راي برادبري القصية
الحياة التي نعرفها اليوم ا
«صوت الرعد» ،التي نرشت عام ،1952واحدة من املصادر األوىل لهذه
الفكرة .تبدو الفكرة مجنون اة بعض اليشء ،ولكن كلام فكرت فيها أكرث،
فإنها تبدو أكرث إقنا اعا.
118
النقطة املفتاحية أن التغييات الصغية ميكن أن تتحول بسهولة إىل
تغييات كبية .ماذا لو توقف جوزيف اللتقاط قطعة نقدية من الرصيف؟
كان هذا التغيي الطفيف يف توقيت حياته ليحول بشكل شبه مؤكد
مثًل من خًلل تأخي العًلقة الجنسية
الهويات الخاصة لنسله املستقبيل ،ا
قليًل ،ما يؤثر عىل
مع زوجته مبقدار ضئيل ،أو تغيي وضع خصيتيه ا
تحديد أي النطاف سينتهي بها األمر بتخصيب بويضة زوجته .يف
املستقبل ،إذا ولدت مجموعة مختلفة من األفراد ،فمن املحتمل أن يسلك
العامل مسا ارا مختلفاا – أو شديد االختًلف أحياناا .ماذا لو كان جد هتلر
األكرب تأخر يف إغواء زوجته لحظ اة واحد اة من الزمن ،وتغي مزيج
الحيوانات املنوية والبويضة الذي تًلقى نتيجة ذلك؟ ما كان هتلر الذي
يا يف تحديد
نعرفه اليوم ليولد .حتى لو كان معظم الناس غي مهمني كث ا
املصائر اإلجاملية األوسع ،فإن من املؤكد أن بعضهم يفعلون ،مثل يسوع
أو محمد أو بوذا ،ناهيك عن هتلر أو لينني .دون هتلر ،ملا نجح النازيون
عىل األرجح؛ وكان هذا ليعني عدم وجود حرب عاملية ثانية وال
هولوكوست ،عىل األقل ليس بالشكل الذي شهدناه .عمل ايا ،كان التاريخ
الًلحق لكل بلد سيختلف وكانت البرشية لتتبع مسا ارا مختلفاا متا اما فيام
119
تبقى من الحياة عىل األرض .هل نحن متأكدون حقاا أن الواليات املتحدة
كانت لتظل أول دولة تصنع أسلحة نووية قابلة لًلستخدام؟
بينام يتمنى جزء مني أن يكون هذا املنطق صحي احا ،فإن الحقيقة الغاشمة
هي أن األحداث التي تؤثر يف االحتامالت أمر واقع واضطرابات جريان
األحداث الدنيوية ال يجب أن يقلل من أمرها باعتبارها تافهة ،فحتى الفعل
الصغي قد يعيد تشكيل التاريخ الجيني املستقبيل للبرشية بأكمله .غيت
ترصفات نابليون مسار الحياة يف أملانيا ،التي خضعت لثورة فكرية
حدثت الحقاا ،وكذلك مرص ،التي حصلت
ليربالية نتيجة للغزو الفرنيس ثم ُ
عىل املطبعة وجرعة كبية من األيديولوجيا الليربالية قبل أن تبدأ باالستياء
120
من التدخل األورويب يف الشؤون املحلية ،وهو شعور مستمر حتى يومنا
هذا .تغي تاريخ هذه املناطق بشكل ال رجعة فيه ،وكذلك تاريخ اليهود
الذين حرروا تحت حكم نابليون.
مهام
إن النقطة األساسية هي ما ييل :حتى لو مل تقتنع بأن نابليون كان ا
حقاا ،فإنك ال تعرف ذلك وال ميكنك أن تعرف حقاا .هناك احتامل حقيقي
أن والدة نابليون ،بدالا من طفل آخر من حمل آخر ،غيت تاريخ العامل
بشكل جذري .لذلك فمن حيث القيمة املتوقعة ،يبقى الحال أن األعامل
الصغية ميكن أن يكون لها تأثي كبي عىل املستقبل ،حتى لو مل تكن
تفعل ذلك دامئاا .كل ما ينبغي قوله إن بعض األفعال الصغية تقود
املستقبل إىل مسار شديد االختًلف.
تب اعا للفًلسفة ،أشي إىل هذا باسم املشكلة املعرفية 1.ال تتعلق املشكلة
املعرفية حقاا بالسفر عرب الزمن عىل اإلطًلق ،عىل الرغم من أن تراكيب
.1يقدم لينامن )2000( Lenmanبياناا واض احا للنقد املعريف للمذهب النفعي ويستشهد ببعض من سبقوه.
كًل من:
للحصول عىل وجهات نظر إضافية حول النقد املعريف ،انظر أيضا ا ا
Norcross (1990), Frazier (1994), Howard-Snyder (1997), Dorsey (2012), Mason (2004),
Lang (2008), Burch-Brown (2014), Kolmar & Rommeswinkel (2013).
ميكن اعتبار أن هايك )1991( Hayekيقدم نسخة من النقد املعريف أيضا ا .تسمي شييل كيغان Shelly Kegan
) (1998, 64هذه الحجة املعرفية «االعرتاض األكرث شيو اعا عىل العواقبية» .قدم ويليام ويويل بياناا مبك ارا للنقد
املعريف؛ انظر )] .Mill (1969[1852يدرس كل من كاويل ،وأمربوز ،وماك كولو Cowley, Ambrose, and
) McCullough (2000أسئلة «ماذا لو؟» يف سياق التاريخ العسكري .يتناول مورياريت )Moriarty (2005
121
الخيال العلمي تسمح لنا بتصور املشكلة بطريقة واضحة بشكل خاص.
القضية الحقيقية هي أننا ال نعرف إذا ما كانت أفعالنا اليوم ستؤدي يف
الواقع إىل مستقبل أفضل ،حتى لو بدا أنها ستفعل .إذا فكرت يف ألغاز
السفر عرب الزمن مبا فيه الكفاية ،فستدرك أنه من الصعوبة مبكان التنبؤ
بآثار أفعالنا الحالية ،وال عًلقة لذلك مبا إذا كان السفر عرب الزمن ممكناا
سيصي ممكناا يو اما ما أم ال.
دليًل
يقرتح النقد املعريف أن العقيدة الفلسفية للعواقبية ال ميكن أن تكون ا
ناف اعا للترصف ألننا بالكاد نعرف أي يشء عن العواقب طويلة املدى .بينام
ميكننا محاولة حساب القيم املتوقعة ،فإن هذه الحسابات تبنى عاد اة عىل
نطاق محدود ج ادا من املعلومات عن العواقب الحالية أو العواقب يف
املستقبل القريب .كام قال يل ديفيد شميتز يو اما :هل ميكننا أن منتلك
النظرية األخًلقية الصحيحة إذا مل نكن نستطيع أن نعرف تسعني باملئة،
أو رمبا 99.99باملئة ،مام ميكن أن يؤدي إىل نتيجة جيدة؟
قد تتفق أنه من الجيد تعليم السائقني املراهقني أال يقتحموا السي أثناء
الضوء األصفر إلشارة املرور .ففي نهاية املطاف ،ميوت نحو أربعني ألف
تداعيات الحجة املعرفية ملفاهيم الصحراء .تحلل أوىل محاواليت يف هذه املواضيع ) .Cowen (2006يحلل ماك
آسكيل ) MacAskill (2014كيف يجب أن نحقق أقىص قدر من بني كل القيم املتوقعة للنظريات األخًلقية التي قد
تكون متناقضة من خًلل أطر مفاهيمية قد تكون متناقضة.
122
شخص يف حوادث السيارات كل عام يف الواليات املتحدة وحدها .ولكن
اليوم ،عندما يتوقف السائق عند الضوء األصفر بدالا من التسارع ،فمن
املحتمل أن يؤثر عىل طول السي لألشخاص اآلخرين ،وبذلك يغي توقيت
أيضا.
ا مًليني الوالدات املستقبلية .ستتغي الهويات الوراثية الًلحقة
وبحلول الجيل القادم ،فإن هذه الهويات املختلفة ستؤدي إىل أمناط زواج
مختلفة وبالتايل مجموعة جديدة متا اما من األفراد يف املستقبل .فكيف
ميكننا حقاا معرفة إذا ما كانت قاعدة الضوء األصفر جيدة؟ أال يبدو أننا
نعمل يف الظًلم؟ إذا فكرت يف هذه األلغاز لفرتة كافية ،فإنك ستبدأ
بالتساؤل كيف ميكننا أب ادا أن نحكم عىل النتائج الجيدة عىل اإلطًلق.
ما إن تبدأ باالهتامم باملشكلة املعرفية ،قد تخىش إطًلق عصبية أخًلقية
متطرفة .إذ سيبدو أن كل عمل تقري ابا سيكون له عواقب هائلة تؤثر عىل
مستقبلنا .قد تخىش أنك رمبا ،فقط رمبا ،تكون قد بدأت حوادث املوت
األليم للمًليني يف آخر مرة أرسعت فيها متجاوزاا اإلشارة الصفراء؛ لكن
أيضا .كل هذه األرواح كانت
ابتهج ،فرمبا تكون قد أنقذت مًليني اآلخرين ا
متعلق اة بقرارك .يف أي لحظة ،قد يكون معظمنا يفعل أشياء ستؤدي إىل
نتائج رائعة حقاا ،أو نتائج مريعة حقاا ،أو ،عىل األرجح ،مزي اجا من
االثنني .يبدو أن ذلك يقود إىل الشلل .إذا كنت لتستوعب هذه الطريقة يف
123
التفكي ،فإنك ستشعر وكأنك تسي عىل قرش بيض طيلة حياتك ،باستثناء
أن قرش البيض ذلك هو التغيات الجيوسياسية التي قد تؤدي إىل إنقاذ
مًليني أو حتى بًليني األرواح البرشية يف املستقبل أو فقدانها.
قد تظن اآلن أن هذه الحجة غبية بشكل تام ورصيح .ولكن تحل بالصرب.
فأنا لست هنا ألدافع عن العدمية وال ألقرتح أن األخًلقيات يجب أن تركز
عىل مفارقات السفر عرب الزمن وتوقيت إنجاب هتلر املستقبيل .أنا أرغب
يف الدفاع عن نسخة من األخًلقيات املنطقية – لكن أوالا ،أريد أن أنظر
قليًل يف السبب الذي يجعل النقد املعريف ال يعني أننا يجب أن
نظر اة أعمق ا
نشعر باليأس حيال جهودنا لجعل العامل مكاناا أفضل .مبجرد أن نحصل
عىل هذا الفهم ،فسرنى أن بعض نسخ أخًلقيات البداهة العقلية تعمل
بشكل أفضل من غيها ،وسوف نقرتب أكرث من تلك األشكال األكرث
عقًلنية من أخًلقيات البداهة العقلية .سيكون لذلك بعض النتائج
أيضا يف الحجج الجديدة لبعض املواقف التي حددتها
امللموسة .سنبحث ا
سابقاا .يف أثناء ذلك ،أقرتح ببساطة أن علينا أن ننظر بجدية إىل مشاكل
التأكيد العقائدي بأنه ميكننا أن نعرف متا اما بأننا نؤدي للعامل معروفاا
لذا ،للميض قد اما ،سأرجع خطو اة إىل الوراء وأفكر فيام إذا كانت املشاكل
املعرفية تحدث اضطراباا يف اإلطار العواقبي بأكمله .يف الوقت نفسه،
سأعيد النظر يف بعض األسئلة عن نباتات الكروسونيا من الفصول
السابقة .أميكن أن يكون هناك ارتباط ضمني بني املسألة املعرفية وأهمية
نباتات الكروسونيا؟ سأعود إىل هذا السؤال بعد أن أعمل عىل بعض
األمثلة عىل عدم اليقني الجذري للمستقبل.
سأركز عىل مثال اإلرهايب الذي يحرض أدوات قاتلة للحرب البيولوجية
إىل الواليات املتحدة .العوامل املمرضة قاتلة إىل درجة أنها ،إذا أطلقت،
ستقتل مليون شخص .يجب علينا بالطبع أن نحاول إيقاف اإلرهايب ،أو
عىل األقل أن نقلص أثره أو احتامل نجاحه ،ألن هذا سينقذ األرواح
125
أيضا يف حامية الواليات املتحدة بشكل أعم .ال يجب أن يكون
وسيساعد ا
هذا موقفاا جدل ايا ،مهام تكن اآلراء األخًلقية وما وراء األخًلقية الصحيحة.
ومع ذلك فإن محاولة إيقاف اإلرهايب ال تلزمنا برؤية واضحة للكيفية
الدقيقة ،بالضبط ،التي ستعمل بها وسيلة الدفاع الفعالة عىل املدى
الطويل .بالعودة إىل املنطق املرشوح أعًله ،فإن إيقاف اإلرهايب سيؤثر
عىل العامل الفيزيايئ األوسع ،وبذلك يعيد توزيع الهويات الجينية وراء
العديد من حاالت الحمل املتًلحقة .قد يؤدي هذا إىل والدة جنكيز خان
مستقبيل أو طاغية أسوأ حتى ،مسل احا بأسلحة أقوى مام كان لدى جنكيز
خان يو اما .فحتى محاولة إيقاف اإلرهايب ،دون ضامن النجاح ،ستعيد
تشكيل املستقبل بطريقة مامثلة .ومع ذلك ،تظل هناك فرصة ضئيلة عىل
األقل (ورمبا حتى فرصة مؤكدة للغاية) بأن يكون إليقاف الهجوم عواقب
حسنة ،حتى عىل أطول مدى ممكن .لتوضيح األمر ببساطة ،من الصعب
اعتبار اعتداء يستخدم الحرب البيولوجية أفضل عىل املدى البعيد
للحضارة بالقيمة الصافية ،من حيث القيم املتوقعة.
من املؤكد أن هناك سيناريوهات محتملة يكون فيها للهجمة نتائج أفضل.
فعىل سبيل املثال ،قد تؤدي إىل حظر أوسع لألسلحة البيولوجية وبالتايل
إىل تفادي حدوث كوارث أكرب يف املستقبل .رمبا يكون ذلك صحي احا،
126
ولكن ال يوجد إنسان عاقل يتنفس الصعداء إذا سمع أن الهجمة قد نجحت.
لن نفكر ،يف تلك اللحظة ،بأن العامل عىل طريق الخًلص .عىل األرجح
أننا سنخىش عندها من تكرار حدوث هجامت إرهابية أخرى ذات طبيعة
مشابهة ،والتي قد تفتح بوابة جديدة وحقيقية للغاية نحو الفوىض
واالستبداد العامليني ،مع عواقب وخيمة لعقود أو رمبا لقرون الحقة.
بعبارة أخرى ،ستكون هناك أحداث معينة وعواقب معينة مؤثرة لدرجة
أننا سنتحفز للعمل دون الكثي من الرتدد املعريف ،عىل الرغم من أننا قد
ندرك الشكوك األوسع التي تحيط بأفعال كهذه عىل املدى الطويل ج ادا.
بالتأكيد يجب أن تكون الفائدة املسبقة ألي إجراء كبية مبا يكفي إلقناعنا
2
باتباعه يف بعض الحاالت.
.2تقدم املؤلفات االقتصادية التي تتناول االحتامالت مناظر اة حول إذا ما كان بإمكاننا يو اما أن نقول إننا ال منتلك «أي
فكرة» عن احتاملية حدوث نتيجة ما .وفق إحدى وجهات النظر ،ميكننا دامئاا ربط االحتامل البايزي ،سوا اء كان
رصي احا أم ضمن ايا ،بنتائج مختلفة ( .)Caplan 1999حتى لو مل نكن متأكدين ،فهناك من حيث املبدأ احتامالت
للمراهنة قد نكون مستعدين أو غي مستعدين لقبولها إذا أعطينا الخيار .تساعدنا هذه الرهانات املضادة للحقائق
عىل تحديد التقديرات الضمنية الحتامالت أي نتيجة ميكن تصورها .وفقاا لوجهة نظر ثانية ،فإننا ببساطة ال ميكننا
تحديد احتامالت بعض األحداث ( .)O’Driscoll and Rizzo 1996هذه األحداث فريدة و«غي يقينية بشكل
جذري» ،ولذلك فهي ال تتناسب مع الفئات القياسية لنظرية االحتامالت .لكن حتى يف هذه الحاالت ما تزال لدينا
درجات من عدم اليقني .قد ال تكون لدي «أي فكرة» عن مفاجأة عيد ميًلدي القادم ،ولكن عدم اليقني هذا ال يقارن
بعدم امتًليك «أي فكرة» عن الحياة الذكية عىل الكواكب األخرى .تعطينا السياقات االجتامعية الخلفية بعض
التوقعات ،حتى لو مل نكن نستطيع إعطاء أرقام محددة لتنبؤات االحتامالت .إللقاء النظر عىل الرأي األسبق القائل
إننا غالباا ما منتلك فكر اة ما عن العواقب ،انظر ).Mill (1969 [1852], 180
127
لذلك ميكننا تفادي الشلل التام أو الًلأدرية الرصفة واملطلقة ،عىل األقل
بالنسبة لبعض خياراتنا .بغض النظر عن مدى ارتفاع نسبة عدم اليقني
املحيط بالعواقب طويلة املدى ،ميكننا اتخاذ بعض اإلجراءات لرتجيح
العواقب الحسنة عىل املدى القصي .من الرضوري فقط أن تكون تلك
العواقب الحسنة عىل املدى القصي ذات قيمة كبية وواضحة مبا فيه
الكفاية.
ال يركز النقد املعريف عىل السعي وراء الفوائد الكبية ،واملقدمة .بدالا من
ذلك ،غال ابا ما تحدد املقاالت املكتوبة يف هذه املؤلفات الفلسفية فوائد
صغية ج ادا ،و«متقطعة» .وهناك سبب لذلك ،وهو أن تلك الحاالت تضفي
فلنلق نظر اة عىل هذه الحجج مبزيد من
ِ وزناا أكرب عىل النقد املعريف .لذا
التفصيل.
128
القواعد ،وعىل الصورة الكبية ،للعواقب .لنستعرض أوالا حجج لينامن ،ثم
3
نعود إىل ما قد تعنيه كل تلك الفوىض.
يقدم لينامن مثاالا مستوحى من يوم إنزال النورماندي يجب أن نختار فيه
الشاطئ الفرنيس الذي يجب احتًلله لهزمية النازيني .هذا بالطبع قرار
مهم ،بعواقب مؤثرة عىل نتيجة الحرب .يف املثال ،علينا أن نختار بني
شاطئني مرشحني لًلحتًلل ،لكن ال يوجد سبب عسكري قوي يرجح أحد
الشاطئني عىل اآلخر .عىل األرجح أن تكون النتيجة النهائية ألحد
الخيارين هي األفضل؛ لكننا ال نعرف أيهام .ولكن هنالك عامل يزيد تعقيد
األمر :إذا نزلنا عىل الشاطئ الشاميل ،سيكرس كلب إحدى ساقيه
وسيعاين بعض األمل ،رمبا نتيجة فعل عسكري ما( .ما رأيكم لو عاىن
الكلب املسكني التوا اء طفيفاا بدل ذلك؟) أما إذا نزلنا عىل الشاطئ
الجنويب ،لن يصيب الكًلب أي مكروه.
.3يبدو أن لينامن ) Lenman (2000يفضل «النظريات األخًلقية التي يكون الرتكيز فيها عىل شخصية الوسطاء
وخصائص إرادتهم ،عىل النظريات ذات الروح الكانتية أو األرسطية يف عمومها».
129
الكلب واألمل املصاحب تبدو ضئيل اة للغاية باملقارنة مبا هو عىل املحك:
نتيجة الحرب العاملية الثانية .وهكذا ،فحتى قبل الحدث ،يجب أال نرفع
مسألة ساق الكلب إىل مصاف اتخاذ القرار الحاسم ،وفقاا للينامن ،ألن
ساق الكلب ستكون مهمل اة عند التحليل النهايئ .هذه الحجة كلها منطقية
بعض اليشء بالنسبة يل .ولكن لينامن يخلص بعدها إىل أننا يجب أال
نكون حريصني عىل الحكم عىل األفعال من حيث عواقبها عىل اإلطًلق.
كام ميكنكم أن تروا هنا ،فإن هذه الحجة نوع من النقد املعريف.
الرد املتشدد ،بالطبع ،يتجاهل حدس لينامن بدالا من الرد عليه .ميكننا أن
نتخيل املتشددين يف وجهة النظر العواقبية يرصخون« ،أنقذوا الكلب من
انكسار ساقه ،احصلوا عىل املكاسب التي ميكننا رؤيتها ،وت ابا لعدم
اليقني! التباين املحتمل لنتائج قرار االحتًلل كبي عىل أي حال!».
ولكن تلك ليست إجابتي .أنا مستعد لقبول أن هناك شي ائا من الصحة يف
نقطة لينامن األسايس .ردي هو« :أوقفوا اإلرهايب وحربه البيولوجية؛
ولكن ال ميكنني اإلفتاء يف أمر ساق الكلب .قد يكون لينامن محقاا ورمبا
تكون مسألة إنزال النورماندي هذه مطروح اة للنقاش» .ثم يتبق لنا الرأي
القائل إن العواقبية تكون يف أقوى حاالتها عندما نسعى لتحقيق قيم ذات
أهمية مطلقة مرتفعة .ميكنك مناقشة مكان رسم الخط الفاصل بني
130
الهجمة اإلرهابية باألسلحة البيولوجية وساق الكلب ،ولكن مبجرد التمييز
بني الحاالت التي تختلف من حيث حجم التكاليف املقدمة ،يكون لدينا
يشء ميكننا العمل به.
غامضا.
ا إن استخدام ساق الكلب قيم اة ذات صلة قد ُ
صمم بحيث يكون
هناك استحقاق واقعي يف حجج الرفق بالحيوان ،ولكننا فقط ال نعرف
يف الكثي من املقارنات مقدار الثقل الذي يجب أن نعطيه لها .ال نعرف،
مثًل ،كيف نقيس سًلمة الحيوانات يف مقابل سًلمة البرش ،لذلك كم
ا
السهل نسب ايا للنقد املعريف أن يعزز حالة عدم اليقني هذه ويجعلنا نشك
فيام إذا كانت العواقبية قابلة للتطبيق عىل اإلطًلق .إن الرتكيز عىل ساق
أيضا ،يعطي النقد
الكلب ،وهي قيمة صغية نسب ايا ورمبا كانت غامضة ا
املعريف مظه ارا أكرث قوة مام يستحق.
إلظهار التباين ،لنقارن بسيناريو آخر لًلحتًلل .يف هذه الحالة ،سيؤدي
اختيار الشاطئ الشاميل إىل موت خمسمئة طفل بريء ولن يؤدي اختيار
ى باملدنيني عىل اإلطًلق .يف هذه
الشاطئ الجنويب إىل إلحاق أي أذ ا
الحالة االختيار سهل ،ألن لخمسامئة حياة بريئة أهمية عواقبية ووضوح ال
متتلكه ساق الكلب ،حتى لو كان خيارنا سيؤدي إىل سلسلة من اآلثار غي
اليقينية عىل املدى الطويل .ال يوجد سبب وجيه لعدم اختيار إنقاذ
131
خمسامئة حياة بريئة مقد اما ،نظ ارا ألن الفائدة األولية كبية مبا فيه
الكفاية.
132
رامربانت كان يف الحقيقة رسا اما أفضل .ميكننا أن نظل نعترب االثنني
4
متساويني تقري ابا يف الجودة واألهمية.
مثًل ،أنك
قد ينطبق مبدأ التقريب عىل العديد من أحكام الخي .تخيل ،ا
تقارن برنامج تطعيم جديد بربنامج من شأنه تحسني جودة املضادات
الحيوية ملجموعة واحدة من األطفال .قد تكون هاتان السياستان
متكافئتني بشكل عام من حيث القيمة ،عىل األقل إذا كان األثر املحتمل
لهام متشاب اها بشكل كافئ من حيث الحجم .هذا الحكم بالتساوي
التقريبي من شأنه أن ينجو مر اة أخرى من إدراك أن إحدى السياستني
كانت أفضل بقليل مام كان يعتقد سابقاا أو أنها ستكلف أقل من املتوقع
بقليل.
يشي مبدأ التقريب ،عند إمكانية تطبيقه ،إىل أنه ال ينبغي لنا التمييز عىل
أساس الفوائد والخسائر الصغية نسب ايا .تبدو التغييات املستقبلية
املوضوعة عىل املحك –كون بقية التاريخ البرشي عرض اة للتغيي– كبي اة
لدرجة أن التغييات الصغية يف الفوائد والتكاليف املقدمة ،مثل انكسار
ساق الكلب ،ال تخرج املقارنة األولية من كونها مبهمة وغي واضحة.
يا ما يكتب الفًلسفة عن فكرتني شديديت االرتباط هام عدم قابلية القياس وعدم قابلية املقارنة .حول هذه
.4كث ا
األفكار بشكل عام ،انظر تشانغ ) .Chang (2002, 1997فيام يتعلق مبفهوم الغموض ذي الصلة ،راجع أعامل
مثًل «الغموض يف الواقع» (.)Williamson, 2003
تيمويث ويليامسون ،ا
133
يف املقارنة بني رامربانت وفيًلزكيز ،تضمحل التغييات الصغية،
كالعثور عىل رسمة جديدة غي منشورة ،أمام املجموع املطلق الكبي
لإلبداع .أما يف مقارنة يوم إنزال النورماندي ،فإن التغيي الصغي –ساق
الكلب– يضمحل أمام عدم اليقني الخاص بالعواقب .بعبارة أخرى ،يوسع
النقد املعريف إحدى نسخ مبدأ التقريب لتمتد إىل املقارنات التي تنضوي
عىل الشك .ومع ذلك ،تظل العواقبية قامئة ،عىل األقل برشط أن نسعى
لتحقيق فوائد مقدمة كبية ،كإنقاذ خمسمئة من أرواح األبرياء.
أو لننظر األمر بهذه الطريقة :أي يشء نحاول القيام به يطفو يف بحر من
عدم اليقني الجذري عىل املدي الطويل ،إذا جاز التعبي .فقط األهداف
الكبية واملهمة املقدمة ،يف حالة التوازن االنعكايس ،سرتبو عىل الزبد
الدائم وتسمح للمقارنة بأن تكون أكرث من مجرد مقارنة مغرقة يف
التقريب .إن وضع الكثي من األهداف الصغية عىل املحك يعني ببساطة
أن حدسنا األخًلقي سيتبك يف النهاية ،وهذا يف الواقع هو االستنتاج
الصحيح والبديهي .إذا كانت هناك ضحية للنقد املعريف ،فهي الرتكيز عىل
الفوائد والتكاليف الصغية ،وليس عىل العواقبية بشكل أعم .إذا ربطنا
األمور كام يجب و«فكرنا بالصورة الكبية» وتتبعنا نباتات الكروسونيا،
فإن حدسنا األخًلقي سيبو عىل زبد التباين طويل املدى.
134
قد يقرتح مقدمو النقد املعريف أن العواقب يجب أال تكون ذات أهمية
كبية ،عىل األقل ليس باملقارنة مع األخًلق املستلهمة من علم األخًلق أو
الفضيلة ،وذلك نظ ارا إىل مدى صعوبة التنبؤ بها .ولكن االستنتاج األفضل
هو أن زبد عدم اليقني يجب أن يدفعنا إىل زيادة استياد الفوائد الكبية
بالنسبة إىل الفوائد الصغية ،وذلك للتغلب عىل مبدأ التقريب .بعبارة
أخرى ،هناك جانب آخر للنظرية األخًلقية يوجه انتباهنا نحو البحث عن
نباتات الكروسونيا.
للحجج املذكورة أعًله (عىل األقل) نتيجتان عمليتان ملا يجب أن نؤمن به،
وكيف يجب أن نؤمن ،وكيف يجب أن نترصف .وسأتناول الًلأدرية
والحقوق الفردية عىل التوايل.
135
مقدار من اليقني عىل مدى األفق الزمنية الطويلة .لذلك يجب أن يكون
ارتباطنا بوسائل معينة مؤق اتا للغاية وغي مؤكد إىل حد كبي وطارئاا من
جذوره.
إن احتامل كون آراءنا املحددة النتهاج سياسة ما هي الصائبة ،عىل الرغم
من أننا قد نعتقد بشكل منطقي أنها أفضل املتاح ،احتامل ضئيل ج ادا.
يجب أن تكون ذات الفرصة األكرب يف أن تكون الصائبة من بني كل اآلراء
يا ج ادا باملطلق .لنقارن بني
املتاحة ،ولكن هذا االحتامل لن يكون كب ا
الخيارات السياسية للمرء واملراهنة عىل الفريق األكرث ترجي احا للفوز
ببطولة العامل يف بداية املوسم .يتمتع ذلك الفريق بالفعل بأفضل فرصة
بطًل يف النهاية .يف معظم
للفوز ،ولكن يف معظم األحيان فإنه ال يتوج ا
األوقات ،تكون توقعاتنا الرياضية خاطئة ،حتى لو كنا متنبئني جيدين
باملتوسط .وهكذا هو الحال مع علم السياسة واختيار السياسات.
137
أن ننظر إليها بوصفها ذات سمعة سيئة أو رمبا حتى كعًلمة عىل
طبيعتنا املوهومة واملفرطة يف الثقة.
مثًل ،حق الطفل الربيء يف أال يُقتل .لنفرتض أنك تؤمن بهذا
لندرس ،ا
الحق ،كام أؤمن به ،ولكنك بعدها تواجه مثاالا مضا ادا سيزيد فيه قتل طفل
بريء ،عىل املدى القصي ،الدخل القومي مبقدار 5بليون دوالر .يف
العادة ،يقدر االقتصاديون الحياة بقيمة أقل بكثي من 5بليون دوالر؛ إذ
يقيمونها عاد اة يف حدود 5مًليني دوالر ،وهو فرق كبي .ولكن يف هذه
الحالة من الخطأ وضع مقارنة «حياة رضيع يف مقابل 5بليون دوالر» ثم
االضطرار لًلختيار .املقارنة الصحيحة هي «حياة طفل يف مقابل زبد مع
عدم يقني كبي وربح 5بليون دوال ارا مرم ايا كجزء من ذلك الزبد» .عندما
تصاغ بهذه الطريقة ،يكون من األسهل الوقوف بجانب منع قتل الطفل.
بل إن هناك فرصة جيدة –وإن كانت أقل من خمسني باملئة– بأن يكون
أيضا.
قتل الرضيع مفي ادا للناتج املحيل اإلجاميل ا
138
بعبارة أخرى ،ناد ارا ما تتعارض الحقوق مع العواقب بالطرق البسيطة
التي حددتها التجارب الفكرية الفلسفية .لذلك ميكننا تغيي طريقة
تفكينا تجاه عدم اليقني الجذري والعواقب .بدالا من ترك عدم اليقني
الجذري يشلنا ،ميكننا أن نفكر فيه عىل أنه مينحنا حرية الترصف بشكل
أخًلقي ،دون الخوف من كوننا نشرتك يف التدمي العواقبي.
أيضا أن نرى أن عدم اليقني الجذري هذا يدعم انبها ارا جدي ادا
ميكننا ا
بالحياة البرشية واالختيار؛ ميكننا قبول أن معظم أفعالنا أو كلها سيكون
له عواقب ال ميكننا توقعها .يف املتوسط ،ستكون هذه العواقب إيجابية،
متا اما كام أن النمو االقتصادي إيجايب ،ولكننا سنتساءل دامئاا عن العواقب
املستقبلية التي أطلقنا حركتها .سنتساءل عن قوتنا الغريبة وشبه
السحرية يف هذا الصدد.
من املمكن أن نفهم ملاذا نختار قتل الرضيع يف هذه الحالة .لسبب واحد،
إن تكلفة عدم قتل الرضيع اآلن أعىل بكثي .من ناحية أخرى –وهذا مهم–
إذا انتهى العامل بأرسه ،فًل يتبقى عدم يقني بشأن ما سيحدث الحقاا.
يجب أن نتبع العواقب األفضل ،ولن يعود هناك زبد من عدم اليقني ليربر
التزامنا بحقوق الرضيع الفرد .وبهذا املعنى ،فإن فكرة الحقوق املفرتضة
هنا ليست مطلقة متا اما ضد كل العواقب الخارجية املحتملة التي قد يحلم
بها الفًلسفة .ومع ذلك ،فإن معظم األمثلة االفرتاضية التي ينبغي فيها
انتهاك الحقوق أو كلها ليست ذات صلة وثيقة بخيارات العامل الحقيقي
التي وجب علينا مواجهتها حتى اآلن.
140
من املؤكد أننا ال نعرف بالضبط أين يجب أن تنتهي هذه املقارنة ويف أي
نقطة تبدو الحجة قوية لصالح قتل طفل بريء .ماذا لو كان الخيار بني
قتل رضيع واحد أو تدمي الكائنات الفضائية لنيبال فقط؟ ميكن جعل
عدد األرواح املتأثرة بالتهديد األجنبي أكرب أو أصغر حتى يرصخ منظّر
الحقوق طل ابا للرحمة .ال نعرف بالضبط أين نرسم ذلك الحد .ميكنك أن
تفكر يف هذا عىل أنه أحد نقاط الضعف يف نظرية الحقوق التي أطرحها.
ومع ذلك ،فإن هذا يرتكنا مع نظرية الحقوق التي تكون فيها الحقوق
مطلق اة بالفعل ،عىل األقل إذا كانت األمثلة التي ندرسها تطابق وقائع
أساسية ج ادا عن العامل الحقيقي ،عىل سبيل املثال وجود نباتات
الكروسونيا وزبد عدم اليقني العواقبي.
141
حسب التصميم ،ال يرتبط قارب النجاة يف هذا املثال بالزبد األوسع من
عدم اليقني يف العامل بشكل عام.
إذن ماذا يعني هذا؟ يف ظروف قوارب النجاة ،ستكون الفوائد املوضوعة
عىل املحك عاد اة ضئيل اة بالضبط ألن قوارب النجاة ،حتى الكبية نسب ايا من
بينها ،صغية .لذلك تكتسب الحقوق قوة أكرب من الناحية النسبية.
فبغض النظر عام تفعله ،ال ميكنك تحقيق فوائد اجتامعية كبية يف مناذج
قوارب النجاة ،لذلك هناك حجة أقوى تجب إقامتها ملجرد فعل اليشء
الصحيح .ال تقذف الرجل الضعيف يف البحر أو تطبخ لحمه؛ فعل هذا
خاطئ ،وال يعود ذلك بالكثي من الفائدة .قد يتطلب صنع العجة تكسي
بعض البيض ،ولكن العجة هنا صغية ،وليست لذيذة إضاف اة إىل ذلك،
سليام .مر اة أخرى ،فإن حجة حقوق
ا لذلك أرى أن عليك ترك ذلك البيض
اإلنسان أقوى مام تبدو عليه للوهلة األوىل.
142
خامتة – أين وصلنا
143
إليكم تلخييص القصري املكون من ثالث نقاط ملا أوصلتنا إليه هذه
الحجج:
ثان ًيا ،هناك مجال واسع ألخالقنا ،ومن بينها أخالقنا السياسية،
لتكون صارمة وقامئة عىل مفهوم القواعد والحقوق .يجب أن
نخضع أنفسنا لقيود احرتام حقوق اإلنسان ،مع اإلشارة إىل أن
حقوق اإلنسان شبه املطلقة هي الوحيدة القوية كفاي ًة لوضع أي
144
قيود عىل السعي لتحقيق فوائد ارتفاع معدل النمو االقتصادي
املستدام.
يف نهاية هذا املطاف ،إننا ال منلك «أفضل نظرية أخالقية» ،التي قد
يرغب الفيلسوف يف استخالصها ،وإمنا بعض قواعد اتخاذ القرار
الجيدة للعيش وفقها ،باإلضافة إىل بعض املعايري لكيفية تخيل
مستقبل أكرث إرشاقًا.
يجب أال ندافع عن وجهات النظر القامئة عىل القواعد عىل أساس
أنها «كذبة نبيلة» عملية للغاية .فمن الجيد أن نرى الفوائد العملية
للقواعد مقدرة ،لكن نهج الكذبة النبيلة ساخر ج ًدا .فهو يفرتض أن
القواعد ضعيفة فلسف ًيا لنبدأ بها وإن مل تكن كذلك .لذا بدالً من
اعتبار اإلميان بالقواعد الصارمة كذبة نبيلة ،اعتربها حقيقة نبيلة
مهمة للغاية.
147
ومن ثم فإن موقفك يجب أن يكون متواض ًعا باملعنى املعريف تب ًعا
لذلك.
أ .يجب أن تكون السياسة أكرث تطلعية وأكرث اهتام ًما باملستقبل
البعيد.
يجب عىل الحكومات أن تويل االستثامر أولوية أعىل ب.
بكثري مام هو عليه الحال اآلن ،يف كال القطاعني الخاص
والعام .فبالنسبة ملا يجب أن نفعله ،إننا نعيش حال ًيا يف
جفاف استثامري.
ج .يجب أن تهتم السياسة أكرث بالنمو االقتصادي ،وأن تحدد عىل
نحو سليم ،ويجب أن تويل مناقشة السياسات اهتام ًما أقل
أيضا .ال
للقيم األخرى .ونعم ،هذا يعني تخفيض قيمك املفضلة ً
استثناءات ،باستثناء حقوق اإلنسان شبه املطلقة بالطبع.
د .يجب أن نهتم أكرث بهشاشة حضارتنا.
متثل إمكانية التشاؤم التاريخي تحديًا لهذا النهج برمته ،ألن
املستقبل يف هذا املنظور قاتم مهام حدث ،وقد ال يكون هناك
148
مستقبل بعيد لنتطلع إليه لحل معضالت التجميع التي ينطوي
عليها اتخاذ القرارات التي تؤثر عىل كثري من البرش.
ه .يجب أن نكون أكرث إحسانًا بشكل عام ،لكننا لسنا ملزمني
بالتخيل عن كامل ثرواتنا .إننا ملزمون بالعمل الجاد واالدخار
واالستثامر وتحقيق إمكاناتنا البرشية ،ويجب أن نأخذ هذه
االلتزامات عىل محمل الجد.
و .ميكننا تبني الكثري من أخالقيات الفطرة السليمة مع العلم أنها
أيضا التوفيق
ال تتعارض مع نظرية أخالقية أعمق .وميكننا ً
بني أخالقيات الفطرة السليمة والعديد من التوصيات املعيارية
الناشئة عن إطار غري شخيص وعواقبي بدرجة أكرب.
ز .عندما يتعلق األمر مبعظم السياسات «الصغرية» التي تؤثر
عىل الحارض والحارض القريب فحسب ،يجب أن نكون ال
أدريني ،ألننا ال نستطيع التغلب عىل مشاكل التجميع إلصدار
حكم مربر .االستثناءات الرئيسية هنا هي بعض السياسات
التي تفيد الجميع تقري ًبا.
الرؤية الطوباوية
149
تتمثل رؤيتي السياسية الطوباوية يف مجتمع يتبع هذه املبادئ.
وهذا يعني مجتم ًعا يتيح للفردانية والسعادة واالستقاللية االزدهار
إىل أقىص حد .ال أتوقع حدوث يشء جيد للغاية يف الواقع ،لكنها
مع ذلك رؤية لنعيش وفقها ولنستخدمها عند تحديد فلسفتنا
الشخصية والسياسية .وبالنسبة للمجموعات الفرعية األصغر من
القضايا السياسية ،خاص ًة تلك الضيقة للغاية لدرجة أنها ال تؤثر
عىل النمو االقتصادي املستدام ،هناك متسع كبري للرؤى املتعايشة،
السياسية وغريها .وهناك جانب مهم مفتوح لهذا النهج ،ميثل لبنة
واحدة من الفكر السيايس ،بدالً من نظام مغلق يجيب أو يعالج كل
سؤال محتمل .ميكنك تبني هذا املنظور دون الحاجة إىل التخيل عن
جميع رؤاك الصغرية األخرى لنظام سيايس واجتامعي أفضل.
150
الصغرية ذات الفائدة الواضحة؛ وليس بالرضورة أن تكون النصائح
األكرث أهمية يف مجال السياسة مريحة أو عملية دامئًا.
لكن أفكر بعد ذلك مر ًة أخرى ،وأدرك أنني منخرط يف شكل مريح
من خداع الذات .أعلم أننا كبرش مربمجني بيولوج ًيا لالستجابة
للمحفزات الفورية واملدى القريب عىل حساب املستقبل .فمعظمنا ال
يخطط بعي ًدا بالقدر الكايف أو يدخر ما يكفي لتقاعدنا .سيرشب
األفراد ِ
الظامء املاء املالح بدافع اليأس ،حتى لو قلل ذلك من فرص
نجاتهم .لذلك ال ميكننا دامئًا الوثوق يف برمجتنا وآليات االستجابة
الفطرية .رمبا كانت هذه اآلليات تكيفية يف مجتمعات الصيد
والجمع ،لكنها أصبحت فجأة أكرث تكلفة يف حضارة مزدهرة ذات
مؤسسات سياسية واسعة النطاق ،ومشاكل مستمرة طويلة األمد،
وقدرة عىل توليد منو اقتصادي مستدام ومضاعف.
153
يجب أن نكون متشككني بعمق يف بعض وجهات النظر األساسية ملا
يرجح أنه يعزز الخري.
ما زلنا ال منلك أفضل نظرية أخالقية .لكن يجب أن نعيش حياتنا
عىل أكمل وجه ،مدركني أن أخالقيات الفطرة السليمة ذات عالقة
عميقة مبا هو صحيح حقًا.
154
امللحق أ – بعض الرياضيات االختيارية واملالحظات عىل بعض
املقاييس
… (𝑎) 3, 3, 4, 4, 5, 6, 6, 6, 6, 6, 6, 6
… (𝑏) 4, 4, 5, 5, 5, 5, 5, 5, 5, 5, 5, 5
بحكم التصميم ،ستتواصل املتتالية ( )aبالرقم ،6وستتواصل
املتتالية ( )bبالرقم .5باستخدام معيار التجاوز ،تعترب ( )aأفضل
من ( ،)bرغم أن ( )bتجلب رخاء أعىل يف الفرتات القليلة األوىل.
ومجد ًدا ،أعتقد أن هذه األرقام تتوافق مع ما أسميه ويلث بلس.
157
وباملثل ،فإن معيار التجاوز يرجح ( )cعىل ( )dللمعطيات التالية:
ال أحتاج إىل تراكب أفق زمني النهايئ ليصبح معيار التجاوز
منطق ًيا .وإمنا ميكننا أن نرجح ( )aعىل ( )bو( )cعىل ( )dإذا كان
طويال كفاي ًة لتكون إحدى املتتاليات مهيمنة يف
ً األفق الزمني املعني
الرفاهية عىل األخرى بوضوح .بكل بساطة ،إذا تفوقت ( )aعىل ()b
أيضا إضافة
لبضع مئات السني ،يسعدين إقرار ترجيح ( .)aميكننا ً
مبادئ باريتو إىل معيار التجاوز بحيث إن كان إلحدى املتتاليات
قيام أعىل بوضوح عىل طول املسار ،فإنها أفضل حتى لو مل تتفوق
ً
4
عىل األخرى يف جميع الفرتات الالحقة ،وإمنا ظلت مساوية لها.
.4تقرتح تشتشيلنسيك ( )1997نسخة معدلة من معيار التجاوز ال تجرب الفرتة الزمنية الحالية عىل
احتساب أي يشء .ميكننا أن نفكر يف هذا البديل يف حال واجهنا يف الواقع أفقًا زمنيًا النهائيًا ومشكلة
«ديكتاتورية املستقبل» .الحظ أنه مع األفق الالنهايئ ،سيفشل معيار التجاوز يف تلبية بعض مسلامت
العدالة بي األجيال ،مثل املجهولية أو الال مباالة يف قرارات التصنيف .حول صعوبات تلبية جميع املسلامت
158
قد يبدو أن معدالت الخصم املنخفضة ،كام وردت خالل هذه
املجموعة املتنوعة من االفرتاضات الرياضية ،متنح املستقبل أهمية
أكرث من الحارض .ولكن توجد أسباب تجريبية عميقة لعدم تاليش
أهمية الحارض يف قراراتنا .إذ يعد النمو االقتصادي عملية تراكمية
ذات عالقات سببية بي املتغريات يف بداية النمو ويف مراحل النمو
الالحقة .وهذا يعني–عاد ًة– أن أفضل طريقة لتلبية معيار التجاوز
هي جعل الحارض يف وضع جيد لبناء املستقبل .بعبار ٍة أخرى،
يتطلب النمو االقتصادي أن نستثمر يف مؤسسات سليمة ،ما يعني
5
أيضا.
القيام ببعض األشياء الجيدة هنا واآلن ً
هناك طريقة أخرى الستخالص عوامل خصم منخفضة نسب ًيا ،وهي
النظر يف النامذج التي يتغري فيها عامل الخصم مع مرور الوقت.
7
تتوافق حججي مع منطلق خصم غاما ،لكنني اخرتت اتجا ًها مختلفًا
قليال ،كام نوقش أعاله .ما يزال خصم غاما يعني أنه ميكننا اختيار
ً
رقم واحد صحيح (غري صفري) أو مجموعة أرقام ملعدل الخصم
طويل األجل .إذا كانت هذه املعدالت إيجابية ،فإننا ما نزال نواجه
.9انظر ويتسامن (.)260 ،2001
مثال برايس ( )1993وويتسامن ( )2001لنسخ من هذا الرأي .يجادل ليهي ( )2000بأن
.10انظر ً
التقنيات القياسية تقيس مدى اهتامم الوكيل الحايل بذاته املستقبلية ،يف حي ميكننا أيضً ا أن نسأل عن
مدى اهتامم الذات املستقبلية بذاتها الحالية .قد يؤدي تعديل هذا التناقض أيضً ا إىل اختيار معدالت خصم
أقل تويل اهتامم أكرب باملستقبل البعيد.
162
احتامل أن تكون حياة واحدة اليوم أكرث قيمة من استمرار بقاء
طويال كفاي ًة للمقارنة .بالنسبة
ً العامل ،رشيطة أن نختار أفقًا زمن ًيا
ملعظم القضايا العملية ،ال يرجح أن تظهر مثل هذه املشاكل ،لكنني،
مع ذلك ،أجد هذا االستنتاج بديه ًيا من الناحية األخالقية .وبدالً من
ذلك ،قد نختار معدل صفر للسنوات األخرية من مقارنات خصم
غاما ،ويف هذه الحالة سنقرتب من معيار التجاوز.
163
امللحق ب – رعاية الحيوان واستنتاج ديريك بارفيت البغيض
قبل الختام ،أود تقديم بعض املالحظات حول املشكلة التي لفتت
انتباهي بداية إىل أخالقيات االختيار العقالين ،وتحديدا استنتاج
ديريك بارفيت البغيض .لقد قرأت عمل بارفيت ألول مرة يف عام
،1984وما زلت أفكر فيه منذ ذلك الحني .مل أحل أو أدحض
استنتاجه البغيض ،لكن بالنظر إىل إطار هذه الحجج ،سألخص
أفكاري وأبحث ملا ما يزال االستنتاج البغيض ميثل ثغرة يف بعض
هذه الحجج .وباملناسبة ،إن كنت ال تحب االستدالل انطالقا من
األفكار األخالقية «الالمعقولة» املنافية للواقع ،ميكنك التوقف عن
القراءة اآلن.
164
ولكن القليل من السلع املثالية ،إن وجدت .حيث يطلب منا بارفيت
تصور عامل من «امليوزاك والبطاطا» .ورغم ذلك ،ما تزال الحياة
تستحق العيش يف هذا السيناريو ،وإن كانت رمبا بأقل الهوامش.
يشري بارفيت إىل أنه إذا كان عدد سكان السيناريو الثاين كبري
كفاية ،فقد يهيمن السيناريو الثاين يف الرفاهية عىل األول .وبغض
النظر عن مدى جودة صنعنا للعامل األول ،ميكن أن تؤثر الكمية عىل
1
الجانب الثاين.
لن أنخرط يف جميع املحاوالت املختلفة لحل (أو بيان) هذه املعضلة،
فقد خصصت كتب كاملة لهذا الغرض .أما بالنسبة ألغرايض ،فيكفي
أن أشري إىل أن معظم الناس يرفضون تأييد االستنتاج البغيض
ألنهم يشعرون أن املنافع الصغرية جدا ،مهام كرب عددها ،يجب أال
تؤدي إىل يشء ذي أهمية أخالقية كبرية .أي أنهم يقللون من
مستوى املنافع الصغرية جدا التي تشكل حياة امليوزاك والبطاطا.
166
البرش كام نعرفها ،وهي حياة مليئة بالسلع املثالية التي ميتد ثراؤها
إىل ما هو أبعد من استهالك امليوزاك والبطاطا .ميكن قراءة استنتاج
بارفيت البغيض بوصفه تصويرا لنتائج نبتة الكروسونيا أخرى
تتكون من سلسلة طويلة جدا من حيوات «امليوزاك والبطاطا».
يسهل تجسيد سيناريو بارفيت وجعل حياة امليوزاك والبطاطا
عديدة ألنها تتكاثر ذاتيا وتستمر لفرتة طويلة جدا.
167
إفناء الجنس البرشي طواعية إلفساح املجال لعدد أكرب من
الحيوانات غري البرشية؟
بعبار ٍة أخرى ،ما أن نفكر يف الحياة غري البرشية ،توجد العديد من
نباتات الكروسونيا املتنافسة .ال أقدم ،وال ميكنني حتى ،ضمن هذا
اإلطار ،أي سبب الختيار نبتة الكروسونيا للحياة البرشية كام
نعرفها بدال من نبتة الكروسونيا مستمدة من عوامل أخرى من
الطبيعة .وال يسعني سوى القول إنه ،ألغراض عملية ،علينا التعامل
مع نبات الكروسونيا املعروض علينا ،والذي يركز بشدة عىل الرؤية
الغنية والتعددية للحياة البرشية كام نعرفها يف متيزها.
ألسباب مامثلة ،ال تحل حجج هذا الكتاب ،وال ميكنها ،الخالفات
طويلة األمد حول رعاية الحيوان وحقوق الحيوان .إنني أتعاطف
شخصيا بشدة مع الرأي القائل بأنه يجب علينا معاملة الحيوانات
غري البرشية أفضل مام نفعل اآلن .لكن حقوق الحيوانات ،عىل األقل
الحيوانات غري املستأنسة ،تعود إىل نبات الكروسونيا مختلف عن ما
نفكر فيه .ال يحل يشء يف إطاري ،كام هو معروض هنا ،تلك
املناقشات.
168
ولعلك تتذكر أن بعض األطر ،مثل التعاقدية ،تشري ضمنا إىل أن
قضايا رعاية الحيوان تخرج عن الخطاب األخالقي السائد ألننا ال،
وال ميكننا أن ،نصوغ اتفاقيات ،حتى االفرتاضية منها ،مع
الحيوانات (غري املستأنسة) .ال توجد مساومة مع الزرزور ،رغم أن
الزرزور يبدو أكرث ذكاء مام كنا نعتقد سابقا .إن أسبايب الستبعاد
الحيوانات من االتفاق مختلفة ،وليس لها عالقة باملوافقة أو املوافقة
االفرتاضية.
يتمثل أحد اآلثار املرتتبة عىل هذه الحجة يف افتقارنا إىل طريقة
سهلة للتحايل عىل مشاكل التجميع عندما يتعلق األمر بقضايا رعاية
الحيوان ،إذ ال يوجد –باستثناء الحيوانات املستأنسة– نبات
الكروسونيا شائع .يفرس هذا أيضا ملا تعد معالجات املعلقني
املسيحيني ،وليس النفعني ،من أكرث معالجات رعاية الحيوانات
إقناعا ،مثل ماثيو سكايل وكتابه املمتاز السيادة :قوة اإلنسان
ومعاناة الحيوانات ونداء الرحمة .فبالنسبة للمفكرين املسيحيني،
وليس النفعيني ،من الطبيعي أن نعترب رعاية الحيوان تخضع
169
لسيادة منفصلة ،ولكنها ما تزال تستحق رحمتنا ،تقرتب نسبيا من
املوقف الذي أحدده يف هذا الكتاب.
قد تخيب هذه املالحظات آمال أولئك الذين يتوقعون نظرية أخالقية
لحل معضالت بارفيت .لكن ميكننا أن نشعر بالراحة يف تصنيفها
إىل مجموعة معضالت أوسع وأكرث شهرة – وإن كانت ما تزال غري
قابلة للحل .لكن ضمن املخاريط األخالقية التي منلكها ،وباستخدام
نباتات الكروسونيا التي نفهمها ،أقرتح قوة كاملة مقبلة.
170
A translation of “Stubborn Attachments: A Vision for a Society of Free, Prosperous,
and Responsible Individuals” © [2018] Eamon Butler