You are on page 1of 130

‫ملف العدد‬

‫إشــكــاليــة الرتجمـة يف الوطـن العــريب‬


‫العـــــــدد ‪403‬‬ ‫آب ‪2022‬‬
‫ثقافيـة شهريـة ‪-‬تصـدر عن وزارة الثقافـة منـذ ‪1966‬‬
‫املــــمــــلــــكــــــة األردنــــيــــة الـــهاشــمـــيــة‬
‫‪403‬‬
‫تأمــل هيئــة تحريــر املجلــة مــن الكتّــاب‬
‫مراعــاة مــا يــي‪:‬‬
‫ •ترســل املــادة املطبوعــة ألكرتوني ـاً مشــفوعة‬
‫الســفر‬
‫بصــورة للهويــة الشــخصية‪ ،‬أو لجــواز ّ‬
‫لغــر األردنيــن عــى عنــوان الربيــد اإللكــروين‬
‫للمجلــة‪.‬‬
‫ •أن ال تكون املادة قد نرشت سابقًا‪.‬‬

‫مجلّة أفكار‬
‫ •أن ال يتجــاوز عــدد كلــات املــادة ‪2000‬‬
‫كلمــة يف حــده األقــى‪.‬‬
‫ •الصــور املرســلة للــادة يجــب أن تكــون‬
‫عاليــة الدقــة والوضــوح عــى أن ال تقــل عــن‬

‫مجلّة شهر ية ثقافية‬


‫‪ 1‬ميجــا بايــت‪.‬‬
‫ •هيئــة التحريــر هــي الجهــة املخ ّولــة بقبــول‬

‫تصدر عن وزارة الثقافة‬


‫املــادة للنــر أو االعتــذار عــن عــدم نرشهــا‪.‬‬
‫ •تحتفــظ املجلــة بحقهــا يف التــرف‬

‫المم�لكة الأردنية الهاشمية‬ ‫باملــواد التــي تنرشهــا ويشــمل هــذا الحــق‬


‫الطباعةالورقيــة والنــر اإللكــروين‪ ،‬وال يجــوز‬

‫‪ / 403‬آب ‪2022‬‬
‫إعــادة نــر مــواد مجلــة «أفــكار» دون إذن‬
‫مســبق مــن هيئــة تحريــر املجلــة‪.‬‬
‫ •يرســل الكاتــب اســمه الثــايث‪ ،‬واســم الشــهرة‬
‫الــذي يُعــرف بــه‪ ،‬ورقمــه الوط ّنــي (للكتّــاب‬
‫األردنيــن)‪ ،‬ونبــذة عــن ســرته الذاتيــة (للمــرة‬
‫املوقع اإللكرتوين ملجلة أفكار‪:‬‬ ‫األوىل فقــط)‪.‬‬
‫‪http://www.afkar.jo‬‬ ‫ •يرفــق مــع املــواد املرتجمــة نبــذة عــن ســرة‬
‫كام ميكن تصفّح املجلة عىل موقع الوزارة‪:‬‬ ‫مؤلّــف النــص املرت َجــم‪ ،‬ويُشــار إىل املصــدر‬
‫‪www.culture.gov.jo‬‬ ‫املرت َجــم عنــه‪.‬‬
‫املراسالت باسم رئيس التحرير‪:‬‬ ‫ •يخضــع ترتيــب املــواد املنشــورة العتبــارات‬
‫‪E.mail: afkar@culture.gov.jo‬‬ ‫موضوعيــة وفنيــة‪.‬‬
‫رقم اإليداع لدى دائرة املكتبة الوطنيّة‪:‬‬
‫(‪ / 2010 )1090‬د‬
‫العنوان الربيدي‪:‬‬
‫عاّمن ص‪.‬ب‪6140 :‬‬ ‫األردن ‪ّ -‬‬
‫الرمز الربيدي‪11118 :‬‬
‫رئيس التحرير ‪ /‬د‪ .‬غسان عبد الخالق‬
‫مدير التحرير ‪ /‬أ‪ .‬مخلد بركات‬
‫سكرترية التحرير ‪ /‬أ‪ .‬منال حمدي‬
‫‪4‬‬ ‫مفتتح‬
‫هيئة التحرير ‪ /‬د‪ .‬ابراهيم بدران‬
‫‪6‬‬ ‫ملف العدد‪:‬‬ ‫‪ /‬أ‪ .‬سميحة خريس‬
‫‪ /‬أ‪ .‬إبراهيم غرايبة‬
‫ ‬
‫ ‬
‫إشكالية الرتجمة يف‬
‫الوطن العريب‬ ‫‪ /‬د‪ .‬رزان ابراهيم‬ ‫ ‬
‫‪ /‬د‪ .‬أماين سليامن داود‬ ‫ ‬

‫‪27‬‬ ‫دراسات‬
‫ومقاالت‬
‫اإلخراج الف ّني ‪ /‬هزار مرجي‬
‫لوحتا الغالفني األمامي والخلفي ‪ /‬الفنان األردين صالح شاهني‬

‫املــواد املنشــورة يف هــذا العــدد تعـ ّـر عــن آراء ك ّتابهــا‪ ،‬وال‬
‫تعــر بالــرورة عــن رأي وزراة الثقافــة األردنيــة‪.‬‬

‫ملف العدد ‪ /‬إشكالية الرتجمة يف الوطن العريب‬

‫‪110‬‬ ‫إبداع‬

‫‪124‬‬ ‫نوافذ ثقافية‬


‫المحتو يات‬

‫املفتتح‪ :‬التنوير وتحديات الراهن ‪ /‬سميحة خريس‬ ‫‪4‬‬


‫ملف العدد‪ :‬إشكالية الرتجمة يف الوطن العريب‬
‫تقديم‪ :‬بخصوص بعض إشكاليات الرتجمة يف الوطن العر ّيب ‪ /‬د‪ .‬فؤاد عبداملطلب‬ ‫‪7‬‬
‫عدم كفاية آليات تقنني وضع الرتجمة يف وطننا العريب ‪ /‬د‪ .‬سليامن العباس‬ ‫‪9‬‬
‫واق ُع الرتجم ِة العلم ِّية يف العامل العريب والالمركزيّة يف اتخاذ القرار‪ /‬د‪ .‬رافد الربيعي‬ ‫‪13‬‬
‫ترجمة الشعر بني املمكن واملستحيل ‪ /‬د‪ .‬خالد الشيخيل‬ ‫‪19‬‬
‫مثااًل ‪ /‬د‪ .‬محمد الحوامدة‬
‫وعوامل 'الكفاءة' الرتجم ّية يف الوطن العر ّيب‪ :‬األردن ً‬
‫ُ‬ ‫تدريب املرتجمني‬
‫ُ‬ ‫‪23‬‬
‫دراسات ومقاالت‬
‫الخطاب التنويري والفعل الثقايف ‪ /‬عبداملجيد جرادات‬ ‫‪28‬‬
‫الخطاب السجايل ‪ -‬محاولة بناء املفهوم ‪ /‬ياسني الشعري‬ ‫‪34‬‬
‫محمد عامرة‪" :‬طه حسني من االنبهار بالغرب إىل االنتصار لإلسالم" ‪ /‬د‪ .‬زياد ابو لنب‬ ‫‪38‬‬
‫رؤية العامل يف أدب توفيق الحكيم ‪ /‬جالل مصطفاوي‬ ‫‪43‬‬
‫طبيعة العامل يف فلسفة ابن رشد ‪ /‬عبداللطيف بطاح‬ ‫‪50‬‬
‫التوحيدي؛ فيلسوفًا وعامل ًا وسيكولوجيًا ‪ /‬محمد محمود فايد‬ ‫‪57‬‬
‫أهمية املدخل الثقايف ملحاربة التطرف‪ /‬الزبري مهداد‬ ‫‪63‬‬
‫ثقافة االرهاب وتدمري تراث االجداد ‪ /‬د‪ .‬هدى امليموين‬ ‫‪69‬‬
‫تواريت يك ال أختفي (سؤال املوت أم موت السؤال) ‪ /‬د‪ .‬محمود سعيد‬ ‫ُ‬ ‫‪75‬‬
‫كيف ترتك التقنيات الرقمية بصامتها عىل ادمغتنا ‪ /‬د‪ .‬حسان العوض‬ ‫‪82‬‬
‫حديث الروح‪ :‬كلامت محمد إقبال يف املنت الكلثومي ‪ /‬د‪ .‬عزيز بعزي‬ ‫‪88‬‬
‫عبد املنعم ال ّرفاعي‪ :‬إطاللة عىل حياته وإبداعاته ‪ /‬د‪ .‬يوسف بكّار‬ ‫‪97‬‬
‫إبداع‬
‫ت ّوجوا امللكة‪ /‬شعر‪ :‬مازن حلمي‬ ‫‪111‬‬
‫أمزج الكآبة بامليش‪ /‬شعر‪ :‬آالء حسانني‬ ‫‪112‬‬
‫البحث عن خريطة األشياء‪ /‬شعر‪ :‬محمد الشحات‬ ‫‪114‬‬
‫حديث خاص‪ /‬شعر‪ :‬محمود عبدالصمد‬ ‫‪115‬‬
‫بنطال دوشامب ‪ /‬قصة‪ :‬ليىل سالمة‬ ‫‪118‬‬
‫سفر‪ /‬قصة‪ :‬روند الكفارنة‬ ‫‪119‬‬
‫شهادة إبداعية ‪ /‬قصة‪ :‬نور العتيبي‬ ‫‪120‬‬
‫وخزة ‪ /‬قصة‪ :‬محمد حسني السامعنة‬ ‫‪122‬‬
‫نوافذ ثقافية ‪ /‬محمد سالم جميعان‬ ‫‪124‬‬
‫مفتتح‬
‫‪4‬‬

‫التنوير وتحديات الراهن‬


‫* سميحة خريس‬

‫نأمــل أنَّنــا خرجنــا مــن ســنوات "كوفيــد" اللئيمــة مقبلــن عــى الحيــاة‪ ،‬قادريــن عــى اجــراح الفعــل الثقــا ّيف‪،‬‬
‫ـنظل نكتــب ونغنــي ونتحــاور ونرســم‪ ،‬واألهــم‬ ‫مراهنــن أنّنــا ‪-‬برغــم صعوبــات املرحلــة االقتصاديّــة واالجتامع ّيــة‪ -‬سـ ُّ‬
‫ـنظل نف ِّك ـ ُر‪ ،‬وتلــك أجمـ ُـل أدوات املقاومــة والصمــود‪.‬‬ ‫سـ ُّ‬
‫راهنــا عــى اســتمرار مســرة الفكــر والتنويــر رغــم كل مــا نـراه حولنــا مــن تــدا ٍع لثوابــت أقامــت فينــا رد ًحــا‪ ،‬ولعلّنــا‬
‫يف ذلــك نجــد يف التغيــر فرص ـ ًة لإلصــاح ومحاســبة نقــاط الضعــف‪ ،‬والبحــث عــن الجديــد الــذي يشــبه عــره‪.‬‬
‫ورغــم مت ّيــع وضباب ّيــة املشــهد أحيانًــا‪ ،‬وتسـلّط مــا بــات يُعــرف بزمــن التفاهــة‪ ،‬فــإ َّن نخ ًبــا تتناثــر كالنجــوم يف صفحــة‬
‫ســوداء قــادرة عــى إبقــا ِء شــعلة التنويــر متقــدة‪.‬‬
‫كل االجتهــادات التــي تدعــو إىل تراجــع‬ ‫ـاص واجتهــاد‪ ،‬مخرتق ـ ًة َّ‬ ‫مجلــة "أفــكار" تحمـ ُـل رســال ًة تقــوم عليهــا بإخـ ٍ‬
‫ـت إىل قض ّيــة قدميــة حديثــة‪،‬‬ ‫الق ـراءة الورق ّيــة الجــادة املشــغولة بعنايــة‪ .‬يف هــذا العــدد الــذي بــن أيديكــم‪ ،‬نلتفـ ُ‬
‫ـات ألســئل ٍة مريــر ٍة تتعلــق بواقــع الرتجمــة وإشــكالياتها يف عاملنــا‬ ‫تباحثنــا فيهــا مطـواًلً ومــا ن ـزال نبحــث عــن إجابـ ٍ‬
‫كل مــن تعــرض إىل املســألة يتــأىس عــى واقــع الرتجمــة‪ ،‬القائــم عــى فــوىض االســتخفاف والعمــل‬ ‫العــر ّيب‪ ،‬يف حــن أ َّن َّ‬
‫ـات حصيفــة‬ ‫االرتجــا ّيل‪ ،‬ويعــدد الحــاالت القليلــة التــي متكّنــت مــن تجــاوز الواقــع الفقــر‪ ،‬فإنّنــا نذهــب إىل دراسـ ٍ‬
‫يف قلــب إشــكالية الرتجمــة‪ ،‬آلياتهــا املق ّننــة التــي يســتوجب توفرهــا رشطًــا لرتجم ـ ٍة ف ّعالــة وفاعلــة‪ ،‬ومــا ينطــوى‬
‫ر نجــد فيــه أ َّن لغتنــا تلحــق الهث ـ ًة باملصطلحــات العلم ّيــة‬ ‫عليــه مــن تح ـ ٍّد كب ـرٍ للقيــام برتجمــة العلــوم يف ع ـ ٍ‬
‫الشــعري العــر ّيب برشوطــه‬
‫ّ‬ ‫املوزعــة بــن املراكــز اللغويّــة؛ مــا يقــود إىل تشــتّت الداللــة واملعنــى‪ ،‬ثــم املعــار‬
‫املعروفــة وإمكانيتــه الخفيّــة ومــا يحــدث لــه عنــد الرتجمــة‪ ،‬ومــن هــم الذيــن يرتجمــون فكرنــا وأدبنــا وحتــى‬
‫أوراقنــا الرســم ّية؟ وهــل حقّقــوا قــد ًرا مــن الكفــاءة يخ ّولهــم ألن يكونــوا جســو ًرا متينــة وآمنــة لعبــور الثقافــات‬
‫فوقهــا وتبــادل األفــكار واإلبــداع والعلــوم؟ كيــف يت ـ ُّم إعــداد مرتجــمٍ متمــرس؟ أليســت هــذه قض ّي ـ ٌة عــى درجــة‬
‫مــن األهم ّيــة؟‬
‫واملختصــن‪ ،‬عــى أمــلٍ‬
‫ّ‬ ‫ـح بــاب املناقشــة لهــذه األفــكار مجتمعـ ًة بأقــام عــد ٍد مــن الباحثــن‬ ‫ـاول ملــف "أفــكار" فتـ َ‬ ‫يحـ ُ‬
‫ـاب مفتو ًحــا عــى الحــوار واملتابعــة يف الســاحة الثقاف ّيــة‪.‬‬ ‫أن يظـ َّـل هــذا البـ ُ‬
‫وعــى ذات املنــوال الجــاد واملــادة الزاخــرة باملعرفــة‪ ،‬تذهــب "أفــكار" األردن ّيــة – العرب ّيــة إىل الحفــر يف موضــع‬

‫* عضو هيئة تحرير مجلة أفكار‬


‫أفكار ‪ /‬املفتتح‬ ‫‪5‬‬

‫ـري وعالقتــه املبــارشة والوطيــدة بالفعــل الثقــا ّيف‪ ،‬ألنّنــا وبســبب االنحيــازات التــي عصفــت بالفكــر‪،‬‬ ‫الخطــاب التنويـ ّ‬
‫ـري‪ ،‬فهــو ســاحنا ملقاومــة األفــكار املح ّملــة بالعتمــة‪ ،‬والتــي تدفعنــا إىل الخلــف‬ ‫بتنــا أكــر حاجــة إىل الفكــر التنويـ ّ‬
‫ـاري‪ ،‬كــا نعــرض ملحاولــة بنــاء مفهــوم الخطــاب الســجا ّيل‪ ،‬الــذي يتيــح‬ ‫ـف منــذر ًة برتاجعنــا عــن دورنــا الحضـ ّ‬ ‫بصلـ ٍ‬
‫مســاح ًة للحــوار والنقــاش وفهــم اآلخــر والقبــول بالتن ـ ّوع والتعدديّــة‪.‬‬
‫مــن جانــب آخــر نســرجع أبــر َز األعــام الذيــن خاضــوا يف تلــك التجــارب الفكريّــة علـ ًـا وفلســف ًة وأدبًــا‪ ،‬فيحــر‬
‫طــه حســن وتوفيــق الحكيــم وابــن رشــد والتوحيــدي‪ ،‬وليســت العــود ُة إىل هــؤالء فـرا ًرا إىل الخلــف‪ ،‬بقــدر مــا هــي‬
‫ـري يف ثقافتنــا‪ ،‬إنَّهــا اســتعاد ُة الرمــوز القــادرة عــى مجابهــة الــردة‬ ‫تنبيــه إىل بــذور وبدايــات الفكــر الحــر التنويـ ّ‬
‫املتخصصــن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ـارب الرائــد َة مجموع ـ ٌة مــن األســاتذة‬
‫الفكريّــة‪ .‬يق ـ ِّد ُم تلــك التجـ َ‬
‫ـري ال يق ـ ّدم تنظ ـ ًرا جافًــا‪ ،‬ولك َّنــه يشــتبك مــع الراهــن بــكل إحباطاتــه ومظاهــره‪ ،‬فــإ َّن باحثــن‬ ‫وأل َّن حفرنــا الفكـ ّ‬
‫ـات اجتامعيّــة وفكريّــة وسياسـيّة أثّــرت عــى حارضنــا‪ ،‬وقــد تــركان‬ ‫يعرضــان لنقطتــن عايشــناهام وتســببا يف انقالبـ ٍ‬
‫ـرف إىل‬‫تأثريهــا املريــع عــى مســتقبلنا القــادم إذا مل نتصــدى لفهمهــا وتحليلهــا ومقاومتهــا‪ ،‬فقــد قــاد التطـ ُ‬
‫ـب يف الشــخص ّية العرب ّيــة بــل والعامل ّيــة‪ ،‬مــا أوجــب دراســته عــر الثقافــة كظاهــرة تســترشي كــا النــار‬ ‫تحـ ّو ٍل غريـ ٍ‬
‫يف الهشــيم‪ ،‬يرافقهــا أيضً ــا ذلــك الفه ـ ُم ل ـراث األجــداد؛ بــل والذهــاب إىل تدمــره عــر ظاهــر ٍة عاثــت فســا ًدا يف‬
‫مجتمعاتنــا العربيّــة وسـبّبت خرابًــا كبـ ًرا‪ ،‬أال وهــي ثقافـ ُة اإلرهــاب‪ ،‬تفكيـ ُـك تلــك الظاهــرة وفهــم أســبابها ونتائجهــا‬
‫كفيـ ٌـل يف املســاعدة للخــاص منهــا‪ ،‬ويف تطهــر ثقافتنــا وشــخصيتنا العرب ّيــة مــن الســمعة الســيئة التــي لحقــت بهــا‬
‫ج ـراء الحــركات اإلرهاب ّيــة‪.‬‬
‫ثــم‪ ،‬ألســنا يف عــر التكنولوجيــا املذهلــة املتســارعة؟ أال يجــدر بنــا دراســة تأثــر تلــك التقنيــات الرقميّــة وتتبــع‬
‫ـي ولك َّنــه مرتب ـ ٌط بالتطــور اإلنســا ّين‪.‬‬
‫بصامتهــا عــى أدمغتنــا؟ إنَّــه بحــثٌ علمـ ٌّ‬
‫وفــوق ذلــك كلــه ال يغيــب عــن مجلــة "أفــكار" جانــب الفنــون الجميلــة العاليــة‪ ،‬التــي تخاطــب العقــل والــروح‬
‫ـاب أردنيــن وعــرب مبدعــن‪.‬‬ ‫ـوص لكتّـ ٍ‬‫ـرض لتجربــة مرسح ّيــة‪ ،‬ونصـ ٍ‬ ‫م ًعــا‪ ،‬مــن عـ ٍ‬

‫لقــد أخلصــت تلــك املجل ـ ُة القادم ـ ُة مــن مدينــة عــان للفكــر يف زمــن تقلصــت فيــه الصحافــة الثقافيّــة العربيّــة‪،‬‬
‫ـتظل تواصــل أداء دورهــا الفاعــل يف إثـراء الحــوار وتنــاول القضايــا الجــادة واألكــر التصاقـاً بحيــاة املثقــف‪ ،‬كــا‬ ‫وسـ ُّ‬
‫ســتواصل انفتاحهــا التــي تعتـ ُّز بــه عــى املبدعــن واملفكريــن العــرب‪ ،‬ذلــك أنَّهــا مل تكــن يو ًمــا مجلــة محل ّيــة ضيقــة‬
‫رشعـ ٌة لـ ِّ‬
‫ـكل معــر ٍّيف وجميــل يــأيت مــن العــامل العــر ّيب‪ ،‬أو هــذا الكــون الــذي بتنــا نعــرف أنَّــه‬ ‫األفــق‪ ،‬ولك َّنهــا بوابـ ٌة م َ‬
‫صغـ ٌر جـ ًّدا‪ ،‬أصغــر مــا تصورنــاه‪.‬‬
‫إشكالية الترجمة‬
‫في الوطن العربي‬

‫د‪ .‬فــؤاد عبداملطلــب ‪ /‬د‪ .‬ســليامن العبــاس ‪/‬‬


‫د‪ .‬رافــد الربيعــي ‪ /‬د‪ .‬خالــد الشــيخيل ‪/‬‬
‫د‪ .‬محمد الحوامدة‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪7‬‬

‫تقديم امللف‬
‫بخصوص بعض إشكاليات الرتجمة‬
‫يف الوطن العر ّيب‬
‫د‪ .‬فؤاد عبد املطلب*‬

‫ـات متجانســة‪ ،‬بــل وســيل ًة للوصــول إىل الثقافــات املختلفــة‬ ‫ليســت الرتجم ـ ُة ج ـرا ً للعبــور إىل ثقافـ ٍ‬
‫ـاص بثقافاتنــا العربيــة‪ .‬فنعــرف أنفســنا مــن معرفتنــا لآلخــر‪.‬‬ ‫األخــرى وفهـ ِـم تنو ِعهــا‪ ،‬والتنــوع الخـ ِّ‬
‫اك الــذات بصــورة أعمــق إلعــادة تشــكيلها‬ ‫والســبيل الــذي نخوضــه يف معرفتــه لــه أث ـ ٌر كب ـ ٌر يف إدر ِ‬
‫ر وســهولة مــن دون صعوبــات وإشــكاليات تعــرض ســبيل‬ ‫وفــق الــرؤى الجديــدة التــي ال تتحقــق بيـ ٍ‬
‫امللــف لبعــض تلــك‬
‫ُ‬ ‫املرتجمــن عنــد النقــل واإلنجــاز يف مختلــف حقــول املعرفــة‪ .‬ويتصــدى هــذا‬
‫ـات رئيســة ومــا يتّصــل بهــا مــن نقـ ٍ‬
‫ـاط‬ ‫الصعوبــات والتحديــات واإلشــكاليات مبناقشــته أربعـ َة موضوعـ ٍ‬
‫فرع ّيــة؛ وهــي‪ :‬تقنــن الرتجمــة أكادمي ًّيــا ومهن ًّيــا‪ ،‬وترجمــة املصطلحــات العلميــة والتقن ّيــة‪ ،‬وتدريــب‬
‫املرتجمــن لتحصيــل الكفــاءة‪ ،‬وترجمــة الشــعر‪ .‬وتنــاول هــذه املوضوعــات أســاتذ ٌة د َّرســوا الرتجمــة‬
‫جمي ًعــا يف جامعــات ومؤسســات عرب ّيــة وأردن ّيــة ســنوات طويلــة يف ســائر املراحــل الدراسـ ّية‪ .‬وعرضــوا‬
‫ـي قابــلٍ للنقــاش واألخــذ والعطــاء‬‫بعضهــا وقدمــوا آراءهــم فيهــا واقرتحــوا حلـو ًاًل لهــا عــى نحـ ٍو بحثـ ٍّ‬
‫يف ســبيل الوصــول إىل صي ـغٍ مفيــدة ومقبولــة تخاطــب تلــك التحديــات لتجاوزهــا واملــي قد ًمــا يف‬
‫هــذا املجــال‪.‬‬

‫وتكمــن مشــكل ُة دراسـ ِة الرتجمــة يف أنَّهــا تــردد حائــرةً‪ ،‬تتنقــل بــن النظريــات التــي يد ِّرســها األســاتذة‬
‫أساســا إىل الفــن عنــد النقــل واســتعامل اللغــة‪.‬‬
‫والتطبيــقِ الــذي ميارســه املرتجمــون‪ ،‬والــذي يســتند ً‬
‫أســاليب ومهــاراتٌ وتقنيــات‪ ،‬ومثــة‬
‫ُ‬ ‫فالرتجمــ ُة يف دراســتها أفــكا ٌر وقواعــ ُد ونظريــاتٌ ‪ ،‬ويف تطبيقهــا‬
‫بــون شاســع يفصــل بــن الجانبــن‪ .‬فكث ـ ًرا مــا نالحــظ أ َّن الكثــر مــن مــد ِّريس قواعدهــا ونظرياتهــا‬
‫ال يرتجمــون‪ ،‬وأ َّن الكثــر مــن مــاريس ف ّنهــا ال يحفلــون بالجوانــب النظريــة‪ ،‬وهــذا املوضــوع بذاتــه‬
‫إشــكالية تحتــاج إىل املزيــد مــن التقــي والنقــاش‪ .‬وهــذا مــا فعلــه د‪ .‬ســليامن العبــاس ملــا كتــب‬

‫* جامعة جرش‪ -‬األردن‬


‫‪8‬‬

‫مداخلــة عنوانهــا "عــدم كفايــة آليــات تقنــن وضـعِ الرتجمــة يف وطننــا العــريب أكادمييًّــا ومهنيًّــا"‪ ،‬أشــار‬
‫فيهــا إىل إشــكالية الرتجمــة وأســبابها محل ًّيــا وعرب ًّيــا محــاوالً تلمــس بعــض الحلــول لهــا‪ .‬والتقنــ ُن‬
‫ـكام وضواب ـ َط دقيق ـ ٍة للرتجمــة عــى‬ ‫ـح يفيــد بــرورة وض ـعِ قوان ـ َن وأحـ ٍ‬ ‫بحســب د‪ .‬العبــاس مصطلـ ٌ‬
‫ـي‪ .‬وتنــاول فيهــا الباحــثُ مشــكالتها يف جامعاتنــا ومؤسســاتنا العرب ّيــة‪،‬‬ ‫ـي واملهنـ ّ‬ ‫الصعيديــن األكادميـ ّ‬
‫مســتن ًدا إىل خربتــه النظريّــة والعمليّــة املديــدة يف تعليمهــا ومامرســتها‪ ،‬وهــي تجربــ ٌة مميّــز ٌة ال‬
‫مختصــا‬
‫ًّ‬ ‫ـات عرب ّيــة مختلفــة‪ ،‬عمــل فيهــا‬ ‫ـات وجامعـ ٍ‬ ‫يُســتهان بهــا مــن أســتاذ أمــى عقــو ًدا يف مؤسسـ ٍ‬
‫ي‪ .‬وتــكاد هــذه املشــكالتُ تتامثـ ُـل يف طبيعتهــا وحجمهــا وتأثرياتهــا‪ ،‬هــذا‬ ‫ايس والعمـ ّ‬ ‫بهــذا الحقــل الــدر ّ‬
‫باإلضافــة إىل ســبل التغلــب عليهــا‪ .‬وتطــرق فيهــا إىل املشــكالت التــي تظهــر أوالً لــدى قبــول طلبــة‬
‫ـات التــي يؤدونهــا‪ ،‬وتدريبِهــم وإعدادهــم ملامرســتها يف‬ ‫الرتجمــة‪ ،‬واملــواد التــي يدرســونها‪ ،‬واالمتحانـ ِ‬
‫الحيــاة العمليــة‪ .‬وتنــاول العشــوائ ّي َة التــي تحكــم مامرســتها يف املكاتــب واملراكــز املهن ّيــة وعــدم كفايــة‬
‫ـص لتلــك املكاتــب واملراكــز مبامرســة مهنــة الرتجمــة ال يعنــي‬ ‫ـح الرتاخيـ ِ‬
‫املرتجمــن العاملــن فيهــا‪ .‬إ َّن منـ َ‬
‫أهليــة مــن يقــوم بهــا فيهــا؛ وذلــك لعــدم وجــو ِد ضواب ـ َط تنظيم ّيــة تحكــم مامرســتهم لهــا‪.‬‬

‫مختصــة يف بعــض البلــدان‬ ‫ّ‬ ‫فاملرتجــم املعتمــد أو املحلــف يعمــل مــن دون أن تجيــزه هيئـ ٌة أو مرجع ّيـ ٌة‬
‫العرب ّيــة‪ ،‬لعــدم وجــود هيئــة أو رابطــة أو جهــة رســمية متتحنهــم وتخولهــم مامرســة املهنــة‪ .‬وغال ًبــا مــا‬
‫ـاب‬
‫ـص رســمية بذلــك‪ .‬وغيـ ُ‬ ‫يقــوم بذلــك جمعيــاتٌ أو روابـ ُط مببــادرات ذات ّيــة مــن دون وجــود تراخيـ َ‬
‫التنســيق بــن اتحــاد املرتجمــن العــرب ومكتــب التعريــب بالربــاط مــا زال يحتــاج إىل املزيــد مــن‬
‫التنشــيط والتفعيــل‪ .‬ومــن الواضــح أ َّن وضــع الرتجمــة يف عاملنــا العــريب‪ -‬عمو ًمــا‪ -‬ليــس باملســتوى الــذي‬
‫ـات‬‫نتمنــاه ونتوقعــه‪ .‬وهــذا مــن دون شـ ٍّـك يرجــع إىل أســباب كثــرة‪ ،‬يــأيت يف مقدمتهــا فقــدا ُن آليـ ٍ‬
‫وضواب ـ َط ينبغــي تطبيقهــا للوصــول إىل وض ـعٍ أفضــل يتطلــع إليــه املعنيــون بالرتجمــة عــى مســتوى‬
‫املؤسســات العربيــة إفراديًّــا‪ ،‬وعــى املســتوى العــريب عمو ًمــا‪ .‬وهــذا يجعــل مــن الــروري أن تتضافــر‬
‫الجهــود وطن ًّيــا وعرب ًّيــا للوصــول إىل واقـعٍ أفضــل نتطلــع إليــه أكادمي ًّيــا ومهن ًّيــا‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪9‬‬

‫عد ُم كفاية آليات تقنني وضع الرتجمة‬


‫يف وطننا العر ّيب أكادمي ًّيا ومهن ًّيا‬
‫د‪ .‬سليامن العباس*‬

‫وض َعــه الخــاص‪ ،‬فيتــم قبــول الراغبــن يف دراســة الرتجمــة‬ ‫النــاس كثــرا ً حــن يتصــ ّدون ملوضــو ٍع يبــدو‬ ‫ُ‬ ‫يختلــف‬
‫ـكل بســاط ٍة ودون معايــر مدروســة الختيارهــم‪ ،‬وت ُعامــل‬ ‫بـ ِّ‬ ‫ـهاًل مــن الناحيــة النظريّــة‪ ،‬لكنهــم حــن يســرون غــوره‬ ‫سـ ً‬
‫ــص ضمــن العلــوم اإلنســانيّة‪ .‬وهــذا ال يعنــي‬ ‫تخص ٍ‬
‫كأي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويخوضــون يف تفاصيلــه‪ ،‬يجــدون أ َّن هــذه املســألة هــي‬
‫ـص‬ ‫تخصـ ٍ‬
‫ـكل ّ‬ ‫انتقاصــا مــن قيمــة التخصصــات األخــرى‪ ،‬فلـ ِّ‬ ‫ً‬ ‫كل بدلــوه‬ ‫مــن األمــور التــي تحتــاج إىل جهـ ٍـد كبـرٍ‪ ،‬ويــديل ٌّ‬
‫أهم ٌّيــة تتناســب مــع مجالــه‪ ،‬إال إ َّن ك ـ ّون الرتجمــة تجمــع‬ ‫بــن متفــق ومخالــف‪ .‬هــذا املوضــوع هــو الرتجم ـ ُة التــي‬
‫بــن النظريــة والتطبيــق بشــكلٍ كبـرٍ جـ ًّدا‪ ،‬يجعلهــا تختلــف‬ ‫ـهاًل يف متنــاول اليــد‪ ،‬إال إنّنــا حــن‬ ‫تبــدو للكثرييــن أم ـ ًرا سـ ً‬
‫ينصــب جهــ ُد الطالــب‬
‫ُّ‬ ‫التخصصــات التــي‬ ‫ّ‬ ‫عــن كثــر مــن‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـص وتحليــلٍ علمـ ّ‬ ‫نتنــاول تفاصيلَــه بعمــقٍ وتفصيــلٍ ومتحيـ ٍ‬
‫عــى دراســتها وحســب‪.‬‬ ‫نجــد أ َّن الرتجم ـةَ‪ -‬فعل ًّيــا‪ -‬هــي مــن أكــر األمنــاط اللغويّــة‬
‫ٍ‬
‫تدريس‬ ‫ـص الرتجمـ ِة ينبغــي أن ُمُي ّهـ َد لــه مــن خــال‬
‫تخصـ َ‬
‫إ َّن ّ‬ ‫يل‪،‬‬‫تعقيـ ًدا‪ ،‬رغــم أنّهــا قــد تبــدو غــر ذلــك يف ظاهرها الشـ ّك ّ‬
‫ـف لعــد ٍد مــن املــواد التأسيسـيّة التــي تؤهــل الطالــب‬ ‫مكثّـ ٍ‬ ‫حيــث مــا يـزال هنــاك مــن يظنــون أ َّن الرتجمـ َة قـرا ٌر يتخــذه‬
‫للوقــوف عــى أرضيّــة ُصلبـ ٍة تعوضــه عـ ّـا فاتــه خــال فــرة‬ ‫أحدهــم ليصبــح مرتجـ ًـا بــن عشـيّ ٍة وضحاهــا‪ .‬وهــذا األمـ ُر‬
‫خاصـ ًة أ َّن مناه َجنــا املدرسـ ّية يف وطننــا‬
‫وجــوده يف املدرســة‪ّ ،‬‬ ‫ـباب كثــر ٍة‬
‫ـأت مــن فـراغ‪ ،‬بــل يعــود إىل أسـ ٍ‬ ‫‪-‬يف الواقــع‪ -‬مل يـ ِ‬
‫العــر ّيب تعتمــد بنســب ٍة أو بأخــرى عــى الجوانــب التلقين ّيــة‬ ‫نــكاد نلمســها يف وطننــا العــر ّيب بشــكل عــام حتــى لــو كان‬
‫ي‬ ‫التفكــري التحليــ ّ‬
‫ّ‬ ‫وليــس عــى آليــات تطويــر املســتوى‬ ‫ـبي مــن بلــد إىل آخــر‪ ،‬ولك ّنهــا يف‬ ‫هنــاك بعــض التفــاوت النسـ ّ‬
‫ـب آخــر ال ب ـ َّد أن يؤخــذ بعــن‬ ‫لــدى الطالــب‪ .‬وهنــاك جانـ ٌ‬ ‫أي بلـ ٍـد عــر ٍّيب‪ ،‬ويــأيت‬
‫املحصلــة النهائيــة ال يــكاد يخلــو منهــا ُّ‬
‫وخاص ـ ًة‬
‫ّ‬ ‫االعتبــار‪ ،‬وهــو أ َّن خططنــا الدراس ـ ّية يف جامعاتنــا‬ ‫يف مقدمــة هــذه األســباب عــد ُم كفايــة آليــات تقنــن وضــع‬
‫التــي تُط ِّبــق نظــام اختيــار املــواد الدراس ـ ّية‪ ،‬تفــرض عــى‬ ‫الرتجمــة دراس ـ ًّيا ومهن ًّيــا‪.‬‬
‫بتخصــص الرتجمة‪،‬‬ ‫الطالــب دراســة مــواد كثــرة ال عالقــة لهــا ّ‬ ‫إنَّنــا حــن ننظــر مليًّــا إىل واقـعِ الرتجمــة يف جامعاتنــا‪ ،‬نجــد‬
‫فتكــون دراســة هــذه املــواد عبًــأ عليــه وتجــري عىل حســاب‬ ‫ـج‬‫أ َّن هنــاك الكثــر مــن الجوانــب الســلبيّة التــي تجعــل خريـ َ‬
‫تخصصــه‪ .‬ويقــول الكثــرون حــن‬ ‫تحصيــل الطالــب يف ّ‬ ‫تخصــص‬ ‫تخصص ـاً دقي ًقــا أم ضمــن ّ‬ ‫الرتجمــة ســوا ًء أكانــت ّ‬
‫يحاولــون تســوي َغ وجــود العــدد الكبــر مــن املتطلبــات‪،‬‬ ‫اللغــة اإلنجليزيــة وآدابهــا‪ ،‬ليــس يف املســتوى املطلــوب‬
‫إ َّن الطالــب بحاجــة إىل معرفــة ثقافيّــة عامــة يحصــل‬ ‫بالنســبة إىل الشــهادة التــي يحملهــا‪ ،‬بــل عــى صعيــد‬
‫عليهــا مــن خــال املــواد العامــة التــي يدرســها كمتطلبــات‬ ‫املامرســة أيضً ــا‪ .‬ويــأيت يف مقدمــة هــذه الجوانــب الســلبيّة‬
‫جامع ّيــة‪ .‬والحقيقــة أ َّن كثـ ًرا مــن هــذه املــواد ميكــن دمجها‬ ‫تخصــص الرتجمــة‬ ‫ـس القبــول ورشوطــه التــي ال تعطــي ّ‬ ‫أسـ ُ‬

‫* الجامعة العربية املفتوحة – فرع األردن‬


‫‪10‬‬

‫الرتجمــة ال يعنــي عــى اإلطــاق أ َّن األمــر قــد أصبــح تحــت‬ ‫بيــر وســهولة‪ ،‬ةذلــك لنفســح املجــال لوجــود املــواد ذات‬
‫كل مــن توفّــر لديــه معجـ ٌم أصبــح‬ ‫ســيطرة الطالــب‪ ،‬ولــو أ َّن َّ‬ ‫بتخصــص الرتجمــة؛ ومــن هنــا‪ ،‬فــإ َّن‬ ‫الصلــة الجوهريّــة ّ‬
‫مرتجـ ًـا‪ ،‬فإنَّــه ســيصبح لدينــا مئــاتُ اآلالف مــن املرتجمــن‬ ‫خططنــا الدراســية يف جامعاتنــا العرب ّيــة‪ ،‬بحاجــة إىل إعــادة‬
‫ايس‪.‬‬‫تخصصهــم الــدر ّ‬ ‫حتــى لــو مل تكــن الرتجمـ ُة هــي مجــال ّ‬ ‫نظــر ليتــم الرتكيــز عــى املــواد التــي تســهم يف بنــاء قــدرة‬
‫ومــن املشــكالت التــي نواجههــا حــن نتنــاول واقــع الرتجمــة‬ ‫الطالــب ليتخــرج ُمرت ِجـ ًـا مؤهـ ًـا ملامرســة الرتجمــة يف ســوق‬
‫ـي املســتند‬ ‫ـاب الجانــب التنظيمـ ّ‬ ‫يف وطننــا العــريب‪ ،‬هــو غيـ ُ‬ ‫العمــل بكفــاءة واقتــدار‪ ،‬بعيـ ًدا عــن التنظــر الــذي ال يقــدم‬
‫ـات ممنهجــة‪ ،‬حتــى ال تصبــح الرتجم ـ ُة مهن ـ َة‬ ‫لقوان ـ َن وآليـ ٍ‬ ‫وال يؤخــر‪.‬‬
‫مــن ال مهنــة لــه‪ .‬إ َّن هنــاك عــد ًدا مــن دولنــا العربيــة ال‬ ‫وهنــاك ظاهــر ٌة أخــرى ينبغــي اإلشــارة إليهــا نظـ ًرا لوجودهــا‬
‫ي ـزال تطبيـ ُـق نظــام املرتجــم املعتمــد واملحلــف غائ ًبــا عــن‬ ‫يف الكثــر مــن جامعاتنــا وهــي أ َّن كثـ ًرا مــن الذيــن يعملــون‬
‫أوســاطها‪ ،‬حتــى أنَّنــا يف كث ـرٍ مــن الحــاالت نجــد تداخـ ًـا‬ ‫عــى تدريــس الرتجمــة‪ ،‬هــم يف الواقــع ليســوا مرتجمــن‪،‬‬
‫كب ـ ًرا يف مفهــوم املرتجــم املعتمــد‪ .‬الكثــرون يخلطــون بــن‬ ‫فينطبــق عليهــم يف هــذه الحالــة القــول املأثــور "فاقــد‬
‫مفهــوم املرتجــم املعتمــد ومكتــب الرتجمــة املرخــص‪ ،‬رغــم‬ ‫مرتجــا‬
‫ً‬ ‫مــدرس الرتجمــة‬
‫ُ‬ ‫الــيء ال يعطيــه"‪ .‬حــن يكــون‬
‫أن الفــرق كبــ ٌر جــ ًّدا بــن املفهومــن‪ .‬فمــن يحصــل عــى‬ ‫تطبيق ًّيــا‪ ،‬فإنَّــه يف هــذه الحالــة يعطــي طلبتــه خالصــة‬
‫ترخيــص مــن الجهــات املعنيّــة لفتــح مكتــب ترجمــة‪،‬‬ ‫ـري ملــا لديــه مــن‬ ‫تجاربــه امليدانيــة‪ ،‬وليــس مجــرد رس ٍد نظـ ٍّ‬
‫ال يعنــي أنَّــه معتمــد فن ًّيــا ومهن ًّيــا‪ .‬إ َّن املرتجــ َم امل ُعتَمــ َد‬ ‫ـول املعـ ُ‬
‫ـروف بــأ َّن الرتجمــة‬ ‫معلومــات‪ .‬وهــذا مــا يؤكّــده القـ ُ‬
‫هــو الــذي يجتــاز معايــر علم ّيــة تضعهــا جهــاتٌ مخ ّولــ ٌة‬ ‫علـ ٌم وفـ ٌن يف آن م ًعــا‪ .‬وهــذا يعنــي أ َّن املرتجــم حتــى لو كان‬
‫قس ـ ُم مــن يجتــاز‬ ‫مــن الدولــة كاالختبــارات العامــة‪ ،‬ثــم يُ ِ‬ ‫كاف بالجوانــب اللغويّــة النظريّــة‪ ،‬إال إنَّــه ينبغي‬ ‫لديــه إملــا ٌم ٍ‬
‫تلــك االختبــارات قس ـ َم املرتجــم‪ ،‬فيصبــح معتم ـ ًدا ومحل ًفــا‬ ‫أن تكــون لديــه قــدر ٌة فنيّـ ٌة لعــرض مــا يقــوم برتجمتــه عــى‬
‫باملفهــوم الســليم املتعــارف عليــه دول ًّيــا‪ .‬إ َّن هــذا اإلج ـرا َء‬ ‫جــااًل نوع ًّيــا ملــا يقــوم برتجمتــه‪.‬‬
‫ً‬ ‫فنــي يضيــف‬‫مســتوى ٍّ‬
‫مــن شــأنه أن ينظّــم املهنــة بشــكل يضمــن نســ ًبة عال ًّيــة‬ ‫وهنــا تجــدر اإلشــارة إىل أ َّن نظــام االمتحانــات يف كثــر مــن‬
‫مــن الدقــة‪ ،‬ويبعــد عنهــا املتطفلــن عليهــا حتــى لــو كان‬ ‫جامعاتنــا العرب ّيــة ال يقيــس قــدرات الطالــب الحقيق ّيــة‪،‬‬
‫علمــي ال يعكســه واقعهــم فنيًّــا ومهنيًّــا‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫مؤهــل‬
‫ٌ‬ ‫لديهــم‬ ‫خاصــ ًة أ َّن كثــ ًرا مــن املدرســن يلجــأون إىل آليــة إبــاغ‬ ‫ّ‬
‫فنحــن نالحــظ أ َّن عــد َد الذيــن ميارســون الرتجمــة يف عاملنــا‬ ‫نصــوص ســبق لهــم‬ ‫ٍ‬ ‫الطلبــة أ َّن االمتحــان ســيحتوي عــى‬
‫العــريب كبـ ٌر جـ ًّدا‪ ،‬ولكــن مســتوى عملهــم وأدائهــم تنقصــه‬ ‫ـوص مل يســبق لهــم دراســتها‪،‬‬ ‫دراســتها خــال الفصــل‪ ،‬ونصـ ٍ‬
‫ـاب آليــات ضبــط املهنــة تــرك‬ ‫الدقــة وجــودة األداء؛ أل َّن غيـ َ‬ ‫وهــذا يجعـ ُـل جهــو َد الطلبــة منص ّبـ ًة عــى حفــظ عــد ٍد مــن‬
‫البــاب مفتو ًحــا أمــا َم كل مــن يريــد مامرســة املهنــة ســواء‬ ‫النصــوص غيبًــا اســتعدا ًدا لالمتحــان‪ .‬وهنــاك تطبيـ ٌـق ســلويكٌّ‬
‫مؤهــا لهــا أم غــر مؤهــل‪ .‬ومــا ســاعد عــى هــذا‬ ‫ً‬ ‫كان‬ ‫آخــر نلمســه يف كثــر مــن جامعاتنــا يف عاملنــا العــر ّيب‪ ،‬وهــو‬
‫الوضــع‪ ،‬تطــو ُر برامــج الرتجمــة اآلل ّيــة التــي أصبحــت يف‬ ‫من ـ ُع الطلبــة مــن اســتخدام املعاجــم‪ ،‬مــع أ َّن املعجــم هــو‬
‫خاصــ ًة أ َّن‬
‫متنــاول يــد الجميــع دون حســيب أو رقيــب‪ّ ،‬‬ ‫ـاح املــرو ُع للمرتجــم‪ ،‬واســتخدا ُمه مــن قبــل طالــب‬ ‫السـ ُ‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪11‬‬

‫املظلــ َة الكــرى التــي تســتظل بهــا جمعيــاتُ وروابــ ُط‬ ‫مــن يطلــب الرتجمــة ليســت لديــه امللكــة اللغويــة لتقييــم‬
‫التعامل‬
‫َ‬ ‫الرتجمــة يف البلــدان العربيــة‪ ،‬بحيــث يتــوىل االتحــا ُد‬ ‫الرتجمــة ومعرفــة مــدى صحتهــا ودقتهــا‪.‬‬
‫مــع الجهــات األجنبيّــة كممثــلٍ لجميــع البلــدان العربيّــة‪.‬‬ ‫إنَّنــا مــن دون أدىن شــك بحاجــة إىل هيئــات تنظيميّــة ملهنــة‬
‫وكان مــن املنتظــر أن يتــوىل االتحــا ُد اإلرش َاف عــى مــا يت ـ ُّم‬ ‫الرتجمــة عــى مســتوى الوطــن العــر ّيب مبجملــه‪ ،‬وليــس‬
‫ترجمتُــه يف مختلــف الــدول العربيــة مــن أعــا ٍل جوهريّــة‬ ‫فقــط يف الــدول العربيــة بشــكلها املنفــرد‪ .‬وتجــدر اإلشــارة‬
‫مثــا‪ ،‬وإيصالهــا إىل مختلــف دول العــامل عــى‬ ‫كاألدب ً‬ ‫يف هــذا الصــدد إىل أنَّنــا ال نلمــس وجــو ًدا التحــاد املرتجمــن‬
‫ـاج عــر ٌّيب عــام وليــس نتــاج دولــة عربيّــة بشــكلها‬ ‫أنَّهــا نتـ ٌ‬ ‫تأسيســه يف بــروت يف بدايــة العــام ‪،2002‬‬ ‫ُ‬ ‫العــرب الــذي تـ َّم‬
‫املنفــرد‪ ،‬حتــى نظهــر أمــام اآلخريــن بــأ َّن لدينــا الكثـ َر مــن‬ ‫تنظيمــي يف‬
‫ٌّ‬ ‫وكان يُنتظــر مــن االتحــاد أن يكــون لــه دو ٌر‬
‫خاصــة أنّــه‬ ‫األعــال التــي تعكــس نشــاطًا عرب ًّيــا مو ّح ـ ًدا‪ّ ،‬‬ ‫توحيــد نشــاط الرتجمــة عــى مســتوى الوطــن العــر ّيب‪،‬‬
‫مــن الواضــح أن مــا تتــم ترجمتــه مــن أعــال أجنبيــة إىل‬ ‫لك َّننــا لألســف ال نلمــس وجــوده مــن خــال املامرســات‬
‫اللغــة العربيــة‪ ،‬يفــوق بكثـرٍ مــا تتــم ترجمتــه مــن أعــال‬ ‫املؤسســن لالتحــاد كانــوا ميثلــون‬ ‫الفنيّــة التنظيميّــة‪ ،‬رغــم أ َّن ّ‬
‫عربيّــة إىل اللغــات األخــرى‪ ،‬وهــذا يجعلنــا ال نــرى اهتام ًمــا‬ ‫تأســيس‬
‫ُ‬ ‫مختلــف الــدول العربيّــة‪ .‬وك ّنــا نأمــل حــن تــ َّم‬
‫ـرون‬ ‫عامل ًّيــا مبــا لدينــا مــن أعــال‪ ،‬ألنَّنــا يف واقــع الحــال ُمقـ ِّ‬ ‫كل دول ـ ٍة عرب ٍّيــة ليكــون‬ ‫االتحــاد أن يكــون لــه ممثلــون يف ِّ‬
‫وخاصــة‬‫ّ‬ ‫يف إيصــال مــا لدينــا مــن إنجــازات إىل اآلخريــن‪،‬‬
‫يف مجــال األعــال األدبيّــة واألعــال التــي تعكــس الواقــع‬
‫الثقــا ّيف العــر ّيب‪.‬‬
‫ومــن األمــور التــي ينبغــي أن نأخذهــا بعــن االعتبــار عنــد‬
‫الحديــث عــن توحيــد الجوانــب التنظيم ّيــة للرتجمــة‪ ،‬هــو‬
‫غيــاب الجهــود التــي ينبغــي أن تــؤدي دو ًرا أساســيًّا يف‬ ‫ُ‬
‫توحيــد املصطلحــات عنــد الرتجمــة مــن اللغــات األجنبيّــة‬
‫علمــي مــن‬ ‫ٍّ‬ ‫إىل اللغــة العرب ّيــة‪ .‬فلــو متــت ترجمــ ُة عمــلٍ‬
‫اإلنجليزيّــة إىل العرب ّيــة مــن قبــل مرتجمــن مختلفــن يف‬
‫ِ‬
‫الرتجــات‬ ‫عــدة دول عربيــة‪ ،‬فــإ َّن القــارئ قــد يشــعر أ َّن‬
‫ال تتفــق متا ًمــا مــن بلــد عــريب آلخــر‪ ،‬وكأ َّن الرتجمــة ليســت‬
‫خاصــة يف‬ ‫اختالفــات كثــر ًة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫للعمــل ذاتــه‪ ،‬ألنَّــه ســيجد‬
‫معــاين املصطلحــات التــي تحتمــل أك ـ َر مــن معنــى حتــى‬
‫لــو كانــت املعــاين املســتخدمة كلّهــا صحيحــة وســليمة‪ .‬وقــد‬
‫ـرح مســألة إيجــا ِد معجــمٍ عــر ٍّيب م ّوحـ ٍـد للمصطلحــات‬ ‫تــم طـ ُ‬
‫العلم ّيــة عــدة مـرات ويف مناســبات مختلفــة‪ ،‬إال إ َّن املــروع‬
‫مكتب تنســيق‬ ‫ُ‬ ‫مل يــر النــور‪ ،‬وال يـزال األمــل قامئًــا بــأن يتــوىل‬
‫‪12‬‬

‫‪Photo Byjess Bailey on Unsplash‬‬

‫‪Photo Valdemaras on Unsplash‬‬

‫حتــى يصــل وض ـ ُع الرتجمــة يف الوطــن العــريب إىل املســتوى‬ ‫تحقيــق هــذا اإلنجــاز بالتعــاون مــع‬‫َ‬ ‫التعريــب يف الربــاط‬
‫الــذي نتمنــاه ونتــوق إليــه جمي ًعــا‪ .‬كــا أ َّن الجامعــات‬ ‫خاصــة يف‬ ‫مجامــع اللغــة العربيــة نظـ ًرا للحاجــة امللحــة لــه‪ّ ،‬‬
‫واملؤسســات التعليميــة أيضً ــا ميكنهــا أن تــؤدي دو ًرا حيويًّــا‬ ‫عــر تطـ ّور العلــوم والتكنولوجيــا‪ ،‬حيــث ال يــكاد ميـ ُّر يــو ٌم‬
‫الخاصــة‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫آليــات للتقــارب يف برامجهــا التعليم ّيــة‬ ‫يف إيجــاد‬ ‫مــن دون دخــول مصطلحــات جديــدة‪ ،‬ســيكون توحي ُدهــا‬
‫ـادل للخ ـرات‬ ‫بالرتجمــة‪ ،‬وميكــن أيضً ــا أن يكــون هنــاك تبـ ٌ‬ ‫أم ـ ًرا يُس ـ ِّهل مهمــة املرتجمــن يف مختلــف الــدول العربيّــة‪،‬‬
‫بحيــث تســتفيد املؤسســات مــا تنجــزه يف مجــاالت معرفيــة‬ ‫كــا أنَّــه يســ ِّهل مهمــة الدارســن يف الجامعــات العربيّــة‬
‫ســيصب يف النهايــة يف املصلحــ ِة‬
‫ُّ‬ ‫مختلفــة‪ ،‬وهــذا بالتأكيــد‬ ‫حــن يجــدون أ َّن لديهــم مرجع ًّيــة مو ِّحــ ًدة للمصطلحــات‬
‫العامــة لتلــك املؤسســات وطلب ِتهــا والعاملــن فيهــا‪ّ ،‬‬
‫خاص ـ ًة‬ ‫التــي يدرســونها يف جامعاتهــم أو يحتاجونهــا يف مجاالتهــم‬
‫ـي جعــل األمــور التنســيقيّة يف غايــة‬ ‫أ َّن التط ـ ّو َر التكنولوجـ َّ‬ ‫العلميّــة املختلفــة‪.‬‬
‫اليــر والســهولة‪ ،‬وهــذا بالطبــع مل يكــن متوف ـ ًرا يف عــر‬ ‫إ َّن واقــع الرتجمــة وجهــود املرتجمــن يف عاملنــا العــريب‬
‫مــا قبــل التكنولوجيــا‪.‬‬ ‫كل الجهــات‬ ‫يقضيــان بــرورة وجــود تنســيقٍ متواصــلٍ بــن ِّ‬
‫هيئــات أم منظــات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ات أم‬ ‫املعنيــة ســواء أكانــت وزار ٍ‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪13‬‬

‫واقع الرتجم ِة العلم ِّية يف العامل العريب‬


‫ُ‬
‫والالمركز ّية يف اتخاذ القرار‬
‫د‪ .‬رافد الربيعي*‬

‫مقدمة‬
‫متخصصــة يف املجــاالت الطبيّــة والهندس ـيّة‬ ‫ّ‬ ‫أي ترجم ـ ٍة‬ ‫إىل ِّ‬ ‫تــزدا ُد أهميّــ ُة الرتجمــة يف عرصنــا الحــايل الــذي يشــهد‬
‫والزراعيّــة وعلــوم الحاســوب وغريهــا الكثــر (الحســييك‪،‬‬ ‫العلمــي ووســائل االتصــال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ات ماراثونيًّــة يف التطــ ّور‬‫قفــز ٍ‬
‫‪ . )77 :1999‬وقــد بقيــت الرتجمـ ُة العلم ّيــة والتقن ّيــة محـ َّـل‬ ‫وت ُعــ ُّد الرتجمــ ُة العلم ّيــة امليــدا َن األهــم يف هــذا التو ّجــه‬
‫مناقشــات ومناظــرات كثــرة يف مجــال نظريــات الرتجمــة‬ ‫ٍ‬ ‫كــون العــر الحــايل يتميــز بأنَّــه عــر املنافســة الرشســة‬
‫ـب‬ ‫انطالقًــا مــن مفهــوم أ َّن الرتجمــة التقنيّــة والعلميّــة تتطلـ ُ‬ ‫يف مجــال التكنولوجيــا والصناعــة والعلــوم التقنيّــة األخــرى‪.‬‬
‫ـص‬ ‫ترجم ـ ًة مبــارشةً؛ أساســها الدرايــة الدقيقــة مبفهــوم النـ ِّ‬ ‫وقــد أدى هــذا التو ّجــه املعــارص إىل زيــادة العــبء الكبــر‬
‫ـي ونقلهــا مبــا يقابلهــا بشــكل مبــارش إىل اللغــة الهــدف‪،‬‬ ‫التقنـ ّ‬ ‫عــى كاهــل املرتجــم ملواكبــة هــذا التطــور مــن خــال تطوير‬
‫عــى خــاف الرتجمــة األدب ّيــة والفلســف ّية التــي تحتــاج إىل‬ ‫إمكانياتــه الذات ّيــة يف املجــال املهنــي‪ .‬كــا أنّــه يضيــف عبئًــا‬
‫جزالــة األســلوب للتعبــر عــن الفكــرة نفســها والبحــث عــا‬ ‫عــى املجامــع اللغويّــة واملؤسســات املعنيّــة بــرورة مواكبة‬
‫أســاليب بليغــ ٍة يف اللغــة الهــدف‪ .‬والرتجمــ ُة‬ ‫َ‬ ‫يقابلهــا مــن‬ ‫هــذا التطـ ّور واللحــاق بــه وإيجــاد الوســائل الكفيلــة لذلــك‪.‬‬
‫ـص‬ ‫العلم ّيــة باختصــار نــو ٌع مــن الرتجمــة يكــون فيهــا النـ ُّ‬ ‫وعليــه رشعــت هــذه الدراســة بتنــاول طبيعــة الرتجمــة‬
‫ي نفســه بحســب‬ ‫النــص األصــ ّ‬
‫ِّ‬ ‫املرت َجــ ُم بجــود ٍة ودقــة‬ ‫العلم ّيــة والتقن ّيــة‪ ،‬وطرقهــا ووســائل إيصالهــا‪ ،‬مــع الرتكيــز‬
‫املوســوعة الربيطانيّــة يف تعريــف الرتجمــة العلميّــة‪ .‬غــر أن‬ ‫عــى الرتجمــة مــن اإلنجليزيّــة إىل العربيّــة حيــث ت ُعــ ُّد‬
‫"جمبلــت" (‪ )36-33 :1988‬يــرى العكــس صحي ًحــا‪ ،‬فهــو يرى‬ ‫والتقنــي املتســارع‬
‫ّ‬ ‫العلمــي‬
‫ّ‬ ‫رضور ًة مل ّحــ ًة كــون التقــدم‬
‫تتطلــب الدقــ َة يف تحديــد املصطلــح‬ ‫ُ‬ ‫أ َّن الرتجمــة العلم ّيــة‬ ‫ـدول واملؤسســات‬ ‫بشــكل كبــر يف وقتنــا الحــارض تقــوده الـ ُ‬
‫لخطــورة تبعــات الخطــأ فيــه‪ ،‬أو انحرافــه عــن املقصــود‪،‬‬ ‫الناطقــة باإلنجليزيّــة‪ ،‬مــا يحتّــم عــى املؤسســات الرتجم ّيــة‬
‫ـي الــذي يتطلــب فهمــه‬ ‫ـص التقنـ ِّ‬ ‫باإلضافــة إىل خصائــص النـ ِّ‬ ‫واملجامــع اللغويّــة العربيّــة رضورة اللحــاق بهــذا الركــب‬
‫املحافظــة عــى النســق العــام لهــذا النــوع مــن النصــوص‪.‬‬ ‫ومواكبــة التطــورات الحاصلــة‪.‬‬
‫يعــ ِّر ُف املســدي (غزالــة‪ )1995 ،‬املصطلــح عــى أنّــه‬
‫ي األول‪،‬‬ ‫بالغــي مــزروع يف ثنايــا النظــام التواصــ ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫"نظــا ٌم‬ ‫طبيع ُة الرتجمة العلم ّية والتقن ّية‬
‫وتســميّ ٌة فنيّــ ٌة تتوقــف عــى دقتهــا ووضوحهــا معرفــة‬ ‫"تقنــي" بشــكلٍ متبــادل‬
‫ّ‬ ‫"علمــي" و‬
‫ّ‬ ‫يُســتخدم مصطلحــا‬
‫األشــياء والظواهــر‪ ،‬بســيطها ومركبهــا‪ ،‬ثابتهــا ومتغريهــا‪.‬‬ ‫لإلشــارة إىل املحتــوى نفســه‪ ،‬وقــد حـ َّـل مصطلــح "ترجمــة‬
‫وهــو بهــذا املعنــى يســتطيع أن ُمُيســك بالعنــارص األساسـ ّية‬ ‫تقن ّيــة" ((‪ Technical Translation‬مبعنــاه الشــامل ليشــر‬

‫* كلية املأمون الجامعية – بغداد – العراق‬


14

Photo Emil Widlund on Unsplash


‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪15‬‬

‫شــائعة جن ًبــا إىل جنــب مــع الرتجمــة املبــارشة‪ ،‬بــل إ َّن‬ ‫ـي‬
‫ـب لفظـ ٍّ‬‫املوحــدة للمفهــوم‪ ،‬ويتم ّكــن مــن تأطريهــا يف قالـ ٍ‬
‫ـاالت أخــرى نجــد‬ ‫الكفــة متيــل لهــا يف أحيــان كثــرة‪ .‬ويف حـ ٍ‬ ‫ميتلــك قــوة تســتطيع تجميــع وتكثيــف مــا يبــدو مشــتتًا"‪.‬‬
‫أن املرت ِجــم مييــل إىل اســتخدام النقــل الحــر ّيف عــى حســاب‬ ‫ـص العــام باحتوائــه عــى‬ ‫املتخصــص عــن النـ ِّ‬
‫ّ‬ ‫ـص‬
‫ويتميّــز النـ ُّ‬
‫ترجمــي‬
‫ٍّ‬ ‫الرتجمــة املبــارشة بالرغــم مــن وجــود مكافــئ‬ ‫متخصصــة تحتــاج إىل ثقافــة موســوعيّة يف حقــل‬ ‫ّ‬ ‫معلومــات‬
‫مبــارش لهــا؛ مــا يــؤدي إىل ضمــور املكافــئ واســتخدام‬ ‫االختصــاص تفــوق الثقافــة العامــة‪ .‬كــا يتم ّيــز هــذا النــوع‬
‫البديــل‪ ،‬مثــل مصطلــح "‪ "calcium hydroxide‬الــذي شــاع‬ ‫مــن النصــوص مبجموعــة مــن األســاليب اللغويّــة واملعجم ّيــة‬
‫مقابلــه العــريب "هيدروكســيد الكالســيوم" عــى حســاب‬ ‫للمتخصــص وضبابيــ ًة للمرتجِــم غــر‬ ‫ّ‬ ‫تكــون واضحــ ًة‬
‫املكافــئ العــريب "الجــر املطفــي"‪.‬‬ ‫ـص أو صاحــب الثقافــة واالطــاع املتواضعــن‪ .‬وتشـكّل‬ ‫املختـ ِّ‬
‫ومــن املســائل األخــرى التــي زادت يف تعقيــد مشــهد‬ ‫املصطلحــاتُ العلم ّيــ ُة العقبــ َة األبــرز أمــام املرتجمــن يف‬
‫الرتجمــة املبــارشة هــو تداخــل اللهجــات التــي عكســت يف‬ ‫نقلهــا إىل اللغــة الهــدف‪ ،‬وتــزداد عمليــة الرتجمــة تعقي ـ ًدا‬
‫أحيــانٍ كثــرة تأثرهــا باللغــات التــي ترتجــم عنهــا‪ .‬فالعالَ ـ ُم‬ ‫العلمــي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بازديــاد املصطلحــات العلميّــة واملحتــوى‬
‫العــر ُّيب ينقســم لُغويًّــا إىل دول املــرق العــريب التــي تأثــرت‬
‫باإلنجليزيّــة يف املقــام األول وعكســت ذلــك يف ترجمتهــا‬ ‫العلمي من اإلنجليزية إىل‬
‫ّ‬ ‫طرق ترجم ِة املصطلح‬
‫ُ‬
‫للمصطلحــات العلم ّيــة‪ ،‬ودول املغــرب العــر ّيب التــي عكســت‬ ‫العربية‪.‬‬
‫تأثرهــا باللغــة الفرنس ـيّة باعتبارهــا نتا ًجــا طبيعيًّــا لحقبــة‬
‫ُ‬
‫املقــال مســ ًحا ألهــ ِّم الطــرق املســتخدمة يف‬ ‫ُ‬
‫يتنــاول هــذا‬
‫االســتعامر‪ .‬فنجــد عــى ســبيل املثــال أ َّن دول الــرق‬
‫العلمــي مــن اإلنجليزيّــة إىل العرب ّيــة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ترجمــة املصطلــح‬
‫األوســط العرب ّيــة تســتخدم كلمــة "‪ "nitrogen‬ذات األصــل‬
‫ـبب وراء تبنــي الرتجمــة أحادي ـ َة االتجــاه مــن‬ ‫ويكمــن السـ ُ‬
‫ـزي وترتجمهــا حرف ًّيــا باســتخدام مصطلــح "نرتوجــن"‪،‬‬ ‫اإلنجليـ ّ‬
‫اإلنجليزيّــة إىل العرب ّيــة هــو أ َّن واقــع الحــال يشــر إىل أ َّن‬
‫يف حــن أ َّن دول املغــرب العــر ّيب تســتخدم الكلمــة الفرنســية‬
‫العالَــم الناطــق باإلنجليزيّــة هــو مــن يقــوم باالبتــكارات‬
‫"‪ "Azote‬وتنقلهــا حرفيًّــا إىل "آزوت"‪ .‬وبعيــ ًدا عــن التأثــر‬
‫العلم ّيــة وإطــاق املســميات‪ ،‬بينــا يقــوم العالَ ـ ُم العــر ُّيب‬
‫ـوي يف املغــرب‬ ‫بلغــات مختلفــة‪ ،‬فــإ َّن اختـ َ‬
‫ـاف التو ّجــه اللغـ ّ‬
‫بــدور املســتقبِل‪ ،‬وإيجــاد مكافئــات مناســبة للتســميات‬
‫العــر ّيب ونظــره يف املــرق العــر ّيب يــؤدي دو ًرا كبــ ًرا يف‬
‫اإلنجليزيّــة‪.‬‬
‫ـي نفســه‪ ،‬فكلمــة‬ ‫ـات مختلفــة للمصطلــح التقنـ ّ‬ ‫إنتــاج ترجـ ٍ‬
‫"‪- "clutch‬عــى ســبيل املثــال‪ -‬تُرتجــم إىل "جهاز تعشــيق" يف‬
‫املــرق العــر ّيب‪ ،‬يف حــن أنَّهــا تُرتجــم إىل "واصــل" يف املغرب‪،‬‬
‫‪.1‬الرتجم ُة املبارش ُة‬
‫تُش ـ ُر عبــارة الرتجمــة املبــارشة يف مجــال الرتجمــة العلميّــة‬
‫اإلنجليــزي "‪ "gravity‬يُرتجــم إىل "جاذب ّيــة" يف‬
‫ّ‬ ‫واملصطلــح‬
‫ترجمــي مبــارش يف‬
‫ّ‬ ‫إىل الحالــة التــي يوجــد فيهــا مكافــئ‬
‫دول املــرق العــر ّيب‪ ،‬بينــا ترتجمهــا دول املغــرب العــر ّيب‬
‫العرب ّيــة‪ .‬عــى ســبيل املثــال "‪ "alum‬لهــا مكافــئ عــر ٌّيب‬
‫إىل "ثقــل"‪ ،‬ومصطلــح "‪ "power‬يُرتجــم إىل "قــدرة" يف دول‬
‫وهــو "الشــب" و"‪" "ammonia‬النشــادر" بالرغــم أ َّن األخــر‬
‫املــرق العــر ّيب‪ ،‬بينــا يُرتجــم إىل "قــ ّوة" يف دول املغــرب‬
‫قــد يُرتجــم بطريقــة النقــل الحــر ّيف‪" :‬أمونيــا"‪ ،‬وهــي ترجمـ ٌة‬
‫العــر ّيب‪ .‬كــا نجــد تأثــر اللهجــات ضمــن التقســيم الجغـرا ّيف‬
‫‪16‬‬

‫التواصــل‪ .‬غــر أ َّن اللغــة العرب ّيــة تتميــز بنــدرة اســتخدامها‬ ‫نفســه‪ ،‬فهنــاك مكافئــات مختلفــة للمصطلــح نفســه‬
‫بــداًل مــن ذلــك إىل رشح االختصــار‬ ‫لالختصــارات ومتيــل ً‬ ‫اإلنجليــزي‬
‫ّ‬ ‫متأثــرة باللهجــة املحل ّيــة الســائدة‪ ،‬فاملصطلــح‬
‫(نيومــارك‪.)1988 ،‬‬ ‫"‪ "carburetor‬عــى ســبيل املثــال يُرتجــم إىل "مكريــن" يف‬
‫ـزي (‪WHO:‬‬ ‫فنجــد عــى ســبيل املثــال أ َّن االختصــار اإلنجليـ ّ‬ ‫لبنــان‪ ،‬بينــا يســتخدم مصطلــح "مبخــر" يف العراق؛ لإلشــارة‬
‫‪ )World Health Organization‬يُرتجــم يف العرب ّيــة إىل‬ ‫إىل املصطلــح نفســه‪.‬‬
‫"منظمــة الصحــة العامل ّيــة" واالختصــار (‪MRI: magnetic‬‬ ‫وقــد التفتــت املجامــ ُع اللغويّــ ُة العرب ّيــ ُة (مجمــع اللغــة‬
‫‪ )resonance image‬يُرتجــم إىل "التصويــر بالرنــن‬ ‫تأســس عــا َم ‪ ،1919‬ومجمــع اللغة‬ ‫العربيــة يف دمشــق الــذي ّ‬
‫املغناطيــي"‪ .‬كــا تــؤدي اللهجــات هنــا دو ًرا ســلبيًّا‪،‬‬ ‫تأســس عــام ‪ ،1934‬واملجمــع‬ ‫العربيّــة يف القاهــرة الــذي ّ‬
‫ففــي الوقــت الــذي نجــد فيــه دول املــرق العــريب ترتجــم‬ ‫تأســس عــام ‪ ،1948‬ومجمــع اللغــة‬ ‫ـي الــذي ّ‬ ‫ـي العراقـ ّ‬
‫العلمـ ّ‬
‫االختصــار‪AIDS: Acquired Immune Deficiency‬‬ ‫تأســس عــام ‪ ،1980‬ومجمــع بيــت‬ ‫العرب ّيــة يف عــان الــذي ّ‬
‫‪ ) )Syndrome‬حرفيـاً إىل "إيــدز"‪ ،‬فــإن دول املغــرب العــر ّيب‬ ‫تأســس عــام ‪ )1983‬باإلضافــة إىل‬ ‫الحكمــة يف تونــس الــذي ّ‬
‫تتبنــى املصطلــح "ســيدا" لإلشــارة إىل املصطلــح اإلنجليــزي‬ ‫الكليــات واألقســام املعنيّــة باللغــة العربيّــة يف الجامعــات‬
‫نفســه‪ .‬ويف بعــض األحيــان نجــد أ َّن ترجمــة املصطلــح‬ ‫والتوســع‬
‫ّ‬ ‫إىل هــذه اإلشــكاليات‪ ،‬وحاولــت مواكبــة التطــور‬
‫بتفكيكــه إىل الكلــات التــي يتكــون منهــا االختصــار تكــون‬ ‫يف نقــل املصطلحــات العلميــة األجنب ّيــة إىل العرب ّيــة ووضــع‬
‫غــر كافيــة‪ ،‬ذلــك أ َّن االختصــار نفســه يحمــل أكــر مــن‬ ‫الحلــول الناجعــة لهــا‪ .‬وأدت الجهــو ُد التــي بذلتهــا تلــك‬
‫داللــة‪ ،‬وهنــا ال بــ َّد مــن االعتــاد عــى الســياق ليكــون‬ ‫املؤسســاتُ إىل تأســيس "مكتــب التنســيق والتعريــب" يف‬ ‫ّ‬
‫عامـ ًـا مســاع ًدا يف فهــم االختصــار‪ ،‬وبالتــايل ترجمتــه‪ ،‬عــى‬ ‫املغــرب عــا َم (‪ )1961‬الــذي نجــح إىل حـ ٍّد بعيــد يف توحيــد‬
‫ســبيل املثــال (‪FMD: Family Medical Doctor / Foot‬‬ ‫ـوس ثــا ٍّيث (إنجليزي‪-‬فرنيس‪-‬عــريب)‪ ،‬غــر‬ ‫الجهــود وجمــع قامـ ٍ‬
‫‪" )and Mouth Disease‬طبيــب العائلــة | أمــراض الفــم‬ ‫أ َّن ضعــف الت ـزام املرتجمــن باملصطلحــات الــواردة يف هــذا‬
‫والقــدم"‪.‬‬ ‫القامــوس؛ باإلضافــة إىل تعـ ّـر جهــود تحديثــه‪ ،‬أديــا إىل أن‬
‫يفقــد أهميتــه (إليــاس‪.)1989،‬‬
‫‪ .3‬الرتجم ُة باالستعارة أو النقل الحريفّ‬
‫تُعــ ُّد الرتجمــ ُة باالســتعارة "‪ "loan translation‬أو النقــل‬ ‫‪ .2‬ترجم ُة االختصارات‬
‫الحــر ّيف "‪ ،"transliteration‬وتُســ ّمى‪ -‬أيضً ــا‪" -‬الحرفنــة‬ ‫تُع ـ ُّد االختصــاراتُ (‪ )abbreviations and acronyms‬مــن‬
‫أو النقحــرة"‪ ،‬مــن أكــر الطــرق شــيو ًعا يف نقــل املصطلــح‬ ‫أكــر األنــواع اللغويّــة التــي ت ُســتخدم يف تســمية املصطلحات‬
‫العلمــي مــن اإلنجليزيّــة إىل العرب ّيــة‪ .‬ويتــ ُّم هــذا عــن‬
‫ّ‬ ‫ـكااًل يف الرتجمــة إىل العرب ّية‪.‬‬
‫العلم ّيــة اإلنجليزيّــة وأكرثهــا إشـ ً‬
‫بديــا عــن‬
‫ً‬ ‫طريــق اســتعامل الحــروف العربيّــة لتكــون‬ ‫إ َّن شــيوع االختصــارات يف اللغــة اإلنجليزيّــة لهــا ســم ٌة‬
‫الحــروف اإلنجليزيّــة حرفًــا بحــرف مــا أمكــن‪.‬‬ ‫تاريخيٌّــة اعتــادت عليهــا اللغــ ُة ومســتخدموها‪ ،‬هدفهــا‬
‫واألمثلـ ُة عــى هــذا كثــرةٌ‪ ،‬نــورد هنــا بعضً ــا منها عىل ســبيل‬ ‫األســاس االختصــار يف اللفــظ وتوفــر املســاحة يف الكتابــة؛‬
‫املثــال ال الحــر‪ "malaria" :‬إىل "مالريــا" و ‪ "”cholera‬إىل‬ ‫ذلــك أ َّن اللغــة متيــل إىل أبســط الطــرق وأقرصهــا يف تحقيــق‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪17‬‬

‫شــاماًل إال‬
‫ً‬ ‫وســع املجتمــع أن ينمــو تربويًّــا وثقاف ًّيــا منــ ًوا‬ ‫"كولـرا" و"‪ "hemoglobin‬إىل "هيموغلوبــن"‪.‬‬
‫بتلــك اللغــة التــي هــي مبثابــة املحــرك اإلمنــا ّيئ الحقيقــي‪.‬‬ ‫ـض املتغـرات مثــل العوملــة ورسعــة النقــل عــى‬ ‫ســاعدت بعـ ُ‬
‫وبغــر ذلــك فإنَّــه ال يعــدو أن يعيــش عــى القشــور‪".‬‬ ‫شــيوع هــذه الطريقــة مــن الرتجمــة‪ .‬وبالرغــم مــن شــيوعها‬
‫وعليــه فقــد دعــا أنصــا ُر املحافظــة عــى اللغــة العربيّــة إىل‬ ‫ـض العقبــات‬ ‫فــإ َّن هــذه الطريقــة مــن الرتجمــة واجهــت بعـ َ‬
‫ـي للمصطلــح‬ ‫اتّبــاع طــرقٍ محــدودة لتوليــد املكافــئ الرتجمـ ّ‬ ‫متثّلــت يف وجــود أكــر مــن طريقــة لنقــل بعــض الحــروف‬
‫ـي‪ ،‬وركّــزوا عــى ثــاث طــرقٍ رئيســة إليجــاد املكافــئ‬ ‫األجنبـ ّ‬ ‫اإلنجليزيّــة التــي تفتقــر لوجــود مكافــئ لهــا يف النظــام‬
‫للمصطلحــات التــي ال توجــد لهــا مكافئــات ترجميّــة يف‬ ‫الصــويتّ العــر ّيب‪ ،‬مثــل حــرف "‪ "g‬الــذي ميكــن ترجمتُــه إىل‬
‫ُ‬
‫االشــتقاق واملجــا ُز‬ ‫ُ‬
‫الطــرق هــي‪:‬‬ ‫اللغــة العربيّــة‪ ،‬وهــذه‬ ‫"غ" و "ج" و"ق"‪ ،‬وحســب تأثــر اللهجــة يف النظــام الصــويتّ‬
‫ـلف‬ ‫ـت؛ وهــي الطــرق نفســها التــي اعتمــد عليهــا السـ ُ‬ ‫والنحـ ُ‬ ‫العلمــي"‪ "Myoglobin‬عــى ســبيل‬ ‫ّ‬ ‫العــر ّيب‪ .‬فاملصطلــح‬
‫يف وضــع املصطلــح‪ .‬ونســتعرض يف هــذا املبحــث الطــرق‬ ‫املثــال ميكــن ترجمتــه إىل "ميوغلوبــن" أو "ميوجلوبــن" أو‬
‫الثــاث بشــكلٍ مختــر‪.‬‬ ‫"ميوقلوبــن"‪.‬‬

‫ُ‬
‫االشتقاق‬ ‫‪1.4‬‬ ‫موقف أنصار املحافظة عىل اللغة العرب ّية من‬
‫ُ‬ ‫‪.4‬‬
‫تتم ّيــز اللغــ ُة العرب ّيــ ُة بكونهــا لغــ َة اشــتقاق‪ ،‬تتولّــد‬ ‫العلمي‬ ‫ترجمة املصطلح‬
‫ّ‬
‫ألفاظهــا بعضهــا مــن بعــض‪ ،‬كونهــا لغ ـ ًة توليديّــة يف املقــام‬
‫املباحــث الســابق ِة تبايــ َن التو ّجهــات يف ترجمــة‬
‫ِ‬ ‫تناولنــا يف‬
‫األول وليســت لغــ ًة إلصاقيًّــة كــا هــو الحــال مــع اللغــة‬
‫ـص املرت َجــم‪.‬‬
‫ـي‪ ،‬وتأثــر هــذا التبايــن يف النـ ّ‬ ‫املصطلــح العلمـ ّ‬
‫اإلنجليزيّــة‪ .‬وتعتم ـ ُد عملي ـ ُة االشــتقاق عــى أوزانٍ رصف ٍّيــة‬
‫يتنــاول املبحــثُ الحــا ُّيل تو ّج ًهــا آخــر يف ترجمــة املصطلــح‬
‫محــددة‪ ،‬وهــي " ِمفعــال" مثــل " ِمنشــار و ِمثقــاب و ِمح ـرار"‬
‫العلمــي‪ ،‬ناب ًعــا مــن آراء املؤيديــن للمحافظــة عــى‬ ‫ّ‬
‫و"ف ّعالــة" مثــل "نفّاثــة وغ ّواصــة" و"ف ّعــال" مثــل "ج ـ ّرار"‪،‬‬
‫ســامة اللغــة العربيــة‪ .‬يقــول محمــد الديــداوي( ‪http://‬‬
‫و"فاعلــة" مثــل "طائــرة وناقلــة وحادلــة"‪.‬‬
‫‪watajournal.com/mag2/archive/1/Researches/1.‬‬
‫العلمــي‬
‫ُّ‬ ‫‪ )html‬يف هــذا الصــدد‪" :‬لــن يرتقــي املســتوى‬
‫‪ 4.2‬املجا ُز‬
‫أي مجتمــع مــن املجتمعــات‪ ،‬مــا مل ميتلك ذلك‬ ‫ـي يف ّ‬
‫والتعليمـ ُّ‬
‫يُعــ ّر ُف "املجــاز" عــى أنّــه إضافــة داللــة جديــدة لكلمــة‬
‫املجتمـ ُع زمــا َم العلــم‪ ،‬ويطـ ّور لغــة تعليمــه وبحثــه القوميــة‬
‫قامئــة‪" ،‬ويســ ّمى بالتمــ ّدد الــدال ّيل يف مصطلحــات علــم‬
‫التــي هــي األقــرب إليــه وإىل وجدانــه‪ ،‬بحيــث يقــدر عــى‬
‫الداللــة الغــر ّيب"‪ .‬وقــد دعمــت املجامــع اللغويّــة العرب ّيــة‬
‫ـاري‬
‫متابعــة مــا يســتج ُّد يف املضــار املعــر ّيف والثقــا ّيف والحضـ ّ‬
‫هــذا التو ّجــه يف صياغــة املصطلحــات املكافئــة للمصطلحــات‬
‫وعــى التبليــغ‪ ،‬ذلــك أ َّن اللغــة القوم ّيــة هــي األقــد ُر عــى‬
‫األجنبيّــة؛ كونــه يحافــظ عــى ال ـراث ويغنيــه مــن خــال‬
‫أساســا‪ ،‬مــع االســتعانة باللغــات‬
‫القيــام بهــذا الــدور اإلمنــا ّيئ ً‬
‫اإلضافــة‪ .‬وتعتمــد هــذه الطريق ـ ُة عــى مبــدأ التشــابه بــن‬
‫األجنب ّيــة لألخــذ عــن املجتمعــات األخــرى واالســتفادة مــن‬
‫املدلــول يف اللغــة املرت َجــم إليهــا وذلــك املوجــود يف اللغــة‬
‫تقدمهــا ومعارفهــا يف إطــار رؤيــة واضحــة‪ .‬ولــن يكــون يف‬
‫متغــر ٌة مــن حيــث‬
‫ّ‬ ‫املرت َجــم منهــا‪ .‬فالكلــاتُ بطبيعتهــا‬
‫‪18‬‬

‫اللغويّــة ال متيــل إىل تبنيهــا؛ كونهــا ال تتبــع املي ـزان الــر ّيف‬ ‫ـوالت جديــد ٍة تدخــل ح ّيــز االســتعامل وأخــرى‬ ‫اكتســاب مدلـ ٍ‬
‫العــر ّيب بشــكل يحافــظ عــى اللغــة العرب ّيــة‪ .‬ورغــم‬ ‫تصبــح طــي النســيان‪ ،‬ومبــرور الزمــن وكــرة االســتخدام‬
‫ـت نــاد ًرا يف املــايض؛ ولهــذا أجازتــه‬‫قدمــه‪ ،‬فقــد كان النحـ ُ‬ ‫ي للكلمــة‪.‬‬ ‫تصبــح الداللــ ُة الجديــد ُة هــي املعنــى األصــ ّ‬
‫ـص الحاصــل يف‬ ‫املجام ـ ُع اللغويّ ـ ُة عنــد الــرورة لس ـ ِّد النقـ ّ‬ ‫فــا أحــد‪ ،‬عــى ســبيل املثــال‪ ،‬يســتخدم كلمــة "دبابــة"‬
‫املصطلحــات العرب ّيــة عنــد تعــذر ترجمتهــا بطريقــة أخــرى‪.‬‬ ‫يف عرصنــا الحــايل للداللــة عــى الحيوانــات الســائرة‪ ،‬وإمَّنَّ ــا‬
‫وقــد اســتفاض مجمـ ُع اللغــة العرب ّيــة يف القاهــرة يف دراســة‬ ‫حــري للداللــة عــى اآللــة العســكرية‬ ‫ٍّ‬ ‫تُســتخدم بشــكلٍ‬
‫"النحــت" وخــرج بق ـرا ٍر "يجــوز النحــت عندمــا تلجــأ إليــه‬ ‫ـدل عــى املســافة بــن‬ ‫"‪ ،"tank‬كــا أ َّن "الربيــد" مل يعــد يـ ُّ‬
‫الــرورة العلميّــة" (مجمــع اللغــة العربيــة‪ ،‬مجموعــة‬ ‫ـدل عــى الصــوت الــذي يُســمع دون‬ ‫منزلــن‪ ،‬والهاتــف ال يـ ُّ‬
‫القــرارات العلميــة‪ ،‬القاهــرة‪ ،1963 ،‬ص‪ .)9‬وعــى ســبيل‬ ‫أن يُــرى صاحبــه‪ ،‬و"الســيارة" ال تعنــي "قافلــة"‪ ،‬وإمَّنَّ ــا تشــر‬
‫املثــال تشـكّلت كلمــة "الزمــكان" بطريقــة النحــت "الزمــان‬ ‫هــذه املصطلحــات إىل املعنــى الــذي اكتســبته مــن خــال‬
‫الرتجمــي ملصطلــح "‪space-‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ +‬املــكان" لتكــون املكافــئ‬ ‫يل أو‬ ‫االســتعامل مــع اختفــاء املعنــى األصــي بشــكلٍ ك ّ‬
‫ـح قب ـو ًاًل واس ـ ًعا وال ي ـزال‬
‫‪ ،"time‬وقــد القــى هــذا املصطلـ ُ‬ ‫يل‪ .‬غــر أ َّن هــذه الطريقــ َة مــن ترجمــة املصطلــح‬ ‫شــبه ك ّ‬
‫قيــد االســتخدام‪ ،‬بينــا مل تلـ َـق مصطلحــاتٌ منحوتٌــة أخــرى‬ ‫تعــاين‪ -‬أيضً ــا‪ -‬مــن بعــض املشــاكل تكمــن يف عــدم مواكبتهــا‬
‫ـي‬ ‫مثــل "حمقــي" "حمــض‪ +‬قلــوي" ليكــون املكافــئ الرتجمـ ّ‬ ‫للتطــور الحاصــل يف بعــض املصطلحــات‪ ،‬فكلمــة "هاتــف"‬
‫العلمــي "‪ "amphoteric‬القبــول والشــيوع‬ ‫ّ‬ ‫للمصطلــح‬ ‫عــى ســبيل املثــال مل تعــد كافيــة لإلشــارة إىل التطــ ّور‬
‫نفســه‪.‬‬ ‫التقليــدي‬
‫ّ‬ ‫فالهاتــف مبعنــاه‬
‫ُ‬ ‫الحاصــل يف هــذا املجــال‪،‬‬
‫تط ـ ّور كث ـ ًرا وأصبــح محم ـو ًاًل ويحتــوي عــى آلــة تصويــر‪،‬‬
‫بعــض طــرق ترجمــة‬‫وأخــ ًرا‪ ،‬لقــد تناولــت هــذه املقالــ ُة َ‬ ‫نقــل حــر ٌّيف للمصطلــح‬ ‫وحلّــت كلمــة "موبايــل"‪ ،‬وهــي ٌ‬
‫العلمــي‪ ،‬كــا أشــارت إىل العشــوائيّة وغيــاب‬ ‫ّ‬ ‫املصطلــح‬ ‫أي‬ ‫اإلنجليــزي "‪ ،"mobile‬وهــي الشــائعة اآلن؛ مــا يجعــل ّ‬
‫املرجعيّــة املركزيّــة يف ترجمــة املصطلحــات واعتامدهــا؛‬ ‫تو ّجــه لتغيــر املفــردة املســتخدمة محكــوم عليــه بالفشــل‬
‫مــا أدى إىل تش ـتّ ٍت يف املعــاين واالســتخدام تب ًعــا للهجــات‬ ‫والالواقعيــة‪ .‬ويبقــى املجــازُ‪ -‬بالرغــم مــن ذلــك‪ -‬أحـ َد أهــم‬
‫واللغــات املصــادر واالجتهــادات الشــخص ّية‪ .‬لذلــك كان ال‬ ‫طرائــق تســمية املصطلحــات الجديــدة‪ ،‬كــا يــرى "جميــل‬
‫ب ـ َّد مــن وقف ـ ٍة جــادة مــن املرتجمــن واللغويــن‪ ،‬ومجامــع‬ ‫املالئكــة" الــذي يقــول‪" :‬أ َّمــا مجــال توســيع معنــى اللفــظ‬
‫املختصــة لتوحيــد‬
‫ّ‬ ‫واملؤسســات‬
‫ّ‬ ‫اللغــة العربيــة والهيئــات‬ ‫العــر ّيب بالخــروج مــن حقيقتــه إىل املجــاز‪ ،‬فــكان ومــا زال‬
‫ـس ســليم ٍة وواحــد ٍة يف ترجمــة‬
‫الجهــود يف عمليــة وضــع أسـ ٍ‬ ‫مــن أوســع األبــواب يف اللغــة العرب ّيــة" (يحيــى جــر‪ ،‬مجلــة‬
‫املصطلحــات العلم ّيــة والتقن ّيــة‪.‬‬ ‫اللســان العــريب‪ ،‬العــدد ‪ ،36‬ص‪.)131‬‬

‫النحت‬
‫ُ‬ ‫‪4.3‬‬
‫ـت يُع ـ ُّد أح ـ َد أقــدم الطــرق لتشــكيل‬
‫بالرغــم مــن أ َّن النحـ َ‬
‫مفــرد ٍة جديــد ٍة مــن مفردتــن أو أكــر‪ ،‬فــإ َّن املجامــ َع‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪19‬‬

‫ترجم ُة الشعر‬
‫بني املمكن واملستحيل‬
‫د‪ .‬خالد عبدالله الشيخيل*‬

‫وهــا يف‬
‫ً‬ ‫"فــ ُّن اســتخدام الكلــات بطريقــة تُحــدث‬ ‫ـرب منــذ ســالف العصــور أ َّن للشــعر شــيطانًا يُقبِل‬‫تخيــل العـ ُ‬
‫الحــواس‪ ،‬وهــو ف ـ ُّن الفعــل بواســطة الكلــات مــا يفعلــه‬ ‫وجميــل‬
‫َ‬ ‫عليهــم فيُلهِم ُهــم روائــ َع الكلــم وبدائــ َع الصــور‬
‫الرســام بواســطة األلــوان"‪.‬‬ ‫النظــم‪ ،‬وبقــي هــذا التصــ ّو ُر قامئًــا حتــى بعــد مجــيء‬
‫إ َّن ترجمـ َة الشــعر أحـ ُد املوضوعــات املثــرة للجــدل‪ ،‬ولعـ َّـل‬ ‫اإلســام بأفــكاره الجديــدة وضوابطــه التــي ق ّيــدت مــا يجــوز‬
‫يتجس ـ ُد يف اآلراء املختلفــة املتعلقــة برتجمتــه مــن‬
‫ـاف ّ‬ ‫الخـ َ‬ ‫قولــه ومــا ال يجــوز‪ .‬وكانــت قبائـ ُـل العــرب تفتخــر بشــعرائها‬
‫عدمهــا‪ ،‬وإذا اختــار املــر ُء ترجمتــه‪ ،‬فــا هــي الطريقــة‬ ‫وت ُنزلهــم منــازل رفيعــة بــن أبنائهــا‪ .‬وملــا كانــت للشــعر‬
‫األنســب؟!‪ .‬فمنــ ُذ ال ِقــدم تباينــت اآلرا ُء يف هــذا األمــر؛‬ ‫هــذه املكانــة‪ ،‬وملــا كان مقرتنًــا باإللهــام واإلبــداع ويوصــف‬
‫فمنهــم مــن ذهــب إىل اســتحالة ترجمتــه كــا فعــل‬ ‫عــى أنَّــه ديــوان العــرب‪ ،‬كانــت ترجمتُــه مــن لغـ ٍة إىل لغـ ٍة‬
‫نصــه "والشــع ُر‬ ‫الجاحــظ‪ ،‬إذ يذكــر يف كتــاب "الحيــوان" مــا ّ‬ ‫خاصــة‪ ،‬ولعلّهــا‬
‫ات ًّ‬ ‫خاصــا وقــدر ٍ‬
‫أخــرى تســتدعي اهتام ًمــا ًّ‬
‫ال يُســتطاع أن يرت َجــم وال يجــوز عليــه النقــل‪ ،‬ومتــى ُحـ ّول‪،‬‬ ‫تتطلــب أن يكــون للمرتجــم أيضــاً "شــيطان" يعينــه عــى‬
‫تقطّــع نظمــه‪ ،‬وبطــل وزنــه‪ ،‬وذهــب ُحســنه‪ ،‬وســقط‬ ‫ســر غــور القصائــد املــراد ترجمتهــا‪ ،‬ويدلّــه عــى أفضــل‬
‫ـب فيــه"‪ .‬ويعـ ِّرف الشــاع ُر والناقــد األمرييـ ُّ‬
‫ي‬ ‫موضــع التعجـ ِ‬ ‫الســبل وأنجعهــا لرتجمــة الشــعر‪ .‬إ َّن نقـ َـل الشــعر مــن لغـ ٍة‬
‫"روبــرت فروســت" (‪ )Robert Frost‬الشــعر أنَّــه "مــا يُفقـ ُد‬ ‫إىل أخــرى عمـ ٌـل غايــة يف الصعوبــة والتعقيــد‪ ،‬ذلــك أ َّن مــا‬
‫يف الرتجمــة"‪.‬‬ ‫يُســحر الســام َع أو القــارئ يف لغـ ٍة مــا برتكيبهــا وموســيقاها‬
‫ويذهــب القائلــون باســتحالة ترجمــة الشــعر إىل أ َّن مثــة‬ ‫النص‬ ‫وصورهــا‪ ،‬قــد ال يكــون لــه الوقـ ُع نفســه يف أذن ســامعِ ِّ‬
‫عنــارص يســتحيل أو عــى األقــل يصعــب نقلهــا مــن لغــة إىل‬ ‫املرت َجــم‪ ،‬أو عــن قارئــه مهــا بلغــت قــدرة املرت ِجــم ومهــا‬
‫أخــرى‪ ،‬وهــي الجوانــب الصوتيّــة واملوســيقيّة والخصوصيات‬ ‫طالــت خربتُــه وبــذل مــن جهــد‪ .‬فالشــع ُر ميتــاز عــن بقيــة‬
‫النحويّــة والرصفيّــة واملجــازات‪ ،‬إضافــة إىل االختالفــات‬ ‫األجنــاس األدبيّ ـ ِة األخــرى بلغتــه املكثفــة التــي ال تحتمــل‬
‫خصصنــا الــكالم عــن العرب ّيــة واإلنجليزيّــة‬ ‫الثقاف ّيــة‪ .‬وإذا ّ‬ ‫اإلطنــاب والحشــو‪ ،‬وال تتقبــل التكـرار والرتابــة‪ ،‬وهــو ُمــر ٌع‬
‫األدوات املســتخدم َة يف الشــعر العــريب تختلــف‬ ‫ِ‬ ‫قلنــا إ َّن‬ ‫باملحســنات البديع ّيــة واألســاليب البالغ ّيــة‪ ،‬ومــن هنــا تــأيت‬
‫عــا هــو موجــود يف اللغــة اإلنجليزيّــة‪ .‬فالعربيّــة أغنــى مــن‬ ‫صعوبـ ُة ترجم ِتــه وقلـ ُة املقبلــن عــى نقــل الشــعر مــن لغـ ٍة‬
‫اإلنجليزيّــة يف عــدد البحــور الشــعريّة (يف اللغــة العربيّــة ‪16‬‬ ‫إىل أخــرى‪ .‬يقــول "ثيــودور ســافوري" (‪)Theodore Savory‬‬
‫بح ـ ًرا شــعريًّا يقابلهــا ‪ 7‬بحــور يف اللغــة اإلنجليزيّــة) وكــا‬ ‫يف كتابــه "فــن الرتجمــة" (‪ )1968‬مع ّرفًــا الشــعر عــى أنَّــه‬

‫* جامعة جرش ‪ -‬األردن‬


‫‪20‬‬

‫قائاًل‪:‬‬
‫فام كان من شوقي إال أن ر َّد عليه ً‬ ‫لــكل بحــ ٍر أغراضً ــا معينــة ويســتخدم‬
‫هــو معــروف فــإ َّن ِّ‬
‫وأودعــت إنسانًـا وكل ًبـا أمانـ ًة‬
‫ُ‬ ‫يف مناســبات بعينهــا‪ ،‬فالبح ـ ُر الطويـ ُـل‪ -‬عــى ســبيل املثــال‪-‬‬
‫ُ‬
‫حافظ‬ ‫والكلب‬
‫ُ‬ ‫فض ّيعها اإلنسانُ‬ ‫هــو مــن أك ـرِ البحــور الشــعريّة اســتخدا ًما عنــد العــرب؛‬
‫أو من قصيدة البن الفارض‪:‬‬ ‫املختصــن يذكــرون أ َّن ثلــث الشــعر العــريب‬
‫ّ‬ ‫حتــى إ َّن بعــض‬
‫ُ‬
‫اللحظ منها أبدً ا‬ ‫ذو الفقار‬ ‫مــن البحــر الطويــل‪ ،‬وهــو نــاد ُر االســتخدام يف األهازيــج‬
‫والحشا مني عمرو و ُحيـي‬ ‫مثــا‪-‬‬
‫واملوشــحات واألغــاين‪ ،‬يف حــن أ َّن البحــ َر الكامــل‪ً -‬‬
‫ـكل األغـراض الشــعريّة‪ ،‬وبحــر الرجــز أقــرب األوزان‬ ‫ـح لـ ِّ‬
‫يصلـ ُ‬
‫ذو الفقــار هــو اســم ســيف اإلمــام عــي بــن أيب طالــب ريض‬ ‫إىل النــر‪ ،‬بينــا يكــرُ توظيــف بحــر الرمــل يف مواضيــع‬
‫اللــه عنــه‪ ،‬بينــا عمــرو وحيــي هــا اســان مــن الذيــن‬ ‫الغــزل والخمــر واملوشــحات‪ .‬كــا أ َّن القصيــد َة العموديّــة‬
‫قــى عليهــم يف الحــرب‪.‬‬ ‫ذات القافيــة الواحــدة نــادرةٌ‪ ،‬إن مل تكــن معدومــةً‪ ،‬يف‬
‫وكلنــا يعلــم أ َّن للقــرآن مكانـ ًة عظيمـ ًة يف نفــوس املســلمني‬ ‫اإلنجليزيــة‪ ،‬وهكــذا‪ .‬وإن تعلــق األمــ ُر بالصــوت لدينــا‬
‫ولــه أثـ ٌر بالـ ٌغ يف قلوبهــم ال ميكــن نقلــه يف الرتجمــة‪ .‬تأمــل‬ ‫الجنــاس والقافيــة واإليقــاع واملوســيقى الداخليــة وغريهــا‬
‫قــول الشــاعر املوصــي ابــن الــدري يوســف بــن درة‪:‬‬ ‫مــا ال ميكــن نقلــه إىل لغــة أخــرى‪ .‬فكيــف ملرت ِجــمٍ مهــا‬
‫الجميل فخاب ظ ّني‬
‫َ‬ ‫ظننت بك‬ ‫طــال با ُعــه يف الرتجمــة أن ينقــل الجنــاس يف البيتــن التاليــن‪:‬‬
‫وقــــال الله بعض الظن إثــم‬ ‫حل بنا بـه‬‫عضنا الدهر بنابــه ليت ما َّ‬
‫أو قــول ابــن الرومــي يف رثــاء البــرة بعدمــا أصابهــا مــن‬ ‫غافل ليس بنابـــه‬‫ٌ‬ ‫كل من مال إليـــه‬ ‫ُّ‬
‫خ ـراب عــى يــد الزنــج‪:‬‬
‫أين فُلك منها وفُلك إليها‬ ‫مختلــف يف‬
‫ٌ‬ ‫النحــوي والــر ُّيف‬
‫ُّ‬ ‫أ َّمــا عــن البنيــة؛ فالنظــام‬
‫منشآت يف البحر كاألعالم‬ ‫العربيّــة عنــه يف اإلنجليزيّــة‪ .‬ومثــال عــى ذلــك صيغــة‬
‫الجمــع‪ ،‬فتجــد يف العربيّــة جمــ َع القلــة والكــرة وجمــ َع‬
‫هــذان االقتباســان أو التضمينــان مــن القــرآن الكريــم يؤثران‬ ‫الجمــع وهــو مــا يفقــد أثــره حــال ترجمتــه‪ .‬تأمــل َ‬
‫قــول‬
‫يف القـراء العــرب املســلمني الذيــن يعطــون هــذه الصــور يف‬ ‫الشــافعي‪ -‬رحمــه اللــه‪:-‬‬
‫ّ‬ ‫األمــام‬
‫كتابهــم مكان ـ ًة ســاميًّة‪ .‬والتأثــر ليــس مكافئًــا يف الرتجمــة‪،‬‬ ‫سهرت أعني ونامت عيونُ يف أمو ٍر تكون أو ال تكونُ‬
‫إن مل ِ‬
‫يضــع أصـ ًـا‪ ،‬ألنَّــه مــن املتوقــع أال يكــون قــارئ اللغــة‬
‫املســتهدف‪ ،‬عــى درايــة بالقــرآن وبأســلوبه وآياتــه‪.‬‬ ‫واملجــازاتُ ‪ -‬أيضً ــا‪ -‬يصعــب نقلُهــا‪ ،‬فالتوري ـ ُة تــكاد تكــون‬
‫ـاف الثقــا ُّيف وتباعــده مــن املشــكالت الشــائكة‬ ‫ويُع ـ ُّد االختـ ُ‬ ‫مســتحيل َة النقــل إىل لغــ ٍة أخــرى‪ ،‬كقــول الشــاعر حافــظ‬
‫التــي يواجههــا املرتجمــون‪ .‬فالعربيّــة واإلنجليزيّــة تنتميــان‬ ‫مشاكســا أحمــد شــوقي‪:‬‬
‫ً‬ ‫إبراهيــم‬
‫لثقافتــن متباعدتــن‪ ،‬مــا يجعــل العمليــة غايــة يف‬ ‫الشوق نا ٌر ولوعـــ ٌة‬
‫َ‬ ‫يقــولون إنَّ‬
‫الصعوبــة‪ .‬يقــول "بيــر نيومــارك" (‪)Peter Newmark‬‬ ‫فام بال شوقي أصبح اليوم باردا؟‬
‫ ملف العدد‬/ ‫أفكار‬ 21

Photo Patrick Tomasso on Unsplash


‫‪22‬‬

‫وهــل ميكــن فصــل شــكل القصيــدة عــن مضمونهــا؟‪ .‬وهــل‬ ‫وهــو مــن كبــار املنظريــن للرتجمــة ومامرســيها‪" :‬كلّــا‬
‫ينبغــي للمرتجــم أن يكــون شــاعراً أص ـاً أم ال؟ ومــا هــي‬ ‫اقرتبــت اللغــة والثقافــة اقرتبــت الرتجمــة مــن األصــل"‪.‬‬
‫الطريقــة املناســبة للرتجمــة؟ حــرة‪ ،‬إبداعيــة‪ ،‬أم حرفيــة؟‪.‬‬ ‫خصائــص مميــزة تتعــارض بشــكل أو‬ ‫ُ‬ ‫لــكل مــن اللغتــن‬
‫ِّ‬
‫واختلفــت اإلجابــات عــى هــذه األســئلة جمي ًعــا‪.‬‬ ‫بآخــر مــع األخــرى‪ .‬فالفجــو ُة الثقافيّــة بــن اللغتــن العربيّــة‬
‫ومــا يشــجع القائلــن برتجمــة الشــعر وجــود ترجــات‬ ‫واإلنجليزيّــة‪ ،‬باإلضافــة إىل البنيــة الشــعريّة لكلتــا اللغتــن‬
‫حــازت عــى إعجــاب القــراء‪ ،‬وقســم منهــا انــدرج وذاب‬ ‫تجعــل الخســارة أكــر‪ .‬عــى ســبيل مثــال نجــد يف ســونيتة‬
‫يف أدب اللغــات املرتجــم إليهــا‪ .‬مثــال عــى ذلــك رباعيــات‬ ‫شكســبري الثامنــة عــرة مــا يعكــس البيئــة الثقافيــة للغــة‬
‫الخيــام التــي ت ُرجمــت إىل الكثــر مــن لغــات العــامل ومنهــا‬ ‫املصــدر مــن خــال التمثيــات البيئيــة‪:‬‬
‫اللغــة اإلنجليزيّــة‪ ،‬وقــد قــام بالرتجمــة الشــاعر "إدوارد‬ ‫?‪Shall I compare thee to a summer's day‬‬
‫فيتزجريالــد" (‪ ،)Edward FitzGerald‬ومــن روعــة الرتجمــة‬
‫ـزي‪.‬‬
‫أضحــت منــذ عـرات الســنني مــن روائــع األدب اإلنجليـ ّ‬ ‫وهــي مــن األمثلــة التي ت ُقتبــس كثـ ًرا للداللة عــى االختالف‬
‫نقــل الرباعيــات إىل العربيّــة الشــاع ُر أحمــد رامــي وقــد‬ ‫ـوم‬
‫ـي واختــاف نظــرة الثقافتــن لهــا ‪" .‬هــل أقارنــك بيـ ٍ‬ ‫البيئـ ّ‬
‫القــت‪ -‬أيضً ــا‪ -‬القبــول واالستحســان‪ .‬كــا نالــت قصيــدة‬ ‫مــن أيــام الصيــف؟" ‪ ،‬فالصيــف ميثــل أجمــل مواســم الســنة‬
‫"األرض اليبــاب" (‪ )The Waste Land‬للشــاعر "ت‪ .‬س‪.‬‬ ‫أي مــن دول الخليــج العــر ّيب‪،‬‬ ‫يف إنجلــرا‪ .‬وباملقارنــة مــع ٍّ‬
‫إليــوت" (‪ )T.S. Eliot‬حظًــا كبــ ًرا مــن االهتــام يف اللغــة‬ ‫الصيــف كالجحيــم‪ .‬لــذا فــإ َّن الصــورة ســتكون‬ ‫ُ‬ ‫ســيبدو‬
‫العربيّــة‪ ،‬حتــى إنّهــا ت ُرجمــت غــ َر مــرة إىل لغــة الضــاد‬ ‫مشــوه ًة متا ًمــا‪ .‬ولعـ َّـل قائـ ًـا يقــول إنــه باإلمــكان ترجمــة‬
‫ومبســتويات أدب ّيــة وأســلوب ّية متفاوتــة‪.‬‬ ‫الصيــف إىل الربيــع مــن خــال إعطــاء املكافــئ البيئــي‪ .‬يف‬
‫رأي ثالــث يقــول إ َّن الســبيل األمثــل للوصــول إىل‬ ‫ومثــة ٌ‬ ‫الواقــع‪ ،‬مــن املتوقــع حــدوث خســارة حتم ّيــة عنــد تحويــل‬
‫ي عــى مســتويات اللغــة‬ ‫ـص األص ـ ِّ‬
‫ترجمــة تقــرب مــن النـ ِّ‬ ‫"الصيــف" إىل "الربيــع"‪ .‬هــل مينــح هــذا االختــاف املرتجــم‬
‫اإلبداعــي هــو صــور ٌة‬
‫ّ‬ ‫البالغــي‬
‫ّ‬ ‫كافــة‪ ،‬إضافــة إىل الجانــب‬ ‫ترخيصــا لتحويــل الصيــف إىل الربيــع‪ ،‬وهــو مــا قــد يكــون‬ ‫ً‬
‫النصــن‬
‫متخيلــة يف ذهــن القــارئ أو الســامع تدمــج بــن ّ‬ ‫تحويــل‬
‫َ‬ ‫مكافئًــا بيئ ًّيــا مناســ ًبا؟‪ .‬لعــل البعــض يقــول إ َّن‬
‫ي واملرتجــم؛ ليصــل املتلقــي إىل ترجمــ ٍة ّ‬
‫خاصــة بــه‬ ‫األصــ ّ‬ ‫الصيــف اىل الربيــع أمـ ٌر خــاد ٌع للقــارئ ومضلــل لــه‪ ،‬فلرمبــا‬
‫يك ّونهــا يف ذهنــه‪ ،‬وبهــذا يكــون لدينــا ترجــات عددهــا‬ ‫ـص األصــي‬ ‫ظ ـ َّن القــارئ أ َّن كلم ـ َة الربيــع موجــود ٌة يف النـ ِّ‬
‫النــص أو املســتمعني لــه‪.‬‬
‫بعــدد قــراء ِّ‬ ‫وليســت اجتهــادا ً مــن املرت ِجــم‪ ،‬إنَّهــا مســأل ٌة خالفيٌّــة‪ ،‬وقــد‬
‫يوافــق البعــض عــى هــذا االجتهــاد‪ ،‬وال يوافــق آخــرون‪.‬‬
‫قــول الشــاعر الفرنــي "بيــر لرييــس"‬ ‫نقتبــس َ‬
‫ُ‬ ‫وختا ًمــا‬ ‫أ َّمــا مــن قالــوا بإمكانيــة ترجمــة الشــعر فرأيهــم أ َّن التشــابه‬
‫(‪ )Pierre Leyris‬الــذي يقــول‪ " :‬إنَّ ترجمــ َة الشــعر أمــ ٌر‬ ‫بــن اللغــات أكــر مــن االختــاف‪ ،‬وأ َّن ترجمــة الشــعر‬
‫ـتحيل‪ ،‬واالمتنــا ُع عــن ترجمتــه أمـ ٌر مســتحيل"‪ .‬ولكــم‬
‫مسـ ٌ‬ ‫ال منــاص منهــا للتعــرف عــى آداب الشــعوب املختلفــة‪،‬‬
‫خاصــة‬‫أن تك ّونــوا رأيكــم الخــاص‪ ،‬وتتوصلــوا إىل قــراءة ّ‬ ‫وطــرق تفكريهــم ومكامــن إبداعاتهــم‪ ،‬إال إنَّهــم اختلفــوا يف‬
‫بكــم‪ ،‬ســواء أكانــت مــع ترجمــة الشــعر أم مــع اســتحالتها‪.‬‬ ‫مســائل عديــدة منهــا‪ :‬هــل يُرتجــم الشــع ُر شــعراً أم ن ـراً؟‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪23‬‬

‫وعوامل‬
‫ُ‬ ‫تدريب املرتجمني‬
‫ُ‬
‫'الكفاءة' الرتجم ّية يف‬
‫الوطن العر ّيب‪ :‬األردن ً‬
‫مثااًل‬
‫د‪ .‬محمد أمني الحوامدة*‬

‫كتبنــا هــذه املقالــة بنــا ًء عليــه‪ .‬فبعــد أن اســتقصينا األدب‬ ‫أي مــن شــؤون حياتنــا بوجــه عــام هــي‬ ‫لعـ َّـل الكفــاء َة يف ٍّ‬
‫الســابق فيــا يرتبــط مبفهــوم الكفــاءة وتدريــب املرتجمــن‪،‬‬ ‫القــدر ُة والخــرة‪ ،‬حيــث األوىل امتــاك املــوارد والثانيــة‬
‫قمنــا باســتطالع رأي املعنيــن مــن أســاتذة الرتجمــة وخربائها‬ ‫حســن اســتخدامها‪ .‬وينطبــق هــذا التعريــف بشــكل أو‬
‫يف الوطــن العــريب‪ .‬حيــث تــم اختيــار أحــد عــر (‪)11‬‬ ‫بآخــر عــى موضوعنــا مــن الكفــاءة الرتجم ّيــة (‪Translation‬‬
‫أســتاذًا أو خبـ ًرا مــن األردن وبعــض البــاد العربيــة (كمــر‬ ‫‪ )Competence‬فنقــول إنَّهــا املعرفــة التامــة بلغــة مــا يف‬
‫وفلســطني والعـراق) ممــن أســهموا يف أنشــط ٍة اطّلعــوا مــن‬ ‫كالمــي متجانــس (تشومســي‪ )1965 ،‬أو اإلملــام‬ ‫ّ‬ ‫مجتمــع‬
‫خاللهــا عــى التحديــات املحتملــة والتقنيــات املمكنــة يف‬ ‫بلغــة أو لغــات ثانيــة أو أجنب ّيــة تسـ ّمى بالهــدف (نيوبــرت‪،‬‬
‫مجــال تدريــب املرتجمــن‪ .‬ومتثلــت أداة البحــث بنمــوذج‬ ‫‪ .)2000‬إال إ َّن إدراج جوانــب أخــرى كتلــك الثقاف ّيــة والبحث ّية‬
‫مقابلــة تــم تطبيقــه عــى املشــاركني بالصبغــة الشــخصيّة‬ ‫(بيــم‪ )2003 ،‬وغــر ذلــك مــا يضطلــع بــه املرتجِــم مــن‬
‫أو االفرتاضيّــة يف بدايــة العــام الحــايل ‪ ،2022‬تضمــن أســئلة‬ ‫مهــام تســتلزم أدوات تقنيّــة مــا وصفــات شــخصية معينــة‬
‫مفتوحــة طُلــب منهــم اإلجابــة عليهــا وفــق معرفتهــم‬ ‫رضورة الســتكامل ذلــك التعريــف‪ .‬وعليــه ُمُيكــن القــول إ َّن‬
‫مبفهــوم الكفــاءة الرتجم ّيــة و\أو تجربتهــم يف تدريــب‬ ‫الكفــاءة يف الرتجمــة هــي منظومــ ُة الكفايــات واملعــارف‬
‫املرتجمــن‪ .‬ووجدنــا أ َّن تدريــب املرت ِجــم (العــر ّيب) يتح ّقــق‬ ‫واملهــارات والســلوكيات الالزمــة للعاملــن يف هــذه الصناعــة‬
‫مبســاقات قصــرة األجــل بخطــط دراس ـيّة متجــددة تقــوم‬ ‫ظــل‬
‫الحيويّــة (أنظــر‪ ،)PACTE, 2011 ،‬ال ســيّام يف ِّ‬
‫ـوي والثقــا ّيف‪ ،‬ومامرســات‬ ‫عــى عاملــن أساســيني؛ هــا اللغـ ّ‬ ‫التقــارب الواســع بــن األمــم‪ ،‬وبالتــايل تزايــد الطلــب عــى‬
‫ي‬‫طويلــة األجــل بربامــج وتدابــر حكوميــة تتمثــل بعامــ ّ‬ ‫خدمــات الرتجمــة والحلــول اللغويّــة‪ .‬وحيــث كان االهتــام‬
‫ـخيص‪.‬‬
‫ـي والشـ ّ‬ ‫إســناد هــا التقنـ ّ‬ ‫باملرتجمــن (أو طلبــة الرتجمــة) وفــق مــا يتوقعــه منهــم‬
‫ـي من‬ ‫أ َّمــا املســاقات قصــرة األجــل فمثّلــت الجانــب التعليمـ ّ‬ ‫أربــاب العمــل أمــ ًرا الز ًمــا‪ ،‬فقــد ســعينا يف هــذه املقالــة‬
‫ـط‬‫منظومــة التدريــب الخــاص باملرتجمــن‪ ،‬وتقــوم عــى خطـ ٍ‬ ‫إىل بيــان العوامــل األساسـ ّية واملســاندة املؤثــرة يف تدريبهــم‬
‫دراس ـ ٍّية متجــددة باســتمرار‪ .‬حيــث تُعنــى هــذه املســاقات‬ ‫وصــواًلً إىل مســتوى الكفــاءة مبــا يتالئــم وميــدان العمــل‬
‫ـكل منهــا‬‫ي أســاس‪ ،‬كان لـ ٍّ‬ ‫ـوي والثقــا ّيف كعامـ ّ‬
‫باملنحيــن اللغـ ّ‬ ‫العــر ّيب‪ ،‬ال ســيّام يف األردن‪.‬‬
‫ـوي مرتبطًــا بســامة اللغــة‬ ‫بنــدان اثنــان‪ .‬فــكان العامـ ُـل اللغـ ُّ‬ ‫وقبــل البــدء بالحديــث حــول تلــك العوامــل‪ ،‬نــرى مــن‬
‫األوىل؛ أي اللغــة األم؛ وهــي العرب ّيــة بالنســبة للمرتجِــم‬ ‫البحثــي الــذي‬
‫ّ‬ ‫األهميــة مبــكان عــرض منهجيــة املــروع‬

‫* جامعة جرش ‪ -‬األردن‬


‫‪24‬‬

‫ويف إطــار آخــر مرتبــط‪ ،‬فقــد كانــت البيئـ ُة التعليم ّيــة بحـ ِّد‬ ‫مثــا‪ -‬وإتقــان اللغــة الثانيــة (أو األجنب ّيــة) وهــي‬ ‫األردين‪ً -‬‬
‫ذاتهــا أحـ َد عوامــل النجــاح وتعزيــز الكفــاءة لــدى املرتجمني‬ ‫اإلنجليزيّــة (أو الفرنسـ ّية كلغــة مســتخدمة بشــكل ملحــوظ‬
‫الجامعــي والتفاهــم‬
‫ّ‬ ‫بحيــث تقــوم عــى أســس النقــاش‬ ‫يف عــدد مــن البلــدان العربيــة)‪ .‬أ َّمــا العامـ ُـل الثقــا ّيف‪ ،‬فتمثّــل‬
‫املتبــادل‪ .‬ففــي بيئــة تفاعليّــة وجاهيّــة كانــت أم افرتاضيّــة‪،‬‬ ‫مبجمــوع املعرفــة العامــة التــي ميتلكهــا املرتجِــم كمظلــ ٍة‬
‫يتح ّقــق لطلبــة الرتجمــة فرصــة مهمــة أن يحـ ّددوا ألنفســهم‬ ‫يــؤدي ضمنهــا مها َمــه يف ســوق العمــل ثــم االختصــاص‬
‫مســتوى الكفــاءة الــازم الوصــول إليــه‪ ،‬فهــم يحفــزون‬ ‫يف فــر ٍع (أو فرعــن مرتبطــن) مــن املعــارف كالنصــوص‬
‫أنفســهم ببيــان مواضــع الخلــل أو القصــور فيــا يتلقونــه‬ ‫القانونيّــة والتجاريّــة أو األدبيّــة والدينيّــة أو السياســيّة‬
‫ٍ‬
‫عالجــات ناجعــ ًة‬ ‫لغــوي أو ثقــا ٍّيف ويضعــون‬
‫ٍّ‬ ‫تدريــب‬
‫ٍ‬ ‫مــن‬ ‫والعســكريّة وهكــذا‪ .‬ولعلنــا نعتــر أ َّن ســامة اللغــة األوىل؛‬
‫لذلــك‪ .‬وإ َّن مثــل هــذه البيئــات قــد أعانــت مجموعـ ًة مــن‬ ‫أي األم‪ ،‬ومجمــوع املعرفــة العامــة‪ ،‬هــا أســاس األســاس يف‬
‫الطلبــة األوروبيــن عــى وضــع طــرق مالمئــة للتفاعــل فيــا‬ ‫وضــع هــذا التصنيــف وتنظيمــه‪ ،‬وأن إتقــان اللغــة الثانيــة‬
‫ايض مــا يتمثّــل مبســاق إلكــرو ّين دو ٍّيل‬
‫بينهــم يف نطــاق افـر ٍّ‬ ‫واالختصــاص املعــريف إســناد األســاس‪.‬‬
‫متعــدد الوظائــف (انظــر‪ ،‬كيتــوال وأخــرون‪ .)2018 ،‬وباعتبــار‬ ‫ولــو أردنــا قيــاس الكفايــات الالزمــة للمرتجمــن واملــراد‬
‫الرتجمــة عمليــة مــن عمليــات صنــع الق ـرار حيــث ترتبــط‬ ‫تطويرهــا يف ســياق الدراســة الجامع ّيــة‪ ،‬فقــد نعتــر أ َّن‬
‫بشــكل مبــارش بأنشــطة عــدة كحـ ِّـل املشــكالت مثـ ًـا‪ ،‬فهنــاك‬ ‫املناهــج الحاليــة لربامــج الرتجمــة تعـ ّزز جوانــب دون أخرى‪.‬‬
‫عالقــة بــن دراســة الرتجمــة وعلــم النفــس‪ .‬فنقــول بإزديــاد‬ ‫ـوي والثقــا ّيف وارديــن‬ ‫فتجــد عــى ســبيل املثــال املك ّونــن اللغـ ّ‬
‫الكفــاءة الرتجميّــة كلــا زاد مــدى الحافزيّــة لــدى املتــدرب‪،‬‬ ‫بدرجــات متفاوتــة دون املكونــات األخــرى كالتقنيّــة أو‬
‫ومــن ذلــك التدريــب املو ّجــه املـراد منــه تحريــك الطاقــات‬ ‫التخصص ّيــة أو البحث ّيــة‪ .‬فكانــت تلــك األخــرة‬ ‫ّ‬ ‫الشــخص ّية أو‬
‫لــدى متــدريب الرتجمــة نحــو حاجــات ســوق العمــل يف‬ ‫ـي‬ ‫مــن تحديــات تدريــس الرتجمــة عــى املســتوى الجامعـ ّ‬
‫املســتقبل‪.‬‬ ‫أو تدريــب طلبــة الرتجمــة عليهــا‪ ،‬مشــرين هنــا إىل أربعــة‬
‫أنــواع مــن طرائــق التدريــب هــي‪ :‬املحــارضات العلميّــة‬
‫يل‬
‫وأ َّمــا املامرســات طويلــة األجــل فمثّلــت الجانــب التشــغي ّ‬ ‫كأطـ ٍر نظريٍّــة‪ ،‬والتامريــن العمليــة كجــزء مهــم مــن املســاق‪،‬‬
‫مــن منظومــة تدريــب املرتجــم العــر ّيب‪ ،‬وتقــوم عــى برامــج‬ ‫واملالحظــات امليدانيــة التــي يد ّونهــا الطلبــة‪ ،‬والواجبــات‬
‫وتدابــر حكوميــة مبجالــس عليــا‪ .‬وتركّــز هــذه املامرســات‬ ‫ـوي‬‫التفاعليّــة بتغذيــة راجعــة منهــم‪ .‬ويف هــذا الســياق اللغـ ّ‬
‫ي إســناد‪ ،‬كان‬ ‫والشــخيص كعامــ ّ‬
‫ّ‬ ‫التقنــي‬
‫ّ‬ ‫عــى الجانبــن‬ ‫والثقــا ّيف‪ ،‬فإننــا نؤكّــد عــى أهميــة‪:‬‬
‫ـي مرتبطًــا‬
‫لــكل منهــا بنــدان اثنــان‪ .‬فــكان العامـ ّـل التقنـ ُّ‬ ‫‌أ‪ .‬تعزيــز املســاقات األكادمي ّيــة التــي تُعنــى بشــكل أســايس‬
‫مبــا اســتحدثه أهــل الخــرة مــن أدوات الرتجمــة املســندة‬ ‫بتدريــس اللغــة أو اللغــات األجنب ّيــة لألغــراض الخاصــة‬
‫حاســوبيًّا وهــي عديــدة وذات جــدوى كبــرة يف تعزيــز‬ ‫لطلبــة برامــج الرتجمــة‪.‬‬
‫اإلنتاجيّــة وأيضً ــا محــركات الرتجمــة اآلليــة‪ .‬أ َّمــا الوجــه‬ ‫‌ب‪ .‬توفــر الفرصــة الكافيــة للمتــدرب لتوســيع مداركــه‬
‫الشــخيص للكفــاءة الرتجم ّيــة‪ ،‬وهــو رمبــا املظهــر الرئيــس‬
‫ّ‬ ‫املعرف ّيــة؛ مبــا يؤثــر إيجابًــا عــى قدراتــه اللغويّــة يف اإلبتــكار‬
‫البــري يف خضــم الحاصــل مــن تطــورات‬ ‫ّ‬ ‫للعامــل‬ ‫لغويًــا‪ ،‬وتعــدد الخيــارات اللفظيــة لديــه‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪25‬‬

‫ظل ما يشــهده‬ ‫املنتــج وكفــاءة العمليــة عــى حـ ٍّد ســواء‪ .‬ويف ِّ‬ ‫تكنولوج ّيــة‪ ،‬فتمثّــل باملهــارات الذات ّيــة (أو الحيات ّيــة العامــة‬
‫ـي يزيــد مــن العــبء الوظيفــي عــى‬ ‫العــاملُ مــن تطــو ٍر تقنـ ٍّ‬ ‫أو الخاصــة) يف حـ ِّـل املشــكالت وترتيــب األمــور والتنظيــم يف‬
‫املرتجمــن يف رضورة التعلــم املســتمر ومواكبــة كل جديــد‪،‬‬ ‫أي مســألة‪ ،‬باإلضافــة إىل إدارة املشــاريع‪ .‬ولعلنــا نعتــر أ َّن‬ ‫ِّ‬
‫كانــت املهــاراتُ املعلومات ّيــة يف ســياق الرتجمــة‪ ،‬كالبحــث‬ ‫تلــك األدوات الرتجم ّيــة املحوســبة ومجمــوع املهــارة الذاتيــة‬
‫يف شــبكة اإلنرتنــت‪ ،‬أنشــط ًة معرف ًّيــة تتطلــب ثقاف ـ ًة عامــة‬ ‫هــا أســاس اإلســناد يف وضــع هــذا التصنيــف وتنظيمــه‪،‬‬
‫وقــدر ًة عــى اتخــاذ القـرار‪ .‬فــإذا كنــا نرغــب ح ًقــا بتدريــب‬ ‫بينــا كان التمكــن مــن محــركات الرتجمــة اآلليــة ومهــارة‬
‫طلبــة الرتجمــة للعمــل يف اختصاصــات مختلفــة‪ ،‬فــا بــد‬ ‫إدارة املشــاريع مبثابــة إســناد اإلســناد‪.‬‬
‫أن ينتقــل تركيزنــا مــن مجــرد اكتســاب املعــارف (عامــة‬ ‫ومــا ال شـ َّـك فيــه أ َّن األدوات واملعــدات أصبحــت جــز ًءا ال‬
‫أم خاصــة) إىل تطويــر تلــك املهــارات مبــا يســهم يف حــل‬ ‫يتجــزأ مــن حياتنــا‪ ،‬وهــي اليــوم إحــدى مك ّونــات العمــل يف‬
‫املشــكالت يف أي مــن صنــوف الخــرة العمليّــة‪ ،‬وهــو مــا‬ ‫مجــال الرتجمــة يســتعني بهــا اإلنســان (إضافــة إىل مهــارات‬
‫يع ـ ّزز بشــكل تلقــايئ كفــاءة املرتجــم (أو طالــب الرتجمــة)‬ ‫مختلفــة أخــرى) يف تنفيــذ مهامــه‪ .‬فنشــر وخ ـراء الرتجمــة‬
‫يف املكونــات األساســية كالقـراءة النقديــة والكتابــة النوعيــة‬ ‫العــرب إىل أهميــة تعزيــز املهــارات التقن ّيــة والشــخص ّية‬
‫مبختلــف أشــكالهام‪.‬‬ ‫للمرتجــم؛ مبــا يلبــي حاجــات الســوق فيــا يتعلــق بســامة‬
‫‪26‬‬

‫ـي يف مختلــف‬ ‫ـي أو التكنولوجـ ّ‬ ‫وعــو ًدا بنــا إىل الجانــب التقنـ ّ‬
‫صناعــات العــامل منهــا الرتجمــة‪ ،‬كان لزا ًمــا إعــادة النظــر‬
‫يف مفهــوم الكفــاءة للمرتجِــم العــر ّيب يف خضــم التغــرات‬
‫املتســارعة واملســتجدات‪ .‬فنجــد أنَّــه مــن األهميــة مبــكان‬
‫ـري يســتطيع‬ ‫تحديــد مســا ٍر "كفئــوي" يرتبــط بالعامــل البـ ّ‬
‫كهــدف يُــراد تحقيقــه‪ ،‬يتمثــل‬ ‫ٍ‬ ‫بــه منافســة تلــك اآلالت‪:‬‬
‫عمو ًمــا بإضافــة لفــظ "اإلنســان" للكفــاءة الرتجميّــة‪ .‬ولعـ َّـل‬
‫املامرســات التعلميّــة التــي يتــم تصميمهــا إلدمــاج الرتجمــة‬
‫اآلليــة يف برامــج التدريــب تزيــد مــن وعــي الطلبــة مبفهــوم‬
‫ـي كمرتجمــن "برشيــن" يشــعر كل منهــم‬ ‫االحـراف الحقيقـ ّ‬
‫بالتميــز الــذايتّ‪ .‬فتعزيــز مهــارات املتدربــن مبختلف أشــكالها‬
‫وصنوفهــا يرفــع مســتوى تأهيلهــم (ســامة‪ ،)2021 ،‬كــا‬
‫ـس املســؤولية لديهــم يف تنفيــذ مهامهــم بشــكل‬ ‫يغ ـذّي حـ َّ‬
‫مــن جهــة‪ ،‬ومهــارات املرت ِجــم الشــخص ّية يف تنظيــم نفســه‬ ‫فاعــل وســليم‪ .‬وإنَّهــا لحالــ ٌة مــن التكامــل بــن اإلنســان‬
‫وقدرتــه‪ ،‬أو رغبتــه يف إدارة مــرو ٍع مــا اســتلتزمته ظــروف‬ ‫واآللــة متثّلــت بإدخــال تلــك األدوات املســندة حاســوبيًّا‬
‫العامــل‬
‫ُ‬ ‫الوقــت الحــارض مهنيًــا كعاملــن مســاندين‪ .‬وكان‬ ‫أو مــا يوازيهــا مــن محــركات الرتجمــة اآلليــة يف عمليــات‬
‫أســاس اإلســناد وذلــك الشــخيص إســناد األســناد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫التقنــي‬
‫ُّ‬ ‫تدريــب املرتجمــن العــرب‪ ،‬وهــو مــا يع ـ ِّزز مــا أرشنــا إليــه‬
‫حيــث ميثّــل كالهــا جانــب الخــرة يف هــذه الصناعــة‬ ‫ســالفًا مــن مســألة تعزيــز ثقــة املرت ِجــم بنفســه مــع األخــذ‬
‫ـي‬‫الحيويــة‪ .‬واعتربنــا هــذا اإلطــار تحســي ًنا لل ُعــرف الرتجمـ ّ‬ ‫بعــن االعتبــار أ َّن "ماكنــات" الرتجمــة أصبحــت أم ـ ًرا واق ًعــا‬
‫املتعلــق بقضيــة تدريــب املرتجمــن‪ ،‬حيــث ال تـزال صناعـ ُة‬ ‫يط ّوعهــا املرتجــم ويفيــد منهــا‪.‬‬
‫ات كبــرةً؛ مبــا يدعونــا إىل‪:‬‬‫الرتجمــة تشــهد تغـ ّـر ٍ‬
‫‌أ‪ .‬االســتمرار بتحســن بيئتهــم التدريب ّيــة مبجموعــة متنوعــة‬ ‫وختا ًمــا‪ ،‬نجــد أ َّن الكفــاءة يف الرتجمة يف ميــدان العمل العريب‬
‫ـكل منهــم ميــز ًة تنافسـيًّة مــا‪.‬‬
‫مــن املهــارات ت ُح ّقــق لـ ٍّ‬ ‫عمو ًمــا واألردن بشــكل خــاص‪ ،‬تقــوم عــى أربعــة عوامــل‬
‫‌ب‪ .‬تقليــص الفجــوة بــن مــا يتلقونــه عــى مقاعــد الدراســة‬ ‫تدريبيــة هــي اللغويّــة والثقافيّــة والتقنيّة والشــخصيّة‪ .‬فكان‬
‫ومــا يتوقعــه منهــم ســوق العمــل‪ ،‬أي ثنائ ّيــة التعليــم‬ ‫ـاس الكفــاءة الرتجم ّيــة؛ وهــا‬
‫ـوي والثقــا ُّيف أسـ َ‬
‫املكونــان اللغـ ُّ‬
‫والتشــغيل‪.‬‬ ‫القــدرة التــي يحتاجهــا املرت ِجــم يف ســوق العمــل تحريريًّــا‬
‫اللغــوي أســاس األســاس والثقــايف‬
‫ُّ‬ ‫كان أم شــفهيًّا‪ ،‬حيــث‬
‫إســناد األســاس‪ .‬وارتباطًــا بهذيــن العاملــن الكالســيكيني يف‬
‫قيــاس كفــاءة املرت ِجــم العــر ّيب‪ ،‬جــاءت تكنولوجيــا الرتجمــة‬
‫مــن أدوات مســندة حاســوب ًّيا ومحــركات الرتجمــة اآلليــة‬
‫أفكار ‪ /‬ملف العدد‬ ‫‪27‬‬

‫دراسات‬
‫ومقالات‬
‫‪Photo Byjess Bailey on Unsplash‬‬

‫عبداملجيــد جــرادات ‪ /‬ياســن الشــعري ‪ /‬د‪ .‬زيــاد ابــو لــن ‪/‬‬


‫جــال مصطفــاوي ‪ /‬عبداللطيــف بطــاح ‪ /‬محمــد محمــود فايــد ‪/‬‬
‫الزبــر مهــداد ‪ /‬د‪ .‬هــدى امليمــوين ‪ /‬د‪ .‬محمــود ســعيد ‪/‬‬
‫د‪ .‬حسان العوض ‪ /‬د‪ .‬عزيز بعزي ‪ /‬د‪ .‬يوسف بكار‬
‫‪28‬‬

‫التنويري‬
‫ُّ‬ ‫الخطاب‬
‫ُ‬
‫والفعل الثقايفّ‬
‫ُ‬
‫عبد املجيد جرادات*‬

‫ـري عنــد العــرب‬


‫طموحــات التقــدم وفكــرة املــروع التنويـ ّ‬ ‫بــكل مــا تخلّلهــا‬
‫أدت تطــوراتُ األحــداث عامل ًّيــا ومحل ًّيــا ِّ‬
‫ارتكــزت عــى جملــة أبعــاد منهــا‪ :‬أهميّــة توفّــر اإلرادة‬ ‫مــن خالفــات سياسـيّة ورصاعــات متنوعــة‪ ،‬لحــدوث املزيــد‬
‫عنــد ُص ّنــاع القـرار‪ ،‬وهــذا يتطلّــب وضــع ترشيعــات ونظــم‬ ‫مــن املعانــاة التــي تعمقــت بحكــم التقلبــات االقتصاديــة‬
‫قانونيــة‪ ،‬تتحقــق مــن خاللهــا موازيــن العدالــة االجتامعيــة‪،‬‬ ‫ومــا نتــج عنهــا مــن تح ّديــات أثــرت يف مجملهــا عــى بنيــة‬
‫مــع مراعــاة منــح الصالحيــات للمتنفذيــن وتوزيــع املهــام‬ ‫معظــم املجتمعــات‪ ،‬حيــث تســود حالـ ٌة مــن غيــاب الرؤيــة‬
‫والواجبــات بحيــث تســود قيــم الحريــة املســؤولة وتســتمر‬ ‫والقلــق يف معظــم االتجاهــات‪ ،‬وتلــك هــي الحقيق ـ ُة التــي‬
‫عجلــة اإلنتــاج‪ ،‬وتب ًعــا لذلــك ال بــ َّد مــن تعزيــز أســس‬ ‫ـس الحاجــة لــدو ٍر تنويـ ٍّ‬
‫ـري يقــوم بــه أهـ ُـل الثقافة‬ ‫باتــت بأمـ ِّ‬
‫املســاءلة والرقابــة الوقائ ّيــة‪ ،‬وحــثّ الجميــع عــى التمتــع‬ ‫ويتابــع تنفي ـ َذ خطواتــه أهـ ُـل الفكــر‪.‬‬
‫مبقومــات الثقافــة اإلنتاج ّيــة‪.‬‬
‫عنــد الحديــث عــن الثقافــة التنويريّــة‪ ،‬نســتعرض ‪-‬عــى‬
‫يف دراســته املنشــورة قــال الدكتــور رضار بنــي ياســن‪" :‬إ ّن‬ ‫ســبيل املثــال‪ -‬تجربة رفاعــة الطهطــاوي( ‪ )1873-1801‬وهو‬
‫الرؤيــة الواقع ّيــة لفلســفة النهضــة والتقــدم عنــد رفاعــة‬ ‫مــن املفكّريــن النهضويــن‪ ،‬ومــن املتنوريــن الذيــن تفاعلــوا‬
‫الطهطــاوي متثّــل دعــوة رصيحــة لالقتبــاس الواعــي‪ ،‬أو‬ ‫الحضــاري‪ ،‬ويف تتبعنــا ملســتجدات‬
‫ّ‬ ‫مــع مســرة التطــور‬
‫بعبــارة أخــرى إىل التمثّــل واالســتيعاب‪ ،‬بحيــث تــرز الحاجة‬ ‫الحركــة الثقافيــة‪ ،‬نجــد أ َّن املثقـ َـف العــر َّيب يحــاول االشــتباك‬
‫لالنفتــاح عــى الحضــارات املتقدمــة‪ ،‬وأن يفيــد العــرب مــن‬ ‫مــع أســئلة النهضــة والتنويــر والحداثــة والتقــدم‪ ،‬ذلــك أل َّن‬
‫أحــدث النظريــات العلميــة ويأخــذون مــا يخــدم طموحاتهم‬ ‫ـات تاريخ ّيـ ًة بــارزة يف عمليــة‬‫هــذه العناويــن تشـكِّل محطـ ٍ‬
‫ومشــاريعهم التنويريــة"‪.‬‬ ‫االرتقــاء بعيــش الشــعوب‪ ،‬لك َّنهــا وبحكــم تجــارب املــايض‬
‫تتأثــر ســلبًا بخفايــا السياســة وبحجــم النوايــا وخطــط‬
‫(نهضوي‬
‫ّ‬ ‫تبــدو الحاجـ ُة ملحـ ًة خــال األيــام املقبلــة لخطـ ٍ‬
‫ـاب‬ ‫الــدول الغربيــة التــي تحــرص عــى حيويــة دورهــا يف العــامل‬
‫ـري) يرتكــز عــى بعديــن ُمُيكــن مناقشــتهام عــى النحــو‬
‫تنويـ ّ‬ ‫العــريب‪ ،‬وتبــذل الجهــود أل َّن يكــون العــرب معجبــن بثقافــة‬
‫التايل‪:‬‬ ‫الغــرب ومســتهلكني ملنتجاتهــم‪.‬‬

‫تظهــر مالمــح البعــد األول‪ ،‬مــن مخرجــات مــا اصطُلــح عــى‬ ‫النهضــوي‬
‫ّ‬ ‫نســتنتج مــن القــراءة املتأنيّــة حــول الخطــاب‬
‫ُ‬
‫تســميته مبرحلــة التحــوالت االقتصاديّــة التــي جــاءت مــع‬ ‫العــر ّيب منــذ مرحلــة "ابــن خلــدون" ولغايــة اآلن؛ أ َّن‬

‫* أديب وباحث أردين‬


‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪29‬‬

‫والخطــط التنظيميــة؟ وكيــف ُمُيكــن رســم السياســات وصنــع‬ ‫نظــم العوملــة‪ ،‬منــذ مطلــع عقــد التســعينيات مــن القــرن‬
‫الق ـرارات يف هــذا االتّجــاه؟‬ ‫املــايض‪ ،‬بعــد أن توجهــت معظــم الــدول لفكــرة إرشاك‬
‫القطــاع الخــاص بتحمــل مســؤوليته يف املســرة التنمويّــة‬
‫ّــد أ َّن اســتحقاقات املرحلــة الحاليــة واملقبلــة‬‫مــن املؤك ِ‬ ‫واإلدارة االســراتيجيّة للمــوارد البرشيّــة واملاليّــة‪ ،‬حيــث‬
‫ـادي‬
‫تســتدعي حــث الجهــود نحــو دفــع عجلــة النمــو االقتصـ ّ‬ ‫تخلّــت الحكومــات عــن أصولهــا وأهــم مصــادر الدخــل‬
‫الســيايس واألمــن‬
‫ّ‬ ‫ســع ًيا لتوفــر متطلبــات االســتقرار‬ ‫القومــي لشــعوبها؛ األمــر الــذي ع ّمــق أســباب الفقــر‬ ‫ّ‬
‫االجتامعــي‪ ،‬مذكّريــن بــأ َّن حقبــة (العوملــة االقتصاديــة)‬
‫ّ‬ ‫وضاعــف حجــم البطالــة‪ ،‬والنتيجــة هــي أنَّنــا نشــهد حال ـ ًة‬
‫ِّ‬
‫الشــك‪ ،‬وعــدم التيقــن‪ ،‬بعــد أن‬ ‫تســببت بتزايــد عوامــل‬ ‫غــر مســبوقة مــن (التــاوم) الــذي يســتوجب اســتعادة‬
‫ات ّســعت جيــوب الفقــر وتراكمــت أعــداد الباحثــن عــن‬ ‫مقومــات تبــادل الثقــة عــى مختلــف املســتويات‪ ،‬وكل ذلــك‬
‫وتأسيســا عــى ذلــك تــرز عوامــل الحــذر‪،‬‬
‫ً‬ ‫قــوت يومهــم‪،‬‬ ‫بهــدف الحــرص عــى صــون املنجــزات‪ ،‬والســعي إلدامــة‬
‫الــذي يتطلــب بالــرورة بــذل كل الجهــود لالرتقــاء بعيــش‬ ‫االجتامعــي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املعنويــات التــي تعــ ّزز مفهــوم التناغــم‬
‫النــاس‪ ،‬وهــذا مــا نتوقــع أنَّــه ســيُثري حميــة أهــل الفكــر‬
‫التنويــري الــذي يســتند إىل الخطــوات‬
‫ّ‬ ‫لبلــورة خطابهــم‬ ‫أ َّمــا البعــد الثــاين‪ ،‬فهــو يتمثّــل بواقــع الرصاعــات الدول ّيــة‬
‫املوضوع ّيــة يف دقــة التشــخيص‪ ،‬ويحــثُّ عــى الشــجاعة عنــد‬ ‫التــي تتجـ ّدد مــع الزمــن بحكــم نزعــة (التنافــس) بــن الدول‬
‫ات ّخــاذ القــرارات‪.‬‬ ‫واالقتصــادي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التقنــي‬
‫ّ‬ ‫العظمــى والصناعيّــة يف املجالــن‬
‫وحبــذا لــو تنبّــه ص ّنــاع القـرار والدوائــر املعنيــة بالتخطيــط‬
‫نبقــى أمــام األدوات التــي ُمُيكــن االســتعانة بهــا عنــد تبنــي‬ ‫اتيجي لنتائــج تطــورات املشــهد العــر ّيب بعــد أحــداث‬
‫االسـر ّ‬
‫األفــكار واملشــاريع التنويريّــة‪ ،‬ونشــر إىل الحقيقــة التــي‬ ‫(الربيــع العــريب) التــي اندلعــت مــع مطلــع العــام ‪،2011‬‬
‫يُركّــز عليهــا خــراء االتصــال التــي تقــول‪( :‬كلــا اتســعت‬ ‫حيــث ســادت الخالفــات الداخليــة واملواجهــات التــي ثبــت‬
‫دائــرة التواصــل مــع الجمهــور‪ ،‬تبلــورت مقومــات املعرفــة)‬ ‫بعــد فــرة وجيــزة أنهــا عبثيّــة وتحتــاج للكثــر مــن الجهــود‬
‫وهــذا يعنــي أ َّن فكــرة التأثــر اإليجــايب عنــد املتلقــن‪،‬‬ ‫التنويريّــة واملصالحــات التــي تعيــد هــذه الــدول لحيويــة‬
‫تتح ّقــق عندمــا يُبــدع املبــا ِدر بالحديــث أو الكتابــة بوضــع‬ ‫ـوي العــريب‪.‬‬
‫دورهــا يف املــروع النهضـ ّ‬
‫مفرداتــه ضمــن معادلــة املصداقيّــة والواقعيّــة‪.‬‬
‫ـري يف ظـ ِّـل حالــة التداخــل‬
‫ـاب التنويـ ُّ‬‫كيــف ســيكون الخطـ ُ‬
‫مــن املفيــد اإلشــارة إىل تبايــن املواقــف يف البيئــة االجتامع ّية‪،‬‬ ‫غــر املنضبــط عامل ًّيــا وعرب ًّيــا ومحل ًّيــا واحتــاالت التغيــر‬
‫ـال نــدرك أنَّهــا تتحكم بســلوك‬‫فهنالــك قيـ ٌم وتو ّجهــاتٌ وأفعـ ٌ‬ ‫التــي ســتطرأ عــى منظومــة التحالفــات الدوليــة؟ ومــا هــي‬
‫النــاس ومواقفهــم‪ ،‬وهــذا مــا يُعيدنــا إىل رضورة البحــث عــن‬ ‫األهــداف التــي ُمُيكــن وضعهــا بنيّــة العمــل عــى تحقيقهــا؟‬
‫دور أهــل الفكــر الذيــن ميتلكــون الحكمــة والخــرة التــي‬ ‫وألنَّنــا نتحــدث عــن أهميّــة تبنــي مشــاريع رياديّــة نحــو‬
‫متكّنهــم مــن تب ّنــي مشــاريع تنويريّــة تهتـ ُّم بصحــة مدخالت‬ ‫املســتقبل‪ ،‬فــا هــي األدواتُ واألولويــاتُ االقتصاديّــة‬
‫‪30‬‬

‫املبكــر مــن مياديــن الحركــة اإلنتاج ّيــة‪.‬‬ ‫العمليــة الرتبويّــة ومخرجاتهــا يف مختلــف مراحلهــا‪ ،‬وبالتــايل‬
‫مــن املفيــد التذكــر أ َّن أهــل الفكــر الذيــن ســيهتمون بنــر‬ ‫ال بــد مــن وجــود خطــط وبرامــج عمل ّيــة تنفيذيّــة تهت ـ ُّم‬
‫ثقافــة التنويــر‪ ،‬ســيحتاجون للوقــوف يف حالــة دفــاع مــرن‬ ‫الحضــاري لــكل فئــات املجتمــع‪ ،‬بحيــث‬‫ّ‬ ‫بحركــة التطــور‬
‫أمــام سلســلة مــن النوايــا املبيّتــة والســيناريوهات التــي‬ ‫تكــون النتيجــة أ َّن الجميــع يتنافســون عــى إحــداث األفعــال‬
‫ال تتســم بال ـراءة‪ ،‬بخاصــة إذا حاولــوا البحــث عــن ُهويــة‬ ‫التــي تنفــع النــاس ومتكــث يف األرض‪ ،‬مــع مراعــاة التــز ّود‬
‫الجهــات التــي تقــف خلــف الكواليــس‪ ،‬بــد ًءا بجائحــة‬ ‫بــكل أســباب املناعــة التــي تضاعــف املنجــزات ضمــن‬
‫كورونــا‪ ،‬ومــا ســيتبعها مــن رصاعــات نقــرأ يف مقدماتهــا‬ ‫مســرة التنميــة املســتدامة‪ ،‬إىل جانــب تشــجيع النــشء عــى‬
‫ومخرجاتهــا أنَّهــا تهــدف للعبــث بعوامــل االســتقرار وتبحــث‬ ‫ف ـ ِّن التعلّــم الــذي يُعــزز فيهــم روح الدافعيّــة واإليثــار‪.‬‬
‫عــن مســ ّوغات لخلــق النزاعــات عــى مســتوى الــدول‬
‫والجامعــات‪ ،‬وكل ذلــك يجــيء بحكــم الرغبــة بتحقيــق‬ ‫نشــر هنــا إىل غايــة التعليــم؛ وهــي بنــاء الشــخص ّية‬
‫املصالــح االقتصاديّــة مــن قبــل الذيــن يطمحــون للهيمنــة‪،‬‬ ‫التــي تبحــث عــن املعرفــة‪ ،‬وتحــرص عــى التــز ّود بــكل‬
‫ومــا ينتــج عــن ذلــك مــن نهــب الــروات والتدخــات‬ ‫املؤهــات والخ ـرات التــي متكّنهــا مــن مواجهــة متطلبــات‬
‫الخارج ّيــة التــي تبــدأ بشــعارات عــن حقــوق اإلنســان‪،‬‬ ‫الحيــاة والســعي لتحقيــق نظريــة املواكبــة‪ ،‬وباملحصلــة‬
‫تؤســس للمزيــد مــن غيــاب فــرص املســاواة‬ ‫لكنهــا باملحصلــة ّ‬ ‫فــإ َّن مهمــة التعليــم هــي (ترســيخ الثوابــت واملعتقــدات)‬
‫بــن بنــي البــر‪.‬‬ ‫بــكل مــا‬
‫التــي تحفّــ ُز مجمــل الكفــاءات نحــو الرياديّــة‪ِّ ،‬‬
‫يف مجمــل األحــوال‪ ،‬ال بــد مــن انخـراط املتنوريــن مــن أبنــاء‬ ‫تغرســه يف نفــوس الطلبــة مــن همـ ٍة وعطــا ٍء نحــو التجديــد‪،‬‬
‫العروبــة بحــوا ٍر ثقــا ٍّيف يقــود إىل تغليــب األمــل عــى مبــدأ‬ ‫وتحفّزهــم نحــو االبتــكارات التــي تربهــن عــى أ َّن اإلنجــازات‬
‫الحضــاري عــى‬
‫ّ‬ ‫اليــأس‪ ،‬وهــذا مــا تقتضيــه طبيعــة الــر ِّد‬ ‫املتم ّيــزة للشــعوب تتح ّقــق بفعــل املبدعــن مــن أبنــاء هــذه‬
‫أســاليب االحتــواء التــي يت ـ ُّم تصديرهــا للعــامل العــر ّيب مــن‬ ‫الشــعوب‪ ،‬وعندمــا تتبلــور هــذه املعادلــة‪ ،‬فمــن املؤكّــد أ َّن‬
‫قبــل الــدول التــي تســعى للهيمنــة‪ ،‬أ َّمــا آليــات العمــل‪،‬‬ ‫منســوب النجاحــات ســيربز الوجــه املــرق للعلــم والثقافــة‪،‬‬
‫فهــي تبــدأ بتنشــيط مؤسســات املجتمــع املــد ّين وإحــداث‬ ‫ويُضفــي عــى املســرة الحضاريّــة طابــع الدميومــة‪.‬‬
‫نقلــة نوع ّيــة يف املناهــج الرتبويّــة والتعليم ّيــة‪ ،‬آخذيــن‬ ‫نســمع بــن الحــن واآلخــر‪ ،‬أ َّن السياسـ ِ‬
‫ـات التعليم ّيــة تؤكّــد‬
‫بعــن االعتبــار أ َّن الثقافــة الكونيّــة تتســم بطابــع إنســا ّين‪،‬‬ ‫عــى محاولــة الربــط بــن مخرجــات التعليم وحاجات ســوق‬
‫ومــن الحكمــة التعامــل مــع مــا يــرز مــن أحــداث مــن‬ ‫العمــل‪ ،‬وهــي فكــر ٌة رياديّــةٌ‪ ،‬ألنَّهــا تشــ ّجع عــى التعلّــم‬
‫زاويــة املشــاركة بصناعــة األفعــال‪ ،‬ومحاولــة التث ّبــت عنــد‬ ‫الــذا ّيت واكتســاب املهــارات التــي مت ّكــن أصحــاب الكفــاءات‬
‫فكــرة االعتــاد عــى الــذات بــكل مــا يف هــذه العبــارة مــن‬ ‫مــن التفاعــل وقبــول الفــرص املتاحــة‪ ،‬والجميــل يف هــذه‬
‫مدلــوالت‪.‬‬ ‫املعادلــة أنَّهــا توفــر أرضيّــة صلبــة لتنـ ّوع اإلنتــاج والتنافــس‬
‫نذكِّــر أ َّن الثقافــة العربيّــة متتــاز بخصائــص اســتمدتها مــن‬ ‫يف مياديــن الجــودة‪ ،‬مثلــا تحــول دون حــدوث التزاحــم‬
‫روح األمــة العرب ّيــة وتجاربهــا‪ ،‬والجميــل هــو أ َّن هــذه‬ ‫الــذي يــؤدي للتــآكل‪ ،‬ورمبــا يدفــع البعــض لالنســحاب‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪31‬‬

‫وجامعــات عــى التفاعــل أو املواجهــة باألســلوب الــذي‬ ‫ـي يف االســتجابة ملتطلبــات‬


‫الخصائــص تعـ ّزز الــدور االجتامعـ ّ‬
‫يؤكــد وجودهــم واملحافظــة عــى هويتهــم‪ ،‬وهنــا ال بــد‬ ‫الحيــاة ومقتضيــات الحضــارة‪ ،‬ألنَّهــا توثــق أبــرز ســات‬
‫تجســد حرصهــا عــى‬‫مــن التأكيــد عــى أ َّن الشــعوب التــي ّ‬ ‫االنطــاق يف الفكــر العــر ّيب‪ ،‬ويف هــذا الســياق نشــر إىل‬
‫مكتســباتها‪ ،‬تضــع ضمــن خطابهــا الثقــايف رضورة توفــر‬ ‫أنَّنــا نتعامــل مــع كــمٍ هائــل مــن املعلومــات املصاحبــة‬
‫أرقــى مقومــات الحــوار الــذي يُســهم بإزالــة الشــكوك وتــرز‬ ‫للتطــورات التكنولوج ّيــة واملعرف ّيــة؛ األمــر الــذي يتطلــب‬
‫مــن خاللــه الحقيقــة‪.‬‬ ‫إتقــان مهــارات االتصــال مــن حيــث املفاهيــم واألهــداف‬
‫ومحاولــة اســتخالص الــدروس والعــر التــي تخــدم املســرة‬
‫تؤكِّــد الدراســات املســتقبليّة أن نســب ًة كبــر ًة مــن الشــباب‬ ‫الحضاريــة لهــذه األمــة‪.‬‬
‫العــرب يعيشــون ضمــن ظــروف صعبــة ومعقــدة‪ ،‬ومنهــم‬
‫مــن يُحــس باالغـراب أو التهميــش بســبب محدوديــة فــرص‬ ‫أحدثــت التطــورات الهائلــة يف تقنيــة املعلومــات‪ ،‬تغ ـرات‬
‫العمــل‪ ،‬وتكمــن الخشــية مــن تعطّــل دورهــم يف الحركــة‬ ‫واالقتصــادي‪ ،‬وهــذا‬
‫ّ‬ ‫االجتامعــي‬
‫ّ‬ ‫جذريــة عــى املســتويني‬
‫اإلنتاجيّــة باحتامليّــة أن يكونــوا عبئًــا عــى مجتمعاتهــم‪،‬‬ ‫مــا يســتدعي أهميّــة تفعيــل دور الفعــل الثقــا ّيف يف ســبيل‬
‫وأل َّن أســلوب معالجــة قضاياهــم ينحــر بتوجــه الجهــات‬ ‫التك ّيــف مــع هــذه املتغـرات واســتيعابها‪ ،‬وتكثيــف الجهــود‬
‫املعنيــة نحــو مفهــوم االحتــواء‪ ،‬فــا بــد مــن التفكــر الجــاد‬ ‫ســع ًيا للمحافظــة عــى مق ّومــات صــون ال ُهويــة الثقاف ّيــة‬
‫بوضــع كل السياســات والقــرارات بحيــث يكــون لهــؤالء‬ ‫ودميومتهــا‪ ،‬باعتبــار ذلــك مــن األدوات التــي تنعــش اآلمــال‬
‫دو ٌر فاعـ ٌـل يف بنــاء نهضــة شــعوبهم وضمــن املعادلــة التــي‬ ‫نحــو مواصلــة البنــاء‪ ،‬وألنَّنــا نتــوق إىل الدميومــة ومضاعفــة‬
‫تهــدف لتحقيــق موازيــن العدالــة واملســاواة‪.‬‬ ‫اإلنجــازات‪ ،‬فــا بــد مــن اإلشــارة للهــدف األســمى للثقافــة؛‬
‫الفكــري)‬
‫ّ‬ ‫وهــو الحــرص عــى توفــر مقومــات (التحصــن‬
‫ـري والفعــل الثقــا ّيف‬‫يف محاولــة الربــط بــن الخطــاب التنويـ ّ‬ ‫ـي‪.‬‬
‫الــذي يقــود باملحصلــة للتامســك االجتامعـ ّ‬
‫منيــل لتوثيــق جملــة مقاربــات عــى النحــو التــايل‪:‬‬ ‫يأخــذ املنتــج الثقــا ّيف بعــ ًدا تنمويًّــا كونــه يرتبــط بإبــراز‬
‫الصــورة الحضاريّــة لألمــة‪ ،‬ومــن املعلــوم أ َّن الحضــارة متثّــل‬
‫أوالً‪ :‬نحتــاج لتوطــن ثقافــة الحــوار أكــر مــن ذي قبــل‪،‬‬ ‫يف جوهرهــا مجمــل النجاحــات يف حقــول الفكــر واملعرفــة‬
‫والهــدف املنشــود هــو تج ّنــب املزيــد مــن تراكــم القضايــا‬ ‫والصناعــات املتطــورة وفــن العــارة‪ ،‬وكثـ ًرا مــا يأخــذ الفعل‬
‫املؤرقــة واملربكــة‪ ،‬التــي نخــى أن تــؤدي مــع الزمــن‬ ‫ـي باالتجــاه‬‫الثقــايف دو ًرا مؤثـ ًرا يف تنظيــم الســلوك االجتامعـ ّ‬
‫ملواجهــة الكثــر مــن التحديــات واملنغصــات‪ ،‬علـ ًـا أ َّن جـ ّـل‬ ‫ـادي ويُســهم ببلــورة‬‫الــذي يلتقــي مــع حركــة التطــور االقتصـ ّ‬
‫مــا يتــوق إليــه أهــل الثقافــة هــو (إشــاعة الــروح املعنويّــة‬ ‫االس ـراتيجيات العلم ّيــة والثقاف ّيــة‪.‬‬
‫ونبــذ الســلوك الــذي يُحــاول فيــه البعــض‪ ،‬احتــكار املعرفــة‪،‬‬
‫وإقصــاء الجهــة التــي تختلــف معــه بالــرأي‪.‬‬ ‫تســتند مهمــة الثقافــة عــى جملــة معطيــات‪ ،‬أهمهــا‬
‫ـس بــه النــاس وقدرتهــم أفـرا ًدا‬
‫مســتوى التحـ ّدي الــذي يحـ ُّ‬
‫‪32‬‬

‫النظــرة االســترشافيّة لــدور وســائل اإلعــام تطــرح ســؤالني‪:‬‬ ‫ثان ًيــا‪ :‬أ َّمــا التنميــة‪ ،‬فــإ َّن عنــارص قوتهــا تكمــن بالحــرص عىل‬
‫ظــل ثــورة االتصــاالت‬
‫األول‪ :‬يتعلــق بكيفيــة املواكبــة يف ِّ‬ ‫جــودة مخرجــات التعليــم وبنــاء الفكــر املعــارص‪ ،‬وتب ًعــا‬
‫والتقنيــات املتطــورة التــي أزالــت الحواجــز أمــام الثقافــات‬ ‫لذلــك تــأيت أهميــة البحــث عــن منابــع الغنــى يف املياديــن‬
‫واألفــكار‪ ،‬وجعلــت العــامل املعــارص يرقــب مســتجدات‬ ‫التقن ّيــة والتعدديّــة الثقاف ّيــة‪ ،‬ويف مجــاالت التصويــب‪ ،‬فمــن‬
‫األحــداث مــن رشفــة السياســة بعــد أن أصبــح املــال‬ ‫الحكمــة بالنســبة ملــن يتب ّنــى أيــة ُمبــادرات إصالحيّــة‪ ،‬أن‬
‫واالقتصــاد مــن أهــم أدوات التأثــر يف املياديــن االجتامعيــة‪.‬‬ ‫يضــع بحســاباته الدقيقــة أن يكــون جــز ًءا مــن الحـ ِّـل وليــس‬
‫ســب ًبا بــإذكاء الرصاعــات‪.‬‬
‫الســؤال الثــاين‪ :‬يرتبــط بــدور القامئني عــى الرســالة اإلعالم ّية‬
‫الفكــري القــادر عــى تقريــب‬
‫ّ‬ ‫يف كيفيــة نقــل الخطــاب‬ ‫ثالثًــا‪ :‬بالنســبة لإلعــام‪ ،‬فــإ َّن التســاؤالت املرشوعــة هــي‪:‬‬
‫وجهــات النظــر بــن صفــوف الــرأي العــام‪ ،‬يف مرحلــة نلمــح‬ ‫كيــف ُمُيكــن للقامئــن عــى الرســالة اإلعالميــة الربــط بــن‬
‫فيهــا العديــد مــن املحــاوالت التــي تعــزف عــى مــوروث‬ ‫أي مــدى‬ ‫متطلبــات املهنــة واســتحقاقات املرحلــة؟ وإىل ِّ‬
‫الخالفــات‪ ،‬وقــد تعــود بــن الحــن واآلخــر ملواقــف تاريخ َّيــة‬ ‫ُمُيكــن التغلّــب عــى املح ـ ّددات واملع ّوقــات التــي فرضتهــا‬
‫نعلــم أ َّن شــعوب الــدول الصناعيّــة واملتطــورة تجاوزتهــا‬ ‫ـح املــوارد املاليّــة؟ علـ ًـا أ َّن‬
‫تجــارب املــايض ومــن ضمنهــا شـ ُّ‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪33‬‬

‫حقلهــا‪ ،‬ال تســتطيع اإلحاطــة مبقومــات الكــال املطلــق‪،‬‬


‫أي‬
‫ولــن تســتطيع أن تنفــرد بأنظمتهــا االســتدالل ّية عــن ِّ‬
‫تعــاط أو أدىن انفعــال أو اتصــال مــع الجمهــور أو البيئــة‬ ‫ٍ‬
‫املحيطــة والعــامل الخارجــي‪ ،‬وهــذا مــا يســتدعي التذكــر‬
‫بأهميــة االنفتــاح مبفهومــه الــذي يخــدم مســرة الخطــاب‬
‫التنويــري ويعــ ّزز مصــادر املعرفــة‪.‬‬
‫ّ‬
‫يــؤدي اإلنتــاج املعــر ّيف الــذي يرتبــط مبجتمــع محــ ّدد إىل‬
‫وجــود منظومــة ثقاف ّيــة تتأســس عــادة عــى نظــام قيــم‬
‫ـزي‪ ،‬تتجــى فيــه حال ـ ُة التنافــس الــذي يضــع مصــادر‬ ‫مركـ ّ‬
‫كل يف مجــال قدراتــه ومواهبــه‪،‬‬ ‫املعرفــة مبتنــاول املبدعــن ٍّ‬
‫ـري‪ ،‬الــذي يســتند‬
‫وهــذه أهــم املداخــل يف الخطــاب التنويـ ّ‬
‫عــى املرونــة والقــدرة عــى التحليــل ســع ًيا الســتخالص‬
‫أفضــل النتائــج‪.‬‬

‫نخلــص إىل القــول إ َّن الحقيقــة التــي نؤمــن بهــا عــن طبيعــة‬
‫الحيــاة العرب ّيــة عــر الزمــن‪ ،‬هــي أ َّن هــذه األمــة اســتطاعت‬
‫أن تتجــاوز املحــن بفعــل الحكــاء مــن أبنائهــا‪ ،‬ذلــك أل َّن‬ ‫بحكــم التصميــم عــى الســر يف ركــب التطــور والحداثــة‪.‬‬
‫أراضيهــا خصبــة‪ ،‬وال جفــاف يُعرقــل مســرتها الحضاريّــة‪،‬‬ ‫توصــل معظــم خــراء العلــوم االجتامع ّيــة منــذ منتصــف‬ ‫ّ‬
‫ـري الــذي يرتكــز‬‫ومــن هنــا تتأكّــد الحاجــة للخطــاب التنويـ ّ‬ ‫القــرن التاســع عــر إىل قناعــة مفادهــا أنّنــا إذا امتلكنــا‬
‫عــى الحكمــة ويعتمــد عــى فــ ِّن الحــوار الثقــا ّيف ضمــن‬ ‫أدوات املعرفــة واألســباب املاديــة التــي تولــد النتائــج‬
‫مفهــوم ثالثيــة املعرفــة ( البيــان والربهــان والعرفــان)‪.‬‬ ‫املنشــودة‪ ،‬نكــون قــد عرفنــا اســتحقاقات املســتقبل‪ ،‬أي‬
‫ويف هــذا االت ّجــاه‪ ،‬تجــدر اإلشــارة إىل أ َّن تقديــرات خــراء‬ ‫أ َّن املعرفــة الكاملــة باألحــداث‪ ،‬تتيــح اســتخالص نتائجهــا‪،‬‬
‫العلــوم االجتامع ّيــة تؤكّــد أ َّن اســتمرار (حالــة عدم االســتقرار‬ ‫وهــذه هــي أبــرز العناويــن التــي نتوقــع أن تكــون موضــع‬
‫واالجتامعــي) تعنــي املزيــد مــن‬
‫ّ‬ ‫االقتصــادي‬
‫ّ‬ ‫يف املجالــن‬ ‫ـري‬
‫اهتــام أهــل الفكــر الذيــن سينشــغلون بالخطــاب التنويـ ّ‬
‫اســتنزاف مقــدرات الشــعوب‪ ،‬وتحــول دون االســتغالل‬ ‫والفعــل الثقــايف‪.‬‬
‫األمثــل لــدور الكفــاءات التــي تتفــاىن يف بــذل جهودهــا مــن‬
‫أجــل مضاعفــة اإلنجــازات‪ ،‬وتلــك هــي أبــرز األدوات التــي‬ ‫بــن مبــدأ الســببية ونظريــة األنســاق أو املنظومــات تبــدأ‬
‫تتطلــب مواجهــة اســتحقاقات املرحلــة ســع ًيا لتجاوز(املــأزق‬ ‫مهمــة البحــث عــن املعرفــة‪ ،‬وأل َّن الحيــاة االجتامعيــة‬
‫ـاري) ومــا يتســبب بــه مــن منغصــات‪.‬‬ ‫الحضـ ّ‬ ‫ليســت متجانســة يف تركيباتهــا‪ ،‬فــإ َّن أيّـ َة معرفــة مهــا كان‬
‫‪34‬‬

‫الخطاب السجا ُّيل‪:‬‬


‫ُ‬
‫محاول ٌة يف بنا ِء املفهوم‬
‫ياسني الشعري*‬

‫تقديم‬
‫الــدال ّيل للمصطلــح‪ ،‬األمــر الــذي أفــرز اختالفًــا واض ًحــا بــن‬ ‫ـب يف اكتشــاف‬ ‫يواجــه الباحــثُ يف الخطــاب الســجا ّيل‪ ،‬الراغـ ُ‬
‫الباحثــن يف طرائــق النظــر إليــه‪.‬‬ ‫مك ّوناتــه وأسســه وخصائصــه‪ ،‬مجموعــ ًة مــن اإلشــكاالت‬
‫ـال بهــدف اإلســهام يف تقديــم تص ـ ّو ٍر‬ ‫لذلــك‪ ،‬يــأيت هــذا املقـ ُ‬ ‫النقديّــة واملعرف ّيــة‪ ،‬تجعــل التصــ ّدي لهــذا النــوع مــن‬
‫جديـ ٍـد للخطــاب الســجا ّيل‪ ،‬مغايــر ملــا دأب عليــه الباحثــون‬ ‫الخطابــات أم ـ ًرا محفوفًــا بعديـ ٍـد مــن املزالــق واملشــكالت‬
‫يف نظرهــم إىل هــذا النــوع مــن الخطابــات‪ ،‬فقــد ســاد‬ ‫(‪)1‬‬
‫االبســتمولوجية‪ ،‬وتســمه بطابــع «الخطــاب اإلشــكا ّيل»‪،‬‬
‫عندهــم اعتبــاره خطابًــا ال أخالقيًّــا‪ ،‬يخــرق قواعــد التواصــل‬ ‫ـادم مــا بــن أطاريــح أطرافــه‬ ‫الــذي يعــر عــن عالق ـ ِة تصـ ٍ‬
‫والحــوار‪ ،‬ويطيــح مببــدأ التعــاون مــا بــن األط ـراف إلنشــاء‬ ‫ومواقفهــم حــول قضايــا ابســتمولوجية معينــة‪ ،‬حيــث‬
‫حــوار فيــه قــد ٌر مــن اح ـرام الخصــم وتوقــره‪...‬‬ ‫تتصــارع فيــه الــذوات إلثبــات نفســها ونفــي اآلخــر املنــاوئ‬
‫لهــا‪ ،‬ولهــذا تتخــذ عالقــة أطــراف هــذا الخطــاب طاب ًعــا‬
‫‪ .1‬نحو تص ّو ٍر جدي ٍد ملفهوم الخطاب السجا ّيل‬ ‫إشــكاليًّا يتوافــق مــع طبيعــة هــذا الخطــاب نفســه‪.‬‬
‫ـكاًل من أشــكال التفاعــل الخطا ّيب‪،‬‬
‫ـاب الســجا ّيل شـ ً‬‫يُعـ ُّد الخطـ ُ‬
‫وحدثًــا تلفظ ًّيــا‪ ،‬قامئًــا عــى التواصــل بــن األنــا واآلخــر‪ ،‬يحيل‬ ‫مــن بــن تلــك املشــاكل مــا يتعلــق مباهيتــه‪ ،‬فمفهومــه‬
‫عــى معنــى املبــارزة بــن الخصمــن‪ ،‬ويــي بنــوع مــن‬ ‫ـث إىل آخــر‪ ،‬إذ ليــس مــن الســهل‬ ‫ـي يختلــف مــن باحـ ٍ‬ ‫زئبقـ ُّ‬
‫ـاف‬‫ـاب قائـ ٌم عــى اختـ ٍ‬
‫الـراع والعــداوة بينهــا‪ ،‬إنَّــه خطـ ٌ‬ ‫أن نعطيــه تعري ًفــا جام ًعــا‪ ،‬يحيــط بــكل خصائصه األجناسـيّة‬
‫قــد يبلــغ حــ َّد الخصومــة والحــرب‪ ،‬بتعبــر أركيــوين‪ ،‬إال‬
‫(‪)2‬‬
‫كل مــرة خصائــص‬ ‫خطــاب متلــ ّو ٌن يكتــي َّ‬
‫ٌ‬ ‫والفن ّيــة‪ ،‬ألنَّــه‬
‫إنَّــه مــع ذلــك يبقــى خطابًــا ابســتمولوج ًّيا‪ ،‬يســعى إىل‬ ‫جديــدة حســب الســياق الــذي يــرد فيــه‪ ،‬نظــرا لتاميــز‬
‫بنــاء املعرفــة أو املشــاركة يف بنائهــا‪ ،‬مــن خــال قيامــه‬ ‫مرجعياتــه وتداخلهــا مــع مختلــف الخطابــات؛ أدبيّـ ًة كانــت‬
‫عــى تقديــم بديــل ابســتمولوجي يُغنــي املعرفــة‪ ،‬ويُــريس‬ ‫أو سياسـيّ ًة أو دينيّـ ًة أو فلســفيّة‪ ...‬وهــذا التداخـ ُـل هو الذي‬
‫مبــدأ االختــاف يف الــرأي‪ ،‬ويدافــع عــن قيمــة اإلبــداع‪،‬‬ ‫يجعــل التنظــر للخطــاب الســجا ّيل أمـ ًرا يف منتهــى الصعوبة‪.‬‬
‫الــذي يناقــض التبع ّيــة والتح ّجــر واالحتفــاء مبــا هــو ســائد‬ ‫ـي‬
‫أضــف إىل ذلــك أنَّــه يتمتــع ‪ -‬عنــد العــرب ‪ -‬بغنــى معجمـ ّ‬
‫ـاب محكــو ٌم‬
‫ـاب الســجا ُّيل خطـ ٌ‬
‫يف األوســاط الثقافيّــة‪ ،‬فالخطـ ُ‬ ‫يص ُعــب معــه ضبــط هــذا املفهــوم وتحديــده تحديــ ًدا‬
‫ـي‪ ،‬يحــاول فــرض‬ ‫ترســخ يف الوعــي املجتمعـ ّ‬ ‫بالتمــرد عــى مــا ّ‬ ‫ـكاًل آخــر متعل ًقــا‬
‫ـي يطــرح مشـ ً‬‫دقي ًقــا‪ ،‬وهــذا الغنــى املعجمـ ّ‬
‫رؤى الــذات املتســاجلة وتصوراتهــا عــن الوجــود‪ ،‬يــأىب أن‬ ‫بــه‪ ،‬يتمثّــل يف غيــاب قواميــس تاريخ ّيــة تتعقــب التطــور‬

‫* باحث وناقد مغريب‬


‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪35‬‬

‫تحكــم أطـراف الخطــاب الســجايل الرغبــة يف تجــاوز الخصــم‬ ‫ينقــاد لِــا يكلّــس اإلبــداع‪ ،‬لِــا ينظــر للمتــوارث عــى أنَّــه‬
‫والنيــل منــه والحــط مــن قيمتــه‪ ،‬وإظهــار التفــوق املعــر ّيف‬ ‫األمنــوذج الــذي ينبغــي ات ّباعــه واالحتفــاء بــه‪.‬‬
‫عليــه‪ ،‬وينشــدون الوســائل العدوانيــة آلي ـ ًة لهــذا التجــاوز‪،‬‬ ‫بيــد أنَّــه يقــوم عــى مفارقــ ٍة أساســيٍّة متمثلــ ٍة يف كــون‬
‫فمــن كانــت لــه القــدرة عــى مجــاراة الســجال إىل النهايــة‬ ‫آلياتــه غــر متوافقــة مــع الغايــة التــي يرومهــا‪ ،‬فهــو ‪ -‬يف‬
‫ينتــر عــى خصمــه يف هــذه املعركــة االســتعاريّة‪ ،‬التــي ال‬ ‫طموحــه إىل بنــاء املعرفــة ‪ -‬ال يكـ ُّـف عــن املواجهــة والعنــف‬
‫يتــورع أطرافهــا عــن اســتخدام أســاليب مشــينة للتفــوق‬ ‫اللفظــي واســتخدام األســاليب العدوان ّيــة يف ســبيل هــدم‬‫ّ‬
‫عــى اآلخــر املناقــض‪ ،‬إذ يلجــؤون يف األعــم األكــر إىل‪ :‬إقصــاء‬ ‫فكــرة وترســيخ أخــرى‪ ،‬إال إ َّن هــذه املفارقــة ليســت أصـ ًـا‬
‫اآلخــر ونســف جهــوده‪ ،‬وتفريغــه مــن جوهــره‪ ،‬ويغلــب‬ ‫ـاج لهــوى اإلنســان الــذي‬‫يف الخطــاب الســجا ّيل؛ بــل هــي نتـ ٌ‬
‫عــى لغتهــم طابــع الرفــض واإلقصــاء‪ ،‬حتــى وإن كان هــذا‬ ‫يطمــح إىل فــرض ذاتــه واإلعــاء منهــا عــى حســاب الحــط‬
‫اإلقصــاء إقصــا ًء ابســتمولوجيا وليــس ماديًّــا(‪ ،)5‬وتتطلــب‬ ‫مــن اآلخــر والتغلــب عليــه‪ ،‬وهــذا مــا يجعلنــا نفهــم ملــاذا‬
‫بيئــة خطابهــم الســجا ّيل‪ -‬حســب و"وترهينقــراف"‪ -‬قــد ًرا‬ ‫كان يُنظــر إىل الخطــاب الســجا ّيل نظــرة دونيّــة قدحيــة‪،‬‬
‫مــن عــدم االرتيــاح وعــدم الصفــو وتوافــر عنــر التهديــد(‪.)6‬‬ ‫تحــاول أن تحــط مــن قــدره‪ ،‬وتســمه مبيســم الخطــاب الــذي‬
‫ال يتوخــى هدفًــا غــر النيــل مــن اآلخــر‪ /‬الخصــم‪.‬‬
‫وبهــذا؛ ميكننــا تعريــف الخطــاب الســجا ّيل أنَّــه ذلــك‬
‫ـكل‬
‫الخطــاب االختــايف الــذي يجــري بــن طرفــن أو أكــر‪ ،‬لـ ِّ‬ ‫إنَّنــا ال ننكــر أ َّن الخطــاب الســجا ّيل كــا يعرفــه "بالنتــان"‪:‬‬
‫واحـ ٍـد منهــا موقـ ٌـف مخالـ ٌـف لآلخــر‪ ،‬يســعى إىل إلجامــه‬ ‫«حــرب نخوضهــا بالكلــات‪ ،‬وتكــون حربًــا دفاعيّــ ًة مــن‬
‫وتبكيتــه‪ ،‬وبيــان فســاد مــا يذهــب إليــه‪ ،‬فاملســاجل يــروم‬ ‫يغــر‬
‫عنيــد يرفــض مــن دون ســبب أن ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شــخص‬ ‫طــرف‬
‫«إعــادة تشــكيل العــامل ومك ّوناتــه املختلفــة‪ ،‬ليصبــح مطاب ًقــا‬ ‫رأيــه»(‪ ،)3‬وأنَّــه كثــ ًرا مــا يــؤول إىل «حــرب رضوس تتخــذ‬
‫لفرضياتــه»(‪ ،)7‬يهــدم الســائد واملألــوف والرتيــب‪ ،‬ويتجــاوزه‬ ‫ـكااًل عديــدة»(‪ ،)4‬إال إنَّــه ال ميكننــا أن ننفــي عنــه طابعــه‬
‫أشـ ً‬
‫إىل مــا هــو جديــد وغــر متــداول‪ ،‬ويعيــد بنــاء العــامل‪،‬‬ ‫االبســتمولوجي‪ ،‬فهــو يســهم يف بنــاء املعرفــة رغــم أ َّن‬
‫فيشـكّله انطالقًــا مــن رؤاه وتصوراتــه‪ .‬بعبــارة أخــرى يحــاول‬ ‫اسـراتيجياته قامئــة عــى العنــف والبســط والقهــر والعنــف‬
‫ات جديــدةً‪ ،‬ال‬ ‫هــذا النــوع مــن الخطابــات أن يبنــي تصــور ٍ‬ ‫ـي‪ ،‬فهــو مل يوجــد يك يركــن لذلــك فقــط‪ ،‬ح ًقــا أ َّن هــذه‬‫اللفظـ ّ‬
‫تخضــع ملنطــق الكائــن واملوجــود واملعيــش إال لُام ًمــا‪ ،‬مــا‬ ‫هــي أهــم مظاهــره‪ ،‬وأ َّن الشــائع منــه ذاك الــذي يتو ّخــى‬
‫أساســا مــن عقــد االختــاف مــع‬ ‫يعنــي أ َّن مبــدأه نابــ ٌع ً‬ ‫أساســا التهجــم عــى الخصــم والنيــل منــه‪ ،‬لكــن هــذا‬ ‫ً‬
‫املتلقــي‪ ،‬فاملســاجل يلجــأ إىل عــرض مجموعــة مــن الحقائق‪،‬‬ ‫نســ َينا مــا لــه مــن دو ٍر يف تطويــر املعرفــة‪،‬‬ ‫ال يجــب أن يُ ِ‬
‫انطالقًــا مــن ادعـ ٍ‬
‫ـاءات ذات ٍّيــة شــخص ّية‪ ،‬وهــذا مــا يجعــل‬ ‫ـف الزائــف منهــا‪ ،‬وإعــاد ِة بنائهــا بنــا ًء جديـ ًدا يحــاول‬
‫وكشـ ِ‬
‫الخطــاب الســجايل خطابًــا إيديولوجيًّــا‪ ،‬يتّخــذ ســمته مــن‬ ‫أن يتجــاوز القصــور والهنــات التــي كانــت ماثلـ ًة يف األمنــوذج‬
‫مضامينــه اإليديولوجيــة التــي تشـ ُّد البــاب يف وجــه االتفــاق‬ ‫القديــم قبــل تدخّــل الســجال ليعيــد رســم خريطتــه‬
‫وترشعهــا أمــام االختــاف يف الــرأي والتعدديّــة‪.‬‬ ‫ومناقشــة بعــض مبادئــه‪...‬‬
‫‪36‬‬

‫تســم الــذات بــكل ســات التعــايل والفوق ّيــة‪ ،‬وتجعلهــا رمـ ًزا‬ ‫ـاب الســجا ُّيل خطابًــا غايتــه تفكيــك األنســاق‬
‫وملــا كان الخطـ ُ‬
‫للكــال والتفــوق والعلــم‪ ...‬أ َّمــا االعتبــار الثــاين فهــو تغييــب‬ ‫املعرف ّيــة والثقاف ّيــة‪ ،‬فهــو ال يتــورع ‪ -‬لتحقيــق مـراده ‪ -‬عــن‬
‫اآلخــر أو انتقاصــه وتهميشــه يف محاولــة إلقصائــه‪ ،‬وذلــك‬ ‫ـخيص‪ ،‬فيكشــف بالتايل‬ ‫املــزج بــن مــا هــو معــر ّيف وما هــو شـ ّ‬
‫بوســمه بــكل ســات الدونيّــة(‪ .)10‬وبذلــك‪ ،‬فهــو يــر ّوج‬ ‫خاصـ ٍة بــه‪ ،‬ينفــرد بهــا عــن باقــي الخطابــات‬
‫عــن مامرسـ ٍة ّ‬
‫ملركزيّــة الــذات‪ ،‬فالــذات الســجال ّية هــي ذاتٌ موســوم ٌة‬ ‫األخــرى‪ ،‬إذ يســتخدم مختلــف االسـراتيجيات الخطاب ّيــة مبــا‬
‫بالتعــايل والتم ّيــز والتفــوق‪ ،‬يف مقابــل ذلــك‪ ،‬يــر ّوج لهامشــية‬ ‫يتــاءم مــع القصــد الــذي يرومــه‪ ،‬فالكلمـ ُة تصبــح فيــه ذات‬
‫اآلخــر‪ ،‬وتحقــره‪ ،‬ويتع ّمــد جعلــه مشــوبًا مبجموعــة مــن‬ ‫ٍ‬
‫بطاقــات‬ ‫داللــة خاصــة‪ ،‬وصــور األســلوب تصبــح محملــ ًة‬
‫الســات الســلبيّة‪ ،‬كالتوتــر واالنفعــال والجهــل‪ ،‬وبالجملــة‬ ‫ســجاليّة تخولهــا أن تحيــا وتتطــور ضمــن هــذه العمليــة‬
‫يلصــق بــه كل القيــم املتعارضــة مــع مــا هــو نقــي وفعــال‬ ‫ـاب مختـ ٍّـل بــن‬ ‫اإلشــكال ّية املعقــدة‪ ،‬التــي تكشــف عــن خطـ ٍ‬
‫ومتعــا ٍل‪ ،‬وبالتــايل يســتبعد فكــرة تقبــل نســقه الثقــا ّيف‪.‬‬ ‫طرفــن خصمــن لبعضهــا البعــض‪ ،‬كل واحــد منهــا لــه‬
‫تص ـ ّو ٌر مغايــر عــن اآلخــر‪ ،‬يتجــرأ عــى خصمــه‪ ،‬ســعيًا إىل‬
‫بيــد أ َّن تحيّــز الخطــاب الســجا ّيل ال يعنــي أنَّــه ينفــي اآلخــر‬ ‫التفــوق عليــه وإســكاته‪ ،‬فالخطــاب الســجايل «وليــد فعــل‬
‫نف ًيــا مطلقًــا‪ ،‬وإمَّنَّ ــا يجعلــه عــى الهامــش فقــط‪ ،‬فوجــود‬ ‫الســجال‪ ،‬ومامثلــه يف التبــاري والتنافــس والرغبــة يف الغلبــة‬ ‫ِ‬
‫األنــا يف هــذا الخطــاب ليــس مرتبطًــا بفكــرة وجودهــا‪ ،‬كــا‬ ‫والفلــج عــى الخصــم»(‪ .)8‬وهــذا املعنــى هــو مــا تشــر‬
‫ادعــى ذلــك "ديــكارت"‪ ،‬إنَّهــا ال تكتســب كينونتهــا املطلقــة‪،‬‬ ‫الســجال‪ ،‬إذ تلتقــي املعاجــم‬ ‫إليــه الداللــة اللغويــة ملفهــوم ِ‬
‫وال تضمــن تحقّــق وجودهــا حتــى تكــون مقرتنــة بذلــك‬ ‫اللغويــة يف تعريفهــا للســجال للداللــة عــى معنيــن هــا‬
‫الــذي يخالفهــا‪ ،‬ممتــدة فيــه‪ ،‬وممتــد فيهــا‪ ،‬عــى هــذا النحو‬ ‫املبــارزة والتنافــس‪ ،‬وتربطــه مبجــايل الســقي والحــرب‪،‬‬
‫تغــدو الــذات الســجال ّية مركبــة مــن طرفــن متاميزيــن‬ ‫جــاء يف لســان العــرب‪« :‬ســجال جمــع ِســجل وســجل وهــو‪:‬‬
‫ومختلفــن هــا "األنــا" و"اآلخــر"‪ ،‬يســعى كل واحــد منهــا‬ ‫الدلــو الضخمــة اململــوءة مــاء‪ ،‬وســاجل الرجــل بــاراه‪...‬‬
‫إىل اإليضــاح يف خطابــه عــن هــذا االختــاف والتاميــز‪ ،‬وهــذا‬ ‫وأصــل املســاجلة أن يســتقي ســاقيان‪ ،‬فيخــرج كل واحــد‬
‫مــا يجعــل الخطــاب الســجا ّيل قامئًــا عــى التعدديّــة يف اآلراء‪،‬‬ ‫منهــا يف ســجله مثــل مــا يخــرج اآلخــر‪ ،‬فأيهــا نــكل فقــد‬
‫التــي تفــرض‪ -‬أيضً ــا ‪ -‬تعــد ًدا يف الحقائــق‪ ،‬أو قــل يف النظــر‬ ‫مثــا للمفاخــرة [‪ ]...‬وتســاجلوا‬ ‫غُلــب‪ .‬فرضبتــه العــرب ً‬
‫إليهــا‪ ،‬فــكل ذات يف الخطــاب الســجا ّيل تنشــئ عــن العــامل‬ ‫أي تفاخــروا‪ ،‬ومنــه قولهــم الحــرب ســجال وانســجل املــاء‬
‫خاصــة بهــا‪ ،‬تتحــول معهــا إىل‬ ‫الخارجــي صــو ًرا إدراكيّــ ًة ّ‬ ‫انســجااًل إذا انصــب»(‪.)9‬‬
‫ً‬
‫مصــدر للمعرفــة والحقيقــة املطلقــة‪ ،‬ال حقيقــة إال داخلهــا‪.‬‬
‫تتســم نظرتهــا إىل الوجــود بالتمركــز حــول ذاتهــا‪ ،‬واالنطــاق‬ ‫الخطاب السجا ُّيل وفكر ُة التح ّيز‬
‫ُ‬ ‫‪.2‬‬
‫مــن اعتباراتهــا‪ ،‬وتهميــش مــا يخالفهــا‪ .‬تســعى إىل تحويــل‬ ‫يرتبــط الخطــاب الســجايل بفكــرة التحيّــز‪ ،‬التــي تتأســس‬
‫الوقائــع إىل صياغــات متامســكة غــر قابلــة لالخ ـراق مــن‬ ‫عــى اعتباريــن‪ ،‬أولهــا‪ :‬تضخيــم الــذات والتمركــز حولهــا‪،‬‬
‫قبــل اآلخــر‪ ،‬وتقــف موقــف عــداء إزاءه‪ ،‬فهــو يهـ ّدد صفــا َء‬ ‫إذ يتـ ُّم التل ّعــب باللغــة مــن أجــل خلــق تنميطــات جاهــزة‪،‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪37‬‬

‫الطــرف اآلخــر‪ ،‬فاألنــا تتعــرف عــى نفســها بوصفهــا جــز ًءا يف‬
‫خطــاب اآلخــر‪ ،‬واآلخــر يتعــرف عــى نفســه بوصفه جــز ًءا يف‬
‫خطــاب األنــا»(‪ .)12‬وهــذا يجعلنــا عــى بيّنــة مــن أ َّن الخطاب‬
‫الســجا ّيل يتناســل مــن خطــاب اآلخــر املخالــف ويتولــد‬
‫عنــه‪ ،‬وال ينحــر «يف خط ّيتــه وصــور انكتابــه وتحقّقــه‪ ،‬يف‬
‫صــورة بنيــ ٍة لُغويــة أو مضمون ّيــة»(‪ ،)13‬فــكل خطــاب مــن‬
‫هــذه الخطابــات يقـ ّدم نفســه عــى أســاس أنَّــه قــادر عــى‬
‫اســتيعاب خطــاب الخصــم‪ ،‬وبالتــايل فنحــن يف الخطــاب‬
‫ـاب واحــد‪ ،‬وإمَّنَّ ــا‬
‫الســجا ّيل ‪ -‬يف الحقيقــة ‪ -‬لســنا أمــا َم خطـ ٍ‬
‫أمــام خطابــن أو أكــر‪ ،‬إذا جــاز لنــا ذلــك‪...‬‬

‫ُهويتهــا وثبــاتَ وعيهــا‪ ،‬فــكل ذات تــرى نفســها مصــد ًرا‬


‫خــارج كينونتهــا‬
‫َ‬ ‫للمعرفــة والحقيقــة‪ ،‬ومــا جاورهــا وكان‬
‫ميثّـ ُـل وعيًــا مزيّ ًفــا‪ ،‬أو صــور ًة إدراكيّ ـ ًة مش ـ ّوهة‪ ،‬أو تخييـ ًـا‬
‫الهوامش‪:‬‬ ‫يلفــه الوه ـ ُم والغمــوض(‪.)11‬‬
‫‪ .1‬الخطاب السجايل يف الشعر العريب تحوالته املعرفية ورهاناته يف التواصل‪،‬‬
‫أحمد عبد الفتاح يوسف‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬ط ‪ ،2014 ،1‬ص‬
‫‪.23‬‬ ‫الخطاب السجا ُّيل وتعد ُد املنجزين‬
‫ُ‬ ‫‪.3‬‬
‫‪ .2‬باشا العيادي‪ :‬فن املناظرة يف األدب العريب دراسة أسلوبية تداولية‪ ،‬كنوز‬ ‫ـاب مــرو ٌط‬ ‫ـاب الســجا ّيل بهــذا االعتبــار هــو خطـ ٌ‬
‫إ َّن الخطـ َ‬
‫املعرفة‪ ،‬عامن‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪ ،2014 ،1‬ص‪.66‬‬
‫‪ .3‬نفسه‪ ،‬ص‪.148‬‬
‫بتعــدد املنجزيــن‪ ،‬ال ميكــن أن يقــوم إال إذا كان متضم ًنــا‬
‫‪ .4‬نفسه‪ ،‬ص‪.148‬‬ ‫لخطــاب اآلخــر‪ ،‬يحيــل عليــه بشــكل رصيــح حي ًنــا‪ ،‬أو‬
‫‪ .5‬الخطاب السجايل يف الشعر العريب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ .6‬معجب العدواين وضياء الكعبي‪ ،‬الخطاب السجايل يف الثقافة العربية‪ ،‬دار‬ ‫بشــكل مضمــر أحيانًــا أخــرى‪ ،‬فهــو ليــس نتا ًجــا لخطــاب‬
‫االنتشار العريب‪ ،‬ط‪ ،2012 ،1‬ص‪.15‬‬ ‫الــذات وحدهــا‪ ،‬فكــا أنَّــه يق ـ ّدم خطــاب األنــا املســاجلة‬
‫‪ .7‬هيثم رسحان‪ ،‬بالغة الخطاب السجايل ــ مقاربة تداولية يف مراسالت أيب‬
‫جعفر املنصور والنفس الزكية‪ ،‬األبحاث عدد ‪60‬ــ‪ 2012( 61‬ــ ‪ ،)2013‬ص‬ ‫وتصوراتهــا‪ ،‬يقــدم خطــاب اآلخــر الخصــم وتصوراتــه‬
‫‪.65‬‬
‫‪ .8‬السجال يف األدب العريب‪ ،‬مجلة األزمنة الحديثة‪،‬ص ‪.199‬‬
‫ويســتحرضها‪ ،‬إال أ َّن هــذا االســتحضار ليــس معنــاه اإلعــاء‬
‫‪ .9‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مجلد ‪7‬ـ ‪ ،8‬دار صادر‪ ،‬ط‪ ،2007 ،7‬مادة‬ ‫مــن شــأن خطــاب الخصــم‪ ،‬واالكتفــاء برتديــده‪ ،‬وإمَّنَّ ــا‬
‫(سجل)‪.‬‬
‫‪ .10‬غزالن هاشمي‪ ،‬إشكالية التحيز الثقايف عند عبد الوهاب املسريي‪،‬‬ ‫الهــدف منــه تجــاوزه معرفيًّــا‪ ،‬والحلــول محلــه‪...‬‬
‫ضمن‪ :‬مجلة البالغة والنقد األديب‪ ،‬ع ‪ ،2‬خريف ‪ /‬شتاء‪ ،2015 /2014 ،‬ص‬ ‫بهــذا‪ ،‬يســهم كل مــن "األنــا" واآلخــر يف منــح الخطــاب صفــة‬
‫‪113‬‬
‫‪ .11‬بترصف عن املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪ 116‬ـ ‪.117‬‬ ‫الســجال ّية‪ ،‬التــي ال تتــأىت لــه إال بوجــود هذيــن الطرفــن‪،‬‬
‫‪ .12‬الخطاب السجايل يف الشعر العريب‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫فاألنــا «ال تســتطيع أن تبــدع خطابهــا بــدون اآلخــر‪،‬‬
‫‪ .13‬عبد الفضيل أحمد ادراوي‪ ،‬بالغة الدعاء بحث يف املبادئ والسامت‬
‫والوظائف‪ ،‬دار كنوز املعرفة‪ ،‬عامن‪ ،‬األردن‪ ،‬ط ‪ ،2018 ،1‬ص ‪.59‬‬ ‫والعكــس‪ ،‬حيــث يحــر خطــاب كل طــرف بقــوة يف خطــاب‬
‫‪38‬‬

‫محمد عامرة‪:‬‬
‫"طه حسني‪ ،‬من االنبهار بالغرب‬
‫إىل االنتصار لإلسالم"‬
‫د‪ .‬زياد أبولنب*‬

‫نيــل شــهادة العامليّــة‪ ،‬فكتــب يف هــذه املرحلــة يف عــد ٍد‬ ‫ـغل الدكتــور محمــد عــارة يف الدفــاع عــن طــه حســن‬ ‫ينشـ ُ‬
‫مــن الصحــف املرصيّــة عــن الوطنيّــة املرصيّــة والدســتور‬ ‫يف كتابــه "طــه حســن مــن االنبهــار بالغــرب إىل االنتصــار‬
‫والحكــم النيــايب وتحريــر املــرأة والتديــن وتحكيــم القــرآن‬ ‫لإلســام" الــذي صــدر ســنة ‪ ،2015‬كــا يظهــر يف عنــوان‬
‫والرشيعــة والفضيلــة‪ ،‬وهاجــم أعــا َم العــر بـراوة أمثــال‬ ‫الكتــاب نفســه‪ ،‬ويــرى عــارة أ َّن كتابــه ينصــف طــه حســن‬
‫املنفلوطــي والرافعــي وحافــظ إبراهيــم‪ ،‬كــا نقــد التزيــي‬ ‫تعصبــوا آلرائــه‬
‫مــن أنصــاره ومــن خصومــه‪ ،‬فهنــاك مــن ّ‬
‫باألزيــاء اإلفرنجيّــة وتحرميــه زواج املســلم مــن الكتابيّــة‬ ‫بوصفهــم تالميــذه األوفيــاء‪ ،‬ووقفــوا عنــد أفــكاره – كــا‬
‫األوروب ّيــة ملــا ميثلــه ذلــك مــن مخاطــر عــى ديــن األرسة‬ ‫يقــول – التــي مثّلــت مرحل ـ َة انبهــاره بالنمــوذج الحضـ ّ‬
‫ـاري‬
‫والرتب ّيــة اإلســام ّية لألبنــاء‪ ،‬ويرفــض العلامن ّيــة‪ ،‬ويذهــب إىل‬ ‫ـاري‪ ،‬وســعيه إللحــاق‬‫الغــر ّيب‪ ،‬وتبشــره بهــذا النمــوذج الحضـ ّ‬
‫رضورة التــزام املســلمني بنــر اإلســام والتوحيــد‪ ،‬ومحــو‬ ‫ـي بالعقــل الغــر ّيب‪ ،‬كــا صنــع طــه حســن يف‬ ‫العقــل الرشقـ ّ‬
‫ـت‬ ‫الــرك‪ ،‬وإصــاح أحــوال املــرأة‪ ،‬و ُجمعــت مقاالتُــه يف سـ ِّ‬ ‫كتابــه "يف الشــعر الجاهــي" ســنة ‪ ،1926‬وكتابــه اآلخــر‬
‫مجلــدات‪ ،‬جمعتهــا وطبعتهــا دا ُر الكتــب والوثائــق القوم ّيــة‪.‬‬ ‫فالكتــاب األ ّول‬
‫ُ‬ ‫"مســتقبل الثقافــة يف مــر" ســنة ‪،1938‬‬
‫بــرأي عــارة ميثّــل ق ّمـ َة املجازفــة الفكريّــة والعدوان ّيــة عــى‬
‫املرحلـ ُة الثانيــة‪ :‬املرحلـ ُة التــي عــاد فيهــا مــن فرنســا بعــد‬ ‫عــد ٍد مــن عقائــد اإلســام ومقدســاته‪ ،‬أ َّمــا الكتـ ُ‬
‫ـاب الثــاين‬
‫حصولــه عــى الدكتــوراه ســنة ‪" ،1917‬مبهــورا ً" بالغــرب‬ ‫ـامي بالنمــوذج‬‫ـاق الــرق اإلسـ ّ‬ ‫ميثّــل ق َّمــة محاوالتــه إلحـ َ‬
‫ـي‪ ..‬والتــي كان فيهــا "درويشً ــا"‬
‫ـي والرومــا ّين والفرنـ ّ‬
‫اإلغريقـ ّ‬ ‫وقســم عــارة مراحــل فكــر طــه‬ ‫ـاري الغــر ّيب العلــا ّين‪ّ ،‬‬
‫الحضـ ّ‬
‫يف عــامل التغريــب‪ ،‬تجــاوزت فيهــا مجازفاتــه الفكـ َر والحضارة‬ ‫حســن إىل أربــع مراحــل‪ ،‬وهــي‪:‬‬
‫إىل حيــث اقــرف العــدوا َن عــى عــد ٍد مــن عقائــد اإلســام‬
‫ومقدســاته‪ ..‬ولقــد امت ـ ّدت هــذه املرحلــة لتشــمل حقبــة‬ ‫املرحلــ ُة األوىل‪ :‬بداياتــه الفكريّــة‪ ،‬قبــل الســفر إىل فرنســا‬
‫العرشينيــات مــن القــرن العرشيــن‪.‬‬ ‫ســنة ‪1914‬م‪ ..‬وهــي التــي ميكــن أن تأخــذ عنــوان‪[ :‬مرحلــة‬
‫يشــارك طــه حســن يف هــذه املرحلــة ويدافــع عــن علمنــة‬ ‫الشــيخ طــه حســن]‪.‬‬
‫اإلســام‪ ،‬كــا جــاءت يف كتــاب عــي عبــد ال ـرازق "اإلســام‬ ‫تلــك املرحلــ ُة التــي بــدأت بالتحاقــه بالجامعــة املرصيّــة‬
‫وأصــول الحكــم"‪ ،‬فلــم يعــد مــروع اإلحيــاء اإلســامي‬ ‫األهليّــة بعــد حرمانــه مــن شــهادة العامليّــة األزهريّــة‬
‫بنظــره صال ًحــا‪ ،‬بــل لقــد أخــذ يتّهــم اإلســام بالتناقــض مــع‬ ‫بســبب متـ ّرده عــى الدراســة باألزهــر‪ ،‬فحرمــه شــيوخه مــن‬

‫* كاتب وناقد أردين‬


‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪39‬‬
‫‪40‬‬

‫شــاملٍ للحيــاة‪ ،‬وبــرزت كتاباتــه التــي تقــ ّدم العدالــة‬ ‫العلــم الحديــث‪ ،‬ويط ّبــق غلــو الشــك يف كتابــه "يف الشــعر‬
‫االجتامعيــة اإلســام ّية حـ ًـا ينقـ ُذ جامهـ َر الفقـراء والبؤســاء‪.‬‬ ‫يفصــل يف مبالغــات عشــقه لليونــان كــا‬ ‫الجاهــي"‪ ،‬وأخــذ ّ‬
‫جــاء يف كتابــه "قــادة الفكــر"‪.‬‬
‫ـيايس مــن الغــرب تصاعــدت نــر ُة نقـ ِـده‬
‫ـف السـ ّ‬ ‫‪ .4‬ويف املوقـ ِ‬
‫للسياســة االســتعامريّة الغربيــة‪ ،‬بالتزامــن مــع صعــود‬ ‫املرحل ـ ُة الثالثــة‪ :‬تلــك املرحل ـ ُة التــي امت ـ ّدت مــن بدايــات‬
‫ـي يف البــاد اإلســام ّية‪ ،‬وتزايــد القمــع‬
‫حــركات التحــرر الوطنـ ّ‬ ‫الثالثينيــات وحتــى قيــام ثــورة يوليــو ســنة ‪1952‬م‪ ..‬وفيهــا‬
‫ـتعامري لهــذه الحــركات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االسـ‬ ‫ـري املتــدرج والبطــيء لطــه حســن‪ ،‬عــر‬ ‫كان التط ـ ّو ُر الفكـ ُّ‬
‫العديــد مــن املنعطفــات واملتناقضــات‪ ..‬وقــد وقــف "عامرة"‬
‫‪ .5‬ويف السياســة الداخل ّيــة املرصيّــة‪ ،‬انتقــل طــه حســن مــن‬ ‫عــى أهــم املعــامل البــارزة يف تلــك املرحلــة‪ ،‬والتــي ش ـكّلت‬
‫معســكر أحــزاب األقل ّيــة التــي زاد عج ُزهــا عــن النهــوض‬ ‫امتــدا ًدا فكريًّــا يف حيــاة طــه حســن‪:‬‬
‫ـي‪ ،‬والتــي عجــزت عــن الدفــاع عــن‬ ‫مبهــام االســتقالل الوطنـ ّ‬
‫مواقفــه الفكريّــة‪.‬‬ ‫‪ .1‬خلــ ّو كتاباتــه مــن أيــة إســاء ٍة إىل اإلســام الديــن‪،‬‬
‫ـاري ملحوظًــا يف العطــاء الفكـ ّ‬
‫ـري‬ ‫ـب الحضـ ُّ‬‫‪ .6‬وظـ َّـل التغريـ ُ‬ ‫ومقدســاته ورمــوزه‪.‬‬
‫لطــه حســن –خــال هــذه الحقبــة‪ ،‬وخاصــة يف كتابــه‬
‫(مســتقبل الثقافــة يف مــر) ســنة ‪1938‬م‪ -‬الــذي مثّــل ذر ّو َة‬ ‫ـب إســامياتِه بهــذه الحقبــة عــى "الهامــش"‪ُ ،‬مركِّ ـ ًزا‬
‫‪ .2‬أغلـ ُ‬
‫الفكــري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحضــاري يف مرشوعــه‬
‫ّ‬ ‫التغريــب‬ ‫عــى األســاطري" التــي أحاطــت بتاريــخ صــدر اإلســام‪ ،‬كــا‬
‫عــادت –بالتدريــج‪ -‬إىل كتاباتــه الخاصيــة اإلســامية يف‬
‫الفكــري لطــه حســن‪..‬‬
‫ّ‬ ‫املرحلــ ُة الرابعــة‪ :‬مرحلــ ُة اإليــاب‬ ‫الصــاة والســام عــى رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم‬
‫اإليــاب الرصيــح والحاســم إىل أحضــان العروبــة واإلســام‪..‬‬ ‫[يف الوقــت الــذي خلــت فيــه املرحلــ ُة الثانيــ ُة يف كتابــات‬
‫وهــي املرحلــة التــي بــدأت بارتباطــه الوثيــق بثــورة "يوليــو"‬ ‫طــه حســن مــن الصــاة والســام عــى الرســول]‪ ،‬كــا أســهم‬
‫ومعاركهــا الوطن ّيــة ضــد االســتعامر الغــر ّيب‪ ..‬ويف ســبيل‬ ‫إســها ًما ملحوظًــا يف الدفــاع عــن اإلســام ضــد التنصــر‬
‫ال ُهويــة العرب ّيــة والقوم ّيــة العرب ّيــة‪..‬‬ ‫واملنرّصيــن‪ ،‬وضــد البهائيــة والبهائيــن‪ ،‬ويف لفــت األنظــار‬‫ّ‬
‫اإلســامي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إىل منــاذج دعــوات التجديــد‬
‫يــرى عــارة أن طــه حســن قــد آب يف هــذه املرحلــة‬ ‫واكــب هــذا التو ّجــه عنــد طــه حســن كبــا ُر الكتّــاب الذيــن‬
‫"عقــا إســام ًّيا" متألقًــا‪ ..‬وهــو منطلــق‬
‫ً‬ ‫الختاميــة ليمثّــل‬ ‫انشــغلوا يف الكتابــات اإلســام ّية‪ ،‬أمثــال‪ :‬الدكتــور محمــد‬
‫دفــاع عــارة عــن طــه حســن يف كتابــه الــذي نقــف عــى‬ ‫حســن هيــكل‪ ،‬عبــاس محمــود العقــاد‪.‬‬
‫فصولــه‪ ،‬ليتعــ ّرف القــارئ الحصيــف عــى طــه حســن‬
‫املنتــر لإلســام واملدافــع عنــه‪ ،‬وقــد بــدأت مرحلــة اإليــاب‬ ‫‪ .3‬ويف السياســة اإلســاميّة وعالقــة الديــن بالدولــة توالــت‬
‫واالنتصــار الحاســم للعروبــة واإلســام (‪ ،)1960-1952‬أي‬ ‫تأكيداتــه عــى شــمول اإلســام للديــن والدولــة كمنهــا ٍج‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪41‬‬

‫بلغــت الســيارة ذلــك املــكان وتوقفــت‪ ،‬حتــى تر ّجــل طــه‬ ‫بــدءا ً مــن ثــورة الضبــاط األح ـرار عــام ‪ 1952‬عــى امللك ّيــة‪،‬‬
‫حســن‪ ،‬وقبــض مــن ت ـراب الحديبيــة قبضــة فش ـ ّمها‪ ،‬ثــم‬ ‫بــداًل مــن النظــام امللــيّ‪ ،‬وأعلــن‬
‫وقيــام نظــام جمهــوري ً‬
‫متتــم ودموعــه تنســاب عــى ال ـراب قائـ ًـا‪ :‬واللــه َّإيَّن ألشـ ّم‬ ‫بــرورة حاكميّــة القــرآن الكريــم والنصــوص الدينيــة عــى‬
‫رائحــة محمــد صــى اللــه عليــه وســلم يف هــذا الــراب‬ ‫الدســتور والقوانــن‪ ،‬وانحــاز إىل عروبــة مــر وإىل القوميّــة‬
‫الطاهــر‪ .‬وهـ ّدأ مرافقــه مــن روعــه عــى مــدى نصف ســاعة‬ ‫العرب ّيــة‪ ،‬التــي صاغهــا اإلســام منــذ ظهــوره‪ ..‬معتـ ًرا رســول‬
‫مــن الرحلــة‪ .‬ثــم اســتمر الركــب حتــى دخــل الحــرم مــن‬ ‫الحقيقــي للقوم ّيــة‬
‫ّ‬ ‫األب‬
‫اللــه صــى اللــه عليــه وســلم َ‬
‫بــاب الســام‪ ،‬والدكتــور ال يــكاد يخفــي زلزلــة إميانــه عــن‬ ‫العربيّــة‪ ،‬واعتــر اللغــة العربيــة والديــن اإلســامي ورســول‬
‫رفيقــه‪ .‬وتو ّجهــا إىل الكعبــة‪ ،‬فتســلم الحجــر وقبّلــه باكيًــا‪،‬‬ ‫هــذا الديــن صــى اللــه عليــه وســلم أه ـ َّم أركان العروبــة‬
‫ـي حتــى أتـ َّم‬ ‫واســتمر يطــوف يف خشــو ٍع ضــار ٍع وبــكاء خفـ ّ‬ ‫والقوميــة العربيــة‪.‬‬
‫ـي أكــر مــن البــد ّين‬ ‫عمرتــه‪ ،‬وقــد أخــذ منــه اإلرهـ ُ‬
‫ـاق النفـ ُّ‬
‫كل مأخــذ‪.‬‬ ‫قــام طــه حســن برحلتــه الحجازيّــة عــام ‪ 1955‬وزار مكــة‬
‫ـي إىل‬ ‫واملدينــة‪ ،‬فكانــت زيارتــه هــذه مبثابــة اإليــاب الروحـ ّ‬
‫وذكــر أمــن الخــويل أ َّن "طــه حســن حــن اســتلم الحجــر‬ ‫ـب‬ ‫أخضــان اإلســام كــا وصفهــا‪ ،‬وقــد ُســئل فيهــا عــن أحـ ِّ‬
‫األســود ظــل يتن ّهــد ويبــي‪ ،‬وق ّبــل الحجــر حتــى وقفــت‬ ‫ـت‬‫وســئل مــا بيـ ُ‬‫ـب منهــا شــيئًا؟! ُ‬
‫مؤلفاتــه إليــه؟ فقــال‪ :‬ال أحـ ُّ‬
‫ـب الكبـ ُر‬
‫مواكــب املعتمريــن انتظــا ًرا ألن يغــادر هــذا األديـ ُ‬ ‫الشِّ ــعر الــذي راقكــم ورددمتــوه وحفظتمــوه ألول وهلــة؟‬
‫الكفيــف مكانَــه‪ ،‬ولك ّنــه أطــال البــكاء والتن ّهــد والتقبيــل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فأجــاب‪ :‬ال أذكــر‪ ..‬إمَّنَّ ــا الــيء الــذي ال شـ َّـك فيــه هــو أنّنــي‬
‫ونــي نفســه فرتكــوه يف مكانــه‪ ،‬وأجهشــوا معــه يف البــكاء‬ ‫أكــر مــا أتلــو بينــي وبــن نفــي آيــات مــن القــرآن الكريــم‪،‬‬
‫والتنهيــد"!‬ ‫وأنــا أكــر ترديــ ًدا للقــرآن مــن الشــعر‪ ..‬وعندمــا انهالــت‬
‫وبعــد أداء العمــرة طلــب طــه حســن ترتيــب الســفر إىل‬ ‫عليــه األســئلة حــول انطباعاتــه الروحيّــة عــن هــذه الرحلــة‬
‫ـري كان مغل ًقــا بســبب‬ ‫املدينــة املن ـ ّورة‪ ..‬لكــن الطريــق الـ ّ‬ ‫الحجازيّــة؟ كان جوابــه الدائــم‪" :‬إ َّن أ ّول مــا شــعرت بــه ومــا‬
‫الســيول التــي حدثــت ذلــك العــام ‪-‬وطــه حســن ال يركــب‬ ‫ـب‬ ‫زلــت أشــع ُر بــه إىل اآلن‪ ،‬هــو هــذا الــذي يجــده الغريـ ُ‬
‫الطائـرات أبـ ًدا!‪ ..‬لك ّنــه ص ّمــم عــى الســفر إىل املدينــة‪ -‬وإن‬ ‫حــن يــؤوب بعــد غيبــ ٍة طويلــ ٍة جــ ًّدا إىل موطــن عقلــه‬
‫بالطائــرة‪ ،‬وبطائــرة أبعــد مــا تكــون عــن الراحــة واألمــان!‪..‬‬ ‫وقلبــه وروحــه مبعنــى عــام"‪.‬‬
‫خاصــة‪ -‬مــع الوفــد‬
‫ولقــد وصــل إىل املدينــة –عــى طائــرة ّ‬
‫املرافــق لــه يــوم األربعــاء ‪ 2‬جــادي اآلخــرة ‪1374‬هــــ ‪26‬‬ ‫ولقــد أحــرم طــه حســن –يف جــ ّدة‪ -‬وركــب الســيارة‬
‫النبــوي‬
‫ّ‬ ‫ينايــر ‪1955‬م‪ ..‬وات ّجــه مــن املطــار إىل املســجد‬ ‫قاصـ ًدا م ّكــة ألداء العمــرة‪ ..‬وأوعــز إىل الشــيخ أمــن الخــويل‬
‫الرشيــف‪ ،‬وبعــد صــاة يف الروضــة املطهــرة‪ ،‬وزيــارة قــر‬ ‫[‪1385-1313‬هـــ‪1966-1896/‬م]‪ -‬رفيقــه يف هــذه الرحلــة‬
‫املصطفــى صــى اللــه عليــه وســلم تف ّقــد عــارة املســجد‬ ‫املــري باملؤمتــر – أوعــز إليــه‬
‫ّ‬ ‫الحجازيّــة‪ ،‬ورئيــس الوفــد‬
‫والتوســعة الجديــدة لــه‪ ،‬وزار املآثــر الخالــدة‪..‬‬ ‫بإيقــاف الســيارة لحظــ َة وصولهــا إىل الحديبيــة‪ .‬ومــا إن‬
‫‪42‬‬

‫ت ـ ّوج طــه حســن رحلتــه الروح ّيــة مبراجعاتــه الفكريّــة يف‬ ‫ولقــد وصــف هــذا املشــهد وصفًــا أضفــى عليــه شــعو ًرا‬
‫كتابــه "مــرآة اإلســام" ســنة ‪ ،1959‬والــذي نقــض فيــه لــكل‬ ‫بجــال املوقــف‪ ،‬وطغــى عليــه الشــعو ُر بعظمــة هــذا‬
‫ي"‪ ،‬وكتابــه‬
‫مــا ســبق وذكــره طــه حســن "يف الشــعر الجاهـ ّ‬ ‫املســجد الــذي كان مهبــ َط الرســالة‪ ،‬ومصــدرا ً النتشــار‬
‫"الشــيخان" ســنة ‪.1960‬‬ ‫اإلســام الحنيــف‪..‬‬

‫كتــاب "طــه حســن مــن االنبهــار بالغــرب إىل‬ ‫ُ‬ ‫يتضمــن‬ ‫كان طــه حســن يــر ّدد دعــا ًء حفظــه عــن ظهــر قلــب بقولــه‪:‬‬
‫االنتصــار لإلســام" شــواه َد عديــد ًة مبــا ذهــب إليــه الدكتــور‬ ‫"الَّلهــم لــك الحمــد أنــت نــور الســموات واألرض‪ ،‬لــك الحمد‬
‫محمــد عــارة مــن مؤلفــات طــه حســن ومقاالتــه وســرته‬ ‫الحــق‬
‫ُّ‬ ‫أنــت رب الســموات واألرض ومــن فيهــن‪ .‬أنــت‬
‫ومراســاته‪ ،‬ومــا كُتــب عنــه مــن مؤلفــات ومقــاالت‬ ‫ووعــدك الحـ ُّـق‪ ،‬والجنــة حـ ُّـق‪ ،‬والنــار حـ ُّـق‪ ،‬والنب ّيــون حـ ُّـق‪،‬‬
‫منشــورة‪ ،‬ومل يــأت عــاره بــكالم منــارصي طــه حســن أو‬ ‫والســاعة حـ ُّـق‪ ،‬اللهــم لــك أســلمت‪ ،‬وبــك آمنــت‪ ،‬وعليــك‬
‫خصومــه‪ ،‬وإمَّنَّ ــا جــاء بــكالم طــه حســن نفســه‪.‬‬ ‫توكّلــت‪ ،‬وإليــك أنبــت‪ ،‬وبــك خاصمــت‪ ،‬وإليــك حاكمــت‪،‬‬
‫فاغفــر يل مــا قدمــت وأخــرت‪ ،‬ومــا أرسرت‪ ،‬ومــا أعلنــت‪،‬‬
‫أنــت إلهــي‪ ،‬ال إلــه إال أنــت!"‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪43‬‬

‫رؤية العامل يف أدب الحكيم‬


‫قراءة يف فكرة "التعادل ّية"‬
‫جالل مصطفاوي*‬

‫مــن معطيــات‪ ،‬واســتنتاج ال َّنســق الــذي بُنيــت عليــه‪ ،‬فيُعـ ّد‬ ‫"التعادل هو الحقيق ُة األوىل لحياة األرض"‬
‫مــن مهــام الناقــد وليــس الفنــان‪ ،‬كــا يعـ ِّـر توفيــق الحكيــم‬ ‫توفيق الحكيم‪ :‬التعادل ّية‪ ،‬ص‪10‬‬
‫األدب ذو يديــن "مينــاه الخالـ ُـق الــذي‬ ‫عــن ذلــك بقولــه إ َّن َ‬
‫ـر"‪ ...‬إالّ‬ ‫يُنتــج ويبتكــر‪ ،‬وي ـراه النق ـ ُد الــذي ينظِّــم ويفـ ّ‬ ‫متهيد‬
‫إ ّن الحكيــم يف كتابــه (التعادليّــة) يأخــذ األدب مــن يديــه‬
‫يقــول "كارل بوبــر"‪" :‬كل إنســان هــو فيلســوف‪ ،‬أكان‬ ‫ُ‬
‫ـر إلنتاجــه األد ّيب‪،‬‬‫االثنتــن‪ ،‬حيــث يقــوم بــدور الناقــد واملفـ ِّ‬
‫رأي أو‬
‫ـب مختلفــة‪ ،‬فهنــاك دامئًــا ٌ‬ ‫ذك ـرا أم أنثــى‪ ،‬إمَّنَّ ــا بنسـ ٍ‬
‫وبهــذا يعانــق األدب "الحكيــم" بيديــه‪ ،‬ويتحــ ّول بعدمــا‬
‫موقـ ٌـف‪ ،‬والفلســف ُة ليســت بعيــد ًة ج ـ ًّدا عــن ذلــك"‪ ،‬فــإذا‬
‫ـب يف الوقــت نفســه‪ .‬ويعلّــق (زيك‬ ‫كان أدي ًبــا إىل ناقـ ٍـد وأديـ ٍ‬
‫لــكل إنســان رؤيتــه الخاصــة للكــون الضخــم مــن‬ ‫كان ّ‬
‫نجيــب محمــود) عــى هــذا االجتــاع الجميــل يف كتابــه‪:‬‬
‫حولــه‪ ،‬وفهمــه الخــاص ملعنــى الحيــاة واإلنســان‪ ،‬وحتــى‬
‫"قليــا مــا يجتمــع‬
‫ً‬ ‫"ثقافتنــا يف مواجهــة العــر"‪ ،‬فيقــول‪:‬‬
‫فلســفته الخاصــة يف الحيــاة‪ ،‬فــإ ّن هــذا ال يعنــي أ َّن يف‬
‫األديــب والناقــد يف رجــلٍ واحــد‪ ،‬يكــون اليــوم أدي ًبــا ثــم‬
‫اســتطاعة كل إنســان التعبــر عــن هــذه الرؤيــة أو املوقــف‪،‬‬
‫يصبــح يف غــد ناقـ ًدا ألدبــه مســتخر ًجا منــه أصولــه ومبادئــه‪،‬‬
‫وإن كان يف املســتطاع ذلــك‪ ،‬فــإ َّن أشــكال التعبــر تختلــف‬
‫وقــد كان الحكيــم بكتابــه "التعادليــة" واح ـ ًدا مــن هــؤالء‬
‫مــن حيــث العمــق والنضــج‪ ،‬وباختــاف مســتوى اإلنســان‬
‫القلّــة التــي التقــى فيهــا خلــق األديــب وتحليــل الناقــد"‪.‬‬
‫الــذي يريــد أن يكشــف عــن فهمــه للحيــاة‪ ،‬هــذا الفهــم‬
‫ُ‬
‫وأشــكال التعبــر‬ ‫التجــارب واملشــاهدات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الــذي تصنعــه‬
‫قص ُة الكتاب‬
‫• ّ‬ ‫خاصــة‪ ،‬فائقــ ُة املســتوى‪ ،‬إذ إنَّهــا‬‫عنــد الفنــان بصفــة ّ‬
‫تتل ّخــص قص ـ ُة كتــاب "التعادليّــة" (‪- )1955‬كــا يــروي لنــا‬
‫الســطحي ملظاهــر الحيــاة‬
‫ّ‬ ‫تتجــاوز التعبــر عــن املســتوى‬
‫الحكيــم‪ -‬أ َّن واحــ ًدا مــن القــ ّراء الجا ّديــن إلنتاجــه األديب‪،‬‬
‫ـي العميــق يف العقــل‬ ‫بشــكل شــمو ّيل‪ ،‬إىل التعبــر عــن الوعـ ّ‬
‫ِ‬
‫مؤلفات‬ ‫رأي مفــاده أ َّن‬
‫انتهــى بعدمــا قــرأ كتــب الحكيــم إىل ٍّ‬
‫ولــكل‬
‫ِّ‬ ‫الباطــن‪ ،‬وتف ّجــر املفاهيــم الفكريّــة والشــعوريّة‪،‬‬
‫الحكيــم يف مجموعهــا‪ ،‬محاول ـ ٌة لتفســر اإلنســان يف وضعــه‬
‫فنــان أســلوبه الخــاص وصياغتــه الخاصــة بــه يف تقديــم‬
‫ـاص مــن‬
‫العــام مــن الكــون بزمانــه ومكانــه‪ ،‬ويف وضعــه الخـ ِّ‬
‫ـي منــه وعــن غــر‬ ‫نظرتــه ورؤيتــه الفن ّيــة للحيــاة‪ ،‬عــن وعـ ٍّ‬
‫املجتمــع بأجيالــه وبيئاتــه‪ ،‬وأراد هــذا القــارئ أن يختــر‬
‫وعــي‪ ..‬أ ّمــا دراســة األعــال الفن ّيــة واســتخالص األفــكار‬
‫فهمــه ومســتوى قراءتــه ألفــكار الحكيــم‪ ،‬فســأل الحكيــم‬
‫الجوهريّــة منهــا وتحديــد املواقــف بنــاء عــى مــا تق ِّدمــه‬

‫* املركز الجامعي ‪ /‬عني تيموشنت‪-‬الجزائر‬


44
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪45‬‬

‫الحكيــم للتأكيــد عــى حقيقــة النظريــة التعادل ّيــة يف املــادة‬ ‫يف رســالة عــن مذهبــه يف الحيــاة والفــن‪ ،‬ليقــارن جــواب‬
‫والــروح‪ ،‬ويبلــغ عــدد الثنائيــات تســع عــرة ثنائيــة أو‬ ‫توصــل إليهــا هــو‪ ،‬فانتهــز الحكيــم‬ ‫الحكيــم بالنتيجــة التــي ّ‬
‫ـب بتــدر ٍج بسـ ٍ‬
‫ـيط‬ ‫تعادليّــة‪ ،‬يف هــذا الكتــاب‪ ،‬ويبــدأ الكاتـ ُ‬ ‫فرصــة الســؤال‪ ،‬وقــام بإعــداد اإلجابــة للنــر عــى أنَّهــا‬
‫ليصــل إىل أفــكاره الكبــرة‪ ،‬فيبــدأ بصفــة اإلنســان الرئيســة‬ ‫مذهبــه يف الحيــاة والفــن (التعادليّــة)‪ ،‬هــذه اإلجابــة التــي‬
‫وهــي أنَّــه الكائـ ُن املعــروف لنــا جمي ًعــا‪ ،‬الــذي يعيــش عــى‬ ‫ترمــي إىل إنــارة ســبيل الجمهــور‪ ...‬ونــر الحكيــم كتــاب‬
‫هــذه األرض‪ ،‬ثــم يتســاءل عــن األرض‪ ،‬مــاذا متثّــل؟ ليســحب‬ ‫"التعادل ّيــة" عندمــا بلــغ ســبعة وخمســن عا ًمــا‪ ،‬وحينــا‬
‫منهــا صفتهــا املتعادلــة "وهــي أنَّها‪-‬األرض‪-‬كــرة وتعيــش‬ ‫كانــت مؤلفاتــه وعددهــا ثالثــون متثّــل قاعــد ًة ورصيــ ًدا‬
‫بالتــوازن أو التعــادل بينهــا وبني كــرة أضخم‪ ..‬هي الشــمس‪..‬‬ ‫أدبيًّــا‪ ،‬يحكــم بــه كثــ ٌر مــن األدبــاء‪ ،‬وكان يف تلــك الفــرة‬
‫فــإذا اختـ ّـل هــذا التعــادل ابتلعتهــا الشــمس‪ ،‬أو ضاعــت يف‬ ‫مــن حياتــه‪ ،‬متزو ًجــا وأبًــا لطفلــن‪ ،‬وول ًّيــا البنتــي زوجتــه‬
‫الفضــاء" (التعادل ّيــة‪-‬ص‪ ،)10‬ثــم ينتقــل إىل اإلنســان الــذي‬ ‫مــن زوجهــا األ ّول‪ ،‬كــا كان محافظًــا لــدار الكتــب الوطن ّيــة‬
‫يعيــش عــى هــذه األرض التــي قانــون عيشــها‪ ،‬التعــادل‪،‬‬ ‫وعض ـ ًوا باملجمــع العــريب‪ ،‬وقــد ت ُرجمــت بعــض أعاملــه إىل‬
‫ليتســاءل‪ :‬هــل صفــ ُة التعــادل هــذه تقتــر عــى األرض‬ ‫عــدة لغــات‪ ،‬وأصبــح بــارزًا يف الكتــب املدرس ـيّة‪ ،‬وعنــوان‬
‫فقــط‪ ،‬أم أ َّن اإلنســا َن أيضً ــا يحكمــه قانــو ُن التعــادل هــذا؟‪.‬‬ ‫كتابــه (التعادل ّيــة) كُتــب تحتــه (مذهبــي يف الفــن والحيــاة)‪.‬‬
‫إ َّن الحقيقــة األول َّيــة يف حيــاة اإلنســان أ َّن حياتــه تحكمهــا‬ ‫تحمــل‬
‫ُ‬ ‫صفــوة القــول‪ :‬إ َّن كتــاب التعادل ّيــة مبثابــة وثيقــ ًة‬
‫عمليـ ُة التن ّفــس‪ ،‬والتن ّفــس هــو ذلــك التعــادل بــن حركتــي‬ ‫عصــارة فكــر الحكيــم وترســم املنحنــى البيــا ّين لتطــ ّوره‬
‫الشــهيق والزفــر‪ ،‬وإذا اختـ ّـل هــذا التــوازن بــن الحركتــن‬ ‫ـري يف حياتــه الطويلــة وألهــم نقــاط التمفصــل فيــه‪،‬‬ ‫الفكـ ّ‬
‫تعطلــت عمليــة التنفــس‪ ،‬وبالتــايل ينتهي اإلنســان‪ ،‬فالرتكيب‬ ‫يحــب الظهــور دو ًمــا مبظهــر املفكِّــر‬ ‫ُّ‬ ‫وقــد كان الحكيــ ُم‬
‫ـادي لعمليــة الحيــاة يخضــع خضو ًعــا جربيًّــا للتعــادل‪ ،‬ثــم‬ ‫املـ ّ‬ ‫يوصــف بصفــة املفكِّــر "‪...‬وإمَّنَّ ــا أنــا مفكِّــر‬
‫َ‬ ‫ويحــب أن‬
‫ُّ‬
‫ـي يف اإلنســان‪ ،‬ليصــل إىل‬ ‫ينتقــل الحكيــم إىل الرتكيــب الروحـ ّ‬ ‫ـايس هــو الشــموليّة‪ ،‬مف ِّك ـ ٌر‪ ،‬هــذا هــو‬ ‫مختلـ ٌـف يف يشء أسـ ّ‬
‫الفكــرة ذاتهــا‪ ،‬فالحيــاة الروحيّــة يف اإلنســان تحكمهــا قوتــان‬ ‫ي أو ينــادوين بــه"‪.‬‬ ‫حــب أن يطلقــوه عــ َّ‬‫اللقــب الــذي أُ ُّ‬
‫ُ‬
‫هــا‪ :‬الفكّــر (ميثّلــه العقــل) والشــعور (ميثّلــه القلــب)‪،‬‬
‫ـادل بــن هاتــن الق ّوتــن‪،‬‬ ‫ومعيــار الســامة هــذه هــو التعـ ُ‬ ‫يف مفهوم التعادل ّية‬
‫ـبب األم ـراض العقليّــة والعصبيّــة‪،‬‬ ‫ـاب التعــادل هــو سـ ُ‬ ‫وغيـ ُ‬ ‫رســا للدائــرة الفكريّــة التــي‬ ‫ً‬ ‫كتــاب التعادليّــة‬
‫ُ‬ ‫ِّــل‬
‫ميث ُ‬
‫وكأنَّــه يريــد أن يقــول‪ :‬مــادام قانــون الحيــاة الــذي خلقــه‬ ‫كانــت تــدور حولهــا مرسحياتــه ورواياتــه وحتــى مقاالتــه‪،‬‬
‫اللــه تعــاىل (=تعــادل األرض‪ ،‬التعــادل عــى مســتوى املــادة‪،‬‬ ‫ويطالعنــا الحكيــم يف مقدمــة كتابــه‪ ،‬بقــو ٍل يحــ ّدد فيــه‬
‫الجاذب ّيــة‪ ،‬تعــادل حركتــي التن ّفــس‪ ،‬الليــل والنهــار‪ ) ..‬والــذي‬ ‫ـر الحيــاة اإليجابيــة بأنَّهــا‬
‫معنــى التعادل ّيــة‪" :‬التعادل ّيــة تفـ ّ‬
‫ـادي)‪ ،‬مبنــي عــى تعــادل القــوى‬ ‫ليــس لنــا اختيــار فيــه (مـ ّ‬ ‫رضورة وجــود جملــة قــوى تتقابــل وتتــوازن‪ ،‬مناهضــة‬
‫املتضــادة‪ ،‬فمــن املســتحيل أن تجــد قــوة أســمى مــن هــذا‬ ‫بعضهــا بعضً ــا يف الكــون واملجتمــع" (التعادليّــة‪-‬ص‪.)03‬‬
‫القانــون‪ ،‬ألنَّــه املثــال أو النمــوذج املطلــق العــام‪ ،‬فــإذا أردت‬ ‫ويف الكتــاب منــاذج مــن الثنائيــات املتزاوجــة‪ ،‬يســتعملها‬
‫‪46‬‬

‫عنــد اإلنســان هــو العقــل‪ ،‬والقانــون يتلخّــص يف وجــوب‬ ‫أن تعيــش حيــاة روح ّيــة ســليمة‪ ،‬فعليــك أن تح ّقــق التعــادل‬
‫توفّــر إميــانٍ وعقــلٍ م ًعــا‪ ،‬يعمــان يف تعــادل"‪َّ ..‬إيَّن أومــن بأ َّيَّن‬ ‫بــن قطبيهــا‪ ،‬والنتيجــة يف نهايــة املطــاف أن"اإلنســان كائــن‬
‫لســت وحــدي‪ ،‬ألين أشــعر بذلــك ومل أفقــد إميــاين‪ ،‬ألننــي‬ ‫ُ‬ ‫متعــادل ماديًّــا وروحيًّــا" (التعادليّــة‪-‬ص‪.)11‬‬
‫رجـ ٌـل متعــادل‪ ،‬ولك َّننــي مــن جهــة أخــرى أف ِّكــر بعقــي ال‬
‫لــي أدعــم إميــاين بـأ َّيَّن لســت وحــدي‪ ،‬بــل ألعــرض املســألة‬ ‫ُ‬
‫التعادل يف املسألة امليتافيزيقية واألخالق‬
‫أمــام تفكــري بعي ـ ًدا عــن اإلميــان" (التعادليــة‪-‬ص‪.)22‬‬ ‫ـاءل الحكي ـ ُم يف املســألة امليتافيزيق ّيــة (وضــع اإلنســان‬‫يتسـ ُ‬
‫أ َّمــا عــن مســألة الحريــة اإلنســانيّة فــرى الحكيــم أ َّن‬ ‫فيقســم املســألة إىل قســمني‪ :‬أولهــا يســأل‬
‫العــام يف الكــون)‪ّ ،‬‬
‫ي يف اإلنســان يشــهد بحريتــه‪ ،‬دون الحيــوان‪،‬‬ ‫الجانــب العقـ ّ‬ ‫عــن اإلنســان إذا كان وحيـ ًدا يف هــذا الكــون؟‪ .‬وثانيهــا يســأل‬
‫والعقــل هنــا مــا هــو إال مشــاهدات واســتدالل مــن‬ ‫عــن حريــة اإلنســان يف هــذا الكــون‪ ،‬هــل هــو حـ ٌّر أم تح ّده‬
‫املشــاهدات‪ ،‬أ َّمــا املشــاهدات فتقــ ّدم املعطيــات التــي‬ ‫ـر الحكيــم املســألة مــن وجهــة نظــره‬ ‫قيــود؟‪ .‬وقبــل أن يفـ ّ‬
‫ـص عــى أ َّن الحيــوان تسـ ّـره غرائــزه‪ ،‬وهــي ق ـ ّو ٌة تحكــم‬ ‫تنـ ّ‬ ‫التعادليّــة‪ ،‬يعــرض وجهــة النظــر الســائدة باحثًــا يف علّتهــا‪،‬‬
‫ترصفاتــه‪ ،‬فــا يحتــاج الحيــوان إىل تعليــم أو تدريــب‪ ،‬يف‬ ‫ثــم يحــاول أن يبـ ّـن ســامة رأيــه باســتبدال حالــة الفــوىض‬
‫حــن أن اإلنســان يولــد عاجــ ًزا عــن املــي والــكالم‪ ،‬وال‬ ‫تعليــا ل(تأليــه اإلنســان)‬
‫ً‬ ‫بالتعــادل‪ ...‬ثــم يقــ ّدم الحكيــم‬
‫مثــا‪ ،‬لذلــك‬ ‫يختــزن حضارتــه يف جوفــه كالنمــل والنحــل ً‬ ‫ـادل الــذي كان قامئًــا حتــى مطلــع القــرن‬ ‫فيقــول‪" :‬إ َّن التعـ َ‬
‫يكتســب ويتعلــم‪ ،‬ويصنــع حضارتــه بنفســه وبإرادتــه‪ ،‬هــذه‬ ‫التاســع عــر بــن قـ ّوة العقــل وقـ ّوة القلــب‪ ،‬أي بــن نشــاط‬
‫هــي املشــاهدات‪ ،‬ونســتدل منهــا أ َّن الحيــوان مجــ ٌر يف‬ ‫اختــل منــذ ذلــك الوقــت‬ ‫َّ‬ ‫التفكــر ونشــاط اإلميــان‪ ،‬قــد‬
‫ســلوكه‪ ،‬ال اختيــار لــه يف ترصفاتــه‪ ،‬أ َّمــا اإلنســا ُن فهــو ح ـ ٌر‬ ‫ي‪ ،‬واســتمرار جمــود الجانــب‬ ‫بتــوايل انتصــارات العلــم العقـ ّ‬
‫رف مبحــض إرادتــه واختيــاره‪ ،‬ويــرى الحكيــم بــأ َّن هــذه‬ ‫يتـ ّ‬ ‫الدينــي" (ص‪ )17‬ويضيــف الحكيــم أ َّن القلــق مــا هــو إال‬ ‫ّ‬
‫الحريــة التــي ميتلكهــا اإلنســان ليســت مطلق ـةً‪ ،‬بــل هــي‬ ‫نتيجــة الختــال التــوازن بــن العقــل (التفكــر) والقلــب‬
‫مقيــد ٌة بقــوى خارجيــة "اإلنســا ُن عنــدي حــ ٌّر يف ات ّجاهــه‬ ‫تجســدت يف‬ ‫(اإلميــان)‪ .‬وأ َّن فكــرة االختــال هــذه قــد ّ‬
‫حتــى تتدخــل يف أمــره قــوى خارج ّيــة أسـ ّميها أحيانًــا القــوى‬ ‫مرسحيــة "أهــل الكهــف" (‪ ،)1933‬عندمــا وضعــت عالقــة‬
‫اإلله ّيــة‪ ،‬حريّـ ُة اإلرادة يف اإلنســان عنــدي مق ّيــدة‪ ،‬شــأنها يف‬ ‫العقــل والقلــب يف إطــار مشــكلة الزمــن‪ ،‬كــا كان ملرسحيــة‬
‫ذلــك شــأن حريــة الحركــة يف املــادة" (ص‪ .)31‬وهــذه هــي‬ ‫"شــهرزاد" (‪ )1934‬املوضــوع نفســه‪ ،‬لكــن يف إطــار مشــكلة‬
‫ي‪ ،‬وينظــر‬ ‫النتيجــ ُة الحاصلــة باســتعامل االســتدالل العقــ ّ‬ ‫املــكان‪ ..‬وينتهــي الحكي ـ ُم إىل التفســر التعــاد ّيل للمســألتني‬
‫الحكيــم إىل املســألة بعــن القلــب‪ ،‬فيجــد النتيجــة نفســها‪،‬‬ ‫الســابقتني‪ ،‬وهــو أ َّن اإلنســان ليــس إل ًهــا يعيــش وحي ـ ًدا يف‬
‫وهــي أ َّن اإلنســا َن حــ ُّر اإلرادة‪ ،‬حريــة قــد تتدخــل فيهــا‬ ‫هــذا الكــون‪ ،‬وبيــده الســيطرة املطلقــة‪ ،‬بــل هنــاك يف الكون‬
‫فالعقــل واإلميــا ُن يؤديــان إىل‬ ‫ُ‬ ‫القــوى الكونيّــة املجهولــة‪.‬‬ ‫قــوى غــر ماديّــة تصــارع قــوى روحيــة يتــم إدراكهــا بنــور‬
‫النتيجــة نفســها‪ ،‬وبنــا ًء عــى هــذه الفكــرة يبنــي الحكيــم‬ ‫اإلميــان أي مركــز إدراكهــا القلــب‪ ،‬أ َّمــا فكــرة الرجــل فــوق‬
‫ـول‪" :‬إراد ُة‬ ‫مرسحياتــه‪ ،‬ويل ّخــص النتيجــة بعــن التعــادل فيقـ ُ‬ ‫اإلنســان أو األرقــى‪ ،‬التــي تتطلــب الكفــاح فمركــز إدراكهــا‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪47‬‬

‫اإلنســان يف كفّتهــا تعادلهــا اإلرادة اإللهيــة يف ك ّفــة أخــرى‪،‬‬


‫والعقــل البــري يف ك ّفــة يعادلــه اإلميــان يف الك ّفــة األخــرى"‬
‫(التعادليّــة‪-‬ص‪ .)32‬وهــذا القانــو ُن التعــاد ُّيل بــن القــوى‬
‫يعيــش اإلنســان‪ ،‬ويســوق الحكيــم أمثلــ ًة ليدعــم هــذا‬
‫القانــون مــن (أهــل الكهــف‪ ،)1933‬و (شــهرزاد‪ )1934‬و‬
‫(ســليامن الحكيــم‪ )1943‬وغريهــا‪.‬‬
‫هــذا عــن موقــف الحكيــم (التفســر التعــاد ّيل) مــن املســألة‬
‫امليتافيزيقيّــة‪ ،‬ونظرتــه لوضــع اإلنســان يف الكــون‪ ،‬أو حريتــه‬
‫إزاء هــذا الكــون‪ ،‬ومســألة حريــة اإلنســان ترتتــب عنهــا‬
‫املســألة األخالق ّيــة‪ ،‬فــا هــو إذن موقــف الحكيــم مــن‬
‫ٌ‬
‫مســؤول‬ ‫املســألة األخالقيــة؟‪ .‬يــرى الحكيــم أ َّن اإلنســان‬
‫عــن عملــه ألنَّــه ح ـ ٌّر فيــه ومل يخلــق بــه‪ ،‬حريــة محــدودة‪،‬‬
‫ومفهــوم املســؤولية يســتدعي مفهومــي الخــر والــر‪ ،‬هذان‬
‫املفهومــان ال وجــود لهــا إال يف املجتمــع‪-‬يف رأي الحكيــم‪،-‬‬
‫ادي الــذي يــؤدي إىل نفــع الغــر‪،‬‬ ‫فالخ ـ ُر وهــو الفعــل اإلر ّ‬
‫ادي الــذي يــؤدي إىل رضر الغــر‪ ،‬ال‬ ‫والــر هــو الفعــل اإلر ّ‬
‫يوجــدان إال بوجــود الغــر‪ ،‬وعــى أســاس هــذا التعريــف‬
‫يص ّنــف زيك نجيــب محمــود‪ ،‬توفيــق الحكيــم يف إحــدى‬
‫املــدارس األخالقيّــة "أي أ َّن أديبنــا الحكيــم ينتمي إىل مدرســة‬
‫املنفعــة‪ ،‬التــي تقيــس الفعــل بنتائجــه ال بــيء يف طبيعــة‬
‫الفعــل نفســه"‪ .‬ويــرى الحكيــم أ َّن الحيــاة الخلق ّيــة الســليمة‬
‫تكمــن يف رضورة التعــادل بــن قــوى الخــر وقــوى الــر‪،‬‬
‫ويدعــم رأيــه هــذا بتفســره لفكــرة العقــاب‪ ،‬حيــث يقــول‬
‫بــأ َّن فعــل الــر ينبغــي أن يقابلــه فعــل الخــر‪ ،‬وليــس‬
‫الســجن‪ ،‬أل َّن التعــادل ال يكــون بــن الــر والحريّــة‪ ،‬وإمَّنَّ ــا‬
‫ر النــاس يحتــاج إىل أن ينفع‬ ‫بــن الــر والخــر‪ ..‬إ َّن الــذي يـ ُّ‬
‫النــاس‪ ،‬ليتعــادل نفعــه ورضه للنــاس‪ ،‬لــريض الضمــر الــذي‬
‫يح ـ ّدده الحكيــم بقولــه‪" :‬الضم ـ ُر هــو شــعو ُر الــذات بــر‬
‫لحــق الغــر مل يقــدم عنــه حســاب" (ص‪ .)51‬ثــم يتطــرق‬
48
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪49‬‬

‫والفنــي ومضمــون الرســالة‬


‫ّ‬ ‫بــن خصائــص الشــكل األد ّيب‬ ‫إىل مســألة العــدل وهــو يف نظــره ذلــك التعــادل بــن الخــر‬
‫املــراد نرشهــا والتعبــر عنهــا‪ ،‬ويــرى الحكيــم يف قضيــة‬ ‫ُ‬
‫فالعــدل هــو املظهــر األخالقــي‬ ‫والــر أو النفــع والــرر‪،‬‬
‫التـزام األديــب‪ ،‬أ َّن األديــب يتو ّجــب عليــه أن يلتــز َم رشيطــة‬ ‫للتعــادل‪ ،‬والضمــر هــو الشــعور بالعــدل‪ ،‬ثــم يع ّمــم مفهــوم‬
‫أن يكــون مصــدر التزامــه ذاتــه‪ ،‬أن يواكــب التزامــه هــذا‬ ‫العــدل‪ ،‬فكــا أ َّن للفــرد الواحــد ضم ـ ًرا‪ ،‬كذلــك للمجتمــع‬
‫ذاتــه بتط ّوراتهــا‪.‬‬ ‫ضمــر‪ ،‬يعمــل إذا مــا ألحــق الــرر مبجتمــع آخــر‪ ،‬بــدون‬
‫حســاب‪ ،‬أو إذا ظُلــم فيــه أفـراد عــى حســاب أفـراد آخرين‪،‬‬
‫خامتة‬ ‫حرصــا عــى‬
‫أي‪ ،‬عــى الضمــر الجامعــي أن يكــون متوازنًــا ً‬
‫تتمحــور فكــر ُة التعادليّــة يف الحيــاة اإليجابيّــة التــي‬ ‫ســامة املجتمــع واجتنابًــا للثــورات االجتامعيــة‪.‬‬
‫تبــدأ مــع االثنــن‪ ،‬فــإذا مــا ت ّوفــر شــيئان ُوجــدت الحيــاة‬
‫والحركــة‪ ،‬فاللــه وحــده هــو الكامــل األوحــد‪ ،‬ومــع ذلــك‬ ‫التعادل يف ميدان األدب والفن‬
‫خلــق الشــيطان لتكــون الحيــاة عــى بعــض التل ـ ّون‪ ،‬وكان‬ ‫ميــي الحكيــم بتعادليّتــه‪ ،‬يشـ ُّـق طريقــه إىل مجــال األدب‬
‫ســيدنا آدم عليــه الســام وحيــ ًدا‪ ،‬ولكــن مــع حــواء بــدأ‬ ‫ـي تتوقــف‬ ‫والفــن‪ ،‬لــرى أ َّن عمليــة تقييــم األثــر األد ّيب والفنـ ّ‬
‫ـمس إىل كواكــب‬ ‫الوجــود حركتــه اإليجاب ّيــة‪ ،‬وانقســمت الشـ ُ‬ ‫عــى شــكل العالقــة القامئــة بــن قوتــن أساســيتني هــا‬
‫نتــج عنهــا نظــام الــدوران‪ ،‬فالحركـ ُة تتوقــف مــن دون تلــك‬ ‫ـرة مــن جهــة أخــرى‪،‬‬ ‫القــوة املعـ ّـرة مــن جهــة والقــوة املفـ ّ‬
‫ر يحتفــظ بق ّوتــه‬ ‫كل عنــ ٍ‬ ‫املقابلــة عــى الرغــم مــن أ َّن َّ‬ ‫وأ َّن التعــادل بــن القوتــن يحفــظ لألثــر األد ّيب قيمتــه الفنيّــة‬
‫الخاصــة‪ ،‬ويذكــر الحكيــم يف كتابــه التعادليّــة عــد ًدا كب ـ ًرا‬ ‫ـي ال يكتمــل خلقه وال‬ ‫وقيمتــه املفيــدة "فاألثـ ُر األد ُّيب أو الفنـ ُّ‬
‫مــن املفاهيــم التــي تتقابــل يف تعــادل بعضهــا بالبعــض‬ ‫ينهــض مبهمتــه إال إذا ت ـ َّم فيــه التــواز ُن بــن القــوة املعـ ّـرة‬
‫اآلخــر‪ ،‬قصــد تنزيــل اإلنســان منزلتــه مــن الكــون‪ :‬األرض‬ ‫املفــرة" (ص‪ .)70‬والتعبــ ُر عنــده ليــس مجــرد‬ ‫ّ‬ ‫والقــوة‬
‫والســاء‪ ،‬الشــهيق والزفــر‪ ،‬الفكــر والشــعور (شــهرزاد)‪،‬‬ ‫شــكل‪ ،‬بــل هــو الشــكل واملوضــوع الــذي ســيق فيــه‪ ،‬أو‬
‫العقــل والقلــب (أهــل الكهــف)‪ ،‬القــوة والحكمــة (ســليامن‬ ‫هــو األســلوب مملــوء باملعنــى الناجــم عنــه‪ ..‬وبهــذا املظهــر‬
‫الحكيــم)‪ ..‬وهــو يستشــهد يف كل الحــاالت بالعــامل الغــر ّيب‪،‬‬ ‫الثنــايئ الــذي يتجـ ّـى بــه التعبــر‪ ،‬نســتطيع أن نحـ ّدد جــودة‬
‫ومبحــاوالت تربيــر وجــود اإلنســان والكــون بذاتــه‪ ،‬ولــن‬ ‫الحاصــل بــن طــريف الثنائ ّيــة‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫التعــادل‬ ‫التعبــر عــى أنَّهــا‬
‫اجتهــد يف تقديــم نظريــة التعادليّــة فــإ َّن علينــا اإلشــارة إىل‬ ‫(األســلوب‪ ،‬املوضــوع)‪ .‬فــإذا كان التعب ُري‪-‬يقــول الحكيــم‪ -‬هو‬
‫أ َّن الكلمــة األخــرة للقلــب ولإلميــان‪ ،‬أي اللــه‪.‬‬ ‫كل يشء يف نظــر الفــن للفــن‪ ،‬فهــو يف نظــر التعادليــة ليــس‬ ‫ُّ‬
‫والجديــر بالذكــر أ َّن كتــاب التعادل ّيــة قــد أضــاف ألدب‬ ‫كذلــك‪ ،‬فــا ب ـ َّد أن يقــرن بقــوة التفســر‪ ،‬باعتبــاره الضــوء‬
‫الحكيــم وف ّنــه قيمـ ًة نقديّـةً‪ ،‬وقـ ّـل مــا تجتمــع القيمتــان يف‬ ‫الــذي سـ ُيلقى عــى موضــوع اإلنســان يف الكــون واملجتمــع‪،‬‬
‫شــخص واحــد‪ ،‬وقــد أثّــرت فكــرة التعادليّــة الســاحة األدبيّــة‬ ‫ـوب‬
‫ـي مــن غايــة وهــدف‪ ...‬فاملطلـ ُ‬ ‫أي مــا وراء العمــل الفنـ ّ‬
‫العربيّــة باعتبارهــا فلســف ًة جديــد ًة تدعــو إىل وحــدة إنتــاج‬ ‫مــن األديــب أو الفنــان مــن وجهــة نظــر التعادليّــة هــو أن‬
‫األديــب أو الفنــان‪ ،‬كــا أنَّهــا تخلــق للنســق الفلســفي ح ّيـ ًزا‬ ‫يُحــدث املتعــة واملنفعــة يف آن واحــد‪ ،‬أن يُلبــس رســالته‬
‫ـي‪.‬‬
‫يف امليــدان األد ّيب والفنـ ّ‬ ‫ثوبًــا جميـ ًـا‪ ،‬فقــوام التعادل ّيــة يف األدب والفــن هــو التعـ ُ‬
‫ـادل‬
‫‪50‬‬

‫طبيع ُة العامل‬
‫يف فلسفة ابن رشد‬
‫عبد اللطيف بطاح*‬

‫تقديم‬
‫األ ّول جــراء رشوحــات وتفســرات ســابقي الشــارح األكــر‬ ‫ملَّــا شـكّلت شــخصي ُة ابــن رشــد ‪ ،Averroès‬مرجعيّـ ًة رئيسـ ًة‬
‫مــن فالســفة اإلســام‪.‬‬ ‫يف الفلســفة الوســطيّة‪ ،‬لدرجــة أن امتــد أثرهــا وتأثريهــا إىل‬
‫رمبــا هــذا هــو مــا دفــع قــراء نصــوص ابــن رشــد‪ ،‬إىل‬ ‫أبعــد مــن ذلــك‪ ،‬احتـ َّـل الفيلســوف مكان ـ ًة كبــر ًة يف تاريــخ‬
‫التأكيــد عــى تفســرات شــديدة االختــاف فيــا بينهــا‪،‬‬ ‫ـفي‪ ،‬جعلــت فلســفته يف أوروبــا تُــر ِّد ُد اســمه‬‫الفكــر الفلسـ ّ‬
‫كونــه ّأســس مــن خاللهــا الــرح لفلســفة مفتوحــة‪ ،‬تقــف‬ ‫بــا انقطــاع عنــد الكثــر مــن املفكّريــن الذيــن تأثــروا بأبعاد‬
‫ــل عــى‬ ‫خــارج الســياجات الدوغامئيّــة املغلقــة‪ ،‬ومــا يد�ل ِّ ُ‬ ‫منهجــه وفلســفته‪ ،‬ســواء بالهجــوم‪ ،‬أم االســتفادة مــن منهجه‬
‫ذلــك هــو دفاعــه عــن الفلســفة وحديثــه عــن التأويــل‬ ‫ـدي‪ ،‬لذلــك ارتأينــا يف هــذه الصفحــات الحديــث عــن‬ ‫النقـ ّ‬
‫ـدي‪،‬‬
‫حســه النقـ ّ‬ ‫‪ ،Interprétation‬الــذي وصــل إليــه بفضــل ّ‬ ‫طبيعــة العــامل يف فلســفته‪ ،‬متّبعــن داخلهــا منه ًجــا مختل ًفــا‬
‫ي يقــوم عــى أســاس العقــل‪.‬‬ ‫وتأسيســه ملنهــ ٍج تحليــ ٍّ‬ ‫عــن مناهــج البحــث الشــائعة‪ ،‬والتــي كثــ ًرا مــا أظهــرت‬
‫عالجــت الفلســفة الرشــديّة‪ ،‬بفضــل رؤيتهــا النقديّــة‬ ‫فلســفة الفيلســوف‪ ،‬يف صــورة مختلفــة عــن حقيقــة فكــره‪،‬‬
‫ـرة‪ ،‬مثلهــا مثــل فلســفات زمانهــا‪ ،‬مشــكلة التوفيــق‬ ‫املتبـ ّ‬ ‫وتسـ ّببت يف الحكــم عليــه هــو وفلســفته بالكفــر والزندقــة‪،‬‬
‫بــن الديــن باعتبــاره وح ًيــا أنزلــه اللــه مــن الســاء‪،‬‬ ‫وحاســبته مبتطلبــات عــر آخــر غــر العــر الــذي نشــأ‬
‫والفلســفة التــي توصــل إليهــا اإلنســان مــن خــال تجاربــه‬ ‫فيــه هــو وفكــره‪.‬‬
‫عــى األرض‪ ،‬كونهــا القضيــة التــي شــكّلت محــور الفكــر‬
‫اإلســامي كلــه‪ ،‬إضافــ ًة إىل اهتاممــه بقضايــا‬ ‫ّ‬ ‫الفلســفي‬
‫ّ‬ ‫جديــر بالذكــر‪ ،‬يف هــذا التقديــم‪ ،‬أ َّن الــدور الخالــد الــذي‬
‫شــغلت فلســفات العــامل القديــم‪ ،‬مــن قبيــل‪ :‬الله‪/‬العــامل‪/‬‬ ‫لعبتــه نصــوص ابــن رشــد‪ ،‬يف إغنــاء الـراث اإلنســا ّين‪ ،‬ليــس‬
‫اإلنســان‪ ،‬إىل جانــب حديثــه عــن مســألة خلــود النفــس‪،‬‬ ‫يف املــرق فقــط‪ ،‬وإمَّنَّ ــا يف العــامل األورو ّيب أيضً ــا‪ ،‬حتــى‬
‫وتناولــه لقضايــا أخــرى مه ّمــة ومتنوعــة‪ ،‬بعضهــا يتصــل‬ ‫أصبحــت الرشــديّة الالتينيّــة مــن املوضوعــات الفلســفيّة‬
‫بالعقيــدة‪ ،‬وبعضهــا باألخــاق‪ ،‬وبعضهــا بالسياســة‪ ،‬وبعضهــا‬ ‫التــي مــا زالــت يف حاجــة إىل زيــادة إيضــاح‪ ،‬وذلــك راجع إىل‬
‫بالتجربــة الدين ّيــة ذاتهــا‪.‬‬ ‫دقــة لغتهــا‪ ،‬وعظمــة فكرهــا‪ ،‬وفصاحــة أســلوبها‪ ،‬وعقالنيتهــا‬
‫لعــل أهــ َّم القضايــا التــي عالجهــا ابــن رشــد‪ ،‬مرتبطــة‬ ‫َّ‬ ‫الناقــدة املتحــررة‪ ،‬بحيــث حاولــت تقديــم الفكــر الفلســفي‬
‫بإشــكالية طبيعــة العــامل‪ ،‬مــن حيــث إنَّهــا إشــكالية جعلــت‬ ‫ـطي للحضــارات الالحقــة‪ ،‬بكيفيّـ ٍة تخلــو مــن الغمــوض‬ ‫األرسـ ّ‬
‫الشــيخ األكــر بــن عــريب ‪ ،Ebn al‘Arabi‬يشــهد لحنكــة ابــن‬ ‫واألخطــاء والشــوائب التــي تع ّرضــت لهــا فلســفة املعلّــم‬

‫* باحث مغريب‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪51‬‬
‫‪52‬‬

‫الفالســف ُة األوائــل‪ ،‬مراعــن يف ذلــك تأويــات املتكلّمــن التــي‬ ‫رشــد‪ ،‬يف إحــدى أشــعاره الصوفيــة مبــا يــي‪:‬‬
‫كانــت مبثابــة عقيــد ًة رســم ّي ًة للدولــة‪.‬‬ ‫"هذا اإلما ُم وهذه أعاملُه يا‬
‫هكــذا وجــد ابــن رشــد نفســه بــن أرســطو واملتكلّمــن‪ ،‬بــن‬ ‫(‪)1‬‬
‫ليت شعري هل آتت آماله؟"‬
‫الربهــان واملرصحــن بالربهــان لغــر أهلــه أصحــاب الجــدل‪،‬‬ ‫ونخصــص للحديــث عــن قضيــة طبيعــة العــامل يف فلســفة‬ ‫ِّ‬
‫ُمفضِّ ـ ًـا يف ذلــك األول عــى الفئــة الثانيــة‪ ،‬تفضيلــه للربهــان‬ ‫ابــن رشــد‪ ،‬الصفحـ ِ‬
‫ـات الالحق ـ َة عــى هــذا التقديــم علّهــا‬
‫عــى الجــدل‪ ،‬مؤم ًنــا بتفــاوت مراتــب النــاس يف التصديــق‪،‬‬ ‫متيــط الحجــب عــن القــارئ‪ ،‬وتكشــف اللثــام لــه‪ ،‬آخذيــن‬
‫محــاو ًاًل اســتعاد َة أرســطو اســتعاد ًة علميّــة(‪.)2‬‬ ‫بعــن االعتبــار أ َّن االقـراب ولــو نســبيًّا مــن موضــوع املقــال‬
‫لــن يتــأىت إال مبعرفــة موقــف ابــن رشــد مــن الســابقني عليــه‬
‫فهــو "مل يســتخدم الفلســف َة واملنطـ َـق يف مجــرد الدفــاع عــن‬ ‫مــن الفالســفة‪ ،‬واملعارصيــن لــه مــن املتكلّمــة‪ ،‬لذلــك جعلنــا‬
‫الديــن كــا فعــل املتكلمــون [ ‪ ] ...‬ولهــذا مل يكــن غري ًبــا‬ ‫املقــال يشــمل الحديــث عــن النقــاط التاليــة‪:‬‬
‫أن ينظــر الفالســفة باحتقــار إىل علــم الــكالم‪ ،‬ويــرون أن‬
‫الفلســفي"(‪ ،)3‬وهــي‬
‫ّ‬ ‫منهجهــم ليــس لــه قواعــد باملعنــى‬ ‫‪ .1‬ابن رشد بني ضفتني؛ أرسطو واملتكلمة‬
‫مؤس ًســا لهــا‪ ،‬فــال‬
‫القواع ـ ُد التــي رأى ابــن رشــد أرســطو ّ‬ ‫الظاهــر أ َّن ابــن رشــد‪ ،‬يف كتابــه "تهافــت التهافــت"‪ ،‬يؤكّ ـ ُد‬
‫إليــه وابتعــد عــن موضوعــات الــكالم‪ ،‬ومل يناقشــها إال‬ ‫بقولــه "حســن ظنــي بأرســطو واعتقــادي أ َّن نظــره فــوق‬
‫لذيوعهــا بــن النــاس بســبب إفشــاء التأويــل كــا يــرح‬ ‫نظــر جميــع النــاس"‪ ،‬أهميّ ـ َة فلســفة املعلــم األول‪ ،‬متّجهــا‬
‫بذلــك يف فصــل املقــال‪.‬‬ ‫بحســه النقــدي نحوهــا‪ ،‬مخل ًِّصــا برشوحاتــه الفلســفيّة إيّاها‬
‫ّ‬
‫بنــا ًء عــى مــا ســبق‪ ،‬يظهــر أ َّن العامــل الجغ ـرا ّيف املتمثــل‬ ‫مــن الشــوائب التــي ألصقهــا بــه املتكلّمــون‪.‬‬
‫يف عيــش ابــن رشــد داخــل الغــرب اإلســامي‪ ،‬لعــب دو ًرا‬ ‫إ َّن مــا يـ ِّرر انشــدا َد ابــن رشــد‪ ،‬لفلســفة أرســطو ‪،Aristote‬‬
‫محوريًّــا يف بقــاء الفلســفة يف منــأى عــن مشــكالت التوفيــق‬ ‫هــو أنَّهــا اســتجمعت خالصــ َة الفكــر اليونــا ّين بر ّمتــه‬
‫والرصاعــات السياســيّة التــي ســادت يف املــرق‪ ،‬حيــث‬ ‫فحصــا نقديًّــا‪ ،‬مصنف ـ ًة بذلــك الفنــون إىل نظريّــة‬
‫وفحصتــه ً‬
‫اســتعاماًل‬
‫ً‬ ‫األرســطي‬
‫َّ‬ ‫اســتعمل املنخرطــون فيهــا املــ َن‬ ‫وعمل ّيــة حســب طبيعتهــا‪ ،‬لتنتهــي إىل إثبــات وجــود محــرك‬
‫مغرضً ــا‪ .‬مــن تــم تحقّقــت العــودة إىل أرســطو عــى يــد‬ ‫غــر متحــرك‪ ،‬جوهــر أســمى ال يطالــه التغــر‪.‬‬
‫ـي‬ ‫ابــن رشــد بطريقــة علميّــة‪ ،‬فقــد نظــر إليــه كسـ ٍ‬
‫ـند علمـ ٍّ‬
‫ومنطقــي منظــم قــادر عــى تجــاوز حالــة الفرقــة التــي‬ ‫ٍّ‬ ‫يعلــم ابــن رشــد‪ ،‬أ َّن األرســطيّة علقــت بهــا شــوائب‬
‫خلقهــا املتكلّمــون بتكفريهــم بعضهــم البعــض‪ ،‬ومــا ولّــده‬ ‫أفالطون ّيــة بعــد انتقــال الفكــر اليونــا ّين إىل اإلســكندرية‪،‬‬
‫ذلــك مــن انعكاســات عــى املســلمني عامــة(‪.)4‬‬ ‫ومنهــا إىل بغــداد وســائر بــاد املســلمني‪ ،‬بحيــث اس ـتُعمل‬
‫اســتعاماًل‬
‫ً‬ ‫األرســطي يف هــذه املرحلــة‬
‫ّ‬ ‫الفكــ ُر واملنطــق‬
‫مغرضً ــا يف كثــر مــن األحيــان‪ ،‬ومــا زاد الطــن بلــة يف‬
‫نظــر ابــن رشــد‪ ،‬تلــك املحــاوالت التوفيق ّيــة التــي قــام بهــا‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪53‬‬

‫نجــد قــول البــن ســينا يف كتــب مــن كتــب ابــن رشــد يخلــو‬ ‫‪ .2‬موقف ابن رشد من تص ّور السابقني ومعالجتهم‬
‫مــن تعليــق عليــه‪ ،‬مبــا يفيــد تقويــم اعوجاجــه والتنبيــه‬ ‫لطبيعة العامل‬
‫عليــه‪ ،‬ومــن ضمــن ذلــك ميــل ابــن ســينا إىل القــول بقــدم‬
‫مل ينحــز ابــن رشــد لفالســفة اإلســام الســابقني عليــه‬
‫العــامل مخالفًــا بذلــك الفقهــاء واملتكلّمــن الذيــن دافعــوا‬
‫ضــ ًدا عــى املتكلمــن‪ ،‬وال لهــؤالء ضــ ًدا عــى الفالســفة‪،‬‬
‫عــن كونــه حادثًــا‪ ،‬ولعـ َّـل أبــر َز هــؤالء حجــة اإلســام(‪.)5‬‬
‫وإمَّنَّ ــا حــاول ومبوضوعيّــ ٍة معالجــ َة قضيّــة طبيعــة العــامل‬
‫التــي كانــت مــدار رصاع بينهــا‪ ،‬إىل جانــب قضايــا أخــرى‬
‫ر ّده عىل الغزايل‬ ‫دفعــت الغـزايل ‪ Ghazali Al‬للــرد عليــه يف مؤلــف "تهافــت‬
‫ولعــل ذلــك‬
‫َّ‬ ‫جــل كتاباتــه‬
‫يحــاور ابــن رشــد الغــزايل يف ِّ‬
‫الفالســفة"‪ ،‬فكيــف ر َّد ابــن رشــد عــى الفالســفة ومــا موقفــه‬
‫واضــح مــن خــال عناويــن بعضهــا‪ ،‬كـــ "تهافــت التهافــت"‪،‬‬
‫مــن أيب حامــد الغــزايل؟‬
‫أو "بدايــة املجتهــد ونهايــة املقتصــد" و"فصــل املقــال"‬
‫وغريهــا مــن الكتابــات‪ ،‬وقــد اعتُــر هــذا الحــوار أبــرز مــا‬
‫خلّفتــه الحضــارة اإلســامية‪ ،‬وال زالــت تأثرياتُــه بليغـ َة األثــر‬
‫ر ّده عىل ابن سينا‬
‫يف إطــار ســعيه لتخليــص فلســفة أرســطو من الشــوائب التي‬
‫يف كتابــات دعــاة الحداثــة مــن املفكّريــن العــرب املســلمني‪،‬‬
‫أُلصقــت بهــا‪ ،‬باعتبــاره معلـ ًـا أ ّو ًاًل كــا ســبقت اإلشــارة إىل‬
‫أمثــال الجابــري وطــه عبــد الرحمــن‪.‬‬
‫ذلــك‪ ،‬قــام ابــن رشــد‪ ،‬بالــر ِّد عــى الفلســفة الســين ّية‪ ،‬وتجــدر‬
‫اإلشــارة‪ ،‬إىل أنَّــه يف إطــار ر ّده عــى ابــن ســينا ‪،Avicenne‬‬
‫املالحــظ أ َّن الغـزايل ك ّفــر الفالســفة يف قضايــا عــدة‪ ،‬جعلهــا‬
‫كان يــر ُّد أيضً ــا عــى الغـزايل وعــى نقده للفالســفة‪ ،‬فــإذا كان‬
‫لعــل أبرزهــا قضيــة‬‫موضــوع مؤلفــه "تهافــت الفالســفة" َّ‬
‫قــدم العــامل‪ ،‬وقولهــم بقــدم الجواهــر‪ ،‬إاَّلَّ إ َّن ابــن رشــد رام‬
‫ـطي‪ ،‬فــإ َّن الثــاين تعامــل مــع‬ ‫األ ّو ُل قــد حـ ّرف املقصــد األرسـ ّ‬
‫املقصــد املحـ َّرف واعتبــاره أمنوذ ًجــا يفــي نقضــه إىل نقــض‬
‫يف "تهافــت التهافــت" إثبــات املعنــى الــذي فهمــه الغ ـزايل‬
‫الفلســفة مــن أساســها‪ ،‬وهــو مــا مل يستســغه ابــن رشــد‪،‬‬
‫مــن قــول الفالســفة ليــس هــو نفســه املبتغــى مــن طرفهــم‪،‬‬
‫معتـ ًرا إيَّــاه تقصـ ًرا مضاع ًفــا مــن الثــاين يف حــق الفلســفة‪،‬‬
‫مــن ثـ َّم نظــر الثــاين إىل األ ّول عــى أ َّن موقفــه ال يخلــو مــن‬
‫فابــن ســينا مل ينقــل فلســفة أرســطو كــا هــي‪ ،‬وإمَّنَّ ــا أضــاف‬
‫أمريــن‪ ،‬فإ َّمــا أن يكــون قــد فهــم قصدهــم وح ّرفــه وهــذا‬
‫فعـ ٌـل رشيــر‪ ،‬أو أنَّــه مل يتمكــن مــن فهمــه‪ ،‬وذلــك يكشــف‬
‫ـيايس اســتفحل فيــه‬ ‫لهــا مــن عنــده مــا يتــاءم مــع ســياقٍ سـ ٍّ‬
‫حضــو ُر علــم الــكالم‪ ،‬وهــو مــا أوقــع بهــا الخلــل‪.‬‬
‫عــن كونــه أقـ َّـل درجــة علميّــة منهــم؛ أي أنَّــه ليــس مــن‬
‫يــروم ابــن رشــد‪ ،‬يف ذات الســياق‪ ،‬التمييــز بــن فلســفة‬
‫أهــل الربهــان‪ ،‬وإمَّنَّ ــا مــن أهــل الجــدل‪ .‬والداعــي إىل املوقف‬
‫أرســطو الخالصــة النقيّــة وفلســفة ابــن ســينا األرســطيّة‬
‫ـدي هــو أنَّــه يعلــن يف تهافتــه أ َّن الغــرض الــذي يرومــه‬
‫الرشـ ّ‬
‫املنحرفــة‪ ،‬مؤكّـ ًدا أ َّن الغـزايل وقــع ضحيـ ًة لعــدم أخــذه مــن‬
‫هــو التشــويش‪ ،‬وهــذا ليــس غرضً ــا علميًّــا نبيـ ًـا‪ ،‬إذ تقتــي‬
‫الصــدر األ ّول‪ ،‬وهــو يف ذلــك يقــول ضمــن مؤلفــه "تهافــت‬
‫أخــاق الحكيــم العــامل أن يســعى إىل إمتــام‪ ،‬أو تصحيــح‪.‬‬ ‫ُ‬
‫التهافــت"‪ ،‬فالقصــور يف الحكمــة إمَّنَّ ــا نتــج عــن أ َّن الغ ـزايل‬
‫أضــف إىل ذلــك أنَّــه وقــف عنــد حــدود مــا أىت بــه الفــارايب‬
‫مل ينظــر إىل رأي أرســطو إال مــن خــال ابــن ســينا‪ .‬لذلــك ال‬
‫‪54‬‬

‫‪ .3‬أدل ُة ابن رشد يف أزل ّية العامل وقدمه‬ ‫‪ Farabi Al‬وابــن ســينا‪ ،‬ومل يســعى إىل أخــد الحكمــة عــن‬
‫اهتــم ابــن رشــد كباقــي فالســفة اإلســام مبشــكلة حــدوث‬ ‫املعلــم األ ّول مبــارشةً‪.‬‬
‫العــامل وقدمــه‪ ،‬وإذا كان يؤكّــد عــى القــدم فإنَّــه حــرص عىل‬ ‫رصح‬ ‫ومــن األخطــاء التــي وقــع فيهــا الغــزايل أيضً ــا أنَّــه ّ‬
‫نقــد الغ ـزا ّيل الــذي قــال بالحــدوث‪ ،‬وإذا اســتحرضنا تاريــخ‬ ‫بالربهــان لغــر أهلــه؛ أي إىل عامــة النــاس إن كان هــو‬
‫الفلســفة اإلســام ّية‪ ،‬لوجدنــا األخــرة تبــدأ مــع الكنــدي‬ ‫الخاصــة‪ ،‬فلــم يحــرم بذلــك تفــاوت مراتــب النــاس‬ ‫ّ‬ ‫مــن‬
‫‪ ،Kindi Al‬الــذي أكّــد مــا وصــل إليــه الغـزايل‪ ،‬عــى خــاف‬ ‫يف التصديــق‪ ،‬إذ منهــم مــن يصــدق باألقاويــل الخطاب ّيــة‪،‬‬
‫أولئــك الفالســفة الذيــن عاشــوا بعــده‪" ،‬فالفــارايب يقــول‬ ‫ومنهــم مــن يصــدق بالجدليّــة‪ ،‬ومنهــم مــن يصــدق‬
‫بقــدم العــامل‪ ،‬وابــن ســينا ارتــى لنفســه القــول بالقــدم‪،‬‬ ‫بالربهانيّــة‪ ،‬وهــؤالء هــم الفالســفة‪ ،‬وســاهم بذلــك يف إذكاء‬
‫وكذلــك فعــل ابــن طفيــل وابــن رشــد"(‪.)8‬‬ ‫الفتنــة وروح الفرقــة بــن متكلمــي اإلســام وبــن املســلمني‬
‫يســتند ابــ ُن رشــد وهــو يؤكّــد قــدم املــادة األوىل عــى‬ ‫ـكاًل خطـ ًرا عــى الــرع والحكمــة‬ ‫بصفــة عامــة‪ ،‬ليكــون مشـ ً‬
‫مجموعــة مــن األدلــة‪ ،‬عكــس الغـزايل الــذي أقـ َّر أ َّن "جامهري‬ ‫يف اآلن نفســه(‪.)6‬‬
‫الفالســفة قــد اتفقــوا عــى القــول بقــدم العــامل‪ ،‬فــإن مل يــزل‬ ‫أ َّمــا بخصــوص قضيــة قــدم العــامل فهــي أبــرز القضايــا التــي‬
‫موجــودا ً مــع اللــه تعــاىل ومعل ـو ًاًل لــه‪ ،‬ومســاوقًا لــه غــر‬ ‫و ّجــه فيهــا الغ ـزايل نق ـ ًدا للفالســفة إىل جانــب قضيــة يــوم‬
‫متأخــر عنــه بالزمــان مســاوق َة املعلــول للعلــة‪ ،‬ومســاوقة‬ ‫امليعــاد وعلــم اللــه بالجزئيــات‪ ،‬حيــث أكّــد فيــا يتعلــق‬
‫النــور للشــمس‪ ،‬وأن تقــدم البــاريء عليــه كتقــدم العلــة‬ ‫بــاألوىل أ َّن الفالســفة يقولــون بقــدم العــامل‪ ،‬ويف ذلــك خــروج‬
‫عــى املعلــول‪ ،‬وهــو تقــدم بالــذات والرتبــة ال بالزمــان‪.‬‬ ‫الــرأي فيهــا عــى كونــه‬ ‫ُّ‬ ‫عــن ملــ ِة اإلســام التــي اســتق ّر‬
‫بــل ذهــب إىل تكفريهــم بهــذا القــدم ســواء مــن ناحيــة‬ ‫حادثًــا مخلوقًــا‪.‬‬
‫األزل ّيــة أو األبديّــة‪ ،‬والقــول بــأ َّن الجواهــر كلهــا قدميــة"(‪.)9‬‬ ‫االختــاف بــن الغــزا ّيل والفالســفة‬ ‫ُ‬ ‫تب ًعــا ملــا ســبق‪ ،‬يغــدو‬
‫ـح أدلــة الغ ـزا ّيل يف تكفــر‬‫وهــي أدل ـ ٌة رام مــن خاللهــا تنقيـ َ‬ ‫التســمية‪ ،‬حيــث إ َّن فيــه‬ ‫‪-‬حســب ابــن رشــد‪ -‬اختالفًــا حــول ّ‬
‫الفالســفة‪ ،‬ليربؤهــم يف األدلــة األربعــة التاليــة‪:‬‬ ‫شــبه مــن القديــم وشــبه مــن املحــدث‪ ،‬أو هــو إن شــئنا قلنــا‬
‫وســط بــن الخالــق واملخلــوق املحــدث‪ ،‬ملَّــا ربطــه الفالســفة‬
‫الدليــل األول‪ :‬رام الفالســفة كــا حــى الغــزايل‪ ،‬التأكيــد‬ ‫بالخالــق قالــوا قديــم لقــدم الخالــق‪ ،‬والغــزايل والفقهــاء‬
‫عــى اســتحالة صــدور حــادث عــن قديــم مطلــق‪ ،‬فــإذا‬ ‫غلبــوا ربطــه باملخلــوق فقالــوا حــادث‪ ،‬والحقيقــة أنَّــه "ليس‬
‫افرتضنــا أ َّن القديــم مل يصــدر عنــه العــامل مثـ ًـا‪ ،‬نســتخلص‬ ‫محدثــا حقيقيًّــا وال قدميًــا حقيقيًّــا‪ ،‬فــإ َّن املحــدثَ الحقيقـ َّ‬
‫ـي‬
‫منــه عــدم وجــود مر ّجــح للوجــود‪ ،‬بــل إ َّن هــذا الوجــود كان‬ ‫ـي ليــس لــه علّــة"(‪ ،)7‬رغــم‬ ‫فاس ـ ٌد رضورةً‪ ،‬والقديــم الحقيقـ ّ‬
‫مجــرد إمــكان رصف‪.‬‬ ‫أن الفيلســوف ابــن رشــد أكّــد وبأدلـ ٍة عقل ّيـ ٍة أنّــه أز ٌّيل‪ ،‬لكــن‬
‫يؤكّ ـ ُد هــذا الدليـ ُـل أ َّن صــدور الحــادث عــن القديــم مــن‬ ‫ماهــي الحجــج التــي صاغهــا إلثبــات ذلــك؟‬
‫غــر تغـ ّـر يف القديــم وقدرتــه‪ ،‬مــن حيــث إ َّن هــذه املشــكلة‬
‫ترجــع يف نظــر أيب الوليــد‪ ،‬للتفرقــة بــن الجــدل والربهــان‪،‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪55‬‬

‫يقــرب مــن الفكــرة التــي تؤمــن أ َّن العلــة إذا وجــدت وجــد‬ ‫وتفضيــل الثــاين عــن األول‪ ،‬ليعمــل بواســطتها عــى تنقيــة‬
‫كل‬ ‫معلولهــا بالــرورة‪ ،‬كونــه عل ـ َة العلــل‪ ،‬وي ـ ُّ‬
‫ر عــى أ َّن َّ‬ ‫أدلــة الفالســفة مــن شــوائب الجــدل حتــى تصبــح أدلــ ًة‬
‫موجــو ٍد ال يرتاخــى فعلــه عــن وجــوده‪.‬‬ ‫فلســفيّةً‪ ،‬لفالســفة يســعون إىل اليقــن والربهــان‪.‬‬
‫هنــا تظهــر مظاهــر النزعــة العقالنيّــة يف الفلســفة الرشــديّة‪،‬‬
‫الدليــل الثالــث‪ :‬فيــه ينتــر ابــن رشــد للقــول املؤكّــد‬ ‫التــي تتمثّــل يف محاولــة دفاعــه عــن الفالســفة‪ ،‬والدفــع بهــم‬
‫عــى أزل ّيــة العــامل‪ ،‬أل َّن اإلمــكان يف األمــور األزل ّيــة يُعــ ُّد‬ ‫إىل اللجــوء إىل الربهــان واالبتعــاد عــن الطريــق الجــد ّيل‪،‬‬
‫يؤســس ملوقــف أقــرب إىل اليقــن مــن‬ ‫رضوريًّــا‪ .‬وهــو هنــا ّ‬ ‫الــذي جعــل محاولــة الغــزايل سفســطائيّة رصفــة‪ ،‬وهــو‬
‫موقــف املتكلمــن‪ ،‬بحجــة أ َّن القــول بوقــت كان فيــه العــامل‬ ‫بهــذا‪ ،‬يؤيــد مواقــف عقليّــة عظيمــة‪ ،‬تؤكّــد رضورة الوصــول‬
‫ـتحياًل ثــم صــار ممك ًنــا‪ ،‬أدى إىل رضورة التســليم بوجــود‬ ‫مسـ ً‬ ‫مــن الحركــة إىل املحــرك‪.‬‬
‫وقــت مل يكــن اللــه قــادر فيــه‪.‬‬ ‫الرشــدي األ ّول عــى‬
‫ّ‬ ‫مــا ســبق ذكــره‪ ،‬يتّضــح أ َّن الدليــل‬
‫ـرح الغـزايل‪ ،‬الــذي قبــل فيــه‬ ‫ـارح األكـ ُر طـ َ‬
‫وهنــا يرفــض الشـ ُ‬ ‫أساســا عــى دليــل الحركــة‪ ،‬وكذلــك‬ ‫قــدم العــامل يقــوم ً‬
‫وجــود إمكانــات ال متناهيّــة العــدد قبــل وجــود العــامل‪،‬‬ ‫الربــط بــن الســبب واملســبب‪ ،‬ومحاربــة االتفــاق والجــواز‬
‫منتقـ ًدا إيّــاه بقولــه إ َّن طبيعــة العــامل هــي طبيعــة الشــخص‬ ‫كل األشــياء إىل‬ ‫واإلمــكان(‪ ،)10‬تبنــى عليــه نظريتــه يف ر ِّد ِّ‬
‫الواحــد الــذي يكــون صــدوره عــن املبــدأ األول بالنحــو الــذي‬ ‫األســباب الرضوريــة املحــددة‪.‬‬
‫صــدر عنــه الشــخص‪ ،‬وذلــك بتوســط محــرك تكــون حركتــه‬
‫حركــة أزليّــة‪ ،‬تجعــل العــامل ممكــن إمكانًــا مل يــزل‪.‬‬ ‫الدليــل الثــاين‪ :‬ينتقــد فيــه الغــزا ّيل‪ ،‬ويــر ُّد عــى آرائــه‬
‫بخصــوص ات ّبــاع الزمــان للحركــة‪ ،‬معتقــ ًدا فيــه أ َّن أقــوال‬
‫الدليــل الرابــع‪ :‬يفتتــح ابــن رشــد حديثــه عــن هــذا الدليــل‬ ‫الغـزايل غــر برهان ّيــة‪ ،‬ال تســتطيع التفرقــة بــن اللــه والعــامل‬
‫بقولــه‪" :‬كل حــادث ال ب ـ َّد أن تســبقه املــادة التــي فيــه‪ ،‬إذ‬ ‫يختــص بتطبيــق فكــرة الزمــان‪ ،‬األمــر الــذي آثــار‬ ‫ُّ‬ ‫فيــا‬
‫ال يســتغنى الحــادث عــن مــادة‪ ،‬وهــذه املــادة ال تكــون‬ ‫حفيظــة أيب الوليــد لإلقــرار مبــا يــي‪:‬‬
‫الصــور واألع ـراض والكيفيــات‬ ‫حادثــة‪ ،‬وإمَّنَّ ــا الحــادث هــو ّ‬ ‫• اللــه مفــارق للزمــان ومتقــدم عــى العــامل والزمــان‪ ،‬أي أنَّــه‬
‫الطارئــة عــى املــواد"(‪ ،)12‬بشــكل جعلــه يختتــم معالجتــه‬ ‫كان منفــر ًدا وحــده بالوجود‪.‬‬
‫لقضيــة طبيعــة العــامل مبــا هــو آت‪:‬‬ ‫• العامل مالزم للزمان‪.‬‬
‫خاصيــة متنــح‬
‫خاصيّــة اإلمــكان‪ ،‬مبــا هــي ّ‬ ‫• املــادة تطبعهــا ّ‬ ‫• الوجود صنفان‪:‬‬
‫إمكانيــة التحـ ّول للــادة إىل أن تصــر صــورة لتوجــد بالفعل‪.‬‬ ‫‪ .1‬وجود يف طبيعة الحركة غري منفصل عن الزمان‪.‬‬
‫• املــادة يف صــرور ٍة وتحــ ّو ٍل مســتمر‪ ،‬مــن صــورة ألخــرى‬ ‫‪ .2‬وجود ليس يف طبيعة الحركة‪ ،‬وأز ٌّيل ال يخضع للزمان‪.‬‬
‫أفضــل منهــا‪ ،‬حيــث إ َّن هــذا التحـ ّول يجعلهــا أزليّـ ًة وقدميــة‪.‬‬ ‫يؤكّــد ابــن رشــد مــن خــال قولــه‪" :‬إ َّن مــن ال يســاوق‬
‫ي الــذي ســلكه ابــن رشــد‬ ‫تب ًعــا لهــذا‪ ،‬يغــدو املنــز ُع العق ـ ُّ‬ ‫وجــوده الزمــان وال يحيــط بــه مــن طرفيــه‪ ،‬يلــزم رضور ًة‬
‫يف تص ـ ّوره ملشــكلة األبديّــة مبن ًّيــا عــى األســاس الــذي كان‬ ‫أن يكــون فعلــه ال يحيــط بــه الزمــان وال يســاوقه زمــا ٌن‬
‫يقيــم عليــه مشــكلة األزليــة نفســه‪.‬‬ ‫محــ ّدد"(‪ ،)11‬عــى ال نهائ ّيــة وجــود الفاعــل‪ ،‬وهــو بهــذا‪،‬‬
‫‪56‬‬

‫خامتة‬
‫املؤمــن واملصــدق للخطــأ مــن قبــل شــبهة عرضــت لــه إذا‬ ‫مــا ســبق ذكــره‪ ،‬نخلــص إىل القــول إ َّن ابــن رشــد اســتطاع‬
‫كان مــن أهــل العلــم مأجــور‪ ،‬وإذا كان ليــس مــن أهلــه‬ ‫بفضــل اعتــاده عــى التأويــل معالجــ َة املشــاكل التــي‬
‫فهــو معــذور‪.‬‬ ‫خصوصــا‬
‫ً‬ ‫تخبّطــت فيهــا الفلســفة اإلســاميّة طيلــة قــرون‪،‬‬
‫ـي‪ ،‬فاملهــم‬‫ـص الدينـ ّ‬
‫ـفي مــع النـ ِّ‬
‫ـص الفلسـ ُّ‬‫هنــا ينســجم النـ ُّ‬ ‫تلــك املتعلقــة مبســألة طبيعــة العــامل الــذي اعتــره قد ًميــا‬
‫هــو التفكــر وليــس النتيجــة التــي ســنخلص إليهــا مــن خالل‬ ‫املــادي‪ ،‬ومحدث ًــا عــى مســتوى‬
‫ّ‬ ‫عــى مســتوى وجــوده‬
‫هــذا التفكــر‪ ،‬أل َّن كل مــن الفلســفة والديــن يصفحــان عــن‬ ‫صورتــه‪ ،‬حيــث كان تصــ ّوره مــن بــن تصــ ّورات عديــدة‬
‫الخطــأ‪ ،‬الــذي ســيكون إمكانيّــ ًة مــن إمكانــات التفلســف‬ ‫أهــل‬
‫متباينــة‪ ،‬اختلفــت باختــاف الحلــول التــي ق ّدمهــا ُ‬
‫الح ًقــا‪.‬‬ ‫الربهــان‪ ،‬األمــر الــذي جعلــه يؤمــن بتعــدد التأويــات‪،‬‬
‫رمبــا هــذا هــو مــا جعــل ابــن رشــد أ ّو َل مــن هـذّب العلــوم‬ ‫ي منــاداة القــراءة عــى‬ ‫لدرجــة أضحــى املوقــف التأويــ ّ‬
‫وأ ّول مــن نقــل فكــر أرســطو بصــدقٍ وأمانــة‪ ،‬حتــى تــ َّم‬ ‫منســجاًم مــع نواميــس‬
‫ً‬ ‫تعدديّــة املعنــى‪ ،‬ليصــر معــه‬
‫فهمــه مــن قبــل الحضــارات الالحقــة‪ ،‬األمــر الــذي ســيجعله‬ ‫العقــل‪ ،‬التــي تقــوم عــى أســاس التســليم بقوانــن الكــون‪،‬‬
‫يحتـ ُّـل مكان ـ ًة بــارز ًة ال يضاهيــه فيهــا أح ـ ٌد مــن الفالســفة‬ ‫واالعـراف بخصائصــه الرضوريّــة التــي تقــول بتأثــر اإلنســان‬
‫أساســا للدارســات‬
‫العــرب‪ ،‬مثلــا أصبحــت رشوحاتُــه تشـكّل ً‬ ‫يف حــوادث العــامل‪.‬‬
‫الفلســفيّة يف أوروبــا الغربيــة حتــى مطلــع العصــور الحديثة‪.‬‬ ‫لهــذا كان يقــول ابــن رشــد إ َّن املصيبــن مأجــورون‪ ،‬وإ َّن‬
‫املخطئــن معــذورون‪ ،‬فالتصديـ ُـق بالــيء مــن قبــل الدليــل‬
‫القائــم يف النفــس يشء اضطــراري ال اختيــاري‪ ،‬حيــث إ َّن‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ .11‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.171 .‬‬ ‫‪ .1‬التلييل "عبد الرحمن"‪ ،‬ابن رشد يف املصادر العربية‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪،‬‬
‫‪ .12‬العراقي "عاطف"‪ ،‬النزعة العقلية يف فلسفة ابن رشد‪ ،‬املرجع نفسه‪،‬‬ ‫القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،2002 ،‬ص‪.18 .‬‬
‫ص‪.176 .‬‬ ‫‪ .2‬عابد الجابري "محمد"‪ ،‬ابن رشد سرية وفكر‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬أكتوبر ‪ ،1998‬ص ص‪.92_91 .‬‬
‫‪ .3‬العراقي "عاطف"‪ ،‬النزعة العقلية يف فلسفة ابن رشد‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬الطبعة‬
‫املراجع واملصادر‪:‬‬ ‫الرابعة‪ ،‬القاهرة‪ ،1984 ،‬ص‪.72 :‬‬
‫‪ .4‬عابد الجابري "محمد"‪ ،‬ابن رشد سرية وفكر‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.166_153 .‬‬
‫‪ .1‬ابن رشد‪ ،‬فصل املقال يف تقرير ما بني الرشيعة والحكمة من االتصال‪،‬‬ ‫‪ .5‬العراقي "عاطف"‪ ،‬النزعة العقلية يف فلسفة ابن رشد‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.‬‬
‫تقديم وإرشاف محمد عابد الجابري‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة‬ ‫‪.76_75‬‬
‫الرابعة‪ ،‬سنة ‪.2007‬‬ ‫‪ .6‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.80_76 .‬‬
‫‪ .2‬عابد الجابري محمد‪ ،‬ابن رشد سرية وفكر‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬ ‫‪ .7‬ابن رشد‪ ،‬فصل املقال يف تقرير ما بني الرشيعة والحكمة من االتصال‪ ،‬تقديم‬
‫الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬أكتوبر سنة ‪.1998‬‬ ‫وارشاف محمد عابد الجابري‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة الرابعة‬
‫‪ .3‬التلييل عبد الرحمن‪ ،‬ابن رشد يف املصادر العرب ّية‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪،‬‬ ‫‪ ،2007‬ص‪ 107 .‬وما بعدها‪.‬‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬سنة ‪.2002‬‬ ‫‪ .8‬العراقي "عاطف"‪ ،‬النزعة العقلية يف فلسفة ابن رشد‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.137 .‬‬
‫‪ .4‬العراقي عاطف‪ ،‬النزعة العقل ّية يف فلسفة ابن رشد‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬الطبعة‬ ‫‪ .9‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.138 .‬‬
‫الرابعة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سنة ‪.1984‬‬ ‫‪ .10‬العراقي "عاطف"‪ ،‬النزعة العقلية يف فلسفة ابن رشد‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.‬‬
‫‪.158‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪57‬‬

‫التوحيدي؛ فيلسو ًفا‬


‫وعاملًا سيكولوج ًيا‬
‫محمد محمود فايد*‬

‫واســتكامل مــا اعتورهــا مــن نقــص‪ ،‬وف ًقــا لقواعــد رؤيتــه‬ ‫ـدي (‪1023-923‬م) مبكان ـ ٍة كبــر ٍة‬ ‫يحظــى أبــو حيــان التوحيـ ّ‬
‫للكــون‪ ،‬تعبــ ًرا عــن ُهويــة هــذا العقــل‪.‬‬ ‫فضــا عــن‬ ‫ً‬ ‫يف الدراســات العربيّــة القدميــة والحديثــة‪،‬‬
‫ـض‬ ‫دراســات االســترشاق‪ .‬ورغــم التعتيــم عليــه‪ ،‬وضعــه البعـ ُ‬
‫ف ُّن الفلسفة‬ ‫يف مكانــ ٍة كبــرة‪ .‬ففــي "معجــم األدبــاء"‪ ،‬اعتــره ياقــوت‬
‫الفلســفي اليونــا ّين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عــارص التوحيــدي‪ ،‬ترجــات الــراث‬ ‫وأديــب الفالســفة‪ .‬ويــرى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فيلســوف األدبــاء‬ ‫الحمــوي‪،‬‬
‫وعايــش معظــم املذاهــب واالتجاهــات الفلســفيّة‪ .‬ويف‬ ‫ُ‬
‫وفيلســوف‬ ‫فيلســوف التوحيــد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫د‪ .‬زكريــا إبراهيــم‪ ،‬أنَّــه‪:‬‬
‫مهــا مــن رســائل‬ ‫ً‬ ‫كتابــه "املقابســات"‪ ،‬قــ ّدم منوذ ًجــا‬ ‫اإلنســان‪ ،‬وفيلســوف التشــاؤم‪ ،‬وفيلســوف التســاؤل‪،‬‬
‫الحــدود وقواميــس املصطلحــات والتعريفــات الفلســف ّية‪،‬‬ ‫وفيلســوف الفكاهــة!‪ .‬أ َّمــا د‪ .‬الصــاوي أحمــد‪ ،‬فيعتــره عاملًــا‬
‫مســتخد ًما براعتــه اللغويّــة والبيان ّيــة يف إعطــاء اإلنســان ّية‪،‬‬ ‫تربويًّــا ونفســ ًّيا‪ ،‬ســبق اآلخريــن يف عــر الحداثــة بألــف‬
‫منوذ ًجــا لهــذه التعريفــات التــي لــو ُجمعــت ألصبحــت‬ ‫عــام تقريبًــا‪ .‬فكانــت تنظرياتــه وآراؤه‪ ،‬مبثابــة محــاور دارت‬
‫مهــا للمصطلحــات الفلســفيّة‪ ،‬ومنهــا‪107 ،‬‬ ‫ً‬ ‫قاموســا‬
‫ً‬ ‫حولهــا كتاباتهــم‪ ،‬واعتمــدت عليهــا نظرياتهــم املتعلقــة‬
‫تعريــف ملصطلحــات أوردهــا يف مقابس ـ ٍة واحــدة فحســب؛‬ ‫بســلوك اإلنســان‪ ،‬وانفعاالتــه‪ ،‬وأمراضــه النفس ـ ّية والعقل ّيــة‬
‫هــي املقابســة ‪ ،91‬مثــل‪ :‬تعريفــه ملصطلــح الجــدل‪:‬‬ ‫وطــرق عالجهــا‪ .‬ســبق التوحيــدي‪ -‬أيضً ــا‪ -‬بعــض املؤرخــن‪،‬‬
‫"مباحــث مقصــود بهــا إيجــاب الحجــة عــى الخصــم مــن‬ ‫وعلــاء االجتــاع‪ ،‬وكانــت آرائــه مبثابــة األســاس الــذي‬
‫(‪)2‬‬
‫حيــث أال يقــوى ومــن حيــث ال يقــدر أن يدفــع"‪ ،‬وغريهــا‪.‬‬ ‫بُنيــت عليــه نظرياتهــم‪ .‬مثــال ذلــك‪ :‬ســبقه البــن خلــدون‬
‫واض ًعــا بعــض التعريفــات للفلســفة‪ ،‬فاعتربهــا‪" :‬بحــثٌ عــن‬ ‫(‪1406-1332‬م) و"إميــل دور كايــم" (‪1917-1858‬م)‬
‫حقائــق املوجــودات"‪ )3(.‬و"جميــع مــا يف العــامل‪ ،‬مــا ظهــر‬ ‫يف وضــع حجــر األســاس لعلــم االجتــاع‪ ،‬فقــد كان أول‬
‫للعــن‪ ،‬وبطــن للعقــل‪ ،‬ومركّــب بينهــا ومائــل إىل طرفيهــا‬ ‫القائلــن‪" :‬اإلنســا ُن مــد ٌّين بطبعــه"‪ .‬موض ًحــا‪ ،‬األســس التــي‬
‫(‪)4‬‬
‫عــى مــا هــو عليــه‪ ،‬واســتفادة اعتبــار الحــق مــن جملتــه"‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ينبغــي أن يقــو َم عليهــا املجتمــ ُع املثــا ُّيل‪.‬‬
‫الخارجــي املســتقل عــن‬
‫ّ‬ ‫أي أنَّهــا تبحــث عــن الوجــود‬ ‫لنكتشــف‪ ،‬أن مواقفــه وأفــكاره لعبــت دو ًرا مؤثــ ًرا يف‬
‫الــذات العارفــة‪ ،‬ســواء كان هــذا الوجــود‪ ،‬مرئ ًّيــا للعــن أو‬ ‫الفلســفة‪ ،‬وعلــم االجتــاع‪ ،‬وعلــم النفــس‪ ،‬وغريهــا‪ .‬فضـ ًـا‬
‫"كأي ف ـ ٍّن مــن الفنــون‪ ،‬ال ب ـ َّد‬
‫محسوســا بالحــواس‪ ،‬مثلهــا ِّ‬‫ً‬ ‫عــن اعتبــاره مــن أوائــل املفكّريــن الــر ّواد الذيــن أخضعــوا‬
‫اإللهــي"‪ .‬مــا يعنــي بــراءة‬
‫(‪)5‬‬
‫ّ‬ ‫أن تحقّــق وتؤكّــد التوحيــد‬ ‫نتاجــات الفالســفة والعلــاء رشقًــا وغربًــا‪ ،‬إلبســتمولوجيا‬
‫كل صناعـ ٍة ال تح ّقــق التوحيــد‪ .‬فــكان يــرى‬ ‫التوحيــدي مــن ِّ‬ ‫اإلســامي‪ ،‬بــل وتقييــم هــذه النتاجــات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العقــل العــر ّيب‬

‫* باحث مرصي يف األدب الشعبي وعلم النفس‬


58
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪59‬‬

‫واســتوفوا األحــكام واملعــاين اللفظ ّيــة والحقائــق اإلله ّيــة‬ ‫أ َّن الفلســفة "محــدودة بحــدود ســتة"(‪ )6‬وكلهــا تبحــث عــن‬
‫والخصائــص الطبيع ّيــة‪.‬‬ ‫الوجــود‪ ،‬ويســتخدم فيهــا العقــل بإحــكام‪ ،‬وذلــك باســتخدام‬
‫تعامــل التوحيــدي مــع معظــم فالســفة العــر‪ ،‬وامتــاز‬ ‫األخــاق اإللهيّــة واالختيــارات ال ُعلويّــة‪ .‬رافضً ــا الفلســفة‬
‫ـوف‬ ‫ألي فيلسـ ٍ‬ ‫ـي ملختلــف اآلراء‪ ،‬ومل ينحــز ِّ‬ ‫بالنقــد املوضوعـ ّ‬ ‫اليونانيّــة‪ ،‬الحتوائهــا عــى شــوائب تقــوم عــى القــول بقــدم‬
‫ســواء كان عرب ًّيــا أو يونان ًّيــا‪ ،‬بــل أخــذ عنهــم‪ ،‬مــا ميليــه عليــه‬ ‫العــامل‪ .‬معتق ـ ًدا يف اليقــن الناتــج عــن البحــث يف الوجــود‬
‫العقــل‪ .‬فعــارض أكــر الفالســفة‪ ،‬وأفضــل علــاء عــره‬ ‫ـفي‪ .‬موض ًحــا مكانــة الفلســفة‬ ‫الــذي يــؤدي للتفكــر الفلسـ ّ‬
‫وأســاتذته‪ .‬ومل يوافــق يف مواضــع كثــرة عــى آراء فالســفة‬ ‫بــن العلــوم األخــرى‪ ،‬مــن خــال تأليفــه‪" :‬رســالة العلــوم"‪،‬‬
‫قدمــاء كبــار‪ ،‬مثــل‪ :‬أفالطــون وأرســطو‪ .‬منتقــ ًدا نظريــة‬ ‫ُمرص ًحــا أنَّــه ألّفهــا للــرد عــى مــن اتّهــم الفلســفة بعــدم‬
‫خاصـةً‪،‬‬ ‫أفالطــون يف الوجــود‪ ،‬معتـ ًرا آراءه يف املثــل‪ ،‬فاســدة‪ّ .‬‬ ‫اتصالهــا بالديــن‪ ،‬والحكمــة‪ ،‬فيقــول‪" :‬والــذي هاجنــي قـ ُ‬
‫ـول‬
‫فيــا ذهــب إليــه مــن أ َّن األشــياء قبــل الوجــود‪ ،‬كانــت مثـ ًـا‬ ‫قائــلٍ منكــم ليــس للمنطــق مدخـ ٌـل يف الفقــه‪ ،‬وال للفلســفة‬
‫يف نفــس البــارئ‪ُ .‬معتـ ًرا هــذا الــرأي مغالطــة‪ ،‬قائـ ًـا‪" :‬وفيــا‬ ‫ـال بالديــن وال للحكمــة تأث ـ ٌر يف األحــكام‪ )7("..‬مؤكّ ـ ًدا‪،‬‬ ‫اتصـ ٌ‬
‫ت ُرجــم مــن كالم أفالطــون أ َّن األشــياء قبــل الوجــود كانــت‬ ‫ويتقــى الحقائــق‪ ،‬يــدرك أنَّــه مــا‬ ‫ّ‬ ‫أ َّن مــن ميعــن النظــر‬
‫مثــا يف نفــس البــارئ‪ ،‬فعــى ذلــك اخرتعهــا‪ ،‬وهــذا رأي‬ ‫ً‬ ‫دام العلــم أرشف مــن الجهــل‪ ،‬فالوجــود كذلــك‪ ،‬أرشف‬
‫وخيــال مضمحــل؛ أل َّن قولــه األشــياء قبــل الوجــود‬ ‫ٌ‬ ‫فاســ ٌد‬ ‫ـص معلو ًمــا دون معلــوم‪،‬‬ ‫مــن العــدم‪ .‬فالعلــم عنــده‪ ،‬ال يخـ ُّ‬
‫(‪)10‬‬
‫باطــل عنــده"‪.‬‬ ‫كل يشء تبحثــه‬ ‫وال مشــا ًرا إليــه دون مدلــول عليــه‪ .‬أي أ َّن َّ‬
‫أ َّمــا رأيــه يف الوجــود‪ ،‬فهــو يعــرف بالوجــود املســتقل‬ ‫الفلســفة‪ ،‬لــه وجــوده ووجــب بحثــه‪ ،‬ولــن يت ـ َّم بحثُــه إال‬
‫ويــدل عــى‬ ‫ُّ‬ ‫(الوجــود الخارجــي) عــن الــذات العارفــة‪.‬‬ ‫بالفلســفة التــي مجــال بحثهــا هــو الوجــود املســتقل عــن‬
‫ي‪ ،‬وممكــن‬ ‫ـي والوجــود العقـ ّ‬ ‫ذلــك‪ ،‬اعرتافــه بالوجــود الحـ ّ‬ ‫الــذات‪ُ .‬مرج ًعــا ســبب اليقــن يف األحــكام الفلســف ّية إىل‬
‫ـدل‬‫الوجــود‪ ،‬وواجــب الوجــود‪ ،‬وممتنــع الوجــود‪ .‬وهــو مــا يـ ُّ‬ ‫أنَّهــا‪" :‬تــرف أغراضهــا عــن زخــارف القــول وترتفــع عــن‬
‫داللـ ًة قاطعـ ًة عــى أصالتــه كمف ّكـ ٍر عــر ٍّيب مســلم‪ )11(.‬فــكان‬ ‫(‪)8‬‬
‫مواقــع االســتعارة والغلــط والتجويــز‪"..‬‬
‫بعــدم تقليــده األعمــى لباقــي الفالســفة واملفكريــن الذيــن‬ ‫ونتيجــ ًة لهــذا‪ ،‬ات ّجــه الباحثــون يف الفلســفة إىل حــر‬
‫أخــذوا يف عــره بالفلســفة اليونان ّيــة‪ ،‬مف ّكـ ًرا رائـ ًدا‪ ،‬معتـ ًرا‬ ‫كل منجـزات التفكــر واملنطــق‪ ،‬ومــا‬ ‫املوجــودات باســتخدام ِّ‬
‫دخيــا عــى الفكــر العــر ّيب‬ ‫ً‬ ‫الفلســفي اليونــا ّين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الــراث‬ ‫ســبق أن وضعــه التوحيــدي مــن املبــادئ أو التســاؤالت‬
‫ـامي‪ .‬اهتــم‪ -‬أيضً ــا‪ -‬بفهــم طبيعــة الوجــود وتح ـ ّدث‬ ‫اإلسـ ّ‬ ‫العلميّــة األربعــة املفــرض البحــث يف ضوئهــا‪ ،‬وهــي‪:‬‬
‫عنهــا يف مواضــع كثــرة‪ ،‬حيــث ع ّرفهــا بقولــه‪" :‬الطبيعــ ُة‬ ‫"هــل؟ مــا؟ أي؟ مل؟ حيــث يبحــث األول عــن إثبــات آنيــة‬
‫يــدل عــى معنيــن؛ أحدهــا ذات كل يشء‬ ‫اســ ٌم مشــرك ُّ‬ ‫وجــود الــيء‪ .‬بينــا يبحــث الثــاين عــن صورتــه أي نوعــه‪.‬‬
‫عرضً ــا كان أو جوه ـ ًرا أو بســيطًا أو مركبًــا"‪ )12(.‬ومثّــل لهــذا‬ ‫ويبحــث املبــدأ الثالــث عــا مييّــز هــذا الــيء عــن غــره‪.‬‬
‫(‪)13‬‬
‫التعريــف بطبيعــة اإلنســان وطبيعــة البيــاض والحـرارة"‪.‬‬ ‫ويبحــث الرابــع عــن العلــة مــن وجــوده‪ )9(.‬أي أنَّهــم بحثــوا‬
‫أ َّمــا ماهيــة هــذه الطبيعــة‪ ،‬وأقســامها‪" :‬فهــي قــوة نفسـ ّية‪.‬‬ ‫ـص الفلســفة وحدودهــا‪ ،‬ووضعــوا العالمــات‪،‬‬ ‫وفصلــوا خصائـ َ‬
‫ّ‬
‫‪60‬‬

‫باســتخدام الكثــر مــن املعــاين النفســ ّية التــي ال تختلــف‬ ‫فــإن قلــت عقل ّيــة‪ ،‬مل تبعــد‪ .‬وإن قلــت إله ّيــة‪ ،‬مل تبعــد‪.‬‬
‫كثـ ًرا عــن املصطلحــات واملفاهيــم العلم ّيــة الحديثــة اليــوم‪.‬‬ ‫وهــي التــي تــري يف أثنــاء هــذا العــامل‪ ،‬محركــة ومس ـكّنة‬
‫فقــد ق ـ ّرر أ َّن هنــاك أمراضً ــا للنفــس مثــل أم ـراض البــدن‪.‬‬ ‫ومجــ ّددة ومبليــة ومنشــئة ومبيــدة ومحييــة ومميتــة"‪.‬‬
‫ومــن أجــل عالجهــا قــام بدراســة ماهيــة النفــس االنســانيّة‪،‬‬ ‫(‪ )14‬وهــي عنــده آخــر الخلفــاء يف هــذا العــامل‪ .‬معتــ ًرا أ ًّن‬
‫وأنشــطتها الســلوك ّية‪ ،‬وانفعاالتهــا‪ ،‬وعالقتهــا بالجســم‪ .‬كــا‬ ‫"الطبيعــة شــائعة يف األجســام ومحركــة لهــا مبديــة قواهــا‬
‫بحــث يف العمليــات العقل ّيــة العليــا‪ ،‬مثــل‪ :‬التفكــر‪ ،‬الــذكاء‪.‬‬ ‫فيهــا‪ ،‬فأ َّمــا النفــس فإنَّهــا تتحــرك يف األرواح النفســ ّية‬
‫مدشــ ًنا ومســتخد ًما‪ ،‬يف طــرح املشــكالت النفســيّة‪ ،‬بعــض‬ ‫والجواهــر الصافيــة"‪ ،‬وهنــا يــرز عينهــا بالحــدس والظــن‬
‫ٍ‬
‫كمصطلحــات علميّــة‬ ‫املفاهيــم التــي قُننــت‪ ،‬فيــا بعــد‪،‬‬ ‫والعلــم واليقــن والحــق والصــواب‪ .‬أ َّمــا حركــة العقــل فلــه‬
‫غربيــة‪ ،‬بــل وتســود اآلن مجــاالت التحليــل‪ ،‬واإلرشــاد‪،‬‬ ‫"حركــة أخــرى يف البســائط العاليــة والغايــات البعيــدة"‪،‬‬
‫النفــي‪ .‬مثــال ذلــك‪ :‬توضيحــه ألعــراض وعــاج‬ ‫ّ‬ ‫والعــاج‬ ‫وعنــد متــام هــذا تُنــال الســعادة ويُســتحق الخلــود ويُصــار‬
‫األمــراض النفســيّة (علــم النفــس اإلكلينيــي) وتوضيحــه‬ ‫إىل مــا ال يحويــه وصــف‪ .‬وهنــاك يقــف الشــوق عــن اإلزعاج‬
‫للموقــف الدينــي مــن النفــس‪ ،‬وأنَّهــا ال تعنــي الــروح‪ ،‬أل َّن‬ ‫ويُحــاز الــرف كلــه بــا مامرســة‪ ،‬كــا قــال إن‪" :‬حركــة‬
‫اللــه قــد ســر معرفتهــا عــن الخلــق‪ ،‬مؤيــ ًدا رأيــه بذكــره‬ ‫نقــش مرمــوق‪ .‬وحركــة النفــس يف‬ ‫الطبيعــة يف األجســام‪ٌ ،‬‬
‫لآليــة الكرميــة‪" :‬ويســألونك عــن الــروح‪ .‬قــل الــروح مــن أمــر‬ ‫األرواح الرشيفــة‪ ،‬يش ٌء معشــوق‪ .‬وحركــة العقــل يف األنفــس‬
‫ريب"‪ )17(.‬مف ّرقًــا بــن األمـراض النفسـيّة‪ ،‬واألمـراض الجســميّة‪.‬‬ ‫الفاضلــة‪ ،‬معنــى أنيــق"(‪ )15‬موج ًهــا اإلنســان‪" :‬كــن بطبيعتــك‬
‫مؤكّــ ًدا‪ ،‬أ َّن األمــراض النفســيّة تتســبب يف بعــض األمــراض‬ ‫إنســانًا فاضـ ًـا‪ ،‬وبنفســك ُجر ًمــا عاليًــا‪ ،‬وبعقلــك إلهــا غنيًّــا‪،‬‬
‫قائــا‪" :‬للنفــس‬‫ً‬ ‫الجســم ّية (األمــراض السيكوســوماتية)‬ ‫والطريــق إىل هــذه الغايــة أمــن إن ح ّركــت همتــك‪ ،‬وق ّويــت‬
‫أم ـراض كأم ـراض البــدن إال إ َّن فضــل أم ـراض النفــس عــى‬ ‫شــوقك‪ ،‬ونفيــت الشــك عــن قلبــك‪ ،‬وصحبــت اليقــن‬
‫أمـراض البــدن يف الــر والــرر كفضــل النفــس عــى البــدن‬ ‫ـس الــذي يكذبــك‪ ،‬وواصلــت الناصــح‬ ‫بعقلــك‪ ،‬وهجــرت الحـ َّ‬
‫يف الخــر"‪ )18(.‬ويقــول‪" :‬وأ َّمــا الصحــة واملــرض‪ ،‬فليــس مــن‬ ‫لــه ولزمــت فنــاءه‪ ،‬واســتعنت وأعنــت وعرفــت واعرتفــت‪،‬‬
‫األخــاق يف يشء‪ ،‬ولكنهــا يوجــدان يف اإلنســان بواســطة‬ ‫مــن غمــس نفســه يف غــار الطبيعــة هلــك وطــاح‪ ،‬ومــن‬
‫النفــس‪ ،‬إ َّمــا يف البــدن أو يف العقــل‪ .‬ولذلــك يُقــال أم ـراض‬ ‫اجتــى نفســه بزينــة العقــل طــرب وارتــاح‪ ،‬ومــن صمــد‬
‫(‪)19‬‬
‫البــدن‪ ،‬وأمـراض النفــس‪ ،‬وصحــة البــدن‪ ،‬وصحــة النفــس"‬ ‫للغايــة بجــده وجهــده نــر وبــاح‪ ،‬ومــن تهــاون بتحصيلــه‬
‫مرشـ ًدا اإلنســان إىل عــدم االكتفــاء بعالج األمراض الجســميّة‪.‬‬ ‫مالــه وعليــه خــر ونــاح‪ ،‬ال يســخرنك مــا يرجــج لعينــك‬
‫معتـ ًرا األمـراض النفسـ ّية أكــر إيال ًمــا لإلنســان‪ .‬فضـ ًـا عــن‬ ‫(‪)16‬‬
‫عــا يبهــج لعقلــك‪."..‬‬
‫أنــه كان أول مــن فطــن إىل وجــوب تطهــر النفــس مــن‬
‫متخصصــن‪ ،‬موج ًهــا إىل‬ ‫ّ‬ ‫األمــراض بعرضهــا عــى أطبــاء‬ ‫السيكولوجي‬
‫ُّ‬ ‫العالِ ُم‬
‫أهميــة الرصاحــة بــن املريــض والطبيــب‪ ،‬قائـ ًـا‪" :‬واصدقــه‬ ‫كان التوحيــدي مــن أوائــل العلــاء الذيــن اهت ّمــوا بدراســة‬
‫عــا تقــدم مــن غيبــك يف طعامــك ورشبــك حتــى يصدقــك‬ ‫والباطنــي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الظاهــري‬
‫ّ‬ ‫أرسار النفــس اإلنســان ّية‪ ،‬وســلوكها‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪61‬‬

‫مســعود بألــف دينــار مــن بيــت املســلمني‪ ،‬لروايتهــا عــى‬ ‫عنــك ويخرجــك منــك ويتالفــاك لــك ويســقيك مــا ينفعــك‬
‫املســلمني‪ ،‬تلقي ًحــا للعقــول وتروي ًحــا للقلــوب‪ ،‬وترسي ًحــا‬ ‫ويحميــك مــا يــرك"‪ )20(.‬ومل يكتــف بذلــك‪ ،‬بــل عــرض‬
‫(‪)22‬‬
‫للهــم‪ ،‬وتنقي ًحــا لــأدب"‪.‬‬ ‫النفــي وحفــظ الصحــة‪ ،‬مثــل‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫لبعــض أســاليب العــاج‬
‫ويف علــم نفــس النمــو‪ ،‬وضّ ــح أيضً ــا‪ ،‬بعــض الحقائــق‬ ‫العــاج بإلقــاء الفكاهــات والنــوادر بــن الفينــة والفينــة‪،‬‬
‫العلم ّيــة التــي يتك ـ ّون منهــا جســم اإلنســان‪ ،‬وتؤثــر عــى‬ ‫والرتويــح عــن النفــس ســاع ًة بعــد ســاعة‪ ،‬معتــ ًرا األخــر‬
‫ـي‪ ،‬قائـ ًـا‪" :‬إ َّن النطفــة التــي يكــون منهــا الجنــن‬ ‫النمــو النفـ ّ‬ ‫ـكل‬‫مــن أهــم االحتياجــات النفسـ ّية‪ ،‬قائـ ًـا‪" :‬مبــا أ َّن البــدن يـ ُّ‬
‫إذا حصلــت يف الرحــم املوافــق كان أول مــا يظهــر فيــه مــن‬ ‫ويطلــب الراحــة كذلــك النفــس تطلــب الرتويــح‪ ،‬وكــا أ َّن‬
‫أثــر الطبيعــة مــا يظهــر مثلــه يف األشــياء املعدنيّــة‪ .‬أعنــي أ َّن‬ ‫البــدن يســتفيد باالســتجامم الــذي يــؤدي للصحــة ويبعــد‬
‫الحـرارة اللطيفــة تنضجــه ومتخضــه وتعطيــه إذا امتــزج باملاء‬ ‫الضجــر والتعــب‪ ،‬كذلــك النفــس ال بــ َّد مــن أن تطلــب‬
‫الــذي يوافقــه شــهوة األنثــى‪ ..‬ثــم يصبــح صــور ًة مركبــة كــا‬ ‫الرتويــح"‪ )21(.‬فضـ ًـا عــن العــاج املعــر ّيف مبكاشــفة العلــاء‬
‫ـأي يشء‪ ..‬ثــم يســتعد لقبــول أي‬ ‫يكــون يف اللــن إذا ُمــزج بـ ِّ‬ ‫األفاضــل‪ ،‬وحضــور املجالــس العلميّــة‪ .‬والعــاج باإلميــان عىل‬
‫أثــر آخــر‪ ،‬وبعــد ذلــك تتصــل بــه العــروق‪ ،‬فيظهــر فيــه أثــر‬ ‫ـي إىل‬ ‫يــد املتقــن األعلــم بفضائــل النفــس‪ .‬واإلرشــاد النفـ ّ‬
‫النفــس الناميــة‪ ،‬أعنــي النبات ّيــة‪ ،‬ثــم يقــوى هــذا األثــر فيــه‪..‬‬ ‫ـتداًل عــى رأيــه‪،‬‬
‫العــاج بــاألدب والروايــة واملحادثــة‪" ،‬مسـ ً‬
‫بعــد ذلــك‪ ،‬يســتعد لقبــول الغــذاء بغــر العــروق‪ .‬فيظهــر‬ ‫بــراء الخليفــة عمــر بــن عبــد العزيــز‪ -‬ريض اللــه عنــه‪-‬‬
‫فيــه أثــر الحيــوان أواًلً ‪ ،‬فــإذا كمــل اســتعداده لقبــول هــذا‬ ‫للمحادثــة مــن عبيــد اللــه بــن عبــد اللــه بــن عتبــه بــن‬
‫األثــر فــارق موضعــه‪ ،‬ويصبــح عنــد ذلــك يف مرتبــة البهائــم‬
‫مــن الحيــوان إىل أن يصــر فيــه االســتعداد بقبــول أثــر النطق‬
‫مــن التم ّيــز والرؤيــة‪ ،‬فحينئـ ٍـذ يظهــر فيــه أثــر العقــل‪ .‬ثــم‬
‫يقــوى حتــى يصــل إىل أن تتــم الصــورة اإلنســانيّة‪ .‬بعدهــا مل‬
‫ينقطــع أثــر النفــس مــن البــدن البتــه عــى رضوب أحوالــه‬
‫إىل أن ينتهــي إىل غايــة كاملــه‪ .‬وال ينبغــي القــول إنَّــه يخلــو‬
‫منهــا يف حــال مــن أحوالــه‪ ،‬وإمَّنَّ ــا يقــوى األثــر ويضعــف‬
‫بحســب قبولــه"‪ )23(.‬وبهــذا يكــون التوحيــدي‪ ،‬قــد ســبق‬
‫تشــارلز دارويــن (‪1882-1809‬م) واضــع نظريــة النشــوء‬
‫واالرتقــاء‪ ،‬بــل ومت ّيــز فكــر التوحيــدي‪ ،‬بــرؤى ومفاهيــم أكــر‬
‫تكامل ّيــة وموضوع ّيــة‪.‬‬

‫االكتئاب والفوبيا‬
‫ُ‬
‫بحــث التوحيــدي مــرض االكتئــاب‪ ،‬وناقــش األســباب التــي‬
‫ـب مــن‬‫تدفــع اإلنســان لالنتحــار‪ .‬وأرجــع ذلــك إىل أنَّــه مركـ ٌ‬
‫‪62‬‬

‫مــن ســوء ظــن وفســاد فكــر‪ ،‬فهــو مــرض أو م ـزاج فاســد‬ ‫ثــاث قــوى‪ :‬غضب ّيــة‪ ،‬وشــهوان ّية‪ ،‬وعاقلــة‪ .‬فــإذا تغلبــت‬
‫مــن األصــل‪ )25("..‬مشـ ًرا إىل رضورة تهذيــب النفــس وتربيتهــا‬ ‫إحــدى الق ّوتــن (الغضب ّيــة‪ -‬الشــهوان ّية) يــأيت هــذا الفعــل‬
‫ـي‪.‬‬‫ـري والســلوك غــر الطبيعـ ّ‬
‫أخالقيًّــا‪ .‬رافضً ــا الشــذوذ الفكـ ّ‬ ‫أو الســلوك‪ ،‬فيقتــل اإلنســان نفســه‪ .‬أمــا إذا تغلبــت عليــه‪،‬‬
‫معتـ ًرا أنَّ‪" :‬أ ّول هــذه القصــة يف تهذيــب األخــاق‪ ،‬ووســطها‬ ‫القــوى العاقلــة‪ ،‬فعندئــذ‪ ،‬تغلــب عليــه حكمــة العقــل‬
‫يف أخــذ العــر مــن جميــع اآلفــاق‪ ،‬وآخرهــا الوصــول إىل‬ ‫واملنطــق‪ ،‬وبهــذا تتغلــب القــوى العاقلــة عــى كل مــن‬
‫اللــه العزيــز الخـ ّـاق"‪ )26(.‬عارضً ــا ألســباب احتيــاج اإلنســان‬ ‫القوتــن الغضب ّيــة والشــهوان ّية‪ .‬وعندئــذ ال يجــرأ اإلنســان أن‬
‫إىل تهذيــب أخالقــه‪ ،‬بأنَّــه‪" :‬معجــون مــن عقاقــر كثــرة‬ ‫(‪)24‬‬
‫يقــوم بهــذا الفعــل الــذي يرفضــه الديــن والرشيعــة‪.‬‬
‫ومركــب مــن أضــداد متعاديــة‪ ،‬منهــا الخــر والــر والصحــة‬ ‫ومنــذ ألــف عــام‪ ،‬تقريبًــا‪ ،‬تطــرق التوحيــدي ملــرض الفوبيــا‪،‬‬
‫واملــرض والحســن والقبــح"‪ ،‬وأنَّــه محتــاج إىل "ضــم نرشهــا‬ ‫ـاوف شــاذة‪ ،‬أو خــوف‬ ‫وأنواعهــا‪ ،‬وطبيعتهــا‪ ،‬باعتبارهــا مخـ َ‬
‫ومل شــعثها وتآلــف شــاردها وإصــاح فاســدها وتقويــم‬ ‫حقيقــي‪ ،‬وأ َّن لهــا‬
‫ّ‬ ‫منطقــي‬
‫ٍّ‬ ‫ســبب‬
‫ٍ‬ ‫ينتــاب اإلنســان دون‬
‫اعوجاجهــا‪ ..‬فــإذا صلحــت أخالقــك‪ ،‬حســنت آدابــك‪ .‬وإذا‬ ‫أنوا ًعــا كثــرة‪ ،‬مثــل‪ :‬فوبيــا األماكــن املرتفعــة‪ ،‬واملغلقــة‪،‬‬
‫حســنت آدابــك‪ ،‬رشفــت هممــك‪ .‬وإذا رشفــت هممــك‪،‬‬ ‫واملفتوحــة‪ .‬وفوبيــا املــاء‪ ،‬وغريهــا‪ُ .‬مرج ًعــا ســبب "الخــوف‬
‫طابــت مآربــك‪ .‬فعندهــا ينــزل عليــك الوحــي الخــاص فيــا‬ ‫الــذي ينتــاب اإلنســان بــا مخــوف" إىل "توقــع مكــروه‬
‫(‪)27‬‬
‫تصــر ســعي ًدا بــه"‪.‬‬ ‫ـبب صحي ًحــا قويًّــا‪ ،‬والدليــل واض ًحــا‬
‫حــادث‪ .‬فــإن كان السـ ُ‬
‫جليًّــا‪ ،‬كان الخــوف يف موضعــه‪ .‬وإن مل يكــن كذلــك‪ ،‬وكان‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ .14‬أبو حيان التوحيدي‪ :‬اإلمتاع واملؤانسة‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‪ ،‬منشورات دار‬ ‫‪ .1‬أبو حيان التوحيدي‪ :‬املقابسات‪ ،‬تحقيق‪ :‬حسني السندويب‪ ،‬املطبعة الرحامنية‪،‬‬
‫مكتبة الحياة‪ ،‬ج‪ ،3‬بريوت‪ ،‬ص‪.113‬‬ ‫القاهرة‪1939 ،‬م‪ ،‬ط‪ ،1‬املقابسة ‪ ،22‬ص ص‪.196 ،173‬‬
‫‪ .15‬املقابسة ‪ :62‬ص‪.253‬‬ ‫‪ .2‬السابق‪ :‬ص ص‪.319 ،309‬‬
‫‪ .16‬املقابسة ‪ :62‬ص‪.252‬‬ ‫‪ .3‬املقابسة ‪ :63‬ص‪.258‬‬
‫‪ .17‬القرآن الكريم‪ :‬سورة اإلرساء‪ ،‬اآلية ‪.17‬‬ ‫‪ .4‬املقابسة ‪ :48‬ص‪.223‬‬
‫‪ .18‬اإلمتاع واملؤانسة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.63‬‬ ‫‪ .5‬د‪ .‬عبد القادر محمود‪ :‬أبو حيان التوحيدي‪ ،‬مجلة القاهرة‪ ،‬العدد‪ ،94‬أبريل‬
‫‪ .19‬السابق‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.153‬‬ ‫‪1989‬م‪ ،‬ص‪.9‬‬
‫‪ .20‬أبو حيان التوحيدي‪ :‬اإلشارات اإلله ّية‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن بدوي‪ ،‬ج‪ ،1‬دار‬ ‫‪ .6‬املقابسة‪ :65‬ص‪.257‬‬
‫القلم‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪1981 ،‬م‪ ،‬ص‪.118‬‬ ‫‪ .7‬أبو حيان التوحيدي‪ :‬رسالة العلوم مع الصداقة والصديق‪ ،‬مطبعة الجوائب‪،‬‬
‫‪ .21‬اإلمتاع واملؤانسة‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪.28‬‬ ‫القسطنطين ّية‪1301 ،‬ه‪ ،‬ص‪.201‬‬
‫‪ .22‬د‪ .‬الصاوي أحمد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.224‬‬ ‫‪ .8‬املقابسة ‪ :63‬ص‪.258‬‬
‫‪ .23‬أبو حيان التوحيدي‪ :‬الهوامل والشوامل‪ ،‬تحقيق‪ :‬أمد أمني‪ ،‬لجنة التأليف‬ ‫‪ .9‬د‪ .‬الصاوي‪ ،‬الصاوي أحمد‪ :‬النزعة النقديّة عند أبو حيان التوحيدي‪ ،‬الهيئة‬
‫والنرش‪ ،‬القاهرة‪1951 ،‬م‪ ،‬مسألة ‪ ،163‬ص ص‪.352 ،351‬‬ ‫املرصية العامة للكتاب‪2019 ،‬م‪ ،‬ص ص‪.89 ،88‬‬
‫‪ .24‬السابق‪ :‬ص‪.152‬‬ ‫‪ .10‬أبو حيان التوحيدي‪ :‬البصائر والذخائر‪ ،‬تحقيق‪ :‬إبراهيم الكيالين‪ ،‬مطبعة‬
‫‪ .25‬السابق‪ :‬ص‪.183‬‬ ‫اإلنشاء‪ ،‬ج‪ ،2‬دمشق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.489‬‬
‫‪ .26‬اإلشارات اإلله ّية‪ :‬ص‪.190‬‬ ‫‪ .11‬د‪ .‬الصاوي أحمد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.171‬‬
‫‪ .27‬السابق‪ :‬ص‪.191‬‬ ‫‪ .12‬املقابسات‪ :‬مقابسة‪ ،79‬ص‪.284‬‬
‫‪ .13‬السابق‪ :‬ص‪.385‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪63‬‬

‫ِ‬
‫املدخل الثقايفّ‬ ‫أهم ّي ُة‬
‫ملحاربة التطرف‬
‫الزبري مهداد*‬

‫الظاهر ُة اإلرهاب ّي ُة‬


‫واألمنــي‪ ،‬مل يكفيــا‬
‫ّ‬ ‫الدينــي‬
‫ّ‬ ‫كــا أ َّن املدخَلــن املعتم َديــن‬ ‫ابتُليــت األمـ ُة بظاهــرة التنظيــات اإلرهابيّــة املســلحة‪ ،‬التي‬
‫الســتئصال الــداء‪ ،‬تعوزهــا الشــمولية‪ .‬فالرافــ ُد الــذي‬ ‫أســاءت إىل صورة اإلســام وســاحته‪ ،‬وه ّددت األمن والســلم‬
‫تســتقي منــه "داعــش" ومــن يف حكمهــا األفــكار والفتــاوى‬ ‫العــام‪ ،‬وقتلــت النــاس ودمــرت العمـران وعبثــت باألعـراض‬
‫ـي بــاقٍ يف تراثنــا وكتبنــا الصفـراء‪ ،‬ميتلــك قــدر ًة دامئـ ًة عىل‬
‫حـ ٌّ‬ ‫وانتهكــت الحرمــات‪ .‬هــذه التنظيــاتُ والجامعــاتُ تقــوم‬
‫تغذيــة الكثــر مــن أفــراد الخاليــا اإلرهابيّــة‪ ،‬واملتعاطفــن‬ ‫عــى تأويــلٍ جاهــلٍ باإلســام‪ ،‬بــل وجعلــت اإلســا َم رشائــع‬
‫معهــا‪ ،‬واملغرتّيــن بأفكارهــا‪ ،‬فهــؤالء املخدوعــون ال ميكــن‬ ‫مختلفــة متقاتلــة‪ ،‬وأفرغتــه مــن قيمتــه التــي ّأسســت‬
‫الوصــول إليهــم باعتــاد املدخَلــن الســابقني‪ ،‬فاألمــر يحتــاج‬ ‫لحضارتــه يف املــايض‪ ،‬وتعطيــه يف الحــارض فرصــة التجــدد‬
‫ِخططًــا جديــدة‪.‬‬ ‫واالندمــاج يف الحركــة الكون ّيــة للمعتقــدات الدين ّيــة‪ .‬ويف‬
‫لهــذا‪ ،‬فمحــارص ُة هــذه الظاهــرة املدمــرة‪ ،‬يســتوجب وضــع‬ ‫مواجهــة هــذا الــورم الخبيــث الــذي نشــأ يف األمــة‪ ،‬وضعــت‬
‫خطــة شــمولية‪ ،‬باإلضافــة إىل املناصحــة والخطــط األمنيــة‬ ‫الــدول التــي ابتُليــت بعــدواه‪ ،‬برامــج للتوعيــة واملناصحــة‪،‬‬
‫والرضبــات واملواجهــات العســكريّة‪ ،‬والرتكيــز عــى محاربــة‬ ‫إىل جانــب اعتــاد املقاربــة األمنيــة واملواجهــة العســكريّة‪.‬‬
‫الفكــر املتطــرف الــذي أنتــج "داعــش" وأمثالــه مــن‬
‫التنظيــات التكفرييّــة الدمويّــة‪.‬‬ ‫ويف الوقــت الــذي أدت املقاربــ ُة األمنيّــ ُة والعســكريّ ُة‬
‫للخــاص مــن جاهليــة هــذه التنظيــات ال يكفــي الوع ـ ُظ‬ ‫إىل تحقيــق بعــض املكاســب ودحــ ٍر جــز ٍّيئ لقــوات هــذه‬
‫واإلرشــا ُد والحديــثُ عــن وســطية اإلســام واعتدالــه؛‬ ‫ـي الــذي اعتمــد‬ ‫التنظيــات يف امليــدان؛ فــإ َّن املدخـ َـل الدينـ َّ‬
‫الفنــي الجــا ّيل أهميتُــه التــي يجــب‬‫ّ‬ ‫فللمدخــل الثقــا ّيف‬ ‫خطــة املناصحــة‪ ،‬أفلــح إىل ح ـ ٍّد مــا يف إعــادة الرشــد لكث ـرٍ‬
‫اســتحضارها‪.‬‬ ‫مهــا يف أن يص ِّحــح العديــ ُد‬ ‫مــن املغــ َّرر بهــم‪ ،‬وأدى دو ًرا ً‬
‫منهــم أفــكاره املنحرفــة ويراجعهــا‪ ،‬فص ّححــوا اعتقادهــم‪،‬‬
‫اجع الثقايفّ‬
‫الديني وتر ُ‬
‫ّ‬ ‫تضخم‬
‫ُ‬ ‫عــى الرغــم مــن أن بعضهــم عــاد إىل االرمتــاء يف أحضــان‬
‫تســاءل األســتا ُذ محمــد بنيــس يف أحــد مقاالتــه عــن أســباب‬ ‫اإلرهــاب مجــد ًدا‪ ،‬مواصـ ًـا الســر يف الطريــق الخطــأ‪ ،‬بعدمــا‬
‫الدينــي الــذي هيمنــت مظاهــره بشــكل مفــرط‬ ‫ّ‬ ‫تضخــم‬ ‫أوهــم القامئــن عــى املناصحــة باقتناعــه وبتخليــه عــن نهجه‬
‫عــى العــامل العــر ّيب‪ ،‬مــا أدى إىل تــرر الديــن نفســه‪ ،‬كــا‬ ‫الضــال وأفــكاره املضلــة‪ .‬واليــوم ســاد االقتنــاع لــدى القامئــن‬
‫أدى إىل تقلــص وانحســار مــا هــو ثقــا ّيف ومعــر ّيف‪.‬‬ ‫عــى املناصحــة بــرورة تغيــر خطتهــم واســراتيجيتهم‪.‬‬

‫* باحث وناقد مغريب‬


‫‪64‬‬

‫األرس والشــارع ووســائل اإلعــام واملدرســة وغريهــا‪.‬‬ ‫يقــول محمــد بنيــس يف معــرض جوابــه‪" :‬إ َّن اإلســام الــذي‬
‫ـاكل كثــرةٌ‪ ،‬وآثــار خطــرة‪:‬‬
‫تراج ـ ُع الثقــا ّيف نتجــت عنــه مشـ ُ‬ ‫ظــل أربعــ َة عــ َ‬
‫ر قرنًــا وف ًّيــا لقيمــه الدين ّيــة‪ ،‬ناضلــت‬ ‫َّ‬
‫تخلّــف الــذوق العــام‪ ،‬تــررت العالقــات االجتامعيــة‪،‬‬ ‫الشــعوب لحاميتــه والتمســك بــه‪ ،‬مــا ســاعد العقيــدة عــى‬
‫تراجعــت النقاشــات الفكريّــة واألدبيّــة‪ ،‬أُقيمــت محاكــم‬ ‫بقائهــا ثابتــة يف تربتهــا االجتامعيــة‪ .‬وبعــد االســتقالل‪،‬‬
‫تفتيــش للمفكريــن واملثقفــن‪ُ ،‬ح ّرمــت الفنــو ُن الجميلــة‪،‬‬ ‫شــهدت بلداننــا ميــاد حركــة سياســ ّية حديثــة ممثلــة يف‬
‫حــورصت إصــداراتٌ فكريّــة‪ ،‬اتُّهــم مبدعــون ومفكــرون‬ ‫األحـزاب التــي تــروم اإلســهام يف تدبــر الشــأن العــام وتأطــر‬
‫ـاب‬
‫بالكفــر‪ ،‬واضمحلــت القيــم الســامية التــي ترجمهــا الكتّـ ُ‬ ‫املواطنــن‪ ،‬مل تلــق التجربــة النجــاح املأمــول‪ .‬كــا شــهدت‬
‫والشــعرا ُء يف قصائدهــم وكتبهــم ومصنفاتهــم الثمينــة التــي‬ ‫‪-‬أيضً ــا‪ -‬حركــة ثقافيــة حديثــة‪ ،‬ضعيفــة العالقــة ب ُهويــة األمة‬
‫توارثناهــا‪.‬‬ ‫وبأصولهــا الثقاف ّيــة‪ ،‬وكان مصريهــا الفشــل أيضً ــا‪ .‬وتضافــرت‬
‫الدينــي عــى الحيــاة‬
‫ّ‬ ‫أســباب كثــر ٌة فــأدت إىل هيمنــة‬
‫ٌ‬
‫تراج ـ ُع الثقــا ّيف خلّــف آثــا ًرا ســيئ ًة عــى التنشــئة‪ ،‬فالدي ـ ُن‬ ‫العربيّــة بشــكل يص ُعــب الســيطرة عليــه‪ .‬مل ي ُعــد الديــن‬
‫مل يكــن أب ـ ًدا محــو ًرا وحي ـ ًدا للتنشــئة االجتامعيــة‪ ،‬بــل كان‬ ‫لالنتشــار بقيمــه ومبادئــه وحمولتــه كاملــة‪ ،‬بــل تضخــم‬
‫ُم َج ـ َّر َد ُم َك ـ ِّونٍ مــن مكونــات الثقافــة التــي كانــت تشــمل‪:‬‬ ‫ـويس املتمثـ ُـل يف العبــادات فقــط‪ ،‬دون اآلداب‬ ‫ـب الطقـ ُّ‬‫الجانـ ُ‬
‫تقليــدي‬
‫ٍّ‬ ‫الدينــي وكان يتــ ُّم بشــكلٍ مــرنٍ‬
‫ّ‬ ‫‪ .1‬التدريــب‬ ‫العامــة والقيــم‪ ،‬وه ّيمنــت النقاشــات املتعلقــة بالعبــادات‬
‫متــوارث‪.‬‬ ‫والجنــة والنــار والحجــاب وصيــام النافلــة وعــذاب القــر‪ ،‬يف‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪65‬‬

‫ـدل عــى‬ ‫تنمــي الــذوق وتهــذب الطبــع ومتتــع النفــس وتـ ُّ‬ ‫واالجتامعــي مــن خــال‬
‫ّ‬ ‫األخالقــي‬
‫ّ‬ ‫‪ .2‬التثقيــف املعــر ّيف‬
‫مــكارم األخــاق‪ ،‬فالشــع ُر العــر ُّيب قبــل اإلســام وبعــده‪،‬‬ ‫النصــوص األدب ّيــة واملصنفــات الثقاف ّيــة‪.‬‬
‫يحــوي ثــرو ًة هائل ـ ًة مــن الحكمــة والقيــم النبيلــة مصوغــة‬ ‫‪ .3‬ترقيــة الجانــب الجــا ّيل الوجــدا ّين‪ ،‬مــن خــال النصــوص‬
‫يف صــور بديعــة‪.‬‬ ‫الشــعريّة والفنــون الجميلــة املوســيقيّة واملعامريّــة‬
‫وإىل جانــب الشــعر‪ ،‬هنــاك املصنفــات األدب ّيــة التــي تُع ـ ُّد‬ ‫والتشــكيل ّية وغريهــا‪.‬‬
‫مصــادر تربويّــة تعليم ّيــة للقيــم واألخــاق واملعرفــة‪ ،‬تســهم‬ ‫الجوانــب كانــت متكاملــ ًة منســجم ًة ومتناغمــة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وهــذه‬
‫يف ترشيــب واســتيعاب الثقافــة العربيــة األصيلــة وقيمهــا‬ ‫ألنَّهــا كلهــا تتأســس عــى أصــو ٍل مشــركة دينيّــة واجتامعيّــة‪.‬‬
‫للناشــئة؛ بــل وتّتخــذ دليـ ًـا يف الحيــاة تســاعد عــى تلمــس‬
‫الســبيل املســتقيم وتخطــي الصعــاب وبنــاء الشــخصية‪.‬‬ ‫دو ُر الثقاف ِة يف التنشئ ِة االجتامع ّية‬
‫إ َّن الثقافـ َة كانــت تُعـ ُّد دو ًمــا مــن أهــم مدخــات العمليــة‬
‫صاحــب املصنفــات الرائعــة‪ ،‬ألّــف "عيــون‬ ‫ُ‬ ‫فابــن قتيبــة‪،‬‬ ‫مخرجــات تربويّــة ســليمة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫التنشــيئيّة‪ ،‬التــي ت ُســهم يف‬
‫األخبــار"‪ ،‬مؤكّ ـ ًدا وظيفــة املصنفــات األدبيّــة التــي ال تقـ ُّـل‬ ‫ولذلــك فــإ َّن محتــوى هــذه الثقافــة يكــون لــه أك ـ ُر األثــر‬
‫قيمـ ًة عــن غريهــا مــن املصنفــات يف الفقــه أو علــوم القــرآن‬ ‫يف إكســاب النــاس النظــام القيمــي‪ .‬فاملصنفــات األدب ّيــة‬
‫أو الســنة‪ ،‬فهــي تهــدي إىل مــكارم األخــاق كغريهــا مــن‬ ‫والفكريّــة مــن أهــ ِّم األوعيــة التــي تنقــل القيــم وتعــ ّرف‬
‫الكتــب الدينيــة‪ ،‬وبذلــك تــؤدي الوظيفــة نفســها التــي‬ ‫االجتامعــي‪ .‬ويف ذلــك‬
‫ّ‬ ‫وترســخها يف الجســم‬‫بهــا وتنرشهــا ّ‬
‫تؤديهــا تلــك الكتــب‪( :‬هــذا الكتــاب‪ ،‬وإن مل يكــن يف القــرآن‬ ‫قــال معاويــة لزيــاد يحثّــه عــى تعليــم ابنــه الشــعر‪" :‬مــا‬
‫دال عــى‬ ‫والســنة‪ ،‬ورشائــع الديــن‪ ،‬وعلــم الحــال والحـرام‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫العــاق ل َ َْرَيويــه‬ ‫منعــك أن تُ َر ِّويَــه الشــع َر؛ فواللــه إن كان‬
‫معــايل األمــور‪ ،‬مرشــد لكريــم األخــاق‪ ،‬زاجــر عــن الدنــاءة‪،‬‬ ‫ــر‪ ،‬وإن كان البخيــل لريويــه فيســخو‪ ،‬وإن كان الجبــان‬ ‫ف َي َ ّ‬
‫نــا ٍه عــن القبيــح‪ ،‬باعــث عــى صــواب التدبــر‪ ،‬وحســن‬ ‫لريويــه فيقاتــل"‪.‬‬
‫التقديــر‪ ،‬ورفــق السياســة‪ ،‬وعــارة األرض‪ .‬وليــس الطريــق‬ ‫ال ـراث األديب والفكــري الــذي أنتجتــه أمتنــا‪ ،‬يش ـكّل أه ـ َّم‬
‫كل الخــر مجتمعـاً يف تهجــد الليــل‪،‬‬ ‫إىل اللــه واحـ ًدا‪ ،‬وليــس ّ‬ ‫اإلســامي‪ ،‬وقــد كُتبــت معظــ ُم املؤلفــات‬ ‫ّ‬ ‫جوانــب الــراث‬
‫وعلــم الحــال والح ـرام‪ ،‬بــل الطــرق إليــه كثــرة‪ ،‬وأبــواب‬ ‫بلغ ـ ٍة أدب ٍّيــة رفيع ـ ٍة تســمو بالــذوق األد ّيب والــروة اللغويــة‬
‫درســا بلي ًغــا يف وجــوب احرتام‬
‫الخــر واســعة)‪ .‬ول ّقــن القــارئ ً‬ ‫ـال‪ِ ،‬‬
‫والحك َم‪،‬‬ ‫للقــارئ‪ .‬ومن يســتقرئ األشــعا َر العربيّــة‪ ،‬واألمثـ َ‬
‫حريــة الكتابــة والق ـراءة‪ ،‬ومراعــاة حــق الق ـراء والكتــاب يف‬ ‫ال بــد أنَّــه يجــد فكـ ًرا إنســانيًّا رائ ًعــا؛ ينفــذ مبــارشة إىل عقــل‬
‫االختــاف‪( :‬مثــل هــذا الكتــاب مثــل املائــدة تختلــف فيهــا‬ ‫الســامع وقلبــه‪ ،‬أو القــارئ‪ ،‬بحكــم شــكل هــذه النصــوص‬
‫مذاقــات الطعــوم الختــاف شــهوات اآلكلــن)‪.‬‬ ‫ـب عــى كثـرٍ مــن املواقــف‬ ‫وصياغتهــا‪ ،‬حتــى أصبــح التعقيـ ُ‬
‫التــي تتضمــن تربيــةً‪ ،‬بقــول شــاع ٍر أو بحكمــ ٍة أو مبثــلٍ ‪،‬‬
‫ـي‪ ،‬وإن‬ ‫وعيًــا منــه بــأ َّن الحلــول التــي يقدمهــا الخطاب الدينـ ّ‬ ‫تقلي ـ ًدا مهـ ًـا‪.‬‬
‫كانــت حلـو ًاًل ج ّيــدة يف بعــض األحيــان‪ ،‬فإنَّهــا تبقــى حلـو ًاًل‬ ‫إ َّن دراس ـ َة الشــعر العــريب دراس ـ ٌة للحكمــة وســحر البيــان‪،‬‬
‫‪66‬‬

‫النقــدي والجــا ّيل يف‬


‫ّ‬ ‫الــذي يــؤدي إىل ضعــف الجانبــن‬ ‫مجــاالت محــ ّدد ًة ومحــدودة‪ ،‬فــا يجــب‬ ‫ٍ‬ ‫جزئ ّيــة تغطّــي‬
‫شــخصية النــشء املســلم‪ ،‬مــا يدفعــه إىل االنســياق وراء‬ ‫إلغــاء دور اآلداب والعلــوم اإلنســان ّية والفنــون وغريهــا‪،‬‬
‫الدعــوات اإلرهابيّــة‪.‬‬ ‫ألهميتهــا يف تلبيــة الحاجــات املتنوعــة للنفــس البرشيــة‬
‫والعاطفــي‪ ،‬وتهذيــب النفــس‬ ‫ّ‬ ‫كمطالــب النمــو العقــي‬
‫الثقاف ُة اإلنسان ّي ُة ت ِّ‬
‫ُحص ُن العقل‬ ‫وغرائزهــا‪ .‬والق ـراء ُة الثقاف ّي ـ ُة العامــة يف الحقــول اإلنســانية‬
‫ركّــزت دراســ ٌة أجراهــا "مارتــن روز" الخبــ ُر يف املجلــس‬ ‫تطـ ّور الــذات اإلنســانية‪ ،‬وتنمــي قدراتهــا‪ ،‬وتكســبها املعارف‬
‫أي نــو ٍع مــن‬‫الثقــا ّيف الربيطــا ّين عــى محاولــة تحديــد ِّ‬ ‫والخــرات‪ ،‬وتســاعد عــى تحســن القــدرة عــى فهــم‬
‫األشــخاص يصبــح "إرهابيًّــا"‪ ،‬فخلُصــت إىل أ َّن غالبيــة‬ ‫اآلخريــن والتعاطــف معهــم‪ .‬وكثــ ٌر مــن مآســينا متعلقــ ٌة‬
‫"الجهاديــن" درســت يف كليــات علم ّيــة اختصاصــات كالعلوم‬ ‫بهــذا الجانــب‪ ،‬فأ ّمتنــا العربيــة ال تُصــدر ســوى عــد ٍد ضئيــلٍ‬
‫ـر ابتعادهــم عــن الفكــر‬ ‫الهندس ـ ّية والتكنولوج ّيــة‪ ،‬مــا يفـ ّ‬ ‫جـ ّدا مــن الكتــب‪ ،‬مــع إهــا ٍل للثقافــة اإلنســان ّية والفنــون‬
‫النقــدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الجميلــة‪ ،‬أ َّمــا حصـ ُة املواطــن العــر ّيب يف القـراءة فــا يتعــدى‬
‫وقــد بَيَّ َنــت الدراسـ ُة أ َّن معظــم املتخرجني‪ ،‬الذيــن ينخرطون‬ ‫معدلهــا ‪ 6‬دقائــق يف الســنة‪ ،‬مقابــل ‪ 36‬ســاع ًة يف أوروبــا‪.‬‬
‫يف الحــركات اإلرهاب ّيــة‪ ،‬درســوا الهندس ـ َة والعلــو َم والطــب‪،‬‬ ‫والفنــي‬
‫ّ‬ ‫الطقــي وانحســار الثقــا ّيف‬
‫ّ‬ ‫الدينــي‬
‫ّ‬ ‫إ َّن تضخــم‬
‫مــا يؤكّــد نتائــج دراســة ســابقة أجراهــا "دييغــو غامبيتــا"‬ ‫نتائــج وخيمــ ٍة عــى مســتوى التنشــئة‬ ‫َ‬ ‫الجــا ّيل أدى إىل‬
‫عــام ‪ ،2007‬أفــادت أ َّن مــا نســبته (‪ )48.5%‬مــن "الجهاديني"‬ ‫االجتامعيّــة‪ .‬فمجتمعاتنــا تعــاين تراج ًعــا ثقافيًّــا‪ ،‬وقلــة‬
‫الذيــن يتـ ُّم اســتقطابهم يف منطقــة الــرق األوســط وشــال‬ ‫اإلقبــال عــى قــراءة وترويــج الثقافــة األدبيّــة اإلنســانيّة‬
‫أفريقيــا هــم مــن الحاصلــن عــى تعليــم عــا ٍل‪ % 44 .‬مــن‬ ‫املكتوبــة‪ ،‬وإهــال تــام للجانــب الجــا ّيل الوجــدا ّين‪ .‬األمــر‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪67‬‬

‫والعلــوم السياســ ّية والرياضــة واملــرح وقــراءة الروايــات‬ ‫هــؤالء لديهــم شــهاداتٌ يف الهندســة‪ ،‬أ َّمــا بــن الجهاديــن‬
‫بــكل األســاك التعليم ّيــة‪.‬‬ ‫الذيــن يتـ ُّم اســتقطابهم يف الغــرب فتصــل نســبة املهندســن‬
‫فــإذا كانــت الدراســاتُ اإلنســانيّة والفلســفيّة تــريب عقــول‬ ‫إىل ‪ 59‬باملائــة‪ .‬وهــذا مــا ينســجم مــع نتائــج دراســة أخــرى‬
‫الشــباب وتعلمهــم النقــد‪ ،‬فــإ َّن الرتبيّــة الفنيّــة الجامليّــة‬ ‫تتعلــق بـ"اإلرهابيــن" يف تونــس‪.‬‬
‫تــريب قلوبهــم ووجدانهــم‪.‬‬
‫الدراســ ُة التــي أُجريــت عــى (‪ )31‬مــن الربيطانيــن‬
‫الفنونُ الجميل ُة ترتقي باألخالق‬ ‫تبــن منهــا أ ّن ‪ 18‬منهــم‬
‫املتورطــن يف هجــات إرهابيّــة‪ّ ،‬‬
‫إ َّن القاس ـ َم املشــرك بــن األخــاق الســامية والجــال هــو‬ ‫تابعــوا دراســات عليــا‪ ،‬و‪ 8‬منهــم درســوا الهندســة أو‬
‫األحاســيس الجميلــ َة مــن رسو ٍر ورضــا‪،‬‬
‫َ‬ ‫بعثهــا يف النفــس‬ ‫تكنولوجيــا املعلومــات‪ ،‬وثالثــة منهــم درســوا إدارة األعــال‪،‬‬
‫ويش ـكّالن مك ّونًــا مهـ ًـا مــن مبحــث القيــم العليــا؛ وهــي‪:‬‬ ‫وأ َّن اثنــن درســوا العلــوم الطب ّيــة‪ ،‬وأربعــة درســوا اإلحصــاء‬
‫الحــق والخــر والجــال‪ .‬يقــول األســتاذ عبــد الحليــم‬ ‫وعلــوم الرياضــة والصيدلــة والرياضيــات‪ ،‬يف حــن أ َّن واحـ ًدا‬
‫محمــود يف كتابــه "تربيــة الناشــئ املســلم" (‪ ":)1992‬إ َّن‬ ‫منهــم فقــط درس العلــوم اإلنســانية‪.‬‬
‫جــال األفعــال مالمئــ ٌة ملصالــح الخلــق‪ ،‬وقاضيــ ٌة لجلــب‬
‫املنافــع ورصف الــر عنهــم‪ ،‬لــذا ترتبــط الرتب ّيــة الجامل ّيــة‬ ‫حــض ُصدفــة‪،‬‬
‫ويعتقــد "مارتــن روز" أ َّن كل هــذا ليــس َم َ‬
‫بالرتبيــة األخالقيّــة‪ ،‬وتعــدان م ًعــا وجهــن لعملــة واحــدة‪،‬‬ ‫فدراســة املــواد العلميّــة ال تــؤدي إىل خلــق تفك ـرٍ نقـ ٍّ‬
‫ـدي‬
‫تكمــل الواحــدة األخــرى وتدعمهــا‪ .‬وكــا دعــا اإلســام إىل‬ ‫مبســتوى دراســة العلــوم اإلنســانية نفســها‪ .‬ويطــرح "روز"‬
‫مــكارم األخــاق وحــثَّ عــى التمســك بهــا‪ ،‬فإنَّــه دعــا إىل‬ ‫فكــر ًة مفادهــا أ َّن تدريــس العلــوم يجعــل الــدارس يف النهاية‬
‫االهتــام بالجانــب الجــا ّيل يف الحيــاة اإلنســان ّية ويف عاداتــه‬ ‫بــن قطبــن وحيديــن‪ ،‬هــا الصحيح وغــر الصحيــح‪ ،‬والخطأ‬
‫وعباداتــه‪".‬‬ ‫والصــواب ال غــر‪ ،‬وهــو مــا يح ـ ُّد مــن قــدرة طــاب العلــم‬
‫فالفنــو ُن الجميلــ ُة داخلــ ٌة يف خدمــة املقاصــد العامــة‬ ‫والهندســة عــى تطويــر الجوانــب النقديّــة يف شــخصياتهم‪،‬‬
‫للرشيعــة؛ فاالهتــا ُم بالجامليــات وفنونهــا يُســهم يف تقويــة‬ ‫وتجعلهــم فريس ـ ًة ســهلة للتنظيــات اإلرهاب ّيــة‪.‬‬
‫الصحــة العامــة والســلم األهــي‪ ،‬هــذان الجانبــان اللــذان‬
‫يشــهدان اليــوم انهيــا ًرا مر ّو ًعــا وتدهــو ًرا خطــ ًرا‪.‬‬ ‫مــع ذلــك الحــظ الخبــر " روز" أ َّن ‪ 70%‬مــن طــاب الــرق‬
‫األوســط وشــال أفريقيــا يدرســون العلــوم االجتامعيــة‪،‬‬
‫إ َّن التعاطــي مــع الفنــون الجميلــة تجعــل الشــخص أكــ َر‬ ‫أضعــف مــا هــو‬
‫ُ‬ ‫التدريــس يف هــذه الفــروع‬
‫َ‬ ‫رغــم أ َّن‬
‫إيجاب ّيــ ًة وأكــ َر إقبــاالً عــى الحيــاة ومحبــ ًة لغــره‪ .‬متزنًــا‬ ‫يخلــق نو ًعــا مــن النقــاش‬
‫ُ‬ ‫يف الفــروع العلم ّيــة‪ ،‬غــر أنَّــه‬
‫عقليًّــا‪ ،‬هادئًــا نفس ـيًّا‪ ،‬لذلــك فــإ َّن تربيــة الــذوق خ ـ ُر مــا‬ ‫واالجتهــاد‪ ،‬ويرفــض فكــرة األبيــض واألســود فقــط‪ .‬مــن‬
‫يقــدم إىل الناشــئ مــن ناحيــة تقويــم أخالقــه‪ ،‬أل َّن الــذوق‬ ‫هنــا نفهــم ســبب قيــام "تنظيــم داعــش" بإلغــاء الدراســات‬
‫الجــايل يشــمل الســلوك‪ ،‬وانعدامــه يــؤدي إىل خشــونة‬ ‫املتعلقــة باآلثــار والفنــون الجميلــة والقانــون والفلســفة‬
‫‪68‬‬

‫ومقاصدهــا العامــة‪ .‬ولعـ َّـل ذلــك راجــع إىل نظامنا التنشــيئي‬ ‫املعاملــة وســوء الســلوك‪ .‬فالتعلــق والتمســك بالجــال‬
‫الــذي يســتند إىل رؤى تقليديّــة منقطعــة الصلــة بالواقــع‬ ‫يســاعدان عــى التمســك بالخــر والنفــور مــن الــر‪ ،‬ومــن‬
‫مــن جهــة‪ ،‬وهــو مــا يغــذي الشــك تجــاه مختلــف الفنــون‬ ‫ثــم يؤديــان إىل تنميــة األخــاق الحســنة‪ ،‬مــا يُ َعـ ُّد مــن أهــم‬
‫واآلداب لــدى الســواد األعظــم مــن املواطنــن‪ ،‬ويصــل األمــر‬ ‫أهــداف الرتبيــة الجامليّــة‪ .‬والعنايــة بهــذه الرتبيــة ونرشهــا‬
‫إىل حــ ِّد النفــور منهــا ورفضهــا باســم التديــن أو االلتــزام‪،‬‬ ‫يخــدم الرتبيــة ال ُخلُقيــة ويدعمهــا‪ ،‬أل َّن النــشء الــذي نضــج‬
‫أو باســم املحافظــة عــى األصــول والتقاليــد لــدى أبنــاء‬ ‫يف ذهنــه الــذوق الجــا ّيل وقـ ّدره يتطلــع إىل مثال ّيــة ســامية؛‬
‫التيــارات اإلســامية‪ ،‬األمــر الــذي يتعــارض مــع املقاصــد‬ ‫مثاليــة الحــق‪ ،‬والخــر‪ ،‬والجــال فيصـ ّور الفضيلــة يف شــكلٍ‬
‫العامــة للرشيعــة اإلســاميّة‪.‬‬ ‫ّاب يناســب أ ْن يصــر ُخلُق ـاً فيــه‪.‬‬
‫ج ـذ ٍ‬

‫وكــون اإلســام منه ًجــا شـ ً‬


‫ـاماًل للحيــاة فهــو يُعنــى باعتــاد‬ ‫يقــول األســتاذ إبراهيــم البيومــي‪ :‬إ َّن عالقــة الفنــون الجميلــة‬
‫الفنــون واآلداب كجــزء مهــم مــن هــذا املنهــج؛ أل َّن ميــدان‬ ‫ـوض وشـ ٌـك ونفــور‬ ‫باملقاصــد العامــة للرشيعــة يكتنفهــا غمـ ٌ‬
‫عمــل الفنــون الجميلــة هــو بنــاء الوجــدان‪ ،‬وترقيــة الــذوق‪،‬‬ ‫يف الوعــي اإلســامي املعــارص بصفــة عامــة‪ ،‬والشــباب‬
‫ومــن ثــم الســمو بالعواطــف واملشــاعر‪ ،‬وتغذيــة الــروح مبــا‬ ‫املســلم ال ميتلــك رؤي ـ ًة واضح ـ ًة لوظيفــة هــذه الفنــون وال‬
‫يســهم يف تحقيــق الســكينة والطأمنينــة الفرديّــة والجامع ّيــة‪.‬‬ ‫ألهميتهــا يف الحيــاة‪ ،‬وعالقتهــا بقيــم املرجع ّيــة اإلســام ّية‬
‫وميــدان الوجــدان هــو ذاتــه امليــدان األول لعمــل رســالة‬
‫اإلســام يف النفــس اإلنســانية‪.‬‬

‫املسؤولي ُة يتقاسمها الجميع‬


‫قــال أحــ ُد حكــاء الــرق‪" :‬عندمــا نريــد تعليــ َم عقــول‬
‫الشــباب‪ ،‬فــا ينبغــي أن نغفــل تعليــم قلوبهــم"‪ .‬فالتعلي ـ ُم‬
‫الــذي يتو ّجــه إىل العقــل والقلــب يكــون مؤثــ ًرا‪ ،‬كــا‬
‫أ َّن الخطــط الرتبويّــة التوجيه ّيــة التــي تشــرك فيهــا كل‬
‫القطاعــات الحكوميّــة املعنيــة بالطفولــة والشــباب واألرسة‬
‫كالرتبيــة الوطنيــة والشــباب والثقافــة والشــؤون اإلســامية‬
‫الظالمــي‬
‫ّ‬ ‫وغريهــا تكــون ف ّعالــ ًة مثمــرة‪ ،‬فمحاربــ ُة الفكــر‬
‫اإلرهــا ّيب‪ ،‬هــي مســؤولي ُة الجميــع‪ ،‬أفـرا ًدا ومؤسســات‪ ،‬فضـ ًـا‬
‫عــن حاميــة أمــن األف ـراد والبــاد‪.‬‬

‫‪Photo Bexar Arms on Unsplash‬‬


‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪69‬‬

‫ثقاف ُة اإلرهاب‬
‫وتدم ُري تراث األجداد‬
‫د‪ .‬هدى الميموني*‬

‫كل البــر وليــس شــعبًا أو حكومـ ًة أو فــر ًدا بعينــه‪ ،‬فالـراثُ ملـ ٌـك‬ ‫مهمـ ُة الحفــاظ عــى الـراث قضيـ ٌة إنســانيّ ٌة تهـ ُّم َّ‬
‫لإلنســانية جمعــاء‪ ،‬ومــن يقلِّــب ناظريــه ويبحــر يف عجائــب ال ـراث العامل ّيــة يجــد مــا يدفعــه يك ينطــوي تحــت‬
‫أول مــن يدفــع فاتــورة الحــروب واإلرهــاب يف العــامل‪ ،‬فدامئًــا‬ ‫ـري ُ‬
‫لــواء حاميــة هــذا الـراث‪ ،‬وال شـ َّـك أ َّن الـراثَ األثـ ّ‬
‫كان مــن اآلثـــــار السيئــــة للحــروب التــي عانــت منهــا اإلنســانية ‪ -‬إىل جانــب اآلثـــــــــار االقتصاديّــة واالجتامع ّيــة‬
‫ـاذج عــى هــذا عديــد ٌة‬ ‫ـب الــذي حــدث لآلثــار باعتبارهــا تراثًــا إنســانيًّا عامليًّــا‪ ..‬والنـ ُ‬ ‫والنفس ـيّة – ذلــك التخريـ ُ‬
‫ومتنوعــة‪.‬‬

‫اختــارت اللجنـ ُة الدول ّيـ ُة للفنــون يف منظمــة الثقافــة والعلــوم والرتبيــة " اليونســكو “‪ ،‬وهــي منظّمـ ٌة عامل ّيـ ٌة مق ّرهــا‬
‫باريــس "برنامــج ديج ـرايس‪ /‬الكتابــة اإلبداعيــة " ليكــون موضــوع جائزتــه هــذا العــام حــول اإلبداعــات الكتابيّــة‬
‫تأســس هــذا الربنامــج يف ســانتا كــروز شــال كاليفورنيــا عــى بعــد ‪ 45‬ميـ ًـا جنــويب ســان‬ ‫لحاميــة ال ـراث‪ ،‬وقــد ّ‬
‫فرانسيســكو‪ ،‬وقــد ّأسســه الدكتــور كارل ديج ـرايس يف ذكــرى ابنتــه "باميــا"‪ ،‬وهــي ن ّحات ـ ٌة وشــاعرة‪ ،‬وذلــك كمق ـ ٍر‬
‫إلقامــة املبدعــن‪ ،‬ومنــذ ذلــك التاريــخ قـ ّدم الربنامــج " هديــة الوقــت ‪ “ The Gift of Time‬لثاممنائــة مبــدع‪ .‬ومــن‬
‫يحصــل عــى فرصــة االش ـراك يف هــذا الربنامــج هــم املبدعــون ذوو الســمعة الرفيعــة واملكانــة املحليّــة والدوليّــة‪،‬‬
‫ويهــدف إىل دعمهــم مــن خــال توفــر التســهيالت كافــة‪ ،‬وفــرص التحــاور وتبــادل األفــكار‪ ،‬وتط ـ ّور املفاهيــم‪.‬‬
‫ـات مج ّهــزة‪ .‬وفــوق هــذه األرض؛‬ ‫ويقــع مقـ ُّر الربنامــج عــى املحيــط الهــادئ‪ ،‬يف مزرعـ ٍة ضخمــة‪ ،‬وغابــة تحــوي طرقـ ٍ‬
‫وعــى مــدى خمســة آالف عــام عاشــت قبائــل " أوهلــون " مــن الهنــود الحمــر يف قــرى صغــرة ميارســون حياتهــم‬
‫اليوميّــة‪ .‬واليــوم قــام الربنامــج بالحفــاظ عــى األرض بصورتهــا الطبيعيّــة وتوفريهــا –كاملــة‪ -‬للمبدعــن يك يقيمــوا‬
‫فيهــا‪.‬‬

‫إاَّلَّ إ َّن املــأزق الــذي تواجهــه بــاد العــامل كلهــا بدرجــات متفاوتــة هــو الحاجــة ايل حاميــة املــايض؛ ولذلــك َع ِملــت‬
‫منظم ـ ُة األمــم املتحــدة للرتبيــة والعلــوم والثقافــة (اليونســكو) عــى تشــجيع إحيــا ِء ال ـراث الثقــا ّيف والطبيعـ ّ‬
‫ـي‬
‫وحاميتــه يف أنحــاء العــامل‪ ،‬باعتبــاره قيمـ ًة بــارز ًة للجنــس البـ ّ‬
‫ـري‪ ،‬ثــم ات ّســع مفهــو ُم "الـراث" ليصبــح دليـ ًـا للــايض‬
‫ومرياث ـاً للمجتمــع الحــارض‪ ،‬يتناقلــه األبنــاء عــن اآلبــاء‪ ،‬فكانــت "فرنســا" أ ّو َل مــن اســتثمرت ال ـراث ســيكولوج ًّيا‬
‫ومال ًّيــا يف االقتصــاد والســياحة‪ ،‬بعــد ثورتهــا حينــا أطلقــت عليــه "متاحــف املجتمــع" حيــث اســتهدفت الحفــاظ‬

‫* باحثة وكاتبة مغربية‬


‫‪70‬‬

‫عــى الحــرف اليدويّــة التــي متثّــل ال ُهويــة الرتاث ّيــة (الفلكلــور) لقطاعــات املجتمــع‪ ،‬والكلمــ ُة مك ّونــ ٌة مــن مقطعــن األول‬
‫"فولــك" مبعنــى " مجتمــع"‪ ،‬والثــاين " لــور" مبعنــى "حكمــة "‪.‬‬
‫ـي وكنــوز الكنيســة تليهــا انتهــاء‬ ‫كان هــدف فرنســا إرســاء ودعــم الدميوقراطيّــة كمرحلــة مه ّمــة يف تاريخهــا بعــد (الـراث الدينـ ّ‬
‫ـي بعــد الثــورة الفرنسـيّة‪ ،‬وأصبــح الـراثُ وفنــو ُن الفلكلــور‬ ‫مرحلــة القصــور الفاخــرة وتـراث امللــوك‪ .)..‬وصــودر الـراثُ الدينـ ّ‬
‫ـي‪ ،‬ومنــه ظهــرت مبــادئ املدن ّيــة‪.‬‬ ‫هــا الفكــرة البديلــة لالتصــال بــكل طبقــات املجتمــع‪ ،‬كهــدف قومـ ّ‬
‫ـكل أشــكاله ومعانيــه؛ وذلــك‬ ‫يف أعقــاب هــذه األحــداث اســتثمرت "منظمــة اليونســكو" مضمــون الحفــاظ وحاميــة الـراث بـ ِّ‬
‫يف مؤمت ـ ٍر ُعقــد يف الواليــات املتحــدة يف عــام ‪ 1965‬بواشــنطن‪ ،‬وقــد خــرج بالعديــد مــن التوصيــات أهمهــا إنشــاء "صنــدوق‬
‫كل األطـراف عــى‬ ‫ـي" مــن أجــل حاميــة "مناطــق العــامل الطبيعيّــة"‪ .‬ويف عــام ‪ 1972‬بســتوكهومل (الســويد) اتفقــت ُّ‬ ‫الـراث العاملـ ّ‬
‫أي موقـعٍ‬ ‫ـي" وأق ّرهــا املؤمتـ ُر العــام لليونســكو‪ ،‬بحيــث يصبــح ُّ‬ ‫ـي العاملـ ّ‬‫ـص "االتفاق ّيــة الخاصــة بحاميــة الـراث الثقــا ّيف والطبيعـ ّ‬
‫نـ ِّ‬
‫ذي قيمــة تاريخ ّيــة‪ ،‬وجامل ّيــة‪ ،‬وأثريّــة‪ ،‬وعلم ّيــة‪ ،‬واثنولوج ّيــة وأنرثوبولوج ّيــة‪ ،‬تراثًــا عامل ًّيــا‪.‬‬
‫وعــن كيفيــة عمــل هــذه االتفاقيــة‪ ،‬فــإ َّن "اليونســكو" ال تجــري أيــة توصيــات للقيــد‪ ،‬إال إنَّــه يجــب أن يتضمــن الطلــب‬
‫كل الرتشــيحات عــى‬ ‫ـي َّ‬
‫خريطــة توضــح بالتفصيــل كيــف يُــدار املوقــع‪ ،‬وكيــف تتــم حاميتــه‪ .‬وتفحــص لجنــة ال ـراث العاملـ ّ‬
‫متخصصــة؛ وذلــك طب ًقــا ملعايــر االختيــار‪ ،‬بدالئــل علم ّيــة‪ ،‬مبعنــى أ َّن املوقــع إ َّمــا‬ ‫ّ‬ ‫أســاس تقديـرات تقن ّيــة عــن طريــق مجالــس‬
‫أ َّن ميثّــل تحفـ ًة مــن روائــع العبقريّــة اإلنســان ّية املبدعــة‪ ،‬أو قيمـ ًة إنســان ّي ًة يف حقبــة زمنيــة‪ ،‬أو مثــااًلً بــارزًا ملســتوطَنٍ بـ ٍّ‬
‫ـري‬
‫ـدي‪ ،‬أو مرتبــط بتقاليــد حيّــة‪ ،‬ومعتقــدات‪ ،‬ولــه أصالــة‪.‬‬ ‫تقليـ ّ‬

‫فادح‬
‫فاضح وخرسانٌ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫إهامل‬
‫ـري أ ّو ُل مــن يدفــع فاتــورة الحــروب واالحتــال يف العــامل‪ ،‬فدامئًــا كان مــن اآلثــار الســيئة للحــروب التــي‬
‫ال شـ َّـك أ َّن الـراثَ األثـ ّ‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪71‬‬

‫عانــت منهــا اإلنســان َّية ‪ -‬إىل جانــب اآلثــار االقتصاديّــة واالجتامع ّيــة والنفسـ ّية – ذلــك التخريــب الــذي حــدث لآلثــار باعتبارهــا‬
‫تراثًــا إنســان ًّيا عامل ًّيــا‪ ..‬والنـ ُ‬
‫ـاذج عــى هــذا عديــد ٌة ومتنوعــة‪.‬‬

‫فعندمــا قامــت إرسائيــل باحتــال فلســطني عــام ‪ 1948‬قامــت القــوات االرسائيليّــة بطمــس املعــامل التاريخيّــة للمســلمني‪،‬‬
‫ـيحي‪ ،‬أو حتــى الفرعــو ّين‪ ،‬وتف ّوقــت‬ ‫وكذلــك للمســيحيني‪ ..‬إرسائيــل مل ت ُفـ ّرق يف التدمــر والنهــب بــن الـراث اإلسـ ّ‬
‫ـامي أو املسـ ّ‬
‫عــى طالبــان يف أفغانســتان‪ ،‬وقامــت بحــرق وتدمــر اآلثــار التاليــة‪:‬‬
‫‪ -‬دير القديس جاورجيوس للروم األرثوذكس‪.‬‬
‫‪ -‬دير راهبات القربان املقدس املعروف بدير األخوات املصلحات‪.‬‬
‫‪ -‬دير القديس يوحنا التابع للروم األرثوذكس‪.‬‬
‫‪ -‬كنيسة القديسني قسطنطني وهيالنة املالصقة لكنيسة القرب املقدس‪.‬‬
‫‪ -‬دير املالك الرئيس التابع لبطريركية األقباط األرثوذكس الواقع فوق مغارة الصليب املقدس‪.‬‬

‫ـاب بعنــوان " اليهــود يعملــون عــى محــو املســيح ّية يف البــاد املقدســة " تأليــف عيــى نخلــة ممثــل الهيئــة‬‫ولقــد جــاء يف كتـ ٍ‬
‫العليــا لفلســطني؛ مــا يــي‪:‬‬
‫"يف يــوم عيــد امليــاد عــام ‪ 1952‬د ّمــر اليهــود باملتفجـرات قريـ َة (أقــرط) املســيحيّة يف فلســطني‪ ،‬ونســفوا كنيســتها الجميلــة‪،‬‬
‫ويف أكتوبــر ‪ 1953‬د ّمــرت القــوات اليهوديّــة القريــة املســيحية (كفــر برعــم ) يف الجليــل‪ ،‬وهدمــوا كنائســها ومدارســها‪ ،‬ويف ‪16‬‬
‫أبريــل ‪ 1954‬شـ ّنت إحــدى الطوائــف اليهوديّــة املتعصبــة هجو ًمــا عــى مقــرة الــروم الكاثوليــك يف حيفــا وكــروا ‪ 73‬صلي ًبــا‪،‬‬
‫ـااًل للمالئكــة‪ .‬ثــم ميــي مؤلــف الكتــاب ويذكــر أنَّــه خــال عــدوان ‪ 1967‬قصفــت القــوات اإلرسائيليــة بيــت‬ ‫وحطّمــوا ‪ 50‬متثـ ً‬
‫لحــم‪.‬‬

‫وقــد ذكــرت شــاهد ُة عيــان أمريك ّيــة ت ُدعــى (نانــي نــوالن ) وهــي زوجــة الدكتــور نجيــب (أبــو) حيــدر الطبيــب يف مستشــفى‬
‫الجامعــة األمريك ّيــة يف بــروت‪ ،‬يف رســال ٍة مفتوح ـ ٍة و ّجهتهــا إىل املســيحيني يف العــامل الغــريب عـ ّـا شــاهدته أثنــاء العــدوان‬
‫االرسائيــي عــى القــدس؛ فقالــت‪ " :‬بينــا تعلــن الســلطات اإلرسائيليّــة للعــامل أ َّن جميــع األديــان ســتكون موضــع االح ـرام‬
‫والحاميــة؛ فــإ َّن الجنــو َد والشـبّا َن اإلرسائيليــن يلقــون بقنابــل ذات رائحــة كريهــة يف كنيســة القيامــة‪ ،‬وأ َّن صــوت اآلذان الــذي‬
‫ـس مـر ٍ‬
‫ات يوم ًّيــا‪ ،‬مل يعــد يُســمع يف القــدس‪ ،‬وهــي ثالثـ ُة املــدن‬ ‫يدعــو املســلمني إىل الصــاة الــذي كان يف الســابق يُســمع خمـ َ‬
‫املقدســة لــدى مئــات املاليــن مــن املســلمني يف جميــع أنحــاء العــامل"‪.‬‬
‫‪72‬‬

‫ويف دراســ ٍة صــدرت عــن معهــد الدراســات الفلســطين ّية بعنــوان " تدنيــس الج ّبانــات املســيح ّية واملمتلــكات الكنســ ّية يف‬
‫إرسائيــل" جــاء فيهــا أ َّن القــوات اإلرسائيل ّيــة د ّمــرت الكنيســة األرمنيــة‪ ،‬واملعروفــة يف التقليــد أنَّهــا بُنيــت فــوق بيــت "قيافــا"‬
‫رئيــس كهنــة اليهــود يف زمــان الســيد املســيح‪ ،‬وهــي كنيس ـ ٌة أثريّ ـ ٌة ترجــع إىل القــرن الخامــس عــر‪.‬‬
‫ي بحــرق وتدمــر املســجد األقــى؛ األمــر الــذي أثــار اســتنكار‬ ‫ويف يــوم ‪ 21‬أغســطس ‪ 1969‬قامــت ســلطاتُ االحتــال اإلرسائيـ ّ‬
‫العــامل كلــه‪ .‬ويف هــذا املجــال أصــدر البابــا الراحــل "كريلــس الســادس" (‪ )1971 1959-‬بيانًــا قــال فيــه‪ ( :‬ه ّزتنــا مــن األعــاق‬
‫الجرميـ ُة النكـرا ُء التــي وقعــت عــى املســجد األقــى الــذي هــو مــن أهــم املقدســات العربيــة‪ ،‬والــذي يقــع يف أقــدس بقعــة‬
‫كل الشــعوب املؤمنــة باللــه وباملحبــة‬ ‫تتو ّجــه إليهــا قلوبنــا جمي ًعــا بالتكريــم والتقديــس‪ ،‬ويُعتــر االعتــدا ُء عليهــا اعتــدا ًءا عــى ِّ‬
‫للســام يف العــامل)‪.‬‬
‫وللمــرء أن يتســاءل‪" :‬كيــف نشــب هــذا الحريـ ُـق يف هــذا الوقــت بالــذات الــذي وقــع فيــه هــذا الجــر ُم الكبــر تحــت االحتــال‬
‫اإلرسائيــي‪ ،‬مــع أنَّــه قــد مضــت مئــات الســنني ومل يحــدث مثــل هــذا الحــادث البشــع الــذي نعتــره جرمي ـ ًة شــنعاء يف حـ ِّـق‬
‫مقدســات العــرب مســلمني ومســيحيني؟!‪.‬‬
‫إ َّن الــذي يحــدث اليــوم يف القــدس بعــد هــذا الحــادث الخطــر ال يجــوز التهويــن يف أمــره‪ ،‬فهــو يف ذاتــه كارثـ ٌة دهــاء وإثــار ٌة‬
‫ـي الــذي ال بــد أن يلتهــب يف حـرارة النــار وقوتهــا‪ ،‬وال ميكــن بعــد ذلــك أن يتنبــأ بالنتائــج الوخيمــة التــي‬ ‫مغيظــة للشــعور الدينـ ّ‬
‫كل مــن‬ ‫ترتتــب عــى هــذا العمــل املــؤمل الــذي يتحـ ّدى مشــاعر الجامهــر يف مقدســاتها ومحرماتهــا‪ .‬إنَّنــا نعلــن غضبنــا عــى ِّ‬
‫تسـبّب يف هــذا الخـران الفــادح‪ ،‬ونســتنكر بشـ ّدة هــذا اإلهــال الفاضــح للمقدســات‪ ،‬ونح ِّمـ ُـل إرسائيـ َـل تبعـ َة هــذا العمــل‬
‫ازي والنتائــج املؤســفة التــي تنجــم عنــه ‪......‬الــخ)‬
‫االســتفز ّ‬
‫ـري الــذي أهــداه‬‫كــا قامــت الســلطاتُ اإلرسائيل ّيـ ُة بنــزع "ديــر الســلطان" مــن ملكيــة األقبــاط يف القــدس‪ ،‬وهــو الديـ ُر األثـ ُّ‬
‫الســلطان صــاح الديــن األيــو ّيب لألقبــاط مكافــأ ًة لهــم عــى موقفهــم مــن الحملــة الصليب ّيــة‪ ،‬وأعطــوه لألحبــاش؛ وذلــك عقابًــا‬
‫ي عــى مدينــة القــدس‪ .‬فأثنــاء انشــغال األقبــاط‬ ‫للكنيســة القبطيّــة األرثوذكس ـيّة عــى موقفهــا املعــادي للعــدوان اإلرسائي ـ ّ‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪73‬‬

‫بصــاة قــداس عيــد القيامــة املجيــد يف عــام ‪ ،1970‬قامــت الســلطات اإلرسائيل ّيــة بطــرد الرهبــان األقبــاط مــن الديــر‪ ،‬وتســليمه‬
‫للرهبــان األحبــاش رغــم املحــاوالت املضنيّــة التــي بذلتهــا الدبلوماس ـيّة املرصيّــة بالتعــاون مــع الكنيســة القبطيّــة مــن أجــل‬
‫اســتعادة ملكيــة الديــر لألقبــاط ‪.‬‬

‫مربمج‬
‫ٌ‬ ‫تدم ٌري‬
‫أ َّمــا عــن ســيناء املرصيّــة فلقــد قامــت ســلطاتُ االحتــال اإلرسائيــي بحــرق جــز ٍء مــن "ديــر ســانت كاتريــن" يف ســيناء‪ ،‬وجــاء‬
‫ذلــك خــال عــام ‪ ،1971‬وهــو مــن أقــدم وأعــرق األديــرة يف العــامل‪ ،‬إذ يرجــع تاري ُخــه إىل القــرن الســادس امليــادي‪ ،‬وقــد امتـ ّد‬
‫ـب مــن مكتبــة الديــر الثمينــة‪ ،‬كــا ُد ّمــرت بيــوت الرهبــان‪.‬‬ ‫الحريـ ُـق إىل جانـ ٍ‬
‫ومــن املعــروف أ َّن يف الديــر كنــوزًا أثريّ ـ ًة ال ت ُق ـ ّدر مبــال‪ ،‬إذ تحتــوي مكتبــة الديــر عــى مــا يقــرب مــن حــوايل( ‪) 4245‬‬
‫مخطوط ـ ًة مبختلــف اللغــات‪ ،‬وأيقونــات يرجــع تاريخُهــا إىل القــرن الخامــس امليــادي‪ .‬وتؤكِّــد املصــاد ُر العلميَّــة أ َّن إرسائيــل‬
‫أرادت رسقــة كنــوز الديــر؛ فعمــدت إىل إشــعال النــار يف الديــر حتــى تخفــي معــامل جرميتهــا‪ .‬ولقــد أصــدرت منظمــة اليونســكو‬
‫بيانًــا يديــن إرسائيــل ويح ّملهــا مســؤولية هــذا الحــادث‪.‬‬
‫ي برسقــة العديــد مــن اآلثــار املرصيّــة املوجــودة باملنطقــة‪.‬‬ ‫وأثنــاء االحتــال اإلرسائيــي لســيناء –أيضً ــا‪ -‬قــام العــدو اإلرسائيـ ّ‬
‫ـب قامــت بهــا‬ ‫ـابق لهيئــة اآلثــار املرصيّــة املرحــوم الدكتــور أحمــد قــدري أنَّــه كشــف أعـ َ‬
‫ـال نهـ ٍ‬ ‫ـس السـ ُ‬ ‫ولقــد أشــار الرئيـ ُ‬
‫إرسائيــل لآلثــار املرصيّــة يف ســيناء؛ وأكَّــد يف النــدوة التــي نظّمتهــا لــه نقابــة الصحفيــن يف مــارس ‪ 1988‬أ َّن إرسائيــل هــي العــد ُّو‬
‫ـايس ملــر‪ ،‬وهــي تعمــل جاهــد ًة عــى تفريــغ فكــر الـراث املــري مــن ُهويتــه الثقاف ّيــة والرتاث ّيــة‪.‬‬ ‫األسـ ّ‬
‫ـي يف بغــداد بعــد ســقوط نظــام‬ ‫ـب املتحــف العراقـ ّ‬ ‫ومــن أشــهر حــوادث التدمــر التــي حدثــت لآلثــار العراق ّيــة‪ ،‬هــو نهـ ُ‬
‫ـلب منظمــة اســتمرت يومــن عــى التــوايل‪ ،‬ومتــت عمليــة‬ ‫ـب وسـ ٍ‬ ‫صــدام حســن عــام ‪ ،2003‬إذ تعـ ّرض املتحـ ُـف لعمليــات نهـ ٍ‬
‫النهــب بالتنســيق مــع ثــاث مجموعــات‪:‬‬
‫‪ .1‬املجموعــة األوىل‪ :‬قــام بهــا أفـرا ٌد عاديــون ليــس لهــم عالقــة باآلثــار‪ ،‬وإمَّنَّ ــا اقتــرت رسقاتُهــم عــى خزانــة املتحــف ومرتبــات‬
‫املوظفــن العاملــن فيه‪.‬‬
‫‪ .2‬املجموعة الثانية‪ :‬نهب أفرا ُدها قاعات املتحف ورسقة التحف املعروضة‪.‬‬
‫‪ .3‬املجموعة الثالثة‪ :‬رسقت التحف واملقتنيات املوجودة باملخازن‪.‬‬
‫ولقــد قــدرت هيئ ـ ُة "اليونســكو" مجموع ـ َة التحــف التــي فُقــدت بحــوايل ‪ 170000‬قطعــة أثريّــة مــن أنــدر التحــف التــي‬
‫تحــوي كنــوز الحضــارة الســومريّة والبابل ّيــة واآلشــوريّة والعرب ّيــة اإلســام ّية‪ .‬وظـ َّـل املتحــف مغل ًقــا بعــد عمليــات النهــب‬
‫والســلب(‪ )6‬ســنوات حتــى أُعيــد افتتاحــه مــر ًة أخــرى يف يــوم ‪ 22‬فربايــر ‪ .2009‬ومل تقتــر عمليــاتُ النهــب والرسقــة عــى‬
‫ـي فقــط؛ بــل امتــدت –أيضً ــا‪ -‬إىل اآلثــار الخارج ّيــة‪ .‬وتذكــر الدكتــورة زينــب بح ـراين أســتاذة اآلثــار‬ ‫ـي العراقـ ّ‬
‫املتحــف الوطنـ ّ‬
‫ات األمريك ّيــة حينــا حلّقــت فــوق مدينــة بابــل األثريّــة أزالــت طبقـ ٍ‬
‫ـات مــن الرتبــة‬ ‫الرشق ّيــة يف جامعــة كولومبيــا أ َّن الطائـر ِ‬
‫ـقف معبـ ِـد "نابــو" إلــه الحكمــة والكتابــة عنــد البابليــن و"نيــار" اللذيــن يرجعــان إىل ‪ 6000‬ســنة قبــل‬ ‫األثريــة‪ ،‬كــا تهـ ّدم سـ ُ‬
‫‪74‬‬

‫ـب يف بوابــة عشــتار‪ ،‬وهــي البوابــة الثامنــة ملدينــة بابــل األثريّــة بناهــا نبوخــذ نــر عــام ‪ 575‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫امليــاد‪ .‬كــا حــدث تخريـ ٌ‬
‫ويف أفغانســتان وبنــا ًء عــى فتــوى مــن "املــا عمــر" أمــر جامعــة طالبــان‪ ،‬طُلــب هــد ُم متثــا ِل "بــوذا" األثـ ّ‬
‫ـري املوجــود هنــاك‬
‫بدعــوى أنَّهــا أصنــام‪ .‬وعندمــا علــم مديــر "اليونســكو" بهــذه األمــر دعــا أعضــاء املؤمتــر اإلســامي الـــ‪ ،45‬والتمس منهــم التدخل‬
‫التامســا رفعــوه إىل‬
‫ً‬ ‫اث إنســا ٍّين خالــد؛ وبالفعــل أصــدر أعضــاء املؤمتــر اإلســامي‬ ‫لــدى املــا عمــر ملنــع هــذه الهجمــة ضــد تـر ٍ‬
‫املــا عمــر لوقــف عمليــة التدمــر‪ ،‬إال إنَّــه ر َّد عليهــم بقوله‪":‬يجــب عــى املســلمني أن يكونــوا فخوريــن بتحطيــم األصنــام‪،‬‬
‫ـري‬
‫ونحــن نحمــد اللــه أنَّنــا قمنــا بتحطيمهــا"‪ .‬وبالفعــل ويف يــوم ‪ 2‬مــارس ‪ 2001‬بــدأت حركــة طالبــان يف رضب التمثــال األثـ ّ‬
‫بالديناميــت‪ ،‬ومل يســتجب أعضــا ُء "حركــة طالبــان" اللتــاس أعضــاء املؤمتــر اإلســامي وال لدعــوة "اليونســكو" لوقــف عمليــة‬
‫الهــدم‪ .‬تلــك هــي ثقافــة اإلرهــاب‪..‬‬

‫املصادر واملراجع‪:‬‬

‫‪ .1‬د‪ .‬زاهي حواس ‪-‬الحروب ونهب الرتاث ‪،‬عالقة متبادلة ‪ -‬مركز املحروسة للنرش‪.‬‬
‫القاهرة‪ 2019.‬م‪.‬‬
‫‪2-Artwork reproduced courtesy of Abroiginal Artists Agency ,‬‬
‫‪by Australin Consolidated Press, Sydney . Condensed from the‬‬
‫‪.Observer – London2017‬‬
‫‪3-UNESCO World Heritage Centre - World Heritage in Danger‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪75‬‬

‫تواريت يك ال أختفي‬
‫ُ‬
‫(سؤال املوت أم موت السؤال)‬
‫د‪ .‬محمود سعيد*‬

‫فقــط‪ ،‬بــل ىف التوظيــف الــدال ّيل عــر اللغــة والشــخوص‬ ‫العنــوا ُن هــو االس ـ ُم الــذى ميثّــل العمـ َـل ويعــر عنــه‪ ،‬وهــو‬
‫واملواقــف والحــوار؛ ولذلــك نجــد الكاتــب يحــاول‪ -‬قــدر‬ ‫العالمــة البرصيّــة األكــر التــى تتصــدر العمــل ومتثّلــه‪،‬‬
‫النــص‪.‬‬
‫مدخــا لفهــم ّ‬ ‫ً‬ ‫املســتطاع‪ -‬أن يجعــل العنــوان‬ ‫ـص‪ ،‬باعتبــاره‬ ‫فهــو لحظــة االتصــال األوىل بــن القــارىء والنـ ِّ‬
‫فالعنــوا ُن إشــار ٌة إىل مــا تحتويــه املرسح ّيــ ُة وفــق رؤيــة‬ ‫مفتا ًحــا أساس ـ ًّيا يتس ـلّح بــه القــارىء للوصــول إىل أعــاق‬
‫النــص يلتصــق بالعنــوان‪ ،‬إذ‬ ‫ِّ‬ ‫الكاتــب وأهدافــه‪ ،‬فمفتــاح‬ ‫النــص والحافــز إىل اقتنائــه‪.‬‬
‫ِّ‬
‫العنــوا ُن قــ ّو ٌة تثــر يف املتلقــي فضولــه‪ ،‬ويطالــب املتلقــي‬ ‫وقــد حظــي العنــوا ُن بأهميّــ ٍة كبــرة ىف مــرح "بــال‬
‫إعــال عقلــه‪ .‬فالعنــوان عبــارة عــن رســالة‪ ،‬وهــذه الرســالة‬ ‫تواريت‬
‫ُ‬ ‫ـي الــذي نحــن بصــدده "‬ ‫نصــه املرسحـ ّ‬
‫املــري"‪ ،‬ويف ِّ‬
‫يتبادلهــا املرســل واملرســل إليــه‪ ،‬فيســاهامن يف التواصــل‬ ‫ـص إال مــن عنوانــه‪ ،‬وال‬ ‫يك ال أختفــي" حيــث ال مدخــل للنـ ِّ‬
‫املعــر ّيف والجــا ّيل‪ ،‬هــذه الرســالة مس ـ ّننة بشــيفرة لغويّــة‪،‬‬ ‫النــص الــذى ينتمــى إليــه‪،‬‬ ‫فهــم للعنــوان إال مــن خــال ِّ‬
‫يفكّكهــا املســتقبل عــر أحــداث املرسحيّــة وشــخوصها‪.‬‬ ‫فالعالقــة بينهــا حميميّـ ٌة ومتداخلـةٌ‪ ،‬وإذا تح ّقــق لنــا ذلــك‪،‬‬
‫ـص يفــي‬ ‫ـص‪ ،‬كــا أ َّن النـ َّ‬
‫وكــا قلنــا العنــوان يفــي إىل النـ ِّ‬ ‫ميكــن أن نعــرف عمقــه الــدال ّيل ونالمــس حقيقتــه الجامليّــة‪،‬‬
‫إىل العنــوان‪ ،‬نحــن أمــام عنــوان مربــك حقًــا‪ ،‬يحمــل يف‬ ‫فهــو مبثابــة القمــة مــن القاعــدة أو الــرأس مــن الجســد‪،‬‬
‫ط ّياتــه الســؤال واإلجابــة‪ ،‬القــرار والنتيجــة‪ ،‬املقدمــات‬ ‫فــا ميكــن أن يســتغني أحدهــا عــن اآلخــر‪ ،‬وإذا حــدث‬
‫كاشــف لحــرة‬ ‫ٍ‬ ‫امــي مــراوغ‪،‬‬
‫والخواتيــم‪ ،‬يف طــر ٍح در ٍّ‬ ‫ـص ال ُهويّــة‪.‬‬‫وافتقدنــا واح ـ ًدا منهــا صــار العمــل ناقـ َ‬
‫اإلنســان عندمــا تتقاذفــه األقــدار األكــر تعقي ـ ًدا‪ ،‬لدرجــة‬ ‫واملؤلــف ميتلــك قــدر ًة شــديد ًة عــى اســتنطاق العناويــن‬ ‫ُ‬
‫أنَّــه ال يعــي دوره وال كينونتــه‪ ،‬بــل ال يــرى ذاتــه نفســها‬ ‫املميــزة‪ ،‬فالعنــوان ىف مرسحــه يرســم بلغتــه املكثفــة تصـ ّو ًرا‬
‫داخــل إطــا ٍر محــ ّدد‪ ،‬هــو كالريشــة تتقاذفهــا الريــاح‪،‬‬ ‫يف ذهــن القــارئ‪ ،‬ملــا بصــدد قراءتــه يف النــص املعنــون‪،‬‬
‫يعشــق الحيــاة‪ ،‬إال إنَّــه يحيــا يف قلــب املــوت‪ ،‬الســكون يف‬ ‫أو يثــر أســئل ًة ىف ذهــن القــارىء تبحــث عــن إجاباتهــا ىف‬
‫خضــم الجحيــم‪ ،‬كــا تقــول كلــات املرسحيّــة‪" :‬الوفــا ُء‬ ‫ـص‪،‬‬ ‫ـص‪ ،‬ومــن هنــا يــرز مــدى ارتبــاط العنــوان بالنـ ِّ‬ ‫ذلــك النـ ِّ‬
‫ـب أكل نفســه ثــم اختنــق بأنيابــه" املرسح ّيــة ص(‪)4‬؛‬ ‫ذئـ ٌ‬ ‫فيغــدو العنــوا ُن عتبــ ًة مه ّمــ ًة ترشــد القــارئ يف قراءتــه‬
‫لتقـ ّرر كلــات املرسح ّيــة أ َّن الـرا َع شــدي ُد التعقيــد مــا بــن‬ ‫ـت) والهــدف (يك ال أختفــي)‪.‬‬ ‫للنــص مــا بــن الق ـرار (تواريـ ُ‬
‫الداخــل والخــارج‪ ،‬الحيــاة واملــوت‪ ،‬الوفــاء والخيانــة‪ ،‬هــي‬ ‫ويظـ ُّـل العنــوا ُن عالمـ ًة فارقـ ًة لــدى املؤلــف‪ ،‬وكــا يقولــون‬
‫مجمــوع مــن املتناقضــات تؤطــر الحــدث والشــخصيّة يف‬ ‫النــص يفــي إىل‬ ‫َّ‬ ‫النــص‪ ..‬كــا أ َّن‬
‫ِّ‬ ‫إ َّن العنــوان يفــي إىل‬
‫آنٍ واحــد‪.‬‬ ‫العنــوان؛ مبعنــى أ َّن غرائب ّيــة العنــوان ال تبــدو ىف املنطــوق‬

‫* ناقد مرسحي مرصي‬


‫‪76‬‬

‫حضو ُر املوت أم استدعاؤه؟‬


‫الوجوديّــة؛ لدرجــة أن يقــع اإلنســان يف منطقــة وســطى‪،‬‬ ‫عندمــا يتحــ ّول املــوتُ إىل ســاح الذاكــرة الحيّــة التــي‬
‫ال هــي الحيــاة وال هــي املــوت الكامــل‪ ،‬هــي الالحيــاة‬ ‫تختــزن قــد ًرا وف ـ ًرا مــن األحــداث والرمــوز الثقاف ّيــة‪ ،‬فإنّــه‬
‫والالمــوت؛ حيــث تقــول كلــاتُ املرسح ّيــة‪" :‬إذن ملــاذا‬ ‫يقــوم –عربهــا‪ -‬عــى إشــهار الكتابــة بــكل مــا تختزنــه مــن‬
‫تركتنــي يف هــذا الشــتات دون أن أحيــا ودون أن أمــوت‪،‬‬ ‫حــدود معرف ّيــة وحــدود خيال ّيــة يف وجــه املــوت الــذي‬
‫املرسحيــة ص(‪.)9‬‬ ‫ـري املــوت‬ ‫يرتبــص بالجســد‪ ،‬وهــو بعبــارة أخــرى "يفضــح عـ َّ‬
‫املــرح لعبــ ُة الخيــال واالفــراض؛ فإنَّــه قــاد ٌر عــى‬
‫َ‬ ‫وأل َّن‬ ‫باإلشــارة إىل كونــه ال يســتطيع أن ينــال مــن ضحيتــه ســوى‬
‫إعــادة النظــر يف أكــر القضايــا‪ ،‬ومناقشــة أكــر املفاهيــم‬ ‫األعضــاء الهشّ ــة‪ ،‬لك ّنــه يف املقابــل ال يقــوى عــى ابتــزاز‬
‫والتصــ ّورات رســوخًا‪ ،‬والعبــث – نعــم العبــث – بأعــرق‬ ‫حمولتــه الرمزيّــة تلــك التــي ســتمكّنه مــن املكوث خالـ ًدا يف‬
‫تقويــض لألفــكار املهزومــة‬
‫ٌ‬ ‫الحقيقــي‬
‫ُّ‬ ‫فاملــرح‬
‫ُ‬ ‫التقاليــد؛‬ ‫ـزي والجــا ّيل"‪ .‬ولكــن خلــف‬ ‫ملكــوت األفــكار والتوهــج الرمـ ّ‬
‫التــي تحــ ُّد مــن خيــال األفــراد واملجتمعــات‪ ،‬وتئــ ُد‬ ‫ـي بطريقــة مــا‪،‬‬ ‫هــذا الوعــي تكمــن فكــرة أ َّن هــذا امليــت حـ ٌّ‬
‫التطلعــات نحــو عــامل أجمــل وأرقــى‪ .‬ورؤيــة املــوت عــى‬ ‫يف مــكانٍ مــا‪ ،‬مبعنــى أنَّــه سيســتمر يف مزاولــة مــا كان يفعلــه‬
‫هــذا النحــو هــي دعــوة ضمن ّيــة للتخــي عــن النظــر إليــه‬ ‫ـت‬‫مــن قبــل‪ ،‬حتــى بعــد موتــه ويقــول الصــوتُ ‪ ":‬ح ًقــا تركـ ُ‬
‫بوصفــه غيابًــا وانســحاباً مــن عــامل األحيــاء‪ ،‬إىل رؤيــة أكــر‬ ‫كل أســباب املــوت بالخــارج" املرسحيّــة ص(‪ .)7‬غريبــ ٌة‬ ‫َّ‬
‫رحابــة عندمــا يتح ـ ّول إىل حضــور‪ ،‬ولكــن بطريقــة مخالفــة‬ ‫املرسحــي‪ ،‬هــي‬
‫ّ‬ ‫النــص‬
‫ِّ‬ ‫هــي لعبــ ُة املــوت وحضورهــا يف‬
‫ـوي امللمــوس‪ ،‬وعــى هــذا النحــو‬ ‫ـدي الحيـ ّ‬‫للحضــور الجسـ ّ‬ ‫لعبـ ٌة شــديد ُة الصعوبــة‪ ،‬تحتــاج إىل أكــر مــن مكـ ّون يف يــد‬
‫املبــدع منهــا‪..‬‬
‫(ازدواج املعنــى – تنافــر اإلدراك ‪ -‬حيّــز الضحيــة – الــروح‬
‫والــذات املفارقــة) ليبــدو املــوت وكأنَّــه مفارقــة شــديدة‬
‫التكثيــف يف يــد الكاتــب‪ ،‬إذ يتشــكّل معجــم املــوت يف‬
‫ـي إف ـرا ًدا وتركي ًبــا بنســب عال ّيــة‪ ،‬وهــذا مــا‬ ‫ـص املرسحـ ّ‬ ‫النـ ِّ‬
‫يجعــل عينــة الدراســة مك ّرســة لتجربــة املــوت بكاملهــا؛‬
‫فألفــاظ املــوت وتراكيبــه تخــرق الفق ـرات والحــوادث مــن‬
‫البدايــة إىل النهايــة‪ ،‬ويتن ـ ّوع هــذا املعجــم تب ًعــا للــدالالت‬
‫التــي تراهــن عليهــا الرؤيــة اإلبداع ّيــة إىل املــوت‪ ،‬وهــي‬
‫دالالتٌ تحيــل عــى حقــول متنوعــة تكتســب أبعادهــا مــن‬
‫التقاطعــات املعرف ّيــة والثقاف ّيــة التــي تحبــل بهــا املرسح ّيــة‪،‬‬
‫حيــث الخلف ّيــة الثقاف ّيــة التــي يصــدر عنهــا الكاتــب‬
‫ـي‪ ،‬وهــو يرفــع مرسحيتــه يف وجــه املــوت‪ ،‬تنســجم‬ ‫املرسحـ ّ‬
‫متا ًمــا مــع املقصديّــة املراهنــة عــى مالمســة الحقيقــة‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪77‬‬

‫ـاص باملــرح هــو جوهـ ُر العالقــة – الجدليّــة‬ ‫ي الخـ ّ‬ ‫التوصيـ ّ‬ ‫ـص جانبًــا مغيّبًــا يف التجربــة األهــم عــى مــدار‬ ‫يــيء النـ ُّ‬
‫أحيانًــا – التــي مــن املعتــاد تأسيســها بــن املــرح والزمــن‬ ‫حيــاة اإلنســان‪ ،‬ويدعــو – يف الوقــت نفســه – إىل قبولهــا‬
‫الحــارض‪ ،‬ويجــدر –بالفعــل‪ -‬أن نقــدم الحــارض كزمــنٍ لــأداء‬ ‫وتأملهــا دون التشــبث بظاهرهــا القريــب‪ ،‬واالكتفــاء‬
‫امــي (ذي التمثيــل املبــارش) أمــام‬ ‫ي وللطابــع الدر ّ‬ ‫التمثيــ ّ‬ ‫بالحــداد والتهالــك عــى إشــهار تجل ّياتــه!!‪.‬‬
‫ـردي (ذي التمثيــل‬ ‫ّ‬ ‫املــايض كزمــن للمؤلفــات وللطابــع الـ‬ ‫امــي لديــه كالتجربــة اإلنســانيّة‬ ‫الفعــل الدر ُّ‬
‫ُ‬ ‫ليتحــ َّول‬
‫غــر املبــارش)"‪.‬‬ ‫التــي يراهــا املتلقــي بالعــن املجــردة‪ ،‬ويحياهــا بالفكــر‬
‫لتبــدو املرسح ّيــة وكأنَّهــا حل ـ ُم يقظ ـ ٍة تــارةً‪ ،‬وكابـ ٌ‬
‫ـوس تــار ًة‬ ‫واإلحســاس‪ ،‬ويســهم فيهــا بالقبــول والرفــض‪.‬‬
‫التقــي حولهــا معظــم الوقــت‬ ‫ّ‬ ‫أخــرى‪ ،‬وحقيقــة يجــب‬ ‫األســايس (واملختلــف) هــو‬
‫ّ‬ ‫"املــرح حــدثٌ ٌّ‬
‫فنــي ملمحــه‬ ‫ُ‬
‫وكل يشء بالخــارج‪ ،‬يك‬ ‫"تركــت أحالمــي وقلبــي َّ‬ ‫ُ‬ ‫خاصــة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫الخاصــة التــي يقيمهــا بــن الحقيقــة والخيــال‪ .‬يف‬ ‫ّ‬ ‫العالق ـ ُة‬
‫ال أخــاف…" املرسح ّيــة ص(‪ .)11‬عندمــا يتحــ ّول املــوت‬ ‫املــرح يصبــح الخيــال حقيقــة وتتحــول الحقيقــة إىل خيــال‬
‫إىل ســاح الذاكــرة الح ّيــة التــي تختــزن قــد ًرا وفــ ًرا مــن‬ ‫حقيقــي‪ ،‬وحقيقــة متخ ّيلــة يجربنــا املــرح‪ -‬بســبب طبيعتــه‬
‫األحــداث والرمــوز الثقاف ّيــة‪ ،‬وهــو بعبــارة أخــرى "يفضــح‬ ‫الخاصــة‪ -‬عــى التفكــر يف معنــى الحقيقــة والواقع ّيــة يف‬
‫عــري املــوت ويتهمــه باإلشــارة إىل كونــه ال يســتطيع أن‬ ‫َّ‬ ‫الفــن"‪ .‬كــا يجربنــا الكاتــب عــى إعــادة قــراءة املــوت‪،‬‬
‫ينــال مــن ضحيتــه ســوى األعضــاء الهشّ ــة‪ ،‬لك َّنــه يف املقابــل‬ ‫الحكايــة‪ ،‬أم حكايــة املــوت؟ هــذا هــو الســؤال‪ ،‬أو هــو‬
‫ال يقــوى عــى ابتـزاز حمولتــه الرمزيّــة تلــك التــي ســتمكّنه‬ ‫الفعــل والالفعــل‪" ،‬إنَّنــا ال نتواصــل أب ـ ًدا مــع األشــياء كــا‬
‫ـزي‬
‫مــن املكــوث خال ـ ًدا يف ملكــوت األفــكار والتو ّهــج الرمـ ّ‬ ‫هــي‪ ،‬بــل كــا نبنيهــا‪ ،‬لذلــك‪ ،‬ال توجــد حقيقــة فريــدة مــن‬
‫خاصــة يف تأكيــده عــى لعبــة الــذات‪ ،‬والــذات‬ ‫والجــا ّيل"‪ّ .‬‬ ‫نوعهــا ومو ّحــدة‪ ،‬مســبقة وخارجيّــة‪ ،‬حيــث إ َّن حقيقــة كتلك‬
‫ـوذج بــدا ٌّيئ مــن بــن أمنــاط كثــرة‪،‬‬ ‫هــي "من ـ ٌط أو ٌّيل‪ ،‬أو منـ ٌ‬ ‫ـي‪ ،‬اعتبــا ًرا مــن اللغــة والثقافــة‪.‬‬‫هــي بنــاء معــر ّيف موضوعـ ّ‬
‫كالحيــاة واملــوت‪ ،‬والليــل والنهــار‪ ،‬والرجــل واملــرأة‪ ،‬والجنــة‬ ‫هــذا الفعــل هــو مــا مينــح مخططنــا معنــى‪ ،‬حيــث يحــاول‬
‫والجحيــم"‪ .‬الصــوت‪" :‬ارســم عــى النافــذة شــجرتني بينهــا‬ ‫تفســر كيــف نبنــي تلــك الحقيقــة ودرجــة االتســاق والثقــة‬
‫أرجوحــة وســأدفعك بــكل االتجاهــات…" املرسحيّــة‬ ‫التــي مننحهــا لــكل مســتوى مــن الحقيقــة املبنيّــة"‪.‬‬
‫ص(‪.)11‬‬ ‫ويبــدأ املؤلــف عــى مــدار املرسح ّيــة رصــد اللعبــة مــا‬
‫املرسحــي إدر ٌاك متم ّيــز للــذات عــر اآلخــر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف الفعــل‬ ‫الواقعــي‬
‫ّ‬ ‫الحقيقــي واملتخيــل‪ ،‬املمكــن واملســتحيل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بــن‬
‫الخــاص‬
‫ُّ‬ ‫الوعــي‬
‫ُّ‬ ‫ومــن خــال هــذا اإلدراك املتم ّيــز ينشــأ‬ ‫واملحتمــل‪ ،‬الق ـ ّوة والضعــف‪ ،‬ببســاطة‪ ،‬نحــن أمــام املــوت‬
‫بالشــخصيّة‪ ،‬وعربهــا تظهــر – بشــكل خــاص – فكــرة األنــا‬ ‫عندمــا يحــر‪ ..‬لكــن الســؤال هــل يحــر املــوت؟!‪ ،‬هــل‬
‫املنقســمة عــى ذاتهــا إىل داخــل وخــارج يتصارعــان‪ ،‬هنــاك‬ ‫يــأيت أم نذهــب إليــه نحــن؟!‪ ،‬قبــل اإلجابــة لــزم علينــا أن‬
‫تصبــح األنــا‪ ،‬حالــ ًة أخــرى‪ ،‬حالــ ًة مــن التأكيــد للــذات‬ ‫ات مرسح ّيــة‬ ‫نشــر إىل أنَّــه يحتــاج إىل املــرح‪ ،‬ملنظــور ٍ‬
‫والنفــي لهــا يف الوقــت نفســه‪ ،‬حالــة ســلبية وإيجابيــة يف‬ ‫تُقــدم يف مــكان وزمــان مــا‪ ،‬لتحقيــق وجــوده‪" ،‬إ َّن املوقــف‬
‫‪78‬‬

‫وقــد يتح ـ ّول التم ـ ّزق إىل نــو ٍع مــن (التنافــر) الحــاد الــذي‬ ‫الوقــت نفســه‪ ،‬عقالنيّــة منضبطــة وال عقالنيــة‪ ،‬مضطربــة‬
‫يه ـ ُّز الثقافــة ه ـ ًّزا عني ًفــا‪ ،‬ومــن ثــم يتح ـ ّول االختيــار الــذي‬ ‫يف آن معــاً‪.‬‬
‫ميتلكــه اإلنســان لينظــم مســلكه الحيــا ّيت إىل عمل ّية عشــوائ ّية‬ ‫وهنا تبدو األسئلة يف ثوب البطولة ال اإلجابات‪:‬‬
‫تهـ ّدد صاحبهــا بالضيــاع‪ ،‬وتهـ ّدد واقعهــا بالفســاد والعبــث‪،‬‬ ‫‪ -‬كيــف تقــوم الشــخص ّية املرسح ّيــة بالفصــل بــن الواقــع‬
‫البديــل عــن‬
‫ُ‬ ‫لدرجــة أ َّن املــوت أصبــح هــو الحــل‪ ،‬وكأنَّــه‬ ‫والخيــال والوصــل بينهــا أيضً ــا؟‬
‫حيــاة مرتهلــة عشــوائ ّية‪" ،‬وتــزداد هــذه العشــوائية العبث ّيــة‬ ‫‪ -‬مــا أصــول لعــب االزدواج املتأصــل املالئــم لطبيعــة‬
‫مــع وقائــع الحــروب وتوابعهــا التدمرييّــة‪ ،‬إذ تتحــول الثقافــة‬ ‫ـس أم‬ ‫الشــخص ّية املرسح ّيــة وطبيعــة عملــه؟ هــل هــو تل ّبـ ٌ‬
‫إىل طبيعــة (ســوق ّية) تحكمهــا قوانــن البيــع والــراء‪،‬‬ ‫كــذب صــادق؟‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫صــدق كاذب؟ أم‬ ‫التبــاس؟‬
‫ومــن ثــم تتغــر قامئــة القيــم‪ ،‬ويكــون يف أعالهــا البحــث‬ ‫‪ -‬مــا عالقــة املــرح بالبحــث عــن ال ُهويــة وبالعالقــة بــن‬
‫عــن املــال بــكل الوســائل املرشوعــة‪ ،‬والبحــث عــن املتعــة‬ ‫األنــا واآلخــر؟‬
‫الحــال والحـرام عــى حـ ٍّد ســواء‪ ،‬بــل ينكــر الحاجــز بــن‬ ‫‪ -‬مــا طبيعــة تلــك الثنائ ّيــة التقابل ّيــة بــن الــذات واآلخــر؟‬
‫الحــال والح ـرام"‪ ،‬واملــوت والحيــاة‪.‬‬ ‫هــل هــذه املفاهيــم مفاهيــم طبيع ّيــة عامل ّيــة‪ ،‬أم هــي‬
‫مفاهيــم ثقافيّــة خطابيّــة؟‬
‫والحقيقــة أ َّن ذلــك كلــه ينــدرج يف ســياق إطــا ٍر عــام يعيشــه‬ ‫ـكاًل تراتب ًّيــا‪،‬‬
‫‪ -‬مــا الــذي أ ّدى إىل أن تأخــذ هــذه العالقــة شـ ً‬
‫العــامل اليــوم‪ ،‬إذ إ َّن العــامل بقــدر مــا فيــه مــن انتظــام تتخلله‬ ‫تــأيت فيــه ُهويــة الذات‪/‬األنــا –دامئ ـاً‪ -‬قبــل ُهويــة اآلخــر‪/‬‬
‫الفــوىض التــي ال تحتكــم إىل قانــونٍ بعينــه ينظــم مك ّوناتهــا‪،‬‬ ‫املوضــوع فتحيلــه إىل موضــوع متــارس عليــه كل ســلطاتها؟‬
‫ـي إىل العــامل‬
‫وقــد امتــدت هــذه الفــوىض مــن العــامل الخارجـ ّ‬ ‫النص‪.‬‬
‫أسئلة شائكة معقّدة يدشّ نها ُّ‬
‫ي لإلنســان‪ ،‬فبــات يعيــش حـ ٍ‬
‫ـاالت نفس ـ ّي ًة تنتظمهــا‬ ‫الداخ ـ ّ‬
‫فــوىض مــن نــوع خــاص‪ ،‬كان لهــا ناتجهــا الســلويكّ الــذي‬ ‫ثنائ ّي ُة القاعدة واالستثناء‬
‫يشــوبه االختــاط والعبــث‪ ،‬ومــن ثــم اتّجــه هــذا اإلنســان‬ ‫(ثقاف ُة العبث املسكوت عنه)‬
‫املعــذب بتناقضــات الداخــل والخــارج‪ ،‬إىل الخــاص مــن‬
‫يلعــب املؤلـ ُـف هنــا عــى لعبــة العبــث يف ظـ ِّـل املســكوت‬
‫هيمنــة النظــام الــذي يق ّيــده‪ ،‬وإىل العبــث مبــا يحيــط بــه‬
‫عنــه‪ ،‬عبــث الحيــاة‪ ،‬واملــوت عــر مجموعــة مــن األســئلة‬
‫مــن منظومــة ثقاف ّيــة ومجتمع ّيــة بــكل مــا فيهــا مــن عادات‬
‫تنطلــق كالطلقــات املدويّــة‪ ،‬وعــى الرغــم مــن أ َّن املؤلــف‬
‫وتقاليــد تتســلط عــى األف ـراد وتح ـ ُّد مــن حريتهــم‪ ،‬وهنــا‬
‫يكتــب لهــا اإلجابــات‪ ،‬إال إنَّهــا إجابــاتٌ أكــر غموضً ــا‬
‫ال يكــون للعبــث هــدف إال مجــرد وجــوده‪ ،‬أي أن العبــث‬
‫ومراوغــة مــن الســؤال‪.‬‬
‫يكــون هدفًــا يف ذاتــه‪.‬‬
‫ليكــون هــذا االختيــا ُر أدا ًة ملســاءلة الفــرد عــن كل ترصفاتــه‪،‬‬
‫لكــن االت ّســاق الــذي يحكــم مفــردات الثقافــة عمو ًمــا‪،‬‬
‫لقــد كان للعبــث حضــوره املركــزي يف تشــكيل كثــر مــن‬
‫يصيبــه نــو ٌع مــن الخلــل والتم ـ ّزق الــذي يضيــق أو يتســع‪،‬‬
‫الرسديــات الحديثــة‪ ،‬فجــاءت يف جانــب كبــر منهــا فوضويّــة‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪79‬‬

‫دالالت األنا واآلخر‬


‫ُ‬
‫الكتاب ـ ُة املرسحيّ ـ ُة زم ـ ٌن جــا ٌّيل يف زمــن اإلبــداع الســاحر‪،‬‬ ‫الطابــع تدمرييّــة لــكل انتظــام‪ ،‬وقــد كانــت هــذه التدمرييّــة‬
‫هــي حف ـ ٌر ذيكٌّ يف الشــعور والالشــعور‪ ،‬يف الظاهــر والخفــي‬ ‫خطــوة رضوريّــة لتكويــن واقــع آخــر بديــل ال يعــرف‬
‫مــن حياتنــا‪ ،‬إظهــار مــا اختبــأ واســترت يف خبايــا الحيــاة‪ ،‬ويف‬ ‫الحــدود أو القيــود‪.‬‬
‫ـودي‪ ،‬ويف التاريــخ واملعيــش‪ .‬بالكتابــة‬ ‫قلــق اإلنســان الوجـ ّ‬ ‫وهنــا يحـ ُّـل االســتثناء محـ َّـل القاعــدة‪ ،‬ويتحـ ّول املجتمــع إىل‬
‫وباالختــاف تتحــ ّدد الحيــاة مبعــاين الجديــد‪ ،‬يف بيــان‬ ‫منظومـ ٍة قابلـ ٍة للتمـ ّزق تتحــرك‪ -‬كيفــا اتفــق‪ -‬دون وجهــة‬
‫امــي‪ ،‬وهــو يســافر يف هــذا الزمــن ليــدرس‬ ‫املتخ ّيــل الدر ّ‬ ‫ـي لإلنســان‬ ‫محـ ّددة‪ ،‬وقــد انعكــس ذلــك عــى الواقــع النفـ ّ‬
‫نبضــه‪ ،‬ويســتمد منــه إشــعاع التعبــر املفضــح عــن الــكالم‬ ‫الــذي باتــت تســتنزفه أحزانُــه ومخاوفُــه‪ ،‬فانــرف إىل‬
‫ـي‪ ،‬كل ذلــك‬ ‫ـص املرسحـ ّ‬ ‫غــر املبــاح‪ ،‬يف حــوارات شــخوص النـ ِّ‬ ‫الصمــت تــارةً‪ ،‬وانطــوى داخــل صدفتــه النفس ـ ّية املعتمــة‬
‫يف أجــواء لعبــة األنــا واآلخــر‪.‬‬ ‫ي؛‬
‫ـري متهيـ ًدا ملوتــه الفعـ ّ‬
‫تــار ًة أخــرى‪ ،‬يعيــش موتــه التقديـ ّ‬
‫"عندمــا تتدخــل هــذه الكتابــة جنســها األديب بهــذا‬ ‫بدرجــ ٍة جعلــت مــن هــذه النصــوص تجســي ًدا لعبث ّيــة‬
‫االختــاف‪ ،‬وتأخــذ ُهويتهــا مــن طبيعــة انتامئهــا للنــوع‬ ‫الواقــع‪ ،‬ومــا نتــج عنهــا مــن قلــق عــى املصــر الــذي ينتظــر‬
‫تؤسســه‪ ،‬فهــذا يعنــي أن الدخــول يف زمــن التجنيــس‬ ‫الــذى ّ‬ ‫اإلنســان يف مواجهــة هــذا الكــم الهائــل مــن الحامقــة‪.‬‬
‫ـيس للحظــة الدخــول‪ ،‬إىل بهــاء االمتــداد بالكتابــة‬ ‫وهــو تأسـ ٌ‬
‫يف هــذا الزمــن‪ ،‬وتلويــن دالالت الصامــت والناطــق فيهــا‬
‫بجامليــة املحتمــل‪ ،‬وإضفــاء رشع ّيــة انتامئهــا إىل العــامل األد ّيب‬
‫والفنــي العربيــن‪ ..‬مبمكــن ميكــن تحقيقــه يف مســتويات‬ ‫ّ‬
‫البنيــة األدبيــة والفنيــة الدراميــة‪ ،‬ومعنــاه ‪-‬أيضً ــا‪ -‬أ َّن ُهويــة‬
‫ـي‪،‬‬ ‫الكتابــة‪ ،‬وهــي ترســم خصوصيــات نوعيهــا األد ّيب والفنـ ّ‬
‫تكــون قــد ح ّولــت لحظــة البدايــة إىل لحظــات اإلنجــاز يف‬
‫امتــداد لحظــات دفــق الــكالم وقصيدتــه املنفتحــة عــى‬
‫قضايــا الــذات واملوضــوع والعــامل"‪ ،‬كهــدف أســمى للمؤلــف‪.‬‬
‫حيــث يســأل املؤلــف‪ ":‬ومــاذا بعــد كل هــذا القتــل واملــوت‬
‫بالخــارج"‪ .‬املرسح ّيــة ص(‪.)22‬‬
‫تتجــى األنــا يف هــذه اآلليــة وقــد متاهــت مــع املخاطــب‬
‫اآلخــر‪ ،‬تتجســد فيــه فتصبــح بديـ ًـا عنــه؛ بــل إنَّهــا يف أكــر‬
‫الحــاالت ال تــكاد تعطــي لآلخــر مســاح ًة للصــوت أو الحركــة‪،‬‬
‫النــص أن يؤكّدهــا كثــ ًرا‪ ،‬حيــث لعبــة تبــادل‬ ‫كــا حــاول ُّ‬
‫املراكــز‪ ،‬لدرجــة أنَّــه ال ينبغــي أن نعتقــد أن صمــت اآلخــر‬
‫ـي‪ ،‬حيــث ف ّجــر اآلخــر‬ ‫يُعـ ُّد عامـ ًـا ســالبًا يف الخطــاب املرسحـ ّ‬
‫‪80‬‬

‫ترســيخها يف أذهانهــم ع ّنــا‪ ،‬أ َّمــا الــذات الخاصــة الداخل ّيــة‬ ‫بصمتــه الــذات املتكلمــة‪ ،‬فكانــت هــذه اآلليــات التعبرييّــة‬
‫فهــي مــا نــرى أنفســنا عليــه دومنــا حاجــة الرتــداء األقنعــة‪،‬‬ ‫قــد جعلــت مــن أنــا املبــدع واحــد ًة مــن مفاتيــح عــوامل‬
‫وكل التــي تكــون أقــرب إىل عــامل الخــارج االجتامعــي منهــا‬ ‫اإلبــداع‪.‬‬
‫ـي‪.‬‬
‫إىل عــامل الداخــل الحقيقـ ّ‬ ‫"هــذا اآلخــر‪ ،‬هــو نقيــي‪ ،‬ورشط وجــودي أو العكــس‪...‬‬
‫ألــح املؤلــف عــى لعبــة البطــل املهــزوم‪ ،‬وباتــت‬ ‫وقــد َّ‬ ‫وهــذا اآلخــر يف حالتنــا قــد يكــون رشيــكًا أو غري ًبــا‪..‬‬
‫ـي‪ ،‬حتــى لــو‬ ‫الهزمي ـ ُة هــي إحــدى عالمــات النــر الحقيقـ ّ‬ ‫وقــد يكــون صدي ًقــا وقــد يكــون عــد ًوا"‪ ...‬وهــذه الثنائ ّيــة‬
‫الناتــج‪ ،‬إذ تحــ ّول املــوتُ‬
‫ُ‬ ‫الســبيل‪ ،‬وهــو‬
‫ُ‬ ‫كان املــوتُ هــو‬ ‫قــد تخفــت ح ّدتهــا أو تــزداد‪ ،‬وقــد تبــدو ظاهــر ًة واضح ـ ًة‬
‫الحــي تتحــ ّول حــواراتُ‬
‫ّ‬ ‫إىل رمــ ٍز للحيــاة‪ .‬يف غيبــة الفعــل‬ ‫للعيــان‪ ،‬أو تكمـ ُن‪ ،‬فتبــدو خافيـ ًة غــر مرئيّــة أو محسوســة‪،‬‬
‫الشــخصيات إىل مواجهــات قاس ـ ّية‪ ،‬تتح ـ ّول الشــخصيات إىل‬ ‫تب ًعــا لعوامــل كثــرة داخل ّيــة وخارج ّيــة‪ ،‬وتب ًعــا لــروط‬
‫محقّقــن تــارةً‪ ،‬وإىل متّهمــن تــار ًة أخــرى‪ ،‬ويتحـ ّول الضحــك‬ ‫اجتامع ّيــة وتاريخ ّيــة متعــددة‪.‬‬
‫إىل مـرارة (ينخرطــان يف موجـ ٍة مــن الضحــك‪ ..‬لك َّنــه ضحــك‬ ‫مــن الواضــح أنَّهــا ثنائيّــة موجــودة تحتــاج إىل تأمــلٍ وتدبّــر‪،‬‬
‫ـي‪ ،‬نشــعر مــن خاللــه بأنَّهــا ال يضحــكان وإمَّنَّ ــا يبكيــان‬‫عبثـ ٌّ‬ ‫ذلــك أ َّن فهــم اآلخــر يســتلزم توفّــر رؤيّــة عقالنيّــة عميقــة‬
‫مــن الخيبــة والهزميــة)‪ ..‬يف غيبــة الفعــل تحاول الشــخصيات‬ ‫عــن الــذات أو ًاًل‪ .‬وهــذه الرؤيّــة العقالن ّيــة املتعمقــة‪ ،‬هــي‬
‫ســر أنفســها باألقنعــة‪ ،‬وهــي –بالفعل‪ -‬لعبـ ُة أقنعـ ٍة متبادلة‬ ‫يف جوهرهــا‪ ،‬رؤيــ ٌة نقديّــة بالــرورة‪ ،‬للتاريــخ ماض ًيــا‬
‫بــن اإلنســان واآلخــر‪ ..‬نــو ٌع آخــر مــن الشــعور باالنقســام‬ ‫ـتقباًل‪ ..‬هــي رؤيّ ـ ٌة تعتمــد نظــر ًة واقعيّــة‪ ،‬ال‬
‫رضا‪ ،‬ومسـ ً‬ ‫وحــا ً‬
‫ـي بــن عــامل اإلنســان وعــامل اآلخــر‪ ،‬بــن دنيــا الفــاين‬ ‫النفـ ّ‬ ‫تفــرط يف متجيــد الــذات أو التحقــر مــن شــأنها‪ ،‬وال تبالــغ يف‬
‫ودنيــا الثــاين ومعطياتــه الســاحرة‪ .‬لتبــدو هنــا مفــردات‬ ‫اإلعــاء‪ ،‬مــن شــأن اآلخــر‪ ،‬أو التهويــن مــن أمــره؛ مــن هنــا‬
‫لعبــة املــوت يف أكــر مــن صــورة‪.‬‬ ‫تــأىت أهم ّيــة صــوت "األنــا" يف مواجهــة صــوت "اآلخــر" يف‬
‫نلتقــي حــول مفارقــة مميــزة هــي ســؤال املــوت‪ ،‬ورمبــا‬ ‫املــرح‪ ،‬ويك تتضــح هــذه يف محاولــة لفهــم اآلخــر‬
‫مــوت الســؤال‪ ،‬هــي منطق ـ ٌة مربك ـ ٌة وف ـ ٌّخ وضعنــا فيــه‬ ‫(األنا‪/‬اآلخر) والبطل املهزوم‪.‬‬
‫كاًل منــا لديــه‬ ‫املؤلــف‪ ،‬وأحكــم إغالقــه بدرجــة تجعــل ً‬ ‫ـزوم‪،‬‬
‫ـص مهـ ٍ‬ ‫تــرز هــذه الثنائ ّيــة يف ضــوء مــروع بطــلٍ ناقـ ٍ‬
‫فــرص متســاوية يف البقــاء والهــروب‪ ،‬يف اإلقــدام واإلحجــام‪.‬‬ ‫تجســدها األنــا‬
‫ذات واقع ّيــة ّ‬‫حيــث تنقســم الــذات لديــه إىل ٍ‬
‫هــي لعبــة االختيــار مــا بــن الالحيــاة والالمــوت‪ ،‬هــي لعبــة‬ ‫وذات مثاليّــة متثّلهــا األنــا التــي تحلــم أن يكــون‬‫الغافلــة‪ٍ ،‬‬
‫الفقــد ذاتهــا‪ ،‬فقــد االختيــارات‪ ،‬بالرغــم مــن أ َّن املؤلــف‬ ‫عليهــا حيــث تنقســم صــورة الــذات إىل صــورة واقعيّــة‪..‬‬
‫جعلهــا متاحــة‪.‬‬ ‫وهــي مــا يــرى الشــخص نفســه عليــه يف الواقــع‪ ،‬ثــم إىل‬
‫صــورة مثال ّيــة وهــي مــا يطمــع الشــخص أن يكونــه‪ ،‬كــا‬
‫ميكــن النظــر إىل صــورة الــذات‪ -‬أيضً ــا ‪ -‬مــن خــال منظــور‬
‫ـي‪ ،‬أي الطريقــة التــي نعــرض بهــا أنفســنا عــى اآلخــر‪،‬‬ ‫خارجـ ّ‬
‫فنحــن نعــرض أو نُظهــر أنفســنا يف حالــة الــذات االجتامع ّيــة‬
‫وفق ـاً للطريقــة التــي يرانــا بهــا اآلخــرون‪ ،‬والتــي نرغــب يف‬
‫ دراسات ومقاالت‬/ ‫أفكار‬ 81

Photo by Gaspar Uhas on Unsplash


‫‪82‬‬

‫التقنيات الرقم ّي ُة‬


‫ُ‬ ‫كيف ترتك‬
‫بصامتها عىل أدمغتنا‬
‫د‪ .‬حسان العوض*‬

‫أطلقــت املؤلفـ ُة "ســوزان غرينفيلــد"‪ ،‬وهــي عاملـ ُة أعصــاب‬


‫بريطانيــة‪ ،‬عــى كتابهــا اســم "تغـ ّـر العقــل" ألنَّهــا تفــرض‬
‫وجــود أوجــه شــبه مامثلــة لتغـ ّـر املنــاخ؛ فكالهــا عامل ّيــان‬
‫ومث ـران للجــدل وغــر مســبوقني ومتعــددا األوجــه‪ .‬فعــاملُ‬
‫ايض الــذي مييّــز القــرن الحــادي والعرشيــن‪،‬‬ ‫اإلنرتنــت االف ـر ّ‬
‫ليــس لــه مثيــل يف تاريــخ البرشيــة‪ ،‬ومل يكــن باإلمــكان‬
‫تص ـ ّوره حتــى قبــل بضعــة عقــود‪ ،‬كــا يبــدو أكــر مبــارشة‬
‫ـي‪.‬‬
‫وأهم ّيــة مــن نظــره الواقعـ ّ‬

‫صــدر كتــاب "تغـ ّـر العقــل‪ /‬كيــف تــرك التقنيــاتُ الرقميّــة‬


‫بصامتهــا عــى أدمغتنــا" برتجمــة عرب ّيــة إليهــاب عبــد‬
‫الرحيــم عــي‪ ،‬عــن املجلــس الوطنــي للثقافــة والفنــون‬
‫واآلداب يف الكويــت‪ ،‬العــام ‪.2017‬‬

‫ميكــن النظــر إىل األجهــزة الرقم ّيــة عــى أنَّهــا أحــدث‬


‫حلقــة يف سلســلة االبتــكارات التــي كانــت مثــر ًة ومزعج ـ ًة‬
‫يف البدايــة‪ ،‬قبــل أن تدخــل يف الحيــاة‪ ،‬ولكــن يوجــد بــن‬
‫كمــي‪ ،‬وهــو‬
‫ٌّ‬ ‫التقنيــات الســابقة ونظريتهــا الرقميّــة ٌ‬
‫فــرق‬
‫مقــدار الوقــت الــذي تحتكــر فيــه الشاشــة اهتاممنــا‬
‫ـري‪ ،‬كــا أ َّن مثــة فرقـاً آخــر هــو التحـ ّول مــن‬
‫النشــط والحـ ّ‬
‫التكنولوجيــا بصفتهــا وســيلة إىل كونهــا غايــة يف حــد ذاتهــا‪.‬‬
‫إ َّن مفهــوم "تغـ ّـر العقــل" منــوذج "بارادايــم" وليــس فرضيــة‬
‫ظــل‬
‫منفــردة ومحــددة ميكــن اختبارهــا تدريج ًيــا يف ِّ‬

‫* طبيب وكاتب سوري مقيم يف السعودية‬


‫ دراسات ومقاالت‬/ ‫أفكار‬ 83

Photo by Igor Karimov on Unsplash


84

Photo by Georgie Cobbsv on Unsplash


‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪85‬‬

‫الشبكات االجتامع ّية‬


‫ُ‬
‫يبــدو أنَّهــا تعـ ّزز حلقــة بيوكيميائ ّيــة مفرغــة‪ ،‬حيــث تضمــن‬ ‫تجــارب مقيــدة‪ ،‬ولك َّنــه يعمــل عــى تجميــع الخيــوط مــن‬
‫القــوى البيولوج ّيــة التطوريّــة أن يشــعر البــر بالرضــا عندما‬ ‫االتجاهــات املجتمع ّيــة الظاهــرة وآراء الخــراء املهنيــن‪،‬‬
‫يكافحــون الشــعور بالوحــدة عــن طريــق تبــادل املعلومــات‬ ‫فضـ ًـا عــن مجموعــة واســعة مــن النتائــج العلميّــة املبــارشة‬
‫الشــخصيّة مــع اآلخريــن‪ ،‬ويحــدث ذلــك بوســاطة إفــراز‬ ‫وغــر املبــارشة يف مختلــف التخصصــات‪.‬‬
‫الدوبامــن يف الدمــاغ‪ ،‬والدوبامــن يســهم يف مشــاعر الــرور‬
‫االجتامعــي‬
‫ّ‬ ‫ويرتبــط بيقظــة متزايــدة‪ .‬فشــبكاتُ التواصــل‬ ‫الدماغ والعقل‬
‫توفــر إشــبا ًعا فوريًّــا‪ ،‬وإثــارة اســتباقيّة‪ ،‬وتقــدم قط ًعــا‬ ‫العصبونــات هــي الوحــداتُ األساســية للدمــاغ‪ .‬وخــال‬
‫صغــرة مــن املعلومــات متواضعــة مبــا يكفــي لئــا تكــون‬ ‫فرصــا ســانحة‪،‬‬‫الســنوات األوىل مــن الحيــاة‪ ،‬ميتلــك الدمــاغ ً‬
‫مرضيــة متا ًمــا‪.‬‬ ‫تتم ّيــز بنمــو متدفــق يف االتصــاالت بــن العصبونــات‪ ،‬لك َّنــه‬
‫يســتمر طــوال الحيــاة وحتــى ســن الشــيخوخة‪.‬‬
‫االجتامعــي قــد تؤهــل املســتخدمني‬
‫ّ‬ ‫إ َّن ثقافــة التواصــل‬ ‫إ َّن وجــود بيئــة ثريّــة ومحفــزة ومعـ ّززة يــؤدي إىل مجموعــة‬
‫المتــاك عقليّــة نرجسـيّة‪ ،‬وهــذا بــدوره يفــرض تــدين احـرام‬ ‫كاملــة مــن التغــرات الجســدية يف الدمــاغ‪ ،‬وجميعهــا‬
‫منصــة غــر مســبوقة للمقارنــة‬ ‫الــذات‪ .‬كــا إنَّهــا توفّــر ّ‬ ‫إيجاب ّيــة‪ :‬زيــادة حجــم أجســام العصبونــات‪ ،‬زيــادة الــوزن‬
‫االجتامع ّيــة والحســد‪ ،‬وهــذا يــؤدي إىل تقليــل معــدالت‬ ‫يل للدمــاغ‪ ،‬وزيــادة ســمك القــرة املخ ّيــة‪ ...‬حتــى‬ ‫الــك ّ‬
‫الرضــا عــن الحيــاة‪ .‬ومــن املحتــم أن تتشــكل ُهويــة الجيــل‬ ‫عندمــا يبــدو املصــر بخــاف ذلــك محــ َّد ًدا برصامــة مــن‬
‫القــادم يف ســياق ثقافــة افرتاضيّــة متغلغلــة ومتغــرة‬ ‫قبــل الجينــات‪.‬‬
‫باســتمرار‪ .‬وال ُهويــة كــا تقــرح املؤلفــة تنطــوي عــى تفاعــل‬
‫العقــل املرتــب بعنايــة والفريــد مــن نوعــه مــع عــدد كبــر‬ ‫يتمثّــل تعريــف العلــوم العصب ّيــة للعقــل يف شــخصنة‬
‫مــن الســياقات الخارجيّــة اللحظيّــة عــى م ـ ِّر الزمــن‪.‬‬ ‫ـري مــن خــال ارتباطيتــه العصبونيّــة الدينامية‪،‬‬ ‫الدمــاغ البـ ّ‬
‫املدفوعــة بدورهــا مــن قبــل خ ـرات الفــرد الفريــدة مــن‬
‫إ َّن قضــاء كثــرٍ مــن الوقــت عــى الشــبكات االجتامع ّيــة‬ ‫نوعهــا‪ .‬مــع منــو الطفــل‪ ،‬ســيتميز تطــور عقلــه بهــذا الحــوار‬
‫ـي وج ًهــا‬
‫يــؤدي إىل انخفــاض القــدرة عــى التواصــل الحقيقـ ّ‬ ‫ـي‪.‬‬‫املتزايــد القــوة واملتبــادل بــن الدمــاغ والعــامل الخارجـ ّ‬
‫لوجــه مــا يقلّــل مــن القــدرة عــى التعاطــف مــع اآلخريــن‪،‬‬ ‫متثّــل القــرة أمــام الجبهيــة ‪ 33%‬مــن الدمــاغ البــري‬
‫وبنــاء عالقــات عميقــة ذات مغــزى‪ ،‬كــا قــد يزيــد مــن‬ ‫البالــغ‪ ،‬تكــون منخفضــة النشــاط عنــد األطفــال واملراهقــن‪،‬‬
‫احتــال ظهــور ســلوكيات شــبيهة بالتوحــد‪ ،‬علــاً أن‬ ‫وكذلــك يف ثالثــة أنشــطة مختلفــة هــي اإلف ـراط يف تنــاول‬
‫األشــخاص الذيــن لديهــم ميــل نحــو إظهــار ســات التوحــد‪،‬‬ ‫الطعــام والقــار والفصــام‪ ،‬حيــث يكــون الرتكيــز متواف ًقــا‬
‫وال ســيام النســاء‪ ،‬أكــر عرضــة لإلدمــان عــى اإلنرتنــت‪ ،‬وقــد‬ ‫مــع صــورة العيــش مــن أجــل اللحظــة‪.‬‬
‫جــرى اســتغالل ألفــة األفــراد املصابــن بالتوحــد للشاشــة‬
‫ألغ ـراض عالج ّيــة‪.‬‬
‫‪86‬‬

‫يحــدث التنمــ ُر عندمــا يُســتخدم للتهديــد أو التحــرش أو‬


‫املضايقــة أو اإلح ـراج‪ ،‬واملتنمــرون عــر اإلنرتنــت يشــعرون‬
‫أقــل مــن النــدم لعــدم وجــود اتصــال مبــارش بــن‬
‫بقــدر ّ‬
‫ايض‬
‫املتنمــر والضح ّيــة‪ ،‬وغال ًبــا مــا يحــدث ضمــن حشــد افـر ّ‬
‫مــا يســمح بتخفيــف املســؤولية وتشــتيتها‪.‬‬

‫ألعاب الفيديو‬
‫توفّــر مــا يــروق لألف ـراد مــن جميــع األعــار والخلف ّيــات‪،‬‬
‫وهــو أم ـ ٌر نــاد ُر الحــدوث يف األلعــاب التقليديّــة عــى أرض‬
‫الواقــع‪ .‬توجــد ألعــاب الفيديــو منــذ أكــر مــن نصــف قــرن‪،‬‬
‫لك َّنهــا يف العقديــن املاضيــن أصبحــت تجــارب تشــارك ّية عــر‬
‫اإلنرتنــت‪ ،‬مــع آالف مــن الالعبــن اآلخريــن املتفاعلــن يف‬
‫الوقــت نفســه‪ .‬إ َّن مامرســة ألعــاب الفيديــو تــؤدي بصــورة‬
‫العصبــي املرتبــط‬
‫ّ‬ ‫مبــارشة إىل إفــراز الدوبامــن‪ ،‬الناقــل‬
‫باالســتثارة واملكافــأة واإلدمــان‪ .‬متثّــل األلعــاب العنيفــة ‪50%‬‬
‫أو أكــر مــن إجــايل مبيعــات ألعــاب الفيديــو‪.‬‬

‫يبــدو أ َّن هنــاك صلــ ًة واضحــ ًة بــن مامرســة األلعــاب‬


‫واالنتبــاه عمو ًمــا‪ ،‬وعــى الرغــم مــن أنَّــه ميكــن تحســن‬
‫املنخفــض املســتوى خاصــة عنــد الالعبــن الذيــن يتقمصــون‬ ‫البــري االنتقــا ّيئ املركّــز‪ ،‬فمــن املمكــن أن يتــ َّم‬
‫ّ‬ ‫االنتبــاه‬
‫شــخصيات هــذه األلعــاب؛ حيــث ال تكــون لألفعــال عواقــب‬ ‫ذلــك عــى حســاب النــوع املســتدام والبالــغ األهميــة مــن‬
‫الســوي‬
‫ّ‬ ‫يتعــذر عكســها مــا يقلّــل مــن ضبــط النفــس‬ ‫االنتبــاه الطويــل املــدى‪ ،‬وهــو النــوع الــازم للتفكــر ولفهــم‬
‫ويزيــد مــن التهــور‪.‬‬ ‫يشء مــا بصــورة متعمقــة‪ ..‬ومــن املمكــن أن تعــزى أي‬
‫عالقــة بــن االســتخدام املفــرط لإلنرتنــت واضط ـراب نقــص‬
‫تصفّح اإلنرتنت‬ ‫االنتبــاه وفــرط الحركــة ‪ ADHD‬إىل حالــة إدمانيــة وليــس‬
‫ـي لتذكّــر‬‫ألي محــرك بحــث أن يعمــل كمصــد ٍر خارجـ ٍّ‬ ‫ميكــن ِّ‬ ‫إىل النشــاط ذاتــه‪ ،‬وقــد متثّــل مامرســة ألعــاب الفيديــو عــى‬
‫الحقائــق املوضوع ّيــة‪ ،‬ولكــن املشــكلة املحتملــة تكمــن يف‬ ‫اإلنرتنــت وســيل ًة للتطبيــب الــذا ّيت يف األطفــال املصابــن بهــذا‬
‫تــآكل الخــط الفاصــل بــن هــذه الحقائــق وتلــك التــي ال‬ ‫االضطــراب‪.‬‬
‫تكــون مــن قبيــل املعرفــة العامــة‪ ،‬وإمَّنَّ ــا تحتــاج دامئًــا إىل‬ ‫قــد ال تســبب ألعــاب الفيديــو العنيفــة ســلوكًا عنيفًــا‬
‫البحــث عنهــا‪ .‬وهكــذا انتقلنــا مــن صياغــة األســئلة العميقــة‬ ‫متطرفًــا يرقــى إىل املســتوى الجنــا ّيئ‪ ،‬إال إنَّهــا تعـ ّزز العــدوان‬

‫‪Photo by Anthony Choren on Unsplash‬‬


‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪87‬‬

‫‪Photo by Cosmin Serban on Unsplash‬‬

‫واملثــرة لالهتــام إىل التعــ ّرج والتاميــل عــر‬


‫األجوبــة‪ .‬وإ َّن ســهولة البحــث عــى أحــد محركات‬
‫البحــث ال تعمــل فقــط عــى اســراتيجيات‬
‫الذاكــرة‪ ،‬بــل عمليــات تفكرينــا ذاتهــا‪.‬‬

‫‪Photo by TzImtms on Unsplash‬‬


‫‪88‬‬

‫ُ‬
‫"حديث الروح"‪ :‬كلامت‬
‫محمد إقبال يف املنت الكلثومي‬
‫د‪ .‬عزيز بعزي*‬

‫مل يكــن شــع ُر الباكســتا ّين محمــد إقبــال عرب ًّيــا‪ ،‬فموهبتــه الشــعرية األصيلــة‪ ،‬وكتاباتــه عمو ًمــا كانــت‬
‫بالفارس ـ ّية واألورديّــة عــى وجــه التحديــد‪ ،‬دون أن نغفــل كونــه ضلي ًعــا يف اللغــات املتعــددة يف شــبه‬
‫القــارة الهنديّــة وخارجهــا‪ ،‬لــذا ترجــم عنــه الكثــرون إىل اللغــة العرب ّيــة‪ ،‬فمــن مــر نجــد عبــد الوهــاب‬
‫ع ـزام‪ ،‬والصــاوي شــعالن‪ ،‬ومحمــد يوســف عــدس‪ ،‬ومــن ســورية عبــد املعــن امللوحــي وزهــر ظاظــا‪.‬‬
‫ـي ورجـ ُـل سياسـ ٍة وترب ّيــة‪ ،‬فهــو ‪-‬إذن‪ -‬مــن أبــرز‬ ‫مل يكــن إقبــال شــاع ًرا فحســب‪ ،‬بــل هــو فيلسـ ٌ‬
‫ـوف وحقوقـ ُّ‬
‫ـامي يف القــرن العرشيــن‪ ،‬وأحــد أولئــك القالئــل الذيــن بعثــوا‬
‫ـري اإلسـ ُّ‬
‫الوجــوه التــي عرفهــا الفكـ ُر التنويـ ُّ‬
‫ـح هــذا التوصيــف‪.‬‬
‫النــور يف ســاء الــرق‪ ،‬إن صـ َّ‬

‫اخرتنــا هنــا الحديــث عــن إقبــال الشــاعر وعالقتــه بســيدة الطــرب العــريب أم كلثــوم‪ ،‬التــي غ َّنــت قصيدتــه‬
‫ـي"‪ ،‬فلوالهــا ملــا عرفتــه‬
‫الذائعــة الصيــت "حديــث الــروح"‪ ،‬لــذا يحـ ُّـق لنــا القــول هنــا بأنَّــه " شــاع ٌر كلثومـ ّ‬
‫الجامهــر العرب ّيــة بشــكل واســع‪ ،‬ليــس وحــده بطبيعــة الحــال‪ ،‬بــل إ َّن األمــر يــري عــى شــعراء آخريــن‬
‫مــن الســعودية‪ ،‬الســودان‪ ،‬لبنــان‪ ،‬مــر‪ ،‬وســوريا‪.‬‬

‫فبصوتهــا القائــم عــى الطاقــة الفن ّيــة الف ـذّة‪ ،‬والروح ّيــة العال ّيــة‪ ،‬اســتطاعت أم كلثــوم أن تخلــق عاملًــا‬
‫مفعـ ًـا باملوســيقى ذات النزعــة الصوف ّيــة‪ ،‬الكاشــفة لــأرسار‪ ،‬واملليئــة بالوجــدان الروحــي‪ .‬وقــد تجلّــت‬
‫ي إلقبــال‪ ،‬وغــر البعيــد عــن توجهاتــه الشــعريّة‪،‬‬‫ـص األصـ ّ‬ ‫معــاملُ تلــك النزعــة يف صوتهــا املتأثــر بــروح النـ ِّ‬
‫القامئــة عــى نزعتــه الفكريّــة واســتعداداته النفســ ّية‪ ،‬وتوجهاتــه الفلســف ّية أيضً ــا‪ ،‬بحكــم تطلّعــه إىل‬
‫ـب اإلنســان األ ّول‪.‬‬ ‫الحقيقــة‪ ،‬وشــعوره العميــق بأنَّهــا مطلـ ُ‬

‫ال خــاف أن التَّديــن العميــق إلقبــال‪ ،‬والتزامــه بديــن اإلســام وقيمــه‪ ،‬ونفــاذ بصريتــه إىل كثــر مــن‬
‫الحقائــق الدين ّيــة‪ ،‬زاده عمل ًّيــا قــدرة ظاهــرة عــى املــزج بــن هــذه الفعاليــات املختلفــة‪ ،‬لصياغــة فكــرة‬
‫رص الفلســفة والديــن والشــعر‪ ،‬فهــذه الفعاليــات الثالثــة باألســاس ‪ -‬كلهــا كــا يبــدو‪-‬‬
‫ال تتناقــض فيهــا عنــا ُ‬
‫ـدس واحــد‪ ،‬يظهــر كل مــرة مبظهــر خــاص‪.‬‬ ‫تنتهــي عنــده إىل حـ ٍ‬

‫واإلسالمي والحضارة‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫باحث يف شؤون الفكر العر ّيب‬ ‫*‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪89‬‬
‫‪90‬‬

‫ـات واضحــة يف كلــات "حديــث الــروح"‪ ،‬مــا‬ ‫املالحــظ أ َّن "كوكــب الــرق" عملــت عــى وضــع تعديـ ٍ‬
‫دفعهــا تهمــل بعــض املقاطــع منهــا‪ ،‬حتــى تكــون مناســبة لقواعــد اللحــن التــي نســجها امللح ـ ُن الكب ـ ُر‬
‫ريــاض الســنباطي‪ ،‬فمــن خــال قواعــد تلــك األلحــان ميكــن الوقــوف عنــد تالقــي الــروح الصوف ّيــة‬
‫للســنباطي وروعــ ِة موســيقاه‪ ،‬القريبــة لأللحــان الرشق ّيــة مــع صوف ّيــة ِّ‬
‫النــص وروحــه‪.‬‬

‫أ َّمــا تقديــم القصيــدة للمــرة األوىل فقــد وقــع عــام ‪1967‬م‪ ،‬ويف الحقيقــة‪ ،‬فأغنيــة "حديــث الــروح"‬
‫هــي الوحيــدة التــي أُمكــن مقارنتهــا مــع تلــك القصائــد الروح ّيــة التــي كانــت أم كلثــوم قــد أنشــدتها‬
‫ـح‬
‫يف الخمســينيات ومــا قبلهــا‪ ،‬مثــل "رباعيــات الخيــام" و"ســلوا قلبــي" وســواهام مــن الروائــع‪ ،‬ورمبــا يصـ ُّ‬
‫اعتبارهــا إضاف ـ ًة إىل املــن الكلثومــي‪.‬‬
‫إذا رجعنــا إىل مضمــون أغنيــة "حديــث الــروح" فإنَّنــا نجــده يعــود إىل محتــوى قصيدتــن جمعتهــا أم‬
‫شــعري واحــد‪ ،‬فتلــك القصيــد ُة يف األصــل هــي إعــادة نظــم لقصيــديت "الشــكوى" و‬ ‫ٍّ‬ ‫قالــب‬
‫ٍ‬ ‫كلثــوم يف‬
‫"جــواب الشــكوى" باللغــة األورديّــة‪ ،‬نرشهــا إقبــال يف ديوانــه املســمى "صلصــة الجــرس"‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪91‬‬

‫ففــي قصيــدة " الشــكوى" بــثَّ إقبــال شــجونَه‪ ،‬وذلــك يف ‪ 120‬بيتًــا عــام ‪1990‬م‪ .‬يف حــن تضــم قصيــدة‬
‫"جــواب الشــكوى" التــي نظمهــا عــام ‪1913‬م‪ 140 ،‬بيتًــا‪ .‬وقــد ترجمهــا مــن األورديــة إىل ن ـرٍ باللغــة‬
‫ـري)‪ ،‬أ َّمــا كتابتهــا يف قصيــدة واحــدة بعنــوان "حديــث‬
‫العربيــة محمــد حســن األعظمــي ( العــامل األزهـ ّ‬
‫الــروح"‪ ،‬فكانــت مــن إبــداع الشــاعر املــري الكفيــف الشــيخ الصــاوي شــعالن‪.‬‬

‫مــن أرو ِع قصائـ ِـد مناجــا ِة اللــه تعــاىل‪ ،‬القصيــد ُة األوىل؛ حيــث عمــل إقبــال عــى نقــد تراجــع الــدور‬
‫ـاري للمســلمني تاريخ ًّيــا‪ ،‬كــا حــاول عمل ًّيــا تفكيــك أبــرز أزمــات املســلمني‪ ،‬ســع ًيا إىل مواجهــة‬
‫الحضـ ّ‬
‫املشــكالت الحضاريّــة التــي تعرتضهــم‪ ،‬ولهــذا أطلــق عــى قصيدتــه "الشــكوى"؛ بحكــم أ َّن حــال األمــة‬
‫ـال األم ـ ِة اإلســاميّة املــردي؛ حيــث‬
‫آنــذاك – ورمبــا حاليًــا‪ -‬يســتدعي الشــكوى للــه‪ ،‬ملــا وصــل إليــه حـ ُ‬
‫تراجــع دورهــم بشــكل يثــر الدهشــة‪.‬‬
92
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪93‬‬

‫خطــاب مو ّجــه لشــباب العــامل اإلســامي ســ ّيام املتشــبع‬‫ٌ‬ ‫فتوجهــات "حديــث الــروح" رصيحــة‪ ،‬وهــي‬
‫ـي‪ ،‬والضائــع يف رصاع األيديولوجيــات‬ ‫بالثقافــة الغربيّــة‪ ،‬واملخــدوع بحضــارة الغــرب‪ ،‬الجاهــل لرتاثــه الرشقـ ّ‬
‫الغربيــة‪ ،‬ولهــذا خاطبــه إقبــال باألســلوب‪ ،‬واللغــة التــي يؤمــن بهــا‪ ،‬واملقاييــس التــي يتعامــل بهــا‪ .‬كــا‬
‫برهــن لــه مــن خــال أبيــات شــعريّة بــأ َّن الرشيع ـ َة اإلســام ّية قابل ـ ٌة بروحهــا للتط ـ ّور‪ ،‬ومواكبــة التقــدم‬
‫اإلنســاين‪ .‬أو بعبــارة أوضــح حــاول ترميــم الفكــرة الدين ّيــة يف قلــوب النــاس وعقولهــم؛ مبــلء الفــراغ‬
‫ـي مبــا يتــاءم مــع الحيــاة الجديــدة‪.‬‬‫الروحـ ّ‬

‫يقول الشاع ُر محمد إقبال‪:‬‬ ‫يف هذا السياقِ ‪ُ ،‬‬


‫القــلــــوب بــال عنــــا ِء‬
‫ُ‬ ‫حديث الــروحِ لألرواحِ يســــــــري وتـدركـــــه‬ ‫ُ‬
‫وشــــق أنـيـنـــــُه صـــــد َر الفضــاء‬ ‫َّ‬ ‫هتفت به فطار بـــال جــنـــــــــاحٍ ‬ ‫ُ‬
‫ومعدنه تـــــرا ٌّيب ولـكـــــــــــــــن جــــرت فــي لفـظـــــه لغـ ُة السامء‬
‫علـــــوي الـــنــــدا ِء‬
‫َّ‬ ‫العشـــق منــــي حديـــث ًـا كــان‬ ‫ِ‬ ‫لقد فاضت دمو ُع‬
‫الــعالـــم األعلــى بُكــائـــي‬ ‫َ‬ ‫األفـــالك حـتـــــــــى أهـــاج‬ ‫ِ‬ ‫فحلَّق يف رىب‬
‫قيثاريت ُمـلـئــت بأنـّات الـجـــــوى ال بدَّ للمكــبــوت مـن فــيـضــــــانِ‬
‫صعدت إىل شفتي خواط ُر مهجـــتي ليبيــ َن عـنهــا منــطـقـــي ولسـانـي‬
‫أنا مــا تعد ّي ُت القنــاع َة والرضــــى لكـن َّـمـــا هـي قـصـــــ ُة األشـجــــانِ‬
‫قـلـب مل يـــعش إال لـــحـمــ ِد عـــــالك يف األكـــــوانِ‬ ‫ٌ‬ ‫يشكـو لك الَّلـهـم‬
‫إذا اإليـمـانُ ضــــاع فــال أمــــــانٌ وال دنيـــا لــمـــن لــم يحـــي دينــا‬
‫ومـــن ريض الحيا َة بغريِ ديـــــــــنٍ فقد جعـــل الفـنـــا َء لـهـا قـــريــنـا‬
‫للـهـمـم اتحــــــــا ٌد ولــن تبـنـــوا العــال مـتـفرقـيـــنــــا‬ ‫ِ‬ ‫ويف التوحـــي ِد‬
‫نـبـي يو ّحـدكــــم علــى نـهـــج الوئــــام؟‬ ‫ألــــم يُـبـعـــث ألمـــتـكـــم ٌّ ‬
‫والــســـــالم‬
‫ِ‬ ‫ومصحفــكـــم وقبلتكـــم جمـيـ ًعـا مـــنــــا ٌر لـــألخـــــ ّوة‬
‫األنــــــــام‬
‫ِ‬ ‫رب‬
‫رحيــــــم إلـــــهٌ واحــــــــــدٌ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫الكـــل رحمـــ ٌن‬
‫ِّ‬ ‫وفــوق‬

‫روحــي ال يخلــو مــن املناجــاة‪،‬‬


‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بحديــث‬ ‫يف هــذه األبيــات‪ ،‬يبــدو أ َّن قريحــ َة إقبــال اإلميان ّيــة فاضــت‬
‫ـامي‪،‬‬
‫التمســك بقيمــة اإلميــان‪ ،‬وبتعاليــم الديــن اإلسـ ّ‬
‫والشــكوى طم ًعــا يف رضــاه ورحمتــه‪ ،‬وهكــذا دعــا إىل ّ‬
‫ـوس‪ ،‬وتتجــاوب مــع رســالته‪.‬‬
‫ـعري ات ّســم بخلــق جــرس موســيقي تســتعذبه النفـ ُ‬ ‫ـب شـ ٍّ‬‫وذلــك يف قالـ ٍ‬
‫‪94‬‬

‫خاصـ ٍة باإلنســان سـ ّـاها "‬


‫ال ينفصــل مــا ذكرنــاه مــع مبتغــى إقبــال الحقيقــي‪ ،‬فهــو يــروم تقديـ َم فلســف ٍة ّ‬
‫فلســفة تأكيــد الــذات"‪ ،‬وهــي يف نظــره مصــدر الحركــة والعمــل ومصــدر النــور والحيــاة‪ ،‬ومركز اإلنســانيّة‪،‬‬
‫لــذا وجــب عــى اإلنســان أن يعــود إىل ذاتــه كــا يــرى‪ ،‬يق ّويهــا ويد ّعمهــا‪ ،‬وينفــي عنهــا الخــوف والجــن‪،‬‬
‫ويذودهــا إىل الطريــق الحــق‪.‬‬

‫فالذاتيّــة حســب إقبــال هــي األصــل ومنهــا البدايــة‪ ،‬وعليــه فإهاملهــا جهـ ٌـل بأصــل الــداء ورأس كل بــاء‪.‬‬
‫أ َّمــا نظرتــه إىل فلســفة الــذات كــا يحلــو إليــه فهــي نظــر ٌة فلســفيّة إســاميّة‪ ،‬قرآنيّــة نهضويّــة‪ ،‬مــادام‬
‫اإلســا ُم اســتطاع أن يبنــي ذات اإلنســان ومجتمعــه ماديًّــا ومعنويًّــا؛ ومــن ثــم تحريــره مــن دونيتــه‪ ،‬صاع ًدا‬
‫ـي‪.‬‬
‫بــه إىل عــامل الــروح‪ ،‬وذلــك بغيــة تجديــد الفكــر الدينـ ّ‬

‫حيــث العمــل عــى صياغــة جديــدة للمعطيــات اإلســاميّة عــن الكــون وعالقتــه باإلنســان عــى نســقٍ مــن‬
‫األســاليب الحديثــة‪ ،‬موفِّ ًقــا بــن هــذه املعطيــات مــن النصــوص القرآن ّيــة‪ ،‬وبــن معطيــات العلــم الحديــث‪،‬‬
‫ـباب املســل ُم يف ظـ ِّـل هيمنــة الفكــر الغــر ّيب عليــه‪.‬‬ ‫بعدمــا استشــعر الفـرا َغ الفكـ َّ‬
‫ـري الــذي يجــده الشـ ُ‬
‫ـال" الــر َّد عــى منتقديــه‪ ،‬لذلــك وضــع جوابًــا مــن‬ ‫بعــد أربعـ ِة أعــوام تقريبًــا مــن "الشــكوى"‪ ،‬حــاول "إقبـ ُ‬
‫كل العلــاء الذيــن عملــوا عــى مهاجمتــه‪ ،‬ويف هــذا الصــدد جــاءت‬ ‫اللــه للمســلمني عــى شــكواه‪ ،‬لــريض َّ‬
‫قصيــدة "جــواب الشــكوى"‪.‬‬

‫والحــق أ َّن املنحــى الروحــا ّين الصــو ّيف هــو الســائد عمو ًمــا يف قصيــدة "حديــث الــروح"‪ ،‬بحكــم تأثــر إقبــال‬
‫ـي‪ ،‬ونــور الديــن الجامــي‪ ،‬كــا تأثــر يف الفلســفة‬
‫ـامي‪ ،‬فقــد تأثــر بجــال الديــن الرومـ ّ‬
‫بالـراث الصــو ّيف اإلسـ ّ‬
‫الغرب ّيــة بجوتــه ونيتشــه وبريجســون‪ .‬وهنــا يحــرص إقبــال عــى التمييــز بــن الوعــي الصــو ّيف والوعــي‬
‫ـوي الختــاف مقاصدهــا‪.‬‬ ‫النبـ ّ‬

‫ـي ‪ -‬وأتباعــه‬
‫ـي الصــو ُّيف‪ ،‬يســعى لتســامي الــروح يك تتطابــق‪ ،‬وتفنــى يف املطلــق‪ ،‬يف حــن أ َّن النبـ َّ‬ ‫فالوعـ ُّ‬
‫املســلمني‪ -‬ال يطمــح إىل نشــوة الوصــول إىل الفنــاء يف املطلــق‪ ،‬بــل يتســامى إليــه ليحصــل عــى ال ـزاد‬
‫الــذي يعينــه عــى العــودة مــرة أخــرى إىل أرض الواقــع‪ ،‬ليعمــل عــى إعــار الحيــاة‪ ،‬ومواجهــة تحدياتهــا‪.‬‬
‫ـجي‪ ،‬املمــزو ِج بألحــان الســنباطي أن تحـ ّول قصيــدة "حديــث الــروح"‬ ‫هكــذا عملــت أم كلثــوم بصوتهــا الشـ ّ‬
‫ـي قـ َّـل نظــره يف عــامل املوســيقى؛ فقــد اســتطاعت األغنيــة أن تجمــع بــن الديــن والــروح‬ ‫إىل إبــدا ٍع فنـ ٍّ‬
‫ـري أحمــد حســن الزيــات عــن‬ ‫ـب املـ ُّ‬‫والتاريــخ والجغرافيــا واألدب والفــن واملوســيقى؛ لذلــك قــال الكاتـ ُ‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪95‬‬

‫‪Photo by Finan‬‬
‫‪96‬‬

‫ـت جِسـ ُمه يف ريــاض "كشــمري"‪ ،‬وانبثقــت رو ُحــه مــن ضيــاء مكــة‪ ،‬وتألــف غنــاؤه مــن‬ ‫محمــد إقبــال‪" :‬نبـ َ‬
‫ألحــان شـراز‪ .‬لســا ٌن لديــن اللــه يف العجــم يفــر القــرآن بالحكمــة‪ ،‬ويصـ ّور اإلميــان بالشــعر‪ ،‬ويدعــو إىل‬
‫حضــارة رشقيّــة قوامهــا اللــه والــروح‪ ،‬وينفــر مــن حضــارة غربيــة تقـ ِّدس اإلنســان واملــادة"‪.‬‬

‫تأسيســا عــى مــا ســبق ذكــره‪ ،‬فــإ َّن أم كلثــوم عنــد اختيارهــا غنــاء "حديــث الــروح" مل تبتعــد عــن موقــف‬‫ً‬
‫إقبــال مــن الفــن عمو ًمــا‪ ،‬وباملناســبة فإقبــال يطالــب يف الفـ ِّن أن يكــون كامـ ًـا مــن ثــاث نــوا ٍح‪ ،‬ســواء كان‬
‫الفـ ُّن شــع ًرا أو موســيقى أو تصويـ ًرا أو عــارة‪.‬‬

‫ـذل الفنــا ُن جهـ ًدا يف تربيــة ف ّنــه‪ ،‬وتنميــة مواهبــه‪ .‬وثان ًيــا‪ :‬أن يبــذل الفنــان جهــوده‬ ‫أواًلً ‪ :‬ال بـ َّد مــن أن يبـ َ‬
‫يف إظهــار شــخصيته‪ ،‬وإبــداء ذاتيتــه‪ ،‬فــا يكــون ف ُّنــه تكـرا ًرا محضً ــا‪ ،‬وتقليـ ًدا رصفــا ملــا أســلفه الفنانــون‬
‫اآلخــرون‪.‬‬
‫ـس ســليمة‪،‬‬ ‫ثالثًــا‪ :‬أن يســتهدف الفــن أهدافًــا نبيلــة‪ ،‬ويســاعد يف تقويــة ذات ّيــة الفــرد واملجتمــع عــى أسـ ٍ‬
‫ـول ومحمــو ٌد لــدى إقبــال‪،‬‬ ‫فــإذا ســاعد الفـ ُّن يف تنميــة قــوى الحيــاة‪ ،‬وتربيــة مواهــب الــذات‪ ،‬فهــو مقبـ ٌ‬
‫وأ َّمــا إذا كان الفــ ُّن يدفــع الفــرد واملجتمــع إىل الفنــاء وين ّومــه‪ ،‬ويســتحثّه عــى الرذائــل؛ فذلــك غــر‬
‫مرغــوب وال محمــود‪ ،‬والحــق أ َّن "حديــث الــروح" إلقبــال بلغــت ق ّمـ َة الفـ ِّن املوسـ ّ‬
‫ـيقي والغنــا ّيئ بصــوت‬
‫أم كلثــوم بنفحاتــه الصوف ّيــة‪ ،‬واملوزّعــة بــن الشــكوى تــار ًة وجــواب الشــكوى تــار ًة أخــرى‪ ،‬بحثًــا عــن‬
‫الخــاص املطلــوب‪ ،‬عــر صــو ٍر يُخ ّيــل للمتأمــل فيهــا أنَّــه يكنهــا يف نفســه‪ ،‬لك َّنــه مل يكــن يــدري كيــف‬
‫يربزهــا ويخرجهــا‪ ،‬ثــم جــاء إقبــال الحكيــم‪ ،‬وق ّدمهــا لــه فريــد ًة مؤثِّــر ًة وموفقــة‪ ،‬وتلــك مــن أرسا ِر جامل ّيــة‬
‫" حديــث الــروح" ‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪97‬‬

‫عبد املنعم ال ّرفاعي‪:‬‬


‫إطاللة عىل حياته وإبداعاته‬
‫د‪ .‬يوسف بكّار*‬

‫(‪)1‬‬
‫فأريـ ُد‪ ،‬خالفًــا ملــا هــو متــداول‪ ،‬أن أبــدأ بـــِ "املقطــع" ال "املطلــع" كــا يف املصطلــح النقـ ّ‬
‫ـدي العــر ّيب القديــم‪ ،‬ألذكّــر‬
‫كل مــن يتّعــظ ويعتــر ويقـ ّدر مبقولــة عبــد املنعــم ال ّرفاعــي بعــد أن تقاعــد عــام ‪ :1961‬هــا أنــا أُخلّــف ورايئ ثالثــة‬ ‫ّ‬
‫وعرشيــن عا ًمــا مــن عمــري قطعتهــا يف خدمــة الحكومــة وال َج ْهـ ِـد والــدأب والتّن ّقــل واألســفار‪ .‬هــا أنــا أســتغني عــن‬
‫الخزانــة لتدخــل يف َعــداد‬ ‫املناصــب واأللقــاب واملعاشــات‪ .‬هــا هــي األوســمة الرفيعــة التــي أحرزتهــا أحفظهــا يف ِ‬
‫التّحــف القدميــة‪ .‬هــا هــو التّ ّقــدم والتّأخــر واملراســم والشــكليّات أُلْقــي بهــا بعيـ ًدا ع ّنــي‪.‬‬
‫الســنني ال أملــك أرضً ــا وال بيتًــا وال مــااًلً ‪ .‬أنظــر إىل نفــي يف املــرآة فأملــح هــذا الجــرح‬
‫لقــد خرجــت مــن خدمــات ّ‬
‫الســنني فأجــد هــذا القلــم وهــذه‬ ‫يف ميينــي‪ ،‬وأبــر هــذا البيــاض يف لِ ّمتــي‪ ،‬ث ـ ّم أبحــث عـ ّـا تب ّقــى مــن ذخائــر ّ‬
‫الذّكريــات أُس ـطّر منهــا ألقرأهــا‪ ،‬ويقرأهــا ولــدي بعــدي‪ ،‬ويقرأهــا معنــا ال ّنــاس(‪.)1‬‬
‫الســديد‪ ،‬وال‬‫كان معتقــد عبــد املنعــم ال ّرفاعــي الثابــت(‪" :)2‬مل أُعجــب مبســؤول مينعــه الوجــل مــن أن ميحــض الــرأي ّ‬
‫آ َخــر لــوال جســام ُة املوقــف لزيّــف الحقيقــة‪ .‬فأنــا أعلــم أنّنــا يف عهـ ٍـد مــن تط ّورنــا االجتامعــي مــا نـزال نؤثــر فيــه‬
‫اللّقــب عــى الفكــرة واملنصــب عــى العقيــدة"‪ .‬وكان يقــول(‪" :)3‬أكــره ذا الوجهــن والرأيــن والخلقــن مثلــا أكــره‬
‫الضعــف والخــوف والـ ّـر ّدد يف التعبــر ويف التّفكــر"‪.‬‬

‫لقــد كانــت القضيّــة الفلســطينيّة عنــده "قضيــة وطنيّــة وعربيّــة وعامليّــة يف آن واحــد"(‪ )4‬وهــذا مــا عمــل عليــه دامئًــا‪،‬‬
‫وال سـ ّيام يف افتتــاح الــدورة الخامســة عــرة لألمــم املتّحــدة يف منتصــف شــهر أيلــول ‪ 1960‬إبّــان كان منــدوب األردن‬
‫فيهــا‪ .‬لكــن فوجــئ بعــد انتهــاء الــدورة بقـرار ســحبه مــن األمــم املتّحــدة ونقلــه إىل عـ ّـان‪ ،‬فلــم يعجبــه‪ ،‬فقــال(‪:)5‬‬
‫ـت عــى األوضــاع العا ّمــة والشــؤون الوطنيّــة حــن يُكتــب لهــا أن تقــع تحــت رحمــة الضعــف والعجــز‬ ‫"ولك ّنــي حزنـ ُ‬
‫وســوء اإلدراك والتّقديــر"‪ .‬وحــن غــادر نيويــورك يف ‪ 30‬أيّــار ‪ 1961‬وهبطــت بــه الطائــرة إىل أرض املطــار بعـ ّـان‬
‫انهمــرت يف عينيــه الدمــوع حــن وقــع نظــره عــى املئــات مــن وفــود الالجئــن الفلســطينيني مــن أنحــاء اململكــة‬
‫كافــة‪ ،‬والعـرات مــن الشّ ــباب تحتشــد الســتقباله تقديـ ًرا لجهــده املتواضــع يف خدمــة بــاده(‪ .)6‬و ُعــرض عليــه‪ ،‬بعــد‬
‫انقضــاء شــهرين عــى وصولــه إىل عـ ّـان‪ ،‬أن يعـ ّـن ســف ًريا يف الهنــد وســيالن فاعتــذر(‪.)7‬‬
‫هــذا غيــض مــن فيــض مــا س ـطّره عبــد املنعــم ال ّرفاعــي يف "األمــواج" الــذي يُع ـ ّد وثيقــة أدبيّــة وتاريخيّــة مه ّمــة‬
‫تلقــي الضــوء عــى حيــاة واحــد مــن رجــاالت األردن وأحـ ِـد شــعرائه الكبــار(‪ ،)8‬وال سـ ّيام أ ّن مؤلفــه نفســه وصفــه بأنّه‬

‫* أكادميي وناقد أردين‬


‫‪98‬‬

‫الخاصــة أنّنــي اندمجــت يف‬ ‫ّ‬ ‫"حقائــق وأنصــاف أرسار يعينهــا األدب عــى السياســة"‪ .‬ويف هــذا يقــول(‪" :)9‬يف حالتــي‬
‫الســيايس واالعتبــارات العا ّمــة‪ ،‬فرضبــت‬ ‫الحيــاة السياسـ ّية والحيــاة العا ّمــة‪ ،‬فأخضعــت االهتــام الشّ ــعري لالهتــام ّ‬
‫قيـ ًدا عــى الشــعر كان تجنيًّــا منــي عليــه؛ ولك ّنــه كان شــيئًا ال بـ ّد منــه إلنســان عــاش يف السياســة أكــر مـ ّـا عــاش‬
‫يف الحقائــق الكــرى"‪.‬‬
‫فأ ّمــا صديقــه ألكــر مــن نصــف قــرن الشّ ــاعر ســليامن املشــيني‪ ،‬فأحســن القــول فيــه إنســانًا وشــاع ًرا إذ قــال ‪:‬‬
‫(‪)10‬‬

‫الصــدر يف الــو ّد؛ هــو ملــن يصادقــه ُعـ ّدة تشـ ّده وتقويــه"‪ ،‬وقــال‪" :‬أ ّمــا‬
‫"عرفتــه كريــم العهــد‪ ،‬صحيــح القصــد‪ ،‬ســليم ّ‬
‫يف ميــدان الشّ ــعر واألدب فــكان ممــن اجتمــع لــه البيــان والشّ ــعر ال ّرائــع والخطابــة‪ ،‬وكان صاحــب بديهــة يف املنظــوم‬
‫واملنثــور‪ ،‬غزيــر العلــم"‪ .‬وهــو الــذي لقّبــه بـــِ "شــاعر الضّ ــاد"‪ ،‬وقــال مــن قصيــدة طويلــة يف رثائــه‪:‬‬
‫نجم ُعكاظها وامل ْربِد‬
‫مــن كان َ‬ ‫ماذا تقول عرائس األشعار يف ‬ ‫ ‬
‫ً‬
‫مثاًل رشودًا ذا مضاء أ ْوحـــــ َـد‬ ‫قد كان يف أقواله و ِفعالـــــه ‬ ‫ ‬
‫الرّسمدي‬ ‫بفردوس اإلله ّ‬
‫ِ‬ ‫فانعم‬
‫ْ‬ ‫سيظل ذكرك خالدً ا ومم ّجدًّ ا ‬
‫ّ‬ ‫ ‬

‫(‪)2‬‬
‫أعــود إىل "املطلــع" للتعريــف بالشّ ــاعر بإيجــاز‪ .‬لقــد كان أحــد رجــاالت ال ّرعيــل األ ّول يف األردن يف السياســة والوطن ّيــة‬
‫والتعليــم والثقافــة‪ ،‬ومن ر ّواد األدب شــع ًرا ونـرًا(‪.)11‬‬
‫والــده طالــب أحمــد ال ّرفاعــي‪ ،‬مــن مدينــة "صفــد" يف شــايل فلســطني املحتلّــة‪ ،‬وهــو مــن أرسة ُعرفــت مبكانتهــا‬
‫الســيدة نجــاء بـكّار مــن بلــدة "مرجعيــون" يف جنــو ّيب لبنــان‪ ،‬مــن عائلــة معروفــة‬ ‫االجتامعيــة والروح ّيــة‪ .‬ووالدتــه ّ‬
‫بالوجاهــة وعلـ ّو املكانــة‪.‬‬
‫ـس بــن ســبعة‬ ‫ولــد مبدينــة "صــور" اللّبنانيّــة يــوم األحــد ‪ 23‬شــباط ‪ 1917‬حيــث كان والــده يعمــل‪ ،‬فــكان الخامـ َ‬
‫إخــوة ذكــو ٍر "مل يشــتمل ِعقْدهــم عــى واحــدة مــن البنــات"‪.‬‬
‫بدأ دراسته األوىل يف "الكتّاب" واملدارس الحكوم ّية يف صفد‪ ،‬ثم يف الكلية األُسكتلندية يف صفد وحيفا‪.‬‬
‫واصــل دراســته الثّانويّــة يف مدرســة عـ ّـان الثّانويّــة التــي يشــر إليهــا "يف مدرســتها الثّانويــة" كأنّهــا كانــت الوحيــدة‬
‫آنــذاك‪ ،‬بعــد أن انتقــل إليهــا عــام ‪ 1926‬ملتح ًقــا بشــقيقه األكــر ســمري ال ّرفاعــي الــذي ســبقه إليهــا عــام ‪1924‬‬
‫السياســيني‪ ،‬مبــا شــغله مــن مناصــب ش ـتّى‪،‬‬ ‫ليســهم يف تأســيس الدولــة األردنيــة التــي أضحــى مــن أبــرز رجاالتهــا ّ‬
‫أه ِّمهــا رئاســة الــوزارة غــر م ـ ّرة‪ .‬كان هــذا أيــام كان الوطــن العــريب كلّــه ال حــدو َد وال ســدود‪:‬‬
‫من الشّ ام لبغدانِ‬ ‫بالد الع ْرب أوطاين ‬ ‫ ‬
‫إىل ِم ْ َ‬
‫رْص فتطــوانِ‬ ‫ومن نج ٍد إىل ميـن ‬ ‫ ‬
‫الحقْبة ما كان أحقّها وأعذبها وأُحيالها! لكن هيهاتَ هيهات!‬ ‫َس ْقيًا لتلك ِ‬
‫السياسـ ّية واألدب العــريب‪،‬‬
‫تخصصــات التّجــارة والعلــوم ّ‬ ‫التحــق عــام ‪ 1931‬بالجامعــة األمريك ّيــة ببــروت‪ ،‬وتن ّقــل بــن ّ‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪99‬‬

‫وتخـ ّرج فيهــا عــام ‪.1937‬‬


‫عــاد إىل عـ ّـان معلّـ ًـا للّغــة العرب ّيــة يف املدرســة الثّانويــة التــي درس فيهــا‪ ،‬والتحــق يف أواخــر عــام ‪ 1938‬بخدمــة‬
‫املغفــور لــه‪ ،‬عبــد اللــه بــن الحســن أم ـ ًرا ومل ـكًا‪ ،‬ث ـ ّم اســتم ّر يف الخدمــة موظ ًفــا كب ـ ًرا وســف ًريا ومندوبًــا دامئًــا‬
‫لــأردن يف األمــم املتّحــدة‪ ،‬وتســ ّنم رئاســة الــوزارة مرتــن (‪ 1969‬و ‪ ,)1970‬ونــال عــد ًدا مــن األوســمة األردنيّــة‬
‫والعرب ّيــة والدول ّيــة(‪.)12‬‬
‫تــز ّوج عــام ‪ 1947‬نهلــة القــديس التــي أنجبــت لــه "عمــر" اب ًنــا وحي ـ ًدا‪ ،‬وهــو دبلومــايس وســفري معــروف‪ ،‬بيــد أن‬
‫الــزواج لـــم يـعـ ّمـــر إذ انـفـصـــل الزوجــان عــام ‪ ،1958‬فلــم يتــز ّوج هــو يف حــن تزوجــت هــي‪.‬‬
‫بعاّمن يوم الخميس ‪.1985/10/17‬‬ ‫تويف ّ‬

‫(‪)3‬‬
‫كانــت بدايــة رحلتــه اإلبداعيّــة يف الشــعر؛ باعرتافــه هــو‪ ،‬يف مــدار الجامعــة األمريكيّــة ببــروت ســنة ‪ 1929‬أو‬
‫‪1930‬؛ وأ ّمــا "ظهــوره الشّ ــعري"ـ بتعبــره هــو ‪ -‬فــكان عــام ‪ ،1932‬إذ فــاز بقصيدتــه "قيــس وليــى" بالجائــزة األوىل يف‬
‫املســابقة التــي نظمتهــا الحكومــة اللّبنان ّيــة بــن الشــعراء مــن الطلبــة يف مؤسســات التّعليــم العــايل كافــة(‪)13‬؛ وكانــت‬
‫وســا ًما ذهب ًّيــا‪.‬‬
‫منــذ ذلــك التاريــخ ظـ ّـل مشــواره مــع الشّ ــعر كــا وصفــه هــو "رصت أمــارس الشّ ــعر لنفــي‪ ...‬الشّ ــعر إفـراغ‪ ،‬إخـراج‬
‫للمكنونــات النفسـيّة أو مكنونــات الضّ مــر أو مكنونــات الفكــر‪ ،‬إخـراج يف نــوع مــن التّصويــر الشّ ــعري‪ .‬فأنــا حــن‬
‫أضيــق بهــذا العــامل‪ ،‬وحــن ال أجــد مــن أُح ّدثــه‪ ،‬أُفــرغ مشــاعري يف قالــب الشّ ــعر‪.)14("...‬‬
‫السياســة‪ ،‬فهــي عابــرة عــى ال ّرغــم مــن أنّهــا رافقتنــي يف ثالثــن عا ًمــا"(‪،)15‬‬
‫روي عنــه "الشّ ــعر أصيــل يف طبعــي‪ ،‬وأ ّمــا ّ‬
‫أباهي أمام الـنـــاس‪ .‬كــ ّـل تـفـكـيـــري انـحـصـــر‬ ‫ونقــل عنــه "مل أفكــر يف يــوم مــن األيــام أن أصبح شــاع ًرا من أجل أن َ‬
‫فـــي أن أكـون شـاعـ ًرا مـن أجـل نفيس"(‪.)16‬‬
‫أكــر شــعره‪ ،‬إىل اآلن‪ ،‬يف أربــع طبعــات يف ديــوان عنوانــه "املســافر"‪ ،‬وهــو عنــوان أوىل قصائــده التــي كتــب تحتهــا‬
‫مبــارشة "مســرة الحيــاة"‪ ،‬والتــي اختــر منهــا البيــت اآليت "رســالة" للمتلقــي بديـ ًـا عــن املقدمــة أو التّقديــم يف‬
‫الطبعــة األوىل‪:‬‬
‫رحل ُة الفكر يف الفضاء البعي ِد‬ ‫سفـ ٌر شـاسـع كـأنّ مـداه ‬ ‫ ‬

‫الطبعــة األوىل‪ ،‬صــدرت عــام ‪ ،)17(1977‬مصـ ّدر ًة بإهــداء "إىل ولــدي عمــر" بخـ ّط الشّ ــاعر وتوقيعــه‪ .‬وهــي تخلــو مــن‬
‫أي بيــان أو مق ّدمــة أو تقديــم‪ ،‬وتضــم اثنتَـ ْـن وخمســن (‪ )52‬قصيــدة‪.‬‬
‫ّ‬
‫لســت أرتــاب يف أ ّن هــذه الطّبعــة هــي التــي قــال الشّ ــاعر نفســه عنهــا "كانــت القصائــد مبعــرة‪ ،‬بعضهــا عنــدي‪،‬‬
‫كل أشــعاري‬‫الصحــف‪ .‬مل أتفــرغ فيــا ســبق إىل االلتفــات إىل جمــع ّ‬ ‫وبعضهــا عنــد غــري‪ ،‬وبعضهــا كان قــد نُــر يف ّ‬
‫‪100‬‬

‫ـت‬
‫ـت كنـ ُ‬‫وتنظيمهــا‪ .‬لهــذا قــام بعــض إخــواين وأصدقــايئ فجمعــوا هــذه املجموعــة‪ ،‬ودفعــوا بهــا إىل املطبعــة يف وقـ ٍ‬
‫غائ ًبــا فيــه عــن مــكان وجــوده‪ .‬وكان الغــرض أن يظهــر يشء مــن أشــعاري يف يــد ال ّنــاس كتجربــة أوىل"(‪.)18‬‬
‫والثانيــة‪ ،‬صــدرت عــام ‪ )19(1979‬مصـ ّدرة باإلهــداء نفســه كــا هــو‪ ،‬وبتقديــم لل ّنــارش عمــر املــدين عنوانــه "رســالة إىل‬
‫القــارئ" ومق ّدمــة للشّ ــاعر عمــر أبــو ريشــة (‪ )1990-1908‬صديــق عبــد املنعــم الــذي اعــرف بأنّــه كان يف مقدمــة‬
‫البارزيــن مــن شــعراء العــر الحديــث الــذي كان يقــرأ لهــم كثـ ًرا‪.‬‬
‫هــذه الطبعــة أوســع مــن األوىل‪ ،‬هــي التــي قــال هــو عنهــا يف حــوار محاســن حمــي معــه "وقــد شـ ّجعتني هــذه‬
‫التجربــة – أي الطّبعــة األوىل – عــى تنظيــم مجموعــة أخــرى أو مجموعــة أوســع أنرشهــا يف وقــت قريــب"‪ .‬الدليــل‬
‫عــى أنّهــا أوســع أن الشّ ــاعر أضــاف إليهــا ســبع قصائــد جديــدة‪ .‬وأعــاد ترتيــب القصائــد وف ًقــا ملوضوعاتهــا فســلكها‬
‫يف خمســة(‪ :)20‬املســافر‪ ،‬واملواكــب‪ ،‬ووطــن الفــداء‪ ،‬ودمــوع وذكريــات‪ ،‬ويف ظــال الج ّنــة‪.‬‬
‫فأ ّمــا الطبعــة الثالثــة فهــي التــي أصدرتهــا اللّجنــة الوطن ّيــة العليــا إلعــان عـ ّـان عاصمــة للّثقافــة العرب ّيــة عــام‬
‫‪.)21(2002‬‬

‫لقــد خلتهــا طبعــة جديــدة مزيــدة ومنقّحــة عــن الطبعــة الثانيــة‪ ،‬فــإذا هــي "صــورة ِط ْبــق األصــل" عــن الطّبعــة‬
‫األوىل ّإاّل يف أمريــن‪ :‬األ ّول‪ ،‬أ َّن اإلهــداء "إىل ولــدي عمــر" طُبــع طباعــة‪ ،‬ومل يكــن بخ ـ ّط الشّ ــاعر وتوقيعــه كــا يف‬
‫الّطبعتــن األوليــن؛ واآلخــر االســتغناء عــن الّلوحــات الفنيّــة املرســومة يف الطّبعــة األوىل‪.‬‬
‫األهــم أ ّن هــذه الطبعــة مــا زالــت تحتفــظ بأكــر أخطــاء الطّبعــة األوىل‪ ،‬ســوا ٌء يف "الضّ بْــط" الــذي زادت عليهــا فيــه‬
‫أم يف "التّدويــر" العــرويض؛ وقــد رصدتهــا يف كتــايب "عبــد املنعــم ال ّرفاعــي‪ :‬دراســة وحــوارات ومختــارات(‪.")22‬‬
‫لقــد كان متوق ًعــا‪ ،‬يف األقــل‪ ،‬أن تظهــر هــذه الطبعــة عــن "الطبعــة الثانيــة" التــي أرشف عليهــا الشّ ــاعر نفســه ورعاها‬
‫وزاد عليهــا ســبع قصائــد‪ ،‬ورتّــب القصائــد ترتيبًــا وفْــق املوضوعــات‪ ،‬وأعــاد ال ّنظــر يف قصائــد "الطّبعــة األوىل" مــن‬
‫حيــثُ عنوانــاتُ بعضهــا وألفاظهــا وأبياتهــا تغيـ ًرا وحذفًــا وزيــادة كــا هــو ٍ‬
‫آت‪.‬‬
‫كل شــعر صاحبــه‪ ،‬فهــو العــودة إىل تـراث‬ ‫أ ّمــا املطمــح األكــر‪ ،‬ال سـ ّيام أ ّن الديــوان حتّــى بطبعتــه الثانيــة ال يضـ ّم ّ‬
‫والصحــف واملخطــوط ومل يــدرج يف الديــوان‪ .‬فث ّمــة عــدد مــن القصائــد أثبتهــا‬ ‫ال ّرجــل الشــعري املنشــور يف املجــات ّ‬
‫الباحــث محمــد مــوىس أحمــد(‪ )23‬كان الشّ ــاعر نفســه قــد أطلعــه عــى املخطــوط منهــا‪.‬‬
‫إن يف هــذه القصائــد مــا يعــود إىل ِحقْبــة مــا سـ ّـاه الشّ ــاعر ذاتــه "الظّهــور الشّ ــعري" وليــس إىل "عهــد الشّ ــباب"‬
‫كل الـ ّرىض عــن حقائــق هــذا الشــعر أو عــن‬ ‫الــذي ســألته محاســن حمــي عــن مــدى رضــاه عنــه‪ ،‬فأجــاب "ليــس ّ‬
‫عنــارصه أو األحــداث التــي أنتجتــه‪ ،‬وإمّنّ ــا عــدم الـ ّرىض هــو القــدرة األدب ّيــة واإلبداع ّيــة يف صنــع ذلــك الشّ ــعر"‪.‬‬
‫لقــد كان الشّ ــاعر يف َحـ ْـر ٍة مــن أمــر شــعر عهــد الشــباب‪ .‬يقــول‪" :‬هنــاك جــزء مــن شــعري نُظــم يف عهــد الشّ ــباب‬
‫كل الــرىض عـ ّـا‬ ‫وعهــد الجامعــة‪ ،‬وأنــا محتــار يف أمــر هــذا الجــزء مــن أشــعاري‪ .‬أقــرأه بنظــر ِة اليــوم فــا أرىض ّ‬
‫أحســنه أو أُكمــل جوانــب ال ّنقــص التــي أراه فيهــا مبقاييــس‬ ‫نظمتــه باألمــس‪ ،‬وأحــاول أن أغـ ّـر فيــه أو أع ّدلــه أو ّ‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪101‬‬

‫اليــوم‪ .‬فعندمــا أرشع بهــذه امل َ َه ّمــة أجــد نفــي يف ضيــاع ويف بحــر ال ق ـرار لــه‪ ،‬وأجــد أن تلــك األشــعار أصبــح‬
‫ـت عليهــا هــذه العمليــة ليــس نســي ًجا واحـ ًدا أو ليــس متّسـقًا‪ ،‬فأُقْلــع عــن التّجربــة‪ ،‬وأتــرك شــعر‬ ‫نســي ُجها إذا دخلـ ْ‬
‫الشّ ــباب كــا كان وكــا خــرج أ ّول م ـ ّرة مــع مــا فيــه مــن صــدق االندفــاع وب ـراءة الظّهــور ومــع مــا ينقصــه مــن‬
‫ـي الــذي منــا وتكامــل فيــا بعــد"‪.‬‬ ‫ال ّنضــوج األديب والفنـ ّ‬
‫يتنصــل منــه ويتخـ َّـل عنــه كــا فعــل بعــض أعمــدة الشــعر الحديــث‬ ‫عــى ال ّرغــم مــن هــذا فإنّــه مل يحذفــه ومل ّ‬
‫"كل مــا مل أثبتــه يف هــذه الطبعــة الجديــدة مــن أعــايل‬ ‫مــن مثــل أدونيــس ومحمــود درويــش(‪ .)24‬فــاأل ّول يقــول‪ّ :‬‬
‫الرّتتيــب ال ّزمنــي لشــعره‬ ‫الشّ ــعريّة الكاملــة أتخـ ّـى عنــه"(‪ .)25‬مل يقــف األمــر بــه عنــد هــذا‪ ،‬إمّنّ ــا جــازه إىل التخــي عــن ّ‬
‫يف طبعــة "دار املــدى" دمشــق ‪ ،1996‬حيــث ســلك القصائــد القصــرة يف مجلــد‪ ،‬والطّويلــة يف مجلــد‪ ،‬وال ّنصــوص غــر‬
‫املوزونــة يف مجلــد‪ .‬فأ ّمــا محمــود درويــش فقــد تخـ ّـى عــن أ ّول دواوينــه "عصافـ ُر بــا أجنحــة" فحذفتــه مــن أعاملــه‬
‫الشــعريّة‪ .‬الســؤال‪ّ :‬أىّن ولــد الشــاعر كب ـ ًرا ومهـ ًّـا؟ أو ليــس هــو يف الف ـ ّن واإلبــداع نفســه يف الحيــاة والد ًة و َح ْب ـ ًوا‬
‫ـااًل؟ أو ليســت أعاملــه مــن أ ّولهــا إىل آخرهــا متثّلــه يف طفولتــه اإلبداعيــة وتدرجهــا وتط ّورهــا ونضجهــا؟‬ ‫ومشـيًّا واكتـ ً‬
‫كيــف يهــدم األســاس الــذي لــواله ملــا نهــض البنيــان وأُحكــم؟!‬
‫وأ ّمــا الطبعــة الرابعــة األخــرة‪ ،‬فهــي "شــعر عبــد املنعــم ال ّرفاعــي" الــذي جمعــه وحقّقــه وقـ ّدم لــه تلميذنــا القديــم‬
‫(األســتاذ الدكتــور اآلن) إبراهيــم الكوفحــي‪.‬‬
‫فهــو يضــم قصائــد "املســافر" يف طبعتــه الثانيــة (‪ ،)1979‬والقصائــد التــي يف كتــاب "عبــد املنعــم ال ّرفاعــي‪ :‬حياتُــه‬
‫نصــا متفاوتــة املوضوعــات‬ ‫الصحــف واملجــات والكتــب‪ ،‬تنــوف عــى ســتني ًّ‬ ‫ونصوصــا أخــرى جمعهــا مــن ّ‬ ‫ً‬ ‫وشــعره"‪،‬‬
‫واملضامــن واألطــوار واألمنــاط‪ ،‬وإن يكــن أكرثهــا مــن شــعر حقبــة "الظّهــور الشّ ــعري" و "عهــد الشّ ــباب" الــذي كان‬
‫الشــاعر نفســه "محتــا ًرا يف أمــره" وغــر متح ّمــس لــه كثـ ًرا كــا ســلف‪.‬‬
‫عــى ال ُّرغــم مــن أ ّن هــذه الطبعــة أكمــل الطبعــات وأوفاهــا‪ ،‬إىل اآلن‪ ،‬ومــن الجهــد الــذي بذلــه الجامــع املح ّقــق‪،‬‬
‫فقــد اعتمــد قصائــد الطبعــة الثانيــة بقضّ هــا وقضيضهــا ففاتــه أن يلتفــت إىل "املعــاودة" النقديّــة التــي تعه ّدهــا‬
‫ـذري والطفيــف‪،‬‬ ‫الشّ ــاعر فعـ ّدل يف العناويــن واألبيــات واأللفــاظ يف عــد ٍد مــن القصائــد تعديــات تتفــاوت بــن الجـ ّ‬
‫هــو الــذي أتحــدث عنــه الح ًقــا بإيجــاز؛ لكـ ْن حســبي هنــا أن أذكــر قصيدتــن مه ّمتــن "املســافر" و "رصخــة الجريــح"‬
‫منوذ ًجــا للمعــاودة الجذريّــة‪.‬‬
‫فقصيــدة "املســافر" التــي تتألــف مــن تســعة (‪ )9‬مقاطــع تركّــزت "املعــاودة" فيهــا عــى تغيــر "مواقــع" بعــض‬
‫املقاطــع ونقــل أبيــات مــن مقطــع إىل آخــر؛ لك ـ ّن إبراهيــم الكوفحــي أثبتهــا كــا هــي يف الطبعــة الثانيــة " مــن‬
‫املســافر"‪.‬‬
‫فأ ّمــا "رصخــة الجريــح" فكانــت يف ثالث ـ ٍة وعرشيــن بيتًــا وهكــذا أثبتهــا الكوفحــي‪ ،‬يف حــن أنّهــا أضحــت‪ ،‬بعــد‬
‫املعــاودة اثنــي عــر (‪ )12‬بيتًــا فقــط‪ ،‬وقــد أثبــت القصيدتــن كاملتــن قبــل املعــاودة وبعدهــا يف كتــايب الســالف‬
‫‪102‬‬

‫الذكــر ليــوازن مــن تلــذ لــه املوازنــة؛ فقد ًميــا قــال املتنبــي مــن التشــبيه الضّ منــي‪:‬‬
‫ومن يعشق يل ّذ الغرام‬ ‫تل ّذ له املروءة وهي تُ ْعدي ‬ ‫ ‬
‫ومام فات الكوفحي‪ ،‬أيضً ا‪ ،‬قصيدة من بحر الكامل مطلعها‪:‬‬
‫كفي األيام واألقدار‬
‫يف َّ‬ ‫جمحت َيب األحالم ح ّتى ِخلْتني ‬
‫ْ‬ ‫ ‬
‫ذكرها الشّ اعر نفسه يف حوار شجاع األسد معه ‪.‬‬
‫(‪)26‬‬

‫(‪)4‬‬
‫والســيايس والّرثــايئ الــذي‬
‫ُعــرف عبــد املنعــم ال ّرفاعــي يف الشــعر أكــر مــا عــرف بشــعره الرومانــي الـذّايت والوطنــي ّ‬
‫التــزم فيــه القالــب الشّ ــطري أو "األصيــل" كــا يســم ّيه هــو(‪ )27‬بوزنــه الواحــد‪ ،‬وقافيتــه املو ّحــدة‪ ،‬وإن ن ـ ّوع فيهــا‬
‫أحيانًــا يف القصائــد املتعـ ّددة املقاطــع والقصائــد التــي تنحــو منحــى "املوشــح" واألناشــيد وهــي قصائـ ُد ســبع (‪:)7‬‬
‫أربــع يف الطبعــة الثانيــة مــن "املســافر" هــي‪ :‬طيْــف (ص‪ ،)27‬وعنــد النيــل (ص‪ ،)37‬وأغنيــة فلســطني (ص‪،)106‬‬
‫ونشــيد الفــدايئ (ص‪)109‬؛ وثــاث يف نــرة إبراهيــم الكوفحــي‪ :‬نشــيد الكّشــاف (ص‪ ،)251‬وجيشــنا (ص‪،)170‬‬
‫وتح ّيــة العلــم (ص‪.)304‬‬
‫فقصيــدة "أغنيــة فلســطني" (ص‪ ،)106‬مثـ ًـا‪ ،‬ظلّــت عــى مــا هــي عليــه يف الطبعــة األوىل (ص‪ ،)98‬لكــن كان عنوانهــا‬
‫"فلســطني" فقــط حــن نــرت أ ّول مـ ّرة يف مجلــة "آخــر ســاعة"(‪ )28‬املرصيّــة بعــد يومــن اثنــن مــن "غــارة حزيـران"‬
‫(‪ .)1967/6/5‬إخــال أنّــه أضــاف "أغنيــة" إىل العنــوان األول ليف ـ ِّرق بينهــا وبــن قصيــدة أخــرى عنوانهــا "فلســطني"‬
‫(ص‪ )88‬هــي األقــدم تاريخ ًّيــا؛ ألنّــه نظمهــا "يف مطلــع نكبــة عــام ‪.1948‬‬
‫القصيــدة منظومــة بقالــب فيــه بــدواتٌ مــن "املوشــح" وشــذور مــن تنويعــات شــعراء ال ّرعيــل األول يف "املهاجــر‬
‫روي واحــد تــكاد تقــرب‬ ‫األمريــي"‪ ،‬فهــي يف ثالثــة مقاطــع مركبــة‪ .‬كل مقطــع مــن أربعــة أبيــات "شــطريّة" تا ّمــة يف ّ‬
‫روي واحــد يختلــف‬ ‫مــن "ال ُقفْــل" يف املوشــح‪ ،‬وأربعــة "شــطور" تشــبه "الــ َّدور" يف املوشــح كذلــك‪ :‬ثالثــة عــى ّ‬
‫روي األبيــات نفســه يف املقاطــع جمي ًعــا‪ ،‬وكأمّنّ ــا أُريــد بــه أن يكــون‬
‫عــن روي األبيــات التــي تســبقها‪ ،‬والّرابــع مــن ّ‬
‫"العمــود" الــذي تســتند إليــه القصيــدة كلّهــا؛ وهــذا وجــه مــن وجــوه الشّ ــبه بينهــا وبــن مــا يف كثــر مــن القصائــد‬
‫املهاجريّــة‪.‬‬
‫أبيات املقاطع الثّالثة من بحر املتدارك‪ ،‬والشطور من "مشطور ِه"‬
‫لقد طالت املعاودة الجذريّة املقطع األول تحدي ًدا‪ ،‬إذ كان حني نُرشت القصيدة أ ّول م ّرة‪:‬‬
‫ـــــب‬
‫وجراح الـشَّ ـرف الـ ُم ْغ َت َص ِ‬ ‫يا دمـو ًعـا فـي مـآقـي الـــــــعـــــرب ‬ ‫ ‬
‫لع الشّ مس ومرسى الكوكب‬ ‫َمطْ ُ‬ ‫ـك مـن أعـالمـنــــــــا ‬‫هـل عـلـى شـطّ ِ‬ ‫ ‬
‫يا فلسط ُني ورا ِء الـغَـ ْيـهـــــــب‬ ‫يـل فـي غـفـوتنــــــــــا ‬ ‫ِ‬
‫طـواك الـلـّ ُ‬ ‫أم‬ ‫ ‬
‫فـي شـفـاء الـ ّنـازح الـمـغـتـرب‬ ‫ُ‬
‫أحــاديث األســـــــــــــى ‬ ‫فـــإذا ِ‬
‫أنـت‬ ‫ ‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪103‬‬

‫زفــرة الـالجـئ أضـنـاه الـطَّـوى‬ ‫لم الـش ّـوق فـي ِح ْ‬


‫ـصـن ال َّنــوى ‬ ‫ِ‬
‫أنت ُح ُ‬ ‫ ‬

‫فنعى "األقىص" ِحـ َمـاه لل ّنبي‬ ‫وطـن مـن ِسـدْ رة الـخُـلـْد هـوى ‬ ‫ ‬
‫وأضحى يف ال ّديوان‪:‬‬
‫ْتصــــــب‬
‫ِ‬ ‫ـي الـوطـن الـ ُمغ‬ ‫ون َـجِ ّ‬ ‫أ ّيـهـا الـسـاري إىل مرسى النبــــي ‬ ‫ ‬
‫لع الشّ مس ومهوي الكوكـب؟‬ ‫َمطْ ُ‬ ‫هـل عـلـى الـصـحـراء مـن أعالمنا ‬ ‫ ‬
‫ّـعـلـب‬
‫ِ‬ ‫َردَّه فـي الـ َعدْ و َمكْـ ُر الـث‬ ‫قد كبونا‪ُ ،‬ر َّب مـُ ْهـٍر جـــــامـــــحٍ ‬ ‫ ‬
‫ــب‬‫ص ْيحـ ُة الـثـأ ِر و َمـ ْو ُج الـغـَضَ ِ‬ ‫فـــانتفضنا فإذا راياتُنـــــــــــــــا ‬ ‫ ‬

‫زحـف الـ ُجـ ْنـدُ وحـان الـم َـ ْو ِعـــدُ‬


‫َ‬
‫أمــس وغــدُ‬
‫ٌ‬ ‫حـب‬ ‫ُ‬
‫والـمـجـال الـ َّر ُ‬
‫وقـلـب ويـــــــَدُ‬
‫ٌ‬ ‫والـمـدى عـيـ ٌن‬
‫ـب‬‫والـشـذي عـب ْـق الـفـدا ِء الـط ّـ ّي ِ‬

‫املوازنــة بــن املقطعــن القديــم والجديــد تُ ْفــي إىل أ ّن الشّ ــاعر أبقــى‪ ،‬شــكليًّا‪ ،‬عــى "البــاء" رويًّــا لألبيــات األربعــة‬
‫مغموســا مبســتقبليّة متفائلــة‪ ،‬يف‬
‫ً‬ ‫التــي ح ّولهــا إىل "خطــاب" يعــرف بتعبرييّ ـ ٍة اســتفهاميّة بالهزميــة‪ ،‬بَيْــد أنّــه ظــل‬
‫ـوي يـقـطـــر ًأىًس وجـ ًوى‪ .‬فأ ّمــا الفارق األكرب بيـــن الـخـطـابـيـــن‬ ‫ـاب هزمية مـاضــ ّ‬ ‫الســابقة خطـ َ‬
‫حــن كانــت األبيــاتُ ّ‬
‫ـوى مض ّم ًخــا بــرؤى البطولــة‬‫فينبجــس‪ -‬يف األكــر‪ -‬مــن تغيــر الشّ ــطور األربعــة تغي ـ ًرا جذريًّــا كامـ ًـا رويًّــا ومحتـ ً‬
‫واالســتعداد‪ ،‬يف حــن أ ّن الشّ ــطور املحذوفــة كانــت مثقلــة بآهـ ِ‬
‫ـات ال َّن ـ ْدب وال َّن ْعــي واليــأس‪.‬‬
‫ـت" إىل‬
‫فأ ّمــا املقطعــان اآلخـران فنالهــا نصيــب مــن املعــاودة‪ .‬فقــد غـ ّـر يف البيــت األول مــن املقطــع الثــاين "لعلعـ ْ‬
‫" َد َوتْ "‪:‬‬
‫فم‬
‫كل ِ‬‫"وا فلسط ُني" عىل ّ‬ ‫ِ ‬
‫الـمـضـطـرم‬ ‫و" َد َو ْت" يف أُفْـقـهـا‬ ‫ ‬

‫واملعــروف لغـ ًة أ ّن "الـ ّدوي" صــوت ال ّرعــد‪ ،‬يف حــن أ ّن "اللعلعــة" هــي بصيــص الـ ّ‬
‫ـراب‪ ،‬وإ ْن قيــل "لعلــع ال ّرعــد"‬
‫أي ص ـ ّوت(‪.)29‬‬
‫ضك" إىل "ع ّز ِك" األقرب مع ًنى وداللة يف الـشّ ـطـر الثالث‪:‬‬ ‫وغرّي "ح ْو ِ‬
‫ّ‬
‫نبتغـي " ِعـ َّز ِك" أرضً ا وسـمـا‬
‫أما املقطع األخري فلم يب ّدل فيه سوى "الشّ طر الثاين" من البيت األول‪ ،‬إذ كان‪:‬‬
‫‪104‬‬

‫"والـهـوى شَ دّ ْت ُعراه ال ُق َب ُل"‬ ‫ ‬ ‫طـابـت الـلُّـق ْـيـا وطـاب ُ‬


‫املنزل‬ ‫ ‬
‫مالت عليه ال ُقبَل"‪ .‬وأرى أن "شَ دَّتْ عراه" أقوى من "مالت عليه" وأمكن‪.‬‬ ‫فغدا "والهوى ْ‬
‫صفــوة الــرأي أ ّن شــعر عبــد املنعــم ال ّرفاعــي عا ّمــة مــن الشّ ــعر الشّ ــطري األصيــل الــذي يجمــع بــن التقريــر والتعبــر‬
‫الصــور الشــعريّة املختلفــة مــن تشــبيه وتشــخيص‬ ‫ـي‪ ،‬تنــداح فيــه ّ‬‫يف لغــة رصينــة ســائغة ال آب ـ َد فيهــا وال وحـ ّ‬
‫متجانســا بعيـ ًدا‬
‫ً‬ ‫باملفهــوم الحديــث واســتعارة مكن ّيــة باملفهــوم القديــم‪ ،‬وتتــواءم النــكات البالغ ّيــة القدميــة تواء ًمــا‬
‫ـر‪.‬‬
‫عــن الحشــو والقـ ْ‬

‫(‪)5‬‬
‫أي شــاعر‪ ،‬ناقــد بالقــوة‪ ،‬وال ّرفاعــي ناقــد‬
‫مــا ســبق يفــي إىل التّعريــج عــى عبــد املنعــم ال ّرفاعــي ال ّناقــد‪ ،‬فالشّ ــاعر‪ّ ،‬‬
‫بالفعــل وبالقــوة م ًعــا‪ .‬يتجـ ّـى هــذا‪ ،‬بــد ًءا‪ ،‬يف مــا ُعــرف عنــه مبزاولــة "املعــاودة" النقديّــة يف شــعره‪.‬‬
‫املعــاودة اصطــاح قســته عــى مصطلــح "املــواردة" ال ّنقــدي‪ .‬مادتــه اللغويــة " َعـ َود"‪ ،‬ومــن أقــرب معانيــه إىل "الفنيّة"‬
‫املبتغــاة منــه يف املعاجــم "ال ّرجــوع إىل األمــر األ ّول"(‪)30‬؛ وهــو مــا أتبنــاه هنــا بغيــة التّفريــق بينــه وبــن مــا ُعــرف‬
‫ويعــرف مبصطلــح "التّنقيــح" وعائلتــه النقديّــة (التّثقيــف‪ /‬التّهذيــب‪ /‬التّحكيــك) الــذي ُعرفــت بــه مدرســة "عبيــد‬
‫الشّ ــعر" الجاهليــة؛ والــذي يعنــي إعــادة ال ّنظــر يف املنتــج األديب شــع ًرا ون ـرًا ومراجعتَــه بعــد الف ـراغ مــن إبداعــه‬
‫ـي وقبــل إخراجــه إىل ال ّنــاس أو نــره‪ .‬فأ ّمــا مصطلــح "املعــاودة" فريمــي إىل أبعـ َد مــن هــذا‪ ،‬وهــو أن‬ ‫وخلْقــه الفنـ ّ‬
‫يعــود املبــدع شــاع ًرا أو ناثـ ًرا إىل مــا أذاعــه عــى املــأ أو نــره وإ ْن كان قــد نقّحــه بعــد خلْقــه األول‪ ،‬فيجيــل ال ّنظـ َر‬
‫فيــه صقـ ًـا وتعديـ ًـا‪.‬‬
‫جل املبدعني الفنيّة يف مختلف األمم قدميًا وحديثًا‪.‬‬ ‫ليس من شك يف أ ّن املعاودة مبدأ من مبادئ ّ‬
‫كان عبــد املنعــم ال ّرفاعــي كــا تنبــئ أقوالــه وتكشــف املوازنــة بــن عــدد مــن قصائــده يف الطّبعتــن األوليــن وبينهــا‬
‫الصحــف واملجــات ويف بعــض كتــب "الذّكــرى" ومدرجـ ًة يف ال ّديــوان‪ ،‬كان مســكونًا بهاجــس‬ ‫نفســها منشــور ًة يف ّ‬ ‫هــي ِ‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪105‬‬

‫ـي ويرنــو إىل مســتوى أفضــل‬ ‫"التّثقيــف" بــد ًءا و"املعــاودة" تال ًيــا؛ ألنّــه كان يصبــو دامئًــا إىل مزيــد مــن التّجويــد الفنـ ّ‬
‫ـي" أو مــا يســم ّيه هــو "القــدرة األدب ّيــة واإلبداع ّيــة"‪ .‬يقــول‪" :‬مــن تجــاريب الّشــخص ّية‬ ‫وأرحــب مــن "االســتواء الفنـ ّ‬
‫مثـ ًـا‪ ،‬قــد ال أرىض عــن بيــت واحــد يف القصيــدة يُتعبنــي مــدى أســبوع أو أســبوعني بســبب عــدم قناعتــي بــأ ّن هــذه‬
‫اللّفظــة فيــه مناســبة‪ ،‬أو أنّهــا مناســبة بالنســبة إىل جاراتهــا‪ ،‬أو أنّهــا ليســت مــن الّنســيج نفســه"(‪.)31‬‬
‫حريصــا جـ ًّدا عــى أن يعــود إىل شــعر عهــد الشّ ــباب وعهــد الجامعــة‪ ،‬الــذي مل يكــن راض ًيــا عنــه كل الـ ّرىض‬ ‫ً‬ ‫لقــد كان‬
‫مــن حيــثُ القــدر ُة األدب ّيــة واإلبداع ّيــة‪ ،‬فيعــاو َد النظــر فيــه تغي ـ ًرا وتحســي ًنا وتقو ًميــا‪ ،‬لك ّنــه وجــده فعـ ًـا مضن ًيــا‪،‬‬
‫فرتكــه "كــا كان وكــا خــرج أ ّول م ـ ّرة مــع مــا فيــه مــن صــدق االندفــاع وب ـراءة الظّهــور ومــع مــا ينقصــه مــن‬
‫ـي الــذي منــا وتكامــل فيــا بعــد"(‪.)32‬‬ ‫النضــوج األد ّيب والفنـ ّ‬
‫أي يشء‪ -‬عالم ـ ٌة‬ ‫ج ـ ّرب ال ّرفاعــي املعــاودة بأمناطهــا كافــة‪ .‬أولهــا تغيــر "عنوانــات" بعــض القصائــد‪ .‬فالعنــوان‪ -‬يف ّ‬
‫دالّــة‪ ،‬وعالم ـ ٌة وإعــان‪ ،‬وظاهــر لباطــن؛ والعالقــة بــن الظاهــر والباطــن عالقــة حقيق ّيــة وليســت اعتباط ّيــة‪ ،‬إنّهــا‬
‫عالقــة مزدوجــة كميـ ٌة وكيفيّــة‪ :‬األوىل مــن جنــس البالغــة تصــل بــن إيجــاز وإطنــاب‪ ،‬فإيجــاز العنــوان يختــزل ال ّنــص‬
‫رس وحقيقــة‪،‬‬ ‫مب ًنــى ومع ًنــى‪ ،‬يف حــن أ ّن إطنــاب ال ّنــص يبســط مــا يطويــه؛ واألخــرى مــن جنــس املعرفــة تجمــع بــن ٍّ‬
‫ـص عــى فـ ّـك مغالقــه‪ .‬والعنــوان كثـ ًرا مــا يــي‬ ‫فالعنــوان يضـ ّم يف باطنــه حقيقــة ال ّنــص التــي تؤلــف لغـ ًزا يعمــل النـ ُّ‬
‫عــن نفســية املبــدع وزاويــة رؤيتــه(‪.)33‬‬
‫لقــد زاول الشــاعر برؤيــة نقديّــة فـ ّن املعــاودة يف عــدد مــن قصائــده مزاولــة جزئيّــة وجذريّــة‪ :‬الجزئيّــة يف القصائــد‬
‫اآلتيــة‪ ،‬بعــد تغيــر عناوينهــا‪" :‬يف القريّــة" (ص ‪ 77‬مــن الطبعــة الثانيــة)‪ ،‬و"بــكاء األحــرار" (ص‪ ،)142‬و"موطــن‬
‫الوحــي" (ص‪ .)148‬فأ ّمــا الجذريّــة ففــي القصائــد‪" :‬أغنيــة فلســطني"‪ ،‬و"املســافر"‪ ،‬و"رصخــة الجريــح" التــي تق ـ ّدم‬
‫مســا رفي ًقــا‪،‬‬
‫مســتها املعــاودة ًّ‬ ‫الــكالم عليهــا؛ ناهيــك بقصيــدة "يف ذكــرى األخطــل الصغــر" (ص‪ .)133‬ومثّــة قصائــد ّ‬
‫هــي‪" :‬أيب" (ص‪ ،)113‬و"يف ذكــرى طــه حســن" (‪ ,)136‬و"ثــورة الالجــئ" (ص‪.)98‬‬
‫ـتكاماًل ملــا يف املعلــم النقــدي عنــد ال ّرفاعــي فــإ ّن يف حواراتــه النقديّــة األربعــة‪ ،‬التــي اســتطعت أن أصــل إليهــا‪،‬‬ ‫اسـ ً‬
‫مــاد ًة نقديّــة ث ـ ّرة يف حاجــة ألن يُفــرد لهــا بحــث مســتقّل وح ـ َده لك ّننــي أُملــع إليهــا هنــا إملا ًعــا‪.‬‬
‫إنّه يطلع علينا مبصطلحات نقديّة من مثل‪:‬‬
‫ـازج حروفهــا ووضعهــا مــع رفيقاتهــا مــن الكلــات التــي‬ ‫ـعري‪ :‬وهــو انتقــاء الكلمــة مــن حيــث متـ ُ‬ ‫(‪ )1‬ال ُّرقــي الشـ ّ‬
‫متكامــا كــا يف شــعر الشّ ــ ْنفرى وأيب العتاهيــة والبحــري‬ ‫ً‬ ‫متجانســا‬
‫ً‬ ‫الشــعري‬
‫ّ‬ ‫تكــ ّون العبــارة‪ ،‬ثــ ّم تكــ ّون ال ّنــص‬
‫واملتنبــي‪( .‬حــوار شــجاع األســد)‪.‬‬
‫كل شــاعر وأســلوبه‪ ،‬كالســم ّو يف اللفظ واملوســيقى‬ ‫(‪ )2‬الســم ّو والتحليــق‪ :‬أي االرتفــاع فــوق املســتوى املألــوف يف ف ّن ّ‬
‫يف شــعر أمــن نخلــة‪ ،‬والتّحليــق بالتصويــر الوجــداين كــا يف شــعر َعبَــدة بــن الطّبيب‪.‬‬
‫الصفــاء إبّــان نظــم الشــعر‪ ،‬واملوقــف مــن "الوعــي" و"الالوعــي"‪ ،‬فــا ب ـ ّد للف ّنــان مــن أن ميتلــك درج ـ ًة مــن‬ ‫(‪ّ )3‬‬
‫الوعــي حتّــى يتف ّنــن بف ّنــه ليكــون اإلخ ـراج مــن ذات ّيتــه ال مطل ًقــا‪.‬‬
‫‪106‬‬

‫ـي ليكــون مال ـكًا لقولــه وعقلــه‬


‫(‪ )4‬الشــاعر والصنعــة؛ فــا ب ـ ّد للشــاعر مــن أن يكــون ذا "صنعــة" باملعنــى الفنـ ّ‬
‫ويتح ّكــم برثوتــه الوفــرة‪.‬‬
‫ومتحس ٌس لألوضاع املحيطة به‪.‬‬
‫ّ‬ ‫متفاعل‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )5‬الشاعر كائ ٌن‬
‫الســامع أو املشــاهد إىل الجـ ِّو الــذي يعيــش‬
‫(‪ )6‬نظريّــة اإلخـراج‪ :‬وهــي أن يتمكـ ّن الف ّنــان مــن أن ينقــل القــارئ أو ّ‬
‫فيــه هــو‪( .‬حــوار مفيــد نحلــة)‪.‬‬
‫ناهيــك مبــا يف املحــاورات مــن ملســات نقديّــة عــن شــعره وموهبتــه الشّ ــعريّة ونظمــه الشــعر‪ ،‬وقراءاتــه الشــعريّة‬
‫قدميًــا وحديثًــا وتأثراتــه‪ ،‬وتقوميــه للشــعر العــريب منــذ الجاهل ّيــة إىل زمانــه ورأيــه يف الشــعر الشــطري األصيــل وشــعر‬
‫السياســة واألدب‪ ،‬ومفهومــه لاللتـزام‪ ،‬وغــر هــذا‪.‬‬ ‫التفعيلــة‪ ،‬والتفاعــل بــن ّ‬

‫(‪)6‬‬
‫ديــوان "املســافر" يف الشّ ــعر‪ ،‬وكتــاب "األمــواج" يف ال ّنــر أهــم مــا خلّــف ال ّرفاعــي‪ .‬فــإذا مــا روعــي مــا قيــل يف‬
‫"العنــوان" قبــل قليــل نجــد أنّهــا يحكيــان م ًعــا ســرة ال ّرجــل إىل حـ ٍّد معقــول‪ .‬فاملســافر الــذي ُعنــون بعنــوان أ ّول‬
‫قصائــده فيــه قــال هــو عنــه إنّــه "اســتعارة لصفــة ذلــك املســافر الــذي قــام برحلــة الحيــاة‪ ،‬ووقــف يف أســفاره عنــد‬
‫عــدد مــن املحطّــات عــى الطريــق الطّويــل(‪ .")34‬إنّــه ســرة لجــزء مــن حياتــه الخاصــة والعامــة‪ .‬والقصيــدة تحديـ ًدا‬
‫وصفــت بأنّهــا "مســرة الحيــاة" حيــاة الشّ ــاعر الخاصــة يف األغلــب‪ .‬يقــول إنّــه نظمهــا عــام ‪ 1958‬واســتغرق نظمهــا‬ ‫ُ‬
‫ســتة (‪ )6‬شــهور‪ ،‬وإنّهــا "متثّــل حــواره مــع نفســه مبــا دخــل عــى هــذا الحــوار مــن مؤث ـرات خارجيّــة كان لهــا‬
‫انعكاســها يف اإلحساس ـيّات الذاتيّــة للشــعر"‪ ،‬وهــي مــن "الط ـراز الوجــداين"‪.‬‬
‫فاملقطع الثالث‪ ،‬بعد املعاودة‪ ،‬تلفُّه "الذكرى" التي ال تخلو من أمل‪:‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪107‬‬

‫أث ُر ال ّنار وانطالق الحديــ ِد‬ ‫كيف أنىس ويف مييني امل ُ َع ّنى‬
‫ ‬ ‫ ‬
‫هذه رقد ُة الجريح الطّري ِد‬ ‫ ‬
‫نم هنا طال مدأب و َمثــــا ٌر‬ ‫ْ‬ ‫ ‬
‫وهديل الدُّ عاء وال ّتجويد‬ ‫وحواليك ُع ّو ٌد وأُســــا ٌة ‬ ‫ ‬
‫فــــق وأُ ٍّم ودو ِد‬
‫ٍ‬ ‫وأخٍ مشْ‬ ‫أب ط ّيب اإلله ثراه ‬ ‫من ٍ‬ ‫ ‬

‫واملقطــع ال ّرابــع َعـ ْود حميــد إىل تذكّــر "الذكــرى" بأفاويقهــا الحلــوة متهيـ ًدا للمقطــع الخامــس املوقــوف عــى "أغــى"‬
‫مــا بقــي مــن "الذّكــرى"‪ .‬فمــن املقطــع ال ّرابــع‪:‬‬
‫عيش رغيــ ِد‬ ‫رص َح ٍ‬
‫حولنا فيه ْ‬ ‫بيتنا شاده ال ّرىض وبن ْينـــــا ‬ ‫ ‬
‫كل ِع ْق ٍد فري ِد‬
‫من ِح َىَل ال ّنجم ّ‬ ‫نشتهي ِحلْية ال ّنجوم ف ُن ْهدى ‬ ‫ ‬
‫وط َويْنا ال ُعباب خلف الحدود‬ ‫كل ج ٍّو ‬ ‫السحاب يف ّ‬ ‫قد َعلَ ْونا ّ‬ ‫ ‬

‫ومن املقطع الخامس‪:‬‬


‫وادّكاري الهوى وأُنْيس وعيدي‬ ‫يا نعيمي وهدأيت وحنينـــي ‬ ‫ ‬
‫ِ‬
‫ذابالت الــــــــورود‬ ‫فأحي ْي َت‬ ‫جئتنا والحياة تظأم لل ِخ ْصـبِ ‬ ‫ ‬
‫شذى ِعطْرِكَ ال ّن ّ‬
‫دي ال ّنديـــــ ِد‬ ‫فالعبري الذي تَض ّوع يف الــدّ ار ‬ ‫ ‬
‫فأ ّمــا "األمــواج" فهــو‪ ،‬كــا هــو مــد ّون تحــت العنــوان‪ ،‬ليــس أكــر مــن ســرة نرثيّــة لـــِ "صفحــة مــن رحلــة الحيــاة"‬
‫الســر واملذكّـرات وفلســفتها وصدق ّيتهــا‪ ،‬مهــم يف شــهادات نصوصــه‬ ‫كــا يقــول مؤلفــه‪ .‬وهــو‪ ،‬إذا مــا روعــي منطــق ِّ‬
‫وعالماتهــا وصورهــا ودالالتهــا يف الــكالم عــى يشء مــن "الزمكان ّيــة" يف األردن يف مــا يزيــد عــى نصــف القــرن‬
‫العرشيــن الفائــت‪ .‬أكتفــي هنــا مبثالــن منوذ ًجــا للمــكان وال ّزمــان عنــد ال ّرفاعــي‪.‬‬
‫فأ ّمــا عــن "املــكان" فيصــف عبــد املنعــم "عـ ّـان"‪ ،‬آنــذاك‪ ،‬بقولــه‪" :‬كانــت عـ ّـان صغــرة وادعــة ســمراء‪ ،‬يســقيها‬
‫ـوق تجمــع أطرافهــا يف ثالثــة ِشــعاب‪ ،‬وتتعـ َّرج إىل بعــض املنــازل يف جبالهــا‬ ‫ـيل ينبــع مــن رأس العــن‪ ،‬وتتخلَّلُهــا سـ ٌ‬ ‫سـ ٌ‬
‫الســر عــى األقــدام‪ ،‬وتغمرهــا طيبــة الحيــاة والقناعــة بالعيــش‪ ،‬وأصال ـ ٌة‬ ‫أدراج مرصوف ـ ٌة أحيانًــا‪ ،‬وأحيانًــا يع ِّبدهــا ّ‬
‫تح ـ َّدرت يف نفــوس أهلهــا بالشّ ــائل واملــروءات" (ص‪.)15‬‬
‫وملّــا التحــق بخدمــة األمــر عبــد اللــه بــن الحســن ‪ /‬امللــك املؤســس مــن بَ ْعــد كاتبًــا كان يحــر مجالســه "يف‬
‫الديــوان"‪ ،‬وكان يخــرج مــن مكتبــه سـ ًرا عــى األقــدام‪ .‬هــا هــو ذا يق ّيــد مــا ينضــوى يف منظومــة "ال ّزمــان" املمتــدة‬
‫والرتصــد وال ـ َّدس بــن أف ـراد الحاشــية‪ ،‬ومــا كان يشــهده مــن‬ ‫ُّ‬ ‫عــر العصــور مــا كان مــن مواقــف الغـ ْـرة والحســد‬
‫مــاآلت لألمــر‪.‬‬
‫فمــن األوىل‪ ،‬أن األمــر نــاداه‪ ،‬يف بدايــة عملــه معــه‪ ،‬وقــال لــه‪" :‬ســيزورنا ضيــف مــن فلســطني‪ ،‬فاذهــب واشــر لنــا‬
‫مــن الفنــدق بجانــب مخيمنــا بعضً ــا مــن الحلــوى وال ُج ْبنــة والفرنجيــا"‪ .‬فذهــب‪ ،‬وهــو ال يعــرف الفرنجيــا‪ ،‬وأحــر‬
‫‪108‬‬

‫الحلــوى وال ُج ْبنــة وا ّدعــى أنّــه مل يجــد الفرنجيــا‪ .‬فقــال األمــر‪" :‬معــاذ اللــه‪ ،‬أليــس يف الفنــدق خبــز؟!"‪ .‬فتعالــت‬
‫ضَ ِحــكات رجــال الحاشــية تعج ًّبــا وســخرية عــى إخفاقــه‪( .‬ص‪.)17‬‬
‫ـت ال ّريــاح واقتلعــت‬ ‫ومــن األخــرى‪ ،‬أنّهــم كانــوا شــتاء يف معيَّــة األمــر بخيمــة يف "الشّ ــونة الجنوبيّــة"‪ ،‬وقــد عصفـ ِ‬
‫أوتا َدهــا‪ ،‬وهطــل املطــر بغ ـزارة "وكان صفــر ال ّريــاح يختلــط بعــواء الذئــاب والضبــاع‪ .‬ويجمعنــا حولَــه عــى وتــر‬
‫الرّشيــف هاشــم بأغانيــه الحجازيَّــة القدميــة‪ ،‬فتغــرورق عــى ألحانــه عينــا األمــر بال ّدمــع‪ ،‬وتغــرورق‬
‫ال َّربابــة‪ ،‬يطربنــا ّ‬
‫عيــون رجــال الحاشــية مــع دمــوع األمــر‪ .‬فقــد كانــوا يتنافســون خفيـ ًة عــى اكتســاب ال ُحظــوة األكــر يف املجلــس؛‬
‫منهــم مــا يأخــذه التُّقــى عنــد ترتيــل آيــات الذّكــر الحكيــم‪ ،‬ومنهــم مــن يضحــك مبــلء ِش ـ ْدقيه إ ْن بــدرتْ نكت ـ ٌة‬
‫تُعجــب األمــر‪ ،‬ومنهــم مــن يتشـ َّدق يف املعرفــة‪ ،‬أو يتمنطــق يف اللّغــة‪ ،‬أو يجـرُّ مــن كتــاب‪ .‬وقــد ُمُيتــدح جليــس أو‬
‫يُغمــز غائــب" (ص ‪ .)29-28‬وظـ َّـل هــذا املنــوال ســائ ًدا حتــى بعــد أن صــار األمــر ملـكًا وإىل اآلن!‬

‫(‪)7‬‬
‫خلّــف ال ّرفاعــي يف النــر‪ ،‬غــر األمــواج والحــوارات‪ ،‬عــد ًدا مــن الدراســات واملقــاالت واملحــارضات والخُطــب مــا‬
‫ـى أكرثهــا عــد ٌد مــن الباحثــن‪ :‬الدكتــور محمــد أحمــد‬ ‫زالــت ترقــد يف بطــون املجــات والصحــف وأماكــن أُخــرى تقـ ّ‬
‫مــوىس‪ ،‬وف ـ ّواز طوقــان(‪ ،)35‬وإبراهيــم الكوفحــي‪ ،‬وكايــد هاشــم(‪)36‬؛ ونقــل بعضهــم قطوفًــا منهــا‪ .‬وهــي‪:‬‬
‫ـايس" بــد ًءا‪ ،‬و"الجــواري وأثره ـ ّن يف األدب العــر ّيب" تاليًــا‪ .‬نــر يف جريــدة "الجزيــرة"‬
‫(‪" )1‬الجــواري يف الشّ ــعر العبـ ّ‬
‫عــام ‪.1940‬‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫عاّمن ‪.2001‬‬
‫‪ .1‬ا األمواج‪ :‬صفحات من رحلة الحياة ‪ .148‬وزارة الثّقافة – ّ‬
‫‪ .2‬املصدر نفسه ‪.141‬‬
‫‪ .3‬املصدر نفسه ‪.113‬‬
‫‪ .4‬املصدر نفسه ‪.144‬‬
‫‪ .5‬املصدر نفسه ‪.145‬‬
‫‪ .6‬املصدر نفسه ‪.146‬‬
‫‪ .7‬املصدر نفسه ‪.147‬‬
‫عاّمن‪ .‬العدد (‪ – )236‬حزيران ‪ .2008‬ص‪.94‬‬‫‪ .8‬هيا صالح‪ :‬األمواج‪ :‬صفحات من رحلة الحياة‪ .‬مجلة أفكار – ّ‬
‫‪ .9‬شجاع األسد‪ :‬حوار مع الشاعر عبد املنعم ال ّرفاعي‪ .‬مجلة املنتدى – ديب‪ .‬السنة (‪ – )2‬العدد (‪ .)18‬يناير ‪.1985‬‬
‫‪ .10‬الشاعر الكبري عبد املنعم ال ّرفاعي كام عرفته‪ .‬عدد أفكار السابق ‪.95-98‬‬
‫عاّمن ‪.1987‬‬
‫‪ .11‬راجع التفاصيل يف كتابه "األمواج"‪ ،‬ويف‪ :‬محمد أحمد موىس‪ ،‬عبد املنعم الرفاعي‪ :‬حياته وشعره ‪ .41-59‬دائرة الثقافة والفنون‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫تسلساًل وتواريخ‪ ,‬إبراهيم الكوفحي‪ :‬شعر عبد املنعم ال ّرفاعي‪ :‬جمع وتحقيق‪ .‬املقدمة ‪ .10-12‬الرشكة الجديدة للطباعة‬ ‫‪ .12‬راجع يف هذه املناصب واألوسمة‬
‫عاّمن ‪.18/10/1985‬‬ ‫عاّمن ‪ً .2003‬‬
‫نقاًل عن‪ :‬عبد املنعم ال ّرفاعي يف ذ ّمة الله‪ .‬جريدة الدّ ستور – ّ‬ ‫والتّجليد – ّ‬
‫"عاّمن املساء" الشهري‪ .‬السنة (‪ ،)1‬العدد (‪ - )1‬آذار ‪ ،1975‬ص‪( .7‬فواز طوقان وزمياله)‪.‬‬
‫‪.13‬انظر‪ :‬الحوار معه يف‪ :‬الرابطة الثقافية‪ .‬ملحق جريدة ّ‬
‫‪ .14‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.8‬‬
‫‪ .15‬عبد املنعم ال ّرفاعي‪ :‬حياته وشعره ‪.48‬‬
‫‪ .16‬الحوار معه ص‪ .19‬مصدر سابق‪.‬‬
‫عاّمن ‪ /‬األردن‪.‬‬
‫‪ .17‬مطبعة الشعب – ّ‬
‫‪ .18‬عبد املنعم ال ّرفاعي يتحدث للرأي‪ .‬حوار محاسن حميص‪ .‬جريدة الرأي األردن ّية‪ .‬العدد (‪ – )3793‬الجمعة ‪.18/11/1977‬‬
‫أفكار ‪ /‬دراسات ومقاالت‬ ‫‪109‬‬

‫(‪ )2‬األساطري عند العرب (مخطوط)‪.‬‬


‫(‪ )3‬العاطفة السامية يف شعر سمو األمري املعظم‪ .‬نرش يف ثالث حلقات يف جريدة "الجزيرة" أيضً ا‪.‬‬
‫رئيســا للــدورة العاديّــة الخمســن يف الجامعــة العربيّــة بتاريــخ ‪ .1989/9/1‬وهــي عــن‬ ‫(‪ )4‬خطبــة حــن انتخــب َ‬
‫أعــال إرسائيــل العدوانيّــة ض ـ ّد دول املواجهــة وال س ـيّام األردن‪.‬‬
‫(‪ )5‬خطبة أمام مؤمتر الطلبة العرب بالجامعة األردن ّية (حزيران ‪.)1970‬‬
‫(‪ )6‬ر ّد عــى نقــد‪ :‬يــا أبــا رزق‪ ،‬عـ ّراف وتبحــث يف العيــون‪ .‬نــر يف "الجزيــرة"‪ ،‬وهــو ر ّد عــى الكاتــب عبــد الــرؤوف‬
‫املــري (أيب رزق) الــذي كتــب مقالــن يف الجريــدة عينهــا بعنــوان "جــواري ال ّرفاعــي يف املنــام"‪.‬‬
‫(‪ )7‬ليــايل الشّ ــعر‪" :‬نســات عليلــة وســط الهجــر"‪ .‬محــارضة ألقاهــا يف رابطــة الكتّــاب األردنيــن بعـ ّـان بتاريــخ‬
‫بعــان يف ‪.1978/4/21‬‬ ‫‪ .1978/4/19‬نُــرت يف صحيفــة ال ّدســتور ّ‬
‫(‪ )8‬حديث الشّ عر‪ .‬محارضة ألقاها بجامعة الريموك يف ‪ .1985/4/8‬نُرشت يف ال ّدستور يف ‪.1985/4/10‬‬
‫(‪ )9‬الثّقافــة يف مواجهــة الخطــر الصهيــوين‪ .‬محــارضة كان ينــوي أن يلقيهــا يف الجامعــة األردنيــة يف ‪،1985/10/20‬‬
‫ـي الثــاين"‬
‫لكـ ّن املنيّــة اختطفتــه يف ‪ .1958/10/17‬نرشتهــا الجامعــة األردنيّــة يف كتــاب "وثائــق املؤمتــر الثقــايف الوطنـ ّ‬
‫عــام ‪.1986‬‬
‫(‪ )10‬ذلك يوم لن أنساه‪ .‬حديث قصري‪ .‬نُرش يف مجلة "ال ّرائد" بعامن يف ‪20‬حزيران ‪.1945‬‬
‫أليس حقيقًا بهذه اآلثار وغريها‪ ،‬إن وجدت‪ ،‬أن ت ُجمع وت ُبعث وتنرش؟‬

‫‪ .19‬الدار املتحدة للنرش‪ ,‬بريوت‪.‬‬


‫‪ .20‬راجع التفاصيل يف كتايب‪ :‬عبد املنعم ال ّرفاعي‪ :‬دراسة وحوارات ومختارات ‪ .17-22‬دار املناهل – بريوت ‪.2004‬‬
‫‪ .21‬املؤسسة العرب ّية للدراسات وال ّنرش – بريوت ‪.2002‬‬
‫‪ .22‬دار املناهل – بريوت ‪.2004‬‬
‫‪ .23‬عبد املنعم ال ّرفاعي‪ :‬حياته وشعره‪ .‬الفصل السابع ‪.217-242‬‬
‫عاّمن‪ .‬ط‪.2021 :2‬‬
‫‪ .24‬راجع‪ ,‬مبحث‪ :‬التنصل من األعامل األدب ّية األوىل‪ ...‬ملاذا؟ يف كتايب‪ :‬عني الشمس‪ :‬مقاربات يف النقد ونقد النقد ‪ .167-172‬دار فضاءات – ّ‬
‫‪ .25‬دار العودة – بريوت‪ .‬ط‪.1988 :5‬‬
‫‪ .26‬حوار مع الشّ اعر عبد املنعم ال ّرفاعي‪ .‬مجلة املنتدى‪ -‬ديب‪ .‬الّسنة (‪ -)2‬العدد (‪ .)18‬يناير ‪ .1985‬ص‪.18-20‬‬
‫‪ .27‬انظر‪ :‬حوار فواز طوقان وأُسامة فوزي وعبد الله الش ّحام معه يف كتايب‪ :‬عبد املنعم الّرفاعي‪ ،‬ص‪77‬؛ وحوار محاسن حميص معه يف الكتاب نفسه‪ ،‬ص‪.88‬‬
‫‪ .28‬العدد (‪ 7 -)1702‬حزيران ‪.1967‬‬
‫‪ .29‬لسان العرب‪ .‬دوى ولعلع‪.‬‬
‫‪ .30‬لسان العرب ‪ -‬عود‪.‬‬
‫‪ .31‬من حوار معه‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.15‬‬
‫‪ .32‬عبد املنعم ال ّرفاعي يتحدث للرأي‪ ،‬حوار محاسن حميص‪ .‬مصدر سابق‪.‬‬
‫والسلطان) بحث يف‪ :‬كتاب القراءة والكتابة (أعامل ندوة ملجموعة من الباحثني)‪ ,‬ص‪.67‬‬
‫‪ .33‬توفيق بكّار‪ :‬املنهج الجديل يف تحقيق القصص (جدل ّية الحكمة ّ‬
‫منشورات جامعة تونس األوىل‪ ,‬تونس ‪.1988‬‬
‫محمد بالجي‪ :‬توظيف العناوين يف تأليف املصنفات‪ :‬املبادئ واألهداف‪ .‬بحث يف‪ :‬كتاب األدب القديم أيّة قراءة (أعامل ندوة ملجموعة من الباحثني)‪ ,‬ص‪124-‬‬
‫‪ .143‬منشورات جامعة الحسن الثاين‪ .‬الدّ ار البيضاء – املغرب ‪.1995‬‬
‫‪ .34‬حوار محاسن الحميص معه‪ .‬مصدر سابق‪.‬‬
‫عاّمن ‪.1992‬‬
‫‪ .35‬الصورة الشعريّة عند عبد املنعم ال ّرفاعي ‪ .117-124‬شقري وعكشة‪ّ -‬‬
‫‪ .36‬من آثار عبد املنعم ال ّرفاعي النرثيّة‪ .‬مجلة أفكار‪ .‬العدد ‪ 236-‬حزيران ‪ .2008‬ص‪.73 65-‬‬
‫إبداع‬

‫‪Photo by Art Lasovsky on Unsplash‬‬

‫مــازن حلمــي ‪ /‬آالء حســانني ‪ /‬محمــد الشــحات ‪/‬‬


‫محمــود عبدالصمــد ‪ /‬ليــى ســامة ‪ /‬رونــد الكفارنــة ‪/‬‬
‫نــور العتيبــي ‪ /‬محمــد حســن الســاعنة‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪111‬‬

‫تَوِّجوا‬
‫الم�لكة‬
‫مصابيح‬
‫َ‬ ‫تعطون الشاع َر‬
‫تبنون حولها القال َع‬ ‫فأسا ومحراثًا‬
‫ً‬
‫تكونون لها ح ّر ًاسا‬ ‫وتنتظرون‬
‫من األعداء‬ ‫تفاح الكلامت!‬‫َ‬
‫شعر‪ :‬مازن حلمي*‬
‫واللصوص‬
‫والذئاب‪.‬‬ ‫تُسلِّمون البستا َّين‬
‫قلاًم وورقة‬
‫ً‬
‫ستعود النجم ُة‬ ‫وتقفون بالسالل!‬
‫تدق نوافذكم‬‫ُّ‬
‫َ‬
‫لتتحدث عن الرقة‬ ‫تزفّون الفراش َة إىل الفيل‬
‫سريجع من منفاه‬ ‫وتنامون سعداء‬
‫الس ّيد الجامل‬ ‫تتوقعون الصباح!‬
‫الجندي‬
‫ُّ‬ ‫سريحل‬
‫وتختفي عباء ُة الراهب‬ ‫عندما تستقبلون الكلمة‬
‫سنعاو ُد سام َع ضحك األطفال‬ ‫كامللكات‬
‫وغناء العصفور‬ ‫باملواكب‬
‫ِ‬
‫من أقايص األرض‬ ‫متدّ ون لها املوائدَ‬
‫تغمرنا‬ ‫تبسطون أمامها الحقول‬
‫النسم ُة‪.‬‬ ‫تص ّبون لها النه َر يف كأس‬
‫تُشعلون عيونكم‬
‫******‬

‫* شاعر مرصي‬
‫‪112‬‬

‫‪ .1‬ربما الحياة ُ‬
‫قالوا بأنَّه كان جنديًّا أيضً ا‪ ،‬ونجا‬

‫ج‬
‫أمز ُ‬
‫من الزرقة‪ ،‬ومن اليباس‪ ،‬ومن‬

‫كانت مرضًا‬
‫الطلقات السائبة‪.‬‬

‫الكآبة َ‬
‫مل يعد أحد مثلام ذهب‬
‫األطفال كثريو الضحك‪ ،‬الذين‬ ‫أبدأُ بالقولِ أنا‬
‫حسبوا املعركة ً‬
‫سجااًل بالكلامت‬ ‫ثم أصمت ً‬
‫طوياًل‬
‫البذيئة‬ ‫هذا خندق ال أستطيع تجاوز‬

‫بالمشي‬
‫الجنود الذين كربوا يف الخنادق ومل‬ ‫كتلة من الكدمات تدعى أنا‬
‫ميت بعضُ هم رسي ًعا‬ ‫وأحيانًا هم‪ ،‬أو نحن‪ ،‬أو اآلخرون‬
‫لكن‪ ،‬ال يطلب املرء كث ًريا حني‬ ‫دمية من القش‪،‬‬
‫حرب ورأسه فوق‬ ‫يخرج من ٍ‬ ‫وجهها للجدار‬
‫كتفيه‬ ‫وظهرها للنهر‪.‬‬

‫شعر‪ :‬آالء حسانني*‬


‫البعض نجوا من أزمنة رديئة‬ ‫ليست الصدفة‪ ،‬وال الحظ‬
‫لكن ليس متا ًما‬ ‫كل يشء ابتدأ خطأً‬
‫سنوات طويل ٍة‬
‫ٍ‬ ‫قلب املنزل‪ ،‬بعد‬ ‫يف ِ‬ ‫زلة ما‪ ،‬زلقة قدم فوق حجر ناعم‪.‬‬
‫وأحفاد كثريين‬
‫قال جدّ ي بأنَّ البنادق ما تزال‬ ‫واآلن‪ ،‬ها أنا هنا‬
‫تطلق يف الهواء‬ ‫سلسلة من األخطاء جرفها ما ٌء كثري‬
‫وأنَّه ما يزال يسمع صليل املعاول‬ ‫حي‬
‫ماء ّ‬
‫تحفر القبور‬ ‫أجداد عىل الضفاف‪،‬‬
‫وقال بأنَّ األحصنة يجب ّأاّل متوت‬ ‫رمبا نعرفهم‪،‬‬
‫يا له من عامل يسء‪،‬‬ ‫رموا أرسارهم يف النهر‬
‫هذا الذي ميوت حصانٌ فيه‬ ‫شباكًا بنوايا حسنة ونسل كثري‪.‬‬

‫يا لها من حيوات عديدة‬ ‫جدّ ي كان بحا ًرا‬


‫جاءت قبيل‬ ‫قالوا بأنَّه عرب بال ًدا كثرية‪،‬‬
‫يا لها من أخطاء‬ ‫بزورقٍ ورشاعٍ ومزاجٍ عكر‬
‫* شاعرة مرصية‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪113‬‬

‫م َّر عىل القرية‬ ‫تلك التي أوصلتني إىل هنا!!‬


‫التي مىش فيها‬
‫يج ُّر زالجته‪..‬‬
‫بقع من الشحم التصقت‬ ‫ٌ‬
‫لحظات من السكون‬ ‫واآلن‪ ،‬ها أنا أمزج الكآبة‬
‫مبقع ٍد جلس مر ًة فوقه‬
‫هبطت حني م َّر‬ ‫بامليش‬
‫د ُم غزالٍ مذبو ٍح للتو بلّل‬
‫وحني مات‪.‬‬ ‫أب ّرر الحياة بالسهر والصحو‬
‫منضد ًة وضع عليها كأسه‪..‬‬
‫الباكر‬
‫الناس يف الحانة تبادلوا‬
‫ُ‬ ‫بأول النهار وآخر الليل‬
‫الناس الحظوا أشيا َء ال‬
‫ُ‬
‫النظرات لربهة‬
‫يبوحون بها عاد ًة‬
‫كأنَّ املوسيقى أُط ِفئت‬ ‫وأذرع البلدة آت ًيا وذاه ًبا‬
‫أشياء تجعلهم منشغلني‬
‫ثم أُشعلت من جديد‪.‬‬ ‫سبب للحزن‪ ،‬عن‬ ‫أبحث عن ٍ‬
‫بإصالح ياقاتهم حني تنطفئ‬
‫سبب‬
‫سبب للحرب‪ ،‬وعن ٍ‬ ‫ٍ‬
‫املوسيقى فجأة يف البار‬
‫مكعب الثلج انزلق من بني‬ ‫للحب‬
‫أو حني تفرغ الجمل التي‬
‫األصابع‬ ‫الحب‬
‫رمبا الحياة كانت مرضً ا‪ُّ ،‬‬
‫حفظوها أمام املرآة‬
‫بجانب الكأس‬ ‫علّ ٌة قدمية‪ ،‬والحزنُ د ٌم ملوث‬
‫القارب اهت َّز اهتزازًا خفيفًا‬
‫ُ‬ ‫كنت خطأً‪ ،‬أو بالتأكيد‬‫رمبا ُ‬
‫يش ٌء من الرت ّد ِد خلّفه الص ّيا ُد‬
‫والسنار ُة التي ث ّبتها بني‬ ‫لكن‪ ،‬رغم ذلك‬
‫حني مات‬
‫الصخور صبية متململون‬ ‫ما الذي أفعله؟‬
‫نفح ٌة حزنٍ أخلّت بسكون‬
‫حركت بعنف املاء الراكد؛‬ ‫رمال األخطاء التي تتفتت‬ ‫أنا‪ُ ،‬‬
‫األشياء‬
‫علقت بها دمعة ثقيلة‪.‬‬ ‫عند الضفة‪.‬‬
‫الص ّيا ُد الذي غربته‬
‫ُنزل دمع ًة‬
‫أكربُ من أن ت َ‬
‫بقع زرقا ُء غطّت جسده‬ ‫ٌ‬
‫تصنع جنازة‪.‬‬‫أو َ‬

‫‪ .2‬الصي ّاد ُ‬
‫مل ير طبي ًبا‬
‫ومل تفاجئه األلوانُ‬
‫بيت لحزنه‬
‫الص ّيا ُد الذي ال َ‬

‫الغريبُ‬
‫رسم بضج ٍر دوائ َر حول‬
‫باب‬‫ال َ‬
‫جلده الذي أخذ يتعفّن‬
‫وال نافذة‪.‬‬
‫شي ًئا فشي ًئا‪.‬‬
‫الص ّيا ُد مات البارحة‬
‫مل يُرث ضجي ًجا مبوته‬
‫الص ّيا ُد الغريب‬
‫لكن ظاًّلًّ نام فوق الطرق‬
‫‪114‬‬

‫البحثُ‬
‫(‪)5‬‬ ‫(‪)3‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫كانت تُرس ُع يف ِمشْ يِتها‬ ‫ْ‬ ‫تبحث يف أرسا ِر املا ِء‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬ ‫ْ‬ ‫تبحث يف أرسا ِر‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬ ‫ْ‬

‫عنْ‬
‫تركض‬‫أو ُ‬ ‫فتنزل يف أحضانِ ال َّنه ِر‬ ‫ُ‬ ‫الطِّ ِني‬
‫سوف‬
‫وتظ ُّن بأنَّ األع َني َ‬ ‫غسل‬ ‫؛ل ُت َ‬ ‫رس بقا ِء ال َّنخل ِة واقف ًة‬ ‫ع ْن ِّ‬
‫أتت‬
‫اس ْ‬ ‫تقول بأنَّ األفر َ‬ ‫ُ‬ ‫وتغوص‬‫َ‬ ‫تغرس إصبعها‬ ‫َ‬ ‫فتحاول أنْ‬ ‫ُ‬
‫تتاميل يف‬
‫َ‬ ‫فتحاول أن‬ ‫ُ‬ ‫كل ثناياها‬ ‫ميرح يف ِّ‬ ‫وتجعلهُ ُ‬ ‫ستفعل‬
‫ُ‬ ‫كيف‬
‫تعرف َ‬ ‫ُ‬ ‫ال‬

‫خر يطة ِ‬
‫مشيتها‬ ‫مالت أن تحملَهُ‬ ‫ْ‬ ‫طال‬‫إذا ما َ‬
‫كيف تحاو ُر وتناو ُر‬ ‫تعرف َ‬ ‫ُ‬ ‫تسكنهُ‬ ‫وأمث ْر‬
‫احت‬
‫عب ؛فر ْ‬ ‫أعياها ال َّت ُ‬ ‫وتجالسهُ‬ ‫مثل البنيانِ وه َّز‬ ‫وتطاول َ‬ ‫َ‬
‫ظل تسكنهُ‬ ‫تبحث ع ْن ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫مالبسها‬ ‫فوق ِ‬ ‫حملتهُ َ‬ ‫مثا َر ال َّنخلِ‬

‫الأشياء‬
‫اس‬ ‫كل األفر ِ‬ ‫كانت ُّ‬ ‫ْ‬ ‫مس‬ ‫باغتها ضو ُء الشَّ ِ‬ ‫فأسقطهُ‬
‫تواصل رحلتها‬ ‫ُ‬ ‫فجفَّفها‬ ‫تكتم رغ َبتها‬ ‫كانت ُ‬ ‫ْ‬
‫***‬ ‫***‬ ‫وتحاول أنْ تُخفيها‬ ‫ُ‬
‫(‪)6‬‬ ‫(‪)4‬‬ ‫تُخر ُجها ح َني تنام‪.‬‬
‫فوق مال ِم ِحها‬ ‫ترسم َ‬ ‫كانت ُ‬ ‫ْ‬ ‫تكتب‬
‫كانت ُ‬ ‫ْ‬ ‫***‬
‫مثل‬
‫ما يجعلها تبدو َ‬ ‫قصتها‬ ‫أول فصلٍ ِم ْن َّ‬ ‫َّ‬ ‫(‪)2‬‬ ‫شعر‪ :‬محمد الشحات*‬
‫تبحث ع ْن ضو ٍء‬ ‫ُ‬ ‫اشات‬ ‫فر ٍ‬ ‫شخوص روايتها رفعوا‬ ‫ِ‬ ‫بعض‬ ‫ُ‬ ‫تبحث ع ْن سنبل ٍة‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬ ‫ْ‬
‫تسكنهُ‬ ‫ايات العصيانِ‬ ‫ر ِ‬ ‫تنفض غلتها‬ ‫ُ‬
‫‪،‬واملصباح‬
‫ُ‬ ‫ترسم‬
‫ظل َّْت ُ‬ ‫اعتدلت يف جِ ل َْس ِتها‬ ‫ْ‬ ‫لتص َري طعا ًما أو خب ًزا‬
‫يناورها‬ ‫وبكت‬
‫ْ‬ ‫تجف‬
‫أحزنها أنَّ الفقرا َء ُّ‬
‫فتناور ُه‬ ‫فتناث َر ِم ْن أحرفها دف ُء‬ ‫سنابلُهم‬
‫تالىَش الضَّ و ُء‬ ‫وانتبهت ح َني َ‬ ‫ْ‬ ‫مشاعرِها‬ ‫تخىش‬
‫َ‬ ‫كانت‬ ‫ْ‬
‫ترس ُمهُ‬
‫عاَّم ُ‬ ‫تبحث َّ‬ ‫ُ‬ ‫وعادت‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫لشخوص‬ ‫وانتبهت‬
‫ْ‬ ‫أنْ يأخ َذ غل َتها غ ُري‬
‫فوق مالمحها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فوق األسوا ِر الورق َّي ِة‬ ‫مازالوا َ‬ ‫البسطا ِء‬
‫قصتها‬ ‫ُكمل َّ‬ ‫عادت ت ُ‬ ‫ْ‬ ‫فوق‬ ‫فاملت أن تحفظَها َ‬ ‫ْ‬
‫***‬ ‫سنابلِها‬
‫أخفْتها‬
‫***‬
‫* شاعر مرصي‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪115‬‬

‫حديثٌ‬
‫فعاًل – يا ِخ ِّيِّل –‬ ‫يوجعني ً‬ ‫(‪)1‬‬
‫أن أتحدَّ َث ع ّني‬ ‫يوجعني أن أتحدَّ َث ع ّني‬

‫ٌّ‬
‫لكن ؛ صدقني أتخ َّي ُل ّأيّن‪:‬‬ ‫لك ّني‪ ..‬أتخ َّي ُل ّأيّن‪:‬‬

‫خاص‬
‫طفل ملغو ٌم بال ُح ْب‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مسكونٌ بالنزقِ الهائجِ‬
‫سؤال ؛ مرسو ٌم يف هيئ ِة ْ‬
‫قلب‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫والقلق الناض ِج‬ ‫ِ‬
‫وحرف مييش كالنه ْر‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫والريب املائجِ‬ ‫ِ‬
‫النغم البِك ْر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ويعشقهُ‬ ‫والشجن الطازجِ ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫صدى‪..‬‬ ‫الطقس‪.‬‬
‫ْ‬ ‫هموم‬
‫ِ‬ ‫أحمل ك َُّل‬ ‫ُ‬
‫ومدى‪..‬‬ ‫الرأس‪.‬‬ ‫كهف ْ‬ ‫يف ِ‬
‫شعر‪ :‬محمود عبد الصمد زكريا*‬
‫يضيع ُسدى‪!!.‬‬ ‫لكن؛ ليس ُ‬ ‫وكياين منغو ٌم‬
‫ضيق املا‬
‫باملمكن من ِ‬ ‫ِ‬ ‫وسيخرج‬
‫ُ‬ ‫أو ملغو ٌم‪..‬‬
‫بني‬ ‫وجدائل ِشعري‬ ‫ُ‬
‫ويعرف؛ من أي َن‪ ..‬ألين‪.‬‬ ‫الغرس‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أو ِفكري تنتظ ُر‬
‫يوجعني ح َّقاً أن أتحدَّ َث عن‬
‫(‪)2‬‬ ‫نفيس‬
‫هذا نغمي‬ ‫لك ّني؛ أتخ َّي ُل أن قالوا ع ّني‪ّ :‬إيّن‬
‫هل يسمعني َم ْن علّمني‬ ‫عفريت مسكونٌ بالشهو ِة‬ ‫ٌ‬
‫الشع ِر‬‫منطق طريِ ِ‬ ‫َ‬ ‫والقهو ِة ‪..‬‬
‫ولغَّمني بال ُح ِّب‪..‬‬ ‫فوق جِ راحِ الع ِ‬
‫رص‪..‬‬ ‫اقص َ‬ ‫أتر ُ‬
‫العزف ‪..‬‬
‫َ‬ ‫وف َّج َر يفَّ‬ ‫قاموس الضدِّ‬ ‫َ‬ ‫وشيخٌ ؛ يتعكَّ ُز‬
‫ود ّوخني‪..‬‬ ‫عري جسدَ القهرِ‪..‬‬ ‫ُي ِّ‬
‫الصدِّ ‪..‬‬
‫الضدِّ ‪َ /‬‬ ‫حانات ِ‬
‫ِ‬ ‫يف‬ ‫ويفتح نافذ ًة للفجرِ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وصرَّيين كرس َة خُب ٍز‬ ‫َّ‬ ‫تتالطم يف دا ِخلها‬ ‫ُ‬ ‫وزوبع ٌة ؛‬
‫ساحات الجوعِ ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫يف‬ ‫الطلق‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫رصخات‬
‫ُ‬
‫ورم ًزا يسعى يف املمنو ِع ‪..‬‬ ‫وصاعق ٌة ؛ لكن‬
‫ينزف‪..‬‬
‫سؤااًل ُ‬ ‫ً‬ ‫ليست للربقِ‬ ‫ْ‬
‫عصفو ًرا؛ ُم َّ‬
‫بتاَّلً‬ ‫هنالك ْ‬
‫فرق!‪.‬‬

‫*شاعر مرصي‬
‫‪116‬‬

‫(‪)6‬‬ ‫لك ّني يف مرآ ِة الواق ِع‬ ‫مطري‪..‬‬


‫ٍّ‬ ‫وسط فضا ٍء‬
‫ُمرت ِعشً ا َ‬
‫حني مي ُّر بذاكريت َجدّ ي‬ ‫الهم‪..‬‬
‫شيخٌ قد ب َّر َحهُ ُّ‬ ‫هل يسمعني‪..‬‬
‫آم ُر ك َُّل جذوري‪ :‬اشتدِّ ي‪.‬‬ ‫عىل كتفي ِه جبالن‪.‬‬ ‫أو يرحمني‬
‫اشتدِّ ي‪..‬‬ ‫ويف زندي ِه نهران‪.‬‬ ‫وطني‪.‬؟!!‬
‫يا ك َُّل جذوري‪ ..‬اشتدِّ ي‪.‬‬ ‫وعينا ُه نَجامن‪.‬‬
‫كاأللف املمدود ِة‬
‫ِ‬ ‫فإذا يب‬ ‫أنا مهمو ٌم ‪ -‬يا ساد ُة –‬ ‫(‪)3‬‬
‫أو كالنخل ِة‬ ‫ألمللم هذا الوط َن‬ ‫أسعى َ‬ ‫أتقىّص الحرس َة‬ ‫ّ‬
‫أنفايس بح ٌر يتم َّو ُج بال ِعط ِر‬ ‫املتناث َر من حويل ِمز ًقا‪.‬‬ ‫تلو الكرس ِة‪..‬‬
‫وغاية ما أرجوه عندي‬ ‫وأمللم تعبي‪..‬‬ ‫وأُدمد ُم باألفكارِ؛ وباألشعا ِر‬
‫والعاملُ‪..‬‬ ‫فأراين كالنقط ِة‬ ‫وأحلم‪.‬‬
‫ْ‬
‫يدي‬
‫ك ُُّل العا ِمل من بني َ‬ ‫ويدو ُر العاملُ من حويل‬ ‫والعامل أضحى من حويل بقع َة ْ‬
‫هم‪.‬‬
‫ومن خلفي يحسدين‪..‬‬ ‫ما أصغرين يف هذا الكونِ‬ ‫ِ‬
‫كاسات الد ْم‪.‬‬ ‫يتوضأ من‬
‫كل العامل ِضدّ ي‬ ‫فلامذا؛ ُّ‬ ‫وما أكربين‬ ‫جرح يتور ْم‪.‬‬‫العاملُ ٌ‬
‫حني مي ُّر بذاكريت َجدّ ي؟!!‬ ‫يف املرآ ْة‪!!.‬‬ ‫طفل منزو ُع ال ِفطر ِة يتلغ َّْم‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫يا اللهُ !!‬
‫(‪)7‬‬ ‫(‪)5‬‬ ‫وأخىش ما أخشا ُه‬
‫يحلم بالسلوى؛ وامل ْن‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫معروشات‬
‫ٌ‬ ‫ات‬
‫لغتي ج ّن ٌ‬ ‫أن يتف َّج َر‪..‬‬
‫ترنو عينا ُه ورا َء حدو ِد الرؤي ِة‬ ‫فالح‬
‫وأنا ٌ‬ ‫فارحم‪.‬‬
‫ْ‬
‫بالقلب الرؤيا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اقب‬
‫وير ُ‬ ‫قمح ِ‬
‫الشع ِر‬ ‫أزر ُع َ‬ ‫يا رحم ُن ؛ ارحمنا‪..‬‬
‫ِ‬
‫حدقات‬ ‫أوسع من‬
‫ُ‬ ‫رؤيتُهُ‬ ‫ِ‬
‫الصمت‬ ‫عىل صلع ِة هذا‬ ‫ارحم‪.‬‬
‫ْ‬
‫الواق ِع‪.‬‬ ‫البدوي‪..‬‬
‫ِّ‬ ‫اوي‪..‬‬
‫الصحر ِّ‬
‫كسهام‬
‫ٍ‬ ‫ولهُ أسئل ٌة‬ ‫الشع ِر حقو ًاًل فيحاء‪.‬‬ ‫أرى يف ِ‬ ‫(‪)4‬‬
‫ْ‬
‫الغوث‪!.‬‬ ‫يُطلقها نحو ضمريِ‬ ‫الحرف العر ِّيب فضاء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ويف‬ ‫يف مرآ ِة ِ‬
‫الشع ِر أراين‬
‫مشغول يف ُمنتج ِع الفتن ِة‬ ‫ٌ‬ ‫وحيا ًة أخرى للفقرا ِء؛ وللبسطا ْء‪.‬‬ ‫طرياً يحتض ُن األفالكَ ‪.‬‬
‫القلب‬
‫ِ‬ ‫ب ِغنا ِء‬ ‫ثوب َمالَك‪.‬‬
‫رجاًل يف ِ‬ ‫ً‬
‫ووسط ُسعا ِر األسعا ِر‬ ‫َ‬ ‫أو كهفًا يف جبلٍ‬
‫الكلامت ال ُن َّساك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تتع َّبدُ فيه‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪117‬‬

‫(‪)9‬‬ ‫ُيعل َُّق فر َحتَهُ‬


‫الشا ِر ُع غري الشارعِ‬ ‫فوق ال َحملِ الكا ِذ ِب!‬ ‫َ‬
‫والواقع غريُ الواقعِ‬ ‫ُ‬ ‫ويُش ِّيدُ مائد َة الشهدْ ‪!.‬‬
‫يغرِّي ِسح َنتَهُ‬ ‫واليوم ِّ ُ‬ ‫يحلم‬
‫بأس‪ ..‬دعوه ُ‬ ‫ال َ‬
‫أمس‪.‬‬ ‫عن ِسح َن ِة ْ‬ ‫ويس ُّب؛ ويلع ُن‪..‬‬ ‫ِ‬
‫أمل‬
‫واآليت ٌ‬ ‫يغدو َح َجراً‬
‫النفس‪.‬‬
‫ْ‬ ‫مدفونٌ يف قاعِ‬ ‫رأس الفتن ِة‬ ‫يخدش َ‬ ‫ُ‬
‫( ‪) 10‬‬ ‫يخمش ذاكر َة الفطر ِة‬ ‫ُ‬
‫هي لغ ٌة ‪..‬‬ ‫الشاع ُر ( طرزانُ )‬
‫الشع ِر‬ ‫شَ كَّلها ِسح ُر ِ‬ ‫وربَّتهُ الغزالنُ‬
‫َبش الفج ِر‬ ‫طالعة من غ ِ‬ ‫الوحش‬
‫ِ‬ ‫ليعرف معنى‬ ‫َ‬
‫أو من زَب ِد البح ِر‬ ‫النعش‬
‫ِ‬ ‫ومعنى‬
‫كخم ِر التمرِ!‬ ‫دمع ودا ِع األ ِّم‬ ‫ويقتُلهُ ُ‬
‫الهارب‬
‫ُ‬ ‫يتبعها الطريُ‬ ‫الدم‬
‫ولونُ ِ‬
‫قفص الصدرِ‪..‬‬ ‫من ِ‬ ‫كالدهن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النازف‬ ‫دم األطفالِ‬ ‫ِ‬
‫لغ ٌة‪ ..‬من و َم ْض‪.‬‬ ‫عتبات األم ْن‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عىل‬
‫يركع بني يديها شج ٌر‬
‫بالرفض‪.‬‬
‫ْ‬ ‫مسكونٌ‬ ‫(‪)8‬‬
‫لغ ٌة تتشك َُّل‬ ‫العاشق واملعشوقِ‬‫ِ‬ ‫بني‬
‫من أفكا ِر املا ْء‪.‬‬ ‫مسري ُة ُح ْب‪.‬‬
‫تتعطّ ُل‬ ‫قد ال تدركها اللغ ُة‬
‫حني يصريُ املا ُء‬ ‫وال تسلكها‬
‫دما ْء‪.‬‬ ‫النفس األ َّمار ِة‬
‫ِ‬ ‫غريُ‬
‫ُرب‪!.‬‬
‫بالق ْ‬
‫‪118‬‬

‫بنطال دوشامب‬
‫قصة‪ :‬ليىل سالمة*‬

‫ـص بشــفتني عاريتــن‪ :‬لألســف اشـراه رجــل محــرم‬ ‫تأتــأ اللـ ُ‬ ‫ـأحمل حقيبــة ســف ٍر‬
‫يف امل ـ ّرة القادمــة التــي أســاف ُر فيهــا سـ ُ‬
‫ــص يف يشء اســمه الفــن املفاهيمــي!‬ ‫متخص ٌ‬
‫ّ‬ ‫يقــول إنَّــه‬ ‫أعــزب مغامــ ًرا تشــاجرتُ كثــ ًرا‬‫َ‬ ‫حقيقيّــة! عندمــا كنــت‬
‫صدقنــي‪ ،‬كنــت أو ُّد أن أعيــد لــك بنطالــك مــع محفظتــك‬ ‫املــوج‬
‫ُ‬ ‫مــع حظّــي فألقيتــه معــي يف البحــر‪ .‬أن يقذفــك‬
‫وجميــع البطاقــات بواســطة صنــدوق الربيــد‪ ،‬ولكــن لســوء‬ ‫نحــو الســاحل عــى قيــد الحيــاة يعنــي أنّــك أصبحــت فكــر ًة‬
‫حظّــك أ ّن ذلــك الســي ّد تأمــل بنطالــك وأُعجــب بــه؛ فاشــرى‬ ‫ومعنــى‪ ،‬وس ـتُعامل كســؤا ٍل مفاهيمــي‪ .‬أضــاءت يل الدنيــا‬
‫كل محتوياتــه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ســكنت مــع‬
‫ُ‬ ‫فاهتديــت إىل قــدري‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مصابيحهــا الســاويّة‬
‫لصــا مثق ًفــا وميلــك قل ًبــا رحيـ ًـا‪ ،‬متن ّيــت لــو أنّــه يعيــد يل‬‫كان ًّ‬ ‫مجموعــ ٍة مــن الشــباب‪ -‬الذيــن مثــي ق ّيــدوا حظوظهــم‬
‫أي بنطــال‪ ،‬إذ ال مشــكلة عنــدي إن كان قص ـ ًرا أو فضفاضً ــا‬ ‫َّ‬ ‫حــول خوارصهــم‪ -‬يف منــز ٍل وســط البلــدة‪ ،‬واعتدنــا أن‬
‫ـص إ ّن بنطــايل‬ ‫أو مهرتئًــا‪ ،‬املهــم بنطــال والســام‪ .‬قــال يل اللـ ُّ‬ ‫نــرك األبــواب مفتوحـةً‪ .‬يف إحــدى املـ ّرات نســينا الشــبابيك‬
‫صــار فكــر ًة عامــة وتعبــ ًرا طبيعيًّــا يجــوب بلــدان العــامل‬ ‫مرشع ـ ًة عــى آخرهــا وكعادتنــا مل نقفــل األبــواب‪ ،‬يف تلــك‬
‫تحــت اســم بنطــال دوشــامب‪ .‬تع ّجبــت أ َّن بنطــايل صــار لــه‬ ‫ُ‬
‫الظــال كأنَّهــا أفيــا ُء نســائم تحلّــق داخــل‬ ‫الليلــة قفــزت‬
‫ـدي مــا يثبــت‬‫اسـ ٌم وشــأنٌ‪ ،‬وأنّنــي اآلن بــا بنطــال‪ ،‬مل يعــد لـ ّ‬ ‫ـت الصمــت‪ ،‬وعضّ تنــي ســكين ٌة مفرط ـ ٌة حتــى‬ ‫املنــزل فالتزمـ ُ‬
‫اســمي وأصــي وفصــي‪.‬‬ ‫والقلــق‬
‫ُ‬ ‫لــص بنطــايل فحقننــي الفــز ُع‬ ‫رصتُ جــا ًدا‪ .‬رسق ٌ‬
‫ـت عاريًــا أفتّــش عــن بنطــايل قبــل أن يصبــح شــحن ًة‬ ‫خرجـ ُ‬ ‫ي فصــول شــتا ٍء متتاليــة‪ .‬مــ ّر أســبو ٌع‬ ‫ومــ ّر ِت األيــام عــ َّ‬
‫عــى مــن ســفينة كبــرة تنطــح املحيــط‪ .‬تشــاجرتُ مــع‬ ‫ثــم أســبوعان‪ ،‬م ـ ّر الزمــن دون خارط ـ ٍة تفــره‪ .‬اتّصــل يب‬
‫حظــي وق ّيدتــه مــن ذيلــه‪ ،‬حــاول أن يجـ ّرين بقــوة إىل داخــل‬ ‫ـت منصتًــا ومنــزو َع‬‫ـص وروى يل مــا روى حتــى أنّنــي كنـ ُ‬ ‫اللـ ُّ‬
‫معــرض الفــ ِّن‪ ،‬لك َّننــي خشــيت مــن أن يضعنــي الف ّنــا ُن‬ ‫عــض أذين ســؤاله املحــرج‪ :‬هــل أنــت صاحــب‬ ‫الضغينــة‪ّ .‬‬
‫ـت ذيلَــه مطل ًقــا رساحــه‪ .‬مــن بعيــد‬ ‫بجانــب بنطــايل؛ فأفلـ ُّ‬ ‫البنطــال املــروق؟ أجبتـ ُه‪ :‬وهــو بنطــايل الوحيــد! فتع ّجــب‬
‫رأيــت أبــواب املنــزل مغلقــ ًة والنوافــذ تغــازل الشــمس‪،‬‬ ‫قائـ ًـا‪ :‬هــو! إذن أنــت مل تخــرج مــن املنــزل منــذ ذلــك الحني!‬
‫رأيــت ِظـ ًّـا يهجــم عــى صنــدوق الربيــد الصــدئ يف محاولــة‬ ‫ـت لــه بنغمـ ِة وتريــن ملتصقــن ببعضهــا‪ :‬ولــن أســتطيع‬ ‫قلـ ُ‬
‫لدفــع يش ٍء مــا يف داخلــه‪.‬‬ ‫الخــروج حتــى تعيــد يل بنطــايل!‪.‬‬

‫* كاتبة أردن ّية مقيمة يف البحرين‬


‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪119‬‬

‫فعــا تعنــي أنَّهــا تعلــم أنّنــي رفضــت‬ ‫أكاد أجــ ُّن! هــل ً‬
‫آخــر جلســة؟‪ ،‬لقــد تعبــت كث ـ ًرا وســخطت‪ ،‬مــن حقــي أن‬
‫أســخطَ‪ ،‬ال يتلقــى العــاج إال أنــا‪ ،‬وكل مــن يف الغرفــة يعــاين‪،‬‬
‫سفر ٌ‬
‫أنــا وحــدي أقــايس مخــاض اللحظــات‪ ،‬وألــد أملــي‪ ،‬وكلهــم‬
‫قصة‪ :‬روند الكفارنة*‬
‫يرتقبــون‪ ،‬ينتظــرون‪ ،‬هــل عليهــم أن ميلّــوا‪ ،‬حتــى أفهــم أ َّن‬
‫املــوت هــو العمــل األصعــب‪..‬؟!‪.‬‬
‫أن تختــار أال تحــارب‪ ،‬أن تستســلم‪ ،‬ملــاذا يُعــ ُّد االستســام‬ ‫ات غريبــ ٍة وأنــا‬‫ترمقنــي تلــك الع ّرافــةُ‪ ،‬ترمقنــي بنظــر ٍ‬
‫عمـ ًـا جبانًــا‪ ،‬بينــا أن تتخــى عــن روحــك‪ ،‬أن تق ـ ّرر أنَّــه‬ ‫ات التــي تحمــل‬ ‫بالعــادة أخــى الغربــاء‪ ،‬وأخــاف النظــر ِ‬
‫كل مشــاعرك‬ ‫الوقــت‪ ،‬تشــ ُّد روحــك ج ّيــ ًدا‪ ،‬تربــط َّ‬ ‫ُ‬ ‫حــان‬ ‫معنــى كأنَّهــا تخــرين حكايــة‪ ،‬ناديتهــا؛ جلســت! فرشــت‬
‫عــى أعــى رأســك ككعكــة جميلــة‪ ،‬وترفــع ك ـ َّم اللحظــات‬ ‫ودعهــا‪ ،‬وشوشــت الــودع‪ ،‬نظــرت يف وجهــي‪.‬‬
‫الجميلــة‪ ،‬تش ـ ِّمر عــن ســاعد الجــال‪ ،‬وتبــدأ تحفــر قــرك‬ ‫أنت عىل سفرٍ؟!‬ ‫‪ -‬هل ِ‬
‫بــا مبــاالة‪.‬‬ ‫ابتسمت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬يــا ابنتــي توقّفــي‪ ،‬لديــك دو ٌر‪ ،‬لديــك ابــن مل تنجبيــه‪ ،‬ينظــر‬ ‫‪ -‬األكيد‪ ،‬أنَّنا إ َّما مسافرون‪ ،‬أو سنسافر بعد قليل‪.‬‬
‫إليــك يدعوك أال تستســلمي‪.‬‬ ‫عــا يــأكل جســدي‪ ،‬يخــرين أ َّن أوراق روحــي‬ ‫مل أح ّدثهــا َّ‬
‫مجنونــة تلــك! أو تعرفنــي‪ ،‬كيــف تعلــم أنَّنــي أتخيّــل نفــي‬ ‫ات تغــادر رأيس‪.‬‬ ‫بــدأت باالصف ـرار‪ ،‬ولرمبــا تتســاقط كشــعر ٍ‬
‫ـر معــه قهوتــه‪ ،‬أرشبهــا معــه‪،‬‬ ‫صحيح ـ ًة م ـ ّر ًة أخــرى؟ أحـ ّ‬ ‫سفرك خمسة مراكب‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬يف‬
‫جمــا عــى عجــل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأدس لــه ورقــ ًة صغــرة‪ ،‬أكتــب فيهــا‬ ‫ُّ‬ ‫ـأرشح لهــا أ َّن جلســات العــاج الكيميــا ّيئ تنقلنــي‬ ‫كيــف سـ ُ‬
‫ليتفاجــأ بهــا عندمــا يصــل عملــه‪ ،‬أو لتشــكّل فضيحــ ًة إذا‬ ‫مــن حــال لحــال‪ ،‬تأخــذ مــن روحــي وجســدي‪ ،‬تنقلنــي‬
‫وقعــت عنــد بائــع الــدكان‪ ،‬أرتّــب يومــه‪ ،‬وكنــت أتخيّــل أن‬ ‫كأنَّهــا تنقلنــي بالزمــن‪ ،‬الجلســة بعــام أو خمســة أعــوام‪ ،‬ال‬
‫ـأي اســم‬ ‫أنجــب لــه طفـ ًـا ذك ـ ًرا يشــبهه متا ًمــا‪ ،‬ســيناديه بـ ِّ‬ ‫يشــبه وجهــي وجهــي‪ ،‬وال تشــبه روحــي روحــي‪.‬‬
‫بالعــامل‪ ،‬وأنــا ســأناديه باســمه‪ ،‬ولــن أناديــه بغــر اســمه‪،‬‬ ‫ـفرك مســاف ٌر عني ـ ٌد لــن يــركك‪ ،‬سيمســك بــك آلخــر‬ ‫‪ -‬يف سـ ِ‬
‫كــم تبــدو أحالمنــا الصغــرة صعب ـ ًة ج ـ ًّدا! كــم يبــدو حلـ ًـا‬ ‫الرحلــة‪.‬‬
‫عاديًّــا ترفًــا‪ ،‬يقــرب منــي‪ ،‬فــا املانــع أن نســتقي َظ م ًعــا‬ ‫رجل‬
‫ال أدري مــن تقصــد!! هــل هــي الخاليــا التــي تعــود‪ ،‬أم ٌ‬
‫وأع ـ َّد لــه قهوتــه‪ ،‬فقــط القهــوة‪.‬؟!‪.‬‬ ‫مل يخذلنــي –ق ـطُّ‪ -‬حــن تغـ ّـر شــكيل؟!‪ ،‬كان ميســك يــدي‬
‫‪ -‬يــا ابنتــي؛ هنالــك مــا زال لديــك فنجــا ُن قهــوة‪ ،‬ارشبيــه‬ ‫كل يشء ســيكون عــى مــا يــرام‪ ،‬مــن منهــا‬ ‫ويخــرين أ َّن َّ‬
‫أو اصنعيــه‪.‬‬ ‫مســافري العنيــد؟‪ .‬هــل بــدأت أص ّدقهــا‪ ،‬أم أنّنــي أُســقط كل‬
‫هي مللمت ودعها وغادرت‪.‬‬ ‫مــا تنطقــه عــى حــايل‪ ،‬يبــدو أنّنــي أخــذتُ بقضيّــة اإليحــاء‪،‬‬
‫ـب مــاءة الرسيــر‪ ،‬أشـ ُّد غطــايئ عــى نفــي‪،‬‬ ‫وتركتنــي أوضِّ ـ ُ‬ ‫إنَّهــا توحــي إ َّيل مبــا تريــد فأُصيغــه مبــا أُريــد‪.‬‬
‫وأأُكّــد للممرضــة أ َّن الحقنـ َة امله ّدئـ َة قامــت مبفعولهــا متا ًمــا‪.‬‬ ‫كل ما تعطيك الدنيا؟‬ ‫‪ -‬هل تأخذين َّ‬

‫* قاصة أردن ّية‬


‫‪120‬‬

‫شهادة ٌ إبداعي ّة‬


‫نور العتيبي*‬

‫ـت يف وســط الحـ ّـام‪ ،‬وهنــا بــدأت‬ ‫أمــوري شــخصيًّا‪ ...‬وقعـ ُ‬ ‫حصــة الرياضــة املدرســيّة لدرجــة‬ ‫أعشــق وأنتظــر ّ‬ ‫ُ‬ ‫كنــت‬
‫ُ‬
‫حكايتــي الحقيقيّــة‪...‬‬ ‫رمّبــا كان ُمبال ًغــا فيهــا بعــض الــيء‪..‬‬ ‫مــن الهــوس‪ ..‬لدرجــة ّ‬
‫ـت يف املستشــفى مــا يقــرب مــن الثالثــة أشــهر بــن‬ ‫أمضيـ ُ‬ ‫فحصــة الرياضــة ومد ِّرســتها كانتــا مبثابــة الســعادة الحقيق ّيــة‬ ‫ّ‬
‫عمليــة وأخــرى‪ ،‬وقدمــي اليــرى محاطــة ب"الجبــص"‬ ‫يل‪ ،‬وخاصــة بعــد جــدول االمتحانــات والحصــص املزدحــم‬
‫الثقيــل جــ ًّدا‪...‬‬ ‫طيلــة األســبوع‪..‬‬
‫أجريــت امتحانــات الفصــل النهــايئ يف املستشــفى‪ ،‬فــكان‬ ‫ُ‬ ‫الحصــة وأعـ ّد األيــام ألســتع َّد ملامرســة‬
‫ـت أنتظـ ُر مجــيء ّ‬ ‫كنـ ُ‬
‫مــن الصعــب إجــراء االمتحانــات كبق ّيــة الطالبــات يف‬ ‫بــكل شــغف‪ ..‬إىل أ ْن جــاء اليــوم الــذي‬ ‫رياضــة الجــري ِّ‬
‫املدرســة‪ ..‬مل يعــرف األطبــاء الســبب الحقيقــي للــورم الــذي‬ ‫شــعرتُ بــه يف أمل غــر مســبوق يف قدمــي اليــرى‪ ..‬كان‬
‫ـي أكــر مــن ثالثــة‬ ‫اقــرب مــن الركبــة بأكملهــا‪ ،‬وبعــد مـ ّ‬ ‫الوجــع شــدي ًدا جـ ًّدا‪ ،‬مل أُ ِر ْد يف البدايــة أ ْن أُعـ َر املوضــوع ّ‬
‫أي‬
‫تخص ًصــا‪ ،‬وهنــاك‬ ‫أشــهر تــ َّم تحويــي إىل مستشــفى أكــر ُّ‬ ‫اهتــام‪ ،‬ومل أخــر والــديت أيضً ــا عــى الرغــم مــن قربهــا يل‬
‫أعلــن الدكتــور عــن وجــود ورم نــادر يف العظــم‪ ،‬وأنــه ال بـ َّد‬ ‫أكــر مــن أخــوايت األخريــات‪ ....‬ولكــن‪ ،‬صــار الوج ـ ُع يــزداد‬
‫مــن إج ـراء عمل ّيــة بــر ‪-‬حــااًلً ‪ -‬للســاق!‬ ‫يو ًمــا بعــد يــوم‪ ،‬إىل أن علمــت والــديت وعــى الفــور أخذتنــي‬
‫وقــوي‬
‫ٌ‬ ‫غريــب‬
‫ٌ‬ ‫لــدي شــعو ٌر‬
‫ال أبالــغ إ ْن ذكــرتُ أنَّــه كان َّ‬ ‫إىل طــوارئ املستشــفى القريــب مــن منزلنــا‪ ،‬وبعــد إج ـراء‬
‫بفقــدان الســاق‪ ...‬كان والــدي يف حالــة مــن الذُّعــر وعــدم‬ ‫املختــص أن أتوقَّــف‬
‫ّ‬ ‫األشــعة والفحوصــات‪ ،‬قــ َّرر الطبيــب‬
‫التصديــق‪ ..‬فق ـ ّرروا أن يبحثــوا عــن حلــول بديلــة يف داخــل‬ ‫عــن لعــب الرياضــة‪ ،‬وأن أتنــاول بعــض األدويــة التــي كانــت‬
‫اإلمــارات وخارجهــا‪ ،‬ومــن أ َّول الــدول التــي حصلنــا عــى ر ّد‬ ‫عبــارة عــن فيتامينــات‪ ،‬وأكَّــد بأننــي ســأكون بخــر!!‬
‫منهــا اململكــة املتحــدة‪ ..‬كانــت النســبة ضئيلــة جـ ًّدا ولكــن‬ ‫ال ندري تناقضات الحياة‪ ،‬ومن الصعب فهمها أحيانًا!‬
‫هنــاك أمــل بعــدم فقــدان الســاق! هنــاك حـ ّـل آخــر وإن‬ ‫توقفــت عــن تنــاول األدويّــة؟‬‫ُ‬ ‫هــل اســتم َّر الوجــع؟ هــل‬
‫كان يف مــكان بعيــد‪ ،‬ولكــن ال بـ ّد مــن الذهــاب إليــه مهــا‬ ‫ومــاذا حــدث بعــد التشــخيص األ ّويل‪...‬؟‬
‫كلّــف األمــر والثمــن!!!‬
‫ســافرنا أنــا ووالــدي إىل "مانشســر"‪ ،‬وكانــت املــرة األوىل‬ ‫يف ‪ 25‬نيســان‪ /‬إبريــل انقلبــت األمــور بشــكل غــر متوقــع‪،‬‬
‫نســيت الهــدف‬ ‫ُ‬ ‫التــي نســافر فيهــا إىل بريطانيــا‪ ،‬رمبــا‬ ‫ـت أغســل مريــول املدرســة بنفــي؛ عــى ال ّرغــم‬ ‫وبينــا كنـ ُ‬
‫األســايس للســفر عــى قــدر مــا كان تركيــزي يف جــال‬ ‫ّ‬ ‫مــن وجــود املســاعدة يف املنــزل‪ّ ،‬إاّل أننــي أفضِّ ــل إنهــاء‬

‫* كاتبة أردنية‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪121‬‬

‫ومــا تعلمتــه مــن هــذه التجربــة‪ ،‬وبالرغــم مــن قســوتها‪،‬‬ ‫املدينــة وجــال طبيعتهــا الالمتناهــي‪..‬‬
‫أن نتطلّــع إىل املســتقبل‪ ،‬وأن ال نخضــع لــأمل مهــا كلّــف‬ ‫وبعــد إجـراء الفحوصــات‪ ،‬ولألســف‪ ،‬كان القـرار؛ هــو القـرار‬
‫الثمــن‪.‬‬ ‫نفســه الــذي ك ّنــا قــد حصلنــا عليــه أنــا وأهــي ســابقًا‪.‬‬
‫ال أقــول هــذا مــن بــاب التنظــر‪ ،‬هــو ليــس تنظ ـ ًرا‪ ،‬وإمَّنَّ ــا‬ ‫رمبــا األســباب تختلــف‪ ،‬ولكــن الهــدف هــو نفســه‪ ،‬والزمــان‬
‫هــو واقـ ٌع‪ ،‬وهــذا مــا حصــل معــي‪ ..‬قـ ّررتُ أن أكتــب ولــوال‬ ‫واملــكان هــا الفيصــل‪..‬‬
‫ميســني‬ ‫ـت وأصــدرتُ كتابًــا ّ‬ ‫هــذا التجربــة املريــرة ملــا كتبـ ُ‬ ‫ـت قـرار الطبيــب وبرسعــة‪ ،‬ومل يكــن هنــاك خيــار آخــر‬ ‫تقبَّلـ ُ‬
‫شــخص ًّيا‪..‬‬ ‫لــي أختــار‪ ،‬فــكان كل يشء محــدو ًدا جـ ًدا وبشــكل أصعــب‬
‫كيّل أمـ ٌـل ويقــن بــأ َّن القــادم أفضــل ويف وقتــه‬ ‫وأنــا اليــوم ّ‬ ‫ـر‪....‬‬ ‫مــن أن يُفـ َّ‬
‫املناســب‪ .‬وأن تكــون يل الفرصــة أن يتحـ ّول كتــايب وروايتــي‬ ‫وخرجــت مــن غرفــة العمليــات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫انتهــى الوجــع هنــاك‬
‫ـي‪..‬‬
‫ـي فنـ ٍّ‬
‫القادمــة إىل عمــل درامـ ٍّ‬ ‫ـاعات طويلــة بــن الخوف‬‫وكانــت عمليتــي قــد اســتمرت لسـ ٍ‬
‫ـخص فقــد عزيـ ًزا أو عــاش التجربة‬ ‫ـكل شـ ٍ‬ ‫فرســالتي األخــرة لـ ِّ‬ ‫واألمــل واألمل‪..‬‬
‫نفســها التــي عشــتها أن ال ينتظــر الدعــم مــن أحــد‪ ،‬وأن‬ ‫َّمت معنى الوجع منذ نعومة أظفاري‪.‬‬ ‫هذه أنا‪ .‬تعل ُ‬
‫يكتشــف ذاتــه مــن خــال التجربــة‪.‬‬ ‫ـت أكــر‪ ،‬فالتجربــة علّمتنــي الكثــر الكثــر‪ ،‬وأجمــل‬ ‫ونضجـ ُ‬
‫وكام ُ‬
‫أقول دامئًا بأ َّن يف الكتابة حيا ًة أخرى أعيشها‪.‬‬ ‫مــا اكتشــفته هــو الكتابــة!‬
‫فتــ َّم إصــدار مولــودي األ َّول تحــت عنــوان "مهــا كلّــف‬
‫األمــر" باللغتــن اإلنجليزيّــة والعرب ّيــة‪ ،‬وهــو يتح ـ َّدث عــن‬
‫تجربتــي الكاملــة‪.‬‬
‫واليــوم أنــا بصــدد إصــدار كتــايب الثــاين‪ ،‬وهــو عبــارة عــن‬
‫متــت بصلــة بنــور العتيبــي‪،‬‬‫امــي ال ّ‬ ‫روايــة ذات طابــع در ّ‬
‫وتجربتهــا مــع مــرض الرسطــان‪.‬‬
‫وأخ ًريا‪،‬‬
‫ال بـ َّد مــن مواصلــة البحــث عــن الســعادة عــى الرغــم مــن‬
‫كل الصعــاب‪.‬‬
‫‪122‬‬

‫وخزة‬
‫قصة‪ :‬محمد حسني السامعنة*‬

‫دهشــتهم‪:‬‬ ‫والفاّلحــون يتحلّقــون‬


‫اليــوم هــو الخميــس الســابع مــن آذار‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬ســرى اآلن صدقــك مــن كذبــك‪ ،‬وويلــك ثــم ويلــك إن‬ ‫بحــب حــول النــار يف مضافــة املختــار‪ ،‬يرتفــع صــوتُ‬ ‫ٍ‬
‫كنــت تكــذب‪.‬‬ ‫قهقهاتهــم حي ًنــا وصــوت جدالهــم أحيانًــا‪ ،‬وســحاب ٌة ضخمـ ٌة‬
‫وقف املختار بزهو وسط املضافة‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫مــن الدخــان معلقــة يف ســقف املضافــة‪ ،‬وبــن ضحكــ ٍة‬
‫‪ -‬هــذا محمــد ابــن أيب جــال‪ ،‬أرســلناه ليــدرس الفالحــة يف‬ ‫هنــا و"قح ـ ٍة" هنــاك‪ ،‬ونحنحــة هنــا ورصخــة هنــاك‪ ،‬دخــل‬
‫أملانيــا منــذ ســنوات‪ ،‬فانقطعــت أخبــاره‪ ،‬وهــا هــو قــد عــاد‬ ‫(القطــروز) األزرق العينــن املضافــة مرس ًعــا‪ ،‬تشــعل أنفاســه‬
‫إلينــا يحمــل (دهــوكات) املشــعوذين!‬ ‫الدهشــة‪ ،‬وجلــس متكـ ّو ًرا إىل جانــب أذن املختــار‪ ،‬وشوشــه؛‬
‫حــاول محمــد ابــن أيب جــال أن يقــول شــيئًا؛ لكــن املختــار‬ ‫فانتفــض املختــار وقــام مــن مجلســه‪ ،‬فســاد الصمــت‪،‬‬
‫أســكته‪ ،‬وحــذره وه ـ ّدده بعــدد مــن الوك ـزات والنظ ـرات‪،‬‬ ‫وبــدت نظــراتُ الفالحــن قلقــ ًة وجلــ ًة ترقــب بحــذر مــا‬
‫وقــال لــه بصــوت مــأ املضافــة‪ ،‬وتــر ّدد صــداه حتــى ســمعه‬ ‫ســيقوله املختــار‪ ،‬ومل يَ ِخــب ظ ُّنهــا فقــد رفــع املختــار يـ َده‪،‬‬
‫مــن يف الخــارج‪:‬‬ ‫وفتــل شــاربَه‪ ،‬وهـ َّز عصــاه‪ ،‬ورضبهــا بــأرض املضافــة‪ ،‬وقــال‬
‫‪ -‬اخرس‪ ،‬وال كلمة‪ ،‬ال أريد أن أسمع صوتك!‬ ‫بح ـ ّد ٍة ورصامــة‪:‬‬
‫بغضب‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫رضب املختار األرض بقوة بعصاه ثم قال‬ ‫‪ -‬فليحــر هــو ونظّارتــه إىل املضافــة اآلن‪ ،‬اذهــب مــن‬
‫‪ -‬اآلن سرنى!!‬ ‫فــورك إليــه‪ ،‬وقــل لــه إن املختــار يطلبــه‪.‬‬
‫ثــم طلــب مــن (القطــروز) إحضــار النظّــارة منــه‪ ،‬وإعطاءهــا‬ ‫صمــت‬
‫َ‬ ‫متــض ســاعة حتــى كان (القطــروز) يقتحــم‬ ‫ومل ِ‬
‫أليب عــي الفـران الــذي اســتلمها بخــوف وقلــق‪.‬‬ ‫املضافــة ممســكًا بجيــب قميــص شــاب نحيــلٍ ‪ ،‬فــارع‬
‫الحظ املختار ما أصاب أبا عيل الفران فقال له ُمطم ِئ ًنا‪:‬‬ ‫القامــة‪ ،‬طويــل الشــعر‪ ،‬أســمر‪ ،‬يلبــس بنطــااًلً أزرق‪ ،‬وحــذا ًء‬
‫‪ -‬كلنا سنلبسها‪ ،‬كلنا سنلبسها‪ ،‬لرنى ونحكم‪.‬‬ ‫أســو َد الم ًعــا‪.‬‬
‫فصاح محمد ابن أيب جامل‪:‬‬ ‫دفــع (القطــروز) الشــاب بقــوة وخشــونة إىل حيــث يجلــس‬
‫‪ -‬لحظة‪ ،‬لحظة! هذه النظارة‪...‬‬ ‫املختــار‪ ،‬الــذي لكــزه وقــال لــه باســتخفاف‪:‬‬
‫ولكــن (القطــروز) منعــه مــن إكــال جملتــه‪ ،‬مــا أدخــل‬ ‫‪ -‬ســمعنا أنَّــك تحمــل يف جعبتــك نظّــارة تســتطيع رؤيــة‬
‫الشــك والخــوف إىل قلــب أيب عــي الف ـران‪ ،‬فقــال‪:‬‬ ‫املســتقبل!!‪.‬‬
‫‪ -‬دعه يقول ما يريد يا رجل!‬ ‫ثــم ضحــك‪ ،‬وأرخــى يــده التــي تحمــل العصــا‪ ،‬وقــال وهــو‬
‫فنظــر (القطــروز) إىل املختــار الــذي أشــار إليــه بإصبعــه‬ ‫يبعــث نظراتــه بــن وجــوه الفالحــن املتمرتســن خلــف‬

‫* قاص أردين‬
‫أفكار ‪ /‬إبداع‬ ‫‪123‬‬

‫أغمــض عي ًنــا وفتــح الثانيــة‪ ،‬وانتظــر قليـ ًـا‪ ،‬ثــم قــال‪ :‬يــا‬ ‫ـف وارتبـ ٍ‬
‫ـاك‪ ،‬وقــال‪:‬‬ ‫ليرتكــه‪ ،‬فوقــف محمــد ابــن جــال بضعـ ٍ‬
‫اللــه ياللــه‪ ،‬مــا أجملــك يــا قريتنــا! بنايــات عاليــة‪ ،‬مصانــع‬ ‫‪ -‬هذه النظّارة ال تعمل إال وفق رشوط!‬
‫ضخمــة‪ ،‬شــوارع نظيفــة واســعة معبــدة‪ ،‬حقــول خ ـراء‪،‬‬ ‫فسأله املختار باستهزاء‪:‬‬
‫وســال ضخمــة مــن الغــال تخــرج منهــا‪ ،‬هنــاك ملعــب‬ ‫‪ -‬وما هي هذه الرشوط؟‬
‫كبــر‪ ،‬وهنــاك عيــادة كبــرة ‪...‬‬ ‫عــ َّد محمــد ابــن أيب جــال ســؤال املختــار ترصي ًحــا لــه‬
‫سأله أبو عيل الفران بفر ٍح‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بثبــات وثقــة‪ ،‬وقــال‪:‬‬ ‫ليتحــدث بحريّــة‪ ،‬فوقــف كاملنتــر‬
‫‪ -‬وكيف ترانا يا مختار؟‬ ‫‪ -‬عــى الــذي يلبســها أن يثــق مبــا يـراه‪ ،‬وأن يصــف مــا يـراه‪،‬‬
‫قــال املختــار وهــو ينــزع النظّــارة عــن وجهــه بغضــب‪:‬‬ ‫وأن يفتــح عينيــه عــى اتســاعهام‪.‬‬
‫ي رؤيــة مســتقبل‬ ‫ســامحك اللــه يــا أبــا عــي قطعــت عــ َّ‬ ‫وإاّل؟‬
‫املختار برتدد‪ّ :‬‬
‫القريــة الجميــل‪.‬‬ ‫محمد ابن أيب جامل‪:‬‬
‫وضــع أبــو عــي الف ـران النظّــارة عــى عينيــه وانتظــر قليـ ًـا‬ ‫‪ -‬ال أعرف ما سيحصل له!‬
‫يك يــرى شــيئًا مــن أطــراف املســتقبل‪ ،‬ثــم وقــف وســط‬ ‫ثم نظر يف وجوه الفالحني‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫املضافــة‪ ،‬وقــال‪:‬‬ ‫‪ -‬وال تنســوا أ َّن هــذه النظّــارة تــرى املســتقبل‪ ،‬وقــد تتطلــع‬
‫‪ -‬يــا اللــه يــا أهــل قريتــي‪ ،‬مــا أجملكــم‪ ،‬متشــون مبالبــس‬ ‫إىل املــايض املخبــوء!‬
‫جديــدة‪ ،‬وتركبــون الخيــل األصيلــة!‬ ‫صمــت املختــار بره ـةً‪ ،‬ط ـ ّن بفيــه‪ ،‬وأراد أن يوقــف محمــد‬
‫فصــاح أحدهــم بفــرح‪ :‬هــل تـراين‪ ،‬أنــا ســعد ابــن أيب ســعد‬ ‫ابــن أيب جــال عــن الــكالم‪ ،‬ولكــن محمــد تن ّبــه إىل ذلــك؛‬
‫الطيــان؟‬ ‫فأكمــل حديثــه مــن غــر أن يلتفــت إىل وجــه املختــار‪:‬‬
‫بغضب‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫فنزع أبو عيل الفران نظّارته‬ ‫‪ -‬ومــن الــروط أن يلبســها أعــى القــوم مكانـةً‪ ،‬ثــم يلبســها‬
‫ي رؤيــة مســتقبل‬ ‫‪ -‬ســامحك اللــه يــا ســعد؛ قطعــت عــ ّ‬ ‫ـب النــاس إليــه‪ ،‬وتذكــروا أ َّن يف لبســها حــاالت‬‫مــن بعــده أحـ ُّ‬
‫رجــال القريــة!‬ ‫منهــا‪ :‬أن يــرى البســها املــايض وحــده إن كان بــا مســتقبل‪،‬‬
‫حمــل أحــد الفالحــن النظّــارة ووضعهــا عــى عينيــه‪ ،‬ثــم‬ ‫وهنــا يقــال لــه أنــت ميــت يف جســد حــي‪ ،‬أو يــرى الحــارض‬
‫أغلقهــا‪ ،‬ثــم فتحهــا‪ ،‬ثــم فتــح عي ًنــا وأغلــق الثانيــة‪ ،‬ثــم‬ ‫إن كان بــا مــاض وبــا مســتقبل‪ ،‬أو يــرى املســتقبل إن كان‬
‫صمــت قليـ ًـا‪ ،‬وقــال بحــزن‪:‬‬ ‫ممــن لهــم مســتقبل‪.‬‬
‫‪ -‬أراكم كام أنتم‪.‬‬ ‫وتو ّجهــت العيــون كلهــا إىل املختــار الــذي ســارع إىل وضــع‬
‫ونظــر إىل املختــار‪ ،‬فشــ َّد (القطــروز) يــ َده‪ ،‬وقــال وهــو‬ ‫النظّــارة عــى مســافة مــن عينيــه‪ ،‬ثــم ث ّبتهــا عــى وجنتيــه‬
‫ينــاول النظّــارة لجــاره‪ :‬لك ّننــي رأيــت املختــار قــد زاد وزنُــه‬ ‫عــى مضــض‪ ،‬فتــح عينيــه عــى اتســاعمها‪ ،‬وكالم محمــد ابــن‬
‫قليـ ًـا‪.‬‬ ‫أيب جــال يــردد صــداه يف ذهنــه؛ "‪...‬ميــت وأنــت حــي"‪.‬‬
‫وأغمــض عينيــه مــر ًة أخــرى‪ ،‬وفتحهــا عــى اتســاعهام‪ ،‬ثــم‬
‫‪124‬‬

‫نوافذ‬
‫ثقافة عرب ّية‬

‫ثقافية‬
‫أقالم مشبوهة يف الفكر العريب الحديث‪ /‬عيل هصيص‬
‫كتــاب إشــكا ّيل يف موضوعــه ومنهج ّيتــه‪ ،‬يقــف فيــه مؤلِّفــه عنــد مجموعــة مــن القضايــا‬ ‫ٌ‬ ‫هــذا‬
‫والتيــارات واألعــام ذات التأثــر البالــغ يف وعــي ال ُّنخبــة العرب َّيــة ومنطلقــات وعيهــا الثقــا ّيف‬
‫ُغــر اســتنطاقات كثــر مــن املســلّامت يف الفكــر‬ ‫والتاريخــي‪ ،‬باالســتناد إىل مرجعيــات ووثائــق ت ّ‬
‫ّ‬
‫واألدب‪.‬‬ ‫محمد ّ‬
‫ساّلم جميعان*‬
‫خصــه‬ ‫املوازنــة بــن الثنائيــات املتعارضــة هــي الســمة البــارزة يف معطيــات الفصــل األول الــذي ّ‬
‫املؤلــف للمقارنــة املضمون ّيــة بــن كتــا ّيب‪ " :‬يقظــة العــرب" لجــورج أنطونيــوس‪ ،‬و" االتجاهــات‬
‫الوطنيّــة يف األدب املعــارص" ملحمــد محمــد حســن‪ ،‬فيلحــظ القــارئ االشــتباك مــع مكانــة مؤلــف‬
‫كتــاب " يقظــة العــرب"‪ ،‬ودوره مــع الحكومــة الربيطانيــة يف تدويــن تاريــخ اليقظــة العرب ّيــة‪،‬‬
‫وارتباطاتــه ال ّنســب ّية والقراب ّيــة مــع شــخصيات يتح َّفــظ املؤلِّــف عــى اتجاهاتهــا ووالءاتهــا‪ ،‬ليفــي‬
‫بقارئــه إىل عــدم نزاهــة مؤلّــف الكتــاب يف مرسوداتــه التاريخ ّيــة‪ .‬وهــو مــا كان يف منجــى منــه‬
‫صاحــب كتــاب " االتجاهــات الوطنيــة يف األدب املعــارص"‪.‬‬
‫الفصــل الثــاين عــى املاســون ّية وانعكاســاتها يف األكادمييــات العرب ّيــة‪ .‬ويف هــذا الفصــل‬
‫ُ‬ ‫ويقــف‬
‫ـدي لكثــر مــن أعــام األدب والفكــر العــرب‪ ،‬ومنهــم‪ :‬أحمــد زيك أبــو شــادي‪ ،‬وحليــم‬ ‫ترشيــح نقـ ّ‬
‫دمــوس‪ ،‬ونجيــب عــازوري‪ ،‬وويل الديــن يكــن‪ ،‬وعــي عبــد ال ـرازق‪ .‬فض ـاً عــن تأث ـرات املذهــب‬
‫الرومنــي وحموالتــه الفكريّــة الباطنيّــة املشــبوهة‪ -‬مــن وجهــة نظــر املؤلِّــف‪ -‬التــي تتالقــى مــع‬
‫تهويــد الفكــر العــريب‪ ،‬اســتنا ًدا مــن املؤلــف ملمــدوح عــدوان‪.‬‬
‫ويف الفصــل الثالــث مســاءل ٌة تاريخ ّيــ ٌة أدب ّيــ ٌة للشــاعرين أحمــد شــوقي وحافــظ إبراهيــم عــن‬
‫صمتهــا املطبــق عــن اإلشــارة يف أشــعارهام إىل قضيــة فلســطني‪ ،‬بالرغــم مــن أنَّهــا عايشــا كث ـ ًرا‬
‫مــن أحداثهــا العاصفــة؛ إذ يضعهــا املؤلــف يف مواطــن الشــبهة مــن خــال رصــد عالقاتهــا مــع‬
‫الخديــوي والربيطانيــن‪.‬‬

‫* شاعر وناقد أردين‬


‫أفكار ‪ /‬نوافذ ثقافية‬ ‫‪125‬‬

‫ويف شــؤون وشــجون الــذي حمــل عنــوان الفصــل الرابــع‪ ،‬يطــوف بنــا املؤلّــف يف قضايــا الحــركات املشــبوهة‬
‫وكل تلــك املحاكــات تجــري يف ضــوء تأكيــد أثــر تضييــع‬ ‫والثــورات املغــدورة؛ أدب ـاً وفك ـرا ً‪ ،‬يف الحيــاة العربيــة‪ُّ .‬‬
‫النهضــوي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخالفــة اإلســاميّة يف ارتــكاس الواقــع العــر ّيب يف حضيــض الجهــل املعــر ّيف والتزييــف‬

‫الحق‬
‫ساّلمة عبد ّ‬ ‫صالة العشق‪ّ /‬‬
‫ـرويس تحتجــب املشــاعر فيــه وتطفــو دون تزييــف‪،‬‬ ‫ـري عــى نحـ ٍو أيـ ّ‬ ‫تشــتبك الذكــور ُة واألنوثــة يف هــذا الكتــاب النـ ّ‬
‫فتنعكــس الصــور ُة األ ّخــاذة عــى شــبكيّة العــن‪ ،‬ويلمــح القــارئ يف املفــردات التــوق الشــديد للغـرام‪.‬‬
‫وهنــا تنقــل الشــاعرة خربتهــا االنفعاليــة بواقعيّــة رصينــة ف ّنيّ ـاً‪ .‬لك ّنهــا عــى صعيــد الشــعور تبــدو هــذا الرغبــة‬
‫مكافــأة للــذات أكــر مــن كونهــا حالــة مشـرَكة‪ ،‬مبعنــى أنهــا َعـ ْر ٌض غـ ُر وا ٍع لل َّرغبــة‪ ،‬وكأ َّن إظهــار الحنــان والعاطفــة‬
‫يشــر إىل مــا ينبغــي للطــرف اآلخــر أن يبذلــه تجاهنــا‪.‬‬
‫ولعـ ّـل القــارئ يتســاءل حــن فراغــه مــن قـراءة هــذه النصــوص عــن مــدى تكافــؤ مــا تضفيــه الصــور واملفــردات مــن‬
‫قيمــة عــى الــذات املحبِّــة تعــادل أو تتفـ ّوق عــى القيمــة امل ُضفــاة عــى اآلخــر‪ :‬املحبــوب‪ .‬هنــا تبــدو العاطفــة تســر‬
‫يف شــارع وجــدا ّين باتجــاه واحــد‪ .‬فــاذا لــو تحـ ّول الغـرام إىل أزمــة داخليــة تســعى لتوطيــد تقديــر املــرء لذاتــه؟‬
‫النصــوص محاولــة شــجاعة الســتعادة الطفولــة عــر مخ ّيلــة جامحــة واســتعادة اآلمــال التــي رسقهــا شــتاء العمــر‪.‬‬
‫لقــد اســتطاعت الكاتبــة مــن خــال لعبهــا املاهــر باللغــة وتلويــن حــاالت الغـرام ممــن إثــارة الدهشــة يف داخلنــا‪.‬‬
‫ومــا بــن التــوق ملــا ســيأيت والتف ّجــع عــى مــا مــى ينــأرس القــارئ لفراهــة الرتاكيــب التــي بلغــت التصويــر البــري‬
‫املشــهدي للتــوق‪ .‬واللغــة والصــورة؛ تتك ّفــان بالتجســر بــن الرغبــة املقموعــة واالســتيهام يف التمنيــات‬
‫‪126‬‬

‫"وسوسة قمر" ‪ /‬كوثر الزعبي‬


‫ومــن خزائــن الذاكــرة املتح ِّفــزة‪ ،‬تشـكِّل الشــاعر ُة كوثــر الزعبــي قصي َدتهــا عــى نحــو يقـ ِّرب بــن الرغبــة واألمنيــة‪،‬‬
‫حتــى تغــدو املســافة ببعديهــا الزمنــي والنفــي أقــرب إىل التح ُّقــق يف ملعــب اإلبــداع الشــعري مبــا فيــه مــن حيــاة‬
‫ولغــة‪.‬‬
‫تكتــب كوثــر الزعبــي قصيدتهــا مبهــارة عاليــة‪ ،‬وتســتدخل فيهــا التفاصيــل لتحويــل مــا هــو وجــداين خالــص وإخراجه‬
‫مــن خصوصيتــه الذاتيــة والزمنيــة‪ ،‬ليكــون أكــر اقرتاب ـاً مــن اإلحســاس اإلنســاين العــام تجــاه قضيــة الحــب وتنــايئ‬
‫املحبــوب ولوعــات الخـران‪.‬‬
‫ـري املتدفــق؛ إذ نلحــظ يف كل قصيــدة فكــر ًة جديــدة‬ ‫ومــا يلفــت النظــر يف هــذا الديــوان‪ ،‬األدا ُء الفنــي والتعبـ ّ‬
‫وبنــا ًء لغويًّــا خاصـاً ال نجــده يف أي قصيــدة أخــرى‪ ،‬فــكل قصيــدة تبــوح مبعجمهــا اللغــوي الخــاص بهــا‪ ،‬وهــو األمــر‬
‫الــذي ع َّمــق أبعــاد رؤيــة موضوعاتــه الوجدانيــة‪ ،‬وجعلهــا أكــر تركي ـزا ً وتكثيف ـاً وإيحــا ًء‪ ،‬وجعــل التعبــر عنهــا يف‬
‫كل مــرة مشــحوناً بالتوتــر االنفعــايل الــذي شــحن الصــورة الشــعرية مبعــادالت نفســية‪ ،‬أضفــت عــى قصائدهــا أفقـاً‬
‫مفتوحـاً للتأ ُّمــل واالســتذكار‪.‬‬
‫واللغــة يف هــذا الديــوان ذات طابــع حلمــي تأ ُّمــي يتشــابك مــع الغائــب الحــارض بفتنتــه وغوايتــه‪ ،‬املعـ َّـر عنــه‬
‫ـادي‪ ،‬وهــو مــا‬ ‫ـي واملـ ّ‬ ‫بألفــاظ وتعبـرات تومــئ إىل الوجــود مبــا فيــه مــن االلتبــاس املع ّبــأ بالشــجن والغيــاب النفـ ّ‬
‫أ ّجــج الحالــة وأوصــل األشــواق الطافحــة ألن يتحــول النــص إىل شــكل مــن أشــكال النجــوى املكبوتــة‪ ،‬املبــاح بهــا‬
‫لداخــل الــذات‪.‬‬
‫ويرتاســل الخطــاب الشــعري عــر تنويعــات بنائ ّيــة تتبايــن يف امتداداتهــا وأطوالهــا‪ ،‬كــا تتبايــن يف إيقاعاتهــا تبعـاً‬
‫لحالــة النجــوى والبــوح التــي تحياهــا الــذات‪ ،‬فبــدا كل نــص يف القصيــدة الواحــدة محكوم ـاً بإطــا ٍر مــكا ٍّين وزمــا ٍّين‬
‫ـص الالحــق يف عالقــة تراكميّــة شــعوريّة قوامهــا الرتمي ـزات‬ ‫ـي مســتقل‪ ،‬ولك َّنــه يف الوقــت نفســه يرتبــط بالنـ ِّ‬ ‫ونفـ ٍّ‬
‫اللغويّــة القامئــة يف مجمــوع الديــوان عــى متــازج العالقــة الجدليــة بــن اللغــة واملعنــى‪.‬‬
‫أفكار ‪ /‬نوافذ ثقافية‬ ‫‪127‬‬

‫ثقافة عامل ّية‬


‫عالَم االعتقاد‪ /‬لويس براون‪ ،‬ترجمة‪ :‬أيوب أبو ديّة‬
‫يربــط الكتــاب معتقــدات العــا ِمل بعضهــا ببعــض يف صــورة متّســق ٍة ومرتابطــة بالرغــم مــن تن ّوعهــا‪ ،‬وهــو مــا يكشــف يف‬
‫املــآل األخــر عــن وحــدة الفكــر البــري عــر تاريــخ تطـ ُّوره الطويــل‪ .‬فالكشــف عــن املتقارِبــات واملتشــابِهات هــو أكــر‬
‫ـي ذميــم‪.‬‬
‫مــا يحتاجــه اإلنســان املعــارص الــذي ازدحمــت حياتــه باالختــاف والتبايُــن عــى نحــو رصاعـ ٍّ‬
‫الســحر‪ ،‬وعــن تط ـ ُّور الديــن يف العالَــم‬
‫مثانيــة فصــول مع ـ َّززة باملصــادر واملراجــع تكشــف للقــارئ عــن كيفيــة بدايــات ِّ‬
‫القديــم‪ ،‬وعـ ّـا حــدث يف الهنــد للرباهميَّــة والبانِيَّــة والبوذيَّــة والهندوسـيَّة‪ ،‬ومــا لحــق بالكونفوشيوشــية والتّاويَّــة والبوذيــة‬
‫يف الصــن‪ .‬فيــا يتوقــف الفصــل الخامــس عنــد الزرادشــتية يف بــاد فــارس‪ .‬وال تنفـ ّـك الفصــول الالحقــة عــن مقاربــة مــا‬
‫ـص اليهوديَّــة ويســوع واملســيحية‪ ،‬والديانــة‬ ‫حــدث يف بنــي إرسائيــل وأوروبــا والجزيــرة العربيــة – عــى التــوايل‪ -‬فيــا يخـ ّ‬
‫اإلســامية املح ّمديَّــة‪ .‬وكل ذلــك يناقشــه املؤلِّــف يف ضــوء علــم األديــان املقــارن وتأثــر البيئــة الجغرافيــة يف معتقــدات‬
‫كل ذلــك يف أمنــاط الســلوك والعيــش وتطــور نُظــم الحيــاة‪.‬‬ ‫أتباعهــا وانعــكاس ّ‬
‫ويف ضــوء قـراءة الكتــاب وحــد ًة واحــدة‪ ،‬يتكشَّ ــف للقــارئ تشــابك الثقافــات والحضــارات وتداخلهــا‪ ،‬عــى نحــو يجعــل من‬
‫املنــاداة بنزعــة التفـ ُّوق عــى اآلخــر والتفـ ُّرد بالــذات‪ ،‬خــارج ســياق التاريــخ واملنطــق العقــا ّين‪ .‬ويتفــق مــع هــذا املنحــى‬
‫كل مــن املؤلــف واملرتجــم‪ ،‬الــذي بــدا جهـ ُده يف اإلحالــة والتوضيــح لهوامــش املؤلِّــف‪ ،‬وضبــط كثــر مــن املصطلحــات‪ ،‬مــا‬ ‫ٌّ‬
‫ـص األصــي واضحــة‪.‬‬ ‫ي جامليــات بــدت فيهــا املحافظــة عــى النـ ّ‬ ‫ـص األصـ ّ‬‫منــح النـ ّ‬
‫لوحة للفنان األردين صالح شاهني ‪ -‬اإلمارات العربية املتحدة‬
‫أفكار ‪403/2022‬‬

You might also like