Professional Documents
Culture Documents
Afkar 399
Afkar 399
مجلة أفكار
•أال يتجــاوز عــدد كلــات املــادة 2000كلمــة
يف حدهــا األقــى.
•الصــور املرســلة للــادة يجــب أن تكــون
عاليــة الدقــة والوضــوح عــى أن ال تقــل عــن
/ 399نيسان 2022
إعــادة نــر مــواد مجلــة «أفــكار» دون إذن
مســبق مــن هيئــة تحريــر املجلــة.
•يرســل الكاتــب اســمه الثــايث ،واســم الشــهرة
الــذي يُعــرف بــه ،ورقمــه الوط ّنــي (للكتّــاب
األردنيــن) ،ونبــذة مــن ســرته الذاتيــة (للمــرة
املوقع اإللكرتوين ملجلة أفكار: األوىل فقــط).
http://www.afkar.jo •يرفــق مــع املــواد املرتجمــة نبــذة عــن ســرة
كام ميكن تصفّح املجلة عىل موقع الوزارة: مؤلــف النــص املرت َجــم ،واإلشــارة إىل املصــدر
www.culture.gov.jo املرت َجــم عنــه.
املراسالت باسم رئيس التحرير: •يخضــع ترتيــب املــواد املنشــورة العتبــارات
E.mail: afkar@culture.gov.jo فنيــة فقــط.
رقم اإليداع لدى دائرة املكتبة الوطنيّة:
( / 2010 )1090د
العنوان الربيدي:
عمن ص.ب6140 : األردن ّ -
الرمز الربيدي11118 :
رئيس التحرير /د .يوسف ربابعة
مديرة التحرير /مجدولني أبو ال ُّرب
4 مفتتح سكرترية التحرير /منال حمدي
6
هيئة التحرير /د .حكمت النوايسة
ملف العدد:
/د .خلدون امنيعم
فيلسوف االنْتباه: /يوسف ضمرة
اءات يف تجرب ِة
"قر ٌ /سامح املحاريق
الكاتب خريي منصور"
اإلخراج الف ّني /هزار مرجي
رسومات الغالفني األمامي والخلفي /الفنانة غدير حدادين -األردن
31 دراسات
ومقاالت
املــواد املنشــورة يف هــذا العــدد تعـ ّـر
عــن رأي ك ّتابهــا ،وال تعــر بالــرورة
عــن رأي املجلــة.
110 إبداع
لقــد انشــغل الباحثــون واملؤ ِّرخــون يف عمليّــة توثيــق املراحــل التطوريّــة للغــات البرشيّــة كقاعــدة أساس ـيّة لبنــاء
الثقافــات والحضــارات بقيــادة اإلنســان املغامــر ،كمــر ِّوض لنــزق الطبيعــة بعلمــه وبإبداعــه املنحــاز لقيــم الحيــاة
املغالبــة لحتم ّيــة املــوت انطالقًــا تاريخ ًّيــا مــن:
-املرحلــة الصوت ّيــة الشــفاه ّية للتَّخاطــب عـ ْـر ال ُّرمــوز الجســديّة "اإلشــارات" والتوافقــات الصوت ّيــة ملخــارج الحــروف
واملعــاين املشــركة بــن املتفاعلــن.
-املرحلــة التدوين ّيــة؛ أي بعــد اكتشــاف الكتابــة وأبجديّاتهــا ،مــن هنــا كانــت –وباجتهــادي -البدايــة األوىل لظهــور
والتوســع يف اســتخدامها بــن املتعلّمــن فقــط؛ مــا ُّ "ال َّرســم بــري" للحــروف وللكلــات ،ك ُبعــد جديــد لحفظهــا
سـ َّهل تنامــي فــرص تعلُّمهــا ونرشهــا بــن األجيــال كأداة للتفكــر ووســيلة للتعبــر؛ األمــر الــذي عمــل عــى اســتدامة
التواصــل بــن شــعوب األرض كل بحســب هويّتــه وخصوصيّــة لغتــه ،فلغتنــا العربيّــة (لغــة القــرآن الكريــم) نجحــت
يف اســتيعاب املســتج ّدات التقنيّــة والتغـ ُّـرات الحياتيّــة؛ عــى ال ّرغــم مـ ّـا تحتاجــه مــن تطويــر ومواكبــة للمســتج ّدات
أي ِم ّنــا ،ونجحــت أيضً ــا يف توافــق أهــل اللغــة ومجامــع يف هــذا العــامل الــذي غــدا بحــدود الهاتــف الخلــوي يف كـ ِّـف ٍّ
اللغــة العربيــة عــى دقــة مفهــوم "العوملــة" الحــدايث ودالالتــه الجديــدة كل ًّيــا يف قامــوس فكرنــا ولغتنــا باملقارنــة مــع
مصطلــح "الكونَ َنــة" الــذي كان مقرت ًحــا للتعبــر عــن حجــم وعمــق التغـ ُّـرات الفارقــة التــي صاحبــت تطـ ُّور مفهــوم
العامليــة universalإىل العوملــة globalizationكأيديولوجيــا جديــدة بعيــد تســعينات القــرن املــايض لــآن.
مقدمة امللف
فيلسوف االنْتباه
اءات يف تجرب ِة الكاتب خريي منصور"
"قر ٌ
()1945-2018
ويف رؤيتــه النقديــة والثقافيــة ،فقــد تل ّبــس االنتبــاه تُشــكِّل تجربــة الكاتــب خــري منصــور ،ذات التنــ ُّوع
بثاقــب نظــره ،ابتــدا ًء بـ"الكــف واملخــرز" ( ،)1980ث ـ ّم األجنــايس يف بنيتهــا وأشــكالها ومســاربها وثيامتهــا:
"أبــواب ومرايــا :مقــاالت يف حداثــة الشــعر" (،)1987 شــع ًرا ،ونقـ ًدا ،ومقالـةً ،وســرةً؛ مرجعيّـ ًة زاخــرة للثقافــة
و"تجــارب يف القــراءة" ( ،)1988حتــى كتابــه األبــرز العربيــة املعــارصة ،ومد ّونـ ًة راصــدة لتح ُّوالتهــا ُّ
وتغياتهــا
واألكــر وعــورة وأهميــة" :االســترشاق والوعــي الســالب" وتقلّباتهــا ،وفلســف ًة نقديّــة عارفــة ملنابتهــا وبنياتهــا
()2000؛ ويف معراجــه األريض ،كان للســرة وقفاتهــا وطرائــق تشـكّلها ومآالتهــا ،إ ْذ امتثلــت التجربــة لطبائــع
املتأنيــة واملتأملــة واملضيئــة بعمــق ،وهــي" :صبــي املــراس واملــران والصقــل والصهــر عــى مــدى عقــود
األرسار" ( ،)1993و"العصــا والنــاي" ( ،)2009و"ثنائيــة متواليــة مــن شــهوة الق ـراءة ولذاذاتهــا وقلــق الكتابــة
الحيــاة والكتابــة" ( ،)2014و"ســرة خاطفــة" (،)2014 وعذاباتهــا ،لتتخلّــق يف جغرافيــا محكومــة مبنــاخ االنتباه.
و"الجغرافيــا الحزينــة :نصــوص يف نوســتالجيا األمكنــة" درســا يف وكانــت بلدتــه ديــر غصــون قــرب طولكــرم ً
()2021؛ تلــك املعــارج التــي كان ملقالتــه الراســخة جغرافيــا امل َ ْنبَــت امل َفتــوح عــى نضــارة الدنيــا وشــقوتها:
فضــل بنــاء فضاءاتهــا وعواملهــا.
ُ والجذريّــة ـدي ،ترتحــل معــه عــى قلــقٍفردوســه األ َّول وجرحــه األبـ ّ
إنــه ،خــري منصــور ،كاتــب املقالــة األكــر بالغــة وعــان،
ّ كأ ّن ال ّريــح تحتهــا ،إىل القاهــرة ،وبغــداد،
وشــهرة ومقروئ ّيــة يف العــامل العــريب ،تلــك التــي شـكّلت لتتخلّــل بنداوتهــا مفاصــل األمكنــة ،وتعيــد تشــكيل
ـمول لروحــه الجامــح، الفضــاء الرحــب واألكــر ســعة وشـ ً صورتهــا وصوتهــا يف صــور شــعريّة ورسديّــة باذخــة،
يف رسديــات كاشــفة ومنقبــة تنبنــي يف فلســفتها عــى وتكتنــز زمنهــا يف رصيــده املعــريف والثقــايف والحيــايت.
الحفــر املعــريف ،وتتوســل النــر أداة ،لك ّنــه النــر الــذي إ ّن ســرته الحياتيــة واملعرفيــة مــا تفتــأ تكشــف عــن
يســتعري الشــعر يف كل تجلياتــه :لغــةً ،وفكــرةً ،إنهــا رساتــه ،فــكان فلــكل معــراج أنــوا ُره وم ّ ّ معارجهــا،
رسديــة شــاعر الفكــرة :معنــى ومبنــى ،ولــه يف ثنائيّــة معراجــه األ ّول الشــعر ،راقيًــا فيــه ســاواته مــن خــال
الشــعر والنــر تشــبيه بليــغ وطريــف ،حيــث يقــول يف مجموعاتــه الشــعريّة الســبعة" :ظــال" (،)1978
إحــدى أمســياته الشــعرية" :إننــي يف كتابتــي النرثيــة و"غــزالن الــدم" ( ،)1981و"ال مــرايث للنائــم الجميــل"
املنتظمــة واســتمراري يف الشــعر ،دامئًــا مــا يخطــر ببــايل ( ،)1983و"التيــه وخنجــر يــرق البــاد" (،)1987
ذلــك القــارب البــدايئ ،الــذي يســر مبجذافــن :أحدهــا، و"الكتابــة بالقدمــن" ( ،)1992و"نعــاس أزيل" (،)2014
ولنقــل :األميــن ،يقــرف الشــعر؛ والكتابــة األخــرى باليــد و"ثرثــرة بيضــاء" (.)2014
8
ويكشــف الشــاعر والفنــان التشــكييل حســن نشــوان أي تعــارض بينهــا". اليــرى ،فــا أرى إطالقًــا ّ
عــن منــازالت خــري منصــور الثقافيــة ،فهــو "املثقــف ويف هــذا امللــف ،تهــدف أرسة مجلــة "أفــكار" ،كعادتهــا
العضــوي الــذي يحلّــق وراء الفكــرة الذهنيــة ،يالمــس يف تكريــم الكتّــاب العــرب ،إىل تســليط الضــوء يف أبــرز
تـراب املعنــى؛ لريتقــي إىل فضــاء الداللــة منطل ًقــا مــن أ َّن والســريّة
معــامل تجربتــه الشــعرية والنقديــة والثقافيــة ّ
الكلمــة متثــل فعـ ًـا معرف ًّيــا وتنويريًّــا ،لــرى األ ّمــة عــى والصحفيــة والحيات ّيــة ،باســتضافة نخبــة مــن الكتــاب ّ
صورتــه التــي هــي صــورة متعــددة وجامحــة ال تقبــل الذيــن يقاربــون هــذه التجربــة بعــن الناظــر الخبــر،
الركــون" ،يف شــهادته "خــري منصــور :قلــق املتع ـ ِّدد"؛ حيــث يــرى الصحفــي محمــود الرميــاوي أ َّن الثابــت
وبلغــة تتلّبــس املفارقــة ،يصــف الشــاعر والفنــان والجوهــري ملقــاالت خــري منصــور يف الصحافــة العرب ّية
التشــكييل محمــد العامــري صديقــه وفــق رؤيتــه انشــغالها "بالنظــرة الكليــة ومناقشــة املفاهيــم واألطــر
للمشــهد الثقــايف العــريب بأنّــه" :شــذوذ ثقــايف يحتــاج إىل العقليــة ،والتطــ ُّرق إىل القضايــا املحوريــة ،وتفــادى يف
فقيــه شــاذ يــوازي ذلــك الشــذوذ يف األســئلة الخشــنة، الوقــت ذاتــه االشــتباك مــع الوقائــع اليوم ّيــة والتّطــورات
وهــو املبضــع الــذي يذهــب مبــارشة إىل الــورم الثقــايف امللموســة" ،يف مقالتــه "خــري منصــور :نجـ ًـا أدب ًيــا يف
يك يبقــر عينــه" ،وذلــك يف شــهادته "خــري منصــور: الصحافــة"؛ ويف رؤيتــه ملرشوعــه الكتــايب ،يؤكــد الناقــد
الصقــر الــذي تــرك ريشــه يف األعــايل" ،ويسـلّط الشــاعر األســتاذ فخــري صالــح أنــه "شــاعر موهــوب ،وناقــد
أحمــد الالونــدي الضــوء عــى مفاصــل حــادة يف ســرته حصيــف متمــرس ،ومفكــر مشــغول بكيفيــة عمــل
الذاتيــة ،يف شــهادته "خــري منصــور فنجــان قهوتنــا". األفــكار وتأثريهــا يف البــر والتاريــخ ،كــا أنــه ســائح
لعـ َّـل لهــذه ال ـ ُّرؤى مجتمعــة أن ترســم للقــارئ صــورة بــن األمكنــة مغــرم باالرتحــال ،متحــرك ال يطيــق
ذهنيّــة للكاتــب خــري منصــور ،ومتنحــه يف الوقــت القعــود أو لــزوم األمكنــة" وذلــك يف مقالتــه "تأ ُّمالتــه
ذاتــه مفاتيــح ق ـراءة تجربتــه برؤي ـ ٍة وعمــقٍ ،لجدارتــه العميقــة تف َّرقــت يف جســوم مقاالتــه الكثــرة :خــري
بــأن يكــون مرشوعــه الشــعري والثقــايف أرضً ــا خصبــة منصــور املتأ ّمــل يف عنفوانــه"؛ أ ّمــا الشــاعر والصحفــي
لقــراءات نقديّــة جــا ّدة ثقاف ًّيــا وأكادمي ًّيــا وإعالم ًّيــا، نضــال برقــان ،يف رؤيتــه النافــذة ملــروع خــري منصــور
بوصفــه شــجرة معرفيّــة ،جذرهــا يف ديــر غصــون، الشــعري ،فــرى "أ َّن قصيدتــه ظلّــت طازجــة وحــا ّرة،
وفروعهــا يف العــامل العــريب أجمــع. ومختلفــة أيضً ــا ،إذ بقيــت قريبــة مــن شــجون النــاس
وشــؤونهم ،وبخاصــة عــى الصعيــد الوطنــي ،مــن جانب،
كــا بقيــت حريصــة عــى التمســك برشطهــا الفنــي،
مســتفيدة مــن املخــزون املعــريف لصاحبهــا ،واهتامماتــه
د .خلدون امنيعم
الكتابيّــة" ،يف مقالتــه "خــري منصــور :الشــاعر الــذي
وهــب جناحيــه لغــر القصيــدة".
أفكار /ملف العدد 9
الصحافة
نجم أدب ًّيا يف ّ
خريي منصور ً
محمود الرمياوي*
يقــع املتف ِّحــص ملقــاالت خــري منصــور عــى ملمــح رئيــس لهــا يتمثَّــل يف النزعــة النقديّــة التــي تنبــض بهــا ،وتؤطّرها،
أ ّمــا امللمــح الثــاين والــذي يســم مئــات املقــاالت للكاتــب ،فيتبـ ّدى يف االحتفــاء بالتباشــر النهضويّــة يف النصــف األ ّول
للقــرن العرشيــن ويف النقــاط املضيئــة مــن تراثنــا .ويتَّصــل مبــا ســبق ملمــح ثالــث وهــو اإلحالــة شــبه الدامئــة إىل
مرجعيّــات ثقافيّــة يف الــرق والغــرب مبــا ال حــر لهــم مــن ر ّواد وكُتّــاب ون ّقــاد بارزيــن يف حقــول األدب واإلبــداع
والفكــر .وجملــة القــول هنــا إ َّن خــري منصــور نجــح يف تكريــس صورتــه ومنوذجــه :أدي ًبــا موهوبًــا ومتدف ًقــا ،يكتــب
يف الصحافــة اليوم ّيــة عــى طريقتــه األدب ّيــة ووفــق ذائقتــه الجامل ّيــة املرهفــة ،مــن غــر أن يتأثــر أدىن تأثُّــر بتقنيــات
الصحافــة وأســاليبها وآلياتهــا.
لكنــه مل ي ُكــن يواظــب عــى الكتابــة بصفــة منتظمــة ،وذلــك مل يكــن الشــاعر والكاتــب خــري منصــور أ َّول َمــن كتــب من
النشــغاالته اإلداريــة واملهنيــة األخــرى .ولعـ َّـل خــري منصــور األدبــاء يف الصحافــة األردنيــة ،فقــد تعاقــب الع ـرات مــن
نفســه قــد اكتشــف هــذه ال َملَكــة لديــه يف الكتابــة الغزيــرة أدبــاء األردن عــى الكتابــة يف الصحــف السـ ّيارة منــذ بدايات
املتصلــة؛ فاســتجاب لهــا وطــ ّوع لهــا قلمــه ،وأخلــص لهــا نشــوء هــذه الصحافــة يف عرشينــات القــرن العرشيــن ،بيــد
إخالصــا تا ًمــا ومنحهــا كامــل طاقتــه الذهنيــة والتعبرييــة،ً أنــه كان بــن قلــة قليلــة واظبــت عــى الكتابــة اليوميــة
إذ كانــت كتاباتــه قبــل ذلــك تقتــر عــى تدبيــج مقــاالت (يف صحيفــة "الدســتور") وتف ّرغــت للكتابــة يف الصحافــة
متفرقــة يف األدب ت ُنــر يف مجــات أدبيــة أو مالحــق ثقافيــة وات ّخذتهــا مهنــة لهــا وذلــك منــذ مطلــع التســعينات حتــى
خــال إقامتــه املديــدة يف عقــدي الســبعينات والثامنينــات رحيلــه يــوم 18أيلــول /ســبتمرب 2018عــن 73عا ًمــا .ولعلــه
يف العـراق ،هــذا عــاوة عــى كتابتــه الشــعر ،غــر أنــه أصبــح كان الكاتــب الوحيــد الــذي حظيــت مقالتــه اليوم ّيــة ضمــن
مقـ ًّـا يف كتابتــه للشــعر عقــب اســتغراقه يف الكتابــة اليوميّــة، زاويــة "خاطــرة " بالنــر عــى الصفحــة األوىل؛ إ ْذ جــرت
رسبــت طاقتــه اإلبداعيــة الشــعرية عــر مقاالتــه (كان يف إذ ت ّ ســنن الصحافــة اليوم ّيــة املحل ّيــة آنــذاك عــى نــر مقــال
واقــع األمــر يكتــب إىل جانــب املقــال اليومــي يف "الدســتور" وحيــد عــى الصفحــة األوىل هــو رأي الصحيفة يف مســتج ّدات
ـال يوم ًّيــا آخــر يف "الخليــج" اإلماراتيــة ،إضافــة
األردنيــة ،مقـ ً األحــداث والتطـ ُّورات ذات األهم ّيــة ،فيــا احتلّــت مقــاالت
إىل مقــال أســبوعي يف "القــدس العــريب" ،وكتــب لبعــض ال ُكتّــاب واألدبــاء الصفحــات الداخليّــة والصفحــة األخــرة.
الوقــت مقــاالت أســبوع ّية يف "األهــرام" املرصيــة ويف بذلــك ،كان خــري منصــور هــو االســتثناء بعــد أن "اكتشــفه"
"الوطــن" القطريــة) ومــن دون أن يعمــد إىل نــر املقــال ـس تحريــر "الدســتور" بصفتــه كات ًبــا موهوبًــا ومتم ِّر ًســا ،رئيـ ُ
نفســه بصــورة متزامنــة يف أكــر مــن صحيفــة ومنــر ،كــا حينــذاك محمــود الرشيــف ،وهــو بــدوره كاتــب مثقــف
األمــور أن يقــع تقــد ٌم مــا يف مجــال مــن املجــاالت ،فيــا ـدل مــن االنغــاس يف متابعــة لديــه "غريــزة" الصحفــي ،وبـ ً
ينــرف جهــده ويرتكّــز اهتاممــه عــى مواطــن القصــور املســتج ّدات ،أو اللهــاث وراء آخــر األخبــار ،فقــد ُعنــي
وجوانــب التخلــف ومواضــع الفــوات ،وهــي وافــرة وج ّمــة خــري منصــور بالتطـ ُّرق إىل القضايــا الكبــرة ،ذات االنعكاس
بــل تالبــس واقعنــا العــريب املــأزوم ،مــع إحــاالت إىل حقبــة عــى مناحــي الحيــاة املختلفــة مبــا فيهــا الحيــاة السياســية
تح ُّرريــة تزخــر باإلنجــازات عــى صعيــد السياســة والفكــر والعامــة .وذلــك عــى شــاكلة التحديــق يف مشــكالت التخلف
والثقافــة ،شــهدها عقــدا الخمســينات والســتينات وحتــى االقتصــادي واالجتامعــي والثقــايف ،والعمــل عــى تحليــل
هزميــة العــام 1967وجــاءت متســاوقة مــع مــ ّد عاملــي، جوانبهــا ،والتبع ّيــة للغــرب ،واالرتهــان إىل املــايض ،والهزائــم
فيــا تحفــل العقــود الالحقــة مبظاهــر شــتى مــن النكــوص العســكرية والسياســية ،والحــط مــن قــدر النســاء ،والنزعــة
والرتاجــع وإدمــان الهزائــم وتفريــغ الحيــاة مــن املعنــى. االســتهالك ّية املحمومــة ،والحداثــة الشــكل ّية ،واالســتخذاء
أمــام األعــداء التاريخيــن ،وتســليع الثقافــة وتجويفهــا،
أ ّمــا امللمــح الثــاين والــذي يســم مئــات املقــاالت للكاتــب، وافتقــاد الفاعلــن النقديــن يف مياديــن الفكــر والثقافــة،
فيتب ـ ّدى يف االحتفــاء بالتباشــر النهضويّــة يف النصــف األول وانحســار األحــام واألشــواق القوم ّيــة ،واختــاط عــامل
للقــرن العرشيــن ويف النقــاط املضيئــة مــن تراثنــا ،والدعــوة الثقافــة كــا عــامل اإلعــام بدينام ّيــات "البزنــس" والعالقــات
العتنــاق فكــر نهضــوي يحــرر طاقــات األف ـراد والجامعــات العامــة وأحابيلهــا ،والتنميــة العرجــاء ،وســواها مــن قضايــا
والشــعوب ،ويالقــي ركــب التقــ ُّدم يف العــامل ويتفاعــل ذات صلــة بهــذه.
معــه ويضيــف إليــه ،ولهــذا تحفــل بعــض مقــاالت خــري
منصــور باســتذكار ماُثــورات عــن نهضويــن أمثــال املتنبــي ومــع أ َّن حش ـ ًدا مــن الكتّــاب العــرب مــا انفكــوا يف مــرق
وأيب العــاء املعــري وأحمــد شــوقي وبــدر شــاكر الســياب العــامل الغــريب ومغربــه ،يتناولــون مثــل هــذه القضايــا
وطــه حســن وســامة مــوىس وحســن مــر ّوة وعبدالوهــاب بصــورة منتظمــة ،إال أ َّن الكاتــب خــري منصــور ينجــح يف
البيــايت ومطــاع صفــدي وســواهم .وتــرز يف هــذه الكتابــات بــثّ الــروح يف قضايــا مطروقــة ،عــر أســلوب أديب مــرق
مشــاعر الصدمــة إزاء الحداثــة املعطوبــة والنهضــة املوقوفــة، ورشــيق يجمــع بــن الجزالــة واملتانــة البالغ ّيــة ،وبــن روح
مــع ترشيــح ملظاهــر الزيــف واســتبطان التخلــف والتالعــب الســخرية الالذعــة والتهكُّــم الــذيكّ ،مبــا يلبّــي الحاجــة
بالعقــول. الجامل ّيــة لقارئــه ،جن ًبــا إىل جنــب مــع مخاطبــة النزعــة
الناقمــة وتزكيتهــا لــدى هــذا القــارئ الــذي يجــد يف تلــك
ويتصــل مبــا ســبق ملمــح ثالــث وهــو اإلحالــة شــبه الدامئــة متنفســا لــه وتعبــ ًرا عــن ذات نفســه املتطلبــة
ً املقــاالت
إىل مرجعيّــات ثقافيّــة يف الــرق والغــرب مبــا ال حــر لهــم والتائقــة إىل التغيــر .وبهــذا يقــع املتفحــص ملقــاالت خــري
مــن ر ّواد وكُتّــاب ون ّقــاد بارزيــن يف حقــول األدب واإلبــداع منصــور عــى ملمــح رئيــس لهــا يتمثــل يف النزعــة النقديّــة
والفكــر .إ َّن أســاء مثــل "جــان بــول ســارتر" أو "جــورج التــي تنبــض بهــا ،وتؤطّرهــا ،فالكاتــب غــر معنــي بنجاحــات
لــوكاش" أو "أرنســت فيــر" أو "يفجينــي يفتوشــكو" أو أو إنجــازات هنــا وهنــاك؛ إذ مــن طبيعــة األشــياء ومنطــق
12
خريي منصور
مبأســاة اجتامعيــة مح ـ ّددة ،أو حتــى بتغيــر واقــع يف بلــد "غارثيــا ماركيــز" و"أرنســت همنغــواي" و"آرثــر رامبــو"
عــريب محــدد (مل ينشــعل عــى ســبيل املثــال مبوجــة الربيــع و"ســيمون دي بوفــوار" و"بودلــر" و"هــري ملفيــل"
العــريب عــى الرغــم مــن أهميتهــا االســتثنائية إال بصــورة و"رسفانتــس" و"ألبــر كامــو" و"جــان جينيــه" ،تــر َّدد جن ًبــا
عرضيّــة وجانبيّــة) كــا مل يتنــاول وقائــع ثقافيّــة محــ ّددة إىل جنــب مــع املتنبــي وأيب متــام والحــاج ومحمــود درويــش
مثــل واقــع االتحــاد العــام للكتــاب واألدبــاء العــرب وذلــك وصــاح عبدالصبــور ونجيــب محفــوظ وغائــب طعمــة
عــى ســبيل املثــال ،وكــا حــرص عــى االبتعــاد عــن صفــة فرمــان ويوســف إدريــس .ويحــرص الكاتــب عــى اإلتيــان
الكاتــب الصحفــي ،عــى الرغــم مــن كتابتــه بالصحــف عــى ذكــر هــؤالء وســواهم ومأثوراتهــم لــدى التط ـ ُّرق إىل
كذلــك فقــد نــأى بنفســه عــن دور الكاتــب الســيايس، قضايــا عامــة ،وذلــك إلميانــه بالتغيــر الثقــايف الــذي ال ب ـ ّد
متج ّنبًــا الخــوض املبــارش يف املســائل السياســية رغــم أن مي ِّهــد ويواكــب كل تغيــر يف مناحــي الحيــاة ،واملقصــود
انشــغاله بالقضايــا العامــة ذات الصلــة الوثيقــة بالحيــاة تغيــر النظــرة إىل الحيــاة للخــروج مــن منط ّيــة ال ّرتابــة،
السياســية ،وقلّــا تنــاول كتابًــا حديــث الصــدور وذا أهم ّيــة وســلب الكينونــة الفرديّــة واالفتئــات عــى حقــوق اإلنســان
يف عــامل الثقافــة واإلبــداع ،مؤثـ ًرا عــى ذلــك االهتــام بكتــب األساســية.
ومؤلفــات ســابقة عربيــة أو أجنبيــة ذات دور تأســييس يف
مشــهد الحداثــة. وعليــه ،فــإ َّن خــري منصــور قــد اجتهــد يف أن يجعــل
لقــد كان خــري عــى قناعــة أ َّن تحليقــه وال َّنظــر إىل األمــور مقاالتــه تنشــغل بالنظــرة الكليــة ومناقشــة املفاهيــم واألطــر
مــن فــوق (مبثــل النظــرة مــن طائــرة ذات عل ـ ّو منخفــض) العقليــة والتطــرق إىل القضايــا املحوريــة ،وتفــادى يف الوقــت
الــكل والصــورة العامــة، تتيــح لــه القبــض عــى املشــهد ّ ذاتــه االشــتباك مــع الوقائــع اليوميــة والتطــورات امللموســة،
حتــى لــو فاتتــه وغابــت عــن أنظــاره بعــض التفاصيــل كأن ينشــغل ب ُعســف أصــاب مبد ًعــا عرب ًّيــا يف بلــد مــا ،أو
أفكار /ملف العدد 13
لصالــح التبســيط واملبــارشة ،وتدبيــج تعاليــق قــد تكــون والجزئيّــات التــي يلحظهــا ويلتقطهــا َمــن ميــي عــى قدميــه
رصينــة أو عــى جانــب مــن الجديّــة والعمــق ،لكنهــا ال يف الشــوارع ويعايــن الحيــاة يف حراكهــا اليومــي .ولعلــه أراد
تصمــد أمــام تقلبــات الزمــن وتبــ ُّدل األحــوال إذ تفقــد تــرك تلــك امله ّمــة للكتــاب واملحرريــن واملعلّقــن الصحفيــن
قيمتهــا مــع انقضــاء ظــروف كتابتهــا. وللناشــطني يف الحقــل الســيايس والعــام.
ولهــذا ،حــرص مــن جانبــه غايــة الحــرص عــى ال َّنســق وجملــة القــول هنــا إ َّن خــري منصــور نجــح يف تكريــس
األديب ملقاالتــه ،وأن تكــون هــذه الكتابــات قامئــة بذاتهــا صورتــه ومنوذجــه :أدي ًبــا موهوبًــا ومتدفقًــا ،يكتــب يف
وذات خصوصيّــة ،ومبنزلــة ضيــف عزيــز ومك ـ َّرم عــى عــامل الصحافــة اليوميــة عــى طريقتــه األدبيــة ووفــق ذائقتــه
الضــاج باليوميــات ومتابعــة األحــداث العابــرة ّ الصحافــة الجامليــة املرهفــة ،مــن غــر أن يتأثــر أدىن تأثــر ،بتقنيــات
علــا أ َّن
التــي تطــوي بعضهــا بعضً ــا مــع تدافــع األيــامً . الصحافــة وأســاليبها وآلياتهــا ،ولعلّــه بذلــك كان يســتبطن
مقاالتــه انقســمت بــن خاطــرة وجدان ّيــة متأملــة ومتف ّكــرة آراء وقناعــات بـ"جنايــة الصحافــة عــى األدب واألدبــاء" (كام
ذات حجــم قصــر يقــل عــن 400كلمــة كــا يف زاويتــه يف قــول منســوب لعبــاس محمــود العقــاد) إذ تدفعهــم
اليوميّــة يف "الدســتور" ،وبــن مقــاالت أكــر حجـ ًـا تتط ـ ّرق إىل اللهــاث وراء األحــداث وإىل الزهــد يف القــوة التعبرييــة
عــى الخصــوص إىل قضايــا وشــؤون ثقاف ّيــة وتعتمــد التحليل
وعــرض الشّ ــواهد واإلطاللــة ال ّرحبــة شــبه البانورام ّيــة ،كــا
يف مقاالتــه يف "القــدس العــريب".
ـب أل َز َمــه العيــش اليومــي بتفريــق تأ ُّمالتــه العميقــة يف جســوم مقاالتــه الكثــرة ،فهــو شــاعر خــري منصــور كاتـ ٌ
واضــح املوهبــة ،وناقــد حصيــف متمـ ِّرس ،ومفكــر مشــغول بكيف ّيــة عمــل األفــكار وتأثريهــا يف البــر والتاريــخ ،كــا
أنــه ســائح بــن األمكنــة مغــرم باالرتحــال ،لكنــه ذهــب باملقالــة الصحف ّيــة اليوم ّيــة إىل عــوامل مل تألفهــا الصحافــة
أي املقالــة التأ ُّمل ّيــة التــي تعنــى باللغــة والثقافــة والفكــر والبالغــة وجامل ّيــات النــر البــارع ،بحيــث العربيــة كثـ ًراْ ،
غــدت مقالتــه مختلفــة عـ ّـا نقــرأ لغــره ،فهــي مقالــة دســمة ينشــغل فيهــا القــارئ ببيــان خــري ال َّرفيــع قبــل أن
يفطــن إىل مــا تنطــوي عليــه مــن أفــكار وتأ ُّمــات ،فقــد عــرف خــري كيــف يشـ ُّد القــارئ ويغـ ّـر ذائقتــه ويرتقــي
بهــا ،ويدفعــه دف ًعــا ه ّي ًنــا رفي ًقــا لــي يبتلــع الحقائــق امل ُـ ّرة التــي تصعقــه كلــا تأ َّمــل العــامل واألحــداث مــن حولــه.
وهــو ،إضافــة إىل ذلــك ،ناقــد أديب وثقــايف ألَّــف عــد ًدا مــن املتأ ِّمــل يف مســرة الصديــق الراحــل خــري منصــور (1945-
الكتــب النقديــة واملراجعــات الثقافيــة" :الكــف واملخــرز" )2018األدب ّيــة والثقاف ّيــة ســيجد أنــه مــن طينــة أولئــك
(" ،)1980أبــواب ومرايــا :مقــاالت يف حداثــة الشــعر" ال ُكتّــاب املوزعــن بــن أشــكال الكتابــة وأنواعهــا ،ال يســتق ّر
(" ،)1987تجــارب يف القـراءة" (" ،)1988االســترشاق والوعــي أي شــكل مــن األشــكال. عــى حــال ،وال يعــر عــى نفســه يف ّ
الســالب" ( .)2000كــا نــر كتبًــا يف الســرة والســرة فهــو شــاعر واضــح املوهبــة ،يف جيــل مــن شــعراء الســتينات
املتخ ّيلــة ،وتأ ُّمــات حــول العالقــة باألمكنــة" :صبــي األرسار" العــرب الذيــن ج َّربــوا أعطيــات شــكل القصيــدة العرب ّيــة
(" ،)1993العصــا والنــاي" (" ،)2009ثنائيــة الحيــاة والكتابــة" التفعيل ّيــة ،بعــد أن بــدأت تحقــق بعــض النضــج يف تجــارب
(" ،)2014ســرة خاطفــة" (" ،)2014الجغرافيــا الحزينــة: بــدر شــاكر الســياب ،وبلنــد الحيــدري ،وعبدالوهــاب
نصــوص يف نوســتالجيا األمكنــة" (.)2021 البيــايت ،وأحمــد عبداملعطــي حجــازي ،وصــاح عبدالصبــور،
ومــن الواضــح يف هــذا املنجــز تــر ُّدد خــري يف اختيــار شــكل وأدونيــس .وقــد نــر خــري منصــور عــد ًدا مــن املجموعات
رئيــس يعـ ِّـر مــن خاللــه عــن تجربتــه ،فهــو شــاعر موهــوب، الشــعرية ،التــي تضيــف إىل مــا أنجــزه ذاك الجيــل" :ظــال"
وناقــد حصيــف متمــرس ،ومفكــر مشــغول بكيفيــة عمــل (" ،)1978غــزالن الــدم" (" ،)1981ال مـرايث للنائــم الجميــل"
األفــكار وتأثريهــا يف البــر والتاريــخ ،كــا أنــه ســائح بــن (" ،)1983التيــه وخنجــر يــرق البــاد" (" ،)1987الكتابــة
األمكنــة مغــرم باالرتحــال ،متحــرك ال يطيــق القعــود أو لــزوم بالقدمــن" (" ،)1992نعــاس أزيل" (" ،)2014ثرثــرة بيضــاء"
األمكنــة. (.)2014
* ناقد أردين
fakhri1957@hotmail.com
أفكار /ملف العدد 15
خريي منصور
والقــارئ املدقــق الحصيــف ،واملتأمــل الواســع الخيــال لكـ َّن شــكل الكتابــة الــذي بــرع فيــه خــري منصــور ،وصــار
والبــارع يف ربــط األحــداث والنصــوص والتأويــات التــي ال عالمــة لــه وعليــه ،هــو املقالــة ،الطويلــة أو القصــرة؛
تخطــر عــى بــال كثــر مــن كتــاب املقــاالت غــره .فقــد املتمهلــة أو الخاطفــة التــي تصــل إىل مبتغاهــا يف بضــع
جــاء إىل الصحافــة مــن عــامل األدب ،مــن الشــعر والنقــد كلــات؛ السياســية ،أو األدبيــة أو الثقافيــة أو الفكريــة؛
والدراســة األدبيــة ،مــا جعلــه ،وهــو كاتــب العمــود الصحــايف التأمليــة أو البحثيــة ،بحيــث تســابقت الصحــف واملواقــع
الــذي يدبــج كل يــوم مقالتــن أو ثالث ًــا ،يذهــب باملقالــة الســتكتابه .فمقالتــه المعــة ،مميــزة ،الفتــة ،فيهــا مــن جــال
الصحفيــة اليوميــة إىل عــوامل مل تألفهــا الصحافــة العربيــة األســلوب واألملع ّيــة بقــدر مــا فيهــا مــن دقــة يف الفكــر
كثــ ًرا ،أي املقالــة التأمليّــة التــي تعنــى باللغــة والثقافــة وحذاقــة يف التأ ُّمــل.
والفكــر والبالغــة وجامليــات النــر البــارع الــذي يخطــف ومــع ذلــك ،فلرمبــا كانــت الصحافــة محنــ ًة لــو أ َّن خــري
االنتبــاه ،بحيــث غــدت مقالتــه اليوميــة ،أو األســبوعية ،التــي منصــور مل يكــن ذلــك املثقــف الكبــر الواســع املعرفــة،
16
الكامــن وراء كــرة عودتــه إىل كتابــات "جــان بــول ســارتر" يطالعنــا بهــا يف صحــف "الدســتور" و"الخليــج" و"القــدس
و"ألبــر كامــي" ،وروايــة "رباعيــة اإلســكندرية" لـ"لورنــس العــريب" ،مختلفــة عــن كل مــا نقــرؤه لغــره .فهــي مقالــة
داريــل" ،وعــدد قليــل مــن روايــات نجيــب محفــوظ .فــا دســمة ينشــغل فيهــا القــارئ ببيــان خــري الرفيــع قبــل أن
كان يســحره يف كتابــات هــؤالء ،أو بعضهــا عــى األقــل ،هــو يفطــن إىل مــا تنطــوي عليــه مــن أفــكار وتأمــات وتعليــق
التأ ُّمــل ،تلــك الكلمــة الســحرية التــي تــر َّدد يف كتابــات جانبــي عــى أحــداث الحيــاة اليوميــة وشــجونها ،والشــخوص
خــري وكأنهــا التعويــذة ،أو الن َّداهــة ،وهــذه كلمــة أخــرى العابريــن فيهــا ،والعواصــف والــزالزل والرباكــن التــي تهزهــا،
كثــ ًرا مــا ســحرته وتــر َّددت يف كتاباتــه وجعلتــه يخطــو رأســا عــى عقــب. قالب ـ ًة العــامل ً
مســحو ًرا زائــغ البــر إىل حيــث الحوريَّ ـ ُة التــي تنتظــره يف لقــد عــرف خــري كيــف يشـ ُّد قارئــه ويغـ ّـر ذائقتــه ويرتقــي
األعــاق. بهــا ،ويدفعــه دف ًعــا ه ّي ًنــا رفي ًقــا لــي يبتلــع الحقائــق املـ ّرة
َمــن يقــرأ مقــاالت خــري منصــور ،الطويــل منهــا والقصــر، التــي تصعقــه كلــا تأ َّمــل العــامل واألحــداث مــن حولــه .تلك
ويتأ َّمــل الرابــط الــذي يجمعهــا ،ويشــكل الخيــط الناظــم كانــت ميــز ًة يف كتابــة خــري تجعــل مقالتــه تحيــا وتــدوم
الــذي يشــ ّدها ،ســيعرث عــى جوهــر تأ ُّمالتــه يف معنــى بعــد زوال الحــدث اليومــي وانطفائــه يف الذاكــرة؛ فــا
ـص،العيــش البــري ،وعيــش العــرب املعارصيــن عــى األخـ ّ يســعى إليــه يف هــذه الكتابــة ليــس التعليــق عــى الحــدث
مقارنًــا بينهــم وبــن غريهــم مــن األمــم؛ واملقارنــة بيننــا فقــط ،واتخــاذ موقــف منــه ،بــل النفــاذ إىل جوهــره ،إىل مــا
وبينهــم ،بــن العــرب والغــرب ،بــن العــامل الثالــث والعاملــن يربطــه بغــره مــن أحــداث ومواقــف ،ومــا يشــر إليــه مــن
وســوايس آخــر كان يقلــق خــري ٌّ هاجــس
ٌ األول والثــاين، طبائــع البــر وســلوكهم واشــتباكهم اليومــي والـراع الــذي
ـض مضجعــه ويــر َّدد يف آالف مــن مقاالتــه التــي تأ َّمــل ويقـ ُّ يــدور بينهــم منــذ بــدء الخليقــة.
فيهــا أحوالنــا وعاداتنــا التــي أقعدتنــا يف التخلــف وأوقعتنــا وال يعنــي هــذا أ َّن خــري كان يســعى إىل تأ ُّمــل ميتافيزيقــي
يف التبعيّــة. ألحــوال العــامل ،تأ ُّمــلٍ يــرى صــات ماورائيّــة ،فــوق طبيعيــة،
لقــد نــر الصديــق الراحــل خــري منصــور عــد ًدا قليـ ًـا مــن تشـ ُّد األحــداث وســلوك البرش ورصاعاتهــم إىل بعضهــا بعضً ا،
املجموعــات الشــعرية ،وعــد ًدا أقــل مــن الكتــب النقديــة بــل إنــه كان يســعى إىل البحــث عــن الدفــن واملتــواري مــن
والفكريــة ،لكنــه بــثَّ شــعره وأفــكاره وتحليالتــه العميقــة رصفــوا عــى الشــاكلة التــي األســباب التــي تدفعهــم لــي يت َّ
يف مقاالتــه التــي تســتحق أن تجمــع يف مجلــدات عديــدة يترصفــون وفقهــا .وال غرابــة ،أنــه كـ َّرر يف كثــر مــن مقاالتــه
لقيمتهــا الفكريــة والثقافيــة الكبــرة ،فبطــون الصحــف إعجابــه الكبــر بالنــر التأ ُّمــي ،الــذي يقــرب مــن املقالــة
وقليــل القيمــة مــن الكتابــات يف َ تبتلــع كل يشء ،العظيــ َم املكثفــة أو املمتــدة ،وال يتق َّيــد بســات األنــواع ويســعى
الوقــت نفســه ،وكتابــة خــري تســتحق الجمــع والنــر إىل القبــض عــى جواهــر املعــاين ،منطلقًــا عــى حــدود
نتبــن القامشــة الحقيقيّــة لهــذا والتقديــم للقــراء ،حتــى َّ قصــا،
غائصــا يف أعامقهــا دون أن يكــون شــع ًرا ،أو ًّ األنــواع ً
الكاتــب الكبــر الــذي ألزمــه العيــش اليومــي بتفريــق أو مرس ًحــا؛ رس ًدا أو ســط ًرا شــعريًّا تأمليًــا يقتنــص املعنــى،
تأ ُّمالتــه العميقــة يف جســوم مقاالتــه الكثــرة. بــل أحشــاءه الداخليــة العميقــة .ولعــل هــذا هــو الســبب
أفكار /ملف العدد 17
خريي منصور..
الشاعر الذي و َه َب جناحيه لغري القصيدة
نضال برقان*
لعـ َّـل التباطــؤ يف الكتابــة الشــعريّة يف ُمجمــل تجربــة خــري منصــور ،أتــاح الفرصــة الهتامماتــه
الكتاب ّيــة األخــرى لتبســط عباءتهــا عــى مجمــل تجربتــه اإلبداع ّيــة ،ولينســحب الشــاعر ،أو يرتاجــع،
داخــل ذاتــه ،مــن دون أن يُســ ِقط رايــة الشِّ ــعر مــن يــده؛ فظلّــت قصيدتــه طازجــة وحــارة،
ومختلفــة أيضً ــا ،إذ بقيــت قريبــة مــن شــجون النــاس وشــؤونهم ،وبخاصــة عــى الصعيــد الوطنــي،
التمســك برشطهــا الفنــي ،مســتفيدة مــن املخــزون املعــريف لصاحبهــا،
كــا بقيــت حريصــة عــى ُّ
واهتامماتــه الكتاب ّيــة.
عــى قصيدتــه ،التــي كانــت ،عــى غ ـرار مقالتــه ،حريصــة ســبع ُة دواويــن كانــت كفيلــة ألن تســ ّجل اســم خــري
عــى تقديــم جرعــة تثقيف ّيــة ومعرف ّيــة لقارئهــا. منصــور يف املد ّونــة الشــعرية العربيــة الحديثــة ،بوصفــه
ـتهل خــري منصــور تجربته الشــعرية بــ"ظــال" (،)1978 اسـ َّ أحــد شــعرائها املتميِّزيــن ،واملتف ِّرديــن ،أســوة بشــعراء جيلــه:
وكان يف الثالثــة والثالثــن مــن عمــره وقتئــذ ،مــا يعكــس عزالديــن املنــارصة ،ومحمــد القيــي ،ومريــد الربغــويث،
تريُّثــه الشــديد ومراجعتــه املتأنيــة لتجربتــه الشــعرية قبــل غــر أ َّن شــهرته بوصفــه صاحــب مقالــة يوم ّيــة ،محكمــة
أن يُصــدر ديوانــه األول ،ثــم أتبعــه بـ"غــزالن الــدم" (،)1981 ومتم ّيــزة ،كان لهــا رأي آخــر ،إذ سـ َّجلت تلــك الشــهرة اســمه
و"ال مــرايث للنائــم الجميــل" ( ، )1983و"التيــه وخنجــر يف الذاكــرة الجمعيّــة العربيّــة بوصفــه كاتبًــا ،ومل تســتطع
يــرق وجــه البــاد" ( ،)1987و"الكتابــة بالقدمــن" (،)1992 أن تسـ ِّجل اســمه بوصفــه شــاع ًرا ،إال يف ذاكــرة نفــر قليلــن،
فـ"ســرة خاطفــة" ( ،)2014ثــم "نعــاس أزيل" ( ،)2014ولعـ َّـل م َّمــن أتيــح لهــم قــراءة دواوينــه الشــعريّة الســبعة ،أو
ذلــك التباطــؤ يف الكتابــة الشــعرية ،يف مجمــل تجربــة خــري بعضهــا عــى أقــل تقديــر.
منصــور ،أتــاح الفرصــة الهتامماتــه الكتابيّــة األخــرى لتبســط وعــى ال ّرغــم مــن اهتاممــات خــري منصــور الكتابيــة،
عباءتهــا عــى مجمــل تجربتــه اإلبداعيــة ،ولينســحب وتشـ ُّعباته بــن الخاطــرة ،والنقــد ،والبحــث ،غــر أ َّن قصيدته
الشــاعر ،أو يرتاجــع ،داخــل ذاتــه ،مــن دون أن يُسـ ِقط رايــة ظلّــت طازجــة وحــارة ،ومختلفــة أيضً ــا ،إذ بقيــت قريبــة
الشــعر مــن يــده. مــن شــجون النــاس وشــؤونهم ،وبخاصــة عــى الصعيــد
تجتمــع دواويــن الشــاعر الســبعة عــى مجموعــة مــن التمســك
الوطنــي ،مــن جانــب ،كــا بقيــت حريصــة عــى ُّ
املوضوعــات الرئيســة ،ومــن أبرزهــا :الوطــن (املقاومــة/ برشطهــا الفنــي ،مســتفيدة مــن املخــزون املعــريف لصاحبهــا،
فلســطني /ديــر الغصــون /الجــر /النهــر ،)..واللغــة واهتامماتــه الكتابيــة مــن جانــب آخــر ،وقــد انعكــس ذلــك
فــودة" ،التــي يقــول فيهــا" :األرامــل :رسب أرامــل يعوي ـ ْن/ يف راحتيــه /املســافات والســفن الورق ّيــة -/إن مزارعنــا يف
األرامــل :رسب أرامــل يعويـ ْن /الحــر :رسب أرامــل يعويـ ْن/ خطــاه /والشــوارع خــراء ..مــذ المســت /جوربــا /مت ّنــاه
الخبــز :رسب أرامــل يعويــ ْن /.../إنهــم يســجنون الصــدى/ طفــل بقريتنــا وارتداه"(األعــال الشــعرية ،ص ،40وص.)41
يــدي قاتــي/ْ فالعــواء خيانــةْ /وأنــا يــا بــاد الــ ّردى /يف
تركــوين أمانةْ"(األعــال الشــعرية ،ص .)115ويف القصيــدة قمر البقاع ببدلة الكايك
إدانــة لــكل خائــن وعميــل وقاتــل ،فالقتلــة متعـ ّددون ،أ ّمــا يف الديــوان الثــاين للشــاعر يحــر الشــهيد ،مــن خــال
القتيــل /الشــهيد /الوطــن ..فواحــد. عنــوان الديــوان بدايــة" ،ال مـرايث للنائــم الجميــل" ،وتحــر
وتتقلّــب صــور الشــاعر يف هــذه املرحلــة ،فهــو تــارة شــهيد، املقاومــة مــن خــال ذلــك املفتتــح الــذي يتص ـ َّدر الديــوان:
وأخــرى شــاهد عــى املجــزرة ،ومنحــاز للحقيقــة التــي الصمود/ "قمــر البقــاع ببدلــة الــكايك /يطــوف عــى متاريــس ُّ
ســيناضل لتصــل لألجيــال املقبلــة ،ســيناضل مــن أجــل أن خلــع اســمه /..صــار اســمه الحــريك (نشــأت) /صــار اســمه
يشــعل القنديــل ،كــا يقــول يف قصيدتــه "الشــاهد"" :دعيني الحــريك (نحن)"(األعــال الشــعرية ،ص.)106
ـي يف أشــعل القنديـ ْـل /وأعــدو يف ظــام املــوتْ /خــذي عينـ ّ وتطــل أوىل قصائــد الديــوان "كل قــر كمــن" ،مفعمــة ّ
قنديــل /ألجيــال /ســتولد بعــد هــذا الصمت"(األعــال ْ بروائــح فلســطني ،التــي ســتحرض يف القصيــدة مــن خــال
الشــعرية ،ص.)117 قنــاع األ ّم ،ليحدثنــا الشــاعر عــن (أ ّمــن) اثنتــن :األ ّم
ويقلّــب الشــاعر مفــردات املقاومــة يف هــذه املرحلــة، الحقيقيــة التــي تعتنــي باألبنــاء واألحفــاد ،وفلســطني التــي
خالصــا مــن نــر االحتــال ،فالقــادة الحقيقيــون، بوصفهــا ً تعــ ّد الرجــال للشــهادة ،كــا تعــ ّد أبناءهــم للســر عــى
لــف
عــى أرض الواقــع ،هــم الشــهداء ،ال الساســة ومــن ّ الطريــق ذاتهــا ،يقــول الشــاعر مص ـ ِّو ًرا جان ًبــا مــن عمليــة
لفّهــم ،يقــول الشــاعر يف قصيدتــه "رؤيــا مــن األعــاق"، استشــهادية ألحــد أبطــال املقاومــة.." :عندئــذ /خلــع الســرة
املنفــي..
ّ وكأنــه يقــرأ ال ّراهــن ويســترشف املســتقبل" :أنــا املشــتهاة /الحــذاء األنيــق /ونــام عمي ًقــا /عــى ضفــة النهــر/
والعائ ـ ْد /أنــا املقتــول والشــاه ْد /أنــا املهــزوم قبــل النفــخ قيــل :الشــج ْر /غافــل الحــرس الرببــري /فتــح الجــر ليـ ًـا/
يف األبــواق والصامـ ْد /أنــا اآلتــون مــن شــفق القصائـ ْد /مــن ومللمــه /إصبــع /إصب ًعــا /ومــى عائـ ًدا /مثقـ ًـا بالثمـ ْر /بــن
ـاس /إين البائــد املجهــول والخالـ ْد /أنــا حني بــاد مل يطأهــا النـ ُ ــن /واحــد ٌة تعــر القلــب /تبنــي ألحفادهــا الغائبــن/ أُ َّم ْ
املقابــر تــرج الشــهداء /ثانيــة /وثالثــة .. /وحتــى ال ّنــر ـض بهــا وواحــد ٌة تعــر الشــهداء لتبتــاع خيمــة طــن /وتبيـ ُ
يــوم قيامــة املــوىت /دمــي ..القائ ْد("..األعــال الشــعرية، الالجئــنُ /ولِــد الطفــل ملتح ًيــا /وعــى راحتيــه بــاد تل ـ ّوح
ص.)162 للقادمني("..األعــال الشــعرية ،ص.)107-109
يواصــل الهــ ّم الوطنــي حضــوره يف مجمــل قصائــد هــذا
محاولة يف ال َّرسم الديــوان ،الــذي كتبــه الشــاعر خــري منصــور عقــب
يف ديوانــه "الكتابــة بالقدمــن" يدخــل الشــاعر مرحلــة االجتيــاح الصهيــوين لبــروت يف العــام ،1982عــى غــرار
جديــدة يف الكتابــة ،عــى صعيــدي الشــكل واملضمــون ،فـراه قصيــدة "فلســطني وأخواتهــا" ،و"املســيح شــهي ًدا" ،و"عــي
20
كل املــدنْ /كائنــات /تــدور وتــأكل /ثــم تجــوع فتــأكل/ يتأ َّمــل مرحلــة املقاومــة والنضــال مــن الخــارج ،يف محاولــة
تحــب وتكــره /لكنهــا /مل
ّ تصحــو ،تنــام /تعيــش ..متــوت/ إلعــادة تشــكيل املشــهد مــن جديــد بــيء مــن املوضوعيّــة،
تك ْن!"(األعــال الشــعرية ،ص ،522وص.)523 وبعيــ ًدا عــن أدوات النضــال املبــارشة ،كــا يف قصيدتــه
"محاولــة يف الرســم" ،التــي تنــدرج يف إطــار تجربــة شــعرية
ال َّنعجة ال ّنامئة مهموســة ،بعيــدة عــن صخــب املعركــة والجبهــة:
يف قصيدتــه "رميــم" يــدرك الشــاعر الحقيقــة امل ُــ َّرة ،بعــد ـت) /..فأرســم ب ّوابــة ونوافــذ /كانــت "تهــم يــدي بكتابــة (بيـ ٍ
مشــوار حافــل يف (مقارعــة الخطــوب) ،فاأل ّمــة العرب ّيــة مل نوافــذ بيتــي أوســع مــن بابــه /فه ّبــت ريــاح الطريــق
تــزل تلــك "النعجــة النامئــة" ،التــي مل ت ُقــم بعــد مــن ســباتها، مس ـ ّمم ًة بالفضــول /ته ـ ّم يــدي باإلشــارة /أو بات ّهــام الــذي
عــى الرغــم مــن الويــات التــي حلّــت بهــا ،وال أمــل يف أن خــاط أكفــان أخوتــه /يف الزفــاف املحــ ّرم /تخــرج منهــا
"تقــوم لهــا قامئ ـةْ" ،يقــول الشــاعر" :ســأت َّضح اآلن أكــر /إ َّن األصابــع ..قــد ال تعــود وأهــ ُّم بتســمية الــيء /ينزلــق
الروايــة شــارفت الخامتـةْ /ويف آخــر الفصــل تشــتعل النــار يف الــيء نحــو الســديم /فهــل ســالت الكلــات عــى بعضها يف
ـي..املــاء /واملــاء أصلــب مــن صخــرة جامثـ ٍة /بــن ذراعــي نبـ ّ القواميــس- /كيــف أف ـ ّرق بــن بالديــن /أو جثتــن؟ /وكيــف
نبوءتــه /كل هــذا الــذي يعــري النعجــة النامئــةْ /نهشــتها أف ـ ّرق بــن الحــى ورؤوس األصابــع ../بــن العصــا والوت ـ ْر/
تتحســس "إليتهــا" الناعمــةْ /ســأتَّضح تــزلّ / الضبــاع ومل ّــا ْ وكيــف ســأعرف أ َّن الربيــع ربيــع بــدون شــج ْر؟"(األعامل
اآلن أكــر /هــذي الجمــوع مــن الســامئةْ /لــن تقــوم لهــا الشــعريّة ،ص ،343وص.)344
قامئةْ("..األعــال الشــعرية ،ص.)610 محاولــة الرســم بالكلــات للوطــن املســتلب يواصلهــا
حالــة اليــأس مــن األ ّمــة تتواصــل مــع الشــاعر ،فيقــ ِّدم الشــاعر بغــر أســلوب ف ّنــي ،فـراه يســتعيد تفاصيــل البــاد
لنــا صــورة "تراجيكوميديــة" عــن املواطــن العــريب الــذي يف مجمــل قصائــده يف هــذه املرحلــة ،كــا يف قصيــدة
اختزلــه بـ(جــر) ،الــذي مــا انفـ َّـك يفتِّــش عــن نفســه مــن "مدينــة مــن الذاكــرة" ،التــي تســر بإيقــاع اعتيــادي منــذ
خــال شــهوته ،يقــول يف قصيدتــه "تراجيكوميديــا جــر": بدايتهــا وحتــى قبيــل النهايــة ،لتكــون املفاجــأة يف نهايــة
"يف املســافة /بــن يديــه وســاقيه /كان يفتِّــش عــن نفســه/ القصيــدة ،فتلــك املدينــة /الحلــم /األمــل ،يف الحقيقــة ،مل
ويقيــس بخطــوات قــزم خطــا ْه /علّمتــه املكــوث عــى ِ
واملناضــل ،يرفــع تكــن موجــودة يو ًمــا ،وكأ َّن ذلــك املقــاوِم،
قارعــات القــرى أ ّمــه /وتق ّمــص يو ًمــا أبــا ْه /فحبــا نحوهــا/ رايــة بيضــاء ،بعــد أن أعيــاه التعــب ،..يقــول يف القصيــدة:
مل تطعــه خطــاه /وانتهــى /يف املســافة مــا بــن شــاهدتني/ "لهــا مــا لــكل املــدن /:شــارعان قدميــان /قــد يبطئــان وال
هكــذا ..بــن قوســن هلّــت وغابــت /عــى وجــه (جــر) يرجعــان /وبضعــة أعمــدة قرشتهــا أظافــر أيامهــا /لهــا ســاعة
الحياةْ("..األعــال الشــعرية ،ص.)613 ر /لهــا مثــل كل يف حجـرٍ /عقربــان طويــان ..طاحونــة للبـ ْ
املــدنْ /نهــار مــن العابريــن /لهــا كربيــاء ،وليــل مضــا ٌء /وبح ٌر
وبضــع ســف ْن /لهــا مــا لــكل املــدنْ /.../غــر أ َّن مســاءاتها/
حــن تغــرق تحــت املطـ ْر /تجعــل الحجــر الصلــد يبــي مــن
العــري /يهــرب مــن وحشــة الليــل حتــى الشــج ْر /لهــا مثــل
أفكار /ملف العدد 21
خريي منصور..
قلق امل ُ ِّ
تعدد
حسني نشوان*
كان خــري منصــور الشــاعر والناثــر واملفكــر ينهــل مــن بــر واحــدة ،ويقيــم بيتًــا عــى ق ّمــة بنــاء موســوعي يف
الثقافــة َّأســس لجهــازه املفاهيمــي املتمـ ِّرد عــى الواقــع ،متن ِّكـ ًرا أو منكـ ًرا للحنــن املأســاوي /النســتولوجي ،وهــذه
الفكــرة تقــوم عــى التضــا ّد ،والوعــي الســالب ،مقابــل الوعــي الشــقي أو العدميّــة ،فهــو رصاع تخوضــه الــذات
الحقيقيّــة مــع الــذات الوهميّــة يف أعــاق النفــس لينفــي أحدهــا اآلخــر ويقصيــه؛ هــذه الفكــرة األساس ـيّة التــي
ـراع بــن الكاتــب /املثقــف واإلنســان املتمـ ِّرد ،وتتنازعهــا النصــوص بــن القصيــدة وال ِّدراســة واملقــاليرتاســل فيهــا الـ ِّ
ـراع الــذي يخوضــه الكاتــب مــع نفســه. كحوامــل وتجلّيــات للـ ِّ
ويف الوســيط عينــه ينظــر يف الوجــود لقــراءة معادالتــه يف يتشــ َّعب الحديــث عــن األديــب الراحــل خــري منصــور
الظواهــر التــي تتصــل باتجاهــات الثقافــة وقواهــا عــر ( )2018 1945-بــن الشــاعر والناثــر واملفكــر وكاتــب املقال،
دراســاته الفكريــة. واإلدارة الثقافيّــة ،وهــي وإن كانــت تــدور يف فلــك حقــل
واحــد يتصــل بالثقافــة واإلبــداعّ ،إل أ َّن لــكل مــن تلــك
يف كل تلــك التش ـ ُّعبات القلقــة واملتم ِّوجــة كرمــال متحركــة الحقــول أرسارهــا ومهاراتهــا وطبيعتهــا التــي ميكــن مقارنتهــا
كان خــري منصــور يقــف عــى قنطــرة ثقاف ّيــة صلبــة، بالطبيعــة التــي تتشــابه يف أصلهــا ،وتفــرق بالتضاريــس،
وحيــ ًدا ،بأقــل مــا يكــون مــن األصدقــاء الذيــن ينتقيهــم حيــث لــكل اختــاف يف الطبيعــة متايُــز يف املناخــات،
نخبــة ،تتح َّمــل صمتــه الجــ ّم. والفضــاء النفــي واملعــريف والثقــايف والخــرايت ،ورمبــا كان
ـص شــخص ّية منصــور دور إيجــايب لتقلّبــات املـزاج الــذي يخـ ّ
ربــا كانــت متطلبــات الحيــاة واملعــاش ورغبــة الســفر َّ يف االنتقــاالت مــن حقــل آلخــر يف محيــط اإلبــداع وبحــاره
واملــي والحريــة التــي كان معهــا ال يطيــق لقميصــه أن ومنعرجــات شــواهقه وجبالــه ووديانــه ومنبســطاته ،وهــي
مينــع عــن صــدره الهــواء ،هــي التــي اختارتــه محــ ِّر ًرا يف رحلــة تتنقــل بــن العنــارص املختلفــة يف مربَّــع الحيــاة:
مجلــة "أقــام" العراقيــة ،ومجلــة "الفكــر املعــارص" البريوتية، الهــوايئ والنــاري والــرايب واملــايئ.
ومديــ ًرا للدائــرة الثقاف ّيــة يف صحيفــة "الدســتور" األردن ّيــة
ليتوافــق مــع الوظيفــة التــي مل يســلم لهــا مت ـ ُّرده وتفلُّتــه كان املــزاج اإلبداعــي هــو الوســيط املــرن الــذي يتيــح
مــن قيودهــا حتــى وهــو عــى عتبــة الســبعني مــن العمــر. للشــاعر اســتعادة غمــوض الحلــم يف القصيــدة ،بينــا يفتــح
بــاب النــر أو نوافــذه لتشـ ُّوف األفــق ،أو عــى األقــل تخ ُّيلــه،
تجــس مواطــن األمل يف املجتمعــات العرب ّيــة ،ويســترشف الخســارات ّ كان خــري منصــور يتحــ َّرك بأصابــع عــ ّراف
املؤكّــدة يف كتاباتــه التــي تســر أعــاق الح ـراك االجتامعــي ومآالتــه الخاويــة ...كان املتف ـ ِّرد يف توقُّعاتــه ،صاحــب
مبضــع دقيــق يجــرح أعصــاب تلــك املجتمعــات ال ّنامئــة ليوقــظ فينــا خطرهــا ال ّداهــم يف السياســة والثقافــة عــى
كل أوجــاع العــامل ...فأقدامــه
حــد ســواء .لقــد انعــزل خــري يف نهاراتــه ليكــون ذلــك الكائــن الــذي يحمــل يف ليلــه َّ
كل ظاللــه التــي التصقــت عــى جــدران ال َّنــوم حــن كانــت الشــمس رسا تحــت معطــف الليــل ،تخ ّبــئ َّ التــي تهــرب ًّ
تبحــث عنــه؛ شــمس مريضــة ال تدفّــئ ركــوة الســؤال.
فيزيــاء الليــل والنهــار ،فــكان نهــاره ليــل وليلــه نهــار ،ابــن مل يــرك يل جملــ ًة صديقــي املختلــف خــري منصــور ّإل
الليــل املرقَّــط بنجومــه حيــث تبــدو لــه تلــك الســاوات وق ََصـ َـف مؤونتهــا كــا لــو أنــه ذلــك النبّــاش الــذي ال يضــع
ـب عــى خيالــه وجـ ًدا صاف ًيــا يف يف لحظــة كبــر مقلوبــة تصـ ّ قدمــه يف طريــق ســالك ،يعشــق وعــورة املســالك؛ فهــي
اشــتباكه مــع ســؤال املدينــة وس ـكّانها. رسي يتكاثــف بــن يديــه ليدلقــه عــى بالنســبة لــه حــ ٌر ّ
يعيــش مــع كائنــات الكتابــة العاليــة ،تحديـ ًدا مــع "لورانــس الورقــة.
داريــل" كوهــم يشــكل لــه وجــاء مــن قســوة العــامل َّ
يتعــر يك يقــع عــى صيــ ٌد معــر ٌّيف مل يطــأه أحــد قبلــه،
وجهالتــه ،ح َّدثنــي عــن "داريــل" كثــ ًرا ورباع ّيتــه وجزئهــا مســاحة مهجــورة يف الفكــرة ،يبحــث عــن أفــكار ضــا ّرة يف
األ َّول "جوســتني" التــي مل ترتــ ِو مــن الخطيئــة يف حياتهــا، مجتمعــات ثقاف ّيــة ركنــت إىل ســهولة ُملفتــة يف التعامــل
فــكان خــري متا ًمــا كـَ"جوســتني" رحــل ومل يرتـ ِو مــن خطيئــة مــع القــراءة عــى األقــل.
أســئلته يف مفاهيــم املثقــف والســلطة وطبائــع الكتابــة عرفتُــه منــذ العــام 1994يف "غالــري الفينيــق" الــذي كان
األقــرب إىل نبتــة تنمــو يف عواصــف صاعقــة. يعــج بالحلــم والســؤال ،فــكانّ يعــج باملثقفــن ،يعنــيّ
نبتــة الخطيئــة الحلــوة التــي تعيــش مرارتهــا الغائــرة يف لخــري ســؤاله املفاجــئ ،يف غالــب األمــر يحـ ِّول الجلســة إىل
التأرجــع بــن ثنائيــة الســلطة والثقافــة والخــوف والحريــة، مســارات مليئــة بــدم الكتابــة املمهــورة بتجــارب ســابقة يف
واليــأس والحنــن ،تعســف يف اجرتاحــات مســارب جديــدة العــامل مثــل "بروســت" و"كافــكا" و"بــول فالــري" وغريهــم،
يف مجتمعــات ن ّيئــة مل تنضجــع يف ســؤالها الوجــودي، فهــو كاحـراق الســنديان يف لحظــات عزلتــه التــي عبثــت يف
خريي منصور
عــى قــدر مــا يُتــاح لنــا مــن أوهــام الحريــة املؤطــرة ،وهنــا مجتمعــات تغ ّمــس خــارج صحــن املعرفــة وتلهــث خلــف
أستشــهد بقــول يوســف إدريــس" :إ َّن الحريّــات املســموح كرنفاليــة مليئــة باملســاحيق الثقافيــة التــي تســيل يف لحظــة
بهــا يف عاملنــا العــريب كلــه قــد ال تكفــي كات ًبــا واح ـ ًدا". ســطوع شــمس التح ـ ُّرر وتنكشــف عوراتهــا املركَّبــة ،حيــث
فهــو املبضــع الــذي يذهــب مبــارشة إىل الــورم الثقــايف يك تحتــاج إىل شــجرة بأكملهــا يك تلــوذ ســوءتها يف تلــك اللحظــة
يبقــر عينــه ،ويُســيل منــه مــا تراكــم مــن صديــد فاســد ال الح ـ ّرة.
يخلّــف ســوى روائــح منزوعــة منهــا أفــكار العطــر ،يقــول لقــد انعــزل خــري يف نهاراتــه ليكــون ذلــك الكائــن الــذي
خــري: يحمــل يف ليلــه كل أوجــاع العــامل ،ومل يــدرك يو ًمــا مــا يف
"إ َّن العصــا يف ذروة وظيفتهــا اآلن ،أ ّمــا النــاي فهــو مغمــور حياتــه ،معنــى واحـ ًدا لفكــرة املثقــف يف تلــك البــاد ،كأنــه
بالرمــال ،وقــد ســملت األصابــع األميّــة ثقوبــه". رسا تحــت خلــق ليكــون هنــاك ،فأقدامــه التــي تهــرب ًّ
ليــا كعادتــه طب ًعــا ،كونــه كنــت أحــرص عــى لقائــه ً ُ معطــف الليــل ،تخبــئ كل ظاللــه التــي التصقــت عــى
يعطينــي قيمــة لتســاؤاليت ومناكفــايت املعرف ّيــة بينــي وبينــه، جــدران النــوم حــن كانــت الشــمس تبحــث عنــه ،شــمس
فــكان وعــ ًرا يف تصديــق اآلخــر ،لكنــه ينصــدم ويندهــش مريضــة ال تدفــئ ركــوة الســؤال.
مــن مفارقــات كنــت أطارحهــا معــه ،إىل درجــة أنــه قــال مل أنظــر خــري ســوى أنــه شــذوذ ثقــايف يحتــاج إىل فقيــه
يل" :هــل أنــت مــن املص ِّدقــن يف إمكانيّــات حصــول يشء شــاذ يــوازي ذلــك الشــذوذ يف األســئلة الخشــنة ،يف اق ـراح
كنــت مل أزل أؤمــن هنــا أو هنــاك؟" ،فكــرة أثارتنــي حــن ُ املشــرك املنهجــي الواقــع والحلــم ،بكــون املشــرك قــد يكون
بــأ َّن مــن املمكــن أن نفعــل شــيئًا يف املســألة الثقافيــة ،لكــن يف قــاع الشَّ ــجن وتحــ ّوالت األســئلة إىل عــزالت جديــدة،
أفكار /ملف العدد 27
خــري الــذي عشــق حقائــب الجلــد والســيجار الكــويب ـت أســباب عزلته لألســف أكتشــف أنــه كان عــى حــق ،وعرفـ ُ
"كوهيبــا" ومــاركات القداحــات تحديــدا "ديبــون" وأشــكال املمتلئــة بذاتــه إىل حـ ّد اجـراح حكايــات مــع التُّحــف التــي
ـول إىل التحــف صاحبــة التاريــخ التليد، األقــام وألســنتها وصـ ً تحيــط بــه مــن كل جانــب مــن جوانــب مكتبــه ،ومــا ك ّنــا
وعكاكيــز مغايــرة للعــرج ،عكاكيــز كانــت تُ ْحمــل كغوايــة نتســاءل فيــه يش ـكِّل فاتحــة لجــرح كبــر ،وســلطة معبَّــأة
لذلــك الشــخص وليــس لخلــل بأقدامــه ،عرفْتُــه شــغوفًا بتلــك بااللتباســات املجتمع ّيــة كونهــا تتحــ َّرك عــر مســارات
املناخــات األرســتقراطية ،كــا لــو أنــه يريــد أن يعيــد تاريــخ ترســخت يف الضمــر الحــذف والنفــي واإلقصــاء كثقافــة َّ
عائلتــه اإلقطاعيّــة يف "ديــر الغصــون" يف فلســطني. الشــعبي بوصفهــا الســائد الــذي ينبغــي أن يتحقــق يف
ـاف ال تنتهــي ،منفــى الــذات قدمــاه حيــث متــي بات ِّجــا ٍه منـ ٍ ظــروف ثقافــة االســتقالل الواهــم املدعــوم مبتطلبــات
ـول إىل "مطعــم القــدس" وغربتهــا يف جهالــة الدهــاء وصـ ً النــص الثقــايف والغنــاء ومتظه ـرات الدولــة ،وينطبــق ذلــك
ثــم صديقــه "عمــران الذهبــي" ورفيــق دربــه "املهنــدس عــى مجمــل املشــهد العــريب ،ال ميكــن ملثقــف مثــل خــري
ـول إىل محــات نبيــل طوالبــة" ،ومحـ ّـل الســاعات الشــهري وصـ ً منصــور أن يتــو َّرط بطاووسـيّة الثقافــة ســوى أ ْن يضــع يــده
"األنتيــكا" أو مــا تخبّئــه تلــك األشــياء مــن حكايــات غرائبيّــة، عــى موضــع األمل؛ فهــو العــن الصقريّــة التــي ترصــد فواصــل
فهــو كائــن يبحــث عــن الزمــن يف تلــك األشــياء ،يحــاول الخلــل التــي تشــر إىل زيــادة منســوب الحرمــان مــن حريّــة
أن يســتعيده عــر أثــره عــى آنيــة خزف ّيــة مــن العــر اندملــت يف الذاكــرة بســبب تعظيــم العصــا وتســمني
الفكتــوري ،مــرو ًرا بحســن أبوعــي الــذي يقــرح عليــه كتبًــا الضحيّــة.
ته ّمــه. ***
تجــس مواطــن األمل يفّ كان خــري يتحــ َّرك بأصابــع عــ ّراف مل تكــن رحلــة الحلــم الــذي حملــه خــري بــن أضالعــه
املجتمعــات العربيــة ،ويســترشف الخســارات املؤكــدة يف املخططــة بالحــر ،بعيـ ًدا عــن مســقط ظلِّــه ،برحلــة ســهلة،
كتاباتــه التــي تســر أعــاق الحــراك االجتامعــي ومآالتــه فهــو الك ـ ُد الــدؤوب يف أفــكار تــكاد تكــون انقالبيّــة عــى
ـت أنتظــر مقالــه بفــارغ الصــر كونــه املقــال الخاويــة ،كنـ ُ يحــس بفجيعــة ّ مجتمــع ال يــدرك منفــاه االجتامعــي ،وال
املثقــف الــذي يبــث يف دواخلنــا صــورة مختلفــة عــن مــا تط ـ ّوق عنقــه يوم ًّيــا ،كان خــري يهــرب مــن ذلــك البــؤس
نقــرأه يف الصحافــة العربيــة ،كان املتفــ ِّرد يف توقعاتــه، ربــا ليض ّيــع إيقاعــات األمل بوقــع
باملــي نحــو قــاع املدينــةّ ،
صاحــب مبضــع دقيــق يجــرح أعصــاب تلــك املجتمعــات األصــوات العاليــة للباعــة ،ففــي كثــر مــن األحيــان تش ـكِّل
النامئــة ليوقــظ فينــا خطرهــا الداهــم يف السياســة والثقافــة تلــك الجوقــات الصوتيّــة والعشــوائيّة منا ًخــا لنســيان مؤقَّــت
عــى حــد ســواء. ربــا يُفرحـ َـك ولــو بشــكل واهــم.ّ
خرسنــاه كــا خرسنــا آخريــن مــن قبلــه ،لكنــه تــرك لنــا يذهــب هاربًــا هنــاك لري ِّمــم لســان قلمــه ،يف مم ـ ّر ض ّيــق
كثــ ًرا مــن ال ّريــش يف أعــى الجبــل. حيــث يجلــس معالــج األقــام خلــف طاولــة خشــبيّة
ظــل ير ِّمــم األقــام
تشــقّقت مــن ســطوة الزمــن ،شــخص َّ
منــذ أكــر مــن خمســن عا ًمــا ،يعرفهــم خــري ويعــرف
أمكنتهــم بدقــة متناهيــة.
28
خريي منصور..
أنت فنجان قهوتنا
أحمد الالوندي*
عندمــا كان خــري منصــور يكتــب عــن طفولتــه ،فهــو يتذكَّــر املســتقبل وال يتذكَّــر املــايض ،ألنــه يطلــق ممكنــات
كانــت يف طفولتــه ومل ت ُ ِتــح لــه الظــروف عمل ًّيــا أن يحقِّقهــا ،لقــد ظـ َّـل الطفــل عائشً ــا فيــه ومل يفارقــه أو يفتقــده أبـ ًدا
حتــى يف أوقــات فرحــه وحزنــه ،فأحيانًــا كان يلــوذ إليــه وأحيانًــا أخــرى كان يحـ ّـل لــه مشــكالته .قــال مـ َّرة" :األزمنــة
أربعــة .ذهبــي وفــي ونحــايس وقصديــري .ودامئًــا لــدى اإلنســان إحســاس أ َّن الزمــن الذهبــي هــو الــذي مــى ألنــه
اكتمــل ،وعندمــا نشــعر بالحنــن إىل أمكنــة عشــنا بهــا يف املــايض ،هــذه األمكنــة يضــاف إليهــا ســنوات العمــر التــي
بُـ ِّددت فيهــا ،هنــاك التبــاس واضــح يف التعامــل مــع املــايض ،ألننــا ِ
نح ـ ُّن ليــس إىل املــايض املج ـ َّرد إنَّ ــا إىل (نَ ْح ـ ُن)
التــي كانــت متشـكِّلة يف ذلــك املــايض ويف صبانــا".
الثانويــة يف الضفــة الغربيــة ،ثــم درس املرحلــة الجامع ّيــة يف لــن ننــى أب ـ ًدا رحيــل الشــاعر والكاتــب خــري منصــور يف
القاهــرة .أبعدتــه ســلطات االحتــال اإلرسائيــي مــن الضفــة عــان يــوم الثالثــاء 18ســبتمرب 2018 العاصمــة األردنيّــة ّ
الغربيــة عــام ( ،)1967فســافر إىل الكويــت ثــم إىل بغــداد، وعــن عمــر يناهــز 73عا ًمــا ...ذلــك الكاتــب واألديــب الــذي
بعدهــا عــاش يف عـ ّـان حيــث كان يكتــب عمــو ًدا يوم ًّيــا يف حفــر اســمه بحــروف مــن نــور يف ضمــر القـ ّراء مــن املحيــط
صحيفــة "الدســتور" األردنيــة ،إذ ك ـ َّرس قلمــه لبنــاء وعــي إىل الخليــج ،وذلــك مــن خــال أطروحاتــه الجذّابــة وعباراتــه
عــريب جديــد .صــدر لــه الكثــر مــن الدواويــن الشــعرية الصافيــة وأفــكاره املضيئــة وشــعره الرصــن ،وبعــد تكرميــه
منهــا" :ظــال" (" ،)1978غــزالن الــدم" (" ،)1981ال مــرايث بجائــزة الصحافــة العربيــة بــد ّيب كأفضــل كاتــب مقــال ،قــال
للنائــم الجميــل" (" ،)1983التيــه وخنجــر يــرق البــاد" عنــه محمــود درويــش" :إنــه فنجــان قهوتنــا".
(" ،)1987الكتابــة بالقدمــن" ( .)1992ولــه عــدد مــن
الكتــب النقديــة مــن بينهــا" :الكــف واملخــرز" ( )1980وهــو يُ َعـ ُّد رحيــل خــري منصــور خســارة كبــرة لــأدب وللثقافــة
عبــارة عــن دراســة يف األدب الفلســطيني بعــد عــام (،)1967 ظــل صادقًــا متمســكًا بأفــكاره وقيمــه
العربيــة ،فقــد َّ
"أبــواب ومرايــا" مقــاالت يف حداثــة الشــعر (" ،)1987تجارب عــر عــن
ومبادئــه ووف ًّيــا لقناعاتــه حتــى رحيلــه ،كــا ّ
يف القــراءة" (.)1988 القضيــة الفلســطينية التــي أث ّــرت عــى نصوصــه وعــى
نتاجــه األديب بشــكل عــام.
ُولــد خــري منصــور عــام ( )1945يف قريــة ديــر الغصــون
الواقعــة قــرب طولكــرم يف فلســطني ،وأكمــل دراســته
* شاعر مرصي
ahmedelawndy22@yahoo.com
أفكار /ملف العدد 29
َّــت كان صبيًّــا ،وبحســب عــرس أختــه الكــرى عندمــا ُزف ْ إ َّن خــري منصــور عندمــا يكتــب عــن طفولتــه مثـ ًـا ،فهــو
التقاليــد املوجــودة آنــذاك ،كان مــن املفــروض أن ترتــدي يتذكَّــر املســتقبل وال يتذكَّــر املــايض ،ألنــه يطلــق ممكنــات
العــروس عبــاءة أبيهــا وتركــب حصانــه ،وبالفعــل حــدث كانــت يف طفولتــه ومل ت ُ ِتــح لــه الظــروف عمل ًّيــا أن يحققهــا،
ذلــك ،وكان بيتهــم عــى ق ّمــة الجبــل ولــه ب ّوابتــان ،واحــدة لقــد ظـ َّـل الطفــل عائشً ــا فيــه ومل يفارقــه أو يفتقــده أب ـ ًدا
عاليــة اســتطاعت أن تخــرج منهــا هــي والحصــان ،أ ّمــا حتــى يف أوقــات فرحــه وحزنــه ،فأحيانًــا كان يلــوذ إليــه
الب ّوابــة الثانيــة فكانــت واطئــة قليـ ًـا مل تســتطع أن تخــرج وأحيانًــا أخــرى كان يحــل لــه مشــكالته .قــال مـ َّرة" :األزمنــة
ـأل
منهــا ،فش ـ َّدت لجــام الحصــان إىل الــوراء ،وهــذا يُع ـ ُّد فـ ً أربعــة .ذهبــي وفــي ونحــايس وقصديــري .ودامئًــا لــدى
غــر حســن يف ليلــة الــزواج ،ثــم قالــت ألخيهــا األكــر: اإلنســان إحســاس أ َّن الزمــن الذهبــي هــو الــذي مــى ألنــه
"إنني ال أستطيع أبدً ا أن أنحني.. اكتمــل ،وعندمــا نشــعر بالحنــن إىل أمكنــة عشــنا بهــا يف
وأنا أخرج من بيتنا عىل حصان أيب" املــايض ،هــذه األمكنــة يضــاف إليهــا ســنوات العمــر التــي
بُـ ِّددت فيهــا ،هنــاك التبــاس واضــح يف التعامــل مــع املــايض،
فانفعــل أخوهــا ،وق ـ َّرر يف الوقــت نفســه أن تُهــدم الب ّوابــة ألننــا ِ
نح ـ ُّن ليــس إىل املــايض املج ـ َّرد إنَّ ــا إىل (نَ ْح ـ ُن) التــي
بال ّرصــاص ،وقــد حــدث .يقــول خــري منصــور" :ولقــد كانــت متش ـكِّلة يف ذلــك املــايض ويف صبانــا".
أُطلقــت عــى هــذه البوابــة عــدة طلقــات ناريّــة ،وقتهــا عنــد كل حديــث ،كان خــري منصــور يثنــي عــى قريتــه
كانــت تكفــي لتحريــر القريــة مــن االحتــال" .يــا لهــا مــن ويفتخــر بأهلهــا ويصفهــا بأنهــا قريــة جبل ّيــة وعنيــدة ،يقول:
عــادات كانــت تغــرس ســات الع ـ ّزة والكرامــة يف النفــس، ـت ذات يــوم يف زيــارة لشــاعر موســكو العظيــم (رســول كنـ ُ
ومــا أجملهــا مــن قيــم ظلّــت تشـكِّل بالنســبة لهــذا الشــاعر حمزاتــوف) يف بيتــه ،ومــن املعــروف أنــه نشــأ يف قريــة
منجـ ًـا خص ًبــا للتخييــل الشــعري ،واإلحســاس بالــذات تجــاه ـتأذنت
أوصافهــا شــبيهه جـ ًدا بقريتــي "ديــر الغصــون" ،فاسـ ُ
العــامل. منــه أن أســتخدم عبارتــه الشــهرية التــي اســتخدمها هــو
عــن قريتــه الجبل ّيــة لــي أصــف بهــا قريتــي ،حيــث يقــول
ــب الشــاعر خــري منصــور والــده وتعلّــق بــه بشــكل أ َح َّ حمزاتــوف:
جنــوين يفــوق الخيــال ،بــل وأوشــك أن يكــون مرض ًّيــا، "إنَّ َمن يولدون يف القرى الجبل ّية
خصوصــا أ َّن أبــاه رحــل يف وقــت كان خــري يف أوج ً ال ينحنون طوال حياتهم ّإل م ّرتني
مراهقتــه ،لقــد رشب روحــه مبكـ ًرا ،وعندمــا رحــل أبــوه بــدأ م َّرة لتقبيل طفل
يفتــش عــن بقايــا مالمحــه وعــن رائحتــه يف املــكان ،لدرجــة وم َّرة يك يسقوا الحصان".
أنــه قــال" :إىل اآلن أتذكَّــر رائحــة التبــغ يف أصابعــه ،وأحتفــظ
بأشــياء كثــرة منــه يف داخــي ،وكلــا تقـ َّدم يب العمــر أشــعر لقــد عــاش خــري منصــور يف أرسة لهــا عاداتهــا وتقاليدهــا
أننــي أشــبهه يف كل يشء" .أ َّمــا أمــه فــكان تعلقــه بهــا ال التــي كان لهــا أكــر األثــر عــى شــخص َّيته وعــى كيانــه ،ففــي
30
تلــك األشــياء ،وغريهــا ،مل يســتطع خــري منصــور أن يتأقلــم يصــل إىل مســتوى تعلقــه بأبيــه بحســب قولــه .كانــت
ألي
ـرض باإلذعــان أو بالخضــوع ّ معهــا طــوال حياتــه ،فلــم يـ َ هــي الوحيــدة مــن نســاء القريــة التــي يطلــق عليهــا اســم
أمــر مهــا كانــت النتائــج. (املدن َّيــة) ألنهــا ال ترتــدي ثيــاب القريــة ،وترتــدي ثيــاب
لقــد عمــل هــذا األديــب الفـ ّذ يف بغــداد كمستشــار لشــؤون نســاء املــدن ،وتلبــس الكعــب العــايل ،وهــذا يفــرض درجــة
التأليــف والنــر ،باإلضافــة إىل عملــه يف مجلــة "األقــام"، مــن العزلــة عليهــا وعليــه أيضً ــا.
وهــذه الفــرة كانــت مــن أجمــل فـرات حياتــه ،إن مل تكــن
هــي األجمــل عــى اإلطــاق ،وقــد أضافــت لــه الكثــر ،وتوفر ذكــر شــاعرنا الراحــل أ َّن شَ ــعره يف صبــاه كان طويـ ًـا ،وأ َّن أمه
لــه هنــاك أن يتصــل بأســاتذة كبــار وبأكادمييــن ومبؤرخــن هــي التــي كانــت ســب ًبا يف ذلــك .وعندمــا دخل املدرســة كان
يصعــب أن يجدهــم يف مــكان آخــر .فــكان عــى صلــة النظــام املُتَّبــع يف تلــك اآلونــة أن يحلــق التالميــذ رؤوســهم،
مبــارشة بـــعامل االجتــاع املعــروف الدكتــور (عــي الــوردي) ومل ّــا جــاء الــدور عليــه بــى بــكاء شــدي ًدا وهــرب مــن
و(عبدالوهــاب البيــايت) و(ســعدي يوســف) ،وآخريــن .ذات املدرســة وكرههــا يف البــدء بســبب سياســة (القطعنــة) هــذه.
رح ويتحــدث يف شــموخ: م ـ َّرة يف أحــد لقاءاتــه ســمعتُه ي ـ ِّ
ـت ِم ِّنــي بغــداد أخــر كثـ ًرا كمثقــف وكإنســان). (إذا ُح ِذفَـ ْ
رحــم اللــه الشــاعر خــري منصــور ،الــذي يقــول يف قصيدتــه
"تيــه":
"كُ ّنا
إذا م َّر النسيم
الصحراء فيه نسيم ِ
بحرك نقرأ َّ
كُ ّنا إذا امتدَّ ت إلينا خلسة كفّاك
نقرأ طال ًعا ال نرتجيه
فنقول :هذا الليل أ ّول صفحة لكتابنا
ونقول :هذا ال ّنجم أغوى قارئيه
إذنِ اقرتبنا من خواتم أرضنا
ولسوف نوغل يف املدى
ويكون تيه".
أفكار /دراسات ومقاالت 31
دراسات
ومقالات
Photo Byjess Bailey on Unsplash
محمــد الحنتيتــي /د .إيهــاب محمــد زاهــر /هــاين محمــد عــي /
د .ناديــة هنــاوي /نضــال القاســم /زينــب محمــد عبــد الحميــد
/مختــار املاجــري /د .عــاد الضمــور /عامــر أبومحــارب /
إميان مرزوق /محمد محمود فايد /موىس أبو رياش /د .مسلك ميمون
32
يف هــذه املقالــة يتو ّخــى الكاتــب تحقيــق غرضــن اثنــن :يتمثــل األ َّول يف تحليــل الســلوك التديُّنــي عنــد املســلم العامــي؛
أول بفهــم اليونــاين القديــمفيتجســد يف مقارنــة هــذا التصـ ُّور ً
َّ مبــا يســاعدنا عــى إدراك تصـ ُّوره للديــن والتقــوى .أ ّمــا الثــاين
للديــن والتقــوى كــا جــاء يف محــاورة "أوطيفــرون" التــي كتبهــا أفالطــون ،ثــم ثان ًيــا الوقــوف عــى مــدى اســتيعاب العامــي
للمقصــد الفعــي للتديُّــن يف اإلســام .ويل ِّخــص الكاتــب مــا قــام بــه أفالطــون؛ مــن إماطــة اللثــام عــن الفهــم الســطحي
رصفاتــه مبــا
للتديُّــن ،ليدفعنــا إىل اســتنتاج أ َّن التقــوى ترتبــط باملعرفــة كفضيلــة مت ِّكــن الفــرد مــن اســتحضار العقــل أثنــاء ت ُّ
يجعلهــا منضبطــة لنمــوذج أخالقــي مطلــق يهــدف إىل تحقيــق الخــر العــام للجميــع.
متهيد
واســتنتاج مــا ميكــن أن يرتتــب عــن الترصفــات .فالديــن جــاء يُ َعــ ِّرف أرســطو طاليــس Aristote (384ق.م322 -ق.م)
يف الرســاالت الســاوية عــى شــكل قواعــد كليــة ،ينبغــي اإلنســا َن بالحيــوان الناطــق ،وهــذا مــا يجعلــه ،ودونًــا عــن
عــى الفــرد أن يســتنتج منهــا كيــف يســلك. جميــع الكائنــات ،يفكــ ُر قبــل اإلقــدام عــى أي ســلوك،
أعــدل األشــياء قســمة بــن ُ العقــل
َ وعــى ال ّرغــم مــن أ َّن وغال ًبــا مــا يأخــذ تفكــره غايــات أفعالــه بعــن االعتبــار،
النـ�اس ،كـما ذهـ�ب إىل ذلـ�ك رينيـ�ه ديـ�كار ت �René Des والتــي تخضــع إىل مجموعــة مــن املحــددات (ثقافيــة ،دينية،
cartes (1596م-1650م) ،فــإ َّن االختــاف بــن أفــكار البــر اجتامعيــة ،قانونيــة .)...أ ّمــا األشــخاص الذيــن يســلكون كــا
قائــم ،ومــر ّده -بحســب الفيلســوف نفســه -إىل طُــ ُرقِ اتُّ ِفــق ،أي دون خلفيــة نظريــة لســلوكهم ،ميكــن القــول إنَّهم
اســتخدام العقــل ،فينتــج عــن ذلــك تفاوتــات كبــرة يف يخضعــون لالنفعــاالت ِمثلهــم ِمثــل الحيوانــات ،فتتدخَّــل
الفهــم ت َجــا َه املوضــوع نفســه. أع ـراف املجتمعــات وقوانــن الــدول لردعهــم.
وعليــه ،فإنــه ليــس هنــاك فه ـ ٌم واح ـ ٌد للنصــوص الدينيــة، ويعـ ُّد الديــن مــن أبــرز األيديولوجيــات التــي تؤطــر ســلوك
فبالنســبة للقــرآن كتــاب املســلمني قــد نجــد ثالثة تصـ ُّورات، ـجم
ـب عــى املؤمــن أن يجعــل ســلوكه منسـ ً الفــرد ،فَ َيتَ َو َّجـ ُ
إذا أخذنــا بعــن االعتبــار التمييــز الــذي قــام بــه الفيلســوف والقواعــد التــي وضعهــا الديــن ،عــر حســاب مــا ميكــن
املســلم أبوالوليــد بــن رشــد (1126م ،)-1198حينــا بـ َّـن أ َّن رصفــه بطريقــة نظريــة قبــل أن ميــ ّر إىل أن يرتتــب عــن ت ُّ
القــرآن يتض َّمــن ثالثــة خطابــات :األ َّول خطــايب تكــر فيــه التطبيــق ،فــإن تبـ ّدى لــه أ َّن ســلوكه يتوافــق ومــا يســمح بــه
األمثلــة ،والثــاين جــديل يطغــى عليــه الحجــاج ،والثالــث ـوض أعــرض عنــه. الديــن أقــدم عليــه ،وإن ظهــر لــه أنــه مرفـ ٌ
برهــاين يســتخدم لغــة عقالنيــة محضــة. ومنــه فإننــا أمــام تقديـرات برشيــة قامئة عــى إِ ْعـ َـا ِل العقل،
* كاتب مغريب
prof-philosophie2016@outlook.fr
أفكار /دراسات ومقاالت 33
الوشــاية بالظــامل حتــى لــو كان أقــرب النــاس منــك ،عكــس ونحــن يف مقالتنــا هــذه ســنحاول أن نحلــل الســلوك الدينــي
الفجــور الــذي هــو الســكوت عــن الحــق ،فَـــ"زوس وهو خري للمســلم العامــي لنكشــف عــن تصــ ُّوره للديــن والتديُّــن،
اآللهــة وأعدلهــم [ ]...قيــد أبــاه نفســه ،ألنــه كان يلتهــم مســتنريين يف ذلــك مبحــاورة موســومة بـ"أوطيفــرون" كتبهــا
أبنــاءه بغــر عــدل"(.)5 أفالطــون Platon (428ق.م348 -ق.م) ،كان لهــا الهــدف
يُبــدي ســقراط امتعاضــه مــن هــذه الحكايــات الشــائعة عــن وتوصلــت إىل نتائــج مكّنتــه مــن تكويــن صــورة نفســهَّ ،
اآللهــة التــي ال تتفــق ومفهــوم األلوهيــة ،ثــم يرفــض هــذه واضحــة عــن طريقــة متثُّــل اليونــاين القديــم للتديُّــن
ـال
اإلجابــة ،ألنهــا ال تشــر إىل ماهيّــة املفهــوم ،بــل تقـ ِّدم مثـ ً ـدف نســعى نحــن أيضً ــا إىل بلوغــه ،حتــى إ ْن والتقــوى ،هـ ٌ
عــن فعــل تقــي ،يف حــن أنــه يبحــث عــن املعنــى العــام مت َك ًّنــا مــن ذلــك قا َرنًّــا مــا إذا كان فهــم العــوا ِّم من املســلمني
للكلمــة ،الــذي يصــدق عــى مجموعــة مــن الحــاالت الجزئ ّية للتديُّــن يتــاىش ومــا يحفــظ للديــن والعبــد قيمتهــا.
املشــابهة( .)6فيعيــد أوطيفــرون إصــاح تعريفــه واعتبــار لــكل هــذا ســتحاول مقالتنــا أن تجيــب عــن األســئلة اآلتيــة:
ـول مــن اآللهــة(.)7التقــوى هــي مــا كان محبوبًــا ومقبـ ً توصــل إليهــا أفالطــون يف مــا هــي أهــم األفــكار التــي َّ
يدحــض ســقراط بســهولة هــذا التعريــف ،أل َّن اآللهــة ،كــا محاورتــه "أوطيفــرون" بخصــوص فهــم اليونــاين القديــم
تحــي األســاطري اليونانيــة( ،)8غــر متفقة فيام تحــب أو تكره، َّــل املســلم العامــي ،يف للتديُّــن والتقــوى؟ وكيــف يَتَ َمث ُ
فمفهــوم التقــوى الــذي يوافــق عليــه زوس باعتبــاره معاقبــة عرصنــا هــذا ،التديُّــن؟ وهــل هنــاك تشــابه بــن فهمــه
الظــامل ،يرفضــه أورانــوس وكرونــوس كونهــا ظاملــان. وفهــم اليونــاين القديــم؟ وهــل يتوافــق تَ َثُّلُ ـ ُه ذاك والغايــة
ويحــاول أوطيفــرون اإلفــات مــن املــأزق الــذي تســببت الحقيقيّــة للديــن؟
فيــه لــه أســئلة ســقراط الحرجــة ،حيــث يخــر هــذا األخــر
أ َّن الظــامل ال يعــرف بظلمــه ،وإنَّ ــا ينكــره ،وهــذا مــا فعلتــه تلخيص محاورة "أوطيفرون"
اآللهــة ،التــي تختلــف حــول مفهــوم العــدل ومفهــوم الجور. رجــل ديــنٍ يدعــى أوطيفــرون التقــاه يف يُ َحــا ِو ُر ســقراط َ
لــذا يُعـ ّدل ســقراط تعريــف أوطيفــرون ،بح ّجــة أنــه يحــاول رواق الحاكــم امللــك( ،)1ومــدار الحــوار بينهــا حــول تعريــف
فهــم ُمحــا َو ِر ِه ،الــذي ي َّدعــي بــأ َّن هــذا التعريــف نفســه ()2
مفهــوم التقــوى ،وقــد كان ســبب مجــيء األ َّول ا ِّدعــاء عــام
الــذي كان يقصــده ،بحيــث يكــون أ َّن مــا يجمــع اآللهــة عــى ُرفــع ض ـ ّده مــن طــرف شــاب مجهــول يدعــى ميليتــوس(،)3
ـي مقـ َّدس(.)9 كرهــه فهــو فاجــر ،وأ َّن مــا يحبونــه تقـ ّ بينــا جــاء الثــاين متّ ِهـ ًـا أبــاه بقتــل عبـ ٍـد عــن غــر قصــد.
ويــرع ســقراط يف فحــص جــواب محــا َو ِر ِه ،عــر محاولــة وملّــا علــم ســقراط بذلــك ،طلــب منــه أن يعلّمــه مــن علمــه
ــن ملــن األســبق ّية؟ هــل يســبق حــب اآللهــة املقــ َّدس تَ َب ُّ ــي بــه؛ مــن أنــه الواســع ،لعلــه ينفعــه يف إبطــال مــا ُر ِم َ
أم يــأيت بعــده؟ وبتعبــر آخــر ،هــل تحــب اآللهــة مــا هــو فاج ـ ٌر ملح ـ ٌد مفس ـ ٌد للشــباب .فســأل رجــل الديــن املعت ـ ّد
مقدســا؟ أيهــاً مقــ َّدس أم أ َّن مــا تحبــه اآللهــة يصبــح بنفســه واملتفاخــر بعلمــه :مــا هــي التقــوى يف رأيــك ومــا
الســبب وأيهــا النتيجــة؟ ()4
هــو الضــال؟
فيكــون جــواب أوطيفــرون هــو أ َّن مــا تحبــه اآللهــة يصبــح ليجيبــه بأنهــا فضيلــة ترتبــط باملجــال الدينــي ،وتتمثــل يف
34
يتحــ َّدث عــن تلــك األنــواع مــن الخدمــات التــي يؤديهــا مقدســا ،وبالتــايل فحــب اآللهــة ســابق عــى القدســ ّية. ً
الخــدم لســادتهم ،فالخــدم هــم مــن يحتاجــون الســادة أكــر ـن لنــا ســقراط خطورتهــا ،ألنــه مــا عــى املــرء إال فكــر ٌة يُ َبـ ِّ ُ
مــا يحتــاج الســادة الخــدم .وتتمثــل الخدمــة التــي يؤديهــا أن يســتميل حــب اآللهــة بالصلــوات والقرابــن يك تصبــح
رع بالدعــاء وهــي البــر لآللهــة يف تقديــم القرابــن والت ـ ُّ رصفاتــه مقبولــة حتــى لــو كانــت ظاملــة للــذات جميــع ت ُّ
رسهــم ،ألن غريــزة اآللهــة تقــي ال تفيدهــم بقــدر مــا ت ُّ ولآلخريــن .وهنــا يتهــم أوطيفــرون ســقراط بأنــه هــو
عليهــم أن يُع َبــدوا مــن طــرف البــر ،والصــاة بهــذا املعنــى الســبب يف اضطــراب براهينــه.
تصبــح نو ًعــا مــن التجــارة فيهــا أخــد وعطــاء ،حيــث يبادلهــا فيقــرح عليــه فيلســوفنا املســاعدة لبلــورة تعريــف جديــد،
اآللهــة مبنحهــم الصحــة والــرزق والســداد للمصلــن. عــر البــدء بطــرح هــذا الســؤال :هــل العــدل والتقــوى يشء
ال يوافــق ســقراط عــى هــذا التعريــف ،ألنــه ينطــوي عــى واحــد أم أ َّن التقــوى جــزء مــن العــدل؟ أوليــس ما هــو عادل
فكــرة تجعــل اآللهــة هــي َمــن تخــدم البــر ،وتجعــل هــذه تقــي بالــرورة؟ ثــم يق ـ ِّدم شــع ًرا ميجــد زوس ،مضمونــه:
التجــارة ضيــزى ،فالبــر ال يق ِّدمــون شــيئًا يُذكــر لآللهــة أ َّن النــاس يقدســون هــذا اإللــه ألنهــم يخافونــه ،ويُ َف ِّنــ ُد
ويربحــون الكثــر ،فكيــف ميكــن أن نســاوي بــن الرتاتيــل هــذه الفكــرة ،أل َّن النــاس يخافــون مــن املــرض لكنهــم ال
واملــال الوفــر؟! يقدســونه ،فليــس دامئًــا ســبب التقديــس هــو الخــوف ،وإمنــا
إ َّن هــذه التجــارة هــي لصالــح البــر ،وتســقطنا يف فكــرة العكــس؛ الخــوف ناتــج عــن التقديــس ،وبهــذا فالعدالــة
جعــل اآللهــة كائنــات ُو ِجــدت فقــط لخدمــة البــر ،الذيــن كفكــرة مق َّدســة ســابقة عــن التقــوى كخــوف واح ـرام ملــا
رع والدعــاء فقــط حينــا يريــدون يعــودون إلهــا بالتــ ُّ هــو مق ـ َّدس.
الحصــول عــى يشء مــا ،وآلهــة مثــل هكــذا شــكل ال يعـ ّول ومنــه يــرى أوطيفــرون أنــه إذا كانــت التقــوى ذلــك الجــزء
عليهــا ،فهــي كاألداة التــي نســتخدمها يف دور محــ َّدد ،ثــم مــن العدالــة الــذي نخــدم بــه اآللهــة ،فــإ َّن باقــي أج ـزاء
نضعهــا يف مكانهــا إىل أن نحتاجهــا مــرة أخــرى ،وهنــا يبلــغ العدالــة نخــدم بــه الصالــح العــام للنــاس ،أي السياســة
الــكالم منتهــاه ،حيــث يســتأذن أوطيفــرون منرصفًــا لضيــق واألخــاق.
الوقــت ،وهــذه ح ّجــة واهيــة والســبب الحقيقــي هــو ولغايــة اختبــار مــدى متانــة هــذه الفكــرة الجديــدة ،يســأل
أ َّن ســقراط عــ ّراه وكشــف جهلــه وفهمــه القــارص للديــن ســقراط محــا َو ِر ِه عــن املقصــود بالخدمــة ،هــل هنــا نتحـ َّدث
والتديُّــن. عنهــا بالطريقــة نفســها التــي نتحـ َّدث بهــا عن خدمــة البرش
وهكــذا نكــون قــد لخَّصنــا مــا قــام بــه أفالطــون؛ مــن لحيواناتهــم؟ فخدمــة الجيــاد سياســتها ،وخدمــة الــكالب
إماطــة اللثــام عــن الفهــم الســطحي للتديُّــن ،ليدفعنــا إىل االعتنــاء بهــا ...وهــذه الخدمــة تكــون لصالــح الحيوانــات،
اســتنتاج أ َّن التقــوى ترتبــط باملعرفــة كفضيلــة مت ِّكــن الفــرد فهــذا املفهــوم للخدمــة يــؤ ّدي إىل نتائــج خطــرة ،تجعــل
رصفاتــه مبــا يجعلهــا منضبطــة مــن اســتحضار العقــل أثنــاء ت ُّ اآللهــة هــي َمــن تحتــاج البــر ،والشــعائر الدينيــة تقــول
لنمــوذج أخالقــي مطلــق يهــدف إىل تحقيــق الخــر العــام العكــس.
للجميــع .فــا هــي يــا تــرى حقيق ـ ُة فهــمِ املســلم العامــي ينفــي أوطيفــرون أن يكــون هــذا هــو مقصــده ،بحجــة أنــه
أفكار /دراسات ومقاالت 35
ســلوكات مرتبطــة ببيئتهــا وخاضعــة لهــا ،ومرهونــة بــروط للديــن والتديُّــن يف زماننــا هــذا؟
سياســية وثقافيــة وأيديولوجيــة واقتصاديــة خاصــة بعــر
الســلف ،وال ميكننــا أن نجــد كلمــة لوصــف مــا يقــوم بــه تحليل السلوك التد ُّيني للمسلم العامي
رف رجعــي. العامــي هنــا غــر القــول بأنــه ت ـ ُّ نحيــط القــارئ علـ ًـا أننــا ال نتح ـ َّدث عــن الديــن كــا هــو
ويُ َســ َّج ُل كذلــك أ َّن التديُّــن عنــد الجمهــور تحــ َّول مــن محفــوظ يف القــرآن الكريــم ،وإنَّ ــا عــن التديُّــن عنــد املســلم
عبــادة إىل عــادة ،فالعامــي قــد ال يكــرث للعبــد الــذي ال العامــي ،الــذي يكـ ِّون تصـ ُّوره عــن هــذه املامرســة إ ّمــا :عــن
يصــي ،بالرغــم مــن أ َّن الصــاة هــي عــاد الديــن وهــي ّ طريــق قراءتــه الخاصــة للنصــوص ،أو عــر االســتناد عــى مــا
يؤاخــذ العبــد الــذي ال يصــوم ،لــذا ثــاين أركان اإلســام ،بينــا ِ ينــره ال ُّدعــاة واألمئّــة ،ولعـ َّـل الفرضيّــة الثانيــة هــي التــي
بالصــوم خوفًــا مــن ملـزاتيخاطــر بعــض املســلمني املــرىض َّ الســواد األعظــم مــن عــوام املســلمني.يلجــأ لهــا َّ
املجتمــع. وميكننــا أن نكـ ِّون فكــرة تقــرب مــن حقيقــة فهــم العامــي
ولعـ َّـل الدليــل األوضــح عــى هــذا التحـ ُّول؛ مــا أضحــى يقــع للديــن انطالقًــا مــن تحليــل ســلوكه التديُّنــي ،فاإلنســان ،كــا
خــال عيــد األضحــى ،حيــث إ َّن مجموعــة مــن العبــاد ،خوفًا رصحنــا مــن قبــل ،يســلك بنــاء عــى خلفيّــة فكريّــة ترســم َّ
مــن ســلطة املجتمــع ،يلجــؤون إىل االق ـراض للقيــام بهــذه رصفاتــه ،وهكــذا تب ـ ُن املالحظــة أ َّن العامــي يركــز معــامل ت ُّ
ـأيالسـ ّنة (األضحيــة) ،وقــد يكــون القــرض مقابــل فائــدة ،فـ ّ كث ـ ًرا عــى طُ ـ ُرق العبــادات ،وقــد يصــل هــذا الرتكيــز إىل
عبــادة هــذه التــي تتـ ّم عــن طريــق اقـراف إثــم الربــا؟ غايــة التش ـ ُّدد بخصــوص التفاصيــل الدقيقــة حــول كيفيّــة
وهكــذا نســتنتج أ َّن التديُّــن ،الــذي يركِّــز كثـ ًرا عــى الطقــس أداء الطقــس الدينــي (طريقــة الوضــوء ،كيفيّــة الصــاة،
التديُّنــي دون اســتحضار العقــل ،يقــف عنــد حــدود ظاهــر أســلوب اللبــاس ،حالقــة الشــعر ،إعفــاء اللحيــة ،عــادات
الديــن ،وال يســتطيع أن يــدرك جوهــره ،مـ ّـا يجعلــه غــر الطعــام ،أســاء األوالد.)...
ِيــد ســلوكات العبــد يف عالقاتــه بالغــر، قــادر عــى تَ ْجو ِ وإ ْن تكلَّــم عــن األخــاق تحــ َّدث عنهــا يف إطــار وقائــع
وميكــن إرجــاع ذلــك إىل ســببني اثنــن: حدثــت يف املــايض للســلف الصالــح مبعــزل عــن املنــاخ
أ ّمــا األ َّول فيتمثــل يف أ َّن قــراءة العامــي للنــص الدينــي العــام الــذي أنتــج تلــك الوقائــع ،وأث ّـ َر يف القـرارات املتخــذة
عاجــزة عــى االنتقــال مــن املثــال إىل الفكــرة ،مـ ّـا يؤكــد بخصوصهــا ،فيرتتــب عــن ذلــك أمــران اثنــان:
فشــل مدارســنا يف ترســيخ الكفايــات لــدى التالميــذ... أ ّمــا األ َّول عجــز العامــي عــى النفــاذ إىل املقاصــد الحقيقيّــة
فالنــص القــرآين متض ِّمــن لثالثــة أســاليب ِخطابيــة؛ األول للتديُّــن ،حيــث يحــره يف االهتــام املفــرط بالشــكليّات،
خَطــايب ،والثــاين جــديل ،والثالــث برهــاين .ونعتقــد بــأ َّن فتُــؤ َّدى العبــادات بطريقــة ميكانيك ّيــة يف تغييــب واضــح
املغــزى وراء ذلــك هــو مســاعدة العبــد عــى التــد ُّرج يف فهم ـنبي
للعقــل ،وهــذا مــا ال يوافــق عليــه الديــن نفســه كــا سـ ِّ
النــص ،وليــس كــا ذهــب ابــن رشــد إىل اعتبــار أ َّن األســلوب بعــد قليــل.
لخاصــة
للخاصــة ،والثالــث ّ ّ األ َّول مو َجــه للعا ّمــة ،والثــاين وأ ّمــا الثــاين عيــش هــذا املؤمــن العامــي يف تالبيــب رجــال
الخاصــة ،ألننــا نعتــر بــأ َّن القــرآن جــاء ليجمــع املســلمني ّ مــن زمــن غــر زمانــه ،ومحاولــة محــاكاة ســلوكاتهم ،وهــي
36
عــوام املســلمني ،يجعلنــا نســتنتج أنهــم يقرتبــون مــن فهــم حــول مفهــوم واحــد عــن اللــه والديــن مبــا يدفعهــم إىل
اليونــاين القديــم نفســه للديــن والتديُّــن والتقــوى كــا التوافــق ال إىل التفــ ُّرق إىل ثــاث وســبعني فرقــة ،زد عــى
كشــفه أفالطــون. ذلــك ،فنتائــج بحــوث علــم نفــس النم ـ ّو أثبتــت أ َّن الفــرد
فَ ْهـ ٌم يجعــل الديــن تجــارة؛ طرفيهــا بائـ ٌع و ُمشـرٍ ،والبضاعــة إبــان عمليّــات تعلُّمــه ميـ ّر عــر هــذه األطــوار؛ حيــث يبــدأ
هــي العبــادات ،بينــا الثمــن هــو الــرزق والصحــة يف الدنيــا، بالتعلــم عــر املشـخّصات ثــم ميـ ّر إىل التعلــم باألمثلــة قبــل
ودخــول الج ّنــة يف اآلخــرة ،وهــذا فهــم قــارص للديــن. أن يصــل إىل مســتوى التجريــد.
أ ّمــا حضــور لفــظ التجــارة يف بعــض اآليــات؛ كقولــه تعــاىل: فيتجســد يف عــدم قــدرة خطابــات دعــاة وأمئّــةَّ وأ ّمــا الثــاين
الذيـ َن آ َم ُنــوا َهـ ْـل أَ ُدلُّ ُكــم َعـ َـى تِ َجــا َر ٍة تُ ْنجِي ُكــم ِمـ ْن
{يَــا أَيُّ َهــا ِ املســلمني عــى مســاعدة العــوام عــى هــذا االنتقــال املرجــو،
َاب أَلِيــم}( ،)11فيمكــن فهمــه يف إطــار الصــور البالغ ّيــة َع ـذ ٍ ـات غال ًبــا مــا تقــف عنــد حــدود البــكاء عــى كونهــا خطابـ ٍ
التــي يزخــر بهــا القــرآن ،أي أنَّهــا تعبــر مجــازي أريــد بــه األطــال ،وال تح ِّفــز العبــد عــى اســتخدام عقلــه ،عــى الرغم
حــثّ املســلمني عــى العبــادات التــي تنفعهــم ،وال تنفــع الله مــن أ َّن الديــن نــدب كثـ ًرا إىل التدبُّــر والنظــر العقــاين ،فــا
ره يف يشء. أو ت ـ ّ هــي الغايــة وراء دعــوة الــرع إىل اســتحضار العقــل خــال
ومنــه فإننــا معــر املســلمني ندخــل الجنــة برحمــة مــن الله العبــادة؟
تعــاىل ال بأعاملنــا ،التــي يُ ـراد منهــا تدريــب النفــس عــى
التدبُّــر ،وتربيــة الجســد عــى الصــر ،وطأمنــة الوجــدان... من الفهم الظاهري إىل جوهر الدين
وإدراك هــذه املســائل ال يتــم إال عــر إعــال العقــل أثنــاء إ َّن تغييــب العبــد للعقــل ،وحــره للطقــس التعبُّــدي يف
ولعــل هــذا الدعــاء يدعــم مــا قلنــا( :اللَّ ُهــ َّم إِ َّن ّ التديُّــن، حــركات آل ّيــة تتكــ َّرر دون خشــوع وتدبُّــر ،أمــر يجعلــه
َم ْغ ِف َرتَـ َـك أَ ْو َســ ُع ِمــ ْن َذنْ ِبــي َو َر ْح َمتُـ َـك أَ ْر َجــى ِع ْنـ ِـدي ِمــ ْن املتجســدة بقـ َّوة يف قول ِّ يبتعــد عــن الغايــة الفعل ّيــة للديــن،
ــي)(.)12 َع َم ِ ـت ِلُتَ ِّـ َم َمـكَا ِر َم األَ ْخـاَق"(،)10النبــي محمــد(ص)" :إِنَّ َــا بُ ِعثْـ ُ
واللــه عــز وجــل دعــا إىل هــذا األمــر يف الكثــر مــن آياتــه ملــاذا؟
ول األَبْ َصــار}( ،)13ومثــل قولــه ـروا يَــا أُ ِ كقولــه تعــاىل{ :فَا ْعتَـ ِ ُ أل َّن العا ّمــي عــى ال ّرغــم مــن تأديتــه لهــذه الطقــوس ،فإنهــا
ات َواألَ ْر َض َو َمــا ــا َو ِ
الس َ
ُــوت َّأيضً ــا{ :أَ َولَــ ْم يَ ْنظُــ ُروا ِف َملَك ِ ال تتمثَّــل يف ســلوكاته إبــان عالقاتــه بالغــر ،وبالتــايل فتديُّنــه
َــق اللــ ُه ِمــ ْن َشء}( ،)14وانطالقًــا مــن هاتــن اآليتــن َخل َ يحســن مــن أخالقــه ،ومــا التخلُّــف الــذي تعيشــه جـ ّـل ال ِّ
الــرع دعــا إىل اعتبــار املوجــودات يخربنــا ابــن رشــد أ َّن َّ الــدول اإلســامية عــى جميــع األصعــدة إال دليــل عــى ذلــك،
بالعقــل وتطلــب معرفتهــا بــه .
()15
رب بــن املصلــن إىل داخــل إىل درجــة أ َّن الخصــام صــار يتـ َّ
واملقصــود باالعتبــار هــو أخــذ العــرة عــر إعــال العقــل، املســاجد ،هــذا مــن جهــة ،ومــن جهــة أخــرى فــإ َّن مقصــد
وهــذا مــا تؤكــده اآليــة الثانيــة ،وبالتــايل يصــر التديُّــن التدبُّــر هــو تحقيــق إنســانيّة اإلنســان ،التــي ال تتـ ّم إال عــر
وجوبًــا حضــو ٌر للعقــل خــال العبــادات ،ودون ذلــك يســقط التجـ ُّرؤ عــى اســتخدام العقــل.
العبــد املســلم يف فهــم ســطحي للديــن. وبالتــايل ،فــإ َّن الفهــم الســطحي للتديُّــن مــن لــدن غالب ّيــة
أفكار /دراسات ومقاالت 37
خالصة واللــه عــز وجــل بـ ّـن يف آيــات أخــرى أ َّن َمــن يعرفــه حــق
نعتقــد بــأ َّن الديــن جــاء لينتقــل باإلنســان مــن دائــرة املعرفــة ويخشــاه إمنــا هــم العلــاء بقولــه تعــاىل {إِنَّ َــا
الحيوانيــة إىل دائــرة اإلنســانية ،أمــر ال ميكنــه أن يتــم إال ـى الل ـ َه ِم ـ ْن ِع َبــا ِد ِه ال ُعلَـ َـا ُء}( ،)16وت ُع ـ َرف هــذه الفئــة يَ ْخـ َ
عــر تحفيــز العبــد وتدريبــه عــى اســتعامل عقلــه ،لــذا بقدرتهــا عــى اســتعامل العقــل ،وقــد يكــون هــذا تشــجي ًعا
ـرع يف مجموعــة مــن املواضــع إىل التدبُّــر فقــد دعانــا الـ َّ عــى رضورة اســتخدام العبــد لعقلــه وعــدم اكتفائــه
واســتعامل العقــل ســواء يف الحيــاة العامــة أو أثنــاء أداء بالتقليــد األعمــى ،وميكننــا أن ندعــم قولنــا بهــذه اآليــة
العبــادات ،وبالتــايل فــكل تغييــب للعقــل خــال الطقــس {الذيـ َن يَ ْذكُـ ُرو َن اللـ َه ِق َيا ًمــا َوقُ ُعــو ًدا َو َعـ َـى
القرآنيــة كذلــكِ :
التديُّنــي مــن شــأنه أن يجعــل مــن هــذا األخــر تجــارة كــا ات َواألَ ْر ِض َربَّ َنــا َمــاــا َو ِ ُج ُنو ِبهِــم َويَتَ َفكَّــ ُرو َن ِف َخلْــقِ َّ
الس َ
بـ َّـن ذلــك أفالطــون يف محاورتــه "أوطيفــرون" حيــث يصبــح َاب ال َّنــار}(،)17 ــا ُســ ْب َحان ََك فَ ِق َنــا َعــذ َ ْــت َهــذَا بَ ِاط ً
َخلَق َ
التقــي هــو الــذي يتقــن حــركات الصــاة ،واللــه ّ العبــد والتــي تقـ ِّرر أ َّن البــارئ عـ ّز وجـ ّـل ربــط الذِّكــر -أي الدعــاء-
أعــ َرف وأعلَــم. بالتفكُّــر أي باســتخدام العقــل.
الهوامش:
.8انظر كتاب أنساب اآللهة ،لهيزيود ،ترجمة صالح األشمر ،منشورات متخصص يف النزاعات الدينية .وللمزيد انظر الهامشِّ .1سحيث يوجد ٍ
قاض
الجميل ،بريوت ،لبنان ،ط.2015 ،1 رقم 2ص 35من كتاب محاكمة سقراط ألفالطون ،ترجمة د.عزت قرين ،دار
.9أفالطون ،محاورات أفالطون (أوطيفرون ،الدفاع ،أقريطون ،فيدون)، قباء للطبع والنرش والتوزيع القاهرة ،ط.2001 ،2
ترجمة زيك نجيب محمود يف إطار سلسلة مرياث الرتجمة ،العدد ،1773املركز .2يبني عزت قرين يف الهامش رقم 3الفرق بني االدعاء الذي يتخذ صبغة عامة
القومي للرتجمة ،القاهرة ،2012 ،ص.44 مثل إن كانت الدولة تجمع بني السلطة الدينية تهم الدولة؛ كقضايا الدين ً
.10أخرجه البيهقي يف شعب اإلميان الحديث رقم 7978؛ والسنن الكربى والسلطة الزمنية ،واالتهام الذي يتخذ صبغة شخصية ،ومنه فسقراط ُرفع يف
حديث رقم ،20782شعب اإلميان أليب بكر أحمد بن الحسني البيهقي، حقه ادعاء عام أما أوطيفرون فيتهم أباه بالقتل.
تحقيق محمد بسيوين زغلول ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط1410 ،1هـ. .3هناك محاورة تدعى "الدفاع" تتحدث عن هذه الواقعة ،وهي مرتجمة
.11سورة الصف ،اآلية .10 إىل اللغة العربية من طرف د.عزت قرين ،دار قباء للطبع والنرش والتوزيع
.12أخرجه الحاكم يف مستدركه ،كتاب الدعاء والتكبري والتهليل والتسبيح القاهرة ،ط ،2001 ،2ومرتجمة من طرف زيك نجيب محمود يف إطار سلسلة
والذكر ،حديث رقم .1/728 ،1994 :كتاب املستدرك عىل الصحيحني ،لإلمام مرياث الرتجمة العدد ،1773املركز القومي للرتجمة ،القاهرة.2012 ،
الحاكم محمد بن عبدالله النيسابوري (405هـ) تحقيق مصطفى عبدالقادر .4أفالطون ،محاكمة سقراط( ،محاورات "أوطيفرون"" ،الدفاع"،
عطا ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط1411 ،1هـ1990 /م. "أقريطون") ،ترجمة وتقديم د.عزت قرين ،دار قباء ،ط ،2القاهرة،2001 ،
.13سورة الحرش ،اآلية .2 ص.42
.14سورة األعراف ،اآلية .185 .5املصدر نفسه ،ص.42
.15أبوالوليد محمد بن أحمد بن رشد ،فصل املقال وتقرير ما بني الرشيعة .6من بني أهداف الفلسفة السقراطية البحث عن تحديد دقيق للمفهوم
والحكمة من االتصال ،تقديم وتعليق د.ألبري نرصي نادر ،ط ،2دار املرشق، باعتباره تصو ًرا كل ًيا تشرتك فيه مجموعة من األفراد ،لذلك كتب أرسطو:
لبنان ،1968 ،ص.28 "أمران اثنان علينا أن ننسبهام إىل سقراط وبحق :التأسيس عرب إعطاء الخربة
.16سورة فاطر ،اآلية .28 األولية .ثم إرساء املفاهيم العامة" .انظر كتاب أطلس الفلسفة ،لبرت كونزمام
.17سورة آل عمران ،اآلية .191 وآخرون ،ترجمة جورج كتورة ،املكتبة الرشقية ،لبنان ،ط ،2001 ،1ص.37
.7املصدر نفسه ،ص.44
38
ـكل مــن أشــكال املقاومــة؛ مقاومــة التشــويه إ َّن كتابــة تاريــخ العــرب الحديــث واملعــارص يتض َّمــن شـ ً
الــذي يتعـ َّرض لــه الفكــر والـراث العــريب اإلســامي ،كــا أنــه وســيل ٌة للحفــاظ عــى الهويّــة العرب ّيــة،
ويبــدو أ َّن هــذه امله ّمــة ليســت بالســهلة ،نظـ ًرا أل َّن األرشــيف التاريخــي العــريب ُمبعــر ومســلوب؛
هــذا الواقــع امل ُـ ّر يجعــل املــؤ ِّرخ الواعــي ال يســتطيع القفــز عنــه ،وإ َّن واجبــه الوطنــي يحتِّــم عليــه
يف هــذه الحالــة أن يعتمــد عــى ال ِّروايــة الشــفويّة يف كتابــة التاريــخ العــريب املعــارص ،والحفــاظ
عليــه مــن الضّ يــاع ،فال ِّروايــات الشــفويّة أكملــت ومــا زالــت ت ُكمــل مــا تجاهلتــه الوثائــق الرســميّة
أو املصــادر التاريخ ّيــة واالجتامع ّيــة الســابقة.
املــايض مــن خــال الكلمــة املحكيّــة املحفوظــة يف الذاكــرة حظيــت الروايــة الشــفوية باهتــام الباحثــن يف تدويــن
اإلنســانية ،واملنقولــة مشــافه ًة مــن خــال روايــات األف ـراد التاريــخ املعــارص أليّــة أ ّمــة أو شــعب ،فالروايــة الشــفويّة
وذكرياتهــم عــن أحــداث حياتهــم ،وخرباتهــم ومشــاهداتهم، أصبحــت مت ِّممــة والزمــة لتوكيــد مــا ورد يف الوثائــق
خاص ـ ًة تلــك التــي شــاركوا فيهــا شــخص ًيا ،أو كانــوا مجــرد الرســمية الصــادرة عــن الحكومــات ،مــع األخــذ بعــن
شــهود عيــان عليهــا. االعتبــار أنــه ال يجــب عــى املــؤرخ أن يعتــر تلــك الروايــة
وقــد ُعــرف التاريــخ الشــفوي أو الروايــة الشــفوية منــذ ـبب مــن األســباب؛ فقــد ألي سـ ٍ بديـ ًـا عـ ّـا ورد يف الوثائــق ّ
القــدم ،وال زالــت األحاديــث وســيلة رضوريــة لنقــل يتأثــر الـراوي بالهــوى ،فيذكــر مــا يحلــو لــه مــن وقائــع مــع
املعلومــات واألخبــار والتجــارب بــن الشــعوب ،وعــى الرغــم بعــض املبالغــة ،خاصــ ًة إذا كان مناوئًــا لسياســة حكومتــه
مــن االبتــكارات الجديــدة التــي تطـ ُّـل علينــا يو ًمــا بعــد آخــر، التــي وقعــت األحــداث يف زمنهــا ،وأن مييــل إىل االنتقائيّــة،
خاصـ ًة اخـراع وســائل الطباعــة ،مــا زال النــاس حــول العــامل وهنــا يتطلــب مــن الباحــث تقــي الحقائــق ،وأن ال تدفعــه
يســتخدمون الروايــة الشــفوية يف نقــل املعلومــات واألخبــار حامســته لقبــول رواي ـ ٍة بعينهــا ملجــرد أنهــا القــت هـ ً
ـوى يف
واملعــارف. نفســه ،فــا بــد مــن تدقيقهــا ومتحيصهــا؛ ويف حــال الشــك
وأ ّمــا املخطوطــات التــي تتنــاول التاريــخ اإلســامي العــام يف صــدق روايـ ٍة مــا ،فعليــه تجنبهــا ،حتــى ال ت ُحســب عليــه،
والتاريــخ الحديــث عــى وجــه الخصــوص ،والتــي كتبهــا فهــو املســئول أولً وأخـ ًرا عـ ّـا أورده مــن أحـ ٍ
ـداث تاريخيــة.
ود َّونهــا بعــض املؤرخــن والعامــة ،فقــد وصلتنــا عــن طريــق ويُعتــر التاريــخ الشــفوي منهــج بحــث مه ّمتــه دراســة
مؤرخــو الحكومــات املختلفــة ،حيــث يد ّونــون إنجــازات ليســت بالســهلة ،نظــ ًرا أل َّن األرشــيف التاريخــي العــريب
تلــك الحكومــات ،فــإ َّن الروايــة الشــفوية ُوجــدت لتعطــي مبعــر ومســلوب؛ هــذا الواقــع امل ُـ ّر يجعــل املــؤ ِّرخ الواعــي
امله ّمشــن حقّهــم ،ولتع ـ ِّزز الف ـراغ الــذي يدعــم الدراســات ال يســتطيع القفــز عنــه ،وإ َّن واجبــه الوطنــي يحتِّــم عليــه
التاريخيــة. يف هــذه الحالــة أن يعتمــد عــى الروايــة الشــفوية يف كتابــة
خالصــة القــول ،إ َّن جمــع الروايــات الشــفوية وتوثيقهــا عمل التاريــخ العــريب املعــارص ،والحفــاظ عليــه مــن الضيــاع.
بالــغ األهميــة ،ألنــه يحفــظ خـرات وتجــارب كانــت سـتُنىس
أو تتحــ ّول -يف أحســن األحــوال -إىل أســاطري وخرافــات وعــى الرغــم مــن أ َّن مصطلــح التاريــخ الشــفوي يبــدو
بفعــل تناقلهــا مشــافه ًة مــن شـ ٍ
ـخص إىل آخــر ،ومــن جيــلٍ متناقضً ــا يف ذاتــه ،أل َّن التاريــخ مبعنــاه الض ِّيــق عنــد بعضهــم
إىل جيــل. يعنــي الكتابــة ،واملؤرخــون عامــ ًة متحيــزون للمصــادر
املكتوبــة ،فالروايــة الشــفوية تبــدو املواقــف منهــا متباينــة،
الروايــة الشــفوية إذا أُحســن اســتخدامها ســوف تشــكّل وبعــض املؤرخــن يرفضــون االعــراف بهــا كمصــد ٍر مــن
مصــد ًرا ال يقــل أهميــة وال دقــة عــن املصــادر املكتوبــة ،مــع مصــادر املعرفــة التاريخيــة وذلــك لســببني؛ األول :اعتامدهــا
وإل
مراعــاة تح ـ ّري الدقــة فيــا يُنقــل عــى لســان ال ـ ُّرواةّ ، عــى الذاكــرة التــي هــي ُعرضــة للقصــور والخطــأ ،والثــاين:
ـال عــىفإنهــا ميكــن أن تفقــد أهميتهــا ،بــل قــد تكــون وبـ ً أ َّن التاريــخ الشــفوي ،وتحديـ ًدا تاريــخ الحيــاة ،هــو عمليــات
املتلقــي؛ ففــي حــال إســاءة اســتخدامها فإنّنــا بذلــك نســمح تجــري عــى األحيــاء يف حــن أ َّن التاريــخ هــو دراســة املــايض.
لبعضهــم بنقــل روايــات إ ّمــا تافهــة أو ُمختَلَقَــة وســوف واملهــم يف الروايــات الشــفوية أنهــا أكملــت ومــا زالــت
ـوب ونقــص. تتناقلهــا األجيــال عــى مــا فيهــا مــن عيـ ٍ تكُمــل مــا تجاهلتــه الوثائــق الرســمية أو املصــادر التاريخيــة
واالجتامعيــة الســابقة ،فتلــك الوثائــق أو املصــادر أخربتنــا
بالكثــر عــن حيــاة املشــاهري والعظــاء واملتنفّذيــن ،وعــن
الحــوادث الكــرى يف التاريــخ ،لكنهــا تع َّمــدت تجاهــل
النــاس العاديــن ومســاهامتهم التــي كان لهــا دو ٌر بــار ٌز
يف صنــع تلــك األحــداث .ومبــا أ َّن التاريــخ عامــ ًة يد ِّونــه
املراجع واملصادر:
.1مدلل ،وليد :بحث بعنوان" :موضوعات التاريخ الشفوي وأهميتها" يف كتاب :محارضات يف منهجية التاريخ الشفوي وتقنياته ،إصدار
مركز التاريخ الشفوي بكلية اآلداب بالجامعة اإلسالمية ،ط ،1غزة1426 ،هـ (مايو 2005م) ،ص.17
.2شاهني ،رياض" :مقدمة يف التاريخ الشفوي" يف كتاب :محارضات يف منهجية التاريخ الشفوي وتقنياته ،إصدار مركز التاريخ الشفوي
بكلية اآلداب بالجامعة اإلسالمية ،ط ،1غزة 1426هـ (مايو 2005م) ،ص.7
.3أبو النحل ،أسامة ،الرواية الشفوية يف الرسائل العلمية الخاصة بتاريخ فلسطني املعارص ،جامعة األزهر ،غزة2006 ،م ،ص.5-8
أفكار /دراسات ومقاالت 41
وضَ ـ َع الجاحـــظ حـ ًّدا للخُـــلق فقــال بإيجــاز بديــع" :متــى أَ َعـ َّدت ال َّنفــس عــذ ًرا ،كانــت إىل القبيــح
ـي عــن البيــان مــا يف هــذا القــول مــن دالالت ،ذلــك أنَّـ ُه يرتكــز عــى الفكــرة الجوهريَّــة أرسع" .وغنـ ّ
التــي يقــوم عليهــا الفعــل األخالقــي ويصــدر عنهــا ،وهــي ال ُّرســـوخ يف ال َّنفــس والتَّلقائيَّــة .واملقصــود
ـاقي أو
يض ليــس موجبًــا لوصـــف فاعلــه بأنَّـ ُه أخــ ٌّ ـي ال َعـ َر َّ
بذلــك الوجــدان وال ِّنيَّــة ،إذ الفعــل األخالقـ ُّ
ـاقي ،كــا أ َّن إطالــة التَّفكــر وتَ َكلُّــف الجهــد لدفــع الـذَّات إىل الفعــل األخالقـ ِّ
ـي ليــس كاف ًيا غــر أخــ ٍّ
لعـ ِّد صاحــب الفعــل ُمتَ َخلِّ ًقــا بــه.
أدرك أبــو عثــان أ َّن ربــط منشــأ القيــم األخالق َّيــة باإلنســان، ينفــي أبــو عثــان الجاحــظ أن تكــون القيمــ ُة األخالق َّيــة
الفــرد عــى األقــل ،كــا فعــل املغالطــون قد ًميــا ،وال َّنفع ُّيــون ذات َّيــ ًة أو شــخص َّية املنشــأ أل َّن هــذا االعتبــار ال يقيــم
والوضعيــون وكثــ ٌر مــن الوجوديــن حاليًــا ،ســيؤ ِّدي ـن اإلنســان والحيــوان ،ويقــود إىل احتقــار األخــاق فرقًــا بَـ ْ َ
بالــرورة إىل القضــاء عــى األخــاق ،و ُر َّبــا القضــاء عــى َّ بدايــ ًة ويوصــل يف منتهــاه إىل ارتــكاب الفواحــش واآلثــام
الســلوك ســتكون ذات َّيــة فقــط وال يوجــد البــر أل َّن ضوابــط ُّ أي عقــاب ،أل َّن عقــاب ِّ
ٍ والحــرام مــن دون الخــوف مــن
أي ضامــنٍ لتوجيههــا نحــو األفضــل أو نحــو الخــر باملعنــى ُّ الــوازع الشَّ ــخيص والـ َّرادع الخارجــي غــر موجوديــن ،وهــذا
األخالقــي .ولذلــك راح يبحــث عــن مصــد ٍر آخــر للقيــم مــا جــاء يف ر ِّده عــى أحــد ال َّدهريــن بقولــه" :وال ينبغــي
األخالقيَّــة .ولَ َعلَّـ ُه تســاءل يف قـرارة نفســه عـ َّـا إذا كان حكم دل عــى خــاف لهــذا ال َّدهــري أن يعــرض لكتابنــا هــذا وإن َّ
را عــى املالحــدة وال َّدهريــن أم مــا مــى مــن كالمــه مقتـ ً ـري ليــس يــرى مذهبــه ،ودعــا إىل خــاف اعتقــاده ،أل َّن ال َّدهـ َّ
ينــدرج املؤمنــون تحتــه أيضً ــاَ ،حتَّــى اضطــر إىل البحــث يف أ َّن يف األرض دي ًنــا أو نِ ْحلَــ ًة أو رشيعــ ًة أو ِملَّــةً ،وال يــرى
طبائــع ال َّنــاس وشــهواتهم .ووجــد أ َّن ال َّنــاس مجبولــون عــى للحــال حرمــ ًة وال يعرفــه ،وال للحــرام نهايــ ًة وال يعرفــه،
الشَّ ــهوات والطَّبائــع القابلــة للتَّقلــب مــن حــا ٍل إىل حــا ٍل، وال يتوقَّــع العقــاب عــى اإلســاءة ،وال يرت َّجــى الثَّــواب عــى
ـض بــل إنَّهــا أَ ْم َيــل إىل االنقــاب نحــو مــا يهلــك ويفســد ،بغـ ِّ الصــواب عنــده والحــق يف حكمــه ،أنَّــه اإلحســان ،وإنَّ ــا َّ
ال َّنظــر عــن التَّفــاوت يف الفروقــات الفرديَّــة والجمع َّيــة؛ والســبع سـ َّيان؛ ليــس القبيــح عنــده والبهيمــة سـ َّيان ،وأنَّـ ُه َّ
الفرديَّــة كاإلميــان والكفــران ،وال َّنفســية وغــر ذلــك، إال مــا خالــف هــواه ،وأ َّن مــدار األمــر عــى اإلخفــاق وال َّدرك،
والجمعيَّــة كالعــوام والخــواص ومــا إليهــا ،ولذلــك أصبــح من الصــواب فيــا نــال مــن املنفعــة، وعــى اللــذة واألمل ،وإنَّ ــا َّ
املتع ـذَّر أيضً ــا فيــا يــرى الجاحــظ أن ننســب نشــأة القيــم وإن قتــل ألــف إنســان صالــح ملنالــة درهــم رديء".
* كاتب أردين
hanizaher037@gmail.com
42
ميثِّــل عنــد الجاحــظ القيــم أو املثــل األخالقيَّــة اإليجاب َّيــة األخالقيَّــة إىل البــر باإلطــاق؛ فـرادى أو جامعــات .ومل يبــق
والســلب َّية ،ليخــرج بذلــك مــن دائــريت التَّســيري والتَّخيــر َّ أمامنــا إال اللــه عــز وجـ َّـل مصــد ًرا للقيــم األخالق َّيــة ،فيقــول:
املتفاصلتــن ليكــو َن اإلنســا ُن كــا أكَّــد مفكِّرنــا يف موضــع "إنَّــا ملــا رأينــا طبائــع ال َّنــاس وشــهواتهم مــن شــأنها التَّقلــب
ـب قائـ ًـا" :ولــوال آخــر "مسـ َّخ ًرا ألَ ْمـ ٍر ومخـ َّ ً
ـرا يف آخــر" ،ويع ِّقـ َ إىل هلكتهــم وفســاد دينهــم وذهــاب دنياهــم ،وإن كانــت
األمــر وال َّنهــي لجــاز التَّســخري يف دقيــق األمــور وجليلهــا، العا َّمــة أرسع إىل ذلــك مــن الخاصــة ،فــا تنفـ ُّـك طبائعهــم
وخف ِّيهــا وظاهرهــا ،أل َّن بنــي اإلنســان إنَّ ــا ُس ـخِّروا لعائــدة مــن حملهــم عــى مــا يــرد بهــم مــا مل يــردوا بالقمع الشَّ ــديد
عليهــم ،ومل يُ َس ـخَّروا للمعصيــة كــا مل يس ـخَّروا للمفســدة، يف العاجــل ومــن القصــاص مــن العــادل ،ث ُــ َّم التَّنكيــل يف
كل وقــد تســتوي األســباب يف مواضــع وتتفــاوت يف مواضــعُّ ، رش الخيانــة ،وإســقاط القــدر ،وإزالــة العــدل العقوبــة عــى ِّ
ذلــك ليجمــع اللــه تعــاىل مصالــح ال ُّدنيــا ومراشــد ال ِّديــن". مــع األســاء القبيحــة واأللقــاب الهجينــة ،ث ُــ َّم باإلخافــة
ولكــن عــى ال َّر ْغــمِ مـ ّـا مــى ،ال بـ َّد أن نجــد َمــن يتســاءل الشَّ ــديدة والحبــس الطَّويــل والتَّغريــب عــن الوطــن ،ث ُــ َّم
هنــا قائـ ًـا: الوعــد بنــار األبــد مــع فــوات الج َّنــة ،وإنَّ ــا َوضَ ــ َع اللــه
طاملــا أ َّن اللــه ع ـ َّز وجـ َّـل -كــا يقــول الجاحــظ -يريــد أن تعــاىل هــذه الخصــال لتكــون لقـ َّوة العقــل مــا َّدةً ،ولتعديــل
يجمــع لإلنســان مصالــح ال ُّدنيــا ومراشــد ال ِّديــن ،فلِــ َم مل الطبائــع معونــةً ،أل َّن العبــد إذا فضلــت قــوى طبائعــه
يجعــل الطَّبائــع موافقـ ًة ألوامــره ونواهيــه ،بحيــث ال يفعــل وشــهواته عــى عقلــه ورأيــه أُلفــي بصـ ًرا بال ُّرشــد غــر قــاد ٍر
كل مــا نهــاه عنــه اإلنســان إال مــا أمــره اللــه بــه ويجتنــب َّ عليــه ،فــإذا احتوشــته املخــاوف كانــت مــواد لزواجــر عقلــه
ـر؟ فتســود رضوب الخــر وتنتفــي أشــكال الـ َّ وأوامــر رأيــه ،فــإذا مل يكــن يف حــوادث الطبائــع ودواعــي
إضافــة إىل مــا تقــ َّدم ،فقــد أجــاب الجاحــظ عــن هــذا ـب العاجــل فضــل عــى زواجــر العقــل وأوامــر الشَّ ــهوات وحـ ِّ
الســؤال إجاب ـ ًة رائع ـ ًة بارع ـ ًة تنفــرع إىل شــفعني متباينــن، ُّ الغــي والنســاء واملكاثــرة، ِّ الغــي ،كان العبــد ممع ًنــا يف
ّ
ال يخلــو كالهــا مــن الطَّرافــة والج ـ َّدة واألهم َّيــة .نحــا يف والعجــب والخيــاء وأنــواع هــذه إذا قويــت دواعيهــا ألهلهــا
أولهــا من ًحــى فلســف ًّيا يف تحديــد نســغ جوهــر الفعــل واشــتدت جواذبهــا لصاحبهــا ،ث ُ ـ َّم مل يعلــم أ َّن فوقــه ناقـ ًـا
ـتقل يف الثَّــاين بوجهــة نظ ـ ٍرـي ونســيج مادتــه ،واسـ َّ األخالقـ ِّ عليــه ،وأ َّن لـــه منتقـ ًـا لنفســه مــن نفســه ،أو مقتضيًــا منــه
غريبــ ٍة يف ظاهرهــا ،تدعــو إىل وقفــة تأ ُّمــلٍ وتفكــرٍ ،وإن لغــره ،كان ميلــه وذهابــه مــع جــواذب الطَّبيعــة ودواعــي
الصــواب يف رأينــا. كانــت عــن َّ الشَّ ــهوة طب ًعــا ال ميتنــع معــه وواج ًبــا ال يســتطيع غــره".
وميكننــا عا َّمــة أن نجمــل الحديــث عــن إجابتــه هــذه تحــت يبــدو مــن هــذا ال َّنــص أ َّن الجاحــظ قــد حـ َّـل مشــكل ًة مركَّبَـ ًة
ـن َّ
الســج َّية وال َّرويَّــة ،ورضورة العنوانــن التاليــن :الخلــق بَـ ْ َ قــد ت ُثــار حولهــا التَّســاؤالت أو االعرتاضــات ،وذلــك عندمــا
ـر .ولكــن ال بُ ـ َّد مــن أن نشــر قبــل أن نلــج إليهــا إىل الـ َّ أبــان أ َّن الطَّبائــع قابل ـ ٌة للتَّعديــل وليســت ثابت ـ ًة جامــدةً،
مســأل ٍة مه َّمــ ٍة أثارهــا أبوعثــان يف ســياق ال َّنــص َّ
الســابق عكســا ألوامــر اللــه ونواهيــه وهــي مــا وال مع ـ َّدة َوفْ ًقــا أو ً
44
الســجايا أو الطبائــع ،ومبعنــى مشــابه وســمها بعلــم وصــف َّ ـس الفعــل الخلقــي مــن حيــث األمــر وال َّنهــي .إذ والتــي متـ ُّ
تقري ًبــا عـ َّرف "فولكييــه" Foulquieاألخــاق بأنَّ َهــا منظومــة يبــدو ملفكِّرنــا أ َّن ال َّنهــي عــن اإلتيــان بطائف ـ ٍة مــن األفعــال
قواعــد الســلوك التــي ينبغــي عــى املــرء اتباعهــا ليحيــا وفــق ليــس مرتبطًــا باإلســاءة إىل اآلخريــن والتَّعــدي عــى حقوقهم
طبيعتــه. وحســب ،وإنَّ ــا يتجــاوز ذلــك إىل اعتــداء املــرء عــى نفســه
وإســاءته إليهــا ،مبعنــى أ َّن الــذي ينتهــك ال َّنواهــي واملح َّرمات
أ ّمــا الجاحـــظ الــذي ســبق جميــع هـــؤالء زمان ًيــا فقــد األخالق َّيــة إنَّ ــا يعتــدي عــى نفســه بال َّدرجــة األوىل ،ولذلــك
ســـبقهم فكريًّــا أيضً ــا بوضعــه هــذا الح ـ َّد للخــــلق فقــال فــإ َّن املحاســبة أو العقــاب إنَّ ــا تكــون لالعتــداء عــى ال َّنفــس
بإيجــاز بديــع" :متــى أَ َعــ َّدت ال َّنفــس عــذ ًرا ،كانــت إىل أو عــى اآلخريــن أو عــى كليهــا م ًعــا ،وهــذا مــا يبــدو يف
وغنــي عــن البيــان مــا يف هــذا القــول ّ القبيــح أرسع". قولــه" :ومــن مل يعلــم ....أ َّن لـــه منتقـ ًـا لنفســه مــن نفســه،
مــن داللـ ٍة واضحـ ٍة عــى مــا ســـبق ،ذلــك أنَّـ ُه يرتكــز عــى أو مقتض ًيــا منــه لغــره."...
"الفكــرة الجوهريَّــة التــي يقــوم عليهــا الفعــل األخالقــي الحــق أ َّن هــذه الفكــرة وإن كانــت مســتم َّد ًة مــن روح
ويصــدر عنهــا ،وهــي ال ُّرســـوخ يف ال َّنفــس والتَّلقائيَّــة .وأعنــي الديــن اإلســامي التــي تؤكِّـ ُد أ َّن الـ ُّروح أو ال َّنفــس إنَّ ــا هــي
يض ليــس ـي ال َعـ َر َّ
بذلــك الوجــدان وال ِّن َّيــة ،إذ الفعــل األخالقـ ُّ للــه وليــس لإلنســان أن يعتــدي عليهــا .وانطالقًــا مــن هــذه
ـاقي ،كــا ـاقي أو غــر أخــ ٍّ موج ًبــا لوصـــف فاعلــه بأنَّـ ُه أخــ ٌّ الفكــرة كان تحريــم االنتحــار والتَّشــديد عــى هــذا التَّحريــم،
أ َّن إطالــة التَّفكــر وتَ َكلُّــف الجهــد لدفــع الـذَّات إىل الفعــل إال أنَّنــا ال نســتطيع إال أن نع َّدهــا مأثــر ًة عظيمــة للجاحــظ
ـي ليــس كافيًــا لع ـ ِّد صاحــب الفعــل ُمتَ َخلِّ ًقــا بــه"، األخالقـ ِّ ال ينبغــي أن ت ُجحــد.
ولذلــك يقــف صاحــب العثامن َّيــة مندهشً ــا أمــام َمــن يكــون
عــى طبـعٍ كيــف يــؤول إىل غــره ،كأن يكــون كرميًــا وميــوت الخلق بـني السج َّية وال َّرويَّة
بخيــا ...ويقــول" :وليــس العجــب مــن رجــلٍ يف طباعــه ً ال أعتقــد أ َّن ثَ َّـ َة اختالفًــا يف أ َّن الفعــل ذا ُّ
الصــورة األخالقيَّــة
ــن بعــض األمــور يحركــه يف بعــض ســبب يصــل بينــه وبَ ْ َ ٌ ال ميكــن أن ينعــت بأنَّـ ُه ُخلُـ ٌـق مــا مل ينبثــق مــن ال َّنفــس عىل
الجهــات ،ولكــن العجــب م ّمــن مــات عــى أن يذكــر بالجود، ـف ،ليــس باملعنــى الــذي ذهــب إليــه نحـ ٍو تَلقــا ٍّيئ غــر ُمتَ َكلَّـ ٍ
وأن يســخى ،وهــو أبخــل الخلــق طب ًعــا ،فـراه كَلِ ًفــا باتِّخــاذ "ليفــي بريــل" Lévy Bruhlيف تحديــد األخــاق مبطابقــة
الطَّيِّبــات ومســتهرتًا بالتَّكثــر منهــا ،ث ُ ـ َّم هــو أب ـ ًدا مفتضـ ٌ
ـح الســلوك للواجــب ،وإنَّ ــا باملعنــى الــذي أطَّــره اإلمــام الغـزايل ُّ
وأب ـ ًدا منتقــص الطِّبــاع ،ظاهــر الخطــأ ،س ـيِّئ الجــزع عنــد بقولــه" :الخلــق عبــار ٌة عــن هيئـ ٍة يف ال َّنفــس راســخةٌ ،عنهــا
مؤاكلــة مــن كان هــو ال َّداعــي لــه ،واملرســل إليــه ،والعــارف ر مــن غــر حاج ـ ٍة إىل فك ـ ٍر تصــدر األفعــال بســهول ٍة وي ـ ٍ
مــدار لقمــه ونهايــة أكلــه". ورويَّــة ...وإنَّ ــا اشــرطنا أن تصــدر األفعــال بســهولة مــن
الســؤال اآلنــف هنــا ميكــن أن نعــرض جــواب الجاحــظ عــن ُّ الســكوت عنــد غــر رويَّــة أل َّن مــن تكلَّــف بــذل املــال أو ُّ
-املطــروح قبــل هــذه الفقــرة -فنقــول :يلــزم عـ َّـا أســلفنا الســخاء والحلــم".الغضــب بجهــد ورويَّــة ال يقــال ُخلُ ُق ـ ُه َّ
ــن بديلــن نقيضــن ال رضور ًة وجــود إمكان َّيــة االختيــار بَ ْ َ ولذلــك ذهــب "الالنــد" Lalandeيف مفهومــه الثَّــاين
ـلوك ينــدرج ضمــن فئــة األفعــال األخالق َّيــة، ـكل سـ ٍ
رديفــن لـ ِّ الســلوك الواقعــي لل َّنــاس إىل إمــكان لألخــاق بوصفهــا ُّ
أفكار /دراسات ومقاالت 45
كيــا تكــون ثَ َّــ َة أفعــال تصــدر عنــه تلقائ َّيــة الطَّبــع أو
الســج َّية -أو مــا ميكــن نعتهــا باملوا ِفقــة للن ّيــة -ميكــن َّ
وصفهــا بأنَّهــا أخالقيَّــة أو غــر أخالقيَّــة فيثــاب صاحبهــا
أو يعاقــب "ولذلــك -كــا يقــول الجاحــظ -وضــع اللــه يف
والســخاءاإلنســان طبيعــة الغضــب وطبيعــة ال ِّرضــا والبخــل َّ
والســخط والصــر وال ِّريــاء والكــر والتَّواضــع ُّ والجــزع َّ
والقناعــة ،فجعلهــا عروقًــا ،ولــن تفــي ق ـ َّوة غريــزة العقــل
ـوج منهــا لجميــع قــوى طبائعــه وشــهواته َحتَّــى يقيــم مــا اعـ َّ
ويســكن مــا تحــرك دون ال َّنظــر الطَّويــل الــذي يشــدها،
والبحــث الشَّ ــديد الــذي يشــحذها ،والتَّجــارب التــي تح ِّنكهــا
والفوائــد التــي تزيــد منهــا ،ولــن يكــر ال َّنظــر َحتَّــى تكــر
الخواطــر ،ولــن تكــر الخواطــر َحتَّــى تكــر الحوائــج ،ولــن
تبعــد إال لبعــد الغايــة وشــدة الحاجــة ،ولــو أ َّن ال َّنــاس
تُركــوا وقواهــم ومل يهاجــوا بالحاجــة عــى طلــب مصلحتهــم
والتفكــر يف معاشــهم وعواقــب أمورهــم ،وألجئــوا إىل
قــدر خواطرهــم التــي تولدهــا مبــارشة حواســهم دون أ ْن
الســلف املتقدمــن يُســمعهم اللــه خواطــر األ ّولــن وآداب َّ
وبهـــذا املعنــى نجـــد أ َّن اللــه عـ َّز وجـ َّـل مل يخلــق اإلنســـان رب العاملــن ،ملــا أدركــوا مــن العلــم إال اليســر ،وملــا وكتــب ِّ
مهــب ريــاح تناقــض الطَّبائــع واألوامــر ِّ ليلقــي بــه يف َميَّــزوا مــن األمــور إال القليــل".
وال َّنواهــي ،وإنَّ ــا آتــاه العقــل "للتفكــر يف معاشــه وعواقــب
الســلف" ليــدرك أمــوره"" .وأســمعه خواطــر األ ّولــن وآداب َّ
بذاتــه أ َّن عواقــب االلت ـزام بأوامــر اللــه ونواهيــه خ ـ ٌر ،وأ َّن "المعرفــة كُلُّهــا
رش ،ولتغــدو املعرفــة بهــذا املعنــى خـ ًرا باملعنــى مخالفتهــا ٌ
َب َصـ ٌر ،والجهــل كُلُّــه
ـر إال الســقراطي مــن حيــث ال يرتكــب إنســا ٌن ا ِإلث ْ ـ َم والـ َّ ُّ
عــن خط ـأٍ وجهــلٍ ،أو كــا يقــول الجاحــظ" :املعرفــة كُلُّهــا عمــى ،والعمــى
ونقــص،
ٌ ــر ،والجهــل كُلُّــه عمــى ،والعمــى كلُّــه شــ ٌن بَ َ ٌ ـص،كلُّــه شــي ٌن ونقـ ٌ
واالســتبانة كلُّهــا خــر وفضــل". واالســتبانة كلُّهــا
خيــر وفضــل"
46
الطبيعي
ّ السد غري
العواطف يف َّ
د .نادية هناوي*
كان ملبــادئ "وايــن بــوث" حــول العقــل والواقــع وأهميّــة فهمهــا ودور العواطــف يف هــذا الفهــم ،األثــر الكبــر
ـرد غــر الطبيعــي ومنهــم اإلنجليــزي "أالن باملــر" الــذي أفــاد مــن مناهــج علــم النفــس اإلدراك ّيــة يف منظــري الـ َّ
رصفاتهــا وســلوك ّياتها الفرديّــة أو املشــركة ،فــأ ْوىل "باملــر" اهتام ًمــا بالفلســفة
يف دراســة عواطــف الشــخص ّيات وت ُّ
العقل ّيــة ومــا طرحــه فالســفة العقــل حــول العواطــف ،وأ َّن ال إدراك مــن دون عواطــف متغلغلــة بعمــق يف تضاعيــف
ـرد األخــرى ،حيــث ال ميكــن فصــل الوعــي عــن العاطفــة؛ الخطــاب الـ ِّروايئ إىل درجــة يصعــب فصلهــا عــن عنــارص الـ َّ
ذلــك أ َّن العــامل مرتبــط ارتباطًــا جوهريًــا بطــرق إحساســنا .ويف هــذه املقالــة تتخــذ الكاتبــة مــن روايــة "حبّــة بغــداد"
ـرد.للـ ِّروايئ جــال حســن عــي منوذ ًجــا تطبيق ًّيــا لالســتدالل عــى العواطــف ودورهــا يف الـ َّ
نظريــة املحــاكاة يف األدب ،وبعضهــم يقــ ّر بوجــود عالقــة يُعــ ُّد كتــاب (بالغــة الفــن القصــي) لـ"وايــن بــوث"
عكســية بــن األدب والواقــع ،وهــم متفقــون عــى أ َّن التمثيل األطروحــة الكــري واملركزيــة التــي عليهــا بنيــت أغلــب
األديب للواقــع قائــم عــى عمليــة اإليهــام بالحقيقــة أو مــا تنظــرات مــا ُعــرف بعــد تســعينات القــرن املــايض بعلــم
ســاه "روالن بــارت" الوهــم املرجعــي حيــث "املحــي األكــر الــرد مــا بعــد الكالســييك عامــة والــرد غــر الطبيعــي
واقعيــة الــذي تســتطيع تصويــره يتطــ ّور تب ًعــا لطــرق ال خاصــة .والســبب هــو مــا يف هــذا الكتــاب مــن تو ُّجهــات
واقعيــة .وهــذا مــا نســتطيع تســميته "الوهــم املرجعــي"(،)2 نقديــة تعــارض طروحــات نقــاد الرسديــات البنيويــن يف
ـر "ريفاتــر" داللــة املرجــع هنــا بأنــه "كل مــا ميكــن كــا فـ َّ نظرتهــم التعميميــة وغــر املعياريــة للواقــع التــي ع َّدهــا
التفكــر فيــه أو التلميــح إليــه ..املرجــع هــو الغيــاب الــذي "بــوث" مشــكلة و"كيــف أ َّن الكثرييــن منهــم يفضلــون
يعــ ّوض عنــه حضــور الدالئــل ..وتتحكــم فيهــا خصائــص االنتقــال بــكل ســهولة مــن تعميــم صــارخ عــن عمــل معـ ّـن
النــص التــي تقــوم أولً عــى أ َّن النــص يخضــع ملجــرى إىل أعــال أخــرى وكأ َّن كل تلميــذ مدرســة يجــب أن يعــرف
مــزدوج"( ،)3ولكــن "بــوث" رفــض القــول بالوهــم ،ونظــر إىل أ َّن كل روايــة ال هــ ّم لهــا إال االنطــواء تحــت مظلــة هــذا
املؤلــف بوصفــه كيانًــا حقيق ًيــا مــا زالــت النظريــات النقديــة خصوصــا يف
ً التعميــم .إ َّن مثــل هــذه العمليــة خطــرة ج ـ ًدا
تتجاهلــه ،وعنــه قــال "بــوث"" :إ َّن املؤلــف عندمــا يكتــب النقــد املوضوعــي الــذي يتيــح ملوضــوع قابــل للوصــف أن
ال يخلــق مثــالً إنســان ًيا عا ًمــا فقــط ،ولكنــه يخلــق نســخة يصبــح معياريًّــا"(.)1
ضمنيــة مــن نفســه( ،)4وبوجــود صورتــن للمؤلــف صورتــه وال يخفــى أ َّن منظــري البنيويــة ومــا بعدهــا ال ينكــرون
ســيغضب "مــن االق ـراح الــذي يقــول إ َّن أعاملــه القصصيــة الحقيقيــة وصــورة ضمنيــة ثانيــة لــه صــار تســاؤل "بــوث"
يجــب أن تصفّــى مــن مشــاكلها األخالقيــة والعواطــف منطق ًيــا ،وهــو :ملــاذا يفســد أي تعليــق مــن قبــل املؤلــف
اإلنســانية ،ثــم إ َّن ســارتر صــارم يف هجومــه عــى الحلــم العمــل الــذي يقــع فيــه ذلــك التعليــق؟ ومــاذا يفعــل
املســتحيل الــذي ين ـ ّوه بإعطــاء صــورة حياديــة للمجتمــع، ()5
املؤلــف عندمــا يتدخــل ليخربنــا بــيء عــن قصتــه؟
والحالــة اإلنســانية بالنســبة لســارتر أ َّن الرجــال يعـ ّـرون عــن أ ّمــا الشــخصية ســواء كانــت ســاردة أو مــرودة فإنهــا
أنفســهم بصــدق فقــط عندمــا تجدهــم يف مواقــف حــب -بحســب "بــوث" -ذات صلــة باملؤلــف والقــارئ وشــخوص
وكراهيــة وغضــب وخــوف وفــرح يف الحــزن واإلعجــاب القصــة اآلخريــن ،كــا أ َّن للقــارئ صلــة عاطفيــة باملؤلــف
واألمــل واليــأس"(.)9 والشــخصيات مــع اختــاف املســافات التــي بينهــم ..بيــد أ َّن
واســتعار "بــوث" مصطلــح (املعــادل املوضوعــي) مــن األهــم برأينــا هــو مــا ذهــب إليــه "بــوث" مــن أ َّن الــرد
"ت.س .إليــوت" أل َّن بــه ميكــن التعبــر عــن العواطــف مــن ال مي ـ ِّوه الحقيقــة ،وإمنــا يظهرهــا للعيــان ،وأ َّن العقــل هــو
خــال موقــف أو سلســلة حــوادث تكــون معادلــة لتلــك األســاس يف تفســر الواقــع الــردي.
العاطفــة الخاصــة .وأيّــة تجربــة حســ ّية ال بــ ّد أن تســفر واعتــداد "بــوث" بالعقــل جعلــه يــرى الــرد علـ ًـا ال ف ًّنــا،
عــن عواطــف .وهــو بهــذا االهتــام بالعاطفــة إمنــا يدلــل ومــن هــذا العلــم تتشــكل مبــادئ( )6تخضــع ملنطــق الصــدق
عــى إميانــه بــأ َّن األدب ال يتص ّنــع واقع ّيتــه ،بــل هــو عقــي والكــذب واالحتــال واالســتحالة .وكثــرة هــي املبــادئ
يف إدراك رمزيّتــه ،ومثالــه (جوجــول) "عندمــا اخــرع أكايك العقليــة التــي وضعهــا "بــوث" وتتضــاد مــع النقــد البنيــوي،
أكاكيافيتــش املوظــف املســكني يف قصــة املعطــف واملختفــي منهــا أ َّن الســارد عــى نوعــن :ســارد موثــوق عندمــا يتكلــم
وراء اســمه والــذي كان ضحيّــة للقــدر ثــم للبريوقراطيــة.. رف بالتطابــق مــع بالنيابــة عــن الشــخصية أو عندمــا يت ـ ّ
فإنــه قــام بأكــر دور يف عملــه البالغــي .وعندمــا ركّــز مقاييــس العمــل ،وســارد غــر موثــوق عندمــا ال يفعــل ذلــك.
جوجــول عــى فكــرة اســتعامل املعطــف كرمــز لطمــوح وبحســب "بــوث" فــإ َّن الســارد ليــس هــو العليــم بــكل يشء،
بطلــه ..فإنــه اختــار املوضــوع الطبيعــي الســهل حتــى يفــي بــل العليــم هــو املؤلــف الحقيقــي الــذي يكتــب الــرد
بفرضــه( ،)10بهــذه التعادليّــة تطـ َّور املعطــف يف عقــل البطــل املوضوعــي بشــكل ليــس فيــه مهــرب مــن املعرفــة(.)7
فصــار رمــ ًزا لألمــان واملكانــة االجتامعيــة؛ ولهــذا كانــت خالصــا للفـ ّن وذلــك ومــن املبــادئ العقليــة أيضً ــا أن ال نقــاء ً
رسقــة املعطــف تعنــي مــوت أكايك. مــن ناحيــة وجــود العواطــف ومــا عليهــا مــن مؤثــرات
إ َّن عــدم إدراك الواقــع يعنــي أن ال عواطــف فيــه ،وإهــال ومــا لهــا مــن تأثـرات -وهــو مــا نبغــي الرتكيــز عليــه هنــا-
وأي عمــل غــر العواطــف يجعــل املوضوعيــة صارمــةّ ، فـ"العواطــف هــي أهــم الهبــات بالنســبة للكاتــب( )8وهــي
محتمــل الوقــوع أو متصنــع أو فــارغ أو مســتحيل فلــن املصــدر الرئيــس لعــدم الصفــاء األديب .واملطلــب العلمــي
يُتجــاوب معــه وال يُســتمتَع بــه بوصفــه ف ًّنــا .ورضب "بــوث" مــن دراســة العواطــف يف الــرد هــو الكشــف عــن القيــم
مثــالً عــى ذلــك بـِ"برخــت" الــذي قـ ّدم مرسحيــات ليســت األخالقيــة ،مــن هنــا افــرض "بــوث" أ َّن "هــري جيمــس"
48
عــى املهــارات يف إدراك القيــم مــن ناحيــة القــدرة الفرديــة مــن النــوع األرســطي ،مرسحيــات تســتند إىل التف ُّحــص
عــى فهــم اآلخريــن نفسـ ًّيا أو مــن ناحية الســلوك االجتامعي العاطفــي كشــكل متطـ ِّرف ملــا أراد كثــر من الفنانــن البحث
الــذي يجعــل النــاس منخرطــن يف أمــور كثــرة ومعقــدة عنــه محاولــن بذلــك االنفصــال عــن الواقعيّــة الصارمــة(،)11
بالــكالم أو مــن دون الحاجــة إىل الــكالم ،فــكان ذلــك كلــه وأهميّــة هــذا الطــرح يف عالقــة اإلدراك العاطفــي بالواقــع
مبثابــة املنعطــف املعــريف الكبــر الــذي حصــل يف الرسديــات هــي مــا ســيتخذ منهــا أحــد منظــري الــرد غــر الطبيعــي
مــا بعــد البنيويــة أبــان تســعينات القــرن العرشيــن. مــادة خصبــة ألطروحتــه حــول العقــل االجتامعــي كــا
ســيأيت الح ًقــا.
من مبادئ "بوث" العقل ّية إىل إدراك ّية "باملر" واالهتاممــات العقالنيــة أو املعرفيــة هــي التــي تجعــل
العاطف ّية الفــرد يشــعر بلــذة بلــوغ الحقائــق وتحصيــل التفس ـرات
بالوقــوف عــى األســباب أو األصــول أو الدوافــع أو عــى
كان ملبــادئ "وايــن بــوث" حــول العقــل والواقــع وأهميــة
حقيقــة الحيــاة نفســها ،يقــول "بــوث"" :هنــاك لــذة يف
فهمهــا ودور العواطــف يف هــذا الفهــم ،األثــر الكبــر يف
تعلــم الحقيقــة البســيطة وهنــاك لــذة يف تعلــم أ َّن الحقيقــة
منظــري الــرد غــر الطبيعــي ومنهــم اإلنجليــزي "أالن
ليســت ســهلة ..لــذا فــإ َّن الفنــان يجــب أن يختــار بطريقــة
باملــر" Alan Palmarالــذي أفــاد مــن مناهــج علــم النفــس
واعيــة وال واعيــة"(.)12
اإلدراكيــة يف دراســة عواطــف الشــخصيات وترصفاتهــا
واللــذة عاطفــة مكانهــا الوعــي الــذي مركــزه العقــل،
وســلوكياتها الفرديــة أو املشــركة بكتابــن األول هــو "العقــل
والشــعور بالعاطفــة قــد يتحقــق مــن خــال ســارد ثقــة أو
الخيــايل" Fictional Minds; frontiers of narrative
ســارد غــر ثقــة ،ويــرب "بــوث" مثـ ًـا مبرسح ّيــة هاملــت
2004والصــادر عــن جامعــة نرباســكا ،والثــاين هــو "العقــل
"عندمــا يقــص هوراشــيو مقابلتــه األوىل مــع الشــبح يف
االجتامعــي يف الروايــة" Social Mind in the novel 2010
هاملــت فــإ َّن شــخصيته وهــو يتكلــم مــع الشــبح مهمــة
والصــادر عــن جامعــة واليــة أوهايــو -وســيكون هــذا الكتاب
بالنســبة لنــا بالرغــم مــن أ َّن ذلــك مل يذكــر يف املرسحيــة،
موضــع الرصــد هنــا -وفيــه اهت ـ َّم "باملــر" بالطريقــة التــي
وعندمــا نقابــل األنــا يف الفــن القصــي نكــون عــى ب ّينــة
بهــا تفكــر الشــخصيات يف الروايــة والعالقــة بــن العقــول
مــن عقــل ميـ ّر يف تجربــة عقــل ســتحول آراؤه عــن التجربــة
االجتامعيــة والفرديــة يف النظريــة الرسديــة.
بيننــا وبــن الحــدث(.)13
ويقــوم الكتــاب عــى فكــرة أ َّن العقــل االجتامعــي مفهــوم
وكان لتأكيــدات "وايــن بــوث" عــى دور العقــل أثرهــا
ثقــايف لكيــان معــريف خيــايل ،وظيفتــه تأطــر الروايــة مبنظــور
يف ُمنظِّــري الــرد مــا بعــد الكالســييك ومنهــم "ديفيــد
معــن .وأ َّن مــا مــن ســبيل لفهــم األبنيــة الرسديــة مــا مل
ّ
هريمــان" منظِّــر الــرد املعــريف ،وكذلــك أثــرت يف "برايــن
نفهــم العقــل االجتامعــي عــى أســاس أ َّن األفــكار مرئ ّيــة
ريتشاردســون" وغريهــم مــن املنظِّريــن الذيــن و ّجهــوا
مــن خــال الشــخصيات( ،)14وقــد اســتهل "باملــر" كتابــه
أبحاثهــم نحــو دراســة العالقــة بــن العقــل والــرد وركــزوا
بقــول "أوســكار وايلــد"" :إ َّن األشــخاص الســطحيني ال يحكــم
أفكار /دراسات ومقاالت 49
تكــ ُّون وجهــة نظــر أيديولوجيــة يكشــف عنهــا الخطــاب عليهــم باملظاهــر ،وإ َّن الــر الحقيقــي للعــامل هــو وجهــه
الــردي مــن ناحيــة وعيهــا وشــعورها العاطفــي وغرابــة املــريئ" مب ّي ًنــا أ َّن هنــاك أوجــه شَ ـ َبه يف العقــول االجتامعيــة
أطوارهــا أو خطــأ افرتاضاتهــا. للشــخصيات ،وأ َّن العقــول الخياليــة ال تعمــل يف الفــراغ
وتســاءل "باملــر" كيــف نعــرف أ َّن الشــخصية تفكــر؟ ومــا مبعــزل عــن العقــول االجتامعيــة ،كــا أ َّن عمليــة تفســر
الوظائــف التــي يؤ ّديهــا العقــل االجتامعــي؟ وهــل تكــون لــه الســلوك االجتامعــي لــكل شــخصية يظـ ّـل غــر مكتمــل مــا
أشــكال مختلفــة أو عنــارص يتش ـكّل منهــا؟ مل نأخــذ يف االعتبــار الجوانــب الفنيــة التــي تشــكل عقلهــا
وأجــاب إنّنــا عندمــا نتحـ َّدث عــن العقــل االجتامعــي فإنَّنــا الفــردي.
نتح ـ َّدث عــن فكــر مشــرك وجامعــي inter mentalوعــن وأغلــب متثيــات "باملــر" كانــت عــى الروايــة األنجلوأمريك ّيــة
مجموعــة املهــارات والروابــط والقــدرات وامليــول والعــادات كروايــات "ديكنــز" و"جــن أوســن" و"جــورج إليــوت"
والترصفــات ،وهــو مــا يتمظهــر يف الروايــة بصــور كثــرة، و"أنتــوين ترولــوب" و"فرجينيــا وولــف" و"هــري جيمــس"
فالشــخصية قــد تعــرف أ َّن غريهــا يفكــر ســواء أكان هــذا فضــا عــن قصــص وروايــات حداثيــة منهــا ً و"كونــراد"،
الغــر معروفًــا وقري ًبــا أو كان غري ًبــا وبعيــ ًدا لكــن مجــ ّرد "وردة إلميــي" 1979لـ"فولكــر" ،و"الغرفــة الصينية" لـ"جون
تفكريهــا فيــه يجعــل عاملهــا متامسـكًا ببعــض املعرفــة التــي ســرل" .1980
تجعلهــا يف األقــل تعــرف مــا الــذي يفعلــه اآلخــرون مــن وتت َّبــع "باملــر" تاريــخ توظيــف العقــل االجتامعــي يف الروايــة
دون أن يضطــروا إىل قــول أي يشء أو يحاولــوا إخبارنــا بــيء األنجلوأمريك ّيــة بــد ًءا مــن روايــات القــرن الثامــن عــر إىل
يخالــف مــا لديهــم مــن أفــكار رسيّــة ال يعرفهــا أي شــخص روايــات القــرن العرشيــن وأوائــل القــرن الحــادي والعرشين،
آخــر أو تخمــن مــا ميكــن لشــخصني أن يقــواله يف محادثــة وتوصــل إىل أ َّن هنــاك تطــو ًرا يف درجــة االهتــام بالعقــل َّ
مــن خــال بعــض املعرفــة بفكــر أحدهــا. االجتامعــي ،ليكــون ســمة فريــدة مــن ســات روايــات
وركّــز "أالن باملــر" يف دراســته للعقــل االجتامعــي عــى القــرن التاســع عــر ،وفيهــا كانــت الشــخصيات تقــرأ عقــول
مســائل كانــت البنيويــة قــد أهملتهــا كث ـ ًرا ،منهــا أ َّن لــكل اآلخريــن مبعنــى قــراءة الوجــوه واألجســاد .ومــن اآلثــار
شــخصية تأثرياتهــا العاطفيــة عىل القـ ّراء ومنهــا أ َّن للعواطف املرتتبــة عــى مثــل هــذه الق ـراءات أن تتشــكل منظــورات
قيمــة معرفيــة تجعــل للشــخصية وظائــف عقليــة ميكــن أن خارج ّيــة بينــا صــارت الشــخصيات يف روايــات ت ّيــار الوعــي
ننســبها إىل العقــل الخيــايل مـ ّـا لــه صلــة بالعواطــف التــي والروايــات متعــددة األصــوات ومــا بعــد الحداثيــة أكــر
هــي محــ ّركات الــرد بق ّوتهــا أو فوضويتهــا أو تعقدهــا؛ تعقيــ ًدا؛ فالشــخصية عــى اســتعداد لالعــراف وقــراءة
فاملــرء ال يعمــل بــا عواطــف وال هــو خــا ٍل منهــا ،وقــد عقلهــا أخالقيًّــا وأنرثوبولوجيًّــا واجتامعيًّــا ولغويًّــا قــراءة
ربــا هــي أكــر مـ ّـا يف تكــون لهــا يف العقــل الخيــايل مكانــة ّ تكشــف عــن منظورهــا الداخــي باســتعامل تقانــات ت ّيــار
العقــل االجتامعــي ،وقــد تتعــارض عاطفــة مــا مــع مجموعــة الوعــي كالحــوار ال ُحـ ّر املبــارش والحــوار غــر املبــارش والحوار
مــن العواطــف التــي تظهرهــا شــخصيات فاعلــة ذات أدوار املــروي واملونولــوج الداخــي التــي تســاهم جميعهــا يف
50
أيضً ــا مــن علــاء النفــس ومــا قالــوه يف ضــوء علــم األعصــاب محــددة بعنايــة داخــل النــص.
عــن اإلدراك والعاطفــة وأنهــا مرتابطــان ارتباطًــا وثيقًــا، وال خــاف يف أ َّن البنيويــن درســوا الوعــي ومتثالتــه يف الروايــة
ونقــل عــن عــامل النفــس (كيــث أوتــي) "أ َّن العواطــف باســتعامل تيــار الوعــي واملونولــوج الداخــي أو األســلوب
ليســت عــى الهامــش ،بــل هــي كامنــة يف مركــز اإلدراك غــر املبــارش ال ُحــ ّر ،لكنهــم مل يضعــوا تصــورات لوظائــف
البــري"(.)16 العاطفــة يف الــرد فظلّــت الخلفيــة النظريــة عامئــة وغــر
وبســبب مــا وجــده "باملــر" يف النظريــة الرسديــة مــن قلــة محــددة.
اهتــام بالعواطــف ،لــذا ركّــز اهتاممــه عــى دراســتها يف وقــد أوىل "باملــر" اهتام ًمــا بالفلســفة العقليــة ومــا طرحــه
عقــول الشــخص ّيات الروائيــة مــن ناحيــة الخ ـرات الذاتيــة فالســفة العقــل حــول العواطــف ،وأن ال إدراك مــن دون
واضطراباتهــا الجســدية العامــة املتعلقــة بحــركات الوجــه عواطــف "متغلغلــة بعمــق يف تضاعيــف الخطــاب الــروايئ
واإلشــارات واإلميــاءات وردود األفعــال وغريهــا. إىل درجــة يصعــب فصلهــا عــن عنــارص الــرد األخــرى .وال
والعواطــف عــى أنــواع؛ منهــا اإليجابيــة ومنهــا الســلبية ميكــن فصــل الوعــي عــن العاطفــة ذلــك أ َّن العــامل مرتبــط
كالحامقــة والجنــون والغضــب واألمل والنــدم والذهــول ارتباطًــا جوهريًــا بطــرق إحساســنا"( ،)15كــا أفــاد "باملــر"
أفكار /دراسات ومقاالت 51
جميــع مرافــق الثقافــة والــراث. واالرتبــاك .وهــو مــا يؤثــر يف الشــخصية وحكمهــا اإلدرايك
األمــر الــذي أ ّدى إىل تشــويه الذاكــرة وضيــاع الـراث الثقــايف عــى االشــياء مــن ناحيــة شــعورها باالرتيــاح أو االنزعــاج
الســيام بعــد مــا طــال املتحــف العراقــي واملكتبــة الوطنيــة ومــدى قدرتهــا أو عــدم قدرتهــا عــى فعــل يشء مــا ،وقــد
مــن عمليــات نهــب وحــرق ورسقــة .وبعــد أن اغـ ّرت البــاد تنتــج عــن إدراكهــا ردود أفعــال مســتقبلية ،يقــول "باملــر":
وهاجــت العاصفــة حصــل أمــر غريــب ســيح ِّول مجــرى "أنــا أزعــم أ َّن الكثــر مــن الوظائــف العقليــة التــي تؤديهــا
الــرد مــن الواقعيــة إىل الرمزيــة .وهــذا األمــر الغريــب الشــخصيات يف الروايــة تتكــ ّون مــن العواطــف"(.)17
هــو ظهــور (ح ّبــة بغــداد) عــى جبهــة كل فــرد مــن أف ـراد وقــد تصــل الشــخصية إىل درجــة اإلفــراط يف العواطــف
الشــعب "فــا عــادوا يعرفــون َمــن هــم وأيــن يقعــون ومــاذا فــا تتمكــن مــن الســيطرة عليهــا أو ال تعــرف مــا يحــدث
ينبغــي أن يفعلــوا ..ظهــرت يف وجــوه الشــعب بر ّمتــه دمامل معهــا ومــا حولهــا ،ومــن ثــم تكــون ســببًا يف ســلبيتها وال
كــا لــو كانــت الوصفــة التــي يتعـ ّرف فيهــا كل واحــد عــى توافقيــة تجربتهــا ومــا تؤديــه مــن وظائــف .وللعواطــف
اآلخــر"(.)19 عالقــة باألمكنــة التــي تلعــب دو ًرا مهـ ًـا يف توفــر الســياق
ومــن بعدهــا فقــد ســكان البــاد ذاكرتهــم وانحــدروا إىل االجتامعــي الــذي فيــه يعمــل عقــل الشــخصية ضمــن نطــاق
الجحيــم عــى خطــا "إنانــا" الســومرية نســوا أســاءهم محــدد بقدراتهــا الفرديــة .ومــا قــد يتمخــض عــن االرتبــاط
واألرقــام واأللقــاب وانتزعــت ذاكــرة الشــعب برسقــة باملدينــة مــن عواطــف يعـ ّـر عنهــا بأمنــاط ســلوك متوقعــة
آثــاره .صــار الشــعب بأشــكال جديــدة "بعضهــم ميشــون أو غــر متوقعــة.
باختيارهــم واآلخــرون آل ًّيــا بــا هــدى رمبــا اعتــا ًدا عــى وهــو مــا نجــده متجل ًيــا يف روايــة "ح ّبــة بغــداد"( )18لجــال
ذاكــرة أقدامهــم التــي تسـ ّ
ـتدل إىل الشــوارع واألمكنــة"(،)20 حســن عــي التــي تــؤدي فيهــا بغــداد دور املعــادل
فالعاطفــة التــي يظهرهــا الســارد بطريقــة ســاخرة إمنــا هــي املوضوعــي لإلنســان العراقــي املســتلب واملقهــور ،أ ّمــا الح ّبة
نظــام إنــذار يرســل إشــاراته التــي تــي مبــآل خطــر ســينتهي فهــي الدالــة الرمزيــة عــى االعتــال الــذي أصــاب املــكان/
إليــه حــال هــذا الشــعب. اإلنســان ومــا يرتبــط بــه مــن أبعــاد عاطفيــة متنــح الــرد
وهــذا يعنــي أ َّن العواطــف ال يعـ َّـر عنهــا بالكلــات ،وإمنــا منطقيــة وتجعلــه قــاد ًرا عــى توصيــل مضامينــه الفكريــة
هــي إشــارات ذات شــفرات هــي مبثابــة رد فعــل عــى إىل القــ ّراء.
الحــدث الرهيــب الــذي هــو االحتــال ومــا نجــم عنــه مــن ويدلــل املســتهل (أعظــم قصــة ميكــن تأليفهــا مــن النســيان)
خــراب ودمــار ونســيان ،أث َّــر يف بغــداد /اإلنســان. عــى مكمــن االعتــال وهــو الذاكــرة التــي أصابهــا املحــو
ولكــن األخطــر مـ ّـا تق ـ ّدم أ َّن هنــاك ذاكــرة أخــرى مضــادة واإللغــاء .وهــذا بالضبــط هــو محــور الفكــرة التــي حولهــا
ينــج
صــارت تضــخ للشــعب ،ذاكــرة بتاريــخ مغايــر ،ومل ُ ظــل االحتــال تــدور الروايــة وموضوعهــا مــا جــرى يف ّ
مــن ذلــك الخطــر إال شــخصان ظـ ّـا محتفظــن بذاكرتهــا األمــريك عــام 2003مــن عمليــات تخريــب للمكتبــات
هــا الرجــل الــذي مــا أعطــاه الســارد املوضوعــي اسـ ًـا يك ونهــب للمخطوطــات ورسقــة لآلثــار وعنــف وإرهــاب طــال
52
أبحاثهــا ســواء حــن ترافقــه أو حــن تلتقــط الصــور واألفــام يصــر رم ـ ًزا لــكل مــن وجــد هويتــه يف خدمــة بلــده .لــذا
الوثائقيــة التــي بهــا تســاعد أمارجــي عــى أداء مهمتــه يف أخــذ عــى عاتقــه مطــاردة اللصــوص الغ ـزاة الذيــن نهبــوا
اســتعادة اإلرث العراقــي املنهــوب وإرجاعــه إىل أهلــه. مكرســا حياتــه مــن أجــل اســرجاع املنهــوب ذاكــرة البــادً ،
وأل َّن "أمارجــي" الناجــي الوحيــد بذاكرتــه وعليــه وحــده مــن الكتــب واملخطوطــات والتامثيــل وغريهــا .ولــي يتم ّكــن
تقــع مهمــة اســتعادة ذاكــرة البلــد تتكــ ّون وجهــة النظــر الرجــل مــن فعــل ذلــك كلــه صنــع الشــاب "أمارجــي" مــن
املركزيــة يف الروايــة منســجمة داخل ًّيــا وخارج ًّيــا مــن جثــث الضحايــا املغدوريــن "كائــن تشـكّل مــن أشــاء القتىل
مجموعــة عواطــف .وأولهــا عاطفــة األب ـ ّوة التــي منطقــت وتـراب الجرحــى وســقته أمطــار البــاد أربعــن يو ًمــا لتمنحه
عالقــة الرجــل الــذي أوىص الكائــن العجيــب أمارجــي :أ َّن الحيــاة" وق ّدمــه كنمــوذج للحيــاة العراقيــة "كان هــذا
الحشــود يف الشــوارع ليســت ســوى أجســاد ح ّيــة تحمــل ()21
الكائــن يطــ ّور نفســه باســتمرار ومل يبــق كــا انبعــث"
أروا ًحــا ميتــة .وأنــه إذا التــزم بتنفيــذ مــا أوصــاه الرجــل فإنه وكان يف األصــل تجربــة مــن ضمــن خطــة مســتقبل مــا بعــد
بذلــك ســيكون خــر ابــن ألبيه ،وهــذه هــي العاطفــة الثانية، البــر حــن يتع ـ ّرض الكوكــب إىل فريوســات مجهولــة.
عاطفــة البنــ ّوة التــي تــؤدي دورهــا يف اإلقنــاع بحقيقــة وتجــدر اإلشــارة إىل ان فكــرة اإلنســان املتفــوق والجينــات
الكائــن وإدراك منطقيــة األحــداث وتق ُّبــل مجرياتهــا. ودورهــا يف تحســن البنــاء االجتامعــي كان الكاتــب قــد
أمــا العاطفــة التــي تتجــى خــال أداء "أمارجــي" ملهمتــه وظفهــا يف روايــة ســابقة عنوانهــا "رســائل أمارجــي"( )22وفيهــا
الرسيــة إىل املتحــف وتوخيــه الحــذر مــن ســلطة االحتــال ابتكــر الرجــل كائ ًنــا جديــ ًدا مــن أشــاء الضحايــا وســاه
ممثلــة بـ"جــورج راســل" فهــي عاطفــة األمومــة التــي تبــدو "أمارجــي" وهــو اســم ســومري يعنــي الحريــة .أ ّمــا مه ّمتــه
عــى "ســاندرا" -الســيدة التــي لديهــا متويــل جيــد لتدريــب الجســيمة فســيقوم بتنفيذهــا يف روايــة (ح ّبــة بغــداد) التــي
اآلثاريــن العراقيــن -فتعطــف عــى "أمارجــي" وتشــعر إزاءه ونتبــن منظورهــاّ فيهــا نصــل إىل عقــل شــخصية أمارجــي
باأللفــة .وإذا كانــت فيــا مــى قــد الحقــت الرجــل أثنــاء الداخــي الــذي تشــكله العواطــف بوصفهــا هــي املحركــة
تكويــن "أمارجــي" ،فــإ َّن ذلــك مل مينــع عاطفــة األمومــة مــن للتفكــر واملوقظــة لــإدراك .األمــر الــذي يســ ِّهل عــى
أن تبــدو عليهــا "يــا إلهــي لقــد استنســخك مثلــه جعلــك الشــخصية التكيــف مــع محيطهــا واتخــاذ الق ـرارات بعقــل
تشــبهه بــكل يشء مــن أيــن لــك القــدرة عــى نســف فــردي داخــي خــاص ال يشــرك مــع العقــل الجامعــي مــن
اآلخريــن بالحجــج الفظيعــة"(.)23 الناحيــة األخالقيــة.
ولعاطفــة الحــب دور مهــم يف التخلــص مــن (وهــم الذاكــرة) وإذا كانــت الواقعيــة قــد تفنــدت بصناعــة الرجــل لهــذا
واســتعادة الذاكــرة الحقيقيــة مــن خــال تت ُّبــع "أمارجــي" الكائــن العجائبــي ،فــإ َّن العاطفــة ســتعطي للــرد عقالنيــة
للتاريــخ ومــا فيــه مــن نكبــات حلّــت ببغــداد وجعلتهــا مبــا ســيتولد مــن عالقــة "أمارجــي" مــع "أمــايل جميــل"
تســقط بأيــدي الغ ـزاة. الباحثــة الجامعيــة مــن أصــول عراقيــة وطالبــة الدكتــوراه
وقــد أدرك "أمارجــي" وهــو الكائــن العجيــب الــذي ال يطالــه التــي تظهــر عاطفــة قويــة تجــاه العــراق تعكســها يف
أفكار /دراسات ومقاالت 53
قمــة توهجــك الوقــاد وخــذ بيــدي لنعــر القنطــرة إىل الضفة ()24
حــرق وال غــرق وال طمــر "كلــا مزقــك تتو ّحــد أصلــب"
األخــرى مخلفــن وراءنــا شــاطئ الخــوف والحرمــان"(،)26 أ َّن تاريــخ النهــب والرسقــة قديــم وأ َّن بــاد ســومر هــي أرض
وتنتهــي الروايــة وقــد صــار الرجــل وآمــايل وأمارجــي ثالــوث الكتابــة املســتباحة "حاميهــا حراميهــا" بــد ًءا مــن ملحمــة
اســتعادة الذاكــرة العراقيــة املنهوبــة. الخلــق البابليــة ووصــولً إىل ابــن الســاعي الشــاهد عــى مــا
ومــا كان للروايــة أن تــؤول إىل هــذه النهايــة وتغــدو مقنعــة، قــام بــه املغــول يف بغــداد ،واســتمرا ًرا إىل العــر الحديــث.
لــوال العواطــف ودورهــا التأثــري الــذي أعطــى لهــذا الكائــن فيتعمــق شــعور "أمارجــي" بالــروح الوطنيــة.
-الــذي أدرك قيمــة تـراث بــاده الثقــايف واســتامت يف ســبيل وبســبب مشــاعر "أمارجــي" الجياشــة وبنــاء عــى إدراكــه
إرجاعــه والحفــاظ عليــه -بُعــ ًدا رمزيًّــا ليكــون اإلنســان الواقعــي للحيــاة ،بــارش الكتابــة متذكــ ًرا قــول الرجــل:
بعواطفــه وأفــكاره هــو املعــادل املوضوعــي للمــكان الــذي ستحســن ذاكــرة شــعبك"( )25ويرســم طريقــة لبنــاء
ِّ "الكتابــة
هــو العـراق. الذاكــرة فيبــدأ مــن الجــذور ،جام ًعــا شــتاتها املعطــوب،
وتســاعده مرافقتــه "أمــايل جميــل" التــي بــدت يف مه ّمتهــا
وهــي تكشــف حقيقــة املحــو كأنهــا "شــمخة" التــي ع َّرفــت
"أنكيــدو" بحقيقــة نفســه "امنحنــي أفــكارك التي شــكلتها يف
الهوامش:
Alan Palmar,Ohio state university press,2010, p 23 .1بالغة الفن القصيص ،واين بوث ،ترجمة أحمد خليل عردات( ،الرياض:
See; P159 .15 جامعة امللك سعود ،)1994 ،ص .35وميكن أن نضم إىل بوث منظرين
See; P167 .16 انجلوأمريكيني آخرين مثل جريالد برنس وكينث بروكس.
See ; P44 .17 .2األدب والواقع ،روالن بارت وهامون وايان وات ميكائيل ريفاتري ،ترجمة
.18ح ّبة بغداد رواية ،جامل حسني عيل ،دار املدى ،بغداد.2021 ، عبدالجليل األزدي ومحمد معتصم( ،الجزائر :منشورات االختالف ،ط،2
.19الرواية ،ص.11-12 ،)2003ص.43
.20الرواية ،ص.24 .3املصدر السابق ،ص .46-47وعنوان مقالة ريفاتري هو (الوهم املرجعي).
.21الرواية ،ص.26 .4بالغة الفن القصيص ،مصدر سابق ،ص.83
.21رسائل أمارجي رواية ،جامل حسني عيل ،دار املدى .2019 ،ومن املقاطع .5املصدر السابق ،ص.9
التي تصف والدة الكائن (ظهرت كف الكائن أعقبتها الكف األخرى أزاحت ما .6املصدر السابق ،ص.192
تبقى من سعفات ثم جلس مش ًّعا ذلك الوهج الذي يتوقعه الرجل ..أحس أن .7املصدر السابق ،ص.188
املهمة الحقيقية بدأت اآلن وعليه أن يخرب هذا العراقي الجديد مبا ينتظره) .8املصدر السابق ،ص.115
ص 9-10ومن بعدها اعتقل الرجل ودخل يف سلسلة مغامرات ثم عاد .9املصدر السابق ،ص.112
التواصل بني الكائن والرجل عرب الطائر الزاجل الذي كان ينقل الرسائل بينهام. .10املصدر السابق ،ص.115
.23الرواية ،ص.39 .11املصدر السابق ،ص.142
.24الرواية ،ص.14 .12املصدر السابق ،ص.157
.25الرواية ،ص.22 .13املصدر السابق ،ص.176
.26الرواية ،ص.49 Social Mind in the novel(theory interpretation narrative), .14
54
إ َّن تجربــة عطــاف جانــم الشــعريّة هــي تجربــة رائــدة يف إطــار القصيــدة الحداثيّــة ،فهــي تقـ ِّدم يف نتاجهــا الشــعري
خالصــة الفهــم األديب -الحيــايت ،ومــا مي ِّيــز شــعرها حقيق ـةً ،هــي هــذه القــدرة عــى اســتعادة األمكنــة ومفــردات
الطبيعــة يف شــعرها ،ويتمظهــر الوطــن يف شــعرها عــى أشــكال عــ ّدة ،ويتجــى طيفــه يف رؤاهــا وخياالتهــا ويف
تفاصيــل حياتهــا اليوميــة ،وأ ّمــا يف قصائدهــا املشــهديّة فــإ َّن جانــم تصــل إىل جوهــر خصوص ّيتهــا التــي مت ِّيزهــا وهــي
قدرتهــا عــى مــزج الكتابــة امل ُبــارشة بالحالــة اإلنســانيّة التــي تف ِّجرهــا.
مــن األشــكال واأللــوان واملضامــن ،وهــو زاخـ ٌر بالعديــد مــن ديــوان "مــدار الفراشــات" هــو الديــوان الرابــع للشــاعرة
الصــور املوحيــة. عطــاف جانــم والصــادر عــن دار فضــاءات للنــر والتوزيــع
تشــهد قصائــد الديــوان أ َّن عطــاف جانــم متتــاز بنزعتهــا يف عــام ،2017وكان قــد صــدر للشــاعرة "لزمــانٍ ســيجيء"
التقدمــي ،وارتباطهــا بالجــذور،
ّ التحرريــة ،ومذهبهــا عــام 1983و"بيــاد ُر للحلــمِ يــا ســنابل" عــام 1993و"نــد ُم
وتواشــجها مــع أمتهــا ،وانتامئهــا لوطنهــا ،فهــي تكتــب الشــجرة" عــام ،2003ويض ـ ُّم الديــوان بــن دفتيــه عرشيــن
أدبًــا صاف ًيــا ،يص ـ ّور آالم النــاس وآمالهــم ،وينــادي بالحريّــة قصيــدة متوســطة الحجــم راوحــت بــن قصيــدة التفعيلــة
والكرامــة والثــورة عــى ال ّنظــم الباليــة ،وهــذا الجوهــر شــعري مرهــف
ٍّ حــس
وقصيــدة النــر تنــ ُّم مبجملهــا عــن ٍّ
باعتقــادي هــو الباعــث الحقيقــي الــذي يش ـكّل شــخصية مســكون بحــزن عميــق ،وبهــا تدفــع الشــاعرة مبغامرتهــا
عطــاف جانــم وشــعرها. الشــعرية نحــو مشــارف جديــدة تضاعــف مــن مت ُّيــز صوتهــا
وتضيــف إىل تجربتهــا شــع ًرا يســتلهم الواقــع اإلنســاين
هــذا هــو منطلــق مســرة عطــاف جانــم الشــعرية الالهبــة املعــارص بخصوصياتــه العديــدة ،ويتجــى فيــه املــكان يف
التــي جمعــت بــن رو ٍح شــعري ٍة شــفافة وخيــال وث ّــاب تشــكيالت حلميــة وغرائبيــة يُضيؤهــا بــرق هنــا وإشــارة
يســتقي مادتــه مــن التاريــخ واألرض ،أل َّن معنــى الحيــاة هنــاك يف عــامل متشــابك مــن الظــال واألنــوار ويف أمكنــة
كام ـ ٌن يف هــذا الســبيل ومــن دون ذلــك ال أمــل يُرجــى وال مســاة تســتعيدها املخ ّيلــة لتكــون لهــا كــا ميكــن أن ّ
خــاص. تكــون لغريهــا ،والديــوان باإلجــال لوحــة تشــكيلية رائعــة
عطاف جانم
56
رد والغربــة والضيــاع واالنشــداد إىل األهــل والربــوع. والت ـ ُّ لقــد مت َّيــزت قصائــد الشــاعرة بالوضــوح والسالســة ،واالبتعــاد
كقولهــا يف قصيــدة (تُرابُهــا يــا نــور): عــن التعقيــدات اللغويــة ،فهــي قصائــد نابعــة مــن دائــرة
"لكنني يا نور الوجــدان ،وهــي ،مبعنــى آخــر ،تقـ ّدم لنــا زم ًنــا شــعريًا عــى
كعادة الجذور يف بالدنا أكــر مــن مســتوى ،فهــذا الزمــن قــد متثّــل حركــة الواقــع
يل
عا ٌر ع َّ والنفــس يف صريورتهــا وعكــس حركتهــا املاديّــة والشــعريّة
أبيت ليل ًة قص ّي ًة لو ُ وفقًــا للحاجــات اآلنيّــة واملســتقبليّة ،تقــول الشــاعرة يف
عن مائِها الطَهور قصيــدة (الُم َغ ّنــي):
تُرابها يا نور َ
"تعال ..كام كُ ْنت
والتعليب
ْ يف ُّر من أصابعِ التقشريِ وكُن يل َيي ًنا إذا ما التويت
من.. و ُر َّد سهام أخي ورفيقي
ثقاف ِة ّ
الجل ْد َ
تعال
األحباب
ْ يف ُّر من ...تناح ِر وهب يل عيو َين ْ
يف ُّر من صه ِيلِنا الخجولِ ،من كُ ْن يل طَريقي
سكوننا الهج ْني("....الديوان ،ص.)78 لسجاد ٍة قرب شوق الرباق
إ َّن تجربــة عطــاف جانــم الشــعرية هــي تجربــة رائــدة يف لزيتون ٍة عند باب العمود
إطــار القصيــدة الحداث ّيــة ،فهــي تق ـ ِّدم يف نتاجهــا الشــعري هناكَ ...أ ُح ّط َحنيني
خالصــة الفهــم األديب -الحيــايت ،ومــا مي ِّيــز شــعرها حقيقــة، السجود("....الديوان ،ص.)51 أطيل ُّ ُ
هــي هــذه القــدرة عــى اســتعادة األمكنــة ومفــردات
الطبيعــة يف شــعرها ،ويتمظهــر الوطــن يف شــعرها عــى وقــد اســتطاعت عطــاف جانــم يف هــذا الديــوان أن تولِّــد
أشــكال عــ ّدة ،ويتجــى طيفــه يف رؤاهــا ،وخياالتهــا ويف طاقــة جديــدة ،تشــحن بهــا لغتهــا وصورهــا ومضامينهــا
تفاصيــل حياتهــا اليوميــة ،تقــول عطــاف جانــم يف املقطــع الشــعرية ،مبــا هــو مختلــف وجديــد عــى صعيــد تجاربهــا
ِ
القــدس ...وعــ ٌد بالحيــاة): األخــر مــن قصيــدة (يف الســابقة ،مــن حيــث تجـ ّـي الــرد الشــعري ،حيــث توزّعــت
رص ،يا أ َّم البال ْد "يا م ُ القصائــد بشــكل أنيــق والفــت ،لتنســاب بشــكلها العفــوي،
ُض بعدَ اليابسات؟ نبالت الخ ْ ِ الس ِ سبع ُّ تأت ُ أو ِ ممتــد ًة عــى فضــاء املجموعــة بأكملهــا.
حاب!
الس ْ (صوت ال ُع ْر ِب) زلز ًال فيغبطَهُ َّ ُ ليعود
رض يا عدنانُ ،املركب املخ ِّ ِ كنعانُ ...حض ُن تلــح الشــاعرة عــى الوظيفــة الجامليــة ويف هــذا الديــوان ّ
اس النجا ْة سيف الله ،مرت ُ ُ التــي يحملهــا شــعرها ويتك ـ ّرس لهــا ،وهــو الــذي تســتعيد
اب بار ٌد مغتسل ...رش ٌ ٌ والقدسُ فيــه الشــاعرة تجربــة املــكان مــن خــال التذكُّــر واســتعادة
فارضب ِبرِجلِكَ أيُها امل ُ َض ُّي، أُلْ َف ـ ِة املــايض عــر الذاكــرة ،ومــن هنــا فــإ َّن واقــع املأســاة
وامتشق الحياة!"(ص.)94/95 هــو الــذي أبــرز يف شــعر عطــاف جانــم صــور النفــي
أفكار /دراسات ومقاالت 57
وتقــدم الشــاعرة يف قصائدهــا ،مــن خــال إشــارات عابــرة، ويف قصيــدة (كنعــا ُن يبلـ ُغ سـ َّن الضَّ ـ ْوء) مثــة إبــداع شــعري،
أو وقفــات متأنيــة ،متثيــات شــتى مــن فصــول املأســاة مــن أول كلمــة حتــى آخــر كلمــة ،حيــث إ َّن القــارئ يتل ّمــس
الفلســطينية ،التــي تنتهــي -كــا تراهــا -بالغربــة والنفــي، الصــدق الفنــي ،ووقــدة التجربــة ،فالشــاعرة تُناجــي أرض
وقــد حمــل الفلســطيني معــه إىل مــدن غريبــة بعيــدة حزنــه الطفولــة والذكريــات ،والــراءة األوىل ،وهــي ترســم معــامل
عــى الوطــن ،وحــزن الوطــن املقتــول عــى أبنائــه .قصيــدة الوطــن وتحفــظ تفاصيلــه ،وجغرافيتــه يف عالقــة صوفيــة
"كنعــا ُن يبلــغ سـ َّن الضَّ ْوء" مســكونة بعشــق الوطــن املمتزج ملتهبــة داخــل القصيــدة ،بحيــث يصبــح مــن الصعــب عــى
بــاألمل واإلحســاس القــايس بالضيــاع .تقــدم القصيــدة لقطــات املتلقــي التفريــق بــن الحالــة اإلنســانية املتمثّلــة يف تجربــة
معـ ِّـرة للــوداع امل ُـ ّر ،حيــث يرحــل الفلســطينيون عــن وطــن الحــب وبــن حالــة التو ُّحــد بــاألرض التــي تصوغهــا الشــاعرة
توقــف عنــده الزمــن ،يحملــون معهــم "املِ َه َّفـ ِ
ـات املزركشــة"، يف إطــار تجربــة االســتعادة ،وذلــك عــى النحــو اآليت:
وعقــود الباميــاء ،كقولهــا: الصمء َع ِّني "وأماط العتم َة ّ
"والنساء الطاعنات ُطاي
كان فجري َوخ ْ
التجل والخَبايا..يف ّ بحجم ال ُحل ِْم
ِ ولكنعانَ ذراعانِ
ك َّن َوشْ َوشْ َن وليدي تلتفان َح ْويل
مساءات الطواح ِنيِ يف ُ
محاريث ولكنعانَ
وتتويج عقو ِد البامياء واق للرع ِد تجوب الجسدَ ال َّت َ ُ
كيف كان العابرون وماء الوع ِد
كل َّم مروا بحا َرة ها هو كلَّام سا َر لحا َر ْة
َسقوا من َف ِم َها املَعنى سفح الطَّو ِد جاء ُ
ِ
الحرف َ
ظالل وامل َ ُ
رج
قُفطانَ الحضارةْ!! يحيي ِه ...ويغري ِه
كيف ملّا راودين ليك يُل ِقي بِذا َره
وأفيائ قاءتهمِ أحيائ
كل ِ ُّ نسغُه ...ريقي و( َد ِّمي)
وما دانت لهم حتى َصارة!!"(ص.)104/105 رس املحارة نسلُهُّ ...
ات عكا يا فنيق ّي ِ
وعــى ال ّرغــم مــن البعــد الــذايت ،الــذي يــرز يف كثــر مــن فلتزركشن املِهف ِ
َّات
رض دامئًــا ،ويتمثــل يف
قصائدهــا ،إال أ َّن البعــد الجمعــي حــا ٌ زغاريدَ القناديل
اإلســقاط الســيايس الرمــزي ،الــذي ينطــوي عــى نقــد شــديد وتُطلقن عصافري البهاء
للواقــع العــريب ،وإحســاس مــ ّر بســقوط الذرائــع ،ودامئًــا قد تكللت بغاري ...ومحاري
تبــدو الشــاعرة غــر قــادرة عــن االنفــكاك مــن تأثــر الج ـ ّو د ّر ًة بني النساء"(ص.)101/103
58
فالكهف هل يحيص السن َني ُ الســيايس العــام ،فــرى الحــرب والــدم والشــهادة ســاكنة يف
تنس شوكُهُوهل يبايل إن ّ َ زوايــا قصائدهــا ،وهــي مــن خــال رصدهــا األمــل تقيــم
أو كان ذو ًبا يف ال َّزه ْر!؟ قصيدتهــا عــى صياغــة الوجــدان الجمعــي املتجــاوز للتمــزق
ٍ
الكهف صامت يف
ٌ ضجيج
ٌ ثلج...
ٌ خصوصــا صياغــة ال ُهويــة اإلنســانية للشــعر الفلســطيني. ً
حاذق للعابرين"(ص.)69 قنص ٌ ٌ تقــول عطــاف جانــم يف قصيــدة (وال الغــردق املشــتهى
يف الضفــاف) املهــداة للشــهيد إيــاد عــواودة ،أحــد أبطــال
وميــزة أخــرى لهــذا الشــعر هــي اختــاط لغــة الشــاعرة االنتفاضــة الثالثــة يف عــام -:2015
الغنائ ّيــة والتــي شــاعت يف قصائدهــا الوطنيــة ،بلغــة "أنا مار ٌد من سكاك َني،
مواربــة آتيــة مــن معايشــتها للواقــع ،وبهــذا تصــل الشــاعرة العقارب،
َ ح َني أدي ُر
يف قصائدهــا املشــهديّة إىل جوهــر خصوصيّتهــا التــي متيِّزهــا اقط الشوكُ عن سطو ِة البندقي ِة يس ُ ّ
وهــي قدرتهــا عــى مــزج الكتابــة املبــارشة بالحالة اإلنســانية عصا من ميا ْه تغدو ً
التــي تف ِّجرهــا .لهــذا كانــت دامئــة اإللحــاح يف شــعرها عــى (الجيب) يحميكَ م ّني ُ فال
الجغرافيــة وعــى تشــ ُّبث اإلنســان باملــكان ،وهــذا األمــر ...قيص!
ّ وصندوق موىس صغريٌ ُ
أضفــى عــى شــعرها جامليّــة تنبــع مــن هــذه الخصوصيّــة فف ّر أمامي
التــي تذيــب العــامل والكــون يف خصوصيتهــا ،وترفــع الشــعر لرتكض ما تشتهي َ
إىل مســتوى فنــي رفيــع .تقــول يف قصيــدة (فَلْتوقظــي رعب
فيلق ٍ غرميُكَ ُ :
شــهداءك مؤتــة): ثقيل!
اب ْ وحفاظ ٌة...أم جر ٌ
"طبق من حكايا عىل ِ
رأسها ٌ األرض خطوي ...فرت َف ُعني.. وتلتقط ُ ُ
أ ْم عريس أنا ...فوق أيدي الصباح يط ْري ٌ
اعم من فض ٍة بر ُ وتُخر ُِج أ ّمي سكاكي َنها ...وزغاريدها
ووضو ْء! جرح كبري!"(ص.)40-42 األفق ٌبينام ُ
ِ
الصمت فينا إذ مت ُّر ِب ُعكاز ِة
فتميش إليها املُنى أمــ ٌر آخــر مي ّيــز شــعر عطــاف جانــم هــو تلــك القصائــد
والدروب
ْ املشــهديّة التــي تختلــط فيهــا إيقاعــات الحيــاة والتــي
قت ُر ْسغَها والسالل التي َعلِ ْ ُ اســتطاعت مــن خاللهــا الشــاعرة بلغــة مواربــة ،أن تح ـ ِّول
تفيض كام يشتهي صفو ُة العاشقني هل ُ الواقــع املعــاش إىل لوحــة رائعــة ،وإىل أفــق يف ق ّمة الدهشــة
بورد الكال ْم"(ص.)33 بــاب واحــ ٌد): ٍ
(للكهــف ٌ والحلــم ،كقولهــا يف قصيــدة
تعرف بابَهُ
ُ الشمس
ُ "ال
حتى وال ض ْو ُء القم ْر!
أفكار /دراسات ومقاالت 59
(أي
أدل عــى ذلــك مــن قولهــا يف قصيــدة ُّ القصائــد .وليــس ّ وال بــد مــن اإلشــارة هنــا إىل أ َّن شــعر عطــاف جانــم يتَّســم
غيــمٍ يف غ ََم َمــة): باســتخدام الربقيــات الشــعرية ،التــي تحمــل صــو ًرا مــن
طفل ٌ
عابث الغيم ٌ "بعض هذا ِ ُ النقــد لجوانــب ثقافيــة واجتامعيــة مــن حياتنــا ونفاقهــا
ِ
الشبابيك ...يغني يقف ُز ما ب َني االجتامعــي .كتبــت يف قصيــدة ( ُغ ْربَــة):
الدف..
ينق ُر َّ مثل دُعاب ْة
"بدأت َ
ْ
الصغا ْر
بعض ِّ فيجري خل َفهُ ُ وانتهت يب كَخراب ْة!"(ص.)57
بنت للمكانْالغيم ٌ بعض هذا ِ ُ أ ّما يف قصيدة (ذات َص ْحو) فتقول:
َ
األطباق.. تغسل
ُ "أنا لست يل
تغيل قهو َة ّ
السمرِ.. ال يشء يل"(ص.)159
أو
يتمش يف الجِ وا ْر"(ص.)25 جم ّ تحمل (فنجانًا) لِ َن ِ ُ يتَّســم شــعر عطــاف جانــم بوضــوح القصــد والرؤيــا والخيال
ودقّــة التعبــر ،وهــو شــع ٌر متحــر ٌر مــن األســلوب التقريــري،
ونالحــظ أيضً ــا رغبــة عطــاف جانــم يف اســتكناه الــدالالت ومــن الزخرفــة اللغويــة ،ومـ ّـا يلفــت االنتبــاه هنــا أ َّن شــعر
املختلفــة للمفــردات وســرها ،خاصــة تلــك التــي ترتبــط جانــم يف هــذا الديــوان حافــل بالرمــوز واأللغــاز ،كثيــف
بالتفســرات والتأويــات والتوظيفــات اللغويــة واملعرفيــة األســئلة واإلشــارات ذات األبعــاد الوجوديّــة ،وإىل جانــب
يف عــامل اإلبــداع ،وهــذا أحــد التح ـ ُّوالت التــي طــرأت عــى هــذه الهمــوم الوجوديّــة شــبه القــا ّرة تســتب ّد بالــذّات
الشّ ــاعرة شــواغل ظاهرات ّيــة شــديدة الــوطء منهــا إشــكال ّية
إدراك اإلنســان لألشــياء .كقولهــا يف قصيــدة (هاجــس):
"صوت كو ٌين:
ٌ
وضل
تا َه َّ
وضل وتا ْهَّ
املركب أحبايب
ِ أ ِب َذاكَ
أَ ْم
أعدايئ
أم هم أشباهْ؟؟!!"(ص.)119
كــا أ َّن قصائــد الديــوان قــد جــاءت محتوي ـ ًة عــى َوفْ ـ َر ٍة
مــن القيــم املوســيقية التــي تلُـ ّـف ِشــع َرها ،حتــى كانــت أكرث
قصائدهــا ذات ألفــاظ موســيقية منتقــاة ،ومت َّيــزت جميــع
الســهل امل ُ ْمتَ ِنــع مــع وضــوح
قصائــد الديــوان بأســلوبها َّ
املعــاين وسالســة التَّعابــر مبرافقــة موســيقيَّة غنيَّــة يف كافــة
60
مؤتــة): تجربتهــا الشــعرية .فهــي تلجــأ مثـ ًـا إىل تركيــب اســتعارات
َميشــع ينــزع أســاله األبديــ َة ...يحــرث غابــات َ "يــا ل "أي غيــمٍ يف
شــعرية متواليــة يف قصيــدة كــا يف قصيــدة ُّ
أروا ِحنــا... غ ََم َمــة" ،مــن خــال اســتغالل املعــاين ،التــي قــد ترتبــط
حبــوب
َ قــرب الحيــا ِة
َ املتــآكل ...ينــ ُر
َ العشــب
َ يقلــع
ُ بالغيــم يف الذاكــرة الجمعيــة العربيــة ،كقولهــا:
اللقــاح ("...ص.)34
ْ "كانت الغيم ُة إنس ًّيا وجن ًّيا
وعــى العمــوم فــإ ّن العــودة إىل الــراث تعنــي اســتثامره نها ًرا يف الدجى
يف فهــم اللحظــة الحديثــة باختيــار مواقــف وشــخص ّيات ً
ليل به ًّيا يف ال ّنها ْر
ونصــوص منــه ،تصلــح ألن تكــون نقطــة انطــاق نحــو الغيامت أرسا ًرا وأنها ًرا
ُ كانت
الحــارض وزاويــة جديــدة لرؤيــة الواقــع واســتكناه دالالتــه. جامعي
ٍّ تجمع العشّ َاق يف ٍ
عرس ُ ً
حقول
ـي حققــت بــه قصائدنــا العربيّــة املعــارصة إنــه أســلوب فنـ ّ يداري ع ْوزَهم ِعقدُ ال ُخزامى
انطالقــة كبــرة. أو
زهو ُر البيلسانْ
بقــي أ ْن أقــول إ َّن الشــاعرة عطــاف جانــم كانــت دامئًــا كانت الكرس ُة لح ًنا يف غامم ْة
مهمومــ ًة بقضايــا وواقــع بلدهــا ،يعنيهــا أن تعيشــها وأن والقوايفِ ...مهرجانْ !
تقــول كلمتهــا فيهــا ال بالتعميــم وال بالتجريــد ،بــل بالغــوص ما الذي سدَّ شبابيكَ غامم ْة؟!
فيهــا بــكل مــا يف قلبهــا مــن تــوق إىل الفعــل وحــرص شــديد شج شبابيكَ غامم ْة؟!"(ص.)26 ما الذي ّ
عــى ات ّخــاذ موقــف واع متمـ ِّرد ،موقــف يديــن مــا يف ذلــك
الواقــع مــن مــآس وقهــر ومنغّصــات وظــروف ســلبيّة غــر ـعري لشــاعرتنا
هنــاك خاصيّــة أخــرى متيَّــز بهــا املنجــز الشـ ّ
عادلــة .ومل يتعــارض الوعــي الف ّنــي الصــارم عنــد شــاعرتنا عطــاف جانــم ،يســتطيع قارئــه املرتيّــث الوقــوف عندهــا،
منــذ البدايــات مــع القضايــا التــي ســعت إىل التعبــر عنهــا، الخــاق للــراث العــر ّيب، ّ أال وهــي استـــلهامها وتوظيفهــا
ـعري عــى أن تــوازن بــن وقــد حرصــت عــر منجزهــا الشـ ّ بــكل تالوينــه وكائناتــه املختلفــة التــي زخــرت بهــا متونهــا
رؤاهــا ومواقفهــا الذاتيّــة والوطنيّــة والقوميّــة .أن تــوازن الشــعريّة ،وبهــا بلغــت مــن الغنــى والتنـ ُّوع درجـ ًة متميّــزة.
بــن رؤاهــا وبــن الربهنــة عــى أنّهــا صاحبــة قض ّيــة إبداع ّيــة لقــد كان هــذا ال ـراث بحـ ّـق راف ـ ًدا ث ـ ًّرا أصيـ ًـا أم ـ ّد هــذه
ف ّن ّيــة جامل ّيــة .وقــد اســتطاعت باقتــدار ووعــي كبرييــن منــذ ـي
املتــون بأســاليب جديــدة ومتن ّوعــة نتيجــة التفاعــل الحـ ّ
أواســط الثامنينــات مــن القــرن العرشيــن وإىل اآلن ،أن تتم ّيز بــن النصــوص وحواراتهــا .رافــد تحكّمــت الشــاعرة فيــه
بصوتهــا الخــاص ،وأن تتناغــم مــع حركــة الواقــع وجدليّتــه بالطبــع عــر رؤيــة معارصة لهــا فرادتهــا ومتيزهــا ومقصديّتها
ومتغياتــه ،وهــو مــا مكّنهــا مــن لعــب أدوار مم ّيــزة كان لهــا
ّ الواضحــة الهــدف والفكــرة .لذلــك حــاورت الشــاعرة هــذا
القــول الفصــل يف تأصيــل قصيدتهــا وإحــكام بنائهــا ولغتهــا الـراث مــن حيــث تنـ ّوع وتعـ ّدد مصــادره ،بحيــث يصعــب
وتوســيع آفاقهــا وفضاءاتهــا والوصــول مبنجزاتهــا إىل تخــوم ـي مــا اســتم ّدت الشــاعرة مــن علينــا يف هــذه العجالــة تقـ ِّ
بعيــدة. هــذه املصــادر .كقولهــا يف قصيــدة (فَلْتو ِقظــي شــهداءك
أفكار /دراسات ومقاالت 61
يف قصيــدة "األحـزان العاديّــة" للشــاعر عبدالرحمــن األبنــودي ،يختــار "الخــال" االنغــاس يف "العــادي" بدايـ ًة ومــن
عنــوان قصيدتــه حــن وصــف "األح ـزان" التــي ســيتناولها بـــأنها "العاديــة" .يحيلنــا هــذا الوصــف إىل األحــداث
املشــركة بــن جامعـ ٍة مــا ،تتكـ َّرر فيــا بينهــا األحـزان ذاتهــا ،إىل أن تصبــح غــر ُمســتغ َربَة بــن أفرادهــا؛ مـ ّـا يُبعــد
أي أفــكار عــن الغريــب أو الشــخيص .وال يقــف الحــدث عنــد الوحــدة أو انتظــار جيــل جديــد مــن عــن أذهاننــا ّ
الصعــب؛ ينتظر شــعب منبــوذ داخــل زنزانــة؛ فـ"الخــال" الــذي ينحــاز إىل شــعب دائــم األحــام والتضحيــة يف طريقــه َّ
ربــا يصبــح جيـ ًـا أكــر وع ًيــا
ـال جديــدة تنــزع منهــا الخــوف مــن مواجهــة الظلــم الــذي مل يتغـ َّـر عــر عصــوره؛ ّ أجيـ ً
ال تحاوطــه األح ـزان ويعتادهــا.
تحيلنــا املفارقــة بــن العنــوان وبدايــة القصيــدة؛ إىل وجــود يأخذنــا الشــاعر املــري عبدالرحمــن األبنــودي (1938-
فــوارق بــن فئتــن أو لنقــل بــن "شــعبني" كــا يقــ ِّرر 2015م) مــن عنــوان القصيــدة "األحـزان العاديّــة" إىل كلمــة
وفاصــا.
ً "الخــال" يف قصيدتــه ،واض ًعــا بينهــا هــ ّوة "وفجــأة" ليضــع منــذ كلمتــه األوىل فارقًــا بــن زمنــن؛ زمــن
"إحنا شعبني ..شعبني ..شعبني مــاض كان يعتقــد النــاس امتــداده ،وزمــن حــارض منــذ
شوف األ ّول فني؟؟ لحظــة املفاجــأة ،ثــم ميت ـ ّد بعــد حدثــه املفاجــئ واملفــارق
والتاين فني؟؟ للعنــوان؛ لترشيــح دوافــع ثــم تبعــات تلــك اللحظــة .يبــدأ
وآدي الخط ما بني االتنني بيفوت". بنــاءه الدرامــي منــذ لحظــة متوتــرة محتدمــة ،ال يفــ ّرق
فيهــا بــن زمنــن وحســب ،بــل وجامعتــن أيضً ــا؛ فــا يتــد َّرج
ـر لنــا ماه ّيــة األح ـزان يعتــاد أحدهــا عــى األح ـزان ،فيفـ ِّ درام ًّيــا مــن بدايــة هادئــة إىل وســط ثــم نهايــة بحســب
العاديّــة ،بينــا يواجــه اآلخــر مفاجــأة الحــدث غــر املتوقَّــع األعـراف التقليديــة ،بــل يبــدأ مــن رصاع وتســاؤل كان يبــدو
مــن شــعب هــذه املــدن التــي ظــ َّن فيهــا الخــرس .أ ّمــا غــر متوقَّــع.
"الخــال" فقــد أبــاح بعلمــه ألســباب هــذه االنتفاضــة وتلــك "وفجأة
ـرا عنهــا.
األح ـزان بصفتــه واح ـ ًدا مــن معتاديهــا ومعـ ِّ ً هبطت عىل امليدان
"أنا عندي فكرة عن املدن من كل جهات املدن الخرسا
اليل يكرهها النور ألوف شبان
والقرب اليل يبات مش مرسور". زاحفني يسألوا عن موت الفجر".
عــدم ،وإنّ ــا هــو يختــار مــن اإلمكانيــات املتاحــة يف اللغــة اتَّخــذ األبنــودي موق ًفــا واض ًحــا عــى مــدار القصيــدة؛ حــن
العاديــة ،ليشــكل منهــا نظا ًمــا لغويًــا قــاد ًرا عــى تشــكيل انحــاز إىل "شــعب" بعيْنــه مســتخد ًما أدواتــه البالغيــة
املعنــى أو الداللــة التــي تحتويهــا تجربتــه الفنيــة ،والقــول واملعجميــة لتقريــر هــذا االنحيــاز .يســتخدم األبنــودي
باالختيــار ال ينفــي بالطبــع دور الشــاعر الف ّعــال والخالــق ظاهــرة "االلتفــات" البالغ ّيــة بكــرة وتن ـ ُّوع؛ حيــث يجــول
يف اللغة"(املعجــم :ص .)111لكــن قـ ّوة الحــدث الــذي يعـ ّـر بــن الضامئــر مــن الغائــب إىل املتكلــم تــارة ،ومــن صيغــة
عنــه مبــا فيــه مــن ثوريّــة ومحاولــة لتغيــر مــا اعتــاد عليــه املتكلــم املفــرد إىل صيغــة الجمــع يف أخــرى.
وإعــادة تشــكيل مجريــات األحــداث؛ كانــت قــد أث ّــرت "إيديكم نعمت من طول ما بتفتل ليالينا الحلك
بدورهــا عــى لغــة األبنــودي ،ال اللغــة االنتقائيــة فحســب، إحنا الهلك وأنت الرتك
بــل واالشــتقاقية أيضً ــا؛ "فالشــاعر يســتطيع أن ينحــت بعــض سواها بحكمته صاحب امللك
الكلــات ،مثلــه مثــل العــامل الــذي يبحــث عــن صيغــة أنا املطحون املسجون
عربيــة ملصطلــح علمــي جديــد ،ولكــن هــذا عــى كل حــال اليل تاريخي مركون
ليــس هــو الــدور األهــم بالنســبة للشــاعر ،وإنّ ــا الــدور وأنت قالوون وابن طولون ونابليون".
األهــم هــو ذلــك الــدور الكامــن يف قدرتــه عــى االختيــار
مــن بــن املفــردات ،فهــو –هنــا -يقبــل بعــض املفــردات يأخــذ املتكلــم صيغــة املفــرد والجمــع عــى التــوايل ليؤكــد
وين ّحــي بعضهــا اآلخــر باســتخدامه لهــا وإهاملــه لألخــرى، انضــام الشــاعر ومتاهيــه مــع "شــعب" بع ْينــه؛ فيتح ـ َّدث
مــا يشــكّل أو يســاهم يف تشــكيل لغــة جديــدة لعــره ّ باســمه وباســم أحزانــه التــي هــي جامع ّيــة "إحنــا الهلــك"،
وللعصــور التالية"(البحــث عــن لؤلــؤة املســتحيل :ص.)111 وشــخص ّية "أنــا املطحــون" يف آن.
أ ّمــا الشَّ ــعب (الثــاين /اآلخــر) فلــه "التفــات" يخــرق دو ًمــا
وهــذا بالضبــط مــا حققــه؛ حــن اســتخدم املعنــى وض ـ ّده املتكلــم ويضعــه يف مقارنــة واضحــة بــن أفعــال وصفــات
"بلــدي مهــا تتض ّيــع مــش حتضيــع" ليقــرر فارقًــا بــن كل فريــق "إحنــا الهلــك وأنــت الــرك" .وكذلــك يتمثّــل هــذا
تصــ ُّورات اللغــة بــن فريقــن ،ويجعــل تصــ ُّور أحدهــا "أنــت
َ اآلخــر يف شــخص واحــد بضمــر املخاطــب املفــرد
شــكليًّا عــن "الضيــاع" املتمثــل يف الهيمنــة عــى مــكان ـر لنــا السـ ّجان" ويف أشــخاص كــر "إيديكــم نعمــت" .ال يفـ ِّ
بع ْينــه ،ويجعــل مفهــوم "الشــعب اآلخــر" مناف ًيــا ملــا قــد االتفــات موقــف األبنــودي الواضــح الــذي اختــاره وق ـ َّرره،
يتصـ َّوره األ َّول مــن معنــى ظاهــري للضيــاع "مــش هيضيــع". بــل يؤكــد لنــا يف بالغــة شــعوره باالنصهــار داخــل جامعتــه
يعــر عــنكذلــك يشــتق كلــات مثــل "يفرســن" حــن ِّ وشــعبه ،وكذلــك اغرتابــه أمــام ذلــك اآلخــر املتس ـلّط.
قــدرة الخلــق التــي ميتلكهــا امليــدان مركــز الثــورة القــادر
عــى خلــق األبطــال ،وكذلــك نحــت كلامتــه التــي تعـ ِّـر عــن أمــا معجــم األبنــودي ف ُمغــرق يف العاديّــة دون أن ينــايف
مواقفــه؛ والتــي نفهــم منهــا أيضً ــا أنهــا وإن كانــت مســلوبة قدرتــه عــى االنتقــاء ،وهنــا أقتبــس مــا قالــه ســيد البحـراوي
يف ظاهــر األلفــاظ إال أنهــا غــر مســلوبة يف معجــم مغايــر يف كتابــه "البحــث عــن لؤلــؤة املســتحيل" (دار رشقيــات،
لشــعب مغايــر. مــر )1996 ،إذ يقــول إ َّن "الشــاعر ال يخلــق اللغــة مــن
أفكار /دراسات ومقاالت 63
عبدالرحمن االٔبنودي
محــل أ ّول ســجني ليتمثّــل تاريــخ القهــرّ األبنــودي نفســه يواجــه الشــاعر الســلطة مــن جديــد؛ بعــد أن أصبــح املــوت
منــذ ميــاده يف وطنــه ،ويتج َّرعــه حتــى بعــد املــوت عــى والحبــس ميثــان مــكان القمــع ذاتــه ،حســاب القــر وســؤال
األرض ذاتهــا مفتخ ـ ًرا بأنــه امل ُعـ ِّـر عــن األح ـزان عــى مــدار الضابــط هــا الحســاب ذاتــه؛ وكذلــك أصبــح هــو والشــعب
األزمــان. املنحــاز لــه يف الزنزانــة ذاتهــا؛ حتــى وإن شــعر بالوحــدة
"معروف صويت ىف زمن األحزان حبســا للشــعب بأكملــه؛ يقــول:
فإنــه يجعــل مــن حبســه ً
ويف أي زمان "احبسني أو اطلقني وادهسني
واتذكّرت سنة ما اتبنت القلعة رأْيِنا ِخلف خالف
وكنت أنا أ ّول مسجون وإذا كنت لوحدي دل َوقْت
وإن الضابط ده أ ّول س ّجان". بُكره مع الوقت
حتزور الزنزانة دي أجيال".
ـرض ألّ ينتهــز فرصــة زمــن القصيــدة أتصـ َّور أ َّن "الخــال" مل يـ َ
الدائــري املنفتــح وقدرتــه عــى تجــاوز الزمــن؛ ومل يكتـ ِ
ـف ال يقــف الحــدث عنــد الوحــدة أو انتظــار جيــل جديــد مــن
أن يكــون أ ّول مســجون مقهــور وال يشــهد زمــن الخــاص أو شــعب منبــوذ داخــل زنزانــة؛ فـ"الخــال" الــذي ينحــاز إىل
الحريّــة؛ فصنــع مــن نفســه متكلـ ًـا جديـ ًدا مــن هــذا الزمــن شــعب دائــم األحــام والتضحيــة يف طري ِقــه الصعــب؛ ينتظــر
املســتقبيل الــذي يحمــل جيـ ًـا "إن شــاف يوعــى وإن وعــي أجيــالً جديــدة تنــزع منهــا الخــوف مــن مواجهــة الظلــم
مــا يخــاف" ،فيواجــه ســ ّجانه مواجهتــه األخــرة بصفاتــه ربــا يصبــح جيـ ًـا أكــر وع ًيــا ال
الــذي مل يتغـ َّـر عــر عصــوره؛ ّ
املســتقبل ّية ،وينتــر عليــه ليفــوز بالوطــن. تحاوطــه األح ـزان ويعتادهــا.
"أنتم الخونة لو يصدق ظ ّني "وأكيد فيه جيل
خد مفاتيح سجنك واترك يل وطني أوصافه غري نفس األوصاف
وطني غري وطنك إن شاف يوعى
ومىش وإن وعي ما يخاف".
قلت لنفيس
ما خدمك إال من سجنك". لكــن ،هــل يقبــل "الخــال" أن يــأيت جيــل يخلِّصــه مــن
الظلــم بعــد أن كان مقهــو ًرا عــى مــدار العصــور! لقــد وضــع
أفكار /دراسات ومقاالت 65
ـكل يف ال َه ّم اإلنســاين.
تتفـ َّرد شــخص ّية "مــرزوق" يف روايــة "األشــجار واغتيــال مــرزوق" بغناهــا الدرامي ،وانغامســها الـ ّ
وهــو أمــر يختلــف عــن ف ـرادة الشــخصيّات املحوريّــة ألبطــال الروايــة العربيــة الكالســيكية (أحمــد عبدالجــواد،
مصطفــى ســعيد ،زكريــا املرســنيل ،وغريهــم) ،فـ"مــرزوق" ميثّــل الجوهــر األصيــل للشــعب ،للحيــاة ،للعمــل ،لألصالــة،
للشــموخ ،إنّــه اإلنســان الــذي تكمــن األســطورة الحقيقيــة يف حياتــه .وهــو أيضً ــا شــخص ّية رامــزة ،بــل قطــب
الشــخوص مبــا فيهــا الشــخوص الرمزيّــة؛ "مــرزوق" يســاوي كل الشــخوص التــي يعرضهــا الكاتــب عبدالرحمــن منيــف
يف غربتهــا وانتامئهــا ،يف خوفهــا وجرأتهــا ،كاش ـفًا عالئقهــا بالتاريــخ والواقــع ليمنــح القــارئ كش ـفًا لذاتــه ولعاملــه
بعــد تجربــة الشــخوص املامثلــة.
"مــرزوق" تختلــف عــن هاتــن الشــخصيتني مــن حيــث لــن شــمل "التعــ ُّدد" العديــد مــن العنــارص األســلوبية يف
أبعادهــا املرتاميــة األطـراف ،كــا أشــار إىل ذلــك عبدالرحمن الروايــة الحديثــة ،فإنّــه مل يســت ِنث أيضً ــا عنــر الشــخص ّية
منيــف عــى لســان إحــدى شــخص ّياته "مــرزوق ليــس التــي تبــدو يف ظاهرهــا واحــدة مــن بــن الشــخصيات
واحـ ًدا ،مــرزوق كل النــاس ،مــرزوق شــجرة ،مــرزوق ينبــوع، العامــة ال تلــك املتف ـ ّردة التــي تنشــد الظهــور والتميُّــز مــن
مــرزوق هــو إليــاس نخلــة الــذي ال ميــوت"( .)1فمــن يــا تــرى خــال الفــرادة البطوليــة يف الروايــة الكالســيكية .وهــي
مــرزوق؟ وكيــف يكــون متعــ ّد ًدا؟ شــخصيات محوريــة تشــ ّد اهتــام القــارئ كشــخصية
"أحمــد عبدالجــواد" يف "ثالثيــة" نجيــب محفــوظ ،وشــخصية
إ ّن "مــرزوق" شــخصية محوريــة يف روايــة عبدالرحمــن "مصطفــى ســعيد" يف "موســم الهجــرة إىل الشــال" للطيّــب
منيــف "األشــجار...واغتيال مــرزوق" ،ولعـ ّـل ذكــر اســمه يف صالــح ،وشــخصية "زكريــا املرســنيل" يف "الياطــر" لح ّنــا
هــذه الروايــة دليــل عــى أهميتــه .لك ـ ّن الغريــب يف األمــر مينــة ،وشــخصية "مــرزوق" يف "األشــجار...واغتيال مــرزوق"
أ َّن هــذا االســم "مــرزوق" مل يظهــر ّإل حــن تــرف الروايــة لعبدالرحمــن منيــف .وإن كان "أحمــد عبدالجــواد" رمــ ًزا
عــى االنتهــاء ،وبالتحديــد يف قســم اليوميّــات ،وإذا أردنــا للربجــوازي املنقســم عــى ذاتــه ،و"مصطفــى ســعيد" رم ـ ًزا
أن نكــون أكــر دقّــة نقــول :ظهــر هــذا االســم يف اليوميــة للمثقــف املمــ ّزق بــن الــرق والغــرب ،فــإ ّن شــخصية
* كاتب تونيس
mokhtar.mejri35@gmail.com
66
ومرتبطــة معنويًّــا .هــي جمــل قصــرة تتميّــز بوحــدة املبتــدأ اغتيــال األشــجار هــو اغتيــال اإلنســان ،هــذه األشــجار التــي
الــذي هــو "مــرزوق" وتنــ ُّوع الخــر .لكــن هــذه األخبــار تبــدو عروقهــا ضاربــة يف األرض وجذوعهــا ممتــ ّدة نحــو
املختلفــة مــن جملــة إىل أخــرى هــي يف الحقيقــة ترتبــط الســاء إمنــا تحــي قصــة اإلنســان ،عـ ّزة األبطال وشــموخهم،
معنويًّــا ارتباطًــا وثيقًــا .وميكــن تقســيم تلــك املقولــة إىل رغــم االنهيــارات والتش ـ ّوهات يف الواقــع ،هــي رمــز النــاء
جزئــن مختلفــن نســبيًّا؛ الجــزء األ ّول "مــرزوق ليــس واحـ ًدا، والتجـ ّدد "مــرزوق شــجرة" بــل قــل هي رمــز الحيــاة ،ولذلك
مــرزوق كل النــاس" والجــزء الثــاين بقيــة املقولــة "مــرزوق ر ًدا منــذ اللحظــةيتعلــق بهــا "إليــاس نخلــة" ،بــل نـراه متـ ّ
شــجرة ،مــرزوق ينبــوع ،مــرزوق هــو إليــاس نخلــة الــذي ال التــي قامــر فيهــا عــى األشــجار .ونالحــظ يف هــذه النقطــة
ـران بعضهــا ميــوت" .وحــن نتأ ّمــل الجزئــن نجدهــا يفـ ّ رد اقــرن ببدايــة املقامــرة خاصــة للزمــن ،زمــن الت ـ ُّ
داللــة ّ
يفــر
فمثــا يف الجــزء األ ّول نجــد الطــرف الثــاين ّ ً بعضً ــا؛ عــى األشــجار .ومنــذ اغتيــال األشــجار تغـ ّـر يف قريــة الطِّيبــة
الطــرف األ ّول ،وكأ ّن القــول إ ّن "مــرزوق" ليــس واح ـ ًدا غــر وجــه األرض ،أصابــت اللعنــة "الطيبــة" بســكانها فــا الحيــاة
كاف إلفهــام املتل ّقــي ،فيــأيت الطــرف الثــاين ليوضّ ــح "مــرزوقٍ تجــري وال الســاء متطــر ...كل يشء تغـ ّـر يف قريــة الطيبــة،
كل النــاس" .ثــ ّم نجــد أطــراف الجــزء الثــاين مــن املقولــة أل ّن األشــجار ليســت النبــات فقــط ،بــل هــي الحيــاة.
ـر بعضهــا بعضً ــا أيضً ــا "مــرزوق شــجرة ،مــرزوق ينبــوع، تفـ ّ
مــرزوق هــو إليــاس نخلــة الــذي ال ميــوت" .فــكأ ّن مصطلــح ومــن جهــة أخــرى لــو نظرنــا يف لقــب "إليــاس" نجــده يتّصل
ـي "إليــاس "الينبــوع" يوضّ ــح لنــا مصطلــح "الشــجرة" ولفظتـ ْ بعــامل الشــجرة الرمــز ،فلقبــه "نخلــة" ،وللنخلــة دالالت
ـران الشــجرة والينبــوع ،فإليــاس يختــزل يف ذاتــه نخلــة" تفـ ّ ش ـتّى منهــا مــا يتصــل بالشــموخ والقيــم املتعاليــة املوحيــة
املفهومــن الســابقني .و"مــرزوق" هــو شــجرة ،ينبــوع وإلياس ِ
بشــيم اإلنســان العــريب ،ومنهــا مــا يتّصــل بالتجـذّر واألصالــة
نخلــة الــذي ال ميــوت .ثالثــة مفاهيــم مختلفــة البنــاء تشـكّل وااللتصــاق بــاألرض .أ ّمــا االســم "مــرزوق" فيحيلنــا مبــارشة
شــخصي ًة واحــدة هــي شــخصية مفعمــة بإمكانيــة الفعــل عــى الــرزق ،واألشــجار مصــدر هــام للــرزق ،وبــن مــرزوق
التاريخــي متت ـ ّد جذورهــا يف عمــق الكينونــة التــي ال ت ُح ـ ّد واألشــجار صلــة حميميــة .وبنــاء عــى هــذا التأســيس يصبــح
آت .تتداخــل العنــارص مت ّوجــة بنــداوة الحلــم الــذي هــو ٍ "مــرزوق شــجرة ...مــرزوق هــو إليــاس نخلــة" بــل "مــرزوق
الثالثــة مش ـكّلة بنيــان الشــخصية دون أن تختـ ّـل املعادلــة ينبــوع" أليســت األشــجار مصــد ًرا للحيــاة أو ينبو ًعــا لهــا؟
يف صياغتهــا ،ومــن هنــا تكتســب فعلهــا امللحمــي املتم ّيــز. أليــس مصــدر "مــرزوق" الــذي هــو "الــرزق" ينبو ًعــا للحياة؟
إذا مــا نظرنــا بدقّــة يف املقولــة املفتــاح يف هــذا املبحــث:
وتب ًعــا لهــذا النســق يتس ـ ّنى لنــا القــول إ ّن الجــزء الرتكيبــي "مــرزوق ليــس واحـ ًدا ،مــرزوق كل النــاس ،مــرزوق شــجرة،
الثــاين للموضــوع الــذي يشــتمل عــى الشــجرة والينبــوع مــرزوق ينبــوع ،مــرزوق هــو إليــاس نخلــة الــذي ال ميــوت"،
وإليــاس ورد لتفســر الجــزء األ ّول مــن املقولــة التــي نجدهــا وردت عــى شــاكلة خمــس جمــل مســتقلة نحويًّــا
68
يؤمــن بالحركــة املســتم ّرة التــي تنجيــه مــن املــوت ،أمل يقــل
"منصــور عبدالســام"" :إ ّن إليــاس مثــل أمــواج البحــر ال
يســتق ّر لحظــة واحــدة ألنّــه إذا اســتق ّر يكــون قــد مــات"()2؟
فــإ ّن "منصــور" ميثــل جانبًــا آخــر لإلنســانية وهــو العمــل "منصــور عبدالســام" يف قســم اليوميــات" :مل أنــم الليلــة
الفكــري .والشــخصيتان ال متثــان العمــل كقضيــة مطروحــة، املاضيــة لحظــة واحــدة ،قتلــوا مــرزوق .)6("...فمنصــور
ولكــن مــا ينجـ ّر مــن شــقاء وأتعــاب وراء البحــث عــن هــذا عبدالســام "قــد حــ ّول خيباتــه إىل إرادة ح ّيــة تدفعــه إىل
العمــل .والعمــل املبحــوث عنــه إنّ ــا هــو العمــل الــذي مواجهــة أعــداء املجتمــع والحيــاة وتحثّــه عــى االنحيــاز إىل
يرتضيــه صاحبــه ،مبعنــى العمــل املتّســم بحريــة العامــل. ـر مبيــاد جديــد ،فيواصــل الطريــق برنامــج الفعــل الــذي يبـ ّ
ومــن هنــا يتحــ ّول العمــل إىل مط ّيــة بواســطتها يطــرق مــن حيــث انتهــى مــرزوق" ،ومــرزوق لــن "انتهــى" -بلغــة
()7
املؤلّــف عبدالرحمــن منيــف قضيــة مهمــة هــي الح ّريــة. بــن حميــد -وهــو كذلــك مــن خــال اليوميــة الرابعــة ،فإنّــه
رد أيضً ــا "منصــور" رد "إليــاس" وتعــذّب ،يتــ ّ وكــا تــ ّ مل ميــت كرمــز .فموتــه املعلَــن عنــه هــو مــوت إلنســان
ويتعــذّب وراء البحــث عــن لقمــة العيــش؛ فشــأنه شــأن عــادي يُس ـ ّمى "مــرزوق" ال رمــز لــه ،أ ّمــا مــرزوق الرمــز مل
"إليــاس" كالهــا خضــع ملنطــق الفشــل واإلحبــاط .فكــا عبدالســام":
ّ ـت ولــن ميــوت وال ميــوت ،يقــول "منصــور ُميـ ْ
فشــل "إليــاس" يف إيجــاد عمــل يســتق ّر فيــه و يــروق لــه، "ومــرزوق ...مــرزوق الضحكــة الشــفافة بالحــزن ..العيــون
ر ُح مــن الجامعــة وال يجــد عمـ ًـا ،يقول:كذلــك "منصــور" يُـ ّ املتعبــة ..القلــب الــوردي الــذي يلمــع يف الليــل ،مــرزوق
ـت أبوابًــا كثــرة ولكــن مل أجــد أحـ ًدا يجيبنــي"( .)9لقــد
"طرقـ ُ ال ميــوت"( .)8هــذا الوصــف يحيلنــا عــى معرفــة الواصــف
فشــل "منصــور" حتّــى يف نــر ترجمــة كتــاب "كمونــة للموصــوف .وطريقــة الوصــف أو أســلوبه ينـ ّم عــن نوعيــة
باريــس" ألســباب سياســية. العالقــة ،فألفــاظ مــن هــذا القبيــل :الضحكــة الشــفّافة،
العيــون ،القلــب ،هــي كلــات توحــي بعالقــة وطيــدة،
لقــد طلــب "منصــور" الــرزق بطريقــة تريحــه وتــريض متينــة ال تنفصــم ُعراهــا وال تشــوبها شــائبة ،عالقــة ذات
ضمــره فلــم يُوفّــق ،أراد أن يــد ّرس التاريــخ الحقيقــي ال وشــائج عميقــة ،ولكــن فيــم تتجـ ّـى هــذه العالقــة؟ أو مــا
"التاريــخ املزيّــف" فطــرد مــن الجامعــة .إحالــة عــى واقــع هــي مظاهرهــا يف روايــة "األشــجار ...واغتيــال مــرزوق"؟
قهــري يســتحيل معــه الحــوار ،واقــع بهــذه الدرجــة مــن لــن كان "إليــاس نخلــة" وج ًهــا مــن وجــوه مــرزوق ،فــإ ّن
البشــاعة يســتلب أي إحســاس بجــدارة فتــح الحــوار معــه، "منصــور" ميثّــل وج ًهــا آخــر مــن وجــوه "مــرزوق" ،نقــول
أي تص ـ ّور حــامل للمســتقبل، فغــول الواقــع الــرس يلتهــم ّ "آخــر" أل ّن هنــاك اختالفًــا بــن مــا ميثّلــه "إليــاس" مــن
فــا يبقــى ســوى املــايض تبحــث يف نفاياتــه عــن لحظــات جهــة ومــا ميثّلــه "منصــور" مــن جهــة أخــرى ،ولــن تباعــد
أمــن هاربــة ،توقفهــا لتســتم ّد منهــا الع ـزاء والرحمــة .إننــا الوجهــان فإنهــا يقرتبــان إىل حـ ّد التداخــل والتــازج ليعـ ّـرا
نالحــظ اغتيــال "منصــور" منــذ ترسيحــه مــن الجامعــة كــا عــن القضيــة األم ،بــل ميثــان رمــز القضيــة الشــاملة الــذي
اغتيــل "مــرزوق" .كان "منصــور" يشــتغل أســتاذًا جامع ًيــا هــو "مــرزوق".
فطُــرد مــن العمــل الــذي كان مصــدر رزقــه ،فبترسيحــه مــن ولــن مثّــل "إليــاس" جانــب مــن جوانــب اإلنســانية
الجامعــة ينضــب معــن الــرزق لديــه ،بــل ميــوت ،ومبــوت املوســومة بالعمــل اليــدوي الخاضــع للطاقــة الجســدية،
70
"إليــاس نخلــة الــذي ال ميــوت" ،وبــن الــذي ميــوت والــذي ال الــرزق ميــوت اإلنســان .لقــد كان "منصــور" يرتــزق مــن
ميــوت مســافة ال تُحـ ّد .فمــن هــو هــذا الــذي ال ميــوت حتّــى عملــه ،لقــد كان مرزوقًــا بــه .وإذا مــا نظرنــا يف بنيــة كال
املتجســد يف "مــرزوق"؟ّ نعــرف مــن خاللــه مفهــوم اإلنســان االســمني "منصــور" و"مــرزوق" مــن حيــث الصيغــة الرصف ّيــة
إ ّن "إليــاس نخلــة الــذي ال ميــوت" هــو تلــك الشــخصية لوجدنــا كالهــا اسـ َم مفعــول ال اســم فاعــل ،فكالهــا وقــع
الرمــز املعانقــة للذاكــرة دون انقطــاع ،هــو ذلــك البطــل عليــه الفعــل ،وكالهــا اغتيــل .أليــس "منصــور عبدالســام"
اإلشــكايل "الــذي ينشــد قيـ ًـا أصيلــة يف مجتمــع متدهــور هــو "مــرزوق"؟ و"مــرزوق" هــو "منصــور عبدالســام"؟
القيــم" بتعبــر "جــورج لوكاتــش" .هــو تلــك الشــخصية
املنبجســة مــن صميــم الحيــاة تحمــل نبضهــا وألقهــا، "مــرزوق كل النــاس" مقولــة جريئــة وخطــرة يف آن ،فــإذا
تلتحــم بشــكل خـ ّـاق بالشــؤون البرشيــة ،ومتــارس متيّزهــا كان "مــرزوق" هــو كل النــاس ،فاألمــر ال يُحــ ّد بإليــاس أو
ألنهــا تالمــس األرض بــكل أجزائهــا .ولــذا ،فإنهــا تنقــذف أي نــوع بالشــجرة أو بالينبــوع أو مبنصــور فحســب .لكــن ّ
ـص لــون للع ـراء حــا ّرة كدفقــة الكــون ،نابضــة ،مش ـ ّعة ،متتـ ّ مــن النــاس يقصــد صاحــب املقولــة؟ يبــدو أ ّن صاحــب
الحيــاة وبريقهــا .تلــك هــي الشــخصية التــي تحمــل مالمــح املقولــة يتعامــل مــع مفهــوم مخصــوص لإلنســان وإلّ فلِ ـ َم
"مــرزوق". يختــم مقولتــه بتعريــف تقريــري مبثابــة االســتنتاج أو
التلخيــص ملــا ســبق "مــرزوق هــو إليــاس نخلــة الــذي ال
فعبــارة "كل النــاس" ال تتصــل بعامــة النــاس الذيــن هــم ميــوت"؟
داخــل الروايــة ،وإنَّ ــا بالوجــوه التــي ال تعــدو أن تكــون
رم ـ ًزا لإلنســان العــريب يف حركــة التاريــخ ،ألنّهــا شــخصيات إ ّن مفهــوم اإلنســان لــدى صاحــب املقولــة هــو ذاك الــذي
تكشــف لنــا عــن وعــي جنينــي هــش يكشــف أســوار عــامل ميتــاز بخاصيــات مع ّينــة ال نجدهــا ّإل عنــد "إليــاس نخلــة"
أبكــم فرتتــ ّد األبصــار خاســئة حــارسة تســتجدي أطيــاف أو أمثالــه ،بــل عنــد "إليــاس نخلــة" الــذي ال ميــوت .فهــل
مـ ٍ
ـاض أكــر م ـرارة. أ ّن املــوت املقصــود ،هنــا ،هــو املــوت املــا ّدي أم املعنــوي؟
إ ّن "إليــاس" يُعتــر ميّتًــا بعــد فقدانــه لألشــجار التــي متثّــل
إذن "كل النــاس" هــي مــن جهــة شــخصيات متثّــل تعريــة مصــدر رزقــه /حياتــه .ونقــول أيضً ــا :إذا مــا رمنــا التصاقًــا
شــديدة اللهجــة للواقــع اإلنســاين عــر مقابلتــه بصورتــه بالنســق القصــي يف النــص املصــدر أ َّن إليــاس قــد مــات
الفطريــة النقيــة ،لصيغــة لوحــة التضــا ّد بــن النقــاء األصــي منــذ انتهــاء القســم األ ّول مــن الروايــة ،منــذ أن نــزل مــن
والتزييــف الطــارئ ،مقابلــة تضــا ّد ال تتفــق مــع دميقراطيــة القطــار ،منــذ أن و ّدع صديقــه منصــور ،والــوداع عالمــة
"روســو" التــي تعلــن " ُولــد اإلنســان حــ ًّرا" ،أو املفهــوم
ّ الذهــاب بــا رجعــة ،هــي يف نهايــة املطــاف عالمــة املــوت.
الــذي طرحــه عمــر بــن الخطــاب "متــى اســتعبدتم النــاس بنــاء عــى مــا تقــ ّدم يبــدو أ ّن إليــاس نخلــة قــد مــات،
وقــد ولدتهــم أمهاتهــم أح ـرا ًرا؟" .ومــن جهــة أخــرى هــي ومــرزوق ال يُشــاكل هــذه الشــخصية التــي متــوت ،وإنّ ــا هــو
أفكار /دراسات ومقاالت 71
إ ّن "مــرزوق" هــو إنســان الفعــل ،وإنســان الفعــل وحــده شــخصيات تعيــش املعانــاة واملكابــدة مــن جــ ّراء الوســط
قــادر عــى الثبــات يف رشيــط الزمــن الفــار ،لذلــك مــرزوق التاريخــي الــذي تحكمــه قوانــن التشـ ّيؤ وعوامــل املصــادرة
ـي يف الذاكــرة الفردية
ـي مــدى الحيــاة ،حـ ّ"ال ميــوت" .هــو حـ ّ واالســتالب .فهــذه األمنــاط مــن الشــخصيات هــي "كل
والجامعيــة .هــو شــخصية رامــزة ،بــل هــو قطــب الشــخوص ّ
انفــك يعــاين مــن النــاس" وهــي "مــرزوق" الــذي مــا
مبــا فيهــا الشــخوص الرمزيــة ،مــرزوق يســاوي كل الشــخوص كتلــة آدميّــة ســدميية ت ُســكنه حامقــة الواقــع ورضوراتــه
التــي يعرضهــا الكاتــب يف غربتهــا وانتامئهــا ،يف خوفهــا املســتعصية عــى وعيــه الجنينــي ،فيواجــه الواقــع كلعنــة
وجرأتهــا ،كاش ـفًا عالئقهــا بالتاريــخ والواقــع ليمنــح القــارئ قدريّــة لبدائيــة فهمــه .فيخضــع ملنطــق الفشــل ،ولك ّنــه
كش ـفًا لذاتــه ولعاملــه بعــد تجربــة الشــخوص املامثلــة. يُكــر عليــه كإنســان يج ـ ّر مــع "ســنتياغو" م ـرارة إخفــاق
املواجهــة ،لكـ ّن الهزميــة ال تحبطــه ،بــل ينهــض مــن جديــد
ـص
ذلــك هــو "مــرزوق" ،بحســب محاولتنــا االســتقرائ ّية لنـ ّ ملواجهــة الحــوت الــذي يهاجــم شــطآن البلــدة.
املقولــة وعالقتــه بالروايــة ،عــى ال ّرغــم مــن أ ّن الــراوي
الشــخصية (منصــور عبدالســام) قــد وعدنــا بالكتابــة عــن ذلــك هــو "مــرزوق" ،هــو الشــخصية التــي تتفـ ّرد يف الروايــة
مــرزوق "ســوف لــن تضيــع يــا مــرزوق .إذا مل أســتطع أن الــكل يف الهــم اإلنســاين.
ّ بغناهــا الدرامــي ،بانغامســها
أثــأر لــك ،فســوف أكتــب عنــك"( ،)10فــإ ّن ذلــك مل يحصــل، فـ"مــرزوق" يختلــف عــن األبطــال الذيــن ذُكــروا يف بدايــة
قصــة "مــرزوق" هــي قصــة القــارئ يف تعاملــه وتبقــى اآلن ّ هــذا املبحــث كنــاذج ألبطــال الروايــة العربيــة (أحمــد
مــع الروايــة. عبدالجــواد ،مصطفــى ســعيد ،زكريــا املرســنيل ،وغريهــم).
"مــرزوق" ميثّــل الجوهــر األصيــل للشــعب ،للحيــاة ،للعمــل،
لألصالــة ،للشــموخ ،إنّــه اإلنســان الــذي تكمــن األســطورة
الحقيقيــة يف حياتــه.
الهوامش:
أحــدث مخلــد بــركات تغيـ ًرا يف شــكل القصــة القصــرة ،وذلــك بإنتــاج متواليــة رسديّــة بعيـ ًدا عــن النمــط التقليــدي
يف القــص ،وهــذا عـ َّزز مــن أهميّــة املتلقــي املشــارك يف اإلبــداع ،حيــث تضــم " ُرباعيــات الفــردوس" أربــع رباعيــات،
كل رباع ّيــة أربــع قصــص ت ُش ـكّل متواليــة قصص ّيــة تتمحــور حــول اإلنســان ورؤيــة الوجــود ،جــاءت يف تركيــب يف ّ
رسدي ُمت َقــن وظّــف فيــه مخلــد شــخص ّيات ملحمــة جلجامــش بوعــي فكــري ومقــدرة فن ّيــة واضحــة .ومــن جانــب
آخــر فــإ َّن هــذه املتواليــة تكشــف عــن عالقــة فــن القصــة بفــن ال ِّروايــة وفــن الســينام؛ وتطــرح مســألة العالقــات
التــي ميكــن إقامتهــا بــن الفنــون اإلبداعيّــة بفعــل التطـ ُّور التقنــي الواضــح والتقـ ُّدم الحضــاري.
مــن الواقــع؛ أل َّن وظيفــة القــاص ليســت إبالغيّــة بقــدر مــا جــاءت املتواليــة القصصيــة "رباعيّــات الفــردوس" للقــاص
هــي بالغ ّيــة أيضً ــا ،ودالل ّيــة يف مواضــع كثــرة. األردين مخلــد بــركات مح ّملــة بقيــم فكريّــة خصبــة ،وبنــاء
عالئق ّيــة واضحــة يُربزهــا مخلــد بــركات يف مجموعتــه فنــي ناضــج ،إذ يواجــه بــركات متلقّــي قصصــه بلغــة
القصصيّــة تكشــف عــن عالقــة فــن القصــة بفــن الروايــة، مكثَّفــة ،ذات إيحــاء كاشــف النزياحــات اللغــة ،وعمــق
وفــن الســينام ،وذلــك يف متواليــة قصصيّــة مدهشــة تع ـ ُّد األفــكار ،فضـ ًـا عــن البالغــة التعبرييّــة التــي تقــوم بوظيفتهــا
مــن أســاليب املثقافــة التــي أشــغلت الكتّــاب والنقــاد يف االت ّصال ّيــة؛ لتصبــح يف النهايــة فعال ّيــة املتلقــي نفســه.
العــر الحديــث. إ ْذ يكشــف البنــاء الفنــي لقصــص بــركات عــن براعــة
أســلوبيّة ،وهندســة لغويّــة واضحــة ،أعانتــه يف تشــكيل
تطــرح "رباعيّــات الفــردوس" مســألة العالقــات التــي ميكــن لوحتــه الفنيــة برباعــة ،كــا يف قصتــه األوىل (ملــح) التــي
إقامتهــا بــن الفنــون اإلبداع ّيــة بفعــل التطــور التقنــي تغــوص يف أعــاق التكويــن املعــريف مســتبي ًحا إمكان ّيــات
الواضــح ،والتقــدم الحضــاري ،فثمــة تأثــر متبــادل بــن فــن اللغــة التعبرييّــة ،وطاقتهــا التصويريــة" :يف الســفح شــجرة
وآخــر ،ومثــة عالقــات داخــل الجنــس األديب نفســه. طلــح بازغــة كالكذبــة املوجعــة ،أغصانهــا فقــرة إىل حــ ّد
املالريــا ،اضطجــع بعــد أن أركــن الصنــدوق تحــت ســاق
يصــوغ مخلــد بــركات متواليتــه القصص ّيــة متكئًــا عــى الشــجرة .انتبــه إىل قميصــه ،بقعــة كلــون برتقالــة ،جهــة
ثقافــة أســطوريّة جعلــت مــن ملحمــة جلجامــش بشــخوصها القلــب متا ًمــا"(.)1
ورؤيتهــا الفكريّــة وأبعادهــا الوجوديّــة ضفافًــا يرســو فالشــكل التعبــري ،والتقنيــات الفنيّــة والصــور البالغيّــة ال
عليهــا الكاتــب؛ ليُقيــم جدليتــه الفكريّــة بثنائيــة مختلفــة: تــأيت مــن فـراغ ،بــل ترتبــط جميعهــا بفكــر الكاتــب ،وموقفه
فكــرة الفنــاء اإلنســاين ،كــا يف توظيفــه لشــخصية (أنكيــدو) وال يخفــى عــى املتلقــي أ َّن الحمولــة الفكريّــة الخصبــة
األســطوريّة" :بعــد طلــوع الفجــر وصــل البحــرة ،اســراح لشــخصية (أوتنابشــتيم) عكســت ثقافــة أســطورية واســعة
قليـ ًـا عــى ضفــاف املــاء ،ثــم ســمع تخابطًــا ورصا ًعــا مريـ ًرا متتــع بهــا الكاتــب ،جعلتــه يجنــح إىل الحديــث عن اســتحالة
ـض حامـ ًـا يف األكمــة القريبــة ،رصخ :ـــأنكيدو ،أنكيــدو ..وانقـ ّ الخلــود ،وحتم ّيــة فعــل املــوت .وهــذا جعلــه أحيانًــا يحـ ّور
74
إيجــاد إجابــات شــافية عنهــا َّأســس ملوضــوع أثــر عنــد خنجــره إىل أعــاق األكمــة؛ ليجــده طري ًحــا والخنزيــر خلّــف
الفالســفة واملفكريــن ،أصبــح يُالمــس الفنــون الرسديّــة كــا وراءه انكســار أعــواد الحلفــاء .سـ َّجاه بــن الحشــائش وغطّاه
التصــق بالشــعر مــن قبــل ذلــك. باألعــواد لعلمــه أنّــه ســيتحلل خــال أيــام ،ولــن تنــال منــه
يعمــد الكاتــب يف قصصــه إىل التكثيــف ،وعــدم االنســياق وحــوش ال ـراري"(.)3
أي تر ُّهــل لغــوي أو فكــري؛ لتــأيت يف نهايــة الرباعيــة
وراء ّ أحــدث مخلــد بــركات تغيــ ًرا يف شــكل القصــة القصــرة،
قســمفكرتــه املجــ َّردة ،ووعيــه العميــق يف الحيــاة .إذ ّ وذلــك بإنتــاج متواليــة رسديّــة بعيـ ًدا عــن النمــط التقليــدي
رباعياتــه إىل َمشــاهد ،كــا يف رباعيّتــه األوىل (رباعيّــة يف القــص ،وهــذا عــزز مــن أهميــة املتلقــي املشــارك يف
الفنــاء) التــي يجعلهــا يف رباعيّاتــه بعنــوان (بقجــة ملــح يف اإلبــداع ،حيــث تضــم ُرباعيــات الفــردوس أربــع رباعيــات ،يف
قصتــه األوىل يف الرباعيــة بعنــوان قــارب) ،حيــث جــاءت ّ كل رباع ّيــة أربــع قصــص تُشـكّل متواليــة قصص ّيــة تتمحــور ّ
(ملــح) ،ويف القصــة الثانيــة بعنــوان (قــارب) ،ويف القصــة حــول موضــوع واحــد هــو اإلنســان ،ورؤيــة الوجــود؛
الثالثــة التــي جــاءت بعنــوان (بقجــة) ،وهكــذا حــرت فاإلنســان يف حريتــه ،وأســئلته القلقــة املقلقــة ،وســعيه إىل
هــذه املفــردات مجتمعــة يف قصتــه الرابعــة التــي يســتلهم
مــن خاللهــا أحداث ًــا وشــخصيات أســطورية.
االمتــداد يف فضــاءات اللغــة واملــكان ،والزمــان دون أن يُفقــد مرصــع باملحــار ،ومغلــق بإحــكام ،وأخــذ صنــدوق خشــبي ّ
قصصــه ترابطهــا الفكــري ،وحوافزهــا الرسديّــة التــي
بــركات َ يتف ّحــص املفــردات األخــرى ،خناجــر معقوفــة معلقــة عــى
توفرهــا لــه اللغــة بانزياحاتهــا املدهشــة ،وتراكيبهــا الدالــة. الجــدران ،ومســار طويــل يف الجهــة األخــرى ،ويف الركــن
لقــد كشــفت قصــص الكاتــب عــن حقيقــة مه ّمــة ،وهــي أغصــان حلفــاء بالســتيكيّة مزروعــة يف جـ ّرة بــدت مثــل ُد ٍّب
أ َّن الفــن القصــي م ـراث إنســاين ،ال ميكنــه االنعتــاق مــن رمــادي ،وقري ًبــا مــن الشــباك املحــروس بقــارورة ريحــان
أرس املــايض ،وأرساره العميقــة ،يعــر عــن تجربــة إنســانية ـيم يتطلّــع إليــه ،عــى قميصــه مــن جهــة شــاهد رجـ ًـا وسـ ً
خالصــة ،يصــور الحيــاة تصويـ ًرا ينفــذ إىل أغوارها ،ويســتجيل (.)4
القلــب بقعــة دم طازجــة كلــون برتقالــة"
يجســد التجربــة اإلنســانية يف تجلياتهــا
خباياهــا ،وبشــكل ّ َوفَّ ـ َر القــاص ملتوالياتــه القصصيّــة متاس ـكًا نصيًّــا يســتند إىل
املختلفــة. كل قصــة بوصفهــا كيانًــا بنــاء جــا ّيل يُتيــح للمتلقــي قـراءة ّ
تجســد هــذا الجانــب الفكــري يف معظــم قصصــه ،كــا وقــد ّ جامل ًّيــا موصــول الداللــة ،تنتمــي إىل مــكان واضــح ،وتخضــع
يف قصــة (غــار) حيــث االنشــغال بكنــه الوجــود اإلنســاين لســلطة الزمــن ،وتســتند إىل بنــاء لغــوي شــديد التوتــر
موظ ًفــا شــخصية (أنكيــدو) األســطورية ،حيــث يقــول" :مــن وغنــي باالنزياحــات التــي متنــح النــص معنــى مضاع ًفــا.
انســل نحــو الشــمس ،ومل ينتبــهّ ف ّوهــة الكهــف الدائريــة حافــظ بــركات عــى التــوازن القائــم بــن الوحــدة والتع ـ ُّدد
إىل الح ّيــة التــي تدلّــت مــن جحــر فــوق القــر متا ًمــا ،ويف كل قصــة منفصلــة ،وهــي مــن ناحيــة الناتــج عــن ق ـراءة ّ
فمهــا عشــبة داكنــة الخــرة .وأنهــا تلـ َّوت مثــل حبــل رخــو، إبداعيّــة أتاحــت للقــاص ابتــكار أســاليب لغويــة ذات فضــاء
لرتســم العشــبة فــوق ت ـراب القــر كلــات متعرجــة :مــات خيــايل ،ووضــوح دال ّيل.
أنكيــدو!!"(.)5 لقــد مــارس القــاص تجري ًبــا فن ًّيــا وبنائ ًّيــا واض ًحــا يف رباعياته،
بعدمــا أضحــت الحداثــة عنوانًــا للمرحلــة ،فــكان تطويــر
زعمــت أ َّن مخلــد بــركات يف
ُ ي ال أكــون مخطئًــا إن لعــ ّ األدوات الرسديّــة مــن حيــث التكثيــف واالختـزال ،وتوظيــف
مجموعتــه القصصيّــة "رباعيــات الفــردوس" قــد فتــح بابًــا طاقــة اللغــة ،واســتثامر جامليــات املشــهد الســيناميئ ،ومــا
للتجديــد يف القصــة القصــرة األردنيــة مــن خــال إبداعــه يبعثــه يف القصــة مــن دهشــة وإثــارة.
ملتواليــات قصص ّيــة برباعــة فن ّيــة وخصوبــة فكريّــة موغلــة
يف الــراث اإلنســاين. متتــاز شــخصيات "رباعيــات الفــردوس" بأبعادهــا األســطورية
التــي تنتمــي إىل مــوروث حضــاري خصــب ،أبــرز ثقافــة
القــاص ،واطّالعــه عــى املد ّونــات املق ّدســة ،وأســاطري
محــاول فهــم الوجــود باالســتناد إىل شــخصيات
ً الشــعوب،
الهوامش: خارقــة تتوالــد معهــا األحــداث يف قالــب قصــي مبــدع.
.1مخلد بركات ،رباعيات الفردوس ،ط ،2خطوط
ومــن جانــب آخــر ،فــإ َّن قصــص املجموعــة تتيــح للمتلقــي
عمن ،2021 ،ص.9
وظالل للنرش والتوزيعّ ،
.2رباعيات الفردوس ،ص.14
.3رباعيات الفردوس ،ص.41
.4رباعيات الفردوس ،ص.21
.5رباعيات الفردوس ،ص.39
76
نصيّــة يف شــعر املتنبــي" اســتطاع مفلــح الحويطــات ،ويف ظــل الــراع :مقاربــة ّ يف كتابــه "شــعريّة ّ
اإلشــكاالت الكــرى التــي تعيشــها النظريّــة النقديّــة العربيّــة ،أ ْن يخلـ َـق هامشً ــا بحثيًّــا جديـ ًدا يف تجديــد
"ذكــرى أيب الط ّيــب املتنبــي" بلغــة طــه حســن حــن كتــب "تجديــد ذكــرى أيب العــاء" ،مبــا يطرحــه مــن
طروحــات نقديّــة جــادة يف كتا ِبــه ،واســتطاع الحويطــات أن يُعيــد االشــتباك مــع شــعر املتنبــي مــن جديــد،
غــر أ َّن عــى املــرء أ ْن يذعــن لقــول مــؤ ّداه أ َّن بعضً ــا أو قُــل كثـ ًرا مــن أرسار شــعر املتنبــي ملّــا تــزل عص ّيـ ًة
عــى الكشــف ،غامضـ ًة أمــام كل هــذه القـراءات املتعاقبــة.
أطلــق خالــد الكــريكّ يف دراســته القيّمــة عــن املتنبــي "الرونــق العجيــب :ق ـراءة يف شــعر املتنبــي"( )2008مقول ـ ًة مؤثــر ًة يف
رسه مــن "ال ّرونــق العجيــب" بلغــة الجاحــظ ،وهــي قولـ ٌة تتصــادى ـدي املعــارص مؤداهــا أ ّن شــعر املتنبــي يســتمد ّ الـ ّدرس ال ّنقـ ّ
ـدي الــذي كتــب حــول املتنبــي بوصفــه شــاع ًرا " َمـ َـأَ ال ُّدنيــا وشَ ـغ ََل ال ّنــاس" ،وهكــذا يبــدو مــع القولــة املركزيّــة يف األرشــيف ال ّنقـ ّ
شــعر املتنبــي منفحتًــا وف ًقــا لهــذا املفهــوم عــى فكــرة بالغــة املحتمــل أو املتعـ ّدد ،أي أنّــه ميثّــل مرا ًحــا إلعــادة االشــتباك معــه
مــن جديــد ،يف ســبيل تل ُّمــس كنهــه العجيــب واملختلــف واآلرس!
نص ّيــة يف شــعر املتنبــي"(*) ق ـرا َء َة
ـراع :مقاربــة ّ ويف هــذا الســياق يُعيــد مفلــح الحويطــات يف دراســته ال ّراهنــة "شــعريّة الـ ّ
ـص وســياقه يف اآلن َع ْينــه دون أن يُع ـ َزل أحدهــا عــن اآلخــر بوصفهــا املتنبــي مــن منظــور ي ـزاوج بــن االلتفــات إىل ال ّنـ ّ
صنويْــن ال ينفصــان.
وإذا كان الشّ ــعر العــر ّيب يف أزمنتــه املتعــددة واملتقلّبــة ينــاز بكونــه متوت ّــ ًرا وقلقًــا ،عــى الــدوام ،فــإ ّن انتخــاب مفلــح
ـراع Conflictلتكــون محــور مقاربتــه لشــعر أيب الطّ ّيــب املتنبــي ميثــل اختيــا ًرا واع ًيــا باملوضوعــة التــي الحويطــات لثيمــة الـ ّ
ـراع ميثــل بــؤرة مركزيّــة يف فكــر الشــاعر ،وهــو كذلــك أحــد الشّ ــيفرات تلتئــم عليهــا القصيــدة الشّ ــعريّة عنــد املتنبــي؛ فالـ ّ
الســيميائيّة semiotic signsال ّدالــة وامل ُتكــررة ال ّنســقيّة التــي يتمحــور حولهــا شــعره ،فضـ ًـا عــن كونــه ميثّــل أبــرز العالمــات ّ
يف إمرباطوريّــة القصيــدة /الشــعر التــي ّأسســها املتنبــي بلغــة "روالن بــارت" يف إمرباطوريّــة العالمــة،The Empire of signs
والســلطة ،والتابــع ،واألنــا ،واآلخــر.
وهــي؛ الشــاعرّ ،
ولعلّــه مــن نافــل القــول اإلشــارة إىل أ ّن شــعر املتنبــي يقــع يف منزل ـ ٍة بــن املنزلتَـ ْـن ،وهــو مــا يزيــده أل ًقــا ويضفــي إليــه مــا
يحقــق لــه "ال ّرونــق العجيــب" كــا يشــر الجاحــظ يف "البيــان والتّبيــن" ،أي أنّــه وف ًقــا لذلــك ينفتــح كــا يشــر إىل ذلــك "جــاك
دريــدا" يف إملاعــه إىل مفهــوم الشــبحيّة ،بــن املمكــن والالممكــن ،واملتوقــع والالمتوقــع ،إنــه هكــذا ويف حالــة مــن "التّضــاد
املدهــش" ميثّــل يف اللحظــة َع ْينهــا الــايشء والــيء كذلــك! ولــذا فإنــه ملّــا يــزل مزنّ ـ ًرا بســح ٍر خــاص ،يجعلــه م ّ
رش ًعــا أمــام
* باحث أردين
amer998888@yahoo.com
أفكار /دراسات ومقاالت 77
رسه املكنــون ،أو اكتشــاف كُنهــه املخبــوء. ال ّنظريّــات النقديّــة املختلفــة يف ســبيل تل ُّمــس ّ
وأل ّن يف ط ّيــات العناويــن وبدايــات الكتــب فتنـ ًة و ُعج ًبــا كــا يقــول أبوعمــرو الجاحــظ ،فــإ ّن القــارئ لكتــاب الحويطــات يلحــظ
أنــه أَ ْو َل عناويــن دراســته ال ّرئيســة والفرعيــة غـ َر قليــلٍ مــن عنايتــه واهتاممــه ،ويلحــظ أ ّن العناويــن التــي اختارهــا الحويطات
ـي ،وهــي عنوانــاتٌ انعكســت عــى صفْحتهــا مجــاالت االنشــغال لكتابــه ذاتُ أبعــا ٍد ســميائيّة دالّــة ومتســقة مــع طرحــه املنهجـ ّ
ـدي ،وهــذه العنوانــات( :القيمــة الشــعرية وتعميــق االختــاف ،واألنــا وإرادة ـي الــذي يحكــم عمــل الحويطــات ال ّنقـ ّ املنهجـ ّ
ـس املأســاوي يف مواجهــة الزمــن، الســافر ،والفصــل الثالــث :رصاع األنــا وال ّزمــن ،والحـ ّ الق ـ ّوة ،والخطــاب املق َّنــع ،والخطــاب ّ
جــدل الحــب واملــوت ،واألنــا وقَيْــد املــكان ،وبالغــة التضــاد) ،وبال ّنظــر إىل إهــداء الحويطــات كتابــه الراهــن ،نقــرأُ عــى صفحــة
اإلهــداء قولــه:
بحب املتنبي و"رونقه العجيب") (إىل خالد الكريك املسكون ّ
ـح عــى عــد ٍد مــن الســيميائيني يُ َعـ ُّد عالمـ ًة إشــاريةً ،وعتبـ ًة خطابيـ ًة منتجـةً ،تنفتـ ُ وليــس بد ًعــا مــن القــول إ َّن اإلهــداء عنــد ّ
ال ـ ّدالالت واملعــاين ،إذ يبــدو كتــاب الرونــق العجيــب الــذي كتبــه خالــد الكــريك عــن شــعر املتنبــي مولّ ـ ًدا لإلبــداع ،ورشطًــا
حتميًّــا للعبــور ،مــن أجــل فتــح كــوى كاشــف ٍة ،تعــن الناقــد عــى إعــادة اكتشــاف /قـراءة شــعر أيب الطّيّــب املتنبــي مــن جديــد.
ـدرك وعــي الحويطــات بثقافــة االختيــار أو جامليات وبالنظــر إىل اختيــار الحويطــات لخالــد الكــريك ،ليقـ ّدم لــه دراســته ،فإنّنــا نـ ُ
االنتخــاب الثقــا ّيف ،وأه ّميتهــا يف منــح دراســته قيمــة إشــهاريّة مائــزة ،إذ ميثّــل املتنبــي املوضوعــ َة املركزيّــ َة يف ن ْقــد خالــد
الكــريكّ ،ومرشوعــه ،و ِفكــره ،وأدبــه كذلــك.
ويبــدو أ ّن الحويطــات نجــح يف اختيــاره الكــريكَّ ليكــون كاتــب العتبــة التّأسيسـيّة مبــا هــي عليــه بوصفــه تقدميًــا /تقريضً ــا ،إذ
ـح الكــريكُّ كتــاب الحويطــات مبقدمــة ُم ِه َّمـ ٍة ،يقــول فيهــا" :يُشـكّل هــذا الكتــاب حالــة متم ّيــزة بــن الدراســات الجديــدة يفتتـ ُ
عــن شــعر املتنبــي" ،ويقــول" :وبــن مؤيــدي أيب الطّ ّيــب واملعجبــن بشــعره وأولئــك املبغضــن لــه وإلبداعــه ،ســار مفلــح
الســياق
ـعري) ،ومل يقــف عنــد معطيــات ّ ـص الشـ ّ الحويطــات حــول ِحمــى أيب الطّيّــب الشّ اعر(اإلشــكا ّيل) كــا يقــول ،واختــار (ال ّنـ ّ
والصياغــة دقيقــة ،واألســلوب بـ ِّـن الجــودة"(ص ،)7ويف هــذا الــذي ـي ...مــن هنــا أرى أ ّن مقدمــة الكتــاب ُمحكمــةّ ، الخارجـ ّ
أس منهــا دراســته الراهنــة. ـس ملقولــة التّجديــد التــي بنــى الحويطــات عــى ّ ذهــب إليــه الكــريكُّ تكريـ ٌ
ومتثــل اختيــارات الحويطــات يف هــذا الكتــاب ،عــى تعد ُّدهــا و ِغناهــا ،ملم ًحــا مائـ ًزا ،يف خطابــه النقــدي الراهــن ،وذلــك يتجـ ّـى
ـراع ابتــدا ًء ،وشــعر املتنبــي ثاني ـةً ،ومــا يــي ذلــك ،مــن اختيــار الكــريكّ لتقديــم الكتــاب، يف التفاتــه ملوضوعــة شــعريّة الـ ّ
ـي ،إذ ميثــل جـ ّـلواســتصفاء أبيــات بعينهــا مــاد ًة للقـراءة والتّحليــل ،وانتهــاء بتخـ ُّـر ديــوان املتنبــي صنعـ ِة عبدالرحمــن الربقوقـ ّ
ذلــك وع ًيــا يســتطلب اإلشــارة واإلشــادة.
ويكشــف املســتوى اإلجـرا ُّيئ يف هــذا الكتــاب عــن متثيــات قــارئ /ناقــد ُمختلِــف ،ميتلـ ُـك وع ًيــا نقديًّــا مائـ ًزا يجعلــه قــاد ًرا عــى
تحليــل ال ُّنصــوص ،وفـ ِّـك شــيفراتها ،وإضــاءة مع ّمياتهــا ،والقبــض عــى إشــاريّاتها ال ّنصيّــة /املحتملــة.
وف ًقــا لذلــك يجــيء هــذا الكاتــب يف خمســة فصــول ،عــى النحــو اآليت :الفصــل األول( :رصاع األنــا واآلخــر) ،والفصــل الثــاين:
والســلطة) ،والفصــل الثالــث( :رصاع األنــا وال ّزمــن) ،والفصــل الرابــع( :رصاع األنــا واملــكان) ،والفصــل الخامــس: (رصاع الشّ ــعر ّ
78
ـراع يف البِنيــة).
(الـ ّ
يف الف َْصــل األول( :رصاع األنــا واآلخــر) يعايــن الحويطــات متثيــات األنــا املتو ّرمــة أو الفاعلــة ومركزيتهــا يف الـراع مــع اآلخــر يف
شــعر املتنبــي ،إذ متثــل "ال ّنبــوة الشّ ــعريّة" ،و"حيــازة ملكــة البيــان" ،و"تفـ ُّرد الــذات" ،عالمــات دالّــة ،وأقنعــة نســق ّية ،ووســيلة
ناجعــة يف الـ ّر ّد بالكتابــة ،وف ًقــا للرؤيــة النســقيّة التــي يتب ّناهــا املت ّنبــي يف رصاعــه مــع اآلخــر ،وال ريــب أّنهــا متثــل كذلــك ،فضـ ًـا
عـ ّـا أشــار إليــه الحويطــات ،رمــوزًا للــذات يف أتــون اللعبـــة ال ّرمزيـّــة التــي يؤســس لهــا مؤلّــف العمــل األد ّيب كــا يف الدراســات
الســيميائية املعــارصة .ولعـ ّـل رصاع املتنبــي مــع اآلخــر يتجــى يف بيتــن شــعريني ،يجعلهــا الحويطــات عتبــة نص ّيــة /نقديّــة،
يفتتــح بهــا هــذا الفصــل ،إذ يقــول املتنبــي:
سام بابْ ِت َس ِام
َج َزيْ ُت عىل ابْ ِت ٍ اس ِخ ًّبا َوملّا َصــــــا َر ُو ّد ال ّن ِ
ل ِعلْمــي أنّــهُ بَ ْع ُض األن ِ
َــام أصطَفيه ص ُت أشُ كُّ في َم ْن ْ َو ِ ْ
الســابقة والقصائــد التــي انتخبهــا الحويطــات يف هــذا الفصــل يؤســس للصــوت املختلــف، إ َّن املتنبــي هنــا ووف ًقــا لإلشــاريّات ّ
ولــذا فــإ َّن قصيدتــه تنبنــي وفقًــا لهــذا املســار عــى فاعليــة تقويض ّيــة مضــا ّدة ،تُ ِأســس مبــدأ مركزيّــة الــذّات Center-
الســلطة املركزيّــة ،وإن كانــت متــارس عليهــا رضبًــا مــن املخاتلــة cismالتــي متثــل منوذ ًجــا مختل ًفــا ،وصوتًــا مضــا ًدا ،يف وجــه ّ
ـص /الشّ ــعر. والتّعميــة ،التــي تســتند إىل بالغــة املجــاز وجامليّــات ال ّنـ ّ
والســلطة) يجـ ّـي الحويطــات متثيــات "مبــدأ ال ّرفــض واالختــاف" يف شــعر املتنبــي ،وذلــك ويف الف َْصــل الثــاين (رصاع الشّ ــعر ّ
ـي معــارِض" ،ســافر" تــارة ،و"مق َّنــع" تــارة أخــرى ،إذ تضمــر عــر طقسـ ّية املديــح ومخاتــات ال ّنســق ،عــر تأثيــل خطــاب حجاجـ ّ
القصيــدة عنــد املتنبــي موق ًفــا مناهضً ــا للســلطة ،وهــو مــا يجلّيــه نســق ال ـذّات االســتعالئيّة ،التــي متتلــك ســلطة املعرفــة
وق ّوتهــا ،The Power of Knowledgeكــا يشــر إىل ذلــك "ميشــيل فوكــو" ،قُبالــة ســلطة عميــاء ،ال ميكنهــا مجــاراة الـذّات،
معرفــة ورؤيــة ،ولعـ َّـل بيــت املتنبــي الذّائــع ميثّــل بــؤرة لهــذه الرؤيــة ،إذ يقــول:
كانَ لِساين يُرى ِم َن الشُ َعـــــــرا ِء ِ
لـــــــــــوك َوإِن َوفُؤادي ِم َن امل ُ
ويف قوله كذلك:
بَ ْي ًتـا ول ِك ّنـــــي ال ِه َزبْ ُر ال َب ِاس ُ
ــــل ُنشدُ ه ُهنا ـــس الف َُصحا ُء ت ِ ال تَ ْج ُ ُ
سمعت بسـحري باب ُِل ْ ِش ْعرِي وال نال أه ُْل الجا ِهلِ ّيــــــ ِة كُلُّ ُه ْم ما َ
وهنــا يؤكــد الحويطــات أ َّن املتنبــي بوصفــه شــاع ًرا متحـ ّو ًل ،ات ّخــذ مــن جامليــات املجــاز /الشــعر ،أداة تعينــه يف نقــد /انتقــاد،
ـوي كذلــك معهــا ،ذلــك أنّــه ميلــك رؤيــة كونيــة ،تحتكــم إىل قانــون النــور واإلبصــار /املعرفــة وتأكيــد رصاعــه واختالفــه ال ّرؤيـ ّ
الســلطة ال متلــك املعرفــة /القــدرة عــى أن تَ يّــز الشــعر /الــكالم ،بســبب ضاللهــا ،وزيغهــا، والبيــان /الشــعر ،يف حــن أ َّن ُّ
الصــواب.
وابتعادهــا عــن جــادة ّ
والســلطة يف العــر الع ّبــايس ،وهنــا انعكاســا إلشــكال ّية املث ّقــف ّ ً ويف هــذا الســياق تــرز إشــكالية الســيف والقلــم ،التــي متثــل
الســحر الحــال ،عــى الكتابــة بوصفهــا وظيفــة مركزيّــة يف البــاط العبّــايس ،يف ضــوء تحـ ّوالت الوظيفــة ينتــر املتنبــي للشّ ــعرّ /
بــن الشــاعر والكاتــب ،بيــد أ ّن الكتابــة مــن منظــور املتنبــي ال تــوازي الشّ ــعر؛ قيمــة ،ووظيفــة ،وشــأ ًوا ،ورؤيــة للكــون والوجود،
فضـ ًـا عــن نزعتهــا التّحرريّــةـ التــي تفتقــد عنــد الكاتــب /الكتابــة ،يف حــن أ َّن الشــاعر هــو وحــده َمــن ميلكهــا ،وهــو مــا أملــح
أفكار /دراسات ومقاالت 79
و ُهنــا وإضافـ ًة ملــا أشــار إليــه الحويطــات متكــن اإلشــارة إىل أ ّن املتنبــي إمنــا يتخــذ مــن ثقافــة التفــاوض وســيلة يف تعاملــه مــع
اآلخــر الســلطوي ،ولــذا فإنّــه يحتكــم ملبــدأ التفــاوض وفــق "كلــود رميــون" ،يف إنشــاء عمليّــة /عالقــة تفاوضيّــة ،تقتــي تبـ َ
ـادل
يل.
الســابق أو الحليــف املســتقب ّ الخدمــات مــع الخصــم ّ
ويف الف َْصــل الثالــث (رصاع األنــا وال ّزمــن) يعايــن الحويطــات رصاع الشــاعر /املتنبــي مــع ال ّزمــن ،وهنــا فــا مندوحــة مــن القــول
إ ّن الزمــن مثّــل محــو ًرا مركزيًّــا مــن محــاور القصيــدة العرب ّيــة ،عــر صريوارتهــا التاريخ ّيــة ،بيــد أنّــه عنــد املتنبــي ميثّــل إشــكال ّية
"ســورة خاصــة ،ذلــك أ ّن حركيّــة ال ّزمــن وتحوالتــه وتقلّباتــه الدائبــة ،تحيــط الشــاعر مبــا ميكــن أن يطلــق عليــه َ كــرى ،وحالــة ّ
ـاوي ،وتبـ ّدد اللحظــة املرغوبــة ،فتقــا ُدم ال ّزمــن ميثّــل يف فكــر املتنبــي تهديـ ًدا وجوديًّــا/ الزمــن" ،وتشــعره بوطــأة الزمــن املأسـ ّ
املــوت ،ويطــرح عــى الــذات ســؤاالت الوجــود ،والحيــاة ،واملــوت ،فالزمــن يف اســتمراريته يجعــل مــن الــذات الشّ ــاعرة ذاتًــا
قلقــة ومتوتّــرة عــى الــدوام ،ومدفوعـ ًة إىل محاولــة إنجــاز مرشوعهــا /رؤيتهــا ،يقــول املتنبــي:
َويَج َز ُع ِم ْن ُمالقــــا ِة ال ِح ِ
امم َبات ِم ْنـــهُ
أ ِمثْلـي تأخُــ ُذ ال ّنك ُ
لخَضّ َب شع َر َمف ِر ِق ِه ُحسـامي خصــــا ولــو بَ َر َز ال ّزمانُ إ ّيل شَ ً
ويف إطــار رصاع املتنبــي مــع ال ّزمــن يشــر الحويطــات إىل مركزيــة ثيمــة الحــب يف قصيــدة املتنبــي ،وهــو يف ذلــك إمنــا ينــزع
ـوس يُخالِــف خاللهــا جمهــرة نَ َقــدة شــعر املتنبــي ،عــى مـ ّر العصــور ،الذيــن يــرون يف حضورهــا يف شــعر املتنبــي تقليـ ًدا عــن قـ ٍ
فنيًّــا متوارثًــا وحســب؛ غــر أ ّن الحويطــات يــرى أ ّن ت َك ـرار ثيمــة الحــب بهــذه الصــورة الالفتــة ميثّــل يف فكــر املتنبــي هروبًــا
مــن زمنيــة التوتــر وال َق ْهــر واإلحبــاط والالجــدوى ،يف حياتــه القلقــة ،ولــذا فــإ َّن اســتدعاء تجربــة الحــب تكريــس لقيمــة الحيــاة
والخصــب والحيــاة. يف مواجهــة املــوت ،وإشــارة دالّــة إىل الحنــن الدائــب إىل زمــن املــرأة والحــب ِ
لقــد ظلّــت إحداثيــات الزمــن الســالبة متثّــل ضاغطًــا ثقيـ ًـا عــى نفــس الشــاعر ،يف ظــال تعـذّر /تأ ّخــر إمتــام مرشوعــه ،فقــد
ـاول مــن خــال شــعره أن ينتفــض يف وجهــه مــن خــال حركيّــة ناجــزة ،تخـرِق خاللهــا عــاىن املتنبــي مــن ثقــل هــذا الزمــن ،فحـ َ
الــذاتُ َســورة هــذا الزمــن الثقيــل ،وذلــك بصــورة الفتــة ،تضفــي إىل الــذات بعـ ًدا أســطوريًا وتســارعيًّا ال يقـ ّر قـراره دون بلــوغ
الغايــة القصــوى.
ويف الفصــل الرابــع (رصاع األنــا واملــكان) يغــدو املــكان تجلّ ًيــا آخــر مــن تجليــات ال ـراع يف شــعر املتنبــي ،إذ ميتلــك املــكان
الشــعري ،وذلــك بوصفــه قيــ ًدا وتجــاوزًا وغربــ ًة يف اآلن َعيْنــه ،كــا يــرى ّ يف شــعره قيمــة فاعلــ ًة ومؤث ّــر ًة يف بنيــة ال ّن ّ
ــص
الحويطــات ،ويصبــح املــكان قيـ ًدا حــن مينــع الشــاعر /الــذات الفاعلــة مــن بلــوغ مآربهــا ،يف حــن أنــه ميــي غربـ ًة أو اغرتابًــا،
حــن يُ ِحـ ّـل الشــاعر أرضً ــا ليــس يرغبهــا ،وأل َّن املتنبــي مســكون ببلــوغ غايتــه ،فقــد مثــل املــكان لديــه فكــرة مركزيّــة ،ال ميكــن
80
---------------
نصيّــة يف شــعر املتنبــي ،اإلمــارات ،هيئــة أبوظبــي للســياحة والثقافــة ،ط،1
ـراع :مقاربــة ّ
(*) مفلــح الحويطــات ،شــعريّة الـ ّ
.2017
أفكار /دراسات ومقاالت 81
وزيرة الثقافة هيفاء النجار أثناء تجولها يف متنزه األردن البيئي يف األغوار الشاملية
املسار الرابع من برنامج "حكاية مكان"
82
ـغف تجــاوز حــدو َد الح ـذَر! انطلــق يف الثالــث مــن آذار 2022برعايــة وزيــرة يف أجــواء "آذاريّــة" اســتثنائ ّية ،وبشـ ٍ
الثقافــة هيفــاء النجــار املســار الرابــع مــن برنامــج "حكايــة مــكان" الــذي تنظِّمــه مديريّــة الـراث يف وزارة الثقافــة
ـخي لوحـ ًة فريــد ًة مــع تلــك األوابــد الشّ ــاهدة ـري" رسـ َم ْت رائحـ ُة الطّــن وال ّربيـ ُع َّ
السـ ّ األردن ّيــة .يف هــذا املســار "املَطَـ ّ
عــى جــذور الحضــارة يف عــروس الشــال ..عاصمــة الثقافــة العرب ّيــة لعــام .2022
األثري
ّ ّتل دير ّ
عل
التــي توفَّــر فيهــا كل يشء :الزراعــة وتربيــة الحيوانــات، التــل
عــا األثــري كان محطتنــا األوىل ..صعدنــا ّ تــل ديــر ّ
ّ
والســكن ومالمــح الحيــاة اليوميــة ،والدينيــة ،إضافــة إىل "الصناعــي"( )1الــذي غـزاه "األخــر" بالكامــل .لغــر املختّ ّص؛
صهــر الحديــد وتصنيــع األدوات الحديديّــة. ـري ..فــا فسيفســاء وال ال يشء عــى التـ ّـل يوحــي بأنــه أثـ ّ
أعمــدة وال كهــوف أو غريهــا مــن املعــامل املتعــارف عليهــا..
نقش بلعام لك ـ َّن عــن ال ـ ّدارس تعــرف أ َّن للموقــع أهم ّيــة وخصوص ّيــة
يف عــام 1967تــم اكتشــاف نقــش ديــر عـ ّـا املعــروف باســم أطْلَ َعنــا عــى بعــض مالمحهــا مندوبــو وزارة الســياحة واآلثار
نقــش (بلعــام بــن باعــور) وهــو أطــول نــص دينــي باآلرامية؛ يف املوقــع الــذي شــهد االســتيطان البــري منــذ العــر
مكتــوب عــى الجــص الكلــي بالحــر األســود واألحمــر ،وتـ َّم الربونــزي املتوســط (1750-1550ق.م) ،حيــث كان عبــارة
تأريخــه للعــر الحديــدي (850-750ق.م) وهــو أقــدم مــن عــن مدينــة صغــرة ،اســتق َّر النــاس فيهــا وبنــوا بيوتهــم مــن
مخطوطــات البحــر امليــت بحــوايل 700عــام! ويذكــر نــص اللِّــن.
النقــش اســم العــ ّراف( /النبــي الــذي انســلخ عــن آيــات ُعــر يف املوقــع عــى بقايــا معامريّــة تعــود للعــر الربونــزي
ربّــه) (بلعــام بــن باعــور) ،وكيــف أنــه نقــل لشــعبِه مــا املتأخــر (1200 1550-ق.م) أه ّمهــا املعبــد.
أوحــي إليــه يف الحلــم وهــي نبــوءة بنــزول البلــوى عــى كــا عــر عــى لُقــى أثريــة وبقايــا عمرانيــة تعــود للعــر
أهــل ذلــك املــكان ج ـزاء عصيانهــم لآللهــة .وهــذا الع ـ ّراف الحديــدي ( 1200-1000ق.م) ،و ُعــر عــى ُرقــم طينيّــة عــى
مذكــور باالســم ذاتــه يف العهــد القديــم (التــوراة ســفر أرض ّيــة إحــدى الغــرف ،باإلضافــة ملجموعــة مــن األدوات
العــدد )22وهــو بحســب املؤابيــن ع ـ ّراف اســتأجره امللــك التــل كان أقــرب إىل
وجِــرار التَّخزيــن .ويبــدو أ َّن هــذا ّ
املــؤايب بــاالق بــن صفــور ليلعــن بنــي إرسائيــل ..وبحســب "مدينــة" أو مــا عــرف بــِ( ( city stateأي (املدينــة الدولــة)
* كاتبة أردنية
eman.marzouq@culture.gov.jo
أفكار /دراسات ومقاالت 83
إن تَ ْح ِمـ ْـل َعلَيْ ـ ِه يَلْ َهــثْ أَ ْو ت ْ َُتكْ ـ ُه يَلْ َهــثْ ذلــك َمثَـ ُـل القـ ِ
ـوم ـي أنــزل اللــه عليــه اآليــات فانســلخ الكتــب املق َّدســة هــو نبـ ّ
فاقصــص القصــص لعلهــم يتف ّكــرون). الذيــن كذّبــوا بآياتنــا ُ عنهــا وات َّبــع ضــال ورشك املؤابيــن.
وجاء يف تفسري ابن كثري: ومــن املثــر لالنتبــاه أ َّن العبــارات الرئيســة مكتوبــة بالحــر
"هــو بلعــام -ويُقــال :بلعــم -بــن باعــوراء ،ابــن أبــر .ويُقــال: األحمــر وتــ َّم وضــع إطــار للكتابــة كلهــا باللــون األحمــر.
ابــن باعــور بــن شــهوم بــن قوشــتم بــن مــاب بــن لــوط بــن والنقــش معــروض اليــوم يف متحــف األردن يف وســط
هــاران -ويُقــال :ابــن ح ـران -بــن آزر .وكان يســكن قريــة عــان.
العاصمــة ّ
مــن قــرى البلقــاء. وقــد وردت قصــة بلعــام بــن باعــور يف القــرآن الكريــم يف
قــال ابــن عســاكر :وهــو الــذي كان يعــرف اســم اللــه قولــه تعــاىل يف ســورة األعــراف اآليــة (:)175-176
األعظــم ،فانســلخ مــن دينــه ،لــه ذكــر يف القــرآن .ثــم أورد (واتْـ ُـل َعلي ِهــم نَبَـأَ الــذي آتينــا ُه آياتِنــا فانســل َخ ِم ْنهــا فأتب َعــه
مــن قصتــه نح ـ ًوا مـ ّـا ذكرنــا هــا هنــا ،وأورده عــن وهــب الشَّ ــيطان فــكا َن ِمــ ْن الغَاويــ َن* ولَــ ْو ِشــئ َنا ل َرفَ ْعنــاه بِهــا
وغــره ،واللــه أعلــم .وقــال محمــد بــن إســحاق بــن يســار ولك ّنــه أ ْخلَ ـ َد َإل ِ
األرض وات ّبــع َه ـ َوا ُه فَ َمثَلُــه ك َمثَــلِ الكَلــب
أفكار /دراسات ومقاالت 85
عــن ســامل أيب النــر؛ أنــه حـ َّدث :أ َّن مــوىس ،عليــه الســام،
ملّــا نــزل يف أرض بنــي كنعــان مــن أرض الشــام ،أىت قــوم بلعام
إليــه فقالــوا لــه :هــذا مــوىس بــن عمـران يف بنــي إرسائيــل،
قــد جــاء يُخرجنــا مــن بالدنــا ويقتلنــا ويحلّهــا بنــي إرسائيــل،
وإنّــا قومــك ،وليــس لنــا منــزل ،وأنــت رجــل ُمجــاب الدعــوة،
ـي اللــه معــه فاخــرج فــاد ُع اللــه عليهــم .قــال :ويلكــم! نبـ ّ
املالئكــة واملؤمنــون ،كيــف أذهــب أدعــو عليهــم ،وأنــا أعلــم
مــن اللــه مــا أعلــم؟! قالــوا لــه :مــا لنــا مــن منــزل! فلــم
رضعــون إليــه ،حتــى فتنــوه فافتُــن، يزالــوا بــه يرقِّقونــه ويت َّ
فركــب حــارة لــه متوج ًهــا إىل الجبــل الــذي يطلعــه عــى
فلــا ســار
عســكر بنــي إرسائيــل ،وهــو جبــل حســبانّ ،
عليهــا غــر كثــر ،ربضــت بــه ،فنــزل عنهــا فرضبهــا ،حتــى
إذا أذلقهــا قامــت فركبهــا .فلــم تــر بــه كثـ ًرا حتــى ربضــت
بــه ،فرضبهــا حتــى إذا أذلقهــا أذن اللــه لهــا فكلّ َمتــه ح ّجــة
عليــه ،فقالــت :ويحــك يــا بلعــم :أيــن تذهــب؟ أمــا تــرى
ـياملالئكــة أمامــي تــر ّدين عــن وجهــي هــذا؟ أتذهــب إىل نبـ ّ
اللــه واملؤمنــن لتدعــو عليهــم؟ فلــم ينــزع عنهــا يرضبهــا،
فخــى اللــه ســبيلها حــن فعــل بهــا ذلــك .فانطلقــت بــه
حتــى إذا أرشفــت بــه عــى رأس حســبان ،عــى عســكر
مــوىس وبنــي إرسائيــل ،جعــل يدعــو عليهــم ،وال يدعــو
رضيح الصحايب ا ٔبو عبيدة
ِــر ّإل رصف اللــه لســانه إىل قومــه ،وال يدعــو عليهــم ب َ ٍّ
رصف لســانه إىل بنــي إرسائيــل .فقــال لــه لقومــه بخ ـرٍ إال َ
رضيح الصحايب أبوعبيدة عامر بن الجراح
قومــه :أتــدري يــا بلعــم مــا تصنــع؟ إنَّ ــا تدعــو لهــم ،وتدعــو
يف ديــر عــا وغــر بعيــد عــن التــل ..وبضيافــة "الطّــل"
علينــا! قــال :فهــذا مــا ال أملــك ،هــذا يشء قــد غلــب اللــه
الــذي أثــار عطــر األرض وتــراب األطهــار مــن ســاكنيها؛
عليــه! قــال :واندلــع لســانه فوقــع عــى صــدره ،فقــال لهــم:
نــزور رضيــح الصحــايب الجليــل (أمــن األمــة) وأحــد العــرة
قــد ذهبــت م ّنــي اآلن الدنيــا واآلخــرة ،ومل يبــق إال املكــر
املبشيــن بالجنــة أبوعبيــدة عامــر بــن الجـراح؛ املولــود عــام
َّ
والحيلــة ،فســأم ُك ُر لكــم وأحتــال ،ج ِّملــوا النســاء وأعطوهــن
40قبــل الهجــرة584 /م ،وكان مــن أوائــل املؤمنــن بدعــوة
الســلع ،ثــم أرســلوهن إىل العســكر يبعنهــا فيــه ،و ُمرو ُه ـ ّن ِّ
رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم ،هاجــر إىل الحبشــة ،ثــم
فــا متنــع امــرأة نفســها مــن رجــل أرادهــا ،فإنهــم إ ْن زىن
إىل املدينــة املنـ ّورة ،وشــهد مــع النبــي غــزوة بــدر واملشــاهد
رجــل منهــم واحــد كفيتموهــم ،ففعلــوا".
86
األثريــة (نســبة إىل بيــا مســقط رأس اإلســكندر املقــدوين) كلهــا ،وكان م ّمــن ثبتــوا يف ميــدان املعركــة عندمــا بوغــت
بحقبهــا الزمنيــة املمتــدة مــن العــر الحجــري 6000ق.م املســلمون بهجــوم املرشكــن يــوم أُحــد ،وكان أحــد القــادة
وصــول إىل الفــرات اإلســامية..
ً األربعــة الذيــن عيّنهــم أبوبكــر ريض اللــه عنــه لفتــح بــاد
األرض ذات األرض ..ويف األفــق الغــريب تبــدو بيســان الشــام ،وقــد نجــح يف فتــح دمشــق وغريهــا مــن مــدن الشــام
(ســكيثوبوليس) ،املطــر يغســل الكــون ،يبــدو الفضــاء وقراهــا .وتــويف عــام 18هـــ639/م بســبب طاعــون عمــواس
شــهي
ٌّ املســكون بأنشــودة الخلــق األوىل ..املــاء والطــن يف غــور األردن و ُدفــن فيــه.
طــازج ..كرغيــف خبــز ســاخن ..عــى الرغــم مــن هبّــات ٌ
الهــواء البــارد واملطــر ..نحمــل صحوننــا ونتّجــه إىل رشفــة طبقة فحل /بيال
االســراحة لنتنــاول طعــام اإلفطــار ونحــن نرتشــف مبــلء بوصلــة املســار تتَّجــه نحــو الشــال ..يــزداد الــرد ويشــتد
حواســنا بهــاء املــكان ،تلفحنــا ريــاح الطبيعــة اآلرسة عــى املطــر يف طريقنــا إىل طبقــة فحــل أو "بيــا" إحــدى مــدن
مــرأى مــن باقــات الغيصــان التــي تراقصــت كقيثــارة فضيّــة ِحلــف الديكابوليــس)( ،)2نصــل اســراحة طبقــة فحــل
تحــت املطــر! املقامــة عــى منطقــة مرتفعــة ومرشفــة عــى أطــال بيــا
أفكار /دراسات ومقاالت 87
بيت الفنان كام يبدو من اسرتاحة طبقة فحل بعض املعامل االٔثرية يف طبقة فحل
حــدوده ســد زقــاب (رشحبيــل بــن حســنة ســابقًا) وهــو أ َّول ســد
يف األردن؛ حيــث تــم إنشــاؤه عــام .1960ويقــع املتنـ ّزه يف الجــزء
الشــايل لــوادي األردن (األغــوار الشــالية) ويتبــع محافظــة إربــد؛
ـرب األغنــام .ويحافــظ عــى األنواع وهــو ُمحــاط باملـزارع والبــدو مـ ّ
النباتيــة والحيوانيــة يف املنطقــة ،ويوفــر للســياح فرصــة لالســتمتاع
بجــال الطبيعــة مــن خــال املبيــت يف األكــواخ ،أو التخييــم ال ُحـ ّر
عــى أرض املتن ـ ّزه ،ومامرســة رياضــة املــي يف مســارات باذخــة
الجــال كاملســار املــؤ ّدي إىل ســد زقــاب؛ حيــث بهــاء الطبيعــة
اآلرس.
الهوامش:
.1تل صناعي :أي أنه ليس تلًّ طبيع ًّيا؛ إنَّ ا تك ّون جراء تراكم طبقات االستيطان البرشي عرب
العصور.
.2حلف الديكابوليس :أنشأه اإلمرباطور الروماين بومبي عام 64ق.م ،لغايات تنظيمية
سياسية ،وتعني "ديكا" العرش ،أما "بوليس" فتعني املدن ،ومنها :جراسا (جرش) ،وفيالدلفيا
(عمن) ،جدارا (أم قيس) ،كانثا (أم الجامل) ،سكيثوبوليس (بيسان). ّ سد زقالب
خمش عام ،1994وتم عمر ّ .3بيت الف ّنان :بناه وص ّممه الفنان املعامري األردين الشهري ّ
بناؤه يدويًا بالطرق التقليديّة باستخدام الطني عىل الجدران الخارجية واإلسمنت والحجر
الجريي من الداخل.
90
ملّــا كانــت الدولــة األمويّــة ،قــد ات َّخــذت مــن بــاد الشــام ،التــي كانــت تابعــة للدولــة البيزنط ّيــة مــن قبــل ،مرك ـ ًزا
إلقامتهــا ،فقــد كان مــن الطبيعــي أن يكــون الف ـ ّن البيزنطــي أكــر تأث ـ ًرا عــى الف ـ ّن اإلســامي يف العــر األمــوي،
ومــع ذلــك فــإ َّن الف ّنــان املســلم بعــث األســلوب الزخــريف بعثًــا جديـ ًدا ،فبــدا يف ثــوب مــن الجــال مل ي ُكــن ليوجــد
مــن قبــل .وتُعتــر الزخــارف املحفــورة عــى حجــارة قــر املشــتى يف األردن أقــدم النــاذج التــي وصلتنــا مــن الحفــر
اإلســامي .وتجــدر اإلشــارة إىل أ َّن واجهــة القــر نُقلــت إىل قســم الفنــون اإلســام ّية يف متحــف الدولــة بربلــن ،والتــي
كان اإلمرباطــور األملــاين "فلهلــم الثــاين" قــد نقلهــا خــال زيارتــه لبــاد الشــام ،بعــد أن أهداهــا لــه الســلطان العثــاين
عبدالحميــد بنــاء عــى توصيــة مــن العــامل "سرتيجفســي" عــام 1903م.
جميــع الفنــون ،كالفسيفســاء ،والزخرفــة ،ونحــت التامثيــل، بانتهــاء عــر الخلفــاء الراشــدين ،انتقلــت الخالفــة العربيــة
والرســوم املائيــة ،والحفــر عــى الزجــاج والخشــب والعــاج اإلســامية إىل العــر األمــوي عــام 40هـــ660 /م ومق ّرهــا
والرخــام والجــص والحجــر .فضـ ًـا عــن شــمول موضوعاتهــا الشــام التــي اســر َّدت مــا أضاعتــه مــن ال َّرخــاء منــذ زمــن
ملختلــف أوجــه الحيــاة االجتامعيــة. طويــل؛ وأضفــي عــى الدولــة طابــع العظمــة واألبَّهــة مبــا
شـيَّده الخلفــاء مــن قصــور ومنشــآت تليــق بالعــرب؛ حيــث
التشكيل املعامري الرقــي عــى طريــق الحضــارة ّ بلغــت درجــة رفيعــة مــن
يقــع قــر املشــتى يف األردن يف لــواء الجيــزة عــى مســافة باالعتــاد عــى املعامريــن والفنانــن مــن أهــل البــاد ،وذلك
حــوايل 32كــم جنــوب رشق مدينــة عـ ّـان .اكتشــفه "اليــارد" يف إطــار مــن فلســفة العقيــدة الجديــدة ،والطُّــرز األمويّــة
Layardعــام 1840م ،وقــام بدراســته ،فيــا بعــد" ،تريــس الناشــئة ،والتــي ســادت معظــم البــاد اإلســامية لثالثــة
تــان" .Tris Tanنســب القــر يف البدايــة إىل يزيــد بــن فضــا عــن تأثرياتهــا املختلفــة يف فنــون املعــار ً قــرون.
عبدامللــك (105 101-هـــ723 719- /م) ،ولكــن أثبــت بعــض ونظــم التشــييد والبنــاء رشقًــا وغربًــا.
العلــاء باألدلّــة ،نســبته إىل الوليــد بــن يزيــد بــن عبدامللــك
(الوليــد الثــاين) (125-126هـــ743-744 /م) نظــ ًرا لوجــود ويعتــر قــر املشــتى مــن أهــم اآلثــار الباقيــة التــي مل تــزل
فضــا عــن العثــور بــه عــى نــص ً محــراب للصــاة فيــه، رقــي الفــن املعــاري العــريب ،وهــو يــدرج تشــهد عــى ّ
تاريخــي يؤكــد نســبته إليــه. ضمــن قامئــة القصــور الثالثــن املهمــة التــي أقيمــت يف بــاد
الشــام بالعــر األمــوي ،ومنهــا :الحــر الغــريب ،والرشقــي،
ُص ِّمــم القــر عــى شــكل مربَّــع طــول ضلعــه 144م ،وبُنــي وطوبــة ،والخزانــة ،وخربــة املفجــر ،وخربــة املنيــة ،وعمــرة.
الســور مــن األحجــار الجرييّــة وتوجــد عنــد أركانــه األربعــة حيــث اكتشــفت فيهــا ،الكثــر مــن اآلثــار التــي تشــمل
-الجنــاح األوســط :وينقســم بــدوره إىل ثالثة أقســام :القســم أب ـراج مســتديرة .يدعمــه ويزيــد متاســكه ،وجــود 25بر ًجــا
الشــايل ،والقســم الجنــويب ،ويضـ ّـان األبنيــة الرئيســة .أ ّمــا دائــري .وهــو يشــبه قــر عنجــر بلبنــان ،ومــن
ّ نصــف
القســم املتوســط ،فيشــكل صحــن أو ســاحة مكشــوفة. التامثــل يبــدو أكــر وضو ًحــا مبقارنتــه مــع قــر "خربــة
-الجناح الشاميل :كان مق ًّرا للخليفة. املفجــر" بالقــرب مــن أريحــا ،والــذي يرجــع بنــاؤه إىل عــام
743م بحســب مــا ذكــره "هاملتــون".
-أ ّمــا الجنــاح الجنــويب :فيتكــ َّون مــن ممــ ّرات وغــرف
ومســجد ،ويحتــوي عــى املدخــل الوحيــد الــذي تزيّنــه مــن ميتــاز قــر املشــتى بتقســيامته املعامريــة ،ومعاملــه
الخــارج واجهــة مزخرفــة. وزخارفــه الفنيــة املختلفــة ،وينقســم املبنــى الرئيــس إىل
ثالثــة أجنحــة:
أفكار /دراسات ومقاالت 93
مثــل :التعبــر بــاألوراق الثالثيــة ،ومثــار الر ّمــان والفراولــة، تنتهــي األجنحــة الثالثــة ،بقاعــة العــرش املــز َّودة بثــاث
ورمزيّتهــا إىل أشــجار ومثــار الحيــاة يف الفــن الساســاين. حنايــا كبــرة نصــف دائريــة.
وتعتــر هــذه الخصائــص والوحــدات ،مــن ضمــن مــا قــام يشــبه مخطَّــط "املشــتى" ،مخطــط قــر "الطوبــة" الــذي
عليــه فــن الزخرفــة اإلســامية يف العــر األمــوي ،وذلــك يعــود إىل التاريــخ نفســه ،وف ًقــا لـ"كريزويــل" ،لكــن بأبعــاد
مثلــا حــدث يف إبــداع :فسيفســاء قبــة الصخــرة ،والجامــع صغــرة .وهــو مــن القصــور الحصينــة بأســواره وأبراجــه،
األمــوي بدمشــق ،ويف رســوم الفريســكو بقــر عمــرة ،ويف حيــث انتقلــت هــذه الصفــة (الحصينــة) يف القصــور
قــر الحــر الغــريب ،ويف الزخــارف الحجريّــة بواجهــة قــر العربيّــة بشــخصيّتها املعامريــة األصيلــة إىل الحصــون
املشــتى. واألبنيــة املعامريــة الغربيّــة عــن طريــق الحــروب الصليبيــة،
وملّــا كانــت الدولــة األمويّــة ،قــد اتَّخــذت مــن بــاد الشــام، فضـ ًـا عــن أنَّهــا "كانــت قــد تجلَّــت يف بنــاء الرباطــات غربًــا،
التــي كانــت تابعــة للدولــة البيزنط ّيــة مــن قبــل ،مركــ ًزا ووضحــت يف حصــن كاســتيلليجو دو مــريس (مرســيه) الــذي
إلقامتهــا ،فقــد كان مــن الطبيعــي أن يكــون الفــن البيزنطــي، يرجــع تاريخــه إىل القــرن الحــادي عــر والثــاين عــر.
أكــر تأث ـ ًرا عــى الفــن اإلســامي يف العــر األمــوي .وعــى ويصــل إىل هــذا الشــكل أيضً ــا ،قســم مــن قــر الحم ـراء
ال ّرغــم مــن أ َّن الفنــان املســلم" ،مل يكــن مبتد ًعــا للوحــدات كان قــد أنشــأه امللــك محمــد الخامــس (1391 1353-م)"(.)1
والقيــم واألشــكال النباتيــة والحيوانيــة والهندســيةّ ،إل أنــه بُنيــت جــدران قــر املشــتى مــن الطــوب املشــوي مثــل
ال ســبيل إىل إنــكار مقدرتــه يف طريقــة رســمها ،وتوزيعهــا جــدران قــر الطوبــة .فضـ ًـا عــن وجــود بعــض العنــارص
والتأليــف بينهــا وتنســيقها تنســيقًا تبــدو معــه وكأنهــا الفنيــة والزخــارف التــي تشــبه زخــارف قبّــة الصخــرة.
أبدعــت أل َّول مــ َّرة ،حيــث وصــل إىل املهــارة يف ذلــك
مــن خــال تقســيمه وتحليلــه لهــا ،فــكان تــارة يرســمها األساليب الفن ّية
متشــابكة ،وتــارة ثانيــة متداخلــة ،وتــارة ثالثــة متالحقــة، تــكاد تكــون العنــارص الزخرفيــة الهندســية والنباتيــة
ورابعــة متباعــدة"(.)2 والحيوانيــة ،واحــدة يف جميــع الفنــون ،لكنهــا تختلــف يف
األســاليب الفنيــة والتطبيقيــة التــي يعالــج بهــا الفنــان كل
ومــن ثــم ،نســتطيع أن نقــول :إ َّن هــذا األســلوب الزخــريف، عنــر منهــا ،وذلــك ،طبقــا لطبيعــة العــر واألمكنــة التــي
قــد بعثــه الفنــان املســلم بعثًــا جدي ـ ًدا ،فبــدا يف ثــوب مــن عــاش فيهــا .حيــث قــام الفــن اإلســامي عــى أســس مــن
الجــال مل يكــن ليوجــد مــن قبــل .وقــام برســم األشــجار الفنــون البيزنطيــة والساســانية ،ومتيَّــز ببعــض خصائصهــا
واألزهــار واألوراق والثــار والطيــور والحيوانــات بعــد التــي لعـ َّـل مــن أه ّمهــا:
تحويرهــا تحوي ـ ًرا كادت تفقــد معــه شــخص ّيتها .كــا ن َف ـ َر
مــن وجــود فراغــات عــى ســطح زخارفــه ،فقــام بتكــرار -امتيــاز وحــدات الزخــارف النباتيــة مبحــاكاة الطبيعــة،
معــن،
َّ الوحــدات الزخرفيــة دون أن يتوقَّــف عنــد حــ ّد مثــل :كــوز الصنوبــر ،وعناقيــد العنــب يف الفــن البيزنطــي.
بحيــث ال متلّهــا العيــون. -امتيــاز الوحــدات النباتيــة مبحــاكاة الطبيعــة ،والرتميــز بهــا،
94
املنطقــة إىل قســمني -اقتصــار األشــكال عــى الطــر فيــا -النحــت املُجــ َّرد :وهــو عبــارة عــن أشــكال نباتيــة أو
عــدا القطعــة ذات الــرأس البــري يف رأس املثلــث -امتــاء هندســية مجــردة .وهــذا النــوع ،يعتــر مــن الزخــارف التــي
مثلثــي الجــزء األســفل ،بأربــع دوائــر متامســكة وتســع متثــل بدايــة الرقــش العــريب .Arabesque
متقاطعــة بالرتتيــب.
.2ســبعة مثلثــات فيهــا حيوانــان متجابهــان ،بعــض منهــا -أ ّمــا النحــت املشــ ّبه :فهــو يحــايك ،يف أســلوبه وطريقــة
خ ـرايف. تنفيــذه ،بعــض العنــارص والطيــور والحيوانــات.
.3مثانيــة مثلثــات تســودها لفائــف الكرمــة ،وهــي نباتيــة وهــذه الواجهــة" ،تغطــي القســم األمامــي للبنــاء األ َّول الذي
فقــط. يتض َّمــن الب ّوابــة الرئيســة .ويتألــف هــذا القســم مــن برجــن
.4مثلثــان خليــط عجيــب من العنــارص الزخرفيــة املخروطية دائريّــن وبرجــن مضلّعــن ( 5أضــاع) وبينهــا جــدران عــى
لكيـزان الصنوبر ،والنخيــات املج ّنحة"(.)6 جبهــة عرضهــا ســتون مـ ًرا .وتغطــي الزخرفــة جميــع أرجــاء
تختلــف زخــارف الجانــب األيــر عــن زخــارف الجانــب هــذه الواجهــة وبشــكل كثيــف ابتــداء مــن القاعــدة 47ســم،
األميــن .و"يــرى كريزويــل ،أ َّن نــوع الزخرفــة يف القســم ثــم العتبــة ،1,28ثــم ألــواح الجــدار 2,95ســم يعلــوه طبــان
األميــن مــن البوابــة يختلــف عــن الزخرفــة يف القســم األيــر، 90ســم .وتتألــف ألــواح الواجهــة مــن مســاحات مثلثــة،
وأنهــا نتيجــة مدرســتني فنيتــن مختلفتــن"( .)7أ ّمــا املثلثــات يحــد ضلعيهــا املتســاويني إطــار زخــريف ممتــد ومتصــل
التــي تقســم الواجهــة ،ســواء القائــم منهــا عــى قاعدتــه ،أو عــى طــول الجبهــة بشــكل منكــر ،وكل مثلــث يحفــل
عــى إحــدى زوايــاه ،فقــد نقــش يف وســط كل منهــا شــكل بالزخــارف النباتيــة والحيوانيــة ،ويف وســطه زهريــة كبــرة
زخــريف ميثــل وردة يف قلبهــا رســمت مـراوح نخيل ّيــة ،وكيـزان مــن ســت حنيــات يف املثلثــات القامئة إىل أســفل ،أو مســدس
صنوبــر ،ونجــوم صغــرة ،وأزهــار لوتــس .حيــث تعــود زخــريف يف املثلثــات القامئــة إىل أعــى"( .)4يُال َحــظ أ َّن تصاميــم
"األهميــة الكبــرة للقــر إىل روعــة الزخــارف التــي تحـ ّـي زخرفتهــا" ،تختلــف مــن جهــة إىل أخــرى ،فبينــا نجــد بعــض
واجهتــه ،فهــي ترتفــع إىل نحــو ســتة أمتــار ،فــوق قاعــدة التصاميــم الزخرفيــة متأثــرة بالساســانية ،مثــل :الحيوانــات
مقســم
منخفضــة ،وســطح الجــدار األوســط لهــذه الواجهــة َّ املتقابلــة واملتدابــرة ،واألجنحــة املزدوجــة والشــمعدانات.
إىل مجموعــة مــن املثلثــات يقــوم بعضهــا عــى قاعدتــه فإننــا نجــد أيضً ــا ،بعــض التصاميــم ذات الطابــع الهللينــي.
واآلخــر عــى زوايــا ،وســط كل مثلــث مــن هــذه املثلثــات
زخرفــة عــى شــكل وردة يف قلبهــا رســوم نخيليّــة ،وأزهــار ويزخرفهــا أيضً ــا ،زخــارف حجريّــة عــى هيئــة مثلثــات مــا
اللوتــس ،ونجــوم صغــرة"(.)8 بــن معتدلــة ومقلوبــة ،يف داخــل كل منهــا حفــر بــارز عــى
شــكل وردة .فضـ ًـا عــن تداخــل واختــاط أســاليب الزخرفــة
يُال َحــظ أ َّن "املثلثــات القامئــة عــى قاعدتهــا قــد أنجــزت، الهلينيــة والساســانية والقبطيــة"( ،)5وميكننــا بشــكل عــام،
أ ّمــا املثلثــات األخــرى فأغلــب أجزائهــا مل تنجــز .وأ َّن "تقســيم هــذه الزخــارف إىل أربــع مجموعــات:
عــرة مــن املثلثــات خاليــة مــن رســوم الطــر والحيــوان، .1ثــاث مجموعــات تتم ّيــز بالخصائــص التاليــة :تقســيم
98
.1د.عفيف بهنيس :جاملية الفن العريب ،املجلس الوطني للثقافة ،الكويت ،1979 ،ص.137
.2د.سعاد ماهر :الفنون اإلسالمية ،الهيئة املرصية العامة للكتاب ،2005 ،ص.321
.3د .حسن الباشا :مدخل إىل اآلثار اإلسالمية ،دار النهضة العربية ،القاهرة ،1981 ،ص.244
.4د .عفيف بهنيس :ص.58
.5د.حسن الباشا :ص.226
.6زكريا رشيقي :الفن العريب اإلسالمي الجذور واملؤثرات ،وزارة الثقافة ،الهيئة العامة السورية للكتاب ،دمشق ،2012 ،ص.380
.7د.عفيف بهنيس :الفن العريب اإلسالمي بداية تكوينه ،دار الفكر ،دمشق ،1983 ،ص.160
.8د .عبدالعزيز حميد ،ود.صالح العبيدي ،الفنون اإلسالمية العربية ،وزارة التعليم العايل ،بغداد ،1979 ،ص.66
.9د.زيك محمد حسن :فنون اإلسالم ،دار الرائد العريب ،بريوت ،1998 ،ص.48،53
أفكار /دراسات ومقاالت 99
مت َّيــزت روايــة "جــر بضفــة وحيــدة" ،بالعمــق والتنـ ُّوع ،وتعـ ُّدد مســتويات القـراءة ،وطــرح أســئلة عاصفــة حــول املــوت
والتغــر وقــ ّوة اإليحــاء وقــراءة األفــكار
ُّ والحيــاة واملاورائ ّيــات والطاقــة واملوســيقى واألبــ ّوة والحــب والفــن والخيــال
والذكريــات وغريهــا مــن األســئلة واملوضوعــات الشــائكة .وتســتعرض هــذه املقالــة صــورة األب يف ال ِّروايــة مــن خــال
النــاذج التــي تناولتهــا ،وهــي :األب الحنــون ،واألب الغائــب ،واألب املتس ـلِّط ،واألب الفاســد.
"دفاتــر الــوراق" لجــال برجــس ،وروايــة "خطــف الحبيــب" تُع ـ ُّد رابطــة األب ـ ّوة مــن أقــوى الروابــط اإلنســانية وأنبلهــا
لطالــب الرفاعــي ،ومرسحيــة "امللــك لــر" لـ"شكســبري"، وأرشفهــا ،وتحظــى بالقدســية يف كثــر مــن املجتمعــات؛
وغريهــا الكثــر يف الروايــة والقصــة والشــعر واألعــال فــاألب ســبب الوجــود ورب األرسة ،والقــدوة والنمــوذج
املرسحيــة والســينامئية والتلفزيونيــة. األول ،وهــو الســند والظهــر ،واملــاذ الــذي يوفــر الحاميــة
وقــد بــرزت هــذه الرابطــة بشــكل الفــت يف روايــة "جــر واألمــان ،ويقابــل باالحــرام والتقديــر ،ويتســم بالهيبــة
بضفــة وحيــدة" لألديبــة األردنيــة هيــا صالــح؛ مــن خــال واإلجــال .وهــي مــن الروابــط التــي توافقــت عليهــا األديــان
معظــم شــخوصها ،إذ أشــارت الروايــة إىل هــذه العالقــة واملجتمعــات واألعــراق ،وتتناغــم مــع الفطــرة اإلنســانية،
بإيجــاز أو إســهاب لــكل شــخصية فاعلــة فيهــا .وقــد والقيــم األخالقيــة ،والعــادات والتقاليــد التــي ينشــأ عليهــا
تفاوتــت منــاذج األبــوة يف الروايــة كث ـ ًرا ،لتعـ ِّـر مبوضوعيــة البــر يف كل األزمــان واألماكــن عــى مــر التاريــخ .وال
عــن منــاذج مجتمعيــة واقعيــة موجــودة ،وتســتعرض هــذه يســتطيع اإلنســان التخــي عنهــا أو التنصــل منهــا؛ فهــي
املقالــة صــورة األب يف الروايــة مــن خــال النــاذج التــي رابطــة دم ال تنفــك وال تُســتبدل.
تناولتهــا: وقــد حظيــت رابطــة األب ـ ّوة والعالقــة بــن األبنــاء واآلبــاء
بحضــور كبــر يف اإلبــداع عــى مختلــف فنونــه وأشــكاله،
األب الحنون تأكيــ ًدا ألهميــة هــذه الرابطــة وتأثريهــا الكبــر والعميــق
وميثلــه يف الروايــة اثنــان" :صــاح" زوج "ســامية" ،وأبوهــا. عــى مســرة األبنــاء ،ســواء أكانــت هــذه العالقــة قويــة
أ ّمــا "صــاح" فهــو مهنــدس ،مثقــف ،يحــب زوجته "ســامية"، وإيجابيــة أم واهنــة وســلبية .ومــن األعــال التــي تناولــت
ويتق َّبــل تقلباتهــا وغموضهــا وغرابــة ترصفاتهــا ،وعالقتــه هــذه الرابطــة :روايــة "األب" لـ"يــورج أكلــن" ،ورواية "األب"
مثاليــة مــع طفليــه "خالــد" و"عمــر"؛ فــإذا انشــغلت زوجتــه لـ"دانيــال ســتيل" ،وروايــة "األب الخالــد" لـ"بلـزاك" ،وروايــة
ـر طفليــه للمدرســة ،ويج ِّهــز حقائــبأو كانــت ُمت َعبــة ،يحـ ِّ "أيــن نذهــب يــا بابــا؟" لـ"جــون لــوي فورنييــه" ،وروايــة
* كاتب أردين
mosa2x@yahoo.com
100
هيا صالح
أنــه كان قــدوة ألطفالــه يف تقديــر ظــروف أمهــم ،واملبــادرة الطعــام لهــا ،ويوصلهــا إىل املدرســة ،ويعيدهــا ،وإذا
رصفاتهــا ،بتف ُّهــم
بتخفيــف األعبــاء عنهــا ،وتح ُّمــل تقلّباتهــا وت ُّ عــادا إىل البيــت برفقــة أمهــا يــرع بعناقهــا وتقبيلهــا،
ورحابــة صــدر. ويســاعدهام يف دراســتهام ،ويــرف عــى عشــائهام قبــل
أ ّمــا والــد "ســامية" ،فهــو معلــم للغــة العربيــة ،فلســطيني ذهابهــا إىل النــوم .ويــوم مــات جدهــا انتحــا ًرا طلــب مــن
األصــل ،يعمــل يف املوصــل .اضط ـ ّر للعــودة إىل عـ ّـان بعــد زوجتــه أن تبقــى معهــا يف البيــت وال تخربهــا بــيء.
ســقوط بغــداد عــام ،2003وبعــد ســنوات ،تدهــورت صحته وعندمــا مــات كلبهــا ،شــاركهام الحــزن عليــه ،واصطحبهــا
بفعــل مــرض الســكري ،ومــا لبــث أن تــويف ،ولحقتــه زوجتــه لــراء كلــب جديــد مــن النــوع نفســه ،وعندمــا ســألته
بعــد فــرة قصــرة. "ســامية" عــن ذلــك ،وأنــه ســيذكِّرهام دامئًــا بكلبهام الســابق،
مــا اضط ّرهــا لتح ُّمــل كانــت "ســامية" وحيــدة والديهــاّ ، أجابهــا" :ال بــأس مــن تذكُّــره ،لقــد جمعتهــا معــه ذكريــات
املســؤولية ،وتقديــر الظــروف ،تقــول" :فــرض شــعوري جميلــة ،وال بــأس لــو اســتعاداها مــع كلبهــا الجديــد ..نــوع
ي أن أكــون عــى قــدر تطلعــات أمــي وأيب، بالنقــص عــ ّ مــن االســتمرار عــر الذكريــات ،كــا أ َّن هــذا ســيجعلهام
ألنــه مــا مــن أحــد ميكنهــا أن يودعــا فيــه أحالمهــا ينظ ـران ملــوت الكلــب الســابق عــى أنــه أمــر ال بــد مــن
غــري"(ص ،)32وكانــت تحظــى بعنايــة مبالــغ فيهــا مــن تق ُّبلــه("..ص.)98
والدهــا ،ولكــن ذلــك مل مينــع مــن متتعهــا بشــخصية مســتقلة فــاألب "صــاح" يشــارك العنايــة بطفليــه وتربيتهــا
وهادئــة ،قــادرة عــى التكيــف برسعــة ،واالعتــاد عــى وتدريســهام ،ويشــاطرهام أحزانهــا ،ويحــرص أن ال يتأثــرا
الــذات .وتقديـ ًرا لتعلقهــا بالتصويــر أهداهــا والدهــا كامـرا مبــوت الجــد خاصــة وأنــه مــات انتحــا ًرا ومــا يســتتبع ذلــك
حديثــة مــع دخولهــا عامهــا الثــاين عــر ،مـ ّـا ســاعدها عــى مــن تســاؤالت يصعــب اإلجابــة عنهــا بســهولة ،كــا أنــه
تنميــة هوايتهــا ،وأخــذت تص ـ ِّور كل مــا يســرعي انتباههــا، اشــرى لهــا كل ًبــا مــن نــوع كلبهــا الــذي مــات ،وبـ َّرر ذلــك
حتــى اتخذتــه حرفــة لهــا بعــد تخ ُّرجهــا يف الجامعــة. بــرأي منطقــي جميــل ال يخلــو مــن فلســفة لطيفــة .واألهــم
أفكار /دراسات ومقاالت 101
منزليــة ،تقــول "ســامية"" :أثــارت كتــب والــده فضــويل، وبســبب حبهــا ألبيهــا ،وعــى الرغــم مــن حبهــا لـ"ســامل"
فهــي تختلــف عــن كتــب والــدي التــي تــدور حــول الديــن ووعدهــا لــه ،إال أنهــا وافقــت عــى شــاب مــن أقربــاء
وقواعــد اللغــة .كنــت أتصفحهــا كأنهــا كنــز؛ طبعــات والدهــا ،فأمــام "ســامل" ســنوات طويلــة ليقــدم عــى الــزواج،
قدميــة ،أوراقهــا صفــراء ،وأغلفتهــا مهرتئــة بفعــل الزمــن، وكل ذلــك مرهــون مبوافقــة أرستــه التــي تظــن "ســامية"
وموضوعاتهــا تتنـ ّوع بــن األدب والفكــر والفلســفة"(ص،)38 أنهــا لــن تحــدث ،ولــذا اتخــذت قرارهــا ح ًبــا بوالدهــا:
ذهــب للقتــال يف حــرب الخليــج األوىل ،ومل ي ُعــد ،وال يــدري "شــعرتُ بحاجــة والــدي لرؤيتــي بثــوب الزفــاف األبيــض
أحــد مصــره ،تطمئنــه "ســامية" أنــه ســيعود بدليــل أنهــم مل رح مـ َّرة بذلــك ،لكننــي كنــت قبــل أن يغــادر الحيــاة ،مل يـ ِّ
يجــدوا جثتــه بعــد. قــادرة عــى قـراءة إشــاراته وفهمهــا ،كــا وجــدت أ َّن هــذه
غيــاب والــد "عــار" ،ح َّمله مســؤولية كبــرة ،تقول "ســامية": تحســن مــن الوضــع النفــي لوالــديت"(ص،)63 الخطــوة قــد ِّ
"تلقــى معاملــة خاصــة مــن أمــه بوصفــه (ســيد البيــت) ...ال وتــ ِّرر ذلــك لـ"ســامل"" :األمــر خــارج عــن إراديت ..أريــد
بــد أن شــعور عــار باملســؤولية صقــل شــخصيته عــى نحــو اســتعادة بعــض الفــرح الــذي هجــر بيتنــا منــذ مــرض أيب.
مبالــغ فيــه"(ص .)41وكان يتــأمل لفقــد والــده ،ويتوهــم أو أريــد تحقيــق رغبتــه"(ص .)64كــا أنهــا قــررت تأجيــل
يتخيــل أحيانًــا أنــه ي ـراه؛ ذات لقــاء مــع "ســامية" ،يخربهــا دراســتها الجامعيــة ،ولكــن املــوت مل ميهــل أباهــا ،فقــررت
أنــه رأى والــده حقيقــة وليــس حلـ ًـا" :رأيتــه حقيقة ،ملســت فســخ الخطوبــة والعــودة إىل الجامعــة.
يــده ،كانــت دافئــة ،مل نتحــدث كثـ ًرا ،لكنــه أعطــاين مفتا ًحــا أث َّــرت وفــاة أبيهــا وأمهــا كثــ ًرا عليهــا ،تقــول" :رحيــل أيب
صغـ ًرا وقــال يل إنــه مفتــاح خزانتــه يف الكتيبــة التــي التحــق ولحــاق أمــي بــه ش ـكّال منعط ًفــا حــا ًدا يف حيــايت ،أصبحــت
ـت بزميــل بهــا ،وطلــب منــي أن أجلــب أغراضــه منهــا ..اتصلـ ُ وحيــدة متا ًمــا ،غــر أين مل أشــعر بالوحــدة بقــدر مــا
لــه ليحصــل يل عــى ترصيــح لزيــارة الكتيبــة والوصــول إىل شــعرت بالعجــز والقهــر"(ص .)72وتص ـ ِّور شــعورها بالفقــد
ي أن أنتظــر إىل أن تهــدأ األمــور، خزانــة أيب ،لكنــه قــال إن عـ ّ والخســارة" :أفكــر يف أمــي وأيب كثـ ًرا ،أشــعر كل مــرة كــا لو
فاألوضــاع مل تســتقر بعــد"(ص .)47تُعلِّــق "ســامية" عــى أنهــا تــركاين خــارج البيــت وأغلقــا البــاب عليهــا محتفظــن
مــا ســمعت" :مل أص ـ ِّدق كلمــة مـ ّـا قالــه ،لكنــي مل أشــأ أن بجــزء منــي ال أســتطيع االســتغناء عنــه"(ص .)94وكث ـ ًرا مــا
أجرحــه أو أحرجــه؛ ال ميكننــي أن أفعــل هــذا مــع شــخص تســتذكر والديهــا بــأمل وشــعور بالضيــاع والعجــز" :أشــعر
يعــاين أمل الفقــد"(ص.)47 كــا لــو أننــي محبوســة يف قفــص املــايض وال أســتطيع
ويف عــان ،يخــرج عــار مــع ســامية ،ويغيــب فــوق جــر الخــروج منــه ،رمبــا بــدأ حبــي عندمــا وقــع ذلــك الخطــأ
غريــب ،ثــم يعــود ،ويخربهــا أنــه قابــل والــده ،وأعطــاه ـدي وقــى عــى حلمهــا بعــدد الــذي غـ َّـر مســار حيــاة والـ ّ
الحقيبــة التــي طلبهــا مــن خزانتــه ،تســأله ســامية عــن مــن األطفــالُ ..حبســت هنــاك ،ورغــم األبــواب املرشعــة
الجــر الغريــب املخيــف الــذي رأتــه ،فيخربهــا« :إنــه املكان أمامــي مل أجــرؤ عــى الخــروج"(ص.)93
الــذي ميكنــك اللقــاء بالراحلــن عــره ..إنهــم ال ميوتــون ح ًقــا،
بــل يعــرون الجــر فقــط»(ص.)175 األب الغائب
األب الغائــب منــذ الطفولــة ،يبقــى مــاكًا يف نظــر طفلــه، وميثلــه يف الروايــة والــد "عــار" ،جــار "ســامية" يف املوصــل،
نســا يالزمــه ،ولــذا ليــس حلــا يعــاوده ،وأُ ً
طيفًــا نورانيًــاً ، وفتــى أحالمهــا وحــب حياتهــا ،كان مثق ًفــا ،وميتلــك مكتبــة
102
األب الفاسد
تبــن
وميثلــه يف الروايــة والــد "صــاح" (زيــاد طاهــر) ،ومل ِّ غري ًبــا أن يتوهــم عــار أنــه رآه وحدثــه ونفــذ أوامــره،
الروايــة طبيعــة تعامــل األب مــع ابنــه عندمــا كان طفـ ًـا، فالحنــن الجــارف ،والحرمــان الحــارق قــادر عــى إحضــار
ولكنهــا أبانــت عــن رفــض االبــن ألبيــه وعــدم التعامــل معــه الغائبــن ،ولقــاء املــوىت.
أو العمــل معــه إال يف الحــدود الدنيــا التــي تفرضهــا حقوقــه
كأب؛ وذلــك بســبب فســاد األب يف عملــه. األب املتسلِّط
بنــى والــد "صــاح" نفســه مــن الصفــر حتــى أصبــح صاحــب وهــو يف الروايــة والــد "نرمــن" صديقــة "ســامية" يف
رشكــة مقــاوالت كبــرة ،لكنــه لجــأ إىل أســاليب قــذرة ليحقق ـب "ســامية" ،وأخــذ املدرســة ووالــد أخيهــا "ســامل" الــذي أحـ َّ
مــا يريــد؛ يحـ ِّدث "صــاح" زوجتــه "ســامية"" :هــل تعلمــن، منهــا عهــ ًدا أن تنتظــره للــزواج ،لكنهــا خذلتــه ،فانتكــس
ال أراه عصام ًيــا كــا يــر ّدد اآلخــرون ،إنــه جشــع واســتغاليل، وتدهــورت صحتــه النفســ ّية.
وكل مــا تعلمــه يف الحيــاة هــو كيــف تــؤكل الكتف ..أســاليبه كان والــد "ســامل" سياس ـيًّا معارضً ــا ،ومتســلطًا عــى أوالده،
كنــت يف اإلعداديــة وقتهــا، ُ كلهــا وســخة ...لقــد ســمعته، تقــول ســامية" :والــده جـ ّراح مرمــوق ومعــارض ســيايس ،وما
يتفــق مــع أحدهــم ليدمــر املقــاول الــذي أكرمــه وجعلــه زالــت صــورة (جيفــارا) املعلقــة بحجــم جداريّــة عنــد مدخل
رئيســا عــى عـ ّـال البنــاء .اتفقــا عــى أن يغشّ ــا يف كميــات
ً بيتهــم حــارضة يف ذهنــي .كان يفــرض عــى العائلــة نظا ًمــا
املخصصــة لبنــاء مــروع كبــر ألحــد َّ اإلســمنت والحديــد صار ًمــا يف األكل والنــوم والخــروج مــن البيــت والعــودة إليــه.
البنــوك ،وبعــد أن نفّــذا مخططهــا وشــيا باملقــاول لــدى قــال ســامل م ـ ّرة يل إنــه يشــعر أننــي أكــر حريــة منــه رغــم
إدارة البنــك ،وكشــف التقريــر الهنــديس أ َّن هنــاك تالع ًبــا كــوين فتــاة ،وإ َّن ســلطة والــده تحرمــه مــن الحيــاة التــي
يف مواصفــات البنــاء .ح ّملــوا املســؤولية للمقــاول املســكني، يعيشــها أصدقــاؤه"(ص.)54
وكتبــت عنــه الصحــف ،وانتهــى بــه األمــر إىل اإلفــاس، وتــ ِّرر "ســامية" عــدم انتظارهــا لـ"ســامل" ،بأنــه ال ميلــك
ميــر مــن البنــك نفســه ثــم حصــل والــدي عــى قــرض َّ أمــر نفســه ،وأ َّن والــده لــن يوافــق ،وكذلــك أرستــه .وال
إلمتــام البنــاء نفســه وفــق املواصفــات املطلوبــة"(ص،)116 تذكــر "ســامية" أســباب الرفــض .وحدثــت قطيعــة بــن
ويخربهــا أنــه صارحــه بذلــك ،بعــد شــجار بينهــا ،وأكــد "ســامية" و"نرمــن" و"ســامل" ،وفوجئــت "ســامية" الح ًقــا أ َّن
لــه أ ْن لــن يعمــل معــه ولــو بقــي بــا عمــل طــوال حياتــه. والــد "ســامل" املعــارض ُعـ ّـن ســف ًريا يف دولــة آســيوية ،وملّــا
كــا أنــه يقــوم بصفقــات مشــبوهة وعطــاءات غــر قانونيــة، "ربــا تغـ َّـر..
اســتغربت ذلــك تقــول لهــا زميلتهــا "نهــى"ّ :
وحــاول أن يســتقطب "ســامية" للعمــل معــه مــن أجــل يتغــرون"(ص.)107 َّ الجميــع
دخــول املعــرك الســيايس ،إال أنهــا مل تقبــل ،ومــا لبــث أن والــد "ســامل" ،منــوذج لــأب املتســلط واملتعنــت الــذي
مــات فجــأة منتح ـ ًرا بالرصــاص. مــا
يتحكــم يف حيــاة أوالده بحســب قوانينــه وقواعــدهّ ،
تصفــه "ســامية" بقولهــا" :مل أرتــح يو ًمــا للتواصــل معــه، يــؤ ّدي إىل ضعــف شــخص ّياتهم وضياعهــم ،والــذي ينتهــج
ونفــرت مــن طريقته يف العيــش ،فهو رغم وضعــه االقتصادي املعارضــة كوســيلة لبلــوغ مآربــه ،وهــو منــوذج ســيئ لــأب
تحســن برسعــة الضــوء ،مل يتمكــن مــن تطويــر نفســه، الــذي َّ الــذي يســعى لتحقيــق ذاتــه ويطمــس ذوات َمــن حولــه
يــرخ بألفــاظ نابيــة ،ويرمــي الــكالم الجــارح دون مراعــاة ولــو كانــوا أوالده.
لشــعور اآلخريــن ،ويبيــح لنفســه أحيانًــا التدخــل يف شــؤوننا
أفكار /إبداع 103
يف دواخلــه ،وكيــف اســتطاع أن يتك ّيــف بــن أب حرمــه الخاصــة ..يلقــي عــى مســمع صــاح كلّــا التقينــا تلميحــات
حقــه باألبــوة الدافئــة ،وأب ّوتــه تجــاه أطفالــه التــي ات ّســمت حريصــا
ً جارحــة( :هــذا الــرزق لــك بعــد مــويت ،لكنــك لســت
بالحنــان والحــب ونظافــة اليــد. عليــه)"(ص.)100
*** صفــات هــذا األب وأخالق ّياتــه وتعامالتــه الفاســدة ،كان لهــا
مت َّيــزت روايــة "جــر بضفــة وحيــدة" ،بالعمــق والتنــ ُّوع، وقــع ســيئ عــى ابنــه ،تقــول "ســامية"" :أشــعر بالتعاطــف
وتعــ ُّدد مســتويات القــراءة ،وطــرح أســئلة عاصفــة حــول مــع صــاح ،ال بــد أنــه عــاىن مــن هــذا األمــر كث ـ ًرا ،ليــس
املــوت والحيــاة واملاورائيــات والطاقــة واملوســيقى واألب ـ ّوة ـهل أن يفقــد اإلنســان معنــى القــدوة التــي ميثلهــا والــده، سـ ً
والحــب والفــن والخيــال والتغــر وقــوة اإليحــاء وقــراءة هــذا يشــبه أن يض ِّيــع البحــار بوصلتــه"(ص ،)116ولذلــك
األفــكار والذكريــات وغريهــا مــن األســئلة واملوضوعــات طلــب منهــا "صــاح" أن ال تتعامــل معــه ،وعدتــه ،لكنهــا
الشــائكة ،وكل ذلــك حــول الشــخصية الرئيســة "ســامية" ســاعدته مــرة للحصــول عــى صفقــة فأهداهــا اســتديو
والشــخصيات التــي ارتبطــت بهــا ،أو كانــت لهــا عالقــات مج َّه ـ ًزا.
معهــا. قبــل انتحــاره بفــرة قصــرة ،رغــب بالــزواج مــن ســكرتريته
والروايــة الصــادرة عــن دار "اآلن نــارشون وموزعــون" التــي تصغــره كثــ ًرا ،فشــعر "صــاح" بــاألمل ،خاصــة وأنــه
وبدعــم مــن وزارة الثقافــة يف عــام ،2021تقــع يف 198 ـتـت لــه خطوتــه ،وغالبـ ُ فقــد األم ،يقــول لـ"ســامية"" :باركـ ُ
صفحــة ،وتُعــ ُّد إضافــة مميــزة للروائيــة والناقــدة وكاتبــة نفــي يك أظهــر فرحــة زائفــة! تعلمــن كيــف هــو ذلــك
الســيناريو هيــا صالــح ،التــي صــدر لهــا يف النقــد" :رسد اإلحســاس"(ص .)99وبعــد انتحــاره تتكشــف فضائحــه ،فقــد
الحيــاة" ،"2010 ،املرجــع وظاللــه" ،"2010 ،الخــروج مــن كان يعتــدي جنســ ًيا عــى ســكرتريته الجديــدة ،واضطــر
الــذات" ،"2012 ،أبــواب للذاكــرة" ،"2013 ،املســافة صفــر، لخطبــة "ســمية" ألنهــا حامــل بطفلــه.
."2014باإلضافــة إىل حــوايل ســت عــرة قصــة لألطفــال. تخـ ّـى "صــاح" عــن إرث والــده وتــرك إدارة رشكتــه ألختــه
ونالــت مجموعــة مــن الجوائــز منهــا :جائــزة ناجــي نعــان الكــرى التــي كانــت تعمــل مــع والدهــا ،تقــول "ســامية":
األدبيــة ،2013وجائــزة النــص املرسحــي املو َّجــه للطفــل مــن "أراد أن ينــأى بنــا عــن أمــوال والــده ،وواصــل عملــه املعتــاد
الهيئــة العربيــة للمــرح ،2013وجائــزة أفضــل كتــاب عــريب ومل يتغــر يشء يف إيقــاع حياتنــا"(ص.)137
للطفــل /معــرض الشــارقة الــدويل للكتــاب ،2013وجائــزة إ َّن هكــذا أب يشــعر ابنــه بالعــار والخــذالن ،وأنــه حمــل
نارصالديــن األســد للدراســات النقديــة ،2016وجائــزة الدولة ثقيــل ،وقربــه مشــكلة ،والعالقــة معــه مخزيــة ومعيبــة
األردنيــة التشــجيعية يف حقــل اآلداب ،2017وجائــزة كتــارا بحقــه ،ولكــن "صــاح" حافــظ عــى خيــط معاويــة مــع
للروايــة العربيــة 2018عــن روايــة "لــون آخــر للغــروب"، والــده ،وتح ّمــل مســؤولية إج ـراءات الدفــن وتقبــل الع ـزاء
وحصلــت روايتهــا "شــقائق النعــان" عــى جائــزة كتــاب فقــد كان بــا ًرا بوالــده الــذي عقّــه وجرحــه كثــ ًرا.
العــام لليافعــن ،ضمــن جوائــز "اتصــاالت" التــي ينظمهــا إنــه منــوذج فاســد لألبـ ّوة بــكل فجاجــة ،ففــي العــادة ،يُظهر
املجلــس اإلمــارايت لكتــب اليافعــن .2020وهــي ناشــطة األب أحســن مــا لديــه أمــام أوالده ،ويخفــي عيوبــه ،ويســر
ثقافيــة وعضــو لجــان تحكيــم وهيئــات ثقافيــة مختلفــة. نقائصــه ،وال يطلــع أوالده عــى فســاد أعاملــه ،إال أ َّن والــد
"صــاح" كان يتب ّجــح بذلــك ويفتخــر ،ولنــا أن نتصــور أي
معانــاة كان يعيشــها "صــاح" ،وأي رصاعــات كانــت تعتمــل
104
إ َّن القــاص عـ ّـار الجنيــدي يف مجموعتــه القصصيــة "مســكوت عنهــم" ال يــرد األحــداث حســب ،ولكــن يجعــل
وتأمــا ،يف أســبابها املوضوعيــة والذّاتيــة ..بــل تتحــول القــراءة إىل انشــغال ً القــارئ يســتنطقها ،ويغــوص بحثًــا
ـرد األردين ،تتطلّــب فلســفي ،واجتامعــي ،وســيايس ..أساســه صيــغ أدب ّيــة قصص ّيــة ،ت ُشــعر مبوهبــة متم ّيــزة يف الـ ّ
وبخاصــة فيــا يتعلــق بالســميوتيقا ال ّنصيــة ،وأنظمــة ال ّدالئــل التــي ال تســتبعد اإليحــاء ودواعــي
ّ البحــث وال ّدراســة،
التّخييــل والتأ ُّمــل .ومــن جانــب آخــر فــإ َّن الالفــت يف اختيــار وتحديــد العنــوان عنــد القــاص عـ ّـار الجنيــدي ،أ َّن
العنــوان يــأيت بشــحنة مــن اإليحــاء متعـ ّددة األبعــاد والجوانــب ،تحمــل عــى التســاؤل والفضــول املعــريف ،فضـ ًـا عــن
التأثــر والتأويــل.
معــن تتقاطــع وتتنــايف نــي ففــي فضــاء نــص َّ وتداخــل ّ فالقــاص الجنيــدي وظّــف ّ
الســخرية يف أكــر مــن نــص ،إميانًا
ملفوظــات عديــدة مقتطعــة مــن نصــوص أخــرى"( ،)6أو أي كالم جــاد ،وهــو للســخرية دو ًرا تأثرييًّــا أكــر مــن ّ
منــه أ َّن ّ
"هــو ذلــك التّقاطــع داخــل التعبــر مأخــوذ مــن نصــوص مــا نلمســه يف نــص "أوغــاد":
الســبق أخــرى"( ،)7وقــد كانــت "جوليــا كريســتيفا" صاحبــة ّ ـب مديـ َر املدرســة ،كــم يؤثــر ّيف إحساســه املرهــف؛ "كــم أحـ ُّ
العلمــي يف تحديــده كمصطلــح .أ ّمــا كمفهــوم ،فهــو قديــم لقــد أشــاح بوجهــه عــن املناظــر املر ّوعــة التــي دأبــت عــى
ّــراث العــريب بأســاء مختلفــة :االقتبــاس، نجــده يف ال ّ بثّهــا شاشــات التلفــزة العرب ّيــة منــذ أكــر مــن أســبوعني.
التضمــن ،والرسقــات األدبيــة ،واإلشــارة ،والتلميــح(.)8 صــور ومشــاهد مط ّولــة تــكاد ال تنتهــي عــن املذابــح
عــار الجنيــدي التنــاص يف نــص وقــد وظّــف القــاص ّ واملجــازر؛ ترتكبهــا أمــركا وإرسائيــل بشــكل مســتمر بحــق
"الشّ ــاعر يدفــع الثمــن"؛ قصــة بطلهــا الشّ ــاعر اإلغريقــي الشــعوب العربيــة يف العــراق وفلســطني ولبنــان.
"ســوفوخليس"( ،)9ح ًقــا أ َّن التنــاص مل يكــن متطاب ًقــا ،وإنّ ــا مل تكــن عنــده القــدرة عــى التّحديــق بأكــوام اللّحــم
وبخاصــة يف وفــاة "ســوفوخليس"، ّ رف أو جــزيئ، كان بتــ ُّ كل مــكان مختلطــة برتاب املهروســة وال ّدمــاء التــي تســيح يف ّ
فالقصــة ترســم حالــة املثقــف ،ومــا يعانيــه مــن وســطه األرصفــة وبقايــا املنــازل امله ّدمــة فــوق رؤوس أصحابهــا:
الثقــايف .فـ"ســوفوخليس" كان شــاع ًرا مــن طبقــة العــوام، ـ ال حول وال قوة إال بالله.
رومنس ـ ًّيا ،كثــر الوصــف ،مــا جعــل بنــات الطبقــة العليــا شــاهدتُ ُه مــ ّرة وهــو يبــي الدمــوع الحارقــة عندمــا وقّــع
يتنافســن لــي يحظــن ببعــض شــعره يف وصفه ـ ّن والتغ ـ ُّزل ـب ويلعــن الســام مــع إرسائيــل ،فأخــذ يسـ ّ العــرب صكــوك َّ
ـيء الــذي أثــار غــرة شــعراء آخريــن مــن به ـ ّن ..وهــو الـ ّ رداءة الزمــن الــذي أجــر العــرب عــى القبــول بــروط
وبخاصــة مــا نالــه مــن حظــوة عنــد اإلمرباطــور.. ّ ال ّنبــاء، اآلخــر".
فاســتكرثوا عليــه الشّ ــعر ،الــذي كان َحكــ ًرا عــى طبقــة أمــام هــذا التأثــر واالنفعــال ،لرؤيــة الدمــاء املســفوحة
األرشاف وال ّنبــاء ،فرغــم متيّــزه وف ّنيــة شــعره ومكانتــه.. والجثــث املهروســة ،تنتهــي القصــة مبــا يخــرق أفــق انتظــار
لحقــه األذى مــن منافســيه فدبّــروا مؤامــرة قتلــه. القــارئ ،بســخرية الذعــة تكشــف الوعــي الزائــف:
ولقــد اســتعان القــاص بأســاء أشــخاص وأمكنــة ليحــ ّدد "دخل إىل غرفته .رفع سامعة الهاتف:
معــامل التنــاص ،فالشــخصيات( :ســوفوخليس ،الرومــان، ـ مرح ًبا يا أم جابر.
ليليانــا ،اإلمرباطــور الرومــاين هدريــان) ،أ ّمــا األماكــن: أهل ،صوتك حزين ومرتبك. ـ ً
(ديكابوليــس ،شــارع األعمــدة ،معبــد أوتيليــوس ،عجلــون، ـ نعــم يــا أم جابــر ،فاملناظــر البشــعة التــي شــاهدتها قبــل
ديــر إليــوس ،عبلــن ،املــرح الشــايل). قليــل قــد ح ّركــت يف نفــي االشــمئزاز والقــرف ،لقــد قـ ّر َرت
اإلرضاب عــن أكل اللحــم.
ـ الوصف ()DESCRIPTION ـ وماذا تريد أن تأكل إذن.
القصــة
الوصــف ،أو مــا يعــرف نقديًّــا بالخطــاب اإلنشــايئ يف ّ ـ هل يوجد لدينا سمك!".
القصــرة ،ويف عمليــة الحــي عمو ًمــا لــه أهميــة بالغــة
يف نســج الحــدث وتركيبــه وإظهــاره وفهمــه وإيصالــه، ـ التناص ()Intertextuality
واســتيعابه يف نســق ف ّنــي يضفــي عــى ال ّنــص واقعيّــة مــن التنــاص :مامرســة نصيــة عرفــت يف ال ـ ّدرس اللّســاين .ع ّرفتــه
التخييــل املمكــن واملمتــع. الناقــدة "جوليــا كريســتيفا" بقولهــا" :إنــه ترحــال لل ّنصــوص
108
بــن راغــب ورافــض ،كــا نالــت حظًــا واف ـ ًرا مــن ال ّنقــاش -وصـ�ف املظهـ�ر الخارجـ�ي للشّ ـ�خصية( (�the prosogra
وال ّدراســة يف علــم االجتــاع اللّغــوي ،وكان دامئًــا اإلشــكال )phy
القصــة القصــرة وال ّروايــة ..ومل ينتــه الجــدل
هــو الحــوار يف ّ مــن نــص "كذبــة" نقــرأ" :بقامتــه املديــدة وجســمه ال ّنحيــل
إىل حـ ّـل ،وت ُـرِك األمـ ُر ملــدى ِحكمــة امل ُبــدع وذكائــه ،وتقنيتــه الخشــن وشــاغه األحمــر املتهــرئ؛ وقــف أمــام القلعــة
لعــار
يف الكتابــة .ففــي مجموعــة (املســكوت عنهــم) ّ ـت بزهــوه وهــو يشــمخ برأســه إىل كالطــود الشــامخ .أحسسـ ُ
الجنيــدي ،يــأىب القــاص إال أن يوظِّــف الثنائيّــة اللغويّــة يف األعــى صــوب الــرج املتهـ ِّدم مــن ق ّمتــه .تن ّهــد وزفــر مــا يف
بخاصــة ،فتــارة يــأيت الحــوار بالعربيــة الفصحــى الحــوار ّ صــدره مــن همــوم ،وابتســامة خفيفــة تشــق طريقهــا إىل
وتــارة بلهجــة عاميــة ،وتــارة أخــرى ي ـزاوج بينهــا ..ولكــن شــفتيه الجافتــن".
تبقــى ال ّنصــوص التــي اعتمــدت العربيــة الفصحــى يف ومثــال آخــر عــى وصــف املظهــر الخارجــي للشــخصية
الحــوار ُمهيمنــة عــى باقــي ال ّنصــوص يف املجموعــة :خمســة نجــده يف قصــة "الديــك"" :أتــاح لــه وجودهــا معــه يف
نصــا .بينــا ال ّنصــوص التــي جــاء حوارهــا باللّهجــة وعــرون ً املصعــد أن يتأ ّملهــا عــى اســتحياء مشــوب باالرتبــاك:
العاميــة :خمســة .ومثلهــا ال ّنصــوص التــي زاوج القــاص ركبتــان بيضــاوان تنحــر عنهــا تنــورة زهريــة اللــون
الحــوار بــن الفصحــى واللّهجــة األردنيــة. مرشوخــة عــى الجانــب األميــن ،مــن نفــس لــون القميــص
املنفــوخ مــن منطقــة الصــدر كحبتــي رمــان جرشـيّتني .لَمــح
الصيغ ()Plimodality -تعدُّ د ّ نظــرات ال َولَــ ِه واإلعجــاب بشــخص ّيته حــ ّد التهــ ّور".
قصــص املجموعــة ،أو أي مجموعــة قصصيــة ال ينبغــي أن
تكتــب نصوصهــا وفــق نســق موحــد ،بــل يف الغالــب ينبغــي -وصف املكان ()topography
الصيــغ وأســاليب الكتابــة .يقــول "جــرار جنيــت" تعــ ُّدد ّ مــن نــص " كذبــة" نجــد مــا يــي" :مل أحــر إىل هنــا منــذ
الصيغــة ،هــي" :اســم يطلــق عــى أشــكال يخــص ّ
ّ فيــا أربعــن عا ًمــا ،كل يشء هنــا قــد تغـ ّـر .كل يشء هنــا يبــدو
الفعــل املختلفــة التــي تســتعمل لتأكيــد األمــر املقصــود، مختلفًــا ،كأين بالقلعــة حجمهــا يتناقــص ،كأين بهــا تغــوص
وللتّعبــر عــن وجهــات ال ّنظــر املختلفــة التــي ينظــر منهــا يف الجبــل" .و"كان لهــذه القلعــة تاريــخ عظيــم .لقــد عــاش
إىل الوجــود أو العمــل"( ،)10أل ّن الفكــرة يف حـ ّد ذاتهــا ،تفــرض فيهــا عـرات الشــعراء أيــام حكــم املامليــك ،وأبشــع املذابح
طريقــة أدائهــا وإيصالهــا ..وهــذا مــا نلمســه يف نصــوص يف التاريــخ ارت ُكبــت هنــا بــن جــدران هــذه القلعــة".
مجموعــة "مســكوت عنهــم" .فقــد ن ـ ّوع وع ـ ّدد القــاص يف
صيغــه القصصيــة: -الثنائ ّية اللغويّة ()L’inguistic duality
أعتقــد أ َّن الجمــع بــن لغتــن يف نــص إبداعــي رسدي ،حتّــى
.1صيغــة الخطــاب املــرود :هــو خطــاب يرســله املتكلــم وإن كانــت اللّغــة الثّانيــة مج ـ ّرد لهجــة )dialict( ،أو نطــق
رشا أي (شــخص ّية) أو إىل املــرويإىل املتلقــي ســواء كـــان مبــا ً دارج عا ّمــي محـ ّـي ،يخلــق مشــاكل يف الفهــم واالســتيعاب
لــه يف الخطــاب القصــي كالــذي نجــده يف قصــة "أوغــاد" لــدى املتلقــي اآلخــر مــن خــارج دائــرة القطــر الواحــد ،بــل
ـب مديـ َر املدرســة ،كــم يؤثــر ّيف إحساســه املرهــف؛(كــم أحـ ُّ أحيانًــا داخــل القطــر الواحــد إذا كانــت اللّهجــة أو بعــض
لقــد أشــاح بوجهــه عــن املناظــر املر ّوعــة التــي دأبــت عــى مفرداتهــا محل ّيــة ج ـ ًدا ،وغــر رائجــة.
بثّهــا شاشــات التلفــزة العربيــة منــذ أكــر مــن أســبوعني.)... وهــذه مســألة أخــذت مســاحة كبــرة يف الجــدل ال ّنقــدي
أفكار /إبداع 109
عــار الجنيــدي يف مجموعتــه القصصيــة إ َّن القــاص ّ .2صيغــة املــرود الــذايت :ويتمثــل يف الخطــاب الــذي
"مســكوت عنهــم" ال يــرد األحــداث حســب ،ولكــن يجعــل يتكلــم عنــه املتكلــم عــن ذاتــه ،أو عــن أشــياء حصلــت لــه
وتأمــا ،يف أســبابها
ً القــارئ يســتنطقها ،ويغــوص بحثًــا يف املــايض .كالــذي نجــده يف قصــة " الكذبــة"( :مل أحــر إىل
املوضوعيــة والذّاتيــة ..بــل تتحــول القــراءة إىل انشــغال كل يشء كل يشء هنــا قــد تغـ ّـرّ .
هنــا منــذ أربعــن عا ًمــاّ ،
فلســفي ،واجتامعــي ،وســيايس ..أساســه صيــغ أدب ّيــة كأن بهــا
كأن بالقلعــة حجمهــا يتناقــصّ ، هنــا يبــدو مختل ًفــاّ ،
ـرد األردين ،تتطلّــب
قصصيّــة ،ت ُشــعر مبوهبــة متميّــزة يف الـ ّ تغــوص يف الجبــل).
وبخاصــة فيــا يتعلــق بالســميوتيقا ّ البحــث وال ّدراســة،
ال ّنصيــة ،وأنظمــة ال ّدالئــل التــي ال تســتبعد اإليحــاء ودواعــي .3صيغــة املنقــول املبــارش :ويتمثــل يف نقــل معــروض
التّخييــل والتأ ُّمــل. مبــارش ،مــن طــرف املتكلــم ،وهــذا املتكلــم ليــس باملتكلــم
األصــي ،وينقــل الــكالم كــا هــو دون تغيــر كالــذي نجــده
يف قصــة" ،هرولــة"( :يف ركــن منــز ٍو مــن القاعــة الكبــرة،
جلســت بهــدوء متحفــز ،جــال برصهــا يف أرجــاء القاعــة،
كأنّ ــا لتتأكــد أنّهــا األنثــى الوحيــدة يف هــذا املــكان .ومل ّــا
رب إليهــا ضيــق تأكــدت ،خالجهــا شــعور بال ّرهبــة وتــ ّ
خاصــة وهــي تــرى الحارضيــن ينهبونهــا بنظراتهــم). مقيــتّ ،
الهوامش:
.4صيغــة املنقــول غــر املبــارش :وهــو مثــل الخطــاب
.1القبس (حوار أجراه مؤيد أبو صبيح مع القاص) املنقــول املبــارش ،لكــن هنــاك فــرق حيــث إ َّن املتكلــم
https://alqabas.com/article/246783
.2من الحوار نفسه. الناقــل للــكالم ال يحتفــظ بالــكالم األصــي ،فيقــوم بنقلــه
.3علوش سعيد ،معجم املصطلحات األدبية ،ط ،1دار الكتاب اللبناين ،بريوت،
لبنان ،1988 ،ص.155
عــى طريقتــه أي بشــكل خطــاب املــرود ..كالــذي نجــده
.4انظر :الوعي ــ https://ar.wikipedia.org/wiki يف قصــة "أبــو عقيــل يحــرث األرض"( :تلعثــم عقيــل مــدركًا
.5الجاحظ يف "البخالء" ،وأبوالعتاهية ،والحطيئة ،ومقامات بديع الزمان الهمذاين،
محمد املاغوط ،وجالل عامر ،ومحمود السعدين ،وأحمد مطر ،وأحمد فؤاد نجم، أ َّن ســنوات عمــره التســعة لــن تقنــع أبــاه مبــا ســيربر تأخــره
واألديب الفلسطيني إميل حبيبي ،وأحمد رجب ،وأحمد بهجت ،وهاشم السبع، يف الســهر إىل مــا بعــد منتصــف الليــل ،وبتلقائيــة األطفــال
وفخري قعوار ،ولطفي ملحس ،ومحمد طملية وموليري وتشيكوف وبرنارد شو
وغوغول... التــف عــى ســؤال عندمــا تحارصهــم األســئلة املحرجــةّ :
.6جوليا كريستيفا ،علم النص ،ترجمة فريد الزاهي ،دار توبقال للنرش ،املغرب،
ط ،1997 ،2ص.21
أبيــه بجــواب عــى ســؤال آخــر مل يكــن بحســبان أبيــه).
.7رىب عبدالقادر الرباعي ،البالغة العربية وقضايا النقد املعارص ،دار جرير للنرش وهنــاك صيــغ أخــرى متازجــت فيهــا الصيــغ األربــع ،أو
التوزيع ،األردن ،ط ،2006 ،1ص.203
.8انظر :دراسة عبدالفتاح داود كاك سنة " :2015التناص دراسة نقدية يف التأصيل وبخاصــة أ َّن
ّ بعضهــا ،بفن ّيــة تغــري بالقــراءة والتأمــل..
لنشأة املصطلح ومقاربته ببعض القضايا القدمية -دراسة وصفية تحليلية". أغلــب النصــوص اعتمــدت الحــوار طري ًقــا لــأداء واإليصــال.
.9سوفوكليس ( )Sophocleولد حوايل سنة 496ق.م .يف أثينا وتويف سنة 405
ق.م .أحد أعظم ثالثة كتاب الرتاجيديا اإلغريقية.
.10مصطفى منصوري ،الصيغة الرسدية يف النقد العريب الحديث من كتاب النقد
العريب املعارص املرجع والتلقي ،ملتقى يف املركز الجامعي خنشلة 22/23مارس
،2004ص.114
110
إبداع
الن ّاسِك
وغـدوت مجنــونًا يُقاتِ ُـل ظـــــلَّـــــهُ ُ عت عقْلــــــي كُ َّلـــهُ يف ُح ِّبها ..ض ّي ُ
ـــل ق ْبلَــــهُ وكنت ر ْم ًالطريـــقُ ، ِ ر ْم َـل ــت يف ع ِّز الــظهـري ِة قابضً ــا
فجلس ُْ شعر :محمد خضري*
ـــم يف ُهــــدو ٍء شكْلَــهُ ترس ُ والشمس ِ ُ ـــل يُســــابقُني إليـ ِه ليشـــتيك
ِظ ِّ
ــع كُـــــ ْحلَــهُ اح ي ْج َم ُ يل ،ور َ ىك عـــ َّ فب ٰ لــيل حولَنــا ســـال ٌ َ ــزمت ملّـا
و ُه ُ
صــــوتًا بال وجــــــــ ٍه أر ّد ُد ق ْولَــــــهُ : يف صفْحــ ِة املــا ِء الـ ُّزاللِ رأي ُتنـــي
الســؤال ،وقا َم ي ْب ِس ُط بُ ْخلَـــهُ
َ ل َعــــ َن يحســــ ْو ِمن طويَّــ ِة عابــ ٍر
ال طريَ ُ
ــل َو ْحلَــهُ ِ
يغـــس ُ واملـــا ُء ِمن كفــ ّـي ِه
ـدىظامــئ يَ ْجري ُس ٰ ٍ أ ْهذي كنهــ ٍر
البـــــاب أرجو َو ْصلَـهُ َ طــــرقت
ُ ملّـــا
أقســى قـل َبهـــا ٰ يا قل َبهـــا ،ما كانَ
وأشــــفق ،واســتكانَ ،لعلّــــــَهُ َ ل ّب ٰى، فلعلَّـــــهُ ِمن ف ْر ِط مـــا ناديتُـــــهُ
نصـــلَــهُيف ك ُِّل ُجـــ ْرحٍ كــانَ يَغمــِدُ ْ ثـــل الشِّ ــــ ْعرِّ ،إل أنّـــــهُ ال ُح ُّب ِم ُ
نسـلَــهُ أنجــــب ْ
َ ِمن ُصل ِْب ما قلنــا ُه َذب الــذي وكال ُهام وج َهـــــانِ للك ِ
فط ُم ِط ْفلـــهُ ! فكيف َي َِ ط ْع َم ال ِّنســـا ِء، طـفل مل ي ُذ ْق
وأنا مبــــا ِء الشّ ـــع ِر ٌ
الظلـــم يعــلـــو عدْ لَــــهُ َ رأيت
حتى ُ كنت أشــكو ِمن َمرار ِة َو ْحــدَ يت ما ُ
أحـــاول يف القَـــــصيد ِة ق ْتلَـــــهُ ُ وأنا
وى
واستقلت من الـ َه ٰ ُ ُتلت ِش ْع ًرا،
فق ُ
قلق يقل ُِّب َر ْحــلَـــــــهُ والقلب فـــي ٍ ُ شيع ُتني ،وقبضْ ُت ُحــزين يف يَــ ِد ْي
ألقـــى إىل َســـطْــ ِر اإلجاب ِة ُســـ ْؤلَــهُ ٰ الكالم عن الذي ِ وسألت يف سـوقِ ُ
ـــى د ْهــ ًرا ،وضــ َّي َع أ ْهـــلَـهُ ع َبدَ الدُّ َم ٰ اب األُنوث ِة ناســـِ ٌك قالـــــوا :مب ْحر ِ
* شاعر أردين
khudairart@yahoo.com
112
َسّ احِر
الق َُب ّعَة ِ...
وإِنْ وا َج َهتني املَتا ِع ُب ِ
الوقت سحِ كض يف َم ْ َ أَنا سا ِح ٌر يُ ْت ِق ُن ال َّر َ
ال أَف َع ُل املُس َت َ
حيل ثم أَخ ُر ُج ِم ْنهُ عقلكمَّ ،
ْ دخل يف أَ ُ
وات انتبا َه ال َج ِميعِ أُش ِّت ُت يف ال ُخطُ ِ بيدي إىل ال ُق َّبعهْ
َّ وأُدخلهُ
بائحول ِظ ِ ئب َ وأَق ِف ُز كال ِّذ ِ
ئب َق َبضَ تَهَُمتى أَ ْحك ََم ال ِّذ ُ خرج أَرنَ َب َت ِني
وأُ ُ
هل عىل فس ُيصب ُِح َس ً س َب َح ٍ
امم أُطَ ِّ ُي ِ ْ
بي أَنْ يَت َب َعهْ
الظَّ ِ أُ َف ِّت ُت أَعصابَك َْم دونَ أن تَشْ ُعروا شعر :قيس الطه قوقزة*
موج ال َّتفاصيلِوأُح ِّر ُض َ
أُمار ُِس إِلْها َءك ُْم نث ُهأَ ُ ُ
أَخ َتفي َف ْجأَ ًة ِم ْن أَ ِ
مام ال ُحضُ و ِر أُ ْغر ُِق ال َب ْح َر واألَ ِ
رشعَهْ
ْف ال َج َمهريِ وأَظه ُر َخل َ
يف لَ ْقطَ ٍة ُم ْق ِن َعهْ َأنا َملِ ِك ال ِح َيلِ املُنتقا ِة
تيت ليك أَدخ َُل َ
العقل أَ ُ
لست أُؤْذي أَحدْ كاذب ُ أَنا ٌ العقل أَو أَخدَ عَهْ
س َق َ يك أَ ْ ِ
ال نِسا َء وال شَ يخَ ال ِطف َْل
ال َر ُج ًل ال َولَدْ االنزالقات واألَقنعهِْ َأنا َس ِّيدُ
عليكم
ْ مثل الجميعِ كذب َوأَ ُ أُرا ِه ُن دو ًما عىل ِخ َّف ِتي
قسم باألربعهْ وأُ ُ ح َني أَميش رسي ًعا عىل
بي أُح ِّركُك ُْم سحِ الكَ ِذ ِب ال َجانِ ِّ َم ْ َ
وأَنتم تُ ِح ُّبونَ مثلام أَش َتهي
ديق هذا الكَ ِذ ْب ت َْص َ غال ًبا ال أُواجِ هُ مش ِكلَ ًة
ورؤْي َة يش ٍء ثقيلٍ يطريُ ليس يَل َز ُمني َ
ٍ
خفيف يس ُري ورؤْي َة يش ٍء غ َري أَنْ أَنق َُل املَشْ َهدَ ال ُح َّر
يقطع املا ُء يف غفلَ ٍة ْ
إص َب َعهْ َ وأَنْ رض ِم ْن طاب ِِق ال َعقْلِ لألَ ِ
يف ُخطْ َو ٍة ُم ْ ِ
سعَهْ
* شاعر أردين
qais.gogazeh@mot.gov.jo
أفكار /إبداع 113
•ابتهال أ َ ّول
ماء
ارفق بنا ً
قليل
وهب لنا من بعلنا أي "عنا ُة" التي تتاميل
غيثًا يعيد زرعنا يف ترشين
كنعان
ما ًء يجوب حقلنا يندلق شعرها فوق
يحيي رماد أرضنا. رؤوس الغابات
يتمدّ د يف السهول
•ابتهال ثالث
أوقدي نارك يف انتظار
كانون شعر :سلطان الزغول*
"بعل"
ندهناك يا ُ ليخرج "بعل" من
يا أبانا املب ّجل غياهب "موت"
يا ساكن األرواح وينفخ ريح األمل يف
يا ُمع ّمد القلوب األرض العطىش
سألناك أن تأيت.. أي "عنا ُة"
أوقدنا نريان الحياة يف انتظار أ ّيتها األ ّم املرغوبة
البهي
عصفك ّ املخش ّية
أشعلنا حقولنا بأمل ّ
التجل أيّتها العاصفة الهادئة
فهب لنا رؤيتك ْ تنفّيس الغياب لتزفري
الساموي
ّ أشعل برقنا برمحك الحضور
لنتب ّتل يف انتظار مائك امل ُ ْن َص ّب تناويل من قمحنا األثري
ُجل كرمك ذه ًبا يف األرض ون ّ وأعطنا األمل
أعطنا ُلنيض جاللك يا ابن ليرشق الربيع من جديد.
السامء املغطّى بالغيوم..
•ابتهال ثان
لينطلق العشب يف الحقول
فت ًّيا ُي ّتع عينيك
لتسكن الجديان إىل وديانها يا "موت"
الخصيبة رضا وغائ ًبا
يا حا ً
وترقص العصافري عىل خرير احليا ساك ًنا ور ً
مائك العذب. يا ُمطلقًا
يا غاض ًبا
* شاعر أردين
sultanzgool@gmail.com
أفكار /إبداع 115
ِ
مملكتك هذا الرتاب • لقاء بعل • نشيد
هذا الرتاب سكني
الخصب
"بعل" يتمطّى حني صحا ُ
هذا الرتاب صوت املح ّبة يتث ّنى يف حلقي سألته أن يكتب سرية املاء
هذا الرتاب يل.. عب الدالية
أن يسكب الذكريات يف ِّ ِ
جديانك يف مت
ما إن ن ّو ُ
بل أنا لهُ . ألرتّبها وأبني له العريش زرائبها
ألظلِّلَهُ يف متوز القادم ِ
محاصيلك وقطفت من الحقل ُ
• نشيد التراب
املح ّبة رساج البصري وضوء ال ّرايئ نارك األليفة عىل ِ
حينام كشفت املح ّبة الغطاء أي "عنا ُة"
فعل الخلق ابتدأ ُ ش ُق بشعر ِِك "بعل" َي ْ َ
ها هو ُ يا س ّيدة الجبال
سكنت إىل ال ُّرؤيةُ حني أ ّيتها األم "عناة" يا رفيقة املتعبني
جاءتني ال ُّرؤى دعي شفتيه تط ّوقان سواد الغابات مللمي شعرك لتطل َُع الشمس
حرضت عرب غيمك املح ّمل بالغواية ِ حني الكثيف وينضج قم ُح ِك
"بعل" وأطلق رعدَ ه يف الرباري داخَ ُ لينفجر األخرض يزهو بالثمر يتاموج بغنجٍ مع ها هو
ُ
فانكشف عن هطل ثقيل أي "عنا ُة" الدالية ِ
هوائك الطر ّية ه ّب ِ
ات
فأجاءها املخاض تحت شجرة الجوز أي "عنا ُة" اللّوزات وينوس األمل مع د ّقات ِ
قلبك ُ
وانولدَ التاريخ ناص ًعا أي "عنا ُة" التفّاح دون عقدة الخروج يفرش السهول لرؤية األقحوان ُ
قبل أن تل ّونَهُ الحروب واملاملك تك عىل درب الينبوع ها هي ج ّن ِ مع زفرات وشهقات ِ
بعلك
حينام كانت الطيور إخوة تنفجر بالثمر طر ًّيا طاز ًجا الغني
املستلقي يف أخرضك ّ
وكان البوم أليفًا تغتسل بال ّندى يف محيطها ُ التينات تُحيطهُ موسيقى الينابيع
السياج البستان.
ُ قبل أن يُط ِّوق والسو الكثيف يُزنّرها وخط ُو املها الخفيف إىل املاء
ّ
أندهش من كثافة الحضور ُ وأنا يعص ُمها الفرح بالخصب ِ
ل ثقيل
• حِم ٌ
وبراءة الرنجس واألشجار املندلقة بالثمر
وانسياب الطّري فوق رأيس الكثيف.
أوملت لهُ فيه ضلوع القلب
بعد عشاء ُ وانزالق الدنان بني أصابع "بعل" العظيم
أنكرين قبل صياح الدّ يك لرتوي الرتاب
116
ل
قَلي ٌ
م ِن
تَضْ َحكُ بِدَ اللٍ أ ْجلِ ُس يف املَطْ َع ِم َوحدي
إ ْذ تُ ِْسكُ يب أَ ْعدو يف َع ْين ْيها َلف ال ّنافذ ِة ال َحمقاء أتوارى خ َ
ل
عَسَ ِ
َوق الزبدَ ه َركت ُق ْبل َتها ف َ ت ْ أُ َقطِّ ُع أَطر َ
اف الطَريِ املَشْ و ِِّي
كل شفا ِه املوجودين َذابت ّ ف ْ رض يل
يك ُيح َ أصيح عىل النادلِ ْ ُ
هنا جم ًرا أنقى
َيم عىل الطُ ُر ِ
قات ش الغ ُ وان َت َ َ أَ ْس َح ُب نَف ًَسا.
ب
الح ُ ّ
الس ّجا ِد فوق ِ سيل ُقلو ًبا َ َي ُ
األَ ْحم ِر ها أَنَذا يف َم ْجرى ال ّري ِح
بَ َني موائدَ تَتأر َج ُح يف عي ِد دافبِال ِم ْج ٍ
ال ُح ِّب ؤوس األَشْ جا ِر َوق ُر ِ أ ْرك ُُض ف َ
الواقع َمجنونًا
ُ أَال َيبدو املَوىت الق ْتىل
َي ْس ُرت ع ْو َرتهُ بِبقايا اللونِ ات ِمن رشح َقطَر ٍ ضباب َي ُ ٍ نح َو شعر :سامية العطعوط*
الباهت؟
ْ ضو ٍء يف ال َع ْت َمه
وأنا أَكْرث من واحدْ !! أَ َح َت ِط ُب امل َ ْو َت
أُنثى َوثالث ُة أَشْ باحٍ تَل ُ
ْهث ليل ِم ْن َع َسلِ ال ُح ّب لَنا َق ٌ
ُولول يف َصد ِر الري ِح َوت ُ قالت َق ْب َل شُ هو ٍر
ْ
اف ال ُح ِّب بِذاكريت تُقطّ ُع أطر َ لسكّ ِني ال َع ْميا ِء ّالمع لِ ّ
وال َن ْص ُل ال ُ
الحب لنا َوكثريٌ من وجعِ ّ يُح ِّر ُر ِقطْ َع َة زب ٍد ِمن َم ْسكَ ِنها
لت لَها ُق ُ غيف ال ُخ ْب ِزَوق َر ِ َيد َه ُنها ف َ
وانطَفأَ العال َْم. األ ْب َي ْض.
ي
زمّار الح َ ّ
قصة :رجاء عبدالحكيم الفويل*
متا ًمــا ،قــاو َم رعــدة هاجمــت جســده ،واندهــش أنهــا متلــك الح هنــاك ِظـ ُّـل إنســانٍ يســر يف ضيــاء الشــمس املحتــر، َ
ـش الــذي ال يجــده عنــد الكثــر مــن النــاس، ذلــك القلــب الهـ ّ بــدا وكأنــه ميــارس التسـكُّع وهــو يســر وراء ال َّركــب العائــد
قَطعهــا ِقط ًعــا صغــرة ،كان يتحـ َّرق شــوقًا لبــثّ حيــا ٍة فارقـ ٍة أي مشــاعر ،كان "محمد مــن الحقــل ،ال يهــب ذلــك الغــروب ّ
ـب ال ِقطــع يف يــده ،واختــار أكرثهــا مناســبة ،دا َعبهــا فيهــا ،قلّـ َ حامــد" يف أحــد الصباحــات البعيــدة فــوق الرتعــة يبعــر
وقــد تشــ َّمم رائحتهــا ،بــدت لــه مثــل رائحــة الصفصــاف الحيــا َة واألحــام خائضً ــا يف املــاء برِجليــه اللتــن تشــبهان
طازجــة ،وقــد َم ـ ّرر شــفتيه عليهــا ومســحها بقبالتِــه ،كــا يكــف عــن التطبيــل، فــروع الصفصــاف ،كان ضفــد ٌع ال ّ
لــو كانــت لجســد حبيبـ ٍة عــر عليهــا يف هــذا الخــاء ،واصـ َـل ورصصــور الحقــول يعــزف ،والقمــري يزقــزق ،حــاول أن
متجاهــا قل َبــه املتعاطــف ،وقــد شَ ــق عــى ً العمــل بهــا الصفــر ،لكــن توقَّــف بعــد يجاريهــم ف َمـ ّط شــفتيه ورش َع يف َّ
ـوب .ف ّرغهــا متا ًمــا ومنحهــا أنفاســه القويّــة،
ظهرهــا ثالثــة ثقـ ٍ أن شــعر بجفــاف حنجرتِــه وتهته ِتــه.
فص ّفــر فيهــا الهــواء ،و َم ـ ّرر أنفاســه عــى الثقــوب الثالثــة ـص عيــدان الغــاب التــي ترعــى فكــر ٌة رش َع يف تنفيذهــا ،فحـ َ
متناوبًــا مــع أصابــع يديــه الســمراء النحيفــة ،فانســابت ش ـ ّط الرتعــة كح ـ ّراس ،انتــزع أحــد تلــك العيــدان ،تواثَــب
أنغــام حلــوة راقــت لــه ،فابتس ـ َم وهــو يــر ِّدد: إىل ســم ِعه فيــا يشــبه أصــوات أنــن منبعثــة مــن قصــب
آه يا محمد.. - مالط ًفــا وهــو ميــازح أوراقهــا الطويلــة الخرضاء: الغــاب .قــال ِ
أنفاســه عــى أنغامــه وخرجــت تنهيــدات حــا ّرة مــن ِ ِ
سأهبك حيا ًة مختلفة. -
ـمس ابتســام ًة عميقـ ًة وهــي تتدحــرج الشــج ّية .خلّفــت الشـ ُ البق َبقــة التــي أح َدثهــا صــوت املــاء وهــو يســحب العــود إىل
وراء الجبــل ،والحشــائش رقصــت مــع الت ّيــار ،واألســاك الشـطّ ،أوحــت لــه أ َّن الرتعــة غاضبــة؛ لقــد ســقط اآلن أحــد
عــادت تحلّــق قــرب الشــط ،وتصالحــت الرتعــة معــه ،فقــد ح ّراســها ،اعتكــر املــاء مــن الطــن اللـ ِّـن امللتصــق بالجــذور،
رآهــا تبســط امليــاه الرائقــة أما َمــه .كان "محمــد حامــد" وانكمشــت الحشــائش امللتصقــة بالرتعــة ،والتــي كانــت
يســخر ِمــن القادمــن ِمــن ال ـ َّزرع ومــن خوفهــم الشــديد ترقــص مــع الت ّيــار الهــادئ ،وفــ َّرت األســاك وغطســت
مــن الليــلِ ..
ضحــك: بعي ـ ًدا.
-لِــ َم يخيفهــم الليــل ،وال يخيفنــي؟ أنــام عــى املصطبــة جلــس عــى حــرف الرتعــة وقــد الح املــاء لعي ِنــه رماديًّــا ،وبدأ
هربــت
ُ الحجريّــة طــوال الليــل خــارج دارنــا ،يف الحقيقــة الصلــد عــى قصــب الغــاب ،ت ـرا َءى لــه أ َّن يُس ـ ِقط منجلَــه ّ
مــن أجســاد إخــويت ،ينامــون وعــى أرجلِهــم وأيديهــم، لهــا قل ًبــا ل ّي ًنــا يتم ـ َّدد يف كل جســدها وقــد استســلمت لــه
* كاتبة مرصية
rarg88881@gmail.com
أفكار /إبداع 119
النعــاج تلــك؛ فقــد كان يتــوزَّع لــون نعاجِنــا بــن أبيــض، حتــى وجوههــم ،طــن ال ـ َّزرع ،تخــرج منهــم روائــح كريهــة
وأســود ،وأحمــر ،نفــرش ِمــن تلــك األرديــة ونتغطــى ،نتحلّــق يخنقنــي ظراطهــم وفســاهم ،مل أجــد مهربًــا منهــم غــر تلــك
حــول َج ـ ّديت ،تحــي لنــا كل ليلــة حكايــة "نــص نصيــص"، أنفاســا حلــوة،
املصطبــة وذلــك الليــل ،أالقــي عــى املصطبــة ً
و"العصفــور األخــر" ،الولــد الصغــر الــذي ذبحتــه امــرأة وذلــك ال ّنــدى الرائــق ،أنفــخ طــوال الليــل يف مزمــاري فتــأيت
أبيــه ،وجمعــت أختــه عظا َمــه ووضعتهــا تحــت الزيــر، األشــباح وترقــص عــى أنغامــي ســعيدة ،ويحدثوننــي بأنــه
فنبتــت هنــاك شــجرة عليهــا عصفــور أخــر .تذكَّــرتُ أنهــا ال يوجــد عندهــم شــبح مثــي يجيــد مثــل هــذا العــزف
َســقطت بيننــا وهــي تحــي ،فجــأة ســكن كل يشء فيهــا، ـجي! بينــا تع ِّنفنــي أ ّمــي قائلــة:
الشـ ّ
تج ّمــد ،هززت ُهــا أنــا وإخــويت قائلــن: -بطّــل ز ّمــر يــا واد ،ز ّمــرك بيخـ ّـي الح ّيــات بتنــزل علينــا
ـ احــي يــا ج ـ ّدة ،احــي ..ملــاذا س ـك َِّت؟ أكمــي الحكايــة.. ترقــص مــن ســباية البــوص.
يــا ج ـ ّدة يــا ج ـ ّدة! -آه لــو تتح ـ َّول الدنيــا كلهــا إىل ليــل ،وأرتــاح مــن ال ـ َّزرع
ولكــ َّن أيب بعــد مــا رفــع ذراعهــا عاليًــا وتركهــا يف الهــواء، والشــمس!
َســقطت منــه ،قــال: وهجــم عليــه الليــل ،وبــدا كأنــه يتخ َّبــط يف بحــر مظلِــم،
ـ ماتت ..جاء ملك املوت وأخذ روحها يف الليل. متلّكــت جســ َده رعشــة قويّــة مــن فكــرة الليــل الدائــم،
يف مثــل هــذا الظــام ،كل املؤامـرات تتـ ّم ،ملــاذا مل يـ ِ
ـأت لهــا فــرف عنهــا أفــكاره وســقطت يف وجدانــه صــورة الليــل َ
ملــك املــوت يف النهــار؟ أخــاف أن يــأيت ملــك املــوت يف ليلــة املظلــم الــذي يعاقــره كل ليلــ ٍة عــى املصطبــة الطينيّــة،
ويأخــذ أيب أو أمــي أو واح ـ ًدا مــن إخــويت ،ففــي كل صبــاح واألشــياء التــي تتحــ َّول إىل أشــباح.
أســمع مــؤذِّن الجامــع ينــادي عــى واحــد مــن القريــة مــات -صعــب أن أحيــا هكــذا دامئًــا بــن األشــباح ،حتــى لــو
يف الليــل ،ملــاذا يحمــل الليــل كل هــذا الخــوف؟!". شــخوصا طيّبــة ،كــا أين أخــاف املؤامــرات التــي ً كانــت
وصــل إىل املصطبــة ،كان الظــام عفيًــا ،لقــد أُذِّن للعشــاء منذ ي ِع ّدهــا الليــل.
ـت العــامل حولــه ،هــذا الصمــت املقلِــق ـت كبــر ،وصمـ َ وقـ ٍ ـب صناعــيَ ،ست قشــعريرة ارتجــف قلبــه كمـ ْن فا َجــأه مطـ ّ
نفســه بغطائــه؛ واملخيــف .اعتــى املصطبــة الطين ّيــة ،لـ ّـف َ يف جســده؛ فقــد هجمــت عــى ذه ِنــه صــورة َج ّدتِــه أ ّم أبيــه،
فقــد َست حولــه نســات بــاردة ،صـ ّـرت رعشــة أنعشــت كان هــو وإخوتــه يلتفّــون حولهــا عــى الفَرشــة األرضيّــة؛
تنــاول مزمــاره القابــع بجــواره كصديــقٍ حميــم، َ رو َحــه، الحصــر املصنــوع مــن الحلْــف ،يغطــى بــردة مــن الصــوف
ـرب لأللحــان املنبعثــة منــهَ ،ســعد بره ـ ًة
وأخــذ يســتمع بطـ ٍ الغليــظ" ..يجـ ّز أيب شَ ــعر نعجاتِــه بنفســه كل ســنة ،يحملــه
بألحانــه ،ومــن ثَــم تبدلــت ســعادته آله ـ ٍة موجعــة؛ فقــد يف جــوال ويذهــب ال أعــرف إىل أيــن! أتج َّنــب الــكالم
ت ـراءى لــه ألّ يشء يســعد يف هــذا الكــون الغامــض ،ونظــر معــه ،لهــذا مل أســأله أيــن يذهــب ،نظــرة عينــه تؤكــد أننــي
ـوت مســموع: إىل الســاء ونجو ِمهــا البعيــدة ،وقــال بصـ ٍ ال أروق لــه ،ولكــن بعــد أســابيع يــأيت لنــا بغطــاء مصنــوع
أي نعجــ ٍة مــن مــن الصــوف ،أســتطيع أن أخ ّمــن شَ ــعر ّ
120
تقــوم حياتــه عــى مــا مي ِّهــده خيالــه مــن أوقــات الهي ـ ٍة ـ ملاذا خلقتَنا يا رب؟!
ومرِحــة ،هامئًــا هكــذا داخــل ألحانِــه الحاملــة ،مثــل الطيــور "محمــد حامــد" هــو الوحيــد الــذي مل يكــن مرهقًــا مــن
التــي تقــف عــى األغصــان برشــاقة ،واألســاك التــي تهــرب العمــل يف الــزرع ،يرســله أبــوه إىل القراريــط الخمســة
مــع حـرارة الشــمس إىل األعــاق ،كان يتابــع جلبابــه الــذي التــي ميتلكهــا لزراعــة الــذرة ،واالهتــام بنباتاتهــا الوليــدة،
يرتكــه دو ًمــا عــى إحــدى أشــجار الصفصــاف ،حيــث تجرفــه بينــا يعمــل أبــوه يف رعــي الغنــم ،وإخوتــه أُ َج ـراء يف أرض
األحــام والخيــاالت مود ًعــا يقظتَــه. ـمس والح ـرارة امللتهبــة ،ويهــرب مــن اآلخريــن ،يلعــن الشـ َ
ميتلــك تلــك األنامـ َـل الرشــيقة املاهــرة التــي تبعــث الحيــا َة غيطــه الضئيــل إىل عشـ ِقه الكبــر ،إىل الرتعــة ،يعطــي ثوبَــه ِ
يف األشــياء التالفــة حيــث يرت ّــق جلبابــه بتقنيــة ال ت ُظهِــر عنايــة خاصــة ،يغســله ويعلّقــه عــى أشــجار الصفصــاف،
ـط وإبــرة يف قلــب مــكان الفتــق أو القطــع ،وقــد أودع بخيـ ٍ ذلــك الجلبــاب الــذي يأخــذ موضــع الــرأس دائــرة تأخــذ
شــجرة الصفصــاف ،فقــد بــدا أنهــا عــى أهبــة االســتعداد الطريــق إىل أســفل فتحــة عــى شــكل رقــم ســبعة ،وذراعــان
إلنجــاز مــا يُطلَــب منهــا مبهــارة ،بــدأ يف عــزف األلحــان مثــل الشــايس املقفلــة ،يلقــي ِ
بنفســه يف املــاء ،برسوالــه
الرشــيقة ،فجــأة اقتحمــت رو َحــه تلــك الخيبــة ،فقــال: الداخــي املصنــوع مــن قــاش الد ّمــور الباهــت ،والــذي
ـ سبع صنايع والبخت ضايع! كان يبــاع عــى بطاقــة التمويــن ،وقــد رفــرف الجلبــاب عــى
يتحسســه ،وحــاول أن يحــر تفكــره تنــاول مزمــا َره وأخــذ ّ أشــجار الصفصــاف مل ّو ًحــا يُحـ ِـدث ارتطا ُمــه يف املــاء صوتًــا
يف األلحــان واألشــياء التــي تحمــل رائحــة الرتعــة ،واألســاك، ات متعاقبــ ًة وهــو مرتف ًعــا ،بــدا لــه موســيقيًا يكــرره مــر ٍ
ووداعــة شــجرة الصفصــاف .لقــد قفــز إليــه الحــل مــع يضحــك ،وقــد بــدأ الســباق مــع األســاك التــي تبــدو وكأنهــا
األلحــان ،أخــذ يقلّــب األفــكار يف رأســه ،هتـ َـف: قــد ألِفتــه ،قــال لنفســه:
ـ يــا رب ..أنــا تعبــت ج ـ ًدا! ســأعمل مطربًــا وأك ـ ّون ِفرقــة، ـ رمبــا كنــت س ـأُخلَق ســمكة ،ولكــن دخــل عليهــا تعديــل
وســأرىض مبــا يدفعونــه يل ،حتــى لــو اكتفيــت بعشــايئ ،ال مفاجــئ ،ســأج ِّرب قــدريت يف الجلــوس تحــت املــاء مثــل
قــوة عنــدي ملواجهــة الشــمس ،ســنعمل أنــا وأصحــايب األســاك..
بالليــل وننــام النهــار كلــه ،ولــن ترانــا الشــمس. ورأسه ،وقفز إىل سطح املاء. رضب املا َء بيديه ِ
بــدا لــه أ َّن ذلــك كل يشء ،ليــس مثــة أكــر مــن ذلــك يتطلــع ـت يــا ترعــة يــا كبــرة ،ســأدخل اليــوم ـت ســأختنق ..أنـ ِ ـ كنـ ُ
إليــه ،ومل ينتبــه قلبــه أ َّن ذلــك بدايــة الســقوط ،فقــد هجــر ســباقًا يف عبــورك متحديًــا األســاك ،وســأنتهي منــك قبــل
غيــط الــذرة متا ًمــا ،وقــد بــدا للعيــون التــي تراقبــه أ َّن تلــك املســاء.
تو ُّجهــات مفرطــة يف االنحــال! ِ
أنفاســه توقفــت األلحــان فجــأة ،وارتفعــت أصــوات
كان يتســكّع قاصــ ًدا مصطبتــه الطينيــة ،محدقًــا يف اتجــاه املتالحقــة ،لقــد هزمــه النــوم وأخــذه عنــو ًة إىل عواملِــه
القمــر ،منســابًا كــراب الظهــرة ،دا َعبتــه ريــاح هادئــة الغامضــة.
تطــوي يف ردائهــا هــواء دافئًــا؛ فقــد كانــت الليــة مق ِمــرة، بــدا فار ًغــا ،مشــاعره تبــدو حياديـ ًة نحــو ِ
نفســه والوجــود ،ال
ـس ثوبًــا مغايـ ًرا ،بــدا لــه كــا لــو
ت ـراءى لــه الليــل وقــد لبـ َ تحمــل ح ًّبــا وال كر ًهــا ،هكــذا كاملــاء والهــواء.
أفكار /إبداع 121
يــوم ،ثــم
اللــن الــذي انتزعــه ذات ٍ وتذكّــر ذلــك القلــب ّ كان نهــا ًرا هادئًــا .يحتضــن مزمــا َره بكلتــا يديــه ،فقــد كان
مو ِّج ًهــا كال َمــه للرتعــة: عائـ ًدا للتـ ّو مــن أحــد أفـراح القريــة املجــاورة لقري ِتــه ،وقــد
-بــاع أيب القراريــط التــي امتلكهــا بالــكاد ،باعهــا ألســافر القــى ُز ّمــاره وغنــاؤه استحســا َن الحارضيــن .لقــد هــرب مــن
مــن أجــل أن أجلــب املــال ،مثــل كل َمــن يســافرون ،كيــف الشــمس ،لكــن حقيقـ ًة أيــن يهــرب ِمــن مخاوفــه؟ املخــاوف
ـب الرتعــة
أحـ ُّي وهــو دو ًمــا يـراين ولـ ًدا فاشـ َـا؟! ِيراهــن عـ ّ روحــه ،قــال ِ
لنفســه: ـؤم يف ِ اب أســود ينعــق بشـ ٍ بداخلــه غـر ٌ
ـب الشــمس الحارقــة. والســمك وأعــواد الغــاب ،لك ّنــي ال أحـ ُّ ـ عــى الرغــم مــن عشــقى لليــل إال أين أخــاف مؤامراتِــه،
ألقَى عىل شمس الظهرية الحارقة كلامتِه األخرية: نظـرات أيب التــي واجهتُهــا هــذا الصبــاح تقــول إنــه تحالــف
-ودا ًعــا أيتهــا العظيمــة الخالــدة ،عذب ِتنــي كثـ ًرا ،أمتنــى ّأل مــع الليــل ض ـ ّدي ،لقــد خاننــي الليــل!
تذهبــي ورايئ إىل البلــد الــذي أســافر إليــه. أطَـ َّـل القمــر منحــد ًرا مــن بــن أشــجار النخيــل عــى البيــت
والح لــه جلبابــه الــذي تركــه معل ًقــا عــى أشــجار الصفصاف، َ الصغــر الطينــي ،وعــ ّرى املصطبــة الحجريــة الخاليــة..
ـام مهزوم!ورأى ال ُكـ ّم الفــارغ مل ّو ًحــا لــه كسـ ٍ يقولــون إ َّن املــوت يــأيت يف أشــكال كثــرة ،لكنــه أىت بالنســبة
لــه يف نهايــة األشــياء التــي ِ
يحبهــا.
بعــد أن عــزف كل األلحــان التــي يهواهــا ،أل َقــى باملزمــار
إىل قلــب الرتعــة ،فســبح املزمــار يف املــاء رشــيقًا ،مثلــه متا ًمــا
عندمــا يبــدأ يف الســباحة ،وقــال:
ـ أمتنى أن تنبت مر ًة أخرى.
لوحة للفنانة غدير حدادين
122
روح الكلام!..
قصة :حسني دعسة*
الشــاطئ ،والنهــار غاضــب يف شــتاء قــارس ،عقــي مل يتح َّمــل تعاركــت مــع شــبح األزرق ،شــ َّوش ُ يف هامــش رســالتي،
ـص منهــا النهــر. أن يقتـ َّ ذهنــي ،اختلــط ورق اللعــب ،فتباينــت صخــرات العبــي
شــجرات النخيــل تراقــب .ظــال األزرق تبــدأ البــثّ .يتج َّمــع الــورق .أتابــع مــع رصاخهــم وهــراء بعــض الخارسيــن.
ـتالباعــة .يقــرب الرشطــي العجــوز ،يقــول إنهــا بخــر ،دخلَـ ْ ـت أعمــل عليهــا ،هــدوء مقلــق ،تنتــر تتشــابك ملفــات كنـ ُ
النهــر لتلعــب مــع األســاك .ثرثــرة الرشطــي الخَــرِف، أحــس نبــض ُّ أتحســس شاشــة األزرق بيــدي، الصبــاغَّ ، ِّ
جعلــت قلبــي يتوقــف ،دخلــت املــاء ،متطــر بق ـ ّوة ،أمــي، الشــفافة ،أقــول :أيــن "حريــر الــروح"؟
الصــوت برغــم الضّ جيــج تدعمنــي مح ّبــة اللــه .كيــف م ّيــزتُ ّ أتذكَّــر حبيبتــي ،أكتــب لهــا عــن كتــاب "النبــي" لجــران
ورصاخ الباعــة وصخــب البحــر: الصدمــة ،أننــي ـج بــه األزرق ،قبــل َّ خليــل ج ـران ،ومـ ّـا ضـ َّ
" -وأع ُرب البح ْر من غريِ كآبة؟". قلــت:
رأيتُها تغرق ،كانوا يهتفونْ" :ال تفارقنا.".. -هذه من أجمل أغاين فريوز التي أعشقها.
ـت "حريــر" ،حملَتْهــا أعشــاب البحــر، مــددتُ يــدي ،اقرتبَـ ْ الحبيب..
ْ "..وظل املصطفى ..املختا ُر َّ
وعــى ظهــر موجــات متتاليــة تشــابكنا. الذي كا َن فج ًرا لذات ِه..
كل شاشــات األزرق تــاه بنــا بســاط الريــح .عيناهــا تطلقــان ّ أورفيليس..
ْ ينتظ ُر سفينت ُه ..يف مدين ِة
لعــل قلبــي يعــود إىل وهــي تتناقــل الحكايــة .أحضُ ُنهــاّ ، ويف السن ِة الثانية عرشة ..يف السابعِ م ْن شه ِر الحصا ْد."..
النبــض. رصخــت ،ســواد يغتــال شاشــات األزرق ،ظــال اخرتقــت ُ
أح ـ ِّرك أيقونــات ،تبــثّ يل شــبح مــا حــدث يف رأس الســنة، رصاصتهــا القلــب.
ـت..؟أحــس بالــرد ،أيــام ثقيلــة ،أيــن أنـ ِ أتوقف ...ألهث...
أنا هنا ،أنا هنا! - ـؤش بصوتهــا ـمعت فــروز تـ ِّـت وحي ـ ًدا ،متعبًــا ،ثــم سـ ُ بكيـ ُ
يتاميــل بنــا البســاط ،شــاهدتُ "عــي بابــا" يلــ ِّوح لنــا أ ْن يل:
اهبطــوا يف داخــل املركــب ،ريــح رصرص ،مــوج أعــى مــن صوب البح ْر..
التالل ..ونظ َر َ "..ص ِع َد إىل إحدى ْ َ
ظــي" ،حريــر الــروح" ترتجــف ،تعانقنــي لعلّهــا تصحــو. ّ فصل يف سكونِ نفسه.".. ورأى سفينت ُه آتيةّ ..
ـت :الظــال متم ّوجــة ،صفحــات تــأكل غريهــا .أصابَتْنــا كتبـ ُ ..ســفينتي تحــرقَ ،مــن ينقــذين؟ ممـ َّدد عــى فـراش عتيــق،
ونحــن عــى ظهــر البســاط رشار ُة بــرق ،تلقّانــا ت ّجــار "عــي أترقَّــب "حريــر الــروح" ،غيابهــا ثقيــل ،تشــتَّت ذهنــي،
بابــا" ،ســقطنا م ًعــا. ـت أ َّن قدمهــا زلَّــت وهــي متــارس هوايــة املــي ح ـ ّد تخ ّيلـ ُ
* كاتب أردين
huss2d@yahoo.com
أفكار /إبداع 123
ما عنديش روح الكالم". والســحرة والجواري، كان صــوت مراكب ّيــة "عــي بابا" ،التجــار َّ
-واضح أنني السبب؟! يطرقــون خشــب وســواري وأحبــال وكـرايس املركــب ،يصعــد
" -مش عارفة أح ِّدد". صوتهــم إىل أثــر فجــر غريــب املالمــح.
بدأتُ أحف ُظ أغنيتهم. -
ـألت ظــال األزرق ،كيــف أنق ـ َذتْ "حريــر الــروح" عــي سـ ُ صعقنــي أ َّن الصــوتَ لـِ"حريــر الــروح" ،إذًا هــي معــي ،لكــن
بابــا؟ أيــن؟
م ـ َّر طيــف مشــبع بفتنــة األخــر ،تقابلنــا ،ســندت رأســها مم سمعت: تيقنت ذاكرة األزرق ّ
عــى صــدري ،النــاس يف حضــن الشــارع ،و"حريــر" يف " ..يــا بحــور عســلهم ربّــاين ..عطشــان يــاين ..يــا بحــور
حضنــي. العــن."..
عاتبتُهــا ،ال أدري ،قالــت يل إنَّهــا فصــدت دم عــي بابــا، غامــت صحــوة املركــب ،شــفاه "حريــر" تتمتــم" :ونظــرة
الــرق والصواعــق أتلفــت دمــه. وحــدة تروينــي ..وتخلّينــي ..أشــبع ســنتني
ـك"،حملنــا ،ثالثــة صناديــق مذ َّهبــة ،قــال لـِ"حريــر"" :هــي لـ ِ يا مني يوصلني ألبوهاّ ..ول ألخوها ..وأدفع َمهرين".
ــت بهــدوء ،ســمع منهــا التجــار ،وكبريهــم امل ُصــاب رفضَ ْ هاجــت الحــارة ،توقــف الغنــاء ،تدافــع الخلــق ،قالــوا إ َّن
بال َّدهشــة: الــرق أصــاب "عــي بابــا" يف مقتــل ،وهــو يجاهــد لــي
نحــن عشّ ــاق ،نــرى بعــن واحــدة ونتن ّفــس برئــة - يعيــش .فزعــت "حريــر" وقفــت ،نزلــت إىل منــام الحــارة،
ونتوســد خيالنــا وننــام عــى يــد واحــدة إىل الصبــاح. واحــدةَّ ، جســدها منقــوع ببقايــا عشــب البحــر ،ملوحــة جففتهــا
خصهــا عــي بابــا مباســة زرقــاء ،لهــا حكايــة تناثــرت كــا ثــم َّ ـول مـ ّـا أشــاهد عــى ـت مذهـ ً ـت ،كنـ ُ
أ ّول الشــمس ،تق َّد َمـ ْ
ثرثــرة وقــت حريــق. تتلصــص داخــل صفحتــي ،أنــا واألزرق وعيــون الت ّجــار ّ
قلّبنــا صناديــق الهدايــا ،كانــت ثقيلــة باملخطوطــات مــن الشاشــة.
أشــعار الهنــد والســند ،وفيهــا كتــب عــن أرسار الدفــن والقرب رب خري وعافية.. -يا ّ
رق الغــزال، ــت "حريــر" قطعــة مــن ّ لبس ْ
حــول البحــارَ . " -شو هالغياب امل ُقلق؟".
مدبوغــة باملســك وصعقتنــي ،فقــد ســلبت مــا تبقــى مــن " -كنــت مشــغولة مــع أخــوي ،يــوم الســبت واألحــد ع ّديــت
قلــب مولــع. عــى بابــا".
ــت
رقص ْ تحمــل قــادة مــن العقيــق الب ّنــي الغامــضَ ، ..... -؟
وتذكَّــ َرتْ أغنيــة الحــارة" ....ونظــرة وحــدة تروينــي" ..وال " -لكــن ..يف حاجــة غريبــة ،عنــدي إحســاس ّإن مــش عايــزة
أدري ملــاذا بكــت؟ أتكلّم!".
جنــوين ،مثــل لحظــة عشــقها ،تتنبّــأ بــاآليت ،ال أريــد أن أتنبّــأ، ..... -
ففــي شاشــتي هنــاك َمــن يتن ّبــأ يل عــن عامــي الجديــد، غابت شمس روحي ،رفرف قلبي ثم همد.
قــد أضحــك ولكــن ال أتج َّمــل ..ســأجلس عــى آخــر مقاعــد -صباح الخري..
الحديقــة اإلســمنت ّية ،أركّــز يــدي ،أجــاور الياممــات وأهــدل، " -شو اليل حاصل ،مالك؟".
أهــدل ،لــن أكــون وحي ـ ًدا. " -عايزة شويّة صمت..
مش عارفة ليه..؟
124
نوافذ
ثقافة عرب ّية
ثقافية
البنية الثقافية واالجتامعية واالقتصادية يف القدس /عبدالله كنعان ونرص شقريات
للقــدس تاريــخ طويــل وهويّــة عريقــة عمــد االحتــال اإلرسائيــي إىل طمســهام ،وفــرض عــى املدينــة
املق ّدســة أرضً ــا وســكانًا أوضا ًعــا اجتامعيــة واقتصاديــة وثقافيــة ،يعاينهــا هــذا الكتــاب الــذي م ّهــد
مؤلفــاه بالحديــث عــن وحــدة العالقــة الثقافيــة واالجتامعيــة واالقتصاديــة بــن األردن وفلســطني
منــذ أن كانتــا وحــدة إداريــة واحــدة يف صــدر الدولــة اإلســامية يف العهــد األمــوي حتــى اللحظــة محمد ّ
سلم جميعان*
الراهنــة.
وسـلّط الكتــاب الضــوء عــى وحــدة العيــش املشــرك والتآلــف بــن املقدســيني ،فإحصائيــات املعابــد
تــؤش عــى الرتجمــة العمليــة للعهــدة الدينيــة ورمزيّتهــا ومامرســات معتنقــي الديانــات كلهــا ِّ
العمريــة التــي أق ّرهــا أتبــاع الديانتــن اإلســامية واملســيحية.
ويف الجانــب اآلخــر مــن الكتــاب يكشــف املؤلفــان أثــر االحتــال يف متزيــق هــذه الوحــدة
وانعكاســاتها .متا ًمــا كــا تأثــرت األوضــاع االقتصاديــة ســل ًبا بالسياســات اإلرسائيليــة ،وبخاصــة
القطــاع الســياحي الــذي يشــكل ركيــزة أساســية يف الحيــاة االقتصاديــة يف املجتمــع املقــديس ،نظـ ًرا
ملــا تحظــى بــه املدينــة املق ّدســة مــن مكانــة دينيــة وثقافيــة وتاريخيــة.
معــرة للتحــ ُّوالت التــي عصفــت باملدينــة جــ ّراء االحتــال مشــفوعة ويقــدم الكتــاب صــورة ّ
بالجــداول اإلحصائيــة التــي ترصــد رقم ًّيــا األوضــاع التعليميــة واألوضــاع الصحيــة وطمــس املعــامل
العمرانيــة فيهــا.
رسائل من روكس بن زائد العزيزي ومن أدباء وك ّتاب آخرين /يوسف حمدان
بعــد أن كاد ف ـ ّن الرســائل يندثــر ،يعــود األديــب يوســف حمــدان إىل بعثــه مــن جديــد ،فينتقــي
جملــة وافــرة مــن الرســائل األدبيــة بينــه بــن عــدد مــن األدبــاء ،الذيــن لهــم مكانتهــم العل ّيــة يف
الشــأن الثقــايف ،فيجعلهــا يف كتــاب يحضــن حروفهــا .وقــد انتقاهــا مــن بــن عــدد وافــر مــن الرســائل
التــي ظـ ّـل ضني ًنــا بنرشهــا هنــا يف هــذا الكتــاب ،ألســباب مل يفصــح عنهــا.
الرســائل األدبيــة كــا كُتــب ســر األدبــاء تكشــف بوضــوح أكــر عــن طبيعــة الحـراك الثقــايف ،وعــن
جدليــة العالقــة بــن املثقفــن ،وتجـ ّـي للقــارئ كواليــس كثــر مــن املشــهد الثقــايف العــام والخــاص،
فبالقــدر الــذي تحمــل فيــه الرســائل النبــض الــذايت فإنهــا تكشــف عــن ســرورات الفعــل الثقــايف
وبُنــاه ومنعرجاتــه.
لقــد حملــت هــذه الرســائل مــادة خصبــة عــن واقعنــا الثقــايف .ولعـ َّـل هــذا بـ ّـن أكــر مــا يكــون
يف رســائل األديــب املرحــوم أحمــد عــودة ،فرســائله مليئــة باالمتعــاض مــن واقعنــا الثقــايف يف
الثامنينــات ،ومــن كل مــا يلتبــس فيــه مــن شــلل ّية الكتّــاب يف النــر ،والتذ ُّمــر مــن انتخابــات رابطــة
الكتّــاب وكواليســها ،وغريهــا مــن القضايــا الثقافيــة التــي ترصــد مــا ال يتوافــر يف كثــر مــن كتــب
التاريــخ األديب.
ويف ســبيل تحقيــق أكــر قــدر مــن الحياديــة يف هــذه الرســائل فــإ َّن مؤلــف الكتــاب نرشهــا مــن
رف أو تزويــق يف محتوياتهــا ،وتأكيـ ًدا لهــذه الحقيقــة ،أثبــت نصوصهــا بخــط أصحابهــا، دون أي تـ ُّ
ـت وعــرون رســالة تطفــح بالبــؤس والفــرح ،وما ليكــون املطبــوع مواف ًقــا للمخطــوط باليــد .إنهــا سـ ٌّ
ورد فيهــا مــن شــكوى الواقــع الثقــايف مــا زال يريــن عــى واقعنــا الراهــن ثقافيًّــا.
126
املؤلــف الفصــل الثــاين للحديــث عــن أبعــاد الرؤيــة الشــعرية ،وأجملهــا يف البعديــن الداخــي ُ وخصــص ّ
والخارجــي ،واملــرأة وأثرهــا فيــه وتغلغلهــا يف وجدانــه ،واملــكان بأبعــاده املختلفــة وتعلّــق الشــاعر بــه ،وأثــر
ذلــك كلــه يف تنويــر تجربتــه الشــعرية وإضــاءة آفاقهــا املختلفــة ،إضافــة إىل النــاذج الوطنيــة يف شــعر
الزيــودي.
أ ّمــا الفصــل الثالــث فأفــرده املؤلــف لدراســة بعــض الظواهــر الفنيــة يف شــعر الشــاعر ،فتت َّبــع التنــاص بأشــكاله
املختلفــة (الدينــي واألديب والتاريخــي) مــرزًا مواضــع التناصــات ومســتواها الفنــي ،وكذلــك ظاهــرة االنزيــاح
ودورهــا يف وصــف تجليــات الشــاعر ،والصــور الفنيــة التــي أثــرت يف تجربــة الزيــودي الشــعرية ،واســتخدام
العا ّمــي واليومــي إلظهــار انغــاس الشــاعر يف الحيــاة اليوميّــة الشــعبيّة ،كــا وقــف املؤلــف عنــد ظاهــرة
الدرام ّيــة واملونتــاج اللتــن اســتعارهام الشــاعر مــن الفنــون األخــرى.
يتبـ َّـن للقــارئ فــور فراغــه مــن ق ـراءة الكتــاب ال ـ َّدور املم َّيــز للشــاعر الزيــودي الــذي أســهم بشــكل بــارز
ومؤثِّــر يف املشــهد الثقــايف.
أفكار /نوافذ ثقافية 127