Professional Documents
Culture Documents
Afkar 403
Afkar 403
مجلّة أفكار
•أن ال يتجــاوز عــدد كلــات املــادة 2000
كلمــة يف حــده األقــى.
•الصــور املرســلة للــادة يجــب أن تكــون
عاليــة الدقــة والوضــوح عــى أن ال تقــل عــن
/ 403آب 2022
إعــادة نــر مــواد مجلــة «أفــكار» دون إذن
مســبق مــن هيئــة تحريــر املجلــة.
•يرســل الكاتــب اســمه الثــايث ،واســم الشــهرة
الــذي يُعــرف بــه ،ورقمــه الوط ّنــي (للكتّــاب
األردنيــن) ،ونبــذة عــن ســرته الذاتيــة (للمــرة
املوقع اإللكرتوين ملجلة أفكار: األوىل فقــط).
http://www.afkar.jo •يرفــق مــع املــواد املرتجمــة نبــذة عــن ســرة
كام ميكن تصفّح املجلة عىل موقع الوزارة: مؤلّــف النــص املرت َجــم ،ويُشــار إىل املصــدر
www.culture.gov.jo املرت َجــم عنــه.
املراسالت باسم رئيس التحرير: •يخضــع ترتيــب املــواد املنشــورة العتبــارات
E.mail: afkar@culture.gov.jo موضوعيــة وفنيــة.
رقم اإليداع لدى دائرة املكتبة الوطنيّة:
( / 2010 )1090د
العنوان الربيدي:
عاّمن ص.ب6140 : األردن ّ -
الرمز الربيدي11118 :
رئيس التحرير /د .غسان عبد الخالق
مدير التحرير /أ .مخلد بركات
سكرترية التحرير /أ .منال حمدي
4 مفتتح
هيئة التحرير /د .ابراهيم بدران
6 ملف العدد: /أ .سميحة خريس
/أ .إبراهيم غرايبة
إشكالية الرتجمة يف
الوطن العريب /د .رزان ابراهيم
/د .أماين سليامن داود
27 دراسات
ومقاالت
اإلخراج الف ّني /هزار مرجي
لوحتا الغالفني األمامي والخلفي /الفنان األردين صالح شاهني
املــواد املنشــورة يف هــذا العــدد تعـ ّـر عــن آراء ك ّتابهــا ،وال
تعــر بالــرورة عــن رأي وزراة الثقافــة األردنيــة.
110 إبداع
نأمــل أنَّنــا خرجنــا مــن ســنوات "كوفيــد" اللئيمــة مقبلــن عــى الحيــاة ،قادريــن عــى اجــراح الفعــل الثقــا ّيف،
ـنظل نكتــب ونغنــي ونتحــاور ونرســم ،واألهــم مراهنــن أنّنــا -برغــم صعوبــات املرحلــة االقتصاديّــة واالجتامع ّيــة -سـ ُّ
ـنظل نف ِّك ـ ُر ،وتلــك أجمـ ُـل أدوات املقاومــة والصمــود. سـ ُّ
راهنــا عــى اســتمرار مســرة الفكــر والتنويــر رغــم كل مــا نـراه حولنــا مــن تــدا ٍع لثوابــت أقامــت فينــا رد ًحــا ،ولعلّنــا
يف ذلــك نجــد يف التغيــر فرص ـ ًة لإلصــاح ومحاســبة نقــاط الضعــف ،والبحــث عــن الجديــد الــذي يشــبه عــره.
ورغــم مت ّيــع وضباب ّيــة املشــهد أحيانًــا ،وتسـلّط مــا بــات يُعــرف بزمــن التفاهــة ،فــإ َّن نخ ًبــا تتناثــر كالنجــوم يف صفحــة
ســوداء قــادرة عــى إبقــا ِء شــعلة التنويــر متقــدة.
كل االجتهــادات التــي تدعــو إىل تراجــع ـاص واجتهــاد ،مخرتق ـ ًة َّ مجلــة "أفــكار" تحمـ ُـل رســال ًة تقــوم عليهــا بإخـ ٍ
ـت إىل قض ّيــة قدميــة حديثــة، الق ـراءة الورق ّيــة الجــادة املشــغولة بعنايــة .يف هــذا العــدد الــذي بــن أيديكــم ،نلتفـ ُ
ـات ألســئل ٍة مريــر ٍة تتعلــق بواقــع الرتجمــة وإشــكالياتها يف عاملنــا تباحثنــا فيهــا مطـواًلً ومــا ن ـزال نبحــث عــن إجابـ ٍ
كل مــن تعــرض إىل املســألة يتــأىس عــى واقــع الرتجمــة ،القائــم عــى فــوىض االســتخفاف والعمــل العــر ّيب ،يف حــن أ َّن َّ
ـات حصيفــة االرتجــا ّيل ،ويعــدد الحــاالت القليلــة التــي متكّنــت مــن تجــاوز الواقــع الفقــر ،فإنّنــا نذهــب إىل دراسـ ٍ
يف قلــب إشــكالية الرتجمــة ،آلياتهــا املق ّننــة التــي يســتوجب توفرهــا رشطًــا لرتجم ـ ٍة ف ّعالــة وفاعلــة ،ومــا ينطــوى
ر نجــد فيــه أ َّن لغتنــا تلحــق الهث ـ ًة باملصطلحــات العلم ّيــة عليــه مــن تح ـ ٍّد كب ـرٍ للقيــام برتجمــة العلــوم يف ع ـ ٍ
الشــعري العــر ّيب برشوطــه
ّ املوزعــة بــن املراكــز اللغويّــة؛ مــا يقــود إىل تشــتّت الداللــة واملعنــى ،ثــم املعــار
املعروفــة وإمكانيتــه الخفيّــة ومــا يحــدث لــه عنــد الرتجمــة ،ومــن هــم الذيــن يرتجمــون فكرنــا وأدبنــا وحتــى
أوراقنــا الرســم ّية؟ وهــل حقّقــوا قــد ًرا مــن الكفــاءة يخ ّولهــم ألن يكونــوا جســو ًرا متينــة وآمنــة لعبــور الثقافــات
فوقهــا وتبــادل األفــكار واإلبــداع والعلــوم؟ كيــف يت ـ ُّم إعــداد مرتجــمٍ متمــرس؟ أليســت هــذه قض ّي ـ ٌة عــى درجــة
مــن األهم ّيــة؟
واملختصــن ،عــى أمــلٍ
ّ ـح بــاب املناقشــة لهــذه األفــكار مجتمعـ ًة بأقــام عــد ٍد مــن الباحثــن ـاول ملــف "أفــكار" فتـ َ يحـ ُ
ـاب مفتو ًحــا عــى الحــوار واملتابعــة يف الســاحة الثقاف ّيــة. أن يظـ َّـل هــذا البـ ُ
وعــى ذات املنــوال الجــاد واملــادة الزاخــرة باملعرفــة ،تذهــب "أفــكار" األردن ّيــة – العرب ّيــة إىل الحفــر يف موضــع
ـري وعالقتــه املبــارشة والوطيــدة بالفعــل الثقــا ّيف ،ألنّنــا وبســبب االنحيــازات التــي عصفــت بالفكــر، الخطــاب التنويـ ّ
ـري ،فهــو ســاحنا ملقاومــة األفــكار املح ّملــة بالعتمــة ،والتــي تدفعنــا إىل الخلــف بتنــا أكــر حاجــة إىل الفكــر التنويـ ّ
ـاري ،كــا نعــرض ملحاولــة بنــاء مفهــوم الخطــاب الســجا ّيل ،الــذي يتيــح ـف منــذر ًة برتاجعنــا عــن دورنــا الحضـ ّ بصلـ ٍ
مســاح ًة للحــوار والنقــاش وفهــم اآلخــر والقبــول بالتن ـ ّوع والتعدديّــة.
مــن جانــب آخــر نســرجع أبــر َز األعــام الذيــن خاضــوا يف تلــك التجــارب الفكريّــة علـ ًـا وفلســف ًة وأدبًــا ،فيحــر
طــه حســن وتوفيــق الحكيــم وابــن رشــد والتوحيــدي ،وليســت العــود ُة إىل هــؤالء فـرا ًرا إىل الخلــف ،بقــدر مــا هــي
ـري يف ثقافتنــا ،إنَّهــا اســتعاد ُة الرمــوز القــادرة عــى مجابهــة الــردة تنبيــه إىل بــذور وبدايــات الفكــر الحــر التنويـ ّ
املتخصصــن.
ّ ـارب الرائــد َة مجموع ـ ٌة مــن األســاتذة
الفكريّــة .يق ـ ِّد ُم تلــك التجـ َ
ـري ال يق ـ ّدم تنظ ـ ًرا جافًــا ،ولك َّنــه يشــتبك مــع الراهــن بــكل إحباطاتــه ومظاهــره ،فــإ َّن باحثــن وأل َّن حفرنــا الفكـ ّ
ـات اجتامعيّــة وفكريّــة وسياسـيّة أثّــرت عــى حارضنــا ،وقــد تــركان يعرضــان لنقطتــن عايشــناهام وتســببا يف انقالبـ ٍ
ـرف إىلتأثريهــا املريــع عــى مســتقبلنا القــادم إذا مل نتصــدى لفهمهــا وتحليلهــا ومقاومتهــا ،فقــد قــاد التطـ ُ
ـب يف الشــخص ّية العرب ّيــة بــل والعامل ّيــة ،مــا أوجــب دراســته عــر الثقافــة كظاهــرة تســترشي كــا النــار تحـ ّو ٍل غريـ ٍ
يف الهشــيم ،يرافقهــا أيضً ــا ذلــك الفه ـ ُم ل ـراث األجــداد؛ بــل والذهــاب إىل تدمــره عــر ظاهــر ٍة عاثــت فســا ًدا يف
مجتمعاتنــا العربيّــة وسـبّبت خرابًــا كبـ ًرا ،أال وهــي ثقافـ ُة اإلرهــاب ،تفكيـ ُـك تلــك الظاهــرة وفهــم أســبابها ونتائجهــا
كفيـ ٌـل يف املســاعدة للخــاص منهــا ،ويف تطهــر ثقافتنــا وشــخصيتنا العرب ّيــة مــن الســمعة الســيئة التــي لحقــت بهــا
ج ـراء الحــركات اإلرهاب ّيــة.
ثــم ،ألســنا يف عــر التكنولوجيــا املذهلــة املتســارعة؟ أال يجــدر بنــا دراســة تأثــر تلــك التقنيــات الرقميّــة وتتبــع
ـي ولك َّنــه مرتب ـ ٌط بالتطــور اإلنســا ّين.
بصامتهــا عــى أدمغتنــا؟ إنَّــه بحــثٌ علمـ ٌّ
وفــوق ذلــك كلــه ال يغيــب عــن مجلــة "أفــكار" جانــب الفنــون الجميلــة العاليــة ،التــي تخاطــب العقــل والــروح
ـاب أردنيــن وعــرب مبدعــن. ـوص لكتّـ ٍـرض لتجربــة مرسح ّيــة ،ونصـ ٍ م ًعــا ،مــن عـ ٍ
لقــد أخلصــت تلــك املجل ـ ُة القادم ـ ُة مــن مدينــة عــان للفكــر يف زمــن تقلصــت فيــه الصحافــة الثقافيّــة العربيّــة،
ـتظل تواصــل أداء دورهــا الفاعــل يف إثـراء الحــوار وتنــاول القضايــا الجــادة واألكــر التصاقـاً بحيــاة املثقــف ،كــا وسـ ُّ
ســتواصل انفتاحهــا التــي تعتـ ُّز بــه عــى املبدعــن واملفكريــن العــرب ،ذلــك أنَّهــا مل تكــن يو ًمــا مجلــة محل ّيــة ضيقــة
رشعـ ٌة لـ ِّ
ـكل معــر ٍّيف وجميــل يــأيت مــن العــامل العــر ّيب ،أو هــذا الكــون الــذي بتنــا نعــرف أنَّــه األفــق ،ولك َّنهــا بوابـ ٌة م َ
صغـ ٌر جـ ًّدا ،أصغــر مــا تصورنــاه.
إشكالية الترجمة
في الوطن العربي
تقديم امللف
بخصوص بعض إشكاليات الرتجمة
يف الوطن العر ّيب
د .فؤاد عبد املطلب*
ـات متجانســة ،بــل وســيل ًة للوصــول إىل الثقافــات املختلفــة ليســت الرتجم ـ ُة ج ـرا ً للعبــور إىل ثقافـ ٍ
ـاص بثقافاتنــا العربيــة .فنعــرف أنفســنا مــن معرفتنــا لآلخــر. األخــرى وفهـ ِـم تنو ِعهــا ،والتنــوع الخـ ِّ
اك الــذات بصــورة أعمــق إلعــادة تشــكيلها والســبيل الــذي نخوضــه يف معرفتــه لــه أث ـ ٌر كب ـ ٌر يف إدر ِ
ر وســهولة مــن دون صعوبــات وإشــكاليات تعــرض ســبيل وفــق الــرؤى الجديــدة التــي ال تتحقــق بيـ ٍ
امللــف لبعــض تلــك
ُ املرتجمــن عنــد النقــل واإلنجــاز يف مختلــف حقــول املعرفــة .ويتصــدى هــذا
ـات رئيســة ومــا يتّصــل بهــا مــن نقـ ٍ
ـاط الصعوبــات والتحديــات واإلشــكاليات مبناقشــته أربعـ َة موضوعـ ٍ
فرع ّيــة؛ وهــي :تقنــن الرتجمــة أكادمي ًّيــا ومهن ًّيــا ،وترجمــة املصطلحــات العلميــة والتقن ّيــة ،وتدريــب
املرتجمــن لتحصيــل الكفــاءة ،وترجمــة الشــعر .وتنــاول هــذه املوضوعــات أســاتذ ٌة د َّرســوا الرتجمــة
جمي ًعــا يف جامعــات ومؤسســات عرب ّيــة وأردن ّيــة ســنوات طويلــة يف ســائر املراحــل الدراسـ ّية .وعرضــوا
ـي قابــلٍ للنقــاش واألخــذ والعطــاءبعضهــا وقدمــوا آراءهــم فيهــا واقرتحــوا حلـو ًاًل لهــا عــى نحـ ٍو بحثـ ٍّ
يف ســبيل الوصــول إىل صي ـغٍ مفيــدة ومقبولــة تخاطــب تلــك التحديــات لتجاوزهــا واملــي قد ًمــا يف
هــذا املجــال.
وتكمــن مشــكل ُة دراسـ ِة الرتجمــة يف أنَّهــا تــردد حائــرةً ،تتنقــل بــن النظريــات التــي يد ِّرســها األســاتذة
أساســا إىل الفــن عنــد النقــل واســتعامل اللغــة.
والتطبيــقِ الــذي ميارســه املرتجمــون ،والــذي يســتند ً
أســاليب ومهــاراتٌ وتقنيــات ،ومثــة
ُ فالرتجمــ ُة يف دراســتها أفــكا ٌر وقواعــ ُد ونظريــاتٌ ،ويف تطبيقهــا
بــون شاســع يفصــل بــن الجانبــن .فكث ـ ًرا مــا نالحــظ أ َّن الكثــر مــن مــد ِّريس قواعدهــا ونظرياتهــا
ال يرتجمــون ،وأ َّن الكثــر مــن مــاريس ف ّنهــا ال يحفلــون بالجوانــب النظريــة ،وهــذا املوضــوع بذاتــه
إشــكالية تحتــاج إىل املزيــد مــن التقــي والنقــاش .وهــذا مــا فعلــه د .ســليامن العبــاس ملــا كتــب
مداخلــة عنوانهــا "عــدم كفايــة آليــات تقنــن وضـعِ الرتجمــة يف وطننــا العــريب أكادمييًّــا ومهنيًّــا" ،أشــار
فيهــا إىل إشــكالية الرتجمــة وأســبابها محل ًّيــا وعرب ًّيــا محــاوالً تلمــس بعــض الحلــول لهــا .والتقنــ ُن
ـكام وضواب ـ َط دقيق ـ ٍة للرتجمــة عــى ـح يفيــد بــرورة وض ـعِ قوان ـ َن وأحـ ٍ بحســب د .العبــاس مصطلـ ٌ
ـي .وتنــاول فيهــا الباحــثُ مشــكالتها يف جامعاتنــا ومؤسســاتنا العرب ّيــة، ـي واملهنـ ّ الصعيديــن األكادميـ ّ
مســتن ًدا إىل خربتــه النظريّــة والعمليّــة املديــدة يف تعليمهــا ومامرســتها ،وهــي تجربــ ٌة مميّــز ٌة ال
مختصــا
ًّ ـات عرب ّيــة مختلفــة ،عمــل فيهــا ـات وجامعـ ٍ يُســتهان بهــا مــن أســتاذ أمــى عقــو ًدا يف مؤسسـ ٍ
ي .وتــكاد هــذه املشــكالتُ تتامثـ ُـل يف طبيعتهــا وحجمهــا وتأثرياتهــا ،هــذا ايس والعمـ ّ بهــذا الحقــل الــدر ّ
باإلضافــة إىل ســبل التغلــب عليهــا .وتطــرق فيهــا إىل املشــكالت التــي تظهــر أوالً لــدى قبــول طلبــة
ـات التــي يؤدونهــا ،وتدريبِهــم وإعدادهــم ملامرســتها يف الرتجمــة ،واملــواد التــي يدرســونها ،واالمتحانـ ِ
الحيــاة العمليــة .وتنــاول العشــوائ ّي َة التــي تحكــم مامرســتها يف املكاتــب واملراكــز املهن ّيــة وعــدم كفايــة
ـص لتلــك املكاتــب واملراكــز مبامرســة مهنــة الرتجمــة ال يعنــي ـح الرتاخيـ ِ
املرتجمــن العاملــن فيهــا .إ َّن منـ َ
أهليــة مــن يقــوم بهــا فيهــا؛ وذلــك لعــدم وجــو ِد ضواب ـ َط تنظيم ّيــة تحكــم مامرســتهم لهــا.
مختصــة يف بعــض البلــدان ّ فاملرتجــم املعتمــد أو املحلــف يعمــل مــن دون أن تجيــزه هيئـ ٌة أو مرجع ّيـ ٌة
العرب ّيــة ،لعــدم وجــود هيئــة أو رابطــة أو جهــة رســمية متتحنهــم وتخولهــم مامرســة املهنــة .وغال ًبــا مــا
ـاب
ـص رســمية بذلــك .وغيـ ُ يقــوم بذلــك جمعيــاتٌ أو روابـ ُط مببــادرات ذات ّيــة مــن دون وجــود تراخيـ َ
التنســيق بــن اتحــاد املرتجمــن العــرب ومكتــب التعريــب بالربــاط مــا زال يحتــاج إىل املزيــد مــن
التنشــيط والتفعيــل .ومــن الواضــح أ َّن وضــع الرتجمــة يف عاملنــا العــريب -عمو ًمــا -ليــس باملســتوى الــذي
ـاتنتمنــاه ونتوقعــه .وهــذا مــن دون شـ ٍّـك يرجــع إىل أســباب كثــرة ،يــأيت يف مقدمتهــا فقــدا ُن آليـ ٍ
وضواب ـ َط ينبغــي تطبيقهــا للوصــول إىل وض ـعٍ أفضــل يتطلــع إليــه املعنيــون بالرتجمــة عــى مســتوى
املؤسســات العربيــة إفراديًّــا ،وعــى املســتوى العــريب عمو ًمــا .وهــذا يجعــل مــن الــروري أن تتضافــر
الجهــود وطن ًّيــا وعرب ًّيــا للوصــول إىل واقـعٍ أفضــل نتطلــع إليــه أكادمي ًّيــا ومهن ًّيــا.
أفكار /ملف العدد 9
وض َعــه الخــاص ،فيتــم قبــول الراغبــن يف دراســة الرتجمــة النــاس كثــرا ً حــن يتصــ ّدون ملوضــو ٍع يبــدو ُ يختلــف
ـكل بســاط ٍة ودون معايــر مدروســة الختيارهــم ،وت ُعامــل بـ ِّ ـهاًل مــن الناحيــة النظريّــة ،لكنهــم حــن يســرون غــوره سـ ً
ــص ضمــن العلــوم اإلنســانيّة .وهــذا ال يعنــي تخص ٍ
كأي ّ ّ ويخوضــون يف تفاصيلــه ،يجــدون أ َّن هــذه املســألة هــي
ـص تخصـ ٍ
ـكل ّ انتقاصــا مــن قيمــة التخصصــات األخــرى ،فلـ ِّ ً كل بدلــوه مــن األمــور التــي تحتــاج إىل جهـ ٍـد كبـرٍ ،ويــديل ٌّ
أهم ٌّيــة تتناســب مــع مجالــه ،إال إ َّن ك ـ ّون الرتجمــة تجمــع بــن متفــق ومخالــف .هــذا املوضــوع هــو الرتجم ـ ُة التــي
بــن النظريــة والتطبيــق بشــكلٍ كبـرٍ جـ ًّدا ،يجعلهــا تختلــف ـهاًل يف متنــاول اليــد ،إال إنّنــا حــن تبــدو للكثرييــن أم ـ ًرا سـ ً
ينصــب جهــ ُد الطالــب
ُّ التخصصــات التــي ّ عــن كثــر مــن ـي، ـص وتحليــلٍ علمـ ّ نتنــاول تفاصيلَــه بعمــقٍ وتفصيــلٍ ومتحيـ ٍ
عــى دراســتها وحســب. نجــد أ َّن الرتجم ـةَ -فعل ًّيــا -هــي مــن أكــر األمنــاط اللغويّــة
ٍ
تدريس ـص الرتجمـ ِة ينبغــي أن ُمُي ّهـ َد لــه مــن خــال
تخصـ َ
إ َّن ّ يل،تعقيـ ًدا ،رغــم أنّهــا قــد تبــدو غــر ذلــك يف ظاهرها الشـ ّك ّ
ـف لعــد ٍد مــن املــواد التأسيسـيّة التــي تؤهــل الطالــب مكثّـ ٍ حيــث مــا يـزال هنــاك مــن يظنــون أ َّن الرتجمـ َة قـرا ٌر يتخــذه
للوقــوف عــى أرضيّــة ُصلبـ ٍة تعوضــه عـ ّـا فاتــه خــال فــرة أحدهــم ليصبــح مرتجـ ًـا بــن عشـيّ ٍة وضحاهــا .وهــذا األمـ ُر
خاصـ ًة أ َّن مناه َجنــا املدرسـ ّية يف وطننــا
وجــوده يف املدرســةّ ، ـباب كثــر ٍة
ـأت مــن فـراغ ،بــل يعــود إىل أسـ ٍ -يف الواقــع -مل يـ ِ
العــر ّيب تعتمــد بنســب ٍة أو بأخــرى عــى الجوانــب التلقين ّيــة نــكاد نلمســها يف وطننــا العــر ّيب بشــكل عــام حتــى لــو كان
ي التفكــري التحليــ ّ
ّ وليــس عــى آليــات تطويــر املســتوى ـبي مــن بلــد إىل آخــر ،ولك ّنهــا يف هنــاك بعــض التفــاوت النسـ ّ
ـب آخــر ال ب ـ َّد أن يؤخــذ بعــن لــدى الطالــب .وهنــاك جانـ ٌ أي بلـ ٍـد عــر ٍّيب ،ويــأيت
املحصلــة النهائيــة ال يــكاد يخلــو منهــا ُّ
وخاص ـ ًة
ّ االعتبــار ،وهــو أ َّن خططنــا الدراس ـ ّية يف جامعاتنــا يف مقدمــة هــذه األســباب عــد ُم كفايــة آليــات تقنــن وضــع
التــي تُط ِّبــق نظــام اختيــار املــواد الدراس ـ ّية ،تفــرض عــى الرتجمــة دراس ـ ًّيا ومهن ًّيــا.
بتخصــص الرتجمة، الطالــب دراســة مــواد كثــرة ال عالقــة لهــا ّ إنَّنــا حــن ننظــر مليًّــا إىل واقـعِ الرتجمــة يف جامعاتنــا ،نجــد
فتكــون دراســة هــذه املــواد عبًــأ عليــه وتجــري عىل حســاب ـجأ َّن هنــاك الكثــر مــن الجوانــب الســلبيّة التــي تجعــل خريـ َ
تخصصــه .ويقــول الكثــرون حــن تحصيــل الطالــب يف ّ تخصــص تخصص ـاً دقي ًقــا أم ضمــن ّ الرتجمــة ســوا ًء أكانــت ّ
يحاولــون تســوي َغ وجــود العــدد الكبــر مــن املتطلبــات، اللغــة اإلنجليزيــة وآدابهــا ،ليــس يف املســتوى املطلــوب
إ َّن الطالــب بحاجــة إىل معرفــة ثقافيّــة عامــة يحصــل بالنســبة إىل الشــهادة التــي يحملهــا ،بــل عــى صعيــد
عليهــا مــن خــال املــواد العامــة التــي يدرســها كمتطلبــات املامرســة أيضً ــا .ويــأيت يف مقدمــة هــذه الجوانــب الســلبيّة
جامع ّيــة .والحقيقــة أ َّن كثـ ًرا مــن هــذه املــواد ميكــن دمجها تخصــص الرتجمــة ـس القبــول ورشوطــه التــي ال تعطــي ّ أسـ ُ
الرتجمــة ال يعنــي عــى اإلطــاق أ َّن األمــر قــد أصبــح تحــت بيــر وســهولة ،ةذلــك لنفســح املجــال لوجــود املــواد ذات
كل مــن توفّــر لديــه معجـ ٌم أصبــح ســيطرة الطالــب ،ولــو أ َّن َّ بتخصــص الرتجمــة؛ ومــن هنــا ،فــإ َّن الصلــة الجوهريّــة ّ
مرتجـ ًـا ،فإنَّــه ســيصبح لدينــا مئــاتُ اآلالف مــن املرتجمــن خططنــا الدراســية يف جامعاتنــا العرب ّيــة ،بحاجــة إىل إعــادة
ايس.تخصصهــم الــدر ّ حتــى لــو مل تكــن الرتجمـ ُة هــي مجــال ّ نظــر ليتــم الرتكيــز عــى املــواد التــي تســهم يف بنــاء قــدرة
ومــن املشــكالت التــي نواجههــا حــن نتنــاول واقــع الرتجمــة الطالــب ليتخــرج ُمرت ِجـ ًـا مؤهـ ًـا ملامرســة الرتجمــة يف ســوق
ـي املســتند ـاب الجانــب التنظيمـ ّ يف وطننــا العــريب ،هــو غيـ ُ العمــل بكفــاءة واقتــدار ،بعيـ ًدا عــن التنظــر الــذي ال يقــدم
ـات ممنهجــة ،حتــى ال تصبــح الرتجم ـ ُة مهن ـ َة لقوان ـ َن وآليـ ٍ وال يؤخــر.
مــن ال مهنــة لــه .إ َّن هنــاك عــد ًدا مــن دولنــا العربيــة ال وهنــاك ظاهــر ٌة أخــرى ينبغــي اإلشــارة إليهــا نظـ ًرا لوجودهــا
ي ـزال تطبيـ ُـق نظــام املرتجــم املعتمــد واملحلــف غائ ًبــا عــن يف الكثــر مــن جامعاتنــا وهــي أ َّن كثـ ًرا مــن الذيــن يعملــون
أوســاطها ،حتــى أنَّنــا يف كث ـرٍ مــن الحــاالت نجــد تداخـ ًـا عــى تدريــس الرتجمــة ،هــم يف الواقــع ليســوا مرتجمــن،
كب ـ ًرا يف مفهــوم املرتجــم املعتمــد .الكثــرون يخلطــون بــن فينطبــق عليهــم يف هــذه الحالــة القــول املأثــور "فاقــد
مفهــوم املرتجــم املعتمــد ومكتــب الرتجمــة املرخــص ،رغــم مرتجــا
ً مــدرس الرتجمــة
ُ الــيء ال يعطيــه" .حــن يكــون
أن الفــرق كبــ ٌر جــ ًّدا بــن املفهومــن .فمــن يحصــل عــى تطبيق ًّيــا ،فإنَّــه يف هــذه الحالــة يعطــي طلبتــه خالصــة
ترخيــص مــن الجهــات املعنيّــة لفتــح مكتــب ترجمــة، ـري ملــا لديــه مــن تجاربــه امليدانيــة ،وليــس مجــرد رس ٍد نظـ ٍّ
ال يعنــي أنَّــه معتمــد فن ًّيــا ومهن ًّيــا .إ َّن املرتجــ َم امل ُعتَمــ َد ـول املعـ ُ
ـروف بــأ َّن الرتجمــة معلومــات .وهــذا مــا يؤكّــده القـ ُ
هــو الــذي يجتــاز معايــر علم ّيــة تضعهــا جهــاتٌ مخ ّولــ ٌة علـ ٌم وفـ ٌن يف آن م ًعــا .وهــذا يعنــي أ َّن املرتجــم حتــى لو كان
قس ـ ُم مــن يجتــاز مــن الدولــة كاالختبــارات العامــة ،ثــم يُ ِ كاف بالجوانــب اللغويّــة النظريّــة ،إال إنَّــه ينبغي لديــه إملــا ٌم ٍ
تلــك االختبــارات قس ـ َم املرتجــم ،فيصبــح معتم ـ ًدا ومحل ًفــا أن تكــون لديــه قــدر ٌة فنيّـ ٌة لعــرض مــا يقــوم برتجمتــه عــى
باملفهــوم الســليم املتعــارف عليــه دول ًّيــا .إ َّن هــذا اإلج ـرا َء جــااًل نوع ًّيــا ملــا يقــوم برتجمتــه.
ً فنــي يضيــفمســتوى ٍّ
مــن شــأنه أن ينظّــم املهنــة بشــكل يضمــن نســ ًبة عال ًّيــة وهنــا تجــدر اإلشــارة إىل أ َّن نظــام االمتحانــات يف كثــر مــن
مــن الدقــة ،ويبعــد عنهــا املتطفلــن عليهــا حتــى لــو كان جامعاتنــا العرب ّيــة ال يقيــس قــدرات الطالــب الحقيق ّيــة،
علمــي ال يعكســه واقعهــم فنيًّــا ومهنيًّــا، ٌّ مؤهــل
ٌ لديهــم خاصــ ًة أ َّن كثــ ًرا مــن املدرســن يلجــأون إىل آليــة إبــاغ ّ
فنحــن نالحــظ أ َّن عــد َد الذيــن ميارســون الرتجمــة يف عاملنــا نصــوص ســبق لهــم ٍ الطلبــة أ َّن االمتحــان ســيحتوي عــى
العــريب كبـ ٌر جـ ًّدا ،ولكــن مســتوى عملهــم وأدائهــم تنقصــه ـوص مل يســبق لهــم دراســتها، دراســتها خــال الفصــل ،ونصـ ٍ
ـاب آليــات ضبــط املهنــة تــرك الدقــة وجــودة األداء؛ أل َّن غيـ َ وهــذا يجعـ ُـل جهــو َد الطلبــة منص ّبـ ًة عــى حفــظ عــد ٍد مــن
البــاب مفتو ًحــا أمــا َم كل مــن يريــد مامرســة املهنــة ســواء النصــوص غيبًــا اســتعدا ًدا لالمتحــان .وهنــاك تطبيـ ٌـق ســلويكٌّ
مؤهــا لهــا أم غــر مؤهــل .ومــا ســاعد عــى هــذا ً كان آخــر نلمســه يف كثــر مــن جامعاتنــا يف عاملنــا العــر ّيب ،وهــو
الوضــع ،تطــو ُر برامــج الرتجمــة اآلل ّيــة التــي أصبحــت يف من ـ ُع الطلبــة مــن اســتخدام املعاجــم ،مــع أ َّن املعجــم هــو
خاصــ ًة أ َّن
متنــاول يــد الجميــع دون حســيب أو رقيــبّ ، ـاح املــرو ُع للمرتجــم ،واســتخدا ُمه مــن قبــل طالــب السـ ُ
أفكار /ملف العدد 11
املظلــ َة الكــرى التــي تســتظل بهــا جمعيــاتُ وروابــ ُط مــن يطلــب الرتجمــة ليســت لديــه امللكــة اللغويــة لتقييــم
التعامل
َ الرتجمــة يف البلــدان العربيــة ،بحيــث يتــوىل االتحــا ُد الرتجمــة ومعرفــة مــدى صحتهــا ودقتهــا.
مــع الجهــات األجنبيّــة كممثــلٍ لجميــع البلــدان العربيّــة. إنَّنــا مــن دون أدىن شــك بحاجــة إىل هيئــات تنظيميّــة ملهنــة
وكان مــن املنتظــر أن يتــوىل االتحــا ُد اإلرش َاف عــى مــا يت ـ ُّم الرتجمــة عــى مســتوى الوطــن العــر ّيب مبجملــه ،وليــس
ترجمتُــه يف مختلــف الــدول العربيــة مــن أعــا ٍل جوهريّــة فقــط يف الــدول العربيــة بشــكلها املنفــرد .وتجــدر اإلشــارة
مثــا ،وإيصالهــا إىل مختلــف دول العــامل عــى كاألدب ً يف هــذا الصــدد إىل أنَّنــا ال نلمــس وجــو ًدا التحــاد املرتجمــن
ـاج عــر ٌّيب عــام وليــس نتــاج دولــة عربيّــة بشــكلها أنَّهــا نتـ ٌ تأسيســه يف بــروت يف بدايــة العــام ،2002 ُ العــرب الــذي تـ َّم
املنفــرد ،حتــى نظهــر أمــام اآلخريــن بــأ َّن لدينــا الكثـ َر مــن تنظيمــي يف
ٌّ وكان يُنتظــر مــن االتحــاد أن يكــون لــه دو ٌر
خاصــة أنّــه األعــال التــي تعكــس نشــاطًا عرب ًّيــا مو ّح ـ ًداّ ، توحيــد نشــاط الرتجمــة عــى مســتوى الوطــن العــر ّيب،
مــن الواضــح أن مــا تتــم ترجمتــه مــن أعــال أجنبيــة إىل لك َّننــا لألســف ال نلمــس وجــوده مــن خــال املامرســات
اللغــة العربيــة ،يفــوق بكثـرٍ مــا تتــم ترجمتــه مــن أعــال املؤسســن لالتحــاد كانــوا ميثلــون الفنيّــة التنظيميّــة ،رغــم أ َّن ّ
عربيّــة إىل اللغــات األخــرى ،وهــذا يجعلنــا ال نــرى اهتام ًمــا تأســيس
ُ مختلــف الــدول العربيّــة .وك ّنــا نأمــل حــن تــ َّم
ـرون عامل ًّيــا مبــا لدينــا مــن أعــال ،ألنَّنــا يف واقــع الحــال ُمقـ ِّ كل دول ـ ٍة عرب ٍّيــة ليكــون االتحــاد أن يكــون لــه ممثلــون يف ِّ
وخاصــةّ يف إيصــال مــا لدينــا مــن إنجــازات إىل اآلخريــن،
يف مجــال األعــال األدبيّــة واألعــال التــي تعكــس الواقــع
الثقــا ّيف العــر ّيب.
ومــن األمــور التــي ينبغــي أن نأخذهــا بعــن االعتبــار عنــد
الحديــث عــن توحيــد الجوانــب التنظيم ّيــة للرتجمــة ،هــو
غيــاب الجهــود التــي ينبغــي أن تــؤدي دو ًرا أساســيًّا يف ُ
توحيــد املصطلحــات عنــد الرتجمــة مــن اللغــات األجنبيّــة
علمــي مــن ٍّ إىل اللغــة العرب ّيــة .فلــو متــت ترجمــ ُة عمــلٍ
اإلنجليزيّــة إىل العرب ّيــة مــن قبــل مرتجمــن مختلفــن يف
ِ
الرتجــات عــدة دول عربيــة ،فــإ َّن القــارئ قــد يشــعر أ َّن
ال تتفــق متا ًمــا مــن بلــد عــريب آلخــر ،وكأ َّن الرتجمــة ليســت
خاصــة يف اختالفــات كثــر ًة ّ ٍ للعمــل ذاتــه ،ألنَّــه ســيجد
معــاين املصطلحــات التــي تحتمــل أك ـ َر مــن معنــى حتــى
لــو كانــت املعــاين املســتخدمة كلّهــا صحيحــة وســليمة .وقــد
ـرح مســألة إيجــا ِد معجــمٍ عــر ٍّيب م ّوحـ ٍـد للمصطلحــات تــم طـ ُ
العلم ّيــة عــدة مـرات ويف مناســبات مختلفــة ،إال إ َّن املــروع
مكتب تنســيق ُ مل يــر النــور ،وال يـزال األمــل قامئًــا بــأن يتــوىل
12
حتــى يصــل وض ـ ُع الرتجمــة يف الوطــن العــريب إىل املســتوى تحقيــق هــذا اإلنجــاز بالتعــاون مــعَ التعريــب يف الربــاط
الــذي نتمنــاه ونتــوق إليــه جمي ًعــا .كــا أ َّن الجامعــات خاصــة يف مجامــع اللغــة العربيــة نظـ ًرا للحاجــة امللحــة لــهّ ،
واملؤسســات التعليميــة أيضً ــا ميكنهــا أن تــؤدي دو ًرا حيويًّــا عــر تطـ ّور العلــوم والتكنولوجيــا ،حيــث ال يــكاد ميـ ُّر يــو ٌم
الخاصــة
ّ ٍ
آليــات للتقــارب يف برامجهــا التعليم ّيــة يف إيجــاد مــن دون دخــول مصطلحــات جديــدة ،ســيكون توحي ُدهــا
ـادل للخ ـرات بالرتجمــة ،وميكــن أيضً ــا أن يكــون هنــاك تبـ ٌ أم ـ ًرا يُس ـ ِّهل مهمــة املرتجمــن يف مختلــف الــدول العربيّــة،
بحيــث تســتفيد املؤسســات مــا تنجــزه يف مجــاالت معرفيــة كــا أنَّــه يســ ِّهل مهمــة الدارســن يف الجامعــات العربيّــة
ســيصب يف النهايــة يف املصلحــ ِة
ُّ مختلفــة ،وهــذا بالتأكيــد حــن يجــدون أ َّن لديهــم مرجع ًّيــة مو ِّحــ ًدة للمصطلحــات
العامــة لتلــك املؤسســات وطلب ِتهــا والعاملــن فيهــاّ ،
خاص ـ ًة التــي يدرســونها يف جامعاتهــم أو يحتاجونهــا يف مجاالتهــم
ـي جعــل األمــور التنســيقيّة يف غايــة أ َّن التط ـ ّو َر التكنولوجـ َّ العلميّــة املختلفــة.
اليــر والســهولة ،وهــذا بالطبــع مل يكــن متوف ـ ًرا يف عــر إ َّن واقــع الرتجمــة وجهــود املرتجمــن يف عاملنــا العــريب
مــا قبــل التكنولوجيــا. كل الجهــات يقضيــان بــرورة وجــود تنســيقٍ متواصــلٍ بــن ِّ
هيئــات أم منظــات، ٍ ات أم املعنيــة ســواء أكانــت وزار ٍ
أفكار /ملف العدد 13
مقدمة
متخصصــة يف املجــاالت الطبيّــة والهندس ـيّة ّ أي ترجم ـ ٍة إىل ِّ تــزدا ُد أهميّــ ُة الرتجمــة يف عرصنــا الحــايل الــذي يشــهد
والزراعيّــة وعلــوم الحاســوب وغريهــا الكثــر (الحســييك، العلمــي ووســائل االتصــال.
ّ ات ماراثونيًّــة يف التطــ ّورقفــز ٍ
. )77 :1999وقــد بقيــت الرتجمـ ُة العلم ّيــة والتقن ّيــة محـ َّـل وت ُعــ ُّد الرتجمــ ُة العلم ّيــة امليــدا َن األهــم يف هــذا التو ّجــه
مناقشــات ومناظــرات كثــرة يف مجــال نظريــات الرتجمــة ٍ كــون العــر الحــايل يتميــز بأنَّــه عــر املنافســة الرشســة
ـب انطالقًــا مــن مفهــوم أ َّن الرتجمــة التقنيّــة والعلميّــة تتطلـ ُ يف مجــال التكنولوجيــا والصناعــة والعلــوم التقنيّــة األخــرى.
ـص ترجم ـ ًة مبــارشةً؛ أساســها الدرايــة الدقيقــة مبفهــوم النـ ِّ وقــد أدى هــذا التو ّجــه املعــارص إىل زيــادة العــبء الكبــر
ـي ونقلهــا مبــا يقابلهــا بشــكل مبــارش إىل اللغــة الهــدف، التقنـ ّ عــى كاهــل املرتجــم ملواكبــة هــذا التطــور مــن خــال تطوير
عــى خــاف الرتجمــة األدب ّيــة والفلســف ّية التــي تحتــاج إىل إمكانياتــه الذات ّيــة يف املجــال املهنــي .كــا أنّــه يضيــف عبئًــا
جزالــة األســلوب للتعبــر عــن الفكــرة نفســها والبحــث عــا عــى املجامــع اللغويّــة واملؤسســات املعنيّــة بــرورة مواكبة
أســاليب بليغــ ٍة يف اللغــة الهــدف .والرتجمــ ُة َ يقابلهــا مــن هــذا التطـ ّور واللحــاق بــه وإيجــاد الوســائل الكفيلــة لذلــك.
ـص العلم ّيــة باختصــار نــو ٌع مــن الرتجمــة يكــون فيهــا النـ ُّ وعليــه رشعــت هــذه الدراســة بتنــاول طبيعــة الرتجمــة
ي نفســه بحســب النــص األصــ ّ
ِّ املرت َجــ ُم بجــود ٍة ودقــة العلم ّيــة والتقن ّيــة ،وطرقهــا ووســائل إيصالهــا ،مــع الرتكيــز
املوســوعة الربيطانيّــة يف تعريــف الرتجمــة العلميّــة .غــر أن عــى الرتجمــة مــن اإلنجليزيّــة إىل العربيّــة حيــث ت ُعــ ُّد
"جمبلــت" ( )36-33 :1988يــرى العكــس صحي ًحــا ،فهــو يرى والتقنــي املتســارع
ّ العلمــي
ّ رضور ًة مل ّحــ ًة كــون التقــدم
تتطلــب الدقــ َة يف تحديــد املصطلــح ُ أ َّن الرتجمــة العلم ّيــة ـدول واملؤسســات بشــكل كبــر يف وقتنــا الحــارض تقــوده الـ ُ
لخطــورة تبعــات الخطــأ فيــه ،أو انحرافــه عــن املقصــود، الناطقــة باإلنجليزيّــة ،مــا يحتّــم عــى املؤسســات الرتجم ّيــة
ـي الــذي يتطلــب فهمــه ـص التقنـ ِّ باإلضافــة إىل خصائــص النـ ِّ واملجامــع اللغويّــة العربيّــة رضورة اللحــاق بهــذا الركــب
املحافظــة عــى النســق العــام لهــذا النــوع مــن النصــوص. ومواكبــة التطــورات الحاصلــة.
يعــ ِّر ُف املســدي (غزالــة )1995 ،املصطلــح عــى أنّــه
ي األول، بالغــي مــزروع يف ثنايــا النظــام التواصــ ّ ٌّ "نظــا ٌم طبيع ُة الرتجمة العلم ّية والتقن ّية
وتســميّ ٌة فنيّــ ٌة تتوقــف عــى دقتهــا ووضوحهــا معرفــة "تقنــي" بشــكلٍ متبــادل
ّ "علمــي" و
ّ يُســتخدم مصطلحــا
األشــياء والظواهــر ،بســيطها ومركبهــا ،ثابتهــا ومتغريهــا. لإلشــارة إىل املحتــوى نفســه ،وقــد حـ َّـل مصطلــح "ترجمــة
وهــو بهــذا املعنــى يســتطيع أن ُمُيســك بالعنــارص األساسـ ّية تقن ّيــة" (( Technical Translationمبعنــاه الشــامل ليشــر
شــائعة جن ًبــا إىل جنــب مــع الرتجمــة املبــارشة ،بــل إ َّن ـي
ـب لفظـ ٍّاملوحــدة للمفهــوم ،ويتم ّكــن مــن تأطريهــا يف قالـ ٍ
ـاالت أخــرى نجــد الكفــة متيــل لهــا يف أحيــان كثــرة .ويف حـ ٍ ميتلــك قــوة تســتطيع تجميــع وتكثيــف مــا يبــدو مشــتتًا".
أن املرت ِجــم مييــل إىل اســتخدام النقــل الحــر ّيف عــى حســاب ـص العــام باحتوائــه عــى املتخصــص عــن النـ ِّ
ّ ـص
ويتميّــز النـ ُّ
ترجمــي
ٍّ الرتجمــة املبــارشة بالرغــم مــن وجــود مكافــئ متخصصــة تحتــاج إىل ثقافــة موســوعيّة يف حقــل ّ معلومــات
مبــارش لهــا؛ مــا يــؤدي إىل ضمــور املكافــئ واســتخدام االختصــاص تفــوق الثقافــة العامــة .كــا يتم ّيــز هــذا النــوع
البديــل ،مثــل مصطلــح " "calcium hydroxideالــذي شــاع مــن النصــوص مبجموعــة مــن األســاليب اللغويّــة واملعجم ّيــة
مقابلــه العــريب "هيدروكســيد الكالســيوم" عــى حســاب للمتخصــص وضبابيــ ًة للمرتجِــم غــر ّ تكــون واضحــ ًة
املكافــئ العــريب "الجــر املطفــي". ـص أو صاحــب الثقافــة واالطــاع املتواضعــن .وتشـكّل املختـ ِّ
ومــن املســائل األخــرى التــي زادت يف تعقيــد مشــهد املصطلحــاتُ العلم ّيــ ُة العقبــ َة األبــرز أمــام املرتجمــن يف
الرتجمــة املبــارشة هــو تداخــل اللهجــات التــي عكســت يف نقلهــا إىل اللغــة الهــدف ،وتــزداد عمليــة الرتجمــة تعقي ـ ًدا
أحيــانٍ كثــرة تأثرهــا باللغــات التــي ترتجــم عنهــا .فالعالَ ـ ُم العلمــي.
ّ بازديــاد املصطلحــات العلميّــة واملحتــوى
العــر ُّيب ينقســم لُغويًّــا إىل دول املــرق العــريب التــي تأثــرت
باإلنجليزيّــة يف املقــام األول وعكســت ذلــك يف ترجمتهــا العلمي من اإلنجليزية إىل
ّ طرق ترجم ِة املصطلح
ُ
للمصطلحــات العلم ّيــة ،ودول املغــرب العــر ّيب التــي عكســت العربية.
تأثرهــا باللغــة الفرنس ـيّة باعتبارهــا نتا ًجــا طبيعيًّــا لحقبــة
ُ
املقــال مســ ًحا ألهــ ِّم الطــرق املســتخدمة يف ُ
يتنــاول هــذا
االســتعامر .فنجــد عــى ســبيل املثــال أ َّن دول الــرق
العلمــي مــن اإلنجليزيّــة إىل العرب ّيــة.
ّ ترجمــة املصطلــح
األوســط العرب ّيــة تســتخدم كلمــة " "nitrogenذات األصــل
ـبب وراء تبنــي الرتجمــة أحادي ـ َة االتجــاه مــن ويكمــن السـ ُ
ـزي وترتجمهــا حرف ًّيــا باســتخدام مصطلــح "نرتوجــن"، اإلنجليـ ّ
اإلنجليزيّــة إىل العرب ّيــة هــو أ َّن واقــع الحــال يشــر إىل أ َّن
يف حــن أ َّن دول املغــرب العــر ّيب تســتخدم الكلمــة الفرنســية
العالَــم الناطــق باإلنجليزيّــة هــو مــن يقــوم باالبتــكارات
" "Azoteوتنقلهــا حرفيًّــا إىل "آزوت" .وبعيــ ًدا عــن التأثــر
العلم ّيــة وإطــاق املســميات ،بينــا يقــوم العالَ ـ ُم العــر ُّيب
ـوي يف املغــرب بلغــات مختلفــة ،فــإ َّن اختـ َ
ـاف التو ّجــه اللغـ ّ
بــدور املســتقبِل ،وإيجــاد مكافئــات مناســبة للتســميات
العــر ّيب ونظــره يف املــرق العــر ّيب يــؤدي دو ًرا كبــ ًرا يف
اإلنجليزيّــة.
ـي نفســه ،فكلمــة ـات مختلفــة للمصطلــح التقنـ ّ إنتــاج ترجـ ٍ
"- "clutchعــى ســبيل املثــال -تُرتجــم إىل "جهاز تعشــيق" يف
املــرق العــر ّيب ،يف حــن أنَّهــا تُرتجــم إىل "واصــل" يف املغرب،
.1الرتجم ُة املبارش ُة
تُش ـ ُر عبــارة الرتجمــة املبــارشة يف مجــال الرتجمــة العلميّــة
اإلنجليــزي " "gravityيُرتجــم إىل "جاذب ّيــة" يف
ّ واملصطلــح
ترجمــي مبــارش يف
ّ إىل الحالــة التــي يوجــد فيهــا مكافــئ
دول املــرق العــر ّيب ،بينــا ترتجمهــا دول املغــرب العــر ّيب
العرب ّيــة .عــى ســبيل املثــال " "alumلهــا مكافــئ عــر ٌّيب
إىل "ثقــل" ،ومصطلــح " "powerيُرتجــم إىل "قــدرة" يف دول
وهــو "الشــب" و"" "ammoniaالنشــادر" بالرغــم أ َّن األخــر
املــرق العــر ّيب ،بينــا يُرتجــم إىل "قــ ّوة" يف دول املغــرب
قــد يُرتجــم بطريقــة النقــل الحــر ّيف" :أمونيــا" ،وهــي ترجمـ ٌة
العــر ّيب .كــا نجــد تأثــر اللهجــات ضمــن التقســيم الجغـرا ّيف
16
التواصــل .غــر أ َّن اللغــة العرب ّيــة تتميــز بنــدرة اســتخدامها نفســه ،فهنــاك مكافئــات مختلفــة للمصطلــح نفســه
بــداًل مــن ذلــك إىل رشح االختصــار لالختصــارات ومتيــل ً اإلنجليــزي
ّ متأثــرة باللهجــة املحل ّيــة الســائدة ،فاملصطلــح
(نيومــارك.)1988 ، " "carburetorعــى ســبيل املثــال يُرتجــم إىل "مكريــن" يف
ـزي (WHO: فنجــد عــى ســبيل املثــال أ َّن االختصــار اإلنجليـ ّ لبنــان ،بينــا يســتخدم مصطلــح "مبخــر" يف العراق؛ لإلشــارة
)World Health Organizationيُرتجــم يف العرب ّيــة إىل إىل املصطلــح نفســه.
"منظمــة الصحــة العامل ّيــة" واالختصــار (MRI: magnetic وقــد التفتــت املجامــ ُع اللغويّــ ُة العرب ّيــ ُة (مجمــع اللغــة
)resonance imageيُرتجــم إىل "التصويــر بالرنــن تأســس عــا َم ،1919ومجمــع اللغة العربيــة يف دمشــق الــذي ّ
املغناطيــي" .كــا تــؤدي اللهجــات هنــا دو ًرا ســلبيًّا، تأســس عــام ،1934واملجمــع العربيّــة يف القاهــرة الــذي ّ
ففــي الوقــت الــذي نجــد فيــه دول املــرق العــريب ترتجــم تأســس عــام ،1948ومجمــع اللغــة ـي الــذي ّ ـي العراقـ ّ
العلمـ ّ
االختصــارAIDS: Acquired Immune Deficiency تأســس عــام ،1980ومجمــع بيــت العرب ّيــة يف عــان الــذي ّ
) )Syndromeحرفيـاً إىل "إيــدز" ،فــإن دول املغــرب العــر ّيب تأســس عــام )1983باإلضافــة إىل الحكمــة يف تونــس الــذي ّ
تتبنــى املصطلــح "ســيدا" لإلشــارة إىل املصطلــح اإلنجليــزي الكليــات واألقســام املعنيّــة باللغــة العربيّــة يف الجامعــات
نفســه .ويف بعــض األحيــان نجــد أ َّن ترجمــة املصطلــح والتوســع
ّ إىل هــذه اإلشــكاليات ،وحاولــت مواكبــة التطــور
بتفكيكــه إىل الكلــات التــي يتكــون منهــا االختصــار تكــون يف نقــل املصطلحــات العلميــة األجنب ّيــة إىل العرب ّيــة ووضــع
غــر كافيــة ،ذلــك أ َّن االختصــار نفســه يحمــل أكــر مــن الحلــول الناجعــة لهــا .وأدت الجهــو ُد التــي بذلتهــا تلــك
داللــة ،وهنــا ال بــ َّد مــن االعتــاد عــى الســياق ليكــون املؤسســاتُ إىل تأســيس "مكتــب التنســيق والتعريــب" يف ّ
عامـ ًـا مســاع ًدا يف فهــم االختصــار ،وبالتــايل ترجمتــه ،عــى املغــرب عــا َم ( )1961الــذي نجــح إىل حـ ٍّد بعيــد يف توحيــد
ســبيل املثــال (FMD: Family Medical Doctor / Foot ـوس ثــا ٍّيث (إنجليزي-فرنيس-عــريب) ،غــر الجهــود وجمــع قامـ ٍ
" )and Mouth Diseaseطبيــب العائلــة | أمــراض الفــم أ َّن ضعــف الت ـزام املرتجمــن باملصطلحــات الــواردة يف هــذا
والقــدم". القامــوس؛ باإلضافــة إىل تعـ ّـر جهــود تحديثــه ،أديــا إىل أن
يفقــد أهميتــه (إليــاس.)1989،
.3الرتجم ُة باالستعارة أو النقل الحريفّ
تُعــ ُّد الرتجمــ ُة باالســتعارة " "loan translationأو النقــل .2ترجم ُة االختصارات
الحــر ّيف " ،"transliterationوتُســ ّمى -أيضً ــا" -الحرفنــة تُع ـ ُّد االختصــاراتُ ( )abbreviations and acronymsمــن
أو النقحــرة" ،مــن أكــر الطــرق شــيو ًعا يف نقــل املصطلــح أكــر األنــواع اللغويّــة التــي ت ُســتخدم يف تســمية املصطلحات
العلمــي مــن اإلنجليزيّــة إىل العرب ّيــة .ويتــ ُّم هــذا عــن
ّ ـكااًل يف الرتجمــة إىل العرب ّية.
العلم ّيــة اإلنجليزيّــة وأكرثهــا إشـ ً
بديــا عــن
ً طريــق اســتعامل الحــروف العربيّــة لتكــون إ َّن شــيوع االختصــارات يف اللغــة اإلنجليزيّــة لهــا ســم ٌة
الحــروف اإلنجليزيّــة حرفًــا بحــرف مــا أمكــن. تاريخيٌّــة اعتــادت عليهــا اللغــ ُة ومســتخدموها ،هدفهــا
واألمثلـ ُة عــى هــذا كثــرةٌ ،نــورد هنــا بعضً ــا منها عىل ســبيل األســاس االختصــار يف اللفــظ وتوفــر املســاحة يف الكتابــة؛
املثــال ال الحــر "malaria" :إىل "مالريــا" و "”choleraإىل ذلــك أ َّن اللغــة متيــل إىل أبســط الطــرق وأقرصهــا يف تحقيــق
أفكار /ملف العدد 17
شــاماًل إال
ً وســع املجتمــع أن ينمــو تربويًّــا وثقاف ًّيــا منــ ًوا "كولـرا" و" "hemoglobinإىل "هيموغلوبــن".
بتلــك اللغــة التــي هــي مبثابــة املحــرك اإلمنــا ّيئ الحقيقــي. ـض املتغـرات مثــل العوملــة ورسعــة النقــل عــى ســاعدت بعـ ُ
وبغــر ذلــك فإنَّــه ال يعــدو أن يعيــش عــى القشــور". شــيوع هــذه الطريقــة مــن الرتجمــة .وبالرغــم مــن شــيوعها
وعليــه فقــد دعــا أنصــا ُر املحافظــة عــى اللغــة العربيّــة إىل ـض العقبــات فــإ َّن هــذه الطريقــة مــن الرتجمــة واجهــت بعـ َ
ـي للمصطلــح اتّبــاع طــرقٍ محــدودة لتوليــد املكافــئ الرتجمـ ّ متثّلــت يف وجــود أكــر مــن طريقــة لنقــل بعــض الحــروف
ـي ،وركّــزوا عــى ثــاث طــرقٍ رئيســة إليجــاد املكافــئ األجنبـ ّ اإلنجليزيّــة التــي تفتقــر لوجــود مكافــئ لهــا يف النظــام
للمصطلحــات التــي ال توجــد لهــا مكافئــات ترجميّــة يف الصــويتّ العــر ّيب ،مثــل حــرف " "gالــذي ميكــن ترجمتُــه إىل
ُ
االشــتقاق واملجــا ُز ُ
الطــرق هــي: اللغــة العربيّــة ،وهــذه "غ" و "ج" و"ق" ،وحســب تأثــر اللهجــة يف النظــام الصــويتّ
ـلف ـت؛ وهــي الطــرق نفســها التــي اعتمــد عليهــا السـ ُ والنحـ ُ العلمــي" "Myoglobinعــى ســبيل ّ العــر ّيب .فاملصطلــح
يف وضــع املصطلــح .ونســتعرض يف هــذا املبحــث الطــرق املثــال ميكــن ترجمتــه إىل "ميوغلوبــن" أو "ميوجلوبــن" أو
الثــاث بشــكلٍ مختــر. "ميوقلوبــن".
ُ
االشتقاق 1.4 موقف أنصار املحافظة عىل اللغة العرب ّية من
ُ .4
تتم ّيــز اللغــ ُة العرب ّيــ ُة بكونهــا لغــ َة اشــتقاق ،تتولّــد العلمي ترجمة املصطلح
ّ
ألفاظهــا بعضهــا مــن بعــض ،كونهــا لغ ـ ًة توليديّــة يف املقــام
املباحــث الســابق ِة تبايــ َن التو ّجهــات يف ترجمــة
ِ تناولنــا يف
األول وليســت لغــ ًة إلصاقيًّــة كــا هــو الحــال مــع اللغــة
ـص املرت َجــم.
ـي ،وتأثــر هــذا التبايــن يف النـ ّ املصطلــح العلمـ ّ
اإلنجليزيّــة .وتعتم ـ ُد عملي ـ ُة االشــتقاق عــى أوزانٍ رصف ٍّيــة
يتنــاول املبحــثُ الحــا ُّيل تو ّج ًهــا آخــر يف ترجمــة املصطلــح
محــددة ،وهــي " ِمفعــال" مثــل " ِمنشــار و ِمثقــاب و ِمح ـرار"
العلمــي ،ناب ًعــا مــن آراء املؤيديــن للمحافظــة عــى ّ
و"ف ّعالــة" مثــل "نفّاثــة وغ ّواصــة" و"ف ّعــال" مثــل "ج ـ ّرار"،
ســامة اللغــة العربيــة .يقــول محمــد الديــداوي( http://
و"فاعلــة" مثــل "طائــرة وناقلــة وحادلــة".
watajournal.com/mag2/archive/1/Researches/1.
العلمــي
ُّ )htmlيف هــذا الصــدد" :لــن يرتقــي املســتوى
4.2املجا ُز
أي مجتمــع مــن املجتمعــات ،مــا مل ميتلك ذلك ـي يف ّ
والتعليمـ ُّ
يُعــ ّر ُف "املجــاز" عــى أنّــه إضافــة داللــة جديــدة لكلمــة
املجتمـ ُع زمــا َم العلــم ،ويطـ ّور لغــة تعليمــه وبحثــه القوميــة
قامئــة" ،ويســ ّمى بالتمــ ّدد الــدال ّيل يف مصطلحــات علــم
التــي هــي األقــرب إليــه وإىل وجدانــه ،بحيــث يقــدر عــى
الداللــة الغــر ّيب" .وقــد دعمــت املجامــع اللغويّــة العرب ّيــة
ـاري
متابعــة مــا يســتج ُّد يف املضــار املعــر ّيف والثقــا ّيف والحضـ ّ
هــذا التو ّجــه يف صياغــة املصطلحــات املكافئــة للمصطلحــات
وعــى التبليــغ ،ذلــك أ َّن اللغــة القوم ّيــة هــي األقــد ُر عــى
األجنبيّــة؛ كونــه يحافــظ عــى ال ـراث ويغنيــه مــن خــال
أساســا ،مــع االســتعانة باللغــات
القيــام بهــذا الــدور اإلمنــا ّيئ ً
اإلضافــة .وتعتمــد هــذه الطريق ـ ُة عــى مبــدأ التشــابه بــن
األجنب ّيــة لألخــذ عــن املجتمعــات األخــرى واالســتفادة مــن
املدلــول يف اللغــة املرت َجــم إليهــا وذلــك املوجــود يف اللغــة
تقدمهــا ومعارفهــا يف إطــار رؤيــة واضحــة .ولــن يكــون يف
متغــر ٌة مــن حيــث
ّ املرت َجــم منهــا .فالكلــاتُ بطبيعتهــا
18
اللغويّــة ال متيــل إىل تبنيهــا؛ كونهــا ال تتبــع املي ـزان الــر ّيف ـوالت جديــد ٍة تدخــل ح ّيــز االســتعامل وأخــرى اكتســاب مدلـ ٍ
العــر ّيب بشــكل يحافــظ عــى اللغــة العرب ّيــة .ورغــم تصبــح طــي النســيان ،ومبــرور الزمــن وكــرة االســتخدام
ـت نــاد ًرا يف املــايض؛ ولهــذا أجازتــهقدمــه ،فقــد كان النحـ ُ ي للكلمــة. تصبــح الداللــ ُة الجديــد ُة هــي املعنــى األصــ ّ
ـص الحاصــل يف املجام ـ ُع اللغويّ ـ ُة عنــد الــرورة لس ـ ِّد النقـ ّ فــا أحــد ،عــى ســبيل املثــال ،يســتخدم كلمــة "دبابــة"
املصطلحــات العرب ّيــة عنــد تعــذر ترجمتهــا بطريقــة أخــرى. يف عرصنــا الحــايل للداللــة عــى الحيوانــات الســائرة ،وإمَّنَّ ــا
وقــد اســتفاض مجمـ ُع اللغــة العرب ّيــة يف القاهــرة يف دراســة حــري للداللــة عــى اآللــة العســكرية ٍّ تُســتخدم بشــكلٍ
"النحــت" وخــرج بق ـرا ٍر "يجــوز النحــت عندمــا تلجــأ إليــه ـدل عــى املســافة بــن " ،"tankكــا أ َّن "الربيــد" مل يعــد يـ ُّ
الــرورة العلميّــة" (مجمــع اللغــة العربيــة ،مجموعــة ـدل عــى الصــوت الــذي يُســمع دون منزلــن ،والهاتــف ال يـ ُّ
القــرارات العلميــة ،القاهــرة ،1963 ،ص .)9وعــى ســبيل أن يُــرى صاحبــه ،و"الســيارة" ال تعنــي "قافلــة" ،وإمَّنَّ ــا تشــر
املثــال تشـكّلت كلمــة "الزمــكان" بطريقــة النحــت "الزمــان هــذه املصطلحــات إىل املعنــى الــذي اكتســبته مــن خــال
الرتجمــي ملصطلــح "space- ّ +املــكان" لتكــون املكافــئ يل أو االســتعامل مــع اختفــاء املعنــى األصــي بشــكلٍ ك ّ
ـح قب ـو ًاًل واس ـ ًعا وال ي ـزال
،"timeوقــد القــى هــذا املصطلـ ُ يل .غــر أ َّن هــذه الطريقــ َة مــن ترجمــة املصطلــح شــبه ك ّ
قيــد االســتخدام ،بينــا مل تلـ َـق مصطلحــاتٌ منحوتٌــة أخــرى تعــاين -أيضً ــا -مــن بعــض املشــاكل تكمــن يف عــدم مواكبتهــا
ـي مثــل "حمقــي" "حمــض +قلــوي" ليكــون املكافــئ الرتجمـ ّ للتطــور الحاصــل يف بعــض املصطلحــات ،فكلمــة "هاتــف"
العلمــي " "amphotericالقبــول والشــيوع ّ للمصطلــح عــى ســبيل املثــال مل تعــد كافيــة لإلشــارة إىل التطــ ّور
نفســه. التقليــدي
ّ فالهاتــف مبعنــاه
ُ الحاصــل يف هــذا املجــال،
تط ـ ّور كث ـ ًرا وأصبــح محم ـو ًاًل ويحتــوي عــى آلــة تصويــر،
بعــض طــرق ترجمــةوأخــ ًرا ،لقــد تناولــت هــذه املقالــ ُة َ نقــل حــر ٌّيف للمصطلــح وحلّــت كلمــة "موبايــل" ،وهــي ٌ
العلمــي ،كــا أشــارت إىل العشــوائيّة وغيــاب ّ املصطلــح أي اإلنجليــزي " ،"mobileوهــي الشــائعة اآلن؛ مــا يجعــل ّ
املرجعيّــة املركزيّــة يف ترجمــة املصطلحــات واعتامدهــا؛ تو ّجــه لتغيــر املفــردة املســتخدمة محكــوم عليــه بالفشــل
مــا أدى إىل تش ـتّ ٍت يف املعــاين واالســتخدام تب ًعــا للهجــات والالواقعيــة .ويبقــى املجــازُ -بالرغــم مــن ذلــك -أحـ َد أهــم
واللغــات املصــادر واالجتهــادات الشــخص ّية .لذلــك كان ال طرائــق تســمية املصطلحــات الجديــدة ،كــا يــرى "جميــل
ب ـ َّد مــن وقف ـ ٍة جــادة مــن املرتجمــن واللغويــن ،ومجامــع املالئكــة" الــذي يقــول" :أ َّمــا مجــال توســيع معنــى اللفــظ
املختصــة لتوحيــد
ّ واملؤسســات
ّ اللغــة العربيــة والهيئــات العــر ّيب بالخــروج مــن حقيقتــه إىل املجــاز ،فــكان ومــا زال
ـس ســليم ٍة وواحــد ٍة يف ترجمــة
الجهــود يف عمليــة وضــع أسـ ٍ مــن أوســع األبــواب يف اللغــة العرب ّيــة" (يحيــى جــر ،مجلــة
املصطلحــات العلم ّيــة والتقن ّيــة. اللســان العــريب ،العــدد ،36ص.)131
النحت
ُ 4.3
ـت يُع ـ ُّد أح ـ َد أقــدم الطــرق لتشــكيل
بالرغــم مــن أ َّن النحـ َ
مفــرد ٍة جديــد ٍة مــن مفردتــن أو أكــر ،فــإ َّن املجامــ َع
أفكار /ملف العدد 19
ترجم ُة الشعر
بني املمكن واملستحيل
د .خالد عبدالله الشيخيل*
وهــا يف
ً "فــ ُّن اســتخدام الكلــات بطريقــة تُحــدث ـرب منــذ ســالف العصــور أ َّن للشــعر شــيطانًا يُقبِلتخيــل العـ ُ
الحــواس ،وهــو ف ـ ُّن الفعــل بواســطة الكلــات مــا يفعلــه وجميــل
َ عليهــم فيُلهِم ُهــم روائــ َع الكلــم وبدائــ َع الصــور
الرســام بواســطة األلــوان". النظــم ،وبقــي هــذا التصــ ّو ُر قامئًــا حتــى بعــد مجــيء
إ َّن ترجمـ َة الشــعر أحـ ُد املوضوعــات املثــرة للجــدل ،ولعـ َّـل اإلســام بأفــكاره الجديــدة وضوابطــه التــي ق ّيــدت مــا يجــوز
يتجس ـ ُد يف اآلراء املختلفــة املتعلقــة برتجمتــه مــن
ـاف ّ الخـ َ قولــه ومــا ال يجــوز .وكانــت قبائـ ُـل العــرب تفتخــر بشــعرائها
عدمهــا ،وإذا اختــار املــر ُء ترجمتــه ،فــا هــي الطريقــة وت ُنزلهــم منــازل رفيعــة بــن أبنائهــا .وملــا كانــت للشــعر
األنســب؟! .فمنــ ُذ ال ِقــدم تباينــت اآلرا ُء يف هــذا األمــر؛ هــذه املكانــة ،وملــا كان مقرتنًــا باإللهــام واإلبــداع ويوصــف
فمنهــم مــن ذهــب إىل اســتحالة ترجمتــه كــا فعــل عــى أنَّــه ديــوان العــرب ،كانــت ترجمتُــه مــن لغـ ٍة إىل لغـ ٍة
نصــه "والشــع ُر الجاحــظ ،إذ يذكــر يف كتــاب "الحيــوان" مــا ّ خاصــة ،ولعلّهــا
ات ًّ خاصــا وقــدر ٍ
أخــرى تســتدعي اهتام ًمــا ًّ
ال يُســتطاع أن يرت َجــم وال يجــوز عليــه النقــل ،ومتــى ُحـ ّول، تتطلــب أن يكــون للمرتجــم أيضــاً "شــيطان" يعينــه عــى
تقطّــع نظمــه ،وبطــل وزنــه ،وذهــب ُحســنه ،وســقط ســر غــور القصائــد املــراد ترجمتهــا ،ويدلّــه عــى أفضــل
ـب فيــه" .ويعـ ِّرف الشــاع ُر والناقــد األمرييـ ُّ
ي موضــع التعجـ ِ الســبل وأنجعهــا لرتجمــة الشــعر .إ َّن نقـ َـل الشــعر مــن لغـ ٍة
"روبــرت فروســت" ( )Robert Frostالشــعر أنَّــه "مــا يُفقـ ُد إىل أخــرى عمـ ٌـل غايــة يف الصعوبــة والتعقيــد ،ذلــك أ َّن مــا
يف الرتجمــة". يُســحر الســام َع أو القــارئ يف لغـ ٍة مــا برتكيبهــا وموســيقاها
ويذهــب القائلــون باســتحالة ترجمــة الشــعر إىل أ َّن مثــة النص وصورهــا ،قــد ال يكــون لــه الوقـ ُع نفســه يف أذن ســامعِ ِّ
عنــارص يســتحيل أو عــى األقــل يصعــب نقلهــا مــن لغــة إىل املرت َجــم ،أو عــن قارئــه مهــا بلغــت قــدرة املرت ِجــم ومهــا
أخــرى ،وهــي الجوانــب الصوتيّــة واملوســيقيّة والخصوصيات طالــت خربتُــه وبــذل مــن جهــد .فالشــع ُر ميتــاز عــن بقيــة
النحويّــة والرصفيّــة واملجــازات ،إضافــة إىل االختالفــات األجنــاس األدبيّ ـ ِة األخــرى بلغتــه املكثفــة التــي ال تحتمــل
خصصنــا الــكالم عــن العرب ّيــة واإلنجليزيّــة الثقاف ّيــة .وإذا ّ اإلطنــاب والحشــو ،وال تتقبــل التكـرار والرتابــة ،وهــو ُمــر ٌع
األدوات املســتخدم َة يف الشــعر العــريب تختلــف ِ قلنــا إ َّن باملحســنات البديع ّيــة واألســاليب البالغ ّيــة ،ومــن هنــا تــأيت
عــا هــو موجــود يف اللغــة اإلنجليزيّــة .فالعربيّــة أغنــى مــن صعوبـ ُة ترجم ِتــه وقلـ ُة املقبلــن عــى نقــل الشــعر مــن لغـ ٍة
اإلنجليزيّــة يف عــدد البحــور الشــعريّة (يف اللغــة العربيّــة 16 إىل أخــرى .يقــول "ثيــودور ســافوري" ()Theodore Savory
بح ـ ًرا شــعريًّا يقابلهــا 7بحــور يف اللغــة اإلنجليزيّــة) وكــا يف كتابــه "فــن الرتجمــة" ( )1968مع ّرفًــا الشــعر عــى أنَّــه
قائاًل:
فام كان من شوقي إال أن ر َّد عليه ً لــكل بحــ ٍر أغراضً ــا معينــة ويســتخدم
هــو معــروف فــإ َّن ِّ
وأودعــت إنسانًـا وكل ًبـا أمانـ ًة
ُ يف مناســبات بعينهــا ،فالبح ـ ُر الطويـ ُـل -عــى ســبيل املثــال-
ُ
حافظ والكلب
ُ فض ّيعها اإلنسانُ هــو مــن أك ـرِ البحــور الشــعريّة اســتخدا ًما عنــد العــرب؛
أو من قصيدة البن الفارض: املختصــن يذكــرون أ َّن ثلــث الشــعر العــريب
ّ حتــى إ َّن بعــض
ُ
اللحظ منها أبدً ا ذو الفقار مــن البحــر الطويــل ،وهــو نــاد ُر االســتخدام يف األهازيــج
والحشا مني عمرو و ُحيـي مثــا-
واملوشــحات واألغــاين ،يف حــن أ َّن البحــ َر الكامــلً -
ـكل األغـراض الشــعريّة ،وبحــر الرجــز أقــرب األوزان ـح لـ ِّ
يصلـ ُ
ذو الفقــار هــو اســم ســيف اإلمــام عــي بــن أيب طالــب ريض إىل النــر ،بينــا يكــرُ توظيــف بحــر الرمــل يف مواضيــع
اللــه عنــه ،بينــا عمــرو وحيــي هــا اســان مــن الذيــن الغــزل والخمــر واملوشــحات .كــا أ َّن القصيــد َة العموديّــة
قــى عليهــم يف الحــرب. ذات القافيــة الواحــدة نــادرةٌ ،إن مل تكــن معدومــةً ،يف
وكلنــا يعلــم أ َّن للقــرآن مكانـ ًة عظيمـ ًة يف نفــوس املســلمني اإلنجليزيــة ،وهكــذا .وإن تعلــق األمــ ُر بالصــوت لدينــا
ولــه أثـ ٌر بالـ ٌغ يف قلوبهــم ال ميكــن نقلــه يف الرتجمــة .تأمــل الجنــاس والقافيــة واإليقــاع واملوســيقى الداخليــة وغريهــا
قــول الشــاعر املوصــي ابــن الــدري يوســف بــن درة: مــا ال ميكــن نقلــه إىل لغــة أخــرى .فكيــف ملرت ِجــمٍ مهــا
الجميل فخاب ظ ّني
َ ظننت بك طــال با ُعــه يف الرتجمــة أن ينقــل الجنــاس يف البيتــن التاليــن:
وقــــال الله بعض الظن إثــم حل بنا بـهعضنا الدهر بنابــه ليت ما َّ
أو قــول ابــن الرومــي يف رثــاء البــرة بعدمــا أصابهــا مــن غافل ليس بنابـــهٌ كل من مال إليـــه ُّ
خ ـراب عــى يــد الزنــج:
أين فُلك منها وفُلك إليها مختلــف يف
ٌ النحــوي والــر ُّيف
ُّ أ َّمــا عــن البنيــة؛ فالنظــام
منشآت يف البحر كاألعالم العربيّــة عنــه يف اإلنجليزيّــة .ومثــال عــى ذلــك صيغــة
الجمــع ،فتجــد يف العربيّــة جمــ َع القلــة والكــرة وجمــ َع
هــذان االقتباســان أو التضمينــان مــن القــرآن الكريــم يؤثران الجمــع وهــو مــا يفقــد أثــره حــال ترجمتــه .تأمــل َ
قــول
يف القـراء العــرب املســلمني الذيــن يعطــون هــذه الصــور يف الشــافعي -رحمــه اللــه:-
ّ األمــام
كتابهــم مكان ـ ًة ســاميًّة .والتأثــر ليــس مكافئًــا يف الرتجمــة، سهرت أعني ونامت عيونُ يف أمو ٍر تكون أو ال تكونُ
إن مل ِ
يضــع أصـ ًـا ،ألنَّــه مــن املتوقــع أال يكــون قــارئ اللغــة
املســتهدف ،عــى درايــة بالقــرآن وبأســلوبه وآياتــه. واملجــازاتُ -أيضً ــا -يصعــب نقلُهــا ،فالتوري ـ ُة تــكاد تكــون
ـاف الثقــا ُّيف وتباعــده مــن املشــكالت الشــائكة ويُع ـ ُّد االختـ ُ مســتحيل َة النقــل إىل لغــ ٍة أخــرى ،كقــول الشــاعر حافــظ
التــي يواجههــا املرتجمــون .فالعربيّــة واإلنجليزيّــة تنتميــان مشاكســا أحمــد شــوقي:
ً إبراهيــم
لثقافتــن متباعدتــن ،مــا يجعــل العمليــة غايــة يف الشوق نا ٌر ولوعـــ ٌة
َ يقــولون إنَّ
الصعوبــة .يقــول "بيــر نيومــارك" ()Peter Newmark فام بال شوقي أصبح اليوم باردا؟
ملف العدد/ أفكار 21
وهــل ميكــن فصــل شــكل القصيــدة عــن مضمونهــا؟ .وهــل وهــو مــن كبــار املنظريــن للرتجمــة ومامرســيها" :كلّــا
ينبغــي للمرتجــم أن يكــون شــاعراً أص ـاً أم ال؟ ومــا هــي اقرتبــت اللغــة والثقافــة اقرتبــت الرتجمــة مــن األصــل".
الطريقــة املناســبة للرتجمــة؟ حــرة ،إبداعيــة ،أم حرفيــة؟. خصائــص مميــزة تتعــارض بشــكل أو ُ لــكل مــن اللغتــن
ِّ
واختلفــت اإلجابــات عــى هــذه األســئلة جمي ًعــا. بآخــر مــع األخــرى .فالفجــو ُة الثقافيّــة بــن اللغتــن العربيّــة
ومــا يشــجع القائلــن برتجمــة الشــعر وجــود ترجــات واإلنجليزيّــة ،باإلضافــة إىل البنيــة الشــعريّة لكلتــا اللغتــن
حــازت عــى إعجــاب القــراء ،وقســم منهــا انــدرج وذاب تجعــل الخســارة أكــر .عــى ســبيل مثــال نجــد يف ســونيتة
يف أدب اللغــات املرتجــم إليهــا .مثــال عــى ذلــك رباعيــات شكســبري الثامنــة عــرة مــا يعكــس البيئــة الثقافيــة للغــة
الخيــام التــي ت ُرجمــت إىل الكثــر مــن لغــات العــامل ومنهــا املصــدر مــن خــال التمثيــات البيئيــة:
اللغــة اإلنجليزيّــة ،وقــد قــام بالرتجمــة الشــاعر "إدوارد ?Shall I compare thee to a summer's day
فيتزجريالــد" ( ،)Edward FitzGeraldومــن روعــة الرتجمــة
ـزي.
أضحــت منــذ عـرات الســنني مــن روائــع األدب اإلنجليـ ّ وهــي مــن األمثلــة التي ت ُقتبــس كثـ ًرا للداللة عــى االختالف
نقــل الرباعيــات إىل العربيّــة الشــاع ُر أحمــد رامــي وقــد ـوم
ـي واختــاف نظــرة الثقافتــن لهــا " .هــل أقارنــك بيـ ٍ البيئـ ّ
القــت -أيضً ــا -القبــول واالستحســان .كــا نالــت قصيــدة مــن أيــام الصيــف؟" ،فالصيــف ميثــل أجمــل مواســم الســنة
"األرض اليبــاب" ( )The Waste Landللشــاعر "ت .س. أي مــن دول الخليــج العــر ّيب، يف إنجلــرا .وباملقارنــة مــع ٍّ
إليــوت" ( )T.S. Eliotحظًــا كبــ ًرا مــن االهتــام يف اللغــة الصيــف كالجحيــم .لــذا فــإ َّن الصــورة ســتكون ُ ســيبدو
العربيّــة ،حتــى إنّهــا ت ُرجمــت غــ َر مــرة إىل لغــة الضــاد مشــوه ًة متا ًمــا .ولعـ َّـل قائـ ًـا يقــول إنــه باإلمــكان ترجمــة
ومبســتويات أدب ّيــة وأســلوب ّية متفاوتــة. الصيــف إىل الربيــع مــن خــال إعطــاء املكافــئ البيئــي .يف
رأي ثالــث يقــول إ َّن الســبيل األمثــل للوصــول إىل ومثــة ٌ الواقــع ،مــن املتوقــع حــدوث خســارة حتم ّيــة عنــد تحويــل
ي عــى مســتويات اللغــة ـص األص ـ ِّ
ترجمــة تقــرب مــن النـ ِّ "الصيــف" إىل "الربيــع" .هــل مينــح هــذا االختــاف املرتجــم
اإلبداعــي هــو صــور ٌة
ّ البالغــي
ّ كافــة ،إضافــة إىل الجانــب ترخيصــا لتحويــل الصيــف إىل الربيــع ،وهــو مــا قــد يكــون ً
النصــن
متخيلــة يف ذهــن القــارئ أو الســامع تدمــج بــن ّ تحويــل
َ مكافئًــا بيئ ًّيــا مناســ ًبا؟ .لعــل البعــض يقــول إ َّن
ي واملرتجــم؛ ليصــل املتلقــي إىل ترجمــ ٍة ّ
خاصــة بــه األصــ ّ الصيــف اىل الربيــع أمـ ٌر خــاد ٌع للقــارئ ومضلــل لــه ،فلرمبــا
يك ّونهــا يف ذهنــه ،وبهــذا يكــون لدينــا ترجــات عددهــا ـص األصــي ظ ـ َّن القــارئ أ َّن كلم ـ َة الربيــع موجــود ٌة يف النـ ِّ
النــص أو املســتمعني لــه.
بعــدد قــراء ِّ وليســت اجتهــادا ً مــن املرت ِجــم ،إنَّهــا مســأل ٌة خالفيٌّــة ،وقــد
يوافــق البعــض عــى هــذا االجتهــاد ،وال يوافــق آخــرون.
قــول الشــاعر الفرنــي "بيــر لرييــس" نقتبــس َ
ُ وختا ًمــا أ َّمــا مــن قالــوا بإمكانيــة ترجمــة الشــعر فرأيهــم أ َّن التشــابه
( )Pierre Leyrisالــذي يقــول " :إنَّ ترجمــ َة الشــعر أمــ ٌر بــن اللغــات أكــر مــن االختــاف ،وأ َّن ترجمــة الشــعر
ـتحيل ،واالمتنــا ُع عــن ترجمتــه أمـ ٌر مســتحيل" .ولكــم
مسـ ٌ ال منــاص منهــا للتعــرف عــى آداب الشــعوب املختلفــة،
خاصــةأن تك ّونــوا رأيكــم الخــاص ،وتتوصلــوا إىل قــراءة ّ وطــرق تفكريهــم ومكامــن إبداعاتهــم ،إال إنَّهــم اختلفــوا يف
بكــم ،ســواء أكانــت مــع ترجمــة الشــعر أم مــع اســتحالتها. مســائل عديــدة منهــا :هــل يُرتجــم الشــع ُر شــعراً أم ن ـراً؟
أفكار /ملف العدد 23
وعوامل
ُ تدريب املرتجمني
ُ
'الكفاءة' الرتجم ّية يف
الوطن العر ّيب :األردن ً
مثااًل
د .محمد أمني الحوامدة*
كتبنــا هــذه املقالــة بنــا ًء عليــه .فبعــد أن اســتقصينا األدب أي مــن شــؤون حياتنــا بوجــه عــام هــي لعـ َّـل الكفــاء َة يف ٍّ
الســابق فيــا يرتبــط مبفهــوم الكفــاءة وتدريــب املرتجمــن، القــدر ُة والخــرة ،حيــث األوىل امتــاك املــوارد والثانيــة
قمنــا باســتطالع رأي املعنيــن مــن أســاتذة الرتجمــة وخربائها حســن اســتخدامها .وينطبــق هــذا التعريــف بشــكل أو
يف الوطــن العــريب .حيــث تــم اختيــار أحــد عــر ()11 بآخــر عــى موضوعنــا مــن الكفــاءة الرتجم ّيــة (Translation
أســتاذًا أو خبـ ًرا مــن األردن وبعــض البــاد العربيــة (كمــر )Competenceفنقــول إنَّهــا املعرفــة التامــة بلغــة مــا يف
وفلســطني والعـراق) ممــن أســهموا يف أنشــط ٍة اطّلعــوا مــن كالمــي متجانــس (تشومســي )1965 ،أو اإلملــام ّ مجتمــع
خاللهــا عــى التحديــات املحتملــة والتقنيــات املمكنــة يف بلغــة أو لغــات ثانيــة أو أجنب ّيــة تسـ ّمى بالهــدف (نيوبــرت،
مجــال تدريــب املرتجمــن .ومتثلــت أداة البحــث بنمــوذج .)2000إال إ َّن إدراج جوانــب أخــرى كتلــك الثقاف ّيــة والبحث ّية
مقابلــة تــم تطبيقــه عــى املشــاركني بالصبغــة الشــخصيّة (بيــم )2003 ،وغــر ذلــك مــا يضطلــع بــه املرتجِــم مــن
أو االفرتاضيّــة يف بدايــة العــام الحــايل ،2022تضمــن أســئلة مهــام تســتلزم أدوات تقنيّــة مــا وصفــات شــخصية معينــة
مفتوحــة طُلــب منهــم اإلجابــة عليهــا وفــق معرفتهــم رضورة الســتكامل ذلــك التعريــف .وعليــه ُمُيكــن القــول إ َّن
مبفهــوم الكفــاءة الرتجم ّيــة و\أو تجربتهــم يف تدريــب الكفــاءة يف الرتجمــة هــي منظومــ ُة الكفايــات واملعــارف
املرتجمــن .ووجدنــا أ َّن تدريــب املرت ِجــم (العــر ّيب) يتح ّقــق واملهــارات والســلوكيات الالزمــة للعاملــن يف هــذه الصناعــة
مبســاقات قصــرة األجــل بخطــط دراس ـيّة متجــددة تقــوم ظــل
الحيويّــة (أنظــر ،)PACTE, 2011 ،ال ســيّام يف ِّ
ـوي والثقــا ّيف ،ومامرســات عــى عاملــن أساســيني؛ هــا اللغـ ّ التقــارب الواســع بــن األمــم ،وبالتــايل تزايــد الطلــب عــى
يطويلــة األجــل بربامــج وتدابــر حكوميــة تتمثــل بعامــ ّ خدمــات الرتجمــة والحلــول اللغويّــة .وحيــث كان االهتــام
ـخيص.
ـي والشـ ّ إســناد هــا التقنـ ّ باملرتجمــن (أو طلبــة الرتجمــة) وفــق مــا يتوقعــه منهــم
ـي من أ َّمــا املســاقات قصــرة األجــل فمثّلــت الجانــب التعليمـ ّ أربــاب العمــل أمــ ًرا الز ًمــا ،فقــد ســعينا يف هــذه املقالــة
ـطمنظومــة التدريــب الخــاص باملرتجمــن ،وتقــوم عــى خطـ ٍ إىل بيــان العوامــل األساسـ ّية واملســاندة املؤثــرة يف تدريبهــم
دراس ـ ٍّية متجــددة باســتمرار .حيــث تُعنــى هــذه املســاقات وصــواًلً إىل مســتوى الكفــاءة مبــا يتالئــم وميــدان العمــل
ـكل منهــاي أســاس ،كان لـ ٍّ ـوي والثقــا ّيف كعامـ ّ
باملنحيــن اللغـ ّ العــر ّيب ،ال ســيّام يف األردن.
ـوي مرتبطًــا بســامة اللغــة بنــدان اثنــان .فــكان العامـ ُـل اللغـ ُّ وقبــل البــدء بالحديــث حــول تلــك العوامــل ،نــرى مــن
األوىل؛ أي اللغــة األم؛ وهــي العرب ّيــة بالنســبة للمرتجِــم البحثــي الــذي
ّ األهميــة مبــكان عــرض منهجيــة املــروع
ويف إطــار آخــر مرتبــط ،فقــد كانــت البيئـ ُة التعليم ّيــة بحـ ِّد مثــا -وإتقــان اللغــة الثانيــة (أو األجنب ّيــة) وهــي األردينً -
ذاتهــا أحـ َد عوامــل النجــاح وتعزيــز الكفــاءة لــدى املرتجمني اإلنجليزيّــة (أو الفرنسـ ّية كلغــة مســتخدمة بشــكل ملحــوظ
الجامعــي والتفاهــم
ّ بحيــث تقــوم عــى أســس النقــاش يف عــدد مــن البلــدان العربيــة) .أ َّمــا العامـ ُـل الثقــا ّيف ،فتمثّــل
املتبــادل .ففــي بيئــة تفاعليّــة وجاهيّــة كانــت أم افرتاضيّــة، مبجمــوع املعرفــة العامــة التــي ميتلكهــا املرتجِــم كمظلــ ٍة
يتح ّقــق لطلبــة الرتجمــة فرصــة مهمــة أن يحـ ّددوا ألنفســهم يــؤدي ضمنهــا مها َمــه يف ســوق العمــل ثــم االختصــاص
مســتوى الكفــاءة الــازم الوصــول إليــه ،فهــم يحفــزون يف فــر ٍع (أو فرعــن مرتبطــن) مــن املعــارف كالنصــوص
أنفســهم ببيــان مواضــع الخلــل أو القصــور فيــا يتلقونــه القانونيّــة والتجاريّــة أو األدبيّــة والدينيّــة أو السياســيّة
ٍ
عالجــات ناجعــ ًة لغــوي أو ثقــا ٍّيف ويضعــون
ٍّ تدريــب
ٍ مــن والعســكريّة وهكــذا .ولعلنــا نعتــر أ َّن ســامة اللغــة األوىل؛
لذلــك .وإ َّن مثــل هــذه البيئــات قــد أعانــت مجموعـ ًة مــن أي األم ،ومجمــوع املعرفــة العامــة ،هــا أســاس األســاس يف
الطلبــة األوروبيــن عــى وضــع طــرق مالمئــة للتفاعــل فيــا وضــع هــذا التصنيــف وتنظيمــه ،وأن إتقــان اللغــة الثانيــة
ايض مــا يتمثّــل مبســاق إلكــرو ّين دو ٍّيل
بينهــم يف نطــاق افـر ٍّ واالختصــاص املعــريف إســناد األســاس.
متعــدد الوظائــف (انظــر ،كيتــوال وأخــرون .)2018 ،وباعتبــار ولــو أردنــا قيــاس الكفايــات الالزمــة للمرتجمــن واملــراد
الرتجمــة عمليــة مــن عمليــات صنــع الق ـرار حيــث ترتبــط تطويرهــا يف ســياق الدراســة الجامع ّيــة ،فقــد نعتــر أ َّن
بشــكل مبــارش بأنشــطة عــدة كحـ ِّـل املشــكالت مثـ ًـا ،فهنــاك املناهــج الحاليــة لربامــج الرتجمــة تعـ ّزز جوانــب دون أخرى.
عالقــة بــن دراســة الرتجمــة وعلــم النفــس .فنقــول بإزديــاد ـوي والثقــا ّيف وارديــن فتجــد عــى ســبيل املثــال املك ّونــن اللغـ ّ
الكفــاءة الرتجميّــة كلــا زاد مــدى الحافزيّــة لــدى املتــدرب، بدرجــات متفاوتــة دون املكونــات األخــرى كالتقنيّــة أو
ومــن ذلــك التدريــب املو ّجــه املـراد منــه تحريــك الطاقــات التخصص ّيــة أو البحث ّيــة .فكانــت تلــك األخــرة ّ الشــخص ّية أو
لــدى متــدريب الرتجمــة نحــو حاجــات ســوق العمــل يف ـي مــن تحديــات تدريــس الرتجمــة عــى املســتوى الجامعـ ّ
املســتقبل. أو تدريــب طلبــة الرتجمــة عليهــا ،مشــرين هنــا إىل أربعــة
أنــواع مــن طرائــق التدريــب هــي :املحــارضات العلميّــة
يل
وأ َّمــا املامرســات طويلــة األجــل فمثّلــت الجانــب التشــغي ّ كأطـ ٍر نظريٍّــة ،والتامريــن العمليــة كجــزء مهــم مــن املســاق،
مــن منظومــة تدريــب املرتجــم العــر ّيب ،وتقــوم عــى برامــج واملالحظــات امليدانيــة التــي يد ّونهــا الطلبــة ،والواجبــات
وتدابــر حكوميــة مبجالــس عليــا .وتركّــز هــذه املامرســات ـويالتفاعليّــة بتغذيــة راجعــة منهــم .ويف هــذا الســياق اللغـ ّ
ي إســناد ،كان والشــخيص كعامــ ّ
ّ التقنــي
ّ عــى الجانبــن والثقــا ّيف ،فإننــا نؤكّــد عــى أهميــة:
ـي مرتبطًــا
لــكل منهــا بنــدان اثنــان .فــكان العامـ ّـل التقنـ ُّ أ .تعزيــز املســاقات األكادمي ّيــة التــي تُعنــى بشــكل أســايس
مبــا اســتحدثه أهــل الخــرة مــن أدوات الرتجمــة املســندة بتدريــس اللغــة أو اللغــات األجنب ّيــة لألغــراض الخاصــة
حاســوبيًّا وهــي عديــدة وذات جــدوى كبــرة يف تعزيــز لطلبــة برامــج الرتجمــة.
اإلنتاجيّــة وأيضً ــا محــركات الرتجمــة اآلليــة .أ َّمــا الوجــه ب .توفــر الفرصــة الكافيــة للمتــدرب لتوســيع مداركــه
الشــخيص للكفــاءة الرتجم ّيــة ،وهــو رمبــا املظهــر الرئيــس
ّ املعرف ّيــة؛ مبــا يؤثــر إيجابًــا عــى قدراتــه اللغويّــة يف اإلبتــكار
البــري يف خضــم الحاصــل مــن تطــورات ّ للعامــل لغويًــا ،وتعــدد الخيــارات اللفظيــة لديــه.
أفكار /ملف العدد 25
ظل ما يشــهده املنتــج وكفــاءة العمليــة عــى حـ ٍّد ســواء .ويف ِّ تكنولوج ّيــة ،فتمثّــل باملهــارات الذات ّيــة (أو الحيات ّيــة العامــة
ـي يزيــد مــن العــبء الوظيفــي عــى العــاملُ مــن تطــو ٍر تقنـ ٍّ أو الخاصــة) يف حـ ِّـل املشــكالت وترتيــب األمــور والتنظيــم يف
املرتجمــن يف رضورة التعلــم املســتمر ومواكبــة كل جديــد، أي مســألة ،باإلضافــة إىل إدارة املشــاريع .ولعلنــا نعتــر أ َّن ِّ
كانــت املهــاراتُ املعلومات ّيــة يف ســياق الرتجمــة ،كالبحــث تلــك األدوات الرتجم ّيــة املحوســبة ومجمــوع املهــارة الذاتيــة
يف شــبكة اإلنرتنــت ،أنشــط ًة معرف ًّيــة تتطلــب ثقاف ـ ًة عامــة هــا أســاس اإلســناد يف وضــع هــذا التصنيــف وتنظيمــه،
وقــدر ًة عــى اتخــاذ القـرار .فــإذا كنــا نرغــب ح ًقــا بتدريــب بينــا كان التمكــن مــن محــركات الرتجمــة اآلليــة ومهــارة
طلبــة الرتجمــة للعمــل يف اختصاصــات مختلفــة ،فــا بــد إدارة املشــاريع مبثابــة إســناد اإلســناد.
أن ينتقــل تركيزنــا مــن مجــرد اكتســاب املعــارف (عامــة ومــا ال شـ َّـك فيــه أ َّن األدوات واملعــدات أصبحــت جــز ًءا ال
أم خاصــة) إىل تطويــر تلــك املهــارات مبــا يســهم يف حــل يتجــزأ مــن حياتنــا ،وهــي اليــوم إحــدى مك ّونــات العمــل يف
املشــكالت يف أي مــن صنــوف الخــرة العمليّــة ،وهــو مــا مجــال الرتجمــة يســتعني بهــا اإلنســان (إضافــة إىل مهــارات
يع ـ ّزز بشــكل تلقــايئ كفــاءة املرتجــم (أو طالــب الرتجمــة) مختلفــة أخــرى) يف تنفيــذ مهامــه .فنشــر وخ ـراء الرتجمــة
يف املكونــات األساســية كالقـراءة النقديــة والكتابــة النوعيــة العــرب إىل أهميــة تعزيــز املهــارات التقن ّيــة والشــخص ّية
مبختلــف أشــكالهام. للمرتجــم؛ مبــا يلبــي حاجــات الســوق فيــا يتعلــق بســامة
26
ـي يف مختلــف ـي أو التكنولوجـ ّ وعــو ًدا بنــا إىل الجانــب التقنـ ّ
صناعــات العــامل منهــا الرتجمــة ،كان لزا ًمــا إعــادة النظــر
يف مفهــوم الكفــاءة للمرتجِــم العــر ّيب يف خضــم التغــرات
املتســارعة واملســتجدات .فنجــد أنَّــه مــن األهميــة مبــكان
ـري يســتطيع تحديــد مســا ٍر "كفئــوي" يرتبــط بالعامــل البـ ّ
كهــدف يُــراد تحقيقــه ،يتمثــل ٍ بــه منافســة تلــك اآلالت:
عمو ًمــا بإضافــة لفــظ "اإلنســان" للكفــاءة الرتجميّــة .ولعـ َّـل
املامرســات التعلميّــة التــي يتــم تصميمهــا إلدمــاج الرتجمــة
اآلليــة يف برامــج التدريــب تزيــد مــن وعــي الطلبــة مبفهــوم
ـي كمرتجمــن "برشيــن" يشــعر كل منهــم االحـراف الحقيقـ ّ
بالتميــز الــذايتّ .فتعزيــز مهــارات املتدربــن مبختلف أشــكالها
وصنوفهــا يرفــع مســتوى تأهيلهــم (ســامة ،)2021 ،كــا
ـس املســؤولية لديهــم يف تنفيــذ مهامهــم بشــكل يغ ـذّي حـ َّ
مــن جهــة ،ومهــارات املرت ِجــم الشــخص ّية يف تنظيــم نفســه فاعــل وســليم .وإنَّهــا لحالــ ٌة مــن التكامــل بــن اإلنســان
وقدرتــه ،أو رغبتــه يف إدارة مــرو ٍع مــا اســتلتزمته ظــروف واآللــة متثّلــت بإدخــال تلــك األدوات املســندة حاســوبيًّا
العامــل
ُ الوقــت الحــارض مهنيًــا كعاملــن مســاندين .وكان أو مــا يوازيهــا مــن محــركات الرتجمــة اآلليــة يف عمليــات
أســاس اإلســناد وذلــك الشــخيص إســناد األســناد، َ التقنــي
ُّ تدريــب املرتجمــن العــرب ،وهــو مــا يع ـ ِّزز مــا أرشنــا إليــه
حيــث ميثّــل كالهــا جانــب الخــرة يف هــذه الصناعــة ســالفًا مــن مســألة تعزيــز ثقــة املرت ِجــم بنفســه مــع األخــذ
ـيالحيويــة .واعتربنــا هــذا اإلطــار تحســي ًنا لل ُعــرف الرتجمـ ّ بعــن االعتبــار أ َّن "ماكنــات" الرتجمــة أصبحــت أم ـ ًرا واق ًعــا
املتعلــق بقضيــة تدريــب املرتجمــن ،حيــث ال تـزال صناعـ ُة يط ّوعهــا املرتجــم ويفيــد منهــا.
ات كبــرةً؛ مبــا يدعونــا إىل:الرتجمــة تشــهد تغـ ّـر ٍ
أ .االســتمرار بتحســن بيئتهــم التدريب ّيــة مبجموعــة متنوعــة وختا ًمــا ،نجــد أ َّن الكفــاءة يف الرتجمة يف ميــدان العمل العريب
ـكل منهــم ميــز ًة تنافسـيًّة مــا.
مــن املهــارات ت ُح ّقــق لـ ٍّ عمو ًمــا واألردن بشــكل خــاص ،تقــوم عــى أربعــة عوامــل
ب .تقليــص الفجــوة بــن مــا يتلقونــه عــى مقاعــد الدراســة تدريبيــة هــي اللغويّــة والثقافيّــة والتقنيّة والشــخصيّة .فكان
ومــا يتوقعــه منهــم ســوق العمــل ،أي ثنائ ّيــة التعليــم ـاس الكفــاءة الرتجم ّيــة؛ وهــا
ـوي والثقــا ُّيف أسـ َ
املكونــان اللغـ ُّ
والتشــغيل. القــدرة التــي يحتاجهــا املرت ِجــم يف ســوق العمــل تحريريًّــا
اللغــوي أســاس األســاس والثقــايف
ُّ كان أم شــفهيًّا ،حيــث
إســناد األســاس .وارتباطًــا بهذيــن العاملــن الكالســيكيني يف
قيــاس كفــاءة املرت ِجــم العــر ّيب ،جــاءت تكنولوجيــا الرتجمــة
مــن أدوات مســندة حاســوب ًّيا ومحــركات الرتجمــة اآلليــة
أفكار /ملف العدد 27
دراسات
ومقالات
Photo Byjess Bailey on Unsplash
التنويري
ُّ الخطاب
ُ
والفعل الثقايفّ
ُ
عبد املجيد جرادات*
تظهــر مالمــح البعــد األول ،مــن مخرجــات مــا اصطُلــح عــى النهضــوي
ّ نســتنتج مــن القــراءة املتأنيّــة حــول الخطــاب
ُ
تســميته مبرحلــة التحــوالت االقتصاديّــة التــي جــاءت مــع العــر ّيب منــذ مرحلــة "ابــن خلــدون" ولغايــة اآلن؛ أ َّن
والخطــط التنظيميــة؟ وكيــف ُمُيكــن رســم السياســات وصنــع نظــم العوملــة ،منــذ مطلــع عقــد التســعينيات مــن القــرن
الق ـرارات يف هــذا االتّجــاه؟ املــايض ،بعــد أن توجهــت معظــم الــدول لفكــرة إرشاك
القطــاع الخــاص بتحمــل مســؤوليته يف املســرة التنمويّــة
ّــد أ َّن اســتحقاقات املرحلــة الحاليــة واملقبلــةمــن املؤك ِ واإلدارة االســراتيجيّة للمــوارد البرشيّــة واملاليّــة ،حيــث
ـادي
تســتدعي حــث الجهــود نحــو دفــع عجلــة النمــو االقتصـ ّ تخلّــت الحكومــات عــن أصولهــا وأهــم مصــادر الدخــل
الســيايس واألمــن
ّ ســع ًيا لتوفــر متطلبــات االســتقرار القومــي لشــعوبها؛ األمــر الــذي ع ّمــق أســباب الفقــر ّ
االجتامعــي ،مذكّريــن بــأ َّن حقبــة (العوملــة االقتصاديــة)
ّ وضاعــف حجــم البطالــة ،والنتيجــة هــي أنَّنــا نشــهد حال ـ ًة
ِّ
الشــك ،وعــدم التيقــن ،بعــد أن تســببت بتزايــد عوامــل غــر مســبوقة مــن (التــاوم) الــذي يســتوجب اســتعادة
ات ّســعت جيــوب الفقــر وتراكمــت أعــداد الباحثــن عــن مقومــات تبــادل الثقــة عــى مختلــف املســتويات ،وكل ذلــك
وتأسيســا عــى ذلــك تــرز عوامــل الحــذر،
ً قــوت يومهــم، بهــدف الحــرص عــى صــون املنجــزات ،والســعي إلدامــة
الــذي يتطلــب بالــرورة بــذل كل الجهــود لالرتقــاء بعيــش االجتامعــي.
ّ املعنويــات التــي تعــ ّزز مفهــوم التناغــم
النــاس ،وهــذا مــا نتوقــع أنَّــه ســيُثري حميــة أهــل الفكــر
التنويــري الــذي يســتند إىل الخطــوات
ّ لبلــورة خطابهــم أ َّمــا البعــد الثــاين ،فهــو يتمثّــل بواقــع الرصاعــات الدول ّيــة
املوضوع ّيــة يف دقــة التشــخيص ،ويحــثُّ عــى الشــجاعة عنــد التــي تتجـ ّدد مــع الزمــن بحكــم نزعــة (التنافــس) بــن الدول
ات ّخــاذ القــرارات. واالقتصــادي،
ّ التقنــي
ّ العظمــى والصناعيّــة يف املجالــن
وحبــذا لــو تنبّــه ص ّنــاع القـرار والدوائــر املعنيــة بالتخطيــط
نبقــى أمــام األدوات التــي ُمُيكــن االســتعانة بهــا عنــد تبنــي اتيجي لنتائــج تطــورات املشــهد العــر ّيب بعــد أحــداث
االسـر ّ
األفــكار واملشــاريع التنويريّــة ،ونشــر إىل الحقيقــة التــي (الربيــع العــريب) التــي اندلعــت مــع مطلــع العــام ،2011
يُركّــز عليهــا خــراء االتصــال التــي تقــول( :كلــا اتســعت حيــث ســادت الخالفــات الداخليــة واملواجهــات التــي ثبــت
دائــرة التواصــل مــع الجمهــور ،تبلــورت مقومــات املعرفــة) بعــد فــرة وجيــزة أنهــا عبثيّــة وتحتــاج للكثــر مــن الجهــود
وهــذا يعنــي أ َّن فكــرة التأثــر اإليجــايب عنــد املتلقــن، التنويريّــة واملصالحــات التــي تعيــد هــذه الــدول لحيويــة
تتح ّقــق عندمــا يُبــدع املبــا ِدر بالحديــث أو الكتابــة بوضــع ـوي العــريب.
دورهــا يف املــروع النهضـ ّ
مفرداتــه ضمــن معادلــة املصداقيّــة والواقعيّــة.
ـري يف ظـ ِّـل حالــة التداخــل
ـاب التنويـ ُّكيــف ســيكون الخطـ ُ
مــن املفيــد اإلشــارة إىل تبايــن املواقــف يف البيئــة االجتامع ّية، غــر املنضبــط عامل ًّيــا وعرب ًّيــا ومحل ًّيــا واحتــاالت التغيــر
ـال نــدرك أنَّهــا تتحكم بســلوكفهنالــك قيـ ٌم وتو ّجهــاتٌ وأفعـ ٌ التــي ســتطرأ عــى منظومــة التحالفــات الدوليــة؟ ومــا هــي
النــاس ومواقفهــم ،وهــذا مــا يُعيدنــا إىل رضورة البحــث عــن األهــداف التــي ُمُيكــن وضعهــا بنيّــة العمــل عــى تحقيقهــا؟
دور أهــل الفكــر الذيــن ميتلكــون الحكمــة والخــرة التــي وألنَّنــا نتحــدث عــن أهميّــة تبنــي مشــاريع رياديّــة نحــو
متكّنهــم مــن تب ّنــي مشــاريع تنويريّــة تهتـ ُّم بصحــة مدخالت املســتقبل ،فــا هــي األدواتُ واألولويــاتُ االقتصاديّــة
30
املبكــر مــن مياديــن الحركــة اإلنتاج ّيــة. العمليــة الرتبويّــة ومخرجاتهــا يف مختلــف مراحلهــا ،وبالتــايل
مــن املفيــد التذكــر أ َّن أهــل الفكــر الذيــن ســيهتمون بنــر ال بــد مــن وجــود خطــط وبرامــج عمل ّيــة تنفيذيّــة تهت ـ ُّم
ثقافــة التنويــر ،ســيحتاجون للوقــوف يف حالــة دفــاع مــرن الحضــاري لــكل فئــات املجتمــع ،بحيــثّ بحركــة التطــور
أمــام سلســلة مــن النوايــا املبيّتــة والســيناريوهات التــي تكــون النتيجــة أ َّن الجميــع يتنافســون عــى إحــداث األفعــال
ال تتســم بال ـراءة ،بخاصــة إذا حاولــوا البحــث عــن ُهويــة التــي تنفــع النــاس ومتكــث يف األرض ،مــع مراعــاة التــز ّود
الجهــات التــي تقــف خلــف الكواليــس ،بــد ًءا بجائحــة بــكل أســباب املناعــة التــي تضاعــف املنجــزات ضمــن
كورونــا ،ومــا ســيتبعها مــن رصاعــات نقــرأ يف مقدماتهــا مســرة التنميــة املســتدامة ،إىل جانــب تشــجيع النــشء عــى
ومخرجاتهــا أنَّهــا تهــدف للعبــث بعوامــل االســتقرار وتبحــث ف ـ ِّن التعلّــم الــذي يُعــزز فيهــم روح الدافعيّــة واإليثــار.
عــن مســ ّوغات لخلــق النزاعــات عــى مســتوى الــدول
والجامعــات ،وكل ذلــك يجــيء بحكــم الرغبــة بتحقيــق نشــر هنــا إىل غايــة التعليــم؛ وهــي بنــاء الشــخص ّية
املصالــح االقتصاديّــة مــن قبــل الذيــن يطمحــون للهيمنــة، التــي تبحــث عــن املعرفــة ،وتحــرص عــى التــز ّود بــكل
ومــا ينتــج عــن ذلــك مــن نهــب الــروات والتدخــات املؤهــات والخ ـرات التــي متكّنهــا مــن مواجهــة متطلبــات
الخارج ّيــة التــي تبــدأ بشــعارات عــن حقــوق اإلنســان، الحيــاة والســعي لتحقيــق نظريــة املواكبــة ،وباملحصلــة
تؤســس للمزيــد مــن غيــاب فــرص املســاواة لكنهــا باملحصلــة ّ فــإ َّن مهمــة التعليــم هــي (ترســيخ الثوابــت واملعتقــدات)
بــن بنــي البــر. بــكل مــا
التــي تحفّــ ُز مجمــل الكفــاءات نحــو الرياديّــةِّ ،
يف مجمــل األحــوال ،ال بــد مــن انخـراط املتنوريــن مــن أبنــاء تغرســه يف نفــوس الطلبــة مــن همـ ٍة وعطــا ٍء نحــو التجديــد،
العروبــة بحــوا ٍر ثقــا ٍّيف يقــود إىل تغليــب األمــل عــى مبــدأ وتحفّزهــم نحــو االبتــكارات التــي تربهــن عــى أ َّن اإلنجــازات
الحضــاري عــى
ّ اليــأس ،وهــذا مــا تقتضيــه طبيعــة الــر ِّد املتم ّيــزة للشــعوب تتح ّقــق بفعــل املبدعــن مــن أبنــاء هــذه
أســاليب االحتــواء التــي يت ـ ُّم تصديرهــا للعــامل العــر ّيب مــن الشــعوب ،وعندمــا تتبلــور هــذه املعادلــة ،فمــن املؤكّــد أ َّن
قبــل الــدول التــي تســعى للهيمنــة ،أ َّمــا آليــات العمــل، منســوب النجاحــات ســيربز الوجــه املــرق للعلــم والثقافــة،
فهــي تبــدأ بتنشــيط مؤسســات املجتمــع املــد ّين وإحــداث ويُضفــي عــى املســرة الحضاريّــة طابــع الدميومــة.
نقلــة نوع ّيــة يف املناهــج الرتبويّــة والتعليم ّيــة ،آخذيــن نســمع بــن الحــن واآلخــر ،أ َّن السياسـ ِ
ـات التعليم ّيــة تؤكّــد
بعــن االعتبــار أ َّن الثقافــة الكونيّــة تتســم بطابــع إنســا ّين، عــى محاولــة الربــط بــن مخرجــات التعليم وحاجات ســوق
ومــن الحكمــة التعامــل مــع مــا يــرز مــن أحــداث مــن العمــل ،وهــي فكــر ٌة رياديّــةٌ ،ألنَّهــا تشــ ّجع عــى التعلّــم
زاويــة املشــاركة بصناعــة األفعــال ،ومحاولــة التث ّبــت عنــد الــذا ّيت واكتســاب املهــارات التــي مت ّكــن أصحــاب الكفــاءات
فكــرة االعتــاد عــى الــذات بــكل مــا يف هــذه العبــارة مــن مــن التفاعــل وقبــول الفــرص املتاحــة ،والجميــل يف هــذه
مدلــوالت. املعادلــة أنَّهــا توفــر أرضيّــة صلبــة لتنـ ّوع اإلنتــاج والتنافــس
نذكِّــر أ َّن الثقافــة العربيّــة متتــاز بخصائــص اســتمدتها مــن يف مياديــن الجــودة ،مثلــا تحــول دون حــدوث التزاحــم
روح األمــة العرب ّيــة وتجاربهــا ،والجميــل هــو أ َّن هــذه الــذي يــؤدي للتــآكل ،ورمبــا يدفــع البعــض لالنســحاب
أفكار /دراسات ومقاالت 31
النظــرة االســترشافيّة لــدور وســائل اإلعــام تطــرح ســؤالني: ثان ًيــا :أ َّمــا التنميــة ،فــإ َّن عنــارص قوتهــا تكمــن بالحــرص عىل
ظــل ثــورة االتصــاالت
األول :يتعلــق بكيفيــة املواكبــة يف ِّ جــودة مخرجــات التعليــم وبنــاء الفكــر املعــارص ،وتب ًعــا
والتقنيــات املتطــورة التــي أزالــت الحواجــز أمــام الثقافــات لذلــك تــأيت أهميــة البحــث عــن منابــع الغنــى يف املياديــن
واألفــكار ،وجعلــت العــامل املعــارص يرقــب مســتجدات التقن ّيــة والتعدديّــة الثقاف ّيــة ،ويف مجــاالت التصويــب ،فمــن
األحــداث مــن رشفــة السياســة بعــد أن أصبــح املــال الحكمــة بالنســبة ملــن يتب ّنــى أيــة ُمبــادرات إصالحيّــة ،أن
واالقتصــاد مــن أهــم أدوات التأثــر يف املياديــن االجتامعيــة. يضــع بحســاباته الدقيقــة أن يكــون جــز ًءا مــن الحـ ِّـل وليــس
ســب ًبا بــإذكاء الرصاعــات.
الســؤال الثــاين :يرتبــط بــدور القامئني عــى الرســالة اإلعالم ّية
الفكــري القــادر عــى تقريــب
ّ يف كيفيــة نقــل الخطــاب ثالثًــا :بالنســبة لإلعــام ،فــإ َّن التســاؤالت املرشوعــة هــي:
وجهــات النظــر بــن صفــوف الــرأي العــام ،يف مرحلــة نلمــح كيــف ُمُيكــن للقامئــن عــى الرســالة اإلعالميــة الربــط بــن
فيهــا العديــد مــن املحــاوالت التــي تعــزف عــى مــوروث أي مــدى متطلبــات املهنــة واســتحقاقات املرحلــة؟ وإىل ِّ
الخالفــات ،وقــد تعــود بــن الحــن واآلخــر ملواقــف تاريخ َّيــة ُمُيكــن التغلّــب عــى املح ـ ّددات واملع ّوقــات التــي فرضتهــا
نعلــم أ َّن شــعوب الــدول الصناعيّــة واملتطــورة تجاوزتهــا ـح املــوارد املاليّــة؟ علـ ًـا أ َّن
تجــارب املــايض ومــن ضمنهــا شـ ُّ
أفكار /دراسات ومقاالت 33
نخلــص إىل القــول إ َّن الحقيقــة التــي نؤمــن بهــا عــن طبيعــة
الحيــاة العرب ّيــة عــر الزمــن ،هــي أ َّن هــذه األمــة اســتطاعت
أن تتجــاوز املحــن بفعــل الحكــاء مــن أبنائهــا ،ذلــك أل َّن بحكــم التصميــم عــى الســر يف ركــب التطــور والحداثــة.
أراضيهــا خصبــة ،وال جفــاف يُعرقــل مســرتها الحضاريّــة، توصــل معظــم خــراء العلــوم االجتامع ّيــة منــذ منتصــف ّ
ـري الــذي يرتكــزومــن هنــا تتأكّــد الحاجــة للخطــاب التنويـ ّ القــرن التاســع عــر إىل قناعــة مفادهــا أنّنــا إذا امتلكنــا
عــى الحكمــة ويعتمــد عــى فــ ِّن الحــوار الثقــا ّيف ضمــن أدوات املعرفــة واألســباب املاديــة التــي تولــد النتائــج
مفهــوم ثالثيــة املعرفــة ( البيــان والربهــان والعرفــان). املنشــودة ،نكــون قــد عرفنــا اســتحقاقات املســتقبل ،أي
ويف هــذا االت ّجــاه ،تجــدر اإلشــارة إىل أ َّن تقديــرات خــراء أ َّن املعرفــة الكاملــة باألحــداث ،تتيــح اســتخالص نتائجهــا،
العلــوم االجتامع ّيــة تؤكّــد أ َّن اســتمرار (حالــة عدم االســتقرار وهــذه هــي أبــرز العناويــن التــي نتوقــع أن تكــون موضــع
واالجتامعــي) تعنــي املزيــد مــن
ّ االقتصــادي
ّ يف املجالــن ـري
اهتــام أهــل الفكــر الذيــن سينشــغلون بالخطــاب التنويـ ّ
اســتنزاف مقــدرات الشــعوب ،وتحــول دون االســتغالل والفعــل الثقــايف.
األمثــل لــدور الكفــاءات التــي تتفــاىن يف بــذل جهودهــا مــن
أجــل مضاعفــة اإلنجــازات ،وتلــك هــي أبــرز األدوات التــي بــن مبــدأ الســببية ونظريــة األنســاق أو املنظومــات تبــدأ
تتطلــب مواجهــة اســتحقاقات املرحلــة ســع ًيا لتجاوز(املــأزق مهمــة البحــث عــن املعرفــة ،وأل َّن الحيــاة االجتامعيــة
ـاري) ومــا يتســبب بــه مــن منغصــات. الحضـ ّ ليســت متجانســة يف تركيباتهــا ،فــإ َّن أيّـ َة معرفــة مهــا كان
34
تقديم
الــدال ّيل للمصطلــح ،األمــر الــذي أفــرز اختالفًــا واض ًحــا بــن ـب يف اكتشــاف يواجــه الباحــثُ يف الخطــاب الســجا ّيل ،الراغـ ُ
الباحثــن يف طرائــق النظــر إليــه. مك ّوناتــه وأسســه وخصائصــه ،مجموعــ ًة مــن اإلشــكاالت
ـال بهــدف اإلســهام يف تقديــم تص ـ ّو ٍر لذلــك ،يــأيت هــذا املقـ ُ النقديّــة واملعرف ّيــة ،تجعــل التصــ ّدي لهــذا النــوع مــن
جديـ ٍـد للخطــاب الســجا ّيل ،مغايــر ملــا دأب عليــه الباحثــون الخطابــات أم ـ ًرا محفوفًــا بعديـ ٍـد مــن املزالــق واملشــكالت
يف نظرهــم إىل هــذا النــوع مــن الخطابــات ،فقــد ســاد ()1
االبســتمولوجية ،وتســمه بطابــع «الخطــاب اإلشــكا ّيل»،
عندهــم اعتبــاره خطابًــا ال أخالقيًّــا ،يخــرق قواعــد التواصــل ـادم مــا بــن أطاريــح أطرافــه الــذي يعــر عــن عالق ـ ِة تصـ ٍ
والحــوار ،ويطيــح مببــدأ التعــاون مــا بــن األط ـراف إلنشــاء ومواقفهــم حــول قضايــا ابســتمولوجية معينــة ،حيــث
حــوار فيــه قــد ٌر مــن اح ـرام الخصــم وتوقــره... تتصــارع فيــه الــذوات إلثبــات نفســها ونفــي اآلخــر املنــاوئ
لهــا ،ولهــذا تتخــذ عالقــة أطــراف هــذا الخطــاب طاب ًعــا
.1نحو تص ّو ٍر جدي ٍد ملفهوم الخطاب السجا ّيل إشــكاليًّا يتوافــق مــع طبيعــة هــذا الخطــاب نفســه.
ـكاًل من أشــكال التفاعــل الخطا ّيب،
ـاب الســجا ّيل شـ ًيُعـ ُّد الخطـ ُ
وحدثًــا تلفظ ًّيــا ،قامئًــا عــى التواصــل بــن األنــا واآلخــر ،يحيل مــن بــن تلــك املشــاكل مــا يتعلــق مباهيتــه ،فمفهومــه
عــى معنــى املبــارزة بــن الخصمــن ،ويــي بنــوع مــن ـث إىل آخــر ،إذ ليــس مــن الســهل ـي يختلــف مــن باحـ ٍ زئبقـ ُّ
ـافـاب قائـ ٌم عــى اختـ ٍ
الـراع والعــداوة بينهــا ،إنَّــه خطـ ٌ أن نعطيــه تعري ًفــا جام ًعــا ،يحيــط بــكل خصائصه األجناسـيّة
قــد يبلــغ حــ َّد الخصومــة والحــرب ،بتعبــر أركيــوين ،إال
()2
كل مــرة خصائــص خطــاب متلــ ّو ٌن يكتــي َّ
ٌ والفن ّيــة ،ألنَّــه
إنَّــه مــع ذلــك يبقــى خطابًــا ابســتمولوج ًّيا ،يســعى إىل جديــدة حســب الســياق الــذي يــرد فيــه ،نظــرا لتاميــز
بنــاء املعرفــة أو املشــاركة يف بنائهــا ،مــن خــال قيامــه مرجعياتــه وتداخلهــا مــع مختلــف الخطابــات؛ أدبيّـ ًة كانــت
عــى تقديــم بديــل ابســتمولوجي يُغنــي املعرفــة ،ويُــريس أو سياسـيّ ًة أو دينيّـ ًة أو فلســفيّة ...وهــذا التداخـ ُـل هو الذي
مبــدأ االختــاف يف الــرأي ،ويدافــع عــن قيمــة اإلبــداع، يجعــل التنظــر للخطــاب الســجا ّيل أمـ ًرا يف منتهــى الصعوبة.
الــذي يناقــض التبع ّيــة والتح ّجــر واالحتفــاء مبــا هــو ســائد ـي
أضــف إىل ذلــك أنَّــه يتمتــع -عنــد العــرب -بغنــى معجمـ ّ
ـاب محكــو ٌم
ـاب الســجا ُّيل خطـ ٌ
يف األوســاط الثقافيّــة ،فالخطـ ُ يص ُعــب معــه ضبــط هــذا املفهــوم وتحديــده تحديــ ًدا
ـي ،يحــاول فــرض ترســخ يف الوعــي املجتمعـ ّ بالتمــرد عــى مــا ّ ـكاًل آخــر متعل ًقــا
ـي يطــرح مشـ ًدقي ًقــا ،وهــذا الغنــى املعجمـ ّ
رؤى الــذات املتســاجلة وتصوراتهــا عــن الوجــود ،يــأىب أن بــه ،يتمثّــل يف غيــاب قواميــس تاريخ ّيــة تتعقــب التطــور
تحكــم أطـراف الخطــاب الســجايل الرغبــة يف تجــاوز الخصــم ينقــاد لِــا يكلّــس اإلبــداع ،لِــا ينظــر للمتــوارث عــى أنَّــه
والنيــل منــه والحــط مــن قيمتــه ،وإظهــار التفــوق املعــر ّيف األمنــوذج الــذي ينبغــي ات ّباعــه واالحتفــاء بــه.
عليــه ،وينشــدون الوســائل العدوانيــة آلي ـ ًة لهــذا التجــاوز، بيــد أنَّــه يقــوم عــى مفارقــ ٍة أساســيٍّة متمثلــ ٍة يف كــون
فمــن كانــت لــه القــدرة عــى مجــاراة الســجال إىل النهايــة آلياتــه غــر متوافقــة مــع الغايــة التــي يرومهــا ،فهــو -يف
ينتــر عــى خصمــه يف هــذه املعركــة االســتعاريّة ،التــي ال طموحــه إىل بنــاء املعرفــة -ال يكـ ُّـف عــن املواجهــة والعنــف
يتــورع أطرافهــا عــن اســتخدام أســاليب مشــينة للتفــوق اللفظــي واســتخدام األســاليب العدوان ّيــة يف ســبيل هــدمّ
عــى اآلخــر املناقــض ،إذ يلجــؤون يف األعــم األكــر إىل :إقصــاء فكــرة وترســيخ أخــرى ،إال إ َّن هــذه املفارقــة ليســت أصـ ًـا
اآلخــر ونســف جهــوده ،وتفريغــه مــن جوهــره ،ويغلــب ـاج لهــوى اإلنســان الــذييف الخطــاب الســجا ّيل؛ بــل هــي نتـ ٌ
عــى لغتهــم طابــع الرفــض واإلقصــاء ،حتــى وإن كان هــذا يطمــح إىل فــرض ذاتــه واإلعــاء منهــا عــى حســاب الحــط
اإلقصــاء إقصــا ًء ابســتمولوجيا وليــس ماديًّــا( ،)5وتتطلــب مــن اآلخــر والتغلــب عليــه ،وهــذا مــا يجعلنــا نفهــم ملــاذا
بيئــة خطابهــم الســجا ّيل -حســب و"وترهينقــراف" -قــد ًرا كان يُنظــر إىل الخطــاب الســجا ّيل نظــرة دونيّــة قدحيــة،
مــن عــدم االرتيــاح وعــدم الصفــو وتوافــر عنــر التهديــد(.)6 تحــاول أن تحــط مــن قــدره ،وتســمه مبيســم الخطــاب الــذي
ال يتوخــى هدفًــا غــر النيــل مــن اآلخــر /الخصــم.
وبهــذا؛ ميكننــا تعريــف الخطــاب الســجا ّيل أنَّــه ذلــك
ـكل
الخطــاب االختــايف الــذي يجــري بــن طرفــن أو أكــر ،لـ ِّ إنَّنــا ال ننكــر أ َّن الخطــاب الســجا ّيل كــا يعرفــه "بالنتــان":
واحـ ٍـد منهــا موقـ ٌـف مخالـ ٌـف لآلخــر ،يســعى إىل إلجامــه «حــرب نخوضهــا بالكلــات ،وتكــون حربًــا دفاعيّــ ًة مــن
وتبكيتــه ،وبيــان فســاد مــا يذهــب إليــه ،فاملســاجل يــروم يغــر
عنيــد يرفــض مــن دون ســبب أن ّ ٍ ٍ
شــخص طــرف
«إعــادة تشــكيل العــامل ومك ّوناتــه املختلفــة ،ليصبــح مطاب ًقــا رأيــه»( ،)3وأنَّــه كثــ ًرا مــا يــؤول إىل «حــرب رضوس تتخــذ
لفرضياتــه»( ،)7يهــدم الســائد واملألــوف والرتيــب ،ويتجــاوزه ـكااًل عديــدة»( ،)4إال إنَّــه ال ميكننــا أن ننفــي عنــه طابعــه
أشـ ً
إىل مــا هــو جديــد وغــر متــداول ،ويعيــد بنــاء العــامل، االبســتمولوجي ،فهــو يســهم يف بنــاء املعرفــة رغــم أ َّن
فيشـكّله انطالقًــا مــن رؤاه وتصوراتــه .بعبــارة أخــرى يحــاول اسـراتيجياته قامئــة عــى العنــف والبســط والقهــر والعنــف
ات جديــدةً ،ال هــذا النــوع مــن الخطابــات أن يبنــي تصــور ٍ ـي ،فهــو مل يوجــد يك يركــن لذلــك فقــط ،ح ًقــا أ َّن هــذهاللفظـ ّ
تخضــع ملنطــق الكائــن واملوجــود واملعيــش إال لُام ًمــا ،مــا هــي أهــم مظاهــره ،وأ َّن الشــائع منــه ذاك الــذي يتو ّخــى
أساســا مــن عقــد االختــاف مــع يعنــي أ َّن مبــدأه نابــ ٌع ً أساســا التهجــم عــى الخصــم والنيــل منــه ،لكــن هــذا ً
املتلقــي ،فاملســاجل يلجــأ إىل عــرض مجموعــة مــن الحقائق، نســ َينا مــا لــه مــن دو ٍر يف تطويــر املعرفــة، ال يجــب أن يُ ِ
انطالقًــا مــن ادعـ ٍ
ـاءات ذات ٍّيــة شــخص ّية ،وهــذا مــا يجعــل ـف الزائــف منهــا ،وإعــاد ِة بنائهــا بنــا ًء جديـ ًدا يحــاول
وكشـ ِ
الخطــاب الســجايل خطابًــا إيديولوجيًّــا ،يتّخــذ ســمته مــن أن يتجــاوز القصــور والهنــات التــي كانــت ماثلـ ًة يف األمنــوذج
مضامينــه اإليديولوجيــة التــي تشـ ُّد البــاب يف وجــه االتفــاق القديــم قبــل تدخّــل الســجال ليعيــد رســم خريطتــه
وترشعهــا أمــام االختــاف يف الــرأي والتعدديّــة. ومناقشــة بعــض مبادئــه...
36
تســم الــذات بــكل ســات التعــايل والفوق ّيــة ،وتجعلهــا رمـ ًزا ـاب الســجا ُّيل خطابًــا غايتــه تفكيــك األنســاق
وملــا كان الخطـ ُ
للكــال والتفــوق والعلــم ...أ َّمــا االعتبــار الثــاين فهــو تغييــب املعرف ّيــة والثقاف ّيــة ،فهــو ال يتــورع -لتحقيــق مـراده -عــن
اآلخــر أو انتقاصــه وتهميشــه يف محاولــة إلقصائــه ،وذلــك ـخيص ،فيكشــف بالتايل املــزج بــن مــا هــو معــر ّيف وما هــو شـ ّ
بوســمه بــكل ســات الدونيّــة( .)10وبذلــك ،فهــو يــر ّوج خاصـ ٍة بــه ،ينفــرد بهــا عــن باقــي الخطابــات
عــن مامرسـ ٍة ّ
ملركزيّــة الــذات ،فالــذات الســجال ّية هــي ذاتٌ موســوم ٌة األخــرى ،إذ يســتخدم مختلــف االسـراتيجيات الخطاب ّيــة مبــا
بالتعــايل والتم ّيــز والتفــوق ،يف مقابــل ذلــك ،يــر ّوج لهامشــية يتــاءم مــع القصــد الــذي يرومــه ،فالكلمـ ُة تصبــح فيــه ذات
اآلخــر ،وتحقــره ،ويتع ّمــد جعلــه مشــوبًا مبجموعــة مــن ٍ
بطاقــات داللــة خاصــة ،وصــور األســلوب تصبــح محملــ ًة
الســات الســلبيّة ،كالتوتــر واالنفعــال والجهــل ،وبالجملــة ســجاليّة تخولهــا أن تحيــا وتتطــور ضمــن هــذه العمليــة
يلصــق بــه كل القيــم املتعارضــة مــع مــا هــو نقــي وفعــال ـاب مختـ ٍّـل بــن اإلشــكال ّية املعقــدة ،التــي تكشــف عــن خطـ ٍ
ومتعــا ٍل ،وبالتــايل يســتبعد فكــرة تقبــل نســقه الثقــا ّيف. طرفــن خصمــن لبعضهــا البعــض ،كل واحــد منهــا لــه
تص ـ ّو ٌر مغايــر عــن اآلخــر ،يتجــرأ عــى خصمــه ،ســعيًا إىل
بيــد أ َّن تحيّــز الخطــاب الســجا ّيل ال يعنــي أنَّــه ينفــي اآلخــر التفــوق عليــه وإســكاته ،فالخطــاب الســجايل «وليــد فعــل
نف ًيــا مطلقًــا ،وإمَّنَّ ــا يجعلــه عــى الهامــش فقــط ،فوجــود الســجال ،ومامثلــه يف التبــاري والتنافــس والرغبــة يف الغلبــة ِ
األنــا يف هــذا الخطــاب ليــس مرتبطًــا بفكــرة وجودهــا ،كــا والفلــج عــى الخصــم»( .)8وهــذا املعنــى هــو مــا تشــر
ادعــى ذلــك "ديــكارت" ،إنَّهــا ال تكتســب كينونتهــا املطلقــة، الســجال ،إذ تلتقــي املعاجــم إليــه الداللــة اللغويــة ملفهــوم ِ
وال تضمــن تحقّــق وجودهــا حتــى تكــون مقرتنــة بذلــك اللغويــة يف تعريفهــا للســجال للداللــة عــى معنيــن هــا
الــذي يخالفهــا ،ممتــدة فيــه ،وممتــد فيهــا ،عــى هــذا النحو املبــارزة والتنافــس ،وتربطــه مبجــايل الســقي والحــرب،
تغــدو الــذات الســجال ّية مركبــة مــن طرفــن متاميزيــن جــاء يف لســان العــرب« :ســجال جمــع ِســجل وســجل وهــو:
ومختلفــن هــا "األنــا" و"اآلخــر" ،يســعى كل واحــد منهــا الدلــو الضخمــة اململــوءة مــاء ،وســاجل الرجــل بــاراه...
إىل اإليضــاح يف خطابــه عــن هــذا االختــاف والتاميــز ،وهــذا وأصــل املســاجلة أن يســتقي ســاقيان ،فيخــرج كل واحــد
مــا يجعــل الخطــاب الســجا ّيل قامئًــا عــى التعدديّــة يف اآلراء، منهــا يف ســجله مثــل مــا يخــرج اآلخــر ،فأيهــا نــكل فقــد
التــي تفــرض -أيضً ــا -تعــد ًدا يف الحقائــق ،أو قــل يف النظــر مثــا للمفاخــرة [ ]...وتســاجلوا غُلــب .فرضبتــه العــرب ً
إليهــا ،فــكل ذات يف الخطــاب الســجا ّيل تنشــئ عــن العــامل أي تفاخــروا ،ومنــه قولهــم الحــرب ســجال وانســجل املــاء
خاصــة بهــا ،تتحــول معهــا إىل الخارجــي صــو ًرا إدراكيّــ ًة ّ انســجااًل إذا انصــب»(.)9
ً
مصــدر للمعرفــة والحقيقــة املطلقــة ،ال حقيقــة إال داخلهــا.
تتســم نظرتهــا إىل الوجــود بالتمركــز حــول ذاتهــا ،واالنطــاق الخطاب السجا ُّيل وفكر ُة التح ّيز
ُ .2
مــن اعتباراتهــا ،وتهميــش مــا يخالفهــا .تســعى إىل تحويــل يرتبــط الخطــاب الســجايل بفكــرة التحيّــز ،التــي تتأســس
الوقائــع إىل صياغــات متامســكة غــر قابلــة لالخ ـراق مــن عــى اعتباريــن ،أولهــا :تضخيــم الــذات والتمركــز حولهــا،
قبــل اآلخــر ،وتقــف موقــف عــداء إزاءه ،فهــو يهـ ّدد صفــا َء إذ يتـ ُّم التل ّعــب باللغــة مــن أجــل خلــق تنميطــات جاهــزة،
أفكار /دراسات ومقاالت 37
الطــرف اآلخــر ،فاألنــا تتعــرف عــى نفســها بوصفهــا جــز ًءا يف
خطــاب اآلخــر ،واآلخــر يتعــرف عــى نفســه بوصفه جــز ًءا يف
خطــاب األنــا»( .)12وهــذا يجعلنــا عــى بيّنــة مــن أ َّن الخطاب
الســجا ّيل يتناســل مــن خطــاب اآلخــر املخالــف ويتولــد
عنــه ،وال ينحــر «يف خط ّيتــه وصــور انكتابــه وتحقّقــه ،يف
صــورة بنيــ ٍة لُغويــة أو مضمون ّيــة»( ،)13فــكل خطــاب مــن
هــذه الخطابــات يقـ ّدم نفســه عــى أســاس أنَّــه قــادر عــى
اســتيعاب خطــاب الخصــم ،وبالتــايل فنحــن يف الخطــاب
ـاب واحــد ،وإمَّنَّ ــا
الســجا ّيل -يف الحقيقــة -لســنا أمــا َم خطـ ٍ
أمــام خطابــن أو أكــر ،إذا جــاز لنــا ذلــك...
محمد عامرة:
"طه حسني ،من االنبهار بالغرب
إىل االنتصار لإلسالم"
د .زياد أبولنب*
نيــل شــهادة العامليّــة ،فكتــب يف هــذه املرحلــة يف عــد ٍد ـغل الدكتــور محمــد عــارة يف الدفــاع عــن طــه حســن ينشـ ُ
مــن الصحــف املرصيّــة عــن الوطنيّــة املرصيّــة والدســتور يف كتابــه "طــه حســن مــن االنبهــار بالغــرب إىل االنتصــار
والحكــم النيــايب وتحريــر املــرأة والتديــن وتحكيــم القــرآن لإلســام" الــذي صــدر ســنة ،2015كــا يظهــر يف عنــوان
والرشيعــة والفضيلــة ،وهاجــم أعــا َم العــر بـراوة أمثــال الكتــاب نفســه ،ويــرى عــارة أ َّن كتابــه ينصــف طــه حســن
املنفلوطــي والرافعــي وحافــظ إبراهيــم ،كــا نقــد التزيــي تعصبــوا آلرائــه
مــن أنصــاره ومــن خصومــه ،فهنــاك مــن ّ
باألزيــاء اإلفرنجيّــة وتحرميــه زواج املســلم مــن الكتابيّــة بوصفهــم تالميــذه األوفيــاء ،ووقفــوا عنــد أفــكاره – كــا
األوروب ّيــة ملــا ميثلــه ذلــك مــن مخاطــر عــى ديــن األرسة يقــول – التــي مثّلــت مرحل ـ َة انبهــاره بالنمــوذج الحضـ ّ
ـاري
والرتب ّيــة اإلســام ّية لألبنــاء ،ويرفــض العلامن ّيــة ،ويذهــب إىل ـاري ،وســعيه إللحــاقالغــر ّيب ،وتبشــره بهــذا النمــوذج الحضـ ّ
رضورة التــزام املســلمني بنــر اإلســام والتوحيــد ،ومحــو ـي بالعقــل الغــر ّيب ،كــا صنــع طــه حســن يف العقــل الرشقـ ّ
ـت الــرك ،وإصــاح أحــوال املــرأة ،و ُجمعــت مقاالتُــه يف سـ ِّ كتابــه "يف الشــعر الجاهــي" ســنة ،1926وكتابــه اآلخــر
مجلــدات ،جمعتهــا وطبعتهــا دا ُر الكتــب والوثائــق القوم ّيــة. فالكتــاب األ ّول
ُ "مســتقبل الثقافــة يف مــر" ســنة ،1938
بــرأي عــارة ميثّــل ق ّمـ َة املجازفــة الفكريّــة والعدوان ّيــة عــى
املرحلـ ُة الثانيــة :املرحلـ ُة التــي عــاد فيهــا مــن فرنســا بعــد عــد ٍد مــن عقائــد اإلســام ومقدســاته ،أ َّمــا الكتـ ُ
ـاب الثــاين
حصولــه عــى الدكتــوراه ســنة " ،1917مبهــورا ً" بالغــرب ـامي بالنمــوذجـاق الــرق اإلسـ ّ ميثّــل ق َّمــة محاوالتــه إلحـ َ
ـي ..والتــي كان فيهــا "درويشً ــا"
ـي والرومــا ّين والفرنـ ّ
اإلغريقـ ّ وقســم عــارة مراحــل فكــر طــه ـاري الغــر ّيب العلــا ّينّ ،
الحضـ ّ
يف عــامل التغريــب ،تجــاوزت فيهــا مجازفاتــه الفكـ َر والحضارة حســن إىل أربــع مراحــل ،وهــي:
إىل حيــث اقــرف العــدوا َن عــى عــد ٍد مــن عقائــد اإلســام
ومقدســاته ..ولقــد امت ـ ّدت هــذه املرحلــة لتشــمل حقبــة املرحلــ ُة األوىل :بداياتــه الفكريّــة ،قبــل الســفر إىل فرنســا
العرشينيــات مــن القــرن العرشيــن. ســنة 1914م ..وهــي التــي ميكــن أن تأخــذ عنــوان[ :مرحلــة
يشــارك طــه حســن يف هــذه املرحلــة ويدافــع عــن علمنــة الشــيخ طــه حســن].
اإلســام ،كــا جــاءت يف كتــاب عــي عبــد ال ـرازق "اإلســام تلــك املرحلــ ُة التــي بــدأت بالتحاقــه بالجامعــة املرصيّــة
وأصــول الحكــم" ،فلــم يعــد مــروع اإلحيــاء اإلســامي األهليّــة بعــد حرمانــه مــن شــهادة العامليّــة األزهريّــة
بنظــره صال ًحــا ،بــل لقــد أخــذ يتّهــم اإلســام بالتناقــض مــع بســبب متـ ّرده عــى الدراســة باألزهــر ،فحرمــه شــيوخه مــن
شــاملٍ للحيــاة ،وبــرزت كتاباتــه التــي تقــ ّدم العدالــة العلــم الحديــث ،ويط ّبــق غلــو الشــك يف كتابــه "يف الشــعر
االجتامعيــة اإلســام ّية حـ ًـا ينقـ ُذ جامهـ َر الفقـراء والبؤســاء. يفصــل يف مبالغــات عشــقه لليونــان كــا الجاهــي" ،وأخــذ ّ
جــاء يف كتابــه "قــادة الفكــر".
ـيايس مــن الغــرب تصاعــدت نــر ُة نقـ ِـده
ـف السـ ّ .4ويف املوقـ ِ
للسياســة االســتعامريّة الغربيــة ،بالتزامــن مــع صعــود املرحل ـ ُة الثالثــة :تلــك املرحل ـ ُة التــي امت ـ ّدت مــن بدايــات
ـي يف البــاد اإلســام ّية ،وتزايــد القمــع
حــركات التحــرر الوطنـ ّ الثالثينيــات وحتــى قيــام ثــورة يوليــو ســنة 1952م ..وفيهــا
ـتعامري لهــذه الحــركات.
ّ االسـ ـري املتــدرج والبطــيء لطــه حســن ،عــر كان التط ـ ّو ُر الفكـ ُّ
العديــد مــن املنعطفــات واملتناقضــات ..وقــد وقــف "عامرة"
.5ويف السياســة الداخل ّيــة املرصيّــة ،انتقــل طــه حســن مــن عــى أهــم املعــامل البــارزة يف تلــك املرحلــة ،والتــي ش ـكّلت
معســكر أحــزاب األقل ّيــة التــي زاد عج ُزهــا عــن النهــوض امتــدا ًدا فكريًّــا يف حيــاة طــه حســن:
ـي ،والتــي عجــزت عــن الدفــاع عــن مبهــام االســتقالل الوطنـ ّ
مواقفــه الفكريّــة. .1خلــ ّو كتاباتــه مــن أيــة إســاء ٍة إىل اإلســام الديــن،
ـاري ملحوظًــا يف العطــاء الفكـ ّ
ـري ـب الحضـ ُّ .6وظـ َّـل التغريـ ُ ومقدســاته ورمــوزه.
لطــه حســن –خــال هــذه الحقبــة ،وخاصــة يف كتابــه
(مســتقبل الثقافــة يف مــر) ســنة 1938م -الــذي مثّــل ذر ّو َة ـب إســامياتِه بهــذه الحقبــة عــى "الهامــش"ُ ،مركِّ ـ ًزا
.2أغلـ ُ
الفكــري.
ّ الحضــاري يف مرشوعــه
ّ التغريــب عــى األســاطري" التــي أحاطــت بتاريــخ صــدر اإلســام ،كــا
عــادت –بالتدريــج -إىل كتاباتــه الخاصيــة اإلســامية يف
الفكــري لطــه حســن..
ّ املرحلــ ُة الرابعــة :مرحلــ ُة اإليــاب الصــاة والســام عــى رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم
اإليــاب الرصيــح والحاســم إىل أحضــان العروبــة واإلســام.. [يف الوقــت الــذي خلــت فيــه املرحلــ ُة الثانيــ ُة يف كتابــات
وهــي املرحلــة التــي بــدأت بارتباطــه الوثيــق بثــورة "يوليــو" طــه حســن مــن الصــاة والســام عــى الرســول] ،كــا أســهم
ومعاركهــا الوطن ّيــة ضــد االســتعامر الغــر ّيب ..ويف ســبيل إســها ًما ملحوظًــا يف الدفــاع عــن اإلســام ضــد التنصــر
ال ُهويــة العرب ّيــة والقوم ّيــة العرب ّيــة.. واملنرّصيــن ،وضــد البهائيــة والبهائيــن ،ويف لفــت األنظــارّ
اإلســامي.
ّ إىل منــاذج دعــوات التجديــد
يــرى عــارة أن طــه حســن قــد آب يف هــذه املرحلــة واكــب هــذا التو ّجــه عنــد طــه حســن كبــا ُر الكتّــاب الذيــن
"عقــا إســام ًّيا" متألقًــا ..وهــو منطلــق
ً الختاميــة ليمثّــل انشــغلوا يف الكتابــات اإلســام ّية ،أمثــال :الدكتــور محمــد
دفــاع عــارة عــن طــه حســن يف كتابــه الــذي نقــف عــى حســن هيــكل ،عبــاس محمــود العقــاد.
فصولــه ،ليتعــ ّرف القــارئ الحصيــف عــى طــه حســن
املنتــر لإلســام واملدافــع عنــه ،وقــد بــدأت مرحلــة اإليــاب .3ويف السياســة اإلســاميّة وعالقــة الديــن بالدولــة توالــت
واالنتصــار الحاســم للعروبــة واإلســام ( ،)1960-1952أي تأكيداتــه عــى شــمول اإلســام للديــن والدولــة كمنهــا ٍج
أفكار /دراسات ومقاالت 41
بلغــت الســيارة ذلــك املــكان وتوقفــت ،حتــى تر ّجــل طــه بــدءا ً مــن ثــورة الضبــاط األح ـرار عــام 1952عــى امللك ّيــة،
حســن ،وقبــض مــن ت ـراب الحديبيــة قبضــة فش ـ ّمها ،ثــم بــداًل مــن النظــام امللــيّ ،وأعلــن
وقيــام نظــام جمهــوري ً
متتــم ودموعــه تنســاب عــى ال ـراب قائـ ًـا :واللــه َّإيَّن ألشـ ّم بــرورة حاكميّــة القــرآن الكريــم والنصــوص الدينيــة عــى
رائحــة محمــد صــى اللــه عليــه وســلم يف هــذا الــراب الدســتور والقوانــن ،وانحــاز إىل عروبــة مــر وإىل القوميّــة
الطاهــر .وهـ ّدأ مرافقــه مــن روعــه عــى مــدى نصف ســاعة العرب ّيــة ،التــي صاغهــا اإلســام منــذ ظهــوره ..معتـ ًرا رســول
مــن الرحلــة .ثــم اســتمر الركــب حتــى دخــل الحــرم مــن الحقيقــي للقوم ّيــة
ّ األب
اللــه صــى اللــه عليــه وســلم َ
بــاب الســام ،والدكتــور ال يــكاد يخفــي زلزلــة إميانــه عــن العربيّــة ،واعتــر اللغــة العربيــة والديــن اإلســامي ورســول
رفيقــه .وتو ّجهــا إىل الكعبــة ،فتســلم الحجــر وقبّلــه باكيًــا، هــذا الديــن صــى اللــه عليــه وســلم أه ـ َّم أركان العروبــة
ـي حتــى أتـ َّم واســتمر يطــوف يف خشــو ٍع ضــار ٍع وبــكاء خفـ ّ والقوميــة العربيــة.
ـي أكــر مــن البــد ّين عمرتــه ،وقــد أخــذ منــه اإلرهـ ُ
ـاق النفـ ُّ
كل مأخــذ. قــام طــه حســن برحلتــه الحجازيّــة عــام 1955وزار مكــة
ـي إىل واملدينــة ،فكانــت زيارتــه هــذه مبثابــة اإليــاب الروحـ ّ
وذكــر أمــن الخــويل أ َّن "طــه حســن حــن اســتلم الحجــر ـب أخضــان اإلســام كــا وصفهــا ،وقــد ُســئل فيهــا عــن أحـ ِّ
األســود ظــل يتن ّهــد ويبــي ،وق ّبــل الحجــر حتــى وقفــت ـتوســئل مــا بيـ ُـب منهــا شــيئًا؟! ُ
مؤلفاتــه إليــه؟ فقــال :ال أحـ ُّ
ـب الكبـ ُر
مواكــب املعتمريــن انتظــا ًرا ألن يغــادر هــذا األديـ ُ الشِّ ــعر الــذي راقكــم ورددمتــوه وحفظتمــوه ألول وهلــة؟
الكفيــف مكانَــه ،ولك ّنــه أطــال البــكاء والتن ّهــد والتقبيــل،
ُ فأجــاب :ال أذكــر ..إمَّنَّ ــا الــيء الــذي ال شـ َّـك فيــه هــو أنّنــي
ونــي نفســه فرتكــوه يف مكانــه ،وأجهشــوا معــه يف البــكاء أكــر مــا أتلــو بينــي وبــن نفــي آيــات مــن القــرآن الكريــم،
والتنهيــد"! وأنــا أكــر ترديــ ًدا للقــرآن مــن الشــعر ..وعندمــا انهالــت
وبعــد أداء العمــرة طلــب طــه حســن ترتيــب الســفر إىل عليــه األســئلة حــول انطباعاتــه الروحيّــة عــن هــذه الرحلــة
ـري كان مغل ًقــا بســبب املدينــة املن ـ ّورة ..لكــن الطريــق الـ ّ الحجازيّــة؟ كان جوابــه الدائــم" :إ َّن أ ّول مــا شــعرت بــه ومــا
الســيول التــي حدثــت ذلــك العــام -وطــه حســن ال يركــب ـب زلــت أشــع ُر بــه إىل اآلن ،هــو هــذا الــذي يجــده الغريـ ُ
الطائـرات أبـ ًدا! ..لك ّنــه ص ّمــم عــى الســفر إىل املدينــة -وإن حــن يــؤوب بعــد غيبــ ٍة طويلــ ٍة جــ ًّدا إىل موطــن عقلــه
بالطائــرة ،وبطائــرة أبعــد مــا تكــون عــن الراحــة واألمــان!.. وقلبــه وروحــه مبعنــى عــام".
خاصــة -مــع الوفــد
ولقــد وصــل إىل املدينــة –عــى طائــرة ّ
املرافــق لــه يــوم األربعــاء 2جــادي اآلخــرة 1374هــــ 26 ولقــد أحــرم طــه حســن –يف جــ ّدة -وركــب الســيارة
النبــوي
ّ ينايــر 1955م ..وات ّجــه مــن املطــار إىل املســجد قاصـ ًدا م ّكــة ألداء العمــرة ..وأوعــز إىل الشــيخ أمــن الخــويل
الرشيــف ،وبعــد صــاة يف الروضــة املطهــرة ،وزيــارة قــر [1385-1313هـــ1966-1896/م] -رفيقــه يف هــذه الرحلــة
املصطفــى صــى اللــه عليــه وســلم تف ّقــد عــارة املســجد املــري باملؤمتــر – أوعــز إليــه
ّ الحجازيّــة ،ورئيــس الوفــد
والتوســعة الجديــدة لــه ،وزار املآثــر الخالــدة.. بإيقــاف الســيارة لحظــ َة وصولهــا إىل الحديبيــة .ومــا إن
42
ت ـ ّوج طــه حســن رحلتــه الروح ّيــة مبراجعاتــه الفكريّــة يف ولقــد وصــف هــذا املشــهد وصفًــا أضفــى عليــه شــعو ًرا
كتابــه "مــرآة اإلســام" ســنة ،1959والــذي نقــض فيــه لــكل بجــال املوقــف ،وطغــى عليــه الشــعو ُر بعظمــة هــذا
ي" ،وكتابــه
مــا ســبق وذكــره طــه حســن "يف الشــعر الجاهـ ّ املســجد الــذي كان مهبــ َط الرســالة ،ومصــدرا ً النتشــار
"الشــيخان" ســنة .1960 اإلســام الحنيــف..
كتــاب "طــه حســن مــن االنبهــار بالغــرب إىل ُ يتضمــن كان طــه حســن يــر ّدد دعــا ًء حفظــه عــن ظهــر قلــب بقولــه:
االنتصــار لإلســام" شــواه َد عديــد ًة مبــا ذهــب إليــه الدكتــور "الَّلهــم لــك الحمــد أنــت نــور الســموات واألرض ،لــك الحمد
محمــد عــارة مــن مؤلفــات طــه حســن ومقاالتــه وســرته الحــق
ُّ أنــت رب الســموات واألرض ومــن فيهــن .أنــت
ومراســاته ،ومــا كُتــب عنــه مــن مؤلفــات ومقــاالت ووعــدك الحـ ُّـق ،والجنــة حـ ُّـق ،والنــار حـ ُّـق ،والنب ّيــون حـ ُّـق،
منشــورة ،ومل يــأت عــاره بــكالم منــارصي طــه حســن أو والســاعة حـ ُّـق ،اللهــم لــك أســلمت ،وبــك آمنــت ،وعليــك
خصومــه ،وإمَّنَّ ــا جــاء بــكالم طــه حســن نفســه. توكّلــت ،وإليــك أنبــت ،وبــك خاصمــت ،وإليــك حاكمــت،
فاغفــر يل مــا قدمــت وأخــرت ،ومــا أرسرت ،ومــا أعلنــت،
أنــت إلهــي ،ال إلــه إال أنــت!".
أفكار /دراسات ومقاالت 43
مــن معطيــات ،واســتنتاج ال َّنســق الــذي بُنيــت عليــه ،فيُعـ ّد "التعادل هو الحقيق ُة األوىل لحياة األرض"
مــن مهــام الناقــد وليــس الفنــان ،كــا يعـ ِّـر توفيــق الحكيــم توفيق الحكيم :التعادل ّية ،ص10
األدب ذو يديــن "مينــاه الخالـ ُـق الــذي عــن ذلــك بقولــه إ َّن َ
ـر" ...إالّ يُنتــج ويبتكــر ،وي ـراه النق ـ ُد الــذي ينظِّــم ويفـ ّ متهيد
إ ّن الحكيــم يف كتابــه (التعادليّــة) يأخــذ األدب مــن يديــه
يقــول "كارل بوبــر"" :كل إنســان هــو فيلســوف ،أكان ُ
ـر إلنتاجــه األد ّيب،االثنتــن ،حيــث يقــوم بــدور الناقــد واملفـ ِّ
رأي أو
ـب مختلفــة ،فهنــاك دامئًــا ٌ ذك ـرا أم أنثــى ،إمَّنَّ ــا بنسـ ٍ
وبهــذا يعانــق األدب "الحكيــم" بيديــه ،ويتحــ ّول بعدمــا
موقـ ٌـف ،والفلســف ُة ليســت بعيــد ًة ج ـ ًّدا عــن ذلــك" ،فــإذا
ـب يف الوقــت نفســه .ويعلّــق (زيك كان أدي ًبــا إىل ناقـ ٍـد وأديـ ٍ
لــكل إنســان رؤيتــه الخاصــة للكــون الضخــم مــن كان ّ
نجيــب محمــود) عــى هــذا االجتــاع الجميــل يف كتابــه:
حولــه ،وفهمــه الخــاص ملعنــى الحيــاة واإلنســان ،وحتــى
"قليــا مــا يجتمــع
ً "ثقافتنــا يف مواجهــة العــر" ،فيقــول:
فلســفته الخاصــة يف الحيــاة ،فــإ ّن هــذا ال يعنــي أ َّن يف
األديــب والناقــد يف رجــلٍ واحــد ،يكــون اليــوم أدي ًبــا ثــم
اســتطاعة كل إنســان التعبــر عــن هــذه الرؤيــة أو املوقــف،
يصبــح يف غــد ناقـ ًدا ألدبــه مســتخر ًجا منــه أصولــه ومبادئــه،
وإن كان يف املســتطاع ذلــك ،فــإ َّن أشــكال التعبــر تختلــف
وقــد كان الحكيــم بكتابــه "التعادليــة" واح ـ ًدا مــن هــؤالء
مــن حيــث العمــق والنضــج ،وباختــاف مســتوى اإلنســان
القلّــة التــي التقــى فيهــا خلــق األديــب وتحليــل الناقــد".
الــذي يريــد أن يكشــف عــن فهمــه للحيــاة ،هــذا الفهــم
ُ
وأشــكال التعبــر التجــارب واملشــاهدات.
ُ الــذي تصنعــه
قص ُة الكتاب
• ّ خاصــة ،فائقــ ُة املســتوى ،إذ إنَّهــاعنــد الفنــان بصفــة ّ
تتل ّخــص قص ـ ُة كتــاب "التعادليّــة" (- )1955كــا يــروي لنــا
الســطحي ملظاهــر الحيــاة
ّ تتجــاوز التعبــر عــن املســتوى
الحكيــم -أ َّن واحــ ًدا مــن القــ ّراء الجا ّديــن إلنتاجــه األديب،
ـي العميــق يف العقــل بشــكل شــمو ّيل ،إىل التعبــر عــن الوعـ ّ
ِ
مؤلفات رأي مفــاده أ َّن
انتهــى بعدمــا قــرأ كتــب الحكيــم إىل ٍّ
ولــكل
ِّ الباطــن ،وتف ّجــر املفاهيــم الفكريّــة والشــعوريّة،
الحكيــم يف مجموعهــا ،محاول ـ ٌة لتفســر اإلنســان يف وضعــه
فنــان أســلوبه الخــاص وصياغتــه الخاصــة بــه يف تقديــم
ـاص مــن
العــام مــن الكــون بزمانــه ومكانــه ،ويف وضعــه الخـ ِّ
ـي منــه وعــن غــر نظرتــه ورؤيتــه الفن ّيــة للحيــاة ،عــن وعـ ٍّ
املجتمــع بأجيالــه وبيئاتــه ،وأراد هــذا القــارئ أن يختــر
وعــي ..أ ّمــا دراســة األعــال الفن ّيــة واســتخالص األفــكار
فهمــه ومســتوى قراءتــه ألفــكار الحكيــم ،فســأل الحكيــم
الجوهريّــة منهــا وتحديــد املواقــف بنــاء عــى مــا تق ِّدمــه
الحكيــم للتأكيــد عــى حقيقــة النظريــة التعادل ّيــة يف املــادة يف رســالة عــن مذهبــه يف الحيــاة والفــن ،ليقــارن جــواب
والــروح ،ويبلــغ عــدد الثنائيــات تســع عــرة ثنائيــة أو توصــل إليهــا هــو ،فانتهــز الحكيــم الحكيــم بالنتيجــة التــي ّ
ـب بتــدر ٍج بسـ ٍ
ـيط تعادليّــة ،يف هــذا الكتــاب ،ويبــدأ الكاتـ ُ فرصــة الســؤال ،وقــام بإعــداد اإلجابــة للنــر عــى أنَّهــا
ليصــل إىل أفــكاره الكبــرة ،فيبــدأ بصفــة اإلنســان الرئيســة مذهبــه يف الحيــاة والفــن (التعادليّــة) ،هــذه اإلجابــة التــي
وهــي أنَّــه الكائـ ُن املعــروف لنــا جمي ًعــا ،الــذي يعيــش عــى ترمــي إىل إنــارة ســبيل الجمهــور ...ونــر الحكيــم كتــاب
هــذه األرض ،ثــم يتســاءل عــن األرض ،مــاذا متثّــل؟ ليســحب "التعادل ّيــة" عندمــا بلــغ ســبعة وخمســن عا ًمــا ،وحينــا
منهــا صفتهــا املتعادلــة "وهــي أنَّها-األرض-كــرة وتعيــش كانــت مؤلفاتــه وعددهــا ثالثــون متثّــل قاعــد ًة ورصيــ ًدا
بالتــوازن أو التعــادل بينهــا وبني كــرة أضخم ..هي الشــمس.. أدبيًّــا ،يحكــم بــه كثــ ٌر مــن األدبــاء ،وكان يف تلــك الفــرة
فــإذا اختـ ّـل هــذا التعــادل ابتلعتهــا الشــمس ،أو ضاعــت يف مــن حياتــه ،متزو ًجــا وأبًــا لطفلــن ،وول ًّيــا البنتــي زوجتــه
الفضــاء" (التعادل ّيــة-ص ،)10ثــم ينتقــل إىل اإلنســان الــذي مــن زوجهــا األ ّول ،كــا كان محافظًــا لــدار الكتــب الوطن ّيــة
يعيــش عــى هــذه األرض التــي قانــون عيشــها ،التعــادل، وعض ـ ًوا باملجمــع العــريب ،وقــد ت ُرجمــت بعــض أعاملــه إىل
ليتســاءل :هــل صفــ ُة التعــادل هــذه تقتــر عــى األرض عــدة لغــات ،وأصبــح بــارزًا يف الكتــب املدرس ـيّة ،وعنــوان
فقــط ،أم أ َّن اإلنســا َن أيضً ــا يحكمــه قانــو ُن التعــادل هــذا؟. كتابــه (التعادل ّيــة) كُتــب تحتــه (مذهبــي يف الفــن والحيــاة).
إ َّن الحقيقــة األول َّيــة يف حيــاة اإلنســان أ َّن حياتــه تحكمهــا تحمــل
ُ صفــوة القــول :إ َّن كتــاب التعادل ّيــة مبثابــة وثيقــ ًة
عمليـ ُة التن ّفــس ،والتن ّفــس هــو ذلــك التعــادل بــن حركتــي عصــارة فكــر الحكيــم وترســم املنحنــى البيــا ّين لتطــ ّوره
الشــهيق والزفــر ،وإذا اختـ ّـل هــذا التــوازن بــن الحركتــن ـري يف حياتــه الطويلــة وألهــم نقــاط التمفصــل فيــه، الفكـ ّ
تعطلــت عمليــة التنفــس ،وبالتــايل ينتهي اإلنســان ،فالرتكيب يحــب الظهــور دو ًمــا مبظهــر املفكِّــر ُّ وقــد كان الحكيــ ُم
ـادي لعمليــة الحيــاة يخضــع خضو ًعــا جربيًّــا للتعــادل ،ثــم املـ ّ يوصــف بصفــة املفكِّــر "...وإمَّنَّ ــا أنــا مفكِّــر
َ ويحــب أن
ُّ
ـي يف اإلنســان ،ليصــل إىل ينتقــل الحكيــم إىل الرتكيــب الروحـ ّ ـايس هــو الشــموليّة ،مف ِّك ـ ٌر ،هــذا هــو مختلـ ٌـف يف يشء أسـ ّ
الفكــرة ذاتهــا ،فالحيــاة الروحيّــة يف اإلنســان تحكمهــا قوتــان ي أو ينــادوين بــه". حــب أن يطلقــوه عــ َّاللقــب الــذي أُ ُّ
ُ
هــا :الفكّــر (ميثّلــه العقــل) والشــعور (ميثّلــه القلــب)،
ـادل بــن هاتــن الق ّوتــن، ومعيــار الســامة هــذه هــو التعـ ُ يف مفهوم التعادل ّية
ـبب األم ـراض العقليّــة والعصبيّــة، ـاب التعــادل هــو سـ ُ وغيـ ُ رســا للدائــرة الفكريّــة التــي ً كتــاب التعادليّــة
ُ ِّــل
ميث ُ
وكأنَّــه يريــد أن يقــول :مــادام قانــون الحيــاة الــذي خلقــه كانــت تــدور حولهــا مرسحياتــه ورواياتــه وحتــى مقاالتــه،
اللــه تعــاىل (=تعــادل األرض ،التعــادل عــى مســتوى املــادة، ويطالعنــا الحكيــم يف مقدمــة كتابــه ،بقــو ٍل يحــ ّدد فيــه
الجاذب ّيــة ،تعــادل حركتــي التن ّفــس ،الليــل والنهــار ) ..والــذي ـر الحيــاة اإليجابيــة بأنَّهــا
معنــى التعادل ّيــة" :التعادل ّيــة تفـ ّ
ـادي) ،مبنــي عــى تعــادل القــوى ليــس لنــا اختيــار فيــه (مـ ّ رضورة وجــود جملــة قــوى تتقابــل وتتــوازن ،مناهضــة
املتضــادة ،فمــن املســتحيل أن تجــد قــوة أســمى مــن هــذا بعضهــا بعضً ــا يف الكــون واملجتمــع" (التعادليّــة-ص.)03
القانــون ،ألنَّــه املثــال أو النمــوذج املطلــق العــام ،فــإذا أردت ويف الكتــاب منــاذج مــن الثنائيــات املتزاوجــة ،يســتعملها
46
عنــد اإلنســان هــو العقــل ،والقانــون يتلخّــص يف وجــوب أن تعيــش حيــاة روح ّيــة ســليمة ،فعليــك أن تح ّقــق التعــادل
توفّــر إميــانٍ وعقــلٍ م ًعــا ،يعمــان يف تعــادل"َّ ..إيَّن أومــن بأ َّيَّن بــن قطبيهــا ،والنتيجــة يف نهايــة املطــاف أن"اإلنســان كائــن
لســت وحــدي ،ألين أشــعر بذلــك ومل أفقــد إميــاين ،ألننــي ُ متعــادل ماديًّــا وروحيًّــا" (التعادليّــة-ص.)11
رجـ ٌـل متعــادل ،ولك َّننــي مــن جهــة أخــرى أف ِّكــر بعقــي ال
لــي أدعــم إميــاين بـأ َّيَّن لســت وحــدي ،بــل ألعــرض املســألة ُ
التعادل يف املسألة امليتافيزيقية واألخالق
أمــام تفكــري بعي ـ ًدا عــن اإلميــان" (التعادليــة-ص.)22 ـاءل الحكي ـ ُم يف املســألة امليتافيزيق ّيــة (وضــع اإلنســانيتسـ ُ
أ َّمــا عــن مســألة الحريــة اإلنســانيّة فــرى الحكيــم أ َّن فيقســم املســألة إىل قســمني :أولهــا يســأل
العــام يف الكــون)ّ ،
ي يف اإلنســان يشــهد بحريتــه ،دون الحيــوان، الجانــب العقـ ّ عــن اإلنســان إذا كان وحيـ ًدا يف هــذا الكــون؟ .وثانيهــا يســأل
والعقــل هنــا مــا هــو إال مشــاهدات واســتدالل مــن عــن حريــة اإلنســان يف هــذا الكــون ،هــل هــو حـ ٌّر أم تح ّده
املشــاهدات ،أ َّمــا املشــاهدات فتقــ ّدم املعطيــات التــي ـر الحكيــم املســألة مــن وجهــة نظــره قيــود؟ .وقبــل أن يفـ ّ
ـص عــى أ َّن الحيــوان تسـ ّـره غرائــزه ،وهــي ق ـ ّو ٌة تحكــم تنـ ّ التعادليّــة ،يعــرض وجهــة النظــر الســائدة باحثًــا يف علّتهــا،
ترصفاتــه ،فــا يحتــاج الحيــوان إىل تعليــم أو تدريــب ،يف ثــم يحــاول أن يبـ ّـن ســامة رأيــه باســتبدال حالــة الفــوىض
حــن أن اإلنســان يولــد عاجــ ًزا عــن املــي والــكالم ،وال تعليــا ل(تأليــه اإلنســان)
ً بالتعــادل ...ثــم يقــ ّدم الحكيــم
مثــا ،لذلــك يختــزن حضارتــه يف جوفــه كالنمــل والنحــل ً ـادل الــذي كان قامئًــا حتــى مطلــع القــرن فيقــول" :إ َّن التعـ َ
يكتســب ويتعلــم ،ويصنــع حضارتــه بنفســه وبإرادتــه ،هــذه التاســع عــر بــن قـ ّوة العقــل وقـ ّوة القلــب ،أي بــن نشــاط
هــي املشــاهدات ،ونســتدل منهــا أ َّن الحيــوان مجــ ٌر يف اختــل منــذ ذلــك الوقــت َّ التفكــر ونشــاط اإلميــان ،قــد
ســلوكه ،ال اختيــار لــه يف ترصفاتــه ،أ َّمــا اإلنســا ُن فهــو ح ـ ٌر ي ،واســتمرار جمــود الجانــب بتــوايل انتصــارات العلــم العقـ ّ
رف مبحــض إرادتــه واختيــاره ،ويــرى الحكيــم بــأ َّن هــذه يتـ ّ الدينــي" (ص )17ويضيــف الحكيــم أ َّن القلــق مــا هــو إال ّ
الحريــة التــي ميتلكهــا اإلنســان ليســت مطلق ـةً ،بــل هــي نتيجــة الختــال التــوازن بــن العقــل (التفكــر) والقلــب
مقيــد ٌة بقــوى خارجيــة "اإلنســا ُن عنــدي حــ ٌّر يف ات ّجاهــه تجســدت يف (اإلميــان) .وأ َّن فكــرة االختــال هــذه قــد ّ
حتــى تتدخــل يف أمــره قــوى خارج ّيــة أسـ ّميها أحيانًــا القــوى مرسحيــة "أهــل الكهــف" ( ،)1933عندمــا وضعــت عالقــة
اإلله ّيــة ،حريّـ ُة اإلرادة يف اإلنســان عنــدي مق ّيــدة ،شــأنها يف العقــل والقلــب يف إطــار مشــكلة الزمــن ،كــا كان ملرسحيــة
ذلــك شــأن حريــة الحركــة يف املــادة" (ص .)31وهــذه هــي "شــهرزاد" ( )1934املوضــوع نفســه ،لكــن يف إطــار مشــكلة
ي ،وينظــر النتيجــ ُة الحاصلــة باســتعامل االســتدالل العقــ ّ املــكان ..وينتهــي الحكي ـ ُم إىل التفســر التعــاد ّيل للمســألتني
الحكيــم إىل املســألة بعــن القلــب ،فيجــد النتيجــة نفســها، الســابقتني ،وهــو أ َّن اإلنســان ليــس إل ًهــا يعيــش وحي ـ ًدا يف
وهــي أ َّن اإلنســا َن حــ ُّر اإلرادة ،حريــة قــد تتدخــل فيهــا هــذا الكــون ،وبيــده الســيطرة املطلقــة ،بــل هنــاك يف الكون
فالعقــل واإلميــا ُن يؤديــان إىل ُ القــوى الكونيّــة املجهولــة. قــوى غــر ماديّــة تصــارع قــوى روحيــة يتــم إدراكهــا بنــور
النتيجــة نفســها ،وبنــا ًء عــى هــذه الفكــرة يبنــي الحكيــم اإلميــان أي مركــز إدراكهــا القلــب ،أ َّمــا فكــرة الرجــل فــوق
ـول" :إراد ُة مرسحياتــه ،ويل ّخــص النتيجــة بعــن التعــادل فيقـ ُ اإلنســان أو األرقــى ،التــي تتطلــب الكفــاح فمركــز إدراكهــا
أفكار /دراسات ومقاالت 47
طبيع ُة العامل
يف فلسفة ابن رشد
عبد اللطيف بطاح*
تقديم
األ ّول جــراء رشوحــات وتفســرات ســابقي الشــارح األكــر ملَّــا شـكّلت شــخصي ُة ابــن رشــد ،Averroèsمرجعيّـ ًة رئيسـ ًة
مــن فالســفة اإلســام. يف الفلســفة الوســطيّة ،لدرجــة أن امتــد أثرهــا وتأثريهــا إىل
رمبــا هــذا هــو مــا دفــع قــراء نصــوص ابــن رشــد ،إىل أبعــد مــن ذلــك ،احتـ َّـل الفيلســوف مكان ـ ًة كبــر ًة يف تاريــخ
التأكيــد عــى تفســرات شــديدة االختــاف فيــا بينهــا، ـفي ،جعلــت فلســفته يف أوروبــا تُــر ِّد ُد اســمهالفكــر الفلسـ ّ
كونــه ّأســس مــن خاللهــا الــرح لفلســفة مفتوحــة ،تقــف بــا انقطــاع عنــد الكثــر مــن املفكّريــن الذيــن تأثــروا بأبعاد
ــل عــى خــارج الســياجات الدوغامئيّــة املغلقــة ،ومــا يد�ل ِّ ُ منهجــه وفلســفته ،ســواء بالهجــوم ،أم االســتفادة مــن منهجه
ذلــك هــو دفاعــه عــن الفلســفة وحديثــه عــن التأويــل ـدي ،لذلــك ارتأينــا يف هــذه الصفحــات الحديــث عــن النقـ ّ
ـدي،
حســه النقـ ّ ،Interprétationالــذي وصــل إليــه بفضــل ّ طبيعــة العــامل يف فلســفته ،متّبعــن داخلهــا منه ًجــا مختل ًفــا
ي يقــوم عــى أســاس العقــل. وتأسيســه ملنهــ ٍج تحليــ ٍّ عــن مناهــج البحــث الشــائعة ،والتــي كثــ ًرا مــا أظهــرت
عالجــت الفلســفة الرشــديّة ،بفضــل رؤيتهــا النقديّــة فلســفة الفيلســوف ،يف صــورة مختلفــة عــن حقيقــة فكــره،
ـرة ،مثلهــا مثــل فلســفات زمانهــا ،مشــكلة التوفيــق املتبـ ّ وتسـ ّببت يف الحكــم عليــه هــو وفلســفته بالكفــر والزندقــة،
بــن الديــن باعتبــاره وح ًيــا أنزلــه اللــه مــن الســاء، وحاســبته مبتطلبــات عــر آخــر غــر العــر الــذي نشــأ
والفلســفة التــي توصــل إليهــا اإلنســان مــن خــال تجاربــه فيــه هــو وفكــره.
عــى األرض ،كونهــا القضيــة التــي شــكّلت محــور الفكــر
اإلســامي كلــه ،إضافــ ًة إىل اهتاممــه بقضايــا ّ الفلســفي
ّ جديــر بالذكــر ،يف هــذا التقديــم ،أ َّن الــدور الخالــد الــذي
شــغلت فلســفات العــامل القديــم ،مــن قبيــل :الله/العــامل/ لعبتــه نصــوص ابــن رشــد ،يف إغنــاء الـراث اإلنســا ّين ،ليــس
اإلنســان ،إىل جانــب حديثــه عــن مســألة خلــود النفــس، يف املــرق فقــط ،وإمَّنَّ ــا يف العــامل األورو ّيب أيضً ــا ،حتــى
وتناولــه لقضايــا أخــرى مه ّمــة ومتنوعــة ،بعضهــا يتصــل أصبحــت الرشــديّة الالتينيّــة مــن املوضوعــات الفلســفيّة
بالعقيــدة ،وبعضهــا باألخــاق ،وبعضهــا بالسياســة ،وبعضهــا التــي مــا زالــت يف حاجــة إىل زيــادة إيضــاح ،وذلــك راجع إىل
بالتجربــة الدين ّيــة ذاتهــا. دقــة لغتهــا ،وعظمــة فكرهــا ،وفصاحــة أســلوبها ،وعقالنيتهــا
لعــل أهــ َّم القضايــا التــي عالجهــا ابــن رشــد ،مرتبطــة َّ الناقــدة املتحــررة ،بحيــث حاولــت تقديــم الفكــر الفلســفي
بإشــكالية طبيعــة العــامل ،مــن حيــث إنَّهــا إشــكالية جعلــت ـطي للحضــارات الالحقــة ،بكيفيّـ ٍة تخلــو مــن الغمــوض األرسـ ّ
الشــيخ األكــر بــن عــريب ،Ebn al‘Arabiيشــهد لحنكــة ابــن واألخطــاء والشــوائب التــي تع ّرضــت لهــا فلســفة املعلّــم
* باحث مغريب
أفكار /دراسات ومقاالت 51
52
الفالســف ُة األوائــل ،مراعــن يف ذلــك تأويــات املتكلّمــن التــي رشــد ،يف إحــدى أشــعاره الصوفيــة مبــا يــي:
كانــت مبثابــة عقيــد ًة رســم ّي ًة للدولــة. "هذا اإلما ُم وهذه أعاملُه يا
هكــذا وجــد ابــن رشــد نفســه بــن أرســطو واملتكلّمــن ،بــن ()1
ليت شعري هل آتت آماله؟"
الربهــان واملرصحــن بالربهــان لغــر أهلــه أصحــاب الجــدل، ونخصــص للحديــث عــن قضيــة طبيعــة العــامل يف فلســفة ِّ
ُمفضِّ ـ ًـا يف ذلــك األول عــى الفئــة الثانيــة ،تفضيلــه للربهــان ابــن رشــد ،الصفحـ ِ
ـات الالحق ـ َة عــى هــذا التقديــم علّهــا
عــى الجــدل ،مؤم ًنــا بتفــاوت مراتــب النــاس يف التصديــق، متيــط الحجــب عــن القــارئ ،وتكشــف اللثــام لــه ،آخذيــن
محــاو ًاًل اســتعاد َة أرســطو اســتعاد ًة علميّــة(.)2 بعــن االعتبــار أ َّن االقـراب ولــو نســبيًّا مــن موضــوع املقــال
لــن يتــأىت إال مبعرفــة موقــف ابــن رشــد مــن الســابقني عليــه
فهــو "مل يســتخدم الفلســف َة واملنطـ َـق يف مجــرد الدفــاع عــن مــن الفالســفة ،واملعارصيــن لــه مــن املتكلّمــة ،لذلــك جعلنــا
الديــن كــا فعــل املتكلمــون [ ] ...ولهــذا مل يكــن غري ًبــا املقــال يشــمل الحديــث عــن النقــاط التاليــة:
أن ينظــر الفالســفة باحتقــار إىل علــم الــكالم ،ويــرون أن
الفلســفي"( ،)3وهــي
ّ منهجهــم ليــس لــه قواعــد باملعنــى .1ابن رشد بني ضفتني؛ أرسطو واملتكلمة
مؤس ًســا لهــا ،فــال
القواع ـ ُد التــي رأى ابــن رشــد أرســطو ّ الظاهــر أ َّن ابــن رشــد ،يف كتابــه "تهافــت التهافــت" ،يؤكّ ـ ُد
إليــه وابتعــد عــن موضوعــات الــكالم ،ومل يناقشــها إال بقولــه "حســن ظنــي بأرســطو واعتقــادي أ َّن نظــره فــوق
لذيوعهــا بــن النــاس بســبب إفشــاء التأويــل كــا يــرح نظــر جميــع النــاس" ،أهميّ ـ َة فلســفة املعلــم األول ،متّجهــا
بذلــك يف فصــل املقــال. بحســه النقــدي نحوهــا ،مخل ًِّصــا برشوحاتــه الفلســفيّة إيّاها
ّ
بنــا ًء عــى مــا ســبق ،يظهــر أ َّن العامــل الجغ ـرا ّيف املتمثــل مــن الشــوائب التــي ألصقهــا بــه املتكلّمــون.
يف عيــش ابــن رشــد داخــل الغــرب اإلســامي ،لعــب دو ًرا إ َّن مــا يـ ِّرر انشــدا َد ابــن رشــد ،لفلســفة أرســطو ،Aristote
محوريًّــا يف بقــاء الفلســفة يف منــأى عــن مشــكالت التوفيــق هــو أنَّهــا اســتجمعت خالصــ َة الفكــر اليونــا ّين بر ّمتــه
والرصاعــات السياســيّة التــي ســادت يف املــرق ،حيــث فحصــا نقديًّــا ،مصنف ـ ًة بذلــك الفنــون إىل نظريّــة
وفحصتــه ً
اســتعاماًل
ً األرســطي
َّ اســتعمل املنخرطــون فيهــا املــ َن وعمل ّيــة حســب طبيعتهــا ،لتنتهــي إىل إثبــات وجــود محــرك
مغرضً ــا .مــن تــم تحقّقــت العــودة إىل أرســطو عــى يــد غــر متحــرك ،جوهــر أســمى ال يطالــه التغــر.
ـي ابــن رشــد بطريقــة علميّــة ،فقــد نظــر إليــه كسـ ٍ
ـند علمـ ٍّ
ومنطقــي منظــم قــادر عــى تجــاوز حالــة الفرقــة التــي ٍّ يعلــم ابــن رشــد ،أ َّن األرســطيّة علقــت بهــا شــوائب
خلقهــا املتكلّمــون بتكفريهــم بعضهــم البعــض ،ومــا ولّــده أفالطون ّيــة بعــد انتقــال الفكــر اليونــا ّين إىل اإلســكندرية،
ذلــك مــن انعكاســات عــى املســلمني عامــة(.)4 ومنهــا إىل بغــداد وســائر بــاد املســلمني ،بحيــث اس ـتُعمل
اســتعاماًل
ً األرســطي يف هــذه املرحلــة
ّ الفكــ ُر واملنطــق
مغرضً ــا يف كثــر مــن األحيــان ،ومــا زاد الطــن بلــة يف
نظــر ابــن رشــد ،تلــك املحــاوالت التوفيق ّيــة التــي قــام بهــا
أفكار /دراسات ومقاالت 53
نجــد قــول البــن ســينا يف كتــب مــن كتــب ابــن رشــد يخلــو .2موقف ابن رشد من تص ّور السابقني ومعالجتهم
مــن تعليــق عليــه ،مبــا يفيــد تقويــم اعوجاجــه والتنبيــه لطبيعة العامل
عليــه ،ومــن ضمــن ذلــك ميــل ابــن ســينا إىل القــول بقــدم
مل ينحــز ابــن رشــد لفالســفة اإلســام الســابقني عليــه
العــامل مخالفًــا بذلــك الفقهــاء واملتكلّمــن الذيــن دافعــوا
ضــ ًدا عــى املتكلمــن ،وال لهــؤالء ضــ ًدا عــى الفالســفة،
عــن كونــه حادثًــا ،ولعـ َّـل أبــر َز هــؤالء حجــة اإلســام(.)5
وإمَّنَّ ــا حــاول ومبوضوعيّــ ٍة معالجــ َة قضيّــة طبيعــة العــامل
التــي كانــت مــدار رصاع بينهــا ،إىل جانــب قضايــا أخــرى
ر ّده عىل الغزايل دفعــت الغـزايل Ghazali Alللــرد عليــه يف مؤلــف "تهافــت
ولعــل ذلــك
َّ جــل كتاباتــه
يحــاور ابــن رشــد الغــزايل يف ِّ
الفالســفة" ،فكيــف ر َّد ابــن رشــد عــى الفالســفة ومــا موقفــه
واضــح مــن خــال عناويــن بعضهــا ،كـــ "تهافــت التهافــت"،
مــن أيب حامــد الغــزايل؟
أو "بدايــة املجتهــد ونهايــة املقتصــد" و"فصــل املقــال"
وغريهــا مــن الكتابــات ،وقــد اعتُــر هــذا الحــوار أبــرز مــا
خلّفتــه الحضــارة اإلســامية ،وال زالــت تأثرياتُــه بليغـ َة األثــر
ر ّده عىل ابن سينا
يف إطــار ســعيه لتخليــص فلســفة أرســطو من الشــوائب التي
يف كتابــات دعــاة الحداثــة مــن املفكّريــن العــرب املســلمني،
أُلصقــت بهــا ،باعتبــاره معلـ ًـا أ ّو ًاًل كــا ســبقت اإلشــارة إىل
أمثــال الجابــري وطــه عبــد الرحمــن.
ذلــك ،قــام ابــن رشــد ،بالــر ِّد عــى الفلســفة الســين ّية ،وتجــدر
اإلشــارة ،إىل أنَّــه يف إطــار ر ّده عــى ابــن ســينا ،Avicenne
املالحــظ أ َّن الغـزايل ك ّفــر الفالســفة يف قضايــا عــدة ،جعلهــا
كان يــر ُّد أيضً ــا عــى الغـزايل وعــى نقده للفالســفة ،فــإذا كان
لعــل أبرزهــا قضيــةموضــوع مؤلفــه "تهافــت الفالســفة" َّ
قــدم العــامل ،وقولهــم بقــدم الجواهــر ،إاَّلَّ إ َّن ابــن رشــد رام
ـطي ،فــإ َّن الثــاين تعامــل مــع األ ّو ُل قــد حـ ّرف املقصــد األرسـ ّ
املقصــد املحـ َّرف واعتبــاره أمنوذ ًجــا يفــي نقضــه إىل نقــض
يف "تهافــت التهافــت" إثبــات املعنــى الــذي فهمــه الغ ـزايل
الفلســفة مــن أساســها ،وهــو مــا مل يستســغه ابــن رشــد،
مــن قــول الفالســفة ليــس هــو نفســه املبتغــى مــن طرفهــم،
معتـ ًرا إيَّــاه تقصـ ًرا مضاع ًفــا مــن الثــاين يف حــق الفلســفة،
مــن ثـ َّم نظــر الثــاين إىل األ ّول عــى أ َّن موقفــه ال يخلــو مــن
فابــن ســينا مل ينقــل فلســفة أرســطو كــا هــي ،وإمَّنَّ ــا أضــاف
أمريــن ،فإ َّمــا أن يكــون قــد فهــم قصدهــم وح ّرفــه وهــذا
فعـ ٌـل رشيــر ،أو أنَّــه مل يتمكــن مــن فهمــه ،وذلــك يكشــف
ـيايس اســتفحل فيــه لهــا مــن عنــده مــا يتــاءم مــع ســياقٍ سـ ٍّ
حضــو ُر علــم الــكالم ،وهــو مــا أوقــع بهــا الخلــل.
عــن كونــه أقـ َّـل درجــة علميّــة منهــم؛ أي أنَّــه ليــس مــن
يــروم ابــن رشــد ،يف ذات الســياق ،التمييــز بــن فلســفة
أهــل الربهــان ،وإمَّنَّ ــا مــن أهــل الجــدل .والداعــي إىل املوقف
أرســطو الخالصــة النقيّــة وفلســفة ابــن ســينا األرســطيّة
ـدي هــو أنَّــه يعلــن يف تهافتــه أ َّن الغــرض الــذي يرومــه
الرشـ ّ
املنحرفــة ،مؤكّـ ًدا أ َّن الغـزايل وقــع ضحيـ ًة لعــدم أخــذه مــن
هــو التشــويش ،وهــذا ليــس غرضً ــا علميًّــا نبيـ ًـا ،إذ تقتــي
الصــدر األ ّول ،وهــو يف ذلــك يقــول ضمــن مؤلفــه "تهافــت
أخــاق الحكيــم العــامل أن يســعى إىل إمتــام ،أو تصحيــح. ُ
التهافــت" ،فالقصــور يف الحكمــة إمَّنَّ ــا نتــج عــن أ َّن الغ ـزايل
أضــف إىل ذلــك أنَّــه وقــف عنــد حــدود مــا أىت بــه الفــارايب
مل ينظــر إىل رأي أرســطو إال مــن خــال ابــن ســينا .لذلــك ال
54
.3أدل ُة ابن رشد يف أزل ّية العامل وقدمه Farabi Alوابــن ســينا ،ومل يســعى إىل أخــد الحكمــة عــن
اهتــم ابــن رشــد كباقــي فالســفة اإلســام مبشــكلة حــدوث املعلــم األ ّول مبــارشةً.
العــامل وقدمــه ،وإذا كان يؤكّــد عــى القــدم فإنَّــه حــرص عىل رصح ومــن األخطــاء التــي وقــع فيهــا الغــزايل أيضً ــا أنَّــه ّ
نقــد الغ ـزا ّيل الــذي قــال بالحــدوث ،وإذا اســتحرضنا تاريــخ بالربهــان لغــر أهلــه؛ أي إىل عامــة النــاس إن كان هــو
الفلســفة اإلســام ّية ،لوجدنــا األخــرة تبــدأ مــع الكنــدي الخاصــة ،فلــم يحــرم بذلــك تفــاوت مراتــب النــاس ّ مــن
،Kindi Alالــذي أكّــد مــا وصــل إليــه الغـزايل ،عــى خــاف يف التصديــق ،إذ منهــم مــن يصــدق باألقاويــل الخطاب ّيــة،
أولئــك الفالســفة الذيــن عاشــوا بعــده" ،فالفــارايب يقــول ومنهــم مــن يصــدق بالجدليّــة ،ومنهــم مــن يصــدق
بقــدم العــامل ،وابــن ســينا ارتــى لنفســه القــول بالقــدم، بالربهانيّــة ،وهــؤالء هــم الفالســفة ،وســاهم بذلــك يف إذكاء
وكذلــك فعــل ابــن طفيــل وابــن رشــد"(.)8 الفتنــة وروح الفرقــة بــن متكلمــي اإلســام وبــن املســلمني
يســتند ابــ ُن رشــد وهــو يؤكّــد قــدم املــادة األوىل عــى ـكاًل خطـ ًرا عــى الــرع والحكمــة بصفــة عامــة ،ليكــون مشـ ً
مجموعــة مــن األدلــة ،عكــس الغـزايل الــذي أقـ َّر أ َّن "جامهري يف اآلن نفســه(.)6
الفالســفة قــد اتفقــوا عــى القــول بقــدم العــامل ،فــإن مل يــزل أ َّمــا بخصــوص قضيــة قــدم العــامل فهــي أبــرز القضايــا التــي
موجــودا ً مــع اللــه تعــاىل ومعل ـو ًاًل لــه ،ومســاوقًا لــه غــر و ّجــه فيهــا الغ ـزايل نق ـ ًدا للفالســفة إىل جانــب قضيــة يــوم
متأخــر عنــه بالزمــان مســاوق َة املعلــول للعلــة ،ومســاوقة امليعــاد وعلــم اللــه بالجزئيــات ،حيــث أكّــد فيــا يتعلــق
النــور للشــمس ،وأن تقــدم البــاريء عليــه كتقــدم العلــة بــاألوىل أ َّن الفالســفة يقولــون بقــدم العــامل ،ويف ذلــك خــروج
عــى املعلــول ،وهــو تقــدم بالــذات والرتبــة ال بالزمــان. الــرأي فيهــا عــى كونــه ُّ عــن ملــ ِة اإلســام التــي اســتق ّر
بــل ذهــب إىل تكفريهــم بهــذا القــدم ســواء مــن ناحيــة حادثًــا مخلوقًــا.
األزل ّيــة أو األبديّــة ،والقــول بــأ َّن الجواهــر كلهــا قدميــة"(.)9 االختــاف بــن الغــزا ّيل والفالســفة ُ تب ًعــا ملــا ســبق ،يغــدو
ـح أدلــة الغ ـزا ّيل يف تكفــروهــي أدل ـ ٌة رام مــن خاللهــا تنقيـ َ التســمية ،حيــث إ َّن فيــه -حســب ابــن رشــد -اختالفًــا حــول ّ
الفالســفة ،ليربؤهــم يف األدلــة األربعــة التاليــة: شــبه مــن القديــم وشــبه مــن املحــدث ،أو هــو إن شــئنا قلنــا
وســط بــن الخالــق واملخلــوق املحــدث ،ملَّــا ربطــه الفالســفة
الدليــل األول :رام الفالســفة كــا حــى الغــزايل ،التأكيــد بالخالــق قالــوا قديــم لقــدم الخالــق ،والغــزايل والفقهــاء
عــى اســتحالة صــدور حــادث عــن قديــم مطلــق ،فــإذا غلبــوا ربطــه باملخلــوق فقالــوا حــادث ،والحقيقــة أنَّــه "ليس
افرتضنــا أ َّن القديــم مل يصــدر عنــه العــامل مثـ ًـا ،نســتخلص محدثــا حقيقيًّــا وال قدميًــا حقيقيًّــا ،فــإ َّن املحــدثَ الحقيقـ َّ
ـي
منــه عــدم وجــود مر ّجــح للوجــود ،بــل إ َّن هــذا الوجــود كان ـي ليــس لــه علّــة"( ،)7رغــم فاس ـ ٌد رضورةً ،والقديــم الحقيقـ ّ
مجــرد إمــكان رصف. أن الفيلســوف ابــن رشــد أكّــد وبأدلـ ٍة عقل ّيـ ٍة أنّــه أز ٌّيل ،لكــن
يؤكّ ـ ُد هــذا الدليـ ُـل أ َّن صــدور الحــادث عــن القديــم مــن ماهــي الحجــج التــي صاغهــا إلثبــات ذلــك؟
غــر تغـ ّـر يف القديــم وقدرتــه ،مــن حيــث إ َّن هــذه املشــكلة
ترجــع يف نظــر أيب الوليــد ،للتفرقــة بــن الجــدل والربهــان،
أفكار /دراسات ومقاالت 55
يقــرب مــن الفكــرة التــي تؤمــن أ َّن العلــة إذا وجــدت وجــد وتفضيــل الثــاين عــن األول ،ليعمــل بواســطتها عــى تنقيــة
كل معلولهــا بالــرورة ،كونــه عل ـ َة العلــل ،وي ـ ُّ
ر عــى أ َّن َّ أدلــة الفالســفة مــن شــوائب الجــدل حتــى تصبــح أدلــ ًة
موجــو ٍد ال يرتاخــى فعلــه عــن وجــوده. فلســفيّةً ،لفالســفة يســعون إىل اليقــن والربهــان.
هنــا تظهــر مظاهــر النزعــة العقالنيّــة يف الفلســفة الرشــديّة،
الدليــل الثالــث :فيــه ينتــر ابــن رشــد للقــول املؤكّــد التــي تتمثّــل يف محاولــة دفاعــه عــن الفالســفة ،والدفــع بهــم
عــى أزل ّيــة العــامل ،أل َّن اإلمــكان يف األمــور األزل ّيــة يُعــ ُّد إىل اللجــوء إىل الربهــان واالبتعــاد عــن الطريــق الجــد ّيل،
يؤســس ملوقــف أقــرب إىل اليقــن مــن رضوريًّــا .وهــو هنــا ّ الــذي جعــل محاولــة الغــزايل سفســطائيّة رصفــة ،وهــو
موقــف املتكلمــن ،بحجــة أ َّن القــول بوقــت كان فيــه العــامل بهــذا ،يؤيــد مواقــف عقليّــة عظيمــة ،تؤكّــد رضورة الوصــول
ـتحياًل ثــم صــار ممك ًنــا ،أدى إىل رضورة التســليم بوجــود مسـ ً مــن الحركــة إىل املحــرك.
وقــت مل يكــن اللــه قــادر فيــه. الرشــدي األ ّول عــى
ّ مــا ســبق ذكــره ،يتّضــح أ َّن الدليــل
ـرح الغـزايل ،الــذي قبــل فيــه ـارح األكـ ُر طـ َ
وهنــا يرفــض الشـ ُ أساســا عــى دليــل الحركــة ،وكذلــك قــدم العــامل يقــوم ً
وجــود إمكانــات ال متناهيّــة العــدد قبــل وجــود العــامل، الربــط بــن الســبب واملســبب ،ومحاربــة االتفــاق والجــواز
منتقـ ًدا إيّــاه بقولــه إ َّن طبيعــة العــامل هــي طبيعــة الشــخص كل األشــياء إىل واإلمــكان( ،)10تبنــى عليــه نظريتــه يف ر ِّد ِّ
الواحــد الــذي يكــون صــدوره عــن املبــدأ األول بالنحــو الــذي األســباب الرضوريــة املحــددة.
صــدر عنــه الشــخص ،وذلــك بتوســط محــرك تكــون حركتــه
حركــة أزليّــة ،تجعــل العــامل ممكــن إمكانًــا مل يــزل. الدليــل الثــاين :ينتقــد فيــه الغــزا ّيل ،ويــر ُّد عــى آرائــه
بخصــوص ات ّبــاع الزمــان للحركــة ،معتقــ ًدا فيــه أ َّن أقــوال
الدليــل الرابــع :يفتتــح ابــن رشــد حديثــه عــن هــذا الدليــل الغـزايل غــر برهان ّيــة ،ال تســتطيع التفرقــة بــن اللــه والعــامل
بقولــه" :كل حــادث ال ب ـ َّد أن تســبقه املــادة التــي فيــه ،إذ يختــص بتطبيــق فكــرة الزمــان ،األمــر الــذي آثــار ُّ فيــا
ال يســتغنى الحــادث عــن مــادة ،وهــذه املــادة ال تكــون حفيظــة أيب الوليــد لإلقــرار مبــا يــي:
الصــور واألع ـراض والكيفيــات حادثــة ،وإمَّنَّ ــا الحــادث هــو ّ • اللــه مفــارق للزمــان ومتقــدم عــى العــامل والزمــان ،أي أنَّــه
الطارئــة عــى املــواد"( ،)12بشــكل جعلــه يختتــم معالجتــه كان منفــر ًدا وحــده بالوجود.
لقضيــة طبيعــة العــامل مبــا هــو آت: • العامل مالزم للزمان.
خاصيــة متنــح
خاصيّــة اإلمــكان ،مبــا هــي ّ • املــادة تطبعهــا ّ • الوجود صنفان:
إمكانيــة التحـ ّول للــادة إىل أن تصــر صــورة لتوجــد بالفعل. .1وجود يف طبيعة الحركة غري منفصل عن الزمان.
• املــادة يف صــرور ٍة وتحــ ّو ٍل مســتمر ،مــن صــورة ألخــرى .2وجود ليس يف طبيعة الحركة ،وأز ٌّيل ال يخضع للزمان.
أفضــل منهــا ،حيــث إ َّن هــذا التحـ ّول يجعلهــا أزليّـ ًة وقدميــة. يؤكّــد ابــن رشــد مــن خــال قولــه" :إ َّن مــن ال يســاوق
ي الــذي ســلكه ابــن رشــد تب ًعــا لهــذا ،يغــدو املنــز ُع العق ـ ُّ وجــوده الزمــان وال يحيــط بــه مــن طرفيــه ،يلــزم رضور ًة
يف تص ـ ّوره ملشــكلة األبديّــة مبن ًّيــا عــى األســاس الــذي كان أن يكــون فعلــه ال يحيــط بــه الزمــان وال يســاوقه زمــا ٌن
يقيــم عليــه مشــكلة األزليــة نفســه. محــ ّدد"( ،)11عــى ال نهائ ّيــة وجــود الفاعــل ،وهــو بهــذا،
56
خامتة
املؤمــن واملصــدق للخطــأ مــن قبــل شــبهة عرضــت لــه إذا مــا ســبق ذكــره ،نخلــص إىل القــول إ َّن ابــن رشــد اســتطاع
كان مــن أهــل العلــم مأجــور ،وإذا كان ليــس مــن أهلــه بفضــل اعتــاده عــى التأويــل معالجــ َة املشــاكل التــي
فهــو معــذور. خصوصــا
ً تخبّطــت فيهــا الفلســفة اإلســاميّة طيلــة قــرون،
ـي ،فاملهــمـص الدينـ ّ
ـفي مــع النـ ِّ
ـص الفلسـ ُّهنــا ينســجم النـ ُّ تلــك املتعلقــة مبســألة طبيعــة العــامل الــذي اعتــره قد ًميــا
هــو التفكــر وليــس النتيجــة التــي ســنخلص إليهــا مــن خالل املــادي ،ومحدث ًــا عــى مســتوى
ّ عــى مســتوى وجــوده
هــذا التفكــر ،أل َّن كل مــن الفلســفة والديــن يصفحــان عــن صورتــه ،حيــث كان تصــ ّوره مــن بــن تصــ ّورات عديــدة
الخطــأ ،الــذي ســيكون إمكانيّــ ًة مــن إمكانــات التفلســف أهــل
متباينــة ،اختلفــت باختــاف الحلــول التــي ق ّدمهــا ُ
الح ًقــا. الربهــان ،األمــر الــذي جعلــه يؤمــن بتعــدد التأويــات،
رمبــا هــذا هــو مــا جعــل ابــن رشــد أ ّو َل مــن هـذّب العلــوم ي منــاداة القــراءة عــى لدرجــة أضحــى املوقــف التأويــ ّ
وأ ّول مــن نقــل فكــر أرســطو بصــدقٍ وأمانــة ،حتــى تــ َّم منســجاًم مــع نواميــس
ً تعدديّــة املعنــى ،ليصــر معــه
فهمــه مــن قبــل الحضــارات الالحقــة ،األمــر الــذي ســيجعله العقــل ،التــي تقــوم عــى أســاس التســليم بقوانــن الكــون،
يحتـ ُّـل مكان ـ ًة بــارز ًة ال يضاهيــه فيهــا أح ـ ٌد مــن الفالســفة واالعـراف بخصائصــه الرضوريّــة التــي تقــول بتأثــر اإلنســان
أساســا للدارســات
العــرب ،مثلــا أصبحــت رشوحاتُــه تشـكّل ً يف حــوادث العــامل.
الفلســفيّة يف أوروبــا الغربيــة حتــى مطلــع العصــور الحديثة. لهــذا كان يقــول ابــن رشــد إ َّن املصيبــن مأجــورون ،وإ َّن
املخطئــن معــذورون ،فالتصديـ ُـق بالــيء مــن قبــل الدليــل
القائــم يف النفــس يشء اضطــراري ال اختيــاري ،حيــث إ َّن
الهوامش:
.11املرجع نفسه ،ص.171 . .1التلييل "عبد الرحمن" ،ابن رشد يف املصادر العربية ،املجلس األعىل للثقافة،
.12العراقي "عاطف" ،النزعة العقلية يف فلسفة ابن رشد ،املرجع نفسه، القاهرة ،الطبعة األوىل ،2002 ،ص.18 .
ص.176 . .2عابد الجابري "محمد" ،ابن رشد سرية وفكر ،مركز دراسات الوحدة العربية،
الطبعة األوىل ،بريوت ،أكتوبر ،1998ص ص.92_91 .
.3العراقي "عاطف" ،النزعة العقلية يف فلسفة ابن رشد ،دار املعارف ،الطبعة
املراجع واملصادر: الرابعة ،القاهرة ،1984 ،ص.72 :
.4عابد الجابري "محمد" ،ابن رشد سرية وفكر ،املرجع نفسه ،ص ص.166_153 .
.1ابن رشد ،فصل املقال يف تقرير ما بني الرشيعة والحكمة من االتصال، .5العراقي "عاطف" ،النزعة العقلية يف فلسفة ابن رشد ،املرجع نفسه ،ص ص.
تقديم وإرشاف محمد عابد الجابري ،مركز دراسات الوحدة العربية ،الطبعة .76_75
الرابعة ،سنة .2007 .6املرجع نفسه ،ص ص.80_76 .
.2عابد الجابري محمد ،ابن رشد سرية وفكر ،مركز دراسات الوحدة العربية، .7ابن رشد ،فصل املقال يف تقرير ما بني الرشيعة والحكمة من االتصال ،تقديم
الطبعة األوىل ،بريوت ،أكتوبر سنة .1998 وارشاف محمد عابد الجابري ،مركز دراسات الوحدة العربية ،الطبعة الرابعة
.3التلييل عبد الرحمن ،ابن رشد يف املصادر العرب ّية ،املجلس األعىل للثقافة، ،2007ص 107 .وما بعدها.
القاهرة ،الطبعة األوىل ،سنة .2002 .8العراقي "عاطف" ،النزعة العقلية يف فلسفة ابن رشد ،املرجع نفسه ،ص.137 .
.4العراقي عاطف ،النزعة العقل ّية يف فلسفة ابن رشد ،دار املعارف ،الطبعة .9املرجع نفسه ،ص.138 .
الرابعة ،القاهرة ،سنة .1984 .10العراقي "عاطف" ،النزعة العقلية يف فلسفة ابن رشد ،املرجع نفسه ،ص.
.158
أفكار /دراسات ومقاالت 57
واســتكامل مــا اعتورهــا مــن نقــص ،وف ًقــا لقواعــد رؤيتــه ـدي (1023-923م) مبكان ـ ٍة كبــر ٍة يحظــى أبــو حيــان التوحيـ ّ
للكــون ،تعبــ ًرا عــن ُهويــة هــذا العقــل. فضــا عــن ً يف الدراســات العربيّــة القدميــة والحديثــة،
ـض دراســات االســترشاق .ورغــم التعتيــم عليــه ،وضعــه البعـ ُ
ف ُّن الفلسفة يف مكانــ ٍة كبــرة .ففــي "معجــم األدبــاء" ،اعتــره ياقــوت
الفلســفي اليونــا ّين،
ّ عــارص التوحيــدي ،ترجــات الــراث وأديــب الفالســفة .ويــرى َ َ
فيلســوف األدبــاء الحمــوي،
وعايــش معظــم املذاهــب واالتجاهــات الفلســفيّة .ويف ُ
وفيلســوف فيلســوف التوحيــد، ُ د .زكريــا إبراهيــم ،أنَّــه:
مهــا مــن رســائل ً كتابــه "املقابســات" ،قــ ّدم منوذ ًجــا اإلنســان ،وفيلســوف التشــاؤم ،وفيلســوف التســاؤل،
الحــدود وقواميــس املصطلحــات والتعريفــات الفلســف ّية، وفيلســوف الفكاهــة! .أ َّمــا د .الصــاوي أحمــد ،فيعتــره عاملًــا
مســتخد ًما براعتــه اللغويّــة والبيان ّيــة يف إعطــاء اإلنســان ّية، تربويًّــا ونفســ ًّيا ،ســبق اآلخريــن يف عــر الحداثــة بألــف
منوذ ًجــا لهــذه التعريفــات التــي لــو ُجمعــت ألصبحــت عــام تقريبًــا .فكانــت تنظرياتــه وآراؤه ،مبثابــة محــاور دارت
مهــا للمصطلحــات الفلســفيّة ،ومنهــا107 ، ً قاموســا
ً حولهــا كتاباتهــم ،واعتمــدت عليهــا نظرياتهــم املتعلقــة
تعريــف ملصطلحــات أوردهــا يف مقابس ـ ٍة واحــدة فحســب؛ بســلوك اإلنســان ،وانفعاالتــه ،وأمراضــه النفس ـ ّية والعقل ّيــة
هــي املقابســة ،91مثــل :تعريفــه ملصطلــح الجــدل: وطــرق عالجهــا .ســبق التوحيــدي -أيضً ــا -بعــض املؤرخــن،
"مباحــث مقصــود بهــا إيجــاب الحجــة عــى الخصــم مــن وعلــاء االجتــاع ،وكانــت آرائــه مبثابــة األســاس الــذي
()2
حيــث أال يقــوى ومــن حيــث ال يقــدر أن يدفــع" ،وغريهــا. بُنيــت عليــه نظرياتهــم .مثــال ذلــك :ســبقه البــن خلــدون
واض ًعــا بعــض التعريفــات للفلســفة ،فاعتربهــا" :بحــثٌ عــن (1406-1332م) و"إميــل دور كايــم" (1917-1858م)
حقائــق املوجــودات" )3(.و"جميــع مــا يف العــامل ،مــا ظهــر يف وضــع حجــر األســاس لعلــم االجتــاع ،فقــد كان أول
للعــن ،وبطــن للعقــل ،ومركّــب بينهــا ومائــل إىل طرفيهــا القائلــن" :اإلنســا ُن مــد ٌّين بطبعــه" .موض ًحــا ،األســس التــي
()4
عــى مــا هــو عليــه ،واســتفادة اعتبــار الحــق مــن جملتــه". ()1
ينبغــي أن يقــو َم عليهــا املجتمــ ُع املثــا ُّيل.
الخارجــي املســتقل عــن
ّ أي أنَّهــا تبحــث عــن الوجــود لنكتشــف ،أن مواقفــه وأفــكاره لعبــت دو ًرا مؤثــ ًرا يف
الــذات العارفــة ،ســواء كان هــذا الوجــود ،مرئ ًّيــا للعــن أو الفلســفة ،وعلــم االجتــاع ،وعلــم النفــس ،وغريهــا .فضـ ًـا
"كأي ف ـ ٍّن مــن الفنــون ،ال ب ـ َّد
محسوســا بالحــواس ،مثلهــا ًِّ عــن اعتبــاره مــن أوائــل املفكّريــن الــر ّواد الذيــن أخضعــوا
اإللهــي" .مــا يعنــي بــراءة
()5
ّ أن تحقّــق وتؤكّــد التوحيــد نتاجــات الفالســفة والعلــاء رشقًــا وغربًــا ،إلبســتمولوجيا
كل صناعـ ٍة ال تح ّقــق التوحيــد .فــكان يــرى التوحيــدي مــن ِّ اإلســامي ،بــل وتقييــم هــذه النتاجــات، ّ العقــل العــر ّيب
واســتوفوا األحــكام واملعــاين اللفظ ّيــة والحقائــق اإلله ّيــة أ َّن الفلســفة "محــدودة بحــدود ســتة"( )6وكلهــا تبحــث عــن
والخصائــص الطبيع ّيــة. الوجــود ،ويســتخدم فيهــا العقــل بإحــكام ،وذلــك باســتخدام
تعامــل التوحيــدي مــع معظــم فالســفة العــر ،وامتــاز األخــاق اإللهيّــة واالختيــارات ال ُعلويّــة .رافضً ــا الفلســفة
ـوف ألي فيلسـ ٍ ـي ملختلــف اآلراء ،ومل ينحــز ِّ بالنقــد املوضوعـ ّ اليونانيّــة ،الحتوائهــا عــى شــوائب تقــوم عــى القــول بقــدم
ســواء كان عرب ًّيــا أو يونان ًّيــا ،بــل أخــذ عنهــم ،مــا ميليــه عليــه العــامل .معتق ـ ًدا يف اليقــن الناتــج عــن البحــث يف الوجــود
العقــل .فعــارض أكــر الفالســفة ،وأفضــل علــاء عــره ـفي .موض ًحــا مكانــة الفلســفة الــذي يــؤدي للتفكــر الفلسـ ّ
وأســاتذته .ومل يوافــق يف مواضــع كثــرة عــى آراء فالســفة بــن العلــوم األخــرى ،مــن خــال تأليفــه" :رســالة العلــوم"،
قدمــاء كبــار ،مثــل :أفالطــون وأرســطو .منتقــ ًدا نظريــة ُمرص ًحــا أنَّــه ألّفهــا للــرد عــى مــن اتّهــم الفلســفة بعــدم
خاصـةً، أفالطــون يف الوجــود ،معتـ ًرا آراءه يف املثــل ،فاســدةّ . اتصالهــا بالديــن ،والحكمــة ،فيقــول" :والــذي هاجنــي قـ ُ
ـول
فيــا ذهــب إليــه مــن أ َّن األشــياء قبــل الوجــود ،كانــت مثـ ًـا قائــلٍ منكــم ليــس للمنطــق مدخـ ٌـل يف الفقــه ،وال للفلســفة
يف نفــس البــارئُ .معتـ ًرا هــذا الــرأي مغالطــة ،قائـ ًـا" :وفيــا ـال بالديــن وال للحكمــة تأث ـ ٌر يف األحــكام )7("..مؤكّ ـ ًدا، اتصـ ٌ
ت ُرجــم مــن كالم أفالطــون أ َّن األشــياء قبــل الوجــود كانــت ويتقــى الحقائــق ،يــدرك أنَّــه مــا ّ أ َّن مــن ميعــن النظــر
مثــا يف نفــس البــارئ ،فعــى ذلــك اخرتعهــا ،وهــذا رأي ً دام العلــم أرشف مــن الجهــل ،فالوجــود كذلــك ،أرشف
وخيــال مضمحــل؛ أل َّن قولــه األشــياء قبــل الوجــود ٌ فاســ ٌد ـص معلو ًمــا دون معلــوم، مــن العــدم .فالعلــم عنــده ،ال يخـ ُّ
()10
باطــل عنــده". كل يشء تبحثــه وال مشــا ًرا إليــه دون مدلــول عليــه .أي أ َّن َّ
أ َّمــا رأيــه يف الوجــود ،فهــو يعــرف بالوجــود املســتقل الفلســفة ،لــه وجــوده ووجــب بحثــه ،ولــن يت ـ َّم بحثُــه إال
ويــدل عــى ُّ (الوجــود الخارجــي) عــن الــذات العارفــة. بالفلســفة التــي مجــال بحثهــا هــو الوجــود املســتقل عــن
ي ،وممكــن ـي والوجــود العقـ ّ ذلــك ،اعرتافــه بالوجــود الحـ ّ الــذاتُ .مرج ًعــا ســبب اليقــن يف األحــكام الفلســف ّية إىل
ـدلالوجــود ،وواجــب الوجــود ،وممتنــع الوجــود .وهــو مــا يـ ُّ أنَّهــا" :تــرف أغراضهــا عــن زخــارف القــول وترتفــع عــن
داللـ ًة قاطعـ ًة عــى أصالتــه كمف ّكـ ٍر عــر ٍّيب مســلم )11(.فــكان ()8
مواقــع االســتعارة والغلــط والتجويــز"..
بعــدم تقليــده األعمــى لباقــي الفالســفة واملفكريــن الذيــن ونتيجــ ًة لهــذا ،ات ّجــه الباحثــون يف الفلســفة إىل حــر
أخــذوا يف عــره بالفلســفة اليونان ّيــة ،مف ّكـ ًرا رائـ ًدا ،معتـ ًرا كل منجـزات التفكــر واملنطــق ،ومــا املوجــودات باســتخدام ِّ
دخيــا عــى الفكــر العــر ّيب ً الفلســفي اليونــا ّين،
ّ الــراث ســبق أن وضعــه التوحيــدي مــن املبــادئ أو التســاؤالت
ـامي .اهتــم -أيضً ــا -بفهــم طبيعــة الوجــود وتح ـ ّدث اإلسـ ّ العلميّــة األربعــة املفــرض البحــث يف ضوئهــا ،وهــي:
عنهــا يف مواضــع كثــرة ،حيــث ع ّرفهــا بقولــه" :الطبيعــ ُة "هــل؟ مــا؟ أي؟ مل؟ حيــث يبحــث األول عــن إثبــات آنيــة
يــدل عــى معنيــن؛ أحدهــا ذات كل يشء اســ ٌم مشــرك ُّ وجــود الــيء .بينــا يبحــث الثــاين عــن صورتــه أي نوعــه.
عرضً ــا كان أو جوه ـ ًرا أو بســيطًا أو مركبًــا" )12(.ومثّــل لهــذا ويبحــث املبــدأ الثالــث عــا مييّــز هــذا الــيء عــن غــره.
()13
التعريــف بطبيعــة اإلنســان وطبيعــة البيــاض والحـرارة". ويبحــث الرابــع عــن العلــة مــن وجــوده )9(.أي أنَّهــم بحثــوا
أ َّمــا ماهيــة هــذه الطبيعــة ،وأقســامها" :فهــي قــوة نفسـ ّية. ـص الفلســفة وحدودهــا ،ووضعــوا العالمــات، وفصلــوا خصائـ َ
ّ
60
باســتخدام الكثــر مــن املعــاين النفســ ّية التــي ال تختلــف فــإن قلــت عقل ّيــة ،مل تبعــد .وإن قلــت إله ّيــة ،مل تبعــد.
كثـ ًرا عــن املصطلحــات واملفاهيــم العلم ّيــة الحديثــة اليــوم. وهــي التــي تــري يف أثنــاء هــذا العــامل ،محركــة ومس ـكّنة
فقــد ق ـ ّرر أ َّن هنــاك أمراضً ــا للنفــس مثــل أم ـراض البــدن. ومجــ ّددة ومبليــة ومنشــئة ومبيــدة ومحييــة ومميتــة".
ومــن أجــل عالجهــا قــام بدراســة ماهيــة النفــس االنســانيّة، ( )14وهــي عنــده آخــر الخلفــاء يف هــذا العــامل .معتــ ًرا أ ًّن
وأنشــطتها الســلوك ّية ،وانفعاالتهــا ،وعالقتهــا بالجســم .كــا "الطبيعــة شــائعة يف األجســام ومحركــة لهــا مبديــة قواهــا
بحــث يف العمليــات العقل ّيــة العليــا ،مثــل :التفكــر ،الــذكاء. فيهــا ،فأ َّمــا النفــس فإنَّهــا تتحــرك يف األرواح النفســ ّية
مدشــ ًنا ومســتخد ًما ،يف طــرح املشــكالت النفســيّة ،بعــض والجواهــر الصافيــة" ،وهنــا يــرز عينهــا بالحــدس والظــن
ٍ
كمصطلحــات علميّــة املفاهيــم التــي قُننــت ،فيــا بعــد، والعلــم واليقــن والحــق والصــواب .أ َّمــا حركــة العقــل فلــه
غربيــة ،بــل وتســود اآلن مجــاالت التحليــل ،واإلرشــاد، "حركــة أخــرى يف البســائط العاليــة والغايــات البعيــدة"،
النفــي .مثــال ذلــك :توضيحــه ألعــراض وعــاج ّ والعــاج وعنــد متــام هــذا تُنــال الســعادة ويُســتحق الخلــود ويُصــار
األمــراض النفســيّة (علــم النفــس اإلكلينيــي) وتوضيحــه إىل مــا ال يحويــه وصــف .وهنــاك يقــف الشــوق عــن اإلزعاج
للموقــف الدينــي مــن النفــس ،وأنَّهــا ال تعنــي الــروح ،أل َّن ويُحــاز الــرف كلــه بــا مامرســة ،كــا قــال إن" :حركــة
اللــه قــد ســر معرفتهــا عــن الخلــق ،مؤيــ ًدا رأيــه بذكــره نقــش مرمــوق .وحركــة النفــس يف الطبيعــة يف األجســامٌ ،
لآليــة الكرميــة" :ويســألونك عــن الــروح .قــل الــروح مــن أمــر األرواح الرشيفــة ،يش ٌء معشــوق .وحركــة العقــل يف األنفــس
ريب" )17(.مف ّرقًــا بــن األمـراض النفسـيّة ،واألمـراض الجســميّة. الفاضلــة ،معنــى أنيــق"( )15موج ًهــا اإلنســان" :كــن بطبيعتــك
مؤكّــ ًدا ،أ َّن األمــراض النفســيّة تتســبب يف بعــض األمــراض إنســانًا فاضـ ًـا ،وبنفســك ُجر ًمــا عاليًــا ،وبعقلــك إلهــا غنيًّــا،
قائــا" :للنفــسً الجســم ّية (األمــراض السيكوســوماتية) والطريــق إىل هــذه الغايــة أمــن إن ح ّركــت همتــك ،وق ّويــت
أم ـراض كأم ـراض البــدن إال إ َّن فضــل أم ـراض النفــس عــى شــوقك ،ونفيــت الشــك عــن قلبــك ،وصحبــت اليقــن
أمـراض البــدن يف الــر والــرر كفضــل النفــس عــى البــدن ـس الــذي يكذبــك ،وواصلــت الناصــح بعقلــك ،وهجــرت الحـ َّ
يف الخــر" )18(.ويقــول" :وأ َّمــا الصحــة واملــرض ،فليــس مــن لــه ولزمــت فنــاءه ،واســتعنت وأعنــت وعرفــت واعرتفــت،
األخــاق يف يشء ،ولكنهــا يوجــدان يف اإلنســان بواســطة مــن غمــس نفســه يف غــار الطبيعــة هلــك وطــاح ،ومــن
النفــس ،إ َّمــا يف البــدن أو يف العقــل .ولذلــك يُقــال أم ـراض اجتــى نفســه بزينــة العقــل طــرب وارتــاح ،ومــن صمــد
()19
البــدن ،وأمـراض النفــس ،وصحــة البــدن ،وصحــة النفــس" للغايــة بجــده وجهــده نــر وبــاح ،ومــن تهــاون بتحصيلــه
مرشـ ًدا اإلنســان إىل عــدم االكتفــاء بعالج األمراض الجســميّة. مالــه وعليــه خــر ونــاح ،ال يســخرنك مــا يرجــج لعينــك
معتـ ًرا األمـراض النفسـ ّية أكــر إيال ًمــا لإلنســان .فضـ ًـا عــن ()16
عــا يبهــج لعقلــك."..
أنــه كان أول مــن فطــن إىل وجــوب تطهــر النفــس مــن
متخصصــن ،موج ًهــا إىل ّ األمــراض بعرضهــا عــى أطبــاء السيكولوجي
ُّ العالِ ُم
أهميــة الرصاحــة بــن املريــض والطبيــب ،قائـ ًـا" :واصدقــه كان التوحيــدي مــن أوائــل العلــاء الذيــن اهت ّمــوا بدراســة
عــا تقــدم مــن غيبــك يف طعامــك ورشبــك حتــى يصدقــك والباطنــي،
ّ الظاهــري
ّ أرسار النفــس اإلنســان ّية ،وســلوكها
أفكار /دراسات ومقاالت 61
مســعود بألــف دينــار مــن بيــت املســلمني ،لروايتهــا عــى عنــك ويخرجــك منــك ويتالفــاك لــك ويســقيك مــا ينفعــك
املســلمني ،تلقي ًحــا للعقــول وتروي ًحــا للقلــوب ،وترسي ًحــا ويحميــك مــا يــرك" )20(.ومل يكتــف بذلــك ،بــل عــرض
()22
للهــم ،وتنقي ًحــا لــأدب". النفــي وحفــظ الصحــة ،مثــل: ّ لبعــض أســاليب العــاج
ويف علــم نفــس النمــو ،وضّ ــح أيضً ــا ،بعــض الحقائــق العــاج بإلقــاء الفكاهــات والنــوادر بــن الفينــة والفينــة،
العلم ّيــة التــي يتك ـ ّون منهــا جســم اإلنســان ،وتؤثــر عــى والرتويــح عــن النفــس ســاع ًة بعــد ســاعة ،معتــ ًرا األخــر
ـي ،قائـ ًـا" :إ َّن النطفــة التــي يكــون منهــا الجنــن النمــو النفـ ّ ـكلمــن أهــم االحتياجــات النفسـ ّية ،قائـ ًـا" :مبــا أ َّن البــدن يـ ُّ
إذا حصلــت يف الرحــم املوافــق كان أول مــا يظهــر فيــه مــن ويطلــب الراحــة كذلــك النفــس تطلــب الرتويــح ،وكــا أ َّن
أثــر الطبيعــة مــا يظهــر مثلــه يف األشــياء املعدنيّــة .أعنــي أ َّن البــدن يســتفيد باالســتجامم الــذي يــؤدي للصحــة ويبعــد
الحـرارة اللطيفــة تنضجــه ومتخضــه وتعطيــه إذا امتــزج باملاء الضجــر والتعــب ،كذلــك النفــس ال بــ َّد مــن أن تطلــب
الــذي يوافقــه شــهوة األنثــى ..ثــم يصبــح صــور ًة مركبــة كــا الرتويــح" )21(.فضـ ًـا عــن العــاج املعــر ّيف مبكاشــفة العلــاء
ـأي يشء ..ثــم يســتعد لقبــول أي يكــون يف اللــن إذا ُمــزج بـ ِّ األفاضــل ،وحضــور املجالــس العلميّــة .والعــاج باإلميــان عىل
أثــر آخــر ،وبعــد ذلــك تتصــل بــه العــروق ،فيظهــر فيــه أثــر ـي إىل يــد املتقــن األعلــم بفضائــل النفــس .واإلرشــاد النفـ ّ
النفــس الناميــة ،أعنــي النبات ّيــة ،ثــم يقــوى هــذا األثــر فيــه.. ـتداًل عــى رأيــه،
العــاج بــاألدب والروايــة واملحادثــة" ،مسـ ً
بعــد ذلــك ،يســتعد لقبــول الغــذاء بغــر العــروق .فيظهــر بــراء الخليفــة عمــر بــن عبــد العزيــز -ريض اللــه عنــه-
فيــه أثــر الحيــوان أواًلً ،فــإذا كمــل اســتعداده لقبــول هــذا للمحادثــة مــن عبيــد اللــه بــن عبــد اللــه بــن عتبــه بــن
األثــر فــارق موضعــه ،ويصبــح عنــد ذلــك يف مرتبــة البهائــم
مــن الحيــوان إىل أن يصــر فيــه االســتعداد بقبــول أثــر النطق
مــن التم ّيــز والرؤيــة ،فحينئـ ٍـذ يظهــر فيــه أثــر العقــل .ثــم
يقــوى حتــى يصــل إىل أن تتــم الصــورة اإلنســانيّة .بعدهــا مل
ينقطــع أثــر النفــس مــن البــدن البتــه عــى رضوب أحوالــه
إىل أن ينتهــي إىل غايــة كاملــه .وال ينبغــي القــول إنَّــه يخلــو
منهــا يف حــال مــن أحوالــه ،وإمَّنَّ ــا يقــوى األثــر ويضعــف
بحســب قبولــه" )23(.وبهــذا يكــون التوحيــدي ،قــد ســبق
تشــارلز دارويــن (1882-1809م) واضــع نظريــة النشــوء
واالرتقــاء ،بــل ومت ّيــز فكــر التوحيــدي ،بــرؤى ومفاهيــم أكــر
تكامل ّيــة وموضوع ّيــة.
االكتئاب والفوبيا
ُ
بحــث التوحيــدي مــرض االكتئــاب ،وناقــش األســباب التــي
ـب مــنتدفــع اإلنســان لالنتحــار .وأرجــع ذلــك إىل أنَّــه مركـ ٌ
62
مــن ســوء ظــن وفســاد فكــر ،فهــو مــرض أو م ـزاج فاســد ثــاث قــوى :غضب ّيــة ،وشــهوان ّية ،وعاقلــة .فــإذا تغلبــت
مــن األصــل )25("..مشـ ًرا إىل رضورة تهذيــب النفــس وتربيتهــا إحــدى الق ّوتــن (الغضب ّيــة -الشــهوان ّية) يــأيت هــذا الفعــل
ـي.ـري والســلوك غــر الطبيعـ ّ
أخالقيًّــا .رافضً ــا الشــذوذ الفكـ ّ أو الســلوك ،فيقتــل اإلنســان نفســه .أمــا إذا تغلبــت عليــه،
معتـ ًرا أنَّ" :أ ّول هــذه القصــة يف تهذيــب األخــاق ،ووســطها القــوى العاقلــة ،فعندئــذ ،تغلــب عليــه حكمــة العقــل
يف أخــذ العــر مــن جميــع اآلفــاق ،وآخرهــا الوصــول إىل واملنطــق ،وبهــذا تتغلــب القــوى العاقلــة عــى كل مــن
اللــه العزيــز الخـ ّـاق" )26(.عارضً ــا ألســباب احتيــاج اإلنســان القوتــن الغضب ّيــة والشــهوان ّية .وعندئــذ ال يجــرأ اإلنســان أن
إىل تهذيــب أخالقــه ،بأنَّــه" :معجــون مــن عقاقــر كثــرة ()24
يقــوم بهــذا الفعــل الــذي يرفضــه الديــن والرشيعــة.
ومركــب مــن أضــداد متعاديــة ،منهــا الخــر والــر والصحــة ومنــذ ألــف عــام ،تقريبًــا ،تطــرق التوحيــدي ملــرض الفوبيــا،
واملــرض والحســن والقبــح" ،وأنَّــه محتــاج إىل "ضــم نرشهــا ـاوف شــاذة ،أو خــوف وأنواعهــا ،وطبيعتهــا ،باعتبارهــا مخـ َ
ومل شــعثها وتآلــف شــاردها وإصــاح فاســدها وتقويــم حقيقــي ،وأ َّن لهــا
ّ منطقــي
ٍّ ســبب
ٍ ينتــاب اإلنســان دون
اعوجاجهــا ..فــإذا صلحــت أخالقــك ،حســنت آدابــك .وإذا أنوا ًعــا كثــرة ،مثــل :فوبيــا األماكــن املرتفعــة ،واملغلقــة،
حســنت آدابــك ،رشفــت هممــك .وإذا رشفــت هممــك، واملفتوحــة .وفوبيــا املــاء ،وغريهــاُ .مرج ًعــا ســبب "الخــوف
طابــت مآربــك .فعندهــا ينــزل عليــك الوحــي الخــاص فيــا الــذي ينتــاب اإلنســان بــا مخــوف" إىل "توقــع مكــروه
()27
تصــر ســعي ًدا بــه". ـبب صحي ًحــا قويًّــا ،والدليــل واض ًحــا
حــادث .فــإن كان السـ ُ
جليًّــا ،كان الخــوف يف موضعــه .وإن مل يكــن كذلــك ،وكان
الهوامش:
.14أبو حيان التوحيدي :اإلمتاع واملؤانسة ،تحقيق :أحمد أمني ،منشورات دار .1أبو حيان التوحيدي :املقابسات ،تحقيق :حسني السندويب ،املطبعة الرحامنية،
مكتبة الحياة ،ج ،3بريوت ،ص.113 القاهرة1939 ،م ،ط ،1املقابسة ،22ص ص.196 ،173
.15املقابسة :62ص.253 .2السابق :ص ص.319 ،309
.16املقابسة :62ص.252 .3املقابسة :63ص.258
.17القرآن الكريم :سورة اإلرساء ،اآلية .17 .4املقابسة :48ص.223
.18اإلمتاع واملؤانسة :ج ،1ص.63 .5د .عبد القادر محمود :أبو حيان التوحيدي ،مجلة القاهرة ،العدد ،94أبريل
.19السابق :ج ،1ص.153 1989م ،ص.9
.20أبو حيان التوحيدي :اإلشارات اإلله ّية ،تحقيق :عبد الرحمن بدوي ،ج ،1دار .6املقابسة :65ص.257
القلم ،ط ،1بريوت1981 ،م ،ص.118 .7أبو حيان التوحيدي :رسالة العلوم مع الصداقة والصديق ،مطبعة الجوائب،
.21اإلمتاع واملؤانسة :ج ،1ص.28 القسطنطين ّية1301 ،ه ،ص.201
.22د .الصاوي أحمد :مرجع سابق ،ص.224 .8املقابسة :63ص.258
.23أبو حيان التوحيدي :الهوامل والشوامل ،تحقيق :أمد أمني ،لجنة التأليف .9د .الصاوي ،الصاوي أحمد :النزعة النقديّة عند أبو حيان التوحيدي ،الهيئة
والنرش ،القاهرة1951 ،م ،مسألة ،163ص ص.352 ،351 املرصية العامة للكتاب2019 ،م ،ص ص.89 ،88
.24السابق :ص.152 .10أبو حيان التوحيدي :البصائر والذخائر ،تحقيق :إبراهيم الكيالين ،مطبعة
.25السابق :ص.183 اإلنشاء ،ج ،2دمشق ،ج ،2ص.489
.26اإلشارات اإلله ّية :ص.190 .11د .الصاوي أحمد :مرجع سابق ،ص.171
.27السابق :ص.191 .12املقابسات :مقابسة ،79ص.284
.13السابق :ص.385
أفكار /دراسات ومقاالت 63
ِ
املدخل الثقايفّ أهم ّي ُة
ملحاربة التطرف
الزبري مهداد*
األرس والشــارع ووســائل اإلعــام واملدرســة وغريهــا. يقــول محمــد بنيــس يف معــرض جوابــه" :إ َّن اإلســام الــذي
ـاكل كثــرةٌ ،وآثــار خطــرة:
تراج ـ ُع الثقــا ّيف نتجــت عنــه مشـ ُ ظــل أربعــ َة عــ َ
ر قرنًــا وف ًّيــا لقيمــه الدين ّيــة ،ناضلــت َّ
تخلّــف الــذوق العــام ،تــررت العالقــات االجتامعيــة، الشــعوب لحاميتــه والتمســك بــه ،مــا ســاعد العقيــدة عــى
تراجعــت النقاشــات الفكريّــة واألدبيّــة ،أُقيمــت محاكــم بقائهــا ثابتــة يف تربتهــا االجتامعيــة .وبعــد االســتقالل،
تفتيــش للمفكريــن واملثقفــنُ ،ح ّرمــت الفنــو ُن الجميلــة، شــهدت بلداننــا ميــاد حركــة سياســ ّية حديثــة ممثلــة يف
حــورصت إصــداراتٌ فكريّــة ،اتُّهــم مبدعــون ومفكــرون األحـزاب التــي تــروم اإلســهام يف تدبــر الشــأن العــام وتأطــر
ـاب
بالكفــر ،واضمحلــت القيــم الســامية التــي ترجمهــا الكتّـ ُ املواطنــن ،مل تلــق التجربــة النجــاح املأمــول .كــا شــهدت
والشــعرا ُء يف قصائدهــم وكتبهــم ومصنفاتهــم الثمينــة التــي -أيضً ــا -حركــة ثقافيــة حديثــة ،ضعيفــة العالقــة ب ُهويــة األمة
توارثناهــا. وبأصولهــا الثقاف ّيــة ،وكان مصريهــا الفشــل أيضً ــا .وتضافــرت
الدينــي عــى الحيــاة
ّ أســباب كثــر ٌة فــأدت إىل هيمنــة
ٌ
تراج ـ ُع الثقــا ّيف خلّــف آثــا ًرا ســيئ ًة عــى التنشــئة ،فالدي ـ ُن العربيّــة بشــكل يص ُعــب الســيطرة عليــه .مل ي ُعــد الديــن
مل يكــن أب ـ ًدا محــو ًرا وحي ـ ًدا للتنشــئة االجتامعيــة ،بــل كان لالنتشــار بقيمــه ومبادئــه وحمولتــه كاملــة ،بــل تضخــم
ُم َج ـ َّر َد ُم َك ـ ِّونٍ مــن مكونــات الثقافــة التــي كانــت تشــمل: ـويس املتمثـ ُـل يف العبــادات فقــط ،دون اآلداب ـب الطقـ ُّالجانـ ُ
تقليــدي
ٍّ الدينــي وكان يتــ ُّم بشــكلٍ مــرنٍ
ّ .1التدريــب العامــة والقيــم ،وه ّيمنــت النقاشــات املتعلقــة بالعبــادات
متــوارث. والجنــة والنــار والحجــاب وصيــام النافلــة وعــذاب القــر ،يف
أفكار /دراسات ومقاالت 65
ـدل عــى تنمــي الــذوق وتهــذب الطبــع ومتتــع النفــس وتـ ُّ واالجتامعــي مــن خــال
ّ األخالقــي
ّ .2التثقيــف املعــر ّيف
مــكارم األخــاق ،فالشــع ُر العــر ُّيب قبــل اإلســام وبعــده، النصــوص األدب ّيــة واملصنفــات الثقاف ّيــة.
يحــوي ثــرو ًة هائل ـ ًة مــن الحكمــة والقيــم النبيلــة مصوغــة .3ترقيــة الجانــب الجــا ّيل الوجــدا ّين ،مــن خــال النصــوص
يف صــور بديعــة. الشــعريّة والفنــون الجميلــة املوســيقيّة واملعامريّــة
وإىل جانــب الشــعر ،هنــاك املصنفــات األدب ّيــة التــي تُع ـ ُّد والتشــكيل ّية وغريهــا.
مصــادر تربويّــة تعليم ّيــة للقيــم واألخــاق واملعرفــة ،تســهم الجوانــب كانــت متكاملــ ًة منســجم ًة ومتناغمــة، ُ وهــذه
يف ترشيــب واســتيعاب الثقافــة العربيــة األصيلــة وقيمهــا ألنَّهــا كلهــا تتأســس عــى أصــو ٍل مشــركة دينيّــة واجتامعيّــة.
للناشــئة؛ بــل وتّتخــذ دليـ ًـا يف الحيــاة تســاعد عــى تلمــس
الســبيل املســتقيم وتخطــي الصعــاب وبنــاء الشــخصية. دو ُر الثقاف ِة يف التنشئ ِة االجتامع ّية
إ َّن الثقافـ َة كانــت تُعـ ُّد دو ًمــا مــن أهــم مدخــات العمليــة
صاحــب املصنفــات الرائعــة ،ألّــف "عيــون ُ فابــن قتيبــة، مخرجــات تربويّــة ســليمة، ٍ التنشــيئيّة ،التــي ت ُســهم يف
األخبــار" ،مؤكّ ـ ًدا وظيفــة املصنفــات األدبيّــة التــي ال تقـ ُّـل ولذلــك فــإ َّن محتــوى هــذه الثقافــة يكــون لــه أك ـ ُر األثــر
قيمـ ًة عــن غريهــا مــن املصنفــات يف الفقــه أو علــوم القــرآن يف إكســاب النــاس النظــام القيمــي .فاملصنفــات األدب ّيــة
أو الســنة ،فهــي تهــدي إىل مــكارم األخــاق كغريهــا مــن والفكريّــة مــن أهــ ِّم األوعيــة التــي تنقــل القيــم وتعــ ّرف
الكتــب الدينيــة ،وبذلــك تــؤدي الوظيفــة نفســها التــي االجتامعــي .ويف ذلــك
ّ وترســخها يف الجســمبهــا وتنرشهــا ّ
تؤديهــا تلــك الكتــب( :هــذا الكتــاب ،وإن مل يكــن يف القــرآن قــال معاويــة لزيــاد يحثّــه عــى تعليــم ابنــه الشــعر" :مــا
دال عــى والســنة ،ورشائــع الديــن ،وعلــم الحــال والحـرامّ ، ّ
العــاق ل َ َْرَيويــه منعــك أن تُ َر ِّويَــه الشــع َر؛ فواللــه إن كان
معــايل األمــور ،مرشــد لكريــم األخــاق ،زاجــر عــن الدنــاءة، ــر ،وإن كان البخيــل لريويــه فيســخو ،وإن كان الجبــان ف َي َ ّ
نــا ٍه عــن القبيــح ،باعــث عــى صــواب التدبــر ،وحســن لريويــه فيقاتــل".
التقديــر ،ورفــق السياســة ،وعــارة األرض .وليــس الطريــق ال ـراث األديب والفكــري الــذي أنتجتــه أمتنــا ،يش ـكّل أه ـ َّم
كل الخــر مجتمعـاً يف تهجــد الليــل، إىل اللــه واحـ ًدا ،وليــس ّ اإلســامي ،وقــد كُتبــت معظــ ُم املؤلفــات ّ جوانــب الــراث
وعلــم الحــال والح ـرام ،بــل الطــرق إليــه كثــرة ،وأبــواب بلغ ـ ٍة أدب ٍّيــة رفيع ـ ٍة تســمو بالــذوق األد ّيب والــروة اللغويــة
درســا بلي ًغــا يف وجــوب احرتام
الخــر واســعة) .ول ّقــن القــارئ ً ـالِ ،
والحك َم، للقــارئ .ومن يســتقرئ األشــعا َر العربيّــة ،واألمثـ َ
حريــة الكتابــة والق ـراءة ،ومراعــاة حــق الق ـراء والكتــاب يف ال بــد أنَّــه يجــد فكـ ًرا إنســانيًّا رائ ًعــا؛ ينفــذ مبــارشة إىل عقــل
االختــاف( :مثــل هــذا الكتــاب مثــل املائــدة تختلــف فيهــا الســامع وقلبــه ،أو القــارئ ،بحكــم شــكل هــذه النصــوص
مذاقــات الطعــوم الختــاف شــهوات اآلكلــن). ـب عــى كثـرٍ مــن املواقــف وصياغتهــا ،حتــى أصبــح التعقيـ ُ
التــي تتضمــن تربيــةً ،بقــول شــاع ٍر أو بحكمــ ٍة أو مبثــلٍ ،
ـي ،وإن وعيًــا منــه بــأ َّن الحلــول التــي يقدمهــا الخطاب الدينـ ّ تقلي ـ ًدا مهـ ًـا.
كانــت حلـو ًاًل ج ّيــدة يف بعــض األحيــان ،فإنَّهــا تبقــى حلـو ًاًل إ َّن دراس ـ َة الشــعر العــريب دراس ـ ٌة للحكمــة وســحر البيــان،
66
والعلــوم السياســ ّية والرياضــة واملــرح وقــراءة الروايــات هــؤالء لديهــم شــهاداتٌ يف الهندســة ،أ َّمــا بــن الجهاديــن
بــكل األســاك التعليم ّيــة. الذيــن يتـ ُّم اســتقطابهم يف الغــرب فتصــل نســبة املهندســن
فــإذا كانــت الدراســاتُ اإلنســانيّة والفلســفيّة تــريب عقــول إىل 59باملائــة .وهــذا مــا ينســجم مــع نتائــج دراســة أخــرى
الشــباب وتعلمهــم النقــد ،فــإ َّن الرتبيّــة الفنيّــة الجامليّــة تتعلــق بـ"اإلرهابيــن" يف تونــس.
تــريب قلوبهــم ووجدانهــم.
الدراســ ُة التــي أُجريــت عــى ( )31مــن الربيطانيــن
الفنونُ الجميل ُة ترتقي باألخالق تبــن منهــا أ ّن 18منهــم
املتورطــن يف هجــات إرهابيّــةّ ،
إ َّن القاس ـ َم املشــرك بــن األخــاق الســامية والجــال هــو تابعــوا دراســات عليــا ،و 8منهــم درســوا الهندســة أو
األحاســيس الجميلــ َة مــن رسو ٍر ورضــا،
َ بعثهــا يف النفــس تكنولوجيــا املعلومــات ،وثالثــة منهــم درســوا إدارة األعــال،
ويش ـكّالن مك ّونًــا مهـ ًـا مــن مبحــث القيــم العليــا؛ وهــي: وأ َّن اثنــن درســوا العلــوم الطب ّيــة ،وأربعــة درســوا اإلحصــاء
الحــق والخــر والجــال .يقــول األســتاذ عبــد الحليــم وعلــوم الرياضــة والصيدلــة والرياضيــات ،يف حــن أ َّن واحـ ًدا
محمــود يف كتابــه "تربيــة الناشــئ املســلم" ( ":)1992إ َّن منهــم فقــط درس العلــوم اإلنســانية.
جــال األفعــال مالمئــ ٌة ملصالــح الخلــق ،وقاضيــ ٌة لجلــب
املنافــع ورصف الــر عنهــم ،لــذا ترتبــط الرتب ّيــة الجامل ّيــة حــض ُصدفــة،
ويعتقــد "مارتــن روز" أ َّن كل هــذا ليــس َم َ
بالرتبيــة األخالقيّــة ،وتعــدان م ًعــا وجهــن لعملــة واحــدة، فدراســة املــواد العلميّــة ال تــؤدي إىل خلــق تفك ـرٍ نقـ ٍّ
ـدي
تكمــل الواحــدة األخــرى وتدعمهــا .وكــا دعــا اإلســام إىل مبســتوى دراســة العلــوم اإلنســانية نفســها .ويطــرح "روز"
مــكارم األخــاق وحــثَّ عــى التمســك بهــا ،فإنَّــه دعــا إىل فكــر ًة مفادهــا أ َّن تدريــس العلــوم يجعــل الــدارس يف النهاية
االهتــام بالجانــب الجــا ّيل يف الحيــاة اإلنســان ّية ويف عاداتــه بــن قطبــن وحيديــن ،هــا الصحيح وغــر الصحيــح ،والخطأ
وعباداتــه". والصــواب ال غــر ،وهــو مــا يح ـ ُّد مــن قــدرة طــاب العلــم
فالفنــو ُن الجميلــ ُة داخلــ ٌة يف خدمــة املقاصــد العامــة والهندســة عــى تطويــر الجوانــب النقديّــة يف شــخصياتهم،
للرشيعــة؛ فاالهتــا ُم بالجامليــات وفنونهــا يُســهم يف تقويــة وتجعلهــم فريس ـ ًة ســهلة للتنظيــات اإلرهاب ّيــة.
الصحــة العامــة والســلم األهــي ،هــذان الجانبــان اللــذان
يشــهدان اليــوم انهيــا ًرا مر ّو ًعــا وتدهــو ًرا خطــ ًرا. مــع ذلــك الحــظ الخبــر " روز" أ َّن 70%مــن طــاب الــرق
األوســط وشــال أفريقيــا يدرســون العلــوم االجتامعيــة،
إ َّن التعاطــي مــع الفنــون الجميلــة تجعــل الشــخص أكــ َر أضعــف مــا هــو
ُ التدريــس يف هــذه الفــروع
َ رغــم أ َّن
إيجاب ّيــ ًة وأكــ َر إقبــاالً عــى الحيــاة ومحبــ ًة لغــره .متزنًــا يخلــق نو ًعــا مــن النقــاش
ُ يف الفــروع العلم ّيــة ،غــر أنَّــه
عقليًّــا ،هادئًــا نفس ـيًّا ،لذلــك فــإ َّن تربيــة الــذوق خ ـ ُر مــا واالجتهــاد ،ويرفــض فكــرة األبيــض واألســود فقــط .مــن
يقــدم إىل الناشــئ مــن ناحيــة تقويــم أخالقــه ،أل َّن الــذوق هنــا نفهــم ســبب قيــام "تنظيــم داعــش" بإلغــاء الدراســات
الجــايل يشــمل الســلوك ،وانعدامــه يــؤدي إىل خشــونة املتعلقــة باآلثــار والفنــون الجميلــة والقانــون والفلســفة
68
ومقاصدهــا العامــة .ولعـ َّـل ذلــك راجــع إىل نظامنا التنشــيئي املعاملــة وســوء الســلوك .فالتعلــق والتمســك بالجــال
الــذي يســتند إىل رؤى تقليديّــة منقطعــة الصلــة بالواقــع يســاعدان عــى التمســك بالخــر والنفــور مــن الــر ،ومــن
مــن جهــة ،وهــو مــا يغــذي الشــك تجــاه مختلــف الفنــون ثــم يؤديــان إىل تنميــة األخــاق الحســنة ،مــا يُ َعـ ُّد مــن أهــم
واآلداب لــدى الســواد األعظــم مــن املواطنــن ،ويصــل األمــر أهــداف الرتبيــة الجامليّــة .والعنايــة بهــذه الرتبيــة ونرشهــا
إىل حــ ِّد النفــور منهــا ورفضهــا باســم التديــن أو االلتــزام، يخــدم الرتبيــة ال ُخلُقيــة ويدعمهــا ،أل َّن النــشء الــذي نضــج
أو باســم املحافظــة عــى األصــول والتقاليــد لــدى أبنــاء يف ذهنــه الــذوق الجــا ّيل وقـ ّدره يتطلــع إىل مثال ّيــة ســامية؛
التيــارات اإلســامية ،األمــر الــذي يتعــارض مــع املقاصــد مثاليــة الحــق ،والخــر ،والجــال فيصـ ّور الفضيلــة يف شــكلٍ
العامــة للرشيعــة اإلســاميّة. ّاب يناســب أ ْن يصــر ُخلُق ـاً فيــه.
ج ـذ ٍ
ثقاف ُة اإلرهاب
وتدم ُري تراث األجداد
د .هدى الميموني*
كل البــر وليــس شــعبًا أو حكومـ ًة أو فــر ًدا بعينــه ،فالـراثُ ملـ ٌـك مهمـ ُة الحفــاظ عــى الـراث قضيـ ٌة إنســانيّ ٌة تهـ ُّم َّ
لإلنســانية جمعــاء ،ومــن يقلِّــب ناظريــه ويبحــر يف عجائــب ال ـراث العامل ّيــة يجــد مــا يدفعــه يك ينطــوي تحــت
أول مــن يدفــع فاتــورة الحــروب واإلرهــاب يف العــامل ،فدامئًــا ـري ُ
لــواء حاميــة هــذا الـراث ،وال شـ َّـك أ َّن الـراثَ األثـ ّ
كان مــن اآلثـــــار السيئــــة للحــروب التــي عانــت منهــا اإلنســانية -إىل جانــب اآلثـــــــــار االقتصاديّــة واالجتامع ّيــة
ـاذج عــى هــذا عديــد ٌة ـب الــذي حــدث لآلثــار باعتبارهــا تراثًــا إنســانيًّا عامليًّــا ..والنـ ُ والنفس ـيّة – ذلــك التخريـ ُ
ومتنوعــة.
اختــارت اللجنـ ُة الدول ّيـ ُة للفنــون يف منظمــة الثقافــة والعلــوم والرتبيــة " اليونســكو “ ،وهــي منظّمـ ٌة عامل ّيـ ٌة مق ّرهــا
باريــس "برنامــج ديج ـرايس /الكتابــة اإلبداعيــة " ليكــون موضــوع جائزتــه هــذا العــام حــول اإلبداعــات الكتابيّــة
تأســس هــذا الربنامــج يف ســانتا كــروز شــال كاليفورنيــا عــى بعــد 45ميـ ًـا جنــويب ســان لحاميــة ال ـراث ،وقــد ّ
فرانسيســكو ،وقــد ّأسســه الدكتــور كارل ديج ـرايس يف ذكــرى ابنتــه "باميــا" ،وهــي ن ّحات ـ ٌة وشــاعرة ،وذلــك كمق ـ ٍر
إلقامــة املبدعــن ،ومنــذ ذلــك التاريــخ قـ ّدم الربنامــج " هديــة الوقــت “ The Gift of Timeلثاممنائــة مبــدع .ومــن
يحصــل عــى فرصــة االش ـراك يف هــذا الربنامــج هــم املبدعــون ذوو الســمعة الرفيعــة واملكانــة املحليّــة والدوليّــة،
ويهــدف إىل دعمهــم مــن خــال توفــر التســهيالت كافــة ،وفــرص التحــاور وتبــادل األفــكار ،وتط ـ ّور املفاهيــم.
ـات مج ّهــزة .وفــوق هــذه األرض؛ ويقــع مقـ ُّر الربنامــج عــى املحيــط الهــادئ ،يف مزرعـ ٍة ضخمــة ،وغابــة تحــوي طرقـ ٍ
وعــى مــدى خمســة آالف عــام عاشــت قبائــل " أوهلــون " مــن الهنــود الحمــر يف قــرى صغــرة ميارســون حياتهــم
اليوميّــة .واليــوم قــام الربنامــج بالحفــاظ عــى األرض بصورتهــا الطبيعيّــة وتوفريهــا –كاملــة -للمبدعــن يك يقيمــوا
فيهــا.
إاَّلَّ إ َّن املــأزق الــذي تواجهــه بــاد العــامل كلهــا بدرجــات متفاوتــة هــو الحاجــة ايل حاميــة املــايض؛ ولذلــك َع ِملــت
منظم ـ ُة األمــم املتحــدة للرتبيــة والعلــوم والثقافــة (اليونســكو) عــى تشــجيع إحيــا ِء ال ـراث الثقــا ّيف والطبيعـ ّ
ـي
وحاميتــه يف أنحــاء العــامل ،باعتبــاره قيمـ ًة بــارز ًة للجنــس البـ ّ
ـري ،ثــم ات ّســع مفهــو ُم "الـراث" ليصبــح دليـ ًـا للــايض
ومرياث ـاً للمجتمــع الحــارض ،يتناقلــه األبنــاء عــن اآلبــاء ،فكانــت "فرنســا" أ ّو َل مــن اســتثمرت ال ـراث ســيكولوج ًّيا
ومال ًّيــا يف االقتصــاد والســياحة ،بعــد ثورتهــا حينــا أطلقــت عليــه "متاحــف املجتمــع" حيــث اســتهدفت الحفــاظ
عــى الحــرف اليدويّــة التــي متثّــل ال ُهويــة الرتاث ّيــة (الفلكلــور) لقطاعــات املجتمــع ،والكلمــ ُة مك ّونــ ٌة مــن مقطعــن األول
"فولــك" مبعنــى " مجتمــع" ،والثــاين " لــور" مبعنــى "حكمــة ".
ـي وكنــوز الكنيســة تليهــا انتهــاء كان هــدف فرنســا إرســاء ودعــم الدميوقراطيّــة كمرحلــة مه ّمــة يف تاريخهــا بعــد (الـراث الدينـ ّ
ـي بعــد الثــورة الفرنسـيّة ،وأصبــح الـراثُ وفنــو ُن الفلكلــور مرحلــة القصــور الفاخــرة وتـراث امللــوك .)..وصــودر الـراثُ الدينـ ّ
ـي ،ومنــه ظهــرت مبــادئ املدن ّيــة. هــا الفكــرة البديلــة لالتصــال بــكل طبقــات املجتمــع ،كهــدف قومـ ّ
ـكل أشــكاله ومعانيــه؛ وذلــك يف أعقــاب هــذه األحــداث اســتثمرت "منظمــة اليونســكو" مضمــون الحفــاظ وحاميــة الـراث بـ ِّ
يف مؤمت ـ ٍر ُعقــد يف الواليــات املتحــدة يف عــام 1965بواشــنطن ،وقــد خــرج بالعديــد مــن التوصيــات أهمهــا إنشــاء "صنــدوق
كل األطـراف عــى ـي" مــن أجــل حاميــة "مناطــق العــامل الطبيعيّــة" .ويف عــام 1972بســتوكهومل (الســويد) اتفقــت ُّ الـراث العاملـ ّ
أي موقـعٍ ـي" وأق ّرهــا املؤمتـ ُر العــام لليونســكو ،بحيــث يصبــح ُّ ـي العاملـ ّـص "االتفاق ّيــة الخاصــة بحاميــة الـراث الثقــا ّيف والطبيعـ ّ
نـ ِّ
ذي قيمــة تاريخ ّيــة ،وجامل ّيــة ،وأثريّــة ،وعلم ّيــة ،واثنولوج ّيــة وأنرثوبولوج ّيــة ،تراثًــا عامل ًّيــا.
وعــن كيفيــة عمــل هــذه االتفاقيــة ،فــإ َّن "اليونســكو" ال تجــري أيــة توصيــات للقيــد ،إال إنَّــه يجــب أن يتضمــن الطلــب
كل الرتشــيحات عــى ـي َّ
خريطــة توضــح بالتفصيــل كيــف يُــدار املوقــع ،وكيــف تتــم حاميتــه .وتفحــص لجنــة ال ـراث العاملـ ّ
متخصصــة؛ وذلــك طب ًقــا ملعايــر االختيــار ،بدالئــل علم ّيــة ،مبعنــى أ َّن املوقــع إ َّمــا ّ أســاس تقديـرات تقن ّيــة عــن طريــق مجالــس
أ َّن ميثّــل تحفـ ًة مــن روائــع العبقريّــة اإلنســان ّية املبدعــة ،أو قيمـ ًة إنســان ّي ًة يف حقبــة زمنيــة ،أو مثــااًلً بــارزًا ملســتوطَنٍ بـ ٍّ
ـري
ـدي ،أو مرتبــط بتقاليــد حيّــة ،ومعتقــدات ،ولــه أصالــة. تقليـ ّ
فادح
فاضح وخرسانٌ ٌ
ٌ ٌ
إهامل
ـري أ ّو ُل مــن يدفــع فاتــورة الحــروب واالحتــال يف العــامل ،فدامئًــا كان مــن اآلثــار الســيئة للحــروب التــي
ال شـ َّـك أ َّن الـراثَ األثـ ّ
أفكار /دراسات ومقاالت 71
عانــت منهــا اإلنســان َّية -إىل جانــب اآلثــار االقتصاديّــة واالجتامع ّيــة والنفسـ ّية – ذلــك التخريــب الــذي حــدث لآلثــار باعتبارهــا
تراثًــا إنســان ًّيا عامل ًّيــا ..والنـ ُ
ـاذج عــى هــذا عديــد ٌة ومتنوعــة.
فعندمــا قامــت إرسائيــل باحتــال فلســطني عــام 1948قامــت القــوات االرسائيليّــة بطمــس املعــامل التاريخيّــة للمســلمني،
ـيحي ،أو حتــى الفرعــو ّين ،وتف ّوقــت وكذلــك للمســيحيني ..إرسائيــل مل ت ُفـ ّرق يف التدمــر والنهــب بــن الـراث اإلسـ ّ
ـامي أو املسـ ّ
عــى طالبــان يف أفغانســتان ،وقامــت بحــرق وتدمــر اآلثــار التاليــة:
-دير القديس جاورجيوس للروم األرثوذكس.
-دير راهبات القربان املقدس املعروف بدير األخوات املصلحات.
-دير القديس يوحنا التابع للروم األرثوذكس.
-كنيسة القديسني قسطنطني وهيالنة املالصقة لكنيسة القرب املقدس.
-دير املالك الرئيس التابع لبطريركية األقباط األرثوذكس الواقع فوق مغارة الصليب املقدس.
ـاب بعنــوان " اليهــود يعملــون عــى محــو املســيح ّية يف البــاد املقدســة " تأليــف عيــى نخلــة ممثــل الهيئــةولقــد جــاء يف كتـ ٍ
العليــا لفلســطني؛ مــا يــي:
"يف يــوم عيــد امليــاد عــام 1952د ّمــر اليهــود باملتفجـرات قريـ َة (أقــرط) املســيحيّة يف فلســطني ،ونســفوا كنيســتها الجميلــة،
ويف أكتوبــر 1953د ّمــرت القــوات اليهوديّــة القريــة املســيحية (كفــر برعــم ) يف الجليــل ،وهدمــوا كنائســها ومدارســها ،ويف 16
أبريــل 1954شـ ّنت إحــدى الطوائــف اليهوديّــة املتعصبــة هجو ًمــا عــى مقــرة الــروم الكاثوليــك يف حيفــا وكــروا 73صلي ًبــا،
ـااًل للمالئكــة .ثــم ميــي مؤلــف الكتــاب ويذكــر أنَّــه خــال عــدوان 1967قصفــت القــوات اإلرسائيليــة بيــت وحطّمــوا 50متثـ ً
لحــم.
وقــد ذكــرت شــاهد ُة عيــان أمريك ّيــة ت ُدعــى (نانــي نــوالن ) وهــي زوجــة الدكتــور نجيــب (أبــو) حيــدر الطبيــب يف مستشــفى
الجامعــة األمريك ّيــة يف بــروت ،يف رســال ٍة مفتوح ـ ٍة و ّجهتهــا إىل املســيحيني يف العــامل الغــريب عـ ّـا شــاهدته أثنــاء العــدوان
االرسائيــي عــى القــدس؛ فقالــت " :بينــا تعلــن الســلطات اإلرسائيليّــة للعــامل أ َّن جميــع األديــان ســتكون موضــع االح ـرام
والحاميــة؛ فــإ َّن الجنــو َد والشـبّا َن اإلرسائيليــن يلقــون بقنابــل ذات رائحــة كريهــة يف كنيســة القيامــة ،وأ َّن صــوت اآلذان الــذي
ـس مـر ٍ
ات يوم ًّيــا ،مل يعــد يُســمع يف القــدس ،وهــي ثالثـ ُة املــدن يدعــو املســلمني إىل الصــاة الــذي كان يف الســابق يُســمع خمـ َ
املقدســة لــدى مئــات املاليــن مــن املســلمني يف جميــع أنحــاء العــامل".
72
ويف دراســ ٍة صــدرت عــن معهــد الدراســات الفلســطين ّية بعنــوان " تدنيــس الج ّبانــات املســيح ّية واملمتلــكات الكنســ ّية يف
إرسائيــل" جــاء فيهــا أ َّن القــوات اإلرسائيل ّيــة د ّمــرت الكنيســة األرمنيــة ،واملعروفــة يف التقليــد أنَّهــا بُنيــت فــوق بيــت "قيافــا"
رئيــس كهنــة اليهــود يف زمــان الســيد املســيح ،وهــي كنيس ـ ٌة أثريّ ـ ٌة ترجــع إىل القــرن الخامــس عــر.
ي بحــرق وتدمــر املســجد األقــى؛ األمــر الــذي أثــار اســتنكار ويف يــوم 21أغســطس 1969قامــت ســلطاتُ االحتــال اإلرسائيـ ّ
العــامل كلــه .ويف هــذا املجــال أصــدر البابــا الراحــل "كريلــس الســادس" ( )1971 1959-بيانًــا قــال فيــه ( :ه ّزتنــا مــن األعــاق
الجرميـ ُة النكـرا ُء التــي وقعــت عــى املســجد األقــى الــذي هــو مــن أهــم املقدســات العربيــة ،والــذي يقــع يف أقــدس بقعــة
كل الشــعوب املؤمنــة باللــه وباملحبــة تتو ّجــه إليهــا قلوبنــا جمي ًعــا بالتكريــم والتقديــس ،ويُعتــر االعتــدا ُء عليهــا اعتــدا ًءا عــى ِّ
للســام يف العــامل).
وللمــرء أن يتســاءل" :كيــف نشــب هــذا الحريـ ُـق يف هــذا الوقــت بالــذات الــذي وقــع فيــه هــذا الجــر ُم الكبــر تحــت االحتــال
اإلرسائيــي ،مــع أنَّــه قــد مضــت مئــات الســنني ومل يحــدث مثــل هــذا الحــادث البشــع الــذي نعتــره جرمي ـ ًة شــنعاء يف حـ ِّـق
مقدســات العــرب مســلمني ومســيحيني؟!.
إ َّن الــذي يحــدث اليــوم يف القــدس بعــد هــذا الحــادث الخطــر ال يجــوز التهويــن يف أمــره ،فهــو يف ذاتــه كارثـ ٌة دهــاء وإثــار ٌة
ـي الــذي ال بــد أن يلتهــب يف حـرارة النــار وقوتهــا ،وال ميكــن بعــد ذلــك أن يتنبــأ بالنتائــج الوخيمــة التــي مغيظــة للشــعور الدينـ ّ
كل مــن ترتتــب عــى هــذا العمــل املــؤمل الــذي يتحـ ّدى مشــاعر الجامهــر يف مقدســاتها ومحرماتهــا .إنَّنــا نعلــن غضبنــا عــى ِّ
تسـبّب يف هــذا الخـران الفــادح ،ونســتنكر بشـ ّدة هــذا اإلهــال الفاضــح للمقدســات ،ونح ِّمـ ُـل إرسائيـ َـل تبعـ َة هــذا العمــل
ازي والنتائــج املؤســفة التــي تنجــم عنــه ......الــخ)
االســتفز ّ
ـري الــذي أهــداهكــا قامــت الســلطاتُ اإلرسائيل ّيـ ُة بنــزع "ديــر الســلطان" مــن ملكيــة األقبــاط يف القــدس ،وهــو الديـ ُر األثـ ُّ
الســلطان صــاح الديــن األيــو ّيب لألقبــاط مكافــأ ًة لهــم عــى موقفهــم مــن الحملــة الصليب ّيــة ،وأعطــوه لألحبــاش؛ وذلــك عقابًــا
ي عــى مدينــة القــدس .فأثنــاء انشــغال األقبــاط للكنيســة القبطيّــة األرثوذكس ـيّة عــى موقفهــا املعــادي للعــدوان اإلرسائي ـ ّ
أفكار /دراسات ومقاالت 73
بصــاة قــداس عيــد القيامــة املجيــد يف عــام ،1970قامــت الســلطات اإلرسائيل ّيــة بطــرد الرهبــان األقبــاط مــن الديــر ،وتســليمه
للرهبــان األحبــاش رغــم املحــاوالت املضنيّــة التــي بذلتهــا الدبلوماس ـيّة املرصيّــة بالتعــاون مــع الكنيســة القبطيّــة مــن أجــل
اســتعادة ملكيــة الديــر لألقبــاط .
مربمج
ٌ تدم ٌري
أ َّمــا عــن ســيناء املرصيّــة فلقــد قامــت ســلطاتُ االحتــال اإلرسائيــي بحــرق جــز ٍء مــن "ديــر ســانت كاتريــن" يف ســيناء ،وجــاء
ذلــك خــال عــام ،1971وهــو مــن أقــدم وأعــرق األديــرة يف العــامل ،إذ يرجــع تاري ُخــه إىل القــرن الســادس امليــادي ،وقــد امتـ ّد
ـب مــن مكتبــة الديــر الثمينــة ،كــا ُد ّمــرت بيــوت الرهبــان. الحريـ ُـق إىل جانـ ٍ
ومــن املعــروف أ َّن يف الديــر كنــوزًا أثريّ ـ ًة ال ت ُق ـ ّدر مبــال ،إذ تحتــوي مكتبــة الديــر عــى مــا يقــرب مــن حــوايل( ) 4245
مخطوط ـ ًة مبختلــف اللغــات ،وأيقونــات يرجــع تاريخُهــا إىل القــرن الخامــس امليــادي .وتؤكِّــد املصــاد ُر العلميَّــة أ َّن إرسائيــل
أرادت رسقــة كنــوز الديــر؛ فعمــدت إىل إشــعال النــار يف الديــر حتــى تخفــي معــامل جرميتهــا .ولقــد أصــدرت منظمــة اليونســكو
بيانًــا يديــن إرسائيــل ويح ّملهــا مســؤولية هــذا الحــادث.
ي برسقــة العديــد مــن اآلثــار املرصيّــة املوجــودة باملنطقــة. وأثنــاء االحتــال اإلرسائيــي لســيناء –أيضً ــا -قــام العــدو اإلرسائيـ ّ
ـب قامــت بهــا ـابق لهيئــة اآلثــار املرصيّــة املرحــوم الدكتــور أحمــد قــدري أنَّــه كشــف أعـ َ
ـال نهـ ٍ ـس السـ ُ ولقــد أشــار الرئيـ ُ
إرسائيــل لآلثــار املرصيّــة يف ســيناء؛ وأكَّــد يف النــدوة التــي نظّمتهــا لــه نقابــة الصحفيــن يف مــارس 1988أ َّن إرسائيــل هــي العــد ُّو
ـايس ملــر ،وهــي تعمــل جاهــد ًة عــى تفريــغ فكــر الـراث املــري مــن ُهويتــه الثقاف ّيــة والرتاث ّيــة. األسـ ّ
ـي يف بغــداد بعــد ســقوط نظــام ـب املتحــف العراقـ ّ ومــن أشــهر حــوادث التدمــر التــي حدثــت لآلثــار العراق ّيــة ،هــو نهـ ُ
ـلب منظمــة اســتمرت يومــن عــى التــوايل ،ومتــت عمليــة ـب وسـ ٍ صــدام حســن عــام ،2003إذ تعـ ّرض املتحـ ُـف لعمليــات نهـ ٍ
النهــب بالتنســيق مــع ثــاث مجموعــات:
.1املجموعــة األوىل :قــام بهــا أفـرا ٌد عاديــون ليــس لهــم عالقــة باآلثــار ،وإمَّنَّ ــا اقتــرت رسقاتُهــم عــى خزانــة املتحــف ومرتبــات
املوظفــن العاملــن فيه.
.2املجموعة الثانية :نهب أفرا ُدها قاعات املتحف ورسقة التحف املعروضة.
.3املجموعة الثالثة :رسقت التحف واملقتنيات املوجودة باملخازن.
ولقــد قــدرت هيئ ـ ُة "اليونســكو" مجموع ـ َة التحــف التــي فُقــدت بحــوايل 170000قطعــة أثريّــة مــن أنــدر التحــف التــي
تحــوي كنــوز الحضــارة الســومريّة والبابل ّيــة واآلشــوريّة والعرب ّيــة اإلســام ّية .وظـ َّـل املتحــف مغل ًقــا بعــد عمليــات النهــب
والســلب( )6ســنوات حتــى أُعيــد افتتاحــه مــر ًة أخــرى يف يــوم 22فربايــر .2009ومل تقتــر عمليــاتُ النهــب والرسقــة عــى
ـي فقــط؛ بــل امتــدت –أيضً ــا -إىل اآلثــار الخارج ّيــة .وتذكــر الدكتــورة زينــب بح ـراين أســتاذة اآلثــار ـي العراقـ ّ
املتحــف الوطنـ ّ
ات األمريك ّيــة حينــا حلّقــت فــوق مدينــة بابــل األثريّــة أزالــت طبقـ ٍ
ـات مــن الرتبــة الرشق ّيــة يف جامعــة كولومبيــا أ َّن الطائـر ِ
ـقف معبـ ِـد "نابــو" إلــه الحكمــة والكتابــة عنــد البابليــن و"نيــار" اللذيــن يرجعــان إىل 6000ســنة قبــل األثريــة ،كــا تهـ ّدم سـ ُ
74
ـب يف بوابــة عشــتار ،وهــي البوابــة الثامنــة ملدينــة بابــل األثريّــة بناهــا نبوخــذ نــر عــام 575ق.م. امليــاد .كــا حــدث تخريـ ٌ
ويف أفغانســتان وبنــا ًء عــى فتــوى مــن "املــا عمــر" أمــر جامعــة طالبــان ،طُلــب هــد ُم متثــا ِل "بــوذا" األثـ ّ
ـري املوجــود هنــاك
بدعــوى أنَّهــا أصنــام .وعندمــا علــم مديــر "اليونســكو" بهــذه األمــر دعــا أعضــاء املؤمتــر اإلســامي الـــ ،45والتمس منهــم التدخل
التامســا رفعــوه إىل
ً اث إنســا ٍّين خالــد؛ وبالفعــل أصــدر أعضــاء املؤمتــر اإلســامي لــدى املــا عمــر ملنــع هــذه الهجمــة ضــد تـر ٍ
املــا عمــر لوقــف عمليــة التدمــر ،إال إنَّــه ر َّد عليهــم بقوله":يجــب عــى املســلمني أن يكونــوا فخوريــن بتحطيــم األصنــام،
ـري
ونحــن نحمــد اللــه أنَّنــا قمنــا بتحطيمهــا" .وبالفعــل ويف يــوم 2مــارس 2001بــدأت حركــة طالبــان يف رضب التمثــال األثـ ّ
بالديناميــت ،ومل يســتجب أعضــا ُء "حركــة طالبــان" اللتــاس أعضــاء املؤمتــر اإلســامي وال لدعــوة "اليونســكو" لوقــف عمليــة
الهــدم .تلــك هــي ثقافــة اإلرهــاب..
املصادر واملراجع:
.1د .زاهي حواس -الحروب ونهب الرتاث ،عالقة متبادلة -مركز املحروسة للنرش.
القاهرة 2019.م.
2-Artwork reproduced courtesy of Abroiginal Artists Agency ,
by Australin Consolidated Press, Sydney . Condensed from the
.Observer – London2017
3-UNESCO World Heritage Centre - World Heritage in Danger
أفكار /دراسات ومقاالت 75
تواريت يك ال أختفي
ُ
(سؤال املوت أم موت السؤال)
د .محمود سعيد*
فقــط ،بــل ىف التوظيــف الــدال ّيل عــر اللغــة والشــخوص العنــوا ُن هــو االس ـ ُم الــذى ميثّــل العمـ َـل ويعــر عنــه ،وهــو
واملواقــف والحــوار؛ ولذلــك نجــد الكاتــب يحــاول -قــدر العالمــة البرصيّــة األكــر التــى تتصــدر العمــل ومتثّلــه،
النــص.
مدخــا لفهــم ّ ً املســتطاع -أن يجعــل العنــوان ـص ،باعتبــاره فهــو لحظــة االتصــال األوىل بــن القــارىء والنـ ِّ
فالعنــوا ُن إشــار ٌة إىل مــا تحتويــه املرسح ّيــ ُة وفــق رؤيــة مفتا ًحــا أساس ـ ًّيا يتس ـلّح بــه القــارىء للوصــول إىل أعــاق
النــص يلتصــق بالعنــوان ،إذ ِّ الكاتــب وأهدافــه ،فمفتــاح النــص والحافــز إىل اقتنائــه.
ِّ
العنــوا ُن قــ ّو ٌة تثــر يف املتلقــي فضولــه ،ويطالــب املتلقــي وقــد حظــي العنــوا ُن بأهميّــ ٍة كبــرة ىف مــرح "بــال
إعــال عقلــه .فالعنــوان عبــارة عــن رســالة ،وهــذه الرســالة تواريت
ُ ـي الــذي نحــن بصــدده " نصــه املرسحـ ّ
املــري" ،ويف ِّ
يتبادلهــا املرســل واملرســل إليــه ،فيســاهامن يف التواصــل ـص إال مــن عنوانــه ،وال يك ال أختفــي" حيــث ال مدخــل للنـ ِّ
املعــر ّيف والجــا ّيل ،هــذه الرســالة مس ـ ّننة بشــيفرة لغويّــة، النــص الــذى ينتمــى إليــه، فهــم للعنــوان إال مــن خــال ِّ
يفكّكهــا املســتقبل عــر أحــداث املرسحيّــة وشــخوصها. فالعالقــة بينهــا حميميّـ ٌة ومتداخلـةٌ ،وإذا تح ّقــق لنــا ذلــك،
ـص يفــي ـص ،كــا أ َّن النـ َّ
وكــا قلنــا العنــوان يفــي إىل النـ ِّ ميكــن أن نعــرف عمقــه الــدال ّيل ونالمــس حقيقتــه الجامليّــة،
إىل العنــوان ،نحــن أمــام عنــوان مربــك حقًــا ،يحمــل يف فهــو مبثابــة القمــة مــن القاعــدة أو الــرأس مــن الجســد،
ط ّياتــه الســؤال واإلجابــة ،القــرار والنتيجــة ،املقدمــات فــا ميكــن أن يســتغني أحدهــا عــن اآلخــر ،وإذا حــدث
كاشــف لحــرة ٍ امــي مــراوغ،
والخواتيــم ،يف طــر ٍح در ٍّ ـص ال ُهويّــة.وافتقدنــا واح ـ ًدا منهــا صــار العمــل ناقـ َ
اإلنســان عندمــا تتقاذفــه األقــدار األكــر تعقي ـ ًدا ،لدرجــة واملؤلــف ميتلــك قــدر ًة شــديد ًة عــى اســتنطاق العناويــن ُ
أنَّــه ال يعــي دوره وال كينونتــه ،بــل ال يــرى ذاتــه نفســها املميــزة ،فالعنــوان ىف مرسحــه يرســم بلغتــه املكثفــة تصـ ّو ًرا
داخــل إطــا ٍر محــ ّدد ،هــو كالريشــة تتقاذفهــا الريــاح، يف ذهــن القــارئ ،ملــا بصــدد قراءتــه يف النــص املعنــون،
يعشــق الحيــاة ،إال إنَّــه يحيــا يف قلــب املــوت ،الســكون يف أو يثــر أســئل ًة ىف ذهــن القــارىء تبحــث عــن إجاباتهــا ىف
خضــم الجحيــم ،كــا تقــول كلــات املرسحيّــة" :الوفــا ُء ـص، ـص ،ومــن هنــا يــرز مــدى ارتبــاط العنــوان بالنـ ِّ ذلــك النـ ِّ
ـب أكل نفســه ثــم اختنــق بأنيابــه" املرسح ّيــة ص()4؛ ذئـ ٌ فيغــدو العنــوا ُن عتبــ ًة مه ّمــ ًة ترشــد القــارئ يف قراءتــه
لتقـ ّرر كلــات املرسح ّيــة أ َّن الـرا َع شــدي ُد التعقيــد مــا بــن ـت) والهــدف (يك ال أختفــي). للنــص مــا بــن الق ـرار (تواريـ ُ
الداخــل والخــارج ،الحيــاة واملــوت ،الوفــاء والخيانــة ،هــي ويظـ ُّـل العنــوا ُن عالمـ ًة فارقـ ًة لــدى املؤلــف ،وكــا يقولــون
مجمــوع مــن املتناقضــات تؤطــر الحــدث والشــخصيّة يف النــص يفــي إىل َّ النــص ..كــا أ َّن
ِّ إ َّن العنــوان يفــي إىل
آنٍ واحــد. العنــوان؛ مبعنــى أ َّن غرائب ّيــة العنــوان ال تبــدو ىف املنطــوق
ـاص باملــرح هــو جوهـ ُر العالقــة – الجدليّــة ي الخـ ّ التوصيـ ّ ـص جانبًــا مغيّبًــا يف التجربــة األهــم عــى مــدار يــيء النـ ُّ
أحيانًــا – التــي مــن املعتــاد تأسيســها بــن املــرح والزمــن حيــاة اإلنســان ،ويدعــو – يف الوقــت نفســه – إىل قبولهــا
الحــارض ،ويجــدر –بالفعــل -أن نقــدم الحــارض كزمــنٍ لــأداء وتأملهــا دون التشــبث بظاهرهــا القريــب ،واالكتفــاء
امــي (ذي التمثيــل املبــارش) أمــام ي وللطابــع الدر ّ التمثيــ ّ بالحــداد والتهالــك عــى إشــهار تجل ّياتــه!!.
ـردي (ذي التمثيــل ّ املــايض كزمــن للمؤلفــات وللطابــع الـ امــي لديــه كالتجربــة اإلنســانيّة الفعــل الدر ُّ
ُ ليتحــ َّول
غــر املبــارش)". التــي يراهــا املتلقــي بالعــن املجــردة ،ويحياهــا بالفكــر
لتبــدو املرسح ّيــة وكأنَّهــا حل ـ ُم يقظ ـ ٍة تــارةً ،وكابـ ٌ
ـوس تــار ًة واإلحســاس ،ويســهم فيهــا بالقبــول والرفــض.
التقــي حولهــا معظــم الوقــت ّ أخــرى ،وحقيقــة يجــب األســايس (واملختلــف) هــو
ّ "املــرح حــدثٌ ٌّ
فنــي ملمحــه ُ
وكل يشء بالخــارج ،يك "تركــت أحالمــي وقلبــي َّ ُ خاصــة:
ّ الخاصــة التــي يقيمهــا بــن الحقيقــة والخيــال .يف ّ العالق ـ ُة
ال أخــاف…" املرسح ّيــة ص( .)11عندمــا يتحــ ّول املــوت املــرح يصبــح الخيــال حقيقــة وتتحــول الحقيقــة إىل خيــال
إىل ســاح الذاكــرة الح ّيــة التــي تختــزن قــد ًرا وفــ ًرا مــن حقيقــي ،وحقيقــة متخ ّيلــة يجربنــا املــرح -بســبب طبيعتــه
األحــداث والرمــوز الثقاف ّيــة ،وهــو بعبــارة أخــرى "يفضــح الخاصــة -عــى التفكــر يف معنــى الحقيقــة والواقع ّيــة يف
عــري املــوت ويتهمــه باإلشــارة إىل كونــه ال يســتطيع أن َّ الفــن" .كــا يجربنــا الكاتــب عــى إعــادة قــراءة املــوت،
ينــال مــن ضحيتــه ســوى األعضــاء الهشّ ــة ،لك َّنــه يف املقابــل الحكايــة ،أم حكايــة املــوت؟ هــذا هــو الســؤال ،أو هــو
ال يقــوى عــى ابتـزاز حمولتــه الرمزيّــة تلــك التــي ســتمكّنه الفعــل والالفعــل" ،إنَّنــا ال نتواصــل أب ـ ًدا مــع األشــياء كــا
ـزي
مــن املكــوث خال ـ ًدا يف ملكــوت األفــكار والتو ّهــج الرمـ ّ هــي ،بــل كــا نبنيهــا ،لذلــك ،ال توجــد حقيقــة فريــدة مــن
خاصــة يف تأكيــده عــى لعبــة الــذات ،والــذات والجــا ّيل"ّ . نوعهــا ومو ّحــدة ،مســبقة وخارجيّــة ،حيــث إ َّن حقيقــة كتلك
ـوذج بــدا ٌّيئ مــن بــن أمنــاط كثــرة، هــي "من ـ ٌط أو ٌّيل ،أو منـ ٌ ـي ،اعتبــا ًرا مــن اللغــة والثقافــة.هــي بنــاء معــر ّيف موضوعـ ّ
كالحيــاة واملــوت ،والليــل والنهــار ،والرجــل واملــرأة ،والجنــة هــذا الفعــل هــو مــا مينــح مخططنــا معنــى ،حيــث يحــاول
والجحيــم" .الصــوت" :ارســم عــى النافــذة شــجرتني بينهــا تفســر كيــف نبنــي تلــك الحقيقــة ودرجــة االتســاق والثقــة
أرجوحــة وســأدفعك بــكل االتجاهــات…" املرسحيّــة التــي مننحهــا لــكل مســتوى مــن الحقيقــة املبنيّــة".
ص(.)11 ويبــدأ املؤلــف عــى مــدار املرسح ّيــة رصــد اللعبــة مــا
املرسحــي إدر ٌاك متم ّيــز للــذات عــر اآلخــر، ّ يف الفعــل الواقعــي
ّ الحقيقــي واملتخيــل ،املمكــن واملســتحيل،
ّ بــن
الخــاص
ُّ الوعــي
ُّ ومــن خــال هــذا اإلدراك املتم ّيــز ينشــأ واملحتمــل ،الق ـ ّوة والضعــف ،ببســاطة ،نحــن أمــام املــوت
بالشــخصيّة ،وعربهــا تظهــر – بشــكل خــاص – فكــرة األنــا عندمــا يحــر ..لكــن الســؤال هــل يحــر املــوت؟! ،هــل
املنقســمة عــى ذاتهــا إىل داخــل وخــارج يتصارعــان ،هنــاك يــأيت أم نذهــب إليــه نحــن؟! ،قبــل اإلجابــة لــزم علينــا أن
تصبــح األنــا ،حالــ ًة أخــرى ،حالــ ًة مــن التأكيــد للــذات ات مرسح ّيــة نشــر إىل أنَّــه يحتــاج إىل املــرح ،ملنظــور ٍ
والنفــي لهــا يف الوقــت نفســه ،حالــة ســلبية وإيجابيــة يف تُقــدم يف مــكان وزمــان مــا ،لتحقيــق وجــوده" ،إ َّن املوقــف
78
وقــد يتح ـ ّول التم ـ ّزق إىل نــو ٍع مــن (التنافــر) الحــاد الــذي الوقــت نفســه ،عقالنيّــة منضبطــة وال عقالنيــة ،مضطربــة
يه ـ ُّز الثقافــة ه ـ ًّزا عني ًفــا ،ومــن ثــم يتح ـ ّول االختيــار الــذي يف آن معــاً.
ميتلكــه اإلنســان لينظــم مســلكه الحيــا ّيت إىل عمل ّية عشــوائ ّية وهنا تبدو األسئلة يف ثوب البطولة ال اإلجابات:
تهـ ّدد صاحبهــا بالضيــاع ،وتهـ ّدد واقعهــا بالفســاد والعبــث، -كيــف تقــوم الشــخص ّية املرسح ّيــة بالفصــل بــن الواقــع
البديــل عــن
ُ لدرجــة أ َّن املــوت أصبــح هــو الحــل ،وكأنَّــه والخيــال والوصــل بينهــا أيضً ــا؟
حيــاة مرتهلــة عشــوائ ّية" ،وتــزداد هــذه العشــوائية العبث ّيــة -مــا أصــول لعــب االزدواج املتأصــل املالئــم لطبيعــة
مــع وقائــع الحــروب وتوابعهــا التدمرييّــة ،إذ تتحــول الثقافــة ـس أم الشــخص ّية املرسح ّيــة وطبيعــة عملــه؟ هــل هــو تل ّبـ ٌ
إىل طبيعــة (ســوق ّية) تحكمهــا قوانــن البيــع والــراء، كــذب صــادق؟
ٌ ٌ
صــدق كاذب؟ أم التبــاس؟
ومــن ثــم تتغــر قامئــة القيــم ،ويكــون يف أعالهــا البحــث -مــا عالقــة املــرح بالبحــث عــن ال ُهويــة وبالعالقــة بــن
عــن املــال بــكل الوســائل املرشوعــة ،والبحــث عــن املتعــة األنــا واآلخــر؟
الحــال والحـرام عــى حـ ٍّد ســواء ،بــل ينكــر الحاجــز بــن -مــا طبيعــة تلــك الثنائ ّيــة التقابل ّيــة بــن الــذات واآلخــر؟
الحــال والح ـرام" ،واملــوت والحيــاة. هــل هــذه املفاهيــم مفاهيــم طبيع ّيــة عامل ّيــة ،أم هــي
مفاهيــم ثقافيّــة خطابيّــة؟
والحقيقــة أ َّن ذلــك كلــه ينــدرج يف ســياق إطــا ٍر عــام يعيشــه ـكاًل تراتب ًّيــا،
-مــا الــذي أ ّدى إىل أن تأخــذ هــذه العالقــة شـ ً
العــامل اليــوم ،إذ إ َّن العــامل بقــدر مــا فيــه مــن انتظــام تتخلله تــأيت فيــه ُهويــة الذات/األنــا –دامئ ـاً -قبــل ُهويــة اآلخــر/
الفــوىض التــي ال تحتكــم إىل قانــونٍ بعينــه ينظــم مك ّوناتهــا، املوضــوع فتحيلــه إىل موضــوع متــارس عليــه كل ســلطاتها؟
ـي إىل العــامل
وقــد امتــدت هــذه الفــوىض مــن العــامل الخارجـ ّ النص.
أسئلة شائكة معقّدة يدشّ نها ُّ
ي لإلنســان ،فبــات يعيــش حـ ٍ
ـاالت نفس ـ ّي ًة تنتظمهــا الداخ ـ ّ
فــوىض مــن نــوع خــاص ،كان لهــا ناتجهــا الســلويكّ الــذي ثنائ ّي ُة القاعدة واالستثناء
يشــوبه االختــاط والعبــث ،ومــن ثــم اتّجــه هــذا اإلنســان (ثقاف ُة العبث املسكوت عنه)
املعــذب بتناقضــات الداخــل والخــارج ،إىل الخــاص مــن
يلعــب املؤلـ ُـف هنــا عــى لعبــة العبــث يف ظـ ِّـل املســكوت
هيمنــة النظــام الــذي يق ّيــده ،وإىل العبــث مبــا يحيــط بــه
عنــه ،عبــث الحيــاة ،واملــوت عــر مجموعــة مــن األســئلة
مــن منظومــة ثقاف ّيــة ومجتمع ّيــة بــكل مــا فيهــا مــن عادات
تنطلــق كالطلقــات املدويّــة ،وعــى الرغــم مــن أ َّن املؤلــف
وتقاليــد تتســلط عــى األف ـراد وتح ـ ُّد مــن حريتهــم ،وهنــا
يكتــب لهــا اإلجابــات ،إال إنَّهــا إجابــاتٌ أكــر غموضً ــا
ال يكــون للعبــث هــدف إال مجــرد وجــوده ،أي أن العبــث
ومراوغــة مــن الســؤال.
يكــون هدفًــا يف ذاتــه.
ليكــون هــذا االختيــا ُر أدا ًة ملســاءلة الفــرد عــن كل ترصفاتــه،
لكــن االت ّســاق الــذي يحكــم مفــردات الثقافــة عمو ًمــا،
لقــد كان للعبــث حضــوره املركــزي يف تشــكيل كثــر مــن
يصيبــه نــو ٌع مــن الخلــل والتم ـ ّزق الــذي يضيــق أو يتســع،
الرسديــات الحديثــة ،فجــاءت يف جانــب كبــر منهــا فوضويّــة
أفكار /دراسات ومقاالت 79
ترســيخها يف أذهانهــم ع ّنــا ،أ َّمــا الــذات الخاصــة الداخل ّيــة بصمتــه الــذات املتكلمــة ،فكانــت هــذه اآلليــات التعبرييّــة
فهــي مــا نــرى أنفســنا عليــه دومنــا حاجــة الرتــداء األقنعــة، قــد جعلــت مــن أنــا املبــدع واحــد ًة مــن مفاتيــح عــوامل
وكل التــي تكــون أقــرب إىل عــامل الخــارج االجتامعــي منهــا اإلبــداع.
ـي.
إىل عــامل الداخــل الحقيقـ ّ "هــذا اآلخــر ،هــو نقيــي ،ورشط وجــودي أو العكــس...
ألــح املؤلــف عــى لعبــة البطــل املهــزوم ،وباتــت وقــد َّ وهــذا اآلخــر يف حالتنــا قــد يكــون رشيــكًا أو غري ًبــا..
ـي ،حتــى لــو الهزمي ـ ُة هــي إحــدى عالمــات النــر الحقيقـ ّ وقــد يكــون صدي ًقــا وقــد يكــون عــد ًوا" ...وهــذه الثنائ ّيــة
الناتــج ،إذ تحــ ّول املــوتُ
ُ الســبيل ،وهــو
ُ كان املــوتُ هــو قــد تخفــت ح ّدتهــا أو تــزداد ،وقــد تبــدو ظاهــر ًة واضح ـ ًة
الحــي تتحــ ّول حــواراتُ
ّ إىل رمــ ٍز للحيــاة .يف غيبــة الفعــل للعيــان ،أو تكمـ ُن ،فتبــدو خافيـ ًة غــر مرئيّــة أو محسوســة،
الشــخصيات إىل مواجهــات قاس ـ ّية ،تتح ـ ّول الشــخصيات إىل تب ًعــا لعوامــل كثــرة داخل ّيــة وخارج ّيــة ،وتب ًعــا لــروط
محقّقــن تــارةً ،وإىل متّهمــن تــار ًة أخــرى ،ويتحـ ّول الضحــك اجتامع ّيــة وتاريخ ّيــة متعــددة.
إىل مـرارة (ينخرطــان يف موجـ ٍة مــن الضحــك ..لك َّنــه ضحــك مــن الواضــح أنَّهــا ثنائيّــة موجــودة تحتــاج إىل تأمــلٍ وتدبّــر،
ـي ،نشــعر مــن خاللــه بأنَّهــا ال يضحــكان وإمَّنَّ ــا يبكيــانعبثـ ٌّ ذلــك أ َّن فهــم اآلخــر يســتلزم توفّــر رؤيّــة عقالنيّــة عميقــة
مــن الخيبــة والهزميــة) ..يف غيبــة الفعــل تحاول الشــخصيات عــن الــذات أو ًاًل .وهــذه الرؤيّــة العقالن ّيــة املتعمقــة ،هــي
ســر أنفســها باألقنعــة ،وهــي –بالفعل -لعبـ ُة أقنعـ ٍة متبادلة يف جوهرهــا ،رؤيــ ٌة نقديّــة بالــرورة ،للتاريــخ ماض ًيــا
بــن اإلنســان واآلخــر ..نــو ٌع آخــر مــن الشــعور باالنقســام ـتقباًل ..هــي رؤيّ ـ ٌة تعتمــد نظــر ًة واقعيّــة ،ال
رضا ،ومسـ ً وحــا ً
ـي بــن عــامل اإلنســان وعــامل اآلخــر ،بــن دنيــا الفــاين النفـ ّ تفــرط يف متجيــد الــذات أو التحقــر مــن شــأنها ،وال تبالــغ يف
ودنيــا الثــاين ومعطياتــه الســاحرة .لتبــدو هنــا مفــردات اإلعــاء ،مــن شــأن اآلخــر ،أو التهويــن مــن أمــره؛ مــن هنــا
لعبــة املــوت يف أكــر مــن صــورة. تــأىت أهم ّيــة صــوت "األنــا" يف مواجهــة صــوت "اآلخــر" يف
نلتقــي حــول مفارقــة مميــزة هــي ســؤال املــوت ،ورمبــا املــرح ،ويك تتضــح هــذه يف محاولــة لفهــم اآلخــر
مــوت الســؤال ،هــي منطق ـ ٌة مربك ـ ٌة وف ـ ٌّخ وضعنــا فيــه (األنا/اآلخر) والبطل املهزوم.
كاًل منــا لديــه املؤلــف ،وأحكــم إغالقــه بدرجــة تجعــل ً ـزوم،
ـص مهـ ٍ تــرز هــذه الثنائ ّيــة يف ضــوء مــروع بطــلٍ ناقـ ٍ
فــرص متســاوية يف البقــاء والهــروب ،يف اإلقــدام واإلحجــام. تجســدها األنــا
ذات واقع ّيــة ّحيــث تنقســم الــذات لديــه إىل ٍ
هــي لعبــة االختيــار مــا بــن الالحيــاة والالمــوت ،هــي لعبــة وذات مثاليّــة متثّلهــا األنــا التــي تحلــم أن يكــونالغافلــةٍ ،
الفقــد ذاتهــا ،فقــد االختيــارات ،بالرغــم مــن أ َّن املؤلــف عليهــا حيــث تنقســم صــورة الــذات إىل صــورة واقعيّــة..
جعلهــا متاحــة. وهــي مــا يــرى الشــخص نفســه عليــه يف الواقــع ،ثــم إىل
صــورة مثال ّيــة وهــي مــا يطمــع الشــخص أن يكونــه ،كــا
ميكــن النظــر إىل صــورة الــذات -أيضً ــا -مــن خــال منظــور
ـي ،أي الطريقــة التــي نعــرض بهــا أنفســنا عــى اآلخــر، خارجـ ّ
فنحــن نعــرض أو نُظهــر أنفســنا يف حالــة الــذات االجتامع ّيــة
وفق ـاً للطريقــة التــي يرانــا بهــا اآلخــرون ،والتــي نرغــب يف
دراسات ومقاالت/ أفكار 81
ألعاب الفيديو
توفّــر مــا يــروق لألف ـراد مــن جميــع األعــار والخلف ّيــات،
وهــو أم ـ ٌر نــاد ُر الحــدوث يف األلعــاب التقليديّــة عــى أرض
الواقــع .توجــد ألعــاب الفيديــو منــذ أكــر مــن نصــف قــرن،
لك َّنهــا يف العقديــن املاضيــن أصبحــت تجــارب تشــارك ّية عــر
اإلنرتنــت ،مــع آالف مــن الالعبــن اآلخريــن املتفاعلــن يف
الوقــت نفســه .إ َّن مامرســة ألعــاب الفيديــو تــؤدي بصــورة
العصبــي املرتبــط
ّ مبــارشة إىل إفــراز الدوبامــن ،الناقــل
باالســتثارة واملكافــأة واإلدمــان .متثّــل األلعــاب العنيفــة 50%
أو أكــر مــن إجــايل مبيعــات ألعــاب الفيديــو.
ُ
"حديث الروح" :كلامت
محمد إقبال يف املنت الكلثومي
د .عزيز بعزي*
مل يكــن شــع ُر الباكســتا ّين محمــد إقبــال عرب ًّيــا ،فموهبتــه الشــعرية األصيلــة ،وكتاباتــه عمو ًمــا كانــت
بالفارس ـ ّية واألورديّــة عــى وجــه التحديــد ،دون أن نغفــل كونــه ضلي ًعــا يف اللغــات املتعــددة يف شــبه
القــارة الهنديّــة وخارجهــا ،لــذا ترجــم عنــه الكثــرون إىل اللغــة العرب ّيــة ،فمــن مــر نجــد عبــد الوهــاب
ع ـزام ،والصــاوي شــعالن ،ومحمــد يوســف عــدس ،ومــن ســورية عبــد املعــن امللوحــي وزهــر ظاظــا.
ـي ورجـ ُـل سياسـ ٍة وترب ّيــة ،فهــو -إذن -مــن أبــرز مل يكــن إقبــال شــاع ًرا فحســب ،بــل هــو فيلسـ ٌ
ـوف وحقوقـ ُّ
ـامي يف القــرن العرشيــن ،وأحــد أولئــك القالئــل الذيــن بعثــوا
ـري اإلسـ ُّ
الوجــوه التــي عرفهــا الفكـ ُر التنويـ ُّ
ـح هــذا التوصيــف.
النــور يف ســاء الــرق ،إن صـ َّ
اخرتنــا هنــا الحديــث عــن إقبــال الشــاعر وعالقتــه بســيدة الطــرب العــريب أم كلثــوم ،التــي غ َّنــت قصيدتــه
ـي" ،فلوالهــا ملــا عرفتــه
الذائعــة الصيــت "حديــث الــروح" ،لــذا يحـ ُّـق لنــا القــول هنــا بأنَّــه " شــاع ٌر كلثومـ ّ
الجامهــر العرب ّيــة بشــكل واســع ،ليــس وحــده بطبيعــة الحــال ،بــل إ َّن األمــر يــري عــى شــعراء آخريــن
مــن الســعودية ،الســودان ،لبنــان ،مــر ،وســوريا.
فبصوتهــا القائــم عــى الطاقــة الفن ّيــة الف ـذّة ،والروح ّيــة العال ّيــة ،اســتطاعت أم كلثــوم أن تخلــق عاملًــا
مفعـ ًـا باملوســيقى ذات النزعــة الصوف ّيــة ،الكاشــفة لــأرسار ،واملليئــة بالوجــدان الروحــي .وقــد تجلّــت
ي إلقبــال ،وغــر البعيــد عــن توجهاتــه الشــعريّة،ـص األصـ ّ معــاملُ تلــك النزعــة يف صوتهــا املتأثــر بــروح النـ ِّ
القامئــة عــى نزعتــه الفكريّــة واســتعداداته النفســ ّية ،وتوجهاتــه الفلســف ّية أيضً ــا ،بحكــم تطلّعــه إىل
ـب اإلنســان األ ّول. الحقيقــة ،وشــعوره العميــق بأنَّهــا مطلـ ُ
ال خــاف أن التَّديــن العميــق إلقبــال ،والتزامــه بديــن اإلســام وقيمــه ،ونفــاذ بصريتــه إىل كثــر مــن
الحقائــق الدين ّيــة ،زاده عمل ًّيــا قــدرة ظاهــرة عــى املــزج بــن هــذه الفعاليــات املختلفــة ،لصياغــة فكــرة
رص الفلســفة والديــن والشــعر ،فهــذه الفعاليــات الثالثــة باألســاس -كلهــا كــا يبــدو-
ال تتناقــض فيهــا عنــا ُ
ـدس واحــد ،يظهــر كل مــرة مبظهــر خــاص. تنتهــي عنــده إىل حـ ٍ
واإلسالمي والحضارة
ّ ٌ
باحث يف شؤون الفكر العر ّيب *
أفكار /دراسات ومقاالت 89
90
ـات واضحــة يف كلــات "حديــث الــروح" ،مــا املالحــظ أ َّن "كوكــب الــرق" عملــت عــى وضــع تعديـ ٍ
دفعهــا تهمــل بعــض املقاطــع منهــا ،حتــى تكــون مناســبة لقواعــد اللحــن التــي نســجها امللح ـ ُن الكب ـ ُر
ريــاض الســنباطي ،فمــن خــال قواعــد تلــك األلحــان ميكــن الوقــوف عنــد تالقــي الــروح الصوف ّيــة
للســنباطي وروعــ ِة موســيقاه ،القريبــة لأللحــان الرشق ّيــة مــع صوف ّيــة ِّ
النــص وروحــه.
أ َّمــا تقديــم القصيــدة للمــرة األوىل فقــد وقــع عــام 1967م ،ويف الحقيقــة ،فأغنيــة "حديــث الــروح"
هــي الوحيــدة التــي أُمكــن مقارنتهــا مــع تلــك القصائــد الروح ّيــة التــي كانــت أم كلثــوم قــد أنشــدتها
ـح
يف الخمســينيات ومــا قبلهــا ،مثــل "رباعيــات الخيــام" و"ســلوا قلبــي" وســواهام مــن الروائــع ،ورمبــا يصـ ُّ
اعتبارهــا إضاف ـ ًة إىل املــن الكلثومــي.
إذا رجعنــا إىل مضمــون أغنيــة "حديــث الــروح" فإنَّنــا نجــده يعــود إىل محتــوى قصيدتــن جمعتهــا أم
شــعري واحــد ،فتلــك القصيــد ُة يف األصــل هــي إعــادة نظــم لقصيــديت "الشــكوى" و ٍّ قالــب
ٍ كلثــوم يف
"جــواب الشــكوى" باللغــة األورديّــة ،نرشهــا إقبــال يف ديوانــه املســمى "صلصــة الجــرس".
أفكار /دراسات ومقاالت 91
ففــي قصيــدة " الشــكوى" بــثَّ إقبــال شــجونَه ،وذلــك يف 120بيتًــا عــام 1990م .يف حــن تضــم قصيــدة
"جــواب الشــكوى" التــي نظمهــا عــام 1913م 140 ،بيتًــا .وقــد ترجمهــا مــن األورديــة إىل ن ـرٍ باللغــة
ـري) ،أ َّمــا كتابتهــا يف قصيــدة واحــدة بعنــوان "حديــث
العربيــة محمــد حســن األعظمــي ( العــامل األزهـ ّ
الــروح" ،فكانــت مــن إبــداع الشــاعر املــري الكفيــف الشــيخ الصــاوي شــعالن.
مــن أرو ِع قصائـ ِـد مناجــا ِة اللــه تعــاىل ،القصيــد ُة األوىل؛ حيــث عمــل إقبــال عــى نقــد تراجــع الــدور
ـاري للمســلمني تاريخ ًّيــا ،كــا حــاول عمل ًّيــا تفكيــك أبــرز أزمــات املســلمني ،ســع ًيا إىل مواجهــة
الحضـ ّ
املشــكالت الحضاريّــة التــي تعرتضهــم ،ولهــذا أطلــق عــى قصيدتــه "الشــكوى"؛ بحكــم أ َّن حــال األمــة
ـال األم ـ ِة اإلســاميّة املــردي؛ حيــث
آنــذاك – ورمبــا حاليًــا -يســتدعي الشــكوى للــه ،ملــا وصــل إليــه حـ ُ
تراجــع دورهــم بشــكل يثــر الدهشــة.
92
أفكار /دراسات ومقاالت 93
خطــاب مو ّجــه لشــباب العــامل اإلســامي ســ ّيام املتشــبعٌ فتوجهــات "حديــث الــروح" رصيحــة ،وهــي
ـي ،والضائــع يف رصاع األيديولوجيــات بالثقافــة الغربيّــة ،واملخــدوع بحضــارة الغــرب ،الجاهــل لرتاثــه الرشقـ ّ
الغربيــة ،ولهــذا خاطبــه إقبــال باألســلوب ،واللغــة التــي يؤمــن بهــا ،واملقاييــس التــي يتعامــل بهــا .كــا
برهــن لــه مــن خــال أبيــات شــعريّة بــأ َّن الرشيع ـ َة اإلســام ّية قابل ـ ٌة بروحهــا للتط ـ ّور ،ومواكبــة التقــدم
اإلنســاين .أو بعبــارة أوضــح حــاول ترميــم الفكــرة الدين ّيــة يف قلــوب النــاس وعقولهــم؛ مبــلء الفــراغ
ـي مبــا يتــاءم مــع الحيــاة الجديــدة.الروحـ ّ
فالذاتيّــة حســب إقبــال هــي األصــل ومنهــا البدايــة ،وعليــه فإهاملهــا جهـ ٌـل بأصــل الــداء ورأس كل بــاء.
أ َّمــا نظرتــه إىل فلســفة الــذات كــا يحلــو إليــه فهــي نظــر ٌة فلســفيّة إســاميّة ،قرآنيّــة نهضويّــة ،مــادام
اإلســا ُم اســتطاع أن يبنــي ذات اإلنســان ومجتمعــه ماديًّــا ومعنويًّــا؛ ومــن ثــم تحريــره مــن دونيتــه ،صاع ًدا
ـي.
بــه إىل عــامل الــروح ،وذلــك بغيــة تجديــد الفكــر الدينـ ّ
حيــث العمــل عــى صياغــة جديــدة للمعطيــات اإلســاميّة عــن الكــون وعالقتــه باإلنســان عــى نســقٍ مــن
األســاليب الحديثــة ،موفِّ ًقــا بــن هــذه املعطيــات مــن النصــوص القرآن ّيــة ،وبــن معطيــات العلــم الحديــث،
ـباب املســل ُم يف ظـ ِّـل هيمنــة الفكــر الغــر ّيب عليــه. بعدمــا استشــعر الفـرا َغ الفكـ َّ
ـري الــذي يجــده الشـ ُ
ـال" الــر َّد عــى منتقديــه ،لذلــك وضــع جوابًــا مــن بعــد أربعـ ِة أعــوام تقريبًــا مــن "الشــكوى" ،حــاول "إقبـ ُ
كل العلــاء الذيــن عملــوا عــى مهاجمتــه ،ويف هــذا الصــدد جــاءت اللــه للمســلمني عــى شــكواه ،لــريض َّ
قصيــدة "جــواب الشــكوى".
والحــق أ َّن املنحــى الروحــا ّين الصــو ّيف هــو الســائد عمو ًمــا يف قصيــدة "حديــث الــروح" ،بحكــم تأثــر إقبــال
ـي ،ونــور الديــن الجامــي ،كــا تأثــر يف الفلســفة
ـامي ،فقــد تأثــر بجــال الديــن الرومـ ّ
بالـراث الصــو ّيف اإلسـ ّ
الغرب ّيــة بجوتــه ونيتشــه وبريجســون .وهنــا يحــرص إقبــال عــى التمييــز بــن الوعــي الصــو ّيف والوعــي
ـوي الختــاف مقاصدهــا. النبـ ّ
ـي -وأتباعــه
ـي الصــو ُّيف ،يســعى لتســامي الــروح يك تتطابــق ،وتفنــى يف املطلــق ،يف حــن أ َّن النبـ َّ فالوعـ ُّ
املســلمني -ال يطمــح إىل نشــوة الوصــول إىل الفنــاء يف املطلــق ،بــل يتســامى إليــه ليحصــل عــى ال ـزاد
الــذي يعينــه عــى العــودة مــرة أخــرى إىل أرض الواقــع ،ليعمــل عــى إعــار الحيــاة ،ومواجهــة تحدياتهــا.
ـجي ،املمــزو ِج بألحــان الســنباطي أن تحـ ّول قصيــدة "حديــث الــروح" هكــذا عملــت أم كلثــوم بصوتهــا الشـ ّ
ـي قـ َّـل نظــره يف عــامل املوســيقى؛ فقــد اســتطاعت األغنيــة أن تجمــع بــن الديــن والــروح إىل إبــدا ٍع فنـ ٍّ
ـري أحمــد حســن الزيــات عــن ـب املـ ُّوالتاريــخ والجغرافيــا واألدب والفــن واملوســيقى؛ لذلــك قــال الكاتـ ُ
أفكار /دراسات ومقاالت 95
Photo by Finan
96
ـت جِسـ ُمه يف ريــاض "كشــمري" ،وانبثقــت رو ُحــه مــن ضيــاء مكــة ،وتألــف غنــاؤه مــن محمــد إقبــال" :نبـ َ
ألحــان شـراز .لســا ٌن لديــن اللــه يف العجــم يفــر القــرآن بالحكمــة ،ويصـ ّور اإلميــان بالشــعر ،ويدعــو إىل
حضــارة رشقيّــة قوامهــا اللــه والــروح ،وينفــر مــن حضــارة غربيــة تقـ ِّدس اإلنســان واملــادة".
تأسيســا عــى مــا ســبق ذكــره ،فــإ َّن أم كلثــوم عنــد اختيارهــا غنــاء "حديــث الــروح" مل تبتعــد عــن موقــفً
إقبــال مــن الفــن عمو ًمــا ،وباملناســبة فإقبــال يطالــب يف الفـ ِّن أن يكــون كامـ ًـا مــن ثــاث نــوا ٍح ،ســواء كان
الفـ ُّن شــع ًرا أو موســيقى أو تصويـ ًرا أو عــارة.
ـذل الفنــا ُن جهـ ًدا يف تربيــة ف ّنــه ،وتنميــة مواهبــه .وثان ًيــا :أن يبــذل الفنــان جهــوده أواًلً :ال بـ َّد مــن أن يبـ َ
يف إظهــار شــخصيته ،وإبــداء ذاتيتــه ،فــا يكــون ف ُّنــه تكـرا ًرا محضً ــا ،وتقليـ ًدا رصفــا ملــا أســلفه الفنانــون
اآلخــرون.
ـس ســليمة، ثالثًــا :أن يســتهدف الفــن أهدافًــا نبيلــة ،ويســاعد يف تقويــة ذات ّيــة الفــرد واملجتمــع عــى أسـ ٍ
ـول ومحمــو ٌد لــدى إقبــال، فــإذا ســاعد الفـ ُّن يف تنميــة قــوى الحيــاة ،وتربيــة مواهــب الــذات ،فهــو مقبـ ٌ
وأ َّمــا إذا كان الفــ ُّن يدفــع الفــرد واملجتمــع إىل الفنــاء وين ّومــه ،ويســتحثّه عــى الرذائــل؛ فذلــك غــر
مرغــوب وال محمــود ،والحــق أ َّن "حديــث الــروح" إلقبــال بلغــت ق ّمـ َة الفـ ِّن املوسـ ّ
ـيقي والغنــا ّيئ بصــوت
أم كلثــوم بنفحاتــه الصوف ّيــة ،واملوزّعــة بــن الشــكوى تــار ًة وجــواب الشــكوى تــار ًة أخــرى ،بحثًــا عــن
الخــاص املطلــوب ،عــر صــو ٍر يُخ ّيــل للمتأمــل فيهــا أنَّــه يكنهــا يف نفســه ،لك َّنــه مل يكــن يــدري كيــف
يربزهــا ويخرجهــا ،ثــم جــاء إقبــال الحكيــم ،وق ّدمهــا لــه فريــد ًة مؤثِّــر ًة وموفقــة ،وتلــك مــن أرسا ِر جامل ّيــة
" حديــث الــروح" .
أفكار /دراسات ومقاالت 97
()1
فأريـ ُد ،خالفًــا ملــا هــو متــداول ،أن أبــدأ بـــِ "املقطــع" ال "املطلــع" كــا يف املصطلــح النقـ ّ
ـدي العــر ّيب القديــم ،ألذكّــر
كل مــن يتّعــظ ويعتــر ويقـ ّدر مبقولــة عبــد املنعــم ال ّرفاعــي بعــد أن تقاعــد عــام :1961هــا أنــا أُخلّــف ورايئ ثالثــة ّ
وعرشيــن عا ًمــا مــن عمــري قطعتهــا يف خدمــة الحكومــة وال َج ْهـ ِـد والــدأب والتّن ّقــل واألســفار .هــا أنــا أســتغني عــن
الخزانــة لتدخــل يف َعــداد املناصــب واأللقــاب واملعاشــات .هــا هــي األوســمة الرفيعــة التــي أحرزتهــا أحفظهــا يف ِ
التّحــف القدميــة .هــا هــو التّ ّقــدم والتّأخــر واملراســم والشــكليّات أُلْقــي بهــا بعيـ ًدا ع ّنــي.
الســنني ال أملــك أرضً ــا وال بيتًــا وال مــااًلً .أنظــر إىل نفــي يف املــرآة فأملــح هــذا الجــرح
لقــد خرجــت مــن خدمــات ّ
الســنني فأجــد هــذا القلــم وهــذه يف ميينــي ،وأبــر هــذا البيــاض يف لِ ّمتــي ،ث ـ ّم أبحــث عـ ّـا تب ّقــى مــن ذخائــر ّ
الذّكريــات أُس ـطّر منهــا ألقرأهــا ،ويقرأهــا ولــدي بعــدي ،ويقرأهــا معنــا ال ّنــاس(.)1
الســديد ،والكان معتقــد عبــد املنعــم ال ّرفاعــي الثابــت(" :)2مل أُعجــب مبســؤول مينعــه الوجــل مــن أن ميحــض الــرأي ّ
آ َخــر لــوال جســام ُة املوقــف لزيّــف الحقيقــة .فأنــا أعلــم أنّنــا يف عهـ ٍـد مــن تط ّورنــا االجتامعــي مــا نـزال نؤثــر فيــه
اللّقــب عــى الفكــرة واملنصــب عــى العقيــدة" .وكان يقــول(" :)3أكــره ذا الوجهــن والرأيــن والخلقــن مثلــا أكــره
الضعــف والخــوف والـ ّـر ّدد يف التعبــر ويف التّفكــر".
لقــد كانــت القضيّــة الفلســطينيّة عنــده "قضيــة وطنيّــة وعربيّــة وعامليّــة يف آن واحــد"( )4وهــذا مــا عمــل عليــه دامئًــا،
وال سـ ّيام يف افتتــاح الــدورة الخامســة عــرة لألمــم املتّحــدة يف منتصــف شــهر أيلــول 1960إبّــان كان منــدوب األردن
فيهــا .لكــن فوجــئ بعــد انتهــاء الــدورة بقـرار ســحبه مــن األمــم املتّحــدة ونقلــه إىل عـ ّـان ،فلــم يعجبــه ،فقــال(:)5
ـت عــى األوضــاع العا ّمــة والشــؤون الوطنيّــة حــن يُكتــب لهــا أن تقــع تحــت رحمــة الضعــف والعجــز "ولك ّنــي حزنـ ُ
وســوء اإلدراك والتّقديــر" .وحــن غــادر نيويــورك يف 30أيّــار 1961وهبطــت بــه الطائــرة إىل أرض املطــار بعـ ّـان
انهمــرت يف عينيــه الدمــوع حــن وقــع نظــره عــى املئــات مــن وفــود الالجئــن الفلســطينيني مــن أنحــاء اململكــة
كافــة ،والعـرات مــن الشّ ــباب تحتشــد الســتقباله تقديـ ًرا لجهــده املتواضــع يف خدمــة بــاده( .)6و ُعــرض عليــه ،بعــد
انقضــاء شــهرين عــى وصولــه إىل عـ ّـان ،أن يعـ ّـن ســف ًريا يف الهنــد وســيالن فاعتــذر(.)7
هــذا غيــض مــن فيــض مــا س ـطّره عبــد املنعــم ال ّرفاعــي يف "األمــواج" الــذي يُع ـ ّد وثيقــة أدبيّــة وتاريخيّــة مه ّمــة
تلقــي الضــوء عــى حيــاة واحــد مــن رجــاالت األردن وأحـ ِـد شــعرائه الكبــار( ،)8وال سـ ّيام أ ّن مؤلفــه نفســه وصفــه بأنّه
الخاصــة أنّنــي اندمجــت يف ّ "حقائــق وأنصــاف أرسار يعينهــا األدب عــى السياســة" .ويف هــذا يقــول(" :)9يف حالتــي
الســيايس واالعتبــارات العا ّمــة ،فرضبــت الحيــاة السياسـ ّية والحيــاة العا ّمــة ،فأخضعــت االهتــام الشّ ــعري لالهتــام ّ
قيـ ًدا عــى الشــعر كان تجنيًّــا منــي عليــه؛ ولك ّنــه كان شــيئًا ال بـ ّد منــه إلنســان عــاش يف السياســة أكــر مـ ّـا عــاش
يف الحقائــق الكــرى".
فأ ّمــا صديقــه ألكــر مــن نصــف قــرن الشّ ــاعر ســليامن املشــيني ،فأحســن القــول فيــه إنســانًا وشــاع ًرا إذ قــال :
()10
الصــدر يف الــو ّد؛ هــو ملــن يصادقــه ُعـ ّدة تشـ ّده وتقويــه" ،وقــال" :أ ّمــا
"عرفتــه كريــم العهــد ،صحيــح القصــد ،ســليم ّ
يف ميــدان الشّ ــعر واألدب فــكان ممــن اجتمــع لــه البيــان والشّ ــعر ال ّرائــع والخطابــة ،وكان صاحــب بديهــة يف املنظــوم
واملنثــور ،غزيــر العلــم" .وهــو الــذي لقّبــه بـــِ "شــاعر الضّ ــاد" ،وقــال مــن قصيــدة طويلــة يف رثائــه:
نجم ُعكاظها وامل ْربِد
مــن كان َ ماذا تقول عرائس األشعار يف
ً
مثاًل رشودًا ذا مضاء أ ْوحـــــ َـد قد كان يف أقواله و ِفعالـــــه
الرّسمدي بفردوس اإلله ّ
ِ فانعم
ْ سيظل ذكرك خالدً ا ومم ّجدًّ ا
ّ
()2
أعــود إىل "املطلــع" للتعريــف بالشّ ــاعر بإيجــاز .لقــد كان أحــد رجــاالت ال ّرعيــل األ ّول يف األردن يف السياســة والوطن ّيــة
والتعليــم والثقافــة ،ومن ر ّواد األدب شــع ًرا ونـرًا(.)11
والــده طالــب أحمــد ال ّرفاعــي ،مــن مدينــة "صفــد" يف شــايل فلســطني املحتلّــة ،وهــو مــن أرسة ُعرفــت مبكانتهــا
الســيدة نجــاء بـكّار مــن بلــدة "مرجعيــون" يف جنــو ّيب لبنــان ،مــن عائلــة معروفــة االجتامعيــة والروح ّيــة .ووالدتــه ّ
بالوجاهــة وعلـ ّو املكانــة.
ـس بــن ســبعة ولــد مبدينــة "صــور" اللّبنانيّــة يــوم األحــد 23شــباط 1917حيــث كان والــده يعمــل ،فــكان الخامـ َ
إخــوة ذكــو ٍر "مل يشــتمل ِعقْدهــم عــى واحــدة مــن البنــات".
بدأ دراسته األوىل يف "الكتّاب" واملدارس الحكوم ّية يف صفد ،ثم يف الكلية األُسكتلندية يف صفد وحيفا.
واصــل دراســته الثّانويّــة يف مدرســة عـ ّـان الثّانويّــة التــي يشــر إليهــا "يف مدرســتها الثّانويــة" كأنّهــا كانــت الوحيــدة
آنــذاك ،بعــد أن انتقــل إليهــا عــام 1926ملتح ًقــا بشــقيقه األكــر ســمري ال ّرفاعــي الــذي ســبقه إليهــا عــام 1924
السياســيني ،مبــا شــغله مــن مناصــب ش ـتّى، ليســهم يف تأســيس الدولــة األردنيــة التــي أضحــى مــن أبــرز رجاالتهــا ّ
أه ِّمهــا رئاســة الــوزارة غــر م ـ ّرة .كان هــذا أيــام كان الوطــن العــريب كلّــه ال حــدو َد وال ســدود:
من الشّ ام لبغدانِ بالد الع ْرب أوطاين
إىل ِم ْ َ
رْص فتطــوانِ ومن نج ٍد إىل ميـن
الحقْبة ما كان أحقّها وأعذبها وأُحيالها! لكن هيهاتَ هيهات! َس ْقيًا لتلك ِ
السياسـ ّية واألدب العــريب،
تخصصــات التّجــارة والعلــوم ّ التحــق عــام 1931بالجامعــة األمريك ّيــة ببــروت ،وتن ّقــل بــن ّ
أفكار /دراسات ومقاالت 99
()3
كانــت بدايــة رحلتــه اإلبداعيّــة يف الشــعر؛ باعرتافــه هــو ،يف مــدار الجامعــة األمريكيّــة ببــروت ســنة 1929أو
1930؛ وأ ّمــا "ظهــوره الشّ ــعري"ـ بتعبــره هــو -فــكان عــام ،1932إذ فــاز بقصيدتــه "قيــس وليــى" بالجائــزة األوىل يف
املســابقة التــي نظمتهــا الحكومــة اللّبنان ّيــة بــن الشــعراء مــن الطلبــة يف مؤسســات التّعليــم العــايل كافــة()13؛ وكانــت
وســا ًما ذهب ًّيــا.
منــذ ذلــك التاريــخ ظـ ّـل مشــواره مــع الشّ ــعر كــا وصفــه هــو "رصت أمــارس الشّ ــعر لنفــي ...الشّ ــعر إفـراغ ،إخـراج
للمكنونــات النفسـيّة أو مكنونــات الضّ مــر أو مكنونــات الفكــر ،إخـراج يف نــوع مــن التّصويــر الشّ ــعري .فأنــا حــن
أضيــق بهــذا العــامل ،وحــن ال أجــد مــن أُح ّدثــه ،أُفــرغ مشــاعري يف قالــب الشّ ــعر.)14("...
السياســة ،فهــي عابــرة عــى ال ّرغــم مــن أنّهــا رافقتنــي يف ثالثــن عا ًمــا"(،)15
روي عنــه "الشّ ــعر أصيــل يف طبعــي ،وأ ّمــا ّ
أباهي أمام الـنـــاس .كــ ّـل تـفـكـيـــري انـحـصـــر ونقــل عنــه "مل أفكــر يف يــوم مــن األيــام أن أصبح شــاع ًرا من أجل أن َ
فـــي أن أكـون شـاعـ ًرا مـن أجـل نفيس"(.)16
أكــر شــعره ،إىل اآلن ،يف أربــع طبعــات يف ديــوان عنوانــه "املســافر" ،وهــو عنــوان أوىل قصائــده التــي كتــب تحتهــا
مبــارشة "مســرة الحيــاة" ،والتــي اختــر منهــا البيــت اآليت "رســالة" للمتلقــي بديـ ًـا عــن املقدمــة أو التّقديــم يف
الطبعــة األوىل:
رحل ُة الفكر يف الفضاء البعي ِد سفـ ٌر شـاسـع كـأنّ مـداه
الطبعــة األوىل ،صــدرت عــام ،)17(1977مصـ ّدر ًة بإهــداء "إىل ولــدي عمــر" بخـ ّط الشّ ــاعر وتوقيعــه .وهــي تخلــو مــن
أي بيــان أو مق ّدمــة أو تقديــم ،وتضــم اثنتَـ ْـن وخمســن ( )52قصيــدة.
ّ
لســت أرتــاب يف أ ّن هــذه الطّبعــة هــي التــي قــال الشّ ــاعر نفســه عنهــا "كانــت القصائــد مبعــرة ،بعضهــا عنــدي،
كل أشــعاريالصحــف .مل أتفــرغ فيــا ســبق إىل االلتفــات إىل جمــع ّ وبعضهــا عنــد غــري ،وبعضهــا كان قــد نُــر يف ّ
100
ـت
ـت كنـ ُوتنظيمهــا .لهــذا قــام بعــض إخــواين وأصدقــايئ فجمعــوا هــذه املجموعــة ،ودفعــوا بهــا إىل املطبعــة يف وقـ ٍ
غائ ًبــا فيــه عــن مــكان وجــوده .وكان الغــرض أن يظهــر يشء مــن أشــعاري يف يــد ال ّنــاس كتجربــة أوىل"(.)18
والثانيــة ،صــدرت عــام )19(1979مصـ ّدرة باإلهــداء نفســه كــا هــو ،وبتقديــم لل ّنــارش عمــر املــدين عنوانــه "رســالة إىل
القــارئ" ومق ّدمــة للشّ ــاعر عمــر أبــو ريشــة ( )1990-1908صديــق عبــد املنعــم الــذي اعــرف بأنّــه كان يف مقدمــة
البارزيــن مــن شــعراء العــر الحديــث الــذي كان يقــرأ لهــم كثـ ًرا.
هــذه الطبعــة أوســع مــن األوىل ،هــي التــي قــال هــو عنهــا يف حــوار محاســن حمــي معــه "وقــد شـ ّجعتني هــذه
التجربــة – أي الطّبعــة األوىل – عــى تنظيــم مجموعــة أخــرى أو مجموعــة أوســع أنرشهــا يف وقــت قريــب" .الدليــل
عــى أنّهــا أوســع أن الشّ ــاعر أضــاف إليهــا ســبع قصائــد جديــدة .وأعــاد ترتيــب القصائــد وف ًقــا ملوضوعاتهــا فســلكها
يف خمســة( :)20املســافر ،واملواكــب ،ووطــن الفــداء ،ودمــوع وذكريــات ،ويف ظــال الج ّنــة.
فأ ّمــا الطبعــة الثالثــة فهــي التــي أصدرتهــا اللّجنــة الوطن ّيــة العليــا إلعــان عـ ّـان عاصمــة للّثقافــة العرب ّيــة عــام
.)21(2002
لقــد خلتهــا طبعــة جديــدة مزيــدة ومنقّحــة عــن الطبعــة الثانيــة ،فــإذا هــي "صــورة ِط ْبــق األصــل" عــن الطّبعــة
األوىل ّإاّل يف أمريــن :األ ّول ،أ َّن اإلهــداء "إىل ولــدي عمــر" طُبــع طباعــة ،ومل يكــن بخ ـ ّط الشّ ــاعر وتوقيعــه كــا يف
الّطبعتــن األوليــن؛ واآلخــر االســتغناء عــن الّلوحــات الفنيّــة املرســومة يف الطّبعــة األوىل.
األهــم أ ّن هــذه الطبعــة مــا زالــت تحتفــظ بأكــر أخطــاء الطّبعــة األوىل ،ســوا ٌء يف "الضّ بْــط" الــذي زادت عليهــا فيــه
أم يف "التّدويــر" العــرويض؛ وقــد رصدتهــا يف كتــايب "عبــد املنعــم ال ّرفاعــي :دراســة وحــوارات ومختــارات(.")22
لقــد كان متوق ًعــا ،يف األقــل ،أن تظهــر هــذه الطبعــة عــن "الطبعــة الثانيــة" التــي أرشف عليهــا الشّ ــاعر نفســه ورعاها
وزاد عليهــا ســبع قصائــد ،ورتّــب القصائــد ترتيبًــا وفْــق املوضوعــات ،وأعــاد ال ّنظــر يف قصائــد "الطّبعــة األوىل" مــن
حيــثُ عنوانــاتُ بعضهــا وألفاظهــا وأبياتهــا تغيـ ًرا وحذفًــا وزيــادة كــا هــو ٍ
آت.
كل شــعر صاحبــه ،فهــو العــودة إىل تـراث أ ّمــا املطمــح األكــر ،ال سـ ّيام أ ّن الديــوان حتّــى بطبعتــه الثانيــة ال يضـ ّم ّ
والصحــف واملخطــوط ومل يــدرج يف الديــوان .فث ّمــة عــدد مــن القصائــد أثبتهــا ال ّرجــل الشــعري املنشــور يف املجــات ّ
الباحــث محمــد مــوىس أحمــد( )23كان الشّ ــاعر نفســه قــد أطلعــه عــى املخطــوط منهــا.
إن يف هــذه القصائــد مــا يعــود إىل ِحقْبــة مــا سـ ّـاه الشّ ــاعر ذاتــه "الظّهــور الشّ ــعري" وليــس إىل "عهــد الشّ ــباب"
كل الـ ّرىض عــن حقائــق هــذا الشــعر أو عــن الــذي ســألته محاســن حمــي عــن مــدى رضــاه عنــه ،فأجــاب "ليــس ّ
عنــارصه أو األحــداث التــي أنتجتــه ،وإمّنّ ــا عــدم الـ ّرىض هــو القــدرة األدب ّيــة واإلبداع ّيــة يف صنــع ذلــك الشّ ــعر".
لقــد كان الشّ ــاعر يف َحـ ْـر ٍة مــن أمــر شــعر عهــد الشــباب .يقــول" :هنــاك جــزء مــن شــعري نُظــم يف عهــد الشّ ــباب
كل الــرىض عـ ّـا وعهــد الجامعــة ،وأنــا محتــار يف أمــر هــذا الجــزء مــن أشــعاري .أقــرأه بنظــر ِة اليــوم فــا أرىض ّ
أحســنه أو أُكمــل جوانــب ال ّنقــص التــي أراه فيهــا مبقاييــس نظمتــه باألمــس ،وأحــاول أن أغـ ّـر فيــه أو أع ّدلــه أو ّ
أفكار /دراسات ومقاالت 101
اليــوم .فعندمــا أرشع بهــذه امل َ َه ّمــة أجــد نفــي يف ضيــاع ويف بحــر ال ق ـرار لــه ،وأجــد أن تلــك األشــعار أصبــح
ـت عليهــا هــذه العمليــة ليــس نســي ًجا واحـ ًدا أو ليــس متّسـقًا ،فأُقْلــع عــن التّجربــة ،وأتــرك شــعر نســي ُجها إذا دخلـ ْ
الشّ ــباب كــا كان وكــا خــرج أ ّول م ـ ّرة مــع مــا فيــه مــن صــدق االندفــاع وب ـراءة الظّهــور ومــع مــا ينقصــه مــن
ـي الــذي منــا وتكامــل فيــا بعــد". ال ّنضــوج األديب والفنـ ّ
يتنصــل منــه ويتخـ َّـل عنــه كــا فعــل بعــض أعمــدة الشــعر الحديــث عــى ال ّرغــم مــن هــذا فإنّــه مل يحذفــه ومل ّ
"كل مــا مل أثبتــه يف هــذه الطبعــة الجديــدة مــن أعــايل مــن مثــل أدونيــس ومحمــود درويــش( .)24فــاأل ّول يقــولّ :
الرّتتيــب ال ّزمنــي لشــعره الشّ ــعريّة الكاملــة أتخـ ّـى عنــه"( .)25مل يقــف األمــر بــه عنــد هــذا ،إمّنّ ــا جــازه إىل التخــي عــن ّ
يف طبعــة "دار املــدى" دمشــق ،1996حيــث ســلك القصائــد القصــرة يف مجلــد ،والطّويلــة يف مجلــد ،وال ّنصــوص غــر
املوزونــة يف مجلــد .فأ ّمــا محمــود درويــش فقــد تخـ ّـى عــن أ ّول دواوينــه "عصافـ ُر بــا أجنحــة" فحذفتــه مــن أعاملــه
الشــعريّة .الســؤالّ :أىّن ولــد الشــاعر كب ـ ًرا ومهـ ًّـا؟ أو ليــس هــو يف الف ـ ّن واإلبــداع نفســه يف الحيــاة والد ًة و َح ْب ـ ًوا
ـااًل؟ أو ليســت أعاملــه مــن أ ّولهــا إىل آخرهــا متثّلــه يف طفولتــه اإلبداعيــة وتدرجهــا وتط ّورهــا ونضجهــا؟ ومشـيًّا واكتـ ً
كيــف يهــدم األســاس الــذي لــواله ملــا نهــض البنيــان وأُحكــم؟!
وأ ّمــا الطبعــة الرابعــة األخــرة ،فهــي "شــعر عبــد املنعــم ال ّرفاعــي" الــذي جمعــه وحقّقــه وقـ ّدم لــه تلميذنــا القديــم
(األســتاذ الدكتــور اآلن) إبراهيــم الكوفحــي.
فهــو يضــم قصائــد "املســافر" يف طبعتــه الثانيــة ( ،)1979والقصائــد التــي يف كتــاب "عبــد املنعــم ال ّرفاعــي :حياتُــه
نصــا متفاوتــة املوضوعــات الصحــف واملجــات والكتــب ،تنــوف عــى ســتني ًّ ونصوصــا أخــرى جمعهــا مــن ّ ً وشــعره"،
واملضامــن واألطــوار واألمنــاط ،وإن يكــن أكرثهــا مــن شــعر حقبــة "الظّهــور الشّ ــعري" و "عهــد الشّ ــباب" الــذي كان
الشــاعر نفســه "محتــا ًرا يف أمــره" وغــر متح ّمــس لــه كثـ ًرا كــا ســلف.
عــى ال ُّرغــم مــن أ ّن هــذه الطبعــة أكمــل الطبعــات وأوفاهــا ،إىل اآلن ،ومــن الجهــد الــذي بذلــه الجامــع املح ّقــق،
فقــد اعتمــد قصائــد الطبعــة الثانيــة بقضّ هــا وقضيضهــا ففاتــه أن يلتفــت إىل "املعــاودة" النقديّــة التــي تعه ّدهــا
ـذري والطفيــف، الشّ ــاعر فعـ ّدل يف العناويــن واألبيــات واأللفــاظ يف عــد ٍد مــن القصائــد تعديــات تتفــاوت بــن الجـ ّ
هــو الــذي أتحــدث عنــه الح ًقــا بإيجــاز؛ لكـ ْن حســبي هنــا أن أذكــر قصيدتــن مه ّمتــن "املســافر" و "رصخــة الجريــح"
منوذ ًجــا للمعــاودة الجذريّــة.
فقصيــدة "املســافر" التــي تتألــف مــن تســعة ( )9مقاطــع تركّــزت "املعــاودة" فيهــا عــى تغيــر "مواقــع" بعــض
املقاطــع ونقــل أبيــات مــن مقطــع إىل آخــر؛ لك ـ ّن إبراهيــم الكوفحــي أثبتهــا كــا هــي يف الطبعــة الثانيــة " مــن
املســافر".
فأ ّمــا "رصخــة الجريــح" فكانــت يف ثالث ـ ٍة وعرشيــن بيتًــا وهكــذا أثبتهــا الكوفحــي ،يف حــن أنّهــا أضحــت ،بعــد
املعــاودة اثنــي عــر ( )12بيتًــا فقــط ،وقــد أثبــت القصيدتــن كاملتــن قبــل املعــاودة وبعدهــا يف كتــايب الســالف
102
الذكــر ليــوازن مــن تلــذ لــه املوازنــة؛ فقد ًميــا قــال املتنبــي مــن التشــبيه الضّ منــي:
ومن يعشق يل ّذ الغرام تل ّذ له املروءة وهي تُ ْعدي
ومام فات الكوفحي ،أيضً ا ،قصيدة من بحر الكامل مطلعها:
كفي األيام واألقدار
يف َّ جمحت َيب األحالم ح ّتى ِخلْتني
ْ
ذكرها الشّ اعر نفسه يف حوار شجاع األسد معه .
()26
()4
والســيايس والّرثــايئ الــذي
ُعــرف عبــد املنعــم ال ّرفاعــي يف الشــعر أكــر مــا عــرف بشــعره الرومانــي الـذّايت والوطنــي ّ
التــزم فيــه القالــب الشّ ــطري أو "األصيــل" كــا يســم ّيه هــو( )27بوزنــه الواحــد ،وقافيتــه املو ّحــدة ،وإن ن ـ ّوع فيهــا
أحيانًــا يف القصائــد املتعـ ّددة املقاطــع والقصائــد التــي تنحــو منحــى "املوشــح" واألناشــيد وهــي قصائـ ُد ســبع (:)7
أربــع يف الطبعــة الثانيــة مــن "املســافر" هــي :طيْــف (ص ،)27وعنــد النيــل (ص ،)37وأغنيــة فلســطني (ص،)106
ونشــيد الفــدايئ (ص)109؛ وثــاث يف نــرة إبراهيــم الكوفحــي :نشــيد الكّشــاف (ص ،)251وجيشــنا (ص،)170
وتح ّيــة العلــم (ص.)304
فقصيــدة "أغنيــة فلســطني" (ص ،)106مثـ ًـا ،ظلّــت عــى مــا هــي عليــه يف الطبعــة األوىل (ص ،)98لكــن كان عنوانهــا
"فلســطني" فقــط حــن نــرت أ ّول مـ ّرة يف مجلــة "آخــر ســاعة"( )28املرصيّــة بعــد يومــن اثنــن مــن "غــارة حزيـران"
( .)1967/6/5إخــال أنّــه أضــاف "أغنيــة" إىل العنــوان األول ليف ـ ِّرق بينهــا وبــن قصيــدة أخــرى عنوانهــا "فلســطني"
(ص )88هــي األقــدم تاريخ ًّيــا؛ ألنّــه نظمهــا "يف مطلــع نكبــة عــام .1948
القصيــدة منظومــة بقالــب فيــه بــدواتٌ مــن "املوشــح" وشــذور مــن تنويعــات شــعراء ال ّرعيــل األول يف "املهاجــر
روي واحــد تــكاد تقــرب األمريــي" ،فهــي يف ثالثــة مقاطــع مركبــة .كل مقطــع مــن أربعــة أبيــات "شــطريّة" تا ّمــة يف ّ
روي واحــد يختلــف مــن "ال ُقفْــل" يف املوشــح ،وأربعــة "شــطور" تشــبه "الــ َّدور" يف املوشــح كذلــك :ثالثــة عــى ّ
روي األبيــات نفســه يف املقاطــع جمي ًعــا ،وكأمّنّ ــا أُريــد بــه أن يكــون
عــن روي األبيــات التــي تســبقها ،والّرابــع مــن ّ
"العمــود" الــذي تســتند إليــه القصيــدة كلّهــا؛ وهــذا وجــه مــن وجــوه الشّ ــبه بينهــا وبــن مــا يف كثــر مــن القصائــد
املهاجريّــة.
أبيات املقاطع الثّالثة من بحر املتدارك ،والشطور من "مشطور ِه"
لقد طالت املعاودة الجذريّة املقطع األول تحدي ًدا ،إذ كان حني نُرشت القصيدة أ ّول م ّرة:
ـــــب
وجراح الـشَّ ـرف الـ ُم ْغ َت َص ِ يا دمـو ًعـا فـي مـآقـي الـــــــعـــــرب
لع الشّ مس ومرسى الكوكب َمطْ ُ ـك مـن أعـالمـنــــــــا هـل عـلـى شـطّ ِ
يا فلسط ُني ورا ِء الـغَـ ْيـهـــــــب يـل فـي غـفـوتنــــــــــا ِ
طـواك الـلـّ ُ أم
فـي شـفـاء الـ ّنـازح الـمـغـتـرب ُ
أحــاديث األســـــــــــــى فـــإذا ِ
أنـت
أفكار /دراسات ومقاالت 103
فنعى "األقىص" ِحـ َمـاه لل ّنبي وطـن مـن ِسـدْ رة الـخُـلـْد هـوى
وأضحى يف ال ّديوان:
ْتصــــــب
ِ ـي الـوطـن الـ ُمغ ون َـجِ ّ أ ّيـهـا الـسـاري إىل مرسى النبــــي
لع الشّ مس ومهوي الكوكـب؟ َمطْ ُ هـل عـلـى الـصـحـراء مـن أعالمنا
ّـعـلـب
ِ َردَّه فـي الـ َعدْ و َمكْـ ُر الـث قد كبوناُ ،ر َّب مـُ ْهـٍر جـــــامـــــحٍ
ــبص ْيحـ ُة الـثـأ ِر و َمـ ْو ُج الـغـَضَ ِ فـــانتفضنا فإذا راياتُنـــــــــــــــا
املوازنــة بــن املقطعــن القديــم والجديــد تُ ْفــي إىل أ ّن الشّ ــاعر أبقــى ،شــكليًّا ،عــى "البــاء" رويًّــا لألبيــات األربعــة
مغموســا مبســتقبليّة متفائلــة ،يف
ً التــي ح ّولهــا إىل "خطــاب" يعــرف بتعبرييّ ـ ٍة اســتفهاميّة بالهزميــة ،بَيْــد أنّــه ظــل
ـوي يـقـطـــر ًأىًس وجـ ًوى .فأ ّمــا الفارق األكرب بيـــن الـخـطـابـيـــن ـاب هزمية مـاضــ ّ الســابقة خطـ َ
حــن كانــت األبيــاتُ ّ
ـوى مض ّم ًخــا بــرؤى البطولــةفينبجــس -يف األكــر -مــن تغيــر الشّ ــطور األربعــة تغي ـ ًرا جذريًّــا كامـ ًـا رويًّــا ومحتـ ً
واالســتعداد ،يف حــن أ ّن الشّ ــطور املحذوفــة كانــت مثقلــة بآهـ ِ
ـات ال َّن ـ ْدب وال َّن ْعــي واليــأس.
ـت" إىل
فأ ّمــا املقطعــان اآلخـران فنالهــا نصيــب مــن املعــاودة .فقــد غـ ّـر يف البيــت األول مــن املقطــع الثــاين "لعلعـ ْ
" َد َوتْ ":
فم
كل ِ"وا فلسط ُني" عىل ّ ِ
الـمـضـطـرم و" َد َو ْت" يف أُفْـقـهـا
واملعــروف لغـ ًة أ ّن "الـ ّدوي" صــوت ال ّرعــد ،يف حــن أ ّن "اللعلعــة" هــي بصيــص الـ ّ
ـراب ،وإ ْن قيــل "لعلــع ال ّرعــد"
أي ص ـ ّوت(.)29
ضك" إىل "ع ّز ِك" األقرب مع ًنى وداللة يف الـشّ ـطـر الثالث: وغرّي "ح ْو ِ
ّ
نبتغـي " ِعـ َّز ِك" أرضً ا وسـمـا
أما املقطع األخري فلم يب ّدل فيه سوى "الشّ طر الثاين" من البيت األول ،إذ كان:
104
()5
أي شــاعر ،ناقــد بالقــوة ،وال ّرفاعــي ناقــد
مــا ســبق يفــي إىل التّعريــج عــى عبــد املنعــم ال ّرفاعــي ال ّناقــد ،فالشّ ــاعرّ ،
بالفعــل وبالقــوة م ًعــا .يتجـ ّـى هــذا ،بــد ًءا ،يف مــا ُعــرف عنــه مبزاولــة "املعــاودة" النقديّــة يف شــعره.
املعــاودة اصطــاح قســته عــى مصطلــح "املــواردة" ال ّنقــدي .مادتــه اللغويــة " َعـ َود" ،ومــن أقــرب معانيــه إىل "الفنيّة"
املبتغــاة منــه يف املعاجــم "ال ّرجــوع إىل األمــر األ ّول"()30؛ وهــو مــا أتبنــاه هنــا بغيــة التّفريــق بينــه وبــن مــا ُعــرف
ويعــرف مبصطلــح "التّنقيــح" وعائلتــه النقديّــة (التّثقيــف /التّهذيــب /التّحكيــك) الــذي ُعرفــت بــه مدرســة "عبيــد
الشّ ــعر" الجاهليــة؛ والــذي يعنــي إعــادة ال ّنظــر يف املنتــج األديب شــع ًرا ون ـرًا ومراجعتَــه بعــد الف ـراغ مــن إبداعــه
ـي وقبــل إخراجــه إىل ال ّنــاس أو نــره .فأ ّمــا مصطلــح "املعــاودة" فريمــي إىل أبعـ َد مــن هــذا ،وهــو أن وخلْقــه الفنـ ّ
يعــود املبــدع شــاع ًرا أو ناثـ ًرا إىل مــا أذاعــه عــى املــأ أو نــره وإ ْن كان قــد نقّحــه بعــد خلْقــه األول ،فيجيــل ال ّنظـ َر
فيــه صقـ ًـا وتعديـ ًـا.
جل املبدعني الفنيّة يف مختلف األمم قدميًا وحديثًا. ليس من شك يف أ ّن املعاودة مبدأ من مبادئ ّ
كان عبــد املنعــم ال ّرفاعــي كــا تنبــئ أقوالــه وتكشــف املوازنــة بــن عــدد مــن قصائــده يف الطّبعتــن األوليــن وبينهــا
الصحــف واملجــات ويف بعــض كتــب "الذّكــرى" ومدرجـ ًة يف ال ّديــوان ،كان مســكونًا بهاجــس نفســها منشــور ًة يف ّ هــي ِ
أفكار /دراسات ومقاالت 105
ـي ويرنــو إىل مســتوى أفضــل "التّثقيــف" بــد ًءا و"املعــاودة" تال ًيــا؛ ألنّــه كان يصبــو دامئًــا إىل مزيــد مــن التّجويــد الفنـ ّ
ـي" أو مــا يســم ّيه هــو "القــدرة األدب ّيــة واإلبداع ّيــة" .يقــول" :مــن تجــاريب الّشــخص ّية وأرحــب مــن "االســتواء الفنـ ّ
مثـ ًـا ،قــد ال أرىض عــن بيــت واحــد يف القصيــدة يُتعبنــي مــدى أســبوع أو أســبوعني بســبب عــدم قناعتــي بــأ ّن هــذه
اللّفظــة فيــه مناســبة ،أو أنّهــا مناســبة بالنســبة إىل جاراتهــا ،أو أنّهــا ليســت مــن الّنســيج نفســه"(.)31
حريصــا جـ ًّدا عــى أن يعــود إىل شــعر عهــد الشّ ــباب وعهــد الجامعــة ،الــذي مل يكــن راض ًيــا عنــه كل الـ ّرىض ً لقــد كان
مــن حيــثُ القــدر ُة األدب ّيــة واإلبداع ّيــة ،فيعــاو َد النظــر فيــه تغي ـ ًرا وتحســي ًنا وتقو ًميــا ،لك ّنــه وجــده فعـ ًـا مضن ًيــا،
فرتكــه "كــا كان وكــا خــرج أ ّول م ـ ّرة مــع مــا فيــه مــن صــدق االندفــاع وب ـراءة الظّهــور ومــع مــا ينقصــه مــن
ـي الــذي منــا وتكامــل فيــا بعــد"(.)32 النضــوج األد ّيب والفنـ ّ
أي يشء -عالم ـ ٌة ج ـ ّرب ال ّرفاعــي املعــاودة بأمناطهــا كافــة .أولهــا تغيــر "عنوانــات" بعــض القصائــد .فالعنــوان -يف ّ
دالّــة ،وعالم ـ ٌة وإعــان ،وظاهــر لباطــن؛ والعالقــة بــن الظاهــر والباطــن عالقــة حقيق ّيــة وليســت اعتباط ّيــة ،إنّهــا
عالقــة مزدوجــة كميـ ٌة وكيفيّــة :األوىل مــن جنــس البالغــة تصــل بــن إيجــاز وإطنــاب ،فإيجــاز العنــوان يختــزل ال ّنــص
رس وحقيقــة، مب ًنــى ومع ًنــى ،يف حــن أ ّن إطنــاب ال ّنــص يبســط مــا يطويــه؛ واألخــرى مــن جنــس املعرفــة تجمــع بــن ٍّ
ـص عــى فـ ّـك مغالقــه .والعنــوان كثـ ًرا مــا يــي فالعنــوان يضـ ّم يف باطنــه حقيقــة ال ّنــص التــي تؤلــف لغـ ًزا يعمــل النـ ُّ
عــن نفســية املبــدع وزاويــة رؤيتــه(.)33
لقــد زاول الشــاعر برؤيــة نقديّــة فـ ّن املعــاودة يف عــدد مــن قصائــده مزاولــة جزئيّــة وجذريّــة :الجزئيّــة يف القصائــد
اآلتيــة ،بعــد تغيــر عناوينهــا" :يف القريّــة" (ص 77مــن الطبعــة الثانيــة) ،و"بــكاء األحــرار" (ص ،)142و"موطــن
الوحــي" (ص .)148فأ ّمــا الجذريّــة ففــي القصائــد" :أغنيــة فلســطني" ،و"املســافر" ،و"رصخــة الجريــح" التــي تق ـ ّدم
مســا رفي ًقــا،
مســتها املعــاودة ًّ الــكالم عليهــا؛ ناهيــك بقصيــدة "يف ذكــرى األخطــل الصغــر" (ص .)133ومثّــة قصائــد ّ
هــي" :أيب" (ص ،)113و"يف ذكــرى طــه حســن" ( ,)136و"ثــورة الالجــئ" (ص.)98
ـتكاماًل ملــا يف املعلــم النقــدي عنــد ال ّرفاعــي فــإ ّن يف حواراتــه النقديّــة األربعــة ،التــي اســتطعت أن أصــل إليهــا، اسـ ً
مــاد ًة نقديّــة ث ـ ّرة يف حاجــة ألن يُفــرد لهــا بحــث مســتقّل وح ـ َده لك ّننــي أُملــع إليهــا هنــا إملا ًعــا.
إنّه يطلع علينا مبصطلحات نقديّة من مثل:
ـازج حروفهــا ووضعهــا مــع رفيقاتهــا مــن الكلــات التــي ـعري :وهــو انتقــاء الكلمــة مــن حيــث متـ ُ ( )1ال ُّرقــي الشـ ّ
متكامــا كــا يف شــعر الشّ ــ ْنفرى وأيب العتاهيــة والبحــري ً متجانســا
ً الشــعري
ّ تكــ ّون العبــارة ،ثــ ّم تكــ ّون ال ّنــص
واملتنبــي( .حــوار شــجاع األســد).
كل شــاعر وأســلوبه ،كالســم ّو يف اللفظ واملوســيقى ( )2الســم ّو والتحليــق :أي االرتفــاع فــوق املســتوى املألــوف يف ف ّن ّ
يف شــعر أمــن نخلــة ،والتّحليــق بالتصويــر الوجــداين كــا يف شــعر َعبَــدة بــن الطّبيب.
الصفــاء إبّــان نظــم الشــعر ،واملوقــف مــن "الوعــي" و"الالوعــي" ،فــا ب ـ ّد للف ّنــان مــن أن ميتلــك درج ـ ًة مــن (ّ )3
الوعــي حتّــى يتف ّنــن بف ّنــه ليكــون اإلخ ـراج مــن ذات ّيتــه ال مطل ًقــا.
106
()6
ديــوان "املســافر" يف الشّ ــعر ،وكتــاب "األمــواج" يف ال ّنــر أهــم مــا خلّــف ال ّرفاعــي .فــإذا مــا روعــي مــا قيــل يف
"العنــوان" قبــل قليــل نجــد أنّهــا يحكيــان م ًعــا ســرة ال ّرجــل إىل حـ ٍّد معقــول .فاملســافر الــذي ُعنــون بعنــوان أ ّول
قصائــده فيــه قــال هــو عنــه إنّــه "اســتعارة لصفــة ذلــك املســافر الــذي قــام برحلــة الحيــاة ،ووقــف يف أســفاره عنــد
عــدد مــن املحطّــات عــى الطريــق الطّويــل( .")34إنّــه ســرة لجــزء مــن حياتــه الخاصــة والعامــة .والقصيــدة تحديـ ًدا
وصفــت بأنّهــا "مســرة الحيــاة" حيــاة الشّ ــاعر الخاصــة يف األغلــب .يقــول إنّــه نظمهــا عــام 1958واســتغرق نظمهــا ُ
ســتة ( )6شــهور ،وإنّهــا "متثّــل حــواره مــع نفســه مبــا دخــل عــى هــذا الحــوار مــن مؤث ـرات خارجيّــة كان لهــا
انعكاســها يف اإلحساس ـيّات الذاتيّــة للشــعر" ،وهــي مــن "الط ـراز الوجــداين".
فاملقطع الثالث ،بعد املعاودة ،تلفُّه "الذكرى" التي ال تخلو من أمل:
أفكار /دراسات ومقاالت 107
أث ُر ال ّنار وانطالق الحديــ ِد كيف أنىس ويف مييني امل ُ َع ّنى
هذه رقد ُة الجريح الطّري ِد
نم هنا طال مدأب و َمثــــا ٌر ْ
وهديل الدُّ عاء وال ّتجويد وحواليك ُع ّو ٌد وأُســــا ٌة
فــــق وأُ ٍّم ودو ِد
ٍ وأخٍ مشْ أب ط ّيب اإلله ثراه من ٍ
واملقطــع ال ّرابــع َعـ ْود حميــد إىل تذكّــر "الذكــرى" بأفاويقهــا الحلــوة متهيـ ًدا للمقطــع الخامــس املوقــوف عــى "أغــى"
مــا بقــي مــن "الذّكــرى" .فمــن املقطــع ال ّرابــع:
عيش رغيــ ِد رص َح ٍ
حولنا فيه ْ بيتنا شاده ال ّرىض وبن ْينـــــا
كل ِع ْق ٍد فري ِد
من ِح َىَل ال ّنجم ّ نشتهي ِحلْية ال ّنجوم ف ُن ْهدى
وط َويْنا ال ُعباب خلف الحدود كل ج ٍّو السحاب يف ّ قد َعلَ ْونا ّ
الحلــوى وال ُج ْبنــة وا ّدعــى أنّــه مل يجــد الفرنجيــا .فقــال األمــر" :معــاذ اللــه ،أليــس يف الفنــدق خبــز؟!" .فتعالــت
ضَ ِحــكات رجــال الحاشــية تعج ًّبــا وســخرية عــى إخفاقــه( .ص.)17
ـت ال ّريــاح واقتلعــت ومــن األخــرى ،أنّهــم كانــوا شــتاء يف معيَّــة األمــر بخيمــة يف "الشّ ــونة الجنوبيّــة" ،وقــد عصفـ ِ
أوتا َدهــا ،وهطــل املطــر بغ ـزارة "وكان صفــر ال ّريــاح يختلــط بعــواء الذئــاب والضبــاع .ويجمعنــا حولَــه عــى وتــر
الرّشيــف هاشــم بأغانيــه الحجازيَّــة القدميــة ،فتغــرورق عــى ألحانــه عينــا األمــر بال ّدمــع ،وتغــرورق
ال َّربابــة ،يطربنــا ّ
عيــون رجــال الحاشــية مــع دمــوع األمــر .فقــد كانــوا يتنافســون خفيـ ًة عــى اكتســاب ال ُحظــوة األكــر يف املجلــس؛
منهــم مــا يأخــذه التُّقــى عنــد ترتيــل آيــات الذّكــر الحكيــم ،ومنهــم مــن يضحــك مبــلء ِش ـ ْدقيه إ ْن بــدرتْ نكت ـ ٌة
تُعجــب األمــر ،ومنهــم مــن يتشـ َّدق يف املعرفــة ،أو يتمنطــق يف اللّغــة ،أو يجـرُّ مــن كتــاب .وقــد ُمُيتــدح جليــس أو
يُغمــز غائــب" (ص .)29-28وظـ َّـل هــذا املنــوال ســائ ًدا حتــى بعــد أن صــار األمــر ملـكًا وإىل اآلن!
()7
خلّــف ال ّرفاعــي يف النــر ،غــر األمــواج والحــوارات ،عــد ًدا مــن الدراســات واملقــاالت واملحــارضات والخُطــب مــا
ـى أكرثهــا عــد ٌد مــن الباحثــن :الدكتــور محمــد أحمــد زالــت ترقــد يف بطــون املجــات والصحــف وأماكــن أُخــرى تقـ ّ
مــوىس ،وف ـ ّواز طوقــان( ،)35وإبراهيــم الكوفحــي ،وكايــد هاشــم()36؛ ونقــل بعضهــم قطوفًــا منهــا .وهــي:
ـايس" بــد ًءا ،و"الجــواري وأثره ـ ّن يف األدب العــر ّيب" تاليًــا .نــر يف جريــدة "الجزيــرة"
(" )1الجــواري يف الشّ ــعر العبـ ّ
عــام .1940
الهوامش:
عاّمن .2001
.1ا األمواج :صفحات من رحلة الحياة .148وزارة الثّقافة – ّ
.2املصدر نفسه .141
.3املصدر نفسه .113
.4املصدر نفسه .144
.5املصدر نفسه .145
.6املصدر نفسه .146
.7املصدر نفسه .147
عاّمن .العدد ( – )236حزيران .2008ص.94 .8هيا صالح :األمواج :صفحات من رحلة الحياة .مجلة أفكار – ّ
.9شجاع األسد :حوار مع الشاعر عبد املنعم ال ّرفاعي .مجلة املنتدى – ديب .السنة ( – )2العدد ( .)18يناير .1985
.10الشاعر الكبري عبد املنعم ال ّرفاعي كام عرفته .عدد أفكار السابق .95-98
عاّمن .1987
.11راجع التفاصيل يف كتابه "األمواج" ،ويف :محمد أحمد موىس ،عبد املنعم الرفاعي :حياته وشعره .41-59دائرة الثقافة والفنونّ ،
ً
تسلساًل وتواريخ ,إبراهيم الكوفحي :شعر عبد املنعم ال ّرفاعي :جمع وتحقيق .املقدمة .10-12الرشكة الجديدة للطباعة .12راجع يف هذه املناصب واألوسمة
عاّمن .18/10/1985 عاّمن ً .2003
نقاًل عن :عبد املنعم ال ّرفاعي يف ذ ّمة الله .جريدة الدّ ستور – ّ والتّجليد – ّ
"عاّمن املساء" الشهري .السنة ( ،)1العدد ( - )1آذار ،1975ص( .7فواز طوقان وزمياله).
.13انظر :الحوار معه يف :الرابطة الثقافية .ملحق جريدة ّ
.14املصدر نفسه ،ص.8
.15عبد املنعم ال ّرفاعي :حياته وشعره .48
.16الحوار معه ص .19مصدر سابق.
عاّمن /األردن.
.17مطبعة الشعب – ّ
.18عبد املنعم ال ّرفاعي يتحدث للرأي .حوار محاسن حميص .جريدة الرأي األردن ّية .العدد ( – )3793الجمعة .18/11/1977
أفكار /دراسات ومقاالت 109
تَوِّجوا
الم�لكة
مصابيح
َ تعطون الشاع َر
تبنون حولها القال َع فأسا ومحراثًا
ً
تكونون لها ح ّر ًاسا وتنتظرون
من األعداء تفاح الكلامت!َ
شعر :مازن حلمي*
واللصوص
والذئاب. تُسلِّمون البستا َّين
قلاًم وورقة
ً
ستعود النجم ُة وتقفون بالسالل!
تدق نوافذكمُّ
َ
لتتحدث عن الرقة تزفّون الفراش َة إىل الفيل
سريجع من منفاه وتنامون سعداء
الس ّيد الجامل تتوقعون الصباح!
الجندي
ُّ سريحل
وتختفي عباء ُة الراهب عندما تستقبلون الكلمة
سنعاو ُد سام َع ضحك األطفال كامللكات
وغناء العصفور باملواكب
ِ
من أقايص األرض متدّ ون لها املوائدَ
تغمرنا تبسطون أمامها الحقول
النسم ُة. تص ّبون لها النه َر يف كأس
تُشعلون عيونكم
******
* شاعر مرصي
112
.1ربما الحياة ُ
قالوا بأنَّه كان جنديًّا أيضً ا ،ونجا
ج
أمز ُ
من الزرقة ،ومن اليباس ،ومن
كانت مرضًا
الطلقات السائبة.
الكآبة َ
مل يعد أحد مثلام ذهب
األطفال كثريو الضحك ،الذين أبدأُ بالقولِ أنا
حسبوا املعركة ً
سجااًل بالكلامت ثم أصمت ً
طوياًل
البذيئة هذا خندق ال أستطيع تجاوز
بالمشي
الجنود الذين كربوا يف الخنادق ومل كتلة من الكدمات تدعى أنا
ميت بعضُ هم رسي ًعا وأحيانًا هم ،أو نحن ،أو اآلخرون
لكن ،ال يطلب املرء كث ًريا حني دمية من القش،
حرب ورأسه فوق يخرج من ٍ وجهها للجدار
كتفيه وظهرها للنهر.
.2الصي ّاد ُ
مل ير طبي ًبا
ومل تفاجئه األلوانُ
بيت لحزنه
الص ّيا ُد الذي ال َ
الغريبُ
رسم بضج ٍر دوائ َر حول
بابال َ
جلده الذي أخذ يتعفّن
وال نافذة.
شي ًئا فشي ًئا.
الص ّيا ُد مات البارحة
مل يُرث ضجي ًجا مبوته
الص ّيا ُد الغريب
لكن ظاًّلًّ نام فوق الطرق
114
البحثُ
()5 ()3 ()1
كانت تُرس ُع يف ِمشْ يِتها ْ تبحث يف أرسا ِر املا ِء ُ كانت ْ تبحث يف أرسا ِر ُ كانت ْ
عنْ
تركضأو ُ فتنزل يف أحضانِ ال َّنه ِر ُ الطِّ ِني
سوف
وتظ ُّن بأنَّ األع َني َ غسل ؛ل ُت َ رس بقا ِء ال َّنخل ِة واقف ًة ع ْن ِّ
أتت
اس ْ تقول بأنَّ األفر َ ُ وتغوصَ تغرس إصبعها َ فتحاول أنْ ُ
تتاميل يف
َ فتحاول أن ُ كل ثناياها ميرح يف ِّ وتجعلهُ ُ ستفعل
ُ كيف
تعرف َ ُ ال
خر يطة ِ
مشيتها مالت أن تحملَهُ ْ طالإذا ما َ
كيف تحاو ُر وتناو ُر تعرف َ ُ تسكنهُ وأمث ْر
احت
عب ؛فر ْ أعياها ال َّت ُ وتجالسهُ مثل البنيانِ وه َّز وتطاول َ َ
ظل تسكنهُ تبحث ع ْن ٍّ ُ مالبسها فوق ِ حملتهُ َ مثا َر ال َّنخلِ
الأشياء
اس كل األفر ِ كانت ُّ ْ مس باغتها ضو ُء الشَّ ِ فأسقطهُ
تواصل رحلتها ُ فجفَّفها تكتم رغ َبتها كانت ُ ْ
*** *** وتحاول أنْ تُخفيها ُ
()6 ()4 تُخر ُجها ح َني تنام.
فوق مال ِم ِحها ترسم َ كانت ُ ْ تكتب
كانت ُ ْ ***
مثل
ما يجعلها تبدو َ قصتها أول فصلٍ ِم ْن َّ َّ ()2 شعر :محمد الشحات*
تبحث ع ْن ضو ٍء ُ اشات فر ٍ شخوص روايتها رفعوا ِ بعض ُ تبحث ع ْن سنبل ٍة ُ كانت ْ
تسكنهُ ايات العصيانِ ر ِ تنفض غلتها ُ
،واملصباح
ُ ترسم
ظل َّْت ُ اعتدلت يف جِ ل َْس ِتها ْ لتص َري طعا ًما أو خب ًزا
يناورها وبكت
ْ تجف
أحزنها أنَّ الفقرا َء ُّ
فتناور ُه فتناث َر ِم ْن أحرفها دف ُء سنابلُهم
تالىَش الضَّ و ُء وانتبهت ح َني َ ْ مشاعرِها تخىش
َ كانت ْ
ترس ُمهُ
عاَّم ُ تبحث َّ ُ وعادت
ْ ٍ
لشخوص وانتبهت
ْ أنْ يأخ َذ غل َتها غ ُري
فوق مالمحها. َ فوق األسوا ِر الورق َّي ِة مازالوا َ البسطا ِء
قصتها ُكمل َّ عادت ت ُ ْ فوق فاملت أن تحفظَها َ ْ
*** سنابلِها
أخفْتها
***
* شاعر مرصي
أفكار /إبداع 115
حديثٌ
فعاًل – يا ِخ ِّيِّل – يوجعني ً ()1
أن أتحدَّ َث ع ّني يوجعني أن أتحدَّ َث ع ّني
ٌّ
لكن ؛ صدقني أتخ َّي ُل ّأيّن: لك ّني ..أتخ َّي ُل ّأيّن:
خاص
طفل ملغو ٌم بال ُح ْب. ٌ مسكونٌ بالنزقِ الهائجِ
سؤال ؛ مرسو ٌم يف هيئ ِة ْ
قلب. ٌ والقلق الناض ِج ِ
وحرف مييش كالنه ْر. ٌ والريب املائجِ ِ
النغم البِك ْر.
ُ ويعشقهُ والشجن الطازجِ .. ِ
صدى.. الطقس.
ْ هموم
ِ أحمل ك َُّل ُ
ومدى.. الرأس. كهف ْ يف ِ
شعر :محمود عبد الصمد زكريا*
يضيع ُسدى!!. لكن؛ ليس ُ وكياين منغو ٌم
ضيق املا
باملمكن من ِ ِ وسيخرج
ُ أو ملغو ٌم..
بني وجدائل ِشعري ُ
ويعرف؛ من أي َن ..ألين. الغرس.
ْ أو ِفكري تنتظ ُر
يوجعني ح َّقاً أن أتحدَّ َث عن
()2 نفيس
هذا نغمي لك ّني؛ أتخ َّي ُل أن قالوا ع ّنيّ :إيّن
هل يسمعني َم ْن علّمني عفريت مسكونٌ بالشهو ِة ٌ
الشع ِرمنطق طريِ ِ َ والقهو ِة ..
ولغَّمني بال ُح ِّب.. فوق جِ راحِ الع ِ
رص.. اقص َ أتر ُ
العزف ..
َ وف َّج َر يفَّ قاموس الضدِّ َ وشيخٌ ؛ يتعكَّ ُز
ود ّوخني.. عري جسدَ القهرِ.. ُي ِّ
الصدِّ ..
الضدِّ َ / حانات ِ
ِ يف ويفتح نافذ ًة للفجرِ. ُ
وصرَّيين كرس َة خُب ٍز َّ تتالطم يف دا ِخلها ُ وزوبع ٌة ؛
ساحات الجوعِ .. ِ يف الطلق. ْ رصخات
ُ
ورم ًزا يسعى يف املمنو ِع .. وصاعق ٌة ؛ لكن
ينزف..
سؤااًل ُ ً ليست للربقِ ْ
عصفو ًرا؛ ُم َّ
بتاَّلً هنالك ْ
فرق!.
*شاعر مرصي
116
بنطال دوشامب
قصة :ليىل سالمة*
ـص بشــفتني عاريتــن :لألســف اشـراه رجــل محــرم تأتــأ اللـ ُ ـأحمل حقيبــة ســف ٍر
يف امل ـ ّرة القادمــة التــي أســاف ُر فيهــا سـ ُ
ــص يف يشء اســمه الفــن املفاهيمــي! متخص ٌ
ّ يقــول إنَّــه أعــزب مغامــ ًرا تشــاجرتُ كثــ ًراَ حقيقيّــة! عندمــا كنــت
صدقنــي ،كنــت أو ُّد أن أعيــد لــك بنطالــك مــع محفظتــك املــوج
ُ مــع حظّــي فألقيتــه معــي يف البحــر .أن يقذفــك
وجميــع البطاقــات بواســطة صنــدوق الربيــد ،ولكــن لســوء نحــو الســاحل عــى قيــد الحيــاة يعنــي أنّــك أصبحــت فكــر ًة
حظّــك أ ّن ذلــك الســي ّد تأمــل بنطالــك وأُعجــب بــه؛ فاشــرى ومعنــى ،وس ـتُعامل كســؤا ٍل مفاهيمــي .أضــاءت يل الدنيــا
كل محتوياتــه. َّ ســكنت مــع
ُ فاهتديــت إىل قــدري.
ُ مصابيحهــا الســاويّة
لصــا مثق ًفــا وميلــك قل ًبــا رحيـ ًـا ،متن ّيــت لــو أنّــه يعيــد يلكان ًّ مجموعــ ٍة مــن الشــباب -الذيــن مثــي ق ّيــدوا حظوظهــم
أي بنطــال ،إذ ال مشــكلة عنــدي إن كان قص ـ ًرا أو فضفاضً ــا َّ حــول خوارصهــم -يف منــز ٍل وســط البلــدة ،واعتدنــا أن
ـص إ ّن بنطــايل أو مهرتئًــا ،املهــم بنطــال والســام .قــال يل اللـ ُّ نــرك األبــواب مفتوحـةً .يف إحــدى املـ ّرات نســينا الشــبابيك
صــار فكــر ًة عامــة وتعبــ ًرا طبيعيًّــا يجــوب بلــدان العــامل مرشع ـ ًة عــى آخرهــا وكعادتنــا مل نقفــل األبــواب ،يف تلــك
تحــت اســم بنطــال دوشــامب .تع ّجبــت أ َّن بنطــايل صــار لــه ُ
الظــال كأنَّهــا أفيــا ُء نســائم تحلّــق داخــل الليلــة قفــزت
ـدي مــا يثبــتاسـ ٌم وشــأنٌ ،وأنّنــي اآلن بــا بنطــال ،مل يعــد لـ ّ ـت الصمــت ،وعضّ تنــي ســكين ٌة مفرط ـ ٌة حتــى املنــزل فالتزمـ ُ
اســمي وأصــي وفصــي. والقلــق
ُ لــص بنطــايل فحقننــي الفــز ُع رصتُ جــا ًدا .رسق ٌ
ـت عاريًــا أفتّــش عــن بنطــايل قبــل أن يصبــح شــحن ًة خرجـ ُ ي فصــول شــتا ٍء متتاليــة .مــ ّر أســبو ٌع ومــ ّر ِت األيــام عــ َّ
عــى مــن ســفينة كبــرة تنطــح املحيــط .تشــاجرتُ مــع ثــم أســبوعان ،م ـ ّر الزمــن دون خارط ـ ٍة تفــره .اتّصــل يب
حظــي وق ّيدتــه مــن ذيلــه ،حــاول أن يجـ ّرين بقــوة إىل داخــل ـت منصتًــا ومنــزو َعـص وروى يل مــا روى حتــى أنّنــي كنـ ُ اللـ ُّ
معــرض الفــ ِّن ،لك َّننــي خشــيت مــن أن يضعنــي الف ّنــا ُن عــض أذين ســؤاله املحــرج :هــل أنــت صاحــب الضغينــةّ .
ـت ذيلَــه مطل ًقــا رساحــه .مــن بعيــد بجانــب بنطــايل؛ فأفلـ ُّ البنطــال املــروق؟ أجبتـ ُه :وهــو بنطــايل الوحيــد! فتع ّجــب
رأيــت أبــواب املنــزل مغلقــ ًة والنوافــذ تغــازل الشــمس، قائـ ًـا :هــو! إذن أنــت مل تخــرج مــن املنــزل منــذ ذلــك الحني!
رأيــت ِظـ ًّـا يهجــم عــى صنــدوق الربيــد الصــدئ يف محاولــة ـت لــه بنغمـ ِة وتريــن ملتصقــن ببعضهــا :ولــن أســتطيع قلـ ُ
لدفــع يش ٍء مــا يف داخلــه. الخــروج حتــى تعيــد يل بنطــايل!.
فعــا تعنــي أنَّهــا تعلــم أنّنــي رفضــت أكاد أجــ ُّن! هــل ً
آخــر جلســة؟ ،لقــد تعبــت كث ـ ًرا وســخطت ،مــن حقــي أن
أســخطَ ،ال يتلقــى العــاج إال أنــا ،وكل مــن يف الغرفــة يعــاين،
سفر ٌ
أنــا وحــدي أقــايس مخــاض اللحظــات ،وألــد أملــي ،وكلهــم
قصة :روند الكفارنة*
يرتقبــون ،ينتظــرون ،هــل عليهــم أن ميلّــوا ،حتــى أفهــم أ َّن
املــوت هــو العمــل األصعــب..؟!.
أن تختــار أال تحــارب ،أن تستســلم ،ملــاذا يُعــ ُّد االستســام ات غريبــ ٍة وأنــاترمقنــي تلــك الع ّرافــةُ ،ترمقنــي بنظــر ٍ
عمـ ًـا جبانًــا ،بينــا أن تتخــى عــن روحــك ،أن تق ـ ّرر أنَّــه ات التــي تحمــل بالعــادة أخــى الغربــاء ،وأخــاف النظــر ِ
كل مشــاعرك الوقــت ،تشــ ُّد روحــك ج ّيــ ًدا ،تربــط َّ ُ حــان معنــى كأنَّهــا تخــرين حكايــة ،ناديتهــا؛ جلســت! فرشــت
عــى أعــى رأســك ككعكــة جميلــة ،وترفــع ك ـ َّم اللحظــات ودعهــا ،وشوشــت الــودع ،نظــرت يف وجهــي.
الجميلــة ،تش ـ ِّمر عــن ســاعد الجــال ،وتبــدأ تحفــر قــرك أنت عىل سفرٍ؟! -هل ِ
بــا مبــاالة. ابتسمت:
ُ
-يــا ابنتــي توقّفــي ،لديــك دو ٌر ،لديــك ابــن مل تنجبيــه ،ينظــر -األكيد ،أنَّنا إ َّما مسافرون ،أو سنسافر بعد قليل.
إليــك يدعوك أال تستســلمي. عــا يــأكل جســدي ،يخــرين أ َّن أوراق روحــي مل أح ّدثهــا َّ
مجنونــة تلــك! أو تعرفنــي ،كيــف تعلــم أنَّنــي أتخيّــل نفــي ات تغــادر رأيس. بــدأت باالصف ـرار ،ولرمبــا تتســاقط كشــعر ٍ
ـر معــه قهوتــه ،أرشبهــا معــه، صحيح ـ ًة م ـ ّر ًة أخــرى؟ أحـ ّ سفرك خمسة مراكب. ِ -يف
جمــا عــى عجــل، ً وأدس لــه ورقــ ًة صغــرة ،أكتــب فيهــا ُّ ـأرشح لهــا أ َّن جلســات العــاج الكيميــا ّيئ تنقلنــي كيــف سـ ُ
ليتفاجــأ بهــا عندمــا يصــل عملــه ،أو لتشــكّل فضيحــ ًة إذا مــن حــال لحــال ،تأخــذ مــن روحــي وجســدي ،تنقلنــي
وقعــت عنــد بائــع الــدكان ،أرتّــب يومــه ،وكنــت أتخيّــل أن كأنَّهــا تنقلنــي بالزمــن ،الجلســة بعــام أو خمســة أعــوام ،ال
ـأي اســم أنجــب لــه طفـ ًـا ذك ـ ًرا يشــبهه متا ًمــا ،ســيناديه بـ ِّ يشــبه وجهــي وجهــي ،وال تشــبه روحــي روحــي.
بالعــامل ،وأنــا ســأناديه باســمه ،ولــن أناديــه بغــر اســمه، ـفرك مســاف ٌر عني ـ ٌد لــن يــركك ،سيمســك بــك آلخــر -يف سـ ِ
كــم تبــدو أحالمنــا الصغــرة صعب ـ ًة ج ـ ًّدا! كــم يبــدو حلـ ًـا الرحلــة.
عاديًّــا ترفًــا ،يقــرب منــي ،فــا املانــع أن نســتقي َظ م ًعــا رجل
ال أدري مــن تقصــد!! هــل هــي الخاليــا التــي تعــود ،أم ٌ
وأع ـ َّد لــه قهوتــه ،فقــط القهــوة.؟!. مل يخذلنــي –ق ـطُّ -حــن تغـ ّـر شــكيل؟! ،كان ميســك يــدي
-يــا ابنتــي؛ هنالــك مــا زال لديــك فنجــا ُن قهــوة ،ارشبيــه كل يشء ســيكون عــى مــا يــرام ،مــن منهــا ويخــرين أ َّن َّ
أو اصنعيــه. مســافري العنيــد؟ .هــل بــدأت أص ّدقهــا ،أم أنّنــي أُســقط كل
هي مللمت ودعها وغادرت. مــا تنطقــه عــى حــايل ،يبــدو أنّنــي أخــذتُ بقضيّــة اإليحــاء،
ـب مــاءة الرسيــر ،أشـ ُّد غطــايئ عــى نفــي، وتركتنــي أوضِّ ـ ُ إنَّهــا توحــي إ َّيل مبــا تريــد فأُصيغــه مبــا أُريــد.
وأأُكّــد للممرضــة أ َّن الحقنـ َة امله ّدئـ َة قامــت مبفعولهــا متا ًمــا. كل ما تعطيك الدنيا؟ -هل تأخذين َّ
ـت يف وســط الحـ ّـام ،وهنــا بــدأت أمــوري شــخصيًّا ...وقعـ ُ حصــة الرياضــة املدرســيّة لدرجــة أعشــق وأنتظــر ّ ُ كنــت
ُ
حكايتــي الحقيقيّــة... رمّبــا كان ُمبال ًغــا فيهــا بعــض الــيء.. مــن الهــوس ..لدرجــة ّ
ـت يف املستشــفى مــا يقــرب مــن الثالثــة أشــهر بــن أمضيـ ُ فحصــة الرياضــة ومد ِّرســتها كانتــا مبثابــة الســعادة الحقيق ّيــة ّ
عمليــة وأخــرى ،وقدمــي اليــرى محاطــة ب"الجبــص" يل ،وخاصــة بعــد جــدول االمتحانــات والحصــص املزدحــم
الثقيــل جــ ًّدا... طيلــة األســبوع..
أجريــت امتحانــات الفصــل النهــايئ يف املستشــفى ،فــكان ُ الحصــة وأعـ ّد األيــام ألســتع َّد ملامرســة
ـت أنتظـ ُر مجــيء ّ كنـ ُ
مــن الصعــب إجــراء االمتحانــات كبق ّيــة الطالبــات يف بــكل شــغف ..إىل أ ْن جــاء اليــوم الــذي رياضــة الجــري ِّ
املدرســة ..مل يعــرف األطبــاء الســبب الحقيقــي للــورم الــذي شــعرتُ بــه يف أمل غــر مســبوق يف قدمــي اليــرى ..كان
ـي أكــر مــن ثالثــة اقــرب مــن الركبــة بأكملهــا ،وبعــد مـ ّ الوجــع شــدي ًدا جـ ًّدا ،مل أُ ِر ْد يف البدايــة أ ْن أُعـ َر املوضــوع ّ
أي
تخص ًصــا ،وهنــاك أشــهر تــ َّم تحويــي إىل مستشــفى أكــر ُّ اهتــام ،ومل أخــر والــديت أيضً ــا عــى الرغــم مــن قربهــا يل
أعلــن الدكتــور عــن وجــود ورم نــادر يف العظــم ،وأنــه ال بـ َّد أكــر مــن أخــوايت األخريــات ....ولكــن ،صــار الوج ـ ُع يــزداد
مــن إج ـراء عمل ّيــة بــر -حــااًلً -للســاق! يو ًمــا بعــد يــوم ،إىل أن علمــت والــديت وعــى الفــور أخذتنــي
وقــوي
ٌ غريــب
ٌ لــدي شــعو ٌر
ال أبالــغ إ ْن ذكــرتُ أنَّــه كان َّ إىل طــوارئ املستشــفى القريــب مــن منزلنــا ،وبعــد إج ـراء
بفقــدان الســاق ...كان والــدي يف حالــة مــن الذُّعــر وعــدم املختــص أن أتوقَّــف
ّ األشــعة والفحوصــات ،قــ َّرر الطبيــب
التصديــق ..فق ـ ّرروا أن يبحثــوا عــن حلــول بديلــة يف داخــل عــن لعــب الرياضــة ،وأن أتنــاول بعــض األدويــة التــي كانــت
اإلمــارات وخارجهــا ،ومــن أ َّول الــدول التــي حصلنــا عــى ر ّد عبــارة عــن فيتامينــات ،وأكَّــد بأننــي ســأكون بخــر!!
منهــا اململكــة املتحــدة ..كانــت النســبة ضئيلــة جـ ًّدا ولكــن ال ندري تناقضات الحياة ،ومن الصعب فهمها أحيانًا!
هنــاك أمــل بعــدم فقــدان الســاق! هنــاك حـ ّـل آخــر وإن توقفــت عــن تنــاول األدويّــة؟ُ هــل اســتم َّر الوجــع؟ هــل
كان يف مــكان بعيــد ،ولكــن ال بـ ّد مــن الذهــاب إليــه مهــا ومــاذا حــدث بعــد التشــخيص األ ّويل...؟
كلّــف األمــر والثمــن!!!
ســافرنا أنــا ووالــدي إىل "مانشســر" ،وكانــت املــرة األوىل يف 25نيســان /إبريــل انقلبــت األمــور بشــكل غــر متوقــع،
نســيت الهــدف ُ التــي نســافر فيهــا إىل بريطانيــا ،رمبــا ـت أغســل مريــول املدرســة بنفــي؛ عــى ال ّرغــم وبينــا كنـ ُ
األســايس للســفر عــى قــدر مــا كان تركيــزي يف جــال ّ مــن وجــود املســاعدة يف املنــزلّ ،إاّل أننــي أفضِّ ــل إنهــاء
* كاتبة أردنية
أفكار /إبداع 121
ومــا تعلمتــه مــن هــذه التجربــة ،وبالرغــم مــن قســوتها، املدينــة وجــال طبيعتهــا الالمتناهــي..
أن نتطلّــع إىل املســتقبل ،وأن ال نخضــع لــأمل مهــا كلّــف وبعــد إجـراء الفحوصــات ،ولألســف ،كان القـرار؛ هــو القـرار
الثمــن. نفســه الــذي ك ّنــا قــد حصلنــا عليــه أنــا وأهــي ســابقًا.
ال أقــول هــذا مــن بــاب التنظــر ،هــو ليــس تنظ ـ ًرا ،وإمَّنَّ ــا رمبــا األســباب تختلــف ،ولكــن الهــدف هــو نفســه ،والزمــان
هــو واقـ ٌع ،وهــذا مــا حصــل معــي ..قـ ّررتُ أن أكتــب ولــوال واملــكان هــا الفيصــل..
ميســني ـت وأصــدرتُ كتابًــا ّ هــذا التجربــة املريــرة ملــا كتبـ ُ ـت قـرار الطبيــب وبرسعــة ،ومل يكــن هنــاك خيــار آخــر تقبَّلـ ُ
شــخص ًّيا.. لــي أختــار ،فــكان كل يشء محــدو ًدا جـ ًدا وبشــكل أصعــب
كيّل أمـ ٌـل ويقــن بــأ َّن القــادم أفضــل ويف وقتــه وأنــا اليــوم ّ ـر.... مــن أن يُفـ َّ
املناســب .وأن تكــون يل الفرصــة أن يتحـ ّول كتــايب وروايتــي وخرجــت مــن غرفــة العمليــات، ُ انتهــى الوجــع هنــاك
ـي..
ـي فنـ ٍّ
القادمــة إىل عمــل درامـ ٍّ ـاعات طويلــة بــن الخوفوكانــت عمليتــي قــد اســتمرت لسـ ٍ
ـخص فقــد عزيـ ًزا أو عــاش التجربة ـكل شـ ٍ فرســالتي األخــرة لـ ِّ واألمــل واألمل..
نفســها التــي عشــتها أن ال ينتظــر الدعــم مــن أحــد ،وأن َّمت معنى الوجع منذ نعومة أظفاري. هذه أنا .تعل ُ
يكتشــف ذاتــه مــن خــال التجربــة. ـت أكــر ،فالتجربــة علّمتنــي الكثــر الكثــر ،وأجمــل ونضجـ ُ
وكام ُ
أقول دامئًا بأ َّن يف الكتابة حيا ًة أخرى أعيشها. مــا اكتشــفته هــو الكتابــة!
فتــ َّم إصــدار مولــودي األ َّول تحــت عنــوان "مهــا كلّــف
األمــر" باللغتــن اإلنجليزيّــة والعرب ّيــة ،وهــو يتح ـ َّدث عــن
تجربتــي الكاملــة.
واليــوم أنــا بصــدد إصــدار كتــايب الثــاين ،وهــو عبــارة عــن
متــت بصلــة بنــور العتيبــي،امــي ال ّ روايــة ذات طابــع در ّ
وتجربتهــا مــع مــرض الرسطــان.
وأخ ًريا،
ال بـ َّد مــن مواصلــة البحــث عــن الســعادة عــى الرغــم مــن
كل الصعــاب.
122
وخزة
قصة :محمد حسني السامعنة*
* قاص أردين
أفكار /إبداع 123
أغمــض عي ًنــا وفتــح الثانيــة ،وانتظــر قليـ ًـا ،ثــم قــال :يــا ـف وارتبـ ٍ
ـاك ،وقــال: ليرتكــه ،فوقــف محمــد ابــن جــال بضعـ ٍ
اللــه ياللــه ،مــا أجملــك يــا قريتنــا! بنايــات عاليــة ،مصانــع -هذه النظّارة ال تعمل إال وفق رشوط!
ضخمــة ،شــوارع نظيفــة واســعة معبــدة ،حقــول خ ـراء، فسأله املختار باستهزاء:
وســال ضخمــة مــن الغــال تخــرج منهــا ،هنــاك ملعــب -وما هي هذه الرشوط؟
كبــر ،وهنــاك عيــادة كبــرة ... عــ َّد محمــد ابــن أيب جــال ســؤال املختــار ترصي ًحــا لــه
سأله أبو عيل الفران بفر ٍح: ٍ
بثبــات وثقــة ،وقــال: ليتحــدث بحريّــة ،فوقــف كاملنتــر
-وكيف ترانا يا مختار؟ -عــى الــذي يلبســها أن يثــق مبــا يـراه ،وأن يصــف مــا يـراه،
قــال املختــار وهــو ينــزع النظّــارة عــن وجهــه بغضــب: وأن يفتــح عينيــه عــى اتســاعهام.
ي رؤيــة مســتقبل ســامحك اللــه يــا أبــا عــي قطعــت عــ َّ وإاّل؟
املختار برتددّ :
القريــة الجميــل. محمد ابن أيب جامل:
وضــع أبــو عــي الف ـران النظّــارة عــى عينيــه وانتظــر قليـ ًـا -ال أعرف ما سيحصل له!
يك يــرى شــيئًا مــن أطــراف املســتقبل ،ثــم وقــف وســط ثم نظر يف وجوه الفالحني ،وقال:
املضافــة ،وقــال: -وال تنســوا أ َّن هــذه النظّــارة تــرى املســتقبل ،وقــد تتطلــع
-يــا اللــه يــا أهــل قريتــي ،مــا أجملكــم ،متشــون مبالبــس إىل املــايض املخبــوء!
جديــدة ،وتركبــون الخيــل األصيلــة! صمــت املختــار بره ـةً ،ط ـ ّن بفيــه ،وأراد أن يوقــف محمــد
فصــاح أحدهــم بفــرح :هــل تـراين ،أنــا ســعد ابــن أيب ســعد ابــن أيب جــال عــن الــكالم ،ولكــن محمــد تن ّبــه إىل ذلــك؛
الطيــان؟ فأكمــل حديثــه مــن غــر أن يلتفــت إىل وجــه املختــار:
بغضب ،وقال:
ٍ فنزع أبو عيل الفران نظّارته -ومــن الــروط أن يلبســها أعــى القــوم مكانـةً ،ثــم يلبســها
ي رؤيــة مســتقبل -ســامحك اللــه يــا ســعد؛ قطعــت عــ ّ ـب النــاس إليــه ،وتذكــروا أ َّن يف لبســها حــاالتمــن بعــده أحـ ُّ
رجــال القريــة! منهــا :أن يــرى البســها املــايض وحــده إن كان بــا مســتقبل،
حمــل أحــد الفالحــن النظّــارة ووضعهــا عــى عينيــه ،ثــم وهنــا يقــال لــه أنــت ميــت يف جســد حــي ،أو يــرى الحــارض
أغلقهــا ،ثــم فتحهــا ،ثــم فتــح عي ًنــا وأغلــق الثانيــة ،ثــم إن كان بــا مــاض وبــا مســتقبل ،أو يــرى املســتقبل إن كان
صمــت قليـ ًـا ،وقــال بحــزن: ممــن لهــم مســتقبل.
-أراكم كام أنتم. وتو ّجهــت العيــون كلهــا إىل املختــار الــذي ســارع إىل وضــع
ونظــر إىل املختــار ،فشــ َّد (القطــروز) يــ َده ،وقــال وهــو النظّــارة عــى مســافة مــن عينيــه ،ثــم ث ّبتهــا عــى وجنتيــه
ينــاول النظّــارة لجــاره :لك ّننــي رأيــت املختــار قــد زاد وزنُــه عــى مضــض ،فتــح عينيــه عــى اتســاعمها ،وكالم محمــد ابــن
قليـ ًـا. أيب جــال يــردد صــداه يف ذهنــه؛ "...ميــت وأنــت حــي".
وأغمــض عينيــه مــر ًة أخــرى ،وفتحهــا عــى اتســاعهام ،ثــم
124
نوافذ
ثقافة عرب ّية
ثقافية
أقالم مشبوهة يف الفكر العريب الحديث /عيل هصيص
كتــاب إشــكا ّيل يف موضوعــه ومنهج ّيتــه ،يقــف فيــه مؤلِّفــه عنــد مجموعــة مــن القضايــا ٌ هــذا
والتيــارات واألعــام ذات التأثــر البالــغ يف وعــي ال ُّنخبــة العرب َّيــة ومنطلقــات وعيهــا الثقــا ّيف
ُغــر اســتنطاقات كثــر مــن املســلّامت يف الفكــر والتاريخــي ،باالســتناد إىل مرجعيــات ووثائــق ت ّ
ّ
واألدب. محمد ّ
ساّلم جميعان*
خصــه املوازنــة بــن الثنائيــات املتعارضــة هــي الســمة البــارزة يف معطيــات الفصــل األول الــذي ّ
املؤلــف للمقارنــة املضمون ّيــة بــن كتــا ّيب " :يقظــة العــرب" لجــورج أنطونيــوس ،و" االتجاهــات
الوطنيّــة يف األدب املعــارص" ملحمــد محمــد حســن ،فيلحــظ القــارئ االشــتباك مــع مكانــة مؤلــف
كتــاب " يقظــة العــرب" ،ودوره مــع الحكومــة الربيطانيــة يف تدويــن تاريــخ اليقظــة العرب ّيــة،
وارتباطاتــه ال ّنســب ّية والقراب ّيــة مــع شــخصيات يتح َّفــظ املؤلِّــف عــى اتجاهاتهــا ووالءاتهــا ،ليفــي
بقارئــه إىل عــدم نزاهــة مؤلّــف الكتــاب يف مرسوداتــه التاريخ ّيــة .وهــو مــا كان يف منجــى منــه
صاحــب كتــاب " االتجاهــات الوطنيــة يف األدب املعــارص".
الفصــل الثــاين عــى املاســون ّية وانعكاســاتها يف األكادمييــات العرب ّيــة .ويف هــذا الفصــل
ُ ويقــف
ـدي لكثــر مــن أعــام األدب والفكــر العــرب ،ومنهــم :أحمــد زيك أبــو شــادي ،وحليــم ترشيــح نقـ ّ
دمــوس ،ونجيــب عــازوري ،وويل الديــن يكــن ،وعــي عبــد ال ـرازق .فض ـاً عــن تأث ـرات املذهــب
الرومنــي وحموالتــه الفكريّــة الباطنيّــة املشــبوهة -مــن وجهــة نظــر املؤلِّــف -التــي تتالقــى مــع
تهويــد الفكــر العــريب ،اســتنا ًدا مــن املؤلــف ملمــدوح عــدوان.
ويف الفصــل الثالــث مســاءل ٌة تاريخ ّيــ ٌة أدب ّيــ ٌة للشــاعرين أحمــد شــوقي وحافــظ إبراهيــم عــن
صمتهــا املطبــق عــن اإلشــارة يف أشــعارهام إىل قضيــة فلســطني ،بالرغــم مــن أنَّهــا عايشــا كث ـ ًرا
مــن أحداثهــا العاصفــة؛ إذ يضعهــا املؤلــف يف مواطــن الشــبهة مــن خــال رصــد عالقاتهــا مــع
الخديــوي والربيطانيــن.
ويف شــؤون وشــجون الــذي حمــل عنــوان الفصــل الرابــع ،يطــوف بنــا املؤلّــف يف قضايــا الحــركات املشــبوهة
وكل تلــك املحاكــات تجــري يف ضــوء تأكيــد أثــر تضييــع والثــورات املغــدورة؛ أدب ـاً وفك ـرا ً ،يف الحيــاة العربيــةُّ .
النهضــوي.
ّ الخالفــة اإلســاميّة يف ارتــكاس الواقــع العــر ّيب يف حضيــض الجهــل املعــر ّيف والتزييــف
الحق
ساّلمة عبد ّ صالة العشقّ /
ـرويس تحتجــب املشــاعر فيــه وتطفــو دون تزييــف، ـري عــى نحـ ٍو أيـ ّ تشــتبك الذكــور ُة واألنوثــة يف هــذا الكتــاب النـ ّ
فتنعكــس الصــور ُة األ ّخــاذة عــى شــبكيّة العــن ،ويلمــح القــارئ يف املفــردات التــوق الشــديد للغـرام.
وهنــا تنقــل الشــاعرة خربتهــا االنفعاليــة بواقعيّــة رصينــة ف ّنيّ ـاً .لك ّنهــا عــى صعيــد الشــعور تبــدو هــذا الرغبــة
مكافــأة للــذات أكــر مــن كونهــا حالــة مشـرَكة ،مبعنــى أنهــا َعـ ْر ٌض غـ ُر وا ٍع لل َّرغبــة ،وكأ َّن إظهــار الحنــان والعاطفــة
يشــر إىل مــا ينبغــي للطــرف اآلخــر أن يبذلــه تجاهنــا.
ولعـ ّـل القــارئ يتســاءل حــن فراغــه مــن قـراءة هــذه النصــوص عــن مــدى تكافــؤ مــا تضفيــه الصــور واملفــردات مــن
قيمــة عــى الــذات املحبِّــة تعــادل أو تتفـ ّوق عــى القيمــة امل ُضفــاة عــى اآلخــر :املحبــوب .هنــا تبــدو العاطفــة تســر
يف شــارع وجــدا ّين باتجــاه واحــد .فــاذا لــو تحـ ّول الغـرام إىل أزمــة داخليــة تســعى لتوطيــد تقديــر املــرء لذاتــه؟
النصــوص محاولــة شــجاعة الســتعادة الطفولــة عــر مخ ّيلــة جامحــة واســتعادة اآلمــال التــي رسقهــا شــتاء العمــر.
لقــد اســتطاعت الكاتبــة مــن خــال لعبهــا املاهــر باللغــة وتلويــن حــاالت الغـرام ممــن إثــارة الدهشــة يف داخلنــا.
ومــا بــن التــوق ملــا ســيأيت والتف ّجــع عــى مــا مــى ينــأرس القــارئ لفراهــة الرتاكيــب التــي بلغــت التصويــر البــري
املشــهدي للتــوق .واللغــة والصــورة؛ تتك ّفــان بالتجســر بــن الرغبــة املقموعــة واالســتيهام يف التمنيــات
126