You are on page 1of 148

‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫ت�صدر �شهري ًا عن دائرة الثقافة بال�شارقة‬

‫الـ�سـنـة الخامـ�سـة‪-‬الــعــدد ال�ســتــون ‪� -‬أكــتـوبـر ‪٢٠٢١‬م‬

‫علي الـدوعــاجـي‬ ‫«ملتقى ال�شـارقة»‬


‫رائـــد القــ�صــة التون�سـيـة‬ ‫يـكـرم �أدبــاء مــ�صــريـيــن‬

‫ثــريـــا جــبــــران‬
‫الفنـانة والوزيرة المثقفة‬
‫معلـوال‬
‫الــــتـــاريــــخ الإ�ســبـــانـــي‬ ‫حكاية �سورية‬
‫واللـغـة العـربـيـة‬ ‫مــــ�ضـــيــــئــــة‬
‫مجالت دائرة الثقافة‬
‫عدد أكتوبر ‪2021‬‬
‫مجلة شهرية تُ ـعنى بالشعر واألدب الشعبي ‪ -‬السنة الثالثة ‪ -‬أكتوبر ‪2021‬م ‪ -‬العدد (‪)26‬‬

‫‪ 28‬عاماً‪ 290 ..‬عدد ًا‬


‫تصدر عن دائرة الـثـقـافـة بالشارقـة‬

‫الرافــد نهــــــر‬ ‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫ت�شدر �شهري ًا عن دائرة الثقافة بال�شارقة‬

‫مـــن العطــــــاء‬
‫الـ�شـنـة الخامـ�شـة‪-‬الــعــدد ال�شــتــون ‪ -‬اأكــتـوبـر ‪٢٠٢١‬م‬

‫علي الـدوعــاجـي‬ ‫«ملتقى ال�ضـارقة»‬


‫لــم يتـوقـــــف‬ ‫رائـــد القــ�ضــة التون�ضـيـة‬ ‫يـكـرم اأدبــاء مــ�ضــريـيــن‬
‫العدد (‪ - )290‬أكتوبر ‪2021‬‬

‫ثــريـــا جــبــــران‬
‫مـــن شـــعـــراء مــنــطــقــة الــذيــد‬ ‫الفنـانة والوزيرة المثقفة‬
‫هــــــــــال الــــطــــنــــيــــجــــي‪..‬‬ ‫معلـوال‬
‫وقصائـد على جنــاح "الـراعبي"‬ ‫الــــتـــاريــــخ االإ�ضــبـــانـــي‬ ‫حكاية �سورية‬
‫واللـغـة العـربـيـة‬ ‫مــــ�ضـــيــــئــــة‬
‫الــقــصــيــدة الــنــبــطــيــة وقــيــم‬
‫الحياة في المجتمع اإلماراتي‬

‫الـشعر الـنبطـي في اإلمـارات‪..‬‬ ‫شــعـر الــدارمي‪ ..‬من إبـداعـات‬


‫قـامــوس وحافــظ لــلــمفردات‬ ‫القصيـدة الشعبيـة في الـعراق‬

‫أسـواق المدام‪ ..‬تطـور متسـارع وفق خـطط مدروســة‬

‫مجلة �شهرية ت�شدر عن دائرة الثقافة بال�شارقة‬


‫بــلــديــة دبـــا الــحــصــن‪..‬‬

‫ال�شنة الثالثة ‪ -‬العدد (‪ - )26‬اأكتوبر ‪2021‬‬


‫السنة الثالثة ‪ -‬أكتوبر ‪2021‬م ‪ -‬الـعدد (‪)25‬‬

‫خــــــدمــــــات حـــديـــثـــة‬ ‫المهندسون الشعراء‬


‫العدد (‪ )25‬السنة الثالثة ‪ -‬أكتوبر ‪ - 2021‬صفر ‪ 1443‬هـ‬

‫وشــــــهــــــادات عــالــمــيــة‬ ‫مروا بالقصائد مدن الخيال‬


‫ع ّ‬
‫خضيرة‪ ..‬أفق سياحي‬
‫مــهــرجــان الــمــالــح‪ ..‬نكهات‬
‫مــمــزوجــة بــعــبــق ال ــت ــراث‬
‫واســتـثمـاري جــديد‬ ‫ا لغمــــو ض‬
‫ومستويات متعددة‬
‫مـجـلـــة شهـريــــة تــنـمويــة ثـقـافـيـــة‬ ‫أبطال الرماية في الذيد‬ ‫لشعــرية واحـــدة‬ ‫تُعنى بال�شعر والأدب العربي‬
‫من المنطـقة الشرقية بإمارة الـشارقة‬
‫يمثلون اإلمارات دولياً‬
‫مجلة شهرية تنموية ثقافية من المنطقة الوسطى بإمارة الشارقة‬

‫صحار العمانية‬
‫ُ‬ ‫الـقصــيدة العـــربية‬
‫ترنيمة الشعر والبحر‬ ‫الت معاصرة ورؤى تأملية‬
‫بتأوييال‬

‫الريح في النص الشعري‬


‫حضــو ر ٌ للمعنى و ا لخيـا ل‬

‫رحـالت البـر‬
‫استجمام واستعادة للماضي‬
‫على رمال الصحراء‬
‫الـــزبـــارة‪ ..‬حــضــارة منقوشة‬
‫عـــــلـــــى كـــــتـــــف جـــبـــلـــيـــن‬
‫‪1‬‬ ‫السنة الثالثة ‪ -‬أكتوبر ‪ - 2021‬العدد (‪)25‬‬

‫‪ALQAWAFI FINAL COVER26-.indd 1‬‬ ‫‪21/09/2021 10:36 AM‬‬

‫ص‪.‬ب‪ 5119 :‬الشـارقة ‪ -‬اإلمـارات العـربية المتحدة‬


‫البراق‪+971 6 5123303 :‬‬
‫ّ‬ ‫الهاتف‪+971 6 5123333 :‬‬
‫البريـد اإللكتروني‪sdc@sdc.gov.ae :‬‬
‫الموقع اإللكتروني‪www.sdc.gov.ae :‬‬
‫‪sharjahculture‬‬
‫كلمة العدد‬

‫�إ�سهامات الأدب العربي ح�ضاري ًا‬

‫وح�����س��ب‪ ،‬وال ه ��ي م ��وروث ��ة ب��ي��ول��وج��ي� ًا‬ ‫الذي ي�ضيء بزيت العبقرية ال ينطفىء �أبداً‪،‬‬ ‫�إن �إب��داع��ات ال��ع��رب الأدب��ي��ة والفنية‬
‫واجتماعي ًا‪ ،‬و�إنما متدفقة من بيئة ولغة‬ ‫وزهور الإب��داع التي ُت�سقى بماء العبقرية‬ ‫والعلمية‪ ،‬و�إ�سهامات الأدب��اء في م�سيرة‬
‫وتاريخ‪ ،‬وتكمن في القدرة على تثقيف الذات‬ ‫ال تذوي البتة‪ ،‬لذلك خ ّلدت هذه الإبداعات‬ ‫الح�ضارة الإن�سانية‪ ،‬لي�ست حدث ًا عابراً‬
‫و�إث ��راء الوعي والإي��م��ان بالحوار والت�أثر‬ ‫�أ�سماء �أ�صحابها و�ص ّناعها‪ ،‬ومكنتهم من‬ ‫�أو �أمراً هام�شي ًا يمكن تجاوزه �أو تجاهله‪،‬‬
‫والت�أثير‪ .‬وقد تحول الأدي��ب العبقري �إلى‬ ‫تغيير م�سار الب�شرية و�إحداث ثورة في العلم‬ ‫و�إنما هي �أح��د م�صادر قوتنا وح�ضورنا‬
‫ظاهرة في تاريخ الثقافة والأدب والفكر‪،‬‬ ‫والمعرفة‪ ،‬فمازلنا �إلى اليوم نحتفي بما‬ ‫وتفوقنا وح�ضارتنا‪� ،‬إنها نتاج جهد وتعب‬
‫تميزت بالإبداع والفرادة والجمال والإقناع‪.‬‬ ‫قدموه و�أن��ج��زوه‪ ،‬وننعم ببركة جهودهم‪،‬‬ ‫و�إب ��داع المئات من العباقرة والمبدعين‬
‫من هنا؛ نقر�أ عبقرية ابن ر�شد التي‬ ‫ننهل من ينابيعهم‪ ،‬ون�ستظل ب�أجنحتهم‪،‬‬ ‫الذين ا�ستطاعوا �أن ي�صنعوا التاريخ بكل‬
‫تجلت في م�ؤلفاته الفل�سفية‪ ،‬كذلك عبقرية‬ ‫فلوال ه��ذه العبقرية م��ا ا�ستطاع الأدب‬ ‫ثقة‪ ،‬وي�سطروا �صفحاته ب�أحرف من نور‪،‬‬
‫المتنبي التي توهجت وه��درت �أمواجها‬ ‫العربي �أن ي�شكل ب�صمة ف��ي الح�ضارة‬ ‫وي�صدروا �إلى العالم ينابيع المجد والقيم‪،‬‬
‫ال�شعرية بكل جر�أة وخيال وحكمة‪ ،‬وعبقرية‬ ‫والثقافة العالمية‪ ،‬و�أن يلعب دوراً فريداً‬ ‫ب��ق��درات وط��اق��ات و�إن��ج��ازات ف��ي مجال‬
‫المعري التي ات�شحت ب�سعة خياله ولغته‬ ‫في �أن�سنة التاريخ والتراث والإن�سان‪ ..‬هي‬ ‫العلم والأدب والفكر والفل�سفة‪ ،‬كان لها‬
‫وبالغته المذهلة‪ ،‬و�أي�ض ًا عبقرية جبران‬ ‫عبقرية م�ستمدة من �سحر ال�شرق ونورانية‬ ‫الف�ضل في التحول �إلى الح�ضارة والتطور‪،‬‬
‫وقدرته على �سبر �أغوار النف�س وتقديم �أجوبة‬ ‫الإ�سالم ور�سالته‪ ،‬ومن فل�سفة ال�صحراء‬ ‫و�إلى الر�شاد وال�ضياء‪� ..‬إنها لي�ست مجرد‬
‫عن ت�سا�ؤالت فل�سفية للوجود‪ ،‬وعبقرية طه‬ ‫وغناء واحاتها‪ ،‬و�أبجدية النهر وترانيم‬ ‫�إبداعات و�إ�سهامات مرتبطة بزمن معين �أو‬
‫ح�سين التي توجت بغزارة �إنتاجه و�سعة‬ ‫�ضفافه و�أ�شجاره‪.‬‬ ‫مكان محدد‪ ،‬فقد ُكتب لها �أن ت�ستمر بما‬
‫ف��ك��ره‪ ،‬وك��ذل��ك ف��ي �إرادة التغيير الحرة‪،‬‬ ‫نجحت عبقرية الأدب العربي‪ ،‬بتجلياتها‬ ‫حملت من تغيير وده�شة‪ ،‬كما ُكتب لها‬
‫ين�س‬
‫وهناك العديد من العباقرة الذين لم َ‬ ‫الكبرى وم�ساراتها العطرة‪ ،‬في �أن ت�صوغ‬ ‫�أي�ض ًا التجدد واالنبعاث بما امتزجت به من‬
‫النا�س �إبداعاتهم ونبوغهم بعد رحيلهم منذ‬ ‫ر�ؤى جديدة للعالم والحياة والم�ستقبل‪ ،‬و�أن‬ ‫عبقرية وخيال‪ ،‬فمن دون عبقرية ما كان‬
‫مئات ال�سنين‪ ،‬بل ظلت كلماتهم �شامخة‬ ‫ت�سبك دوراً متقدم ًا في �صنع حالة �إبداعية‬ ‫لهذا الإبداع �أن يبقى وي�ستمر وينت�شر‪ ،‬ومن‬
‫و�أفكارهم حية ونتاجهم خالداً خلود القمم‪.‬‬ ‫متوا�صلة في �شتى مجاالت الحياة قائمة‬ ‫دون خيال ما كان لهذه الح�ضارة �أن ترتقي‬
‫�إن��ن��ا ندين بكل �صدق وفخر له�ؤالء‬ ‫على الأ�صالة واال�ستك�شاف وتوليد الأفكار‬ ‫وترتفع وت�شع �أنوارها على العالم كله‪.‬‬
‫العباقرة ال��ع��رب‪ ،‬م��ن �شعراء ومفكرين‬ ‫والتوا�صل‪ ،‬وا�ستطاع �أن يم�شي عك�س الواقع‬ ‫من هنا يمكن القول �إن ف��رادة الأدب‬
‫وعلماء و�أدباء ومبدعين‪ ،‬الذين تركوا �إرث ًا‬ ‫ويجتاز الحدود ويعبر بالح�ضارة العربية‬ ‫العربي وثراءه نابعان من تفجر العبقرية‬
‫علمي ًا ومعرفي ًا ثمين ًا ومبهراً �أثبت مكانته‬ ‫�إلى مراحل غير م�ستك�شفة‪ ،‬والأهم �أن هذه‬ ‫الإن�سانية ف��ي �أع��م��اق ال��ت��اري��خ‪ ،‬وتناثر‬
‫في التقدم الح�ضاري الإن�ساني والتوا�صل‬ ‫العبقرية ظهرت بقوة عندما تم ا�ستيعاب‬ ‫لآلئها في ف�ضاءات الزمن‪ ،‬ف�سراج الأدب‬
‫الثقافي وال��م��ع��رف��ي‪ ،‬تماهى م��ع الزمن‬ ‫ح�ضارات وثقافات العالم المختلفة‪ ،‬و�أثرت‬
‫وات�سع مع المكان‪ ،‬وفي كل محطة ومرحلة‬ ‫في العديد من ال�شعوب على مدار التاريخ‪،‬‬ ‫ا�ستطاع الأدب العربي �أن‬
‫تاريخية‪ ،‬تتك�شف لنا مالمح جديدة من هذا‬ ‫لما �شكلته من مرونة وحيوية واندها�ش‪.‬‬
‫الإرث‪ ،‬وتبزغ �أفكار لم تكن من قبل‪ ،‬لتبقى‬ ‫� ّإن عبقرية الأدباء العرب‪ ،‬لي�ست وليدة‬ ‫ي�شكل ب�صمة في الح�ضارة‬
‫هذه العبقرية منارة ت�شع �ألق ًا وقوة وحياة‪.‬‬ ‫الدرا�سة الأكاديمية وال�شهادات الدرا�سية‬ ‫والثقافة العالمية‬

‫‪3‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫‪24‬‬ ‫رئي�س دائرة الثقافة‬
‫عبد اهلل بن محمد العوي�س‬

‫مدير التحرير‬
‫نـواف يونـ�س‬

‫هيئة التحرير‬
‫عبد الكريم يون�س‬
‫عـــــزت عـــــمــــــــر‬
‫حــ�ســـــان الـعــبـــد‬
‫عبدالعليم حري�ص‬
‫فــــــوزي �صـــــالـــــح‬

‫الت�صميم والإخـراج‬
‫محـمـد �سـمــير‬

‫م�ساعد مخرج‬

‫معلـوال‬ ‫محـمـد غانم‬

‫المحتوى الب�صري والإلكتروني‬


‫حكاية �سورية م�ضيئة‬ ‫محـمـد مح�سن‬

‫ت�صدر �شهري ًا عن دائرة الثقافة ‪ -‬ال�شارقة ‪ -‬الإمارات العربية المتحدة‬


‫التوزيع والإعالنات‬
‫ال�سنة اخلام�سة‪-‬العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪ ٢٠٢١‬م‬ ‫خالد �صديق‬

‫مراقب الجودة والإنتاج‬


‫�أحمد �سعيد‬
‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫قيمـة اال�شـتـراك ال�سنـوي‬
‫الأ�سعار‬ ‫داخل الإمارات العربية المتحدة‬
‫‪ 400‬لرية �سورية‬ ‫�سوريا‬ ‫‪ 10‬دراهم‬ ‫الإمارات‬ ‫بالربيد‬ ‫الت�سليم املبا�شر‬
‫دوالران‬ ‫لبنان‬ ‫‪ 150‬درهم ًا‬ ‫‪ 100‬درهم‬ ‫الأفراد‬
‫‪ 10‬رياالت‬ ‫ال�سعودية‬
‫ديناران‬ ‫الأردن‬ ‫‪ 170‬درهم ًا‬ ‫‪ 120‬درهم ًا‬ ‫امل�ؤ�س�سات‬
‫ريال‬ ‫عمان‬
‫دوالران‬ ‫اجلزائر‬
‫دينار‬ ‫البحرين‬ ‫خارج الإمارات العربية المتحدة‬
‫‪ 15‬درهم ًا‬ ‫املغرب‬ ‫�شامل ر�سوم الربيد‬
‫‪ ٢٥٠٠‬دينار‬ ‫العراق‬
‫‪ 4‬دنانري‬ ‫تون�س‬ ‫‪ 600‬درهم‬ ‫دول اخلليج‬
‫دينار‬ ‫الكويت‬
‫‪ 3‬جنيهات �إ�سرتلينية‬ ‫اململكة املتحدة‬ ‫‪ 650‬درهم ًا‬ ‫الدول العربية الأخرى‬
‫‪ 4‬يورو‬ ‫دول الإحتاد الأوربي‬ ‫‪ 400‬ريال‬ ‫اليمن‬
‫‪ 280‬يــورو‬ ‫دول االحتاد الأوروبي‬
‫‪ 4‬دوالرات‬ ‫الواليات املتحدة‬ ‫‪ 10‬جنيهات‬ ‫م�صر‬ ‫‪ 300‬دوالر‬ ‫الواليات املتحدة‬
‫‪ 5‬دوالرات‬ ‫كندا و�أ�سرتاليا‬ ‫‪ 20‬جنيه ًا‬ ‫ال�سودان‬ ‫‪ 350‬دوالر ًا‬ ‫كندا و�أ�سرتاليا‬
‫فكر ور�ؤى‬
‫الخوارزمي‪ ..‬من �أعالم العلماء العرب والم�سلمين‬ ‫‪ ٦‬‬
‫متى ُيعنى العرب بوثائقهم التاريخية‬ ‫‪١ ٤‬‬
‫الم�ست�شرق �إربنيو�س متيم ًا باللغة العربية‬ ‫‪١ ٦‬‬
‫‪١١٢‬‬
‫دون كي�شوت‪ ..‬النبيل‬ ‫�أمكنة و�شواهد‬
‫كتب (�سرفانت�س) روايته الخالدة (دون كي�شوت) وطبعت الرواية منذ �صدورها عام‬ ‫«دير القمر» لوحة ت�شكيلية ب�ألوان الطبيعة‬ ‫‪٢٠‬‬
‫ ‬
‫(‪ )1605‬طبعات كثيرة وترجمت �إلى لغات العالم كافة‪....‬‬
‫�إبداعات‬
‫جبور الدويهي‪..‬‬ ‫�أدبيات‬ ‫‪٢٨‬‬
‫ ‬
‫وحاالت االغتراب الدائم‬ ‫قا�ص وناقد‬ ‫‪٣٢‬‬
‫ ‬
‫م�شروعه ال�����س��ردي ال ��ذي �ضم ت�سع‬
‫‪٣٥‬‬
‫رواي��ات ومجموعة ق�ص�صية واح��دة‬
‫مالمح خا�صة وهوية مميزة‪..‬‬
‫‪٧٦‬‬ ‫يميناً‪ ...‬على الهام�ش ‪ -‬ق�صة ق�صيرة‬
‫«المر�أة حاملة الأحزان» ‪ -‬ق�صة مترجمة‬
‫ ‬
‫‪٣٦‬‬
‫ ‬

‫علي محمود طه‪..‬‬


‫�أدب و�أدباء‬
‫�شاعر الجندول‬
‫الأخطل ال�صغير‪ ..‬والنغم المو�سيقي في �شعره‬ ‫‪ ٤٤‬‬

‫هنالك �شعراء وكتاب �أفذاذ لعبوا دوراً‬


‫الروائي محمد الأ�صفر‪ :‬اللغة هي �أ�سلوب الحياة‬ ‫‪٥٨‬‬
‫ ‬
‫‪ ٦٨‬‬
‫‪١٠٤‬‬ ‫مهم ًا ف��ي الم�شهد الثقافي العربي‬ ‫�صالح بلعيد‪ :‬لغتنا العربية ثرية بمفرداتها‬
‫عموم ًا‪ ،‬والم�صري خ�صو�ص ًا‪...‬‬ ‫ثريا جبران‪ ..‬الفنانة والوزيرة المثقفة‬ ‫‪١١٦‬‬
‫ ‬
‫الإم�����ارات‪��� :‬ش��رك��ة ت ��وزي ��ع‪ ،‬ال��رق��م ال��م��ج��ان��ي ‪8002220‬‬
‫وكـالء التوزيع‬
‫ال�����س��ع��ودي��ة‪ :‬ال�����ش��رك��ة ال��وط��ن��ي��ة ل��ل��ت��وزي��ع ‪-‬ال��ري��ا���ض ‪-‬‬
‫فن‪.‬وتر ‪.‬ري�شة‬
‫ه��ات��ف‪ ،٠٠966114871414 :‬الكويت‪ :‬المجموعة الإع�لام��ي��ة العالمية ‪ -‬الكويت‬ ‫‪ ١٢٦‬ليلى طه �أعطت العمارة المحلية طابعها العربي‬
‫‪ -‬ه� ��ات� ��ف‪� ،0096524826821:‬سلطنة ُعمان‪ :‬المتحدة لخدمة و�سائل الإع�ل�ام ‪-‬‬
‫‪« ١٣٠‬الفار�س الأخ�ضر» فيلم ملحمي‬
‫م�سقط ‪ -‬هاتف‪ ،0096824700895 :‬البحرين‪ :‬م�ؤ�س�سة الأي ��ام للن�شر ‪ -‬المنامة‬
‫‪ -‬هاتف‪ ،0097317617733 :‬م�صر‪ :‬م�ؤ�س�سة الأه��رام للتوزيع ‪ -‬القاهرة ‪ -‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ١٣٤‬بيرم التون�سي‪� ..‬شاعر ال�شعب‬
‫‪ ،0020227704293‬لبنان‪� :‬شركة نعنوع والأوائ����ل ل��ت��وزي��ع ال�صحف ‪ -‬هاتف‪:‬‬
‫عمان ‪ -‬هاتف‪،0096265358855 :‬‬ ‫‪ ،009611666314‬الأردن‪ :‬وكالة التوزيع الأردنية ‪ّ -‬‬
‫المغرب‪� :‬سو�شبر�س للتوزيع ‪ -‬ال ��دار البي�ضاء ‪ -‬ه��ات��ف‪،00212522589121 :‬‬
‫تحت دائرة ال�ضوء‬
‫تون�س‪ :‬ال�شركة التون�سية لل�صحافة ‪ -‬تون�س ‪ -‬هاتف‪0021671322499 :‬‬
‫‪ ١٤٠‬درا�سة في �أدب ال�صورة القلمية‬
‫‪ ١٤٥‬المنحى الفل�سفي في ن�صو�ص فوزي �صالح‬
‫الإمـارات العربيـة المتحدة ‪-‬ال�شـارقة ‪ -‬الل ّية ‪-‬دائرة الثقـافـة‬‫عـنـاويـن المـجـلـة‪:‬‬
‫البراق‪+97165123303 :‬‬ ‫ّ‬ ‫الهاتف‪+97165123333 :‬‬ ‫�ص ب‪ 5119 :‬ال�شارقة‬ ‫ر�سوم العدد للفنانين‪:‬‬
‫‪shj.althaqafiya@sdc.gov.ae‬‬ ‫‪shj.althaqafiya@gmail.com‬‬ ‫د‪ .‬جهاد العامري‬ ‫نبيل ال�سنباطي‬
‫ ‪www.alshariqa-althaqafiya.ae‬‬ ‫ ‪shj_althaqafiya‬‬ ‫‪Alshariqa althaqafiya‬‬ ‫مهاب لبيب‬ ‫جمال عقل‬
‫تطبيقنا الذكي متوفر على‪:‬‬
‫التوزيع والإعالنات‬
‫¯ترتيب ن�شر المواد وفق ًا لـ�ضرورات فـنية‪.‬‬ ‫البراق‪+97165123259 :‬‬ ‫الهاتف‪+٩٧١٦٥١٢٣٢٦٣ :‬‬
‫¯المقاالت المن�شـورة تعبر عن �آراء �أ�صحابهـا وال تعبر بال�ضرورة عن ر�أي المجلة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪k.siddig@sdc.gov.ae‬‬
‫¯المجلة غير ملزمـة ب�إعادة �أي مادة تتلقاها للن�شر �سواء ن�شرت �أم لـم تن�شر‪.‬‬
‫¯حـقوق ن�شر ال�صور والمو�ضوعات الخا�صة محفوظة للمجلة‪.‬‬
‫توزع في جميع �إمارات ومدن الدولة‬
‫¯ال تقبل المواد المن�شورة في ال�صحف والمجالت والمواقع الإلكترونية‪.‬‬ ‫لال�ستفـ�سـار الـرقـم المجـاني‪8002220 :‬‬
‫�أعالم العلماء العرب والم�سلمين‬

‫الخوارزمي‪..‬‬
‫من �أعظم علماء الريا�ضيات في كل الع�صور‬
‫‪ ..‬و�إذاً؛ فقد بد�أ العلم العربي ال�صريح مع (جابر بن ح ّيان) في القرن الثاني الهجري‪ ..‬وترادفت‬
‫ال�سل�سلة بدء ًا بذاك العقل العمالق‪ ،‬ليت�صدرها تالي ًا الخوارزمي (‪232‬ه‪846/‬م) �أحد عباقرة‬
‫الع�صور كلها‪ :‬الريا�ضياتي والفلكي والجغرافي؛ مبتدع (علم الجبر) م�ستق ًال عن الح�ساب‬
‫والهند�سة في كتابه ال ُع ْمدة (المخت�صر في ح�ساب الجبر والمقابلة)‪ ،‬حتى لقد �صار هذا العلم‬
‫معروف ًا با�سمه العربي (الجبر) في جميع اللغات‪ ..‬فيما بات الم�صطلح الت�أ�سي�سي لتقنيات‬
‫يقظان م�صطفى‬
‫الحا�سب‪ ،‬بعد �أكثر من �ألف عام على غياب الخوارزمي‪ ،‬هو (الخوارزمية)‪ ،‬ا�شتقاق ًا من ا�سم ذاك‬
‫الألمعي؛ لتعني (التفكير المنطقي) في �إ�شارة �إلى تعليمات برمجية تَحدث‪ ،‬وفق ًا لترتيب منطقي تف�صيلي �صارم‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪6‬‬


‫�إ�سهامات‬

‫�إل��ى �أن الخليفة الم�أمون هو ال��ذي طلب منه‬ ‫تغلِّب بع�ض الآراء �أن �أبا عبداهلل محمد بن‬
‫لا م��ن م�سائل الجبر المتناثرة‬ ‫ت�أليفه‪ ،‬ج��اع� ً‬ ‫مو�سى الخوارزمي‪ ،‬ولد بقرية ( ُق ْط ُر ُبل) بالقرب‬
‫في الح�ضارات القديمة‪ ،‬علم ًا م�ستق ًال بذاته‪،‬‬ ‫من بغداد‪� ،‬أو ربما جاء مع �أهله �إليها من خوارزم‪،‬‬
‫له قواعد مقررة ثابتة؛ لي�ضع بذلك �أول كتاب‬ ‫حيث نال هناك تقدير الخليفة العبا�سي الم�أمون‪،‬‬
‫لحل منهجي للمعادالت الخطية والمعادالت‬ ‫وعينه للإ�شراف على (دار الحكمة)‪ ،‬وعهد �إليه‬
‫التربيعية‪ ،‬وفي ذهنه ت�سهيل �أعمال النا�س في‬ ‫بخزانة كتبه وجمع الم�ؤلفات اليونانية والهندية‪،‬‬
‫التعامالت؛ فحل الخلل في الم�سائل التجارية‬ ‫وترجمتها في �أزهى ع�صور الدار؛ بو�صفها بيت‬
‫�أ ّلف كتب (العمل‬ ‫والميراث والم�شكالت الناجمة عن م�سح الأرا�ضي‬ ‫العلم ومركز البحث العلمي والترجمة والت�أليف‪.‬‬
‫بالأ�سطرالب)‪،‬‬ ‫وتخ�صي�صها با�ستخدام عمليتين‪ ،‬هما الجبر‬ ‫وعهد (الم�أمون) له بعمل �أزياج فلكية (جداول‬
‫و(الرخامة) لمعرفة‬ ‫والمقابلة‪ :‬وق�صد بـ(الجبر) نقل الحدود من �أحد‬ ‫فلكية) لحركات الكواكب‪ ،‬وتقدير محيط الأر�ض‬
‫طرفي المعادلة �إلى الآخر‪� ،‬أما (المقابلة)؛ فهي‬ ‫وحجمها ب�صورة �أدق ع��ن ذي قبل‪ ،‬وبر�سم‬
‫الوقت عن طريق‬ ‫ما يمكن اخت�صاره من عملية الجبر للح�صول‬ ‫خريطة جغرافية كبيرة للأر�ض‪ ،‬عمل فيها معه‬
‫ال�شم�س‬ ‫و�صيرهما �أدا ًة لحل الم�سائل‬
‫ّ‬ ‫على حل المعادلة‪،‬‬ ‫�أكثر من �سبعين جغرافي ًا وجيولوجي ًا‪.‬‬
‫الهند�سية لتن�ش�أ ب��ذرة (الهند�سة التحليلية)؛‬ ‫في هذه البيئة العامرة بالعلم وبالمترجمين‬
‫مطلق ًا بهذا االبتكار مرحلة جديدة في تاريخ‬ ‫النابهين والعلماء الباحثين‪� ،‬أ ّل��ف هذا الرجل‬
‫المثلى‬
‫الريا�ضيات‪� ،‬سيعيد ديكارت �صياغتها ُ‬ ‫ال��ف� ّذ كتبه الكثيرة على م��دى ع�شرين عام ًا‪،‬‬
‫بعد نحو (‪� )800‬سنة!‬ ‫و�أ�شهرها كتابه �سابق الذكر‪ ،‬م�شيراً في مقدمته‬
‫ق�سم الأع��داد في‬ ‫والخوارزمي هو �أول من ّ‬
‫الجبر‪ ،‬و�أطلق عليها �أ�سماءها‪( :‬الجذر‪ ،‬والمال‪،‬‬
‫والعدد الأ���ص� ّ�م) لتو�صيف العدد ال��ذي لي�س له‬
‫عالم مو�سوعي في‬ ‫ورو�ض الأرقام الهندية وجعل لها قيمة‬ ‫جذر‪ّ ..‬‬
‫الريا�ضيات وعلوم‬ ‫ح�سابية �أكثر مما هي مجرد �أرقام تمثل رموزاً‬
‫مفردة ال قيمة لها عملي ًا‪ ،‬و�أهمها �أنه منح تعبير‬
‫الفلك والجغرافيا‬ ‫(�سونيا) عند الهنود‪ ،‬والذي يعني الفراغ‪ ،‬قيمة‬
‫عددية؛ فكان ال�صفر وما ترتب عليه من ابتكار‬
‫المنازل الرقمية‪ :‬الآحاد‪ ،‬الع�شرات‪ ،‬المئات‪ ..‬وبذا‬
‫تحول الح�ساب �إلى النظام الع�شري‪ ،‬وا�ستخدم‬
‫في �أوروب��ا ومختلف �أنحاء العالم بعد ترجمة‬
‫مخطوطاته �إل��ى الالتينية‪ ،‬ليحل محل النظام‬
‫الروماني القديم‪ ،‬واليزال هو النظام الم�ستخدم‬
‫حتى الآن‪ .‬كما يرجع �إليه الف�ضل في تعريف‬
‫النا�س في العالم الغربي بالأرقام العربية‪ ،‬من‬
‫خالل كتابه (الجمع والتفريق بح�ساب الهند)‪،‬‬
‫مبتدع علم الجبر‬ ‫والتي جهِ د الريا�ضياتي الإيطالي (ليوناردو‬
‫الم�ستقل عن‬ ‫فيبونات�شي) الذي در�س في الجزائر‪ ،‬لتقديمها‬
‫الح�ساب والهند�سة‬ ‫لأوروب��ا في كتابه (ليبر �أبات�شي) المن�شور في‬
‫العام (‪ ..)1202‬كذلك طور الخوارزمي في �إطار‬
‫لي�صبح معروف ًا‬ ‫ا�شتغاله الريا�ضياتي‪� ،‬إج ��راءات ح�سابية في‬
‫با�سمه العربي‬ ‫العمليات على الك�سور‪.‬‬
‫(الجبر)‬ ‫في علم المثلثات‪ ،‬الأ�سا�سي في الح�سابات‬
‫الفلكية‪ ،‬و�ضع (الخوارزمي) كتاب ًا مميزاً �أر�سى‬
‫من خالله العديد من قواعد هذا العلم‪ ،‬واحتوى‬
‫كتابه (زي��ج ال�سندهند ال�صغير) على الئحات‬
‫تحويل قيم دقيقة لدالتي الجيب وجيب التمام‪،‬‬
‫و�أطروحة ذات �صلة عن ح�ساب المثلثات الكروية‪،‬‬
‫والئحة لقيم دالة الظل ُتعتبر الأولى من نوعها‪.‬‬

‫‪7‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�إ�سهامات‬

‫وعالوة على ذاك كله‪ ،‬فقد و�ضع طرق ًا تطبيقية‬


‫لمعرفة م�ساحة الم�سطحات وم�ساحة الدائرة‬
‫وم�ساحة قطعة الدائرة‪ ،‬وتو�صل �إلى ح�ساب حجم‬
‫الهرم الثالثي‪ ،‬وحجم الهرم الرباعي‪ ،‬وحجم‬
‫المخروط‪.‬‬
‫وفي الفلك‪ ،‬كان قد ترجم كتاب عالم الفلك‬
‫الهندي براهما غوبتا (ال�سندهند الكبير) �إلى‬
‫العربية في زمن الخليفة المن�صور‪ ،‬وهو عمل‬
‫مو�سوعي �ضخم يت�ألف من (‪ )37‬ف�ص ًال حول‬
‫الح�سابات الفلكية و(‪ )116‬ج ��دو ًال متعلق ًا‬
‫بالتقويم والبيانات الفلكية والتنجيمية‪ ،‬ومن‬
‫جدول لقيم جيب الزاوية‪ ،‬وجداول �أخرى لحركات‬
‫ال�شم�س والقمر والكواكب الخم�سة المعروفة في‬
‫ذلك الوقت‪ .‬وم ّثل هذا العمل نقطة تحول في علم‬
‫الفلك العربي الإ�سالمي‪� ،‬إذ عمل (الخوارزمي)‬
‫على ترجمته بطريقة غير تقليدية؛ معيداً كتابته‬
‫با�سمه هو بعدما �أ�ضاف �إليه معار َفه وخبرا ِته‬
‫وت�صحيحاته و�سماه كتاب (ال�سندهند ال�صغير)‪.‬‬
‫و�أ ّل��ف �أي�ض ًا كتب‪( :‬العمل بالأ�سطرالب)‪،‬‬
‫و(الرخامة) لمعرفة الوقت عن طريق ال�شم�س‪،‬‬
‫و(ال��م��ع��رف��ة) ال���ذي يبحث ف��ي ع��ل��م ال��ن��ج��وم‪،‬‬
‫ليوناردو فيبونا�شي‬ ‫روبرت �أوف ت�ش�ستر‬ ‫جورج �سارتون‬
‫و(طرائق من عمل الخوارزمي)‪ ،‬و(معرفة ال�سمت‬
‫تقوى على و�ضعه �أمة �أوروبية في فجر نه�ضتها‬ ‫بالأ�سطرالب)‪ ..‬و�أدخ��ل ع��دة تح�سينات مهمة‬
‫العلمية)‪ .‬وفي كتابه (تقويم البلدان) �شرح �آراء‬ ‫لنظرية المزوالت‪ ،‬التي ورثها من الح�ضارتين‬
‫بطليمو�س �شرح ًا م�ستفي�ض ًا‪ ،‬وجددها بال تقليد‬ ‫الهندية والإغريقية‪ .‬وفي جداول و�ضعها لهذه‬
‫ل�ل�آراء الإغريقية‪ ..‬وح��دد فيه الم�سافات بين‬ ‫الآالت‪ ،‬اخت�صر الوقت الالزم لإج��راء ح�سابات‬
‫البلدان الم�شهورة في ع�صره‪ ،‬وخطوط الطول‬ ‫معينة‪ ،‬وو�ضعت ف��ي كثير م��ن الأح��ي��ان في‬
‫نال تقدير الخليفة‬ ‫والعر�ض التي تقع عليها‪.‬‬ ‫الم�ساجد لتحديد وقت ال�صالة‪ .‬ومن اختراعاته‬
‫الم�أمون بتعيينه‬ ‫وللخوارزمي م�ؤلفات �أخ ��رى‪ ،‬على �شكل‬ ‫الفلكية �أداة لتحديد االرت��ف��اع الخطي لج�سم‪،‬‬
‫م�شرف ًا على (دار‬ ‫م��خ��ط��وط��ات ع��رب��ي��ة ف��ي ب��رل��ي��ن و�إ���س��ط��ن��ب��ول‬ ‫و�أول �أداة ربعية عرفت فيما بعد با�سم( الربعية‬
‫الحكمة)‬ ‫وط�شقند والقاهرة وباري�س‪ ،‬وتت�ضمن مخطوطة‬ ‫القديمة) في �أوروبا في القرن الثالث ع�شر‪ ،‬وهي‬
‫(�إ�سطنبول) ورقة عن ال�ساعات ال�شم�سية‪ ،‬و�أخرى‬ ‫�أداة يمكن ا�ستخدامها في �أي دائرة عر�ض على‬
‫عن تحديد اتجاه مكة المكرمة‪ ،‬و�أخرى عن علم‬ ‫الأر�ض‪ ،‬وفي �أي وقت من ال�سنة لتحديد الوقت‪،‬‬
‫الفلك الكروي‪� .‬أما مخطوطة كتابه �سابق الذكر‬ ‫وكانت ثاني �أداة فلكية �أكثر ا�ستخدام ًا على نطاق‬
‫(���ص��ورة الأر����ض) فموجودة في �سترا�سبورج‬ ‫وا�سع‪ ،‬خالل القرون الو�سطى بعد الأ�سطرالب‪.‬‬
‫بفرن�سا‪.‬‬ ‫و�أنجز (الخوارزمي) في الجغرافيا كتاب‬
‫وقد ترجم العالم روبرت �أوف ت�ش�ستر كتاب‬ ‫(���ص��ورة الأر�� ��ض) �أو (ر���س��م ال��رب��ع المعمور)‪،‬‬
‫ر�سم خريطة‬ ‫(المخت�صر في الجبر والمقابلة) �إلى الالتينية في‬ ‫وفيه رتب المعلومات والمعارف‪ ،‬التي وردت‬
‫للأر�ض عمل فيها‬ ‫القرن (‪ ،)12‬وكذا ترجمه (جيرارد الكريموني)‪،‬‬ ‫في كتاب كالوديو�س بطليمو�س (المدخل �إلى‬
‫وقد �صار الكتاب م�صدراً �أ�سا�سي ًا للريا�ضيات‬ ‫الجغرافية) ونظمها على �شكل ج��داول‪ ،‬م�ضيف ًا‬
‫معه �أكثر من �سبعين‬ ‫في الجامعات الأوروبية حتى القرن ال�ساد�س‬ ‫�إليها معارف جديدة وكثيرة وخرائط‪ ،‬و�صحح‬
‫جغرافي ًا وجيولوجي ًا‬ ‫ع�شر‪ ،‬وجاء معظم ما �ألفه َم ْن خلفه في علم الجبر‬ ‫في الكتاب ر�سم �إفريقيا و�آ�سيا‪ ،‬وحو�ض البحر‬
‫الن�ص العربي‬ ‫َّ‬ ‫م�ستنداً �إليه‪ ،‬ون�شر (�إف‪ .‬روزين)‬ ‫الأبي�ض المتو�سط‪ ،‬ون ّقح �إحداثيات الأماكن التي‬
‫مع ترجمته �إلى الإنجليزية في لندن في العام‬ ‫ت�ستند �إلى تلك الجغرافية‪ .‬وعن هذا الكتاب قال‬
‫(‪ ،)1831‬وبه ا�ستنارت �أوروبا‪.‬‬ ‫الم�ست�شرق الإيطالي ن ّلينو‪�( :‬إن مثل هذا الكتاب ال‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪8‬‬


‫مقاالت‬
‫توا�صل‬

‫�إ�سهامات علمية عربية ح�ضارية‬


‫مختلف كتب التاريخ والرحالة؛ الم�ست�شفى‬ ‫�إن الدار�س للح�ضارة الإ�سالمية ال يمكنه‬
‫(الع�ضدي) الذي �أ�س�سه ع�ضد الدولة بن بويه‬ ‫�أن ينكر �إ�سهامات الم�سلمين في مجال‬
‫�أحد �أمراء البويهيين �سنة (‪372‬هـ‪983 /‬م)‬ ‫الطب وال�صيدلة‪ ،‬وال��ذي كان من نتائجه‬
‫في بغداد‪ ،‬وقد كان ي�ضم �أكثر من �أربعة‬ ‫المبا�شرة ت�أ�سي�س و�إق��ام��ة الم�ست�شفيات‬
‫د‪ .‬عماري محمد‬ ‫وع�شرين طبيب ًا يعملون عن طريق المداومة‪،‬‬ ‫(البيمار�ستانات)‪ ،‬في الوقت الذي كانت فيه‬
‫منهم المخت�ص بالأمرا�ض الداخلية‪ ،‬ومنهم‬ ‫الح�ضارات الأخرى التزال تقبع تحت ركام‬
‫ذكر محمود الحاج قا�سم في (الطب عند‬ ‫المخت�ص ب��الأم��را���ض الع�صبية‪ ،‬ومنهم‬ ‫التخلف وال تعرف �شيئ ًا عن هذه البنايات‪،‬‬
‫ال��ع��رب والم�سلمين)‪ ،‬ت�ضم ف��ي داخلها‬ ‫الجراحون البارعون‪ ،‬ومنهم ال�ضالعون في‬ ‫يقول الم�ست�شرق الألماني ماك�س مايرهوف‬
‫مكتبات �ضخمة تحوي ع��دداً هائ ًال من‬ ‫�أمرا�ض المفا�صل والعظام‪ ،‬ومنهم �أطباء‬ ‫(‪1945 -1874‬م) في كتابه (الطب العربي‬
‫الكتب المتخ�ص�صة في الطب وال�صيدلة‬ ‫العيون‪ .‬كما كان ي�ضم مكتبة علمية فخمة‬ ‫وال�صيدلة)‪�( :‬إن الم�ست�شفيات العربية ونظم‬
‫وعلم الت�شريح ووظائف الأع�ضاء‪� ،‬إلى جانب‬ ‫و�صيدلية ت�ضم العديد من الأدوية‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫ال�صحة في البالد الإ�سالمية الغابرة لتلقي‬
‫بالطب‪ ،‬وغير ذلك من‬‫ِّ‬ ‫علوم الفقه المتع ِّلقة‬ ‫�إل��ى توافره على كل مقومات الراحة من‬ ‫علينا الآن در�س ًا قا�سي ًا مراً ال نقدره حق‬
‫زرع �إلى جوار‬‫علوم تهم الطبيب‪ .‬وكانت ُت َ‬ ‫أ�سرة الناعمة �إلى الحمامات الفاخرة‪.‬‬ ‫ال ّ‬ ‫ق��دره �إال بعد القيام بمقارنة ب�سيطة مع‬
‫الم�ست�شفيات المزارع ال�ضخمة‪ ،‬التي تنمو‬ ‫ومن الم�ست�شفيات العظيمة التي عرفتها‬ ‫مر‬
‫م�ست�شفيات �أوروبا في ذلك الزمن نف�سه‪ّ .‬‬
‫فيها الأع�شاب الطبية والنباتات العالجية؛‬ ‫الح�ضارة الإ�سالمية �أي�ض ًا (الم�ست�شفى‬ ‫�أكثر من ثالثة قرون على �أوروب��ا‪ ،‬اعتباراً‬
‫وذلك لإمداد الم�ست�شفى بما يحتاج �إليه من‬ ‫النوري الكبير) بدم�شق‪ ،‬الذي بناه ال�سلطان‬ ‫من زمننا هذا‪ ،‬قبل �أن تعرف للم�ست�شفيات‬
‫الأدوية‪� .‬أما الإجراءات التي كانت ُت ّتخذ في‬ ‫نورالدين محمود �سنة (‪549‬هـ‪1154 /‬م)‪،‬‬ ‫العامة معنى‪ ،‬وال نبالغ �إذا قلنا ب�أنه حتى‬
‫الم�ست�شفيات لتج ُنب العدوى‪ ،‬فكانت من‬ ‫وقد كان ي�ضم ق�سمين منف�صلين؛ �أحدهما‬ ‫القرن الثامن ع�شر (‪1710‬م) والمر�ضى‬
‫نوع خا�ص فريد؛ حيث كان المري�ض �إذا‬ ‫للذكور والآخر للإناث‪ .‬وكان كل ق�سم مجهز ًا‬ ‫يعالجون في بيوتهم‪� ،‬أو في دور خا�صة‬
‫دخل الم�ست�شفى ُي َ�س ِّلم مالب�سه التي دخل‬ ‫بما يحتاج �إليه من �آالت وخدم وم�شرفين‬ ‫كانت الم�ست�شفيات الأوروبية قبلها عبارة‬
‫بها‪ ،‬ثم ُي ْع َطى مالب�س جديدة مجانية؛ لمنع‬ ‫من الرجال والن�ساء‪ .‬وينق�سم كل ق�سم من‬ ‫عن دور عطف و�إح�سان‪ ،‬وم���أوى لمن ال‬
‫انتقال العدوى عن طريق مالب�سه التي كان‬ ‫هذين الق�سمين �إل��ى قاعات تخ�ص�صية؛‬ ‫م�أوى لديه‪ ،‬مر�ضى كانوا �أم عاجزين)‪.‬‬
‫يرتديها حين مر�ض‪ ،‬ثم يدخل كل مري�ض‬ ‫فهناك قاعة للأمرا�ض العقلية‪ ،‬وللأمرا�ض‬ ‫وتخبرنا المراجع التاريخية الموثقة �أن‬
‫في عنبر مخت�ص بمر�ضه‪ ،‬وال ُي�سمح له‬ ‫الباطنية‪ ،‬وقاعة للجراحة‪ ،‬وقاعة للكحالة‬ ‫�أول م�ست�شفى �أ�س�س في العالم الإ�سالمي‪،‬‬
‫ب��دخ��ول العنابر الأخ����رى؛ لمنع انتقال‬ ‫(�أمرا�ض العيون)‪ ،‬وقاعة لتجبير العظام‪،‬‬ ‫ك��ان في عهد الخليفة الأم��وي الوليد بن‬
‫العدوى �أي�ض ًا‪ ،‬وينام كل مري�ض على �سرير‬ ‫وقاعة للبر�ص‪� ،‬إ�ضافة �إلى قاعة للنقاهة‪،‬‬ ‫عبدالملك‪ ،‬فقد ذكر الطبري في (تاريخ الأمم‬
‫خا�ص به‪ ،‬وعليه م�لاءات جديدة و�أدوات‬ ‫وحمام وقاعة اجتماعات ت�ضم مكتبتين‬ ‫والملوك) �أن هذا الم�ست�شفى هو �أول بناء‬
‫خا�صة‪.‬‬ ‫كبيرتين‪.‬‬ ‫وحب�س فيه‬ ‫فعلي ثابت �أُ�سكن به العميان ُ‬
‫وه��ذا ما قالته الم�ست�شرقة الألمانية‬ ‫وم ��ن �أه���م الم�ست�شفيات ك��ذل��ك في‬ ‫المجذومون حتى ال تنتقل العدوى للعامة‪،‬‬
‫زيغريد هونكه في (�شم�س العرب ت�سطع على‬ ‫الح�ضارة الإ�سالمية‪ ،‬والتي �أثارت �إعجاب‬ ‫وقد �أمر لهم الخليفة �آنذاك بالأرزاق‪ ،‬وجعل‬
‫الغرب)‪�( :‬إن كل م�ست�شفى مع ما فيه من‬ ‫ك��ل ال��دار���س��ي��ن (الم�ست�شفى المن�صوري‬ ‫لكل ُمقعد خادم ًا ولكل �ضرير قائداً‪.‬‬
‫ترتيبات ومختبر‪ ،‬وكل �صيدلية وم�ستودع‬ ‫الكبير)‪ ،‬وال ��ذي ك��ان يعرف �أي�����ض� ًا ب��دار‬ ‫ومن �أه��م الم�ست�شفيات التي �شيدتها‬
‫�أدوية في �أيامنا هذه‪� ،‬إنما هي في حقيقة‬ ‫ال�شفاء‪� ،‬أ�س�سه �سيف الدين قالوون بالقاهرة‬ ‫الح�ضارة الإ�سالمية و�أت��ت على ذكرها‬
‫الأمر ُن ُ�صب تذكارية للعبقرية العربية‪ ،‬كما‬ ‫�سنة (‪675‬ه ��ـ‪ )1276 /‬م‪ ،‬وق��د �أم��ر ب�أن‬
‫�أن كل حبة من حبوب ال��دواء‪ِ ،‬‬
‫مذهبة �أو‬ ‫ُي�صرف لكل مري�ض في كل يوم ديناراً تلبية‬
‫«الع�ضدي» �أول م�ست�شفى‬
‫م�س ِكرة‪� ،‬إنما هي كذلك تذكار �صغير ظاهر‪،‬‬ ‫لنفقاته‪ ،‬و�أن ُيجعل له �شخ�صان يقومان‬
‫يذكرنا باثنين من �أعظم �أطباء العرب‪ :‬ابن‬ ‫بخدمته‪.‬‬ ‫�شيدته الح�ضارة العربية‬
‫�سينا والرازي‪ ،‬معلِّ َمي بالد الغرب)‪.‬‬ ‫وكانت الم�ست�شفيات الإ�سالمية‪ ،‬كما‬ ‫قبل �ألف عام‬

‫‪9‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫اللغة العربية من معالم ح�ضارتهم‬

‫من دون الإ�سالم ال يمكن فهم تاريخ �إ�سبانيا‬


‫انت�شرت اللغة العربية‪ ،‬و�أ�س�س الم�سلمون ح�ضارة عظيمة‬
‫ف��ي �شبه ال��ج��زي��رة الإي��ب��ي��ري��ة م��ع فتح الأن��دل�����س (‪92‬ه���ـ ‪-‬‬
‫‪711‬م)‪ ،‬وا�ستمر حتى �سقوطها (‪ 897‬هـ ‪1492 -‬م)‪ ،‬فكان‬
‫كانت الأندل�س مركزاً‬ ‫ت�أثر اللغة الإ�سبانية باللغة العربية عميق ًا ج��داً‪ ،‬بدليل‬
‫للإ�شعاع في �أوروبا‬ ‫انت�شار العلوم والفن والعمران‪ ،‬كما في الزراعة وال�صناعة‬
‫وليد رم�ضان‬
‫وال��ه��ن��د���س��ة ف��ي ت��ل��ك ال��ق��رون ال��ت��ال��ي��ة‪ ،‬م��ا ج��ع��ل الأن��دل�����س‬
‫�آن����ذاك م��زده��رة وم��رك��ز �إ���ش��ع��اع ف��ي �أوروب����ا كلها ومحجة لكل ط�لاب العلم‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪10‬‬


‫منارة‬

‫�شبه الجزيرة الإيبيرية منذ بداية الفتح الأموي‬


‫للأندل�س في القرن ال�سابع الميالدي‪ ،‬وحتى‬
‫بعد �سقوطها في القرن الرابع ع�شر الميالدي‪،‬‬
‫وطرد الموري�سكيين‪� ،‬أو �إجبارهم على اعتناق‬
‫الم�سيحية حتى تال�شت ممار�سة الإ�سالم كلي ًا‬
‫الم�سلمون �أقاموا‬ ‫في القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬ثم بد�أت تعود تدريجي ًا‬
‫في �إ�سبانيا زهاء‬ ‫في القرن الحالي ب�سبب الهجرة‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬
‫ثمانية قرون �أثروا‬ ‫من المغرب �إ�ضافة �إلى عوامل �أخرى‪.‬‬
‫في كتابهما (معجم المفردات الإ�سبانية‬
‫في الروح الإ�سبانية‬ ‫والبرتغالية الم�شتقة من اللغة العربية) ذكر‬
‫وح�ضارتها‬ ‫الم�ست�شرقان �إنجلمان ودوزي �أن الكلمات‬
‫العربية الموجودة في اللغة الإ�سبانية تعادل‬
‫رب��ع كلمات اللغة الإ�سبانية المعا�صرة‪،‬‬
‫وتحتوي الإ�سبانية في الكثير من الحاالت على‬
‫�ألفاظ لغوية من العربية والالتينية ذات المعنى‬
‫�أو للإ�شارة حرفي ًا لل�شيء نف�سه‪ ،‬وقد ذكرت‬
‫بع�ض الأمثلة التي تو�ضح تقديم الم�صطلح ذي‬
‫تنت�شر المراكز‬ ‫الأ�صل العربي مع نظيره ذي اال�شتقاق الالتيني‬
‫الثقافية العربية‬ ‫مثل‪ :‬الزيتون (�أثيتيون)‪ ،‬الزيت (�أثيتي)‪ ،‬وهناك‬
‫والإ�سالمية في‬ ‫كلمات عربية �إ�سبانية مثل‪ :‬القنطرة‪ ،‬ق�صر‪،‬‬
‫�أرجاء �إ�سبانيا‬ ‫خروب‪ ،‬البيطار‪ ،‬الزهر‪ ،‬فقير‪ ،‬الإ�سالم‪ ،‬عود‪،‬‬
‫ليمون‪ ،‬زرافة‪ ،‬القرية‪ ،‬مخزون‪ ،‬جبر‪.‬‬
‫ويقول الكاتب �أنطونيو غاال عن الت�أثير‬
‫الكبير للغة العربية في اللغة الإ�سبانية (�إن‬
‫الإ�سبانية تنحدر من فرعين؛ �أولهما اللغة‬
‫الالتينية وثانيهما اللغة العربية‪،‬‬
‫و�إن �أج��م��ل المعاني والأ�شياء‬
‫في �إ�سبانيا هي من الح�ضارة‬
‫العربية الإ�سبانية‪ ..‬كل الأ�شياء‬
‫التي نفخر بها نحن اليوم في‬
‫�إ�سبانيا ت�أتي وتنحدر من اللغة‬
‫العربية‪ ،‬فالم�سلمون �أقاموا في‬
‫هذه الديار زهاء ثمانية قرون‪،‬‬
‫فكيف للمرء �أن يحارب نف�سه؛‬
‫ذلك �أن اال�سالم كان قد تغلغل‬
‫في روح كل �إ�سباني‪ ،‬فمن دون‬
‫الإ���س�لام ال يمكن فهم �إ�سبانيا‬ ‫ا�ستوطن الم�سلمون من عرب وبربر �شبه‬
‫وتاريخها وح�ضارتها)‪.‬‬ ‫الجزيرة الإيبيرية لمدة ناهزت ثمانية قرون‪،‬‬
‫وي ��ؤك��د الم�ست�شرق (ليفي‬ ‫ما جعل للغة العربية ت�أثيراً كبيراً في لغات‬
‫ب��رون��ف�����س��ال) ف ��ي م��ح��ا���ض��رة‬ ‫تلك البالد‪ ،‬وفي مقدمتها اللغة الق�شتالية التي‬
‫�ألقاها بالجامعة الم�صرية عام‬ ‫تطورت �إلى الإ�سبانية المعا�صرة‪ ،‬حيث ت�ضم‬
‫(‪1938‬م)‪� ،‬أن اللغة الإ�سبانية‬ ‫اللغة الإ�سبانية الكثير من الكلمات ذات الأ�صل‬
‫وج��دت نف�سها م�ضطرة �إل��ى �أن‬ ‫العربي بحيث ت�شمل نحو ربع مفردات اللغة‬
‫ت�أخذ من اللغة العربية لت�ستطيع‬ ‫الإ�سبانية‪.‬‬
‫التعبير عن المفاهيم الجديدة‪،‬‬ ‫و�أ�صبح الإ�سالم دين ًا وا�سع االنت�شار في‬
‫معجم المفردات الإ�سبانية والبرتغالية‬

‫‪11‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫وت�ستخدم الإ�سبانية (الق�شتالية) في جميع‬
‫�أن��ح��اء ال��ب�لاد‪ ،‬وب��ذل��ك تكون اللغة الوحيدة‬
‫الر�سمية على ال�صعيد الوطني‪ ،‬لكن هناك بع�ض‬
‫اللغات الر�سمية الأخرى �إلى جانب الإ�سبانية‪،‬‬
‫وهي خا�صة بالأقاليم التي تتحدث بها مثل‬
‫البا�سكية‪ ،‬الكتالنية‪ ،‬غالي�سية‪ ،‬وتوجد �أي�ض ًا‬
‫بع�ض الأقليات الرومانية مثل الأ�ستورية‪،‬‬
‫واليونيزية وخالف ًا للغات البا�سكية والكتالنية‬
‫والجليقية ال تمتلك ه��ذه اللغات �أي��ة �صفة‬
‫�أخذوا عن اللغة‬ ‫ر�سمية‪.‬‬
‫العربية التعابير‬ ‫يظل الإ���س�لام ه��و ثاني �أك��ب��ر دي��ان��ة في‬
‫والم�صطلحات‬ ‫�إ�سبانيا بعد الكاثوليكية التي تدر�س ر�سمي ًا في‬
‫العلمية والإدارية‬ ‫المدار�س‪ ،‬وبعد �صدور قرارات حرية الأديان‬
‫وال�صناعية‬ ‫انت�شرت المراكز الإ�سالمية والثقافية حتى‬
‫و�صل عددها الى (‪ )49‬مركزاً �أهمها‪ :‬المركز‬ ‫�أحد �أبواب غرناطة القديمة‬
‫والزراعية والعمارة‬ ‫الإ�سالمي الإ�سباني‪ ،‬الجمعية الإ�سالمية في‬ ‫وبخا�صة ف��ي م��ج��ال النظم والم�ؤ�س�سات‬
‫�إ�سبانيا‪ ،‬المركز الإ�سالمي الثقافي في مدريد‬ ‫والحياة الخا�صة‪ ،‬وتوجد في اللغة الإ�سبانية‬
‫وال��ذي ي�ضم م�سجداً ومدر�سة تقوم بتعليم‬ ‫كلمات كثيرة ج��داً ترجع �إل��ى �أ�صول عربية‪،‬‬
‫العلوم الإ���س�لام��ي��ة واللغة العربية واللغة‬ ‫ومن بينها التعابير والم�صطلحات في �أ�سماء‬
‫الإ�سبانية وال��ق��ر�آن الكريم‪ ،‬ومعهد لتعليم‬ ‫الزهر والمحا�صيل و�أ�صحاب الحرف والأماكن‬
‫اللغات‪ ،‬والمعهد العربي للدرا�سات الأكاديمية‪،‬‬ ‫والمباني‪ ،‬كما �أن هناك الآالف من �أ�سماء‬
‫والمعهد الإ�سباني العربي للثقافة‪ ،‬والمدر�سة‬ ‫الأماكن الم�ستمدة من اللغة العربية‪ ،‬بما في‬
‫العربية في مدريد‪.‬‬ ‫ذلك المقاطعات والأقاليم وال�شوارع‪ ،‬كما �أنها‬
‫ت�شمل المعالم الجغرافية‪.‬‬
‫و�أظ��ه��رت درا�سة �أجريت ع��ام (‪2018‬م)‬
‫�أن عدد الم�سلمين في �إ�سبانيا قد و�صل �إلى‬
‫نحو مليوني م�سلم من مجموع ال�سكان البالغ‬
‫عددهم (‪ )47‬مليون ن�سمة‪ ،‬وتت�ألف �أغلبية‬
‫الم�سلمين هناك من المهاجرين والمنحدرين‬
‫م��ن ب�لاد ال��م��غ��رب الكبير‪ ،‬وبع�ض البلدان‬
‫الإفريقية‪ ،‬وقد �أدت موجات الهجرة التي حدثت‬
‫في ال�سنوات الأخيرة �إلى تزايد عدد الم�سلمين‬
‫في �إ�سبانيا‪ ،‬ويحتل �إقليم كتالونيا المرتبة‬
‫الأول��ى من حيث عدد الم�سلمين‪ ،‬ويليه �إقليم‬
‫�أندولو�سيا‪ ،‬ثم مدريد‪.‬‬
‫ويعاني المهاجرون في �إ�سبانيا ب�سبب اللغة‬
‫والدين‪� ،‬إذ لم تحظ اللغة العربية بما يكفي من‬
‫االهتمام‪ ،‬كما �أن الم�ساجد باتت المالذ الأول‬
‫والأخ��ي��ر لتلقين �أبناء المهاجرين �أبجديات‬
‫اللغة العربية والتربية الإ�سالمية‪ ،‬وف��ى ظل‬
‫�ضعف دور �سلطات الدولة تتحمل جمعيات‬
‫المجتمع المدني والم�ؤ�س�سات الدينية كالم�ساجد‬
‫والمراكز الثقافية الإ�سالمية عبء الم�س�ؤولية‪،‬‬
‫كما �أن الأ���س��ات��ذة يفتقرون �إل ��ى م��ؤه�لات‬
‫�أكاديمية‪ ،‬وغالب ًا ال يتقنون لغة بلد اال�ستقبال‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪12‬‬


‫منارة‬

‫مدريد الحديثة‬ ‫ومن مظاهر انت�شار التعريب في الأندل�س‬ ‫تطورت اللغة الإ�سبانية في الأ�صل من‬
‫في وقت مبكر �أي�ض ًا‪ ،‬تعريب النقود؛ حدث ذلك‬ ‫اللغة الق�شتالية عن �أ�صولها الرومانية �أو‬
‫في والي��ة ال�سمح بن مالك الخوالني‪ ،‬حيث‬ ‫الالتينية المحلية‪ ،‬وهي اللغة التي كانت �سائدة‬
‫كانت النقود قبل ذلك تظهر منقو�شة بحروف‬ ‫في الع�صور الو�سطى‪ ،‬وال �سيما في القواعد‬
‫التينية‪ ،‬وكانت �أولى القطع النقدية الإ�سالمية‬ ‫الكبرى مثل قرطبة وبلن�سية وجيان و�إ�شبيلية‪،‬‬
‫الم�ست�شرقان‬ ‫الم�سكوكة في �إ�سبانيا في ال�سنوات الأول��ى‬ ‫وقد كان من الطبيعي �أن يقع التفاعل اللغوي‬
‫�إنجلمان ودوزي‬ ‫للفتح مكتوبة بالالتينية �أو ًال ع��ام (‪93‬ه��ـ‬ ‫بين العربية‪ ،‬وهي لغة الأكثرية الم�سلمة‪ ،‬وبين‬
‫ي�ؤكدان �أن الكلمات‬ ‫‪711 -‬م)‪ ،‬ثم �أ�صبحت بلغتين ع��ام (‪98‬ه��ـ‬ ‫الرومات�شي‪ ،‬و�أن ينقل الم�سلمون بع�ض الألفاظ‬
‫العربية في اللغة‬ ‫‪716 -‬م)‪ ،‬و�أخ��ي��راً �أ�صبحت بالعربية عام‬ ‫الالتينية �إلى لغة التخاطب فيما بينهم‪ ،‬فقد‬
‫الإ�سبانية تعادل‬ ‫(‪102‬هـ ‪720 -‬م)‪.‬‬ ‫كانت اللغة الق�شتالية في حاجة �إلى اال�شتقاق‬
‫ويقدر ع��دد الم�ساجد في �إ�سبانيا بنحو‬ ‫من لغة �أ�صحاب هذه الح�ضارة‪ ،‬للتعبير عن‬
‫ربعها‬ ‫(‪ )300‬م�سجد (عام ‪2001‬م)‪ ،‬وهو ما ي�ؤكد‬ ‫كثير من الأ�شياء‪� ،‬سواء في النظم الإدارية‪� ،‬أو‬
‫مقولة �إن الدين الإ�سالمي ال يعود �إلى �إ�سبانيا‪،‬‬ ‫العلوم‪� ،‬أو ال�صناعة‪� ،‬أو الزراعة‪� ،‬أو العمارة‪� ،‬أو‬
‫والحقيقة هي �أن الإ�سالم لم يغادر �إ�سبانيا‪،‬‬ ‫غيرها ‪.‬‬
‫فبعد خروج الم�سلمون‬
‫م���ن �إ���س��ب��ان��ي��ا ع��ام‬
‫(‪1492‬م)‪ ،‬لم يعي�شوا‬
‫في �إ�سبانيا لعدة قرون‪،‬‬
‫يقال �إن الإ�سالم‬
‫ولكنهم عادوا في القرن‬
‫لم يغادر �إ�سبانيا‬ ‫التا�سع ع�شر‪ ،‬وو�صل‬
‫بوجود (‪ )٣٠٠‬م�سجد‬ ‫ع�����ش��رات الآالف من‬
‫ومليوني م�سلم‬ ‫المهاجرين من �إفريقيا‬
‫وج���ن���وب ال�����ص��ح��راء‬
‫وال�����دول ال��م��غ��ارب��ي��ة‪،‬‬
‫ومن دول �آ�سيوية مثل‬
‫باك�ستان وبنغالدي�ش‪.‬‬
‫�أنطونيو غاال‬ ‫ليفي برونف�سال‬

‫‪13‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫متى ُيعنى العرب‬


‫بوثائقهم التاريخية‬
‫د‪ .‬محمد �صابر عرب‬

‫مكان ًا مرتفع ًا بعيداً عن الرطوبة والتلوث‪،‬‬ ‫تعد ال��وث��ائ��ق الم�صدر الأول للكتابة‬
‫وو�ضعت لها الئحة فنية و�إداري���ة دقيقة‪،‬‬ ‫التاريخية‪ ،‬لذا قال الم�ؤرخون‪( :‬ال تاريخ من‬
‫جميعها تتناول طرق حفظ الوثائق وما يحفظ‬ ‫دون وثائق)‪ .‬ومنذ ع�صر النه�ضة الأوروبية‬
‫منها حفظ ًا دائم ًا وما يتم التخل�ص منه بعد‬ ‫الحديثة‪ ،‬كانت الوثائق مو�ضع عناية الدول‬
‫عدة �سنوات‪ ،‬والقواعد القانونية ال�صارمة‬ ‫الأوروبية‪ ،‬وو�صل االهتمام بها لدرجة �أنها‬
‫التي تحدد مهمة �شاغلي الوظائف ممن‬ ‫�أ�صبحت �أحد المكونات الأ�سا�سية لل�شخ�صية‬
‫يعملون بـ(الدفترخانة)‪ ،‬والتدرج في العقاب‬ ‫القومية‪ ،‬وفي �سياق العناية بالأدب والفكر‬
‫لمن يخطئون �أو يتعمدون �ضياع بع�ض‬ ‫والفن‪ ،‬كانت الوثائق �إحدى الق�ضايا المهمة‬
‫الوثائق‪ ،‬ت�صل العقوبة �أحيان ًا لدرجة النفي‬ ‫التي اعتمد عليها الم�ؤرخون الأوروبيون‪،‬‬
‫يزور �أو يتعمد �ضياع‬ ‫�إلى الواحات لكل من ِّ‬ ‫لي�س في مجال الكتابة التاريخية فقط‪ ،‬و�إنما‬
‫بع�ض الوثائق‪ ،‬ل��ذا حفظت م�صر وثائقها‬ ‫في كل فنون المعرفة‪ ،‬بما في ذلك الر�سم‬
‫ب�شكل دقيق‪ ،‬وخ�صو�ص ًا �سجالت المحاكم‬ ‫والنحت والفل�سفة‪ ،‬كل هذه المعارف ا�ستمدت‬
‫ال�شرعية التي يرجع ت��اري��خ بع�ضها �إل��ى‬ ‫�أفكارها من الوثائق‪.‬‬
‫ال تاريخ من دون‬ ‫الع�صر الفاطمي‪ ،‬وهي توثق لكل العمليات‬ ‫لم تلتفت �أقطارنا العربية لهذا الر�صيد‬
‫وثائق لأنها من‬ ‫و�شراء وزواج� � ًا‪� ..‬إل��ى �آخ��ره‪.‬‬
‫ً‬ ‫الحياتية بيع ًا‬ ‫ال�ضخم من الخبرة الإن�سانية �إال في فترة‬
‫المكونات الأ�سا�سية‬ ‫وهذه ال�سجالت تعد ذات �أهمية عالية لأنها‬ ‫مت�أخرة من التاريخ المعا�صر‪ ،‬لأ�سباب‬
‫لل�شخ�صية القومية‬ ‫توثق لكل �أن�شطة الحياة‪ ،‬وقد اعتمد عليها‬ ‫عديدة‪ ،‬في مقدمتها افتقاد التعليم والظروف‬
‫الباحثون وهم ي�ؤرخون لتاريخ االقت�صاد �أو‬ ‫العامة التي �أوقعت بالدنا العربية فري�سة‬
‫الق�ضاء �أو الحياة االجتماعية‪ ،‬بما في ذلك‬ ‫لالحتالل الأجنبي‪ ،‬وهو ما يف�سر االعتماد‬
‫ال�ضوابط الإدارية التي تنظم كل �ش�ؤون الحياة‬ ‫على الوثائق الأجنبية في كتابة تاريخ‬
‫خالل خم�سة عقود‪ ،‬وقد ُجمعت �سجالت هذه‬ ‫العرب الحديث والمعا�صر‪ ،‬ومنذ الن�صف‬
‫الوثائق من كافة المحاكم ال�شرعية في �أنحاء‬ ‫الثاني من القرن الع�شرين وحتى اليوم‪ ،‬ال‬
‫القطر الم�صري‪� ،‬إال �أن م�شكلة كبيرة قد حدثت‬ ‫نجد درا�سة تاريخية ج��ادة لم تعتمد على‬
‫بعد �إن�شاء دار الوثائق القومية (‪١٩٥٤‬م)‪،‬‬ ‫الوثائق الأجنبية في غيبة الوثائق العربية‪.‬‬
‫والإب��ق��اء على (الدفترخانة) تابعة ل��وزارة‬ ‫في بداية القرن التا�سع ع�شر (‪١٨٢٨‬م)؛‬
‫المالية حتى اليوم‪ ،‬وقد احتفظت بالكثير من‬ ‫ا�ستطاعت م�صر وبخبرة فرن�سية خال�صة �أن‬
‫الوثائق‪ ،‬بعد �أن نقلت مجموعات متكاملة �إلى‬ ‫ت�ؤ�س�س (الدفترخانة الم�صرية) وقد اختار لها‬
‫دار الوثائق القومية‪.‬‬ ‫الفرن�سيون مكان ًا مميزاً (القلعة) باعتبارها‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪14‬‬


‫�أ�سئلة‬

‫ما �أف�سدته ال�سيا�سة في حقبة تاريخية هي‬ ‫�أعتقد �أن كثيراً من �أقطارنا العربية قد‬
‫الأ�صعب في التاريخ العربي الحديث‪.‬‬ ‫�أدركت �أهمية الوثائق خالل حقبة مت�أخرة‬
‫�أعتقد �أن ق�ضية الوثائق يجب �أن تحظى‬ ‫م��ن ال��ق��رن الع�شرين‪ ،‬و�أن�����ش ��أت �أر�شيفات‬
‫بمزيد من الرعاية واالهتمام‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫بع�ضها على درج��ة عالية م��ن ال��دق��ة في‬
‫بعد �أن �أ�صبحت معظم الجامعات العربية‬ ‫فر�ص‬
‫ٍ‬ ‫محاولة ال�ستعا�ضة ما فاتها من‬
‫لديها �أق�سام متخ�ص�صة في علم الوثائق‪.‬‬ ‫حفاظ ًا على وثائقها وذاكرتها الوطنية‪،‬‬
‫ل��ذا؛ فمن الواجب �أن تتوا�صل الم�ؤ�س�سات‬ ‫وعملت بع�ض الدول العربية على اقتناء ن�سخ‬
‫التفتت �أقطار وطننا‬ ‫العربية المعنية ب��ال��وث��ائ��ق م��ع بع�ضها‬ ‫م�صورة ورقي ًا �أو �إلكتروني ًا من الأر�شيفات‬
‫العربي �أخيراً �إلى‬ ‫بع�ض ًا‪� ،‬سواء في الت�شريعات القانونية �أو‬ ‫الأجنبية‪ ،‬وخ�صو�ص ًا البريطانية والفرن�سية‬
‫خطورة االعتماد‬ ‫نظم الإدارة‪ ،‬واال�ستفادة من كل التجارب‬ ‫والأمريكية‪ ،‬وو�صل الحر�ص ببع�ض �أقطارنا‬
‫الجديدة التي تحقق الحفاظ على الوثائق‬ ‫العربية؛ كالجزائر‪� ،‬إل��ى المطالبة ب�أ�صول‬
‫على الوثائق‬ ‫والعمل على حمايتها وترميمها‪ .‬لذا ف�إن هذه‬ ‫الوثائق الجزائرية المحفوظة في الأر�شيف‬
‫الأجنبية في كتابة‬ ‫البوابة الإلكترونية يمكن �أن تحقق فائدة‬ ‫الفرن�سي‪ ،‬بحكم �أن فرن�سا كانت تدير هذا‬
‫تاريخنا‬ ‫عظمى في برامج التدريب والإتاحة وقواعد‬ ‫القطر العربي ال�شقيق‪ ،‬لما يقرب من مئة‬
‫الحفظ‪ ،‬لعلها يمكن �أن تكون بمثابة مدر�سة‬ ‫وع�شرين عام ًا‪ ،‬وه��و �أر�شيف �ضخم �سعت‬
‫متخ�ص�صة لكل علوم الأر�شيف‪.‬‬ ‫الدبلوما�سية ال��ج��زائ��ري��ة منذ ع��دة عقود‬
‫الم�شكلة الأك��ب��ر ه��ي �أن ك��ث��ي��راً من‬ ‫�إل��ى ا�ستعادته‪ ،‬وم��ات��زال الق�ضية مو�ضع‬
‫الم�ؤ�س�سات المعنية بالوثائق قد بالغت في‬ ‫مفاو�ضات بين البلدين‪.‬‬
‫القواعد والإجراءات لكي تحجب الوثائق عن‬ ‫لعل م��ن المنا�سب �أن تعمل الجامعة‬
‫الباحثين من خالل �إجراءات �أمنية ال يمكن‬ ‫العربية على �إعداد بوابة �إلكترونية �ضخمة‬
‫العمل بها في الحياة المعا�صرة‪� .‬صحيح‬ ‫تعر�ض فيها كل دول��ة الوثائق المنا�سب‬
‫�أدركنا �أهمية الوثائق‬ ‫�أن كل دول العالم قد و�ضعت قواعد لإتاحة‬ ‫عر�ضها لكي تكون ف��ي خدمة الباحثين‬
‫ف�أن�شئت �أر�شيفات‬ ‫االط�لاع على الوثائق ت��ت��راوح بين ع�شر‬ ‫والدار�سين‪ ،‬تزود بين وقت و�آخر بالوثائق‬
‫على درجة عالية من‬ ‫�إلى ع�شرين �أو حتى ثالثين عام ًا للوثائق‬ ‫المتاح عر�ضها‪ ،‬والتي انتهت مدتها القانونية‬
‫الدقة‬ ‫ذات الطبيعة الأمنية‪ ،‬بل �إن بع�ض الدول‬ ‫للحظر‪ ،‬كما هو معمول به في الأر�شيفات‬
‫الأوروب��ي��ة قد حجبت تمام ًا الوثائق ذات‬ ‫الأجنبية‪ .‬لي�س هذا فقط‪ ،‬و�إنما يمكن عر�ض‬
‫الطبيعة الخا�صة‪ ،‬ي�صل بع�ضها �إلى الحجب‬ ‫ن��وادر المخطوطات واللوحات الفنية وكل‬
‫النهائي‪ .‬ك��ل ه��ذا �صحيح‪ ،‬لكن الق�ضية‬ ‫المقتنيات ذات القيمة الفنية والعلمية‪ ،‬بعد‬
‫تحكمها �ضوابط علمية وفنية و�أمنية‪� ..‬أما‬ ‫�أن �أ�صبح الف�ضاء الإلكتروني و�سيلة عملية‬
‫في عالمنا العربي؛ فالوثائق يتم حجبها‬ ‫و�سهلة للتعريف بتراث هذه الأمة‪.‬‬
‫من دون �إبداء �أية �أ�سباب‪ ،‬كما هو الحال في‬ ‫كانت مكتبة الإ�سكندرية قد عملت على‬
‫م�صر مث ًال‪ ،‬فوثائق حرب ال�سوي�س (‪،)١٩٥٦‬‬ ‫تنفيذ هذه الفكرة في العقد الأول من هذا‬
‫وحرب (‪ ،)١٩٦٧‬و�صو ًال �إلى حرب (‪،)١٩٧٣‬‬ ‫القرن‪ ،‬و�أعدت موقع ًا تجريبي ًا لهذا الم�شروع‪،‬‬
‫جميعها غير م�سموح ب�إتاحتها‪ ،‬بينما‬ ‫عر�ضت م��ن خ�لال��ه ن��م��اذج م��ن الوثائق‬
‫تبنت مكتبة‬ ‫�أت��اح��ت �إ�سرائيل الكثير من وثائق حرب‬ ‫والمقتنيات العربية‪ ،‬وقد تبنت ال�شارقة دعم‬
‫الإ�سكندرية‬ ‫(‪.)١٩٧٣‬‬ ‫هذا الم�شروع حينما تف�ضل �صاحب ال�سمو‬
‫الحديث عن الوثائق وكل ما يتعلق بها‪،‬‬ ‫ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي‬
‫م�شروعها الح�ضاري‬ ‫يمثل ح�سا�سية خا�صة‪ ،‬وال �أجد مبرراً لذلك‪،‬‬ ‫حاكم ال�شارقة‪ ،‬بدعوة مجل�س �أمناء هذا‬
‫باالحتفاظ بتراث‬ ‫نع بعد �أهمية الوثائق في كتابة‬ ‫�إال �أننا لم ِ‬ ‫الم�شروع للتعريف بهذا العمل‪ ،‬وما عا�شه‬
‫وتاريخ �أمتنا العربية‬ ‫التاريخ‪ ،‬ومن غير الالئق �أن يذهب الباحثون‬ ‫الوطن العربي منذ عام (‪٢٠١١‬م)‪ ،‬قد عطل‬
‫العرب في البحث عن تاريخ �أوطانهم في‬ ‫هذا الم�شروع‪ ،‬بل ذهب �إلى عالم الن�سيان‪..‬‬
‫الأر�شيفات الأجنبية‪ ،‬بينما الوثائق العربية‬ ‫�أعتقد �أن ع��ودة ه��ذا الم�شروع الح�ضاري‬
‫ُتحفظ ُمتحفي ًا‪ ،‬وهو ما ي�ضاعف من �صعوبة‬ ‫الكبير يعد نقلة كبيرة في العالقات الثقافية‬
‫عمل الم�ؤرخ العربي‪.‬‬ ‫بين الأق��ط��ار العربية‪ ،‬لعل الثقافة ت�صلح‬

‫‪15‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫الم�ست�شرق توما�س �إربنيو�س‬
‫متيم ًا باللغة العربية‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪16‬‬


‫ح�ضارة‬

‫اهتم كثير م��ن علماء ال��غ��رب الم�ست�شرقين بدرا�سة علوم‬


‫ال��ع��رب منذ زم��ن مبكر وفطنوا �إل��ى مكانتها‪ ،‬ال �سيما وقت‬
‫ازده���ار الح�ضارة العربية‪ ،‬فنوهوا بقيمة اللغة العربية‬
‫ك��وع��اء ل��ل��ع��ل��وم والآداب وال��ف��ن��ون‪ ،‬ف��ت�����س��م��روا ع��ل��ى بابها‬
‫دار�سين؛ ليتقدم �إلينا (روب���رت جونز) مترجم ًا مجموعة‬
‫يعد م�ؤ�س�س النه�ضة‬ ‫نوال يتيم‬
‫محا�ضرات التينية قدمها الم�ست�شرق الهولندي (توما�س‬
‫اال�ست�شراقية و�أول‬
‫�إربنيو�س) لطالبه بجامعة ليدن‪ ،‬مقدم ًا مو�ضوع ًا ج��اد ًا عن اللغة العربية‪،‬‬
‫من �أ�شاد بقيمة اللغة‬
‫مبرز ًا قيمتها‪ ،‬داعم ًا درا�سته بحجج م�ؤيدة‪ ،‬وحاث ًا الطالب على �ضرورة تعلمها‪.‬‬
‫العربية‬
‫لما خرج حكمهم عن حدودهم ال�ضيقة‪� ،‬أخذت‬ ‫(ت��وم��ا���س �إرب��ن��ي��و���س) ه ��ذا الم�ست�شرق‬
‫في االنت�شار لتت�أ�س�س في الم�ستعمرات‪ ،‬كما‬ ‫يعد م�ؤ�س�س النه�ضة اال�ست�شراقية‬ ‫الهولندي‪ّ ،‬‬
‫�سماها �أماكن عديدة تبنت اللغة وجمالها‪.‬‬ ‫ومنظمها في بالده‪ .‬ولد في (جوركم) بهولندا‬
‫وقد بدا له �أن العرب كانوا �أكثر نجاح ًا‬ ‫وتعلم في (ليدن)‪ ،‬وح�صل من جامعتها عام‬
‫من االغريق والرومان �إذ لم يكن ع�سيراً عليهم‬ ‫(‪1608‬م) على درجة الماج�ستير في الآداب‪،‬‬
‫�أن يجعلوا لغتهم مت�صلة ب�سلطانهم �أينما‬ ‫حيث در�س اللغات ال�شرقية‪ ،‬و�أن�ش�أ في بيته‬
‫ح ّلوا‪ ،‬ولم تكن ال�شعوب قد تقبلت اللغة ب�أذرع‬ ‫مطبعة عربية �صارت �أ�سا�س المطبعة العربية‬
‫عرف �أجيا ً‬
‫ال من‬ ‫ّ‬ ‫مفتوحة فح�سب بل در�ستها درا�سة علمية دقيقة‬ ‫المعروفة اليوم في ليدن بمطبعة بريل‪.‬‬
‫الأوروبيين باللغة‬ ‫وجادة وطورتها‪ ،‬لذلك ف�إن الخبراء العارفين‬ ‫ويذكر ب�صفة خا�صة‪ ،‬ب�أنه �صاحب م�ؤلفه‬
‫العربية وم�ؤلفات‬ ‫ب�أهم اللغات‪ ،‬ال�سابقين منهم والالحقين ممن‬ ‫ف��ي النحو العربي‪� ،‬إذ ق��ام بتعريف �أجيال‬
‫الأعالم العرب‬ ‫لديهم معرفة جيدة باللغة العربية‪ ،‬قد �شهدوا‬ ‫من الأوروبيين‪ ،‬ب�أ�صول اللغة العربية‪ ،‬تدل‬
‫وي�شهدون �إل��ى اليوم ب�أنها لغة ال تنق�صها‬ ‫على ذلك من�شوراته ومرا�سالته والكثير من‬
‫الحالوة والطالوة والجمال والإتقان وال�شرف‪.‬‬ ‫المخطوطات المحفوظة في مكتبة جامعة‬
‫وقد �أ�شار �إلى �أن��ه‪ ،‬لي�س ثمة �سبب يجعل‬ ‫كمبردج‪ ،‬فكانت ق��درات��ه كم�ست�شرق فائقة‬
‫طالبه وم�ستمعيه يده�شون ويعجبون من �أن‬ ‫متقدمة‪ ،‬وق��د �أ���ش��ار المترجم روب��رت جونز‬
‫العرب الذين كانوا قبل زمن النبي عليه ال�صالة‬ ‫في كتابه �إلى عديد المحا�ضرات التي قدمها‬
‫وال�سالم �أميون‪ ،‬قد �أب��دوا‬ ‫توما�س‪ ،‬كخطابه االفتتاحي عن اللغة العربية‬
‫حما�سة عظيمة فيما بعد‬ ‫عام (‪1613‬م)‪ ،‬ومجموع محا�ضرات قدمها‬
‫نحو مختلف �أنواع الثقافة‬ ‫في الخام�س من نوفمبر عام (‪1620‬م) بعد‬
‫والعلوم‪ ،‬م�ؤكداً �أن الأجيال‬ ‫عودته من رحلته الثانية �إلى فرن�سا‪ ،‬في �إطار‬
‫الموالية قد حذت حذوهم‬ ‫محا�ضراته المنتظمة‪ ،‬معلن ًا ذلك في م�شاركته‬
‫فجعلوا �إم��ب��راط��وري��ت��ه��م‬ ‫بم�ؤتمر ميلكوم العالمي ال�ساد�س‪ ،‬المنعقد‬
‫تفوق في ع��دد جامعاتها‬ ‫بليدن بين الخام�س ع�شر والثامن ع�شر من‬
‫جميع الإمبراطوريات �إذ‬ ‫�أبريل (‪ )1984‬في الذكرى الأربعمئة‪ ،‬لمولد‬
‫ك��ان ف��ي ذل��ك ال��ج��زء من‬ ‫توما�س �إربنيو�س‪.‬‬
‫العالم وحده زهاء الثالثين‬ ‫وقد ا�ستهل (�إربينو�س) في محا�ضراته‪،‬‬
‫ج��ام��ع��ة ���ش��ه��ي��رة‪ ،‬حيث‬ ‫حديثه عن قيمة اللغة العربية بتعريف طالبه‬
‫كان �أهل بع�ض الأ�صقاع‬ ‫ببالد العرب و�سكانها‪ ،‬لتت�سنى لهم معرفة‬
‫المتاخمة لل�صين والهند‬ ‫اللغة بطريقة �أف�ضل‪ ،‬م�شيراً �إلى تق�سيم بالد‬
‫من ال يكاد يعرف الأبجدية‬ ‫ال��ع��رب �إل ��ى خم�س مقاطعات ه��ي‪ :‬تهامة‬
‫م�ست�شهداً ب��ك��ت��اب ليون‬ ‫ونجد والحجاز والعرو�ض واليمامة‪ ،‬حافظت‬
‫الإفريقي بما ال يدع مجا ًال‬ ‫جميعها على ا�ستقاللها‪ ،‬لينتقل �إلى الحديث‬
‫لل�شك‪ ،‬فترجموا عن الفر�س‬ ‫عن اللغة العربية‪ ،‬فذكر �أنها كانت مح�صورة‬
‫وال��ك��ل��دان��ي��ي��ن والإغ ��ري ��ق‬ ‫على العرب �أنف�سهم داخل حدود جزيرتهم‪ ،‬ثم‬
‫توما�س �إربنيو�س‬

‫‪17‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ح�ضارة‬

‫معدداً ميادين العلم العربي المتنوعة بقوله‬ ‫والالتين و�ألفوا في الحكمة والمعرفة‪ ،‬ما جعله‬
‫( فالذين يتهي�ؤون للعلم الديني المقد�س‪،‬‬ ‫يرى �أنه على الغرب �شكرهم الحتفاظهم بكثير‬
‫ف�إن لغتهم المقد�سة لن تكون كذلك ما‬ ‫من الم�صادر التي اندثرت �أ�صولها‪ ،‬ب�سبب‬
‫لم يتعلموا اللغة العربية‪� ،‬أما الذين‬ ‫�إهمال �أهلها �أو لعوائق الزمن في الحفاظ‬
‫يكر�سون حياتهم لعلم الطب فمن‬ ‫عليها‪ ،‬مثال ذل��ك م��ؤل��ف��ات (ل��ي��ف��ي)‪ ،‬وكتب‬
‫المفيد لهم جدا �أن يحذقوا اللغة‬ ‫(بابو�س الإ�سكندراني) ذات ال�صلة بدقائق‬
‫العربية اللغة المفردة التي يمكن‬ ‫الم�سائل الريا�ضية وحلولها‪ ،‬وم�ؤلفات (�أبو‬
‫�أن تقدم مجلدات في هذا العلم‬ ‫فنبه (توما�س) الغربيين �إلى‬ ‫قراط وجالينو�س)‪ّ ،‬‬
‫�أجود مما تقدمه اللغة الإغريقية‪،‬‬ ‫�إمكانية ا�ستعادة علوم الإغريق ال�ضائعة من‬
‫فبوا�سطة العربية يتمكنون من‬ ‫تراجمها باللغة العربية‪ ،‬كما �أ�شار �إلى م�ؤلفات‬
‫االط�لاع على �أكثر من ثالثمئة‬ ‫العرب �أنف�سهم خا�صة بين الأع���وام (‪650‬‬
‫نوع من العالج المفيد‪.)...‬‬ ‫و‪ )1250‬للميالد �أيام ازدهار �إمبراطوريتهم‬
‫كما وج��ه (�إرب��ن��ي��و���س) الذين‬ ‫ككتاب (ال��ح��اوي) ل��ل��رازي والمترجم �إل��ى‬
‫ي�ستهويهم علم التاريخ والجغرافيا‪،‬‬ ‫الالتينية في قرن �سابق‪ ،‬حيث في هذا الكتاب‬
‫لأن ينفقوا الوقت لمعرفة اللغة الوحيدة‬ ‫وحده يجد القارئ �أن الرازي‪ ،‬قد ذكر �أكثر من‬
‫التي �ألفت بها تلك العلوم المتقنة‪ ،‬والتي كتبها‬ ‫ثالثمئة من م�شاهير الأطباء المهرة ‪ ،‬كما هو‬
‫�إتيان هيوبرت‬
‫رجال فاقوا حد الثناء‪ ،‬من حيث الدقة وال�صدق‬ ‫الأمر لكتب الفقه والق�ضاء والت�شريع والعلوم‬
‫واتباع المنهج العلمي القويم‪ .‬ويق�صد بهم‬ ‫الطبيعية والفل�سفية‪ ،‬كما يده�ش طالبه‬
‫علماء العرب وم�ؤلفاتهم ب�أو�صافها الدقيقة‬ ‫بالحديث عن ال�شعر العربي بما فيه من جمال‬
‫للعالم‪.‬‬ ‫و�إبداع وعناية بالنظم وحالوة الإيقاع وت�آلف‬
‫وقد �أغرت فوائد اللغة العربية العلماء‪ ،‬كما‬ ‫النغم وات�ساقه‪ ،‬فت�أخذ اللغة العربية فيه القارئ‬
‫يذكر (�إربنيو�س)‪� ،‬سواء في القرون ال�سابقة‬ ‫ب�سحرها حتى و�صفه ليون الإفريقي بقوله‪:‬‬
‫�أو في ع�صره‪ ،‬ب ��أن ينالوا �شيئ ًا من معرفة‬ ‫(�إن ال�شعر العربي يدخل في النف�س من الطرب‬
‫�أن�صف اللغة العربية‬ ‫رفيعة المقام‪ ،‬فانطلق كثير منهم في رحالت‬ ‫وال�سرور ما ال ي�صدق‪ ،‬وال ي�ضارعه في ذلك‪،‬‬
‫ورفع من �ش�أنها‬ ‫�شاقة على �سبيل المثال ال الح�صر‪( :‬نيكوال�س‬ ‫�شعر من اللغات الأخرى �أو ي�ضاهيه)‪.‬‬
‫وعرف بقيمتها‬ ‫ّ‬ ‫كلينارت�س)‪ ،‬و(�إت��ي��ان هيوبرت)‪ ،‬و(ج��ي��رارد‬ ‫وقد �أ�شار توما�س �إلى �أن العرب لم ي�أخذوا‬
‫الح�ضارية‬ ‫الكريموني)‪ ،‬و(�أندريا �ألباغو) وغيرهم كثير‪،‬‬ ‫من ال�شعوب الأخ��رى علومها مجرد نقل‪ ،‬بل‬
‫وقد ظهر ذلك جلي ًا في كتاباتهم ال�سخية التي‬ ‫�أ�ضافوا و�أ�ضا�ؤوا وطوروا ما بلغهم من العلوم‪،‬‬
‫ن�شرت‪ ،‬والتي لم تن�شر بعد‪.‬‬ ‫و�أث��روا الكثير من م�ؤلفات القدماء بهوام�ش‬
‫وم��ن خ�لال م��ا �سبق نجد �أن �إربنيو�س‬ ‫وتعليقات و�أنتجوا الكثير من المواد الجديدة‬
‫�أن�صف اللغة العربية ورف��ع من �ش�أنها‪ ،‬بل‬ ‫التي عر�ضوها بمنهجية �صارمة دلت على �سعة‬
‫وو�صفها ب�أنها من �أ�سهل اللغات و�أنف�سها‪ ،‬ما‬ ‫علمهم‪ ،‬م�ؤكداً كل مرة بقدر ات�ساع علمه �أنه ما‬
‫يعني �أن الم�ست�شرقين اليزالون يعرفون قيمة‬ ‫من �شعب عرف عنه حفاظه على لغته وحر�صه‬
‫اللغة العربية كوعاء حوى‬ ‫عليها كما يفعل العرب‪.‬‬
‫�سعى �إلى ت�أكيد‬ ‫وعبر ع��ن معالم الح�ضارة‬ ‫وال��ح��ق��ي��ق��ة �أي�����ض � ًا �أن‬
‫�أن العرب ابتكروا‬ ‫العربية الإ�سالمية ومكوناتها‬ ‫(توما�س) برغم �شغفه باللغة‬
‫الإن�سانية والعلمية والفكرية‬ ‫ال��ع��رب��ي��ة‪ ،‬ف����إن الأ���س��ب��اب‬
‫و�أ�ضافوا و�أ�ضا�ؤوا‬ ‫والثقافية‪.‬‬ ‫التي جعلته كذلك تنطوي‬
‫وطوروا الكثير من‬ ‫ول��ه��ذا ن���رى �أن جميع‬ ‫ع��ل��ى �سبب ع��م��ي��ق ومهم‬
‫العلوم‬ ‫ال���ح���ادب���ي���ن ع ��ل ��ى ال��ل��غ��ة‬ ‫وخ��ط��ي��ر‪ ،‬م��دع��ات��ه تحذير‬
‫العربية‪ ،‬حالي ًا يحتاجون‬ ‫قومه الم�سيحيين وعلماء‬
‫�إل��ى الأن��م��وذج ال��ذي طرحه‬ ‫ال�لاه��وت من تف�شي اللغة‬
‫�إربنيو�س على طالبه‪ ،‬فيت� ّأ�سوا‬ ‫العربية دون فهمهم لها وما‬
‫بكد الغربيين ومثابرتهم‪ ،‬في‬ ‫تحمله من معتقدات دينية‬
‫طلب علم اللغة العربية‪.‬‬ ‫لذلك �أ�صبح لزام ًا تعلمها‪،‬‬
‫كتاب الحاوي في الطب لأبي بكر الرازي‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪18‬‬


‫أمكنة وشواهد‬
‫من معامل مدينة معلوال‬

‫¯ «دير القمر» لوحة ت�شكيلية ب�ألوان الطبيعة‬


‫¯ معلوال‪ ..‬حكاية �سورية م�ضيئة‬

‫‪19‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ت�شتهر بغزارة وعذوبة مياهها‬

‫«دير القمر»‬
‫لوحة ت�شكيلية ب�ألوان الطبيعة‬

‫تقع بلدة (دي��ر القمر)‪ ،‬ف��ي تلك البقعة المختلفة‬‫هناك ُ‬


‫من الأر���ض‪ ،‬التي اختلط فيها التاريخ بالجغرافيا‪ ،‬والما�ضي‬
‫ال�سحيق بالما�ضي القريب‪ ،‬بالحا�ضر‪ ،‬والآث���ارات القديمة‬
‫ب��الأم��اك��ن ال�سياحية الحديثة‪ ،‬حيث الطبيعة الخالّبة‬
‫يحيط بها نهر تاجة‬ ‫المغطّ اة بالغابات والأحراج‪ ،‬التي غا�صت بالأخ�ضر حتى �آخر‬
‫من ثالث جهات‬ ‫�سليمى حمدان‬
‫تدرجاته اللون ّية‪ ،‬وك�أننا في كرنفال جمالي فريد من نوعه‪.‬‬
‫م�سهم ًا بذلك في‬
‫ح�صانتها‬ ‫الرومان�سية الخال�صة‪ ،‬يتغنى بها الكثير من‬ ‫كيف ال‪ ،‬وه��ي البلدة الجبلية الرائعة‪،‬‬
‫ال�شعراء‪ ،‬ويزورها ال�شاعر الفرن�سي المارتين‪.‬‬ ‫وتودعها في‬
‫ّ‬ ‫ت�ستقبلها ال�شم�س في ال�صباح‪،‬‬
‫المعمر من غابة جبل‬
‫ّ‬ ‫م�ستقدم ًة عبير �شجر الأرز‬ ‫لتحتكر القمر في مجمل الم�ساءات‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الم�ساء‪،‬‬
‫الباروك‪ .‬ليروي لها (نبع ال�شالوط) المتفجر في‬ ‫ت�سهر ع��ل��ى ���ض��وئ��ه‪ ،‬فت�سبح ف��ي ب��ح��ر من‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪20‬‬


‫مدن‬

‫المرتفعة‪ ،‬وك�أنها معلقة بين الأر�ض وال�سماء‪.‬‬


‫تجتاز بلدة (كفرحيم) ومغارتها ال�شهيرة‪ ،‬لت�صل‬
‫�إلى (دير القمر)‪ ،‬بعد فترة ق�صيرة من الوقت‪.‬‬
‫ترتفع (دي��ر القمر) عن �سطح البحر نحو‬
‫(‪900‬م)‪ ،‬تغمرها الثلوج �أحيان ًا كثيرة في ف�صل‬
‫ال�شتاء‪ ،‬ك�أغلبية الم�صايف اللبنانية‪ ،‬لتبدو‬
‫عا�صمة المعنيين‬ ‫ببيوتها القرميدية الحمراء �أجمل لوحة ت�شكيلية‬
‫ر�سمتها الطبيعة ب�أناملها الر�شيقة‪ .‬تحيط بها‬
‫وال�شهابيين‬ ‫بلدة ْ(بعقلين) من جهة الجنوب‪ ،‬وبلدة (بيت‬
‫وم�سقط ر�أ�س الأمير‬ ‫الدين) من ال�شرق‪ ،‬وبلدة (كفر قطرة) من ال�شمال‪،‬‬
‫فخرالدين المعني‬ ‫وبلدة (كفر حيم) من الغرب‪.‬‬
‫تنظر �إليها بتمعن‪ ،‬متلفت ًا �إلى كل الجهات‪،‬‬
‫مد النظر)‪ ،‬بداية من‬ ‫فترى �أمامك (ج ّنات على ّ‬
‫(قبة) ال�شربين الأخ�ضر‪،‬‬ ‫�أعلى قمة فيها حيث ّ‬
‫والبيوت التراثية الكبيرة بقرميدها الأحمر‪،‬‬
‫وبواباتها الخ�شبية‪ ،‬ذات الطراز الخا�ص بها‪،‬‬
‫تتدرج جنوب ًا‪ ،‬حتى �ساحتها العامة المكتظة‬ ‫ّ‬
‫بتجمع كبير من الآث��ارات المتقاربة بع�ضها‬
‫ببع�ض حتى التال�صق في �ساحتها العامة‪،‬‬
‫وك�أنك في متحف كبير من مبانٍ عدة‪.‬‬
‫زارها ال�شاعر‬ ‫�إذا كانت لكل مدينة روح‪ ،‬ف�إن روح (دير‬
‫القمر)‪ ،‬هي (نبع ال�شالوط) الذي يعتبر ال�شريان‬
‫الفرن�سي المارتين‬
‫الأ�سا�سي للبلدة‪ ،‬دار وي��دور حوله كل �شيء‪،‬‬
‫وتغنى بها الكثير من‬ ‫الرحى‪ .‬فهو من جذب المعنيين لالنتقال‬ ‫كحجر ّ‬
‫ال�شعراء‬ ‫من (بعقلين)‪� ،‬إلى (دير القمر) لغزارة مياهه‬
‫وعذوبتها‪ ،‬وبالتالي بنى قربه المعنيون‪ ،‬ومن‬
‫ثم ال�شهابيون كل هذه الآثار الخالدة‪ ،‬و�إن على‬ ‫َّ‬
‫مراحل‪.‬‬
‫تتوقف �أم��ام ه��ذا النبع ال��ف� ّ�وار‪ ،‬بقناطره‬
‫التراثية‪ ،‬و(مزاريبه)‪ ،‬التي ت�صب من دون توقف‬
‫في حو�ضين حجريين‪ ،‬لتجري منهما بعيداً‬
‫تحت الأر���ض‪ .‬تتناول من مياهه قلي ًال بحفنة‬
‫ا�ستمد‬
‫ّ‬ ‫و�سطها‪ ،‬الحكايات الكثيرة‪ ،‬منذ عهد الفينيقيين يديك م�ستمع ًا �إلى �صوته القوي الذي‬
‫حتى مرحلة المعنيين‪ ،‬الذين انتقلوا �إليها‬
‫من بلدة بعقلين‪ ،‬لقلة المياه فيها‪ ،‬وجعلوها‬
‫عا�صمة لإمارتهم المترامية الأطراف‪ ،‬يديرون‬
‫�ش�ؤونها منها‪ ،‬لي�أتي بعدهم ال�شهابيون‪ .‬كما‬
‫ول��د فيها الأم��ي��ر فخرالدين المعني الثاني‬
‫والأمراء المعنيون وال�شهابيون كافة‪.‬‬
‫تقع بلدة دير القمر في منطقة (المنا�صف‪،‬‬
‫ال�شوف) الواقعة في ال�سفوح الغربية ل�سل�سلة‬
‫جبال لبنان الغربية من جهة الجنوب‪ .‬تبعد‬
‫عن بيروت نحو (‪ )35‬كم‪ ،‬تنطلق �إليها جنوب ًا‪،‬‬
‫لتعرج �شرق ًا نحو منطقة ملتقى النهرين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وت�ستمر �صعوداً بين الأودية العميقة‪ ،‬واله�ضاب‬

‫‪21‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫لينتهي ع�صر المعنيين‬ ‫ا�سمه منه (ال�شالوط)‪ ،‬كما جاء في كتاب الم�ؤرخ‬
‫ويبد�أ ع�صر ال�شهابيين‪ ،‬ومما‬ ‫جوزيف نعمة‪..‬‬
‫تركوه من �آث��ار‪� :‬سراي الأمير‬ ‫تترك (نبع ال�شالوط) وتتابع �سيرك �شرق ًا‪،‬‬
‫ملحم حيدر ال�شهابي‪ ،‬وفي‬ ‫�إلى (جامع الأمير فخر الدين المعني الأول)‪،‬‬
‫طابقها ال�سفلي قاعة �أطلقوا‬ ‫الذي بناه وحمل ا�سمه‪ ،‬بمئذنته المثمنة الزوايا‪،‬‬
‫عليها (ق��اع��ة ع��م��ود) لوجود‬ ‫والتي و�صفها ابن بلدة (دي��ر القمر) الم�ؤرخ‬
‫عمود �ضخم فيها‪� .‬سراي الأمير‬ ‫�أدوني�س جوزيف نعمة خالل لقائنا به‪ ،‬بـ(�أنها‬
‫�أحمد ال�شهابي‪� ،‬سراي الأمير‬ ‫�آية في الفن الهند�سي‪ُ ،‬يرقى �إليها ب�سلم حجري‬
‫محمود ال�شهابي‪� ،‬سراي الأمير‬ ‫ال يقل عن خم�سين درجة‪ُ ،‬نق�ش على واجهته‬
‫يو�سف ال�شهابي‪ ،‬دار بطر�س‬ ‫الغربية ا�سم بانيه‪ ،‬وتاريخ �إن�شائه‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬
‫كرامة التراثية‪ ،‬وهي الآن مقر‬ ‫عدد من الآيات القر�آنية الكريمة)‪.‬‬
‫المدر�سة الر�سمية‪ ،‬منزل تراثي‬ ‫و�أ�ضاف (الم�ؤرخ نعمة) ب�أنه ُنق�ش �أي�ض ًا‬
‫لآل عيا�ش‪ .‬كما �أن �أحد الآثار‬ ‫عمر‬ ‫على قاعدة مئذنته الجنوبية ما يلي‪ّ :‬‬
‫ت��ح��ول �إل ��ى المركز الثقافي‬ ‫ابتغاء لوجه اهلل العظيم‪،‬‬
‫ً‬ ‫هذا المكان المبارك‪،‬‬
‫الفرن�سي حالي ًا‪.‬‬ ‫ورجاء لثوابه الكريم‪ ،‬الراجي عفو ربه القدير‪،‬‬ ‫ً‬
‫تتميز �أغلبية ه��ذه الآث��ار‬ ‫المقر الفخري‪ ،‬الأمير فخر الدين عثمان بن‬
‫ب��ب��واب��ات��ه��ا ال��ك��ب��ي��رة ذات‬ ‫الحاج يون�س معن‪ ،‬غفر له وال��وال��دي��ه‪� ،‬سنة‬
‫(الرتاجات) الجميلة‪� .‬إ�ضافة �إلى (مقبرة القبة)‬ ‫ثمانمئة وت�سع وت�سعين (هجرية)‪1493( ،‬م)‪.‬‬
‫بين �أ�شجار ال�شربين التي بناها المعنيون لدفن‬ ‫وتابع‪ :‬ب��أن المبنى الكبير ال��ذي يليه هو‬
‫موتاهم‪( ،‬موقع المن�شية) الأثري غربي البلدة‪،‬‬ ‫(قي�سارية الحرير) والحياكة على النول التي‬
‫الأ���س��واق وال��ط��رق��ات المر�صوفة بالحجارة‪،‬‬ ‫ثم‬‫و�صل ا�سمها �إلى الأ�سواق الأوروبية‪ ،‬ومن َّ‬
‫تقطعها بين الحين والآخ��ر بوابات على �شكل‬ ‫بناية (الخراج) التي بلغت �سماكة جدرانها نحو‬
‫يعود تاريخها �إلى‬ ‫قناطر‪ ،‬وعدد من المدار�س و�أهمها مدر�سة الفرير‪.‬‬ ‫ثالثة �أذرع‪ ،‬بناها الأمير فخرالدين الثاني عام‬
‫الح�ضارة القمرية‬ ‫تترك كل هذا لتتجه �إلى كني�سة (�سيدة التلة)‪،‬‬ ‫(‪1616‬م) لو�ضع الب�ضائع والم�ؤن وتوزيعها‬
‫التي كانت �سائدة �أيام‬ ‫التي ي�صفونها بالعجائبية‪ ،‬لبنائها الأث��ري‬ ‫على الع�ساكر‪ ،‬و�سراي الأمير فخر الدين الثاني‬
‫الفينيقيين‬ ‫القديم بالفن القوطي‪ ،‬ذي القناطر العالية‪.‬‬ ‫فوق �سوق الميدان‪ ،‬والتي و�صفها (الم�ؤرخ نعمة)‬
‫وقال الم�ؤرخ �أدوني�س نعمة ب�أن هذا الأثر‬ ‫ب�أنها من �أقدم �سرايات لبنان و�سوريا‪ ،‬ببوابتها‬
‫التاريخي المهم‪ ،‬كان موجوداً في معبد (�إله‬ ‫البي�ضوية‪ ،‬المزخرفة بالحجارة المنحوتة‬
‫القمر)‪ ،‬منذ الح�ضارة القمرية‪ ،‬التي كانت‬ ‫ذات اللون الأحمر ال�ضارب �إلى ال�صفرة‪ ،‬وهي‬
‫�سائدة �أيام الفينيقيين‪ ،‬وهو نف�سه الإله (�سين)‬ ‫اليوم في حوزة �آل باز‪ .‬وق�صر الأمير فخرالدين‬
‫بالآرامية‪ ،‬الذي حملت ا�سمه بلدة بكا�سين �أي‬ ‫المعني الثاني‪ ،‬وهو الق�صر الذي ولد فيه وحمل‬
‫(بيت �سين)‪.‬‬ ‫ا�سمه �أي�ض ًا‪.‬‬

‫واجهة قلعة مو�سى بدير القمر في لبنان‬


‫تطور المجال الزراعي‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪22‬‬


‫مدن‬

‫منظر من جبال «دير القمر»‬

‫والمعنيين وال�شهابيين‪ ،‬و�أهمهم الأمير فخر‬ ‫�أما �إذا كان لدير القمر ا�سم قديم‪ ،‬فذكرت‬
‫الدين المعني الثاني‪ ،‬فكيف ال تكون بلدة الكثير‬ ‫�إحدى الروايات ب�أن الفينيقيين كانوا ي�أتون من‬
‫من المثقفين كالأدباء وال�شعراء والم�ؤرخين‬ ‫بلدة الدامور القريبة من �شاطئ البحر‪ ،‬لي�سهروا‬
‫والر�سامين وال�صحافيين وغيرهم‪ ،‬وهي بلدة‬ ‫في (دير القمر) ف�أطلقوا عليها ا�سم (بيت �سهرو)‪.‬‬
‫القمر التي �أقيم فيها �ألوف ال�سنين ومازال حتى‬ ‫وللفينيقيين في منطقة (بوار الدين) غربي‬
‫بلدة الكثير من‬ ‫اليوم؟‬ ‫(دي��ر القمر)‪ ،‬قبور عدة في ال�صخور‪ ،‬مازالت‬
‫المثقفين والأدباء‬ ‫يكفي (دير القمر) فخراً �أن منها ف�ؤاد �أفرام‬ ‫ماثلة للعيان حتى اليوم‪ .‬ويعود ا�سم (ب��وار‬
‫الب�ستاني �صاحب الكثير من الم�ؤلفات‪ ،‬و�أهمها‬ ‫الدين)‪� ،‬إلى (ديانا) �آلهة ال�صيد‪ ،‬وحبيبة الإله‬
‫والمبدعين ومنهم‬ ‫دائرة المعارف‪ ،‬والكاتب �أمين �أفرام الب�ستاني‪،‬‬ ‫(�سين �أو القمر)‪ ،‬كما � ّأن بلدة (بيت الدين) القريبة‬
‫�أفرام الب�ستاني‬ ‫الذي قال عنه ال�شيخ محمد عبده‪� ،‬إمام الأزهر‪،‬‬ ‫منها تعني بيت (ديانا)‪.‬‬
‫وكرم ملحم‬ ‫�أنه (�أقدر الك ّتاب �إذا كتب)‪ ،‬وخليل با�شا ثابت‬ ‫�إذا كانت (دي��ر القمر) بلدة الفينيقيين‬
‫(المقطم)‪ ،‬ورئي�س نقابة‬
‫ّ‬ ‫رئي�س تحرير جريدة‬
‫المحررين كرم ملحم كرم‪ ،‬والر�سام �أ�سعد رنو‪،‬‬
‫والفنان مو�سى المعماري الذي ا�ستقطب ق�صره‬
‫�شرقي (دير القمر) ال�سياح بالألوف من لبنان‬
‫وخارجه لكنوزه الفنية الرائعة‪ ،‬وغيرهم الكثير‪.‬‬
‫ولع ّل حبة العقد في (دي��ر القمر) الم�ؤرخ‬
‫الفينيقيون �أطلقوا‬ ‫والأدي ��ب وال�شاعر جوزيف نعمة‪ ،‬ال��ذي ترك‬
‫عليها �أ�سم «بيت‬ ‫مخطوطة مهمة عن (دير القمر) ومخطوطات‬ ‫كرم ملحم كرم‬ ‫ف�ؤاد �أفرام الب�ستاني‬
‫كثيرة غيرها تنوعت بين ال�شعر والأدب وال�سيرة‪..‬‬
‫�سهرو» وي�ؤمها الكثير‬
‫�إلخ‪ ،‬حققها و�أ�صدرها ب�أغلبيتها بعد وفاته ابنه‬
‫من الأدباء والفنانين‬ ‫الم�ؤرخ �أدوني�س نعمة‪ ،‬يتقن من اللغات؛ العربية‬
‫والفرن�سية والإنجليزية والإ�سبانية وال�سريانية‪،‬‬
‫حتى لقبوه (م�ؤ�س�سة في رجل)‪ .‬ومما قاله �شعراً‬
‫بـِ(دير القمر) متمني ًا �أال يدفن �إال في �أر�ضها‪:‬‬
‫�أن يجعلوا في بلدتي (ال��دي��ر) وف��ي غاب‬ ‫�أدوني�س جوزف نعمة‬ ‫المارتين‬
‫ال�صنوبر تربتي وقبوري‪.‬‬

‫‪23‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫حافظت عبر التاريخ على مالمحها و�أ�سرارها ولغتها الآرامية‬

‫معلوال‪ ..‬حكاية �سورية م�ضيئة‬


‫لعلّها المكان الأغرب والحكاية الأجمل‪� ،‬إنها التكوين‬
‫ال�لاف��ت ب��ت��ف ّ��رده م��ك��ان�� ًا ورم����زاً‪ ،‬رافقتها الكثير من‬
‫الأ�ساطير والحكايات‪ ،‬فهي تجمع �أماكن مقد�سة و�أماكن‬
‫تاريخية‪ ،‬وتعتبر �أق��دم مدينة م�سيحية في �سوريا‪،‬‬
‫و�إلى وقتنا الحالي يتحدث �أهلها اللغة الآرامية‪ ،‬لغة‬
‫عمر �شريقي‬
‫ال�سيد الم�سيح عليه ال�سالم‪ ،‬وت�ضم معالم قديمة‪،‬‬
‫تعود �إل��ى القرن العا�شر قبل الميالد‪ ،‬كما �أك��دت الدرا�سات الكثيرة‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪24‬‬


‫�أمكنة‬

‫مدينة معلوﻻ‪ ،‬وهي �إحدى مدن محافظة‬


‫م�سورة بالجبل من جهات ثالث‪،‬‬ ‫ريف دم�شق‪ّ ،‬‬
‫في حالة فريدة من نوعها كموقع جغرافي‪.‬‬
‫حملت الأ�سرار الكثيرة والمالمح الخا�صة التي‬
‫ميزتها على م�ستوى العالم‪� ..‬أ�سرار طبيعتها‬ ‫ّ‬
‫المكانية والجبلية‪ ،‬وطريقة بناء البيوت التي‬
‫ﻻ مثيل لها‪ ،‬والتي خلقت للمدينة الطابع‬
‫العمراني المتميز والمتفرد‪.‬‬
‫�أم��ا بيوت معلوال‪ ،‬فحيطانها مبنية من‬
‫الحجارة الكل�سية المحلية‪ ،‬ومطلية بمادة‬
‫تدعى بالآرامية حورثا‪ ،‬و�أ�سقفها من خ�شب‬
‫الحور والدردار وغيرهما‪ ،‬وفوقها مادة عازلة‬
‫م�ؤلفة من ع��دة طبقات‪ ،‬وه��و ما جعل منها‬
‫ونقطة ا�ستقطاب للزائرين وال�سياح من كل‬ ‫تحفة مبهرة ال توجد في �أي مكان �آخ��ر في‬
‫�أنحاء العالم‪ ،‬وال �سيما �إلى الدير في �أعلى قمة‬ ‫العالم‪ ،‬جمعت بين الما�ضي والحا�ضر �أجمل‬
‫معالمها تعود �إلى‬ ‫الجبل‪.‬‬ ‫العبر و�أجمل العجائب‪ ،‬فهي موغلة القدم �إلى‬
‫القرن العا�شر قبل‬ ‫كما يوجد �ضمن الفج �ساقية ماء يتبرك‬ ‫حد �أن الإن�سان الأول �سكن كهوفها‪ ،‬ووجدت‬
‫بها ال��ن��ا���س‪ ،‬فهناك الكثير م��ن المقامات‬ ‫ر�سومه على جدرانها‪ ،‬كما مرت عليها جميع‬
‫الميالد‬
‫والمعالم والتواريخ جعلت للمدينة موقعها‬ ‫الح�ضارات‪ ،‬ب��دءاً من الآرامية �إلى اليونانية‬
‫المهم في العالم‪ .‬لعبت خ�صو�صية المدينة‬ ‫فالرومانية والبيزنطية‪ ...‬تعتبر معلوﻻ مركزاً‬
‫دوراً كبيراً في تفردها و�شهرتها‪ ،‬وجعلها‬ ‫�سياحي ًا ت�ستقطب النا�س من مختلف �أنحاء‬
‫مركزية لها طابع ي�شار �إليه بالبنان‪ ،‬فهي‬ ‫العالم‪ ،‬فهي تحتوي على �أديرة م�سيحية‪ ..‬دير‬
‫�آخر القالع‬ ‫خ�صو�صية في اتجاهات ع��دي��ده‪ ..‬جغرافي ًا‬ ‫مار تقال‪� ،‬إحدى تلميذات بول�س‪ ،‬وهي الأميرة‬
‫المتبقية في‬ ‫�أثري ًا تاربخي ًا ديني ًا �سياحي ًا‪ ،‬وحتى ثقافي ًا‪،‬‬ ‫الهاربة‪ ،‬حيث الفج المعروف‪ ،‬وهو النفق الذي‬
‫وذلك بحكم انفتاحها على العالم �أجمع بوحود‬ ‫�شطر الجبل ن�صفين لإنقاذها ممن �أرادوا بها‬
‫العالم للغة‬ ‫كل هذه المعطيات التي �أهلتها لذلك‪� ،‬إنها‬ ‫�شراً في الما�ضي‪،‬‬
‫ّ‬
‫الآرامية لغة‬ ‫مدينة درة مده�شة‪� ،‬إن �صح القول‪ ،‬توافرت لها‬ ‫وهي الم�ؤمنة الهاربة ب�إيمانها‪ ،‬فكانت‬
‫ال�سيد الم�سيح‬ ‫عوامل الفرادة على مر الزمن‪.‬‬ ‫القدرة الإلهية �أقوى من الجميع‪ ،‬وهو �إحدى‬
‫وعن بع�ض خ�صائ�صها وميزاتها‪ ،‬تحدث‬ ‫العجائب الوا�ضحة للعيان في مدينة معلوﻻ‪،‬‬
‫(ريمون وهبي)‪ ،‬ماج�ستير لغات �سامية‪ ،‬وهو‬
‫�صاحب م�شروع تعليم اللغة الآرام��ي��ة لغة‬
‫مدينة معلوﻻ‪ ،‬قائ ًال‪( :‬معلوال تلك البلدة‬
‫العابقة بالتاريخ والنافذة التي‬
‫ت��ك�����ش��ف ل��ن��ا ك��ي��ف ع��ا���ش‬

‫‪25‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�أمكنة‬

‫�أفتيخيو�س‪� ،‬شارك في المجمع الم�سكوني الأول‬ ‫الإن�سان على مر الع�صور‪ .‬لقد ا�ستوطن الإن�سان‬
‫�سنة (‪٣٢٥‬م)‪ ،‬الذي تم فيه االتفاق على قانون‬ ‫معلوال منذ الع�صر الحجري م�ستفيداً من‬
‫الإيمان الم�سيحي‪.‬‬ ‫طبيعتها ال�صخرية وغناها بالكهوف الطبيعية‬
‫ومنذ ذلك الحين و�إلى اليوم‪ ،‬كانت معلوال‬ ‫والينابيع العذبة‪ .‬معلوال تعني باللغة الآرامية‬
‫للن�ساك وبني فيها �أك��ث��ر م��ن (‪)٤٠‬‬ ‫م��رك��زاً ّ‬ ‫فجيها (�شقيها الجبليين)‬ ‫«المدخل» �إ�شارة �إلى ّ‬
‫مقام ًا وكني�سة ودي���راً‪ ،‬ه��ذا ما قاله حامل‬ ‫ال�شهيرين‪ .‬ومعلوال هي �آخر القالع المتبقية‬
‫لواء الآرامية المحكية في معلوال بال منازع‪.‬‬ ‫في العالم للغة الآرامية لغة ال�سيد الم�سيح‪.‬‬
‫الراحل جورج حنا رزق اهلل‪ ،‬بعد �أن بذل الكثير‬ ‫ت�شتهر بمناظرها الطبيعية الخالبة‪ ،‬وهوائها‬
‫من الجهود لجمع �شتات هذه اللغة العريقة‬ ‫الجاف والبارد‪ ،‬ما جعلها من �أ�شهر الم�صايف‬
‫الخالدة‪ ،‬بحث ًا وتحلي ًال‪ ،‬توثيق ًا وتدري�س ًا‪�( :‬إني‬ ‫في �سوريا‪ .‬كما �أن غناها بالمواقع الأثرية‪،‬‬
‫جورج حنا رزق اهلل‬ ‫�أتوجه الى المخت�صين بعلوم اللغة والتاريخ‪،‬‬ ‫�سواء ما قبل التاريخ �أو التاريخية‪ ،‬بما فيها‬
‫�أن يعملوا معنا‪ ،‬ف�إنه لي�س لنا في حالتنا‬ ‫من عدد كبير من الأديرة والكنائ�س القديمة‪،‬‬
‫هذه من معين �سواهم‪ ،‬بعد اهلل تعالى‪ ،‬يقدموا‬ ‫والتي ترقى �إلى القرن الرابع الميالدي وتعتبر‬
‫الن�صح والم�شورة‪ .‬ولأبناء معلوال �أقول‪ :‬تعالوا‬ ‫الأقدم في العالم‪ ،‬كل ذلك جعلها وجه ًة لل�سياح‬
‫تجمع بين الما�ضي‬ ‫نركب ال�صعب‪ ،‬ونعمل مع ًا لدرا�سة خ�صائ�ص‬ ‫من كل انحاء العالم‪ ،‬حيث يتوافد �إليها مئات‬
‫هذه اللهجة وما يميزها عن �سواها‪ ،‬ونخطط‬ ‫الآالف كل ع��ام)‪ .‬تقع معلوال على بعد نحو‬
‫والحا�ضر وهي مركز‬ ‫لتعليمها وتعلمها‪ ،‬ون�سهر على ديمومتها‬ ‫(‪ )٥٥‬كم �شمال �شرقي دم�شق‪ ،‬وعلى ارتفاع‬
‫�سياحي ي�ستقطب‬ ‫وتوثيقها‪ ،‬ال ت�ستهينوا بقيمة هذه اللغة‪ ،‬ف�ض ًال‬ ‫�أكثر من (‪١٥٠٠‬م)‪ .‬يتميز �أهل معلوال بحبهم‬
‫النا�س من �شتى �أنحاء‬ ‫عن �أننا ندعم معرفتكم باللغة العربية وتعززها‬ ‫للزوار وترحيبهم الحار بهم‪ ،‬ويميلون �إلى‬
‫العالم‬ ‫وحتى ال نترك للم�ستنزفين �أن ينهلوا منها ثم‬ ‫الب�ساطة والحياة الهادئة‪ ،‬ويمتهن معظمهم‬
‫يردوها �إلينا على مزاجهم ويكتبوا تاريخ ًا كما‬ ‫الزراعة‪ ،‬وقديم ًا كانوا ي�شتهرون بالكثير من‬
‫يحلو لهم ويتهمونا بالعداء لل�سامية‪.‬‬ ‫ال�صناعات المحلية‪ ،‬وبخا�صة �صناعة الفخار‬
‫و�إنتاج الحرير الطبيعي من دودة القز‪ ،‬والع�سل‬
‫من النحل‪ ،‬والدب�س والزبيب من الكرمة‪ ،‬وتعتبر‬
‫حتى الآن من �أجود الأنواع عالمي ًا‪.‬‬
‫كانت معلوال في الفترة الآرام��ي��ة مركز ًا‬
‫لعبادة (ح��دد)‪ ،‬كما �أن فيها نقو�ش ًا وتماثيل‬
‫لإله ال�شم�س‪ ،‬تعود �إلى الفترة الهيلينية‪ .‬وفي‬
‫الن�صف الثاني من القرن الأول الميالدي‪،‬‬
‫و�صل التب�شير الم�سيحي �إلى معلوال على يد‬
‫القدي�س توما‪� ،‬أح��د تالميذ ال�سيد الم�سيح‪،‬‬
‫فكانت بذلك من �أوائ��ل البلدان التي تعتنق‬
‫مهم ًا‬
‫الم�سيحية‪ .‬وكانت معلوال مركزاً �أ�سقفي ًا ّ‬
‫للمنطقة‪ ،‬حيث يخبرنا التاريخ �أن �أ�سقفها‬
‫�إطاللة لمدينة معلوال‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪26‬‬


‫إبداعات‬
‫و�سط مدينة معلوال‬
‫�شعر ‪ -‬ق�صة ‪ -‬ترجمة‬

‫¯ �أدبيات‬
‫¯ قا�ص وناقد‬
‫¯ ق�ص�ص ق�صيرة جد ًا ‪ -‬ق�صة ق�صيرة‬
‫¯ يمين ًا‪ ...‬على الهام�ش ‪ -‬ق�صة ق�صيرة‬
‫¯ «المر�أة حاملة الأحزان» ‪ -‬ق�صة مترجمة‬

‫‪27‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫جمال ّيات ال ّلغة‬
‫المعروف ِة‪،‬‬
‫�صورة ِم ْن ُ�صو ِر الت�شبي ِه َ‬
‫ٍ‬ ‫�شب ُه ب ِه في‬
‫و�ضع في ِه ا ْل ُم َ�ش َّب ُه وا ْل ُم َّ‬
‫مني‪ :‬ت�شبي ٌه ال ُي ُ‬
‫ال�ض ُّ‬
‫الت�شبي ُه ِّ‬
‫الطيب‪:‬‬
‫وم ْن ُه َق ْو ُل �أبي ّ‬ ‫يب‪ِ ،‬‬ ‫التر ِك ِ‬
‫َب ْل ُي ْل َمحانِ في ْ‬
‫����ب ال��� َّرغ���ا ُم‬ ‫ول���ك���ن َم���� ْع ِ‬
‫����د ُن ال����ذَّ َه ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ��م‬
‫�����ش ف��ي��ه ْ‬ ‫وم����ا �أن����ا ِم��� ْن��� ُه ُ‬
‫���م ب��ال�� َع�� ْي ِ‬
‫و�ش ّب َه َن ْف�س ُه بال ّذ َهب‪.‬‬ ‫و�شب َه ب ِه َم ْن َي ُ‬
‫عي�ش َب ْي َن ُهم‪َ ،‬‬ ‫راب؛ ّ‬
‫الرغام‪ :‬ال ّت ُ‬ ‫َّ‬
‫ومي‪:‬‬
‫الر ّ‬
‫و َق ْو ُل ابنِ ّ‬
‫�إعداد‪ :‬فواز ال�شعار‬

‫���م‬
‫����ن �أل���ي ُ‬
‫َ����ز ُع���� ُه َّ‬
‫�������س���ه���ام ون ْ‬ ‫َوقْ ُ‬
‫�������ع ال ِّ‬ ‫�ضت‬ ‫َو ْي�ل�ا ُه � ْإن نَ��ظَ ��رتْ و� ْإن ِه َ‬
‫��ي � ْأع َر ْ‬
‫�شب َه‪�ِ -‬ض ْمني ًا‪َ -‬ع ْي َن ْيها ّ‬
‫بال�سهام‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وقول ابنِ ا ْل ُمعت ِّز‪:‬‬
‫ُ‬
‫�����رك ق����ا ِت����ل ْ‬
‫ُ����ه‬ ‫ِد ف�������������إ َِّن َ‬
‫������ص����� ْب َ‬ ‫�������س���و‬
‫���ح ُ‬ ‫����ب����ر ع���ل���ى كَ����� ْي ِ‬
‫�����د ال َ‬ ‫ا�����ص ْ‬ ‫ْ‬
‫ُ����ه‬ ‫َ��������م َت������جِ ْ‬
‫������د م�����ا ت�����أكُ ����ل ْ‬ ‫� ْإن ل ْ‬ ‫ف������ال������ ّن������ا ُر ت���������أكُ ��������لُ َب��� ْع َ‬
‫�������ض���ه���ا‬
‫وك ْي ُد ُه‪�َ ،‬شبيهانِ بال ّنار‪.‬‬
‫�سود َ‬
‫فالح ُ‬
‫َ‬
‫وادي عبقر‬
‫ال ّل ْي ُل ومِ ْثلي‬
‫تدارك �أو ا ْل ُمحدث)‬
‫(بحر ا ْل ُم َ‬
‫ر�شيد � ّأيوب ُ‬

‫�������د ُه‬ ‫��������ص ُ‬ ‫������م و ِم�����ثْ�����ل�����ي َي ْ‬


‫�������ر ُ‬ ‫وال������ن������ج ُ‬
‫ْ‬ ‫�����د ُه‬
‫ي�����������س����� َه ُ‬
‫ْ‬ ‫ال�������لّ������� ْي�������لُ و ِم������ثْ������ل������ي‬
‫ت�����������������ر ّد ُد ُه‬
‫َ‬ ‫ال��������������������د ْو ِح‬
‫َّ‬ ‫ق��������������������اء‬
‫ُ‬ ‫َو ْر‬ ‫تَ����� ْف�����ن�����ى الأ ّي��������������������ا ُم ول���������ي نَ����������� ْو ٌح‬
‫�����������ش�����اي و َم������������������� ْو ِر ُد ُه‬
‫َ‬ ‫����������ر َع����������ا ُه َح‬
‫َم ْ‬ ‫�����ج�����ب����� ًا �أ�������ش������ت������اقُ �إِل������������ى َر������ش������أ‬ ‫َع َ‬
‫�����������د ُه‬
‫ُ‬ ‫�����������ر َق‬
‫ْ‬ ‫و َي���������ظ���������لُّ ف������������������ؤادي َم‬ ‫َ������ه‬
‫�������ن ل ُ‬
‫َ�������ح ُّ‬ ‫وتَ��������ظَ ��������لُّ ال�����ن����� ْف������ ُ�����س ت ِ‬
‫�������س������ ِم������ ْع������تُ������م م�������ا �أتَ��������كَ�������� ّب ُ‬
‫��������د ُه‬ ‫�أَ َ‬ ‫ُ�����م‬
‫ال�����ع�����������ش�����قِ ب�����ر ّب�����ك ُ‬
‫ْ‬ ‫ي�������ا � ْأه���������������لَ‬
‫����������د ُه‬ ‫َ‬
‫َ��������ذل��������ك � ْأع���������� َه ُ‬ ‫�����������ع ك‬
‫وال�����������د ْم ُ‬
‫َّ‬ ‫���������وى فَ���و����ش���ى‬‫ً‬ ‫ال�������د ْم������� َع َه‬
‫َّ‬ ‫�����ت‬
‫َ�����م ُ‬ ‫ك�����ات ْ‬
‫ّ�����د ُه‬
‫ْ������ب ت�����ج�����ل ُ‬ ‫َ�������خ�������ان ال������قَ������ل َ‬
‫َ‬ ‫ِّب ف‬ ‫ْ�����ب ُح����م���� ّي����ا ال���ح���ب‬ ‫����ت ال�����قَ�����ل َ‬ ‫و�����س����قَ���� ْي ُ‬ ‫َ‬
‫������د ُه‬ ‫َ‬
‫ْ����������ل���������اك ت������نَ������ ُّه ُ‬ ‫�������������س الأف‬
‫لَ������ َم َ‬ ‫����ى‬ ‫����ر فَ����ت ً‬
‫ال���������س���� ْت َ‬
‫ِّ‬ ‫َح�������تّ�������ا َم ُي������واخ������ي‬
‫������������د ُد ُه‬
‫ّ‬ ‫ك��������������ا َد ال������������ع������������ ّوا َد تَ������������ َع‬ ‫َ�����د‬ ‫َ‬
‫ه�����������واك فَ�����ق ْ‬ ‫ِرفْ�������ق������� ًا ب ُ‬
‫ِ����م����ع���� ّن����ى‬
‫ُ�����������س����� ِع ُ‬
‫�����د ُه‬ ‫فَ������لَ������ َع������لَّ بِ����� َع�����ط����� ِف�����ك ت ْ‬ ‫��������������ول َي ع����ل����ى َد ِن ٍ‬
‫���������ف‬ ‫ْ‬ ‫��������ف َم‬
‫��������ط ْ‬ ‫واع ِ‬ ‫ْ‬
‫�����������د ُه‬
‫ُ‬ ‫�������د ُه غَ‬ ‫ِ‬
‫���������������ش�������اه ُ‬ ‫َه������ ْي������ه������ات ُي‬ ‫ه�����������واك ب ِ‬
‫ِ���������ه َرم�����ق����� ًا‬ ‫َ‬ ‫َ���������م ُي������� ْب�������قِ‬
‫ل ْ‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪28‬‬


‫�أدبيات‬

‫ق�صائد مغنّاة‬
‫(�سنرجع يوم ًا)‬
‫لحنها الأَ َخوان ّ‬
‫الرحباني‪ ،‬وغ ّنتها فيروز عام (‪ )1956‬من مقام (العجم)‬ ‫�شعر هارون ها�شم ر�شيد‪ّ ،‬‬

‫ِ‬
‫داف���ئ���ات ال ُ��م��ن��ى‬ ‫ْ����رقُ ف��ي‬‫ونَ����غ َ‬ ‫ج��ع َي��� ْوم��� ًا �إل����ى َح�� ِّي��ن��ا‬ ‫َ��ر ُ‬ ‫َ���س��ن ْ‬
‫�����س��اف��اتُ م��ا َب ْينَنا‬ ‫وت��ن���أى ال�� َم َ‬ ‫َّم��ان‬
‫َ��رج ُ��ع َم�� ْه��م��ا َي ُ��م ُّ��ر ال��ز ُ‬ ‫َ���س��ن ْ‬
‫ع��ل��ى َد ْر ِب َع��� ْو َد ِت���ن���ا ُم َ‬
‫��وه��ن��ا‬ ‫َ��رتَ��م��ي‬ ‫�ل�ا َوال ت ْ‬ ‫���ب َم��� ْه ً‬‫فَ��ي��ا َق��� ْل ُ‬
‫���ن ُهنا‬ ‫َ���ح ُ‬‫ف�����وف ال��طُّ ��ي��و ِر َون ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُر‬ ‫���ز َع�� َل�� ْي��ن��ا غ����د ًا � ْأن تَ��ع��و َد‬ ‫َي��� ُع ُّ‬
‫َ�����ص��ح��و َع��ل��ى َع�� ْه��دن��ا‬ ‫تَ���ن���ا ُم وت ْ‬ ‫�ل�ال‬ ‫���د ال���تِّ�ل�الِ ِت ٌ‬ ‫��ك ِع��� ْن َ‬‫ُه��ن��ا ِل َ‬
‫��ي ال ِغنا‬ ‫����دوء ان�� ِت��ظ��ا ٍر � َ��ش��جِ ُّ‬
‫ُ‬ ‫ُه‬ ‫���ب‪� ،‬أ ّي��ا ُم�� ُه��م‬ ‫ال���ح ُّ‬
‫����م ُ‬ ‫ون���ا� ٌ���س ُه ُ‬
‫َع��ل��ى كُ ���لِّ م���اءٍ َو َه����ى فا ْن َحنى‬ ‫ُرب���و ٌع َم��دى ال�� َع�� ْي��نِ َ�ص ْف�صافُها‬
‫َع��ب��ي َ��ر ال��� ُه���دوءِ َو َ‬
‫���ص�� ْف�� َو ال َهنا‬ ‫���ب ال��ظُ ��ه��ي��رات ف���ي ِظ��ل ِ‬
‫ّ��ه‬ ‫تَ��� ُع ُّ‬
‫غَ ����دا َة ا ْل��تَ��قَ�� ْي��ن��ا على ُم ْن َحنى‬ ‫َ���س��نَ��رج��ع خ�� َّب َ��رن��ي ال�� َع�� ْن َ��دل��ي ُ��ب‬
‫ُ‬
‫َ��ع��ي�����ش ب��� ْأ���ش��ع��ارِن��ا‬ ‫َ‬
‫ه���ن���اك ت‬ ‫ب�������� َّأن ال���� َب��ل�اب����لَ ل��� ّم���ا تَ������زَ لْ‬
‫���ان َل��ن��ا‬
‫ْ��ح��ن��ي��نِ ‪َ ،‬م���ك ٌ‬ ‫ون���ا� ِ���س ال َ‬ ‫��ن ِت�ل�ال ا ْل َ��ح��ن��ي��نِ‬ ‫وم�����ازالَ َب�� ْي َ‬
‫تَ����ع����الَ ‪����َ ،‬س���ن ْ‬
‫َ���رجِ ���ع‪ ،‬ه�� ّي��ا بِ��ن��ا‬ ‫���اح‬
‫َ���م ���ش�� َّر َدتْ��ن��ا ِري ٌ‬ ‫ْ��ب ك ْ‬ ‫فيا َق��ل ُ‬

‫فقه لغة‬
‫والحظ‪ِ :‬لما َير َت ِف ُع به‬
‫ّ‬ ‫والم ْكرو ِه؛‬
‫بوب َ‬‫الم ْح ِ‬ ‫�صيب‪ :‬في َ‬ ‫والح ّظ؛ ال ّن ُ‬ ‫�صيب َ‬
‫ُفروق لغوية‪َ :‬ب ْي َن ال ّن ِ‬
‫حظوظ‬
‫ٌ‬ ‫فالن َم‬
‫فيقال‪ٌ :‬‬ ‫الم ْدح‪ُ .‬‬ ‫ذكر على جِ ه ِة َ‬ ‫ظوظ‪ ِ ،‬ألَ ّن � ْأ�ص َل ا ْل َح ّظ َ‬
‫من ا ْل َخ ْير‪ ،‬و ِلهذا ُي ُ‬ ‫ا َل َم ْح ُ‬
‫الح ّق‪،‬‬
‫والب ْخ ُل‪َ :‬م ْن ُع َ‬
‫الخ ْير‪ُ .‬‬‫�ص على َم ْن ِع َ‬ ‫الب ْخ ُل مع ِح ْر ٍ‬ ‫والب ْخلِ ؛ ُّ‬
‫ال�ش ُّح‪ُ :‬‬ ‫ال�ش ِّح ُ‬ ‫حظ‪َ .‬ب ْي َن ُّ‬
‫ول ُه ٌّ‬
‫الع ْي�ش؛ قال الراعي‪:‬‬ ‫من َ‬
‫قير‪ :‬الذي له ُب ْل َغ ٌة َ‬ ‫و�ضد ال َك َر ِم َ‪.‬ب ْي َن ال َفقي ِر ِ‬
‫والم ْ�سكينِ ؛ ال َف ُ‬ ‫ُّ‬
‫َوفْ����قَ ال��ع��ي��الِ فلم ُي��� ْت َ‬
‫���ر ْك ل��ه َ�س َب ُد‬ ‫�أ َّم����ا ال��ف��ق��ي ُ��ر ال���ذي ك��ان��ت َح��ل��و َب��ت ُُ��ه‬
‫من ا�س ِم الفاعل‬
‫�صير‪ :‬على وزن « َفعيل»‪ْ ،‬‬ ‫والو ِل ّي؛ ال ّن ُ‬
‫أ�شد حا ًال ِم َن الفقير‪َ .‬ب ْي َن ال ّن�صير َ‬ ‫ِ‬
‫والم ْ�سكينِ ‪ُّ � :‬‬
‫لي‪ِ :‬م َن الوِالي ِة‪ ،‬وفيها‬ ‫والو ّ‬
‫يكن يعرفه‪َ .‬‬ ‫وي ِ‬
‫�ساع ُده‪ ،‬ح ّتى َلو َل ْم ْ‬ ‫«نا�صر»‪ ،‬وهو الذي َي ْن ُ�ص ُر َغ ْي َره ُ‬ ‫ِ‬
‫أ�ساء‪:‬‬
‫الظاهر ُة‪ .‬والب� ُ‬ ‫الم َ�ض ّر ُة ّ‬
‫ال�ض ّر ُاء‪َ :‬‬
‫والب�أ�ساء؛ َّ‬‫ال�ض ّراء َ‬‫الرعاي ِة وا ْل ِحماي ِة‪َ .‬ب ْي َن َّ‬ ‫َم ْعنى ّ‬
‫فيقال‪ :‬ال َب� َأ�س َع َل ْي َك‪� ،‬أي ال‬ ‫وف؛ ُ‬ ‫وم َعها َخ ْو ٌف؛ لأ ّنها ِم َن َ‬
‫الب� ِأ�س‪ ،‬وهو ا ْل َخ ُ‬ ‫ال�ض ّر ُاء َ‬‫َّ‬
‫والمب َت ِئ ُ�س‪ :‬الكار ُِه‬ ‫ا�سم ل ْل َح ْرب وا ْل َم َ�ش ّق ِة واالبتئا�س‪ُ :‬‬
‫الح ْز ُن‪ُ .‬‬ ‫َخ ْو َف َع َل ْي َك‪ .‬وهي ٌ‬
‫بن ثابت‪:‬‬ ‫ان ُ‬ ‫قال َح ّ�س ُ‬
‫الحزين‪َ ،‬‬
‫منه و�أق ُعد كريم ًا ِ‬
‫ناع َم البالِ‬ ‫ُ‬
‫ما َي ْق ِ�س ِم اهلل �أقْ َبلْ غَ ْي َر ُم ْب َت ِئ ٍ�س‬

‫‪29‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫��ل�ا َو�أَخ�������������ا ُه ِح ْ‬
‫�������ص���ن��� ًا‬ ‫فَ������غ������ا َد َر َم���� ْع���� ِق ً‬ ‫واح ُة ِّ‬
‫ال�ش ْعر‬ ‫َ‬
‫��ه��ا���ض‬
‫ِ‬ ‫َ��ي�����س بِ�����ذي ِان�� ِت‬
‫����ه ل َ‬ ‫��ف��ي��ر ال���� َو ْج ِ‬
‫َ‬ ‫َع‬ ‫بنت بَدر‬ ‫ا ْلخِ ُ‬
‫رنق ُ‬
‫يوم ُقالب‪:‬‬ ‫وقالت َت ْبكيه َ‬ ‫ْ‬ ‫الب ْكر ِّي ُة‬
‫بنت َبدر بنِ ه ّفان بنِ مالك‪َ ،‬‬ ‫رنق ُ‬ ‫ا ْل ِخ ُ‬
‫�أَع�������ا ِذلَ�������ت�������ي َع�����ل�����ى ُرزءٍ �أَف����ي����ق����ي‬ ‫الع ْبد ِم ْن � ّأمه‪.‬‬
‫الع ْدنانية‪ْ � .‬أخ ُت ال�شاع ِر َط َر َف َة بنِ َ‬ ‫َ‬
‫����ش���رق��� ِت���ن���ي بِ�����ال����� َع�����ذْ لِ ري��ق��ي‬ ‫َ‬ ‫َ�����د �أَ‬
‫فَ�����ق ْ‬ ‫بن َع ْمرٍو بنِ َم ْرثد ِم ْن َبني �أَ َ�س ٍد‪ ،‬وقتل ُه‬ ‫تزوجها ب ِْ�ش ُر ُ‬ ‫ّ‬
‫ِ�������ش���رٍ‬
‫�����د ب ْ‬‫����م����ت �آ�����س����ى َب����� ْع َ‬
‫ُ‬ ‫ق���������س‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فجاء �أك َث ُر �ش ْعرها في رِثائه‪ ،‬ورِثاء‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫يوم قالب‪،‬‬ ‫َق ْو ُم ُه َ‬
‫����������ي َي������م������وتُ َوال َ‬
‫�����ص����دي����قِ‬ ‫َع����ل����ى َح ًّ‬ ‫�أخيها َط َر َفة‪.‬‬
‫ُتو ّفيت نحو عام (‪َ )50‬ق ْب َل الهجرة‪ ،‬نحو (‪َ )570‬و َب����� ْع َ‬
‫�����د ال���خَ ���ي���ر َع���ل���قَ��� َم���ةَ ب�����نِ بِ���� ْ���ش���رٍ‬
‫���ح���ل���وقِ‬
‫���ف���و����س �إِل�������ى ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫�إِذا نَ��������زَ ِت ال��� ُّن‬ ‫ِل ْلميالد‪.‬‬
‫����ض��� َب���ي��� َع���ةَ َح�������� ْولَ بِ�����ش��رٍ‬
‫�����د َب���ن���ي ُ‬
‫َو َب����� ْع َ‬ ‫ِم ْن ِ�ش ْعرها‪َ ،‬ت ْف َخ ُر بِزوجِ ها ب ِْ�شرٍ‪ ،‬و َق ْو ِم ِه‪:‬‬
‫ال���ح���ري���قِ‬
‫�������ن َ‬‫ال������ج������ذو ُع ِم َ‬
‫ُ‬ ‫كَ����م����ا م�������الَ‬ ‫لَ����قَ����د َع��� ِل��� َم���ت َج����دي����لَ����ةُ �أَ َّن ب ْ‬
‫ِ�������ش���ر ًا‬
‫������م بِ������وا ِل������ َب������ةَ ال��� َم���ن���اي���ا‬
‫ُم�����نَ�����ت لَ������ ُه ُ‬ ‫����������ر ال���ت���ق���ا����ض���ي‬
‫��������ح ُم ُّ‬ ‫غَ ������������دا َة ُم َ‬
‫��������ر َّب ٍ‬
‫����ل���اب ِل����ل َ‬
‫����ح���� ْي����نِ ال��� َم�������س���وقِ‬ ‫َ‬ ‫����ب ُق‬
‫ِ����ج����ن ِ‬
‫ب َ‬ ‫�������م ِب����ال����خَ ���� ْي����لِ � ُ���ش��� ْع���ث��� ًا‬
‫ت�������اه ُ‬
‫ُ‬ ‫غَ ���������دا َة �أَ‬
‫������ن �أَو�������ص������الِ ِخ�����رقٍ‬ ‫ُ��ل��اب ِم ْ‬
‫فَ����كَ����م بِ�����ق َ‬ ‫�������ض���ا����ض‬
‫ِ‬ ‫��������د ا ِل���ق‬
‫�����������د ُّق نُ���������س����و َره����ا َح ُّ‬
‫ُ‬ ‫َي‬
‫�����م�����ج����� َم ٍ‬
‫�����ة فَ���ل���ي���قِ‬ ‫ُ‬ ‫�أَخ���������ي ِث������ق ٍ‬
‫َ������ة َو ُج‬ ‫������د تَ����غ���� ِل���� ِب ٍّ‬
‫����ي‬ ‫�������ص������ َي َ‬ ‫����������ل �أَ ْ‬
‫ُّ‬ ‫َع����لَ����ي����ه����ا كُ‬
‫وقالت َترثي �أخاها َط َرفة‪:‬‬ ‫م���ا����ض‬
‫ِ‬ ‫������د ْي������نِ‬
‫ال������ح َّ‬
‫َ‬ ‫�������ر َك ِ‬
‫ّ�������ب‬ ‫َ�����ري�����م ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ك‬
‫ح��ج ً‬
‫��ة‬ ‫���ن َّ‬ ‫َ����ه خَ ��م�����س�� ًا َو ِع�������ش���ري َ‬
‫����د ْدن����ا ل ُ‬
‫َع َ‬ ‫ٌ‬
‫�����ف�����ات‬ ‫�����ر َه‬ ‫ِب������أَي�����دي�����هِ�����م َ‬
‫���������ص��������وار ُِم ُم ْ‬
‫فَ��لَ�� ّم��ا تَ��� َوفّ���اه���ا ا���س��تَ��وى َ����س��� َّي���د ًا َ���ض��خْ ��م��ا‬ ‫�������ص���ةُ ال��� َب���ي ِ‬
‫���ا����ض‬ ‫����ن خ���ا ِل َ‬ ‫َج��ل�اه����ا ال����قَ���� ْي ُ‬
‫�����ه‬ ‫ُف���جِ ���ع���ن���ا ب ِ‬
‫ِ������ه لَ���� ّم����ا ِان���تَ���ظَ ���رن���ا �إِي�����ا َب ُ‬ ‫َ��������دنٍ‬
‫َ������ف ل ْ‬ ‫������ف ب������ ِال������ك َّ‬‫�������������ل ُم������ثَ������ َّق ٍ‬
‫ُّ‬ ‫َوكُ‬
‫َع��ل��ى خَ ��� ْي���ر ح����الٍ ال َول����ي����د ًا َوال َق ْ‬
‫��ح��م��ا‬ ‫���ا����ض‬
‫���م���غ ِ‬ ‫ال����ح����لَ����قِ ال ُ‬ ‫������ن َ‬ ‫َ����ة ِم َ‬‫َو�����س����ابِ����غ ٍ‬
‫وقالت‪:‬‬
‫ال������ح���ل��اّلُ ف����ي ال����قَ����فَ����رات‬
‫ُ‬ ‫َ�أال ذ ََه َ‬
‫��������ب‬
‫���ح ِ‬
‫���رات‬ ‫���ج َ‬ ‫ِ‬
‫��ف��ن��ات ف���ي ال َ‬ ‫ال��ج‬
‫�ل��أ َ‬ ‫������ن َي���م ُ‬
‫َو َم ْ‬
‫�����ص����م كُ ��ع��و ُب ُ‬
‫��ه‬ ‫َّ‬ ‫م����ح ا َلأ‬
‫ال����ر َ‬
‫����ع ُّ‬
‫َو َم�����ن ُي����رجِ ُ‬
‫َ���ال�������ش��� ِق ِ‬
‫���رات‬ ‫َّ‬ ‫م���������اء ال�����قَ�����و ِم ك‬
‫ُ‬ ‫���ل���ي���ه ِد‬
‫ِ‬ ‫َع‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪30‬‬


‫�أدبيات‬

‫ويرد عليه �شيئ ًا ِم ْن �إعراب‬


‫وقال له‪ :‬وا ِ‬
‫هلل‬ ‫َ‬
‫وي ْن ِ�س ُبه �إلى ال ّل ْحن‪ُّ ،‬‬
‫�ضاق ب ِه ال َف َر ْز َد ُق َذ ْرع ًا‪،‬‬ ‫َ‬
‫عيبه َ‬
‫ِ�ش ْعره‪ ،‬ح ّتى‬
‫وي ُ‬ ‫َ‬ ‫ينابي ُع ال ُّل َغ ِة‬
‫�شاهداً على �أ ْل ِ�س َن ِة ال ّن ْحويين �أبداً‪.‬‬ ‫يكون ِ‬ ‫ُ‬ ‫ل ْأه ُج َو ّن َك ب َِب ْي ٍت‬ ‫ال ّزياديّ ا ْل َح ْ�ض َر ّ‬
‫مي‬
‫فقال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الحارث‬ ‫بن زي ٍد «�أبي �إ�سحاق» بنِ‬ ‫عبداهلل ُ‬ ‫�أبو َب ْحرٍ‪ُ ،‬‬
‫ُ���ه‬
‫���ج��� ْوت ُ‬
‫ل����ى َه َ‬
‫هلل َم���� ْو ً‬‫�����دا ِ‬ ‫ك�����ان َع����� ْب ُ‬
‫َ‬ ‫مي» �أي�ض ًا‪ ،‬لأ ّنه فَ����لَ���� ْو‬ ‫ويقال له «ا ْل َح ْ�ض َر ّ‬ ‫ُ‬ ‫ري؛‬ ‫الب ْ�ص ّ‬ ‫الزيادي َ‬
‫ّ‬
‫��������دا ِ‬
‫هلل َم������ ْول������ى َم���وال���ي���ا‬ ‫������ن َع�������� ْب َ‬ ‫ولَ������ ِك َّ‬ ‫الح�ضرمي‪ُ ،‬حلفاء بني َع ْبد �شم�س بن‬ ‫ِ‬ ‫كان َم ْولى �آل‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫«م ْولى َمواليا»‬ ‫الب ْ�صر ِة‪ ،‬عام (‪ 29‬للهجر ِة ‪ 649 /‬فقال له‪ :‬و َل َق ْد َل َح ْن َت �أي�ض ًا في َقولك‪َ :‬‬ ‫لد في َ‬ ‫عبد مناف‪ُ .‬و َ‬
‫«م ْولى َموالٍ »‪.‬‬ ‫وكان ينبغي � ْأن تقول‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫للميالد)‪.‬‬
‫اتفق َم ْن‬‫َ‬ ‫وكان يميل �إلى القيا�س في ال ّن ْحو‪ ،‬وقد‬ ‫َ‬ ‫والقراءات ال ُقر�آنية؛‬‫ِ‬ ‫العربي ِة‬ ‫الم�شهورين في َ‬ ‫َ‬ ‫أحد الأ ِئ ّمة‬ ‫� ُ‬
‫يا�س‪،‬‬‫وم َّد ال ِق َ‬ ‫عج ال ّن ْح َو‪َ ،‬‬ ‫عبداهلل � ْأع ُلم �أهلِ ال ْأر�ض ترجموا له على �أنه «� ّأو ُل َم ْن َب َ‬ ‫قال‪ُ :‬‬ ‫«وكان ُي ُ‬ ‫َ‬ ‫دادي‬
‫الب ْغ ُّ‬ ‫قال َ‬ ‫َ‬
‫�شق ال ّن ْح َو‬
‫يريدون بذلك �أ ّنه �أول َم ْن ّ‬ ‫َ‬ ‫و�ش َرح ال ِعلل»؛‬ ‫�صاحب َ‬ ‫ُ‬ ‫ابن ر�شيقٍ‬ ‫بالب ْ�ص َر ِة و� ْأع َق ُلهم»‪ .‬وو�صف ُه ُ‬ ‫َ‬
‫وبي َن‬‫كامها‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫أ�صول قيا�س العربية و� ْأح َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وو ّ�س َع � َ‬ ‫وفر َع ُه‪َ ،‬‬ ‫هور»‪ .‬وهو‬ ‫«العمدة» بقوله‪« :‬عا ِل ٌم‬
‫ّ‬ ‫قد ٌم َم ْ�ش ٌ‬ ‫ناقد ُم َت ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫�شديد ال ّتجريد للقيا�س»‪،‬‬ ‫«كان‬ ‫ِ‬
‫دم � ْأخذاً في َم ْن ع َل َل ال ّن ْحوِ‪ .‬وقالوا �أي�ض ًا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الرابع ِة ِم َن ال ُّنحا ِة‪ ،‬لأ ّن ُه �أ ْق ُ‬ ‫الطب َق ِة ّ‬ ‫في َ‬
‫تهاد فيه‪.‬‬
‫االج َ‬ ‫َي ْعني ْ‬ ‫الطب َق ِة‪ ،‬و�أ ْق َد ُمهم َموت ًا‪.‬‬ ‫�شارك ُه في َ‬
‫ثمان بنِ َم ْو َهب‪ .‬كما روى وخير ما يمثل اتجاهه جوابه حين �س�أله يو ُن�س‪« :‬هل‬ ‫وع َ‬ ‫مالك‪ُ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عن �أ َن ِ�س بنِ‬ ‫روى ْ‬
‫بن‬‫نع ْم؛ َع ْمرو ُ‬ ‫ال�سويق؟) قال‪َ :‬‬ ‫(ال�صوِيق يعني َّ‬ ‫أحد َّ‬ ‫يقول � ٌ‬ ‫ُ‬ ‫عن �أبي ِه ْ‬
‫مون الأ ْقرن‪،‬‬ ‫لي‪ .‬وقر�أ على َم ْي َ‬ ‫عن َج ّد ِه َع ْن َع ّ‬ ‫ْ‬
‫من ال ّنحو‬ ‫بباب َ‬ ‫عليك ٍ‬ ‫بن العالء على تميم َتقولها‪ ،‬وما ُتريد �إلى هذا؟ َ‬ ‫وي ْحيى بِن َي ْعمر‪ ،‬وقر�أ هو و�أبو َع ْمرو ُ‬ ‫َ‬
‫يطرد وينقا�س»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫طلب ال ِع ْلم‪.‬‬ ‫َن ْ�ص ِر بنِ عا�صم؛ وكانا ر َفي َق ْين في ِ‬
‫�شام بنِ عب ِدالملك‪،‬‬ ‫كبار ال ُّنحا ِة ِم ْن �أمثالِ يو ُن َ�س بنِ ُتو ّفي الزيادي بالب�صر ِة في ِخالفة ِه ِ‬ ‫ُ‬ ‫و�أخذ عن ُه ال ّن ْح َو‪،‬‬
‫َحبيب‪ ،‬و�أبي َع ْمرٍو بنِ العالء َن ْف ِ�س ِه‪ ،‬وعي�سى بنِ ُع َمر �سنة (‪117‬للهجرة‪ 735 /‬للميالد)‪ ،‬وهو في الثامن ِة‬
‫زي ٍد والثمانين‪.‬‬ ‫يعقوب بنِ ْ‬
‫َ‬ ‫وحفي ِد ِه‬ ‫الخطاب ال ْأخ َف ِ�ش‪َ ،‬‬ ‫ال ّثقفي‪ ،‬و�أبي ّ‬
‫�ضرمي‪،‬‬ ‫إ�سحاق ا ْل َح‬‫َ‬ ‫بن �‬‫عقوب ُ‬ ‫وم ْن ُذ ّريته َي ُ‬ ‫ا ْل َح ْ�ضرمي‪ِ .‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫�أقر�أُ ال ُق ّرا ِء في َع�صره‪.‬‬
‫م�ساجالت في‬
‫ٌ‬ ‫وكان َب ْي َن ابنِ �سيرين‪ ،‬وال ّزيادي‬
‫قتاهما في‬ ‫وكانت َح ْل ُ‬ ‫ْ‬ ‫ال ّن ْح ِو وال ّلغ ِة وال ِفق ِه‪،‬‬
‫�سيرين‬
‫َ‬ ‫ا ْل َم ْ�سجِ ِد ُمتجاورتين‪ ،‬وكان ُ‬
‫ابن‬
‫�ض ال ّنحويين‪.‬‬ ‫َيب ُغ ُ‬
‫أخبار مع ال َف َر ْز َدقِ ‪� ،‬أي�ض ًا‪ ،‬فقد‬ ‫وله � ٌ‬
‫يادي يتك ّل ُم كثيراً في ِ�ش ْعرِه‪،‬‬ ‫كان ال ّز ّ‬ ‫َ‬

‫‪31‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ق�صة‬
‫امر�أة غير عادية‬
‫جهد غير عادي‪ ،‬حتى �أ�ستطيع لفت انتباه‬ ‫‪ ..‬كلمة غريبة لي�س لها �أي طعم وال‬
‫ن�صفي الآخ��ر‪ ،‬حتى ي�أتي وينت�شلني من‬ ‫معنى‪ ،‬ماذا تعنى كلمة (عادية)؟ هل هي‬
‫هذه الوحدة الموح�شة‪ ،‬كانت محاوالتي‬ ‫تعني �أنني جميلة �أم ال؟ كانت �إجابتها‬
‫تنجح �أحيان ًا في ا�صطياد انتباه �أحدهم‪..‬‬ ‫غير مر�ضية بالن�سبة �إلي‪ ،‬ولكنني �أدركت‬
‫ولكنني كنت �أكت�شف �سريع ًا �أنه لي�س هو‬ ‫معناها فيما بعد‪ْ � ..‬أن تكون �شخ�ص ًا عادي ًا‬ ‫ريم خيري �شلبي‬
‫ن�صفي الآخر‪ ،‬ظللت �أحاول و�أف�شل‪ ..‬و�أحاول‬ ‫ه��ذا يعنى �أن��ك ت�شبه النمط المعتاد‪� ..‬أو‬
‫و�أف�شل‪ ،‬حتى انتبهت فج�أة �أن الزمن قد‬ ‫ب�صيغة �أدق الأكثر انت�شاراً في هذا المكان‬ ‫لم �أتعلم من الحياة الكثير من الأ�شياء‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مقربة‬ ‫ت�سرب من بين يدي‪� ،‬أ�صبحت على‬ ‫وه��ذا التوقيت‪ ،‬ما يعنى �أن��ك ال تمتلك ما‬ ‫لقد كنت من�شغلة طول الوقت بتحقيق ما‬
‫ٍ‬
‫ببعيدة من �أعتاب ال�شيخوخة‪ ،‬بينما‬ ‫لي�ست‬ ‫يميزك عن غيرك‪ ،‬لذلك تبدو كزهرة بي�ضاء‬ ‫فطرت عليه بغريزتي‪� ،‬أنا من النوع الذي‬
‫ن�صفي الآخر مازال �شاب ًا و�سيم ًا ينتظرني‬ ‫اللون منقو�شة على رداء �أبي�ض ال يمكن �أن‬ ‫ال يحتمل الحياة منفرداً بال رفيق‪� ،‬أبحث‬
‫عند الطرف الآخر من العالم‪ ،‬لذلك قررت‬ ‫يلحظ وجودك �سوى �شخ�ص �شديد التركيز‪،‬‬ ‫دائم ًا عن ن�صفي الآخ��ر‪� ،‬أ�شعر بالنق�صان‬
‫اال�ست�سالم والتوقف عن البحث والعمل‪،‬‬ ‫روحية‪ ..‬كونك زهرة هذا ال‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بب�صيرة‬ ‫يتمتع‬ ‫مهما اكتملت‪ ،‬هناك �شيء مهم �أفتقده ٍ‬
‫ب�شدة‪،‬‬
‫قررت � ْأن �أحيا ما تبقى لي في هذا العالم‬ ‫يعني �أنك جميل �أو مميز �إذا كنت موجوداً‬ ‫�شيء �أ�شعر ب�أنني قد ع�شته بالفعل‪� ،‬أكاد‬
‫كما هو مقدر لي منذ البداية‪ ،‬امر�أة عادية‪..‬‬ ‫في حديقة مليئة بالزهور‪� ،‬أم��ا �إذا كنت‬ ‫�أ�شم رائحة �أنفا�سه على و�سادتي‪� ،‬أبكي لي ًال‬
‫تعي�ش حياة عادية‪ ..‬و�سوف تموت موت ًا‬ ‫زهرة �سوداء اللون مث ًال و�سط زهور ملونة‪،‬‬ ‫من �شدة ال�شوق �إليه‪ ،‬يا �إلهي كم هو م�ؤلم‬
‫عادي ًا‪ ..‬ولكن تنتظرها على الطرف الآخر‬ ‫�سوف تكون �أنت الأكثر تميزاً حتى لو كانت‬ ‫ذلك ال�شعور‪ ،‬ال�شعور باالفتقاد‪ ،‬كطفل فقد‬
‫من العالم حياة غير عادية‪ ..‬بما �أنني �سوف‬ ‫ٍ‬
‫ومفرحة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫زاهية‬ ‫بقية الأزهار تتمتع ب�ألوانٍ‬ ‫�أمه في مكانٍ مزدحم‪ ،‬انبح �صوته من كثرة‬
‫عالم غير عادي‪� ،‬إذاً‬‫�أكون امر�أة عادية في ٍ‬ ‫هذا ال يعني �أي�ض ًا �أنني �أنعت نف�سي‬ ‫البكاء والمناداة‪ ،‬تحجرت حنجرته دون‬
‫�أن��ا ام��ر�أة مميزة كزهرة �سوداء‬ ‫بالزهرة‪ ،‬ولكنه مجرد ت�شبيه‪ ،‬ولأنني‬ ‫تعجب وينظر‬ ‫ٍ‬ ‫جدوى‪ ،‬ينظر �إليه الجميع في‬
‫منقو�شة على رداء �أبي�ض‪.‬‬ ‫كنت عادية في زمنٍ عادي‪،‬‬ ‫�إليهم هو �أي�ض ًا في تعجب‪.‬‬
‫وب��ي��ئ��ة ع��ادي��ة‪،‬‬ ‫غريب‬
‫ٌ‬ ‫�شعور‬
‫ٌ‬ ‫كانت طفولتي بائ�سة حق ًا‪،‬‬
‫ك��ان يتوجب‬ ‫بالغربة والوحدة يعت�صر قلبي ال�صغير‪ ،‬من‬
‫ع���ل���ي ب���ذل‬ ‫ه�ؤالء الب�شر الق�ساة الذين يدعون �أنهم �أهلي‪،‬‬
‫يثرثرون ويتعاركون طوال الوقت‪ ،‬يجبرونك‬
‫على فعل �أ�شياء روتينية عجيبة دائم ًا‪ ،‬ال‬
‫ينظرون لعينيك �أبداً خوف ًا من ف�ضح �أمرهم‪،‬‬
‫هل �أنا طفلة مختطفة‪� ،‬أو طفلة متبناة‪ ،‬كل‬
‫ما �أعلمه علم اليقين‪ ،‬هو �أنني ن�صف ينق�صه‬
‫ن�صف �آخر ليكتمل‪ ،‬هناك جزء كبير بداخلي‬
‫مفقود وال ي�سعني �سوى البحث عنه‪.‬‬
‫ل��م يتوقف الأم���ر عند ه����ؤالء الأه��ل‬
‫المزعومين‪ ،‬وال عند هذه الحياة االفترا�ضية‬
‫البغي�ضة‪ ،‬ولكن ما اكت�شفته بعد �أن ا�شتد‬
‫عودي ونما‪� ،‬أنني غير مرئية لجميع الب�شر‪،‬‬
‫ل�ست الفتة للنظر‪ ،‬عندما �س�ألت �أمي ذات‬
‫يوم‪:‬‬
‫‪ -‬هل �أنا طفلة جميلة؟‬
‫كانت �إجابتها‪:‬‬
‫‪ -‬عادية‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪32‬‬


‫قا�ص وناقد‬

‫نقد‬

‫جدل الواقع والطموح في‬


‫«امر�أة غير عادية»‬ ‫عدنان كزارة‬

‫ال�سخرية الالذعة �إن �صح التعبير‪ ،‬تتحدى‬ ‫الآخر �أم في تميزه (كزهرة �سوداء فوق رداء‬ ‫تطالعك من البداية لمحات وجودية‬
‫به بطلتنا ت�ألمها و�إيالمها من العجز عن‬ ‫�أبي�ض)‪� .‬ألي�س من حقها ك�أنثى �أن تعي�ش‬ ‫ت�سربل الق�صة‪ ،‬وتطرح �أ�سئلتها الخا�صة عن‬
‫�إيجاد ن�صفها الآخر‪� ،‬أو تحقيق حلمها في‬ ‫حلمها؟ �أل�سنا نحن من�سوجين من ال�ساللة‬ ‫الوجود والماهية وال�صيرورة‪ .‬البطلة امر�أة‬
‫عالمها العادي الأر���ض��ي‪ .‬لكنه من جهة‬ ‫نف�سها التي ن�سجت منها �أحالمنا على‬ ‫تبحث عن ن�صفها الآخ��ر‪ ،‬لأنها ت�شكو من‬
‫�أخرى يعد ر�سالة الكاتبة في �إعطاء النا�س‪/‬‬ ‫حد تعبير �شك�سبير؟ وقد يكون الحلم �أقوى‬ ‫الوحدة والوح�شة وترى نف�سها غريبة‪ ،‬منذ‬
‫ال��ق��راء حقيق ًة تتالعب بم�شاعرهم حتى‬ ‫من الخبرة كما يقول (غا�ستون با�شالر)؛‬ ‫�أن كانت طفلة و�سط �أهلها الذين ت�صفهم‬
‫ين�سوا همومهم الحقيقية في هموم �أخرى‬ ‫فتكون له قوته المطلقة التي ال تفنى �إال‬ ‫بالق�ساة وك�أنها بينهم طفلة مختطفة �أو‬
‫لها وجاهتها في فل�سفة البحث عن الذات‬ ‫بفناء الحياة نف�سها‪ .‬لقد �أخبرتها �أمها‬ ‫ابنة خطيئة لأح��د منهم‪ ،‬فنت�ساءل‪ :‬هل‬
‫والبحث عن الآخر في �آن مع ًا‪.‬‬ ‫حين �س�ألتها وهي طفلة‪( :‬هل �أنا جميلة؟)‪.‬‬ ‫ن�صفها الآخ��ر الذي تتوق �إليه وتحلم به‪،‬‬
‫اعتمد ال�سرد في الق�صة على المونولوج‪،‬‬ ‫ف�أجابتها ب�أنها عادية‪ ..‬وظل هذا الجواب‬ ‫وتكاد ت�شم رائحته في و�سادتها هو الرجل‬
‫ليكون �أق��رب للحالة النف�سية �أو المعاناة‬ ‫ي�ؤرقها؛ لأن العادي هو النمطي المت�شابه‬ ‫�أم �شيء معنوي كالحلم؟ �أم كائن روحي‬
‫التي تعي�شها البطلة‪ ،‬ولربما كان المونولوج‬ ‫مع معظم خلق اهلل‪� ،‬أو (غير المرئي لأحد)‪،‬‬ ‫تجد في �أح�ضانه الأن�س و الأم��ان؟ ولنا‬
‫�أداة التعبير المف�ضلة في مثل هذا النوع من‬ ‫تمام ًا مثل (زهرة بي�ضاء على رداء �أبي�ض ال‬ ‫�أن نفتر�ض مع عدم التحديد الذي تعمدته‬
‫الق�ص�ص النف�سي‪ ،‬فقد ا�ستغرق مونولوج‬ ‫يلحظها �سوى �شخ�ص �شديد التركيز يتمتع‬ ‫البطلة‪/‬الراوية �أن ما تبحث عنه هو التميز‬
‫�أحد �أبطال الروائي ال�شهير (جيم�س جوي�س)‬ ‫بب�صيرة روحية)‪ .‬غير �أن ذروة م�أ�ساتها‬ ‫بعد �أن �أخفقت في جذب اهتمام �أي �أحد‬
‫�سبعين �صفحة في واحدة من �أهم رواياته‬ ‫حين تفقد الأمل في اللقاء بن�صفها الآخر‬ ‫برغم الجهد اال�ستثنائي الذي بذلته كونها‬
‫العالمية (عولي�س)‪ .‬فالعبرة هي في التقنية‬ ‫في هذا العالم؛ فتتطلع �إلى لقائه في الطرف‬ ‫امر�أ ًة عادي ًة ليكون هو ن�صفها الآخر الذي‬
‫ال في ال��م��ادة‪ ،‬في (�إزم��ي��ل مايكل �أنجلو)‬ ‫الآخ��ر من العالم‪� .‬إنها تحيلنا �إل��ى ر�ؤي��ة‬ ‫ينقذها من الوحدة والوح�شة‪ .‬وحتى عندما‬
‫ال في الرخام‪ ،‬في ري�شة (دافن�شي) ال في‬ ‫ميتافيزيقية تعزي بها �إخفاقها الذريع؛‬ ‫كانت تظن ب�أنها عثرت عليه‪ ،‬يتبين لها‬
‫(الجوكاندا) على ر�أي �أحد النقاد‪ ،‬وح�سب‬ ‫لتوهم نف�سها �أنها غدت ام��ر�أة غير عادية‬ ‫�أنه لي�س ن�صفها الآخر المن�شود‪ .‬لقد �أتعبها‬
‫ق�صتنا �أن��ه��ا ك��ان��ت ف��ي لغتها المميزة‬ ‫�أو متميزة ما دام الطرف الآخر من العالم‬ ‫البحث حتى (ت�سرب الزمن من بيد يديها‬
‫بت�شبيهاتها الرائعة كت�شبيه الراوية نف�سها‬ ‫الذي �ستلتقي فيه بن�صفها الآخر الو�سيم‪،‬‬ ‫و�أدركتها ال�شيخوخة �أو باتت على مقربة‬
‫بطفل فقد �أمه في الزحام فظل يبكي حتى‬ ‫غير عادي)‪�( .‬سوف �أكون امر�أة عادية في‬ ‫منها؛ فا�ست�سلمت لم�صيرها كامر�أة عادية‬
‫تحجرت حنجرته‪ ،‬وف��ي ك�شفها لحقيقة‬ ‫عالم غير عادي‪� ،‬إذاً �أنا امر�أة مميزة كزهرة‬ ‫تعي�ش في عالم عادي‪ ،‬وتموت ميتة عادية‪،‬‬
‫وجودية من حقائق النف�س الخالدة‪ ،‬حافز‬ ‫�سوداء منقو�شة على رداء �أبي�ض)‪� .‬ألي�ست‬ ‫وظ��ل ن�صفها الآخ��ر و�سيم ًا ينتظرها في‬
‫لنا في البحث عن حقائق وت�سا�ؤالت �أخرى‬ ‫الزهرة ال�سوداء بلونها الفانتازي دلي ًال �آخر‬ ‫الطرف الآخر من العالم)‪.‬‬
‫لم تتعر�ض لها الق�صة؛ ف�أي تجربة ال تبدع‬ ‫على الإحباط المريع وقد قذف به الال�شعور‬ ‫�إن م�أ�ساتها م��أ���س��اة ال��ك��ائ��ن الحي‬
‫في خلق ت�صورات وت�سا�ؤالت ال نهائية‪،‬‬ ‫في لحظة من لحظات ال�صدق مع ال��ذات‬ ‫الباحث عما يحقق �شرط وجوده‪ ،‬عن حلمه‬
‫�ستتال�شى قبل التفكير فيها‪.‬‬ ‫النادرة؟ لعمري �إنه لون من (الغروتي�سك) �أي‬ ‫ال��ف��ردي الخا�ص‪� ،‬سواء تمثل في ن�صفه‬

‫‪33‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ق�صة ق�صيرة‬

‫ق�ص�ص ق�صيرة جداً‬


‫�أحمد م�صطفى ح�سين‬

‫بنايات و �شواطئ‬ ‫واالح��ت��ج��اج‪ ،‬لكن جميع خطوط الهاتف‬ ‫�أحالم الزيادة‬


‫�أوعز الرجل الكريه �إلى �أهل حارتنا �أن‬ ‫المت�صلة بالعا�صمة كانت م�شغولة �أو‬ ‫ج��ادل��ن��ي زم��ي��ل��ي ف��ي ك ��ون ال��زي��ادة‬
‫الحل الوحيد للح�صول على الرمال التي‬ ‫معطلة �أو ال تعمل‪.‬‬ ‫ال�سنوية ال��م��ق��ررة ل��ل��رات��ب ل��ن تتجاوز‬
‫اختفت فج�أة يتمثل في �سرقتها من �أر�ض‬ ‫ب��ه��ذا‪ ،‬وخ��وف�� ًا م��ن �شماتة �صديقي‬ ‫الثالثمئة جنيه برغم كل ما قيل وما قالوا‪.‬‬
‫المقابر‪.‬‬ ‫وزميلي‪� ،‬أبقيت الأمر �سراً‪ ،‬برغم �أنني �أ�شك‬ ‫لكنني بعد �أيام طويلة ومئات ال�ساعات من‬
‫قلت لهم‪� :‬ست�صيبكم لعنة �سرقة المقابر‬ ‫ب�أنني الوحيد ال��ذي �أخ��ط ��أ معه موظف‬ ‫قراءة الت�صريحات المن�شورة في ال�صحف‬
‫الكفيلة بهدم متكرر لكم وكوارث بالغة‪ .‬لكن‬ ‫الح�سابات ل�سبب غير معلوم‪ .‬وهكذا �ألغيت‬ ‫وم�شاهدة الف�ضائيات ومجاراتها في �إجراء‬
‫لم يلتفت �إلي �أحد‪ ،‬ف�صارت جميع الرمال‬ ‫فكرة االدخ ��ار والم�صيف ون��ادي �أطفال‬ ‫بع�ض الح�سابات الإ�ضافية من �أجل معرفة‬
‫الجديدة‪ ،‬حتى بال�شواطئ‪ ،‬برائحة الموت‪.‬‬ ‫الم�ستقبل �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫الميزانية وح�سابات المرتب‪ ،‬ك�شفت لزميلي‬
‫و�صديق �آخر �أخطاءهما المريبة و�أو�ضحت‪:‬‬
‫�إن ال��زي��ادة �ستتجاوز الأربعمئة جنيه‪،‬‬
‫فربما تغافلتما عامدين عن ح�ساب المبالغ‬
‫الم�ستحقة عن ترقية الدرجة الأول��ى بعد‬
‫�ستة ع�شر عام ًا من العمل الحكومي‪.‬‬
‫ا�ستن�شقت ه��واء الغرفة انتقام ًا من‬
‫ال�صديق والزميل‪ ،‬وزيادة في الت�شفي قلت‬
‫لهما‪� :‬إن مبلغ الزيادة ال�شهري بالكامل‬
‫ال��ذي يفوق الأربعمئة جنيه �سوف �أدفعه‬
‫ثمن ًا لثالث �ساعات من �أل��ع��اب الأطفال‬
‫بنادي طفل الم�ستقبل في �شارع الجمهورية‬
‫الجديدة بو�سط المدينة‪ ،‬من �أجل �أن ي�ستمتع‬
‫طفالي بالزيادة كاملة في ال�شهر الأول‪،‬‬
‫و�أدخ��ره��ا لهما فيما بعد لعلهما يناالن‬
‫م�صيف ًا للمرة الأول��ى منذ ميالدهما الذي‬
‫كان قد تم منذ ب�ضع �سنوات‪.‬‬
‫ق��ال زم��ي�لاي و�صديقاي الكارهان‬
‫للواقع‪� :‬أتدخر �سنة لأجل م�صيف يومين؟ ثم‬
‫انفجرا �ضاحكين‪.‬‬
‫لم �ألتفت ل�ضحكاتهما الم�سمومة‪ ،‬بل‬
‫�ضحكت على �ضحكاتهما‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬وللح�سرة! لقد جاءت زيادة المرتب‬
‫بقيمة مئتي جنيه فقط‪ ،‬حاولت ال�شكوى‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪34‬‬


‫ق�صة ق�صيرة‬

‫يميناً‪ ...‬على الهام�ش‬


‫�ألتفت �إليها �أت�أملها بعينين حزينتين؛ ووجه‬ ‫كنت قد حاولت �أن �أ�ستعد لهذا اليوم؛‬
‫�شاخ ب�سرعة قبل �أن تمتد �إليه يد الزمن كنا‬ ‫�أعلم �أن ُه يتكرر �آخر كل �شهر‪ ..‬حين يرفرف‬
‫قد تكيفنا مع ما منحته لنا الحياة‪ ،‬لك�أنها‬ ‫ال��رات��ب ال�ضئيل‪ ،‬ويطير �أكثر ف�أكثر مع‬
‫�صنعت على مقا�سنا غرفة على �سطح �أحد‬ ‫م��رور الأي����ام‪ ..‬الكلمات ت��ع��ود‪ ،‬ك��ل �شيء‬
‫المنازل وطفلة لت�ؤن�س وحدتنا وفقرنا‬ ‫يعود‪ ،‬والأحداث تتقدم في دائرة وتلتقي‪..‬‬
‫بعدما �أخذنا عهداً للأيام �أال ننجب �سواها!‬ ‫تتالم�س؛ لكنها هذه المرة بدت ك�أنها �أغلقت‬ ‫ه�شام �أزكي�ض‬
‫ن��ظ��رت �إل��ي��ه��ا م��رة �أخ����رى‪ ،‬وق��د بدت‬ ‫�شيئ ًا معها للأبد‪.‬‬
‫هادئة‪ ...‬كانت لحظة طويلة قبل �أن �أ�سمع‬ ‫ب��دا م��ا ح��ول��ي �ضئي ًال تحت ال�ضوء‬
‫فيها �صراخ �صاحب البيت وزوجتي‪ ،‬وهي‬ ‫المرتجف‪ ،‬الذي حر�صت على �أن ي�ستهلك‬ ‫ك���ان ال��ج��م��ي��ع ف��ي ال��ب��ن��ك يتابعون‬
‫تحاول �أن توقظني و�صراخها الذي اختلط‬ ‫�أق��ل م��ا يمكن م��ن الطاقة؛ طفلتي وهي‬ ‫خطواتي نحو ال�شباك‪ .‬لم يفكر �أحد منهم‬
‫مع دقات الباب المتوا�صلة‪� ..‬أغم�ضت عيني‬ ‫تم�ضغ بقايا طعام‪ ،‬حر�صت زوجتي على �أن‬ ‫ب�أنني ال �أمتلك حتى �إج��اب��ة ولي�س ثمن‬
‫وم�ضيت في �سبات �أبدي‪.‬‬ ‫تجعل عمره يمتد �أطول حتى نهاية ال�شهر‪،‬‬ ‫الفواتير فقط‪ .‬الموظف كان لبق ًا جداً لدرجة‬
‫�أن ُه قال لي بك ّل هدوء‪�( :‬سيدي هذا الت�أخير‬
‫الثالث لك‪� ،‬سيكون الرابع في المحكمة �أمام‬
‫القا�ضي‪ ،‬هناك لن تجد ُ�ش َّب ًاكا �ستجد قف�صا‬
‫لعين ًا) �ضحكت حينها‪ ،‬وهم�ست ل��ه‪� :‬ألم‬
‫تدرك بعد ب�أن الذين ي�شبهونني ال تليق بهم‬
‫الحرية �أبداً؟ نحن الذين نخر الفقر �أعمارنا‬
‫كال�سو�س‪� ،‬أال يحق لنا �أن يتم انت�شالنا من‬
‫الجذور لنرتاح من عناء هذا الألم؟ وال تخف‬
‫لن يحدث غيابنا �أي �أثرٍ! نحن في الحقيقة‬
‫�إ�ضافة خاطئة للحياة‪.‬‬
‫الموظف كان م�صدوم ًا من الإجابة‪..‬‬
‫�دت للحظة ب ��أن � ُه �سيقفز م��ن خلف‬ ‫اع��ت��ق� ُ‬
‫ال�شباك ليعانقني‪.‬‬‫ّ‬
‫الحزن الثقيل‪� ،‬أحيان ًا‪ ،‬يمتلك موهبة‬
‫العدوى‪ .‬جميعنا ن�ستطيع �أن نحزن �سريع ًا‪،‬‬
‫لأن الأوط��ان قامت بتوريث هذه الجينات‬
‫لنا منذ ال�صغر‪ ،‬ولكن ي�صعب علينا الفرح‪،‬‬
‫لأن الفرح ُمكت�سب يحدث لنا بفعل مواقف‬
‫عابرة‪ ،‬ولي�ست ثابتة في �أعمارنا‪.‬‬
‫وقبل �أن يتحدث الموظف‪ ،‬ان�سحبت‬
‫بهدوء كما فعلت طوال عمري‪ ،‬االن�سحاب‬
‫�أي�ض ًا موهبة‪� .‬أن�سحب حين �أ�شعر ب�أنها‬
‫�ستمطر في �أح��داق��ي‪� ،‬أن�سحب حين يهتز‬
‫الوجع في داخلي ويرتفع من�سوب الأل��م‪،‬‬
‫�أن�سحب حين ال �أج��د لي مكان ًا في و�سط‬
‫هذا االزدحام من حولي‪ ...‬خرجت من باب‬
‫البنك‪ ،‬متجه ًا �إلى البيت‪ .‬هناك در�س �آخر‬
‫من �صاحب البيت �أح�ضر نف�سي ل ُه‪ ،‬الإيجار‬
‫المت�أخر وم�سل�سل التو�سل الذي ال ينتهي‪.‬‬

‫‪35‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ق�صة مترجمة‬

‫«المر�أة حاملة الأحزان»‬


‫والهموم‪ ،‬م�شت بيننا‪ ،‬تهز ر�أ�سها بحزن‪،‬‬ ‫ا�ستمر الأمر على هذا المنوال‪ ،‬حتى الحظ‬
‫ظهرها منحنٍ ‪ ،‬وتحاول �إبالغنا بمقدار الخطر‬ ‫البع�ض �أن الفتاة باتت تحمل المزيد من‬
‫ترجمة‪� :‬أميرة الو�صيف‬
‫الذي �أوقعنا �أنف�سنا فيه‪ ،‬ولكننا لم ن�ستمع‬ ‫الهموم‪ ،‬والأحزان‪ ..‬في ذلك التوقيت‪� ،‬أجبرنا‬
‫المكلف بحمل‬ ‫ت�أليف الكاتب الأمريكي‪ :‬كري�س هافن*‬
‫�إليها‪ ،‬وذات يوم اختفى الفتى ُ‬ ‫�شاب �آخر على حمل �أحزاننا‪.‬‬
‫�أحزاننا فج�أة‪.‬‬ ‫المكلف بحمل‬ ‫ُ‬ ‫ال�شاب‬ ‫في بداية الأمر‪ ،‬كان‬
‫قالت لنا الفتاة �إن ه��ذا الفتى لم يكن‬ ‫�أحزاننا‪ ،‬تواق ًا ومتلهف ًا لأن يتعلم المزيد عن‬ ‫لم نكن نعلم كيف ال�سبيل �إلى التخل�ص‬
‫ي�ستمع �إلى �آالمنا و�أوجاعنا يوم ًا‪ ،‬لم يحمل‬ ‫المهمة‪ ،‬وكان على الفتاة ال�سابقة �أن تعلمه‬ ‫من �أحزاننا‪ ،‬كانت الك�آبة تغمرنا في ذلك‬
‫همومنا بجدية‪ ،‬لم يكن يعرف �أ�سماء �أحبائنا‬ ‫كيفية حمل الأحزان‪ ،‬والهموم عن الآخرين‪،‬‬ ‫الوقت‪ ،‬كنا نغرق في بحر من المر�ض‪ ،‬والألم‪،‬‬
‫الذين رحلوا كما فعلت هي‪ ،‬هي التي تطوعت‬ ‫وبرغم �أن الفتى لم يكن موهوب ًا بالفطرة‬ ‫وكانت �أع��داد الموتى تتزايد ب�شكل عجيب‪،‬‬
‫من �أجل تخفيف �أعبائنا‪ ،‬هي التي انفعلت‬ ‫في حمل الهموم كما كانت الفتاة‪ ،‬لكن من‬ ‫ووتيرة �سريعة‪ .‬كانت الجثث ُتدفن جنب ًا �إلى‬
‫ب�أحزاننا‪ ،‬وحفظت �أ�سماء �أحبائنا عن ظهر‬ ‫الوا�ضح �أن الفتاة نجحت في تعليمه ب�شكل‬ ‫جنب‪ ،‬كان و�ضعنا في غاية ال�سوء؛ لذا كان‬
‫قلب‪ ،‬هي التي ت�ألمت ب�صدق لألمنا‪ ،‬حتى‬ ‫جيد‪ ،‬لأنه الحق ًا �سيتفوق عليها‪.‬‬ ‫لزام ًا �أن نقوم ب�شيء ما‪ .‬كان هناك متطوعة‬
‫باتت جزءاً منه‪.‬‬ ‫المكلف بحمل الهموم‬ ‫عندما م�شى الفتى ُ‬ ‫�صغيرة ال�سن‪ ،‬في الرابعة ع�شرة من عمرها‪،‬‬
‫ولكن �أولئك الذين كانوا قد منحوا الفتى‬ ‫بيننا‪ ،‬كان يم�شي من دون انحناء! يم�شي‬ ‫فتاة نقية طاهرة‪� ،‬أتت �إلينا‪ ،‬وعر�ضت علينا‬
‫�أحزانهم‪ ،‬ظلوا �سعداء للأبد‪ ،‬و�أولئك الذين‬ ‫بيننا منت�صب الظهر‪ ،‬على عك�س الفتاة التي‬ ‫�أن تحمل �أحزاننا عنا‪ .‬منذ ذاك الحين‪ ،‬ونحن‬
‫فقدوا �أحباءهم لتوهم‪ ،‬قرروا �أي�ض ًا �أن يمنحوا‬ ‫�سبقته‪ ،‬ال يمكنك تخيل �شعور ال�سعادة والمرح‬ ‫نهرع �إلى تلك الفتاة ال�شابة‪ ،‬نمنحها �آالمنا‪،‬‬
‫�أحزانهم لذلك الفتى حتى و�إن طالت غيبته‪،‬‬ ‫ال��ذي غمرنا جميع ًا‪ ،‬ك��ان يحمل همومنا‪،‬‬ ‫و�أحزاننا لتحملها نيابة عنا‪ ،‬وكانت الفتاة‬
‫وتجاهل الجميع تلك الفتاة‪ ،‬التي ظلت تم�شي‬ ‫و�أوجاعنا‪ ،‬وك�أنه ال يحمل �شيئ ًا على الإطالق!‬ ‫تحملها ب�صبر‪ ،‬ومن دون تذمر‪ ،‬كانت تعرف‬
‫بيننا‪ ،‬منك�سة الر�أ�س‪ ،‬منحنية الظهر‪ ،‬تعاني‬ ‫حتى �إن �أولئك النا�س الذين لم تكن لديهم‬ ‫�أ�سماء �أحبابنا المفقودين‪ ،‬كانت تحفظ‬
‫�آالمنا‪ ،‬و�أوجاعنا‪ُ ،‬متحدثة بلغة تكاد تبدو‬ ‫هموم‪ ،‬و�أوجاع يت�ألمون منها‪ ،‬باتوا ي�أملون‬ ‫�أ�سماءهم‪ ،‬وجن�سياتهم‪ ،‬وحركاتهم عن ظهر‬
‫قديمة للغاية‪ ،‬قائلة �إن تلك الهموم‪ ،‬والآالم‬ ‫�أن يفقدوا �أحبتهم‪ ،‬فقط حتى يتذوقوا طعم‬ ‫قلب‪.‬‬
‫التي قدمناها �إليها لتحملها‪� ،‬أفقدتنا �شيئ ًا‬ ‫الم�صاحب لتخفيف عبئهم‪ ،‬ومنحه‬ ‫الن�شوة ُ‬ ‫حملت الفتاة تلك الآالم المعي�شية بكل‬
‫مهم ًا‪ ،‬يوم ًا ما �سن�شكو مرارة هذا الفقد‪ ،‬لأنه‬ ‫�إلى ذلك الفتى‪.‬‬ ‫�شجاعة‪ ،‬نراها تم�شي بيننا كل يوم‪ ،‬نت�أملها‪،‬‬
‫لم يكن من المفتر�ض �أبداً‪� ،‬أن يحمل �شخ�ص‬ ‫واح��د منا فقط هو من �شعر ب��أن هناك‬ ‫ونرى انحناء ظهرها جلي ًا؛ كدليل وا�ضح على‬
‫واحد هموم و�أوجاع العالم كله‪.‬‬ ‫�شيئ ًا خط�أً‪� ،‬شيئ ًا غريب ًا! الفتاة حاملة الأحزان‬ ‫�أنها تقوم بعملها كما ينبغي �أن يكون‪.‬‬
‫كنا �أكثر خفة‪ ،‬بعد �أن �أزاح ��ت الفتاة‬
‫�أحزاننا‪ ،‬وحملتها عنا‪.‬‬
‫كانت الفتاة تم�شي بيننا في �صبر على‬
‫المعاناة‪ ،‬وكان با�ستطاعتنا حينها �أن نجمع‬
‫كل ما لدينا من طعام‪ ،‬و�أخ�شاب‪ ،‬ونمنحها‬
‫�إي��اه��ا‪ ،‬وك�أننا ن�سكب حياة داخ��ل قلوب‬
‫�أحبابنا الباقين‪.‬‬

‫* كري�س هافن‪� ،‬شاعر وكاتب �أمريكي‪ ،‬ح�صل‬


‫على الدكتوراه في الأدب والكتابة الإبداعية من‬
‫جامعة هيو�ستن‪ ،‬كما �أنه حاز درجة الماج�ستير‬
‫في الكتابة الإبداعية من جامعة جنوب غربي‬
‫تك�سا�س‪ ،‬وكذلك ح�صل على ماج�ستير لغة‬
‫�إنجليزية‪ /‬كتابة �إبداعية‪ ،‬من جامعة كان�سا�س‪.‬‬
‫تم ن�شر �أعمال هافن في عدد من �أهم المجالت‬
‫الأدبية في العالم منها ‪Electric Literature،‬‬
‫‪Jellyfish Review،Denver Quarterly،، North‬‬
‫‪.American Review‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪36‬‬


‫أدب وأدباء‬
‫منظر عام ملدينة معلوال‬

‫¯ الخيال العلمي وعالقة العلم بالأدب والم�ستقبل‬


‫¯ عمر �أبوري�شة‪� ..‬شاعر الجمال و�سفير الكلمة‬
‫¯ �سكينة ف�ؤاد‪ :‬الق�صة لي�ست حكر ًا على الغرب‬
‫¯ محمد الطوبي‪ ..‬ال�شاعر المتفرد المن�سي‬
‫¯ «نوبل للآداب» تحتفي بالذكرى (‪ )١٢٠‬لت�أ�سي�سها‬
‫¯ دون كي�شوت رواية خالدة نه�ضت على المفارقة‬
‫¯ ثريا جبران‪ ..‬الفنانة والوزيرة المثقفة‬

‫‪37‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ملتقى ال�شارقة للتكريم الثقافي‬
‫يحتفي ب�أربعة �أدباء م�صريين في القاهرة‬
‫ي�أتي ملتقى ال�شارقة للتكريم الثقافي تنفيذ ًا لتوجيهات �صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور‬
‫�سلطان بن محمد القا�سمي ع�ضو المجل�س الأعلى حاكم ال�شارقة‪ ،‬بتكريم ال�شخ�صيات التي‬
‫�أ�سهمت في خدمة الثقافة العربية المعا�صرة‪ ،‬واالحتفاء ب�إنجازاتهم الفكرية والأدبية‪ ،‬وقد‬
‫احتفت الدكتورة �إينا�س عبدالدايم وزيرة الثقافة‪ ،‬وعبداهلل العوي�س رئي�س دائرة الثقافة‬
‫بال�شارقة‪ ،‬ومحمد الق�صير مدير ال�ش�ؤون الثقافية بال�شارقة‪ ،‬ب�أربعة من المبدعين الم�صريين‬
‫خليل الجيزاوي‬
‫بعد اختيارهم للتكريم في ملتقى ال�شارقة للتكريم الثقافي‪ ،‬ال��ذي يرعاه ال�شيخ الدكتور‬
‫�سلطان بن محمد القا�سمي‪ ،‬وهم‪ :‬ال�شاعر دروي�ش الأ�سيوطي‪ ،‬والأدباء‪ :‬م�صطفى ن�صر‪ ،‬و�سمير المنزالوي‪ ،‬و�سعيد نوح‪.‬‬

‫الثقافي‪ ،‬تلك المبادرة التي ت�شملها الرعاية‬ ‫البداية مع كلمة الدكتور ه�شام عزمي‬ ‫عقد ملتقى التكريم في دورته ال�ساد�سة‬
‫الكريمة ل�صاحب ال�سمو ال�شيخ �سلطان بن‬ ‫الأمين العام للمجل�س الأعلى للثقافة الذي‬ ‫بقاعة االحتفاالت بالمجل�س الأعلى للثقافة‪،‬‬
‫محمد القا�سمي ع�ضو المجل�س الأعلى حاكم‬ ‫قال‪� :‬أرحب بكم جميع ًا في المجل�س الأعلى‬ ‫وبح�ضور الدكتور ه�شام عزمي �أمين عام‬
‫ال�شارقة‪ ،‬وت��أت��ي ه��ذه المبادرة ا�ستمراراً‬ ‫للثقافة‪ ،‬بيت الثقافة الم�صري‪ ،‬و�أه ًال و�سه ًال‬ ‫المجل�س الأع��ل��ى للثقافة‪ ،‬ورا���ش��د ال�شحي‬
‫ل�سل�سلة من المبادرات الثقافية الواعدة التي‬ ‫ت�سعد بقدوم‬ ‫ُ‬ ‫ب�ضيوف قاهرة المعز التي‬ ‫ممثل �سفارة دولة الإمارات العربية المتحدة‬
‫د�أب��ت عليها ال�شارقة في الآون��ة الأخيرة‪،‬‬ ‫الأ�شقاء من ال�شارقة الحبيبة‪ ،‬ومرحب ًا بكم‬ ‫بالقاهرة‪ ،‬وعدد كبير من الأدب��اء وال�شعراء‬
‫بداية من مهرجان الم�سرح الخليجي‪ ،‬وملتقى‬ ‫في م�صر حا�ضنة الثقافة العربية على مدار‬ ‫وال�صحافيين‪ ،‬وع��دد كبير من الإعالميين‬
‫الم�سرح العربي‪ ،‬وم��روراً بمهرجان ال�شعر‬ ‫تاريخها‪ ،‬م�صر التي تفتح ذراعيها دوم ًا‬ ‫بالقنوات التلفزيونية الم�صرية والعربية‬
‫العربي‪� ،‬إلى مهرجان ال�شعراء ال�شباب‪ ،‬ون�صل‬ ‫لكل مثقف ومفكر وفنان ومبدع من كل‬ ‫التي نقلت االحتفالية على الهواء مبا�شرة‪،‬‬
‫�إلى ملتقى ال�شارقة الثقافي الذي ي�ستهدف‬ ‫بالد الوطن العربي‪ ،‬نلتقي اليوم باحتفالية‬ ‫وت�صوير تامر جابر‪ ،‬وقام بتقديم االحتفالية‬
‫تكريم قامات ثقافية من كافة �أرجاء الوطن‬ ‫متميزة في �إط��ار ملتقى ال�شارقة للتكريم‬ ‫ال�شاعر محمد المتيم‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪38‬‬


‫متابعة‬

‫الإ�سهامات وال��ع��ط��اءات الفكرية ف��ي الوطن‬ ‫العربي اعتراف ًا وتقديراً ب�إ�سهاماتهم و�إبداعاتهم‬
‫كر ُ�س دعائم م�شروع ال�شارقة الثقافي‬ ‫العربي‪ ،‬و ُت ّ‬ ‫كل في مجاله للنهو�ض بثقافة مجتمعاتهم‬
‫ال��ذي ب��د�أ منذ �سنوات‪ ،‬ونتابعه في م�صر بكل‬ ‫تقدير‬
‫ٌ‬ ‫والتكريم‬
‫ُ‬ ‫واالرت��ق��اء بوعي �شعوبهم‪،‬‬
‫اعتزاز وتقدير‪.‬‬ ‫�ستحق ِل َم ْن يقودون م�سيرة الفكر والإب��داع‬ ‫ٌ‬ ‫ُم‬
‫�إن االحتفالية ت�ؤكد دور المثقفين العرب في‬ ‫والتنوير ف��ي �أوط��ان��ه��م‪ ،‬فهو ر�سالة وحافز‬
‫�إينا�س عبدالدايم‪:‬‬ ‫�إث��راء الواقع الح�ضاري في مختلف المجاالت‬ ‫لأقرانهم للمزيد من الت�ألق والإبداع‪.‬‬
‫مبادرة تكر�س دعائم‬ ‫الفكرية والثقافية والإبداعية في بلدانهم‪ ،‬كما‬ ‫و�أكد عبداهلل العوي�س رئي�س دائرة الثقافة‬
‫�أنها ُتثمن دورهم في االرتقاء بالفعل الثقافي‬ ‫بال�شارقة ف��ي كلمته �أهمية العمل الثقافي‬
‫م�شروع ال�شارقة‬ ‫عد حافزاً‬ ‫الم�شترك قائ ًال‪ :‬تتجدد البهجة وال�سعادة بتجدد‬
‫وال�ش�أن الإبداعي في الدول العربية‪ ،‬و ُت ُّ‬
‫الثقافي‬ ‫ودافع ًا له�ؤالء المثقفين لمزي ٍد من العمل والت�ألق‬ ‫اللقاءات الأخوية‪ ،‬وتتعزز �أوا�صر المحبة عندما‬
‫واال�ستمرار في �إمداد ال�ساحة الثقافية العربية‬ ‫تكتمل عنا�صرها‪ ،‬التي يتوجها التوا�صل العربي‬
‫ب�أعمالهم الفكرية الجليلة خدمة لبلدانهم‬ ‫وال��ت��ع��اون الم�شترك‪ ،‬وه��ذا م��ا يج�سده عمق‬
‫ومجتمعاتهم وق�ضايا �أمتهم‪� ..‬إننا اليوم ن�سعد‬ ‫العالقات التاريخية‪ ،‬بين دولة الإمارات العربية‬
‫بتكريم �أربعة من الأدباء تقديراً لعطائهم الفكري‬ ‫المتحدة وجمهورية م�صر العربية‪ ،‬ف��ي ظل‬
‫المتميز على م��دى عقود ول��دوره��م في خدمة‬ ‫ؤمن ب�أهمية ا�ستمرار التوا�صل‬ ‫قيادة ر�شيدة ُت� ُ‬
‫الثقافة العربية‪ ،‬و�أتوجه بالتحية للمكرمين على‬ ‫العربي في المجاالت كافة‪ ،‬واليوم ُنم ّث ُل مع ًا‬
‫ه�شام عزمي‪:‬‬ ‫م�سيرتهم الفكرية الحافلة بالعطاء‪ ،‬وما يزيد‬ ‫نموذج ًا لهذه المبادئ من خالل ملتقى ال�شارقة‬
‫من �سعادتنا �أن يكون تكريم ُملتقى ال�شارقة‬ ‫للتكريم الثقافي‪ ،‬وهو الملتقى الذي انطلق هذا‬
‫ال�شارقة تكرم قامات‬ ‫اليوم هو الثاني من نوعه للمبدعين الم�صريين‬ ‫يهدف �إلى تكريم القامات الثقافية‬ ‫ُ‬ ‫العام‪ ،‬والذي‬
‫ثقافية �أ�سهمت‬ ‫خالل ب�ضعة �أ�شهر؛ لقد �سبق وفي الدورة الأولى‪٬‬‬ ‫العربية التي �أثرت ال�ساحة الثقافية المعا�صرة‬
‫في االرتقاء بوعي‬ ‫وفي دار �أوب��را دمنهور بمحافظة البحيرة تم‬ ‫بالإبداع في مجاالت الآداب بحقولها المتعددة؛‬
‫�شعوبهم‬ ‫تكريم الناقد والمترجم الكبير ال�سيد �إمام تقديراً‬ ‫ولقد حر�ص الملتقى على �أن يتخ َذ من م�صر‬
‫لإ�سهاماته المتميزة في العمل الثقافي‪ ،‬و�أوجه‬ ‫ُمبتد�أً النطالق فعالياته‪ ،‬ومنها للدول العربية‬
‫التحية ل�صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان‬ ‫كافة‪ ،‬حيث �شهدت مدينة (دمنهور) في �أبريل‬
‫بن محمد القا�سمي ع�ضو المجل�س الأعلى حاكم‬ ‫الما�ضي تكريم ابنها ال�سيد �إمام خالل الدورة‬
‫الملتقى‬
‫ال�شارقة على رعايته الكريمة؛ لهذا ُ‬ ‫الأول��ى‪ ،‬وبعد �أن جاب الملتقى الدول العربية‪،‬‬
‫وعلى جهوده الم�ستمرة والحثيثة في دعم م�سيرة‬ ‫نعود اليوم بتوجيه كريم من �صاحب ال�سمو‬
‫ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي ع�ضو‬
‫الملت َقى‪،‬‬
‫المجل�س الأعلى حاكم ال�شارقة‪ ،‬راعي ُ‬
‫لتكريم كوكبة جديدة من �أدب��اء م�صر‪ ،‬حيث‬
‫تجتمع في ه��ذا الحفل‪� :‬أ�سيوط والإ�سكندرية‬
‫وكفر ال�شيخ والمنيا؛ لتكريم‪ :‬ال�شاعر دروي�ش‬
‫الأ�سيوطي‪ ،‬والروائي م�صطفى ن�صر‪ ،‬والروائي‬
‫�سمير المنزالوي‪ ،‬والكاتب �سعيد نوح‪.‬‬
‫ورحبت الدكتورة �إينا�س عبدالدايم وزيرة‬
‫الثقافة ب�ضيوف م�صر قائلة‪� :‬أرح��ب بكم في‬
‫م�صر العربية قبلة المثقفين والمبدعين العرب‬
‫لن�شهد هذه‬
‫َ‬ ‫وف��ي المجل�س الأع��ل��ى للثقافة؛‬
‫االحتفالية الثقافية الكبيرة التي ت�أتي في �إطار‬
‫مبادرة واعدة انطلقت من �إمارة ال�شارقة برعاية‬
‫كريمة من �صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان‬
‫بن محمد القا�سمي ع�ضو المجل�س الأعلى حاكم‬
‫ال�شارقة وتحت�ضنها القاهرة تحت عنوان (ملتقى‬
‫ال�شارقة للتكريم الثقافي)‪� ..‬إنها مبادرة ثقافية‬
‫جديدة ومتميزة ت�أتي ا�ستمراراً وت�أكيداً لجهود‬
‫المثقفين و�أ�صحاب‬ ‫حاكم ال�شارقة في رعاية ُ‬
‫وزيرة الثقافة تحتفي بمجلة ال�شارقة الثقافية مع عبداهلل العوي�س‬

‫‪39‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫الدكتـور ه�شـام عزمي ي�ستقبـل وزيرة‬
‫الثقافة والعوي�س والوفد المرافق له‬ ‫وبيروت وتون�س وبغداد‪ ،‬ولم تقت�صر الفعاليات‬ ‫الثقافة العربية والمثقفين العرب في كافة‬
‫�أمـام بـاب المجلـ�س الأعـلـى للثـقـافـة‬ ‫الثقافية على م�شاركة �أبناء الإمارات �أو الخليج‬ ‫�أنحاء الوطن العربي؛ ولدائرة الثقافة بال�شارقة‬
‫العربي‪ ،‬بل امتدت �إلى �سائر ربوع الوطن العربي‬ ‫وعبداهلل العوي�س على �إدارتهم المميزة لملتقى‬
‫متمثلة في مهرجانات الم�سرح‪ ،‬وبيوت ال�شعر‪،‬‬ ‫ال�شارقة للتكريم الثقافي‪ ،‬وعلى ت�شريفهم لنا‬
‫والأ�سابيع الثقافية العربية‪ .‬و�أ�ضاف‪ ،‬وي�شاء‬ ‫ال��ي��وم ووج��وده��م معنا بالقاهرة‪ ،‬واختتمت‬
‫العلي القدير �أن �أتلقى �أجمل الهدايا والتكريمات‬ ‫أتطلع في ال�سنوات‬
‫وزيرة الثقافة كلمتها قائلة‪ُ � :‬‬
‫عبداهلل العوي�س‪:‬‬ ‫ببلوغي العام الخام�س وال�سبعين‪ ،‬بهذا التكريم‬ ‫الملتقى �إلى الأديبات ويتم‬
‫يلتفت ُ‬
‫َ‬ ‫القادمة‪� ،‬أن‬
‫حر�ص الملتقى على‬ ‫الب ِّهي‪ ،‬وعلى قدر اعتزازي بما لقيت من تقدير‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تكريمهن‪.‬‬
‫ف�إن التفاتة ُملتقى ال�شارقة للتكريم الثقافي‬ ‫وت��ح��دث ال�شاعر دروي�����ش الأ�سيوطي عن‬
‫�أن يتخذ من م�صر‬
‫والذي جاء بمبادرة كريمة من �صاحب ال�سمو‬ ‫�أهمية الفعل الثقافي في بناء الأم��ة العربية‬
‫مبتد�أً النطالق‬ ‫ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي ع�ضو‬ ‫قائ ًال‪ :‬الذي ال �شك فيه �أن الثقافة هي المادة‬
‫فعالياته‬ ‫المجل�س الأعلى حاكم ال�شارقة‪ ،‬المثقف القومي‬ ‫الأ�سا�س الالزمة لبقاء الأمم ك�سبيكة اجتماعية‬
‫والكاتب الم�سرحي المبدع خير خاتمة للعمر‬ ‫�صلبة‪� ،‬أو في حالة من التما�سك االجتماعي‬
‫(االفترا�ضي) لمن هو في مثل �سني؛ لقد �أعاد لي‬ ‫ال��ذي يعين الجماعة على الخلق الح�ضاري‪،‬‬
‫هذا التكريم حما�سة ال�شباب و�أن�ساني ما �أحمله‬ ‫ويمهد للرقي والتقدم لل�شعوب على الم�ستويات‬
‫على ظهري من �أعوام تقترب من الثمانين‪.‬‬ ‫كافة‪ ،‬وعلى مدى اختالف الع�صور‪ ،‬ولعل ما‬
‫دروي�ش الأ�سيوطي‪:‬‬ ‫وي�شير الروائي م�صطفى ن�صر‪� ،‬إلى م�شروع‬ ‫تقوم به �إمارة ال�شارقة بدولة الإمارات العربية‬
‫ما تقوم به ال�شارقة‬ ‫ال�شارقة الثقافي واالحتفاء بالأدباء العرب قائ ًال‪:‬‬ ‫المتحدة يعد ن��م��وذج� ًا للجهد المخل�ص في‬
‫�إن مبادرة ُملتقى ال�شارقة للتكريم الثقافي التي‬ ‫تمكين تلك اللحمة‪ ،‬وقد لم�سنا على مدى �سنوات‬
‫عبر م�ؤ�س�ساتها‬ ‫�أطلقها ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي‬ ‫الآثار الإيجابية التي �أحدثتها وجود م�ؤ�س�سات‬
‫الثقافية يعد نموذج ًا‬ ‫تر�سم �ضوءاً‬
‫ُ‬ ‫ع�ضو المجل�س الأعلى حاكم ال�شارقة‪،‬‬ ‫ثقافية منها دائرة الثقافة بال�شارقة‪ ،‬والهيئة‬
‫ح�ضاري ًا عربي ًا‬ ‫في م�سيرة المثقفين العرب الإبداعية‪ ،‬وتمنحهم‬ ‫العربية للم�سرح‪ ،‬ومعهد التراث‪ ،‬والم�سابقات‬
‫دفعة قوية م��ن الأم ��ل الحقيقي ف��ي الحا�ضر‬ ‫والمهرجانات الثقافية التي �شملت معظم مناحي‬
‫والم�ستقبل‪ ،‬باعتبارهم رافعي راي��ة الثقافة‬ ‫الحياة الثقافية‪ ،‬وكما فعلت في القاهرة ودم�شق‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪40‬‬


‫متابعة‬

‫هو النب�ش عن الجمال حتى في �أ�سو�أ الأماكن‪،‬‬ ‫العربية‪ ،‬وحاملي ر�سالتها وهويتها‪ ،‬وهي �أكثر‬
‫�أن تبدع في قرية بعيدة عن الأ�ضواء‪ ،‬فعليك �أن‬ ‫من مجرد مبادرة لتكريم ه�ؤالء الذين �أ�سهموا في‬
‫تكتفي ببهجة الكتابة وال تنتظر المقابل‪.‬‬ ‫خدمة الثقافة واالحتفاء ب�إنجازاتهم‪ ،‬ونتاجهم‬
‫التكريم كالإفاقة من التخدير‪ ،‬والعودة �إلى‬ ‫الفكري والأدب���ي‪ ،‬و�إن��م��ا ر�سالة عميقة ت�ؤكد‬
‫م�صطفى ن�صر‪:‬‬ ‫الحياة قوي ًا ُمفعم ًا بالأمل‪� ،‬أ�شكر ال�شيخ الدكتور‬ ‫المعاني الإن�سانية والقيم ال�سامية‪ ،‬التي ينادي‬
‫م�شروع ال�شارقة‬ ‫�سلطان القا�سمى حاكم ال�شارقة المكرم‪ ،‬و�أقر‬ ‫بها م�شروع ال�شارقة الثقافي‪ ،‬وتعبر عن الحب‬
‫الثقافي يقدم‬ ‫�أن هذا التكريم بالن�سبة لي عالمة فارقة على‬ ‫والوفاء من �سموه للذين قادوا النه�ضة‪ ،‬ومل�ؤوا‬
‫ر�سالة ت�ؤكد المعاني‬ ‫م�ستوى �إبداعي وم�شروعي الفكري‪� ،‬إذ ك�شف لي‬ ‫الأفق‪ ،‬و�أثروا طريق الثقافة في �صمت بال معين‬
‫تر�صد مجهودك طوال‬ ‫ُ‬ ‫�أن عيون ًا ثاقب ًة ُمخل�ص ًة‬ ‫�أو كلل‪ .‬واهتمام م�شروع ال�شارقة الثقافي في‬
‫الإن�سانية والقيم‬ ‫الوقت وت��ق��دره‪ ،‬وت��أت��ي كتيبة محبة للثقافة‬ ‫ن�شر الكتاب‪ ،‬ومنح الجوائز في مناحي الثقافة‬
‫ال�سامية‬ ‫والإب����داع متحملة عناء ال�سفر ك��ي تقول لك‬ ‫المختلفة‪ ،‬وتنفيذ المبادرات الثقافية الرائدة‪،‬‬
‫ا�ستمر‪� ،‬سيكون لكتابتي بعد التكريم مذاق جديد‪،‬‬ ‫مثل بيوت ال�شعر في �أرجاء الوطن العربي الكبير‬
‫و�سيكون لنظرة من حولي �أي�ض ًا عمق �آخر‪ ،‬هذه‬ ‫وهي مبادرة غاية في الجمال والرقي؛ لتعميم‬
‫لمحة ذكية ومقدرة‪� ،‬أتمنى �أن ت�ستمر وتتوا�صل‪.‬‬ ‫بيوت ال�شعر في �أرجاء الوطن العربي كله مبادرة‬
‫و�أ�شاد الكاتب �سعيد نوح في كلمته بمبادرات‬ ‫مهمة في وقتنا الحالي‪ ،‬ودور ال�شارقة الثقافي‬
‫ال�شارقة الثقافية قائ ًال‪� :‬إن ملتقى ال�شارقة‬ ‫في ت�أ�سي�س المجالت الثقافية النوعية‪ ،‬دور غاية‬
‫�سمير المنزالوي‪:‬‬ ‫للتكريم الثقافي مبادرة �أطلقتها دائرة الثقافة‬ ‫في الأهمية‪ ،‬فالمجالت والجرائد الأدبية في‬
‫التكريم عالمة‬ ‫بال�شارقة برعاية �سامية وكريمة من �صاحب‬ ‫الوطن العربي تعاني مطاردة الن�شر الإلكتروني‬
‫فارقة على م�ستوى‬ ‫ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي‬ ‫لها‪ ،‬ومبادرتكم الكريمة هذه حتم ًا �ستقويها‬
‫الإبداع الثقافي‬ ‫ع�ضو المجل�س الأعلى حاكم ال�شارقة‪ ،‬مبادرة‬ ‫وتخفف عنها‪ ،‬ومبادرتكم الثرية في ملتقى‬
‫تدرك قيمة المثقف ودور المثقفين في ت�شكيل‬ ‫ال�شارقة الثقافي لتكريم ال�شخ�صيات العربية في‬
‫عقول الأمة وبناء منظومتها القيمية‪ ،‬وها هو‬ ‫�أوطانها توطيداً للأوا�صر القومية والح�ضارية‬
‫�سلطان الخير يعي �أن الثقافة هي �سفينة النجاة‬ ‫بين المثقفين على امتداد الوطن العربي الكبير‪.‬‬
‫من التراجع التاريخي الذي تعي�شه الأمة العربية‬ ‫ال��روائ��ي �سمير المنزالوي‪ ،‬ي�سرد تجربته‬
‫وفي القلب منها مثقفوها‪ ،‬ها هو يطلق مبادرة‬ ‫وفرحة التكريم قائ ًال‪ :‬كانت الكتابة والت��زال‬
‫ليلملم �شتات الأمة ويعيد رتق‬ ‫َ‬ ‫التكريم الثقافي؛‬ ‫متعتي الكبرى‪ ،‬تليها القراءة الدائمة في كل‬
‫�سعيد نوح‪ :‬ما تقوم‬ ‫ثقوبها بتقوية ع�ضد هويتها الثقافية‪ ،‬وتقوية‬ ‫ما تقع عليه يداي‪ ،‬وهكذا اجتمع م�صدران من‬
‫به ال�شارقة ثقافي ًا‬ ‫ع�ضد مبدعيها‪.‬‬ ‫م�صادر ال�سعادة‪ ،‬جعال لحياتي طعم ًا طيب ًا‪،‬‬
‫يعلي من قيمة‬ ‫لا‪ :‬ال��ن��داء‬
‫و�أوج� ��ه كلمتي للمبدعين ق��ائ� ً‬ ‫الكتابة قدر كالعمر والحظ‪ ،‬وقد �أمدني المكان‬
‫المثقف ودوره في‬ ‫الحقيقي يجد من يتلقفه ولو بعد حين‪ ،‬وعلى‬ ‫الذي �أعي�ش فيه‪ ،‬بزخم عميق‪ ،‬فالماء يحيط بنا‬
‫ال ُك ّتاب الحقيقيين �أن ي�ستمروا في �إبداعهم وال‬ ‫من ثالث جهات‪ :‬البحيرة والنيل والبحر‪ ،‬في‬
‫بناء مجتمعه‬ ‫ثمة‬ ‫مثل تلك البيئة تنمو الحكايات وتم�س وجدانك‬
‫ي�شغلهم عن م�شاريعهم �أحد‪ ،‬وفي وقت ما َّ‬
‫�سيلتفت لها ويقدمها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َم ْن‬ ‫فتوقظه ُم��ب��ك��راً‪ ،‬لقد كتبت ع��ن ال��ق��رى التي‬
‫ت�شبه قريتي‪ ،‬وعن الب�شر الذين ي�شبهون �أهلي‪،‬‬
‫وتعودت على وهج يخرج من قلبي‪ ،‬في�ضيء‬
‫الجمادات وي�شركها في الحركة‪ ،‬تتحرك ال�سواكن‬
‫في ق�ص�صي ورواي��ات��ي‪ ،‬وتف�صح عن �أ�شواقها‬
‫و�أ�سرارها‪ ،‬فيبدو العالم بهيج ًا وغام�ض ًا في �آن‬
‫‪ ،‬تتخفى قريتي (منية المر�شد) في كل �سطر‪،‬‬
‫وتعي�ش معي حين �أر�سم خريطة عمل جديد‪،‬‬
‫ويتردد في �ضميري �صدى �صوت المرحومة‬
‫(زم ��زم) ج��دت��ي‪ ،‬حين �أك ��دت �أن القرية تظهر‬
‫للطيبين والمر�ضى والم�ساكين‪ ،‬على هيئة �شابة‬
‫جميلة‪ ،‬تمنحهم نقوداً وفاكهة‪.‬‬
‫في م�شروعي �أم��زج الإن�سان والمكان‪ ،‬وال‬
‫�أكف عن تناول الجدلية بينهما‪ ،‬هدفي الرئي�س‬
‫الأدباء المكرمون‬

‫‪41‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫الأدب والـفـــن‬
‫ودورهما االجتماعي‬

‫مفيد �أحمد ديوب‬

‫الدكتور (بن باين) الزنجي العرق‪ ،‬وال�صحافية‬ ‫ذات ي��وم لي�س ب��ع��ي��داً‪ ،‬ا�ستقبل الرئي�س‬
‫الم�صورة (�آليك�س نوك�س) في مطار (�سولت‬ ‫الأمريكي �أبراهام لنكولن‪ ،‬الروائية الأمريكية‬
‫ليك �سيتي) الدولي‪ ،‬عندما تم �إلغاء رحلتيهما‬ ‫هيرييت �ستو مرحب ًا‪�( :‬أه ًال بالروائية ال�صغيرة‬
‫وكالهما حري�ص على الو�صول �إل��ى وجهته‪،‬‬ ‫التي �أح��دث��ت ث��ورة كبيرة ج ��داً)‪ ،‬ال��ث��ورة التي‬
‫حيث لدى (بن) مر�ضى ينتظرونه‪ ،‬ولدى �آليك�س‬ ‫ح�صلت بعد ع�شر �سنوات من ن�شر روايتها عام‬
‫عر�سها وزواجها في اليوم التالي‪ ،‬فا�ضطر بن‬ ‫(‪1852‬م)‪( :‬كوخ العم توم)‪ ،‬والتي �أ�سهمت في‬
‫ال�ستئجار طائرة خا�صة‪ ،‬وعر�ض على �آليك�س‬ ‫�صدور ال��ق��رار التاريخي بتحرير العبيد في‬
‫مقعداً فيها‪ ،‬ف�أقلعت الطائرة وطارت بعد هدوء‬ ‫�أمريكا‪ ،‬وتلتها دول كثيرة‪ ،‬والذي �شكل �أعظم‬
‫الطق�س قلي ًال‪ ،‬لكنها لم ت�صل وجهتها لإ�صابة‬ ‫ق��رار في تاريخ كفاح الب�شرية لنيل ال�شعوب‬
‫الطيار ب�سكتة دماغية‪ ،‬و�سقطت على قمة جبل‬ ‫حريتها‪.‬‬
‫يونيتا�س ويلدرني�س‪ ،‬ونجا ال�شابان برغم‬ ‫لم يكن قول الرئي�س الأمريكي المقت�ضب‬
‫�إ�صابة �آليك�س ب�صدمة بالر�أ�س جعلتها تغيب عن‬ ‫جداً �سوى ت�صوير لحقيقة دور الثقافة والأدب‬
‫وعيها ثالثة �أيام‪ ،‬وك�سر في �ساقها‪ ،‬و�إ�صابة بن‬ ‫عموم ًا‪ ،‬والرواية خ�صو�ص ًا‪ ،‬في تقدم الب�شرية‬
‫ت�ستطيع الفنون‬ ‫بك�سر في �أ�ضالعه‪.‬‬ ‫نحو �أن�سنتها‪� ،‬سواء في انتزاع الحرية �أو في‬
‫والآداب مندمجة‬ ‫ثالثة �أيام بلياليها الطويلة كانت فا�ص ًال‬ ‫نيل الحقوق‪� ،‬أو في ك�شف الأوهام والأ�ضاليل‪،‬‬
‫زمني ًا بين الموت والحياة‪ ،‬وفا�ص ًال جغرافي ًا‬ ‫و�إظهار الحقائق للب�شر‪� ،‬أو في �صحوة الب�شر‪،‬‬
‫�أن ت�شكل �أداة‬ ‫وروحي ًا بين ذاك العالم ال��ذي غ��ادراه‪ ،‬وبين‬ ‫ودفع الح�ضارات لت�صويب م�ساراتها الخط�أ‪..‬‬
‫تغيير وتنوير‬ ‫ع��ال��م مخيف وم��ده�����ش‪� ،‬أع��اده��م��ا �إل ��ى عالم‬ ‫ولعلنا نتخيل كم �أ�صبح دور ذاك الأدب والرواية‬
‫البدايات الأول��ى لجدنا الإن�سان الأول‪ ،‬ثالثة‬ ‫�أك��ث��ر فاعلية وانت�شاراً حين تحول ال��رواي��ة‬
‫�أي ��ام والطبيب ب��ن يعالج ويعتني بال�صبية‬ ‫الإبداعية �إل��ى فيلم �سينمائي يج�سد الأفكار‬
‫الغائبة عن وعيها‪ ،‬بعد �أن فرد لها مقعد الطائرة‬ ‫والأح���داث والأ�شخا�ص‪ ،‬ويو�صلها بال�صوت‬
‫ال��ج��ل��دي‪ ،‬ول��ف ج�سدها باللحاف ال�صوفي‬ ‫وال�صورة الحية المتحركة‪ ،‬والحركة المعبرة‪،‬‬
‫الوحيد‪ ،‬و�ضمد لها جرح ر�أ�سها و�ساقها‪ ،‬وتمدد‬ ‫وده�شات الجمال‪ ،‬وبزمن مكثف‪� ،‬إلى ماليين‬
‫بنومه على �صفيح الطائرة مجاوراً مقعدها‪،‬‬ ‫الب�شر من مختلف فئات و�شرائح المجتمعات‪،‬‬
‫وقاب�ض ًا على راحة يدها ليطمئن �إلى نب�ضها‬ ‫وفي مختلف �أ�صقاع الأر�ض‪ ،‬ولعل الفيلم الذي‬
‫وحرارتها وحركاتها‪ ..‬ا�ستيقظت �آليك�س من‬ ‫�شاهدته �أخيراً مترجم ًا بعنوان (الجبل بيننا)‬
‫غيبوبتها وا�ستعادت ذاكرتها بعد ثالثة �أيام‬ ‫‪ the mountain between us‬الم�أخوذ‬
‫بلياليها الطويلة‪ ،‬ك�أنها كانت رمزاً �أو اخت�صاراً‬ ‫من رواية الكاتب ت�شارلز مارتين التي كتبها‬
‫لثالثمئة �ألف �سنة تف�صلهما عن جدنا الإن�سان‬ ‫عام (‪ ،)2011‬وتم �إنتاج الفيلم ب�إخراج المبدع‬
‫الأول‪ ،‬وتو�صلهما ب�أ�سئلته الكبرى عن الكون‬ ‫الفل�سطيني هاني �أبو�سعد في ع��ام (‪)2017‬‬
‫والخلق‪ ،‬والعالم‪ ،‬ومعنى الحياة‪ ..‬وت�ضع �أمام‬ ‫وب�����أدوار بطليه الممثلين‪ :‬كيت وين�سليت‪،‬‬
‫ناظريهما نموذجين لعالمين مختلفين جداً‪،‬‬ ‫و�إدري�س �ألبا‪.‬‬
‫يتيحان لعقليهما المقارنة والمناظرة بين عالم‬ ‫يبد�أ الفيلم في ليلة �شتوية عا�صفة علق فيها‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪42‬‬


‫�آمال‬

‫النهر في �أ�سفل الجبل الثلجي‪ ،‬و�شعرا بالكثير‬ ‫جدنا الإن�سان الأول و�أ�سئلته و�إجاباته‪ ،‬وبين‬
‫من الأم��ان في الحياة والبقاء‪ ،‬و�أ�ضحى من‬ ‫عالم ما �سمى بالح�ضارات والحداثة و�أ�سئلتها‬
‫الطبيعي �أن ي�س�أال نف�سيهما ذات ال�س�ؤال‪ :‬ما‬ ‫و�إجاباتها على ذات الأ�سئلة‪ ،‬وليتبين لهما بعد‬
‫معنى حياتنا هنا اليوم على �سطح هذا الكوكب‬ ‫ح��ادث �سقوط الطائرة في الأي��ام والأ�سابيع‬
‫المده�ش الجمال؟ ولماذا لم ن�س�أل �أنف�سنا ذات‬ ‫الأولى خط �سير رحلة الجماعات الب�شرية‪ ،‬وما‬
‫ال�س�ؤال في ذاك العالم الذي غادرناه منذ �أيام؟‬ ‫�آل �إليه عقل جموع الب�شر �إلى متاهات م�ضللة‪،‬‬
‫ترى هل لأننا كنا غارقين هناك في اللهاث‬ ‫و�إل��ى �أنفاق منحدرة‪ ،‬وف��ي نهاياتها �أ�ضواء‬
‫وراء �أمجاد متوهمة ال معنى لها والرك�ض وراء‬ ‫و�آمال زائفة‪..‬‬
‫فيلم «الجبل بيننا»‬ ‫�أمجاد امتالك �أدوات القوة‪ ،‬و�سباق ال�سيطرة‬ ‫ها هي �آليك�س وقد اكت�شفت بمرارة �صفعة‬
‫م�أخوذ عن رواية‬ ‫والتحكم‪� ،‬أم تكري�س نزوع التفوق والعن�صرية‬ ‫الخيبة‪ ،‬لعدم اهتمام عري�سها وزوجها المرتقب‬
‫والكراهية البغي�ضة‪ ،‬التي �أف�ضت �إل��ى تدمير‬ ‫بفقدانها واختفائها‪ ،‬وعدم اهتمامه بالبحث‬
‫للكاتب ت�شارلز‬ ‫ن��زوع المحبة والعي�ش الم�شترك بين الأف��راد‬ ‫عنها‪ ،‬و�س�ؤال المطار الذي و�صلته عن م�صيرها‪،‬‬
‫مارتين‬ ‫والجماعات والأم ��م؟ تلك الأوه ��ام والأمجاد‬ ‫�أو طلب النجدة والبحث عن طائرتهما التي‬
‫الفارغة‪ ،‬واالنت�صارات المزعومة التي �أقنعتنا‬ ‫انقطع االت�صال بها‪ ،‬وتكت�شف اليوم بالمقابل‬
‫بها و�ضللتنا فيها الحكومات المت�صارعة‪،‬‬ ‫حقيقة هذا الرجل الغريب عنها‪ ،‬ال��ذي رف�ض‬
‫وجعلتنا �ضحاياها‪ ،‬وقد خ�سرنا فيها �أرواحنا‬ ‫الهرب بجلده باحث ًا عن مخرج له‪ ،‬بل �آثر البقاء‬
‫وطفولتنا‪ ،‬و�إن�سانيتنا‪ ،‬وهي ت�شعل حروب ًا في‬ ‫والعناية بها طوال �أيام غيبوبتها‪ ،‬وها هو ي�سند‬
‫كل مكان‪ ،‬وتعمم الفقر والجوع لدى ال�شعوب‪،‬‬ ‫خطواتها العرجاء بكتفه تارة‪� ،‬أو يحملها بين‬
‫وتحافظ على الجهل وتجهيل العقول؟ ترى �إلى‬ ‫�ساعديه مثلما يحمل ابنته وطفلته تارة �أخرى‪،‬‬
‫�أين ت�سير تلك الح�ضارات الزائفة الم�ضللة؟‬ ‫ليو�صلها �إلى �أ�سفل الجبل الثلجي‪� ،‬أو �أي مكان‬
‫�آليك�س‪ ،‬ال�صحافية الم�صورة التي غطت‬ ‫�أكثر �أمن ًا و�سالمة‪..‬‬
‫�أحداثه تبد�أ بالجمع‬ ‫�أحداث ًا كثيرة‪ ،‬وهي اليوم تغطي �أكبر حدث في‬ ‫ف��ق��در �آليك�س �أن ت�ستعيد مفهوم الحب‬
‫بين الطبيب «بن»‬ ‫حياتها‪ ،‬ا�ستمرت بتلك الأ�سئلة البليغة التي‬ ‫الحقيقي القائم على معيار �إدراك قيمة ال�شريك‬
‫وال�صحافية «�أليك�س»‬ ‫�أيقظت لديها وعي ًا �إن�ساني ًا عميق ًا‪ ،‬وتتماثل‬ ‫والحبيب ف��ي ج��وه��ره‪ ،‬وعلى معيار احترام‬
‫لل�شفاء‪ ،‬م�ستمتعة باكت�شاف الحقائق المهمة‬ ‫قيم ورج��ول��ة ه��ذا ال��رج��ل‪ ،‬و�شهامته ونزوعه‬
‫تباع ًا‪ ،‬وهي الأنثى التي وج��دت بيت ًا خ�شبي ًا‬ ‫الإن�ساني‪..‬‬
‫�أ�ضحى بالن�سبة لها وطن ًا ومقراً تت�شبث فيه‪،‬‬ ‫جراح �أع�صاب الدماغ (بن باين)‬ ‫ّ‬ ‫هو‬ ‫وها‬
‫وتنتظر ب�شوق و�شغف عودة ذاك الرجل الذي ملأ‬ ‫يكت�شف ب��م��رارة الخديعة �أي�ض ًا‪ ،‬بحياته مع‬
‫عقلها‪ ،‬وهز كيانها‪ ،‬لتتحدث معه وت�ستنطقه‪،‬‬ ‫زوجته التي �أر�سلت له �آخر ر�سالة و�صلته على‬
‫وتت�شاجر معه ككل الزوجات‪ ،‬وت�شكل كيمياءها‬ ‫موبايله‪ ،‬ب�أنها غادرت بيتهما الزوجي �إلى غير‬
‫الخا�صة تجاهه‪ ،‬كيمياء الحب ال��ذي لي�س له‬ ‫رجعة‪� ،‬ضاربة بعر�ض الحائط �سنوات زواجهما‬
‫حدود‪ ،‬و�أحالم ًا ب�إقامة عر�سها هنا في عالم‬ ‫التي �أحاطها بحبه‪ ،‬وبكل طاقة لديه‪ ..‬دون �أن‬
‫مختلف‪ ،‬ومع رجل مختلف‪ ،‬وبطقو�س �شديدة‬ ‫تدرك قيمته وقيمة حبه لها‪ ،‬في�صاب بالحزن‬
‫االختالف والب�ساطة‪ ،‬ي�شبه �صدقها نقاء ذاك‬ ‫العميق‪ ،‬والبغ�ض ل��ذاك العالم المنافق‪ ،‬لقد‬
‫الثلج المحيط بهما‪ ،‬فالحقائق نا�صعة البيا�ض‬ ‫اكت�شفت �آليك�س تلك الر�سالة حين اختل�ست نظرة‬
‫فكرة الفيلم تقول‬
‫�أي�ض ًا‪ ،‬لكن اكت�شافها قد يحتاج �إل��ى �صدمة‬ ‫�إليها لدى تفح�ص ر�سائله في غيابه‪ ،‬وتفهمت‬
‫�إن الحقائق وا�ضحة‬ ‫و�صحوة ت�شبه �صدمة �سقوط طائرة‪.‬‬ ‫�أ�سباب حزنه العميق‪ ،‬لكنها ت�ساءلت بذات‬
‫�أمامنا ولكن تحتاج‬ ‫قدم ذاك العمل الروائي ال�سينمائي الإبداعي‪،‬‬ ‫الوقت‪ :‬هل �أعتبر نف�سي محظوظة‪ ،‬حين �سقطت‬
‫�إلى �صدمة الكت�شافها‬ ‫�أفكاراً في غاية الأهمية‪ ،‬لت�شهده وتتفاعل معه‬ ‫طائرتي هنا ونجوت مع ه��ذا الرجل في هذا‬
‫لا ب�إدها�شها‬ ‫قطاعات وا�سعة من الب�شر‪� ،‬أم� ً‬ ‫الف�ضاء الرحب من الحرية؟ ونجوت في الوقت‬
‫ج��م��ا ًال‪ ،‬وب�صدمتها لتكون بمثابة �صدمة‬ ‫ذات��ه من كارثة العي�ش ط��وال عمري مخدوعة‬
‫ال�صحوة‪� ..‬صدمة القوة الناعمة (من اندماج‬ ‫مع ذاك الرجل المنافق؟ وخانعة كالعبيد لعالم‬
‫ال�سينما والأدب والجمال)‪ ،‬لتخلق وعي ًا جديداً‪،‬‬ ‫ال�سلع والتعليب‪ ،‬ولكل تلك الأطر الخادعة فيه؟‬
‫وقوى جديدة ت�سهم في تغيير العالم �إلى عالم‬ ‫كان فرحهما انت�صاراً ال ي�ضاهيه انت�صار‬
‫�أقل قهراً‪ ،‬و�أكثر �إن�سانية‪.‬‬ ‫حين وج��دا بيت ًا خ�شبي ًا مهجوراً على �ضفة‬

‫‪43‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ظاهرة ال�شعر في المو�سيقا العربية‬

‫الأخطل ال�صغير‪..‬‬
‫�أولى النغم المو�سيقي جل اهتمامه ال�شعري‬
‫وم��ن ق��ول ال�شاعر ن ��زار قباني عنه‪:‬‬
‫(ب�شارة الخوري كان مع ّلم ًا كبيراً‪ ،‬تع ّلمت‬
‫منه الطراوة والطالوة‪ ،‬وطريقته المده�شة‬
‫ف��ي م��زج الإي��ق��اع��ات والأل�����وان)‪� .‬إل��ى قول‬
‫الأخطل ال�صغير عن نف�سه‪�( :‬س�أكون َغ ِز ًال ولو‬
‫في الم�آتم)‪� .‬إلى مراجعة ديوانه؛ نجد �أ ّنه قد‬
‫�أولى النغم المو�سيقي ُج ّل اهتمامه‪ ،‬باختياره‬
‫الألفاظ المتقاربة المتجان�سة‪ ،‬ثم و�ضعها في‬
‫ميزه عن غيره من‬ ‫قالب توالفي خا�ص به ّ‬
‫ال�شعراء‪ ،‬لتبدو في غاية اللين والمرونة‪ .‬ما‬
‫جعل الكثير من الملحنين والمطربين‪ُ ،‬يقبلون‬
‫على �شعره ذي المو�سيقا‪ ،‬والتعابير ال�سهلة‪.‬‬
‫فالمو�سيقار محمد عبدالوهاب قال عنه‪:‬‬
‫لحن ًا‪،‬‬ ‫(ب�شارة الخوري كان �شعره ي�أتيني ُم ّ‬
‫ومو�سيقية‬
‫ّ‬ ‫غنائية‬
‫ّ‬ ‫ل ّأن ما في هذا ال�شعر من‬
‫وع��ذوب��ة‪ ،‬لم يجعله ُمحتاج ًا �إل��ى جهد في‬
‫فلحن من �شعره ق�صائد‪( :‬الهوى‬ ‫تلحينه)‪ّ .‬‬
‫وال�����ش��ب��اب)‪ ،‬المنظومة م��ن بحر الخفيف‪،‬‬
‫والملحنة من مقام العجم (ماجور)‪ .‬ومطلعها‪:‬‬ ‫ّ‬
‫وال�شبـاب والأ َمـلُ المنـ‬ ‫ُ‬ ‫الهوى‬
‫ال�شعر ح ّيا‬ ‫فتبعثُ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ُوح‬ ‫ت‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫�شو‬ ‫مقرب ًا من ال�سلطة‬
‫�إذا كان الأخطل التغلبي (الكبير)‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫والهوى وال�شباب والأمل المنـ‬ ‫الأم���و ّي���ة ف��ي دم�����ش��ق‪ ،‬ف���� ّإن ب�����ش��ارة ال��خ��وري (الأخ��ط��ل‬
‫�شو ُد �ضاعت جميعها من يد ّيا‬ ‫ال�صغير)‪ ،‬ك��ان هارب ًا ومتن ّق ًال على ال��دوام بين بيروت‬
‫(ال�صبا والجمال)‪،‬‬ ‫�أي�ض ًا لحن له ق�صيدة ِ‬ ‫وك�سروان في جبل لبنان‪ ،‬من ظلم ال�سلطنة العثمان ّية‪،‬‬
‫والملحنة من‬ ‫ّ‬ ‫وهي �أي�ض ًا من البحر الخفيف‪:‬‬
‫التي ك��ان �شغلها ال�شاغل اب��ت��زاز الأم���وال من الواليات‬
‫مقام الكرد‪ .‬ومطلعها‪:‬‬ ‫علي الب�شلي‬
‫يديك‬‫ِ‬ ‫ال�صبا وال��ج��م��الُ ُم��ل ُ‬
‫��ك‬ ‫و�سوق �أبناء تلك الواليات �إل��ى الجند ّية‪،‬‬ ‫التابعة لها‪َ ،‬‬
‫ِّ‬
‫��ك‬ ‫ت����اج �أع�����زُّ م���ن ت��اج��ي ِ‬ ‫ٍ‬ ‫� ُّأي‬ ‫ولذلك كان للهرب والتن ّقل �أثر كبير في �شعر ب�شارة الخوري‪� ،‬إلى درجة �صدق‬
‫الح ْ�س ُن عر�شَ ه ف�س�ألنا‬ ‫ن ََ�ص َب ُ‬ ‫(رب �ضارة نافعة)؛ �إذ �إنه خالل تلك الفترة‪ ،‬عكف على‬ ‫معه المثل القائل‪ّ :‬‬
‫ِ‬
‫عليك‬ ‫َ���راه���ا ل���ه؟ ف���دلَّ‬ ‫���ن ت َ‬ ‫م ْ‬ ‫عد مو�سوعة ال�شعر العربي القديم‪ ،‬ما �أثّر‬ ‫درا�سة كتاب (الأغاني)‪ ،‬الذي ُي ّ‬
‫ولحن له ق�صيدة (جفنه ع ّلم الغزل)‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫ت�أثير ًا كبير ًا في ثقافته ال�شعر ّية؛ �إذ لم يكتف ب�أخذ لقب (الأخطل ال�صغير)‬
‫مجزوء الخفيف‪ ،‬ومن مقام العجم (ماجور)‪.‬‬
‫ومطلعها‪:‬‬ ‫مد يده �إلى عوالم الطبيعة‬ ‫تي ّمن ًا بالأخطل التغلبي‪ ،‬بل اقتفى �أث��ره في ّ‬
‫���م ال���ـ���غَ���ـ���زَ لْ‬
‫َج��� ْف���ـ���نُ���ـ���هُ َع���لّ���ـ َ‬ ‫المتفلّقة ب�آالف الأل��وان والأ�شكال‪ ،‬وك َْم�ش تلك العوالم الرقيقة العذبة‪،‬‬
‫���م م��ـ��ا َق��تَ��ـ��لْ‬ ‫����ـ����ن ال��� ِع���لْ���ـ ِ‬
‫َو ِم َ‬ ‫و�إنزالها منازل الق�صيدة‪ .‬وعدا عن ذلك‪ ،‬كان لبيروت المدينة ال�ساحرة‬
‫ن����ف����و�����س����ن����ا‬
‫َ‬ ‫ف�����ح�����رق�����ن�����ا‬ ‫�آن��ذاك �أثر في �شعره؛ �إذ �أخذ منها الترتيب والنظام والحداثة‪ ..‬هذا هو‬
‫َ ����لْ‬‫ب‬ ‫ُ����‬‫ق‬ ‫����‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م����ن‬ ‫ج���ح���ي���م‬
‫ٍ‬ ‫ف����ي‬ ‫ب�شارة الخوري‪ ،‬الذي ولد في بيروت �سنة (‪ ،)1885‬ومات فيها �سنة (‪.)1968‬‬
‫و�إذا ما وقفنا في محراب هذه الق�صائد‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪44‬‬


‫�إ�ضاءة‬

‫ب��ع��دك‬
‫ْ‬ ‫�����ت‬ ‫ِع ْ‬
‫�������ش �أن������تَ �إن�����ي ُم ُّ‬ ‫بق�صدية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الثالث‪ ،‬نجد �أن عبدالوهاب اختارها‬
‫���ص��د ْك‬‫ّ‬ ‫و�أط�������لْ �إل����ى م���ا ���ش��ئ��تَ‬‫ِ‬ ‫لأنها ق�صائد من البحر الخفيف‪ ،‬الذي ُيقال عنه‬
‫ك������ان������ت ب�����ق�����اي�����ا ل�����ل�����غ�����را ِم‬ ‫معبرة جداً عن‬ ‫بحر الحكماء‪ .‬وق�صائد هذا البحر ّ‬
‫ْ‬
‫ب���ع���دك‬ ‫ب��م��ه��ج��ت��ي ف���خ���ت���م���ت‬ ‫�شخ�صية عبدالوهاب في التلحين من هذا البحر‬ ‫ّ‬
‫هاتان الق�صيدتان تنا�سبان طبيعة فريد‬ ‫ال�صعب!‬
‫الأطر�ش‪ ،‬وطبيعة مو�سيقاه الحزينتين‪ ،‬لذلك �أبدع‬ ‫لحن له ق�صيدة‪:‬‬ ‫وتذكر المراجع �أي�ض ًا �أنه ّ‬
‫في تلحينهما من مقام بياتي‪ ،‬المقام ال�شرقي‬ ‫(كفاني يا قلب ما �أحمل) المنظومة من المتقارب‪،‬‬
‫الأ�صيل‪ .‬و�إذ ُنلقي ال�ضوء على (ع�ش �أنت)‪ ،‬نجد‬ ‫ومطلعها‪:‬‬
‫�أن الأخطل ال�صغير قد �صاغها ببراعة؛ وذلك‬ ‫ق���ل���ب م����ا �أح����مِ����لُ‬
‫ُ‬ ‫ك���ف���ان���ي ي����ا‬
‫بالمفا�ضلة بين روعة الطبيعة‪ ،‬وروعة المحبوب؛‬ ‫ه�������وى �أ ّولُ‬
‫ً‬ ‫ي�������وم‬
‫ٍ‬ ‫�أف�������ي ك�����لِّ‬
‫ت�ستمد بهاءها من جمال‬ ‫ّ‬ ‫�إذ � ّإن الطبيعة هي التي‬ ‫ك��ف��ى نَ��� َه���م��� ًا ل���ن ي��� ِف��� َّر ال��ج��م��الُ‬
‫المحبوب‪:‬‬ ‫ي���رح���لُ‬
‫َ‬ ‫وت�����رح�����لُ �أن��������تَ وال‬‫َ‬
‫��وك‬‫�أن���ق���ى م���ن ال��ف��ج��ر ال�����ض��ح ِ‬ ‫و�أي�����ض � ًا ل� ّ�ح��ن ل��ه ق�صيدة (ي ��ا ورد مين‬
‫الأعمال الكاملةلل�شاعر‬ ‫ق�صة عذبة‪ُ :‬يقال � ّإن‬
‫�����د ْك‬ ‫وق�����د �أع��������رتَ ال���ف���ج���ر خ ّ‬ ‫ي�شتريك) ولهذه الق�صيدة ّ‬
‫ال��ن�����س��ي��م‬
‫ِ‬ ‫أرق م�����ن ط���ب���ع‬ ‫و� ُّ‬ ‫عبدالوهاب طلب من الأخطل ال�صغير �أن يكتب‬
‫ْ‬
‫�������ردك‬ ‫ف���ه���ل خ���ل���ع���تَ ع���ل���ي���ه ُب‬ ‫العامية‪ ،‬فانفعل ال�شاعر‬ ‫ّ‬ ‫له �أغنية باللهجة‬
‫هذا الهيام يتوافق وطبيعة فريد الأطر�ش‪،‬‬ ‫وقال لعبدالوهاب بغ�ضب‪( :‬كيف تطلب مني �أن‬
‫تفرد فيهما؛‬ ‫و�أ�سلوبه في التلحين والغناء اللذين ّ‬ ‫�أتنازل‪� ،‬أنا ب�شارة الخوري‪ ،‬و�أكتب لك باللهجة‬
‫نجح في اختيار‬ ‫�إذ �أبدع فريد الأطر�ش في مقدمة الأغنية بالعزف‬ ‫هد�أ عبدالوهاب من روع �شاعره‬ ‫العامية)‪ .‬عندها ّ‬
‫الألفاظ المتقاربة‬ ‫المنفرد على العود‪ ،‬وك�أنه ي� ّؤكد ا�ستلهامه لهذه‬ ‫تعرفت طبقات الأدب��اء‬ ‫قائ ًال‪( :‬يا �سيدي‪ ،‬لقد ّ‬
‫المتجان�سة ف�أقبل‬ ‫الفرادة في العزف من المحبوب �أي�ض ًا‪ .‬و� ّأم��ا‬ ‫والمثقفين �إلى �شعرك العظيم ومكانتك العالية‬
‫الكثير من الملحنين‬ ‫محمد الق�صبجي‪ ،‬فقد اختار ق�صيدة‪:‬‬ ‫المو�سيقار ّ‬ ‫ف��ي ال�شعر الف�صيح‪� ،‬ألي�س م��ن ح��ق الطبقات‬
‫(ا�سقنيها ب�أبي �أن��ت و� ّأم ��ي)‪ .‬وه��ذه الق�صيدة‬ ‫تتعرف وتتذوق �شعر ب�شارة‬ ‫ال�شعبية الأخرى �أن ّ‬
‫على �شعره المو�سيقي‬ ‫أندل�سية‪،‬‬ ‫منظومة على طريقة المو�شحات ال‬ ‫الخوري �أي�ض ًا؟)‪ .‬عندها �أط��رق ال�شاعر لحظ ًة‬
‫ّ‬
‫وه��ي من بحر الرمل‪ .‬واختار الق�صبجي في‬ ‫ثم �أجاب بعد‬ ‫حجة عبدالوهاب المقنعة؛ ّ‬ ‫يت�أمل ّ‬
‫العربية‪،‬‬‫ّ‬ ‫تلحينها مقام الر�ست؛ مقام المو�سيقا‬ ‫لحظات بتح ّفظ ظاهر‪( :‬ا�سمع يا �صديقي‪� ،‬س�أقطع‬
‫أرج��ح اختياره لهذا المقام‪ُ ،‬ليظهر براعته‬ ‫و� ّ‬ ‫معك ن�صف الم�سافة فقط بهذا ال�ش�أن الجديد على‬
‫المو�سيقية من‬ ‫ّ‬ ‫�أي�ض ًا في التن ّقل بين المقامات‬ ‫م�سيرتي الأدبية‪� ،‬س�أكتب لك �أغنية ذات وجهين‪،‬‬
‫خالل الر�ست‪ .‬واختار‬ ‫ئلت‬ ‫ُتقر�أ بالف�صحى و ُتغ ّنى بالعامية‪ ،‬و�إن ُ�س ُ‬
‫�صوت �أ�سمهان القدير‬ ‫كتبت لعبدالوهاب �أغنية بالف�صحى‬ ‫ُ‬ ‫�س�أقول �إنني‬
‫لي�شدو بها‪ ،‬ل ّأن هذا‬ ‫وغناها بالعامية! ومطلعها‪:‬‬
‫اللحن البديع ال�صعب‪،‬‬ ‫ي�����ا ورد م�����ن ي�����ش��ـ��ـ��ـ��ـ��ت��ري��ك‬
‫كان �سيكون م�صيره‬ ‫ول���ل���ح���ب���ي���ـ���ـ���ـ���ب ي��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ه��دي��ك‬
‫ال��ف�����ش��ل‪ ،‬ل ��وال �صوت‬ ‫ي�����ه�����دي �إل����ي����ـ����ـ����ك الأم����������لْ‬
‫�أ���س��م��ه��ان ال��ق��وي ذو‬ ‫وال���ه���وى وال��قُ��ب��ـ��ـ��ـ��لْ ‪ ....‬ي��ا ورد‬
‫الم�ساحة الوا�سعة‪.‬‬ ‫عبقرية‬ ‫ّ‬ ‫ف��ي لحن ه��ذه الق�صيدة تج ّلت‬
‫فريد الأطر�ش‬ ‫ريا�ض ال�سنباطي‬
‫وق��������د اخ����ت����ار‬ ‫قربها ببراعة م��ن جميع‬ ‫ع��ب��دال��وه��اب؛ �إ ّذ ّ‬
‫ال��م��و���س��ي��ق��ار ري��ا���ض‬ ‫الأذواق‪ ،‬على عك�س الق�صائد الأولى ال�صعبة‬
‫ال�سنباطي‪ ،‬ق�صيدة‪:‬‬ ‫أداء وتلحين ًا‪ّ � .‬أم��ا فريد الأطر�ش؛ فقد اختار‬ ‫� ً‬
‫(ن��م � ّإن قلبي)‪ ،‬وهي‬ ‫ق�صيدتين هما‪ :‬ق�صيدة (�أ�ضنيتني بالهجر)‪،‬‬
‫م��ن ال��ب��ح��ر ال��ك��ام��ل‪.‬‬ ‫وهي من البحر ال�سريع‪ .‬ومطلعها‪:‬‬
‫لحن ال�سنباطي هذه‬ ‫��ك‬ ‫�أ�ضنيتني ب��ال��ه��ج��ر م��ا �أظ��ل��م ْ‬
‫الق�صيدة م��ن مقام‬ ‫يرحمك‬‫ْ‬ ‫فارحم ع�سى الرحمن �أن‬
‫الر�ست‪ ،‬و�أب���دع فيه‪،‬‬ ‫وق�صيدة (ع�ش �أنت)‪ ،‬وهي من البحر الكامل‪،‬‬
‫ل��ك��ن��ه ل��م ي��خ��رج عن‬ ‫ومطلعها‪:‬‬
‫الرحابنة‬

‫‪45‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�إ�ضاءة‬

‫يعط‬ ‫�أ�سلوبه التلحيني الطربي الثقيل‪ ،‬وبذلك لم ِ‬


‫خا�ص ًا ل�صوت نور الهدى‪ ،‬فظهرت وك�أنها‬ ‫ّ‬ ‫�شيئ ًا‬
‫ُتغني في محراب الطرب الكلثومي‪.‬‬
‫و� ّأم���ا الأخ���وان رحباني؛ فقد اخ��ت��ارا من‬
‫الق�صائد ما توافق وطبيعة المو�سيقا والكلمة‬
‫الرحبانية‪ ،‬التي فيها م��ن الخ ّفة المبدعة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫والحداثة‪ ،‬ما ي��روق لل�صغير والكبير‪ ،‬الجاهل‬
‫والمتع ّلم‪ ،‬فلحنا ق�صائد‪( :‬ق��د �أت ��اك يعتذر)‪،‬‬
‫والملحنة من مقام‬ ‫ّ‬ ‫المنظومة من المقت�ضب‪،‬‬
‫الحجاز‪ ،‬ومطلعها‪:‬‬
‫َ‬
‫أت��������������������اك ي�����ع�����ت�����ذ ُر‬ ‫ق���������د �‬
‫فيروز‬ ‫محيي الدين بعيون‬
‫ال����خ����ب����ر‬
‫ُ‬ ‫ال ت�����������س�����لْ�����هُ م�������ا‬
‫ك�������لّ�������م�������ا �أط������������ل������������تَ ل����ه‬
‫�������ص���ر‬
‫ُ‬ ‫ف������ي ال�����ح�����دي�����ث ي���خ���ت‬
‫وق�صيدة‪( :‬يا عاقد الحاجبين) المنظومة‬
‫والملحنة من مقام العجم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المجتث‪،‬‬
‫ّ‬ ‫من بحر‬
‫ومطلعها‪:‬‬
‫ع�������اق�������د ال����ح����اج����ب����ي����نِ‬
‫َ‬ ‫ي�������ا‬
‫ع����ل����ى ال����ج����ب����ي����نِ ال���لُّ���ج���ي���نِ‬
‫ت���ق�������ص���د ق��ت��ل��ي‬
‫ُ‬ ‫�إن ك�����ن�����تَ‬
‫م�������رت�������ي�������نِ‬
‫ّ‬ ‫ق������ت������ل������تَ������ن������ي‬

‫بى ال تتركي ورداً) المنظومة‬ ‫(يار ً‬


‫وق�صيدة‪ُ :‬‬
‫وي�ضحك) وه��ي منظومة من البحر الب�سيط‪،‬‬ ‫والملحنة من مقام العجم‪ ،‬ومطلعها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الرمل‪،‬‬
‫من ّ‬
‫وملحنة م��ن م��ق��ام البياتي‪ ،‬ه��ذه الق�صيدة‬ ‫ّ‬ ‫رب��������ى ال ت���ت���رك���ي ورد ًا‬ ‫ً‬ ‫ي�����ا‬
‫التي يم�ضي فيها ال�شعر والمو�سيقا‪ ،‬ك�أنهما‬ ‫أق�����������������اح‬
‫َ‬ ‫وال تُ�������ب�������ق�������ي �‬
‫جدوال ماء متجاوران‪ ،‬ين�سابان منف�صلين في‬ ‫ِ‬
‫م�����������ش�����ت ال���������������ش�������ا ُم �إل��������ى‬
‫ال�صوتيين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والمد‬
‫ّ‬ ‫المجرى‪ ،‬مت�آلفين باالنعراج‬ ‫����ان �����ش����وق���� ًا وال��� ِت���ي���اح���ا‬‫ل����ب����ن َ‬
‫ومطلعها‪:‬‬ ‫(بيروت هل ذرفت)‪ ،‬المنظومة من‬ ‫ُ‬ ‫وق�صيدة‬
‫يبكي وي�ضحك ال حزن ًا وال فرحا‬ ‫والملحنة من مقام الكرد‪ ،‬ومطلعها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الكامل‪،‬‬
‫خط �سطر ًا في الهوى ومحا‬ ‫كعا�شقٍ ّ‬ ‫ِ‬
‫عيونك دمعةً‬ ‫ب��ي��روتُ هل ذرف��ت‬
‫اختار �أ�شعاره‬ ‫هم�س في ق�صائده‬ ‫� ّإل ت��ر� ّ��ش��ف��ه��ا ف������ؤادي ال��م��غ��ر ُم‬
‫من ب�سمة النجم ٌ‬
‫ولحنها محمد‬ ‫ومن مخال�سة الظبي ال��ذي َ�سن ََح‬ ‫��راك فهل � ِأ���ض ُّ��ن ب�أدمعي‬ ‫�أن��ا من ث ِ‬
‫عبدالوهاب وفريد‬ ‫تمر�س ب��ال��ل��ذات وه��و فتى‬ ‫ق��ل ٌ��ب ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫في حا َلتَيك وم��ن �سمائك �أل�� َه ُ��م‬ ‫ِ‬
‫الأطر�ش والق�صبجي‬ ‫فانفتح‬
‫َ‬ ‫��ح‬ ‫ي‬ ‫��ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لم�سته‬ ‫��م‬
‫ٍ‬ ‫ع‬ ‫��ر‬ ‫ب‬ ‫��‬ ‫ك‬ ‫�أي�ض ًا ال يمكن �أن نن�سى �أي�ض ًا البيتين‬
‫والرحابنة‬ ‫لم �أ�ستطع المرور بجميع الق�صائد المغناة‪،‬‬ ‫الم�شهورين م��ن ق�صيدة (���ض��ف��اف ب���ردى)‪،‬‬
‫والنظر �إليها �شعري ًا ومو�سيقي ًا‪ ،‬لعدم توافر‬ ‫المنظومة من البحر الكامل‪ ،‬اللذين كانت فيروز‬
‫وال�سنباطي‬ ‫ت�سجيالت لها‪ ،‬فقد غ ّنى له‪� ،‬إ�ضافة �إلى الذين‬ ‫ت�صدح بهما ك ّل �سنة ك�شارة لمعر�ض دم�شق‬
‫ت� ّ�م ذك��ره��م‪ ،‬كل من نجيب نا�صيف‪ ،‬و�شكري‬ ‫الدولي‪:‬‬
‫ومحيي الدين بعيون‪ .‬وتبقى هذه �إ�ضاءة‬ ‫ال�سودا‪ُ ،‬‬ ‫بردى هل الخُ ُلد الذي وعدوا به‬
‫�صغيرة للراغبين في خو�ض الوقوف على ظاهرة‬ ‫�إال َّك ب��ي��ن ����ش���وادنٍ و����ش���وادي‬
‫ال�شعر في المو�سيقا العربية‪ ،‬التي ال تقت�صر على‬ ‫تحب ال�شا َم قلتُ جوانحي‬ ‫ُّ‬ ‫قالوا‬
‫الأخطل ال�صغير‪ ،‬بل �شعراء كبار كثر‪ ،‬ظاهرة‬ ‫مق�صو�صة فيها وق��ل��ت ف����ؤادي‬ ‫ٌ‬
‫ب��د�أت تندثر في ظ � ّل ه��ذا التراجع في الكلمة‬ ‫والق�صيدة الأخ��ي��رة ذائ��ع��ة ال�صيت على‬
‫واللحن المعا�صرين‪.‬‬ ‫لحنها الرحابنة هي‪( :‬يبكي‬ ‫ك ّل ل�سان‪ ،‬التي ّ‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪46‬‬


‫مقاالت‬
‫مرايا‬

‫وفاء عبدالرزاق وروايتها‬


‫«رق�صة الجديلة والنهر»‬
‫د‪ .‬محمد من�صور الهدوي‬

‫وم��ن �أه��م رواياتها ال�صادرة رواي��ة عنوان الرواية جاء بغر�ض الت�أكيد على‬ ‫وفاء عبد الرزاق الكاتبة ال�شمولية التي‬
‫الم ْحكم) بين الأن�سجة االجتماعية‬ ‫(رق�����ص��ة الجديلة وال��ن��ه��ر) وت���دور حول (ال َف ْتل ُ‬ ‫طرقت كل �أب��واب الإب��داع الأدب��ي وبرعت‬
‫البطلة (ري��ح��ان��ة) التي الق��ت م�صيرها العراقية‪ ،‬ورف�ض الروائية رف�ض ًا قاطع ًا‬ ‫فيه‪��� ،‬س��واء ف��ي مجال الق�صة �أو ال�شعر‬
‫على يد عملية تخريبية في العراق‪ ،‬وهي الم�سا�س بمكونات ال�شعب العراقي‪ ،‬كذلك‬ ‫�أو الرواية �أو الترجمة وحتى في ال�شعر‬
‫من الأع��م��ال الفكرية التي ت�أتي محملة اختارت الروائية رمز (ال�سنبلة) لمكانتها‬ ‫ال�شعبي‪� ،‬شاعرة وقا�صة وروائية عراقية‬
‫بالر�سائل الإن�سانية؛ ت��أت��ي على �شكل في البلدان العربية والإ�سالمية‪ ،‬وت�شير‬ ‫�أبحرت في رحلة العطاء الثقافي والت�ألق‪،‬‬
‫�صرخة يظل �صداها ي��ت��ردد على مدى �إلى العي�ش والتجديد و�إلى الأدوار الكونية‬ ‫وهي من مواليد الب�صرة (‪1952‬م)‪ ،‬تركت‬
‫الأجيال‪ .‬فعبر ف�صولها الت�سعة و�صفحاتها للأر�ض الأم المخ�صبة والكريمة‪ ،‬وفي‬ ‫العراق وتعي�ش غربتها في مدينة ال�ضباب‬
‫الـ (‪ ،)142‬ت�سحب هذه الرواية القارئ من الطقو�س التموزية‪ ،‬كان االحتفال بالعودة‬ ‫لندن‪ ،‬وهي رئي�سة وم�ؤ�س�سة رابطة الإبداع‬
‫ت�شده من �إن�سانيته بعيداً حام ًال معه حزم القمح‪ ،‬وبه يتحول من‬ ‫تالبيب روحه‪ّ ،‬‬ ‫من �أج��ل ال�سالم ومقرها لندن‪ ،‬و�سفيرة‬
‫عن � ّأي انتماءات جغرافية �أو عرقية �أو الظالم �إلى النور‪.‬‬ ‫النوايا الح�سنة في ال�شرق الأو�سط‪ ،‬ونائبة‬
‫تتوالى الأح ��داث في ال��رواي��ة‪ ،‬وتكبر‬ ‫دينية‪ ،‬لأن الحبر مهما كان قوي ًا‪ ،‬ينحني‬ ‫رئي�س البيت الثقافي العربي في الهند‪.‬‬
‫معاناة �سكان القرية من فقدان بناتهم‬ ‫�أمام نقطة دم �أُريقت بغير حق‪.‬‬ ‫�صدرت لها ع�شرات الكتب في مجاالت‬
‫الروائية لم تخترع �شخو�ص روايتها و�أبنائهم على يد التنظيمات الإرهابية‬ ‫ال�شعر والق�صة وال��رواي��ة‪ ،‬منها‪ :‬المطر‬
‫(رق�صة الجديلة والنهر)‪ ،‬و�إن �صاغتها والمتواطئين معها‪� ،‬إن ريحانة وع��ادل‬ ‫الأعمى‪ ،‬حاموت‪� ،‬إذن الليل بخير‪ ،‬حاموت‪،‬‬
‫ب ��أ���س��ل��وب ف��ان��ت��ازي وغ��رائ��ب��ي‪ ،‬ب��ل هم و�شيرين وحامد (عازف الناي) وروناهي‬ ‫ام����ر�أة ب ��زي ج�����س��د‪ ،‬ف��ي غ��ي��اب ال��ج��واب‪،‬‬
‫�شخو�ص حقيقيون عا�شوا محنة العراق وب��ري��ف��ان‪� ،‬أب��ط��ال ال��رواي��ة‪ ،‬ب��رغ��م �أنهم‬ ‫الآخ��رون‪ ،‬وجوه و�أ�شباح و�أخيلة‪ ،‬للمرايا‬
‫من �إبادة جماعية و�سبي وتهجير ومجازر‪ ،‬يج�سدون �شباب ال��ع��راق‪ ،‬ال��ذي��ن كانوا‬ ‫�شم�س مبلولة الأه� ��داب‪ ،‬امنحني نف�سي‬
‫دوت �صرختها �ضد يحلمون بالحب وبالعي�ش الكريم لكنهم‬ ‫ومن خالل م�أ�ساتهم ّ‬ ‫والخارطة‪ ،‬مدخل �إلى ال�ضوء‪ ،‬هذا الم�ساء‬
‫الإرهاب‪ ،‬فجاءت الرواية كوثيقة تاريخية �صحوا على الكابو�س المرعب‪ ،‬ف� ّأجلوا‬ ‫ال يعرفني‪ ،‬نافذة من جدران البيت‪ ،‬البيت‬
‫ت�سجل للأجيال القادمة دموية التنظيمات الحلم و�ألغوا قلوبهم‪ ،‬ثم تطوعوا للدفاع‬ ‫يم�شي حافي ًا‪� ،‬صمغ �أ�سود وغير ذلك الكثير‪.‬‬
‫المهجرين والالجئين‬ ‫َّ‬ ‫الإرهابية والمتواطئين معها وجرائم الع�صر عن الأر���ض وع��ن‬
‫م��ن �أب��ن��اء ال��وط��ن‪ ،‬فق�ضوا ع��ل��ى �أي ��دي‬ ‫في �سبايكر و�سنجار والمو�صل وغيرها‪.‬‬
‫و�أما معنى عنوان الرواية؛ فالجديلة مجرمي الع�صر‪� ،‬إنهم �شهداء الجرائم التي‬ ‫الروائية لم تخترع‬
‫تعني ال�شعر الم�ضفور‪ ،‬المجموع والمن�سوج �ستبقى و�صمة عار على جبين الإن�سانية‬ ‫�شخو�ص روايتها و�إن‬
‫مر‬‫والجدل هو الف ْتل و�سيتحملها ال�ضمير الإن�ساني على ّ‬ ‫ْ‬ ‫بع�ضه على بع�ضه الآخر‪،‬‬ ‫�صاغتها ب�أ�سلوب فانتازي‬
‫المحكم‪ ،‬فالتوظيف لكلمة (جديلة) في التاريخ‪.‬‬ ‫وغرائبي‬

‫‪47‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫جمع بين الأدب والترجمة والإعالم‬

‫علي الدوعاجي‪..‬‬
‫رائد الأدب الق�ص�صي التون�سي‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪48‬‬


‫�أعالم‬

‫تُجمع م�صادر الأدب �أن الق�صة التون�سية المكتملة ب��د�أت‬


‫على يد الأدي���ب علي الدوعاجي‪ ،‬بعد �أن كانت الإرها�صات‬
‫الأول���ى لفن ال�سرد في تون�س على يد ال�شريف القيرواني‬
‫�صالح ابن عمر �سو�سي‪ ،‬وال�صادق الرزقي‪ ،‬و�سليمان الجادوي‪،‬‬
‫ومحمد الفا�ضل ب��ن ع��ا���ش��ور‪ ،‬ومحمد مان�شو‪ ،‬وغ��ي��ره��م‪..‬‬
‫فاطمة �سمير‬
‫بد�أت على يده مالمح‬ ‫ٍ‬
‫وقتئذ‪.‬‬ ‫وق��د ك��ان ف��ن ال�سرد ح��دي��ث عهد ب���الأدب العربي‬
‫اكتمال جن�س الق�صة‬ ‫ولد الأدي��ب علي الدوعاجي في تون�س �سنة (‪ ،)1909‬وك��ان متعدد المواهب‪،‬‬
‫الق�صيرة في تون�س‬ ‫كاتب ًا وخطاط ًا ور�سام ًا و�شاعر ًا زج��ا ًال بالعامية والف�صحى‪ ،‬و ُمترجم ًا وكاتب ًا‬
‫م�سرحي ًا و�إع�لام��ي��اً‪ ،‬فهو رائ���د الأدب الفكاهي والق�صة الق�صيرة بتون�س‪.‬‬

‫�أو ًال �سنة (‪ ،)1935‬ثم �أعيد ن�شرها في مجلة‬ ‫ينتمي �إلى �أ�سرة من الطبقة البرجوازية‪،‬‬
‫المباحث �سنة (‪ .)1944‬وهي من فرائد �أدب‬ ‫وقد مات وال��ده وهو في �سن مبكرة‪ ،‬فعرف‬
‫الرحلة‪ ،‬فائقة رائقة‪.‬‬ ‫اليتم وذاق حرمان الأب‪ ،‬ف�سعت والدته �إلى‬
‫وكان ن�شر ف�صول تلك الجولة‪ ،‬منطلق رحلة‬ ‫تربيته‪ ،‬وق��د تعلم العربية والفرن�سية‪ ،‬في‬
‫�أدبية زاخ��رة بالإبداع الق�ص�صي والم�سرحي‬ ‫المدر�سة العرفانية القر�آنية‪ ،‬وما لبث �أن انقطع‬
‫توا�صل مع كبار‬
‫وال�شعري‪ ،‬و�ساعده عمله مع بيرم التون�سي في‬ ‫عن الدرا�سة وهو في �سن الثانية ع�شرة‪ ،‬لكنه‬
‫الأدباء وانفتح على‬ ‫جريدة (الزمان) على ت�أ�سي�سه جريدة (ال�سرور)‬ ‫وبرغم عمله في الحرف المهنية‪ ،‬والتجارة‪ ،‬فقد‬
‫الثقافة الغربية‬ ‫�سنة (‪ ،)1936‬والتي عرفت بمقاالتها المتفردة‬ ‫وا�صل تكوين نف�سه بنف�سه‪ ،‬فاطلع على الكثير‬
‫والعربية‬ ‫ور�سوماتها الكاريكاتيرية ال�ساخرة‪.‬‬ ‫من الروايات والدواوين ال�شعرية‪.‬‬
‫وك ��ان علي ال��دوع��اج��ي غ��زي��ر الإن��ت��اج‪،‬‬ ‫وتوا�صل الدوعاجي مع كبار �أدباء ع�صره‬
‫�صاحب قلم �سخي معطاء‪ ،‬وقد برع ك�أح�سن‬ ‫في حا�ضرة تون�س‪ ،‬كزين العابدين ال�سنو�سي‬
‫ما يكون في كتابة الأق�صو�صة‪ ،‬وتدل �أعماله‬ ‫�صاحب مجلة العالم الأدب���ي‪ ،‬وك��ان يتردد‬
‫في هذا المجال على �أنه تمكن من �أ�صول هذا‬ ‫على المجال�س والمقاهي الأدب��ي��ة‪ ،‬وات�صل‬
‫الفن و�أتقن �أ�سراره‪ ،‬فجاءت‬ ‫ب�أبي القا�سم ال�شابي والطاهر ح��داد‪ ..‬ورافق‬
‫كل �أق�صو�صة من �أقا�صي�صه‬ ‫لمدة طويلة القا�ص محمد العريبي‪ ،‬والكاتب‬
‫ق��ط��ع��ة م ��ن خ��ال�����ص ال��ف��ن‬ ‫الم�سرحي عبدالرزاق كرباكة‪ ،‬فنمت ثقافته‬
‫وكيان ًا من �صميم الإب��داع‪،‬‬ ‫�شيئ ًا ف�شيئ ًا‪ ،‬حتى �أ�صبح من �أع�لام الأدب‬
‫وهي ُتعد اليوم نماذج ُمثلى‬ ‫التون�سي المعا�صر بداية من عام (‪.)1933‬‬
‫في فن الق�صة الق�صيرة‪ ،‬مثل‬ ‫وانفتح الدوعاجي على الثقافات الفرن�سية‬
‫(الم�صباح المظلم) و(مجرم‬ ‫والإنجليزية والعربية القديمة‪ ،‬حيث كان يقر�أ‬
‫رغم �أنفه) و(العا�شق الأعمى)‬ ‫لنيت�شه وعمر الخيام و�شك�سبير والجاحظ‬
‫�رت م��ن��ه ال��ل��ي��ال��ي)‬
‫و(� ��س ��ه � ُ‬ ‫وط��اغ��ور وال��م��ع��ري‪ ،‬فمكنته ه��ذه الثقافة‬
‫وغيرها كثير‪..‬‬ ‫العالمية من اكت�شاف طريق خا�ص في الكتابة‬
‫�أم���ا �أزج ��ال ��ه و�أغ��ان��ي��ه‬ ‫جعلته يت�صدر عر�ش الأدب التون�سي‪.‬‬
‫و�أ� ��ش ��ع ��اره؛ ف��ظ��ل��ت ت��ران��ي��م‬ ‫�أم���ا دخ��ول��ه ع��ال��م الأدب؛ ف��ك��ان �شبه‬
‫خ��ال��دة ف��ي ال��ذاك��رة الفنية‬ ‫م�صادفة‪� ،‬إذ فاز الدوعاجي �سنة (‪ )1933‬في‬
‫وال�شعبية‪ ،‬وقد �أتقن مختلف‬ ‫م�سابقة للر�سم‪ ،‬وكانت جائزة الفائز رحلة‬
‫�ألوان الكتابة في فن الأغنية‪،‬‬ ‫بحرية متو�سطية‪ .‬وقد خطر له �أن يدون رحلته‬
‫كما لحن له كبار �أ�ساطين‬ ‫تلك التي قادته من كور�سيكا �إل��ى ني�س‪ ،‬ثم‬
‫المو�سيقا ف��ي ت��ون�����س‪ ،‬من‬ ‫من نابولي �إلى �أثينا ف�إ�سطنبول و�إزمير‪ ،‬في‬
‫�أمثال خمي�س ترنان ومحمد‬ ‫ن�صو�ص �سماها (جولة بين حانات البحر‬
‫التريكي‪.‬‬ ‫المتو�سط) ن�شرتها مجلة (ال��ع��ال��م الأدب ��ي)‬

‫‪49‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�أعالم‬

‫ك��م��ا م ��ار� ��س ع��ل��ي ال ��دوع ��اج ��ي ر���س��م‬


‫الكاريكاتير قبل الكتابة الأدب��ي��ة‪ ،‬فكانت‬
‫لوحاته جذابة وفكهة عن المجتمع التون�سي‪،‬‬
‫وهو ما جعل �شخ�صيات ق�ص�صه تفي�ض حيوية‬
‫وعاطفة وواقعية‪.‬‬
‫وت���راوح �أ���س��ل��وب ال��دوع��اج��ي بين اللغة‬
‫العربية الف�صيحة واللهجة العامية التون�سية‪،‬‬
‫ما �أك�سب �أقا�صي�صه �شهرة قوية بين التون�سيين‪،‬‬
‫وخ�صو�ص ًا من خ�لال مجموعته الق�ص�صية‬
‫محمد معت�صم‬ ‫�أبوالقا�سم ال�شابي‬ ‫خمي�س ترنان‬ ‫(�سهرت منه الليالي‪ ،‬وجولة بين حانات البحر‬
‫الأبي�ض المتو�سط)‪.‬‬
‫وقد ان�ضم الدوعاجي مع عدد من �أعالم‬
‫الأدب‪ ،‬من �أمثال (�أبو القا�سم ال�شابي‪ ،‬وبيرم‬
‫التون�سي‪ ،‬والطاهر ح��داد‪ ،‬وخمي�س ترنان‪،‬‬
‫وغيرهم‪� )..‬إلى (جماعة تحت ال�سور الأدبية)‪،‬‬
‫وما يغطي على �أدب هذه الجماعة‪ ،‬هو �أدب‬
‫يتمايز عن الأدب الكال�سيكي‪ ،‬المكبل ب�أغالل‬
‫القواعد والروا�سم والقوالب الجاهزة‪ ،‬وقد اختار‬
‫الدوعاجي �أن يكون قريب ًا من ال�شعب ُيعبر عن‬
‫الطاهر حداد‬ ‫ال�صادق الرزقي‬ ‫توفيق بكار‬
‫ذوقه و�شخ�صيته‪ ،‬وينطق ب�شواغله و�شجونه‪،‬‬
‫وي��رى الناقد المغربي محمد معت�صم �أن‬ ‫ويتكلم لغة تنفذ �إلى �أعماقه وتحرك وجدانه‬
‫مفهوم الق�صة الق�صيرة عند الدوعاجي‪ ،‬تجربة‬ ‫و�أحا�سي�سه‪ ،‬فوجد نف�سه في (جماعة تحت‬
‫رائ ��دة تتو�سل الخطاب ال�����س��ردي والو�صف‬ ‫ال�سور) ن�سبة �إلى المقهى الذي كان يجتمع فيه‬
‫وال��ح��وار وال��خ��ط��اب الق�صير‪� ،‬إ���ض��اف��ة �إل��ى‬ ‫�أغلب الأدب��اء والفنانين والر�سامين‪ ،‬في تلك‬
‫ال�سخرية والنقد‪ ،‬وه��ي تقنيات �أدبية ذكية‬ ‫الحقبة‪.‬‬
‫ال�ستمالة ال��ق��ارئ‪ ،‬معتبراً �أن ق�صة (�سهرت‬ ‫و�صفه رف��ي��ق درب���ه‪ ،‬الأدي����ب وال��زج��ال‬
‫منه الليالي) تنطبق عليها هذه الموا�صفات‪،‬‬ ‫محمود بيرم التون�سي‪ ،‬قائ ًال‪�( :‬صديقنا علي‬
‫�أ�شاد به بيرم‬ ‫وا�شتملت كغيرها من الأعمال الأدبية التي‬ ‫الدوعاجي‪ ،‬فتى وهب عقله وقوته للفن‪� ،‬أو‬
‫التون�سي وتوفيق‬ ‫عرف بها الدوعاجي‪ ،‬على موا�ضيع متنوعة‪،‬‬ ‫�إن الفن افتر�سهما منه‪ .‬وهو ككل فنان يعي�ش‬
‫بكار م�ؤكدين �أنه �أبو‬ ‫منها المر�أة والفقر والرجل والفن‪.‬‬ ‫ليتفرج على الكون‪ ،‬ثم يتناول ري�شته وقلمه‬
‫الق�صة الق�صيرة‬ ‫في مجمل �أعمال الدوعاجي‪ ،‬تتجلى روح‬ ‫وين�سخ �أو يحاكي �أو ينقح وينتقد)‪.‬‬
‫الدعابة والتف ّكه‪ ،‬حيث كان يتندر ب�شخ�صيته‬ ‫�أم��ا الناقد التون�سي توفيق بكار؛ فيقول‬
‫النموذجية‪ ،‬ق�لادي��م��ة‪ ،‬النابعة م��ن �صميم‬ ‫عن ريادة الدوعاجي‪( :‬هو �أبو الق�صة التون�سية‬
‫المجتمع‪ ،‬م�شيداً بوظيفتها في الت�سلية‪.‬‬ ‫غير مدافع‪ ،‬و�أعتقد �أنه ما من باحث تحرى في‬
‫�داء الهتمامه بحياة عامة‬ ‫كما نجد �أ���ص� ً‬ ‫بحثه وتثبت‪� ،‬إال وهو م�سلم للدوعاجي بهذه‬
‫النا�س‪ ،‬خ�صو�ص ًا الطبقات الم�سحوقة‪ ،‬مبثوثة‬ ‫الأبوة)‪.‬‬
‫في �أزجاله المعروفة‪ .‬يقول‪( :‬النا�س تع�شق و�أنا‬ ‫كما و�صفت الكاتبة وال�شاعرة فوزية‬
‫نغني‪ ،‬النا�س تفرح و�أنا نهني)‪.‬‬ ‫العلوي‪ ،‬كتابات الدوعاجي‪ ،‬ب�أنها جمعت بين‬
‫تتجلى في مجمل‬ ‫وقد توفي علي الدوعاجي في العام (‪)1949‬‬ ‫الواقع والإب��داع الفني‪ ،‬وقد تطرق �إلى الواقع‬
‫�أعماله روح الدعابة‬ ‫تارك ًا خلفه نتاج ًا �أدبي ًا مايزال منه ًال بكراً‬ ‫االجتماعي والأخ�لاق��ي ف��ي �أغ��ل��ب ق�ص�صه‬
‫والفكاهة‬ ‫للباحثين والمهتمين ب�أدبه و�إبداعه‪ ،‬ومعاي�شته‬ ‫و�أع��اد �صياغته م�ضيف ًا �إليه م�سحة جمالية‬
‫لحقبة مهمة من تاريخ تون�س‪ .‬كما تم ا�ستحداث‬ ‫تمثلت بالأ�سا�س في قدرته على تحويل ال�صور‬
‫جائزة با�سمه (جائزة علي الدوعاجي للإبداع‬ ‫ال�شعرية �إلى كتابة‪ ،‬والعامية �إلى عربية �سليمة‪،‬‬
‫الأدب ��ي في الأق�صو�صة)‪ ،‬تعلن في معر�ض‬ ‫وه��و �أ�سلوب يظهر خا�صة ف��ي �أق�صو�صته‬
‫تون�س الدولي للكتاب من كل عام‪.‬‬ ‫(�أحالم حدى)‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪50‬‬


‫مقاالت‬
‫نافذة‬

‫نجيب محفوظ لم يخرج في رواية‬


‫«الل�ص والكالب» عن النمط التقليدي‬
‫وتدخل كبير منه في الأحداث‪ ،‬بحيث لم يخرج‬ ‫عندما ق ��ر�أت رواي ��ة (الل�ص وال��ك�لاب)‪،‬‬
‫كما قلنا عن نمط الرواية التقليدية‪ .‬بل �إننا ال‬ ‫وب��رغ��م ا�ستيعابي لكل �أح��داث��ه��ا‪ ،‬ل��م � ِ‬
‫أكتف‬
‫نوافق الدكتورة لطيفة الزيات عندما قالت عن‬ ‫بذلك‪ ،‬بل وجدت نف�سي �أعيد قراءتها‪ ،‬فقد كان‬
‫نجيب محفوظ‪( :‬ق��ام ب��دور تاريخي مهم في‬ ‫هناك �س�ؤال يلح في ذهني وهو‪ :‬هل ت�ستحق‬
‫تطور الرواية الم�صرية‪ ،‬وهذا بالطبع �إلى جانب‬ ‫هذه الرواية �أن ت�ستغرق التفكير بما يتجاوز‬
‫القيمة المطلقة البحتة لكتاباته‪ ،‬وهي بالطبع‬ ‫ال�سنوات الخم�س‪ ،‬وذلك ليختمر �أمرها في ذهن‬
‫م�صطفى محرم‬ ‫تق�صد هنا رواي��ة الل�ص والكالب)‪ .‬وت�ستطرد‬ ‫نجيب محفوظ حتى يلحق بركب ك ّتاب الرواية‬
‫بعد ذلك قائلة‪( :‬فنجيب محفوظ قد وفر الكثير‬ ‫الجديدة وي�صبح واحداً ممن ُيعرفون بعد ذلك‬
‫مما كتبه بع�ض النقاد النابهين عنها‪ ،‬ويكفي‬ ‫من الجهد والعرق عن كاتب الق�صة الحديث‪،‬‬ ‫بك ّتاب تيار الوعي؟ وهل تعتبر رواية (الل�ص‬
‫ما ذك��ره ناقد كبير مثل الدكتور عبدالقادر‬ ‫وي�سر له حرية الحركة والتعبير‪ ،‬وهذا الكاتب‬ ‫َّ‬ ‫والكالب) �شك ًال جديداً بالن�سبة للفن الروائي؟ �أو‬
‫القط‪ ،‬حيث و�صف هذه الرواية بالذات تحت‬ ‫ي�ستطيع �أن يبد�أ من حيث انتهى نجيب محفوظ‬ ‫بمعنى �آخر‪ ..‬هل تختلف رواية (الل�ص والكالب)‬
‫عنوان كبير لمقال يلخ�ص وجهة نظره ب�أنها‬ ‫في ثالثيته‪ ،‬و�أن يبني على ما جعله نجيب‬ ‫عن بقية روايات نجيب محفوظ التي ت�سبقها؟‬
‫رواي��ة فا�شلة‪ ،‬وذلك في جريدة (�أخبار اليوم‬ ‫حقيقة مفروغ ًا منها‪ ،‬وهو لي�س الآن بحاجة‬ ‫و�إذا كان هذا �صحيح ًا‪ ،‬فمن �أي ناحية تختلف‬
‫‪ ،)1961/5/12‬حيث من الوا�ضح من مقاله‬ ‫�إل��ى �أن ي�سجل ه��ذا الت�سجيل الفوتوغرافي‬ ‫هذه الرواية مث ًال عن روايات‪( :‬بداية ونهاية–‬
‫كله �أنه يرف�ض الرواية كلها‪ ،‬ويطالب الم�ؤلف‬ ‫الدقيق الذي كان من المحتم ا�ستخدامه من‬ ‫خان الخليلي– ال�سراب– زقاق المدق– بين‬
‫بكتابة رواية �أخرى تالئم ت�صوراته‪( ،‬فهو ال‬ ‫قبل‪ ،‬لإقناع القارئ غير المدرب بواقعيته‪،‬‬ ‫الق�صرين)‪� ،‬أو غيرها من ال��رواي��ات الأخ��رى‬
‫يفهم لماذا تطي�ش طلقات �سعيد مهران فال‬ ‫فقد كفاه نجيب محفوظ مهمة هذا الت�سجيل‪،‬‬ ‫الواقعية؟‬
‫ت�صيب �أهدافها‪ ،‬وال ي��دري �أي ه��دف ق�صده‬ ‫وهو اليوم ب�إزاء قارب مدرب ما فيه الكفاية‪،‬‬ ‫فقد تحتوي رواية (الل�ص والكالب) على‬
‫الأ�ستاذ نجيب محفوظ حين جعل طلقات �سعيد‬ ‫و�أ�ستعد نف�سي ًا لكبت عوامل عدم الت�صديق‪،‬‬ ‫بع�ض مالمح رواي��ات تيار الوعي‪ ،‬ولكن ال‬
‫مهران تطي�ش فتقتل ه���ؤالء الأب��ري��اء‪ ..‬فهل‬ ‫واال�ست�سالم لعوامل الت�صديق‪ ،‬ق��ارئ يحمل‬ ‫ن�ستطيع �أن ن�ضعها �إلى جانب رواية (يولي�سيز)‬
‫تراه يريد �أن يحمل القدر �أي�ض ًا مع المجتمع‬ ‫معه ع��بء تكامل عن�صر الواقعية)‪( .‬نجيب‬ ‫لجيم�س جوي�س‪� ،‬أو رواي���ة (م�سز دال���واي)‬
‫م�س�ؤولية انحراف �سعيد مهران؟ ر�أيي �أن كل‬ ‫محفوظ ال�صورة والمثال د‪ .‬لطيفة الزيات)‪.‬‬ ‫لفيرجينيا وولف‪� ،‬أو رواية (الحج) التي كتبتها‬
‫هذه الم�آخذ قد جاءت من تقيد الأ�ستاذ نجيب‬ ‫والغريب �أن البع�ض اعتبر هذه الرواية على‬ ‫دوروث��ي ريت�شاردون‪� ،‬أو رواي��ة (البحث عن‬
‫بتلك الوقائع الحقيقية من دون �أن ي�ستخل�ص‬ ‫�أنها رواية بولي�سية‪� ،‬أو من روايات المغامرات‬ ‫الزمن المفقود) التي كتبها مار�سيل برو�ست‪.‬‬
‫منها جوهرها)‪ .‬وهو‪� ،‬أي الدكتور عبدالقادر‬ ‫التي كثيراً ما نراها في �شكل فيلم �سينمائي‬ ‫�إن رواي��ة الل�ص والكالب (م ��أخ��وذة عن‬
‫القط ال يرى في �سعيد مهران �سوى �أنه مجرم‪،‬‬ ‫يعر�ض في دور ال�سينما‪ .‬بل �إن البع�ض لم‬ ‫حادثة حقيقية)‪ ،‬وقد يجد المت�أمل فيها جيداً‬
‫�سفاح ال يتعاطف المرء معه‪ ،‬فهو يم�ضي في‬ ‫يعتبرها �أ�ص ًال رواية‪ ،‬و�إنما مجرد ت�سجيل قد‬ ‫�أنها ال تختلف كثيراً عن الحادثة �أو الواقعة‬
‫طريق ملوث بالدماء والجريمة‪ ..‬وف��ي هذه‬ ‫يكون دقيق ًا لحادثة ن�شرتها ال�صحف ف�أثارت‬ ‫التي دارت حول الل�ص القاتل محمود �سليمان‬
‫المقالة �أي�ض ًا ي�أخذ الدكتور عبدالقادر القط على‬ ‫ف�ضول البع�ض و�أثارت في الوقت نف�سه خوف‬ ‫ال��ذي �أطلق عليه النا�س في ذلك الوقت لقب‬
‫الدكتور لوي�س عو�ض ما كتبه عن هذه الرواية‪،‬‬ ‫البع�ض لكثرة ج��رائ��م (ال�سفاح) الحقيقية‪.‬‬ ‫(ال�سفاح)‪ ،‬ونحن ال ن�ستطيع �أن ننكر �أن نجيب‬
‫هباء عن هذه‬
‫فقد �أ�ضاع جانب ًا كبيراً مما كتبه ً‬ ‫وعندما تناولتها ال�سينما الم�صرية وعكف‬ ‫محفوظ ق��د تغلغل �إل ��ى ح��د م��ا داخ ��ل ذهن‬
‫الرواية‪ ،‬و�أن الدكتور لوي�س عو�ض يك�شف عن‬ ‫عليها العاملون في الفيلم ال�سينمائي وهما‪:‬‬ ‫ال�شخ�صية الرئي�سية‪ ،‬وال ن�ستطيع �أن ننكر �أي�ض ًا‬
‫جهل كامل ب�إبداع نجيب محفوظ ال�سابق عليها‬ ‫المخرج كمال ال�شيخ‪ ،‬وكاتب ال�سيناريو �صبري‬ ‫�أن نجيب محفوظ ك��ان يتغلغل �أحيان ًا في‬
‫من ناحية �أخرى‪� ،‬إ�ضافة �إلى الغلظة والفجاجة‬ ‫عزت‪ ،‬ف�إن هذين االثنين اعتبرا هذه الرواية‬ ‫�أذهان بع�ض ال�شخ�صيات في رواياته الواقعية‬
‫حيث ي��ق��ول‪( :‬نجيب محفوظ ع��ن��دي كاتب‬ ‫من نوع الروايات البولي�سية التي تناولها هذا‬ ‫والطبيعية التقليدية‪ ،‬ولكن بن َف�س ق�صير‬
‫من �أولئك الكتاب القالئل في تاريخ الأدب‬ ‫المخرج وتناولتها ال�سينما الم�صرية في عدد‬
‫في ال�شرق والغرب‪ ،‬كلما قر�أته غلى الدم في‬ ‫كبير من �أفالمها‪ .‬واعتبرها بع�ض النقاد الكبار‬ ‫اعتبر بع�ض النقاد �أن‬
‫عروقي ووددت لو �أحكه حك ًا �شديداً‪ .‬ثم ي�صف‬ ‫في مجال الأدب رواية خائبة تلعب الم�صادفات‬
‫في النهاية رواية الل�ص والكالب ب�أنها ق�صة‬ ‫دوراً كبيراً في �سير �أحداثها وتكرارها ب�شكل‬ ‫رواية (الل�ص والكالب)‬
‫كال�سيكية القالب رومان�سية الم�ضمون‪ ،‬ولكن‬ ‫مفتعل‪ ،‬حتى �إن الناقد فاروق عبدالقادر ذكر‬ ‫رواية خائبة تلعب‬
‫ال�س�ؤال الذي يخاطب الذهن‪ :‬لماذا هذه الق�سوة‬ ‫في كتابه (ف��ي ال��رواي��ة العربية المعا�صرة)‬
‫عندما كان يراجع ما كتبه النقاد عن رواية‬
‫الم�صادفات دوراً كبيراً‬
‫ال�شديدة على عظيم ال��رواي��ة العربية نجيب‬
‫محفوظ من جانب لوي�س عو�ض؟)‪.‬‬ ‫(الل�ص والكالب)‪ ،‬لم يتمالك نف�سه من الده�شة‬ ‫في �سير �أحداثها‬

‫‪51‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫الخيال العلمي‬
‫وعالقة العلم بالأدب والم�ستقبل‬

‫�أبوابه ليطرق عالم الرواية والق�صة وال�شعر؛‬


‫بل تعداها �إلى الكتابة الحرة‪ ،‬عبر النوعية‪،‬‬ ‫يعتبر �أدب الخيال العلمي واحد ًا من �أهم المجاالت التي‬
‫والفنون؛ والكتابة العلمية التي ت�ست�شرف‬ ‫ربطت العلم ب��الأدب والفنون؛ وفتحت للذائقة الأدبية‬
‫الخيال؛ وتم�ضي عبر عالم ما بعد الطبيعة‬ ‫ٍ‬
‫م�سارات جديدة؛ و�آفاق ًا �أكثر تحديث ًا ور�ؤية؛ َوت ََح ّدباً؛‬
‫والميتافيزيقا؛ فظهر (�أدب الرعب؛ والأدب‬ ‫فلم تعد الرواية �أو الق�صة الق�صيرة تتمحوران حول‬
‫الرقمي؛ والأدب التفاعلي؛ والت�شاركي؛‬
‫مو�ضوع �أو �شكل معين؛ بل رفدهما الخيال بمناطق جديدة‬
‫وغير ذلك)‪.‬‬ ‫حاتم عبدالهادي‬
‫وي ��ق ��وم �أدب ال��خ��ي��ال ال��ع��ل��م��ي في‬ ‫َم َّثلَت طفرة في الفكر والتخييل؛ وفتحت الطريق لخيال‬
‫ج��وه��ره ع��ل��ى ال��ن��ظ��ري��ات وال��ت�����ص��ورات‬ ‫المبدعين ِل ُي َع ِّبروا عن تلك المجاالت؛ ومن هنا ت�أ�س�س �أدب الخيال العلمي‪.‬‬
‫والفر�ضيات العلمية الفيزيائية والكيميائية‬
‫والبيولوجية والفلكية؛ بل ي�صل �إلى علوم‬ ‫ظهرت فنون �شعرية وقولية وعلمية تحدثت‬ ‫ولعل التطور العلمي والتكنولوجيا؛‬
‫الأفالك والنجوم والف�ضاء وال َّتفكر فيما بعد‬ ‫عن التقنيات وو�سائل العلوم والتكنولوجيا؛‬ ‫والتقنيات التي ارتبطت بهما قد فتحت‬
‫في الطبيعة �أو الالميتافيزيقا كذلك‪ .‬ولعلنا‬ ‫ب��ل وت��ح��دث��ت ع��ن ال��م��خ��ت��رع��ات العلمية‬ ‫�أم��ام��ن��ا �آف��اق�� ًا ج��دي��دة ل��م يتطرق �إليها‬
‫ن�شير �إل��ى رواي��ة (من الأر���ض �إل��ى القمر)؛‬ ‫واالكت�شافات المذهلة مثل ال�صواريخ‬ ‫ال��خ��ي��ال م��ن ق��ب��ل؛ ول��ق��د ن�����ش ��أت عندئ ٍذ‬
‫التي كتبها ج��ون فيرن ع��ام (‪1865‬م)‬ ‫العابرة ال��ق��ارات؛ والطائرات التي ت�سبق‬ ‫الحاجة �إلى وجود �أدب جديد يعبر عن هذه‬
‫كرواية َت َ�ص َّور فيها الكاتب ذاته يهبط على‬ ‫ال�صوت وال�صاروخ الذي ي�صل �إلى القمر؛‬ ‫التقنيات الحديثة‪ ،‬كما �أرى‪ ،‬فالإنترنت‬
‫القمر؛ ولقد تحققت نبوءته وا�ست�شرافاته‬ ‫وي�سافر �إل��ى النجوم والكواكب والأف�لاك‬ ‫والتكنولوجيا والآالت الحديثة وو�سائل‬
‫العلمية الخيالية بعد مرور قرن من �صدور‬ ‫الأخ��رى؛ وبد�أ العلم يتحدث عن ال�سفر �إلى‬ ‫التوا�صل االجتماعي وغيرها قد �أدت �إلى‬
‫الرواية؛ ففي (‪ 16‬يوليو عام ‪1969‬م) هبط‬ ‫الما�ضي والم�ستقبل؛ وعن (�آلة ال�سفر عبر‬ ‫ظهور (الأدب الرقمي)؛ والرواية التفاعلية؛‬
‫نيل �أرم�سترونغ على �سطح القمر؛ كما تبعه‬ ‫الزمن)؛ والأ�سلحة البيولوجية؛ والكائنات‬ ‫وغ��ي��ره��ا؛ م��ن �أق�����س��ام جمعت بين العلم‬
‫رائد الف�ضاء جاجارين؛ لتتحقق الأحالم‬ ‫الف�ضائية؛ والنيازك وال�شهب وغيرها‪،‬‬ ‫والفل�سفة والآلة؛ ومزجت �أفكار الروبوتات‬
‫العلمية التخيليية؛ والت�صورات التي بنيت‬ ‫وكان لزام ًا على الأدب �أن ي�ساير هذا التقدم‬ ‫وال��ذك��اء اال�صطناعي والنانوتكنولوجيا‬
‫على فر�ضيات العلم؛ و�شطحات الخيال على‬ ‫العلمي؛ فن�ش�أ ما �أطلق عليه العلماء والأدباء‬ ‫(التقنيات متناهية ال�صغر) بالف�ضاء‬
‫�أر�ض الواقع‪.‬‬ ‫(�أدب الخيال العلمي)؛ وفتح هذا المجال‬ ‫الإلكتروني والكائنات الف�ضائية؛ كما‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪52‬‬


‫�آفاق‬

‫العلمي؛ يقول‪ :‬ن�ستطيع القول �إنه الأدب الذي‬


‫يتعامل جزئي ًا �أو كلي ًا مع مو�ضوعات الغرائب‬
‫والخوارق والمخاطر‪ ،‬وه��ذا يتيح لنا �إدخ��ال‬
‫ُك ّتاب مثل‪ :‬بورخي�س و�آخرين‪ ،‬ولكن وبما �أن‬
‫يتميز ذلك الأدب‬ ‫�أنا�س ًا عديدين قد بينوا ذلك‪ ،‬ف�إن هذا يعني‬
‫باالنتقال في �آفاق‬ ‫�أي�ض ًا �أن �أدب الخيال العلمي في الأ�سا�س‬
‫الزمن على �أجنحة‬ ‫�شكل حديث و�شائع؛ يت�صل بعدد من الأعمال‬
‫المطعم‬
‫ّ‬ ‫الحلم‬ ‫العظيمة القديمة مند ثالثة �آالف عام‪ ،‬ف�أودي�سة‬
‫هوميرو�س‪ ،‬على �سبيل المثال‪� ،‬ستكون م�ؤهلة‬
‫بالمكت�سبات العلمية‬
‫ج��داً لأن تكون �أدب � ًا خيالي ًا علمي ًا تحت هذا‬
‫الجديدة‬ ‫التعريف‪ ،‬وكذلك �ستكون الكوميديا الإلهية‪،‬‬
‫و�أمثلة عديدة من ال��ر�ؤى الخيالية في �أدب‬
‫الع�صور الو�سطى‪ ،‬وهذا يو�ضح لنا كم �سيكون‬
‫مر�ض للرواد مثل‬‫ٍ‬ ‫هذا التعريف الوا�سع غير‬
‫جول فيرن وهـ‪ .‬ج‪ .‬ويلز‪.‬‬
‫الكثير من االبتكارات‬ ‫وف��ى حديثه عن ن�ش�أة العلوم والخيال‬
‫واالختراعات‬ ‫العلمي؛ يقول د‪ .‬محمد عبدالحنان في مقاله عن‬
‫العلمية التي تنتفع‬ ‫(الخيال العلمي في الأدب العربي المعا�صر)‪:‬‬
‫�إن الكثير من االبتكارات واالختراعات العلمية‬ ‫والخيال العلمي‪ ،‬كما جاء في المو�سوعة‬
‫بها ح�ضارة اليوم ما‬ ‫التي تنتفع بها ح�ضارة اليوم من الو�سائل‬ ‫العربية‪ :‬هو االنتقال في �آف��اق الزمن‪ ،‬على‬
‫هي �إال خيال علمي‬ ‫العلمية في االت�صاالت والموا�صالت والهند�سة‬ ‫الم َط َّعم بالمكت�سبات العلمية‬ ‫�أجنحة الحلم ُ‬
‫والطب والكمبيوتر‪ ،‬وفي الأف�لاك وفي مجال‬ ‫الجديدة‪ ،‬وغالب ًا ما يطرق م�ؤلفو ق�ص�ص الخيال‬
‫الحرب وغيرها وفي مختلف �ش�ؤون حياتنا‪ ،‬ما‬ ‫العلمي ‪� Science Fiction‬أب��واب الم�ستقبل‬
‫هي �إال خيال علمي َت َ�ص ّوره العلماء في ع�صور‬ ‫بتنب�ؤاتهم من دون زمن محدد‪ .‬وفي ق�ص�ص‬
‫�سابقة في الزمن القريب والبعيد)‪.‬‬ ‫الخيال العلمي نظرة وا�سعة �إلى العالم يدخل‬
‫لقد ن�ش�أ �أدب الخيال العلمي في القرن‬ ‫فيها العلم فيمتزج بحقائقه مع خيال الكاتب‪،‬‬
‫وتر�سم �أحداث ًا تنقل القارئ �إلى الم�ستقبل؛ �أو‬
‫�إل��ى الما�ضي فتثيره وتذهله‪ .‬والرابطة بين‬
‫العلم والخيال رابطة عميقة متما�سكة‪ ،‬ومن‬
‫يكتب في ه��ذا النوع من الأدب ال ينجح �إال‬
‫بال ّت َ�س ّلح بثقافة علمية وا�سعة ي�ستخدمها في‬
‫�أحداث ق�ص�صه ورواياته‪.‬‬
‫وف��ي معجم المعاني ع� ّ�ر َف �أدب الخيال‬
‫�سينمائي؛ تكون‬
‫ّ‬ ‫العلمي ب�أنه‪ :‬نوع �أدب� ّ�ي �أو‬
‫ّ‬
‫مبنية على االكت�شافات‬ ‫َّ‬ ‫الخيالية‬
‫ّ‬ ‫الق�صة‬
‫َّ‬ ‫فيه‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫بورخي�س‬ ‫جون فيرن‬ ‫البيئية‪ ،‬وارتياد‬ ‫والتغيرات‬ ‫أملية؛‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العلمية الت� َّ‬
‫َّ‬
‫الف�ضاء‪ ،‬والحياة على الكواكب الأخ���رى‪..‬‬
‫ويعرف معجم �أك�سفورد �أدب الخيال العلمي‬
‫ب�أنه‪ :‬خيال يتعامل مع مكت�شفات ومخترعات‬
‫علمية حديثة بطريقة متخيلة‪.‬‬
‫وه ��ذه ال��ت��ع��ري��ف��ات‪ ،‬كما ي��ق��ول د‪ .‬نهاد‬
‫�شريف في كتابه (�أدب الخيال العلمي العربي)‬
‫�ضي ُق المجال �أم��ام‬
‫قد ت�شمل مو�ضوعات ُت ِّ‬
‫ال ُك َّتاب؛ وهذا ما حدا بالكاتب (ج‪� .‬أ‪ .‬كودون)‬
‫د‪� .‬أحمد خالد توفيق‬ ‫د‪ .‬طالب عمران‬ ‫د‪ .‬م�صطفى محمود‬ ‫لو�ضع تعريف �شامل لم�صطلح �أدب الخيال‬

‫‪53‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫التا�سع ع�شر في �أوروبا؛ ثم تبلور �شكله الحداثي‬
‫في القرن الع�شرين؛ وبداية الألفية الجديدة؛ ثم‬
‫انتقل �إلى العرب بعد ذلك‪.‬‬
‫ولقد ظهر االهتمام ب�أدب الخيال العلمي‬
‫في �أوروب��ا و�أمريكا؛ وعن �أهمية هذا النوع‬
‫من الأدب يقول كاتب الم�ستقبليات الأمريكي‬
‫(�ألفين توفلر) في كتابه (�صدمة الم�ستقبل)‪:‬‬
‫�إن قراءة الخيال العلمي �أمر الزم للم�ستقبل‪.‬‬
‫ر�سم افترا�ضي البن طفيل‬ ‫�إ�سحق �أزيخوف‬ ‫�أبوالعالء المعري‬ ‫وعن الدر�س النقدي العلمي لهذا اللون الأدبي‬
‫يقول كاتب الخيال العلمي البريطاني (�آرثر‬
‫الفن الجديد (‪1863‬م)‪ ،‬ولقد �أ�صدر العديد من‬ ‫�سي كالرك) ؛ �صاحب فكرة �أقمار االت�صاالت‬
‫الروايات منها‪( :‬خم�سة �أ�سابيع في منطاد‪ ،‬من‬ ‫ال�صناعية‪ :‬ال��ق��راءة النقدية لأدب الخيال‬
‫الأر���ض �إلى القمر‪ ،‬ع�شرون �ألف فر�سخ تحت‬ ‫العلمي‪ ،‬هي بمثابة تدريب �أ�سا�سي لمن يتطلع‬
‫البحار‪ ،‬الجزيرة الغام�ضة‪ ،‬وغيرها)‪.‬‬ ‫�إلى الأمام �أكثر من ع�شر �سنوات؛ وفي الما�ضي‬
‫الرواد كذلك‪ :‬هربرت جورج ويلز‬ ‫ومن �أهم ّ‬ ‫كان النا�س يقر�ؤون الخيال العلمي كو�سيلة‬
‫�أدب الخيال العلمي‬ ‫الذي بد�أ �إ�صدار �أعماله منذ عام (‪1895‬م)؛‬ ‫للترفيه والت�سلية‪ ،‬ثم ا�ستعملوه للتخطيط‬
‫ومنها رواية‪�( :‬آلة ال ّزمن)‪ .‬ومن ه�ؤالء الرواد‬ ‫للم�ستقبل‪ ،‬لكن الآن �أ�صبح من �أهم الو�سائل‬
‫في جوهره يقوم‬ ‫الرو�سي (�إ�سحق �أزيموف)‪ ،‬ومن �أ�شهر‬
‫على النظريات‬ ‫الكاتب ّ‬ ‫التربوية والتعليمية الحديثة‪ ،‬كما �أن��ه من‬
‫م�ؤ ّلفاته (�أنا الإن�سان الآلي)‪.‬‬ ‫�أهم الأ�سباب ال�ضرورية للإبداع واالختراع‬
‫والت�صورات‬ ‫لقد �أ�سهم العرب‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬في ن�ش�أة هذا‬ ‫واالبتكار والفكر‪ ،‬لغر�س حب العلم و�إع��داد‬
‫والفر�ضيات العلمية‬ ‫الأدب الجديد؛ وظهر من كتب (�أدب الخيال‬ ‫العلماء والمبدعين والمبتكرين والمفكرين‪،‬‬
‫العلمي)‪ ،‬كتاب (�ألف ليلة وليلة)‪ ،‬و�أعمال ابن‬ ‫ولي�ستعد الجيل الجديد لمواجهة �صدمات‬
‫طفيل؛ و(ر�سالة الغفران) لأبي العالء المعري‪،‬‬ ‫وتحديات الحا�ضر والم�ستقبل‪.‬‬
‫وغيرهما‪.‬‬ ‫يعد الروائي الفرن�سي جول فيرن ‪Jules‬‬
‫ولقد قام رفاعة الطهطاوي بترجمة كتاب‬ ‫‪ Verne‬رائ��د وم�ؤ�س�س �أدب الخيال العلمي‬
‫(مغامرات تيليماك) للكاتب (فنلون)؛ تحت‬ ‫الحديث‪ ،‬كما ُيعد الأب الروحي الم� ّؤ�س�س هذا‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪54‬‬


‫�آفاق‬

‫د‪ .‬نبيل فاروق‬ ‫فتحي غانم‬ ‫نهاد �شريف‬ ‫يو�سف عزالدين عي�سى‬ ‫رفاعة الطهطاوي‬

‫هوميرو�س‬ ‫يو�سف ال�سباعي‬ ‫هـ‪ .‬ج ويلز‬ ‫نيل �أرم�سترونغ‬ ‫جاجارين‬

‫ولقد ت�أثر الكتاب العرب بالترجمات؛ وبد�أ‬ ‫عنوان (مواقع الأف�لاك في وقائع تيليماك)‬
‫كثيرون يكتبون على نمط على هذه الروايات؛‬ ‫بين عامي (‪1854-1851‬م)‪ .‬ويعتبر هذا �أول‬
‫منذ �أوائل ال�ستينيات ومن ه�ؤالء رواية العالم‬ ‫كتاب عربي مترجم في الخيال العلمي‪.‬‬
‫الم�صري د‪ .‬م�صطفى محمود (العنكبوت‪ ،‬ورجل‬ ‫كما قدم الروائي نهاد �شريف مجموعته‬
‫عرفه (معجم‬ ‫ّ‬ ‫ال�صفر)‪ .‬وم��ن الكتاب الأوائ���ل في هذا‬ ‫تحت ّ‬ ‫الق�ص�صية‪( :‬قاهر الزمن)؛ وروايات‪( :‬ال�شيء)؛‬
‫المعاني) ب�أنه نوع‬ ‫المجال يو�سف ال�سباعي‪ ،‬في روايته (ل�ست وحدك‬ ‫(ال���ذي ت��ح��دى الإع�����ص��ار)؛ (ت��ح��ت المجهر)؛‬
‫‪1970‬م)‪ .‬كما قدم الدكتور �أحمد خالد توفيق‬ ‫(بالإجماع)؛ (�سكان العالم الثاني)؛ ورواية‬
‫�أدبي �أو �سينمائي‬
‫العديد من الروايات في �أدب الخيال العلمي؛ وفي‬ ‫(رقم ‪ 4‬ي�أمركم) وغيرها‪ .‬ويعتبر نهاد �شريف‬
‫تكون فيه الق�صة‬ ‫رواد �أدب الخيال العلمي‪ ،‬حيث يلقب‬
‫�أدب الرعب العربي‪ .‬وهناك عالقة عميقة بين‬ ‫أهم ّ‬
‫�أحد � ّ‬
‫الخيالية مبنية على‬ ‫المجالين‪ .‬ومن �أ�شهر رواياته رواية (يوتوبيا)‪،‬‬ ‫بعميد �أدب الخيال العلمي العربي (‪-1930‬‬
‫االكت�شافات العلمية‬ ‫وهي رواية اجتماعية في الخيال العلمي تدور‬ ‫‪2011‬م)‪ .‬وكذلك د‪ .‬طالب عمران الذي كتب‬
‫�أحداثها في الم�ستقبل؛ وكذلك د‪ .‬نبيل فاروق‬ ‫�سبعين رواي��ة في ه��ذا المجال منها‪�( :‬ضوء‬
‫وغيرهم‪ .‬وتوالت الأعمال في هذا المجال بكثرة‬ ‫الدائرة المعتمة)؛ (�أ�سرار من مدينة الحكمة)؛‬
‫لدى ال ُك َّتاب ال�شباب؛ في الع�صر الحالي‪.‬‬ ‫(م�ساحات للظلمة)؛ (ال�سبات الجليدي)؛ (ثقب‬
‫ال بد من الإ�شارة هنا �إل��ى �أن هذا ال ّنوع‬ ‫في جدار الزمن)؛ (الخروج من الجحيم)؛ (بئر‬
‫من الأدب‪ ،‬كما �أ�سميه‪� ،‬أدب اال�ست�شراف الجديد‬ ‫العتمة)؛ (طيور و�سط النيران)؛ وغيرها‪.‬‬
‫يقوم على وقائع و�صل �إليها العلم ؛ ويتو ّقع‬ ‫وفي الأربعينيات‪ ،‬برزت محاوالت يو�سف‬
‫ت�أثر الكتاب العرب‬ ‫طورها‪ ،‬عبر التخييل‪ ،‬وهذا‬ ‫عزالدين عي�سى؛ ال��ذي يعتبر �أول من �أذاع‬
‫ال ُك ّتاب � ّأن يتم َت ّ‬
‫بالترجمات وبد�أ‬ ‫�سيمنح الب�شرية نواتج الخيال الجيدة؛ لتطوير‬ ‫الق�ص�ص في الخيال العلمي في الراديو‪ ،‬ون�شر‬
‫الكثيرون يكتبون‬ ‫هذه الأفكار المتخيلة؛ والتي قد ت�صبح حقيقة‪،‬‬ ‫مقاالته العلمية في جريدة الأهرام تحت عنوان‬
‫على نمط هذه‬ ‫يوم ًا ما‪ ،‬عبر ا�ستلهامات المخيال الكوني؛‬ ‫(مع الفكر والخيال)‪ ،‬وبعد من �أوائل من كتبوا‬
‫وت�شابكاته مع الالميتافيزيقا؛ والتقدم التقني‬ ‫في هذا المجال الروائي المفكر الم�صري توفيق‬
‫الروايات منذ �أوائل‬ ‫العالمي؛ وهذا من �ش�أنه �أن ي�ؤ�س�س وي�ؤطر للعلم‬ ‫الحكيم في رواي��ات��ه‪�( :‬سنة مليون ‪1953‬م‪،‬‬
‫ال�ستينيات‬ ‫نتائجه الم�ستقبلية؛ وين�شط الخيال؛ ويربط‬ ‫ورحلة �إلى الغد ‪1958‬م‪ ،‬ولو عرف ال�شباب‪،‬‬
‫الأدب والفنون بالعلم وفر�ضياته؛ وابتكاراته‬ ‫وتقرير قمري‪ ،‬واالخ��ت��راع العجيب)‪ .‬وكذلك‬
‫ال��ج��دي��دة ؛ خا�صة ل��دى الأط ��ف ��ال؛ ُ�ص َّناع‬ ‫كتب فتحي غانم رواية (من �أين) والتي طبعت‬
‫الم�ستقبل الجديد‪.‬‬ ‫عام (‪1959‬م)‪.‬‬

‫‪55‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫متـاهـة الـزمن‬
‫�سو�سن محمد كامل‬
‫في الرواية الحديثة‬

‫بد�أ الزمن كعن�صر �أ�سا�سي في ال�سرد عبر‬ ‫�أ�صبحت نظرية الأبعاد الثالثة التي تقول‪:‬‬
‫الموروث ال�سردي العربي من جملة (يحكى �أنه‬ ‫�إن كل الأ�شياء لها ثالثة �أبعاد؛ الطول والعر�ض‬
‫في �سالف الع�صر والأوان)‪� ،‬أو (كان يا ما كان‬ ‫واالرتفاع‪ ،‬قديمة وال يعتد بها‪ ،‬منذ �أن طرح‬
‫في قديم الزمان) التي ت�ضع القارئ في �أجواء‬ ‫العالم �آين�شتاين مبد�أ (الزمن) كبعد راب��ع له‬
‫ما�ض قديم غام�ض بالأ�سرار والأ�سطورة‪� ،‬إلى‬ ‫ٍ‬ ‫امتداده وعمقه وقيمته‪ ،‬مثل �أي بعد من الأبعاد‬
‫الزمن المعا�صر ال��ذي تتمحور فيه الأح��داث‪،‬‬ ‫الثالثة الأخ����رى‪ ،‬فقد بقي ال��زم��ن قبل هذه‬
‫خالل �ساعات �أو لحظات محدودة من اليوم‪،‬‬ ‫النظرية فراغ ًا وهمي ًا ابتدعه الإن�سان‪ .‬ومما �أثار‬
‫مروراً بالزمن المختلط �أو الملتب�س‪ ،‬الذي يقفز‬ ‫الب�شري‪ ،‬مالحظة‬
‫ّ‬ ‫فكرة البعد الرابع في الذهن‬
‫بين الما�ضي والحا�ضر والم�ستقبل‪ ،‬وهو ما‬ ‫�أن احتفاظ �أي �شيء ب�أبعاده الثالثة �أمر �شبه‬
‫ا�صطلح عليه بالبعد الرابع‪ ،‬ولتو�ضيح �أثر فكرة‬ ‫م�ستحيل‪ ،‬فالنا�س ينمون ويكبرون‪ ،‬والجغرافيا‬
‫البعد الرابع في الآداب الحديثة‪ ،‬نذكر م�سرحية‬ ‫تتغير‪ ،‬ما يجعل فكرة الأبعاد الثالثة ناق�صة‪،‬‬
‫اتخذت الرواية‬
‫(الزمن و�آل كونوي) للكاتب الم�سرحي المعا�صر‬ ‫تحد الأ�شياء كلها في لحظة زمنية واحدة‪،‬‬ ‫لأنها ّ‬
‫الحديثة الزمن‬ ‫بري�ستلي‪ ،‬التي كانت مثا ًال تطبيقي ًا ناجح ًا‬ ‫ربما كانت �أق�صر من لمح الب�صر‪ ،‬ما يجعلنا‬
‫مو�ضوع ًا لها �إلى‬ ‫لبع�ض الإمكانيات النظرية‪ ،‬حيث �إن الزمن‬ ‫�أحوج �إلى �أبعاد �أخرى �أكثر ثبات ًا و�أو�سع �شمو ًال‪،‬‬
‫جانب الحبكة‬ ‫فيها قد ا�ستحال �إلى بعد رابع‪ ،‬و�أن بري�ستلي‬ ‫بحيث تنطوي تحت جناحيها هذه التغيرات‬
‫وال�شخ�صيات‬ ‫منحه حركة طولية ممتدة‪ ،‬تحولت معها لحظات‬ ‫كلها‪ ،‬ومنها ننتهي �إل��ى �أن ن��درك الأ�شياء‬
‫الزمان �إلى محطات كبيرة‪ ،‬ي�سير قطار النف�س‬ ‫ب�أبعادها الحقيقية‪.‬‬
‫على امتدادها كيفما �شاء ذهاب ًا و�إياب ًا‪ ،‬انفعا ًال‬ ‫ومنذ نظرية البعد الرابع‪� ،‬أ�صبحنا ن�ستطيع‬
‫وتفاع ًال‪.‬‬ ‫�أن نرى الزمن بجزئياته‪ ،‬و�سرعان ما �شغفت‬
‫ويعد الزمن المادة المعنوية المجردة‪ ،‬التي‬ ‫فكرة البعد الرابع رجال الفكر والأدب‪ ،‬فعكفوا‬
‫يت�شكل منها �إطار كل حياة‪ ،‬وحيز كل فعل‪ ،‬وكل‬ ‫عليها يدر�سون �إمكانياتها الأدبية‪ ،‬وكان �أحد‬
‫حركة‪ ،‬فكل خطاب روائي يرتبط بالزمن الذي‬ ‫المفكرين الذين افتتنوا بها (‪ )Dunne‬الذي‬
‫ي�شكل بنية �أ�سا�سية في العمل الروائي‪ ،‬لأنه ال‬ ‫�أ�صدر �سل�سلة كتب مبنية عليها نالت �شهرة‬
‫يمكننا �أن نت�صور ق�صة �أو رواي��ة‪� ،‬أو حكاية‬ ‫كبيرة بين الأدباء‪ .‬ويدين الأدب الحديث بالكثير‬
‫خيالية خالية من هذه البنية المحورية في‬ ‫للروائي البريطاني لورن�س �ستيرن (‪-1713‬‬
‫العملية ال�سردية‪ ،‬فالفنون ال�سردية من �أكثر‬ ‫‪1768‬م)‪ ،‬فهو الكاتب الأول ال��ذي تو�سع في‬
‫الفنون الت�صاق ًا بالزمن‪ ،‬فهو حا�ضر بحركته‬ ‫اللحظة‪ ،‬م��ن خ�لال تعمقه ف��ي التفا�صيل‪،‬‬
‫وان�سيابه و�سرعته وبطئه‪ ،‬وهو الإيقاع الناب�ض‬ ‫لي�ستغرق زمن قراءة اللحظة عنده‪ ،‬ما يزيد على‬
‫في الرواية‪ ،‬وهذا ما جعل الزمن من �أهم العنا�صر‬ ‫قراءة زمن اللحظة الحقيقي‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪56‬‬


‫فكرة‬

‫الأ�ساليب ف��ي عمله ال��روائ��ي‪ ،‬م��ن خ�لال بث‬ ‫الروائية �إث��ارة الهتمام الدار�سين‪ ،‬فبوا�سطته‬
‫�إ�شارات وعبارات تعمل على تبطيء الزمن تارة‪،‬‬ ‫يمكن التعرف �إلى النظام الزماني‪ ،‬الذي تجري‬
‫�أو ت�سريعه ت��ارة �أخ��رى‪� ،‬أو �أن يقوم ب�إيقاف‬ ‫فيه �أح��داث الن�ص الروائي‪ ،‬بالنظر �إلى القدر‬
‫النظام الزمني والنف�سي والتاريخي للرواية‪ ،‬كما‬ ‫الذي ي�سهم به في ت�شكيل الن�ص ال�سردي‪.‬‬
‫نادى بذلك جورج لوكات�ش‪ ،‬حين قال‪�( :‬إن العمل‬ ‫ه��ن��اك اخ��ت�لاف بين ال��رواي��ة التقليدية‪،‬‬
‫الأدبي انعكا�س لمنتج الحركة‪ ،‬خا�صة �أن الزمن‬ ‫والرواية الحديثة في التعامل مع الزمن؛ فالرواية‬
‫مع طرح �آين�شتاين‬ ‫بحركته وان�سيابه و�سرعته وبطئه‪ ،‬هو الإيقاع‬ ‫التقليدية تقوم على تطور الحبكة وال�شخ�صيات‪،‬‬
‫مبد�أ الزمن �أ�صبح‬ ‫الناب�ض في الحياة)‪.‬‬ ‫في ما ي�شبه �سيرة الحياة‪� ،‬أما الرواية الحديثة؛‬
‫للأ�شياء ُبعد رابع‬ ‫الكاتب �أم��ي��ر ت��اج ال�سر‪ ،‬طبيب وروائ��ي‬ ‫فهي ت�أخذ الزمن مو�ضوع ًا للرواية‪ ،‬ال مجرد دليل‬
‫���س��ودان��ي‪ ،‬نالت �أع��م��ال��ه اهتمام ًا كبيراً في‬ ‫على نمو الأحداث وتطور ال�شخ�صيات‪ ،‬وهو ما‬
‫الأو�ساط الأدبية والنقدية‪ ،‬كما حققت �شهرة‬ ‫ينعك�س على الأ�شكال الجديدة للرواية الحديثة‪،‬‬
‫عالمية‪ ،‬بعد ترجمة معظمها �إل��ى الكثير من‬ ‫لذا �أ�صبح الزمن ي�شكل ال�شخ�صية الرئي�سية في‬
‫اللغات العالمية‪ ،‬منها‪ :‬الإنجليزية والفرن�سية‬ ‫كثير من الأعمال الروائية الجديدة‪ ،‬التي انبثقت‬
‫والإيطالية‪ ..‬وو�صلت روايته (�صائد اليرقات)‬ ‫على يد نخبة من الروائيين والكتاب العرب‪،‬‬
‫�إلى القائمة الق�صيرة لجائزة البوكر العربية‬ ‫الذين نزعوا �إلى التجديد‪ ،‬من خالل التالعب على‬
‫(‪2011‬م)‪ ،‬حاول تطبيق �أق�سام الزمن الروائي‪،‬‬ ‫م�ستوى النظام الزمني للن�ص الروائي؛ فقد عمد‬
‫من الزمن الداخلي �إلى الزمن الخارجي؛ وذلك‬ ‫كل من (�إميل حبيبي)‪ ،‬و(حنا مينة)‪ ،‬و(وا�سيني‬
‫بتتبع المفارقة ال�سردية في الرواية‪ ،‬فقد كان‬ ‫الأع���رج)‪ ،‬و(�إدوارد ال��خ��راط)‪ ،‬و(عبدالرحمن‬
‫تعمق لورن�س �ستيرن‬ ‫عن�صر الزمن‪ ،‬من العنا�صر الرئي�سية في التقنيات‬ ‫منيف)‪ ،‬و(�إبراهيم ن�صراهلل) و�آخرون‪ ..‬بوا�سطة‬
‫في تفا�صيل الزمن‬ ‫ال�سردية للرواية‪ ،‬حيث اعتمد على مجموعة من‬ ‫�أعمالهم الروائية �إل��ى اتباع �أ�ساليب تعك�س‬
‫وافتتن الأدباء به‬ ‫التقنيات الزمنية‪ ،‬كالترتيب‪ ،‬والمدة ‪ ،‬والتواتر‪،‬‬ ‫حداثة تجاربهم الروائية‪ ،‬ذلك �أن رواية التجريب‬
‫وكل هذه التقنيات تم توظيفها في رواية (�صائد‬ ‫ما�ض‬‫ٍ‬ ‫�شكلت ث��ورة على الترتيب الن�سقي من‬
‫فوظفوه في �أعمالهم‬ ‫اليرقات) بن�سب متفاوتة‪ ،‬حيث ي�أخذنا �أمير تاج‬ ‫وحا�ضر وم�ستقبل‪� ،‬إذ �إنها �سعت �إل��ى خلخلة‬
‫ال�سر‪ ،‬من خالل هذا العمل‪� ،‬إلى �أرا�ضي ال�سودان‬ ‫الت�سل�سل الزمني‪ ،‬الذي طالما التزمته الرواية‬
‫ومقاهيها‪ ،‬ب�أ�سلوب �سردي ب�سيط وجميل دقيق‬ ‫التقليدية؛ فالترتيب الزمني الذي يميز رواية‬
‫الو�صف‪ ،‬عبر ل�سان بطل الرواية (عبداهلل فرفار)‬ ‫التجريب �أو الرواية العربية الجديدة‪ ،‬مختلف‬
‫�أو (حرف�ش)‪ ،‬وهو �ضابط �أمن ا�ضطر �إلى التقاعد‬ ‫عما �ألفناه لدى رواد الرواية الكال�سيكية‪ ،‬وهذا‬
‫في �سن مبكرة من الخدمة‪ ،‬بعد حادثة �أفقدته‬ ‫ما عبر عنه الناقد ال�سوري مر�شد �أحمد بقوله‪:‬‬
‫رجله ومن�صبه في الخدمة والمجتمع‪ ،‬ليقع في‬ ‫(�إن ن�سق الترتيب الزمني في الرواية التقليدية‪،‬‬
‫الروتين والملل والفراغ‪� .‬إلى �أن ظهرت له يوم ًا‬ ‫ينه�ض على نظام التعاقب الزمني)‪.‬‬
‫فكرة كتابة رواية‪ ،‬وهو الذي لم يقر�أ رواية في‬ ‫اختلف النقاد في تق�سيم الزمن الروائي‪،‬‬
‫حياته �أو رافق كتاب ًا‪.‬‬ ‫و�أبرز هذه التق�سيمات‪ :‬الزمن الداخلي‪ ،‬والزمن‬
‫كل خطاب روائي‬ ‫وهكذا ن�ستنتج �أن تقنية البعد الرابع تقوم‬ ‫الخارجي‪ ،‬ثم التمييز بين زمن الق�صة وزمن‬
‫على ك�سر الترتيب ال�سردي االطرادي‪ ،‬والغو�ص‬ ‫الخطاب‪ ،‬من خالل ثالث عالقات‪ ،‬وهي‪ :‬عالقة‬
‫يرتبط بالزمن‬
‫خط‬‫�إلى الداخل وتحطيم �سل�سلة الزمن ال�سائر في ٍ ّ‬ ‫الترتيب وعالقة المدة‪ ،‬وعالقة التواتر‪ .‬وجاء‬
‫وي�شكل بنية �أ�سا�سية‬ ‫م�ستقيم‪ ،‬حيث يتحول الزمن �إلى �أحد عنا�صر‬ ‫ا�ستخدام ه��ذه التقنيات م��ن قبل الروائيين‬
‫في العمل الأدبي‬ ‫بنية الن�ص‪ ،‬ويكون الزمن مرتبط ًا ب�شكل رئي�سي‬ ‫لم�ساعدتهم؛ لأن فعل الكتابة وفعل القراءة‬
‫بالذاكرة‪ ،‬من خالل مطاردة �أح��داث الما�ضي‬ ‫من الميادين التي تعددت �أزمنتها وت�شكالتها‪،‬‬
‫لل�شخ�صية والهيمنة عليها‪� ،‬أو فقدها الت�سل�سل‬ ‫فحين تبحث مو�ضوعي ًا يغيب التج�سيم في فهم‬
‫الزمني ل�ل�أح��داث التي م��رت بها‪ ،‬فتعجز عن‬ ‫الزمن‪ ،‬ويتال�شى في الزمن االجتماعي والنف�سي‬
‫التمييز بين الحا�ضر �أو الما�ضي �أو الم�ستقبل‪،‬‬ ‫والتاريخي للرواية‪ ،‬خا�صة �أن ال�سرديات كما‬
‫فلكل فن زم��ن يتم فيه تلقيه‪ ،‬فزمن الكتابة‬ ‫يعدها الباحثون �أخ�صب ميدان للفعلين مع ًا؛‬
‫محدود بعك�س زمن القراءة غير المحدود‪.‬‬ ‫ولذلك ي�سعى الكاتب �إل��ى اتباع مجموعة من‬

‫‪57‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫المكان ال�شخ�صية الرئي�سية في جل �أعماله‬
‫الروائي محمد الأ�صفر‪:‬‬
‫اللغة هي �أ�سلوب الحياة‬
‫م�ساهمتك الجميلة في تكويننا وفي منح‬
‫حياتنا معنى‪.‬‬ ‫الروائي محمد الأ�صفر من مواليد (‪1960‬م)‪ ،‬كاتب ليبي‬
‫الكتابة بالن�سبة لدي تبد�أ من الما�ضي‬ ‫من حي المحي�شي ال�شعبي بمدينة بنغازي‪ ،‬عمل معلم‬
‫�أو م��ا ي�سمى ب��ال��ذك��ري��ات‪ ،‬لتمر بعدها‬ ‫ابتدائي و�إع��دادي‪ ،‬ولعب كرة القدم في نادي ال�سواعد‪،‬‬
‫بالحا�ضر ثم الم�ستقبل �إن ات�ضحت �صورته‬ ‫ثم تاجر �شنطة‪ ..‬حيث طاف عدة دول عربية و�أوروبية‬
‫�أمامي قلي ًال‪ ،‬و�إن ظلت معتمة ف�أحاول قدر‬ ‫و�آ�سيوية‪ ،‬ول��م يكن الهدف من التجارة الربح المادي‪،‬‬
‫الإمكان منحها بع�ض ال�ضوء‪ ،‬لعلها تقبله‬ ‫ممدوح عبد ال�ستار‬
‫وتتجاوب معه وتبت�سم لي قلي ًال‪.‬‬ ‫بل �إ�شباع هواية ال�سفر ور�ؤي��ة العالم والتفاعل معه‪.‬‬

‫�أ���ص��در خم�س ع�شرة رواي���ة‪ ,‬منها‪:‬‬


‫(المدا�سة‪ -‬تقودني نجمة‪ -‬نواح الريق‪-‬‬ ‫ُ‬
‫�سرة الكون‪� -‬شرمولة‪� -‬شك�شوكة ‪ -‬يانا‬
‫علي‪ -‬ع�سل النا�س‪ -‬ملح‪ -‬فرحة‪ -‬وزارة‬
‫الأحالم‪ -‬علبة ال�سعادة‪ -‬تمر وقعمول‪-‬‬
‫بوق)‪ .‬و�أ�صدر مجموعات ق�ص�صية‪ ،‬منها‪:‬‬
‫(حجر ر�شيد)‪ ،‬ومجموعة (حجر الزهر)‪،‬‬
‫وترجمت بع�ض �أعماله �إل��ى الإنجليزية‬
‫والإ�سبانية والفرن�سية‪ ...‬التقته مجلة‬
‫(ال�شارقة الثقافية)‪ ،‬وكان لنا معه هذا‬
‫الحوار‪:‬‬

‫¯ �أنت في المنفى (�ألمانيا) الذي اخترته‬


‫بنف�سك‪ ،‬وتعي�ش حياة مختلفة‪ ،‬ورغم ذلك‬
‫ت�سحبك ال��ذاك��رة‪ ،‬والذكريات لكتابة ما‬
‫م�ضى من حياتك في ليبيا‪ ،‬هل الذكريات‬
‫تكتبك‪� ،‬أم �أنك تملكها‪ ،‬وتوظفها لتطفئ هذا‬
‫القلق الذي ال ت�ستطيع الفرار منه؟‬
‫‪ -‬ال يمكننا الهرب من الما�ضي‪ ،‬فهو‬
‫يرافقنا ف��ي ّحلنا وترحالنا‪ ،‬ف��ي نومنا‬
‫ويقظتنا‪ ،‬يذكرنا بمكان ع�شنا فيه �سابق ًا‪،‬‬
‫نحن �إليه‪ ،‬وك��ي يعي�ش معنا ال‬ ‫ّ‬ ‫ومازلنا‬
‫بد من كتابته‪ ،‬الكتابة تحوله �إلى حا�ضر‬
‫وم�ستقبل‪� ،‬إلى �شيء نراه �أمامنا‪� ،‬إن لم نفعل‬
‫ذلك نح�س ب�أن ج��زءاً من حياتنا قد مات‬
‫واندثر‪ ،‬ولم نفعل �شيئ ًا لأجله كي نوا�سيه‪،‬‬
‫�أو ن�سعفه وننع�شه‪ ،‬نكتب الما�ضي لنقول‬
‫له �إن حا�ضرنا مهما كان مريح ًا وجيداً‬
‫لن يجعلنا نن�ساك‪ ،‬ف�أنت �أي�ض ًا كانت لك‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪58‬‬


‫محاورة‬

‫¯ هل ا�ستفدت من �إقامتك ب�ألمانيا‪ ،‬وهل‬


‫�ساعدك ذلك في الإبداع؟‬
‫‪ -‬نعم ا�ستفدت كثيراً‪ ،‬في �ألمانيا الحياة‬
‫منظمة‪ ،‬تجبرك �أن تكون جزءاً منها و�إال ر�أيت‬
‫نف�سك ن�شازاً و�سط �آلة تعمل بدقة‪ ،‬ولذلك فال‬
‫تهدر الوقت وت��ح��اول ا�ستغالله في القراءة‬
‫والكتابة والعمل‪ ،‬كثير من الم�شاكل والعوائق‬
‫التي كانت ت�شغلني عن الكتابة في الوطن‬
‫انتهت‪ ،‬ففي فترة ق�صيرة ن�سبي ًا ثالث �سنوات‬
‫كتبت �أكثر من خم�سة كتب‪ ،‬لكن الكتابة ال‬
‫تختلف من مكان �إلى �آخر‪ ،‬ال تغيرها الأمكنة‬
‫المريحة �أو المتوترة‪� ،‬إن كانت هناك موهبة‬
‫وعمل و�إ�صرار �ستتطور الموهبة ون�صقل وتكتب‬
‫جيداً‪ ،‬و�إن كانت الموهبة معدومة فحتى و�إن‬
‫و�ضعت في ق�صر �أو في جنة ف�ستخفق في عالم‬
‫الكتابة‪ ،‬الأمكنة المريحة تحل لك م�شكلة الوقت‬
‫والكهرباء والطعام والإقامة والهدوء‪ ،‬لكن ال‬
‫تفعل �شيئ ًا �أمام ال�شيء الأ�سا�سي في الكتابة‬
‫وهو الموهبة‪ ،‬الأمكنة المريحة من �صنع الب�شر‪،‬‬
‫من م�ؤلفاته‬ ‫الموهبة هبة من اهلل‪.‬‬
‫ليبيا‪ ،‬عندما تكون معه ت�شعر بال�سعادة والألفة‬
‫والحميمية‪ ،‬ت�شعر ك�أنه �أب �أو �أخ كبير‪ ،‬لم‬ ‫¯ لديك عالقة جيدة بالروائي �إبراهيم الكوني‪،‬‬
‫نتحدث كثيراً‪ ،‬كان ال�صمت بيننا هو المتحدث؛‬ ‫حدثنا عن هذه العالقة‪ ،‬وما �أبرز المواقف التي‬
‫�صمت الأندل�س ولي�س �صمت ال�صحراء الذي ال‬ ‫حدثت على الم�ستويين الإبداعي‪ ،‬وال�شخ�صي؟‬
‫�أفقه فيه �شيئ ًا‪ ،‬تناولنا الطعام مع ًا وتجولنا‬ ‫‪� -‬أع��ت��ز ب ��إب��راه��ي��م ال��ك��ون��ي و�أح��ت��رم��ه‬
‫ح�ضور المكان‬ ‫على �شاطئ البحر‪ ،‬نلتقي في ال�ضحى وعند‬ ‫لإخال�صه لم�شروعه الأدبي وعدم الن�أي عنه �أو‬
‫الع�شية نفترق‪ ،‬ليعي�ش كل واحد منا في محرابه‬ ‫االن�شغال ب�أي م�شروع �آخر‪ ،‬وحقيقة ا�ستفدت‬
‫وهيمنته في كتاباتي‬
‫الذي يحب‪ .‬بعدها �صارت بيننا مرا�سالت هو‬ ‫كثيراً من قراءة كتبه حينما قررت دخول مجال‬
‫نتيجة العي�ش‬ ‫يكتب لي ر�سائل ب�أ�سلوب عذب جميل ال �أعرف‬ ‫الكتابة‪ ،‬فهو �إ�ضافة �إلى موهبته الكبيرة كان‬
‫المثقل وال�سفر‬ ‫كيف �أرد عليها‪ ،‬هو متمكن من فن كتابة‬ ‫قد در�س الأدب في االتحاد ال�سوفييتي ونهل‬
‫الم�ستمر‬ ‫الر�سائل كتمكنه م��ن ف��ن ال��رواي��ة‪ ،‬ر�سائله‬ ‫من عوالم تول�ستوي ودو�ستويف�سكي‪ ،‬وجوجول‪،‬‬
‫وك�أنها مقاطع روائية‪ ،‬عرفني �أي�ض ًا �إلى كتاب‬ ‫وت�شيخوف‪ ،‬وجوركي‪ ،‬ودرا�سته للأدب جعلته‬
‫ومترجمين �ألمان �أفادوني عندما احتجت لهم‬ ‫يكتب بطريقة �صحيحة ال تحتاج �إلى محرر‪.‬‬
‫في بع�ض الإج��راءات الر�سمية‪ ،‬عندما انتقلت‬ ‫لم �أت��ع��رف �إليه �شخ�صي ًا �إال �أخ��ي��راً‪ ،‬عندما‬
‫للعي�ش في �ألمانيا ك��ان معي رواي��ة (التبر)‬ ‫دعاني لزيارته في محل �إقامته قرب مدينة‬
‫لإبراهيم الكوني‪ ،‬قر�أتها من قبل لكن حينما‬ ‫بر�شلونة‪ ،‬وبقيت معه يومين �أو ثالثة اقتربت‬
‫�أجدها �أمامي في �أي مكتبة �أقتنيها ثم �أهديها‬ ‫فيها من عوالمه وطقو�سه عن كثب‪ ،‬قال لي‬
‫�أكتب �سيرتي الذاتية‬ ‫لأي �صديق‪� ،‬أ�شعر ب�أنني �أهدي ذهب ًا حقيقي ًا‬ ‫في �أوروب��ا �ستعرف قيمة الوقت وتكتب �أكثر‬
‫من خالل �شخ�صيات‬ ‫ولي�س كلمات من ذهب‪ ،‬يحدث معي الأمر كذلك‬ ‫وب�شكل جيد‪ ،‬هو �إن�سان لطيف ومرح وكريم‪،‬‬
‫�أعمالي و�أتحكم في‬ ‫مع روايات نزيف الحجر والمجو�س وال�سحرة‪.‬‬ ‫ي�سدد لك ثمن الفندق والقطار ويدخل معك‬
‫حركتها و�أفكارها‬ ‫حينما و�صلت �ألمانيا حاولت �أن �أنخرط في‬ ‫ال�سوبر مارك لتت�سوق على ح�سابه ما تحتاج‬
‫الو�سط الثقافي الألماني لكن توقفت‪ ،‬وجدتهم‬ ‫�إليه من‪ ،‬ويتحدث معك دون �أن ي�سيء لأحد‪،‬‬
‫ال يعاملوننا ككتاب �إنما كمهاجرين يريدون‬ ‫يمكنك �أن تتعلم منه �أ�شياء جيدة كثيرة �إن‬
‫�أن يحكوا على تجاربهم التي جاءت بهم �إلى‬ ‫�أحببت في المجال الإبداعي والإن�ساني‪� ،‬أعتبره‬
‫�أوروب���ا‪ ،‬ووج��دت �أي�ض ًا �أن كل المهاجرين‬ ‫هو وال�صادق النيهوم �أف�ضل كاتبين �أنجبتهما‬

‫‪59‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫عا�شه من �أحداث �ساعدني كثيراً في الكتابة‪� ،‬أنا‬ ‫والالجئين قد تحولوا بقدرة قادر �إلى �أدباء‬
‫ال �أبحث عن فكرة كي �أنطلق في كتابة �أي عمل‪،‬‬ ‫وفنانين‪ ،‬ومن هنا تذكرت الكوني وقلت العزلة‬
‫بل عن مكان ع�شت فيه �سابق ًا‪� ،‬أو �أعي�ش فيه‬ ‫هي الأف�ضل‪ ،‬هي الحل‪ ،‬العزلة هي �أال تهدر‬
‫حالي ًا ومع المكان ي�أتي كل �شيء‪ ،‬فالمكان‬ ‫الوقت في الال جدوى‪ ،‬العزلة تعني قراءة �أكثر‪،‬‬
‫كريم �إب��داع��ي� ًا ج ��داً‪� ،‬أعتبره ه��و ال�شخ�صية‬ ‫كتابة �أكثر‪ ،‬ت�أم ًال �أكثر‪.‬‬
‫الرئي�سية في كل �أعمالي‪ ،‬و�شخ�صيات الب�شر‬
‫في �أعمالي بمن فيهم �أنا �شخ�صيات هام�شية‬ ‫ا�ستطعت من خالل �أعمالك الروائية‪،‬‬
‫َ‬ ‫¯ هل‬
‫م�ؤقتة ترحل �إلى خارج الن�ص ليبقى المكان‬ ‫والق�ص�صية الإجابة عن �س�ؤال الهوية بما �أنك‬
‫م�شع ًا وحده‪� ،‬أمكنة كثيرة زرتها وع�شت فيها‬ ‫في المنفى االختياري؟‬
‫وكتبت عنها حتى �إن البع�ض ي�صنف �أعمالي‬ ‫‪ -‬ال للأ�سف‪� ،‬أن��ا ال �أكتب كي �أجيب عن‬
‫ك�أدب رحالت ولي�س ق�ص�ص ًا �أو روايات‪ ،‬و�سبب‬ ‫�أ�سئلة‪ ،‬بل ال �أ�سمح لأحد ب�أن يطرح على �أ�سئلة‬
‫ح�ضور المكان وهيمنته في �أعمالي هو العي�ش‬ ‫با�ستثناء ال�شرطة �أو الطبيب‪ ،‬فدائم ًا �أكتب‬
‫متنق ًال من مكان �إلى �آخر‪ ،‬ال�سفر كثيراً لر�ؤية‬ ‫لأعبر عن م�شاعري ولأعي�ش حياة خا�صة بي‬
‫العالم عن كثب والتفاعل معه �سلب ًا �أو �إيجابا �أو‬ ‫�أختارها وال يتم اختيارها لي البتة‪.‬‬
‫بطريقة محايدة‪ ،‬يعني ح�سب الحالة المزاجية‬
‫محمد الأ�صفر‬
‫التي �أعي�شها �آنذاك‪ ،‬حياتي كلها انتقاالت من‬ ‫¯ يمتاز الأدب الغربي‪ ،‬وخ�صو�صا الألماني‪،‬‬
‫مكان �إلى �آخر‪ ،‬طفولتي ع�شتها في ثالث مدن‬ ‫باللغة المحددة‪ ،‬والمك�شوفة‪ ،‬هل الكتابة بهذه‬
‫طرابل�س‪ ،‬الخم�س‪ ،‬بنغازي‪ ،‬و�أن�شطتي ال�شبابية‬ ‫الطريقة هي المنا�سبة للمرحلة التي تمر بها‬
‫والريا�ضية وكذلك احترافي لتجارة ال�شنطة‬ ‫البالد العربية؟‬
‫جعلني �أعي�ش متنق ًال من مدينة �إلى �أخرى ومن‬ ‫ـــ اط�لاع��ي على الأدب الغربي كله تم‬
‫الألمان ال يعاملوننا‬ ‫بلد �إلى �آخر‪ ،‬باخت�صار المكان هو كل �شيء‪،‬‬ ‫عبر مترجمين‪� ،‬أي ق��ر�أت��ه باللغة العربية‪،‬‬
‫المكان هو الذي يكتب ولي�س �أنا‪.‬‬ ‫والمترجمون ال يمنحونك �صورة جيدة للكتاب‬
‫ككتاب بل‬ ‫الذي يترجمونه‪ ،‬يمكنك القول �إنني �أقدر جهد‬
‫كمهاجرين يريدون‬ ‫¯ ما هي العوامل‪ ،‬والم�ؤثرات التي جعلت منك‬ ‫المترجمين‪ ،‬لكن ال �أثق في �صحة ترجماتهم‪،‬‬
‫منهم �أن يحكوا لهم‬ ‫ومن �ساعدك؟ وهل من يقر�أ‬ ‫وقا�ص ًا‪َ ،‬‬
‫ّ‬ ‫روائي ًا‪،‬‬ ‫انتقال الروح من ج�سد �إلى �آخر �أمر �صعب بل‬
‫عن تجاربهم‬ ‫�سيرتك الذاتية تتخ َلل‬
‫َ‬ ‫لك ي�شعر وك�أنك تكتب‬ ‫م�ستحيل‪� ،‬أحيانا �أق��ر�أ كتاب ًا مترجم ًا لأديب‬
‫�أعمالك‪ ،‬وما هي طقو�س الكتابة لديك؟‬ ‫عالمي وال يعجبني‪ ،‬بل �أق��ول كيف نال هذا‬
‫‪ -‬هذا حقيقي‪� ،‬أنا �أكتب �سيرتي الذاتية من‬ ‫تح�صل على جائزة نوبل‬‫الأديب ال�شهرة وكيف ّ‬
‫خالل �شخ�صيات �أخرى‪ ،‬كل ال�شخ�صيات ت�شعر‬ ‫مث ًال‪ ،‬وال�سبب بالطبع هو المترجم الذي ف�شل في‬
‫ب�أن �صوتي �صاخب داخلها‪� ،‬أتحكم في حياتها‬ ‫نقل �إبداع الكاتب الأ�صلي‪ ،‬حتى الكاتب �إن ترجم‬
‫كما �أرغب‪ ،‬وح�سب وجهة نظري‪ ،‬ال �أ�سمح لأي‬ ‫كتابه بنف�سه لن ينجح في جعل الكتابين بالقوة‬
‫�شخ�صية باالنفالت لتعبر عن نف�سها‪ ،‬ال بد �أن‬ ‫نف�سها‪� ،‬أق��ول لك اللغة المحددة والمك�شوفة‬
‫تعبر كما �أرغ��ب �أن��ا‪ ،‬عندما تعبر عن نف�سها‬ ‫تنفع مع الألمان؛ لأنها متوافقة مع �أ�سلوب‬
‫حياتهم‪ ،‬لكن نحن العرب ال بد من الثرثرة‬
‫والح�شو والمح�سنات البالغية كي ي�صل المعنى‬
‫للقارئ �إن وجد �أ�ص ًال‪ ،‬كل مجتمع وكل بلد له‬
‫لغة تنا�سبه ويتفاعل معها‪ ،‬اللغة التي يف�ضلها‬
‫الغرب ال تنا�سب ال�شرق هكذا �أرى ‪ ،‬اللغة هي‬
‫�أ�سلوب الحياة وقد تتحول �إلى كلمات و�أ�صوات‪.‬‬

‫¯ المكان بنية �أ�سا�سية في الرواية‪ ،‬هل تحققت‬


‫بنية المكان الليبي في رواياتك‪ ،‬وق�ص�صك؟‬
‫ـــــ رواي��ات��ي عبارة عن مجموعة �أمكنة‬
‫ع�شت فيها �سابق ًا وحالي ًا‪ ،‬المكان بالن�سبة‬
‫لي هو �شرارة بدء كل عمل �أكتبه‪ .‬المكان وما‬
‫مدينة بنغازي‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪60‬‬


‫محاورة‬

‫جيد‪ ،‬ب�سبب فا�صلة �أو‬ ‫بحرية �أ�شعر ب�أن هناك �آخر يحركها ولي�س �أنا‬
‫قو�س �أو عالمة تعجب‬ ‫مبدعها‪ ،‬في كثير من الأحيان تجد �شخ�صياتي‬
‫�أو ا�ستفهام ل��م ينتبه‬ ‫بدون �أ�سماء وبدون مالمح‪� ،‬أخاف �إن منحتها‬
‫ل��ه��ا ال ��ك ��ات ��ب‪ ،‬ك��ذل��ك‬ ‫�أ�سماء �أو مالمح من �أن تهرب مني‪� ،‬أن تهاجر‬
‫ت��وج��د ل��ه��ج��ة ع��ام��ي��ة‬ ‫عن وطنها ال��ذي هو �أن��ا‪ ،‬لذلك �أح��ب �أن يجد‬
‫ف��ي رواي��ات��ي وكلمات‬ ‫القارئ فيها نف�سه‪ ،‬ب�أن يمنحها ا�سمه ومالمحه‬
‫�إبراهيم الكوني‬ ‫ال�صادق النيهوم‬
‫غير مقبولة في الو�سط‬ ‫�أن وجدها تعبر عنه فع ًال‪ ،‬ا�سم م�ؤقت ومالمح‬
‫المحافظ‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬ ‫م�ؤقتة �إلى حين ينتهي من قراءة الكتاب‪.‬‬
‫بع�ض الر�ؤى ال�سيا�سية‬
‫التي ت�ضع المحكم في‬ ‫¯ هل ا�ستطاع النقد �أن ي�ضع تجربتك الإبداعية‬
‫ح���رج م��ع ال��م��م��ول لو‬ ‫في مكانها الالئق كما يجب‪ ،‬وهل لدينا �أزمة‬
‫مرر العمل‪ ،‬في النهاية‬ ‫نقدية؟‬
‫قيمتي الفنية �أعرفها‬ ‫‪ -‬كثير من النقاد في ليبيا والوطن العربي‬
‫ج���ي���داً وم��ق��ت��ن��ع بها‬ ‫وف��ي ع��دة دول �أجنبية كتبوا عن تجربتي ‪،‬‬
‫والقيمة المادية للجوائز‬ ‫وتناولوها ب�شكل �إيجابي و�أ�شكرهم على ذلك‪،‬‬
‫تول�ستوي‬ ‫ت�شيخوف‬
‫ال تمثل لي �أي �أهمية‪.‬‬ ‫وكتاباتهم عن تجربتي ا�ستفدت منها الحق ًا‪،‬‬
‫وكذلك منحتني بع�ض الر�ضا على نف�سي‪،‬‬
‫¯ �أخيراً‪ ،‬لماذا الكتابة؟ وهل تجد الفن والإبداع‬ ‫و�أي�ض ًا و�ضعتني �أم��ام تح ٍد �أكبر كي �أجعل‬
‫والكتابة �ضرورة لك وللمجتمع؟ وهل تعتقد‬ ‫�أعمالي الجديدة ذات جودة �إبداعية‪ ،‬في البداية‬
‫أدب والف َّن لهما دور في تغيير الواقع‪،‬‬ ‫� َّأن ال َ‬ ‫لم �أكن �أراجع �أي عمل‪ ،‬لم �أكن �أهتم بعالمات‬
‫ويحافظان على الذاكرة الجماعية للوطن؟‬ ‫الترقيم‪ ،‬حالي ًا �أكتب بدقة و�أراج��ع كل �سطر‬
‫‪ -‬نعم الكتابة لها دور في تغيير المجتمع‬ ‫�أكتبه �أكثر من مرة‪ ،‬المجتمع الذي �أعي�ش فيه‬
‫ا�ستفدت كثيراً من‬ ‫نحو الأف�ضل‪ ،‬القراءة ينبغي �أن تتحول �إلى‬ ‫حالي ًا �أث��ر ف� ّ�ي‪� ،‬أ�سلوب حياته انعك�س على‬
‫النقاد الذين كتبوا‬ ‫ثقافة ع��ام��ة‪ ،‬منذ ال�صغر ينبغي �أن تكون‬ ‫كتاباتي‪.‬‬
‫عالقة الطفل بالكتاب كعالقته بقنينة اللبن‪،‬‬
‫عن تجربتي الأدبية‬
‫المجتمعات التي لم تهتم بالكتب تظل متخلفة‪،‬‬ ‫¯ برغم �أعمالك الكثيرة‪ ،‬لم نر لك ح�ضوراً في‬
‫في �ألمانيا مث ًال وقت جائحة كورونا قفلوا كل‬ ‫الجوائز الأدبية العربية ‪ ،‬كيف ترى الأمر؟‬
‫�شيء �إال المكتبات و�أك�شاك ال�صحف ومحالت‬ ‫ـــــ �أ���ش��ارك بين حين و�آخ��ر في الجوائز‬
‫بيع الزهور‪ ،‬في كل حديقة تجد مكتبة �صغيرة‬ ‫بمخطوطات لكن ال �أوفق‪ ،‬لجان التحكيم الذين‬
‫بها كتب مجانية‪ ،‬في الحافلة �أو المترو �أو‬ ‫�أغلبهم �أ�ساتذة جامعات لهم معايير خا�صة ال‬
‫القطار‪ ،‬قلما تجد راكب ًا لي�س في يده كتاب‪،‬‬ ‫بد �أن تكون متوافرة في العمل الروائي حتى‬
‫حتى المت�شردون منهم تجدهم يطالعون‬ ‫ير�ضون عنه‪ ،‬هذه المعايير �أعترف �أنها غير‬
‫الكتب‪ ،‬في الأ�سواق الكبيرة تجد كتب ًا مجانية‬ ‫متوافرة في رواياتي‪ ،‬لم �أغ�ضب من �أي خ�سارة‬
‫القراءة يجب �أن‬ ‫للقراءة‪ ،‬بل هناك بع�ض البيوت و�ضعت في‬ ‫ودائ��م� ًا �أق��دم التهاني للفائزين‪ ،‬لعبي لكرة‬
‫تتحول �إلى ثقافة‬ ‫مدخلها مكتبة �صغيرة �أنيقة يمكن لأي مار �أن‬ ‫القدم في النادي جعل لدي روح � ًا ريا�ضية‪،‬‬
‫عامة وعالقة الطفل‬ ‫ي�أخذ منها كتاب ًا يقر�ؤه ويعيده‪ .‬وبخ�صو�ص‬ ‫�أتقبل الخ�سارة و�أبد�أ في اليوم الثاني التمارين‬
‫بالكتابة كعالقته‬ ‫الحفاظ على الذاكرة الجماعية للوطن؛ �أي نعم‪،‬‬ ‫من جديد‪ ،‬الخ�سائر لي�ست نهاية العالم‪ ،‬نهاية‬
‫فكل �شيء منذ الأزل و�صلنا عبر الكتب‪ ،‬لوال‬ ‫العالم �أن تي�أ�س‪ ،‬ذات يوم �سيكون في لجان‬
‫بقنينة اللبن‬ ‫الكتب لوجد الإن�سان �صعوبة في حياته‪ ،‬الكتب‬ ‫التحكيم من تعجبهم كتاباتي و�س�أفوز‪ ،‬الأمر‬
‫اخت�صرت له الزمن طوت له عدة مراحل‪ ،‬جعلته‬ ‫تح�صيل حا�صل ال �أكثر‪.‬‬
‫ينجح وي�صل �إلى م�ستويات علمية راقية في كل‬ ‫�صديق ف��ي لجنة تحكيم ق��ال ل��ي �إنهم‬
‫المجاالت مكنته حتى في الو�صول �إلى القمر‬ ‫يقر�ؤون كل عمل ويمنحونه درج��ة‪ ،‬والن�ص‬
‫والمريخ‪ ،‬وحالي ًا لي�س �أمامنا �سوى الكتاب‬ ‫الذي يتح�صل على درجات �أكبر يفوز‪ ،‬من �ضمن‬
‫ب�شكله الورقي �أو الرقمي‪ ،‬كي نواكب الع�صر‬ ‫الدرجات هناك درج��ات تمنح على عالمات‬
‫ونت�شبث به قلي ًال لينت�شلنا من الظالم‪.‬‬ ‫الترقيم في الن�ص‪ ،‬يعني يمكن ا�ستبعاد ن�ص‬

‫‪61‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫علي �أبوالري�ش‬
‫ورحلته الملحمية‬
‫في �أعماق الإن�سان‬ ‫علي كنعان‬

‫و�صل �إلى الثورة الزراعية واختراع �أدواتها‪.‬‬ ‫يمتاز ال��روائ��ي الكبير علي �أبوالري�ش‪،‬‬
‫وي�شير الباحث �إل��ى (فرن�سي�س بيكون) الذي‬ ‫بمنجزه الروائي المتفرد في ر�ؤاه ومو�ضوعاته‪،‬‬
‫ن�شر في العام (‪1620‬م) بيان ًا علمي ًا بعنوان‬ ‫وف�ضائه الإبداعي المتنوع‪� ،‬إ�ضافة �إلى عمق‬
‫(الأداة الجديدة) �أو�ضح فيه (�أن المعرفة قوة‪،‬‬ ‫درا���س��ات��ه الفكرية‪ ،‬وذل��ك م��ن خ�لال درا�سة‬
‫والتجربة الحقيقية للمعرفة لي�ست فيما �إذا‬ ‫الفل�سفة وتخ�ص�صه في علم النف�س وعوالمه‬
‫كانت �صحيحة‪ ،‬بل ما �إذا كانت ممكنة)‪ .‬ومن‬ ‫الباطنية الوا�سعة‪ ،‬وهذا ما نجده في كتابه‬
‫هنا ننتقل �إلى (�إرادة القوة) عند نيت�شه‪ ،‬وتبرز‬ ‫المو�سوم بـ(الإن�سان ذل��ك الكائن الخيالي‪:‬‬
‫(الأنا) بقوة مدعومة بالخيال‪ ،‬لنقفز فج�أة مع‬ ‫الألعاب ال�شعبية نموذج ًا)‪ .‬وي�شير الكاتب في‬
‫العالم (�آين�شتاين) في لحظة مف�صلية‪ ،‬تخلى‬ ‫المقدمة �إلى �أن الإن�سان عا�ش ماليين ال�سنين‬
‫فيها عن عقالنيته ليب�شر (ترومان) قائ ًال له‪:‬‬ ‫وهو يطرح على نف�سه ال�س�ؤال الأزلي (من �أنا؟)‪،‬‬
‫(الآن ن�ستطيع �أن ن�صنع القنبلة الذرية)‪ ،‬وا�ضع ًا‬ ‫مبين ًا �أن �س�ؤا ًال كهذا ال جواب له في الواقع‪..‬‬
‫�أمام الب�شرية و�سيلة جهنمية فظيعة للتدمير‬ ‫وا�ستجابة لطموح الإن�سان باالرتقاء‪ ،‬عمد �إلى‬
‫ي�ستعر�ض �س�ؤال‬ ‫والإبادة الجماعية!‬ ‫اختراع اللعبة‪ ،‬كمعادل مو�ضوعي لما يحدث‬
‫ونتابع الكاتب في رحلة الإن�سان‪ ،‬عبر تراكم‬ ‫وراء العقل الواقعي‪.‬‬
‫الوجود وما يمثله‬ ‫الأزمنة‪ ،‬و�إمعان النظر في م�سار الح�ضارات‪،‬‬ ‫الكتاب رحلة ملحمية في �أعماق الإن�سان‬
‫من قلق دائم على‬ ‫فنرى �أن حاجة الإن�سان �إلى الت�أريخ دفعته �إلى‬ ‫عبر م�سيرته الأزلية‪ ،‬فكراً وعاطفة و�شعوراً‬
‫الم�ستويين الفردي‬ ‫اال�ستنجاد بالريا�ضيات‪ ،‬لكن التاريخ متخم‬ ‫ظ��اه��راً‪� ،‬أو ف��ي غياهب الال�شعور‪ ،‬والبحث‬
‫ب��الأك��اذي��ب‪ ،‬فالإن�سان ا�ستطاع �أن يطم�س‬ ‫حافل بما يقارب الثالثين عنوان ًا‪ ،‬من م�صادر‬
‫والجماعي‬ ‫حقائق ويبرز �أخرى‪ ،‬وما الحروب الطاحنة �إال‬ ‫الفل�سفة والت�صوف ومراجعهما في الغرب‬
‫نتيجة لعبة مراوغة‪ ،‬مار�سها الخيال للدفاع‬ ‫وال�شرق‪ .‬وي�شعر القارئ ب�أنه ي�سير في غابة‬
‫عن (الأن��ا)‪ .‬وانطالق ًا من �سطوة هذه (الأن��ا)‬ ‫ظليلة غام�ضة م��ن الأف��ك��ار واال���س��ت��ن��ارات‪،‬‬
‫المريبة‪� ،‬صنفت �شريعة حمورابي النا�س‬ ‫وي�ستثير كثيراً من الأ�سئلة‪ ،‬وال تخلو رحلته‬
‫�إلى نوعين (ن�ساء ورج��ال)‪ ،‬و�إلى ثالث فئات‬ ‫الفكرية ه��ذه من رهبة‪ ،‬برغم ثقته الكبيرة‬
‫(�سادة‪ ،‬وعامة‪ ،‬وعبيد) ولكل من هذه الفئات‬ ‫بمكانة الدليل ومعارفه الفل�سفية المعمقة‪.‬‬
‫حقوق مختلفة وواج��ب��ات مختلفة‪ .‬ويو�ضح‬ ‫وبعد �أن ي�شير �أبوالري�ش ب�أ�سطر معدودات‬
‫الباحث �أن ه��ذا الت�شريع يندرج �ضمن علم‬ ‫�إلى المراحل التاريخية الم�ضنية التي قطعها‬
‫البيولوجيا الذي ينطلق من فكرة �أن النا�س‬ ‫الإن�سان‪ ،‬م�سلح ًا بالخيال وتراكم التجربة لفهم‬
‫تطوروا ولم يخلقوا‪ .‬وتم اختراع الحرية ت�أكيداً‬ ‫معنى الحياة‪ ،‬منذ �أن نزل عن ال�شجرة وتجاوز‬
‫لهذه الفكرة‪ ،‬وتمادى الإن�سان بخياله لي�سيطر‬ ‫حدودها‪ ،‬يرى �أنه التقط ر�أ�س حبل التطور حتى‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪62‬‬


‫ر�ؤى‬

‫النا�س وا�ستالبهم �أمامه‪ .‬وبذلك ال تكتفي اللغة‬ ‫على الطبيعة ويخ�ضعها لإرادته حتى ا�ستنزف‬
‫بالتعبير‪ ،‬و�إنما تغدو �أداة للتغيير‪.‬‬ ‫خيراتها‪ .‬وك��ان ال بد من الأ�سطورة ملفوفة‬
‫وبعيداً عن الخرافات ال�شعبية‪ ،‬تو�صل‬ ‫بالحب لت�ستكمل (الأنا) لعبتها المراوغة‪� ،‬سواء‬
‫(فرويد) �إل��ى �سبر العالم الباطني للإن�سان‪،‬‬ ‫بالهروب �إلى �إيديولوجيا التطرف‪� ،‬أو التفنن‬
‫وا���س��ت��ن��ط��اق ال�لا���ش��ع��ور بالك�شف ع��ن تلك‬ ‫بو�سائل قهر الطبيعة‪ ،‬برغم مقولة �سقراط‬
‫تناول م�سيرة‬ ‫التراكمات التي يطمرها كل واح��د منا في‬ ‫(من يعرف الحب يعرف الحقيقة)‪ .‬ولعل غابة‬
‫الإن�سان و�س�ؤاله‬ ‫�أعماقه‪ ،‬خوف ًا �أو خج ًال‪ ،‬لتن�سرب من بين‬ ‫الأ�سئلة التي تواجه الإن�سان لفهم ذاته وفهم‬
‫�شفتيه قطرة قطرة في جل�سات العالج النف�سي‪،‬‬ ‫ما حوله‪ ،‬هي التي دفعت الفيل�سوف الوجودي‬
‫الأزلي وطموحه في‬ ‫لأن الإن�سان هو الكائن الوحيد الذي ي�صاب‬ ‫كيركجارد‪� ،‬أن يقول (�إن الحياة حفلة تنكرية)‪.‬‬
‫االرتقاء‬ ‫بمر�ض نف�سي‪ .‬ومن هنا �أبدع (فرويد) كتابه‬ ‫وتجدر الإ�شارة هنا �إلى م�سرح (النو) الياباني‬
‫(تف�سير الأح�لام)‪ .‬ويركز الباحث على �أهمية‬ ‫الذي ي�ستخدم القناع‪ ،‬ومن الغريب �أن الوجه‬
‫اللعب‪ ،‬وحتى خوف الإن�سان من الحرية يدفعه‬ ‫والقناع مع ًا لهما �شكل هيروغليفي واحد في‬
‫�إلى اللعب‪ ،‬مبين ًا �أن اللعبة فن‪ ،‬كما �أنها حيلة‬ ‫اللغة اليابانية‪.‬‬
‫دفاعية‪� ،‬إذ يقول فرانز ليز‪( :‬الفنون �أ�سلم و�سيلة‬ ‫�إن ���س��ؤال ال��وج��ود (م��ن �أن���ا؟)‪ ،‬هو القلق‬
‫للهروب من العالم‪ ،‬و�أ�سلم و�سيلة لاللتحام به)‪.‬‬ ‫الرهيب الدائم‪� ،‬سواء الأنا الفردية �أو الجماعية‪،‬‬
‫ونمر بع�صر التنوير والثورة ال�صناعية‬ ‫و�سواء في نظرة الإن�سان الداخلية الموجهة �إلى‬
‫ومحاولة قهر الطبيعة‪� ،‬إلى جانب ردة الفعل‬ ‫ذات��ه‪� ،‬أو نظرته الكونية �إلى كل ما يحيط به‬
‫الرومان�سية‪ ،‬التي انتقدت التنوير‪ ،‬لأنه تجاهل‬ ‫من �أر�ض و�سماء‪ .‬وظل التناق�ض بين الآخذين‬
‫اختراع اللعبة معادل‬ ‫الم�شاعر والعواطف‪ .‬لكن ال�صوفية الهندية‪،‬‬ ‫بفكرة الخلق وال��م��أخ��وذي��ن بفكرة التطور‪.‬‬
‫ت�ؤكد �أهمية �أن نرى ال�شجرة في نواة البذرة‪،‬‬ ‫وت��زداد رهبة القارئ كلما تقدم في ارتياد‬
‫مو�ضوعي لما يحدث‬
‫ون��رى النار داخ��ل حجر ال�صوان‪ ،‬كما ت�ؤكد‬ ‫ه��ذه الأر� ��ض البكر‪ ،‬المحفوفة بالمنزلقات‬
‫وراء العقل الواقعي‬ ‫البوذية‪ ،‬في معظم بلدان جنوبي �شرق �آ�سيا‪،‬‬ ‫والألغام‪ ،‬و�إن زودنا الكاتب ب�إ�ضاءات مقتب�سة‬
‫فكرة الخواء التي تبعد الإن�سان عن فاعليته في‬ ‫من ع�شرات الفال�سفة في الغرب‪ ،‬ف�ض ًال عما‬
‫الحياة‪ ،‬ويتغلب الهروب والجانب ال�سلبي على‬ ‫يقابلهم من �أعالم ال�صوفية في ال�شرق‪ ،‬لكنها‬
‫الت�صدي لال�ستالب ومقاومته‪.‬‬ ‫لي�ست �إ�ضاءات جلية مطمئنة‪� ،‬إنما نجد فيها‬
‫ويقول �أبوالري�ش عن الجمال‪( :‬في داخل‬ ‫كثيراً من االختالف والجدال بين �أعالمها‪.‬‬
‫كل منا كائن جمالي‪ ،‬ويختبئ في داخله ح�س‬ ‫وي��وم لج�أ الإن�����س��ان �إل��ى اللعب‪ ،‬ل��م يقت�صر‬
‫جمالي)‪ .‬والحكمة ال�شرقية تقول‪( :‬عندما تفهم‬ ‫انغما�سه في اللعب على الت�سلية وح�سب‪ ،‬برغم‬
‫ال�شيء تدركه‪ ،‬وعندما تدركه تحبه‪ ،‬وعندما‬ ‫�أهمية الت�سلية والترويح عن النف�س‪ ،‬و�إنما ليدير‬
‫تحبه تكونان‪� ،‬أنت وهو‪ ،‬في الوجود واحداً)‪ .‬لكن‬ ‫�ش�ؤون واقعه ولو ب�أمان ن�سبي‪ ،‬دون �أن يتخلى‬
‫يزودنا ب�إ�ضاءات‬ ‫الإن�سان منذ الطفولة مثقل بركام من الأفكار‬ ‫عن الحلم‪ ،‬و�إن كانت الأحالم لعبة ال �شعورية‪.‬‬
‫والقيم‪ ،‬ومعظمها �أ�شبه بالنفايات التاريخية‪.‬‬ ‫وتظل (الأنا) م�شطورة بين ما حولها من ظواهر‬
‫مقتب�سة من‬ ‫ويخ�ص�ص الكاتب ف�ص ًال كام ًال عن الألعاب‬ ‫وم��ا يكمن في باطنها‪ ،‬من عوالم وخبرات‬
‫الفال�سفة والمفكرين‬ ‫ال�شعبية في الإمارات‪ ،‬وي�ستعر�ض العديد منها‪،‬‬ ‫و�أحداث ورغبات مكبوتة‪ ،‬بفعل التربية البيتية‬
‫الم�أخوذين بفكرة‬ ‫مبين ًا �أن اللعبة ال�شعبية لغة القلب‪ ،‬ولي�ست لغة‬ ‫ال�صارمة والمحيط االجتماعي القاهر‪.‬‬
‫العقل‪ ،‬وهي مرتبطة بالحب وتخفيف القلق‬ ‫وانطالق ًا من �صرخة (م��ن �أن��ا؟) ت�شكلت‬
‫التطور‬ ‫الداخلي‪ .‬ويو�ضح �أن (الخيال الفردي لعب‬ ‫اللغة‪ ،‬وكانت درجة ارتفاع ال�صوت دلي ًال على‬
‫دوراً جوهري ًا في االرت��ق��اء ب��ال��ذات‪ ،‬وكانت‬ ‫ال�سيطرة والتحكم بال�ضعفاء الم�ستلبين‪ .‬ويلج�أ‬
‫اللعبة ال�شعبية �صورة من �صور تجاوز الراهن‪،‬‬ ‫الإن�سان �إل��ى ه��ذه اللعبة اال�ستعرا�ضية في‬
‫للمرور �إلى م�ستقبل يراه الفرد �أكثر �إبهاراً من‬ ‫جل�سات الزار وال�شامانية‪ ،‬التي توهم الب�سطاء‬
‫الحا�ضر)‪ .‬والكتاب جدير ب�أن تعتمده كليات‬ ‫بات�صالها بقوى خفية ما ورائية‪ .‬وي�ستعر�ض‬
‫العلوم الإن�سانية ف��ي الجامعات العربية‪،‬‬ ‫�أبوالري�ش‪ ،‬ق�صة الراعي البارع وكيف يتحكم‬
‫حلقات بحث لطلبة الدرا�سات العليا‪.‬‬ ‫بالقطيع من خالل ال�صوت‪ ،‬ومن ثم ت�أثيره في‬

‫‪63‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫امتلك �أناقة التعبير وال�صورة ال�شعرية‬

‫عمر �أبوري�شة‪..‬‬
‫�شاعر الجمال و�سفير الكلمة‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪64‬‬


‫رواد‬

‫الي���زال ال�شاعر عمر �أب��وري�����ش��ة‪ ،‬ف��ي طليعة جيل ال���رواد‪،‬‬


‫م��ن ال�شعراء ال��ع��رب ف��ي الع�صر الحديث‪ ،‬فقد ت��رك تراث ًا‬
‫�ضخم ًا م��ن الأ���ش��ع��ار ال��وط��ن��ي��ة وال��ع��اط��ف��ي��ة والإن�����س��ان��ي��ة‪،‬‬
‫�أر�سله والده �إلى‬ ‫وف���ى �شتى الأغ���را����ض وال��م��و���ض��وع��ات‪ ،‬ك��م��ا خ��ل��ف �أع��م��ا ًال‬
‫�إنجلترا ليتعلم‬ ‫عظيمة م��ن الم�سرحيات ال�����ش��ع��ري��ة‪ .‬وام��ت��از بالف�صاحة‬
‫عبير محمد‬
‫�صناعة الن�سيج‬ ‫وق����وة الإل���ق���اء وخ�����ص��ب الإن����ت����اج‪ ..‬ق��واف��ي��ه ط���وع ب��ن��ان��ه‪،‬‬
‫فت�أثر بالأدب‬ ‫وه��ي ك��ال��زه��ر ال���ذي ي��ت���أرج��ح بالن�ضارة والعبير وينطلق على متن ال��زم��ن‪.‬‬
‫الإنجليزي‬ ‫ولد عمر �شافع م�صطفى �أبوري�شة (عمر �أبوري�شة) في (منبج) في �سوريا‪ ،‬عام‬
‫(‪1910‬م)‪ ،‬وهي م�سقط ر�أ�س ال�شاعرين الكبيرين‪ :‬البحتري‪ ،‬و�أبو فرا�س الحمداني‪.‬‬
‫فعكف على درا�ستها‪ ،‬وان�صرف عن �صناعة الن�سيج‬ ‫ولنترك عمر �أبوري�شة يحدثنا بنف�سه عن نف�سه‪،‬‬
‫والكيمياء الع�ضوية‪ ،‬لكنه �أتقن �صناعة الغزل‪ ،‬وبرع‬ ‫فيقول‪( :‬ن�ش�أت في بيت مت�صوف �أ�سمع فيه الأنا�شيد‬
‫في كيمياء ال�شعر‪ ،‬و�صباغته وتلوينه‪ ،‬فانكب على‬ ‫ال�صوفية‪ ،‬ومازلت حتى اليوم �أحفظ ال�شيء الكثير‬
‫قراءة �أ�شعار �شك�سبير‪ ،‬و�شيلي‪ ،‬وبودلير‪ ،‬وموري�س‪،‬‬ ‫من �أقوال ه�ؤالء العمالقة‪� ،‬أمثال محيي الدين بن‬
‫وتن�سون‪ ،‬وهود ملتون‪ ،‬وبراونينغ‪ ،‬وجون كيت�س‪.‬‬ ‫عربي‪ ،‬كان ي�شدو بها �صوت مليح في �أثناء �إيقاع‬
‫تعرف مبكراً �إلى‬ ‫ثم �سافر �إلى فرن�سا و�أعجب بكثير من �شعرائها‪،‬‬ ‫الجماعة بذكر اهلل‪ ،‬كنت �أ�صغي �إلى تلك الأنا�شيد‬
‫�أ�شعار وكتابات‬ ‫وكان �أحبهم �إلى نف�سه بودلير‪ .‬وعاد �إلى حلب في‬ ‫ال�صوفية التي تركت فيما بعد �أثرها في نف�سي)‪.‬‬
‫عام (‪1932‬م)‪ ،‬وعند عودته بد�أ نجمه يظهر في‬ ‫كان وال��د عمر �شاعراً‪ ،‬و�أم��ه كانت ت��روي ال�شعر‬
‫�شك�سبير و�شيلي‬ ‫�سماء ال�شعر‪ ،‬وذاع �صيته‪ ،‬مهيئ ًا نف�سه ليكون على‬ ‫وتحفظه‪ ،‬وبخا�صة ال�شعر ال�صوفي‪ ،‬و�أخته زينب‬
‫وبودلير وملتون‬ ‫جادة ال�شعراء‪ ،‬فلما الحظ والده مدى ا�ستر�ساله‬ ‫�شاعرة‪ ،‬و�أخوه ظافر �شاعراً‪ ،‬فن�ش�أ في بيئة كان من‬
‫وكيت�س‬ ‫على هذا الطريق‪� ،‬أبدى تذمره‪ ،‬وعمل على دفعه في‬ ‫ال يقول ال�شعر فيها‪ ،‬يتذوقه ويحفظه‪ ،‬ربما كانت‬
‫طريق �آخر ليبعده عن ال�شعر والأدب‪ ،‬ومظاهر الرقة‬ ‫�أي�ض ًا هذه من الم�ؤثرات الوا�ضحة في �شاعرية عمر‬
‫العاطفية والحياة الحالمة‪ ،‬لكنه لم يفلح في ذلك‪.‬‬ ‫وتكوينه الأدبي‪ .‬وفى هذا الجو العابق؛ ت�شرب عمر‬
‫نظم عمر �أبوري�شة ال�شعر ف��ي �سن مبكرة‪،‬‬ ‫بال�شعر والأنا�شيد والروحانيات‪ ،‬و�أك�سبه ذلك ذوق ًا‬
‫وكان يعتمد على ح�سه الذاتي في ت�صوير الكثير‬ ‫وح�س ًا عاليين‪ ،‬انعك�س �أثر ذلك في �شعره فيما بعد‪.‬‬
‫من مظاهر الحياة‪ ،‬وقد تميز �أ�سلوبه منذ ق�صائده‬ ‫ق�ضى عمر �أبوري�شة طفولته في حلب‪ ،‬يدر�س‬
‫الأول��ى بال�سال�سة وال��رق��ة‪ ،‬و�إج ��ادة التعبير عن‬ ‫في مدار�سها االبتدائية‪ ،‬ثم �أر�سله �أب��وه ليكمل‬
‫م�شاعره الح�سا�سة‪ ،‬وت�شخي�ص ما ي�شغل‬ ‫تعليمه الثانوي في الجامعة الأمريكية ببيروت‪،‬‬
‫روح��ه الهائمة‪ ،‬وهي تحاول الإف�لات‬ ‫ومنذ ذلك الحين‪ ،‬بد�أت تظهر اهتماماته الأدبية‬
‫من القيود والأغالل‪ .‬وقد عبرت �أ�شعاره‬ ‫وتتفتح مواهبه ال�شعرية‪ ،‬ومما �ساعد على نمو هذه‬
‫عن مالمح �شخ�صيته ال�صامدة في وجه‬ ‫الموهبة ون�ضجها‪ ،‬ما كانت ت�شهده �ساحة الجامعة‬
‫العوا�صف‪ ،‬كما تبدت في �شعره مالمح‬ ‫في ذلك الوقت‪ ،‬فقد كانت ت�ضج بالحركات القومية‬
‫الكرامة واالعتزاز بالنف�س والترفع عن‬ ‫المناه�ضة لالحتالل‪ ،‬فت�أثر بتلك الحركات ت�أثراً‬
‫الدنايا‪.‬‬ ‫ملحوظ ًا‪ ،‬وثار مع ال�شباب الثائرين‪ ،‬وانفعل مع‬
‫ويتميز �شعره الغنائي بالحر�ص‬ ‫الأحداث‪ ،‬ووقف خطيب ًا و�شاعراً وهو دون الثامنة‬
‫ع��ل��ى �أن ��اق ��ة ال��ت��ع��ب��ي��ر‪ ،‬وع��ل��ى ث ��راء‬ ‫ع�شرة من عمره‪ .‬وفي هذه الفترة؛ �ألف م�سرحيته‬
‫الم�ضمون‪ ،‬وتبدو في ق�صائده النزعة‬ ‫الأولى (ذي قار) التي يفتخر فيها بالعرب‪ ،‬ويذكر‬
‫الذاتية التي تركز على ت�صوير الم�شاعر‬ ‫�أمجادهم‪ ،‬ويعلي من �ش�أنهم بين الأمم الأخرى‪.‬‬
‫الخا�صة‪ ،‬كما ي�شرح �شعره هموم نف�سه‪،‬‬ ‫وتعد هذه الم�سرحية من �أبرز بواكير �شعره‪.‬‬
‫ويفي�ض في الحديث عن �أمانيه و�آالمه‬ ‫نال عمر �أبوري�شة بكالوريو�س العلوم عام‬
‫وتجاربه في �شتى مجاالت حياته‪،‬‬ ‫(‪1930‬م)‪ ،‬ف ��أوف��ده وال��ده �إل��ى �إنجلترا ليدر�س‬
‫وك��أن��ه يكتب ب�شعره �سيرته الذاتية‪،‬‬ ‫�صناعة الن�سيج والكيمياء الع�ضوية في مدينة‬
‫ويجمع �شعره بين الق�صائد الطوال‬ ‫مان�ش�ستر‪ ،‬لكن تفتحت مداركه على عوالم جديدة‬
‫والمقطوعات الق�صار‪.‬‬ ‫وثقافة فريدة‪ ،‬لم يعهدها من قبل في مراتع �صباه‪،‬‬
‫من �أعماله‬

‫‪65‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫رواد‬

‫ك��ان عمر �أبوري�شة حري�ص ًا على �أن يظهر‬


‫ولعه بالح�سن والجمال‪ ،‬يبحث عنه �أينما �سار‬
‫في رحالته الكثيرة‪� ،‬إال �أن �إفراطه في الحديث عن‬
‫التجارب الكثيرة جعل �شعره في الأنثى يبدو �أقرب‬
‫�إلى طبيعة (�شعر المغامرات الخيالية) منه �إلى �شعر‬
‫الغزل �أو الن�سيب‪� .‬إنه �شاعر الجمال والفرو�سية‬
‫وال�شباب والقتال‪ ،‬كما تلقبه ال�صحافة ال�سورية‬
‫منذ الثالثينيات‪ .‬و�إ�ضافة �إلى ما احتوته دواوينه‬
‫بودلير‬ ‫بير�سي بي�ش �شيلي‬
‫من �شعر غنائي ووج��دان��ي‪ ،‬ف�إنها تحفل بكثير‬
‫من الق�ص�ص ال�شعرية‪ ،‬التي و�صف فيها �صبواته‬
‫ومغامراته‪ ،‬لم يتورع فيها عن الو�صف ال�صريح‬
‫لبع�ض تجاربه‪ ،‬وقد عبر هذا التوجه مرة �أخرى عن‬
‫�إعجابه ال�شديد بال�شاعر (بودلير)‪ .‬وفتح بذلك الباب‬
‫للكثير من ال�شعراء ال�شباب‪ ،‬فنهجوا نهجه‪ ،‬وكان‬
‫في طليعتهم نزار قباني‪ ،‬الذي تفوق على �أ�ستاذه‬
‫في هذا الباب‪.‬‬
‫�شك�سبير‬ ‫جون كيت�س‬ ‫�أما �شعره الوطني؛ فيعبر عن رغبة طبيعية‬
‫في �إنقاذ الوطن وتحريره‪ ،‬على �أن الحما�سة م�ست‬
‫القديم‪ ،‬متمثلة �أن�صع ما فيه‪ ،‬وهي ال�صورة الفنية‪،‬‬
‫�شعره الوطني في �أعقاب نك�سة (‪1967‬م)‪ ،‬وظهرت‬
‫ال يثنيه هذا عن ذاك‪ .‬وبرغم تثقفه بثقافة الغرب‪،‬‬
‫ال��روح الوطنية المت�أججة في ق�صيدته ال�شهيرة‬
‫فقد اتجه بوجدانه لحال الأمة العربية‪ ،‬وما �آل �إليه‬
‫(بعد النك�سة)‪ ،‬وهي الق�صيدة التي اختارها ليفتتح‬
‫م�صيرها‪ ،‬وراح ي�صور ذلك بوجدانيات عذبة مت�أثراً‬
‫تبدو النزعة الذاتية‬ ‫بها ديوانه الم�شحون بالأماني والأح�لام‪ ،‬وفيها‬
‫فيها بالمذاهب الغربية‪ ،‬وخا�صة تيار الرومان�سية‪.‬‬
‫يعبر عن �إحباطه وغيظه تعبيراً �صريح ًا يمتزج‬
‫بارزة في �شعره‬ ‫خ ّلف عمر �أبوري�شة من الآثار الأدبية ال�شيء‬
‫بالتهكم وال�سخرية‪.‬‬
‫من خالل ت�صويره‬ ‫الكثير‪ ،‬ولكن لم يطبع كله بعد‪ .‬وقد تنوعت �أعماله‬
‫يعد عمر �أبوري�شة من ال�شعراء المجددين‪ ،‬لكن‬
‫ال�شعرية ما بين م�سرحية وغنائية‪ ،‬منها‪( :‬رايات‬
‫الم�شاعر الخا�صة‬ ‫ذي ق��ار) و(ت��اج محل)‪ ،‬و(ال��ط��وف��ان)‪ ،‬و(محكمة‬
‫مع التزامه القالب �أو العمود ال�شعري المعروف‪،‬‬
‫ناظراً �إلى المدار�س الغربية من رومان�سية ورمزية‬
‫ال�شعراء)‪ ،‬و(�سميرامي�س)‪ ،‬و(ال��ن��واة في حقول‬
‫وكال�سيكية وواقعية‪ ،‬وغيرها‪ ..‬بعين مازج ًا بها‬
‫الحياة)‪ ،‬و(ملحمة الإ�سالم) و(الح�سين بن علي)‪.‬‬
‫�شعره‪ ،‬وعينه الأخ��رى تتجول في ال�شعر العربي‬
‫وم��ن ال�شعر‪ :‬دي ��وان بعنوان (�شعر) �صدر عام‬
‫‪1936‬م‪ ،‬وديوان (من عمر �أبي ري�شة‪� -‬شعر) �صدر‬
‫عام (‪1947‬م)‪ ،‬وديوان (مختارات)‪ ،‬وديوان (�شعر‬
‫برغم ثقافته‬ ‫عمر �أبوري�شة‪� -‬أمرك يا رب)‪ ،‬وديوان (غنيت في‬
‫الغربية فقد انحاز‬ ‫م�أتمي)‪ ،‬ودي��وان (م��ن وح��ي ال��م��ر�أة)‪ ،‬و(الجواب‬
‫التائه)‪ ،‬والمجموعة ال�شعرية الكاملة (بيروت)‪.‬‬
‫�إلى ثقافته العربية‬ ‫وترجم م�سرحية (�إيدي يوريد�س) للم�ؤلف البرازيلي‬
‫الإ�سالمية‬ ‫بدرو بلوك‪ .‬ومن ابتكاره نظم مالحم البطولة في‬
‫التاريخ العربي‪ ،‬ومن مالحمه‪ :‬ملحمة خالد بن‬
‫الوليد بطل اليرموك‪ ،‬وقد و�صلت مالحمه �إلى اثني‬
‫ع�شر �ألف بيت‪.‬‬
‫وفي عام (‪1948‬م) تم انتخابه ع�ضواً مرا�س ًال‬
‫تميزت ق�صائده‬ ‫في المجمع العلمي العربي‪ ،‬وفى ال�سنة التالية‬
‫انتقل للعمل بالخارجية وت��درج في المنا�صب‬
‫بت�صوير الم�شاعر‬
‫الدبلوما�سية‪ ،‬حتى �أ�صبح �سفيراً للجمهورية‬
‫و�أ�سلوبه بال�سال�سة‬ ‫العربية المتحدة في الهند‪ ،‬فالنم�سا‪ ،‬وا�ستقر نهائي ًا‬
‫في بيروت منذ �أواخر ال�ستينيات‪ ،‬وحتى رحيله في‬
‫العام (‪1990‬م)‪.‬‬ ‫عمر �أبو ري�شة‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪66‬‬


‫مقاالت‬
‫رقيم‬

‫ما الذي يبقيك حي ًا‪..‬‬


‫�إنها الكتابة‬
‫و�أن��ت تكتب‪ ،‬وكم زمن تعي�شه و�أن��ت تكتب‪،‬‬ ‫تحمل وزر‬ ‫لماذا نكتب؟ ما الجدوى من ّ‬
‫وكم حياة تحياها و�أن��ت تكتب‪ ،‬وكم حالة‬ ‫الكتابة وفتح نوافذ كثيرة في الخيال‪ ،‬وبناء‬
‫تمر بها في وقت واحد‪ ،‬و�أنت ُتهند�س حياة‬ ‫ق�صور الوهم المكتظة بالأ�شباح �شعراً ونثراً‬
‫وتبنيها �شعراً ونثراً؟ نحن �إذاً �أمام‬ ‫�شخو�صك ْ‬ ‫وترجمة؟‬
‫متمدد في المكان‬ ‫ّ‬ ‫كائن عجائبي‪ ،‬متعدد‪،‬‬ ‫ن�صك‬
‫َ‬ ‫�سيدي الكاتب‪ ،‬عندما تكتب‬ ‫ف�أنت ّ‬
‫وحيدة المي‬ ‫متلون‪ ،‬مزدوج‪ ،‬يو ّزع (�أناه) المثقلة‬ ‫والزمان‪ّ ،‬‬ ‫الإب��داع��ي تخترق ح��دود الجغرافيا‪ ،‬تك�سر‬
‫على الآخ��ري��ن‪ ،‬ومثلما يعيد �إنتاج الفرح‪،‬‬ ‫حواجز الأمكنة‪ُ ،‬تنتج الأفكار‪ ،‬تخلق �شخو�صك‬
‫ويلب�سه ك�ساء الحزن‪ .‬ومن‬ ‫ال��ذي ينوء به‪ُ ،‬‬ ‫ويحول قلمه �إلى �آلة‬
‫ّ‬ ‫ُينتج �أحزانه و�أوجاعه‪،‬‬ ‫تتحرك في عالم ال مرئي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بعوالمها المختلفة‪،‬‬
‫دون �أن ي�شعر هو �أي�ض ًا‪ ،‬يو ّزع همومه على‬ ‫لتفريخ الم�أ�ساة‪ .‬فهل (الكتابة م�أ�ساة �أو ال‬ ‫تحاكي فيه تلك الأ�شباح �أو الكائنات الحبرية‬
‫وتتحول الكتابة �إلى عملية للتنفي�س‬
‫ّ‬ ‫القارئ‬ ‫تكون)‪ ،‬بناء على تلك المقولة ال�شهيرة للكاتب‬ ‫وتعي�ش معها خطوة بخطوة كل التفا�صيل‬
‫واال���س��ت��رج��اع‪ ،‬في�سقط م��ن حيث ال ي��دري‬ ‫والمفكر وال�سيا�سي التون�سي الراحل محمود‬ ‫أل�ست‬
‫ومرها و�أمزجتها المختلفة‪َ � .‬‬ ‫بحلوها ّ‬
‫المتقبل‪� ،‬إلى‬
‫ّ‬ ‫جر هذا الأخير‪ ،‬المتلقي �أو‬‫في ّ‬ ‫الم�سعدي؟ �أم هي حياة داخل حياة‪ ،‬وحياة‬ ‫تتحرك في هذه الحياة‬ ‫ّ‬ ‫بذلك‪� ،‬أيها الكاتب‪،‬‬
‫المربع الأ�سود الذي يقف فيه‪ ،‬فيرى الأ�شياء‬ ‫م�ش َتهاة نعجز عن تحقيقها على �أر�ض الواقع‪،‬‬ ‫متعددة وت�ضع �أكثر من قناع؟ ف�أنت‬ ‫ّ‬ ‫بوجوه‬
‫من زاوي��ة نظر ت�شا�ؤمية‪ ،‬وهو ما يمكن �أن‬ ‫فنطمح �إليها في الخيال؟‬ ‫قبعته الفرا�شات‬ ‫ال�ساحر ال��ذي ُيخرج من ّ‬ ‫ّ‬
‫ن�سميه بعملية ترحيل الآالم وتوريثها �إبداعي ًا‬
‫ّ‬ ‫تت�شابك هنا الإجابة وتتداخل‪ ،‬من جهة‬ ‫والأران��ب وحلوى الأطفال‪ ..‬و�أن��ت المجنون‬
‫�إلى الآخر‪ ،‬وهذا طبع ًا ال يقت�صر على الكتابة‬ ‫يكر�س من خاللها‬ ‫ف �� ّإن الكتابة فعل حياة ّ‬ ‫الذي يرى دون غيره تلك الكائنات الخيالية‬
‫فح�سب‪ ،‬بل ي�شمل مختلف الفنون من فن‬ ‫الكاتب ذاته المبدعة ووجوده الفاعل‪ ،‬ويطمح‬ ‫وتتو�سع في ر�أ�سه‪ ،‬ويكون‬ ‫ّ‬ ‫تتحرك وتتكلم‬
‫ت�شكيلي‪ ،‬و�سينما‪ ،‬وم�سرح‪ ،‬ومو�سيقا‪ ،‬ودراما‬ ‫طرق �أبواب حياته الم�شتهاة و�أر�ضه‬ ‫بها �إلى ْ‬ ‫الأقدر على توجيهها والتفاعل معها‪ ..‬و�أنت‬
‫وغير ذلك‪.‬‬ ‫يت�شبع‬
‫المقد�سة‪ ،‬التي يرغب في �إعمارها‪ ،‬بما ّ‬ ‫ّ‬ ‫الأكثر ق��درة على االن��ع��زال واعتزل الآخ��ر‪،‬‬
‫بين هذا وذاك‪ّ � ،‬أي��ا كانت هذه الكتابة‬ ‫ب��ه م��ن قيم وم��ب��ادئ و�أف��ك��ار واخ��ت��ي��ارات‬ ‫واعتزال حياتك للدخول في حياة جانبية‬
‫بانفتاحها وارت��ف��اع �سقف ال��ج��ر�أة فيها‪،‬‬ ‫ي��راه��ا الأن�����س��ب لعالم �سليم م��ن الأع��ط��اب‬ ‫موازية‪ ،‬عندما تكون في حالة كتابة‪.‬‬
‫باحت�شامها �أو رماديتها و�سوداويتها‪،‬‬ ‫النف�سية والأخالقية وال�سلوكية والفكرية‬ ‫�أنت بائع الوهم والأح�لام على عربات‬
‫ب�ألوانها وف�صولها وما تنتجه من فرح و�أمل‪،‬‬ ‫واالجتماعية‪ ..‬ك�أن ي� ّؤ�س�سها على ن�ضج الفكر‪،‬‬ ‫متنقلة‪ ،‬تجوب �أر�صفة العالم‪� ..‬أنت الحكيم‬
‫تعبر عن وجهات نظر‪ ،‬وهي‬ ‫فهي في النهاية ّ‬ ‫الحرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ال ّت�سامح‪ ،‬الحب‪ ،‬العطاء‪ ،‬المعرفة‪،‬‬ ‫بهيبة الحكماء‪ ،‬ي�صدر فتاويه في الحياة‬
‫عملية ا�ستفراغ ل�شحنات عاطفية وفكرية‪،‬‬ ‫الإبداع‪ ،‬الفنون الإن�سانية الفاعلة والمنتجة‬ ‫القراء وينهلوا من خبرته‬ ‫لي�ست�أن�س بر�أيه ّ‬
‫و�أحالم تنتظر �أن تتحقق‪ ..‬وهي طاقة فاعلة‬ ‫ثم يتمو�ضع هو في المكان الذي‬ ‫والخ ّالقة‪ّ ،‬‬ ‫وي ّتعظوا من �أخطائه‪ ،‬وير�سموا الطريق على‬
‫ال يقدر عليها غير الأح��ي��اء‪ ،‬وم��ن ت�سكنهم‬ ‫يختاره لنف�سه باعتباره منتج الفرح والأمل‪،‬‬ ‫خطاه في �أغلب الأح��ي��ان‪ ..‬و�أن��ت في نف�س‬
‫الحيرة وال�س�ؤال‪ ،‬ومن يواجهون العالم بوجه‬ ‫ومهند�س هذه الحياة الف�ضلى‪ ،‬كما يراها‬ ‫ال��وق��ت م ��و ّزع الأل ��م على الآخ��ري��ن‪ ،‬ت��زرع‬
‫مك�شوف وتتو ّفر في داخلهم طاقة كبيرة‬ ‫وي�سوقها �إلى الآخر‪ ،‬فهو بالكتابة‬ ‫ّ‬ ‫ويحلم بها‬ ‫�صرخاتك ودموعك و�أوجاعك‪ ،‬في بيت كل‬
‫ويعولون على تغيير الأحوال والأفكار‬ ‫للعطاء ّ‬ ‫عن عوالم الإن�سان وقيمها ال�سامية ينتج‬ ‫من تدخله‪ ،‬وتب�سط جراحك �سجاداً للقارئ‪..‬‬
‫بالفكرة‪ ،‬والكلمة‪ .‬ه ��ؤالء ينتجون الحياة‬ ‫حياة وردية داخل الحياة المثقلة بالهموم‬ ‫ال�سعادة الذي‬‫و�أنت �أي�ض ًا‪� ،‬أيها الكاتب‪ ،‬بائع ّ‬
‫ومرها ويدعون �إل��ى �إنتاج حياة‬ ‫بحلوها ّ‬ ‫ويب�شر بها‪ ،‬ويفتح نوافذ القارئ‬ ‫ّ‬ ‫والم�شاكل‪،‬‬ ‫يطرق �أبواب القارئ‪ ،‬ويهديه حقائب الفرح‬
‫بديلة ولو وهم ًا‪ .‬وهم بذلك يخ ّلدون �آثارهم‬ ‫ويمد ج�سور التفا�ؤل بينه‬ ‫ّ‬ ‫على الأفق الرحب‪،‬‬ ‫والتفا�ؤل والغد الأف�ضل‪ ،‬وي�ضيء القناديل‬
‫الن�ص‪ ،‬برغم ب�شاعة‬
‫المكتوبة وي�صنعون مجد ّ‬ ‫وبين تط ّلعاته‪ ،‬ويف ّتت بذلك الحواجز المعرقلة‬ ‫في عقله لتبديد العتمة الفكرية‪.‬‬
‫الواقع وق�سوته‪ ،‬وي�ستمرون على قيد الحياة‬ ‫له‪ ،‬ويمنحه بارقة �أمل ت�ضيء كثافة ال�ضباب‬ ‫تتحرك به‬
‫ّ‬ ‫ت �� ّأم��ل معنا‪ ،‬ك��م م��ن قناع‬
‫و�إن رحلوا‪.‬‬ ‫وتبدده‪.‬‬
‫لهذا نكتب‪ ،‬لنقاوم ونبقى �أحياء‪ .‬وعندما‬ ‫ومن جهة �أخرى‪ ،‬وهو يكتب عن �أوجاعه‪،‬‬
‫�سئل الكاتب الألماني �شارلز بوكف�سكي (ما‬ ‫و�أوج��اع الإن�سان والأوط��ان‪ ،‬ويحفر عميق ًا‬ ‫ن�صك الإبداعي يخترق‬
‫ال��ذي �أب��ق��اك حي ًا) �أج��اب (الكتابة)‪ ..‬نعم‪،‬‬ ‫في جرحه يعيد �إن��ت��اج الوجع والم�أ�ساة‪،‬‬ ‫حدود الجغرافيا ويك�سر‬
‫�إنها الكتابة من ُتبقيك �أيها الكاتب مخترق‬ ‫ويغر�س دون وعي منه �شجرة في غابة الألم‪،‬‬ ‫حواجز الأمكنة‬
‫الأزمان مثل طائر الفينيق العجيب‪.‬‬ ‫فيمرر �إلى القارئ �آالمه‪ ،‬وي�شغله بذات الثقل‬ ‫ّ‬

‫‪67‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫المعجم التاريخي للغة العربية م�شروع القرن‬
‫البروفي�سور �صالح بلعيد‪:‬‬
‫لغتنا العربية �أكثر لغات العالم ثراء بمفرداتها‬
‫التقته (ال�شارقة الثقافية) على هام�ش‬
‫المعر�ض الوطني الأول للكتاب‪ ،‬الذي نظم‬
‫يعتبر المعجم التاريخي للغة العربية‪ ،‬من م�شاريع‬
‫ف��ي ظ��روف جائحة ك��ورون��ا تحت �شعار‬ ‫القرن‪ ،‬و�أهميته في حفظ اللغة العربية من االندثار‪،‬‬
‫(الكتاب حياة) في مار�س الما�ضي‪ ..‬وكان‬ ‫ح�سب ال��ب��روف��ي�����س��ور ���ص��ال��ح بلعيد رئ��ي�����س المجل�س‬
‫معه هذا الحوار‪..‬‬ ‫الأع��ل��ى للغة العربية ف��ي ال��ج��زائ��ر‪ ،‬وه��و باحث في‬
‫¯ بداية بروفي�سور �صالح بلعيد‪ ،‬ما هي‬ ‫الل�سانيات والهوية‪ ،‬له ما يربو على (‪ )35‬م�ؤلفاً‪ ،‬و له‬
‫م�شاريع المجل�س الأعلى للغة العربية‬ ‫د‪� .‬أميمة �أحمد‬
‫للعام (‪)2021‬؟‬
‫ح�ضور بارز في الم�شهد الثقافي الجزائري والعربي‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪68‬‬


‫مقابلة‬

‫و(باء) في (‪ )8‬مجلدات‪ ،‬والمتوقع �أن ي�صل عدد‬ ‫‪ -‬لدينا هذه ال�سنة م�شاريع ن�سميها م�شاريع‬
‫مجلدات المعجم التاريخي �إلى (‪ )61‬مجلداً‪.‬‬ ‫القرن‪ ،‬منها (المعجم التاريخي للغة العربية)‪،‬‬
‫واللغة العربية �أكثر لغات العالم ثراء بالألفاظ‪،‬‬ ‫وال��ج��زائ��ر �أ�سهمت فيه م��ع ات��ح��اد المجامع‬
‫يبلغ ر�صيدها (‪ )12332912‬لفظ ًا‪ .‬احتفينا‬ ‫اللغوية ومع مجمع اللغة العربية بال�شارقة‪،‬‬
‫في ال ��دورة (‪ )39‬لمعر�ض ال�شارقة الدولي‬ ‫ولدينا م�شروع �آخر حول (الطوبونيميا)‪ ،‬علم‬
‫قامت ال�شارقة‬ ‫للكتاب ب�صدور ثمانية �أج ��زاء منه‪ ،‬وك��ان‬ ‫م�سميات الأماكن‪ ،‬و�أي�ض ًا م�شروع (معجم �ألفاظ‬
‫بتمويل الم�شروع‬ ‫الحدث الثقافي الأبرز في المعر�ض‪.‬‬ ‫الحياة العامة)‪ ،‬هذه تدخل في �إطار الم�شاريع‬
‫النه�ضوي للغة‬ ‫الكبرى‪ ،‬وهناك م�شاريع عادية �سنوية مثل‬
‫العربية وم�صر‬ ‫¯ ما الم�ساحة الزمنية التي يغطيها الت�أريخ‬ ‫(المجلة‪ ،‬والملتقيات‪ ،‬والأيام الدرا�سية)‪.‬‬
‫لهذا المعجم؟‬
‫بالمراقبة اللغوية‬ ‫‪ -‬الم�ساحة الزمنية (‪ )21‬قرن ًا تبد�أ من‬ ‫¯ متى بد�أ التفكير بت�أليف معجم تاريخي للغة‬
‫والجزائر بالذكاء‬ ‫ع�صر ال�ساميات �إل��ى ع��ام (‪ .)2026‬لدينا‬ ‫العربية؟‬
‫ال�صناعي‬ ‫خم�سة ع�صور؛ الع�صر الجاهلي (‪� )150‬سنة‬ ‫‪ -‬ت��ع��ود ف��ك��رة المعجم التاريخي للغة‬
‫قبل الإ�سالم‪ ،‬الع�صر الأموي من الإ�سالم �إلى‬ ‫العربية �إل��ى عام (‪ ،)1936‬وع��رف الم�شروع‬
‫(‪132‬هجري‪750 /‬م)‪ ،‬الع�صر العبا�سي من‬ ‫تعثراً لعقود‪ .‬في ع��ام (‪ )2004‬ق��ام اتحاد‬
‫(‪132‬هـ‪750 /‬م‪232 -‬هـ‪847/‬م)‪ ،‬ثم ندخل‬ ‫المجامع اللغوية ب�إحيائه‪ ،‬ومحاولة �أخرى في‬
‫في ع�صر الدويالت �إلى الع�صر الحا�ضر‪ ،‬وهو‬ ‫عام (‪ ،)2009‬ثم توقف حتى عام (‪،)2016‬‬
‫من عام (‪� )1900‬إلى اليوم‪ .‬ينتهي هذا العمل‬ ‫حيث التقت م�ؤ�س�سات اتحاد المجامع اللغوية‬
‫كله عام (‪.)2026‬‬ ‫في القاهرة‪ ،‬ومجمع اللغة العربية في ال�شارقة‪،‬‬
‫والمجل�س الأعلى للغة العربية بالجزائر‪ ،‬وبعثنا‬
‫الم�ساحة الزمنية‬ ‫¯ لماذا اللغة العربية‪ ،‬رغم ثرائها بالألفاظ‪،‬‬ ‫هذا الم�شروع من جديد‪.‬‬
‫للمعجم (‪ )21‬قرن ًا‬ ‫لي�ست في �صدارة اللغات العالمية؟‬
‫تبد�أ بع�صر ال�ساميات‬ ‫‪ -‬كانت اللغة العربية في �صدارة اللغات‪،‬‬ ‫¯ ما دور �إم��ارة ال�شارقة في �إنجاز المعجم‬
‫�إلى العام (‪)2026‬‬ ‫والق�ضية ظرفية تعود �إلى مجموعة عوامل‪،‬‬ ‫التاريخي للغة العربية؟ وكيف تم توزيع‬
‫منها اال�ستعمار‪ ،‬و�إلى �أن �أهلها �أخذتهم بهرجة‬ ‫العمل والت�سيير؟‬
‫اللغات الأجنبية‪ ،‬ثم في �أ�شياء داخلية في ذات‬ ‫‪ -‬قامت ال�شارقة‪ ،‬م�شكورة‪ ،‬بتمويل هذا‬
‫تترق‬
‫اللغة‪ ،‬تتعلق بالجوانب التقنية لأنها لم َّ‬ ‫الم�شروع النه�ضوي للغة العربية‪ ،‬بينما دور‬
‫تقني ًا‪ ،‬ولهذا لي�ست في ال�صدارة‪ ،‬ولكن ال نقول‬ ‫م�صر المراقبة اللغوية‪ ،‬ونحن عملنا الذكاء‬
‫عاجزة كما يحلو للبع�ض و�صفها‪ ،‬بل لها‬ ‫ال�صناعي‪ .‬وقد توزع العمل على ع�شر م�ؤ�س�سات‬
‫مكانتها‪.‬‬ ‫عربية؛ الأردن والجزائر وال�����س��ودان وليبيا‬
‫وتون�س وال�شارقة وال��ع��راق و�سوريا وم�صر‬
‫وموريتانيا‪ ..‬وزعنا الجذور فيما بيننا‪ ،‬وجذور‬
‫اللغة العربية (‪ )16800‬ج��ذر‪ ،‬في كل دولة‬
‫لجنة وطنية‪ ،‬في الجزائر لجنة وطنية مكونة‬
‫من (‪ )42‬ع�ضواً‪ ،‬كل واح��د نعطي له �أربعة‬
‫جذور في البداية‪ ،‬وعندما ينهي عمله ن�ضيف‬
‫�إليه �أربعة جذور �أخرى‪ ،‬وهكذا‪ ..‬وهناك لجنة‬
‫ت�صحيح‪ ،‬وعدد العاملين على م�ستوى الوطن‬
‫العربي (‪ )300‬باحث‪ ،‬الجزائر رقم واحد‪ ،‬ت�أتي‬
‫بعدها م�صر‪.‬‬
‫ويتولى مجمع اللغة العربية في ال�شارقة‬
‫�إدارة لجنته التنفيذية برئا�سة �صاحب ال�سمو‬
‫ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي‬
‫ع�ضو المجل�س الأعلى‪ ،‬حاكم ال�شارقة‪ .‬انتهينا‬
‫في عام (‪ )2020‬من الت�أريخ لحرفي (�ألف)‬
‫جانب من معر�ض الكتاب الوطني‬

‫‪69‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقابلة‬

‫¯ هل للمعجم التاريخي للغة العربية ت�أثير‬ ‫¯ �ألي�س لمجامع اللغة العربية دور في تطوير‬
‫في ترقية اللغة العربية؟‬ ‫لغة ال�ضاد وفق معطيات الع�صر العلمية؟‬
‫‪ -‬للتو�ضيح؛ المعجم التاريخي للغة العربية‬ ‫‪ -‬طبع ًا‪ ،‬دور مجامع اللغة العربية ممكن‪،‬‬
‫�أو ًال‪ :‬هو مدونة لغوية لكل الأثر المنتوج منذ‬ ‫ولكن �أعمالها الآن تعي�ش بع�ض التراجع في‬
‫ع�صر ال�ساميات �إلى الآن للغة العربية‪ .‬ثاني ًا‪:‬‬ ‫م�س�ألة ترقية اللغة العربية‪ ،‬م��ازال البع�ض‬
‫المعجم التاريخي‬ ‫هو الذي يحل م�شاكل تعليمية اللغة العربية‪.‬‬ ‫منها ما�ضوي التفكير‪ ،‬والبع�ض الآخر ورقي ًا‪،‬‬
‫للغة العربية مدونة‬ ‫ثالث ًا‪ :‬هو ال��ذي يق�ضي على م�شكلة فو�ضى‬ ‫وبع�ض منها افترا�ضي ًا لي�س �إال‪ ،‬ه��ل كل‬
‫لغوية لكل الأثر‬ ‫الم�صطلح‪ .‬رابع ًا‪ :‬هو الذي يعطي لنا الت�صور‬ ‫المجامع ت�شتغل؟ هذه هي الم�شكلة‪.‬‬
‫الذهني لتطور اللغة العربية عبر الع�صور‪.‬‬ ‫اليون�سكو طرحت هذه ال�سنة (‪� )2021‬شعاراً‬
‫المنتوج عبر مراحله‬ ‫خام�س ًا‪ :‬كيف تطورت ثم يعيد اللغة العربية �إلى‬ ‫جيداً رحبنا به (مجامع اللغة العربية‪� :‬ضرور ٌة‬
‫التاريخية‬ ‫�أ�صولها‪� .‬ساد�س ًا‪ :‬يحميها من االندثار‪ .‬بهذه‬ ‫�أم ترف؟)‪ ،‬يعني غمزت من قناة �أخرى؛ ما دور‬
‫العوامل ال�ستة ال تندثر العربية‪ ،‬لأن اللغة �إذا لم‬ ‫خم�سة ع�شر مجمع ًا عربي ًا لم تعمل على تطوير‬
‫يحمها المعجم التاريخي‪� ،‬سوف ت�صبح �شتات‬ ‫اللغة العربية؟ �شعار اليون�سكو جيد واحتفينا‬
‫لغات مثل الالتينية‪ ،‬التي �أ�صبحت التينيات‬ ‫وقدمنا �أفكاراً حوله‪ .‬نعم �س�ؤال مطروح‪:‬‬ ‫به‪ّ ،‬‬
‫و�أ�صبحت �ست لغات �أو �سبع لغات‪.‬‬ ‫لماذا مع هذه الم�ؤ�س�سات الموجودة التزال‬
‫اللغة العربية تعي�ش هذا التراجع؟ ال نقول �إنها‬
‫¯ كيف ترون مبادرة المعر�ض الوطني للكتاب‬ ‫متخلفة‪ ،‬ال �أبداً‪ ،‬اللغة العربية لي�ست كذلك‪ ،‬ثم‬
‫في ظل جائحة فيرو�س كورونا؟‬ ‫�إن المنتوج المادي ي�أتينا الآن من اللغات‬
‫‪ -‬المبادرة ت�أتي في ظرف �صحي خا�ص‪،‬‬ ‫الأجنبية‪ ،‬وي�أتي بت�سميات �أجنبية‪ ،‬لكن الآن‬
‫ال بد من توظيف‬ ‫العام الما�ضي �ألغي معر�ض الجزائر الدولي‬ ‫توجد نظرة جديدة في البرمجة باللغة العربية‪،‬‬
‫التقنيات لالرتقاء‬ ‫للكتاب ب�سبب تف�شي فيرو�س كورونا الم�ستجد‪،‬‬ ‫الذكاء ال�صناعي موجود باللغة العربية‪ ،‬تغلبنا‬
‫باللغة العربية‬ ‫واليوم ُن�شارك في المعر�ض الوطني للكتاب‬ ‫على الكثير من الأ�شياء ومازالت بع�ض الأ�شياء‬
‫وفق البروتوكول ال�صحي لوزارة ال�صحة‪ .‬علينا‬ ‫تتعلق بعالمات الت�شكيل‪.‬‬
‫ك�سر حاجز الخوف من هذه الجائحة‪ ،‬و�أذكر‬
‫هنا ما قامت به �إمارة ال�شارقة بتنظيم معر�ض‬ ‫¯ �أال تعتقد �أن قلة الترجمة من لغات �أخرى‬
‫ال�شارقة الدولي للكتاب‪ ،‬كانت �أول من ك�سر‬ ‫�أحد عوامل تقهقر اللغة العربية علميا؟‬
‫طوق جائحة كورونا‪ ،‬فهي مبادرة �شجاعة‬ ‫‪ -‬ال��ت��رج��م��ة ع��ام��ل م��ن ع��وام��ل تطوير‬
‫تح�سب لها‪ ،‬وال �شك �أنها ت�شجع تنظيم معار�ض‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬لكن اللغة ال تترقى بالترجمة‬
‫دولية للكتاب في دول عربية �أخرى‪.‬‬ ‫وحدها‪ ،‬ترقية اللغة نعم في البداية تكون‬
‫في الترجمة‪ ،‬ولكن الإنجليزية مث ًال الآن رقم‬
‫واحد بين اللغات‪ ،‬لماذا؟ هل معناها تترجم؟‬
‫�أبداً‪ ،‬اللغة تترقى عندما يعود الم�ستعملون لها‬
‫�إلى الترجمة منها �إلى اللغات الأخرى‪ ،‬وهكذا‬
‫ارتقت اللغة العربية في الما�ضي‪ .‬العربية‬
‫ف��ي ال��ب��داي��ة منذ ت�أ�سي�س بيت الحكمة في‬
‫بغداد‪ ،‬ترجمت من كل اللغات في الريا�ضيات‬
‫والجيولوجيا والجغرافيا والفل�سفة وغيرها‪،‬‬
‫ثم ارتقت و�أ�صبحت لغة عالمية عندما �أ�صبح‬
‫النا�س يعودون �إليها ويترجمون منها‪ ،‬وارتقت‬
‫و�أ�صبحت لغة العولمة‪ ..‬عرفت اللغة العربية‬
‫تطوراً حتى ع�صر الأندل�س‪ ،‬كل العلوم كانت‬
‫باللغة العربية‪ ،‬وك��ان��ت لغة العولمة مثل‬
‫الإنجليزية اليوم‪ ،‬لماذا؟ لأن النا�س يعودون‬
‫�إليها‪ ،‬الآن المحتوى الرقمي بما تنتجه اللغة‬
‫ولي�س بما تترجمه‪.‬‬
‫جناح الأطفال‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪70‬‬


‫مقاالت‬
‫محطات‬

‫�أ�سواق العرب القديمة‪..‬‬


‫�أفرزت لنا نوابغ الأدب العربي ال�شعرية والنثرية‬
‫�ألقيت الخطب‪ ،‬و�صيغت الحكم والأم��ث��ال‪،‬‬ ‫يعتبر ال�سوق مكان تجمع �أهل البالد ‪،‬‬
‫وجرت المفاخرات والمنافرات‪ ،‬وعلى �أر�ضها‬ ‫وهو مو�ضع الب�ضائع والأمتعة‪ ،‬وكل �شيء من‬
‫انطلقت المباهالت بين المتنازعين‪ ،‬ففي‬ ‫عرو�ض التجارة‪ ،‬ولم يكن للعرب قديم ًا‪ ،‬مجمع‬
‫�سوق (عكاظ) خطب ق�س ابن �ساعدة الأيادي‬ ‫�أحفل منها‪ ،‬فكان ي�أتي �إليها ال�شعراء من كل‬
‫خطبته الم�شهورة على جمل �أورق بقوله‪:‬‬ ‫�أنحاء البالد‪ ،‬ول��ذا كانت الأ���س��واق العربية‬
‫د‪ .‬محمد خليل محمود‬ ‫(�أيها النا�س ا�سمعوا وع��وا‪ ،‬من عا�ش مات‪،‬‬ ‫الأدبية قبل الإ�سالم‪ ،‬وحتى بعد الإ�سالم‪ ،‬تعد‬
‫ومن مات فات‪ ،‬وكل ما هو � ٍآت �آت)‪.‬‬ ‫ظاهرة مهمة ومحطة متميزة‪ ،‬فكانت كمركز‬
‫الإ�سالم‪ ،‬ففيها قامت الخن�ساء بنت عمرو بن‬ ‫ولقد غدت �أ�سواق العرب مركزاً ت�سعى �إليه‬ ‫�إ�شعاع ح�ضاري فكري وثقافي‪ ،‬ترفد التاريخ‬
‫ال�شريد بت�سويم هودجها براية‪ ،‬و�أخذت تقول‪:‬‬ ‫الفعاليات الأدبية ال�شعرية والنثرية والنقاد‪،‬‬ ‫العربي بالفكر والتجارب‪� ،‬إذ غدت منارات‬
‫(�أنا �أعظم العرب م�صيبة)‪ ،‬ثم وافت هند بنت‬ ‫ففي ���س��وق (ع��ك��اظ) و���س��واه��ا م��ن �أ���س��واق‬ ‫ثقافية وفكرية‪ ،‬وملتقيات �أدبية يجتمع فيها‬
‫ف�س ّوم‬
‫عتبة �سوق (عكاظ)‪ ،‬و�أمرت بهودجها ُ‬ ‫العرب قبل الإ���س�لام‪ ،‬كانت تت�سابق قرائح‬ ‫الأدب��اء فيتنا�شدون ما جادت به قرائحهم‪،‬‬
‫براية‪ ،‬فقالت‪�( :‬أقرنوا جملي بجمل الخن�ساء)‪،‬‬ ‫ال�شعراء �إلى نظم الجميل من ال�شعر‪ ،‬لينال‬ ‫وف��ى �أج��وائ��ه��ا �صقلت اللهجات وه��ذب��ت‪،‬‬
‫وادعت كل واحدة منهما �أنها �أوجع م�صاب ًا‪،‬‬ ‫الإعجاب‪ ،‬ويكتب له النجاح والخلود‪ ،‬وفيها‬ ‫فكانت اللغة الأدبية الموحدة‪ ،‬وفى �ساحاتها‬
‫و�أ�شد �ألم ًا‪ ،‬و�أخذت كلتاهما تن�شدان ال�شعر‪.‬‬ ‫ين�صت جميع الح�ضور لإلقاء ال�شعر‪ ،‬في�صدر‬ ‫نظمت النوادي‪ ،‬لحل النزاعات والخالفات‬
‫وفي ع�صر الإ�سالم‪ ،‬احت�ضنت الأ�سواق‬ ‫الناقد حكمه‪ ،‬وكان بها محكمون كالنابغة‬ ‫الم�ستع�صية‪ ،‬ف�أبرمت المعاهدات والأحالف‪.‬‬
‫فني الرجز والنقائ�ض‪ ،‬وكانت �سوق (المربد)‪،‬‬ ‫الذبياني الذي كانت ت�ضرب له القباب‪ .‬فقد‬ ‫فكما كان �سوق (عكاظ) �سوق ًا للبيع وال�شراء‬
‫الرجاز و�شعراء النقائ�ض‪ ،‬الذين عبروا‬ ‫منارة ّ‬ ‫�شهدت ه��ذه الأ���س��واق حركة نقدية‪� ،‬شكلت‬ ‫كان �سوق ًا للأدب �أي�ض ًا‪ ،‬وكان يح�ضر لهذا‬
‫عن الع�صبية القبلية ال�سائدة في الع�صر‬ ‫البذور الأ�سا�سية للنقد في الع�صور التالية‪.‬‬ ‫ال�سوق ك��ل م��ن ل��ه ميل ف��ي الأدب‪ ،‬وك��ان‬
‫الأم���وي‪ ،‬وك��ان جرير وال��ف��رزدق والأخطل‬ ‫وكان ال�شعراء ي�سعون �إلى تنقيح ق�صائدهم‬ ‫تقام فيه المباريات ال�شعرية‪ ،‬ف�إذا فاز بها‬
‫والراعي و�أب��و النجم الراجز وذو الرمة‪ ،‬هم‬ ‫وتهذيبها والعناية بتخير الألفاظ‪ ،‬وح�سن‬ ‫�أحد الخ�صمين‪ ،‬تعد له مفخرة وم�أثرة �أدبية‬
‫ال�شعراء الفحول في هذا الع�صر‪ ،‬والذين تركوا‬ ‫ترتيبها‪ ،‬لتلقى القبول واال�ستح�سان من‬ ‫كبرى‪ ،‬فكانوا تخليداً لذكرى الق�صيدة التي‬
‫ب�صمات وا�ضحة في الأدب ب�شعرهم الخالد‬ ‫جانب الناقد الذي كانت ت�ضرب له خيمة‪،‬‬ ‫تحوز الإعجاب ول�صاحبها المبدع يكتبونها‪،‬‬
‫الذي �أطلق عليه (فن النقائ�ض) و�أ�سهموا بهذا‬ ‫يجل�س تحتها‪ ،‬في�ستمع �إلى الق�صائد ال�شعرية‪،‬‬ ‫وتعلق على الكعبة في مو�سم الحج‪ ،‬ومن هنا‬
‫التراث الخالد‪ ،‬الذي لواله ل�ضاع الكثير من‬ ‫التي تلقى بين يديه‪ .‬والأحكام النقدية التي‬ ‫�سميت الق�صائد ال�سبع المعلقات‪ .‬وفي �سوق‬
‫درر اللغة وجواهرها القيمة‪ ،‬فكانت نقائ�ضهم‬ ‫ي�صدرها الناقد‪ ،‬لم تكن �أحكام ًا علمية ت�ستند‬ ‫(عكاظ) كانت تت�سابق القبائل �إل��ى �إظهار‬
‫لبنة مهمة في هذا ال�صرح التراثي الأدب��ي‪،‬‬ ‫�إلى التعليل والمو�ضوعية‪ ،‬و�إنما كانت قائمة‬ ‫نوابغها من ال�شعراء والخطباء‪ ،‬يتنا�شدون‬
‫الذي ي�صور الم�ستوى الفكري للع�صر وروحه‪.‬‬ ‫على �أ�سا�س ال�سليقة والذوق الفطري‪ ،‬فقد كان‬ ‫ويتحاجون ويتفاخرون‪ ،‬فكانت الأ�سواق‬
‫وم��ن مميزات النقائ�ض‪ ،‬ال��ت��ي كانت‬ ‫النتاج الأدبي واللغوي للأ�سواق في الإ�سالم‬ ‫حلبة تت�صارع فيها المواهب من الخطباء‬
‫تجرى في �سوق المربد‪� ،‬أنها كانت تتخذ طابع‬ ‫وما قبله‪ ،‬معين ًا ال ين�ضب في رفد التراث‬ ‫وال�شعراء‪ ،‬ومركز جذب لحركة �أدبية‪ ،‬تفاعلت‬
‫المناظرات الأدبية‪ ،‬وكانت تلك المناظرات‬ ‫العربي بمختلف فنون القول من مختارات‬ ‫�أقطابها‪ ،‬ون�شطت �أركانها من خالل التعبير‬
‫الأدبية تتخذ �أ�شكا ًال وطرق ًا مختلفة‪ .‬وهكذا‪..‬‬ ‫�شعرية جميلة‪ ،‬وفنون نثرية ت�صور الم�ستوى‬ ‫عن هموم قبائلهم‪ ،‬وعما يختلج في النفو�س‪،‬‬
‫ف�إن الأ�سواق في الإ�سالم وما قبله‪� ،‬أ�سهمت‬ ‫الفكري‪ ،‬والعقلية العربية التي و�صل �إليها‬ ‫فبرز على ال�ساحة نفر من نوابغ الأدب في‬
‫بدور فاعل ومتميز‪ ،‬في تعزيز الم�سيرة الأدبية‬ ‫القوم‪ ،‬فقد مثلت الن�صو�ص ال�شعرية التي‬ ‫مجالي ال�شعر والنثر‪.‬‬
‫ب ��أدب غزير تمثل في المقطعات ال�شعرية‬ ‫�ألقيت في الأ���س��واق‪� ،‬أدب � ًا عربي ًا رفيع ًا من‬ ‫وت��ب��و�أت �سوق (عكاظ) مكان ال�صدارة‬
‫والرجز والق�صائد المطولة‪ ،‬وفن النقائ�ض‪،‬‬ ‫خالل المطوالت ال�شعرية‪ ،‬التي نظمها فحول‬ ‫في احت�ضان هذه الحركة وا�ستقطابها‪ ،‬فيها‬
‫التي ت�صور حياة ال��ق��وم‪ ..‬كما �أ�سهمت في‬ ‫ال�شعراء‪ ،‬والتي كانت �أكثر ق�صائد التراث‬
‫المحافظة على بقاء اللغة العربية ف�صيحة‬ ‫العربي جما ًال في بنائها و�صياغتها ونهجها‪.‬‬
‫مهذبة‪ ،‬وت�أ�سي�س قواعدها ونحوها الذي‬ ‫لكن الأ���س��واق العربية القديمة‪ ،‬لم تختف‬
‫الأ�سواق في الجاهلية‬
‫حفظها من ال�ضياع واالندثار‪ ،‬كما احت�ضنت‬ ‫بمجيء الإ�سالم‪ ،‬ويبدو �أن اللقاء الذي �شهدته‬ ‫والإ�سالم �أ�سهمت بدور‬
‫الأ�سواق حركة نقدية‪ ،‬تمثل دورها في تهذيب‬ ‫�سوق (عكاظ) بين الخن�ساء وهند بنت عتبة‪،‬‬ ‫فاعل في تعزيز الم�سيرة‬
‫مفردات اللغة و�صقلها‪.‬‬ ‫كان خير �شاهد على ا�ستمرار هذه ال�سوق في‬ ‫الأدبية‬

‫‪71‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫الأدب ال جن�س له‬

‫�سكينة ف�ؤاد‪:‬‬
‫الق�صة لي�ست حكر ًا على الغرب‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪72‬‬


‫حوار‬

‫م��ن مدينة «بور�سعيد» ج���اءت �أدي��ب��ة و�صحافية م�سكونة‬


‫��ض��د االح��ت�لال والمحتلين‪ ،‬من‬ ‫بع�شق الن�ضال والبطولة � ّ‬
‫بيئة البحر �أت��ت ام���ر�أة تحمل كلمة ح��قّ ‪ ،‬ف��ي زم���انٍ �أ�صبح‬
‫للح ِّر َّية‪،‬‬
‫َم ْ��ن يقول الحقّ فيه مجنوناً!! ام���ر�أة تحمل راي��ة ُ‬
‫�أهتم بالقارئ لأنني‬ ‫وفيق �صفوت مختار‬
‫وق��ل��م�� ًا ج��ري��ئ�� ًا ناب�ض ًا بع�شق القيم الإن�����س��ان�� َّي��ة النبيلة‪..‬‬
‫في النهاية �أغترف‬
‫من الواقع الذي‬ ‫�وع من ا�ستب�صار‬ ‫ما لم يقع �أم��ام��ه‪ ،‬هناك ن� ٌ‬ ‫ولدت الأديبة �سكينة جمال ف�ؤاد في ال َّأول‬
‫يخ�صني كما يخ�صه‬ ‫وجدان ال َّنا�س والأهل‪ ،‬ال �أبالغ و�أُ�صدقك القول‪،‬‬ ‫من �سبتمبر (‪1945‬م)‪ ،‬نالت لي�سان�س الآداب عام‬
‫�أ َّنني كتبت (فاطمة) قبل �أن �أع��رف تفا�صيل‬ ‫(‪1964‬م)‪ ،‬و�شغلت عدة منا�صب منها‪ :‬مديرة‬
‫ال�صراع الم�صري البريطاني‪ ،‬كتبتها من ُم ْج َمل‬ ‫تحرير مجلة الإذاع��ة والتلفزيون‪ ،‬و�صحافية‬
‫الم�صرية‪ ،‬المر�أة التي �أنتمي‬ ‫َّ‬ ‫الإح�سا�س بالمر�أة‬ ‫حررة �صحافية‬ ‫وم ِّ‬
‫بجريدة الأه��رام القاهرية‪ُ ،‬‬
‫بالحق‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫القوية‪ ،‬العارفة‬ ‫�إل��ي جذورها‪ ،‬المر�أة ّ‬ ‫بجريدة الوفد‪ ،‬كما ُعينت ع�ضوة بمجل�س ال�شورى‬
‫ال��ط��ارح��ة ـ لي�ست م��ن ج�سدها فقط ‪ ،‬ولكن‬ ‫الم�صري‪ ،‬وم�ساعدة لرئي�س الجمهورية‪.‬‬
‫متوج�سة زم��ن تغيب فيه قيمة‬ ‫ِّ‬ ‫م��ن روح��ه��ا‪،‬‬ ‫أدبية رواية «ليلة القب�ض‬ ‫من �أهم �أعمالها ال َّ‬
‫الحق‪ ،‬وي�صبح َم ْن يقوله‪ ،‬عليه �أن يو�ضع في‬ ‫ّ‬ ‫تحولت �إلى م�سل�سلٍ تلفزيوني‪،‬‬ ‫علي فاطمة» التي َّ‬
‫المبدع كائن جهز‬ ‫الحق يذوي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أرى‬ ‫�‬ ‫أنا‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫العقل‪،‬‬ ‫فاقدي‬ ‫م�ست�شفيات‬ ‫بطولة‪ :‬فردو�س عبد الحميد‪ ،‬وفاروق الفي�شاوي‪،‬‬
‫والحقيقة ت�ضمحل‪.‬‬ ‫و�أمينة رزق‪ ،‬وممدوح عبدالعليم‪� ،‬إخراج محمد‬
‫ب�أ�شياء لي�ست بيده‬
‫ح�صالة الطفولة‪� ،‬صعدت ذك��ري��ات‬ ‫َّ‬ ‫م��ن‬ ‫فيلم �سينمائي‬‫تحولت الرواية �إلى ٍ‬ ‫فا�ضل‪ ،‬كما َّ‬
‫وهناك نوع من‬ ‫قلب كقلب الطفلة يرق�ص وهي‬ ‫كان‬ ‫المقاومة‪،‬‬ ‫من بطولة‪ :‬فاتن حمامة‪ ،‬و�شكري �سرحان‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ا�ستب�صار وجدان‬ ‫تت�صور �أن��ي بعد � ْأن كبرت‬ ‫َّ‬ ‫تراقب ُك � ّل ه��ذا‪ ،‬ال‬ ‫و�صالح قابيل‪ ،‬ومن �إخراج هنري بركات‪.‬‬
‫النا�س والأهل‬ ‫ون�ضجت‪ ،‬وب��د�أت �أجمع �أوراق المقاومة‪ ،‬وفي‬ ‫كما �صدر للأديبة كتاب «الأعمال الكاملة»‪،‬‬
‫مو�سوعة ن�ضال بور�سعيد للأ�ستاذ «�ضياء‬ ‫عدد من مقاالتها حول ق�ضايا‬ ‫حيث احتوى على ٍ‬
‫بمجموعة من الن�ساء تقودها‬ ‫ٍ‬ ‫القا�ضي»‪ ،‬ف��إذا‬ ‫الأمن الغذائي في م�صر‪ُ ،‬ث َّم رواية «امر�أة يونيو»‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ب�صوت عالٍ‬ ‫«زينب الكفراوي»‪ ،‬و�إذ بي �أ�صيح‬ ‫الرجل»‪ ،‬و«حروب جديدة»‪ ،‬و«بنات‬ ‫و«تروي�ض َّ‬
‫وحدي‪ ،‬ل َّأن «زينب» حملت‬ ‫الح ّب»‪.‬‬
‫زينب»‪ ،‬و«دوائر ُ‬
‫ودم‪،‬‬
‫لحم ٍ‬ ‫طف ًال ولك َّنه من ٍ‬
‫ولي�س كخيالي القا�صر‪ ،‬من‬ ‫يمكنك � ْأن تحدثينا عن البيئة‬ ‫ِ‬ ‫¯ في البداية‪ ،‬هل‬
‫وقما�ش‪ ،‬حملته وعبرت‬ ‫ٍ‬ ‫ق�ش‬‫ٍ‬ ‫أدبية؟‬
‫التي �أثَّرت في �إبداعات �سكينة ف�ؤاد ال َّ‬
‫ب��ه جميع نقاط التفتي�ش‪،‬‬ ‫�ضد‬
‫‪ -‬ه��ي بيئة البحر‪ ،‬بيئة المقاومة ّ‬
‫ووقع على ج�سدها ب�أختام‬ ‫ُ‬ ‫لقوي الطبيعة‪ ،‬وال َّتحدي‬ ‫المحتل‪ ،‬بيئة ال َّتحدي ّ‬
‫ُ‬
‫إنجليزية‪ ،‬وكانت‬ ‫َّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الحرا�سة‬ ‫للم�ستعمر‪ ،‬بيئة تربية الن�شء و�سط قيم البطولة‬
‫تحمل في قلب عربة الطفل‪،‬‬ ‫والوطنية‪ ،‬بيئة البحر المفتوح‪ ،‬وال�سفن التي ال‬
‫م��ت��ف��ج��رات‪ ،‬وم��ع��ه��ا كلمة‬ ‫تكف عن العبور‪ ،‬لم �أكف عن الحلم ب�شاطئ �آخر‪،‬‬
‫�سر‪ ،‬وعبرت �إلى الفدائيين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كان العالم بالن�سبة لي دائم ًا مت�سع ًا‪ ،‬ف�أنا �أعتقد‬
‫وكتبت في الأه���رام مقالة‬ ‫� َّأن هذه البيئة �أدين لها برحابة الفكر‪ ،‬باالت�ساع‪،‬‬
‫�أعتذر فيها عن خيالي الذي‬ ‫عما وراء الطبيعة‪ ،‬ووراء البحر‪..‬‬ ‫بالبحث َّ‬
‫لم يرتفع �إلى قامة‪ ،‬الإن�سان‪،‬‬
‫والمقاومة‪.‬‬ ‫ق�صة امتزجت‬ ‫¯ (ليلة القب�ض علي فاطمة)‪َّ ،‬‬
‫ال�سيا�سية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الم�صرية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫فيها ُك ّل تجليات الحياة‬
‫¯ �س�ؤا ٌل يتر َّدد على �أل�سنة‬ ‫واالقت�صادية‪� ،‬أعتقد � َّأن لهذه‬
‫َّ‬ ‫واالجتماعية‪،‬‬
‫َّ‬
‫الق�صة‬
‫َّ‬ ‫البع�ض‪ :‬ه��ل ف � ّن‬ ‫الق�صة خيوط ًا عديد ًة من الواقع الحقيقي‬ ‫َّ‬
‫الق�صيرة وال���رواي���ة ف� ٌن‬ ‫المعي�ش‪ ،‬فما تعليق الأديبة �سكينة ف�ؤاد؟‬
‫أوروب���ي نقله العرب عن‬‫ٌ‬ ‫�‬ ‫كائن‬
‫يتك�شف لك قبل � ْأن تعرف‪ْ � ،‬أن المبدع ٌ‬
‫‪َّ -‬‬
‫ِ‬
‫تعليقك؟‬ ‫الغرب؟ ما‬ ‫ب�أ�شيا ٍء لي�ست بيده‪ ،‬لكي ي�ستب�صر‪ ،‬ويرى وي�سمع‬
‫من �أعمالها‬

‫‪73‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫حوار‬

‫ممن يرون في جذورهم ُك ّل �شيء‪ ،‬ففي‬ ‫‪� -‬أنا َّ‬


‫الأدب العربي القديم حكايات و�سير ومقامات‬
‫قول م�ضحك!‬ ‫الق�صة على الغرب ٌ‬
‫وق�ص�ص‪ ،‬وق�صر َّ‬ ‫ّ‬
‫الق�صة جزء من الوجود الإن�ساني‪ ،‬فمنذ ُوجد‬ ‫ل َّأن َّ‬
‫الإن�سان على الأر���ض وه��و يحكي‪ ،‬والم�أثور‬
‫ال�شعبي ِملك ُك ّل ال�شعوب‪ ،‬وراوي الربابة ِملك ُك ّل‬
‫َّ‬
‫وم ْن لم يقل؟ فكيف‬ ‫وم ْن منا لم يحك؟ َ‬ ‫ال�شعوب‪َ ،‬‬
‫تكون خا�صة ب�أوروبا؟ هل هذا االدعاء يعني �أن‬
‫القاهرة في ال�ستينيات‬ ‫�أوروبا هي (التابو) المعبود!؟‬

‫¯ هناك من يدعي �أن الق�صة الق�صيرة قد‬


‫ا�ستنفدت جميع �أغرا�ضها‪ ،‬وحان وقت رحيلها‬
‫عن ال�ساحة الأدبية‪ ،‬ما ر� ِ‬
‫أيك في هذا الزعم؟‬
‫الق�صة‬‫َّ‬ ‫ـ لي�س �أن�سب للحظة الراهنة من‬
‫الق�صيرة‪ ،‬في منا�سبتها للإيقاع‪ ،‬لل�سرعة‪،‬‬
‫مثبت على كاميرا الزمن‪ ،‬وال‬ ‫واللتقاط م�شهد َّ‬
‫فن البناء والمعمار‪ ،‬يكاد يكون‬ ‫تن�س � َّأن الرواية ّ‬
‫ثقي ًال على هذا الزمن‪� ،‬إنما هي الق�ضية‪َّ � ،‬أن الواقع‬
‫لقطة من فيلم وم�سل�سل‬
‫«ليلة القب�ض على فاطمة»‬
‫الرجال‪ ،‬كما � َّأن‬
‫الن�ساء كتبن ما فاق كتابات ِّ‬ ‫الفن‪ ،‬نعم‪� ،‬أن��ت تعي�ش واقع‬ ‫�أ�صبح �أق��وى من ِّ‬
‫الرجال‪ ،‬حتى عن عالم المر�أة‪ ،‬كتبوا ما‬ ‫بع�ض ِّ‬ ‫حكايات ال يرقى �إليها �أي جنون ف ّني‪ ،‬كيف‬
‫ال ت�ستطيع المر�أة �أن تكتبه‪ ،‬الق�ضية ح�سا�سية‬ ‫ٍ‬
‫مناف�سة‬ ‫للق�صة �أن ت�سبق الواقع؟ هي في‬ ‫يمكن َّ‬
‫الكاتب‪ ،‬وتجربته وعمقه ور�ؤيته وقدرته على‬ ‫خطيرة مع الواقع‪ ،‬لأ َّنه �إذا ت�صفحت �صفحات‬ ‫ٍ‬
‫ا�ستب�صار ما تحت ال�سطح‪ ،‬تلك المكونات التي‬ ‫ق�ص�ص ًا‪ ،‬لو كتبتها و�أ َّلفها م�ؤ ِّلف‬ ‫الحوادث‪ ،‬نقر�أ ّ‬
‫ت�صنع الإب ��داع‪ ،‬والإب ��داع ال يختلف بين رجل‬ ‫يقولون‪َّ � :‬إن هذا الم�ؤ ِّلف مجنون! �أنت الآن ُتقابل‬
‫وام���ر�أة‪ ،‬ولكن تختلف الخ�صائ�ص‪ ،‬ويختلف‬ ‫نماذج ب�شرية لو كتبتها‪ ،‬ي�صعب على القلم �أن‬
‫الواقع �أ�صبح �أقوى‬
‫ال�شكل‪� ،‬سيختلف ُك ّل هذا‪ ،‬وهو يختلف من نجيب‬ ‫يتقدم الواقع من‬ ‫الفن كان َّ‬‫ينقلها على الورق‪ّ ،‬‬
‫من الفن ف�أنت تعي�ش‬ ‫محفوظ‪� ،‬إلى يو�سف �إدري�س‪.‬‬ ‫الق�صة‬ ‫الفن‪ ،‬م�شكلة‬
‫يتقدم ّ‬ ‫َّ‬ ‫قبل‪ ،‬الآن الواقع‬
‫َّ‬
‫واقع حكايات ال‬ ‫الق�صيرة ـ وهي يجب �أن تكون قطفة‪ ،‬لحظة فيها‬
‫يرقى �إليها �أي جنون‬ ‫المتلقي‬ ‫¯ هل من المفتر�ض �أن يكون للقارئ �أو ُ‬ ‫�شموليتها‪ ،‬فيها عمق ور�ؤية و� ِّإل �سيكون ت�صوير‬
‫فني‬ ‫إبداعية؟ و�إن كان‬
‫ح�ضور في تجارب الكاتب ال َّ‬ ‫جرد كتابة �صحافية‪ ،‬كيف ت�ستطيع‬ ‫الواقع ُم َّ‬
‫كذلك‪َ � ،‬أل ُيلجم هذا الح�ضور اندفاع الكاتب‬ ‫الق�صة � ْأن تظل تمتلك مقومات فنية تجعلها‬ ‫َّ‬
‫ويق ِّيده؟‬
‫نحو الإبداع ُ‬ ‫�أ�سبق من الواقع !!!؟‪.‬‬
‫أت�صور � َّأن عملية القراءة تعني � َّأن‬‫‪� -‬أن��ا � َّ‬
‫للقارئ ح�ضوراً‪ ،‬والتلقي م�شاركة في الإبداع‪،‬‬ ‫¯ هل تتفقين مع ال�شاعرة ال�سورية هند هارون‪،‬‬
‫فالمبدع يكتب وهو ي�ستح�ضر تجربته الكاملة‬ ‫عندما قالت‪ :‬لي�س هناك �أدب ن�سوي بالمعنى‬
‫ن�ص مطبوع‬ ‫التي يريد �أن ينقلها‪ ،‬وطالما هناك ٌ‬ ‫الذي يحاول بع�ضهم �أن يطلقه؟‬
‫فهناك قارئ‪� ،‬إذاً الم�شاركة �ضرورية في التلقي‪،‬‬ ‫‪ -‬الأدب ال جن�س له‪ ،‬ولكن له ج��ودة‪ ،‬وله‬
‫التلقي م�شاركة في‬ ‫بالطبع �أن��ا �أهتم بالقارئ‪ ،‬لأن��ي في النهاية‬ ‫عمق وموقف ور�ؤية‪� ،‬أعتقد �أ َّنه في قواعد النقد‪،‬‬
‫الإبداع وطالما هناك‬ ‫�أغترف من الواقع‪ ،‬فهذا الواقع يخ�صني ويخ�ص‬ ‫ال توجد لكتابات الن�ساء قواعد نقدية م�ستقلة‬
‫ن�ص فهناك قارئ �إذاً‬ ‫القارئ‪ ،‬ربما بع�ض ال ُن َّقاد �أ�شاروا �إلى بع�ض‬ ‫الرجال‪ ،‬طبيعي � َّأن كاتب ًا يختلف عن‬ ‫عما يكتبه ِّ‬
‫َّ‬
‫الم�شاركة �ضرورة‬ ‫الغمو�ض الذي يكتنف بع�ض رواياتي‪� ،‬أحيان ًا‪،‬‬ ‫الرجل‪ُ ،‬ك ُّل كاتب‬ ‫َّ‬ ‫عن‬ ‫تختلف‬ ‫أة‬ ‫�‬ ‫والمر‬ ‫كاتب �آخر‪،‬‬
‫أت�صور � َّأن الكاتب الحقيقي ال‬
‫وال �أق�صده‪ ،‬و�أنا � َّ‬ ‫�أو كاتبة له تجربته الذاتية‪ ،‬له عالمه الخا�ص‪،‬‬
‫في التلقي‬ ‫ي�أخذ قراراً ب�ش�أن ما �سوف يكتب‪ ،‬و�إن ما يكتبه‬ ‫�أنا ال �أ�ؤمن � َّأن للكتابة جن�س ًا‪ ،‬ولكن �أ�ؤمن � َّأن لها‬
‫أت�صور �أن �أكتب عن عالم‬
‫ي�أخذ قراره فيه‪� ،‬أنا ال � َّ‬ ‫وج��وداً‪ ،‬لها قدرة ور�ؤي��ة وا�ستب�صاراً‪ ،‬والمر�أة‬
‫ٍ‬
‫وردية‪ ،‬الأ�سلوب هو الكاتب‬ ‫�شديد االنهيار بر� ٍ‬
‫ؤية‬ ‫عندما تتاح لها نف�س التجربة‪ ،‬ونف�س الح�سا�سية‬
‫لأني �أنا �أنقل فكري َع ْبر الكلمات‪.‬‬ ‫تتقدم‪ ،‬ل َّأن بع�ض‬ ‫َّ‬ ‫ال تق ّل فيما تكتب‪� ،‬إن لم‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪74‬‬


‫مقاالت‬
‫�شظايا‬

‫�أنا خائف‪� ..‬إذ ًا �أنا موجود‬


‫الم�ساكين‪ /‬من �أر���ض الخوف مندهلك‪ /‬يا‬ ‫حفظت مبكراً ال َن َ�س َب اللغوي للخوف‪ :‬الجبن‬
‫�شم�س الم�ساكين)‪ .‬و�إذا كان الخوف من الأغنية‬ ‫وال��ذع��ر والخ�شية والرهبة وال��رع��ب وال � َف� َ�ر َق‬
‫العربية يطغى في كل ما يتعلق بالحب‪ ،‬فهو في‬ ‫والفزع والهلع والجزع‪ ..‬وطالما تمطقت ببع�ض‬
‫الحكمة ال�شعبية لل�سان العوام التي ير�سلها في‬ ‫مفردات تلك الأ�سرة‪ ،‬مثل المذعور والجزوع‬
‫الأمثال‪ ،‬بالغ التنوع وال�شمول‪ .‬ومن الأمثلة‬ ‫والهلوع‪ ،‬وم��ا �أكثر ما تباهيت بما علمتني‬
‫التي ال تح�صى‪ ،‬هو ذا المثل الم�صري‪( :‬اللي‬ ‫القوامي�س‪ :‬الفاروقة‪ :‬الفزع ال�شديد‪ ،‬ومثلها‬
‫يطلع ل��ه)‪ ،‬ومن المغرب‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫يخاف من العفريت‬ ‫الفاروق‪ ،‬والرجل ال َفرق‪ ،‬والرجل ال َف ُرق‪.‬‬
‫نبيل �سليمان‬ ‫ع�ضه الحن�ش ِكيخاف من الحبل)‪ .‬كذلك‬ ‫(اللي ّ‬ ‫بت �أع��رف للخوف‬ ‫بعد هذا العمر الطويل ُّ‬
‫هو �ش�أني مع الل�سان العالم‪ :‬الخوف يجعل‬ ‫�ألوان ًا وتعريفات ومفهومات‪ ،‬بما هو عالمة‬
‫م��وار بالخوف بين قراءتي‬ ‫ينداح زم��ن ّ‬ ‫النا�س �أكثر حذراً و�أكثر طاعة و�أكثر عبودية‬ ‫فارقة للكينونة والوجود‪ ،‬وبما هو من �صلبهما‪،‬‬
‫ل��رواي��ة (ال��خ��وف) للكاتب �ستيفان زفايج‪،‬‬ ‫(�أر�سطو)‪ .‬لكنني �صدقت وك ّذبت في �آنٍ مع ًا‬ ‫ومن �آخر مالعباتي للخوف �أن �أقول‪� :‬أنا خائف‬
‫وقراءتي منذ حين ق�صير (في بالد الأ�شياء‬ ‫الحكمة التي �أجهل ن�سبها‪ ،‬وتحكم ب�أن الخوف‬ ‫من القارئ‪ ،‬و�أن� َ�ت َج�ز ٌِع من الرقابة الم�سبقة‬
‫الأخ��ي��رة) للكاتب والمخرج الأم��ري��ك��ي بول‬ ‫حي‬ ‫ال يمنع الموت‪ ،‬بل يمنع الحياة‪ ،‬فهل �أنا ّ‬ ‫على المطبوعات‪ ،‬و�أن � ِ�ت جبانة �أم��ام ت�س ّلط‬
‫�أو�ستر‪ .‬ومنها مما كتبت �آنا بلوم في ر�سالتها‬ ‫في‪.‬‬‫رغم �أن الخوف ينب�ض ّ‬ ‫أبيك �أو زوج� ِ�ك‪ ،‬و�أنتما مرعوبان من الكوفيد‬ ‫� ِ‬
‫تعج بم�شاعر الخوف‪ ،‬عن �أر���ض العدم‪،‬‬ ‫التي ّ‬ ‫و�أن���ا �أت��ه��ي��أ ل��ه��ذه الكتابة ع��ن ال��خ��وف‪،‬‬ ‫(‪ ،)19‬و�أنتما ترهبان ركوب الطائرة‪ ،‬و�أنتم‬
‫�أن الذعور هو �ضحية الذاتية المت�ضخمة‪ ،‬الذي‬ ‫�أوم�ضت لي �أط��روح��ات �ش ّتى للماج�ستير �أو‬ ‫تخ�شون ه��راوات ال�شرطة والقنابل الم�سيلة‬
‫يح�سب �أن الم�صائب تتغياه من دون الخلق‪ .‬في‬ ‫الدكتوراه في جامعات �ش ّتى‪ ،‬منها ما �صدر في‬ ‫أنتن وهم وهن ونحن وهو يخاف‬ ‫للدموع‪ ،‬و� ّ‬
‫تلك الأر�ض‪ /‬البالد‪.‬‬ ‫كتب مثل‪ :‬تجليات الخوف في ال�شعر الأموي‬ ‫م��ن القا�ضي‪ ،‬وه��ي ت��خ��اف م��ن المحامية‪،‬‬
‫ال ي�سمي بول �أو�ستر ف�ضاء روايته‪ ،‬حيث‬ ‫(ح�سين محمد عبيدات)‪� ،‬صور الخوف في �شعر‬ ‫و�أن��ا ي�سكنني الخوف من المنع من ال�سفر‪،‬‬
‫يهيمن الخوف من النظر �إل��ى �أي �شيء‪ ،‬ف�أي‬ ‫القرن الثالث الهجري (علي ر�ضوان)‪ ،‬الخوف‬ ‫وم��ن �شرطي ال��م��رور‪ ،‬وم��ن الذبحة ال�صدرية‬
‫�شيء في تلك البالد قادر على �أن ي�ؤذيك‪� ..‬إنها‬ ‫في ال�شعر العربي قبل الإ�سالم (جليل ح�سن‬ ‫وق�صف الرعد وانفجار البركان‪ ،‬ومن �أي فيلم‬
‫بالد تمت�ص �ساكنيها‪ ،‬في�ست�سلمون للموت‪،‬‬ ‫محمد)‪ ،‬ظاهرة الخوف في �شعر عبيد بن �أيوب‬ ‫لهيت�شكوك و�أي��ة رواي��ة لأغاثا كري�ستي‪ ،‬ومن‬
‫وعندئ ٍذ تعيد بالد الخوف تدوير �أج�ساد الموتى‬ ‫العنبري (نزيهة طه)‪ ،‬ظاهرة الخوف في �شعر‬ ‫�أن تفوز رواية لي بجائزة ومن �أ ّال تفوز‪ ،‬ومن‬
‫كوقود‪.‬‬ ‫الفرزدق (�أمل طاهر ن�صير)‪.‬‬ ‫موت �أمي ومن ال�سير على ال�صراط‪ ،‬ومن �صفعة‬
‫فال يفت�أ الخوف يتفجر في (دي�ستوبيا)‬ ‫وقد ُ�ضرب المثل بجبن الفرزدق وخوفه‬ ‫�أبي �أو �أ�ستاذي و‪ ..‬وتعددت الأ�سباب والأ�سماء‪،‬‬
‫ال��ع��دم‪� ،‬أي في رواي��ة ب��ول �أو�ستر ه��ذه‪ ،‬منذ‬ ‫حتى قيل فيه‪�( :‬أجبن من �صافر)‪ .‬ومما قال‬ ‫والخوف كالموت واحد‪ .‬لكل ذلك �صرت �ألهج‬
‫نزلت (�آنا) في �أر�ض العدم‪ ،‬بحث ًا عن �شقيقها‬ ‫معبراً عن خوفه من ال�سلطة‪ ،‬كما تمثلت في‬ ‫في يقظتي ونومي و�أحالمي‪� :‬أنا خائف‪� ..‬إذاً �أنا‬
‫ال�صحافي الذي اختفى‪ .‬وقد كان �أول ما القاها‬ ‫�شخ�صية الحجاج بن يو�سف الثقفي‪�( :‬إذا ما‬ ‫موجود‪.‬‬
‫ذلك ال�شاطئ الذي �صارت ظلمته �سواداً‪ ،‬ك�أن‬ ‫بدا الحجاج للنا�س �أطرقوا‪ /‬و�أُ�سكت منهم كل‬ ‫�أنا �أ�صدق القول‪ :‬الخوف هو الخيال‪ ،‬مثلما‬
‫ب�شره من العميان فقط‪ .‬ولأن �أل��وان و�أ�سباب‬ ‫ينطق‪ /‬وط��ارت قلوب النا�س �شرق ًا‬ ‫ُ‬ ‫من كان‬ ‫�أ�صدق القول‪ :‬العلم هو الخيال‪� ،‬أو‪ :‬الإبداع هو‬
‫الخوف بال بداية وال نهاية في �أر���ض العدم‪،‬‬ ‫ملقلق)‪ .‬ومن‬
‫ُ‬ ‫مهج�س �أو‬
‫ٌ‬ ‫ومغرب ًا‪ /‬فما النا�س �إال‬ ‫الخيال‪ ،‬وبالقدر نف�سه �أ�صدق محمود دروي�ش‬
‫�أذكر منها جزاف ًا‪� ،‬أن الخوف يعني �أن تظل تفكر‬ ‫الدرا�سات الأكاديمية المماثلة‪ ،‬التي تخ�ص�صت‬ ‫في قوله‪ :‬الخوف‪ ،‬ال العدل‪� ،‬أ�سا�س الملك‪ .‬وما‬
‫بنف�سك وحدك‪ ،‬فتمتلئ بالذعر والرهبة والخ�شية‬ ‫بدرا�سة ال��خ��وف عند �شاعر بعينه‪( :‬ظاهرة‬ ‫أ�صدق ل�سان العوام في حكمته ال�شعبية‬ ‫�أكثر ما � ّ‬
‫والهلع والجزع والفرق والرعب‪� ،‬إذ تح�سب �أن‬ ‫ال��خ��وف ف��ي �شعر النابغة الذبياني) لنافع‬ ‫التي ير�سلها في الغناء‪ .‬ومن الأمثلة الحديثة‬
‫كل ما يحدث �ضدك �شخ�صي ًا‪ ،‬وبالتالي‪� ،‬أو‬ ‫عبدالفتاح �صالح‪ ،‬و(ظاهرة الخوف في ال�شعر‪:‬‬ ‫التي ال ُتح�صى‪ ،‬هي ذي فيروز تجعل للخوف‬
‫بالمقابل تمتلئ بالحلم بعالم نقي�ض‪.‬‬ ‫ت�أبط �شراً) لعبدالعزيز محمد ال�شحادة‪.‬‬ ‫زه��راً‪( :‬يا زهر الخوف الـ عم ت�سهر ع بابي‪/‬‬
‫ه ��ذا ال��ع��ال��م النقي�ض‪ ،‬ع��ال��م الأح �ل�ام‪،‬‬ ‫�سمت العرب يوم الحرب بيوم الروع �أو‬ ‫لقد ّ‬ ‫اتركني ن��ام)‪ ،‬وتجعل فيروز للخوف �أر�ض ًا‬
‫يعود بك �إلى عالم الخوف‪ ،‬كما تر�سم رواية‬ ‫يوم الخوف‪ ،‬وو�صفت المقاتل الجبان بـ(طائر‬ ‫في �أغنيتها‪( :‬ال تهملني ال تن�ساني‪ /‬يا �شم�س‬
‫�إ�سماعيل كاداريه (ق�صر الأحالم)‪ ،‬وفيها يعمل‬ ‫القلب)‪ ،‬وعبرت عن �شدة الخوف بالقول (طارت‬
‫م��ارك عليم في م�ؤ�س�سة �سرية و�أخطبوطية‪،‬‬ ‫�شعاع ًا)‪ ،‬ومن ذلك البيت ال�شهير لقطري بن‬
‫و���س��وف يترقى (م���ارك) ف��ي ه��ذه الم�ؤ�س�سة‬ ‫الفجاءة‪�( :‬أق��ول لها وق��د ط��ارت �شعاع ًا‪ /‬من‬ ‫تتعدد �ألوان الخوف‬
‫�إل��ى �أن يتر�أ�سها‪ ..‬وه��ي التي تجمع �أح�لام‬ ‫الأبطال ويحك لن تراعي)‪� .‬أما ال�شاعر الذي �سكن‬ ‫وتعريفاته ومفهومه منها‬
‫الب�شر وت�صنفها وتحللها‪ ،‬فكل �شيء قائم‬ ‫الخوف حياته و�شعره‪ ،‬فهو ابن الرومي الذي‬
‫في الأح�لام‪ ،‬ولذلك يحا�سب الحالمون على‬ ‫طيرته الطيرة كما ذكر عبا�س محمود العقاد في‬
‫الذعر والرعب والفزع‬
‫ّ‬
‫�أحالمهم‪.‬‬ ‫كتابه عنه‪ ،‬والطيرة �شعبة من �شعب الخوف‪.‬‬ ‫والجزع وغيرها‬

‫‪75‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫تمتاز رواي��ات جبور الدويهي ب َن َف�س‬ ‫يقدم ما ي�شبه �سيرة خا�صة للبنان‬
‫جبور الدويهي‪..‬‬
‫�سردي طويل وبت�شعبات حكائية‪ ،‬حيث‬
‫ي�ستعرِ�ض تاريخ لبنان على م��دى قرن‬
‫�أو ي��زي��د‪ ،‬كما تت�سم رواي��ات��ه ب��وف��رة من‬
‫ال�شخو�ص‪� ،‬سواء الرئي�سيين �أو الثانويين‬
‫الذين يتجاوزون‪ ،‬في الأغلب‪ ،‬و�ضعياتهم‬ ‫وحاالت االغتراب الدائم‬
‫الفردية �إلى كونهم تمثي ًال ُلبنى و�شرائح‬
‫اجتماعية وثقافية‪ُ ،‬ت�ش ِّكل مزيج ًا متنوع ًا‬ ‫حمل م�شروع جبور الدويهي (‪2021 -1949‬م) ال�سردي‬
‫لل�شخ�صية اللبنانية والهوية القائمة على‬ ‫ال���ذي �ضم ت�سع رواي���ات ومجموعة ق�ص�صية واح��دة‬
‫المكونات‪ ،‬في ت�شكيل �سردي‬ ‫ِّ‬ ‫التعدد المائز‬
‫ُمح َكم‪.‬‬ ‫مالمح خا�صة وهوية مميزة‪� ،‬سواء في فن َّيات الكتابة‬
‫وثمة عناية م�ضاعفة بالمكان في‬ ‫�أو الهموم التي �شاغلته و�أبرزتها خطاباته ال�سردية‪.‬‬
‫�سرد جبور الدويهي‪ ،‬المكان الذي يتجاوز‬ ‫ب��دا الدويهي في مو�ضوعات رواي��ات��ه �شديد االهتمام‬
‫تفا�صيله المادية الملمو�سة �إلى تجلياته‬ ‫د‪ .‬ر�ضا عطية‬
‫بتقديم م��ا ي�شبه �سيرة خا�صة للبنان ف��ي تكوينه‬
‫الم�ش ِكل وهويته المتعددة العنا�صر والقلقة؛ فكانت رواي��ات��ه بمثابة النف�سية والروحية و�آث���اره في ال��ذوات‪،‬‬
‫وكذلك تاريخه وتحوالته عبر الزمان‪،‬‬
‫ُ‬
‫ا�ستعرا�ض ر�أ���س��ي لتاريخ الحالة اللبنانية‪ ،‬بما تموج ب��ه م��ن �صراعات فثمة بطولة خا�صة للمكان في رواي��ات‬
‫على م�سار تاريخي وتعددية عرقية وطائفية على �صعيد اجتماعي‪ .‬الدويهي‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪76‬‬


‫�سرد‬

‫�أب���رز م��ا ُي��م� ِّ�ي��ز �أح����وال ال�شخو�ص في‬


‫روايات جبور الدويهي حالة االغتراب الدائم‬
‫الذي يعي�شونه‪ ،‬والقلق الم�ستدام في المكان‪،‬‬
‫فتبدو الذوات في حالة متاهة وجودية كبرى‬
‫في المكان وعبر ال��زم��ان‪ ،‬ليعي�شوا م�أ�ساة‬
‫م�ستمرة و�ضياع ًا متجدداً في عالم ال يجدون‬
‫�أنف�سهم فيه‪ ،‬ليبقوا في �شتات ال ينتهي‪ .‬و�أبرز‬
‫ال��ح��االت التي تر�صدها خطابات الدويهي‬
‫ال�سردية كتمثيل لالغتراب الهجر ُة التي يلج�أ‬
‫�إليها الكثير من �شخ�صياته ورواياته‪ ،‬تعبيراً‬
‫عن �إح�سا�س ال��ذوات بغربة في وطنهم الذي‬
‫لم تكفل الحياة فيه �أحالمهم بالعي�ش الآمن‬
‫واال�ستقرار فيه؛ كما في رواية (مطر حزيران)‪:‬‬
‫كثر من جيل فريد �سافروا‪ .‬منهم َمن تع َّذب‬
‫كثيراً‪ ،‬ذهبوا وحدهم على بركة اهلل دون قريب‬
‫مطعم للوجبات ال�سريعة في �إحدى �ضواحي‬ ‫ي�ستقبلهم هناك‪ .‬منهم َمن نام في العراء في‬
‫المدينة‪.‬‬ ‫الأي��ام الأول ��ى‪ ،‬ف��وق مقاعد الكني�سة �أو في‬
‫قدم الدويهي‪ ،‬الكثير من �أبطال رواياته‬ ‫ُي ِّ‬ ‫حديقة عامة‪.‬‬
‫ذوات��� ًا م���أزوم��ة‪ ،‬يعانون انف�صام ًا ح��اداً‪،‬‬ ‫تك�شف م�أ�ساة الهجرة المجهولة الم�صير‪،‬‬
‫وال ينفعهم تبديل مكان ب�آخر‪ ،‬كما يبقون‬ ‫التي كان ال�شباب اللبناني يلج�أ �إليها في‬
‫وما�ض مرير يطاردهم‬ ‫ٍ‬ ‫�أ�سرى ذكريات �أليمة‬ ‫�أوا���س��ط القرن الع�شرين عن �إح�سا�س عارم‬
‫�أينما ذهبوا‪ ،‬فحالة الإخفاق وانعدام التحقق‬ ‫بالمنفى في الوطن‪ ،‬ما ُيجبِر ال�شباب على‬
‫تالزمهم حتى في مكانهم الآخر‪ .‬كذلك تبدو‬ ‫ال��ف��رار منه‪ ،‬واالرت�����ض��اء بحياة دون��ي��ة في‬
‫يقدم وطنه لبنان‬ ‫�أف��ع��ال ال�شخو�ص ف��ي حكي ال��دوي��ه��ي ذات‬ ‫المهجر‪ ،‬وفيما يبدو ف� َّإن �شخ�صيات روايات‬
‫الم�شكِ ل‬
‫في تكوينه ُ‬ ‫دالالت رم��زي��ة؛ كفعل الم�شي ف��ي المكان‬ ‫الدويهي‪ ،‬ال ت�أتي تمثيالت فردية‪ ،‬بل تعبيراً‬
‫وهويته وتعدد‬ ‫الآخر دون هوادة‪ ،‬الذي يبدو دلي ًال على عدم‬ ‫عن �أجيال‪ ،‬فثمة توا�شج ظاهر بين الفردي‬
‫عنا�صر القلق فيه‬ ‫ا�ستقرار ال��ذات في مكان ما‪ .‬كذلك يتخطى‬ ‫والجماعي‪ ،‬وال��ذات��ي وال��ع��ام ف��ي �سرديات‬
‫حكي الدويهي وت�صديره لأف��ع��ال و�أح ��وال‬ ‫الدويهي‪.‬‬
‫�شخ�صياته الو�ضعية الآنية متجاوزاً �إياها‬ ‫غير � َّأن الإح�سا�س بال�ضياع وال�شعور‬
‫�إلى �إح��االت تاريخية‪ ،‬كما‪ ،‬هنا‪ ،‬في الربط‪،‬‬ ‫ب��االغ��ت��راب يظل ي�لاح��ق �شخو�ص رواي��ات‬
‫عبر وعي ال�شخ�صية‪�( ،‬إيليا)‪ ،‬بين الف�شل في‬ ‫الدويهي و�أبطال حكاياته‪ ،‬حتى في مكانهم‬
‫درا�سة الهند�سة في الجامعة ب�أمريكا وعدم‬ ‫الآخر‪ ،‬مهجرهم الذي فروا �إليه‪ ،‬كما هو حال‬
‫تقبله درو���س الفيزياء في مدر�سته بمكانه‬ ‫ُّ‬ ‫(�إيليا)‪ ،‬بطل رواية (مطر حزيران)‪ :‬انطلق �إيليا‬
‫الأول‪ ،‬بلدته بوطنه‪ ،‬فدائم ًا ما تكون هذه‬ ‫في نيويورك دون هوادة‪ .‬لع�شرين عام ًا ويزيد‪،‬‬
‫الج�سور الممتدة عبر الزمان والمكان في �سرد‬ ‫كالأطفال ال�صغار‪ ،‬اكت�شف لذة ال�سير وحده‪،‬‬
‫تمتاز رواياته‬ ‫الدويهي‪.‬‬ ‫ف��راح ي�ستمتع بها حتى الثمالة‪ .‬ا�ستمتاع‬
‫في روايات الدويهي‪ ،‬تعلو �إ�شكالية الهوية‬ ‫ال�سابح بالماء‪ .‬هكذا لم ين�ضبط �أكثر من‬
‫ب َن َف�س �سردي طويل‬ ‫في خطاباته ال�سردية؛ حيث ت�شعر الذوات بقلق‬ ‫�شهر واح��د في �صف الهند�سة الميكانيكية‬
‫وت�شعبات حكائية‬ ‫الهوية‪ ،‬في مجتمع ال يكاد يخرج من �آثار‬ ‫في الجامعة‪ ،‬حيث ت�سجل فور و�صوله وفق‬
‫عدوان خارجي‪ ،‬وو�صاية �أجنبية عليه‪ ،‬حتى‬ ‫المخطط الأ�صلي لدرا�سته‪� ،‬إذ �سرعان ما‬
‫يدخل في حروب �أهلية واح��دة تلو الأخ��رى‪.‬‬ ‫ذكرته المحا�ضرات التي كان يلقيها �أ�ساتذة‬ ‫ّ‬
‫مجتمع قائم على التعددية والتمايزات الحادة‬ ‫يعلوهم الغبار بدرو�س الفيزياء البليدة في‬
‫بين طوائفه‪.‬‬ ‫المدر�سة‪ .‬فانقطع عن الجامعة وانتقل‪ ،‬ودون‬
‫وم��ن تجليات �إ�شكالية ال��ه��وي��ة‪ ،‬التي‬ ‫مبوب في‬ ‫حاجة مادية وب�سبب �إعالن �صغير َّ‬
‫يبرزها جبور الدويهي اعتبار من هو خارج‬ ‫�إح��دى ُ�صحف مترو الأنفاق‪� ،‬إل��ى العمل في‬

‫‪77‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫يومئ دائم ًا بقول ال‪ ،‬من با�ص للنقل الم�شترك‬
‫ُل�صق على جانبيه �إعالن (ال تن�سوا المخطوفين‬
‫ومعوقي الحرب)‪ ،‬وهو يحمل‬ ‫ّ‬ ‫والمغيبين ق�سراً‬
‫ّ‬
‫�إلى جهة القلب من �صدره دفتراً �سميك ًا غالفه‬
‫تت�سم �أحداث‬ ‫�أحمر‪ ،‬كمن يع ّلق بعنقه يداً م�صابة بك�سر �أو‬
‫رواياته بكثرة‬ ‫بطلق ن��اري‪ .‬يندفع �ضارب ًا الر�صيف بكعب‬
‫ال�شخو�ص الرئي�سيين‬ ‫حذائه الجديد‪ ،‬فبدت �أ�شجار الأر�صفة الذابلة‬
‫والمارة البطيئو الم�سير‪ ،‬ك�أ ّنهم عوائق تقف‬ ‫ّ‬
‫�أو الثانويين‬ ‫الملحة‪ .‬يدخل عمارة تزين‬ ‫مقا�صده‬ ‫وجه‬ ‫في‬
‫ّ‬
‫واجهتها منحوتة من البازلت الداكن �أ�صابتها‬
‫يوم ًا قذيفة مدفعية �ضاعفت من طابعها‬
‫التجريدي‪.‬‬
‫تبدو من الإ�شارات الب�سيطة حول المكان‬
‫علوق �آثار الحرب الأهلية به‪ ،‬على الرغم من‬
‫مرور ما يزيد على ربع قرن على انق�ضائها‪،‬‬ ‫البلدة غريب ًا‪ ،‬في مجتمع منق�سم‪ ،‬يت�ش َّكل من‬
‫يعتني بالمكان الذي‬ ‫(جيتوهات) تكاد تكون مغلقة‪ ،‬كما في رواية‬
‫ما يعك�س ا�ستمرار ال�شعور بالوجع و�آالم‬
‫يتجاوز تفا�صيله‬ ‫الحرب في ال�شخ�صية الجمعية اللبنانية‪� .‬أما‬ ‫(مطر حزيران)‪:‬‬
‫الملمو�سة �إلى‬ ‫في الو�صف ال�سردي لآثار الحرب في المكان‬ ‫يحمل ه�ؤالء الداخلون علينا ما يدل عليهم‬
‫تجلياته الروحية‬ ‫بو�صف �آثار تلك القذيفة ب�أ َّنها قد �ضاعفت من‬ ‫وعلى غربتهم ما �إن يتكلموا‪ .‬فالغريب ت�شي‬
‫والنف�سية‬ ‫الطابع التجريدي لواجهة العمارة‪ ،‬فيتبدى‬ ‫به �أو ًال لهجته وهي عموم ًا م�ضحكة‪ ،‬ونحن‬
‫مبطن ب�شعور الذع بالمرارة‪.‬‬ ‫ح�س تهكمي َّ‬ ‫ن�ستغرب كثيراً‪ ،‬كيف ت�صبح �أحيان ًا لهجة‬
‫مبطن‬
‫كما يتبدى � َّأن وعي ال��ذوات بالمكان َّ‬ ‫واح��د منا‪ ،‬اب��ن عم �أو ج��ار‪� ،‬أم�ضى �سنة �أو‬
‫ب�شعورهم النف�سي كما في تم ُّثل الأ�شجار‬ ‫�سنتين في مدر�سة قريبة من العا�صمة‪ ،‬تتغير‬
‫التي هي عالمة على الحياة وتجددها ذابلة‪،‬‬ ‫لهجته لت�صبح �أقرب �إلى كالم (البيارتة)‪� ،‬أو‬
‫وكونها والمارة بمثابة عوائق تقف في وجه‬ ‫(�أهل ك�سروان)‪ .‬وتلك لهجات ُيلحقون ب�آخر‬
‫كلماتهم ح��رف ال�شين‪� ،‬أو يلفظون القاف‬
‫كاملة على غرار �أهل ال�شوف‪.‬‬
‫�إذا كانت اللغة هي �أداة ال��ذات للتعبير‬
‫ع��ن ال��وع��ي بالعالم‪ ،‬وك��ذل��ك بنف�سها‪ ،‬ف �� َّإن‬
‫التمايزات اللغوية في المجتمع هي تجليات‬
‫لخ�صو�صيات وتكوينات اجتماعية ع�شائرية‬
‫وقبلية‪ .‬كما يك�شف هذا التمايز اللغوي وما‬
‫ينجم عن تعدد اللهجات في المجتمع اللبناني‬
‫من �آث��ار مجتمعية �سلبية؛ كال�سخرية من‬
‫لهجة (المختلف)‪� ،‬أو (الغريب) عن حالة من‬
‫ا�ضطراب الهوية والتم ُّزق االجتماعي‪ ،‬وك� َّأن‬
‫(الآخ��ر هو الجحيم)‪ ،‬حالة من فقدان الثقة‬
‫في الآخر والعداء نحوه واالرتياب فيه‪ ،‬ثمة‬
‫ع�صبية ت�ؤجج االحتقان االجتماعي‪ ،‬وتبدو‬
‫�آثار الحرب الأهلية اللبنانية وا�ضحة في �سرد‬
‫(الدويهي)‪� ،‬سواء ب�شكل مبا�شر �أو غير مبا�شر‪،‬‬
‫كما في روايته‪( ،‬طُ بِع في بيروت)‪:‬‬
‫ا�ستبد بمدينة بيروت‬ ‫َّ‬ ‫في ع ّز �صيف الهب‪،‬‬
‫في العقد الثاني من القرن الواحد والع�شرين‪،‬‬
‫المقو�سين ك�أ َّنه‬
‫َّ‬ ‫نزل �شاب مرفوع الحاجبين‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪78‬‬


‫�سرد‬

‫ذل��ك العابر نحو هدفه‪� ،‬إ َّنما يعك�س �شعوراً‬


‫بمعاك�سة المكان البيروتي لل�ساعي فيه نحو‬
‫تحقيق غايته‪.‬‬
‫في �سرد جبور الدويهي‪ ،‬مع المراوحات‬
‫المكانية‪ ،‬في م�سارح حكايته الروائية‪ ،‬بين‬
‫ف�ضاءات قروية و�أخ��رى مدينية‪� ،‬إال � َّأن ثمة‬
‫عناية وا�ضحة باختيار عديد من الأماكن‬
‫الهام�شية والنائية‪ ،‬كقرى في �أطراف لبنان �أو‬
‫�أحياء فقيرة‪ ،‬كم�سرح ل�سرده‪.‬‬
‫وي�ستعر�ض جبور الدويهي في روايته‪،‬‬
‫هم�ش ًا في م�آ�سيه‬‫(حي الأمريكان) حي ًا فقيراً ُم َّ‬
‫ومعاناة �أهله‪ :‬انك�شفت ال�سماء قلي ًال‪ ،‬مياه‬
‫العا�صفة الت ��زال ت�سيل على الأدراج رغم‬
‫انفراج ال�سماء‪ ،‬تجرف نفايات الأحياء العليا‬
‫وتبعثرها في �أرجاء حي الأمريكان بالت�ساوي‪.‬‬
‫بيروت في ال�سبعينيات‬ ‫تالمذة في ال�صفوف الأولى ي�صعدون �شرذم ًة‬
‫عك�س ال��م��اء‪ ،‬يخبطون �أرجلهم فرحين في‬
‫البرك ال�صغيرة الو�سخة‪ ،‬كي ي�صيبهم الرذاذ‬
‫في وجوههم وي�صيب رفاقهم‪.‬‬
‫ك� َّأن ال�سرد من خالل م�شهد المطر ومياه‬
‫العا�صفة ُي��ب��رز معاناة ه��ذا الحي الفقير‪،‬‬
‫ح��ي الأم��ري��ك��ان‪ ،‬ال��ذي يبدو ا�سمه بمثابة‬
‫مفارقة ال ت��دل على حاله المتدني‪ .‬ويكثر‬
‫في �سرد (الدويهي) تلك الم�شاهد التي تبرز‬
‫حركات العابرين والمجموعات في موقف‬
‫ما؛ كالتالمذة الذين يخو�ضون عك�س اتجاه‬
‫من رواياته‬ ‫المياه مجتازين البرك ال�صغيرة‪ ،‬كذلك ثمة‬
‫ثم يطويها‪ ،‬ويرد بها ال�شم�س عن ر�أ�سه‬ ‫وقوف ًا َ‬ ‫اعتماد على توظيف جماليات القبح‪ ،‬بمفهوم‬
‫في ال��دروب ال�ضيقة‪ .‬يعرف �أه��ل بلدته من‬ ‫�إمبرتو �إيكو‪ ،‬في تمثيل بح�س م�أ�ساوي رهيف‬
‫وجوههم‪ ،‬من ر�ؤو�سهم ونبرة �أ�صواتهم ولو‬ ‫هم�شين من النماذج التي‬ ‫الم َّ‬‫لمعاناة ه�ؤالء ُ‬
‫اللحام‬
‫ُول��دوا في غيابه‪ .‬يرمي ال�سالم على ّ‬ ‫قدمها الدويهي ف��ي ���س��رده‪ ،‬حيث تح�ضر‬ ‫ُي ِّ‬
‫ال��ب��دي��ن‪ ،‬وال��ث��رث��ار ال ��ذي ورث مهنة وال��ده‬ ‫كثيراً عمليات المجاز والعبور التي يقوم بها‬
‫ومفرداته‪ .‬يطيل الوقوف بباب �صاحبة الفرن‪،‬‬ ‫�أبطال حكيه من مكان �إلى �آخر‪ :‬من حي �إلى‬
‫التي التزال ت�صنع القطايف بال�س ّكر والخبز‬ ‫حي �آخر مجاور‪ ،‬من بلدة �إلى �أخرى‪ ،‬مجلي ًا‬
‫العربي‪ .‬ت�س�أله ماذا تريد‪ ،‬فيبت�سم في وجهها‬ ‫الخ�صو�صيات االجتماعية ال�شديدة والع�صبية‬
‫يعتمد على توظيف‬ ‫ِ‬
‫(�سالمتك)‪.‬‬ ‫ابت�سامة محبة‪:‬‬ ‫التي ُتهيمن على المجتمع اللبناني‪ ،‬ثمة‬
‫جماليات القبح‬ ‫في �سرد جبور الدويهي‪ ،‬تتجلى �شعرية‬ ‫عناية بحركة ال��ذوات في المكان‪ ،‬كما في‬
‫بح�س �إن�ساني م�أ�ساوي‬ ‫الأ���ش��ي��اء والتفا�صيل ال�صغيرة واللفتات‬ ‫رواية (ملك الهند)؛ �إذ ي�ستعرِ�ض مرور (زكريا‬
‫الدقيقة‪ ،‬التي تحمل �أبعاداً داللية؛ حيث يعمل‬ ‫مبارك)‪ ،‬بطل حكايته العائد �إلى بلدته‪( ،‬تل‬
‫في هند�سة م�شاهده ال�سردية‪ ،‬على العناية‬ ‫ال�صفرا)‪ ،‬مجتازاً �صوب �ساحة البلدة‪ :‬يم�شي‬
‫بخلفيات الم�شهد المحكي‪ ،‬من حيث الأ�شياء‬ ‫تمتد �أمامه الطريق و�سط‬ ‫�صوب �ساحة البلدة‪ُّ ،‬‬
‫�أو الأ�شخا�ص العابرين‪� ،‬أو الفواعل الثانويين‬ ‫المق�صب و�أ�شجار الحور‪ .‬ي�سير‬ ‫ّ‬ ‫بيوت الحجر‬
‫في �أحداث ال�سرد‪ ،‬ما يمنح �سرده الذي تغلب‬ ‫على مهل‪ .‬يدو�س على ذاكرته في �صباح يوم‬
‫عليه فنيات ال�سينما‪ ،‬حيث حركة الكاميرا‬ ‫يتهرب من‬ ‫�سما�ؤه �صافية و�شم�سه المعة‪.‬‬
‫َّ‬
‫و�إيقاعات ال�صور والم�شاهد حيوية ومتدفقة‪.‬‬ ‫ف�ضول بائع الجرائد‪ ،‬يت�ص َّفح (الدايلي �ستار)‬

‫‪79‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫ممدوح عدوان‬
‫الأكثر مرح ًا وجدية‬
‫فرحان بلبل‬

‫المعبر الحقيقي عن الألم النف�سي العربي من‬ ‫ِّ‬ ‫َمن عرف ممدوح عدوان– رحمه اللـه–‬
‫النك�سة التي جاءت �صاعقة‪ ،‬فجاء ال�شعر فيها‬ ‫كان يعجب من �أمور فيه‪ ،‬ف�ضحكته المجلجلة‬
‫�صاعق ًا‪ ،‬وكان ممدوح في هذه المرحلة من‬ ‫كانت تنبئ عن وج��وده في �أي مكان توجد‬
‫�أكثر ال�شعراء ق�سوة وعنف ًا في الحديث عن‬ ‫فيه‪ ،‬وم�سارعته �إل��ى النكتة البريئة التي‬
‫النك�سة وم�سببيها‪ ،‬فكانت �صاالت المراكز‬ ‫تدعوك �إل��ى ال�ضحك كانت ت�شد �أ�صدقاءه‬
‫الثقافية تمتلئ بالح�ضور في تجاوب هائل‬ ‫�إل��ي��ه‪ ،‬وتلبيته لكل م��ن يطلب منه حاج ًة‬
‫مع �شعره‪ ،‬ولعب �إلقا�ؤه الجميل دوراً مهم ًا في‬ ‫م�شهور ٌة بين من يعرفه‪ ،‬وكان يحب ال�سهر‬
‫تعزيز معانيه وغر�سها في النفو�س والعقول‪،‬‬ ‫مع الأ�صدقاء في �سمر قد يمتد �إلى �ساعات‬
‫و�أنا �شاهد على ت�أثيره ال�صاعق هذا‪.‬‬ ‫ال�صباح الأولى‪ ،‬لكن ما ال يعرفه الكثيرون‪،‬‬
‫ويبدو �أن ال�شعر وحده لم يكن قادراً على‬ ‫�أن هذا الرجل المرح من �أكثر الرجال جِ ِّدي ًة‬
‫�أن ي�ستوعب غ�ضبه و�ألمه من النك�سة‪ ،‬فالتفت‬ ‫في عمله‪ ،‬ف�أنجز في حياته �شعراً وم�سرح ًا‬
‫�ضحكته المجلجلة‬ ‫منذ ع��ام (‪� )1970‬إل��ى الم�سرح مع ال�شعر‪،‬‬ ‫وترجمات وف��ي��رة‪ ،‬وع ��دداً م��ن الم�سل�سالت‬
‫كانت تنبئ عن‬ ‫وكانت (محاكمة الرجل ال��ذي لم يحارب)‬ ‫التلفزيونية‪ ،‬فلما مر�ض مر�ضه الخطير غاب‬
‫وجوده في المكان‬ ‫�أول م�سرحية كتبها‪ ،‬ثم �أتبعها بم�سرحية‬ ‫في العالج‪ ،‬ثم �إذا بي �أ�سمع �ضحكته ال�صاخبة‬
‫(كيف تركت ال�سيف)‪ ،‬ثم تتالت م�سرحياته‬ ‫في �أبهاء المعهد العالي للفنون الم�سرحية‪،‬‬
‫فيما بعد حتى وفاته‪ ،‬وكان م�سرحه نموذج ًا‬ ‫وكنا �أ�ساتذة فيه‪ ،‬ف�أ�سرعت �إليه‪ ،‬والتقينا‬
‫كام ًال عن (الم�سرح ال�سيا�سي) الذي �شاع في‬ ‫ك�أنه لم يمر�ض وك�أنني لم �أ�سمع بمر�ضه‪،‬‬
‫�أول �سبعينيات القرن الع�شرين وا�ستمر فيه‬ ‫وعندما �أقيم حفل تكريمه في المركز الثقافي‬
‫في جميع ما كتبه‪ ،‬ودليل ذلك �أن مو�ضوع‬ ‫في م�صياف‪ ،‬كنت واحداً من المتكلمين عنه‪،‬‬
‫الندوة الفكرية في الدورة الثالثة �أو الرابعة‬ ‫تبادلنا الغمزات واالبت�سامات‪ ،‬وبعد �أ�سبوع‬
‫لمهرجان دم�شق الم�سرحي‪ ،‬كانت عن (م�سرح‬ ‫قيل‪ :‬مات ممدوح عدوان‪.‬‬
‫الطليعة)‪ ،‬لكن ال�ضيوف العرب رف�ضوا هذا‬ ‫و�إذا كان قد بد�أ حياته الأدبية بمحاولة‬
‫المو�ضوع مع �أنهم كانوا قد كتبوا �أبحاثهم‬ ‫م�سرحية �شعرية في (المخا�ض)‪ ،‬ف�إن نك�سة‬
‫فيه‪ ،‬وطلبوا �أن يكون (الم�سرح ال�سيا�سي)‬ ‫حزيران ع��ام (‪ )1967‬جعلته يكتب ال�شعر‬
‫مو�ضوع ًا ل��ل��ن��دوة‪ ،‬وك��ان ذل��ك‪ ،‬وك��ان ذلك‬ ‫فقط‪ ،‬ي�صول فيه ويجول غا�ضب ًا متمرداً �ش�أنه‬
‫�أي�ض ًا دلي ًال على �أن الم�سرح العربي في ذلك‬ ‫�ش�أن �أقرانه من ال�شعراء ال�سوريين والعرب‪.‬‬
‫العقد الفريد من القرن الع�شرين كان غارق ًا‬ ‫و�شعر هذه المرحلة عند ممدوح وغيره‪ ،‬كان‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪80‬‬


‫تفاعل‬

‫من هرمية الحكم‪� ،‬صحيح �أن عدداً كبيراً من‬ ‫في ال�سيا�سة �إل��ى �أذن��ي��ه‪ ،‬وم��ع �أن الم�سرح‬
‫الم�سرحيات‪ ،‬تاريخية ت�ضيع �صراحتها �ضمن‬ ‫ال�سيا�سي بزخمه الذي كان له قد تراجع بعد‬
‫�سل�سلة من الت�أويالت حتى تتطابق مفرداتها‬ ‫عدة �سنوات‪ ،‬ف�إن ممدوح عدوان ظل متعلق ًا‬
‫مع مفردات الواقع‪� ،‬أما هذه الم�سرحية؛ فذات‬ ‫به حتى نهاية حياته‪.‬‬
‫كتب ال�شعر بعد‬ ‫حدث واقعي ا�ستمد �أحداثه من وقائع حياتية‬ ‫وال �أع���رف ك��ات��ب� ًا ع��رب��ي� ًا ق ��ارع ب��ج��ر�أة‬
‫نك�سة (‪� )١٩٦٧‬صائ ً‬
‫ال‬ ‫هي ذاتها التي تجري في ال�سراديب‪ ..‬ومع �أن‬ ‫وق�سوة ودخل في تفا�صيل الإج��راءات التي‬
‫جائ ً‬ ‫الكاتب جعلها ت�سبح في العمومية‪ ،‬فلم يحدد‬ ‫ت�ؤدي �إلى اال�ضطهاد والتجويع والإفقار كما‬
‫ال متمرداً �ش�أنه‬ ‫بلداً ولم يحدد عدواً‪ ،‬ف�إن هذه العمومية ت�ضع‬ ‫فعل ممدوح عدوان‪.‬‬
‫�ش�أن �أقرانه‬ ‫الجميع في قف�ص الو�صف والتحليل‪.‬‬ ‫وق���د ك��ت��ب ج��م��ي��ع �أن�����واع الم�سرحية‪:‬‬
‫وب��ع��دم��ا خ��ا���ض م��م��دوح ف��ي ال�����ش ��أن‬ ‫من المونودراما ذات الممثل ال��واح��د‪� ،‬إلى‬
‫الفل�سطيني والأنظمة موزع ًا غ�ضبه على من‬ ‫الم�سرحية ذات الح�شود ال�ضخمة‪ .‬وا�ستفاد من‬
‫ي�ستحق‪ ،‬التفت �إلى الواقع االجتماعي‪ ،‬وكما‬ ‫التاريخ العربي ومن التراث الأجنبي‪ ،‬ومن‬
‫ك��ان جريئ ًا ف��ي ت�صوير واق��ع الأم ��ة‪ ،‬كان‬ ‫�أح��داث الواقع وا�صطناع واقع متخيل‪ ،‬وقد‬
‫جريئ ًا في ت�صويره للواقع االجتماعي بما‬ ‫ي�صب غ�ضبه‬ ‫َّ‬ ‫نوع في م�صادره و�أ�ساليبه لكي‬ ‫َّ‬
‫فيه من فقر وف�ساد‪ ،‬وقد تناول هذا المو�ضوع‬ ‫الذي لم يفتر �أو ي�ضعف‪ ،‬ومع �أنه ترك مو�ضوع‬
‫في م�سرحياته (حكايات الملوك) و(الخدامة)‬ ‫النك�سة في م�سرحياته التي تلت (كيف تركت‬
‫و(الزبال) و(�أكلة لحوم الب�شر)‪.‬‬ ‫ال�سيف)‪ ،‬ف�إنه ال تكاد م�سرحية له تخلو من‬
‫�أول م�سرحية كتبها‬ ‫وعندما كتب (كيف تركت ال�سيف) و(ليل‬ ‫الإ�شارة �إليها‪ ،‬وال تكاد هذه الإ�شارة تخلو من‬
‫كانت (محكمة‬ ‫العبيد) كان يق�صد �إلى ما يق�صده الك ّتاب‬ ‫�ألم يوجعه ويوجع المهزومين‪ ،‬فك�أنها الجرح‬
‫الرجل الذي لم‬ ‫ال��ع��رب منذ ب��داي��ة ن�ش�أة الم�سرح العربي‬ ‫الذي لم يندمل عنده �أبداً‪.‬‬
‫يحارب) �أتبعها‬ ‫�إلى اليوم حينما ي�ستمدون مو�ضوعهم من‬ ‫و�إذا كانت النك�سة هي التي �أعادت ممدوح‬
‫التراث �أو التاريخ‪ ،‬وهذا الق�صد كان من�صب ًا‬ ‫عدوان �إلى الم�سرح؛ فمن الطبيعي �أن يلتفت‬
‫بم�سرحية (كيف‬
‫في نقطة واح��دة هي جعل التاريخ �أمثولة‬ ‫�إلى ق�ضية فل�سطين التي هي مدار الحرب‪ ،‬وقد‬
‫تركت ال�سيف)‬ ‫للحا�ضر‪ ،‬وكانت هذه العودة مقت�صرة على‬ ‫تناول هذا المو�ضوع في م�سرحيتين‪( ،‬لو كنت‬
‫�أمر واحد هو التحري�ض على اليقظة القومية‬ ‫فل�سطيني ًا)‪ ،‬و(القيامة)‪.‬‬
‫ومقارعة الم�ستعمر الأجنبي‪ ،‬ثم تحولت �إلى‬ ‫وجرته فل�سطين والخراب الداخلي �إلى‬
‫معالجة ق�ضايا المجتمع‪ ،‬وبذلك لم يق�صد‬ ‫ت�صوير الواقع ال��ذي �أدى �إل��ى هذا الخراب‪،‬‬
‫الك ّتاب الم�سرحيون العرب �إلى �إعادة النظر‬ ‫فر�صد هذا الواقع في �أرب��ع م�سرحيات هي‪:‬‬
‫ف��ي �أح ��داث ال��ت��اري��خ‪ ،‬وم��م��دوح ف��ي هاتين‬ ‫(هملت ي�ستيقظ مت�أخراً) و(زي ��ارة الملكة)‬
‫الم�سرحيتين ك��ان يق�صد الق�صد نف�سه‪،‬‬ ‫و(الوحو�ش ال تغني) و(القب�ض على طريف‬
‫لكنه ر�أى �أن طريق الو�صول �إلى المعا�صرة‬ ‫الحادي)‪.‬‬
‫تم�سك بق�ضية‬ ‫تكون في �إعادة كتابة التاريخ نف�سه‪ ،‬و�إذا‬ ‫في هذه الم�سرحيات الأربع تتجلى �أبلغ‬
‫ب��ه ينت�صر لفئة م��ن الم�ؤرخين وي�ستنكر‬ ‫مظاهر الم�سرح الواقعي عنده‪ ،‬وه��و فيها‬
‫فل�سطين ونجح‬ ‫فئة‪ ،‬وهو لم يق�صد من ذلك �أن ينت�صر لر�أي‬ ‫ال يتحدث ع��ن �أ���ش��ك��ال الحكم وخ�صائ�ص‬
‫في ت�صوير الواقع‬ ‫مذهبي �أو �سيا�سي قديم‪ ،‬بل كان يريد �أن‬ ‫الحكومات‪ ،‬بل ير�صد الأفعال و�أثر ذلك في‬
‫العربي الأليم‬ ‫يجرح كل انتماء‪ ،‬و�أن يف�ضح �أخطار التفاوت‬ ‫الرعية‪ ،‬وفي هذا الق�سم تبلغ جر�أته وو�ضوحه‬
‫الطبقي في تعنيف وت�شهير يدالن على مدى‬ ‫ذروت��ه��م��ا‪ ،‬فيك�شف �أم��ام��ك ال��واق��ع ع��اري� ًا‬
‫�ألمه من من الفقر والجوع‪.‬‬ ‫مف�ضوح ًا ‪.‬‬
‫رحم اللـه �صديق العمر ممدوح ع��دوان‪،‬‬ ‫وم�سرحية (زي��ارة الملكة)‪ ،‬تكاد تكون‬
‫فقد كان �شهاب ًا المع ًا في ال�شعر والم�سرح‪.‬‬ ‫الوحيدة بين الم�سرحيات العربية التي اقتربت‬

‫‪81‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�شكلت ق�صيدته غناء للوطن الجميل‬

‫محمد الطوبي‪..‬‬
‫ال�شاعر المتفرد المن�سي‬
‫لقد َت َم َّكن الراحل عنا ُم َب ِّكراً (‪-1955‬‬ ‫ُي��� َ��ش��كِّ��ل ���ص��وت ال�����ش��اع��ر ال��م��غ��رب��ي م��ح��م��د ال��ط��وب��ي‬
‫‪ )2004‬ابن مدينة القنيطرة التي �أنجبت‬
‫الأدب��اء والق�صا�صين والنقاد‪ ،‬من �أمثال‬
‫وح�����ده ات���ج���اه��� ًا ���ش��ع��ري�� ًا ا���س��ت��ث��ن��ائ��ي��اً‪ ،‬ف���ي ���ص��دى‬
‫محمد زف�����زاف‪ ،‬و�إب��راه��ي��م ال�����س��والم��ي‪،‬‬ ‫الق�صيدة العربية المعا�صرة‪ ،‬نظر ًا لعزفه المنفرد‬
‫والعربي بن جلون‪ ،‬وعبدالرحيم م��ودن‪،‬‬ ‫المتميز بالتراكم ال�شعري الملحوظ‪ ،‬ال��ذي يناهز‬
‫و�إدري�س ال�صغير‪ ،‬ومحمد �سعيد �سو�سان‪،‬‬ ‫�سبعة ع�����ش��ر دي���وان��� ًا ن��ذك��ر م��ن��ه��ا (���س��ي��دة التطريز‬
‫والم�صطفى كليتي‪ ،‬م��ن ف��ر���ض �صوته‬ ‫د‪ .‬يحيى عمارة‬
‫بالياقوت‪� ،‬صعود ًا �أن��ادي��ك �سهواً‪� ،‬صبوات المجنون‪،‬‬
‫ال�شعري في الم�شهد الإبداعي العربي‪ ،‬حيث‬
‫ن�شر في عدة مجالت عربية ذائعة ال�صيت‪،‬‬
‫تجربة الإك��ل��ي��ل ف��ي كمنجات ال��خ��ري��ف)‪ ،‬ول��وف��ائ��ه الجمالي الملتزم‬
‫بمكونات ال�شعر ال��ح��ر ال��م��وزون ببنيات �شكلية وجمالية مختلفة‪ .‬م��ن �أم��ث��ال الآداب‪ ،‬وم��واق��ف‪ ،‬والكرمل‪،‬‬
‫و�آفاق‪ ،‬و�إبداع الم�صرية؛ و�شارك في �أعظم‬
‫المهرجانات ال�شعرية العربية‪ ،‬على الرغم‬
‫من عدم االلتفات �إلى تجربته في مجموعة‬
‫م��ن ال��درا���س��ات والأب��ح��اث‪ ،‬التي ناق�شت‬
‫خ�صائ�ص جيله‪� ،‬إما �إغفا ًال مق�صوداً ب�سبب‬
‫حبه للحياة الم�شاك�سة التي تحيا جنون‬
‫الإب��داع في كل تفا�صيل الحياة اليومية‪،‬‬
‫كما هو م�شهور لدى عظماء الإبداع والفن‪،‬‬
‫و�إم��ا وجود �صعوبة في ا�ستيعاب مفهوم‬
‫ال�شعر لدى �شاعرنا نتيجة اكتفائه طوال‬
‫حياته ب�إبداع الق�صيدة‪ ،‬دون الحديث عن‬
‫تحديد مرجعياته المعرفية والمفاهيمية‬
‫والجمالية التي كانت وراء كتابته للق�صيدة‬
‫بالطريقة التي ك��ان يريد �أن تولد بها‪.‬‬
‫فمن نوادر محمد الطوبي‪� ،‬أنه لم يكن‬
‫متهافت ًا على التوا�صل مع القارئ العربي‪،‬‬
‫�إال عبر الكتابة ال�شعرية المتدفقة‪ ،‬ثم كذلك‬
‫ع��دم االلتفات �إل��ى �شخ�صيته الإبداعية‪،‬‬
‫من ل��دن المهتمين بالتجارب ال�شعرية‪.‬‬
‫فالمتفق عليه في الم�شهد النقدي ال�شعري‬
‫العربي عامة والمغربي خا�صة �أن تجربة‬
‫ال�شاعر الإبداعية‪ ،‬لم تنل ما ت�ستحقه من‬
‫عناية واهتمام‪ ،‬على الرغم من المرتبة‬
‫العالية والمكانة المتميزة‪ ،‬التي تحتلها‬
‫ن�صو�ص تجربته على الم�ستويين التراكمي‬
‫والجوهري‪ .‬في هذا ال�سياق‪ ،‬ن�شير �إلى �أن‬
‫�أعماله ال�شعرية من�شورة في �ستة �أج��زاء‪،‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪82‬‬


‫وجوه‬

‫وهذا باعث رئي�س من بواعث حديثنا عنه في‬


‫هذا المقال‪ .‬وهنا نغتنم الفر�صة لكي نحيي‬
‫مجلة (ال�شارقة الثقافية) التي فتحت نوافذها‬
‫الم َف َّكر �أو المهم�ش‬
‫بالم َف َّكر فيه وغي ِر ُ‬
‫للتعريف ُ‬
‫والمن�سي في الثقافة والإبداع العربيين‪ .‬ينتمي‬
‫�صاحبنا �إلى فئة ال�شعراء‪ ،‬الذين لم يكن لديهم‬
‫الحظ الأوفر‪ ،‬لينالوا ما ي�ستحقون من اهتمام‪،‬‬
‫نظراً لما قدمه ال�شاعر من جديد متميز �أ�سهم في‬
‫تغيير مجرى الإبداع ال�شعري العربي المعا�صر‪،‬‬
‫انطالق ًا من كتابة ق�صيدة‪ ،‬ترتكز على �إ�شكالية‬
‫الذات في عالقتها بالوطن‪ ،‬والمر�أة‪ ،‬واالغتراب‪،‬‬
‫من �أعماله‬ ‫والحياة المتمردة‪ ،‬وعلى التعبير عن وجدان‬
‫وعبدالكريم يون�س في ديوانه المتميز (�أنثى‬
‫الخيال)‪ ،‬و�أحمد ال�شهاوي عبر ع�شقه النوراني‬ ‫الإن�����س��ان العربي‪� ،‬إزاء ق�ضاياه الإن�سانية‬
‫في ديوانه (الو�صايا في ع�شق الن�ساء) و�آخرين‪.‬‬ ‫والمعرفية والجمالية‪ ،‬وعلى ر�أ�سها ق�ضية‬
‫ك��م��ا تتميز ت��ج��رب��ة ال��ط��وب��ي بال َّنف�س‬ ‫الأنثى الرمز‪ ،‬المنفتح على الهوية والتاريخ‬
‫الملحمي ال��درام��ي ال��ذي ال ي�ست�سلم للذات‬ ‫واللغة‪� .‬إذ جاءت كل عوالم �أ�شعاره مبنية على‬
‫المغتربة �إال باالعتماد على لغة الق�صيدة‬ ‫مخاطبة (الأنثى) المتعددة ال�صفات‪ ،‬والأ�شياء‪،‬‬
‫الجديدة‪ ،‬التي تجمع في مكوناتها كل عوالم‬ ‫والأمكنة حتى �أ�صبحت في م�شروعه ال�شعري‬
‫الواقع والحلم مع ًا‪ ،‬وتنت�شي بماهية الكينونة‬ ‫رم��زاً �أ�سطوري ًا �أنثوي ًا‪ ،‬يوظفه ال�شاعر ق�صد‬
‫المنت�صرة للتحدي وللت�شبث بالحياة التي ال‬ ‫الك�شف عن خبايا الذات المعا�صرة‪ ،‬والتعبير‬
‫ت�ستقيم �إال بالحديث عن (الأن��ث��ى) بو�صفها‬ ‫ع��ن معاناته ف��ي تجربته ال�شعورية‪ ،‬التي‬
‫وج���وداً ح�ضاري ًا وجمالي ًا و�إن�ساني ًا‪ ،‬في‬ ‫تلتقي بمق�صدية الخطاب الأنثوي ورمزيته‬
‫�أح�ضانه يكبر الوجدان وتت�سع الر�ؤيا وت�ستمر‬ ‫الجوهرية في الفكر الأ�سطوري؛ ليتجه بذلك‬
‫طبيعة ال�شعر الم�ست�أن�س بالحب ال��ذي هو‬ ‫�إلى تح�س�س العوالم الروحانية وتلم�س القوى‬
‫محمد الطوبي‬ ‫الباطنية‪ ،‬والم�شاركة في الإح�سا�س والفعل‬
‫�أعظم �شعر في قلب العالم المعا�صر التافه‪.‬‬
‫فعندما يتمعن المرء ب��أَن��اة في �أ�سلوب‬ ‫وفي �أمور الحياة �إجما ًال‪ ،‬وفي تغيير الأو�ضاع‪،‬‬
‫ال�شاعر في ق�صائده �إلى المر�أة‪ ،‬ف�إنه يكت�شف‬ ‫واال�ستقالل بالذات �سعي ًا �إل��ى حياة �أ�سمى‬
‫ب�أنه يعطي لمفهوم الحب معاني كثيرة‪ ،‬لها‬ ‫و�أنقى و�أكثر حرية وكرامة‪ .‬وهنا يمكن القول‬
‫عالقة قوية بم�شروعه ال�شعري الجمالي‪،‬‬ ‫�إن �شعرية ال�شاعر المنتمية �إلى الم�شهد ال�شعري‬
‫توا�صل �شعري ًا مع‬ ‫فكل �أ�شكال الحب الإن�ساني حا�ضرة لديه من‬ ‫المغربي تلتقي ف��ي ج��وه��ره��ا م��ع �شعرية‬
‫القارئ على امتداد‬ ‫�أهمها حب الآخ��ري��ن‪ ،‬والحب بو�صفه �إرادة‬ ‫ال�شعراء الم�شارقة الذين تمكنوا من تر�سيخ هذه‬
‫عارفة‪ ،‬والحب بو�صفه حدث ًا وطني ًا وقومي ًا‪،‬‬ ‫الإ�شكالية في الإبداع العربي‪ ،‬يمكن �أن نذكر‬
‫الوطن الكبير‬
‫والحب الكينونة‪ ،‬و�أخيراً الحب بو�صفه �سماح ًا‬ ‫منهم (نزار قباني) في م�شروعه ال�شعري الباذخ‪،‬‬
‫بالكينونة الم�سالمة‪ ،‬التي ت�سعى‬
‫�إلى معانقة الوطن الجميل‪ .‬يقول‬
‫ف��ي مقطع م��ن ق�صيدة (�أحبك‬
‫والحمام ر�سائلي)‪� :‬أدخ ��ل في‬
‫تجربته لم تنل ما‬ ‫الم�سافات التي انك�سرت‪� /‬أحبك‬
‫ت�ستحقه من عناية‬ ‫والحمام ر�سائلي‪ /..‬ال �أدع��ي‬
‫واهتمام برغم‬ ‫وط��ن��ي ول��ك��ن �أ�شتهي وطني‪/‬‬
‫و�أن ��ت ب�شارة ال��وط��ن الجميل)‪.‬‬
‫مكانته ال�شعرية‬
‫�إ���ض��اف��ة �إل����ى ذل����ك‪ ،‬يت�أ�س�س‬
‫المتميزة‬ ‫خطابه ال�شعري على الجمع‬
‫بين الح�سي ال��م��درك المتجلي‬
‫الم�صطفى كليتي وال��روح��ي الباطني المتخفي‪،‬‬ ‫العربي بن جلون‬

‫‪83‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫وجوه‬

‫ق�صيدته ترتكز‬
‫على �إ�شكالية الذات‬
‫في عالقتها بالوطن‬
‫والمر�أة واالغتراب‬

‫ول�ست �أَح�سبني مغالي ًا ف��ي ���ش��يء‪� ،‬إذا‬


‫ُ‬ ‫وه��ذه من �صفات الق�صيدة العربية العتيدة‪،‬‬
‫قلت ف��ي خاتمة ال��ك�لام‪� ،‬إن ق�صيدة محمد‬ ‫فعندما يمتزج الواقعي بالم َتخيل‪ُ ،‬ت ْخ َلق‬
‫الطوبي‪ُ ،‬ت َ�ش ِّيد �صرحها المعرفي والجمالي‬ ‫الق�صيدة العربية من جديد‪ُ ،‬م َع ِّبرة بذلك عن‬
‫لديه نف�س ملحمي‬ ‫على مفهوم ال�شعر المحدد في كونه ذكرى‬ ‫هواج�س الإن�سان العربي‪ ..‬فاتحة �أمامه �آفاق‬
‫ولغة جديدة تجمع‬ ‫طفولة م�شردة‪ ،‬ت�سعى �إلى الحلم بوطن جميل‪،‬‬ ‫الت�أمل وروح اال�ستبطان ال��ذات��ي‪ .‬على حد‬
‫مكوناتها من عوالم‬ ‫وكونه ذات ًا وجدانية مفعمة بعاطفة �إن�سانية‪،‬‬ ‫تعبير �صديقه المبدع محمد زفزاف‪ ،‬في كلمة‬
‫ت�سهم الأنوثة في تروي�ضها بالرقة واللطافة‬ ‫تقديمه لديوان ال�شاعر (�صبوات المجنون)‪.‬‬
‫الواقع والحلم‬ ‫وال�شكل والدماثة‪ ،‬وبالإ�سهام في �إر�ساء غناء‬ ‫ومن خ�صائ�ص تفرد محمد الطوبي‪� ،‬أنه‬
‫�شعري جديد‪� ،‬سيزيد ال��ق��ارئ في اكت�شافه‪،‬‬ ‫كان يجمع بين ال�شعر والت�شكيل‪ ،‬وهو الم�شهور‬
‫حينما يطلع على م�شروع ال�شاعر المتفرد‬ ‫بخ ِّط يده‪ ،‬مثل‬‫بكتابة مجموعة من دواوينه َ‬
‫المن�سي‪ ،‬لي�ستدرك ب�أنه لن ي�ستطيع تقويم‬ ‫ديوانيه (في وقتك الليلكي هذا انخطافي )‪،‬‬
‫التجربة ال�شعرية المغربية المحددة في الجيل‬ ‫و(غ��واي��ة الأكا�سيا)‪ ،‬ول��ه تجربة �أخ��رى مع‬
‫ال�سبعيني‪ ،‬دون الوقوف عند هذه التجربة‪.‬‬ ‫الخطاط المغربي الفنان م�صطفى �أُ ْجماع في‬
‫دي��وان (قمر الأندل�سي الأخ��ي��ر) معلن ًا بذلك‪،‬‬
‫�أن الكتابة ال�شعرية ج�سر بين لغتين‪ :‬اللغة‬
‫ال�صوتية ولغة الخطوط ؛ وليثبت كذلك مقولة‬
‫عبد الكبير الخطيبي (�إن هناك اتفاق ًا على‬
‫القول‪� ،‬إن المغرب مخ�صو�ص بهوية ت�شكيلية‪،‬‬
‫في هذا القول �أمر ثابت‪ ،‬ال جدال فيه)‪ ،‬ولي�ؤكد‬
‫�أ�صالة تجربته المعا�صرة التي ال فكاك لها من‬
‫العودة �إلى الخط العربي التراثي‪ ،‬لت�صبح بذلك‬
‫تجربته وهو يبدع ديوانه الت�شكيلي ب�صياغة‬
‫عبدالرحيم مودن‬ ‫عبدالكريم يون�س‬ ‫�شعرية‪ ،‬وبحروف خطية هند�سية‪ ،‬وقف ًة جمالي ًة‬
‫وتعبيراً حقيقي ًا عن ذوق العربي بكل ر�صيده‬
‫الح�ضاري وانتمائه المكاني‪ ،‬وي�شير في الوقت‬
‫نف�سه �إلى �أن تعبيره اليدوي به حرارة الرع�شة‬
‫الإب��داع��ي��ة وم�صداقيتها‪ ،‬وه��ي التي جعلت‬
‫�شاعرنا‪ ،‬يبدع لنا ق�صائد ذات مذاق خا�ص‪.‬‬
‫ونعتقد �أن هذه الظاهرة لدى �شاعرنا‪ ،‬ت�ستحق‬
‫البحث والدرا�سة‪ ،‬بحيث نالحظ الغياب التام‬
‫لهذا اال�سم في كل حديث نقدي‪ ،‬يت�أمل البالغة‬
‫�إدري�س ال�صغير‬ ‫محمد �سعيد �سو�سان‬
‫الب�صرية في الق�صيدة المغربية المعا�صرة‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪84‬‬


‫مقاالت‬
‫ر�ؤى‬

‫فرويد‪..‬‬
‫وثقافة االختالف‬
‫�شعيب ملحم‬

‫واتهمهما بالخيانة‪ ،‬منتقداً توجهاتهما‬ ‫اتجهت �أبحاثه حول هذا المر�ض‪ ،‬و�أي�ض ًا‬ ‫قليلون ه��م العلماء ال��ذي��ن يثيرون‬
‫الجديدة في التحليل النف�سي‪ ،‬وي�ستدل من‬ ‫�شلل العمود الفقري والنخاع ال�شوكي‬ ‫ب�آرائهم وا�ستنتاجاتهم الجريئة‪ ،‬عا�صفة‬
‫�آرائ��ه في الكتاب‪ ،‬مدى �سخطه وانتقاده‬ ‫لدى الأطفال‪ ،‬و�أدى به ذلك �إلى التدقيق‬ ‫من الأ�سئلة الم�ؤيدة والمعار�ضة لهم‪،‬‬
‫الحاد وال�ل�اذع‪ ،‬لمن خ��رج من عباءته‪،‬‬ ‫في نتائج تجارب البروفي�سور (بروير)‬ ‫وم��ن ه���ؤالء بالت�أكيد �سيجموند فرويد‬
‫وهذا ما يو�ضحه (�أري��ك فروم) في مقال‬ ‫لمعالجة اله�ستيريا عن طريق التنويم‬ ‫(‪1939 -1856‬م)‪ ،‬ال��ذي يعتبر الأب‬
‫بعنوان (نزعة الت�سلط لدى فرويد)‪ ،‬ومنها‬ ‫المغناطي�سي‪� ،‬أي ا���س��ت��ع��ادة المري�ض‬ ‫الحقيقي‪ ،‬والم�ؤ�س�س لعلم التحليل النف�سي‬
‫�أن فرويد لم يتقبل �إطالق ًا �أية اقتراحات‬ ‫وتعرف‬‫ّ‬ ‫لما�ضيه‪ ،‬بعدها �سافر �إلى باري�س‪،‬‬ ‫الحديث‪ ،‬والذي التزال �أبحاثه وكتاباته‬
‫مهمة للتغيير في جهده النظري‪ ،‬ف�إما �أن‬ ‫�إلى البروفي�سور (�شاركو)‪ ،‬وا�ستفاد من كل‬ ‫حتى الآن مثار جدل دائم بين الباحثين‬
‫يكون الإن�سان محب ًا تمام ًا لنظريته‪ ،‬وهذا‬ ‫ه�ؤالء بنقلته الثورية في معالجة الأمرا�ض‬ ‫واالخت�صا�صيين‪ ،‬وبرغم هذا الجدل‪ ،‬ف�إنه‬
‫يعني المحبة له هو‪� ،‬أو �أن يكون �ضده‪،‬‬ ‫النف�سية‪ ،‬من التنويم المغناطي�سي‪� ،‬إلى ما‬ ‫ال �أحد من معار�ضيه ي�شكك في كل نتائج‬
‫وي�ست�شهد (ف��روم) بكاتب �سيرته‪ ,‬الذي‬ ‫�أ�سماه بـ(الم�شاركة الحرة)‪ ،‬وفي �أثنائها‬ ‫�أبحاثه‪ ،‬وال في ريادته‪ ،‬وحتى لأبوته لهذا‬
‫يقول (لقد عرفت �أن الم�س�ألة كانت �صعبة‬ ‫كتب نظريته في كتاب (تف�سير الأحالم)‪.‬‬ ‫النهج الجديد في ميدان التحليل النف�سي‪،‬‬
‫بالن�سبة له �أن يتمثل �آراء الآخرين‪ ،‬بعد �أن‬ ‫ل��م تكن �أب��ح��اث��ه تثير االه��ت��م��ام في‬ ‫و�إن اختلفوا معه في ق�ضايا كثيرة‪.‬‬
‫يكون قد ا�ستخل�ص �آراءه من تجاربه‪.)..‬‬ ‫البداية‪ ،‬وكان بعد �أكثر من ع�شر �سنوات‬ ‫ولد في فرايبورغ في ت�شيكيا حالي ًا‪،‬‬
‫ال �شك �أن ب�صمة فرويد التزال بارزة‬ ‫وب��ال��ت��ح��دي��د ف��ي ع��ام (‪1908‬م)‪ ،‬ظهر‬ ‫ولكنه ومنذ الرابعة من عمره‪ ،‬ارتحل مع‬
‫وم�ؤثرة في عالم التحليل النف�سي‪� ،‬سواء‬ ‫ع��دد م��ن الأط��ب��اء ال�شباب‪ ،‬ف��ي �أوروب ��ا‪،‬‬ ‫�أهله �إلى فيينا‪ ،‬وفي �أثناء درا�سته الأولى‪،‬‬
‫في ما �أ�صاب فيه‪� ،‬أو �أخط�أ‪ ،‬و�أي�ض ًا مع‬ ‫يلتفون حوله‪ ،‬وي�ستخدمون تقنياته في‬ ‫كتب في مذكراته التي ترجمها مجاهد‬
‫م ��ؤي��دي��ه �أو م��ع��ار���ض��ي��ه‪ ،‬ف��ال��ب��اح��ث في‬ ‫الطب النف�سي ومن �أ�شهرهم �ألفريد �أدلر‬ ‫�سيد مجاهد‪� ،‬أن��ه (�إث ��ر ق��راءت��ي لمقالة‬
‫علوم ال�سلوكيات‪� ،‬أو علم النف�س‪ ،‬والعلوم‬ ‫وف��رن��زي‪ ،‬و�أرن�ست جونز‪ ،‬وك��ارل يونغ‬ ‫ج��وت��ه ال��رائ��ع��ة ع��ن الطبيعة‪ ،‬ق ��ررت �أن‬
‫الإن�سانية ب�شكل ع��ام‪ ،‬يرى �أن��ه ال توجد‬ ‫وغيرهم‪ ،‬وعقد �أول م�ؤتمر علمي للتحليل‬ ‫�أتحول �إلى درا�سة الطب)‪ ،‬ولم يكن قد �أتم‬
‫فيها معادالت علمية دقيقة كالفيزياء‬ ‫النف�سي ف��ي م��دي��ن��ة ���س��ال��زب��ورغ‪ ،‬وزار‬ ‫ال�سابعة ع�شرة‪ ،‬تفوق في التعليم وتخرج‬
‫والريا�ضيات و�أمثالها‪ ،‬لهذا ف�إنها عر�ضة‬ ‫الواليات المتحدة و�ألقى في جامعاتها‬ ‫في الجامعة‪ ،‬و�أج��رى �أبحاث ًا في درا�سة‬
‫للنق�ص والإ�ضافة‪ ،‬والجتهادات متباينة‪،‬‬ ‫خم�س م��ح��ا���ض��رات‪ ،‬قوبلت ب�إيجابية‪،‬‬ ‫الجهاز الع�صبي ل��دى �سمكة‪ ،‬وم��ن ثم‬
‫ولكنها ت�ضيف �إلى الإن�سانية ف�ضاء رحب ًا‬ ‫ما دفعه �إلى ت�أ�سي�س الجمعية العالمية‬
‫للبحث والتدقيق واالجتهاد‪ ،‬وهذا ما فعله‬ ‫للتحليل النف�سي‪ ،‬لكن بعد فترة‪ ،‬اختلف‬
‫فرويد الذي �أجبره االحتالل النازي للنم�سا‬ ‫معه �أغلبية رف��اق��ه‪ ،‬ويتبين من كتابه‬ ‫التزال �أبحاثه وكتاباته‬
‫على الرحيل منها‪ ،‬بعد حرق كتبه ودفع‬ ‫(م�ساهمة ف��ي ت��اري��خ ح��رك��ة التحليل‬ ‫حتى الآن تثير جد ً‬
‫ال‬
‫فدية كبيرة‪ ،‬وا�ستقر مع ابنته (�آن)‪ ،‬التي‬ ‫النف�سي) الذي ترجمه جورج طرابي�شي‪،‬‬
‫�سلكت طريقه في الطب‪ ،‬وتوفي ودفن في‬ ‫كم ك��ان م�ستاء من ه���ؤالء‪ ،‬وهاجم في‬
‫دائم ًا بين الباحثين‬
‫حي هامب�ستيد اللندني‪.‬‬ ‫الكتاب ك ًال من (�أدل��ر)‪ ،‬و(يونغ) بق�سوة‬ ‫واالخت�صا�صيين‬

‫‪85‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫والذات هي الدليل على ده�شة الق�صيدة‪:‬‬
‫���س���أ���س��ت��ل ذات�����ي ف������إن ل���م �أج���ده���ا‬
‫���س���أ���س��ت��ل م����ا ب���ي���ن ذات������ي وب��ي��ن��ي‬

‫ي�أخذه ال�شعر �إل��ى م�ساحات من الت�أمل‬


‫والوجد والتوحد مع الطبيعة‪ ،‬بكل �أ�سرارها‬
‫ور�ؤاها وتجلياتها في الذات وفي اللغة‪ ،‬لتحل‬
‫الق�صيدة من حيث ي��دري وال ي��دري‪ ،‬وك�أنها‬
‫نداء من المجهول ي�ستجيب �إليه ال�شاعر‪ ،‬بما‬
‫�أوتي من طاقة تخييلية وتعبيرية‪ ،‬لي�ستدرجها‬
‫�إل��ى وج��دان ذات��ه التي تفك لغزها الغام�ض‪،‬‬
‫فتنفرد الق�صيدة ال�شعرية ب�سحرها‪ ،‬كاحتمال‬
‫من احتماالت اللحظة ال�شعرية‪ ،‬وك�شكل من‬
‫�أ�شكال البوح المفتوح على المعنى‪ ،‬في دروب‬
‫ال�سر الرهيب‪ ،‬حين ي�ستح�ضرها ال�شاعر بمزمار‬
‫غريب‪ ،‬ت��� ّؤوب معه الحياة‪ ،‬كما ت��� ّؤوب معه‬
‫�إيقاعات الوجود‪:‬‬
‫اتبعيني في دروبي واحذري �أي هروب‬
‫ف�أنا �أظم�أ‪ ،‬و�أ�سقيك من ال�سر الرهيب‬
‫و�أنا �أ�سقى‪ ،‬و�أ�شجيك بمزماري الغريب‬
‫و�أنا�أ�سري‪،‬ف�أهديك�إلىال�شطالرحيب‬

‫ال�شاعر محمود ح�سن �إ�سماعيل‪ ،‬الذي حفت‬


‫روحه فطرة الريف‪ ،‬في قريته النخيلة بنخلها‬
‫وب�ساتينها المطلة على حافة النيل‪ ،‬ف�صفت‬
‫نف�سه كما �صفت �سريرته‪ ،‬وامتد خياله �إلى‬
‫�أفق مفتوح على جهات الحلم‪ ،‬بطاقة مده�شة‬
‫ت�ضرب في م�ضارب الخيال‪ ،‬من كوخ �أحالمه‬ ‫فطرة الطبيعة و�أ�صالة الق�صيدة‬
‫غ ّنى فا�ستغرق في الوجود‪ ،‬وفي الأ�سئلة التي‬
‫و�سعتها �صوره ال�شعرية وتراكيبه المحلقة‪،‬‬
‫فكان قاب قو�سين من نهر الحقيقة‪ .‬وهو يغني‬
‫على مو�سيقا من ال�سر ورياح المغيب للتائهين‪،‬‬
‫محمود ح�سن �إ�سماعيل‬
‫نا�سك ًا يرتب حيرته في ليالي الحائرين‪:‬‬
‫ليتني كنت �صالة في كهوف النا�سكينا‬
‫جدد في �أدواته ال�شعرية ور�ؤيته للوجود‬
‫�أتال�شى في طريق اهلل �شوق ًا وحنينا‬
‫ليتني كنت غناء تائه ًا بين ال�صحارى‬ ‫عرف ال�شعر �شهقة �إن�سانية في ظل الحلم‪ ،‬ف�أ�سدل‬
‫هزني طير غريب فوق ركبان حيارى‬ ‫عليه في�ض ًا م��ن ال��وج��د‪ ،‬حتى ا�ستوى ده�شة ف��ي ر�ؤى‬
‫ليتني كنت �شعاع ًا في ليالي الحائرينا‬ ‫ال��م��ع��ن��ى‪ ،‬خ��ل��ف ك��ل ال��ح��وا���س‪��� ،‬س��وى ح��ا���س��ة ال�شعر‪،‬‬
‫�أ�سكب ال�سلوان للدمع و�أغتال الأنينا‬
‫التي تنه�ض من البعد ال�سابع في ال��روح وف��ي النف�س‪،‬‬
‫�أول ما �سمع من اللغة لغة القر�آن‪ ،‬فحفظه‬ ‫ه��ن��اك ح��ي��ث تكمن ده�����ش��ة ال��ل��ح��ظ��ة ال�����ش��ع��ري��ة التي‬
‫في روح��ه وقلبه وعقله‪ ،‬و�أول ما �سمع من‬ ‫د‪ .‬بهيجة �إدلبي‬
‫ي�أتلف فيها المختلف‪ ،‬وتن�سجم المتناق�ضات‪ ،‬وت�أخذ‬
‫ال�شعر الأن��غ��ام الجنائزية التي ك��ان يطلقها‬
‫الأ�شياء �شك ًال جديداً‪ ،‬و�سر ًا بعيداً‪ ،‬فالق�صيدة بهذا المعنى (هي النغم‬
‫المن�شدون �أمام النعو�ش‪ ،‬لذلك هرب �إلى عالم‬
‫الحقل والعزلة في محراب الطبيعة‪ ،‬ي�صغي �إلى‬ ‫الإن�ساني الحقيقي‪ ،‬الذي يخامر وجود ال�شاعر النف�سي ) ليكتمل الن�ص‬
‫الطير وال�شجر ومو�سيقا الطبيعة المده�شة‪ ،‬وهي‬ ‫ال�شعري بين ان�سكاب الذات من فيو�ض الخيال‪ ،‬وبين ان�سكاب الق�صيدة من‬
‫تت�سلل �إلى روحه‪ ،‬فتبلل الق�صيدة بحبر المعنى‪،‬‬ ‫فيو�ض ال��ذات على ال��ورق‪ ،‬وك���أن الق�صيدة هي الدليل على وج��ود ال��ذات‪.‬‬
‫كما كان ي�صغي �إلى وجع النا�س‪ ،‬و�أحالمهم‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪86‬‬


‫�ضفاف‬

‫في الخال�ص من القهر وال��رق والحرمان وب�ؤ�س‬


‫العي�ش‪ ،‬ف�أخذته الطبيعة حتى �أ�صبح جزءاً منها‪،‬‬
‫لتن�صهر هذه العوالم في ذاته‪ ،‬فيطلقها ق�صائد من‬
‫ذاكرة الحلم‪ ،‬ومن تراجيع الخيال‪.‬‬
‫وغ����نّ����ي����ت ل���ل���ن���ور ع���ن���د ال���������ش����روقِ‬
‫وع����ان����ق����ت����ه ف������ي ل���ه���ي���ب ال���ه���ج���ي���ر‬
‫ال������غ������روب‬
‫ِ‬ ‫وك����ل����م����ت����ه ف������ي ������ص��ل��اة‬
‫ي�������س���ي���ر‬
‫ْ‬ ‫خ�����ف�����ي‬ ‫ك���ل��ان������ا ل����غ����ي����ب‬
‫محمود ح�سن �إ�سماعيل‬ ‫محمد عبدالوهاب‬ ‫من فطرة الطفولة ومن فطرة الريف والقرية‪،‬‬
‫ت�شكلت ذات��ه ال�شعرية‪ ،‬لأن تلك الطفولة تركت‬
‫ب�صمتها في النف�س والن�ص‪ ،‬لذلك كان ديوانه الأول‬
‫(�أغاني الكوخ)‪ .‬فاتحة لت�أ�صيل هذا الح�س الفطري‬
‫في نف�سه‪ ،‬كما كان له الأثر الكبير لت�أ�صيل الق�صيدة‬
‫بوهجها الإن�ساني في م�سيرته ال�شعرية‪ ،‬فقد كان‬
‫ترجمة لذاكرته في عالم القرية‪ ،‬التي عا�شها‬
‫بروحه وج�سده مرتهن ًا �إلى فل�سفته في الوجود‪،‬‬
‫وموقفه من الطبيعة‪ ،‬تلك الفل�سفة‪ ،‬التي ترف�ض �أول‬
‫ما ترف�ض رق الوجود والم�سافات الم�ضروبة بين‬
‫النا�س‪ ،‬بدون عدل وتقد�س الحرية التي ال ت�شكل‬
‫من �أعماله‬
‫قيداً على نف�سها‪ .‬وك�أن (�أغاني الكوخ) ظلت را�سخة‬
‫وخ�صو�ص ًا في ديوانه �أي��ن المفر؟)‪ ،‬وق��ال �أحمد‬
‫عبدالمعطي حجازي (لقد �أدمنت قراءته حتى �شكل‬ ‫في وجدانه‪ ،‬لأنها فطرة الريف الأولى التي �أورثته‬
‫خياله خيالي‪ ،‬وطبعت لغته لغتي‪ ،‬وبدت ق�صائدي‬ ‫�أ�صالة ال�شعر والق�صيدة‪ ،‬التي انبثقت في فتون‬
‫الأولى وك�أنها تنويعات على �شعره)‪ ،‬كما اعترف‬ ‫م�سافاتها المختلفة دون �أن تغادر ذلك الح�س‬
‫في ق�صيدته‬ ‫محمود دروي�ش بت�أثره ال�شديد في بداياته ب�شعره‪.‬‬‫المرهف وتلك ال��روح المحلقة والمو�سيقا‪ ،‬التي‬
‫تكمن اللحظة‬ ‫كان ي�سعى في كل منجزه ال�شعري منذ الق�صيدة‬ ‫تذوب في الروح‪ ،‬كما تذوب في النف�س والوجود‪.‬‬
‫ال�شعرية وتن�سجم‬ ‫الأولى وحتى �آخر ق�صائده التي ن�شرت بعد وفاته‪،‬‬ ‫وك�أنه حين كتب عن النيل‪ ،‬كان يكتب عن ذاته‬
‫التي ت�سافر كما النهر في نهر الحقيقة والخيال‪:‬‬
‫�إلى تجديد �أدواته ال�شعرية ور�ؤيته لأنه يرتهن �إلى‬
‫المتناق�ضات‬ ‫حركة ال�شعر التي ال تعرف الركون �إلى الم�ألوف‬ ‫م���������س����اف����ر زاده ال���خ���ي���ال‬
‫والعادي‪ ،‬بل رهانها الده�شة الم�ستمرة والمتجددة‪،‬‬ ‫وال�����س��ح��ر وال��ع��ط��ر وال���ظ�ل�ال‬
‫فهي �سبح هائل في بحار مجهولة الآماد والأبعاد‪،‬‬ ‫ظ���م����آن وال���ك����أ����س ف���ي ي��دي��ه‬
‫ولعل هذا ما يالحظه المتابع لعناوين دواوينه‬ ‫وال����ح����ب وال����ف����ن وال���ج���م���ال‬
‫(هكذا �أغني‪ ،‬الملك‪� ،‬أين المفر‪ ،‬نار و�أ�صفاد‪ ،‬قاب‬ ‫���ش��اب��ت ع��ل��ى �أر����ض���ه ال��ل��ي��ال��ي‬
‫ين�سكب �شعره من‬ ‫قو�سين‪ ،‬ال ب��د‪ ،‬التائهون‪� ،‬صالة ورف�ض‪ ،‬هدير‬ ‫و����ض���ي���ع���ت ع���م���ره���ا ال��ج��ب��ال‬
‫في�ض الخيال ونغم‬ ‫البرزخ‪� ،‬صوت من اهلل‪ ،‬نهر الحقيقة‪ ،‬مو�سيقى من‬
‫الذات وده�شتها‬ ‫محمود ح�سن �إ�سماعيل‪ ،‬الذي قال عنه �صالح ال�سر‪ ،‬ري��اح المغيب)‪ ،‬ف�ض ًال عن عناوين الكثير‬
‫عبدال�صبور‪( :‬هو ال�شاعر الذي تعلمت منه ال�شعر‪ ،‬من ق�صائده‪ ،‬التي ترتهن �إل��ى ده�شة الت�شكيل‪،‬‬
‫(الفردو�س المهجور‪� ،‬سنبلة تغني‪ ،‬ثورة‬
‫ال�ضفادع‪ ،‬بحيرة الن�سيان‪� ،‬أن��ت دير‬
‫الهوى وقلبي �صالة‪� ،‬أغنية ذابلة‪ ،‬في‬
‫وادي الن�سيان‪ ،‬راه��ب النخيل‪ ،‬جالد‬
‫�شعره �شكل من �أ�شكال‬ ‫الظالل‪ ،‬مقابر ال�سحر‪ ،‬ح�صاد القمر‪،‬‬
‫البوح المفتوح على‬ ‫ع��راف��ة ال��زه��ر‪��� ،‬ص�لاة ال��ع�����ش��ب‪ ،‬بكاء‬
‫المعنى في بعده‬ ‫الرماد‪ ،‬التراب الحائر‪ ،‬خمر الزوال‪ ،‬نهر‬
‫الن�سيان)‪ ،‬ما يفتح الباب وا�سع ًا �أمام‬
‫الإن�ساني‬ ‫ت�أويل العنوان كعتبة ن�صية‪ ،‬وبالتالي‬
‫ت�أويل الق�صيدة في م�ضاربها في �أفق‬
‫الخيال‪.‬‬

‫‪87‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫الكمامة‪..‬‬
‫بين الأنف والفن‬
‫من�صف المزغ ّني‬

‫«الكمامة والحيوان»‬ ‫ال��م��ت��ن� ّ�ب��ي ف��ي ع�����ص��ر (ك��وف��ي��د ‪ )19‬من‬ ‫«كمامة المتنبي»‬
‫ف ّكر االن�سان منذ قديم ال��زم��ان‪ ،‬في‬ ‫المهوو�سين بحمل اللثام (ال ِكمامة) التي‬ ‫المتنبي �أ���ش��ه� ُ�ر من‬ ‫ّ‬ ‫الطيب‬
‫ل��ع� ّل �أب ��ا ّ‬
‫�صناعة الكمامة للحيوان؛ فقد ر�آها الف ّالح‬ ‫باتت م��أل��وف��ة‪ ،‬ب��ل ومطلوبة ف��ي � ّأيامنا‬ ‫تحدث عن اللثام ال��ذي يلتفع به الفار�س‬ ‫ّ‬
‫�ضرورية للح�صان والجمل والثور والكلب‬ ‫للتجمع الب�شري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الوقائية هذه‪ ،‬في � ّأي مكان‬ ‫في ال�صحراء‪ ،‬اتقاء لفح الهاجرة‪ ،‬فقبل‬
‫يهتم ب�شيء �آخ��ر غير الم�شي في‬
‫ّ‬ ‫حتى ال‬ ‫ولقد توافقت دول العالم على � ّأن الكمامة‬ ‫�أ ْز َي���د م��ن �أل��ف ع��ام‪ ،‬ك��ان �شاعر العربية‬
‫االتجاه الذي يختاره مالك الحيوان‪.‬‬ ‫ت�صد هذه الجرثومة‪.‬‬‫(قد) ّ‬ ‫الف�صحى ي�سرج ح�صان الهروب من م�صر‬
‫�ضد‬
‫ولكن لثام المتنبي لم يحملها ّ‬ ‫وحاكمها كافور الإخ�شيدي‪ ..‬فقد اعتزم‬
‫«كمامة ال�صحراء والفداء»‬ ‫جرثومة كوفيد‪ ،‬ولكن �ضد رمل ال�صحراء‪،‬‬ ‫الهروب وال�سفر الطويل عبر الفالة‪ ..‬ولأن‬
‫اعتادت قبائل (الطوارق) في �صحراء‬ ‫وتنكراً حتى يتفادى �شرطة كافور‪.‬‬ ‫يخب ب�صاحبه‬ ‫ّ‬ ‫ح�صان المتنبي �سوف‬
‫ال�شمال الإفريقي �أن يرتدوا اللثام‪ ،‬تفادي ًا‬ ‫وال منا�ص من التعقيب على �أن ا�سم‬ ‫لا وراءه رم��ل‪ ،‬فقد‬ ‫ممتدة رم� ً‬
‫ّ‬ ‫على �أر���ض‬
‫لذرات رمال ال�صحراء‪.‬‬ ‫ال�شاعر المتنبي كان كمامة تغطي ا�سمه‬ ‫ج��اء على خاطر ال�شاعر �أن ي�صف حاله‬
‫كما ك��ان الفدائي الفل�سطيني ي�ضع‬ ‫الحقيقي‪� :‬أحمد بن الح�سين بن الح�سن بن‬ ‫في هذه الرحلة‪ ،‬وا�سته ّل ق�صيدته مخاطب ًا‬
‫اللثام‪ ،‬من ب��اب التو ّقي‪ ،‬حتى ال تعرف‬ ‫عبد ال�صمد الجعفي‪.‬‬ ‫الميمية الجميل ِة‬
‫ّ‬ ‫متخي ْلين) في هذه‬
‫ّ‬ ‫(رفيقين‬
‫ْ‬
‫هويته عند القيام ب�أعمال وطنية لتحرير‬ ‫ّ‬ ‫والأدب العربي‪ ،‬كما باقي �آداب العالم‪،‬‬ ‫ومطلعها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫الح ّمى)‬‫ُ‬ ‫(ق�صيدة‬ ‫با�سم‬ ‫المعروفة‬
‫الأر�ض‪.‬‬ ‫مغطى ب�أ�سماء و�ألقاب‬‫�ضم �أكثر من ا�سم ّ‬ ‫ّ‬ ‫َملو ُمكما يجلُّ عن المال ِم‬
‫ت�شبه الكمامة‪ ،‬مثل (الخن�ساء‪ ،‬والجاحظ‪،‬‬ ‫ووقع فعا ِله فوق الكال ِم‬ ‫ُ‬
‫«الكمامة والكلب»‬ ‫والمتنبي‪ ،‬وابن المقفع‪ ،‬والأخطل) والقائمة‬ ‫ذَراني والفال َة بال دليلٍ‬
‫وفي المجتمعات الأوروبية والأمريكية‬ ‫�أطول من م�ساحة المقال‪.‬‬ ‫والهجير بال لثا ِم‬ ‫َ‬ ‫ووجهي‬
‫َ‬
‫خا�صة‪( ،‬وغيرها من تلك التي تولي اهتمام ًا‬
‫وولع ًا بتربية الكالب والقطط)‪ ،‬ف� ّإن الكمامة‬ ‫«الكمامة والوقاية»‬ ‫فهم البيت الثاني‬ ‫وق��د ال ي�ستطاب ُ‬
‫�صحة الحيوان من نهمه‬ ‫�ضرورية لحماية ّ‬ ‫ّ‬ ‫لم تكن الكمامة خا�صة‪ ،‬في البداية‪،‬‬ ‫بمعزل عن المتنبي‪ ،‬ودون ا�ستح�ضار روحه‬
‫الغريزي بك ّل ما يلقاه في الطريق وال�شارع‪.‬‬ ‫بالإن�سان‪� ،‬إال بالن�سبة �إلى بع�ض المهن التي‬ ‫ال�صماء‬
‫ّ‬ ‫المتحدية حتى للطبيعة‬ ‫ّ‬ ‫المعاندة‬
‫والكمامة تو�ضع على مخطم الكلب‬ ‫يتعر�ض فيها المهني للروائح غير المرغوبة‪،‬‬ ‫الخر�ساء العمياء‪ ،‬فهو يريد �أن يحارب لفح‬
‫�درب المر ّتب ال�شبعان عندما يرافق‬ ‫ال��م� ّ‬ ‫مثل‪ :‬عمال البلدية من جامعي القمامة‪،‬‬ ‫الجو‬
‫ّ‬ ‫الهاجرة‪ ،‬ورمال ال�صحراء‪ ،‬وح�شرات‬
‫�صاحبه للنزهة والتجوال في المدينة‪،‬‬ ‫والأطباء والممر�ضين الذين يقومون ب�إجراء‬ ‫ال�سامة دون لثام!‬‫ّ‬
‫يع�ض الكلب �أحد‬‫ّ‬ ‫من باب االحتياط‪ ،‬فقد‬ ‫عمليات جراحية تفادي ًا للعدوى والرائحة‪،‬‬ ‫المتنبي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الطيب‬ ‫أبي‬ ‫�‬ ‫روح‬ ‫عا�شرنا‬ ‫إذا‬ ‫�‬ ‫و‬
‫مدرب‪،‬‬‫المارين في ال�شارع‪ ،‬بالرغم من �أنه ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالتدخل لتفريق‬
‫ّ‬ ‫ومثل رجال الأمن المكلفين‬ ‫كما حملها �شعره الذاتي‪ ،‬وا�ستح�ضرناها‬
‫بالع�ض والنه�ش‬
‫ّ‬ ‫�زي� ًا‬
‫لك ّنه م ��أم��ور غ��ري� ّ‬ ‫العام في‬
‫ّ‬ ‫ال�شارع‬ ‫�شمل المتظاهرين في‬ ‫للعي�ش ف��ي نهاية العقد الثاني وبداية‬
‫والنباح‪ ،‬كما � ّأن �أ�صحاب الكالب عادة‪ ،‬هم‬ ‫العالم الحديث‪ ،‬دون ن�سيان رجال المطافئ‬ ‫العقد الثالث من القرن الحادي والع�شرين‬
‫وكلبي ًا) يعرفون �أن‬
‫ّ‬ ‫ومدني ًا‬
‫ّ‬ ‫(مثقفون بيئي ًا‬ ‫لإخماد الحرائق وتفادي دخ��ان النيران‪.‬‬ ‫ال��م��ي�لادي‪ ،‬ف ��إن م��ن ال��م�� ّؤك��د �أن ال يكون‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪88‬‬


‫ع�صفور من الحبر‬

‫ويع�ض‪ ،‬وينه�ش بال هاربين من الم�صحات والم�ست�شفيات‪ ،‬وكاد‬ ‫ّ‬ ‫الكلب هو ابن كلب وكلبة‪،‬‬
‫بواجب يتداخل داخل ال�شارع بداخل الم�ست�شفى‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫هدف �آخر غير الوفاء لمهنة والقيام‬
‫الع�ض والنباح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�أ�صلي‪:‬‬
‫بالفن»‬
‫ّ‬ ‫«كمامة تتز ّين‬ ‫لمثل هذه الأ�سباب وغيرها‪ ،‬باتت كمامة‬
‫�أل��ط��ف م��ا ف��ي ق�صة الكمامة ف��ي الزمن‬ ‫إلزامية‪،‬‬
‫كلب المدينة الحديثة واجبة‪ ،‬بل و� ّ‬
‫نتخيل الكوفيدي؛ هو ت�ساوي النا�س في ك� ّل �شيء‬ ‫ّ‬ ‫وقانونية‪ ،‬ح ّتى بات من الممكن �أن‬
‫بد�أت الكمامة مع‬ ‫الكلب في هذه المرحلة الكوفيدية قد يت�ساءل باللون الأزرق‪� ،‬أو الأبي�ض‪� ،‬أو الأ�سود‪ ،‬وبدا هذا‬
‫يقلدني اللون باعث ًا على الملل‪ ،‬وبد�أ االن�شقاق وانطلقت‬ ‫�سره‪ :‬لماذا �صاحبي الإن�سان �صار ّ‬ ‫في ّ‬
‫انت�شار الجائحة‬ ‫حركة الع�صيان‪ ،‬ال على الكمامة الواقية‪،‬‬ ‫في ارتداء الكمامة؟!‬
‫�أمراً وقائي ًا ب�ألوان‬ ‫الموحد‪ ،‬وك��ان ال�س�ؤال‪ :‬لماذا‬ ‫بل على اللون‬
‫ّ‬
‫وت�صميمات متنوعة‬ ‫الت�صحر الجمالي على م�ستوى المنظر‬ ‫ّ‬ ‫ه��ذا‬ ‫«كمامة �سارق النحل»‬
‫عندما يهجم العامل الفالحي على قفير الخارجي؟‬
‫وبد�أ ال�س�ؤال‪ :‬هل الأزرق الفيروزي هو اللون‬ ‫النحل بهدف َجني الع�سل‪ ،‬ف�� ّإن النحل يعتبر‬
‫ل�ص ًا يعتدي على خيرات الوطن الإلزامي الوحيد الفريد الأكيد الذي ال ي�صاحبه‬ ‫هذا العامل ّ‬
‫(الم ْنحلة) لذلك يت�سلح ه��ذا العامل باللثام �أو يناف�سه‪� ،‬أو يقا�سمه‪� ،‬أو يع ّكر �صفاءه لون �آخر‬ ‫َ‬
‫ال�شامل خوف ًا من لدغات جي�ش الدفاع في مناف�س في هذه الكمامة الكونية؟‬
‫البع�ض حاول الإجابة بالخروج عن النظام‬ ‫النحلي عند اقترابه من المنحلة‪ ،‬فما‬ ‫ّ‬ ‫الوطن‬
‫الموحد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ال�سماوي‬
‫ّ‬ ‫يراه الإن�سان جني ًا للع�سل‪ ،‬يراه النحل جناية‪( ،‬الكمامي) العالمي الأزرق‬
‫جمالي‪ ،‬وهكذا �صارت‬ ‫ّ‬ ‫وذل��ك ب�إ�ضفاء بعد‬ ‫لذلك يدافع النحل عن الع�سل بالل�سع‪.‬‬
‫(الفن) و(مو�ضة‬ ‫الكمامة مو�ضوع ًا من موا�ضيع ّ‬
‫ات�سم الأدب العربي‬ ‫الفن و�صانعي‬ ‫ّ‬ ‫تجار‬
‫اللبا�س)‪ ،‬و�صار على ّ‬ ‫«الكمامة في الزمن الكوفيدي»‬
‫ب�أ�سماء و�ألقاب مغطاة‬ ‫ب��د�أت الكمامة مع انت�شار الجائحة �أم��راً الكمامات �أن يدخلوا ال�سوق الرائجة‪ ،‬ويطرحوا‬
‫ت�شبه الكمامة‬ ‫�سماوي‪ ،‬رهيف‪� ،‬س�ؤا ًال يمكن و�ضعه في خانة (�ضرورة ّ‬
‫الفن)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وقائي ًا‪ ،‬وظهرت في لون �أزرق‬
‫وردي ًا‪� ،‬أو �أ�سود‪،‬‬
‫ماذا لو �صار لون الكمامة ّ‬ ‫وي��وح��ي ه��ذا الأزرق بال�صحة وال�سالمة‪،‬‬
‫�صح ّية �أو �أحمر‪� ،‬أو �أبي�ض‪� ،‬أو �أ�صفر‪� ،‬أو �أزرق داكن ًا‪ ،‬بدل‬
‫ّ‬ ‫م�صممة وف��ق معطيات‬ ‫ّ‬ ‫فالكمامة‬
‫ال�سماوي‪� ،‬أو البرتقالي؟ بل ما ال�ضير لو وجدت‬ ‫ّ‬ ‫ومن�سوجة من �أل��ي��اف مدرو�سة وف��ق قواعد‬
‫�أل��وان متما�شية مع باقي �أل��وان ب�شرة وجه‬ ‫و�صح ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مهنية‬
‫ّ‬
‫والكمامة الم�ستخدمة في �أيامنا هذه‪ ،‬حامل الكمامة‪ ،‬ومتنا�سقة مع �ألوان البدالت‬
‫خفيفة‪ ،‬وغير مع ّقدة‪ ،‬ويمكن لأفقر الفقراء �أن الرجالية والن�سائية وال�صبيانية‪ ،‬ل�ضرب‬
‫ع�صفورين (الوقاية والجمال) بحجر واحد؟‬ ‫ْ‬ ‫ي�صنعها بنف�سه‪ ،‬فال م�شكل في �شكلها الب�سيط‪،‬‬
‫هكذا قفزت الكمامة من عالم ال�ضرورة �إلى‬ ‫وال �إبداع فيها‪ ،‬وال تعقيد في ف�صالتها‪ ،‬كما في‬
‫الفن‪.‬‬
‫عالم ّ‬ ‫خياطتها‪.‬‬
‫يت�سلح عامل خاليا‬ ‫«من كمامة دافن�شي �إلى بيكا�سو»‬ ‫«التبا�س النا�س في الم�ست�شفى وال�شارع»‬
‫الع�سل باللثام خوف ًا‬ ‫العاديين‪ ،‬ال يرجون‬
‫ّ‬ ‫و�إذا كان عموم النا�س‬ ‫لقد �أ�صبحت (الكمامة ال�صحية) ذات اللون‬
‫من ل�سعات النحل‬ ‫غير النجاة‪ ،‬بكمامة زرقاء �سادة‪� ،‬أو بي�ضاء‪� ،‬أو‬ ‫عامة �شاملة‪ ،‬وال‬
‫ال�سماوي (�أو غيره) ّ‬
‫ّ‬ ‫الأزرق‬
‫�سوداء‪� ،‬أو �صفراء‪ ،‬ف� ّإن عالم المو�ضة �آلى �إال �أن‬ ‫هدف لها �سوى �أن تكون مثل كمامة الطبيب‬
‫يدلي بدلوه �أو بكمامته‪ ،‬حتى يتدخل في ال�سوق‪،‬‬ ‫الجراح‪� :‬آلة للتو ّقي من عدوى الجراثيم‪ ،‬ولقد‬ ‫ّ‬
‫فتم ت�صميم كمامات خا�صة‪ :‬عليها كلمات‬ ‫ّ‬ ‫بدت ال�شوارع في ج ّل العالم‪ ،‬وك�أنها تظاهرة‬
‫�أو �شعارات‪� ،‬أو �أبيات �شعر‪ ،‬كما �سعى البع�ض‬ ‫يقودها الأطباء والممر�ضون والممر�ضات‪..‬‬
‫�إلى تزيين الكمامة ب�إ�ضفاء بعد ت�شكيلي‪ ،‬من‬ ‫وك���� ّأن ال��ف��رق ب��ات �ضئي ًال بين الم�ست�شفى‬
‫خالل تفا�صيل من �أعمال فنية عالمية‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫وال�شارع‪ .‬ولقد بدا هذا ال�شارع العالمي مجرد‬
‫لوحة الموناليزا لليوناردو دافين�شي‪� ،‬أو لوحة‬ ‫منظر �سوريالي في م�ست�شفى الالمعقول!‬
‫غورنيكا بيكا�سو‪.‬‬ ‫كما بدا جميع النا�س‪ ،‬مثل �أطباء وممر�ضين‬

‫‪89‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫تركت ب�صمتها ف��ي ال�شعر العالمي‪،‬‬ ‫�أوقدت قناديل �شعرها في دياجي غربتها‬
‫فكانت �أول �شاعرة عربية يتم اختيارها‬
‫�ضمن �أنطولوجيا ال�شعر ال��ع��ال��م��ي‪ ،‬ثم‬
‫يحرز ديوانها الأخير �أعلى المبيعات في‬
‫(�أمازون)‪� .‬إنها ال�شاعرة الجزائرية المغتربة‬
‫ر�شيدة محمدي‪:‬‬
‫الدكتورة ر�شيدة محمدي‪ ،‬وكان لنا معها‬
‫هذا اللقاء‪.‬‬
‫�أكتب ال�شعر بكل �شروط‬
‫¯ �شي ٌء مما تعتز به الذاكرة في �سنوات‬ ‫الوحدة وال�صمت‬
‫ِ‬
‫انتبهت لل�شعر �أو هو‬ ‫الن�ش�أة الأولى‪ ،‬ومتى‬
‫انتبه �إليك؟‬ ‫هي �شاعرة متفردة �إبداعي ًا و�إن�سانياً‪� ،‬صقلت كينونتها‬
‫ال�شعر حا�ستي‬‫ّ‬ ‫�ان‬‫�‬ ‫ك‬ ‫طفولتي‬ ‫�ي‬‫�‬ ‫ف‬ ‫‪-‬‬ ‫ال�����ش��ع��ري��ة ب��ت�����ض��اع��ي��ف ال��ج��ه��د وال�����س��ه��ر وال��درا���س��ة‬
‫ال�ساد�سة التي لم ُيخبرني بها �أحد ولم �أُخبر‬ ‫الأك��ادي��م��ي��ة ح��ت��ى ح�صلت ع��ل��ى ال��دك��ت��وراه ف��ي علم‬
‫المبتد�أ في لهجة �أمي‬‫ال�شعر ُ‬
‫بها �أحداً‪ ،‬حيث ّ‬
‫عبقة بلكنة عميقة الجرح‪ ،‬خفيفة المرح‪،‬‬ ‫الل�سانيات باللغة الإنجليزية‪ ،‬واطلعت على التجارب‬
‫الم َ‬
‫ُ‬
‫وك�أن الريح قد �صاغت بالغة امتدادها من‬ ‫العالمية ف��ي ال��ن��ق��د وال�����ش��ع��ر وال��ت��اري��خ والفل�سفة‪.‬‬
‫�ساجدة المو�سوي‬
‫ق�لاع �شامها �إل��ى كثبان �صحراء ارتمت‬ ‫���ش��اع��رة كونتها ت��ج��ارب ال��ح��ي��اة بق�سوة الذع���ة منذ‬
‫رف�����ض مجتمعها ال�صغير �أن تحلّق م��ع ال�شعر‪ ،‬ف��ك��ان �أن ا���س��ت��ع��ارت من قدراً على جنوبي الجزائر‪ ،‬مو�سومة بوادي‬
‫الم�ستحيل جناحين وحلقت لتجد نف�سها وحيد ًة �إال مع ال�شعر ومع �إرادة (�سوف) ا�سم ًا‪ .‬كانت (�سوف) مدينة مهجورة‬
‫الهوية‪..‬‬
‫ّ‬ ‫�إداري ًا ككل المدن المكت َنزة بعمق‬
‫�سرة اللغة العربية‪ ،‬في ذاكرة‬ ‫ال تعرف الركون للعادي وال�سائد‪ ،‬بل العبور �إلى �آفاق جديدة في ال�شعر‪.‬‬
‫كانت (�سوف) ّ‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪90‬‬


‫لقاءات‬

‫تبجح‪ ،‬ب�شقيقي‬
‫ووطني ًة قومي ًة دون �ضجيج �أو ُّ‬ ‫�شقيقي الأكبر وهو يحملني فجراً و�أنا لم �أبلغ‬
‫�داء للأمة العربية‪ ،‬بالمتنبي ومايا‬
‫الأكبر ف� ً‬ ‫الثالثة والن�صف �إلى ال ُك ّتاب وثالثة �أرباعي‬
‫�آنجلو �شعراً‪ ،‬بكل الأطفال‪ ،‬بكل المت�صوفين‪،‬‬ ‫نائمة‪ ،‬لي�سلمني �إلى �شيخي ُم�ضغ ًة في رحم‬
‫بكل الذين ال يكتبون ِ�شعراً لكنهم َي�سرون‬ ‫�أورك�سترا ُتردد كالم ال�سماء‪ ،‬وتالميذ يمي�سون‬
‫في عروقه على ر�أ���س كل لحظة في حياتهم‬ ‫جلو�س ًا وب�أيديهم لوح ممحاته طين وقلمه يراع‬
‫االعتيادية‪ ،‬بوحدتي المقد�سة التي ناولتني‬ ‫ُمثخن ب�صمغ من ال�سحر المبين‪ ،‬لم �أكن �أدرك‬
‫�أمي باعت حليها‬ ‫الكون في كا�سات ا�ستغراقاتي في ذاتي وبها‬ ‫حتى و�أن��ا من�ضمة �إلى تلك الفرقة ال�صوفية‬
‫ومعها‪.‬‬ ‫العفوية ما ك ّنا نردده‪ ،‬بينما كانت روحي تعي‬
‫كي �أوا�صل و�إخوتي‬ ‫الم َلهمة بذلك التجاوب العذب‬ ‫ذبذبات عالقتها ُ‬
‫درا�ستنا‬ ‫مازلت تحلمين؟ �أم �صدمات الواقع �أثقلت‬ ‫ِ‬ ‫ال�شعر مد�سو�س ًا في كل زوايا ¯ هل‬ ‫مع ج�سدي‪ .‬كان ّ‬
‫عرابات البيت جناحيك عن التحليق؟‬ ‫ّ‬ ‫فيه‪،‬‬ ‫ترعرعت‬
‫ُ‬ ‫بيت العز ال��ذي‬
‫‪� -‬أح�لام��ي! �أح�لام��ي؟ ال �شك �أ ّنها �أجمل‬ ‫كن‬‫المختلفات في لغاتهن وتقاليدهن‪ ،‬وما ّ‬
‫وحكم عاليات الأخالق‪ .‬كان و�أعلى مني بكثير‪ ..‬بكثير‪.‬‬ ‫يرددنه من �أمثال ِ‬
‫المتقد بالهدوء‬ ‫ال�شعر �ضرب ًا من حقيقة خيالي ُ‬
‫تمي ٍز عالمي‬
‫ّ‬ ‫على‬ ‫ِ‬
‫ح�صلت‬ ‫�سنوات‬ ‫خم�س‬ ‫قبل‬ ‫¯‬ ‫هواء‬ ‫كانت‬ ‫التي‬ ‫والمو�سيقا العربية والعالمية‬
‫باختيارك �ضمن مئة �شاعر في �أنطولوجيا‬ ‫البيت‪.‬‬
‫�أول �شاعرة عربية‬ ‫ا�ستطعت تحقيق هذا‬‫ِ‬ ‫ال�شعر العالمي‪ ،‬كيف‬
‫¯ �إلى �أي ح�ضنٍ كانت ر�شيدة محمدي الطفل ُة الإنجاز؟‬
‫يتم اختيارها �ضمن‬
‫‪ -‬الف�ضل يرجع لل�شاعر الإ�سباني الكبير‬ ‫�أقرب؟ الأم �أم الأب �أم المعلمة �أم الوطن؟‬
‫�أنطولوجيا ال�شعر‬ ‫علي �أن �أبرر المخ�ضرم خو�سيه لوي�س �آلباري�س‪ ،‬وهو من‬ ‫‪ -‬الأم‪ ،‬الأم‪ ،‬الأم‪ ..‬و�إِن كان ّ‬
‫العالمي‬ ‫ِل َم؛ فلأ ّنها هي من دفعني �إلى اكت�شاف نف�سي‪ ،‬جيل لوركا‪ ،‬حين دعاني للم�شاركة في �أم�سية‬
‫و�س ّلمتني مبلغ ًا من المال وقالت لي‪( :‬هذا لي�س �شعرية بو�صفه مديراً لنادي ال�شاعر العمالق‬
‫الأول ولكنه الأخير‪ ،‬طيري �إلى الخارج �إلى رفائيل �آلبيرتي‪ ،‬بف�ضوله الأنيق قال خو�سيه‬
‫عالمك يا بِنتي �سلم ُتك بيد اهلل)‪ .‬وكان الأمر ما لوي�س �ألباري�س وهو ُيمازحني‪( :‬ال بد � ّأن من‬
‫كان‪ ،‬ومن يومها فهمت � ّأن �أية رحلة باتجاه يتك ّلم �ست لغات من �أ ّنه يكتب �شعراً مختلف ًا)‪،‬‬
‫�أجمل الجمال (الحرية والمعرفة) لن تتحقق �إ ّال م�ضيف ًا با�ستدراك لحوارنا‪( :‬لي�س في تاريخ‬
‫باال�ستقالل المادي للإن�سان‪ ،‬وخا�صة عندما الإن�سانية ما ُيح�صى على عدد �أ�صابع اليد‬
‫يتع ّلق الأمر بالمال‪ ،‬فكانت � ّأمي تبيع ُحليها‬
‫كي �أوا�صل �أنا و�إخوتي الأربعة درا�ستنا‪.‬‬

‫¯ هل قالت ق�صائدك كل ما تريدين قوله‪� ،‬أم‬


‫مازال هنالك المزيد؟‬
‫‪ -‬قد تقول الق�صائد ما �أري ��ده �أحيان ًا‪،‬‬
‫رفائيل �آلبيرتي‬ ‫لوركا‬ ‫ال�شعر‪،‬‬
‫� ّأما الذي ال يقول الذي �أريد قوله‪ ،‬فهو ِّ‬
‫ال�شعر حالة قابلة لعي�ش اللحظة بكل‬ ‫لأن ّ‬
‫تواط�ؤاتها مع الزمن الفيزيائي‪ُ .‬يكتب ال�شعر‬
‫بكل �شروط الوحدة‪ ،‬ال�صمت‪ ،‬الت َف ُّرغ الكامل‬
‫للكون‪ ،‬اال�سترخاء في نار الوجد‪ ،‬اال�ست�سقاء‬
‫في ثلج الوجود‪ ،‬اال�ست�سالم لهند�سة الحرف‪،‬‬
‫خطاطي الكلمات لكي يفتحوا‬ ‫الترحيب بكل ّ‬
‫�صدري بم�شرط المعنى ويقولوا نيابة عني‬
‫�إ ّنني �أحترق‪.‬‬

‫بم ت�أثرت ال�شاعرة الكبيرة ر�شيدة محمدي؟‬ ‫¯ َ‬


‫بـ(ي َّما) حنان ًا و�أن��اق� ًة‪ ،‬ب�أبي �شجاع ًة‬
‫‪ُ -‬‬
‫العا�صمة الجزائرية‬

‫‪91‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫لقاءات‬

‫من �شعراء يتكلمون �ست ُلغات)‪ ،‬و�أ�ضاف‪( :‬هل‬


‫حبت به ال�سماوات!؟)‪.‬‬
‫انتبهت يوم ًا �إل��ى ما َ‬
‫وتعددت �أم�سياتي الم�شتركة في مناطق عديدة‬
‫في �إ�سبانيا‪ ،‬وخ�صو�ص ًا في العا�صمة مدريد‪،‬‬
‫ليتم بعدها التك ُّفل بترجمة بع�ض ق�صائدي‬
‫�إلى الإ�سبانية من طرف مترجمين محترفين‬
‫وم�ست�شرقين �أح��ب��وا ن�صو�صي‪ ،‬وبعدها تم‬
‫اق��ت��راح ا�سمي ك�شاعرة مقيمة في �إ�سبانيا‬
‫ليدخل ت�صفيات �أف�ضل مئة �شاعر في العالم‬
‫التي �أقيمت في ِميامي بالواليات المتحدة‬
‫موازاة مع جمهورية الدومينيكان‪.‬‬

‫ر�شيدة محمدي‬
‫مررت بمخا�ضات ع�سيرة وتنقلت من بلد �إلى‬ ‫ِ‬ ‫¯‬

‫¯ منذ �سنين و�أن��ت مغتربة‪ ،‬ماذا �أ�ضاف لك‬ ‫ودر�ست في‬‫بلد حتى ح�صلت على الدكتوراه‪ّ ،‬‬
‫االغتراب وماذا �أعطاك؟‬ ‫�أمريكا وحالي ًا في جامعات �إ�سبانيا‪� ،‬شي ٌء عن‬
‫‪ -‬في كل البالد هناك رب وعباد‪ ،‬ال�صفات‬ ‫كفاحك العلمي و�أنت مغتربة ووحيدة؟‬
‫التي كانت ت�ضايقني في البالد العربية هي‬ ‫‪ -‬ي��م��ك��ن ت��ل��خ��ي�����ص ه���ذه ال��رح��ل��ة في‬
‫هند�ست بها عنا�صر نجاحي في‬
‫ُ‬ ‫نف�سها التي‬ ‫االن�ضباط في الوقت‪ ،‬ال�صبر‪ ،‬حبي وترحيبي‬
‫�داء من ان�ضباطي بالوقت‪� ،‬إلى‬‫ال��غ��رب‪ ،‬اب��ت� ً‬ ‫بالإن�سان دون التفكير في ِعرقه‪ ،‬دينه‪ ،‬لونه‪،‬‬
‫حقق ديوانها الأخير‬ ‫ابتعادي عن ال�سلبيين‪.‬‬ ‫�أو حتى توجهاته الفكرية‪ ،‬لم �ألتقِ �أح��داً من‬
‫�أ�ساتذتي �أو طالبي �أو ال�ساهرين على نظافة‬
‫(�ضباب بلوري)‬ ‫تحرك فيك الأ�سماء الآتية‪( :‬الجزائر‪-‬‬ ‫مكتبي �إ ّال باعتبارهم قطعة من ال�سماء ت�ؤدي‬
‫¯ ماذا ِّ‬
‫�أعلى المبيعات‬ ‫بغداد‪ -‬مدريد‪ -‬لوركا‪ -‬المتنبي‪ -‬القد�س‪-‬‬ ‫مثلي دورها على هذه الب�سيطة‪� ،‬أتنازل ل�صغار‬
‫ككتاب �إلكتروني في‬ ‫بيروت‪ -‬غرام�شي)‪.‬‬ ‫النف�س‪ .‬خالل كل هذه التنقالت حملت المعرفة‬
‫(�أمازون)‬ ‫‪ -‬الجزائر‪ :‬مقدمة لكل قوامي�س الج ّنة‪،‬‬ ‫�صديق ًة لي وط ّالبي رفاق ًا لي‪.‬‬
‫يجمعني بها الميالد‪ ،‬و�أرب��ع نخالت في واد‪،‬‬
‫وعيبها ك�أجمل الأوطان �أ ّنها ال تعتذر لأبنائها‬ ‫(ر�ضاب بلّوري) �أعلى‬
‫ٌ‬ ‫¯ حقق ديوانك الأخير‬
‫�أبداً‪ .‬مدريد‪ :‬رائحتي في ال ّلغة‪ ،‬مر�آتي المت�شظية‬ ‫المبيعات في �أمازون‪ ،‬بماذا تعللين ذلك؟ وهل‬
‫مما �أطيق لأداء‬
‫في الوادي الكبير‪ ،‬تركيز �أعلى ّ‬ ‫مازال لل�شعر قرّاء في زمن الرواية؟‬
‫الجمال‪� ،‬أطرافي عمقي و�أعرافي‪ .‬لوركا‪ :‬قمح‬ ‫‪ -‬على الرغم من �أنه � ّأول ديوان لي ُيكتب‬
‫ال�شعر الأ�سمر لكل الع�صافير التي �أتت بعده‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫بالإ�سبانية‪ ،‬فقد ُكتب في فترة كنت فيها‬
‫ُغ� ّ�رة النهار على جبين غرناطة وق�لادة ُلغز‬ ‫التقاء بنف�سي‪ ،‬كتبته بن�سيان ِلمن �أكتب؟‬
‫ً‬ ‫�أكثر‬
‫في جيد الرائحين بال �سبب‪ .‬المتنبي‪ِ :‬‬
‫ال�شعر‬ ‫ومن �أنا؟ ومن �أكون؟ كتبته لأغفر لنف�سي كل‬
‫�إجادتي ل�ست لغات‬ ‫ثني ِة‬
‫قدم‪ .‬القد�س‪ُ :‬ملتقانا في ّ‬ ‫حيث �سارت به ُ‬ ‫الأخطاء التي ارتكبتها في حق قلبي‪(ُ .‬ر�ضاب‬
‫حية �إلى جانب‬ ‫نحدر ولو كره �أعداء العدل‪،‬‬ ‫الم َ‬
‫�آخر هذا الزقاق ُ‬ ‫�سام لحوا�س روحي‬ ‫ب ّلوري) بالن�سبة �إلي‪ ،‬نمو ٍ‬
‫العربية �أ�سهمت في‬ ‫العدالة‪ ،‬ال�سلم وال�سالم ذلك! بيروت‪ :‬لن �أن�سى‬ ‫بر�ؤية �أكثر تحرراً و�أنا في �ضيافة الكون‪.‬‬
‫انت�شاري عالمي ًا‬ ‫ف�ضلها علي‪ .‬بغداد‪ :‬ورقة‬
‫اعتماد الأر� ��ض و�سفيرة‬
‫فوق العادة ومحور القراءة‬
‫اللنهائي‪.‬‬
‫في كتاب ّ‬

‫¯ م��ا �آخ����ر م�شاريعك‬


‫الأدبية؟‬
‫تتورم‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫كي‬ ‫أ!‬ ‫�‬ ‫أقر‬ ‫�‬ ‫أن‬ ‫‪�-‬‬
‫�أقدام ف�ؤادي بحفاء الفراغ‪.‬‬
‫من م�ؤلفاتها‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪92‬‬


‫مقاالت‬
‫�سبر‬

‫تطور النقد الأدبي‬


‫مر الع�صور المختلفة‬
‫على ّ‬
‫فحول ال�شعراء) لمحمد بن �سالم الجمحي‬ ‫ع��رف ال��ق��دم��اء النقد‪ ،‬بنقد ال��دراه��م‪،‬‬
‫(‪756‬م‪845 -‬م)‪ ،‬الذي يعتبر �أول من و�ضع‬ ‫�أي �أب��ان ح�سنها من رديئها‪ ،‬ففي معجم‬
‫�أ�س�س النقد المنهجي‪ ،‬و�أول من �أورد كلمة‬ ‫«المعاني»‪َ ( :‬ن� َق� َ�د ال� َّ�د َر ِاه� َ�م‪َ :‬م َّي َز َها‪َ ،‬ن َظ َر‬
‫(نقد)‪ ،‬وحدد الجمحي في كتابه‪ ،‬معايير‬ ‫ِف َج ِّي َد َها ِم ْن َر ِدي ِئ َها‪� ،‬أي ك�شف‬ ‫يها ِل َي ْعر َ‬‫ِف َ‬
‫الأمير كمال فرج‬ ‫كم ال�شعر‬‫المفا�ضلة بين ال�شعراء‪ ،‬وه��ي‪ّ :‬‬ ‫الزائفة منها‪ .‬و َن َق َد َك َال َم ُه‪� :‬أي �أَ ْظ َه َر َما ِبهِ‬
‫وجودته وتعدد �أغرا�ضه‪.‬‬ ‫ا�سنِ ‪ ،‬و�ضرب مثال ب َن َق َد‬ ‫وب �أَوِ ا ْل َم َح ِ‬‫ِم َن ا ْل ُع ُي ِ‬
‫برغم زحام الم�صطلحات‪ ،‬حافظ النقد على‬ ‫وتطور النقد الأدب��ي على مر الع�صور‬ ‫�ص ِ‬
‫ال�ش ْعر ِّي)‪.‬‬ ‫ال َن ّ‬
‫الأ�سا�س الذي و�ضع من �أجله‪ ،‬والذي حدده‬ ‫المختلفة‪ ،‬فدخلته ال��ت��ي��ارات الحديثة‪،‬‬ ‫على مدى تاريخ الأدب العربي‪ ،‬كان‬
‫التعبير اللغوي (نقد ال��دراه��م)‪� ،‬أي �أب��ان‬ ‫والمدار�س الأجنبية‪ ،‬وت�أثر بالأفكار الوافدة‪،‬‬ ‫للنقد دور مهم في تقييم الأعمال ال�شعرية‪،‬‬
‫ح�سنها من رديئها‪.‬‬ ‫خا�صة في النقد الم�سرحي‪ ،‬وظهر جيل رائد‬ ‫وتح�سينها‪ ،‬وتطوير الذائقة الأدبية لدى‬
‫وتغيرت لغة النقد على مر الع�صور‬ ‫من النقاد‪ ،‬مثل عبدالقادر القط ورج��اء‬ ‫ال�شاعر والمتلقي على ال�سواء‪ .‬لم يكن النقد‬
‫المختلفة‪ ،‬فبعد �أن كانت لغته في الع�صر‬ ‫النقا�ش ومحمد مندور‪ ،‬وكانت ال�ستينيات‬ ‫في ه��ذا الزمن غر�ض ًا م�ستق ًال‪ ،‬فقد كان‬
‫الجاهلي‪ ،‬لغة انطباعية مبا�شرة‪� ،‬سيطرت‬ ‫الفترة الذهبية للنقد العربي الحديث‪.‬‬ ‫عملية ل�صيقة بالإبداع ال�شعري‪ ،‬ال تنف�صل‬
‫بعد ذلك لغة البحث الأدبي التي تعتمد على‬ ‫ففي جيلنا‪ ،‬جيل الثمانينيات من القرن‬ ‫عنه البتة‪ .‬وك��ان ال�شاعر يطلق ق�صيدته‬
‫اال�ست�شهاد والم�صادر‪ ،‬ولكن مع تطور النقد‬ ‫الما�ضي‪ ،‬كان النقد ممار�سة �شائعة‪ ،‬تتج�سد‬ ‫وهو يدرك تمام ًا �أنها �أ�صبحت تحت �أعين‬
‫وت��أث��ره بالتيارات الغربية‪� ،‬أ�صبح النقد‬ ‫في مظهرين‪ :‬الأول الندوات الأ�سبوعية التي‬ ‫الجهابذة‪ ،‬من ال�شعراء والنقاد‪ ،‬و�أن النقد‬
‫�أ�شبه بن�صو�ص �أدبية رفيعة موازية للن�ص‬ ‫تقيمها بيوت وق�صور الثقافة المنت�شرة‬ ‫�سي�أتيه ال محالة‪� ،‬سواء في ن�ص نقدي �أو‬
‫المنتقد‪ ،‬ي�ستعر�ض فيها الكاتب �إمكاناته‬ ‫في كافة بقاع م�صر‪ ،‬والتي كانت �ساحة‬ ‫ق�صيدة �أو رواية يتبادلها العربان‪.‬‬
‫وثقافاته‪ ،‬ف�أ�صبح القارئ �أمام ن�ص �إبداعي‬ ‫مهمة للنقا�ش والحوار تك�شف مزايا ومثالب‬ ‫وكان لل�شعر منتديات و�أ�سواق‪ ،‬تقام في‬
‫مكتوب حول ن�ص �إبداعي �آخر‪ ،‬وهو �شيء‬ ‫�إبداعات ال�شباب‪.‬‬ ‫�أوقات محددة في العام‪ ،‬يح�ضرها ال�شعراء‬
‫ي�شبه الترجمة‪ ،‬وهو ما دعا البع�ض �إلى‬ ‫والمظهر الثاني هو البرامج الثقافية‬ ‫ليعر�ضوا ق�صائدهم على مح ّكمين من كبار‬
‫الزعم ب�أن النقد �إبداع مواز‪ ،‬وتراجع التعبير‬ ‫الإذاعية‪ ،‬التي كان لها �شهرة كبيرة‪ ،‬ومن‬ ‫ال�شعراء‪ ،‬وك��ان �أ�شهر هذه الأ�سواق �سوق‬
‫اللغوي القديم (نقد الدراهم �أي �أبان ح�سنها‬ ‫بينها (م��ع الأدب���اء ال�شبان) ال��ذي كانت‬ ‫عكاظ‪ ،‬والذي كان �ساحة التجارة والتفاخر‬
‫من رديئها)‪.‬‬ ‫تقدمه الإعالمية هدى العجيمي فى �إذاعة‬ ‫وال�سجال ال�شعري والمبارزة والفرو�سية‪.‬‬
‫ولأن النقد عملية تعتمد على العلم والفن‬ ‫القاهرة‪ ،‬والذي كان ي�ست�ضيف كل �أ�سبوع‬ ‫كما تميز العربي في ارتجال الق�صيدة‬
‫والذائقة الأدبية‪ ،‬وهي عملية في الأ�سا�س‬ ‫ن��اق��داً لمناق�شة عمل �أدب��ي لأح��د الأدب��اء‬ ‫و�سبكها والإب���داع في ال�صورة والمعنى‬
‫يحكمها ال�ضمير‪ ،‬قر�أنا العديد من الأعمال‬ ‫ال�شباب‪.‬‬ ‫والقافية‪ ،‬وتميز �أي�ض ًا في نقد الق�صيدة‪،‬‬
‫النقدية الجادة‪ ،‬التي تتعامل مع الن�صو�ص‬ ‫�أم��ا ف��ي الع�صر الحديث؛ فقد ظهرت‬ ‫و�سبر �أغ��واره��ا‪ ،‬وطبيعة بنائها‪ ،‬و�إب��راز‬
‫وتو�ضح‬
‫ّ‬ ‫ب��أم��ان��ة نقدية‪ ،‬فتبين الجيد‪،‬‬ ‫�أ�شكال جديدة للنقد‪ ،‬فمع تطور الإع�لام‬ ‫التميز بها‪ ،‬و�إب��ان��ة هناتها العرو�ضية‪،‬‬
‫الرديء‪ ..‬ولكن في المقابل قر�أنا �أنواع ًا من‬ ‫الثقافي ظهر النقد ال�صحافي‪ ،‬ومن الأمثلة‬ ‫واعوجاج المعاني فيها‪ ،‬كما �أبدع العربي‬
‫النقد هي في الأ�سا�س مزيج من المجاملة‬ ‫عليه‪ ،‬عمود (للنقد فقط) بجريدة (الأخبار)‬ ‫القديم في نقد ال�شعراء وت�صنيفهم‪ ،‬فظهرت‬
‫والت�سويق وال�شخ�صنة والالمنهجية‪ ،‬وهذا‬ ‫للكاتب ال�صحافي عبدالفتاح البارودي‪.‬‬ ‫لأول مرة الكتب التي ت�صنف ال�شعراء وتحدد‬
‫ما يك�شفه ب�سهولة القارئ الف�صيح‪.‬‬ ‫وحظي النقد في هذه الفترة على برواج‬ ‫مزاياهم وعيوبهم‪ ،‬مثل كتاب (طبقات‬
‫نحن بحاجة �إل��ى نقد النقد‪ ،‬و�إع��ادة‬ ‫غير م�سبوق‪ ،‬فتحم�س الكثيرون له‪ ،‬وكثرت‬
‫تعريفه‪ ،‬وت��ح��دي��د �أن ��واع ��ه‪ ،‬وم��ج��االت��ه‪،‬‬ ‫الدرا�سات حوله‪ ،‬وب��رز النقد الأكاديمي‪،‬‬
‫ومعايير الإبداع‪ ،‬وا�ستيعاب كل المدار�س‬ ‫وك ��ان م��ن الطبيعي �أن ت��ح��رك الحداثة‬ ‫على مدى تاريخ الأدب‬
‫وال��ت��ي��ارات الفكرية واالج��ت��ه��ادات‪ ،‬بل‬ ‫ال�شعرية ماء النقد‪ ،‬فظهرت �إ�سهامات نقدية‬ ‫العربي كان للنقد دور‬
‫وال�شطحات‪ ،‬المهم �أن نحافظ على القيمة‪،‬‬ ‫كثيرة ب��رزت فيها م�صطلحات جديدة‪،‬‬ ‫مهم في تقييم الأعمال‬
‫ون�ضع معايير محددة للنقد الأدبي الحديث‬ ‫منها (النقد التفتيتي) الذي كان ينادي به‬
‫يلتزم بها الجميع‪.‬‬ ‫ال�شاعر ال�سكندري محجوب مو�سى‪ .‬ولكن‬ ‫ال�شعرية‬

‫‪93‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ا�ستعادت مكانتها كر�سالة �أدبية �إن�سانية برغم كل العوائق‬

‫«نوبل للآداب» تحتفي بالذكرى «‪ »١٢٠‬لت�أ�سي�سها‬


‫تحتفل الأكاديمية ال�سويدية هذا ال�شهر‪� ،‬أكتوبر (‪2021‬م)‬
‫بذكرى مئة وع�شرين عام ًا على انطالقة جائزة نوبل (‪-1901‬‬
‫‪ ،)2021‬وتخ�ص جائزة نوبل الأدب بلفتة خا�صة‪ ،‬بعد العقبات‬
‫التي واجهتها في العام (‪ ،)2018‬ما ا�ضطر �إدارتها �إلى حجبها‪،‬‬
‫تجاوزت (نوبل)‬ ‫لـ(�أ�سباب داخلية) كما �أعلنت حينذاك في بيان‪ ،‬وهي من المرات‬
‫بع�ض الإ�شكاليات‬ ‫عبده وازن‬
‫النادرة التي تحتجب الجائزة عن ال�ساحة الأدبية الدولية‪.‬‬
‫التي حدثت فيها‬ ‫ويذكر م�ؤرخو الجائزة �أن نوبل الأدب ُحجبت ق�سر ًا �سبع مرات خالل الحرب‬
‫وا�ست�أنفت م�سيرتها‬ ‫العالمية الأولى في العامين (‪ 1914‬و‪ ،)1918‬وبين العامين (‪ 1940‬و‪ )1943‬نتيجة‬
‫ا�ست�شراء الحرب العالمية الثانية‪ .‬وبعد حجبها الجائزة في (‪ )2018‬ا�ضطرت‬
‫الأكاديمية في العام التالي (‪� )2019‬إلى منح الجائزة �إلى ا�سمين كبيرين مع ًا هما‪:‬‬
‫البولندية �أولغا توكارت�شوك‪ ،‬والنم�ساوي الذي يكتب بالألمانية بيتر هاندكه‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪94‬‬


‫جوائز‬

‫و�صراعات معلنة وخفية داخ��ل الأكاديمية‬ ‫في الذكرى المئة والع�شرين‪ ،‬التي ت�صادف‬
‫وخارجها‪� ،‬أدت في الختام �إل��ى اللجوء �إلى‬ ‫هذا ال�شهر‪ ،‬ت�ستعيد �إدارة الجائزة �أنفا�سها‪،‬‬
‫المحكمة‪ .‬وقد �أحدث قرار الأكاديمية حينذاك‪،‬‬ ‫وتقوم بمنح جائزة نوبل‪ ،‬كعادتها‪ ،‬نهار‬
‫حجب جائزة الأدب �صدم ًة �شغلت ال�صحافة‬ ‫الخمي�س في الأ�سبوع الأول من �أكتوبر‪ ،‬وتحيي‬
‫العالمية والمواقع الإلكترونية والأو���س��اط‬ ‫برنامج ًا خا�ص ًا‪� ،‬أدب��ي� ًا وثقافي ًا‪ ،‬ينبع من‬
‫حجبت الأكاديمية‬ ‫الأدب��ي��ة في العالم‪ .‬لكنها نجحت في و�ضع‬ ‫�صميم مفهومها للأدب وللر�سالة التي تحملها‬
‫حد لهذه الإ�شكاليات و�سوت الق�ضية قانوني ًا‬ ‫الجائزة‪ ،‬بح�سب م�ؤ�س�سها �ألفرد نوبل‪ ،‬ومفادها‬
‫ال�سويدية الجائزة‬ ‫وتجاوزت كل الآثار التي نجمت عنها‪.‬‬ ‫�أن الجائزة تمنح ال�سم �أدى خدمات كبيرة‬
‫ق�سراً خالل الحربين‬ ‫وواجهت الأكاديمية العام (‪ )2020‬حملة‬ ‫للإن�سانية‪ ،‬بف�ضل عمل �أدبي يج�سد مثا ًال �أعلى‪.‬‬
‫العالميتين الأولى‬ ‫كبيرة قام بها �صحافيون وك ّتاب‪ ،‬معتر�ضين‬ ‫وم�ضمون هذه الر�سالة كان ربما وراء ا�ستثناء‬
‫والثانية‬ ‫مغن‬
‫على منحها جائزة الأدب للمرة االولى �إلى ٍّ‬ ‫�أدباء كبار‪ ،‬و�صفوا بالمت�شائمين‪ ،‬ومنهم على‬
‫ومو�سيقي و�شاعر �أغنيات هو الأمريكي بوب‬ ‫�سبيل المثال‪ :‬فرانز كافكا‪ ،‬و�أوغ�ست �سترندبرغ‪،‬‬
‫ديلن‪ ،‬وانتقدوا هذا الخيار الذي ُيفقد‪ ،‬بر�أيهم‪،‬‬ ‫وجورج باتاي‪ ،‬و�أنطونان �أرتو‪ ،‬وهنريك �إب�سن‬
‫الجائزة الراقية ثقلها الأدب���ي ورمزيتها‪،‬‬ ‫و�أن��دري��ه ب��روت��ون‪ ،‬و�آخ���رون‪ُ ..‬و ِ�سموا بتهمة‬
‫خ�صو�ص ًا �أن الئحتها �ضمت �أكبر نجوم الأدب‬ ‫الال�سامية‪ ،‬مثل‪ :‬عزرا باوند‪ ،‬وفردينان �سيلين‪،‬‬
‫في العالم‪ .‬لكن الأكاديمية لم ترد على الحملة‬ ‫�صاحب الرواية البديعة (ال�سفر حتى �أطراف‬
‫وتولى ال��رد عنها جمع من المعجبين ببوب‬ ‫الليل)‪.‬‬
‫ديلن‪ ،‬ب�شعره الغنائي و�صوته ومو�سيقاه‪ .‬وهذه‬ ‫ت ��ؤك��د الأك��ادي��م��ي��ة ه��ذا ال�شهر‪� ،‬أكتوبر‬
‫نجحت بتر�سيخ‬ ‫الحملة االعترا�ضية تذكر ب�إقدام الأكاديمية‬ ‫(‪ ،)2021‬تخطيها العقبات التي واجهتها‬
‫�صورتها الفريدة‬ ‫العام (‪ )1953‬على منح جائزتها الأدبية‬ ‫على م�ستويات عدة‪ ،‬وتحتفل بذكرى (‪)120‬‬
‫لرئي�س ال��وزراء البريطاني ون�ستون ت�شر�شل‪،‬‬ ‫عام ًا على ت�أ�سي�سها‪ ،‬مر�سخة �صورتها الفريدة‬
‫بو�صفها �أهم جائزة‬ ‫مبررة ه��ذه ال��ب��ادرة بكون خطبه ال�سيا�سية‬ ‫بو�صفها �أهم جائزة �أدبية في العالم‪ ،‬وبكونها‬
‫�أدبية في العالم‬ ‫تحمل في عمقها ر�سالة �أدبية‪ .‬ولم يقنع هذا‬ ‫الج�سر الذي ي�سلكه الأدباء �إلى الخلود الأدبي‪.‬‬
‫التبرير خروج الأكاديمية عن نهجها الرا�سخ‬ ‫وال ين�سى ج��م��ه��ور ن��وب��ل م��ن الأدب����اء‬
‫وم�سارها التاريخي‪.‬‬ ‫والمثقفين وال��ق��راء‪ ،‬الجدال ال��ذي ق��ام العام‬
‫غ��ي��ر �أن ال��م ��آخ��ذ ال��ت��ي ي�سجلها نقاد‬ ‫(‪2018‬م) لإث ��ارة بع�ض الإ�شكاليات حول‬
‫و�صحافيون م��ن ال��ع��ال��م على الأك��ادي��م��ي��ة‬ ‫الأكاديمية‪ ،‬ما �أرب��ك��ت �أع�ضاء الأكاديمية‬
‫ال�سويدية‪ ،‬ال تح�صى منذ ت�أ�سي�سها قبل (‪)120‬‬ ‫والمثقفين ال�سويديين‪ ،‬و�أ�سفرت عن اتهامات‬

‫ايفان بونين‬ ‫�أنطونان �أرتو‬ ‫�أندريه بروتون‬ ‫�إب�سن‬ ‫�أوغ�ست �سترندبرغ‬

‫بيرل باك‬ ‫بوري�س با�سترناك‬ ‫�أولغا توكار ت�شوك‬ ‫بوب ديلن‬ ‫نجيب محفوظ‬

‫‪95‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫الأكاديمية ال�سويدية‬

‫ومن الم�آخذ �أي�ض ًا‪ ،‬ت�أخر الجائزة كثيراً‬ ‫عام ًا‪ ،‬ومن هذه الم�آخذ‪ ،‬انحياز الجائزة �إلى‬
‫في و�صولها �إلى القارة الإفريقية‪ ،‬ف�أول كاتب‬ ‫�أوروب��ا‪ ،‬ال �سيما في عهدها الأول الممتد �إلى‬
‫�إفريقي فاز بها هو النيجيري وول �سوينكا‬ ‫العام (‪ ،)1929‬الذي منحت الجوائز كلها خالله‬
‫�أُخذت عليها بع�ض‬ ‫العام (‪ ،)1986‬وبعده فاز كاتبان من جنوب‬ ‫�إلى �أوروبيين‪ .‬ولم تقدم الأكاديمية على ك�سر‬
‫الم�آخذ لمنحها‬ ‫�إفريقيا هما‪ :‬نادين غورديميه (‪ )1991‬وجي‪.‬‬ ‫�سيا�ستها الأدبية هذه �إال عام (‪ )1930‬عندما‬
‫الجائزة لكتاب غير‬ ‫�أم‪ .‬كويتزي (‪ ،)2003‬وهما من بي�ض جنوب‬ ‫قررت منح الجائزة �إلى �أول كاتبة �أمريكية‬
‫معروفين‬ ‫�إفريقيا‪� .‬أما العالم العربي؛ فقد ت�أخرت الجائزة‬ ‫هي �سينكلر لوي�س‪ .‬وتبعتها بعد ثمانية �أعوام‬
‫في الو�صول �إليه ففاز بها العام (‪)1988‬‬ ‫الكاتبة الأمريكية بيرل باك (‪ ،)1938‬ليفوز‬
‫الروائي الم�صري الرائد نجيب محفوظ‪ ،‬واليزال‬ ‫بعد �أح��د ع�شر عام ًا ال��روائ��ي الكبير ويليام‬
‫فوجنر (‪.)1949‬‬
‫هذه النزعة الأوروبية التي ت�سم الأكاديمية‪،‬‬
‫ي�ؤكدها عدد البلدان الأوروبية الفائزة حتى‬
‫الآن‪ ،‬والتي تبلغ (‪ )81‬من �أ�صل (‪ )113‬بلداً �آخر‬
‫من البلدان كافة‪ .‬وهذه ن�سبة كبيرة جداً على‬
‫م�ستوى التمثيل الأوروبي العالمي‪ .‬ووا�ضح جداً‬
‫انحيازها الأوروب��ي الذي اليزال قائم ًا حتى‬
‫اليوم‪ ،‬وال ين�سى موقف ال�سكرتير العام ال�سابق‬
‫وول �سوينكا‬ ‫ون�ستون ت�شر�شل‬ ‫فردينان �سيلين‬ ‫والمعروف بت�شدده وبهواه الأوروبي (هورا�س‬
‫�أنغدال)‪ ،‬فقد قال ذات مرة‪( :‬من الم�ؤكد �أن هناك‬
‫كتاب ًا �أقوياء في كل الثقافات الكبيرة‪ ،‬ولكن ال‬
‫يمكننا �إنكار حقيقة �أن �أوروبا هي دوم ًا مركز‬
‫العالم الأدب��ي)‪ .‬ويحمل على �أدب��اء الواليات‬
‫المتحدة خ�صو�ص ًا قائ ًال‪( :‬الأدباء الأمريكيون‬
‫منعزلون وال يترجمون كثيراً وال ي�شاركون في‬
‫حوار الآداب)‪ .‬وقد يكون هذا الر�أي على مقدار‬
‫نادين غورديميه‬ ‫جي �أم كويتزي‬ ‫ويليام فوجنر‬ ‫كبير من الخط�أ‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪96‬‬


‫جوائز‬

‫الوحيد الآن‪ ،‬والي��زال ا�سم ال�شاعر ال�سوري‬


‫�أدوني�س يطرح كل عام في لوائح التر�شيح التي‬
‫ال عالقة لها بالأكاديمية‪ ،‬هذه الأكاديمية‬
‫المتكتمة ب�شدة في �ش�أن الأ�سماء والتي ال تر�شح‬
‫�أحداً بتات ًا‪ ،‬وربما ال ت�أخذ بلوائح التر�شيحات‪.‬‬
‫والمثل على هذا هو المفاج�آت التي تحملها‬
‫الجائزة كل �سنة‪ ،‬فبع�ض الأ�سماء الفائزة ال‬
‫يكون معروف ًا تمام ًا‪ ،‬بل �شبه مجهول‪.‬‬
‫جورج باتاي‬ ‫جان بول �سارتر‬ ‫بيتر هاندكه‬
‫�أما �أول رو�سي فاز بالجائزة؛ فهو �إيفان‬
‫بونين (‪ )1933‬وك��ان منفي ًا �إل��ى فرن�سا‪،‬‬
‫والثاني كان بوري�س با�سترناك �صاحب رائعة‬
‫(الدكتور جيفاكو) (‪ )1958‬ومنعته ال�سلطة‬
‫البول�شفية من ال�سفر �إلى ال�سويد لت�سلم الجائزة‪،‬‬
‫مهددة �إياه ب�أنه �إذا �سافر بطريقة �سرية‪ ،‬فهو‬
‫لن يعود �إلى البالد‪ ،‬فلم يذهب على الرغم من‬
‫ا�ضطهاد النظام له‪.‬‬
‫ال تح�صى حكايات جائزة نوبل الأدبية وال‬
‫المظالم التي طالت �أدباء عالميين تم ن�سيانهم‪،‬‬
‫عزرا باوند‬ ‫فرانز كافكا‬ ‫�سينكلر لوي�س‬
‫�أو تنا�سيهم على مر ال�سنوات‪ ،‬وكذلك البلدان‬
‫التي لم تنعم �إال بحظوظ قليلة جداً‪ ،‬مع �أنها‬
‫تملك مواهب �أدبية كبيرة‪ .‬و�أطرف (حكايات)‬
‫الجائزة؛ هو رف�ض المفكر الفرن�سي جان بول‬
‫�سارتر الجائزة التي منحت له العام (‪)1964‬‬
‫لأ�سباب �سيا�سية و�إيديولوجية‪ ،‬ثم �إقدامه بعد‬
‫فترة على المطالبة بالقيمة المالية للجائزة‪،‬‬
‫فرف�ض طلبه‪.‬‬
‫ترى من يفوز بالجائزة هذه ال�سنة؟ طبع ًا‬
‫هذا ال�س�ؤال يطرح كل ع��ام‪ ،‬وال يلقى جواب ًا‬
‫�إال عندما تعلن الأكاديمية اال�سم الفائز ظهر‬
‫�ألبير كامو اثناء نيله جائزة نوبل‬ ‫الخمي�س الأول من هذا ال�شهر‪� .‬أم��ا الأ�سماء‬
‫الجوائز‪ ..‬موعدها الخريفي كل عام‪ ،‬هو بمثابة‬ ‫المر�شحة‪ ،‬فهي تطرح كل �سنة‪ ،‬حتى بات القراء‬
‫اللحظة ال�ساحرة التي ينتظرها �أه��ل الأدب‬ ‫يعرفونها‪ .‬لكن بع�ض مكاتب المراهنة الأدبية‬
‫والإعالم‪ ،‬وكذلك القراء الذين يترقبون الإ�شارة‪،‬‬ ‫تقترح �أ�سماء جديدة‪ ،‬وغايتها على ما يبدو هو‬
‫ليقبلوا على نتاج الكاتب الفائز �أو المتوج‬ ‫خلق حال من الت�شويق‪.‬‬
‫بح�سب التقليد‪ .‬هذه الجائزة ال ت�ستطيع �أن‬ ‫�أما نحن كعرب‪ ،‬فمازلنا ن�أمل �أن تتذكرنا‬
‫حكايات جائزة‬ ‫تكون مجرد جائزة عابرة تمنح �سنة تلو �سنة‪،‬‬ ‫الجائزة‪ ،‬لي�س لأن ا�سم �أدوني�س من ال�سماء‬
‫م�شاهير نوبل طالت‬ ‫حتى و�إن اتهمت لجنتها بالت�سي�س واالنحياز‪،‬‬ ‫المطروحة بقوة‪ ،‬بل لأن الأدب العربي الحديث‬
‫بع�ض الأدباء الذين‬ ‫فالأ�سماء التي توجت منذ العام (‪ )1901‬ت�ؤكد‬ ‫والمعا�صر يحفل ب�أ�سماء مهمة‪ ،‬وقد تكون �أهم‬
‫تم ن�سيانهم‬ ‫رحابة ه��ذه الجائزة وقدرتها على احتواء‬ ‫من �أ�سماء عالمية عدة فازت بالجائزة‪ .‬ولئن‬
‫الجميع‪ ،‬على اختالف نزعاتهم وانتماءاتهم‪،‬‬ ‫بدا بع�ض الكتاب العرب متفائ ًال‪ ،‬ف�إن ك ّتاب ًا‬
‫من �أق�صى اليمين �إلى �أق�صى الي�سار‪ ،‬من �أق�صى‬ ‫كثراً مت�شائمون جداً‪ ،‬وفي ر�أيهم �أن العرب لن‬
‫التقليد والأ�صالة �إل��ى �أق�صى الحداثة‪ ،‬من‬ ‫يفوزوا بالجائزة مرة ثانية‪.‬‬
‫�أق�صى ال�شمال �إلى �أق�صى الجنوب‪ ،‬من �أق�صى‬ ‫ال بد من القول هنا �إن��ه مهما كتب عن‬
‫العالم الأول �إلى �أق�صى العالم الثالث‪ .‬ترى هل‬ ‫جائزة نوبل من مديح �أو هجاء‪ ،‬ومهما كيل لها‬
‫يفوز عربي بجائزة نوبل هذه ال�سنة؟‬ ‫من تهم و�أعلن عن ف�ضائح‪ ،‬فهي تظل جائزة‬

‫‪97‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫في ال�سفر حياة‪..‬‬

‫عزت القمحاوي‬
‫وكتابه «غرفة الم�سافرين»‬ ‫اعتدال عثمان‬

‫يلتقط القمحاوي �إ�شارات تجمع بين (دون‬ ‫الأ�صلي‪ ،‬وذل��ك عبر ا�ستدعائهم هنا في‬ ‫ك��ت��اب (غ��رف��ة الم�سافرين) للروائي‬
‫كيخوته) للإ�سباني ثيربانت�س‪ ،‬و(موبي‬ ‫قراءة جديدة ومبتكرة‪.‬‬ ‫وال�صحافي الم�صري ع��زت القمحاوي‪،‬‬
‫ديك) للأمريكي هرمان ملفيل‪ ،‬ورواية (مدن‬ ‫وما دمنا نتحدث عن ال�سفر �إلى ممالك‬ ‫يتيح لع�شاق ال�سفر فر�صة مفتقدة في زمن‬
‫ال مرئية) للإيطالي �إيتالو كالفينو‪ ،‬وغير‬ ‫الخيال‪ ،‬فمن المتوقع �أن ي�أخذنا ب�ساط‬ ‫كورونا‪� ،‬إذ يجوب بقرائه في بقاع العالم‪،‬‬
‫ذلك من ع�شرات اللقطات الم�ستخرجة من‬ ‫الريح �إلى عالم (�ألف ليلة وليلة)‪ ،‬فهو ِ‬
‫ال�س ْفر‬ ‫دون �أن يبرحوا �أماكنهم‪ .‬وربما لأن ال�سفر‬
‫�أعمالٍ لت�شيخوف‪ ،‬ود�ستويف�سكي‪ ،‬ونجيب‬ ‫لل�س َفر في الحكايات‪ ،‬وم��ن دون‬ ‫العمدة َ‬ ‫يمثل ولع ًا طاغي ًا لدى الكثير من الب�شر‪،‬‬
‫محفوظ‪ ،‬والطيب �صالح‪ ،‬ولطيفة الزيات‪،‬‬ ‫الرحلة الخارقة للزمان والمكان ي�سقط‬ ‫فقد القى الكتاب ا�ستجابة وا�سعة‪ ،‬تتمثل‬
‫ويو�سف �إدري�س‪ ،‬وغيرهم من �أجيال �أحدث‪..‬‬ ‫العجائبي‪ ،‬العمود الفقري لليالي الذي‬ ‫في �صدور �أرب��ع طبعات متوالية‪� ،‬آخرها‬
‫نجد �إ�شارات �إلى الولع بال�سفر في �أعمالهم‪،‬‬ ‫اعتمدت عليه تيارات الواقعية ال�سحرية‬ ‫منذ �شهور‪ ،‬كما و�صل الكتاب �إلى القائمة‬
‫مثل عبدالحكيم قا�سم‪ ،‬ومحمد الب�ساطي‪،‬‬ ‫والأدب العجائبي ف��ي ال��ع��ال��م كم�صدر‬ ‫الق�صيرة لجائزة ال�شيخ زايد لهذا العام‪.‬‬
‫ور�ضوى عا�شور‪ ،‬وجوخة الحارثي‪ ،‬و�إيمان‬ ‫رئي�سي‪ ،‬كما �أن �شهرزاد ا�ستطاعت الت�سلل‬ ‫ينتمي هذا العمل �إلى الكتابة العابرة‬
‫مر�سال‪ ،‬وغيرهم من �أدباء العالم‪ ..‬بينما‬ ‫�إلى مخيلة كتاب من جميع �أرج��اء الدنيا‬ ‫ل�ل�أن��واع‪ ،‬ال��ت��ي �أ�صبحت �شائعة عربي ًا‬
‫يحر�ص الكاتب على توثيق م�صادره في‬ ‫عبر الزمان‪.‬‬ ‫وع��ال��م��ي� ًا ف��ي الآون����ة الأخ ��ي ��رة‪ ،‬فيجمع‬
‫الهوام�ش‪.‬‬ ‫�أما عزت القمحاوي‪ ،‬هنا في هذا العمل‪،‬‬ ‫مزيج ًا من �أدب الرحلة‪ ،‬وفل�سفة ال�سفر‪،‬‬
‫ومن بين اللمحات الذكية التي يلتقطها‬ ‫ف�إنه ال يتورع عن الغرق في قراءة ن�صو�ص‬ ‫واالنطباعات ال�شخ�صية المحيطة بفنون‬
‫الكاتب‪ ،‬ويقدمها للقراء للم�شاركة بالر�أي‪،‬‬ ‫تمثل رحالت ميثولوجية و�أدبية متعددة‪،‬‬ ‫العمارة وال�سينما والم�سرح والغناء في‬
‫نجد مقارنة بين عملين �شهيرين‪ ،‬يعود‬ ‫من بينها �أ�سطورة (�أودي��ب)‪ ،‬وق�صة النبي‬ ‫م��دن ك��ب��رى م��ع��روف��ة‪ ،‬وع��ل��ى الم�ستوى‬
‫�إليهما الم�ؤلف في �أكثر من مو�ضع في‬ ‫�سليمان وملك الموت‪ ،‬وم��روراً بجلجام�ش‬ ‫المحلي �أي�ض ًا‪.‬‬
‫الن�ص بو�صفهما رفيقين �أثيرين في ال�سفر‪،‬‬ ‫وعولي�س‪ ،‬وو�صو ًال �إلى ال�شاعر اليوناني‬ ‫وهذا المزيج المده�ش‪ ،‬ف�ض ًال عن ات�ساع‬
‫ظال ي�شغالنه‪ ،‬وظل هو يحملهما في �أ�سفاره‪.‬‬ ‫ال�سكندري ال�شهير ق�سطنطين كفافي�س‬ ‫رقعة الكتاب‪ ،‬وق��درة كاتبه على ت�شبيك‬
‫العمل الأول هو (الموت في فين�سيا) للكاتب‬ ‫الذي �أ�شار في ق�صيدة له �إلى �أن‪( :‬الرحلة‬ ‫�أطرافه ب�سال�سة �أ�سلوبية جذابة‪ ،‬اكت�سبها‬
‫الألماني (توما�س م��ان) ال��ذي تحول �إلى‬ ‫�إلى �إيثاكا �أجمل من �إيثاكا)‪ .‬غير �أن الغرق‬ ‫من خبرته ال�صحافية الممتدة‪� ،‬إنما يتداخل‬
‫فيلم �سينمائي �شهير‪ ،‬والرواية الثانية هي‬ ‫في القراءة ُيك�سب الكاتب قدرة على تغذية‬ ‫مع َ�س َفر �آخ��ر‪ ،‬ي�أخذ ال��ق��ارئ �إل��ى ممالك‬
‫(الأمير ال�صغير) للكاتب الفرن�سي �أنطوان‬ ‫خبرته في التقاط عالمات �أدبية ب��ارزة‬ ‫الخيال عبر �سياحة في ع�شرات الأ�ساطير‬
‫دو �سانت �إك��زوب��ري‪ .‬بطل الرواية الأول��ى‬ ‫تتخللها الإ�شارة �إلى مغزى ال�سفر‪ ،‬فيجعلها‬ ‫والمالحم والأعمال الروائية والق�ص�صية‬
‫كاتب متحقق م�شهور‪� ،‬سافر �إلى فين�سيا‬ ‫تدخل في ن�سيج الكتابة ب�صورة طبيعية‬ ‫العالمية والعربية المرتبطة بال�سفر‪ ،‬فيخرج‬
‫حيث غرق في غواية غام�ضة ملكت عليه‬ ‫في معظم الأح��ي��ان‪ ،‬ع��دا بع�ض الإط��ال��ة‪،‬‬ ‫�أبطال هذه الأعمال ال�شهيرة‪ ،‬والأقل �شهرة‬
‫حوا�سه دون �أن يبادر �إل��ى �أي فعل‪ ،‬لأنه‬ ‫خ�صو�ص ًا في الف�صول الأخيرة من الكتاب‪.‬‬ ‫من �سياقهم الخيالي الأول‪ ،‬ليدخلوا في‬
‫كان ممتلئ ًا بذاته‪ ،‬ي�شعر ب�أنه بلغ كمال‬ ‫م��ن بين ال��ع�لام��ات الأدب��ي��ة ال��ب��ارزة‬ ‫�إهاب �سردي �آخر‪ ،‬دون �أن يفقدوا �سحرهم‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪98‬‬


‫درا�سة‬

‫�أنه يخ�صه‪ ،‬هنا �أو هناك‪ ،‬لي�س مهم ًا �أن يجده‪،‬‬ ‫المعرفة التي ال بد �أن تفر�ض ح�ضورها‪ ،‬فظل‬
‫يتيح لنا القمحاوي‬ ‫�إذ تبقى الف�ضيلة الكبرى لل�سفر �أن ي�صالحنا‬ ‫�ساكن ًا �إلى �أن لحقه الموت في المدينة التي‬
‫ال�سفر في زمن‬ ‫على �أماكن عي�شنا الأ�صلية‪ ،‬لأننا نعود منه‬ ‫�أ�صابها الطاعون‪� .‬أم��ا بطل رواي��ة (الأمير‬
‫الكورونا ويجوب بنا‬ ‫(م�شتاقين �إلى �سريرنا الأ�صلي‪ ،‬عملنا الذي‬ ‫ال�صغير)؛ فقد �آمن ب�ضرورة ال�سعي �إلى المعرفة‬
‫ن�ستمد منه المعنى‪ ،‬وطعم قهوتنا المعتاد)‪.‬‬ ‫واكت�شاف المجهول في �أفق مفتوح‪ .‬وهكذا تعد‬
‫بقاع العالم‬
‫يبرع عزت القمحاوي في التقاط التفا�صيل‬ ‫هذه الرواية معار�ضة �أدبية لرواية توما�س‬
‫ال�صغيرة الم�صاحبة لحاالت اال�ستعداد لل�سفر‪،‬‬ ‫مان الجميلة المقب�ضة‪.‬‬
‫�سواء ك��ان ذل��ك عبر المطارات �أو الموانئ‪.‬‬ ‫يت�أمل الكاتب فل�سفة ال�سفر والترحال‬
‫ويولي عناية فائقة الختيار حقيبة ال�سفر‬ ‫بو�صفها م��ع��اد ًال للحياة‪ ،‬يقول في مفتتح‬
‫ومحتوياتها‪ ،‬وداللة ذلك‪ ،‬فالحقيبة هي رفيق‬ ‫الكتاب‪( :‬من لم ي�سافر ولو عبر ق�صة في كتاب‪،‬‬
‫الرحلة الم�ؤن�سن‪� ،‬أو هي ذات الم�سافر الأخرى‬ ‫لم يع�ش)‪ .‬لكنه يتوقع رد فعل القارئ الذي‬
‫ينتمي العمل �إلى‬
‫المحمولة معه‪ ،‬والكا�شفة عن طبيعته‪ ،‬ونوع‬ ‫يتوجه �إليه بالحديث‪ ،‬فيعدل من �صوغ العبارة‬
‫ما ي�سمى الكتابة‬ ‫�شخ�صيته‪ ،‬ور�ؤيته للحياة المختزلة في هيئة‬ ‫م�ضيف ًا‪ ..( :‬لم يع�ش �إال حياة واحدة ق�صيرة)‪.‬‬
‫العابرة للأنواع ما‬ ‫الحقيبة ومحتوياتها‪ ،‬ما ي�ضفي على الكتابة‬ ‫لكن الأمر لي�س بهذه الب�ساطة‪ ،‬فالحياة مليئة‬
‫بين �أدب الرحلة‬ ‫هنا طابع ًا رمزي ًا �ساخراً‪ ،‬يراه الم�ؤلف ع�صب‬ ‫ب ��الآالم والم�آ�سي‪ ،‬والأع��م��ار مهم ًا طالت‪،‬‬
‫وفل�سفة ال�سفر‬ ‫الخيال‪ .‬كذلك يتطرق الكاتب‪ ،‬بتنويعات على‬ ‫محدودة في �سياق الزمن الممتد‪ ،‬لذلك ف�إن‬
‫النبرة ال�ساخرة نف�سها‪� ،‬إلى تفا�صيل اال�ستقبال‬ ‫ال�سفر ن��وع من العي�ش الكثيف �أو المكثف‪،‬‬
‫واالنطباعية‬
‫والمغادرة في المطارات والموانئ‪ ،‬والعالقات‬ ‫طالما �أن وقتنا على الأر�ض محدود‪.‬‬
‫المت�شابكة خالل الإقامة في الفنادق‪ ،‬وغير‬ ‫وال�سفر �أي�ض ًا نوع من الموت اللذيذ الذي‬
‫ذلك من تفا�صيل التجول في المدن‪ ،‬واختيار‬ ‫يغيبنا م�ؤقت ًا عن مجرى حياتنا المعتادة‪،‬‬
‫المعالم التي �سيركز عليها في الكتابة‪.‬‬ ‫لكننا نعود منه بعد وقت طال �أم ق�صر‪� ،‬إلى‬
‫وي��ذك��ر هنا �أن الكاتب ي��ن��زع ع��ن هذه‬ ‫ُ‬ ‫المجرى الم�ألوف‪ .‬وال�سفر �أي�ض ًا يرتبط بالحلم‪..‬‬
‫يرتبط ال�سفر لديه‬ ‫التفا�صيل طابعها المتكرر المعتاد‪ ،‬الذي‬ ‫�إننا نحلم بالمدن التي نت�شوق لزيارتها‪ ،‬وتلك‬
‫ي�ألفه الم�سافر‪ ،‬لتدخل في �أبعاد �ساخرة بلطف‪،‬‬ ‫التي ع�شنا فيها تجارب �سعيدة‪ .‬وعلى م�ستوى‬
‫بالحلم نحو المدن‬ ‫و�سبحات ت�أملية جديدة وطريفة‪ ،‬ال يمكن‬ ‫�أعمق فل�سفي ًا (ربما كانت الحياة كلها مجرد‬
‫التي نت�شوق �إليها‬ ‫توقعها‪ُ ،‬تك�سب ال�سرد حيوية مده�شة‪.‬‬ ‫حلم‪ ،‬والموت هو ا�ستيقاظ الحالم‪ ،‬وال�سفر‬
‫وتكثيف الإح�سا�س‬ ‫في �أعمال �أخ��رى للكاتب‪ ،‬عابرة �أي�ض ًا‬ ‫والعودة هما مجاز الحياة والموت)‪.‬‬
‫بالحياة‬ ‫للأنواع الأدبية‪ ،‬مثل كتاب (الأيك في المباهج‬ ‫�أما على الم�ستوى ال�شخ�صي‪ ،‬الذي يحر�ص‬
‫والأح��زان) (‪ ،)2002‬يبدو القمحاوي محتفي ًا‬ ‫الكاتب على م�شاركته مع قرائه‪ ،‬فينقل �إليهم‬
‫بالحوا�س ومباهجه ًا ك�أحد مداخل المعرفة‬ ‫�شغفه المتوا�صل بالترحال وال�سفر‪ ،‬لي�س‬
‫الإن�سانية‪ .‬وهو في هذا الكتاب ال يتخلى عن‬ ‫لتكثيف الإح�سا�س بالحياة فقط‪ ،‬ولكن ال�سفر‬
‫الحوا�س في دقة ر�صد التفا�صيل‪ ،‬لكنه يبدو‬ ‫يتيح �أي�ض ًا فر�صة لخلق حالة من الم�صارحة‬
‫هنا وك�أنه قد قرر �أن يتحول‪ ،‬كلما تراءى له‪،‬‬ ‫والمكا�شفة مع الذات التي تن�سل خارج نف�سها‬
‫ينقلنا بين الأمكنة‬ ‫بحرية بين الأماكن‪،‬‬ ‫�إلى كائن من �شعاع‪ ،‬يتنقل ّ‬ ‫لكي تتمكن من معرفة هذه الذات على حقيقتها‪،‬‬
‫والفنون والمدن‬ ‫والآث��ار‪ ،‬والفنون‪ ،‬ومعالم المدن‪ ،‬والأفكار‪،‬‬ ‫والإح�سا�س بها ب�صورة ملمو�سة وعلى نحو‬
‫والحكايات‪ ،‬ويمحو الحدود والفوا�صل بين‬ ‫�أ�شمل‪ ،‬بعيداً عن ال�ضغوط المعتادة في الحياة‬
‫والأفكار والحكايات‬ ‫الواقع والخيال‪ ،‬بين ال�سفر الفعلي‪ ،‬والكتابة‬ ‫اليومية‪ .‬وقد ي�ؤدي ذلك �إلى خلق حالة حوارية‬
‫وهو حافل بالإمتاع‬ ‫عن ال�سفر‪.‬‬ ‫تتعدد فيها الأ�صوات داخل الذات الكاتبة التي‬
‫والمعرفة‬ ‫وما بين ال�سفر في ربوع الأر�ض‪ ،‬وال�سفر‬ ‫تتجاهل وحدتها‪ ،‬وت�شارك قراءها‪ ،‬مجاوزة‬
‫�إل��ى ممالك الخيال‪ ،‬يحظى القارئ بفر�صة‬ ‫الفردي �إلى الإن�ساني‪ .‬والكاتب هنا‪ ،‬يف�ضي �إلى‬
‫حافلة بالإمتاع والم�ؤان�سة‪ ،‬والمعرفة �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫القارئ ب�أنه يبحث في ال�سفر عن �شيء يتوهم‬

‫‪99‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�أ�سرته اللغة العربية‬

‫نوبو�أكي نوتوهارا‪� ..‬أهم من ترجم‬


‫الرواية العربية �إلى اليابانية‬
‫ولد نوبو�أكي نوتوهارا عام (‪1940‬م)‪،‬‬
‫بد�أت عالقته باللغة العربية عام (‪1961‬م)‪،‬‬ ‫ين�سب (ن��وب��و�أك��ي ن��وت��وه��ارا) �إل���ى ج��ي��ل الن�ضج من‬
‫طالب ًا في ق�سم الدرا�سات العربية بجامعة‬ ‫الم�ستعربين اليابانيين‪ ،‬الذين فتنوا باللغة العربية‪،‬‬
‫طوكيو‪ ،‬وبعدها مدر�س ًا ل�ل�أدب العربي في‬ ‫ب���درج���ات م��ت��ف��اوت��ة‪ ،‬ف��ه��و ���ص��اح��ب ر�ؤي����ة عميقة عن‬
‫الجامعة ذاتها ومترجم ًا للرواية العربية‪،‬‬
‫ال��ث��ق��اف��ة ال��ع��رب��ي��ة‪ ،‬الق���ت ���ص��دى ك��ب��ي��ر ًا ف��ي �أو���س��اط‬
‫حيث تخرج على يديه كثير من المترجمين‬
‫والباحثين اليابانيين‪ ،‬ف��ي الأدب العربي‬ ‫المثقفين العرب واليابانيين‪� ،‬سعى خاللها �إلى تحقيق‬
‫خلف محمود �أبوزيد‬
‫الحديث‪ ،‬لم يقنع في البداية بالدرا�سة النظرية‬ ‫تفاعل ح��ي‪ ،‬وت��وا���ص��ل خ�لاق بين الثقافتين العربية‬
‫للغة العربية والأدب العربي في اليابان‪،‬‬ ‫واليابانية‪ ،‬من خ�لال معاي�شته للحياة العربية لأكثر من �أربعين عاماً‪،‬‬
‫فح�صل على زمالة من م�صر طالب ًا م�ستمع ًا في‬
‫عكف خاللها على درا�سة ثقافتنا و�أدبنا العربي‪ ،‬دار�س ًا ومت�أم ًال ومترجماً‪.‬‬
‫جامعة القاهرة‪� ،‬سافر بين عدة عوا�صم عربية‪،‬‬
‫باحث ًا ومكت�شف ًا ومعاي�ش ًا‪ ،‬للحياة العربية‬
‫عن قرب‪ ،‬من م�صر �إلى اليمن‪� ،‬إلى �سوريا �إلى‬
‫المغرب‪ ،‬في زيارات ميدانية‪ ،‬في المدن والقرى‬
‫والبوادي وال�صحارى العربية‪ ،‬تعلم خاللها‬
‫عدداً من اللهجات ال�سائدة في بع�ض المناطق‪،‬‬
‫و�شغف بهذه الحياة الفطرية العربية‪ ،‬التي ال‬
‫يعرفها اليابانيون‪.‬‬
‫و�أثناء هذه المعاي�شة‪ ،‬قر�أ �أعما ًال كثيرة‬
‫لأدب��اء ع��رب‪� ،‬أمثال يو�سف �إدري�س‪ ،‬وتعرف‬
‫�إلى �إنتاج الدكتور عبدال�سالم العجيلي الأدبي‪،‬‬
‫ورواي��ات الأدي��ب عبدالرحمن منيف‪ ،‬خا�صة‬
‫رواية (مدن الملح)‪ ،‬و�أعمال الأديب والروائي‬
‫الليبي �إبراهيم الكوني‪ ،‬كما قر�أ �أعما ًال روائية‬
‫ل�صنع اهلل �إبراهيم‪ ،‬ويحيى الطاهر عبداهلل‪،‬‬
‫وح�سين فوزي‪ ،‬ويحيى حقي‪ ،‬وقد تركت بع�ض‬
‫الأعمال الروائية والفكرية العربية �أثراً كبيراً‬
‫في نف�سه‪ ،‬كرواية (الأر�ض) للأديب عبدالرحمن‬
‫ال�شرقاوي‪ ،‬وكتاب (�شخ�صية م�صر) للدكتور‬
‫جمال حمدان‪ ،‬حيث يقول (�إن قدرتي على قراءة‬
‫الأدب العربي الحديث‪ ،‬هي متعتي ال�شخ�صية‪،‬‬
‫وهي نوع من االمتياز‪ ،‬الذي ح�صلت عليه‪ ،‬لأن‬
‫قلة من اليابانيين تح�صلت على تلك المتعة‬
‫وذاك االمتياز)‪ ،‬وبهذه ال��روح المحبة لقراءة‬
‫الرواية العربية المعا�صرة‪� ،‬أحب فن الرواية‬
‫العربية وتخ�ص�ص فيه‪ ،‬حيث ق��ام بترجمة‬
‫العديد من الأعمال الروائية العربية المعا�صرة‪،‬‬
‫�إلى اللغة اليابانية‪ ،‬والتي اختارها ح�سب قوله‬
‫(وفق اهتمام �شخ�صي بالدرجة الأول��ى‪ ،‬قبل‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪100‬‬


‫�أ�ضواء‬

‫ف ��ي ال ��وط ��ن ال��ع��رب��ي‪،‬‬ ‫االهتمام بما يريد الجمهور الياباني)‪ ،‬فهو �صاحب‬
‫مدنه وحوا�ضره �أريافه‬ ‫منهج فريد في ترجمة الرواية العربية‪.‬‬
‫وب��وادي��ه‪ ،‬ط��وال �أربعين‬ ‫وي��رى العديد من الباحثين‪� ،‬أن��ه الم�ستعرب‬
‫لا ر�ؤي ��ة‬
‫ع ��ام�� ًا‪ ،‬م�����س��ج� ً‬ ‫الياباني الوحيد‪ ،‬ال��ذي ي�ستحق ا�سم مترجم‪،‬‬
‫ع����ارف وخ��ب��ي��ر يحمل‬ ‫ف�صفة المترجم �صفة ثابتة بالن�سبة �إليه‪ ،‬بينما‬
‫ر�ؤية الآخر غير العربي‬ ‫هي �صفة م�ؤقتة بالن�سبة �إلى غيره‪ ،‬فهو يترجم‬
‫للداخل ال��ع��رب��ي‪ ،‬حيث‬ ‫بدوافع داخلية �شخ�صية جداً‪ ،‬و�إال فالترجمة لي�س‬
‫ت�ضمن كتابه ه��ذا �آراء‬ ‫لها معنى بالن�سبة �إليه‪ ،‬حيث يقول (قبل كل �شيء‬
‫ج��ري��ئ��ة وم��و���ض��وع��ات‬ ‫حاولت �أن �أكون �أحد قراء الأدب العربي المعا�صر‪،‬‬
‫�صنع اهلل �إبراهيم‬ ‫محمد �شكري‬ ‫متنوعة‪ ،‬ح��ول الثقافة‬ ‫وفي هذا ال�سبيل قابلت الكثير من الكتاب‪ ،‬ومن‬
‫العربية‪� ،‬أب��رزه��ا ثقافة‬ ‫الإنتاج الأدبي‪ ،‬و�إرادتي هذه �أن �أكون قارئ ًا للأدب‬
‫الأنا وموقفها من ثقافة‬ ‫العربي المعا�صر‪� ،‬أريد لها �أن ت�ستمر في الم�ستقبل‪،‬‬
‫الآخر‪ ،‬و�سجل انطباعاته‬ ‫بعد متعة القراءة ت�أتي الترجمة‪ ،‬وفي هذه الحالة‪،‬‬
‫حول ال�شخ�صية العربية‪،‬‬ ‫اخترت الإنتاج وفق اهتمامي ال�شخ�صي بالدرجة‬
‫وقدرتها على التحديث‬ ‫الأول��ى قبل االهتمام بالجمهور الياباني)‪ ،‬كما‬
‫وال��ت��ط��ور‪ ،‬وق ��د و�صف‬ ‫عبر من خالل ترجماته للرواية العربية‪� ،‬أنه لم‬
‫تجربته وانطباعاته هذه‬ ‫يكن م�ستعج ًال لإنجاز الترجمة‪ ،‬فقد كان يقوم‬
‫عن الحياة العربية بقوله‬ ‫بزيارة الأماكن‪ ،‬التي حدثت فيها �أحداث الروايات‪،‬‬
‫(فما قدمته ال يمثل �سوى‬ ‫فيفح�صها بدقة‪ ،‬ويطوف في �أرجاء البلد‪ ،‬يلتقي‬
‫غ�سان كنفاني‬ ‫يحيى الطاهر عبداهلل‬
‫وج��ه��ة ن��ظ��ر �شخ�صية‬ ‫الأدب��اء فيه‪ ،‬وي�سعى للتعرف �إل��ى حياة النا�س‬
‫و�صغيرة حول بع�ض البلدان العربية‪ ،‬وعزائي �أن‬ ‫اليومية ب�صورة مبا�شرة‪ ،‬وعلى نطاق وا�سع‪ ،‬وكانت‬
‫كنت �صادق ًا فيما كتبت‪ ،‬و�أنني �أعتبر �أن ما قدمته‬ ‫�أولى ترجماته للرواية العربية �إلى اليابانية‪ ،‬رواية‬
‫في هذا الكتاب هو بمنزلة رد الجميل لأ�صدقائي‬ ‫(عائد �إلى حيفا)‪ ،‬لغ�سان كنفاني عام (‪1969‬م)‪،‬‬
‫من العرب)‪ ،‬حيث جمعته �صداقات كبيرة‪ ،‬بعدد‬ ‫ورواية (الأر�ض) لعبدالرحمن ال�شرقاوي‪ ،‬التي لم‬
‫كبير من ال�شعراء والروائيين والكتاب العرب‪،‬‬ ‫يخف �إعجابه ال�شديد بها‪ ،‬وكيف عا�ش بنف�سه في‬
‫در�س العربية‬ ‫وقد تطرق للحديث عنهم في هذا الكتاب‪ ،‬نذكر‬ ‫الريف الم�صري‪ ،‬حتى يعاي�ش �أجواء الرواية‪ ،‬كما‬
‫في م�صر و�سوريا‬ ‫منهم‪� :‬أدوني�س‪ ،‬محمد برادة‪ ،‬عبدالكريم الخطيبي‪،‬‬ ‫ترجم العديد من ق�ص�ص وروايات الأديب الكبير‬
‫نذير نبعة‪ ،‬الفنانة الت�شكيلية الم�صرية �شلبية‬ ‫يو�سف �إدري�س‪ ،‬الذي ج�سد ح�سب قوله ب�أ�سلوبه‬
‫والمغرب وزار �أغلب‬ ‫الرائع ع��ادات فالحي م�صر وتقاليدهم‪ ،‬وهذه‬
‫�إبراهيم‪ ،‬غ�سان كنفاني‪� ،‬إبراهيم الكوني‪ ،‬نجيب‬
‫المدن والعوا�صم‬ ‫محفوظ‪ ،‬يو�سف �إدري�س‪ ،‬محمود دروي�ش‪ ،‬محمد‬ ‫الأعمال هي‪�( :‬أرخ�ص ليالي‪ ،‬الحرام‪ ،‬الع�سكري‬
‫العربية‬ ‫�شكري وغيرهم‪ ،‬حيث و�صف تلك القامات الأدبية‬ ‫الأ�سود‪ ،‬بيت من لحم‪ ،‬حادثة �شرف)‪ ،‬و�أعجب كثيراً‬
‫العربية‪ ،‬ب�أنهم كتاب عالميون‪ ،‬وي�ستحقون الكثير‬ ‫بروايات الأديب الليبي �إبراهيم الكوني‪ ،‬التي تج�سد‬
‫من التقدير‪ ،‬والأمر الذي يدعو للده�شة‪� ،‬أنه كتب‬ ‫روح ال�صحراء العربية‪ ،‬وعادات البدو‪ ،‬حيث بذل‬
‫م�ؤلفه هذا بلغة عربية ف�صيحة‪ ،‬في �سابقة لم يجر�ؤ‬ ‫جهداً كبيراً في ترجمة ودرا�سة �أعماله الروائية‬
‫عليها �أحد من الم�ست�شرقين الأوروبيين‪ ،‬على مدى‬ ‫وتقديمها للقارئ الياباني‪.‬‬
‫تاريخهم الطويل في درا�سة الثقافة العربية والأدب‬ ‫ومن �أعماله التي ترجمها �إلى اليابانية رواية‬
‫العربي‪ ،‬وقد عرف عن �سبب كتابة هذا الم�ؤلف‬ ‫(التبر)‪ ،‬والتي ح�صلت على جائزة اللجنة اليابانية‬
‫باللغة العربية بقوله (كتبت باللغة العربية لأعبر‬ ‫للترجمة عام (‪1997‬م)‪ ،‬ومن ترجماته �أي�ض ًا‬
‫عن محبتي للثقافة العربية‪ ،‬فقد �أعطيتها عمري‬ ‫رواية (تلك الرائحة)‪ ،‬للأديب �صنع اهلل �إبراهيم‪،‬‬
‫كله‪ ،‬وجهدي كله‪ ،‬وعملي كله‪ ،‬وهذا ب��ر�أي �أرفع‬ ‫و(الخبز الحافي) لمحمد �شكري‪ ،‬و(�ستة �أيام) لحليم‬
‫تقدير و�أكبر محبة‪ ،‬وال�س�ؤال الذي �أقلقني دائم ًا‪،‬‬ ‫بركات‪ ،‬و(الوباء) للكاتب ال�سوري هاني الراهب‪،‬‬
‫هو لماذا �أرى �أن واجبي �أن �أكتب باللغة العربية‬ ‫وله العديد من الدرا�سات النقدية‪ ،‬عن �أدباء عرب‪،‬‬
‫مبا�شرة �إلى القارئ العربي‪ ،‬و�أنا �أعرف �سلف ًا‪َ ِ ،‬‬
‫لم‬ ‫�أمثال ال�شاعر علي الجندي‪ ،‬والروائي حيدر حيدر‪،‬‬
‫�سترهقني الكتابة بالعربية‪ ،‬لكنني قلت في نف�سي‬ ‫والروائي �إميل حبيبي‪ ،‬ومحمد �شكري وغيرهم‪ ،‬ثم‬
‫كتبت للقارئ الياباني باليابانية وبقليل من‬ ‫جاء كتابه المهم (الغرب وجهة نظر يابانية) قدم‬
‫الإنجليزية‪ ،‬فلماذا ال �أكتب للقارئ العربي بلغته؟)‪.‬‬ ‫خالله ح�صيلة درا�سته للثقافة العربية‪ ،‬والحياة‬

‫‪101‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫البنى الم�ؤ�س�سة‬
‫لطبيعة الأدب‬
‫د‪ .‬مازن �أكثم �سليمان‬

‫لغة الحياة اليومية �أو اللغة الر�سمية �أو غيرها‪،‬‬ ‫ال ب��د �أن يمر �أي ا�شتغالٍ معرفي محكم‬
‫ب�أنها تنظم وت�شد معطيات اللغة‪ ،‬لتجعل منها‬ ‫لفهم طبيعة الأدب بتحديد م�ستويين له‪� ،‬شك ًال‬
‫�أداة ت�ضع المتلقي في حالة من الوعي والمتعة‬ ‫وم�ضمون ًا‪ ،‬حيث ينطوي الم�ستوى الأول على‬
‫الخا�صين‪.‬‬ ‫تعيين حقل الأدب‪ ،‬ومادة الأدب‪ ،‬وغاية الأدب‪،‬‬
‫لكن هذا التف�سير‪ ،‬ال يعني �أن يتحول الأدب �إلى‬ ‫في حين ينطوي الم�ستوى الثاني لفهم طبيعة‬
‫�صنعة لغوية‪ ،‬ف�إذا كان الأدب عمل في اللغة‪ ،‬فهو‬ ‫الأدب‪ ،‬على تعيين المكون المرجعي‪ ،‬والمكون‬
‫الفن الأكثر قدرة على ا�ستيعاب الوقائع وماهيات‬ ‫الفكري‪ ،‬والمكون الجمالي الفني‪.‬‬
‫ال��وج��ود‪ ،‬وتحويلها �إل��ى كيفيات جمالية‪ ،‬لأن‬ ‫ي�شتمل حقل الأدب على كل ما يقوم به‬
‫طبيعة الأدب بو�صفها مت�صلة بالعمل‪ ،‬تقدم نوع ًا‬ ‫الإن�سان من فعاليات ون�شاطات؛ �أي �أن الأدب‬
‫راقي ًا من �أن��واع العمل‪ ،‬الذي يختلف عن العمل‬ ‫ن�شاط عملي تتحدد طبيعته بنوع ما يعك�سه من‬
‫النفعي البحت‪� ،‬إذ تكون مادته الكلمة (اللغة)؛‬ ‫عالقة بين الإن�سان وعالمه عبر العمل‪ ،‬وجوهر‬
‫�أي ال�شكل المتميز للوعي في عالقته الوطيدة‬ ‫العمل‪ ،‬هو خلق االن�سجام والوحدة بين الإن�سان‬
‫ي�شمل حقل الأدب‬ ‫بالخيال‪ ،‬لإ�سباغ الأب��ع��اد الجمالية‪ .‬ف��الأدب‬ ‫والطبيعة‪ ،‬فالعمل الأدب ��ي ن��وع من الإب ��داع‪،‬‬
‫كل ما يقوم به‬ ‫يتخذ مكان ًا و�سط ًا بين المعرفة النظرية والن�شاط‬ ‫نما فيه الح�س الجمالي ليغدو حاجة �إن�سانية‬
‫الإن�سان من �إبداع‬ ‫المادي العملي‪ ،‬والكلمة هي التي تحقق للأدب‬ ‫تت�ضمن النافع‪ ،‬وال تتناق�ض معه‪.‬‬
‫كتابي‬ ‫مهمته التبليغية والتوا�صلية والمعرفية‪.‬‬ ‫وتنه�ض طبيعة الأدب عبر العالقة الوطيدة‬
‫ولعل هذا الكالم ي�ؤدي‪ ،‬مبا�شر ًة‪� ،‬إلى الت�سا�ؤل‬ ‫بينه وب��ي��ن العمل على معيار ت��ط��ور الوعي‬
‫عن العن�صر الثالث والأخير في الم�ستوى الأول‪،‬‬ ‫والمعرفة‪ ،‬ف ��الأدب �شكل م�ستقل م��ن �أ�شكال‬
‫الذي يتم عبره تعيين طبيعة الأدب‪ ،‬وهو‪ :‬غاية‬ ‫الوعي‪ ،‬يعك�س على نح ٍو دقيق‪ ،‬نمط العالقة بين‬
‫الأدب؛ والتي هي الإن�سان وتكوينه الروحي‬ ‫الفرد والمجتمع في كل ع�صر‪ ،‬ذلك �أن ا�ستيعاب‬
‫والفكري والجمالي‪ ،‬ف��الأدب مت�صل بالوجود‬ ‫العالم و�إدراك��ه �إدراك� ًا جمالي ًا‪ ،‬ترافق مع �أولى‬
‫الإن�ساني كله‪ ،‬وهو يتيح للب�شر �أن يفهموا الحياة‬ ‫لحظات العمل وت�شكل الوعي وتطور المعرفة‪.‬‬
‫ب�صورة �أف�ضل‪ ،‬وهو �أي�ض ًا‪ ،‬كما يقول �سارتر‪:‬‬ ‫ويقود هذا الترابط في حقل الأدب بين العمل‬
‫(ك�شف للإن�سان والعالم)‪ .‬ويعد (كونديرا) الأدب‬ ‫ٌ‬ ‫والوعي‪ ،‬تلقائي ًا‪� ،‬إلى ال�صلة المحورية للأدب‬
‫محاولة لك�شف (ج��ان��ب مجهول م��ن الوجود‬ ‫بالمجتمع‪ ،‬حيث �إن الأدب م�ؤ�س�سة اجتماعية‬
‫الإن�ساني)‪ ،‬فهو ال يتوقف‪ ،‬في اعتقاده‪ ،‬عن البحث‬ ‫�أداته اللغة التي هي من خلق المجتمع؛ بمعنى‬
‫في حقيقة الإن�سان والحياة والوجود‪ ،‬فطبيعة‬ ‫�أن طبيعة الأدب تتعلق بمادة الأدب بو�صفها‬
‫الأدب تكمن في غايته الهادفة �إل��ى �صياغة‬ ‫م�ؤ�س�سة اجتماعية‪ ،‬وتمييز الأدب عن غيره بفهم‬
‫موقف �إن�ساني‪ ،‬وال يعني ذلك �أن الأدب تعبير‬ ‫طبيعته ال يمكن �أن يتم �إال عبر فهم المادة التي‬
‫عن الحياة الإن�سانية‪ ،‬فح�سب؛ �إنما هو �إ�ضافة‬ ‫يت�شكل منها؛ فلغة الأدب تتميز عن لغة العلم �أو‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪102‬‬


‫فوا�صل‬

‫و�إذا كان الأديب يعك�س التطور الم�ستمر في‬ ‫وتنمية لها في الآن نف�سه‪ ،‬وهو‪ ،‬في قرارته‪ ،‬كما‬
‫حياة الإن�سان وحياة الع�صر‪ ،‬فال بد له من �أن‬ ‫(نقد للحياة)‪.‬‬
‫حدد طبيعته ماثيو �أرنولد‪ٌ :‬‬
‫يعك�س حياة الفكر وتطوره �أي�ض ًا؛ وبهذا يتحدد‬ ‫و�أنتقل بعد �أن حاولت تحديد طبيعة الأدب‪،‬‬
‫ارتباط المكون المرجعي بالمكون الفكري‪ ،‬ذلك‬ ‫عبر �شرح حقله ومادته وغايته‪� ،‬إلى الم�ستوى‬
‫�أن المبدع الأ�صيل ال ي�ستطيع �أن يعي�ش منزوي ًا‬ ‫الثاني في تعيين هذه الطبيعة‪ ،‬عبر فهم مكونات‬
‫الأدب �شكل م�ستقل‬ ‫عن قيم ع�صره‪ ،‬وما تن�ش�أ فيه من حركات فكرية‬ ‫الأدب التي ه��ي‪ :‬المكون المرجعي‪ ،‬والمكون‬
‫�أو اجتماعية �أو �سيا�سية‪ .‬فالمكون الفكري‬ ‫الفكري‪ ،‬والمكون الجمالي الفني‪.‬‬
‫من �أ�شكال الوعي‬ ‫في طبيعة الأدب هو ال��ر�ؤى التي ي�صوغ فيها‬ ‫ونق�صد بمرجع الأدب؛ العالم المو�ضوعي‬
‫يعك�س نمط العالقة‬ ‫الأدي���ب تجاربه وعالقته بالمرجع والعالم‬ ‫ال ��ذي يتناوله الأدب بمعزل ع��ن ال�صياغة‬
‫بين الفرد والمجتمع‬ ‫ينهم بها وتدفعه �إلى‬ ‫المحيط‪ ،‬وهو الق�ضية التي ّ‬ ‫الجمالية لهذا العالم المو�ضوعي‪ ،‬فالمرجع في‬
‫الإبداع‪ ،‬فالفكرة عندما تتحقق فني ًا؛ �أي عندما‬ ‫الأدب مفهوم معقد‪ ،‬ذلك �أن العالم المو�ضوعي‬
‫يتم التعبير عنها �إبداعي ًا‪ ،‬ال تت�ساوى مع الفكرة‬ ‫ي�صعب تحليله بكل جوانبه و�شموليته و�سعته‪،‬‬
‫نف�سها عندما يعبر عنها منطقي ًا‪.‬‬ ‫لكن يمكن فهمه على �أنه ذلك العالم الطبيعي‬
‫�إن الفكر والفن لي�سا عدوين مطلق ًا؛ فالفكر‬ ‫المادي الذي نحتك به على الدوام‪ ،‬بما في ذلك‬
‫هو العامل الرئي�س والحتمي في جميع الأفعال‬ ‫وجود الإن�سان‪ ،‬و�أ�شكال عي�شه اليومي‪.‬‬
‫الإن�سانية‪� .‬أما الإبداع؛ فهو تج�سيد لفكر ما في‬ ‫ف���الأدب مرتبط ب�شروط الحياة الفعلية‬
‫�صور حية‪ ،‬و�إذا كان من الطبيعي �أال يعد كل‬ ‫ومعطياتها‪ ،‬ومت�صل بالن�شاطات الإن�سانية‬
‫�أديب مفكراً كبيراً؛ لكن هذا ال ينفي حاجة كل‬ ‫المنبثقة عنها‪ ،‬وه��ي التي ت�شكل بمجموعها‬
‫مبدع �إلى امتالك ر�ؤي��ة �شمولية وفهم ًا فكري ًا‬ ‫مرجعية الأدب التي ت�ؤكد انطالقه من �شروط‬
‫الإبداع هو تج�سيد‬ ‫عميق ًا للحياة والوجود‪ ،‬وعدم و�ضوح مثل هذه‬ ‫ال��واق��ع المو�ضوعي‪ ،‬وال يعني ه��ذا الفهم �أن‬
‫لفكر ما في �صورة‬ ‫الر�ؤية ال�شمولية‪ ،‬على نح ٍو مبا�شر‪ ،‬في الكثير من‬ ‫الواقع المو�ضوعي يحول دون �أن ننظر �إليه نظرة‬
‫الأعمال الإبداعية ال ينفي‪ ،‬في الوقت نف�سه‪� ،‬أن‬ ‫جمالية‪ ،‬فهو حا�ضر دائم ًا في الإب��داع الأدبي‪،‬‬
‫ح ّية‬ ‫نظرة ه�ؤالء المبدعين الفكرية لم تكن ذات �أهمية‬ ‫غير �أنه ي�صاغ عبر هذا الإبداع �صياغة جمالية‪.‬‬
‫جوهرية بالن�سبة �إلى ممار�ساتهم الفنية‪.‬‬ ‫كما �أن المرجع ال يعني‪ ،‬فقط‪ ،‬كل ما هو مرئي‬
‫و�أخيراً‪ ،‬يثير المكون الثالث الذي تت�شكل منه‬ ‫ومكت�شف بو�ساطة العلم والفن والأدب؛ �إنما‬
‫طبيعة الأدب‪ ،‬وهو المكون الجمالي الفني‪ ،‬في‬ ‫ي�شتمل �أي�ض ًا على م�سارات حركة العالم وتطوره‬
‫المتلقي �إح�سا�سات جمالية‪� ،‬أو انفعاالت �شعورية‪،‬‬ ‫والتعدد غير المحدود لأ�شكال الواقع وتغيراته‬
‫�أو كليهما م��ع� ًا‪ ،‬بف�ضل خ�صائ�ص ال�صياغة‬ ‫الم�ستمرة‪.‬‬
‫الأدبية التي تعني ال�شكل الفني؛ �أي بنية العمل‬ ‫�إن نظرة الأديب العامة �إلى العالم‪ ،‬المتكونة‬
‫الأدبي و�صورته وخ�صائ�صه اللغوية وطبيعته‬ ‫عبر �سيرورة الممار�سة الحياتية في ظروف‬
‫بمعنى �آخر‪ :‬جماليات ال�شكل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الت�شكيلية‪� ،‬أو‬ ‫اجتماعية تاريخية ملمو�سة‪ ،‬هي التي ت�ضفي‬
‫فالإح�سا�سات الجمالية‪ ،‬تعني �أن الأدب‬ ‫على ت�صوراته ومالحظاته التحديد النوعي‪،‬‬
‫جميل؛ �أي �أن خ�صائ�صه الفنية تقوم على قيم‬ ‫والمنهجية؛ فهذه العالقة بين الأدب والمرجع‪� ،‬أو‬
‫جمالية مميزة له‪ ،‬وقادرة على �إثارة انفعاالت‬ ‫بقولٍ �آخر بين الأديب والعالم‪ ،‬هي التي يف�سرها‬
‫يعبر الأدب عن وعي‬ ‫�شعورية عند المتلقي‪ ،‬ذل��ك �أن ان��ط��واء الأدب‬ ‫محمد زكي الع�شماوي‪ ،‬ب�أنها عالقة بين الذات‬
‫م�ستقل ومتطور‬ ‫على قدرة بث ال�شحنات ال�شعورية‪� ،‬إلى جانب‬ ‫والمو�ضوع‪ ،‬وعندما يقوم الأديب بدرا�سة الحياة‬
‫معرفي ًا‬ ‫ما يحمله من فكر يقوم ب�إي�صاله‪ ،‬هو ما يمنح‬ ‫وتج�سيدها في �صور فنية‪ ،‬ف�إنه يقوم ب�أدق عمل‬
‫الأدب طبيعته‪ ،‬و�إال انقلب �إلى حقائق علمية �أو‬ ‫و�أعقده في مجال ا�صطفاء ما هو مهم وممتع‬
‫ريا�ضية‪ ،‬تخرجه عن كونه فن ًا‪ ،‬لهذا تبدو العالقة‬ ‫عبر تحليل ظواهر الواقع و�إعادة تركيبها‪� ،‬إذ �إن‬
‫في الأدب بين المكون الفكري والمكون الجمالي‬ ‫خ�صائ�ص اال�ستيعاب الإبداعي للواقع‪ ،‬ال تنك�شف‬
‫الفني معقدة‪� ،‬إذ �إن المتطلبات الجمالية لمجتمع‬ ‫في تحديد جوانبه والظواهر التي ين�شد �إليها‬
‫معين‪ ،‬وف��ي ع�صر معين‪ ،‬ت ��ؤث��ر ف��ي مختلف‬ ‫بو�ضوح �أكبر فيما‬‫ٍ‬ ‫الأدي��ب فح�سب؛ بل تنك�شف‬
‫جوانب الإبداع‪ ،‬وتنعك�س‪ ،‬بجال ٍء‪ ،‬على خ�صائ�ص‬ ‫يعده الأديب جوهري ًا ومميزاً في الحياة‪ ،‬وفيما‬
‫الطريقة الفنية نف�سها‪.‬‬ ‫يراه رفيع ًا �أو و�ضيع ًا‪ ،‬هزلي ًا �أو م�أ�ساوي ًا‪.‬‬

‫‪103‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫وهو من مواليد المن�صورة (‪-1901‬‬ ‫جمع بين الأدب والهند�سة‬
‫‪ )1949‬ودر�س هند�سة المباني في القاهرة‬
‫وتخرج عام (‪ ،)1923‬ثم �أ�صبح بعد ذلك‬
‫وكي ًال لدار الكتب‪ ،‬ما �أتاح له الفر�صة ليكون‬ ‫علي محمود طه‪..‬‬
‫�شاعر الجندول‬
‫على ات�صال دائم مع ال�شعر والأدب والكتابة‬
‫واالطالع على تجارب ال�شعراء‪.‬‬
‫انتمى ال�شاعر الى مدر�سة (�أبوللو) التي‬
‫�أر�ست الرومان�سية في ال�شعر العربي‪ ،‬وهو‬ ‫ه��ن��ال��ك ���ش��ع��راء وك��ت��اب �أف����ذاذ ل��ع��ب��وا دور ًا م��ه��م�� ًا في‬
‫من �أبرز �أعالم االتجاه الرومان�سي في ال�شعر‬
‫الم�شهد الثقافي العربي عموماً‪ ،‬والم�صري خ�صو�صاً‪..‬‬
‫العربي المعا�صر‪ ،‬و�أبرز �شعراء الأربعينيات‬
‫من القرن المن�صرم‪ ،‬وقد �صدرت عنه عدة‬ ‫ل��ك��ن ي��ب��دو �أن الأج���ي���ال ال��ث��ق��اف��ي��ة م��ن ب��ع��ده��م‪ ،‬قد‬
‫درا�سات‪ ،‬منها‪ :‬كتاب �أنور المعداوي (علي‬ ‫جعلتهم ف��ي ط��ي ال��ن�����س��ي��ان‪ ،‬ول��ع��ل م��ن �أب����رز ه����ؤالء؛‬
‫محمود طه ال�شاعر والإن�سان)‪ ،‬وكتاب لل�سيد‬ ‫ال�����ش��اع��ر ال��م�����ص��ري ال��راح��ل ع��ل��ي م��ح��م��ود ط��ه‪ ،‬ال��ذي‬
‫حوا�س محمود‬
‫تقي الدين بعنوان (علي محمود طه حياته‬ ‫جمع بين الأدب والهند�سة‪� ،‬إذ ك��ان مهند�س ًا للبناء‪.‬‬
‫و�شعره)‪ ،‬وكتاب محمد ر�ضوان (المالح‬
‫التائه)‪.‬‬
‫�أن�شد ال�شاعر ق�صيدة (الجندول) �أثناء‬
‫زيارته لمدينة فين�سيا (عرو�س الأدرياتيك)‬
‫ع��ام (‪ ،)1938‬وك��ان��ت ليالي الكرنفال‬
‫الم�شهورة‪� ،‬إذ يحتفل الفين�سيون بها �أروع‬
‫احتفال‪ ،‬فينطلقون جماعات كل منها في‬
‫جندول مزدان بالم�صابيح الملونة و�ضفائر‬
‫ال��ورد‪ ،‬ويمرون في قنوات المدينة‪ ،‬بين‬
‫ق�صورها التاريخية وج�سورها الرائعة‪،‬‬
‫وهم يمرحون ويغنون في �أزيائهم التنكرية‬
‫البهيجة‪ .‬ف��أوح��ى ه��ذا الجو الفاتن �إل��ى‬
‫ال�شاعر بهذه الق�صيدة التي نظمها تخليد ًا‬
‫لهذه الزيارة‪.‬‬
‫انتقل �إلى القاهرة في �أوائل الثالثينيات‬
‫ون�شر بع�ض ًا من �شعره في مجلة (�أبوللو)‪ ،‬ثم‬
‫�أ�صدر ديوانه (المالح التائه) عام (‪)1934‬‬
‫وعمره اثنان وثالثون عام ًا‪ ،‬فكان فاتحة‬
‫�شهرته الوا�سعة‪ .‬ون�شر بعد ه��ذا الديوان‬
‫ق�صائده ف��ي �صحف ع��دي��دة‪ ،‬وف��ي عام‬
‫(‪ )1938‬عبر البحر �إل��ى �أوروب����ا‪ ،‬وه��ذه‬
‫ال�سياحة اثرت فيه ت�أثيراً بالغ ًا‪ ..‬ولعل الأثر‬
‫الذي يدانيه في حياته هو ال�شهرة ال�شعبية‬
‫الوا�سعة‪ ،‬التي لقيها حين غنى عبدالوهاب‬
‫�أغنية (الجندول)‪ ،‬وم�ضى الكثر ين�شدون في‬
‫�ضيع في الأوهام عمره)‪.‬‬ ‫الطرقات (�أنا من ّ‬
‫و�أ�صدر ديوان (زهر وخمر ‪ )1943‬وفي‬
‫عام (‪� )1944‬أ�صدر م�سرحية �شعرية (�أغنية‬
‫الرياح الأربع)‪ ،‬وفي عام (‪� )1947‬صدر له‬
‫ديوان (ال�شوق العائد)‪( ،‬و�شرق وغرب) عام‬
‫(‪ )1947‬وك�أنه االنتفا�ضة الواهنة‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪104‬‬


‫�سيرة‬

‫�أوجد ال�شاعر‪ ،‬باقتدار‪ ،‬و�سائل �أدائية وفنية‬


‫مهمة لخطاب الذات‪ ،‬تكاد ت�صير نواة لمذهب‬
‫وازن في �شعرنا الحديث‪ ،‬يعك�س الغنائية‬
‫الخا�صة بالق�صيدة‪ ،‬وفعاليتها ف��ي اللغة‬
‫والتاريخ‪ ،‬في �سياق رمزية التعبير من �صفاء‬
‫اللغة وتوتر الإيقاع وحركة المعنى‪ ،‬يمكن �أن‬
‫ندعوها (الرمزية ال�شرقية) التي من طبيعتها‬
‫�أنور المعداوي‬ ‫�أحمد ح�سن الزيات‬ ‫طه ح�سين‬ ‫الت�أمل الذاتي‪ ،‬والتحليق الح�سي‪ ،‬واال�ستغراق‬
‫الجواني‪ ،‬التي ذهب في �أثرها ال�شاعر مذهب ًا‬ ‫ّ‬
‫ج��ل� ّ�ي� ًا‪ ،‬عك�س م��ا اعتقده محمد م��ن��دور في‬
‫محا�ضراته‪.‬‬
‫يقول عنه �أحمد ح�سن الزيات‪ :‬كان �شاب ًا‬
‫من�ضور الطلعة‪ ،‬م�سجور العاطفة‪ ،‬م�سحور‬
‫المخيلة‪ ،‬ال يب�صر غير الجمال‪ ،‬وال ين�شد غير‬
‫الحب‪ ،‬وال يح�سب الوجود �إال ق�صيدة من الغزل‬
‫ال�سماوي ين�شدها الدهر ويرق�ص عليها الفلك‪.‬‬
‫من كتبه‬
‫ي�شير الأديب والباحث محمد ر�ضوان �إلى‬ ‫ويقول �صالح عبدال�صبور في كتابه (على‬
‫�أن لعلي محمود طه كتابات نثرية مجهولة‬ ‫م�شارف الخم�سين)‪( :‬قلت لأنور المعداوي‪� :‬أريد‬
‫بالن�سبة �إلى قرائه‪ ،‬وذلك �أن الدرا�سات الأدبية‬ ‫�أن �أجل�س �إلى علي محمود طه‪ .‬فقال لي �أنور‪:‬‬
‫والنقدية قد اهتمت ب�شعره فقط بالرغم من �أن‬ ‫�إنه ال ي�أتي �إلى هذا المقهى ولكنه يجل�س في‬
‫هذه الكتابات النثرية ال تقل جما ًال عن �شعره‪،‬‬ ‫محل «جروبي» بميدان �سليمان با�شا‪ .‬وذهبت‬
‫وهي كتابات موزعة بين المواطن واالعترافات‬ ‫�إلى جروبي عدة مرات‪ ،‬واختل�ست النظر حتى‬
‫والذكريات والت�أمالت‪ ،‬ويتحدث ر�ضوان �أنه‬ ‫ر�أيته‪ ..‬هيئته لي�ست هيئة �شاعر‪ ،‬ولكنها هيئة‬
‫وعلى �شواطئ المن�صورة بين عامي (‪1927‬‬ ‫عين من الأعيان‪ .‬وخفت رهبة المكان فخرجت‬
‫ينتمي �إلى مدر�سة‬ ‫و‪ )1931‬تجمع �أربعة من ال�شعراء ال�شباب‬ ‫دون �أن �ألقاه)‪.‬‬
‫(�أبوللو) التي �أر�ست‬ ‫وهم‪ :‬علي محمود طه‪� ،‬إبراهيم ناجي‪ ،‬محمد‬ ‫وي��رى د‪ .‬محمد عناني (المفتاح ل�شعر‬
‫التيار الرومان�سي في‬ ‫عبدالمعطي الهم�شري‪� ،‬صالح جودت‪ ،‬فراحوا‬ ‫هذا ال�شاعر علي محمود طه هو فكرة الفردية‬
‫ال�شعر الحديث‬ ‫ي��ق��ر�ؤون ق�صائدهم ويناق�شون ق��راءات��ه��م‬ ‫الرومان�سية والحرية التي ال تت�أتى بطبيعة‬
‫للأدبين العربي والغربي‪.‬‬ ‫الحال �إال بتوافر الموارد المادية التي تحرر‬
‫الفرد من الحاجة وال ت�شعره ب�ضغوطها‪ ،‬بحيث‬
‫لم ي�ستطع �أن يرى �سوى الجمال‪ ،‬و�أن يخ�ص�ص‬
‫ق��راءات��ه ف��ي الآداب الأوروب ��ي ��ة للم�شكالت‬
‫ال�شعرية التي �شغلت الرومان�سية عن الإن�سان‬
‫والوجود والفن‪ ،‬وما يرتبط بذلك كله من �إعمال‬
‫�أ�س�س للرمزية‬ ‫للخيال الذي هو �سالح الرومان�سية الما�ضي‪،‬‬
‫ال�شرقية التي من‬ ‫كان علي محمود طه �أول من ثار على وحدة‬
‫طبيعتها الت�أمل‬ ‫القافية ووحدة البحر‪ ،‬م�ؤكداً الوحدة النف�سية‬
‫للق�صيدة)‪.‬‬
‫الذاتي واال�ستغراق‬
‫وقال عنه طه ح�سين‪( :‬هو �شاعر مجيد حق ًا‪،‬‬
‫الجواني‬
‫ّ‬ ‫ولكنه م��ازال مبتدئ ًا‪ ،‬في حاجة �إلى العناية‬
‫وتعرف �أ�سرارها ودقائقها‪،‬‬‫ّ‬ ‫باللغة و�أ�صولها‪،‬‬
‫و�أنا واثق ب�أن �شاعرنا �إن عني بلغته ونحوه‬
‫وقافيته‪ ،‬وتوخى ما �أل��ف من خفة الت�صوير‬
‫ور�شاقته ودقته‪ ،‬ف�سيكون له �ش�أن في تاريخ‬
‫ال�شعر العربي الحديث)‪.‬‬
‫علي محمود طه‬

‫‪105‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫مكتبتي‪..‬‬
‫والم�صير المنتظر‬ ‫غ�سان كامل ونو�س‬

‫ي�سروا عن �أوقاتهم المديدة‪ ،‬و�أفكارهم‬ ‫ّ‬ ‫�أن‬ ‫أتوغل في عالمها المختلف‪،‬‬ ‫�أدل��ف �إليها‪ّ � ،‬‬
‫ال�ضاغطة‪ ،‬ويخ ّففوا وق��ع ال� َ�ح� ْ�ج��ر ال�ضاري‬ ‫�أرن��و �إل��ى ال��رف��وف المو ّزعة ح�سب الأجنا�س‬
‫�روج مفتر�ض‪ ،‬وتحليق م��رغ��وب‪ ،‬وط��واف‬ ‫ب��خ� ٍ‬ ‫الأدب� ّ�ي��ة‪ ،‬والعلوم الأخ���رى‪� ،‬أت��ق� ّ�رى عنوانات‬
‫اليقيني �أ ّننا ال ن�ستطيع �أن ن�شكر‬
‫ّ‬ ‫م�شتهى! ومن‬ ‫المتنوعة الم ّتكئة بع�ضها �إل��ى بع�ض؛‬ ‫ّ‬ ‫الكتب‬
‫وال�س ْج َن ومنا�سباته؛‬ ‫َّ‬ ‫والم ْجبِرين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ال�سجانين‬ ‫ّ‬ ‫واقفة �أو مائلة القوام‪ ،‬متقاوية �أو متوا�سية‪..‬‬
‫� ّأي � ًا كانت‪ ،‬وال �أن نحتفي بالفيرو�س‪� ،‬إلى � ّأي‬ ‫�أتم ّلى �أغلفتها المتباينة ق� ّ�داً ولون ًا‪ ،‬و�أغم�ض‬
‫ف�صيلة انتمى‪ ،‬معروفة �أو طارئة �أو م�ستحدثة؛‬ ‫عيني متف ّكراً في الم�صير الذي ينتظرها! �أكاد‬ ‫ّ‬
‫لكن يمكنني القول الآن‪ ،‬وفي ك ّل وقت م�ضى‪،‬‬ ‫ربما‪� ،‬أ�صداء‬‫ّ‬ ‫أ�سمع‪،‬‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫واللوم‪،‬‬ ‫العتب‬ ‫مالمح‬ ‫�أرى‬
‫�أو �آت‪� :‬شكراً لمن كتب‪ ،‬و�شكراً لمن ن�شر‪ ،‬ولمن‬ ‫أح�س بها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫الذي‬ ‫أنا‬ ‫�‬ ‫أم‬ ‫�‬ ‫ات‪..‬‬ ‫وغ�ص‬
‫ّ‬ ‫ات‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫و‬ ‫زفرات‬
‫الم�شاهد والر�ؤى والأفكار‬ ‫طبع‪ ،‬وو ّزع‪ ،‬و�أثرى َ‬ ‫�أو ت�صدر ع ّني‪ ،‬ك ّلما � َأم ْم ُتها عر�ض ًا‪� ،‬أو ق�صدتها‬
‫والميول‪ ،‬و�ش ّذب الأوقات والظروف والعواطف‬ ‫تعبر ع��ن نف�سها‪ ،‬بمحاولة‬ ‫برغبة دف��ي��ن��ة‪ّ ،‬‬
‫وو�شى‪،‬‬‫والحاالت والعالقات‪ ،‬وع ّزى‪ ،‬ووا�سى‪ّ ،‬‬ ‫أجرب �إثارة القب�ض من‬ ‫ا�ستعادة ما كان بيننا‪ ،‬و� ّ‬
‫ربما كنت من‬ ‫مر‪،‬‬
‫وزين‪ ،‬وعر�ض‪ ،‬وح ّفز‪ ..‬في ك ّل ما ّ‬ ‫و�أفا�ض‪ّ ،‬‬ ‫تترمد‪ ،‬عبر ال�سنين‬ ‫جديد على جمراتها‪ ،‬التي لم ّ‬
‫الكائنات القليلة التي‬ ‫�سيمر من ُمناخات واحتماالت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وما‬ ‫ال�شح والحرمان‬ ‫وال ّأيام‪ ،‬على الرغم من ظروف ّ‬
‫فرحت في �أثناء‬ ‫وم��اذا بعد؟! ك�أ ّنها ت�س�ألني‪ :‬م��اذا بعد؟!‬ ‫أهرقت نب�ض ًا‪ ،‬وبذلت‬ ‫مررنا بها مع ًا! لقد � ُ‬ ‫التي ْ‬
‫و�أ�سائل نف�سي‪ :‬كيف تنظر الآن �إلى هذه الأوراق‬ ‫المادة والكثافة؛ للح�صول على ك ّل‬ ‫ّ‬ ‫متعدد‬ ‫ّ‬ ‫نزف ًا‬
‫الحجر على ذمة‬ ‫وال�سطور والكلمات؟! هل مازلت تحتاج �إليها؟!‬ ‫كتاب‪ ،‬رغبت في م�صاحبته ومرافقته‪ ،‬وكم هي‬
‫(كورونا)‬ ‫ربما؟!‬ ‫تح�س �إزاءها بم�شاعر �أخرى متناق�ضة‪ّ ،‬‬ ‫�أال ّ‬ ‫يت�سن لي ولها متعة القرب‬ ‫ّ‬ ‫المدونات‪ ،‬التي لم‬ ‫ّ‬
‫حيز‬
‫ّ ّ‬ ‫إلكتروني‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الف�ضاء‬ ‫دخل‬ ‫وقد‬ ‫متقاطعة؟!‬ ‫�أو‬ ‫وح�سن الو�صال؛ لمهرها الغالي!‬
‫ودخلت ف�ضاءه‪ ،‬ال��ذي ب��د�أ يهيمن‪،‬‬ ‫َ‬ ‫االهتمام‪،‬‬ ‫كنت من الكائنات القليلة‬ ‫وربما ُ‬ ‫فرحت‪ّ ،‬‬‫ُ‬ ‫لقد‬
‫والت�شهي‬
‫ّ‬ ‫والتلمظ‬
‫ّ‬ ‫وب��دت �آف��اق��ه قيد الرغبة‬ ‫الح ْج ِر‬
‫النية‪ ،‬التي ف��رح� ْ�ت‪ ،‬في �أث��ن��اء َ‬ ‫طيبة ّ‬ ‫ّ‬
‫والتخير؟!‬
‫ّ‬ ‫الملح؛ فقد‬‫ّ‬ ‫�ا)‬ ‫�‬ ‫�ورون‬ ‫�‬ ‫(ك‬ ‫�ة‬
‫�‬ ‫ذم‬
‫ّ‬ ‫على‬ ‫‪،‬‬ ‫االحتياطي‬
‫ّ‬
‫تحن �إل��ى ال ��ورق‪ ،‬ي�شاغلك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لتعترف! �أال‬
‫ْ‬ ‫ان�شغلت بع�شرات من هذه الكتب‪ ،‬التي كنت قد‬ ‫ُ‬
‫وي�ستثيرك‪ ،‬وهو يع ّز حالي ًا على كثيرين في‬ ‫�أرج���أت مراودتها عن م�ضامينها ومدياتها‪،‬‬
‫المكتبات والمكاتب والمطابع والدوائر‪..‬؟! �أال‬ ‫�إل��ى �أج��لٍ جاء موعده‪ ،‬بال ترتيب وال تخطيط‬
‫تدعوك ال�سرعة وال�سال�سة وال�سهولة �إل��ى �أن‬ ‫ذات��ي‪ ،‬وق��ر�أت �آالف ال�صفحات خ�لال ب�ضعة‬ ‫ّ‬
‫تخط ما لديك مبا�شرة‪ ،‬من على لوحة مفاتيح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�أ�شهر‪ ،‬وهو ما لم يحدث في وقت محدود ملزم‬
‫وعبر �صفحات من ورق‪ ،‬ال يتعب‪ ،‬وال ين�ضب؟!‬ ‫و�سررت باكت�شافات‬ ‫ُ‬ ‫كهذا‪ ،‬الذي �أُ ْر ِغمنا عليه‪،‬‬
‫عبرت كثيراً‪ ،‬في ما م�ضى‪ ،‬عن �ألفة الورق‬ ‫لقد ّ‬ ‫ورحالت و�أحداث ومواقف ومكا�شفات وم�شاعر‬
‫المنوع؛ ق��راء ًة وكتابة و�أم��ان � ًا؛ فهو‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫�اد ّ‬ ‫ال��م� ّ‬ ‫وانفعاالت‪ ..‬كحال ال�سجناء‪� ،‬أو �أولئك الذين‬
‫ال ينطفئ‪ ،‬وال يختفي‪ ،‬وال ينكفئ ل��دى عطل‬ ‫�ري��ة‪ ،‬وبا�ستطاعتهم‬ ‫يقبعون ف��ي �إق��ام��ة ج��ب� ّ‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪106‬‬


‫�أقالم‬

‫ولفت اهتمامهم �إليها‪ .‬وكنت ت�ستغرب‪ :‬كيف ال‬ ‫يتكرر في‬ ‫ّ‬ ‫طارئ �أو �سبب مجهول‪� ،‬أو انقطاع‬
‫ين�شدون �إليها؟! كيف ال ي�ستمتعون بمكنوناتها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�ضرورية! وال يبخل بالملم�س والقرب‬ ‫ّ‬ ‫الطاقة‬
‫وال ين ّقبون في مناجمها‪ ،‬وال تعنيهم كنوزها‪،‬‬ ‫والود‪ ،‬ما يبعث على الراحة والن�شوة والإح�سا�س‬ ‫ّ‬
‫ف�شلت‬ ‫َ‬ ‫تح�س؟! هل‬ ‫ّ‬ ‫يح�سون كما‬ ‫ربما؟! لماذا ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالم�شاركة؛ ل ّأن �أن��ام��ل كثيرين ع��ب��رت‪� ،‬أو‬
‫ربما كانوا ي�ستغربون‬ ‫ّ‬ ‫�سواك؟!‬ ‫في هذا؛ كما ف�شل‬ ‫�رددت‪ ،‬وت�سارعت‪،‬‬ ‫�ستعبر‪ ،‬و�أنفا�س عديدين ت� ّ‬
‫وترددك‬ ‫انغما�سك فيها‪ ،‬وان�شغالك الحميم بها‪ّ ،‬‬ ‫�أو �ستتكاثف فوقه‪ ..‬وما لديه ب��اقٍ وبالحفظ‬
‫خالل �أ�شهر من العزل‬ ‫في االهتمام ب�أجهزتهم‪ ،‬ب�أدواتهم؛ �أن�سيت �أ ّنهم‬ ‫وال�صون؛ � ّإل لدى ا�ستعارة لئيمة‪� ،‬أو فق ٍد عزيز‪،‬‬
‫�سررت باكت�شافات‬ ‫�أوالد الحياة؟! وقد (خلقوا لزمان غير زمانكم)؟!‬ ‫�أو كارثة ال منجى منها!‬
‫يتعهد ب�إفراغ المكان‪،‬‬ ‫وماذا بعد؟! ومن الذي ّ‬ ‫لتعترف‪ :‬ق ّلت زياراتك �إليها‪ ،‬لوال (كورونا)‪،‬‬
‫ورحالت و�أحداث‬ ‫�أو تنظيفه من هذه المتروكات‪ ،‬بعد عمر طويل �أو‬ ‫وعامة بـ(كورونا)‬ ‫ّ‬ ‫خا�صة‬
‫ّ‬ ‫ومكتبات �أخ��رى‬
‫عبر القراءة‬ ‫�ستت�صرف؟! هل تحجز مكان ًا لها‬ ‫ّ‬ ‫ق�صير؟ وكيف‬ ‫ومن دونه‪ ،‬وق ّلت م�شاك�سة الأغلفة والأوراق‪،‬‬
‫يكتظ بمكتبات‬ ‫الثقافي � ّإياه‪ ،‬قبل �أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫في المركز‬ ‫ومطايرة‬ ‫ومغالبة الأ�سطر والمقاطع والفقرات‪ُ ،‬‬
‫ربما ترغب‪� ،‬أو ت�أمل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫او‬ ‫ت�شترط‪،‬‬ ‫هل‬ ‫�آخرين؟!‬ ‫ال��خ��ي��االت‪ ،‬وم��ط��اردة ال��ت ��أوي�لات‪ ،‬ومعاذبة‬
‫ي�ضم �آث��ارك‬ ‫ّ‬ ‫�أن يكون لك جناح با�سمك فيه‪،‬‬ ‫المفردات وال�صياغات‪.‬‬
‫و�صيتك‪ ،‬التي قد‬ ‫ّ‬ ‫تدون هذا في‬ ‫المنقولة؟! وهل ّ‬ ‫لتعترف! ي�ستهويك البحث عن الأح��دث‪،‬‬
‫تكتفي به‪ ،‬ح ّتى ال ُيختلف عليها‪� ،‬آن تحين �ساعة‬ ‫والأقرب زمن ًا‪ ،‬والأق ّل كلفة‪ ،‬والمتوافر ك ّل حين‪،‬‬
‫المغادرة التي ال رجعة بعدها؟! وماذا عن كتبك‬ ‫مغبة‪ /‬متعة البحث في‬ ‫وك ّل لحظة‪ ،‬من دون ّ‬
‫ال�شخ�صية‪ ،‬ومخطوطاتك‪ ،‬التي طبعت‪ ،‬والأخرى‬ ‫ّ‬ ‫المكتبات‪ ،‬وانتظار المعار�ض والمنا�سبات‬
‫التي لم تطبع‪ ،‬وقد ال َتفعل؟! ومن هو المغامر‬ ‫الدورية‪ ،‬ومهرجاناتها و�إيقاعات‬ ‫ّ‬ ‫الحولية �أو‬
‫ّ‬
‫فعلت �إلى‬ ‫َ‬ ‫�سيق ِدم على المجازفة؟! كما‬ ‫ال��ذي ُ‬ ‫المثرية‪ ،‬وهي تحفل باللقاءات وتبادل‬ ‫ُ‬ ‫أن�شطتها‬ ‫�‬
‫ان�شغلت بع�شرات‬ ‫متفهمة‪ ،‬تفا�صيل‬ ‫أ�سبابه‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ا�ستقرى‪،‬‬ ‫الآن؟! �أم‬ ‫والتعرف من كثب‬ ‫والمبا�شرة‪،‬‬ ‫ة‬ ‫والحيوي‬ ‫أفكار‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الكتب التي كنت قد‬ ‫واطلع على مرارة انتظار الفوائد‪ ،‬التي‬ ‫المغامرة‪ّ ،‬‬ ‫ور�ؤية‪ ،‬و�سالم وكالم وم�شاعر‪.‬‬
‫�أرج�أت قراءتها‬ ‫�ست�أتي؛ قد ت�أتي‪ ،‬بعد حين وزمن‪ ،‬وقد يتع ّثر‬ ‫الم�س ال�ساحر‪ ،‬الذي ي�أتي �إلى‬ ‫�أال ي�ستهويك ُّ‬
‫تحول الع�صر‪ ،‬واختالف االهتمامات‬ ‫ذلك‪ ،‬مع ّ‬ ‫�شا�شتك ب�أغنى المكتبات و�أبعدها‪ ،‬و�أغلى الكتب‬
‫وال��ر�ؤى‪ ،‬و�ضيق من يقر�أ‪ ،‬من كان يقر�أ‪� ،‬أكثر‬ ‫ورقي‪:‬‬‫ّ‬ ‫و�أحدثها؟! �أال تقول‪ ،‬ناظراً �إلى كتاب‬
‫تي�سر‪ ،‬على‬ ‫�سارعت �إلى طباعة ما ّ‬ ‫َ‬ ‫ف�أكثر‪� .‬ألهذا‬ ‫وماذا عن جديد ن�صو�ص هذا الكاتب؟! وماذا عن‬
‫تتريث‬ ‫ّ‬ ‫ثت‪،‬‬ ‫وتري‬
‫ّ‬ ‫�رى؟!‬ ‫�‬ ‫أخ‬ ‫�‬ ‫عزيزة‬ ‫أ�شياء‬ ‫ح�ساب �‬ ‫حديث �أفكاره وحواراته و�آرائه؟! فتترك ما لديك‪،‬‬
‫ي�ستجد؟!‬‫ّ‬ ‫يتجدد وما‬ ‫ّ‬ ‫في �أمر طباعة ما تب ّقى‪ ،‬ما‬ ‫وقد �صار بائت ًا‪ ،‬بعد �أن كان مع ّتق ًا م�ستل ّذاً؛‬
‫ت�صر على متابعة الكتابة واال�ستزادة‬ ‫ّ‬ ‫ولماذا‬ ‫ب��ارداً‪ ،‬وك��ان دافئ ًا؛ بعيداً‪ ،‬وقد كان مالزم ًا‬
‫منها‪ ،‬وتغبط لدى ك ّل �إنجاز‪ ،‬ق ّل �أو كثر؟ ولماذا‬ ‫ورفيق ًا؛ فهل �صار عبئ ًا‪ ،‬بعد �أن كان في�ض ًا؟!‬
‫ت�ستمر في محاولة �إنجاز الطباعة �إذاً؟! هل‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫وهل �صار كومة من الكائنات‪ ،‬التي تنقر�ض‪،‬‬
‫�أقول �شكراً لكل من‬ ‫ت�ستطيع؟ كيف �ستو ّزعها؟ ولمن؟! وهل لديك‬ ‫ولمة ُ�ألفة؟!‬
‫بعد �أن كان رفقة �أن�س‪ّ ،‬‬
‫ما يكفي لذلك كلفة وجهداً وعمراً؟ وما هو عدد‬ ‫�صت من عدد كبير‬ ‫وماذا بعد؟ لتعترف! تخ ّل َ‬
‫كتب ون�شر وطبع‬ ‫الذين �سيقتنعون‪ ،‬ويقتنون‪ ،‬و�سيقر�ؤون؟! و�أنت‬ ‫والمجلت العريقة ب�سال�سلها‬ ‫�دوري��ات‬
‫ّ‬ ‫من ال� ّ‬
‫ووزع و�أثرى الم�شاهد‬ ‫تعاني ق ّلة ما بات يطبع على ح�ساب م� ّؤ�س�سات‬ ‫أهم ّيتها؛‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫وب‬ ‫بها‪،‬‬ ‫تفاخر‬ ‫كنت‬ ‫التي‬ ‫المتتابعة‪،‬‬
‫والر�ؤى والأفكار‬ ‫و�شح‬
‫ونوعية ما يطبع‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫خا�صة‪،‬‬ ‫ر�سمية �أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ودور‬ ‫ثقافي‬
‫ّ‬ ‫م�شكوراً بوثيقة م��و ّق��ع��ة‪� ،‬إل��ى مركز‬
‫الحالي؛ مع‬ ‫ّ‬ ‫القارئ‬ ‫به‬ ‫يهتم‬
‫ّ‬ ‫ما‬ ‫ة‬‫ل‬‫ّ‬ ‫وق‬ ‫ن�سخه‪،‬‬ ‫عدد‬ ‫ومحج ًا‪ ،‬في مرحلة‬ ‫ّ‬ ‫قريب‪ ،‬كان موئ ًال ور�صيداً‬
‫�شح الموارد‪ ،‬وندرة الورق‪ ،‬وتعاظم كلف الطباعة‬ ‫ّ‬ ‫البدايات‪ ،‬ومراحل �أخرى!‬
‫والن�شر والتوزيع والت�سويق‪ ،‬والم�شاركة في‬ ‫من ال��ذي ي�شكر الآخ ��ر؟! وم��ن قد ي�شكرك‬
‫المعار�ض والمنا�سبات داخل البلدان وخارجها‪،‬‬ ‫بعد‪� ،‬أو ت�شكر بعد؟! �أوالدك‪ ..‬لديهم ان�شغاالتهم‬
‫وبت تعاني �أكثر مع الراغبين باالقتناء‪� ،‬أو ح ّتى‬ ‫ّ‬ ‫وهواج�سهم وطموحاتهم البعيدة‪ ،‬عن اال�ستقرار‬
‫باالطالع؟ هل كنت غاف ًال عن هذا �أو متغاف ًال‬ ‫ّ‬ ‫وال��ق��راءة الم�ستكينة‪ ،‬والكتابة الم�ستنزفة!‬
‫ف�سكت‬
‫َّ‬ ‫�أو �ساهي ًا؟! وهل �أدركتك اليقظة القار�سة‪،‬‬ ‫و�صارت الم�سافة بينهم وبينها متباعدة �أكثر‪،‬‬
‫عن الكالم المع َّذب؟!‬ ‫ع�صية على م�شاك�سة ب�صرهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وقد كانت بعيدة‬

‫‪107‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫تعي�ش في جلباب رجل ا�سمه غوال خيرا�شيف‬

‫�ألي�سا جانيفا‬
‫تتربع على قائمة �أكثر‬
‫الكتب مبيعـ ًا في رو�سـيا‬
‫�ألي�سا ج��ان��ي��ف��ا‪ ..‬واح��دة‬
‫من �أكثر المواهب الأدبية‬
‫ال��واع��دة في رو�سيا‪ ،‬وهي‬
‫�أول ك��ات��ب��ة داغ�ستانية‬
‫تترجم �أعمالها �إلى اللغة‬
‫�أحمد الماجد الإنجليزية‪ ..‬نالت ال�شهرة‬
‫العالمية برغم م�شوارها الغ�ض‪ ،‬عبر فوزها‬
‫بجائزة البوكر الرو�سية في العام (‪.)2015‬‬
‫ووفق ًا ل�صحيفة الغارديان‪ ،‬فقد تم ت�ضمين ا�سم‬
‫(جانيفا) في قائمة �أكثر ال�شباب الموهوبين‬
‫في رو�سيا في ذات العام‪ ،‬وهي �أي�ض ًا تربعت‬
‫على عر�ش قائمة �أكثر الكتب مبيع ًا في رو�سيا‪.‬‬

‫المفاج�أة التي �أذهلت المجتمع الأدبي في‬ ‫في عمق الأعراف والتقاليد‪ ،‬فم�سقط ر�أ�سها‬ ‫لم يكن قرارها في التخفي تحت جبة‬
‫رو�سيا‪ ،‬ب�أن الن�ص الفائز هو لفتاة �شابة‬ ‫اليزال ينظر �إلى المر�أة على �أنها لم تخلق‬ ‫(غوال خيرا�شيف)‪ ،‬وهو ا�سم م�ستعار �شائع‬
‫التزال في ع�شرينياتها‪.‬‬ ‫�إال للمنزل وتربية الأط��ف��ال‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫في داغ�ستان‪ ،‬م�سقط ر�أ�سها مع الكاتب الكبير‬
‫ولدت �ألي�سا �أركادييفا جانيفا‪ ،‬في العام‬ ‫التحيز الدائم �ضد �أدب المر�أة لمجرد كونها‬ ‫ر�سول حمزاتوف‪ ،‬فقط لإخفاء هويتها‪ ،‬بل‬
‫(‪ ،)1985‬ون�ش�أت وتخرجت في جمهورية‬ ‫ام��ر�أة‪ .‬غير �أنها وبعد فوز ق�صتها (�سالم‬ ‫كان خياراً فني ًا �أي�ض ًا في نظرها‪ ،‬باعتبار‬
‫�صغيرة‪ ،‬تقع �شمالي القوقاز هي داغ�ستان‪،‬‬ ‫لك‪ ،‬دالغات) في العام (‪ ،)2009‬كان على‬ ‫�أن الكتابة تحت ا�سم م�ستعار تخرج جوهر‬
‫لغتها الأم هي الأفارية‪ ،‬غير �أنها تتحدث‬ ‫الكاتب الح�ضور ليت�سلم الجائزة‪ ،‬لتكون‬ ‫الكاتب‪ ،‬حيث �إن��ه بذلك يتنقى من عقدة‬
‫ال�شهرة‪� ..‬أم��ا اختيارها االخ��ت��ب��اء وراء‬
‫�شخ�صية رج��ل؛ فذكرت �ألي�سا �أن ق�صتها‬
‫الطويلة الأول ��ى التي كتبتها حملت من‬
‫ال�صدق والق�سوة ومن الأفكار والطروحات‬
‫ما ال يمكن المر�أة �شابة �أن تفكر بكتابته‪،‬‬
‫�إ�ضافة �إل��ى �أن الدخول �إل��ى عالم الأدب‬
‫عبر بوابة الرجال �أ�سهل بكثير‪ ،‬ويحظى‬
‫باعتراف �سريع من الو�سط الثقافي في‬
‫بلدتها داغ�ستان‪ ،‬تلك الجمهورية الجبلية‬
‫التي تقع على ح��دود ال�شي�شان ال�ضاربة‬
‫ر�سول حمزاتوف‬ ‫ماركيز‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪108‬‬


‫مبدعات‬

‫الرو�سية منذ �سن الخام�سة‪ ،‬وانتقلت �إلى العي�ش‬


‫في رو�سيا منذ العام (‪ ،)2002‬وعملت منذ ذلك‬
‫الوقت ب�صفة ناقدة ومحررة �أدبية‪ ،‬ثم مقدمة‬
‫برامج تلفزيونية‪ ،‬لكنها ظلت عيونها معلقة‬
‫بداغ�ستان‪ ،‬وكتاباتها �أي�ض ًا‪ ،‬حيث �إنها برغم‬
‫تر �أن مو�سكو‬ ‫�سنواتها الطوال في مو�سكو‪ ،‬لم َ‬
‫حولت الداغ�ستانيين و�شعب القوقاز �إلى �أ�ساطير‬
‫تروى للنا�س‪ ،‬حيث �إنه ال يعلم الكثير من �سكان‬
‫الجزء الأوروبي من رو�سيا‪� ،‬أن داغ�ستان جزء‬
‫من بلدهم‪ ،‬ومن المفارقة �أن البع�ض حينما‬
‫يراها يتفاج�أ بتحدثها اللغة الرو�سية‪ ،‬و�أحيان ًا‬
‫يبادرها ب�س�ؤالها عن عملة داغ�ستان!‬
‫عانت جانيفا ال�شعور ب�أنها �أجنبية في‬
‫كل مكان تزوره‪ ،‬حتى في داغ�ستان‪ ،‬فحينما‬
‫تعود �إل��ى قريتها الواقعة في الجبال‪ ،‬حيث‬
‫النا�س اليزالون عالقين في الما�ضي‪ ،‬تنظر‬
‫�إلى حياتهم من منظور �شخ�ص غريب‪ ،‬منظور‬
‫�شخ�ص تف�صله بينه وبينهم فجوة زمنية‬
‫عميقة‪ ،‬حتى �إنهم حينما علموا ب�أنها �أ�صبحت‬
‫من م�ؤلفاتها‬
‫�إلى العمق‪ ،‬غير �أن �ألي�سا جانيفا نالت �إعجاب‬ ‫ك��ات��ب��ة‪��� ،‬ص��اروا يظنون �أن��ه��ا تكتب عنهم‬
‫نقادها‪ ،‬بالعمق الذي ح�ضر الحق ًا‪ ،‬في �أكثر من‬ ‫وت�ستهزئ بتفا�صيل حياتهم‪ ،‬و�أنها لم تعد‬
‫ن�ص حمل توقيعها‪ ،‬و�صارت بعد فترة �أذكى‬ ‫متم�سكة بالعادات والتقاليد‪ ،‬وباتوا يخ�شون‬
‫و�أعمق و�أجمل كاتبات رو�سيا‪.‬‬ ‫الحديث معها كي ال تكتب عنهم‪ ،‬ومن ناحية‬
‫تعتقد �أن االختباء‬ ‫تعتبر جانيفا نف�سها نموذج ًا للتنوع متعدد‬ ‫�أخرى تدرك �أنه ال خيار �أمامها �سوى الت�أقلم‬
‫وراء �شخ�صية رجل‬ ‫الثقافات في المنطقة‪ ،‬وتقول‪( :‬ب��د� ُأت حياتي‬ ‫وال يمكنها الت�صرف كما كانت تت�صرف في‬
‫كفتاة �أفارية‪ ،‬من مدينة لم ي�سمع بها معظم‬ ‫مو�سكو‪ ،‬وعندما تكون في منزلها يتغير كل‬
‫يجعلها تحظى‬
‫النا�س على وجه الأر�ض‪ ،‬ثم تطورت‪� ،‬أو ًال �إلى‬ ‫�شيء‪ ،‬كالمها ولهجتها‪ ،‬وك�أنها تعود �إلى‬
‫باالعتراف الأدبي‬ ‫داغ�ستانية‪ ،‬ثم �إلى قوقازية‪ ،‬ثم �إلى رو�سية‪،‬‬ ‫االلت�صاق بجذورها التي ظنت �أنها فارقتها‪.‬‬
‫والآن �أنا مجرد �شخ�ص من هذا العالم‪ ،‬ولدي‬ ‫ي��رى النقاد �أع��م��ال �ألي�سا جانيفا �أنها‬
‫هو�س �شخ�صي في اللغات النادرة والثقافات‬ ‫ن�صو�ص جيدة‪ ،‬و�أن��ه��ا حملت عقلية علمية‬
‫الأ�صلية)‪.‬‬ ‫قادرة على اختيار النقاط المهمة والعميقة في‬
‫المجتمع‪ ،‬ومن ثم التركيز عليها وتحويلها �إلى‬
‫�أهم كتاباتها الأدبية (جبل الأفراح)‪( ،‬العري�س والعرو�س)‪�( ،‬سالم لك‪ ،‬دالغات)‪..‬‬ ‫�أدب‪ ،‬برغم اعترا�ض البع�ض على عر�ض �ألي�سا‬
‫وغيرها‪� .‬أما الجوائز التي نالتها فهي‪:‬‬ ‫في كتاباتها كل ما يحدث في داغ�ستان على‬
‫¯جائزة �أ�سبوعية (الأدب الرو�سي) و(البداية الأكثر �إثارة) عام (‪.)2005‬‬ ‫العلن‪ ،‬خ�صو�ص ًا النقاد الذين هم من �أ�صول‬
‫¯جائزة فولوت�شين الأدبية وذلك عامي (‪ 2007‬و‪.)2009‬‬ ‫داغ�ستانية‪ ،‬والذين ينظرون �إل��ى �ألي�سا على‬
‫¯جائزة غوركي الأدبية عن عملها(ت�أمالت في غير �أوانها) عام (‪.)2009‬‬ ‫�أنها �صارت بعيدة كل البعد عن داغ�ستان‪،‬‬
‫¯ جائزة مجلة (�أكتوبر) للنقد الأدبي عام (‪.)2009‬‬ ‫وال يحق لها الكتابة عن مكان ال تعرف عنه‬
‫¯جائزة بداية عام (‪.)2009‬‬ ‫�سوى ما�ضيها فيه‪ ،‬مع �أن نقاداً �آخرين يرون‬
‫¯جائزة ال�شباب (ن�صر) للتخييل عام (‪.)2010‬‬ ‫�أن �ألي�سا ت�شبهت بالك ّتاب الأجانب‪ ،‬وهذا لي�س‬
‫¯الت�أهل للمرحلة النهائية من جائزة يوري كازانوف الأدبية لأف�ضل ق�صة عام‬ ‫عيب ًا‪ ،‬من خالل �سعيها �إلى تعريف �سكان المدن‬
‫(‪.)2010‬‬ ‫الكبرى بالطريقة التي يعي�ش فيها �سكان المدن‬
‫¯ الت�أهل للمرحلة النهائية من جائزة �إيفان بتروفيت�ش بلكين عن �أف�ضل رواية عام‬
‫البعيدة والنائية‪ ،‬كما فعل ماركيز من قبل‬
‫(‪.)2010‬‬
‫في العديد من رواياته العظيمة‪ .‬كذلك يرى‬
‫¯جائزة البوكر الرو�سية عام (‪.)2015‬‬
‫البع�ض �أن �أعمال الم�ؤلف ال�شاب تفتقر دائم ًا‬

‫‪109‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫«القوة»‬
‫ّ‬ ‫في بالغة‬
‫مقترحات وبدائل‬
‫د‪ .‬حاتم الفطنا�سي‬

‫الطفرات التي‬ ‫اله َّبات �أو ّ‬ ‫مادام مجموعة من َ‬ ‫التي عثرنا عليها هنا وهناك‪ ،‬نزعم � ّأن‬ ‫يه ُز ْز َك عند �سماعه‪ ..‬ف َل ْي َ�س‬ ‫ال�شعر لم ْ‬ ‫ُ‬ ‫�إذا‬
‫العربية �إلى‬ ‫ّ‬ ‫قافية‬
‫لم تخ�ضع في البيئة ال ّث ّ‬ ‫ْ‬ ‫معياراً يتراءى في �أف��ق المعايير حام ًال‬ ‫خليق ًا �أن ُيقال له �شعر‪..‬‬
‫إبداعية‬
‫وفل�سفي وممار�سة � ّ‬ ‫ّ‬ ‫فكري‬
‫ّ‬ ‫مهاد‬ ‫(القوي)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫معه ُح ّجي ًة ووجاه ًة‪ ،‬هو معيار‬ ‫لع ّله م��ن قبيل المجازفة �أن نبادر‬
‫طويلة‪.‬‬ ‫حا�صل ان�صهار بين الأحكام‪ ،‬تخ ّلق فيما‬ ‫ُ‬ ‫بمجموعة من المقترحات والبدائل التي‬
‫دميرية‬
‫ّ‬ ‫يكت�سب ( ُق� ّ�وت��ه) ال ّت‬ ‫ُ‬ ‫�إ ّن��ه بهذا‬ ‫انطباعية‪ ،‬لك ّنه يح ّقق‬ ‫ّ‬ ‫نقدية‬‫اع ُتبِر ن�صو�ص ًا ّ‬ ‫ن�سميه‬‫ن�شرع بها لت�أ�سي�س ما ُيمكن �أن ِّ‬ ‫ّ‬
‫قوته في �إباقه عن‬ ‫وليدية‪َّ ،‬‬ ‫والبنائية ال ّت ّ‬ ‫ّ‬ ‫الم�شهدي في‬
‫ّ‬ ‫ح�ضوراً ونجاعة في ال ّنقد‬ ‫)القوة(‪ ،‬لذلك ال ّبد من االنطالق من‬ ‫ّ‬ ‫بالغة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال�سلطة وال ّنموذج وفي غمو�ضه وا ْلت َبا�سه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خا�صة‪.‬‬
‫أوروبا‪ّ ،‬‬ ‫� ّ‬ ‫وفل�سفية �صلبة ُت�ساعدنا‬ ‫ّ‬ ‫جمالية‬
‫ّ‬ ‫قاعدة‬
‫وفي ( ُل َعبِه) المت�شابكة في ال ّتركيب وفي‬ ‫فكيف يتج ّلى وم ��ا ه��ي م�ستويات‬ ‫في االقتناع بما نحن ب�صدده‪ ،‬من ذلك‬
‫الداللة وفي الإيقاع‪ ،‬في عالقات‬ ‫ال ّلغة وفي ّ‬ ‫ح�ضوره؟‬ ‫ما خا�ض فيه (غ��ادام��ر) في حديثه عن‬
‫(ال ّذوات) داخله وفي المجاالت المتجاورة‬ ‫ث� ّ�م ما ه��ي �أوا���ص��ر عالقته بالحداثة‬ ‫الن�ص‪ ،‬وهي من‬ ‫ّ‬ ‫البنائية) في‬ ‫ّ‬ ‫(القوة‬
‫ّ‬ ‫تلك‬
‫(ال�شعور‪ ،‬ال ّال�شعور‪ ،‬الحلم‪،‬‬ ‫المت�صارعة فيه ّ‬ ‫العربية؟‬
‫ّ‬ ‫عرية‬‫ال�ش ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحدث فيها عن‬ ‫ّ‬ ‫التي‬ ‫القليلة‬ ‫المنا�سبات‬
‫الواقع‪ ،‬ال ّتاريخ‪ ،‬الم�ستقبل‪ .)...‬يت� ّأبى عن‬ ‫الن�ص‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫‪،‬‬‫ً‬ ‫ا‬ ‫إذ‬ ‫�‬ ‫ة‪،‬‬ ‫القو‬
‫ّ‬ ‫مفهوم‬ ‫ى‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫يتج‬ ‫(القوة)‪ ،‬لك ّنه ربطها ب�شعور الإمتاع الذي‬ ‫ّ‬
‫(المعيار) ال ّتقليدي‪ ،‬وع��ن ال ّتو�صيف‪ ،‬ال‬ ‫عري‪ ،‬بك ّل خ�صائ�صه‪ ،‬وبالمقوالت‬ ‫ال�ش ّ‬ ‫ّ‬ ‫فعل‬
‫ال�صدم ُة �إ ّال ُ‬ ‫ّ‬ ‫وما‬ ‫دمة‪،‬‬ ‫ال�ص‬
‫ّ‬ ‫تلك‬ ‫عن‬ ‫ينتج‬
‫�وي)‬ ‫ا�سم �إ ّال �أ ّن��ه (ق� ّ‬ ‫ر�س َم وال َ‬ ‫�صفة له وال ْ‬ ‫ظري الذي‬ ‫إطار ال ّن ّ‬ ‫تغير ال ُ‬ ‫المحركة له‪ .‬فلقد ّ‬ ‫ّ‬ ‫الن�ص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ة‬ ‫ُ‬ ‫قو‬
‫ّ‬ ‫هي‬ ‫ما‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ارتطام و ّلد ُته ُق ّو‬ ‫ٍ‬
‫بح َي ِله وا ْلت َبا�سه‪ ،‬ب َلعبِه المتوا�صل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(مفترِ�س) ِ‬ ‫ُ‬ ‫ال�شعر ب�شكل حا�سم‬ ‫فعل ّ‬ ‫مار�س خالله ُ‬ ‫ُي َ‬ ‫بع�ض ال�سياقات في كتابات‬ ‫�إ�ضافة �إلى ِ‬
‫اخلية‪ ،‬مع العوالم‬ ‫ّ ّ‬ ‫الد‬ ‫ناته‬ ‫مكو‬
‫ّ‬ ‫مع‬ ‫ع‬ ‫المتنو‬
‫ّ‬ ‫وتراجعت الحدود الفا�صلة بين �أجنا�س‬ ‫‪ Jean Grenier‬وف��ي �سياق درا�سته‬
‫من يقترب منه‬ ‫ْ‬ ‫ومع‬ ‫أويالت‪،‬‬ ‫�‬‫ت‬‫ّ‬ ‫وال‬ ‫الالت‬ ‫والد‬
‫ّ‬ ‫الن�ص بدي ًال عن الأن��واع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكتابة‪ ،‬وق��ام‬ ‫(للجميل)‪ ،‬و(ال ّنافع)‪ ،‬و(القبيح)‪ ،‬ومختلف‬
‫لل َّت َف ُّر ِ�س فيه �أو ر�صده �أو َف ِّك َ�ش ْفرته‪ .‬هكذا‬ ‫م� ِّؤ�س�س ًا لف�ضاء تنتهي �إليه مختلف الأ�شكال‪،‬‬ ‫وتتنا�سل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الأحكام التي تتفاعل‬
‫ال�شعراء‬ ‫جمهور ّ‬ ‫ُ‬ ‫نظرت الحداث ُة وهكذا طفق‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعر‪.‬‬ ‫تعريف ّ‬ ‫ُ‬ ‫لذلك ي�صعب اليوم‬ ‫ف�ض ًال عن ح�ضور هذا المعيار ب�صورة‬
‫ال��ر ّواد‬
‫ُ‬ ‫�ا‬ ‫�‬ ‫أم‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫فات)‪،‬‬ ‫(الو�ص‬
‫ْ‬ ‫�ذه‬‫�‬ ‫ه‬ ‫تطبيق‬ ‫في‬ ‫عري‬‫ّ ّ‬ ‫ال�ش‬ ‫بالن�ص‬
‫ّ‬ ‫نق�صد‬ ‫ل��ك� ْ�ن م ��اذا‬ ‫الدرا�سات التي‬ ‫وباطراد في ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أكثر و�ضوح ًا‬
‫�أو (ال ُفحول) (وال ن�ستعمل الم�صطلح في‬ ‫الحديث �أو ًال؟‬ ‫ال�سينما‪،‬‬ ‫الم�شهدية (الم�سرح‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُت ْعنى بالفنون‬
‫هجينية‪� ،‬أو حنين ًا �إلى القديم‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬ ‫�صيغته ال ّت‬ ‫ن�ص‪ ،‬في مرجعه‬ ‫بناء على ما �سبق‪ ،‬هو ٌّ‬ ‫ً‬ ‫ال�سيناريو‪ ،‬ال ّت�شكيل‪ ،)...‬يتج ّلى ذلك في‬ ‫ّ‬
‫اللية التي �أ�شرنا �إليها) ف�ش�أ ُنهم‬ ‫الد ّ‬ ‫ب�صيغته ّ‬ ‫الغربي‪ ،‬ي�سعى �إل��ى �إف ��راغ الأ�شكال من‬ ‫ّ‬ ‫الم�سرحي‬
‫ّ‬ ‫الن�ص‬
‫ّ‬ ‫عن‬ ‫فيها‬ ‫ث‬ ‫يتحد‬
‫ّ‬ ‫مقابلة‪،‬‬
‫�ش�أن �آخر‪.‬‬ ‫أدبية في‬ ‫تجاوز الأجنا�س ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫تاريخها و�إلى‬ ‫ويعتبر ال��ق� ّ�وة كامنة ف��ي ذلك‬ ‫ُ‬ ‫(ال��ق��وي)‬
‫ّ‬
‫تقبل‪،‬‬ ‫الم ّ‬ ‫(القوي) بال ّن�سبة �إلى ُ‬ ‫ّ‬ ‫يتج ّلى‬ ‫وتجاوز ما ُيعرف عادة‬ ‫ُ‬ ‫�شكلها الكال�سيكي‪،‬‬ ‫ال ّت�شابك وال ّتع ُّقد وال ّتو ّتر والغمو�ض في‬
‫(ال�سحر)‪� ،‬أو (الو ْقع)‪� ،‬أو (الإرباك)‪،‬‬ ‫في ذلك ّ‬ ‫بمحددات الجن�س‪� ،‬أو ال ّنوع التي على �أ�سا�سها‬ ‫ّ‬ ‫الباث‬
‫ّ‬ ‫متبادل بين‬ ‫َ‬ ‫عب فيه‬ ‫الن�ص‪ ،‬حيث ال ّل ُ‬ ‫ّ‬
‫�أو (ال ّتخدير)‪� ،‬أو (ال ّتهييج)‪� ،‬أو (ال ّتخييل)‬ ‫ال�شعر‪،‬‬ ‫ُت ْب َنى ال ّتعريفات ومن �ضمنها تعريف ّ‬ ‫(الن�ص)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫به‬ ‫والملعوب‬ ‫والمتقبل‬
‫ّ‬
‫�سحبه �إل��ى عا َلم �آخ��ر‪ ،‬وفي غيرها من‬ ‫�أو ْ‬ ‫الم�ستع�صي على (ال ّتحييز) وال ّتعريف‪،‬‬ ‫وهو ُ‬ ‫انطالق ًا من هذه الإ�شارات والأ�سانيد‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪110‬‬


‫تجارب‬

‫البوابات‪� ،‬أطلقوا (بالون َة) االختبار‪ ،‬لك ّنهم لم‬ ‫ّ‬ ‫ت�ضر ُِبه‬ ‫الحاالت واالنفعاالت وال ّتغييرات التي ْ‬
‫نوا كو َنهم‬ ‫وب ْ‬ ‫فنوعوا‪َ ،‬‬ ‫نظروا �إليه‪ّ ،‬‬ ‫يلتزموا بما ّ‬ ‫وتلعب به في ال ّلحظة �آالف‬ ‫ُ‬ ‫م ْق َت ًال ف ُت َغ ِّي ُره‬
‫لم‬
‫الخا�صة‪ ،‬كما ْ‬ ‫ّ‬ ‫وم ْن َج َزهم على طريقتهم‬ ‫ُ‬ ‫المرات‪.‬‬
‫ّ‬
‫قبل ولل ّتمييز ولل ّتقريب‪ ،‬عدا‬ ‫ّ‬ ‫ت‬‫ّ‬ ‫لل‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫ح‬ ‫قتر‬
‫ُت ِّ ْ ُ َ‬
‫م‬ ‫م‬ ‫قد‬ ‫بينت‬ ‫ّ‬ ‫�ا‬‫�‬ ‫م‬ ‫على‬ ‫‪،‬‬ ‫�ص‬ ‫ّ‬ ‫�‬ ‫��‬ ‫�‬ ‫�ن‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫�ي‬ ‫�‬ ‫ف‬ ‫يكمن‬ ‫وه��و‬
‫مقترح (الحديث)‪ ،‬بما يحيل �إليه من (غليانِ‬ ‫َ‬ ‫العربية‪ ،‬ولك ّنه‬ ‫ّ‬ ‫ة‬ ‫عري‬
‫ال�ش ّ‬ ‫�والت الحداثة ّ‬ ‫م��ق� ُ‬
‫ي�ستمد (القوي)‬ ‫حد عبارة‬ ‫�لاط في ِم ْر َجل مجهول) على ّ‬ ‫ال ْأخ ِ‬ ‫يكمن �أي�ض ًا ف��ي مجموعة م��ن الم�ستويات‬
‫�شرعيته من قدرته‬ ‫�أهل الكيمياء‪.‬‬ ‫والتاريخية‬
‫ّ‬ ‫وال�سو�سيولوجية‬
‫ّ‬ ‫ال�سيكولوجية‬
‫ّ‬
‫على التعامل مع‬ ‫�شرعي َته‬ ‫َّ‬ ‫(القوي)‬
‫ّ‬ ‫ي�ستمد‬
‫ّ‬ ‫وبناء على ذلك‪،‬‬ ‫الن�ص‬
‫ّ‬ ‫ة‬ ‫بقو‬‫ّ‬ ‫‪،‬‬ ‫ال‬
‫ً‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫يرتبط‬ ‫فهو‬ ‫ة‪،‬‬ ‫عام‬
‫والح�ضارية ّ‬ ‫ّ‬
‫الن�صو�ص المتعاي�شة‬ ‫من ُق��در ِت��ه على ال ّتعامل مع ك� ّل ال ّن�صو�ص‬ ‫المتقبلة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ات‬ ‫ذ‬‫ّ‬ ‫وال‬ ‫ف�س‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫بفعله‬ ‫أي‬ ‫الحديث‪� ،‬‬
‫من�صة الح�ضور‪،‬‬ ‫اعتالء ّ‬ ‫َ‬ ‫المتعاي�شة التي تتبادل‬ ‫يع َب َث‬ ‫ّ َ ْ‬‫ل‬ ‫ى‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫عليها‬ ‫ه‬ ‫ِ�س‬‫ُ ُ‬ ‫ر‬ ‫ما‬ ‫ي‬ ‫الذي‬ ‫أثير‬ ‫وفي ال ّت�‬
‫اريخي‪ ،‬وبح�سب‬ ‫ّ‬ ‫الح�ضاري وال ّت‬
‫ّ‬ ‫الظرف‬ ‫بح�سب ّ‬ ‫بها‪ ،‬وتتراوح بين مختلف الحاالت والأحوال‬
‫المتقبل ذات ًا‪� ،‬أو جماعة‪ ،‬على الم�ستوى‬ ‫ّ‬ ‫حالة‬ ‫وتعي�ش �إيقاعاته وتناق�ضاته وه ّزاته‪.‬‬
‫وحركية‬ ‫ّ‬ ‫و�ضعية المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫ف�سي‪ ،‬وبح�سب‬ ‫ال ّن ّ‬ ‫الن�ص‬ ‫ّ‬ ‫ارت��ب��اط‬
‫َ‬ ‫كما نعني ب��ه‪ ،‬ث��ان��ي � ًا‪،‬‬
‫الأفكار‪.‬‬ ‫بالر ِحم التي يتخ ّلق فيها‪ ،‬فتتعا ُلق‬ ‫بالمجتمع‪َّ ،‬‬
‫بد لنا‪ ،‬من طرح �س�ؤال الجدوى‪ ،‬ونحن‬ ‫ال ّ‬ ‫الب�صمات‪ ،‬ب�صمة ال ّذات المدقوقة في تاريخها‬
‫دارج في معايير‬ ‫ُنجازف باقتراح معيارٍ غير ٍ‬ ‫الهوية في‬ ‫ّ‬ ‫والمنف�صلة عنه‪ ،‬الحاملة لـ(جينات)‬
‫ال�ضبط‬ ‫ال ّنقد‪ ،‬بطريقة تحتاج �إل��ى كثير من ّ‬ ‫وال�ساعية �إلى ال ّتغيير وال ّتثوير‬ ‫ك ّل م�ستوياتها‪ّ ،‬‬
‫ف�س‬‫ندعيه الآن‪ ،‬ون ِع ُد ال ّن َ‬ ‫واالختبار‪ ،‬الذي ال ّ‬ ‫في ك � ّل المجاالت‪ ،‬ب � ْ�دءاً من تثوير الكتابة‬
‫ب�إتمامه في م�ستقبل �أعمالنا‪.‬‬ ‫مروراً بتغيير ال ّذائقة وتثوير الوعي‪ ،‬بق�ص ٍد �أو‬
‫ت�ستمد بع�ض‬
‫لج ْ�سر‬ ‫أهلي ُة (القوي) في �أ ّنه ُم� َّؤهل َ‬ ‫تكمن � ّ‬ ‫دون ق�ص ٍد‪ ،‬و�صو ًال �إلى تغيير الإن�سان‪ ،‬وبما‬
‫الن�صو�ص قوتها من‬ ‫اد ا�ستبدا َلها‬
‫العمودية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اله ّوة بين ق�صيدة ال ّنثر والق�صيدة‬ ‫ُ‬ ‫ف�ض َل ال ُن ّق ُ‬ ‫الن�ص من �أ�سئلة‪ّ ،‬‬ ‫يحمله ّ‬
‫لحظتها التاريخية‬ ‫وق�صيدة ال ّتفعيلة‪ ،‬ف�لا �إق�����ص��اء ب��ـ(دع��وى‬ ‫ومغالبة وع َن ٍت‬ ‫ّ ُ‬ ‫ة‬ ‫ا�ستمراري‬ ‫من‬ ‫له‬ ‫لما‬ ‫بال ِّت ْ�س�آل‪،‬‬
‫عدد‪،‬‬ ‫قبول باالختالف وال ّت ّ‬ ‫الحداثة)‪� ،‬إذ الحداث ُة ٌ‬ ‫قوتها في هذا‬ ‫ت�ستمد ّ‬ ‫ّ‬ ‫بع�ض ال ّن�صو�ص‬ ‫و�إ�صرار‪ُ ،‬‬
‫قبل موجوداً‪� ،‬ستظ ّل هذه ال ّن�صو�ص‬ ‫ومادام ال ّت ّ‬ ‫الن�ص‬‫(ا�ستقاللية) ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومنه‪ ،‬مهما قيل عن‬ ‫الإطار ِ‬
‫را�سخة ناب�ض ًة‪.‬‬ ‫إبداعي وانغالقه‪ ،‬باعتباره (نظام ًا)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫توافق ًا مع مقوالت‬ ‫وهو جدير ب�أن يكون ُم ِ‬ ‫بع�ض‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ت�ستمد‬
‫ّ‬ ‫�ا‬
‫�‬ ‫م‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫�‬ ‫�ث‬‫�‬ ‫�ال‬ ‫�‬ ‫ث‬ ‫ب��ه‪،‬‬ ‫ونعني‬
‫ظرية‬ ‫الحداثة‪ ،‬وهو جدير بتقويم تع ّثراتها ال ّن ّ‬ ‫ال ّن�صو�ص م��ن ( ُق� � ّ�و ٍة) مت�أ ِّتية م��ن لحظتها‬
‫إق�صائية) لل َقدامة‪� ،‬أو (لل ّن�صو�ص الحديثة)‬ ‫ّ‬ ‫(ال‬ ‫اريخية‪ ،‬برغم كونها‪ ،‬في ُع ْرف الحداثة‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫ال ّت‬
‫�ف ٌء ب ��أن ُي��ك� ِّون مع‬ ‫في القديم‪ ،‬مثلما هو ُك � ْ‬ ‫ق�ضي ُة القدامة والحداثة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫زمنية‪ ،‬وهنا ُتطرح‬ ‫ّ‬
‫يد عنه �أبداً (نق�صد معيار‬ ‫المعيار الذي ال َم ِح َ‬ ‫تمام‬ ‫ّ‬ ‫أبي‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫المتنب‬
‫ّ‬ ‫ن�صو�ص‬ ‫فماذا نقول عن‬
‫(جمالية‬
‫ّ‬ ‫«الجميل»)‪ ،‬عندها يمكن الحديث عن‬ ‫؟ وكيف نحكم على ن�صو�ص عبد ال��ر ّزاق عبد‬
‫بع�ض الن�صو�ص‬ ‫قوي ًا‪ /‬جمي ًال‪� ،‬أو جمي ًال‪/‬‬ ‫القوي)‪ ،‬وبهذا يكون ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبم نحكم‬ ‫الجواهري ؟ َ‬ ‫ّ‬ ‫ومحمد مهدي‬ ‫ّ‬ ‫الواحد‪،‬‬
‫ت�ستمد قوتها من‬ ‫�وي في‬ ‫ٌّ‬ ‫�‬ ‫ق‬ ‫�ه‪،‬‬ ‫�‬ ‫�ل‬‫�‬ ‫داخ‬ ‫في‬ ‫�وي‬
‫ٌّ‬ ‫�‬ ‫ق‬ ‫ن�ص‬‫ٍّ‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫�وي�‬
‫ق� ّ‬ ‫على ن�صو�ص محمود دروي�ش و�سعدي يو�سف‬
‫ا�ستقاللية الن�ص‬ ‫وتقبله‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫ح�ضوره‬ ‫وغيرهما؟‬
‫�وازن‪ ،‬بل‬ ‫ّ َ‬ ‫�‬ ‫ت‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫)‬ ‫القوي‬
‫ّ‬ ‫(معيار‬
‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ق‬
‫هكذا يح ّ‬ ‫العربية‬ ‫ّ‬ ‫عرية‬‫ال�ش ّ‬ ‫لقد ن� ّ�ظ��رت ال��ح��داث��ة ّ‬
‫الإبداعي‬ ‫عدد وال ّتكاثر وال ّتمايز‪،‬‬
‫حري) بين (الجميل) و»ال ّنافع»‪،‬‬ ‫ال�س ّ‬ ‫(ال ّتع�شيق ّ‬ ‫لالختالف والقبول بال ّت ّ‬
‫�ص‬ ‫ت�س َتبِد بنا غواية (ال ّن ّ‬ ‫ِ‬ ‫َي َ�س َع ُهما مع ًا‪ .‬هكذا ْ‬ ‫تلغي‬
‫لك ّنها لم ت�ستطع على م�ستوى الواقع �أن َ‬
‫�وي) والبحث ع��ن ب�لاغ��ة �أخ ��رى ُتغرينا‬ ‫ال��ق� ّ‬ ‫تتحا�ضر في‬ ‫َ‬ ‫عرية التي تتعاي�ش �أو‬ ‫ال�ش ّ‬ ‫أنواع ّ‬ ‫ال َ‬
‫أخ�ص‪ُ ،‬يمكن‬ ‫و ُت��راودن��ا‪ ،‬للبحث في م�شروع � ّ‬ ‫العمودية وق�صيدة‬ ‫ّ‬ ‫واقع الإبداع‪� ،‬أي الق�صيدة‬
‫�وي)‪ ،‬وه��و م��ا يحتاج‬ ‫ت�سمي ُته بـ(بالغة ال��ق� ّ‬ ‫ال ّتفعيلة وق�صيدة ال ّنثر‪ ،‬لم ُت ْع ِدم � َّأي واحدة‬
‫وتطبيقي ًا �أو�سع و�أعمق من هذه‬ ‫ّ‬ ‫ت�أ�سي�س ًا نظري ًا‬ ‫تمح�ض لق�صيدة‬ ‫ّ‬ ‫ب�شير‬
‫منها‪ ،‬برغم � ّأن ال ّت َ‬
‫أولية‪.‬‬
‫المقترحات ال ّ‬ ‫ال�شعراء)‪ ،‬فتحوا‬ ‫َ ّ‬ ‫ة‬ ‫(�صاغ‬ ‫ال ّنثر‪ ،‬وقد �أ�شرنا � ّأن‬

‫‪111‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫رواية خالدة نه�ضت على المفارقة‬

‫دون كي�شوت‬
‫النبيل‬

‫وق��د طبعت ال��رواي��ة منذ �صدورها عام‬


‫(‪ )1605‬طبعات كثيرة وترجمت �إلى لغات‬ ‫كتب (�سرفانت�س) روايته الخالدة (دون كي�شوت) �أو (دون‬
‫العالم ك��اف��ة‪ ،‬م��ا يعني ح�ضورها الكبير‬ ‫كيخوته دي المان�شا) عن ذلك الرجل النحيل الهزيل‬
‫في الوجدان العالمي �ش�أنها �ش�أن الإلياذة‬ ‫الذي تخيل نف�سه فار�س ًا بدرعه المعدني ورمحه الطويل‬
‫الخالدة‪ ،‬ولكن من دون الأبطال العظام الذين‬ ‫�ساعي ًا ال�ستعادة قيم النبالة والفرو�سية الرومان�سية‪،‬‬
‫خلد (هوميرو�س) �أ�سماءهم‪ ،‬من مثل (�آخيل‪،‬‬
‫هكتور‪ ،‬باري�س‪� ،‬أودي�سيو�س) و�سواهم ممن‬ ‫يمتطي ح�صانه الهزيل (رو�سينانت) برقة حام ًال �سالحه‪،‬‬
‫عزت عمر‬
‫�سطروا بطوالتهم الكبيرة‪.‬‬ ‫وتابعه ال��ذي ا�شتهر معه (�سان�شو بان�سا)‪ .‬وقد اعتبر‬
‫هنا فار�س موهوم على ح�صان هزيل‪،‬‬ ‫مترجم الرواية د‪.‬عبدالرحمن ب��دوي‪� ،‬أنها واح��دة من روائ��ع الأدب �إلى‬
‫وتابع �ساذج يغامران بدورهما لمو�ضعة‬ ‫جانب (�إلياذة هوميرو�س‪ -‬الكوميديا الإلهية لداني)‪ ،‬و(فاو�ست لجوته)‪.‬‬
‫ذاتهما �إلى جانب ه�ؤالء الخالدين‪ ،‬مع �سرعة‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪112‬‬


‫�أفق‬

‫بالطيران الحربي وال�صواريخ العابرة للقارات‪،‬‬


‫ف�ض ًال ع��ن ثقافة الع�صر الرقمية وانفتاح‬
‫الثقافات �إن�ساني ًا‪ ،‬فما الذي �ستفعله فرو�سية‬
‫عنترة في زماننا؟‬
‫�إذا كانت المقارنة بين ال�شخ�صيتين جائزة‬
‫برغم الم�سافة الزمنية ال�شا�سعة‪ ،‬ف�إنها ممكنة‬
‫من حيث الق�صد والمعنى‪ ،‬فالكاتب جعل من‬
‫(دونكي�شوت) �شخ�صية هزلية م�ضحكة في زمن‬
‫ا�ضمحالل �سطوة القالع �أمام المدافع الجبارة‬
‫التي اخترقت قذائفها جدرانها الح�صينة بكل‬
‫ب�ساطة‪ ،‬بينما لو عاد عنترة �إلى زماننا‪ ،‬ف�إنه دون‬
‫�أدنى �شك �سيتاح له مكان في (المول) ويعر�ض‬
‫مع (الأبجر و�شيبوب) �إلى جانب المعرو�ضات‬
‫غالف الرواية‬
‫التي يزخر بها هذا المول من ثقافات متعددة‪،‬‬
‫ربما كتحفة ترمز �إلى زمان الفرو�سية المفتقدة‬
‫في حياتنا!‬
‫على ك��ل ح��ال؛ لكل زم��ان روات ��ه العظام‬
‫�شخ�صية مبتكرة‬ ‫الذين �سيعبرون بال�ضرورة عن موقفهم من‬
‫ال�ستعادة قيم النبالة‬ ‫ثقافة زمانهم‪ ،‬وهكذا ف�إن (�سرفانت�س) ك�شاعر‬
‫وقا�ص وروائي‪� ،‬أدرك بفكره اللماح �أن االنت�شار‬
‫والفرو�سية في غير‬ ‫الفظيع لروايات الفر�سان في زمانه �إنما قد يعود‬
‫زمنها‬ ‫�إلى ب�ؤ�س الثقافة الجماهيرية ال�سائدة‪ ،‬فاختار‬
‫�شخ�صية (دون كي�شوت) لل�سخرية منه ومن ذلك‬
‫الوعي الهذياني المرافق للثورة ال�صناعية وكل‬
‫طموحات الطبقات ال�صاعدة‪.‬‬
‫فمثل (دون كي�شوت) المغامر النبيل الم�شبع‬
‫يتميز العمل بوعي‬ ‫ب��الأوه��ام‪ ،‬لن ي�صغي ل�صوت العقل والقبول‬
‫بالواقع‪ ،‬بما في ذل��ك �صوت تابعه (�سان�شو‬
‫فني ل�سرفانت�س‬
‫بان�سا)‪ ،‬فخا�ض معاركه الخا�سرة الواحدة تلو‬
‫وخ�صو�ص ًا �إلمامه‬ ‫الأخرى‪ ،‬وفي كل مرة كان يعود �ضعيف ًا ومنك�سراً‪.‬‬
‫بفنيات بناء الن�ص‬ ‫رواي ��ة (ﺩﻭﻥ كي�شوت) كتب عنها النقاد‬
‫ال�سردي‬ ‫ٍ‬
‫درا�سات وكتب ًا عديدة‪ ،‬تناولت كل ما‬ ‫والدار�سون‬
‫�أمكن تناوله من �أبعاد فكرية ونف�سية و�شعورية‪،‬‬
‫وهي ت�ستحقها باعتبارها نموذج ًا متقدم ًا لأدب‬
‫مرحلة انعطافية في حياة الب�شرية‪.‬‬
‫انت�شار الرواية و�شعبيتها المتزايدة يوم ًا بعد‬
‫يوم‪ ،‬بما يعني �أن الرواية كانت و�ستبقى ذاكرة‬
‫الثقافات الإن�سانية التي ما انفكت تكتب ن�صها‪.‬‬
‫دون كي�شوت‪ ،‬ال�شخ�صية المحورية في‬
‫ه��ذه ال��رواي��ة‪ ،‬ي�سعى ج��اه��داً ال�ستعادة زمن‬
‫م�ضى وانق�ضى من خالل جملة من المغامرات‬
‫والحبكات التي �صاغها (�سرفانت�س) لبطله‬
‫ال��ذي ت��ق��وده �أوه��ام��ه ف��ي زم��ان ن�شوء المدن‬
‫الكبيرة وازدحامها بالأعمال والتجارة‪ ،‬كما لو‬
‫�أننا نتخيل الآن (عنترة بن �شداد) عائداً ب�سيفه‬
‫�سرفانت�س‬ ‫عبدالرحمن بدوي‬ ‫جوته‬ ‫وح�صانه (الأب��ج��ر) �إل��ى زماننا ه��ذا الفائ�ض‬

‫‪113‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�أفق‬

‫ت�صوره الخا�ص الذي تدفعه‬ ‫ولعل تناولي الآن لبنية الن�ص ال�سردي‬
‫�إل��ي��ه �أوه��ام��ه المتعاظمة‬ ‫ونظام التفكير الإبداعي ل�سرفانت�س‪ ،‬م�ساهمتي‬
‫بما ي�شبه ج��ن��ون العظمة‬ ‫ال�شخ�صية في هذا اليم ال�شا�سع الوا�سع من هذه‬
‫لفار�س مقاتل �شجاع يتوهم‬ ‫الدرا�سات‪ ،‬وذلك لأجل مو�ضعتها في المكانة‬
‫ط��واح��ي��ن ال��ه��واء وح��و���ش� ًا‬ ‫التي ت�ستحقها‪.‬‬
‫خرافية‪ ،‬والخراف التي ترعى‬ ‫نظام التفكير الإبداعي‪ ،‬منذ العتبات الأولى‬
‫في الحقل �أعداء فيهاجمها‪،‬‬ ‫للرواية‪� ،‬سيبدو �سرفانت�س (ثربانت�س) �أنه على‬
‫ب��ال��رغ��م م��ن تحذير تابعه‬ ‫ثقافة فنية و�إبداعية عالية‪ ،‬تعبران عن وعي‬
‫(�سان�شو) من �أنها طواحين‬ ‫فكري متقدم في نظام التفكير وطرائق بناء‬
‫ه���واء و�أغ ��ن ��ام‪ ،‬ول��ك��ن��ه لن‬ ‫الن�ص ال�سردي‪ ،‬ف�ض ًال عن توجيه المتلقي الوجهة‬
‫ي�صغي �إليه‪ ،‬بل لعله لم يكن‬ ‫الأم��ث��ل لتقبل العمل عبر اجتراحه جملة من‬
‫ي�سمعه‪ ،‬وقد ف�سر الباحثون‬ ‫التقنيات المت�صلة بالعملية ال�سردية من حيث‬
‫ه��ذه العالقة المرتبكة ما‬ ‫بناء ال�شخ�صية و�إقامة الحبكات اللطيفة‪ ،‬ولوال‬
‫بينه وبين (�سان�شو) تف�سيرات‬ ‫ذلك ما تمكن �أحد من قراءة ما يزيد على �ألف‬
‫عديدة‪ ،‬ومنها رغبة (�سان�شو)‬ ‫�صفحة �شملت المغامرات والحوارات الفائ�ضة‬
‫�سان�شو مع معلمه دون كي�شوت‬ ‫ف��ي �سماع الق�ص�ص التي‬ ‫بذكاء لماح يعرف ما يريد �أن يو�صله لقارئه‪.‬‬
‫يرويها دون كيخوته‪� ،‬أو ربما حلمه كفالح في‬ ‫وبذلك ف�إن هذا العمل الخالد لم ي�أت م�صادفة‪،‬‬
‫امتالك �أر�ض يعده �سيده بها‪ ،‬مع �أن (�سان�شو)‬ ‫كما ظن بع�ض الدار�سين‪ ،‬لأن من يعود �إلى‬
‫كان يرى الأ�شياء على حقيقتها‪ ،‬ولي�ست لديه‬ ‫الخطبة في م�ستهل الرواية‪� ،‬سيكت�شف ذلك الوعي‬
‫�أوه��ام الفرو�سية‪ ،‬حيث �إن عهد الرمح والدرع‬ ‫الذي �أ�شرنا �إليه‪.‬‬
‫الحديدية انتهى من زمان بعيد‪ ،‬فمع اكت�شاف‬ ‫يقدم �سرفانت�س بطله النبيل (دون كيخوته‬
‫الأ�سلحة النارية‪ ،‬ف�إن مفهوم ال�شجاعة قد تغير‬ ‫دي المن�شا)‪ ،‬وهو في الخم�سين من عمره‪ ،‬ولي�س‬
‫عالقة مرتبكة‬ ‫كلي ًا‪ ،‬بل �إن منظومة القيم الأر�ستقراطية نف�سها‬ ‫ثمة معلومات �إ�ضافية عن ما�ضيه وعن عالقته‬
‫بين البطل وتابعه‬ ‫قد تال�شت في �أو�ساط المدنية الجديدة‪ ،‬وعلى‬ ‫بالنبالة والفرو�سية‪� ،‬سوى �أن��ه يمتلك رمح ًا‪،‬‬
‫(�سان�شو) ترتبط‬ ‫حد تعبير �أحد النقاد‪ :‬بات ب�إمكان الجبان قتل‬ ‫والإ�شارة �إلى نبالته التي كانت قد انتهى زمانها‬
‫بالبطوالت‬ ‫النبيل ال�شجاع بر�صا�صة تخترق درع��ه الذي‬ ‫منذ حرب (المئة عام) ما بين فرن�سا وبريطانيا‪.،‬‬
‫يثقل حركته‪.‬‬ ‫�سارد الحكايات‪� ،‬سوف يركز في م�ستهل‬
‫والإحباطات وجنون‬ ‫وفي هذا ال�صدد‪� ،‬أرى �أن �سرفانت�س‪ ،‬لعب‬ ‫الرواية على �أو�ضاع (دون كيخوته) المعا�شية‬
‫العظمة‬ ‫بذكاء على هذه المفارقة الفكرية والزمنية‬ ‫كرجل فقير متق�شف في طعامه وملب�سه‪ ،‬وعن‬
‫ببراعة‪ ،‬مكنته م��ن ال�سيطرة على قارئه‬ ‫م�����ص��ادر دخ��ل��ه‪ ،‬ف�ض ًال ع��ن بع�ض تفا�صيله‬
‫وت�شويقه لتتبع �سل�سلة الحكايات والحوارات‬ ‫الج�سدية ومكان �إقامته في مجتمع ريفي �صغير‬
‫المتفرعة‪� ،‬سواء كان من قراء ذلك الزمان �أو‬ ‫يعرف النا�س بع�ضهم بع�ض ًا فيه‪.‬‬
‫من المعا�صرين‪� ،‬إذ مازال مخرجو الم�سرح‬ ‫وما يميز (دون كيخوته) عن هذا الجوار‪،‬‬
‫وال�سينما‪ ،‬ي�شتغلون ب�شغف على تقديم قراءات‬ ‫هو �إدمانه ال�شديد على مطالعة كتب الفرو�سية‬
‫جديدة لهذا العمل‪ ،‬ف�ض ًال عما �أبدعه الفنانون‬ ‫وال�سحر وال�شعوذة القديمة‪ ،‬وكنتيجة لهذا‬
‫الكبار من لوحات عنه وعن تابعه �سان�شو‪.‬‬ ‫الإدمان المبالغ فيه‪ ،‬تجمد عقله وما عاد يفكر‬
‫رواية من روائع‬ ‫وم��ن هنا يمكننا ت�صور مقدار المفارقة‬ ‫�سوى بالمغامرات البطولية ورومان�سية الفر�سان‬
‫الأدب العالمي �إلى‬ ‫البارعة‪ ،‬التي �أقامها (�سرفانت�س) وهو يطلق‬ ‫الذائدين عن ال�ضعفاء وتحقيق العدالة وفق‬
‫جانب (الإلياذة)‬ ‫بطله (دون كيخوته دي المن�شا) النبيل بهده‬
‫و(الكوميديا الإلهية)‬ ‫ال�صورة الهزلية‪ ،‬التي قدمتها ال�سينما �أو الفن‬
‫الت�شكيلي تحديداً‪.‬‬
‫و(فاو�ست)‬ ‫ولعله �أي�ض ًا �أراد من قارئه �أن يت�أمل نف�سه‬
‫ويتب�صر �أوهامه حول ذاته‪ ،‬وال �سيما في النظرة‬
‫أعداء يرفع عليهم‬
‫�إلى الآخرين‪ ،‬قبل �أن يتخيلهم � ً‬
‫�سيفه �أو يحاربهم‪ ،‬لمجرد ظنه �أنهم �أعداء كما‬
‫فعل دون كيخوته (النبيل)!‬
‫غالفا الإلياذة والأودي�سة‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪114‬‬


‫مقاالت‬
‫روافد‬

‫�أحمد نجيب‪..‬‬
‫من رواد الكتابة في �أدب الطفل‬
‫لأول مرة في عام (‪1968‬م)‪ ،‬وقد عمل �أ�ستاذاً‬ ‫ال�شاعر والناقد �أحمد نجيب (‪-1928‬‬
‫لمواد الأط��ف��ال‪� -‬أدب الأط��ف��ال في معظم‬ ‫واحد من �أبرز كتاب �أدب الأطفال‬ ‫ٌ‬ ‫‪2003‬م)‪،‬‬
‫الجامعات الم�صرية‪.‬‬ ‫في م�صر‪ ،‬و�أحد �أهم ال�شعراء الذين كان لهم‬
‫ح�صل الكاتب والأدي ��ب (�أحمد نجيب)‬ ‫ال�سبق في تقديم مادة تراثية عظيمة للأطفال‬
‫على �إجازة معهد الدرا�سات العليا للمعلمين‬ ‫من خ�لال ال�شعر‪ ،‬وه��و �صاحب ب��اع طويل‬
‫رويدا محمد‬ ‫بالقاهرة ع��ام (‪1952‬م)‪ ،‬ثم ح�صل على‬ ‫في هذا الجانب بكثرة ق�ص�صه وم�سرحياته‬
‫الماج�ستير من كلية الآداب بجامعة القاهرة‪،‬‬ ‫ال�شعرية وغيرها‪� ..‬أما �شعره الذي غطى كثيراً‬
‫�شعرية‪ ،‬وهذه الأقا�صي�ص ال�شعرية عبارة عن‬ ‫ف��ي م��و���ض��وع (درا� ��س ��ة دي��م��وج��راف��ي��ة في‬ ‫من نتاجه الأدب��ي‪ ،‬ففيه زاد وفير للأطفال‪،‬‬
‫�شكل �أدبي‪ ،‬يدرب الأطفال على معنى التذوق‪.‬‬ ‫التخطيط الب�شري) عام (‪1972‬م)‪ ،‬وح�صل‬ ‫لبنائهم‪ ،‬و�إعدادهم �إعداداً ديني ًا ووطني ًا‪ .‬وقد‬
‫وف��ي ق�صيدة عنوانها (ب�سم اهلل) يبين �أن‬ ‫على �شهادة معهد التخطيط القومي عام‬ ‫تناول في مو�ضوعاته ال�شعرية للأطفال مادة‬
‫الب�سملة واجبة في كل �شيء من حياتنا‪ ،‬في‬ ‫(‪1963‬م)‪ ،‬و�شهادة �أكاديمية العلوم التربوية‬ ‫�شائقة بعدة �صور وجوانب مختلفة تتواءم‬
‫الم�أكل والم�شرب‪ ،‬وكذلك في الجري واللعب‪،‬‬ ‫الألمانية من معهد القيادة والتخطيط ببرلين‬ ‫مع ظروفهم وحياتهم‪ .‬ولأن لغة �أدب الأطفال‬
‫وفى القراءة والكتابة‪ ،‬وعند دخ��ول البيت‪،‬‬ ‫ع��ام (‪1972‬م)‪ ،‬و���ش��ه��ادة المعهد الدولي‬ ‫لها خ�صائ�ص تميزها‪ ،‬فقد جاءت لغة �أحمد‬
‫وهذا �أول ما يقدم للطفل ويعرفه في حياته‬ ‫للتخطيط التربوي بباري�س‪ ،‬ث��م عمل في‬ ‫نجيب‪ ،‬متفقة مع ما قرره علماء اللغة في‬
‫حتى ي�شب عليه‪.‬‬ ‫مجال �أدب الطفل‪ ،‬فكان مديراً لمركز الطفل‬ ‫لغة الأطفال من خ�صائ�ص �صوتية و�صرفية‬
‫ثم تبع ذلك ق�صيدة بعنوان (الحمد هلل)‪،‬‬ ‫بدار المعارف‪ ،‬وع�ضواً في لجنة ثقافة الطفل‬ ‫ومعجمية وتركيبية وداللية‪ ،‬وات�سمت الألفاظ‬
‫وفيها ي�ؤكد �أن الحمد واج��ب في كل وقت‬ ‫بالمجل�س الأعلى للثقافة بالقاهرة‪ ،‬وع�ضواً‬ ‫عنده بعدة �سمات‪ ،‬منها‪ :‬ال�صحة وال�شيوع‬
‫من �أوق ��ات الحياة اليومية للأطفال‪ :‬بعد‬ ‫بالمجل�س العالمي لكتب الأطفال‪ ،‬و�أ�ستاذاً‬ ‫ي�ضيق الفجوة بين الف�صحى‬ ‫على الأل�سنة مما ّ‬
‫الم�أكل والم�شرب‪ ،‬والجري واللعب‪ ،‬والقراءة‬ ‫لأدب الأطفال بمعظم جامعات م�صر‪.‬‬ ‫والعامية‪ ،‬والبعد عن الألفاظ الغريبة وال�صعبة‬
‫والكتابة‪ ..‬ثم يقول في ق�صيدة �أخرى عن الأم‪،‬‬ ‫�أما �إنتاجه الأدبي؛ فقد و�صل �إلى ثالثمئة‬ ‫ف��ي نطقها‪ ،‬وم��خ��ارج ح��روف��ه��ا‪ ،‬كما كان‬
‫م�صوراً الحوار بين الطفل والأم ب�صورة فيها‬ ‫كتاب للأطفال‪ .‬ومن �أ�شهر �أعماله‪( :‬مجموعة‬ ‫حري�ص ًا على الإتيان بالألفاظ التي يجمعها‬
‫حنين وحب‪ ،‬فيها قرب وعطف‪ ،‬وحوار دافئ‪،‬‬ ‫ال�سيرة النبوية للأطفال)‪�( ،‬سل�سلة حكايات‬ ‫حقل داللي واحد كالألوان والحيوانات‪.‬‬
‫وهذا الحوار متعدد يمكن �أن يكون بين الأم‬ ‫في كليلة ودمنة)‪�( ،‬سل�سلة حكايات الع�صفور‬ ‫وال�شاعر �أحمد نجيب‪ ،‬ينتمي �إلى الجيل‬
‫والطفل‪� ،‬أو بين الطفل والجدة‪.‬‬ ‫الأزرق)‪ ،‬و(�سل�سلة م��اذا تعلم ع ��ن؟)‪ .‬كما‬ ‫الذي واكب مرحلة التقنين العلمي لهذا الأدب‪،‬‬
‫هذا ال�شعر له �أ�شكاله وقواعده‪ ،‬ومناهجه‪،‬‬ ‫�أ�صدر اثنتين من دوائ��ر المعارف للأطفال‬ ‫بعد �أن و�ضع جيل الرواد اللبنات الأولى‪ ،‬بما‬
‫وما يت�صل باللغة ويتواءم معها‪ ،‬وهذا يتجه‬ ‫من ت�أليفه‪ ،‬وا�شترك في ثالث دوائر معارف‬ ‫فيها من عيوب البداية وميزاتها‪ ،‬فكان ممن‬
‫لمراحل الطفولة‪ ،‬بما فيها من مو�ضوعات تهم‬ ‫للأطفال‪ ،‬منها‪ :‬دائ��رة المعارف العالمية‬ ‫�أخل�صوا لأدب الطفل وثقافته‪ ،‬ف�أوقف ن�شاطه‬
‫وتخدم الأطفال‪ .‬وفي ات�صال الأطفال بهذا‬ ‫الم�صورة للأطفال والنا�شئة‪ ،‬كما �أ�شرف‬ ‫وطاقته الفكرية والمعرفية والإبداعية على‬
‫الأدب‪ ،‬ت�شكيل لوجدانهم و�صقل لم�شاعرهم‪،‬‬ ‫على (دائرة معارف م�صر للأطفال‪ -‬م�صر �أم‬ ‫كل ما يخ�ص الكتابة للطفل‪ ،‬فكان �أول من‬
‫وتن�شئتهم تن�شئة �سوية‪� ،‬إذ ي�ألفون الحق‬ ‫الدنيا) ال�صادرة عن الهيئة الم�صرية العامة‬ ‫�أ�صدر كتب ًا علمية �أكاديمية عن �أدب الأطفال‪،‬‬
‫والجمال والحب والخير‪ ،‬وذلك �أف�ضل �أ�سا�س‬ ‫لال�ستعالمات‪ ،‬و�صدر منها ما يزيد على مئة‬ ‫وكتب الأطفال على م�ستوى الوطن العربي‪،‬‬
‫لحياتهم‪ ،‬ال �سيما �إذا ا�ستمر ات�صالهم ال�سوي‬ ‫كتاب من ت�أليف �أحمد نجيب‪ .‬وق��دم (‪)12‬‬ ‫منها كتاب (فن الكتابة للأطفال) الذي �صدر‬
‫به‪ ،‬وارتباطهم بقيم الدين ال�صحيحة‪.‬‬ ‫كتاب ًا ح��ول �أدب الأط��ف��ال موجهة للكبار‪.‬‬
‫ن��ال الكاتب والأدي ��ب �أحمد نجيب من‬ ‫و�أ���ش��رف �أحمد نجيب على �سل�سلة ق�ص�ص‬
‫التكريمات الكثير م��ن ال��ج��وائ��ز المحلية‬ ‫عالمية للأطفال كانت ت�صدر من جنيف‪،‬‬ ‫في �أدبه زاد وفير لل�صغار‬
‫والعربية‪ ،‬منها‪ :‬جائزة الدولة الت�شجيعية في‬ ‫ومدريد‪ ،‬وباري�س‪ ،‬والدار البي�ضاء‪ ،‬وبيروت‪،‬‬
‫متفق مع ما قدمه علماء‬
‫�أدب الطفل مرتين (‪1972‬م و‪1989‬م)‪ ،‬و�سام‬ ‫وال��ق��اه��رة‪ .‬كما ا�شترك ف��ي تحرير مجلة‬
‫العلوم والفنون من الطبقة الأولى (‪1973‬م)‪،‬‬ ‫(المختار) التي �أ�صدرها المجل�س العربي‬ ‫اللغة من خ�صائ�ص �صوتية‬
‫نوط االمتياز من الطبقة الأولى (‪1991‬م)‪.‬‬ ‫للطفولة والتنمية عام (‪1989‬م)‪.‬‬ ‫و�صرفية ومعجمية‬
‫كما فاز بجائزة الملك في�صل العالمية في‬ ‫ولأن �شعر الأطفال يعنى باحتياجات‬
‫�أدب الأطفال (‪1991‬م)‪.‬‬ ‫الطفل الوجدانية‪ ،‬وهي في معظمها �أقا�صي�ص‬
‫وتركيبية وداللية‬

‫‪115‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫وظفت الفن للتعبير عن �أحالم المغاربة‬

‫ثريا جبران‪ ..‬الفنانة والوزيرة المثقفة‬


‫و ّدع���ت ال�ساحة الفنية العربية ف��ي (‪� 24‬أغ�سط�س ‪ )2020‬رائ���دة خ�شبة الم�سرح (ثريا‬
‫عالمة بارزة في تاريخ الفن المغربي‪ ،‬فقد ا�ستطاعت بموهبتها �أن تحظى‬ ‫ً‬ ‫جبران)‪ ،‬التي تعد‬
‫ج�سدتها‪،‬‬
‫بمكانة معتبرة داخل قلوب ووج��دان المغاربة‪ ،‬من خالل الأدوار الم�سرحية التي ّ‬
‫ال�صديقي)‪،‬‬
‫ابتداء من خطواتها الأول��ى في (الم�سرح البلدي) �إل��ى جانب الرائد (الطّ ّيب ّ‬
‫و�صو ًال �إل��ى ت�أ�سي�سها و�إدارت��ه��ا الناجحة لفرقة (م�سرح ال��ي��وم)‪ ،‬وه��و ما جعل منها �أيقونة‬
‫محمد الع�ساوي‬
‫مغربية بامتياز‪ ،‬ونموذج ًا ح ّي ًا لتالحم الفنان مع ق�ضايا مجتمعه‪ ،‬خا�صة بعد �أن جعلت‬
‫الفقيدة من ح�ضورها الم�سرحي‪ ،‬و�سيلة للتعبير عن �آمال و�أحالم المغاربة‪ ،‬في الحرية والعدالة االجتماعية‪.‬‬

‫م��ن قبيل (عبدال�صمد الكنفاوي) و(ع��ب��داهلل‬ ‫ومنحها ا�سمه الذي �أ�صبحت ت�شتهر به فني ًا‪.‬‬ ‫ال�سعدية قريطيف (ثريا جبران)‬ ‫ول��دت ّ‬
‫�شقرون) وغيرهما‪ ..‬لتتوج م�سيرتها الدرا�سية‬ ‫تلقت ثريا ج��ب��ران درا�ستها االبتدائية‬ ‫في (‪� 16‬أكتوبر ‪1952‬م) ب��درب بو�شنتوف‬
‫بح�صولها على دبلوم التخ�ص�ص الم�سرحي‪.‬‬ ‫والثانوية في مدينة ال��دار البي�ضاء‪ ،‬وكانت‬ ‫بمدينة الدار البي�ضاء‪ ،‬ترعرعت يتيمة الأب‪،‬‬
‫ب��د�أت ثريا م�شوارها الفني وهي في �سن‬ ‫�ضمن الفوج الأول من التلميذات المغربيات‪،‬‬ ‫ال�شيء ال��ذي جعل والدتها تلتحق بم�ؤ�س�سة‬
‫العا�شرة‪ ،‬حيث ان�ضمت �إل��ى فرقة (الأخ ��وة‬ ‫اللواتي تخرجن في المرحلة االبتدائية‪ ،‬مع‬ ‫خيرية للعمل فيها كمربية‪ ،‬وهناك فتحت‬
‫العربية) التي كان يديرها المخرج (عبدالعظيم‬ ‫فجر ا�ستقالل المغرب‪ ،‬والتحقت بعد ح�صولها‬ ‫ثريا عينيها على عوالم مجتمعية ه�شة‪� ،‬أثرت‬
‫ال�شناوي)‪ ،‬و�شاركت حينها في م�سرحية (�أوالد‬ ‫على �شهادة البكالوريا بالمعهد الوطني‪ ،‬التابع‬ ‫في م�سارها الفني وموقفها الإن�ساني‪ ،‬وكان‬
‫ال��ي��وم)‪ ،‬وبعدها اخ��ت��اره��ا المخرج (محمد‬ ‫ل ��وزارة ال�ش�ؤون الثقافية والتعليم الأ�صلي‬ ‫زوج �أختها (محمد ج��ب��ران) بمثابة م�ؤطر‬
‫الت�سولي) للم�شاركة في م�سرحية (يو�سف بن‬ ‫بالرباط‪ ،‬الذي تلقت فيه تكوينها الفني ما بين‬ ‫تربوي في الم�ؤ�س�سة ذاتها‪ ،‬الذي لعب دوراً‬
‫تا�شفين) التي نالت عنها جائزة �أح�سن �أداء‬ ‫(‪1972-1968‬م) على يد كبار �أ�ساتذة الم�سرح‪،‬‬ ‫مهم ًا في توجيهها نحو ع�شق (�أبو الفنون)‪ ،‬بل‬
‫ن�سائي‪ ،‬في الإق�صائيات الإقليمية لم�سرح‬
‫الهواة في الدار البي�ضاء‪ ،‬وبف�ضل ذلك التتويج‬
‫تم انتدابها للم�شاركة في �أحد تدريبات ال�شبيبة‬
‫والريا�ضة بغابة المعمورة �صيف (‪1968‬م)‬
‫حيث التقت بعمالقة الم�سرح‪ ،‬م��ن �أب��رزه��م‬
‫المخرج (فريد بنمبارك)‪.‬‬
‫وبعدها انطلقت في تجربة م�سرحية ممتدة‪،‬‬
‫عبر عقود من الزمن‪ ،‬مرت من خاللها بمجموعة‬
‫من التجارب والفرق الم�سرحية‪ ،‬حيث �شاركت‬
‫في النجاحات التي حققتها فرق (ال�شهاب)‬
‫و(ال��م��ع��م��ورة) و(ال��ق��ن��اع ال�صغير) و(م�سرح‬
‫النا�س)‪ ،‬وهذه الأخيرة كان يديرها المخرج‬
‫(الط ّيب ال�صديقي)‪ ،‬الذي‬
‫الم�سرحي المعروف ّ‬
‫�أبانت معه ثريا جبران عن علو كعبها‪ ،‬خا�صة‬
‫ف��ي م�سرحيتي (دي���وان �سيدي عبدالرحمن‬
‫المجدوب) و(�أبو حيان التوحيدي)‪.‬‬
‫وبعدها د�شنت محطة جديدة متميزة من‬
‫م�سيرتها الفنية كممثلة‪� ،‬ضمن �أع�ضاء فرقة‬
‫(م�سرح اليوم) بقيادة زوجها الم�ؤلف والمخرج‬
‫الم�سرحي (عبدالواحد ع��وزري)‪ ،‬ال��ذي حاول‬
‫�إعادة االعتبار للم�سرح المغربي ورفع م�ستواه‪،‬‬
‫ليمنح الجمهور المغربي �أعما ًال م�سرحية خالدة‪،‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪116‬‬


‫�إبداع‬

‫و الفنان الراحل محمد ب�سطاوي‬ ‫ومع الفنان الجزائري ال�شاب خالد‬ ‫ثريا جبران مع عادل �إمام في مهرجان مراك�ش لل�سينما‬

‫تكريمها من وزير الثقافة الأ�سبق محمد الأعرج‬ ‫ومع المخرج الراحل الطيب ال�صديقي‬ ‫ومع الفنان المغربي ه�شام بهلول‬

‫كما دعت �إلى �إحياء الم�سارح والمراكز الثقافية‬ ‫من بطولة ثريا جبران‪ ،‬ووج��وه �شابة �أ�صبحوا‬
‫الجهوية بعيداً عن المركزية‪.‬‬ ‫نجوم ًا فيما بعد‪� ،‬أمثال المرحوم (محمد ب�سطاوي)‬
‫�إن ت�ألق ثريا جبران في �أعمالها المحترفة‪،‬‬ ‫خمولي) و(ر�شيد الوالي) و(محمد‬ ‫و(عبداللطيف ّ‬
‫تعد عالمة بارزة في‬ ‫جعلها تح�صل على العديد من الجوائز والأو�سمة‪،‬‬ ‫خيي)‪ ،‬الذين �شخ�صوا �أعما ًال فنية مازالت خالدة‪،‬‬
‫داخل المغرب وخارجه‪ ،‬فهي حا�صلة على و�سام‬ ‫من قبيل‪( :‬حكايات بال ح��دود)‪( ،‬نركبو لهبال)‪،‬‬
‫تاريخ الفن ووجدان‬ ‫اال�ستحقاق الوطني‪ ،‬من طرف العاهل المغربي‬ ‫(بوغابة)‪( ،‬ال ّنمرود في هوليود)‪�( ،‬أيام العز)‪�( ،‬أربع‬
‫المغاربة‬ ‫الراحل الح�سن الثاني‪ ،‬وعلى و�سام اال�ستحقاق‬ ‫�ساعات في �شاتيال)‪( ،‬طير الليل)‪ ،‬و(امر�أة غا�ضبة)‪.‬‬
‫ال��وط��ن��ي‪ ،‬م��ن درج ��ة ف��ار���س م��ن ط��رف العاهل‬ ‫و�إل��ى جانب تجربتها الم�سرحية الناجحة‪،‬‬
‫المغربي محمد ال�ساد�س‪ ،‬وعلى و�سام الجمهورية‬ ‫اقتحمت ثريا جبران عالم ال�سينما والتلفزيون‪،‬‬
‫الفرن�سية للفنون والآداب‪ ،‬من درجة فار�س‪ ،‬كما‬ ‫من خالل م�شاركتها في م�سل�سالت و�أفالم عربية‬
‫فازت بجائزة ال�شارقة للإبداع الم�سرحي العربي‬ ‫من �أ�شهرها‪( :‬بامو)‪( ،‬الناعورة)‪( ،‬غراميات)‪( ،‬ق�صر‬
‫بدايات مبكرة مع‬ ‫في دورتها الثانية (‪2008‬م)‪ ،‬من قبل الهيئة‬ ‫ال�سوق)‪( ،‬عود ال��ورد)‪�( ،‬شفاه ال�صمت)‪( ،‬الفرا�شة‬
‫العربية للم�سرح‪.‬‬ ‫ال�سوداء)‪( ،‬عط�ش)‪�( ،‬صقر قري�ش)‪( ،‬ربيع قرطبة)‪.‬‬
‫الطيب ال�صديقي‬ ‫وهكذا رحلت ثريا نجمة الم�سرح المغربي‪،‬‬ ‫وف�ض ًال عن م�سارها الفني‪ ،‬فقد تقلدت الراحلة‬
‫والكنفاوي و�شقرون‬ ‫تاركة وراءه��ا ر�صيداً فني ًا حاف ًال بالإبداعات‬ ‫مهمة وزيرة الثقافة ما بين (‪2009 -2007‬م)‪،‬‬
‫والإن ��ج ��ازات‪ ،‬جعل ا�سمها م��ح��ف��وراً ف��ي ذاك��رة‬ ‫التي �سعت من خاللها �إلى تن�شيط الحياة الفنية‬
‫المغاربة‪ ،‬بكونها �أيقونة الخ�شبة من دون منازع‪.‬‬ ‫والثقافية‪ ،‬و�إل ��ى االهتمام ب�ش�ؤون الفنانين‪،‬‬

‫عبدال�صمد الكنفاوي‬ ‫محمد الت�سولي‬ ‫ر�شيد الوالي‬ ‫محمد خيي‬

‫عبداهلل �شقرون‬ ‫عبد الواحد عوزري‬ ‫عبدالعظيم ال�شناوي‬ ‫فريد بنمبارك‬ ‫ثريا جبران في �أحد �أعمالها الم�سرحية‬

‫‪117‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫الهوية الثقافية‬
‫بين المحو والعزلة‬
‫د‪ .‬حاتم ال�صكر‬

‫نف�سها في حالة �سيرورة‪ ،‬تتغير مكوناتها‪،‬‬ ‫ال �شك في �أن �أية مقاربة لمو�ضوع الهوية‪،‬‬
‫وتتجدد مفاهيمها‪ ،‬ويكون للغة دور كبير في‬ ‫والهوية الثقافية بوجه خا�ص‪ ،‬تنطوي على‬
‫وتعرف وتقارب‬ ‫ّ‬ ‫ذلك؛ وذلك �أكيد لأنها ت�صف‬ ‫تف�صيالت وتنويعات ت�ستدعي الت�أمل في ما‬
‫الأ���ش��ي��اء؛ ليكون ال��خ��ط��اب مجلي ًا للهوية‪،‬‬ ‫تحمل من وجهات نظر مختلفة‪ ،‬وتباينات في‬
‫ومعر�ض ًا لمفرداتها التي تكونها‪.‬‬ ‫مفهومها الم�ستمد من �إيديولوجيات و�أفكار‬
‫وال��م�لاح��ظ �أن المنفيين وال��غ��رب��اء في‬ ‫تعمل على ت�شغيلها‪ .‬لكن ما يمكن االتفاق‬
‫مجتمعات الآخ ��ر‪� ،‬أك��ث��ر �إح�سا�س ًا بالمكون‬ ‫عليه منطلق ًا لهذه المقاربة‪ ،‬هو ت�أكيد الجانب‬
‫الثقافي‪ ،‬واللغوي خا�صة‪ ،‬للهوية‪ .‬وفي تفح�ص‬ ‫الثقافي‪ ،‬ودوره في تر�سيخ الهوية وتجددها‬
‫مو�ضعهم الهوياتي ف��ي تلك المجتمعات‬ ‫مع ًا‪ ،‬وفق معطيات الع�صر وتياراته الفاعلة في‬
‫التي يفتر�ض �أن يندمجوا فيها‪ ،‬لي�س بمعنى‬ ‫الحياة‪.‬‬
‫المحو واال�ستالب المتمثل في احتالل البلدان‬ ‫لقد كانت الهوية في �أ�صلها اال�صطالحي‬
‫الثقافة والح�ضارة‬ ‫وم�����ص��ادرة ح��ري��ات ال�����ش��ع��وب‪ ،‬ب��ل التفاعل‬ ‫مثا ًال على ترحيل الم�صطلحات واقترا�ضها‪،‬‬
‫ت�ضيفان �إلى التقارب‬ ‫الإيجابي و�ضمان �سيرورة الحياة بكرامة‬ ‫ف��ه��ي ف��ي الأ� ��ص ��ل م��ن م�صطلحات الفكر‬
‫وح��ري��ة‪ ،‬لكن ذل��ك ال يتم �إال بخ�سائر يمكن‬ ‫االجتماعي‪ ،‬لكن �إجراءها في الثقافة ي�ؤكد‬
‫الإن�ساني عنا�صر‬
‫تفاديها بتقوية الهوية‪ ،‬عبر ا�ستذكار منجزها‬ ‫�أهمية العامل الثقافي في الوجود الهوياتي‬
‫القوة واالنفتاح‬ ‫الإن�ساني في الح�ضارة والموروث الثقافي‪،‬‬ ‫لل�شعوب‪ .‬فالثقافة والح�ضارة كمنجزين‬
‫والتحرر والغنى‬ ‫و�إمداد الذات بعنا�صر من المعا�صرة التي تجعل‬ ‫روحيين ي�ضيفان للتقارب الإن�ساني مبررات‬
‫وجودها فاع ًال ومتفاع ًال �أي�ض ًا مع العنا�صر‬ ‫تجعل ذلك التقارب عن�صر قوة وانفتاح وتحرر‬
‫الثقافية واللغوية للآخر‪ ،‬ويكون المكان هذه‬ ‫وغنى‪ .‬ك��ان باختين يقول ب�صدد التثاقف‬
‫المرة عام ًال �إ�ضافي ًا في اختبار قدرة الذات‬ ‫الأوروبي مع ثقافات ال�شعوب خارج القارة‪� :‬إن‬
‫على موازنة �إ�شكالية الهوية في الوجود الذي‬ ‫النظر �إلينا بعين الآخر يزيدنا قو ًة وانفتاح ًا‪.‬‬
‫يهيمن عبر اللغة على �إجراءات المثاقفة معه‪،‬‬ ‫من جهتنا ك��ان يجب النظر �إل��ى الهوية‬
‫وه��ذه معاي�شة مبا�شرة ام ُتحن من خاللها‬ ‫بكونها غير ثابتة العنا�صر‪ .‬ال بمعنى م�سخ‬
‫مثقفون كثر‪ .‬يب�سط ت� ��ودوروف ف��ي كتابه‬ ‫ما حملت من م�ؤ�شرات على الغنى الروحي‬
‫(نحن والآخ���رون) طرف ًا منها‪ .‬كما يت�أملها‬ ‫لل�شعب وح�ضارته‪ ،‬بل بمعنى �أنها تتجدد‬
‫بعمق �إدوارد �سعيد يدخل عميق ًا في دالالتها‬ ‫وتت�سع ال�ست�ضافة عنا�صر �أخرى ذات �أهمية‬
‫الوجودية و�إمكانات التوازن التعاي�شي الممكن‬ ‫في تعميق الهوية‪ ،‬وزيادة الحاجة للإح�سا�س‬
‫في حالته و�سواه ممن ي�ؤرقهم �س�ؤال الهوية‪.‬‬ ‫بها وتم ُّثلها في الثقافة‪ .‬فهي تتغير بتغير‬
‫وتكون الترجمة كمعطى تثاقفي مع الآخر‬ ‫المعطيات‪ ،‬وتتنوع لتكون ملهمة للذات و�سط‬
‫جديرة �أن ترد في �س�ؤال الهوية كفعل ثقافي‬ ‫تحديات الواقع‪ ،‬وم�ستجدات الحياة من حول‬
‫ي�سهم في التقارب الإن�ساني‪ ،‬وه��و يقارب‬ ‫الفرد‪ ..‬يرى �إدوارد �سعيد �أن الثقافة والهوية‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪118‬‬


‫كلمات‬

‫�أجله‪ ،‬بل التب�صر في مكونات ثقافته وتلبية‬ ‫ثقافة الآخر عبر مدوناته ال وجوده المكثف‬
‫خطابها اللغوي لتلك الخ�صو�صية المتاحة‬ ‫اجتماعي ًا كما في حال المنفيين والمهاجرين‪.‬‬
‫للمعاينة‪ ،‬واال�ستزادة المعرفية مما في الخبرات‬ ‫وت��ك��ون اللغة ف��ي الفعل الترجمي مظهر ًا‬
‫والن�صو�ص التي تتيحها تلك المعاينة‪ ..‬فهي‬ ‫لالختالف عن الآخ��ر‪ .‬ولنا في ترجمة العرب‬
‫منا�سبة للتثاقف معه‪ ،‬وتقوية الذات بما‬ ‫َ‬ ‫�إذاً‬ ‫مبكراً لكتاب �أر�سطو عن ال�شعرية المترجم‬
‫حري باالهتمام‪،‬‬ ‫تجد في ذلك الآخر من جديد ٍّ‬ ‫دال‪ ،‬فقد نقلوا م�صطلحات‬ ‫بـ(فن ال�شعر) مثا ًال ّ ً‬
‫الهوية تتنوع لتكون‬ ‫ي�ضيف للهوية مالمح �ساند ًة وم�ؤثرة‪.‬‬ ‫كالكوميديا والتراجيديا ب�أنهما رديف لغوي‬
‫ملهمة للذات و�سط‬ ‫�إن ال��ج��ذر اللغوي للهوية ينطوي على‬ ‫ومفهومي للهجاء والمديح اللذين ُعرفا في‬
‫تحديات الواقع‬ ‫�إ�شارة وا�ضحة للـ(هو) بكونه خ��ارج ذاتنا‪،‬‬ ‫الكتابة ال�شعرية العربية والفنون النثرية‬
‫وم�ستجدات الحياة‬ ‫ولكن بح�ضوره في ت�شكل الهوية الخا�صة بنا‪،‬‬ ‫المتداولة‪ ..‬كما �أهملوا الف�صل الخا�ص بال�شعر‬
‫و(نحن) ك�ضمير للجماعة المتكلمة عن ذاتها‪،‬‬ ‫الدرامي‪ ،‬والمالحم الحربية والتاريخية التي‬
‫�ستحمل معها �سمات االختالف عن الآخر بعد‬ ‫ر�أوا �أنها تتحدث عن (تخاريف) ال يجدر بنا‬
‫معرفته‪ ،‬ثم بال�ضرورة ابتكار نقاط اللقاء به‪.‬‬ ‫مطالعتها‪ ،‬ذلك �أن عن�صر االختالف في جوهر‬
‫وذلك هو جوهر عملية المثاقفة‪.‬‬ ‫محركه‬‫الهوية غاب عن العقل الترجمي‪ ،‬لأن ِّ‬
‫�إن �س�ؤال الهوية يواجه اختبارات كثيرة‬ ‫يعد‬
‫الفكري والمتمثل في الخطاب اللغوي‪ُّ ،‬‬
‫حول �أ�س�سه ومبادئه وقناعاته‪ .‬ومن �أبرزها‬ ‫ما في الم�سرحيات والمالحم اليونانية �شيئ ًا‬
‫العولمة القائمة على تقنيات الحداثة والقوة‬ ‫غريب ًا عن ثقافتنا‪ ،‬لما فيها من وقائع و�أحداث‬
‫الإ���ض��اف��ي��ة لإزال����ة ال��ف��روق وال ��ح ��دود عبر‬ ‫متخيلة‪ ،‬وتقوم على تحوالت تختلط فيها‬
‫التكنولوجيا التي تعدت �أ���س��وار الم�صانع‬ ‫الحقيقة والخيال‪ ،‬ولذا ي�صبح �إق�صا�ؤه �ضرورة‬
‫والمختبرات واالختراعات‪ ،‬لت�صل �إلى يوميات‬ ‫(خوف ًا) على هويتنا‪ .‬لكنها في الواقع �أفقدتنا‬
‫المكان (عامل‬ ‫الفرد وثقافته‪ .‬وظهر �أثرها حتى على الأ�شكال‬ ‫ر�ؤية ما تم التنظير له من مزايا‪ ،‬كان يمكن �أن‬
‫�إ�ضافي) في اختبار‬ ‫الأدبية والأ�ساليب‪ .‬وهذا يف�سر ميل الن�صو�ص‬ ‫تنقل ذلك التقليد الأدبي عبر الأنواع ال�شعرية‬
‫قدرة الذات على‬ ‫اليوم �إلى االختزال وال ِق�صر‪ ،‬والن�شر الرقمي‬ ‫�إلى ثقافتنا مبكراً‪ ،‬لتزيد هويتنا في تلك الفترة‬
‫وال��ت��ط��وي��ع الإل��ك��ت��رون��ي للكتابة والتعليم‬ ‫من التعرف �إلى الآخر تنوع ًا وغنى‪.‬‬
‫موازنة �إ�شكالية‬
‫وال�صحافة وال��ق��راءة‪ .‬ولكن ال��رد على هذه‬ ‫و�إذا كان الإيطاليون قد �أ�شاعوا مقولة (�إن‬
‫الهوية‬ ‫الهجمة التقنية ال يتم بدعوات العزلة واالنكفاء‬ ‫الترجمة خيانة)‪ ،‬م�ستدركين ب�أنها مع ذلك‬
‫�إلى الذات والتقوقع في ثوابتها التي ال تجعل‬ ‫�ضرورة‪ .‬ف�إن هذا يعك�س �أو ًال الريبة اللغوية‬
‫التكيف ممكن ًا للذات التي تريد �أن تظل فاعلة‬ ‫من الآخ��ر‪ ،‬والت�شكيك في قدرة لغة الجماعة‬
‫في الوجود الإن�ساني‪ ،‬ال على هام�شه‪� ،‬أو في‬ ‫على ا�ستيعاب‪� ،‬أو تم ُّثل ثقافة الآخر عبر لغته‪..‬‬
‫حوا�شيه‪ .‬وفي حديث ت��ودوروف عن تجربته‬ ‫(من تع ّلم لغة‬
‫ولدى العرب قول �شائع �أي�ض ًا ب�أن َ‬
‫مهاجراً بلغاري ًا ومواطن ًا فرن�سي ًا‪ ،‬تحذير من‬ ‫قوم � ِأم َن غدرهم)‪ ،‬فهو مما �شاع ثقافي ًا واتخذ‬
‫�أن فقدان الثقافة كارثة تزيد المهاجر �شرا�سة‪.‬‬ ‫�شكل قاعدة في التعامل الح�ضاري‪ ،‬ويمثل‬
‫وه��ذا ت�صويت �ضد محاولة الثقافة الأخ��رى‬ ‫�صورة لتنميط الآخ��ر بكونه ع��دواً ماكراً �أو‬
‫محو هوية المهاجر تمام ًا‪ ،‬بدل الإفادة منها‬ ‫�شريراً‪ .‬وكذلك ال تتطابق بح�سب المثل الإيطالي‬
‫الترجمة كمعطى‬ ‫ف��ي �إغ��ن��اء ال ��ذات والتفاعل معها �إيجابي ًا‪.‬‬ ‫مقوالت الآخر ومتونه مع ما ُينقل عنه �إلى لغة‬
‫بالمقابل فاالنعزالية ال تعي مفهوم الهوية‬ ‫�أخرى‪ .‬كل هذا لقطع طريق التقارب الإن�ساني‬
‫ثقافي مع الآخر‬ ‫والحفاظ عليها �إال بال َذ ِّب عنها وت�سويرها‬ ‫ِ‬
‫م�ستعمراً �أو‬ ‫الذي ال �شك في �أن ح�ضور الآخر‬
‫جديرة �أن ترد في‬ ‫بالثوابت‪ ،‬وذلك َتراجع ح�ضاري يعيد الإن�سان‬ ‫محت ًال �أو معادي ًا في هيئته الر�سمية‪ ،‬قد �أ�سهم‬
‫�س�ؤال الهوية كفعل‬ ‫�إلى االنتماءات ال�ضيقة‪ ،‬ويزيد من نقابية الذات‬ ‫في تكري�س �إق�صائه من الوعي الثقافي‪ ،‬ومن‬
‫ثقافي‬ ‫وانحيازها لنف�سها‪ ،‬برعب من الآخر تحت �أي‬ ‫ت�شكالت عنا�صر الهوية‪ .‬هنا ت�صبح اللغة‬
‫م�سمى كان‪ ،‬وللحروب دور خطير في تكري�س‬ ‫فاع ًال �سالب ًا في الهوية‪ ،‬وتحرم ال��ذات من‬
‫االنعزال الب�شري‪ ،‬ما يزيد الخوف من التقوقع‬ ‫فر�صة االغتناء �أو القوة بمنجز �سواها‪.‬‬
‫وتوهم المبررات للذعر من ال�صلة الح�ضارية‬ ‫�إن الهوية بمعنى م��ن المعاني لي�ست‬
‫بالآخر وثقافته‪ ،‬التي ال بد �أن تتوافر على‬ ‫اختالف ًا (م��ع) الآخ���ر‪ ،‬ب��ل عنه‪ ،‬فهي لي�ست‬
‫منجز يجعل التثاقف معها ذا جدوى وفاعلية‪.‬‬ ‫(خالف ًا) يجب ح�سمه بنبذه �أو محو ذاتنا من‬

‫‪119‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫احتفاء بمرور خم�سة �أعوام و�ستين عدد ًا‬
‫مجلة ال�شارقة الثقافية‬
‫حا�ضنة الإبداع ونافذة الثقافة العربية‬

‫العربية الأ���ص��ي��ل��ة‪ ،‬وت��ع��د ال�����ش��راك��ة بين‬


‫الدولتين في كافة المجاالت تعبيراً عن‬ ‫�أطلقت دائ��رة الثقافة بال�شارقة م�شروعها التنويري‬
‫الأهداف الم�شتركة المتميزة بين القيادتين‬ ‫لت�شكل وعي ًا ثقافي ًا عروبي ًا متحد ًا من المحيط �إلى الخليج‪،‬‬
‫وال�شعبين ال�شقيقين‪.‬‬ ‫ي�ؤمن بقدراته المعرفية المت�أ�صلة في ذات��ه الأبية‪،‬‬
‫وت��اب��ع��ت‪ :‬وت ��أت��ي الثقافة والفنون‬ ‫ليعبر بها بين متاهات العولمة التي اجتاحت عالمنا‬
‫لت�ؤكد دور القوى الناعمة في التوا�صل‬
‫المعا�صر‪ ،‬متدثر ًا بقيمه و�أخالقه ال�سوية‪ ،‬م�ست�ضيئ ًا‬
‫بين �أبناء الأمة‪ ،‬وهو ما تعك�سه مجهودات‬ ‫عبدالعليم حري�ص‬
‫�صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان بن‬ ‫ب�إرثه الثقافي والح�ضاري‪ ،‬الذي ملأ الدنيا عد ًال وت�سامح ًا‬
‫محمد القا�سمي ع�ضو المجل�س الأعلى‬ ‫وعلم ًا و�إبداعاً‪ ،‬فكانت (مجلة ال�شارقة الثقافية) الوعاء الذي يحمل م�شاعل‬
‫حاكم ال�شارقة‪ ،‬من خالل حر�صه الدائم‬ ‫الفكر والنور‪ ،‬من عا�صمة الثقافة العربية‪� ،‬إلى كافة ربوع الوطن العربي‪.‬‬
‫على دعم العالقات الثقافية بين البلدين‪،‬‬
‫لت�صبح دائرة الثقافة في ال�شارقة نبرا�س ًا‬ ‫ا�ستحقت وعن جدارة لقب (نافذة الثقافة‬ ‫وح���ري ب��ن��ا �أن نحتفل م��ع ك ّتابنا‬
‫ي�ضئ طريق الثقافة العربية‪ ،‬ويلتف حولها‬ ‫العربية)‪.‬‬ ‫ومتابعينا‪ ،‬بمرور خم�سة �أعوام على �إ�صدار‬
‫المبدعون والأدباء والمثقفون‪ ،‬لإثراء الفكر‬ ‫وقد �شاركتنا وزيرة الثقافة الم�صرية‬ ‫(مجلة ال�شارقة الثقافية)‪ ،‬والتي تمثل‬
‫الإن�ساني ون�شر ال�سالم بين ال�شعوب‪.‬‬ ‫الدكتورة �إينا�س عبد الدايم‪ ،‬هذا االحتفاء‬ ‫�صوت ًا عربي ًا ثقافي ًا فاع ًال وم ��ؤث��راً في‬
‫و�أكملت‪ :‬ومع الذكرى الخام�سة لإ�صدار‬ ‫ب��ق��ول��ه��ا‪ :‬ت��ظ��ل ال���رواب���ط ال��وط��ي��دة بين‬ ‫الم�شهد الثقافي العربي‪ ،‬وفق ر�أي �أغلب‬
‫مجلة ال�شارقة الثقافية‪ ،‬يثبت يوم ًا بعد‬ ‫جمهورية م�صر العربية‪ ،‬ودولة االمارات‬ ‫الم�شاركين معنا هذا االحتفاء‪ ،‬بمنا�سبة‬
‫يوم دورها الرائد في تطوير الفكر وتنمية‬ ‫ال��ع��رب��ي��ة ال��م��ت��ح��دة ن��م��وذج � ًا للعالقات‬ ‫بلوغنا العدد (‪ )60‬من عمر المجلة‪ ،‬التي‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪120‬‬


‫ا�ستطالع‬

‫ال��وع��ى وتجديد الإح�سا�س بالجمال‪ ،‬فمن‬


‫خالل �أبوابها الثرية تتجلى قيمة التنوير في‬
‫المجتمع العربي‪ ،‬خا�صة بعد �أن منحت بعداً‬
‫جديداً للفكر العربي و�أبرزت تميزه وعمقه‪ ،‬كما‬
‫�أعطت الثقافة ب�شكل عام دعم ًا كبيراً ي�سهم‬
‫في ازده��اره��ا وت�ألقها‪ ،‬ومنحت المثقفين‬
‫دفعة قوية من الأمل في الحا�ضر والم�ستقبل‪،‬‬
‫باعتبارهم رافعي راية التنوير وحرا�س الهوية‬
‫في الوطن العربي ‪ .‬و�أكدت‪ ،‬وفي النهاية �أوجه‬
‫التهنئة ل�صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان‬
‫بن محمد القا�سمي ع�ضو المجل�س الأعلى‬
‫حاكم ال�شارقة‪ ،‬بمنا�سبة مرور خم�س �سنوات‬
‫على ميالد مجلة ال�شارقة الثقافية وخال�ص‬
‫�سموه يت�صفح العدد الأول من المجلة‬
‫التحية والتقدير للقائمين عليها‪ ،‬مع تمنياتي‬
‫الثقافية‪ ،‬المعمول بها عالمي ًا‪ ،‬ومقربة الإمارة‬ ‫بدوام النجاح والتوفيق‪.‬‬
‫وحاكمها من قلوب وعقول ال��ق��راء‪ ،‬في كل‬ ‫�أم��ا الباحث وال��وزي��ر التون�سي ال�سابق‬
‫مكان ت�صل �إليه‪ ،‬من المحيط �إلى الخليج‪.‬‬ ‫الدكتور محمد محمود خليل‪ ،‬ف�أو�ضح �أن �إمارة‬
‫واختتم بقوله‪ :‬وما نجاحها و�إ�شعاعها‬ ‫ال�شارقة نجم �ساطع في �سماء الإمارات العربية‬
‫في هذه ال�سنوات الخم�س المعدودة‪� ،‬إال بف�ضل‬ ‫المتحدة‪� ،‬أوق��د �ضوءه �صاحب ال�سمو حاكم‬
‫�إينا�س عبد الدايم‪:‬‬ ‫الدعم المادي والمعنوي ل�صاحب ال�سمو حاكم‬ ‫ال�شارقة‪ ،‬بف�ضل حكمة قيادته ومراهنته على‬
‫ت�أتي الثقافة‬ ‫الإم� ��ارة‪ ،‬ال��ذي م��ا فتئ يبذل الجهد لمزيد‬ ‫و�سائل تقدمها ونه�ضتها من تنمية و�صحة‬
‫والفنون لت�ؤكد دور‬ ‫من النهو�ض بالحياة الثقافية في ال�شارقة‬ ‫وتعليم‪ ،‬وب��ح��ث علمي و�سياحة‪ ،‬وخا�صة‬
‫خ�صو�ص ًا‪ ،‬وي�سعى �إلى رعاية الثقافة العربية‬ ‫الإعالم والثقافة‪ ،‬متابع ًا‪ :‬وما مجلة ال�شارقة‬
‫القوى الناعمة في‬ ‫عموم ًا‪ ،‬وكذلك بف�ضل الدور الريادي لدائرة‬ ‫الثقافية �إال �شاهد عيان على هذا الرهان‪ ،‬فهي‬
‫التوا�صل بين �أبناء‬ ‫الثقافة بال�شارقة‪ ،‬وللقائمين على المجلة بكل‬ ‫تج�سم ن�ضج الغر�س الثقافي في الإمارة‪ ،‬وذلك‬‫ّ‬
‫الوطن العربي‬ ‫تفانٍ وحرفية‪.‬‬ ‫من خالل ما تقدمه من مادة د�سمة ومتنوعة‬
‫واعتبر �أمين عام رابطة الأدباء الكويتيين‬ ‫ب�أقالم فطاحل الكتاب والأدب���اء وال�شعراء‬
‫ال�سابق‪ ،‬ط�لال �سعد الرمي�ضي‪� ،‬أن مجلة‬ ‫والباحثين‪ ،‬و�أه��ل االخت�صا�ص في مختلف‬
‫ال�شارقة الثقافية من المنابر الثقافية الجادة‬ ‫مجاالت المعرفة‪ ،‬الم�شهود لهم بالكفاءة‬
‫والهادفة �إلى تطوير الفكر العربي‪،‬‏و�سط �صراع‬ ‫والإ�شعاع‪ ،‬من المثقفين العرب‪ ،‬ما جعل هذه‬
‫كبير بين الموروث العربي الأ�صيل والعولمة‬ ‫المجلة عالمة م�ضيئة في مجال المن�شورات‬
‫التي تكت�سح الأقطار العربية ب�أفكارها الغربية‬
‫‏‪ ،‬لتعمل مجلة ال�شارقة الثقافية على ت�أ�صيل‬
‫محمد خليل‪ :‬مجلة‬ ‫التراث العربي العريق عبر �صفحاتها النيرة‬
‫ال�شارقة الثقافية‬ ‫وموادها القيمة‪ ،‬وال �شك �أن هذه المطبوعة‬
‫�شاهد عيان للرهان‬ ‫الثقافية الجديدة عبر �سنواتها الخم�س �أ�سهمت‬
‫على الثقافة‬ ‫م�ساهمة بناءة في ت�أكيد مكانة ال�شارقة‬
‫التي تو�صف ب�أنها عا�صمة الثقافة‬
‫العربية عبر م�شاريعها المتنوعة‬
‫تحت قيادة �سمو ال�شيخ الدكتور‬
‫�سلطان بن محمد القا�سمي حاكم‬
‫�إم��ارة ال�شارقة‪� ،‬آملين من اهلل عز‬
‫وجل �أن ت�ستمر هذه الم�سيرة المباركة‬
‫لهذه المطبوعة القيمة في طريق المجد‬
‫والإبداع‪ ،‬ولأ�سرة التحرير كل التوفيق وال�سداد‪.‬‬

‫‪121‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�أما الأديب وال�شاعر الم�صري �أحمد ف�ضل‬
‫�شبلول‪ ،‬فيرى �أن مجلة ال�شارقة الثقافية‬
‫ا�ستطاعت خالل ال�سنوات الخم�س ال�سابقة �أن‬
‫تثبت ريادتها في مجال ال�صحافة الثقافية‬
‫العربية‪ ،‬و�أكدت من خالل ر�شاقتها وانتظام‬
‫�صدورها‪ ،‬وجمال �شكلها وعمق م�ضمونها �أنها‬
‫ت�ستطيع �أن ت�سد النق�ص الرهيب في مجالتنا‬
‫�أحمد ف�ضل �شبلول‬ ‫طالل �سعد الرمي�ضي‬ ‫د‪� .‬إينا�س عبدالدايم‬ ‫الثقافية في الوطن العربي‪ ،‬و�أن تعو�ض غياب‬
‫مجالت ثقافية عديدة‪� ،‬إ�ضافة �إل��ى المقابل‬
‫متابع ًا‪ :‬كانت المجلة‪ ،‬و�ستبقى في قلب‬ ‫المادي الجيد الذي يعو�ض جزءاً ب�سيط ًا من‬
‫الأحداث الثقافية العربية الم�ستجدة‪ ،‬و�ست�ستمر‬ ‫مجهودات الكاتب ون�ضاله في الحياة‪ ،‬لذا نجد‬
‫كما عهدناها في ن�شر المعرفة‪ ،‬بغ�ض النظر‬ ‫�أن كبار الكتاب في الوطن العربي حري�صون‬
‫عن عمر المبدع‪� ،‬أو جن�سه‪� ،‬أو جن�سيته‪� ،‬أو‬ ‫على التوا�صل مع المجلة‪� ،‬إلى جانب كتاب‬
‫طالل �سعد‬ ‫درجته الأكاديمية‪ ،‬فهي تمثل قلب العروبة‪،‬‬ ‫جدد تفتح لهم (ال�شارقة الثقافية) نافذتها‬
‫الرمي�ضي‪ :‬منبر‬ ‫ووجدان القومية العربية الناب�ض بالإبداع‪،‬‬ ‫فيتحقق التوا�صل بين الأجيال‪.‬‬
‫ثقافي جاد يعمل‬ ‫وما فيه من تعبير �صادق وجميل عن وقع‬ ‫وبين �شبلول �أنه‪ :‬وفي ظل ت�سارع الكثير‬
‫على التوا�صل بين‬ ‫الوجود على الوجدان‪.‬‬ ‫من المجالت وال�صحف العربية �إل��ى ف�ضاء‬
‫لا‪ :‬وف��ي ال��وق��ت ال ��ذي ظ��ه��رت فيه‬
‫م��ك��م� ً‬ ‫الإ�صدارات الرقمية‪ ،‬وقفت (ال�شارقة الثقافية)‬
‫التراث والمعا�صرة‬ ‫الكثير من المجالت الثقافية العربية‪ ،‬والتي‬ ‫بكل �شموخ وتحد لتحافظ على �إ�صدارها‬
‫حظي بع�ضها بانت�شار �سريع‪� ،‬إال �أنها انطف�أت‬ ‫الورقي المنتظم‪ ،‬مع مواكبة لنب�ض الع�صر‬
‫لأ�سباب مالية‪ ،‬ف�إن مجلة ال�شارقة الثقافية‬ ‫من خالل اللجوء �إلى المقاالت المتنوعة ذات‬
‫تحافظ على م�صداقية ال�صدور‪ ،‬ولم تت�أخر يوم ًا‬ ‫الحجم المتو�سط‪ ،‬لخلق نوع من االن�سجام في‬
‫عن الو�صول لقرائها الذين ينتظرونها ب�شوق‬ ‫�أبواب المجلة المتعددة‪ ،‬فال تطغى مادة على‬
‫ولهفة‪� ،‬سواء بن�سختها الورقية �أو الإلكترونية‪.‬‬ ‫مادة‪ ،‬وال باب على باب‪.‬‬
‫وذل��ك لجمال �إخراجها وتن�سيقها‪ ،‬وخلوها‬ ‫لقد �أ�صبحت (ال�شارقة الثقافية) �صوت‬
‫�أحمد ف�ضل‬ ‫من الأخطاء المطبعية واللغوية‪ ،‬ولأهمية ما‬ ‫ال�شارقة في الوطن العربي‪ ،‬و�صوت الوطن‬
‫�شبلول‪�:‬أثبتت‬ ‫ين�شر فيها من م��واد مهمة ومتنوعة تغطي‬ ‫العربي في ال�شارقة‪ ،‬عن طريق هذا التوازن‬
‫ريادتها في مجال‬ ‫جميع الأجنا�س الأدبية والفكرية‪ ،‬فقد �صارت‬ ‫الدقيق في اختيار المواد المن�شورة في كل عدد‬
‫ال�صحافة الثقافية‬ ‫مرجع ًا للباحثين والنقاد و�أ�ساتذة الجامعات‬ ‫من �أعدادها‪.‬‬
‫المعنيين باللغة العربية و�آدابها‪.‬‬ ‫وب��دوره �أكد الناقد محمد الم�شايخ �أمين‬
‫الباحث وال�شاعر المغربي الدكتور �أحمد‬ ‫�سر رابطة الكتاب الأردنيين‪� :‬أن ت�صدر مجلة‬
‫الحري�شي يعبر عن ر�أي��ه بالقول‪� :‬أجدني في‬ ‫ثقافية من �إمارة �صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور‬
‫�سلطان بن محمد القا�سمي‪ ،‬ع�ضو المجل�س‬
‫الأع ��ل ��ى‪ ،‬ح��اك��م ال�����ش��ارق��ة‪،‬‬
‫ف ��إن التاريخ �سيخلد الأث��ر‬
‫والإنجاز والإب��داع والعطاء‬
‫الذي حققته مجلة ال�شارقة‬
‫ال��ث��ق��اف��ي��ة ف ��ي ال�����س��ن��وات‬
‫الخم�س الأول��ى من عمرها‬
‫المديد‪� ،‬سيقف اليا�سمين‬
‫ليحيي هيئة‬ ‫ّ‬ ‫على قدميه‬
‫تحرير المجلة‪ ،‬والعاملين‬
‫ب���ه���ا‪ ،‬وال ��ع ��ام ��ل ��ي ��ن ف��ي‬
‫دائ���������������رة ال����ث����ق����اف����ة ف��ي ال�شارقة التي‬
‫ت�صدر هذه المجلة‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪122‬‬


‫ا�ستطالع‬

‫و�أك��م��ل‪� :‬إذ تتحول بمثل ه��ذه المجالت‬ ‫مفتتح ال��ق��ول الت�أطيري ل��م��ب��ادرات �إم��ارة‬
‫الثقافية �إل ��ى ح��اج��ة يومية وخبز‬ ‫ال�شارقة الثقافية‪ ،‬التي م��ن �ضمنها هذه‬
‫ط��ازج على ك��ل ال��م��وائ��د‪..‬‬ ‫المجلة العربية ال��رائ��دة على ام��ت��داد ربوع‬
‫وي�صبح ال�س�ؤال‬ ‫ال��وط��ن العربي الكبير جنب ًا �إل��ى جنب مع‬
‫ال��ث��ق��اف��ي‬ ‫مجالت �شارقية بهية �أخرى‪� ..‬إال متمث ًال م�أزق‬
‫هو المحدد‬ ‫خرا�ش في البيت العربي ال�شهير‪:‬‬
‫ا أل و ل‬ ‫ت��ك��اث��رت ال��ظ��ب��اء ع��ل��ى خ��را���ش‬
‫لإج��اب��ات كل‬ ‫ي�صيد‬
‫ُ‬ ‫ف��م��ا ي����دري خ��را���ش م��ا‬
‫قطاعات الدولة‬ ‫�إنه م�أزق االختيار واالخت�صار لعطاء ال‬
‫وم�ؤ�س�ساتها‪� ..‬إنها‬ ‫ي�سعنا حده‪ ،‬وال يمكننا في هذا الحيز التعبيري‬
‫ن ��م ��وذج ب��ي��ن على‬ ‫عده‪ ..‬وال يخفى على الباحث المن�صف ق�صده‪..‬‬
‫مفهوم �سلطة الثقافة‪،‬‬ ‫عطاء ي�سعى لتكري�س قوة الثقافة �ضداً عن‬
‫ح��ي��ن��م��ا ت�����ص��ي��ر ثقافة‬ ‫ثقافة القوة بتعبير �إدوارد �سعيد في غير‬
‫لل�سلطة فتتحول الجغرافيا المح�صورة �إلى‬ ‫هذا ال�سياق‪ ..‬بو�صف المعرفة كما و�صفتها‬
‫فكرة تخترق الأنف�س وتملأ الآفاق‪ ..‬وتتحول‬ ‫منظمة الثقافة العالمية الحم�ض النووي‬
‫الثقافة �إل��ى ق��وة ناعمة �أعتى من الأ�سلحة‬ ‫لهوية المكان نف�سه‪ ..‬ت�أ�سي�س ًا لمملكة العلم‬
‫الفتاكة الثقيلة في فر�ض قيم العدالة والحرية‬ ‫والثقافة والإبداع والقيم الإن�سانية ال�سمحة‪،‬‬
‫والأخوة والمحبة والمعرفة والإبداع والرفاه‪.‬‬ ‫بوعي متقدم لحاكم هذه الإم��ارة اال�ستثناء‬
‫محمد الم�شايخ �أمين‬ ‫ال�شاعر العراقي خالد الح�سن ي�ؤكد‪� :‬إن‬ ‫على الم�ستوى العربي‪� ،‬صاحب ال�سمو ال�شيخ‬
‫يحيي هيئة التحرير‬ ‫كمدينة تعد من �أه��م ال��م��دنِ ‪ ،‬التي‬ ‫ٍ‬ ‫ال�شارقة‬ ‫الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي‪ ..‬الذي جعل‬
‫والعاملين فيها ودعم‬ ‫تحمل الإرث الأدبي العربي على كتفيها‪ ،‬فال‬ ‫من ال�شارقة �أم ًا للر�ؤيا و�أخت ًا للحرف و�سليلة‬
‫ي�أتي ا�سمها �إال ويقترن بالجمال والإب��داع‪،‬‬ ‫الينابيع ال�صافية الأول��ى‪ ..‬وبنت ًا للمجازات‬
‫دائرة الثقافة في‬
‫ارة و�إ�شراف مبا�شر من قبل �سمو‬ ‫جب ٍ‬ ‫بجهود ّ‬ ‫الق�صية‪.‬‬
‫ال�شارقة‬ ‫ال�شيخ الدكتور �سلطان القا�سمي‪ ،‬لذا فال غراب َة‬ ‫وت��اب��ع‪ :‬فال�شارقة ه��ي التجلي الأم��ث� ُ�ل‬
‫�أن تكون مجلة ال�شارقة الثقافية غ�صن ًا مثمراً‬ ‫أكمل للذات العربية المبدعة‪ ،‬المتكئة على‬ ‫وال ُ‬
‫في �شجرة �سموه‪ ،‬وما نجاح ال�سنوات الما�ضية‬ ‫تاريخ هويتها الأ�صيل‪ ،‬هذه الهوية النامية‬
‫�إال نتيجة طبيعية لعمل اكتملت �أركانه ر�ؤي ًة‬ ‫بالعمل والجهد وال��ب��ذل والتدبير المحكم‬
‫الحكيم الناعم ال�صلب‪� ..‬إذ ك�أنها ترتقي‬
‫ب�صورة العربي في معراج الت�شكيل والت�أثيل‪.‬‬
‫و�أو�ضح‪� ،‬أنها الج�سر الأدبي والأبدي القائم‬
‫على عمد النبل بين المغرب والم�شرق‪ ..‬حيث‬
‫تنقل لنا في مجلتها �صوراً من الحياة الأدبية‬
‫العربية‪ ،‬في �أناقة تحريرية و�إخراجية الفتة‪،‬‬
‫هذه الإ�ضافة التي ت�شكل امتداداً حراً ورحب ًا‬
‫مت�سامح ًا‪ ،‬ومحب ًا في �آفاق الوجود الإن�ساني‬
‫خالد الح�سن‬ ‫د‪� .‬أحمد الحري�شي‬ ‫د‪ .‬محمد خليل‬
‫لمجلة ���ص��ارت ال��م�لاذ الحقيقي ل�ل�أق�لام‬
‫والأح�ل�ام‪ ..‬مج�سدة مفهوم عبقرية المكان‬
‫ونبوغ المكانة‪ ،‬حيث القيادة المثقفة الواعية‬
‫بدورها الر�سالي‪ ،‬القائم على الر�ؤية المبنية‬
‫على �أ�س�س‪ ،‬جعلت منها بحق وبهاء عا�صمة‬
‫�أدبية و�أبدية‪ ،‬لكل من ارتبط بها وب�أياديها‬
‫البي�ضاء الطولى ب�سبب‪� ،‬أو ارتبط ب�أخوة ال�شعر‬
‫ون�سب الأدب ال�شريف‪ ..‬حيث الرهان الأنبل‬
‫على الثقافة والمعرفة‪ ،‬بو�صفها الخال�ص‬
‫روعة �سنبل‬ ‫محمد ح�سن‬ ‫محمد الم�شايخ‬ ‫الفردي والجماعي لكبوتنا الح�ضارية العربية‪.‬‬

‫‪123‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ا�ستطالع‬

‫وتنفيذاً‪ ،‬وقياد ًة وعاملين‪ .‬منذ خم�س‬


‫�سنوات و(ال�شارقة الثقافية)‪ ،‬تفتح‬
‫قلبها لكبار الأدباء وال�شعراء العرب‪،‬‬
‫أ�صبحت هدف ًا للأدباء ال�شباب‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫حتى �‬
‫يعد الن�شر فيها نجاح ًا و�إنجازاً‬ ‫�إذ ُ‬
‫ل�ل�أدي��ب‪ .‬ون��ح��ن الآن �أم���ام فر�صة‬
‫جميلة‪� ،‬أن نهنئ المكتبة العربية‪،‬‬
‫ب��م��ي�لاد ابنتها ال��ب��ارة (ال�����ش��ارق��ة‬
‫ن�شكر كل من تحرك‬ ‫َ‬ ‫الثقافية)‪ ،‬و�أن‬
‫خطوة باتجاه �إن��ج��اح ه��ذا الجمال‬
‫مبنى دائرة الثقافة بال�شارقة‬ ‫ال�شا�سع‪.‬‬
‫و�أو�����ض����ح ال�����ش��اع��ر وال��ك��ات��ب‬
‫ال�سوداني عبدالرحيم ح�سن حمزة �أنه‬
‫منذ خم�س �سنوات ظلت مجلة ال�شارقة‬
‫الثقافية تلك ال�شجرة الرا�سخة التي‬
‫تثبت خطل محاوالت الرياح العابثة‪..‬‬
‫ذلك �أنها ت�أ�س�ست لتبقى في زمان‬
‫يجتاح فيه الموج الأثيري كل �شيء‪،‬‬
‫وقد انفتحت الف�ضاءات والعوالم دون‬
‫ك��اب��ح‪ ،‬تحمل الغث وال�سمين‪ ،‬كما‬
‫�أنها ترتكن �إلى ال�شمولية في تغطية‬
‫طيف وا���س��ع م��ن الأج��ن��ا���س الأدب��ي��ة‬
‫هيئة تحرير مجلة «ال�شارقة الثقافية»‬ ‫والفنية‪ ،‬وو�ضوح الر�ؤية الإخراجية‬
‫جولة جميلة وممتعة‪ .‬و�أو�ضحت‪ :‬و�أنا كعا�شقة‬ ‫للمجلة في هيئة ق�شيبة‪ ،‬واحتفا�ؤها بالحدث‬
‫لفن الق�صة الق�صيرة‪ ،‬ف�إن �أول ما �أقر�ؤه حين‬ ‫الفني والأدب��ي في منبته وزمانه‪ ،‬وما يميز‬
‫ت�صبح المجلة بين يدي هو الق�ص�ص الق�صيرة‬ ‫المجلة �أنها تنطلق من الأهداف الكبرى لإمارة‬
‫المن�شورة في ق�سم (�إب��داع��ات)‪ ،‬والتي تكون‬ ‫ال�شارقة وربانها المثقف �صاحب ال�سمو ال�شيخ‬
‫في �أغلب الأح��ي��ان ق�ص�ص ًا جميلة منتقاة‬ ‫الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي في جعل‬
‫بعناية‪ ،‬بع�ضها لقا�صين كبار لهم �أ�سما�ؤهم‬ ‫الثقافة خبزاً تقتاته كل البيوت العربية من‬
‫وتجاربهم الرا�سخة‪ ،‬وبع�ضها ل�شباب مبدعين‬ ‫المحيط �إل��ى الخليج‪ ،‬كل �صباح مع �أق��داح‬
‫تجاربهم غ�ضة لكنها مميزة والفتة‪ .‬وبف�ضل‬ ‫ال�شاي والقهوة‪..‬‬
‫المجلة ا�ستطعت التعرف �إلى كثير من الأ�سماء‬ ‫و�أكمل‪ :‬وفي ظل وجود مثل هذه المجلة‬
‫خالد الح�سن‪:‬‬ ‫المبدعة‪ ،‬من خالل مواد جميلة ُن�شرت لهم‪� ،‬أو‬ ‫المتمددة في الآف ��اق و�إف��راده��ا لم�ساحات‬
‫ال�شارقة مدينة‬ ‫درا�سات نقدية واعية قر�أتها عنهم‪� ،‬أو حوارات‬ ‫أحد من المبدعين العرب‬ ‫الأمل‪ ،‬لم يعد ي�شعر � ٌ‬
‫ثقافية تتبنى من‬ ‫مميزة �أجريت معهم‪ ،‬وي�سعدني بين الحين‬ ‫بالغربة في محيطه الوطني والإقليمي‪ ،‬وتبقى‬
‫خالل م�شروعها‬ ‫والآخر وجود �أ�سماء �سورية‪ ،‬بع�ض �أ�صحابها‬ ‫اال�شتراطات الفنية والمحددات الأدبية وحدها‬
‫�إبداعات الم�شهد‬ ‫�صاروا �أ�صدقاء لي في الواقع‪� ،‬أو في العالم‬ ‫دون غيرها ال�سبيل المن�صف لالنطالق المجيد؛‬
‫االفترا�ضي‪.‬‬ ‫فمادتها معتقة ال تبلى بتقادم الأوق ��ات‪،‬‬
‫الثقافي العربي‬ ‫و�أ�ضافت‪ :‬الالفت في المجلة هو الغنى‬ ‫و�ستبقى ملهمة للأجيال الأدبية ال�صاعدة كل‬
‫الفكري والفني ال��ذي تحر�ص عليه‪ ،‬وال��ذي‬ ‫حين‪.‬‬
‫تعك�سه الخيارات المتنوعة للأقالم الم�شارِكة‬ ‫ومن جهتها �أ�شارت القا�صة ال�سورية روعة‬
‫على ام��ت��داد الجغرافيا والأج��ي��ال العمرية‪،‬‬ ‫�أحمد �سنبل �إل��ى �أنها تحر�ص على متابعة‬
‫وتعك�سه �أي�ض ًا الأق�سام المختلفة التي تتيح‬ ‫المجلة �شهري ًا‪ ،‬وتعود بين الوقت والآخ��ر‬
‫وجود مو�ضوعات مميزة لي�س فقط في الأدب‬ ‫�إل��ى �أر�شيفها لالطالع على بع�ض الأع��داد‬
‫بل في الفن عموم ًا‪.‬‬ ‫القديمة‪ ،‬لت�ضمن دوم � ًا �أنها �ستح�صل على‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪124‬‬


‫فن‪.‬وتر ‪.‬ريشة‬
‫�شتاء معلوال‬

‫¯ ليلى طه �أعطت العمارة المحلية طابعها العربي‬


‫¯ «الفار�س الأخ�ضر» �أ�سطورة ملحمية لق�صيدة عن الفرو�سية‬
‫¯ بيرم التون�سي‪� ..‬شاعر ال�شعب‬

‫‪125‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫العالقة الوجدانية مع البيت من الداخل‬
‫ليلى طه‪..‬‬
‫�أعطت العمارة المحلية طابعها العربي‬
‫عنا�صر اللوحة ب�إ�ضافات لونية متحررة‬
‫ولم�سات ناتئة مرتبطة بالحالة الداخلية‬ ‫منذ ب��داي��ات انطالقتها الفعلية ف��ي ع��وال��م الت�شكيل‬
‫التي تعي�شها �أثناء �إنجاز اللوحة‪.‬‬ ‫وال��ت��ل��وي��ن‪ ،‬ت��ف��اع��ل��ت ال��ف��ن��ان��ة الت�شكيلية ل��ي��ل��ى طه‬
‫هكذا ت�سعى ليلى طه‪ ،‬ومنذ �أكثر من ثالثين‬ ‫ف���ي ل��وح��ات��ه��ا م���ع م��ع��ط��ي��ات ال��ح��ل��م ال��م�����س��ت��م��ر في‬
‫عام ًا‪ ،‬في معار�ضها الفردية والجماعية‪،‬‬ ‫م�����ش��اه��دات ال��ق��ن��اط��ر والأق���وا����س وال��ق��ب��اب وال��ن��واف��ذ‬
‫ال�ستعادة خ�صائ�ص القيم الت�شكيلية التراثية‬
‫وال��و���ص��ول م��ن خاللها �إل��ى �أج���واء جديدة‬ ‫والأب���واب وال��ج��دران القديمة‪ ،‬كل ذل��ك في خطواتها‬
‫�أديب مخزوم‬
‫للتراث المعماري والزخرفي المتداخل في‬ ‫ال��رام��ي��ة �إل���ى �إع���ادة االع��ت��ب��ار ل�ل�أن��م��اط واالت��ج��اه��ات‬
‫�أحيان كثيرة مع تنويعات الورود والزهور‪،‬‬ ‫ال��ت��ي �أع��ط��ت للعمارة المحلية والعربية طابعها الخا�ص والحميمي‪.‬‬
‫ف�أحوا�ض الورود والزهور والأ�شكال النباتية‬
‫المختلفة تتوا�صل في لوحاتها بطرق جديدة‪،‬‬ ‫الزخرفة التزيينية والتقليدية‪ ،‬وتدخلها في‬ ‫فهي في لوحاتها تعالج عنا�صر م�ستمدة‬
‫وتبدو مر�سومة من زوايا متعددة‪ ،‬منخف�ضة‬ ‫�إطار اللوحة الحديثة التي ت�ضفي المزيد من‬ ‫م��ن ال��ت��راث العربي الإ���س�لام��ي المعماري‬
‫ومرتفعة وقريبة وبعيدة‪.،‬‬ ‫التلقائية على حركة الأ�شكال المر�سومة‪،‬‬ ‫والزخرفي‪ ،‬بحيث نجد الزخارف تتداخل‬
‫هكذا ت�صبح �أحوا�ض النباتات المنزلية‬ ‫وهذا يفتح ن�صو�ص م�ساحاتها الت�شكيلية‬ ‫في �أحيان كثيرة مع الكرا�سي والأزهار‪ ،‬كل‬
‫و�سيلة‪ ،‬وخطوة لك�شف الإح�سا�س �أو طريقة‬ ‫على احتماالت تعبيرية وتجريدية‪ ،‬ويحرك‬ ‫ذلك ب�صياغة لونية عفوية تبعد اللوحة عن‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪126‬‬


‫ت�شكيل‬

‫و�إنما هي لوحات تجعل ال�شواهد والعنا�صر‬ ‫لزيادة روابط العالقة مع المدينة القديمة‪ ،‬وهي‬
‫التراثية قابلة لطواعية التغيير‪ ،‬وه��ذا ي�ضفي‬ ‫تمد لوحاتها بثمرات خبراتها التقنية المتراكمة‬
‫الناحية الأ�سلوبية‪ ،‬ويظهر قدرة على التالعب‬ ‫للو�صول �إلى العجائن اللونية الكثيفة‪ ،‬القادمة‬
‫بال�سطح الت�صويري‪ ،‬من خالل ا�ستخدام اللم�سة‬ ‫من الإح�سا�س الحيوي بجمالية اللوحة الت�شكيلية‬
‫والأج���واء اللونية وخطية التعبير ال��ذي تريد‬ ‫الحديثة والمعا�صرة‪ ،‬والإم�ساك ب�صياغة عفوية‬
‫�إي�صاله �إلى الم�شاهد عبر ا�ستعادتها المتوا�صلة‬ ‫قابلة للبوح التعبيري‪ ،‬الذي يك�سر ر�صانة البنى‬
‫لثنائية التراث والحداثة‪ ،‬وهي في ذلك ال ت�سعى‬ ‫الهند�سية‪� ،‬سواء انح�صرت داخل م�ساحة لونية‬
‫من خالل هذه اال�ستعادة لتداعيات الما�ضي‪� ،‬إلى‬ ‫زخرفية‪� ،‬أم معمارية �أم نباتية‪ ،‬على �أ�سا�س �أن‬
‫لغة و�صفية �أو نمنمة تف�صيلية‪� ،‬إنما تر�سم بحرية‬ ‫هواج�س التركيز على مظاهر اللم�سة اللونية‬
‫ت�سهم في ت�سعير الحالة الوجدانية داخل م�ساحة‬ ‫التلقائية‪ ،‬ت��درج �ضمن �إي��ق��اع��ات البحث عن‬
‫اللوحة‪.‬‬ ‫جمالية ت�شكيلية ع�صرية‪ ،‬تلغي الرتابة والرزانة‬
‫�إن ال�شاعرية التي نجدها في المدى الت�شكيلي‪،‬‬ ‫الزخرفية‪ ،‬وتبقي فقط على الإيقاعات الب�صرية‬
‫الذي تراه العين داخل اللوحة‪ ،‬تجعلنا ن�ؤكد مرة‬ ‫المعبرة عن �إ�شراقة الحالة الداخلية المج�سدة‬
‫ليلى طه‬ ‫جديدة ابتعاد ليلى طه عن ال�صفاء التزييني‬ ‫بالتعبير اللوني الحر‪ ،‬الذي يف�سح المجال لإثارة‬
‫ال�صادم للعين الخبيرة‪ ،‬ذلك ال�صفاء الم�ألوف في‬ ‫الت�سا�ؤالت والت�أويالت‪ ،‬وذلك لأن الكثافة اللونية‬
‫�أعمالها لي�ست لوحات‬ ‫الزخارف القديمة‪ ،‬من منطلق المفاهيم الثقافية‬ ‫التي ت�صوغها في م�ساحات لوحاتها ت�شكل‬
‫ت�ؤر�شف �أو ت�ؤرخ‬ ‫الجديدة‪ ،‬التي تعطي اللوحة دالالت ال متناهية‬ ‫ف�سحة للت�أمل ولترداد �صدى الإيقاعات التي‬
‫من المعاني المرتبطة بمو�سيقا اللون و�إيقاع‬ ‫تولدها تقنية و�ضع المادة اللونية الزيتية في‬
‫للعمارة والزخرفة‬
‫الخط و�أثر الحالة الداخلية‪ ،‬و�إلى �آخر ما هنالك‬ ‫المدى الت�صويري‪ ،‬الذي يعمل يوم ًا بعد �آخر على‬
‫ال�شرقية‬ ‫من تعابير جمالية وت�شكيالت وجدانية‪.‬‬ ‫تر�سيخ الح�ضور الفني على النطاق الت�شكيلي‬
‫ت�ستخدم ليلى طه �إذاً؛ زخرفة لونية على‬ ‫في �أبجديته التعبيرية‪ ،‬وذلك للحد من الرزانة‬
‫قدر من الحرية والتنويع التقني‪ ،‬فمرة ت�ستخدم‬ ‫الهند�سية الدقيقة‪ ،‬حيث تعمل في كل لوحة من‬
‫الم�ساحات ال�شفافة �أو الم�سطحة‪ ،‬ومرة ثانية‬ ‫لوحاتها لت�صل بالم�شهد المعماري �إلى انفالتات‬
‫في لوحاتها عنا�صر‬ ‫الناتئة �أو النافرة‪ ،‬وم��رة ثالثة تعتمد حركة‬ ‫خيالية مفتوحة على جماليات ت�شكيلية وثقافية‬
‫م�ستمدة من التراث‬ ‫اللم�سة العفوية واللم�سة �شبه ال�صافية‪ ،‬وهي في‬ ‫معا�صرة‪.،‬‬
‫العربي الإ�سالمي‬ ‫ذلك ت�ستخدم مواد لونية بدرجات متفاوتة من‬ ‫و�أه��م ما في �أعمالها‪� ،‬أنها لي�ست لوحات‬
‫ال�سماكة في اللوحة الواحدة‪ ،‬بل �أكثر من ذلك‬ ‫ت�ؤر�شف �أو ت��ؤرخ للعمارة والزخرفة ال�شرقية‪،‬‬

‫من �أعمالها‬

‫‪127‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫ت�شكيل‬

‫ف�إنها ت�ضيف �إلى هذه الغنائية الألوان الحارة‪،‬‬


‫التي ت�ساعد اللوحة في االبتعاد عن ال�سكونية‪.‬‬
‫وهي تظهر قبل �أي �شيء �آخر‪ ،‬معرفة تراثية في‬
‫الزخرفة والأ�شكال القديمة‪ ،‬وكل ما �شاع من‬
‫ت�شكيالت وفنون معمارية قديمة‪ ،‬لتتماهى �أكثر‬
‫مع �ضرورات الت�أليف الفني الحديث‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬
‫�إيحاءات وتجليات ال�صياغة الأ�سلوبية الخا�صة‪.‬‬
‫ت�ستعيد الفنانة الت�شكيلية ليلى ط��ه‪ ،‬في‬
‫ل��وح��ات��ه��ا‪� ،‬إي��ق��اع��ات م��ن ج��م��ال��ي��ات ال��ت��راث‬
‫الح�ضاري‪ ،‬المكتنز ب�صوره ورم��وزه و�أ�شكاله‪،‬‬
‫من منطلق المفاهيم الثقافية الجديدة‪ ،‬التي‬
‫تعطي اللوحة دالالت ال متناهية‪ ،‬من المعاني‬
‫المرتبطة بمو�سيقا اللون و�إي��ق��اع الخط و�أث��ر‬
‫الحالة الداخلية‪ ،‬و�إلى �آخر ما هنالك من تعابير‬
‫جمالية وت�شكيالت وجدانية‪.‬‬
‫لونية على ق��در من الحرية والتنويع التقني‪،‬‬ ‫وهذا يفتح ن�صو�ص م�ساحاتها الت�شكيلية‬
‫فمرة ت�ستخدم الم�ساحات ال�شفافة �أو الم�سطحة‪،‬‬ ‫على احتماالت تعبيرية وتجريدية‪ ،‬ويحرك‬
‫ومرة ثانية الناتئة �أو النافرة‪ ،‬ومرة ثالثة تعتمد‬ ‫عنا�صر ال��ل��وح��ة ب��إ���ض��اف��ات لونية متحررة‬
‫تحاول الو�صول‬ ‫حركة اللم�سة العفوية و�شبه ال�صافية‪ ،‬وهي في‬ ‫ولم�سات كثيفة‪ ،‬من خ�لال ا�ستخدام اللم�سة‬
‫�إلى �أجواء تراثية‬ ‫ذلك ت�ستخدم مواد لونية بدرجات متفاوتة من‬ ‫والأج ��واء اللونية وخطية التعبير‪ ،‬ال��ذي تريد‬
‫جديدة مع تنويعات‬ ‫ال�سماكة في اللوحة الواحدة‪.‬‬ ‫�إي�صاله �إلى الم�شاهد عبر ا�ستعادتها المتوا�صلة‬
‫للأ�شكال النباتية‬ ‫و�إذا كانت اللونية العامة تتجه �إلى ال�شاعرية‬ ‫لثنائية التراث والحداثة‪.‬‬
‫بزوايا متعددة‬ ‫الب�صرية‪ ،‬ف�إن ما نالحظه من غنائية في تباينات‬ ‫ومنطلق البحث الت�شكيلي ف��ي �أعمالها‪،‬‬
‫ال�سماكات اللونية‪ ،‬يجعل الحركة حا�ضرة داخل‬ ‫ي�أخذنا نحو ك�سر الهند�سة بغية الو�صول �إلى‬
‫عالم اللوحة‪ ،‬بل �أكثر من ذلك ف�إنها ت�ضيف �إلى‬ ‫زخ��رف��ة لونية متحررة‪� ،‬أق��ل هند�سية و�أكثر‬
‫هذه الغنائية الألوان الحارة‪ ،‬التي ت�ساعد اللوحة‬ ‫انعتاق ًا من الأطر القا�سية‪ ،‬برغم ت�أكيدها نوع ًا‬
‫على االبتعاد عن ال�سكونية‪.‬‬ ‫م��ن االن�سياق (ال��ق��ب��اب‪ ،‬الأ���ش��ك��ال ال�صامتة‪،‬‬
‫وهكذا ت�ستح�ضر الأ�شكال التراثية القديمة‬ ‫البيوت القديمة‪ ،‬الأح�صنة‪ ،)...‬وت�صل �إلى جوهر‬
‫ت�ستخدم زخرفة‬ ‫ب�صياغة ت�شكيلية معا�صرة وخا�صة‪ ،‬تعتمد‬ ‫ال�شكل الهند�سي �أو جوهر الزخرفة متخطية‬
‫لونية على قدر من‬ ‫على ذاك��رة وا�سعة من التداعيات والتجليات‬ ‫بذلك اال�ستغراق في ال�صياغة التزيينية والدقة‬
‫الح�ضارية‪.‬‬ ‫الريا�ضية‪ .‬وهذا يعني �أن ليلى طه ت�ستخدم زخرفة‬
‫الحركة والتنويع‬ ‫وف��ي ح��وار �سابق �أجريته مع‬
‫التقني‬ ‫الفنانة ليلى طه تقول‪( :‬الكرا�سي‬
‫ال��ف��ارغ��ة ف��ي لوحاتي ه��ي الوجه‬
‫الآخ���ر للغربة‪ ،‬وال��ف��راغ النف�سي‬
‫واالجتماعي‪ ،‬المعبر عن ال�سلبية‬
‫المطلقة التي يعي�شها الإن�سان اليوم‪،‬‬
‫وهي في حالة انتظار الغائب‪ ،‬الغائب‬
‫الذي يتوارى وراء الجدران‪ ،‬وخلف‬
‫م�ساحات اللون وح��دود الكرا�سي‬
‫الفارغة من لمة الأه��ل‪ ،‬والخاوية‪،‬‬
‫�إال م��ن �أح��وا���ض ال��زه��ور‪ ،‬فالآخر‬
‫هارب من م�ساحة اللوحة المتهيئة‬
‫لموائد الحب‪ ،‬والتوا�صل والت�سامح‬
‫م��ع الآخ���ر‪� ،‬إل��ى ح��دود التال�شي)‪.‬‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪128‬‬


‫مقاالت‬
‫مقاربـات‬

‫بين واقع‬
‫التوا�صل الب�صري والذهني‬
‫مخل�ص دافن�شي‪� ،‬إال �أن �شيئ ًا من الم�سرحة الحركية‬ ‫تكاد الأدوات اللغوية لل�صورة �أن ت�سبق‬
‫والتق�سيمات الجزئية للون والأداء �أ�ضاءت ببراعة‬ ‫المالمح و�آنية اللون‪ ،‬مع �صلب الم�شهد الحار�س‬
‫وواقعية وحيوية �أي�ض ًا و�صدق (خادمات ال�شرف)‪،‬‬ ‫والمراقب لفئات الحركة والعنا�صر‪ ،‬التي تحرك‬
‫وهي لوحات من مجموعتها �أخذت ال�شهرة بعيداً‬ ‫ال��ح��دث‪ ،‬تتوثق ال�صورة فيتحرك ح� ّ�دا الب�صر‬
‫عن را�سمها‪ ،‬عك�س (فتى دافن�شي) التي قفز‬ ‫والتخيل الذهني‪ ،‬لي�شمال المدى المحاط �أو ما‬
‫نجوى المغربي‬ ‫�سعرها قبل الإعالن عن تميزها في اللون والخط‬ ‫ي�ستطيعا منه وتنه�ض به �أيديولوجيا الرائي‪ ،‬الذي‬
‫والمو�ضوع‪ ،‬فـ(ديجو) �صاحب البراعة واال�ستثناء‬ ‫يك�شف عن ماهيات تجربة الرا�سم وت�سا�ؤالته‬
‫ومقراً بعجزه الجئ ًا لتوليد الم�شاعر وال�صخب‬ ‫والأبعاد الدقيقة والمزج الرقيق بين الأ�ضداد‬ ‫وعقده وافترا�ضاته و�صوالته بين الأ�سطورة‬
‫و�إ�شعال الفكرة باللون‪ ،‬بعثها من الغفوة داخ ًال‬ ‫بهدف بعث �إنارة حقيقية لب�صر الم�شاهد‪ ،‬عالوة‬ ‫والفكرة والبيئة‪ ،‬انتهاء بممار�سة ذلك واخراجه‬
‫عن عمد مرحلة االنك�سار والقفز على الزخم النائم‬ ‫على �سوق ق�صة تثير ال�شفقة �أو الوجدان والهواج�س‬ ‫في منحوتة تلتزم البناء التراكمي �أو التفكيك‬
‫في الحياة؛ ليوقظه حام ًال قريته الفكرية الخا�صة‬ ‫في نظر الرائي‪ ،‬وهو نف�سه بخط مواز لجوفاني في‬ ‫البنائي‪ ،‬ح�سب طبع اللوحة و�سحنة توظيفها‪،‬‬
‫وتداعياتها‪.‬‬ ‫طفله الباكي ببراءته و�إثارة ال�شفقة والإن�سانية‬ ‫ف�إزاحة العواطف �إلى اللغات العقائدية �أو جر‬
‫�إن وظيفة الفنان ترتبط بال نهائية مطلقة‬ ‫حوله وعند كل من ي�شاهده‪ ،‬كما ا�ستخدم الظل‬ ‫الم�شاهد التجاه التعاطف مع الكوارث وتوظيف‬
‫في كل ما يتعلق بالعمل‪ ،‬وق��د يتجاوز �أزمنة‬ ‫واللون الباهت والليل والعتمة والتواري لإثارة‬ ‫القيم الجمالية لت�ضمينها حقيقة �أو �أ�سطورة‬
‫اللوحة و�أماكنها �إلى ما يحيكه الرائي لي�صل به‬ ‫ال�شغف والف�ضول والبحث والتمحي�ص‪.‬‬ ‫وربما �سراً ك�أعمال ر�سالة دافن�شي في الع�شاء‬
‫العمل من ت�أويل وتحليل يظل م�ضمون ًا مال�صق ًا‬ ‫ك��ان لـــ(�أجوناثان وكنكيد وف��ان جوخ‬ ‫الأخير‪ ،‬والتوزيع الهرمي لل�شكل ما يخلق انطباع ًا‬
‫كلما ا�ستح�ضرته الذاكرة‪ ،‬كليلة «جوخ» المر�صعة‬ ‫وب��دري��ك) لغات مقد�سة في ال�ضوء وم��ن �أل��وان‬ ‫يظفر به الذهن والب�صر‪.‬‬
‫بالنجوم ب�سماء نهر الرون‪ ،‬ومع اختالف موقع‬ ‫الطبيعة ال��زاه��ي��ة الدقيقة �أغ��ن��ي��ت اللوحات‬ ‫�أما ال�سقوف المعلقة للكنائ�س والكاتدرائيات‪،‬‬
‫ال�ضوء على الزجاج عن ال�ضوء في البحر بين جوخ‬ ‫وا�ستطاعت �أن تنال نف�س درج��ات الإعجاب‬ ‫التي حظيت ب�سفر التكوين وتالمذة المنح والدراما‬
‫وفتاة (مانيه) وبين طبيعة ومقتنيات الب�شر‪ ،‬ف�إن‬ ‫والفعل ال�شعوري ف��ي الم�شاهد‪ ،‬ع�لاوة على‬ ‫وم�شاهد المج�سدات الأر�ستقراطية‪ ،‬فتظل �إلى الآن‬
‫حيدا وجهة نظرهما و�أنابا عنها اللون‬ ‫كليهما ّ‬ ‫ح�صدها للجوائز‪ ،‬و�إن كان ذلك يثير الجدل بين‬ ‫غام�ضة تتجاذبها قوى الفكر الأ�سطوري و�إعادة‬
‫الم�ضيء العاك�س البراق الالمع �شديد الكثافة‪ ،‬ما‬ ‫�أ�صحاب االهتمام ح��ول ارتباط �أهمية العمل‬ ‫الت�أويل مع الحقب والأزمنة للم�شاهد‪ ،‬وتنوعات‬
‫جعل البراقة والزيف يت�سيدان الت�أويل ويت�صدرن‬ ‫بالمال وال��ج��وائ��ز‪ ،‬وه��م في ذل��ك بين راف�ض‬ ‫بواعثه الفكرية والب�صرية والح�سية‪ ،‬وعلى اعتبار‬
‫الق�صد وهو التوهج ال��ذي ت�ألفه النف�س وتميل‬ ‫وم�ؤيد‪ ،‬فما هو الفرق بين �أن ت�صنع مجداً بلوحة‬ ‫�أن مخزون م�شاهدة الأ�شكال وال��ر�ؤى الت�شكيلة‬
‫�إليه‪ ،‬ومع اعتقاد النقاد �أن فناني ال�ضوء يحملون‬ ‫وبين �أن ت�سكن ق�صراً بلوحة ؟‪� ،‬إن دقة ت�صوير‬ ‫على اختالفها وتنوع محتواها في ذهن المتابع‬
‫ق��دراً عظيم ًا من ال�سخرية والتندر على �أو�ضاع‬ ‫الم�شاهد هي ما يجعلها �أكثر تالم�س ًا مع متلقيها‬ ‫تربي ال��ذوق وتكد�س خبراته‪ ،‬وبع�ض الأل��وان‬
‫الم�أ�ساة بتعدد �أنواعها‪ ،‬وهو ما كان من هزل‬ ‫وان�سجاماً‪ ،‬حتى في اللوحات التي ال يتعدى‬ ‫تدلل المتلقي وتجعله مفتاح ًا لمفاهيم محددة‬
‫ومبالغات وتجاوزات قفزت على الواقع‪ ،‬وجعلت‬ ‫مداها الت�صوير الب�صري‪ ،‬فعائالت دالي الفنية‬ ‫ق�صد الرا�سم �أن يلقيها في عينه ووعيه‪ ،‬تمام ًا‬
‫الكثيرين يتفردون كـ(نيك�سون) وحدائق خلف‬ ‫ال�شهيرة بفنتازياتها وا�ضطراباتها وجنوحها‬ ‫كلعبة ال�ضوء والم�سافات والإيغال في قوى الرمز‬
‫بوابة الخريف‪ ،‬راق�صات (رينوار) برغم نفورهن‬ ‫للجنون �أحياناً‪ ،‬بدت برغم كثير من نرج�سيتها‬ ‫المثالي‪ .‬تتدلى الفكرة من لحى التماثيل كما تبرز‬
‫وع��دم ات�ضاح ال�سعادة على الوجه والكميات‬ ‫محببة للرائي ولو عند من هو ن�صف ت�شكيلي‪،‬‬ ‫في الجداريات بما ي�صعب التفريق بينها �إال من‬
‫المبالغة من ال�شحنات المزعجة التي �أحاطت‬ ‫تبدو �ساعاته �أم ًا للوقت بمثالية �شديدة‪ ،‬تميل معه‬ ‫خالل رمزيتها وحاملها‪ ،‬وعملها كفكرة الكرة‬
‫ب�صرخة مونك بحالتها التي �صرعت الت�شا�ؤم‬ ‫وتنثني وتلين وترتخي لتمرره �أو لتمرر �أفعاله‪،‬‬ ‫المتدحرجة �إلى عقل الم�شاهد تج�سد حكمة �أو‬
‫ك�أقل ما يلحقها من و�صف‪ ،‬تتركب لغة الترميز‬ ‫وقد تفعل ذلك لتك�سر �صالبته‪ .‬وقد يجمعنا التف�سير‬ ‫تكون رباطة ج�أ�ش على الأغلب‪.‬‬
‫وال�سمات ال�شكلية باللوحة وتعد �أحد �أهم �أعمدتها‪،‬‬ ‫مع دالي على القوة وال�صالبة من جهة الإن�سان‬ ‫وعلى الجانب الآخر من المهارة في ت�سجيل‬
‫وبرغم �شعبية بع�ضها يظل معتم ًا ويعطي انطباع ًا‬ ‫وك�سر حدة هذا الع�صي (الوقت‪ ،‬ال�ساعات)‪ ،‬ولعله‬ ‫مخل�ص العالم‪ ،‬دافن�شي‪ ،‬فيما يريد �أن يدون بعد‬
‫معقداً ب�شيء ما غير اعتيادي‪ ،‬مع تحقق عنا�صره‬ ‫بالغ في ده�شتنا و�إقرار ما ي�ؤكد �أن ال �شيء يقف‬ ‫عن�صر الجذب وال�صنعة المبا�شرة‪ ،‬ويلتقي فيها‬
‫الفنية كاملة‪ ،‬ك�أعمال (تيتيان)‪ ،‬وتعبيرية‬ ‫�أمام موهبته و�إبداعه‪ ،‬جدال و�سجال ال يتحرر منه‬ ‫مع ال�صورة ال�شخ�صية‪ ،‬التي �أنجزها (ج��وخ)‬
‫(بيكون و�أرن�ست وروبنز وموناليزا فيرمر)‪� ،‬أما‬ ‫متلقوه فعتبات �أفياله وقدي�سيه ومالئكته ووجوه‬ ‫لنف�سه بمبا�شرة حادة‪ ،‬خالف ًا للمنظور الرمزي في‬
‫�أ�صحاب المحافظة على قواعد الر�سم كما در�ستها‬ ‫ح��روب��ه ف��ي اللوحات وف��ي ذم ال��دم��ار وه�لاك‬
‫الأكاديميات المخت�صة‪ ،‬فين�صفونهم ويرون �أن‬ ‫المجتمعات‪ ،‬والرف�ض القاطع و�صراخ المجنون‬ ‫�ألوان الطبيعة الزاهية‬
‫ح�شو اللون في الأ�شكال الهادئة ال�ساكنة وحيدة‬ ‫في الم�سخ‪ ،‬كانتعا�ش قاطع لنظرية الرف�ض عنده‪،‬‬ ‫�أغنت اللوحات ونالت‬
‫الحركة‪ ،‬ي�ضغط على الفعل ويحقق اهتزازاً متباد ًال‬ ‫عك�س ما وقف بين ماتي�س والطبيعة من حاجز‬
‫بين ال�صورة والمتلقي‪.‬‬ ‫الخوف لتقديمه ولو ن�سخة باهتة منها‪ ،‬معترف ًا‬ ‫درجات الإعجاب نف�سها‬

‫‪129‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫يناف�س على �أو�سكار (‪ )2022‬في فئة التمثيل والت�صوير ال�سينمائي‬

‫«الفار�س الأخ�ضر»‬
‫�أ�سطورة ملحمية لق�صيدة عن الفرو�سية‬
‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪130‬‬
‫�أفالم‬

‫ا�ستفادت ال�سينما في كل ع�صورها من الأ�ساطير‪ ،‬وهو ما عزّ ز‬


‫ال�شغف بهذا النوع من الأف�لام القائمة على الخيال والإيهام‬
‫الب�صري‪ ،‬وي�صنف موقع (�آي‪�.‬أم‪.‬ب������ي‪.‬دي) ال�شهير �أف�لام�� ًا‬
‫ذائعة ال�صيت من هذا الت�صنيف‪ ،‬على �أنها الأعمال الأكثر‬
‫جماهيرية و�أهمية في تاريخ ال�سينما‪ .‬والأ�ساطير ق�ص�ص‬
‫�أ�سامة ع�سل‬
‫خا�صة ت���روى ع��ن ح���وادث خ��ارق��ة وخ��ارج��ة ع��ن ال��م���أل��وف‬
‫في �أزم��ان غابرة‪ ،‬وق��د تتحدث عن تجارب متخيلة للإن�سان بغ�ض النظر عن‬
‫�إمكان حدوثها �أو ت�سويغها بالبراهين‪ ،‬وتحتل حيز ًا مهم ًا من تراث الإن�سانية‪،‬‬
‫رحلة محفوفة‬
‫وال يخلو مجتمع �أو ح�ضارة من �أ�ساطير ترتبط بتراثهما جنب ًا �إل��ى جنب مع‬
‫بالمخاطر تختبر‬
‫الأ�شكال الأدبية والفنية الأول��ى التي تميز ثقافة ذلك المجتمع‪ ،‬كالحكايات‬
‫قدرات البطل‬
‫والخرافات وق�ص�ص التراث وال�سير ال�شعبية والمو�ضوعات الفنية المختلفة‪.‬‬
‫وبراعته كفار�س‬
‫فيلم (الفار�س الأخ�ضر) ممتع حق ًا‪ ،‬فهو‬ ‫‪The Green‬‬ ‫فيلم (الفار�س الأخ�ضر‪-‬‬
‫يتحدى المعايير القيا�سية للأفالم المبنية‬ ‫‪Knight‬‏)‪ ،‬والمق�صود بالأخ�ضر لون الطبيعة‪،‬‬
‫على �أ�سطورة �آرثر‪ ،‬ويف�ضل الأجواء المحيطية‬ ‫و�أي�ض ًا العفن‪� ،‬أ�سطورة فانتازية ملحمية‬
‫وال��م��زاج��ي��ة على الآك�����ش��ن والمونولوجات‪،‬‬ ‫قدمتها ال�سينما الأمريكية حديث ًا‪ ،‬مبني على‬
‫حيث يمتزج الأداء المميز للممثلين مع‬ ‫ق�صيدة �سير غواين والفار�س الأخ�ضر‪ ،‬وهو‬
‫�أ�سلوب المخرج ديفيد لوري المهتم بال�صورة‬ ‫من �إخراج ديفيد لوري‪ ،‬وبطولة (ديف باتيل‪،‬‬
‫والتفا�صيل والخدع‪ ،‬لينجم عن ذلك عمل مثير‬ ‫�ألي�سيا فيكاندير‪ ،‬جويل �إج��ي��رت��ون‪ ،‬ب��اري‬
‫يركز على التجربة �أكثر من الق�صة‪.‬‬ ‫كيوغان‪ ،‬ورالف �إني�سون)‪.‬‬
‫الفيلم �أقرب ما يكون �إلى العمل الفل�سفي‪،‬‬
‫ونقل ب�أمانة ق�صيدة الفرو�سية الرومان�سية‬
‫لل�سير غواين والفار�س الأخ�ضر عبر مغامرة‬
‫رائعة‪ ،‬تعك�س العالقة التي ال مفر منها بين‬
‫الحياة وال��م��وت‪ ،‬وه��ي حكاية عن ال�شجاعة‬
‫والفرو�سية‪ ،‬ف�ض ًال عن ال�صدق والعفة‪.‬‬
‫هذه الأ�سطورة تنتمي لأواخر القرن الرابع‬
‫ع�شر‪ ،‬وتحكي مغامرة �سير غواين �أحد فر�سان‬
‫الطاولة الم�ستديرة (كاميلوت)‪ ،‬الذين كانوا‬
‫ويعتقد �أن ه��ذه الق�صيدة‬ ‫مع الملك �آرث ��ر‪ُ ،‬‬
‫كتبها م�ؤلف مجهول ُ�سمي �شاعر الل�ؤل�ؤة �أو‬
‫�شاعر غواين‪ ،‬وفيها يقبل �سير غواين تحدي ًا‬
‫�ارب غام�ض جلده �أخ�ضر‪ ،‬وكذلك‬ ‫من م��ح� ٍ‬
‫�شعره ولحيته وثيابه‪ ،‬حيث يعر�ض (الفار�س‬
‫الأخ�ضر) �أن ي�سمح ل ٍ ّأي كان ب�أن ي�ضرب عنقه‬
‫بالف�أ�س على �أن يتلقى المتحدي ال�ضربة‬
‫ذاتها بعد عام في نف�س اليوم‪ ،‬ويوافق غواين‬
‫ويقطع ر�أ�س الفار�س الأخ�ضر ب�ضربة واحدة‪،‬‬
‫ليقف الفار�س الأخ�ضر بعدها ويلتقط ر�أ�سه‪،‬‬
‫ويذكر �أن غواين ُيقابله في الموعد المحدد‪،‬‬ ‫ُ‬
‫لتبد�أ ق�صة �صراع غواين ومغامراته وبحثه‬
‫ط ��وال الطريق �إل ��ى م��ك��ان اللقاء ع��ن روح‬
‫ديف باتيل في �شخ�صية الفار�س غواين‬
‫الفرو�سية والوالء‪.‬‬

‫‪131‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫في طريقة �سرده للأحداث‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬ ‫(�سير غواين والفار�س الأخ�ضر) ق�صيدة‬
‫وهو ي�ؤ�س�س خالل ال�سنة الفا�صلة‪،‬‬ ‫مهمة رومان�سية عن تقاليد الفرو�سية‪ ،‬وهي‬
‫ويبرز �أن الفعل ال�شجاع (قطع ر�أ�س‬ ‫م�ستوحاة من الق�ص�ص الويلزية والأيرلندية‬
‫الفار�س الأخ�ضر ب�ضربة واح��دة)‪ ،‬لم‬ ‫والإنجليزية‪ ،‬وتعك�س في �أحداثها المثيرة‬
‫يجعل (غواين) بط ًال‪ ،‬ويركز بد ًال من‬ ‫وت�صويرها ال�سينمائي المبهر‪ ،‬حكاية بطل‬
‫هذا الم�شهد على الرحلة ال�شاقة التي‬ ‫يذهب في رحلة محفوفة بالمخاطر تختبر‬
‫ب��د�أه��ا‪ ،‬وال��ت��ي ال يمكن التنب�ؤ بها‪،‬‬ ‫قدراته وبراعته‪ ،‬وقد تم تقديمها في ال�سينما‬
‫ويقود البطل المتهور عبر �ساحات‬ ‫مرات عديدة‪ ،‬بمعالجات مختلفة‪.‬‬‫والم�سرح ٍ‬
‫ال��م��ع��ارك ال��م��روع��ة وال��غ��اب��ات التي‬ ‫ال تترابط ف�صول الفيلم ب��إي��ق��اع دائ��م‬
‫يلفها ال�ضباب‪ ،‬ليواجه في الطريق‬ ‫وم�ستمر وم��ت��والٍ ‪ ،‬ولكنه يحتوي على �صور‬
‫الل�صو�ص الذين ين�صبون الكمائن‪،‬‬ ‫غنية بالذكريات ومليئة بالدالالت‪ ،‬وي�صنع في‬
‫وروح � ًا حزينة‪ ،‬وعمالقة ي�صدحون‪،‬‬ ‫كل مراحله لغته الخا�صة المفعمة بالحيوية‪،‬‬
‫وثنائي ًا مع ّقداً في قلعة غريبة‪.‬‬ ‫والتي تزيد من وتيرته‪ ،‬وت��دور الكاميرا في‬
‫تتميز كل مواقع ت�صوير الفيلم‪،‬‬ ‫بع�ض الأح��ي��ان مثل عقارب ال�ساعة تتقدم‬
‫بجمالها الغريب والخا�ص‪ ،‬ونراها‬ ‫ثم تتوقف‪ ،‬وتعك�س الوقت‪ ،‬ويتحول م�سعى‬
‫تتدرج في الأل��وان مركزة على اللون‬ ‫مجرد حلم‪ ،‬وفي بع�ض الم�شاهد‬ ‫(غواين) �إلى ّ‬
‫الذهبي والأخ�ضر والرمادي‪ ،‬ويظهر‬ ‫�إلى كابو�س يوقظه على حياته وهي ت�سير نحو‬
‫مل�صق الفيلم‬
‫ذلك جلي ًا مع الم�ستنقع الممتلئ بالطحالب‪،‬‬ ‫الموت‪.‬‬
‫مقابل عباءة البطل �ساطعة الألوان‪ ،‬في مزج له‬ ‫ي�ضع (ديف باتيل) لم�سة مختلفة ومتميزة‬
‫ت�أثيره للمناظر الطبيعية الباهتة‪ ،‬كما تتحدى‬ ‫على �شخ�صية (غواين)‪ ،‬الذي من �أجل تعط�شه‬
‫كتبها م�ؤلف مجهول‬ ‫درجات اللون الدافئة لعباءة (باتيل) الذهبية‪،‬‬ ‫لأم��ج��اد الفرو�سية‪ ،‬يقبل التحدي لمواجهة‬
‫ودرجات اللون الباردة لـ(الفار�س الأخ�ضر)‪،‬‬ ‫الفار�س الأخ�ضر‪ ،‬وال �شك �أن هذا الدور من حيث‬
‫ُ�سمي �شاعر الل�ؤل�ؤة‬ ‫الذي تتكون ب�شرته من خ�شب محفور وتعلوه‬ ‫(ال�شكل والتعبير والأداء)‪ ،‬يجعل (باتيل) �ضمن‬
‫�أو �شاعر (غواين)‬ ‫لحية من الجذور ال�صلبة بلون العفن الأخ�ضر‪،‬‬ ‫المتر�شحين لل�صدارة في قائمة �أو�سكار �أف�ضل‬
‫ثم ي�شتعل اللون الأحمر في كل مكان‪ ،‬منذراً‬ ‫ممثل عام (‪2022‬م)‪.‬‬
‫بالتمرد والت�شا�ؤم‪ ،‬ليكون بمثابة تحذير‪،‬‬ ‫يظهر �إب����داع �سيناريو فيلم (ال��ف��ار���س‬
‫مع ظهور ثعلب �أحمر ر�شيق ي�صبح �صديق‬ ‫الأخ�ضر)‪ ،‬ال��ذي كتبه المخرج ديفيد لوري‪،‬‬

‫تكوين خا�ص ب�صور الفيلم‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪132‬‬


‫�أفالم‬

‫لقطات مختلفة من فـيلـم‬


‫«الـفـار�س الأخـ�ضر»‬ ‫والعذاب‪ ،‬ما ح� ّ�ول كل م�شهد �إل��ى حدث مثير‬ ‫(غ��واي��ن)‪ ،‬ه��ذا التمازج المده�ش واللقطات‬
‫للتوتر ورائع في الوقت نف�سه‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬ف�إن‬ ‫ال�شديدة الت�أثير‪ ،‬قدمها الم�صور ال�سينمائي‬
‫�أداء (باتيل) وحده يجعل الفيلم �شيئ ًا ال يجب‬ ‫(�أندرو دروز باليرمو)‪ ،‬والذي عمل �سابق ًا مع‬
‫�أن تفوته‪ ،‬حيث �إن بنيته الج�سدية القوية‪،‬‬ ‫المخرج ديفيد لوري في فيلمه (ق�صة �شبح‪A -‬‬
‫و�شخ�صيته الفو�ضوية‪ ،‬وعينيه الحالمتين‪،‬‬ ‫‪ ،)Ghost Story‬ال يوازن بين هذه الألوان‪ ،‬مع‬
‫كل ذلك يقول الكثير‪ ،‬وهو يخلق �صورة �آ�سرة‬ ‫لم�سة مذهلة من ال�شاعرية فح�سب‪ ،‬بل يخلق‬
‫بني الفيلم على‬ ‫ومعقدة لرجل يكت�شف �أخطاءه وقيمته‪.‬‬ ‫�أي�ض ًا ن�سيج ًا ملمو�س ًا لدرجة ت�شعر ب�أنك ترى‬
‫حكاية الملك �آرثر‬ ‫�إ�ضافة �إلى �ضبابية حبكة الفيلم‪ ،‬ال يحاول‬ ‫واقع ًا على ال�شا�شة‪ ،‬ت�شعر خالله بحلقات الدرع‬
‫وفر�سان المائدة‬ ‫المخرج الوقوف كثيراً عند التاريخ المعقد‬ ‫المعدنية‪ ،‬ولحاء ال�شجرة وفرو الثعلب‪ ،‬وحتى‬
‫للملك �آرثر و�شقيقته مورغان‪ ،‬لكنه يركز �أكثر‬ ‫كل ج�سد باتيل المتعرق‪ ،‬ومن المتوقع تر�شيحه‬
‫الم�ستديرة‬ ‫في تقديم لقطات وم�شاهد ت�ؤ�س�س لتبرير دوافع‬ ‫في فئه �أو�سكار �أف�ضل ت�صوير‪.‬‬
‫غواين‪ ،‬مع كل من يتعامل معهم‪ ،‬ويحاول‬ ‫كل هذا ال يبدو جمي ًال فقط‪ ،‬بل �أي�ض ًا �شديد‬
‫�أن يبرز �شغفه تجاه الفرو�سية‪� .‬ضمن �إطار‬ ‫الأهمية والأناقة‪ ،‬ويمنحنا �شعوراً بم�شاهد حية‬
‫ال�سيناريو‪ ،‬جاءت الحوارات �شاعرية وتحتوي‬ ‫مثيرة ب��ارزة التفا�صيل‪ ،‬تك�شف تلقائي ًا عن‬
‫على كثير من اال�ستعارات‪ ،‬وهو ما يتنا�سب مع‬ ‫�سرد مت� ٍّأن يحكي �أحداث ق�صة الفيلم‪ ،‬وي�ضفي‬
‫يتميز بحوار �شاعري‬ ‫�أجواء الق�صيدة الم�أخوذ عنها الفيلم‪ ،‬قد تختفي‬ ‫الغمو�ض الذي يتنا�سب مع �أج��واء الأ�ساطير‪،‬‬
‫يحتوي على كثير من‬ ‫بع�ض الكلمات التي ينطق بها البطل ب�صوت‬ ‫كما تبدو �شخ�صيات العمل معبرة في انعكا�س‬
‫اال�ستعارات‬ ‫خافت �أو بهم�سة �أو �صراخ‪ ،‬وبع�ضها الآخر‬ ‫ت��ام لما خلفها وحولها‪ ،‬ونجح (ل��وري) في‬
‫يتعانق مع مو�سيقا واكبت مناخ الأ�سطورة‪،‬‬ ‫ر�سم �شخ�صياته عبر لحظات ق�صيرة بو�ضوح‬
‫ورك��زت معظم مقاطعها على �أن��غ��ام الناي‪،‬‬ ‫كامل و�شديد الأهمية‪ ،‬و�سمح لكل طاقم ممثليه‬
‫والإيقاعات ال�سريعة والغناء الكورالي المرتفع‬ ‫في �إط�لاق العنان للتعبير عن الحب والحقد‬
‫ال�صوت‪ ،‬لكنه لم ي�شذ وعانق اللقطات‬
‫المثيرة و�ساعدها على البروز‪ ،‬و�أ�سهم‬
‫في خاتمة غام�ضة‪ ،‬قد تزعج البع�ض‪،‬‬
‫يقدم �صورة حيوية‬ ‫وت�سبب ح��ال��ة م��ن االن��ق�����س��ام‪ ،‬لكن‬
‫يمكن القول �إن المخرج ديفيد لوري‪،‬‬
‫بتدرجات ملونة‬ ‫لم يكن يريد تقديم مغامرة تحتوي‬
‫مليئة بالدالالت‬ ‫على �أك�شن وحركة و�سيوف وخيول‬
‫ومعارك‪ ،‬بل �أراد �أن يقذف بالم�شاهد‬
‫في �أتون �أ�سطورة �ساحرة‪� ،‬أكثر من‬
‫كونها فيلم ًا خيالي ًا عن خ�صلة من‬
‫معاني الفرو�سية‪.‬‬
‫مخرج الفيلم ديفيد لوري‬

‫‪133‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�أراد �أن يكون الفن �أداة للتغيير وال�سمو‬

‫بيرم التون�سي‬
‫�شاعر ال�شعب‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪134‬‬


‫�شخ�صيات‬

‫�أمير ال�شِّ عر الغنائي في م�صر‪ ،‬والذي منحه �شخ�صيته التفاعلية‪،‬‬


‫النبع الغزير في الأ�شعار والأزج��ال والأوبريتات الم�سرحية‬
‫والإذاعية والأعمال النثرية‪ .‬فتى م�صر الذي تغنت الجماهير‬
‫ترك �آالف الأعمال‬ ‫ب�أزجاله و�أ�شعاره التي وظفها غنائي ًا لنقد الأو�ضاع االجتماعية‪،‬‬
‫الخالدة من �أ�شعار‬ ‫و�أي�ض ًا لمعار�ضة نفوذ االحتالل الإنجليزي �آن��ذاك‪ .‬محمود‬
‫و�أزجال ودراما‬ ‫عمر �إبراهيم محمد‬
‫بيرم التون�سي (‪ ،)1961 -1893‬عندما ت�سمع �أو تقر�أ �أعماله‬
‫م�سرحية و�إذاعية‬ ‫تجد نف�سك غارق ًا في عالم حقيقي من الأحالم والآمال والحب والع�شق والألم‪.‬‬

‫وعندما اندلعت ثورة (‪� ،)1919‬أن�ش�أ بيرم‬ ‫ثائر ط� ّ�وع كلماته و�أ�شعاره لتكون نقداً‬
‫�صحيفة (الم�سلة)‪ ،‬و�أخذ ين�شر فيها العديد من‬ ‫�صارخ ًا ونبرا�س ًا �إ�صالحي ًا‪ ،‬ومنحها �أي�ض ًا بعداً‬
‫الأزج��ال واالنتقادات لالحتالل الإنجليزي‪،‬‬ ‫فل�سفي ًا‪ ،‬مقتب�س ًا ذلك من معاناة الفقراء الذين‬
‫وظف �أ�شعاره لنقد‬ ‫وفي العدد الثالث ع�شر ن�شر بيرم زجله الم�شهور‬ ‫قهرتهم ظروف الحياة الم�صرية حينها‪.‬‬
‫الواقع االجتماعي‬ ‫(البامية الملوكي والقرع ال�سلطاني) ولم ت�ستمر‬ ‫رحلة ن�ضال وطنية طويلة ل�شاعر �أخل�ص‬
‫من�شداً �إ�صالحه‬ ‫ال�صحيفة فقد �صادرتها �سلطات االحتالل‪،‬‬ ‫لقلمه وفكره من �أجل الدفاع عن وطنه‪ ،‬هروب‬
‫ف�أن�ش�أ �صحيفة �أخرى با�سم (الخازوق)‪ ،‬ولم‬ ‫ومنفى وعالم مليء بالكثير من الغمو�ض في‬
‫ت�صدر �سوى عددين فقط ثم عطلتها ال�سلطات‬ ‫جوانب كثيرة من حياته‪ .‬ولكن عندما نت�أمل‬
‫�أي�ض ًا‪.‬‬ ‫كلماته التي الت�صقت بال�شارع الم�صري‪ ،‬نجد‬
‫فيها الب�ساطة وت�صويرها الفني الدقيق‪ ،‬طعم‬
‫مياه النيل‪ ،‬ورائحة الحواري في �أحياء م�صر‬
‫القديمة‪ ،‬وعتمة الأزقة والدروب في ريف م�صر‪.‬‬
‫ولد محمود محمد م�صطفى بيرم الحريري‬
‫(بيرم التون�سي) بمدينة الإ�سكندرية (‪)1893‬‬
‫بحي الأنفو�شي‪ ،‬لأ�سرة ذات �أ�صول تون�سية‪،‬‬
‫م�شهد لمدينة الإ�سكندرية‬ ‫كانت تقيم بالإ�سكندرية‪ .‬في بداية حياته‬
‫التحق بكتاب (جاد اهلل) لحفظ القر�آن الكريم‪،‬‬
‫ثم المعهد الديني بم�سجد �أبي العبا�س‪ ،‬وعندما‬
‫توفي والده‪ ،‬وهو في الرابعة ع�شرة من عمره‪،‬‬
‫انقطع عن الذهاب للمعهد و�أرتد �إلى (حانوت)‬
‫�أبيه‪ ،‬ولكنه خرج من التجارة �صفر اليدين‪ .‬كان‬
‫بيرم منذ �صباه يحب القراءة والمطالعة‪ ،‬وبد�أت‬
‫�شهرته عندما كتب ق�صيدة (بائع الفجل) التي‬
‫انتقد فيها المجل�س البلدي في الإ�سكندرية‪،‬‬
‫لفر�ضه ال�ضرائب الباهظة على �سكان الحي‬
‫بحجة تطوير العمران فيه‪.‬‬
‫وفي �صدر �شبابه‪ ،‬ربط الفن بينه وبين‬
‫ال�شيخ �سيد دروي�ش من خالل ال�سهرات التي‬
‫كانت ت�شهدها الإ�سكندرية �آن���ذاك‪ ،‬وزادت‬
‫الروابط بينهما بعد �أن كتب بيرم بع�ض الأغاني‬
‫والأوبريتات الم�سرحية التي لحنها وغناها‬
‫�سيد دروي�ش‪ ،‬ومن بينها م�سرحية (�شهرزاد)‪،‬‬
‫و�أوب��ري��ت (دوق��ة جيرول�ستين الكبيرة) وهي‬
‫مقتب�سة من الفرن�سية‪ ،‬وت�ضمن الأوبريت �أغنية‬
‫(�أنا الم�صري كريم العن�صرين)‪.‬‬

‫‪135‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫�شخ�صيات‬

‫من هنا ق��رر بيرم م��غ��ادرة الإ�سكندرية‬


‫وال��ذه��اب �إل��ى القاهرة‪ ،‬حيث وجدها �أرح��ب‬
‫لن�شاطه‪ ،‬وب��د�أ حملته ب�ضراوة �ضد �سلطات‬
‫االحتالل‪ ،‬ما دفع ال�سلطات في (‪� 25‬أغ�سط�س‬
‫‪� )1920‬إل��ى �إ�صدار �أم � ٍر بنفيه خ��ارج البالد‬
‫�إلى تون�س‪ ،‬وفي تون�س يعي�ش حياة (المنفى)‬
‫بعد �أن حرمته ال�سلطات التون�سية من مزاولة‬
‫ال�صحافة لم�شاغباته‪ ،‬فقرر ال��ذه��اب �إل��ى‬
‫�سيد دروي�ش‬ ‫�أم كلثوم‬ ‫�سعد زغلول‬
‫فرن�سا حيث عا�ش هناك �سنوات الألم والجراح‬
‫جميل) تعبيراً عن �صوفيته ال�ساكنة بداخله‪.‬‬ ‫والعذاب وهو يزاول كل الأعمال للح�صول على‬
‫القلـب يعـ�شـق كـل جمـيــل‬ ‫قوت يومه! ويعبر بيرم عن �ضربات الحياة له‬
‫وياما �شفت جمال يا عين‬ ‫في تلك الحقبة قائ ًال‪:‬‬
‫عا�ش في منافيه‬ ‫واللي �صدق في الحب قليل‬ ‫الأولــه مــ�صر‪ ،‬قـالــوا تون�سـي ونـفونـي‬
‫و�إن دام يدوم يوم‪ ..‬وال يومين‬ ‫والتانيه تون�س‪ ،‬وفيها الأهل جحدوني‬
‫الألم والعذاب‬ ‫والـلـي هويته اليوم‬ ‫والتالته باري�س‪ ،‬وفي باري�س جهلوني‪.‬‬
‫ومعاناة الغربة‬ ‫دايـــم و�صــالــه دوم‬ ‫وخالل �إقامته في باري�س‪� ،‬أنتج مقارنة‬
‫و�صروف الحياة‬ ‫ال يعاتـب اللي يتوب‬ ‫اجتماعية بين باري�س والقاهرة‪� ،‬سماها (ال�سيد‬
‫وال في طبعه الـلوم‬ ‫ومراته في باري�س)‪� ،‬إذ يتناول ق�صة �سفر رجل‬
‫واحـد مفي�ش غيره‬ ‫وزوجته �إلى باري�س‪ ،‬ومدى ت�أثرهما الإيجابي‬
‫مــال الوجــود نـوره‬ ‫بالعادات الغربية‪ ،‬مع تم�سكهما بهويتهما‬
‫دعـــانـــــي لبـيــتـــه‬ ‫العربية‪ .‬ولم ي�ستطع بيرم الحياة في فرن�سا‪،‬‬
‫لحـــد بــــاب بــيــتـه‬ ‫فهرب �إلى م�صر من جديد‪ ،‬وتم القب�ض عليه‪،‬‬
‫من �أ�شهر �أ�شعاره‬ ‫ولـــمـــا تـــجـــاللـــي‬ ‫وترحيله مرة ثانية �إلى فرن�سا عام (‪،)1923‬‬
‫المغناة «القلب يع�شق‬ ‫بالــدمــع نــاجـيــتـه‬ ‫وهناك التقى بزعيم الأمة (�سعد با�شا زغلول)‬
‫كل جميل» والتي‬ ‫وفي عام (‪� ،)1955‬أبهر الع�شاق بالتحفة‬ ‫الذي وعده بالتو�سط لدى ال�سلطات في م�صر‬
‫�أبرز فيها �صوفية‬ ‫الم�صورة (�شم�س الأ�صيل) التي �أبدع في ر�سمها‬ ‫للعفو عنه‪ .‬وتقوم ال�سلطات الفرن�سية عام‬
‫وتناغم كلماتها‪ ،‬والتي �شدت بها كوكب ال�شرق‬ ‫(‪ )1936‬بترحيله لتون�س من جديد‪ ،‬وفيها �أن�ش�أ‬
‫داخلية‬
‫�أي�ض ًا‪.‬‬ ‫�صحيفة (ال�شباب) وا�ستطاعت �أن تحقق الكثير‬
‫ق��دم بيرم الكثير من الأع��م��ال الإذاع��ي��ة‪،‬‬ ‫من النجاح من خالل ن�شرها للأزجال المغربية‬
‫ون�شر في حياته نحو �أل��ف ق�صيدة و�أغنية‪،‬‬ ‫والتركيز على ق�ضايا العرب ب�شكل عام‪ ،‬ولكنها‬
‫وتغنى ب�أ�شعاره الكثير من المطربين‪.‬‬ ‫ل��م ت�ستمر‪ .‬وي��ت��رك بيرم تون�س �إل��ى �سوريا‬
‫كانت حياة بيرم تتلخ�ص في �أن الأدب ال‬ ‫ولبنان‪ ،‬ومن هناك بد�أ يكتب من جديد لبع�ض‬
‫بد �أن ي�سمو بالإن�سان‪ ،‬وب�أن الفن �أداة للتغيير‬ ‫ال�صحف الم�صرية‪ ،‬ثم يهرب �إل��ى م�صر من‬
‫والتحرر‪ ،‬ولقد تحمل من �أجل الكلمة ال�شريفة‬ ‫خالل ميناء بور�سعيد في �أثناء رحلة �إعادته‬
‫ال�شجاعة م��رارة الجوع والحرمان والت�شرد‬ ‫لفرن�سا ب�أمر من ال�سلطات الفرن�سية‪ ،‬وي�صل �إلى‬
‫والنفي‪ .‬وب��رغ��م وطنيته وم�ساندته لأغلب‬ ‫القاهرة بعد (‪ )20‬عام ًا في المنفى‪.‬‬
‫ق�ضايا ال�شعب الم�صري منذ ث��ورة (‪)1919‬‬ ‫وفي عام (‪ )1938‬ي�صدر عفو ر�سمي عنه‪،‬‬
‫وحتى رحيله‪ ،‬لم يح�صل بيرم التون�سي على‬ ‫وبد�أ العمل في عدة �صحف م�صرية حتى ا�ستقر‬
‫الجن�سية الم�صرية ر�سمي ًا �إال عام (‪.)1954‬‬ ‫بجريدة (الجمهورية)‪ ،‬وفي تلك الفترة التقى‬
‫وفي عام (‪ )1960‬ح�صل بيرم التون�سي على‬ ‫بكوكب ال�شرق (�أم كلثوم) عن طريق �صديقه‬
‫الميدالية البرونزية من المجل�س الأعلى للفنون‬ ‫�شيخ الملحنين زكريا �أحمد‪ ،‬وبد�أا م�شوارهما‬
‫والآداب‪ .‬ولكنه كان يعتز ج��داً باللقب الذي‬ ‫الم�شترك في العديد من الأعمال الخالدة‪ ،‬فقد‬
‫منحه �إياه ال�شعب الم�صري‪ ،‬وهو(�شاعر ال�شعب)‪.‬‬ ‫غنت له الكثير من الأغنيات‪ ،‬منها (الأولة في‬
‫بيرم التون�سي ‪,‬على طابع بريد م�صري‬ ‫وفي (‪ 5‬يناير ‪ )1961‬رحل بيرم التون�سي‬ ‫الغرام‪ ،‬و�أهل الهوى‪ ،‬والحب كده‪ ،‬وهو �صحيح‬
‫في ذكرى ميالده المئة‬
‫عن الحياة‪ ،‬وبقيت �أعماله خالدة‪.‬‬ ‫الهوى غالب)‪ ،‬وكانت رائعته (القلب يع�شق كل‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪136‬‬


‫تحت دائرة الضوء‬
‫مدينة معلوال في الليل‬
‫قراءات ‪�-‬إ�صدارات ‪ -‬متابعات‬

‫¯ «ال�شجرة»‪ ..‬رحلة بحث عن المعنى‬


‫¯ درا�سة تف�صيلية م�ش ّوقة لتاريخ الأواني الحجرية في م�صر‬
‫¯ �إيجابية االختالف في «ال�ضفيرة والألوان»‬
‫¯ النقد والنقاد المعا�صرون‬

‫‪137‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫قراءات‬

‫ب�شجريات‪ ..‬كل غ�صن معنى‬


‫«ال�شجرة»‪ ..‬رحلة بحث عن المعنى‬
‫فنبت) لجمال الأمين من ال�سودان‪،‬‬ ‫رميتني ُّ‬ ‫مجموعة من الكتاب والكاتبات من الوطن‬ ‫رب���م���ا ال ن ��رى‬
‫و(لومية ويا لومية) ل�سالمة المرهوبي من‬ ‫العربي الكبير‪.‬‬ ‫جميع ًا من الأ�شجار‪،‬‬
‫ُعمان‪ ،‬و(هز التوتة يا توات) لهدى النجار‬ ‫وال��ك��ت��اب‪ ،‬ح�سبما ج��اء ف��ي الغالف‬ ‫� ��س ��وى �أغ�����ص��ان��ه��ا‬
‫من �سوريا‪ ،‬و(من يعيد لذلك الفتى حلمه)‬ ‫الخلفي نتاج ور�شة الكتابة الإبداعية التي‬ ‫المتمايلة و�أوراقها‬
‫لحنين �سليمان علقم من الأردن‪ ،‬و(توتة‬ ‫العمانية للكتاب‬ ‫�أ�شرف عليها فرع الجمعية ُ‬ ‫ال��ت��ي تتحرك �أم��ام‬
‫أنت �أم ياقوتة)‪ ،‬و(نارنجة البيت القديم)‬ ‫� ِ‬ ‫قدمها‬ ‫ّ‬ ‫حلقات‬ ‫والأدباء بالبريمي‪ ،‬في �ست‬ ‫�أقل حركة من ن�سيم‬
‫لمحمود علي من ُعمان‪ ،‬و(الغافة) لميا‬ ‫ال�شاعر خمي�س قلم‪ .‬فال�شجرة عطاء ال‬ ‫يمر عليها‪ ،‬وظلها‬ ‫�سعاد �سعيد نوح‬
‫ال�صواعي من ُع��م��ان‪ ،‬و(ذاك���رة ال�شجرة)‬ ‫رمزي‪ ،‬ت�ضرب بجذورها‬ ‫ّ‬ ‫ينقطع‪ ،‬وهي مقام‬ ‫ال��ذي ن�ستظل به من‬
‫لعادلة علي من ُعمان‪ ،‬و(�شجرة ال�سديرات)‬ ‫في ت��راب اللغة‪ ،‬تعالج الخ�صب والجدب‪،‬‬ ‫طعم منها‬ ‫هجير ال�صيف‪ ،‬وثمارها التي ُي َ‬
‫لفاطمة العلياني من ُعمان‪ ،‬و(�شجرة الثلج)‬ ‫تحاور اليبا�س والخ�ضرة‪ ،‬تورق بالأمل‪،‬‬ ‫الب�شر والطير‪ ،‬وربما بع�ض الحيوانات‪ ،‬لكن‬
‫لخالد علي �سلطان من ُعمان‪ ،‬و(�ضحية)‬ ‫ت��زه��ر بالجمال وروائ� ��ح ال��ح��ي��اة وتثمر‬ ‫ثمة جانب �آخر ال ُيرى بالعين المجردة‪� :‬إنه‬
‫لحنايا خمي�س من ُعمان‪ ،‬و(�أ�شجار الرماد)‬ ‫ال�شجرة كلمة طيبة ونار‬ ‫الع�صي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫بالمعنى‬ ‫الحركة الداخلية في الأ�شجار‪ ،‬في جذورها‬
‫لحمود �سعود من ُعمان‪ ،‬و(الأم) لمحمد خير‬ ‫مطهرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫و�أن�ساغها‪� ،‬إنه في رحلة النمو التي ُتخرِج‬
‫�سعد الدين من فل�سطين‪ ،‬و(�أنا �أكبر منك �أيها‬ ‫يت�ضمن الكتاب �سبعة وع�شرين غ�صن ًا‪/‬‬ ‫الأغ�صان والأوراق والثمار‪ ،‬هكذا ا�ستلهم‬
‫الإن�سان) للدكتورة زينب الخ�ضيري من‬ ‫ف�ص ًال تنوع كتابها وتعددت موا�ضيعها‪،‬‬ ‫ُك � ّت��اب ومبدعو ك��ت��اب (ب�شجريات‪ ..‬كل‬
‫ال�سعودية‪ ،‬و(معالي ال�شجر) لخالد ال�شبيبي‬ ‫و�إن كانت رم��زي��ة ال�شجرة حا�ضرة في‬ ‫غ�صن معنى) الذي قامت بتحريره الكاتبة‬
‫من ُعمان‪ ،‬و(رغد العي�ش)‪ ،‬و(�شجرة التوت‬ ‫جميع الن�صو�ص التي احتواها العمل‪ .‬وقد‬ ‫العمانية �سالمة �سالم المرهوبي‪ ،‬حيث‬
‫الأزرق) لرغد عي�سى من �سوريا‪ ،‬و(�أمثولة‬ ‫عبرت الن�صو�ص عن االحتفاء بال�شجر �أو‬ ‫يك�شفون عن ر�ؤاهم للعالم م�ستلهمين حركة‬
‫ال�سدرة) لخمي�س قلم من ُعمان‪ ،‬و(�شجرة‬ ‫ال�شجريات في جمع غير اعتيادي لل�شجرة‬ ‫ال�شجرة الخارجية المرئية والداخلية التي‬
‫ال�س�أم والعدم) ل�صالح العامري من ُعمان‪.‬‬ ‫م�ستلهم ًا روحها ومعناها؛ ما �أمكن �إ�سقاط‬ ‫ال ت��رى بالعين ال��م��ج��ردة‪ ،‬وه��م يقدمون‬
‫و�أثبتت الن�صو�ص تمكن كتابها من‬ ‫ه��ذه ال ��روح وه��ذا المعنى على كثير من‬ ‫�أطروحاتهم الفكرية والفل�سفية في الكتاب‬
‫فن البيان‪ ،‬وو�ضوح الأفكار التي منحتهم‬ ‫ق�ضايا عالم الإن�سان‪ ،‬تارة بامتداداته في‬ ‫ال ��ذي ���ص��در ح��دي��ث� ًا‪��� .‬ش��ارك ف��ي الكتاب‬
‫م�ساحات م�ضاعفة للتعبير‪ .‬و�أو�ضحت‬ ‫�شجرة ال�ساللة الآدمية‪ ،‬وتارة‬
‫�إدارة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء‪-‬‬ ‫ب�أحواله النف�سية التي تتقلب‬
‫فرع البريمي‪� ،‬أن ال�شجرة اختيرت في هذا‬ ‫بتقلب الف�صول‪ ،‬وت��ارة بما‬
‫العمل رم��زاً (لما لها من عطاء ال ينقطع‪،‬‬ ‫تمثله ال�شجرة في ح�ضورها‬
‫وه��ي مقام رم��زي‪ ،‬ت�ضرب بجذورها في‬ ‫المالزم للإن�سان في بداوته‬
‫تراب اللغة‪ ،‬تعالج الخ�صب والجدب‪ ،‬تحاور‬ ‫وح�ضره‪.‬‬
‫اليبا�س والخ�ضرة‪ ،‬ت��ورق ب��الأم��ل‪ ،‬تزهر‬ ‫وال��ن�����ص��و���ص ه��ي على‬
‫بالجمال وروائ��ح الحياة‪ ،‬وتثمر بالمعنى‬ ‫ال��ت��وال��ي‪( :‬ل��و كنت �شجرة)‬
‫الع�صي‪ .‬ال�شجرة كلمة طيبة ونار مطهرة)‪.‬‬ ‫لإبراهيم �سعيد من ُعمان‪،‬‬
‫ومما يثير االنتباه‪� ،‬أن هذه الأغ�صان‬ ‫و(لغز الحياة‪ ،‬و(�شجرة تزرع‬
‫التي انطلقت من �شجرة واحدة تنتمي لدول‬ ‫�إن�سان ًا) لح�سني النجار من‬
‫عربية عديدة‪ ،‬في دالل��ة �أخ��رى ب�أغ�صان‬ ‫�سوريا‪ ،‬و(�إلى �صديقي عا�شق‬
‫�شجرة الأمة العربية المترامية الأطراف من‬ ‫ال�شجرة)‪ ،‬و(الف�أ�س) لعبداهلل‬
‫المحيط �إلى الخليج‪.‬‬ ‫الكعبي من ُعمان‪ ،‬و(�سدرة‬
‫وبرغم احتفاء الكتاب بالبالغة الداخلية‬ ‫البيت) لمنى المعولي من‬
‫للكلمات والبعد عن الإيقاع ال�شعري‪ ،‬ف�إن‬ ‫ُع��م��ان‪ ،‬و(���س��م��رة و���س��درة)‪،‬‬
‫ال�شعر بت�شكله ال�سيميائي‪ ،‬لم يكن غائب ًا عن‬ ‫و(لغة ال�شجر) لأحمد بن محمد‬
‫الكتاب‪.‬‬ ‫النا�صري من ُعمان‪ ،‬و(لماذا‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪138‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫درا�سة تف�صيلية م�ش ّوقة لتاريخ‬


‫الأواني الحجرية في م�صر‬
‫وت��ط��ور الأن��م��اط غير التقليدية ل�ل�أوان��ي‬ ‫م ��ؤل��ف��ة ال��ك��ت��اب‬
‫الحجرية‪ ،‬وا�ستخدامات الأوان��ي الحجرية‪.‬‬ ‫د‪.‬زي��ن��ب عبدالتواب‬
‫و�ضحت الم�ؤلفة �أن م�صر هي‬ ‫في الباب الأول ّ‬ ‫ريا�ض‪ ،‬وهي دكتورة‬
‫موطن ا�ستخدام الحجر على اختالف طبيعته‪،‬‬ ‫متخ�ص�صة في مجال‬ ‫ِّ‬
‫اللين كالحجر الجيري‬ ‫فقد تنوع ما بين ّ‬ ‫درا������س�����ات الآث������ار‬
‫والرملي قرب نهر النيل‪ ،‬وال�صلب كالجرانيت‬ ‫الم�صرية القديمة‪ ،‬لها‬
‫والبازلت وغيرهما من الأح��ج��ار النارية‬ ‫الكثير م��ن الأب��ح��اث‬ ‫ناديا عمر‬
‫د‪ .‬زينب عبد التواب ريا�ض‬
‫والمتحولة‪ ،‬وهو ما �أدى �إلى تنوع واختالف‬ ‫العلمية‪ ،‬مثل‪�( :‬آثار ما‬
‫و�أ�ضافت الكاتبة �أن مجموعة الأوان��ي‬ ‫�شكل وطبيعة الأواني الحجرية‪.‬‬ ‫قبل التاريخ)‪ ،‬و(�آثار وفنون م�صر القديمة)‪،‬‬
‫تنوعت بع�صر ما قبل الأُ�سرات‪ ،‬ما‬ ‫الحجرية‪ّ ،‬‬ ‫�أم��ا طريقة ف�صل �أو قطع الأحجار من‬ ‫و(مدخل �إلى علم الآثار) وغيرها‪..‬‬
‫بين الأوان��ي المعلقة والأ�سطوانية الق�صيرة‬ ‫محاجرها‪ ،‬فيمكن ا�ستنباطها من �أماكن‬ ‫ت�ساءلت الم�ؤلفة في مقدمة كتابها عن‬
‫ذات المقاب�ض المثقوبة‪ ،‬والأواني البي�ضوية‬ ‫التحجير القديم التي التزال باقية �إلى الآن‬ ‫يتحمل‬
‫ّ‬ ‫الغاية التي جعلت الم�صري القديم‬
‫المنتفخة البدن ذات اال�ستطالة‪ ،‬وذات القاعدة‬ ‫في منطقة �أ�سوان‪ ،‬ويتم قطعها با�ستخدام‬ ‫م�شاق ت�صنيع هذا الكم الهائل من الأواني‬
‫المدببة والم�ستديرة‪ ،‬والأواني وال�سلطانيات‬ ‫خوابير خ�شبية وع��روق مبللة بالماء يتم‬ ‫الحجرية‪ ،‬ب�أدوات ب�سيطة ت�أخذ وقت ًا طوي ًال‬
‫ذات الهيئة الكروية والأطباق والأكواب‪.‬‬ ‫ال�ضغط بها من �أربعة جوانب لف�صل الكتل‬ ‫ويحر�ص على تفريغها ونحتها و�صقل‬
‫وكذلك تطورت الأوان��ي غير التقليدية‪،‬‬ ‫الحجرية ال��م��رغ��وب فيها‪ ،‬وك��ان��ت الآالت‬ ‫جوانبها بكل �إب ��داع و�إت��ق��ان برغم وج��ود‬
‫مثل التي اتخذت هيئات هند�سية �أو نباتية‬ ‫الم�ستعملة في ذلك من المعدن‪ ،‬وهي �أزاميل‬ ‫البديل من �أوانٍ فخارية ومعدنية‪ ،‬هذا الأمر‬
‫�أو رم��زي��ة‪� ،‬أو هيئات حيوانية �أو وهمية‪،‬‬ ‫من النحا�س‪ ،‬وقواديم ومطارق من الحجر‪،‬‬ ‫الالفت لالنتباه والمثير للده�شة‪ ،‬هو الذي‬
‫والأوان ��ي ذات النقو�ش الهيروغليفية التي‬ ‫ومد ّقات من الخ�شب‪.‬‬ ‫دفعها �إلى البحث في هذا المو�ضوع‪ ،‬لتر�سم‬
‫ت�شير �إلى الألقاب الملكية �أو الوظيفية‪� ،‬أو‬ ‫تمر مراحل �صناعة الأوان ��ي الحجرية‬ ‫�صورة متكاملة قدر الم�ستطاع عن الأواني‬
‫�أ�سماء �أ�شخا�ص ذوي �أهمية‪� ،‬أو �أ�سماء �أماكن‪،‬‬ ‫بـ(اال�ستحجار)‪ :‬وهي عملية قلع الأحجار‬ ‫الحجرية‪.‬‬
‫�أو رموز �سيا�سية �أو دينية خا�صة‪� ،‬أو �أ�سماء‬ ‫التي ت�صلح من �سطح الأر���ض ولي�س بحفر‬ ‫���ض��م ال��ك��ت��اب �أرب ��ع ��ة �أب�����واب‪ :‬الحجر‬
‫ما تحتويه الأواني من �أ�شياء �أو الغر�ض منها‪.‬‬ ‫ال��م��ن��اج��م ك��م��ا ه��ي ال��ح��ال ف��ي التعدين‬ ‫وا�ستخدامه في �صناعة الأوان��ي الحجرية‪،‬‬
‫وت��ع��ددت وظ��ائ��ف الأوان� ��ي‪ ،‬لي�س فقط‬ ‫واختيار الكتلة الحجرية المنا�سبة للت�صنيع‬ ‫وتطور الأنماط التقليدية للأواني الحجرية‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫في دورها العملي‪� ،‬إنما �أي�ض ًا من الناحية‬ ‫ثم الت�شكيل الخارجي فالتفريغ وال�صقل‬
‫الدينية والجنائزية والفنية‪ ،‬فكانت تو�ضع‬ ‫والتهذيب‪( .‬الت�شكيل الخارجي للإناء)‪ :‬وهو‬
‫في المقابر كمتاع يخ�ص المتوفى‪� ،‬أو تعب�أ‬ ‫ر�سم الخطوط العامة الخارجية ل�ل�إن��اء‪،‬‬
‫بالزيوت والدهون العطرية كطق�س جنائزي‪،‬‬ ‫لتحديد �شكله فيما �إذا كان كروي ًا �أو �أ�سطواني ًا‬
‫�أو تك�سر وتو�ضع مك�سورة‪� ،‬أو ت�صنع في‬ ‫�أو غيره‪ ،‬ثم �صقله من الخارج بحجر �أكثر‬
‫الأ�سا�س من جزءين منف�صلين كطق�س ديني‬ ‫�صالدة‪( .‬تفريغ الإناء من الداخل)‪ :‬وكان يتم‬
‫للوفاة‪ ،‬و�أحيان ًا تنق�ش على الأواني كتابات‬ ‫عمل وخز في قمة الإن��اء يمكن فيه تثبيت‬
‫تاريخية ل�سرد �أح ��داث معينة‪� ،‬أو تحديد‬ ‫المثقاب الذي ُيم�سكه ال�صانع من �أعلى‪ ،‬حيث‬
‫�سنوات حكم ملك معين‪� ،‬أو الأوان ��ي التي‬ ‫المثبتة به‪ ،‬لي�سيطر بها على‬ ‫َّ‬ ‫الأوزان الثقيلة‬
‫تعك�س الناحية الفنية‪ ،‬لتبرز فيها الأل��وان‬ ‫الإناء وتفريغه من الداخل‪ ،‬من خالل تحريك‬
‫والت�شكيالت الفنية‪.‬‬ ‫المثقاب الذي يعمل كحفارة‪ ..‬و�صقل الإناء‬
‫وت��ؤك��د د‪.‬زي��ن��ب‪� ،‬أنها حاولت في هذه‬ ‫من الخارج بعد تفريغه من الداخل بوا�سطة‬
‫الدرا�سة قدر ا�ستطاعتها‪ ،‬تف�سير كل ما يتعلق‬ ‫(المحك) �أو ا�ستخدام نوع من رمال الكوارتز‬
‫بالأواني الحجرية‪ ،‬من خالل التطور الزمني‬ ‫ت�ستخدم لتنعيم الإن��اء‪( .‬زخرفة الإن��اء من‬
‫التاريخي والوظيفي والعملي‪ ،‬وبالت�أكيد‬ ‫ال��خ��ارج)‪ :‬وتتم بوخز �أو تفريغ مقاب�ض‬
‫التزال االكت�شافات الجديدة و�أعمال البحث‬ ‫الأوان��ي الحجرية‪ ،‬با�ستخدام مثقاب طويل‬
‫والتنقيب‪ ،‬تك�شف كل يوم عن �شيء جديد‪.‬‬ ‫ورفيع الر�أ�س‪.‬‬

‫‪139‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫قراءات‬

‫درا�سة في «�أدب ال�صورة القلمية»‬


‫ال�ساخرة‪ ،‬وعن الترجمة الوثائقية وال�سيرة‬ ‫ي ��ت ��ن ��اول ك��ت��اب‬
‫الذاتية‪ ،‬م�شيراً �إلى �أنه يالزم ال�صحافة وي�أخذ‬ ‫(�أدب ال�صورة القلمية‪:‬‬
‫منها و�سيلته وبع�ض �سماته اللغوية‪ ،‬فهو لي�س‬ ‫درا�����س����ة ف� ��ي م��ق��ال‬
‫كتابة وظيفية؛ بل كتابة �أدبية‪ ،‬تخ�ضع في‬ ‫ال��ب��ورت��ري��ه)‪ ،‬ال�صادر‬
‫درا�ستها لدرا�سة النقد الأدبي‪.‬‬ ‫ح ��دي ��ث�� ًا ع���ن دائ����رة‬
‫ومقال ال�صورة القلمية من �أقوى المقاالت‬ ‫ال��ث��ق��اف��ة ب��ال�����ش��ارق��ة‬
‫الت�صاق ًا بالوجدان؛ �إذ �إن��ه نتيجة النفعال‬ ‫�ضمن‬ ‫(‪2021‬م)‪،‬‬ ‫�أبرار الأغا‬
‫الكاتب بتجربة خا�صة تجاه �إحدى ال�شخ�صيات‪،‬‬ ‫�سل�سلة درا�سات نقدية‪،‬‬
‫فيكتب على �إثره ن�ص ًا مفعم ًا بالإن�سانية‪ ،‬وبرغم‬ ‫للناقد الم�صري الدكتور ع��ادل نيل‪ ،‬مقال‬
‫ذلك ف�إن الكاتب في ر�سم ال�شخ�صيات محكوم‬ ‫البورتريه ومالمح بنائه الفني لدى الأدي��ب‬
‫د‪ .‬عادل نيل‬
‫بالمو�ضوعية في نقل مالمح ال�صورة للقارئ‪،‬‬ ‫الم�صري خيري �شلبي‪ ،‬ال��ذي يعد رائ��داً لفن‬
‫ي�ضمن و�ضوح ال�صورة الب�صرية التي تر�سمها‬ ‫دون �إجحاف �أو تحامل يخل بم�صداقية المقال‪.‬‬ ‫ال�صورة القلمية في الأدب العربي الحديث‪،‬‬
‫اللغة‪ ،‬منوه ًا ب�أن لغة مقاالته جاءت بالف�صحى‬ ‫وبلغت كتب �شلبي التي جمعت �صوره‬ ‫فامتالكه للأدوات ال�سردية‪ ،‬وقدراته الإبداعية‬
‫بعيدة عن �أي زخارف‪ ،‬يمكن �أن تثقل بناء ال�صورة‪،‬‬ ‫القلمية �سبعة كتب‪ ،‬وكانت الوجوه المر�سومة‬ ‫في �سرد التفا�صيل الإن�سانية الدقيقة‪ ،‬جعلته‬
‫برغم كثرة دفاعه عن اللهجة العامية في الإبداع‪.‬‬ ‫فيها ‪ 149‬وج��ه � ًا �إن�����س��ان��ي � ًا‪ ،‬ت��ن��وع��ت بين‬ ‫يتفوق في هذا المجال‪� ،‬إلى جانب تميزه في‬
‫وي�ستهل مقاالته القلمية بر�سم مالمح‬ ‫وجوه �سيا�سية‪ ،‬ودينية‪ ،‬و�أدبية‪ ،‬و�أكاديمية‪،‬‬ ‫كتاباته الإبداعية الأخرى‪.‬‬
‫الوجه‪ ،‬دون ذكر ا�سم �صاحبه؛ لي�شوق المتلقي‬ ‫و�صحافية‪ ،‬و�إذاع��ي��ة‪ ،‬و�سينمائية‪ ،‬وطربية‪،‬‬ ‫يعد مقال ال�صورة القلمية �أح��د �أن��واع‬
‫وي�ستثيره‪ ،‬ثم يعرف بال�شخ�صية بعد فقرات‬ ‫ومو�سيقية‪ ،‬وت�شكيلية‪ ،‬وريا�ضية‪ ،‬كذلك فقد‬ ‫المقاالت الأدبية القائم على ر�سم و�إبراز المالمح‬
‫ع��دة‪ ،‬م�ستنداً �إل��ى م�صادر �أ�سا�سية‪ ،‬ت�شكلت‬ ‫تنوعت الوجوه في المجال المعرفي الواحد‪.‬‬ ‫الح�سية والنف�سية لل�شخ�صية وجمالياتها؛‬
‫منها �أغلب المالمح الح�سية لمقاالته‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫وبين �أن �شلبي اعتمد في تكوين �صوره‬ ‫لتقديم قيم وغايات ترتبط بم�سيرة ال�شخ�صية‬
‫الح�ضارة الفرعونية‪ ،‬وال�شخ�صيات التراثية‪،‬‬ ‫القلمية على م�صادر متنوعة‪ ،‬فكانت �أ�شبه‬ ‫المر�سومة‪ ،‬وقد اختلف النقاد حول الم�صطلح‬
‫والهوية المكانية‪ ،‬وطبيعة ال�شخ�صية و�إبداعها‪،‬‬ ‫ب��درا���س��ة وثائقية م�صوغة ب�أ�سلوب �أدب��ي‪،‬‬ ‫الأن�سب لو�صف هذا الفن الأدبي؛ لخلطهم بين‬
‫كما يمتلك ق ��درة فنية على ق ��راءة الأب��ع��اد‬ ‫وم ��ن ت��ل��ك ال��م�����ص��ادر‪� :‬أع��م��ال ال�شخ�صية‪،‬‬ ‫فنيات الكتابة الغيرية والكتابة الذاتية‪.‬‬
‫النف�سية ل�شخ�صياته‪ ،‬ب�صورة تمثل �إح��دى‬ ‫والمذكرات ال�شخ�صية لأ�صحابها‪ ،‬و�أحاديث‬ ‫ويرى الناقد �أن �أدب ال�صورة القلمية �أو‬
‫�سمات تميزه الإبداعي‪ ،‬معتمداً في ذلك على‬ ‫الكاتب وحواراته الإعالمية‪ ،‬وعالقة الكاتب‬ ‫�أدب البورتريه‪� ،‬أو مقال البورتريه من �أكثر‬
‫�أعمال ال�شخ�صية‪ ،‬وقراءة مالمحها الخارجية‪،‬‬ ‫بال�شخ�صية‪ ،‬وم ��روي ��ات ع��ن ال�شخ�صية‪،‬‬ ‫الم�صطلحات ارتباط ًا بطبيعته الفنية‪ ،‬والأكثر‬
‫وتكوينها االجتماعي‪.‬‬ ‫و�شهادات الآخرين عن ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫�شخ�صية‬ ‫تمييزاً لأدوات��ه التي تقوم على ر�سم‬
‫ور���ص��د ال��ن��اق��د م�لام��ح �شخ�صية �شلبي‬ ‫و�أو�ضح الناقد �أن عتبة العنوان في مقال‬ ‫لأخرى بمالمحها الإن�سانية‪ ،‬وبعيداً عن النزعة‬
‫من خ�لال بورتريهاته‪ ،‬والتي عبر فيها عن‬ ‫البورتريه لدى �شلبي تركز على ال�سمة الأبرز‬
‫ذاته وتوجهاته وقيمه و�أفكاره‪ ،‬وتتمثل هذه‬ ‫التي ي�سعى �إل��ى الت�أكيد عليها في �صورته‪،‬‬
‫المالمح في الملمح الوطني‪ ،‬وح�سه القومي‬ ‫والتي �أخ��ذت مرجعيتها من اعتبارات عدة‪،‬‬
‫الذي يرف�ض تجزئة الهويات العربية‪ ،‬وت�شكل‬ ‫�أب��رزه��ا‪ :‬ا�شتقاقها م��ن عمل ب ��ارز‪ ،‬كعنوان‬
‫لا م��ن هويته‬ ‫الهوية الم�صرية ج���زءاً �أ���ص��ي� ً‬ ‫�صورته لتوفيق الحكيم (الفيل�سوف والحمار)‪،‬‬
‫القومية‪ ،‬والملمح ال�سيا�سي‪ ،‬حيث �إخفاقات‬ ‫�أو ربط ح�ضور ال�سمة الأدائية في العناوين‪،‬‬
‫ثورة يوليو في تحقيق الواقع ال�سيا�سي الذي‬ ‫كما في بورتريهاته عن (ال�شيخ علي محمود‪:‬‬
‫بد�أت به‪ ،‬و�إ�شراقات الحلم في ا�ستكمال بداية‬ ‫المزمار)‪� ،‬أو ارتباطها ببعد اجتماعي ت�ش ّكل‬
‫الواقع الم�ضيء‪ ،‬والملمح االجتماعي‪ ،‬حيث‬ ‫ملمح بارز في التكوين ال�شخ�صي ب�صاحب‬ ‫ٌ‬ ‫معه‬
‫ال�شخ�صية الم�صرية هي المكون الأ�صيل في‬ ‫ال�صورة‪ ،‬مثل‪( :‬محمود تيمور‪ :‬الأر�ستقراطي)‪� ،‬أو‬
‫جميع بورتريهاته‪ ،‬والملمح الثقافي فالقارئ‬ ‫ارتباطها بالت�شكيل الح�سي لمالمح ال�شخ�صية‪،‬‬
‫يدرك مع مقاالت �شلبي‪� ،‬أنه �أمام حقول معرفية‬ ‫كما في مقاله (نجيب محفوظ‪ :‬ح�سنة في وجه‬
‫متنوعة‪ ،‬والملمح النقدي فقد ناق�ش ق�ضايا‬ ‫الثقافة العربية)‪� ،‬أو اللقب ال�شائع (ح�سام ح�سن‪:‬‬
‫�أدبية ونقدية في مقاالته القلمية‪ ،‬والملمح‬ ‫العميد‪ ،‬في كتابه برج البالبل)‪.‬‬
‫الإن�ساني �إذ �شكلت الإن�سانية الزمة �أ�سا�سية في‬ ‫ولفت �إلى �أن لغة �شلبي تقوم على االنتقاء‬
‫اختيار �شخ�صيات بورتريهاته‪.‬‬ ‫في اختيار مالمح معينة‪ ،‬وعلى التكثيف الذي‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪140‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫�إيجابية االختالف‬
‫في «ال�ضفيرة والألوان»‬
‫ظهر ذلك كله جلي ًا منذ اختيار العنوان بما‬ ‫يك�شف المعجم‬
‫يالئم ذلك كله‪ ،‬فجاء مكون ًا من مفردتين‬ ‫ال����دالل����ي ل��ل��ك��ات��ب��ة‬
‫�إيمان ال�شيمي‬
‫محببتين للطفل وعالمه في ه��ذه ال�سن (‬ ‫ال�شابة �إيمان ال�شيمي‬
‫ر�أ�سه‪ ،‬ولكن �أقرانه ي�ضحكون وي�سخرون من‬ ‫ال�ضفيرة والألوان) م�شبعتين بالمرح والبهجة‬ ‫في ق�صتها (ال�ضفيرة‬
‫�ضفيرته المزيفة‪.‬‬ ‫والروح الطفولية‪ ،‬و�إن ظلتا �أيقونتين لل�صراع‬ ‫والأل��وان)ال�����ص��ادرة‬
‫وتطل علينا الألوان في العمل من جديد‬ ‫وم��ح��وري��ن ف��ي الأح� ��داث داخ��ل العمل من‬ ‫ح��دي��ث�� ًا (‪2020‬م)‬
‫م�صطفى غنايم‬
‫بما يج�سد تمايز تلك ال�شخ�صية المختلفة‪ ،‬التي‬ ‫بدايته �إل��ى نهايته‪ ،‬بما يخلب لب الأطفال‬ ‫ع ��ن م��رك��ز ليفانت‬
‫تقاوم التنمر‪ ،‬وتتفاعل ب�إيجابية‪ ،‬وتوظف‬ ‫ويدفعهم �إلى الإثارة والده�شة‪ ،‬كما جعلتنا‬ ‫للدرا�سات الثقافية والن�شر بالإ�سكندرية‪،‬‬
‫موهبتها‪ ،‬وت�ؤكد اختالفها‪ /‬تميزها تارة‬ ‫الم�ؤلفة نتعرف منذ البداية �إل��ى �شخ�صية‬ ‫ور�سوم الفنانة هبة مجدي عن روح الطفولة‬
‫بر�سم لوحات جميلة ب�ألوان بديعة‪ ،‬وتارة‬ ‫البطل‪ ،‬ذلك الطفل ال�صغير المختلف عن �سائر‬ ‫المغلفة ل�شخ�صيتها‪ ،‬وال غرابة في ذلك فقد‬
‫�أخرى ب�صنع مفاج�أة لأهل القرية جميعها‬ ‫�أطفال المدينة‪ :‬هيئة وقامة‪ ،‬ما جعله يت�أمل‬ ‫انعك�س عملها اخت�صا�صية لمكتبة الطفل‬
‫بتلوين البيوت ب�ألوان مبهرة‪ :‬خ�ضراء وزرقاء‬ ‫�شعره الق�صير منده�ش ًا من طول �شعورهم‬ ‫بمكتبة الإ�سكندرية على �إبداعها الذي ات�سم‬
‫وحمراء و�صفراء‪ ،‬ومن ثم يتمكن من تغيير‬ ‫التي يغزلونها �ضفائر تزين ظهورهم بنات ًا‬ ‫بب�ساطة المفردات‪ ،‬وت�سل�سل الروح الحكائية‪،‬‬
‫نمطها‪ ،‬وك�سر اقت�صارها على لونين فقط‪،‬‬ ‫و�أوالداً‪� ،‬إ�ضافة �إلى تج�سيد ال�صراع منذ بداية‬ ‫ون�ضج الحبكة الدرامية المنا�سبة لعقلية‬
‫ليتجدد ال�صراع ويت�أزم باعتبار �أهل القرية‬ ‫العمل بحيرة وت�سا�ؤل ذلك الولد ال�صغير‪( :‬لم‬ ‫الطفل‪ ،‬ف�ض ًال عن ر�سم �شخ�صيتها الأ�سا�سية‬
‫ذلك جريمة نكراء يقررون على �إثرها الحكم‬ ‫�أنا مختلف عن �أهل المدينة؟)‪.‬‬ ‫نامية متطورة‪� ،‬إ�ضافة �إلى اختيار مو�ضوع‬
‫عليه بال�سجن في بيته وانتزاع �ألوانه‪.‬‬ ‫وتجيد الم�ؤلفة ر�سم �شخ�صيتها البطلة‪،‬‬ ‫منا�سب لهم وكثيراً ما يعانيه معظمهم‪� ،‬أال‬
‫ولأن ال�شيمي تريد �أن تغر�س الإيجابية‬ ‫فتجعل منها �شخ�ص ًا مت�أم ًال‪ ،‬م��ب��ادراً‪� ،‬إذ‬ ‫وه��و اال�ستهزاء وال�سخرية من قبل بع�ض‬
‫وت��ع��م��ق م��ن دوره� ��ا ال��ف��اع��ل ف��ي ال��ح��ي��اة‪،‬‬ ‫ينظر متعجب ًا �إلى �شوارع المدينة الباهتة‪،‬‬ ‫زمالئهم‪ ،‬والتنمر على �شخ�صيتهم‪ ،‬بما قد‬
‫وت��ؤك��د تميز �شخ�صيتها البطلة‪ ،‬وتماهي ًا‬ ‫وي�ستغرب من طالئها باللونين الأبي�ض‬ ‫يحقق لهم االنك�سار والإحباط واالن�سحاب‬
‫مع عقلية الأطفال الذين تحتك بهم‪ ،‬والذين‬ ‫والأ�سود فح�سب‪ ،‬و�إحكام ًا للعقدة نجد ال�صراع‬ ‫واالنهزام‪ ،‬وي�صيبهم باالغتراب واالنعزالية‪،‬‬
‫ينتظرون الفرحة والبهجة‪ ،‬ويتوقعون النهاية‬ ‫يت�أزم داخلي ًا في نف�س الطفل‪ ،‬وخارجي ًا‬ ‫ول��ك��ن ال�شيمي ا�ستطاعت �أن تعالج هذا‬
‫المده�شة؛ فقد جعلت التوفيق محالف ًا الجتهاد‬ ‫في بنية الن�ص؛ فنراه يحاول التقرب من‬ ‫ال��م��و���ض��وع بمنظور ج��دي��د مختلف‪ ..‬وقد‬
‫الطفل المثابر المبادر المقاوم‪� ،‬إذ ابت�سمت له‬ ‫الأطفال‪� ،‬أو يتحدث معهم‪،‬‬
‫الأح��داث في النهاية؛ �إذ تبرز لنا المفاج�أة‬ ‫ف��ي��رف�����ض��ون وي��ب��ت��ع��دون‬
‫المدوية في ختام العمل ب�إعجاب ال�سلطان‬ ‫ويتهام�سون‪ :‬هذا ولد غريب‬
‫وموكبه ب�ألوان المدينة‪ ،‬ويقرر منح المدينة‬ ‫ومختلف ورب��م��ا مري�ض‪،‬‬
‫على قدر جمالها ذهب ًا ومرجان ًا‪ ،‬وي�س�أل كذلك‬ ‫وتطل علينا ال�ضفيرة تارة‬
‫عن الفنان الذي قام بدهان المدينة ب�أجمل‬ ‫�أخ��رى رم��زاً ل�صراع خفي‬
‫الألوان‪ ،‬ويعينه ر�سام ًا للق�صر‪ ،‬ويخلع عليه‬ ‫لأن���ه ال يمتلكها مثلهم‪،‬‬
‫مالب�س جديدة‪ ،‬وي�أمر بمكاف�أته بق�صر فخم‬ ‫وم���ن ث ��م ي�����ص��اب الطفل‬
‫يعي�ش فيه‪ ،‬لينتهي العمل بانت�صار الطفل‬ ‫بالألم والحزن‪ ،‬وال �سيما‬
‫وت�أكيد تميزه‪ ،‬وتغلبه على التنمر وال�سخرية‬ ‫�أمام �صيحاتهم المتكررة‪:‬‬
‫بالعمل والإ�صرار‪ ،‬حتى تمكن من �أن يحفر‬ ‫مختلف وغ��ري��ب‪ ..‬مختلف‬
‫ا�سمه بحروف من نور‪ ،‬ما جعل �أهل المدينة‬ ‫وغريب‪ ،‬الأم��ر ال��ذي جعله‬
‫يتعجبون من تبدل حاله‪ ،‬ويتهام�سون هذه‬ ‫يفكر وي��ب��ت��ك��ر ف��ي �صنع‬
‫المرة من جديد ب�إعجاب وانبهار قائلين‪ :‬ولد‬ ‫�ضفيرة من �أوراق الأ�شجار‬
‫�صغير مختلف عنا‪ ،‬وهو موهوب‪.‬‬ ‫وي��غ��زل��ه��ا وي��ث��ب��ت��ه��ا على‬

‫‪141‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬

‫منير ال�شعراني‪..‬‬
‫في يمين الفنان ينب�ض العالم‬
‫خو�سيه ميغيل بويرتا‬

‫وه��و ك��وك��ب خطي وا���س��ع الن�سيان عند‬ ‫وال�شكلية للتراث الخطي‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫الثقافية‬
‫ّ‬ ‫الخطاط‬
‫ّ‬ ‫عند ت�أمل لوحة من لوحات‬
‫خطاطين معا�صرين كثر‪ ،‬غدا بف�ضل �شغله‬ ‫مجال تخ�ص�ص فيه وكتب عنه ول ّقنه‪.‬‬ ‫ال�����س��وري الكبير منير ال�شعراني للمرة‬
‫خط ًا مميزاً للع�صر‪ .‬ما �أروع لوحته (�أ�سماء‬ ‫فبعد ع��ق��ود م��ن نهجه ه��ذا المنهج‬ ‫الأول����ى‪ ،‬ي�شعر ال��م��رء ب���أن ع�����ص��وراً من‬
‫اهلل الح�سنى)‪٢٠١٠( ،‬م) �ش ّكلها بالكوفي‬ ‫الحروفية‬
‫ّ‬ ‫الفني‪ ،‬الفاتح لدرب ثالث بين‬ ‫الإبداع الخطي العربي‪ ،‬تمثل �أمام عينيه‬
‫ال�شطرنجي �أو المربع والتي تمتزج فيها‬ ‫العثمانية‪ ،‬يظل (ال�شعراني) في‬
‫ّ‬ ‫والمدر�سة‬ ‫م��ج��دداً ب ��ذوق ح��داث��ة‪ ،‬تحلى ب��الأن��اق��ة‬
‫المكون‬
‫ّ‬ ‫�أ�صالة المعاني وحداثة الت�صميم‬ ‫�صدارة الخط العربي المعا�صر‪ ،‬على الرغم‬ ‫الفنية والقيم الإن�سانية وحب الوطن‪� .‬أفلح‬
‫ب�شبكة (‪ )١٠x١٠‬مربعات‪ ،‬تحتوي كل‬ ‫من بزوغ خطاطين �آخرين في هذه النزعة‪،‬‬ ‫(ال�شعراني) في الحفاظ على هوية الخط‬
‫واحدة منها على ا�سم من �أ�سمائه تعالى‬ ‫�أمثال جمال الب�ستاني وع�صام عبدالفتاح‬ ‫العربي وا�ستقالله حيال فنون �أخرى‪ ،‬دون‬
‫الت�سعة والت�سعين م��ا ع��دا ا�سم ًا واح��داً‬ ‫و�سواهما‪ .‬ويبني (ال�شعراني) لوحاته‬ ‫حرية الف ّنان في الخلق‪،‬‬ ‫�أن يتنازل عن ّ‬
‫يحتل مربعين!! والنقاط الحمراء للحروف‬ ‫وي�صورها في‬ ‫ّ‬ ‫الجمالية‬
‫ّ‬ ‫الحرية‬
‫ّ‬ ‫بكامل‬ ‫ويفتخر بو�صف نف�سه خطاط ًا �صرف ًا لي�س‬
‫المعهودة في �أعماله تعزز بهاء اللوحة‬ ‫ذهنه وفي العديد من الت�صاميم الأولية‬ ‫لكونه تلميذاً لأب الخط العربي المعا�صر‬
‫ال�سود العري�ضة‪،‬‬‫بت�ضادها مع الخطوط ُّ‬ ‫ال�صغيرة‪ ،‬التي ير�سمها ب�أقالم حبر �أو‬ ‫في �سوريا‪ ،‬ب��دوي الديراني‪ ،‬ال��ذي �أغنى‬
‫�أحيان ًا نرى (مربع ال�شعراني) في و�سط‬ ‫ر�صا�ص عادية على �أي قطعة ورق تقع في‬ ‫المدر�سة الخطية العثمانية وح�سب‪ ،‬بل‬
‫لوحات م�صنوعة على �شكل المخطوطات‪،‬‬ ‫متناول يده‪ .‬هنا يبد�أ في تحرير الحروف‬ ‫لإ�سهاماته المديدة في تحديث الأ�ساليب‬
‫تت�ضمن ن�صو�ص ًا من ملحمة جلجام�ش‬ ‫من قواعد الأنماط التقليدية ال�صارمة‪،‬‬ ‫ال��م��وروث��ة‪ ،‬انطالق ًا م��ن �إيمانه ال�صلب‬
‫لا‪� ،‬أو ق�صائد‬‫ورب��اع��ي��ات ال��خ��ي��ام‪ ،‬م��ث� ً‬ ‫ليعيد بناءها ب�أ�شكال و�إيقاعات وعالقات‬ ‫في �إمكانيات هذا الفن للتغيير في �إطار‬
‫عربية و�سواها‪ ،‬وعلى غرار فنانين عرب‬ ‫مفاجئة ذات هياكل غير مرئية �أو يكاد‪،‬‬ ‫الأ�صول الخا�صة به‪.‬‬
‫�آخ��ري��ن‪� ،‬آث ��ر ال�شعراني (ن��ق��ل المعايير‬ ‫ولكن دون �أن تمنع القراءة‪ ،‬بل جاع ًال من‬ ‫في نظره؛ الخط العربي كونه ينطوي‬
‫الجمالية من الديني �إلى الثقافي)‪ ،‬على‬ ‫القراءة اكت�شاف ًا ب�صري ًا منع�ش ًا‪ ،‬ي�ساعده‬ ‫على طاقة حركية جمالية لما يمتاز به‬
‫حد تعقيب الباحث التون�سي بن حمودة‪،‬‬ ‫ف��ي ذل��ك التكري�س ال�صحيح للتقنيات‬ ‫من ق��درة على ال�صعود والهبوط والمد‬
‫و�أعار اهتمام ًا خا�ص ًا للتلميح �إلى مبادئ‬ ‫والخلفيات المختارة‬
‫ّ‬ ‫الع�صرية‬
‫ّ‬ ‫الجرافيكية‬
‫ّ‬ ‫وال��رج��ع واال���س��ت��دارة والتركيب‪ ،‬يندرج‬
‫المواطنة‪ ،‬وم��راع��اة الأخ�لاق في �أعمال‬ ‫بدقة‪ ،‬وكذلك الأل��وان النقية والمتباينة‬ ‫�ضمن �أه ��م ال��ف��ن��ون الجميلة‪ ،‬درا�سته‬
‫مثل (ال للطائفية)‪( ،‬ال‪ ،‬ال للجهل ال للخوف‬ ‫في كل الأ�سطح وف��ي التفا�صيل‪ .‬وحين‬ ‫للفنون الجرافيكية ف��ي جامعة دم�شق‬
‫ال للتمييز‪( ،)...‬الوطن‪ :‬المحبة‪ ،‬الت�سامح‪،‬‬ ‫ينتقي ن�صو�ص لوحاته‪� ،‬أي � ًا كانت من‬ ‫وعمله المك ّثف ف��ي لبنان ف��ي ت�صميم‬
‫التقدم‪ ،‬العدل‪ ،‬الكرامة‪ ،‬الوحدة‪ ،‬العطاء‪،)...‬‬ ‫الكتب ال�سماوية‪� ،‬أو من كبار المت�صوفة‬ ‫�أغ��ل��ف��ة ال��ك��ت��ب وال��م��ل�����ص��ق��ات وغ��ي��ره��ا‬
‫(الحر‪/‬الحر ّة) اللتين تحيطان‬ ‫ّ‬ ‫�أو لوحتيه‬ ‫وال�شعراء العرب‪� ،‬أو من الأمثال ال�شعبية‪،‬‬ ‫وان�ضمامه �إل��ى الحياة الت�شكيلية في‬
‫مربعات‬
‫ٌ‬ ‫بهاتين المفردتين المركزيتين‪،‬‬ ‫ي�صبو الخطاط للتفاعل مع هموم الب�شر‬ ‫القاهرة ل�سنين‪ ،‬جعلته يواكب عن قرب‬
‫خطي ٌة لكلمات (الكريم‪/‬الكريمة‪ ،‬ال�صديق‪/‬‬ ‫وتطلعاتهم‪ ،‬وعلى طرح ق�ضايا الإب��داع‬ ‫احتياجات الوطن العربي الراهنة للخط‪،‬‬
‫ال�صديقة‪ ،‬الجريء‪/‬الجريئة‪ ،‬الخال�ص‪/‬‬ ‫الفني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فقام بتطوير وابتكار �أنماط خطية‪� ،‬سواء‬
‫الخال�صة‪ ،)...‬كلها بالكوفي المربع‪.‬‬ ‫في م�شواره الخطي ال�ساعي لإحياء‬ ‫ل�صنع اللوحات والالفتات وال�شعارات‪� ،‬أو‬
‫وكم تباغت الم�شاهد تلك التغييرات‪،‬‬ ‫كافة الأ�ساليب عكف (ال�شعراني) على مدى‬ ‫الحا�سوبية‪ ،‬م�ستنداً‬
‫ّ‬ ‫لمعالجة الن�صو�ص‬
‫الكوفيين‬
‫َ‬ ‫(ال�شعراني على‬
‫ٍ‬ ‫التي �أدخلها‬ ‫ن�صف قرن على تطوير الخطوط الكوفية‪،‬‬ ‫دوم � ًا‪� ،‬إل��ى البحث المت�أني في الجوانب‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪142‬‬


‫ج�سور‬

‫�أن الحرف الأندل�سي‪ -‬المغربي بات مهم�ش ًا‬ ‫القيرواني والني�سابوري‪ ،‬التي يبدو �أنها‬
‫ن�سبي ًا‪ ،‬من جراء هيمنة الأنماط العثمانية‪،‬‬ ‫ول��دت من جديد بف�ضل فنه!! ففي (م��ا لكم‬
‫ف�إن (ال�شعراني) تبناه ب�إعجاب وجدده �إلى‬ ‫كيف تحكمون) (ال�صافات) و(�سقط الكالم‬
‫جانب باقي الخطوط الرئي�سية‪ ،‬منتج ًا �أعما ًال‬ ‫ان��ت��ه��اك)‪ ،)١٩٩٧( ،‬نالحظ ت�أليف ًا رائع ًا‬
‫تتحلى لوحات‬ ‫بالغة الرونق كتلك الم�شكلة بعبارة خليل‬ ‫ُو�ضعت فيه ب�شكل متوازٍ خطوط الحروف‬
‫الخطاط منير‬ ‫الب�شرية‬ ‫جبران (الأر�ض كلها وطني والعائلة‬ ‫العمودية‪ ،‬في حين تمتد خطوط �أخرى نحو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ال�شعراني بالأناقة‬ ‫ع�شيرتي)‪١٩٩٣( ،‬م و‪٢٠٠٦‬م)‪ ،‬ولوحتي‬ ‫الخلف بزاوية (‪ )٤٥‬درجة بعيداً عن مخطوط‬
‫الفنية والقيم‬ ‫(العارف �صاحب تجريد)‪١٩٩٣( ،‬م)‪ ،‬و(اهلل‬ ‫ال���وراق القيرواني‬
‫ّ‬ ‫م�صحف الخطاط علي‬
‫الإن�سانية‬ ‫جميل يحب الجمال)‪٢٠١١( ،‬م) التي ي�شهد‬ ‫محتفظ ًا بمالمح حروفه في �آن‪� .‬أما الكوفي‬
‫الأ�سلوب المغربي من خاللها نه�ضة منيرة‬ ‫الني�سابوري‪ ،‬ف��ك��أن ال�شعراني ق��د ابتكره‬
‫�ضم الموروث الفار�سي‬ ‫ّ‬ ‫بالفعل‪ .‬ال�شعراني‬ ‫اع��ت��م��اداً على عينات قليلة محفوظة في‬
‫كذلك �إل��ى ف�ضائه الخطي في لوحات (ك ّل‬ ‫ني�سابور و�أنجز به لوحات كثيرة كـ (كن كي�س ًا‬
‫�شيء بع�ض ���ش��يء)‪١٩٩١( ،‬م) و(م��ا خفي‬ ‫فن ال يفيد‬ ‫وكريم ًا وكليم ًا وكتوم ًا)‪ ،‬و(كل ّ‬
‫مثل نف�سك عليك) (‪٢٠٠٦‬م) وغيرهما‪ ،‬كما‬ ‫علم ًا ال يعول عليه) (ابن عربي)‪� ،‬أو (�آفة الر�أي‬
‫�أح ��دث ال��خ��ط ال��دي��وان��ي‪ ،‬العثماني الأ���ص��ل‬ ‫الهوى)‪ ،‬التي تجتمع فيها �أطراف الأحرف في‬
‫يعتبر نف�سه تلميذاً‬ ‫وال����ذي ي��ح��ظ��ى ب��ق��ب��ول ك��ب��ي��ر ف ��ي �ساحة‬ ‫�شكل باقة زهور يربطها قمة �أحدها �إثر فرار‬
‫لأ�ستاذه بدوي‬ ‫الخطاطين والحروفيين‪ ،‬في لوحات متنوعة‬ ‫�أطراف الحروف من �أعلى الإطار‪.‬‬
‫الديراني المحدث‬ ‫مثل (القلب يدرك ما ال يدرك الب�صر) و(�إني‬ ‫وا���س��ت��ن��اداً �إل��ى الم�صاحف المن�سوخة‬
‫حر�صت‬
‫ُ‬ ‫خبير � ّأن الحيا َة و�إن‬
‫ُ‬ ‫بيب‬
‫أعلم وال ّل ُ‬
‫ل ُ‬ ‫بالكوفي ال�شرقي القرمطي‪� ،‬أب ��دع روائ��ع‬
‫في الأ�ساليب‬ ‫يلم في �أ�سفلها المادة‬ ‫من ط��راز (في يمين الف ّنان ينب�ض العالم)‬
‫غرور)‪( ،‬للمتنبي)‪ ،‬التي ّ‬ ‫ُ‬
‫الموروثة‬ ‫يمط الخطوط الم�ستقيمة‬ ‫ّ‬ ‫الخطية‪ ،‬بينما‬ ‫(‪١٩٨٨‬م)‪ ،‬ذات معنى جمالي مح�ض‪� ،‬أو ( وال‬
‫مانح ًا الت�شكيل قوة ب�صرية كبيرة �شددت‬ ‫تزر وازرة وزر �أخرى)‪٢٠٠٦( ،‬م) التي تلتزم‬
‫عليها غزارة النقاط الحمراء المنثورة‪.‬‬ ‫البي�ضوي‬
‫ّ‬ ‫بداية الآي��ة الكريمة (ال) بال�شكل‬
‫وم��ن �أ�شهر م�ساهماته �إح��ي��ا�ؤه للخط‬ ‫للم�صاحف ال�شرقية وترتب باقي الآية ب�شكل‬
‫تركية‬‫ّ‬ ‫(ال�س ْن ُبلي)‪ ،‬الم�ستوحى من ق�ص�ص‬ ‫ُّ‬ ‫وذوق ج��د مختلف‪� .‬إذاً‪ ،‬ت��وج��ه ال�شعراني‬
‫ج��دده��ا‪ ،‬وا�ستخدمها لت�صميم �أغلفة كتب‬ ‫(عك�س التيار‪ ،‬ذاهب ًا �إلى المنبع)‪ ،‬كما و�صفه‬
‫يظل ال�شعراني في‬ ‫ولوحات‪ ،‬مثل تلك المكر�سة لق�صيدة للنابغة‬ ‫يو�سف عبدلكي المذكور �آنف ًا‪ ،‬ي�ؤهل الخطاط‬
‫�صدارة الخط العربي‬ ‫الذبياني و�أخ ��رى ذات معي �صوفي‪ ،‬وهي‬ ‫لتح�ضير الهيئة التراثية للخط �أمام �أب�صارنا‬
‫المعا�صر في منهجه‬ ‫(الخفي في الجلي) (‪١٩٩٥‬م) التي تتموقع‬ ‫واالنقالب عليها ت��واً ُم ْح ِدث ًا متعة جمالية‬
‫الواقع بين الحروفية‬ ‫الرئي�سيتان ب�شكل متواز منفلت ًا‬ ‫ّ‬ ‫الكلمتان‬ ‫�شديدة ل��دى الم�شاهد‪ ،‬تتحول �إل��ى �صدمة‬
‫ط��رف��اه��م��ا م��ن الإط����ار وال��ن��ق��اط ال��ح��م��راء‬ ‫حينما يبتعد الخطاط ع��ن ن��م��اذج التراث‬
‫والمدر�سة العثمانية‬ ‫متراق�صة بال تناظر‪ .‬في هذا ال�سياق‪ ،‬عقب‬ ‫في ت�شكيالت �أخ��رى حديثة تمام ًا‪ ،‬وهو ما‬
‫(ال�شعراني) على ميله �إلى الن�صو�ص ال�صوفية‬ ‫يح�صل في ابتكاراته الم�ستوحاة من الكوفي‬
‫التوحد مع‬ ‫ّ‬ ‫كنت �صوفي ًا بمعنى‬ ‫بقوله‪( :‬ربما ُ‬ ‫المربع ذي المظهر الهند�سي والحا�سوبي �أكثر‬ ‫ّ‬
‫المحبوب‪ ،‬ومحبوبي هنا هو الخط العربي‬ ‫الخطي‪ ،‬مثلما يح�صل في (الحرف ي�سري‬ ‫ّ‬ ‫من‬
‫وربما بمعنى �أن العبارة يمكن �أن تتعدد‬ ‫حيث الق�صد)‪١٩٨٨( ،‬م)‪ ،‬و(التيه يبد أ� منك)‬
‫نجح في �سبر �أغوار‬ ‫قراءاتها‪ ،‬و�أن تنطوي على باطن �أعمق من‬ ‫(‪٢٠٠٠‬م) وغيرهما‪.‬‬
‫الخطوط الأندل�سية‬ ‫الظاهر بكثير) (دم�شق‪٢٠٠٥ ،‬م)‪ .‬لذلك يحلو‬ ‫حب (ال�شعراني) العظيم للخط العربي‪،‬‬
‫التي كانت مهم�شة‬ ‫لل�شعراني العودة �إل��ى حكمة للنفري (ك ّلما‬ ‫الفن‪ ،‬ح ّثاه �أي�ض ًا على‬
‫ور�ؤيته ال�شاملة لهذا ّ‬
‫ات�سعت ال��ر�ؤي��ا �ضاقت ال��ع��ب��ارة) (‪١٩٨٣‬م‬ ‫المغربية التي ال‬
‫ّ‬ ‫أندل�سية‪-‬‬
‫ّ‬ ‫�سبر الخطوط ال‬
‫�إلى حين‬ ‫و‪٢٠٠٥‬م)‪ ،‬التي �شكلها بالخط الثلث‪� ،‬أجل‬ ‫المدونة‬ ‫تتوافق مع قواعد (الخط المن�سوب)‬
‫ّ‬
‫ال��خ��ط��وط عند الخطاطين ال��ع��رب على مر‬ ‫بابن مقلة والتي تملأ مخطوطات ال تح�صى‬
‫التاريخ‪ ،‬لالحتفاء بطاقة ال��ت��راث العربي‬ ‫وزخارف �أجمل الأوابد و�شتى �أنواع التحف‬
‫للتجدد‪ ،‬ولمحاورة �إن�سان اليوم فن ًا وفكراً‪.‬‬ ‫الفنية في الغرب الإ�سالمي‪ .‬وعلى الرغم من‬ ‫ّ‬

‫‪143‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫قراءات‬

‫النقد والنقاد المعا�صرون‬


‫والذي �صدر منه �ست طبعات‪ ،‬ما ي�ؤكد تفرد‬ ‫ب� ��داي� ��ة؛ ي��ذه��ب‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬وهو مجموعة من المقاالت‬ ‫ال ��ك ��ات ��ب �إل�����ى �أن‬
‫النقدية التي ن�شرها الم�ؤلف‪ ،‬وتحتوي‬ ‫نه�ضتنا الأدب ��ي ��ة‬
‫م��ق��االت��ه على ك��ت��اب��ات ت��ت��ن��اول ال��رواي��ة‬ ‫ال���م���ع���ا����ص���رة‪ ،‬ق��د‬
‫التمثيلية العربية‪ ،‬ويقابلها مجموعة رائدة‬ ‫ابتد�أت ت�ؤتي ثمارها‬
‫من الكتابات النقدية مثل‪� :‬أوق��ات الفراغ‬ ‫ف��ي الن�صف الآخ ��ر‬
‫نجالء م�أمون‬
‫للدكتور محمد ح�سين هيكل‪ ،‬ومطالبات‬ ‫من القرن الما�ضي‪،‬‬
‫في الكتب والحياة للأ�ستاذ عبا�س محمود‬ ‫وي��ت��ب��دى ذل ��ك ف��ي �شعر م��ح��م��ود �سامي‬
‫العقاد‪ ،‬وقب�ض الريح للأ�ستاذ عبدالقادر‬ ‫ال��ب��ارودي‪ ،‬وقد مهدت لتلك النه�ضة عدة‬
‫محمد مندور‬
‫المازني‪ ،‬وحديث الإ�صغاء للدكتور طه‬ ‫عوامل‪� ،‬أهمها بعث التراث العربي بف�ضل فن‬
‫ح�سين‪ ،‬ون��م��اذج ب�شرية للدكتور محمد‬ ‫الطباعة الحديثة‪ ،‬الذي وفد �إلى م�صر منذ‬
‫العقاد في العديد من المقاالت‪.‬‬ ‫مندور‪ ..‬ويقابلها كتابات غربية ر�صينة‬ ‫الحملة الفرن�سية‪.‬‬
‫كما ي�ضيف الكاتب �أن �أ�سباب ت�أخر‬ ‫عالمية مثل‪� :‬أحاديث االثنين لناقد فرن�سا‬ ‫كما ي�شير الكاتب �إلى �أهمية كتب النقد‬
‫بع�ض �آداب اللغة العربية قديم ًا كان يرجع‬ ‫الأول �سانت بيفي‪ ،‬ثم انطباعات الم�سرح‬ ‫لل�شيخ ح�سين المر �صفي‪ ،‬والتي تتمثل في‬
‫�إلى الجهل في الممالك العربية في الع�صور‬ ‫للناقد الم�سرحي الفرن�سي الكبير جيل‬ ‫ثالثة كتب هي‪ :‬زهرة الو�سائل‪ ،‬والكلمات‬
‫الأخيرة‪ .‬ومن ثم ف�إن التقدم يكون باالطالع‬ ‫لميز‪ ،‬و�أرب��ع��ون عام ًا في الم�سرح للناقد‬ ‫الثماني‪ ،‬وزه��رة الو�سيلة الأدبية للعلوم‬
‫بما ي�ستحدث في الآداب والعلوم‪ ،‬وكلما كان‬ ‫الفرن�سي فرن�سي�س �سار�س‪ ،‬وفن الم�سرح في‬ ‫العربية‪ ..‬وبها نعتبر ح�سن المر �صفي من‬
‫ال�شاعر �أبعد مرمى و�أ�سمى روح ًا‪ ،‬كان �أغزر‬ ‫هامبورج للناقد الألماني الكبير لي�سنج‪.‬‬ ‫رواد البعث الأدب��ي‪ ،‬والذي عمد �إلى كتابة‬
‫اطالع ًا‪ ،‬فال يقت�صر همه على درا�سة �شيء‬ ‫وي��رى الكاتب �أن المنهج النقدي ال‬ ‫الكثير م��ن الف�صول التي تعنى بدرا�سة‬
‫قليل من هذا الأدب‪ ،‬كما �أن ال�شاعر يحاول‬ ‫يكتفي بالتف�سير والتقييم‪ ،‬بل يمكن له �أن‬ ‫�صناعتي ال�شعر والنثر‪ ،‬ثم الف�صول التي‬
‫�أن يعبر عن العقل الب�شري والنف�س الب�شرية‪،‬‬ ‫ينتهي �إلى خلق �أدبي مبتكر على نحو ما‬ ‫يوازن فيها بين ال�شعراء وك ّتاب النثر‪ ،‬و�أبرز‬
‫فيكون خال�صة زمنه‪.‬‬ ‫ي�ؤكده ميخائيل نعيمة‪.‬‬ ‫�سمات التفوق الأدبي والفني‪.‬‬
‫وي ��ؤك��د الكاتب ف��ي مو�ضع �آخ ��ر‪� ،‬أن‬ ‫وي�ؤكد �أن الفترة التاريخية التي كتب‬ ‫ويذهب الكاتب �إلى �أن ميخائيل نعيمة‬
‫عبا�س محمود العقاد‪ ،‬رجل خ�صب الإنتاج‪،‬‬ ‫فيها ميخائيل نعيمة كتابه (الغربال) قد‬ ‫قد كتب كتابه (الغربال) في النقد الأدبي‪،‬‬
‫�أنفق عمره كله في القراءة والكتابة حتى‬ ‫عمت بمحاوالت تح�س�س الحاجات‪،‬‬
‫�أثرى �أدبنا العربي بعدد �ضخم من الم�ؤلفات‬ ‫التي كان العرب يطلبون فيها الآداب‬
‫التي تربو على ال�سبعين م�ؤلف ًا‪ ،‬من بينها‬ ‫والفنون للحاجة �إلى ت�أكيد الذات‪،‬‬
‫دواوي��ن ال�شعر‪ ،‬وكتب ال�سير‪ ،‬والترجمات‪،‬‬ ‫حيث ك��ان تف ّتح الوعي القومي له‬
‫وم��ج��م��وع��ات م��ن ال��م��ق��االت الثقافية‪،‬‬ ‫ب��ال��غ الأث ��ر ف��ي بحثهم ع��ن ت�أكيد‬
‫والنقدية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬بحيث ي�ستحيل �أن‬ ‫ذواتهم‪.‬‬
‫نلم بكامل هذا الإنتاج في مقال �أو مقاالت‪.‬‬ ‫ويذهب الكاتب �إلى فكرة محورية‬
‫كما يرى الكاتب‪� ،‬أن العقاد من �أولئك‬ ‫م�ؤداها �أن حركة التجديد التي انبثقت‬
‫النفر القليل الذين ي�صح �أن يقال فيهم‪ ،‬مثل‬ ‫في الن�صف الأول من هذا القرن‪ ،‬قد‬
‫ما قيل في المتنبي‪ ،‬ب�أنه قد ملأ الدنيا و�أثار‬ ‫ا�شترك فيها عمالقتنا الثالثة‪� :‬شكري‬
‫ال�صداقات والعداوات‪ ،‬وعا�صر العديد من‬ ‫والمازني والعقاد‪ ،‬بحيث ي�صعب في‬
‫تحد و�صالبة جعلته‬ ‫المعارك الثقافية في ٍّ‬ ‫كثير من الأح��ي��ان �أن نميز ن�صيب‬
‫عمالق النقد والأدب المعا�صرين‪.‬‬ ‫�أحدهما في هذه الحركة من ن�صيب‬
‫كما ي�ؤكد الكاتب‪� ،‬أن يحيى حقي قد‬ ‫زميله‪ ،‬و�إذا كان عبدالرحمن �شكري‬
‫ق�صر نقده عامداً متعمداً‪ ،‬على علم الأ�سلوب‬ ‫قد خلف في ال�شعر تراث ًا �أكبر مما‬
‫الجمالي في اللغة‪ ،‬كما �أنه لم يتبع تاريخ‬ ‫خلف في النقد‪ ،‬فزمال�ؤه ومعا�صروه‬
‫المذاهب الأدبية‪ ،‬مع �أنه قر�أ �أكثر من قراءات‬ ‫يحدثوننا ب�أنه خلف لنا تراث ًا �ضخم ًا‬
‫دكاترة الجامعات‪.‬‬ ‫في النقد الأدبي‪ ،‬وهذا ما ذهب �إليه‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪144‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫المنحى الفل�سفي وتموجات التخاطب مع الآخر‬


‫في «لي�س لي �سواي و� ِ‬
‫أنت»‬
‫لـ (فوزي �صالح)‬
‫تميز‬
‫ن�صو�ص (���ص��ال��ح) ذات منحى ّ‬ ‫ت ��م�� ّث ��ل ع��ن��ون��ة‬
‫بالتكثيف ال�شديد والتماهي اللوني وال�ضوئي‬ ‫المجموعة ال�شعرية‬
‫ور�صانة اللفظ‪ ،‬حيث تظهر لنا كتلة من‬ ‫(ل��ي�����س ل���ي ���س��واي‬
‫فوزي �صالح‬ ‫�دال‪ ،‬وتراكمية المعاني‬ ‫انزياحات اللفظ ال� ّ‬ ‫و�أنت) لل�شاعر فوزي‬
‫المحملة ب�ضربات الده�شة الذهنية والمزج‬ ‫ّ‬ ‫���ص��ال��ح وال�����ص��ادرة‬
‫الن�صف‪ ..‬لي الن�صف)‬ ‫الفكري المحدث المت�صادم بال�ضرورة‬ ‫عن دائرة الثقافة في‬
‫انت�صار عبا�س‬
‫�إنها لغة المنا�صفة بين االثنين (الثعلب‪/‬‬ ‫بقوالب الن�صو�ص التراثية‪ ،‬حيث ي�سعى‬ ‫ال�شارقة‪ ،‬بجملتها‬
‫ابن �آوى)‪ ،‬وما تمثله من البعد االن�شطاري‬ ‫الن�ص لي�سبق الزمن وي��ن��زرع في القادم‬ ‫ال�شعرية النافية‪ ،‬حيث نجد �أداة النفي‬
‫و�أحداث م�ستنكرة حال الأنثى‪ ،‬كيف كانت‬ ‫وي�سبق الما�ضي لما بعد ما وراء الأفق‪..‬‬ ‫الظاهر (لي�س) والتي تحيلنا �إلى الدخول في‬
‫وفي نف�س الآن لم تكن‪ ،‬وذاك الوجع الذي‬ ‫(�أراك ���ش��ارة ال��ب��ق��اء‪ ،‬ف���أن��ت ال��وج��ود‬ ‫�أتون الرف�ض الذاتي والإنكار والجحود بك ّل‬
‫الروح‪ ،‬برغم محاوالت‬ ‫ا�ستوطن في خوابي ّ‬ ‫المخا�صم لل�صمت‬ ‫ما يمثله من قوة داللية‪ ،‬فما بين (�سواي‬
‫ال�شاعر الخا�سرة وت�ضحياته م��ن �أج��ل‬ ‫�أنت الأجنة‬ ‫و�أنت) ونعني بها المتكلم والمخاطب ب�سمة‬
‫الحفاظ على الأ�شياء لكنه كمن يقب�ض على‬ ‫بي�ضاء من نفثات العقد‬ ‫التخ�صي�ص االثنيني‪.‬‬
‫الريح تنفلت منه الأ�شياء وال تعود‪،‬‬ ‫فكوني معي‬ ‫ن�صو�ص المجموعة (‪ )١٤‬ن�ص ًا �شعري ًا‬
‫لج�أ ال�شاعر �إلى المنحى الفل�سفي في‬ ‫وكوني �صراطي �إلى الآتيات الخميلة‬ ‫تفردت بالح�س ال�صوفي‬ ‫من ق�صيدة النثر‪ّ ،‬‬
‫التخاطب مع الآخ��ر‪ ،‬وت�سا�ؤله يحكي لغة‬ ‫فقد تبت منذ عرفتني �شواطئك الناع�سة)‬ ‫وال��ت��وح��د ف��ي الآخ���ر‪ ،‬و�إيقاعها ال�شعري‬
‫الواقع والخيبات التي تكبدها الإن�سان في‬ ‫هنا ال�شاعر يوقد �صيغة المخاطب من‬ ‫الخا�ص بها بمديات الت�أمل الذاتي البحت‪،‬‬
‫حياته‬ ‫خالل ميله الى ا�ستخدام ال�ضمائر المنف�صلة‬ ‫تحولت الى‬ ‫ّ‬ ‫المتجددة فيها قد‬
‫ّ‬ ‫فال�صور‬
‫وتتجلى لغة الرمز والداللة في ت�صوير‬ ‫والمت�صلة‪ ،‬في (�أراك ‪� /‬أنت ‪ /‬كوني معي ‪/‬‬ ‫قيثارة ع�شق م��ت��م� ّ�ردة مناجية مت�أملة‬
‫ال��ح��االت الإن�سانية ف��ي المجتمع‪ ،‬وما‬ ‫كوني �صراطي ‪� /‬شواطئك) ليحدد م�سارات‬ ‫مرتبطة ما�ضوي ًا بروح الحا�ضر والذكريات‬
‫تتعر�ض له من تكميم و�سيل الأ�سئلة التي‬ ‫ويج�س مكامن عاطفته المتقدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خطاباته‬ ‫جيا�شة‬‫الحالمة‪ ..‬لترت�سم نبرة م�شاعر ّ‬
‫الح�س الإن�ساني والحريات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ت�ستحقر‬ ‫لنجد الت�ضمين واالقتبا�س القر�آني لديه‬ ‫وتنق�ش على ماء ر�ؤاه ذاك الحلم الم�شارك‬
‫( انحنيت‪ :‬ماذا يقول �سيدي‬ ‫في (الأجنة ‪ /‬نفثات العقد) ع ّله ي�صل الى‬ ‫نب�ض ًا‪.‬‬
‫�أ�صم �أنت؟‬ ‫مبتغاه بهذا التحديد الت�صاعدي‪.‬‬
‫ال يا �سيدي‪ ..‬ولكن‬ ‫(كلما اقتربت من نهايتي‬
‫لماذا اخترت هذا ال�سبيل؟ )‬ ‫�أخّ رني القطار‬
‫ت�ستنه�ض ال�صور ال�شعرية الم�ضمرة‬ ‫يدخلني �صوت في طهارة البكاء‪:‬‬
‫بالحنين وال��ذك��ري��ات الحلم في �أن يعيد‬ ‫يا �أيها الم�سافر الغريب فاتك القطار‬
‫الما�ضي الجميل‪ ،‬كما كان في البدايات‪،‬‬ ‫فاتك القطار)‬
‫ولكن الحياة تنعطف باتجاه �آخر‪ ،‬فينطفئ‬ ‫وت�شتبك الن�صو�ص مع الحياة بحث ًا‬
‫�سراج هذا الحلم ويبقى ال�س�ؤال معلق ًا لم ال‬ ‫عن الذات والآخ��ر‪ ،‬فكان االغتراب الذهني‬
‫تعود؟‬ ‫والت�شظي النف�سي وال��ح�����ض��ور ال�شعري‬
‫(ال�شارع خال والنافذة العتيقة ت�شدني‬ ‫دل‬‫للق�صائد‪ ،‬وقد امتد خيط فل�سفي عميق ّ‬
‫بالحنين‬ ‫على فهم تق ّلبات الحياة والنا�س‪..‬‬
‫على حوافها انحفرت حكايات ال�صبا)‬ ‫(هم�س الثعلب البن �آوى‪ :‬هذا ف�صل الفراء‬
‫متجدد‪ ،‬تميز‬
‫ّ‬ ‫فوزي �صالح �شاعر مبدع‬ ‫وتموجات الليل‬
‫بالح�س الإن�ساني والفل�سفي‬
‫ّ‬ ‫ب�شعرية مترعة‬ ‫القاب�ض للراكد والحذر‬
‫الت�أملي‪.‬‬ ‫فا�سرح معي يا ابن عمي ولك ال�سد�س‬

‫‪145‬‬ ‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬


‫مقاالت‬
‫كتابات و�أ�شياء‬

‫حكايات عربية‪..‬‬
‫�أ�شياء ال تباع وال ت�شترى‬
‫نواف يون�س‬

‫ال�شام‪ ..‬وهو ما ي�سيء لأهل ال�شام وتجارها‪،‬‬ ‫لديه لحين عودته من زيارة بيت اهلل الحرام‪.‬‬ ‫يبدو �أننا و�سط المتغيرات والتحوالت‬
‫و�إنه لحدث جلل بالن�سبة لنا‪ ..‬ونعمل جميع ًا‬ ‫وتقول لنا الحكاية �إن الرجل عاد بعد‬ ‫التي تجتاح عالمنا المعا�صر‪ ،‬بد�أ البع�ض‬
‫كتجار �أمناء على �أال يحدث ذلك �أبداً‪.‬‬ ‫�شهرين ودخل الدكان و�سلم على �صاحبه‪،‬‬ ‫منا يتخلى تدريجي ًا عن القليل �أو الكثير‬
‫�أم��ا الحكاية الثانية‪ ،‬فقد حدثت معي‬ ‫و�س�أله عن �أمانته‪ ،‬وطالب با�ستردادها‪ ،‬فكر‬ ‫من منظومة القيم‪ ،‬التي كانت تت�سم بها‬
‫�شخ�صي ًا‪ ،‬حيث ���س��اف��رت �إل ��ى ال��ق��اه��رة‪،‬‬ ‫�صاحب الدكان قلي ًال وتمعن بالرجل ملي ًا‪،‬‬ ‫ال�شخ�صية العربية بخ�صو�صية هويتها‬
‫ف��ي رح��ل��ة ع�لاج ط��ارئ��ة‪ ،‬وو���س��ط ت��رددي‬ ‫م�ستف�سراً عن بع�ض الأمور‪ ،‬و�أجابه الرجل‬ ‫ووجودها الإن�ساني‪ ،‬ومن هذه القيم العربية‬
‫على الأط��ب��اء االخت�صا�صيين والم�شافي‪،‬‬ ‫بكل ثقة‪ ،‬فما كان من التاجر �إال �أن ا�ستمهله‬ ‫الإ�سالمية الأ�صيلة والعديدة‪ :‬الكرم والأنجاد‬
‫والقلق الذي ينه�شني من جراء الك�شوفات‬ ‫�صرة‬ ‫ع��دة دقائق‪ ،‬وع��اد بعدها وف��ي ي��ده ّ‬ ‫وال�شجاعة والفرو�سية والأمانة وبالغة اللغة‬
‫والفحو�صات والتحاليل‪ ،‬حدث �أن ن�سيت‬ ‫حمراء بها ثالثة �آالف درهم و�سلمها للرجل‪،‬‬ ‫وعبقرية ال�شعر‪ ،‬وغيرها من القيم التي زينت‬
‫حقيبتي الجلدية اليدوية‪ ،‬في �إحدى �سيارات‬ ‫ف�ضها �أمامه و�أح�صى الدراهم‪ ،‬وقال‬ ‫بعد �أن ّ‬ ‫م�سيرة �إن�سانية ح�ضارية‪� ،‬أتاحت لنا �شرف‬
‫الأج� ��رة‪ ،‬التي كنت �أ�ستقلها ف��ي ذهابي‬ ‫له هذه �أمانتك وقد ردت �إليك‪.‬‬ ‫الوجود في ح�ضرتها‪ ،‬و�أن نفتخر بها ردح ًا‬
‫و�إيابي‪ ،‬وكنت قد و�ضعت فيها كل �أوراقي‬ ‫حمل ال��رج��ل ���ص� ّ�رت��ه ال��ح��م��راء و�شكر‬ ‫من الزمن ومازلنا‪ ،‬برغم كل �صروف الحياة‬
‫الثبوتية‪ ،‬وهاتفي الن ّقال‪ ،‬والكثير من المال‪،‬‬ ‫التاجر �صاحب الدكان‪ ،‬و�سار يتجول في‬ ‫بتقلباتها المادية واالجتماعية القاهرة‪،‬‬
‫الذي تتطلبه حالتي ال�صحية‪ ،‬وما يترتب‬ ‫ال�سوق‪ ،‬لي�شتري منه ما قد يحتاج �إليه‪ ،‬في‬ ‫وك��ث��ي��راً م��ا تطلعنا كتب ال��ت��راث العربي‬
‫عليها من م�صاريف‪ ،‬وهو يفوق كثيراً ما‬ ‫رحلة عودته نحو بالده‪ ،‬وما �إن خطا بعيداً‬ ‫الإ�سالمي‪ ،‬على حكايات تن�ضح بالكثير من‬
‫كان �صديقنا الحاج في حكايتنا التراثية‪،‬‬ ‫بع�ض ال�شيء‪ ،‬حتى فوجئ ب�أحد التجار‬ ‫تلك القيم‪ ،‬التي �أدى تم�سكنا بها �إلى �أن نتبو�أ‬
‫قد و�ضعه ك�أمانة لدى �أحد تجار ال�شام‪.‬‬ ‫من �أ�صحاب الدكاكين في ال�سوق‪ ،‬يناديه‬ ‫م�سيرة الح�ضارة الإن�سانية‪� ،‬إلى جانب ما‬
‫انتابني القلق واال�ضطراب حيال ذلك‪،‬‬ ‫مرحب ًا بعودته �صائح ًا‪ ..‬حج ًا مقبو ًال وذنب ًا‬ ‫جادت به العقول العربية من معارف وعلوم‬
‫وب��د�أت �أ�ضرب �أخما�س ًا ب�أ�سدا�س‪ ،‬و�أت�ساءل‬ ‫مغفوراً‪ ،‬ده�ش الرجل للحظات‪ ..‬وتذكر على‬ ‫واكت�شافات واختراعات‪.‬‬
‫بحيرة عن كيفية ا�ستكمال رحلتي العالجية‪،‬‬ ‫الفور مالمح التاجر‪ ،‬الذي �أدخله �إلى دكانه‬ ‫ومن هذه الحكايات التراثية‪� ،‬أن رج ًال‬
‫مع فقدي لكل ما �أملكه حينها‪ ،‬وقررت العودة‬ ‫و�سلمه �أمانته‪ ..‬التي كان قد �أودعها عنده‪،‬‬ ‫�أتى بالد ال�شام من �أق�صى بالد ال�شرق بق�صد‬
‫�إل��ى منزل ابنتي‪ ،‬بعد �أن وكلت �أم��ري �إلى‬ ‫وهي �صرة حمراء فيها ثالثة �آالف درهم!‬ ‫الحج‪ ،‬وكانت ال��ع��ادة‪� ،‬أن ي�ضع الحجاج‬
‫اهلل‪ ،‬وما كادت ابنتي تفتح لي الباب‪ ،‬حتى‬ ‫وق�ص‬‫ّ‬ ‫وقع الرجل في حيرة من �أم��ره‪،‬‬ ‫�أماناتهم مع �أحد تجار ال�سوق الكبير في‬
‫ب�شرتني ب�أن �سائق �سيارة الأجرة‪ ،‬قد ات�صل‬ ‫على التاجر ما حدث معه مع التاجر الأول‪،‬‬ ‫دم�شق لحين عودتهم‪ ،‬وهو ما فعله الرجل‪� ،‬إذ‬
‫برقمها الم�سجل في هاتفي‪ ،‬ليقول لها �إنه‬ ‫و�سارا مع ًا �إليه‪ ،‬ا�ستقبلهما بحفاوة وك�أن‬ ‫اختار دكان ًا‪ ،‬واتفق مع �صاحبه على و�ضع‬
‫وجد حقيبتي الجلدية‪ ،‬و�سوف ي�أتي لي�سلمها‬ ‫�شيئ ًا لم يكن‪ ،‬فق�صا عليه ما حدث‪ ،‬واعتذر‬ ‫�صرة حمراء بها ثالثة �آالف درهم‪ ،‬ك�أمانة‬ ‫ّ‬
‫لنا‪ ،‬وما �إن فعل ذلك بعد دقائق من و�صولي‪،‬‬ ‫الرجل من التاجر لكونه غريب ًا عن البالد‪،‬‬
‫حتى ب��ادرت��ه بال�شكر‪ ،‬وناولته ج��زءاً من‬ ‫وق��د التب�س عليه الأم��ر‪ ،‬و�أع��اد له ال�صرة‬
‫المال مكاف�أة له‪ ،‬فما كان منه �إال �أن رف�ض‬
‫برغم كل �صروف‬
‫ال��ح��م��راء‪ ..‬م�ستف�سراً منه‪ ،‬كيف فعل ذلك‬
‫رف�ض ًا بات ًا‪� ،‬أن ي�أخذ ثمن ًا لأمانته‪ ،‬قائ ًال لي‪:‬‬ ‫ولماذا؟ وهو على يقين من �أنه لم ي�ضع عنده‬ ‫الحياة بتقلباتها المادية‬
‫�أريدك �أن تتحدث عن �أمانة الم�صريين‪ ،‬ال �أن‬ ‫�أمانته! فرد عليه التاجر بكل ثقة‪ :‬لو �أنني‬ ‫واالجتماعية مازلنا نعي�ش‬
‫تعطيني ما ًال مقاب ًال لها‪ ..‬لأنها من الأ�شياء‬ ‫لم �أعطك �أمانتك كنت �ستذهب �إلى بالدك‪،‬‬ ‫في ح�ضرة القيم العربية‬
‫التي ال تباع وال ت�شترى يا �سيدي!‬ ‫وتقول �إن �أمانتك قد �سرقت منك في بالد‬ ‫الأ�صيلة‬

‫العدد ال�ستون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢١‬‬ ‫‪146‬‬


‫تطبيق مجلة‬

‫مع ًا دائم ًا‪..‬‬


‫• منصات التواصل االجتماعي‬ ‫• موقعنا اإللكتروني‬ ‫• تطبيق الهواتف الذكية‬

‫‪shj_althaqafiya‬‬ ‫تطبيقنا الذكي متوفر على‬


‫‪Alshariqa althaqafiya‬‬
‫‪www.alshariqa-althaqafiya.ae‬‬

You might also like