You are on page 1of 5

‫مسلك الجغرافيا ‪ -‬الفصل‪ :‬الثالث‬

‫مادة ‪ :‬السوسيولوجيا‬
‫الدرس‪ :‬الخامس‬
‫سوسيولوجيا هربرت سبنسر ونظرية التطور‬
‫األستاذ‪ :‬محمد اوبلوهو‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫يعتبر هربرت سبنسر (‪ Herbert Spencer )1903-1820‬أحد املؤسسين األوائل لعلم االجتماع‪ ،‬وقد‬
‫تأثر في تصوراته حول املجتمع بنظرية التطور التي عرضها داروين (‪ Charles Darwin )1882-1809‬في‬
‫كتابه "اصل األنواع" ‪ l’origines des especes‬الذي صدر سنة ‪ .1857‬وقد عرض أفكاره في مؤلفه‬
‫الضخم ‪ Traite de Philosophie‬والذي يتكون من عشرة مجلدات خص فيها أربعة مجلدات‬
‫للسوسيولوجيا‪.‬‬
‫لقد اشتهر سبنسر بنظريته الشهيرة التي تدعو إلى الحد من سلطات الدولة‪ ،‬معتبرا أن املجتمعات‬
‫الصناعية ال يمكنها أن تنمو وتتطور إال عندما تتوقف الدولة عن التدخل في الشؤون التي يعتقد سبنسر‬
‫أنها ليست من صالحيتها‪ .‬إال إن أفكار سبنسر رغم أهميتها‪ ،‬لم تستطع االنتشار في فرنسا حيث هيمنت‬
‫بقوة سوسيولوجيا دوركايم أحد رواد السوسيولوجيا املعاصرين لسبنسر‪ ،‬لكنه في املقابل ال يزال يحظى‬
‫بمكانة مهمة في العالم االنجلوساكسوني باعتباره مرجعا أساسيا في الدراسات السوسيولوجية‪.‬‬
‫سوسيولوجية سبنسرونظرية التطور‪:‬‬
‫يعتبر سبنسر رائد املدرسة التطورية في السوسيولوجيا‪ ،‬حيث بنى نظريته في هذا املجال على مفهومين‬
‫أساسيين هما‪ :‬مفهوم التمييز ومفهوم التطور‪ .‬فمن خالل عمليتي التمييز ‪ différentiation‬والتجميع‬
‫‪ agrégation‬تستطيع املجتمعات التطور من مجتمعات ذات صبغة بسيطة إلى مجتمعات جد مركبة‬
‫ومعقدة‪ .‬ويعتبر سبنسر التطور بأنه انتقال تدريجي مما هو متجانس ‪ homogène‬الى ما هو غير متجانس‬
‫‪ .hétérogène‬ومن ما هو غير متناسق ‪ incohérent‬الى ما هو متناسق ‪ .cohérent‬ويمكن اعتبار سبنسر‬
‫إلى جانب كونت من املؤسسين الفعليين للسوسيولوجيا الوضعية حيث سعيا معا إلى التأكيد على أن‬
‫الظواهر االجتماعية هي ظواهر تحكمها قوانين ثابتة وضرورية‪ ،‬وأن هذه القوانين مستمدة من‬
‫البيولوجيا والكيمياء مما سيسمح لنا ببناء ما أطلق عليه كونت بالفيزياء االجتماعية‪.‬‬
‫إن غاية العلم من منظور سبنسر في النهاية ليست سوى إدراك لتلك الوحدة التي تقوم في أن كل‬
‫الظواهر تحكمها نفس القوانين مهما اختلفت وتعددت أنماطها‪ .‬فالكون قد تكون بالتدريج وفق نفس‬
‫القوانين ممثلة في مبدا التجميع والتمييز‪ ،‬وهي القوانين ذاتها التي سمحت بظهور الكائن الحي مثلما‬
‫سمحت بظهور اإلنسان أيضا على وجه البسيطة‪ .‬وعليه فإن املجتمعات البشرية إنما ظهرت أيضا بفعل‬
‫نفس القوانين التي يخضع لها التطور‪ ،‬أي‪ :‬قانون التجميع وقانون التمييز‪.‬‬
‫ويتجلى التجميع هنا في تجميع األفراد ضمن أنظمة معقدة تسمى باملجتمعات البشرية‪ .‬بحيث سيصبح‬
‫لكل واحد من هذه املجتمعات شخصيته املستقلة‪ ،‬ووظائفه الخاصة ونظامه املستقل‪ .‬ويماثل سبنسر‬
‫بين حياة املجتمع وحياة األفراد‪ ،‬من حيث تطورهما‪ .‬بحيث يعتمد سبنسر مبدا االنتقال من البسيط إلى‬
‫املركب ومن املتجانس إلى غير املتجانس‪ .‬فحياة املجتمعات كما األفراد تبتدأ بأشكال بسيطة‪ ،‬وبالتدريج‬
‫تأخذ في التعقيد لتتنوع بعد ذلك الوظائف التي تنتج عن هذا التعقيد‪.‬‬
‫إن التجمعات البشرية البدائية كانت قليلة العدد‪ ،‬وتنتشر في مساحات شاسعة‪ .‬وهنا يالحظ سبنسر‬
‫بأن عملية التجميع واالندماج قد حصلت عند ظهور القبائل والتي من خاللها سيتم تجميع األسر‪ ،‬وقد‬
‫رافق ظهور القبائل بروز العناصر األولى لتشكل أنظمة سياسية واقتصادية في صورتها البدائية والتي‬
‫ستبدأ في الظهور على نحو محتشم‪ ،‬سواء من خالل بروز سلطة أبوية أو عسكرية يمارسها شخص واحد‬
‫في غياب واضح ملؤسسات واضحة ومهيكلة‪.‬‬
‫في ظل هذه الشروط البدائية لهذه املجتمعات سينصرف األفراد ملمارسة نفس النشاط‪ .‬فإما أن‬
‫يكونوا جميعا عبارة عن رعاة أو صيادين أو مقاتلين‪ ...‬الخ‪ .‬وعلى هذا النحو يمكن أن نتحدث عن مجتمع‬
‫الرعاة أو مجتمع القناصين أو الصيادين‪...‬الخ‪ .‬وفي هذه الحالة البدائية للمجتمعات البشرية ال وجود‬
‫لتقسيم الشغل مثلما ال يمكن الحديث عن سلطة متعددة األطراف‪ .‬ومع استمرار عملية التجميع‬
‫والدمج ستتحول القبائل إلى مدن واملدن إلى دول وذلك على نحو تدريجي‪.‬‬
‫وفي موازاة لعملية الدمج والتجميع ستتم أيضا عملية التمييز‪ .‬فهذه التجمعات الكبيرة تحتاج أيضا‬
‫الى تنظيم أكثر تعقيدا‪ ،‬ومن ثم فإن عملية تقسيم الشغل التي ستفرضه بالضرورة هذه التجمعات‬
‫الكبرى ستكون له انعكاسات سواء على املستوى االقتصادي أو املستوى السياس ي‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫التعدد على مستوى النظام االجتماعي بمختلف مكوناته؛ مما سيستدعي مزيدا من الوظائف املختلفة‬
‫ومزيدا من الكيانات املتعددة‪.‬‬
‫السلطة ودورها في املجتمع عند سبنسر‪:‬‬
‫إن نظرية النظام االجتماعي بحسب سبنسر‪ ،‬ستؤدي إلى ظهور أجهزة للرقابة مبالغ فيها‪ ،‬يتم فيها‬
‫التضحية بشكل كلي بمصالح االفراد وباستقالليتهم لصالح وحدة هذا الكيان االجتماعي وبقاءه‬
‫واستمراريته‪ .‬وهنا ماثل سبنسر بين النظام االجتماعي من جهة وبين الجسم الحي من جهة أخرى‪ ،‬بحيث‬
‫سيصبح دور األفراد داخل املجتمع شبيها بدور الخلية بالنسبة للجسم الحي‪ .‬فالخلية موجودة من أجل‬
‫بقاء هذا الجسم الحي والقيام باألدوار الحيوية التي يحتاج إليها‪.‬‬
‫فاألفراد إذن مثل الخاليا التي تعتبر بدورها أصل الكائنات الحية التي ابتدأت بحسب سبنسر من‬
‫الكائنات وحيدة الخلية وتطورت إلى أن أصبحت هنالك كائنات حية متعددة الخاليا ذات أنظمة حيوية‬
‫جد معقدة كما هو الحال الن بالنسبة للكائنات الحية املتطورة‪ .‬ففي البداية كانت كل خلية بمثابة كائن‬
‫حي مستقل بذاته‪ ،‬أما الن فلم يعد هنالك حديث عن الخلية إال باعتبارها عنصرا متناه في الصغر‪ ،‬بعد‬
‫أن تم دمجها ضمن جسم كائن حي تخضع فيه لنظام حيوي جد معقد‪.‬‬
‫شبه سبنسر الدماغ البشري ووظائفه بموقع السلطة ودورها في الحياة االجتماعية‪ .‬إال أنه حصر مهمة‬
‫السلطة ودورها في املجتمع في حدود حماية حرية األفراد‪ ،‬وليس في فرض أو إمالء توجهات معينة عليهم‪.‬‬
‫ولذلك رفض سبنسر أي تدخل للدولة في أي شأن خاص أو عام ألن من شأن ذلك إعاقة تلك الوظيفة‬
‫األساسية املنوطة بها والتي وجدت من أجلها واملمثلة حصريا في حماية الحريات‪ .‬وقد بين سبنسر بأنه‬
‫عندما ترقى سلوكات االفراد الى مستوى من االخالق‪ ،‬وذلك حينما تتمكن القيم املستمدة من الغيرية‬
‫‪ l’altruisme‬وليس من األنانية ‪ l’égoïsme‬من أن تصبح هي األساس في الحياة االجتماعية‪ ،‬عندئذ يمكن‬
‫االستغناء عن أية سلطة قهرية في تدبير الشؤون العامة‪ ،‬ألن كل فرد سيحترم بشكل تلقائي حرية الخرين‪،‬‬
‫وسيسعى بكل بعفوية إلى سعادة الخرين بنفس القدر الذي سيعمل فيه أيضا على سعادته الخاصة‪.‬‬
‫وهكذا وفي غياب أي سلطة قهرية فإن املجتمع سيقوم على التوافق املبني على اإلرادة الحرة لألفراد‪.‬‬
‫وعند ذلك ستتحول قوة تماسك الجسم االجتماعي التي كانت مركزة في شخص واحد أو داخل فئات‬
‫محدودة من املجتمع بالنسبة املجتمعات البدائية إلى قوة تنتشر في النسيج املجتمعي بمختلف مكوناته‪،‬‬
‫بحيث ستشمل كل أفراد املجتمع‪.‬‬
‫ولهذا سيتم استبدال األنظمة امللكية واالرستقراطية التي كانت تحتكر السلطة‪ ،‬وعلى نحو تدريجي‪،‬‬
‫بأنظمة ديموقراطية تقوم على الحرية وليس على االكراه‪ .‬فالنظام البرملاني من منظور سبنسر‪ ،‬يعتبر‬
‫بمثابة انتقال وتحول من دولة القهر إلى دولة الحرية‪ .‬فدولة القهر ظلت مستمرة ملدة طويلة وذلك ألن‬
‫التطور كان بطيئا‪ ،‬بحيث لم يستطع القضاء على مصادر الصراع القائمة بين األفراد‪.‬‬
‫ولتحقيق نوع من االستقرار في تلك الشروط‪ ،‬كان من الواجب التضحية بجزء من الحرية ملصلحة‬
‫النظام العسكري‪ .‬وذلك حتى تكون هنالك جاهزية مستمرة‪ ،‬ملواجهة إمكانية حصول حروب أو صراعات‬
‫ممكنة‪ ،‬كل هذا يحتم وجود رد سريع وقوي‪ .‬فالسلطة التي تتركز في يد األكثر قوة تكتس ي اذن طابعا‬
‫مطلقا‪ .‬ولكن وبالنمو التدريجي ملشاعر الحياة الجماعية فإن حالة الحرب ستفسح املجال لحالة من‬
‫السلم‪ ،‬وهنا ستستبدل األنشطة العسكرية باألنشطة الصناعية‪ ،‬وسيتم تعويض نظام القهر بنظام‬
‫الحرية‪.‬‬
‫كما بين سبنسر من خالل كتابه‪" :‬مبادئ السوسيولوجيا" ‪ Principes de Sociologie‬بأن وجود‬
‫الطوائف واملدارس في مجال الفكر هي خاصية من خصائص املجتمعات الشمولية‪ ،‬بحيث ال تكون فيها‬
‫املنافسة بين األفكار منافسة حقيقية وحيث يكون للبعض القدرة على ممارسة نوع من الرقابة الغير‬
‫املباشرة على تلك األفكار التي يعتبرها نوعا من الهرطقة‪ .‬وهنا أشار إلى أن فرنسا تعاني من انتشار‬
‫للطوائف أكثر مما عليه األمر في إنجلترا‪.‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫إن سوسيولوجيا سبنسر التي نشأت في ظل الثورة الصناعية وما تحمله من طموحات وآمال كبيرة‬
‫لتخليص اإلنسانية من العوز والحروب‪ ،‬وتحقيق مجتمع الوفرة والرفاه؛ قد ربطت هذه الثورة بميالد‬
‫مجتمع جديد أساسه الحرية‪ ،‬وقيمته األخالقية هي الغيرية التي ستضمن سعادة الجميع‪ .‬فالقانون‬
‫الكوني القائم على التطور من منظور هربرت سبنسر سيقودنا إلى عالم أفضل‪.‬‬
‫وهكذا مثلت سوسيولوجيا سبنسر لحظة أساسية في تكريس مقاربة علمية وضعية لدراسة الظواهر‬
‫االجتماعية‪ ،‬وهذه املقاربة بدون شك أصبحت قاسما مشتركا ملجموعة من الباحثين‪ ،‬خالل هذه املرحلة‬
‫التاريخية مثل اوكست كونت وايميل دوركايم وكارل ماركس‪ .‬وكلها أسماء مهمة لها وزنها العلمي في بلورة‬
‫القواعد التأسيسية لهذا العلم‪.‬‬

You might also like