You are on page 1of 27

‫أهم النظريات املفسرة للسلوك اإلجرامي‬

‫رغم أن الدراس ات الفلس فية الديني ة القديم ة‪ ،‬ك انت تنظ ر إلى الجريم ة ك رجس من عم ل األرواح الش ريرة‪ ،‬و الش ياطين ال تي‬
‫تتقمص روح الجاني‪ ،‬واعتبرتها في ما بعد قد ًرا محتو ًما ال مفر منه‪ ،‬يعبر عن غضب اآللهة‪ ،‬ف‪Ձ‬ن الدراسات الجدية أو العلمية‬
‫لهذه الظاهرة‪ ،‬لم تبدأ إال من عهد قريب بيانه؛ حيث حاولت مختلف الدراسات الحديثة تفسير السلوك اإلجرامي لإلجابة على‬
‫التساؤل اآلتي˸ ملاذا يجرم اإلنسان؟؟ وبالرغم من حداثة هذا العلم‪ ،‬فقد تعددت األفكار والنظريات بتعدد العلوم واملعارف التي‬
‫تهتم بالسلوك اإلجرامي‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬يمكن رد جملة االتجاهات املختلفة إلى ثالثة مذاهب رئيسية هي˸‬

‫‪( 1‬املذهب الفردي˸ الذي يعزي الجريمة إلى املجرم نفسه‪ ،‬دون اهتمام بتأثير العوامل االجتماعية‪( 2 .‬املذهب االجتماعي˸‬

‫وهو الذي يرجع أسباب الجريمة إلى املحيط االجتماعي الذي يعيش فيه املجرم‪.‬‬

‫ويتوسط املذهبين مذهب ثالث‪ ،‬يأخذ بالعوامل الفردية والعوامل االجتماعية والبيئية‪ ،‬وٳن غلب بعض هذه العوامل على األخرى‬
‫بحسب كل حالة‪ ،‬ويطلق عليه املذهب املختلط‪ .‬وفي ما يلي نعرض ألهم األفكار والنظريات التي ارتبطت بهذه املذاهب‪.‬‬

‫املبحث األول‪ :‬دور املذهب الفردي في تفسير السلوك اإلجرامي‬

‫تأثر أنصار هذا املذهب باملنهج التجريبي في البحث‪ -‬القائم على املالحظة والتفسير‪ -‬فانطلقوا من شخصية املجرم وذاته من النواحي‬
‫العضوية والنفسية والعقلية لتفسير السلوك اآلثم‪ ،‬ورغم انطالق أنصار هذا املذهب من نقطة واحدة (شخصية املجرم و ذاته)‪،‬‬
‫ومدى إسهامها في إحداث الجريمة‪ ،‬فإنهم اختلفوا في ما بينهم حول مدى قوة تأثير كل عامل من العوامل الفردية‪ ،‬ومدى رجحانه‬
‫على باقي العوامل‪ ،‬وأكثر املدارس شهرة في هذا املذهب˸‬

‫‪. 1‬املدرسة الوضعية اٺيطالية‬

‫‪. 2‬املدرسة التكوينية األمريكية‬

‫‪. 3‬مدرسة التحليل النفسي‬

‫املطلب األول‪ :‬املدرسة الوضعية االيطالية˸ ‪italienne positiviste école’L‬‬

‫من أهم أقطابه ا‪ ،‬ب ل ومؤسس يها الط بيب االيط الي س يزار ملبروزو (‪( ، 1835- 1909( )Lombroso Cesare‬واألس تاذ انريكوف يري‬
‫ورفاييل كاروفالو‪ ،‬وكان ملبروزو أول من نبه أذهان الباحثين في علم اإلجرام‪ ،‬إلى دراسة شخصية املجرم على أساس علمي سليم‪،‬‬
‫وقد ساعدته مهنته ‪ً -‬‬
‫طبيب ا‪ -‬على التعمق في دراسته‪ ،‬حتى خرج منها بنظريته التي ضمنها كتابه الشهير‪ ،‬الذي أصدره سنة ‪1876‬‬
‫عن «الرجل املجرم» أو «اإلنسان املجرم»‪.‬‬
‫وتتلخص نظرية ملبروزو‪ ،‬في أن املجرم يتميز عن غيره بصفات خاصة عضوية ونفسية؛ فمن الناحية العضوية‪ ،‬الحظ أن للمجرم‬
‫مالمح خاصة‪ ،‬تكمن في عدم انتظام جمجمته؛ حيث شملت أبحاثه ثالث مئة وثالث وثمانون (‪( 383‬جمجمة ملجرمين موتى‪ ،‬وحوالي‬
‫َ خ‬
‫رة الجمجمة‪ ،‬يشبه ذلك الذي‬
‫ستة آالف من املجرمين األحياء (بالضبط ‪( 5907‬الحظ من خاللها وجود تجويف غير عادي في ُمؤ ِّ َ ِ‬
‫يوجد لدى بعض الحيوانات الدنيا (القردة)‪.‬‬

‫ومن ضمن م ا الح ظ أيض ا ل دى املج رم‪ ،‬كثاف ة الش عر في ال رأس والجس م‪ ،‬وض يق الجبه ة‪ ،‬وض خامة الفكين‪ ،‬وط ول األذنين أو‬
‫قص رهما‪ ،‬وبروزهم ا إلى الخ ارج بش كل واض ح م ع ع دم انتظ ام األس نان‪ ،‬وع دم اس تقامة األن ف‪ ،‬والط ول املف رط في األط راف‬
‫واألصابع‪...‬‬

‫ولذلك‪ ،‬خلص ملبروزو إلى أن املجرم نوع شاذ من الناس‪ ،‬يختلف عنهم في تكوينه الذي يجعله اقرب إلى اإلنسان البدائي األول؛ فال‬
‫يستطيع التكيف مع املجتمع الذي يعيش فيه‪.‬‬

‫ومن الناحية النفسية والعقلية واملزاجية للمجرم‪ ،‬الحظ ملبروزو كثرة الوشم الذي يرسمه املجرمون على أجسامهم‪ ،‬كما الحظ‬
‫خالع ة ه ذه الرس وم الوش مية وب ذاءتها‪ ،‬فاس تخلص من ك ل ذل ك‪ ،‬تم يز املج رمين بص فات نفس ية أهمها ˸ غلظ ة قل وبهم وع دم‬
‫إحساسهم باأللم‪ ...‬وهو ما يجعلهم يرتكبون جرائمهم في سهولة ويسر‪.‬‬

‫ومن ض من م ا الحظ ه‪ ،‬أيض ا ح دة املزاج ل ديهم‪ ،‬وميلهم إلى الكس ل والغ رور‪ ،‬وميلهم أيض ا نح و الكح ول‪ ،‬ورغبتهم امللح ة في‬
‫املقامرة‪ ،‬وإيمانهم الكبير بالخرافات‪ ،‬وكذا شعورهم الدائم بعدم االستقرار النفسي والعاطفي‪ ،‬فضال عن فقدانهم السيطرة على‬
‫النفس‪...‬‬

‫وقد اعتقد ملبروزو أن النموذج اإلجرامي الكامل للمجرم املطبوع هو الذي يتميز بأكثر من خمس سمات انحطاطية‪ ،‬أما النموذج‬
‫غير الكامل‪ ،‬فهو الذي تقل سماته االنحطاطية عن الخمس دون الثالث‪ ،‬أما من تقل سماته االنحطاطية عن الثالث فهو ال يعتبر‬
‫معي ًن ا‪ .‬وأك د ملبروزو أن ه ذه الس مات االنحطاطي ة ال تي يتم يز به ا املج رم ليس ت س ًببا ب ذاتها للجريم ة‪ ،‬وإنم ا هي‬
‫نموذج ا إجرامي̒ا ّ‬
‫س مات وص فات تم يز املج رم عن غ ير املج رم‪ ،‬ب ل وتزي د من قابلي ة الف رد‪ ،‬وتض اعف اس تعداده الرتك اب الج رائم أك ثر من غ يره‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬انتهى إلى القول أن املجرم شخص مغلوب على أمره؛ ألنه طبع على اإلجرام فهو مجرم بالفطرة أو ‪"Le criminel né ".‬‬
‫بامليالد‬

‫‪ -‬تقدير نظرية ملبروزو‬

‫أثارت أفك ار ملبروزو حماس بعض العلماء وإعجابهم‪ ،‬بفضل سبقها في إلقاء الض وء على دراسة جسم اإلنسان من الناحيتين‬
‫العضوية والنفسية‪ ،‬إال انه ما لبث أن انقلب الحماس واإلعجاب إلى نقد شديد‪ ،‬ومن جملة ما اخذ على هذه النظرية˸‬

‫إسراف ملبروزو في تمييز املجرمين بصفات جسدية معينة؛ خصو ًصا و انه حصر دراساته في بعض املجرمين (األحياء واألموات)‪،‬‬
‫فلم يقم بدراسات مقابل ة على عدد مماثل من غير املجرمين‪ ،‬حتى يستطيع أن يجزم بتميز املجرمين دون غيرهم بهذه الص فات‪،‬‬
‫وهو ما افقد استنتاجاته قيمتها ومصداقيتها‪ ،‬ودفعه إلى إعادة النظر في ما خلص إليه‪ ،‬محاوال اختبار مصداقية ما توصل إليه في‬
‫بحوثه السابقة‪ ،‬فانتهى إلى‬
‫وجود عوامل أخرى غير التي اعتمدها ً‬
‫سالف ا تدفع إلى اإلجرام‪ ،‬كما انتهى إلى تصنيف املجرمين إلى عدة طوائف هي‪:‬‬

‫‪. 1‬املجرم بالفطرة أو بالوراثة˸ وهو الذي سبقت اإلشارة إلى سمات بدنه ومالمح شخصيته‪.‬‬

‫‪. 2‬املجرم املجنون˸ وهو من يرتكب الجريمة تحت تأثير املرض العقلي‪ ،‬ولذلك ينبغي وضعه في مصحة عقلية التقاء شره‪.‬‬

‫‪. 3‬املجرم بالعادة˸ وهو من اعتاد اإلجرام بسبب ظروفه االجتماعية‪ ،‬وأهمها اتصاله باملجرمين وإدمانه الخمور والبطالة‪.‬‬

‫‪. 4‬املجرم بالصدفة˸ ويرجع ملبروزو إجرامه إلى الظروف واملواقف التي يجد نفسه فيها‪ ،‬وتدفعه إلى اإلجرام صدفة أو بسبب‬
‫حب الظهور و التقليد‪.‬‬

‫‪. 5‬املجرم بالعاطفة˸ وهو شخص يتميز بحساسية مفرطة‪ ،‬تدفع به إلى االنفعاالت الهوجاء والعواطف املختلفة‪ ،‬من غضب‬
‫وحب وغيرة وحقد وكراهية‪ ...‬ويصنف ملبروزو املجرم السياسي في هذه الخانة‪.‬‬

‫ومن ضمن ما اخذ أيضا على النظرية اللمبروزية‪ ،‬عنايتها بدراسة أعضاء املجرم وشخصيته فحسب‪ ،‬باعتبارها الدافع األساس إلى‬
‫اإلجرام‪ ،‬وإغفال دراسة جميع العوامل االجتماعية أو البيئية على الرغم من دورها املهم في السلوك اإلجرامي‪.‬‬

‫ومم ا وج ه أيض ا له ذه النظري ة‪ ،‬إقراره ا بوج ود مج رم ب امليالد أو مج رم ب الفطرة‪ ،‬وه و م ا انتق ده بعض ا للنم ط االجتم اعي‬
‫السائد‪ ،‬واستنا ًداالباحثين بشدة‪ ،‬مؤكدين أن السلوك يكون إجراميا أو غير إجرامي وفقً إلى نص جنائي يصفه بعدم املشروعية‪ ،‬وبما أن صفة املشروعية من‬
‫ع دمها مس الة نس بية‪ ،‬تختل ف من مجتم ع إلى آخ ر‪ ،‬ب ل ومن زمن إلى آخ ر في املجتم ع الواح د‪ ،‬فان ه ال يقب ل الق ول إن الش خص‬
‫الذي يولد بصفات معينة يكون مجر ًما‪ ،‬أيا كان املجتمع الذي وجد به أو الزمن الذي ولد فيه‪.‬‬

‫(‪ Enrico Ferri)1929-1856‬فيري انريكو‪-‬‬

‫بش ان الت أثير العض وي ال بيولوجي‪ ،‬غ ير ان ه خالفً اهتم ف يري بم ا طرح ه أس تاذه ملبروزو ا ألس تاذه‪ ،‬اعت بر العوام ل االجتماعي ة والنفس ية واالقتص ادية‬
‫أسبابا دافعة الرتكاب الجرائم‪ .‬ويعد فيري مؤسس الجناح البيولوجي االجتماعي للمدرسة االيطالية‪ ،‬واليه‬ ‫ً‬ ‫والجغرافية والسياسية‬
‫يرج ع الفض ل في تأس يس «علم االجتم اع الجن ائي»" ‪ "، criminelle sociologie La‬كم ا ابت دع م ا يع رف بق انون التش بع اإلج رامي أو‬
‫الكثافة وقد اعتمد فيري في بحوثه املنهج التجريبي كما فعل أستاذه ملبروزو‪ ،‬مقس ًم اإلجرامية‪ .‬ا املجرمين إلى خمس طوائف هي˸‬

‫‪ -‬املجرم بالوالدة (‪( né criminel‬‬

‫‪ -‬املجرم املجنون (‪( fou criminel‬‬

‫‪ -‬املجرم العرضي أو بالصدفة (‪( occasion’d délinquant‬‬


‫‪ -‬املجرم العاطفي أو االنفعالي (‪( passionnel délinquant‬‬

‫(‪)délinquant d’habitude‬املعتاد املجرم‪-‬‬

‫هذا‪ ،‬وقد اعتقد فيري أن التصدي للجريمة‪ ،‬والدفاع عن املجتمع يستوجب أوال الدفاع الوقائي ثم الدفاع العقابي‪ ،‬وارتأى‬
‫أيض ا أن مواجه ة خط ورة الج اني تس تلزم أم رين˸ أولهم ا مواجهته ا بالت دابير البوليس ية الوقائي ة‪ ،‬وآخرهم ا تكييف ه م ع الحي اة‬
‫االجتماعية‪.‬‬

‫وقد الحظ ُكورنك تميز املجرمين بصفة عامة بنقص في الوزن والطول‪ ،‬وهو نقص عزاه الباحث إلى انحطاط عام موروث في‬
‫طبيعة املجرم‪ ،‬يبدو في قياس مستواه العقلي وغير ذلك من العوامل التي يكون للوراثة دخل فيها‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬املدرسة التكوينية األمريكية‬

‫من ابرز املؤيدين لنظرية ملبروزو في أمريكا‪ ،‬أستاذ االنتروبولوجيا بجامعة هارفارد ارنست هوتون " " ) ‪Hooton Albert Earnest‬‬
‫‪(، 1887-1954‬هذا األخير الذي تناول بالفحص والتمحيص املجرم األم ريكي‪ ،‬من خالل دراس ة م ا س بق من أبح اث ودراس ات ح ول املوض وع‪ ،‬متخذً ت ا ألبحاثه‬
‫مراعي ا في اختيارهم ظروفهم الخاصة‪ ،‬وعامل‬ ‫ً‬ ‫مجموعا كبيرة من املجرمين وغير املجرمين‪ ،‬انتقاهم من ثماني واليات أمريكية‪،‬‬
‫الجنس والجنسية‪ .‬وقد خلص هوتون في أبحاثه إلى وجود صفات انحطاطية موروثة (بيولوجية) يتميز بها املجرمون‪ ،‬وٲن هذه‬
‫الصفات تتعلق بشكل العينين واألنف والفم واألذنين والجبهة‪ ،‬ومقاييس هذه األعضاء‪ .‬ولهذا االنحطاط والشذوذ البدني‪ ،‬الذي‬
‫يدل على انحطاط عقلي حسب هوتون‪ ،‬أهمية في تبرير الظاهرة اإلجرامية‪ ،‬هذا فضال عن اعتماده في بعض دراساته‪ -‬وتحديدا‬
‫املتعلقة بسكان أمريكا الالتينية‪ -‬التصنيف الساللي العرق"‪". types racial‬‬
‫كما استخلص هوتون من دراساته‪ ،‬أن من بين هؤالء املجرمين يتميز مرتكبوا نوع معين من الجرائم بصفات مشتركة‪ ،‬تميزهم‬
‫عمن يرتكبون جرائم من نوع آخر‪ ،‬فمثال هناك صفات تميز مرتكبي الجرائم التي تقع ضد األشخاص كجرائم القتل والنهب‪ ،‬حيث‬
‫يتميز مقترفوها بطول القامة ونحافة الجسم‪ ...‬في ما يتميز الذين يرتكبون الجرائم الجنسية بقصر القامة والوزن املفرط‪...‬‬
‫َ‬
‫َ ها منرفٌوهكذا رد هوتون الجريمة إلى انحطاطية تكوينية موروثة‪ ،‬يتميز بها املجرمون وحدهم يمكن ت عَ ُّ خالل مالمح املجرمين‪،‬‬
‫وأوصافهم الجسدية؛ مؤي ًدا بذلك ما ذهب إليه ملبروزو في كتابه «الرجل املجرم»‪ ،‬وان كان هوتون قد ارتأى في االنحطاطية‬
‫االجتماعي ة (املهن ة‪ ،‬الحال ة االجتماعي ة‪ً )...‬‬
‫دافع ا أيض ا لإلج رام وان لم يرك ز عليه ا كم ا فع ل بالنس بة إلى العوام ل الفردي ة‬
‫(الجسدية)‪.‬‬

‫‪ -‬تقدير نظرية هوتون‬

‫رغم أن هوتون لم يكتف بدراسة طائفة املجرمين‪ ،‬وإنما شملت أبحاثه مجموعة مقابلة لها من غير املجرمين؛ وهو ما جنب‬
‫دراسته النقد الذي وجه للمبروزو من هذه الزاوية‪ ،‬إال أن نظريته تعرضت النتقادات شديدة‪ ،‬شملت منهجه في البحث‪،‬‬
‫وكذا النتائج التي توصل إليها‪.‬‬
‫ً‬
‫فمنهجي ا وقع هوتون في األخطاء نفسها التي وقع فيها ملبروزو‪ ،‬من حيث عدم مراعاته للشروط التي ينبغي توافرها في العينة محل‬
‫البحث؛ حيث أجرى أبحاثه على مجموعة من نزالء السجون‪ ،‬على أساس أن هؤالء يمثلون املجرمين كلهم‪ ،‬والحقيقة غير ذلك‪،‬‬
‫فهؤالء ال يمثلون الرقم الحقيقي لإلجرام وإنما هناك رقم مظلم (‪( noir chiffre‬ال يصل إلى القضاء أو السجون‪ ،‬بل و حتى إلى علم‬
‫َ‬
‫الجهات املعنية‪ ،‬ر ِف مقترف الجرم‪ .‬ملجموعة من األسباب ابسطها عدم تعَ ُّ‬

‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬فقد اخذ على دراسة هوتون تصنيفها للصفات املميزة للمجرمين بحسب نوع الجرائم‪ .‬ومنه مثال قوله بوجود‬
‫صفات معينة في مرتكبي جرائم العنف وصفات أخرى مغايرة في مرتكبي جرائم األموال؛ وهو ما يفيد وجود تخصص دائم بين‬
‫املجرمين في ارتكاب نوع معين من الجرائم‪ ،‬وهذا إن صح أحيانا‪ ،‬فانه كثي ًرا ما يخطئ‪.‬‬

‫ويعيب على النظري ة أيض ا تركيزه ا باألس اس‪ ،‬على العوام ل الفردي ة (الشخص ية) وإهماله ا للعوام ل االجتماعي ة ال تي لم‬
‫تأخذ حقها من الدراسة‪.‬‬

‫‪ -‬وليام شيلدون ‪Scheldon William‬‬


‫ً‬
‫شيلدون كهوتون بالبناء العضوي لإلنسان‪ ،‬مضيف اهتم ا إليه ما اسماه التكوين العقلي واملزاجي للشخصية‪ ،‬ولعله ما مكنه من‬
‫وضع تصنيف ثالثي للنموذج البشري‪ ،‬متأثرا في كل ذلك بعلم األجنة‪ ،‬وعلم الفيسيولوجيا والوراثة الجينية‪ .‬وقد أجرى شيلدون‬
‫دراسته على أربع أالف (‪( 4000‬صورة فوتوغرافية‪ ،‬لطالب تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والعشرين‪ ،‬فخلص من خاللها‬
‫إلى وجود ثالثة نماذج بشرية رئيسية هي˸‬

‫‪. 1‬النم وذج ال داخلي˸ املتم يز بض خامة أحش اء الجه از الهض مي والس منة املفرط ة واس تدارة أج زاء الجس م‪. 2 .‬النم وذج العظمي˸‬

‫املتميز بقوة الجهاز العضلي و ضخامة العظام‪.‬‬

‫‪. 3‬النموذج الدقيق˸ املتميز بانخفاض الصدر‪ ،‬وضعف الجهاز العظمي والعضلي وكذلك األحشاء‪.‬‬

‫وق د الح ق ش يلدون بك ل نم وذج من ه ذه النم اذج الثالث ة‪ ،‬الخص ائص العقلي ة واملزاجي ة ال تي تناس به؛ ف ذهب إلى أن النم وذج‬
‫األول يتميز بامليل نحو الراحة واملرح واإلفراط في األكل‪ ...‬ويتميز الثاني بامليل نحو إبراز القوة البدنية‪ ،‬وحب املغامرة‪ ،‬وامليل‬
‫نحو املقابلة والتنافس والعدوان‪ ....‬بينما يتميز الثالث باالنطوائية والتحفظ‪.‬‬

‫وليتأكد شيلدون من طرحه‪ ،‬قام بإجراء دراسة على بعض األطفال الجانحين؛ الذين وضعوا ببعض املراكز االجتماعية‬
‫ببوس تن االمريكي ة‪ ،‬فخلص بع د إج راء البحث عليهم طبي̒ا ونفسي̒ا وعقلي̒ا‪ ،‬إلى اختالفهم من الناحي ة العض وية‪ ،‬النفس ية والعقلي ة‬
‫عن غ يرهم من األس وياء (غير الج انحين)‪ .‬وتشكل ه ذه االختالف ات‪ ،‬حس ب ش يلدون‪ ،‬دوني ة انحطاطي ة مورث ة‪ .‬وق د ُاخ ذ على ش يلدون م ا اُخ ذ على النظري ات‬
‫السابقة في ما يتعلق‬
‫بعدم توضيح معنى االنحطاطية وتفسيرها‪ ،‬وكيفية انتقالها بالوراثة‪ ،‬فضال عن قلة عدد الجانحين الذين تناولتهم أبحاثه‪.‬‬
‫ّ‬
‫وتبنى ط رح ويلي ام ش يلدون الزوج ان َكلووي ك (‪( Glueck‬الل ذان أك دا مي ل األح داث عم و ًم ا نح و النم وذج العض لي (املتم يز‬
‫بالعدوان واملقاتلة والسيطرة‪ )...‬وان لم يعتبرا التكوين البدني عامال رئي ًسا في إحداث السلوك اإلجرامي‪ ،‬وإنما وازنا بينه‬
‫وبين العوامل النفسية كدوافع مؤثرة في الشخصية اإلجرامية‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬املدرسة النفسية‬

‫)‪ S.Freud (1856-1939‬فرويد نظرية˸ أوال‬

‫حاول أنصار املدرسة النفسية سبر أغوار الجانب الخفي من الشخصية اإلنسانية بغية الكشف عن علة الجريمة‪ ،‬التي اخفق‬
‫التك وين ال بيولوجي في الكش ف عنه ا‪ .‬ويع د الع الم النمس اوي س ي َكمون د فروي د رائ د ه ذا االتج اه‪ ،‬وق د ب دا تفس يره للس لوك‬
‫اإلجرامي بتقسيم النفس إلى ثالثة أقسام˸‬

‫‪ -‬قسم الذات أو الذات الدنيا˸ ويرمز إليه بكلمة (هو) أو الليبدو "‪" Libido‬يشمل االستعدادات املوروثة‪ ،‬والنزاعات الغريزية‪،‬‬
‫وامليول الفطرية التي تتمركز في ما يسمى الالشعور‪.‬‬

‫‪ -‬قس م األنا˸ وه و الج انب الش عوري العاق ل من النفس‪ ،‬ال ذي يض م مجموع ة امللك ات العقلي ة‪ ،‬ويرم ز إلي ه بكلم ة ( ‪. EGO‬‬
‫(وتحاول األنا أن تقيم نو ًعا من االنسجام والتكيف بين النزاعات الفطرية الغريزية من جهة‪ ،‬وبين العادات والتقاليد من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬فان جانبها التوفيق تسامى النشاط الغريزي أو كبت في منطقة الالشعور‪.‬‬

‫‪ -‬قسم األنا العليا˸ وهو الجانب املثالي من النفس‪ ،‬الذي يضم مجموعة املثل والقيم والعادات والتقاليد املورثة‪ ،‬والروادع‬
‫التي تولدها القيم الدينية واألخالقية واالجتماعية‪ .‬ويرمز إليه ب(‪ ( Ego Super‬ويعرف هذا القسم أيضا بالضمير‪ ،‬ومهمته‬
‫مراقبة األنا ومساءلتها‪ ،‬ولومها عن أي تقصير في أداء‬
‫وظيفتها التوجيهية للنزعات الغريزية؛ فهو بمثابة الضابط املسيطر على األنا‪ ،‬الذي يوجهها ويحاسبها إذا ما انطلقت الغرائز من‬
‫عقالها دونما ضابط يردعها‪.‬‬

‫ثانيا˸ دور هذا التحليل في تفسير السلوك اإلجرامي‬

‫يبدو حسب فرويد‪ ،‬أن السلوك اإلجرامي يرجع باألساس إما إلى عجز األنا عن تكييف امليول الفطرية والغريزية لدى الشخص‬
‫مع متطلبات الحياة االجتماعية وتقاليدها‪ ،‬او الى التسامي بها أو كبتها في الالشعور‪ ،‬وإما إلى عجز األنا العليا عن أداء وظيفتها‬
‫الكامنة في الردع‪ ،‬وقد أورد فرويد عدة أمثلة ملا يحدث في جوانب النفس البشرية‪ ،‬من خلل واضطراب‪ ،‬أهمها عقدة اوديب (‬
‫)‪ complex oedipus le/ .(Guilt comlex‬الذنب وعقدة) ‪complexe d’oedipe‬‬

‫أ‪ .‬عقدة اوديب ‪: complex Oedipus‬‬


‫و تنطلق من الغريزة الجنسية التي يختلف اتجاهها بحسب مراحل العمر املختلفة ففي املراحل األولى للطفولة‪ ،‬يحب الطفل‬
‫ذاته ويعجب بها‪ ،‬وفي مرحلة ثانية تتجه عواطفه نحو اآلخر‪ ،‬فيميل الطفل في أول هذه املرحلة نحو أفراد من جنسه‪ ،‬وفي مرحلة‬
‫الحقة‪ ،‬تبدأ الغريزة الجنسية في النضوج‪ ،‬فيميل الشخص‬
‫نح و الجنس اآلخ ر؛ فيحب الطف ل أم ه‪ ،‬وتحب الفت اة أباه ا‪َ ،‬ويك ره الطف ل وال ده باعتب اره من اف ًس ا ل ه في ه ذا الحب وتك ره‬
‫ا‬
‫ل‬
‫ف‬
‫ت‬
‫ا‬
‫ة‬

‫أ‬
‫م‬
‫ه‬
‫ا‬

‫ب‬
‫ا‬
‫ع‬
‫ت‬
‫ب‬
‫ا‬
‫ر‬
‫ه‬
‫ا‬

‫م‬
‫ن‬
‫ا‬
‫ف‬
‫س‬
‫ة‬

‫ل‬
‫ه‬
‫ا‬

‫ف‬
‫ي‬

‫ح‬
‫ب‬
‫ه‬
‫ا‬
‫‪،‬‬

‫و‬
‫ب‬
‫م‬
‫ا‬

‫أ‬
‫ن‬

‫ا‬
‫ل‬
‫و‬
‫ا‬
‫ل‬
‫د‬

‫ي‬
‫ش‬
‫م‬
‫ل‬

‫ا‬
‫ب‬
‫ن‬
‫ه‬

‫أ‬
‫و‬

‫ف‬
‫ت‬
‫ا‬
‫ه‬

‫ب‬
‫ا‬
‫ل‬
‫ع‬
‫ط‬
‫ف‬

‫و‬
‫ا‬
‫ل‬
‫ح‬
‫ب‬

‫والرعاية‪ ،‬فان صرا ًعا يتولد في نفس األخير؛ سببه تناقض في املشاعر نحو الوالد‪ ،‬فيحبه ألنه يمنحه عطفه وحبه ورعايته‪...‬‬
‫ويكرهه ألنه ينافسه في حبه المه‪ ،‬ومن هنا تأتي عقدة أديب‪ .‬وإذا لم تستطع األنا إنهاء هذا الصراع‪ ،‬وتكييفه مع القيم الدينية‪،‬‬
‫والتقاليد االجتماعية أصبح احتمال إجرام االبن وار ًدا‪.‬‬

‫ب‪ .‬عقدة الذنب ‪˸ complex Guilt‬‬

‫ويتولد من خاللها لدى الشخص شعور بالذنب‪ ،‬بسبب تنامي دور األنا العليا؛ الذي كان منعدما عند السلوك غير االجتماعي األول‪.‬‬
‫ويظل الشعور بالذنب يطارد الشخص (املضطرب نفسي̒ ا) ويلح عليه إلى أن يرتكب جريمته رغبة منه في التحرر من هذا الشعور‪.‬‬

‫‪ -‬تقدير نظرية فرويد‬

‫يرجع الفضل إلى فرويد في شد اهتمام الباحثين إلى ضرورة تعميق البحث في ذلك الجانب املجهول من الشخصية اإلنسانية‪ ،‬أال‬
‫وهو الجانب النفسي‪ .‬هذا الجانب الذي يفسر في كثير من الحاالت ارتكاب بعض الجرائم‪ ،‬ويساعد على وضع خطة عالجية بهدف‬
‫تقويم املنحرف‪ ،‬ومساعدته على التكيف مع املجتمع‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فقد تعرضت نظريته ملوجة شديدة من االنتقادات‪ ،‬أهمها الغموض الشديد الذي اتسمت به‪ .‬ويؤخذ عليها أيضا‪،‬‬
‫اعتمادها في تفسير السلوك اإلج رامي الحتمية السلوكية أو الس يكولوجية؛ وذلك على غرار الحتمي ة البيولوجية ل دى ملبروزو‬
‫وأنصاره‪.‬‬
‫زمانا وال ً‬
‫مكان ا‪.‬‬ ‫والواقع انه ال توجد صلة حتمية بين الخلل النفسي والجريمة التي هي في حقيقة األمر سلوك غير قانوني‪ ،‬غير ثابت ً‬
‫كما أن هذه النظرية لم تستطع تقديم برهان علمي على صحتها‪ ،‬لذلك تهكم عليها بعض العلماء بقولهم أن من يجادل أنصار هذه‬
‫النظرية لن يجد منهم دفا ًعا عنها غير تحليل نفسيته هو للقول بأنه يعاني من خلل نفسي إلى نقدها‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬دور املذهب االجتماعي في تفسير السلوك اإلجرامي‬

‫تمهيد‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ات ِه بش كل واض ح‪ ،‬إال بع د أن أعلن ملبروزو عن أفك اره في كتاب ه الش هير‬
‫تنتش ر أس س ه ذا املذهب وف ر ِض لم تتبل ور و ِي ِ‬
‫«اإلنس ان املج رم»؛ ال ذي اح دث ض جة بين ص فوف الب احثين االجتم اعيين في أوروب ا وأمريك ا‪ ،‬ودف ع بعض هم إلى رفض‬
‫النظرية اللمبروزية جملة وتفصيال‪ ،‬رادين الجريمة إلى عوامل‬
‫اجتماعي ة‪ ،‬ومن اب رز ه ؤالء في أوروبا˸ دوركه ايم والكاس اني وت ارد‪ ،‬مانوفريي ه (‪( Manouvrier‬و ڤ ون هام ل (‪(، Hamel-Van‬ومن‬
‫رواد هذا املذهب في أمريكا نذكر˸ سيلين (‪(، Sellin‬سذرالند ‪ )D.cressy(.‬وكريسي) ‪)Sutherland‬‬
‫و ق د بحث علم اء االجتم اع الس لوك اإلج رامي كظ اهرة اجتماعي ة‪ ،‬ش انها ش ان غيره ا من الظ واهر االجتماعي ة‪ ،‬فاتس مت‬
‫دراس اتهم بط ابع واقعي‪ ،‬يعتم د على دراس ة ك ل حال ة بش كل منف رد لتحدي د أس بابها‪ ،‬دون أن تتج ه عناي ة الب احثين إلى وض ع‬
‫نظرية عامة تصدق على كافة الحاالت املشابهة‪ ،‬ونتيجة لذلك‪ ،‬تعددت الدراسات بتعدد الظواهر اإلجرامية‪.‬‬
‫وفي ما يلي‪ ،‬نتناول أهم النظريات االجتماعية التي انتشرت في أوروبا‪ ،‬ثم نتبعها بتلك التي ظهرت وانتشرت في أمريكا‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬رواد املذهب االجتماعي في أوروبا‬

‫عرف عن املدرسة الفرنسية البلجيكية للقرن ‪ 19‬بأنها مدرسة املحيط االجتماعي لتسليطها الضوء على العوامل االجتماعية في‬
‫تفسير الظاهرة اإلجرامية‪ ،‬فاملجتمع حسب هذه املدرسة‪ ،‬ال يملك إال املجرمين الذين يستحقهم‪.‬‬

‫وإذا ك انت اإلرهاص ات األولى‪ ،‬في اعتم اد املحي ط االجتم اعي لش رح الجريم ة‪ ،‬ق د ب دأت م ع ع الم الرياض يات البلجيكي ‪Quetelet‬‬
‫والع الم الفرنس ي ‪ Guerry‬ال ذي اعتق د بوج ود جغرافي ة إجرامي ة؛ من خالل ربط ه الجريم ة بعوام ل املن اخ‪ ،‬وك ذا الظ روف‬
‫االجتماعي ة‪ ،‬ف ان بل ورة دور املحي ط االجتم اعي كس بب لإلج رام‪ ،‬ك ان على ي د ك ل من الكاس اني‪ ،‬ت ارد ودوركه ايم ال ذين عاص روا‬
‫ملبروزو فتصدوا ألفكاره‪ ،‬فجاءت مدرستهم كرد فعل مضاد ألفكار املدرسة التكوينية‪ ،‬وقد جاءت مضامين أفكارهم كاآلتي˸‬

‫(‪ Alexander-Lacassagne ) 1843-1924‬الكاساني˸ أوال‬

‫اعتق د الكاس اني أن املجتمع ات هي ال تي تص نع املج رمين‪ ،‬فش بهها بالترب ة الص الحة إلنب ات الجريم ة ال تي يش كل املج رم ب ذرتها‪ .‬ه ذا‬
‫األخ ير‪ ،‬ال ذي ش بهه الكاس اني بالجرثوم ة ال تي ال ض رر منه ا إال من ذ اللحظ ة ال تي تج د فيه ا الوس ط املالئم لنموه ا‪ .‬كم ا أك د أن‬
‫املجتمعات ال تحصل إال على املجرمين الذين تستحقهم‪.‬‬

‫وقد اعتقد أيضا بان التكوين العضوي (البيولوجي) يلعب دو ًرا في إنتاج السلوك اإلجرامي‪.‬‬

‫وت دخل في الوس ط االجتم اعي أو البي ئي حس ب الكاس اني‪ ،‬العوام ل الطبيعي ة والجغرافي ة والثقافي ة واالجتماعي ة‪ ،‬فض ال عن‬
‫سوء التغذية‪ ،‬وتعاطي املواد املسكرة واملخدرة‪ ،‬باإلضافة إلى االضطرابات العصبية‪ ...‬وبذلك خلص الكاساني إلى أن السلوك‬
‫اإلجرامي ما هو إال محصلة لهذا الوسط‪ ،‬بحكم ما يحدثه من تأثير في اإلنسان‪.‬‬

‫وقد اخذ على أفكاره املغاالة في اعتبار الوسط االجتماعي‪ ،‬العامل األساس في إحداث الظاهرة اإلجرامية‪ ،‬مع عدم إنكار فضلها‪ ،‬في‬
‫تسليط الضوء على هذا العامل (الوسط االجتماعي) الذي ال ينكر دوره في إحداث الظاهرة اإلجرامية‪.‬‬

‫(‪ Gabriel Tarde ) 1843-1904‬تارد جابرييل˸ ثانيا‬

‫انطل ق الفيلس وف وع الم االجتم اع الفرنس ي ت ارد من الوس ط االجتم اعي لتفس ير الظ اهرة اإلجرامي ة‪ ،‬من خالل نظريت ه‬
‫املعروفة بنظرية التقليد ‪. imitation’l de théorie La‬وقد حاول تفسير نظريته في العديد من كتبه‪ ،‬والتي نذكر منها˸‬

‫اإلجرام املقارن " ‪ " comparée criminalité La‬الذي أصدره سنة ‪، 1886‬و الفلسفة العقابية " ‪ "La " Les lois de l’imitation‬التقليد‬
‫وقوانين‪ 1890 ،‬سنة أصدرت التي " ‪ philosophie pénale‬الذي صدر في السنة نفسها‪....‬‬
‫وقد وجد تارد في تنشئة الفرد االجتماعية‪ ،‬ومعتقداته الثقافية ومحاكاته لآلخرين‪ ...‬أسبابا دافعة لإلجرام؛ وبذلك رفض أن‬
‫يكون لإلجرام عالقة بالتكوين البيولوجي (الطرح اللمبروزي)‪.‬‬

‫فالسلوك اإلجرامي‪ ،‬حسب تارد‪ ،‬ليس نمطا سلوكي̒ا وراثي̒ا‪ ،‬وإنما يتم اكتسابه بالتقليد الذي يتم بين فرد وآخر‪ ،‬أو من جيل‬
‫إلى جيل‪ ،‬أو من املدينة إلى القرية‪.‬‬

‫ويفترض تارد إلتمام عملية التقليد‪ ،‬أن يكون الوسط االجتماعي موسو ًما بسوء التنظيم‪ ،‬مما يتيح االتصال ̒ا ( أي من األعلى إلى‬
‫األسفل) ومن بين األفراد األسوياء واملجرمين‪ .‬وتتخذ املحاكاة حسبه منه ًجا تنازلي‬
‫مجتمع املدينة إلى مجتمع الريف‪ .‬وبذلك‪ ،‬فالجريمة حسبه تصبح حرفة أو مهنة خاصة‪ ،‬تستوجب متطلبات ضرورية‬
‫تنسجم وطبيعة اإلجرام‪.‬‬

‫فهي مهنة أو حرفة يتهيأ لها الفرد منذ طفولته املبكرة‪ ،‬من خالل ظروف نفسية واجتماعية وثقافية‪ ،‬تساعد على تأهيله الحتراف‬
‫اإلجرام واالنتساب إلى عامله‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬وقد صاغ تارد ثالثة قوانين للتقليد لشرح السلوك اإلجرامي‪.‬‬

‫فالقاع دة األولى˸ تقض ي أن ي ذهب التقلي د من ال داخل إلى الخ ارج « ‪ « ، de dehors au dedans du homme’l‬و بمع نى‬
‫أوضح‪ ،‬فاألفراد يقلدون بعضهم بع ًضا بصورة أكثر ظهو ًرا كلما كانوا متقاربين‪ .‬ولعل هذه القاعدة تفسر سبب إجرام‬
‫األطفال الذين يتربون في بيئة تعسة‪.‬‬

‫والقاع دة الثانية˸ تفي د أن التقلي د يأخ ذ طريق ه من الق وي إلى الض عيف‪ ،‬أي تقلي د املرؤوس لرئيس ه األعلى «‪inférieur’l à‬‬
‫‪ « ، supérieur du‬ولعله ما يفسر تقليد رؤساء العصابات؛ إذ يحصل التقليد هنا حتى بين األفراد املكونين لهذه العصابات‪.‬‬

‫أما القاعدة األخيرة˸ فترتكز على وجود موضات « ‪« modes des‬داخل فكرة التقليد نفسها‪ ،‬إذ عند تقارب األذواق واالختيارات‪،‬‬
‫فان اإلنسان يقلد الحديث منها دون القديم‪ ،‬فاملوضة الجديدة تطرد القديمة‪ ،‬ولعله ما يفسر تطور اإلجرام‪ ،‬واستعمال وسائل‬
‫واليات جديدة تواكب التطور الذي تعرفه املجتمعات (منه مثال تحويل الطائرات‪ ،‬حجز الرهائن‪ ،‬الجرائم االلكترونية‪.)...‬‬

‫فخالصة الرأي عند تارد‪ ،‬أن اإلنسان ال يتورط في الجريمة نتيجة ميول ذات أصول عضوية نفسية‪ ،‬بل يقع فيها بسبب مؤثرات‬
‫نفسية‪ ،‬كالتوجيه واإلرشاد واإليعاز؛ فمن يسرق أو يقتل مثال ال يقوم إال بتقليد شخص آخر فعل ذلك قبله‪.‬‬

‫وقد أضاف تارد إلى فكرته حول التقليد‪ ،‬دراسته عن املجرم املعتاد‪ ،‬وهي دراسة عملية أغنت علم اإلجرام‪ ،‬خصو ًصا‬
‫وانه نظر إليه كمجرم ال أمل في إصالحه‪ ،‬وال حتى التلطيف من حدته‪ ،‬العتياده العيش بدون شغل وبدون عقاب‪ .‬وهو ما‬
‫دفع املهتمين بعلم اإلجرام إلى التفطن بخطورة املجرمين املعتادين‪ ،‬ومحاولة إيجاد ما يناسبهم من عقوبات‪.‬‬

‫‪ -‬تقدير نظريته‬

‫̒ا لألخالق في يؤخ ذ على نظري ة ت ارد تش بعه بقانون ه األخالقي‪ ،‬إذ اعت بر مس توى اإلج رام م ؤش ًرا حقيقي‬
‫م‬
‫ج‬
‫ت‬
‫م‬
‫ع‬
‫م‬
‫ع‬
‫ي‬
‫ن‬
‫‪،‬‬
‫و‬
‫ه‬
‫و‬
‫م‬
‫ا‬
‫ين‬
‫ت‬
‫ج‬
‫ع‬
‫ن‬
‫ه‬
‫با‬
‫ل‬
‫ض‬
‫ر‬
‫و‬
‫ر‬
‫ة‬
‫ال‬
‫ت‬
‫ال‬
‫ز‬
‫م‬
‫بي‬
‫ن‬
‫ا‬
‫أل‬
‫خ‬
‫ال‬
‫ق‬

‫و‬
‫ال‬
‫ج‬
‫ر‬
‫ي‬
‫م‬
‫ة‬
‫‪،‬‬
‫ف‬
‫ي‬
‫ح‬
‫ي‬
‫ن‬
‫أ‬
‫ن‬
‫ه‬
‫ذ‬
‫ا‬
‫ال‬
‫ت‬
‫ال‬
‫ز‬
‫م‬
‫ال‬
‫يصدق إال في جانب ضئيل من الجرائم‪ ،‬وهي الجرائم الطبيعية كما وصفها َكاروفالو (أي املاسة بالشعور العام بالشفقة واألمانة)‪.‬‬
‫ولعله املوقف الذي جعل ت ارد يبقى سجينا لنزعته الفردية‪ ،‬وال يقول بالقطيعة بين الفع ل األخالقي والفعل االجتماعي‪ ،‬كإحدى‬
‫الس مات األس اس لعلم السوس يولوجيا في عص ره‪ .‬ومن جه ة أخ رى‪ ،‬يؤخ ذ على نظريت ه (ح ول التقلي د) أيض ا‪ ،‬تجاهله ا للعوام ل‬
‫املتداخل ة (االجتماعي ة واالقتص ادية الحيوي ة) ال تي ت دفع إلى ارتك اب الجريم ة‪ .‬فال يمكن تفس ير الس لوك اإلج رامي باالعتم اد على‬
‫نظرية التقليد لوحدها‪ ،‬بل ال يمكن اعتمادها بشكل مطلق‪ ،‬وإنما يتعين مراعاة حقيقة التفاوت النسبي في التأثير في األفراد؛ فال‬
‫شك أن األفراد ليسوا على درجة واحدة من التأثر‪ ،‬فبعضهم قد يكون لديه استعداد ايجابي للتقليد بحكم تكوين شخصيته‪ ،‬بينما‬
‫ال يتوافر مثل هذا االستعداد لدى غيرهم فيرفضون االنقياد في التقليد‪ .‬والقول بغير ذلك‪ ،‬يعني انضمام كافة األفراد في املجتمع‬
‫إلى عالم الجريمة‪ .‬وحتى إن تم التسليم بعكس ذلك‪ ،‬فان نظرية تارد تبقى عاجزة عن تقديم تفسير تكاملي لعلة الجريمة‪ ،‬لعجزها‬
‫عن تفسير السلوك األول الذي تم تقليده‪.‬‬

‫)‪ Emile Durkheim (1858-1917‬دوركهايم إميل˸ ثالثا‬


‫الجريمة ظاهرة طبيعية‪ ،‬ترتبط وجو ًدا ً‬
‫وعدم اعتبر الفيلسوف وعالم االجتماع «دوركهايم» ا باملجتمع‪ ،‬فان كانت تعبي ًرا عن‬
‫انعدام الشعور والتضامن في املجتمع الذي تنتشر فيه‪ ،‬فإنها مع ذلك تعد عالمة من عالمات الصحة في املجتمع‪.‬‬

‫وقد انطلق دوركهايم في دراسته السوسيولوجية من القطيعة مع النزعة الفردية التي كانت سائدة ومسيطرة في القرن ‪. 18‬وبمعنى‬
‫أوضح‪ ،‬لم يسلم دوركهايم ب‪Կ‬ن الفرد هو أساس تقييم األشياء‪ ،‬كما انه لم يسلم بان املجتمع ال يتكون إال من مجموع أفراده‪،‬‬
‫وإنما يمثل شيئا آخر‪ ،‬له وجود في حد ذاته اسماه دوركهايم «الشيء االجتماعي»‪ .‬فاملجتمع حسبه يمثل قوة أكثر من قوة مجموع‬
‫أفراده‪ ،‬وهو ما أطلق عليه الضمير الجماعي‪ commune Conscience /‬الذي يبقى تأثيره في األفراد قويا‪ ،‬بل يمارس نو ًعا من القهر‬
‫واإللزام على األفراد من الخارج‪ .‬ولذلك‪ ،‬ذهب دوركهايم إلى أن السلوك ال يكون إجراميا أو منحرفا إال ألنه يجرح ويؤذي الشعور‬
‫الجماعي‪.‬‬

‫وذهب دوركهايم‪ ،‬في تفسيره دائما للسلوك اإلجرامي‪ ،‬إلى أن الحياة في املجتمع تفترض وجود قدر من النظام فيه‪ ،‬فإذا أصيب‬
‫هذا النظام بالخلل‪ ،‬انطلق األفراد وراء تحقيق رغباتهم على نحو مخالف ملا ارتضاه وأرساه املجتمع من نظام‪ ،‬ولعله سبب ارتفاع‬
‫الجرائم في فترات األزمات االقتصادية‪ ...‬حيث ربط دوركهايم الظاهرة اإلجرامية باملجتمع‪ ،‬وأكد أنها باقية بقاء املجتمعات‪ ،‬بل‬
‫إنها مالزمة لكل مجتمع ينشد التطور‪ .‬ولشرح فكرته هذه‪ ،‬أكد أن الجريمة ظاهرة طبيعية من صنع املجتمع من خالل ما يجرمه‬
‫من أنماط سلوكية بموجب القواعد السائدة فيه‪ ،‬فإذا ما استطاع املجتمع القضاء نهائيا على هذه الظاهرة‪ ،‬تالشى ذلك املعيار‬
‫ال ذي يف رق بين الس لوك املج رم والس لوك املش روع‪ .‬وه ذا بال ش ك أم ر غ ير محتم ل الح دوث‪ .‬إال في املجتمع ات الخيالي ة ال تي ال‬
‫وجود لها في الواقع‪.‬‬

‫̒ ا‪ ،‬أو ظاهرة معتلة تقابل الظواهر السلمية‪ .‬وتأكيدا دائما لطرحه‪ ،‬اقر أن الجريمة تمثل مر ًضا اجتماعي‬
‫ويجب قبولها على أنها تعبير له وظيفته االجتماعية؛ وذلك لعدة األسباب˸‬

‫‪ -‬وجودها في املجتمعات على مر السنين‪ ،‬مما يجعل منها ظاهرة مرضية عادية‪ ،‬طبيعية بل و متوقعة‪.‬‬
‫‪ -‬إنها تصبح غير عادية وغير طبيعية‪ ،‬عندما تزيد عن املعدل املتوسط املقرر لها‪.‬‬

‫‪ -‬انخفاض ها عن املع دل املتوس ط املق رر له ا ي دل على وج ود ظ اهرة اجتماعي ة غ ير س وية (ق د ت دل على القم ع‪ ،‬وتض ييق‬
‫الحريات‪ ،‬هدر اإلبداع واالبتكار‪.)...‬‬

‫‪ -‬ال يمكن اعتبارها مرضية عند عدم تأثيرها سلبا في املهام الوظيفية للمجتمع‪ .‬بل هي ظاهرة طبيعية عادية‪ ،‬حتى أنها تعبير‬
‫عن صحة املجتمع وسالمة نظمه عند عدم تعديلها املعدل املتوسط املحدد لها‪.‬‬

‫ه ذا‪ ،‬وق د اس تعمل دوركه ايم مفه وم االنومي ة ( ‪( anomie’L‬أو الالمعياري ة‪ ،‬معتب ًرا إياه ا س ًببا لالنح راف االجتم اعي‪ .‬وهي كحال ة‬
‫لالقانون والالنظام في عالقتها مع اإلجرام تعني عند دوركهايم تلك الوضعية التي يجد فيها الفرد نفسه عاج ًزا عن تحقيق الرغبات‬
‫الطبيعية‪ ،‬التي بدونها ال يمكن للحياة أن تستقيم‪ .‬وبمعنى آخر‪ ،‬فان املجتمع يعجز عن توفير بعض الرغبات والحاجات ألفراده‪ ،‬مما‬
‫ي دفعهم للبحث عن تحقيقه ا‪ .‬وعن د عج زهم عن ذل ك‪ ،‬يس تبيحون ك ل الوس ائل؛ بم ا في ذل ك الج رائم ال تي ترتكبونه ا نتيج ة غي اب‬
‫معيار أو قاعدة يستندون إليها في سلوكهم السوي داخل املجتمع‪.‬‬

‫وقد تعرضت أفكار دوركهايم للنقد‪ ،‬فاخذ عليها ربطها بين استمرارية الجريمة ووصفها بأنها طبيعته كل خل ًط (عادية)‪ ،‬وال شك في‬
‫أن هذا الربط يش ا بين أمرين ال تالزم بينهما؛ فاستمرارية الجريمة ال تؤذي حت ًما إلى اعتبارها ظاهرة طبيعية‪ .‬هذا من جهة‪ .‬ومن‬
‫جه ة أخ رى‪ ،‬ف إذا ك انت ك ذلك‪ ،‬فلم اذا أجه د دوركه ايم نفس ه ب البحث فيه ا ومحاول ة ش رحها وتفس يرها م ا دامت في نظ ره طبيعي ة‬
‫وعادي؟؟‬

‫فال يجب أن يفهم ط رح دوركه ايم على ان ه دف اع عن الجريم ة‪ ،‬وإنم ا ه و ن ادى بض رورة الحف اظ على الحال ة العادي ة والس وية‬
‫مانع ا من عقاب كل من يمس الشعور‬ ‫ً‬ ‫للمجتمع‪ .‬وعلل ارتكاب الجريمة بما تقتضيه وتلزمنا به الحياة االجتماعية‪ ،‬وهو ال يرى‬
‫القوى للضمير الجماعي‪ ،‬الذي يعبر عن القيم األساس التي يعتمدها‬
‫هذا الضمير في حياة األفراد خاصة‪ ،‬وحياة الجماعة عامة‪ .‬أما املساس بالقيم الثانوية‪ ،‬ف ‪Ձ‬ن الرد عليه ينحصر في اللوم‬
‫واالمتعاض‪.‬‬
‫ورغم االنتقاد املوجه لهذه النظرية‪ ،‬فقد أثرت بشكل كبير في نظريات املذهب االجتماعي‪ ،‬وتحدي ًدا منها التي سادت في أمريكا‬

‫املطلب الثاني‪ :‬رواد املذهب االجتماعي في أمريكا‬

‫من أهم املدارس والنظريات االجتماعية التي سادت في أمريكا˸‬

‫‪ -‬نظرية التفكك االجتماعي‪.‬‬

‫‪ -‬نظرية تصارع الثقافات‪.‬‬

‫‪ -‬نظرية االختالط الفاصل أو التفاضلي‪.‬‬

‫‪ -‬نظرية التراخي االجتماعي‪.‬‬

‫وفي ما يلي نعرض لهذه النظريات تبا ًعا‪.‬‬


‫‪ Théorie de la désorganisation sociale‬االجتماعي التفكك نظرية˸ أوال‬

‫ترب ط ه ذه النظري ة س بب وج ود الظ اهرة اإلجرامي ة بالتفك ك االجتم اعي‪ ،‬أو انع دام التنظيم االجتم اعي‪ ،‬أو ع دم التكي ف‬
‫والتواف ق بوج ه ع ام‪ ،‬وع دم التناس ق والت وازن بين أج زاء الثقاف ة الس ائدة في املجتم ع‪ ....‬ويقيم تورس تين س يلين ‪sellin‬‬
‫‪. Torsten‬هذه النظرية على أساس املقارنة بين أنواع املجتمعات املختلف ة من ناحية‪ ،‬وبين حياة الفرد داخل املجتمع من ناحية‬
‫أخرى؛ فأوضح بان املجتمعات الريفية أو التقليدية تتسم‬
‫باالنسجام والتضامن في ظروفها واحتياجات األفراد؛ فال يشعر الفرد فيها بالعزلة وعدم االنسجام‪ ،‬وال يجد في نفسه حاجة‬
‫إلى اتخاذ سلوك معارض لسلوك معارض لسلوك فرد آخر‪ ،‬أو لهدف من أهداف الجماعة‪ ،‬بفضل ما يسود داخلها من تضامن‬
‫وتآزر ومشاعر إنسانية نبيلة‪.‬‬

‫وه ذا ال يع ني أن ه ذه املجتمع ات مجتمع ات مثالي ة‪ ،‬وال تع رف الجريم ة س بيال إليه ا‪ ،‬فال ش ك في وق وع بعض الج رائم فيه ا‪،‬‬
‫ولكنها جرائم قليلة‪ ،‬تقع في الغالب بين أفراد هذه املجتمعات وآخرين ينتمون إلى مجتمعات أخرى‪.‬‬

‫وفي املقابل‪ ،‬يفتقر املجتمع املتحضر إلى التكامل واالستقرار؛ بسبب اتساع نطاقه وتعدد الجماعات املتباينة فيه‪ ،‬مما يؤدي إلى‬
‫تع ارض املص الح وتض اربها داخل ه‪ .‬واب رز مظ اهر ه ذه الص راعات‪ ،‬ص راع فئ ة الفق راء وفئ ة األغني اء‪ ،‬وفئ ة الج اهلين وفئ ة‬
‫املتعلمين‪ ،‬وفئة املتحررين وفئة املحافظين ‪ ...‬إلى غير ذلك من تجليات الصراع املجتمعي‪ .‬ولعله ما شد انتباه علماء االجتماع‪،‬‬
‫الذين خلصوا في دراساتهم وأبحاثهم إلى القول إن السلوك اإلجرامي ما هو إال ظاهرة اجتماعية‪ ،‬تعبر عن الالتوافق و ألالنتماء‬
‫االجتماعيين‪ ،‬اللذين يزدادان في املجتمعات املعقدة واملركبة‪ ،‬والتي يضعف فيها دور املؤسسات غير الرسمية في اإلشراف على‬
‫الضبط االجتماعي املطلوب؛ حيث يبقى الضبط االجتماعي من اختصاص السلطات الرسمية‪ ،‬التي تفرض قي ًما رسمية ملزمة‪،‬‬
‫يشكل الخروج عنها جريمة يعاقب عليها القانون‪.‬‬

‫وعلى مستوى حياة الفرد وتنشئته‪ ،‬وجد ‪ Sellin‬وغيره من الباحثين أن الطفل يولد في وسط اجتماعي مفروض عليه منذ البدء؛ أي‬
‫من األسرة إلى غاية مجموعة العمل مرو ًرا ً‬
‫طبع ا باملدرسة واألصدقاء‪ ،‬فالنادي إلى غير ذلك‪ ،‬وهو في هذا الوسط‪ ،‬يواجه أنواعا من‬
‫الس لوكيات داخ ل مختل ف ه ذه املجموع ات‪ ،‬نتيج ة التص ارع والتع ارض‪ ،‬وق د يس لك الف رد الس لوك الس ائد فيه ا ح تى يس تطيع‬
‫التجاوب مع أفرادها‪ .‬وبذلك‪ ،‬يستجيب لتأثير إحدى الجماعات دون غيرها إذا كانت هذه الجماعة تستبيح السلوك اإلجرامي بينما‬
‫يستهجنه غيرها‪.‬‬
‫وفق هذا الطرح‪ ،‬يأتي سلوكه اإلجرامي نتيجة شعور ً فاملجرم‪ ،‬لعدم انسجامه مع مجتمعه أو نتيجة فقدانه ال الجماعي‪ ...‬الذي يتخذ صورة تصارع‬
‫القيم في املجموعات املختلفة‪ ،‬فيستجيب للمجموعة التي تستبيح املسلك اإلجرامي‪.‬‬

‫‪ -‬تقدير نظرية التفكك االجتماعي‬

‫البد من االعتراف بصحة الطرح الذي ذهب إليه أنصار هذه النظرية وواقعيته الكامنة في تميز املجتمعات املتحضرة بالتفكك‬
‫االجتماعي‪ ،‬وتطور اإلجرام وزيادته مقارنة مع املجتمعات التقليدية البدائية األكثر انسجا ًما وتآزرا‪ ،‬ولعل الدليل على وجاهة‬
‫ه ذا الط رح‪ ،‬ارتف اع مع دل الج رائم داخ ل املدن الك برى عن نظ يره في الق رى‪ ،‬آو املدن الص غرى‪ ،‬ب ل إن األولى تع رف أن وا ًع ا‬
‫معينة من الجرائم‪ ،‬ال‬
‫تعرفها الثانية كجرائم التموين ومخالفة التسعير‪ ،‬وجرائم النصب واالحتيال‪ ،‬والتعاطي للمخدرات الصلبة واالتجار فيها‪ ...‬غير انه‬
‫يؤخذ على هذه النظرية اقتصارها على هذا العامل (التفكك االجتماعي) كعامل دافع إلى اإلجرام‪ ،‬وإغفال باقي العوامل (الذاتي منها‬
‫واالجتم اعي)‪ .‬ومن ناحي ة أخ رى‪ ،‬ال يمكن األخ ذ به ذا الط رح بش كل مطل ق‪ ،‬ويكفي لتفني ده أن نتس اءل ˸ ملاذا يق دم بعض أف راد‬
‫ً‬
‫جميع ا بعامل التفكك االجتماعي؟؟ والواقع أن التفكك االجتماعي‬ ‫املجتمع دون بعضه اآلخر على الجريمة‪ ،‬على الرغم من تأثرهم‬
‫يسهم‪ ،‬بقدر أو بآخر إلى جانب عوامل أخرى ذاتية واجتماعية في دفع بعض األفراد إلى الجريمة‪.‬‬

‫‪ Théorie du Conflit des cultures‬الثقافات تصارع نظرية˸ ثانيا‬

‫ا إلى بيان دور الثقافة في الظاهرة اإلجرامية في كتاباته‪ ،‬ثم تلقف علماء االجتماع فيكان دوركهايم سباقً‬
‫أمريكا فكرته‪ ،‬فأولوها مزي ًدا من االهتمام‪ ،‬حتى صارت مذهبا له أنصاره‪ .‬ومن أبرزهم سيلين‪ ،‬سذرالند وكريسي‪.‬‬

‫ومضمون هذا الطرح تعارض وتناقض ثقافات وقيم ومبادئ معينة تسود في إحدى الجماعات مع ثقافات وقيم ومبادئ تسود في‬
‫جماعات أخرى‪ .‬ويتخذ هذا التصارع احد املظهرين˸‬

‫األول˸ تصارع خارجي وهو تعارض بين ثقافات مجتمعين حضاريين مختلفين‪ .‬ويرجع بعض العلماء أسباب هذا الصراع إلى‬
‫ثالثة عوامل˸‬

‫‪ -‬االس تعمار˸ حيث يعم د املس تعمرون إلى ف رض مب ادئهم وقواع دهم الس لوكية املتمش ية م ع ه ذه املب ادئ على أف راد الشعب‬
‫املستعمر‪ .‬وبذلك‪ ،‬فالسلوك املتفق مع القانون‪ ،‬والذي كان سائ ًدا قبل فرض مبادئ قد يصبح سلوكا مجر ًم ‪ .‬ويضرب سيلين مثاال بواقعة‬

‫تعدد الزوجات‪ ،‬التي تشكل جريمة طبقً‬


‫ا املستعمر‪ .‬ا اا في الجزائر أثناء فترة االستعمار‪ ،‬بينما ال يعد هذا السلوك جريمة طبقًللقانون الفرنسي الذي كان نافذً لثقافة املجتمع الجزائري املسلم وقيمه‪.‬‬

‫‪ -‬الهجرة ‪ ˸ immigration’L‬ويترتب عن الهجرة من مجتمع إلى آخر‪ ،‬تسرب ثقافة الجماعة املهاجرة َ ْمه َج إلى داخل مج ْر؛ مما يؤدي‬
‫إلى ح دوث ن زاع بين ثق افتين‬
‫متب اينتين‪ ،‬بس بب تمس ك‬
‫الجماعةتمع ال‬
‫املهاجرة بثقافتها‪ ،‬وهذا ما الحظه سيلين في املجتمع األمريكي‪ ،‬الذي هو في األصل يتكون من مجموعات وفدت إليه‬
‫من كافة أنحاء العالم‪.‬‬

‫‪ -‬االتصال في مناطق الحدود˸ إذ يؤدي االتصال بين أفراد الدولتين املتجاورتين مع اختالف حضارتيهما إلى تعارض سلوك األفراد‬
‫املنتمين إليهما‪.‬‬
‫الث اني˸ تص ارع داخلي ومض مونه تص ارع الثقاف ات وتع ارض األفك ار الس ائدة ل دى مجموع ات داخل ة في مجتم ع حض اري واح د‬
‫(كجماعة األسرة‪ ،‬جماعة النادي‪ ،‬جماعة العمل‪ .)...‬وقد تسود في كل واحدة من هذه الجماعات مبادئ تختلف عن تلك التي تسود‬
‫في األخرى وتتعارض معها في االتجاه‪ ،‬فيميل الفرد إلى السلوك الذي يرضي إحداهما فحسب‪ ،‬وهو سلوك قد يكون غير مشروع‪.‬‬
‫ومن مظ اهر ه ذا الص راع ال داخلي أيض ا التص ادم ال ذي ينش ب بين الثقاف ة العام ة " ‪ " dominante culture La‬الس ائدة في املجتم ع‬
‫وبين بعض الثقافات الفرعية "‪" subcultures Les‬التي تسود في جماعة صغيرة‪ ،‬وهو ما ينتج عنه‬
‫سلوكات منحرفة (مجرمة)‪ .‬وابرز مثال على ذلك‪ ،‬جرائم الثار التي ترتكب نتيجة ثقافات فرعية ترى في الثار عمال مشرو ًعا‪ ،‬بل‬
‫ً‬
‫واجبا على أبنائها‪.‬‬

‫‪ -‬تقدير نظرية تصارع الثقافات‬


‫الش ك أن ه ذه النظري ة تق ارب ً‬
‫جانب ا من الحقيق ة ينبغي التس ليم ب ه‪ ،‬فال يمكن إغف ال وتجاه ل دور النظ ام االجتم اعي‪ ،‬بتفاعالت ه‬
‫الثقافية واملبادئ السائدة فيه‪ ،‬في التأثير في األفراد نتيجة الصراعات الثقافية التي قد يعيشونها‪ ،‬والتي قد تكون ً‬
‫سببا أو عامال‬
‫دافعا إلى ارتكاب الجرائم‪ -‬كجرائم الثار كما تقدم بيانه‪ -‬ولكنها ال تستطيع لوحدها تقديم تفسير كلي للظاهرة اإلجرامية؛ فاألفراد‬
‫ً‬
‫جميع ا على ارتك اب الج رائم‪ ،‬مم ا يع ني وج ود عوام ل أخ رى تس هم بق در أو ب آخر في‬ ‫ال ذين يع انون من ه ذا الص راع ال يق دمون‬
‫إحداث الظاهرة اإلجرامية‪ ،‬ولذلك فهي كالنظريات السابقة تتسم باملبالغة والقصور‪.‬‬

‫ثالثا˸ نظرية االختالط الفاصل أو املخالطة الفراقة‪" différentielle association’l de théorie" /‬‬

‫هي نظري ة ن ادى به ا الع الم األم ريكي س ذرالند ‪( Sutherland Edwin) 1950-1883‬ال ذي ينتمي إلى مدرس ة ش يكاغو األمريكي ة‪ ،‬ففي‬
‫اعتق اده‪ ،‬ال يمكن رد الس لوك اإلج رامي إلى الظ روف املعيش ية املحض ة (ك الفقر) أوالى مج رد عوام ل س ائدة ك الظروف والعوام ل‬
‫النفسية أو االجتماعية التي تتصل بالفقراء‪ ،‬فهناك من األغنياء من يخالف القانون من اجل املؤسسة التي ينتمي إليها‪ ،‬أو من اجل‬
‫الغاي ات ال تي يس عى إليه ا‪ .‬ول ذلك يع د س ذرالند أول من رك ز على إج رام األغني اء‪ ،‬ودرس الج رائم ال تي يرتكبه ا ذوو الياق ات‬
‫البيضاء ‪" White Collar Crime/Crimes en col blanc ".‬‬

‫ا كم ا ك ان يعتقدوق د انطل ق "‪" Sutherland.E‬في دراس اته‪ ،‬من أن الس لوك اإلج رامي ليس س لو ًك ا م وروثً أنص ار املذهب الف ردي‬
‫(البيولوجي)‪ ،‬كما انه ليس ثمرة لعامل واحد أيا كانت طبيعته‪ ،‬وإنما هو سلوك يكتسبه الفرد عن طريق االحتكاك واالختالط‬
‫باملجرمين‪.‬‬

‫وعن كيفية حدوث ذلك‪ ،‬حاول ادوين من خالل بحوثه ودراساته التي نشرها سنة ‪ ،1939‬وقبلها كتابه «أسس أو مبادئ علم‬
‫اإلجرام»‪ ،‬فضال عن أبحاثه األخرى‪ ،‬والتي شملت تحدي ًدا بعض الجرائم الخاصة‪ ،‬إن" ‪The professionnal thief (1937) / Le‬‬
‫‪ "voleur professionnel‬املحترف والسارق يشرح ويفسر طرحه من خالل مجموعة أسس ضمنها كتابه «مبادئ علم اإلجرام»‪،‬‬
‫مجملها˸‬

‫‪. 1‬إن املجرم ال يولد بطبعه مجر ًما‪ ،‬وإنما يكتسب السلوك اإلجرامي عن طريق التعلم من غيره‪ ،‬شانه في ذلك شان من يتعلم‬
‫حرفة أو صناعة أو مهنة "‪". apprentissage’l de Théorie‬‬

‫‪. 2‬إن الس لوك الج انح مكتس ب عن طري ق التواص ل واالحتك اك بأش خاص آخ رين ( ‪de Processus‬‬
‫‪( ، communication‬أتم ذلك بلغة التخاطب العادي أو عن طريق اإلشارة أو التقليد (القدوة واملرجع)‪.‬‬

‫‪. 3‬إن تعلم السلوك الجانح يتم ضمن جماعة محصورة تتميز بالعالقات املباشرة والشخصية ‪à appris restreint groupe un’d‬‬
‫‪ / ، intérieur’l‬ولذلك فوسائل اإلعالم ال تساهم إال بدور ثانوي في نشوء السلوك املنحرف‪.‬‬
‫‪. 4‬إن الت درب على االنح راف يش مل تعلم التقني ات اإلجرامي ة‪ ،‬م ع توجي ه املي ول وال دوافع نح و الجريم ة ‪Technique et /.‬‬
‫‪méthodes – buts raisonnement et attitudes‬‬

‫تؤي ُ‬
‫ده وتحترمه‪un individu devient /‬‬ ‫‪. 5‬إن الفرد يصبح مجر ًما عند طغيان التفسيرات املضادة للقانون على التفسيرات التي ّ‬
‫ِ‬

‫‪délinquant quand les interprétations des règles qui lui sont .connues sont à prépondérance négative‬‬

‫وكذلك عندما تتغلب العوامل الدافعة لإلجرام (‪( risque de Facteurs‬على العوامل املانعة‪ ،‬ويحدث ذلك لدى الفرد‪ ،‬عندما‬
‫يك ون على اتص ال ب اقران ل ه من املج رمين‪ ،‬فيكتس ب من اختالط ه بهم األنم اط الس لوكية اإلجرامي ة‪ ،‬مثلم ا يكتس ب القيم‬
‫والعادات والتقاليد واللغة‪....‬‬

‫وفي هذا إشارة واضحة إلى دور التنشئة االجتماعية في تكوين اتجاهات الشخص وميوالته‪ ،‬فإما أن ينشا نشأة تزرع في نفسه حب‬
‫احترام القانون‪ .‬وإما ينشا نشأة تدفعه إلى مخالفة أحكامه‪ ،‬فيصير مجر ًما؛ وذلك بعد أن يتعلم أساليب التخطيط لإلجرام وكذا‬
‫وسائل تنفيذه‪.‬‬

‫‪. 6‬تنوع العوامل الفارقة من حيث التواتر‪ ،‬املدة‪ ،‬األسبقية والشدة‪ ،‬فإذا تاثر الشخص بمعايير منحرفة وجانحة‪ ،‬قبل أن‬
‫يتعرض لتأثير املعايير املكيفة والسوية فقد يصبح جان ًحا بشكل نهائي‪ ،‬والعكس صحيح‪.‬‬

‫‪. 7‬إن السلوك املنحرف‪ ،‬رغم انه يرتكب تلبية لحاجات وأهداف معينة‪ ،‬إال انه ال يفسر من خاللها؛ الن السلوك السوي هو‬
‫أيضا تعبير عن الحاجات والقيم نفسها؛ فاللص يسرق كي يحصل على النقود وهي قيمة‪ ،‬والعامل يعمل من اجل تحقيق الغاية‬
‫عينها‪ .‬ولذلك‪ ،‬فكل التفسيرات التي تتناول االنحراف غير مجدية ألنها نفسها السلوكات السوية‪.‬‬

‫‪ -‬تقدير النظرية‬

‫رغم أن سذرالند انتقد في دراساته النظريات السابقة التي ربطت الظاهرة اإلجرامية بعامل التكوين البيولوجي أو الجغرافي‪ ...‬من‬
‫حيث ٳنها لم تبحث في الشروط العامة التي تخضع لها الظاهرة مهما اختلفت الظروف املؤثرة فيها‪ ،‬أو العوامل املؤدية لها‪ ،‬فأعلن‬
‫عن التزام ه ب املنهج العلمي؛ الق ائم على التجري د املنطقي في البحث عن العوام ل املؤثرة من ناحي ة‪ ،‬وعلى تحلي ل ه ذه العوام ل من‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬كما انه ركز على ضرورة التوقف عند حد معين عند التحليل السببي لتأثير هذه العوامل‪ ،‬حتى يمكن التوصل إلى‬
‫نتائج صحيحة من حيث التنظيم‪ ،‬ولذلك‪ ،‬يجب أن تعتمد العوامل التي تحدث أثرها مباشرة وقت تحقق الظاهرة‪ ،‬في ما تهمل تلك‬
‫العناص ر ال تي توافرت في ت اريخ س ابق‪ ،‬وه و م ا يطلق عليه التفس ير ال ديناميكي للموق ف‪ ،‬فبالرغم من كل ذلك وقع س ذرالند في‬
‫الخطأ املنهجي نفسه الذي وقع فيه من سبقه في هذا الخصوص عندما جعل من االختالط بجماعة من املجرمين ً‬
‫سببا في إحداث‬
‫الظاهرة اإلجرامية‪.‬‬

‫ل ذلك‪ ،‬يعيب نظريت ه م ا يعيب ب اقي النظري ات االجتماعي ة‪ ،‬من ناحي ة حص رها‪ ،‬ب ل واختزاله ا دواف ع الس لوك اإلج رامي في عام ل‬
‫اجتم اعي واح د‪ ،‬وهي ك ذلك تنك ر ت أثير العوام ل الداخلي ة (العض وية والنفس ية)‪ ،‬وه ذا أم ر غ ير س ليم؛ الن مقتض اه كم ا تق دم‬
‫القول‪ ،‬أن كل األفراد الخاضعين للمؤثر االجتماعي يسلكون السبيل اإلجرامي‪ ،‬وهو أمر ينافي الواقع دون شك‪.‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬فان هذه النظرية تحمل في مضمونها معاول هدمها؛ فإذا كان االختالط بجماعة املجرمين هو العامل الدافع‬
‫إلى السلوك اإلجرامي‪ ،‬فكيف يمكن أن يفسر إجرام املجرم األول الذي لم يختلط بجماعة من املجرمين؟‬

‫كما ٲخذ على هذه النظرية عجزها عن تفسير حقيقة تأثير االختالط في االندفاع إلى ارتكاب الجريمة‪ ،‬في ظل رفضها لدور وتأثير‬
‫الخبرات السابقة للمجرم‪ .‬وقد حاول تلميذ سذرالند كريسي التصدي لهذا النقد ̒ا عن كيفية اكتساب الفرد للسلوك الجوهري‪،‬‬
‫فذهب إلى أن هذه النظرية ال تستطيع أن تقدم تفسي ًرا علمي‬
‫اإلجرامي عن طريق اختالطه بجماعة اإلجرام‪ ،‬لكنها تستطيع أن تنفي كون الجريمة تنشا عن االضطرابات العاطفية‪،‬‬
‫أو نتيجة العيش في بيئة غير صالحة‪...‬‬

‫ومن أهم ما وجد لهذه النظرية أيضا كانتقاد‪ ،‬ما قرره صاحبها من أن الفرد يتعلم اإلجرام من الجماعة اإلجرامية؛ حيث قبل أن‬
‫الفرد ليس بحاجة إلى تعلم السلوك اإلجرامي‪ ،‬وإنما هو بحاجة إلى تعلم السلوك السليم‪ ،‬فالنفس أمارة بالسوء‪ ،‬والبد من تقويمها‬
‫من خالل تلقيها املبادئ السامية منذ مراحلها األولى‪ ،‬حتى ال تعوج وتميل إلى اإلجرام‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬و على فرض أننا سلمنا ب‬
‫‪Կ‬ن الفرد يتعلم الجريمة ويتدرب عليها في الجماعة اإلجرامية التي يختلط بها‪ ،‬فان ذلك ال يفسر لنا الجرائم التي يرتكبها بعض‬
‫األفراد أثناء ثورة نفسية أو انفعال مفاجئ‪.‬‬

‫ورغم كل االنتقادات ال تي وجهت لهذه النظرية‪ ،‬فإنها ذات أهمي ة من ناحية اهتمامها بعنصر آخ ر من عناصر اإلجرام ٲال‬
‫وهو االختالط‪ ،‬خصو ًصا في ارتكاب بعض الجرائم املنظمة كاملخدرات وبعض جرائم العنف‪.‬‬

‫رابعا˸ نظرية ميرتون الراخي االجتماعي ‪" social affaiblissement’l de Théorie"/‬‬

‫تعتبر دراسة ميرتون (‪ Merton.K Robert( 1910-2003‬قفزة نوعية في الفهم العلمي للسلوك اإلجرامي‪ .‬ولتفسير هذا السلوك‪.‬‬
‫انطلق ميرتون من تحليل البنية االجتماعية محاوال معرفة األسباب التي تدفع بعض األفراد إلى السلوك املنحرف بدل السوي‪.‬‬

‫ويعتقد ميرتون أن السلوك الجانح‪ ،‬إنما هو وليد الوضعية االجتماعية التي يجد الفرد نفسه فيها‪ ،‬وليس وليد األسباب الداخلية أو‬
‫الخارجية املنعزلة عن املجتمع‪.‬‬

‫وقد حاول ميرتون حصر األنماط السلوكية املتنوعة (الجانحة واملتمردة واالستسالمية) من خالل اعتماد مفهوم الالمعيارية أو‬
‫حالة الالنظام التي تسيطر على املجتمع‪ ،‬وتجعله بدون معيار وال وسيلة ثقافية يعتمدها الن اس لتحقيق رغباتهم فيضطرون إذ‬
‫ذاك لإلج رام كوس يلة لبل وغ أه دافهم‪ .‬ولش رح نظريت ه‪ ،‬انطل ق من اغلب الن اس ل ديهم غرائ ز ورغب ات ليس ت دائم ا بالض رورة‬
‫طبيعي ة‪ ،‬وإنم ا ق د تك ون من نت اج الثقاف ة الس ائدة في املجتم ع (‪( prédominante culture La‬وع دم ت وافر اإلمكان ات لجمي ع فئ ات‬
‫املجتمع لتحقيقها قد يدفع بهذه الفئات إلى اعتماد وسائل غير مشروعة لتحقيقها‪ ،‬ولذلك‪ ،‬فمضمون نظرية ميرتون‪ ،‬في دراسته‬
‫لكل بنية اجتماعية‪ ،‬يقوم على دراسة عنصرين هامين هما˸ األهداف واملعايير‪.‬‬

‫فأما األهداف ‪ ˸ Objectifs /‬فينطلق ميرتون من أن كل مجتمع يحدد ألفراده مجموعة من األهداف واالهتمامات‪ ،‬التي غالبا‬
‫م‬
‫ا‬
‫ت‬
‫ك‬
‫و‬
‫ن‬

‫م‬
‫ش‬
‫ر‬
‫و‬
‫ع‬
‫ة‬
‫و‬
‫م‬
‫ر‬
‫تب‬
‫ة‬
‫ح‬
‫س‬
‫ب‬
‫أ‬
‫ه‬
‫م‬
‫يت‬
‫ه‬
‫ا‪.‬‬
‫وأما املعايير (الوسائل) ‪ ˸ Moyens /‬فهي مجموعة من القواعد التي تحكم السلوك وتضبط وسائل وسبل الوصول إلى األهداف‪،‬‬
‫من خالل القن وات املش روعة ال تي ينظمه ا املجتم ع‪ .‬واملع ايير هي ال تي تنظم الوس ائل ال تي تختل ف بحس ب قيمته ا االجتماعي ة‪ ،‬حيث‬
‫هناك الوسائل املثلى واملستحسنة واملمنوعة‪ .‬ويذهب ميرتون إلى انه كلما وجد توازن بين هذين املنصرين‪ ،‬كلما كانت السلوكات‬
‫داخل البنية تعكس ذلك التوازن‪.‬‬

‫أم ا إذا تم االهتم ام باأله داف على حس اب املع ايير‪ ،‬ف ان الوس يلة حينئ ذ س تبرر الغاي ة؛ إذ ستص بح ك ل الوس ائل ص الحة‬
‫للوصول إلى الهدف املنشود‪ ،‬وبذلك سنكون أمام مجتمع هش ومختل البنية االجتماعية‪.‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬نظريات ومدارس أخرى‬

‫‪ ˸L’école géographique /cartographique‬الجغرافية املدرسة˸ أوال‬

‫هي مدرس ة يع ود الفض ل في تأسيس ها إلى الع املين البلجيكي كيتلي ه والفرنس ي ج يري الل ذين عكف ا على دراس ة اإلحص اءات‬
‫الجنائية التي نشرت في فرنسا منذ ‪. 1826‬‬

‫فقد الحظ كيري ‪، Guerry‬وهو الذي كان مدي ًرا للشؤون الجنائية بوزارة العدل الفرنسية ارتفا ًعا في معدالت جرائم االعتداء‬
‫على األش خاص في املن اطق الجنوبي ة من فرنس ا وخاص ة في فص ل الص يف‪ ،‬بينم ا تك ثر ج رائم االعت داء على األم وال في املن اطق‬
‫الشمالية في فصل الشتاء؛ وهو ما دفع كيري إلى القول بوجود عالقة بين املوقع الجغرافي ودرجة الحرارة من ناحية‪ ،‬ومعدالت‬
‫الجريمة من ناحية أخرى‪.‬‬
‫وقد صاغ فكرته هذه في ما اسماه قانون الحرارة اإلجرامي‪ .‬وخلص كيتليه إلى نتيجة كيري نفسها‪ ،‬وٳن عمم فكرته بشكل أوسع؛‬
‫حيث ربطها بمجموع القارة األوروبية‪ .‬هذا وقد ازدهرت هذه املدرسة فترة من الزمن في فرنسا‪ ،‬ليطويها النسيان في ما بعد إلى‬
‫أن عاودت الظهور واالنتشار في الواليات املتحدة األمريكية على يد ليند سميث "‪ " Smith Linde‬ولڤن "‪". Levin‬‬

‫‪ -‬تقدير النظرية‬

‫إذا كانت هذه املدرسة قد أصابت عند ربطها الجريمة بالعوامل الجغرافية املناخية ( الطبيعية البيئية بصفة عامة) ومحاولة‬
‫ربطه ا ك ل ذل ك بكم الج رائم ونوعه ا من خالل ق انون الح رارة اإلج رامي‪ ،‬فإنه ا م ع ذل ك‪ ،‬تبقى ع اجزة عن تق ديم تفس ير كام ل‬
‫للظاهرة اإلجرامية‪.‬‬

‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يذهب أنصار املذهب التكويني إلى أن التأثير ال يأتي من العوامل البيئية املناخية مباشرة‪ ،‬وإنما‬
‫مما تحدثه تلك العوامل من تأثيرات عميقة في شخصية الفرد سواء من الناحية العضوية أو النفسية‪.‬‬

‫ثانيا˸ املدرسة االشتراكية ‪socialiste ecole’L‬‬

‫هي مدرسة تستمد أصولها الفكرية أو اإليديولوجي ة‪ ،‬من الفكر املاركسي (االشتراكية العلمية) التي وضع أسسها كل من كارل‬
‫ماركس (‪( Marx‬وانجليز (‪( Engels‬في منتصف القرن التاسع عشر‪ .‬ومن مقتضيات هذا الفكر‪ ،‬أن الوضع االقتصادي هو أساس‬
‫البنية التحتية التي تقوم عليها األسس العلوية في‬
‫وتبعا لذلك‪ ،‬ف‪Ձ‬ن الواقع املادي هو الذي يحدد أفكار اإلنسان وميوال ته فالتفاوت االقتصادي‪ ،‬أو بعبارة‬‫مجتمع من املجتمعات‪ً ،‬‬
‫أدق النظام الرأسمالي‪ ،‬هو الذي ينتج اإلجرام الذي يعتبر بمثابة ردة فعل ضد الظلم االجتماعي‪.‬‬

‫ويؤكد هذا االتجاه أن املجتمع االشتراكي ال يفترض فيه ارتكاب الجرائم‪ ،‬إذ ال يعقل أن يرتكب الفرد وبذلك‪ ،‬فالظاهرة اإلجرامية وفقً الجرائم‬
‫ضد سعادته‪ ،‬وٳن وقعت فسيكون ذلك من قبيل املرض ليس إال‪ .‬ا لهذا الطرح‪ ،‬ترتبط بالنظام الرأسمالي وجو ًدا ً‬
‫وعدما وأسبابا‪.‬‬

‫ف املجتمع االش تراكي املوع ود –حس ب أنص ار الفك ر املاركس ي‪ -‬س يكون بال جريم ة بحكم اختف اء كاف ة م بررات وجوده ا‪ ،‬فه و‬
‫مجتمع يقوم على التضامن واملودة‪ ،‬وشعاره «من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته»‪ ،‬وال مكان فيه لجهاز الدولة الفوقي‪،‬‬
‫وما يتفرع عنه من أدوات ووسائل قمعية كالقانون والسجون‪.‬‬

‫ومن ابرز الباحثين االشتراكين الذين بلوروا هذا الفكر في ما بعد‪ ،‬عالم االجتماع الهولندي وليام بونجر ( ‪( Bounger.W‬الذي‬
‫نشر أفكاره في كتابه «الجريمة واألوضاع االقتصادية» سنة ‪1905‬؛ حيث ربط فيه الجريمة بالنظام الرأسمالي‪ ،‬ورفض إرجاع‬
‫أس بابها إلى العوام ل الفس يولوجية الوراثي ة (االتج اه التكوي ني في تفس ير على الجريم ة) كم ا أك د ب ونجر‪ ،‬في إص داراته الالحق ة‪،‬‬
‫ً‬
‫رفضه الق اطع الرب ط بين الجريم ة واألخالق والقيم من ناحي ة‪ ،‬وبينه ا وبين ال دين من ناحي ة أخ رى‪ ،‬مؤك دا أن األخالق والقيم‬
‫ُ‬
‫ّ‬ ‫الدينية ف ُه النظام االقتصادي الرأسمالي‪ ،‬من عالقات اجتماعية فاسدة قليست سوى إفرازات ملا ُي َ‬
‫خل وامها حب‬

‫الذات والرغبة في التحكم والسيطرة‪ ...‬من جانب األغنياء ‪ ،‬والحقد والكراهية والصراع‪ ...‬من جانب الفقراء‪.‬‬

‫كما أكد بونجر أن ما يتسم به النظام الرأسمالي من سمات كامنة في تحقيق الربح وفائض اإلنتاج وفائدة غير معقولة ‪ ...‬يرتب‬
‫سلوكات منحرفة داخل املجتمع‪ ،‬تتمثل في الكذب‪ ،‬السرقة‪ ،‬الغش والعبودية‪...‬‬

‫وفي ه ذا الس ياق‪ ،‬يض رب ب ونجر مثال باملجتمع ات البدائي ة (مجتمع ات الفط رة) ال تي يؤك د خلوه ا من ج رائم األم وال (خص وص‬
‫جريمة السرقة) النعدام الحاجة إليها بسبب نظام امللكية املشاعة التي كانت سائدة فيها‪.‬‬
‫وق د خلص ب ونجر إلى وج ود ثالث ة أص ناف من الج رائم في املجتمع ات الرأس مالية ˸ الفئ ة األولى تهم‬

‫الطبقة البورجوازية‬

‫الفئة الثانية تهم الطبقة الوسطى‬

‫الفئة األخيرة تهم طبقة العمال‬

‫وهو تصنيف بالغ األهمية؛ إذ بفضله تم التمييز بين الجرائم االقتصادية وجرائم االنتقام أو العنف والجرائم السياسية‪.‬‬

‫‪ -‬تقدير النظرية‬
‫ال شك أن لهذه املدرسة الفضل في كشف مساوئ النظام الرأسمالي‪ ،‬وما يؤدي إليه التقسيم الطبقي من ظهور جرائم ترتبط‬
‫أسا ًسا بالظروف املادية االقتصادية‪ .‬غير أن هذه املدرسة‪ ،‬وٳن استطاعت تفسير جرائم االعتداء على األموال‪ ،‬فإنها مع ذلك‬
‫لم تستطع تفسير جرائم االعتداء على األشخاص‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬فقد اخفق أنصارها في إيجاد تفسير مقنع‬
‫ً‬
‫جميعا لنظام اقتصادي واحد‪.‬‬ ‫لوقوع بعض األفراد دون كافتهم في براثين اإلجرام‪ ،‬رغم خضوعهم‬

‫كما يعاب على هذه املدرسة ربطها املطلق للظاهرة اإلجرامية بطبيعة النظام الرأسمالي؛ والحال أن العوامل االقتصادية‬
‫(املادية) وان كان تأثيرها في إحداث الظاهرة اإلجرامية من األمور املؤكدة‪ ،‬فإنها ال تعدو أن تكون مجرد عامل‪ ،‬أو سبب يضاف إلى‬
‫باقي العوامل (التكوينية‪ ،‬االجتماعية‪ ،‬البيئية‪ )...‬وأخيرا‪،‬‬
‫سابق ‪ -‬عانت وما زالت من‬
‫ً‬
‫يكفي للتدليل على عدم صحة هذه النظرية‪ ،‬أن املجتمعات التي ال تطبق النظام الرأسمالي‪ ،‬وعلى رأسها‬
‫ارتكاب الجرائم‪ ،‬وكان مقتضى‬
‫ه ذه النظري ة‪ ،‬أن النظ ام‬
‫االتحاد السوفياتي ‪ -‬ا‬
‫االشتراكي سيؤدي إلى زوال الظاهرة اإلجرامية ‪ ،‬وهو ما لم يتحقق في الواقع‪ .‬املبحث الثالث‪ :‬دور‬

‫املذهب املختلط في تفسير السلوك اإلجرامي‬

‫عرضنا في ما تقدم أهم النظريات التي عرفت في إطار املذهبين الفردي واالجتماعي‪ ،‬والتي حاولت تفسير سبب الجريمة وعلتها‪،‬‬
‫ً‬
‫مضمونا ومنه ًجا‪.‬‬ ‫كما حددنا منطلقات أو مرتكزات كل نظرية أو مدرسة‪ ،‬واالنتقادات التي وجهت إليها‬

‫وقد توضح لنا مدى جنوح مختلف هذه النظريات عن اعتماد أسلوب املعالجة الشاملة في تبين عوامل اإلجرام ودوافعه؛ حيث‬
‫انصب اهتمام كل اتجاه على جانب من جوانب الظاهرة اإلجرامية‪ ،‬غافال أو راف ًضا الجانب اآلخر‪ .‬وهو ما ترتب عنه الفصل بين‬
‫املجرم كأساس للعوامل الذاتية او الفردية ومصدر لها‪ ،‬وبين الوسط االجتماعي أو البيئي‪ ،‬كأساس للعوامل االجتماعية ومصدر‬
‫لها كذلك؛ رغم ما بينهما من ترابط عضوي وتأثير وتفاعل متبادلين‪.‬‬

‫ولعل ه م ا فطن ب ه ملبروزو في م ا بع د‪ ،‬ليتم االع تراف ب دور العوام ل ال تي تم إس قاطها أو التقلي ل من أهميته ا‪ ،‬ودوره ا في‬
‫إحداث الظاهرة اإلجرامية‪.‬‬

‫هذا و قد انطلق باحثون آخرون من البحث عن أسلوب شمولي إلى حد ما‪ .‬ودون اإلفصاح عن تفاصيل املضمون‪ ،‬ولعله ما قام‬
‫ب ه انريكوف يري‪ ،‬ال ذي رد الج رائم إلى خلي ط من العوام ل الذاتي ة (العض وية والنفس ية) والعوام ل الخارجي ة (االجتماعي ة‬
‫والطبيعي ة) ‪ ،‬فخلص إلى وج ود ق انون للجريم ة (ق انون التش بع اإلج رامي)‪ .‬في م ا س لم بعض أنص ار املذهب االجتم اعي ب دور‬
‫العوامل الفردية (الشخصية‪ -‬الذاتية) في إحداث الظاهرة اإلجرامية؛ بسبب عجز بعضهم عن تفسير السلوك اإلجرامي لدى‬
‫ً‬
‫جميع ا لظ روف خارجي ة (اجتماعي ة) واح دة وه و تح دي ًدا م ا ق ام ب ه ع الم االجتم اع‬ ‫بعض آخ ر دون غ يرهم‪ ،‬رغم خض وعهم‬
‫األمريكي سذرالند (‪( Sutherland‬الذي جمع في نظريته املخالطة الفارقة بين العوامل النفسية (والتي هي شخصية ذاتية داخلية)‬
‫والعوامل االجتماعية (والتي هي خارجية بيئية)‪ .‬ولعله أيضا ما ذهب إليه مارتن جولد الذي أكد أن السلوك اإلجرامي ما هو إال‬
‫صورة لتفاعل داخلي وخارجي‪.‬‬

‫غير أن املنهج التكاملي في الكشف عن أسباب الظاهرة اإلجرامية‪ ،‬في إطار املذهب الفردي‪ ،‬لم يتبلور في نظرية واضحة األسس‬
‫و‬
‫ا‬
‫مل‬
‫ض‬
‫ا‬
‫م‬
‫ي‬
‫ن‬
‫‪،‬‬
‫إ‬
‫ل‬
‫ا‬
‫ب‬
‫ظ‬
‫ه‬
‫و‬
‫ر‬
‫ن‬
‫ظ‬
‫ر‬
‫ي‬
‫ة‬

‫ا‬
‫ل‬
‫ا‬
‫س‬
‫ت‬
‫ع‬
‫د‬
‫ا‬
‫د‬
‫ا‬
‫ل‬
‫إ‬
‫ج‬
‫ر‬
‫ا‬
‫م‬
‫ي‬

‫ل‬
‫ل‬
‫ع‬
‫ا‬
‫ل‬
‫م‬

‫ا‬
‫ل‬
‫ا‬
‫ي‬
‫ط‬
‫ا‬
‫ل‬
‫ي‬

‫د‬
‫ي‬

‫ت‬
‫و‬
‫ل‬
‫ي‬
‫و‬
‫؛‬
‫وال تي أثرن ا عرض ها في إط ار ه ذا املذهب (املختل ط) ب دل عرض ها في إط ار املذهب الف ردي‪ ،‬العتم اده ̒ا للكش ف عن أس باب‬
‫الجريم ة وفي م ا‬
‫رض‬ ‫يلي نع‬
‫ألس س ه ذه‬
‫النظري ة م ع‬
‫تقديرها‪ .‬منه ًجا‬
‫تكاملي‬

‫دي توليو بأبحاث ملبروزو ودراساته‪ ،‬فجعلها منطلقً تأثر ا لتأسيس نظريته عن االستعداد اإلجرامي‪̒ ،‬ا محاوال تحليل شخصية املجرم بوصفها املصدر‬
‫األول للس لوك اإلج رامي‪ ،‬ومعتب ًرا الجريم ة س لو ًك ا ف ردي بيولوجي̒ ا اجتماعي̒ ا‪ ،‬يح دث بس بب اس تجابة ال دوافع الغريزي ة‬
‫للمؤثرات الخارجية‪.‬‬

‫وينطلق دي توليو من فكرة أساس‪ ،‬تقوم على التكوين اإلجرامي ‪ délinquantielle constitution La‬؛ مفادها انه كما يتمتع اإلنسان‬
‫بتكوين نفسي وتكوين عقلي وآخر عصبي‪ ،‬يجعله قابال لإلصابة بأمراض ̒ا يوقظه‪ ،‬هاجت غرائز الفرد معينة‪ ،‬فان لديه أيضا‬
‫ً‬
‫تكوين ا إجراميا إذا ما صادف مؤث ًرا‪ ،‬أو عامال خارجي‬
‫دونما رادع يكبحها ليقع في براثين الجريمة‪.‬‬

‫غير أن هذا االستعداد ال يوجد لدى كل فرد في املجتمع‪ ،‬وبتعبير آخر‪ ،‬فاألفراد األسوياء‪ ،‬حسب دي توليو‪ ،‬ال يتأثرون بعوامل‬
‫املحي ط االجتم اعي كم ا املج رمين ال ذين ال يس تطيعون مقاوم ة غرائ زهم وكبحه ا‪ ،‬والتكي ف م ع البيئ ة االجتماعي ة بس بب الخل ل‬
‫العضوي والنفسي املولد لالستعداد اإلجرامي‪.‬‬

‫وتقوم فكرة التكوين اإلجرامي‪ ،‬أو االستعداد اإلجرامي حسب دي توليو‪ ،‬على وجود نوعين من العوامل ˸ األولى تكمن في وجود‬
‫خلل في النمو العاطفي لدى املجرم؛ بسبب عوامل داخلية تتصل بغرائزه‪ ،‬وهو ما يصعب عليه تقبل القيم االجتماعية السائدة في‬
‫مجتمعه‪ .‬والثانية تتمثل في العيوب الجسمانية‪ ،‬الناجمة عن‬
‫الخلل الوظيفي ذي الصلة باإلفرازات الغددية‪ ،‬وهذا النوع من العوامل‪ ،‬هو الذي يخلق الشخصية السيكوباتية غير‬
‫القادرة على التوافق مع املجتمع‪.‬‬

‫وال تكفي العوامل السالفة املحققة لالستعداد اإلجرامي لتحقق الجريمة حسب دي توليو‪ ،‬وإنما ينبغي تفاعلها مع العوامل‬
‫الخارجية الكامنة في البيئة االجتماعية‪.‬‬

‫ويميز دي توليو في االستعداد اإلجرامي بين صنفين˸‬

‫األول˸ يطلق عليه االستعداد اإلجرامي األصيل أو الفطري‪ ،‬ويتصف بالديمومة بسبب ثبات مص دره‪ ،‬املتمثل في التكوين‬
‫العضوي والنفسي والعصبي‪ ،‬وهو الذي يؤدي ً‬
‫غالبا إلى ارتكاب اخطر الجرائم‪.‬‬
‫ُ‬
‫والثاني˸ يصفه باالستعداد اإلجرامي العارض‪ ،‬ويتحقق بسبب وجود عوامل شخصية واجتماعية تضعف املقاومة‪ ،‬وتدفع إلى‬
‫ارتكاب الجرم صدفة أو عر ًضا‪.‬‬

‫واستنادا إلى نوعي االستعداد اإلجرامي‪ ،‬صنف دي توليو املجرمين بحسب نوع استعدادهم أو تكوينهم اإلجرامي إلى˸‬
‫‪ -‬فئة املجرمين بالتكوين وتضم˸‬

‫‪. 1‬املجرم ذا النمو الناقص˸ وهو اقرب إلى اإلنسان البدائي كما وصفه ملبروزو‪.‬‬

‫‪. 2‬املج رم العص بي الس يكوباتي˸ وه و ال ذي يتم يز بخل ل واض ح في جه ازه العص بي يجعل ه س ريع الت أثر واالنفع ال‪ ،‬ويض م ه ذا‬
‫ال‬
‫ص‬
‫ن‬
‫ف‬

‫م‬
‫ر‬
‫ض‬
‫ى‬
‫(ا‬
‫ل‬
‫ص‬
‫ر‬
‫ع‬
‫و‬
‫ال‬
‫ه‬
‫س‬
‫ت‬
‫ر‬
‫يا‬
‫‪...‬‬
‫)‪.‬‬
‫‪. 3‬املجرم السيكوباتي˸ ويتميز بخلل واضح في قدراته الذهنية أو العقلية‪ ،‬دون أن يصل إلى حد املرض العقلي أو الذهان‪.‬‬

‫‪. 4‬املج رم ذا االتج اه املختلط˸ وه و ال ذي يجم ع بين خص ائص الفئ ات املتقدم ة‪ - .‬فئ ة املج رمين‬

‫العرضيين˸‬

‫وهم ال ذين ت دفعهم عوام ل خارجي ة بص فة أساس ية لإلج رام‪ ،‬وتض عف ق درتهم على التكي ف م ع الحي اة االجتماعي ة‬
‫والقوانين السائدة‪ ،‬وتضم هذه الفئة‪ ،‬حسب دي توليو˸‬
‫‪. 1‬املجرم العرضي الصرف˸ وهو الذي يرتكب أفعاال بسيطة نتيجة ظروف استثنائية لم يتوقعها‪ ،‬أو ليس بمقدوره توقعها‪.‬‬

‫‪. 2‬املجرم العرضي الشائع˸ ويتميز بالنقص الخلقي‪ ،‬ويميل إلى ارتكاب الجرائم املالية الخطيرة‪ ،‬كما يمكن أن يتحول إلى مجرم‬
‫معتاد بسهولة‪.‬‬

‫‪. 3‬املج رم العرض ي بس بب ح االت انفعالي ة عاطفية˸ وه و ال ذي يتس م بع دم االت زان ال روحي والخلقي املعت اد‪ ،‬كم ا يتم يز‬
‫باالنفعاالت الفيزيولوجية (املتصلة بوظائف األعضاء)‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى أن دي توليو ميز في طائفة املجرمين املجانين بين نوعين˸ املجرم املجنون واملجنون املجرم‪.‬‬

‫فأما املجرم املجنون˸ فهو الذي يرجع سبب إجرامه إلى تكوين كامن فيه وسابق على إصابته بالجنون‪ .‬ويبقى دور الجنون زيادة‬
‫قوة وحدة هذا التكوين اإلجرامي‪ ،‬ولذلك فان شفاء مثل هذا املجرم من جنونه ال يمنعه من العودة إلى اإلجرام مرة أخرى يٴن‬
‫التكوين اإلجرامي لديه قائم ومستمر‪.‬‬

‫وأم ا املجن ون املج رم ˸ فيع ود إجرام ه إلى جنون ه (أي مرض ه العقلي) دون أن يك ون لدي ه تك وين إج رامي س ابق على الجن ون‪،‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإذا ما شفي من جنونه أو مرضه العقلي زال سبب إجرامه‪.‬‬

‫‪ -‬تقدير نظرية دي توليو‬


‫ً‬
‫تكاملي ا‬ ‫رغم أن دي توليو حاول في طرحه تجاوز النظرة القاصرة التي شابت النظريات البيولوجية السالفة‪ ،‬حيث سلك منه ًجا‬
‫للكش ف عن أس باب الظ اهرة اإلجرامي ة يتجلى في الرب ط بين العوام ل الذاتي ة (الفردي ة) املتمثل ة في التك وين اإلج رامي والعوام ل‬
‫االجتماعي ة الكامن ة في البيئ ة املحيط ة ب املجرم‪ ،‬فان ه ه و اآلخ ر لم يس لم من النق د؛ حيث اخ ذ على نظريت ه الرب ط املطل ق بين‬
‫االستعداد اإلجرامي الفطري والجريمة‪ .‬ومن ضمن ما ٲخذ على هذه النظرية أيضا‪ ،‬إنكارها ألي دور مستقل للعوامل االجتماعية‬
‫فدور األخيرة مشروط بوجود التكوين اإلجرامي‪ ،‬وهو ما نفاه بعض الباحثين بشدة على اعتبار أن الكثير من الجرائم يقع بسبب‬
‫العوامل االجتماعية والبيئية املحيطة باملجرم بغض النظر عن عامل التكوين أو االستعداد‪.‬‬

‫اومن األنص اف لنظري ة دي تولي و‪ ،‬الرد على هذا النق د‪ ،‬انطالق ا من أن االس تعداد أو امليل اإلجرامي‪ ،‬وفقً لطرح دي توليو‪ ،‬قد يكون إما أصلي̒ا أو عرضي̒ا‪ .‬وأوضح مثال على‬
‫امليل العارض لإلجرام‪ ،‬حالة الزوج الذي يقتل زوجته املتلبسة بجريمة الزنا؛ إذ يمكن القول إن الزوجة استفزت وأثارت ثائرة‬
‫الزوج‪،‬‬
‫ً‬
‫اضطرابا نفسي‬ ‫̒ا داخلي̒ ا يبرز ويتجلى فيه االستعداد العارض لإلجرام‪ ،‬ويتفاعل العامل فأوجدت لديه‬
‫الخ ارجي ال ذي ه و زن ا الزوج ة‪ ،‬والعام ل ال داخلي ال ذي ه و االنفع ال النفس ي‪ ،‬تفج ر الس لوك اإلج رامي الك امن في قت ل‬
‫الزوجة وشريكها‪.‬‬

‫ولعل طرح دي توليو سليم ومنطقي؛ إذ ال يمكن أن تفسر جريمة القتل هذه بالعامل الخارجي لوحده (خيانة الزوجة لزوجها) ‪،‬‬
‫والدليل على ذلك عدم ارتكاب كل من يفاجئ زوجته متلبسة بهذه الجريمة لجريمة القتل‪ ،‬فلو كان العامل الخارجي هو املفسر‬
‫الوحيد لهذه الجريمة‪ ،‬لكان من الضروري أن يرتكب جريمة القتل كل من يفاجئ زوجته في هذا الوضع وهو أمر غير صحيح؛ إذ‬
‫إن بعض األزواج فقط دون غيرهم‪ ،‬ممن يفاجئون زوجاتهم متلبسات بالخيانة الزوجية‪ ،‬يقدمون على جريمة القتل تلك‪ ،‬والشك‬
‫أن الفارق بينهم وبين غيرهم يكمن باألساس في مدى االنفعال واالضطراب النفسي‪ ،‬الذي يسيطر على الفرد نتيجة املوقف الذي‬
‫تعرض له‪ ،‬وهو ما عبر عنه دي توليو بامليل اإلجرامي العارض‪.‬‬
‫ول ذلك‪ ،‬يب دو لن ا أن ط رح دي تولي و س ليم‪ ،‬وٳن ك ان من األفض ل اس تعمال تعب ير االس تعداد أو التك وين ر الزم ان‬
‫واملكان‪ُّ،‬أالنحرافي بدل االستعداد اإلجرامي‪ ،‬على أساس أن الجريمة مخلوق قانوني َّ‬
‫يتغير بتغي بخالف االنحراف الذي َيرمز‬
‫إلى كل سلوك غير اجتماعي بما في ذلك األفعال والسلوكات التي يعدها املشرع جرائم‪.‬‬

‫الخالصة إذا‪ ،‬أن الظاهرة اإلجرامية تعود ملجموعة من العوامل‪ ،‬بعضها داخلي (ذاتي‪ ،‬شخصي‪ ،‬فردي) وبعضها خارجي (اجتماعي‪،‬‬
‫بيئي‪ )...‬ولذلك‪ ،‬كانت الحاجة أكيدة إلى دراسة كل هذه العوامل‪ ،‬حتى تكون الدراسة موضوعية ومجدية‪ ،‬وتبلغ الهدف أو األهداف‬
‫التي أجريت من اجلها‪.‬‬

‫املرجع‪:‬‬

‫د‪ .‬سميرة أقرورو‪ ،‬الوجيز في أسس علم اإلجرام وأهم مدارسه‪ ،‬الناشر صوماديل‪ ،‬طبعة ‪ ، 2015‬املغرب‪ ،‬ص‪ 41‬إلى ص‬
‫‪. 74‬‬

You might also like