You are on page 1of 130

‫ملف العدد‬

‫اءات يف تجرب ِة الكاتب خريي منصور"‬


‫فيلسوف االنْتباه‪" :‬قر ٌ‬
‫العـــــــدد ‪399‬‬ ‫نيسان ‪2022‬‬
‫ثقافية شهرية ‪-‬تصدر عن وزارة الثقافة‬
‫اململكـة األردنيـة الهاشمـية منذ ‪1966‬‬
‫‪399‬‬
‫للنــر يف مجلــة أفــكار تأمــل هيئــة تحريــر‬
‫املجلــة مــن الكتــاب مراعــاة مــا يــي‪:‬‬
‫ •ترســل املــادة املطبوعــة الكرتوني ـاً مشــفوعة‬
‫بصــورة عــن الهويــة الشــخصية‪ ،‬أو صــورة‬
‫الســفر لغــر األردنيــن عــى عنــوان‬ ‫لجــواز ّ‬
‫الربيــد اإللكــروين للمجلــة‪.‬‬
‫ •أال تكون املادة قد نرشت سابقاً‬

‫مجلة أفكار‬
‫ •أال يتجــاوز عــدد كلــات املــادة ‪ 2000‬كلمــة‬
‫يف حدهــا األقــى‪.‬‬
‫ •الصــور املرســلة للــادة يجــب أن تكــون‬
‫عاليــة الدقــة والوضــوح عــى أن ال تقــل عــن‬

‫مجلة شهر ية ثقافية‬


‫‪ 1‬ميجــا بايــت‪.‬‬
‫ •هيئــة التحريــر هــي الجهــة املخ ّولــة بقبــول‬

‫تصدر عن وزارة الثقافة‬


‫املــادة للنــر أو االعتــذار عــن عــدم نرشهــا‪.‬‬
‫ •تحتفــظ املجلــة بحقهــا يف التــرف‬

‫المم�لكة الأردنية الهاشمية‬ ‫باملــواد التــي تنرشهــا ويشــمل هــذا الحــق‬


‫الطباعةالورقيــة والنــر اإللكــروين‪ ،‬وال يجــوز‬

‫‪ / 399‬نيسان ‪2022‬‬
‫إعــادة نــر مــواد مجلــة «أفــكار» دون إذن‬
‫مســبق مــن هيئــة تحريــر املجلــة‪.‬‬
‫ •يرســل الكاتــب اســمه الثــايث‪ ،‬واســم الشــهرة‬
‫الــذي يُعــرف بــه‪ ،‬ورقمــه الوط ّنــي (للكتّــاب‬
‫األردنيــن)‪ ،‬ونبــذة مــن ســرته الذاتيــة (للمــرة‬
‫املوقع اإللكرتوين ملجلة أفكار‪:‬‬ ‫األوىل فقــط)‪.‬‬
‫‪http://www.afkar.jo‬‬ ‫ •يرفــق مــع املــواد املرتجمــة نبــذة عــن ســرة‬
‫كام ميكن تصفّح املجلة عىل موقع الوزارة‪:‬‬ ‫مؤلــف النــص املرت َجــم‪ ،‬واإلشــارة إىل املصــدر‬
‫‪www.culture.gov.jo‬‬ ‫املرت َجــم عنــه‪.‬‬
‫املراسالت باسم رئيس التحرير‪:‬‬ ‫ •يخضــع ترتيــب املــواد املنشــورة العتبــارات‬
‫‪E.mail: afkar@culture.gov.jo‬‬ ‫فنيــة فقــط‪.‬‬
‫رقم اإليداع لدى دائرة املكتبة الوطنيّة‪:‬‬
‫(‪ / 2010 )1090‬د‬
‫العنوان الربيدي‪:‬‬
‫عمن ص‪.‬ب‪6140 :‬‬ ‫األردن ‪ّ -‬‬
‫الرمز الربيدي‪11118 :‬‬
‫رئيس التحرير ‪ /‬د‪ .‬يوسف ربابعة‬
‫مديرة التحرير ‪ /‬مجدولني أبو ال ُّرب‬
‫‪4‬‬ ‫مفتتح‬ ‫سكرترية التحرير ‪ /‬منال حمدي‬

‫‪6‬‬
‫هيئة التحرير ‪ /‬د‪ .‬حكمت النوايسة‬
‫ملف العدد‪:‬‬
‫‪ /‬د‪ .‬خلدون امنيعم‬ ‫ ‬
‫فيلسوف االنْتباه‪:‬‬ ‫‪ /‬يوسف ضمرة‬ ‫ ‬
‫اءات يف تجرب ِة‬
‫"قر ٌ‬ ‫‪ /‬سامح املحاريق‬ ‫ ‬
‫الكاتب خريي منصور"‬
‫اإلخراج الف ّني ‪ /‬هزار مرجي‬
‫رسومات الغالفني األمامي والخلفي ‪ /‬الفنانة غدير حدادين ‪ -‬األردن‬

‫‪31‬‬ ‫دراسات‬
‫ومقاالت‬
‫املــواد املنشــورة يف هــذا العــدد تعـ ّـر‬
‫عــن رأي ك ّتابهــا‪ ،‬وال تعــر بالــرورة‬
‫عــن رأي املجلــة‪.‬‬

‫اءات يف تجرب ِة الكاتب خريي منصور"‬


‫ملف العدد ‪ /‬ففيلسوف االنْتباه‪" :‬قر ٌ‬

‫‪110‬‬ ‫إبداع‬

‫‪124‬‬ ‫نوافذ ثقافية‬


‫المحتو يات‬

‫الصورة امل ُعوملة‪ ...‬دكتاتوريّة ال َب َص ‪ /‬د‪.‬حسني طه محادين‬‫املفتتح ‪ /‬ثقافة ّ‬ ‫‪4‬‬


‫اءات يف تجرب ِة الكاتب خريي منصور"‬
‫ملف العدد ‪ /‬فيلسوف االنْتباه‪" :‬قر ٌ‬
‫مقدمة‪ :‬فيلسوف االنْتباه "قراءاتٌ يف تجرب ِة الكاتب خريي منصور" ‪ /‬د‪ .‬خلدون امنيعم‬ ‫‪7‬‬
‫الصحافة ‪ /‬محمود الرمياوي‬ ‫نجم أدب ًّيا يف ّ‬
‫خريي منصور ً‬ ‫‪9‬‬
‫تأ ُّمالته العميقة تف َّرقت يف جسوم مقاالته الكثرية ‪ /‬فخري صالح‬ ‫‪14‬‬
‫خريي منصور‪ ..‬الشاعر الذي و َه َب جناحيه لغري القصيدة ‪ /‬نضال برقان‬ ‫‪17‬‬
‫خريي منصور‪ ..‬قلق امل ُتع ِّدد ‪ /‬حسني نشوان‬ ‫‪21‬‬
‫بورتريه القراءات الحفريّة ‪ /‬محمد العامري‬ ‫‪25‬‬
‫خريي منصور‪ ..‬أنت فنجان قهوتن ‪ /‬أحمد الالوندي‬ ‫‪28‬‬
‫دراسات ومقاالت‬
‫قراءة نقديّة يف السلوك التديُّني للمسلم العامي عىل ضوء محاورة "أوطيفرون" ‪ /‬محمد الحنتيتي‬ ‫‪32‬‬
‫ال ِّرواية الشفويّة يف ال ِّدراسات التاريخ ّية املعارصة ‪ /‬د‪ .‬إيهاب محمد زاهر‬ ‫‪38‬‬
‫القيمة األخالق ّية يف كتابات الجاحظ ‪ /‬هاين محمد عيل‬ ‫‪41‬‬
‫الطبيعي ‪ /‬د‪ .‬نادية هناوي‬
‫ّ‬ ‫السد غري‬
‫العواطف يف َّ‬ ‫‪46‬‬
‫ال ُّرؤية الشعريّة والتجلّيات املشهديّة يف ديوان "مدار الفراشات" ‪ /‬نضال القاسم‬ ‫‪54‬‬
‫شعب "الخال" يف قصيدة "األحزان العاديّة" للشاعر عبدالرحمن األبنودي ‪ /‬زينب محمد عبد الحميد‬ ‫‪61‬‬
‫مظاهر التع ُّدد يف شخص ّية "مرزوق" ‪ /‬مختار املاجري‬ ‫‪65‬‬
‫هندسة البناء القصيص يف "رباع ّيات الفردوس" ملخلد بركات ‪ /‬د‪ .‬عامد الضمور‬ ‫‪72‬‬
‫الصاع) ملفلح الحويطات منوذ ًجا ‪ /‬عامر أبومحارب‬‫املتنبي ورهانات القراءة الجديدة‪( :‬شعريّة ّ‬ ‫‪76‬‬
‫آذار‪ ..‬مطر وربيع‪ ..‬وحكايا ِ ُ‬
‫تسب "األغوار" ‪ /‬كتابة وتوثيق‪ :‬إميان مرزوق‬ ‫‪82‬‬
‫العنارص الزخرف ّية بقرص املشتى ‪ /‬محمد محمود فايد‬ ‫‪90‬‬
‫صورة األب يف رواية "جرس بضفة وحيدة" للكاتبة هيا صالح ‪ /‬موىس أبو رياش‬ ‫‪99‬‬
‫عمر الجنيدي ‪ /‬د‪ .‬مسلك ميمون‬ ‫آل ّيات البناء الف ّني ملجموعة "مسكوت عنهم" للقاص ّ‬ ‫‪104‬‬
‫إبداع‬
‫ال ّن ِاسك‪ -‬شعر ‪ /‬محمد خضري‬ ‫‪111‬‬
‫َّس ِ‬
‫احر ال ُق َّب َع ِة‪ -‬شعر ‪ /‬قيس الطه قوقزة‬ ‫‪112‬‬
‫ماء كنعان‪ -‬شعر ‪ /‬سلطان الزغول‬ ‫‪114‬‬
‫َليل ِمن َع َسلِ ال ُح ّب‪ -‬شعر ‪ /‬سامية العطعوط‬ ‫ق ٌ‬ ‫‪117‬‬
‫ز ّمار ال َح ّي‪ -‬قصة ‪ /‬رجاء عبدالحكيم الفويل‬ ‫‪118‬‬
‫روح الكالم‪ -‬قصة ‪ /‬حسني دعسة‬ ‫‪122‬‬
‫نوافذ ثقافية ‪ /‬محمد سالم جميعان‬ ‫‪124‬‬
‫مفتتح‬
‫‪4‬‬

‫الصورة املُعوملة‪...‬دكتاتور ّية ال َب َص‬


‫ثقافة ّ‬
‫* د‪.‬حسني طه محادين‬

‫لقــد انشــغل الباحثــون واملؤ ِّرخــون يف عمليّــة توثيــق املراحــل التطوريّــة للغــات البرشيّــة كقاعــدة أساس ـيّة لبنــاء‬
‫الثقافــات والحضــارات بقيــادة اإلنســان املغامــر‪ ،‬كمــر ِّوض لنــزق الطبيعــة بعلمــه وبإبداعــه املنحــاز لقيــم الحيــاة‬
‫املغالبــة لحتم ّيــة املــوت انطالقًــا تاريخ ًّيــا مــن‪:‬‬
‫‪ -‬املرحلــة الصوت ّيــة الشــفاه ّية للتَّخاطــب عـ ْـر ال ُّرمــوز الجســديّة "اإلشــارات" والتوافقــات الصوت ّيــة ملخــارج الحــروف‬
‫واملعــاين املشــركة بــن املتفاعلــن‪.‬‬
‫‪ -‬املرحلــة التدوين ّيــة؛ أي بعــد اكتشــاف الكتابــة وأبجديّاتهــا‪ ،‬مــن هنــا كانــت –وباجتهــادي‪ -‬البدايــة األوىل لظهــور‬
‫والتوســع يف اســتخدامها بــن املتعلّمــن فقــط؛ مــا‬ ‫ُّ‬ ‫"ال َّرســم بــري" للحــروف وللكلــات‪ ،‬ك ُبعــد جديــد لحفظهــا‬
‫سـ َّهل تنامــي فــرص تعلُّمهــا ونرشهــا بــن األجيــال كأداة للتفكــر ووســيلة للتعبــر؛ األمــر الــذي عمــل عــى اســتدامة‬
‫التواصــل بــن شــعوب األرض كل بحســب هويّتــه وخصوصيّــة لغتــه‪ ،‬فلغتنــا العربيّــة (لغــة القــرآن الكريــم) نجحــت‬
‫يف اســتيعاب املســتج ّدات التقنيّــة والتغـ ُّـرات الحياتيّــة؛ عــى ال ّرغــم مـ ّـا تحتاجــه مــن تطويــر ومواكبــة للمســتج ّدات‬
‫أي ِم ّنــا‪ ،‬ونجحــت أيضً ــا يف توافــق أهــل اللغــة ومجامــع‬ ‫يف هــذا العــامل الــذي غــدا بحــدود الهاتــف الخلــوي يف كـ ِّـف ٍّ‬
‫اللغــة العربيــة عــى دقــة مفهــوم "العوملــة" الحــدايث ودالالتــه الجديــدة كل ًّيــا يف قامــوس فكرنــا ولغتنــا باملقارنــة مــع‬
‫مصطلــح "الكونَ َنــة" الــذي كان مقرت ًحــا للتعبــر عــن حجــم وعمــق التغـ ُّـرات الفارقــة التــي صاحبــت تطـ ُّور مفهــوم‬
‫العامليــة ‪universal‬إىل العوملــة ‪ globalization‬كأيديولوجيــا جديــدة بعيــد تســعينات القــرن املــايض لــآن‪.‬‬

‫ثقافة الصورة وما بعدها‬


‫َّــا باالتحــاد الســوفييتي عــن ثنائ ّيــة‬
‫أقــول‪ :‬لقــد نجحــت الرأســاليّة العامليّــة يف إقصــاء القطــب االشــرايك ممث ً‬
‫القطبيّــة الســابقة؛ فظهــرت العوملــة (األرض والفضــاء) بشــكلٍ طــا ٍغ مــن خــال التّقانــة "التكنولوجيــا" التــي سـ َّهلت‬
‫بدورهــا عمليــة ال َّنمذجــة البرصيّــة للبرشيّــة‪ ،‬التــي قادتهــا متاه ًيــا مــع مــا متثّلــه ســيادة الصــورة مــن ســلطة معرف ّيــة‬
‫وثقاف ّيــة آرسة عــى حــواس املتلقــي املتعلــم وغــر املتعلــم م ًعــا‪ .‬وهــذه ميــزة نوع ّيــة وكم ّيــة جديــدة تفـ َّردت بهــا‬
‫الصــورة عــن األبجديّــات الســابقة وتعميــم القيــم الفرديّــة أفــكا ًرا وحريّـ َة ُمشــاهد ٍة لحظيـ ٍة مل ّونـ ٍة‪ ،‬عــى العكــس‬
‫ـث‬‫ـس الحاجــة إىل تحديـ ٍ‬‫مــن طبيعــة األبجديّــة‪/‬ات ذات ال َّرســم املحصــور يف الناطقــن بهــا فقــط‪ ،‬لــذا أصبحــت بأ َمـ ّ‬
‫عميــقٍ لبنيتهــا ووظائفهــا‪.‬‬

‫* أستاذ علم االجتامع‪ -‬جامعة مؤتة‬


‫‪drhmahadeen@yahoo.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬املفتتح‬ ‫‪5‬‬

‫اإلنرتنت األ ّم الثّانية للعلوم‬


‫تاريخ ًّيــا ُوصفــت الفلســفة بأنَّهــا أُ ّم العلــوم األوىل منــذ انبالجهــا يف العصــور اليونان ّيــة القدميــة؛ أ ّمــا اآلن فبوســعي‬
‫القــول إ َّن شــبكة اإلنرتنــت املعوملــة والتــي اســتندت إىل فلســفة جديــدة هــي األ ّم الثانيــة للعلــوم عـ ْـر توظيفهــا‬
‫لنظريّــة الحداثــة ومــا بعدهــا‪ :‬شــعب ّي ًة واقتصــا ًدا؛ لــذا نالحــظ بوضــوح تــام أ َّن ثقافــة الصــورة كتنظيــم فكــري‬
‫وبــري مبــارش قــد تف ـ َّرد عـ ّـا ســبقه مــن أدوات التواصــل كونــه قامئًــا عــى مشــاعيّة التــداول ح ـ ّد اإلدمــان؛ لــذا‬
‫أخــذت ثقافــة الصــورة يف تس ـ ُّيد املشــهد واالهتــام الثقــايف البــري العابــر للجغرافيــا واملعتقــدات واألبجديّــات‬
‫ـول لعــام ‪1992‬؛‬ ‫التاريخ ّيــة بعــد انتشــار أدوات التواصــل التقــاين املتــد ِّرج منــذ بدايــة ســبعينات القــرن املــايض وصـ ً‬
‫والصــورة ترابطًــا مــع ظهــور كل مــن "الفيــس‬ ‫الصــوت ّ‬ ‫منصــة بــثّ مدمجــة للُّغــة مــع َّ‬
‫وهــو تاريــخ نجــاح إطــاق أ َّول ّ‬
‫بــوك" و"اليوتيــوب" بدايــة األلفيّــة الثالثــة والتــي أضعفــت بدورهــا عالقــة اإلنســان مــع كل مــن‪ :‬املــكان‪ ،‬املــايض‪،‬‬
‫الســلع التــي كانــت ُمع ِّمــرة غــدت اآلن ذات‬ ‫واألفــكار األخالق ّيــة التــي كانــت تؤمــن بالخصوص ّيــة؛ حتــى تلــك ِّ‬
‫اســتعامل مل ـ َّرة واحــدة عمو ًمــا‪.‬‬

‫دكتاتور ّية جديدة‬


‫والســلطات الثقاف ّيــة ممثَّلــة بالعــادات والتقاليــد إرضــا ًء‬
‫تاريخ ًّيــا‪ ،‬كان اإلنســان محكو ًمــا بدكتاتوريّــة بعــض ال ُحـكّام ُّ‬
‫لآلخريــن وللحفــاظ عــى عضويّتــه غــر الطوع ّيــة ضمــن الجامعــة التي يشــرك معهــا يف الجغرافيــا والتاريــخ والعادات‬
‫الخاصــة يف املجتمعــات املحل ّيــة والقوم ّيــة كجــزء مــن امتثالِــه للقيــم الجامع ّيــة عمو ًمــا‪ .‬لكـ َّن اإلنســان املعــارص قــد‬
‫حواســه؛ فال ِّدراســات العلميّــة‬
‫غفــل –باعتقــادي‪ -‬عــن أ َّن الصــورة متــارس عليــه ومعــه أيضً ــا دكتاتوريّــة خاصــة عــى ّ‬
‫حاســة البــر وأ َّن الحــواس األربــع األخــرى تتقاســم‬ ‫تشــر إىل أ َّن اإلنســان يتل ّقــى مــا يقــارب ‪ 80%‬مــن معارفــه عــر ّ‬
‫النســبة املتبقيــة‪.‬‬
‫وعليــه؛ ميكــن لل ُمهتـ ّم فهــم وتحليــل مـ ِّررات صعــود واتِّســاع ســيادة هــذه الدكتاتوريّــة الطوع ّيــة اآلرسة لإلنســان؛‬
‫وهكــذا ميكننــا أيضً ــا معرفــة وتف ُّهــم كيــف أ َّن هنــاك عبقريـ ًة هادفـ ًة وفاعل ًة لــدى مفكِّري وقــادة العلــم واأليدولوجيا‬
‫يف منظومــة العوملــة التــي عملــت عــى إعــادة تشــكيل وتبع ّيــة الثقافــات األخــرى لتب ّنــي اللغــة اإلنجليزيــة املحمولــة‬
‫بالتكنولوجيــا يف مجتمعــات الهامــش العوملــي مــع فكرهــا الغالــب ومنوذجهــا الحيــايت واالســتهاليك املظهــري امل ُقلَّــد‬
‫حال ًّيــا مــن ِق َبلِنــا كمغلوبــن حضاريًّــا و"تقان ًّيــا" لــدول املركــز الغــريب الغالــب كــا يــرى العالمــة ابــن خلــدون؛ إذ‬
‫نجحــت ثقافــة الصــورة يف نقــل اإلنســان مــن كاتــب وقــارئ فاعــل لــه لغتــه الخاصــة إىل ُمشــاهد أســر ميتــاز‬
‫ـس ال ّناقــد لديــه ج ـ ّراء ســطوة "ثقافــة الصــورة" املتســارعة التغـ ُّـر‬ ‫بالكســل املعــريف‪ ،‬فعملــت عــى إضعــاف ِ‬
‫الحـ ّ‬
‫لتجســد الصــورة‬ ‫مبحتــوى وأهــداف غــر محايــدة مــن ِق َبــل صانعهــا ومص ِّدريهــا لنــا عــر أدوات التواصــل االجتامعــي‪ِّ ،‬‬
‫نو ًعــا مــن اإلغــواء واإلدمــان لل ُمشــاهد ليــارس مــا يُعــرف بـ"امل ُحــاكاة" و"التقليــد لِــا شــاهد"؛ إذ ســيقوم امل ُتلقــي‬
‫باســتدعاء وتقليــد مــا شــاهد ُه مــن َمشــاهد آرسة لــه الح ًقــا‪ ،‬ســواء أكانــت مشــاهد عنــف أو حــب‪ ،‬والتــي خ َّزنهــا يف‬
‫ذاكرتــه ذات املــدى الطويــل؛ وأمــام هــذه الدكتاتوريّــة البرصيّــة مــاذا نحــن فاعلــون؟‬
‫فيلسوف‬
‫الان ْتباه‪:‬‬
‫"قراءات في‬
‫ٌ‬
‫تجربة ِ الكاتب‬
‫خيري منصور"‬

‫د‪ .‬خلــدون امنيعــم ‪ /‬محمــود الرميــاوي ‪/‬‬


‫فخــري صالــح ‪ /‬نضــال برقــان ‪ /‬حســن نشــوان ‪/‬‬
‫محمــد العامــري ‪ /‬أحمــد الالونــدي‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪7‬‬

‫مقدمة امللف‬
‫فيلسوف االنْتباه‬
‫اءات يف تجرب ِة الكاتب خريي منصور"‬
‫"قر ٌ‬
‫(‪)1945-2018‬‬
‫ويف رؤيتــه النقديــة والثقافيــة‪ ،‬فقــد تل ّبــس االنتبــاه‬ ‫تُشــكِّل تجربــة الكاتــب خــري منصــور‪ ،‬ذات التنــ ُّوع‬
‫بثاقــب نظــره‪ ،‬ابتــدا ًء بـ"الكــف واملخــرز" (‪ ،)1980‬ث ـ ّم‬ ‫األجنــايس يف بنيتهــا وأشــكالها ومســاربها وثيامتهــا‪:‬‬
‫"أبــواب ومرايــا‪ :‬مقــاالت يف حداثــة الشــعر" (‪،)1987‬‬ ‫شــع ًرا‪ ،‬ونقـ ًدا‪ ،‬ومقالـةً‪ ،‬وســرةً؛ مرجعيّـ ًة زاخــرة للثقافــة‬
‫و"تجــارب يف القــراءة" (‪ ،)1988‬حتــى كتابــه األبــرز‬ ‫العربيــة املعــارصة‪ ،‬ومد ّونـ ًة راصــدة لتح ُّوالتهــا ُّ‬
‫وتغياتهــا‬
‫واألكــر وعــورة وأهميــة‪" :‬االســترشاق والوعــي الســالب"‬ ‫وتقلّباتهــا‪ ،‬وفلســف ًة نقديّــة عارفــة ملنابتهــا وبنياتهــا‬
‫(‪)2000‬؛ ويف معراجــه األريض‪ ،‬كان للســرة وقفاتهــا‬ ‫وطرائــق تشـكّلها ومآالتهــا‪ ،‬إ ْذ امتثلــت التجربــة لطبائــع‬
‫املتأنيــة واملتأملــة واملضيئــة بعمــق‪ ،‬وهــي‪" :‬صبــي‬ ‫املــراس واملــران والصقــل والصهــر عــى مــدى عقــود‬
‫األرسار" (‪ ،)1993‬و"العصــا والنــاي" (‪ ،)2009‬و"ثنائيــة‬ ‫متواليــة مــن شــهوة الق ـراءة ولذاذاتهــا وقلــق الكتابــة‬
‫الحيــاة والكتابــة" (‪ ،)2014‬و"ســرة خاطفــة" (‪،)2014‬‬ ‫وعذاباتهــا‪ ،‬لتتخلّــق يف جغرافيــا محكومــة مبنــاخ االنتباه‪.‬‬
‫و"الجغرافيــا الحزينــة‪ :‬نصــوص يف نوســتالجيا األمكنــة"‬ ‫درســا يف‬ ‫وكانــت بلدتــه ديــر غصــون قــرب طولكــرم ً‬
‫(‪)2021‬؛ تلــك املعــارج التــي كان ملقالتــه الراســخة‬ ‫جغرافيــا امل َ ْنبَــت امل َفتــوح عــى نضــارة الدنيــا وشــقوتها‪:‬‬
‫فضــل بنــاء فضاءاتهــا وعواملهــا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والجذريّــة‬ ‫ـدي‪ ،‬ترتحــل معــه عــى قلــقٍ‬‫فردوســه األ َّول وجرحــه األبـ ّ‬
‫إنــه‪ ،‬خــري منصــور‪ ،‬كاتــب املقالــة األكــر بالغــة‬ ‫وعــان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كأ ّن ال ّريــح تحتهــا‪ ،‬إىل القاهــرة‪ ،‬وبغــداد‪،‬‬
‫وشــهرة ومقروئ ّيــة يف العــامل العــريب‪ ،‬تلــك التــي شـكّلت‬ ‫لتتخلّــل بنداوتهــا مفاصــل األمكنــة‪ ،‬وتعيــد تشــكيل‬
‫ـمول لروحــه الجامــح‪،‬‬ ‫الفضــاء الرحــب واألكــر ســعة وشـ ً‬ ‫صورتهــا وصوتهــا يف صــور شــعريّة ورسديّــة باذخــة‪،‬‬
‫يف رسديــات كاشــفة ومنقبــة تنبنــي يف فلســفتها عــى‬ ‫وتكتنــز زمنهــا يف رصيــده املعــريف والثقــايف والحيــايت‪.‬‬
‫الحفــر املعــريف‪ ،‬وتتوســل النــر أداة‪ ،‬لك ّنــه النــر الــذي‬ ‫إ ّن ســرته الحياتيــة واملعرفيــة مــا تفتــأ تكشــف عــن‬
‫يســتعري الشــعر يف كل تجلياتــه‪ :‬لغــةً‪ ،‬وفكــرةً‪ ،‬إنهــا‬ ‫رساتــه‪ ،‬فــكان‬ ‫فلــكل معــراج أنــوا ُره وم ّ‬ ‫ّ‬ ‫معارجهــا‪،‬‬
‫رسديــة شــاعر الفكــرة‪ :‬معنــى ومبنــى‪ ،‬ولــه يف ثنائيّــة‬ ‫معراجــه األ ّول الشــعر‪ ،‬راقيًــا فيــه ســاواته مــن خــال‬
‫الشــعر والنــر تشــبيه بليــغ وطريــف‪ ،‬حيــث يقــول يف‬ ‫مجموعاتــه الشــعريّة الســبعة‪" :‬ظــال" (‪،)1978‬‬
‫إحــدى أمســياته الشــعرية‪" :‬إننــي يف كتابتــي النرثيــة‬ ‫و"غــزالن الــدم" (‪ ،)1981‬و"ال مــرايث للنائــم الجميــل"‬
‫املنتظمــة واســتمراري يف الشــعر‪ ،‬دامئًــا مــا يخطــر ببــايل‬ ‫(‪ ،)1983‬و"التيــه وخنجــر يــرق البــاد" (‪،)1987‬‬
‫ذلــك القــارب البــدايئ‪ ،‬الــذي يســر مبجذافــن‪ :‬أحدهــا‪،‬‬ ‫و"الكتابــة بالقدمــن" (‪ ،)1992‬و"نعــاس أزيل" (‪،)2014‬‬
‫ولنقــل‪ :‬األميــن‪ ،‬يقــرف الشــعر؛ والكتابــة األخــرى باليــد‬ ‫و"ثرثــرة بيضــاء" (‪.)2014‬‬
‫‪8‬‬

‫ويكشــف الشــاعر والفنــان التشــكييل حســن نشــوان‬ ‫أي تعــارض بينهــا"‪.‬‬ ‫اليــرى‪ ،‬فــا أرى إطالقًــا ّ‬
‫عــن منــازالت خــري منصــور الثقافيــة‪ ،‬فهــو "املثقــف‬ ‫ويف هــذا امللــف‪ ،‬تهــدف أرسة مجلــة "أفــكار"‪ ،‬كعادتهــا‬
‫العضــوي الــذي يحلّــق وراء الفكــرة الذهنيــة‪ ،‬يالمــس‬ ‫يف تكريــم الكتّــاب العــرب‪ ،‬إىل تســليط الضــوء يف أبــرز‬
‫تـراب املعنــى؛ لريتقــي إىل فضــاء الداللــة منطل ًقــا مــن أ َّن‬ ‫والســريّة‬
‫معــامل تجربتــه الشــعرية والنقديــة والثقافيــة ّ‬
‫الكلمــة متثــل فعـ ًـا معرف ًّيــا وتنويريًّــا‪ ،‬لــرى األ ّمــة عــى‬ ‫والصحفيــة والحيات ّيــة‪ ،‬باســتضافة نخبــة مــن الكتــاب‬ ‫ّ‬
‫صورتــه التــي هــي صــورة متعــددة وجامحــة ال تقبــل‬ ‫الذيــن يقاربــون هــذه التجربــة بعــن الناظــر الخبــر‪،‬‬
‫الركــون"‪ ،‬يف شــهادته "خــري منصــور‪ :‬قلــق املتع ـ ِّدد"؛‬ ‫حيــث يــرى الصحفــي محمــود الرميــاوي أ َّن الثابــت‬
‫وبلغــة تتلّبــس املفارقــة‪ ،‬يصــف الشــاعر والفنــان‬ ‫والجوهــري ملقــاالت خــري منصــور يف الصحافــة العرب ّية‬
‫التشــكييل محمــد العامــري صديقــه وفــق رؤيتــه‬ ‫انشــغالها "بالنظــرة الكليــة ومناقشــة املفاهيــم واألطــر‬
‫للمشــهد الثقــايف العــريب بأنّــه‪" :‬شــذوذ ثقــايف يحتــاج إىل‬ ‫العقليــة‪ ،‬والتطــ ُّرق إىل القضايــا املحوريــة‪ ،‬وتفــادى يف‬
‫فقيــه شــاذ يــوازي ذلــك الشــذوذ يف األســئلة الخشــنة‪،‬‬ ‫الوقــت ذاتــه االشــتباك مــع الوقائــع اليوم ّيــة والتّطــورات‬
‫وهــو املبضــع الــذي يذهــب مبــارشة إىل الــورم الثقــايف‬ ‫امللموســة"‪ ،‬يف مقالتــه "خــري منصــور‪ :‬نجـ ًـا أدب ًيــا يف‬
‫يك يبقــر عينــه"‪ ،‬وذلــك يف شــهادته "خــري منصــور‪:‬‬ ‫الصحافــة"؛ ويف رؤيتــه ملرشوعــه الكتــايب‪ ،‬يؤكــد الناقــد‬
‫الصقــر الــذي تــرك ريشــه يف األعــايل"‪ ،‬ويسـلّط الشــاعر‬ ‫األســتاذ فخــري صالــح أنــه "شــاعر موهــوب‪ ،‬وناقــد‬
‫أحمــد الالونــدي الضــوء عــى مفاصــل حــادة يف ســرته‬ ‫حصيــف متمــرس‪ ،‬ومفكــر مشــغول بكيفيــة عمــل‬
‫الذاتيــة‪ ،‬يف شــهادته "خــري منصــور فنجــان قهوتنــا"‪.‬‬ ‫األفــكار وتأثريهــا يف البــر والتاريــخ‪ ،‬كــا أنــه ســائح‬
‫لعـ َّـل لهــذه ال ـ ُّرؤى مجتمعــة أن ترســم للقــارئ صــورة‬ ‫بــن األمكنــة مغــرم باالرتحــال‪ ،‬متحــرك ال يطيــق‬
‫ذهنيّــة للكاتــب خــري منصــور‪ ،‬ومتنحــه يف الوقــت‬ ‫القعــود أو لــزوم األمكنــة" وذلــك يف مقالتــه "تأ ُّمالتــه‬
‫ذاتــه مفاتيــح ق ـراءة تجربتــه برؤي ـ ٍة وعمــقٍ ‪ ،‬لجدارتــه‬ ‫العميقــة تف َّرقــت يف جســوم مقاالتــه الكثــرة‪ :‬خــري‬
‫بــأن يكــون مرشوعــه الشــعري والثقــايف أرضً ــا خصبــة‬ ‫منصــور املتأ ّمــل يف عنفوانــه"؛ أ ّمــا الشــاعر والصحفــي‬
‫لقــراءات نقديّــة جــا ّدة ثقاف ًّيــا وأكادمي ًّيــا وإعالم ًّيــا‪،‬‬ ‫نضــال برقــان‪ ،‬يف رؤيتــه النافــذة ملــروع خــري منصــور‬
‫بوصفــه شــجرة معرفيّــة‪ ،‬جذرهــا يف ديــر غصــون‪،‬‬ ‫الشــعري‪ ،‬فــرى "أ َّن قصيدتــه ظلّــت طازجــة وحــا ّرة‪،‬‬
‫وفروعهــا يف العــامل العــريب أجمــع‪.‬‬ ‫ومختلفــة أيضً ــا‪ ،‬إذ بقيــت قريبــة مــن شــجون النــاس‬
‫وشــؤونهم‪ ،‬وبخاصــة عــى الصعيــد الوطنــي‪ ،‬مــن جانب‪،‬‬
‫كــا بقيــت حريصــة عــى التمســك برشطهــا الفنــي‪،‬‬
‫مســتفيدة مــن املخــزون املعــريف لصاحبهــا‪ ،‬واهتامماتــه‬
‫د‪ .‬خلدون امنيعم‬
‫الكتابيّــة"‪ ،‬يف مقالتــه "خــري منصــور‪ :‬الشــاعر الــذي‬
‫وهــب جناحيــه لغــر القصيــدة"‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪9‬‬

‫الصحافة‬
‫نجم أدب ًّيا يف ّ‬
‫خريي منصور ً‬
‫محمود الرمياوي*‬

‫يقــع املتف ِّحــص ملقــاالت خــري منصــور عــى ملمــح رئيــس لهــا يتمثَّــل يف النزعــة النقديّــة التــي تنبــض بهــا‪ ،‬وتؤطّرها‪،‬‬
‫أ ّمــا امللمــح الثــاين والــذي يســم مئــات املقــاالت للكاتــب‪ ،‬فيتبـ ّدى يف االحتفــاء بالتباشــر النهضويّــة يف النصــف األ ّول‬
‫للقــرن العرشيــن ويف النقــاط املضيئــة مــن تراثنــا‪ .‬ويتَّصــل مبــا ســبق ملمــح ثالــث وهــو اإلحالــة شــبه الدامئــة إىل‬
‫مرجعيّــات ثقافيّــة يف الــرق والغــرب مبــا ال حــر لهــم مــن ر ّواد وكُتّــاب ون ّقــاد بارزيــن يف حقــول األدب واإلبــداع‬
‫والفكــر‪ .‬وجملــة القــول هنــا إ َّن خــري منصــور نجــح يف تكريــس صورتــه ومنوذجــه‪ :‬أدي ًبــا موهوبًــا ومتدف ًقــا‪ ،‬يكتــب‬
‫يف الصحافــة اليوم ّيــة عــى طريقتــه األدب ّيــة ووفــق ذائقتــه الجامل ّيــة املرهفــة‪ ،‬مــن غــر أن يتأثــر أدىن تأثُّــر بتقنيــات‬
‫الصحافــة وأســاليبها وآلياتهــا‪.‬‬

‫لكنــه مل ي ُكــن يواظــب عــى الكتابــة بصفــة منتظمــة‪ ،‬وذلــك‬ ‫مل يكــن الشــاعر والكاتــب خــري منصــور أ َّول َمــن كتــب من‬
‫النشــغاالته اإلداريــة واملهنيــة األخــرى‪ .‬ولعـ َّـل خــري منصــور‬ ‫األدبــاء يف الصحافــة األردنيــة‪ ،‬فقــد تعاقــب الع ـرات مــن‬
‫نفســه قــد اكتشــف هــذه ال َملَكــة لديــه يف الكتابــة الغزيــرة‬ ‫أدبــاء األردن عــى الكتابــة يف الصحــف السـ ّيارة منــذ بدايات‬
‫املتصلــة؛ فاســتجاب لهــا وطــ ّوع لهــا قلمــه‪ ،‬وأخلــص لهــا‬ ‫نشــوء هــذه الصحافــة يف عرشينــات القــرن العرشيــن‪ ،‬بيــد‬
‫إخالصــا تا ًمــا ومنحهــا كامــل طاقتــه الذهنيــة والتعبرييــة‪،‬‬‫ً‬ ‫أنــه كان بــن قلــة قليلــة واظبــت عــى الكتابــة اليوميــة‬
‫إذ كانــت كتاباتــه قبــل ذلــك تقتــر عــى تدبيــج مقــاالت‬ ‫(يف صحيفــة "الدســتور") وتف ّرغــت للكتابــة يف الصحافــة‬
‫متفرقــة يف األدب ت ُنــر يف مجــات أدبيــة أو مالحــق ثقافيــة‬ ‫وات ّخذتهــا مهنــة لهــا وذلــك منــذ مطلــع التســعينات حتــى‬
‫خــال إقامتــه املديــدة يف عقــدي الســبعينات والثامنينــات‬ ‫رحيلــه يــوم ‪ 18‬أيلــول‪ /‬ســبتمرب ‪ 2018‬عــن ‪ 73‬عا ًمــا‪ .‬ولعلــه‬
‫يف العـراق‪ ،‬هــذا عــاوة عــى كتابتــه الشــعر‪ ،‬غــر أنــه أصبــح‬ ‫كان الكاتــب الوحيــد الــذي حظيــت مقالتــه اليوم ّيــة ضمــن‬
‫مقـ ًّـا يف كتابتــه للشــعر عقــب اســتغراقه يف الكتابــة اليوميّــة‪،‬‬ ‫زاويــة "خاطــرة " بالنــر عــى الصفحــة األوىل؛ إ ْذ جــرت‬
‫رسبــت طاقتــه اإلبداعيــة الشــعرية عــر مقاالتــه (كان يف‬ ‫إذ ت ّ‬ ‫ســنن الصحافــة اليوم ّيــة املحل ّيــة آنــذاك عــى نــر مقــال‬
‫واقــع األمــر يكتــب إىل جانــب املقــال اليومــي يف "الدســتور"‬ ‫وحيــد عــى الصفحــة األوىل هــو رأي الصحيفة يف مســتج ّدات‬
‫ـال يوم ًّيــا آخــر يف "الخليــج" اإلماراتيــة‪ ،‬إضافــة‬
‫األردنيــة‪ ،‬مقـ ً‬ ‫األحــداث والتطـ ُّورات ذات األهم ّيــة‪ ،‬فيــا احتلّــت مقــاالت‬
‫إىل مقــال أســبوعي يف "القــدس العــريب"‪ ،‬وكتــب لبعــض‬ ‫ال ُكتّــاب واألدبــاء الصفحــات الداخليّــة والصفحــة األخــرة‪.‬‬
‫الوقــت مقــاالت أســبوع ّية يف "األهــرام" املرصيــة ويف‬ ‫بذلــك‪ ،‬كان خــري منصــور هــو االســتثناء بعــد أن "اكتشــفه"‬
‫"الوطــن" القطريــة) ومــن دون أن يعمــد إىل نــر املقــال‬ ‫ـس تحريــر "الدســتور"‬ ‫بصفتــه كات ًبــا موهوبًــا ومتم ِّر ًســا‪ ،‬رئيـ ُ‬
‫نفســه بصــورة متزامنــة يف أكــر مــن صحيفــة ومنــر‪ ،‬كــا‬ ‫حينــذاك محمــود الرشيــف‪ ،‬وهــو بــدوره كاتــب مثقــف‬

‫* قاص وروايئ أردين‬


‫‪mdrimawi@gmail.com‬‬
‫‪10‬‬

‫ويف محاولــة لتفســر ذلــك املنحــى الــذي يبــدو عــى قــدر‬


‫مــن التناقــض‪ ،‬فإنــه يجــدر القــول إ َّن خــري منصــور قــد‬
‫اســتلهم بعضً ــا مــن جوانــب الســرة الثقاف ّيــة واملهن ّيــة‬
‫ألدبــاء عــرب يف دول املــرق يف القــرن العرشيــن م َّمــن‬
‫أم ـ ّدوا الصحــف (واملجــات) بكتاباتهــم مــع بقائهــم خــارج‬
‫مهنــة الصحافــة‪ ،‬ومــن دون أن تجذبهــم "مهنــة املتاعــب"‬
‫إىل صفــوف العاملــن بهــا‪ .‬وقــد ســعى إىل تنكّــب هــذه‬
‫الطريــق‪ ،‬ضانًّــا بنفســه مــن االنغــار يف مهنــة طاحنــة قــد‬
‫تب ـ ّدد ملكاتــه اإلبداعيــة والثقافيــة تحــت وطــأة االنهــاك‬
‫ـدل عــى ذلــك أ َّن هــذا‬ ‫مبتابعــة أحــداث وشــؤون يوم ّيــة‪ .‬ويـ ّ‬
‫الكاتــب املم َّيــز قــد احتفــظ بأدواتــه التعبرييّــة األدب ّيــة يف‬
‫كتابــة مقاالتــه‪ ،‬ونــأى بنفســه عــن اســتخدام لغــة الصحافــة‬
‫التــي تخاطــب جمهــو ًرا عريضً ــا مــن القارئــن متعــ ِّددي‬
‫املســتويات الثقافيــة والتعليميــة‪ ..‬وذلــك خالفًــا لجمهــرة‬
‫مــن أدبــاء أردنيــن وعــرب مل يتوانــوا عــن اللُّجــوء إىل‬
‫يلجــأ إىل ذلــك بعــض الكتــاب الصحفيــن العــرب‪ ،‬إذ كان‬
‫األســاليب الصحفيــة مبــا تشــتمل عليــه مــن مبــارشة ودقــة‬
‫خاصــا بــكل صحيفــة‪.‬‬
‫ـال ًّ‬
‫يكتــب مقـ ً‬
‫ـكل‬ ‫ووضــوح ولغــة تواصليّــة‪ ،‬وذلــك اســتنا ًدا إىل مقولــة "لـ ِّ‬
‫ـام مقــال" عــاوة عــى تنــاول املســتج ّدات والتط ـ ُّورات‬ ‫مقـ ٍ‬
‫وعــى ال ّرغــم مــن أنــه ات َّخــذ مــن الصحــف اليوميــة من ـ ًرا‬
‫اليوميــة (محل ّيــة كانــت أو عربيــة أو دوليــة) بالعــرض‬
‫رئيســا‪ ،‬بــل منـ ًرا أ َّو ًل ملقاالتــه‪ ،‬إلّ أنــه تفــادى تقديــم نفســه‬
‫ً‬
‫والتحليــل والتعليــق آخذيــن يف االعتبــار مخاطبــة قــارئ‬
‫وتعريــف شــخصه عــى أنــه "كاتــب صحفــي" (وذلــك خــال‬
‫متخصــص‪ ،‬لكنــه شــغوف بالق ـراءة واملتابعــة‬ ‫ِّ‬ ‫"عــادي" غــر‬
‫نــدوات وملتقيــات ومؤمت ـرات شــارك بهــا يف غــر عاصمــة‬
‫والوقــوف عــى شــتى اآلراء "الناضجــة"‪ّ .‬إل أ َّن خــري منصــور‬
‫عربيّــة)‪ ،‬وهــي صفــة يكتســبها عــادة َمــن يكتبــون بانتظــام‬
‫ارتــأى لنفســه االحتفــاظ مبســاره الكتــايب الخــاص‪ ،‬فلــم‬
‫يف هــذه املنابــر‪ .‬إ ْذ كان يحــرص عــى تعريــف نفســه بصفتــه‬
‫ينشــغل يف مقاالتــه بتنــاول آخــر األخبــار والتط ـ ُّورات هنــا‬
‫كات ًبــا أو أدي ًبــا أو شــاع ًرا‪ ،‬ومــن دون نســب هويّتــه الكتاب ّيــة‬
‫وهنــاك‪ ،‬وهــذه خصيصــة تــازم َمــن يواظبــون عــى الكتابــة‬
‫ومنصتــه‬
‫إىل عــامل الصحافــة‪ ،‬مــع أ َّن الصحافــة هــي منــره ّ‬
‫للصحــف‪ ،‬وذلــك إلدراكــه أ َّن كــرة مــن الكاتبــن يندفعــون‬ ‫ُّ‬
‫وملعبــه‪ .‬فقــد وفــد خــري إىل الصحافــة مــن عــامل األدب‬
‫بحكــم طبيعــة املهنــة وســطوة "العــادات" الصحف ّيــة إىل‬
‫والكتابــة اإلبداع ّيــة وبدرجــة أقـ ّـل النقــد األديب‪ ،‬وحــرص عىل‬
‫التعليــق عــى األحــداث‪ ،‬ومل يكــن يــو ّد أن يُحــر معهــم‪،‬‬
‫املكــوث يف هــذه الدائــرة واالنتســاب اليهــا دون ســواها‪،‬‬
‫فضــا‬
‫ً‬ ‫تنافســا معهــم عــى هــذه األرضيّــة‪،‬‬ ‫أو أن يخــوض ً‬
‫عــى الرغــم مــن انقطاعــه إىل الكتابــة يف الصحــف‪ ،‬وات ِّخــاذه‬
‫عــن أنــه ال يتوافــر عــى هــذا امليــل أو النزعــة‪ ..‬فلــم تكــن‬
‫مــن هــذه الكتابــة مهنــة وحيــدة تفـ َّرغ لهــا‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪11‬‬

‫األمــور أن يقــع تقــد ٌم مــا يف مجــال مــن املجــاالت‪ ،‬فيــا‬ ‫ـدل مــن االنغــاس يف متابعــة‬ ‫لديــه "غريــزة" الصحفــي‪ ،‬وبـ ً‬
‫ينــرف جهــده ويرتكّــز اهتاممــه عــى مواطــن القصــور‬ ‫املســتج ّدات‪ ،‬أو اللهــاث وراء آخــر األخبــار‪ ،‬فقــد ُعنــي‬
‫وجوانــب التخلــف ومواضــع الفــوات‪ ،‬وهــي وافــرة وج ّمــة‬ ‫خــري منصــور بالتطـ ُّرق إىل القضايــا الكبــرة‪ ،‬ذات االنعكاس‬
‫بــل تالبــس واقعنــا العــريب املــأزوم‪ ،‬مــع إحــاالت إىل حقبــة‬ ‫عــى مناحــي الحيــاة املختلفــة مبــا فيهــا الحيــاة السياســية‬
‫تح ُّرريــة تزخــر باإلنجــازات عــى صعيــد السياســة والفكــر‬ ‫والعامــة‪ .‬وذلــك عــى شــاكلة التحديــق يف مشــكالت التخلف‬
‫والثقافــة‪ ،‬شــهدها عقــدا الخمســينات والســتينات وحتــى‬ ‫االقتصــادي واالجتامعــي والثقــايف‪ ،‬والعمــل عــى تحليــل‬
‫هزميــة العــام ‪ 1967‬وجــاءت متســاوقة مــع مــ ّد عاملــي‪،‬‬ ‫جوانبهــا‪ ،‬والتبع ّيــة للغــرب‪ ،‬واالرتهــان إىل املــايض‪ ،‬والهزائــم‬
‫فيــا تحفــل العقــود الالحقــة مبظاهــر شــتى مــن النكــوص‬ ‫العســكرية والسياســية‪ ،‬والحــط مــن قــدر النســاء‪ ،‬والنزعــة‬
‫والرتاجــع وإدمــان الهزائــم وتفريــغ الحيــاة مــن املعنــى‪.‬‬ ‫االســتهالك ّية املحمومــة‪ ،‬والحداثــة الشــكل ّية‪ ،‬واالســتخذاء‬
‫أمــام األعــداء التاريخيــن‪ ،‬وتســليع الثقافــة وتجويفهــا‪،‬‬
‫أ ّمــا امللمــح الثــاين والــذي يســم مئــات املقــاالت للكاتــب‪،‬‬ ‫وافتقــاد الفاعلــن النقديــن يف مياديــن الفكــر والثقافــة‪،‬‬
‫فيتب ـ ّدى يف االحتفــاء بالتباشــر النهضويّــة يف النصــف األول‬ ‫وانحســار األحــام واألشــواق القوم ّيــة‪ ،‬واختــاط عــامل‬
‫للقــرن العرشيــن ويف النقــاط املضيئــة مــن تراثنــا‪ ،‬والدعــوة‬ ‫الثقافــة كــا عــامل اإلعــام بدينام ّيــات "البزنــس" والعالقــات‬
‫العتنــاق فكــر نهضــوي يحــرر طاقــات األف ـراد والجامعــات‬ ‫العامــة وأحابيلهــا‪ ،‬والتنميــة العرجــاء‪ ،‬وســواها مــن قضايــا‬
‫والشــعوب‪ ،‬ويالقــي ركــب التقــ ُّدم يف العــامل ويتفاعــل‬ ‫ذات صلــة بهــذه‪.‬‬
‫معــه ويضيــف إليــه‪ ،‬ولهــذا تحفــل بعــض مقــاالت خــري‬
‫منصــور باســتذكار ماُثــورات عــن نهضويــن أمثــال املتنبــي‬ ‫ومــع أ َّن حش ـ ًدا مــن الكتّــاب العــرب مــا انفكــوا يف مــرق‬
‫وأيب العــاء املعــري وأحمــد شــوقي وبــدر شــاكر الســياب‬ ‫العــامل الغــريب ومغربــه‪ ،‬يتناولــون مثــل هــذه القضايــا‬
‫وطــه حســن وســامة مــوىس وحســن مــر ّوة وعبدالوهــاب‬ ‫بصــورة منتظمــة‪ ،‬إال أ َّن الكاتــب خــري منصــور ينجــح يف‬
‫البيــايت ومطــاع صفــدي وســواهم‪ .‬وتــرز يف هــذه الكتابــات‬ ‫بــثّ الــروح يف قضايــا مطروقــة‪ ،‬عــر أســلوب أديب مــرق‬
‫مشــاعر الصدمــة إزاء الحداثــة املعطوبــة والنهضــة املوقوفــة‪،‬‬ ‫ورشــيق يجمــع بــن الجزالــة واملتانــة البالغ ّيــة‪ ،‬وبــن روح‬
‫مــع ترشيــح ملظاهــر الزيــف واســتبطان التخلــف والتالعــب‬ ‫الســخرية الالذعــة والتهكُّــم الــذيكّ‪ ،‬مبــا يلبّــي الحاجــة‬
‫بالعقــول‪.‬‬ ‫الجامل ّيــة لقارئــه‪ ،‬جن ًبــا إىل جنــب مــع مخاطبــة النزعــة‬
‫الناقمــة وتزكيتهــا لــدى هــذا القــارئ الــذي يجــد يف تلــك‬
‫ويتصــل مبــا ســبق ملمــح ثالــث وهــو اإلحالــة شــبه الدامئــة‬ ‫متنفســا لــه وتعبــ ًرا عــن ذات نفســه املتطلبــة‬
‫ً‬ ‫املقــاالت‬
‫إىل مرجعيّــات ثقافيّــة يف الــرق والغــرب مبــا ال حــر لهــم‬ ‫والتائقــة إىل التغيــر‪ .‬وبهــذا يقــع املتفحــص ملقــاالت خــري‬
‫مــن ر ّواد وكُتّــاب ون ّقــاد بارزيــن يف حقــول األدب واإلبــداع‬ ‫منصــور عــى ملمــح رئيــس لهــا يتمثــل يف النزعــة النقديّــة‬
‫والفكــر‪ .‬إ َّن أســاء مثــل "جــان بــول ســارتر" أو "جــورج‬ ‫التــي تنبــض بهــا‪ ،‬وتؤطّرهــا‪ ،‬فالكاتــب غــر معنــي بنجاحــات‬
‫لــوكاش" أو "أرنســت فيــر" أو "يفجينــي يفتوشــكو" أو‬ ‫أو إنجــازات هنــا وهنــاك؛ إذ مــن طبيعــة األشــياء ومنطــق‬
‫‪12‬‬

‫خريي منصور‬

‫مبأســاة اجتامعيــة مح ـ ّددة‪ ،‬أو حتــى بتغيــر واقــع يف بلــد‬ ‫"غارثيــا ماركيــز" و"أرنســت همنغــواي" و"آرثــر رامبــو"‬
‫عــريب محــدد (مل ينشــعل عــى ســبيل املثــال مبوجــة الربيــع‬ ‫و"ســيمون دي بوفــوار" و"بودلــر" و"هــري ملفيــل"‬
‫العــريب عــى الرغــم مــن أهميتهــا االســتثنائية إال بصــورة‬ ‫و"رسفانتــس" و"ألبــر كامــو" و"جــان جينيــه"‪ ،‬تــر َّدد جن ًبــا‬
‫عرضيّــة وجانبيّــة) كــا مل يتنــاول وقائــع ثقافيّــة محــ ّددة‬ ‫إىل جنــب مــع املتنبــي وأيب متــام والحــاج ومحمــود درويــش‬
‫مثــل واقــع االتحــاد العــام للكتــاب واألدبــاء العــرب وذلــك‬ ‫وصــاح عبدالصبــور ونجيــب محفــوظ وغائــب طعمــة‬
‫عــى ســبيل املثــال‪ ،‬وكــا حــرص عــى االبتعــاد عــن صفــة‬ ‫فرمــان ويوســف إدريــس‪ .‬ويحــرص الكاتــب عــى اإلتيــان‬
‫الكاتــب الصحفــي‪ ،‬عــى الرغــم مــن كتابتــه بالصحــف‬ ‫عــى ذكــر هــؤالء وســواهم ومأثوراتهــم لــدى التط ـ ُّرق إىل‬
‫كذلــك فقــد نــأى بنفســه عــن دور الكاتــب الســيايس‪،‬‬ ‫قضايــا عامــة‪ ،‬وذلــك إلميانــه بالتغيــر الثقــايف الــذي ال ب ـ ّد‬
‫متج ّنبًــا الخــوض املبــارش يف املســائل السياســية رغــم‬ ‫أن مي ِّهــد ويواكــب كل تغيــر يف مناحــي الحيــاة‪ ،‬واملقصــود‬
‫انشــغاله بالقضايــا العامــة ذات الصلــة الوثيقــة بالحيــاة‬ ‫تغيــر النظــرة إىل الحيــاة للخــروج مــن منط ّيــة ال ّرتابــة‪،‬‬
‫السياســية‪ ،‬وقلّــا تنــاول كتابًــا حديــث الصــدور وذا أهم ّيــة‬ ‫وســلب الكينونــة الفرديّــة واالفتئــات عــى حقــوق اإلنســان‬
‫يف عــامل الثقافــة واإلبــداع‪ ،‬مؤثـ ًرا عــى ذلــك االهتــام بكتــب‬ ‫األساســية‪.‬‬
‫ومؤلفــات ســابقة عربيــة أو أجنبيــة ذات دور تأســييس يف‬
‫مشــهد الحداثــة‪.‬‬ ‫وعليــه‪ ،‬فــإ َّن خــري منصــور قــد اجتهــد يف أن يجعــل‬
‫لقــد كان خــري عــى قناعــة أ َّن تحليقــه وال َّنظــر إىل األمــور‬ ‫مقاالتــه تنشــغل بالنظــرة الكليــة ومناقشــة املفاهيــم واألطــر‬
‫مــن فــوق (مبثــل النظــرة مــن طائــرة ذات عل ـ ّو منخفــض)‬ ‫العقليــة والتطــرق إىل القضايــا املحوريــة‪ ،‬وتفــادى يف الوقــت‬
‫الــكل والصــورة العامــة‪،‬‬ ‫تتيــح لــه القبــض عــى املشــهد ّ‬ ‫ذاتــه االشــتباك مــع الوقائــع اليوميــة والتطــورات امللموســة‪،‬‬
‫حتــى لــو فاتتــه وغابــت عــن أنظــاره بعــض التفاصيــل‬ ‫كأن ينشــغل ب ُعســف أصــاب مبد ًعــا عرب ًّيــا يف بلــد مــا‪ ،‬أو‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪13‬‬

‫لصالــح التبســيط واملبــارشة‪ ،‬وتدبيــج تعاليــق قــد تكــون‬ ‫والجزئيّــات التــي يلحظهــا ويلتقطهــا َمــن ميــي عــى قدميــه‬
‫رصينــة أو عــى جانــب مــن الجديّــة والعمــق‪ ،‬لكنهــا ال‬ ‫يف الشــوارع ويعايــن الحيــاة يف حراكهــا اليومــي‪ .‬ولعلــه أراد‬
‫تصمــد أمــام تقلبــات الزمــن وتبــ ُّدل األحــوال إذ تفقــد‬ ‫تــرك تلــك امله ّمــة للكتــاب واملحرريــن واملعلّقــن الصحفيــن‬
‫قيمتهــا مــع انقضــاء ظــروف كتابتهــا‪.‬‬ ‫وللناشــطني يف الحقــل الســيايس والعــام‪.‬‬

‫ولهــذا‪ ،‬حــرص مــن جانبــه غايــة الحــرص عــى ال َّنســق‬ ‫وجملــة القــول هنــا إ َّن خــري منصــور نجــح يف تكريــس‬
‫األديب ملقاالتــه‪ ،‬وأن تكــون هــذه الكتابــات قامئــة بذاتهــا‬ ‫صورتــه ومنوذجــه‪ :‬أدي ًبــا موهوبًــا ومتدفقًــا‪ ،‬يكتــب يف‬
‫وذات خصوصيّــة‪ ،‬ومبنزلــة ضيــف عزيــز ومك ـ َّرم عــى عــامل‬ ‫الصحافــة اليوميــة عــى طريقتــه األدبيــة ووفــق ذائقتــه‬
‫الضــاج باليوميــات ومتابعــة األحــداث العابــرة‬ ‫ّ‬ ‫الصحافــة‬ ‫الجامليــة املرهفــة‪ ،‬مــن غــر أن يتأثــر أدىن تأثــر‪ ،‬بتقنيــات‬
‫علــا أ َّن‬
‫التــي تطــوي بعضهــا بعضً ــا مــع تدافــع األيــام‪ً .‬‬ ‫الصحافــة وأســاليبها وآلياتهــا‪ ،‬ولعلّــه بذلــك كان يســتبطن‬
‫مقاالتــه انقســمت بــن خاطــرة وجدان ّيــة متأملــة ومتف ّكــرة‬ ‫آراء وقناعــات بـ"جنايــة الصحافــة عــى األدب واألدبــاء" (كام‬
‫ذات حجــم قصــر يقــل عــن ‪ 400‬كلمــة كــا يف زاويتــه‬ ‫يف قــول منســوب لعبــاس محمــود العقــاد) إذ تدفعهــم‬
‫اليوميّــة يف "الدســتور"‪ ،‬وبــن مقــاالت أكــر حجـ ًـا تتط ـ ّرق‬ ‫إىل اللهــاث وراء األحــداث وإىل الزهــد يف القــوة التعبرييــة‬
‫عــى الخصــوص إىل قضايــا وشــؤون ثقاف ّيــة وتعتمــد التحليل‬
‫وعــرض الشّ ــواهد واإلطاللــة ال ّرحبــة شــبه البانورام ّيــة‪ ،‬كــا‬
‫يف مقاالتــه يف "القــدس العــريب"‪.‬‬

‫ومــن املثــر لالنتبــاه يف هــذه الخامتــة أنــه إذ يتفــق باحثــون‬


‫ودارســون عــى أ َّن فــ ّن املقالــة بــدأ باالزدهــار يف العــامل‬
‫العــريب يف أواخــر القــرن التاســع عــر مــع الولــوج إىل زمــن‬
‫الطباعــة وبــدء صــدور الصحــف يف مــر والع ـراق ولبنــان‬
‫وســوريا‪ ،‬حيــث ُعنيــت الصحــف بنــر املقــاالت‪ ،‬إىل جانــب‬
‫اختــاط صيغــة األخبــار املنشــورة بــاآلراء والتعليقــات‪ ،‬فــإ َّن‬
‫كتابــات خــري منصــور يف الصحافــة تســتحرض هــذه الوقائع‬
‫ـي أزيــد مــن قــرن عليهــا مــع احتفــاء‬ ‫وتســتأنفها بعــد مـ ّ‬
‫الصحافــة بكتاباتــه؛ إذ وجــدت مقاالتــه ‪-‬وعــن اســتحقاق‪-‬‬
‫موق ًعــا متصــ ّد ًرا يف الصحافــة مــن دون أن تفقــد قيمتهــا‬
‫األدبيّــة أو تنتظــم يف الســياق الصحفــي املعهــود‪ ،‬أو تتنــازل‬
‫عــن معايــر الكتابــة ال ّرصينــة ذات الـ ّرواء الجــايل واإلشــعاع‬
‫املعــريف‪.‬‬
‫‪14‬‬

‫تأ ُّمالته العميقة تف َّرقت يف جسوم مقاالته الكثرية‬


‫خريي منصور املتأ ِّمل يف عنفوانه‬
‫فخري صالح*‬

‫ـب أل َز َمــه العيــش اليومــي بتفريــق تأ ُّمالتــه العميقــة يف جســوم مقاالتــه الكثــرة‪ ،‬فهــو شــاعر‬ ‫خــري منصــور كاتـ ٌ‬
‫واضــح املوهبــة‪ ،‬وناقــد حصيــف متمـ ِّرس‪ ،‬ومفكــر مشــغول بكيف ّيــة عمــل األفــكار وتأثريهــا يف البــر والتاريــخ‪ ،‬كــا‬
‫أنــه ســائح بــن األمكنــة مغــرم باالرتحــال‪ ،‬لكنــه ذهــب باملقالــة الصحف ّيــة اليوم ّيــة إىل عــوامل مل تألفهــا الصحافــة‬
‫أي املقالــة التأ ُّمل ّيــة التــي تعنــى باللغــة والثقافــة والفكــر والبالغــة وجامل ّيــات النــر البــارع‪ ،‬بحيــث‬ ‫العربيــة كثـ ًرا‪ْ ،‬‬
‫غــدت مقالتــه مختلفــة عـ ّـا نقــرأ لغــره‪ ،‬فهــي مقالــة دســمة ينشــغل فيهــا القــارئ ببيــان خــري ال َّرفيــع قبــل أن‬
‫يفطــن إىل مــا تنطــوي عليــه مــن أفــكار وتأ ُّمــات‪ ،‬فقــد عــرف خــري كيــف يشـ ُّد القــارئ ويغـ ّـر ذائقتــه ويرتقــي‬
‫بهــا‪ ،‬ويدفعــه دف ًعــا ه ّي ًنــا رفي ًقــا لــي يبتلــع الحقائــق امل ُـ ّرة التــي تصعقــه كلــا تأ َّمــل العــامل واألحــداث مــن حولــه‪.‬‬

‫وهــو‪ ،‬إضافــة إىل ذلــك‪ ،‬ناقــد أديب وثقــايف ألَّــف عــد ًدا مــن‬ ‫املتأ ِّمــل يف مســرة الصديــق الراحــل خــري منصــور (‪1945-‬‬
‫الكتــب النقديــة واملراجعــات الثقافيــة‪" :‬الكــف واملخــرز"‬ ‫‪ )2018‬األدب ّيــة والثقاف ّيــة ســيجد أنــه مــن طينــة أولئــك‬
‫(‪" ،)1980‬أبــواب ومرايــا‪ :‬مقــاالت يف حداثــة الشــعر"‬ ‫ال ُكتّــاب املوزعــن بــن أشــكال الكتابــة وأنواعهــا‪ ،‬ال يســتق ّر‬
‫(‪" ،)1987‬تجــارب يف القـراءة" (‪" ،)1988‬االســترشاق والوعــي‬ ‫أي شــكل مــن األشــكال‪.‬‬ ‫عــى حــال‪ ،‬وال يعــر عــى نفســه يف ّ‬
‫الســالب" (‪ .)2000‬كــا نــر كتبًــا يف الســرة والســرة‬ ‫فهــو شــاعر واضــح املوهبــة‪ ،‬يف جيــل مــن شــعراء الســتينات‬
‫املتخ ّيلــة‪ ،‬وتأ ُّمــات حــول العالقــة باألمكنــة‪" :‬صبــي األرسار"‬ ‫العــرب الذيــن ج َّربــوا أعطيــات شــكل القصيــدة العرب ّيــة‬
‫(‪" ،)1993‬العصــا والنــاي" (‪" ،)2009‬ثنائيــة الحيــاة والكتابــة"‬ ‫التفعيل ّيــة‪ ،‬بعــد أن بــدأت تحقــق بعــض النضــج يف تجــارب‬
‫(‪" ،)2014‬ســرة خاطفــة" (‪" ،)2014‬الجغرافيــا الحزينــة‪:‬‬ ‫بــدر شــاكر الســياب‪ ،‬وبلنــد الحيــدري‪ ،‬وعبدالوهــاب‬
‫نصــوص يف نوســتالجيا األمكنــة" (‪.)2021‬‬ ‫البيــايت‪ ،‬وأحمــد عبداملعطــي حجــازي‪ ،‬وصــاح عبدالصبــور‪،‬‬
‫ومــن الواضــح يف هــذا املنجــز تــر ُّدد خــري يف اختيــار شــكل‬ ‫وأدونيــس‪ .‬وقــد نــر خــري منصــور عــد ًدا مــن املجموعات‬
‫رئيــس يعـ ِّـر مــن خاللــه عــن تجربتــه‪ ،‬فهــو شــاعر موهــوب‪،‬‬ ‫الشــعرية‪ ،‬التــي تضيــف إىل مــا أنجــزه ذاك الجيــل‪" :‬ظــال"‬
‫وناقــد حصيــف متمــرس‪ ،‬ومفكــر مشــغول بكيفيــة عمــل‬ ‫(‪" ،)1978‬غــزالن الــدم" (‪" ،)1981‬ال مـرايث للنائــم الجميــل"‬
‫األفــكار وتأثريهــا يف البــر والتاريــخ‪ ،‬كــا أنــه ســائح بــن‬ ‫(‪" ،)1983‬التيــه وخنجــر يــرق البــاد" (‪" ،)1987‬الكتابــة‬
‫األمكنــة مغــرم باالرتحــال‪ ،‬متحــرك ال يطيــق القعــود أو لــزوم‬ ‫بالقدمــن" (‪" ،)1992‬نعــاس أزيل" (‪" ،)2014‬ثرثــرة بيضــاء"‬
‫األمكنــة‪.‬‬ ‫(‪.)2014‬‬

‫* ناقد أردين‬
‫‪fakhri1957@hotmail.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪15‬‬

‫خريي منصور‬

‫والقــارئ املدقــق الحصيــف‪ ،‬واملتأمــل الواســع الخيــال‬ ‫لكـ َّن شــكل الكتابــة الــذي بــرع فيــه خــري منصــور‪ ،‬وصــار‬
‫والبــارع يف ربــط األحــداث والنصــوص والتأويــات التــي ال‬ ‫عالمــة لــه وعليــه‪ ،‬هــو املقالــة‪ ،‬الطويلــة أو القصــرة؛‬
‫تخطــر عــى بــال كثــر مــن كتــاب املقــاالت غــره‪ .‬فقــد‬ ‫املتمهلــة أو الخاطفــة التــي تصــل إىل مبتغاهــا يف بضــع‬
‫جــاء إىل الصحافــة مــن عــامل األدب‪ ،‬مــن الشــعر والنقــد‬ ‫كلــات؛ السياســية‪ ،‬أو األدبيــة أو الثقافيــة أو الفكريــة؛‬
‫والدراســة األدبيــة‪ ،‬مــا جعلــه‪ ،‬وهــو كاتــب العمــود الصحــايف‬ ‫التأمليــة أو البحثيــة‪ ،‬بحيــث تســابقت الصحــف واملواقــع‬
‫الــذي يدبــج كل يــوم مقالتــن أو ثالث ًــا‪ ،‬يذهــب باملقالــة‬ ‫الســتكتابه‪ .‬فمقالتــه المعــة‪ ،‬مميــزة‪ ،‬الفتــة‪ ،‬فيهــا مــن جــال‬
‫الصحفيــة اليوميــة إىل عــوامل مل تألفهــا الصحافــة العربيــة‬ ‫األســلوب واألملع ّيــة بقــدر مــا فيهــا مــن دقــة يف الفكــر‬
‫كثــ ًرا‪ ،‬أي املقالــة التأمليّــة التــي تعنــى باللغــة والثقافــة‬ ‫وحذاقــة يف التأ ُّمــل‪.‬‬
‫والفكــر والبالغــة وجامليــات النــر البــارع الــذي يخطــف‬ ‫ومــع ذلــك‪ ،‬فلرمبــا كانــت الصحافــة محنــ ًة لــو أ َّن خــري‬
‫االنتبــاه‪ ،‬بحيــث غــدت مقالتــه اليوميــة‪ ،‬أو األســبوعية‪ ،‬التــي‬ ‫منصــور مل يكــن ذلــك املثقــف الكبــر الواســع املعرفــة‪،‬‬
‫‪16‬‬

‫الكامــن وراء كــرة عودتــه إىل كتابــات "جــان بــول ســارتر"‬ ‫يطالعنــا بهــا يف صحــف "الدســتور" و"الخليــج" و"القــدس‬
‫و"ألبــر كامــي"‪ ،‬وروايــة "رباعيــة اإلســكندرية" لـ"لورنــس‬ ‫العــريب"‪ ،‬مختلفــة عــن كل مــا نقــرؤه لغــره‪ .‬فهــي مقالــة‬
‫داريــل"‪ ،‬وعــدد قليــل مــن روايــات نجيــب محفــوظ‪ .‬فــا‬ ‫دســمة ينشــغل فيهــا القــارئ ببيــان خــري الرفيــع قبــل أن‬
‫كان يســحره يف كتابــات هــؤالء‪ ،‬أو بعضهــا عــى األقــل‪ ،‬هــو‬ ‫يفطــن إىل مــا تنطــوي عليــه مــن أفــكار وتأمــات وتعليــق‬
‫التأ ُّمــل‪ ،‬تلــك الكلمــة الســحرية التــي تــر َّدد يف كتابــات‬ ‫جانبــي عــى أحــداث الحيــاة اليوميــة وشــجونها‪ ،‬والشــخوص‬
‫خــري وكأنهــا التعويــذة‪ ،‬أو الن َّداهــة‪ ،‬وهــذه كلمــة أخــرى‬ ‫العابريــن فيهــا‪ ،‬والعواصــف والــزالزل والرباكــن التــي تهزهــا‪،‬‬
‫كثــ ًرا مــا ســحرته وتــر َّددت يف كتاباتــه وجعلتــه يخطــو‬ ‫رأســا عــى عقــب‪.‬‬ ‫قالب ـ ًة العــامل ً‬
‫مســحو ًرا زائــغ البــر إىل حيــث الحوريَّ ـ ُة التــي تنتظــره يف‬ ‫لقــد عــرف خــري كيــف يشـ ُّد قارئــه ويغـ ّـر ذائقتــه ويرتقــي‬
‫األعــاق‪.‬‬ ‫بهــا‪ ،‬ويدفعــه دف ًعــا ه ّي ًنــا رفي ًقــا لــي يبتلــع الحقائــق املـ ّرة‬
‫َمــن يقــرأ مقــاالت خــري منصــور‪ ،‬الطويــل منهــا والقصــر‪،‬‬ ‫التــي تصعقــه كلــا تأ َّمــل العــامل واألحــداث مــن حولــه‪ .‬تلك‬
‫ويتأ َّمــل الرابــط الــذي يجمعهــا‪ ،‬ويشــكل الخيــط الناظــم‬ ‫كانــت ميــز ًة يف كتابــة خــري تجعــل مقالتــه تحيــا وتــدوم‬
‫الــذي يشــ ّدها‪ ،‬ســيعرث عــى جوهــر تأ ُّمالتــه يف معنــى‬ ‫بعــد زوال الحــدث اليومــي وانطفائــه يف الذاكــرة؛ فــا‬
‫ـص‪،‬‬‫العيــش البــري‪ ،‬وعيــش العــرب املعارصيــن عــى األخـ ّ‬ ‫يســعى إليــه يف هــذه الكتابــة ليــس التعليــق عــى الحــدث‬
‫مقارنًــا بينهــم وبــن غريهــم مــن األمــم؛ واملقارنــة بيننــا‬ ‫فقــط‪ ،‬واتخــاذ موقــف منــه‪ ،‬بــل النفــاذ إىل جوهــره‪ ،‬إىل مــا‬
‫وبينهــم‪ ،‬بــن العــرب والغــرب‪ ،‬بــن العــامل الثالــث والعاملــن‬ ‫يربطــه بغــره مــن أحــداث ومواقــف‪ ،‬ومــا يشــر إليــه مــن‬
‫وســوايس آخــر كان يقلــق خــري‬ ‫ٌّ‬ ‫هاجــس‬
‫ٌ‬ ‫األول والثــاين‪،‬‬ ‫طبائــع البــر وســلوكهم واشــتباكهم اليومــي والـراع الــذي‬
‫ـض مضجعــه ويــر َّدد يف آالف مــن مقاالتــه التــي تأ َّمــل‬ ‫ويقـ ُّ‬ ‫يــدور بينهــم منــذ بــدء الخليقــة‪.‬‬
‫فيهــا أحوالنــا وعاداتنــا التــي أقعدتنــا يف التخلــف وأوقعتنــا‬ ‫وال يعنــي هــذا أ َّن خــري كان يســعى إىل تأ ُّمــل ميتافيزيقــي‬
‫يف التبعيّــة‪.‬‬ ‫ألحــوال العــامل‪ ،‬تأ ُّمــلٍ يــرى صــات ماورائيّــة‪ ،‬فــوق طبيعيــة‪،‬‬
‫لقــد نــر الصديــق الراحــل خــري منصــور عــد ًدا قليـ ًـا مــن‬ ‫تشـ ُّد األحــداث وســلوك البرش ورصاعاتهــم إىل بعضهــا بعضً ا‪،‬‬
‫املجموعــات الشــعرية‪ ،‬وعــد ًدا أقــل مــن الكتــب النقديــة‬ ‫بــل إنــه كان يســعى إىل البحــث عــن الدفــن واملتــواري مــن‬
‫والفكريــة‪ ،‬لكنــه بــثَّ شــعره وأفــكاره وتحليالتــه العميقــة‬ ‫رصفــوا عــى الشــاكلة التــي‬ ‫األســباب التــي تدفعهــم لــي يت َّ‬
‫يف مقاالتــه التــي تســتحق أن تجمــع يف مجلــدات عديــدة‬ ‫يترصفــون وفقهــا‪ .‬وال غرابــة‪ ،‬أنــه كـ َّرر يف كثــر مــن مقاالتــه‬
‫لقيمتهــا الفكريــة والثقافيــة الكبــرة‪ ،‬فبطــون الصحــف‬ ‫إعجابــه الكبــر بالنــر التأ ُّمــي‪ ،‬الــذي يقــرب مــن املقالــة‬
‫وقليــل القيمــة مــن الكتابــات يف‬ ‫َ‬ ‫تبتلــع كل يشء‪ ،‬العظيــ َم‬ ‫املكثفــة أو املمتــدة‪ ،‬وال يتق َّيــد بســات األنــواع ويســعى‬
‫الوقــت نفســه‪ ،‬وكتابــة خــري تســتحق الجمــع والنــر‬ ‫إىل القبــض عــى جواهــر املعــاين‪ ،‬منطلقًــا عــى حــدود‬
‫نتبــن القامشــة الحقيقيّــة لهــذا‬ ‫والتقديــم للقــراء‪ ،‬حتــى َّ‬ ‫قصــا‪،‬‬
‫غائصــا يف أعامقهــا دون أن يكــون شــع ًرا‪ ،‬أو ًّ‬ ‫األنــواع ً‬
‫الكاتــب الكبــر الــذي ألزمــه العيــش اليومــي بتفريــق‬ ‫أو مرس ًحــا؛ رس ًدا أو ســط ًرا شــعريًّا تأمليًــا يقتنــص املعنــى‪،‬‬
‫تأ ُّمالتــه العميقــة يف جســوم مقاالتــه الكثــرة‪.‬‬ ‫بــل أحشــاءه الداخليــة العميقــة‪ .‬ولعــل هــذا هــو الســبب‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪17‬‬

‫خريي منصور‪..‬‬
‫الشاعر الذي و َه َب جناحيه لغري القصيدة‬
‫نضال برقان*‬

‫لعـ َّـل التباطــؤ يف الكتابــة الشــعريّة يف ُمجمــل تجربــة خــري منصــور‪ ،‬أتــاح الفرصــة الهتامماتــه‬
‫الكتاب ّيــة األخــرى لتبســط عباءتهــا عــى مجمــل تجربتــه اإلبداع ّيــة‪ ،‬ولينســحب الشــاعر‪ ،‬أو يرتاجــع‪،‬‬
‫داخــل ذاتــه‪ ،‬مــن دون أن يُســ ِقط رايــة الشِّ ــعر مــن يــده؛ فظلّــت قصيدتــه طازجــة وحــارة‪،‬‬
‫ومختلفــة أيضً ــا‪ ،‬إذ بقيــت قريبــة مــن شــجون النــاس وشــؤونهم‪ ،‬وبخاصــة عــى الصعيــد الوطنــي‪،‬‬
‫التمســك برشطهــا الفنــي‪ ،‬مســتفيدة مــن املخــزون املعــريف لصاحبهــا‪،‬‬
‫كــا بقيــت حريصــة عــى ُّ‬
‫واهتامماتــه الكتاب ّيــة‪.‬‬

‫عــى قصيدتــه‪ ،‬التــي كانــت‪ ،‬عــى غ ـرار مقالتــه‪ ،‬حريصــة‬ ‫ســبع ُة دواويــن كانــت كفيلــة ألن تســ ّجل اســم خــري‬
‫عــى تقديــم جرعــة تثقيف ّيــة ومعرف ّيــة لقارئهــا‪.‬‬ ‫منصــور يف املد ّونــة الشــعرية العربيــة الحديثــة‪ ،‬بوصفــه‬
‫ـتهل خــري منصــور تجربته الشــعرية بــ"ظــال" (‪،)1978‬‬ ‫اسـ َّ‬ ‫أحــد شــعرائها املتميِّزيــن‪ ،‬واملتف ِّرديــن‪ ،‬أســوة بشــعراء جيلــه‪:‬‬
‫وكان يف الثالثــة والثالثــن مــن عمــره وقتئــذ‪ ،‬مــا يعكــس‬ ‫عزالديــن املنــارصة‪ ،‬ومحمــد القيــي‪ ،‬ومريــد الربغــويث‪،‬‬
‫تريُّثــه الشــديد ومراجعتــه املتأنيــة لتجربتــه الشــعرية قبــل‬ ‫غــر أ َّن شــهرته بوصفــه صاحــب مقالــة يوم ّيــة‪ ،‬محكمــة‬
‫أن يُصــدر ديوانــه األول‪ ،‬ثــم أتبعــه بـ"غــزالن الــدم" (‪،)1981‬‬ ‫ومتم ّيــزة‪ ،‬كان لهــا رأي آخــر‪ ،‬إذ سـ َّجلت تلــك الشــهرة اســمه‬
‫و"ال مــرايث للنائــم الجميــل" (‪ ، )1983‬و"التيــه وخنجــر‬ ‫يف الذاكــرة الجمعيّــة العربيّــة بوصفــه كاتبًــا‪ ،‬ومل تســتطع‬
‫يــرق وجــه البــاد" (‪ ،)1987‬و"الكتابــة بالقدمــن" (‪،)1992‬‬ ‫أن تسـ ِّجل اســمه بوصفــه شــاع ًرا‪ ،‬إال يف ذاكــرة نفــر قليلــن‪،‬‬
‫فـ"ســرة خاطفــة" (‪ ،)2014‬ثــم "نعــاس أزيل" (‪ ،)2014‬ولعـ َّـل‬ ‫م َّمــن أتيــح لهــم قــراءة دواوينــه الشــعريّة الســبعة‪ ،‬أو‬
‫ذلــك التباطــؤ يف الكتابــة الشــعرية‪ ،‬يف مجمــل تجربــة خــري‬ ‫بعضهــا عــى أقــل تقديــر‪.‬‬
‫منصــور‪ ،‬أتــاح الفرصــة الهتامماتــه الكتابيّــة األخــرى لتبســط‬ ‫وعــى ال ّرغــم مــن اهتاممــات خــري منصــور الكتابيــة‪،‬‬
‫عباءتهــا عــى مجمــل تجربتــه اإلبداعيــة‪ ،‬ولينســحب‬ ‫وتشـ ُّعباته بــن الخاطــرة‪ ،‬والنقــد‪ ،‬والبحــث‪ ،‬غــر أ َّن قصيدته‬
‫الشــاعر‪ ،‬أو يرتاجــع‪ ،‬داخــل ذاتــه‪ ،‬مــن دون أن يُسـ ِقط رايــة‬ ‫ظلّــت طازجــة وحــارة‪ ،‬ومختلفــة أيضً ــا‪ ،‬إذ بقيــت قريبــة‬
‫الشــعر مــن يــده‪.‬‬ ‫مــن شــجون النــاس وشــؤونهم‪ ،‬وبخاصــة عــى الصعيــد‬
‫تجتمــع دواويــن الشــاعر الســبعة عــى مجموعــة مــن‬ ‫التمســك‬
‫الوطنــي‪ ،‬مــن جانــب‪ ،‬كــا بقيــت حريصــة عــى ُّ‬
‫املوضوعــات الرئيســة‪ ،‬ومــن أبرزهــا‪ :‬الوطــن (املقاومــة‪/‬‬ ‫برشطهــا الفنــي‪ ،‬مســتفيدة مــن املخــزون املعــريف لصاحبهــا‪،‬‬
‫فلســطني‪ /‬ديــر الغصــون‪ /‬الجــر‪ /‬النهــر‪ ،)..‬واللغــة‬ ‫واهتامماتــه الكتابيــة مــن جانــب آخــر‪ ،‬وقــد انعكــس ذلــك‬

‫* شاعر وكاتب أردين‬


‫‪nedalburqan@yahoo.com‬‬
‫‪18‬‬

‫الخائفـةْ‪ /‬وتطـ ّرزين العاشــقاتُ نجو ًمــا‪ /‬عــى معطــف الليــل‬


‫وتحبــل يب‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الفصــول‪/‬‬ ‫يف ليلــة مطفــأةْ‪ /‬هكــذا‪ /..‬تتوالــ ُد ّيف‬
‫كل أنثى‪("..‬األعــال الشــعرية‪ ،‬املؤسســة العربيــة للدراســات‬ ‫ّ‬
‫والنــر‪ ،‬بــروت‪ ،2006 ،‬ص‪ 19‬وص‪.)20‬‬
‫ـيظل الشــاعر مشــغولً بهاجــس البدايــة‪ /‬الــوالدة‪،‬‬ ‫هكــذا سـ ّ‬
‫أوىل الخطــوات عــى درب الحقيقــة‪ ،‬كــا يف قصيدتــه‬
‫"غــزالن ال ـ ّدم"‪ ،‬حيــث مثّــة "أســئلة تــورق يف الصح ـراء‪ /‬وال‬
‫مــاء‪ /‬ســنبلة تنــر يف الريــح ضفريتهــا وتصيــح‪ :‬تعالــوا‪ /‬هــذا‬
‫وجــه يعرفنــي‪ /‬يته ّجــاين جر ًحــا جر ًحــا وينادينــي‪ /‬أتذكّــر‬
‫مــاء غــر املــاء‪ /‬عش ـبًا غــر العشــب‪ /‬وليـ ًـا يتناســل أيا ًمــا‬
‫موحشــة‪ /‬ترعــى ظـ ّـي‪ ،"..‬ويف نهايــة القصيــدة يقــف الشــاعر‬ ‫(الشــاعر‪ /‬القصيــدة)‪ ،‬الحقيقــة (الــوالدة‪ /‬الكينونــة‪/‬‬
‫أمــام الحقيقــة وج ًهــا لوجــه‪ ،‬ليعلــن كينونتــه‪ ،‬وأنــه "منــذور‬ ‫الطفولــة‪ /‬الصــرورة‪ ،)..‬وقــد يــرز موضــوع محــ َّدد يف‬
‫للصــوت اآليت‪ /‬ودمــي غــزالن ُمت َع َبة‪("..‬األعــال الشــعرية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ديــوان بعينــه‪ ،‬غــر أنــه لــن يهمــل‪ ،‬أو يتجــاوز املوضوعــات‬
‫ص‪ ،22‬وص‪.)23‬‬ ‫األخــرى‪ ،‬األمــر الــذي جعــل مجمــل التجربــة تتمتَّــع بوحــدة‬
‫رضا يف "غــزالن الــدم"‪ ،‬وكأ َّن‬ ‫ويظــل ســؤال البدايــات حــا ً‬‫ُّ‬ ‫موضوع ّيــة واحــدة‪ ،‬يتحــ َّرك الشــاعر خاللهــا أفق ًّيــا تــارة‪،‬‬
‫الشــاعر إذ يطــارد بداياتــه‪ /‬طفولتــه يطــارد الحقيقــة‪ ،‬تلــك‬ ‫وعموديًّــا تــارة أخــرى‪ ،‬مــن دون أن يخــرج منهــا‪ ،‬أو عليهــا‪.‬‬
‫التــي "يف البــدء يكــون اســمها" (وهــو عنــوان واحــدة مــن‬
‫قصائــد الديــوان)‪ ،‬يف ظـ ِّـل مــا يعتــور الراهــن املعيــش مــن‬ ‫أسئلة البدايات‬
‫تزويــر وتزييــف‪ ،‬ففــي قصيدتــه "طفولــة"‪ ،‬يســتعيد خــري‬ ‫يف "غــزالن الـ ّدم" يتأ ّمــل الشــاعر ذاتــه‪ ،‬أو يحــاول اكتشــافها‪،‬‬
‫مشــه ًدا مــن طفولتــه يف محاولــة الســتعادة الـراءة‪" :‬مطــر‪..‬‬ ‫كــا يف أوىل قصائــد الديــوان "قــراءات لوجــه مهمــل"‪،‬‬
‫يف الشــوارع يعــدو الصبــي‪ /‬يكــ ّور يف راحتيــه املســافات‪/‬‬ ‫فنجــده يتناســل "يف‪ :‬شــهو ِة النــا ِر للريـ ِح"‪ ،‬ثــم يــرد الشــاعر‬
‫نحيــا كخيــط دم‪ /‬نــ ُّز ُه‬
‫ً‬ ‫والســفن الورقيّــة‪ /..‬كان الزقــاق‬ ‫يجســد عبــوره مــن الغيــب إىل‬ ‫مشــه ًدا مليئًــا بالتفاصيــل‪ِّ ،‬‬
‫شــارع واســتدار‪ /‬إىل العتبــات التــي شــيدتها يــداه‪ /‬ومــا‬ ‫الوجــود‪ ،‬مــن الخيــال إىل الحقيقــة‪:‬‬
‫وطأتهــا خطــاه‪ /‬غافــل أمــه بــاع الدجاجــة ثــم انحنــى‪/‬‬ ‫"يشــتق وجهــي تضاريــس غــر التــي‪ /..‬نبتــت يف املرايــا‪/..‬‬
‫ر‪ /‬مطــر يف الشــارع كهــل تكـ ّوم يف‬ ‫يتحســس جوربــه األخـ َ‬ ‫ّ‬ ‫بقّعتهــا الجرائــ ُد واعتُــرتْ ‪ /‬يف جــوا ِز الســفر‪ /‬وأشــتق‬
‫معطــف‪ /‬ليــس يعــرف صاحبــه‪ /‬وارتــداه الرصيــف املبلّــل‬ ‫اسـ ًـا مــن اللغـ ِة البكـرِ‪ /‬مل تعتمــره األغــاين‪ /‬ومل يتغرغـ ْر بــه‬
‫رسة قــرب النســاء‪ /‬وكان املســاء‪/‬‬ ‫كان املســاء‪ /‬دافئًــا يف األ ّ‬ ‫العازفــون‪ /‬عــى وتــر مــن دمــي‪ /‬يته ّجــاه نهــر رشيـ ٌد‪ /‬فيعود‬
‫بــار ًدا كالرصيــف الــذي يرتديــه‪ /‬موحشً ــا كالرصيــف الــذي‬ ‫إىل البحـرِ‪ /‬ترضعــه شَ ـ ْجر ُة النــارِ‪ /..‬متتـ ّد‪ ..‬متتـ ّد‪ ..‬حتــى تصـ َر‬
‫بصبــي يكــ ّور‬
‫ّ‬ ‫غادرتــه النســاء‪ /‬مطــر‪ /‬والشــوارع مأهولــة‬ ‫عــى عتمــ ِة العــرِ‪ /‬خيمــة‪ /‬أتناســل يف األعــن املرتقبــ ِة‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪19‬‬

‫فــودة"‪ ،‬التــي يقــول فيهــا‪" :‬األرامــل‪ :‬رسب أرامــل يعوي ـ ْن‪/‬‬ ‫يف راحتيــه‪ /‬املســافات والســفن الورق ّيــة‪ -/‬إن مزارعنــا يف‬
‫األرامــل‪ :‬رسب أرامــل يعويـ ْن‪ /‬الحــر‪ :‬رسب أرامــل يعويـ ْن‪/‬‬ ‫خطــاه‪ /‬والشــوارع خــراء‪ ..‬مــذ المســت‪ /‬جوربــا‪ /‬مت ّنــاه‬
‫الخبــز‪ :‬رسب أرامــل يعويــ ْن‪ /.../‬إنهــم يســجنون الصــدى‪/‬‬ ‫طفــل بقريتنــا وارتداه"(األعــال الشــعرية‪ ،‬ص ‪ ،40‬وص‪.)41‬‬
‫يــدي قاتــي‪/‬‬‫ْ‬ ‫فالعــواء خيانــةْ‪ /‬وأنــا يــا بــاد الــ ّردى‪ /‬يف‬
‫تركــوين أمانةْ"(األعــال الشــعرية‪ ،‬ص‪ .)115‬ويف القصيــدة‬ ‫قمر البقاع ببدلة الكايك‬
‫إدانــة لــكل خائــن وعميــل وقاتــل‪ ،‬فالقتلــة متعـ ّددون‪ ،‬أ ّمــا‬ ‫يف الديــوان الثــاين للشــاعر يحــر الشــهيد‪ ،‬مــن خــال‬
‫القتيــل‪ /‬الشــهيد‪ /‬الوطــن‪ ..‬فواحــد‪.‬‬ ‫عنــوان الديــوان بدايــة‪" ،‬ال مـرايث للنائــم الجميــل"‪ ،‬وتحــر‬
‫وتتقلّــب صــور الشــاعر يف هــذه املرحلــة‪ ،‬فهــو تــارة شــهيد‪،‬‬ ‫املقاومــة مــن خــال ذلــك املفتتــح الــذي يتص ـ َّدر الديــوان‪:‬‬
‫وأخــرى شــاهد عــى املجــزرة‪ ،‬ومنحــاز للحقيقــة التــي‬ ‫الصمود‪/‬‬ ‫"قمــر البقــاع ببدلــة الــكايك‪ /‬يطــوف عــى متاريــس ُّ‬
‫ســيناضل لتصــل لألجيــال املقبلــة‪ ،‬ســيناضل مــن أجــل أن‬ ‫خلــع اســمه‪ /..‬صــار اســمه الحــريك (نشــأت)‪ /‬صــار اســمه‬
‫يشــعل القنديــل‪ ،‬كــا يقــول يف قصيدتــه "الشــاهد"‪" :‬دعيني‬ ‫الحــريك (نحن)"(األعــال الشــعرية‪ ،‬ص‪.)106‬‬
‫ـي يف‬ ‫أشــعل القنديـ ْـل‪ /‬وأعــدو يف ظــام املــوتْ ‪ /‬خــذي عينـ ّ‬ ‫وتطــل أوىل قصائــد الديــوان "كل قــر كمــن"‪ ،‬مفعمــة‬ ‫ّ‬
‫قنديــل‪ /‬ألجيــال‪ /‬ســتولد بعــد هــذا الصمت"(األعــال‬ ‫ْ‬ ‫بروائــح فلســطني‪ ،‬التــي ســتحرض يف القصيــدة مــن خــال‬
‫الشــعرية‪ ،‬ص‪.)117‬‬ ‫قنــاع األ ّم‪ ،‬ليحدثنــا الشــاعر عــن (أ ّمــن) اثنتــن‪ :‬األ ّم‬
‫ويقلّــب الشــاعر مفــردات املقاومــة يف هــذه املرحلــة‪،‬‬ ‫الحقيقيــة التــي تعتنــي باألبنــاء واألحفــاد‪ ،‬وفلســطني التــي‬
‫خالصــا مــن نــر االحتــال‪ ،‬فالقــادة الحقيقيــون‪،‬‬ ‫بوصفهــا ً‬ ‫تعــ ّد الرجــال للشــهادة‪ ،‬كــا تعــ ّد أبناءهــم للســر عــى‬
‫لــف‬
‫عــى أرض الواقــع‪ ،‬هــم الشــهداء‪ ،‬ال الساســة ومــن ّ‬ ‫الطريــق ذاتهــا‪ ،‬يقــول الشــاعر مص ـ ِّو ًرا جان ًبــا مــن عمليــة‬
‫لفّهــم‪ ،‬يقــول الشــاعر يف قصيدتــه "رؤيــا مــن األعــاق"‪،‬‬ ‫استشــهادية ألحــد أبطــال املقاومــة‪.." :‬عندئــذ‪ /‬خلــع الســرة‬
‫املنفــي‪..‬‬
‫ّ‬ ‫وكأنــه يقــرأ ال ّراهــن ويســترشف املســتقبل‪" :‬أنــا‬ ‫املشــتهاة‪ /‬الحــذاء األنيــق‪ /‬ونــام عمي ًقــا‪ /‬عــى ضفــة النهــر‪/‬‬
‫والعائ ـ ْد‪ /‬أنــا املقتــول والشــاه ْد‪ /‬أنــا املهــزوم قبــل النفــخ‬ ‫قيــل‪ :‬الشــج ْر‪ /‬غافــل الحــرس الرببــري‪ /‬فتــح الجــر ليـ ًـا‪/‬‬
‫يف األبــواق والصامـ ْد‪ /‬أنــا اآلتــون مــن شــفق القصائـ ْد‪ /‬مــن‬ ‫ومللمــه‪ /‬إصبــع‪ /‬إصب ًعــا‪ /‬ومــى عائـ ًدا‪ /‬مثقـ ًـا بالثمـ ْر‪ /‬بــن‬
‫ـاس‪ /‬إين البائــد املجهــول والخالـ ْد‪ /‬أنــا حني‬ ‫بــاد مل يطأهــا النـ ُ‬ ‫ــن‪ /‬واحــد ٌة تعــر القلــب‪ /‬تبنــي ألحفادهــا الغائبــن‪/‬‬ ‫أُ َّم ْ‬
‫املقابــر تــرج الشــهداء‪ /‬ثانيــة‪ /‬وثالثــة‪ .. /‬وحتــى ال ّنــر‬ ‫ـض بهــا‬ ‫وواحــد ٌة تعــر الشــهداء لتبتــاع خيمــة طــن‪ /‬وتبيـ ُ‬
‫يــوم قيامــة املــوىت‪ /‬دمــي‪ ..‬القائ ْد‪("..‬األعــال الشــعرية‪،‬‬ ‫الالجئــن‪ُ /‬ولِــد الطفــل ملتح ًيــا‪ /‬وعــى راحتيــه بــاد تل ـ ّوح‬
‫ص‪.)162‬‬ ‫للقادمني‪("..‬األعــال الشــعرية‪ ،‬ص‪.)107-109‬‬
‫يواصــل الهــ ّم الوطنــي حضــوره يف مجمــل قصائــد هــذا‬
‫محاولة يف ال َّرسم‬ ‫الديــوان‪ ،‬الــذي كتبــه الشــاعر خــري منصــور عقــب‬
‫يف ديوانــه "الكتابــة بالقدمــن" يدخــل الشــاعر مرحلــة‬ ‫االجتيــاح الصهيــوين لبــروت يف العــام ‪ ،1982‬عــى غــرار‬
‫جديــدة يف الكتابــة‪ ،‬عــى صعيــدي الشــكل واملضمــون‪ ،‬فـراه‬ ‫قصيــدة "فلســطني وأخواتهــا"‪ ،‬و"املســيح شــهي ًدا"‪ ،‬و"عــي‬
‫‪20‬‬

‫كل املــدنْ‪ /‬كائنــات‪ /‬تــدور وتــأكل‪ /‬ثــم تجــوع فتــأكل‪/‬‬ ‫يتأ َّمــل مرحلــة املقاومــة والنضــال مــن الخــارج‪ ،‬يف محاولــة‬
‫تحــب وتكــره‪ /‬لكنهــا‪ /‬مل‬
‫ّ‬ ‫تصحــو‪ ،‬تنــام‪ /‬تعيــش‪ ..‬متــوت‪/‬‬ ‫إلعــادة تشــكيل املشــهد مــن جديــد بــيء مــن املوضوعيّــة‪،‬‬
‫تك ْن!"(األعــال الشــعرية‪ ،‬ص‪ ،522‬وص‪.)523‬‬ ‫وبعيــ ًدا عــن أدوات النضــال املبــارشة‪ ،‬كــا يف قصيدتــه‬
‫"محاولــة يف الرســم"‪ ،‬التــي تنــدرج يف إطــار تجربــة شــعرية‬
‫ال َّنعجة ال ّنامئة‬ ‫مهموســة‪ ،‬بعيــدة عــن صخــب املعركــة والجبهــة‪:‬‬
‫يف قصيدتــه "رميــم" يــدرك الشــاعر الحقيقــة امل ُــ َّرة‪ ،‬بعــد‬ ‫ـت)‪ /..‬فأرســم ب ّوابــة ونوافــذ‪ /‬كانــت‬ ‫"تهــم يــدي بكتابــة (بيـ ٍ‬
‫مشــوار حافــل يف (مقارعــة الخطــوب)‪ ،‬فاأل ّمــة العرب ّيــة مل‬ ‫نوافــذ بيتــي أوســع مــن بابــه‪ /‬فه ّبــت ريــاح الطريــق‬
‫تــزل تلــك "النعجــة النامئــة"‪ ،‬التــي مل ت ُقــم بعــد مــن ســباتها‪،‬‬ ‫مس ـ ّمم ًة بالفضــول‪ /‬ته ـ ّم يــدي باإلشــارة‪ /‬أو بات ّهــام الــذي‬
‫عــى الرغــم مــن الويــات التــي حلّــت بهــا‪ ،‬وال أمــل يف أن‬ ‫خــاط أكفــان أخوتــه‪ /‬يف الزفــاف املحــ ّرم‪ /‬تخــرج منهــا‬
‫"تقــوم لهــا قامئ ـةْ"‪ ،‬يقــول الشــاعر‪" :‬ســأت َّضح اآلن أكــر‪ /‬إ َّن‬ ‫األصابــع‪ ..‬قــد ال تعــود وأهــ ُّم بتســمية الــيء‪ /‬ينزلــق‬
‫الروايــة شــارفت الخامتـةْ‪ /‬ويف آخــر الفصــل تشــتعل النــار يف‬ ‫الــيء نحــو الســديم‪ /‬فهــل ســالت الكلــات عــى بعضها يف‬
‫ـي‪..‬‬‫املــاء‪ /‬واملــاء أصلــب مــن صخــرة جامثـ ٍة‪ /‬بــن ذراعــي نبـ ّ‬ ‫القواميــس‪- /‬كيــف أف ـ ّرق بــن بالديــن‪ /‬أو جثتــن؟‪ /‬وكيــف‬
‫نبوءتــه‪ /‬كل هــذا الــذي يعــري النعجــة النامئــةْ‪ /‬نهشــتها‬ ‫أف ـ ّرق بــن الحــى ورؤوس األصابــع‪ ../‬بــن العصــا والوت ـ ْر‪/‬‬
‫تتحســس "إليتهــا" الناعمــةْ‪ /‬ســأتَّضح‬ ‫تــزل‪ّ /‬‬ ‫الضبــاع ومل ّــا ْ‬ ‫وكيــف ســأعرف أ َّن الربيــع ربيــع بــدون شــج ْر؟"(األعامل‬
‫اآلن أكــر‪ /‬هــذي الجمــوع مــن الســامئةْ‪ /‬لــن تقــوم لهــا‬ ‫الشــعريّة‪ ،‬ص‪ ،343‬وص‪.)344‬‬
‫قامئةْ‪("..‬األعــال الشــعرية‪ ،‬ص‪.)610‬‬ ‫محاولــة الرســم بالكلــات للوطــن املســتلب يواصلهــا‬
‫حالــة اليــأس مــن األ ّمــة تتواصــل مــع الشــاعر‪ ،‬فيقــ ِّدم‬ ‫الشــاعر بغــر أســلوب ف ّنــي‪ ،‬فـراه يســتعيد تفاصيــل البــاد‬
‫لنــا صــورة "تراجيكوميديــة" عــن املواطــن العــريب الــذي‬ ‫يف مجمــل قصائــده يف هــذه املرحلــة‪ ،‬كــا يف قصيــدة‬
‫اختزلــه بـ(جــر)‪ ،‬الــذي مــا انفـ َّـك يفتِّــش عــن نفســه مــن‬ ‫"مدينــة مــن الذاكــرة"‪ ،‬التــي تســر بإيقــاع اعتيــادي منــذ‬
‫خــال شــهوته‪ ،‬يقــول يف قصيدتــه "تراجيكوميديــا جــر"‪:‬‬ ‫بدايتهــا وحتــى قبيــل النهايــة‪ ،‬لتكــون املفاجــأة يف نهايــة‬
‫"يف املســافة‪ /‬بــن يديــه وســاقيه‪ /‬كان يفتِّــش عــن نفســه‪/‬‬ ‫القصيــدة‪ ،‬فتلــك املدينــة‪ /‬الحلــم‪ /‬األمــل‪ ،‬يف الحقيقــة‪ ،‬مل‬
‫ويقيــس بخطــوات قــزم خطــا ْه‪ /‬علّمتــه املكــوث عــى‬ ‫ِ‬
‫واملناضــل‪ ،‬يرفــع‬ ‫تكــن موجــودة يو ًمــا‪ ،‬وكأ َّن ذلــك املقــاوِم‪،‬‬
‫قارعــات القــرى أ ّمــه‪ /‬وتق ّمــص يو ًمــا أبــا ْه‪ /‬فحبــا نحوهــا‪/‬‬ ‫رايــة بيضــاء‪ ،‬بعــد أن أعيــاه التعــب‪ ،..‬يقــول يف القصيــدة‪:‬‬
‫مل تطعــه خطــاه‪ /‬وانتهــى‪ /‬يف املســافة مــا بــن شــاهدتني‪/‬‬ ‫"لهــا مــا لــكل املــدن‪ /:‬شــارعان قدميــان‪ /‬قــد يبطئــان وال‬
‫هكــذا‪ ..‬بــن قوســن هلّــت وغابــت‪ /‬عــى وجــه (جــر)‬ ‫يرجعــان‪ /‬وبضعــة أعمــدة قرشتهــا أظافــر أيامهــا‪ /‬لهــا ســاعة‬
‫الحياةْ‪("..‬األعــال الشــعرية‪ ،‬ص‪.)613‬‬ ‫ر‪ /‬لهــا مثــل كل‬ ‫يف حجـرٍ‪ /‬عقربــان طويــان‪ ..‬طاحونــة للبـ ْ‬
‫املــدنْ‪ /‬نهــار مــن العابريــن‪ /‬لهــا كربيــاء‪ ،‬وليــل مضــا ٌء‪ /‬وبح ٌر‬
‫وبضــع ســف ْن‪ /‬لهــا مــا لــكل املــدنْ‪ /.../‬غــر أ َّن مســاءاتها‪/‬‬
‫حــن تغــرق تحــت املطـ ْر‪ /‬تجعــل الحجــر الصلــد يبــي مــن‬
‫العــري‪ /‬يهــرب مــن وحشــة الليــل حتــى الشــج ْر‪ /‬لهــا مثــل‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪21‬‬

‫خريي منصور‪..‬‬
‫قلق امل ُ ِّ‬
‫تعدد‬
‫حسني نشوان*‬

‫كان خــري منصــور الشــاعر والناثــر واملفكــر ينهــل مــن بــر واحــدة‪ ،‬ويقيــم بيتًــا عــى ق ّمــة بنــاء موســوعي يف‬
‫الثقافــة َّأســس لجهــازه املفاهيمــي املتمـ ِّرد عــى الواقــع‪ ،‬متن ِّكـ ًرا أو منكـ ًرا للحنــن املأســاوي‪ /‬النســتولوجي‪ ،‬وهــذه‬
‫الفكــرة تقــوم عــى التضــا ّد‪ ،‬والوعــي الســالب‪ ،‬مقابــل الوعــي الشــقي أو العدميّــة‪ ،‬فهــو رصاع تخوضــه الــذات‬
‫الحقيقيّــة مــع الــذات الوهميّــة يف أعــاق النفــس لينفــي أحدهــا اآلخــر ويقصيــه؛ هــذه الفكــرة األساس ـيّة التــي‬
‫ـراع بــن الكاتــب‪ /‬املثقــف واإلنســان املتمـ ِّرد‪ ،‬وتتنازعهــا النصــوص بــن القصيــدة وال ِّدراســة واملقــال‬‫يرتاســل فيهــا الـ ِّ‬
‫ـراع الــذي يخوضــه الكاتــب مــع نفســه‪.‬‬ ‫كحوامــل وتجلّيــات للـ ِّ‬

‫ويف الوســيط عينــه ينظــر يف الوجــود لقــراءة معادالتــه يف‬ ‫يتشــ َّعب الحديــث عــن األديــب الراحــل خــري منصــور‬
‫الظواهــر التــي تتصــل باتجاهــات الثقافــة وقواهــا عــر‬ ‫(‪ )2018 1945-‬بــن الشــاعر والناثــر واملفكــر وكاتــب املقال‪،‬‬
‫دراســاته الفكريــة‪.‬‬ ‫واإلدارة الثقافيّــة‪ ،‬وهــي وإن كانــت تــدور يف فلــك حقــل‬
‫واحــد يتصــل بالثقافــة واإلبــداع‪ّ ،‬إل أ َّن لــكل مــن تلــك‬
‫يف كل تلــك التش ـ ُّعبات القلقــة واملتم ِّوجــة كرمــال متحركــة‬ ‫الحقــول أرسارهــا ومهاراتهــا وطبيعتهــا التــي ميكــن مقارنتهــا‬
‫كان خــري منصــور يقــف عــى قنطــرة ثقاف ّيــة صلبــة‪،‬‬ ‫بالطبيعــة التــي تتشــابه يف أصلهــا‪ ،‬وتفــرق بالتضاريــس‪،‬‬
‫وحيــ ًدا‪ ،‬بأقــل مــا يكــون مــن األصدقــاء الذيــن ينتقيهــم‬ ‫حيــث لــكل اختــاف يف الطبيعــة متايُــز يف املناخــات‪،‬‬
‫نخبــة‪ ،‬تتح َّمــل صمتــه الجــ ّم‪.‬‬ ‫والفضــاء النفــي واملعــريف والثقــايف والخــرايت‪ ،‬ورمبــا كان‬
‫ـص شــخص ّية منصــور دور إيجــايب‬ ‫لتقلّبــات املـزاج الــذي يخـ ّ‬
‫ربــا كانــت متطلبــات الحيــاة واملعــاش ورغبــة الســفر‬ ‫َّ‬ ‫يف االنتقــاالت مــن حقــل آلخــر يف محيــط اإلبــداع وبحــاره‬
‫واملــي والحريــة التــي كان معهــا ال يطيــق لقميصــه أن‬ ‫ومنعرجــات شــواهقه وجبالــه ووديانــه ومنبســطاته‪ ،‬وهــي‬
‫مينــع عــن صــدره الهــواء‪ ،‬هــي التــي اختارتــه محــ ِّر ًرا يف‬ ‫رحلــة تتنقــل بــن العنــارص املختلفــة يف مربَّــع الحيــاة‪:‬‬
‫مجلــة "أقــام" العراقيــة‪ ،‬ومجلــة "الفكــر املعــارص" البريوتية‪،‬‬ ‫الهــوايئ والنــاري والــرايب واملــايئ‪.‬‬
‫ومديــ ًرا للدائــرة الثقاف ّيــة يف صحيفــة "الدســتور" األردن ّيــة‬
‫ليتوافــق مــع الوظيفــة التــي مل يســلم لهــا مت ـ ُّرده وتفلُّتــه‬ ‫كان املــزاج اإلبداعــي هــو الوســيط املــرن الــذي يتيــح‬
‫مــن قيودهــا حتــى وهــو عــى عتبــة الســبعني مــن العمــر‪.‬‬ ‫للشــاعر اســتعادة غمــوض الحلــم يف القصيــدة‪ ،‬بينــا يفتــح‬
‫بــاب النــر أو نوافــذه لتشـ ُّوف األفــق‪ ،‬أو عــى األقــل تخ ُّيلــه‪،‬‬

‫* كاتب وفنان تشكييل أردين‬


‫‪Hunaa11@gmail.com‬‬
‫‪22‬‬

‫هو الذي رأى‬


‫وهــو الســبب ذاتــه الــذي رأى يف عــدد مــن كتبــه‪" :‬يف حداثة‬ ‫كان خــري شــابًّا يف هيئتــه وروحــه وقيافتــه‪ ،‬بعينــن‬
‫الشــعر"‪" ،‬أبــواب ومرايــا‪ :‬مقــاالت يف حداثــة الشــعر"‪ ،‬وحتى‬ ‫متوقدتــن خلــف زجــاج النظــارة التــي ال تخفــي يقظتــه‬
‫يف كتــاب "الكــف واملخــرز‪ :‬دراســة يف األدب الفلســطيني‬ ‫وهــو يحــدق يف عــن الوجــود بــإرصار الســؤال الــذي ال‬
‫بعــد عــام ‪ 1967‬يف الضفــة والقطــاع" أ َّن الحداثــة الشــعريّة‬ ‫تنطفــئ جذوتــه‪ ،‬ويف ـ ّر كطــر لــرى بعــن الصقــر تفاصيــل‬
‫العرب ّيــة يف نهايــة األربعينــات مــن القــرن املــايض تتطلّــب‬ ‫األشــياء التــي يعيدهــا بلغــة أنيقــة وســاحرة‪ ،‬وأحيانًــا بلغــة‬
‫إعــادة نظــر‪ ،‬واســتقرا ًء نقديًّــا مــن خــال رؤى مغايــرة لتلــك‬ ‫ســاخرة‪.‬‬
‫التــي تزامنــت معهــا‪ ،‬والســياق نفســه الــذي وجــد فيــه أ َّن‬ ‫كانــت ال ُّرؤيــة هــي التــي تزاحمــت يف رأســه بتعـ ُّدد وســائل‬
‫"الوعــي الســالب جعــل معظــم مثقفينــا يتباهــون بق ـراءة‬ ‫التعبــر تتنــ َّوع بــن الشــعر والدراســة واملقــال‪ ،‬وتجتمــع‬
‫األدب الغــريب ولكنهــم مل يفكــروا للحظــة أ َّن فهــم تاريــخ‬ ‫يف املثقــف العضــوي الــذي يحلِّــق وراء الفكــرة الذهنيــة‪،‬‬
‫العــرب يحتــاج لق ـراءة واعيــة لهــذا التاريــخ مــن مصــادره‪،‬‬ ‫يالمــس تــراب املعنــى لريتقــي إىل فضــاء الداللــة منطلقًــا‬
‫لكنــه الوعــي الســالب وجلــد الــذات هــا مــا مي ّيـزان الكثــر‬ ‫مــن أ َّن الكلمــة متثــل فعـ ًـا معرف ًّيــا وتنويريًّــا لــرى األ ّمــة‬
‫مــن عــرب اليــوم‪ ،‬م َّمــن اختنقــوا بنــر الطغــاة وحنظــل‬ ‫عــى صورتــه التــي هــي صــورة "متعــددة وجامحــة ال تقبــل‬
‫الهزميــة‪".‬‬ ‫(‪.)1‬‬
‫الركــون"‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪23‬‬

‫ويف تحديــد منطلقــه الفكــري "الظاهــرايت" تعامــل خــري‬


‫منصــور مــع وســائل التعبــر بوصفهــا وســائط لخطابِــه‬
‫"يؤســس القــارئ القــا ّر‬
‫األســاس يف مرشوعــه الثقــايف‪ ،‬أن ِّ‬
‫يف وعيــه وطــرق تفكــره وأســلوب حياتــه ومنــط عيشــه‪...،‬‬
‫وهــو مــا تجـ ّـى يف كتابــة قصيــدة تنبنــي عــاد ًة عــى صــورة‬
‫واحــدة تحملهــا فكــرة بســيطة لك ّنهــا محتشــدة بالتســاؤالت‬
‫واإلشــارات الحرجــة واملربِكــة‪ ،‬حيــث تحيــل التفاصيــل‬
‫املنتقــاة القــارئ إىل ربــط تاريخــه الشــخيص بتاريــخ‬
‫الجامعــة وبالحيــاة مبفهومهــا الوجــودي العــام"(‪.)3‬‬
‫حتــى إ َّن بعــض فقــرات قصائــده تتحــ َّول إىل عناويــن‬
‫"أقــل مــن اعــراف"‪ ،‬مــن‬ ‫ّ‬ ‫ملقــاالت لــه‪ ،‬كــا يف عنــوان‬
‫قصيــدة "الحافــة" حيــث يناقــش يف املقــال‪ ،‬أو يقــارن بــن‬
‫املثقــف العــريب الــذي يســيطر عليــه الخــوف‪ ،‬وبــن الكاتــب‬
‫الغــريب الــذي يســيطر عليــه الحــب‪ ،‬فاملوضــوع ال يخلــو‬
‫مــن فكــرة الرتاســل بــن املقــال والقصيــدة عــى اختــاف‬
‫خريي منصور‬
‫املناســبة والفــرة الزمنيــة التــي كتــب فيهــا وســيلة التعبــر‬
‫تأسســا عــى فكــرة التواصــل‬ ‫يف الشــعر والنــر‪ ،‬ويف كليهــا ّ‬ ‫برئ الطفولة‬
‫واالنقطــاع‪ /‬القطــع الــذي يــرى فيــه ســبب الهزائــم التــي‬ ‫كانــت البدايــة مــن بــر الطفولــة التــي عاشــها الكاتــب يف‬
‫نخــرت الجســد العــريب أف ـرا ًدا وجامعــات‪ ،‬لكنــه يف الوقــت‬ ‫قريــة "ديــر الغصــون"‪ ،‬وقــت وقعــت الحــرب عــام ‪،1948‬‬
‫نفســه يســتعيد النــص "بتحيــن التاريــخ" كــا يقــول الشــاعر‬ ‫ومل يكــن قــد أتـ َّم الثالثــة مــن عمــره‪ ،‬لتغــدو صــورة الحــرب‬
‫واملفكــر أدونيــس‪ ،‬وهــي الفكــرة التــي ال تســقط املــايض‬ ‫ـادل للتيــه والضيــاع والحنــن واالنكســار والهزميــة التــي مل‬
‫معـ ً‬
‫عــى الحــارض‪ ،‬وإنَّ ــا تحــدث قط ًعــا مــع املــايض ملصلحــة‬ ‫يشــأ أن تجتــاح إىل داخلــه‪ ،‬وال وجــدان اإلنســان العــريب‪ ،‬ويف‬
‫الراهــن بقـراءة تفاصيلــه لوضــع اليــد عــى الجــرح وإن كان‬ ‫الوقــت الــذي ســعى للقطــع مــع تلــك الذكريــات األليمــة‪،‬‬
‫االكتشــاف موج ًعــا‪.‬‬ ‫فقــد ذهــب إىل مقاربــة تتصــل بالتاريــخ والفكــر العــريب‬
‫"أقل‪ ...‬أقل من االعرتاف‬ ‫تقــوم عــى االتصــال واالنفصــال بنقــد املراحــل املظلمــة‬
‫يهم سوى اثنني‬
‫وأكرث من نبأ ال ّ‬ ‫التــي أنتجــت حالــة التشــ ُّوهات يف الجســم العــريب‪ ،‬كــا‬
‫طفل توقَّف يف فكرة‬ ‫يقــول يف مقالــة لــه‪" :‬املقولــة املتكــررة عــن تجفيــف منابــع‬
‫وأب مات قبل ال ّزفاف‬ ‫اإلرهــاب تبقــى ناقصــة إذا اقتــر معناهــا عــى ال ُبعــد‬
‫وقد تستفيض القصيدة حتى ال ّرعاف‬ ‫امليــداين‪ ،‬فمنابــع الإلرهــاب ليســت ســا ًحا ومــالً فقــط‪ ،‬إنهــا‬
‫فتعدّ دهم‪ ...‬من شامل القتيل‪ ...‬إىل غربه‬ ‫أفــكار وتعاليــم وغســيل أدمغــة‪ ،‬لهــذا ال بــ ّد مــن ثقافــة‬
‫ومن بذرة الحزن حتى القطاف"‪.‬‬ ‫تحمــل مضــادات جذريّــة لهــذه األفــكار"(‪.)2‬‬
‫‪24‬‬

‫ويســيطر عــى الشــاعر منهــج الشــك‪ ،‬بينــا اليقــن هــو‬


‫الخطــأ‪ ،‬معــززًا فكــرة التضــاد التــي نجدهــا "كــودات"‬
‫وجمــل مفتاح ّيــة يف غالب ّيــة كتاباتــه‪ ،‬ومــن ديــوان "ال مـرايث‬
‫للنائــم الجميــل"‪:‬‬
‫"سوف أوقن يو ًما بأنَّ الذي‬
‫ضاعَ‪ ..‬ضي ْعتُهُ لألبدْ‬
‫حتم بأين أخطأت باب الدخول‬ ‫وسأوقن ً‬
‫فالشكوك القدمية كانت كفيض الجسدْ‬
‫والرتدُّد‪ ..‬كان ابتداء القبول‬
‫حبل يح ّز الخطى‪ ..‬من َم َسدْ "‪.‬‬ ‫كان ً‬

‫الضديّة والوعي السالب‬


‫عــى هــذا األســاس اجــرح خــري منصــور فكــرة الضديّــة يف‬
‫كتاباتــه الشــعرية التــي تقــوم عــى الصــورة وبالغــة التكثيف‬
‫شــكل يتــواءم مــع املضمــون‬ ‫ً‬ ‫واملفارقــة كأســلوب حــدايث‬
‫الــذي اختــاره لنقــد الظواهــر التاريخيــة يف الفكــر العــريب‬
‫أو العاملــي‪ ،‬ومــن هــذه الجمــل املفتاحيــة أو التــي تشــكل‬
‫أعــاق النفــس لينفــي أحدهــا اآلخــر ويقصيــه‪ ،‬هــذه‬
‫شــارات ســيميائية معرفيــة تتصــل باألجهــزة املفاهيميــة‬
‫الفكــرة األساســية التــي يرتاســل فيهــا الـراع بــن الكاتــب‪/‬‬
‫للنقــد‪ ،‬عنــوان كتابــه "االســترشاق والوعــي الســالب"‪ ،‬وهــو‬
‫املثقــف واإلنســان املتمــ ِّرد‪ ،‬وتتنازعهــا النصــوص بــن‬
‫ال يختلــف فيــه عــن مقــوالت إدوارد ســعيد "االســترشاق‬
‫القصيــدة والدراســة واملقــال كحوامــل وتجلّيــات للــراع‬
‫املعكــوس"‪ ،‬وكذلــك مقولتــه حــول العزلــة بـ"النوســتالجيا‬
‫الــذي يخوضــه الكاتــب مــع نفســه‪ .‬فيقــول يف لقــاء صحفــي‬
‫املضــادة"‪ ،‬و"األمكنــة الفاســدة" يف توصيفــه لالجتــاع يف‬
‫إنَّ‪" :‬زوربــا وقــارض الكتــب كالهــا يعيــش يف داخــي‪،‬‬
‫منطقــة االلتبــاس والشــك التــي تقيــم يف املنطقــة ال ّرخــوة‪.‬‬
‫وربــا يــأيت يــوم يقتــل أحدهام‬
‫وأحيانًــا يتصارعــان يف داخــي ّ‬
‫مــا أريــد قولــه هنــا إ َّن خــري منصــور الشــاعر والناثــر‬
‫اآلخــر وتنتهــي املصالحــة بينهــا لصالــح األحمــق املغامــر أو‬
‫واملفكــر الــذي صــدر لــه يف الشــعر‪" :‬غــزالن الــدم"‪" ،‬ال مرايث‬
‫الحكيــم املتأ ِّمــل"‪.‬‬
‫للنائــم الجميــل"‪" ،‬ظــال"‪" ،‬التيــه وخنجــر يــرق البــاد"‬
‫و"الكتابــة بالقدمــن" كان ينهــل مــن بــر واحــدة‪ ،‬ويقيــم‬
‫بيتًــا عــى ق ّمــة بنــاء موســوعي يف الثقافــة َّأســس لجهــازه‬
‫الهوامش والقراءات‪:‬‬ ‫املفاهيمــي املتم ـ ِّرد عــى الواقــع‪ ،‬متنك ـ ًرا أو منك ـ ًرا للحنــن‬
‫‪ .1‬محمود منري‪ ،‬خريي منصور‪" :‬أنا" متعدّ دة وجامحة ال تقبل‬ ‫املأســاوي‪ /‬النســتولوجي‪ ،‬وهــذه الفكــرة تقــوم عــى التضــاد‪،‬‬
‫الركون‪ ،‬العريب الجديد‪.2018 /9 /20 ،‬‬ ‫والوعــي الســالب‪ ،‬مقابــل الوعــي الشــقي أو العدم ّيــة‪ ،‬فهــو‬
‫‪ .2‬فقة النحر واالنتحار‪ ،‬صحيفة عمون اإللكرتونية‪.2015 /2 /10 ،‬‬
‫‪ .3‬مرجع سابق‪ ،‬محمود منري‪.‬‬ ‫رصاع تخوضــه الــذات الحقيقيــة مــع الــذات الوهميــة يف‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪25‬‬

‫بورتريه القراءات الحفريّة‬


‫الصقر الذي ترك ريشه يف األعايل‬
‫خريي منصور‪َّ :‬‬
‫محمد العامري*‬

‫تجــس مواطــن األمل يف املجتمعــات العرب ّيــة‪ ،‬ويســترشف الخســارات‬ ‫ّ‬ ‫كان خــري منصــور يتحــ َّرك بأصابــع عــ ّراف‬
‫املؤكّــدة يف كتاباتــه التــي تســر أعــاق الح ـراك االجتامعــي ومآالتــه الخاويــة‪ ...‬كان املتف ـ ِّرد يف توقُّعاتــه‪ ،‬صاحــب‬
‫مبضــع دقيــق يجــرح أعصــاب تلــك املجتمعــات ال ّنامئــة ليوقــظ فينــا خطرهــا ال ّداهــم يف السياســة والثقافــة عــى‬
‫كل أوجــاع العــامل‪ ...‬فأقدامــه‬
‫حــد ســواء‪ .‬لقــد انعــزل خــري يف نهاراتــه ليكــون ذلــك الكائــن الــذي يحمــل يف ليلــه َّ‬
‫كل ظاللــه التــي التصقــت عــى جــدران ال َّنــوم حــن كانــت الشــمس‬ ‫رسا تحــت معطــف الليــل‪ ،‬تخ ّبــئ َّ‬ ‫التــي تهــرب ًّ‬
‫تبحــث عنــه؛ شــمس مريضــة ال تدفّــئ ركــوة الســؤال‪.‬‬

‫كل امللذات"‪ -‬أوسكار وايلد‬


‫"الوهم هو أ َّول ّ‬

‫فيزيــاء الليــل والنهــار‪ ،‬فــكان نهــاره ليــل وليلــه نهــار‪ ،‬ابــن‬ ‫مل يــرك يل جملــ ًة صديقــي املختلــف خــري منصــور ّإل‬
‫الليــل املرقَّــط بنجومــه حيــث تبــدو لــه تلــك الســاوات‬ ‫وق ََصـ َـف مؤونتهــا كــا لــو أنــه ذلــك النبّــاش الــذي ال يضــع‬
‫ـب عــى خيالــه وجـ ًدا صاف ًيــا يف يف لحظــة‬ ‫كبــر مقلوبــة تصـ ّ‬ ‫قدمــه يف طريــق ســالك‪ ،‬يعشــق وعــورة املســالك؛ فهــي‬
‫اشــتباكه مــع ســؤال املدينــة وس ـكّانها‪.‬‬ ‫رسي يتكاثــف بــن يديــه ليدلقــه عــى‬ ‫بالنســبة لــه حــ ٌر ّ‬
‫يعيــش مــع كائنــات الكتابــة العاليــة‪ ،‬تحديـ ًدا مــع "لورانــس‬ ‫الورقــة‪.‬‬
‫داريــل" كوهــم يشــكل لــه وجــاء مــن قســوة العــامل‬ ‫َّ‬
‫يتعــر يك يقــع عــى‬ ‫صيــ ٌد معــر ٌّيف مل يطــأه أحــد قبلــه‪،‬‬
‫وجهالتــه‪ ،‬ح َّدثنــي عــن "داريــل" كثــ ًرا ورباع ّيتــه وجزئهــا‬ ‫مســاحة مهجــورة يف الفكــرة‪ ،‬يبحــث عــن أفــكار ضــا ّرة يف‬
‫األ َّول "جوســتني" التــي مل ترتــ ِو مــن الخطيئــة يف حياتهــا‪،‬‬ ‫مجتمعــات ثقاف ّيــة ركنــت إىل ســهولة ُملفتــة يف التعامــل‬
‫فــكان خــري متا ًمــا كـَ"جوســتني" رحــل ومل يرتـ ِو مــن خطيئــة‬ ‫مــع القــراءة عــى األقــل‪.‬‬
‫أســئلته يف مفاهيــم املثقــف والســلطة وطبائــع الكتابــة‬ ‫عرفتُــه منــذ العــام ‪ 1994‬يف "غالــري الفينيــق" الــذي كان‬
‫األقــرب إىل نبتــة تنمــو يف عواصــف صاعقــة‪.‬‬ ‫يعــج بالحلــم والســؤال‪ ،‬فــكان‬‫ّ‬ ‫يعــج باملثقفــن‪ ،‬يعنــي‬‫ّ‬
‫نبتــة الخطيئــة الحلــوة التــي تعيــش مرارتهــا الغائــرة يف‬ ‫لخــري ســؤاله املفاجــئ‪ ،‬يف غالــب األمــر يحـ ِّول الجلســة إىل‬
‫التأرجــع بــن ثنائيــة الســلطة والثقافــة والخــوف والحريــة‪،‬‬ ‫مســارات مليئــة بــدم الكتابــة املمهــورة بتجــارب ســابقة يف‬
‫واليــأس والحنــن‪ ،‬تعســف يف اجرتاحــات مســارب جديــدة‬ ‫العــامل مثــل "بروســت" و"كافــكا" و"بــول فالــري" وغريهــم‪،‬‬
‫يف مجتمعــات ن ّيئــة مل تنضجــع يف ســؤالها الوجــودي‪،‬‬ ‫فهــو كاحـراق الســنديان يف لحظــات عزلتــه التــي عبثــت يف‬

‫* شاعر وف ّنان تشكييل أردين‬


‫‪alameriart@yahoo.com‬‬
‫‪26‬‬

‫خريي منصور‬

‫عــى قــدر مــا يُتــاح لنــا مــن أوهــام الحريــة املؤطــرة‪ ،‬وهنــا‬ ‫مجتمعــات تغ ّمــس خــارج صحــن املعرفــة وتلهــث خلــف‬
‫أستشــهد بقــول يوســف إدريــس‪" :‬إ َّن الحريّــات املســموح‬ ‫كرنفاليــة مليئــة باملســاحيق الثقافيــة التــي تســيل يف لحظــة‬
‫بهــا يف عاملنــا العــريب كلــه قــد ال تكفــي كات ًبــا واح ـ ًدا"‪.‬‬ ‫ســطوع شــمس التح ـ ُّرر وتنكشــف عوراتهــا املركَّبــة‪ ،‬حيــث‬
‫فهــو املبضــع الــذي يذهــب مبــارشة إىل الــورم الثقــايف يك‬ ‫تحتــاج إىل شــجرة بأكملهــا يك تلــوذ ســوءتها يف تلــك اللحظــة‬
‫يبقــر عينــه‪ ،‬ويُســيل منــه مــا تراكــم مــن صديــد فاســد ال‬ ‫الح ـ ّرة‪.‬‬
‫يخلّــف ســوى روائــح منزوعــة منهــا أفــكار العطــر‪ ،‬يقــول‬ ‫لقــد انعــزل خــري يف نهاراتــه ليكــون ذلــك الكائــن الــذي‬
‫خــري‪:‬‬ ‫يحمــل يف ليلــه كل أوجــاع العــامل‪ ،‬ومل يــدرك يو ًمــا مــا يف‬
‫"إ َّن العصــا يف ذروة وظيفتهــا اآلن‪ ،‬أ ّمــا النــاي فهــو مغمــور‬ ‫حياتــه‪ ،‬معنــى واحـ ًدا لفكــرة املثقــف يف تلــك البــاد‪ ،‬كأنــه‬
‫بالرمــال‪ ،‬وقــد ســملت األصابــع األميّــة ثقوبــه"‪.‬‬ ‫رسا تحــت‬ ‫خلــق ليكــون هنــاك‪ ،‬فأقدامــه التــي تهــرب ًّ‬
‫ليــا كعادتــه طب ًعــا‪ ،‬كونــه‬ ‫كنــت أحــرص عــى لقائــه ً‬ ‫ُ‬ ‫معطــف الليــل‪ ،‬تخبــئ كل ظاللــه التــي التصقــت عــى‬
‫يعطينــي قيمــة لتســاؤاليت ومناكفــايت املعرف ّيــة بينــي وبينــه‪،‬‬ ‫جــدران النــوم حــن كانــت الشــمس تبحــث عنــه‪ ،‬شــمس‬
‫فــكان وعــ ًرا يف تصديــق اآلخــر‪ ،‬لكنــه ينصــدم ويندهــش‬ ‫مريضــة ال تدفــئ ركــوة الســؤال‪.‬‬
‫مــن مفارقــات كنــت أطارحهــا معــه‪ ،‬إىل درجــة أنــه قــال‬ ‫مل أنظــر خــري ســوى أنــه شــذوذ ثقــايف يحتــاج إىل فقيــه‬
‫يل‪" :‬هــل أنــت مــن املص ِّدقــن يف إمكانيّــات حصــول يشء‬ ‫شــاذ يــوازي ذلــك الشــذوذ يف األســئلة الخشــنة‪ ،‬يف اق ـراح‬
‫كنــت مل أزل أؤمــن‬ ‫هنــا أو هنــاك؟"‪ ،‬فكــرة أثارتنــي حــن ُ‬ ‫املشــرك املنهجــي الواقــع والحلــم‪ ،‬بكــون املشــرك قــد يكون‬
‫بــأ َّن مــن املمكــن أن نفعــل شــيئًا يف املســألة الثقافيــة‪ ،‬لكــن‬ ‫يف قــاع الشَّ ــجن وتحــ ّوالت األســئلة إىل عــزالت جديــدة‪،‬‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪27‬‬

‫خــري الــذي عشــق حقائــب الجلــد والســيجار الكــويب‬ ‫ـت أســباب عزلته‬ ‫لألســف أكتشــف أنــه كان عــى حــق‪ ،‬وعرفـ ُ‬
‫"كوهيبــا" ومــاركات القداحــات تحديــدا "ديبــون" وأشــكال‬ ‫املمتلئــة بذاتــه إىل حـ ّد اجـراح حكايــات مــع التُّحــف التــي‬
‫ـول إىل التحــف صاحبــة التاريــخ التليد‪،‬‬ ‫األقــام وألســنتها وصـ ً‬ ‫تحيــط بــه مــن كل جانــب مــن جوانــب مكتبــه‪ ،‬ومــا ك ّنــا‬
‫وعكاكيــز مغايــرة للعــرج‪ ،‬عكاكيــز كانــت تُ ْحمــل كغوايــة‬ ‫نتســاءل فيــه يش ـكِّل فاتحــة لجــرح كبــر‪ ،‬وســلطة معبَّــأة‬
‫لذلــك الشــخص وليــس لخلــل بأقدامــه‪ ،‬عرفْتُــه شــغوفًا بتلــك‬ ‫بااللتباســات املجتمع ّيــة كونهــا تتحــ َّرك عــر مســارات‬
‫املناخــات األرســتقراطية‪ ،‬كــا لــو أنــه يريــد أن يعيــد تاريــخ‬ ‫ترســخت يف الضمــر‬ ‫الحــذف والنفــي واإلقصــاء كثقافــة َّ‬
‫عائلتــه اإلقطاعيّــة يف "ديــر الغصــون" يف فلســطني‪.‬‬ ‫الشــعبي بوصفهــا الســائد الــذي ينبغــي أن يتحقــق يف‬
‫ـاف ال تنتهــي‪ ،‬منفــى الــذات‬ ‫قدمــاه حيــث متــي بات ِّجــا ٍه منـ ٍ‬ ‫ظــروف ثقافــة االســتقالل الواهــم املدعــوم مبتطلبــات‬
‫ـول إىل "مطعــم القــدس"‬ ‫وغربتهــا يف جهالــة الدهــاء وصـ ً‬ ‫النــص الثقــايف والغنــاء ومتظه ـرات الدولــة‪ ،‬وينطبــق ذلــك‬
‫ثــم صديقــه "عمــران الذهبــي" ورفيــق دربــه "املهنــدس‬ ‫عــى مجمــل املشــهد العــريب‪ ،‬ال ميكــن ملثقــف مثــل خــري‬
‫ـول إىل محــات‬ ‫نبيــل طوالبــة"‪ ،‬ومحـ ّـل الســاعات الشــهري وصـ ً‬ ‫منصــور أن يتــو َّرط بطاووسـيّة الثقافــة ســوى أ ْن يضــع يــده‬
‫"األنتيــكا" أو مــا تخبّئــه تلــك األشــياء مــن حكايــات غرائبيّــة‪،‬‬ ‫عــى موضــع األمل؛ فهــو العــن الصقريّــة التــي ترصــد فواصــل‬
‫فهــو كائــن يبحــث عــن الزمــن يف تلــك األشــياء‪ ،‬يحــاول‬ ‫الخلــل التــي تشــر إىل زيــادة منســوب الحرمــان مــن حريّــة‬
‫أن يســتعيده عــر أثــره عــى آنيــة خزف ّيــة مــن العــر‬ ‫اندملــت يف الذاكــرة بســبب تعظيــم العصــا وتســمني‬
‫الفكتــوري‪ ،‬مــرو ًرا بحســن أبوعــي الــذي يقــرح عليــه كتبًــا‬ ‫الضحيّــة‪.‬‬
‫ته ّمــه‪.‬‬ ‫***‬
‫تجــس مواطــن األمل يف‬‫ّ‬ ‫كان خــري يتحــ َّرك بأصابــع عــ ّراف‬ ‫مل تكــن رحلــة الحلــم الــذي حملــه خــري بــن أضالعــه‬
‫املجتمعــات العربيــة‪ ،‬ويســترشف الخســارات املؤكــدة يف‬ ‫املخططــة بالحــر‪ ،‬بعيـ ًدا عــن مســقط ظلِّــه‪ ،‬برحلــة ســهلة‪،‬‬
‫كتاباتــه التــي تســر أعــاق الحــراك االجتامعــي ومآالتــه‬ ‫فهــو الك ـ ُد الــدؤوب يف أفــكار تــكاد تكــون انقالبيّــة عــى‬
‫ـت أنتظــر مقالــه بفــارغ الصــر كونــه املقــال‬ ‫الخاويــة‪ ،‬كنـ ُ‬ ‫يحــس بفجيعــة‬ ‫ّ‬ ‫مجتمــع ال يــدرك منفــاه االجتامعــي‪ ،‬وال‬
‫املثقــف الــذي يبــث يف دواخلنــا صــورة مختلفــة عــن مــا‬ ‫تط ـ ّوق عنقــه يوم ًّيــا‪ ،‬كان خــري يهــرب مــن ذلــك البــؤس‬
‫نقــرأه يف الصحافــة العربيــة‪ ،‬كان املتفــ ِّرد يف توقعاتــه‪،‬‬ ‫ربــا ليض ّيــع إيقاعــات األمل بوقــع‬
‫باملــي نحــو قــاع املدينــة‪ّ ،‬‬
‫صاحــب مبضــع دقيــق يجــرح أعصــاب تلــك املجتمعــات‬ ‫األصــوات العاليــة للباعــة‪ ،‬ففــي كثــر مــن األحيــان تش ـكِّل‬
‫النامئــة ليوقــظ فينــا خطرهــا الداهــم يف السياســة والثقافــة‬ ‫تلــك الجوقــات الصوتيّــة والعشــوائيّة منا ًخــا لنســيان مؤقَّــت‬
‫عــى حــد ســواء‪.‬‬ ‫ربــا يُفرحـ َـك ولــو بشــكل واهــم‪.‬‬‫ّ‬
‫خرسنــاه كــا خرسنــا آخريــن مــن قبلــه‪ ،‬لكنــه تــرك لنــا‬ ‫يذهــب هاربًــا هنــاك لري ِّمــم لســان قلمــه‪ ،‬يف مم ـ ّر ض ّيــق‬
‫كثــ ًرا مــن ال ّريــش يف أعــى الجبــل‪.‬‬ ‫حيــث يجلــس معالــج األقــام خلــف طاولــة خشــبيّة‬
‫ظــل ير ِّمــم األقــام‬
‫تشــقّقت مــن ســطوة الزمــن‪ ،‬شــخص َّ‬
‫منــذ أكــر مــن خمســن عا ًمــا‪ ،‬يعرفهــم خــري ويعــرف‬
‫أمكنتهــم بدقــة متناهيــة‪.‬‬
‫‪28‬‬

‫خريي منصور‪..‬‬
‫أنت فنجان قهوتنا‬
‫أحمد الالوندي*‬

‫عندمــا كان خــري منصــور يكتــب عــن طفولتــه‪ ،‬فهــو يتذكَّــر املســتقبل وال يتذكَّــر املــايض‪ ،‬ألنــه يطلــق ممكنــات‬
‫كانــت يف طفولتــه ومل ت ُ ِتــح لــه الظــروف عمل ًّيــا أن يحقِّقهــا‪ ،‬لقــد ظـ َّـل الطفــل عائشً ــا فيــه ومل يفارقــه أو يفتقــده أبـ ًدا‬
‫حتــى يف أوقــات فرحــه وحزنــه‪ ،‬فأحيانًــا كان يلــوذ إليــه وأحيانًــا أخــرى كان يحـ ّـل لــه مشــكالته‪ .‬قــال مـ َّرة‪" :‬األزمنــة‬
‫أربعــة‪ .‬ذهبــي وفــي ونحــايس وقصديــري‪ .‬ودامئًــا لــدى اإلنســان إحســاس أ َّن الزمــن الذهبــي هــو الــذي مــى ألنــه‬
‫اكتمــل‪ ،‬وعندمــا نشــعر بالحنــن إىل أمكنــة عشــنا بهــا يف املــايض‪ ،‬هــذه األمكنــة يضــاف إليهــا ســنوات العمــر التــي‬
‫بُـ ِّددت فيهــا‪ ،‬هنــاك التبــاس واضــح يف التعامــل مــع املــايض‪ ،‬ألننــا ِ‬
‫نح ـ ُّن ليــس إىل املــايض املج ـ َّرد إنَّ ــا إىل (نَ ْح ـ ُن)‬
‫التــي كانــت متشـكِّلة يف ذلــك املــايض ويف صبانــا"‪.‬‬

‫الثانويــة يف الضفــة الغربيــة‪ ،‬ثــم درس املرحلــة الجامع ّيــة يف‬ ‫لــن ننــى أب ـ ًدا رحيــل الشــاعر والكاتــب خــري منصــور يف‬
‫القاهــرة‪ .‬أبعدتــه ســلطات االحتــال اإلرسائيــي مــن الضفــة‬ ‫عــان يــوم الثالثــاء ‪ 18‬ســبتمرب ‪2018‬‬ ‫العاصمــة األردنيّــة ّ‬
‫الغربيــة عــام (‪ ،)1967‬فســافر إىل الكويــت ثــم إىل بغــداد‪،‬‬ ‫وعــن عمــر يناهــز ‪ 73‬عا ًمــا‪ ...‬ذلــك الكاتــب واألديــب الــذي‬
‫بعدهــا عــاش يف عـ ّـان حيــث كان يكتــب عمــو ًدا يوم ًّيــا يف‬ ‫حفــر اســمه بحــروف مــن نــور يف ضمــر القـ ّراء مــن املحيــط‬
‫صحيفــة "الدســتور" األردنيــة‪ ،‬إذ ك ـ َّرس قلمــه لبنــاء وعــي‬ ‫إىل الخليــج‪ ،‬وذلــك مــن خــال أطروحاتــه الجذّابــة وعباراتــه‬
‫عــريب جديــد‪ .‬صــدر لــه الكثــر مــن الدواويــن الشــعرية‬ ‫الصافيــة وأفــكاره املضيئــة وشــعره الرصــن‪ ،‬وبعــد تكرميــه‬
‫منهــا‪" :‬ظــال" (‪" ،)1978‬غــزالن الــدم" (‪" ،)1981‬ال مــرايث‬ ‫بجائــزة الصحافــة العربيــة بــد ّيب كأفضــل كاتــب مقــال‪ ،‬قــال‬
‫للنائــم الجميــل" (‪" ،)1983‬التيــه وخنجــر يــرق البــاد"‬ ‫عنــه محمــود درويــش‪" :‬إنــه فنجــان قهوتنــا"‪.‬‬
‫(‪" ،)1987‬الكتابــة بالقدمــن" (‪ .)1992‬ولــه عــدد مــن‬
‫الكتــب النقديــة مــن بينهــا‪" :‬الكــف واملخــرز" (‪ )1980‬وهــو‬ ‫يُ َعـ ُّد رحيــل خــري منصــور خســارة كبــرة لــأدب وللثقافــة‬
‫عبــارة عــن دراســة يف األدب الفلســطيني بعــد عــام (‪،)1967‬‬ ‫ظــل صادقًــا متمســكًا بأفــكاره وقيمــه‬
‫العربيــة‪ ،‬فقــد َّ‬
‫"أبــواب ومرايــا" مقــاالت يف حداثــة الشــعر (‪" ،)1987‬تجارب‬ ‫عــر عــن‬
‫ومبادئــه ووف ًّيــا لقناعاتــه حتــى رحيلــه‪ ،‬كــا ّ‬
‫يف القــراءة" (‪.)1988‬‬ ‫القضيــة الفلســطينية التــي أث ّــرت عــى نصوصــه وعــى‬
‫نتاجــه األديب بشــكل عــام‪.‬‬
‫ُولــد خــري منصــور عــام (‪ )1945‬يف قريــة ديــر الغصــون‬
‫الواقعــة قــرب طولكــرم يف فلســطني‪ ،‬وأكمــل دراســته‬

‫* شاعر مرصي‬
‫‪ahmedelawndy22@yahoo.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪29‬‬

‫َّــت كان صبيًّــا‪ ،‬وبحســب‬ ‫عــرس أختــه الكــرى عندمــا ُزف ْ‬ ‫إ َّن خــري منصــور عندمــا يكتــب عــن طفولتــه مثـ ًـا‪ ،‬فهــو‬
‫التقاليــد املوجــودة آنــذاك‪ ،‬كان مــن املفــروض أن ترتــدي‬ ‫يتذكَّــر املســتقبل وال يتذكَّــر املــايض‪ ،‬ألنــه يطلــق ممكنــات‬
‫العــروس عبــاءة أبيهــا وتركــب حصانــه‪ ،‬وبالفعــل حــدث‬ ‫كانــت يف طفولتــه ومل ت ُ ِتــح لــه الظــروف عمل ًّيــا أن يحققهــا‪،‬‬
‫ذلــك‪ ،‬وكان بيتهــم عــى ق ّمــة الجبــل ولــه ب ّوابتــان‪ ،‬واحــدة‬ ‫لقــد ظـ َّـل الطفــل عائشً ــا فيــه ومل يفارقــه أو يفتقــده أب ـ ًدا‬
‫عاليــة اســتطاعت أن تخــرج منهــا هــي والحصــان‪ ،‬أ ّمــا‬ ‫حتــى يف أوقــات فرحــه وحزنــه‪ ،‬فأحيانًــا كان يلــوذ إليــه‬
‫الب ّوابــة الثانيــة فكانــت واطئــة قليـ ًـا مل تســتطع أن تخــرج‬ ‫وأحيانًــا أخــرى كان يحــل لــه مشــكالته‪ .‬قــال مـ َّرة‪" :‬األزمنــة‬
‫ـأل‬
‫منهــا‪ ،‬فش ـ َّدت لجــام الحصــان إىل الــوراء‪ ،‬وهــذا يُع ـ ُّد فـ ً‬ ‫أربعــة‪ .‬ذهبــي وفــي ونحــايس وقصديــري‪ .‬ودامئًــا لــدى‬
‫غــر حســن يف ليلــة الــزواج‪ ،‬ثــم قالــت ألخيهــا األكــر‪:‬‬ ‫اإلنســان إحســاس أ َّن الزمــن الذهبــي هــو الــذي مــى ألنــه‬
‫"إنني ال أستطيع أبدً ا أن أنحني‪..‬‬ ‫اكتمــل‪ ،‬وعندمــا نشــعر بالحنــن إىل أمكنــة عشــنا بهــا يف‬
‫وأنا أخرج من بيتنا عىل حصان أيب"‬ ‫املــايض‪ ،‬هــذه األمكنــة يضــاف إليهــا ســنوات العمــر التــي‬
‫بُـ ِّددت فيهــا‪ ،‬هنــاك التبــاس واضــح يف التعامــل مــع املــايض‪،‬‬
‫فانفعــل أخوهــا‪ ،‬وق ـ َّرر يف الوقــت نفســه أن تُهــدم الب ّوابــة‬ ‫ألننــا ِ‬
‫نح ـ ُّن ليــس إىل املــايض املج ـ َّرد إنَّ ــا إىل (نَ ْح ـ ُن) التــي‬
‫بال ّرصــاص‪ ،‬وقــد حــدث‪ .‬يقــول خــري منصــور‪" :‬ولقــد‬ ‫كانــت متش ـكِّلة يف ذلــك املــايض ويف صبانــا"‪.‬‬
‫أُطلقــت عــى هــذه البوابــة عــدة طلقــات ناريّــة‪ ،‬وقتهــا‬ ‫عنــد كل حديــث‪ ،‬كان خــري منصــور يثنــي عــى قريتــه‬
‫كانــت تكفــي لتحريــر القريــة مــن االحتــال"‪ .‬يــا لهــا مــن‬ ‫ويفتخــر بأهلهــا ويصفهــا بأنهــا قريــة جبل ّيــة وعنيــدة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫عــادات كانــت تغــرس ســات الع ـ ّزة والكرامــة يف النفــس‪،‬‬ ‫ـت ذات يــوم يف زيــارة لشــاعر موســكو العظيــم (رســول‬ ‫كنـ ُ‬
‫ومــا أجملهــا مــن قيــم ظلّــت تشـكِّل بالنســبة لهــذا الشــاعر‬ ‫حمزاتــوف) يف بيتــه‪ ،‬ومــن املعــروف أنــه نشــأ يف قريــة‬
‫منجـ ًـا خص ًبــا للتخييــل الشــعري‪ ،‬واإلحســاس بالــذات تجــاه‬ ‫ـتأذنت‬
‫أوصافهــا شــبيهه جـ ًدا بقريتــي "ديــر الغصــون"‪ ،‬فاسـ ُ‬
‫العــامل‪.‬‬ ‫منــه أن أســتخدم عبارتــه الشــهرية التــي اســتخدمها هــو‬
‫عــن قريتــه الجبل ّيــة لــي أصــف بهــا قريتــي‪ ،‬حيــث يقــول‬
‫ــب الشــاعر خــري منصــور والــده وتعلّــق بــه بشــكل‬ ‫أ َح َّ‬ ‫حمزاتــوف‪:‬‬
‫جنــوين يفــوق الخيــال‪ ،‬بــل وأوشــك أن يكــون مرض ًّيــا‪،‬‬ ‫"إنَّ َمن يولدون يف القرى الجبل ّية‬
‫خصوصــا أ َّن أبــاه رحــل يف وقــت كان خــري يف أوج‬ ‫ً‬ ‫ال ينحنون طوال حياتهم ّإل م ّرتني‬
‫مراهقتــه‪ ،‬لقــد رشب روحــه مبكـ ًرا‪ ،‬وعندمــا رحــل أبــوه بــدأ‬ ‫م َّرة لتقبيل طفل‬
‫يفتــش عــن بقايــا مالمحــه وعــن رائحتــه يف املــكان‪ ،‬لدرجــة‬ ‫وم َّرة يك يسقوا الحصان"‪.‬‬
‫أنــه قــال‪" :‬إىل اآلن أتذكَّــر رائحــة التبــغ يف أصابعــه‪ ،‬وأحتفــظ‬
‫بأشــياء كثــرة منــه يف داخــي‪ ،‬وكلــا تقـ َّدم يب العمــر أشــعر‬ ‫لقــد عــاش خــري منصــور يف أرسة لهــا عاداتهــا وتقاليدهــا‬
‫أننــي أشــبهه يف كل يشء"‪ .‬أ َّمــا أمــه فــكان تعلقــه بهــا ال‬ ‫التــي كان لهــا أكــر األثــر عــى شــخص َّيته وعــى كيانــه‪ ،‬ففــي‬
‫‪30‬‬

‫تلــك األشــياء‪ ،‬وغريهــا‪ ،‬مل يســتطع خــري منصــور أن يتأقلــم‬ ‫يصــل إىل مســتوى تعلقــه بأبيــه بحســب قولــه‪ .‬كانــت‬
‫ألي‬
‫ـرض باإلذعــان أو بالخضــوع ّ‬ ‫معهــا طــوال حياتــه‪ ،‬فلــم يـ َ‬ ‫هــي الوحيــدة مــن نســاء القريــة التــي يطلــق عليهــا اســم‬
‫أمــر مهــا كانــت النتائــج‪.‬‬ ‫(املدن َّيــة) ألنهــا ال ترتــدي ثيــاب القريــة‪ ،‬وترتــدي ثيــاب‬
‫لقــد عمــل هــذا األديــب الفـ ّذ يف بغــداد كمستشــار لشــؤون‬ ‫نســاء املــدن‪ ،‬وتلبــس الكعــب العــايل‪ ،‬وهــذا يفــرض درجــة‬
‫التأليــف والنــر‪ ،‬باإلضافــة إىل عملــه يف مجلــة "األقــام"‪،‬‬ ‫مــن العزلــة عليهــا وعليــه أيضً ــا‪.‬‬
‫وهــذه الفــرة كانــت مــن أجمــل فـرات حياتــه‪ ،‬إن مل تكــن‬
‫هــي األجمــل عــى اإلطــاق‪ ،‬وقــد أضافــت لــه الكثــر‪ ،‬وتوفر‬ ‫ذكــر شــاعرنا الراحــل أ َّن شَ ــعره يف صبــاه كان طويـ ًـا‪ ،‬وأ َّن أمه‬
‫لــه هنــاك أن يتصــل بأســاتذة كبــار وبأكادمييــن ومبؤرخــن‬ ‫هــي التــي كانــت ســب ًبا يف ذلــك‪ .‬وعندمــا دخل املدرســة كان‬
‫يصعــب أن يجدهــم يف مــكان آخــر‪ .‬فــكان عــى صلــة‬ ‫النظــام املُتَّبــع يف تلــك اآلونــة أن يحلــق التالميــذ رؤوســهم‪،‬‬
‫مبــارشة بـــعامل االجتــاع املعــروف الدكتــور (عــي الــوردي)‬ ‫ومل ّــا جــاء الــدور عليــه بــى بــكاء شــدي ًدا وهــرب مــن‬
‫و(عبدالوهــاب البيــايت) و(ســعدي يوســف)‪ ،‬وآخريــن‪ .‬ذات‬ ‫املدرســة وكرههــا يف البــدء بســبب سياســة (القطعنــة) هــذه‪.‬‬
‫رح ويتحــدث يف شــموخ‪:‬‬ ‫م ـ َّرة يف أحــد لقاءاتــه ســمعتُه ي ـ ِّ‬
‫ـت ِم ِّنــي بغــداد أخــر كثـ ًرا كمثقــف وكإنســان)‪.‬‬ ‫(إذا ُح ِذفَـ ْ‬
‫رحــم اللــه الشــاعر خــري منصــور‪ ،‬الــذي يقــول يف قصيدتــه‬
‫"تيــه"‪:‬‬
‫"كُ ّنا‬
‫إذا م َّر النسيم‬
‫الصحراء فيه‬ ‫نسيم ِ‬
‫بحرك نقرأ َّ‬
‫كُ ّنا إذا امتدَّ ت إلينا خلسة كفّاك‬
‫نقرأ طال ًعا ال نرتجيه‬
‫فنقول‪ :‬هذا الليل أ ّول صفحة لكتابنا‬
‫ونقول‪ :‬هذا ال ّنجم أغوى قارئيه‬
‫إذنِ اقرتبنا من خواتم أرضنا‬
‫ولسوف نوغل يف املدى‬
‫ويكون تيه"‪.‬‬
‫ ‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪31‬‬

‫دراسات‬
‫ومقالات‬
‫‪Photo Byjess Bailey on Unsplash‬‬

‫محمــد الحنتيتــي ‪ /‬د‪ .‬إيهــاب محمــد زاهــر ‪ /‬هــاين محمــد عــي ‪/‬‬
‫د‪ .‬ناديــة هنــاوي ‪ /‬نضــال القاســم ‪ /‬زينــب محمــد عبــد الحميــد‬
‫‪ /‬مختــار املاجــري ‪ /‬د‪ .‬عــاد الضمــور ‪ /‬عامــر أبومحــارب ‪/‬‬
‫إميان مرزوق ‪ /‬محمد محمود فايد ‪ /‬موىس أبو رياش ‪ /‬د‪ .‬مسلك ميمون‬
‫‪32‬‬

‫قراءة نقديّة يف السلوك التديُّني للمسلم العامي‬


‫عىل ضوء محاورة "أوطيفرون"‬
‫محمد الحنتيتي*‬

‫يف هــذه املقالــة يتو ّخــى الكاتــب تحقيــق غرضــن اثنــن‪ :‬يتمثــل األ َّول يف تحليــل الســلوك التديُّنــي عنــد املســلم العامــي؛‬
‫أول بفهــم اليونــاين القديــم‬‫فيتجســد يف مقارنــة هــذا التصـ ُّور ً‬
‫َّ‬ ‫مبــا يســاعدنا عــى إدراك تصـ ُّوره للديــن والتقــوى‪ .‬أ ّمــا الثــاين‬
‫للديــن والتقــوى كــا جــاء يف محــاورة "أوطيفــرون" التــي كتبهــا أفالطــون‪ ،‬ثــم ثان ًيــا الوقــوف عــى مــدى اســتيعاب العامــي‬
‫للمقصــد الفعــي للتديُّــن يف اإلســام‪ .‬ويل ِّخــص الكاتــب مــا قــام بــه أفالطــون؛ مــن إماطــة اللثــام عــن الفهــم الســطحي‬
‫رصفاتــه مبــا‬
‫للتديُّــن‪ ،‬ليدفعنــا إىل اســتنتاج أ َّن التقــوى ترتبــط باملعرفــة كفضيلــة مت ِّكــن الفــرد مــن اســتحضار العقــل أثنــاء ت ُّ‬
‫يجعلهــا منضبطــة لنمــوذج أخالقــي مطلــق يهــدف إىل تحقيــق الخــر العــام للجميــع‪.‬‬

‫متهيد‬
‫واســتنتاج مــا ميكــن أن يرتتــب عــن الترصفــات‪ .‬فالديــن جــاء‬ ‫يُ َعــ ِّرف أرســطو طاليــس ‪Aristote (384‬ق‪.‬م‪322 -‬ق‪.‬م)‬
‫يف الرســاالت الســاوية عــى شــكل قواعــد كليــة‪ ،‬ينبغــي‬ ‫اإلنســا َن بالحيــوان الناطــق‪ ،‬وهــذا مــا يجعلــه‪ ،‬ودونًــا عــن‬
‫عــى الفــرد أن يســتنتج منهــا كيــف يســلك‪.‬‬ ‫جميــع الكائنــات‪ ،‬يفكــ ُر قبــل اإلقــدام عــى أي ســلوك‪،‬‬
‫أعــدل األشــياء قســمة بــن‬ ‫ُ‬ ‫العقــل‬
‫َ‬ ‫وعــى ال ّرغــم مــن أ َّن‬ ‫وغال ًبــا مــا يأخــذ تفكــره غايــات أفعالــه بعــن االعتبــار‪،‬‬
‫النـ�اس‪ ،‬كـما ذهـ�ب إىل ذلـ�ك رينيـ�ه ديـ�كار ت �‪René Des‬‬ ‫والتــي تخضــع إىل مجموعــة مــن املحــددات (ثقافيــة‪ ،‬دينية‪،‬‬
‫‪cartes (1596‬م‪-1650‬م)‪ ،‬فــإ َّن االختــاف بــن أفــكار البــر‬ ‫اجتامعيــة‪ ،‬قانونيــة‪ .)...‬أ ّمــا األشــخاص الذيــن يســلكون كــا‬
‫قائــم‪ ،‬ومــر ّده ‪-‬بحســب الفيلســوف نفســه‪ -‬إىل طُــ ُرقِ‬ ‫اتُّ ِفــق‪ ،‬أي دون خلفيــة نظريــة لســلوكهم‪ ،‬ميكــن القــول إنَّهم‬
‫اســتخدام العقــل‪ ،‬فينتــج عــن ذلــك تفاوتــات كبــرة يف‬ ‫يخضعــون لالنفعــاالت ِمثلهــم ِمثــل الحيوانــات‪ ،‬فتتدخَّــل‬
‫الفهــم ت َجــا َه املوضــوع نفســه‪.‬‬ ‫أع ـراف املجتمعــات وقوانــن الــدول لردعهــم‪.‬‬
‫وعليــه‪ ،‬فإنــه ليــس هنــاك فه ـ ٌم واح ـ ٌد للنصــوص الدينيــة‪،‬‬ ‫ويعـ ُّد الديــن مــن أبــرز األيديولوجيــات التــي تؤطــر ســلوك‬
‫فبالنســبة للقــرآن كتــاب املســلمني قــد نجــد ثالثة تصـ ُّورات‪،‬‬ ‫ـجم‬
‫ـب عــى املؤمــن أن يجعــل ســلوكه منسـ ً‬ ‫الفــرد‪ ،‬فَ َيتَ َو َّجـ ُ‬
‫إذا أخذنــا بعــن االعتبــار التمييــز الــذي قــام بــه الفيلســوف‬ ‫والقواعــد التــي وضعهــا الديــن‪ ،‬عــر حســاب مــا ميكــن‬
‫املســلم أبوالوليــد بــن رشــد (‪1126‬م‪ ،)-1198‬حينــا بـ َّـن أ َّن‬ ‫رصفــه بطريقــة نظريــة قبــل أن ميــ ّر إىل‬ ‫أن يرتتــب عــن ت ُّ‬
‫القــرآن يتض َّمــن ثالثــة خطابــات‪ :‬األ َّول خطــايب تكــر فيــه‬ ‫التطبيــق‪ ،‬فــإن تبـ ّدى لــه أ َّن ســلوكه يتوافــق ومــا يســمح بــه‬
‫األمثلــة‪ ،‬والثــاين جــديل يطغــى عليــه الحجــاج‪ ،‬والثالــث‬ ‫ـوض أعــرض عنــه‪.‬‬ ‫الديــن أقــدم عليــه‪ ،‬وإن ظهــر لــه أنــه مرفـ ٌ‬
‫برهــاين يســتخدم لغــة عقالنيــة محضــة‪.‬‬ ‫ومنــه فإننــا أمــام تقديـرات برشيــة قامئة عــى إِ ْعـ َـا ِل العقل‪،‬‬

‫* كاتب مغريب‬
‫‪prof-philosophie2016@outlook.fr‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪33‬‬

‫الوشــاية بالظــامل حتــى لــو كان أقــرب النــاس منــك‪ ،‬عكــس‬ ‫ونحــن يف مقالتنــا هــذه ســنحاول أن نحلــل الســلوك الدينــي‬
‫الفجــور الــذي هــو الســكوت عــن الحــق‪ ،‬فَـــ"زوس وهو خري‬ ‫للمســلم العامــي لنكشــف عــن تصــ ُّوره للديــن والتديُّــن‪،‬‬
‫اآللهــة وأعدلهــم [‪ ]...‬قيــد أبــاه نفســه‪ ،‬ألنــه كان يلتهــم‬ ‫مســتنريين يف ذلــك مبحــاورة موســومة بـ"أوطيفــرون" كتبهــا‬
‫أبنــاءه بغــر عــدل"(‪.)5‬‬ ‫أفالطــون ‪Platon (428‬ق‪.‬م‪348 -‬ق‪.‬م)‪ ،‬كان لهــا الهــدف‬
‫يُبــدي ســقراط امتعاضــه مــن هــذه الحكايــات الشــائعة عــن‬ ‫وتوصلــت إىل نتائــج مكّنتــه مــن تكويــن صــورة‬ ‫نفســه‪َّ ،‬‬
‫اآللهــة التــي ال تتفــق ومفهــوم األلوهيــة‪ ،‬ثــم يرفــض هــذه‬ ‫واضحــة عــن طريقــة متثُّــل اليونــاين القديــم للتديُّــن‬
‫ـال‬
‫اإلجابــة‪ ،‬ألنهــا ال تشــر إىل ماهيّــة املفهــوم‪ ،‬بــل تقـ ِّدم مثـ ً‬ ‫ـدف نســعى نحــن أيضً ــا إىل بلوغــه‪ ،‬حتــى إ ْن‬ ‫والتقــوى‪ ،‬هـ ٌ‬
‫عــن فعــل تقــي‪ ،‬يف حــن أنــه يبحــث عــن املعنــى العــام‬ ‫مت َك ًّنــا مــن ذلــك قا َرنًّــا مــا إذا كان فهــم العــوا ِّم من املســلمني‬
‫للكلمــة‪ ،‬الــذي يصــدق عــى مجموعــة مــن الحــاالت الجزئ ّية‬ ‫للتديُّــن يتــاىش ومــا يحفــظ للديــن والعبــد قيمتهــا‪.‬‬
‫املشــابهة(‪ .)6‬فيعيــد أوطيفــرون إصــاح تعريفــه واعتبــار‬ ‫لــكل هــذا ســتحاول مقالتنــا أن تجيــب عــن األســئلة اآلتيــة‪:‬‬
‫ـول مــن اآللهــة(‪.)7‬‬‫التقــوى هــي مــا كان محبوبًــا ومقبـ ً‬ ‫توصــل إليهــا أفالطــون يف‬ ‫مــا هــي أهــم األفــكار التــي َّ‬
‫يدحــض ســقراط بســهولة هــذا التعريــف‪ ،‬أل َّن اآللهــة‪ ،‬كــا‬ ‫محاورتــه "أوطيفــرون" بخصــوص فهــم اليونــاين القديــم‬
‫تحــي األســاطري اليونانيــة(‪ ،)8‬غــر متفقة فيام تحــب أو تكره‪،‬‬ ‫َّــل املســلم العامــي‪ ،‬يف‬ ‫للتديُّــن والتقــوى؟ وكيــف يَتَ َمث ُ‬
‫فمفهــوم التقــوى الــذي يوافــق عليــه زوس باعتبــاره معاقبــة‬ ‫عرصنــا هــذا‪ ،‬التديُّــن؟ وهــل هنــاك تشــابه بــن فهمــه‬
‫الظــامل‪ ،‬يرفضــه أورانــوس وكرونــوس كونهــا ظاملــان‪.‬‬ ‫وفهــم اليونــاين القديــم؟ وهــل يتوافــق تَ َثُّلُ ـ ُه ذاك والغايــة‬
‫ويحــاول أوطيفــرون اإلفــات مــن املــأزق الــذي تســببت‬ ‫الحقيقيّــة للديــن؟‬
‫فيــه لــه أســئلة ســقراط الحرجــة‪ ،‬حيــث يخــر هــذا األخــر‬
‫أ َّن الظــامل ال يعــرف بظلمــه‪ ،‬وإنَّ ــا ينكــره‪ ،‬وهــذا مــا فعلتــه‬ ‫تلخيص محاورة "أوطيفرون"‬
‫اآللهــة‪ ،‬التــي تختلــف حــول مفهــوم العــدل ومفهــوم الجور‪.‬‬ ‫رجــل ديــنٍ يدعــى أوطيفــرون التقــاه يف‬ ‫يُ َحــا ِو ُر ســقراط َ‬
‫لــذا يُعـ ّدل ســقراط تعريــف أوطيفــرون‪ ،‬بح ّجــة أنــه يحــاول‬ ‫رواق الحاكــم امللــك(‪ ،)1‬ومــدار الحــوار بينهــا حــول تعريــف‬
‫فهــم ُمحــا َو ِر ِه‪ ،‬الــذي ي َّدعــي بــأ َّن هــذا التعريــف نفســه‬ ‫(‪)2‬‬
‫مفهــوم التقــوى‪ ،‬وقــد كان ســبب مجــيء األ َّول ا ِّدعــاء عــام‬
‫الــذي كان يقصــده‪ ،‬بحيــث يكــون أ َّن مــا يجمــع اآللهــة عــى‬ ‫ُرفــع ض ـ ّده مــن طــرف شــاب مجهــول يدعــى ميليتــوس(‪،)3‬‬
‫ـي مقـ َّدس(‪.)9‬‬ ‫كرهــه فهــو فاجــر‪ ،‬وأ َّن مــا يحبونــه تقـ ّ‬ ‫بينــا جــاء الثــاين متّ ِهـ ًـا أبــاه بقتــل عبـ ٍـد عــن غــر قصــد‪.‬‬
‫ويــرع ســقراط يف فحــص جــواب محــا َو ِر ِه‪ ،‬عــر محاولــة‬ ‫وملّــا علــم ســقراط بذلــك‪ ،‬طلــب منــه أن يعلّمــه مــن علمــه‬
‫ــن ملــن األســبق ّية؟ هــل يســبق حــب اآللهــة املقــ َّدس‬ ‫تَ َب ُّ‬ ‫ــي بــه؛ مــن أنــه‬ ‫الواســع‪ ،‬لعلــه ينفعــه يف إبطــال مــا ُر ِم َ‬
‫أم يــأيت بعــده؟ وبتعبــر آخــر‪ ،‬هــل تحــب اآللهــة مــا هــو‬ ‫فاج ـ ٌر ملح ـ ٌد مفس ـ ٌد للشــباب‪ .‬فســأل رجــل الديــن املعت ـ ّد‬
‫مقدســا؟ أيهــا‬‫ً‬ ‫مقــ َّدس أم أ َّن مــا تحبــه اآللهــة يصبــح‬ ‫بنفســه واملتفاخــر بعلمــه‪ :‬مــا هــي التقــوى يف رأيــك ومــا‬
‫الســبب وأيهــا النتيجــة؟‬ ‫(‪)4‬‬
‫هــو الضــال؟‬
‫فيكــون جــواب أوطيفــرون هــو أ َّن مــا تحبــه اآللهــة يصبــح‬ ‫ليجيبــه بأنهــا فضيلــة ترتبــط باملجــال الدينــي‪ ،‬وتتمثــل يف‬
‫‪34‬‬

‫يتحــ َّدث عــن تلــك األنــواع مــن الخدمــات التــي يؤديهــا‬ ‫مقدســا‪ ،‬وبالتــايل فحــب اآللهــة ســابق عــى القدســ ّية‪.‬‬ ‫ً‬
‫الخــدم لســادتهم‪ ،‬فالخــدم هــم مــن يحتاجــون الســادة أكــر‬ ‫ـن لنــا ســقراط خطورتهــا‪ ،‬ألنــه مــا عــى املــرء إال‬ ‫فكــر ٌة يُ َبـ ِّ ُ‬
‫مــا يحتــاج الســادة الخــدم‪ .‬وتتمثــل الخدمــة التــي يؤديهــا‬ ‫أن يســتميل حــب اآللهــة بالصلــوات والقرابــن يك تصبــح‬
‫رع بالدعــاء وهــي‬ ‫البــر لآللهــة يف تقديــم القرابــن والت ـ ُّ‬ ‫رصفاتــه مقبولــة حتــى لــو كانــت ظاملــة للــذات‬ ‫جميــع ت ُّ‬
‫رسهــم‪ ،‬ألن غريــزة اآللهــة تقــي‬ ‫ال تفيدهــم بقــدر مــا ت ُّ‬ ‫ولآلخريــن‪ .‬وهنــا يتهــم أوطيفــرون ســقراط بأنــه هــو‬
‫عليهــم أن يُع َبــدوا مــن طــرف البــر‪ ،‬والصــاة بهــذا املعنــى‬ ‫الســبب يف اضطــراب براهينــه‪.‬‬
‫تصبــح نو ًعــا مــن التجــارة فيهــا أخــد وعطــاء‪ ،‬حيــث يبادلهــا‬ ‫فيقــرح عليــه فيلســوفنا املســاعدة لبلــورة تعريــف جديــد‪،‬‬
‫اآللهــة مبنحهــم الصحــة والــرزق والســداد للمصلــن‪.‬‬ ‫عــر البــدء بطــرح هــذا الســؤال‪ :‬هــل العــدل والتقــوى يشء‬
‫ال يوافــق ســقراط عــى هــذا التعريــف‪ ،‬ألنــه ينطــوي عــى‬ ‫واحــد أم أ َّن التقــوى جــزء مــن العــدل؟ أوليــس ما هــو عادل‬
‫فكــرة تجعــل اآللهــة هــي َمــن تخــدم البــر‪ ،‬وتجعــل هــذه‬ ‫تقــي بالــرورة؟ ثــم يق ـ ِّدم شــع ًرا ميجــد زوس‪ ،‬مضمونــه‪:‬‬
‫التجــارة ضيــزى‪ ،‬فالبــر ال يق ِّدمــون شــيئًا يُذكــر لآللهــة‬ ‫أ َّن النــاس يقدســون هــذا اإللــه ألنهــم يخافونــه‪ ،‬ويُ َف ِّنــ ُد‬
‫ويربحــون الكثــر‪ ،‬فكيــف ميكــن أن نســاوي بــن الرتاتيــل‬ ‫هــذه الفكــرة‪ ،‬أل َّن النــاس يخافــون مــن املــرض لكنهــم ال‬
‫واملــال الوفــر؟!‬ ‫يقدســونه‪ ،‬فليــس دامئًــا ســبب التقديــس هــو الخــوف‪ ،‬وإمنــا‬
‫إ َّن هــذه التجــارة هــي لصالــح البــر‪ ،‬وتســقطنا يف فكــرة‬ ‫العكــس؛ الخــوف ناتــج عــن التقديــس‪ ،‬وبهــذا فالعدالــة‬
‫جعــل اآللهــة كائنــات ُو ِجــدت فقــط لخدمــة البــر‪ ،‬الذيــن‬ ‫كفكــرة مق َّدســة ســابقة عــن التقــوى كخــوف واح ـرام ملــا‬
‫رع والدعــاء فقــط حينــا يريــدون‬ ‫يعــودون إلهــا بالتــ ُّ‬ ‫هــو مق ـ َّدس‪.‬‬
‫الحصــول عــى يشء مــا‪ ،‬وآلهــة مثــل هكــذا شــكل ال يعـ ّول‬ ‫ومنــه يــرى أوطيفــرون أنــه إذا كانــت التقــوى ذلــك الجــزء‬
‫عليهــا‪ ،‬فهــي كاألداة التــي نســتخدمها يف دور محــ َّدد‪ ،‬ثــم‬ ‫مــن العدالــة الــذي نخــدم بــه اآللهــة‪ ،‬فــإ َّن باقــي أج ـزاء‬
‫نضعهــا يف مكانهــا إىل أن نحتاجهــا مــرة أخــرى‪ ،‬وهنــا يبلــغ‬ ‫العدالــة نخــدم بــه الصالــح العــام للنــاس‪ ،‬أي السياســة‬
‫الــكالم منتهــاه‪ ،‬حيــث يســتأذن أوطيفــرون منرصفًــا لضيــق‬ ‫واألخــاق‪.‬‬
‫الوقــت‪ ،‬وهــذه ح ّجــة واهيــة والســبب الحقيقــي هــو‬ ‫ولغايــة اختبــار مــدى متانــة هــذه الفكــرة الجديــدة‪ ،‬يســأل‬
‫أ َّن ســقراط عــ ّراه وكشــف جهلــه وفهمــه القــارص للديــن‬ ‫ســقراط محــا َو ِر ِه عــن املقصــود بالخدمــة‪ ،‬هــل هنــا نتحـ َّدث‬
‫والتديُّــن‪.‬‬ ‫عنهــا بالطريقــة نفســها التــي نتحـ َّدث بهــا عن خدمــة البرش‬
‫وهكــذا نكــون قــد لخَّصنــا مــا قــام بــه أفالطــون؛ مــن‬ ‫لحيواناتهــم؟ فخدمــة الجيــاد سياســتها‪ ،‬وخدمــة الــكالب‬
‫إماطــة اللثــام عــن الفهــم الســطحي للتديُّــن‪ ،‬ليدفعنــا إىل‬ ‫االعتنــاء بهــا‪ ...‬وهــذه الخدمــة تكــون لصالــح الحيوانــات‪،‬‬
‫اســتنتاج أ َّن التقــوى ترتبــط باملعرفــة كفضيلــة مت ِّكــن الفــرد‬ ‫فهــذا املفهــوم للخدمــة يــؤ ّدي إىل نتائــج خطــرة‪ ،‬تجعــل‬
‫رصفاتــه مبــا يجعلهــا منضبطــة‬ ‫مــن اســتحضار العقــل أثنــاء ت ُّ‬ ‫اآللهــة هــي َمــن تحتــاج البــر‪ ،‬والشــعائر الدينيــة تقــول‬
‫لنمــوذج أخالقــي مطلــق يهــدف إىل تحقيــق الخــر العــام‬ ‫العكــس‪.‬‬
‫للجميــع‪ .‬فــا هــي يــا تــرى حقيق ـ ُة فهــمِ املســلم العامــي‬ ‫ينفــي أوطيفــرون أن يكــون هــذا هــو مقصــده‪ ،‬بحجــة أنــه‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪35‬‬

‫ســلوكات مرتبطــة ببيئتهــا وخاضعــة لهــا‪ ،‬ومرهونــة بــروط‬ ‫للديــن والتديُّــن يف زماننــا هــذا؟‬
‫سياســية وثقافيــة وأيديولوجيــة واقتصاديــة خاصــة بعــر‬
‫الســلف‪ ،‬وال ميكننــا أن نجــد كلمــة لوصــف مــا يقــوم بــه‬ ‫تحليل السلوك التد ُّيني للمسلم العامي‬
‫رف رجعــي‪.‬‬ ‫العامــي هنــا غــر القــول بأنــه ت ـ ُّ‬ ‫نحيــط القــارئ علـ ًـا أننــا ال نتح ـ َّدث عــن الديــن كــا هــو‬
‫ويُ َســ َّج ُل كذلــك أ َّن التديُّــن عنــد الجمهــور تحــ َّول مــن‬ ‫محفــوظ يف القــرآن الكريــم‪ ،‬وإنَّ ــا عــن التديُّــن عنــد املســلم‬
‫عبــادة إىل عــادة‪ ،‬فالعامــي قــد ال يكــرث للعبــد الــذي ال‬ ‫العامــي‪ ،‬الــذي يكـ ِّون تصـ ُّوره عــن هــذه املامرســة إ ّمــا‪ :‬عــن‬
‫يصــي‪ ،‬بالرغــم مــن أ َّن الصــاة هــي عــاد الديــن وهــي‬ ‫ّ‬ ‫طريــق قراءتــه الخاصــة للنصــوص‪ ،‬أو عــر االســتناد عــى مــا‬
‫يؤاخــذ العبــد الــذي ال يصــوم‪ ،‬لــذا‬ ‫ثــاين أركان اإلســام‪ ،‬بينــا ِ‬ ‫ينــره ال ُّدعــاة واألمئّــة‪ ،‬ولعـ َّـل الفرضيّــة الثانيــة هــي التــي‬
‫بالصــوم خوفًــا مــن ملـزات‬‫يخاطــر بعــض املســلمني املــرىض َّ‬ ‫الســواد األعظــم مــن عــوام املســلمني‪.‬‬‫يلجــأ لهــا َّ‬
‫املجتمــع‪.‬‬ ‫وميكننــا أن نكـ ِّون فكــرة تقــرب مــن حقيقــة فهــم العامــي‬
‫ولعـ َّـل الدليــل األوضــح عــى هــذا التحـ ُّول؛ مــا أضحــى يقــع‬ ‫للديــن انطالقًــا مــن تحليــل ســلوكه التديُّنــي‪ ،‬فاإلنســان‪ ،‬كــا‬
‫خــال عيــد األضحــى‪ ،‬حيــث إ َّن مجموعــة مــن العبــاد‪ ،‬خوفًا‬ ‫رصحنــا مــن قبــل‪ ،‬يســلك بنــاء عــى خلفيّــة فكريّــة ترســم‬ ‫َّ‬
‫مــن ســلطة املجتمــع‪ ،‬يلجــؤون إىل االق ـراض للقيــام بهــذه‬ ‫رصفاتــه‪ ،‬وهكــذا تب ـ ُن املالحظــة أ َّن العامــي يركــز‬ ‫معــامل ت ُّ‬
‫ـأي‬‫السـ ّنة (األضحيــة)‪ ،‬وقــد يكــون القــرض مقابــل فائــدة‪ ،‬فـ ّ‬ ‫كث ـ ًرا عــى طُ ـ ُرق العبــادات‪ ،‬وقــد يصــل هــذا الرتكيــز إىل‬
‫عبــادة هــذه التــي تتـ ّم عــن طريــق اقـراف إثــم الربــا؟‬ ‫غايــة التش ـ ُّدد بخصــوص التفاصيــل الدقيقــة حــول كيفيّــة‬
‫وهكــذا نســتنتج أ َّن التديُّــن‪ ،‬الــذي يركِّــز كثـ ًرا عــى الطقــس‬ ‫أداء الطقــس الدينــي (طريقــة الوضــوء‪ ،‬كيفيّــة الصــاة‪،‬‬
‫التديُّنــي دون اســتحضار العقــل‪ ،‬يقــف عنــد حــدود ظاهــر‬ ‫أســلوب اللبــاس‪ ،‬حالقــة الشــعر‪ ،‬إعفــاء اللحيــة‪ ،‬عــادات‬
‫الديــن‪ ،‬وال يســتطيع أن يــدرك جوهــره‪ ،‬مـ ّـا يجعلــه غــر‬ ‫الطعــام‪ ،‬أســاء األوالد‪.)...‬‬
‫ِيــد ســلوكات العبــد يف عالقاتــه بالغــر‪،‬‬ ‫قــادر عــى تَ ْجو ِ‬ ‫وإ ْن تكلَّــم عــن األخــاق تحــ َّدث عنهــا يف إطــار وقائــع‬
‫وميكــن إرجــاع ذلــك إىل ســببني اثنــن‪:‬‬ ‫حدثــت يف املــايض للســلف الصالــح مبعــزل عــن املنــاخ‬
‫أ ّمــا األ َّول فيتمثــل يف أ َّن قــراءة العامــي للنــص الدينــي‬ ‫العــام الــذي أنتــج تلــك الوقائــع‪ ،‬وأث ّـ َر يف القـرارات املتخــذة‬
‫عاجــزة عــى االنتقــال مــن املثــال إىل الفكــرة‪ ،‬مـ ّـا يؤكــد‬ ‫بخصوصهــا‪ ،‬فيرتتــب عــن ذلــك أمــران اثنــان‪:‬‬
‫فشــل مدارســنا يف ترســيخ الكفايــات لــدى التالميــذ‪...‬‬ ‫أ ّمــا األ َّول عجــز العامــي عــى النفــاذ إىل املقاصــد الحقيقيّــة‬
‫فالنــص القــرآين متض ِّمــن لثالثــة أســاليب ِخطابيــة؛ األول‬ ‫للتديُّــن‪ ،‬حيــث يحــره يف االهتــام املفــرط بالشــكليّات‪،‬‬
‫خَطــايب‪ ،‬والثــاين جــديل‪ ،‬والثالــث برهــاين‪ .‬ونعتقــد بــأ َّن‬ ‫فتُــؤ َّدى العبــادات بطريقــة ميكانيك ّيــة يف تغييــب واضــح‬
‫املغــزى وراء ذلــك هــو مســاعدة العبــد عــى التــد ُّرج يف فهم‬ ‫ـنبي‬
‫للعقــل‪ ،‬وهــذا مــا ال يوافــق عليــه الديــن نفســه كــا سـ ِّ‬
‫النــص‪ ،‬وليــس كــا ذهــب ابــن رشــد إىل اعتبــار أ َّن األســلوب‬ ‫بعــد قليــل‪.‬‬
‫لخاصــة‬
‫للخاصــة‪ ،‬والثالــث ّ‬ ‫ّ‬ ‫األ َّول مو َجــه للعا ّمــة‪ ،‬والثــاين‬ ‫وأ ّمــا الثــاين عيــش هــذا املؤمــن العامــي يف تالبيــب رجــال‬
‫الخاصــة‪ ،‬ألننــا نعتــر بــأ َّن القــرآن جــاء ليجمــع املســلمني‬ ‫ّ‬ ‫مــن زمــن غــر زمانــه‪ ،‬ومحاولــة محــاكاة ســلوكاتهم‪ ،‬وهــي‬
‫‪36‬‬

‫عــوام املســلمني‪ ،‬يجعلنــا نســتنتج أنهــم يقرتبــون مــن فهــم‬ ‫حــول مفهــوم واحــد عــن اللــه والديــن مبــا يدفعهــم إىل‬
‫اليونــاين القديــم نفســه للديــن والتديُّــن والتقــوى كــا‬ ‫التوافــق ال إىل التفــ ُّرق إىل ثــاث وســبعني فرقــة‪ ،‬زد عــى‬
‫كشــفه أفالطــون‪.‬‬ ‫ذلــك‪ ،‬فنتائــج بحــوث علــم نفــس النم ـ ّو أثبتــت أ َّن الفــرد‬
‫فَ ْهـ ٌم يجعــل الديــن تجــارة؛ طرفيهــا بائـ ٌع و ُمشـرٍ‪ ،‬والبضاعــة‬ ‫إبــان عمليّــات تعلُّمــه ميـ ّر عــر هــذه األطــوار؛ حيــث يبــدأ‬
‫هــي العبــادات‪ ،‬بينــا الثمــن هــو الــرزق والصحــة يف الدنيــا‪،‬‬ ‫بالتعلــم عــر املشـخّصات ثــم ميـ ّر إىل التعلــم باألمثلــة قبــل‬
‫ودخــول الج ّنــة يف اآلخــرة‪ ،‬وهــذا فهــم قــارص للديــن‪.‬‬ ‫أن يصــل إىل مســتوى التجريــد‪.‬‬
‫أ ّمــا حضــور لفــظ التجــارة يف بعــض اآليــات؛ كقولــه تعــاىل‪:‬‬ ‫فيتجســد يف عــدم قــدرة خطابــات دعــاة وأمئّــة‬‫َّ‬ ‫وأ ّمــا الثــاين‬
‫الذيـ َن آ َم ُنــوا َهـ ْـل أَ ُدلُّ ُكــم َعـ َـى تِ َجــا َر ٍة تُ ْنجِي ُكــم ِمـ ْن‬
‫{يَــا أَيُّ َهــا ِ‬ ‫املســلمني عــى مســاعدة العــوام عــى هــذا االنتقــال املرجــو‪،‬‬
‫َاب أَلِيــم}(‪ ،)11‬فيمكــن فهمــه يف إطــار الصــور البالغ ّيــة‬ ‫َع ـذ ٍ‬ ‫ـات غال ًبــا مــا تقــف عنــد حــدود البــكاء عــى‬ ‫كونهــا خطابـ ٍ‬
‫التــي يزخــر بهــا القــرآن‪ ،‬أي أنَّهــا تعبــر مجــازي أريــد بــه‬ ‫األطــال‪ ،‬وال تح ِّفــز العبــد عــى اســتخدام عقلــه‪ ،‬عــى الرغم‬
‫حــثّ املســلمني عــى العبــادات التــي تنفعهــم‪ ،‬وال تنفــع الله‬ ‫مــن أ َّن الديــن نــدب كثـ ًرا إىل التدبُّــر والنظــر العقــاين‪ ،‬فــا‬
‫ره يف يشء‪.‬‬ ‫أو ت ـ ّ‬ ‫هــي الغايــة وراء دعــوة الــرع إىل اســتحضار العقــل خــال‬
‫ومنــه فإننــا معــر املســلمني ندخــل الجنــة برحمــة مــن الله‬ ‫العبــادة؟‬
‫تعــاىل ال بأعاملنــا‪ ،‬التــي يُ ـراد منهــا تدريــب النفــس عــى‬
‫التدبُّــر‪ ،‬وتربيــة الجســد عــى الصــر‪ ،‬وطأمنــة الوجــدان‪...‬‬ ‫من الفهم الظاهري إىل جوهر الدين‬
‫وإدراك هــذه املســائل ال يتــم إال عــر إعــال العقــل أثنــاء‬ ‫إ َّن تغييــب العبــد للعقــل‪ ،‬وحــره للطقــس التعبُّــدي يف‬
‫ولعــل هــذا الدعــاء يدعــم مــا قلنــا‪( :‬اللَّ ُهــ َّم إِ َّن‬ ‫ّ‬ ‫التديُّــن‪،‬‬ ‫حــركات آل ّيــة تتكــ َّرر دون خشــوع وتدبُّــر‪ ،‬أمــر يجعلــه‬
‫َم ْغ ِف َرتَـ َـك أَ ْو َســ ُع ِمــ ْن َذنْ ِبــي َو َر ْح َمتُـ َـك أَ ْر َجــى ِع ْنـ ِـدي ِمــ ْن‬ ‫املتجســدة بقـ َّوة يف قول‬ ‫ِّ‬ ‫يبتعــد عــن الغايــة الفعل ّيــة للديــن‪،‬‬
‫ــي)(‪.)12‬‬ ‫َع َم ِ‬ ‫ـت ِلُتَ ِّـ َم َمـكَا ِر َم األَ ْخـاَق"(‪،)10‬‬‫النبــي محمــد(ص)‪" :‬إِنَّ َــا بُ ِعثْـ ُ‬
‫واللــه عــز وجــل دعــا إىل هــذا األمــر يف الكثــر مــن آياتــه‬ ‫ملــاذا؟‬
‫ول األَبْ َصــار}(‪ ،)13‬ومثــل قولــه‬ ‫ـروا يَــا أُ ِ‬ ‫كقولــه تعــاىل‪{ :‬فَا ْعتَـ ِ ُ‬ ‫أل َّن العا ّمــي عــى ال ّرغــم مــن تأديتــه لهــذه الطقــوس‪ ،‬فإنهــا‬
‫ات َواألَ ْر َض َو َمــا‬ ‫ــا َو ِ‬
‫الس َ‬
‫ُــوت َّ‬‫أيضً ــا‪{ :‬أَ َولَــ ْم يَ ْنظُــ ُروا ِف َملَك ِ‬ ‫ال تتمثَّــل يف ســلوكاته إبــان عالقاتــه بالغــر‪ ،‬وبالتــايل فتديُّنــه‬
‫َــق اللــ ُه ِمــ ْن َشء}(‪ ،)14‬وانطالقًــا مــن هاتــن اآليتــن‬ ‫َخل َ‬ ‫يحســن مــن أخالقــه‪ ،‬ومــا التخلُّــف الــذي تعيشــه جـ ّـل‬ ‫ال ِّ‬
‫الــرع دعــا إىل اعتبــار املوجــودات‬ ‫يخربنــا ابــن رشــد أ َّن َّ‬ ‫الــدول اإلســامية عــى جميــع األصعــدة إال دليــل عــى ذلــك‪،‬‬
‫بالعقــل وتطلــب معرفتهــا بــه ‪.‬‬
‫(‪)15‬‬
‫رب بــن املصلــن إىل داخــل‬ ‫إىل درجــة أ َّن الخصــام صــار يتـ َّ‬
‫واملقصــود باالعتبــار هــو أخــذ العــرة عــر إعــال العقــل‪،‬‬ ‫املســاجد‪ ،‬هــذا مــن جهــة‪ ،‬ومــن جهــة أخــرى فــإ َّن مقصــد‬
‫وهــذا مــا تؤكــده اآليــة الثانيــة‪ ،‬وبالتــايل يصــر التديُّــن‬ ‫التدبُّــر هــو تحقيــق إنســانيّة اإلنســان‪ ،‬التــي ال تتـ ّم إال عــر‬
‫وجوبًــا حضــو ٌر للعقــل خــال العبــادات‪ ،‬ودون ذلــك يســقط‬ ‫التجـ ُّرؤ عــى اســتخدام العقــل‪.‬‬
‫العبــد املســلم يف فهــم ســطحي للديــن‪.‬‬ ‫وبالتــايل‪ ،‬فــإ َّن الفهــم الســطحي للتديُّــن مــن لــدن غالب ّيــة‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪37‬‬

‫خالصة‬ ‫واللــه عــز وجــل بـ ّـن يف آيــات أخــرى أ َّن َمــن يعرفــه حــق‬
‫نعتقــد بــأ َّن الديــن جــاء لينتقــل باإلنســان مــن دائــرة‬ ‫املعرفــة ويخشــاه إمنــا هــم العلــاء بقولــه تعــاىل {إِنَّ َــا‬
‫الحيوانيــة إىل دائــرة اإلنســانية‪ ،‬أمــر ال ميكنــه أن يتــم إال‬ ‫ـى الل ـ َه ِم ـ ْن ِع َبــا ِد ِه ال ُعلَـ َـا ُء}(‪ ،)16‬وت ُع ـ َرف هــذه الفئــة‬ ‫يَ ْخـ َ‬
‫عــر تحفيــز العبــد وتدريبــه عــى اســتعامل عقلــه‪ ،‬لــذا‬ ‫بقدرتهــا عــى اســتعامل العقــل‪ ،‬وقــد يكــون هــذا تشــجي ًعا‬
‫ـرع يف مجموعــة مــن املواضــع إىل التدبُّــر‬ ‫فقــد دعانــا الـ َّ‬ ‫عــى رضورة اســتخدام العبــد لعقلــه وعــدم اكتفائــه‬
‫واســتعامل العقــل ســواء يف الحيــاة العامــة أو أثنــاء أداء‬ ‫بالتقليــد األعمــى‪ ،‬وميكننــا أن ندعــم قولنــا بهــذه اآليــة‬
‫العبــادات‪ ،‬وبالتــايل فــكل تغييــب للعقــل خــال الطقــس‬ ‫{الذيـ َن يَ ْذكُـ ُرو َن اللـ َه ِق َيا ًمــا َوقُ ُعــو ًدا َو َعـ َـى‬
‫القرآنيــة كذلــك‪ِ :‬‬
‫التديُّنــي مــن شــأنه أن يجعــل مــن هــذا األخــر تجــارة كــا‬ ‫ات َواألَ ْر ِض َربَّ َنــا َمــا‬‫ــا َو ِ‬ ‫ُج ُنو ِبهِــم َويَتَ َفكَّــ ُرو َن ِف َخلْــقِ َّ‬
‫الس َ‬
‫بـ َّـن ذلــك أفالطــون يف محاورتــه "أوطيفــرون" حيــث يصبــح‬ ‫َاب ال َّنــار}(‪،)17‬‬ ‫ــا ُســ ْب َحان ََك فَ ِق َنــا َعــذ َ‬ ‫ْــت َهــذَا بَ ِاط ً‬
‫َخلَق َ‬
‫التقــي هــو الــذي يتقــن حــركات الصــاة‪ ،‬واللــه‬ ‫ّ‬ ‫العبــد‬ ‫والتــي تقـ ِّرر أ َّن البــارئ عـ ّز وجـ ّـل ربــط الذِّكــر ‪-‬أي الدعــاء‪-‬‬
‫أعــ َرف وأعلَــم‪.‬‬ ‫بالتفكُّــر أي باســتخدام العقــل‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ .8‬انظر كتاب أنساب اآللهة‪ ،‬لهيزيود‪ ،‬ترجمة صالح األشمر‪ ،‬منشورات‬ ‫متخصص يف النزاعات الدينية‪ .‬وللمزيد انظر الهامش‬‫ِّ‬ ‫‪ .1‬سحيث يوجد ٍ‬
‫قاض‬
‫الجميل‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.2015 ،1‬‬ ‫رقم ‪ 2‬ص ‪ 35‬من كتاب محاكمة سقراط ألفالطون‪ ،‬ترجمة د‪.‬عزت قرين‪ ،‬دار‬
‫‪ .9‬أفالطون‪ ،‬محاورات أفالطون (أوطيفرون‪ ،‬الدفاع‪ ،‬أقريطون‪ ،‬فيدون)‪،‬‬ ‫قباء للطبع والنرش والتوزيع القاهرة‪ ،‬ط‪.2001 ،2‬‬
‫ترجمة زيك نجيب محمود يف إطار سلسلة مرياث الرتجمة‪ ،‬العدد ‪ ،1773‬املركز‬ ‫‪ .2‬يبني عزت قرين يف الهامش رقم ‪ 3‬الفرق بني االدعاء الذي يتخذ صبغة عامة‬
‫القومي للرتجمة‪ ،‬القاهرة‪ ،2012 ،‬ص‪.44‬‬ ‫مثل إن كانت الدولة تجمع بني السلطة الدينية‬ ‫تهم الدولة؛ كقضايا الدين ً‬
‫‪ .10‬أخرجه البيهقي يف شعب اإلميان الحديث رقم ‪7978‬؛ والسنن الكربى‬ ‫والسلطة الزمنية‪ ،‬واالتهام الذي يتخذ صبغة شخصية‪ ،‬ومنه فسقراط ُرفع يف‬
‫حديث رقم ‪ ،20782‬شعب اإلميان أليب بكر أحمد بن الحسني البيهقي‪،‬‬ ‫حقه ادعاء عام أما أوطيفرون فيتهم أباه بالقتل‪.‬‬
‫تحقيق محمد بسيوين زغلول‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1410 ،1‬هـ‪.‬‬ ‫‪ .3‬هناك محاورة تدعى "الدفاع" تتحدث عن هذه الواقعة‪ ،‬وهي مرتجمة‬
‫‪ .11‬سورة الصف‪ ،‬اآلية ‪.10‬‬ ‫إىل اللغة العربية من طرف د‪.‬عزت قرين‪ ،‬دار قباء للطبع والنرش والتوزيع‬
‫‪ .12‬أخرجه الحاكم يف مستدركه‪ ،‬كتاب الدعاء والتكبري والتهليل والتسبيح‬ ‫القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2001 ،2‬ومرتجمة من طرف زيك نجيب محمود يف إطار سلسلة‬
‫والذكر‪ ،‬حديث رقم‪ .1/728 ،1994 :‬كتاب املستدرك عىل الصحيحني‪ ،‬لإلمام‬ ‫مرياث الرتجمة العدد ‪ ،1773‬املركز القومي للرتجمة‪ ،‬القاهرة‪.2012 ،‬‬
‫الحاكم محمد بن عبدالله النيسابوري (‪405‬هـ) تحقيق مصطفى عبدالقادر‬ ‫‪ .4‬أفالطون‪ ،‬محاكمة سقراط‪( ،‬محاورات "أوطيفرون"‪" ،‬الدفاع"‪،‬‬
‫عطا‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1411 ،1‬هـ‪1990 /‬م‪.‬‬ ‫"أقريطون")‪ ،‬ترجمة وتقديم د‪.‬عزت قرين‪ ،‬دار قباء‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة‪،2001 ،‬‬
‫‪ .13‬سورة الحرش‪ ،‬اآلية ‪.2‬‬ ‫ص‪.42‬‬
‫‪ .14‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.185‬‬ ‫‪ .5‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.42‬‬
‫‪ .15‬أبوالوليد محمد بن أحمد بن رشد‪ ،‬فصل املقال وتقرير ما بني الرشيعة‬ ‫‪ .6‬من بني أهداف الفلسفة السقراطية البحث عن تحديد دقيق للمفهوم‬
‫والحكمة من االتصال‪ ،‬تقديم وتعليق د‪.‬ألبري نرصي نادر‪ ،‬ط‪ ،2‬دار املرشق‪،‬‬ ‫باعتباره تصو ًرا كل ًيا تشرتك فيه مجموعة من األفراد‪ ،‬لذلك كتب أرسطو‪:‬‬
‫لبنان‪ ،1968 ،‬ص‪.28‬‬ ‫"أمران اثنان علينا أن ننسبهام إىل سقراط وبحق‪ :‬التأسيس عرب إعطاء الخربة‬
‫‪ .16‬سورة فاطر‪ ،‬اآلية ‪.28‬‬ ‫األولية‪ .‬ثم إرساء املفاهيم العامة"‪ .‬انظر كتاب أطلس الفلسفة‪ ،‬لبرت كونزمام‬
‫‪ .17‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.191‬‬ ‫وآخرون‪ ،‬ترجمة جورج كتورة‪ ،‬املكتبة الرشقية‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،2001 ،1‬ص‪.37‬‬
‫‪ .7‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.44‬‬
‫‪38‬‬

‫ال ِّرواية الشفو ّية‬


‫الدراسات التاريخ ّية املعارصة‬
‫يف ِّ‬
‫د‪ .‬إيهاب محمد زاهر*‬

‫ـكل مــن أشــكال املقاومــة؛ مقاومــة التشــويه‬ ‫إ َّن كتابــة تاريــخ العــرب الحديــث واملعــارص يتض َّمــن شـ ً‬
‫الــذي يتعـ َّرض لــه الفكــر والـراث العــريب اإلســامي‪ ،‬كــا أنــه وســيل ٌة للحفــاظ عــى الهويّــة العرب ّيــة‪،‬‬
‫ويبــدو أ َّن هــذه امله ّمــة ليســت بالســهلة‪ ،‬نظـ ًرا أل َّن األرشــيف التاريخــي العــريب ُمبعــر ومســلوب؛‬
‫هــذا الواقــع امل ُـ ّر يجعــل املــؤ ِّرخ الواعــي ال يســتطيع القفــز عنــه‪ ،‬وإ َّن واجبــه الوطنــي يحتِّــم عليــه‬
‫يف هــذه الحالــة أن يعتمــد عــى ال ِّروايــة الشــفويّة يف كتابــة التاريــخ العــريب املعــارص‪ ،‬والحفــاظ‬
‫عليــه مــن الضّ يــاع‪ ،‬فال ِّروايــات الشــفويّة أكملــت ومــا زالــت ت ُكمــل مــا تجاهلتــه الوثائــق الرســميّة‬
‫أو املصــادر التاريخ ّيــة واالجتامع ّيــة الســابقة‪.‬‬

‫املــايض مــن خــال الكلمــة املحكيّــة املحفوظــة يف الذاكــرة‬ ‫حظيــت الروايــة الشــفوية باهتــام الباحثــن يف تدويــن‬
‫اإلنســانية‪ ،‬واملنقولــة مشــافه ًة مــن خــال روايــات األف ـراد‬ ‫التاريــخ املعــارص أليّــة أ ّمــة أو شــعب‪ ،‬فالروايــة الشــفويّة‬
‫وذكرياتهــم عــن أحــداث حياتهــم‪ ،‬وخرباتهــم ومشــاهداتهم‪،‬‬ ‫أصبحــت مت ِّممــة والزمــة لتوكيــد مــا ورد يف الوثائــق‬
‫خاص ـ ًة تلــك التــي شــاركوا فيهــا شــخص ًيا‪ ،‬أو كانــوا مجــرد‬ ‫الرســمية الصــادرة عــن الحكومــات‪ ،‬مــع األخــذ بعــن‬
‫شــهود عيــان عليهــا‪.‬‬ ‫االعتبــار أنــه ال يجــب عــى املــؤرخ أن يعتــر تلــك الروايــة‬
‫وقــد ُعــرف التاريــخ الشــفوي أو الروايــة الشــفوية منــذ‬ ‫ـبب مــن األســباب؛ فقــد‬ ‫ألي سـ ٍ‬ ‫بديـ ًـا عـ ّـا ورد يف الوثائــق ّ‬
‫القــدم‪ ،‬وال زالــت األحاديــث وســيلة رضوريــة لنقــل‬ ‫يتأثــر الـراوي بالهــوى‪ ،‬فيذكــر مــا يحلــو لــه مــن وقائــع مــع‬
‫املعلومــات واألخبــار والتجــارب بــن الشــعوب‪ ،‬وعــى الرغــم‬ ‫بعــض املبالغــة‪ ،‬خاصــ ًة إذا كان مناوئًــا لسياســة حكومتــه‬
‫مــن االبتــكارات الجديــدة التــي تطـ ُّـل علينــا يو ًمــا بعــد آخــر‪،‬‬ ‫التــي وقعــت األحــداث يف زمنهــا‪ ،‬وأن مييــل إىل االنتقائيّــة‪،‬‬
‫خاصـ ًة اخـراع وســائل الطباعــة‪ ،‬مــا زال النــاس حــول العــامل‬ ‫وهنــا يتطلــب مــن الباحــث تقــي الحقائــق‪ ،‬وأن ال تدفعــه‬
‫يســتخدمون الروايــة الشــفوية يف نقــل املعلومــات واألخبــار‬ ‫حامســته لقبــول رواي ـ ٍة بعينهــا ملجــرد أنهــا القــت هـ ً‬
‫ـوى يف‬
‫واملعــارف‪.‬‬ ‫نفســه‪ ،‬فــا بــد مــن تدقيقهــا ومتحيصهــا؛ ويف حــال الشــك‬
‫وأ ّمــا املخطوطــات التــي تتنــاول التاريــخ اإلســامي العــام‬ ‫يف صــدق روايـ ٍة مــا‪ ،‬فعليــه تجنبهــا‪ ،‬حتــى ال ت ُحســب عليــه‪،‬‬
‫والتاريــخ الحديــث عــى وجــه الخصــوص‪ ،‬والتــي كتبهــا‬ ‫فهــو املســئول أولً وأخـ ًرا عـ ّـا أورده مــن أحـ ٍ‬
‫ـداث تاريخيــة‪.‬‬
‫ود َّونهــا بعــض املؤرخــن والعامــة‪ ،‬فقــد وصلتنــا عــن طريــق‬ ‫ويُعتــر التاريــخ الشــفوي منهــج بحــث مه ّمتــه دراســة‬

‫* مد ِّرس يف قسم التاريخ‪ /‬الجامعة األردن ّية‬


‫‪ehabzaher40@yahoo.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪39‬‬

‫دور الوثائــق العربيــة واإلســامية ومــن خــال دور الوثائــق‬


‫األجنبيــة املختلفــة‪ ،‬وهــذه املخطوطــات هــي روايــات د َّونهــا‬
‫املؤرخــون عــر الروايــات الشــفوية لألهــايل الذيــن عــارصوا‬
‫األحــداث‪ ،‬ومــا يؤكــد ذلــك مــا د َّونــه املــؤرخ ابــن تغــري‬
‫بــردي يف كتابــه "النجــوم الزاهــرة يف أخبــار مــر والقاهــرة"‪،‬‬
‫ومــا د َّونــه املــؤرخ محمــد بــن إيــاس يف كتابــه "بدائــع‬
‫الزهــور يف وقائــع الدهــور"‪ ،‬واألمــر حيــدر الشــهايب يف كتابــه‬
‫"الغــرر الحســان يف تواريــخ أهــل الزمــان"‪ ،‬املعــروف باســم‬
‫"تاريــخ األمــر حيــدر الشــهايب"‪ ،‬وطنــوس الشــدياق يف كتابــه‬
‫"أخبــار األعيــان يف جبــل لبنــان"‪ ،‬وشــيخ املؤرخــن املرصيــن‬
‫عبدالرحمــن الجــريت يف تحفتــه الرائعــة "عجائــب اآلثــار يف‬
‫الوقائــع واألخبــار" املعــروف باســم "تاريــخ الجربيت"‪...‬إلــخ‪.‬‬
‫والتاريــخ بصــور ٍة عامــة هــو كل مــا يحيــط بنــا‪ ،‬يف حياتنا ويف‬
‫مجتمعاتنــا‪ ،‬راس ـ ٌخ يف الذكريــات الحيــة للنــاس التــي مــرت‬
‫ـات عــن‬ ‫بالتجــارب‪ ،‬والذيــن يخربوننــا مبــا نجهلــه مــن معلومـ ٍ‬
‫وقائــع مل نعارصهــا‪ ،‬فلــكلٍ منهــم روايــة شــخصية عــن ٍ‬
‫حدث‬
‫قــد عــارصه أو كان ف َّعــالً يف إنجــازه‪ ،‬خاصـ ًة تلــك الروايــات‬
‫التــي أمل َّــت بالشــعوب العربيــة‪ ،‬مثــل ذكرياتهــم عــن‬
‫فــرة االنتــداب الربيطــاين والحــروب العربيــة‪ -‬اإلرسائيليــة‬
‫مثــل عــام ‪1948‬م‪ ،‬ومــا ترتــب عنهــا مــن ضيــاع فلســطني‪،‬‬
‫أو العــدوان الثــايث عــى مــر وقطــاع غــزة‪ ،‬وحــرب عــام‬
‫‪1967‬م‪ ،‬التــي ترتــب عليهــا احتــال األرايض العربيــة وضيــاع‬
‫مــا تبقــى مــن أرض فلســطني‪.‬‬

‫ـكل‬‫إ َّن كتابــة تاريــخ العــرب الحديــث واملعــارص يتض َّمــن شـ ً‬


‫مــن أشــكال املقاومــة؛ مقاومــة التشــويه الــذي يتعــ َّرض‬
‫لــه الفكــر والــراث العــريب اإلســامي‪ ،‬كــا أنــه وســيل ٌة‬
‫للحفــاظ عــى الهويــة العربيــة‪ ،‬ويبــدو أ َّن هــذه املهمــة‬
‫لوحة للفنانة غدير حدادين‬
‫‪40‬‬

‫مؤرخــو الحكومــات املختلفــة‪ ،‬حيــث يد ّونــون إنجــازات‬ ‫ليســت بالســهلة‪ ،‬نظــ ًرا أل َّن األرشــيف التاريخــي العــريب‬
‫تلــك الحكومــات‪ ،‬فــإ َّن الروايــة الشــفوية ُوجــدت لتعطــي‬ ‫مبعــر ومســلوب؛ هــذا الواقــع امل ُـ ّر يجعــل املــؤ ِّرخ الواعــي‬
‫امله ّمشــن حقّهــم‪ ،‬ولتع ـ ِّزز الف ـراغ الــذي يدعــم الدراســات‬ ‫ال يســتطيع القفــز عنــه‪ ،‬وإ َّن واجبــه الوطنــي يحتِّــم عليــه‬
‫التاريخيــة‪.‬‬ ‫يف هــذه الحالــة أن يعتمــد عــى الروايــة الشــفوية يف كتابــة‬
‫خالصــة القــول‪ ،‬إ َّن جمــع الروايــات الشــفوية وتوثيقهــا عمل‬ ‫التاريــخ العــريب املعــارص‪ ،‬والحفــاظ عليــه مــن الضيــاع‪.‬‬
‫بالــغ األهميــة‪ ،‬ألنــه يحفــظ خـرات وتجــارب كانــت سـتُنىس‬
‫أو تتحــ ّول ‪-‬يف أحســن األحــوال‪ -‬إىل أســاطري وخرافــات‬ ‫وعــى الرغــم مــن أ َّن مصطلــح التاريــخ الشــفوي يبــدو‬
‫بفعــل تناقلهــا مشــافه ًة مــن شـ ٍ‬
‫ـخص إىل آخــر‪ ،‬ومــن جيــلٍ‬ ‫متناقضً ــا يف ذاتــه‪ ،‬أل َّن التاريــخ مبعنــاه الض ِّيــق عنــد بعضهــم‬
‫إىل جيــل‪.‬‬ ‫يعنــي الكتابــة‪ ،‬واملؤرخــون عامــ ًة متحيــزون للمصــادر‬
‫املكتوبــة‪ ،‬فالروايــة الشــفوية تبــدو املواقــف منهــا متباينــة‪،‬‬
‫الروايــة الشــفوية إذا أُحســن اســتخدامها ســوف تشــكّل‬ ‫وبعــض املؤرخــن يرفضــون االعــراف بهــا كمصــد ٍر مــن‬
‫مصــد ًرا ال يقــل أهميــة وال دقــة عــن املصــادر املكتوبــة‪ ،‬مــع‬ ‫مصــادر املعرفــة التاريخيــة وذلــك لســببني؛ األول‪ :‬اعتامدهــا‬
‫وإل‬
‫مراعــاة تح ـ ّري الدقــة فيــا يُنقــل عــى لســان ال ـ ُّرواة‪ّ ،‬‬ ‫عــى الذاكــرة التــي هــي ُعرضــة للقصــور والخطــأ‪ ،‬والثــاين‪:‬‬
‫ـال عــى‬‫فإنهــا ميكــن أن تفقــد أهميتهــا‪ ،‬بــل قــد تكــون وبـ ً‬ ‫أ َّن التاريــخ الشــفوي‪ ،‬وتحديـ ًدا تاريــخ الحيــاة‪ ،‬هــو عمليــات‬
‫املتلقــي؛ ففــي حــال إســاءة اســتخدامها فإنّنــا بذلــك نســمح‬ ‫تجــري عــى األحيــاء يف حــن أ َّن التاريــخ هــو دراســة املــايض‪.‬‬
‫لبعضهــم بنقــل روايــات إ ّمــا تافهــة أو ُمختَلَقَــة وســوف‬ ‫واملهــم يف الروايــات الشــفوية أنهــا أكملــت ومــا زالــت‬
‫ـوب ونقــص‪.‬‬ ‫تتناقلهــا األجيــال عــى مــا فيهــا مــن عيـ ٍ‬ ‫تكُمــل مــا تجاهلتــه الوثائــق الرســمية أو املصــادر التاريخيــة‬
‫واالجتامعيــة الســابقة‪ ،‬فتلــك الوثائــق أو املصــادر أخربتنــا‬
‫بالكثــر عــن حيــاة املشــاهري والعظــاء واملتنفّذيــن‪ ،‬وعــن‬
‫الحــوادث الكــرى يف التاريــخ‪ ،‬لكنهــا تع َّمــدت تجاهــل‬
‫النــاس العاديــن ومســاهامتهم التــي كان لهــا دو ٌر بــار ٌز‬
‫يف صنــع تلــك األحــداث‪ .‬ومبــا أ َّن التاريــخ عامــ ًة يد ِّونــه‬

‫املراجع واملصادر‪:‬‬

‫‪ .1‬مدلل‪ ،‬وليد‪ :‬بحث بعنوان‪" :‬موضوعات التاريخ الشفوي وأهميتها" يف كتاب‪ :‬محارضات يف منهجية التاريخ الشفوي وتقنياته‪ ،‬إصدار‬
‫مركز التاريخ الشفوي بكلية اآلداب بالجامعة اإلسالمية‪ ،‬ط‪ ،1‬غزة‪1426 ،‬هـ (مايو ‪2005‬م)‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ .2‬شاهني‪ ،‬رياض‪" :‬مقدمة يف التاريخ الشفوي" يف كتاب‪ :‬محارضات يف منهجية التاريخ الشفوي وتقنياته‪ ،‬إصدار مركز التاريخ الشفوي‬
‫بكلية اآلداب بالجامعة اإلسالمية‪ ،‬ط‪ ،1‬غزة ‪1426‬هـ (مايو ‪2005‬م)‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫‪ .3‬أبو النحل‪ ،‬أسامة‪ ،‬الرواية الشفوية يف الرسائل العلمية الخاصة بتاريخ فلسطني املعارص‪ ،‬جامعة األزهر‪ ،‬غزة‪2006 ،‬م‪ ،‬ص‪.5-8‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪41‬‬

‫القيمة األخالق ّية‬


‫يف كتابات الجاحظ‬
‫هاين محمد عيل*‬

‫وضَ ـ َع الجاحـــظ حـ ًّدا للخُـــلق فقــال بإيجــاز بديــع‪" :‬متــى أَ َعـ َّدت ال َّنفــس عــذ ًرا‪ ،‬كانــت إىل القبيــح‬
‫ـي عــن البيــان مــا يف هــذا القــول مــن دالالت‪ ،‬ذلــك أنَّـ ُه يرتكــز عــى الفكــرة الجوهريَّــة‬ ‫أرسع"‪ .‬وغنـ ّ‬
‫التــي يقــوم عليهــا الفعــل األخالقــي ويصــدر عنهــا‪ ،‬وهــي ال ُّرســـوخ يف ال َّنفــس والتَّلقائيَّــة‪ .‬واملقصــود‬
‫ـاقي أو‬
‫يض ليــس موجبًــا لوصـــف فاعلــه بأنَّـ ُه أخــ ٌّ‬ ‫ـي ال َعـ َر َّ‬
‫بذلــك الوجــدان وال ِّنيَّــة‪ ،‬إذ الفعــل األخالقـ ُّ‬
‫ـاقي‪ ،‬كــا أ َّن إطالــة التَّفكــر وتَ َكلُّــف الجهــد لدفــع الـذَّات إىل الفعــل األخالقـ ِّ‬
‫ـي ليــس كاف ًيا‬ ‫غــر أخــ ٍّ‬
‫لعـ ِّد صاحــب الفعــل ُمتَ َخلِّ ًقــا بــه‪.‬‬

‫أدرك أبــو عثــان أ َّن ربــط منشــأ القيــم األخالق َّيــة باإلنســان‪،‬‬ ‫ينفــي أبــو عثــان الجاحــظ أن تكــون القيمــ ُة األخالق َّيــة‬
‫الفــرد عــى األقــل‪ ،‬كــا فعــل املغالطــون قد ًميــا‪ ،‬وال َّنفع ُّيــون‬ ‫ذات َّيــ ًة أو شــخص َّية املنشــأ أل َّن هــذا االعتبــار ال يقيــم‬
‫والوضعيــون وكثــ ٌر مــن الوجوديــن حاليًــا‪ ،‬ســيؤ ِّدي‬ ‫ـن اإلنســان والحيــوان‪ ،‬ويقــود إىل احتقــار األخــاق‬ ‫فرقًــا بَـ ْ َ‬
‫بالــرورة إىل القضــاء عــى األخــاق‪ ،‬و ُر َّبــا القضــاء عــى‬ ‫َّ‬ ‫بدايــ ًة ويوصــل يف منتهــاه إىل ارتــكاب الفواحــش واآلثــام‬
‫الســلوك ســتكون ذات َّيــة فقــط وال يوجــد‬ ‫البــر أل َّن ضوابــط ُّ‬ ‫أي عقــاب‪ ،‬أل َّن‬ ‫عقــاب ِّ‬
‫ٍ‬ ‫والحــرام مــن دون الخــوف مــن‬
‫أي ضامــنٍ لتوجيههــا نحــو األفضــل أو نحــو الخــر باملعنــى‬ ‫ُّ‬ ‫الــوازع الشَّ ــخيص والـ َّرادع الخارجــي غــر موجوديــن‪ ،‬وهــذا‬
‫األخالقــي‪ .‬ولذلــك راح يبحــث عــن مصــد ٍر آخــر للقيــم‬ ‫مــا جــاء يف ر ِّده عــى أحــد ال َّدهريــن بقولــه‪" :‬وال ينبغــي‬
‫األخالقيَّــة‪ .‬ولَ َعلَّـ ُه تســاءل يف قـرارة نفســه عـ َّـا إذا كان حكم‬ ‫دل عــى خــاف‬ ‫لهــذا ال َّدهــري أن يعــرض لكتابنــا هــذا وإن َّ‬
‫را عــى املالحــدة وال َّدهريــن أم‬ ‫مــا مــى مــن كالمــه مقتـ ً‬ ‫ـري ليــس يــرى‬ ‫مذهبــه‪ ،‬ودعــا إىل خــاف اعتقــاده‪ ،‬أل َّن ال َّدهـ َّ‬
‫ينــدرج املؤمنــون تحتــه أيضً ــا‪َ ،‬حتَّــى اضطــر إىل البحــث يف‬ ‫أ َّن يف األرض دي ًنــا أو نِ ْحلَــ ًة أو رشيعــ ًة أو ِملَّــةً‪ ،‬وال يــرى‬
‫طبائــع ال َّنــاس وشــهواتهم‪ .‬ووجــد أ َّن ال َّنــاس مجبولــون عــى‬ ‫للحــال حرمــ ًة وال يعرفــه‪ ،‬وال للحــرام نهايــ ًة وال يعرفــه‪،‬‬
‫الشَّ ــهوات والطَّبائــع القابلــة للتَّقلــب مــن حــا ٍل إىل حــا ٍل‪،‬‬ ‫وال يتوقَّــع العقــاب عــى اإلســاءة‪ ،‬وال يرت َّجــى الثَّــواب عــى‬
‫ـض‬ ‫بــل إنَّهــا أَ ْم َيــل إىل االنقــاب نحــو مــا يهلــك ويفســد‪ ،‬بغـ ِّ‬ ‫الصــواب عنــده والحــق يف حكمــه‪ ،‬أنَّــه‬ ‫اإلحســان‪ ،‬وإنَّ ــا َّ‬
‫ال َّنظــر عــن التَّفــاوت يف الفروقــات الفرديَّــة والجمع َّيــة؛‬ ‫والســبع سـ َّيان؛ ليــس القبيــح عنــده‬ ‫والبهيمــة سـ َّيان‪ ،‬وأنَّـ ُه َّ‬
‫الفرديَّــة كاإلميــان والكفــران‪ ،‬وال َّنفســية وغــر ذلــك‪،‬‬ ‫إال مــا خالــف هــواه‪ ،‬وأ َّن مــدار األمــر عــى اإلخفــاق وال َّدرك‪،‬‬
‫والجمعيَّــة كالعــوام والخــواص ومــا إليهــا‪ ،‬ولذلــك أصبــح من‬ ‫الصــواب فيــا نــال مــن املنفعــة‪،‬‬ ‫وعــى اللــذة واألمل‪ ،‬وإنَّ ــا َّ‬
‫املتع ـذَّر أيضً ــا فيــا يــرى الجاحــظ أن ننســب نشــأة القيــم‬ ‫وإن قتــل ألــف إنســان صالــح ملنالــة درهــم رديء"‪.‬‬

‫* كاتب أردين‬
‫‪hanizaher037@gmail.com‬‬
‫‪42‬‬

‫من مؤلفات الجاحظ‬


‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪43‬‬

‫ميثِّــل عنــد الجاحــظ القيــم أو املثــل األخالقيَّــة اإليجاب َّيــة‬ ‫األخالقيَّــة إىل البــر باإلطــاق؛ فـرادى أو جامعــات‪ .‬ومل يبــق‬
‫والســلب َّية‪ ،‬ليخــرج بذلــك مــن دائــريت التَّســيري والتَّخيــر‬ ‫َّ‬ ‫أمامنــا إال اللــه عــز وجـ َّـل مصــد ًرا للقيــم األخالق َّيــة‪ ،‬فيقــول‪:‬‬
‫املتفاصلتــن ليكــو َن اإلنســا ُن كــا أكَّــد مفكِّرنــا يف موضــع‬ ‫"إنَّــا ملــا رأينــا طبائــع ال َّنــاس وشــهواتهم مــن شــأنها التَّقلــب‬
‫ـب قائـ ًـا‪" :‬ولــوال‬ ‫آخــر "مسـ َّخ ًرا ألَ ْمـ ٍر ومخـ َّ ً‬
‫ـرا يف آخــر"‪ ،‬ويع ِّقـ َ‬ ‫إىل هلكتهــم وفســاد دينهــم وذهــاب دنياهــم‪ ،‬وإن كانــت‬
‫األمــر وال َّنهــي لجــاز التَّســخري يف دقيــق األمــور وجليلهــا‪،‬‬ ‫العا َّمــة أرسع إىل ذلــك مــن الخاصــة‪ ،‬فــا تنفـ ُّـك طبائعهــم‬
‫وخف ِّيهــا وظاهرهــا‪ ،‬أل َّن بنــي اإلنســان إنَّ ــا ُس ـخِّروا لعائــدة‬ ‫مــن حملهــم عــى مــا يــرد بهــم مــا مل يــردوا بالقمع الشَّ ــديد‬
‫عليهــم‪ ،‬ومل يُ َس ـخَّروا للمعصيــة كــا مل يس ـخَّروا للمفســدة‪،‬‬ ‫يف العاجــل ومــن القصــاص مــن العــادل‪ ،‬ث ُــ َّم التَّنكيــل يف‬
‫كل‬ ‫وقــد تســتوي األســباب يف مواضــع وتتفــاوت يف مواضــع‪ُّ ،‬‬ ‫رش الخيانــة‪ ،‬وإســقاط القــدر‪ ،‬وإزالــة العــدل‬ ‫العقوبــة عــى ِّ‬
‫ذلــك ليجمــع اللــه تعــاىل مصالــح ال ُّدنيــا ومراشــد ال ِّديــن"‪.‬‬ ‫مــع األســاء القبيحــة واأللقــاب الهجينــة‪ ،‬ث ُــ َّم باإلخافــة‬
‫ولكــن عــى ال َّر ْغــمِ مـ ّـا مــى‪ ،‬ال بـ َّد أن نجــد َمــن يتســاءل‬ ‫الشَّ ــديدة والحبــس الطَّويــل والتَّغريــب عــن الوطــن‪ ،‬ث ُــ َّم‬
‫هنــا قائـ ًـا‪:‬‬ ‫الوعــد بنــار األبــد مــع فــوات الج َّنــة‪ ،‬وإنَّ ــا َوضَ ــ َع اللــه‬
‫طاملــا أ َّن اللــه ع ـ َّز وجـ َّـل ‪-‬كــا يقــول الجاحــظ‪ -‬يريــد أن‬ ‫تعــاىل هــذه الخصــال لتكــون لقـ َّوة العقــل مــا َّدةً‪ ،‬ولتعديــل‬
‫يجمــع لإلنســان مصالــح ال ُّدنيــا ومراشــد ال ِّديــن‪ ،‬فلِــ َم مل‬ ‫الطبائــع معونــةً‪ ،‬أل َّن العبــد إذا فضلــت قــوى طبائعــه‬
‫يجعــل الطَّبائــع موافقـ ًة ألوامــره ونواهيــه‪ ،‬بحيــث ال يفعــل‬ ‫وشــهواته عــى عقلــه ورأيــه أُلفــي بصـ ًرا بال ُّرشــد غــر قــاد ٍر‬
‫كل مــا نهــاه عنــه‬ ‫اإلنســان إال مــا أمــره اللــه بــه ويجتنــب َّ‬ ‫عليــه‪ ،‬فــإذا احتوشــته املخــاوف كانــت مــواد لزواجــر عقلــه‬
‫ـر؟‬ ‫فتســود رضوب الخــر وتنتفــي أشــكال الـ َّ‬ ‫وأوامــر رأيــه‪ ،‬فــإذا مل يكــن يف حــوادث الطبائــع ودواعــي‬
‫إضافــة إىل مــا تقــ َّدم‪ ،‬فقــد أجــاب الجاحــظ عــن هــذا‬ ‫ـب العاجــل فضــل عــى زواجــر العقــل وأوامــر‬ ‫الشَّ ــهوات وحـ ِّ‬
‫الســؤال إجاب ـ ًة رائع ـ ًة بارع ـ ًة تنفــرع إىل شــفعني متباينــن‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الغــي والنســاء واملكاثــرة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الغــي‪ ،‬كان العبــد ممع ًنــا يف‬
‫ّ‬
‫ال يخلــو كالهــا مــن الطَّرافــة والج ـ َّدة واألهم َّيــة‪ .‬نحــا يف‬ ‫والعجــب والخيــاء وأنــواع هــذه إذا قويــت دواعيهــا ألهلهــا‬
‫أولهــا من ًحــى فلســف ًّيا يف تحديــد نســغ جوهــر الفعــل‬ ‫واشــتدت جواذبهــا لصاحبهــا‪ ،‬ث ُ ـ َّم مل يعلــم أ َّن فوقــه ناقـ ًـا‬
‫ـتقل يف الثَّــاين بوجهــة نظ ـ ٍر‬‫ـي ونســيج مادتــه‪ ،‬واسـ َّ‬ ‫األخالقـ ِّ‬ ‫عليــه‪ ،‬وأ َّن لـــه منتقـ ًـا لنفســه مــن نفســه‪ ،‬أو مقتضيًــا منــه‬
‫غريبــ ٍة يف ظاهرهــا‪ ،‬تدعــو إىل وقفــة تأ ُّمــلٍ وتفكــرٍ‪ ،‬وإن‬ ‫لغــره‪ ،‬كان ميلــه وذهابــه مــع جــواذب الطَّبيعــة ودواعــي‬
‫الصــواب يف رأينــا‪.‬‬ ‫كانــت عــن َّ‬ ‫الشَّ ــهوة طب ًعــا ال ميتنــع معــه وواج ًبــا ال يســتطيع غــره"‪.‬‬

‫وميكننــا عا َّمــة أن نجمــل الحديــث عــن إجابتــه هــذه تحــت‬ ‫يبــدو مــن هــذا ال َّنــص أ َّن الجاحــظ قــد حـ َّـل مشــكل ًة مركَّبَـ ًة‬
‫ـن َّ‬
‫الســج َّية وال َّرويَّــة‪ ،‬ورضورة‬ ‫العنوانــن التاليــن‪ :‬الخلــق بَـ ْ َ‬ ‫قــد ت ُثــار حولهــا التَّســاؤالت أو االعرتاضــات‪ ،‬وذلــك عندمــا‬
‫ـر‪ .‬ولكــن ال بُ ـ َّد مــن أن نشــر قبــل أن نلــج إليهــا إىل‬ ‫الـ َّ‬ ‫أبــان أ َّن الطَّبائــع قابل ـ ٌة للتَّعديــل وليســت ثابت ـ ًة جامــدةً‪،‬‬
‫مســأل ٍة مه َّمــ ٍة أثارهــا أبوعثــان يف ســياق ال َّنــص َّ‬
‫الســابق‬ ‫عكســا ألوامــر اللــه ونواهيــه وهــي مــا‬ ‫وال مع ـ َّدة َوفْ ًقــا أو ً‬
‫‪44‬‬

‫الســجايا أو الطبائــع‪ ،‬ومبعنــى مشــابه‬ ‫وســمها بعلــم وصــف َّ‬ ‫ـس الفعــل الخلقــي مــن حيــث األمــر وال َّنهــي‪ .‬إذ‬ ‫والتــي متـ ُّ‬
‫تقري ًبــا عـ َّرف "فولكييــه" ‪ Foulquie‬األخــاق بأنَّ َهــا منظومــة‬ ‫يبــدو ملفكِّرنــا أ َّن ال َّنهــي عــن اإلتيــان بطائف ـ ٍة مــن األفعــال‬
‫قواعــد الســلوك التــي ينبغــي عــى املــرء اتباعهــا ليحيــا وفــق‬ ‫ليــس مرتبطًــا باإلســاءة إىل اآلخريــن والتَّعــدي عــى حقوقهم‬
‫طبيعتــه‪.‬‬ ‫وحســب‪ ،‬وإنَّ ــا يتجــاوز ذلــك إىل اعتــداء املــرء عــى نفســه‬
‫وإســاءته إليهــا‪ ،‬مبعنــى أ َّن الــذي ينتهــك ال َّنواهــي واملح َّرمات‬
‫أ ّمــا الجاحـــظ الــذي ســبق جميــع هـــؤالء زمان ًيــا فقــد‬ ‫األخالق َّيــة إنَّ ــا يعتــدي عــى نفســه بال َّدرجــة األوىل‪ ،‬ولذلــك‬
‫ســـبقهم فكريًّــا أيضً ــا بوضعــه هــذا الح ـ َّد للخــــلق فقــال‬ ‫فــإ َّن املحاســبة أو العقــاب إنَّ ــا تكــون لالعتــداء عــى ال َّنفــس‬
‫بإيجــاز بديــع‪" :‬متــى أَ َعــ َّدت ال َّنفــس عــذ ًرا‪ ،‬كانــت إىل‬ ‫أو عــى اآلخريــن أو عــى كليهــا م ًعــا‪ ،‬وهــذا مــا يبــدو يف‬
‫وغنــي عــن البيــان مــا يف هــذا القــول‬ ‫ّ‬ ‫القبيــح أرسع"‪.‬‬ ‫قولــه‪" :‬ومــن مل يعلــم‪ ....‬أ َّن لـــه منتقـ ًـا لنفســه مــن نفســه‪،‬‬
‫مــن داللـ ٍة واضحـ ٍة عــى مــا ســـبق‪ ،‬ذلــك أنَّـ ُه يرتكــز عــى‬ ‫أو مقتض ًيــا منــه لغــره‪."...‬‬
‫"الفكــرة الجوهريَّــة التــي يقــوم عليهــا الفعــل األخالقــي‬ ‫الحــق أ َّن هــذه الفكــرة وإن كانــت مســتم َّد ًة مــن روح‬
‫ويصــدر عنهــا‪ ،‬وهــي ال ُّرســـوخ يف ال َّنفــس والتَّلقائيَّــة‪ .‬وأعنــي‬ ‫الديــن اإلســامي التــي تؤكِّـ ُد أ َّن الـ ُّروح أو ال َّنفــس إنَّ ــا هــي‬
‫يض ليــس‬ ‫ـي ال َعـ َر َّ‬
‫بذلــك الوجــدان وال ِّن َّيــة‪ ،‬إذ الفعــل األخالقـ ُّ‬ ‫للــه وليــس لإلنســان أن يعتــدي عليهــا‪ .‬وانطالقًــا مــن هــذه‬
‫ـاقي‪ ،‬كــا‬ ‫ـاقي أو غــر أخــ ٍّ‬ ‫موج ًبــا لوصـــف فاعلــه بأنَّـ ُه أخــ ٌّ‬ ‫الفكــرة كان تحريــم االنتحــار والتَّشــديد عــى هــذا التَّحريــم‪،‬‬
‫أ َّن إطالــة التَّفكــر وتَ َكلُّــف الجهــد لدفــع الـذَّات إىل الفعــل‬ ‫إال أنَّنــا ال نســتطيع إال أن نع َّدهــا مأثــر ًة عظيمــة للجاحــظ‬
‫ـي ليــس كافيًــا لع ـ ِّد صاحــب الفعــل ُمتَ َخلِّ ًقــا بــه"‪،‬‬ ‫األخالقـ ِّ‬ ‫ال ينبغــي أن ت ُجحــد‪.‬‬
‫ولذلــك يقــف صاحــب العثامن َّيــة مندهشً ــا أمــام َمــن يكــون‬
‫عــى طبـعٍ كيــف يــؤول إىل غــره‪ ،‬كأن يكــون كرميًــا وميــوت‬ ‫الخلق بـني السج َّية وال َّرويَّة‬
‫بخيــا‪ ...‬ويقــول‪" :‬وليــس العجــب مــن رجــلٍ يف طباعــه‬ ‫ً‬ ‫ال أعتقــد أ َّن ثَ َّـ َة اختالفًــا يف أ َّن الفعــل ذا ُّ‬
‫الصــورة األخالقيَّــة‬
‫ــن بعــض األمــور يحركــه يف بعــض‬ ‫ســبب يصــل بينــه وبَ ْ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ال ميكــن أن ينعــت بأنَّـ ُه ُخلُـ ٌـق مــا مل ينبثــق مــن ال َّنفــس عىل‬
‫الجهــات‪ ،‬ولكــن العجــب م ّمــن مــات عــى أن يذكــر بالجود‪،‬‬ ‫ـف‪ ،‬ليــس باملعنــى الــذي ذهــب إليــه‬ ‫نحـ ٍو تَلقــا ٍّيئ غــر ُمتَ َكلَّـ ٍ‬
‫وأن يســخى‪ ،‬وهــو أبخــل الخلــق طب ًعــا‪ ،‬فـراه كَلِ ًفــا باتِّخــاذ‬ ‫"ليفــي بريــل" ‪ Lévy Bruhl‬يف تحديــد األخــاق مبطابقــة‬
‫الطَّيِّبــات ومســتهرتًا بالتَّكثــر منهــا‪ ،‬ث ُ ـ َّم هــو أب ـ ًدا مفتضـ ٌ‬
‫ـح‬ ‫الســلوك للواجــب‪ ،‬وإنَّ ــا باملعنــى الــذي أطَّــره اإلمــام الغـزايل‬ ‫ُّ‬
‫وأب ـ ًدا منتقــص الطِّبــاع‪ ،‬ظاهــر الخطــأ‪ ،‬س ـيِّئ الجــزع عنــد‬ ‫بقولــه‪" :‬الخلــق عبــار ٌة عــن هيئـ ٍة يف ال َّنفــس راســخةٌ‪ ،‬عنهــا‬
‫مؤاكلــة مــن كان هــو ال َّداعــي لــه‪ ،‬واملرســل إليــه‪ ،‬والعــارف‬ ‫ر مــن غــر حاج ـ ٍة إىل فك ـ ٍر‬ ‫تصــدر األفعــال بســهول ٍة وي ـ ٍ‬
‫مــدار لقمــه ونهايــة أكلــه"‪.‬‬ ‫ورويَّــة‪ ...‬وإنَّ ــا اشــرطنا أن تصــدر األفعــال بســهولة مــن‬
‫الســؤال اآلنــف‬ ‫هنــا ميكــن أن نعــرض جــواب الجاحــظ عــن ُّ‬ ‫الســكوت عنــد‬ ‫غــر رويَّــة أل َّن مــن تكلَّــف بــذل املــال أو ُّ‬
‫‪-‬املطــروح قبــل هــذه الفقــرة‪ -‬فنقــول‪ :‬يلــزم عـ َّـا أســلفنا‬ ‫الســخاء والحلــم"‪.‬‬‫الغضــب بجهــد ورويَّــة ال يقــال ُخلُ ُق ـ ُه َّ‬
‫ــن بديلــن نقيضــن ال‬ ‫رضور ًة وجــود إمكان َّيــة االختيــار بَ ْ َ‬ ‫ولذلــك ذهــب "الالنــد" ‪ Lalande‬يف مفهومــه الثَّــاين‬
‫ـلوك ينــدرج ضمــن فئــة األفعــال األخالق َّيــة‪،‬‬ ‫ـكل سـ ٍ‬
‫رديفــن لـ ِّ‬ ‫الســلوك الواقعــي لل َّنــاس إىل إمــكان‬ ‫لألخــاق بوصفهــا ُّ‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪45‬‬

‫كيــا تكــون ثَ َّــ َة أفعــال تصــدر عنــه تلقائ َّيــة الطَّبــع أو‬
‫الســج َّية ‪-‬أو مــا ميكــن نعتهــا باملوا ِفقــة للن ّيــة‪ -‬ميكــن‬ ‫َّ‬
‫وصفهــا بأنَّهــا أخالقيَّــة أو غــر أخالقيَّــة فيثــاب صاحبهــا‬
‫أو يعاقــب "ولذلــك ‪-‬كــا يقــول الجاحــظ‪ -‬وضــع اللــه يف‬
‫والســخاء‬‫اإلنســان طبيعــة الغضــب وطبيعــة ال ِّرضــا والبخــل َّ‬
‫والســخط‬ ‫والصــر وال ِّريــاء والكــر والتَّواضــع ُّ‬ ‫والجــزع َّ‬
‫والقناعــة‪ ،‬فجعلهــا عروقًــا‪ ،‬ولــن تفــي ق ـ َّوة غريــزة العقــل‬
‫ـوج منهــا‬ ‫لجميــع قــوى طبائعــه وشــهواته َحتَّــى يقيــم مــا اعـ َّ‬
‫ويســكن مــا تحــرك دون ال َّنظــر الطَّويــل الــذي يشــدها‪،‬‬
‫والبحــث الشَّ ــديد الــذي يشــحذها‪ ،‬والتَّجــارب التــي تح ِّنكهــا‬
‫والفوائــد التــي تزيــد منهــا‪ ،‬ولــن يكــر ال َّنظــر َحتَّــى تكــر‬
‫الخواطــر‪ ،‬ولــن تكــر الخواطــر َحتَّــى تكــر الحوائــج‪ ،‬ولــن‬
‫تبعــد إال لبعــد الغايــة وشــدة الحاجــة‪ ،‬ولــو أ َّن ال َّنــاس‬
‫تُركــوا وقواهــم ومل يهاجــوا بالحاجــة عــى طلــب مصلحتهــم‬
‫والتفكــر يف معاشــهم وعواقــب أمورهــم‪ ،‬وألجئــوا إىل‬
‫قــدر خواطرهــم التــي تولدهــا مبــارشة حواســهم دون أ ْن‬
‫الســلف املتقدمــن‬ ‫يُســمعهم اللــه خواطــر األ ّولــن وآداب َّ‬
‫وبهـــذا املعنــى نجـــد أ َّن اللــه عـ َّز وجـ َّـل مل يخلــق اإلنســـان‬ ‫رب العاملــن‪ ،‬ملــا أدركــوا مــن العلــم إال اليســر‪ ،‬وملــا‬ ‫وكتــب ِّ‬
‫مهــب ريــاح تناقــض الطَّبائــع واألوامــر‬ ‫ِّ‬ ‫ليلقــي بــه يف‬ ‫َميَّــزوا مــن األمــور إال القليــل"‪.‬‬
‫وال َّنواهــي‪ ،‬وإنَّ ــا آتــاه العقــل "للتفكــر يف معاشــه وعواقــب‬
‫الســلف" ليــدرك‬ ‫أمــوره"‪" .‬وأســمعه خواطــر األ ّولــن وآداب َّ‬
‫بذاتــه أ َّن عواقــب االلت ـزام بأوامــر اللــه ونواهيــه خ ـ ٌر‪ ،‬وأ َّن‬ ‫"المعرفــة كُلُّهــا‬
‫رش‪ ،‬ولتغــدو املعرفــة بهــذا املعنــى خـ ًرا باملعنــى‬ ‫مخالفتهــا ٌ‬
‫َب َصـ ٌر‪ ،‬والجهــل كُلُّــه‬
‫ـر إال‬ ‫الســقراطي مــن حيــث ال يرتكــب إنســا ٌن ا ِإلث ْ ـ َم والـ َّ‬ ‫ُّ‬
‫عــن خط ـأٍ وجهــلٍ ‪ ،‬أو كــا يقــول الجاحــظ‪" :‬املعرفــة كُلُّهــا‬ ‫عمــى‪ ،‬والعمــى‬
‫ونقــص‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ــر‪ ،‬والجهــل كُلُّــه عمــى‪ ،‬والعمــى كلُّــه شــ ٌن‬ ‫بَ َ ٌ‬ ‫ـص‪،‬‬‫كلُّــه شــي ٌن ونقـ ٌ‬
‫واالســتبانة كلُّهــا خــر وفضــل"‪.‬‬ ‫واالســتبانة كلُّهــا‬
‫خيــر وفضــل"‬
‫‪46‬‬

‫الطبيعي‬
‫ّ‬ ‫السد غري‬
‫العواطف يف َّ‬
‫د‪ .‬نادية هناوي*‬

‫كان ملبــادئ "وايــن بــوث" حــول العقــل والواقــع وأهميّــة فهمهــا ودور العواطــف يف هــذا الفهــم‪ ،‬األثــر الكبــر‬
‫ـرد غــر الطبيعــي ومنهــم اإلنجليــزي "أالن باملــر" الــذي أفــاد مــن مناهــج علــم النفــس اإلدراك ّيــة‬ ‫يف منظــري الـ َّ‬
‫رصفاتهــا وســلوك ّياتها الفرديّــة أو املشــركة‪ ،‬فــأ ْوىل "باملــر" اهتام ًمــا بالفلســفة‬
‫يف دراســة عواطــف الشــخص ّيات وت ُّ‬
‫العقل ّيــة ومــا طرحــه فالســفة العقــل حــول العواطــف‪ ،‬وأ َّن ال إدراك مــن دون عواطــف متغلغلــة بعمــق يف تضاعيــف‬
‫ـرد األخــرى‪ ،‬حيــث ال ميكــن فصــل الوعــي عــن العاطفــة؛‬ ‫الخطــاب الـ ِّروايئ إىل درجــة يصعــب فصلهــا عــن عنــارص الـ َّ‬
‫ذلــك أ َّن العــامل مرتبــط ارتباطًــا جوهريًــا بطــرق إحساســنا‪ .‬ويف هــذه املقالــة تتخــذ الكاتبــة مــن روايــة "حبّــة بغــداد"‬
‫ـرد‪.‬‬‫للـ ِّروايئ جــال حســن عــي منوذ ًجــا تطبيق ًّيــا لالســتدالل عــى العواطــف ودورهــا يف الـ َّ‬

‫نظريــة املحــاكاة يف األدب‪ ،‬وبعضهــم يقــ ّر بوجــود عالقــة‬ ‫يُعــ ُّد كتــاب (بالغــة الفــن القصــي) لـ"وايــن بــوث"‬
‫عكســية بــن األدب والواقــع‪ ،‬وهــم متفقــون عــى أ َّن التمثيل‬ ‫األطروحــة الكــري واملركزيــة التــي عليهــا بنيــت أغلــب‬
‫األديب للواقــع قائــم عــى عمليــة اإليهــام بالحقيقــة أو مــا‬ ‫تنظــرات مــا ُعــرف بعــد تســعينات القــرن املــايض بعلــم‬
‫ســاه "روالن بــارت" الوهــم املرجعــي حيــث "املحــي األكــر‬ ‫الــرد مــا بعــد الكالســييك عامــة والــرد غــر الطبيعــي‬
‫واقعيــة الــذي تســتطيع تصويــره يتطــ ّور تب ًعــا لطــرق ال‬ ‫خاصــة‪ .‬والســبب هــو مــا يف هــذا الكتــاب مــن تو ُّجهــات‬
‫واقعيــة‪ .‬وهــذا مــا نســتطيع تســميته "الوهــم املرجعــي"(‪،)2‬‬ ‫نقديــة تعــارض طروحــات نقــاد الرسديــات البنيويــن يف‬
‫ـر "ريفاتــر" داللــة املرجــع هنــا بأنــه "كل مــا ميكــن‬ ‫كــا فـ َّ‬ ‫نظرتهــم التعميميــة وغــر املعياريــة للواقــع التــي ع َّدهــا‬
‫التفكــر فيــه أو التلميــح إليــه‪ ..‬املرجــع هــو الغيــاب الــذي‬ ‫"بــوث" مشــكلة و"كيــف أ َّن الكثرييــن منهــم يفضلــون‬
‫يعــ ّوض عنــه حضــور الدالئــل‪ ..‬وتتحكــم فيهــا خصائــص‬ ‫االنتقــال بــكل ســهولة مــن تعميــم صــارخ عــن عمــل معـ ّـن‬
‫النــص التــي تقــوم أولً عــى أ َّن النــص يخضــع ملجــرى‬ ‫إىل أعــال أخــرى وكأ َّن كل تلميــذ مدرســة يجــب أن يعــرف‬
‫مــزدوج"(‪ ،)3‬ولكــن "بــوث" رفــض القــول بالوهــم‪ ،‬ونظــر إىل‬ ‫أ َّن كل روايــة ال هــ ّم لهــا إال االنطــواء تحــت مظلــة هــذا‬
‫املؤلــف بوصفــه كيانًــا حقيق ًيــا مــا زالــت النظريــات النقديــة‬ ‫خصوصــا يف‬
‫ً‬ ‫التعميــم‪ .‬إ َّن مثــل هــذه العمليــة خطــرة ج ـ ًدا‬
‫تتجاهلــه‪ ،‬وعنــه قــال "بــوث"‪" :‬إ َّن املؤلــف عندمــا يكتــب‬ ‫النقــد املوضوعــي الــذي يتيــح ملوضــوع قابــل للوصــف أن‬
‫ال يخلــق مثــالً إنســان ًيا عا ًمــا فقــط‪ ،‬ولكنــه يخلــق نســخة‬ ‫يصبــح معياريًّــا"(‪.)1‬‬
‫ضمنيــة مــن نفســه(‪ ،)4‬وبوجــود صورتــن للمؤلــف صورتــه‬ ‫وال يخفــى أ َّن منظــري البنيويــة ومــا بعدهــا ال ينكــرون‬

‫* ناقدة وأكادميية عراقية‬


‫‪nada2007hk@yahoo.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪47‬‬

‫ســيغضب "مــن االق ـراح الــذي يقــول إ َّن أعاملــه القصصيــة‬ ‫الحقيقيــة وصــورة ضمنيــة ثانيــة لــه صــار تســاؤل "بــوث"‬
‫يجــب أن تصفّــى مــن مشــاكلها األخالقيــة والعواطــف‬ ‫منطق ًيــا‪ ،‬وهــو‪ :‬ملــاذا يفســد أي تعليــق مــن قبــل املؤلــف‬
‫اإلنســانية‪ ،‬ثــم إ َّن ســارتر صــارم يف هجومــه عــى الحلــم‬ ‫العمــل الــذي يقــع فيــه ذلــك التعليــق؟ ومــاذا يفعــل‬
‫املســتحيل الــذي ين ـ ّوه بإعطــاء صــورة حياديــة للمجتمــع‪،‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫املؤلــف عندمــا يتدخــل ليخربنــا بــيء عــن قصتــه؟‬
‫والحالــة اإلنســانية بالنســبة لســارتر أ َّن الرجــال يعـ ّـرون عــن‬ ‫أ ّمــا الشــخصية ســواء كانــت ســاردة أو مــرودة فإنهــا‬
‫أنفســهم بصــدق فقــط عندمــا تجدهــم يف مواقــف حــب‬ ‫‪-‬بحســب "بــوث"‪ -‬ذات صلــة باملؤلــف والقــارئ وشــخوص‬
‫وكراهيــة وغضــب وخــوف وفــرح يف الحــزن واإلعجــاب‬ ‫القصــة اآلخريــن‪ ،‬كــا أ َّن للقــارئ صلــة عاطفيــة باملؤلــف‬
‫واألمــل واليــأس"(‪.)9‬‬ ‫والشــخصيات مــع اختــاف املســافات التــي بينهــم‪ ..‬بيــد أ َّن‬
‫واســتعار "بــوث" مصطلــح (املعــادل املوضوعــي) مــن‬ ‫األهــم برأينــا هــو مــا ذهــب إليــه "بــوث" مــن أ َّن الــرد‬
‫"ت‪.‬س‪ .‬إليــوت" أل َّن بــه ميكــن التعبــر عــن العواطــف مــن‬ ‫ال مي ـ ِّوه الحقيقــة‪ ،‬وإمنــا يظهرهــا للعيــان‪ ،‬وأ َّن العقــل هــو‬
‫خــال موقــف أو سلســلة حــوادث تكــون معادلــة لتلــك‬ ‫األســاس يف تفســر الواقــع الــردي‪.‬‬
‫العاطفــة الخاصــة‪ .‬وأيّــة تجربــة حســ ّية ال بــ ّد أن تســفر‬ ‫واعتــداد "بــوث" بالعقــل جعلــه يــرى الــرد علـ ًـا ال ف ًّنــا‪،‬‬
‫عــن عواطــف‪ .‬وهــو بهــذا االهتــام بالعاطفــة إمنــا يدلــل‬ ‫ومــن هــذا العلــم تتشــكل مبــادئ(‪ )6‬تخضــع ملنطــق الصــدق‬
‫عــى إميانــه بــأ َّن األدب ال يتص ّنــع واقع ّيتــه‪ ،‬بــل هــو عقــي‬ ‫والكــذب واالحتــال واالســتحالة‪ .‬وكثــرة هــي املبــادئ‬
‫يف إدراك رمزيّتــه‪ ،‬ومثالــه (جوجــول) "عندمــا اخــرع أكايك‬ ‫العقليــة التــي وضعهــا "بــوث" وتتضــاد مــع النقــد البنيــوي‪،‬‬
‫أكاكيافيتــش املوظــف املســكني يف قصــة املعطــف واملختفــي‬ ‫منهــا أ َّن الســارد عــى نوعــن‪ :‬ســارد موثــوق عندمــا يتكلــم‬
‫وراء اســمه والــذي كان ضحيّــة للقــدر ثــم للبريوقراطيــة‪..‬‬ ‫رف بالتطابــق مــع‬ ‫بالنيابــة عــن الشــخصية أو عندمــا يت ـ ّ‬
‫فإنــه قــام بأكــر دور يف عملــه البالغــي‪ .‬وعندمــا ركّــز‬ ‫مقاييــس العمــل‪ ،‬وســارد غــر موثــوق عندمــا ال يفعــل ذلــك‪.‬‬
‫جوجــول عــى فكــرة اســتعامل املعطــف كرمــز لطمــوح‬ ‫وبحســب "بــوث" فــإ َّن الســارد ليــس هــو العليــم بــكل يشء‪،‬‬
‫بطلــه‪ ..‬فإنــه اختــار املوضــوع الطبيعــي الســهل حتــى يفــي‬ ‫بــل العليــم هــو املؤلــف الحقيقــي الــذي يكتــب الــرد‬
‫بفرضــه(‪ ،)10‬بهــذه التعادليّــة تطـ َّور املعطــف يف عقــل البطــل‬ ‫املوضوعــي بشــكل ليــس فيــه مهــرب مــن املعرفــة(‪.)7‬‬
‫فصــار رمــ ًزا لألمــان واملكانــة االجتامعيــة؛ ولهــذا كانــت‬ ‫خالصــا للفـ ّن وذلــك‬ ‫ومــن املبــادئ العقليــة أيضً ــا أن ال نقــاء ً‬
‫رسقــة املعطــف تعنــي مــوت أكايك‪.‬‬ ‫مــن ناحيــة وجــود العواطــف ومــا عليهــا مــن مؤثــرات‬
‫إ َّن عــدم إدراك الواقــع يعنــي أن ال عواطــف فيــه‪ ،‬وإهــال‬ ‫ومــا لهــا مــن تأثـرات ‪-‬وهــو مــا نبغــي الرتكيــز عليــه هنــا‪-‬‬
‫وأي عمــل غــر‬ ‫العواطــف يجعــل املوضوعيــة صارمــة‪ّ ،‬‬ ‫فـ"العواطــف هــي أهــم الهبــات بالنســبة للكاتــب(‪ )8‬وهــي‬
‫محتمــل الوقــوع أو متصنــع أو فــارغ أو مســتحيل فلــن‬ ‫املصــدر الرئيــس لعــدم الصفــاء األديب‪ .‬واملطلــب العلمــي‬
‫يُتجــاوب معــه وال يُســتمتَع بــه بوصفــه ف ًّنــا‪ .‬ورضب "بــوث"‬ ‫مــن دراســة العواطــف يف الــرد هــو الكشــف عــن القيــم‬
‫مثــالً عــى ذلــك بـِ"برخــت" الــذي قـ ّدم مرسحيــات ليســت‬ ‫األخالقيــة‪ ،‬مــن هنــا افــرض "بــوث" أ َّن "هــري جيمــس"‬
‫‪48‬‬

‫عــى املهــارات يف إدراك القيــم مــن ناحيــة القــدرة الفرديــة‬ ‫مــن النــوع األرســطي‪ ،‬مرسحيــات تســتند إىل التف ُّحــص‬
‫عــى فهــم اآلخريــن نفسـ ًّيا أو مــن ناحية الســلوك االجتامعي‬ ‫العاطفــي كشــكل متطـ ِّرف ملــا أراد كثــر من الفنانــن البحث‬
‫الــذي يجعــل النــاس منخرطــن يف أمــور كثــرة ومعقــدة‬ ‫عنــه محاولــن بذلــك االنفصــال عــن الواقعيّــة الصارمــة(‪،)11‬‬
‫بالــكالم أو مــن دون الحاجــة إىل الــكالم‪ ،‬فــكان ذلــك كلــه‬ ‫وأهميّــة هــذا الطــرح يف عالقــة اإلدراك العاطفــي بالواقــع‬
‫مبثابــة املنعطــف املعــريف الكبــر الــذي حصــل يف الرسديــات‬ ‫هــي مــا ســيتخذ منهــا أحــد منظــري الــرد غــر الطبيعــي‬
‫مــا بعــد البنيويــة أبــان تســعينات القــرن العرشيــن‪.‬‬ ‫مــادة خصبــة ألطروحتــه حــول العقــل االجتامعــي كــا‬
‫ســيأيت الح ًقــا‪.‬‬
‫من مبادئ "بوث" العقل ّية إىل إدراك ّية "باملر"‬ ‫واالهتاممــات العقالنيــة أو املعرفيــة هــي التــي تجعــل‬
‫العاطف ّية‬ ‫الفــرد يشــعر بلــذة بلــوغ الحقائــق وتحصيــل التفس ـرات‬
‫بالوقــوف عــى األســباب أو األصــول أو الدوافــع أو عــى‬
‫كان ملبــادئ "وايــن بــوث" حــول العقــل والواقــع وأهميــة‬
‫حقيقــة الحيــاة نفســها‪ ،‬يقــول "بــوث"‪" :‬هنــاك لــذة يف‬
‫فهمهــا ودور العواطــف يف هــذا الفهــم‪ ،‬األثــر الكبــر يف‬
‫تعلــم الحقيقــة البســيطة وهنــاك لــذة يف تعلــم أ َّن الحقيقــة‬
‫منظــري الــرد غــر الطبيعــي ومنهــم اإلنجليــزي "أالن‬
‫ليســت ســهلة‪ ..‬لــذا فــإ َّن الفنــان يجــب أن يختــار بطريقــة‬
‫باملــر" ‪ Alan Palmar‬الــذي أفــاد مــن مناهــج علــم النفــس‬
‫واعيــة وال واعيــة"(‪.)12‬‬
‫اإلدراكيــة يف دراســة عواطــف الشــخصيات وترصفاتهــا‬
‫واللــذة عاطفــة مكانهــا الوعــي الــذي مركــزه العقــل‪،‬‬
‫وســلوكياتها الفرديــة أو املشــركة بكتابــن األول هــو "العقــل‬
‫والشــعور بالعاطفــة قــد يتحقــق مــن خــال ســارد ثقــة أو‬
‫الخيــايل" ‪Fictional Minds; frontiers of narrative‬‬
‫ســارد غــر ثقــة‪ ،‬ويــرب "بــوث" مثـ ًـا مبرسح ّيــة هاملــت‬
‫‪ 2004‬والصــادر عــن جامعــة نرباســكا‪ ،‬والثــاين هــو "العقــل‬
‫"عندمــا يقــص هوراشــيو مقابلتــه األوىل مــع الشــبح يف‬
‫االجتامعــي يف الروايــة" ‪Social Mind in the novel 2010‬‬
‫هاملــت فــإ َّن شــخصيته وهــو يتكلــم مــع الشــبح مهمــة‬
‫والصــادر عــن جامعــة واليــة أوهايــو ‪-‬وســيكون هــذا الكتاب‬
‫بالنســبة لنــا بالرغــم مــن أ َّن ذلــك مل يذكــر يف املرسحيــة‪،‬‬
‫موضــع الرصــد هنــا‪ -‬وفيــه اهت ـ َّم "باملــر" بالطريقــة التــي‬
‫وعندمــا نقابــل األنــا يف الفــن القصــي نكــون عــى ب ّينــة‬
‫بهــا تفكــر الشــخصيات يف الروايــة والعالقــة بــن العقــول‬
‫مــن عقــل ميـ ّر يف تجربــة عقــل ســتحول آراؤه عــن التجربــة‬
‫االجتامعيــة والفرديــة يف النظريــة الرسديــة‪.‬‬
‫بيننــا وبــن الحــدث(‪.)13‬‬
‫ويقــوم الكتــاب عــى فكــرة أ َّن العقــل االجتامعــي مفهــوم‬
‫وكان لتأكيــدات "وايــن بــوث" عــى دور العقــل أثرهــا‬
‫ثقــايف لكيــان معــريف خيــايل‪ ،‬وظيفتــه تأطــر الروايــة مبنظــور‬
‫يف ُمنظِّــري الــرد مــا بعــد الكالســييك ومنهــم "ديفيــد‬
‫معــن‪ .‬وأ َّن مــا مــن ســبيل لفهــم األبنيــة الرسديــة مــا مل‬
‫ّ‬
‫هريمــان" منظِّــر الــرد املعــريف‪ ،‬وكذلــك أثــرت يف "برايــن‬
‫نفهــم العقــل االجتامعــي عــى أســاس أ َّن األفــكار مرئ ّيــة‬
‫ريتشاردســون" وغريهــم مــن املنظِّريــن الذيــن و ّجهــوا‬
‫مــن خــال الشــخصيات(‪ ،)14‬وقــد اســتهل "باملــر" كتابــه‬
‫أبحاثهــم نحــو دراســة العالقــة بــن العقــل والــرد وركــزوا‬
‫بقــول "أوســكار وايلــد"‪" :‬إ َّن األشــخاص الســطحيني ال يحكــم‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪49‬‬

‫تكــ ُّون وجهــة نظــر أيديولوجيــة يكشــف عنهــا الخطــاب‬ ‫عليهــم باملظاهــر‪ ،‬وإ َّن الــر الحقيقــي للعــامل هــو وجهــه‬
‫الــردي مــن ناحيــة وعيهــا وشــعورها العاطفــي وغرابــة‬ ‫املــريئ" مب ّي ًنــا أ َّن هنــاك أوجــه شَ ـ َبه يف العقــول االجتامعيــة‬
‫أطوارهــا أو خطــأ افرتاضاتهــا‪.‬‬ ‫للشــخصيات‪ ،‬وأ َّن العقــول الخياليــة ال تعمــل يف الفــراغ‬
‫وتســاءل "باملــر" كيــف نعــرف أ َّن الشــخصية تفكــر؟ ومــا‬ ‫مبعــزل عــن العقــول االجتامعيــة‪ ،‬كــا أ َّن عمليــة تفســر‬
‫الوظائــف التــي يؤ ّديهــا العقــل االجتامعــي؟ وهــل تكــون لــه‬ ‫الســلوك االجتامعــي لــكل شــخصية يظـ ّـل غــر مكتمــل مــا‬
‫أشــكال مختلفــة أو عنــارص يتش ـكّل منهــا؟‬ ‫مل نأخــذ يف االعتبــار الجوانــب الفنيــة التــي تشــكل عقلهــا‬
‫وأجــاب إنّنــا عندمــا نتحـ َّدث عــن العقــل االجتامعــي فإنَّنــا‬ ‫الفــردي‪.‬‬
‫نتح ـ َّدث عــن فكــر مشــرك وجامعــي ‪ inter mental‬وعــن‬ ‫وأغلــب متثيــات "باملــر" كانــت عــى الروايــة األنجلوأمريك ّيــة‬
‫مجموعــة املهــارات والروابــط والقــدرات وامليــول والعــادات‬ ‫كروايــات "ديكنــز" و"جــن أوســن" و"جــورج إليــوت"‬
‫والترصفــات‪ ،‬وهــو مــا يتمظهــر يف الروايــة بصــور كثــرة‪،‬‬ ‫و"أنتــوين ترولــوب" و"فرجينيــا وولــف" و"هــري جيمــس"‬
‫فالشــخصية قــد تعــرف أ َّن غريهــا يفكــر ســواء أكان هــذا‬ ‫فضــا عــن قصــص وروايــات حداثيــة منهــا‬ ‫ً‬ ‫و"كونــراد"‪،‬‬
‫الغــر معروفًــا وقري ًبــا أو كان غري ًبــا وبعيــ ًدا لكــن مجــ ّرد‬ ‫"وردة إلميــي" ‪ 1979‬لـ"فولكــر"‪ ،‬و"الغرفــة الصينية" لـ"جون‬
‫تفكريهــا فيــه يجعــل عاملهــا متامسـكًا ببعــض املعرفــة التــي‬ ‫ســرل" ‪.1980‬‬
‫تجعلهــا يف األقــل تعــرف مــا الــذي يفعلــه اآلخــرون مــن‬ ‫وتت َّبــع "باملــر" تاريــخ توظيــف العقــل االجتامعــي يف الروايــة‬
‫دون أن يضطــروا إىل قــول أي يشء أو يحاولــوا إخبارنــا بــيء‬ ‫األنجلوأمريك ّيــة بــد ًءا مــن روايــات القــرن الثامــن عــر إىل‬
‫يخالــف مــا لديهــم مــن أفــكار رسيّــة ال يعرفهــا أي شــخص‬ ‫روايــات القــرن العرشيــن وأوائــل القــرن الحــادي والعرشين‪،‬‬
‫آخــر أو تخمــن مــا ميكــن لشــخصني أن يقــواله يف محادثــة‬ ‫وتوصــل إىل أ َّن هنــاك تطــو ًرا يف درجــة االهتــام بالعقــل‬ ‫َّ‬
‫مــن خــال بعــض املعرفــة بفكــر أحدهــا‪.‬‬ ‫االجتامعــي‪ ،‬ليكــون ســمة فريــدة مــن ســات روايــات‬
‫وركّــز "أالن باملــر" يف دراســته للعقــل االجتامعــي عــى‬ ‫القــرن التاســع عــر‪ ،‬وفيهــا كانــت الشــخصيات تقــرأ عقــول‬
‫مســائل كانــت البنيويــة قــد أهملتهــا كث ـ ًرا‪ ،‬منهــا أ َّن لــكل‬ ‫اآلخريــن مبعنــى قــراءة الوجــوه واألجســاد‪ .‬ومــن اآلثــار‬
‫شــخصية تأثرياتهــا العاطفيــة عىل القـ ّراء ومنهــا أ َّن للعواطف‬ ‫املرتتبــة عــى مثــل هــذه الق ـراءات أن تتشــكل منظــورات‬
‫قيمــة معرفيــة تجعــل للشــخصية وظائــف عقليــة ميكــن أن‬ ‫خارج ّيــة بينــا صــارت الشــخصيات يف روايــات ت ّيــار الوعــي‬
‫ننســبها إىل العقــل الخيــايل مـ ّـا لــه صلــة بالعواطــف التــي‬ ‫والروايــات متعــددة األصــوات ومــا بعــد الحداثيــة أكــر‬
‫هــي محــ ّركات الــرد بق ّوتهــا أو فوضويتهــا أو تعقدهــا؛‬ ‫تعقيــ ًدا؛ فالشــخصية عــى اســتعداد لالعــراف وقــراءة‬
‫فاملــرء ال يعمــل بــا عواطــف وال هــو خــا ٍل منهــا‪ ،‬وقــد‬ ‫عقلهــا أخالقيًّــا وأنرثوبولوجيًّــا واجتامعيًّــا ولغويًّــا قــراءة‬
‫ربــا هــي أكــر مـ ّـا يف‬ ‫تكــون لهــا يف العقــل الخيــايل مكانــة ّ‬ ‫تكشــف عــن منظورهــا الداخــي باســتعامل تقانــات ت ّيــار‬
‫العقــل االجتامعــي‪ ،‬وقــد تتعــارض عاطفــة مــا مــع مجموعــة‬ ‫الوعــي كالحــوار ال ُحـ ّر املبــارش والحــوار غــر املبــارش والحوار‬
‫مــن العواطــف التــي تظهرهــا شــخصيات فاعلــة ذات أدوار‬ ‫املــروي واملونولــوج الداخــي التــي تســاهم جميعهــا يف‬
‫‪50‬‬

‫أيضً ــا مــن علــاء النفــس ومــا قالــوه يف ضــوء علــم األعصــاب‬ ‫محــددة بعنايــة داخــل النــص‪.‬‬
‫عــن اإلدراك والعاطفــة وأنهــا مرتابطــان ارتباطًــا وثيقًــا‪،‬‬ ‫وال خــاف يف أ َّن البنيويــن درســوا الوعــي ومتثالتــه يف الروايــة‬
‫ونقــل عــن عــامل النفــس (كيــث أوتــي) "أ َّن العواطــف‬ ‫باســتعامل تيــار الوعــي واملونولــوج الداخــي أو األســلوب‬
‫ليســت عــى الهامــش‪ ،‬بــل هــي كامنــة يف مركــز اإلدراك‬ ‫غــر املبــارش ال ُحــ ّر‪ ،‬لكنهــم مل يضعــوا تصــورات لوظائــف‬
‫البــري"(‪.)16‬‬ ‫العاطفــة يف الــرد فظلّــت الخلفيــة النظريــة عامئــة وغــر‬
‫وبســبب مــا وجــده "باملــر" يف النظريــة الرسديــة مــن قلــة‬ ‫محــددة‪.‬‬
‫اهتــام بالعواطــف‪ ،‬لــذا ركّــز اهتاممــه عــى دراســتها يف‬ ‫وقــد أوىل "باملــر" اهتام ًمــا بالفلســفة العقليــة ومــا طرحــه‬
‫عقــول الشــخص ّيات الروائيــة مــن ناحيــة الخ ـرات الذاتيــة‬ ‫فالســفة العقــل حــول العواطــف‪ ،‬وأن ال إدراك مــن دون‬
‫واضطراباتهــا الجســدية العامــة املتعلقــة بحــركات الوجــه‬ ‫عواطــف "متغلغلــة بعمــق يف تضاعيــف الخطــاب الــروايئ‬
‫واإلشــارات واإلميــاءات وردود األفعــال وغريهــا‪.‬‬ ‫إىل درجــة يصعــب فصلهــا عــن عنــارص الــرد األخــرى‪ .‬وال‬
‫والعواطــف عــى أنــواع؛ منهــا اإليجابيــة ومنهــا الســلبية‬ ‫ميكــن فصــل الوعــي عــن العاطفــة ذلــك أ َّن العــامل مرتبــط‬
‫كالحامقــة والجنــون والغضــب واألمل والنــدم والذهــول‬ ‫ارتباطًــا جوهريًــا بطــرق إحساســنا"(‪ ،)15‬كــا أفــاد "باملــر"‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪51‬‬

‫جميــع مرافــق الثقافــة والــراث‪.‬‬ ‫واالرتبــاك‪ .‬وهــو مــا يؤثــر يف الشــخصية وحكمهــا اإلدرايك‬
‫األمــر الــذي أ ّدى إىل تشــويه الذاكــرة وضيــاع الـراث الثقــايف‬ ‫عــى االشــياء مــن ناحيــة شــعورها باالرتيــاح أو االنزعــاج‬
‫الســيام بعــد مــا طــال املتحــف العراقــي واملكتبــة الوطنيــة‬ ‫ومــدى قدرتهــا أو عــدم قدرتهــا عــى فعــل يشء مــا‪ ،‬وقــد‬
‫مــن عمليــات نهــب وحــرق ورسقــة‪ .‬وبعــد أن اغـ ّرت البــاد‬ ‫تنتــج عــن إدراكهــا ردود أفعــال مســتقبلية‪ ،‬يقــول "باملــر"‪:‬‬
‫وهاجــت العاصفــة حصــل أمــر غريــب ســيح ِّول مجــرى‬ ‫"أنــا أزعــم أ َّن الكثــر مــن الوظائــف العقليــة التــي تؤديهــا‬
‫الــرد مــن الواقعيــة إىل الرمزيــة‪ .‬وهــذا األمــر الغريــب‬ ‫الشــخصيات يف الروايــة تتكــ ّون مــن العواطــف"(‪.)17‬‬
‫هــو ظهــور (ح ّبــة بغــداد) عــى جبهــة كل فــرد مــن أف ـراد‬ ‫وقــد تصــل الشــخصية إىل درجــة اإلفــراط يف العواطــف‬
‫الشــعب "فــا عــادوا يعرفــون َمــن هــم وأيــن يقعــون ومــاذا‬ ‫فــا تتمكــن مــن الســيطرة عليهــا أو ال تعــرف مــا يحــدث‬
‫ينبغــي أن يفعلــوا‪ ..‬ظهــرت يف وجــوه الشــعب بر ّمتــه دمامل‬ ‫معهــا ومــا حولهــا‪ ،‬ومــن ثــم تكــون ســببًا يف ســلبيتها وال‬
‫كــا لــو كانــت الوصفــة التــي يتعـ ّرف فيهــا كل واحــد عــى‬ ‫توافقيــة تجربتهــا ومــا تؤديــه مــن وظائــف‪ .‬وللعواطــف‬
‫اآلخــر"(‪.)19‬‬ ‫عالقــة باألمكنــة التــي تلعــب دو ًرا مهـ ًـا يف توفــر الســياق‬
‫ومــن بعدهــا فقــد ســكان البــاد ذاكرتهــم وانحــدروا إىل‬ ‫االجتامعــي الــذي فيــه يعمــل عقــل الشــخصية ضمــن نطــاق‬
‫الجحيــم عــى خطــا "إنانــا" الســومرية نســوا أســاءهم‬ ‫محــدد بقدراتهــا الفرديــة‪ .‬ومــا قــد يتمخــض عــن االرتبــاط‬
‫واألرقــام واأللقــاب وانتزعــت ذاكــرة الشــعب برسقــة‬ ‫باملدينــة مــن عواطــف يعـ ّـر عنهــا بأمنــاط ســلوك متوقعــة‬
‫آثــاره‪ .‬صــار الشــعب بأشــكال جديــدة "بعضهــم ميشــون‬ ‫أو غــر متوقعــة‪.‬‬
‫باختيارهــم واآلخــرون آل ًّيــا بــا هــدى رمبــا اعتــا ًدا عــى‬ ‫وهــو مــا نجــده متجل ًيــا يف روايــة "ح ّبــة بغــداد"(‪ )18‬لجــال‬
‫ذاكــرة أقدامهــم التــي تسـ ّ‬
‫ـتدل إىل الشــوارع واألمكنــة"(‪،)20‬‬ ‫حســن عــي التــي تــؤدي فيهــا بغــداد دور املعــادل‬
‫فالعاطفــة التــي يظهرهــا الســارد بطريقــة ســاخرة إمنــا هــي‬ ‫املوضوعــي لإلنســان العراقــي املســتلب واملقهــور‪ ،‬أ ّمــا الح ّبة‬
‫نظــام إنــذار يرســل إشــاراته التــي تــي مبــآل خطــر ســينتهي‬ ‫فهــي الدالــة الرمزيــة عــى االعتــال الــذي أصــاب املــكان‪/‬‬
‫إليــه حــال هــذا الشــعب‪.‬‬ ‫اإلنســان ومــا يرتبــط بــه مــن أبعــاد عاطفيــة متنــح الــرد‬
‫وهــذا يعنــي أ َّن العواطــف ال يعـ َّـر عنهــا بالكلــات‪ ،‬وإمنــا‬ ‫منطقيــة وتجعلــه قــاد ًرا عــى توصيــل مضامينــه الفكريــة‬
‫هــي إشــارات ذات شــفرات هــي مبثابــة رد فعــل عــى‬ ‫إىل القــ ّراء‪.‬‬
‫الحــدث الرهيــب الــذي هــو االحتــال ومــا نجــم عنــه مــن‬ ‫ويدلــل املســتهل (أعظــم قصــة ميكــن تأليفهــا مــن النســيان)‬
‫خــراب ودمــار ونســيان‪ ،‬أث َّــر يف بغــداد‪ /‬اإلنســان‪.‬‬ ‫عــى مكمــن االعتــال وهــو الذاكــرة التــي أصابهــا املحــو‬
‫ولكــن األخطــر مـ ّـا تق ـ ّدم أ َّن هنــاك ذاكــرة أخــرى مضــادة‬ ‫واإللغــاء‪ .‬وهــذا بالضبــط هــو محــور الفكــرة التــي حولهــا‬
‫ينــج‬
‫صــارت تضــخ للشــعب‪ ،‬ذاكــرة بتاريــخ مغايــر‪ ،‬ومل ُ‬ ‫ظــل االحتــال‬ ‫تــدور الروايــة وموضوعهــا مــا جــرى يف ّ‬
‫مــن ذلــك الخطــر إال شــخصان ظـ ّـا محتفظــن بذاكرتهــا‬ ‫األمــريك عــام ‪ 2003‬مــن عمليــات تخريــب للمكتبــات‬
‫هــا الرجــل الــذي مــا أعطــاه الســارد املوضوعــي اسـ ًـا يك‬ ‫ونهــب للمخطوطــات ورسقــة لآلثــار وعنــف وإرهــاب طــال‬
‫‪52‬‬

‫أبحاثهــا ســواء حــن ترافقــه أو حــن تلتقــط الصــور واألفــام‬ ‫يصــر رم ـ ًزا لــكل مــن وجــد هويتــه يف خدمــة بلــده‪ .‬لــذا‬
‫الوثائقيــة التــي بهــا تســاعد أمارجــي عــى أداء مهمتــه يف‬ ‫أخــذ عــى عاتقــه مطــاردة اللصــوص الغ ـزاة الذيــن نهبــوا‬
‫اســتعادة اإلرث العراقــي املنهــوب وإرجاعــه إىل أهلــه‪.‬‬ ‫مكرســا حياتــه مــن أجــل اســرجاع املنهــوب‬ ‫ذاكــرة البــاد‪ً ،‬‬
‫وأل َّن "أمارجــي" الناجــي الوحيــد بذاكرتــه وعليــه وحــده‬ ‫مــن الكتــب واملخطوطــات والتامثيــل وغريهــا‪ .‬ولــي يتم ّكــن‬
‫تقــع مهمــة اســتعادة ذاكــرة البلــد تتكــ ّون وجهــة النظــر‬ ‫الرجــل مــن فعــل ذلــك كلــه صنــع الشــاب "أمارجــي" مــن‬
‫املركزيــة يف الروايــة منســجمة داخل ًّيــا وخارج ًّيــا مــن‬ ‫جثــث الضحايــا املغدوريــن "كائــن تشـكّل مــن أشــاء القتىل‬
‫مجموعــة عواطــف‪ .‬وأولهــا عاطفــة األب ـ ّوة التــي منطقــت‬ ‫وتـراب الجرحــى وســقته أمطــار البــاد أربعــن يو ًمــا لتمنحه‬
‫عالقــة الرجــل الــذي أوىص الكائــن العجيــب أمارجــي‪ :‬أ َّن‬ ‫الحيــاة" وق ّدمــه كنمــوذج للحيــاة العراقيــة "كان هــذا‬
‫الحشــود يف الشــوارع ليســت ســوى أجســاد ح ّيــة تحمــل‬ ‫(‪)21‬‬
‫الكائــن يطــ ّور نفســه باســتمرار ومل يبــق كــا انبعــث"‬
‫أروا ًحــا ميتــة‪ .‬وأنــه إذا التــزم بتنفيــذ مــا أوصــاه الرجــل فإنه‬ ‫وكان يف األصــل تجربــة مــن ضمــن خطــة مســتقبل مــا بعــد‬
‫بذلــك ســيكون خــر ابــن ألبيه‪ ،‬وهــذه هــي العاطفــة الثانية‪،‬‬ ‫البــر حــن يتع ـ ّرض الكوكــب إىل فريوســات مجهولــة‪.‬‬
‫عاطفــة البنــ ّوة التــي تــؤدي دورهــا يف اإلقنــاع بحقيقــة‬ ‫وتجــدر اإلشــارة إىل ان فكــرة اإلنســان املتفــوق والجينــات‬
‫الكائــن وإدراك منطقيــة األحــداث وتق ُّبــل مجرياتهــا‪.‬‬ ‫ودورهــا يف تحســن البنــاء االجتامعــي كان الكاتــب قــد‬
‫أمــا العاطفــة التــي تتجــى خــال أداء "أمارجــي" ملهمتــه‬ ‫وظفهــا يف روايــة ســابقة عنوانهــا "رســائل أمارجــي"(‪ )22‬وفيهــا‬
‫الرسيــة إىل املتحــف وتوخيــه الحــذر مــن ســلطة االحتــال‬ ‫ابتكــر الرجــل كائ ًنــا جديــ ًدا مــن أشــاء الضحايــا وســاه‬
‫ممثلــة بـ"جــورج راســل" فهــي عاطفــة األمومــة التــي تبــدو‬ ‫"أمارجــي" وهــو اســم ســومري يعنــي الحريــة‪ .‬أ ّمــا مه ّمتــه‬
‫عــى "ســاندرا" ‪-‬الســيدة التــي لديهــا متويــل جيــد لتدريــب‬ ‫الجســيمة فســيقوم بتنفيذهــا يف روايــة (ح ّبــة بغــداد) التــي‬
‫اآلثاريــن العراقيــن‪ -‬فتعطــف عــى "أمارجــي" وتشــعر إزاءه‬ ‫ونتبــن منظورهــا‬‫ّ‬ ‫فيهــا نصــل إىل عقــل شــخصية أمارجــي‬
‫باأللفــة‪ .‬وإذا كانــت فيــا مــى قــد الحقــت الرجــل أثنــاء‬ ‫الداخــي الــذي تشــكله العواطــف بوصفهــا هــي املحركــة‬
‫تكويــن "أمارجــي"‪ ،‬فــإ َّن ذلــك مل مينــع عاطفــة األمومــة مــن‬ ‫للتفكــر واملوقظــة لــإدراك‪ .‬األمــر الــذي يســ ِّهل عــى‬
‫أن تبــدو عليهــا "يــا إلهــي لقــد استنســخك مثلــه جعلــك‬ ‫الشــخصية التكيــف مــع محيطهــا واتخــاذ الق ـرارات بعقــل‬
‫تشــبهه بــكل يشء مــن أيــن لــك القــدرة عــى نســف‬ ‫فــردي داخــي خــاص ال يشــرك مــع العقــل الجامعــي مــن‬
‫اآلخريــن بالحجــج الفظيعــة"(‪.)23‬‬ ‫الناحيــة األخالقيــة‪.‬‬
‫ولعاطفــة الحــب دور مهــم يف التخلــص مــن (وهــم الذاكــرة)‬ ‫وإذا كانــت الواقعيــة قــد تفنــدت بصناعــة الرجــل لهــذا‬
‫واســتعادة الذاكــرة الحقيقيــة مــن خــال تت ُّبــع "أمارجــي"‬ ‫الكائــن العجائبــي‪ ،‬فــإ َّن العاطفــة ســتعطي للــرد عقالنيــة‬
‫للتاريــخ ومــا فيــه مــن نكبــات حلّــت ببغــداد وجعلتهــا‬ ‫مبــا ســيتولد مــن عالقــة "أمارجــي" مــع "أمــايل جميــل"‬
‫تســقط بأيــدي الغ ـزاة‪.‬‬ ‫الباحثــة الجامعيــة مــن أصــول عراقيــة وطالبــة الدكتــوراه‬
‫وقــد أدرك "أمارجــي" وهــو الكائــن العجيــب الــذي ال يطالــه‬ ‫التــي تظهــر عاطفــة قويــة تجــاه العــراق تعكســها يف‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪53‬‬

‫قمــة توهجــك الوقــاد وخــذ بيــدي لنعــر القنطــرة إىل الضفة‬ ‫(‪)24‬‬
‫حــرق وال غــرق وال طمــر "كلــا مزقــك تتو ّحــد أصلــب"‬
‫األخــرى مخلفــن وراءنــا شــاطئ الخــوف والحرمــان"(‪،)26‬‬ ‫أ َّن تاريــخ النهــب والرسقــة قديــم وأ َّن بــاد ســومر هــي أرض‬
‫وتنتهــي الروايــة وقــد صــار الرجــل وآمــايل وأمارجــي ثالــوث‬ ‫الكتابــة املســتباحة "حاميهــا حراميهــا" بــد ًءا مــن ملحمــة‬
‫اســتعادة الذاكــرة العراقيــة املنهوبــة‪.‬‬ ‫الخلــق البابليــة ووصــولً إىل ابــن الســاعي الشــاهد عــى مــا‬
‫ومــا كان للروايــة أن تــؤول إىل هــذه النهايــة وتغــدو مقنعــة‪،‬‬ ‫قــام بــه املغــول يف بغــداد‪ ،‬واســتمرا ًرا إىل العــر الحديــث‪.‬‬
‫لــوال العواطــف ودورهــا التأثــري الــذي أعطــى لهــذا الكائــن‬ ‫فيتعمــق شــعور "أمارجــي" بالــروح الوطنيــة‪.‬‬
‫‪-‬الــذي أدرك قيمــة تـراث بــاده الثقــايف واســتامت يف ســبيل‬ ‫وبســبب مشــاعر "أمارجــي" الجياشــة وبنــاء عــى إدراكــه‬
‫إرجاعــه والحفــاظ عليــه‪ -‬بُعــ ًدا رمزيًّــا ليكــون اإلنســان‬ ‫الواقعــي للحيــاة‪ ،‬بــارش الكتابــة متذكــ ًرا قــول الرجــل‪:‬‬
‫بعواطفــه وأفــكاره هــو املعــادل املوضوعــي للمــكان الــذي‬ ‫ستحســن ذاكــرة شــعبك"(‪ )25‬ويرســم طريقــة لبنــاء‬
‫ِّ‬ ‫"الكتابــة‬
‫هــو العـراق‪.‬‬ ‫الذاكــرة فيبــدأ مــن الجــذور‪ ،‬جام ًعــا شــتاتها املعطــوب‪،‬‬
‫وتســاعده مرافقتــه "أمــايل جميــل" التــي بــدت يف مه ّمتهــا‬
‫وهــي تكشــف حقيقــة املحــو كأنهــا "شــمخة" التــي ع َّرفــت‬
‫"أنكيــدو" بحقيقــة نفســه "امنحنــي أفــكارك التي شــكلتها يف‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪Alan Palmar,Ohio state university press,2010, p 23‬‬ ‫‪ .1‬بالغة الفن القصيص‪ ،‬واين بوث‪ ،‬ترجمة أحمد خليل عردات‪( ،‬الرياض‪:‬‬
‫‪See; P159 .15‬‬ ‫جامعة امللك سعود‪ ،)1994 ،‬ص‪ .35‬وميكن أن نضم إىل بوث منظرين‬
‫‪See; P167 .16‬‬ ‫انجلوأمريكيني آخرين مثل جريالد برنس وكينث بروكس‪.‬‬
‫‪See ; P44 .17‬‬ ‫‪ .2‬األدب والواقع‪ ،‬روالن بارت وهامون وايان وات ميكائيل ريفاتري‪ ،‬ترجمة‬
‫‪ .18‬ح ّبة بغداد رواية‪ ،‬جامل حسني عيل‪ ،‬دار املدى‪ ،‬بغداد‪.2021 ،‬‬ ‫عبدالجليل األزدي ومحمد معتصم‪( ،‬الجزائر‪ :‬منشورات االختالف‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪ .19‬الرواية‪ ،‬ص‪.11-12‬‬ ‫‪ ،)2003‬ص‪.43‬‬
‫‪ .20‬الرواية‪ ،‬ص‪.24‬‬ ‫‪ .3‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪ .46-47‬وعنوان مقالة ريفاتري هو (الوهم املرجعي)‪.‬‬
‫‪ .21‬الرواية‪ ،‬ص‪.26‬‬ ‫‪ .4‬بالغة الفن القصيص‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.83‬‬
‫‪ .21‬رسائل أمارجي رواية‪ ،‬جامل حسني عيل‪ ،‬دار املدى‪ .2019 ،‬ومن املقاطع‬ ‫‪ .5‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.9‬‬
‫التي تصف والدة الكائن (ظهرت كف الكائن أعقبتها الكف األخرى أزاحت ما‬ ‫‪ .6‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.192‬‬
‫تبقى من سعفات ثم جلس مش ًّعا ذلك الوهج الذي يتوقعه الرجل‪ ..‬أحس أن‬ ‫‪ .7‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.188‬‬
‫املهمة الحقيقية بدأت اآلن وعليه أن يخرب هذا العراقي الجديد مبا ينتظره)‬ ‫‪ .8‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.115‬‬
‫ص‪ 9-10‬ومن بعدها اعتقل الرجل ودخل يف سلسلة مغامرات ثم عاد‬ ‫‪ .9‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.112‬‬
‫التواصل بني الكائن والرجل عرب الطائر الزاجل الذي كان ينقل الرسائل بينهام‪.‬‬ ‫‪ .10‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.115‬‬
‫‪ .23‬الرواية‪ ،‬ص‪.39‬‬ ‫‪ .11‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.142‬‬
‫‪ .24‬الرواية‪ ،‬ص‪.14‬‬ ‫‪ .12‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.157‬‬
‫‪ .25‬الرواية‪ ،‬ص‪.22‬‬ ‫‪ .13‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.176‬‬
‫‪ .26‬الرواية‪ ،‬ص‪.49‬‬ ‫‪Social Mind in the novel(theory interpretation narrative), .14‬‬
‫‪54‬‬

‫ال ُّرؤية الشعر ّية والتجلّيات املشهد ّية‬


‫يف ديوان "مدار الفراشات"‬
‫للشاعرة عطاف جانم‬
‫قراءة فن ّية يف املضامني واألشكال واألبنية‬
‫نضال القاسم*‬

‫إ َّن تجربــة عطــاف جانــم الشــعريّة هــي تجربــة رائــدة يف إطــار القصيــدة الحداثيّــة‪ ،‬فهــي تقـ ِّدم يف نتاجهــا الشــعري‬
‫خالصــة الفهــم األديب‪ -‬الحيــايت‪ ،‬ومــا مي ِّيــز شــعرها حقيق ـةً‪ ،‬هــي هــذه القــدرة عــى اســتعادة األمكنــة ومفــردات‬
‫الطبيعــة يف شــعرها‪ ،‬ويتمظهــر الوطــن يف شــعرها عــى أشــكال عــ ّدة‪ ،‬ويتجــى طيفــه يف رؤاهــا وخياالتهــا ويف‬
‫تفاصيــل حياتهــا اليوميــة‪ ،‬وأ ّمــا يف قصائدهــا املشــهديّة فــإ َّن جانــم تصــل إىل جوهــر خصوص ّيتهــا التــي مت ِّيزهــا وهــي‬
‫قدرتهــا عــى مــزج الكتابــة امل ُبــارشة بالحالــة اإلنســانيّة التــي تف ِّجرهــا‪.‬‬

‫مــن األشــكال واأللــوان واملضامــن‪ ،‬وهــو زاخـ ٌر بالعديــد مــن‬ ‫ديــوان "مــدار الفراشــات" هــو الديــوان الرابــع للشــاعرة‬
‫الصــور املوحيــة‪.‬‬ ‫عطــاف جانــم والصــادر عــن دار فضــاءات للنــر والتوزيــع‬
‫تشــهد قصائــد الديــوان أ َّن عطــاف جانــم متتــاز بنزعتهــا‬ ‫يف عــام ‪ ،2017‬وكان قــد صــدر للشــاعرة "لزمــانٍ ســيجيء"‬
‫التقدمــي‪ ،‬وارتباطهــا بالجــذور‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التحرريــة‪ ،‬ومذهبهــا‬ ‫عــام ‪ 1983‬و"بيــاد ُر للحلــمِ يــا ســنابل" عــام ‪ 1993‬و"نــد ُم‬
‫وتواشــجها مــع أمتهــا‪ ،‬وانتامئهــا لوطنهــا‪ ،‬فهــي تكتــب‬ ‫الشــجرة" عــام ‪ ،2003‬ويض ـ ُّم الديــوان بــن دفتيــه عرشيــن‬
‫أدبًــا صاف ًيــا‪ ،‬يص ـ ّور آالم النــاس وآمالهــم‪ ،‬وينــادي بالحريّــة‬ ‫قصيــدة متوســطة الحجــم راوحــت بــن قصيــدة التفعيلــة‬
‫والكرامــة والثــورة عــى ال ّنظــم الباليــة‪ ،‬وهــذا الجوهــر‬ ‫شــعري مرهــف‬
‫ٍّ‬ ‫حــس‬
‫وقصيــدة النــر تنــ ُّم مبجملهــا عــن ٍّ‬
‫باعتقــادي هــو الباعــث الحقيقــي الــذي يش ـكّل شــخصية‬ ‫مســكون بحــزن عميــق‪ ،‬وبهــا تدفــع الشــاعرة مبغامرتهــا‬
‫عطــاف جانــم وشــعرها‪.‬‬ ‫الشــعرية نحــو مشــارف جديــدة تضاعــف مــن مت ُّيــز صوتهــا‬
‫وتضيــف إىل تجربتهــا شــع ًرا يســتلهم الواقــع اإلنســاين‬
‫هــذا هــو منطلــق مســرة عطــاف جانــم الشــعرية الالهبــة‬ ‫املعــارص بخصوصياتــه العديــدة‪ ،‬ويتجــى فيــه املــكان يف‬
‫التــي جمعــت بــن رو ٍح شــعري ٍة شــفافة وخيــال وث ّــاب‬ ‫تشــكيالت حلميــة وغرائبيــة يُضيؤهــا بــرق هنــا وإشــارة‬
‫يســتقي مادتــه مــن التاريــخ واألرض‪ ،‬أل َّن معنــى الحيــاة‬ ‫هنــاك يف عــامل متشــابك مــن الظــال واألنــوار ويف أمكنــة‬
‫كام ـ ٌن يف هــذا الســبيل ومــن دون ذلــك ال أمــل يُرجــى وال‬ ‫مســاة تســتعيدها املخ ّيلــة لتكــون لهــا كــا ميكــن أن‬ ‫ّ‬
‫خــاص‪.‬‬ ‫تكــون لغريهــا‪ ،‬والديــوان باإلجــال لوحــة تشــكيلية رائعــة‬

‫* شاعر وناقد أردني‬


‫‪nidal.alqasem@memr.gov.jo‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪55‬‬

‫عطاف جانم‬
‫‪56‬‬

‫رد والغربــة والضيــاع واالنشــداد إىل األهــل والربــوع‪.‬‬ ‫والت ـ ُّ‬ ‫لقــد مت َّيــزت قصائــد الشــاعرة بالوضــوح والسالســة‪ ،‬واالبتعــاد‬
‫كقولهــا يف قصيــدة (تُرابُهــا يــا نــور)‪:‬‬ ‫عــن التعقيــدات اللغويــة‪ ،‬فهــي قصائــد نابعــة مــن دائــرة‬
‫"لكنني يا نور‬ ‫الوجــدان‪ ،‬وهــي‪ ،‬مبعنــى آخــر‪ ،‬تقـ ّدم لنــا زم ًنــا شــعريًا عــى‬
‫كعادة الجذور يف بالدنا‬ ‫أكــر مــن مســتوى‪ ،‬فهــذا الزمــن قــد متثّــل حركــة الواقــع‬
‫يل‬
‫عا ٌر ع َّ‬ ‫والنفــس يف صريورتهــا وعكــس حركتهــا املاديّــة والشــعريّة‬
‫أبيت ليل ًة قص ّي ًة‬ ‫لو ُ‬ ‫وفقًــا للحاجــات اآلنيّــة واملســتقبليّة‪ ،‬تقــول الشــاعرة يف‬
‫عن مائِها الطَهور‬ ‫قصيــدة (الُم َغ ّنــي)‪:‬‬
‫تُرابها يا نور‬ ‫َ‬
‫"تعال‪ ..‬كام كُ ْنت‬
‫والتعليب‬
‫ْ‬ ‫يف ُّر من أصابعِ التقشريِ‬ ‫وكُن يل َيي ًنا إذا ما التويت‬
‫من‪..‬‬ ‫و ُر َّد سهام أخي ورفيقي‬
‫ثقاف ِة ّ‬
‫الجل ْد‬ ‫َ‬
‫تعال‬
‫األحباب‬
‫ْ‬ ‫يف ُّر من‪ ...‬تناح ِر‬ ‫وهب يل عيو َين‬ ‫ْ‬
‫يف ُّر من صه ِيلِنا الخجولِ ‪ ،‬من‬ ‫كُ ْن يل طَريقي‬
‫سكوننا الهج ْني‪("....‬الديوان‪ ،‬ص‪.)78‬‬ ‫لسجاد ٍة قرب شوق الرباق‬
‫إ َّن تجربــة عطــاف جانــم الشــعرية هــي تجربــة رائــدة يف‬ ‫لزيتون ٍة عند باب العمود‬
‫إطــار القصيــدة الحداث ّيــة‪ ،‬فهــي تق ـ ِّدم يف نتاجهــا الشــعري‬ ‫هناكَ ‪...‬أ ُح ّط َحنيني‬
‫خالصــة الفهــم األديب‪ -‬الحيــايت‪ ،‬ومــا مي ِّيــز شــعرها حقيقــة‪،‬‬ ‫السجود‪("....‬الديوان‪ ،‬ص‪.)51‬‬ ‫أطيل ُّ‬ ‫ُ‬
‫هــي هــذه القــدرة عــى اســتعادة األمكنــة ومفــردات‬
‫الطبيعــة يف شــعرها‪ ،‬ويتمظهــر الوطــن يف شــعرها عــى‬ ‫وقــد اســتطاعت عطــاف جانــم يف هــذا الديــوان أن تولِّــد‬
‫أشــكال عــ ّدة‪ ،‬ويتجــى طيفــه يف رؤاهــا‪ ،‬وخياالتهــا ويف‬ ‫طاقــة جديــدة‪ ،‬تشــحن بهــا لغتهــا وصورهــا ومضامينهــا‬
‫تفاصيــل حياتهــا اليوميــة‪ ،‬تقــول عطــاف جانــم يف املقطــع‬ ‫الشــعرية‪ ،‬مبــا هــو مختلــف وجديــد عــى صعيــد تجاربهــا‬
‫ِ‬
‫القــدس‪ ...‬وعــ ٌد بالحيــاة)‪:‬‬ ‫األخــر مــن قصيــدة (يف‬ ‫الســابقة‪ ،‬مــن حيــث تجـ ّـي الــرد الشــعري‪ ،‬حيــث توزّعــت‬
‫رص‪ ،‬يا أ َّم البال ْد‬ ‫"يا م ُ‬ ‫القصائــد بشــكل أنيــق والفــت‪ ،‬لتنســاب بشــكلها العفــوي‪،‬‬
‫ُض بعدَ اليابسات؟‬ ‫نبالت الخ ْ ِ‬ ‫الس ِ‬ ‫سبع ُّ‬ ‫تأت ُ‬ ‫أو ِ‬ ‫ممتــد ًة عــى فضــاء املجموعــة بأكملهــا‪.‬‬
‫حاب!‬
‫الس ْ‬ ‫(صوت ال ُع ْر ِب) زلز ًال فيغبطَهُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ليعود‬
‫رض يا عدنانُ ‪،‬‬‫املركب املخ ِّ‬ ‫ِ‬ ‫كنعانُ ‪ ...‬حض ُن‬ ‫تلــح الشــاعرة عــى الوظيفــة الجامليــة‬ ‫ويف هــذا الديــوان ّ‬
‫اس النجا ْة‬ ‫سيف الله‪ ،‬مرت ُ‬ ‫ُ‬ ‫التــي يحملهــا شــعرها ويتك ـ ّرس لهــا‪ ،‬وهــو الــذي تســتعيد‬
‫اب بار ٌد‬ ‫مغتسل‪ ...‬رش ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫والقدس‬‫ُ‬ ‫فيــه الشــاعرة تجربــة املــكان مــن خــال التذكُّــر واســتعادة‬
‫فارضب ِبرِجلِكَ أيُها امل ُ َض ُّي‪،‬‬ ‫أُلْ َف ـ ِة املــايض عــر الذاكــرة‪ ،‬ومــن هنــا فــإ َّن واقــع املأســاة‬
‫وامتشق الحياة!"(ص‪.)94/95‬‬ ‫هــو الــذي أبــرز يف شــعر عطــاف جانــم صــور النفــي‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪57‬‬

‫وتقــدم الشــاعرة يف قصائدهــا‪ ،‬مــن خــال إشــارات عابــرة‪،‬‬ ‫ويف قصيــدة (كنعــا ُن يبلـ ُغ سـ َّن الضَّ ـ ْوء) مثــة إبــداع شــعري‪،‬‬
‫أو وقفــات متأنيــة‪ ،‬متثيــات شــتى مــن فصــول املأســاة‬ ‫مــن أول كلمــة حتــى آخــر كلمــة‪ ،‬حيــث إ َّن القــارئ يتل ّمــس‬
‫الفلســطينية‪ ،‬التــي تنتهــي ‪-‬كــا تراهــا‪ -‬بالغربــة والنفــي‪،‬‬ ‫الصــدق الفنــي‪ ،‬ووقــدة التجربــة‪ ،‬فالشــاعرة تُناجــي أرض‬
‫وقــد حمــل الفلســطيني معــه إىل مــدن غريبــة بعيــدة حزنــه‬ ‫الطفولــة والذكريــات‪ ،‬والــراءة األوىل‪ ،‬وهــي ترســم معــامل‬
‫عــى الوطــن‪ ،‬وحــزن الوطــن املقتــول عــى أبنائــه‪ .‬قصيــدة‬ ‫الوطــن وتحفــظ تفاصيلــه‪ ،‬وجغرافيتــه يف عالقــة صوفيــة‬
‫"كنعــا ُن يبلــغ سـ َّن الضَّ ْوء" مســكونة بعشــق الوطــن املمتزج‬ ‫ملتهبــة داخــل القصيــدة‪ ،‬بحيــث يصبــح مــن الصعــب عــى‬
‫بــاألمل واإلحســاس القــايس بالضيــاع‪ .‬تقــدم القصيــدة لقطــات‬ ‫املتلقــي التفريــق بــن الحالــة اإلنســانية املتمثّلــة يف تجربــة‬
‫معـ ِّـرة للــوداع امل ُـ ّر‪ ،‬حيــث يرحــل الفلســطينيون عــن وطــن‬ ‫الحــب وبــن حالــة التو ُّحــد بــاألرض التــي تصوغهــا الشــاعرة‬
‫توقــف عنــده الزمــن‪ ،‬يحملــون معهــم "املِ َه َّفـ ِ‬
‫ـات املزركشــة"‪،‬‬ ‫يف إطــار تجربــة االســتعادة‪ ،‬وذلــك عــى النحــو اآليت‪:‬‬
‫وعقــود الباميــاء‪ ،‬كقولهــا‪:‬‬ ‫الصمء َع ِّني‬ ‫"وأماط العتم َة ّ‬
‫"والنساء الطاعنات‬ ‫ُطاي‬
‫كان فجري َوخ ْ‬
‫التجل والخَبايا‪..‬‬‫يف ّ‬ ‫بحجم ال ُحل ِْم‬
‫ِ‬ ‫ولكنعانَ ذراعانِ‬
‫ك َّن َوشْ َوشْ َن وليدي‬ ‫تلتفان َح ْويل‬
‫مساءات الطواح ِني‬‫ِ‬ ‫يف‬ ‫ُ‬
‫محاريث‬ ‫ولكنعانَ‬
‫وتتويج عقو ِد البامياء‬ ‫واق للرع ِد‬ ‫تجوب الجسدَ ال َّت َ‬ ‫ُ‬
‫كيف كان العابرون‬ ‫وماء الوع ِد‬
‫كل َّم مروا بحا َرة‬ ‫ها هو كلَّام سا َر لحا َر ْة‬
‫َسقوا من َف ِم َها املَعنى‬ ‫سفح الطَّو ِد‬ ‫جاء ُ‬
‫ِ‬
‫الحرف‬ ‫َ‬
‫ظالل‬ ‫وامل َ ُ‬
‫رج‬
‫قُفطانَ الحضارةْ!!‬ ‫يحيي ِه‪ ...‬ويغري ِه‬
‫كيف ملّا راودين‬ ‫ليك يُل ِقي بِذا َره‬
‫وأفيائ قاءتهم‬‫ِ‬ ‫أحيائ‬
‫كل ِ‬ ‫ُّ‬ ‫نسغُه‪ ...‬ريقي و( َد ِّمي)‬
‫وما دانت لهم حتى َصارة!!"(ص‪.)104/105‬‬ ‫رس املحارة‬ ‫نسلُه‪ُّ ...‬‬
‫ات عكا‬ ‫يا فنيق ّي ِ‬
‫وعــى ال ّرغــم مــن البعــد الــذايت‪ ،‬الــذي يــرز يف كثــر مــن‬ ‫فلتزركشن املِهف ِ‬
‫َّات‬
‫رض دامئًــا‪ ،‬ويتمثــل يف‬
‫قصائدهــا‪ ،‬إال أ َّن البعــد الجمعــي حــا ٌ‬ ‫زغاريدَ القناديل‬
‫اإلســقاط الســيايس الرمــزي‪ ،‬الــذي ينطــوي عــى نقــد شــديد‬ ‫وتُطلقن عصافري البهاء‬
‫للواقــع العــريب‪ ،‬وإحســاس مــ ّر بســقوط الذرائــع‪ ،‬ودامئًــا‬ ‫قد تكللت بغاري‪ ...‬ومحاري‬
‫تبــدو الشــاعرة غــر قــادرة عــن االنفــكاك مــن تأثــر الج ـ ّو‬ ‫د ّر ًة بني النساء"(ص‪.)101/103‬‬
‫‪58‬‬

‫فالكهف هل يحيص السن َني‬ ‫ُ‬ ‫الســيايس العــام‪ ،‬فــرى الحــرب والــدم والشــهادة ســاكنة يف‬
‫تنس شوكُهُ‬‫وهل يبايل إن ّ َ‬ ‫زوايــا قصائدهــا‪ ،‬وهــي مــن خــال رصدهــا األمــل تقيــم‬
‫أو كان ذو ًبا يف ال َّزه ْر!؟‬ ‫قصيدتهــا عــى صياغــة الوجــدان الجمعــي املتجــاوز للتمــزق‬
‫ٍ‬
‫الكهف‬ ‫صامت يف‬
‫ٌ‬ ‫ضجيج‬
‫ٌ‬ ‫ثلج‪...‬‬
‫ٌ‬ ‫خصوصــا صياغــة ال ُهويــة اإلنســانية للشــعر الفلســطيني‪.‬‬ ‫ً‬
‫حاذق للعابرين"(ص‪.)69‬‬ ‫قنص ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫تقــول عطــاف جانــم يف قصيــدة (وال الغــردق املشــتهى‬
‫يف الضفــاف) املهــداة للشــهيد إيــاد عــواودة‪ ،‬أحــد أبطــال‬
‫وميــزة أخــرى لهــذا الشــعر هــي اختــاط لغــة الشــاعرة‬ ‫االنتفاضــة الثالثــة يف عــام ‪-:2015‬‬
‫الغنائ ّيــة والتــي شــاعت يف قصائدهــا الوطنيــة‪ ،‬بلغــة‬ ‫"أنا مار ٌد من سكاك َني‪،‬‬
‫مواربــة آتيــة مــن معايشــتها للواقــع‪ ،‬وبهــذا تصــل الشــاعرة‬ ‫العقارب‪،‬‬
‫َ‬ ‫ح َني أدي ُر‬
‫يف قصائدهــا املشــهديّة إىل جوهــر خصوصيّتهــا التــي متيِّزهــا‬ ‫اقط الشوكُ عن سطو ِة البندقي ِة‬ ‫يس ُ‬ ‫ّ‬
‫وهــي قدرتهــا عــى مــزج الكتابــة املبــارشة بالحالة اإلنســانية‬ ‫عصا من ميا ْه‬ ‫تغدو ً‬
‫التــي تف ِّجرهــا‪ .‬لهــذا كانــت دامئــة اإللحــاح يف شــعرها عــى‬ ‫(الجيب) يحميكَ م ّني‬ ‫ُ‬ ‫فال‬
‫الجغرافيــة وعــى تشــ ُّبث اإلنســان باملــكان‪ ،‬وهــذا األمــر‬ ‫‪...‬قيص!‬
‫ّ‬ ‫وصندوق موىس صغريٌ‬ ‫ُ‬
‫أضفــى عــى شــعرها جامليّــة تنبــع مــن هــذه الخصوصيّــة‬ ‫فف ّر أمامي‬
‫التــي تذيــب العــامل والكــون يف خصوصيتهــا‪ ،‬وترفــع الشــعر‬ ‫لرتكض ما تشتهي‬ ‫َ‬
‫إىل مســتوى فنــي رفيــع‪ .‬تقــول يف قصيــدة (فَلْتوقظــي‬ ‫رعب‬
‫فيلق ٍ‬ ‫غرميُكَ ‪ُ :‬‬
‫شــهداءك مؤتــة)‪:‬‬ ‫ثقيل!‬
‫اب ْ‬ ‫وحفاظ ٌة‪...‬أم جر ٌ‬
‫"طبق من حكايا عىل ِ‬
‫رأسها‬ ‫ٌ‬ ‫األرض خطوي‪ ...‬فرت َف ُعني‪..‬‬ ‫وتلتقط ُ‬ ‫ُ‬
‫أ ْم‬ ‫عريس أنا‪ ...‬فوق أيدي الصباح يط ْري‬ ‫ٌ‬
‫اعم من فض ٍة‬ ‫بر ُ‬ ‫وتُخر ُِج أ ّمي سكاكي َنها‪ ...‬وزغاريدها‬
‫ووضو ْء!‬ ‫جرح كبري!"(ص‪.)40-42‬‬ ‫األفق ٌ‬‫بينام ُ‬
‫ِ‬
‫الصمت فينا‬ ‫إذ مت ُّر ِب ُعكاز ِة‬
‫فتميش إليها املُنى‬ ‫أمــ ٌر آخــر مي ّيــز شــعر عطــاف جانــم هــو تلــك القصائــد‬
‫والدروب‬
‫ْ‬ ‫املشــهديّة التــي تختلــط فيهــا إيقاعــات الحيــاة والتــي‬
‫قت ُر ْسغَها‬ ‫والسالل التي َعلِ ْ‬ ‫ُ‬ ‫اســتطاعت مــن خاللهــا الشــاعرة بلغــة مواربــة‪ ،‬أن تح ـ ِّول‬
‫تفيض كام يشتهي صفو ُة العاشقني‬ ‫هل ُ‬ ‫الواقــع املعــاش إىل لوحــة رائعــة‪ ،‬وإىل أفــق يف ق ّمة الدهشــة‬
‫بورد الكال ْم"(ص‪.)33‬‬ ‫بــاب واحــ ٌد)‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫(للكهــف ٌ‬ ‫والحلــم‪ ،‬كقولهــا يف قصيــدة‬
‫تعرف بابَهُ‬
‫ُ‬ ‫الشمس‬
‫ُ‬ ‫"ال‬
‫حتى وال ض ْو ُء القم ْر!‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪59‬‬

‫(أي‬
‫أدل عــى ذلــك مــن قولهــا يف قصيــدة ُّ‬ ‫القصائــد‪ .‬وليــس ّ‬ ‫وال بــد مــن اإلشــارة هنــا إىل أ َّن شــعر عطــاف جانــم يتَّســم‬
‫غيــمٍ يف غ ََم َمــة)‪:‬‬ ‫باســتخدام الربقيــات الشــعرية‪ ،‬التــي تحمــل صــو ًرا مــن‬
‫طفل ٌ‬
‫عابث‬ ‫الغيم ٌ‬ ‫"بعض هذا ِ‬ ‫ُ‬ ‫النقــد لجوانــب ثقافيــة واجتامعيــة مــن حياتنــا ونفاقهــا‬
‫ِ‬
‫الشبابيك‪ ...‬يغني‬ ‫يقف ُز ما ب َني‬ ‫االجتامعــي‪ .‬كتبــت يف قصيــدة ( ُغ ْربَــة)‪:‬‬
‫الدف‪..‬‬
‫ينق ُر َّ‬ ‫مثل دُعاب ْة‬
‫"بدأت َ‬
‫ْ‬
‫الصغا ْر‬
‫بعض ِّ‬ ‫فيجري خل َفهُ ُ‬ ‫وانتهت يب كَخراب ْة!"(ص‪.)57‬‬
‫بنت للمكانْ‬‫الغيم ٌ‬ ‫بعض هذا ِ‬ ‫ُ‬ ‫أ ّما يف قصيدة (ذات َص ْحو) فتقول‪:‬‬
‫َ‬
‫األطباق‪..‬‬ ‫تغسل‬
‫ُ‬ ‫"أنا لست يل‬
‫تغيل قهو َة ّ‬
‫السمرِ‪..‬‬ ‫ال يشء يل"(ص‪.)159‬‬
‫أو‬
‫يتمش يف الجِ وا ْر"(ص‪.)25‬‬ ‫جم ّ‬ ‫تحمل (فنجانًا) لِ َن ِ‬ ‫ُ‬ ‫يتَّســم شــعر عطــاف جانــم بوضــوح القصــد والرؤيــا والخيال‬
‫ودقّــة التعبــر‪ ،‬وهــو شــع ٌر متحــر ٌر مــن األســلوب التقريــري‪،‬‬
‫ونالحــظ أيضً ــا رغبــة عطــاف جانــم يف اســتكناه الــدالالت‬ ‫ومــن الزخرفــة اللغويــة‪ ،‬ومـ ّـا يلفــت االنتبــاه هنــا أ َّن شــعر‬
‫املختلفــة للمفــردات وســرها‪ ،‬خاصــة تلــك التــي ترتبــط‬ ‫جانــم يف هــذا الديــوان حافــل بالرمــوز واأللغــاز‪ ،‬كثيــف‬
‫بالتفســرات والتأويــات والتوظيفــات اللغويــة واملعرفيــة‬ ‫األســئلة واإلشــارات ذات األبعــاد الوجوديّــة‪ ،‬وإىل جانــب‬
‫يف عــامل اإلبــداع‪ ،‬وهــذا أحــد التح ـ ُّوالت التــي طــرأت عــى‬ ‫هــذه الهمــوم الوجوديّــة شــبه القــا ّرة تســتب ّد بالــذّات‬
‫الشّ ــاعرة شــواغل ظاهرات ّيــة شــديدة الــوطء منهــا إشــكال ّية‬
‫إدراك اإلنســان لألشــياء‪ .‬كقولهــا يف قصيــدة (هاجــس)‪:‬‬
‫"صوت كو ٌين‪:‬‬
‫ٌ‬
‫وضل‬
‫تا َه َّ‬
‫وضل وتا ْه‬‫َّ‬
‫املركب أحبايب‬
‫ِ‬ ‫أ ِب َذاكَ‬
‫أَ ْم‬
‫أعدايئ‬
‫أم هم أشباهْ؟؟!!"(ص‪.)119‬‬
‫كــا أ َّن قصائــد الديــوان قــد جــاءت محتوي ـ ًة عــى َوفْ ـ َر ٍة‬
‫مــن القيــم املوســيقية التــي تلُـ ّـف ِشــع َرها‪ ،‬حتــى كانــت أكرث‬
‫قصائدهــا ذات ألفــاظ موســيقية منتقــاة‪ ،‬ومت َّيــزت جميــع‬
‫الســهل امل ُ ْمتَ ِنــع مــع وضــوح‬
‫قصائــد الديــوان بأســلوبها َّ‬
‫املعــاين وسالســة التَّعابــر مبرافقــة موســيقيَّة غنيَّــة يف كافــة‬
‫‪60‬‬

‫مؤتــة)‪:‬‬ ‫تجربتهــا الشــعرية‪ .‬فهــي تلجــأ مثـ ًـا إىل تركيــب اســتعارات‬
‫َميشــع ينــزع أســاله األبديــ َة‪ ...‬يحــرث غابــات‬ ‫َ‬ ‫"يــا ل‬ ‫"أي غيــمٍ يف‬
‫شــعرية متواليــة يف قصيــدة كــا يف قصيــدة ُّ‬
‫أروا ِحنــا‪...‬‬ ‫غ ََم َمــة"‪ ،‬مــن خــال اســتغالل املعــاين‪ ،‬التــي قــد ترتبــط‬
‫حبــوب‬
‫َ‬ ‫قــرب الحيــا ِة‬
‫َ‬ ‫املتــآكل‪ ...‬ينــ ُر‬
‫َ‬ ‫العشــب‬
‫َ‬ ‫يقلــع‬
‫ُ‬ ‫بالغيــم يف الذاكــرة الجمعيــة العربيــة‪ ،‬كقولهــا‪:‬‬
‫اللقــاح ‪("...‬ص‪.)34‬‬
‫ْ‬ ‫"كانت الغيم ُة إنس ًّيا وجن ًّيا‬
‫وعــى العمــوم فــإ ّن العــودة إىل الــراث تعنــي اســتثامره‬ ‫نها ًرا يف الدجى‬
‫يف فهــم اللحظــة الحديثــة باختيــار مواقــف وشــخص ّيات‬ ‫ً‬
‫ليل به ًّيا يف ال ّنها ْر‬
‫ونصــوص منــه‪ ،‬تصلــح ألن تكــون نقطــة انطــاق نحــو‬ ‫الغيامت أرسا ًرا وأنها ًرا‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫الحــارض وزاويــة جديــدة لرؤيــة الواقــع واســتكناه دالالتــه‪.‬‬ ‫جامعي‬
‫ٍّ‬ ‫تجمع العشّ َاق يف ٍ‬
‫عرس‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫حقول‬
‫ـي حققــت بــه قصائدنــا العربيّــة املعــارصة‬ ‫إنــه أســلوب فنـ ّ‬ ‫يداري ع ْوزَهم ِعقدُ ال ُخزامى‬
‫انطالقــة كبــرة‪.‬‬ ‫أو‬
‫زهو ُر البيلسانْ‬
‫بقــي أ ْن أقــول إ َّن الشــاعرة عطــاف جانــم كانــت دامئًــا‬ ‫كانت الكرس ُة لح ًنا يف غامم ْة‬
‫مهمومــ ًة بقضايــا وواقــع بلدهــا‪ ،‬يعنيهــا أن تعيشــها وأن‬ ‫والقوايف‪ِ ...‬مهرجانْ !‬
‫تقــول كلمتهــا فيهــا ال بالتعميــم وال بالتجريــد‪ ،‬بــل بالغــوص‬ ‫ما الذي سدَّ شبابيكَ غامم ْة؟!‬
‫فيهــا بــكل مــا يف قلبهــا مــن تــوق إىل الفعــل وحــرص شــديد‬ ‫شج شبابيكَ غامم ْة؟!"(ص‪.)26‬‬ ‫ما الذي ّ‬
‫عــى ات ّخــاذ موقــف واع متمـ ِّرد‪ ،‬موقــف يديــن مــا يف ذلــك‬
‫الواقــع مــن مــآس وقهــر ومنغّصــات وظــروف ســلبيّة غــر‬ ‫ـعري لشــاعرتنا‬
‫هنــاك خاصيّــة أخــرى متيَّــز بهــا املنجــز الشـ ّ‬
‫عادلــة‪ .‬ومل يتعــارض الوعــي الف ّنــي الصــارم عنــد شــاعرتنا‬ ‫عطــاف جانــم‪ ،‬يســتطيع قارئــه املرتيّــث الوقــوف عندهــا‪،‬‬
‫منــذ البدايــات مــع القضايــا التــي ســعت إىل التعبــر عنهــا‪،‬‬ ‫الخــاق للــراث العــر ّيب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أال وهــي استـــلهامها وتوظيفهــا‬
‫ـعري عــى أن تــوازن بــن‬ ‫وقــد حرصــت عــر منجزهــا الشـ ّ‬ ‫بــكل تالوينــه وكائناتــه املختلفــة التــي زخــرت بهــا متونهــا‬
‫رؤاهــا ومواقفهــا الذاتيّــة والوطنيّــة والقوميّــة‪ .‬أن تــوازن‬ ‫الشــعريّة‪ ،‬وبهــا بلغــت مــن الغنــى والتنـ ُّوع درجـ ًة متميّــزة‪.‬‬
‫بــن رؤاهــا وبــن الربهنــة عــى أنّهــا صاحبــة قض ّيــة إبداع ّيــة‬ ‫لقــد كان هــذا ال ـراث بحـ ّـق راف ـ ًدا ث ـ ًّرا أصيـ ًـا أم ـ ّد هــذه‬
‫ف ّن ّيــة جامل ّيــة‪ .‬وقــد اســتطاعت باقتــدار ووعــي كبرييــن منــذ‬ ‫ـي‬
‫املتــون بأســاليب جديــدة ومتن ّوعــة نتيجــة التفاعــل الحـ ّ‬
‫أواســط الثامنينــات مــن القــرن العرشيــن وإىل اآلن‪ ،‬أن تتم ّيز‬ ‫بــن النصــوص وحواراتهــا‪ .‬رافــد تحكّمــت الشــاعرة فيــه‬
‫بصوتهــا الخــاص‪ ،‬وأن تتناغــم مــع حركــة الواقــع وجدليّتــه‬ ‫بالطبــع عــر رؤيــة معارصة لهــا فرادتهــا ومتيزهــا ومقصديّتها‬
‫ومتغياتــه‪ ،‬وهــو مــا مكّنهــا مــن لعــب أدوار مم ّيــزة كان لهــا‬
‫ّ‬ ‫الواضحــة الهــدف والفكــرة‪ .‬لذلــك حــاورت الشــاعرة هــذا‬
‫القــول الفصــل يف تأصيــل قصيدتهــا وإحــكام بنائهــا ولغتهــا‬ ‫الـراث مــن حيــث تنـ ّوع وتعـ ّدد مصــادره‪ ،‬بحيــث يصعــب‬
‫وتوســيع آفاقهــا وفضاءاتهــا والوصــول مبنجزاتهــا إىل تخــوم‬ ‫ـي مــا اســتم ّدت الشــاعرة مــن‬ ‫علينــا يف هــذه العجالــة تقـ ِّ‬
‫بعيــدة‪.‬‬ ‫هــذه املصــادر‪ .‬كقولهــا يف قصيــدة (فَلْتو ِقظــي شــهداءك‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪61‬‬

‫شعب "الخال" يف قصيدة "األحزان العاديّة"‬


‫للشاعر عبدالرحمن األبنودي‬
‫زينب محمد عبد الحميد*‬

‫يف قصيــدة "األحـزان العاديّــة" للشــاعر عبدالرحمــن األبنــودي‪ ،‬يختــار "الخــال" االنغــاس يف "العــادي" بدايـ ًة ومــن‬
‫عنــوان قصيدتــه حــن وصــف "األح ـزان" التــي ســيتناولها بـــأنها "العاديــة"‪ .‬يحيلنــا هــذا الوصــف إىل األحــداث‬
‫املشــركة بــن جامعـ ٍة مــا‪ ،‬تتكـ َّرر فيــا بينهــا األحـزان ذاتهــا‪ ،‬إىل أن تصبــح غــر ُمســتغ َربَة بــن أفرادهــا؛ مـ ّـا يُبعــد‬
‫أي أفــكار عــن الغريــب أو الشــخيص‪ .‬وال يقــف الحــدث عنــد الوحــدة أو انتظــار جيــل جديــد مــن‬ ‫عــن أذهاننــا ّ‬
‫الصعــب؛ ينتظر‬ ‫شــعب منبــوذ داخــل زنزانــة؛ فـ"الخــال" الــذي ينحــاز إىل شــعب دائــم األحــام والتضحيــة يف طريقــه َّ‬
‫ربــا يصبــح جيـ ًـا أكــر وع ًيــا‬
‫ـال جديــدة تنــزع منهــا الخــوف مــن مواجهــة الظلــم الــذي مل يتغـ َّـر عــر عصــوره؛ ّ‬ ‫أجيـ ً‬
‫ال تحاوطــه األح ـزان ويعتادهــا‪.‬‬

‫تحيلنــا املفارقــة بــن العنــوان وبدايــة القصيــدة؛ إىل وجــود‬ ‫يأخذنــا الشــاعر املــري عبدالرحمــن األبنــودي (‪1938-‬‬
‫فــوارق بــن فئتــن أو لنقــل بــن "شــعبني" كــا يقــ ِّرر‬ ‫‪2015‬م) مــن عنــوان القصيــدة "األحـزان العاديّــة" إىل كلمــة‬
‫وفاصــا‪.‬‬
‫ً‬ ‫"الخــال" يف قصيدتــه‪ ،‬واض ًعــا بينهــا هــ ّوة‬ ‫"وفجــأة" ليضــع منــذ كلمتــه األوىل فارقًــا بــن زمنــن؛ زمــن‬
‫"إحنا شعبني‪ ..‬شعبني‪ ..‬شعبني‬ ‫مــاض كان يعتقــد النــاس امتــداده‪ ،‬وزمــن حــارض منــذ‬
‫شوف األ ّول فني؟؟‬ ‫لحظــة املفاجــأة‪ ،‬ثــم ميت ـ ّد بعــد حدثــه املفاجــئ واملفــارق‬
‫والتاين فني؟؟‬ ‫للعنــوان؛ لترشيــح دوافــع ثــم تبعــات تلــك اللحظــة‪ .‬يبــدأ‬
‫وآدي الخط ما بني االتنني بيفوت"‪.‬‬ ‫بنــاءه الدرامــي منــذ لحظــة متوتــرة محتدمــة‪ ،‬ال يفــ ّرق‬
‫فيهــا بــن زمنــن وحســب‪ ،‬بــل وجامعتــن أيضً ــا؛ فــا يتــد َّرج‬
‫ـر لنــا ماه ّيــة األح ـزان‬ ‫يعتــاد أحدهــا عــى األح ـزان‪ ،‬فيفـ ِّ‬ ‫درام ًّيــا مــن بدايــة هادئــة إىل وســط ثــم نهايــة بحســب‬
‫العاديّــة‪ ،‬بينــا يواجــه اآلخــر مفاجــأة الحــدث غــر املتوقَّــع‬ ‫األعـراف التقليديــة‪ ،‬بــل يبــدأ مــن رصاع وتســاؤل كان يبــدو‬
‫مــن شــعب هــذه املــدن التــي ظــ َّن فيهــا الخــرس‪ .‬أ ّمــا‬ ‫غــر متوقَّــع‪.‬‬
‫"الخــال" فقــد أبــاح بعلمــه ألســباب هــذه االنتفاضــة وتلــك‬ ‫"وفجأة‬
‫ـرا عنهــا‪.‬‬
‫األح ـزان بصفتــه واح ـ ًدا مــن معتاديهــا ومعـ ِّ ً‬ ‫هبطت عىل امليدان‬
‫"أنا عندي فكرة عن املدن‬ ‫من كل جهات املدن الخرسا‬
‫اليل يكرهها النور‬ ‫ألوف شبان‬
‫والقرب اليل يبات مش مرسور"‪.‬‬ ‫زاحفني يسألوا عن موت الفجر"‪.‬‬

‫* ناقدة ومرتجمة مرصية‬


‫‪hams4day@yahoo.com‬‬
‫‪62‬‬

‫عــدم‪ ،‬وإنّ ــا هــو يختــار مــن اإلمكانيــات املتاحــة يف اللغــة‬ ‫اتَّخــذ األبنــودي موق ًفــا واض ًحــا عــى مــدار القصيــدة؛ حــن‬
‫العاديــة‪ ،‬ليشــكل منهــا نظا ًمــا لغويًــا قــاد ًرا عــى تشــكيل‬ ‫انحــاز إىل "شــعب" بعيْنــه مســتخد ًما أدواتــه البالغيــة‬
‫املعنــى أو الداللــة التــي تحتويهــا تجربتــه الفنيــة‪ ،‬والقــول‬ ‫واملعجميــة لتقريــر هــذا االنحيــاز‪ .‬يســتخدم األبنــودي‬
‫باالختيــار ال ينفــي بالطبــع دور الشــاعر الف ّعــال والخالــق‬ ‫ظاهــرة "االلتفــات" البالغ ّيــة بكــرة وتن ـ ُّوع؛ حيــث يجــول‬
‫يف اللغة"(املعجــم‪ :‬ص‪ .)111‬لكــن قـ ّوة الحــدث الــذي يعـ ّـر‬ ‫بــن الضامئــر مــن الغائــب إىل املتكلــم تــارة‪ ،‬ومــن صيغــة‬
‫عنــه مبــا فيــه مــن ثوريّــة ومحاولــة لتغيــر مــا اعتــاد عليــه‬ ‫املتكلــم املفــرد إىل صيغــة الجمــع يف أخــرى‪.‬‬
‫وإعــادة تشــكيل مجريــات األحــداث؛ كانــت قــد أث ّــرت‬ ‫"إيديكم نعمت من طول ما بتفتل ليالينا الحلك‬
‫بدورهــا عــى لغــة األبنــودي‪ ،‬ال اللغــة االنتقائيــة فحســب‪،‬‬ ‫إحنا الهلك وأنت الرتك‬
‫بــل واالشــتقاقية أيضً ــا؛ "فالشــاعر يســتطيع أن ينحــت بعــض‬ ‫سواها بحكمته صاحب امللك‬
‫الكلــات‪ ،‬مثلــه مثــل العــامل الــذي يبحــث عــن صيغــة‬ ‫أنا املطحون املسجون‬
‫عربيــة ملصطلــح علمــي جديــد‪ ،‬ولكــن هــذا عــى كل حــال‬ ‫اليل تاريخي مركون‬
‫ليــس هــو الــدور األهــم بالنســبة للشــاعر‪ ،‬وإنّ ــا الــدور‬ ‫وأنت قالوون وابن طولون ونابليون"‪.‬‬
‫األهــم هــو ذلــك الــدور الكامــن يف قدرتــه عــى االختيــار‬
‫مــن بــن املفــردات‪ ،‬فهــو –هنــا‪ -‬يقبــل بعــض املفــردات‬ ‫يأخــذ املتكلــم صيغــة املفــرد والجمــع عــى التــوايل ليؤكــد‬
‫وين ّحــي بعضهــا اآلخــر باســتخدامه لهــا وإهاملــه لألخــرى‪،‬‬ ‫انضــام الشــاعر ومتاهيــه مــع "شــعب" بع ْينــه؛ فيتح ـ َّدث‬
‫مــا يشــكّل أو يســاهم يف تشــكيل لغــة جديــدة لعــره‬ ‫ّ‬ ‫باســمه وباســم أحزانــه التــي هــي جامع ّيــة "إحنــا الهلــك"‪،‬‬
‫وللعصــور التالية"(البحــث عــن لؤلــؤة املســتحيل‪ :‬ص‪.)111‬‬ ‫وشــخص ّية "أنــا املطحــون" يف آن‪.‬‬
‫أ ّمــا الشَّ ــعب (الثــاين‪ /‬اآلخــر) فلــه "التفــات" يخــرق دو ًمــا‬
‫وهــذا بالضبــط مــا حققــه؛ حــن اســتخدم املعنــى وض ـ ّده‬ ‫املتكلــم ويضعــه يف مقارنــة واضحــة بــن أفعــال وصفــات‬
‫"بلــدي مهــا تتض ّيــع مــش حتضيــع" ليقــرر فارقًــا بــن‬ ‫كل فريــق "إحنــا الهلــك وأنــت الــرك"‪ .‬وكذلــك يتمثّــل هــذا‬
‫تصــ ُّورات اللغــة بــن فريقــن‪ ،‬ويجعــل تصــ ُّور أحدهــا‬ ‫"أنــت‬
‫َ‬ ‫اآلخــر يف شــخص واحــد بضمــر املخاطــب املفــرد‬
‫شــكليًّا عــن "الضيــاع" املتمثــل يف الهيمنــة عــى مــكان‬ ‫ـر لنــا‬ ‫السـ ّجان" ويف أشــخاص كــر "إيديكــم نعمــت"‪ .‬ال يفـ ِّ‬
‫بع ْينــه‪ ،‬ويجعــل مفهــوم "الشــعب اآلخــر" مناف ًيــا ملــا قــد‬ ‫االتفــات موقــف األبنــودي الواضــح الــذي اختــاره وق ـ َّرره‪،‬‬
‫يتصـ َّوره األ َّول مــن معنــى ظاهــري للضيــاع "مــش هيضيــع"‪.‬‬ ‫بــل يؤكــد لنــا يف بالغــة شــعوره باالنصهــار داخــل جامعتــه‬
‫يعــر عــن‬‫كذلــك يشــتق كلــات مثــل "يفرســن" حــن ِّ‬ ‫وشــعبه‪ ،‬وكذلــك اغرتابــه أمــام ذلــك اآلخــر املتس ـلّط‪.‬‬
‫قــدرة الخلــق التــي ميتلكهــا امليــدان مركــز الثــورة القــادر‬
‫عــى خلــق األبطــال‪ ،‬وكذلــك نحــت كلامتــه التــي تعـ ِّـر عــن‬ ‫أمــا معجــم األبنــودي ف ُمغــرق يف العاديّــة دون أن ينــايف‬
‫مواقفــه؛ والتــي نفهــم منهــا أيضً ــا أنهــا وإن كانــت مســلوبة‬ ‫قدرتــه عــى االنتقــاء‪ ،‬وهنــا أقتبــس مــا قالــه ســيد البحـراوي‬
‫يف ظاهــر األلفــاظ إال أنهــا غــر مســلوبة يف معجــم مغايــر‬ ‫يف كتابــه "البحــث عــن لؤلــؤة املســتحيل" (دار رشقيــات‪،‬‬
‫لشــعب مغايــر‪.‬‬ ‫مــر‪ )1996 ،‬إذ يقــول إ َّن "الشــاعر ال يخلــق اللغــة مــن‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪63‬‬

‫عبدالرحمن االٔبنودي‬

‫"أنا ُم ّت‬ ‫"ما ضايع إال ميدان وسيع‬


‫ومش منظور يل جواب‬ ‫يساع خيول الجميع‬
‫متحصن بكتوف األصحاب‬ ‫ّ‬ ‫يقدم املقدام‬
‫ولذلك ف ُّت"‪.‬‬ ‫ويفرسن الفارس‬
‫ويرتك الشجاعة للشجيع"‪.‬‬
‫إال أنــه يســتقبل موق ًفــا جديـ ًدا مــن الصــدام؛ ال تتغـ َّـر فيــه‬
‫هيئــة الســلطة عــن صورتهــا العاديــة‪ ،‬بــل ال يتغــر ممثّلهــا‬ ‫تســتوعب مفـرادات القصيــدة معجمــن‪ ،‬فلــكل شــعب مــن‬
‫فيــارس ســلطته ومحاســبته بحذافريهــا املهينــة ذاتهــا‪.‬‬ ‫الشــعبني معجــم خــاص يــرى بــه اآلخــر‪ ،‬ويضطــر إىل قبــول‬
‫"ضابط واعرتض‬ ‫اســتخدامه لِــا يفرضــه عليــه مــن تسـلُّط واحتقــار أحيانًــا‪،‬‬
‫قبض عىل الجثة‬ ‫وته ُّكــم عــى ا ّدعــاءات قائِلِــه يف كثــر مــن األحيــان‪.‬‬
‫وطلب األوراق‬ ‫أ ّمــا زمــن القصيــدة فلنــا أن نصفــه بـ"الدائــري" يجــول‬
‫مزع األكفان‬ ‫بــن التاريــخ مبــا فيــه مــن شــهادات مــن التســلط والقهــر‪،‬‬
‫عدّ ل الوش‬ ‫ويرصــد اللحظــة الحاليــة املك ّدســة باألح ـزان املعتــادة مــن‬
‫ووقف وركلني‬ ‫املقهوريــن عــى مــدار تاريخــه وحــارضه‪ ،‬بــل ويتجــاوزه إىل‬
‫وقال يل بلؤم شديد‬ ‫مســتقبل ميتافيزيقــي حيــث مــا بعــد املــوت‪ .‬كان املــوت‬
‫حتى ىف املوت بتغش"‪.‬‬ ‫خالصــا يقيــه بطــش القهــر ويعفيــه مــن‬ ‫قــد ظنــه املقهــور ً‬
‫واجــب ال ِّدفــاع أو الــر ّد‪.‬‬
‫‪64‬‬

‫محــل أ ّول ســجني ليتمثّــل تاريــخ القهــر‬‫ّ‬ ‫األبنــودي نفســه‬ ‫يواجــه الشــاعر الســلطة مــن جديــد؛ بعــد أن أصبــح املــوت‬
‫منــذ ميــاده يف وطنــه‪ ،‬ويتج َّرعــه حتــى بعــد املــوت عــى‬ ‫والحبــس ميثــان مــكان القمــع ذاتــه‪ ،‬حســاب القــر وســؤال‬
‫األرض ذاتهــا مفتخ ـ ًرا بأنــه امل ُعـ ِّـر عــن األح ـزان عــى مــدار‬ ‫الضابــط هــا الحســاب ذاتــه؛ وكذلــك أصبــح هــو والشــعب‬
‫األزمــان‪.‬‬ ‫املنحــاز لــه يف الزنزانــة ذاتهــا؛ حتــى وإن شــعر بالوحــدة‬
‫"معروف صويت ىف زمن األحزان‬ ‫حبســا للشــعب بأكملــه؛ يقــول‪:‬‬
‫فإنــه يجعــل مــن حبســه ً‬
‫ويف أي زمان‬ ‫"احبسني أو اطلقني وادهسني‬
‫واتذكّرت سنة ما اتبنت القلعة‬ ‫رأْيِنا ِخلف خالف‬
‫وكنت أنا أ ّول مسجون‬ ‫وإذا كنت لوحدي دل َوقْت‬
‫وإن الضابط ده أ ّول س ّجان"‪.‬‬ ‫بُكره مع الوقت‬
‫حتزور الزنزانة دي أجيال"‪.‬‬
‫ـرض ألّ ينتهــز فرصــة زمــن القصيــدة‬ ‫أتصـ َّور أ َّن "الخــال" مل يـ َ‬
‫الدائــري املنفتــح وقدرتــه عــى تجــاوز الزمــن؛ ومل يكتـ ِ‬
‫ـف‬ ‫ال يقــف الحــدث عنــد الوحــدة أو انتظــار جيــل جديــد مــن‬
‫أن يكــون أ ّول مســجون مقهــور وال يشــهد زمــن الخــاص أو‬ ‫شــعب منبــوذ داخــل زنزانــة؛ فـ"الخــال" الــذي ينحــاز إىل‬
‫الحريّــة؛ فصنــع مــن نفســه متكلـ ًـا جديـ ًدا مــن هــذا الزمــن‬ ‫شــعب دائــم األحــام والتضحيــة يف طري ِقــه الصعــب؛ ينتظــر‬
‫املســتقبيل الــذي يحمــل جيـ ًـا "إن شــاف يوعــى وإن وعــي‬ ‫أجيــالً جديــدة تنــزع منهــا الخــوف مــن مواجهــة الظلــم‬
‫مــا يخــاف"‪ ،‬فيواجــه ســ ّجانه مواجهتــه األخــرة بصفاتــه‬ ‫ربــا يصبــح جيـ ًـا أكــر وع ًيــا ال‬
‫الــذي مل يتغـ َّـر عــر عصــوره؛ ّ‬
‫املســتقبل ّية‪ ،‬وينتــر عليــه ليفــوز بالوطــن‪.‬‬ ‫تحاوطــه األح ـزان ويعتادهــا‪.‬‬
‫"أنتم الخونة لو يصدق ظ ّني‬ ‫"وأكيد فيه جيل‬
‫خد مفاتيح سجنك واترك يل وطني‬ ‫أوصافه غري نفس األوصاف‬
‫وطني غري وطنك‬ ‫إن شاف يوعى‬
‫ومىش‬ ‫وإن وعي ما يخاف"‪.‬‬
‫قلت لنفيس‬
‫ما خدمك إال من سجنك"‪.‬‬ ‫لكــن‪ ،‬هــل يقبــل "الخــال" أن يــأيت جيــل يخلِّصــه مــن‬
‫الظلــم بعــد أن كان مقهــو ًرا عــى مــدار العصــور! لقــد وضــع‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪65‬‬

‫التعدد يف شخص ّية "مرزوق"‬


‫مظاهر ُّ‬
‫من خالل رواية‬
‫"األشجار واغتيال مرزوق" لعبدالرحمن منيف‬
‫مختار املاجري*‬

‫ـكل يف ال َه ّم اإلنســاين‪.‬‬
‫تتفـ َّرد شــخص ّية "مــرزوق" يف روايــة "األشــجار واغتيــال مــرزوق" بغناهــا الدرامي‪ ،‬وانغامســها الـ ّ‬
‫وهــو أمــر يختلــف عــن ف ـرادة الشــخصيّات املحوريّــة ألبطــال الروايــة العربيــة الكالســيكية (أحمــد عبدالجــواد‪،‬‬
‫مصطفــى ســعيد‪ ،‬زكريــا املرســنيل‪ ،‬وغريهــم)‪ ،‬فـ"مــرزوق" ميثّــل الجوهــر األصيــل للشــعب‪ ،‬للحيــاة‪ ،‬للعمــل‪ ،‬لألصالــة‪،‬‬
‫للشــموخ‪ ،‬إنّــه اإلنســان الــذي تكمــن األســطورة الحقيقيــة يف حياتــه‪ .‬وهــو أيضً ــا شــخص ّية رامــزة‪ ،‬بــل قطــب‬
‫الشــخوص مبــا فيهــا الشــخوص الرمزيّــة؛ "مــرزوق" يســاوي كل الشــخوص التــي يعرضهــا الكاتــب عبدالرحمــن منيــف‬
‫يف غربتهــا وانتامئهــا‪ ،‬يف خوفهــا وجرأتهــا‪ ،‬كاش ـفًا عالئقهــا بالتاريــخ والواقــع ليمنــح القــارئ كش ـفًا لذاتــه ولعاملــه‬
‫بعــد تجربــة الشــخوص املامثلــة‪.‬‬

‫"مــرزوق" تختلــف عــن هاتــن الشــخصيتني مــن حيــث‬ ‫لــن شــمل "التعــ ُّدد" العديــد مــن العنــارص األســلوبية يف‬
‫أبعادهــا املرتاميــة األطـراف‪ ،‬كــا أشــار إىل ذلــك عبدالرحمن‬ ‫الروايــة الحديثــة‪ ،‬فإنّــه مل يســت ِنث أيضً ــا عنــر الشــخص ّية‬
‫منيــف عــى لســان إحــدى شــخص ّياته "مــرزوق ليــس‬ ‫التــي تبــدو يف ظاهرهــا واحــدة مــن بــن الشــخصيات‬
‫واحـ ًدا‪ ،‬مــرزوق كل النــاس‪ ،‬مــرزوق شــجرة‪ ،‬مــرزوق ينبــوع‪،‬‬ ‫العامــة ال تلــك املتف ـ ّردة التــي تنشــد الظهــور والتميُّــز مــن‬
‫مــرزوق هــو إليــاس نخلــة الــذي ال ميــوت"(‪ .)1‬فمــن يــا تــرى‬ ‫خــال الفــرادة البطوليــة يف الروايــة الكالســيكية‪ .‬وهــي‬
‫مــرزوق؟ وكيــف يكــون متعــ ّد ًدا؟‬ ‫شــخصيات محوريــة تشــ ّد اهتــام القــارئ كشــخصية‬
‫"أحمــد عبدالجــواد" يف "ثالثيــة" نجيــب محفــوظ‪ ،‬وشــخصية‬
‫إ ّن "مــرزوق" شــخصية محوريــة يف روايــة عبدالرحمــن‬ ‫"مصطفــى ســعيد" يف "موســم الهجــرة إىل الشــال" للطيّــب‬
‫منيــف "األشــجار‪...‬واغتيال مــرزوق"‪ ،‬ولعـ ّـل ذكــر اســمه يف‬ ‫صالــح‪ ،‬وشــخصية "زكريــا املرســنيل" يف "الياطــر" لح ّنــا‬
‫هــذه الروايــة دليــل عــى أهميتــه‪ .‬لك ـ ّن الغريــب يف األمــر‬ ‫مينــة‪ ،‬وشــخصية "مــرزوق" يف "األشــجار‪...‬واغتيال مــرزوق"‬
‫أ َّن هــذا االســم "مــرزوق" مل يظهــر ّإل حــن تــرف الروايــة‬ ‫لعبدالرحمــن منيــف‪ .‬وإن كان "أحمــد عبدالجــواد" رمــ ًزا‬
‫عــى االنتهــاء‪ ،‬وبالتحديــد يف قســم اليوميّــات‪ ،‬وإذا أردنــا‬ ‫للربجــوازي املنقســم عــى ذاتــه‪ ،‬و"مصطفــى ســعيد" رم ـ ًزا‬
‫أن نكــون أكــر دقّــة نقــول‪ :‬ظهــر هــذا االســم يف اليوميــة‬ ‫للمثقــف املمــ ّزق بــن الــرق والغــرب‪ ،‬فــإ ّن شــخصية‬

‫* كاتب تونيس‬
‫‪mokhtar.mejri35@gmail.com‬‬
‫‪66‬‬

‫الرابعــة عــرة املؤرخــة‬


‫بيــوم "الجمعــة ‪14‬‬
‫نيســان"‪ .‬وقســم اليوميــات‬
‫هــو قســم يــأيت قبــل‬
‫القســم األخــر امل ُ َع ْنــون‬
‫بالخامتــة‪ ،‬وبعــد القســم‬
‫األ ّول والقســم الثــاين‬
‫اللذيــن ميثــان الجانــب‬
‫الكبــر مــن الروايــة إن مل‬
‫نقــل الروايــة كلهــا‪.‬‬
‫نقــول –مبدئ ًّيــا‪ -‬إ ّن‬
‫ظهــور "مــرزوق" هــو‬
‫ظهــور ذكــري فحســب؛‬
‫أي مل تظهــر لنــا هــذه‬
‫متحركــة‬ ‫الشــخصية‬
‫عبدالرحمن منيف‬ ‫ملموســة كــا نلمــس‬
‫وجــود الفواعــل األخــرى يف‬
‫نالحــظ أ ّن كلمــة "مــرزوق" قــد تكــررت خمــس م ـ ّرات يف‬ ‫الروايــة كــا هــو الشــأن يف ظهــور "إليــاس نخلــة" و"منصــور‬
‫مقولــة الكاتــب املذكــورة‪ ،‬إنّهــا الكلمــة املفتــاح‪ ،‬غــر أنّهــا‬ ‫مثــا‪ ،‬أو ظهــور "الشــخصية الرمزيــة" بتعبــر‬ ‫عبدالســام" ً‬
‫اقرتنــت بـ"كل الناس"‪ ،‬بـ"شــجرة"‪ ،‬بـ"ينبــوع‪ ،‬بـ"إلياس نخلة"‪،‬‬ ‫"فيليــب هامــون" مثــل "الشــجرة" أو "األشــجار" التــي نلحظ‬
‫إذ ال وجــود ملــرزوق وال قيمــة لــه دون تلــك الشــخصيات‪،‬‬ ‫حضورهــا املكثــف داخــل الروايــة حتــى صــارت الزمــة‬
‫فمــرزوق يحيلنــا عــى الشــخصيات‪ ،‬هــو شــخصية حبــى‬ ‫إيقاعيــة تتكــرر مــن حــن آلخــر‪ .‬أ ّمــا شــخصية مــرزوق فهــي‬
‫بالرمــوز‪ ،‬مثقلــة باملعــاين‪ ،‬مشــحونة بالــدالالت‪ ،‬شــخصية‬ ‫"غائبــة" ‪-‬مــن هــذا املســتوى‪ -‬باملقارنــة مــع الشــخصيات‬
‫متجليــة خفيــة‪ ،‬ففــي خفائهــا موجــودة‪ ،‬هــي ال ُبنــى‬ ‫التــي أرشنــا إليهــا‪ .‬فكيــف يُعلــن املؤلّــف –عــى الرغــم مــن‬
‫الصامتــة يف النــص التــي نقرؤهــا مــن بــن الســطور "مــرزوق‬ ‫هــذا "الغيــاب"‪ -‬عــى لســان إحــدى شــخصياته يف جملــة‬
‫ـخصيتي "منصــور" و"إلياس"؟‬ ‫ْ‬ ‫كل النــاس"‪ ،‬أليســت وج ًهــا لشـ‬ ‫اســمية تقريريــة "مــرزوق ليــس واحـ ًدا‪ ،‬مــرزوق كل النــاس‪،‬‬
‫أليســت حلقــة تصــل بــن عــامل الشــخوص يف الروايــة؟‬ ‫مــرزوق شــجرة‪ ،‬مــرزوق ينبــوع‪ ،‬مــرزوق هــو إليــاس نخلــة‬
‫جــاءت شــخصية "مــرزوق" موصولــة باغتيــال األشــجار أل ّن‬ ‫الــذي ال ميــوت"؟‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪67‬‬

‫ومرتبطــة معنويًّــا‪ .‬هــي جمــل قصــرة تتميّــز بوحــدة املبتــدأ‬ ‫اغتيــال األشــجار هــو اغتيــال اإلنســان‪ ،‬هــذه األشــجار التــي‬
‫الــذي هــو "مــرزوق" وتنــ ُّوع الخــر‪ .‬لكــن هــذه األخبــار‬ ‫تبــدو عروقهــا ضاربــة يف األرض وجذوعهــا ممتــ ّدة نحــو‬
‫املختلفــة مــن جملــة إىل أخــرى هــي يف الحقيقــة ترتبــط‬ ‫الســاء إمنــا تحــي قصــة اإلنســان‪ ،‬عـ ّزة األبطال وشــموخهم‪،‬‬
‫معنويًّــا ارتباطًــا وثيقًــا‪ .‬وميكــن تقســيم تلــك املقولــة إىل‬ ‫رغــم االنهيــارات والتش ـ ّوهات يف الواقــع‪ ،‬هــي رمــز النــاء‬
‫جزئــن مختلفــن نســبيًّا؛ الجــزء األ ّول "مــرزوق ليــس واحـ ًدا‪،‬‬ ‫والتجـ ّدد "مــرزوق شــجرة" بــل قــل هي رمــز الحيــاة‪ ،‬ولذلك‬
‫مــرزوق كل النــاس" والجــزء الثــاين بقيــة املقولــة "مــرزوق‬ ‫ر ًدا منــذ اللحظــة‬‫يتعلــق بهــا "إليــاس نخلــة"‪ ،‬بــل نـراه متـ ّ‬
‫شــجرة‪ ،‬مــرزوق ينبــوع‪ ،‬مــرزوق هــو إليــاس نخلــة الــذي ال‬ ‫التــي قامــر فيهــا عــى األشــجار‪ .‬ونالحــظ يف هــذه النقطــة‬
‫ـران بعضهــا‬ ‫ميــوت"‪ .‬وحــن نتأ ّمــل الجزئــن نجدهــا يفـ ّ‬ ‫رد اقــرن ببدايــة املقامــرة‬ ‫خاصــة للزمــن‪ ،‬زمــن الت ـ ُّ‬
‫داللــة ّ‬
‫يفــر‬
‫فمثــا يف الجــزء األ ّول نجــد الطــرف الثــاين ّ‬ ‫ً‬ ‫بعضً ــا؛‬ ‫عــى األشــجار‪ .‬ومنــذ اغتيــال األشــجار تغـ ّـر يف قريــة الطِّيبــة‬
‫الطــرف األ ّول‪ ،‬وكأ ّن القــول إ ّن "مــرزوق" ليــس واح ـ ًدا غــر‬ ‫وجــه األرض‪ ،‬أصابــت اللعنــة "الطيبــة" بســكانها فــا الحيــاة‬
‫كاف إلفهــام املتل ّقــي‪ ،‬فيــأيت الطــرف الثــاين ليوضّ ــح "مــرزوق‬‫ٍ‬ ‫تجــري وال الســاء متطــر‪ ...‬كل يشء تغـ ّـر يف قريــة الطيبــة‪،‬‬
‫كل النــاس"‪ .‬ثــ ّم نجــد أطــراف الجــزء الثــاين مــن املقولــة‬ ‫أل ّن األشــجار ليســت النبــات فقــط‪ ،‬بــل هــي الحيــاة‪.‬‬
‫ـر بعضهــا بعضً ــا أيضً ــا "مــرزوق شــجرة‪ ،‬مــرزوق ينبــوع‪،‬‬ ‫تفـ ّ‬
‫مــرزوق هــو إليــاس نخلــة الــذي ال ميــوت"‪ .‬فــكأ ّن مصطلــح‬ ‫ومــن جهــة أخــرى لــو نظرنــا يف لقــب "إليــاس" نجــده يتّصل‬
‫ـي "إليــاس‬ ‫"الينبــوع" يوضّ ــح لنــا مصطلــح "الشــجرة" ولفظتـ ْ‬ ‫بعــامل الشــجرة الرمــز‪ ،‬فلقبــه "نخلــة"‪ ،‬وللنخلــة دالالت‬
‫ـران الشــجرة والينبــوع‪ ،‬فإليــاس يختــزل يف ذاتــه‬ ‫نخلــة" تفـ ّ‬ ‫ش ـتّى منهــا مــا يتصــل بالشــموخ والقيــم املتعاليــة املوحيــة‬
‫املفهومــن الســابقني‪ .‬و"مــرزوق" هــو شــجرة‪ ،‬ينبــوع وإلياس‬ ‫ِ‬
‫بشــيم اإلنســان العــريب‪ ،‬ومنهــا مــا يتّصــل بالتجـذّر واألصالــة‬
‫نخلــة الــذي ال ميــوت‪ .‬ثالثــة مفاهيــم مختلفــة البنــاء تشـكّل‬ ‫وااللتصــاق بــاألرض‪ .‬أ ّمــا االســم "مــرزوق" فيحيلنــا مبــارشة‬
‫شــخصي ًة واحــدة هــي شــخصية مفعمــة بإمكانيــة الفعــل‬ ‫عــى الــرزق‪ ،‬واألشــجار مصــدر هــام للــرزق‪ ،‬وبــن مــرزوق‬
‫التاريخــي متت ـ ّد جذورهــا يف عمــق الكينونــة التــي ال ت ُح ـ ّد‬ ‫واألشــجار صلــة حميميــة‪ .‬وبنــاء عــى هــذا التأســيس يصبــح‬
‫آت‪ .‬تتداخــل العنــارص‬ ‫مت ّوجــة بنــداوة الحلــم الــذي هــو ٍ‬ ‫"مــرزوق شــجرة‪ ...‬مــرزوق هــو إليــاس نخلــة" بــل "مــرزوق‬
‫الثالثــة مش ـكّلة بنيــان الشــخصية دون أن تختـ ّـل املعادلــة‬ ‫ينبــوع" أليســت األشــجار مصــد ًرا للحيــاة أو ينبو ًعــا لهــا؟‬
‫يف صياغتهــا‪ ،‬ومــن هنــا تكتســب فعلهــا امللحمــي املتم ّيــز‪.‬‬ ‫أليــس مصــدر "مــرزوق" الــذي هــو "الــرزق" ينبو ًعــا للحياة؟‬
‫إذا مــا نظرنــا بدقّــة يف املقولــة املفتــاح يف هــذا املبحــث‪:‬‬
‫وتب ًعــا لهــذا النســق يتس ـ ّنى لنــا القــول إ ّن الجــزء الرتكيبــي‬ ‫"مــرزوق ليــس واحـ ًدا‪ ،‬مــرزوق كل النــاس‪ ،‬مــرزوق شــجرة‪،‬‬
‫الثــاين للموضــوع الــذي يشــتمل عــى الشــجرة والينبــوع‬ ‫مــرزوق ينبــوع‪ ،‬مــرزوق هــو إليــاس نخلــة الــذي ال ميــوت"‪،‬‬
‫وإليــاس ورد لتفســر الجــزء األ ّول مــن املقولــة التــي‬ ‫نجدهــا وردت عــى شــاكلة خمــس جمــل مســتقلة نحويًّــا‬
‫‪68‬‬

‫يؤمــن بالحركــة املســتم ّرة التــي تنجيــه مــن املــوت‪ ،‬أمل يقــل‬
‫"منصــور عبدالســام"‪" :‬إ ّن إليــاس مثــل أمــواج البحــر ال‬
‫يســتق ّر لحظــة واحــدة ألنّــه إذا اســتق ّر يكــون قــد مــات"(‪)2‬؟‬

‫إ ّن "إليــاس نخلــة" شــخصية متح ّولــة‪ ،‬بــل هــي الشــخصية‬


‫الفعــل التــي تــأىب الركــود‪ ،‬وتكابــد مــا تكابــده مــن أتعــاب‬
‫وعذابــات متنوعــة مــن أجــل اإلميــان بأشــياء عديــدة‪ .‬نعــم‬
‫هــي شــخصية متعبــة عـ ّـرت عــن ذلــك بنفســها حــن ســأل‬
‫ْــت الحيــاة يف املدينــة؟"‪ ،‬يجيــب‬
‫منصــور إليــاس‪" :‬وواصل َ‬
‫ـت العذابــات" ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫إليــاس‪" :‬نعــم واصلـ ُ‬

‫شــخصية مهمومــة تنــوء بعــبء الحيــاة‪ ،‬حيــث أصبحــت‬


‫الحيــاة لديهــا مرادفــة للعــذاب‪ ،‬هــي شــخصية مســكونة‬
‫بهاجــس التح ـ ّول وال تخــى املغامــرة‪ ،‬هــي ال تخــى هــذا‬
‫العــذاب وال تح ّبــه‪ ،‬بــل تنظــر إليــه مــن زاويــة مخصوصــة‪،‬‬
‫صيــغ عنرصاهــا يف يشء مــن الغمــوض‪ ،‬فهــل أ ّن "الشــجرة"‬
‫هــي شــخصية متفــردة عــى عكــس عامــة النــاس‪ ،‬يقــول‬
‫و"الينبــوع" و"إليــاس نخلــة" هــذه العنــارص الثالثــة كافيــة‬
‫"إليــاس نخلــة" مخاطبًــا "منصــور عبدالســام"‪" :‬ال تتصــ ّور‬
‫للتدليــل عــى مفهــوم "مــرزوق" خاصــة إذا مــا قرأنــا‬
‫أنّنــي ال أحــب الشــوك‪ ،‬أنــا عكــس كثــر مــن النــاس‪ ،‬أرى يف‬
‫"مــرزوق كل النــاس"؟‬
‫الشــوك عبقريــة مــن عبقريــات الطبيعــة"(‪.)4‬‬

‫"كل" تجعلنــا نتجــاوز كل التحديــدات التــي‬ ‫إ ّن عبــارة ّ‬


‫نعــم إ ّن "مــرزوق هــو إليــاس نخلــة" وهــو "شــجرة" كــا‬
‫نصــت عليهــا املقولــة خاصــة عنــد اقرتانهــا بـ"النــاس"‪ .‬نعــم‬ ‫ّ‬
‫نصــت عــى ذلــك املقولـةُ‪ ،‬ويتأكّــد هــذا املعنــى عــى لســان‬
‫ّ‬
‫"مــرزوق" هــو "إليــاس نخلــة" ذلــك الشــخص الــذي رضب‬
‫"إليــاس" وهــو يخاطــب أبنــاء بلدتــه‪" :‬إنكــم تقطعــون‬
‫يف األرض ســنني باحثًــا عــن لقمــة العيــش‪ ،‬يتن ّقــل مــن مــكان‬
‫أرزاقكــم وأنتــم تقطعــون األشــجار‪ .)5("...‬أ ّمــا "مــرزوق‬
‫إىل آخــر ال ينــزل مبــكان إلّ ليفارقــه‪ ،‬هــو رجــل يرفــض‬
‫كل النــاس" فأمــر يتجــاوز املعطيــات املذكــورة‪ ،‬ولكــن يف‬
‫االســتقرار ويــأىب الســكون‪ ،‬فبعــد فقــدان األشــجار التــي‬
‫تجاوزهــا ميثّلهــا مــن وجــوه أخــرى مختلفــة‪ ،‬فـ"مــرزوق"‬
‫قامــر عليهــا تعاطــى ِم َه ًنــا عديــدة‪ :‬عمــل عنــد د ّهــان‪ ،‬عمــل‬
‫الــذي هــو "إليــاس" هــو أيضً ــا "منصــور عبدالســام"‪ ،‬وبــن‬
‫بحــام‪ ،‬اشــتغل بنــزل‪...‬‬‫ّ‬ ‫مبقهــى‪ ،‬عمــل بالفــرن‪ ،‬اشــتغل‬
‫"مــرزوق" و"منصــور" عالقــة حميميــة ال تنفصــم‪ ،‬يقــول‬
‫تقلّــب يف ِح ـ َرف عديــدة لك ّنــه مل يســتق ّر يف إحداهــا‪ ،‬ألنّــه‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪69‬‬

‫فــإ ّن "منصــور" ميثــل جانبًــا آخــر لإلنســانية وهــو العمــل‬ ‫"منصــور عبدالســام" يف قســم اليوميــات‪" :‬مل أنــم الليلــة‬
‫الفكــري‪ .‬والشــخصيتان ال متثــان العمــل كقضيــة مطروحــة‪،‬‬ ‫املاضيــة لحظــة واحــدة‪ ،‬قتلــوا مــرزوق‪ .)6("...‬فمنصــور‬
‫ولكــن مــا ينجـ ّر مــن شــقاء وأتعــاب وراء البحــث عــن هــذا‬ ‫عبدالســام "قــد حــ ّول خيباتــه إىل إرادة ح ّيــة تدفعــه إىل‬
‫العمــل‪ .‬والعمــل املبحــوث عنــه إنّ ــا هــو العمــل الــذي‬ ‫مواجهــة أعــداء املجتمــع والحيــاة وتحثّــه عــى االنحيــاز إىل‬
‫يرتضيــه صاحبــه‪ ،‬مبعنــى العمــل املتّســم بحريــة العامــل‪.‬‬ ‫ـر مبيــاد جديــد‪ ،‬فيواصــل الطريــق‬ ‫برنامــج الفعــل الــذي يبـ ّ‬
‫ومــن هنــا يتحــ ّول العمــل إىل مط ّيــة بواســطتها يطــرق‬ ‫مــن حيــث انتهــى مــرزوق" ‪ ،‬ومــرزوق لــن "انتهــى" ‪-‬بلغــة‬
‫(‪)7‬‬

‫املؤلّــف عبدالرحمــن منيــف قضيــة مهمــة هــي الح ّريــة‪.‬‬ ‫بــن حميــد‪ -‬وهــو كذلــك مــن خــال اليوميــة الرابعــة‪ ،‬فإنّــه‬
‫رد أيضً ــا "منصــور"‬ ‫رد "إليــاس" وتعــذّب‪ ،‬يتــ ّ‬ ‫وكــا تــ ّ‬ ‫مل ميــت كرمــز‪ .‬فموتــه املعلَــن عنــه هــو مــوت إلنســان‬
‫ويتعــذّب وراء البحــث عــن لقمــة العيــش؛ فشــأنه شــأن‬ ‫عــادي يُس ـ ّمى "مــرزوق" ال رمــز لــه‪ ،‬أ ّمــا مــرزوق الرمــز مل‬
‫"إليــاس" كالهــا خضــع ملنطــق الفشــل واإلحبــاط‪ .‬فكــا‬ ‫عبدالســام"‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ـت ولــن ميــوت وال ميــوت‪ ،‬يقــول "منصــور‬ ‫ُميـ ْ‬
‫فشــل "إليــاس" يف إيجــاد عمــل يســتق ّر فيــه و يــروق لــه‪،‬‬ ‫"ومــرزوق‪ ...‬مــرزوق الضحكــة الشــفافة بالحــزن‪ ..‬العيــون‬
‫ر ُح مــن الجامعــة وال يجــد عمـ ًـا‪ ،‬يقول‪:‬‬‫كذلــك "منصــور" يُـ ّ‬ ‫املتعبــة‪ ..‬القلــب الــوردي الــذي يلمــع يف الليــل‪ ،‬مــرزوق‬
‫ـت أبوابًــا كثــرة ولكــن مل أجــد أحـ ًدا يجيبنــي"(‪ .)9‬لقــد‬
‫"طرقـ ُ‬ ‫ال ميــوت"(‪ .)8‬هــذا الوصــف يحيلنــا عــى معرفــة الواصــف‬
‫فشــل "منصــور" حتّــى يف نــر ترجمــة كتــاب "كمونــة‬ ‫للموصــوف‪ .‬وطريقــة الوصــف أو أســلوبه ينـ ّم عــن نوعيــة‬
‫باريــس" ألســباب سياســية‪.‬‬ ‫العالقــة‪ ،‬فألفــاظ مــن هــذا القبيــل‪ :‬الضحكــة الشــفّافة‪،‬‬
‫العيــون‪ ،‬القلــب‪ ،‬هــي كلــات توحــي بعالقــة وطيــدة‪،‬‬
‫لقــد طلــب "منصــور" الــرزق بطريقــة تريحــه وتــريض‬ ‫متينــة ال تنفصــم ُعراهــا وال تشــوبها شــائبة‪ ،‬عالقــة ذات‬
‫ضمــره فلــم يُوفّــق‪ ،‬أراد أن يــد ّرس التاريــخ الحقيقــي ال‬ ‫وشــائج عميقــة‪ ،‬ولكــن فيــم تتجـ ّـى هــذه العالقــة؟ أو مــا‬
‫"التاريــخ املزيّــف" فطــرد مــن الجامعــة‪ .‬إحالــة عــى واقــع‬ ‫هــي مظاهرهــا يف روايــة "األشــجار‪ ...‬واغتيــال مــرزوق"؟‬
‫قهــري يســتحيل معــه الحــوار‪ ،‬واقــع بهــذه الدرجــة مــن‬ ‫لــن كان "إليــاس نخلــة" وج ًهــا مــن وجــوه مــرزوق‪ ،‬فــإ ّن‬
‫البشــاعة يســتلب أي إحســاس بجــدارة فتــح الحــوار معــه‪،‬‬ ‫"منصــور" ميثّــل وج ًهــا آخــر مــن وجــوه "مــرزوق"‪ ،‬نقــول‬
‫أي تص ـ ّور حــامل للمســتقبل‪،‬‬ ‫فغــول الواقــع الــرس يلتهــم ّ‬ ‫"آخــر" أل ّن هنــاك اختالفًــا بــن مــا ميثّلــه "إليــاس" مــن‬
‫فــا يبقــى ســوى املــايض تبحــث يف نفاياتــه عــن لحظــات‬ ‫جهــة ومــا ميثّلــه "منصــور" مــن جهــة أخــرى‪ ،‬ولــن تباعــد‬
‫أمــن هاربــة‪ ،‬توقفهــا لتســتم ّد منهــا الع ـزاء والرحمــة‪ .‬إننــا‬ ‫الوجهــان فإنهــا يقرتبــان إىل حـ ّد التداخــل والتــازج ليعـ ّـرا‬
‫نالحــظ اغتيــال "منصــور" منــذ ترسيحــه مــن الجامعــة كــا‬ ‫عــن القضيــة األم‪ ،‬بــل ميثــان رمــز القضيــة الشــاملة الــذي‬
‫اغتيــل "مــرزوق"‪ .‬كان "منصــور" يشــتغل أســتاذًا جامع ًيــا‬ ‫هــو "مــرزوق"‪.‬‬
‫فطُــرد مــن العمــل الــذي كان مصــدر رزقــه‪ ،‬فبترسيحــه مــن‬ ‫ولــن مثّــل "إليــاس" جانــب مــن جوانــب اإلنســانية‬
‫الجامعــة ينضــب معــن الــرزق لديــه‪ ،‬بــل ميــوت‪ ،‬ومبــوت‬ ‫املوســومة بالعمــل اليــدوي الخاضــع للطاقــة الجســدية‪،‬‬
‫‪70‬‬

‫"إليــاس نخلــة الــذي ال ميــوت"‪ ،‬وبــن الــذي ميــوت والــذي ال‬ ‫الــرزق ميــوت اإلنســان‪ .‬لقــد كان "منصــور" يرتــزق مــن‬
‫ميــوت مســافة ال تُحـ ّد‪ .‬فمــن هــو هــذا الــذي ال ميــوت حتّــى‬ ‫عملــه‪ ،‬لقــد كان مرزوقًــا بــه‪ .‬وإذا مــا نظرنــا يف بنيــة كال‬
‫املتجســد يف "مــرزوق"؟‬‫ّ‬ ‫نعــرف مــن خاللــه مفهــوم اإلنســان‬ ‫االســمني "منصــور" و"مــرزوق" مــن حيــث الصيغــة الرصف ّيــة‬
‫إ ّن "إليــاس نخلــة الــذي ال ميــوت" هــو تلــك الشــخصية‬ ‫لوجدنــا كالهــا اسـ َم مفعــول ال اســم فاعــل‪ ،‬فكالهــا وقــع‬
‫الرمــز املعانقــة للذاكــرة دون انقطــاع‪ ،‬هــو ذلــك البطــل‬ ‫عليــه الفعــل‪ ،‬وكالهــا اغتيــل‪ .‬أليــس "منصــور عبدالســام"‬
‫اإلشــكايل "الــذي ينشــد قيـ ًـا أصيلــة يف مجتمــع متدهــور‬ ‫هــو "مــرزوق"؟ و"مــرزوق" هــو "منصــور عبدالســام"؟‬
‫القيــم" بتعبــر "جــورج لوكاتــش"‪ .‬هــو تلــك الشــخصية‬
‫املنبجســة مــن صميــم الحيــاة تحمــل نبضهــا وألقهــا‪،‬‬ ‫"مــرزوق كل النــاس" مقولــة جريئــة وخطــرة يف آن‪ ،‬فــإذا‬
‫تلتحــم بشــكل خـ ّـاق بالشــؤون البرشيــة‪ ،‬ومتــارس متيّزهــا‬ ‫كان "مــرزوق" هــو كل النــاس‪ ،‬فاألمــر ال يُحــ ّد بإليــاس أو‬
‫ألنهــا تالمــس األرض بــكل أجزائهــا‪ .‬ولــذا‪ ،‬فإنهــا تنقــذف‬ ‫أي نــوع‬ ‫بالشــجرة أو بالينبــوع أو مبنصــور فحســب‪ .‬لكــن ّ‬
‫ـص لــون‬ ‫للع ـراء حــا ّرة كدفقــة الكــون‪ ،‬نابضــة‪ ،‬مش ـ ّعة‪ ،‬متتـ ّ‬ ‫مــن النــاس يقصــد صاحــب املقولــة؟ يبــدو أ ّن صاحــب‬
‫الحيــاة وبريقهــا‪ .‬تلــك هــي الشــخصية التــي تحمــل مالمــح‬ ‫املقولــة يتعامــل مــع مفهــوم مخصــوص لإلنســان وإلّ فلِ ـ َم‬
‫"مــرزوق"‪.‬‬ ‫يختــم مقولتــه بتعريــف تقريــري مبثابــة االســتنتاج أو‬
‫التلخيــص ملــا ســبق "مــرزوق هــو إليــاس نخلــة الــذي ال‬
‫فعبــارة "كل النــاس" ال تتصــل بعامــة النــاس الذيــن هــم‬ ‫ميــوت"؟‬
‫داخــل الروايــة‪ ،‬وإنَّ ــا بالوجــوه التــي ال تعــدو أن تكــون‬
‫رم ـ ًزا لإلنســان العــريب يف حركــة التاريــخ‪ ،‬ألنّهــا شــخصيات‬ ‫إ ّن مفهــوم اإلنســان لــدى صاحــب املقولــة هــو ذاك الــذي‬
‫تكشــف لنــا عــن وعــي جنينــي هــش يكشــف أســوار عــامل‬ ‫ميتــاز بخاصيــات مع ّينــة ال نجدهــا ّإل عنــد "إليــاس نخلــة"‬
‫أبكــم فرتتــ ّد األبصــار خاســئة حــارسة تســتجدي أطيــاف‬ ‫أو أمثالــه‪ ،‬بــل عنــد "إليــاس نخلــة" الــذي ال ميــوت‪ .‬فهــل‬
‫مـ ٍ‬
‫ـاض أكــر م ـرارة‪.‬‬ ‫أ ّن املــوت املقصــود‪ ،‬هنــا‪ ،‬هــو املــوت املــا ّدي أم املعنــوي؟‬
‫إ ّن "إليــاس" يُعتــر ميّتًــا بعــد فقدانــه لألشــجار التــي متثّــل‬
‫إذن "كل النــاس" هــي مــن جهــة شــخصيات متثّــل تعريــة‬ ‫مصــدر رزقــه‪ /‬حياتــه‪ .‬ونقــول أيضً ــا‪ :‬إذا مــا رمنــا التصاقًــا‬
‫شــديدة اللهجــة للواقــع اإلنســاين عــر مقابلتــه بصورتــه‬ ‫بالنســق القصــي يف النــص املصــدر أ َّن إليــاس قــد مــات‬
‫الفطريــة النقيــة‪ ،‬لصيغــة لوحــة التضــا ّد بــن النقــاء األصــي‬ ‫منــذ انتهــاء القســم األ ّول مــن الروايــة‪ ،‬منــذ أن نــزل مــن‬
‫والتزييــف الطــارئ‪ ،‬مقابلــة تضــا ّد ال تتفــق مــع دميقراطيــة‬ ‫القطــار‪ ،‬منــذ أن و ّدع صديقــه منصــور‪ ،‬والــوداع عالمــة‬
‫"روســو" التــي تعلــن " ُولــد اإلنســان حــ ًّرا"‪ ،‬أو املفهــوم‬
‫ّ‬ ‫الذهــاب بــا رجعــة‪ ،‬هــي يف نهايــة املطــاف عالمــة املــوت‪.‬‬
‫الــذي طرحــه عمــر بــن الخطــاب "متــى اســتعبدتم النــاس‬ ‫بنــاء عــى مــا تقــ ّدم يبــدو أ ّن إليــاس نخلــة قــد مــات‪،‬‬
‫وقــد ولدتهــم أمهاتهــم أح ـرا ًرا؟"‪ .‬ومــن جهــة أخــرى هــي‬ ‫ومــرزوق ال يُشــاكل هــذه الشــخصية التــي متــوت‪ ،‬وإنّ ــا هــو‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪71‬‬

‫إ ّن "مــرزوق" هــو إنســان الفعــل‪ ،‬وإنســان الفعــل وحــده‬ ‫شــخصيات تعيــش املعانــاة واملكابــدة مــن جــ ّراء الوســط‬
‫قــادر عــى الثبــات يف رشيــط الزمــن الفــار‪ ،‬لذلــك مــرزوق‬ ‫التاريخــي الــذي تحكمــه قوانــن التشـ ّيؤ وعوامــل املصــادرة‬
‫ـي يف الذاكــرة الفردية‬
‫ـي مــدى الحيــاة‪ ،‬حـ ّ‬‫"ال ميــوت"‪ .‬هــو حـ ّ‬ ‫واالســتالب‪ .‬فهــذه األمنــاط مــن الشــخصيات هــي "كل‬
‫والجامعيــة‪ .‬هــو شــخصية رامــزة‪ ،‬بــل هــو قطــب الشــخوص‬ ‫ّ‬
‫انفــك يعــاين مــن‬ ‫النــاس" وهــي "مــرزوق" الــذي مــا‬
‫مبــا فيهــا الشــخوص الرمزيــة‪ ،‬مــرزوق يســاوي كل الشــخوص‬ ‫كتلــة آدميّــة ســدميية ت ُســكنه حامقــة الواقــع ورضوراتــه‬
‫التــي يعرضهــا الكاتــب يف غربتهــا وانتامئهــا‪ ،‬يف خوفهــا‬ ‫املســتعصية عــى وعيــه الجنينــي‪ ،‬فيواجــه الواقــع كلعنــة‬
‫وجرأتهــا‪ ،‬كاش ـفًا عالئقهــا بالتاريــخ والواقــع ليمنــح القــارئ‬ ‫قدريّــة لبدائيــة فهمــه‪ .‬فيخضــع ملنطــق الفشــل‪ ،‬ولك ّنــه‬
‫كش ـفًا لذاتــه ولعاملــه بعــد تجربــة الشــخوص املامثلــة‪.‬‬ ‫يُكــر عليــه كإنســان يج ـ ّر مــع "ســنتياغو" م ـرارة إخفــاق‬
‫املواجهــة‪ ،‬لكـ ّن الهزميــة ال تحبطــه‪ ،‬بــل ينهــض مــن جديــد‬
‫ـص‬
‫ذلــك هــو "مــرزوق"‪ ،‬بحســب محاولتنــا االســتقرائ ّية لنـ ّ‬ ‫ملواجهــة الحــوت الــذي يهاجــم شــطآن البلــدة‪.‬‬
‫املقولــة وعالقتــه بالروايــة‪ ،‬عــى ال ّرغــم مــن أ ّن الــراوي‬
‫الشــخصية (منصــور عبدالســام) قــد وعدنــا بالكتابــة عــن‬ ‫ذلــك هــو "مــرزوق"‪ ،‬هــو الشــخصية التــي تتفـ ّرد يف الروايــة‬
‫مــرزوق "ســوف لــن تضيــع يــا مــرزوق‪ .‬إذا مل أســتطع أن‬ ‫الــكل يف الهــم اإلنســاين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بغناهــا الدرامــي‪ ،‬بانغامســها‬
‫أثــأر لــك‪ ،‬فســوف أكتــب عنــك"(‪ ،)10‬فــإ ّن ذلــك مل يحصــل‪،‬‬ ‫فـ"مــرزوق" يختلــف عــن األبطــال الذيــن ذُكــروا يف بدايــة‬
‫قصــة "مــرزوق" هــي قصــة القــارئ يف تعاملــه‬ ‫وتبقــى اآلن ّ‬ ‫هــذا املبحــث كنــاذج ألبطــال الروايــة العربيــة (أحمــد‬
‫مــع الروايــة‪.‬‬ ‫عبدالجــواد‪ ،‬مصطفــى ســعيد‪ ،‬زكريــا املرســنيل‪ ،‬وغريهــم)‪.‬‬
‫"مــرزوق" ميثّــل الجوهــر األصيــل للشــعب‪ ،‬للحيــاة‪ ،‬للعمــل‪،‬‬
‫لألصالــة‪ ،‬للشــموخ‪ ،‬إنّــه اإلنســان الــذي تكمــن األســطورة‬
‫الحقيقيــة يف حياتــه‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ .1‬عبدالرحمن منيف‪" ،‬األشجار‪ ...‬واغتيال مرزوق"‪ ،‬ط‪ ،2008 ،13‬املؤسسة‬


‫العربية للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.349‬‬
‫‪ .2‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.112‬‬
‫‪ .3‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.102‬‬
‫‪ .4‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.118‬‬
‫‪ .5‬املصدر السابق‪.47 ،‬‬
‫‪ .6‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.301‬‬
‫‪ .7‬د‪.‬رضا بن حميد "الخيبة ووعي الخيبة يف عامل منيف الروايئ" (بحث‬
‫جامعي)‪ ،‬ص‪.219‬‬
‫‪ .8‬عبدالرحمن منيف‪" ،‬األشجار‪ ...‬واغتيال مرزوق"‪ ،‬ص‪.321‬‬
‫‪ .9‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.322‬‬
‫‪ .10‬املصدر السابق‪ ،‬قسم اليوميات بتاريخ الثالثاء ‪ 17‬نيسان‪ ،‬ص‪.349‬‬
‫‪72‬‬

‫هندسة البناء القصيص‬


‫يف "رباع ّيات الفردوس" ملخلد بركات‬
‫د‪ .‬عامد عبدالوهاب الضمور*‬

‫أحــدث مخلــد بــركات تغيـ ًرا يف شــكل القصــة القصــرة‪ ،‬وذلــك بإنتــاج متواليــة رسديّــة بعيـ ًدا عــن النمــط التقليــدي‬
‫يف القــص‪ ،‬وهــذا عـ َّزز مــن أهميّــة املتلقــي املشــارك يف اإلبــداع‪ ،‬حيــث تضــم " ُرباعيــات الفــردوس" أربــع رباعيــات‪،‬‬
‫كل رباع ّيــة أربــع قصــص ت ُش ـكّل متواليــة قصص ّيــة تتمحــور حــول اإلنســان ورؤيــة الوجــود‪ ،‬جــاءت يف تركيــب‬ ‫يف ّ‬
‫رسدي ُمت َقــن وظّــف فيــه مخلــد شــخص ّيات ملحمــة جلجامــش بوعــي فكــري ومقــدرة فن ّيــة واضحــة‪ .‬ومــن جانــب‬
‫آخــر فــإ َّن هــذه املتواليــة تكشــف عــن عالقــة فــن القصــة بفــن ال ِّروايــة وفــن الســينام؛ وتطــرح مســألة العالقــات‬
‫التــي ميكــن إقامتهــا بــن الفنــون اإلبداعيّــة بفعــل التطـ ُّور التقنــي الواضــح والتقـ ُّدم الحضــاري‪.‬‬

‫مــن الواقــع؛ أل َّن وظيفــة القــاص ليســت إبالغيّــة بقــدر مــا‬ ‫جــاءت املتواليــة القصصيــة "رباعيّــات الفــردوس" للقــاص‬
‫هــي بالغ ّيــة أيضً ــا‪ ،‬ودالل ّيــة يف مواضــع كثــرة‪.‬‬ ‫األردين مخلــد بــركات مح ّملــة بقيــم فكريّــة خصبــة‪ ،‬وبنــاء‬
‫عالئق ّيــة واضحــة يُربزهــا مخلــد بــركات يف مجموعتــه‬ ‫فنــي ناضــج‪ ،‬إذ يواجــه بــركات متلقّــي قصصــه بلغــة‬
‫القصصيّــة تكشــف عــن عالقــة فــن القصــة بفــن الروايــة‪،‬‬ ‫مكثَّفــة‪ ،‬ذات إيحــاء كاشــف النزياحــات اللغــة‪ ،‬وعمــق‬
‫وفــن الســينام‪ ،‬وذلــك يف متواليــة قصصيّــة مدهشــة تع ـ ُّد‬ ‫األفــكار‪ ،‬فضـ ًـا عــن البالغــة التعبرييّــة التــي تقــوم بوظيفتهــا‬
‫مــن أســاليب املثقافــة التــي أشــغلت الكتّــاب والنقــاد يف‬ ‫االت ّصال ّيــة؛ لتصبــح يف النهايــة فعال ّيــة املتلقــي نفســه‪.‬‬
‫العــر الحديــث‪.‬‬ ‫إ ْذ يكشــف البنــاء الفنــي لقصــص بــركات عــن براعــة‬
‫أســلوبيّة‪ ،‬وهندســة لغويّــة واضحــة‪ ،‬أعانتــه يف تشــكيل‬
‫تطــرح "رباعيّــات الفــردوس" مســألة العالقــات التــي ميكــن‬ ‫لوحتــه الفنيــة برباعــة‪ ،‬كــا يف قصتــه األوىل (ملــح) التــي‬
‫إقامتهــا بــن الفنــون اإلبداع ّيــة بفعــل التطــور التقنــي‬ ‫تغــوص يف أعــاق التكويــن املعــريف مســتبي ًحا إمكان ّيــات‬
‫الواضــح‪ ،‬والتقــدم الحضــاري‪ ،‬فثمــة تأثــر متبــادل بــن فــن‬ ‫اللغــة التعبرييّــة‪ ،‬وطاقتهــا التصويريــة‪" :‬يف الســفح شــجرة‬
‫وآخــر‪ ،‬ومثــة عالقــات داخــل الجنــس األديب نفســه‪.‬‬ ‫طلــح بازغــة كالكذبــة املوجعــة‪ ،‬أغصانهــا فقــرة إىل حــ ّد‬
‫املالريــا‪ ،‬اضطجــع بعــد أن أركــن الصنــدوق تحــت ســاق‬
‫يصــوغ مخلــد بــركات متواليتــه القصص ّيــة متكئًــا عــى‬ ‫الشــجرة‪ .‬انتبــه إىل قميصــه‪ ،‬بقعــة كلــون برتقالــة‪ ،‬جهــة‬
‫ثقافــة أســطوريّة جعلــت مــن ملحمــة جلجامــش بشــخوصها‬ ‫القلــب متا ًمــا"(‪.)1‬‬
‫ورؤيتهــا الفكريّــة وأبعادهــا الوجوديّــة ضفافًــا يرســو‬ ‫فالشــكل التعبــري‪ ،‬والتقنيــات الفنيّــة والصــور البالغيّــة ال‬
‫عليهــا الكاتــب؛ ليُقيــم جدليتــه الفكريّــة بثنائيــة مختلفــة‪:‬‬ ‫تــأيت مــن فـراغ‪ ،‬بــل ترتبــط جميعهــا بفكــر الكاتــب‪ ،‬وموقفه‬

‫* ناقد وأكادميي أردين‬


‫‪emeddmor@yahoo.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪73‬‬

‫املــوت والخلــود‪ ،‬االنتصــار‬


‫الحضــور‬ ‫والهزميــة‪،‬‬
‫والغيــاب‪ ،‬ويُجيــب عــن‬
‫أســئلة وجــوده يف الزمــن‬
‫والتاريــخ والــراث‪.‬‬

‫إ َّن األســطورة أرض القصــة‬


‫ومهادهــا‬ ‫القصــرة‪،‬‬
‫الخصــب‪ ،‬ح َرث َهــا مخلــد؛‬
‫لتُنبــت زر ًعــا خص ًبــا عــر‬
‫متواليــة رسديّــة ذات‬
‫صلــة بالواقــع‪ ،‬راســخة‬
‫الجــذور‪ ،‬عميقــة املعنــى‪،‬‬
‫انتظــم فيهــا فعــل الــرد‬
‫يف تركيــب رسدي متقــن‪،‬‬
‫حيــث يحتــاج املتلقــي‬
‫لقـراءة ملحمــة جلجامــش‪،‬‬
‫شــخصياتها‬ ‫وتحليــل‬
‫األســطوريّة التــي وظّفهــا‬
‫مخلــد بوعــي فكــري‬
‫ومقــدرة فنيــة واضحــة‪،‬‬
‫مخلد بركات‬ ‫كــا يف قصــة (قــارب)‬
‫التــي جــاء مفتتحهــا‬
‫النــص األســطوري؛ ليخلــق منــه فضــا ًء نصيًّــا قابـ ًـا للقــص‪،‬‬ ‫را‬
‫ـت قبــل اليــوم إال بـ ً‬
‫ـردي بتنــاص أســطوري‪" :‬ومــا كنـ َ‬ ‫الـ ّ‬
‫ومقرتبًــا مــن الواقــع باســتمرارية الـراع البــري‪ ،‬وترســيخ‬ ‫يــا أوتنابشــتيم!" ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫فكــرة الفنــاء اإلنســاين‪ ،‬كــا يف توظيفــه لشــخصية (أنكيــدو)‬ ‫وال يخفــى عــى املتلقــي أ َّن الحمولــة الفكريّــة الخصبــة‬
‫األســطوريّة‪" :‬بعــد طلــوع الفجــر وصــل البحــرة‪ ،‬اســراح‬ ‫لشــخصية (أوتنابشــتيم) عكســت ثقافــة أســطورية واســعة‬
‫قليـ ًـا عــى ضفــاف املــاء‪ ،‬ثــم ســمع تخابطًــا ورصا ًعــا مريـ ًرا‬ ‫متتــع بهــا الكاتــب‪ ،‬جعلتــه يجنــح إىل الحديــث عن اســتحالة‬
‫ـض حامـ ًـا‬ ‫يف األكمــة القريبــة‪ ،‬رصخ‪ :‬ـــأنكيدو‪ ،‬أنكيــدو‪ ..‬وانقـ ّ‬ ‫الخلــود‪ ،‬وحتم ّيــة فعــل املــوت‪ .‬وهــذا جعلــه أحيانًــا يحـ ّور‬
‫‪74‬‬

‫إيجــاد إجابــات شــافية عنهــا َّأســس ملوضــوع أثــر عنــد‬ ‫خنجــره إىل أعــاق األكمــة؛ ليجــده طري ًحــا والخنزيــر خلّــف‬
‫الفالســفة واملفكريــن‪ ،‬أصبــح يُالمــس الفنــون الرسديّــة كــا‬ ‫وراءه انكســار أعــواد الحلفــاء‪ .‬سـ َّجاه بــن الحشــائش وغطّاه‬
‫التصــق بالشــعر مــن قبــل ذلــك‪.‬‬ ‫باألعــواد لعلمــه أنّــه ســيتحلل خــال أيــام‪ ،‬ولــن تنــال منــه‬
‫يعمــد الكاتــب يف قصصــه إىل التكثيــف‪ ،‬وعــدم االنســياق‬ ‫وحــوش ال ـراري"(‪.)3‬‬
‫أي تر ُّهــل لغــوي أو فكــري؛ لتــأيت يف نهايــة الرباعيــة‬
‫وراء ّ‬ ‫أحــدث مخلــد بــركات تغيــ ًرا يف شــكل القصــة القصــرة‪،‬‬
‫قســم‬‫فكرتــه املجــ َّردة‪ ،‬ووعيــه العميــق يف الحيــاة‪ .‬إذ ّ‬ ‫وذلــك بإنتــاج متواليــة رسديّــة بعيـ ًدا عــن النمــط التقليــدي‬
‫رباعياتــه إىل َمشــاهد‪ ،‬كــا يف رباعيّتــه األوىل (رباعيّــة‬ ‫يف القــص‪ ،‬وهــذا عــزز مــن أهميــة املتلقــي املشــارك يف‬
‫الفنــاء) التــي يجعلهــا يف رباعيّاتــه بعنــوان (بقجــة ملــح يف‬ ‫اإلبــداع‪ ،‬حيــث تضــم ُرباعيــات الفــردوس أربــع رباعيــات‪ ،‬يف‬
‫قصتــه األوىل يف الرباعيــة بعنــوان‬ ‫قــارب)‪ ،‬حيــث جــاءت ّ‬ ‫كل رباع ّيــة أربــع قصــص تُشـكّل متواليــة قصص ّيــة تتمحــور‬ ‫ّ‬
‫(ملــح)‪ ،‬ويف القصــة الثانيــة بعنــوان (قــارب)‪ ،‬ويف القصــة‬ ‫حــول موضــوع واحــد هــو اإلنســان‪ ،‬ورؤيــة الوجــود؛‬
‫الثالثــة التــي جــاءت بعنــوان (بقجــة)‪ ،‬وهكــذا حــرت‬ ‫فاإلنســان يف حريتــه‪ ،‬وأســئلته القلقــة املقلقــة‪ ،‬وســعيه إىل‬
‫هــذه املفــردات مجتمعــة يف قصتــه الرابعــة التــي يســتلهم‬
‫مــن خاللهــا أحداث ًــا وشــخصيات أســطورية‪.‬‬

‫إ ّن نزعــة التحديــث داخــل هــذه القصــص تتبـ ّدى يف إلحــاح‬


‫القــاص عــى انتظــام الرباعيــة دومنــا اإلخــال بالبنيّــة‬
‫الرسديّــة أو عنــارص القصــة الفنيــة‪ ،‬فمــن الواضــح امتــاك‬
‫مخلــد بــركات لثقافــة أســطوريّة اســتطاع اســتحضارها يف‬
‫رباعياتــه‪ ،‬لتحويــل مادتــه الخربيّــة إىل رسد قصــي‪ ،‬إذ غالبًــا‬
‫مــا يعتمــد عــى التلميــح يف بنــاء املشــهد القصــي‪ ،‬حيــث‬
‫ينشــغل القــاص بتفاصيــل مع ّينــة ت ُســاهم يف تحـ ُّول الوصــف‬
‫إىل كثافــة ذهن ّيــة‪ ،‬تش ـ ُّع منهــا فيوضــات الشــعور اإلنســاين‬
‫الــذي يع ـ ّول عليــه القــاص يف متواليتــه القصصيّــة‪.‬‬
‫يُالحــظ أ َّن مخلــد بــركات عمــد يف رباعياتــه إىل توصيــف‬
‫را تظهــر عليــه مؤثــرات‬ ‫األشــياء‪ ،‬فتغــدو الشــخصية عنــ ً‬
‫التوصيــف األخــرى‪ ،‬حيــث الوصــف الكثيــف لنمــو‬
‫املشــهديّة بحـرارة داخليّــة ترتســم منهــا مشــهديّة الوصــف‪،‬‬
‫كــا يف قولــه ســار ًدا مــا قــام بــه البهلــوان‪" :‬قــام البهلــوان‬
‫غــر مصــدق‪ ،‬أدار مقبــض البــاب ليجــد حجــرة يف وســطها‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪75‬‬

‫االمتــداد يف فضــاءات اللغــة واملــكان‪ ،‬والزمــان دون أن يُفقــد‬ ‫مرصــع باملحــار‪ ،‬ومغلــق بإحــكام‪ ،‬وأخــذ‬ ‫صنــدوق خشــبي ّ‬
‫قصصــه ترابطهــا الفكــري‪ ،‬وحوافزهــا الرسديّــة التــي‬
‫بــركات َ‬ ‫يتف ّحــص املفــردات األخــرى‪ ،‬خناجــر معقوفــة معلقــة عــى‬
‫توفرهــا لــه اللغــة بانزياحاتهــا املدهشــة‪ ،‬وتراكيبهــا الدالــة‪.‬‬ ‫الجــدران‪ ،‬ومســار طويــل يف الجهــة األخــرى‪ ،‬ويف الركــن‬
‫لقــد كشــفت قصــص الكاتــب عــن حقيقــة مه ّمــة‪ ،‬وهــي‬ ‫أغصــان حلفــاء بالســتيكيّة مزروعــة يف جـ ّرة بــدت مثــل ُد ٍّب‬
‫أ َّن الفــن القصــي م ـراث إنســاين‪ ،‬ال ميكنــه االنعتــاق مــن‬ ‫رمــادي‪ ،‬وقري ًبــا مــن الشــباك املحــروس بقــارورة ريحــان‬
‫أرس املــايض‪ ،‬وأرساره العميقــة‪ ،‬يعــر عــن تجربــة إنســانية‬ ‫ـيم يتطلّــع إليــه‪ ،‬عــى قميصــه مــن جهــة‬ ‫شــاهد رجـ ًـا وسـ ً‬
‫خالصــة‪ ،‬يصــور الحيــاة تصويـ ًرا ينفــذ إىل أغوارها‪ ،‬ويســتجيل‬ ‫(‪.)4‬‬
‫القلــب بقعــة دم طازجــة كلــون برتقالــة"‬
‫يجســد التجربــة اإلنســانية يف تجلياتهــا‬
‫خباياهــا‪ ،‬وبشــكل ّ‬ ‫َوفَّ ـ َر القــاص ملتوالياتــه القصصيّــة متاس ـكًا نصيًّــا يســتند إىل‬
‫املختلفــة‪.‬‬ ‫كل قصــة بوصفهــا كيانًــا‬ ‫بنــاء جــا ّيل يُتيــح للمتلقــي قـراءة ّ‬
‫تجســد هــذا الجانــب الفكــري يف معظــم قصصــه‪ ،‬كــا‬ ‫وقــد ّ‬ ‫جامل ًّيــا موصــول الداللــة‪ ،‬تنتمــي إىل مــكان واضــح‪ ،‬وتخضــع‬
‫يف قصــة (غــار) حيــث االنشــغال بكنــه الوجــود اإلنســاين‬ ‫لســلطة الزمــن‪ ،‬وتســتند إىل بنــاء لغــوي شــديد التوتــر‬
‫موظ ًفــا شــخصية (أنكيــدو) األســطورية‪ ،‬حيــث يقــول‪" :‬مــن‬ ‫وغنــي باالنزياحــات التــي متنــح النــص معنــى مضاع ًفــا‪.‬‬
‫انســل نحــو الشــمس‪ ،‬ومل ينتبــه‬‫ّ‬ ‫ف ّوهــة الكهــف الدائريــة‬ ‫حافــظ بــركات عــى التــوازن القائــم بــن الوحــدة والتع ـ ُّدد‬
‫إىل الح ّيــة التــي تدلّــت مــن جحــر فــوق القــر متا ًمــا‪ ،‬ويف‬ ‫كل قصــة منفصلــة‪ ،‬وهــي مــن ناحيــة‬ ‫الناتــج عــن ق ـراءة ّ‬
‫فمهــا عشــبة داكنــة الخــرة‪ .‬وأنهــا تلـ َّوت مثــل حبــل رخــو‪،‬‬ ‫إبداعيّــة أتاحــت للقــاص ابتــكار أســاليب لغويــة ذات فضــاء‬
‫لرتســم العشــبة فــوق ت ـراب القــر كلــات متعرجــة‪ :‬مــات‬ ‫خيــايل‪ ،‬ووضــوح دال ّيل‪.‬‬
‫أنكيــدو!!"(‪.)5‬‬ ‫لقــد مــارس القــاص تجري ًبــا فن ًّيــا وبنائ ًّيــا واض ًحــا يف رباعياته‪،‬‬
‫بعدمــا أضحــت الحداثــة عنوانًــا للمرحلــة‪ ،‬فــكان تطويــر‬
‫زعمــت أ َّن مخلــد بــركات يف‬
‫ُ‬ ‫ي ال أكــون مخطئًــا إن‬ ‫لعــ ّ‬ ‫األدوات الرسديّــة مــن حيــث التكثيــف واالختـزال‪ ،‬وتوظيــف‬
‫مجموعتــه القصصيّــة "رباعيــات الفــردوس" قــد فتــح بابًــا‬ ‫طاقــة اللغــة‪ ،‬واســتثامر جامليــات املشــهد الســيناميئ‪ ،‬ومــا‬
‫للتجديــد يف القصــة القصــرة األردنيــة مــن خــال إبداعــه‬ ‫يبعثــه يف القصــة مــن دهشــة وإثــارة‪.‬‬
‫ملتواليــات قصص ّيــة برباعــة فن ّيــة وخصوبــة فكريّــة موغلــة‬
‫يف الــراث اإلنســاين‪.‬‬ ‫متتــاز شــخصيات "رباعيــات الفــردوس" بأبعادهــا األســطورية‬
‫التــي تنتمــي إىل مــوروث حضــاري خصــب‪ ،‬أبــرز ثقافــة‬
‫القــاص‪ ،‬واطّالعــه عــى املد ّونــات املق ّدســة‪ ،‬وأســاطري‬
‫محــاول فهــم الوجــود باالســتناد إىل شــخصيات‬
‫ً‬ ‫الشــعوب‪،‬‬
‫الهوامش‪:‬‬ ‫خارقــة تتوالــد معهــا األحــداث يف قالــب قصــي مبــدع‪.‬‬
‫‪ .1‬مخلد بركات‪ ،‬رباعيات الفردوس‪ ،‬ط‪ ،2‬خطوط‬
‫ومــن جانــب آخــر‪ ،‬فــإ َّن قصــص املجموعــة تتيــح للمتلقــي‬
‫عمن‪ ،2021 ،‬ص‪.9‬‬
‫وظالل للنرش والتوزيع‪ّ ،‬‬
‫‪ .2‬رباعيات الفردوس‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫‪ .3‬رباعيات الفردوس‪ ،‬ص‪.41‬‬
‫‪ .4‬رباعيات الفردوس‪ ،‬ص‪.21‬‬
‫‪ .5‬رباعيات الفردوس‪ ،‬ص‪.39‬‬
‫‪76‬‬

‫املتنبي ورهانات القراءة الجديدة‪:‬‬


‫الصاع) ملفلح الحويطات منوذ ًجا‬
‫(شعريّة ّ‬
‫عامر سلامن أبومحارب*‬

‫نصيّــة يف شــعر املتنبــي" اســتطاع مفلــح الحويطــات‪ ،‬ويف ظــل‬ ‫الــراع‪ :‬مقاربــة ّ‬ ‫يف كتابــه "شــعريّة ّ‬
‫اإلشــكاالت الكــرى التــي تعيشــها النظريّــة النقديّــة العربيّــة‪ ،‬أ ْن يخلـ َـق هامشً ــا بحثيًّــا جديـ ًدا يف تجديــد‬
‫"ذكــرى أيب الط ّيــب املتنبــي" بلغــة طــه حســن حــن كتــب "تجديــد ذكــرى أيب العــاء"‪ ،‬مبــا يطرحــه مــن‬
‫طروحــات نقديّــة جــادة يف كتا ِبــه‪ ،‬واســتطاع الحويطــات أن يُعيــد االشــتباك مــع شــعر املتنبــي مــن جديــد‪،‬‬
‫غــر أ َّن عــى املــرء أ ْن يذعــن لقــول مــؤ ّداه أ َّن بعضً ــا أو قُــل كثـ ًرا مــن أرسار شــعر املتنبــي ملّــا تــزل عص ّيـ ًة‬
‫عــى الكشــف‪ ،‬غامضـ ًة أمــام كل هــذه القـراءات املتعاقبــة‪.‬‬

‫أطلــق خالــد الكــريكّ يف دراســته القيّمــة عــن املتنبــي "الرونــق العجيــب‪ :‬ق ـراءة يف شــعر املتنبــي"(‪ )2008‬مقول ـ ًة مؤثــر ًة يف‬
‫رسه مــن "ال ّرونــق العجيــب" بلغــة الجاحــظ‪ ،‬وهــي قولـ ٌة تتصــادى‬ ‫ـدي املعــارص مؤداهــا أ ّن شــعر املتنبــي يســتمد ّ‬ ‫الـ ّدرس ال ّنقـ ّ‬
‫ـدي الــذي كتــب حــول املتنبــي بوصفــه شــاع ًرا " َمـ َـأَ ال ُّدنيــا وشَ ـغ ََل ال ّنــاس"‪ ،‬وهكــذا يبــدو‬ ‫مــع القولــة املركزيّــة يف األرشــيف ال ّنقـ ّ‬
‫شــعر املتنبــي منفحتًــا وف ًقــا لهــذا املفهــوم عــى فكــرة بالغــة املحتمــل أو املتعـ ّدد‪ ،‬أي أنّــه ميثّــل مرا ًحــا إلعــادة االشــتباك معــه‬
‫مــن جديــد‪ ،‬يف ســبيل تل ُّمــس كنهــه العجيــب واملختلــف واآلرس!‬
‫نص ّيــة يف شــعر املتنبــي"(*) ق ـرا َء َة‬
‫ـراع‪ :‬مقاربــة ّ‬ ‫ويف هــذا الســياق يُعيــد مفلــح الحويطــات يف دراســته ال ّراهنــة "شــعريّة الـ ّ‬
‫ـص وســياقه يف اآلن َع ْينــه دون أن يُع ـ َزل أحدهــا عــن اآلخــر بوصفهــا‬ ‫املتنبــي مــن منظــور ي ـزاوج بــن االلتفــات إىل ال ّنـ ّ‬
‫صنويْــن ال ينفصــان‪.‬‬
‫وإذا كان الشّ ــعر العــر ّيب يف أزمنتــه املتعــددة واملتقلّبــة ينــاز بكونــه متوت ّــ ًرا وقلقًــا‪ ،‬عــى الــدوام‪ ،‬فــإ ّن انتخــاب مفلــح‬
‫ـراع ‪ Conflict‬لتكــون محــور مقاربتــه لشــعر أيب الطّ ّيــب املتنبــي ميثــل اختيــا ًرا واع ًيــا باملوضوعــة التــي‬ ‫الحويطــات لثيمــة الـ ّ‬
‫ـراع ميثــل بــؤرة مركزيّــة يف فكــر الشــاعر‪ ،‬وهــو كذلــك أحــد الشّ ــيفرات‬ ‫تلتئــم عليهــا القصيــدة الشّ ــعريّة عنــد املتنبــي؛ فالـ ّ‬
‫الســيميائيّة ‪ semiotic signs‬ال ّدالــة وامل ُتكــررة‬ ‫ال ّنســقيّة التــي يتمحــور حولهــا شــعره‪ ،‬فضـ ًـا عــن كونــه ميثّــل أبــرز العالمــات ّ‬
‫يف إمرباطوريّــة القصيــدة‪ /‬الشــعر التــي ّأسســها املتنبــي بلغــة "روالن بــارت" يف إمرباطوريّــة العالمــة‪،The Empire of signs‬‬
‫والســلطة‪ ،‬والتابــع‪ ،‬واألنــا‪ ،‬واآلخــر‪.‬‬
‫وهــي؛ الشــاعر‪ّ ،‬‬
‫ولعلّــه مــن نافــل القــول اإلشــارة إىل أ ّن شــعر املتنبــي يقــع يف منزل ـ ٍة بــن املنزلتَـ ْـن‪ ،‬وهــو مــا يزيــده أل ًقــا ويضفــي إليــه مــا‬
‫يحقــق لــه "ال ّرونــق العجيــب" كــا يشــر الجاحــظ يف "البيــان والتّبيــن"‪ ،‬أي أنّــه وف ًقــا لذلــك ينفتــح كــا يشــر إىل ذلــك "جــاك‬
‫دريــدا" يف إملاعــه إىل مفهــوم الشــبحيّة‪ ،‬بــن املمكــن والالممكــن‪ ،‬واملتوقــع والالمتوقــع‪ ،‬إنــه هكــذا ويف حالــة مــن "التّضــاد‬
‫املدهــش" ميثّــل يف اللحظــة َع ْينهــا الــايشء والــيء كذلــك! ولــذا فإنــه ملّــا يــزل مزنّ ـ ًرا بســح ٍر خــاص‪ ،‬يجعلــه م ّ‬
‫رش ًعــا أمــام‬

‫* باحث أردين‬
‫‪amer998888@yahoo.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪77‬‬

‫رسه املكنــون‪ ،‬أو اكتشــاف كُنهــه املخبــوء‪.‬‬ ‫ال ّنظريّــات النقديّــة املختلفــة يف ســبيل تل ُّمــس ّ‬
‫وأل ّن يف ط ّيــات العناويــن وبدايــات الكتــب فتنـ ًة و ُعج ًبــا كــا يقــول أبوعمــرو الجاحــظ‪ ،‬فــإ ّن القــارئ لكتــاب الحويطــات يلحــظ‬
‫أنــه أَ ْو َل عناويــن دراســته ال ّرئيســة والفرعيــة غـ َر قليــلٍ مــن عنايتــه واهتاممــه‪ ،‬ويلحــظ أ ّن العناويــن التــي اختارهــا الحويطات‬
‫ـي‪ ،‬وهــي عنوانــاتٌ انعكســت عــى صفْحتهــا مجــاالت االنشــغال‬ ‫لكتابــه ذاتُ أبعــا ٍد ســميائيّة دالّــة ومتســقة مــع طرحــه املنهجـ ّ‬
‫ـدي‪ ،‬وهــذه العنوانــات‪( :‬القيمــة الشــعرية وتعميــق االختــاف‪ ،‬واألنــا وإرادة‬ ‫ـي الــذي يحكــم عمــل الحويطــات ال ّنقـ ّ‬ ‫املنهجـ ّ‬
‫ـس املأســاوي يف مواجهــة الزمــن‪،‬‬ ‫الســافر‪ ،‬والفصــل الثالــث‪ :‬رصاع األنــا وال ّزمــن‪ ،‬والحـ ّ‬ ‫الق ـ ّوة‪ ،‬والخطــاب املق َّنــع‪ ،‬والخطــاب ّ‬
‫جــدل الحــب واملــوت‪ ،‬واألنــا وقَيْــد املــكان‪ ،‬وبالغــة التضــاد)‪ ،‬وبال ّنظــر إىل إهــداء الحويطــات كتابــه الراهــن‪ ،‬نقــرأُ عــى صفحــة‬
‫اإلهــداء قولــه‪:‬‬
‫بحب املتنبي و"رونقه العجيب")‬ ‫(إىل خالد الكريك املسكون ّ‬
‫ـح عــى عــد ٍد مــن‬ ‫الســيميائيني يُ َعـ ُّد عالمـ ًة إشــاريةً‪ ،‬وعتبـ ًة خطابيـ ًة منتجـةً‪ ،‬تنفتـ ُ‬ ‫وليــس بد ًعــا مــن القــول إ َّن اإلهــداء عنــد ّ‬
‫ال ـ ّدالالت واملعــاين‪ ،‬إذ يبــدو كتــاب الرونــق العجيــب الــذي كتبــه خالــد الكــريك عــن شــعر املتنبــي مولّ ـ ًدا لإلبــداع‪ ،‬ورشطًــا‬
‫حتميًّــا للعبــور‪ ،‬مــن أجــل فتــح كــوى كاشــف ٍة‪ ،‬تعــن الناقــد عــى إعــادة اكتشــاف‪ /‬قـراءة شــعر أيب الطّيّــب املتنبــي مــن جديــد‪.‬‬
‫ـدرك وعــي الحويطــات بثقافــة االختيــار أو جامليات‬ ‫وبالنظــر إىل اختيــار الحويطــات لخالــد الكــريك‪ ،‬ليقـ ّدم لــه دراســته‪ ،‬فإنّنــا نـ ُ‬
‫االنتخــاب الثقــا ّيف‪ ،‬وأه ّميتهــا يف منــح دراســته قيمــة إشــهاريّة مائــزة‪ ،‬إذ ميثّــل املتنبــي املوضوعــ َة املركزيّــ َة يف ن ْقــد خالــد‬
‫الكــريكّ‪ ،‬ومرشوعــه‪ ،‬و ِفكــره‪ ،‬وأدبــه كذلــك‪.‬‬
‫ويبــدو أ ّن الحويطــات نجــح يف اختيــاره الكــريكَّ ليكــون كاتــب العتبــة التّأسيسـيّة مبــا هــي عليــه بوصفــه تقدميًــا‪ /‬تقريضً ــا‪ ،‬إذ‬
‫ـح الكــريكُّ كتــاب الحويطــات مبقدمــة ُم ِه َّمـ ٍة‪ ،‬يقــول فيهــا‪" :‬يُشـكّل هــذا الكتــاب حالــة متم ّيــزة بــن الدراســات الجديــدة‬ ‫يفتتـ ُ‬
‫عــن شــعر املتنبــي"‪ ،‬ويقــول‪" :‬وبــن مؤيــدي أيب الطّ ّيــب واملعجبــن بشــعره وأولئــك املبغضــن لــه وإلبداعــه‪ ،‬ســار مفلــح‬
‫الســياق‬
‫ـعري)‪ ،‬ومل يقــف عنــد معطيــات ّ‬ ‫ـص الشـ ّ‬ ‫الحويطــات حــول ِحمــى أيب الطّيّــب الشّ اعر(اإلشــكا ّيل) كــا يقــول‪ ،‬واختــار (ال ّنـ ّ‬
‫والصياغــة دقيقــة‪ ،‬واألســلوب بـ ِّـن الجــودة"(ص‪ ،)7‬ويف هــذا الــذي‬ ‫ـي‪ ...‬مــن هنــا أرى أ ّن مقدمــة الكتــاب ُمحكمــة‪ّ ،‬‬ ‫الخارجـ ّ‬
‫أس منهــا دراســته الراهنــة‪.‬‬ ‫ـس ملقولــة التّجديــد التــي بنــى الحويطــات عــى ّ‬ ‫ذهــب إليــه الكــريكُّ تكريـ ٌ‬
‫ومتثــل اختيــارات الحويطــات يف هــذا الكتــاب‪ ،‬عــى تعد ُّدهــا و ِغناهــا‪ ،‬ملم ًحــا مائـ ًزا‪ ،‬يف خطابــه النقــدي الراهــن‪ ،‬وذلــك يتجـ ّـى‬
‫ـراع ابتــدا ًء‪ ،‬وشــعر املتنبــي ثاني ـةً‪ ،‬ومــا يــي ذلــك‪ ،‬مــن اختيــار الكــريكّ لتقديــم الكتــاب‪،‬‬ ‫يف التفاتــه ملوضوعــة شــعريّة الـ ّ‬
‫ـي‪ ،‬إذ ميثــل جـ ّـل‬‫واســتصفاء أبيــات بعينهــا مــاد ًة للقـراءة والتّحليــل‪ ،‬وانتهــاء بتخـ ُّـر ديــوان املتنبــي صنعـ ِة عبدالرحمــن الربقوقـ ّ‬
‫ذلــك وع ًيــا يســتطلب اإلشــارة واإلشــادة‪.‬‬
‫ويكشــف املســتوى اإلجـرا ُّيئ يف هــذا الكتــاب عــن متثيــات قــارئ‪ /‬ناقــد ُمختلِــف‪ ،‬ميتلـ ُـك وع ًيــا نقديًّــا مائـ ًزا يجعلــه قــاد ًرا عــى‬
‫تحليــل ال ُّنصــوص‪ ،‬وفـ ِّـك شــيفراتها‪ ،‬وإضــاءة مع ّمياتهــا‪ ،‬والقبــض عــى إشــاريّاتها ال ّنصيّــة‪ /‬املحتملــة‪.‬‬
‫وف ًقــا لذلــك يجــيء هــذا الكاتــب يف خمســة فصــول‪ ،‬عــى النحــو اآليت‪ :‬الفصــل األول‪( :‬رصاع األنــا واآلخــر)‪ ،‬والفصــل الثــاين‪:‬‬
‫والســلطة)‪ ،‬والفصــل الثالــث‪( :‬رصاع األنــا وال ّزمــن)‪ ،‬والفصــل الرابــع‪( :‬رصاع األنــا واملــكان)‪ ،‬والفصــل الخامــس‪:‬‬ ‫(رصاع الشّ ــعر ّ‬
‫‪78‬‬

‫ـراع يف البِنيــة)‪.‬‬
‫(الـ ّ‬
‫يف الف َْصــل األول‪( :‬رصاع األنــا واآلخــر) يعايــن الحويطــات متثيــات األنــا املتو ّرمــة أو الفاعلــة ومركزيتهــا يف الـراع مــع اآلخــر يف‬
‫شــعر املتنبــي‪ ،‬إذ متثــل "ال ّنبــوة الشّ ــعريّة"‪ ،‬و"حيــازة ملكــة البيــان"‪ ،‬و"تفـ ُّرد الــذات"‪ ،‬عالمــات دالّــة‪ ،‬وأقنعــة نســق ّية‪ ،‬ووســيلة‬
‫ناجعــة يف الـ ّر ّد بالكتابــة‪ ،‬وف ًقــا للرؤيــة النســقيّة التــي يتب ّناهــا املت ّنبــي يف رصاعــه مــع اآلخــر‪ ،‬وال ريــب أّنهــا متثــل كذلــك‪ ،‬فضـ ًـا‬
‫عـ ّـا أشــار إليــه الحويطــات‪ ،‬رمــوزًا للــذات يف أتــون اللعبـــة ال ّرمزيـّــة التــي يؤســس لهــا مؤلّــف العمــل األد ّيب كــا يف الدراســات‬
‫الســيميائية املعــارصة‪ .‬ولعـ ّـل رصاع املتنبــي مــع اآلخــر يتجــى يف بيتــن شــعريني‪ ،‬يجعلهــا الحويطــات عتبــة نص ّيــة‪ /‬نقديّــة‪،‬‬
‫يفتتــح بهــا هــذا الفصــل‪ ،‬إذ يقــول املتنبــي‪:‬‬
‫سام بابْ ِت َس ِام‬
‫َج َزيْ ُت عىل ابْ ِت ٍ‬ ‫اس ِخ ًّبا‬ ‫َوملّا َصــــــا َر ُو ّد ال ّن ِ‬
‫ل ِعلْمــي أنّــهُ بَ ْع ُض األن ِ‬
‫َــام‬ ‫أصطَفيه‬ ‫ص ُت أشُ كُّ في َم ْن ْ‬ ‫َو ِ ْ‬
‫الســابقة والقصائــد التــي انتخبهــا الحويطــات يف هــذا الفصــل يؤســس للصــوت املختلــف‪،‬‬ ‫إ َّن املتنبــي هنــا ووف ًقــا لإلشــاريّات ّ‬
‫ولــذا فــإ َّن قصيدتــه تنبنــي وفقًــا لهــذا املســار عــى فاعليــة تقويض ّيــة مضــا ّدة‪ ،‬تُ ِأســس مبــدأ مركزيّــة الــذّات ‪Center-‬‬
‫الســلطة املركزيّــة‪ ،‬وإن كانــت متــارس عليهــا رضبًــا مــن املخاتلــة‬ ‫‪ cism‬التــي متثــل منوذ ًجــا مختل ًفــا‪ ،‬وصوتًــا مضــا ًدا‪ ،‬يف وجــه ّ‬
‫ـص‪ /‬الشّ ــعر‪.‬‬ ‫والتّعميــة‪ ،‬التــي تســتند إىل بالغــة املجــاز وجامليّــات ال ّنـ ّ‬
‫والســلطة) يجـ ّـي الحويطــات متثيــات "مبــدأ ال ّرفــض واالختــاف" يف شــعر املتنبــي‪ ،‬وذلــك‬ ‫ويف الف َْصــل الثــاين (رصاع الشّ ــعر ّ‬
‫ـي معــارِض‪" ،‬ســافر" تــارة‪ ،‬و"مق َّنــع" تــارة أخــرى‪ ،‬إذ تضمــر‬ ‫عــر طقسـ ّية املديــح ومخاتــات ال ّنســق‪ ،‬عــر تأثيــل خطــاب حجاجـ ّ‬
‫القصيــدة عنــد املتنبــي موق ًفــا مناهضً ــا للســلطة‪ ،‬وهــو مــا يجلّيــه نســق ال ـذّات االســتعالئيّة‪ ،‬التــي متتلــك ســلطة املعرفــة‬
‫وق ّوتهــا ‪ ،The Power of Knowledge‬كــا يشــر إىل ذلــك "ميشــيل فوكــو"‪ ،‬قُبالــة ســلطة عميــاء‪ ،‬ال ميكنهــا مجــاراة الـذّات‪،‬‬
‫معرفــة ورؤيــة‪ ،‬ولعـ َّـل بيــت املتنبــي الذّائــع ميثّــل بــؤرة لهــذه الرؤيــة‪ ،‬إذ يقــول‪:‬‬
‫كانَ لِساين يُرى ِم َن الشُ َعـــــــرا ِء‬ ‫ِ‬
‫لـــــــــــوك َوإِن‬ ‫َوفُؤادي ِم َن امل ُ‬
‫ويف قوله كذلك‪:‬‬
‫بَ ْي ًتـا ول ِك ّنـــــي ال ِه َزبْ ُر ال َب ِاس ُ‬
‫ــــل‬ ‫ُنشدُ ه ُهنا‬ ‫ـــس الف َُصحا ُء ت ِ‬ ‫ال تَ ْج ُ ُ‬
‫سمعت بسـحري باب ُِل‬ ‫ْ‬ ‫ِش ْعرِي وال‬ ‫نال أه ُْل الجا ِهلِ ّيــــــ ِة كُلُّ ُه ْم‬ ‫ما َ‬
‫وهنــا يؤكــد الحويطــات أ َّن املتنبــي بوصفــه شــاع ًرا متحـ ّو ًل‪ ،‬ات ّخــذ مــن جامليــات املجــاز‪ /‬الشــعر‪ ،‬أداة تعينــه يف نقــد‪ /‬انتقــاد‪،‬‬
‫ـوي كذلــك معهــا‪ ،‬ذلــك أنّــه ميلــك رؤيــة كونيــة‪ ،‬تحتكــم إىل قانــون النــور واإلبصــار‪ /‬املعرفــة‬ ‫وتأكيــد رصاعــه واختالفــه ال ّرؤيـ ّ‬
‫الســلطة ال متلــك املعرفــة‪ /‬القــدرة عــى أن تَ يّــز الشــعر‪ /‬الــكالم‪ ،‬بســبب ضاللهــا‪ ،‬وزيغهــا‪،‬‬ ‫والبيــان‪ /‬الشــعر‪ ،‬يف حــن أ َّن ُّ‬
‫الصــواب‪.‬‬
‫وابتعادهــا عــن جــادة ّ‬
‫والســلطة يف العــر الع ّبــايس‪ ،‬وهنــا‬ ‫انعكاســا إلشــكال ّية املث ّقــف ّ‬ ‫ً‬ ‫ويف هــذا الســياق تــرز إشــكالية الســيف والقلــم‪ ،‬التــي متثــل‬
‫الســحر الحــال‪ ،‬عــى الكتابــة بوصفهــا وظيفــة مركزيّــة يف البــاط العبّــايس‪ ،‬يف ضــوء تحـ ّوالت الوظيفــة‬ ‫ينتــر املتنبــي للشّ ــعر‪ّ /‬‬
‫بــن الشــاعر والكاتــب‪ ،‬بيــد أ ّن الكتابــة مــن منظــور املتنبــي ال تــوازي الشّ ــعر؛ قيمــة‪ ،‬ووظيفــة‪ ،‬وشــأ ًوا‪ ،‬ورؤيــة للكــون والوجود‪،‬‬
‫فضـ ًـا عــن نزعتهــا التّحرريّــةـ التــي تفتقــد عنــد الكاتــب‪ /‬الكتابــة‪ ،‬يف حــن أ َّن الشــاعر هــو وحــده َمــن ميلكهــا‪ ،‬وهــو مــا أملــح‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪79‬‬

‫إليــه أدونيــس يف قولــه‪:‬‬


‫"أحمد مل يكن ماد ًحا‬
‫كان يهجو عمى اآلخرين‬
‫ويقرأ أحواله وأعامله يف شامئل ممدوحه"‬
‫(أدونيس‪ ،‬الكتاب‪ /‬من أوراق سيف الدولة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪)533‬‬

‫و ُهنــا وإضافـ ًة ملــا أشــار إليــه الحويطــات متكــن اإلشــارة إىل أ ّن املتنبــي إمنــا يتخــذ مــن ثقافــة التفــاوض وســيلة يف تعاملــه مــع‬
‫اآلخــر الســلطوي‪ ،‬ولــذا فإنّــه يحتكــم ملبــدأ التفــاوض وفــق "كلــود رميــون"‪ ،‬يف إنشــاء عمليّــة‪ /‬عالقــة تفاوضيّــة‪ ،‬تقتــي تبـ َ‬
‫ـادل‬
‫يل‪.‬‬
‫الســابق أو الحليــف املســتقب ّ‬ ‫الخدمــات مــع الخصــم ّ‬
‫ويف الف َْصــل الثالــث (رصاع األنــا وال ّزمــن) يعايــن الحويطــات رصاع الشــاعر‪ /‬املتنبــي مــع ال ّزمــن‪ ،‬وهنــا فــا مندوحــة مــن القــول‬
‫إ ّن الزمــن مثّــل محــو ًرا مركزيًّــا مــن محــاور القصيــدة العرب ّيــة‪ ،‬عــر صريوارتهــا التاريخ ّيــة‪ ،‬بيــد أنّــه عنــد املتنبــي ميثّــل إشــكال ّية‬
‫"ســورة‬ ‫خاصــة‪ ،‬ذلــك أ ّن حركيّــة ال ّزمــن وتحوالتــه وتقلّباتــه الدائبــة‪ ،‬تحيــط الشــاعر مبــا ميكــن أن يطلــق عليــه َ‬ ‫كــرى‪ ،‬وحالــة ّ‬
‫ـاوي‪ ،‬وتبـ ّدد اللحظــة املرغوبــة‪ ،‬فتقــا ُدم ال ّزمــن ميثّــل يف فكــر املتنبــي تهديـ ًدا وجوديًّــا‪/‬‬ ‫الزمــن"‪ ،‬وتشــعره بوطــأة الزمــن املأسـ ّ‬
‫املــوت‪ ،‬ويطــرح عــى الــذات ســؤاالت الوجــود‪ ،‬والحيــاة‪ ،‬واملــوت‪ ،‬فالزمــن يف اســتمراريته يجعــل مــن الــذات الشّ ــاعرة ذاتًــا‬
‫قلقــة ومتوتّــرة عــى الــدوام‪ ،‬ومدفوعـ ًة إىل محاولــة إنجــاز مرشوعهــا‪ /‬رؤيتهــا‪ ،‬يقــول املتنبــي‪:‬‬
‫َويَج َز ُع ِم ْن ُمالقــــا ِة ال ِح ِ‬
‫امم‬ ‫َبات ِم ْنـــهُ‬
‫أ ِمثْلـي تأخُــ ُذ ال ّنك ُ‬
‫لخَضّ َب شع َر َمف ِر ِق ِه ُحسـامي‬ ‫خصــــا‬ ‫ولــو بَ َر َز ال ّزمانُ إ ّيل شَ ً‬
‫ويف إطــار رصاع املتنبــي مــع ال ّزمــن يشــر الحويطــات إىل مركزيــة ثيمــة الحــب يف قصيــدة املتنبــي‪ ،‬وهــو يف ذلــك إمنــا ينــزع‬
‫ـوس يُخالِــف خاللهــا جمهــرة نَ َقــدة شــعر املتنبــي‪ ،‬عــى مـ ّر العصــور‪ ،‬الذيــن يــرون يف حضورهــا يف شــعر املتنبــي تقليـ ًدا‬ ‫عــن قـ ٍ‬
‫فنيًّــا متوارثًــا وحســب؛ غــر أ ّن الحويطــات يــرى أ ّن ت َك ـرار ثيمــة الحــب بهــذه الصــورة الالفتــة ميثّــل يف فكــر املتنبــي هروبًــا‬
‫مــن زمنيــة التوتــر وال َق ْهــر واإلحبــاط والالجــدوى‪ ،‬يف حياتــه القلقــة‪ ،‬ولــذا فــإ َّن اســتدعاء تجربــة الحــب تكريــس لقيمــة الحيــاة‬
‫والخصــب والحيــاة‪.‬‬ ‫يف مواجهــة املــوت‪ ،‬وإشــارة دالّــة إىل الحنــن الدائــب إىل زمــن املــرأة والحــب ِ‬
‫لقــد ظلّــت إحداثيــات الزمــن الســالبة متثّــل ضاغطًــا ثقيـ ًـا عــى نفــس الشــاعر‪ ،‬يف ظــال تعـذّر‪ /‬تأ ّخــر إمتــام مرشوعــه‪ ،‬فقــد‬
‫ـاول مــن خــال شــعره أن ينتفــض يف وجهــه مــن خــال حركيّــة ناجــزة‪ ،‬تخـرِق خاللهــا‬ ‫عــاىن املتنبــي مــن ثقــل هــذا الزمــن‪ ،‬فحـ َ‬
‫الــذاتُ َســورة هــذا الزمــن الثقيــل‪ ،‬وذلــك بصــورة الفتــة‪ ،‬تضفــي إىل الــذات بعـ ًدا أســطوريًا وتســارعيًّا ال يقـ ّر قـراره دون بلــوغ‬
‫الغايــة القصــوى‪.‬‬
‫ويف الفصــل الرابــع (رصاع األنــا واملــكان) يغــدو املــكان تجلّ ًيــا آخــر مــن تجليــات ال ـراع يف شــعر املتنبــي‪ ،‬إذ ميتلــك املــكان‬
‫الشــعري‪ ،‬وذلــك بوصفــه قيــ ًدا وتجــاوزًا وغربــ ًة يف اآلن َعيْنــه‪ ،‬كــا يــرى‬ ‫ّ‬ ‫يف شــعره قيمــة فاعلــ ًة ومؤث ّــر ًة يف بنيــة ال ّن ّ‬
‫ــص‬
‫الحويطــات‪ ،‬ويصبــح املــكان قيـ ًدا حــن مينــع الشــاعر‪ /‬الــذات الفاعلــة مــن بلــوغ مآربهــا‪ ،‬يف حــن أنــه ميــي غربـ ًة أو اغرتابًــا‪،‬‬
‫حــن يُ ِحـ ّـل الشــاعر أرضً ــا ليــس يرغبهــا‪ ،‬وأل َّن املتنبــي مســكون ببلــوغ غايتــه‪ ،‬فقــد مثــل املــكان لديــه فكــرة مركزيّــة‪ ،‬ال ميكــن‬
‫‪80‬‬

‫لــه االنعتــاق مــن إســارها‪ ،‬يقــول املتنبــي‪:‬‬


‫أُ َو ِّج ُههــا َجنو ًبا أَو شَ ــــامال‬ ‫الريح تَحتي‬ ‫َ‬ ‫َــق كَأَنَّ‬
‫َعلـى َقل ٍ‬
‫ويقول يف موضع آخر‪:‬‬
‫و َم ْن بالعواصــــم ّأن الفَتـى‬ ‫رص َو َم ْن بالعراق‬ ‫لِ َت ْعل َ‬
‫َـــــم م ُ‬
‫ـي‬
‫ـول مركزيًــا طــرأ عــى عالقــة املتنبــي باملــكان‪ ،‬إذ إ َّن املــكان والرتحــال الدائــب وتخطـ َ‬ ‫ويشــر الحويطــات إىل أ ّن مثــة تحـ ً‬
‫ـس‬ ‫املــكان ال ّراهــن‪ ،‬تغــدو مــؤرشات دالّــة عــى رغبــة الشــاعر بــأن يجعــل مــن تجــاوز املــكان آليــة‪ /‬اسـراتيجية دفاع ّيــة‪ ،‬تعكـ ُ‬
‫حركــة الــذات الفاعلــة والدائبــة يف رصاعهــا مــع الحيــاة‪ ،‬وهنــا تصبــح اإلبــل والخيــل مثـ ًـا‪ -‬أقنع ـ ًة نســق ّية لل ـذّات الشــاعرة‪،‬‬
‫ـادل‬
‫التــي تريــد تجــاوز الراهــن وبلــوغ املأمــول‪ ،‬عــى اعتبــار أنهــا‪ ،‬أي هــذه األقنعــة‪ ،‬متثــل رمــوزًا تحيــل إىل الــذات‪ ،‬وتعـ ّد معـ ً‬
‫موضوعيًّــا لهــا‪.‬‬
‫ويف الفصــل الخامــس‪ ،‬يجــي الحويطــات متثيــات بنيــة ال ـراع يف بنيــة النــص الشــعري عنــد املتنبــي‪ ،‬وهنــا تجســد الم ّيــة‬
‫نصــا قل ًقــا‪ ،‬يقــام أوده كــا يــرى الحويطــات عــى متضــادات‪ /‬تجــي صــورة ال ـراع‬ ‫ـال بَع ـ َد الظا ِعن ـ َن شُ ـ ُ‬
‫ـكول" ًّ‬ ‫املتنبــي "لَيـ ِ َّ‬
‫الــذي يعتمــل يف نفــس األنــا الشــاعرة‪ ،‬بــن الضــوء‪ /‬الفجــر والعتمــة‪ /‬الليــل‪ ،‬والنحــن (املســلمون)‪ /‬الــروم‪ ،‬واألنــا الشّ ــاعرة‪/‬‬
‫ـت َغ ـ ُر ُم َذ َّمــمِ " تعكــس لحظتــن فارقتـ ْـن‪ ،‬تــرزان‬ ‫والحســاد‪ ،‬يف حــن أ ّن القصيــدة التــي مطلعهــا " ِف ـر ٌاق َو َمــن فا َرقـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫املتنبــي‬
‫الســالبة‪ /‬التــي صنعهــا ســيف الدولــة‪ ،‬الــذي‬ ‫أي حــال اللحظــة ّ‬ ‫قلــق الــذات وإشــكالية املصــر يف فكــر املتنبــي‪ ،‬وهــا عــى ّ‬
‫الســلطة العميــاء‪ ،‬واللحظــة التنويريــة‪ /‬التــي يتش ـ ّوق إليهــا املتنبــي يف بــاط كافــور اإلخشــيدي‪ ،‬إذ تعكــس اللحظــة‬ ‫ميثّــل ّ‬
‫التّنويريّــة يف شــعر املتنبــي رغبتــه املل ّحــة يف تخليــق صــورة "النمــوذج البديــل"‪ ،‬ويف هــذا الســياق ذاتــه ينتخــب الحويطــات‬
‫ميميّــة املتنبــي الذائعــة‪ ،‬التــي متثــل تح ـ ّوالت الشــاعر‪ ،‬وانقالبــه عــى ســيف الدولــة‪ ،‬ورصاعــه معــه بعــد تح ّوالتــه الطّارئــة‪/‬‬
‫الســالبة تجــاه الشــاعر املتنبــي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ويف هــذا الســياق يشــر الحويطــات إىل مــا أســاه "بالغــة التضــاد" يف عــد ٍد مــن القصائــد‪ ،‬لعــل أبرزهــا القصيــدة التــي مطلعهــا‬
‫"ال ُحــز ُن يُقلِـ ُـق َوالتَ َج ُّمـ ُـل يَــر َدعُ"‪ ،‬وهــي قصيــدة تتأســس عــى طائفــة مــن الثّنائيــات الضّ ديّــة‪ ،‬التــي تتجـ ّـى يف مســتويات‬
‫القصيــدة املختلفــة صــور ًة شــعريّ ًة ولفظًــا وبنــا ًء فنيًّــا‪ ،‬لتعكــس حالـ َة الشّ ــاعر الــذي غــدا نهبًــا بــن منوذجــن إنســانيني‪ ،‬يســعى‬
‫الشــاعر إىل تخليــد األ ّول‪ /‬فاتــك‪ ،‬وطمــس‪ /‬تشــويه صــورة الثــاين‪ /‬كافــور‪.‬‬
‫وأخ ـ ًرا‪ ،‬فيشــبه أ ْن يكــون الزبًــا أن يعلــن ُصا ًحــا أ َّن هــذا الكتــاب‪ ،‬اســتطاع‪ ،‬والنظريــة النقديّــة العربيــة تعيــش إشــكاالت‬
‫كــرى‪ ،‬أ ْن يخلـ َـق هامشً ــا بحث ًيــا جدي ـ ًدا يف تجديــد "ذكــرى أيب الط ّيــب" بلغــة طــه حســن حــن كتــب "تجديــد ذكــرى أيب‬
‫العــاء"‪ ،‬مبــا يطرحــه مــن طروحــات نقديــة جــادة‪ ،‬غــر أ َّن عــى املــرء أن يذعــن لقــول مــؤ ّداه أ َّن بعضً ــا أو قُــل كثـ ًرا مــن أرسار‬
‫شــعر املتنبــي ملّــا تــزل عص ّي ـ ًة عــى الكشــف‪ ،‬غامض ـ ًة أمــام كل هــذه الق ـراءات املتعاقبــة‪.‬‬

‫‪---------------‬‬
‫نصيّــة يف شــعر املتنبــي‪ ،‬اإلمــارات‪ ،‬هيئــة أبوظبــي للســياحة والثقافــة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫ـراع‪ :‬مقاربــة ّ‬
‫(*) مفلــح الحويطــات‪ ،‬شــعريّة الـ ّ‬
‫‪.2017‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪81‬‬

‫وزيرة الثقافة هيفاء النجار أثناء تجولها يف متنزه األردن البيئي يف األغوار الشاملية‬
‫املسار الرابع من برنامج "حكاية مكان"‬
‫‪82‬‬

‫آذار‪ ..‬مطر وربيع‪..‬‬


‫تسب "األغوار"‬
‫وحكايا ِ ُ‬
‫كتابة وتوثيق‪ :‬إميان مرزوق*‬

‫ـغف تجــاوز حــدو َد الح ـذَر! انطلــق يف الثالــث مــن آذار ‪ 2022‬برعايــة وزيــرة‬ ‫يف أجــواء "آذاريّــة" اســتثنائ ّية‪ ،‬وبشـ ٍ‬
‫الثقافــة هيفــاء النجــار املســار الرابــع مــن برنامــج "حكايــة مــكان" الــذي تنظِّمــه مديريّــة الـراث يف وزارة الثقافــة‬
‫ـخي لوحـ ًة فريــد ًة مــع تلــك األوابــد الشّ ــاهدة‬ ‫ـري" رسـ َم ْت رائحـ ُة الطّــن وال ّربيـ ُع َّ‬
‫السـ ّ‬ ‫األردن ّيــة‪ .‬يف هــذا املســار "املَطَـ ّ‬
‫عــى جــذور الحضــارة يف عــروس الشــال‪ ..‬عاصمــة الثقافــة العرب ّيــة لعــام ‪.2022‬‬

‫األثري‬
‫ّ‬ ‫ّتل دير ّ‬
‫عل‬
‫التــي توفَّــر فيهــا كل يشء‪ :‬الزراعــة وتربيــة الحيوانــات‪،‬‬ ‫التــل‬
‫عــا األثــري كان محطتنــا األوىل‪ ..‬صعدنــا ّ‬ ‫تــل ديــر ّ‬
‫ّ‬
‫والســكن ومالمــح الحيــاة اليوميــة‪ ،‬والدينيــة‪ ،‬إضافــة إىل‬ ‫"الصناعــي"(‪ )1‬الــذي غـزاه "األخــر" بالكامــل‪ .‬لغــر املختّ ّص؛‬
‫صهــر الحديــد وتصنيــع األدوات الحديديّــة‪.‬‬ ‫ـري ‪ ..‬فــا فسيفســاء وال‬ ‫ال يشء عــى التـ ّـل يوحــي بأنــه أثـ ّ‬
‫أعمــدة وال كهــوف أو غريهــا مــن املعــامل املتعــارف عليهــا‪..‬‬
‫نقش بلعام‬ ‫لك ـ َّن عــن ال ـ ّدارس تعــرف أ َّن للموقــع أهم ّيــة وخصوص ّيــة‬
‫يف عــام ‪ 1967‬تــم اكتشــاف نقــش ديــر عـ ّـا املعــروف باســم‬ ‫أطْلَ َعنــا عــى بعــض مالمحهــا مندوبــو وزارة الســياحة واآلثار‬
‫نقــش (بلعــام بــن باعــور) وهــو أطــول نــص دينــي باآلرامية؛‬ ‫يف املوقــع الــذي شــهد االســتيطان البــري منــذ العــر‬
‫مكتــوب عــى الجــص الكلــي بالحــر األســود واألحمــر‪ ،‬وتـ َّم‬ ‫الربونــزي املتوســط (‪1750-1550‬ق‪.‬م)‪ ،‬حيــث كان عبــارة‬
‫تأريخــه للعــر الحديــدي (‪850-750‬ق‪.‬م) وهــو أقــدم مــن‬ ‫عــن مدينــة صغــرة‪ ،‬اســتق َّر النــاس فيهــا وبنــوا بيوتهــم مــن‬
‫مخطوطــات البحــر امليــت بحــوايل ‪ 700‬عــام! ويذكــر نــص‬ ‫اللِّــن‪.‬‬
‫النقــش اســم العــ ّراف‪( /‬النبــي الــذي انســلخ عــن آيــات‬ ‫ُعــر يف املوقــع عــى بقايــا معامريّــة تعــود للعــر الربونــزي‬
‫ربّــه) (بلعــام بــن باعــور)‪ ،‬وكيــف أنــه نقــل لشــعبِه مــا‬ ‫املتأخــر (‪1200 1550-‬ق‪.‬م) أه ّمهــا املعبــد‪.‬‬
‫أوحــي إليــه يف الحلــم وهــي نبــوءة بنــزول البلــوى عــى‬ ‫كــا عــر عــى لُقــى أثريــة وبقايــا عمرانيــة تعــود للعــر‬
‫أهــل ذلــك املــكان ج ـزاء عصيانهــم لآللهــة‪ .‬وهــذا الع ـ ّراف‬ ‫الحديــدي (‪ 1200-1000‬ق‪.‬م)‪ ،‬و ُعــر عــى ُرقــم طينيّــة عــى‬
‫مذكــور باالســم ذاتــه يف العهــد القديــم (التــوراة ســفر‬ ‫أرض ّيــة إحــدى الغــرف‪ ،‬باإلضافــة ملجموعــة مــن األدوات‬
‫العــدد ‪ )22‬وهــو بحســب املؤابيــن ع ـ ّراف اســتأجره امللــك‬ ‫التــل كان أقــرب إىل‬
‫وجِــرار التَّخزيــن‪ .‬ويبــدو أ َّن هــذا ّ‬
‫املــؤايب بــاالق بــن صفــور ليلعــن بنــي إرسائيــل ‪ ..‬وبحســب‬ ‫"مدينــة" أو مــا عــرف بــِ( (‪ city state‬أي (املدينــة الدولــة)‬

‫* كاتبة أردنية‬
‫‪eman.marzouq@culture.gov.jo‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪83‬‬

‫بقايا بوابة املعبد يف تل دير عال‬


‫‪84‬‬

‫رسم توضيحي لنقش بلعام‬

‫إن تَ ْح ِمـ ْـل َعلَيْ ـ ِه يَلْ َهــثْ أَ ْو ت ْ َُتكْ ـ ُه يَلْ َهــثْ ذلــك َمثَـ ُـل القـ ِ‬
‫ـوم‬ ‫ـي أنــزل اللــه عليــه اآليــات فانســلخ‬ ‫الكتــب املق َّدســة هــو نبـ ّ‬
‫فاقصــص القصــص لعلهــم يتف ّكــرون)‪.‬‬ ‫الذيــن كذّبــوا بآياتنــا ُ‬ ‫عنهــا وات َّبــع ضــال ورشك املؤابيــن‪.‬‬
‫وجاء يف تفسري ابن كثري‪:‬‬ ‫ومــن املثــر لالنتبــاه أ َّن العبــارات الرئيســة مكتوبــة بالحــر‬
‫"هــو بلعــام ‪-‬ويُقــال‪ :‬بلعــم‪ -‬بــن باعــوراء‪ ،‬ابــن أبــر‪ .‬ويُقــال‪:‬‬ ‫األحمــر وتــ َّم وضــع إطــار للكتابــة كلهــا باللــون األحمــر‪.‬‬
‫ابــن باعــور بــن شــهوم بــن قوشــتم بــن مــاب بــن لــوط بــن‬ ‫والنقــش معــروض اليــوم يف متحــف األردن يف وســط‬
‫هــاران ‪-‬ويُقــال‪ :‬ابــن ح ـران‪ -‬بــن آزر‪ .‬وكان يســكن قريــة‬ ‫عــان‪.‬‬
‫العاصمــة ّ‬
‫مــن قــرى البلقــاء‪.‬‬ ‫وقــد وردت قصــة بلعــام بــن باعــور يف القــرآن الكريــم يف‬
‫قــال ابــن عســاكر‪ :‬وهــو الــذي كان يعــرف اســم اللــه‬ ‫قولــه تعــاىل يف ســورة األعــراف اآليــة (‪:)175-176‬‬
‫األعظــم‪ ،‬فانســلخ مــن دينــه‪ ،‬لــه ذكــر يف القــرآن‪ .‬ثــم أورد‬ ‫(واتْـ ُـل َعلي ِهــم نَبَـأَ الــذي آتينــا ُه آياتِنــا فانســل َخ ِم ْنهــا فأتب َعــه‬
‫مــن قصتــه نح ـ ًوا مـ ّـا ذكرنــا هــا هنــا‪ ،‬وأورده عــن وهــب‬ ‫الشَّ ــيطان فــكا َن ِمــ ْن الغَاويــ َن* ولَــ ْو ِشــئ َنا ل َرفَ ْعنــاه بِهــا‬
‫وغــره‪ ،‬واللــه أعلــم‪ .‬وقــال محمــد بــن إســحاق بــن يســار‬ ‫ولك ّنــه أ ْخلَ ـ َد َإل ِ‬
‫األرض وات ّبــع َه ـ َوا ُه فَ َمثَلُــه ك َمثَــلِ الكَلــب‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪85‬‬

‫عــن ســامل أيب النــر؛ أنــه حـ َّدث‪ :‬أ َّن مــوىس‪ ،‬عليــه الســام‪،‬‬
‫ملّــا نــزل يف أرض بنــي كنعــان مــن أرض الشــام‪ ،‬أىت قــوم بلعام‬
‫إليــه فقالــوا لــه‪ :‬هــذا مــوىس بــن عمـران يف بنــي إرسائيــل‪،‬‬
‫قــد جــاء يُخرجنــا مــن بالدنــا ويقتلنــا ويحلّهــا بنــي إرسائيــل‪،‬‬
‫وإنّــا قومــك‪ ،‬وليــس لنــا منــزل‪ ،‬وأنــت رجــل ُمجــاب الدعــوة‪،‬‬
‫ـي اللــه معــه‬ ‫فاخــرج فــاد ُع اللــه عليهــم‪ .‬قــال‪ :‬ويلكــم! نبـ ّ‬
‫املالئكــة واملؤمنــون‪ ،‬كيــف أذهــب أدعــو عليهــم‪ ،‬وأنــا أعلــم‬
‫مــن اللــه مــا أعلــم؟! قالــوا لــه‪ :‬مــا لنــا مــن منــزل! فلــم‬
‫رضعــون إليــه‪ ،‬حتــى فتنــوه فافتُــن‪،‬‬ ‫يزالــوا بــه يرقِّقونــه ويت َّ‬
‫فركــب حــارة لــه متوج ًهــا إىل الجبــل الــذي يطلعــه عــى‬
‫فلــا ســار‬
‫عســكر بنــي إرسائيــل‪ ،‬وهــو جبــل حســبان‪ّ ،‬‬
‫عليهــا غــر كثــر‪ ،‬ربضــت بــه‪ ،‬فنــزل عنهــا فرضبهــا‪ ،‬حتــى‬
‫إذا أذلقهــا قامــت فركبهــا‪ .‬فلــم تــر بــه كثـ ًرا حتــى ربضــت‬
‫بــه‪ ،‬فرضبهــا حتــى إذا أذلقهــا أذن اللــه لهــا فكلّ َمتــه ح ّجــة‬
‫عليــه‪ ،‬فقالــت‪ :‬ويحــك يــا بلعــم‪ :‬أيــن تذهــب؟ أمــا تــرى‬
‫ـي‬‫املالئكــة أمامــي تــر ّدين عــن وجهــي هــذا؟ أتذهــب إىل نبـ ّ‬
‫اللــه واملؤمنــن لتدعــو عليهــم؟ فلــم ينــزع عنهــا يرضبهــا‪،‬‬
‫فخــى اللــه ســبيلها حــن فعــل بهــا ذلــك‪ .‬فانطلقــت بــه‬
‫حتــى إذا أرشفــت بــه عــى رأس حســبان‪ ،‬عــى عســكر‬
‫مــوىس وبنــي إرسائيــل‪ ،‬جعــل يدعــو عليهــم‪ ،‬وال يدعــو‬
‫رضيح الصحايب ا ٔبو عبيدة‬
‫ِــر ّإل رصف اللــه لســانه إىل قومــه‪ ،‬وال يدعــو‬ ‫عليهــم ب َ ٍّ‬
‫رصف لســانه إىل بنــي إرسائيــل‪ .‬فقــال لــه‬ ‫لقومــه بخ ـرٍ إال َ‬
‫رضيح الصحايب أبوعبيدة عامر بن الجراح‬
‫قومــه‪ :‬أتــدري يــا بلعــم مــا تصنــع؟ إنَّ ــا تدعــو لهــم‪ ،‬وتدعــو‬
‫يف ديــر عــا وغــر بعيــد عــن التــل‪ ..‬وبضيافــة "الطّــل"‬
‫علينــا! قــال‪ :‬فهــذا مــا ال أملــك‪ ،‬هــذا يشء قــد غلــب اللــه‬
‫الــذي أثــار عطــر األرض وتــراب األطهــار مــن ســاكنيها؛‬
‫عليــه! قــال‪ :‬واندلــع لســانه فوقــع عــى صــدره‪ ،‬فقــال لهــم‪:‬‬
‫نــزور رضيــح الصحــايب الجليــل (أمــن األمــة) وأحــد العــرة‬
‫قــد ذهبــت م ّنــي اآلن الدنيــا واآلخــرة‪ ،‬ومل يبــق إال املكــر‬
‫املبشيــن بالجنــة أبوعبيــدة عامــر بــن الجـراح؛ املولــود عــام‬
‫َّ‬
‫والحيلــة‪ ،‬فســأم ُك ُر لكــم وأحتــال‪ ،‬ج ِّملــوا النســاء وأعطوهــن‬
‫‪ 40‬قبــل الهجــرة‪584 /‬م‪ ،‬وكان مــن أوائــل املؤمنــن بدعــوة‬
‫الســلع‪ ،‬ثــم أرســلوهن إىل العســكر يبعنهــا فيــه‪ ،‬و ُمرو ُه ـ ّن‬ ‫ِّ‬
‫رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم‪ ،‬هاجــر إىل الحبشــة‪ ،‬ثــم‬
‫فــا متنــع امــرأة نفســها مــن رجــل أرادهــا‪ ،‬فإنهــم إ ْن زىن‬
‫إىل املدينــة املنـ ّورة‪ ،‬وشــهد مــع النبــي غــزوة بــدر واملشــاهد‬
‫رجــل منهــم واحــد كفيتموهــم‪ ،‬ففعلــوا"‪.‬‬
‫‪86‬‬

‫اسرتاحة طبقة فحل‬

‫األثريــة (نســبة إىل بيــا مســقط رأس اإلســكندر املقــدوين)‬ ‫كلهــا‪ ،‬وكان م ّمــن ثبتــوا يف ميــدان املعركــة عندمــا بوغــت‬
‫بحقبهــا الزمنيــة املمتــدة مــن العــر الحجــري ‪6000‬ق‪.‬م‬ ‫املســلمون بهجــوم املرشكــن يــوم أُحــد‪ ،‬وكان أحــد القــادة‬
‫وصــول إىل الفــرات اإلســامية‪..‬‬
‫ً‬ ‫األربعــة الذيــن عيّنهــم أبوبكــر ريض اللــه عنــه لفتــح بــاد‬
‫األرض ذات األرض‪ ..‬ويف األفــق الغــريب تبــدو بيســان‬ ‫الشــام‪ ،‬وقــد نجــح يف فتــح دمشــق وغريهــا مــن مــدن الشــام‬
‫(ســكيثوبوليس)‪ ،‬املطــر يغســل الكــون‪ ،‬يبــدو الفضــاء‬ ‫وقراهــا‪ .‬وتــويف عــام ‪18‬هـــ‪639/‬م بســبب طاعــون عمــواس‬
‫شــهي‬
‫ٌّ‬ ‫املســكون بأنشــودة الخلــق األوىل‪ ..‬املــاء والطــن‬ ‫يف غــور األردن و ُدفــن فيــه‪.‬‬
‫طــازج‪ ..‬كرغيــف خبــز ســاخن‪ ..‬عــى الرغــم مــن هبّــات‬ ‫ٌ‬
‫الهــواء البــارد واملطــر‪ ..‬نحمــل صحوننــا ونتّجــه إىل رشفــة‬ ‫طبقة فحل‪ /‬بيال‬
‫االســراحة لنتنــاول طعــام اإلفطــار ونحــن نرتشــف مبــلء‬ ‫بوصلــة املســار تتَّجــه نحــو الشــال‪ ..‬يــزداد الــرد ويشــتد‬
‫حواســنا بهــاء املــكان‪ ،‬تلفحنــا ريــاح الطبيعــة اآلرسة عــى‬ ‫املطــر يف طريقنــا إىل طبقــة فحــل أو "بيــا" إحــدى مــدن‬
‫مــرأى مــن باقــات الغيصــان التــي تراقصــت كقيثــارة فضيّــة‬ ‫ِحلــف الديكابوليــس)(‪ ،)2‬نصــل اســراحة طبقــة فحــل‬
‫تحــت املطــر!‬ ‫املقامــة عــى منطقــة مرتفعــة ومرشفــة عــى أطــال بيــا‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪87‬‬

‫بيت الفنان كام يبدو من اسرتاحة طبقة فحل‬ ‫بعض املعامل االٔثرية يف طبقة فحل‬

‫بيت الف ّنان‬


‫تو َّجهنــا إىل نــادي الشــيخ حســن حيــث رعــت وزيــرة الثقافــة‬ ‫بيــت الف ّنــان(‪ ...)3‬وحــده عــى ســفح‬‫وغــر بعيــد يظهــر ُ‬
‫هيفــاء النجــار احتفــال النــادي مبناســبة العيــد الســتني مليــاد‬ ‫الجبــل‪ ،‬وكأنــه هــارب مــن إحــدى الحكايــات‪ ..‬تغــازل‬
‫جاللــة امللــك عبداللــه الثــاين ابــن الحســن حفظــه اللــه‪ ،‬وتــ َّم‬ ‫ســتائره ال َّنســات‪.‬‬
‫تقديــم العــروض الفن ّيــة الفلكلوريّــة الشــعب ّية التــي أ ّداهــا عــدد‬ ‫تبــدو فكــرة حجــز هــذا البيــت للمبيــت ُمغريــة وغــر‬
‫مــن بنــات وأبنــاء املنطقــة املوهوبــن‪.‬‬ ‫تقليديّــة وهــي ُمتاحــة فعـ ًـا ملــن يرغــب باملبيــت يف بيــت‬
‫ريفــي مبنــي يد ًّويــا مــن الطّــن‪ ،‬مــع إطاللــة مدهشــة عــى‬
‫البيئي‬
‫ّ‬ ‫متن َّزه األردن‬ ‫وادي األردن وبيســان‪.‬‬
‫محطّــة املســار األخــرة كانــت يف متنـ ّزه األردن البيئــي الــذي ميتــد‬ ‫ويف مركــز ز ّوار طبقــة فحــل تج َّولنــا يف معــرض ِ‬
‫للحــ َرف‬
‫عــى مســاحة ‪ 216‬دومنًــا مــن البيئــة املتن ِّوعــة ويضــم ضمــن‬ ‫والصناعــات اليدويّــة مــن صنــع أبنــاء املجتمــع املحـ ّـي‪ .‬ثــم‬
‫‪88‬‬

‫املسار املؤدي إىل سد زقالب‬


‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪89‬‬

‫متنزه االٔردن البي ٔيي‬

‫حــدوده ســد زقــاب (رشحبيــل بــن حســنة ســابقًا) وهــو أ َّول ســد‬
‫يف األردن؛ حيــث تــم إنشــاؤه عــام ‪ .1960‬ويقــع املتنـ ّزه يف الجــزء‬
‫الشــايل لــوادي األردن (األغــوار الشــالية) ويتبــع محافظــة إربــد؛‬
‫ـرب األغنــام‪ .‬ويحافــظ عــى األنواع‬ ‫وهــو ُمحــاط باملـزارع والبــدو مـ ّ‬
‫النباتيــة والحيوانيــة يف املنطقــة‪ ،‬ويوفــر للســياح فرصــة لالســتمتاع‬
‫بجــال الطبيعــة مــن خــال املبيــت يف األكــواخ‪ ،‬أو التخييــم ال ُحـ ّر‬
‫عــى أرض املتن ـ ّزه‪ ،‬ومامرســة رياضــة املــي يف مســارات باذخــة‬
‫الجــال كاملســار املــؤ ّدي إىل ســد زقــاب؛ حيــث بهــاء الطبيعــة‬
‫اآلرس‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ .1‬تل صناعي‪ :‬أي أنه ليس تلًّ طبيع ًّيا؛ إنَّ ا تك ّون جراء تراكم طبقات االستيطان البرشي عرب‬
‫العصور‪.‬‬
‫‪ .2‬حلف الديكابوليس‪ :‬أنشأه اإلمرباطور الروماين بومبي عام ‪64‬ق‪.‬م‪ ،‬لغايات تنظيمية‬
‫سياسية‪ ،‬وتعني "ديكا" العرش‪ ،‬أما "بوليس" فتعني املدن‪ ،‬ومنها‪ :‬جراسا (جرش)‪ ،‬وفيالدلفيا‬
‫(عمن)‪ ،‬جدارا (أم قيس)‪ ،‬كانثا (أم الجامل)‪ ،‬سكيثوبوليس (بيسان)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سد زقالب‬
‫خمش عام ‪ ،1994‬وتم‬ ‫عمر ّ‬ ‫‪ .3‬بيت الف ّنان‪ :‬بناه وص ّممه الفنان املعامري األردين الشهري ّ‬
‫بناؤه يدويًا بالطرق التقليديّة باستخدام الطني عىل الجدران الخارجية واإلسمنت والحجر‬
‫الجريي من الداخل‪.‬‬
‫‪90‬‬

‫العنارص الزخرف ّية بقرص املشتى‬


‫محمد محمود فايد*‬

‫ملّــا كانــت الدولــة األمويّــة‪ ،‬قــد ات َّخــذت مــن بــاد الشــام‪ ،‬التــي كانــت تابعــة للدولــة البيزنط ّيــة مــن قبــل‪ ،‬مرك ـ ًزا‬
‫إلقامتهــا‪ ،‬فقــد كان مــن الطبيعــي أن يكــون الف ـ ّن البيزنطــي أكــر تأث ـ ًرا عــى الف ـ ّن اإلســامي يف العــر األمــوي‪،‬‬
‫ومــع ذلــك فــإ َّن الف ّنــان املســلم بعــث األســلوب الزخــريف بعثًــا جديـ ًدا‪ ،‬فبــدا يف ثــوب مــن الجــال مل ي ُكــن ليوجــد‬
‫مــن قبــل‪ .‬وتُعتــر الزخــارف املحفــورة عــى حجــارة قــر املشــتى يف األردن أقــدم النــاذج التــي وصلتنــا مــن الحفــر‬
‫اإلســامي‪ .‬وتجــدر اإلشــارة إىل أ َّن واجهــة القــر نُقلــت إىل قســم الفنــون اإلســام ّية يف متحــف الدولــة بربلــن‪ ،‬والتــي‬
‫كان اإلمرباطــور األملــاين "فلهلــم الثــاين" قــد نقلهــا خــال زيارتــه لبــاد الشــام‪ ،‬بعــد أن أهداهــا لــه الســلطان العثــاين‬
‫عبدالحميــد بنــاء عــى توصيــة مــن العــامل "سرتيجفســي" عــام ‪1903‬م‪.‬‬

‫جميــع الفنــون‪ ،‬كالفسيفســاء‪ ،‬والزخرفــة‪ ،‬ونحــت التامثيــل‪،‬‬ ‫بانتهــاء عــر الخلفــاء الراشــدين‪ ،‬انتقلــت الخالفــة العربيــة‬
‫والرســوم املائيــة‪ ،‬والحفــر عــى الزجــاج والخشــب والعــاج‬ ‫اإلســامية إىل العــر األمــوي عــام ‪40‬هـــ‪660 /‬م ومق ّرهــا‬
‫والرخــام والجــص والحجــر‪ .‬فضـ ًـا عــن شــمول موضوعاتهــا‬ ‫الشــام التــي اســر َّدت مــا أضاعتــه مــن ال َّرخــاء منــذ زمــن‬
‫ملختلــف أوجــه الحيــاة االجتامعيــة‪.‬‬ ‫طويــل؛ وأضفــي عــى الدولــة طابــع العظمــة واألبَّهــة مبــا‬
‫شـيَّده الخلفــاء مــن قصــور ومنشــآت تليــق بالعــرب؛ حيــث‬
‫التشكيل املعامري‬ ‫الرقــي عــى طريــق الحضــارة‬ ‫ّ‬ ‫بلغــت درجــة رفيعــة مــن‬
‫يقــع قــر املشــتى يف األردن يف لــواء الجيــزة عــى مســافة‬ ‫باالعتــاد عــى املعامريــن والفنانــن مــن أهــل البــاد‪ ،‬وذلك‬
‫حــوايل ‪ 32‬كــم جنــوب رشق مدينــة عـ ّـان‪ .‬اكتشــفه "اليــارد"‬ ‫يف إطــار مــن فلســفة العقيــدة الجديــدة‪ ،‬والطُّــرز األمويّــة‬
‫‪ Layard‬عــام ‪1840‬م‪ ،‬وقــام بدراســته‪ ،‬فيــا بعــد‪" ،‬تريــس‬ ‫الناشــئة‪ ،‬والتــي ســادت معظــم البــاد اإلســامية لثالثــة‬
‫تــان" ‪ .Tris Tan‬نســب القــر يف البدايــة إىل يزيــد بــن‬ ‫فضــا عــن تأثرياتهــا املختلفــة يف فنــون املعــار‬ ‫ً‬ ‫قــرون‪.‬‬
‫عبدامللــك (‪105 101-‬هـــ‪723 719- /‬م)‪ ،‬ولكــن أثبــت بعــض‬ ‫ونظــم التشــييد والبنــاء رشقًــا وغربًــا‪.‬‬
‫العلــاء باألدلّــة‪ ،‬نســبته إىل الوليــد بــن يزيــد بــن عبدامللــك‬
‫(الوليــد الثــاين) (‪125-126‬هـــ‪743-744 /‬م) نظــ ًرا لوجــود‬ ‫ويعتــر قــر املشــتى مــن أهــم اآلثــار الباقيــة التــي مل تــزل‬
‫فضــا عــن العثــور بــه عــى نــص‬ ‫ً‬ ‫محــراب للصــاة فيــه‪،‬‬ ‫رقــي الفــن املعــاري العــريب‪ ،‬وهــو يــدرج‬ ‫تشــهد عــى ّ‬
‫تاريخــي يؤكــد نســبته إليــه‪.‬‬ ‫ضمــن قامئــة القصــور الثالثــن املهمــة التــي أقيمــت يف بــاد‬
‫الشــام بالعــر األمــوي‪ ،‬ومنهــا‪ :‬الحــر الغــريب‪ ،‬والرشقــي‪،‬‬
‫ُص ِّمــم القــر عــى شــكل مربَّــع طــول ضلعــه ‪144‬م‪ ،‬وبُنــي‬ ‫وطوبــة‪ ،‬والخزانــة‪ ،‬وخربــة املفجــر‪ ،‬وخربــة املنيــة‪ ،‬وعمــرة‪.‬‬
‫الســور مــن األحجــار الجرييّــة وتوجــد عنــد أركانــه األربعــة‬ ‫حيــث اكتشــفت فيهــا‪ ،‬الكثــر مــن اآلثــار التــي تشــمل‬

‫*باحث يف الثقافة الشعبية والفنون‪ -‬مرص‬


‫‪mohamed_fyd@yahoo.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪91‬‬
‫‪92‬‬

‫املدخل الثاليث إىل قاعة العرش‬

‫‪-‬الجنــاح األوســط‪ :‬وينقســم بــدوره إىل ثالثة أقســام‪ :‬القســم‬ ‫أب ـراج مســتديرة‪ .‬يدعمــه ويزيــد متاســكه‪ ،‬وجــود ‪ 25‬بر ًجــا‬
‫الشــايل‪ ،‬والقســم الجنــويب‪ ،‬ويضـ ّـان األبنيــة الرئيســة‪ .‬أ ّمــا‬ ‫دائــري‪ .‬وهــو يشــبه قــر عنجــر بلبنــان‪ ،‬ومــن‬
‫ّ‬ ‫نصــف‬
‫القســم املتوســط‪ ،‬فيشــكل صحــن أو ســاحة مكشــوفة‪.‬‬ ‫التامثــل يبــدو أكــر وضو ًحــا مبقارنتــه مــع قــر "خربــة‬
‫‪ -‬الجناح الشاميل‪ :‬كان مق ًّرا للخليفة‪.‬‬ ‫املفجــر" بالقــرب مــن أريحــا‪ ،‬والــذي يرجــع بنــاؤه إىل عــام‬
‫‪743‬م بحســب مــا ذكــره "هاملتــون"‪.‬‬
‫‪ -‬أ ّمــا الجنــاح الجنــويب‪ :‬فيتكــ َّون مــن ممــ ّرات وغــرف‬
‫ومســجد‪ ،‬ويحتــوي عــى املدخــل الوحيــد الــذي تزيّنــه مــن‬ ‫ميتــاز قــر املشــتى بتقســيامته املعامريــة‪ ،‬ومعاملــه‬
‫الخــارج واجهــة مزخرفــة‪.‬‬ ‫وزخارفــه الفنيــة املختلفــة‪ ،‬وينقســم املبنــى الرئيــس إىل‬
‫ثالثــة أجنحــة‪:‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪93‬‬

‫مثــل‪ :‬التعبــر بــاألوراق الثالثيــة‪ ،‬ومثــار الر ّمــان والفراولــة‪،‬‬ ‫تنتهــي األجنحــة الثالثــة‪ ،‬بقاعــة العــرش املــز َّودة بثــاث‬
‫ورمزيّتهــا إىل أشــجار ومثــار الحيــاة يف الفــن الساســاين‪.‬‬ ‫حنايــا كبــرة نصــف دائريــة‪.‬‬
‫وتعتــر هــذه الخصائــص والوحــدات‪ ،‬مــن ضمــن مــا قــام‬ ‫يشــبه مخطَّــط "املشــتى"‪ ،‬مخطــط قــر "الطوبــة" الــذي‬
‫عليــه فــن الزخرفــة اإلســامية يف العــر األمــوي‪ ،‬وذلــك‬ ‫يعــود إىل التاريــخ نفســه‪ ،‬وف ًقــا لـ"كريزويــل"‪ ،‬لكــن بأبعــاد‬
‫مثلــا حــدث يف إبــداع‪ :‬فسيفســاء قبــة الصخــرة‪ ،‬والجامــع‬ ‫صغــرة‪ .‬وهــو مــن القصــور الحصينــة بأســواره وأبراجــه‪،‬‬
‫األمــوي بدمشــق‪ ،‬ويف رســوم الفريســكو بقــر عمــرة‪ ،‬ويف‬ ‫حيــث انتقلــت هــذه الصفــة (الحصينــة) يف القصــور‬
‫قــر الحــر الغــريب‪ ،‬ويف الزخــارف الحجريّــة بواجهــة قــر‬ ‫العربيّــة بشــخصيّتها املعامريــة األصيلــة إىل الحصــون‬
‫املشــتى‪.‬‬ ‫واألبنيــة املعامريــة الغربيّــة عــن طريــق الحــروب الصليبيــة‪،‬‬
‫وملّــا كانــت الدولــة األمويّــة‪ ،‬قــد اتَّخــذت مــن بــاد الشــام‪،‬‬ ‫فضـ ًـا عــن أنَّهــا "كانــت قــد تجلَّــت يف بنــاء الرباطــات غربًــا‪،‬‬
‫التــي كانــت تابعــة للدولــة البيزنط ّيــة مــن قبــل‪ ،‬مركــ ًزا‬ ‫ووضحــت يف حصــن كاســتيلليجو دو مــريس (مرســيه) الــذي‬
‫إلقامتهــا‪ ،‬فقــد كان مــن الطبيعــي أن يكــون الفــن البيزنطــي‪،‬‬ ‫يرجــع تاريخــه إىل القــرن الحــادي عــر والثــاين عــر‪.‬‬
‫أكــر تأث ـ ًرا عــى الفــن اإلســامي يف العــر األمــوي‪ .‬وعــى‬ ‫ويصــل إىل هــذا الشــكل أيضً ــا‪ ،‬قســم مــن قــر الحم ـراء‬
‫ال ّرغــم مــن أ َّن الفنــان املســلم‪" ،‬مل يكــن مبتد ًعــا للوحــدات‬ ‫كان قــد أنشــأه امللــك محمــد الخامــس (‪1391 1353-‬م)"(‪.)1‬‬
‫والقيــم واألشــكال النباتيــة والحيوانيــة والهندســية‪ّ ،‬إل أنــه‬ ‫بُنيــت جــدران قــر املشــتى مــن الطــوب املشــوي مثــل‬
‫ال ســبيل إىل إنــكار مقدرتــه يف طريقــة رســمها‪ ،‬وتوزيعهــا‬ ‫جــدران قــر الطوبــة‪ .‬فضـ ًـا عــن وجــود بعــض العنــارص‬
‫والتأليــف بينهــا وتنســيقها تنســيقًا تبــدو معــه وكأنهــا‬ ‫الفنيــة والزخــارف التــي تشــبه زخــارف قبّــة الصخــرة‪.‬‬
‫أبدعــت أل َّول مــ َّرة‪ ،‬حيــث وصــل إىل املهــارة يف ذلــك‬
‫مــن خــال تقســيمه وتحليلــه لهــا‪ ،‬فــكان تــارة يرســمها‬ ‫األساليب الفن ّية‬
‫متشــابكة‪ ،‬وتــارة ثانيــة متداخلــة‪ ،‬وتــارة ثالثــة متالحقــة‪،‬‬ ‫تــكاد تكــون العنــارص الزخرفيــة الهندســية والنباتيــة‬
‫ورابعــة متباعــدة"(‪.)2‬‬ ‫والحيوانيــة‪ ،‬واحــدة يف جميــع الفنــون‪ ،‬لكنهــا تختلــف يف‬
‫األســاليب الفنيــة والتطبيقيــة التــي يعالــج بهــا الفنــان كل‬
‫ومــن ثــم‪ ،‬نســتطيع أن نقــول‪ :‬إ َّن هــذا األســلوب الزخــريف‪،‬‬ ‫عنــر منهــا‪ ،‬وذلــك‪ ،‬طبقــا لطبيعــة العــر واألمكنــة التــي‬
‫قــد بعثــه الفنــان املســلم بعثًــا جدي ـ ًدا‪ ،‬فبــدا يف ثــوب مــن‬ ‫عــاش فيهــا‪ .‬حيــث قــام الفــن اإلســامي عــى أســس مــن‬
‫الجــال مل يكــن ليوجــد مــن قبــل‪ .‬وقــام برســم األشــجار‬ ‫الفنــون البيزنطيــة والساســانية‪ ،‬ومتيَّــز ببعــض خصائصهــا‬
‫واألزهــار واألوراق والثــار والطيــور والحيوانــات بعــد‬ ‫التــي لعـ َّـل مــن أه ّمهــا‪:‬‬
‫تحويرهــا تحوي ـ ًرا كادت تفقــد معــه شــخص ّيتها‪ .‬كــا ن َف ـ َر‬
‫مــن وجــود فراغــات عــى ســطح زخارفــه‪ ،‬فقــام بتكــرار‬ ‫‪ -‬امتيــاز وحــدات الزخــارف النباتيــة مبحــاكاة الطبيعــة‪،‬‬
‫معــن‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الوحــدات الزخرفيــة دون أن يتوقَّــف عنــد حــ ّد‬ ‫مثــل‪ :‬كــوز الصنوبــر‪ ،‬وعناقيــد العنــب يف الفــن البيزنطــي‪.‬‬
‫بحيــث ال متلّهــا العيــون‪.‬‬ ‫‪ -‬امتيــاز الوحــدات النباتيــة مبحــاكاة الطبيعــة‪ ،‬والرتميــز بهــا‪،‬‬
‫‪94‬‬

‫جدران داخلية من الطوب املشوي‬

‫أقدم منوذج إسالمي‬


‫نُقلــت واجهــة القــر إىل قســم الفنــون اإلســامية يف‬ ‫تُعتــر الزخــارف املحفــورة يف الحجــر الجــري بالواجهــة‬
‫متحــف الدولــة بربلــن‪ ،‬والتــي كان اإلمرباطــور األملــاين‬ ‫القبليّــة لقــر املشــتى والتــي يقــع بهــا املدخــل‪ ،‬أعظــم‬
‫"فلهلــم الثــاين" قــد نقلهــا خــال زيارتــه لبــاد الشــام‪ ،‬بعــد‬ ‫مــا يف القــر مــن الناحيــة الفنيــة‪ ،‬و"أقــدم النــاذج التــي‬
‫أن أهداهــا لــه الســلطان العثــاين عبدالحميــد بنــاء عــى‬ ‫وصلتنــا مــن الحفــر اإلســامي‪ ،‬حيــث تشــتمل عــى أشــكال‬
‫توصيــة مــن العــامل "سرتيجفســي" عــام ‪1903‬م‪ ،‬حيــث تـ َّم‬ ‫حيوان ّيــة ونبات ّيــة وهندسـ ّية"(‪ ،)3‬وهــي تختلــف عــن زخــارف‬
‫افتتــاح املتحــف عــام ‪1932‬م‪ ،‬وأعيــد ترميمــه بعــد الحــرب‬ ‫الجــص النافــرة بقــر خربــة املفجــر‪ .‬حيــث يتَّضــح منهــا‪،‬‬
‫بــإرشاف العــامل "كونــل"‪.‬‬ ‫التأثــر الكبــر بالفنــون الساســانية مــن جهــة‪ ،‬والفنــون‬
‫يبلــغ ارتفــاع الواجهــة الحجريّــة الشــهرية ســتة أمتــار‪ ،‬ومل‬ ‫الهلينيــة والبيزنطيــة مــن جهــة أخــرى والتــي كانــت ســائدة‬
‫تــزل محفوظــة بحالــة جيــدة حتــى اآلن‪ ،‬ومتتــاز بكثافــة‬ ‫يف بــاد الشــام‪ ،‬عــدا عــن أ َّن هــذه األعــال كانــت مــن ُص ْنــع‬
‫زخارفهــا التــي تحتــوي عــى نوعــن مــن النحــت الزخــريف‪،‬‬ ‫ســكّان البــاد األصليّــن الذيــن دخلــوا اإلســام أو الذيــن‬
‫هــا‪:‬‬ ‫اســتم ّروا عــى دينهــم‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪95‬‬
‫‪96‬‬

‫مقطع من الحجر الجريي للواجهة الجنوبية‬


‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪97‬‬

‫املنطقــة إىل قســمني‪ -‬اقتصــار األشــكال عــى الطــر فيــا‬ ‫‪ -‬النحــت املُجــ َّرد‪ :‬وهــو عبــارة عــن أشــكال نباتيــة أو‬
‫عــدا القطعــة ذات الــرأس البــري يف رأس املثلــث‪ -‬امتــاء‬ ‫هندســية مجــردة‪ .‬وهــذا النــوع‪ ،‬يعتــر مــن الزخــارف التــي‬
‫مثلثــي الجــزء األســفل‪ ،‬بأربــع دوائــر متامســكة وتســع‬ ‫متثــل بدايــة الرقــش العــريب ‪.Arabesque‬‬
‫متقاطعــة بالرتتيــب‪.‬‬
‫‪ .2‬ســبعة مثلثــات فيهــا حيوانــان متجابهــان‪ ،‬بعــض منهــا‬ ‫‪ -‬أ ّمــا النحــت املشــ ّبه‪ :‬فهــو يحــايك‪ ،‬يف أســلوبه وطريقــة‬
‫خ ـرايف‪.‬‬ ‫تنفيــذه‪ ،‬بعــض العنــارص والطيــور والحيوانــات‪.‬‬
‫‪ .3‬مثانيــة مثلثــات تســودها لفائــف الكرمــة‪ ،‬وهــي نباتيــة‬ ‫وهــذه الواجهــة‪" ،‬تغطــي القســم األمامــي للبنــاء األ َّول الذي‬
‫فقــط‪.‬‬ ‫يتض َّمــن الب ّوابــة الرئيســة‪ .‬ويتألــف هــذا القســم مــن برجــن‬
‫‪ .4‬مثلثــان خليــط عجيــب من العنــارص الزخرفيــة املخروطية‬ ‫دائريّــن وبرجــن مضلّعــن (‪ 5‬أضــاع) وبينهــا جــدران عــى‬
‫لكيـزان الصنوبر‪ ،‬والنخيــات املج ّنحة"(‪.)6‬‬ ‫جبهــة عرضهــا ســتون مـ ًرا‪ .‬وتغطــي الزخرفــة جميــع أرجــاء‬
‫تختلــف زخــارف الجانــب األيــر عــن زخــارف الجانــب‬ ‫هــذه الواجهــة وبشــكل كثيــف ابتــداء مــن القاعــدة ‪47‬ســم‪،‬‬
‫األميــن‪ .‬و"يــرى كريزويــل‪ ،‬أ َّن نــوع الزخرفــة يف القســم‬ ‫ثــم العتبــة ‪ ،1,28‬ثــم ألــواح الجــدار ‪2,95‬ســم يعلــوه طبــان‬
‫األميــن مــن البوابــة يختلــف عــن الزخرفــة يف القســم األيــر‪،‬‬ ‫‪90‬ســم‪ .‬وتتألــف ألــواح الواجهــة مــن مســاحات مثلثــة‪،‬‬
‫وأنهــا نتيجــة مدرســتني فنيتــن مختلفتــن"(‪ .)7‬أ ّمــا املثلثــات‬ ‫يحــد ضلعيهــا املتســاويني إطــار زخــريف ممتــد ومتصــل‬
‫التــي تقســم الواجهــة‪ ،‬ســواء القائــم منهــا عــى قاعدتــه‪ ،‬أو‬ ‫عــى طــول الجبهــة بشــكل منكــر‪ ،‬وكل مثلــث يحفــل‬
‫عــى إحــدى زوايــاه‪ ،‬فقــد نقــش يف وســط كل منهــا شــكل‬ ‫بالزخــارف النباتيــة والحيوانيــة‪ ،‬ويف وســطه زهريــة كبــرة‬
‫زخــريف ميثــل وردة يف قلبهــا رســمت مـراوح نخيل ّيــة‪ ،‬وكيـزان‬ ‫مــن ســت حنيــات يف املثلثــات القامئة إىل أســفل‪ ،‬أو مســدس‬
‫صنوبــر‪ ،‬ونجــوم صغــرة‪ ،‬وأزهــار لوتــس‪ .‬حيــث تعــود‬ ‫زخــريف يف املثلثــات القامئــة إىل أعــى"(‪ .)4‬يُال َحــظ أ َّن تصاميــم‬
‫"األهميــة الكبــرة للقــر إىل روعــة الزخــارف التــي تحـ ّـي‬ ‫زخرفتهــا‪" ،‬تختلــف مــن جهــة إىل أخــرى‪ ،‬فبينــا نجــد بعــض‬
‫واجهتــه‪ ،‬فهــي ترتفــع إىل نحــو ســتة أمتــار‪ ،‬فــوق قاعــدة‬ ‫التصاميــم الزخرفيــة متأثــرة بالساســانية‪ ،‬مثــل‪ :‬الحيوانــات‬
‫مقســم‬
‫منخفضــة‪ ،‬وســطح الجــدار األوســط لهــذه الواجهــة َّ‬ ‫املتقابلــة واملتدابــرة‪ ،‬واألجنحــة املزدوجــة والشــمعدانات‪.‬‬
‫إىل مجموعــة مــن املثلثــات يقــوم بعضهــا عــى قاعدتــه‬ ‫فإننــا نجــد أيضً ــا‪ ،‬بعــض التصاميــم ذات الطابــع الهللينــي‪.‬‬
‫واآلخــر عــى زوايــا‪ ،‬وســط كل مثلــث مــن هــذه املثلثــات‬
‫زخرفــة عــى شــكل وردة يف قلبهــا رســوم نخيليّــة‪ ،‬وأزهــار‬ ‫ويزخرفهــا أيضً ــا‪ ،‬زخــارف حجريّــة عــى هيئــة مثلثــات مــا‬
‫اللوتــس‪ ،‬ونجــوم صغــرة"(‪.)8‬‬ ‫بــن معتدلــة ومقلوبــة‪ ،‬يف داخــل كل منهــا حفــر بــارز عــى‬
‫شــكل وردة‪ .‬فضـ ًـا عــن تداخــل واختــاط أســاليب الزخرفــة‬
‫يُال َحــظ أ َّن "املثلثــات القامئــة عــى قاعدتهــا قــد أنجــزت‪،‬‬ ‫الهلينيــة والساســانية والقبطيــة"(‪ ،)5‬وميكننــا بشــكل عــام‪،‬‬
‫أ ّمــا املثلثــات األخــرى فأغلــب أجزائهــا مل تنجــز‪ .‬وأ َّن‬ ‫"تقســيم هــذه الزخــارف إىل أربــع مجموعــات‪:‬‬
‫عــرة مــن املثلثــات خاليــة مــن رســوم الطــر والحيــوان‪،‬‬ ‫‪ .1‬ثــاث مجموعــات تتم ّيــز بالخصائــص التاليــة‪ :‬تقســيم‬
‫‪98‬‬

‫خاصــا بالشــخص ّية‬


‫الفنــي يف ضوئهــا‪ ،‬الس ـ ّيام إذا كان عمـ ًـا فن ًّيــا ًّ‬ ‫ويف بعضهــا رســوم زهــور مركّبــة‪ ،‬وم ـراوح نخيليــة وفــروع‬
‫وإل كانــت النتيجــة عمـ ًـا فوضويًّــا يخلــو مــن‬ ‫األوىل يف الدولــة‪ّ ،‬‬ ‫نباتيــة وعناقيــد عنــب‪ .‬ويوجــد يف ‪ 12‬مثلــث‪ ،‬رســوم طــر‬
‫أصــول ومق ّومــات ف ـ ّن الزخرفــة العــر ّيب‪.‬‬ ‫وحيوانــات طريفــة تخيُّليّــة‪ ،‬وحقيقيّــة"(‪ .)9‬أ ّمــا ظاهــرة‬
‫‪ -‬الثــاين‪ :‬إذا كان أمــر الفنــون مــروكًا دون دراســة‪ ،‬ملــا كانــت قــد‬ ‫االختالفــات الزخرفيــة يف تشــكيل واجهــة القــر‪ ،‬وعــدم‬
‫ظهــرت تلــك التشــكيلة امله ّمــة مــن األعــال الفن ّيــة بأســلوبها‬ ‫إمتــام الجانــب الــذي يحتــوي عــى أشــكال حيوان ّيــة‪ ،‬فقــد‬
‫اإلبداعــي املم َّيــز‪ ،‬وشــخص ّيتها الفن ّيــة املو َّحــدة‪ .‬يثبــت ذلــك‪ ،‬أنــه‬ ‫اختلــف علــاء اآلثــار يف تفســرها‪ .‬ويرجــح بعضهــم‪ ،‬قناعــة‬
‫عــى الرغــم مــن وجــود أعــال ال ت ُع ـ ُّد وال ت ُحــى مــن التحــف‬ ‫صاحــب القــر بتنفيــذ القســط األكــر مــن الزخــارف‬
‫الفنيــة‪ ،‬واآلثــار الزخرفيــة وأعــال التزيــن حتــى تلــك التــي اشــرك‬ ‫النباتيــة يف باقــي األجـزاء‪ ،‬لكراهيــة تصويــر الكائنــات الحيّــة‬
‫يف إبداعهــا فنانــن مــن بــاد عــدة‪ ،‬كانــت متكاملــة متامثلــة‪،‬‬ ‫يف اإلســام‪ .‬بينــا يــرى "هرتزفيلــد"‪ ،‬أ َّن الفــرق بــن الزخــارف‬
‫ومو َّحــدة لدرجــة الروعــة‪.‬‬ ‫باملثلثــات املختلفــة‪ ،‬يعــود إىل أ َّن الص ّنــاع مل يكونــوا مــن‬
‫يختــص مبــدى قناعــة الخليفــة (الوليــد الثــاين) بتحريــم‬ ‫ّ‬ ‫وفيــا‬ ‫جنــس واحــد‪ ،‬إذ اشــرك فيهــا ُص ّنــاع وفنانــن مــن ســوريا‬
‫التصويــر‪ ،‬فاملالحــظ أ َّن هنــاك أعــالً كان الفنانــون قــد شــارفوا‬ ‫والعـراق ومــر‪ .‬مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬يختلــف زكريــا رشيقــي‬
‫عــى االنتهــاء منهــا‪ ،‬فــإذا كان قــد اقتنــع بتحرميهــا الندفــع إىل‬ ‫مــع هــذه الرؤيــة‪ ،‬حيــث ال يعتربهــا ســب ًبا يف اختــاف‬
‫تدمريهــا أو إبعادهــا أو تغيريهــا مبــا هــو غــر محــ َّرم وليــس‬ ‫األشــكال الزخرف ّيــة نظــ ًرا لوجــود ســببني‪:‬‬
‫اإلبقــاء عليهــا‪ .‬خاصــة أ َّن الخلفــاء الذيــن ســبقوه‪ ،‬أو الذيــن جــاءوا‬
‫بعــده‪ ،‬مل يكــن لهــم مثــل هــذه املواقــف‪ ،‬وإلّ ملــا بقيــت لنــا هــذه‬ ‫‪-‬األ َّول‪ :‬أ َّن ذلــك يخالــف أصــول ومق ّومــات الزخرفــة العربيّة‬
‫املجموعــة مــن آثــار التامثيــل والتصاويــر اآلدم ّيــة والحيوان ّيــة مــن‬ ‫التــي قامــت عــى الوحــدة والتك ـرار والتامثــل مــن جهــة‪،‬‬
‫ـوي تحدي ـ ًدا‪.‬‬
‫العــر األمـ ّ‬ ‫الص ّنــاع والفنانــن‪ ،‬ال يعنــي أن يُــرك العمــل‬‫وأل َّن اختــاف ُ‬
‫الفنــي لــكل صانــع يعمــل فيــه بشــكل عشــوايئ ووفقًــا‬
‫ألهوائــه الشــخصيّة واملزاجيّــة وأســاليبه الفنيّــة‪ ،‬بــل عــادة‬
‫مــا كان يوجــد تنســيق معـ َّـن‪ ،‬وخطــة متكاملــة يتــم العمــل‬

‫الهوامش واملراجع واملصادر‪:‬‬

‫‪ .1‬د‪.‬عفيف بهنيس‪ :‬جاملية الفن العريب‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة‪ ،‬الكويت‪ ،1979 ،‬ص‪.137‬‬
‫‪ .2‬د‪.‬سعاد ماهر‪ :‬الفنون اإلسالمية‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪ ،2005 ،‬ص‪.321‬‬
‫‪ .3‬د‪ .‬حسن الباشا‪ :‬مدخل إىل اآلثار اإلسالمية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،1981 ،‬ص‪.244‬‬
‫‪ .4‬د‪ .‬عفيف بهنيس‪ :‬ص‪.58‬‬
‫‪ .5‬د‪.‬حسن الباشا‪ :‬ص‪.226‬‬
‫‪ .6‬زكريا رشيقي‪ :‬الفن العريب اإلسالمي الجذور واملؤثرات‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬الهيئة العامة السورية للكتاب‪ ،‬دمشق‪ ،2012 ،‬ص‪.380‬‬
‫‪ .7‬د‪.‬عفيف بهنيس‪ :‬الفن العريب اإلسالمي بداية تكوينه‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،1983 ،‬ص‪.160‬‬
‫‪ .8‬د‪ .‬عبدالعزيز حميد‪ ،‬ود‪.‬صالح العبيدي‪ ،‬الفنون اإلسالمية العربية‪ ،‬وزارة التعليم العايل‪ ،‬بغداد‪ ،1979 ،‬ص‪.66‬‬
‫‪ .9‬د‪.‬زيك محمد حسن‪ :‬فنون اإلسالم‪ ،‬دار الرائد العريب‪ ،‬بريوت‪ ،1998 ،‬ص‪.48،53‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪99‬‬

‫صورة األب يف رواية "جرس بضفة وحيدة"‬


‫للكاتبة هيا صالح‬
‫موىس إبراهيم أبو رياش*‬

‫مت َّيــزت روايــة "جــر بضفــة وحيــدة"‪ ،‬بالعمــق والتنـ ُّوع‪ ،‬وتعـ ُّدد مســتويات القـراءة‪ ،‬وطــرح أســئلة عاصفــة حــول املــوت‬
‫والتغــر وقــ ّوة اإليحــاء وقــراءة األفــكار‬
‫ُّ‬ ‫والحيــاة واملاورائ ّيــات والطاقــة واملوســيقى واألبــ ّوة والحــب والفــن والخيــال‬
‫والذكريــات وغريهــا مــن األســئلة واملوضوعــات الشــائكة‪ .‬وتســتعرض هــذه املقالــة صــورة األب يف ال ِّروايــة مــن خــال‬
‫النــاذج التــي تناولتهــا‪ ،‬وهــي‪ :‬األب الحنــون‪ ،‬واألب الغائــب‪ ،‬واألب املتس ـلِّط‪ ،‬واألب الفاســد‪.‬‬

‫"دفاتــر الــوراق" لجــال برجــس‪ ،‬وروايــة "خطــف الحبيــب"‬ ‫تُع ـ ُّد رابطــة األب ـ ّوة مــن أقــوى الروابــط اإلنســانية وأنبلهــا‬
‫لطالــب الرفاعــي‪ ،‬ومرسحيــة "امللــك لــر" لـ"شكســبري"‪،‬‬ ‫وأرشفهــا‪ ،‬وتحظــى بالقدســية يف كثــر مــن املجتمعــات؛‬
‫وغريهــا الكثــر يف الروايــة والقصــة والشــعر واألعــال‬ ‫فــاألب ســبب الوجــود ورب األرسة‪ ،‬والقــدوة والنمــوذج‬
‫املرسحيــة والســينامئية والتلفزيونيــة‪.‬‬ ‫األول‪ ،‬وهــو الســند والظهــر‪ ،‬واملــاذ الــذي يوفــر الحاميــة‬
‫وقــد بــرزت هــذه الرابطــة بشــكل الفــت يف روايــة "جــر‬ ‫واألمــان‪ ،‬ويقابــل باالحــرام والتقديــر‪ ،‬ويتســم بالهيبــة‬
‫بضفــة وحيــدة" لألديبــة األردنيــة هيــا صالــح؛ مــن خــال‬ ‫واإلجــال‪ .‬وهــي مــن الروابــط التــي توافقــت عليهــا األديــان‬
‫معظــم شــخوصها‪ ،‬إذ أشــارت الروايــة إىل هــذه العالقــة‬ ‫واملجتمعــات واألعــراق‪ ،‬وتتناغــم مــع الفطــرة اإلنســانية‪،‬‬
‫بإيجــاز أو إســهاب لــكل شــخصية فاعلــة فيهــا‪ .‬وقــد‬ ‫والقيــم األخالقيــة‪ ،‬والعــادات والتقاليــد التــي ينشــأ عليهــا‬
‫تفاوتــت منــاذج األبــوة يف الروايــة كث ـ ًرا‪ ،‬لتعـ ِّـر مبوضوعيــة‬ ‫البــر يف كل األزمــان واألماكــن عــى مــر التاريــخ‪ .‬وال‬
‫عــن منــاذج مجتمعيــة واقعيــة موجــودة‪ ،‬وتســتعرض هــذه‬ ‫يســتطيع اإلنســان التخــي عنهــا أو التنصــل منهــا؛ فهــي‬
‫املقالــة صــورة األب يف الروايــة مــن خــال النــاذج التــي‬ ‫رابطــة دم ال تنفــك وال تُســتبدل‪.‬‬
‫تناولتهــا‪:‬‬ ‫وقــد حظيــت رابطــة األب ـ ّوة والعالقــة بــن األبنــاء واآلبــاء‬
‫بحضــور كبــر يف اإلبــداع عــى مختلــف فنونــه وأشــكاله‪،‬‬
‫األب الحنون‬ ‫تأكيــ ًدا ألهميــة هــذه الرابطــة وتأثريهــا الكبــر والعميــق‬
‫وميثلــه يف الروايــة اثنــان‪" :‬صــاح" زوج "ســامية"‪ ،‬وأبوهــا‪.‬‬ ‫عــى مســرة األبنــاء‪ ،‬ســواء أكانــت هــذه العالقــة قويــة‬
‫أ ّمــا "صــاح" فهــو مهنــدس‪ ،‬مثقــف‪ ،‬يحــب زوجته "ســامية"‪،‬‬ ‫وإيجابيــة أم واهنــة وســلبية‪ .‬ومــن األعــال التــي تناولــت‬
‫ويتق َّبــل تقلباتهــا وغموضهــا وغرابــة ترصفاتهــا‪ ،‬وعالقتــه‬ ‫هــذه الرابطــة‪ :‬روايــة "األب" لـ"يــورج أكلــن"‪ ،‬ورواية "األب"‬
‫مثاليــة مــع طفليــه "خالــد" و"عمــر"؛ فــإذا انشــغلت زوجتــه‬ ‫لـ"دانيــال ســتيل"‪ ،‬وروايــة "األب الخالــد" لـ"بلـزاك"‪ ،‬وروايــة‬
‫ـر طفليــه للمدرســة‪ ،‬ويج ِّهــز حقائــب‬‫أو كانــت ُمت َعبــة‪ ،‬يحـ ِّ‬ ‫"أيــن نذهــب يــا بابــا؟" لـ"جــون لــوي فورنييــه"‪ ،‬وروايــة‬

‫* كاتب أردين‬
‫‪mosa2x@yahoo.com‬‬
‫‪100‬‬

‫هيا صالح‬

‫أنــه كان قــدوة ألطفالــه يف تقديــر ظــروف أمهــم‪ ،‬واملبــادرة‬ ‫الطعــام لهــا‪ ،‬ويوصلهــا إىل املدرســة‪ ،‬ويعيدهــا‪ ،‬وإذا‬
‫رصفاتهــا‪ ،‬بتف ُّهــم‬
‫بتخفيــف األعبــاء عنهــا‪ ،‬وتح ُّمــل تقلّباتهــا وت ُّ‬ ‫عــادا إىل البيــت برفقــة أمهــا يــرع بعناقهــا وتقبيلهــا‪،‬‬
‫ورحابــة صــدر‪.‬‬ ‫ويســاعدهام يف دراســتهام‪ ،‬ويــرف عــى عشــائهام قبــل‬
‫أ ّمــا والــد "ســامية"‪ ،‬فهــو معلــم للغــة العربيــة‪ ،‬فلســطيني‬ ‫ذهابهــا إىل النــوم‪ .‬ويــوم مــات جدهــا انتحــا ًرا طلــب مــن‬
‫األصــل‪ ،‬يعمــل يف املوصــل‪ .‬اضط ـ ّر للعــودة إىل عـ ّـان بعــد‬ ‫زوجتــه أن تبقــى معهــا يف البيــت وال تخربهــا بــيء‪.‬‬
‫ســقوط بغــداد عــام ‪ ،2003‬وبعــد ســنوات‪ ،‬تدهــورت صحته‬ ‫وعندمــا مــات كلبهــا‪ ،‬شــاركهام الحــزن عليــه‪ ،‬واصطحبهــا‬
‫بفعــل مــرض الســكري‪ ،‬ومــا لبــث أن تــويف‪ ،‬ولحقتــه زوجتــه‬ ‫لــراء كلــب جديــد مــن النــوع نفســه‪ ،‬وعندمــا ســألته‬
‫بعــد فــرة قصــرة‪.‬‬ ‫"ســامية" عــن ذلــك‪ ،‬وأنــه ســيذكِّرهام دامئًــا بكلبهام الســابق‪،‬‬
‫مــا اضط ّرهــا لتح ُّمــل‬ ‫كانــت "ســامية" وحيــدة والديهــا‪ّ ،‬‬ ‫أجابهــا‪" :‬ال بــأس مــن تذكُّــره‪ ،‬لقــد جمعتهــا معــه ذكريــات‬
‫املســؤولية‪ ،‬وتقديــر الظــروف‪ ،‬تقــول‪" :‬فــرض شــعوري‬ ‫جميلــة‪ ،‬وال بــأس لــو اســتعاداها مــع كلبهــا الجديــد‪ ..‬نــوع‬
‫ي أن أكــون عــى قــدر تطلعــات أمــي وأيب‪،‬‬ ‫بالنقــص عــ ّ‬ ‫مــن االســتمرار عــر الذكريــات‪ ،‬كــا أ َّن هــذا ســيجعلهام‬
‫ألنــه مــا مــن أحــد ميكنهــا أن يودعــا فيــه أحالمهــا‬ ‫ينظ ـران ملــوت الكلــب الســابق عــى أنــه أمــر ال بــد مــن‬
‫غــري"(ص‪ ،)32‬وكانــت تحظــى بعنايــة مبالــغ فيهــا مــن‬ ‫تق ُّبلــه‪("..‬ص‪.)98‬‬
‫والدهــا‪ ،‬ولكــن ذلــك مل مينــع مــن متتعهــا بشــخصية مســتقلة‬ ‫فــاألب "صــاح" يشــارك العنايــة بطفليــه وتربيتهــا‬
‫وهادئــة‪ ،‬قــادرة عــى التكيــف برسعــة‪ ،‬واالعتــاد عــى‬ ‫وتدريســهام‪ ،‬ويشــاطرهام أحزانهــا‪ ،‬ويحــرص أن ال يتأثــرا‬
‫الــذات‪ .‬وتقديـ ًرا لتعلقهــا بالتصويــر أهداهــا والدهــا كامـرا‬ ‫مبــوت الجــد خاصــة وأنــه مــات انتحــا ًرا ومــا يســتتبع ذلــك‬
‫حديثــة مــع دخولهــا عامهــا الثــاين عــر‪ ،‬مـ ّـا ســاعدها عــى‬ ‫مــن تســاؤالت يصعــب اإلجابــة عنهــا بســهولة‪ ،‬كــا أنــه‬
‫تنميــة هوايتهــا‪ ،‬وأخــذت تص ـ ِّور كل مــا يســرعي انتباههــا‪،‬‬ ‫اشــرى لهــا كل ًبــا مــن نــوع كلبهــا الــذي مــات‪ ،‬وبـ َّرر ذلــك‬
‫حتــى اتخذتــه حرفــة لهــا بعــد تخ ُّرجهــا يف الجامعــة‪.‬‬ ‫بــرأي منطقــي جميــل ال يخلــو مــن فلســفة لطيفــة‪ .‬واألهــم‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪101‬‬

‫منزليــة‪ ،‬تقــول "ســامية"‪" :‬أثــارت كتــب والــده فضــويل‪،‬‬ ‫وبســبب حبهــا ألبيهــا‪ ،‬وعــى الرغــم مــن حبهــا لـ"ســامل"‬
‫فهــي تختلــف عــن كتــب والــدي التــي تــدور حــول الديــن‬ ‫ووعدهــا لــه‪ ،‬إال أنهــا وافقــت عــى شــاب مــن أقربــاء‬
‫وقواعــد اللغــة‪ .‬كنــت أتصفحهــا كأنهــا كنــز؛ طبعــات‬ ‫والدهــا‪ ،‬فأمــام "ســامل" ســنوات طويلــة ليقــدم عــى الــزواج‪،‬‬
‫قدميــة‪ ،‬أوراقهــا صفــراء‪ ،‬وأغلفتهــا مهرتئــة بفعــل الزمــن‪،‬‬ ‫وكل ذلــك مرهــون مبوافقــة أرستــه التــي تظــن "ســامية"‬
‫وموضوعاتهــا تتنـ ّوع بــن األدب والفكــر والفلســفة"(ص‪،)38‬‬ ‫أنهــا لــن تحــدث‪ ،‬ولــذا اتخــذت قرارهــا ح ًبــا بوالدهــا‪:‬‬
‫ذهــب للقتــال يف حــرب الخليــج األوىل‪ ،‬ومل ي ُعــد‪ ،‬وال يــدري‬ ‫"شــعرتُ بحاجــة والــدي لرؤيتــي بثــوب الزفــاف األبيــض‬
‫أحــد مصــره‪ ،‬تطمئنــه "ســامية" أنــه ســيعود بدليــل أنهــم مل‬ ‫رح مـ َّرة بذلــك‪ ،‬لكننــي كنــت‬ ‫قبــل أن يغــادر الحيــاة‪ ،‬مل يـ ِّ‬
‫يجــدوا جثتــه بعــد‪.‬‬ ‫قــادرة عــى قـراءة إشــاراته وفهمهــا‪ ،‬كــا وجــدت أ َّن هــذه‬
‫غيــاب والــد "عــار"‪ ،‬ح َّمله مســؤولية كبــرة‪ ،‬تقول "ســامية"‪:‬‬ ‫تحســن مــن الوضــع النفــي لوالــديت"(ص‪،)63‬‬ ‫الخطــوة قــد ِّ‬
‫"تلقــى معاملــة خاصــة مــن أمــه بوصفــه (ســيد البيــت)‪ ...‬ال‬ ‫وتــ ِّرر ذلــك لـ"ســامل"‪" :‬األمــر خــارج عــن إراديت‪ ..‬أريــد‬
‫بــد أن شــعور عــار باملســؤولية صقــل شــخصيته عــى نحــو‬ ‫اســتعادة بعــض الفــرح الــذي هجــر بيتنــا منــذ مــرض أيب‪.‬‬
‫مبالــغ فيــه"(ص‪ .)41‬وكان يتــأمل لفقــد والــده‪ ،‬ويتوهــم أو‬ ‫أريــد تحقيــق رغبتــه"(ص‪ .)64‬كــا أنهــا قــررت تأجيــل‬
‫يتخيــل أحيانًــا أنــه ي ـراه؛ ذات لقــاء مــع "ســامية"‪ ،‬يخربهــا‬ ‫دراســتها الجامعيــة‪ ،‬ولكــن املــوت مل ميهــل أباهــا‪ ،‬فقــررت‬
‫أنــه رأى والــده حقيقــة وليــس حلـ ًـا‪" :‬رأيتــه حقيقة‪ ،‬ملســت‬ ‫فســخ الخطوبــة والعــودة إىل الجامعــة‪.‬‬
‫يــده‪ ،‬كانــت دافئــة‪ ،‬مل نتحــدث كثـ ًرا‪ ،‬لكنــه أعطــاين مفتا ًحــا‬ ‫أث َّــرت وفــاة أبيهــا وأمهــا كثــ ًرا عليهــا‪ ،‬تقــول‪" :‬رحيــل أيب‬
‫صغـ ًرا وقــال يل إنــه مفتــاح خزانتــه يف الكتيبــة التــي التحــق‬ ‫ولحــاق أمــي بــه ش ـكّال منعط ًفــا حــا ًدا يف حيــايت‪ ،‬أصبحــت‬
‫ـت بزميــل‬ ‫بهــا‪ ،‬وطلــب منــي أن أجلــب أغراضــه منهــا‪ ..‬اتصلـ ُ‬ ‫وحيــدة متا ًمــا‪ ،‬غــر أين مل أشــعر بالوحــدة بقــدر مــا‬
‫لــه ليحصــل يل عــى ترصيــح لزيــارة الكتيبــة والوصــول إىل‬ ‫شــعرت بالعجــز والقهــر"(ص‪ .)72‬وتص ـ ِّور شــعورها بالفقــد‬
‫ي أن أنتظــر إىل أن تهــدأ األمــور‪،‬‬ ‫خزانــة أيب‪ ،‬لكنــه قــال إن عـ ّ‬ ‫والخســارة‪" :‬أفكــر يف أمــي وأيب كثـ ًرا‪ ،‬أشــعر كل مــرة كــا لو‬
‫فاألوضــاع مل تســتقر بعــد"(ص‪ .)47‬تُعلِّــق "ســامية" عــى‬ ‫أنهــا تــركاين خــارج البيــت وأغلقــا البــاب عليهــا محتفظــن‬
‫مــا ســمعت‪" :‬مل أص ـ ِّدق كلمــة مـ ّـا قالــه‪ ،‬لكنــي مل أشــأ أن‬ ‫بجــزء منــي ال أســتطيع االســتغناء عنــه"(ص‪ .)94‬وكث ـ ًرا مــا‬
‫أجرحــه أو أحرجــه؛ ال ميكننــي أن أفعــل هــذا مــع شــخص‬ ‫تســتذكر والديهــا بــأمل وشــعور بالضيــاع والعجــز‪" :‬أشــعر‬
‫يعــاين أمل الفقــد"(ص‪.)47‬‬ ‫كــا لــو أننــي محبوســة يف قفــص املــايض وال أســتطيع‬
‫ويف عــان‪ ،‬يخــرج عــار مــع ســامية‪ ،‬ويغيــب فــوق جــر‬ ‫الخــروج منــه‪ ،‬رمبــا بــدأ حبــي عندمــا وقــع ذلــك الخطــأ‬
‫غريــب‪ ،‬ثــم يعــود‪ ،‬ويخربهــا أنــه قابــل والــده‪ ،‬وأعطــاه‬ ‫ـدي وقــى عــى حلمهــا بعــدد‬ ‫الــذي غـ َّـر مســار حيــاة والـ ّ‬
‫الحقيبــة التــي طلبهــا مــن خزانتــه‪ ،‬تســأله ســامية عــن‬ ‫مــن األطفــال‪ُ ..‬حبســت هنــاك‪ ،‬ورغــم األبــواب املرشعــة‬
‫الجــر الغريــب املخيــف الــذي رأتــه‪ ،‬فيخربهــا‪« :‬إنــه املكان‬ ‫أمامــي مل أجــرؤ عــى الخــروج"(ص‪.)93‬‬
‫الــذي ميكنــك اللقــاء بالراحلــن عــره‪ ..‬إنهــم ال ميوتــون ح ًقــا‪،‬‬
‫بــل يعــرون الجــر فقــط»(ص‪.)175‬‬ ‫األب الغائب‬
‫األب الغائــب منــذ الطفولــة‪ ،‬يبقــى مــاكًا يف نظــر طفلــه‪،‬‬ ‫وميثلــه يف الروايــة والــد "عــار"‪ ،‬جــار "ســامية" يف املوصــل‪،‬‬
‫نســا يالزمــه‪ ،‬ولــذا ليــس‬ ‫حلــا يعــاوده‪ ،‬وأُ ً‬
‫طيفًــا نورانيًــا‪ً ،‬‬ ‫وفتــى أحالمهــا وحــب حياتهــا‪ ،‬كان مثق ًفــا‪ ،‬وميتلــك مكتبــة‬
‫‪102‬‬

‫األب الفاسد‬
‫تبــن‬
‫وميثلــه يف الروايــة والــد "صــاح" (زيــاد طاهــر)‪ ،‬ومل ِّ‬ ‫غري ًبــا أن يتوهــم عــار أنــه رآه وحدثــه ونفــذ أوامــره‪،‬‬
‫الروايــة طبيعــة تعامــل األب مــع ابنــه عندمــا كان طفـ ًـا‪،‬‬ ‫فالحنــن الجــارف‪ ،‬والحرمــان الحــارق قــادر عــى إحضــار‬
‫ولكنهــا أبانــت عــن رفــض االبــن ألبيــه وعــدم التعامــل معــه‬ ‫الغائبــن‪ ،‬ولقــاء املــوىت‪.‬‬
‫أو العمــل معــه إال يف الحــدود الدنيــا التــي تفرضهــا حقوقــه‬
‫كأب؛ وذلــك بســبب فســاد األب يف عملــه‪.‬‬ ‫األب املتسلِّط‬
‫بنــى والــد "صــاح" نفســه مــن الصفــر حتــى أصبــح صاحــب‬ ‫وهــو يف الروايــة والــد "نرمــن" صديقــة "ســامية" يف‬
‫رشكــة مقــاوالت كبــرة‪ ،‬لكنــه لجــأ إىل أســاليب قــذرة ليحقق‬ ‫ـب "ســامية"‪ ،‬وأخــذ‬ ‫املدرســة ووالــد أخيهــا "ســامل" الــذي أحـ َّ‬
‫مــا يريــد؛ يحـ ِّدث "صــاح" زوجتــه "ســامية"‪" :‬هــل تعلمــن‪،‬‬ ‫منهــا عهــ ًدا أن تنتظــره للــزواج‪ ،‬لكنهــا خذلتــه‪ ،‬فانتكــس‬
‫ال أراه عصام ًيــا كــا يــر ّدد اآلخــرون‪ ،‬إنــه جشــع واســتغاليل‪،‬‬ ‫وتدهــورت صحتــه النفســ ّية‪.‬‬
‫وكل مــا تعلمــه يف الحيــاة هــو كيــف تــؤكل الكتف‪ ..‬أســاليبه‬ ‫كان والــد "ســامل" سياس ـيًّا معارضً ــا‪ ،‬ومتســلطًا عــى أوالده‪،‬‬
‫كنــت يف اإلعداديــة وقتهــا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كلهــا وســخة‪ ...‬لقــد ســمعته‪،‬‬ ‫تقــول ســامية‪" :‬والــده جـ ّراح مرمــوق ومعــارض ســيايس‪ ،‬وما‬
‫يتفــق مــع أحدهــم ليدمــر املقــاول الــذي أكرمــه وجعلــه‬ ‫زالــت صــورة (جيفــارا) املعلقــة بحجــم جداريّــة عنــد مدخل‬
‫رئيســا عــى عـ ّـال البنــاء‪ .‬اتفقــا عــى أن يغشّ ــا يف كميــات‬
‫ً‬ ‫بيتهــم حــارضة يف ذهنــي‪ .‬كان يفــرض عــى العائلــة نظا ًمــا‬
‫املخصصــة لبنــاء مــروع كبــر ألحــد‬ ‫َّ‬ ‫اإلســمنت والحديــد‬ ‫صار ًمــا يف األكل والنــوم والخــروج مــن البيــت والعــودة إليــه‪.‬‬
‫البنــوك‪ ،‬وبعــد أن نفّــذا مخططهــا وشــيا باملقــاول لــدى‬ ‫قــال ســامل م ـ ّرة يل إنــه يشــعر أننــي أكــر حريــة منــه رغــم‬
‫إدارة البنــك‪ ،‬وكشــف التقريــر الهنــديس أ َّن هنــاك تالع ًبــا‬ ‫كــوين فتــاة‪ ،‬وإ َّن ســلطة والــده تحرمــه مــن الحيــاة التــي‬
‫يف مواصفــات البنــاء‪ .‬ح ّملــوا املســؤولية للمقــاول املســكني‪،‬‬ ‫يعيشــها أصدقــاؤه"(ص‪.)54‬‬
‫وكتبــت عنــه الصحــف‪ ،‬وانتهــى بــه األمــر إىل اإلفــاس‪،‬‬ ‫وتــ ِّرر "ســامية" عــدم انتظارهــا لـ"ســامل"‪ ،‬بأنــه ال ميلــك‬
‫ميــر مــن البنــك نفســه‬ ‫ثــم حصــل والــدي عــى قــرض َّ‬ ‫أمــر نفســه‪ ،‬وأ َّن والــده لــن يوافــق‪ ،‬وكذلــك أرستــه‪ .‬وال‬
‫إلمتــام البنــاء نفســه وفــق املواصفــات املطلوبــة"(ص‪،)116‬‬ ‫تذكــر "ســامية" أســباب الرفــض‪ .‬وحدثــت قطيعــة بــن‬
‫ويخربهــا أنــه صارحــه بذلــك‪ ،‬بعــد شــجار بينهــا‪ ،‬وأكــد‬ ‫"ســامية" و"نرمــن" و"ســامل"‪ ،‬وفوجئــت "ســامية" الح ًقــا أ َّن‬
‫لــه أ ْن لــن يعمــل معــه ولــو بقــي بــا عمــل طــوال حياتــه‪.‬‬ ‫والــد "ســامل" املعــارض ُعـ ّـن ســف ًريا يف دولــة آســيوية‪ ،‬وملّــا‬
‫كــا أنــه يقــوم بصفقــات مشــبوهة وعطــاءات غــر قانونيــة‪،‬‬ ‫"ربــا تغـ َّـر‪..‬‬
‫اســتغربت ذلــك تقــول لهــا زميلتهــا "نهــى"‪ّ :‬‬
‫وحــاول أن يســتقطب "ســامية" للعمــل معــه مــن أجــل‬ ‫يتغــرون"(ص‪.)107‬‬ ‫َّ‬ ‫الجميــع‬
‫دخــول املعــرك الســيايس‪ ،‬إال أنهــا مل تقبــل‪ ،‬ومــا لبــث أن‬ ‫والــد "ســامل"‪ ،‬منــوذج لــأب املتســلط واملتعنــت الــذي‬
‫مــات فجــأة منتح ـ ًرا بالرصــاص‪.‬‬ ‫مــا‬
‫يتحكــم يف حيــاة أوالده بحســب قوانينــه وقواعــده‪ّ ،‬‬
‫تصفــه "ســامية" بقولهــا‪" :‬مل أرتــح يو ًمــا للتواصــل معــه‪،‬‬ ‫يــؤ ّدي إىل ضعــف شــخص ّياتهم وضياعهــم‪ ،‬والــذي ينتهــج‬
‫ونفــرت مــن طريقته يف العيــش‪ ،‬فهو رغم وضعــه االقتصادي‬ ‫املعارضــة كوســيلة لبلــوغ مآربــه‪ ،‬وهــو منــوذج ســيئ لــأب‬
‫تحســن برسعــة الضــوء‪ ،‬مل يتمكــن مــن تطويــر نفســه‪،‬‬ ‫الــذي َّ‬ ‫الــذي يســعى لتحقيــق ذاتــه ويطمــس ذوات َمــن حولــه‬
‫يــرخ بألفــاظ نابيــة‪ ،‬ويرمــي الــكالم الجــارح دون مراعــاة‬ ‫ولــو كانــوا أوالده‪.‬‬
‫لشــعور اآلخريــن‪ ،‬ويبيــح لنفســه أحيانًــا التدخــل يف شــؤوننا‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪103‬‬

‫يف دواخلــه‪ ،‬وكيــف اســتطاع أن يتك ّيــف بــن أب حرمــه‬ ‫الخاصــة‪ ..‬يلقــي عــى مســمع صــاح كلّــا التقينــا تلميحــات‬
‫حقــه باألبــوة الدافئــة‪ ،‬وأب ّوتــه تجــاه أطفالــه التــي ات ّســمت‬ ‫حريصــا‬
‫ً‬ ‫جارحــة‪( :‬هــذا الــرزق لــك بعــد مــويت‪ ،‬لكنــك لســت‬
‫بالحنــان والحــب ونظافــة اليــد‪.‬‬ ‫عليــه)"(ص‪.)100‬‬
‫***‬ ‫صفــات هــذا األب وأخالق ّياتــه وتعامالتــه الفاســدة‪ ،‬كان لهــا‬
‫مت َّيــزت روايــة "جــر بضفــة وحيــدة"‪ ،‬بالعمــق والتنــ ُّوع‪،‬‬ ‫وقــع ســيئ عــى ابنــه‪ ،‬تقــول "ســامية"‪" :‬أشــعر بالتعاطــف‬
‫وتعــ ُّدد مســتويات القــراءة‪ ،‬وطــرح أســئلة عاصفــة حــول‬ ‫مــع صــاح‪ ،‬ال بــد أنــه عــاىن مــن هــذا األمــر كث ـ ًرا‪ ،‬ليــس‬
‫املــوت والحيــاة واملاورائيــات والطاقــة واملوســيقى واألب ـ ّوة‬ ‫ـهل أن يفقــد اإلنســان معنــى القــدوة التــي ميثلهــا والــده‪،‬‬ ‫سـ ً‬
‫والحــب والفــن والخيــال والتغــر وقــوة اإليحــاء وقــراءة‬ ‫هــذا يشــبه أن يض ِّيــع البحــار بوصلتــه"(ص‪ ،)116‬ولذلــك‬
‫األفــكار والذكريــات وغريهــا مــن األســئلة واملوضوعــات‬ ‫طلــب منهــا "صــاح" أن ال تتعامــل معــه‪ ،‬وعدتــه‪ ،‬لكنهــا‬
‫الشــائكة‪ ،‬وكل ذلــك حــول الشــخصية الرئيســة "ســامية"‬ ‫ســاعدته مــرة للحصــول عــى صفقــة فأهداهــا اســتديو‬
‫والشــخصيات التــي ارتبطــت بهــا‪ ،‬أو كانــت لهــا عالقــات‬ ‫مج َّه ـ ًزا‪.‬‬
‫معهــا‪.‬‬ ‫قبــل انتحــاره بفــرة قصــرة‪ ،‬رغــب بالــزواج مــن ســكرتريته‬
‫والروايــة الصــادرة عــن دار "اآلن نــارشون وموزعــون"‬ ‫التــي تصغــره كثــ ًرا‪ ،‬فشــعر "صــاح" بــاألمل‪ ،‬خاصــة وأنــه‬
‫وبدعــم مــن وزارة الثقافــة يف عــام ‪ ،2021‬تقــع يف ‪198‬‬ ‫ـت‬‫ـت لــه خطوتــه‪ ،‬وغالبـ ُ‬ ‫فقــد األم‪ ،‬يقــول لـ"ســامية"‪" :‬باركـ ُ‬
‫صفحــة‪ ،‬وتُعــ ُّد إضافــة مميــزة للروائيــة والناقــدة وكاتبــة‬ ‫نفــي يك أظهــر فرحــة زائفــة! تعلمــن كيــف هــو ذلــك‬
‫الســيناريو هيــا صالــح‪ ،‬التــي صــدر لهــا يف النقــد‪" :‬رسد‬ ‫اإلحســاس"(ص‪ .)99‬وبعــد انتحــاره تتكشــف فضائحــه‪ ،‬فقــد‬
‫الحيــاة‪" ،"2010 ،‬املرجــع وظاللــه‪" ،"2010 ،‬الخــروج مــن‬ ‫كان يعتــدي جنســ ًيا عــى ســكرتريته الجديــدة‪ ،‬واضطــر‬
‫الــذات‪" ،"2012 ،‬أبــواب للذاكــرة‪" ،"2013 ،‬املســافة صفــر‪،‬‬ ‫لخطبــة "ســمية" ألنهــا حامــل بطفلــه‪.‬‬
‫‪ ."2014‬باإلضافــة إىل حــوايل ســت عــرة قصــة لألطفــال‪.‬‬ ‫تخـ ّـى "صــاح" عــن إرث والــده وتــرك إدارة رشكتــه ألختــه‬
‫ونالــت مجموعــة مــن الجوائــز منهــا‪ :‬جائــزة ناجــي نعــان‬ ‫الكــرى التــي كانــت تعمــل مــع والدهــا‪ ،‬تقــول "ســامية"‪:‬‬
‫األدبيــة ‪ ،2013‬وجائــزة النــص املرسحــي املو َّجــه للطفــل مــن‬ ‫"أراد أن ينــأى بنــا عــن أمــوال والــده‪ ،‬وواصــل عملــه املعتــاد‬
‫الهيئــة العربيــة للمــرح ‪ ،2013‬وجائــزة أفضــل كتــاب عــريب‬ ‫ومل يتغــر يشء يف إيقــاع حياتنــا"(ص‪.)137‬‬
‫للطفــل‪ /‬معــرض الشــارقة الــدويل للكتــاب ‪ ،2013‬وجائــزة‬ ‫إ َّن هكــذا أب يشــعر ابنــه بالعــار والخــذالن‪ ،‬وأنــه حمــل‬
‫نارصالديــن األســد للدراســات النقديــة ‪ ،2016‬وجائــزة الدولة‬ ‫ثقيــل‪ ،‬وقربــه مشــكلة‪ ،‬والعالقــة معــه مخزيــة ومعيبــة‬
‫األردنيــة التشــجيعية يف حقــل اآلداب ‪ ،2017‬وجائــزة كتــارا‬ ‫بحقــه‪ ،‬ولكــن "صــاح" حافــظ عــى خيــط معاويــة مــع‬
‫للروايــة العربيــة ‪ 2018‬عــن روايــة "لــون آخــر للغــروب"‪،‬‬ ‫والــده‪ ،‬وتح ّمــل مســؤولية إج ـراءات الدفــن وتقبــل الع ـزاء‬
‫وحصلــت روايتهــا "شــقائق النعــان" عــى جائــزة كتــاب‬ ‫فقــد كان بــا ًرا بوالــده الــذي عقّــه وجرحــه كثــ ًرا‪.‬‬
‫العــام لليافعــن‪ ،‬ضمــن جوائــز "اتصــاالت" التــي ينظمهــا‬ ‫إنــه منــوذج فاســد لألبـ ّوة بــكل فجاجــة‪ ،‬ففــي العــادة‪ ،‬يُظهر‬
‫املجلــس اإلمــارايت لكتــب اليافعــن ‪ .2020‬وهــي ناشــطة‬ ‫األب أحســن مــا لديــه أمــام أوالده‪ ،‬ويخفــي عيوبــه‪ ،‬ويســر‬
‫ثقافيــة وعضــو لجــان تحكيــم وهيئــات ثقافيــة مختلفــة‪.‬‬ ‫نقائصــه‪ ،‬وال يطلــع أوالده عــى فســاد أعاملــه‪ ،‬إال أ َّن والــد‬
‫"صــاح" كان يتب ّجــح بذلــك ويفتخــر‪ ،‬ولنــا أن نتصــور أي‬
‫معانــاة كان يعيشــها "صــاح"‪ ،‬وأي رصاعــات كانــت تعتمــل‬
‫‪104‬‬

‫آل ّيات البناء الف ّني ملجموعة "مسكوت عنهم"‬


‫عمر الجنيدي‬ ‫للقاص ّ‬
‫د‪ .‬مسلك ميمون*‬

‫إ َّن القــاص عـ ّـار الجنيــدي يف مجموعتــه القصصيــة "مســكوت عنهــم" ال يــرد األحــداث حســب‪ ،‬ولكــن يجعــل‬
‫وتأمــا‪ ،‬يف أســبابها املوضوعيــة والذّاتيــة‪ ..‬بــل تتحــول القــراءة إىل انشــغال‬ ‫ً‬ ‫القــارئ يســتنطقها‪ ،‬ويغــوص بحثًــا‬
‫ـرد األردين‪ ،‬تتطلّــب‬ ‫فلســفي‪ ،‬واجتامعــي‪ ،‬وســيايس‪ ..‬أساســه صيــغ أدب ّيــة قصص ّيــة‪ ،‬ت ُشــعر مبوهبــة متم ّيــزة يف الـ ّ‬
‫وبخاصــة فيــا يتعلــق بالســميوتيقا ال ّنصيــة‪ ،‬وأنظمــة ال ّدالئــل التــي ال تســتبعد اإليحــاء ودواعــي‬
‫ّ‬ ‫البحــث وال ّدراســة‪،‬‬
‫التّخييــل والتأ ُّمــل‪ .‬ومــن جانــب آخــر فــإ َّن الالفــت يف اختيــار وتحديــد العنــوان عنــد القــاص عـ ّـار الجنيــدي‪ ،‬أ َّن‬
‫العنــوان يــأيت بشــحنة مــن اإليحــاء متعـ ّددة األبعــاد والجوانــب‪ ،‬تحمــل عــى التســاؤل والفضــول املعــريف‪ ،‬فضـ ًـا عــن‬
‫التأثــر والتأويــل‪.‬‬

‫حشنــا يف أتــون العــادي وامل ُمـ ّـل‪ .‬األهــل والعشــرة‬


‫املجتمــع َ َ‬ ‫منــذ نشــأته األدب ّيــة كان ومــا زال هامئًــا يف آفــاق الشّ ــعر‪،‬‬
‫واملجتمــع تواطــؤوا عــى رفــي كمتمــ ّرد‪ ،‬وكصعلــوك‪،‬‬ ‫محــاول التّمــ ُّرد عــى جنــس لصالــح‬ ‫ً‬ ‫القصــة‪،‬‬
‫ورساديــب ّ‬
‫وكعاشــق‪ ،‬لــذا فإنّنــي ســأموت وأنــا ناقــم عليهــم جمي ًعــا‪،‬‬ ‫ـزول عنــد نصيحــة والــده الــذي أشــار عليــه‬ ‫جنــس آخــر نـ ً‬
‫لك َّنهــم جمي ًعــا قبلــوين كمبــدع‪( .‬يــا للغرابــة!)"(‪.)2‬‬ ‫يتمســك مبــا يؤهلــه أن يكــون متفـ ّر ًدا ومتميّـ ًزا‪ ..‬ولكنــه‬
‫بــأ ْن ّ‬
‫ربــا األمــر يعــود‬ ‫أخفــق يف أن يتم ـ ّرد عــى أحــد الجنســن‪ّ .‬‬
‫البناء الف ّني ملجموعة "مسكوت عنهم"‬ ‫كــا قــال‪" :‬مل أكــن واع ًيــا لطبيعــة التّجنيــس األديب ملــا أكتب‪،‬‬
‫أول‪ -‬الغالف‬ ‫ً‬ ‫وظللــت أتجاهــل هــذه القضيــة ألنّنــي منــذ البدايــة كان‬
‫يه ّمنــي أن أكتــب مــا بداخــي مــن هواجس مرشوخــة‪ ،‬وكان‬
‫الوجــه األمامــي هيمــن عليــه البيــاض‪ ،‬يف األعــى باألســود‬
‫القصــة ألنّهــا‬
‫الوقــت قــد فــات أن أختــار بــن الشّ ــعر وبــن ّ‬
‫"عــار الجنيــدي"‪ ،‬أســفله باألحمــر عنــوان‬
‫اســم القــاص ّ‬
‫كانــا متداخلــن عنــدي‪ ،‬إذ وجدتنــي منخرطًــا فيهــا"(‪.)1‬‬
‫املجموعــة "مســكوت عنهــم"‪ ،‬ويف الوســط‪ ،‬أســفل العنــوان‪،‬‬
‫وعــن شــخصيّات رسديّاتــه وعــن متـ ُّرده املســتمر قــال‪" :‬إنّــه‬
‫الصمــت برفــع‬
‫مالمــح وجــه رجــل مــن مــا ّدة مــا‪ ،‬يُعلــن ّ‬
‫مــا ال شــك فيــه أ َّن األبطــال الذيــن يذرعــون مســاحات‬ ‫ّ‬
‫ســ ّبابته إىل شــفتيه‪ .‬أ ّمــا يف ظَهــر الغــاف‪ ،‬نجــد صــورة‬
‫قصــي هــم أشــخاص منتخبــون‪ ،‬ذوو إمكانــات أثــرة يف‬
‫للوجــه األمامــي للغــاف مصغَّــرة‪ ،‬بجانبهــا اســم القــاص‬
‫نفــي‪ّ ،‬إل أ َّن مــا يجمعنــي معهــم‪ :‬أنّنــا جمي ًعــا مهجوســون‬
‫باألســود‪ ،‬وأســفله عنــوان املجموعــة باألحمــر‪ ،‬وأســفل ذلــك‬
‫مبحاولــة الخــروج مــن الواقــع الــذي يكبّــل ويح ّجــم مــن‬
‫فقرتــان مــن نــص "هرولــة"‪.‬‬
‫طموحنــا واندفاعنــا‪ ،‬لك ّننــا مؤمنــون يف ق ـرارات أنفســنا أ َّن‬
‫املجموعــة أُدرجــت تحــت تصنيــف‪ :‬قصــص قصــرة وقصــرة‬

‫* ناقد وأكادميي مغريب‬


‫‪maslak53@hotmail.fr‬‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪105‬‬

‫جـ ًدا‪ ،‬أ ّمــا اإلهــداء فــكان كالتــايل‪:‬‬


‫"إىل غي َمــ ٍة غ ََســلَتْني ِبتَ َم ُّر ِدهــا‪ ،‬بعــد أن‬
‫ـب ال ُحقـرا ُء عــى قلمــي"‪ .‬إهــداء ينـ ّم‬ ‫تكالَـ َ‬
‫عــن اعــراف بالجميــل‪ ،‬ويف الوقــت ذاتــه‬
‫يكشــف عــن معانــاة‪ ،‬ومكابــدات‪ ..‬عرفهــا‬
‫القــاص م َّمــن نعتهــم بـِ"الحق ـراء"‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ -‬عناوين املجموعة‬


‫املجموعــة تتكــ َّون مــن خمســة وثالثــن‬
‫نصــا‪ .‬عناوينهــا‪ :‬منهــا أربعــة عــر عنوانًــا‬
‫ً‬
‫نكــرة‪ ،‬كلّهــا أســاء‪ ،‬منهــا ســبعة بصيغــة‬
‫املفــرد‪ .‬تليهــا عــرون عنوانًــا مع َّرفــة‬
‫كلّهــا أســاء‪ ،‬وهــي مع ّرفــة ســواء بألـــ‬
‫أو باإلضافــة‪ .‬منهــا اثنــي عــر عنوانًــا‬
‫مفــر ًدا‪ ،‬وبذلــك يكــون عــدد العناويــن‬
‫املفــردة يف املجموعــة تســعة عــر عنوانًــا‪،‬‬
‫يليهــا خمســة عــر عنوانًــا مركّ ًبــا‪ ،‬منهــا‬
‫مــا جــاء يف جملــة اســم ّية مثــل "الحــزام‬
‫عامر الجنيدي‬
‫األســود"‪ ،‬ومنهــا مــا جــاء يف شــبه جملــة‬
‫نصــا أو عمــا ف ّنيًــا عــر ارتباطــه باللّغــة‪،‬‬‫الجملــة‪ ،‬ميثــل ً‬ ‫ـتحيل"‪ ،‬ومنهــا مــا جــاء‬
‫مثــل "عندمــا يكــون الخــروج مسـ ً‬
‫فهــو أوىل اإلشــارات اللّغويــة إىل مســارات ال ّنــص لتســمه‬ ‫يف جملــة اســتفهام ّية مثــل "ملــاذا يبــي املعلــم؟"‪ ..‬وينفــرد‬
‫وتح ـ ّدده‪ ،‬وتغــري القــارئ بقراءتــه"(‪ ،)3‬بــل يخضــع ملراقبــة‬ ‫نــص مــن دون عنــوان‪ )...( ،‬أو ع ّوضتــه نقــط حــذف‪ ،‬وهــي‬
‫ذاتيــة ف ّنيــة‪ ،‬أو هكــذا يشــعر القــارئ؛ فالقــاص ال يهــدف أن‬ ‫تقنيــة تدعــو املتلقــي أال يكــون مســتهلكًا فقــط‪ ،‬بــل عليــه‬
‫يلخــص العنــوان محتــوى ال ّنــص‪ ،‬أو يكشــف بعــض أرساره‬ ‫أن يشــارك يف كتابــة ال ّنــص‪ ،‬ذلــك بوضــع عنــوان يـراه مناسـبًا‬
‫وخبايــاه‪ ،‬بــل العنــوان عنــده يف عالقــة رفيعــة ووشــائج ّية‬ ‫لفكــرة ال ّنــص‪ .‬ويف ذلــك دليــل فهمــه واســتيعابه‪.‬‬
‫ـص مــوازٍ‪ .‬ح ًقــا‬
‫ومك ّملــة لل ّنــص‪ ،‬ولكــن هــو يف ح ـ ّد ذاتــه نـ ٌّ‬ ‫ــ إيحاء العناوين‪:‬‬
‫التكيبيــة وال ّدالليــة تســاعد عــى فهــم‬ ‫أبعــاده اللّغويــة أو ّ‬ ‫عــار الجنيــدي ال يكــون‬ ‫اختيــار العنــوان عنــد القــاص ّ‬
‫واســتيعاب فكــرة ال ّنــص‪ ،‬ولكــن تبقــى للعنــوان ‪-‬يف موازاتــه‬ ‫اعتباطيًّــا‪ ،‬أو كــا اتفــق‪ ،‬فهــو يــدرك أهميتــه ودوره يف‬
‫بال ّنــص‪ -‬خصوص ّيــة بنيويّــة فضـ ًـا عــن ال ّداللــة املعجميــة‪،‬‬ ‫أقــل مــن‬
‫العمــل القصــي باعتبــار أنّــه‪" :‬مقطــع لغــوي‪ّ ،‬‬
‫‪106‬‬

‫مبــس‪ ،‬يــوم أخربتــه الع ّرافــة أ َّن‬


‫حياتــه‪ ،‬أصابتــه ال ّدهشــة ّ‬ ‫الــيء الالفــت يف اختيــار وتحديــد العنــوان عنــد‬ ‫ولكــن ّ‬
‫ابنــه "ســوفوخليس" ســيكون لــه شــأن العظامء يف مســتقبله‪.‬‬ ‫عــار الجنيــدي‪ ،‬أ َّن العنــوان يــأيت بشــحنة مــن‬ ‫القــاص ّ‬
‫مــن عــادة الرومــان أن يعرفــوا طوالــع أبنائهــم الذكــور‬ ‫اإليحــاء متعـ ّددة األبعــاد والجوانــب‪ ،‬تحمــل عــى التســاؤل‬
‫فيذهبــون بهــم إىل الع ّرافــات ضمــن طقــوس مع ّينــة‪ ،‬ففــي‬ ‫والفضــول املعــريف‪ ،‬فضـ ًـا عــن التأثــر والتأويــل‪.‬‬
‫منتصــف ليلــة يومــه الســابع‪ ،‬يحمــل األب ابنــه الذكــر إىل‬ ‫لنتأمــل عنــوان املجموعــة "مســكوت عنهــم"‪ ،‬العنــوان‬
‫الع ّرافــة لتنظــر لــه مســتقبله بواســطة نجمــه الــذي يقــول‬ ‫ليــس عنــوان نــص يف املجموعــة‪ ،‬فلــو كان كذلــك‪ ،‬ألســعف‬
‫كل كوكــب‬ ‫كل يشء عــن برجــه؛ ففــي ُعــرف التنجيــم أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫مبقاربــة دالليــة‪ ،‬ولكــن وهــو بصيغتــه النكــرة‪ ،‬يثــر الحــرة‪،‬‬
‫مســؤول عــن نجــم يُقــرأ بواســطته طالــع اإلنســان وخفايــا‬ ‫فتنثــال األســئلة‪:‬‬
‫مســتقبله"‪ .‬وينتهــي ال ّنــص كالتــايل‪" :‬يف تلــك اللّحظــات‬ ‫الســكوت عنهــم؟‬ ‫َمــن هــؤالء املســكوت عنهــم؟ وملــاذا لــزم ّ‬
‫كان الكاهــن يشـ ُّـق طريقــه صــوب اإلمرباطــور ليُعلِ َم ـ ُه أ َّن‬ ‫أألنّهــم أجرمــوا ولهــم َمــن ينافــح عنهــم؟ أم تــرى هــم‬
‫ــل الشّ ــاعر "ســوفوخليس" وزوجتــه‪ ،‬ألنّــه‬ ‫الحاكــم قــد قَتَ َ‬ ‫مســتضعفون ال ميلكــون جا ًهــا وال ســن ًدا؟‬
‫ضبطهــا م ًعــا يف دار الحاكميــة"‪ .‬فال ّنــص فيــض مــن الحــي‪،‬‬ ‫واملعــروف أ َّن "املســكوت عنــه" هــو مــا ال يتطــ ّرق إليــه‬
‫والتخييــل والتنــاص‪ ،‬وال ّرمــز‪.‬‬ ‫وبخاصــة مــا يشــكّل طابــو يف الجنــس أو‬ ‫ّ‬ ‫املبــدع مبــارشة‬
‫السياســة أو ال ّديــن‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬الوعي الزائف (‪)False consciousness‬‬
‫قليــل مــن التعلــم والثقافــة‪ ،‬أو احتــال مناصــب األرشاف‬ ‫ثالثًا‪ -‬تقنية الكتابة (‪)Writng technique‬‬
‫والتســيري بطريقــة أو أخــرى‪ ،‬ال يعنــي ذلــك وع ًيــا‪ ،‬بــل ذلــك‬ ‫ـاص أو كاتــب طريقتــه‪ ،‬وأســلوبه‪ ،‬ومنــط‬ ‫ال شـ ّـك أ َّن لـ ّ‬
‫ـكل قـ ٍّ‬
‫ال يعنيــه حتــى لــدى مــن أوتــوا حظًــا مــن الثقافــة والعلــم‪،‬‬ ‫كتابتــه‪ ..‬ويف ذلــك يكــون اإلبــداع‪ ،‬ويف ذلــك يتنافــس‬
‫أل ّن الوعــي‪ ،‬وإن اختلــف الفالســفة يف تحديــد مفهومــه(‪،)4‬‬ ‫املتنافســون‪ ،‬أل ّن وحــدة الكتابــة تــؤدي إىل ال ّنمطيــة‪ ،‬وبالتايل‬
‫فهــو يعنــي فيــا يعنيــه االنفتــاح عــى الـذّات وعــى اآلخــر‪،‬‬ ‫أُفــول نجــم اإلبــداع‪ .‬والقــاص عـ ّـار الجنيــدي يكتــب ّ‬
‫القصــة‬
‫ومحاولــة إدراك مســتج ّدات العــامل‪ .‬وباملقابــل هنــاك الوعــي‬ ‫معتمـ ًدا أســلوب الحــي‪ ،‬الــذي ال يَحيـ ُد عنــه‪ .‬وهذه مســألة‬
‫الشّ ــقي ال ّزائــف؛ وهــو املهيمــن‪ ،‬واألكــر ســطوة واســتحواذًا‪.‬‬ ‫يغفــل عنهــا الكثــر مــن القصاصــن الذيــن يقعــون عــن غــر‬
‫الســخرية تــأيت نتيجــة ســوء الحــال واملــآل‪،‬‬
‫ومــن العجــب أ َّن ّ‬ ‫فالقصــة ليســت‬
‫ّ‬ ‫شــعور منهــم يف مــا يســ ّمى التقريريــة‪،‬‬
‫وكأ َّن اإلنســان يرفــض الخنــوع واالستســام‪ ،‬كنــوع مــن‬ ‫تقري ـ ًرا إخباريًّــا وال ينبغــي لهــا –فن ًّيــا‪ -‬أن تكــون كذلــك‪.‬‬
‫التمـ ُّرد واالحتجــاج عــى مــا هــو كائــن‪ ،‬وأساســها التّناقضــات‬ ‫‪ -‬الحيك (‪:)diegesis‬‬
‫واملفارقــات الحياتيــة‪ ،‬فهــي املضحــك املبــي أو (الكوميديــا‬ ‫"الحــي" لغــ ًة رسد الحكايــات‪ .‬أ ّمــا يف االصطــاح النقــدي‬
‫الســخرية‬‫ـال إىل ّ‬ ‫الســوداء)‪ ..‬والقــاص عـ ّـار الجنيــدي إ ْن مـ َ‬
‫ّ‬ ‫السديــة كالقصــة أو‬ ‫فهــو أســلوب مــن أســاليب الكتابــة ّ‬
‫يف جـ ّـل كتاباتــه القصصيــة فذلــك ألنّــه إنســان عــاىن ويُعــاين‬ ‫بقصــة أو حكايــة‪ ..‬وبطريقــة‬ ‫ال ّروايــة‪ .‬والحــي ال يســتقيم إال ّ‬
‫متنفســا؛ أ ْن يســ َخ َر مــن وضــع‬
‫ً‬ ‫يف صمــت وجلــد‪ ..‬فوجــد‬ ‫ـرد‪ .‬وذلــك مــا يعتمــده القــاص عـ ّـار الجنيــدي‪،‬‬ ‫هــي الـ ّ‬
‫يط ِّوقــه ومينعــه مــن االنطــاق‪ ..‬كــا فعــل أدبــاء مــن‬ ‫ينتــاب املتلقــي مــن أ ّول ال ّنــص إىل‬
‫ُ‬ ‫فهــو إحســاس ِقــرايئ‬
‫قبلــه(‪.)5‬‬ ‫آخــره‪ .‬فمثـ ًـا يف نــص "الشّ ــاعر يدفــع الثمــن" يبتــدئ ال ّنــص‬
‫الســيوف الــذي ســلخ أربعــن عا ًمــا مــن‬ ‫كالتــايل‪" :‬صانــع ّ‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪107‬‬

‫معــن تتقاطــع وتتنــايف‬ ‫نــي ففــي فضــاء نــص َّ‬ ‫وتداخــل ّ‬ ‫فالقــاص الجنيــدي وظّــف ّ‬
‫الســخرية يف أكــر مــن نــص‪ ،‬إميانًا‬
‫ملفوظــات عديــدة مقتطعــة مــن نصــوص أخــرى"(‪ ،)6‬أو‬ ‫أي كالم جــاد‪ ،‬وهــو‬ ‫للســخرية دو ًرا تأثرييًّــا أكــر مــن ّ‬
‫منــه أ َّن ّ‬
‫"هــو ذلــك التّقاطــع داخــل التعبــر مأخــوذ مــن نصــوص‬ ‫مــا نلمســه يف نــص "أوغــاد"‪:‬‬
‫الســبق‬ ‫أخــرى"(‪ ،)7‬وقــد كانــت "جوليــا كريســتيفا" صاحبــة ّ‬ ‫ـب مديـ َر املدرســة‪ ،‬كــم يؤثــر ّيف إحساســه املرهــف؛‬ ‫"كــم أحـ ُّ‬
‫العلمــي يف تحديــده كمصطلــح‪ .‬أ ّمــا كمفهــوم‪ ،‬فهــو قديــم‬ ‫لقــد أشــاح بوجهــه عــن املناظــر املر ّوعــة التــي دأبــت عــى‬
‫ّــراث العــريب بأســاء مختلفــة‪ :‬االقتبــاس‪،‬‬ ‫نجــده يف ال ّ‬ ‫بثّهــا شاشــات التلفــزة العرب ّيــة منــذ أكــر مــن أســبوعني‪.‬‬
‫التضمــن‪ ،‬والرسقــات األدبيــة‪ ،‬واإلشــارة‪ ،‬والتلميــح(‪.)8‬‬ ‫صــور ومشــاهد مط ّولــة تــكاد ال تنتهــي عــن املذابــح‬
‫عــار الجنيــدي التنــاص يف نــص‬ ‫وقــد وظّــف القــاص ّ‬ ‫واملجــازر؛ ترتكبهــا أمــركا وإرسائيــل بشــكل مســتمر بحــق‬
‫"الشّ ــاعر يدفــع الثمــن"؛ قصــة بطلهــا الشّ ــاعر اإلغريقــي‬ ‫الشــعوب العربيــة يف العــراق وفلســطني ولبنــان‪.‬‬
‫"ســوفوخليس"(‪ ،)9‬ح ًقــا أ َّن التنــاص مل يكــن متطاب ًقــا‪ ،‬وإنّ ــا‬ ‫مل تكــن عنــده القــدرة عــى التّحديــق بأكــوام اللّحــم‬
‫وبخاصــة يف وفــاة "ســوفوخليس"‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رف أو جــزيئ‪،‬‬ ‫كان بتــ ُّ‬ ‫كل مــكان مختلطــة برتاب‬ ‫املهروســة وال ّدمــاء التــي تســيح يف ّ‬
‫فالقصــة ترســم حالــة املثقــف‪ ،‬ومــا يعانيــه مــن وســطه‬ ‫األرصفــة وبقايــا املنــازل امله ّدمــة فــوق رؤوس أصحابهــا‪:‬‬
‫الثقــايف‪ .‬فـ"ســوفوخليس" كان شــاع ًرا مــن طبقــة العــوام‪،‬‬ ‫ـ ال حول وال قوة إال بالله‪.‬‬
‫رومنس ـ ًّيا‪ ،‬كثــر الوصــف‪ ،‬مــا جعــل بنــات الطبقــة العليــا‬ ‫شــاهدتُ ُه مــ ّرة وهــو يبــي الدمــوع الحارقــة عندمــا وقّــع‬
‫يتنافســن لــي يحظــن ببعــض شــعره يف وصفه ـ ّن والتغ ـ ُّزل‬ ‫ـب ويلعــن‬ ‫الســام مــع إرسائيــل‪ ،‬فأخــذ يسـ ّ‬ ‫العــرب صكــوك َّ‬
‫ـيء الــذي أثــار غــرة شــعراء آخريــن مــن‬ ‫به ـ ّن‪ ..‬وهــو الـ ّ‬ ‫رداءة الزمــن الــذي أجــر العــرب عــى القبــول بــروط‬
‫وبخاصــة مــا نالــه مــن حظــوة عنــد اإلمرباطــور‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫ال ّنبــاء‪،‬‬ ‫اآلخــر"‪.‬‬
‫فاســتكرثوا عليــه الشّ ــعر‪ ،‬الــذي كان َحكــ ًرا عــى طبقــة‬ ‫أمــام هــذا التأثــر واالنفعــال‪ ،‬لرؤيــة الدمــاء املســفوحة‬
‫األرشاف وال ّنبــاء‪ ،‬فرغــم متيّــزه وف ّنيــة شــعره ومكانتــه‪..‬‬ ‫والجثــث املهروســة‪ ،‬تنتهــي القصــة مبــا يخــرق أفــق انتظــار‬
‫لحقــه األذى مــن منافســيه فدبّــروا مؤامــرة قتلــه‪.‬‬ ‫القــارئ‪ ،‬بســخرية الذعــة تكشــف الوعــي الزائــف‪:‬‬
‫ولقــد اســتعان القــاص بأســاء أشــخاص وأمكنــة ليحــ ّدد‬ ‫"دخل إىل غرفته‪ .‬رفع سامعة الهاتف‪:‬‬
‫معــامل التنــاص‪ ،‬فالشــخصيات‪( :‬ســوفوخليس‪ ،‬الرومــان‪،‬‬ ‫ـ مرح ًبا يا أم جابر‪.‬‬
‫ليليانــا‪ ،‬اإلمرباطــور الرومــاين هدريــان)‪ ،‬أ ّمــا األماكــن‪:‬‬ ‫أهل‪ ،‬صوتك حزين ومرتبك‪.‬‬ ‫ـ ً‬
‫(ديكابوليــس‪ ،‬شــارع األعمــدة‪ ،‬معبــد أوتيليــوس‪ ،‬عجلــون‪،‬‬ ‫ـ نعــم يــا أم جابــر‪ ،‬فاملناظــر البشــعة التــي شــاهدتها قبــل‬
‫ديــر إليــوس‪ ،‬عبلــن‪ ،‬املــرح الشــايل)‪.‬‬ ‫قليــل قــد ح ّركــت يف نفــي االشــمئزاز والقــرف‪ ،‬لقــد قـ ّر َرت‬
‫اإلرضاب عــن أكل اللحــم‪.‬‬
‫ـ الوصف (‪)DESCRIPTION‬‬ ‫ـ وماذا تريد أن تأكل إذن‪.‬‬
‫القصــة‬
‫الوصــف‪ ،‬أو مــا يعــرف نقديًّــا بالخطــاب اإلنشــايئ يف ّ‬ ‫ـ هل يوجد لدينا سمك!"‪.‬‬
‫القصــرة‪ ،‬ويف عمليــة الحــي عمو ًمــا لــه أهميــة بالغــة‬
‫يف نســج الحــدث وتركيبــه وإظهــاره وفهمــه وإيصالــه‪،‬‬ ‫ـ التناص (‪)Intertextuality‬‬
‫واســتيعابه يف نســق ف ّنــي يضفــي عــى ال ّنــص واقعيّــة مــن‬ ‫التنــاص‪ :‬مامرســة نصيــة عرفــت يف ال ـ ّدرس اللّســاين‪ .‬ع ّرفتــه‬
‫التخييــل املمكــن واملمتــع‪.‬‬ ‫الناقــدة "جوليــا كريســتيفا" بقولهــا‪" :‬إنــه ترحــال لل ّنصــوص‬
‫‪108‬‬

‫بــن راغــب ورافــض‪ ،‬كــا نالــت حظًــا واف ـ ًرا مــن ال ّنقــاش‬ ‫‪ -‬وصـ�ف املظهـ�ر الخارجـ�ي للشّ ـ�خصية( (�‪the prosogra‬‬
‫وال ّدراســة يف علــم االجتــاع اللّغــوي‪ ،‬وكان دامئًــا اإلشــكال‬ ‫‪)phy‬‬
‫القصــة القصــرة وال ّروايــة‪ ..‬ومل ينتــه الجــدل‬
‫هــو الحــوار يف ّ‬ ‫مــن نــص "كذبــة" نقــرأ‪" :‬بقامتــه املديــدة وجســمه ال ّنحيــل‬
‫إىل حـ ّـل‪ ،‬وت ُـرِك األمـ ُر ملــدى ِحكمــة امل ُبــدع وذكائــه‪ ،‬وتقنيتــه‬ ‫الخشــن وشــاغه األحمــر املتهــرئ؛ وقــف أمــام القلعــة‬
‫لعــار‬
‫يف الكتابــة‪ .‬ففــي مجموعــة (املســكوت عنهــم) ّ‬ ‫ـت بزهــوه وهــو يشــمخ برأســه إىل‬ ‫كالطــود الشــامخ‪ .‬أحسسـ ُ‬
‫الجنيــدي‪ ،‬يــأىب القــاص إال أن يوظِّــف الثنائيّــة اللغويّــة يف‬ ‫األعــى صــوب الــرج املتهـ ِّدم مــن ق ّمتــه‪ .‬تن ّهــد وزفــر مــا يف‬
‫بخاصــة‪ ،‬فتــارة يــأيت الحــوار بالعربيــة الفصحــى‬ ‫الحــوار ّ‬ ‫صــدره مــن همــوم‪ ،‬وابتســامة خفيفــة تشــق طريقهــا إىل‬
‫وتــارة بلهجــة عاميــة‪ ،‬وتــارة أخــرى ي ـزاوج بينهــا‪ ..‬ولكــن‬ ‫شــفتيه الجافتــن"‪.‬‬
‫تبقــى ال ّنصــوص التــي اعتمــدت العربيــة الفصحــى يف‬ ‫ومثــال آخــر عــى وصــف املظهــر الخارجــي للشــخصية‬
‫الحــوار ُمهيمنــة عــى باقــي ال ّنصــوص يف املجموعــة‪ :‬خمســة‬ ‫نجــده يف قصــة "الديــك"‪" :‬أتــاح لــه وجودهــا معــه يف‬
‫نصــا‪ .‬بينــا ال ّنصــوص التــي جــاء حوارهــا باللّهجــة‬ ‫وعــرون ً‬ ‫املصعــد أن يتأ ّملهــا عــى اســتحياء مشــوب باالرتبــاك‪:‬‬
‫العاميــة‪ :‬خمســة‪ .‬ومثلهــا ال ّنصــوص التــي زاوج القــاص‬ ‫ركبتــان بيضــاوان تنحــر عنهــا تنــورة زهريــة اللــون‬
‫الحــوار بــن الفصحــى واللّهجــة األردنيــة‪.‬‬ ‫مرشوخــة عــى الجانــب األميــن‪ ،‬مــن نفــس لــون القميــص‬
‫املنفــوخ مــن منطقــة الصــدر كحبتــي رمــان جرشـيّتني‪ .‬لَمــح‬
‫الصيغ (‪)Plimodality‬‬ ‫‪ -‬تعدُّ د ّ‬ ‫نظــرات ال َولَــ ِه واإلعجــاب بشــخص ّيته حــ ّد التهــ ّور"‪.‬‬
‫قصــص املجموعــة‪ ،‬أو أي مجموعــة قصصيــة ال ينبغــي أن‬
‫تكتــب نصوصهــا وفــق نســق موحــد‪ ،‬بــل يف الغالــب ينبغــي‬ ‫‪ -‬وصف املكان (‪)topography‬‬
‫الصيــغ وأســاليب الكتابــة‪ .‬يقــول "جــرار جنيــت"‬ ‫تعــ ُّدد ّ‬ ‫مــن نــص " كذبــة" نجــد مــا يــي‪" :‬مل أحــر إىل هنــا منــذ‬
‫الصيغــة‪ ،‬هــي‪" :‬اســم يطلــق عــى أشــكال‬ ‫يخــص ّ‬
‫ّ‬ ‫فيــا‬ ‫أربعــن عا ًمــا‪ ،‬كل يشء هنــا قــد تغـ ّـر‪ .‬كل يشء هنــا يبــدو‬
‫الفعــل املختلفــة التــي تســتعمل لتأكيــد األمــر املقصــود‪،‬‬ ‫مختلفًــا‪ ،‬كأين بالقلعــة حجمهــا يتناقــص‪ ،‬كأين بهــا تغــوص‬
‫وللتّعبــر عــن وجهــات ال ّنظــر املختلفــة التــي ينظــر منهــا‬ ‫يف الجبــل"‪ .‬و"كان لهــذه القلعــة تاريــخ عظيــم‪ .‬لقــد عــاش‬
‫إىل الوجــود أو العمــل"(‪ ،)10‬أل ّن الفكــرة يف حـ ّد ذاتهــا‪ ،‬تفــرض‬ ‫فيهــا عـرات الشــعراء أيــام حكــم املامليــك‪ ،‬وأبشــع املذابح‬
‫طريقــة أدائهــا وإيصالهــا‪ ..‬وهــذا مــا نلمســه يف نصــوص‬ ‫يف التاريــخ ارت ُكبــت هنــا بــن جــدران هــذه القلعــة"‪.‬‬
‫مجموعــة "مســكوت عنهــم"‪ .‬فقــد ن ـ ّوع وع ـ ّدد القــاص يف‬
‫صيغــه القصصيــة‪:‬‬ ‫‪ -‬الثنائ ّية اللغويّة (‪)L’inguistic duality‬‬
‫أعتقــد أ َّن الجمــع بــن لغتــن يف نــص إبداعــي رسدي‪ ،‬حتّــى‬
‫‪ .1‬صيغــة الخطــاب املــرود‪ :‬هــو خطــاب يرســله املتكلــم‬ ‫وإن كانــت اللّغــة الثّانيــة مج ـ ّرد لهجــة‪ )dialict( ،‬أو نطــق‬
‫رشا أي (شــخص ّية) أو إىل املــروي‬‫إىل املتلقــي ســواء كـــان مبــا ً‬ ‫دارج عا ّمــي محـ ّـي‪ ،‬يخلــق مشــاكل يف الفهــم واالســتيعاب‬
‫لــه يف الخطــاب القصــي كالــذي نجــده يف قصــة "أوغــاد"‬ ‫لــدى املتلقــي اآلخــر مــن خــارج دائــرة القطــر الواحــد‪ ،‬بــل‬
‫ـب مديـ َر املدرســة‪ ،‬كــم يؤثــر ّيف إحساســه املرهــف؛‬‫(كــم أحـ ُّ‬ ‫أحيانًــا داخــل القطــر الواحــد إذا كانــت اللّهجــة أو بعــض‬
‫لقــد أشــاح بوجهــه عــن املناظــر املر ّوعــة التــي دأبــت عــى‬ ‫مفرداتهــا محل ّيــة ج ـ ًدا‪ ،‬وغــر رائجــة‪.‬‬
‫بثّهــا شاشــات التلفــزة العربيــة منــذ أكــر مــن أســبوعني‪.)...‬‬ ‫وهــذه مســألة أخــذت مســاحة كبــرة يف الجــدل ال ّنقــدي‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪109‬‬

‫عــار الجنيــدي يف مجموعتــه القصصيــة‬ ‫إ َّن القــاص ّ‬ ‫‪ .2‬صيغــة املــرود الــذايت‪ :‬ويتمثــل يف الخطــاب الــذي‬
‫"مســكوت عنهــم" ال يــرد األحــداث حســب‪ ،‬ولكــن يجعــل‬ ‫يتكلــم عنــه املتكلــم عــن ذاتــه‪ ،‬أو عــن أشــياء حصلــت لــه‬
‫وتأمــا‪ ،‬يف أســبابها‬
‫ً‬ ‫القــارئ يســتنطقها‪ ،‬ويغــوص بحثًــا‬ ‫يف املــايض‪ .‬كالــذي نجــده يف قصــة " الكذبــة"‪( :‬مل أحــر إىل‬
‫املوضوعيــة والذّاتيــة‪ ..‬بــل تتحــول القــراءة إىل انشــغال‬ ‫كل يشء‬ ‫كل يشء هنــا قــد تغـ ّـر‪ّ .‬‬
‫هنــا منــذ أربعــن عا ًمــا‪ّ ،‬‬
‫فلســفي‪ ،‬واجتامعــي‪ ،‬وســيايس‪ ..‬أساســه صيــغ أدب ّيــة‬ ‫كأن بهــا‬
‫كأن بالقلعــة حجمهــا يتناقــص‪ّ ،‬‬ ‫هنــا يبــدو مختل ًفــا‪ّ ،‬‬
‫ـرد األردين‪ ،‬تتطلّــب‬
‫قصصيّــة‪ ،‬ت ُشــعر مبوهبــة متميّــزة يف الـ ّ‬ ‫تغــوص يف الجبــل)‪.‬‬
‫وبخاصــة فيــا يتعلــق بالســميوتيقا‬ ‫ّ‬ ‫البحــث وال ّدراســة‪،‬‬
‫ال ّنصيــة‪ ،‬وأنظمــة ال ّدالئــل التــي ال تســتبعد اإليحــاء ودواعــي‬ ‫‪ .3‬صيغــة املنقــول املبــارش‪ :‬ويتمثــل يف نقــل معــروض‬
‫التّخييــل والتأ ُّمــل‪.‬‬ ‫مبــارش‪ ،‬مــن طــرف املتكلــم‪ ،‬وهــذا املتكلــم ليــس باملتكلــم‬
‫األصــي‪ ،‬وينقــل الــكالم كــا هــو دون تغيــر كالــذي نجــده‬
‫يف قصــة‪" ،‬هرولــة"‪( :‬يف ركــن منــز ٍو مــن القاعــة الكبــرة‪،‬‬
‫جلســت بهــدوء متحفــز‪ ،‬جــال برصهــا يف أرجــاء القاعــة‪،‬‬
‫كأنّ ــا لتتأكــد أنّهــا األنثــى الوحيــدة يف هــذا املــكان‪ .‬ومل ّــا‬
‫رب إليهــا ضيــق‬ ‫تأكــدت‪ ،‬خالجهــا شــعور بال ّرهبــة وتــ ّ‬
‫خاصــة وهــي تــرى الحارضيــن ينهبونهــا بنظراتهــم)‪.‬‬ ‫مقيــت‪ّ ،‬‬
‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ .4‬صيغــة املنقــول غــر املبــارش‪ :‬وهــو مثــل الخطــاب‬
‫‪ .1‬القبس (حوار أجراه مؤيد أبو صبيح مع القاص)‬ ‫املنقــول املبــارش‪ ،‬لكــن هنــاك فــرق حيــث إ َّن املتكلــم‬
‫‪https://alqabas.com/article/246783‬‬
‫‪ .2‬من الحوار نفسه‪.‬‬ ‫الناقــل للــكالم ال يحتفــظ بالــكالم األصــي‪ ،‬فيقــوم بنقلــه‬
‫‪ .3‬علوش سعيد‪ ،‬معجم املصطلحات األدبية‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،1988 ،‬ص‪.155‬‬
‫عــى طريقتــه أي بشــكل خطــاب املــرود‪ ..‬كالــذي نجــده‬
‫‪ .4‬انظر‪ :‬الوعي ــ ‪https://ar.wikipedia.org/wiki‬‬ ‫يف قصــة "أبــو عقيــل يحــرث األرض"‪( :‬تلعثــم عقيــل مــدركًا‬
‫‪ .5‬الجاحظ يف "البخالء"‪ ،‬وأبوالعتاهية‪ ،‬والحطيئة‪ ،‬ومقامات بديع الزمان الهمذاين‪،‬‬
‫محمد املاغوط‪ ،‬وجالل عامر‪ ،‬ومحمود السعدين‪ ،‬وأحمد مطر‪ ،‬وأحمد فؤاد نجم‪،‬‬ ‫أ َّن ســنوات عمــره التســعة لــن تقنــع أبــاه مبــا ســيربر تأخــره‬
‫واألديب الفلسطيني إميل حبيبي‪ ،‬وأحمد رجب‪ ،‬وأحمد بهجت‪ ،‬وهاشم السبع‪،‬‬ ‫يف الســهر إىل مــا بعــد منتصــف الليــل‪ ،‬وبتلقائيــة األطفــال‬
‫وفخري قعوار‪ ،‬ولطفي ملحس‪ ،‬ومحمد طملية وموليري وتشيكوف وبرنارد شو‬
‫وغوغول‪...‬‬ ‫التــف عــى ســؤال‬ ‫عندمــا تحارصهــم األســئلة املحرجــة‪ّ :‬‬
‫‪ .6‬جوليا كريستيفا‪ ،‬علم النص‪ ،‬ترجمة فريد الزاهي‪ ،‬دار توبقال للنرش‪ ،‬املغرب‪،‬‬
‫ط‪ ،1997 ،2‬ص‪.21‬‬
‫أبيــه بجــواب عــى ســؤال آخــر مل يكــن بحســبان أبيــه)‪.‬‬
‫‪ .7‬رىب عبدالقادر الرباعي‪ ،‬البالغة العربية وقضايا النقد املعارص‪ ،‬دار جرير للنرش‬ ‫وهنــاك صيــغ أخــرى متازجــت فيهــا الصيــغ األربــع‪ ،‬أو‬
‫التوزيع‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪ ،2006 ،1‬ص‪.203‬‬
‫‪ .8‬انظر‪ :‬دراسة عبدالفتاح داود كاك سنة ‪" :2015‬التناص دراسة نقدية يف التأصيل‬ ‫وبخاصــة أ َّن‬
‫ّ‬ ‫بعضهــا‪ ،‬بفن ّيــة تغــري بالقــراءة والتأمــل‪..‬‬
‫لنشأة املصطلح ومقاربته ببعض القضايا القدمية‪ -‬دراسة وصفية تحليلية"‪.‬‬ ‫أغلــب النصــوص اعتمــدت الحــوار طري ًقــا لــأداء واإليصــال‪.‬‬
‫‪ .9‬سوفوكليس (‪ )Sophocle‬ولد حوايل سنة ‪ 496‬ق‪.‬م‪ .‬يف أثينا وتويف سنة ‪405‬‬
‫ق‪.‬م‪ .‬أحد أعظم ثالثة كتاب الرتاجيديا اإلغريقية‪.‬‬
‫‪ .10‬مصطفى منصوري‪ ،‬الصيغة الرسدية يف النقد العريب الحديث من كتاب النقد‬
‫العريب املعارص املرجع والتلقي‪ ،‬ملتقى يف املركز الجامعي خنشلة ‪ 22/23‬مارس‬
‫‪ ،2004‬ص‪.114‬‬
‫‪110‬‬

‫إبداع‬

‫‪Photo by Art Lasovsky on Unsplash‬‬

‫محمــد خضــر ‪ /‬قيــس الطــه قوقــزة ‪ /‬ســلطان الزغــول‪/‬‬


‫سامية العطعوط ‪ /‬رجاء عبدالحكيم الفويل ‪ /‬حسني دعسة‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪111‬‬

‫الن ّاسِك‬
‫وغـدوت مجنــونًا يُقاتِ ُـل ظـــــلَّـــــهُ‬ ‫ُ‬ ‫ ‬ ‫عت عقْلــــــي كُ َّلـــهُ‬ ‫يف ُح ِّبها‪ ..‬ض ّي ُ‬
‫ـــل ق ْبلَــــهُ‬ ‫وكنت ر ْم ً‬‫الطريـــق‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ر ْم َـل‬ ‫ــت يف ع ِّز الــظهـري ِة قابضً ــا‬
‫ ‬ ‫فجلس ُ‬‫ْ‬ ‫شعر‪ :‬محمد خضري*‬
‫ـــم يف ُهــــدو ٍء شكْلَــهُ‬ ‫ترس ُ‬ ‫والشمس ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـــل يُســــابقُني إليـ ِه ليشـــتيك‬
‫ ‬ ‫ِظ ِّ‬
‫ــع كُـــــ ْحلَــهُ‬ ‫اح ي ْج َم ُ‬ ‫يل‪ ،‬ور َ‬ ‫ىك عـــ َّ‬ ‫فب ٰ‬ ‫ ‬ ‫لــيل حولَنــا‬ ‫ســـال ٌ‬ ‫َ‬ ‫ــزمت ملّـا‬
‫و ُه ُ‬
‫صــــوتًا بال وجــــــــ ٍه أر ّد ُد ق ْولَــــــهُ ‪:‬‬ ‫ ‬ ‫يف صفْحــ ِة املــا ِء الـ ُّزاللِ رأي ُتنـــي‬
‫الســؤال‪ ،‬وقا َم ي ْب ِس ُط بُ ْخلَـــهُ‬
‫َ‬ ‫ل َعــــ َن‬ ‫يحســــ ْو ِمن طويَّــ ِة عابــ ٍر‬
‫ ‬ ‫ال طريَ ُ‬
‫ــل َو ْحلَــهُ‬ ‫ِ‬
‫يغـــس ُ‬ ‫واملـــا ُء ِمن كفــ ّـي ِه‬ ‫ ‬
‫ـدى‬‫ظامــئ يَ ْجري ُس ٰ‬ ‫ٍ‬ ‫أ ْهذي كنهــ ٍر‬
‫البـــــاب أرجو َو ْصلَـهُ‬ ‫َ‬ ‫طــــرقت‬
‫ُ‬ ‫ملّـــا‬ ‫ ‬
‫أقســى قـل َبهـــا‬ ‫ٰ‬ ‫يا قل َبهـــا‪ ،‬ما كانَ‬
‫وأشــــفق‪ ،‬واســتكانَ ‪ ،‬لعلّــــــَهُ‬ ‫َ‬ ‫ل ّب ٰى‪،‬‬ ‫ ‬‫فلعلَّـــــهُ ِمن ف ْر ِط مـــا ناديتُـــــهُ‬
‫نصـــلَــهُ‬‫يف ك ُِّل ُجـــ ْرحٍ كــانَ يَغمــِدُ ْ‬ ‫ ‬ ‫ثـــل الشِّ ــــ ْعرِ‪ّ ،‬إل أنّـــــهُ‬ ‫ال ُح ُّب ِم ُ‬
‫نسـلَــهُ‬ ‫أنجــــب ْ‬
‫َ‬ ‫ِمن ُصل ِْب ما قلنــا ُه‬ ‫ ‬‫َذب الــذي‬ ‫وكال ُهام وج َهـــــانِ للك ِ‬
‫فط ُم ِط ْفلـــهُ !‬ ‫فكيف َي ِ‬‫َ‬ ‫ط ْع َم ال ِّنســـا ِء‪،‬‬ ‫طـفل مل ي ُذ ْق‬
‫ ‬ ‫وأنا مبــــا ِء الشّ ـــع ِر ٌ‬
‫الظلـــم يعــلـــو عدْ لَــــهُ‬ ‫َ‬ ‫رأيت‬
‫حتى ُ‬ ‫ ‬‫كنت أشــكو ِمن َمرار ِة َو ْحــدَ يت‬ ‫ما ُ‬
‫أحـــاول يف القَـــــصيد ِة ق ْتلَـــــهُ‬ ‫ُ‬ ‫وأنا‬ ‫ ‬
‫وى‬
‫واستقلت من الـ َه ٰ‬ ‫ُ‬ ‫ُتلت ِش ْع ًرا‪،‬‬
‫فق ُ‬
‫قلق يقل ُِّب َر ْحــلَـــــــهُ‬ ‫والقلب فـــي ٍ‬ ‫ُ‬ ‫شيع ُتني‪ ،‬وقبضْ ُت ُحــزين يف يَــ ِد ْي‬
‫ ‬
‫ألقـــى إىل َســـطْــ ِر اإلجاب ِة ُســـ ْؤلَــهُ‬ ‫ٰ‬ ‫ ‬ ‫الكالم عن الذي‬ ‫ِ‬ ‫وسألت يف سـوقِ‬ ‫ُ‬
‫ـــى د ْهــ ًرا‪ ،‬وضــ َّي َع أ ْهـــلَـهُ‬ ‫ع َبدَ الدُّ َم ٰ‬ ‫ ‬ ‫اب األُنوث ِة ناســـِ ٌك‬ ‫قالـــــوا‪ :‬مب ْحر ِ‬

‫* شاعر أردين‬
‫‪khudairart@yahoo.com‬‬
‫‪112‬‬

‫َسّ احِر‬
‫الق َُب ّعَة ِ‪...‬‬
‫وإِنْ وا َج َهتني املَتا ِع ُب‬ ‫ِ‬
‫الوقت‬ ‫سحِ‬ ‫كض يف َم ْ َ‬ ‫أَنا سا ِح ٌر يُ ْت ِق ُن ال َّر َ‬
‫ال أَف َع ُل املُس َت َ‬
‫حيل‬ ‫ثم أَخ ُر ُج ِم ْنهُ‬ ‫عقلكم‪َّ ،‬‬
‫ْ‬ ‫دخل يف‬ ‫أَ ُ‬
‫وات انتبا َه ال َج ِميعِ‬ ‫أُش ِّت ُت يف ال ُخطُ ِ‬ ‫بيدي إىل ال ُق َّبعهْ‬
‫َّ‬ ‫وأُدخلهُ‬
‫بائ‬‫حول ِظ ِ‬ ‫ئب َ‬ ‫وأَق ِف ُز كال ِّذ ِ‬
‫ئب َق َبضَ تَهُ‬‫َمتى أَ ْحك ََم ال ِّذ ُ‬ ‫خرج أَرنَ َب َت ِني‬
‫وأُ ُ‬
‫هل عىل‬ ‫فس ُيصب ُِح َس ً‬ ‫س َب َح ٍ‬
‫امم‬ ‫أُطَ ِّ ُي ِ ْ‬
‫بي أَنْ يَت َب َعهْ‬
‫الظَّ ِ‬ ‫أُ َف ِّت ُت أَعصابَك َْم دونَ أن تَشْ ُعروا‬ ‫شعر‪ :‬قيس الطه قوقزة*‬
‫موج ال َّتفاصيلِ‬‫وأُح ِّر ُض َ‬
‫أُمار ُِس إِلْها َءك ُْم‬ ‫نث ُه‬‫أَ ُ ُ‬
‫أَخ َتفي َف ْجأَ ًة ِم ْن أَ ِ‬
‫مام ال ُحضُ و ِر‬ ‫أُ ْغر ُِق ال َب ْح َر واألَ ِ‬
‫رشعَهْ‬
‫ْف ال َج َمهريِ‬ ‫وأَظه ُر َخل َ‬
‫يف لَ ْقطَ ٍة ُم ْق ِن َعهْ‬ ‫َأنا َملِ ِك ال ِح َيلِ املُنتقا ِة‬
‫تيت ليك أَدخ َُل َ‬
‫العقل‬ ‫أَ ُ‬
‫لست أُؤْذي أَحدْ‬ ‫كاذب ُ‬ ‫أَنا ٌ‬ ‫العقل أَو أَخدَ عَهْ‬
‫س َق َ‬ ‫يك أَ ْ ِ‬
‫ال نِسا َء وال شَ يخَ ال ِطف َْل‬
‫ال َر ُج ًل ال َولَدْ‬ ‫االنزالقات واألَقنعهْ‬‫ِ‬ ‫َأنا َس ِّيدُ‬
‫عليكم‬
‫ْ‬ ‫مثل الجميعِ‬ ‫كذب َ‬‫وأَ ُ‬ ‫أُرا ِه ُن دو ًما عىل ِخ َّف ِتي‬
‫قسم باألربعهْ‬ ‫وأُ ُ‬ ‫ح َني أَميش رسي ًعا عىل‬
‫بي أُح ِّركُك ُْم‬ ‫سحِ الكَ ِذ ِب ال َجانِ ِّ‬ ‫َم ْ َ‬
‫وأَنتم تُ ِح ُّبونَ‬ ‫مثلام أَش َتهي‬
‫ديق هذا الكَ ِذ ْب‬ ‫ت َْص َ‬ ‫غال ًبا ال أُواجِ هُ مش ِكلَ ًة‬
‫ورؤْي َة يش ٍء ثقيلٍ يطريُ‬ ‫ليس يَل َز ُمني‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫خفيف يس ُري‬ ‫ورؤْي َة يش ٍء‬ ‫غ َري أَنْ أَنق َُل املَشْ َهدَ ال ُح َّر‬
‫يقطع املا ُء يف غفلَ ٍة ْ‬
‫إص َب َعهْ‬ ‫َ‬ ‫وأَنْ‬ ‫رض‬ ‫ِم ْن طاب ِِق ال َعقْلِ لألَ ِ‬
‫يف ُخطْ َو ٍة ُم ْ ِ‬
‫سعَهْ‬

‫* شاعر أردين‬
‫‪qais.gogazeh@mot.gov.jo‬‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪113‬‬

‫وتُريدُ ونَ ِم ِّني املَزيدَ‬


‫لب‬ ‫‪ -‬متا ًما ‪ -‬كام املَع ِدنُ َّ‬
‫الص ُ‬ ‫عكم دونَ جو ٍع‬ ‫أُ َج ِّو ْ‬
‫ي ْت َب ُع َمن طَ َّوعَهْ‬ ‫عرف أَنَّ الَّذي َج َّو َعتْهُ‬ ‫وأَ ُ‬
‫(الالزوردي)‬
‫ِّ‬ ‫ُمشَ اهَدَ ُة الكَ ِذ ِب‬
‫تَظُ ُّنونَ أَين أُ َر ِّفهُ عنك ُْم‬ ‫يل‬‫واملل َم ُس امل َ ْخ َم ُّ‬
‫ولك َّنني يف ال َحقي َق ِة ل َْس ُت‬ ‫وصدَّ َق ما َقدْ رآ ُه‬ ‫َ‬
‫ٌهنا َك‬ ‫َسيعشَ ُق َم ْن َج َّوعهْ‬
‫أُدا ِع َبك ُْم‬
‫بَل أَنَا‬ ‫أَنا ساح ٌر يُت ِق ُن ال َّر َ‬
‫سم‬
‫أَ ْعر ُِف الغائِب َني‬ ‫كات ‪...‬‬ ‫باملا ِء وال َح َر ِ‬
‫سم َء ُه ْم‬ ‫َظ أَ َ‬ ‫وأَ ْحف ُ‬ ‫يُشَ ك ُِّل ِط َني املَجاز ِ‬
‫ات‬
‫طيع تَ َذكُّ َر ك ُِّل ال ُحضو ِر‬ ‫أس َت ُ‬ ‫ْس َو ْجهَ ال َحقي َق ِة‬ ‫َيك ِ ُ‬
‫آل ُخ َذك ُْم ُد ْف َع ًة َوا ِحدَ ْه‬ ‫ثم أَك ِ ُ‬
‫ْس ُه‬ ‫أَك ِْس ُه َّ‬
‫إِىل اللَّحظَ ِة امل ُ ْم ِت َعهْ‬ ‫َم َّر ًة‪َ ،‬م َّرت ِني ‪...‬‬
‫َوأَد َف َعك ُْم م َّر ًة وا ِحدَ ْه‬ ‫لِ َك أَ ْج َم َعهْ‬
‫الس ْقطَ ِة املُوجِ َعهْ‬ ‫إِىل َّ‬
‫ْس ال َو ْق َت فيك ُْم ِم َرا ًرا‬ ‫أَنا أَك ِ ُ‬
‫َوف والشَّ كِّ‬ ‫ويف لَ ْحظَ ِة الخ ِ‬ ‫كنت أُحاو ُِل تَقْدميَهُ‬ ‫ويف ظاه ِر األَم ِر ُ‬
‫يف لَ ْحظَ ِة الضَّ ْعضَ َعهْ‬ ‫ات‬‫حيث ت َْس َت ْسلِ ُم ال َّنظَ َر ُ‬
‫ُ‬
‫َو ِف ِق َّم ِة امل َ ْع َم َعه ‪...‬‬ ‫وأَ َّما الحقيق ُة‪:‬‬
‫أَنا أَنْ َحني َف ُي َصف ُِّق َم ْن َدخَلوا‬ ‫حاول أنْ أُ ْرجِ َعهْ‬
‫ُنت أُ ُ‬ ‫ك ُ‬
‫عالَ ِمي‬
‫أص َبحوا تَ ْح َت َسيطَ َر ِت‬ ‫ْ‬ ‫رغم َجميعِ الشُّ ك ِ‬
‫ُوك‬ ‫َو َ‬
‫تَ ْح َت ِمط َر َقتي‬ ‫الَّتي يف البِدَ ا َي ِة‬
‫ُطاي‬
‫آ َمنوا ِبخ َ‬ ‫كم‬
‫كان َْت تُرا ِو ُد ْ‬
‫َوبِال ُق َّب َعهْ ‪.‬‬ ‫فأَنا اآلنَ طَ َّو ْ‬
‫عتكم‬
‫‪114‬‬

‫•ابتهال أ َ ّول‬
‫ماء‬
‫ارفق بنا ً‬
‫قليل‬
‫وهب لنا من بعلنا‬ ‫أي "عنا ُة" التي تتاميل‬
‫غيثًا يعيد زرعنا‬ ‫يف ترشين‬

‫كنعان‬
‫ما ًء يجوب حقلنا‬ ‫يندلق شعرها فوق‬
‫يحيي رماد أرضنا‪.‬‬ ‫رؤوس الغابات‬
‫يتمدّ د يف السهول‬

‫•ابتهال ثالث‬
‫أوقدي نارك يف انتظار‬
‫كانون‬ ‫شعر‪ :‬سلطان الزغول*‬
‫"بعل"‬
‫ندهناك يا ُ‬ ‫ليخرج "بعل" من‬
‫يا أبانا املب ّجل‬ ‫غياهب "موت"‬
‫يا ساكن األرواح‬ ‫وينفخ ريح األمل يف‬
‫يا ُمع ّمد القلوب‬ ‫األرض العطىش‬
‫سألناك أن تأيت‪..‬‬ ‫أي "عنا ُة"‬
‫أوقدنا نريان الحياة يف انتظار‬ ‫أ ّيتها األ ّم املرغوبة‬
‫البهي‬
‫عصفك ّ‬ ‫املخش ّية‬
‫أشعلنا حقولنا بأمل ّ‬
‫التجل‬ ‫أيّتها العاصفة الهادئة‬
‫فهب لنا رؤيتك‬ ‫ْ‬ ‫تنفّيس الغياب لتزفري‬
‫الساموي‬
‫ّ‬ ‫أشعل برقنا برمحك‬ ‫الحضور‬
‫لنتب ّتل يف انتظار مائك امل ُ ْن َص ّب‬ ‫تناويل من قمحنا األثري‬
‫ُجل كرمك‬ ‫ذه ًبا يف األرض ون ّ‬ ‫وأعطنا األمل‬
‫أعطنا ُلنيض جاللك يا ابن‬ ‫ليرشق الربيع من جديد‪.‬‬
‫السامء املغطّى بالغيوم‪..‬‬

‫•ابتهال ثان‬
‫لينطلق العشب يف الحقول‬
‫فت ًّيا ُي ّتع عينيك‬
‫لتسكن الجديان إىل وديانها‬ ‫يا "موت"‬
‫الخصيبة‬ ‫رضا وغائ ًبا‬
‫يا حا ً‬
‫وترقص العصافري عىل خرير‬ ‫احل‬‫يا ساك ًنا ور ً‬
‫مائك العذب‪.‬‬ ‫يا ُمطلقًا‬
‫يا غاض ًبا‬
‫* شاعر أردين‬
‫‪sultanzgool@gmail.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪115‬‬

‫ِ‬
‫مملكتك‬ ‫هذا الرتاب‬ ‫• لقاء بعل‬ ‫• نشيد‬
‫هذا الرتاب سكني‬

‫الخصب‬
‫"بعل" يتمطّى‬ ‫حني صحا ُ‬
‫هذا الرتاب صوت املح ّبة يتث ّنى يف حلقي‬ ‫سألته أن يكتب سرية املاء‬
‫هذا الرتاب يل‪..‬‬ ‫عب الدالية‬
‫أن يسكب الذكريات يف ِّ‬ ‫ِ‬
‫جديانك يف‬ ‫مت‬
‫ما إن ن ّو ُ‬
‫بل أنا لهُ ‪.‬‬ ‫ألرتّبها وأبني له العريش‬ ‫زرائبها‬
‫ألظلِّلَهُ يف متوز القادم‬ ‫ِ‬
‫محاصيلك‬ ‫وقطفت من الحقل‬ ‫ُ‬

‫• قصة المحب ّة‬


‫داعب شعر ذقنه الالمع بدهن الزيتون‬ ‫َ‬ ‫الوفرية‬
‫وبش يف وجهي‬ ‫َّ‬ ‫بعلك ليفرتش‬ ‫دعوت ِ‬ ‫ُ‬ ‫حتى‬
‫لك عن املح ّبة‬ ‫سأحيك ِ‬ ‫ثم انطلق يف السهول‪.‬‬ ‫بقايا الفول األخرض‬
‫املح ّبة فراشة تنحد ُر بفرح نحو الضوء‬ ‫الطري مشو ًّيا‬ ‫ويتم َّتع بالفريك‬
‫ّ‬

‫• نشيد التراب‬
‫املح ّبة رساج البصري وضوء ال ّرايئ‬ ‫نارك األليفة‬ ‫عىل ِ‬
‫حينام كشفت املح ّبة الغطاء‬ ‫أي "عنا ُة"‬
‫فعل الخلق‬ ‫ابتدأ ُ‬ ‫ش ُق بشعر ِِك‬ ‫"بعل" َي ْ َ‬
‫ها هو ُ‬ ‫يا س ّيدة الجبال‬
‫سكنت إىل ال ُّرؤية‬‫ُ‬ ‫حني‬ ‫أ ّيتها األم "عناة"‬ ‫يا رفيقة املتعبني‬
‫جاءتني ال ُّرؤى‬ ‫دعي شفتيه تط ّوقان سواد الغابات‬ ‫مللمي شعرك لتطل َُع الشمس‬
‫حرضت عرب غيمك املح ّمل بالغواية‬ ‫ِ‬ ‫حني‬ ‫الكثيف‬ ‫وينضج قم ُح ِك‬
‫"بعل" وأطلق رعدَ ه يف الرباري‬ ‫داخَ ُ‬ ‫لينفجر األخرض يزهو بالثمر‬ ‫يتاموج بغنجٍ مع‬ ‫ها هو‬
‫ُ‬
‫فانكشف عن هطل ثقيل‬ ‫أي "عنا ُة" الدالية‬ ‫ِ‬
‫هوائك الطر ّية‬ ‫ه ّب ِ‬
‫ات‬
‫فأجاءها املخاض تحت شجرة الجوز‬ ‫أي "عنا ُة" اللّوزات‬ ‫وينوس األمل مع د ّقات ِ‬
‫قلبك‬ ‫ُ‬
‫وانولدَ التاريخ ناص ًعا‬ ‫أي "عنا ُة" التفّاح دون عقدة الخروج‬ ‫يفرش السهول‬ ‫لرؤية األقحوان ُ‬
‫قبل أن تل ّونَهُ الحروب واملاملك‬ ‫تك عىل درب الينبوع‬ ‫ها هي ج ّن ِ‬ ‫مع زفرات وشهقات ِ‬
‫بعلك‬
‫حينام كانت الطيور إخوة‬ ‫تنفجر بالثمر طر ًّيا طاز ًجا‬ ‫الغني‬
‫املستلقي يف أخرضك ّ‬
‫وكان البوم أليفًا‬ ‫تغتسل بال ّندى يف محيطها‬ ‫ُ‬ ‫التينات‬ ‫تُحيطهُ موسيقى الينابيع‬
‫السياج البستان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قبل أن يُط ِّوق‬ ‫والسو الكثيف يُزنّرها‬ ‫وخط ُو املها الخفيف إىل املاء‬
‫ّ‬
‫أندهش من كثافة الحضور‬ ‫ُ‬ ‫وأنا‬ ‫يعص ُمها الفرح بالخصب‬ ‫ِ‬

‫ل ثقيل‬
‫• حِم ٌ‬
‫وبراءة الرنجس‬ ‫واألشجار املندلقة بالثمر‬
‫وانسياب الطّري فوق رأيس‬ ‫الكثيف‪.‬‬
‫أوملت لهُ فيه ضلوع القلب‬
‫بعد عشاء ُ‬ ‫وانزالق الدنان بني أصابع "بعل" العظيم‬
‫أنكرين قبل صياح الدّ يك‬ ‫لرتوي الرتاب‬
‫‪116‬‬

‫لك ّن األرض قصيدة‬ ‫"عنا ُة"‬ ‫ونبذين خلف األسوار‬


‫قبل الحرف وبعد الحرف‬ ‫يا غيم "عنا َة" الناهدَ يفَّ‪..‬‬ ‫فرأيت "عنا َة" تجوب الحقل‬
‫قبل العرس الكو ّين الخالد‬ ‫السحري‬
‫ّ‬ ‫يف الحقل‬ ‫ثم انتبذت كهفًا تحت التلّة‬
‫قبل "البعل" وبعد "عناة"‪.‬‬ ‫يف قلب الغابة‪.‬‬ ‫يروح‬
‫الصبح ُ‬ ‫وانتظرت غيم ُّ‬
‫ل ُت َجدِّ ل من ضوء الشمس‬

‫• نشيج عناة‬ ‫• نور ٌ أخضر‬


‫الدف َء‬
‫كتفي‬
‫الكلم عىل َّ‬ ‫وتريق بريق ِ‬
‫"بعل"‪ ..‬يا بعيل‬ ‫يا ُ‬ ‫رسة‬
‫الضّ حى ميأل خرصها بامل ّ‬ ‫كنت أنوء بحملٍ ما أثقله!‬ ‫ُ‬
‫عُدْ المرأتك‬ ‫والنها ُر قصري‬ ‫فدنوت‬
‫ُ‬
‫هذا الليل طويل موحش‬ ‫رضت بتناول‬ ‫والخدود اخ ّ‬ ‫تدانيت‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫انزع عنكَ الخد َر الكو ّين‬ ‫قربان الشجرة املباركة‬ ‫القلب‬
‫ُ‬ ‫وارتعش‬
‫وتنفّس عبق الفجر القادم‬ ‫بعد انتهاء ترشين‪..‬‬ ‫الحقل إ ّيل‬
‫ُ‬ ‫ومىش‬
‫هل متلك إال أن تغلب "موت"؟‬ ‫يف أواخر كانون‬ ‫مت ومل أنطق‬ ‫الص ُ‬ ‫أتعبني ّ‬
‫أن تخرج يل وإ ّيل؟‬ ‫ينضج القربان األخرض‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫قالت‪ :‬ك ْن ماء الينبوع‬
‫أن تحرث حقيل ليكون الكون؟‬ ‫يغدو نو ًرا رشق ًّيا‬ ‫وتدفّق يف الدحنون‬
‫ُرجوع‬ ‫• ‬ ‫يكشف يف الليل العتمة‪.‬‬ ‫واسكن ن ّوار اللوز‬
‫أعدّ ي لنا املائدة‬ ‫العتم ويشكّله‬
‫يعجن "موت" َ‬ ‫ثم متايل سنبلة يف سهيل‬ ‫ّ‬
‫اشتقت للزيت مغ ّم ًسا بالقمح والشعري‬ ‫تخرج كائنات مخيفة‬ ‫الصيف سنابل ال‬ ‫و ِف ْض يف ّ‬
‫العتم روحي‬‫طال ُ‬ ‫تنكمش القرى يف سكون أواخر‬ ‫تنضُ ب‬
‫ُهت يف الظلمة السفل ّية ً‬
‫طويل‬ ‫وت ُ‬ ‫كانون‬ ‫أيلول تنفّس عبق‬ ‫فإذا جاءك ُ‬
‫حامل رمح املح ّبة‬ ‫لك ّنني أعود ً‬ ‫تخرج "عنا ُة" بنورها الهادر‬ ‫الغابة واسكن أخرضها‬
‫ألكتب سرية املاء‬ ‫العتم وتسأل املاء أن‬ ‫فتزيح َ‬ ‫ُ‬ ‫لتعود جدائل تغ ُم ُر خرصي‬
‫جدائلك الغابات‬‫ِ‬ ‫ألروي‬
‫َ‬ ‫يسخو هذا املوسم‬ ‫ريح طرت بعيدً ا‬ ‫فإذا انبعثت ٌ‬
‫أعدّ ي ال ّنار‪ ..‬ها قد أتيت‬ ‫ليعيد تشكيل األرض‬ ‫لتعود إىل الحقل رشابًا للعشب‬
‫أصابعك الشاحبات ليالٍ معدودات‬ ‫ِ‬ ‫وعُدّ ي عىل‬ ‫خرضاء من جديد‬ ‫ولألزهار‬
‫ألعود بالربق فتستعيدَ ضوءها الجدائل‬ ‫لتلدَ نو ًرا يتبعهُ نو ٌر من فوقه‬ ‫رصت الغابة إذ بعثتني‬ ‫ُ‬
‫"عنا ُة" الحبيبة‪ ..‬ها قد أتيت‬ ‫نور‬ ‫وأنا الغاب ُة والغاب ُة ّ‬
‫رسي‬
‫لن يطول االنتظار‪.‬‬ ‫من بني األنوار الحبىل باآلمال‬ ‫رس الغابة‪..‬‬ ‫يا ّ‬
‫جاء الشاعر يكتب لألرض‬ ‫رسي‬
‫يا غابة ّ‬
‫قصيدتها‬ ‫رس الغيم إذا حبلت بالغيم‬ ‫يا ّ‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪117‬‬

‫ل‬
‫قَلي ٌ‬
‫م ِن‬
‫تَضْ َحكُ بِدَ اللٍ‬ ‫أ ْجلِ ُس يف املَطْ َع ِم َوحدي‬
‫إ ْذ تُ ِْسكُ يب أَ ْعدو يف َع ْين ْيها‬ ‫َلف ال ّنافذ ِة ال َحمقاء‬ ‫أتوارى خ َ‬

‫ل‬
‫عَسَ ِ‬
‫َوق الزبدَ ه‬ ‫َركت ُق ْبل َتها ف َ‬ ‫ت ْ‬ ‫أُ َقطِّ ُع أَطر َ‬
‫اف الطَريِ املَشْ و ِِّي‬
‫كل شفا ِه املوجودين‬ ‫َذابت ّ‬ ‫ف ْ‬ ‫رض يل‬
‫يك ُيح َ‬ ‫أصيح عىل النادلِ ْ‬ ‫ُ‬
‫هنا‬ ‫جم ًرا أنقى‬
‫َيم عىل الطُ ُر ِ‬
‫قات‬ ‫ش الغ ُ‬ ‫وان َت َ َ‬ ‫أَ ْس َح ُب نَف ًَسا‪.‬‬

‫ب‬
‫الح ُ ّ‬
‫الس ّجا ِد‬ ‫فوق ِ‬ ‫سيل ُقلو ًبا َ‬ ‫َي ُ‬
‫األَ ْحم ِر‬ ‫ها أَنَذا يف َم ْجرى ال ّري ِح‬
‫بَ َني موائدَ تَتأر َج ُح يف عي ِد‬ ‫داف‬‫بِال ِم ْج ٍ‬
‫ال ُح ِّب‬ ‫ؤوس األَشْ جا ِر‬ ‫َوق ُر ِ‬ ‫أ ْرك ُُض ف َ‬
‫الواقع َمجنونًا‬
‫ُ‬ ‫أَال َيبدو‬ ‫املَوىت الق ْتىل‬
‫َي ْس ُرت ع ْو َرتهُ بِبقايا اللونِ‬ ‫ات ِمن‬ ‫رشح َقطَر ٍ‬ ‫ضباب َي ُ‬ ‫ٍ‬ ‫نح َو‬ ‫شعر‪ :‬سامية العطعوط*‬
‫الباهت؟‬
‫ْ‬ ‫ضو ٍء يف ال َع ْت َمه‬
‫وأنا أَكْرث من واحدْ !!‬ ‫أَ َح َت ِط ُب امل َ ْو َت‬
‫أُنثى َوثالث ُة أَشْ باحٍ تَل ُ‬
‫ْهث‬ ‫ليل ِم ْن َع َسلِ ال ُح ّب لَنا‬ ‫َق ٌ‬
‫ُولول يف َصد ِر الري ِح‬ ‫َوت ُ‬ ‫قالت َق ْب َل شُ هو ٍر‬
‫ْ‬
‫اف ال ُح ِّب بِذاكريت‬ ‫تُقطّ ُع أطر َ‬ ‫لسكّ ِني ال َع ْميا ِء‬ ‫ّالمع لِ ّ‬
‫وال َن ْص ُل ال ُ‬
‫الحب لنا‬ ‫َوكثريٌ من وجعِ ّ‬ ‫يُح ِّر ُر ِقطْ َع َة زب ٍد ِمن َم ْسكَ ِنها‬
‫لت لَها‬ ‫ُق ُ‬ ‫غيف ال ُخ ْب ِز‬‫َوق َر ِ‬ ‫َيد َه ُنها ف َ‬
‫وانطَفأَ العال َْم‪.‬‬ ‫األ ْب َي ْض‪.‬‬

‫* كاتبة وأديبة أردنية‬


‫‪sam59at@yahoo.com‬‬
‫‪118‬‬

‫ي‬
‫زمّار الح َ ّ‬
‫قصة‪ :‬رجاء عبدالحكيم الفويل*‬

‫متا ًمــا‪ ،‬قــاو َم رعــدة هاجمــت جســده‪ ،‬واندهــش أنهــا متلــك‬ ‫الح هنــاك ِظـ ُّـل إنســانٍ يســر يف ضيــاء الشــمس املحتــر‪،‬‬ ‫َ‬
‫ـش الــذي ال يجــده عنــد الكثــر مــن النــاس‪،‬‬ ‫ذلــك القلــب الهـ ّ‬ ‫بــدا وكأنــه ميــارس التسـكُّع وهــو يســر وراء ال َّركــب العائــد‬
‫قَطعهــا ِقط ًعــا صغــرة‪ ،‬كان يتحـ َّرق شــوقًا لبــثّ حيــا ٍة فارقـ ٍة‬ ‫أي مشــاعر‪ ،‬كان "محمد‬ ‫مــن الحقــل‪ ،‬ال يهــب ذلــك الغــروب ّ‬
‫ـب ال ِقطــع يف يــده‪ ،‬واختــار أكرثهــا مناســبة‪ ،‬دا َعبهــا‬ ‫فيهــا‪ ،‬قلّـ َ‬ ‫حامــد" يف أحــد الصباحــات البعيــدة فــوق الرتعــة يبعــر‬
‫وقــد تشــ َّمم رائحتهــا‪ ،‬بــدت لــه مثــل رائحــة الصفصــاف‬ ‫الحيــا َة واألحــام خائضً ــا يف املــاء برِجليــه اللتــن تشــبهان‬
‫طازجــة‪ ،‬وقــد َم ـ ّرر شــفتيه عليهــا ومســحها بقبالتِــه‪ ،‬كــا‬ ‫يكــف عــن التطبيــل‪،‬‬ ‫فــروع الصفصــاف‪ ،‬كان ضفــد ٌع ال ّ‬
‫لــو كانــت لجســد حبيبـ ٍة عــر عليهــا يف هــذا الخــاء‪ ،‬واصـ َـل‬ ‫ورصصــور الحقــول يعــزف‪ ،‬والقمــري يزقــزق‪ ،‬حــاول أن‬
‫متجاهــا قل َبــه املتعاطــف‪ ،‬وقــد شَ ــق عــى‬ ‫ً‬ ‫العمــل بهــا‬ ‫الصفــر‪ ،‬لكــن توقَّــف بعــد‬ ‫يجاريهــم ف َمـ ّط شــفتيه ورش َع يف َّ‬
‫ـوب‪ .‬ف ّرغهــا متا ًمــا ومنحهــا أنفاســه القويّــة‪،‬‬
‫ظهرهــا ثالثــة ثقـ ٍ‬ ‫أن شــعر بجفــاف حنجرتِــه وتهته ِتــه‪.‬‬
‫فص ّفــر فيهــا الهــواء‪ ،‬و َم ـ ّرر أنفاســه عــى الثقــوب الثالثــة‬ ‫ـص عيــدان الغــاب التــي ترعــى‬ ‫فكــر ٌة رش َع يف تنفيذهــا‪ ،‬فحـ َ‬
‫متناوبًــا مــع أصابــع يديــه الســمراء النحيفــة‪ ،‬فانســابت‬ ‫ش ـ ّط الرتعــة كح ـ ّراس‪ ،‬انتــزع أحــد تلــك العيــدان‪ ،‬تواثَــب‬
‫أنغــام حلــوة راقــت لــه‪ ،‬فابتس ـ َم وهــو يــر ِّدد‪:‬‬ ‫إىل ســم ِعه فيــا يشــبه أصــوات أنــن منبعثــة مــن قصــب‬
‫آه يا محمد‪..‬‬ ‫‪ -‬‬ ‫مالط ًفــا وهــو ميــازح أوراقهــا الطويلــة الخرضاء‪:‬‬ ‫الغــاب‪ .‬قــال ِ‬
‫أنفاســه عــى أنغامــه‬ ‫وخرجــت تنهيــدات حــا ّرة مــن ِ‬ ‫ِ‬
‫سأهبك حيا ًة مختلفة‪.‬‬ ‫‪ -‬‬
‫ـمس ابتســام ًة عميقـ ًة وهــي تتدحــرج‬ ‫الشــج ّية‪ .‬خلّفــت الشـ ُ‬ ‫البق َبقــة التــي أح َدثهــا صــوت املــاء وهــو يســحب العــود إىل‬
‫وراء الجبــل‪ ،‬والحشــائش رقصــت مــع الت ّيــار‪ ،‬واألســاك‬ ‫الشـطّ‪ ،‬أوحــت لــه أ َّن الرتعــة غاضبــة؛ لقــد ســقط اآلن أحــد‬
‫عــادت تحلّــق قــرب الشــط‪ ،‬وتصالحــت الرتعــة معــه‪ ،‬فقــد‬ ‫ح ّراســها‪ ،‬اعتكــر املــاء مــن الطــن اللـ ِّـن امللتصــق بالجــذور‪،‬‬
‫رآهــا تبســط امليــاه الرائقــة أما َمــه‪ .‬كان "محمــد حامــد"‬ ‫وانكمشــت الحشــائش امللتصقــة بالرتعــة‪ ،‬والتــي كانــت‬
‫يســخر ِمــن القادمــن ِمــن ال ـ َّزرع ومــن خوفهــم الشــديد‬ ‫ترقــص مــع الت ّيــار الهــادئ‪ ،‬وفــ َّرت األســاك وغطســت‬
‫مــن الليــل‪ِ ..‬‬
‫ضحــك‪:‬‬ ‫بعي ـ ًدا‪.‬‬
‫‪ -‬لِــ َم يخيفهــم الليــل‪ ،‬وال يخيفنــي؟ أنــام عــى املصطبــة‬ ‫جلــس عــى حــرف الرتعــة وقــد الح املــاء لعي ِنــه رماديًّــا‪ ،‬وبدأ‬
‫هربــت‬
‫ُ‬ ‫الحجريّــة طــوال الليــل خــارج دارنــا‪ ،‬يف الحقيقــة‬ ‫الصلــد عــى قصــب الغــاب‪ ،‬ت ـرا َءى لــه أ َّن‬ ‫يُس ـ ِقط منجلَــه ّ‬
‫مــن أجســاد إخــويت‪ ،‬ينامــون وعــى أرجلِهــم وأيديهــم‪،‬‬ ‫لهــا قل ًبــا ل ّي ًنــا يتم ـ َّدد يف كل جســدها وقــد استســلمت لــه‬

‫* كاتبة مرصية‬
‫‪rarg88881@gmail.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪119‬‬

‫النعــاج تلــك؛ فقــد كان يتــوزَّع لــون نعاجِنــا بــن أبيــض‪،‬‬ ‫حتــى وجوههــم‪ ،‬طــن ال ـ َّزرع‪ ،‬تخــرج منهــم روائــح كريهــة‬
‫وأســود‪ ،‬وأحمــر‪ ،‬نفــرش ِمــن تلــك األرديــة ونتغطــى‪ ،‬نتحلّــق‬ ‫يخنقنــي ظراطهــم وفســاهم‪ ،‬مل أجــد مهربًــا منهــم غــر تلــك‬
‫حــول َج ـ ّديت‪ ،‬تحــي لنــا كل ليلــة حكايــة "نــص نصيــص"‪،‬‬ ‫أنفاســا حلــوة‪،‬‬
‫املصطبــة وذلــك الليــل‪ ،‬أالقــي عــى املصطبــة ً‬
‫و"العصفــور األخــر"‪ ،‬الولــد الصغــر الــذي ذبحتــه امــرأة‬ ‫وذلــك ال ّنــدى الرائــق‪ ،‬أنفــخ طــوال الليــل يف مزمــاري فتــأيت‬
‫أبيــه‪ ،‬وجمعــت أختــه عظا َمــه ووضعتهــا تحــت الزيــر‪،‬‬ ‫األشــباح وترقــص عــى أنغامــي ســعيدة‪ ،‬ويحدثوننــي بأنــه‬
‫فنبتــت هنــاك شــجرة عليهــا عصفــور أخــر‪ .‬تذكَّــرتُ أنهــا‬ ‫ال يوجــد عندهــم شــبح مثــي يجيــد مثــل هــذا العــزف‬
‫َســقطت بيننــا وهــي تحــي‪ ،‬فجــأة ســكن كل يشء فيهــا‪،‬‬ ‫ـجي! بينــا تع ِّنفنــي أ ّمــي قائلــة‪:‬‬
‫الشـ ّ‬
‫تج ّمــد‪ ،‬هززت ُهــا أنــا وإخــويت قائلــن‪:‬‬ ‫‪ -‬بطّــل ز ّمــر يــا واد‪ ،‬ز ّمــرك بيخـ ّـي الح ّيــات بتنــزل علينــا‬
‫ـ احــي يــا ج ـ ّدة‪ ،‬احــي‪ ..‬ملــاذا س ـك َِّت؟ أكمــي الحكايــة‪..‬‬ ‫ترقــص مــن ســباية البــوص‪.‬‬
‫يــا ج ـ ّدة يــا ج ـ ّدة!‬ ‫‪ -‬آه لــو تتح ـ َّول الدنيــا كلهــا إىل ليــل‪ ،‬وأرتــاح مــن ال ـ َّزرع‬
‫ولكــ َّن أيب بعــد مــا رفــع ذراعهــا عاليًــا وتركهــا يف الهــواء‪،‬‬ ‫والشــمس!‬
‫َســقطت منــه‪ ،‬قــال‪:‬‬ ‫وهجــم عليــه الليــل‪ ،‬وبــدا كأنــه يتخ َّبــط يف بحــر مظلِــم‪،‬‬
‫ـ ماتت‪ ..‬جاء ملك املوت وأخذ روحها يف الليل‪.‬‬ ‫متلّكــت جســ َده رعشــة قويّــة مــن فكــرة الليــل الدائــم‪،‬‬
‫يف مثــل هــذا الظــام‪ ،‬كل املؤامـرات تتـ ّم‪ ،‬ملــاذا مل يـ ِ‬
‫ـأت لهــا‬ ‫فــرف عنهــا أفــكاره وســقطت يف وجدانــه صــورة الليــل‬ ‫َ‬
‫ملــك املــوت يف النهــار؟ أخــاف أن يــأيت ملــك املــوت يف ليلــة‬ ‫املظلــم الــذي يعاقــره كل ليلــ ٍة عــى املصطبــة الطينيّــة‪،‬‬
‫ويأخــذ أيب أو أمــي أو واح ـ ًدا مــن إخــويت‪ ،‬ففــي كل صبــاح‬ ‫واألشــياء التــي تتحــ َّول إىل أشــباح‪.‬‬
‫أســمع مــؤذِّن الجامــع ينــادي عــى واحــد مــن القريــة مــات‬ ‫‪ -‬صعــب أن أحيــا هكــذا دامئًــا بــن األشــباح‪ ،‬حتــى لــو‬
‫يف الليــل‪ ،‬ملــاذا يحمــل الليــل كل هــذا الخــوف؟!"‪.‬‬ ‫شــخوصا طيّبــة‪ ،‬كــا أين أخــاف املؤامــرات التــي‬ ‫ً‬ ‫كانــت‬
‫وصــل إىل املصطبــة‪ ،‬كان الظــام عفيًــا‪ ،‬لقــد أُذِّن للعشــاء منذ‬ ‫ي ِع ّدهــا الليــل‪.‬‬
‫ـت العــامل حولــه‪ ،‬هــذا الصمــت املقلِــق‬ ‫ـت كبــر‪ ،‬وصمـ َ‬ ‫وقـ ٍ‬ ‫ـب صناعــي‪َ ،‬ست قشــعريرة‬ ‫ارتجــف قلبــه كمـ ْن فا َجــأه مطـ ّ‬
‫نفســه بغطائــه؛‬ ‫واملخيــف‪ .‬اعتــى املصطبــة الطين ّيــة‪ ،‬لـ ّـف َ‬ ‫يف جســده؛ فقــد هجمــت عــى ذه ِنــه صــورة َج ّدتِــه أ ّم أبيــه‪،‬‬
‫فقــد َست حولــه نســات بــاردة‪ ،‬صـ ّـرت رعشــة أنعشــت‬ ‫كان هــو وإخوتــه يلتفّــون حولهــا عــى الفَرشــة األرضيّــة؛‬
‫تنــاول مزمــاره القابــع بجــواره كصديــقٍ حميــم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رو َحــه‪،‬‬ ‫الحصــر املصنــوع مــن الحلْــف‪ ،‬يغطــى بــردة مــن الصــوف‬
‫ـرب لأللحــان املنبعثــة منــه‪َ ،‬ســعد بره ـ ًة‬
‫وأخــذ يســتمع بطـ ٍ‬ ‫الغليــظ‪" ..‬يجـ ّز أيب شَ ــعر نعجاتِــه بنفســه كل ســنة‪ ،‬يحملــه‬
‫بألحانــه‪ ،‬ومــن ثَــم تبدلــت ســعادته آله ـ ٍة موجعــة؛ فقــد‬ ‫يف جــوال ويذهــب ال أعــرف إىل أيــن! أتج َّنــب الــكالم‬
‫ت ـراءى لــه ألّ يشء يســعد يف هــذا الكــون الغامــض‪ ،‬ونظــر‬ ‫معــه‪ ،‬لهــذا مل أســأله أيــن يذهــب‪ ،‬نظــرة عينــه تؤكــد أننــي‬
‫ـوت مســموع‪:‬‬ ‫إىل الســاء ونجو ِمهــا البعيــدة‪ ،‬وقــال بصـ ٍ‬ ‫ال أروق لــه‪ ،‬ولكــن بعــد أســابيع يــأيت لنــا بغطــاء مصنــوع‬
‫أي نعجــ ٍة مــن‬ ‫مــن الصــوف‪ ،‬أســتطيع أن أخ ّمــن شَ ــعر ّ‬
‫‪120‬‬

‫تقــوم حياتــه عــى مــا مي ِّهــده خيالــه مــن أوقــات الهي ـ ٍة‬ ‫ـ ملاذا خلقتَنا يا رب؟!‬
‫ومرِحــة‪ ،‬هامئًــا هكــذا داخــل ألحانِــه الحاملــة‪ ،‬مثــل الطيــور‬ ‫"محمــد حامــد" هــو الوحيــد الــذي مل يكــن مرهقًــا مــن‬
‫التــي تقــف عــى األغصــان برشــاقة‪ ،‬واألســاك التــي تهــرب‬ ‫العمــل يف الــزرع‪ ،‬يرســله أبــوه إىل القراريــط الخمســة‬
‫مــع حـرارة الشــمس إىل األعــاق‪ ،‬كان يتابــع جلبابــه الــذي‬ ‫التــي ميتلكهــا لزراعــة الــذرة‪ ،‬واالهتــام بنباتاتهــا الوليــدة‪،‬‬
‫يرتكــه دو ًمــا عــى إحــدى أشــجار الصفصــاف‪ ،‬حيــث تجرفــه‬ ‫بينــا يعمــل أبــوه يف رعــي الغنــم‪ ،‬وإخوتــه أُ َج ـراء يف أرض‬
‫األحــام والخيــاالت مود ًعــا يقظتَــه‪.‬‬ ‫ـمس والح ـرارة امللتهبــة‪ ،‬ويهــرب مــن‬ ‫اآلخريــن‪ ،‬يلعــن الشـ َ‬
‫ميتلــك تلــك األنامـ َـل الرشــيقة املاهــرة التــي تبعــث الحيــا َة‬ ‫غيطــه الضئيــل إىل عشـ ِقه الكبــر‪ ،‬إىل الرتعــة‪ ،‬يعطــي ثوبَــه‬ ‫ِ‬
‫يف األشــياء التالفــة حيــث يرت ّــق جلبابــه بتقنيــة ال ت ُظهِــر‬ ‫عنايــة خاصــة‪ ،‬يغســله ويعلّقــه عــى أشــجار الصفصــاف‪،‬‬
‫ـط وإبــرة يف قلــب‬ ‫مــكان الفتــق أو القطــع‪ ،‬وقــد أودع بخيـ ٍ‬ ‫ذلــك الجلبــاب الــذي يأخــذ موضــع الــرأس دائــرة تأخــذ‬
‫شــجرة الصفصــاف‪ ،‬فقــد بــدا أنهــا عــى أهبــة االســتعداد‬ ‫الطريــق إىل أســفل فتحــة عــى شــكل رقــم ســبعة‪ ،‬وذراعــان‬
‫إلنجــاز مــا يُطلَــب منهــا مبهــارة‪ ،‬بــدأ يف عــزف األلحــان‬ ‫مثــل الشــايس املقفلــة‪ ،‬يلقــي ِ‬
‫بنفســه يف املــاء‪ ،‬برسوالــه‬
‫الرشــيقة‪ ،‬فجــأة اقتحمــت رو َحــه تلــك الخيبــة‪ ،‬فقــال‪:‬‬ ‫الداخــي املصنــوع مــن قــاش الد ّمــور الباهــت‪ ،‬والــذي‬
‫ـ سبع صنايع والبخت ضايع!‬ ‫كان يبــاع عــى بطاقــة التمويــن‪ ،‬وقــد رفــرف الجلبــاب عــى‬
‫يتحسســه‪ ،‬وحــاول أن يحــر تفكــره‬ ‫تنــاول مزمــا َره وأخــذ ّ‬ ‫أشــجار الصفصــاف مل ّو ًحــا يُحـ ِـدث ارتطا ُمــه يف املــاء صوتًــا‬
‫يف األلحــان واألشــياء التــي تحمــل رائحــة الرتعــة‪ ،‬واألســاك‪،‬‬ ‫ات متعاقبــ ًة وهــو‬ ‫مرتف ًعــا‪ ،‬بــدا لــه موســيقيًا يكــرره مــر ٍ‬
‫ووداعــة شــجرة الصفصــاف‪ .‬لقــد قفــز إليــه الحــل مــع‬ ‫يضحــك‪ ،‬وقــد بــدأ الســباق مــع األســاك التــي تبــدو وكأنهــا‬
‫األلحــان‪ ،‬أخــذ يقلّــب األفــكار يف رأســه‪ ،‬هتـ َـف‪:‬‬ ‫قــد ألِفتــه‪ ،‬قــال لنفســه‪:‬‬
‫ـ يــا رب‪ ..‬أنــا تعبــت ج ـ ًدا! ســأعمل مطربًــا وأك ـ ّون ِفرقــة‪،‬‬ ‫ـ رمبــا كنــت س ـأُخلَق ســمكة‪ ،‬ولكــن دخــل عليهــا تعديــل‬
‫وســأرىض مبــا يدفعونــه يل‪ ،‬حتــى لــو اكتفيــت بعشــايئ‪ ،‬ال‬ ‫مفاجــئ‪ ،‬ســأج ِّرب قــدريت يف الجلــوس تحــت املــاء مثــل‬
‫قــوة عنــدي ملواجهــة الشــمس‪ ،‬ســنعمل أنــا وأصحــايب‬ ‫األســاك‪..‬‬
‫بالليــل وننــام النهــار كلــه‪ ،‬ولــن ترانــا الشــمس‪.‬‬ ‫ورأسه‪ ،‬وقفز إىل سطح املاء‪.‬‬ ‫رضب املا َء بيديه ِ‬
‫بــدا لــه أ َّن ذلــك كل يشء‪ ،‬ليــس مثــة أكــر مــن ذلــك يتطلــع‬ ‫ـت يــا ترعــة يــا كبــرة‪ ،‬ســأدخل اليــوم‬ ‫ـت ســأختنق‪ ..‬أنـ ِ‬ ‫ـ كنـ ُ‬
‫إليــه‪ ،‬ومل ينتبــه قلبــه أ َّن ذلــك بدايــة الســقوط‪ ،‬فقــد هجــر‬ ‫ســباقًا يف عبــورك متحديًــا األســاك‪ ،‬وســأنتهي منــك قبــل‬
‫غيــط الــذرة متا ًمــا‪ ،‬وقــد بــدا للعيــون التــي تراقبــه أ َّن تلــك‬ ‫املســاء‪.‬‬
‫تو ُّجهــات مفرطــة يف االنحــال!‬ ‫ِ‬
‫أنفاســه‬ ‫توقفــت األلحــان فجــأة‪ ،‬وارتفعــت أصــوات‬
‫كان يتســكّع قاصــ ًدا مصطبتــه الطينيــة‪ ،‬محدقًــا يف اتجــاه‬ ‫املتالحقــة‪ ،‬لقــد هزمــه النــوم وأخــذه عنــو ًة إىل عواملِــه‬
‫القمــر‪ ،‬منســابًا كــراب الظهــرة‪ ،‬دا َعبتــه ريــاح هادئــة‬ ‫الغامضــة‪.‬‬
‫تطــوي يف ردائهــا هــواء دافئًــا؛ فقــد كانــت الليــة مق ِمــرة‪،‬‬ ‫بــدا فار ًغــا‪ ،‬مشــاعره تبــدو حياديـ ًة نحــو ِ‬
‫نفســه والوجــود‪ ،‬ال‬
‫ـس ثوبًــا مغايـ ًرا‪ ،‬بــدا لــه كــا لــو‬
‫ت ـراءى لــه الليــل وقــد لبـ َ‬ ‫تحمــل ح ًّبــا وال كر ًهــا‪ ،‬هكــذا كاملــاء والهــواء‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪121‬‬

‫يــوم‪ ،‬ثــم‬
‫اللــن الــذي انتزعــه ذات ٍ‬ ‫وتذكّــر ذلــك القلــب ّ‬ ‫كان نهــا ًرا هادئًــا‪ .‬يحتضــن مزمــا َره بكلتــا يديــه‪ ،‬فقــد كان‬
‫مو ِّج ًهــا كال َمــه للرتعــة‪:‬‬ ‫عائـ ًدا للتـ ّو مــن أحــد أفـراح القريــة املجــاورة لقري ِتــه‪ ،‬وقــد‬
‫‪ -‬بــاع أيب القراريــط التــي امتلكهــا بالــكاد‪ ،‬باعهــا ألســافر‬ ‫القــى ُز ّمــاره وغنــاؤه استحســا َن الحارضيــن‪ .‬لقــد هــرب مــن‬
‫مــن أجــل أن أجلــب املــال‪ ،‬مثــل كل َمــن يســافرون‪ ،‬كيــف‬ ‫الشــمس‪ ،‬لكــن حقيقـ ًة أيــن يهــرب ِمــن مخاوفــه؟ املخــاوف‬
‫ـب الرتعــة‬
‫أحـ ُّ‬‫ي وهــو دو ًمــا يـراين ولـ ًدا فاشـ َـا؟! ِ‬‫يراهــن عـ ّ‬ ‫روحــه‪ ،‬قــال ِ‬
‫لنفســه‪:‬‬ ‫ـؤم يف ِ‬ ‫اب أســود ينعــق بشـ ٍ‬ ‫بداخلــه غـر ٌ‬
‫ـب الشــمس الحارقــة‪.‬‬ ‫والســمك وأعــواد الغــاب‪ ،‬لك ّنــي ال أحـ ُّ‬ ‫ـ عــى الرغــم مــن عشــقى لليــل إال أين أخــاف مؤامراتِــه‪،‬‬
‫ألقَى عىل شمس الظهرية الحارقة كلامتِه األخرية‪:‬‬ ‫نظـرات أيب التــي واجهتُهــا هــذا الصبــاح تقــول إنــه تحالــف‬
‫‪ -‬ودا ًعــا أيتهــا العظيمــة الخالــدة‪ ،‬عذب ِتنــي كثـ ًرا‪ ،‬أمتنــى ّأل‬ ‫مــع الليــل ض ـ ّدي‪ ،‬لقــد خاننــي الليــل!‬
‫تذهبــي ورايئ إىل البلــد الــذي أســافر إليــه‪.‬‬ ‫أطَـ َّـل القمــر منحــد ًرا مــن بــن أشــجار النخيــل عــى البيــت‬
‫والح لــه جلبابــه الــذي تركــه معل ًقــا عــى أشــجار الصفصاف‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الصغــر الطينــي‪ ،‬وعــ ّرى املصطبــة الحجريــة الخاليــة‪..‬‬
‫ـام مهزوم!‬‫ورأى ال ُكـ ّم الفــارغ مل ّو ًحــا لــه كسـ ٍ‬ ‫يقولــون إ َّن املــوت يــأيت يف أشــكال كثــرة‪ ،‬لكنــه أىت بالنســبة‬
‫لــه يف نهايــة األشــياء التــي ِ‬
‫يحبهــا‪.‬‬
‫بعــد أن عــزف كل األلحــان التــي يهواهــا‪ ،‬أل َقــى باملزمــار‬
‫إىل قلــب الرتعــة‪ ،‬فســبح املزمــار يف املــاء رشــيقًا‪ ،‬مثلــه متا ًمــا‬
‫عندمــا يبــدأ يف الســباحة‪ ،‬وقــال‪:‬‬
‫ـ أمتنى أن تنبت مر ًة أخرى‪.‬‬
‫لوحة للفنانة غدير حدادين‬
‫‪122‬‬

‫روح الكلام‪!..‬‬
‫قصة‪ :‬حسني دعسة*‬

‫الشــاطئ‪ ،‬والنهــار غاضــب يف شــتاء قــارس‪ ،‬عقــي مل يتح َّمــل‬ ‫تعاركــت مــع شــبح األزرق‪ ،‬شــ َّوش‬ ‫ُ‬ ‫يف هامــش رســالتي‪،‬‬
‫ـص منهــا النهــر‪.‬‬ ‫أن يقتـ َّ‬ ‫ذهنــي‪ ،‬اختلــط ورق اللعــب‪ ،‬فتباينــت صخــرات العبــي‬
‫شــجرات النخيــل تراقــب‪ .‬ظــال األزرق تبــدأ البــثّ ‪ .‬يتج َّمــع‬ ‫الــورق‪ .‬أتابــع مــع رصاخهــم وهــراء بعــض الخارسيــن‪.‬‬
‫ـت‬‫الباعــة‪ .‬يقــرب الرشطــي العجــوز‪ ،‬يقــول إنهــا بخــر‪ ،‬دخلَـ ْ‬ ‫ـت أعمــل عليهــا‪ ،‬هــدوء مقلــق‪ ،‬تنتــر‬ ‫تتشــابك ملفــات كنـ ُ‬
‫النهــر لتلعــب مــع األســاك‪ .‬ثرثــرة الرشطــي الخَــرِف‪،‬‬ ‫أحــس نبــض‬ ‫ُّ‬ ‫أتحســس شاشــة األزرق بيــدي‪،‬‬ ‫الصبــاغ‪َّ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫جعلــت قلبــي يتوقــف‪ ،‬دخلــت املــاء‪ ،‬متطــر بق ـ ّوة‪ ،‬أمــي‪،‬‬ ‫الشــفافة‪ ،‬أقــول‪ :‬أيــن "حريــر الــروح"؟‬
‫الصــوت برغــم الضّ جيــج‬ ‫تدعمنــي مح ّبــة اللــه‪ .‬كيــف م ّيــزتُ ّ‬ ‫أتذكَّــر حبيبتــي‪ ،‬أكتــب لهــا عــن كتــاب "النبــي" لجــران‬
‫ورصاخ الباعــة وصخــب البحــر‪:‬‬ ‫الصدمــة‪ ،‬أننــي‬ ‫ـج بــه األزرق‪ ،‬قبــل َّ‬ ‫خليــل ج ـران‪ ،‬ومـ ّـا ضـ َّ‬
‫‪" -‬وأع ُرب البح ْر من غريِ كآبة؟"‪.‬‬ ‫قلــت‪:‬‬
‫رأيتُها تغرق‪ ،‬كانوا يهتفونْ‪" :‬ال تفارقنا‪."..‬‬ ‫‪ -‬هذه من أجمل أغاين فريوز التي أعشقها‪.‬‬
‫ـت "حريــر"‪ ،‬حملَتْهــا أعشــاب البحــر‪،‬‬ ‫مــددتُ يــدي‪ ،‬اقرتبَـ ْ‬ ‫الحبيب‪..‬‬
‫ْ‬ ‫"‪..‬وظل املصطفى‪ ..‬املختا ُر‬ ‫َّ‬
‫وعــى ظهــر موجــات متتاليــة تشــابكنا‪.‬‬ ‫الذي كا َن فج ًرا لذات ِه‪..‬‬
‫كل شاشــات األزرق‬ ‫تــاه بنــا بســاط الريــح‪ .‬عيناهــا تطلقــان ّ‬ ‫أورفيليس‪..‬‬
‫ْ‬ ‫ينتظ ُر سفينت ُه‪ ..‬يف مدين ِة‬
‫لعــل قلبــي يعــود إىل‬ ‫وهــي تتناقــل الحكايــة‪ .‬أحضُ ُنهــا‪ّ ،‬‬ ‫ويف السن ِة الثانية عرشة‪ ..‬يف السابعِ م ْن شه ِر الحصا ْد‪."..‬‬
‫النبــض‪.‬‬ ‫رصخــت‪ ،‬ســواد يغتــال شاشــات األزرق‪ ،‬ظــال اخرتقــت‬ ‫ُ‬
‫أح ـ ِّرك أيقونــات‪ ،‬تبــثّ يل شــبح مــا حــدث يف رأس الســنة‪،‬‬ ‫رصاصتهــا القلــب‪.‬‬
‫ـت‪..‬؟‬‫أحــس بالــرد‪ ،‬أيــام ثقيلــة‪ ،‬أيــن أنـ ِ‬ ‫أتوقف‪ ...‬ألهث‪...‬‬
‫أنا هنا‪ ،‬أنا هنا!‬ ‫‪ -‬‬ ‫ـؤش بصوتهــا‬ ‫ـمعت فــروز تـ ِّ‬‫ـت وحي ـ ًدا‪ ،‬متعبًــا‪ ،‬ثــم سـ ُ‬ ‫بكيـ ُ‬
‫يتاميــل بنــا البســاط‪ ،‬شــاهدتُ "عــي بابــا" يلــ ِّوح لنــا أ ْن‬ ‫يل‪:‬‬
‫اهبطــوا يف داخــل املركــب‪ ،‬ريــح رصرص‪ ،‬مــوج أعــى مــن‬ ‫صوب البح ْر‪..‬‬
‫التالل‪ ..‬ونظ َر َ‬ ‫"‪..‬ص ِع َد إىل إحدى ْ‬ ‫َ‬
‫ظــي‪" ،‬حريــر الــروح" ترتجــف‪ ،‬تعانقنــي لعلّهــا تصحــو‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فصل يف سكونِ نفسه‪."..‬‬ ‫ورأى سفينت ُه آتية‪ّ ..‬‬
‫ـت‪ :‬الظــال متم ّوجــة‪ ،‬صفحــات تــأكل غريهــا‪ .‬أصابَتْنــا‬ ‫كتبـ ُ‬ ‫‪ ..‬ســفينتي تحــرق‪َ ،‬مــن ينقــذين؟ ممـ َّدد عــى فـراش عتيــق‪،‬‬
‫ونحــن عــى ظهــر البســاط رشار ُة بــرق‪ ،‬تلقّانــا ت ّجــار "عــي‬ ‫أترقَّــب "حريــر الــروح"‪ ،‬غيابهــا ثقيــل‪ ،‬تشــتَّت ذهنــي‪،‬‬
‫بابــا"‪ ،‬ســقطنا م ًعــا‪.‬‬ ‫ـت أ َّن قدمهــا زلَّــت وهــي متــارس هوايــة املــي ح ـ ّد‬ ‫تخ ّيلـ ُ‬
‫* كاتب أردين‬
‫‪huss2d@yahoo.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪123‬‬

‫ما عنديش روح الكالم"‪.‬‬ ‫والســحرة والجواري‪،‬‬ ‫كان صــوت مراكب ّيــة "عــي بابا"‪ ،‬التجــار َّ‬
‫‪ -‬واضح أنني السبب؟!‬ ‫يطرقــون خشــب وســواري وأحبــال وكـرايس املركــب‪ ،‬يصعــد‬
‫‪" -‬مش عارفة أح ِّدد"‪.‬‬ ‫صوتهــم إىل أثــر فجــر غريــب املالمــح‪.‬‬
‫بدأتُ أحف ُظ أغنيتهم‪.‬‬ ‫‪ -‬‬
‫ـألت ظــال األزرق‪ ،‬كيــف أنق ـ َذتْ "حريــر الــروح" عــي‬ ‫سـ ُ‬ ‫صعقنــي أ َّن الصــوتَ لـِ"حريــر الــروح"‪ ،‬إذًا هــي معــي‪ ،‬لكــن‬
‫بابــا؟‬ ‫أيــن؟‬
‫م ـ َّر طيــف مشــبع بفتنــة األخــر‪ ،‬تقابلنــا‪ ،‬ســندت رأســها‬ ‫مم سمعت‪:‬‬ ‫تيقنت ذاكرة األزرق ّ‬
‫عــى صــدري‪ ،‬النــاس يف حضــن الشــارع‪ ،‬و"حريــر" يف‬ ‫"‪ ..‬يــا بحــور عســلهم ربّــاين‪ ..‬عطشــان يــاين‪ ..‬يــا بحــور‬
‫حضنــي‪.‬‬ ‫العــن‪."..‬‬
‫عاتبتُهــا‪ ،‬ال أدري‪ ،‬قالــت يل إنَّهــا فصــدت دم عــي بابــا‪،‬‬ ‫غامــت صحــوة املركــب‪ ،‬شــفاه "حريــر" تتمتــم‪" :‬ونظــرة‬
‫الــرق والصواعــق أتلفــت دمــه‪.‬‬ ‫وحــدة تروينــي‪ ..‬وتخلّينــي‪ ..‬أشــبع ســنتني‬
‫ـك"‪،‬‬‫حملنــا‪ ،‬ثالثــة صناديــق مذ َّهبــة‪ ،‬قــال لـِ"حريــر"‪" :‬هــي لـ ِ‬ ‫يا مني يوصلني ألبوها‪ّ ..‬ول ألخوها‪ ..‬وأدفع َمهرين"‪.‬‬
‫ــت بهــدوء‪ ،‬ســمع منهــا التجــار‪ ،‬وكبريهــم امل ُصــاب‬ ‫رفضَ ْ‬ ‫هاجــت الحــارة‪ ،‬توقــف الغنــاء‪ ،‬تدافــع الخلــق‪ ،‬قالــوا إ َّن‬
‫بال َّدهشــة‪:‬‬ ‫الــرق أصــاب "عــي بابــا" يف مقتــل‪ ،‬وهــو يجاهــد لــي‬
‫نحــن عشّ ــاق‪ ،‬نــرى بعــن واحــدة ونتن ّفــس برئــة‬ ‫‪ -‬‬ ‫يعيــش‪ .‬فزعــت "حريــر" وقفــت‪ ،‬نزلــت إىل منــام الحــارة‪،‬‬
‫ونتوســد خيالنــا وننــام عــى يــد واحــدة إىل الصبــاح‪.‬‬ ‫واحــدة‪َّ ،‬‬ ‫جســدها منقــوع ببقايــا عشــب البحــر‪ ،‬ملوحــة جففتهــا‬
‫خصهــا عــي بابــا مباســة زرقــاء‪ ،‬لهــا حكايــة تناثــرت كــا‬ ‫ثــم َّ‬ ‫ـول مـ ّـا أشــاهد عــى‬ ‫ـت مذهـ ً‬ ‫ـت‪ ،‬كنـ ُ‬
‫أ ّول الشــمس‪ ،‬تق َّد َمـ ْ‬
‫ثرثــرة وقــت حريــق‪.‬‬ ‫تتلصــص داخــل‬ ‫صفحتــي‪ ،‬أنــا واألزرق وعيــون الت ّجــار ّ‬
‫قلّبنــا صناديــق الهدايــا‪ ،‬كانــت ثقيلــة باملخطوطــات مــن‬ ‫الشاشــة‪.‬‬
‫أشــعار الهنــد والســند‪ ،‬وفيهــا كتــب عــن أرسار الدفــن والقرب‬ ‫رب خري وعافية‪..‬‬ ‫‪ -‬يا ّ‬
‫رق الغــزال‪،‬‬ ‫ــت "حريــر" قطعــة مــن ّ‬ ‫لبس ْ‬
‫حــول البحــار‪َ .‬‬ ‫‪" -‬شو هالغياب امل ُقلق؟"‪.‬‬
‫مدبوغــة باملســك وصعقتنــي‪ ،‬فقــد ســلبت مــا تبقــى مــن‬ ‫‪" -‬كنــت مشــغولة مــع أخــوي‪ ،‬يــوم الســبت واألحــد ع ّديــت‬
‫قلــب مولــع‪.‬‬ ‫عــى بابــا"‪.‬‬
‫ــت‬
‫رقص ْ‬ ‫تحمــل قــادة مــن العقيــق الب ّنــي الغامــض‪َ ،‬‬ ‫‪..... -‬؟‬
‫وتذكَّــ َرتْ أغنيــة الحــارة‪" ....‬ونظــرة وحــدة تروينــي"‪ ..‬وال‬ ‫‪" -‬لكــن‪ ..‬يف حاجــة غريبــة‪ ،‬عنــدي إحســاس ّإن مــش عايــزة‬
‫أدري ملــاذا بكــت؟‬ ‫أتكلّم!"‪.‬‬
‫جنــوين‪ ،‬مثــل لحظــة عشــقها‪ ،‬تتنبّــأ بــاآليت‪ ،‬ال أريــد أن أتنبّــأ‪،‬‬ ‫‪..... -‬‬
‫ففــي شاشــتي هنــاك َمــن يتن ّبــأ يل عــن عامــي الجديــد‪،‬‬ ‫غابت شمس روحي‪ ،‬رفرف قلبي ثم همد‪.‬‬
‫قــد أضحــك ولكــن ال أتج َّمــل‪ ..‬ســأجلس عــى آخــر مقاعــد‬ ‫‪ -‬صباح الخري‪..‬‬
‫الحديقــة اإلســمنت ّية‪ ،‬أركّــز يــدي‪ ،‬أجــاور الياممــات وأهــدل‪،‬‬ ‫‪" -‬شو اليل حاصل‪ ،‬مالك؟"‪.‬‬
‫أهــدل‪ ،‬لــن أكــون وحي ـ ًدا‪.‬‬ ‫‪" -‬عايزة شويّة صمت‪..‬‬
‫مش عارفة ليه‪..‬؟‬
‫‪124‬‬

‫نوافذ‬
‫ثقافة عرب ّية‬

‫ثقافية‬
‫البنية الثقافية واالجتامعية واالقتصادية يف القدس‪ /‬عبدالله كنعان ونرص شقريات‬
‫للقــدس تاريــخ طويــل وهويّــة عريقــة عمــد االحتــال اإلرسائيــي إىل طمســهام‪ ،‬وفــرض عــى املدينــة‬
‫املق ّدســة أرضً ــا وســكانًا أوضا ًعــا اجتامعيــة واقتصاديــة وثقافيــة‪ ،‬يعاينهــا هــذا الكتــاب الــذي م ّهــد‬
‫مؤلفــاه بالحديــث عــن وحــدة العالقــة الثقافيــة واالجتامعيــة واالقتصاديــة بــن األردن وفلســطني‬
‫منــذ أن كانتــا وحــدة إداريــة واحــدة يف صــدر الدولــة اإلســامية يف العهــد األمــوي حتــى اللحظــة‬ ‫محمد ّ‬
‫سلم جميعان*‬
‫الراهنــة‪.‬‬
‫وسـلّط الكتــاب الضــوء عــى وحــدة العيــش املشــرك والتآلــف بــن املقدســيني‪ ،‬فإحصائيــات املعابــد‬
‫تــؤش عــى الرتجمــة العمليــة للعهــدة‬ ‫الدينيــة ورمزيّتهــا ومامرســات معتنقــي الديانــات كلهــا ِّ‬
‫العمريــة التــي أق ّرهــا أتبــاع الديانتــن اإلســامية واملســيحية‪.‬‬
‫ويف الجانــب اآلخــر مــن الكتــاب يكشــف املؤلفــان أثــر االحتــال يف متزيــق هــذه الوحــدة‬
‫وانعكاســاتها‪ .‬متا ًمــا كــا تأثــرت األوضــاع االقتصاديــة ســل ًبا بالسياســات اإلرسائيليــة‪ ،‬وبخاصــة‬
‫القطــاع الســياحي الــذي يشــكل ركيــزة أساســية يف الحيــاة االقتصاديــة يف املجتمــع املقــديس‪ ،‬نظـ ًرا‬
‫ملــا تحظــى بــه املدينــة املق ّدســة مــن مكانــة دينيــة وثقافيــة وتاريخيــة‪.‬‬
‫معــرة للتحــ ُّوالت التــي عصفــت باملدينــة جــ ّراء االحتــال مشــفوعة‬ ‫ويقــدم الكتــاب صــورة ّ‬
‫بالجــداول اإلحصائيــة التــي ترصــد رقم ًّيــا األوضــاع التعليميــة واألوضــاع الصحيــة وطمــس املعــامل‬
‫العمرانيــة فيهــا‪.‬‬

‫* شاعر وناقد أردين‬


‫‪mjomian@gmail.com‬‬
‫أفكار ‪ /‬نوافذ ثقافية‬ ‫‪125‬‬

‫املتعســفة التــي لحقــت باملدينــة ســكّانًا وحضــارة‬


‫ِّ‬ ‫ويف ســبيل تجــاوز كل التحــ ُّوالت والتغيــرات‬
‫وعمرانًــا‪ ،‬يق ـ ِّدم املؤلفــان طرائــق منهج ّيــة للحفــاظ عــى الثقافــة وال ـراث املقــديس‪ ،‬ســواء عــى‬
‫الصعيــد املحــي الفلســطيني أو العــريب واإلســامي وكذلــك الــدويل‪ ،‬من ّوهــن بالــدور األردين يف دعــم‬
‫ورعايــة األوضــاع الثقافيــة واالجتامعيــة واالقتصاديــة يف القــدس‪.‬‬

‫رسائل من روكس بن زائد العزيزي ومن أدباء وك ّتاب آخرين‪ /‬يوسف حمدان‬
‫بعــد أن كاد ف ـ ّن الرســائل يندثــر‪ ،‬يعــود األديــب يوســف حمــدان إىل بعثــه مــن جديــد‪ ،‬فينتقــي‬
‫جملــة وافــرة مــن الرســائل األدبيــة بينــه بــن عــدد مــن األدبــاء‪ ،‬الذيــن لهــم مكانتهــم العل ّيــة يف‬
‫الشــأن الثقــايف‪ ،‬فيجعلهــا يف كتــاب يحضــن حروفهــا‪ .‬وقــد انتقاهــا مــن بــن عــدد وافــر مــن الرســائل‬
‫التــي ظـ ّـل ضني ًنــا بنرشهــا هنــا يف هــذا الكتــاب‪ ،‬ألســباب مل يفصــح عنهــا‪.‬‬
‫الرســائل األدبيــة كــا كُتــب ســر األدبــاء تكشــف بوضــوح أكــر عــن طبيعــة الحـراك الثقــايف‪ ،‬وعــن‬
‫جدليــة العالقــة بــن املثقفــن‪ ،‬وتجـ ّـي للقــارئ كواليــس كثــر مــن املشــهد الثقــايف العــام والخــاص‪،‬‬
‫فبالقــدر الــذي تحمــل فيــه الرســائل النبــض الــذايت فإنهــا تكشــف عــن ســرورات الفعــل الثقــايف‬
‫وبُنــاه ومنعرجاتــه‪.‬‬
‫لقــد حملــت هــذه الرســائل مــادة خصبــة عــن واقعنــا الثقــايف‪ .‬ولعـ َّـل هــذا بـ ّـن أكــر مــا يكــون‬
‫يف رســائل األديــب املرحــوم أحمــد عــودة‪ ،‬فرســائله مليئــة باالمتعــاض مــن واقعنــا الثقــايف يف‬
‫الثامنينــات‪ ،‬ومــن كل مــا يلتبــس فيــه مــن شــلل ّية الكتّــاب يف النــر‪ ،‬والتذ ُّمــر مــن انتخابــات رابطــة‬
‫الكتّــاب وكواليســها‪ ،‬وغريهــا مــن القضايــا الثقافيــة التــي ترصــد مــا ال يتوافــر يف كثــر مــن كتــب‬
‫التاريــخ األديب‪.‬‬
‫ويف ســبيل تحقيــق أكــر قــدر مــن الحياديــة يف هــذه الرســائل فــإ َّن مؤلــف الكتــاب نرشهــا مــن‬
‫رف أو تزويــق يف محتوياتهــا‪ ،‬وتأكيـ ًدا لهــذه الحقيقــة‪ ،‬أثبــت نصوصهــا بخــط أصحابهــا‪،‬‬ ‫دون أي تـ ُّ‬
‫ـت وعــرون رســالة تطفــح بالبــؤس والفــرح‪ ،‬وما‬ ‫ليكــون املطبــوع مواف ًقــا للمخطــوط باليــد‪ .‬إنهــا سـ ٌّ‬
‫ورد فيهــا مــن شــكوى الواقــع الثقــايف مــا زال يريــن عــى واقعنــا الراهــن ثقافيًّــا‪.‬‬
‫‪126‬‬

‫حبيب الزيودي شاع ًرا‪ /‬قاسم محمد الدروع‬


‫يتنــاول الكتــاب تجربــة حبيــب الزيــوي الشــعرية‪ ،‬عــى مســتويي الشــكل والرؤيــة‪ ،‬دون أن يفصــل املؤلــف‬
‫بــن حبيــب اإلنســان وحبيــب الشــاعر‪ .‬وجــاء الكتــاب يف مقدمــة وثالثــة فصــول‪ .‬تنــاول الفصــل األول حيــاة‬
‫الزيــودي ونشــأته والظــروف البيئيــة التــي أثــرت يف تجربتــه الشــعرية وتكوينــه النفــي إضافــة عــى مصــادر‬
‫ثقافــة الشــاعر وطريقــة تشـكُّلها‪ ،‬ومواطــن التأثــر والتأثــر‪ ،‬وأثــر الشــعراء الســابقني واملعارصيــن يف تجربتــه‬
‫الشــعرية‪ .‬كــا غطّــى هــذا الفصــل أبــرز األنشــطة األدبيــة التــي شــارك فيهــا الزيــودي‪.‬‬

‫املؤلــف الفصــل الثــاين للحديــث عــن أبعــاد الرؤيــة الشــعرية‪ ،‬وأجملهــا يف البعديــن الداخــي‬ ‫ُ‬ ‫وخصــص‬ ‫ّ‬
‫والخارجــي‪ ،‬واملــرأة وأثرهــا فيــه وتغلغلهــا يف وجدانــه‪ ،‬واملــكان بأبعــاده املختلفــة وتعلّــق الشــاعر بــه‪ ،‬وأثــر‬
‫ذلــك كلــه يف تنويــر تجربتــه الشــعرية وإضــاءة آفاقهــا املختلفــة‪ ،‬إضافــة إىل النــاذج الوطنيــة يف شــعر‬
‫الزيــودي‪.‬‬
‫أ ّمــا الفصــل الثالــث فأفــرده املؤلــف لدراســة بعــض الظواهــر الفنيــة يف شــعر الشــاعر‪ ،‬فتت َّبــع التنــاص بأشــكاله‬
‫املختلفــة (الدينــي واألديب والتاريخــي) مــرزًا مواضــع التناصــات ومســتواها الفنــي‪ ،‬وكذلــك ظاهــرة االنزيــاح‬
‫ودورهــا يف وصــف تجليــات الشــاعر‪ ،‬والصــور الفنيــة التــي أثــرت يف تجربــة الزيــودي الشــعرية‪ ،‬واســتخدام‬
‫العا ّمــي واليومــي إلظهــار انغــاس الشــاعر يف الحيــاة اليوميّــة الشــعبيّة‪ ،‬كــا وقــف املؤلــف عنــد ظاهــرة‬
‫الدرام ّيــة واملونتــاج اللتــن اســتعارهام الشــاعر مــن الفنــون األخــرى‪.‬‬
‫يتبـ َّـن للقــارئ فــور فراغــه مــن ق ـراءة الكتــاب ال ـ َّدور املم َّيــز للشــاعر الزيــودي الــذي أســهم بشــكل بــارز‬
‫ومؤثِّــر يف املشــهد الثقــايف‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬نوافذ ثقافية‬ ‫‪127‬‬

‫ثقافة عامل ّية‬


‫الخالص من الغرب‪ ..‬األوراسية‪..‬‬
‫الحضارات األرضية مقابل الحضارات األطلسية‪ /‬ألكسندر دوغني‪ ،‬ترجمة عيل بدر‬
‫ـر الفيلســوف الــرويس ألكســندر دوغــن بالحركــة الثقافيــة األوراسـ ّية‪،‬‬ ‫يف هــذا الكتــاب يبـ ِّ‬
‫التــي تشــتمل عــى أطروحــة فلســفية سياســية معاديــة لليرباليــة متا ًمــا‪ ،‬ومعاديــة للنظــم‬
‫ويبــن تناقضاتهــا وانهيارهــا الوشــيك‪ ،‬إذ ستســمح‬ ‫ِّ‬ ‫الغربيــة وللحضــارات األطلســية‪.‬‬
‫كحتميــة تاريخ ّيــة للنظريــة األوراس ـ ّية باالنتصــار الســاحق‪.‬‬
‫يوضِّ ــح املرتجــم بــدر أ َّن لألوراسـ ّية شـقّني‪ ،‬شـ ّـق جيوبوليتيــي‪ ،‬وشـ ّـق أيديولوجــي ســيايس‪.‬‬
‫الجيوبوليتيــي يعــن األوراســية باملنطقــة املمتـ ّدة بــن أوروبــا وآســيا‪ ،‬وتشــمل حضــارات‬
‫أربــع؛ الحضــارة الروســية‪ ،‬والحضــارة الصينيــة‪ ،‬والحضــارة الهنديــة‪ ،‬والحضــارة اإليرانيــة‪.‬‬
‫وهــي حضــارات أرضيــة تللوريــة تقــوم بــراع أبــدي مــع الحضــارات الثاالســقراطية‬
‫البحريــة واألطلســية‪ ،‬مثــل بريطانيــا وفرنســا قد ًميــا‪ ،‬واآلن أمــركا‪ .‬وتتعلــق الحضــارات‬
‫ـر النــاس وحياتهــم وثقافتهــم مــن خــال األرض‬ ‫التللوريــة بــاألرض‪ ،‬فالفكــرة األساســية يف هــذا املفهــوم أنهــا فلســفة تفـ ّ‬
‫التــي يســكنونها‪ ،‬فهــذه الشــعوب تحافــظ عــى القديــم والروحــاين‪ ،‬وتتصــف بالشــمولية واملحافظــة‪ ،‬وتقــاوم بـراوة قيــم‬
‫الحضــارات البحريــة التــي تصفهــا بالتقلّــب‪ ،‬كــا أ ّن الحضــارات األرضيــة تنــايف قيــم الحضــارات الدنيويــة‪ ،‬وتعــادي أفكارها‬
‫وال ســيام األفــكار الليرباليــة وأيديولوجيــا الحداثــة وقيــم عــر األنــوار‪.‬‬
‫وطب ًقــا لهــذه النظريــة‪ ،‬فــإ َّن روســيا والســاف والرومــان واليونانيــن والصينيــن والهنــود واملســلمني "هــم كيــان قــا ّري" يف‬
‫حـ ّد ذاتــه يدعــى أوراســيا‪.‬‬
‫ويُعتــر ألكســندر دوغــن "عقــل بوتــن"‪ .‬وهــو يتمتَّــع بتأثــر قــوي عــى ص ّنــاع القــرار يف الكرملــن‪ ،‬وقــراءة فكــره‬
‫االســراتيجي تشــكِّل منطلقًــا لفهــم املــروع الــرويس أو "البوتين ّيــة"‪.‬‬
‫وجذبــت نظريّــات دوغــن العســكريني الــروس ألنهــا ق َّدمــت لهــم تفسـ ًرا ملوقــف الغــرب مــن روســيا بعــد انهيــار االتحــاد‬
‫الســوفيايت‪ ،‬واســتمرار التهديــد الغــريب بعــد تفـكُّك االتحــاد الســوفيايت‪ ،‬وق َّدمــت نظريّاتــه تفسـ ًرا الســتمرار زحــف حلــف‬
‫الناتــو عــى روســيا عــى الرغــم مــن تنازالتهــا عــى الصعيديــن العســكري واالقتصــادي وقتهــا‪.‬‬
‫وعندمــا وصــل بوتــن إىل الســلطة عــام ‪ 2000‬مبســاعدة أطيــاف متعــددة يف روســيا‪ ،‬تب ّنــى نظريــات دوغــن عل ًنــا‪ ،‬يف‬
‫خطابــه الســيايس وكذلــك يف قراراتــه‪ ،‬يف مضاعفــة روســيا أهم ّيتهــا الجيوسياســية‪ ،‬وذات ســيادة ومتنفــذة يف عــامل القــرن‬
‫‪ 21‬يف مجــال التوزيــع الجديــد للقــوى االقتصاديــة والحضاريــة والعســكرية‪.‬‬
‫يشــتمل الكتــاب عــى أطروحــة فلســفية سياســية معاديــة لليرباليــة متا ًمــا‪ ،‬ومعاديــة للنظــم الغربيــة وللحضارات األطلســية‪.‬‬
‫ويبـ ِّـن عــر قـراءة مع َّمقــة تناقضاتهــا وانهيارهــا الوشــيك‪ ،‬إذ ستســمح كحتم ّيــة تاريخ ّيــة للنظريّــة األوراسـ ّية باالنتصار‪.‬‬
‫وطب ًقــا لهــذه النظريــة‪ ،‬فــإ َّن روســيا وكل املناطــق الســاف ّية (وعــى رأســها أوكرانيــا) هــي كيــان قــاري مســتقل يف حــد‬
‫ذاتــه يدعــى "أوراســيا"‪ .‬ويتوقــف دوغــن عنــد أوكرانيــا‪ ،‬فريكــز عــى أوجــه التشــابه والتشــابك الثقــايف والدينــي واللغــوي‬
‫والعرقــي بــن البلديــن روســيا وأوكرانيــا‪" .‬فمــن دون أوكرانيــا‪ ،‬ال ميكــن لروســيا أن تصبــح قط ًبــا ســياديًّا لعــامل متع ـ ِّدد‬
‫األقطــاب"‪.‬‬
‫لوحة للفنانة غدير حدادين‬
‫أفكار ‪399/2022‬‬

You might also like