You are on page 1of 148

‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫ت�صـدر �شـهـري ًا عـن دائرة الثـقافة بال�شارقة‬

‫ال�سنة الرابعة‪-‬العدد الثـامن والأربعـون ‪� -‬أكتـوبر ‪٢٠٢٠‬م‬

‫عبدال�سالم العجيلي‬ ‫من منجزات �سلطان القا�سمي‬


‫مــ�ؤ�ســ�س الــروايــة ال�سـوريــة‬ ‫«�سجـل مكاتبات ال�سلطـان برغـ�ش»‬

‫عـــزيــــز �أبــــاظــــة‬ ‫جوان جان‪ :‬الم�سرح يرتبط‬


‫�شـاعـر كبيـر القـامـة والمقـام‬ ‫بـحـ�ضــارتـــه روحـــيـــ ًا وفــكـريـــ ًا‬

‫الحديقة العربية‬
‫وع�صـر التـقـدم والـرخـاء‬
‫مجالت دائرة الثقافة‬
‫عدد أكتوبر ‪2020‬‬
‫مجلة شهرية تُ ـعنى بالشعر واألدب الشعبي ‪ -‬السنة الثانية ‪ -‬أكتوبر ‪2020‬م ‪ -‬العدد (‪)14‬‬

‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫ت�شـدر �شـهـري ًا عـن دائرة الثـقافة بال�شارقة‬


‫ال�شنة الرابعة‪-‬العدد الثـامن والأربعـون ‪ -‬اأكتـوبر ‪٢٠٢٠‬م‬

‫عبدال�سالم العجيلي‬ ‫من منجزات �سلطان القا�سمي‬


‫مــوؤ�ســ�س الــروايــة ال�سـوريــة‬ ‫«�سجـل مكاتبات ال�سلطـان برغـ�ش»‬

‫ســيــف الــســعــدي‪:‬‬ ‫ســـعـــيـــد بـــــن عــتــيــج‬


‫"لــــــــوال الـــــنـــــدى مــا‬ ‫الــــهــــامــــلــــي‪ ..‬ح ــي ــاة‬
‫ٌ‬
‫العدد (‪ | )278‬أكتوبر ‪2020‬‬
‫عـــزيــــز اأبــــاظــــة‬ ‫جوان جان‪ :‬الم�سرح يرتبط‬
‫طــــاب لـــلـــورد مــنــظــر"‬ ‫وأحداث مثيرة‬ ‫قصيرة‬
‫�سـاعـر كبيـر القـامـة والمقـام‬ ‫بـحـ�ســارتـــه روحـــيـــ ًا وفــكـريـــ ًا‬
‫الــحــمــــــــيـــــنــــــــي ‪..‬‬
‫الشعبــي‬
‫ّ‬ ‫الـيـ َمن‬
‫ـعــر َ‬
‫ِش ُ‬
‫تصدر عن دائرة الـثـقـافـة بالشارقـة‬

‫الحكمة والمساجـــالت‬
‫في ديوان بندر بن سرور‬

‫وقّ ع اأوىل �شهادات ختم احلفظ‬ ‫الحديقة العربية‬


‫حاكم ال�شارقة يتفقد جممع القراآن الكرمي‬ ‫وع�سـر التـقـدم والـرخـاء‬

‫مــــاجــــد الـــنـــعـــيـــمـــي‪ :‬مـــــن رواد‬


‫الـــصـــورة الــشــعــريــة ف ــي اإلمـــــارات‬
‫‪Cover-276-fnal 3.indd 1‬‬ ‫‪9/23/20 12:45 PM‬‬

‫منطقة البطائح‪ ..‬حزمة خدمات تنموية شاملة‬

‫مجلة �شهرية ت�شدر عن دائرة الثقافة بال�شارقة‬


‫الجزيـرة العربيـة‬

‫ال�شنة الثانية ‪ -‬العدد (‪� - )14‬أكتوبر ‪2020‬‬


‫مجلـة شهـريـة ثقـافـيـة تنمويـة تصـدر‬
‫من المنطقة الشـرقية بإمـارة الشـارقـة‬
‫مــوطــن الـشــعــر‬
‫ُ‬
‫«األسر المنتجة»‬
‫السـنـة الثـانيـة‪-‬العـدد الـ (‪ - )13‬أكـتـوبـر ‪2020‬‬
‫العدد (‪ )13‬السنة الثانية ‪ -‬أكتوبر ‪ - 2020‬صـفر ‪ 1442‬هـ‬

‫نشاط مجتمعي‬
‫المنصف المزغني‪:‬‬
‫في مليحة‬ ‫جمـاهيـريـة الشــعــر‬
‫شعاع ثقافي تنموي‬ ‫ال تسـقـط بالتـقـادم‬
‫أبناء الصحراء‬
‫يحصدون ذهبيات‬ ‫تُعنى بال�شعر والأدب العربي‬

‫رثــاء األبــنـــاء‬
‫السباحة‬
‫مجلة شهرية ثقافية تنموية تـصـدر من المنطقة الوسطى بإمارة الشارقة‬

‫قصائد غارقة في األلم‬


‫أفـالج خـورفكان‪ ..‬تنمية‬
‫حـاضــرة وتـراث لـم ينقطـع‬

‫المقناص‪..‬‬
‫نزهة الشتاء وهواية‬
‫البدو والحضر‬

‫حديقة بحيص‬
‫سياحة في الطبيعة والتاريخ‬
‫الجيولوجي للمنطقة‬ ‫كــلــبـــــاء‪ ..‬حــدائــق‬ ‫مكتبة وادي الحلـو‬ ‫تــوزر‪ ..‬أغنيـة الحياة‬ ‫القطاة‪ ..‬استأثرت بقلوب‬
‫ومجالس وميادين جديدة‬ ‫شعاع يمتد عبر الوادي‬
‫ومـديـنــة الشــابــي‬ ‫الـشـعـراء عبــر العـصــور‬

‫‪Cover Wosta-Issue-11 Aug-2020-2.indd 1‬‬ ‫‪9/26/20 9:29 AM‬‬

‫ص‪.‬ب‪ 5119 :‬الشارقة ‪ -‬اإلمارات العربية المتحدة‬


‫براق‪+971 6 5123303 :‬‬
‫ّ‬ ‫هاتف‪+971 6 5123333 :‬‬
‫البريد اإللكتروني‪ - sdc@sdc.gov.ae :‬الموقع اإللكتروني‪www.sdc.gov.ae :‬‬
‫‪sharjahculture‬‬
‫كلمة العدد‬

‫اللغة العربية‬
‫والمحتوى المعرفي الرقمي‬

‫و�سالم ًا‪ ،‬وتلك النافذة التي نطل منها على‬ ‫وال��م��ب��ادرات الثرية التي تتنوع ما بين‬ ‫مازالت ق�ضية �إث��راء المحتوى العربي‬
‫الحياة والعالم‪ ،‬بر�ؤى �إن�سانية وم�سارات‬ ‫الفردية والجماعية‪� ،‬إذ حري بنا االنخراط‬ ‫على «الإنترنت»‪ ،‬مطروحة بقوة على طاولة‬
‫فكرية عميقة‪.‬‬ ‫جميع ًا �أف ��راداً وم�ؤ�س�سات وحكومات في‬ ‫البحث وال��ن��ق��ا���ش‪ ،‬وت�شغل ب��ال الخبراء‬
‫ال يقت�صر �إث��راء المحتوى العربي على‬ ‫تعزيز �صناعة ه��ذ المحتوى وتطويره‪،‬‬ ‫والمخت�صين وال��ق��ادة العرب والدوليين‪،‬‬
‫«الإنترنت» بالتعريب والحو�سبة والترجمة‪،‬‬ ‫و�إثرائه في مختلف العلوم والآداب‪ ،‬من �أجل‬ ‫م��ع ك��ل م��ح��رك بحث وم�����ش��اه��دة �صفحة‬
‫و�إنما ي�شمل بالدرجة الأولى تعزيز المكتبة‬ ‫�صنع ب�صمة خا�صة وح�ضور عالمي للنتاج‬ ‫و�إن�شاء م�شاركة‪ ،‬لما ت�شكله من حاجة‬
‫الإلكترونية‪ ،‬ورفدها بالكتب والمعاجم‬ ‫الثقافي والفكري والعلمي للعرب‪.‬‬ ‫ملحة و�ضرورية في التنمية االقت�صادية‬
‫والمو�سوعات في مختلف المجاالت‪ ،‬ون�شر‬ ‫�شك فيه �أن الوطن العربي ال يفتقر‬ ‫مما ال ّ‬ ‫واالجتماعية وال�صناعية‪ .‬وف��ي ظ��ل ما‬
‫الأبحاث والمقاالت والأطروحات العلمية‪،‬‬ ‫�إلى القدرة والعقل والإرادة والوعي في ن�شر‬ ‫تفر�ضه الثورة الرقمية‪ ،‬التي ي�شهدها العالم‬
‫و�إن�شاء المدونات والمن�صات والمواقع‬ ‫المعرفة الرقمية‪ ،‬والتمكن من الو�صول‬ ‫من ممار�سات جديدة وت��ح��والت حديثة‪،‬‬
‫المتخ�ص�صة‪ ،‬ورفع ال�صور والفيديوهات‬ ‫�إلى المعلومات‪ ،‬وحفظ الأر�شيف الثقافي‬ ‫ت�سهم في �إلغاء الأنماط والنظريات القديمة‪،‬‬
‫المفيدة والهادفة‪ ،‬ف�ض ًال عن رقمنة المجالت‬ ‫والتاريخي العربي‪ ،‬وجعل كل ذلك متاح ًا‬ ‫وتح ّتم التوا�صل بين الح�ضارات الإن�سانية‬
‫وال�صحف‪ ،‬وابتكار التطبيقات والبرامج‬ ‫ب�سهولة وي�سر لكل الباحثين والمهتمين‬ ‫والثقافات المختلفة‪ ،‬وهذا ما تعمل عليه‬
‫التي تعنى بالثقافة والفكر والأدب‪ .‬لكن‬ ‫والمثقفين والقراء في كل مكان‪ ،‬للتعرف �إلى‬ ‫�إمارة ال�شارقة �ضمن م�شروعها الح�ضاري‬
‫في واق��ع الأم��ر‪ ،‬ال يمكن تحقيق ذل��ك �إال‬ ‫�سحر اللغة وجمالها و�سال�ستها ومفرداتها‪،‬‬ ‫منذ �سنوات ممث ًال في دعم التبادل الثقافي‬
‫بدعم حكومي كبير وحقيقي ي�شمل التحفيز‬ ‫وهي ق��ادرة على مناف�سة مختلف اللغات‬ ‫والح�ضاري بين الأمم وال�شعوب‪ ،‬ف�ض ًال عن‬
‫على التعلم واالبتكار والإبداع‪ ،‬ويعمل على‬ ‫العالمية لحيويتها وا�ستيعابها للعلوم‬ ‫�إ�سهاماتها المتنوعة في �سد الفجوة الرقمية‬
‫تحويل الم�ستخدم العربي �إلى منتج و�صانع‬ ‫والمعارف الحديثة‪ ،‬ومواكبتها للتكنولوجيا‬ ‫وتعزيز �صناعة المحتوى ون�شر المعرفة‪.‬‬
‫محتوى‪ ،‬من �أجل تقديم المعلومة الحقيقية‬ ‫والتقدم العلمي‪ ،‬ف�ض ًال عن م�ساهمتها في‬ ‫وبالنظر �إل��ى واق��ع المحتوى الرقمي‬
‫والموثوقة‪.‬‬ ‫�إثراء الثقافة الإن�سانية‪.‬‬ ‫يتبين �أن��ه م��ازال يعاني الكثير‬
‫العربي‪ّ ،‬‬
‫في الأخير يبقى الرهان اليوم على‬ ‫م��ن ح � ّ�ق ال��ل��غ��ة ال��ع��رب��ي��ة‪ ،‬االح��ت��ف��اء‬ ‫من ال�صعوبات والتحديات �إذا ما قورن‬
‫جيل ال�شباب‪ ،‬الذين يحملون على عاتقهم‬ ‫بها والمحافظة عليها و�إيالئها الأهمية‬ ‫ب��ع��دد الم�ستخدمين ال��ع��رب لل�شبكة من‬
‫�أو ًال‪ :‬مهمة تطويع «الإنترنت» وو�سائل‬ ‫الق�صوى‪ ،‬ذلك حفاظ ًا على الهوية و�صون ًا‬ ‫جهة‪ ،‬والمكانة التي تحتلها اللغة العربية‬
‫االت�صال لخدمة اللغة العربية‪ ،‬وتحويل‬ ‫للتراث والح�ضارة‪ ،‬ومن حقها �أي�ض ًا �أن نرفع‬ ‫عالمي ًا من جهة �أخ��رى‪ ،‬وه��ذا ال ينتق�ص‬
‫الثقافة �إل��ى ق��وة رقمية فاعلة ومنتجة‪.‬‬ ‫رايتها في و�سائل التوا�صل االجتماعي‪،‬‬ ‫من كل الجهود المبذولة في هذا المجال‪،‬‬
‫تحول جذري في‬ ‫وثاني ًا‪ :‬م�س�ؤولية �إحداث ّ‬ ‫ونن�شرها ف��ي ك��ل الآف����اق وال��ف�����ض��اءات‬
‫م�سيرة البناء والتقدم‪ ،‬والدخول �إلى عالم‬ ‫الرقمية‪ ،‬والكف عن ا�ستخدام غيرها من‬ ‫مهمة جيل ال�شباب تطويع‬
‫التقنية الحديثة تمهيداً ال�ستعادة العرب‬ ‫اللغات لتكون و�سيلة للتعبير والتوا�صل‬
‫«الإنترنت» لخدمة اللغة‬
‫مكانتهم التاريخية الح�ضارية‪ ،‬و�إبراز وجه‬ ‫والتفاعل‪� ،‬أو �أداة لتحقيق ذاتنا وتطلعاتنا‬
‫الإ�سالم التنويري وانفتاحه على الثقافات‬ ‫و�أحالمنا‪� ،‬إذ � ّإن العربية ذلك الج�سر الذي‬ ‫العربية وتحويل الثقافة‬
‫واللغات الأخرى‪.‬‬ ‫يعبر بنا نحو م�ستقبل �أكثر جما ًال و�أ�صالة‬ ‫�إلى قوة رقمية فاعلة‬

‫‪3‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫رئي�س دائرة الثقافة‬
‫عبد اهلل بن محمد العوي�س‬

‫‪١٢‬‬ ‫مدير التحرير‬


‫نـواف يونـ�س‬

‫هيئة التحرير‬
‫عبد الكريم يون�س‬
‫عـــــزت عـــــمــــــــر‬
‫حــ�ســـــان الـعــبـــد‬
‫عبدالعليم حري�ص‬

‫الت�صميم والإخـراج‬
‫محـمـد �سـمــير‬

‫م�ساعد مخرج‬
‫محـمـد غانم‬

‫الحديقة العربية‬ ‫المحتوى الب�صري والإلكتروني‬


‫محـمـد مح�سن‬
‫نعيم ورخاء‬
‫التوزيع والإعالنات‬
‫ت�صدر �شهري ًا عن دائرة الثقافة ‪ -‬ال�شارقة ‪ -‬الإمارات العربية المتحدة‬ ‫خالد �صديق‬
‫ال�سنة الرابعة‪-‬العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪ ٢٠٢٠‬م‬
‫مراقب الجودة والإنتاج‬
‫�أحمد �سعيد‬

‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫قيمـة اال�شـتـراك ال�سنـوي‬


‫الأ�سعار‬ ‫داخل الإمارات العربية المتحدة‬
‫‪ 400‬لرية �سورية‬ ‫�سوريا‬ ‫‪ 10‬دراهم‬ ‫الإمارات‬ ‫بالربيد‬ ‫الت�سليم املبا�شر‬
‫دوالران‬ ‫لبنان‬ ‫‪ 150‬درهم ًا‬ ‫‪ 100‬درهم‬ ‫الأفراد‬
‫‪ 10‬رياالت‬ ‫ال�سعودية‬
‫ديناران‬ ‫الأردن‬ ‫‪ 170‬درهم ًا‬ ‫‪ 120‬درهم ًا‬ ‫امل�ؤ�س�سات‬
‫ريال‬ ‫عمان‬
‫دوالران‬ ‫اجلزائر‬
‫دينار‬ ‫البحرين‬ ‫خارج الإمارات العربية المتحدة‬
‫‪ 15‬درهم ًا‬ ‫املغرب‬ ‫�شامل ر�سوم الربيد‬
‫‪ ٢٥٠٠‬دينار‬ ‫العراق‬
‫‪ 4‬دنانري‬ ‫تون�س‬ ‫‪ 600‬درهم‬ ‫دول اخلليج‬
‫دينار‬ ‫الكويت‬
‫‪ 3‬جنيهات �إ�سرتلينية‬ ‫اململكة املتحدة‬ ‫‪ 650‬درهم ًا‬ ‫الدول العربية الأخرى‬
‫‪ 4‬يورو‬ ‫دول الإحتاد الأوربي‬ ‫‪ 400‬ريال‬ ‫اليمن‬
‫‪ 280‬يــورو‬ ‫دول االحتاد الأوروبي‬
‫‪ 4‬دوالرات‬ ‫الواليات املتحدة‬ ‫‪ 10‬جنيهات‬ ‫م�صر‬ ‫‪ 300‬دوالر‬ ‫الواليات املتحدة‬
‫‪ 5‬دوالرات‬ ‫كندا و�أ�سرتاليا‬ ‫‪ 20‬جنيه ًا‬ ‫ال�سودان‬ ‫‪ 350‬دوالر ًا‬ ‫كندا و�أ�سرتاليا‬
‫فكر ور�ؤى‬
‫‪٢٢‬‬ ‫التراث الطبي العربي الإ�سالمي‬ ‫‪١٦‬‬
‫ ‬
‫لحظات الإبداع‪ ..‬الأدباء وطقو�س الكتابة‬ ‫‪١٨‬‬
‫ ‬

‫�أمكنة و�شواهد‬
‫مراك�ش‪ ..‬المدينة الحمراء‬
‫ت�ستور‪ ..‬الفردو�س المن�شود في تون�س‬ ‫‪٢٨‬‬
‫ ‬
‫تقع مدينة مراك�ش في جنوبي المغرب‪ ،‬وهي مدينة تاريخية و�سياحية تجلب‬
‫ال�سياح من كل �أنحاء العالم‪...‬‬
‫�سنوي ًا ماليين ّ‬
‫�إبداعات‬
‫�أدبيات‬ ‫‪ ٣٢‬‬
‫د‪.‬العجيلي‪..‬م�ؤ�س�س الرواية‬
‫ال�سورية الحديثة‬
‫‪٤٤‬‬ ‫قا�ص وناقد‬
‫«في ال�صيد»‪ /‬ق�صة مترجمة‬
‫‪٣٦‬‬
‫ ‬
‫‪ ٤٠‬‬
‫العجيلي‪ ،‬ال ��ذي لقب‬‫د‪ .‬عبدال�سالم ُ‬ ‫الق ُْمقُم‪/‬ق�صة ق�صيرة‬ ‫‪٤٢‬‬
‫ ‬
‫ب�أديب الأطباء وطبيب الأدباء‪ ،‬ولد عام‬
‫(‪1918‬م) بمدينة الرقة في �سوريا‪....‬‬
‫�أدب و�أدباء‬
‫�ألي�س مونرو‪� ..‬سيدة الق�صة الق�صيرة المعا�صرة عزيز �أباظة‪..‬‬ ‫‪٥٢‬‬
‫ ‬
‫�إليا�س فركوح‪..‬كتاباته واعية بذاتها‬ ‫‪٦٤‬‬
‫ ‬
‫‪٩٨‬‬ ‫�شاعر كبير القامة والمقام‬
‫ولد عزيز �أباظة ف��ي(‪� 3‬أغ�سط�س عام‬ ‫ف�ؤاد قنديل‪ ..‬روح �شفافة محبة للأدب والفنون‬ ‫‪٧٦‬‬
‫ ‬
‫‪1889‬م) في قرية (الربعماية) التابعة‬ ‫�سهير القلماوي‪ ..‬رائدة و�أ�ستاذة الأجيال‬ ‫‪٩٠‬‬
‫ ‬
‫لمركز منيا القمح بمحافظة ال�شرقية‪...‬‬

‫الإم�����ارات‪��� :‬ش��رك��ة ت ��وزي ��ع‪ ،‬ال��رق��م ال��م��ج��ان��ي ‪8002220‬‬


‫فن‪.‬وتر ‪.‬ري�شة‬
‫وكـالء التوزيع‬
‫ال�����س��ع��ودي��ة‪ :‬ال�����ش��رك��ة ال��وط��ن��ي��ة ل��ل��ت��وزي��ع ‪-‬ال��ري��ا���ض ‪-‬‬ ‫‪� ١١٢‬سالم الدباغ‪ ..‬حرية الر�سم وك�سر قوانينه‬
‫ ‬
‫ه��ات��ف‪ ،٠٠966114871414 :‬الكويت‪ :‬المجموعة الإع�لام��ي��ة العالمية ‪ -‬الكويت‬ ‫‪ ١٢٠‬جوان جان‪ :‬التجريب مرحلة عابرة في الم�سرح‬ ‫ ‬
‫‪ -‬ه� ��ات� ��ف‪� ،0096524826821:‬سلطنة ُعمان‪ :‬المتحدة لخدمة و�سائل الإع�ل�ام ‪-‬‬
‫م�سقط ‪ -‬هاتف‪ ،0096824700895 :‬البحرين‪ :‬م�ؤ�س�سة الأي ��ام للن�شر ‪ -‬المنامة‬ ‫‪� ١٣٤‬شرلوك هولمز المخبر ال�سري العبقري‬
‫ ‬
‫‪ -‬هاتف‪ ،0097317617733 :‬م�صر‪ :‬م�ؤ�س�سة الأه��رام للتوزيع ‪ -‬القاهرة ‪ -‬هاتف‪:‬‬
‫‪ ،0020227704293‬لبنان‪� :‬شركة نعنوع والأوائ����ل ل��ت��وزي��ع ال�صحف ‪ -‬هاتف‪:‬‬ ‫تحت دائرة ال�ضوء‬
‫عمان ‪ -‬هاتف‪،0096265358855 :‬‬ ‫‪ ،009611666314‬الأردن‪ :‬وكالة التوزيع الأردنية ‪ّ -‬‬ ‫‪ ١٣٩‬النه�ضة العربية في الع�صر الحا�ضر‬
‫المغرب‪� :‬سو�شبر�س للتوزيع ‪ -‬ال ��دار البي�ضاء ‪ -‬ه��ات��ف‪،00212522589121 :‬‬
‫تون�س‪ :‬ال�شركة التون�سية لل�صحافة ‪ -‬تون�س ‪ -‬هاتف‪0021671322499 :‬‬ ‫‪� ١٤١‬شعرية الأجنا�س الأدبية في الأدب العربي‬
‫‪ ١٤٤‬الخطاب ال�سينمائي بين �أ�سئلة الفن والحرية‬
‫الإمارات العربية المتحدة ‪-‬ال�شارقة ‪ -‬الل ّية ‪-‬دائرة الثقافة‬ ‫عناوين المجلة‪:‬‬
‫براق‪+97165123303 :‬‬ ‫هاتف‪ّ +97165123333 :‬‬ ‫�ص ب‪ 5119 :‬ال�شارقة‬ ‫‪ ١٤٥‬د‪ .‬محمد �أبو ال�سعود الخياري واتجاهات ال�سرد‬
‫‪www.alshariqa-althaqafiya.ae‬‬ ‫‪shj.althaqafiya@gmail.com‬‬

‫التوزيع والإعالنات‬ ‫ر�سوم العدد للفنانين‪:‬‬


‫‪k.siddig@sdc.gov.ae‬‬ ‫براق‪+97165123259 :‬‬
‫هاتف‪ّ +٩٧١٦٥١٢٣٢٦٣ :‬‬ ‫د‪ .‬جهاد العامري‬ ‫نبيل ال�سنباطي‬
‫¯ترتيب ن�شر المواد وفق ًا لـ�ضرورات فـنية‪.‬‬ ‫مهاب لبيب‬ ‫جمال عقل‬
‫¯ المقاالت المن�شـورة تعبر عن �آراء �أ�صحابهـا وال تعبر بال�ضرورة عن ر�أي المجلة‪.‬‬
‫¯المجلة غير ملزمـة ب�إعادة �أي مادة تتلقاها للن�شر �سواء ن�شرت �أم لـم تن�شر‪.‬‬
‫¯ حـقوق ن�شر ال�صور والمو�ضوعات الخا�صة محفوظة للمجلة‪.‬‬
‫توزع في جميع �إمارات ومدن الدولة‬
‫¯ال تقبل المواد المن�شورة في ال�صحف والمجالت والمواقع الإلكترونية‪.‬‬ ‫لال�ستفـ�سـار الـرقـم المجـاني‪8002220 :‬‬
‫«�سجل مكاتبات ال�سلطان برغ�ش»‬
‫من منجزات �سلطان القا�سمي‬
‫وم�ؤلفاته البحثية المعرفية‬
‫كتاب جديد ل�صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي‪،‬‬
‫ع�ضو المجل�س الأع��ل��ى حاكم ال�شارقة‪ ،‬موا�ص ًال م�شروعه الت�أريخي‬
‫للمنطقة وج��واره��ا من ب�لاد ام��ت��ازت بعالقاتها مع الإم���ارات منذ عهود‬
‫بعيدة‪ ،‬في نمط من التفاعل الح�ضاري والثقافي‪ ،‬بالرغم من �صعوبات‬
‫التوا�صل ف��ي حينه‪ ،‬لي�أتي ه��ذا الكتاب م��ع��زز ًا لوجهة نظر �س ّموه في‬
‫عزت عمر‬
‫�أن منطقة الخليج ال��ع��رب��ي ه��ي ب�� ّواب��ة ال�����ش��رق الرئي�سية‪ ،‬وتاريخها‬
‫�أ�شبه م��ا ي��ك��ون ت��اري��خ�� ًا واح����داً‪ ،‬ت�شابهت فيها الم�صائر وت ّ‬
‫��وح��دت الآم���ال والم�شاعر‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪6‬‬


‫�أفق‬

‫ل�سموه كتب ًا تاريخية و�إبداعية‬ ‫ّ‬ ‫وكنا قر�أنا‬


‫ع��دي��دة د�أب ف��ي��ه��ا ع��ل��ى ت��ن��اول الأح����داث‬
‫وال�صراعات المختلفة‪ ،‬بما في ذلك الوجود‬
‫المهمة‬
‫ّ‬ ‫البرتغالي والإنجليزي‪ ،‬كما في روايته‬
‫يعزز ر�ؤية تاريخية‬ ‫(بيبي فاطمة و�أبناء الملك) التي عاين فيها‬
‫و�سو�سيوثقافية من‬ ‫النفوذ البرتغالي في جزيرة هرمز‪ ،‬معتمداً في‬
‫�أن منطقة الخليج‬ ‫بناء الرواية على الوثيقة التاريخية المو ّثقة‪،‬‬
‫وكما في روايته ال�شهيرة (ال�شيخ الأبي�ض)‪،‬‬
‫العربي بوابة ال�شرق‬ ‫ف�ض ًال عن م�سرحياته التاريخية‪( :‬الواقع �صورة‬
‫الرئي�سية‬ ‫الجبار)‪� ،‬إلى‬
‫طبق الأ�صل‪ ،‬النمرود‪ ،‬و�شم�شون ّ‬
‫جانب كتاباته في مجالي ال�سيرة الذاتية‬
‫و�سيرة المكان‪� ،‬إ�ضافة �إلى منجزه الكبير وكتبه‬
‫في البحث التاريخي‪.‬‬
‫في هذا الكتاب المو�سوم بـ(�سجِ ّل مكاتبات‬
‫ير�صد البعد‬ ‫ال�سلطان برغ�ش �سلطان زنجبار)‪ .‬نلتم�سه‬
‫التاريخي للمنطقة‬ ‫محقق ًا ر�صين ًا في هذا المجال البحثي �أي�ض ًا‪،‬‬
‫وتحقيق الكتب المخطوطة قديم ًا معروف لدى‬
‫وتفاعلها الح�ضاري‬ ‫كافة الباحثين‪� ،‬إنه عمل �صعب و�شاق يتطلب‬
‫الثقافي‬ ‫مهارات عديدة �أهمها‪ :‬ثقافة المحقق ودربته‬
‫في ق��راءة الخطوط‪ ،‬وط��رائ��ق ر�سم الحروف‬
‫والم�صطلحات المعتمدة م��ن قبل النا�سخ‪،‬‬
‫ف�ض ًال عما تحتويه ال��ه��وام�����ش‪ ،‬واع��ت��م��اده‬
‫الم�صادر والمراجع المو ّثقة‪،‬‬
‫وغيرها مما يلزم تقديم‬
‫المخطوطة كما لو �أنها‬
‫كتبت بيد م�ؤ ّلفها‪.‬‬
‫ه��ن��ا مجموعة من‬
‫الر�سائل كتبها ال�سلطان‬
‫برغ�ش �سلطان زنجبار‪،‬‬
‫عثر عليها ���س��م� ّ�وه في‬
‫مخطوط ب��دار الوثائق‬
‫الم�صرية بالقاهرة‪ ،‬وفي‬
‫�سموه‬
‫ه��ذا ال�صدد ق��ال ّ‬
‫في مقدمة الكتاب‪( :‬في‬
‫قمت‬
‫ُ‬ ‫ع ��ام (‪2012‬م)‬
‫بن�شر ر�سائل ل�سالطين‬
‫زن��ج��ب��ار‪ ،‬ق��د جمعتها‬
‫من المكتبة البريطانية‪،‬‬
‫وهي في �صورة ر�سائل‬
‫واردة و�أخ��رى �صادرة‬
‫ل�سالطين زنجبار‪ ،‬بعد‬
‫تحقيقها‪ ،‬وك��ان��ت من‬
‫�ضمن ت��ل��ك ال��ر���س��ائ��ل‪،‬‬
‫ر������س�����ائ�����ل خ ��ا� ��ص ��ة‬
‫غالف الكتاب‬

‫‪7‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫تحقيق الكتب‬
‫المخطوطة قديم ًا‬
‫عمل �صعب و�شاق‬
‫يتطلب ثقافة‬
‫معرفية متخ�ص�صة‬
‫في مجال البحث‬

‫�صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي‬

‫(خط للوالي حمد بن �سعيد جواب والعر�ضة‬ ‫بال�سلطان برغ�ش‪ ،‬وهي الر�سائل المتبادلة بين‬
‫التي هي من نمبر (رقم) (‪� 48‬إلى ‪ )51‬و�صلت‬ ‫ال�سلطان برغ�ش والم�س�ؤولين البريطانيين)‪.‬‬
‫يحتوي الكتاب‬ ‫حمل قرنف ًال‬
‫وذكرت �أن وكيل �أهل بيت زيرام‪َ ،‬‬ ‫�أم��ا (�سجل مكاتبات ال�سلطان برغ�ش)‪،‬‬
‫على معلومات مهمة‬ ‫من بندر موجازة (ميناء) وهذا البندر متعلق‬ ‫فهي خا�صة بال�ش�أن الداخلي‪ ،‬وقد تم الت�سجيل‬
‫وتفا�صيل الحياة‬ ‫ببندر ك�شكا�ش (ميناء) لكنه كلفكم على الكتابة‬ ‫فيها على الطريقة الغربية‪ ،‬حيث يتم ت�سجيل‬
‫اليومية ونظام‬ ‫لأج��ل م��راده ي��درك (يلحق) الميل (ال�سفينة‬ ‫محتويات الر�سائل ف��ي ال�سجل‪ ،‬و�إذا غاب‬
‫التجارية)‪ ،‬ففي الما�ضي ما من خالف وفي‬ ‫الم�س�ؤول عن ال�سجل يقوم ال�سلطان برغ�ش‬
‫التفكير والثقافة‬ ‫المقبل كل �أحد (واحد) ي�أخذ �شيء من البندر‬ ‫بت�سجيل تلك المكاتبات بخطه‪ .‬و�إذ يتط ّلب‬
‫ال�سائدة‬ ‫الذي حمل منه �أو مح�سوب على �أحد من الذي‬ ‫�سموه ب�شخ�صية‬
‫التحقيق نبذة �سيرية يعرفنا ّ‬
‫يكتبوا ال�شتاتي (جمع �شتي‪ ،‬كلمة هندية بمعنى‬ ‫ال�سلطان برغ�ش‪ ،‬وثقافته التي ت��ب� ّ�دت من‬
‫و�صل) حتى ال ي�صبح �إ�شكال في �شيء من‬ ‫هذه المكاتبات فيقول‪( :‬وبدرا�سة �سجل تلك‬
‫الغر�ض والنمبر الذي كتبته لأهل بيت زيرام‬ ‫تتبين لنا �شخ�صية ال�سلطان برغ�ش‪،‬‬
‫المكاتبات ّ‬
‫هو نمبر (‪ ،)48‬وقد و�صل نمبر (‪ )48‬قبله‪ ،‬لكن‬ ‫فقد كان مثقف ًا يطلب ال�صحف الأجنبية والكتب‬
‫القيمة)‪ .‬وف��ي ه��ذا ال�صدد يمكننا‬ ‫العربية ّ‬
‫الت�أكيد �أن الغاية ال�سامية والمقا�صد النبيلة‬
‫المهمة‬
‫ّ‬ ‫�سموه �إلى تقديم هذه المعلومات‬
‫دفعتا ّ‬
‫وتفا�صيل الحياة اليومية‪ ،‬لأجل الباحثين في‬
‫المجاالت التاريخية وال�سو�سيوثقافية‪ ،‬في‬
‫مجالي العالقات االجتماعية ونظام التفكير‬
‫والثقافة ال�سائدة‪ ،‬ف�ض ًال عن درا�سة الفولكلور‬
‫ال�شعبي والتقاليد المعتادة في المنا�سبات‬
‫والأعياد ومختلف �أنماط ال�سلوك‪ ،‬وفي ذلك قال‬
‫�سموه‪( :‬قمت بتحقيق تلك المكاتبات؛ لينتفع‬ ‫ّ‬
‫بها الدار�سون والباحثون في ق�ضايا �شرق‬
‫�إفريقيا)‪ .‬فثمة في هذه الر�سائل �صورة عن‬
‫عالقة ال�سلطان بوالته في الواليات المختلفة‪،‬‬
‫و�صورة عن �أنماط العي�ش في ذلك الزمان‪ ،‬كما‬
‫في الر�سالة الآتية‪:‬‬
‫زنجبار قديم ًا‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪8‬‬


‫�أفق‬

‫ونحن �إذ انتخبنا‬ ‫الآن ال تغيره اتركه على ما كتبت‪ ،‬و�إن كان‬
‫ب��ع�����ض ال ��ر� ��س ��ائ ��ل‪،‬‬ ‫متكرر فما من خالف وما ذكرته عن الجح‬
‫�إن����م����ا ل ��ك ��ي ي� ّ�ط��ل��ع‬ ‫(البطيخ الأحمر) فهمناه ومع ن�ضاجه نرجو‬
‫ال��ق��ارئ على �أ�سلوب‬ ‫�إن �شاء اهلل‪ ،‬ووا�صلك بذر بطيخ ازرعه‪ ،‬لكن ال‬
‫الر�سائل والمكاتبات‬ ‫يكون في مكان واحد ازرعوه في �أمكنة متفرقة‬
‫ال�سلطانية في حينه‪،‬‬ ‫واترك �أحداً (واحد) من الخدام يعاينه ونوخذا‬
‫ب��م��ا ف ��ي ذل���ك اللغة‬ ‫(ربان) �أهل بيت زيرام �أر�سله �إلينا وال�سالم)‪.‬‬
‫عبرت‬ ‫العربية ال��ت��ي ّ‬ ‫(‪� 13‬شوال ‪.)1296‬‬
‫بب�ساطة عن المطلوب‪،‬‬ ‫وفي ر�سالة ثانية يقول‪( :‬خط �إلى �سعيد‬
‫م����ع � ��ش ��ي ��وع ب��ع�����ض‬ ‫بن �سيف ال�سهيبي كتابك ال�شريف الم�ؤرخ‬
‫المفردات الإنجليزية‬ ‫(‪ 12‬رم�ضان �سنة ‪ )1295‬و�صل وفهم محبك‬
‫والفار�سية والهندية‪،‬‬ ‫ما ذكرت من طرف الطلب‪ ،‬الذي عليك لل�شيخ‬
‫ال��ن��اج��م��ة بطبيعة‬ ‫علي بن عي�سى‪ ،‬ذكرت �أنك مع تاريخ كتابك ما‬
‫ال���ح���ال ع���ن عملية‬ ‫عندك عاج‪ ،‬والذي كان معك �أر�سلته لتتعو�ض‬
‫ال��ت��ث��اق��ف وال��ت��ف��اع��ل‬ ‫(يتعو�ض‪ :‬ي�أخذ البدل) به وقد و�صلك العو�ض‪،‬‬
‫بين الثقافات‪ ،‬كما هو‬ ‫ومن تلك المدة �إلى الآن ال و�صله منك �شيء‪،‬‬
‫�شائع من م�صطلحات‬ ‫ف�أر�سل له الذي حا�صل معك‪ ،‬وبعد مدة �أر�سل‬
‫و�أل��ف��اظ �أجنبية‪ ،‬وقد‬ ‫ل��ه غ��ي��ره‪ ،‬فعلى ه��ذا الترتيب لتخال�ص عن‬
‫�سموه بترجمتها‬ ‫ّ‬ ‫قام‬ ‫نف�سك و�أما كونك �أنت في المونري (ا�سم بلد)‬
‫وت���ق���دي���م م��ق��اب��ل��ه��ا‬ ‫وال��ذي يطالبك في زنجبار‪ ،‬وتعرفنا �أن��ه له‬
‫العربي‪ ،‬من مثل (بندر‪:‬‬ ‫باب ير�ضيه وال من ذلك عمل فال يمكن ذلك‪،‬‬
‫ميناء) و(نمبر‪ :‬رقم)‪،‬‬ ‫وما ذكرته �أن ي�أخذ علي بن عي�سى �أمالكك من‬
‫وم ��ن ال��ل��غ��ة المحلية‬ ‫زنجبار‪ ،‬ي�ستغلها فذلك غير ممكن‪ ،‬ال �سيما �أنك‬
‫ال�سلطان برغ�ش �سلطان زنجبار‬ ‫و�����ض����ح م��ف��ردات��ه��ا‬ ‫ّ‬ ‫تريد من الغلة ما يقيم والدتك و�أوالدك ف�أي غلة‬
‫وم�صطلحاتها من مثل‪( :‬العري�ضة‪ :‬الورقة‬ ‫في زنجبار الآن‪ ،‬تكفي لمقابلة هذا من وفاء‬
‫المعرو�ض عليها الحال)‪ ،‬و(الفري�ضة‪ :‬المرتب)‪،‬‬ ‫دينك وقيام �أهلك‪ ،‬فافعل له ترتيب ب�إر�سال‬
‫�سموه ب ��إدراج �صور الر�سائل‬
‫و�إل��ى ذلك قام ّ‬ ‫عاجا كما ذكرنا لك في هذا الخط وال�سالم)‪.‬‬
‫المخطوطة باليد‪ ،‬وف��ي ال�صفحة المقابلة‬ ‫(‪� 13‬شوال ‪.)1296‬‬
‫يبرز الكتاب �صورة‬ ‫الن�ص المحقق بك ّل ما يتطلبه من �شروحات‬ ‫ّ‬ ‫ومما ج��اء في ر�سالة �أخ ��رى‪( :‬خ��ط �إلى‬
‫من عالقة ال�سلطان‬ ‫في الهوام�ش �أ�سفل ك ّل �صفحة‪ ،‬كما هو متداول‬ ‫محمد ب��ن جمعة وم�سعود ب��ن �سيف ج��واب‬
‫�أكاديمي ًا‪ ،‬مع الإ�شارة �إلى �أن بع�ض الر�سائل‬ ‫وعر�ضه الجمادار عن ع�سكره �أنهم (‪ )43‬نفر ًا‬
‫بواليته و�أنماط‬ ‫كتبت بيد ال�سلطان نف�سه عندما يغيب كاتبه‬ ‫نظرناها وهو ينكر ذلك ويقول �إن ربعه (‪)48‬‬
‫العي�ش في ذلك‬ ‫ل�سبب �أو لآخر‪.‬‬ ‫نفراً وحمود بن �سالم الجرادي يعطيه فري�ضة‬
‫الزمن‬ ‫كتاب تط ّلب جهوداً كبيرة ليو�ضع بين‬ ‫رجلين ليكونوا الجميع (‪ )49‬نفراً و(‪� )3‬أنفار‬
‫يدي الباحث والدار�س فيقر�ؤه ب�سهولة وي�سر‪.‬‬ ‫�أ�سقطهم عن قوله لزيادة ربعه بزعمه �أن جملة‬
‫جهد �صاحب ال�سمو في تحقيقه لين�ضم �إلى‬ ‫فراي�ضهم زائدة والعر�ضة التي كتبها ب�أ�سماء‬
‫منجزاته وم�ؤلفاته الثقافية والفكرية الإبداعية‬ ‫ربعه وا�صلة �إليكم انظر ه�ؤالء الذينهم (الذين‬
‫والبحثية والمعرفية خالل خم�سين عام ًا‪.‬‬ ‫هم) في العر�ضة (العري�ضة) (الورقة المعرو�ض‬
‫عليها الحال) موجودين �أم ال و�صرحوا لنا كل‬
‫ال�سلطان برغ�ش بن �سعيد �آل بو�سعيد‪ ،‬ال�سلطان الثاني لزنجبار بعد �أخيه ماجد بن‬ ‫واحد بفري�ضته (الفري�ضة‪ :‬المرتب) و�إذا كان‬
‫�سعيد‪ ،‬وهو االبن ال�سابع لل�سلطان �سعيد بن �سلطان‪ ،‬ولد عام (‪1252‬هـ‪1837 -‬م)‪،‬‬ ‫�أحد في الع�سكر ي�صلح يكون عقيداً (رئي�س على‬
‫وتوفي يوم الخمي�س (‪ 14‬رجب ‪1305‬هـ‪ 26 -‬مار�س‪�/‬آذار ‪1888‬م)‪.‬‬ ‫ع�سكر محليين) عو�ضه فكذلك عرفونا‪ ،‬لأننا �إن‬
‫(�سجِ ّل مكاتبات ال�سلطان برغ�ش �سلطان زنجبار)‬ ‫كان ال عنده �إال (‪ )43‬نفراً كما في العر�ضة التي‬
‫ومنها ما هو بخطه (‪1296‬هـ‪1878-‬م)‪-‬تحقيق الدكتور �سلطان بن محمد‬ ‫�أر�سلتموها‪ ،‬فلتعزله ونرجو الجواب �سريع ًا‬
‫القا�سمي‪ -‬من�شورات القا�سمي ال�شارقة ‪.2020‬‬ ‫وال�سالم)‪� 15( .‬شوال ‪.)1296‬‬

‫‪9‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫القوى الناعمة‬
‫والواقع الدولي‬ ‫د‪ .‬محمد �صابر عرب‬

‫العناية بالقوى الناعمة باعتبارها الو�سيلة‬ ‫و�سط كل هذه العقبات والم�شاكل الإقليمية‬
‫العملية ل��م��واج��ه��ة ال��م��وج��ات ال��ع��ات��ي��ة من‬ ‫والدولية‪ ،‬التي �أدخلت العالم في �أتون �أزمات‪،‬‬
‫الجمود والتخلف‪ .‬الأمر جد خطير‪ ،‬حينما لم‬ ‫بدت م�ستع�صية على الحل‪ ،‬لدرجة �أن العالم‬
‫يلتفت وا�ضعو ال�سيا�سات التنموية في عالمنا‬ ‫برمته‪� ،‬أ�صبح على درج��ة عالية من التوتر‪،‬‬
‫الإ�سالمي �إلى العناية بهذه الطاقة الإن�سانية‬ ‫بعد �أن تعقدت الكثير من الق�ضايا ال�سيا�سية‬
‫الهائلة بمعناها الإن�ساني والمدني‪ ،‬والتي‬ ‫واالقت�صادية واالجتماعية‪ ،‬التي راحت تهدد‬
‫تجاوزت كثيراً الأدب وال�شعر والفن‪ ،‬وت�ستحق‬ ‫الح�ضارة الإن�سانية المعا�صرة‪ ،‬ولم تعد دولة‬
‫ه��ذه الق�ضية �أن ت��ك��ون نمط ًا للحياة بكل‬ ‫واح ��دة‪ ،‬مهما عظم �ش�أنها بمن�أى عن هذه‬
‫الإن�سان هو �صانع‬ ‫مفرداتها‪.‬‬ ‫المخاطر‪.‬‬
‫اختلف المثقفون وعلماء الأنثروبولوجيا‬ ‫�إذا كان الإن�سان هو �صانع هذه الح�ضارة‪،‬‬
‫الح�ضارة التي قطعت‬
‫حول و�ضع تعريف دقيق للقوى الناعمة‪ ،‬بقدر‬ ‫التي قطع فيها الإن�سان �شوط ًا كبيراً للغاية في‬
‫�شوط ًا كبيراً في �شتى‬ ‫اختالفهم حول مفهوم الثقافة‪ ،‬وهي تعريفات‬ ‫كافة المجاالت العلمية والتكنولوجية‪ ،‬لكن‬
‫المجاالت العلمية‬ ‫لم تختلف كثيراً عن المعاني العامة التي‬ ‫دو ًال �أخرى تعثرت لأ�سباب ال تخفى على �أحد‪،‬‬
‫والتكنولوجية‬ ‫تقترب من �صلب الق�ضية‪ ،‬برغم تباين كل هذه‬ ‫لعل من �أهمها افتقاد ثقافة الوعي بمعناها‬
‫االختالفات ما بين الثقافة والقوى الناعمة‬ ‫العلمي والفكري‪ ،‬في غيبة منظومة متكاملة‬
‫التي ُتعنى بفكر الإن�سان وتعليمه واندماجه‬ ‫للتعليم‪ ،‬وال �أق�صد التعليم بمعناه التقني‬
‫في مجتمعه لكي يكون �أداة بناء ومعرفة‪ ،‬بد ًال‬ ‫والفني فقط‪ ،‬بل التعليم باعتباره نمط حياة‬
‫من �أن يكون �أداة للهدم والفو�ضى‪ .‬ويعتقد‬ ‫قوامها العقل‪ ،‬الذي انحرف ببع�ضهم لدرجة‬
‫بع�ضهم �أن القوى الناعمة‪ ،‬ج��اءت كرد فعل‬ ‫ا�ستباحة دماء المخالفين‪ ،‬وهي ق�ضية حار‬
‫لل�سيا�سات الخ�شنة في مجال العالقات الدولية‪،‬‬ ‫العالم في احتوائها‪ ،‬ولم تعد الإجراءات الأمنية‬
‫وهو مفهوم يتجاوز كثيراً المعنى الحقيقي‬ ‫كافية الحتواء هذا العنف‪ ،‬الذي يتخذ من الدين‬
‫للقوى الناعمة‪ ،‬التي تنتجها ال�شعوب من خالل‬ ‫مرجعية لممار�ساته‪.‬‬
‫برامجها التعليمية والثقافية واالجتماعية‪،‬‬ ‫�أعتقد �أن طوق النجاة في كل ما تعانيه‬
‫بهدف بناء الإن�سان ب�صرف النظر عن توظيف‬ ‫الب�شرية‪ ،‬وخ�صو�ص ًا في عالمنا الإ�سالمي‪ ،‬هو‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪10‬‬


‫�أ�سئلة‬

‫اعتمدت �أوروبا على هذه الأفكار والإبداعات‬ ‫هذا الم�صطلح في العالقات الدولية‪ ،‬وقد بالغ‬
‫في برامجها التنموية‪ ،‬وهي �سيا�سات �أ�س�ست‬ ‫بع�ضهم لدرجة القول �إن هذا الم�صطلح ظهر‬
‫لنه�ضات �أوروبية �شارك فيها المجتمع بكل‬ ‫كرد فعل لتراجع الت�أييد العالمي للقوة العظمى‪،‬‬
‫فئاته‪ ،‬لكي ت�صل �إلى قمة مجدها مع نهايات‬ ‫عقب الحروب التي خا�ضتها في �أماكن كثيرة‬
‫بع�ض الدول تعثرت‬ ‫القرن الثامن ع�شر‪.‬‬ ‫من العالم‪.‬‬
‫ب�سبب افتقادها‬ ‫لم تعد عنا�صر القوى الناعمة كما كانت في‬ ‫يقول بع�ضهم ب�أهمية القوى الناعمة في‬
‫ثقافة الوعي‬ ‫القرون الما�ضية‪ ،‬بل كان للطفرة الهائلة التي‬ ‫العالقات الدولية‪ ،‬كل ذلك �صحيح‪ ،‬لكن المعنى‬
‫�أحدثتها تكنولوجيا المعلومات‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫الحقيقي لهذه القوى ناجم عن �سيا�سات داخلية‬
‫بمعناها العلمي‬ ‫فيما يتعلق ب�سهولة التوا�صل االجتماعي‪،‬‬ ‫لكل دولة‪ ،‬بهدف العناية بالإن�سان في تعليمه‬
‫والفكري‬ ‫�أكبر الأث��ر في �شيوع �أنماط جديدة للثقافة‪،‬‬ ‫ووعيه وثقافته وتطوير نمط حياته لكي يكون‬
‫اخترقت الحدود الإقليمية والجغرافية‪ ،‬في ظل‬ ‫الإن�سان �إن�سان ًا بالمعنى الحقيقي مثقف ًا‬
‫موجة عاتية من و�سائل التوا�صل االجتماعي‬ ‫و�سيا�سي ًا‪ ،‬متذوق ًا للفنون والعمارة‪ ،‬محترم ًا‬
‫التي ا�ستهدفت ال��ر�أي العام العالمي في �أية‬ ‫للقانون‪ ،‬منفتح ًا على الثقافات الأجنبية‬
‫بقعة من العالم‪ ،‬ب�صرف النظر عن خ�صائ�صه‬ ‫القديم منها والحديث‪.‬‬
‫االجتماعية والثقافية‪ ،‬وه��ي ب��رام��ج بقدر‬ ‫الق�ضية بهذا المعنى تتعلق ببرامج الدول‬
‫�أهميتها �إال �أنها �أحدثت �أثراً �سلبي ًا في كثير من‬ ‫و�سيا�ساتها في �إدارة برامجها التنموية‪،‬‬
‫دول العالم الثالث‪.‬‬ ‫�صحيح �أن بع�ض ال��دول الكبرى تعمل على‬
‫تبدو �أهمية القوى‬ ‫�إذا كنا لم ن�صل بعد �إل��ى تعريف دقيق‬ ‫ت��وظ��ي��ف ال��ق��وى ال��ن��اع��م��ة ف��ي �سيا�ساتها‬
‫الناعمة ومعناها‬ ‫لمفهوم الثقافة �أو مفهوم القوى الناعمة‪ ،‬فان‬ ‫الخارجية‪ ،‬كالمنح الدرا�سية والتدريبية التي‬
‫متمثلة في العناية‬ ‫الأم��ر يتجاوز كثيراً التعريفات‪ ،‬لكي ن�صل‬ ‫تقدمها الحكومات في دول العالم المتقدم‬
‫�إلى الحقيقة‪ ،‬وهي �أن دول العالم الثالث‪� ،‬إذا‬ ‫�إلى �شباب العالم الثالث‪ ،‬لكن تبقى الق�ضية‬
‫بالإن�سان وتعليمه‬ ‫لم تتنبه �إلى �أهمية التعامل مع هذا الفي�ض‬ ‫في بعدها الثقافي ق�ضية محلية ناجمة عن‬
‫ووعيه وثقافته‬ ‫المتدفق من المعلومات ف�إنها تكون قد وقعت‬ ‫�سيا�سات محلية لكل دول��ة‪ ،‬وه��و ما يف�سر‬
‫منفتح ًا على كل‬ ‫في خط�أ كبير‪ ،‬فعليها العناية بتعليم �أبنائها‬ ‫نجاحات بع�ض الدول في التنمية و�إخفاقات‬
‫الثقافات‬ ‫وتثقيفهم وتح�صينهم من الوافد الذي ال يفيد‬ ‫بع�ضها الآخر‪ ،‬وهي الدول التي لم تعن بهذه‬
‫في �أح��ي��ان كثيرة‪ ،‬وق��د ُيحدث ���ض��رراً بالغ ًا‬ ‫ال��ب��رام��ج ال��ت��ي ت�ستهدف ال��وج��دان وال��وع��ي‬
‫بالثقافات وقيم وعقائد ه��ذه ال�شعوب من‬ ‫وثقافة الت�سامح واالنفتاح على كل الثقافات‬
‫خ�لال ب��رام��ج حديثة ت��واك��ب الع�صر‪ ،‬تكون‬ ‫الأجنبية‪.‬‬
‫�أكثر انفتاح ًا و�أقدر على الإجابة عن كثير من‬ ‫يعتقد بع�ضهم �أن القوى الناعمة بهذا‬
‫الت�سا�ؤالت التي تحتاج �إلى ر�ؤية وا�ضحة ‪.‬‬ ‫المعنى الثقافي واالجتماعي هو م�صطلح‬
‫�أعتقد �أن الثقافات الوطنية في كثير من‬ ‫معا�صر انتهجته الدول الأوروبية في برامجها‬
‫القوى الناعمة كانت‬ ‫دول العالم الثالث قد ت�أثرت كثيراً بهذه الموجة‬ ‫التنموية‪ ،‬لكن الق�ضية ترجع �إلى ع�صور قديمة‬
‫العاتية من الثقافات الوافدة‪ ،‬وهو ما ي�ستوجب‬ ‫قدم الح�ضارة الأوروبية الحديثة‪ ،‬منذ بداياتها‬
‫وراء انتقال �أوروبا‬ ‫العناية بالثقافة الوطنية لكي تكون لها‬ ‫في �أوروب ��ا في مطلع القرن ال�ساد�س ع�شر‪،‬‬
‫من الع�صور الو�سطى‬ ‫الأولوية في التعليم والحياة االجتماعية‪ ،‬مع‬ ‫حينما انتقلت �أوروب��ا من الع�صور الو�سطى‬
‫�إلى الع�صور الحديثة‬ ‫عدم �إغفال �أهمية الثقافات الأجنبية‪ ،‬لكن وفق‬ ‫�إلى الع�صور الحديثة‪ ،‬وكان قوام نه�ضتها تلك‬
‫ر�ؤية قوامها التعليم والإعالم‪ ،‬حتى ال ن�ضيع‬ ‫القوى الناعمة في العلوم والفنون والآداب ‪،‬‬
‫في عوالم متباينة من الثقافات الأجنبية‪،‬‬ ‫من خالل �أجيال حلقوا بفكرهم دون قيود‪ ،‬من‬
‫وفي جميع الحاالت‪ ،‬تبقى القوى الناعمة هي‬ ‫قبيل دانتي وميكافيللي وتوما�س مور وغيرهم‬
‫الطاقة الم�ؤهلة لكل هذه المخاطر‪.‬‬ ‫من الم�ؤ�س�سين للفكر الأوروب��ي الحديث‪ ،‬وقد‬

‫‪11‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫العلم العربي وع�صر التقدم والرخاء‬

‫الحديقة العربية‬
‫من بغداد وحتى فا�س‬
‫ج��اء وق��ت في ال��ق��رون الو�سطى‪ ،‬ك��ان كل طالب علم من كل‬
‫�أرج���اء الأر����ض يجد معهد ًا للعلم ف��ي �أرق���ى ���ص��وره ف��ي مدن‬
‫الإم��ب��راط��وري��ة العربية الإ���س�لام��ي��ة؛ ي��ق��وم على تعليمه‬
‫��ب يقوم ب����أوده‪ .‬ك��ان الجامع المن�صور‬ ‫معلم‪ ،‬و ُي�صرف له رات ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ف��ي ب��غ��داد‪ ،‬وال��ج��ام��ع الأم���وي ف��ي دم�شق‪ ،‬وال��ج��ام��ع الأزه���ر‬
‫يقظان م�صطفى‬
‫بالقاهرة‪ ،‬وجامع القيروان في تون�س‪ ،‬وجامع القرويين في‬
‫فا�س‪ ،‬وجامع قرطبة في الأندل�س‪ ،‬والجامع الكبير في �صنعاء‪ ،‬دور ًا للعلم كلها‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪12‬‬


‫�إ�سهامات‬

‫ف��ي ال��ق��رن ال��ث��ان��ي ال��ه��ج��ري (ال�����س��اب��ع‬


‫ال��م��ي�لادي) ام��ت��دت رق��ع��ة ال��دول��ة العربية‬
‫الإ�سالمية لت�شمل في عهدها الأم ��وي‪ ،‬بالد‬
‫حو�ض البحر الأبي�ض المتو�سط في �شمالي‬
‫�إفريقيا وجنوبي �أوروب��ا (الأندل�س‪ ،‬وجنوبي‬
‫فرن�سا)‪ ..‬وما �إن تم اال�ستقرار للعرب في هذه‬
‫المناطق‪ ،‬حتى بد�أ مهند�سوهم يخططون المدن‬
‫ويقيمون فيها الق�صور الفخمة‪ ،‬وغدا فن تن�سيق‬
‫الأفنية الداخلية في الم�ساكن والمباني العامة‬
‫تعج بالحياة‬ ‫عن�صراً �أ�سا�سي ًا‪ ،‬من بغداد وحتى فا�س‪ .‬كان‬
‫المزخرفة بالزخارف النباتية والهند�سية‪،‬‬ ‫ع�صر تقدم ورخاء في الوقت‪ ،‬الذي كانت تظلل‬
‫كمجال�س تحمي من ح��رارة النهار‪ ،‬بع�ضها‬ ‫فيه �أوروبا ظلمات القرون الو�سطى‪ ..‬ومن بين‬
‫ا�ستثمار العلوم في‬ ‫مك�شوفة تعلوها التكاعيب ال��م��دالة منها‬ ‫فنون كثيرة ازده��رت حينها كانت (العمارة‬
‫�صنع حياة طيبة‬ ‫الفواني�س‪ .‬هاتيك الأيام ظهرت فكرة ا�ستغالل‬ ‫الخ�ضراء)‪.‬‬
‫بد�أ بتخطيط المدن‬ ‫�أ�سطح المباني ال�سكنية في عمل حدائق‪ ،‬وتعتبر‬ ‫بلغت الحديقة العربية م�ستويات غير‬
‫من �أنجح الطرق في العزل الحراري للأ�سطح‬ ‫م�سبوقة من �إب��داع الهند�سة المعمارية‪� ،‬إلى‬
‫والعمارة الخ�ضراء‬ ‫في �أحوا�ض للزهور والنباتات المت�سلقة‪ ،‬مع‬ ‫حد و�صفها ب�أنها (جنة اهلل على الأر�ض) في‬
‫مراعاة عزلها لمنع ت�سرب مياه الري منها‪.‬‬ ‫�شوق عميق للفردو�س الأعلى‪ .‬وو�صفها للويلن‬
‫ف��ي ال��ع��راق �أُل��ح��ق��ت ال��ح��دائ��ق بالق�صور‬ ‫ب�أنها (تعج بالحياة فتخدم الإن�سان والطيور‬
‫كحديقة ق�صر الأخي�ضر العبا�سي‪ ،‬ثم ق�صور‬ ‫والحيوانات‪ ،‬فيها تنمو الفواكه والأع�شاب‬
‫�سامراء؛ واحتوى ق�صر الجو�سق الخاقاني على‬ ‫الطبية والعطرية‪ ،‬و�أ�شجارها مثمرة وت�شكل‬
‫غلب على تخطيط‬ ‫حديقة غ ّناء م�ساحتها (‪ )172‬هكتاراً‪ ،‬وظهرت‬ ‫موئل ا�ستراحة للطيور)‪.‬‬
‫الحدائق التق�سيمات‬ ‫الحدائق المعلقة في مدينة المن�صور ببغداد‬ ‫والخ�صو�صية كانت �أهم ما يميز الحديقة‬
‫الهند�سية وا�ستخدام‬ ‫أثراً بحدائق بابل المعلقة‪ .‬ويذكر ابن الجوزي‬ ‫ت� ّ‬ ‫�آن��ذاك‪ ،‬ف�أحيطت بالأ�سوار العالية �أو �أ�شجار‬
‫والخطيب البغدادي �أنه (كان في دار ال�شجرة‬ ‫النخيل‪ ..‬وغلب على تخطيطها التق�سيمات‬
‫المياه ب�صورة‬
‫في بغداد‪ ،‬في زمن خالفة المقتدر‪� ،‬شجرة من‬ ‫الهند�سية‪ ،‬وا�ستخدام المياه ب�صور متنوعة‬
‫متنوعة‬ ‫الف�ضة م�صنوعة بن�صف مليون دره��م‪ ،‬في‬ ‫ومتميزة‪ ،‬يقودها اعتقاد ب�أن �إنبات الحدائق‬
‫و�سط بركة ماء �صاف؛ عليها �أطيار م�صنوعة‬ ‫و�إن�شاء المتنزهات‪ ،‬لي�سا رفاهية بقدر ما هما‬
‫(زينة وطيبات) من نعم‬
‫اهلل علينا‪.‬‬
‫زراع����ة ال��ف��راغ��ات‬
‫ال��داخ��ل��ي��ة للمن�ش�آت‬
‫ب���م���ج���م���وع���ات م��ن‬
‫الأ�شجار دائمة الخ�ضرة‬
‫وال ��� ��ش ��ج ��ي ��رات ح��ق��ق‬
‫ه��دف��ي��ن �أ���س��ا���س��ي��ي��ن؛‬
‫�أول��ه��م��ا تحقيق الظل‬
‫الظليل الدائم‪ ،‬وثانيهما‬
‫ترطيب الهواء وتحريكه‬
‫ن�����س��ي��م � ًا ف� ��ي ج��ن��ان‬
‫تق�سمها طرق متعامدة‪،‬‬
‫عليها تكاعيب العنب‬
‫والمت�سلقات الزهرية‪.‬‬
‫و ُز ِّودت ال ��ف ��راغ ��ات‬
‫تق�سيمات هند�سية ومياه ومتنزهات‬ ‫ب��الأك�����ش��اك الخ�شبية‬

‫‪13‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫والجنان والريا�ض والق�صور‪ ،‬والكروم محدقة‬ ‫من الف�ضة ت�صفر بحركات قد جعلت لها‪ ..‬ولها‬
‫بها من كل جهة‪.‬‬ ‫ورق مختلف الألوان‪ ،‬يتحرك كما تحرك الريح‬
‫وعلى غرار الر�صافة بال�شام‪ ،‬التي �أ�س�سها‬ ‫ورق ال�شجر)‪ ،‬ما ي�شير �إلى التقدم الكبير في‬
‫ه�شام بن عبدالملك‪� ،‬أن�ش�أ حفيده عبدالرحمن‬ ‫علوم الميكانيكا‪.‬‬
‫الداخل (الر�صافة) في الأندل�س‪� ،‬إحدى كبرى‬ ‫�أم��ا في ال�شام فالحديقة م�ساحة كبيرة‬
‫الحدائق في الع�صور العربية الزاهية‪ ،‬و�أتى‬ ‫تتخلل الفناء ويطلق عليها جنينة‪� ،‬أو �أحوا�ض‬
‫لها بالنباتات العجيبة من الهند وترك�ستان‬ ‫زرع بمحاذاة واجهات الفناء وحول الف�سقية‪،‬‬
‫الحديقة �صممت‬ ‫و�سوريا ومن �إيران‪ ،‬وظلت قرطبة حتى القرن‬ ‫مزروعة ب�أ�شجار الحم�ضيات والفواكه من‬
‫لتخدم الإن�سان وفيها‬ ‫(‪)10‬ه��ـ محاطة ب��آالف الحدائق‪ .‬وفي القرن‬ ‫ليمون وبرتقال ونارنج و�سفرجل ونباتات‬
‫الطيور والحيوانات‬ ‫العا�شر للميالد‪ ،‬كان لق�صر الزهراء في الأندل�س‬ ‫زينة‪ .‬ولكل بيت ع��ادي في دم�شق حديقته‬
‫والفواكه والأع�شاب‬ ‫حدائق وب�ساتين‪� ،‬أقيمت فيها �أماكن خا�صة‬ ‫الداخلية‪ ،‬تحيط بنافورة ظريفة تتو�سط �صحن‬
‫للحيوانات والطيور وب��رك للأ�سماك‪ ..‬كما‬ ‫مركزاً على النارنج‪ ،‬الذي‬ ‫الدار‪ ..‬وكان االهتمام ّ‬
‫العطرية‬
‫وجدت بق�صور �أ�شبيلية وقرطبة وق�صر البرطل‪،‬‬ ‫يكاد ال يخلو منه بيت �شامي‪ ،‬نظراً للنفع الكبير‬
‫الحدائق الرائعة التي تتميز بالظلة �أو ال�سقيفة‬ ‫الذي يقدمه ورقه وزهره وثماره‪ ،‬وعلى �أزهار‬
‫المعر�شة ب�أوراق ال�شجر والمت�سلقات الزهرية‪،‬‬ ‫الروائح العطرية كالفل واليا�سمين والتمر حنة‪.‬‬
‫ويك�سو �أر�ضها البالط الملون‪.‬‬ ‫و�صيدا من بالد ال�شام‪ ،‬فيها حدائق و�أ�شجار‬
‫هناك في الأندل�س امتدت الحديقة �إلى‬ ‫لتقولن �إن �سلطان ًا هاوي ًا غر�سها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫من�سقة حتى‬
‫�أفنية العديد من الم�ساجد‪ ،‬فاخت�صت بزراعة‬ ‫وفي ك ٍّل من هذه الحدائق ك�شك و�أغلب �شجرها‬
‫�أ�شجار البرتقال والنارنج‪ ،‬على النحو الذي‬ ‫مثمر‪ .‬وف��ي مدينة طبرية‪ ،‬ذك��ر في جانبها‬
‫�أحدثه الأمير عبدالرحمن بن معاوية‪ ،‬بغر�س‬ ‫الغربي م�سجد ا�سمه م�سجد اليا�سمين مغمور‬
‫فنا�ؤه باليا�سمين‪ ..‬ومما لفت �أنظار الرحالة‬
‫الفرن�سيين في القرن ال�ساد�س ع�شر ات�ساع‬
‫وجمال الحدائق الداخلية لمنازل القاهرة‬
‫المزروعة ب�أجود �أنواع �أ�شجار الفواكه‪.‬‬
‫في فا�س بنيت قنوات تدفع بالماء �إلى‬
‫الق�صور والحدائق والجوامع‪ ،‬وك��ان الق�سم‬
‫الجنوبي من المدينة ي�ضم الكثير من الحدائق‬
‫المليئة ب�أ�شجار مثمرة متنوعة وممتازة‬
‫م�ستوردة م��ن دم�شق و�أوروب����ا والأن��دل�����س‪،‬‬
‫وتحفل هذه الب�ساتين بق�صور جميلة وبرك ماء‬
‫وتحاط البرك ب�أنواع الزهور والورود وب�أ�شجار‬
‫البرتقال‪.‬‬
‫�أما (حديقة الح�ضارة العربية الإ�سالمية‪/‬‬
‫الأن��دل�����س)‪ ،‬فكانت �أ�شجارها عالية ر�صفت‬
‫بجانب بع�ضها بع�ض ًا‪ ،‬تعبيراً ع��ن هيام‬
‫الأندل�سيين بالريا�ض و�سيادة حب الطبيعة‬
‫لدى كل طبقات مجتمعهم‪ ،‬وانت�شرت حدائقهم‬
‫في �سفوح الجبال �أو جنبات اله�ضاب مثل‬
‫وتعد حدائق ق�صر الحمراء‬ ‫ّ‬ ‫فرادي�س ُخ ْ�ضر‪.‬‬
‫في غرناطة‪ ،‬من �أجمل الأمثلة على التكامل‬
‫واالن�سجام الطبيعي مع الأفنية الداخلية؛ كانت‬
‫حدائق متكررة ب�أ�شكال متنوعة في �أفنية‬
‫الق�صر‪ ،‬ومليئة بالنباتات العطرة كالريحان‪.‬‬
‫ويذكر ابن بطوطة‪ ،‬ب�أنها ال نظير له في بالد‬
‫الدنيا؛ تخترقها الأنهار الكثيرة والب�ساتين‬
‫جانب من الحدائق العربية‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪14‬‬


‫�إ�سهامات‬

‫الزراعة المتنوعة والخ�ضرة الدائمة‬


‫�أ���ص��وات النوافير وخ��ري��ر مياهها وزق��زق��ة‬ ‫�صحون الجوامع بالأ�شجار في جامع مدينة‬
‫الع�صافير المختبئة في الأ�شجار‪ ،‬والمتداخلة‬ ‫قرطبة‪ ..‬وتابع حكام الأندل�س هذا التقليد‪،‬‬
‫مع الأ�صوات الإن�سانية؛ ليكتمل بذلك اللحن‬ ‫كما في م�سجد مالقة‪ .‬ويذكر الرحالة الألماني‬
‫الخا�ص بالمبنى‪ ،‬وب��ذا نفهم لماذا كتب في‬ ‫مونزي‪ ،‬ال��ذي زار الأندل�س �سنة (‪994‬م) �أن‬
‫�ساحة فناء (الريحان) بق�صر الحمراء كلمات‬ ‫جامع المرية كان مغرو�س ًا ب�أ�شجار الليمون‬
‫تبرق على ال��ج��دران‪( :‬ال�سعاد ُة)‪( ،‬ال� َ�ب� َ�رك� ُة)‪،‬‬ ‫والنارنج‪ ،‬وكذلك �ش�أن جوامع وادي �أ�سن وعمر‬
‫(ال�صح ُة الباقية)‪...‬‬ ‫بن عي�سى ب�أ�شبيلية‪ ،‬وفناء البرتقال في م�سجد‬
‫وت��ورد الم�صادر التاريخية‪� ،‬أن��ه بحلول‬ ‫�أ�شبيلية وجامع البيازين بغرناطة وجامع‬
‫القرن العا�شر الميالدي‪ ،‬كان عناك عدة �آالف‬ ‫الق�صبة الكبير‪.‬‬
‫زودت الحدائق‬ ‫من الحدائق في الريف المحيط بمدينة قرطبة‪،‬‬ ‫النوافير �ألحقت بالحديقة العربية لتعطي‬
‫بالنوافير والأرائك‬ ‫تنظمها قوانين ا�ستخدام المياه وقنواته‬ ‫ّ‬ ‫خريراً مو�سيقي ًا مقبو ًال‪ ،‬ولتحريك الماء ال�ساكن‬
‫وم�شروعات ال��ري‪ ،‬بينما زرعت كروم العنب‬ ‫ك��ي ال يعمل ك�سطح ع��اك�����س‪ ،‬وا�ستخدمت‬
‫والمجال�س‬
‫والب�ساتين المترفة في �شتى �أنحاء الأندل�س‪.‬‬ ‫الف�سيف�ساء الملونة في تك�سية قاع النوافير‬
‫قرب النباتات‬ ‫واحتوت تلك الحدائق على المقا�صير والممرات‬ ‫والقنوات المائية وجوانبها‪ ،‬لإبراز جمال الماء‬
‫والم�سطحات المائية‬ ‫وال�شرفات‪ ،‬التي �أحيطت بالأ�شجار والأزهار‪،‬‬ ‫وزودت بالأرائك‬
‫والمحافظة على �صفاء لونه‪ّ ..‬‬
‫ال��م��روي��ة م��ن ال��م��ي��اه المتدفقة م��ن التالل‬ ‫والمجال�س قرب النباتات والم�سطحات المائية‪،‬‬
‫المحيطة؛ كما في مدينة الزهراء الأندل�سية‪.‬‬ ‫لال�ستمتاع بها عن قرب‪ ،‬والمجال�س مك�شوفة‬
‫ومع نهاية القرن الخام�س ع�شر الميالدي‬ ‫م��ن الخ�شب �أو الحجر �أو مك�سوة بالبالط‬
‫(فترة اال�ستعراب)‪ ،‬تكونت وتطورت �أ�س�س قيام‬ ‫القي�شاني ال��م��ل��ون‪� ،‬إل ��ى جانبها الأك�شاك‬
‫ح�ضارة جديدة في �أوروب ��ا‪ ،‬تمتاز بالت�أثير‬ ‫الخ�شبية كمجال�س مظللة‪.‬‬
‫العربي الوا�ضح‪ ،‬بعدما غذت الفنون والعلوم‬ ‫ولأن الروائح الذكية عن�صر �إدخال بهجة‬
‫العربية الإ�سالمية الفكر الأوروبي بدم جديد‪،‬‬ ‫وريحان وجنة نعيم)؛‬
‫ٌ‬ ‫وح‬
‫و�إمتاع ح�سي (‪َ ...‬ر ٌ‬
‫وفتحت �أمامه طريق االنطالق؛ فكان ع�صر‬ ‫فالحديقة العربية الإ�سالمية ذات رائحة جميلة‬
‫النه�ضة الأوروبية‪.‬‬ ‫فواحة العطر �أو فواكه ِ‬
‫عطرة‪ ،‬ترافقها‬ ‫ب�أزهار ّ‬

‫‪15‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫التراث الطبي‬ ‫د‪ .‬الخام�س مفيد‬


‫العربي الإ�سالمي‬

‫دلي ًال قوي ًا على اهتمام الخلفاء والأم ��راء‬ ‫يعد الطب العربي �إلى جانب الطب ال�صيني‬
‫العرب والم�سلمين بالمر�ضى والأطباء‪.‬‬ ‫والهندي �أحد �أبرز المناهج الطبية في العالم‪،‬‬
‫ولما زاد عدد الوافدين �إلى مدار�س الطب‬ ‫لكونها ال��وري��ث��ة ال�شرعية لكل التجارب‬
‫(البيمار�ستان) و�ضاقت قاعات التدري�س‪،‬‬ ‫والمدار�س الطبية لأمم العالم القديم‪ ،‬من بالد‬
‫عمد الحكيم مهذب الدخواري الدم�شقي �سنة‬ ‫الهند �شرق ًا حتى البالد المطلة على المحيط‬
‫يمتاز هذا التراث‬ ‫(‪� )1230‬إلى ا�ستقبال طالبه في داره التي‬ ‫الأطل�سي غرب ًا؛ فهي تحمل تاريخ ًا كالبرديات‬
‫مدون بالحرف‬
‫ب�أنه ّ‬ ‫ويقرئ الطالب‪ ،‬ويجيب عن‬ ‫كان ُيدر�س فيها ُ‬ ‫الم�صرية والألواح البابلية التي يعود عمرها‬
‫العربي ويعود عمره‬ ‫�أ�سئلتهم وا�ستف�ساراتهم‪ ،‬وقد �أو�صى الدخواري‬ ‫�إلى ع�شرات الآالف من ال�سنين‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬
‫�إلى عهود قديمة‬ ‫ب�أن تبقى داره بعد وفاته منارة لتعلم الطب‪،‬‬ ‫هذا‪ ،‬يمتاز الطب العربي بكونه تراث ًا مدون ًا‬
‫حيث �أوق��ف لها �ضياع ًا و�أمالك ًا ُت�ؤمن لها‬ ‫بالحرف العربي واللغة العربية غالب ًا‪ ،‬لكنه‬
‫وعرفت هذه المدر�سة با�سم‬ ‫الدخل الكافي‪ُ ،‬‬ ‫مغمور من قبل �أهله‪.‬‬
‫(المدر�سة الدخوارية)‪.‬‬ ‫ومع تقدم المعرفة الب�شرية في علم الطب‪،‬‬
‫وت��ع��ج الح�ضارة العربية والإ�سالمية‬ ‫وتطور الطب القائم على البراهين‪ ،‬عملت‬
‫ب��م��دار���س طبية م��ت��ع��ددة‪� ،‬أواله����ا مدر�سة‬ ‫المجتمعات عموم ًا‪ ،‬والغربية خ�صو�ص ًا على‬
‫�أنطاكيا التي �أن�ش�أها الخليفة الأم��وي عمر‬ ‫العودة �إلى التراث الطبي العربي والإ�سالمي‬
‫بن عبدالعزيز‪ ،‬لكن مدر�سة بغداد التي �أ�س�سها‬ ‫القديم‪ ،‬والنهل من تجاربه ونتائجه العلمية‪.‬‬
‫الخليفة العبا�سي هارون الر�شيد‪ ،‬تبقى من‬ ‫وت��زخ��ر الأم����ة ال��ع��رب��ي��ة ب ��أط��ب��اء وع��ل��م��اء‬
‫يزخر تراثنا ب�أطباء‬ ‫المدار�س الأول��ى الأكثر تنظيم ًا‪ ،‬من حيث‬ ‫ومخترعين‪ ،‬مازال التاريخ يذكرهم وت�ستفيد‬
‫جمعها بين الجانبين؛ النظري والعملي‪ ،‬وتعد‬ ‫ال�شعوب من تجاربهم‪.‬‬
‫وعلماء ومخترعين‬ ‫المدار�س الطبية الآتية من �أب��رز المدار�س‬ ‫ال��م��دار���س الطبية ف��ي ال��ت��راث العربي‬
‫اليزال التاريخ‬ ‫العربية والإ�سالمية في مجال الطب‪ ،‬ومنها‬ ‫والإ�سالمي‪ ،‬حظي الطب في الح�ضارة العربية‬
‫يذكرهم وي�ستفيد‬ ‫المدر�سة الم�ستن�صرية التي �أ�س�سها الخليفة‬ ‫والإ�سالمية‪ ،‬بن�صيب وافر من عناية الخلفاء‬
‫من تجاربهم‬ ‫العبا�سي الم�ستن�صر في بغداد‪ ،‬وا�شترط �أن‬ ‫والأم��راء وال�سالطين‪ ،‬حيث اعتنوا بم�شاهير‬
‫يكون فيها طبيب م�سلم واح��د‪ ،‬وع�شرة من‬ ‫الطب و�أعالمه‪ ،‬و�شيدوا عوا�صم ومدن ًا لإيواء‬
‫طالب الطب الم�سلمين‪ .‬والمدر�سة الدين�سرية‬ ‫الأط��ب��اء وتعليم الطب‪ ،‬ولعل ما �شيده نور‬
‫و�أن�ش�أها عماد الدين الدين�سري في دم�شق‪،‬‬ ‫الدين زنكي في دم�شق ع��ام (‪ ،)1154‬يعد‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪16‬‬


‫روافد‬

‫�أبقراط وجالينو�س‪.‬‬ ‫وال��م��در���س��ة اللبودية و�أ�س�سها نجم الدين‬


‫لقد ب ��د�أ ال���رازي حديثه ع��ن الأم��را���ض‬ ‫ال��ل��ب��ودي‪ ،‬ف��ي �ضواحي دم�شق‪ ،‬وق��د كانت‬
‫الإن�سانية‪ ،‬منطلق ًا من الأعلى �إلى الأ�سفل‪،‬‬ ‫عبارة عن معهد لتعلم الهند�سة والطب‪.‬‬
‫حيث �شرع ب��داي��ة ف��ي ذك��ر �أم��را���ض ال��ر�أ���س‬ ‫الأخالقيات والآداب الطبية في التراث‬
‫كال�سكتة الدماغية والفالج والرع�شة والخدر‪،‬‬ ‫العربي والإ���س�لام��ي‪ ،‬يزخر ال��ت��راث الطبي‬
‫حظي الطب في‬ ‫وذكر مجموعة من العالجات لهذه الأمرا�ض‪،‬‬ ‫العربي والإ�سالمي ب�أخالق و�آداب رفيعة‪،‬‬
‫الح�ضارة العربية‬ ‫ثم انتقل بعد ذلك للحديث عن �أمرا�ض العين‪،‬‬ ‫مازالت الأمم وال�شعوب تعمل بها‪ ،‬ومن هذه‬
‫الإ�سالمية باهتمام‬ ‫بما فيها من الرمد و�أمرا�ض القرنية وثقب‬ ‫ال�صفات ما يلي‪� :‬أن يكون الطبيب تام الخلق‪،‬‬
‫العنبية و�أم��را���ض البي�ضة‪ .‬وبعد انتهائه‬ ‫خير الطبع‪ .‬و�أن يكون ح�سن‬ ‫جيد ال��ر�ؤي��ة‪ّ ،‬‬
‫الخلفاء وال�سالطين‬ ‫من الحديث عن �أمرا�ض العين وعالجاتها‪،‬‬ ‫الملب�س‪ ،‬طيب الرائحة‪ ،‬نظيف البدن والثوب‪.‬‬
‫�شرع في عد �أمرا�ض الأذن كال�صمم وثقل‬ ‫و�أن يكون كتوم ًا لأ�سرار المر�ضى وال يبوح‬
‫ال�سمع وال��ق��روح وال ��ورم الناتج عن حر �أو‬ ‫ب�شيء عن �أمرا�ضهم‪ .‬و�أن يكون عفيف النظر‬
‫برد‪ ،‬مقترح ًا عالجات لذلك من قبيل مرهم‬ ‫و�سليم القلب‪ ،‬و�أن يقدم �صحة المر�ضى على‬
‫القليميا‪ ،‬و�شحم ال��ب��ط وال��دج��اج وق�شور‬ ‫المال‪ ،‬و�أن يرغب في معالجة الفقراء قبل‬
‫الرمان وتوبال النحا�س‪� .‬أما �أمرا�ض الأنف‪،‬‬ ‫الأغنياء‪ .‬و�أن يكون م�أمون ًا على �أرواح النا�س‬
‫فذكر الرعاف وان�سداد الأن��ف وع��دم ال�شم‪،‬‬ ‫و�أموالهم‪.‬‬
‫وعالج هذه الأمرا�ض‪� ،‬إما بالخل والزعفران‬ ‫ويمكن �إجمال هذه ال�صفات من خالل َق َ�سم‬
‫واليا�سمين‪� ،‬أو �أقرا�ص فرا�سيون وقطرة ماء‬ ‫الطبيب‪ ،‬كما يلي‪�( :‬أق�سم باهلل العلي القدير �أن‬
‫‪...‬ودعموا الأطباء‬ ‫ثلج لعالج الرعاف‪.‬‬ ‫علي مهنتي‪ ،‬ب�صدق و�أمانة‬ ‫�أقوم بما تفر�ضه ّ‬
‫و�شرعوا في بناء‬ ‫وذك���ر �أم ��را� ��ض ال��رئ��ة ك��ال��رب��و و�ضيق‬ ‫وعطف و�شفقة‪ ،‬غير محجم عن اال�ستعانة‬
‫التنف�س‪ ،‬مقترح ًا عقارات و�أدوية لعالجهاـ ثم‬ ‫بم�شورة ال��زم�لاء عند غمو�ض الت�شخي�ص‪،‬‬
‫الم�ست�شفيات التي‬ ‫�أمرا�ض المعدة‪ ،‬كالخلقة وانتقا�ص االت�صال‬ ‫و�أال �أ�ستنكف عن العمل عند انت�شار الأوبئة‬
‫انت�شرت في دم�شق‬ ‫والأورام والما�سكة والها�ضمة وال��رع��دة‬ ‫والأخ��ط��ار خوف ًا وجزع ًا‪ ،‬محافظ ًا على �سر‬
‫وبغداد والمدن‬ ‫والرع�شة‪ ،‬مقدم ًا عالجات و�أدوي ��ة لها‪ .‬ثم‬ ‫المهنة‪ ،‬خا�ضع ًا في كل ذلك لقوانين البالد‬
‫العربية‬ ‫تحدث عن اال�ستفراغات المرتبطة بالإ�سهال‬ ‫في ممار�سة مهنتي‪ ،‬واهلل على ما �أقول �شهيد)‪.‬‬
‫والقيء والف�صد والبول‪ ،‬وذكر �أمرا�ض الرحم‪،‬‬ ‫وق��د ذك��ر ال���رازي �أه ��م �صفات الطبيب‬
‫المتمثلة في القروح في الأرح��ام وال�سيالن‬ ‫العربي المعالج ممثلة في العطف والحنان‬
‫وال�����س��رط��ان وال��م��اء ف��ي ال��رح��م وم��ا يقطع‬ ‫وال��رف��ق بالمري�ض‪ ،‬و�أن يوا�سي المري�ض‬
‫الطمث‪� ،‬أما �أمرا�ض الكلى ومجاري البول‪،‬‬ ‫ويمنيه بالتخل�ص من‬ ‫وي�ؤمله في ال�شفاء ُ‬
‫فذكر فيها الحكة وب��ول ال��دم وحرقة البول‬ ‫الآالم‪ ،‬ومن النماذج الدالة على رفعة �أدب‬
‫وتقطير ال��ب��ول وق ��روح الكلى‪ .‬وف��ي مجال‬ ‫و�أخ��ل�اق الأط ��ب ��اء ال��ع��رب‪ ،‬ح��ال��ة الطبيب‬
‫الفيرو�سات والأمرا�ض المعدية ذكر الجدري‬ ‫الأندل�سي ابن زهر لما كان يعالج الخليفة‬
‫اهتم العرب‬ ‫والح�صبة والطواعين‪ ،‬متحدث ًا عن الطاعون‬ ‫عبد الم�ؤمن الموحدي‪ ،‬وقد كان هذا الأخير‪،‬‬
‫ب�أخالقيات و�آداب‬ ‫الأحمر والطاعون الأ�سود والطاعون الأ�صفر‪،‬‬ ‫يكره �شرب الدواء الم�سهل‪ ،‬فتلطف له ابن زهر‬
‫الطب وقد �أُجملت‬ ‫مبرزاً �أخطرها فتك ًا بالب�شرية‪ ،‬وختم (حاويه)‬ ‫في ذلك‪ ،‬حيث و�ضع الدواء في حبات العنب‪،‬‬
‫في َق َ�سم الطبيب‬ ‫بتطرقه �إلى �صيدلية الطب المتمثلة في معرفة‬ ‫وتناولها الخليفة دون �أن يعلم بذلك‪ ،‬وبعد‬
‫الأدوية وتمييز جيدها من مغ�شو�شها‪.‬‬ ‫ذلك تح�سنت �أحواله ف�أخبره الطبيب بذلك‪،‬‬
‫العربي‬ ‫�صفوة ال��ق��ول‪ ،‬ال �أح ��د ينكر الأب��ح��اث‬ ‫فرفع مقامه عند الخليفة‪.‬‬
‫والإنجازات العلمية الر�صينة‪ ،‬التي �أنجزها‬ ‫يعد ال ��رازي �أح��د �أع��ظ��م �أط��ب��اء الإ���س�لام‬
‫الأط ��ب ��اء وال��ع��ل��م��اء ال��ع��رب وال��م�����س��ل��م��ون‪،‬‬ ‫و�أكثرهم اب��ت��ك��اراً‪ ،‬حيث ال يخلو مجال �أو‬
‫وت�أرجحت بين الأدوية من جهة‪ ،‬والعمليات‬ ‫تخ�ص�ص في الطب �إال وتجده قد �أب��دع فيه‪.‬‬
‫الجراحية من جهة �أخرى‪ .‬وقد حفظ التاريخ‬ ‫وقد خ�ص�ص كتاب (الحاوي) في الطب لجملة‬
‫هذا التراث العلمي العظيم المتجلي �أ�سا�س ًا في‬ ‫من الآراء والعالجات واالبتكارات لعلماء‬
‫�أعمال الرازي ومن جاء من بعده‪.‬‬ ‫في الطب‪� ،‬سواء في ع�صره �أو من �سبقه مثل‪:‬‬

‫‪17‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫لحظات الإبداع‪..‬‬
‫الأدباء وطقو�س الكتابة‬
‫في اتباع حمية غذائية ت�ستند �إل��ى كثرة‬ ‫قد ي�شير عنوان الكتاب �إلى خال�صة الفكرة‪� ،‬أو قد يكون‬
‫وال�سمك‪ .‬وانتظم‪ ،‬كذلك في ممار�سة‬ ‫الخ�ضار َّ‬ ‫اخت�صار ًا غير مكتمل لتلك الأح���داث التي ت��دور بين‬
‫يومي ًا‪ .‬العيب الوحيد في هذا النظام‬ ‫ّ‬ ‫العدو‬ ‫�صفحاته‪ ،‬وقد يكون مغاير ًا لكل ما في الكتاب‪� ،‬أو يعبر‬
‫عبر‬
‫ال��ذي فر�ضه على نف�سه‪ ،‬بح�سب ما َّ‬
‫عنه‪ :‬هو �أ َّنه ال ي�سمح للمرء بممار�سة حياة‬
‫عن ان�سجامه وتناغمه مع المحتوى‪� .‬إنها رحلة تبدو‬
‫اجتماعية رحبة‪ .‬يقول‪( :‬يغ�ضب ال َّنا�س على‬ ‫موازية لرحلة الت�أليف‪ ،‬قابلة للتغيير حتى اللحظة التي‬
‫وفيق �صفوت مختار‬
‫المتكررة‪ ،‬ولكن �سوف‬ ‫ِّ‬ ‫َم ْن يرف�ض دعواتهم‬ ‫يغادر فيها المخطوط �أدراج م�ؤلفه باتجاه المطبعة‪.‬‬
‫يقبل ُق َّرائي �أي �أ�سلوب حياة �أختاره لنف�سي‪،‬‬
‫مادمت �أحر�ص دائم ًا على �أن يكون �إبداعي‬ ‫�صباح ًا عندما يكون ب�صدد كتابة رواية‪،‬‬ ‫المبدعون من الأدب��اء وال�شعراء كيف‬
‫الجديد �أف�ضل من �سابقه‪ ،‬و�أن يكون هذا‬ ‫ويعمل خم�س �ساعات متوا�صلة‪ .‬في الم�ساء‬ ‫يتعاملون م��ع ال��زم��ن؟ وكيف يمار�سون‬
‫واجبي‪ ،‬و�أولوية �أولوياتي كروائي)‪.‬‬ ‫يقر�أ‪ ،‬ي�ستمع للمو�سيقا‪ُ ،‬ث َّم ي�أوي �إلى فرا�شه‬ ‫طقو�سهم ال��ت��ي تحكم عالقتهم بعالم‬
‫ويكتب الروائي الأمريكي (�ستيفن كينغ)‬ ‫في التا�سعة م�ساء‪ .‬يقول‪� :‬أتبع هذا الروتين‬ ‫يتم لهم التغ ُّلب‬
‫الت�أليف والإب��داع؟ وكيف ّ‬
‫مواليد‪1947‬م في ُك ِّل �أيام ال�سنة‪ ،‬با�ستثناء‬ ‫ُك ّل يوم بدون تنويع‪ .‬ي�صبح التكرار‪ ،‬في‬ ‫على العراقيل وال�صعوبات التي يواجهونها‬
‫عيد ميالده‪ ،‬وباقي الأعياد‪ ،‬وغالب ًا ما ال‬ ‫حد ذات��ه‪ ،‬هو الأه��م‪� ،‬إ َّن��ه �شكل من �أ�شكال‬ ‫ِّ‬ ‫في تدبير الزمن �أو تروي�ضه داخل محيطهم‬
‫ح�صة �ألف كلمة‬ ‫ي�سمح لنف�سه بعدم �إدراك َّ‬ ‫التنويم المغناطي�سي‪� .‬أن � ِّ�وم نف�سي لكي‬ ‫االجتماعي والمهني؟ وما هي الحلول التي‬
‫يومي ًا‪ ،‬يعمل �صباح ًا ابتداء من الثامنة‪ .‬في‬
‫ّ‬ ‫معمقة‪ .‬كانت له عادات‬ ‫ذهنية َّ‬‫َّ‬ ‫�أبلغ حالة‬ ‫بدت لهم ناجعة للتخ ُّل�ص من ثقل الزمن‬
‫وقت مبكر‪ ،‬الحادية‬ ‫بع�ض ال َّأيام ينتهي في ٍ‬ ‫كلي‪ ،‬حيث‬‫ّ‬ ‫ب�شكلٍ‬ ‫رها‬ ‫غي‬ ‫ي‬
‫ُ ِّ‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫ا�ستطاع‬ ‫�سيئة‬‫ِّ‬ ‫اليومية؟‬
‫َّ‬ ‫و�ضغوط الحياة‬
‫ي�ستمر في‬
‫ّ‬ ‫ع�شرة والن�صف‪ ،‬لكن غالب ًا ما‬ ‫ٍ‬
‫منطقة‬ ‫ان�صرف للعي�ش م��ع زوج��ت��ه ف��ي‬ ‫الأديب الياباني (هاروكي موراكامي)‬
‫عمله في حدود ال�ساعة الواحدة والن�صف‬ ‫ريفية‪ ،‬امتنع عن التدخين‪ ، ،‬كما �أ َّنه �شرع‬ ‫ٍ‬ ‫مواليد (‪1949‬م)‪ ،‬ي�ستيقظ ف��ي الرابعة‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪18‬‬


‫تما�س‬

‫وت ��� ��س ��ج ��ل ي ��وم ��ي ��ات‬ ‫مهمة الألف كلمة‪ .‬بعد ذلك يظفر‬ ‫حتى ُينجز َّ‬
‫ال�شاعرة الأمريكية (�سيلفيا‬ ‫حر‪ ،‬وليل من �أجل اال�ستراحة‪ ،‬والر�سائل‪،‬‬ ‫بم�سا ٍء ّ‬
‫بالث) (‪1963-1932‬م)‪،‬‬ ‫والقراءات‪ ،‬والأ�سرة‪.‬‬
‫دونت وقائع الكاتبة‪،‬‬ ‫التي ّ‬ ‫وفي كتابه (بينما �أكتب)‪ ،‬يقول كينغ‪( :‬كما‬
‫منذ �أن كانت في الحادية‬ ‫غرفة نومك‪ ،‬تمام ًا‪ ،‬ينبغي لمكتبك �أن يكون‬
‫��م��ره��ا �إل��ى‬‫ع�����ش��رة م��ن ُع ْ‬ ‫خا�ص ًا‪ ،‬مكان تلج�أ �إليه للحلم‪َّ � ،‬أم��ا توقيتك‬ ‫ّ‬
‫رحيلها وهي في الثالثين‪،‬‬ ‫ال�ساعة‪ ،‬تقريب ًا‪،‬‬ ‫يومي ًا في نف�س َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـ الذي يبد�أ‬
‫�أ َّنها خا�ضت مقاومة حازمة‬ ‫وينتهي عندما تكتمل الألف كلمة على الورق‬
‫جراهام جرين‬ ‫�أمبرتو �إيكو‬ ‫طلب ًا لتوقيت منا�سب من‬ ‫يعودك على‬ ‫�أو القر�ص المدمج ـ فيوجد لكي َّ‬
‫�أج��ل كتابة مثمرة‪ .‬كتبت‬ ‫يهيئك‬‫ويهيئك له‪ ،‬بالطريقة نف�سها التي ّ‬ ‫الحلم‪ّ ،‬‬
‫م��ث�ل ًا ف��ي ي��ن��اي��ر‪1959‬م‪:‬‬ ‫فيها لل َّنوم قبل الذهاب �إلي الفرا�ش في نف�س‬
‫(م��ن الآن‪ ،‬فالحق ًا‪� ،‬سوف‬ ‫ال�ساعة‪ ،‬تقريب ًا‪ ،‬من ُك ِّل ليلة‪ ،‬وممار�سة نف�س‬ ‫َّ‬
‫�أرى �إن ك��ان هنا ممكن ًا‪:‬‬ ‫الطق�س عندما تقوم به‪ ،‬من �أجل الكتابة‪ ،‬ومن‬
‫ال�سابعة‬‫�ضبط المنبه على َّ‬ ‫ج�سدي ًا‬
‫ّ‬ ‫�أجل ال َّنوم‪ ،‬نتع َّلم كيف نبقي ثابتين‬
‫وال��ن�����ص��ف واال���س��ت��ي��ق��اظ‪،‬‬ ‫في نف�س ال َّلحظات التي نمنحها لعقولنا لكي‬
‫م��ت��ع��ب��ة �أو غ��ي��ر متعبة‪.‬‬ ‫نتحرر من التفكير العقالني الرتيب لحر�صنا‬ ‫َّ‬
‫االنتهاء من الفطور ب�سرعة‪،‬‬ ‫اليومي)‪.‬‬
‫�ستيفن كينغ‬ ‫هاروكي موراكامي‬ ‫ومن �أ�شغال البيت في حدود‬ ‫وي ��ؤ ِّك��د ال��روائ��ي والفيل�سوف الإيطالي‬
‫الثامنة والن�صف‪ ..‬ال�شروع‬ ‫(�أم��ب��رت��و �إي��ك��و) (‪2016 -1932‬م) �أ َّن ��ه ال‬
‫بدد ال َّلعنة)‪.‬‬ ‫في الكتابة قبيل التا�سعة‪،‬هذا ُي ِّ‬ ‫ثمة وجود‬ ‫يتبع �أي روتين لكي يكتب‪ .‬لي�س َّ‬
‫لوقت طويل‪ ،‬على‬ ‫تبدد �أبداً‪ٍ ،‬‬ ‫لكن ال َّلعنة لم َّ‬ ‫لأي��ة قاعدة‪ .‬لقد ق��ال في ع��ام ‪2008‬م‪ :‬من‬
‫الياباني هاروكي‬ ‫الرغم من محاوالتها الحازمة اقتطاع جزء‬ ‫إلي الح�صول على توقيت‬ ‫الم�ستحيل بالن�سبة � َّ‬
‫موراكامي‪ ..‬يعمل‬ ‫من الوقت الثمين من �أجل الكتابة‪ .‬فقط قبيل‬ ‫ال�سابعة �صباح ًا‬ ‫َّ‬ ‫في‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫أبد‬ ‫عين‪ .‬قد يحدث �أن �‬ ‫ُم َّ‬
‫خم�س �ساعات‬ ‫نهاية حياتها‪ ،‬وبعد انف�صالها عن زوجها‬ ‫و�أنتهي في الثالثة من �صباح الغد‪ ،‬متوقف ًا‬
‫ال�شاعر (ت��ي��د ه��اك�����س)‪ ،‬وعنايتها بطفليها‬ ‫فقط من �أجل تناول بع�ض ال�شطائر‪ ،‬و�أحيان ًا‬
‫متوا�صلة يومي ًا وهو‬ ‫ال�صغيرين‪ ،‬ا�ستطاعت (بالث) �أن تجد روتين ًا‬ ‫ال �أ�شعر برغبة في الكتابة‪� ،‬إطالق ًا‪ .‬ومع ذلك‬
‫َّ‬
‫ي�ستمع �إلى المو�سيقا‬ ‫قاب ًال للتحقيق‪ .‬كانت تتناول مهدئات من �أجل‬ ‫متنوعة‪� :‬إذا‬ ‫ِّ‬ ‫�أعترف � َّأن عاداته لم تكن دائم ًا‬
‫�أن ت�ستطيع ال َّنوم‪ ،‬وعندما ينتهي مفعولها في‬ ‫الريفي‪ ،‬عندئذ �أتبع روتين ًا‬ ‫ّ‬ ‫كنت في منزلي‬ ‫ُ‬
‫حدود الخام�سة �صباح ًا‪ ،‬كانت ت�ستيقظ‪ ،‬وت�شرع‬ ‫ُمعين ًا‪ّ � ،‬أطلع على بريدي الإلكتروني‪� ،‬أ�شرع في‬
‫في الكتابة �إلي �أن ي�ستيقظ الطفالن‪ .‬ا�شتغلت‬ ‫قراءة �شيء ما‪ُ ،‬ث َّم �أكتب حتى حلول الم�ساء‪ .‬بعد‬
‫على هذا المنوال خالل �شهرين‪ .‬و�أخيراً‪� ،‬شعرت‬ ‫ذلك �أذهب �إلى القرية‪ ،‬حيث �أ�شرب �شيئ ًا و�أقر�أ‬
‫الأمريكي �ستيفن‬ ‫ب�أ َّنها م�سكونة ب�إبداعها‪ ،‬ومتحكمة في الفعل‬ ‫ال�صحف‪� .‬أعود �إلى البيت و�أ�شاهد التلفزيون �أو‬
‫كينغ‪ ..‬ال يتحرر من‬ ‫الإبداعي‪ .‬كتبت لأُ ّمها في �أكتوبر عام (‪1962‬م)‪،‬‬ ‫فيلم ًا �إلى حدود الحادية ع�شرة لي ًال‪ُ .‬ث َّم �أعمل‬
‫الكتابة �إال بعد �أن‬ ‫قبل �أربعة �أ�شهر من رحيلها‪� :‬أنا كاتبة عبقرية‪،‬‬ ‫إ�ضافي ًا حتى الواحدة �صباح ًا �أو الثانية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وقت ًا �‬
‫ينجز مهمة الألف‬ ‫�أملك الموهبة‪� .‬أكتب الآن �أجمل ق�صائد حياتي‪،‬‬ ‫ثمة وجود‬ ‫َّ‬ ‫لي�س‬ ‫ه‬‫ن‬ ‫ل‬
‫أ‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫ً ُ َّ ً َّ‬‫عي‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫روتين‬ ‫بع‬ ‫ت‬
‫هناك َّ‬
‫�‬
‫أ‬
‫كلمة يومي ًا‬ ‫هذه الق�صائد �سوف ت�صنع لي ا�سم ًا‪.‬‬ ‫لما يقاطعني‪.‬‬
‫لم توفق ال�شاعرة والأديبة‬
‫الأم��ري��ك��ي��ة (م��ارج��ري��ت �آن‬
‫جون�سون)‪ ،‬و�شهرتها (مايا‬
‫الإيطالي �أمبرتو‬ ‫�أنجيلو) (‪2014-1928‬م)‪،‬‬
‫�أب��داً‪ ،‬للكتابة بمنزلها‪ ،‬تقول‬
‫�إيكو‪ ..‬لم يكن يتقيد‬ ‫حر�صت على �أن �أج��ع��ل من‬ ‫ُ‬
‫ب�أي روتين �أو قاعدة‬ ‫جداً‪ ،‬ولم‬
‫ً ّ‬‫ال‬ ‫جمي‬ ‫ف�ضاء‬
‫ً‬ ‫م�سكني‬
‫�أثناء الكتابة‬ ‫�أوفق للعمل في ف�ضاء جميل‪.‬‬
‫حيرني‪ .‬بالنتيجة ـ‬ ‫�إ َّنه �أمر ُي ِّ‬

‫‪19‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫تما�س‬

‫ج� ّ�ي��داً ما ت��دره عليه من‬ ‫غالب ًا ـ ما عملت في حجرات الفنادق‪ ،‬وبقدر‬
‫�أم��وال ـ بينما ي�ستمر في‬ ‫ما كانت مجهولة ك��ان الحال �أف�ضل‪ .‬وقد‬
‫تنقيح رائعته ال�سردية‪.‬‬ ‫و�صفت (�أنجيلو) روتينها‪ ،‬على ال�شكل الآتي‪:‬‬
‫ول� ��ك� ��ي ي ��ف ��ل ��ت م��ن‬ ‫(اعتدت اال�ستيقاظ بحلول الخام�سة والن�صف‪،‬‬
‫المنزلية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫م�شاغل الحياة‬ ‫�ستعدة ل�شرب القهوة‬ ‫ال�ساد�سة �أك��ون ُم ّ‬ ‫وفي َّ‬
‫خا�ص ًا‬
‫ّ‬ ‫ا�ست�أجر مكتب ًا‬ ‫بمعية زوجي‪ .‬ا�ست�أجرت غرفة في فندق لكي‬
‫ظ ّل عنوانه ورق��م هاتفه‬ ‫�أنجز عملي‪ :‬حجرة �صغيرة ورخي�صة ب�سرير‬
‫مجهولين � َّإل بالن�سبة‬ ‫واحد‪� .‬أحتفظ في هذه الحجرة بقامو�س‪� ،‬أوراق‬
‫�إل������ى زوج����ت����ه‪ .‬ه��ن��اك‬ ‫ال َّلعب‪� ،‬أحر�ص على الو�صول �إلى الغرفة في‬
‫ا�ستطاع �أن يلتزم توقيت ًا‬ ‫ال�سابعة‪ ،‬و�أعمل حتى الثانية م�ساء‪.‬‬ ‫ح��دود َّ‬
‫خ�ص�ص‬ ‫متوازن ًا‪ ،‬فكان ُي ِّ‬ ‫�إذا �سار العمل ب�شكلٍ �سيئ‪� ،‬أبقى �إلى حدود‬
‫ال�صباح لرواية الت�شويق‪:‬‬ ‫الثانية ع�شرة والن�صف‪� .‬إذا �سار ب�شكل جيد‪،‬‬
‫ال�سري)‪ ،‬والم�ساء‬ ‫(العميل ّ‬ ‫مايرام‪� .‬إ َّنه‬
‫�أوا�صل عملي مادامت الأمور على ُ‬
‫ل��رواي��ة (ال��ق� َّ�وة والمجد)‪.‬‬ ‫و�ضع منعزل ورائع‪ .‬عندما �أعود �إلي البيت في‬
‫ولمواجهة �ضغط كتابة‬ ‫اليوم‪ُ ،‬ث َّم‬
‫الثانية‪� ،‬أعيد قراءة ما كتبت في ذلك َّ‬
‫م�ؤ َّلفين في وق� ٍ�ت واح��د‪،‬‬ ‫�أحاول � َّأل �أعيد التفكير فيه من جديد‪ .‬حتى �إذا‬
‫كان‪ .‬بف�ضل ذلك ا�ستطاع‬ ‫ما عاد زوجي نتناول الع�شاء مع ًا‪ ،‬قد �أتلو على‬
‫�أن يكتب نحو �ألفي كلمة‬ ‫مما كتبت‪ ،‬وهو ال ُيع ّلق على‬ ‫م�سامعه‪ ،‬بع�ض ًا َّ‬
‫خ��ل�ال ف ��ت ��رة ال�����ص��ب��اح‬ ‫�شيء �أب��داً‪ ،‬ال �ألتم�س تعليق �أحد على عملي‪،‬‬
‫فقط‪ ،‬مقارنة بالخم�سمئة‬ ‫با�ستثناء نا�شري‪ ،‬لكن �سماعه ب�صوت مرتفع‬
‫كلمة التي ك��ان يكتبها‬ ‫هو �أمر جيد‪ ،‬قد يتبادر �إلى ت�أجيل النظر فيه‬
‫من �أغلفة روايات المبدعين‬
‫في العادة‪ .‬وهكذا وبعد �ستة �أ�سابيع‪ ،‬ال غير‪،‬‬ ‫�إلى الغد)‪.‬‬
‫ال�سري)‪ ،‬و�أخذت‬‫كان انتهى من كتابة (العميل ّ‬ ‫في ع��ام (‪1939‬م) قبيل ان��دالع الحرب‬
‫(القوة والمجد)‪ ،‬فقد‬ ‫َّ‬ ‫طريقها �إلى الن�شر‪َّ � ،‬أما‬ ‫العالمية الثانية‪ ،‬ب��د�أ الكاتب الإنجليزي‬
‫الأمريكية مارجريت‬ ‫ا�ستغرقت �أربعة �أ�شهر �إ�ضافية لكي تكتمل‪.‬‬ ‫(جراهام جرين) (‪1991 -1904‬م) يقلق من‬
‫�آن جون�سون‪..‬‬ ‫ول��م يحظ (جرين) بمثل ه��ذه الإنتاجية‬ ‫يتم ما كان واثق ًا ب�أ َّنها‬‫�إمكانية موته قبل �أن ّ‬
‫أدبية ُك َّلها‪ ،‬وبعد �أن تجاوز‬ ‫خالل م�سيرته ال َّ‬ ‫(القوة والمجد)‪ ،‬ويترك‬ ‫َّ‬ ‫�ستمثل �أعظم رواياته‪:‬‬
‫ت�ست�أجر غرفة في‬ ‫ال�ستين‪ ،‬اع��ت��رف �أ َّن� ��ه ك ��ان ح��ري�����ص� ًا على‬ ‫زوجته و�أبناءه ُعر�ضة للفاقة‪ .‬وهكذا بد أ� في‬
‫فندق قريب من‬ ‫الخم�سمئة كلمة يومي ًا‪ ،‬و�أ َّن ��ه �أ�صبح يقنع‬ ‫كتابات �إحدى (مالهيه) ‪� -‬أفالم رعب‪ ،‬وهي‬
‫منزلها لممار�سة‬ ‫بالمئتين‪.‬‬ ‫الفن‪ ،‬لك َّنه كان يعرف‬ ‫ميلودراميات تفتقد ِّ‬
‫الكتابة‬

‫الإنجليزي جراهام‬
‫جرين‪ ..‬كان‬
‫يخ�ص�ص ال�صباح‬
‫لكتابة رواية وفي‬
‫الم�ساء يتفرغ لكتابة‬
‫رواية �أخرى‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪20‬‬


‫أمكنة وشواهد‬
‫حديقة من مدينة غرناطة‬

‫¯ مراك�ش‪ ..‬المدينة الحمراء‬


‫¯ ت�ستور‪ ..‬الفردو�س المن�شود في تون�س‬

‫‪21‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫�أ�س�سها المرابطون منذ �ألف عام‬
‫مراك�ش‬
‫المدينة الحمراء‬

‫ت��م اخ��ت��ي��ار مدينة م��راك�����ش لتكون عا�صمة ثقافية‬


‫لإفريقيا ف��ي ع��ام (‪ )2020‬وم��ن المنتظر �أن ت�شكل‬
‫م���ب���ادرة ال��ع��وا���ص��م الإف��ري��ق��ي��ة ل��ل��ث��ق��اف��ة‪ ،‬وال��ت��ي تم‬
‫�إط�لاق��ه��ا للمرة الأول����ى ه��ذه ال�سنة‪ ،‬ح��دث�� ًا ثقافي ًا‬
‫مهم ًا ف��ي �إف��ري��ق��ي��ا‪ ،‬و�ستكون من�صة لتعزيز التعاون‬
‫ح�سن بن محمد‬
‫الثقافي والفني فيما بين بلدان ال��ق��ارة الإفريقية‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪22‬‬


‫مدن‬

‫تقع مدينة مراك�ش في جنوبي المغرب‪،‬‬


‫وهي مدينة تاريخية و�سياحية تجلب �سنوي ًا‬
‫ال�سياح من كل �أنحاء العالم‪ ،‬ولعل‬ ‫ّ‬ ‫ماليين‬
‫من �أبرز معالمها التاريخية المدينة القديمة‪،‬‬
‫حيث �ساحة جامع الفنا‪� ،‬إ�ضافة �إلى العديد من‬
‫الق�صور القديمة والمتاحف‪.‬‬
‫المرابطين عام‬ ‫ُ‬ ‫قبائل‬ ‫ولقد قام عدد من‬
‫مدينة تاريخية‬ ‫(‪ )1070‬ميالدي بت�أ�سي�س مدينة مراك�ش‪،‬‬
‫و�سياحية تجذب‬ ‫وعرفت مراك�ش‪ ،‬با�سم المدينة الحمراء‪ ،‬وذلك‬
‫�سنوي ًا ماليين ال�سياح‬ ‫ن�سبة �إل��ى ال��ل��ون الأح��م��ر الطاغي على جل‬
‫من جميع �أنحاء‬ ‫مبانيها‪ ،‬والذي �أ�ضفى �سحراً خا�ص ًا على �أزقتها‬
‫القديمة وم�ساجدها وق�صورها و�أ�سواقها‪،‬‬
‫العالم‬
‫ويعود تاريخها �إلى قرابة �ألف �سنة‪ ،‬وقد تم‬
‫�إدراجا مرتين كتراث عالمي‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫مدينتها القديمة في �سنة (‪ ،)1985‬وكذلك من‬
‫خالل ميدان جامع الفنا في �سنة (‪.)2001‬‬
‫وتوجد في مراك�ش العديد من المعالم‬
‫التاريخية المهمة والتي تختزن في داخلها‬
‫التاريخ العريق‪ ،‬الذي مر على هذه المدينة‪،‬‬
‫مراك�ش هي مدينة‬ ‫ولأهميتها فقد تم �إدراجها في قائمة اليوني�سكو‬
‫المو�سيقا وال�سينما‬ ‫للتراث والآث��ار العالمية‪ ،‬ومن �أبرز معالمها‪:‬‬
‫(ق�صر البديع)‪ ،‬ويعد من �أبرز الق�صور المغربية‬
‫والفعاليات الثقافية‬
‫ويتميز بكثرة الزخارف والنقو�ش‪� ،‬إلى جانب‬
‫على مدار العام‬ ‫التحف الفنية الموجودة فيه‪ ،‬ولقد تعر�ض هذا‬
‫الق�صر �إلى التلف في عدد من �أجزائه غير �أنه‬
‫م��ازال قائم ًا‪ .‬كما يعتبر (ق�صر الباهية) من‬
‫�أهم المعالم التاريخية وال�سياحية في المدينة‪،‬‬
‫وذل��ك نظراً لأهمية ما يحتويه من الفنون‪،‬‬
‫وخا�صة النق�ش على الخ�شب‪ ،‬ولقد تم بناء هذا‬
‫الق�صر في عهد الدولة العلوية‪ ،‬وهو يحتوي‬

‫حدائق المنارة‬

‫‪23‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫على عدة �أجنحة ملكية والعديد من القاعات‬
‫(القبة المرابطية) من‬
‫والحدائق الرائعة‪ ،‬وتعد ّ‬
‫ال�شواهد التاريخية المهمة التي تعك�س جمال‬
‫فن العمارة المرابطية والأندل�سية في مدينة‬
‫مراك�ش‪ ،‬وتم بناء هذه القبة في القرن الحادي‬
‫ع�شر الميالدي‪ ،‬وهي مازالت تعك�س الأهمية‬
‫ماحي بينبين‬ ‫عبد الجبار لوزير‬
‫الثقافية للزمن الذي ُ�شيدت فيه‪ ،‬كما تمتلك‬
‫هذه القبة نظام �إي�صال مياه تحت الأر���ض‬
‫وت�صب المياه في �أنابيب برونزية‪.‬‬
‫ويعتبر (جامع الكتيبة) من �أه��م جوامع‬
‫المغرب العربي‪ ،‬وه��و يتميز بمئذنة رائعة‬
‫ومزخرفة‪ ،‬ول��ه منبر �آل��ي الحركة ويحتوي‬
‫على �إح��دى ع�شرة قبة و�سبعة ع�شر جناح ًا‬
‫مئذنة جامع الكتيبة‬ ‫داخلي ًا‪ ،‬ولقد ُ�سمي الجامع ن�سبة �إلى الكتبيين‪،‬‬
‫مليكة �أوفقير‬ ‫​فريد بلكاهية‬ ‫في حي المدينة المنورة‬ ‫ويعتقد �أنه كان‬ ‫وهو ا�سم ل�سوق بيع الكتب‪ُ ،‬‬
‫يقع بالقرب منه‪ ،‬وتجلب �ساحة جامع الفنا‪،‬‬
‫وتعد (حدائق الماجوريل) واح��دة من �أجمل‬ ‫و�سط المدينة القديمة وقلب مراك�ش الناب�ض‪،‬‬
‫الحدائق الموجودة في مدينة مراك�ش‪ ،‬وقد‬ ‫الكثير من الزائرين والمهرجين والباعة‪ ،‬وهم‬
‫عرفت بهذا اال�سم ن�سبة �إلى الر�سام الفرن�سي‬ ‫يتناف�سون من �أجل جلب اهتمام المارة‪ ،‬وكما‬
‫جاك ماجوريل‪ ،‬الذي قام ببنائها‪ ،‬كما عمل‬ ‫يح�ضر هناك عدد من الحكواتيين ب�أ�ساطيرهم‬
‫تم �إدراجها كمدينة‬ ‫هذا الفنان المبدع ذو الح�س الفني الراقي‪ ،‬على‬ ‫الم�شوقة والتي تجلب العديد من‬ ‫وحكاياتهم‬
‫ّ‬
‫للتراث العالمي‬ ‫�صبغ مباني الحديقة باللون الأزرق الالمع‪،‬‬ ‫الزوار‪ ،‬وفي و�سط هذا الم�شهد‪ ،‬ينت�صب مرو�ضو‬
‫ل�سحر �أزقتها‬ ‫وما يميز هذه الحديقة‪ ،‬احتوا�ؤها على مجموعة‬ ‫الأفاعي‪ ،‬والذين يدفعون الكوبرا �إلى الرق�ص‪.‬‬
‫القديمة وم�ساجدها‬ ‫من الأزهار والنباتات النادرة الوجود التي تم‬ ‫كما ت�شتهر مراك�ش ب�أ�سوارها ال�ضحمة‬
‫جلبها من عدة �أماكن في القارات الخم�س‪،‬‬ ‫التي ُبنيت في عام (‪ )1126‬ميالدي‪ ،‬وهي‬
‫وق�صورها و�أ�سواقها‬
‫وهي اليوم تعد �أحد �أهم معالم المدينة البارزة‪،‬‬ ‫تحيط بالمدينة لحمايتها من الأعداء‪ ،‬وكانت‬
‫�إلى جانب وجود مبنى محيط بالحديقة‪ ،‬وهو‬ ‫تحتوي ف��ي داخلها على مقر الحكم‪ ،‬وهي‬
‫متحف للفنون الإ�سالمية‪.‬‬ ‫تمتد على م�سافة تقارب الت�سعة كيلومترات‪.‬‬

‫القبة المرابطية‬ ‫جانب من المدينة‬ ‫حدائق الماجوريل‬

‫وادي نهر �أوريكا‬ ‫ق�صر البديع‬ ‫باب �أكناو‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪24‬‬


‫مدن‬

‫�ساحة جامع الفنا‬

‫ك��أول عا�صمة ثقافية في القارة الإفريقية‪،‬‬ ‫ومراك�ش �أي�ض ًا مدينة المو�سيقا‪ ،‬حيث‬
‫تم اختيارها لتكون‬ ‫و�ستكون بذلك نافذة لإفريقيا على الثقافة‬ ‫ال��م��ه��رج��ان��ات المو�سيقية ال��م��ت��ع��ددة على‬
‫�أول عا�صمة ثقافية‬ ‫والفنون والإبداع‪ ،‬وذلك من خالل احت�ضانها‬ ‫ام��ت��داد ال�سنة وتنت�شر فيها قاعات �ضخمة‬
‫لإفريقيا عام (‪)٢٠٢٠‬‬ ‫على امتداد هذه ال�سنة‪ ،‬العديد من الفعاليات‬ ‫للمهرجانات تعزف فيها العديد من الفرق‬
‫الثقافية والمعار�ض والمهرجانات الفنية‪.‬‬ ‫المو�سيقية المحلية والعالمية‪.‬‬
‫وي��ع��د مهرجان مراك�ش ال��دول��ي للفيلم‬
‫واح ��داً من �أه��م المهرجانات التي تقام في‬
‫دول حو�ض البحر الأبي�ض المتو�سط‪ ،‬وهو‬
‫ي�ست�ضيف العديد من �أهم الأعمال ال�سينمائية‬
‫الأوروبية والأمريكية‪� ،‬إ�ضافة �إلى العربية‪،‬‬
‫ويقام هذا المهرجان في �شهر دي�سمبر من كل‬
‫عام‪ ،‬ويرجع تاريخ ت�أ�سي�سه �إلى عام (‪،)2001‬‬
‫وهو من المهرجانات التي تجلب كبار �صناع‬
‫ال�سينما في العالم‪ ،‬وي�أتي لزيارته العديد‬
‫من ال�سينمائيين الم�شهورين ح��ول العالم‪.‬‬
‫وعلى امتداد �سنة (‪� ،)2020‬ستقام العديد من‬
‫المعار�ض والمهرجانات الفنية والفعاليات‬
‫الثقافية‪ ،‬والتي �ستزيد من جذب ال�سياح �إلى‬
‫مدينة مراك�ش‪ ،‬والتي تجتذب �سنوي ًا ماليين‬
‫الزوار الأجانب‪ ،‬وهي التي ُتعتبر من�صة للتنوع‬
‫الفني والثقافي‪ ،‬بعد �أن ظلت ه��ذه المدينة‬
‫وعبر تاريخها الطويل؛ واحة ثقافية متنوعة‬
‫ت�شع على بالد المغرب وعلى �إفريقيا جنوبي‬
‫ال�صحراء‪.‬‬
‫�إن��ه��ا م��دي��ن��ة ���س��اح��رة بف�ضل جمالها‬
‫ق�صر الباهية‬ ‫الطبيعي و�إرثها التاريخي‪ ،‬لذا تم اختيارها‬

‫‪25‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫االحتفاء بـ«الفالمينكو»‬
‫في الحمراء‬ ‫خو�سيه ميغيل بويرتا‬

‫الكبير مانويل دي فايا (‪Manuel de‬‬ ‫الخليفة عبدالرحمن النا�صر‪ .‬بين �أحرا�ش‬ ‫بالن�سبة �إل��ى مواليد �إقليم �أندل�سيا‪،‬‬
‫‪ ،)Falla‬الذي ولد‪ ،‬بالمنا�سبة‪ ،‬في مدينة‬ ‫تلك الجبال وم���زارع الأودي���ة وقطعان‬ ‫جنوبي �إ�سبانيا‪ ،‬في القرن الفائت‪ ،‬مازالت‬
‫ا�ستقر‬
‫ّ‬ ‫نظم‪ ،‬بمجرد �أن��ه‬ ‫قادي�س‪ ،‬وال��ذي ّ‬ ‫البقر‪ ،‬التي ترتع في كل مكان معلقة على‬ ‫مناظرها الجبلية والبحرية وحيوية �أنا�س‬
‫بغرناطة في ع��ام (‪ ،)١٩٢٢‬باال�شتراك‬ ‫المنحدرات الم�ؤدية �إلى البحر‪ ،‬و�إلى جانب‬ ‫�أريافها ومدنها‪ ،‬توقظ م�شاعر حميمة‬
‫مع تلميذه في المو�سيقا و�صديقه ال�شاعر‬ ‫الخيول التي يمتطيها رعاة الثيران‪ ،‬ذلك‬ ‫ومحبة خا�صة لجذور لم يجتثها مغب‬
‫غارثيا لوركا‪� ،‬أول �سباق ومهرجان غناء‬ ‫الحيوان �سيد المنطقة و�إ�سبانيا الذي ُتغرق‬ ‫العولمة‪ .‬خالل �أ�سبوع في منت�صف �شهر‬
‫ورق�����ص الفالمينكو‪ ،‬انعقد ف��ي حمراء‬ ‫�أ�ساطيره ح�ضارات المتو�سط الأولى‪ ،‬يلم�س‬ ‫�أغ�سط�س من �سنة ك��ورون��ا‪� ،‬أتيح لي �أن‬
‫غرناطة ف��ي يونيو للعام ذات ��ه‪ ،‬بهدف‬ ‫المرء هناك �إيقاع حياة خا�ص ًا‪ ،‬يخفق‬ ‫�أ�سيح في منطقة م�ضيق جبل طارق من‬
‫تقييم هذا الفن وتحريره من التهمي�ش‪،‬‬ ‫ب�أنا�س �صارعوا من �أجل البقاء �ضد الجوع‬ ‫خليجي‬
‫َ‬ ‫الجانب الإ�سباني الممتدة بين‬
‫الذي كان يعانيه وقتذاك‪ .‬تقديم ًا للمبادرة‬ ‫قدر لها �أن تكون عبر‬ ‫والجيو�ش‪ ،‬في بقعة ّ‬ ‫كل من الجزيرة الخ�ضراء وقادي�س المطلة‬
‫للجمهور‪� ،‬ألقى لوركا محا�ضرته (الغناء‬ ‫الع�صور ج�سراً وتخوم ًا مع ًا‪ ،‬وكذلك مهداً‬ ‫على ال�ساحل المغربي البادي دوم ًا على‬
‫العميق‪ .‬غناء �أندل�سيا الأ�صلي) (فبراير‬ ‫لغناء الفالمينكو بامتياز‪.‬‬ ‫م�سافة (‪ )١٥‬كم فقط‪ .‬ظاهري ًا ك��ان كل‬
‫‪ )١٩٢٢‬محل ًال فيها م�صادر الفالمينكو‬ ‫َن َع َت �أولئك النا�س غناء الفالمينكو‪،‬‬ ‫�شيء كالعادة‪ ،‬ما عدا وجوه �أهل المنطقة‬
‫ومكوناته الجمالية انطالق ًا من اعتبار‬ ‫الذي �سينت�شر في �أندل�سيا و�إ�سبانيا كلها‪،‬‬ ‫المرحين والن�شطين المغطاة بالكمامات‬
‫�أ�ستاذه فايا (الغناء العميق) �صنف ًا من‬ ‫بالغناء العميق (‪ ،)Cante jondo‬بتبديل‬ ‫ال�صحية وغياب �أل��وف �سيارات الإخ��وة‬
‫�أ�صناف المو�سيقا غير المتجان�سة‪ ،‬وذات‬ ‫ح��رف ال��ه��اء لكلمة (‪ )hondo‬بالحاء‬ ‫المغاربة التي كانت تحت�شد كل �سنة في‬
‫�أنغام قليلة ُيبنى على تكرير نغمة واحدة‪،‬‬ ‫ال��ع��رب��ي للت�شديد ���ص��وت��ي� ًا ع��ل��ى العمق‬ ‫الطرق الأندل�سية ذهاب ًا و�إياب ًا بعد �أو قبل‬
‫ب ��إ���ص��رار م��ح��م��وم ع��ل��ى غ���رار الطقو�س‬ ‫الطاحن للم�شاعر المعبر عنها في هذا الفن‬ ‫ق�ضائهم العطلة ال�صيفية‪.‬‬
‫ال�سحرية البدائية وال�سابقة للنطق‪ .‬ح�سب‬ ‫الذي يغر�س جذوره في ال�شرق را�سخ ًا في‬ ‫وبالرغم من �أن ال�سياح الأوروبيين‬
‫لوركا (�أن��غ��ام الفالمينكو تنح�صر على‬ ‫�أرا�ضينا في عهد الإ�سالم بف�ضل دفقات‬ ‫اعتذروا في هذا ال�صيف ب�سبب الجائحة‪،‬‬
‫طيف �أ�صوات اللفظ‪ ،‬مثله مثل لحون قلب‬ ‫العرب المتوالية بعد فتح �شبه الجزيرة‬ ‫ف��إن �شواطئ المحيط الأطل�سي و�شوارع‬
‫�آ�سيا)‪ ،‬كما يتبين‪ ،‬على حد ذكره‪ ،‬في �أغنية‬ ‫الإيبيرية‪ ،‬وقدوم قبائل الغجر من الهند‬ ‫ال�ضياع والمدن القادي�سية اكتظت ب�أبناء‬
‫(للبدر هال ٌة‪ /‬لقد مات حبي)‪ ،‬التي تجمع‬ ‫عن طريق م�صر حين كانت الأندل�س على‬ ‫إقبال ممتاز من‬
‫البلد والإ�سبان‪ ،‬ويالحظ � ٌ‬
‫معنيي الأ���س��ى والحب‬ ‫َ‬ ‫باقت�ضاب مثير‬ ‫و�شك الأف��ول‪ .‬واعتباراً من القرنين (‪١٨‬‬ ‫ناحيتهم لال�ستمتاع في تلك ال�شواطئ‬
‫و���س ��ؤال ال��م��وت‪� ،‬أكبر ت�سا�ؤل للإن�سان‪،‬‬ ‫و‪ )١٩‬ت�شكلت في �أو�ساط الكادحين من‬ ‫ال��خ�لاب��ة‪ ،‬ول��زي��ارة المتاحف والمواقع‬
‫الذي يلقاه لوركا ي�شغل التراث الغنائي‬ ‫الفالحين وع��م��ال المناجم والبحارين‬ ‫الأثرية‪ ،‬ك�آثار مدينة (غادير) الفينيقية‪،‬‬
‫لأندل�سيا والم�شرق‪.‬‬ ‫�أنواع الفالمينكو التي نعرفها اليوم‪ .‬منذ‬ ‫�أقدم المدن الأوروبية (الألفية الأولى ق‪.‬م)‬
‫ل��دى رج��وع��ي م��ن �سواحل قادي�س‪،‬‬ ‫ذلك الحين‪ ،‬لم يكف هذا الغناء عن التطور‬ ‫الموجودة في مركز مدينة قادي�س‪ ،‬وبقايا‬
‫ح�����ض��رت ح��ف��ل��ة ل��ف��رق��ة ال��راق�����ص��ة �إي��ف��ا‬ ‫والتنوع‪ ،‬على �أي��دي عباقرة من الغجر‬ ‫مدينة (بايلو كالويدية) الرومانية الواقعة‬
‫جيربابوينا (‪ )Eva Yerbabuena‬في‬ ‫الإ�سبان والإ�سبان غير الغجر‪ ،‬كما ذهب‬ ‫بالقرب من مدينة (طريفة) التي تحظى‬
‫الحمراء جال�س ًا في ال�صفوف الأمامية‬ ‫�إليه الباحثون �سالكين م�سلك المو�سيقي‬ ‫من جهتها بح�صن �أموي مبني ب�أمر من‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪26‬‬


‫ج�سور‬

‫للترويج لنف�سه‪ .‬وي��رى �أن االن�سجام الأكبر‬ ‫ع��ل��ى م��ق��رب��ة م��ن الخ�شبة ول��وح��ة �إع�ل�ان‬
‫ريتي الفالمينكو والم�شرق يتمثل في‬ ‫بين ِ�ش ْع َّ‬ ‫برنامج (ل��ورك��ا وغرناطة في حدائق جنة‬
‫برغم اعتذار ال�سياح‬ ‫(غزليات حافظ الجليلة‪ ،‬الذي غنى للجميالت‬ ‫العريف) ال��ذي يعقد في كل �صيف‪� ،‬إكرام ًا‬
‫الأوروبيين ب�سبب‬ ‫و�أ�سرار الأحجار والليل الأزرق غير النهائي‬ ‫لل�شاعر الغرناطي‪ ،‬وتنفيذاً لو�صيته بتقدير‬
‫الجائحة ف�إن قادي�س‬ ‫ب�ش ْعر‬
‫ل�شيراز)‪ّ � .‬إن ولع حافظ (ال��ق��رن‪١٤‬م) َ‬ ‫الفالمينكو‪ ،‬المت�ألق �أي�ض ًا في حارة البيازين‬
‫اكتظت ب�أبناء البلد‬ ‫الحبيبة �إلى درجة ا�ستعداده لتبديل الأر�ض‬ ‫المقابلة للحمراء‪ .‬عندئ ٍذ ا�ستعدت �صفاء �سماء‬
‫كلها ب�شعرة واح��دة منها و� ْإن ترف�ضه هي‪،‬‬ ‫قادي�س و�أري��ج حقولها ومياه م�ضيق جبل‬
‫والإ�سبان‬ ‫ب�شعرها الأ�سود منذ الطفولة‬ ‫�أو ت�شابك قلبه َ‬ ‫ط��ارق‪ ،‬بوابة الأق��وام وب ��ؤرة غناء �أندل�سيا‬
‫وحتى الموت‪ ،‬لهو عامل دارج في الفالمينكو‪،‬‬ ‫ورق�صها ال��ذي تحييه �أم��ام عيون جمهور‬
‫ال��ح��اف��ل ه��و الآخ� ��ر ب��ال�����ص��ور ع��ن �ضفائر‬ ‫حا�شد ومتحم�س‪ ،‬برغم �إج���راءات الوقاية‬
‫المحبوبة المخزونة في كنوز �أو الجديلة‬ ‫م��ن ال��وب��اء‪ ،‬كبيرة راق�����ص��ات الفالمينكو‪،‬‬
‫النازلة على الجبين‪ ،‬التي ت�سبب الم�أ�ساة‪.‬‬ ‫ومجموعة من الراق�صين الرجال ال�شباب‪،‬‬
‫و�صف غناء‬ ‫ودلي ًال على ذلك �أتى (لوركا) بمقطع �أغنية‬ ‫ت��ح��اور حركاتهم �أل��ح��ان قيثارة ال��ع��ازف‬
‫(ال�صغيرية) الخا�ص بقادي�س‪�( :‬إذا‬ ‫َّ‬ ‫من نوع‬ ‫(باكوخرانة) المن�سكبة ك�شبكة من المناهل‬
‫(الفالمينكو) الذي‬ ‫يدي‪ /‬ب�ضفائر‬ ‫ُم ُّت انت ِب ْه �إلى طلبي‪� /‬أن تكبل ّ‬ ‫بعد ذوبان الثلج‪ ،‬وتجاوب �إيماءاتهم �صمت‬
‫انت�شر في الأندل�س‬ ‫َ�ش ْعرك الأ�سود)‪ ،‬الذي يراه عميق ًا و�سامي ًا على‬ ‫الليل ت��ارة‪� ،‬أو �صوت ثالثة مغنين وعلى‬
‫و�إ�سبانيا بالغناء‬ ‫م�ستوى غزليات حافظ‪ ،‬التي تحتوي كذلك‬ ‫�صدارتهم (�أنطونيو تيخادا) ت��ارة �أخ��رى‪.‬‬
‫العميق المعبر عن‬ ‫على موا�ضيع البكاء ودمع الدماء والهالك‪،‬‬ ‫ت�أرجح العزف والغناء والرق�ص في (لحم‬
‫الم�شاعر‬ ‫وبقاء الع�شق بعد رحيل العا�شق المعهودة في‬ ‫الملمح �إل��ى الج�سد‬‫ّ‬ ‫وع��ظ��م)‪ ،‬عنوان الحفلة‬
‫كلمات الفالمينكو‪ .‬ويخ�ص�ص لوركا اقتبا�س ًا‬ ‫والأ���ص��ال��ة‪ ،‬من ال�صمت الكامل وال��وق��وف‪،‬‬
‫لمقطع لعمر الخيام العجيب حول فناء الحب‬ ‫�إلى انفجار ال�صرخة والنقالت‪ ،‬دون مراحل‬
‫المحكم‪ ،‬معقب ًا ب�أن مغني الفالمينكو (ي�ضع‬ ‫الو�سط‪ ،‬يجعل قلوب الم�شاهدين تلتقط ذبذبة‬
‫على مفرقه تاج زهور اللحظة ويب�صر‪ ،‬وهو‬ ‫الحزن والفرح ثم ال�شجن البحت الكامن في‬
‫ينظر �إل��ى الك�أ�س المليئة بال�شراب‪ ،‬نجم ًة‬ ‫الأعماق‪.‬‬
‫�سائرة في القعر‪ ،‬وي�شعر مثل �شاعر ني�سابور‬ ‫ا�سم (لوركا) المكتوب على حافة الخ�شبة‪،‬‬
‫هذا الفن يغر�س‬ ‫العظيم‪ ،‬ب�أن الحياة لي�ست �سوى لوح �شطرنج)‪،‬‬ ‫حلق ب��ي �إل��ى فكرته القائلة‪�( :‬إن �أغانينا‬
‫جذوره في ال�شرق‬ ‫على ح��د ح��رف ل��ورك��ا‪ .‬وكما ك��ان ق��د فعل‬ ‫الأندل�سية‪ ،‬حين تبلغ ذروة الأل��م والحب‪،‬‬
‫الأندل�سي را�سخ ًا منذ‬ ‫ال�شاعر التون�سي �أبو القا�سم ال�شابي‪ ،‬المعا�صر‬ ‫ت�صبح �شقيقة للمنظومات الجيدة لل�شعراء‬
‫العهد الإ�سالمي‬ ‫للوركا‪ ،‬في محا�ضرته المثيرة (الخيال عند‬ ‫ال��ع��رب وال��ف��ر���س)‪ ،‬و�إن ��ه (ف��ي ه ��واء قرطبة‬
‫العرب) (‪ ،)١٩٢٩‬التزم ال�شاعر الغرناطي‬ ‫وغرناطة تمكث �إ���ش��ارات وخطوط للجزيرة‬
‫بذكر م�صادره‪ ،‬و�أخبرنا ب�أنه طا َلع (بانفعال‬ ‫العربية النائية)‪ ،‬م�شدداً على الجوهر الم�شرقي‬
‫مدون (ق�صائد‬ ‫بالغ) تلك الأ�شعار ال�شرقية في ّ‬ ‫للفالمينكو‪ .‬هنا �أخذ يقارن بين مقاطع من‬
‫�آ�سيوية) لـ(غا�سبار دي نافا) المن�شور في‬ ‫الغناء العميق‪ ،‬ونبذة من �أبيات �شعر م�شرقية‪،‬‬
‫باري�س في عام (‪ ،)١٨٣٣‬ويرتدي قمي�ص‬ ‫كما لم يفعل لوركا ب��أي ت��راث �شعري �آخر‪.‬‬
‫نظم المو�سيقي‬ ‫الباحث‪ ،‬مثلما فعل ال�شابي‪ ،‬وراح يت�صفح‬ ‫يورد مقطع ًا لل�شاعر العربي (ال�سراج الوراق)‬
‫مانويل دي فايا‬ ‫النظريات الأوروبية‪ ،‬حول خ�صائ�ص و�أهمية‬ ‫�شبه فيه ف�ؤاد ال�شاعر الملتهب‬ ‫القرن (‪١٣‬م) ُي َّ‬
‫المو�سيقا ال�شعبية لإغناء وج��وه نظره‪ .‬في‬ ‫بنار الأ�سى بف�ؤاد الحمامة الحزينة‪ ،‬و�أخرى‬
‫وال�شاعر لوركا‬ ‫حفلة ف��رق��ة (�إي��ف��ا جيربابوينا)‪ ،‬ف��ي جنة‬ ‫(يقول‬
‫ُ‬ ‫الب��ن ال��زي��ات‪ ،‬القرن (‪٩‬م) فحواها‪:‬‬
‫�أول مهرجان غناء‬ ‫لا‪ ،‬تثبيت ًا على ادع��اء‬ ‫العريف �شهدنا‪ ،‬ف��ع� ً‬ ‫لت وهل غير‬ ‫قبرها‪ /‬ف ُق ُ‬
‫الخالن لو ُز ْر َت َ‬
‫ُ‬ ‫لي‬
‫ورق�ص الفالمينكو‬ ‫لوركا ب�أن (الغناء العميق‪� ،‬ألحان ًا وكلمات‪،‬‬ ‫قبر) يت�آلفان تمام ًا مع روح و�شكل‬ ‫ُ‬ ‫لها‬ ‫ِ‬
‫د‬ ‫ؤا‬ ‫�‬ ‫الف‬
‫عام (‪)١٩٢٢‬‬ ‫هو �أحد �أ�سمى الإبداعات الفنية في العالم)‬ ‫الفالمينكو‪ ،‬م�ضيف ًا �أنها ترحلت �إلى �أندل�سيا‬
‫وت�أكيد حقه في الحياة في الظروف الراهنة‬ ‫عبر (الهاتف بال �أ�سالك ومرايا النجوم ال�صغار‬
‫ال�صعبة للثقافة‪.‬‬ ‫التي ي�ستخدمها الفن منذ الأزمنة الغابرة)‬

‫‪27‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مهد الأندل�س والأ�صالة‬

‫ت�ستور‪ ..‬الفردو�س المن�شود في تون�س‬


‫(تاكيال) �أو (ت�ستور)‪ ..‬توجد على �ضفاف‬
‫واد مجردة‪ّ � ،‬أ�س�سها ال ّلوبيون و�شيدوها على‬ ‫تقع (ت�ستور) ف��ي منطقة جميلة م��ن والي��ة (باجة)‬
‫�أطالل مدينة رومانية‪ ،‬هي تاكيال �أو ت�شيال‬ ‫التون�سية في ال�شمال الغربي (‪ )٦٧‬كم عن العا�صمة‬
‫ومعناها بالبربرية الأر�ض الخ�صبة‪.‬‬
‫تون�س‪ ،‬بين �سل�سلة من الجبال ت�سترها وتحيط بها‪� ،‬إ�ضافة‬
‫حافظت البلدة على ه��ذا اال�سم عقوداً‬
‫من الزمن‪� ،‬إلى �أن انتقل �إليها المهاجرون‬ ‫�إل��ى وقوعها في منطقة خ�صبة تعج بالحدائق الغناء‬
‫الإ�سبان للعي�ش فيها مع الأمازيغ الم�سلمين‬ ‫والمناطق الخ�ضراء‪ .‬وتزيدها جما ًال الأنهار ال�صغيرة‬
‫والجالية اليهودية‪ .‬ف�أطلقوا عليها ا�سم‬ ‫نورة بنعلي‬
‫ذات المياه العذبة وال�صالحة لل�شرب‪ ،‬فهي باخت�صار‬
‫(ت��ازات��ور)‪ ،‬تازا وتعني (الآداء)‪ ،‬و(ت��ور) �أي‬ ‫مدينة في القرن الحادي والع�شرين‪ ،‬تعبق ب�أريج زمان الو�صل في الأندل�س‪.‬‬
‫البرج العالي‪ ،‬والذي يعلق عليه جر�س وي�شبه‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪28‬‬


‫�أماكن‬

‫القلعة‪ ،‬ومعناها الكامل قلعة المعطاء‪ .‬وازدهرت‬


‫في الع�صر الفينيقي � ّأيما ازدهار‪ ،‬وتعتبر �أ�ضخم‬
‫المدن التي � ّأ�س�سها الأندل�سيون و�أ�شهرها بعد‬
‫�أن ا�ستقروا بها في �أواخر القرن ال�ساد�س ع�شر‪.‬‬
‫فتحت تلك المدينة ذراعيها واحت�ضنتهم‪ ،‬وفيها‬
‫حافظوا على تقاليدهم‪ ،‬فعاد بريقها من جديد‪.‬‬
‫الأن��دل�����س��ي��ون المور�سكيون‪ ،‬ه��م ال�سكان‬
‫الم�سلمون الذين حاولوا البقاء في الأندل�س بعد‬
‫�سقوط غرناطة‪ ،‬لكن الملك الإ�سباني فيليب‬
‫الثالث قام بطردهم بالقوة‪ ،‬فجا�ؤوا من ق�شتالة‪،‬‬
‫و�أراغ���ون الواقعة في ال�شطر الم�سيحي لبالد‬
‫الإيبار وبنوا ت�ستور‪.‬‬
‫ت�ستور‪ ..‬ومن تاريخها المور�سكي الأندل�سي‬
‫من معالم ت�ستور‬ ‫ت�ستمد �صيتها‪ ،‬م��ن ت��اري��خ��ه��ا ومعمارها‬
‫وح�ضارتها و�صناعتها وفنونها وحرفها يفوح‬
‫عبق الأندل�س‪ ..‬هذا العبق ال��ذي ن�ستن�شقه من‬
‫تجوالنا في �ساحة رحيبة في مقاهيها و�أ�سواقها‬
‫وفي الحارة‪ ،‬حيث ا�ستقامت الأنهج و�سطحت‬
‫المنازل بالقرميد المحلي وبيوت عربية منفتحة‬
‫على �صحن تتو�سطه �شجرة النارنج معبرة‬
‫يغير الإ�سبان من لغتهم �إال بعد‬‫عن ذوقهم‪ .‬لم ّ‬
‫ن�صف قرن‪ ،‬لكنهم ظلوا محافظين على عاداتهم‬
‫وتقاليدهم‪ ،‬حيث ك��ان��ت م�صارعة الثيران‬
‫والحفالت الإ�سبانية التي تال�شت مع الوقت‪ ،‬لكن‬
‫مدينة غرناطة‬ ‫الق�صبة‬ ‫تر�سخت ع��ادات �أكلهم �أكثر‪ ،‬مثل (الكي�سال�س)‬
‫التي ت�سجل ح�ضورها ب�شهر رم�ضان وتتفرد بها‬
‫�أنهجها تعترف ب�أن المكان مختلف‪ ،‬و�إن كانت‬ ‫المدينة‪.‬‬
‫المالحظة الأولى � ّأن المدن ال تكتمل‪ ..‬فالمدينة‬ ‫ت�ستور �أو تاكيال‪ ،‬نعترف من � ّأول وهلة �أنها‬
‫لم تم�سها التطورات الحديثة بحيث حافظت على‬ ‫تختلف عن بقية المدن والقرى التون�سية‪ ،‬فهي‬
‫طابعها الأندل�سي‪ ،‬فم�آذن الم�ساجد ت�شبه الأبراج‬ ‫خليط من المنازل المطلية بالجير الأبي�ض‪،‬‬
‫ب�صمات �أندل�سية‬ ‫الم�سيحية‪ ،‬و�سقوف مبانيها مغطاة بالقرميد‬ ‫وتختلط بلون الأ�سمنت والقرميد‪ ،‬لكن عندما تلج‬
‫ال تزال موجودة في‬ ‫الأخ�ضر الإ�سباني‪ ،‬وطرقها على نمط قطعة‬
‫�شخ�صية المدينة‬ ‫ال�شطرنج‪.‬‬
‫ومعمارها وعادات‬ ‫وب��رغ��م الحنين �إل���ى وط��ن��ه��م الأم‪ ،‬ك��ان‬
‫المور�سكيون حدث ًا الفت ًا في تاريخ (ت�ستور)‪ ،‬حيث‬
‫�سكانها‬ ‫جلبوا معهم فنون الزراعة الأندل�سية‪ ،‬وزرعوا‬
‫�أ�شجار الزيتون والرمان والحوام�ض التي كانت‬
‫تذكرهم بموطنهم بغرناطة وق�صر الحمراء‪ .‬ولعل‬
‫الزائر لت�ستور‪ ،‬ي�شعر ب� ّأن هناك ب�صمات التزال‬
‫موجودة حتى الآن لمدينة �أندل�سية على �أر�ض‬
‫ت�ستور مدينة التزال‬ ‫تون�س‪ ،‬فالتقنية الأندل�سية المتقدمة في مجال‬
‫تعبق ب�أريج زمان‬ ‫الفالحة‪ ،‬وخا�صة (الناعورة)‪ ،‬جعلت من هذه‬
‫الو�صل في الأندل�س‬ ‫المدينة الأندل�سية التون�سية منطقة فالحية‪ .‬و�أنت‬
‫تتجول في (ت�ستور) تعتر�ضك �أ�شجار النارنج‬
‫في الطريق‪ ،‬وفي الحدائق وفي المنازل يجمعها‬
‫الأه��ال��ي ليقطروا منها م��اء الزهر ويخزنوها‬
‫فيليب الثالث ملك �إ�سبانيا‬

‫‪29‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫�أماكن‬

‫لت�صبح �أ�سا�س الدواء ومذاق الأكل وعبق العطر‪.‬‬


‫وفي الطريق الم�ؤدية �إلى حقول الرمان الغناء‬
‫بين الجبال الخ�ضر ورائحة الع�شب الفواحة‪،‬‬
‫تعتر�ضك العربات الم�ستعدة لحمل الخير الوفير‬
‫من الثمر‪ .‬الرمان في (ت�ستور) كرمان ال�ساقية‬
‫المعجزة في حدائق ق�صر الحمراء في غرناطة‬
‫والم�ؤدية �إلى فناء الرياحين‪.‬‬
‫يخزن �أهل (ت�ستور) الرمان بحباته وق�شوره‪،‬‬
‫لم تكن غرناطة‬ ‫فالرمان هنا له ق�صة �أخرى؛ � َأو ْ‬
‫هي الذكرى والحنين؟ فالرمان ا�شتهرت بزراعته‬
‫جانب من والية باجة‬ ‫مدينة غرناطة‪ ،‬وا�ستعملته ك�شعار لها �إلى الآن‪،‬‬
‫كما �سماه الرومانيون �أي�ض ًا (بونيكومالوم) �أي‬
‫ثقافة قرطاج‪ .‬وهكذا تتالقى قرطاج بغرناطة‪.‬‬
‫وعلى �أر�ض تاكيال‪� ،‬أو مدينة ت�ستور‪ ،‬تحتفي‬
‫مميزة‪ ،‬وهي (مهرجان‬ ‫المدينة بتظاهرة ثقافية ّ‬
‫الرمان) الذي دارت فعالياته من (‪� 13‬إلى ‪)17‬‬
‫�أكتوبر الما�ضي‪ ،‬حيث قامت جمعية �صيانة‬
‫مدينة ت�ستور واالت��ح��اد المحلي للفالحين‬
‫ومندوبية الفالحة بباجة‪ ،‬ف�ض ًال ع��ن بلدية‬
‫ت�ستور‪ ،‬بتنظيم المهرجان للتراث والتوا�صل‬
‫والجذور‪.‬‬
‫وتزخر مدينة ت�ستور بالطاقات والمخزون‬
‫الثقافي وال�سياحي ال��ذي يجعل منها بيئة‬
‫ت�ستور قديم ًا‬
‫وم�ساجد ت�ستور مميزة ب�أ�شكالها الهند�سية‬ ‫خ�صبة لتعدد التظاهرات بجميع �أنواعها‪ ،‬والتي‬
‫أهمها و�أولها الجامع‬ ‫يمكنها خلق حركية ثقافية دون االقت�صار على‬
‫وبتفرد زخارفها‪ ،‬ومن � ّ‬ ‫المهرجان الدولي للمالوف‪ ،‬ال��ذي بلغ دورته‬
‫الكبير الذي بني �سنة (‪ ،)١٦٣٠‬و�ساعة (ت�ستور)‬
‫من �أندر الحكايات التي تتردد هنا‪ ،‬وهي حديث‬ ‫الخم�سين هذه ال�سنة‪.‬‬
‫الأجيال‪ ،‬والتي عادت �إلى الدوران العك�سي بعد‬ ‫بكثير من الحنين؛ يتقن الحرفيون بت�ستور‬
‫توقفها ل�سنوات‪ .‬هي �ساعة تدور عك�س الدوران‬ ‫العديد من الإبداعات التي ت�ستمد �صورها من‬
‫ال��ع��ادي‪ ،‬ومرقمة ترقيم ًا معاك�س ًا‪ ..‬ربما هي‬ ‫نقو�ش جدران ق�صر الحمراء وق�صر جنة العري�ش‪،‬‬
‫ت�ستمد �صيتها من‬ ‫نجد هنا تلك ال��روح الهادئة البعيدة المتلونة‬
‫تعبر عن رغبة الأندل�سيين الذين ا�ستقروا بالبالد‬
‫تاريخها و�صناعاتها‬ ‫و�سر‬ ‫ب�أطياف الوطن‪.‬‬
‫التون�سية في العودة �إلى الزمن الما�ضي‪ّ ،‬‬
‫وفنونها المور�سكية‬ ‫ه��ذه ال�ساعة التي تتو�سط الجامع الكبير‪ّ � ،‬أن‬
‫الأندل�سية‬ ‫الأندل�سيين ك ّلما �أتقنوا عمال‪ ،‬خ�شوا عليه من‬
‫العين والح�سد‪ ،‬فيعمدون لت�شويه جزء منه كي ال‬
‫ي�صيبه �سوء‪.‬‬
‫يمر عبر الحمامات‬ ‫بد �أن ّ‬‫من يزر (ت�ستور) ال ّ‬
‫تتميز بم�ساجدها‬ ‫القديمة �أو ما تبقى منها هنا‪ ،‬ثم تعتر�ضك‬
‫و�ساعتها النادرة‬ ‫الأعمدة العالية والأ�سقف المقرمدة وا�ستقامة‬
‫الأنهج‪ ،‬وك ّلها ت�ؤدي �إلى الجوامع‪.‬‬
‫ونواعيرها‬ ‫وت�ستور هي حكاية م�أ�ساة لما بعد غرناطة‪،‬‬
‫وحماماتها وفنونها‬ ‫�شملهم الظلم بعد �أن �ضيعوا الفردو�س‪ ،‬غرناطة‬
‫وثقافتها‬ ‫�أو غراناتة‪ ،‬والتي قد يكون معناها (تل الغرباء)‪،‬‬
‫هي فردو�سهم المفقود‪ ،‬فاختاروا قطعة من‬
‫الأر���ض المعطاء‪ ،‬لتكون قطعة من الفردو�س‬
‫المن�شود‪� ،‬أو هكذا كان التفا�ؤل‪.‬‬
‫الجامع الكبير بـ «ت�ستور»‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪30‬‬


‫إبداعات‬
‫حديقة بيت دم�شقي‬
‫�شعر ‪ -‬ق�صة ‪ -‬ترجمة‬

‫¯ �أدبيات‬
‫¯ قا�ص وناقد‬
‫¯ «في ال�صيد»‪ /‬ق�صة مترجمة‬
‫¯ الق ُْمقُم‪/‬ق�صة ق�صيرة‬

‫‪31‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫جمال ّيات ال ّلغة‬
‫أدوات‬
‫وم ْعروف ٌة � ُ‬ ‫عن � ْأم ٍر ّما‪َ ،‬‬ ‫ال�س�ؤالِ ْ‬‫غي ِر ّ‬ ‫هام �إلى َمعانٍ �أُ ْخرى‪ْ ،‬‬ ‫‪،‬يتحو ُل اال�س ِت ْف ُ‬ ‫ّ‬ ‫في البالغ ِة‬
‫يف‪ ،‬و� ْأي َن‪،‬و�أَ َّنى (ت�أتي ِل َم َعانٍ ِع َّدة‪َ :‬ك ْي َف‪،‬‬ ‫وك َ‬ ‫ان‪َ ،‬‬ ‫وم َتى‪ ،‬و�أَ َّي َ‬
‫وم ْن‪ ،‬وما‪َ ،‬‬ ‫وه ْل‪َ ،‬‬ ‫ا ِال ْ�س ِت ْف َهام؛ الهمز ُة َ‬
‫اد ِم ْن‬‫معا ِنيها الأَ ْ�ص ِل َّي ِة‪� ،‬إلى َم َعانٍ ُت�ست َف ُ‬
‫أدوات َع ْن َ‬‫وكم‪ ،‬و�أي‪ .‬ف َق ْد َت ْخ ُر ُج هذه ال ُ‬ ‫ومتى)‪ْ ،‬‬ ‫وم ْن �أَ ْي َن‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫واال�س ِت ْبطا ِء‪ ،‬وال َّت َع ُّج ِب‪،‬‬
‫ْ‬ ‫بيخ‪ ،‬وال َّت ْعظي ِم‪ ،‬وال َّت ْحقيرِ‪،‬‬
‫الكالم‪ ،‬كال َّن ْفي‪ ،‬والإِ ْن َكار‪ ،‬وال َّت ْقريرِ‪ ،‬وال َّت ْو ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ�سياقِ‬
‫قال �أبو َت ّمام في المديح‪:‬‬ ‫وال ّت ْ�سوي ِة وال َّت َم ِّني وال َّت ْ�شويق‪َ :‬‬ ‫�إعداد‪ :‬فواز ال�شعار‬

‫(‪)1‬‬
‫َ��ح ٍ��م � ّإل و�أَنْ������تَ َ �أ ِم ُ‬
‫���ي���ره���ا‬ ‫ِ��م��لْ��ت َ‬
‫ب ُ‬ ‫َ��ان كُ لُّها‬
‫��دن َ‬ ‫َمعت َ�أ ْح��� َي ُ‬
‫���اء َع ْ‬ ‫اجت ْ‬‫َه��لِ ْ‬
‫ري‪:‬‬
‫الب ْح ُت ُّ‬
‫وقال ُ‬ ‫رج ل�صيغ ِة ال َّن ْفي � ْأي َل ْم َت ْج َت ْ‬
‫مع‪َ .‬‬ ‫ال�س�ؤال هنا َخ َ‬
‫ُّ‬
‫َ��ج ُ��ر ِ‬
‫�ساط ُع‬ ‫َ��ج��رِ ‪ ،‬وال��ف ْ‬
‫َع��ل َّ��ي ن ُُ��م�� َّو ال��ف ْ‬ ‫اء ِع ْندي‪َ ،‬وق ْ��د َن َم ْت‬ ‫ُ��ر َك ال َّن ْع َم َ‬
‫�أ�أك��ف ُ‬
‫فو�ض وال الطَّ ْر ُف ِ‬
‫خا�ش ُع‬ ‫فال الق ْولُ َمخْ ٌ‬ ‫و�أنْ����تَ ال���ذي � ْأع��زَ ْزتَ��ن��ي َب�� ْع َ��د ِذ ّل��ت��ي‬
‫عماءك‪.‬‬
‫َ‬ ‫ليق بي � ْأن � ْأك ُف َر َن‬
‫كار؛ � ْأي ال َي ُ‬
‫اله ْمز ُة‪ ،‬فيها �إ ْن ٌ‬
‫َ‬
‫مكان ا�شتدا ِد القتال‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الم ْلت ََح ُم‪:‬‬
‫‪ُ -1‬‬

‫وادي عبقر‬
‫إيليا �أبو ما�ضي (من الكامل)‬
‫� ّ‬ ‫( ُق ْل ُت ا ْب َت�سِ ْم)‬
‫ال�سما‬‫ّ��ج�� ُّه ُ��م ف��ي َّ‬ ‫َ�����س ْ��م‪َ ..‬يكفي ال�� َت َ‬ ‫ْ��ت ا ْب��ت ِ‬ ‫ُق��ل ُ‬ ‫َ���ج��� َّه���م���ا‬
‫����ة‪َ ..‬وت َ‬ ‫����اء كَ����ئ����ي���� َب ٌ‬ ‫ق������الَ ال َّ‬
‫���������س����م ُ‬
‫َ�����ص ِّ��رم��ا‬
‫�����ص��ب��ا ال ُ��م��ت َ‬ ‫����ف ال ِّ‬ ‫�����س ُ‬ ‫����رجِ ���� َع الأَ َ‬‫لَ���ن ُي ْ‬ ‫���م‬ ‫َ�����ه ا ْب���ت ِ‬
‫َ�������س ْ‬ ‫���ت ل ُ‬ ‫ال�����ص��ب��ا َولّ������ى فَ���قُ���ل ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ق�����الَ‬
‫���ي ف���ي ال�����غَ�����را ِم َج�� َه�� َّن��م��ا‬ ‫�����ص����ا َرتْ ِل���نَ���ف ِ‬
‫�������س َ‬ ‫���ي ف���ي ال��� َه���وى‬ ‫َ����ت َ����س���م���ا ِئ َ‬
‫ق�����الَ الَّ���ت���ي ك����ان ْ‬
‫����ف �أُط�����ي�����قُ َ�أ ْن �أَتَ��� َب َّ‬
‫�������س���م���ا‬ ‫َق���لْ���ب���ي فَ����كَ���� ْي َ‬ ‫�����دم�����ا َم���لَّ��� ْك���تُ���ه���ا‬‫َ������ت ُع������ه������ودي َب����� ْع َ‬ ‫خ������ان ْ‬
‫َّ������ه ُم���� َت�����أَلِّ����م����ا‬
‫������م������ر َك كُ ������ل ُ‬
‫َ‬ ‫َق َّ‬
‫���������ض����ي����تَ ُع‬ ‫����������ر ْب فَ����لَ���� ْو ق���ا َر ْن���تَ���ه���ا‬
‫َ‬ ‫َ�������س���م َواطْ‬‫���ل���ت ا ْب���ت ِ‬ ‫ُق ُ‬
‫���ي ف��ي ال ِ��ح��م��ى‬ ‫���������داء َح��� ْو ِل َ‬
‫ُ‬ ‫����ر ‪َ ..‬والأَ ْع‬ ‫�����س ُّ‬ ‫�أَ�أُ َ‬ ‫��م‬‫���ص�� ْي��ح��اتُ�� ُه ْ‬ ‫ق�����الَ ال���� ِع����دا َح���� ْول����ي َع����ل ْ‬
‫َ����ت َ‬
‫���م �أَ َج���������لَّ َو�أَ ْع����ظَ ����م����ا‬ ‫ُ����ن ِم���ن��� ُه ْ‬‫َ������م تَ����ك ْ‬
‫لَ�����و ل ْ‬ ‫���وك ِب���ذَ ِّم���ه ْ‬
‫ِ���م‬ ‫َ�����م َي���ط���لُ���ب َ‬ ‫َ�������س���م ل ْ‬ ‫���ل���ت ا ْب���ت ِ‬ ‫ُق ُ‬
‫����دم����ى‬
‫���ت ل���ي ف���ي ال��� َم�ل�ابِ���� ِ���س َوال ُّ‬ ‫����ض ْ‬
‫َوتَ��� َع��� َّر َ‬ ‫��������دتْ �أَع�ل�ا ُم���ه���ا‬ ‫������د َب َ‬ ‫����م َق ْ‬ ‫ق������الَ ال���� َم ِ‬
‫����وا�����س ُ‬
‫ُ����ك ِد ْر َه�����م�����ا‬
‫َ����م����ل ُ‬‫���������س ت ْ‬ ‫�����ن كَ���� ّف����ي لَ���� ْي َ‬ ‫لَ����� ِك َّ‬ ‫�������ض الز ٌِم‬ ‫َ������ر ٌ‬
‫������ب������اب ف ْ‬
‫ِ‬ ‫َ�������ي ِل���ل���أَ ْح‬‫َو َع�������ل َّ‬
‫���دم���ا‬ ‫������ن الأَ ِح������ َّب ِ‬
‫������ة ُم��� ْع َ‬ ‫َ���������س����تَ ِم َ‬ ‫َح���� ّي���� ًا َول ْ‬ ‫َ�����م تَ�����زَ لْ‬
‫َّ�������ك ل ْ‬ ‫��ف��ي��ك �أَن َ‬
‫َ‬ ‫���م َي�� ْك‬ ‫���ل���ت ا ْب���ت ِ‬
‫َ�������س ْ‬ ‫ُق ُ‬
‫����ر ْع����تَ ال�� َع�� ْل��قَ��م��ا‬ ‫َ�������س���م َولَ���� ِئ����ن َج َ‬ ‫���ت ا ْب���ت ِ‬ ‫ُق���ل ُ‬ ‫ق��������الَ ال����لَ����ي����ال����ي َج���� َّر َع����ت����ن����ي َع���ل���قَ���م��� ًا‬
‫������ة ج����ا ِن����ب���� ًا َوت َ‬
‫َ�����رنَّ�����م�����ا‬ ‫����������ر َح ال������ َك�������آ َب َ‬
‫َ‬ ‫طَ‬ ‫����رنَّ����م���� ًا‬
‫������ر َك إِ� ْن َر� َآك ُم َ‬ ‫فَ����لَ���� َع����لَّ غَ ������ ْي َ‬
‫��ة َم��غْ��نَ��م��ا‬ ‫�����ش��ا���ش ِ‬
‫َ‬ ‫���ر بِ��ال�� َب‬ ‫�أَ ْم �أَنْ�������تَ َت���خْ َ‬
‫�������س ُ‬ ‫����ر ِم ِد ْر َه�����م����� ًا‬ ‫َ����م بِ����ال����تَ���� َب ُّ‬ ‫َ‬
‫ُ������������راك تَ����غْ����ن ُ‬ ‫�أَت‬
‫���رغَ ���م���ا‬ ‫������ب ُم ْ‬
‫����د ْن����ي����ا َو َي������ذْ َه ُ‬ ‫َي�����أت����ي �إِل������ى ال ُّ‬ ‫���د ك��ا ِئ��ن�� ًا‬ ‫ُ�������س��� ِع ُ‬ ‫َ‬
‫�����ش��ا���ش��ةُ لَ���ي���� َ���س ت ْ‬ ‫ق�����الَ ال�� َب‬
‫�������س���م���ا‬
‫َ�������ن تَ���تَ��� َب َّ‬
‫�����د ل ْ‬ ‫����ر َف��������إِن َ‬
‫َّ�������ك َب����� ْع ُ‬ ‫� ِ����ش���� ْب ٌ‬ ‫ال��������ردى‬
‫َّ‬ ‫���م م�������ادا َم َب���ي���ن َ‬
‫َ���ك َو‬ ‫���ل���ت ا ْب���ت ِ‬
‫َ�������س ْ‬ ‫ُق ُ‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪32‬‬


‫�أدبيات‬

‫ق�صائد مغنّاة‬
‫محمد‪ ،‬وغ ّناها طالل الم ّداح‪ /‬مقام الر�صد عام (‪1964‬م)‬
‫لحنها عبداهلل ّ‬
‫ال�سديري‪ّ .‬‬
‫�شعر‪�ُ :‬سلطانة ّ‬
‫�سات م��ا َب�� ْي َ��ن النَّخيلْ‬‫َو َ���ص��دى ال َه َم ِ‬ ‫��ع��ات ا َ‬
‫لأ���ص��ي��لْ‬ ‫َّ����رتُ ُ���س�� َو ْي ِ‬
‫َ����م تَ����ذك ْ‬
‫ك ْ‬
‫دواء ل�� ْل��ع��ل��ي��لْ‬
‫ً‬ ‫���ك و�أن�����ا ف���ي ُح�� ّب��ي و�أرى ال�����ذِّ كْ�����رى‬ ‫�أَنْ�������تَ ف���ي ُح��� ِّب ْ‬
‫حبيب‬ ‫اهلل في ُح ّبي يا‬ ‫فاتَّقِ َ‬
‫ْ‬
‫�������س���اء ف��ي خَ ��ي��ال��ي �أنْ�����تَ ي��ا � ْأح���ل���ى َرج ْ‬
‫����اء‬ ‫ْ‬ ‫����ص���ب���اح��� ًا و َم‬ ‫َ‬
‫ْ�����ق�����اك َ‬ ‫�أن������ا �أل‬
‫��ض��اء‬
‫��ي��اك ال��قَ��� ْ‬ ‫����اء فَ�� َم��ت��ى َي�� ْق�����ض��ي بِ��لُ�� ْق َ‬
‫وه����ن ْ‬ ‫ْ����م ون�������و ٌر َ‬
‫�أنْ��������تَ ل����ي ُح����ل ٌ‬
‫بيب‬
‫بح ّبي يا َح ْ‬ ‫ل َْ�س ُت �أدري ُ‬
‫��م��رِ الْ��ت��ي��ا ْع‬ ‫�����س ٌ��ة ْ‬
‫ظ��م���أى ع��ل��ى َج ْ‬ ‫َه ْ��م َ‬ ‫���ر ال������ َودا ْع‬ ‫و�أخ����ي����ر ًا ل�� ْي�����س ل���ي غَ ��� ْي ُ‬
‫�����ت ال����� َودا ْع‬ ‫����ن َوقْ ِ‬
‫َ���ف ِم ْ‬
‫���ة � ْأع���ن ُ‬ ‫�����د ي��ا ُح��� ْل��� ُو ف��ي كُ ����لِّ ال�� ِب��ق��ا ْع لَ��� ْوع ً‬‫ل��م �أجِ ْ‬
‫ف َوداع ًا ‪ ..‬و و َداع ًا يا َح ْ‬
‫بيب‬

‫�أخطاء‬
‫الطاء)‬ ‫(اط َر َد)‪( ،‬ب َت�شدي ِد ّ‬
‫واب‪َّ :‬‬
‫وال�ص ُ‬ ‫(ال�ضاد) وهي َخط�أٌ‪ّ ،‬‬ ‫أمر )‪ ،‬ب�إ�ضافة ّ‬ ‫بع�ضهم‪( :‬وا�ضطرد ال ُ‬ ‫يكتب ُ‬‫ُ‬
‫واط َر َد‬ ‫واط َر َد ِت الأَ ُ‬
‫�شياء‪َ :‬تب َِع َب ْع ُ�ضها َب ْع�ض ًا‪َّ .‬‬ ‫وط َر َد ُه‪� :‬أَ ْب َع َد ُه‪َّ .‬‬
‫رد)‪َ .‬‬ ‫تقام‪ ،‬لأ ّنها ِم ْن َ‬
‫(ط َ‬ ‫ا�س َ‬ ‫بم ْعنى‪ْ :‬‬
‫َ‬
‫تتابع َ�س َيال ُنه‪ .‬قال قي�س بن الخطيم‪:‬‬ ‫الماء‪َ :‬‬
‫واط َر َد ُ‬ ‫تتابع‪َّ .‬‬
‫الكالم‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫��ف را ِك ِ‬
‫���ب‬ ‫��وق ِ‬
‫لَ�� َع ْ��م َ��ر َة َو ْح�����ش�� ًا غَ ��ي َ��ر َم ِ‬ ‫��ب‬ ‫�أَتَ���ع���رِ ُف َر ْ���س��م�� ًا ك��اطِّ ��را ِد ال�� َم ِ‬
‫��ذاه ِ‬
‫ع�ضها في �إِث ِر َب ْع�ض فك�أَنها ُم َت َ‬
‫تابعة‪.‬‬ ‫بخ ٍ‬
‫طوط ُيرى َب ُ‬ ‫بـ(الم ِ‬
‫ذاه ِب) ُجلوداً ُم ْذ َه َب ًة ُ‬ ‫َ‬ ‫�أَراد‬
‫كثير عزة‪:‬‬‫وقال ّ‬
‫َج���رى َب ْينَنا ُم���و ُر ال�� َّن��ق��ا ال ُ��م��تَ��ط��ا ِر ُد‬ ‫��اح َ‬
‫��ة َب��ع َ��دم��ا‬ ‫َذكَ�����رتُ لَ��ي��ل��ى وال َ‬
‫�����س��م َ‬
‫الر ْمل)‬
‫بار َّ‬ ‫(مور ال َّنقا‪ُ :‬غ ُ‬
‫و�ض َر َب ال ِع ْر ُق وال َق ْل ُب‪َ ،‬ي ْ�ضر ُِب َ�ض ْرب ًا َ‬
‫و�ض َربان ًا‪:‬‬ ‫رب‪َ .‬‬ ‫الط ُاء‪ ،‬لأ ّنها ِم ْن َ�ض َ‬
‫� ّأما (ا�ضطرب)‪َ ،‬ف ُت َث ّب ُت فيها ّ‬
‫راب‪:‬‬ ‫ِ‬
‫واال�ضط ُ‬ ‫والـم ْو ُج َي ْ�ض َطر ُِب �أَي َي ْ�ضر ُِب ُ‬
‫بع�ضه بع�ض ًا‪.‬‬ ‫الـم َت َح ِّرك‪َ .‬‬
‫وال�ضار ُِب‪ُ :‬‬
‫َّ‬ ‫وخ َف َق‪.‬‬
‫�ض َ‬
‫َن َب َ‬
‫البرق في ال�سحاب‪َ :‬ت َح َّر َك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وا�ض َط َر َب‬
‫اخ َت َّل‪ْ ،‬‬ ‫وا�ض َط َرب �أَ ْمره‪ْ :‬‬
‫الب ْطنِ ‪ْ .‬‬
‫َت َ�ض ُّر ُب الولد في َ‬
‫اخ َت َل َفت َك ِل َـم ُتهم‪.‬‬
‫الـح ْبل بين القوم �إِذا ْ‬
‫ا�ض َط َر َب َ‬ ‫ويقال‪ْ :‬‬

‫‪33‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫أر�ض‬ ‫وه َو ب� ِ‬ ‫مال)‪ُ ،‬‬
‫الكتاب ا ّلذي �أَ ْ�ش َت ِغ ُل‬ ‫ُ‬
‫تاب ْين‪َ � :‬أح ُد ُهما (ال ْإك ُ‬
‫وهو‬
‫آخر (الجامع)‪ُ ،‬‬
‫ِم ْنها �سوى ِك َ‬
‫فار�س‪ .‬وال ُ‬ ‫َ‬
‫ينابي ُع ال ُّل َغ ِة‬
‫‪،‬ثم َر َف َع‬ ‫الخليل ّ‬ ‫ُ‬ ‫وام�ض ِه‪ .‬ف� ْأط َ‬
‫رق‬ ‫في ِه‪ ،‬و�أ ْ�س�أ ُل َك َع ْن َغ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال ّث َق ّ‬
‫في‬
‫هلل عي�سى؛ و�أن�شد‪:‬‬ ‫رحم ا ُ‬ ‫ر� َأ�س ُه‪ ،‬وقال‪َ :‬‬ ‫الب ْ�صر ِّي‪.‬‬ ‫وي َ‬ ‫بن ُع َم َر ال َّث َق ِف ّي ال ّن ْح ّ‬ ‫�أبو َع ْمرِو‪ ،‬عي�سى ُ‬
‫َّ�����ح����� ُو َج���م���ي���ع��� ًا كُ ����ل ُ‬
‫َّ����ه‬ ‫�����������ب ال�����ن ْ‬ ‫َ‬ ‫ذ ََه‬ ‫ريب‪.‬‬ ‫وا�س ِت ْعمالٍ ِل ْل َغ ِ‬ ‫كالم ِه‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫�صاحب َت ْقعي ٍر في‬ ‫َ‬ ‫كان‬
‫َ‬
‫���ر‬
‫����ن ُع��� َم ْ‬ ‫���������دثَ ع��ي�����س��ى ب ُ‬ ‫���ر م���ا �أَ ْح َ‬ ‫غَ ��� ْي َ‬ ‫العال ِء ُ�ص ْحب ٌة‪ ،‬و َل ُهما‬ ‫وب ْي َن �أبي َع ْمرٍو بنِ َ‬ ‫وكانت َب ْي َن ُه َ‬ ‫ْ‬
‫�����ام�����ع‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ْ��������م��������ال وه���������ذا َج‬ ‫ذاك �إك‬ ‫َ‬ ‫جال�س‪.‬‬
‫وم ُ‬ ‫�سائل َ‬ ‫َم ُ‬
‫����ر‬
‫وق���� َم ْ‬ ‫�������س َ‬ ‫���م ٌ‬ ‫����ش ْ‬ ‫���ا����س َ‬
‫وه����م����ا ل���ل��� ّن ِ‬ ‫ُ‬ ‫وروى‬ ‫� َأخ َذ ال ِقراء َة َع ْن َع ْب ِد ا ِ‬
‫حاق‪َ ،‬‬ ‫هلل بنِ �أبي � ْإ�س َ‬
‫وبـ(الجامع) �إلى‬ ‫ِ‬ ‫الغائب‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أ�شار بـ(ال ْإكمال) �إلى‬ ‫ف� َ‬ ‫و�س ِم َع‬ ‫هلل بنِ كثيرٍ‪ ،‬وابنِ ُم َح ْي ِ�صن‪َ .‬‬ ‫روف َع ْن َع ْب ِد ا ِ‬ ‫الح َ‬ ‫ُ‬
‫الد�ؤلي َل ْم َي َ�ض ْع في‬ ‫ويقال‪ّ � :‬إن �أبا الأَ ْ�سو ِد ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الحا�ضرِ‪.‬‬ ‫قيا�س‬ ‫ِ‬ ‫تيار في ال ِقراء ِة على‬ ‫اخ ٌ‬ ‫الب ْ�صر َِّي‪ ،‬ول ُه ْ‬ ‫الح َ�س َن َ‬ ‫َ‬
‫باب (الفاعل)‪ ،‬و(المفعول) فقط‪ ،‬و� ّإن ِعي�سى‬ ‫ال َّن ْح ِو �إال َ‬ ‫ئي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وه َّذ َب ُه‪.‬‬ ‫بن مو�سى ال ّل�ؤْ ُل ّ‬ ‫أحمد ُ‬ ‫وروى القراءات َع ْن ُه � ُ‬ ‫العربية‪َ .‬‬ ‫َ‬
‫وب ّو َب ُه َ‬ ‫و�ضع كتاب ًا على ال ْأكث ِر َ‬ ‫َ‬ ‫مر‪،‬‬ ‫بن ُع َ‬ ‫َ‬ ‫بن‬ ‫ليل ُ‬ ‫والخ ُ‬ ‫أ�صمعي‪َ ،‬‬ ‫وي‪ ،‬وال‬ ‫بن مو�سى ال ّن ْح ُّ‬ ‫وهارون ُ‬
‫ُ‬
‫العرب‪ِ ،‬م ْث َل‬ ‫�شاهير من‬ ‫الم‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫�ض َ‬ ‫خط ُئ َب ْع َ‬ ‫وكان ُي ّ‬ ‫َ‬ ‫يب ْوي ِه َع ْن ُه ال ّن ْح َو‪.‬‬‫الفراهيدي‪ .‬و�أخ َذ ِ�س َ‬ ‫ّ‬ ‫�أَ ْح َ‬
‫مد‬
‫أ�صمعي‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫وغ ْيره‪ .‬وروى ال‬ ‫�ض � ْأ�شعا ِر ِه َ‬ ‫ال ّنابغ ِة في َب ْع ِ‬ ‫كتبه‬
‫مر لأبي َع ْمرٍو بنِ العال ِء‪� :‬أنا �أ ْف َ�ص ُح‬ ‫بن ُع َ‬ ‫قال عي�سى ُ‬ ‫َ‬ ‫اه (الجامع) في ال َّن ْحو‪ ،‬ويقال‪ّ � :‬إن‬ ‫الكتاب الذي َ�س ّم ُ‬ ‫ُ‬ ‫له‬
‫فقال له �أبو َع ْمرٍو‪َ :‬ل َق ْد َت َع َّد ْي َت‪،‬‬ ‫نان‪َ ،‬‬ ‫ِم ْن َم َع ّد بنِ َع ْد َ‬ ‫وح�شا َع َل ْي ِه ِم ْن ِ‬
‫الخليلِ‬ ‫كالم َ‬ ‫وب َ�س َط ُه َ‬ ‫يبو ْي ِه � َأخ َذه‪َ ،‬‬ ‫ِ�س َ‬
‫َف َك ْي َف ُت ْن ِ�ش ُد‪:‬‬ ‫بالب ْح ِث وال َّت ْح ِ�ش َي ِة ُن ِ�س َب �إلي ِه‪،‬‬
‫َ���ه‬
‫���د ْب���ن ُ‬
‫ولما َك ُم َل َ‬ ‫وغ ْي ِر ِه‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫�����س��اء َح���وا����س���ر ًا َي��� ْن ُ‬
‫َ‬ ‫���د ال�� ِّن‬ ‫َي���جِ ُ‬ ‫يدل على ِ�ص ّح ِة‬ ‫الم ْ�شهور‪ .‬وما ُّ‬ ‫�سيبو ْي ِه َ‬‫َ‬ ‫وهو (كتاب)‬
‫����س���ح���ا ِر‬ ‫�����ن ب���ا َلأ ْ‬ ‫���ن َ�أ ْو ُج����� َه����� ُه ّ‬
‫���م َ‬ ‫ْ���ط ْ‬ ‫َي���ل ِ‬
‫َ�����س��تُّ��ر ًا‬ ‫����ن َي���خْ ��� َب���� َأن ال���� ُوج����و َه ت َ‬ ‫����د كُ َّ‬ ‫َق ْ‬
‫مر‪،‬‬ ‫بن ُع َ‬ ‫فارق عي�سى َ‬ ‫َ‬ ‫�سيبو ْي ِه ّ‬
‫لما‬ ‫َ‬ ‫هذا ال َق ْولِ ‪ّ � ،‬أن‬
‫������������د�أْ َن) ل��ل�� ُّن��ظّ ��ا ِر‬ ‫���ي���ن ( َب‬ ‫فات‬ ‫الخليل َع ْن ُم َ�ص ّن ِ‬ ‫ُ‬ ‫مد‪� ،‬س�أل ُه‬ ‫بن � ْأح َ‬ ‫الخليل َ‬ ‫َ‬ ‫والزم‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫فَ����ال���� َي����و َم َح َ‬
‫فقال �أبو َع ْمرٍو‪:‬‬ ‫َ‬ ‫قال عي�سى‪(َ :‬ب َد�أْن)‪.‬‬ ‫�أو َ(ب َد ْين)؟ َف َ‬ ‫عين ُم�ص ّنف ًا في ال َّن ْحو‪،‬‬ ‫و�سب َ‬ ‫فقال‪�َ :‬ص ّن َف َن ّيف ًا ْ‬ ‫عي�سى‪َ ،‬‬
‫�ض � ْأهلِ الي�سا ِر َج َم َعها‪ .‬و�أ َت ْت ِع ْن َد ُه‬ ‫وب ْع ُ‬
‫واب َ(ب َـد ْو َن)‪،‬‬ ‫وال�ص ُ‬ ‫�أَ ْخط� َأت؛ ُيقال‪َ :‬بدا َيبدو‪� ،‬إذا َظ َه َر‪َّ .‬‬ ‫َ‬
‫َع َل ْيها �آ َف ٌة‪َ ،‬ف َذ َه َب ْت و َل ْم َي ْب َق‬
‫�صد �أبو َع ْمرٍو‬ ‫قد َق َ‬ ‫و َل ْي�س َ(ب َد ْ�أ َن) بِمعنى َ�ش َر ْع َن‪َ .‬ل ْ‬
‫ليط ُه‪ ،‬و َن َج َح‪.‬‬ ‫َت ْغ َ‬
‫ب�صر ِة‪�َ ،‬س َن َة ‪ 149‬للهجرة‪.‬‬ ‫توفي عي�سى‪ ،‬في ا ْل ْ‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪34‬‬


‫�أدبيات‬

‫����م‬‫ِ����م����ذَ َّم ِ‬
‫ِ�������ح������� ْو ٍر ُم�������ؤ ّم������لِ‬
‫��������ر ْع ب ُ‬
‫َ������م َي ُ‬
‫��ل�ا ل ْ‬ ‫الل لَ���� ْي ً‬
‫���������ش���� ّي����ةَ واران�����������ا ب َ‬ ‫َع ِ‬
‫َرع������ى َّ ُ‬
‫واح ُة ِّ‬
‫ال�ش ْعر‬ ‫َ‬
‫ال������دوح‪ ،‬وان��ث��ـ��ن��ى‬ ‫َّ‬ ‫��ري ع��ـ��ـ��ل��ى‬ ‫وغ����� َّر َد ُق��م��ـ��ـ��ـ��ـ ٌّ‬ ‫َح ْف�ص ُة ُ‬
‫بنت الحاج الركون ّية‬
‫��ب م���ن ال���ري���ح���ان م���ن ف�����وقِ ج����دولِ‬ ‫ق�����ض��ي ٌ‬
‫اد�س‬ ‫ال�س َ‬ ‫هيرات في القرنِ ّ‬ ‫ال�ش ِ‬ ‫�سيات ّ‬ ‫واع ِر الأ ْند ُل ّ‬ ‫ال�ش ِ‬‫�إحدى ّ‬
‫ف�أجابت ُه‪:‬‬
‫هلل ما ًال‬ ‫ناط ٍة‪.‬حباها ا ُ‬ ‫�شاع َر ُة َغ ْر َ‬ ‫َع َ�ش َر الهِ ْجري‪ ،‬ب ْل هي ِ‬
‫��و���ص�� ِل��ن��ا‬ ‫����ا�����ض ب ْ‬
‫����ري ُ‬ ‫����س��� َّر ال ّ‬ ‫����ر َك م���ا ُ‬ ‫����م ُ‬ ‫لَ���� َع ْ‬
‫بن الخطيب‬ ‫الدين ُ‬ ‫ل�سان ّ‬ ‫قال عنها ُ‬ ‫وجما ًال و�شرف ًا ومكانة‪َ .‬‬
‫���د‬ ‫�������س ْ‬
‫���ح َ‬ ‫َّ���ه �أَ ْب���������دى ل���ن���ا ال���� ِغ����لَّ وال َ‬ ‫ول���ك���ن ُ‬
‫ُ���ربِ���ن���ا‬ ‫���ر ا ْرت����ي����اح���� ًا ِل���ق ْ‬ ‫َوال ����ص��� ّف���قَ ال���نَّ��� ْه ُ‬ ‫(�أديب ُة �أوا ِنها‪ ،‬و�شاعر ُة زما ِنها‪ ،‬فريد ٌة ال ّزمانِ في ُ‬
‫الح ْ�سنِ‬
‫������د‬‫ُ�����م�����رِ ّي � ّإل ِل���م���ا َو َج ْ‬ ‫��������ر َد ال�����ق ْ‬ ‫َوال غَ ّ‬ ‫أدب)‪.‬‬ ‫والظ ْرف‪ ،‬وال ِ‬ ‫َّ‬
‫ُ���ه‬‫���ن الّ������ذي �أنْ������تَ � ْأه���ل ُ‬ ‫�������س���نِ ال���ظّ ّ‬ ‫ُ���ح ِ‬ ‫فَ��ل�ا ت ْ‬ ‫تقع �إلى‬ ‫أندل�سي ٌة ُ‬ ‫ّ‬ ‫تنت�سب �إلى رِكان َة �أو رِكون َة‪ ،‬وهي َب ْلد ٌة �‬
‫���د‬‫���ر� َ���ش ْ‬ ‫فَ���م���ا ه����� َو ف����ي كُ ������لِّ ال����م����واط����نِ ب���ال ّ‬ ‫تاريخ‬‫ِ‬ ‫ثون في َت ْحدي ِد‬ ‫الباح َ‬ ‫لف ِ‬ ‫اخ َت َ‬ ‫�سي َة‪ .‬وق ِد ْ‬ ‫ال�ش ْرقِ ِم ْن َب َل ْن َ‬ ‫ّ‬
‫���ه‬‫ْ����ت ه����ذا الأُفْ���������قَ �أ ْب�������دى نُ���ج���و َم ُ‬ ‫م���ا ِخ����ل ُ‬ ‫نحو ‪530‬هــ ‪1135 /‬م‪.‬‬ ‫والد ِتها‪ّ ،‬‬
‫لدت في ْ‬ ‫الر�أي �أ ّنها ُو ْ‬ ‫لكن ّ‬
‫����د‬
‫�����ص ْ‬ ‫����ون لَ���ن���ا َر َ‬ ‫لَ ْم����������رٍ ����س���وى ك��ي��م��ا ت����ك َ‬ ‫ِأ‬ ‫عا�صرت َح ْف َ�ص ُة ِحقب ًة َحرج ًة من تاريخ مدينة َغرناطة‪،‬‬
‫الغزلي‪:‬‬ ‫وم ْن َجميلِ ِ�ش ْعرها‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫دين‪ ،‬وما‬ ‫وح َ‬ ‫الم ّ‬ ‫رابطين �إلى ُ‬ ‫َ‬ ‫ال�س ْل َط ِة ِم َن ُ‬
‫الم‬ ‫تقال ُّ‬ ‫وهي ا ْن ُ‬
‫�������ن َع���� ْي����ن����ي و ِم���� ّن����ي‬
‫�����ك ِم ْ‬ ‫�أَغ������������ا ُر َع�����لَ����� ْي َ‬ ‫من‬ ‫الع�شرين ْ‬ ‫َ‬ ‫روب و َتو ّتر‪ ،‬وكانت في َن ْحو‬ ‫�صاحبها ِم ْن ُح ٍ‬ ‫َ‬
‫�������ك وال���� َم����ك����انِ‬ ‫���������ن زَم�������ا ِن َ‬‫�������ك و ِم ْ‬ ‫َو ِم������� ْن َ‬
‫�شاب‬ ‫ٍّ‬ ‫فت �إلى‬ ‫وتعر ْ‬
‫ّ‬ ‫بالظهور‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�شاعري ُتها‬
‫ّ‬ ‫ُع ْمرها‪ ،‬وبد�أت‬
‫ُ������ك ف�����ي ُع���ي���ون���ي‬ ‫�������أت َ‬‫َولَ����������� ْو أ�نّ���������ي خَ ������ َب ْ‬
‫من‬‫بالقرب ْ‬ ‫ِ‬ ‫يح�صب‬ ‫ُ‬ ‫تقيم في َق ْل َع ِة بني‬ ‫عريقة ُ‬ ‫ٍ‬ ‫من �أُ ْ�س ٍ‬
‫رة‬ ‫ْ‬
‫�����ة م�����ا كَ���ف���ان���ي‬ ‫�إِل����������ى َي����������� ْو ِم ال����� ِق�����ي�����ا َم ِ‬
‫وي ْكنى ب�أبي‬ ‫َغرناطة‪ُ ،‬يدعى �أحمد بن عبد الملك بن �سعيد ُ‬
‫قر َب ِم ْن‬ ‫بن َع ْب ِد الم�ؤمن‪ ،‬ال ّت ّ‬ ‫مان ُ‬
‫أمير غرناط َة‪ُ ،‬ع ْث ُ‬ ‫حاول � ُ‬ ‫َ‬
‫جعفر‪.‬‬
‫الر ُجلينِ‬ ‫لت َب ْي َن َّ‬ ‫وح َ�ص ْ‬ ‫فثارت ثائر ُة �أبي َج ْعفر‪َ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫َح ْف َ�ص َة‪،‬‬
‫الفات‪� ،‬أ ْف َ�ض ْت �إلى َم ْق َتلِ �أبي َج َعفر‪.‬‬ ‫ِخ‬
‫دون‬ ‫عاطفي ٌة � ْأ�ش َب ُه بِعال َق ِة ابنِ َز ْي َ‬ ‫ّ‬ ‫ون�ش�أت بي َنهما عالق ٌة‬
‫ٌ‬ ‫عري‪ ،‬ل َّأن جانب ًا‬ ‫ال�ش ّ‬ ‫وكانت ِم ْن مح ّفزات �إبداعها ّ‬ ‫ْ‬ ‫وولدة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫واد‪ ،‬و�أَ ْع َل َن ِت‬ ‫ال�س َ‬ ‫بوفاة َحبيبِها‪َ ،‬ف َلب َِ�س ِت َّ‬ ‫رت َح ْف�ص ُة َ‬ ‫ت�أ ّث ْ‬ ‫را�سالت تباد َلها‬ ‫ٍ‬ ‫وجاء ُم ْع َظ ُمه في ُم‬ ‫َ‬ ‫تعبير عنها‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫كبيراً من ُه‬
‫ديد بال َق ْتلِ ‪ْ � ،‬إن‬ ‫ناط َة‪ ،‬فجاءها َت ْه ٌ‬ ‫ذلك في َغ ْر َ‬ ‫و�شاع َ‬ ‫َ‬ ‫داد‪،‬‬‫الح َ‬ ‫ِ‬
‫الحبيبان‪.‬‬ ‫َ‬
‫ا�س َت َم ّر ْت‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫هي ْ‬ ‫َ‬ ‫فلما تو ّلى َم َه ّم َت ُه‬ ‫كان �شاعراً لبيب ًا‪ ،‬ووزيراً‪ّ ،‬‬ ‫و�أبو جعف ٍر َ‬
‫ال����ح����دا ِد‬ ‫�������س ِ‬ ‫������ن �أَ ْج���������لِ ِل��� ْب ِ‬ ‫�����ددون�����ي ِم ْ‬ ‫َه َّ‬
‫ب�����ال�����ح�����دا ِد‬
‫ِ‬ ‫����ب �أَ ْرد ْو ُه ل�����ي‬ ‫ِل����ح����ب����ي ٍ‬ ‫كتبت �إلي ِه ته ّنئ ُه‪:‬‬ ‫ْ‬
‫������ع‬
‫ِ������د ْم ٍ‬ ‫���������ن َي������ج������و ُد ب َ‬ ‫اهلل َم ْ‬ ‫������������م ُ‬
‫َ‬ ‫َر ِح‬ ‫ر�أ������س�����تَ فَ������م������ازالَ ال������ ُع������دا ُة ب���ظُ ��� ْل��� ِم���ه ْ‬
‫ِ���م‬
‫������ن������وح ع����ل����ى َق����ت����ي����ل الأع�����������ا ِدي‬ ‫ُ‬ ‫�أ ْو َي‬ ‫��������س؟‬ ‫�����م َر�أَ ْ‬ ‫���ون ِل ْ‬ ‫���م ال��� ّن���ام���ي ي���ق���ول َ‬ ‫َوع���لْ��� ِم��� ُه ُ‬
‫������د ْي ِ‬
‫������ه‬ ‫�����ه بِ����� ِم�����ثْ�����لِ ُج��������ود َي َ‬ ‫������س�����قَ����� ْت ُ‬ ‫َو َ‬ ‫����ر �أَ ْن �����س����ا َد � ْأه��������لَ زَم����ا ِن ِ‬
‫����ه‬ ‫َوه�������لْ ُم���� ْن���� ِك ٌ‬
‫�����ن ال���� ِب��ل�ا ِد ال����غَ����وادي‬ ‫أ����ض���ح���ى ِم َ‬ ‫َح���� ْي����ثُ � ْ‬ ‫َ�����س‬ ‫ال��دن ْ‬ ‫���وح �إِل����ى ال�� َع��ل��ي��ا َح�����رونٌ ع���نِ َّ‬ ‫َج���م ٌ‬
‫بالمودة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وح ِظ َي ْت‬ ‫وحدين‪َ ،‬‬ ‫الم ّ‬ ‫عا�صم ِة ً‬ ‫لت �إلى ُم ّر ِاك َ�ش ِ‬ ‫ثم َر َح ْ‬ ‫ّ‬ ‫وي ْحكى‬ ‫طو َر ُح ُّبهما و َت ْك ُث َر لقاءا ُتهما؛ ُ‬ ‫لي َت ّ‬‫ام‪َ ،‬‬ ‫و َت ْم�ضي ال ّأي ُ‬
‫تعليم ن�سائهم‪ .‬وظلت هناك ح ّتى وفاتها‬ ‫َ‬ ‫�صور‬
‫الم ْن ُ‬ ‫وك ّلفها َ‬ ‫�أ ّنهما ا ْل َتقيا يوم ًا في ُب�ستان (حور م� ّؤمل) في َغرناط َة‪،‬‬
‫�سن َة ‪ 581‬هـ‪.‬‬ ‫افتراقهِ ما‪ْ � ،‬أر�سل �أبو َج ْع َف ٍر �إليها هذه ال َ‬
‫أبيات‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫وبع َد‬‫ْ‬

‫‪35‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫ت�أليف‬

‫رياح ال�شاطئ الآخر‬


‫خالد ما�ضي‬

‫الأ�شباح؟ تخونه الذاكرة هنا ت�صمت وال‬ ‫عقيرته بالنداء فيذوب �صداه في عمق‬ ‫م��ن ���ش��رف��ت��ه‪ ،‬ال��ت��ي ت��ط��ل ع��ل��ى �أح��د‬
‫تجيب‪ .‬لكن منذ تلك اللحظة زرع بداخله‬ ‫ال�ضجيج يقوده ف�ضوله الطفولي �إلى تلك‬ ‫ال�شواطىء البعيدة‪ ،‬ترك لذاته العنان كي‬
‫�أم ًال يظل طول حياته يرويه‪.‬‬ ‫القطعة الخ�شبية الم�ش ّكلة بجميل ال�صنعة‬ ‫ت�سيح في الأف��ق‪� .‬أم��واج البحر‪ ،‬ما فتئت‬
‫‪�( -‬أعطنا لعبتك نت�شارك في الت�سلية)‪.‬‬ ‫والأناقة‪ ..‬يطيل الوقوف والنظر والتركيز‪.‬‬ ‫ت�ضرب ال�شاطىء‪ ،‬ك�أنها تحتج على �شيء‬
‫‪�( -‬إن ��ه لي�س لعبة ‪� ..‬إن��ي حين �أكبر‬ ‫‪( -‬هل �أعجبتك تلك اللعبة؟ �س�أ�شتريها‬ ‫مبهم غام�ض ي�ؤرقها‪ .‬برغم كل المكا�سب‬
‫�س�أمتطي ح�صان الكلمات كما قال الرجل‬ ‫لك)‪.‬‬ ‫العلمية التي حققها‪ ،‬يداهمه �إح�سا�س ال‬
‫الطيب‪� ،‬س�ألف به العالم)‪ .‬يت�ضاحك الأوالد‬ ‫رق�ص قلبه الغ�ض فرح ًا وداعبه خياله‬ ‫يفارقه؛ ب�أن �شيئ ًا ما ينق�صه‪ ،‬وب�أنه مدين‬
‫ويتهام�سون‪ .‬ي�أخذ لعبته ويغادر‪..‬‬ ‫بمباهاة �أقرانه عند ف�ضاء ال�ساحة‪ ،‬ولم ال ؟‬ ‫لتلك القرية ال�صغيرة التي ن�ش�أ فيها والبيت‬
‫بكلتا يديه يعيد تغليف ح�صانه اللعبة‬ ‫لقد فاز بها و�أ�صبحت له لعبة مثلهم‪.‬‬ ‫الذي عرف فيه طعم الأم��ن وال��دفء‪� .‬إنها‬
‫ويحتفظ به منذ الطفولة‪ ،‬ومازال يلف به‬ ‫كي يذهب لل�ساحة كان عليه �أن ينتظر‬ ‫�أ�شياء تهفو اليها الروح‪.‬‬
‫العالم‪ .‬بحر�ص �شديد ي�ضعه على المن�ضدة‪،‬‬ ‫حتى �أذان الع�صر‪ ،‬حتى ي�أخذ الطريق الذي‬ ‫و���ض��ع فنجان قهوته ال�ساخن على‬
‫تخرج منه تنهيدة و�صدى متعة للذكريات‬ ‫يلف القرية‪ ،‬وعلى جانبيه بيوتها الطينية‪،‬‬ ‫المن�ضدة‪ ..‬تناول بحر�ص �شيئ ًا م��ا‪ ..‬قد‬
‫بنف�سه يتناول فنجان قهوته‪.‬‬ ‫ال��ود والمحبة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التي تغلق �أبوابها على‬ ‫بولغ في العناية به‪ ..‬ظل �صامت ًا لبرهة من‬
‫قاب�ض ًا على لعبته تعلوه الفرحة‪ ،‬وعند‬ ‫الزمن يت�أمله من خالل نظاراته ال�سميكة‪،‬‬
‫المنعطف و�صل لنقطة الت�صادم بقالب من‬ ‫المذهب فانك�شف‬ ‫ّ‬ ‫ولم يلبث �أن جذب الخيط‬
‫الطوب وق��ع على الأر���ض وبجانبه‬ ‫ما �أخفاه الغالف‪ .‬وجد نف�سه بالكلية يح ّلق‬
‫لعبته‪ .‬بعد برهة لم ي�شعر ب�شيء‬ ‫عبر الأزمنة والأماكن التي احتفظت بها‬ ‫ْ‬
‫�سوى يدين حانيتين تقيمانه‬ ‫ذاك��رت��ه‪ ..‬بيتهم الطيني‪ ،‬الم�صطبة التي‬
‫تم�سح عنه ما قد علق به‪،‬‬ ‫كثيراً ما تقافز عليها وعلت �ضحكاته‪..‬‬
‫وب�صوت ك�أنه �آت من‬ ‫اللعب في الطين الأ�سود الذي ي�شكل العقول‬
‫بئر �سحيقة هم�س‬ ‫البي�ضاء‪ ..‬حكايات جدته‪� ،‬أمه وت�أنيبها له‬
‫به‪:‬‬ ‫الت�ساخ مالب�سه‪.‬‬
‫‪�( -‬أن�������ت ول ��د‬ ‫‪( -‬ا�صعد خلفي و�أم�سك بجلبابي جيداً‬
‫ذو ���س��م��ت ط��ي��ب‪..‬‬ ‫حتى ال تقع)‪.‬‬
‫ه���ذه ل��ع��ب��ت��ك‪ ..‬لكن‬ ‫�إن ��ه ���ص��وت �أب��ي��ه ال�����ص��ارم الممزوج‬
‫غ ��داً تمتطي ح�صان‬ ‫بالحنان والرحمة‪ .‬ك��ان ج�سمه �ضئي ًال‬
‫الكلمات‪ ..‬لتكن زادك‬ ‫بالن�سبة �إلى دابة تطوي الحقول الخ�ضراء‬
‫ثم اختفى‬ ‫في �صحرائك)‪ّ .‬‬ ‫وتجعلها تهتز �أم��ام عينيه ال�صغيرتين‪.‬‬
‫ك�شبح ذاب في الهواء‪.‬‬ ‫ترنو ال�شم�س على خجل لل�صباح الباكر‪،‬‬
‫يريد �أن ير�سم مالمح‬ ‫بينما نباح الكالب ي�أتي من بعيد كريح‬
‫الوجه من يكون؟ �أح��د �أف��راد‬ ‫تتوعد والهدف �سوق المدينة الكبير‪.‬‬
‫القرية ال�صالحين؟ �شبح من‬ ‫ال�سوق مزدحم‪ .‬بائع لعب الأطفال يرفع‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪36‬‬


‫قا�ص وناقد‬

‫نقد‬

‫تعدد الأمكنة واختالف الأزمنة‬


‫في ق�صة «رياح ال�شاطئ الآخر»‬
‫د‪ .‬عاطف عطا اهلل البطر�س‬

‫ال��زم��ن ت ��زداد ج��م��ا ًال وت�ساعد ب�صدقها‬ ‫و�سال�ستها وب�ساطتها وبعدها عن الإيغال‬ ‫تقوم البنية ال�سردية في ق�صة (رياح‬
‫المدنية‬
‫ّ‬ ‫ونقائها على مواجهة ما �أفرزته‬ ‫في الت�صوير وح�شد المبالغات اللفظية؛‬ ‫ال�شاطئ الآخر) على العالقة الفارقة بين‬
‫اغتراب وت�شيي ٍء وا�ستالب‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الحديثة من‬ ‫�أ�شاعت حرارة وم�صداقية و�أحدثت ت�أثيراً‬ ‫زمن ال�سرد‪ ،‬رجل يجل�س على �شرفة تطل‬
‫عنوان الق�صة عتبة ن�صية مطابقة‬ ‫وا���ض��ح� ًا ف��ي عملية التلقي‪ ،‬و�إن كانت‬ ‫على �أحد ال�شواطئ‪ ،‬وزمن الحكاية التي‬
‫لمتنها‪ ،‬فهي ت��دل دالل ��ة وا�ضحة على‬ ‫الق�صة بني ًة وحكاي ًة فع ًال متخي ًال �ساعد‬ ‫عر�ضت عن طريق اال�سترجاع بالعودة �إلى‬
‫محتواها بما في دوال العنوان من طاقة‬ ‫ا���س��ت��خ��دام ال�ضمير ال�����س��ردي (ه ��و) على‬ ‫الطفولة والقرية وذكرياتها الجميلة التي‬
‫�شعرية �إيحائية (ري ��اح‪� ،‬شاطئ‪� ،‬آخ��ر)‪،‬‬ ‫حيادية الراوي‪ ،‬وعزز مقدرة الق�صة على‬ ‫ال تقوى الإن��ج��ازات العلمية المتح�صلة‬
‫ما يف�سح في المجال لتداعيات العالقة‬ ‫الإقناع بواقعيتها‪.‬‬ ‫للم�سرود عنه على محوها‪..‬‬
‫الإ�شكالية بين الأن��ا والآخ��ر من انفتاح‬ ‫�أغ��ن��ى الق�صة التنوع الأ�سلوبي في‬ ‫�ساعد على نهو�ض الحكاية ونقلها‬
‫�إلى حدود التماهي وذوبان ال�شخ�صية �أو‬ ‫المتن ال�����س��ردي م��ن و�صف وح ��وار جاء‬ ‫�إلى �سردية محكمة التالعب بالزمن من‬
‫انغالق بوجه منجزه الح�ضاري والتقوقع‬ ‫كا�شف ًا ع��ن ال�شخ�صيات‪ :‬الأب‪ ،‬االب��ن‪،‬‬ ‫خالل العالقة بين الحا�ضر (زمن الحكي)‬
‫على الذات بحجة الأ�صالة‪ ،‬ما ي�ؤدي �إلى‬ ‫�أ�صدقاء الطفولة‪.‬‬ ‫والما�ضي (زمن الوقائع) بك�سر ال�سيرورة‬
‫ا�ستمرار التخلف و�سيادة الجهل‪.‬‬ ‫ب��د�أت الق�صة من ال�شرفة مع العلبة‬ ‫الخطية للزمن الح�سابي وتحويله �إلى زمن‬
‫الق�صة دال��ة مكثفة محكمة البناء‪،‬‬ ‫(اللعبة) وانتهت بها في عملية دائرية‬ ‫حكائي‪.‬‬
‫حافظ الكاتب فيها على ت��وازن وات��زان‬ ‫مركزيتها دالل��ي� ًا ما قاله ال�شبح‪( :‬غ��داً‬ ‫تعدد الأمكنة �أ�ضاف قيمة فنية �إلى‬
‫المكونات ال�سردية دون ح�شو �أو �إطناب‪،‬‬ ‫�ستمتطي ح�صان الكلمات‪ ،‬لتكن زادك في‬ ‫البنية الحكائية‪ :‬القرية ب�سوقها‪ ،‬والمنزل‬
‫مقتدي ًا بن�صيحة ت�شيخوف (الإيجاز قرين‬ ‫�صحرائك)‪� ،‬إنها لي�ست لعبة فهي تحمل‬ ‫الذي عرف فيه الطفل الدفء والأمن (ولم‬
‫الموهبة)‪.‬‬ ‫قيمة رمزية تعبر عن مكنون الطفل الذي‬ ‫يلبث �أن جذب الخيط المذهب فانك�شف‬
‫مفجرة للمتن‪،‬‬ ‫غالب ًا ما تكون الخاتمة ّ‬ ‫�سيلف ال��ع��ال��م متح�ص ًال على مكا�سب‬ ‫ما �أخفاه الغالف‪ ،‬وجد نف�سه يحلق عبر‬
‫محر�ضة على �إع��ادة ق��راءت��ه م��ج��دداً في‬ ‫علمية كبيرة بعد طفولة بائ�سة تج�سدت‬ ‫الأزم��ن��ة والأم��اك��ن ال��ت��ي احتفظت بها‬
‫محاولة �أخرى ال�ستخراج دالالت �إ�ضافية‬ ‫في حرمانه ورغبته في �شراء اللعبة من‬ ‫ذاكرته)‪.‬‬
‫منه‪.‬‬ ‫ال�سوق‪ ،‬هذه اللعبة احتلت و�ضع ًا رمزي ًا‬ ‫في الق�صة حفاوة بالمرجعية الواقعية‬
‫خ��ات��م��ة الق�صة ل��م تحمل م��ف��اج��أة‬ ‫مفتاحي ًا في الق�صة‪.‬‬ ‫ح��ك��اي� ًة ول��غ � ًة و�شخ�صيات‪ ،‬با�ستثناء‬
‫للمتلقي‪ ،‬لأنه توقع حد�سي ًا �أهمية وقيمة‬ ‫داللة الق�صة‪:‬‬ ‫�شخ�صية ال�شيخ التي رفعت الق�صة من‬
‫(اللعبة‪/‬الح�صان) عملي ًا وداللي ًا‪ ،‬فك�أن‬ ‫تنفتح الق�صة على غير داللة �أكثرها‬ ‫وهج الواقع �إلى متعة المتخيل‪ ،‬عزز ذلك‬
‫الق�صة بنيت للحكي عن اللعبة‪ ،‬لذلك احتل‬ ‫و�ضوح ًا‪:‬‬ ‫احتوا�ؤها على بع�ض الوم�ضات ال�شاعرية‬
‫مو�ضوعها مكان ال�صدارة فيها وجاءت‬ ‫التفوق والتح�صيل العلمي والمدينة‬ ‫(ترنو ال�شم�س على خجل لل�صباح بينما‬
‫خاتمتها متوج ًة بها‪.‬‬ ‫الأخرى (ال�شاطئ الآخر) مهما كانت درجة‬ ‫نباح الكالب ي�أتي من بعيد كريح تتوعد‬
‫(بكلتا ي��دي��ه يعيد تغليف ح�صانه‬ ‫التقدم واالزده��ار فيها ال تن�سي الإن�سان‬ ‫والهدف �سوق المدينة الكبير)‪ ،‬لكنها ال‬
‫اللعبة ويحتفظ بها منذ الطفولة والزال‬ ‫موطنه الأ�صلي‪ :‬قريته‪� ،‬سوقها‪�،‬أهله‪� ،‬أمه‪،‬‬ ‫ت�شكل مكون ًا �سردي ًا مهيمن ًا‪.‬‬
‫يلف بها العالم)‪.‬‬ ‫جدته‪ ،‬و�أ�صدقاء طفولته‪ ،‬فهي مع تقادم‬ ‫مطابقة اللغة الم�ستخدمة بعفويتها‬

‫‪37‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫اللغة العربية في جامعات‬


‫المنطقة اللغوية الألمانية‬
‫م�صطفى عبداهلل‬

‫اللغوية الألمانية‪ ،‬التي يجمعها التعبير‬ ‫ويعرفنا الم�ؤلف بالم�ؤ�س�سات المعنية‬ ‫(على �صعيد تعزيز ال�����ص��ورة الدولية‬
‫الغربي «�أورينتالي�ستيك» ‪� Orinetalistik‬أي‬ ‫بت�أليف كتابه‪ ،‬وي�شرح الأهداف التي ت�سعى‬ ‫للعلماء العرب العاملين في مجال اللغة‬
‫الدرا�سات ال�شرقية‪ .‬وبين �أن مفهوم ال�شرق ال‬ ‫�إلى تحقيقها‪ ،‬ومنها اال�ست�شراق العلمي‪ ،‬الذي‬ ‫�ذك��ر �أن الدكتور محمود فهمي‬ ‫العربية‪ُ ،‬ي� َ‬
‫يقت�صر على العرب �أو الم�سلمين فح�سب‪ ،‬بل‬ ‫يهدف �إلى تكوين مترجمين ودبلوما�سيين‬ ‫ح��ج��ازي‪ ،‬عمل ‪ -‬بو�صفه �أ���س��ت��اذاً زائ ��راً‬
‫ي�ستوعب تقاليد �أوروبا‪ ،‬ومن ت�أثروا بها في‬ ‫لخدمة تلك الدول التي هي‪ :‬جمهورية �ألمانيا‬ ‫بجامعات �أوروب��ي��ة ف��ي �ألمانيا والمجر‬
‫رو�سيا و�آ�سيا‪.‬‬ ‫االت��ح��ادي��ة «�آن����ذاك»‪ ،‬والنم�سا‪ ،‬والمنطقة‬ ‫وه��ول��ن��دا وف��رن�����س��ا‪ -‬على ط��رح كثير من‬
‫وت�ضم الدرا�سات ال�شرقية بهذا المعنى‪،‬‬ ‫الأكبر من �سوي�سرا؛ فهذه المناطق والبلدان‬ ‫الق�ضايا اللغوية‪ ،‬وعلى تمكين عالقات‬
‫ف��ي ال��ج��ام��ع��ات الم�شار �إل��ي��ه��ا م��ا ي��أت��ي‪:‬‬ ‫هي التي تنتج الباحثين في هذا المجال‪ .‬ثم‬ ‫الحوار الح�ضاري‪ ،‬وعلى تبادل الخبرات‬
‫ال��درا���س��ات الم�صرية القديمة التي ت�سمى‬ ‫يو�ضح �أن الغر�ض من اال�ست�شراق‪ ،‬هو تولي‬ ‫ي�شار‬
‫ُ‬ ‫المتعلقة بالتخطيط اللغوي‪ .‬وهنا‬
‫(�إيجيبتولوجي)‪ ،‬والدرا�سات ال�شرقية القديمة‪،‬‬ ‫العالقات الدبلوما�سية مع الدولة العثمانية‬ ‫الم�ست�شار الوحيد من خارج �أوروبا‬‫ُ‬ ‫�إلى �أنه‬
‫والدرا�سات الإفريقية‪ ،‬والدرا�سات ال�سامية‪،‬‬ ‫ومع الأقاليم العربية‪ ،‬وهذا هو التعبير القديم‬ ‫و�أمريكا منذ (‪1981‬م) وحتى رحيله في‬
‫والدرا�سات العربية والدرا�سات الإ�سالمية‪،‬‬ ‫الذي كان يطلقه الغرب على منطقتنا‪.‬‬ ‫هيئة تحرير (مجلة درا�سات اللغة العربية)‬
‫وال��درا���س��ات اليهودية وعلم العهد القديم‪،‬‬ ‫ويو�ضح �أن هناك اال�ست�شراق الالهوتي‪،‬‬ ‫ت�صدر في جامعة هايدلبرج ب�ألمانيا)‪.‬‬ ‫التي ُ‬
‫وعلم ال�شرق الم�سيحي‪ ،‬والدرا�سات التركية‪،‬‬ ‫الذي كان هدفه درا�سة العقيدة الإ�سالمية‪،‬‬ ‫ال �أجد �أف�ضل من هذا االقتبا�س من العالم‬
‫والدرا�سات الهندية والتبتية‪ ،‬ودرا�سات �آ�سيا‬ ‫ومحاولة الت�أثير فيها لتحويل الم�سلمين �إلى‬ ‫الدكتور محيي الدين مح�سب‪ ،‬وهو يتحدث عن‬
‫الو�سطى‪ ،‬والدرا�سات ال�صينية‪ ،‬وتاريخ فنون‬ ‫الم�سيحية‪ .‬و�إن كان هذا الكتاب ال يتطرق �إلى‬ ‫العلمة الراحل الدكتور محمود فهمي‬ ‫�أ�ستاذه َّ‬
‫�شرق �آ�سيا‪ ،‬والدرا�سات الكورية‪ ،‬والدرا�سات‬ ‫هذا الجانب‪.‬‬ ‫حجازي‪ ،‬يوم تتويجه بجائزة الملك في�صل‬
‫اليابانية‪ ،‬والدرا�سات اللغوية بجنوب �شرقي‬ ‫كما �أن هناك اال�ست�شراق العلمي‪ ،‬الذي‬ ‫العالمية‪ ،‬لأ�ستهل به قراءتي هذه لكتاب في‬
‫�آ�سيا والمجاالت المتخ�ص�صة المت�صلة بها‪.‬‬ ‫غايته درا���س��ة اللغة العربية وح�ضارات‬ ‫غاية الأهمية من ت�أليف وترجمة الدكتور‬
‫ويذكر الدكتور محمود فهمي حجازي‬ ‫المنطقة‪ ،‬وفي مقدمتها الح�ضارة العربية‬ ‫حجازي‪� ،‬صدر عن المجل�س الأعلى للثقافة‬
‫�أن �أكثر هذه الدرا�سات موجودة في جامعات‬ ‫الإ���س�لام��ي��ة‪ ،‬م��ن حيث تاريخها وتراثها‪،‬‬ ‫في م�صر بعنوان (ح��وار الثقافات)؛ وهذا‬
‫كثيرة‪ ،‬ف��ي مقدمتها جامعات‪ :‬ميونيخ‪،‬‬ ‫والحركة العلمية والفكرية والأدبية فيها‪،‬‬ ‫يعني �أنه كتبه بالألمانية ثم ترجمه بنف�سه‬
‫وبرلين‪ ،‬وب ��ون‪ ،‬وه��ام��ب��ورج‪ ،‬وهايدبرج‪،‬‬ ‫ف�ض ًال عن العادات و�أنماط المعي�شة بها‪.‬‬ ‫�إلى العربية‪ .‬وهو يو�ضح في مقدمة الكتاب‬
‫وتوبنجن‪ ،‬وجودجن‪ ،‬و�إرلنجن‪ ،‬ونورنبرج‪،‬‬ ‫وهذا االتجاه كان �سائداً في جامعات‬ ‫�أن الهدف من و�ضعه �أن نعرف جوانب مهمة‬
‫وكولن‪ ،‬ومون�ستر‪ ،‬وفيينا‪ ،‬ومجموع �أق�سامها‬ ‫تلك الدول الأوروبية الم�شار �إليها‪.‬‬ ‫من حوار الثقافات بين �أقطار الوطن العربي‬
‫ي�صل �إل ��ى مئة ق�سم علمي ف��ي جامعات‬ ‫وال��ف��ت��رة الزمنية ال��ت��ي ين�صب عليها‬ ‫من جانب‪ ،‬ودول و�سط �أوروب��ا من الجانب‬
‫المنطقة اللغوية الألمانية‪.‬‬ ‫هذا البحث هي القرن التا�سع ع�شر والقرن‬ ‫الآخر‪ ،‬من خالل المطبوعات ال�صادرة باللغة‬
‫وتت�صل بالتقاليد العلمية في الجامعات‬ ‫الع�شرين‪ ،‬تلك الفترة ال��ت��ي ازده���ر فيها‬ ‫الألمانية عن التراث العربي والأدب العربي‬
‫الألمانية تلك‪ ،‬الجهود العلمية في جامعتي‪:‬‬ ‫اال�ست�شراق بمختلف جوانبه‪.‬‬ ‫الحديث‪ ،‬والمطبوعات المترجمة ال�صادرة‬
‫�أم�ستردام وليدن في هولندا‪ ،‬وفي جامعة‬ ‫ويهتم ال��ك��ت��اب �أي�����ض � ًا بالحديث عن‬ ‫باللغة العربية اعتماداً على الإنتاج الفكري‬
‫براغ �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫الدرا�سات اللغوية‪ ،‬في جامعات المنطقة‬ ‫الألماني‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪38‬‬


‫بدايـات‬

‫العربية �إل��ى �أوروب ��ا‪ ،‬والترجمات العبرية في‬ ‫وفيما يخت�ص بدرا�سات التراث العربي‪ ،‬نجد‬
‫نوه الكتاب بالباحث‬ ‫الع�صور الو�سطى‪ ،‬وكذلك َّ‬ ‫�أق�سام درا�سات اللغة العربية و�آدابها‪ ،‬و�أق�سام‬
‫(يوليو�س فلهاوزن) الذي اهتم بتاريخ العرب‬ ‫الدرا�سات ال�سامية في اللغات‪ :‬العربية والعبرية‬
‫قبل الإ�سالم‪ ،‬وبالتاريخ الإ�سالمي‪ ،‬وبدرا�سة‬ ‫والآرام��ي��ة والحب�شية‪ ،‬وف��ي �أق�سام الدرا�سات‬
‫كتاب (حوار‬ ‫الن�ص العبري للعهد القديم‪ ،‬وكذلك اهتم بال�شعر‬ ‫الإ�سالمية فيما يخ�ص العربية والفار�سية‬
‫العربي القديم‪.‬‬ ‫والتركية‪ ،‬وهي �أق�سام يغلب عليها التخ�ص�ص‬
‫الثقافات) هدف �إلى‬ ‫وه��ن��ا �أود �أن �أو���ض��ح �أن اهتمام ه ��ؤالء‬ ‫التاريخي والح�ضاري في مختلف المجاالت‪.‬‬
‫التعريف بجوانب‬ ‫الم�ستعربين بال�شعر العربي القديم كان لفهم‬ ‫ثم يتحدث الم�ؤلف عن حركة الترجمة من‬
‫مهمة من حوار‬ ‫الن�ص العبري الذي كانت لغته قد ماتت‪ ،‬على‬ ‫الألمانية �إلى العربية‪ ،‬وكذلك الحركة ال�سابقة‬
‫اعتبار �أن اللغتين العربية والعبرية تنحدران‬ ‫عليها‪ ،‬التي تمثلت في نقل الكتب من العربية‬
‫الثقافات بيننا ودول‬ ‫م��ن ال�سامية‪ ،‬وذل��ك قبل �أن يتحول اهتمام‬ ‫�إلى اللغات الأوروبية الأخرى‪.‬‬
‫و�سط �أوروبا‬ ‫الم�ستعربين �إلى درا�سة الثقافة العربية لذاتها‪.‬‬ ‫ويحدد الكتاب بالتف�صيل �أهم الكتب العربية‬
‫وي�شير الكتاب �أي�ض ًا �إلى ازدهار المدر�سة‬ ‫التي نقلت �إلى اللغات الأجنبية‪.‬‬
‫الألمانية في علم اللغة‪ .‬ويذكر �أن (في�شر) �أعد‬ ‫وي�شير �إلى �سال�سل كتب‪� ،‬صدرت عن طريق‬
‫في ليبزيج درا�سات ن�صية متميزة للن�صو�ص‬ ‫معاهد الدرا�سات الألمانية‪ ،‬وت�ضم بع�ض الكتب‬
‫العربية‪ ،‬ومنها درا�سة عن الترجمات المتاحة‬ ‫المنقولة من اللغة العربية �إلى اللغة الألمانية‪،‬‬
‫للقر�آن الكريم‪ ،‬و�أخرى عن (�أبي العالء المعري)‪،‬‬ ‫الغوا�ص‬
‫(د َّرة ّ‬
‫ومنها على �سبيل المثال‪ :‬كتاب ُ‬
‫كما �أنه �أعد بم�ساعدة تلميذه (بروينليخ) فهر�س ًا‬ ‫الخ َوا�ص) للحريري‪ ،‬وقد ترجمه (تور‬ ‫في �أوهام َ‬
‫عمل د‪ .‬محمود‬ ‫لل�شواهد العربية‪ ،‬وهو الذي ُعرف في مجمع‬ ‫بكه) �إلى الألمانية‪ ،‬وكتاب (ك�شف الظنون عن‬
‫اللغة العربية بالقاهرة بـ(المعجم اللغوي‬ ‫�أ�سامي الكتب والفنون) لحاجي خليفة‪ ،‬وقد �صدر‬
‫فهمي حجازي م�ؤلف‬ ‫التاريخي)‪.‬‬ ‫في ليبزيج‪ ،‬وحققه الم�ست�شرق (فلوجل)‪ ،‬الذي‬
‫الكتاب على الق�ضايا‬ ‫ث��م ينتقل �إل���ى ال��درا���س��ات اللغوية عند‬ ‫ترجم وحقق �أي�ض ًا كتاب (الفهر�ست) البن النديم‪.‬‬
‫اللغوية وتمكين‬ ‫(ت��ي��ودور نولدكه) ال��ذي ك��ان �أ�ستاذاً بجامعة‬ ‫وي�ؤكد الدكتور محمود فهمي حجازي في‬
‫(�سترا�سبورج)‪ ،‬التي كانت في ذلك الوقت �إحدى‬ ‫هذا الكتاب المهم �أن ترجمات الأدب العربي‬
‫عالقات الحوار‬ ‫الجامعات الألمانية‪ ،‬وقد اع ُتبروه �أ�شهر العلماء‬ ‫�إلى اللغات الأوروبية كان لها ت�أثير كبير في‬
‫الح�ضاري‬ ‫المتخ�ص�صين في الدرا�سات ال�سامية في ع�صره‪،‬‬ ‫بع�ض الم�ؤلفين العالميين‪ ،‬ومنهم (جوته) في‬
‫كما و�صف ب�أنه يتمتع بذكاء حاد مع غزارة في‬ ‫كتابه (ال��دي��وان ال�شرقي)‪ .‬وي�ستطرد الدكتور‬
‫الإنتاج‪ ،‬وكانت جهوده رائ��دة في مجال علم‬ ‫حجازي في �شرح بع�ض الأعمال التي نقلت من‬
‫اللغة ال�سامية المقارن‪ ،‬وله درا�سة مهمة عن‬ ‫العربية �إلى الألمانية‪ ،‬ومنها كتاب (اال�شتقاق)‬
‫الألفاظ ذات الأ�صول الثنائية‪ ،‬وعن الأ�ضداد‬ ‫البن ُدريد‪ ،‬وكتاب (تاريخ مدينة مكة)‪ ،‬وكتاب‬
‫في اللغات ال�سامية‪ ،‬وعن القر�آن والعربية‪ ،‬وقد‬ ‫(عجائب البلدان) للقزويني‪ ،‬وكتاب (معجم‬
‫ُجمعت هذه الدرا�سات في مجلدين‪ ،‬كما �أن له‬ ‫البلدان) لياقوت الحموي‪ ،‬ف�ض ًال عن الكتب‬
‫ي�شير د‪ .‬حجازي في‬ ‫كتاب ًا حول تاريخ القر�آن‪ ،‬تعاون في و�ضعه مع‬ ‫التي �ألفها بع�ض الم�ست�شرقين الألمان‪ ،‬ومنها‬
‫كتابه �إلى االهتمام‬ ‫عدد من العلماء‪ ،‬وهو في ر�أي الم�ستعرب الكبير‬ ‫هذا الكتاب في التعريف بتاريخ الأطباء العرب‬
‫(يوهان فك) عالمة محددة لع�صره‪ ،‬كما يعد‬ ‫وباحثي الطبيعة‪ ،‬الذي �صدر في عام (‪1840‬م)‪،‬‬
‫في الجامعات العلمية‬
‫حتى اليوم مرجع ًا فريداً في المكتبة الألمانية‪،‬‬ ‫وكتاب عن الإم��ام ال�شافعي‪ ،‬و�آخ��ر عن تاريخ‬
‫ب�أق�سام اللغات‬ ‫وله درا�سات عن ال�شعر العربي القديم‪.‬‬ ‫الخلفاء الفاطميين‪� ،‬إلى غير ذلك من الم�ؤلفات‬
‫ال�سامية وخ�صو�ص ًا‬ ‫وي�����ص��ل ال��دك��ت��ور ح��ج��ازي �إل� ��ى (ك���ارل‬ ‫التي حظيت باهتمام م�ستعرب مثل (ف�ستفلد)‪.‬‬
‫بروكلمان) �أه��م الم�ست�شرقين الألمان‪ ،‬الذين‬ ‫ومن �أه��م الم�ستعربين الألمان �أي�ض ًا (�شتاين‬
‫درا�سات اللغة‬ ‫�أولوا اهتمام ًا كبيراً لتاريخ �آداب اللغة العربية‪،‬‬ ‫�شنايدر) الذي كتب عن المترجمين من اللغتين‬
‫العربية‬ ‫وك��ذل��ك ت��ح��دث ع��ن (ل��ي��ت��م��ان)‪ ،‬وع��ن (ري��ت��ر)‬ ‫اليونانية وال�سريانية �إلى العربية �أي عن ترجمة‬
‫وغيرهما من العلماء‪ .‬ويو�ضح الدكتور محمود‬ ‫التراث اليوناني القديم ال��ذي نقل �إل��ى اللغة‬
‫فهمي ح��ج��ازي‪ ،‬بعمق �شديد‪ ،‬جهود ه ��ؤالء‬ ‫العربية عبر ه�ؤالء ال�سريان‪ ،‬كما اهتم بالتعريف‬
‫الم�ست�شرقين في درا�سة العالقة بين اللغات‬ ‫بالمترجمين الذين قاموا بنقل الكتب من اللغة‬
‫ال�سامية وت�أثيرها في الغرب‪.‬‬ ‫العربية �إلى الالتينية في مرحلة انتقال الثقافة‬

‫‪39‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫ق�صة مترجمة‬

‫«في ال�صيد»‬
‫ترجمة‪ :‬تح�سين عبدالجبار �إ�سماعيل‬
‫ت�أليف‪ :‬كرج بود نل�سن‬

‫دليل على وجود الجامو�س‪ ،‬وقد �صح قوله‪،‬‬ ‫مازالت مرتفعة بع�ض ال�شيء‪ ،‬فالمنطقة‬ ‫حين �سمعت �صوت محرك الطائرة‬
‫فقد ر�أينا بمناظيرنا ونحن نتطلع فوق‬ ‫م�ستوية م�سيجة‪ ،‬محاطة ب�أنهار كبيرة‬ ‫وهي تهم بالهبوط‪ ،‬قفزت نحو �سيارتي‬
‫الح�شائ�ش العالية ع��دداً من الجوامي�س‬ ‫وبالكثير من الم�ستنقعات الوا�سعة‪ ،‬تلك‬ ‫ي�صحبني (جال كلينها�س)‪ ،‬وقدتها متجه ًا‬
‫على بعد (‪ )300‬ياردة‪ ،‬بقيت �أنا و(هولت)‬ ‫هي محمية (ماهامب) في زمبابوي‪ .‬لم‬ ‫نحو المدرج لن�ستقبل ال�ضيوف (هولت)‬
‫ج��ان��ب عربتنا ف��ي حين ت��وج��ه ك��ل من‬ ‫نوفق في اليومين الأولين في العثور على‬ ‫و(روج ��ر) و(كين) و(بيتر�سن) والمخرج‬
‫(ك��ورن��ال) و(كين) نحو القطيع من جهة‬ ‫ما كنا ن�أمل �أن نراه ون�صطاده‪ ،‬حتى �إننا‬ ‫(كورنال) من تلفزيون مغامرات ال�صيد‪.‬‬
‫الي�سار متجنبين مهب الريح لكيال ي�شتم‬ ‫لم ن�شاهد قطعان الأبقار الوح�شية الكبيرة‬ ‫ك��ان ال��غ��ر���ض م��ن زي��ارت��ه��م ال�صيد‬
‫القطيع رائحتهم‪ ،‬و�أخ ��ذا يقتربان منه‬ ‫التي طالما كنا نراها‪.‬‬ ‫و�إخ�����راج ف��ي��ل��م ت��ل��ف��زي��ون��ي‪ ،‬وك� ��ان من‬
‫متخفيين‪.‬‬ ‫وف���ي ال��ي��وم ال��ث��ال��ث ذه��ب��ت ومعي‬ ‫المحتمل �أن يتحقق الهدفان ب�سهولة‪ ،‬مع‬
‫ا�ستدرت �أنا و(هولت) و�أخذنا نبحث‬ ‫(كورنال) و(كين) نتجول ب�سيارتنا قبل‬ ‫احتمال حدوث بع�ض الإ�شكالية حول �أي‬
‫ع��ن ط��ري��دة ع��ل��ى �أم ��ل �أن نلتقي بكين‬ ‫الآخ��ري��ن‪ ،‬عبر ح�شائ�ش خ�ضراء زاهية‬ ‫من الهدفين يجب �أن يعطى الأولوية في‬
‫و(كورنال) ولم نبتعد كثيراً عندما �صاح‬ ‫ن�صور‪ ،‬وفج�أة طلب �إلي (كورنال)‬ ‫ّ‬ ‫عالية‬ ‫التنفيذ‪.‬‬
‫(هولت) �أنظر هناك �سمور‪ .‬تخيلت في البدء‬ ‫�أن �أتوقف‪ ،‬فقد �شاهد من بعيد مجموعة من‬ ‫وكنت �أتمنى �أن يوفق (كين) في �صيد‬
‫�أن (هولت) �أ�صيب ب�ضربة �شم�س فخيل له‬ ‫�إناث ال�سمور‪ ،‬يتو�سطها ذكر �ضخم‪ .‬تناول‬ ‫�أول جامو�س ل��ه‪ ،‬ل��وج��ود العديد منها‬
‫�سموراً‪� ،‬إال �أنني تحققت �أنه فع ًال‬
‫�أنه يرى ّ‬ ‫(كين) بندقيته‪ ،‬في حين �أم�سك (كورتال)‬ ‫في هذه الجزيرة‪ ،‬ولرغبته ال�شديدة في‬
‫ر�أى �سموراً‪ ،‬فهناك من بعيد �سمور �أ�سود‬ ‫بالكاميرا ورحنا متجهين نحو القطيع‪� ،‬إال‬ ‫ذل��ك‪ ،‬كما �أن (هولت) ك��ان يرغب ب�صيد‬
‫كبير يقف وحده يرعى‪ ،‬ما يجعله هدف ًا‬ ‫�أن حركتنا كانت مت�أخرة‪� ،‬إذ اندفعت تلك‬ ‫ذكر (ال�سمور) ذي الفرو الأ�سود الجميل‪،‬‬
‫�سه ًال ‪.‬‬ ‫الحيوانات عبر �أر�ض محروقة نحو �أ�شجار‬ ‫وال��ج��زي��رة ال تخلو م��ن ه ��ذا ال��ح��ي��وان‪،‬‬
‫�أخذت �أنظر باحث ًا عن (كين) و�صحبه‪،‬‬ ‫كثة وح�شائ�ش مت�شابكة عالية‪ ..‬واختفت‪.‬‬ ‫وقد علمت �أن �صياداً وابنه قد ا�صطادا‬
‫ف��ر�أي��ت الدليلين قابعين خلف �أ�شجار‬ ‫يمكن للمرء في الأرا�ضي المحروقة‪،‬‬ ‫قبل مجيئي �إلى الجزيرة ذك� َ�ر ّي (�سمور)‬
‫النخيل‪� ،‬إال �أني لم �أ�ستطع ر�ؤية (كين)‪ ،‬ما‬ ‫�أن يالحظ �آثار �سير الحيوانات على التربة‬ ‫جميلين‪.‬‬
‫كان لدينا خيار غير �أن نظل ننتظر ب�صمت‪،‬‬ ‫وا�ضحة‪ ،‬لذا تتبعنا �أثر القطيع في البدء‬ ‫ل��م ي��ك��ن ي�����س��اورن��ي ���ش��ك �أن (ك��ي��ن)‬
‫نرقب تطور الأح��داث مترددين‪ ،‬وكان �أن‬ ‫حتى اختفى عند حافة المنطقة الكثيفة‬ ‫�سيح�صل على م��ا يتمناه و�سي�صطاد‬
‫جرت الأم��ور ب�شكل ح�سن‪ ،‬غاب ال�سمور‬ ‫التي عبر �إليها‪ ،‬الأمر الذي جعل ا�ستمرارنا‬ ‫جامو�س ًا بري ًا‪ ،‬فقد كنا نرى قطعان ًا من‬
‫عن �أنظارنا لفترة ق�صيرة ثم ر�أيناه من‬ ‫بمالحقته متعذرة‪.‬‬ ‫الجامو�س في �أغلب الأيام‪ ،‬وكذلك تمنيت‬
‫جديد يظهر يتجه نحونا من خالل �أ�شجار‬ ‫ب��ع��د ���س��اع��ة التقينا ببقية �أع�����ض��اء‬ ‫�أن تتحقق رغبة (هولت) برغم �شعوري ب�أن‬
‫النخيل‪ ..‬لقد اختار طريقه باتجاهنا حتى‬ ‫الفريق‪ ،‬و�أخذنا نبحث متجولين‪ ،‬ف�شاهدنا‬ ‫فر�صته في العثور على �سمور وا�صطياده‬
‫�صار مكان �سيره بين الدليلين وبيننا‪،‬‬ ‫�أ�سراب الوز من بعيد‪ ،‬تحوم فوق ح�شائ�ش‬ ‫لي�ست بالح�سنة‪.‬‬
‫وهنا �أثيرت م�س�ألة الأولوية في التنفيذ؛‬ ‫ال�ساحل‪ ،‬ف�أخبرنا الدليل �أن وج��ود الوز‬ ‫كنا في منت�صف �شهر �أيلول‪ ،‬والحرارة‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪40‬‬


‫ابت�سامة عري�ضة‪.‬‬ ‫نبحث ع��ن قطيع ال��ج��وام��ي�����س‪ ،‬ال��ت��ي لم‬ ‫هل نطلق النار على ال�سمور ونحرج (كين)‬
‫وف��ي �ساعات الم�ساء الأخ��ي��رة جاء‬ ‫ينجح (كين) في االقتراب منها في المرة‬ ‫الذي �سار طوي ًال بخفاء م�ستهدف ًا قطيع‬
‫دوري‪ ،‬فقد كنت �أتطلع ل�صيد ظبي‪ ،‬وكان‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬وبرغم �أن الجو كان مغبراً‪ ،‬ف�إن‬ ‫الجامو�س‪� ،‬أم ندع ال�سمور يمر ب�سالم؟‬
‫�أن ر�أيت واحداً وجدته راب�ض ًا مع مجموعة‬ ‫مدى الر�ؤية لم يكن �سيئ ًا‪ ،‬و�إث��ر م�سيرة‬ ‫هذه �صورة من ال�صور التي يتعار�ض‬
‫من الإناث‪ ..‬اقتربت منه ونه�ضت م�ستعدة‬ ‫طويلة‪� ،‬سمعنا �صوت طلقتين متعاقبتين‪،‬‬ ‫فيها ال�صيد مع الت�صوير‪ ،‬فالكاميرات مع‬
‫لرميه‪ ،‬فر�أيته يقف بمواجهتي‪ ،‬ف�أ�سرعت‬ ‫فا�ستدرنا ب�سيارتنا وتوجهنا نحو م�صدر‬ ‫(كين) وما كانت مهمتنا الأ�سا�سية ال�صيد‪،‬‬
‫و�أطلقت بندقيتي وطرحته �أر�ض ًا‪.‬‬ ‫الإط�لاق‪ ،‬لنرى �إن كان (كين) و(هولت)‬ ‫لذلك تركنا ال�سمور يجتازنا مبتعداً بعد �أن‬
‫ف��ي ال��ي��وم الأخ ��ي ��ر؛ ���ش��رع��ن��ا ن��ودع‬ ‫يحتاجان �إل��ى م�ساعدة‪� ،‬إال �أن��ن��ا حين‬ ‫تمكن من �أن ي�شم رائحة مراقبين و�أخفق‬
‫ال�ضيوف‪� ،‬إثر انتهاء مهامهم‪ .‬التفت نحوي‬ ‫و�صلنا وجدنا �أنهما قد �أديا عم ًال رائع ًا‪.‬‬ ‫كين ف��ي التقرب م��ن قطيع الجامو�س‪،‬‬
‫(كين) �شاكراً‪ ،‬وقال‪( :‬لقد تم كل �شيء وفق‬ ‫كان كين مم�سك ًا ببندقيته مبت�سم ًا وهو‬ ‫وكان �أن �أم�ضينا اليومين التاليين دون‬
‫ما ك��ان مخطط ًا ل��ه)‪ ،‬وق��ال لي (هولت)‬ ‫يقف جانب ذك��ر جامو�س �ضخم منهار‬ ‫ط��ائ��ل‪� ،‬إذ ل��م نوفق ف��ي العثور على ما‬
‫وهو ي�صافحني �شاكراً‪�( :‬إلى اللقاء‪ ..‬حتم ًا‬ ‫م��ط��روح على الع�شب تحت �سحابة من‬ ‫كنا نبحث عنه‪ ،‬فاقترح �أح��د الأدالء �أن‬
‫�سنعود)‪.‬‬ ‫الغبار‪ ،‬وبجانبه يقف (هولت) وعلى وجهه‬ ‫نتوجه �إل��ى منطقة النهر الرئي�س حيث‬
‫�أغلب الحيوانات ترد الماء هنا ب�سبب قلة‬
‫الماء في منطقتنا‪ ،‬فاتجهنا �إل��ى هناك‬
‫ووجدنا �ضفاف النهر مك�سوة بالح�شائ�ش‬
‫العالية الخ�ضراء ومحاطة ب�أ�شجار النخيل‬
‫الكثيفة تزين المنطقة المحيطة بالنهر‪،‬‬
‫وهناك �شهدنا قطيع ًا من �أبقار ال�سمور‬
‫لي�س بينها ذكر كبير‪ .‬اقتربنا من القطيع‬
‫ف�أخذ بع�ضه ينظر الينا ملي ًا وبعدها هرب‬
‫الجميع واختفوا بين �أ�شجار النخيل‪.‬‬
‫�أو�شكت ال�شم�س �أن تغيب‪ ،‬وفي ن�صف‬
‫ال�ساعة الأخيرة من حلول الظالم �شاهدنا‬
‫مجموعة من بقرات ال�سمور تتهادى على‬
‫بحر الع�شب الأخ�ضر يف�صلنا عنها مترا�س‬
‫اختب�أنا وراءه‪� .‬أخ��ذ (كين) �آل��ة الت�صوير‬
‫و�شرع ي�أخذ ال�صور‪ ،‬وب��ان في م�ؤخرة‬
‫القطيع فحل �سمور كبير يتبع البقرات‬
‫بهدوء بالغ‪ ،‬ما جعل (هولت) يقفز نحو‬
‫بندقيته بعجالة ويوجهها نحوه في�صيبه‬
‫بطلقة �أردت��ه في الحال‪ ،‬فكانت فرحتنا‬
‫با�صطياده كبيرة جعلتنا غير عابئين‬
‫ب�أمر العودة للمخيم‪ ،‬وبذلك حقق هولت‬
‫ما كان ي�صبو �إليه‪ ..‬لكني كنت قلقة ب�ش�أن‬
‫(كين) خ�شية �أن ي�صاب ب�إحباط ب�سبب‬
‫عدم تحقيق رغبته في ا�صطياد جامو�س‬
‫كبير‪.‬‬
‫في اليوم التالي توجهنا �إلى منطقة‬
‫النهر الكبير وتفرقنا �إل��ى مجموعتين‪،‬‬

‫‪41‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫ق�صة ق�صيرة‬

‫ال ُق ْمقُم‬
‫والقط ‪ /‬الع�صفور‬‫ّ‬ ‫�ضربته �أخذت �شكل الرفرفة‪،‬‬ ‫بماردة �ساحرة‪ ،‬ح�سم الأمر لم�صلحة قبول ما‬
‫ب��د ًال من الرفرفة راح يحبو على قائمتيه‬ ‫الحظ‪.‬‬
‫حباه به ّ‬
‫القط‪،‬‬
‫الخلفيتين وجناحيه‪ّ � ،‬أم��ا الع�صفور‪ّ /‬‬ ‫لك‬ ‫حررتني من قمقمي‪َ ،‬‬ ‫�صرخ به‪ :‬لأ ّن َك ّ‬
‫فعو�ض ًا عن الرك�ض �صار يقفز على قائمتيه‬ ‫مما ت�شتهي‪�( :‬شبيك لبيك‪ ،‬ماردك‬ ‫ثالث �أمنيات ّ‬
‫الخلفيتين‪ ،‬ويرفرف بيديه‪ ،‬و�أمام هذا الم�شهد‬ ‫البغاث ولم ينطق بكلمة؛ فلم‬ ‫ُ‬ ‫بين يديك)‪ .‬خاف‬
‫�ضحك ال��م��ارد حتى �سالت دم��وع��ه‪ ،‬و�ألغى‬ ‫يفهم معنى �أن تتح ّقق له ثالث �أمنيات على يد‬
‫الأمنية الثانية للبغاث‪.‬‬ ‫ال�ضباب الأبي�ض‪.‬‬ ‫با�سم �سليمان‬
‫هذا ّ‬
‫ك � ّل م�شاعر الإح��ب��اط وال��خ��زي والعار‪،‬‬ ‫لدي الدهر لأنتظر � ْأن تنطق‬ ‫ّ‬ ‫لي�س‬ ‫المارد‪:‬‬
‫تنف�سها البغاث‪ ،‬لك ّنه تك ّلم ب�أمنيته الثالثة‪:‬‬ ‫بثالث �أمنيات تافهة‪.‬‬
‫بالت�أكيد‪ ،‬في �أح��د ودي��ان ه��ذه الغابة‬ ‫�سمع الع�صفور �صفير الن�سر‪ ،‬فنطق‬ ‫المنق�ض‬
‫ّ‬ ‫البغاث‬
‫ع�صفور ُ‬
‫َ‬ ‫الج ْد ُجد‬‫لمح ُ‬ ‫َ‬
‫�صياد‪� ،‬أريده ع�صفوراً مثلي و�أنا مثله‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ب�شهوته الأولى‪� :‬أترى ذاك الن�سر في الأعلى؟‬ ‫ففر �إلى دغلة التوت‪ .‬لم ي�سعف جناحا‬ ‫عليه‪ّ ،‬‬
‫ن ّفذ المارد �أمنية البغاث الأخيرة بملل‬ ‫�أريد � ْأن تجعله بغاث ًا وتجعلني بالمقابل ن�سراً‪،‬‬ ‫البغاث من تفادي اال�صطدام ب�أجمة التوت‬ ‫ُ‬
‫الحرية خلف تلك الأمنية‪.‬‬ ‫باد عليه مع � ّأن ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الرعب الذي �أذاقني � ّإياه!‬ ‫فيذوق ّ‬ ‫بعد انق�ضا�ضه كن�سر‪.‬‬
‫�صوت �إط�لاق نار؛ ال�صياد الذي �صار‬ ‫ُ‬ ‫ُ�سمع‬ ‫ما � ْإن انتهت كلمات الع�صفور حتى كان‬ ‫متخبط ًا بين وريقات‬ ‫ّ‬ ‫وجد البغاث نف�سه‬
‫م�ضرج ًا بدمائه‪ ،‬والبغاث الذي‬ ‫ّ‬ ‫بغاث ًا �سقط‬ ‫له ما �أراد‪ ،‬لك ّنه لم ي�سمع �سخرية المارد‪:‬‬ ‫خ�ضراء وواح��دة كبيرة �صفراء‪ ،‬ا�ستغرب من‬
‫لمرةٍ‬
‫مد يده �إلى الم�صباح‪ ،‬وح ّفه َّ‬ ‫�صياداً ّ‬‫�صار ّ‬ ‫البغاث ي�ستن�سر!‬ ‫الورقة ال�صفراء ال�شاحبة الكبيرة‪ ،‬فنقرها‪،‬‬
‫واحدة‪ ،‬و�أمر المارد بالعودة �إلى القمقم‪� ،‬إلى‬ ‫الن�سر الذي �صار بغاث ًا يلوذ بالفرار �أمام‬ ‫فلم ُتخرق‪ ،‬ولم تهت ّز‪� ،‬إ ّنما �أعطت رنين ًا خفيف ًا؛‬
‫حين ي�ستدعيه لخدمته قائ ًال‪ :‬الأمنية التي ال‬ ‫البغاث‪ /‬الن�سر‪ ،‬للحظة ه��ذا ما ج��رى‪ .‬في‬ ‫�ف به وج��ه الورقة‪،‬‬ ‫جناحه‪ ،‬ح� ّ‬ ‫َ‬ ‫�أجفله‪ .‬م� ّ�د‬
‫يعول عليها‪� ،‬أن�سيت قوانين المردة!؟‬ ‫تتح ّقق ال ّ‬ ‫اللحظة التالية انقلب الم�شهد‪ ،‬فالن�سر ‪ /‬البغاث‬ ‫�ضباب �أبي�ض‪� .‬سقط‬ ‫ٌ‬ ‫فانتف�ض من عنقها‬
‫و�ضع �أول‬ ‫في الجعبة المملوءة طيوراً‪ِ ،‬‬ ‫تغير ج�سده‪ ،‬فال هو لمح خياله على‬ ‫لم يلحظ ّ‬ ‫الع�صفور على وجهه‪ ،‬وعندما ا�ستفاق‪� ،‬سمع‬
‫بغاث تم �صيده في تاريخ �صيد الطيور‪ .‬كان‬ ‫ٍ‬ ‫ريح قوية‬ ‫الأر�ض �صغيراً تافه ًا‪ ،‬وال واجهته ٌ‬ ‫هديراً ك�أ ّنه ماء �شالل‪.‬‬
‫الج ّني قد ت�ضاءل حجمه حتى �أ�صبح كالبغاث‬ ‫تك�سر جناحيه ال�صغيرين الجديدين‪ ،‬وكل ما‬ ‫ا�سمك؟ من � ّأي �شجرة عائلة‬ ‫َ‬ ‫أنت؟ ما‬ ‫‪ -‬من � َ‬
‫الج ْد ُجد يق�ضم‬
‫في قلب القمقم‪ ،‬في حين كان ُ‬ ‫ن�سر �آخر ينازعه ال�سيادة‪،‬‬ ‫ظ ّنه � ّأن مهاجمه ٌ‬ ‫�أنت؟‬
‫ورقة توت خ�ضراء في الأجمة‪ ،‬ناظراً بعينيه‬ ‫ف�أحنى جناحيه و�ضرب بذيله الهواء ملت ّف ًا‬ ‫البغاث!‬ ‫‪� -‬أنا ُ‬
‫ع�ش‬
‫نحو الأعلى �إل��ى ّ‬ ‫ثم منق�ض ًا على البغاث‪/‬‬ ‫حول نف�سه‪ ،‬ومن ّ‬ ‫ع�صفور تاف ٌه‪ ،‬لكن‪ ،‬ما ا�سمك‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أعرف �أ ّن َك‬
‫‪ُ �-‬‬
‫بغاث لن يفق�س‬ ‫ٍ‬ ‫يفر‬
‫ّ‬ ‫الن�سر‬ ‫فالح�شرة‪/‬‬ ‫الم�شهد؛‬ ‫الن�سر‪ ،‬وانقلب‬ ‫وا�سم عائلتك؟‬
‫بي�ضه �أبداً‪.‬‬ ‫ي�صدق �أ ّنه‬
‫ّ‬ ‫من �أمام الن�سر‪ /‬البغاث‪ ،‬فهو لم‬ ‫‪� -‬أنا الع�صفور‪ ،‬الع�صفور فقط!‬
‫�صار ن�سراً‪� ،‬إذ � ّإن عقله وقلبه‬ ‫حظه‬ ‫�سره ّ‬
‫ح� ّ�دق �إليه المارد ولعن في ّ‬
‫مازاال لع�صفور‪ .‬وهنا تدخل‬ ‫التعي�س‪ ،‬وتمتم‪� :‬أتكون حريتي على يد‪ ،‬ال �أحد!‬
‫المارد‪ ،‬و�أعاد الحال �إلى ما‬ ‫أق�ص حكايتي في مجتمع المردة!‬ ‫كيف �س� ّ‬
‫كان عليه‪.‬‬ ‫�أع�صفور ال ا�سم له! ال عائلة! وال يمكن تمييزه‬
‫البغاث يغمره �شعور‬ ‫حريتي!‬ ‫عن غيره من الح�شرات‪� ،‬سيكون �سبب ّ‬
‫ب��ال��خ��ج��ل‪ ،‬وه ��و ي ��رى في‬ ‫� ٍآه‪ ،‬من �سطوة القانون! لو �أ�ستطيع العودة �إلى‬
‫ع��ي��ن��ي ال���م���ارد ���س��خ��ري��ة‬ ‫أتحرر على يد‬ ‫الم�صباح‪ ،‬و�أنتظر دهراً �آخر‪ ،‬ل ّ‬
‫بقط‬
‫م� ّ�رة‪ ،‬فت ّلفت حوله و�إذ ّ‬ ‫من له ا�سم و�شجرة عائلة وتاريخ‪� ،‬أفاخر به‬
‫وح�شي‪ ،‬فقال‪ :‬هناك‪ ،‬ذلك‬ ‫ٍّ‬ ‫حققت له‬‫ُ‬ ‫في مجتمع المردة‪ ،‬بعد �أن �أكون قد‬
‫القط‪� ،‬أري��ده ع�صفوراً‬ ‫ّ‬ ‫ثالث �أمنيات‪ ،‬لكن � ْإن لم �أح ّقق الأمنيات لهذا‬
‫و�أن���ا ق � ٌّ�ط‪ .‬وبلمح‬ ‫النكرة‪� ،‬س�أتال�شى‪.‬‬
‫الب�صر ك ��ان له‬ ‫قرر المارد االعتكاف عن تنفيذ‬ ‫للحظة ّ‬
‫ذل�������ك‪��� .‬ض��رب‬ ‫القانون ال��ذي يحكمه‪ ،‬ولينتحر بالتال�شي‬
‫القط‬
‫الع�صفور‪ّ /‬‬ ‫فناء‪ ،‬لكن �سنوات ال�سجن الطويلة في ال ُقمقم‪،‬‬ ‫ً‬
‫بمخلبه ال��ق� ّ�ط‪/‬‬ ‫امتدت دهوراً‪ ،‬وتوقه للطيران مع الغيوم‬ ‫ْ‬ ‫التي‬
‫لكن‬
‫ّ‬ ‫الع�صفور‪،‬‬ ‫وارت��ي��اد الأم��اك��ن التي حلم بها‪ ،‬وال ��زواج‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪42‬‬


‫أدب وأدباء‬
‫حديقة الأندل�س في القاهرة‬

‫¯ عبدال�سالم العجيلي م�ؤ�س�س الرواية ال�سورية الحديثة‬


‫¯ �ألي�س مونرو‪� ..‬سيدة الق�صة الق�صيرة المعا�صرة‬
‫¯ �صبري مو�سى‪ ..‬فتح الباب �أمام نوع جديد من الأدب‬
‫¯ العيد جلولي‪� :‬أدب الطفل غاياته تربوية جمالية‬
‫¯ كنوت هام�سون من �إ�سكافي �إلى «نوبل» للآداب‬
‫¯ ف�ؤاد قنديل‪ ..‬روح �شفافة محبة للأدب والفنون‬
‫¯ العنوان وجه الن�ص الواعد بج�سد متكامل‬
‫¯ �سهير القلماوي‪ ..‬رائدة و�أ�ستاذة الأجيال‬
‫¯ قراءة في ديوان ال�شاعر �صالح محمود �سلمان‬
‫¯ عزيز �أباظة‪� ..‬شاعر كبير القامة والمقام‬

‫‪43‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫جمع بين الطب والأدب وال�سيا�سة‬

‫عبدال�سالم العجيلي‬
‫م�ؤ�س�س الرواية ال�سورية الحديثة‬
‫ِ‬
‫لح ْر�صه على مداواة �أهلها بعيادته بال‬
‫العجيلي قوله (�إن ما‬ ‫ُع��رِ فَ��ت �سوريا منذ �سالف ال��زم��ان‪ ،‬ب�أنها مهد العلوم‬
‫ُمقابل‪ ،‬ومن �أ�شهر �آراء ُ‬
‫كتبته يكتبه غيري‪ ..‬لكن دوري في مداواة‬ ‫وال��ح�����ض��ارات وم��وط��ن فال�سفة ال����ر�أي‪ ،‬ول��ع��ل �أب��رزه��م‬
‫النا�س ال يقدر عليه غيري)‪.‬‬ ‫الطبيب ال��روائ��ي عبدال�سالم ال ُعجيلي‪ ،‬ال���ذي لقب‬
‫المتعلقة‬
‫العجيلي بقراءة الكتب ُ‬ ‫اهتم ُ‬ ‫ب���أدي��ب الأط��ب��اء وطبيب الأدب����اء‪ ،‬فقد جمع ال ُعجيلي‬
‫ب�سيرة ر�سول اهلل وال�صحابة‪ ،‬وكتب التاريخ‬
‫بين الطب وكتابة الأدب‪ ،‬كما ا�شتغل بالعمل ال�سيا�سي‪.‬‬
‫والق�ص�ص ال�شعبي‪ ،‬وق��د ع��رف عن حميد‬ ‫�أمير �شفيق ح�سانين‬
‫العجيلي‪ ،‬وكذلك‬ ‫ول���د ع��ب��دال�����س�لام ال ُعجيلي ع���ام (‪1918‬م) بمدينة‬
‫العجيلي ‪ -‬جد عبدال�سالم ُ‬ ‫ُ‬
‫العجيلي ‪ -‬عم والدته ‪� -‬أنهما تفوقا‬‫الرقة في �سوريا‪ ،‬ودر���س بكلية الطب في جامعة دم�شق‪ ،‬وبعد تخرجه حمدي ُ‬
‫ف��ي��ه��ا ع���ام (‪1945‬م) ع��م��ل ط��ب��ي��ب�� ًا ب��ب��ل��دت��ه ال���رق���ة‪ ،‬ح��ي��ث ك���ان �أك��ث��ر في ت�أليف ال�شعر البدوي‪ ،‬كما تنتمي �إلى‬
‫الأط��ب��اء انتماء لها‪ ،‬حتى �أُط��ل��ق عليه �أيقونة الرقة و�ضفتها الثانية‪ .‬عائلة العجيلي الروائية ال�سورية �شهال‬
‫العجيلي‪.‬‬
‫ً‬
‫ُ‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪44‬‬


‫�أعالم‬

‫كطبيب‪� ،‬إال �أن���ه ظ��ل �شغوف ًا‬


‫بالكتابة‪ ،‬حتي و���ص��ل نتاجه‬
‫الأدب����ي �إل ��ى (‪ )44‬ك��ت��اب��ا‪ ً،‬ما‬
‫بين الرواية والق�صة وال�سيا�سة‬
‫لقب ب�أديب الأطباء‬ ‫وال�شعر وال��م��ق��ال‪ ،‬وق��د تميزت‬
‫وطبيب الأدباء وظل‬ ‫العجيلي بالب�ساطة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كتابات‬
‫حيث ا�ستخدم فيها معجم ًا قريب ًا‬
‫�أيقونة مدينة الرقة‬ ‫من القارئ العادي‪ ،‬ب�سبب البيئة‬
‫حتى رحيله‬ ‫البدوية التي ن�ش�أ فيها‪ ،‬وتغ ِلب‬
‫على ُ�سكانها �أن�صاف المثقفين‪.‬‬
‫العجيلي ديوان ًا �شعري ًا‬ ‫امتلك ُ‬
‫واح��داً‪ ،‬ومع ذلك كان من �أكبر‬
‫م��ب��دع��ي ع�����ص��ره ���ش��ع��راً ون��ث��راً‪،‬‬
‫لتفوقه ف��ي كتابة المونولوج‬
‫م�شهد لمدينة الرقة‬
‫وال�����ش��ع��ر ب���أن��واع��ه‪ ،‬ك��م��ا كتب‬
‫جيلي)الموليا)‪ ،‬وهي من �أبرز �ألوان ال�شعر‬ ‫َّ‬ ‫الع‬
‫ُ‬ ‫وفي عام (‪1936‬م)‪ ،‬ن�شر للطالب عبدال�سالم‬
‫تقلد وزارات الثقافة‬ ‫العجيلي ق�صة بدوية بعنوان (نومان)‪ ،‬بمجلة ال�شعبي الغنائي في وادي الفرات فلقب بـ(�شاعر‬ ‫ُ‬
‫والإعالم والخارجية‬ ‫(الر�سالة) الم�صرية‪ ،‬تم ن�شرها بتوقيع مجهول الفرات)‪.‬‬
‫وكان وراء تعيين‬ ‫العجيلي الكثير من الق�صائد‬ ‫كما كتب ُ‬ ‫يحمل حرفي ع‪.‬ع‪ ،‬ومن طرائف الكاتب ال�شامل‬
‫نزار قباني �سفيراً‬ ‫�أنه كتب تحت �أكثر من (‪ )120‬ا�سم ًا م�ستعاراً الوطنية عن الق�ضايا العربية‪ ،‬و�أثناء درا�سته‬
‫خ�لال م�سيرته‪� ،‬إل��ى �أن ك�شف ال�سر الأدي��ب ب��رع ف��ي تنظيم ق�صيدة �شعرية ف��ي م�س�ألة‬
‫�ضم ديوانه (ليالي ونجوم) ‪28‬‬ ‫كيميائية‪ ،‬وقد َ‬ ‫الدم�شقي �سعيد الجزائري‪.‬‬
‫العجيلي ق�صيدة من ال�شعر العمودي‪.‬‬ ‫كما �أنه في عام (‪1937‬م) خا�ض ُ‬
‫العجيلي نجله الطبيب (مهند)‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فقد‬ ‫وعندما‬ ‫مجلة‬ ‫تجربة الكتابة الم�سرحية‪ ،‬فنال جائزة‬
‫(الحديث) الحلبية لعبقرتيه في ت�أليف م�سرحية �إثر حادث �أليم‪ ..‬رثاه قائ ًال‪:‬‬
‫العجيلي ق�ص�ص ًا‬ ‫(�أبو العالء المعري)‪ ،‬كما ن�شر ُ‬
‫وق�صائد في بع�ض الدوريات الأدبية مثل مجلة‬
‫(المك�شوف) ببيروت‪.‬‬
‫دون الأدي���ب ال��رائ��د تجربته ال�شخ�صية‬ ‫ّ‬
‫كطبيب ف��ي بع�ض ال ُكتب ال��ت��ي �أ ّل��ف��ه��ا مثل‬
‫(�أحاديث الطبيب ‪ -‬عيادة في الريف ‪ -‬حكايات‬
‫طبية)‪ ،‬وكان للعجيلي دور حيوي في مكافحة‬
‫�شلل الأطفال في ثمانينيات القرن الما�ضي‪.‬‬
‫العجيلي �إلى‬ ‫وفي عام (‪1945‬م) �سافر ُ‬
‫م�صر‪ ،‬وح�ضر �إحدى حفالت �أم كلثوم‪ ،‬كما التقى‬
‫العجيلي بالقا�ص‬ ‫ال�شاعر �أحمد رامي‪ ،‬وقد ت�أثر ُ‬
‫الم�صري يو�سف �إدري�س‪ ،‬الذي يتقابل معه في‬
‫�إبراز قيمة الحكاية في الق�صة‪ ،‬وت�ضمينها �شيئ ًا‬
‫من الت�شويق‪ ،‬ولكنه يختلف معه في الحوار‪،‬‬
‫العجيلي بالف�صحى‪� ،‬أما حوار‬ ‫لأن الحوار لدى ُ‬
‫�إدري�س فغلب عليه طابع العامية‪.‬‬
‫العجيلي للحياة‬ ‫وفي عام (‪1947‬م)‪ ،‬ن�ضم ُ‬
‫ال�سيا�سية‪ ،‬بانتخابه �أ�صغر نائب بالبرلمان‬
‫ال�سوري وقتها‪.‬‬
‫العجيلي في الرقة‪ُ ،‬ليمار�س ن�شاطه‬ ‫مكث ُ‬
‫�أغلفة كتبه‬

‫‪45‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫�أعالم‬

‫ه�ل�ا‬
‫ُب���ن���ي ت��رك��ت��ن��ي وم�����ض��ي��ت ّ‬
‫����ص���ب���رت ل��ع��ل��ن��ا ن��م�����ض��ي ���س��و ّي��ا‬
‫ف��ه��ذا العي�ش ب��ع��دك كيف يحلو‬
‫�أي�����ا ح��ل��و ال�����س��ج��اي��ا وال ُ��م��ح�� ّي��ا‬
‫العجيلي في كتابة �أدب الرحالت‪ ،‬منها‬ ‫برع ُ‬
‫(حكايات من الرحالت ‪ -‬دع��وة �إل��ى ال�سفر‪-‬‬
‫قناديل �إ�شبيلية )‪ ،‬وبالن�سبة �إلى �أدب الحوارات‬
‫العجيلي كتابه (�أ�شياء �شخ�صية)‪.‬‬ ‫فقدم لنا ُ‬
‫�أي�ض ًا ب��رع الكاتب المو�سوعي في �أدب‬
‫الرثاء‪ ،‬ف�أ�صدر كتابه (وجه الراحلين)‪ ،‬كما �ألف‬
‫عبد ال�سالم العجيلي مع المجاهد �سلطان با�شا الأطر�ش‬
‫ُكتب ًا تندرج تحت �أدب المقالة مثل (�أحاديث‬
‫�صديقي ولكن لأنه �شاعر‪ ،‬و�إ�سبانيا تحتاج �إلى‬ ‫الع�شيات ‪ -‬فل�سطينيات عبدال�سالم العجيلي ‪-‬‬
‫�شاعر)‪.‬‬ ‫واد ع�صا)‪.‬‬ ‫في كل ٍ‬
‫العجيلي بالبدوي‬ ‫وق��د و���ص��ف ال � ُن � ّق��اد ُ‬ ‫العجيلي في �إحياء �أدب المقامة‪ ،‬حيث‬ ‫�أ�سهم ُ‬
‫ال��ب��رج��وازي �أو ال��ب��رج��وازي النبيل‪� ،‬أم��ا نزار‬ ‫تميزت مقاماته بت�سل�سل مقا�صدها وحركية‬
‫(العجيلي �أروع بدوي عرفته‬ ‫قباني فقال عنه‪ُ :‬‬ ‫وم ْن معه‪ ،‬ولذا �أ�صدر كتابه (المقامات)‪،‬‬ ‫البطل َ‬
‫المدينة‪ ،‬و�أروع ح�ضري عرفت ُه البادية)‪.‬‬ ‫�ضم بع�ض المقامات ال�ساخرة‪ ،‬كما كتب‬ ‫الذي ّ‬
‫�ألف نحو (‪ )٤٤‬كتاب ًا‬ ‫قدم الكاتب المح�شو بغنائم الكتابة بع�ض‬ ‫العجيلي المقامة البرازيلية‪ ،‬ن�سبة �إلى مقهى‬ ‫ُ‬
‫ما بين الرواية‬ ‫المجموعات الق�ص�صية‪ ،‬مثل (بنت ال�ساحرة ‪-‬‬ ‫العجيلي من �أدعياء‬ ‫ُ‬ ‫فيها‬ ‫�سخر‬ ‫حيث‬ ‫البرازيل‪،‬‬
‫فار�س مدينة القنطرة ‪� -‬ساعة المالزم)‪ ،‬كما‬ ‫الثقافة على ل�سان راوي المقامة عبدال�سالم بن‬
‫والق�صة وال�شعر‬ ‫قدم ق�صتي (ف�صول �أبي البهاء ‪ -‬حب �أول وحب‬ ‫محب‪.‬‬
‫و�أدب الرحالت‬ ‫العجيلي‪( :‬با�سمة‬ ‫�أخير)‪ ،‬ومن �أجمل رواي��ات ُ‬ ‫كتاب ْي (جي�ش الإنقاذ‬ ‫َ‬ ‫جيلي‬ ‫الع‬
‫ُ‬ ‫ألف‬ ‫�‬ ‫كما‬
‫والمقامات‬ ‫بين الدموع ‪� -‬أزاهير ت�شرين المدماة ‪� -‬أر�ض‬ ‫‪ -‬ال�سيف والتابوت)‪ ،‬كما كتب ل ِفرقة الفنون‬
‫ال�سياد)‪ ،‬كما �أ�سهم مع بع�ض الكتاب ال�سوريين‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعبية في الرقة‪ ،‬وب��رع في كتابة ق�ص�ص‬
‫بـ(ع�صبة‬
‫ُ‬ ‫جيلي‬ ‫الع‬
‫ُ‬ ‫أ�سماه‬ ‫�‬ ‫ما‬ ‫أليف‬ ‫�‬ ‫ت‬ ‫في‬ ‫الظرفاء‬ ‫الخيال العلمي‪ ،‬مثل ق�صة (زيلو�س كوكب‬
‫ال�ساخرين)‪.‬‬ ‫العجيلي بقرائه بين‬ ‫الغيرة)‪ ،‬وفيها يرحل ُ‬
‫العجيلي �إلى قرابة‬ ‫ُترجمت معظم كتابات ُ‬ ‫النجوم والمجرات والنيازك‪.‬‬
‫(‪ )12‬لغة �أجنبية‪ ،‬منها الإنجليزية والإيطالية‪،‬‬ ‫العجيلي وزي��راً لوزارتي الخارجية‬ ‫ُعي َِن ُ‬
‫كما ُترجمت له ثالثة كتب �إلى اللغة الفرن�سية‪،‬‬ ‫والإعالم ال�سوري‪ ،‬ثم تم تعيينه وزيراً للثقافة‬
‫�أي�ض ًا ُدر���س��ت بع�ض ُم�ؤلفات �أدي��ب �سوريا‪،‬‬ ‫العجيلي نزار‬ ‫عين ُ‬ ‫ع��ام (‪1962‬م)‪ ،‬وعندما ّ‬
‫لطالب المدار�س والجامعات‪.‬‬ ‫قباني ‪ -‬الموظف بالخارجية ال�سورية ‪-‬‬
‫ترجمت معظم‬ ‫العجيلي علي بع�ض المدار�س‬ ‫�أُطلق ا�سم ُ‬ ‫دبلوما�سي ًا في �سفارة �سوريا ب�إ�سبانيا‪ ،‬عاتبه‬
‫كتاباته �إلى‬ ‫والأحياء وال�سورية‪ ،‬كما ُح ِو ّل ْت بع�ض رواياته‬ ‫الع ْظمة رئي�س وزراء �سوريا‬ ‫الدكتور ب�شير َ‬
‫العجيلي دروع ًا‬ ‫لأعمال تلفزيونية‪� ،‬أي�ض ًا نال ُ‬ ‫عينت‬ ‫لا‪( :‬ي��ا عبدال�سالم‪ ..‬لعلك ّ‬ ‫وقتها‪ ،‬ق��ائ� ً‬
‫الإنجليزية‬ ‫و�أو�سمة‪ ،‬وق��د تناول الكاتب ال�سوري نبيل‬ ‫نزار في �إ�سبانيا‪ ..‬فقط لأنه �صديقك)‪ ،‬ف�أجاب‬
‫والإيطالية‬ ‫العجيلي‪ ،‬من خالل ت�أليفه‬ ‫�سليمان ق�صة حياة ُ‬ ‫العجيلي‪( :‬لقد نقلته لإ�سبانيا‪ ،‬لي�س لأن��ه‬
‫والفرن�سية ودر�ست‬ ‫لكتاب (حكواتي من الفرات‪..‬‬
‫في الجامعات‬ ‫عبدال�سالم العجيلي)‪ ،‬وفي‬
‫ع��دده��ا ال�����ص��ادر ف��ي يونيو‬
‫ال�سورية‬
‫عام (‪2006‬م)‪ ،‬تناولت مجلة‬
‫(الكويت) �ست ع�شرة درا�سة‬
‫ع��ن �سيرة وم�سيرة ال��روائ��ي‬
‫العجيلي‪ .‬وفي (‪� 5‬إبريل عام‬
‫‪2006‬م)‪ ،‬رحل كاتب الروائع‬
‫تارك ًا �إرث ًا �أدبي ًا نفي�س ًا ال ُيقدر‬
‫بثمن‪.‬‬
‫نزار قباني‬ ‫نبيل �سليمان‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪46‬‬


‫مقاالت‬
‫ن�سيم‬

‫الرواية الأكثر مبيع ًا في �أمريكا‬


‫داليـا �أوينز‪ ..‬ت�صور �أجمـل‬
‫العالقات بين الطبيعة والإن�سان‬
‫بر�شاقة مفاجئة‪ ،‬كما لو �أنها لم تكن مخلوقة‬ ‫ق��د تكون رواي ��ة (عندما يغني لوب�ستر‬
‫ألف � ٍ‬
‫إوزة ثلجية)‪.‬‬ ‫لتطير‪ ،‬في �ضو�ضاء ت�صنعها � ُ‬ ‫الم�ستنقعات الأحمر) لـداليا �أوينز‪ ،‬التي احتلت‬
‫�وخ‬
‫تحيا (اب��ن��ة الم�ستنقعات) �إذاً ف��ي ك� ٍ‬ ‫المرتبة الأول��ى على م��دار (‪� )39‬أ�سبوع ًا في‬
‫نجوى بركات‬ ‫قبالة المحيط‪ ،‬وحيد ًة منذ �أن بلغت العا�شرة‬ ‫ثراء �أدبي ًا‬
‫قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر ً‬
‫من عمرها‪ ،‬وقد تع ّلمت كيف ت�صارع وتنا�ضل‬ ‫و�أكثر مبيع ًا‪ ،‬واع ُتبرت �أكثر الكتب مبيع ًا خالل‬
‫�سنتعرف �إلى‬
‫ّ‬ ‫ذلك �إل��ى العام (‪ )1952‬حيث‬ ‫لكي تبقى على قيد الحياة‪� .‬إال � ّأن موظفي دائرة‬ ‫العام (‪ ،)2019‬من بين �أف�ضل ما �أنتجه الأدب‬
‫(كيا) وهي في ال�ساد�سة من عمرها‪ .‬وهكذا‬ ‫الخدمات االجتماعية ي�أتون في �إث��ره��ا‪ ،‬ثم‬ ‫الأمريكي‪ ،‬الذي يحوي ربما �أجمل الن�صو�ص‬
‫تباع ًا‪ ،‬ننتقل من الحا�ضر �إلى الما�ضي‪ ،‬فيما‬ ‫لكن‬
‫يقب�ضون عليها وير�سلونها �إلى المدر�سة‪ّ .‬‬ ‫التي تناولت العالقة ما بين الإن�سان والطبيعة‪.‬‬
‫ال�سرد بين �أ�شهر العام (‪ )1969‬المهمة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يتناوب‬ ‫(كيا) لن تحتمل البقاء فيها �أكثر من يوم واحد‪،‬‬ ‫يحكي الكتاب ق�صة ِكيا (كاثرين كالرك)‬
‫وحياة (كيا) قبل بلوغها هذا التاريخ‪.‬‬ ‫بعد �أن �سمعت كل تلك التعليقات الم�سيئة‪،‬‬ ‫أل�سن ال�شريرة لقب (ابنة‬ ‫التي تطلق عليها ال ُ‬
‫هذا الأ�سلوب في بناء العمل‪� ،‬سي�شعر القارئ‬ ‫والت�صرفات‬
‫ّ‬ ‫وتعر�ضت لكل تلك النظرات الفوقية‬ ‫ّ‬ ‫الم�ستنقعات) تحقيراً وا�ستهجان ًا‪ ،‬ذلك �أن هذه‬
‫والتعرف مزيداً �إلى‬
‫ّ‬ ‫بالت�شويق لمتابعة القراءة‪،‬‬ ‫تتحين الفر�صة لتهرب عائدة‬ ‫ّ‬ ‫العدائية‪ ،‬ف�إذا بها‬ ‫الأخيرة عا�شت طوال حياتها‪ ،‬هناك‪ ،‬بعيداً عن‬
‫تلك البطلة‪ ،‬التي ت�شرخ الوحدة قلبها وي�ضنيها‬ ‫�إلى موطنها‪ .‬في الم�ستنقعات‪� ،‬ستتابع (كيا)‬ ‫�ضو�ضاء المدينة وعن �أي توا�صل مع نا�سها‪،‬‬
‫ال�شعور بالتخ ّلي‪ ،‬ما يجعلها تغفل فر�ص ًا عاطفية‬ ‫تع ّلم كيفية تدجين البيئة العدائية مزيداً‪،‬‬ ‫برفقة الحيوانات والطيور‪ ،‬التي لم تتخ ّل عنها‬
‫مف�ضل ًة الهرب واالختفاء في طبيعة باتت‬ ‫جيدة‪ّ ،‬‬ ‫وكيفية تحويلها حليف ًة و�صديق ًة وحا�ضنة‪،‬‬ ‫حبها �أو حكمت عليها �سلبي ًا‬ ‫يوم ًا‪ ،‬توقفت عن ّ‬
‫ومما ي�ضاعف القراءة ل ّذة‬‫كف يدها‪ّ .‬‬ ‫تتقنها مثل ّ‬ ‫كيف تتغ ّذى بخيراتها وتكت�شف �أ�سرارها‬ ‫�إلى الأبد مثلما فعل ويفعل الآخرون‪.‬‬
‫وت�شويقاً‪ ،‬هو ما و�ضعته (داليا �أوينز) في خدمة‬ ‫وتتفادى �أخطارها‪ .‬في الواقع‪� ،‬ستتع ّلم الفتاة‬ ‫لقد ولدت (كيا) في عائلة فقيرة جداً متعددة‬
‫ن�صها من تجارب ميدانية ومعارف عميقة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تتحد مع الطبيعة حيث تحيا‪،‬‬ ‫(المتوح�شة) �أن ّ‬ ‫يوم غادرت فيه الوالدة المنزل‬ ‫الأبناء‪ ،‬ثم ح ّل ٌ‬
‫راكمتها في علم الأحياء وفي علم الحيوان‪.‬‬ ‫فتبادل الأ�سماك والقواقع بالثياب والوقود‪،‬‬ ‫وال�صغيرة مازالت في ال�ساد�سة من عمرها‪.‬‬
‫تكتب‪( :‬ما الذي فعله النا�س بالأر�ض؟ البيوت‬ ‫وتتغذى بالطحين الممزوج بالماء والجمبري‪.‬‬ ‫وما هو �إال وقت ق�صير‪ ،‬حتى تبعها الأخ الكبير‬
‫كما لو �أنها علب �أح��ذي��ة كرتونية متماثلة‪،‬‬ ‫الوحدة‪ ..‬فهذه لم تجد (كيا) �سبي ًال �إلى‬
‫تبقى َ‬ ‫الذي كانت الطفلة متع ّلقة به‪ ،‬وما لبث الإخوة‬
‫تت�شبث بحدائق الع�شب المجزوز جيداً‪ .‬مجموعة‬ ‫تدجينها‪ ،‬بل �إنها تمعن في �إقالقها وتعذيبها‪،‬‬ ‫�سن العا�شرة‪ ،‬بقيت‬ ‫والأخ��وات �أن تبعوه‪ .‬حتى ّ‬
‫من مالك الحزين الزهري تنقد �أكلها في حديقة‪.‬‬ ‫على الرغم من قرارها الحا�سم ب�إقفال قلبها‬ ‫الفظ والعنيف‬ ‫(كيا) وحدها مع والدها الثمل‪ّ ،‬‬
‫لكن‪ ،‬عندما ا�ستدارت (كيا) متفاجئة‪ ،‬انتبهت‬ ‫في وجه الآخرين كائن ًا من كانوا‪� .‬أج��ل‪ ،‬لن‬ ‫الذي �سيختفي بدوره �أي�ض ًا‪ .‬وبما �أن ال�صغيرة‬
‫�أنها بال�ستيكية‪ .‬الغزالن من الباطون‪ ،‬والبط‬ ‫تثق الفتاة ب�أحد بعد الآن‪� ،‬إذ كيف لها �أن تثق‬ ‫�سن‬‫تتدبر �أم��وره��ا وح��ي��دة ف��ي ّ‬
‫عرفت كيف ّ‬
‫الوحيد الذي كان يطير في الأنحاء‪ ،‬كان ذلك‬ ‫بغرباء وقد تخ ّلى عنها كل �أفراد عائلتها‪ .‬مع‬ ‫تقرر البقاء حيث ه��ي‪� ،‬أي في‬ ‫مبكرة‪ ،‬فهي ّ‬
‫الذي ُيرى مر�سوم ًا على علب البريد)‪.‬‬ ‫الوقت‪� ،‬سوف يزداد �شعور (كيا) بوط�أة العزلة‬ ‫الم�ستنقعات‪ ،‬حيث ال يعي�ش �إال ق ّلة قليلة من‬
‫يتبدى �أن الطبيعة على �أهميتها‪ ،‬هي‬ ‫قد ّ‬ ‫والوح�شة‪ ،‬وهو ما �سيقودها الحق ًا �إلى لقاءين‬ ‫�أفراد يحتقرهم �أهل مدينة (باركلي كوف) في‬
‫ما ت�شكل قلب الن�ص الروائي‪ ،‬في حين تحت ّل‬ ‫�سيغيران حياتها‪ .‬الأول هو (تايت) ال�شاب‬ ‫مقاطعة كاروالينا ال�شمالية‪� ،‬إذ يرون �إليهم �أهل‬
‫العالقات بين الب�شر مركزها‪ .‬الحب والكراهية‬ ‫الخجول الهادئ الذي يكبرها ب�أربع �سنوات‪،‬‬ ‫�سوء خارجين على �أمور الذي يقول عنهم‪( :‬لي�س‬
‫وال��خ��وف والأح��ك��ام الم�سبقة والعن�صرية‬ ‫والذي �سيتم ّكن من خالل جهود م�ضنية وعناية‬ ‫عليهم �سوى �أن يتقاتلوا ويق�ضوا على بع�ضهم‬
‫والت�ضامن واال�ستبعاد والعاطفة والق�سوة‪،‬‬ ‫ق�صوى التغلب على حذرها وك�سب عاطفتها‪.‬‬ ‫(كيا)‪ ،‬وعلى عك�س كل‬ ‫بع�ض ًا)‪� .‬أم��ا ال�صغيرة ِ‬
‫و(كيا) التي تبحث عن مكان لها بين الب�شر‬ ‫يع ّلمها القراءة والكتابة والح�ساب‪ ،‬وتع ّلمه‬ ‫ه�ؤالء‪ ،‬فهي ترى �أن (الم�ستنقع لي�س �سبخة‪� ،‬إنه‬
‫والطبيعة‪� ،‬أو عن ت��وازن بين االثنين يو ّفر‬ ‫هي اكت�شاف �أ�سرار الطبيعة وثرواتها‪ .‬بيد �أن‬ ‫ف�ضاء من ال�ضوء حيث ينمو الع�شب في الماء‪،‬‬
‫لها �سالم ًا داخلياً‪ ،‬ت�سعى �إليه منذ �صغرها‪.‬‬ ‫و�صدقه القراء‪،‬‬‫ّ‬ ‫�صدقته (كيا)‬
‫(تايت) هذا الذي ّ‬ ‫والماء يندلق نحو ال�سماء‪� .‬سواقٍ ك�سولة ّ‬
‫تجر‬
‫ال�شخ�صيات المر�سومة بعمق وذكاء‪ ،‬والأحداث‬ ‫�سي�ضطر �إلى تركها لموا�صلة درا�سته الجامعية‪.‬‬ ‫ال�شم�س نحو البحر‪ ،‬فتح ّلق طويالت ال�ساق‬ ‫قر�ص ّ‬ ‫َ‬
‫وتوجه‬
‫ّ‬ ‫الم�شوقة التي �ستلي اكت�شاف الجثة‬ ‫ّ‬ ‫�أما الثاني؛ فهو (ت�شايز)‪ ،‬نقي�ض (تايت)‬
‫�أ�صابع االت��ه��ام نحو (اب��ن��ة الم�ستنقعات)‪،‬‬ ‫ومحط �أنظار ك ّل فتيات باركلي كوف‪ ،‬والذي‬ ‫ّ‬ ‫تظل الوحدة هاج�س (كيا)‬
‫�ستجعل ال��ق��ارئ ت��واق� ًا لأن ُتجرى محاكمة‬ ‫تبد�أ الرواي ُة باكت�شاف ج ّثته مقتو ًال في العام‬
‫لا باكت�شاف ما �سي�ؤول �إليه‬ ‫(كيا) �أخيراً �أم� ً‬ ‫(‪� .)1969‬إن التواريخ التي تبد�أ فيها ك ّل ف�صول‬ ‫الذي يعذبها وهي تمعن في‬
‫م�صير البطلة‪.‬‬ ‫الرواية مهمة جداً‪ ،‬لأن الكاتبة �ستعيدنا بعد‬ ‫تدجينه‬

‫‪47‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫ترجمت دواوينه �إلى �سبع لغات عالمية‬

‫علي الحازمي‪ :‬النقد لم يعد يواكب‬


‫الأعمال ال�شعرية عربي ًا‬
‫علي الحازمي؛ �شاعر �سعودي متفرد‪ ،‬و�أحد �أهم الأ�صوات ال�شعرية بالمملكة‪ ،‬ونظر ًا �إلى �أن ق�صائده‬
‫منذ اللحظةالأولىمعنيةب�أحالمالب�سطاءوهمومالإن�سان؛ا�ستطاع من خالل منجزه ال�شعري �أن يبهر‬
‫العالم‪ .‬ولد عام (‪1970‬م) بمدينة �ضمد التابعة لمنطقة جازان‪ ،‬والتحق بجامعة �أم القرى في مكة‬
‫وتخرج في ق�سم اللغة العربية عام (‪1992‬م)‪ .‬في مطلع عام (‪1985‬م) بد�أ بن�شر ق�صائده في ال�صحف‬
‫والمجالت العربية‪� ..‬شارك في العديد من الأم�سيات ال�شعرية والمهرجانات الأدبية بمختلف‬
‫�أحمد الالوندي‬
‫دول العالم‪� .‬صدر له‪( :‬بوابة الج�سد‪1993 ،‬م)‪ ،‬و(خ�سران‪2000 ،‬م)‪ ،‬و(الغزالة ت�شرب �صورتها‪،‬‬
‫‪2004‬م)‪ ،‬و(مطمئن ًا على الحافة ‪2009‬م)‪ ،‬و(الآن في الما�ضي‪2018 ،‬م)‪ ،‬وترجمت دواوينه وق�صائده �إلى لغات عديدة‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪48‬‬


‫حوار‬

‫فاز بالكثير من الجوائز؛ ففي (‪2015‬م) ح�صل‬


‫على جائزة ال�شعر بمهرجان الأوروغواي ال�شعري‪،‬‬
‫والجائزة العالمية الكبرى لمهرجان ليالي ال�شعر‬
‫العالمي برومانيا (‪2017‬م)‪ ،‬وجائزة �أف�ضل �شاعر‬
‫دولي لعام (‪2018‬م) من المركز الدولي للترجمة‬
‫والبحوث ال�شعرية في ال�صين‪� .‬صدرت حول تجربته‬
‫ثالثة كتب نقدية هي‪ :‬عنا�صر الت�شكيل الجمالي‬
‫والفني في �شعر علي الحازمي‪ ،‬د‪ .‬ليلى �شبيلي‬
‫(‪2012‬م)‪ ،‬وطائر ال��ن��ار‪ -‬م�صاحبة نقدية في‬
‫تجربة ال�شاعر علي الحازمي‪� ،‬إبراهيم القهوايجي‬
‫(‪2013‬م)‪ ،‬وتجليات الغياب‪ -‬قراءة في �شعر علي‬
‫الحازمي‪ ،‬علي حافظ كريري (‪2015‬م)‪.‬‬

‫¯ ولدت بجنوبي ال�سعودية في مدينة (�ضمد) ُترى‪،‬‬


‫ما الذي يميز هذه المدينة؟‬
‫‪� -‬ضمد تتميز بطبيعة �آ�سرة‪ ،‬حيث الحقول‬
‫والأودي� ��ة وال��وج��وه ال�سمر‪ ،‬وال��ف��ل‪ ،‬والفواني�س‬
‫و�أنا�شيد الأمهات‪ ،‬في هذه الأجواء البديعة ن�ش�أت‪،‬‬
‫�إنها �أج��واء القرى في �أبهى تجليات دفئها‪ .‬هي‬
‫�أي�ض ًا مدينة علم وبها الكثير من علماء الدين‪،‬‬
‫التاريخ يقول ذلك‪ ،‬ولعل الطبيعة ال�ساحرة للمدينة‬
‫من �أغلفة دواوينه‬
‫ال�صغيرة تحر�ض النا�س على الغناء والن�شيد حالي ًا؛ ثمة �أ�سماء �شعرية رائعة في الوطن العربي‬
‫وال�شعر؛ ال��ج��دات يحفظن الكثير م��ن الق�صائد وفي ال�سعودية ي�صعب بالفعل ح�صرها في هذه‬
‫ال�شعبية‪ ،‬ناهيك عن �أن �أكثرهن �شاعرات بالفطرة‪ ،‬الم�ساحة ال�ضيقة‪.‬‬
‫كما قر�أت في كتب الفكر والتاريخ والفل�سفة‪،‬‬ ‫وكذلك تجد الأجداد‪.‬‬
‫وبالن�سبة للروايات قر�أت كم ًا كبيراً من الأعمال‬
‫ثمة �أ�سماء �شعرية‬ ‫¯ كان لأ�سرتك الدور الرئي�س كي ت�صبح �شاعراً‪ ،‬ال��روائ��ي��ة المحلية والعربية والمترجمة‪ ،‬لكن‬
‫رائعة في ال�سعودية‬ ‫اهتمامي ين�صب في الأغلب على ال�شعر‪ ،‬ويهمني �أال‬ ‫�ألي�س كذلك؟‬
‫والوطن العربي‬ ‫‪ -‬ط��ب��ع� ًا‪ ..‬وكتابة ال�شعر خ��ي��ار �شخ�صي �أكون بمعزل عما يحدث على خريطة ال�شعر المحلي‬
‫�أو ًال و�أخيراً‪ ،‬كما �أن ال�شاعر في �أوق��ات كثيرة‪ ،‬والعربي والعالمي‪ .‬بالطبع ال يمكنني قراءة جميع‬
‫جديرة بالتقدير‬ ‫قد يجد ذات��ه خ��ارج الكتابة ال�شعرية نف�سها‪ ،‬ال�شعراء‪ ،‬لكنني بوجه ع��ام ق��ارئ ومتابع جيد‬
‫لكني �أ�ستطيع �أن �أ�شير �إلى �أن �أجواء الأ�سرة في للحراك ال�شعري‪.‬‬
‫البدايات‪ ،‬كان لها دور كبير في لفت انتباهي‬
‫وتحري�ضي على كتابة ال�شعر في مرحلة مبكرة‪� ¯ ،‬شاركت في كثير من المهرجانات ال�شعرية حول‬
‫ولعل الف�ضل يعود في جل الأحيان �إلى والدي‪ ،‬العالم‪ ،‬ماذا تمثل لك هذه الم�شاركات؟‬
‫‪ -‬بكل ت�أكيد؛ �أعدها تجربة مهمة لي على‬ ‫لأن��ه �شخ�ص محب لل�شعر‪ ،‬وم��ت��ذوق رائ��ع له‪،‬‬
‫�إ�ضافة �إلى �أنه �شاعر يحب كتابة ال�شعر‪ ،‬و�إلقاءه الم�ستوى ال�شخ�صي وال�شعري‪ ،‬هذه الم�شاركات‬
‫الم�شاركات‬ ‫ت�ساعد بال �شك ال�شاعر من �أجل االنفتاح على الآخر‪،‬‬ ‫ب�صوته العذب المميز‪.‬‬
‫الخارجية في‬ ‫وتمكنه في الوقت ذاته من االطالع على تجارب‬
‫المهرجانات‬ ‫¯ معروف عنك �أنك تقر�أ بنهم‪ ،‬فلمن قر�أ ال�شاعر �شعرية مختلفة من بلدان متعددة‪ ،‬كما �أن االلتقاء‬
‫ب�شعراء من العالم في فعاليات م�شتركة واحدة‪،‬‬ ‫علي الحازمي؟‬
‫والملتقيات ت�ساعد‬
‫‪� -‬أحب قراءة ال�شعر بوجه عام‪ .‬قر�أت للكثير ي�سهم بكل ت�أكيد في التعريف ب�صوتك ال�شعري‪،‬‬
‫ال�شاعر على االنفتاح‬ ‫من ال�شعراء في �أغلب الع�صور من الع�صر الجاهلي �إنك �أي�ض ًا ت�ستطيع من خالل هذه المهرجانات‪� ،‬أن‬
‫على الآخرين‬ ‫�إلى الع�صر الحديث‪ ،‬في بداياتي؛ قر�أت و�أحببت تلم�س بو�ضوح هموم ال�شعراء في العالم‪ ،‬وتطلع‬
‫واالطالع على‬ ‫ق�صائد �إيليا �أب��و ما�ضي‪ ،‬ون��زار قباني‪ ،‬وخليل على بع�ض �أحالمهم و�آمالهم وكذلك خيباتهم‪.‬‬
‫حاوي‪ ،‬ومحمود دروي�ش‪ ،‬و�سعدي يو�سف‪ ،‬ومحمد‬
‫تجاربهم‬ ‫بنطلحة‪ .‬محليا؛ �أث��رت��ن��ي تجربة محمد العلي ¯ �أخيرا‪ ،‬تعاقدت مع �شركة جوجل الأمريكية‪ ،‬نود‬
‫ً‬
‫ال�شعرية وعلي الدميني ومحمد الثبيتي وال�صيخان‪� .‬أن نقف على تفا�صيل هذا التعاقد؟‬

‫‪49‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫حوار‬

‫للإ�سبانية والإنجليزية والفرن�سية‬ ‫‪ -‬قبل عام تقريب ًا ات�صلت بي �شركة جوجل‬


‫والتركية والرومانية وال�صربية‬ ‫الأمريكية‪ ،‬من خالل �أحد العاملين بها‪ ،‬ب�ش�أن �شراء‬
‫والمقدونية في عوا�صم تلك البلدان‬ ‫حقوق بع�ض من ق�صائدي ال�شعرية‪ ،‬لن�شرها �ضمن‬
‫التي ن�شرت فيها‪ ،‬وبهذه المنا�سبة‬ ‫المحتوى ال�صوتي الذي تقدمه ال�شركة لعمالئها‬
‫�أود �أن �أ�شكر كل المترجمين‪ ،‬الذين‬ ‫عبر خدمة (م�ساعد جوجل ‪،)google Assistant‬‬
‫�شرفوني بنقل �أ�شعاري �إل��ى تلك‬ ‫وتم االتفاق على �شراء خم�س ق�صائد لتن�شر في‬
‫اللغات‪ .‬لقد كنت محظوظ ًا بهم‬ ‫المحتوى ال�صوتي‪ ،‬وقمت فع ًال بت�سجيل الق�صائد‬
‫للغاية‪ ،‬لأن �أغ��ل��ب م��ن ترجموا‬ ‫لم�صلحة ال�شركة في ا�ستوديو خا�ص بمدينة‬
‫ق�صائدي ه��م �شعراء ومهتمون‬ ‫الريا�ض‪ ،‬الآن الق�صائد متاحة ويمكن الو�صول‬
‫بال�شعر في الأ�سا�س‪.‬‬ ‫�إليها مبا�شرة عن طريق خدمة م�ساعد جوجل‪،‬‬
‫هذه الخدمة متوافرة فقط على الهواتف والأجهزة‬
‫اللوحية‪ ،‬التي تعمل بنظام الت�شغيل (‪ُ ¯ ،)Android‬ن�شرت ع��ن دواوي��ن��ك العديد‬
‫حيث يطلب الم�ستخدم �صوتي ًا كلمة (ق�صيدة) من الكتب وال��درا���س��ات النقدية‪.‬‬
‫فيكون �أمام ق�صائد مختارة لبع�ض ال�شعراء العرب‪ .‬من وجهة نظرك؛ هل النقد لدينا‬
‫يعي�ش �أزمة حقيقية؟‬
‫علي الحازمي‬ ‫‪ -‬لعلي ال �أملك �إجابة دقيقة‬ ‫¯ ترجمت دواوينك �إلى لغات مختلفة‪� ،‬إال �أنك لم‬
‫عن هذا ال�س�ؤال‪ ،‬لكني �أ�ستطيع �أن �أق��ول لك‪� ،‬إن‬ ‫تخطط لم�س�ألة الترجمة‪ ،‬فكيف حدث ذلك؟‬
‫‪ -‬هذا �صحيح‪ ،‬في المرة الأولى‪ ،‬التي ذهبت النقد قد تراجعت �أهميته لأ�سباب كثيرة منها‪ :‬عجز‬
‫فيها للم�شاركة بمهرجان �شعري خ��ارج الوطن الناقد عن مواكبة الأعمال ال�شعرية‪ ،‬التي ت�صدر في‬
‫العربي‪ ،‬كانت لمهرجان كو�ستاريكا ال�شعري‪ ،‬الوطن العربي‪ ،‬لأن ال�شعر نهر عذب في تدفق وتجدد‬
‫ترجمت دواويني‬ ‫هذا المهرجان من خالل كل ن�سخه ال�سابقة يقوم دائمين‪ ،‬كما �أنه في نف�س الوقت �ضد الثبات‪ ،‬لذلك‬
‫�إلى الإ�سبانية‬ ‫�ضيه للبعيد با�ستمرار‪ .‬المتلقي هو الآخر‬ ‫بطباعة دواوين �شعرية بعد ترجمتها للإ�سبانية يوا�صل ُم ّ‬
‫لكل ال�شعراء الم�شاركين في فعالياته‪ ،‬الميزة قرر �أن يذهب مبا�شرة �إلى المبدع وبد�أ يتفاعل معه‪،‬‬
‫والإنجليزية‬ ‫المهمة لكل مهرجانات ال�شعر العالمية تكمن في من خالل �شبكات التوا�صل االجتماعي‪ ،‬لذلك؛ نجد‬
‫والفرن�سية‬ ‫�أنها تمنح لك تلك الفر�ص التي تمكنك من االلتقاء �أن القارئ في المح�صلة لي�س بحاجة �إلى تو�صيات‬
‫والرومانية‬ ‫ب�شعراء من بلدان �شتى يكتبون بلغات مختلفة‪ ،‬معينة من النقاد‪� ،‬إنه يقر�أ بحرية وطواعية تامة‬
‫�شعراء قد يتحم�سون للقيام بترجمة �أ�شعارك لل�شعراء‪ ،‬الذين اختارهم و�أحب ق�صائدهم بنف�سه‪،‬‬
‫�إل��ى لغاتهم الخا�صة‪ ،‬وه��ذا ما كان يحدث معي من ا�ستجابوا لهتاف ذائقته المح�ضة‪ ،‬لذا؛ مع مرور‬
‫بال�ضبط‪ ،‬لذلك؛ �صدرت كتبي ال�سبعة المترجمة الوقت‪� ،‬أ�صبح القارئ ي�سبق الناقد بخطوة �إلى‬
‫الأعمال ال�شعرية‪ ،‬التي يف�ضلها‬
‫ويثق ب�شعرائها‪.‬‬

‫¯ الخريطة ال�شعرية بالمملكة‪،‬‬


‫�أين مكانها بالوقت الراهن؟‬
‫‪ -‬ال�شعر في ال�سعودية حالي ًا‬
‫�شركة جوجل‬ ‫يمر بمرحلة رائعة‪ ،‬هناك العديد‬
‫ا�شترت حقوق بع�ض‬ ‫من التجارب ال�شعرية المتميزة‪،‬‬
‫التي ا�ستطاعت �أن تحقق لذاتها‬
‫ق�صائدي وتن�شرها‬ ‫ال�شعرية ح�ضوراً ومكانة الفتة في‬
‫�ضمن المحتوى‬ ‫ذاك��رة القارئ العربي ووجدانه‪.‬‬ ‫علي الدميني‬ ‫�إيليا �أبوما�ضي‬
‫ال�صوتي خدمة‬ ‫العالم كما تعلم �أ�صبح اليوم‬
‫ق��ري��ة كونية �صغيرة‪ ،‬الجميع‬
‫لعمالئها‬ ‫با�ستطاعته �أن يقر�أ ويتفاعل مع‬
‫الجميع ف��ي ذات اللحظة‪ ،‬هذه‬
‫المعطيات التقنية‪ ،‬ت�صب بال‬
‫�شك في م�صلحة ال�شعر وال�شعراء‪،‬‬
‫وعليهم �أن ي�ستثمروها لن�شر الخير‬
‫والحب وال�سالم في العالم‪.‬‬ ‫محمد بنطلحة‬ ‫محمد الثبيتي‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪50‬‬


‫مقاالت‬
‫م�سارات‬

‫تجليات الق�صيدة في �شعر نادر هدى‬


‫والت�شعب‪ ،‬ف�ض ًال على � ّأن ف�ضاءاتها الُلغوية‬ ‫ّ‬ ‫على الرغم من كثرة القراءات واالجتهادات‬
‫في طبيعة ق�صيدة النثر‪ :‬بنيتها ومهادها‪ ،‬والإيقاعية مفتوحة‪ ،‬دون حدود �أو قيود‪ ،‬وهذا‬
‫ورواده��ا‪ ،‬ف�إنها مازالت بحاجة �إلى مزيد من ما يم ّكن ال�شاعر من التعبير عن تجارب داخلية‬
‫أثيرية‪ ،‬معقدة‪ ،‬ومكبوتةوال�شاعر نادر هدى (‪- 1961‬‬ ‫الدر�س النقدي؛ ال�ستجالء قدراتها الت� ّ‬
‫‪2016‬م) واحد من ال�شعراء الأردنيين‪ ،‬الذين‬ ‫الجمالية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وف�ضاءاتها‬
‫عمر �أبو الهيجاء‬ ‫ور�سخ‬ ‫ّ‬ ‫المعا�صرة‪،‬‬ ‫ة‬‫ال�شعري‬
‫ّ‬ ‫الحداثة‬ ‫حركة‬ ‫واكبوا‬ ‫تجليات‬ ‫‪...‬‬ ‫الن�ص‬ ‫(�شعائر‬ ‫كتاب‬ ‫وي�أتي‬
‫ال�شعرية‪ ،‬بدءاً‬ ‫ّ‬ ‫إبداعاته‬ ‫�‬ ‫في‬ ‫النثر‬ ‫ق�صيدة‬ ‫مفهوم‬ ‫عماد‬ ‫للناقد‬ ‫هدى)‬ ‫نادر‬ ‫�شعر‬ ‫في‬ ‫النثر‬ ‫ق�صيدة‬
‫ال�ضمور‪ ،‬وال�صادر حديث ًا عن‪ ،‬الآن نا�شرون بديوانه الأول (مملكة للجنون وال�سفر) ‪1984‬م‪،‬‬
‫التي ربطته بالزمن‪ ،‬وطبيعة تجاذباتها اللغوية‪،‬‬ ‫وانتهاء بديوانه الأخير (حدائق القلق) ‪2007‬م‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وم��وزع��ون‪ ،‬ا�ستكما ًال للدرا�سات التي تحاول‬
‫أمدت �صوره بقدرة‬ ‫التي �أثرت معجم ال�شاعر‪ ،‬و� ّ‬ ‫حجرية) ‪1985‬م‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫البحث ف��ي تقنيات ق�صيدة النثر و�أدوات��ه��ا وم��روراً بدواوينه‪( :‬م�سرات‬
‫هائلة على الت�ش ّكل المبدع‪ ،‬والبوح الجريء عن‬ ‫البنائية‪ ،‬وما يمكن �أن تحققه من �أثر في عملية و(ل��ن تخل�صي مني) ‪1993‬م‪ ،‬و(حبر العتمة)‬
‫خبايا النف�س‪ ،‬فكانت الدرا�سة الرابعة؛ لتك�شف‬ ‫‪1992‬م‪ ،‬و(مزامير الريح) ‪1993‬م‪ ،‬و(عالم‬ ‫التلقي‪.‬‬
‫عن فاعلية الزمن في ت�شكيل ر�ؤى ال�شاعر‪ ،‬وبنية‬ ‫� ّإن درا���س��ة ق�صيدة ال��ن��ث��ر‪ ،‬ان��ط�لاق� ًا من ل�ست فيه) ‪2000‬م‪ ،‬و(كذلك) ‪2001‬م‪ ،‬و(�أنت)‬
‫ن�صو�صه العميقة‪.‬وجاءت الدرا�سة الخام�سة‬ ‫أمر مهم لإب��راز جمالياتها‪2004 ،‬م‪ ،‬و(���س��أع� ّ�د �أي��ام��ي بموتك) ‪2004‬م‪،‬‬ ‫طبيعتها البنائية � ٌ‬
‫قراءة في ثالثية ال�شاعر نادر هدى (حبر العتمة‪،‬‬ ‫ولي�س كما نريد �أن ننظر �إليها‪ ،‬وذلك بدرا�سة و(�أروى) ‪2006‬م‪ ،‬و(نار القرى) ‪2007‬م‪ ،‬و(ماء‬
‫مزامير الريح‪ ،‬عالم ل�ست فيه) مو�ضحة جوانب‬ ‫الإي��ق��اع الداخلي‪ ،‬ال��ذي تنتجه اعتماداً على الغواية) ‪2012‬م‪ ،‬و(م��ن �أج��ل ذل��ك) ‪2016‬م‪،‬‬
‫الإب��داع فيها‪ ،‬بو�صفها تمثل البدايات الأولى‬ ‫الرهبة)‬ ‫إبداعية (م�شارب َّ‬ ‫ال�شعرية المنتجة ف�ض ًال عن �سيرته ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫اللغوية‪ ،‬وال�صورة‬
‫ّ‬ ‫ال�صياغة‬
‫إبداعية في ق�صيدة النثر‪.‬‬
‫لتجربة ال�شاعر ال ّ‬ ‫للمعنى‪� ،‬ضمن مفهوم التوتر المثير للمتلقي‪2009 ،‬م‪.‬‬
‫يعمق نادر هدى من الخطاب ال�صوفي في‬ ‫ّ‬ ‫تناولت الدرا�سة الأولى (ت�شكالت «هدى» في‬ ‫مما‬
‫ال�شعرية في ف�ضاء حالم‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫والباعث للر�ؤية‬
‫ق�صائده من �سرمدية الحزن‪ ،‬وك�أ ّنه يجعل من‬ ‫نقدية جمالية‪ ،‬تقوم �شعر نادر هدى)‪ ،‬بعدما �أ�صبحت (هدى) �أيقونة‬ ‫ّ‬ ‫نظر‬ ‫وجهة‬ ‫يجعلنا نتبنى‬
‫�صوفيته ج�سراً للتحليق ب�أحزانه المتراكمة في‬ ‫على �أ�س�س نقدية منهجية وا�ضحة‪ ،‬ولي�ست مهمة ‪ ،‬وب�ؤرة مركزية توجه �إبداع ال�شاعر نحو‬
‫ف�ضاء الروح ال�سامي بعيداً عن معاندة الواقع‪،‬‬ ‫ف�ضاءات حالمة‪� .‬إذ يلم�س المت�أمل في �شعر نادر‬ ‫انطباعية جزئية‪.‬‬
‫و�سطوة الزمن‪.‬‬ ‫مما‬
‫ّ‬ ‫ن�صو�صه‪،‬‬ ‫في‬ ‫(هدى)‬ ‫ح�ضور‬ ‫كثافة‬ ‫هدى‬ ‫وا�ضح‬ ‫جدل‬ ‫في‬ ‫النثر‬ ‫ق�صيدة‬ ‫لع ّل دخول‬
‫لقد �ش ّكل الخطاب ال�صوفي في ق�صائد‬ ‫داللية خ�صبة‪ ،‬ح ّفزت على الك�شف‬ ‫حول م�شروعية وجودها‪ ،‬جعل من ال�ضروري منحها �أبعاداً ّ‬
‫نادر هدى فعالية خطابية‪ ،‬تمتلك من الآليات‬ ‫تتبع م�سارها الإب��داع��ي والبحث ف��ي جوهر عن طبيعة هذا الح�ضور الخ�صب‪ ،‬و�أثره الفني‬
‫ن�صية ذات �أبعاد‬ ‫ّ‬ ‫وال�شروط التي تحقق لل�شعر‬ ‫الفكرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�أدواتها البنائية ‪ ،‬بعدما �أ�ضحت ج�سداً مرفو�ض ًا في �شعره‪ ،‬وبيان طبيعة انعكا�ساته‬
‫معرفية‬
‫ّ‬ ‫حالة‬ ‫عبارة‬ ‫تلقٍ خ�صبة‪ ،‬تجعل من ك ّل‬ ‫وجاءت الدرا�سة الثانية؛ لتبحث في الت�شكيل‬ ‫عند كثير من المحافظين‪ ،‬وارتفع �صوت النقاد‬
‫خا�صة‪ ،‬يجد المتلقي نف�سه ملزم ًا بمهمة‬ ‫الباحثين عن �إيجاد مقاربات نقدية جديدة‪ ،‬الفني لق�صيدة النثر؛ بهدف الوقوف على الأثر‬
‫الك�شف عن طبيعة هذه العالقة الم�س�ؤولة‪ ،‬عن‬ ‫تختلف عن تلك الأدوات‪ ،‬التي تم تطبيقها على الذي ت�ؤديه عالمات الترقيم في �إحداث الإيقاع‬
‫أدبية‪ ،‬مادام‬‫ال�شرعية ال ّ‬
‫ّ‬ ‫منح الخطاب ال�صوفي‬ ‫الداخلي لق�صيدة النثر‪ ،‬وقد توقفت هذه الدرا�سة‪،‬‬ ‫الق�صيدتين العمودية والتفعيلة‪.‬‬
‫مكون ًا للن�ص‪ ،‬وظاهرة‬ ‫التفاعل الن�صي عن�صراً ّ‬ ‫وم��ع ك � ِّل ذل��ك تبقى ق�صيدة النثر‪� ،‬أكثر عند مجموعة من الوظائف الفاعلة لعالمات‬
‫مهمة يعك�سها �شعراء الحداثة في ن�صو�صهم‬ ‫إبداعي جديد‪ُ ،‬ينجز �أ�سئلته بعيداً الترقيم‪ ،‬في �شعر نادر هدى‪ ،‬وبيان فاعليتها‬ ‫ّ‬ ‫تمثي ًال لحراك �‬
‫الإبداعية‪.‬‬ ‫الن�صية‪.‬‬‫ّ‬ ‫ُ‬
‫عن القيا�سات والأطر التقليدية‪ ،‬ويفتح �صفحة‬
‫من الوا�ضح �أن دواوي��ن ال�شاعر ال�صادرة‪،‬‬ ‫ولما كان البعد ال�صوفي في ال�شعر المعا�صر‬ ‫ّ‬ ‫جديدة ت�سمح للج�سد المقهور‪� ،‬أن ينتج عالماته‬
‫ر�سخ من وجود وم�شروعية ق�صيدة النثر في‬ ‫ُت ّ‬ ‫فكرية خا�صة‪ُ ،‬تف�صح عن خطاب‬ ‫ّ‬ ‫في حرب ثقافية‪ ،‬هي الأق�سى في تاريخ ال�شعر‪ ،‬يعك�س ر�ؤى‬
‫ال�شعرية الأردنية‪ ،‬وتف�سح المجال �أمام‬ ‫ّ‬ ‫ال�ساحة‬ ‫التعرج �إب��داع��ي متح ّفز‪ُ ،‬ي�صاغ بنب�ض ال��روح‪ ،‬و�أف��ق‬ ‫ّ‬ ‫فهي ق�صيدة ذات بنية �سائلة في طبيعة‬
‫ال�شعرية ل�سبر �أغ��واره��ا‪ ،‬ومعرفة كنه‬ ‫ّ‬ ‫الذائقة‬ ‫التوحد مع‬ ‫ّ‬ ‫بحالة‬ ‫المفعم‬ ‫الجامح‪،‬‬ ‫�دان‬ ‫�‬ ‫�وج‬
‫�‬ ‫ال‬
‫�شعريتها الماثل في �إيقاع كلماتها‪ ،‬و�صورها‬ ‫ال��ذات الباحثة عن الحقيقة‪ ،‬وك�شف كينونة‬
‫ال�شعرية‪ ،‬وعالماتها الب�صرية الدالة‪ .‬وديوان‬ ‫ّ‬ ‫الوجود‪ ،‬ج��اءت الدرا�سة الثالثة؛ لتك�شف �أثر‬
‫�صرح به‬ ‫كما‬ ‫(‪1984‬م)‪،‬‬ ‫ال�صادر‬ ‫العتمة)‬ ‫(حبر‬ ‫المتخيل ال�صوفي في ديوان (� ْأر َوى) مبرزة �أهم‬
‫البعد ال�صوفي في ال�شعر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حجر‬
‫ٌ‬ ‫هبة)‬ ‫الر‬
‫َّ‬ ‫م�شارب‬ ‫الذاتية(‬ ‫�سيرته‬ ‫في‬ ‫ال�شاعر‬ ‫تجليات ال�صوفية في الديوان‪.‬‬ ‫المعا�صر يعك�س ر�ؤى‬
‫�ألقي على �صفحة ماء الم�شهد الإبداعي الأردني‪،‬‬ ‫وف��ي �شعر ن��ادر ه��دى‪ ،‬يمكن ر�صد ت�أثير‬ ‫فكرية تف�صح عن خطاب‬
‫ل��ي ��ؤذن بميالد ق�صيدة النثر‪ ،‬وانطالقتها‪،‬‬ ‫الزمن في بنية ن�صو�صه‪ ،‬التي تفي�ض بدالالت‬
‫ولي�صبح هذا الحجر �أحجاراً تتتالى‪.‬‬ ‫الجدلية‬ ‫فكرية خ�صبة‪ ،‬ت�سجل طبيعة العالقة‬
‫ي�صاغ بنب�ض الروح‬
‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪51‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫و�صفوها بربة البيت الخجولة‬

‫�ألي�س مونرو‪..‬‬
‫�سيدة الق�صة الق�صيرة المعا�صرة‬
‫بد�أت مونرو م�سيرتها الإبداعية في �سن‬
‫�ألي�س مونرو‪ ،‬كاتبة ق�صة ق�صيرة كندية الأ�صل تكتب‬
‫المراهقة بكتابة الق�ص�ص الق�صيرة‪ ،‬وقد‬
‫�صرحت مرة �أنها كانت تعرف جيداً ب�أنها‬ ‫بالإنجليزية‪ ،‬ولدت عام (‪1931‬م) في والية �أونتاريو‪،‬‬
‫تريد �أن تكون كاتبة‪ ،‬فتقول‪( :‬لكن في العودة‬ ‫�شيدت مجدها الإبداعي عبر �إنجازها ال�ضخم في مجال‬
‫�إلى ذلك الوقت‪� ،‬أنت ال تعلن �شيئ ًا مثل هذا‬ ‫الق�صة الق�صيرة‪ ،‬وتوجته بح�صولها على جائزة (نوبل‬
‫لمن حولك)‪ ،‬لذا ظلت تكتب وتر�سل �إنتاجها‬ ‫ل�ل��آداب) في العام (‪2013‬م)‪ ،‬بعد مناف�سة قوية مع‬
‫�سراً �إلى النا�شرين فيرف�ضونه‪� ،‬إلى �أن حمل‬ ‫�سو�سن محمد كامل‬
‫البريد لها �ست ن�سخ مطبوعة من مجموعتها‬
‫�أدب��اء كبار كالأديب �أمبرتو �إيكو‪ ،‬والروائية جوي�س‬
‫�أوتي�س‪ ،‬وبيتر نادا�ش‪ ،‬والروائي هاروكي موراكامي‪ .‬لقبها �سكرتير اللجنة الأول��ى (رق�صة الظالل ال�سعيدة) في العام‬
‫المانحة للجائزة بـ(�سيدة الق�صة الق�صيرة المعا�صرة)‪ ،‬كما نالت لقب (‪19٦8‬م)‪ ،‬حيث كتبتها على م��دار خم�سة‬
‫(ت�شيخوف كندا) تيمن ًا بالروائي الرو�سي العظيم �أنطوان ت�شيخوف‪ .‬ع�شر عام ًا‪ ،‬فكان ذلك �إعالن ميالدها كاتبة‬
‫ر�سمي ًا‪ ،‬وكان عمرها ‪ 37‬عام ًا‪ ،‬لكن هذا العمل‬
‫يلق االهتمام خارج كندا‪ ،‬حتى �أ�صدرت‬ ‫لم َ‬
‫مجموعتيها (�أقمار الم�شتري) (‪1982‬م)‪،‬‬
‫و(ارت��ق��اء الحب) (‪1986‬م)‪ ،‬حينها عرفت‬
‫ال�شهرة‪ ،‬فقد تجاوزت فيهما �أ�سلوب البناء‬
‫التقليدي للق�صة الق�صيرة‪ ،‬حتى و�صلت �إلى‬
‫ما �أ�سمته الروائية مارغريت �أتوود (القدا�سة‬
‫الأدبية العالمية)‪.‬‬
‫تتمتع �ألي�س م��ون��رو بثقافة وا�سعة‪،‬‬
‫وم�لاح��ظ��ة ث��اق��ب��ة‪ ،‬و�إخ�لا���ص ك��ام��ل لفن‬
‫الق�صة الق�صيرة‪ ،‬فهي �أديبة تمار�س حياتها‬
‫الطبيعية‪ ،‬واعية بذاتها كقا�صة‪ .‬وت�ؤكد‬
‫مونرو‪� ،‬أن الق�صة لي�ست مجرد خيار �إبداعي‪،‬‬
‫ب��ل ه��ي ق ��در ي��ج��ب م��واج��ه��ت��ه‪ ،‬وت�ضيف‪:‬‬
‫عندما تكون كاتب ًا‪ ،‬فهذا يعني �أن��ك ل�ست‬
‫مثل غيرك‪� ،‬أنت تتح�س�س طريقك في العالم‬
‫ال�سري (ال��ك��ون ال��م��وازي)‪ ،‬ثم تفعل �شيئ ًا‬
‫�آخر في العالم الطبيعي‪� .‬أما �أحمد ال�شيمي‬
‫مترجم مجموعتها (العا�شق الم�سافر) فيقول‬
‫عنها‪�( :‬إنها كاتبة تكتب فح�سب‪ ،‬فتقنعك‬
‫في كل ق�صة من ق�ص�صها �أن الخيال �أجمل‬
‫من الحقيقة‪ ،‬و�أن الأ�ساطير خير و�أبقى‬
‫من حقائق التاريخ‪ ،‬و�أن الحلم �أجمل من‬
‫الواقع‪.)..‬‬
‫م��ن �أه���م مجموعاتها الق�ص�صية‪:‬‬
‫(العا�شق الم�سافر‪ ،‬الهاربة‪ ،‬الم�شهد من‬
‫كا�سل روك‪ ،‬حلم �أمي‪ ،‬من تظن نف�سك‪� ،‬أقمار‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪52‬‬


‫مبدعات‬

‫ومفتونة بتقنيات الق�صة‬ ‫الم�شتري)‪ ،‬و�آخرها (حياتي العزيزة)‪ .‬وتحولت‬


‫الق�صيرة‪ ،‬وكانت ميزتها‬ ‫ق�صتها (الدب قادم من الجبل) من مجموعتها‬
‫�أنها �أثرت ق�ص�صها بالحبكة‬ ‫الق�ص�صية (كراهية ف�صداقة فتودد فحب فزواج)‬
‫وعمق التفا�صيل‪ ،‬وبقدرة‬ ‫�إلى فيلم بعنوان (بعيداً عنها) للمخرجة �سارة‬
‫فذة على الحكي ال ي�ضاهيها‬ ‫بولي والذي ر�شح لنيل جائزة الأو�سكار‪.‬‬
‫فيها كاتب معا�صر �آخ��ر‪،‬‬ ‫�سعت �ألي�س مونرو من خالل مجموعاتها‬
‫ت�شيخوف‬ ‫�إمبرتو �إيكو‬ ‫فهي ت�سرد الق�ص�ص التي‬ ‫الق�ص�صية �إلى �إثبات قدرتها على �إبراز جوهر‬
‫ت�شد القارئ وتجذبه �إليها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫رتبطة بمكانٍ‬ ‫ٍ‬
‫ق�صيرة‪ ،‬غير ُم‬ ‫الحياة في ق�ص�ص‬
‫وفي مجموعة (حياتي‬ ‫معين‪ ،‬و�إلى اللحظة التي تت�شكل فيها‬ ‫�أو زمانٍ ّ‬
‫ال��ع��زي��زة)‪� ،‬آخ���ر مجموعة‬ ‫الحياة‪ ،‬التي ي�ؤدي فيها حلم‪� ،‬أو َتحول مفاجئ‬
‫ك��ت��ب��ت��ه��ا م� ��ون� ��رو‪ ،‬يظهر‬ ‫�إلى خروج الإن�سان من م�سار حياته المعتاد‬
‫اهتمامها بتفا�صيل الحياة‬ ‫�إل��ى م�سارٍ �آخ��ر مختلف تمام ًا‪ .‬يقول الكاتب‬
‫اليومية وق�ص�ص النا�س‬ ‫الإيرلندي فرانك �أوكوتو في هذا ال�صدد‪( :‬لي�ست‬
‫العاديين ج ��داً‪ ،‬م��ن خالل‬ ‫الق�صة الق�صيرة ق�صيرة لأنها �صغيرة الحجم‪،‬‬
‫جون �أبدايك‬ ‫�أحمد ال�شيمي‬ ‫براعتها ف��ي ال��غ��و���ص في‬ ‫بل لأنها تناولت مو�ضوع ًا على �أ�سا�س ر�أ�سي ال‬
‫�أع��م��اق النف�س الب�شرية‪،‬‬ ‫�أفقي‪ ،‬وفجرت طاقات الموقف الواحد بالتركيز‬
‫خ��ا���ص��ة ف ��ي ح��دي��ث��ه��ا عن‬ ‫على نقاط التحول فيه)‪.‬‬
‫معاناة المر�أة‪ ،‬وهو ما جعل‬ ‫نجحت مونرو في ت�سليط الأ���ض��واء على‬
‫معظم ق�ص�ص مجموعتها‬ ‫الجوانب الإن�سانية في �شخ�صيات ق�ص�صها‪،‬‬
‫هذه تروى على ل�سان ن�ساء‪،‬‬ ‫التي غالب ًا ما كن فتيات �أو �سيدات متزوجات‪،‬‬
‫مثل ق�ص َتي (المالذ)‪ ،‬و(حفرة‬ ‫يعانين م�شكالت عائلية‪ ،‬وك��ذل��ك ر�صدت‬
‫ال��ح�����ص��ى) م��ن المجموعة‬ ‫العالقات االجتماعية في مجتمعها‪ ،‬من خالل‬
‫نف�سها‪.‬‬ ‫العالقة بين الما�ضي والحا�ضر‪ .‬ففي مجموعتها‬
‫ت�أثرت مونرو بالروائي‬ ‫(�أ�سرار معلنة) تتحدث عن القوة المدمرة للحب‬
‫وال�����ش��اع��ر الأم��ري��ك��ي جون‬ ‫القديم حين يقفز �إل��ى ال��ذاك��رة‪ ،‬كما �أنها في‬
‫من م�ؤلفاتها‬
‫�أب��داي��ك (‪2009-1932‬م)‪،‬‬ ‫مجموعتها الق�ص�صية (حب امر�أة طيبة) ج�سدت‬
‫وبخا�صة �أنه �أَولى فن الق�صة الق�صيرة اهتمامه‪،‬‬ ‫م�شاعر ال��خ��داع وال��زي��ف التي ت��ت��وارى تحت‬
‫فكتب �أكثر من ع�شر مجموعات ق�ص�صية ق�صيرة‪،‬‬ ‫�سطح المجتمع‪ .‬وتمتلئ ق�ص�ص المجموعة‬
‫الم�شوق‪ ،‬و�شغفه‬
‫ّ‬ ‫�إ�ضافة �إل��ى �أ�سلوبه النثري‬ ‫هذه ب�شخ�صيات ه�شة ال حيلة لها وال طاقة‬
‫لم يكن فوزها‬ ‫بت�صوير �شخ�صيات الطبقة الو�سطى وم�شكالتها‪،‬‬ ‫على التغلب على تبعات الحياة ال�صعبة‪ ،‬فهي‬
‫وه��ذا الت�أثير نلحظه تمام ًا في �أغلب ق�ص�ص‬ ‫�شخ�صيات �ضعيفة ال تملك من �أمرها �شيئ ًا‪،‬‬
‫بجائزة نوبل غريب ًا‬ ‫مونرو‪ ،‬كذلك ن�شر الكاتبان ق�ص�صهما في مجلة‬ ‫وال �أمل لها يلوح في الأفق القريب �أو البعيد‪،‬‬
‫فقد �سبق �أن ح�صلت‬ ‫(نيويوركر) الأمريكية‪.‬‬ ‫و�شخ�صيات تمتلئ بحب الحياة وال تلتفت �إلى‬
‫على العديد من‬ ‫لم يكن فوز مونرو بجائزة نوبل غريب ًا‬ ‫ال��وراء‪ ،‬بل تجد الحلول في التفكير للم�ستقبل‬
‫الجوائز ومنها البوكر‬ ‫عليها؛ فقد �سبق �أن ح�صلت على عدة جوائز؛‬ ‫وتحليل الما�ضي لال�ستفادة منه �أو تركه على‬
‫منها‪ :‬جائزة البوكر (‪2009‬م)‪ ،‬وجائزة و�سام‬ ‫الأقل في مكانه‪.‬‬
‫ال�شرف ل�ل�آداب من ال��ن��ادي الوطني للفنون‬ ‫لم تترك مونرو‪ ،‬ركن ًا �إن�ساني ًا �إال وعالجته‪،‬‬
‫بنيويورك (‪2005‬م)‪ ،‬وجائزة كتاب الكومنولث‬ ‫من خالل عوالمها الق�ص�صية‪ ،‬التي �شملت الريف‬
‫(منطقة البحر ال��ك��اري��ب��ي وك��ن��دا ‪1991‬م)‬ ‫�أو ًال والمدينة بدرجة �أق��ل‪ ،‬وم�شاعر الوحدة‬
‫وجوائز �أخرى كثيرة‪ .‬وحين بلغت مونرو �سن‬ ‫والذكريات التي ال يمكن �أن تكون �إال �سعيدة �أو‬
‫تقنعك كتاباتها ب�أن‬ ‫الت�سعين عام ًا و�أ�صيبت بمر�ض ع�ضال‪ ،‬بد�أت‬ ‫تعي�سة‪ ،‬لكنها الحياة بكل ب�ساطتها وهمومها‬
‫الخيال �أجمل من‬ ‫بالتفكير في اعتزال الكتابة‪� ،‬صرحت بذلك‬ ‫وتفرعاتها المده�شة‪ ،‬لي�صبح الأهم لديها هو‬
‫الحقيقة و�أن الحلم‬ ‫في مقابلة �صحافية قائلة‪( :‬ربما توقفت عن‬ ‫كيفية تقديم ه��ذه المو�ضوعات‪ ،‬م��ن خالل‬
‫�أجمل من الواقع‬ ‫الكتابة‪ ..‬لي�س ذلك لأني لم �أكن �أحبها‪ ،‬بل لأن‬ ‫�أ�سئلة وجودية في براعة فائقة‪ ،‬فهي محبة‬
‫هناك مرحلة يفكر فيها الإن�سان في حياته‬ ‫للوحدة التي ت�صل �إلى حد العزلة كما و�صفتها‬
‫ب�شكل �آخر)‪.‬‬ ‫�صحيفة (الجارديان) ب�أنها (ربة منزل خجولة)‪،‬‬

‫‪53‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫البحث عن الن�ص الآخر‬


‫يو�سف عبد العزيز‬

‫عتبة �أول��ى من عتبات الن�ص‪ ،‬التي تمكن‬ ‫كثيراً ما نقر�أ ن�ص ًا �شعري ًا‪ ،‬ولكننا ال‬
‫ال��ق��ارئ م��ن ال��دخ��ول ف��ي ملكوت الخيال‬ ‫�دد ل��ه‪ .‬ومثل‬‫نكاد نقب�ض على معنى م��ح� ٍ‬
‫وال�صور‪ .‬في الوقت نف�سه؛ ف�إن غياب العنوان‬ ‫هذه الحالة ال تنطبق فقط على الن�صو�ص‬
‫لم ي�أت من ف��راغ‪ ،‬ذلك �أن ت�سوير الق�صيدة‬ ‫المعا�صرة‪ ،‬و�إنما على القديمة �أي�ض ًا‪ ،‬الواردة‬
‫و�إحاطة تلك العوالم المحت�شدة فيها بال�سحر‬ ‫في كتب التراث‪ .‬وب�سبب هذه ال�صعوبة التي‬
‫توجد الكثير من‬ ‫والخيال‪ ،‬وتلخي�صها للقارئ بعنوان مكون‬ ‫نواجهها في فك �أ���س��رار الن�صو�ص‪ ،‬ف�إننا‬
‫من كلمات قليلة‪ ،‬ربما كان ال يليق بها‪.‬‬ ‫غالب ًا ما نذهب �إلى الحديث عن المو�ضوعات‬
‫ال�صعوبات التي‬ ‫كيف يمكن مقاربة الن�ص ال�شعري �إذاً؟‬ ‫العامة التي تدور في فلكها هذه الن�صو�ص‪.‬‬
‫نواجهها في فك‬ ‫كيف يمكن ال�سفر في تلك الأم��داء ال�شعرية‬ ‫من جهة �أخرى‪ ،‬ف�إن �أول ما يتبادر �إلى‬
‫�أ�سرار الن�صو�ص‬ ‫المخاتلة فيه‪ ،‬وتلم�س تلك الفتنة الطاغية‬ ‫ذهن القارئ بعد قراءة الن�ص‪ ،‬هو �أن ما قر�أه‬
‫ال�شعرية‬ ‫من ال��ر�ؤى والأح�لام؟ من �أجل الإجابة عن‬ ‫لي�س �سوى جز ٍء من ال�سيرة الذاتية لل�شاعر!‬
‫هذه الأ�سئلة‪ ،‬كان ال بد لنا في البداية‪ ،‬من‬ ‫لكن القارئ وبقليل من التدقيق‪ ،‬يمكن �أن‬
‫�أن نتعرف �إل��ى م�شاغل ال�شاعر‪ ،‬والإطاللة‬ ‫يكت�شف �أن ما وجده في الن�ص قد ال يكون‬
‫على م��ا يقوم ب��ه وه��و ين�سج ن�صه‪ .‬كيف‬ ‫له عالقة بال�شاعر! من هنا يقع القارئ في‬
‫ي�شتبك م��ع ال��ع��ال��م المحيط ب��ه؟ ث��م كيف‬ ‫الحيرة‪ ،‬وال يجد جواب ًا لأ�سئلته‪.‬‬
‫يتعامل مع اللغة وي�ضخ فيها الجمال؟ لعل‬ ‫مما عزز من حدوث هذه الإرباكات في‬
‫ال�شاعر العبا�سي (الح�سن بن هانئ) الذي‬ ‫تلقي ال�شعر‪ ،‬هو ال�شعر نف�سه‪ ،‬الذي نعثر فيه‬
‫عا�ش في القرن الرابع الهجري‪ ،‬هو خير من‬ ‫على عدد من الإ�شارات التي تلغز الن�صو�ص‪..‬‬
‫نعثر على العديد‬ ‫يو�صف لنا الحالة ال�شعرية التي يكون عليها‬ ‫منها على �سبيل المثال؛ �أن ق�صائد التراث‬
‫ّ‬
‫من ق�صائد التراث‬ ‫ال�شاعر �أثناء كتابة الن�ص‪ .‬والجميل �أن هذا‬ ‫العربي كانت بال عناوين‪ .‬و�إذا كان ال بد‬
‫العربي التي كانت بال‬ ‫التو�صيف يجيء من خالل �شعره‪� ،‬إذ يقول‪:‬‬ ‫من وجود عالمة دالة على الق�صيدة‪ ،‬فيتم‬
‫عناوين مثل (المية‬ ‫غ���ي���ر �أن�������ي ق����ائ����ل م����ا �أت����ان����ي‬ ‫ن�سبتها �إلى حرف الروي فيها‪ ،‬ك�أن نقول‪:‬‬
‫ال�شنفرى) و(دالية‬ ‫م����ن ظ���ن���ون���ي م����كْ����ذب ل��ل��ع��ي��انِ‬ ‫(المية ال�شنفرى) المعروفة بالمية العرب‪،‬‬
‫�آخ������ذ ن��ف�����س��ي ب���ت����أل���ي���ف ����ش���يءٍ‬ ‫و(دالية طرفة بن العبد)‪ .‬في �أحيان �أخرى‪،‬‬
‫طرفة بن العبد)‬ ‫واح���د ف��ي اللفظ �شتى المعاني‬ ‫ٍ‬ ‫كان يتم اللجوء‪� ،‬إلى �إقران الق�صيدة بال�شطر‬
‫ق��ائ��م ف���ي ال���وه���م ح��ت��ى �إذا ما‬ ‫الأول من البيت الأول فيها‪ ،‬مثلما هو الأمر‬
‫رم����ت����ه رم������ت م���ع���م���ى ال���م���ك���انِ‬ ‫نبك) لل�شاعر (امرئ القي�س)‪.‬‬ ‫في ق�صيدة (قفا ِ‬
‫ح�������س���ن ����ش���يءٍ‬
‫ْ‬ ‫ف���ك����أن���ي ت����اب����ع‬ ‫�إن عدم وجود عنوان للن�ص كان ي�ضع‬
‫م���ن �أم���ام���ي ل��ي�����س ب��ال��م�����س��ت��ب��انِ‬ ‫القارئ في و�ضع قلق‪ ،‬فالعنوان هو بمثابة‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪54‬‬


‫ف�صول‬

‫هذا الن�ص من اقتراحات وحلول �إزاء هذه‬ ‫ف��ي ه��ذه الأب��ي��ات نعثر على مجموعة‬
‫الق�ضايا‪ .‬بمعنى �آخ��ر؛ لعبت الأيديولوجيا‬ ‫من الم�شاهد التي يظهر فيها ال�شاعر وقت‬
‫دوراً حا�سم ًا في الحكم على الن�ص‪.‬‬ ‫الكتابة‪ :‬فهو يعتمد فيما يكتبه على ظنونه‬
‫ومن المحزن حتى هذه اللحظة‪� ،‬أن نجد‬ ‫التي هي �أحالمه ور�ؤاه‪ ،‬ك�أنه �أراد �أن يقول‬
‫�أن معظم ال��درا���س��ات النقدية الت��زال تدور‬ ‫لنا �إن كتابة ال�شعر تعتمد في الدرجة الأولى‬
‫العنوان بمثابة‬
‫في فلك هذه الجوانب الثانوية التي تتحرك‬ ‫على عالم الخيال‪ .‬الم�شهد الثاني الذي ير�سمه‬
‫عتبة �أولى للن�ص‬ ‫فيها الن�صو�ص‪ ،‬وذلك في الوقت الذي يتم‬ ‫لنف�سه �أثناء الكتابة‪ ،‬هو �أنه يعمل على ت�أليف‬
‫تمكن القارئ من‬ ‫فيه تجاهل �شبه ت��ام للن�صو�ص نف�سها‬ ‫ن�ص من كلمات معروفة و�أفكار متداولة‪،‬‬
‫الدخول في ملكوت‬ ‫ولأعماقها التي ت�ضج بالأخيلة‪ ،‬وبكل ما هو‬ ‫لكنه ف��ي ال��وق��ت نف�سه ن�ص ي��ب��دو ب�صور‬
‫الخيال وال�صور‬ ‫جميل ومثير فيها‪.‬‬ ‫متعددة وت��أوي�لات كثيرة‪ .‬الم�شهد الثالث‪،‬‬
‫وثمة انتباهة حاذقة في عالم النقد‪،‬‬ ‫نرى فيه ال�شاعر �أثناء الكتابة‪ ،‬وهو يقيم في‬
‫�أنجزها الناقد الفرن�سي المعروف (روالن‬ ‫عالم الوهم‪ ،‬و�أبخرة الخيال‪ ،‬وك�أنه موجود‬
‫ب��ارت) في العام (‪ ،)1967‬وذلك من خالل‬ ‫في مكان خفي غير معروف‪� .‬أخيراً؛ فال�شاعر‬
‫كتابه الذي �صدر في ذلك العام‪ ،‬والذي كان‬ ‫يظهر لنا‪ ،‬وه��و يت�سقط الجمال المحتجب‬
‫بعنوان (موت الم�ؤلف)‪ .‬لقد قطع بارت في‬ ‫الذي يراه هو‪ ،‬ولكن ال يراه الآخرون‪.‬‬
‫هذا الكتاب �أي �صلة للم�ؤلف (ال�شاعر مث ًال)‬ ‫نالحظ من خالل الأبيات ال�سابقة‪ ،‬كيف‬
‫علينا التعرف �إلى‬ ‫بالن�ص المكتوب‪ ،‬واعتبر �أن الن�ص يتمتع‬ ‫يمكن لل�شاعر �أن ين�سج البنية التخييلية‬
‫با�ستقاللية كاملة عن الذي �ألفه‪ ،‬وبالتالي‬ ‫للن�ص‪ ،‬والتي هي تختلف عن البنية الواقعية‬
‫م�شاغل ال�شاعر‬
‫فلي�س ه��ن��اك ع�لاق��ة بين ال�سيرة الذاتية‬ ‫التي ت�شكلها الأح��داث في الحياة العامة‪.‬‬
‫وكيف ي�شتبك مع‬ ‫للكاتب وبين الن�ص‪ .‬ف��ي ه��ذه الأط��روح��ة‬ ‫و�أجمل ما ورد في تلك الأبيات هو حديث‬
‫العالم المحيط به‬ ‫اهتم بارت اهتمام ًا خا�ص ًا بالقارئ �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫ال�شاعر عن ذلك الن�ص الذي يتعدد بين �أيدي‬
‫وتعامله مع اللغة‬ ‫واعتبره الم�س�ؤول عن �إع��ادة �إنتاج الن�ص‪،‬‬ ‫ال��ق��راء‪ ،‬فكلما ج��رت مطالعته يظهر بهيئة‬
‫وكتابته من جديد‪ .‬من الإ�ضافات المهمة‬ ‫مختلفة‪ .‬و�أعتقد �أن هذه الر�ؤية الواردة هنا‪،‬‬
‫التي �أنجزها بارت في هذا الكتاب‪ ،‬هو �أنه‬ ‫هي واحدة من الر�ؤى العميقة‪ ،‬التي يمكن �أن‬
‫و�ضع نهاي ًة لنظرية المحاكاة التي كانت‬ ‫ت�شكل �أ�سا�س ًا مهم ًا‪ ،‬لنظرية نقدية خا�صة‬
‫�سائدة في الأدب ردح � ًا طوي ًال من الزمن‪،‬‬ ‫بال�شعر‪.‬‬
‫وللفكرة المتداولة التي تقول �إن الفن هو‬ ‫بهذا يمكن القول �إن الن�ص ال��ذي نقع‬
‫انعكا�س للواقع‪.‬‬ ‫عليه ب�صورته الأولية‪ ،‬ما هو غير غاللة ما‪،‬‬
‫ك��ان��ت ه ��ذه الأط ��روح ��ة بمثابة ث��ورة‬ ‫ق�شرة‪� ،‬أو ربما قمي�ص يتخفى في �إهابه ن�ص‬
‫من الم�ؤ�سف �أن‬ ‫في عالم النقد‪ ،‬لكن ما ح��دث بعدها‪ ،‬من‬ ‫�آخر طازج ومختلف‪ .‬والن�ص المتفوق الأكثر‬
‫قبل مدار�س مختلفة ا�شتغلت على �أر�ضية‬ ‫�شعرية من غيره هو ذلك الن�ص الذي يتخلق‬
‫معظم الدرا�سات‬
‫الن�صو�ص كالبنيوية والتفكيكية‪� ،‬أدى �إلى‬ ‫با�ستمرار‪ ،‬كلما ق��ر�أن��اه‪ ،‬عن ر�ؤى و�أفكار‬
‫النقدية التزال‬ ‫ت�شيئ ال�شعر‪ ،‬ففقدت تلك‬ ‫�إنتاج درا���س��ات ّ‬ ‫جديدة‪.‬‬
‫تدور في فلك‬ ‫يدر�س‬ ‫ْ‬ ‫الذي‬ ‫النقد‬ ‫أ�صبح‬‫الأطروحة روحها‪� .‬‬ ‫الي��زال النقد في العالم العربي م�شغو ًال‬
‫الجوانب الثانوية‬ ‫ال�شعر هنا‪ ،‬بما فيه م��ن عمليات ت�شريح‬ ‫بالهيئة الخارجية للن�ص‪ ،‬دون النظر �إلى‬
‫للن�صو�ص‬ ‫وت��رك��ي��ب و�إح�����ص��اء‪� ،‬شبيه ًا ب��ال��درا���س��ات‬ ‫�أع��م��اق��ه‪ .‬وق��د رك��ز ال��ن��ق��اد ف��ي درا�ساتهم‬
‫العلمية! من هنا كانت الحاجة ما�سة �إلى‬ ‫للن�صو�ص على الجوانب الآتية‪� ،‬أو ًال‪ :‬الأفكار‬
‫�إع��ادة النظر في التغيرات التي ط��ر�أت على‬ ‫العامة التي يدور في فلكها الن�ص‪ ،‬وثاني ًا‪:‬‬
‫هذه الأط��روح��ة‪ ،‬والتي ال تنا�سب الفن‪ ،‬مع‬ ‫درا���س��ة ال�سيرة ال��ذات��ي��ة لل�شاعر‪ ،‬وربطها‬
‫�ضرورة االلتفات من جديد �إلى العنا�صر التي‬ ‫بالن�ص‪ ،‬وبما ورد فيه من ر�ؤى و�أف��ك��ار‪.‬‬
‫تتكون منها العملية ال�شعرية‪ ،‬وهي (ال�شاعر‪/‬‬ ‫قيمة ومعيارٍ للن�ص‪ ،‬وقد‬ ‫ٍ‬ ‫وثالث ًا‪ :‬البحث عن‬
‫الن�ص‪ /‬القارئ)‪ ..‬والتي هي عنا�صر تتداخل‬ ‫ت��رك��زت تلك القيمة م��ن خ�لال رب��ط الن�ص‬
‫مع بع�ضها بع�ض ًا‪ ،‬وي�صعب الف�صل بينها‪.‬‬ ‫بعدد كبير من الق�ضايا‪ ،‬وما يمكن �أن يقدمه‬

‫‪55‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫ممن تمردوا على ال�شكل «المحفوظي» في الكتابة‬
‫�صبري مو�سى‪..‬‬
‫فتح الباب �أمام نوع جديد من الأدب‬
‫فور ح�صوله على ال�شهادة الجامعية‪،‬‬
‫عمل معلم ًا للر�سم في وزارة التربية والتعليم‬ ‫مازال الكاتب والروائي وال�سيناري�ست �صبري مو�سى‪ ،‬الذي‬
‫لمدة �سنة واحدة‪ ،‬بعدها عمل �صحافي ًا في‬ ‫ولد بمدينة دمياط في دلتا م�صر �سنة (‪ )1932‬ميالدية‪،‬‬
‫جريدة (الجمهورية)‪ ،‬ثم انتقل �إلى م�ؤ�س�سة‬ ‫�أحد الأ�سماء التي ت�شير �إلى تجربة بارزة قدمت �أعما ًال‬
‫(روز اليو�سف) ال�صحافية‪ ،‬وع�ضواً في‬
‫مجل�س �إدارتها‪ ،‬ثم ع�ضواً في اتحاد الكتاب‬
‫�أدب��ي��ة‪ ،‬يعدها الكتاب وال��ق��راء �أي�ضاً‪ ،‬نموذج ًا لكتابة‬
‫العرب‪ ،‬ومقرراً للجنة الق�صة في المجل�س‬ ‫ر�صينة وحداثية في �آن ‪ ،‬لكن مر�ضه �أجبره على الجلو�س‬
‫محمد هجر�س‬
‫الأعلى للثقافة‪.‬‬ ‫في البيت و�أبعده عن الو�سط الثقافي والحياة العامة لمدة‬
‫كان مق ًال في الكتابة الق�ص�صية التي‬ ‫(‪ )15‬عاماً‪ ،‬حتى فاج�أنا برحيله في �شهر يناير من عام (‪2018‬م) ‪ ،‬فانطف�أت‬
‫�إن�سانيته التي كانت من �أهم خ�صاله‪ ،‬وابت�سامته التي تميز بها طوال حياته‪ .‬بد�أها بمجموعة (القمي�ص)‪ ،‬و(وجه ًا لظهر)‪،‬‬
‫و(حكايات �صبري مو�سى)‪ ،‬و(م�شروع قتل‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪56‬‬


‫�شخ�صيات‬

‫جارة)‪ .‬وفي الرواية كانت البداية مع رواية‬


‫(ح ��ادث ن�صف ال��م��ت��ر)‪ ،‬و(ف�����س��اد الأم��ك��ن��ة)‪،‬‬
‫و(ال�سيد م��ن حقل ال�سبانخ)‪ ،‬وك��ان لأدب‬
‫الرحالت ن�صيب كبير من �إبداعاته‪ ،‬ومنها‪،‬‬
‫(في البحيرات)‪ ،‬و(في ال�صحراء)‪ ،‬و(رحلتان‬
‫في باري�س واليونان)‪.‬‬
‫وكان يردد دوم ًا لل�شباب �ضرورة �أن يقر�أ‬
‫الكاتب �أكثر مما يكتب‪ ،‬و�أن يطالع الكتابة‬
‫المحلية والعالمية‪ ،‬ويحر�ص على ح�ضور‬
‫الندوات والحلقات النقا�شية‪ ،‬و�أن يعطي العمل‬
‫من م�ؤلفاته‬
‫حقه حتى ي�صبح �صالح ًا للن�شر‪ ،‬ويمكن �أن‬
‫ال��دول��ة الت�شجيعية‪ ،‬واختيرت �ضمن �أف�ضل‬ ‫ي�أخذ العمل عام ًا �أو عامين �أو �أكثر‪ ،‬ال يهم‪ ،‬و�أن‬
‫(‪ )100‬رواي��ة في القرن الع�شرين‪ ،‬وترجمت‬ ‫هناك كتاب ًا عالميين �صنعوا مجدهم الأدبي‪،‬‬
‫�أعماله لعدة لغات‪.‬‬ ‫من خالل رواية وحيدة �أو روايتين‪ ،‬ولي�س مهم ًا‬
‫ويرجع الف�ضل ل�صبري مو�سى في �صناعة‬ ‫�أبداً ن�شر رواية كل عام‪.‬‬
‫�أف�لام مهمة‪ ،‬منها‪( ،‬قاهر الظالم)‪ ،‬عن حياة‬ ‫وبرغم قلة �إنتاجه‪ ،‬لكنه من �أهم الروائيين‬
‫عميد الأدب العربي الدكتور طه ح�سين‪ ،‬و(قنديل‬ ‫الذين ظهروا بعد نجيب محفوظ‪ ،‬وتمردوا على‬
‫�أم ها�شم)‪ ،‬و(البو�سطجي)‪ ،‬للروائي يحيى حقي‪،‬‬ ‫ال�شكل المحفوظي في الكتابة‪ ،‬وفتح الباب‬
‫ال��ذي كان ي��رى‪� ،‬أن كتاب ال�سيناريو يف�شلون‬ ‫�أم��ام نوع جديد في الأدب العربي‪ ،‬والم�س‬
‫مار�س مهنة‬ ‫في تحويل ال��رواي��ات �إل��ى �أف�لام‪ ،‬لذلك منعهم‬ ‫في كل �إبداعاته الفكر والفل�سفة بخيوط من‬
‫ال�سيناريو ال�سينمائي‬ ‫من االقتراب من رواياته‪ ،‬لكن �صبري خا�ض‬ ‫الحرير الناعم‪ ،‬دون ا�ستغراق‪ ،‬نتيجة اهتمامه‬
‫و�أعد الكثير من‬ ‫التجربة وكتب �سيناريو فيلم (قنديل �أم ها�شم)‬ ‫في الفكرة و�صبره على الكتابة‪ ،‬والدقة في‬
‫دون علم يحيى حقي‪ ،‬وكرر نف�س الفعل وكتب‬ ‫التعبير والتالعب بالجمل‪ ،‬ول� َ�م ال وهو ابن‬
‫الأفالم ال�سينمائية‬
‫فيلم (البو�سطجي)‪ ،‬الذي �أثار �ضجة كبيرة ب�سبب‬ ‫مدينة دمياط‪ ،‬التي علمته النق�ش على الخ�شب‬
‫لروايات طه ح�سين‬ ‫المعالجة المتميزة لل�سيناريو‪ ،‬برغم �أن ق�صته‬ ‫و�صناعة الحلوى‪ ،‬والمعاني الجميلة‪.‬‬
‫ويحيى حقي‬ ‫ن�شرت قبل ذلك بنحو (‪� )20‬سنة في مجموعة‬ ‫وف��ي رب��ي��ع (‪1963‬م) �أم�����ض��ى �صبري‬
‫(دماء وطين)‪ ،‬ولكنه تبر أ� من �أحد �أفالمه وهو‬ ‫مو�سى ليلة في جبل (الدرهيب) بال�صحراء‬
‫فيلم (ال�صحوة) الذي كتبه عن ق�صة لعميد الأدب‬ ‫ال�شرقية قرب الحدود ال�سودانية‪ ،‬خالل رحلته‬
‫العربي طه ح�سين‪ ،‬لكنه فوجئ عندما �شاهد‬ ‫الأولى لتلك ال�صحراء‪ ،‬وتولد لديه �شعور برواية‬
‫الفيلم‪ ،‬ب�أن العديد من الم�شاهد تم ا�ستبدالها‬ ‫جديدة‪ ،‬وبعد تلك الزيارة بعامين‪ ،‬عاد �إلى‬
‫بم�شاهد �أخرى دون الرجوع �إليه‪ ،‬فغ�ضب وكتب‬ ‫نف�س المكان لزيارة �ضريح المجاهد ال�صوفي‬
‫علن ًا تبر�ؤه من هذا الفيلم‪.‬‬ ‫�أب��ي الح�سن ال�شاذلي‪ ،‬المدفون في قلب تلك‬
‫���ش��ارك ف��ي التخطيط والإع���داد لإ���ص��دار‬ ‫ال�صحراء عند (عيذاب)‪ ،‬و�شاهد جبل (الدرهيب)‬
‫مجلة (�صباح الخير) التي خ�ص�صتها م�ؤ�س�سة‬ ‫للمرة الثانية‪ ،‬ف�أدرك �أنه بحاجة �إلى معاي�شة‬
‫(روز اليو�سف)‪ ،‬لمخاطبة‬ ‫هذا الجبل والإقامة فيه‪ ،‬لأنه قرر كتابة رواية‬
‫الأجيال ال�شابة‪ ،‬لذلك كان‬ ‫(ف�ساد الأمكنة)‪ .‬وح�صل على منحة للتفرغ‬
‫ي��رى �أن العمل ال�صحافي‬ ‫من وزارة الثقافة لمدة عام‪ ،‬من (‪� 1966‬إلى‬
‫�أ�سهم في تكوينه الثقافي‬ ‫‪1967‬م) للإقامة في ال�صحراء ح��ول جبل‬
‫والتعليمي‪ ،‬ومنحه فر�صة‬ ‫الدرهيب‪ ،‬للتفكير ومحاولة الكتابة‪ ،‬لكنه بد�أ‬
‫مبا�شرة للتعرف �إلى الواقع‬ ‫في الكتابة عام (‪ )1968‬وانتهى من كتابتها‬
‫الم�صري في الريف والمدن‬ ‫ع��ام (‪ ،)1970‬ون�شرت م�سل�سلة ف��ي مجلة‬
‫ال�صغيرة وال�صحراء �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫(�صباح الخير) خالل عامي (‪ 1969‬و‪1970‬م)‬
‫وت ��ع ��رف �إل����ى �أن���م���اط من‬ ‫�أثناء كتابتها‪ ،‬بعدها ن�شرت طبعتها الأولى‬
‫ال��ن��ا���س‪ ،‬واك��ت�����س��ب خ��ب��رات‬ ‫كاملة في الكتاب الذهبي عام (‪1973‬م)‪ ،‬وفي‬
‫جديدة لم تتح له من قبل‪.‬‬ ‫عام ‪1974‬م فازت (ف�ساد الأمكنة) بجائزة‬
‫�صبري مو�سى‬

‫‪57‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫التوا�صل الثقافي العربي‬


‫محمد ح�سين طلبي‬
‫والحوار مع الغرب‬

‫جال فيها الباحثون العرب من �شتى �أقطارهم‪،‬‬ ‫ُتعد الم�ؤتمرات الفكرية العربية الجادة‬
‫و�أ�ضفى عليها والمنطقة م�سحة واع��دة ظلت‬ ‫والفاعلة (على قلتها) في المنطقة العربية‬
‫تعي�ش على �أثرها طوي ًال‪.‬‬ ‫ُف��ر���ص� ًا ذهبية للنخب‪ ،‬حيث يتكثف فيها‬
‫وق��د ك��ان��ت ح�صيلة م��ا ج ��ادت ب��ه تلك‬ ‫الح�ضور ع��ادة كداللة على ما تكتنزه تلك‬
‫الأبحاث الالفتة والد�سمة هذا المجلد (الوثيقة)‬ ‫المجتمعات من طاقات ُمبدعة‪ ،‬ت�شارك �أو‬
‫ال ��ذي تف�ضلت الجمعية ب ��إ���ص��داره ون�شره‬ ‫يمكن �أن ت�شارك في �إعادة بناء الذات العربية‪،‬‬
‫وتوزيعه على الم�ؤ�س�سات العربية الم�شابهة‪،‬‬ ‫كلما �أتيحت لها الو�سائل ومن�سوب الحرية‪،‬‬
‫�سعي ًا وراء ت�أمل و�إث��راء جادين له‪ ،‬من �أجل‬ ‫علم ًا �أن ه��ذه المجتمعات مقارنة بغيرها‪،‬‬
‫�إعادة �سليمة لبع�ض لحمة التوا�صل تلك‪.‬‬ ‫الت��زال ُمق�صرة ج��داً في ا�ستيعاب معارف‬
‫تعد الأبحاث‬ ‫ورقات و�أبحاث تنوعت بين المحا�ضرات‬ ‫طاقاتها وخبرات روادها‪ ،‬من �أجل تحقيق �أي‬
‫والمداخالت الأكاديمية‪ ،‬التي تجاوزت كما‬ ‫تقدم مرغوب‪.‬‬
‫والدرا�سات التي‬
‫يبدو الأنماط ال�سائدة من قبل‪ ،‬تلك التي كانت‬ ‫واقع ال يجب �أن يحول دون االجتهادات‬
‫�أ�صدرها م�ؤتمر‬ ‫تقود في معظم الأحيان �إلى بع�ض العقم �أو‬ ‫إن�سان‬
‫والتطلعات الفردية‪ ،‬التي يطمح �إليها � ُ‬
‫الجمعية الجزائرية‬ ‫�إلى عرقلة م�سيرات الإب��داع والخلق‪ ،‬تف�ضل‬ ‫المنطقة ب�شكل عام‪ .‬ومن بين �أهم الم�ؤتمرات‬
‫بجمعها وتن�سيقها الدكتور ر�شيد دح��دوح‪،‬‬ ‫التي تر�سخت لدى الجزائريين والعرب منذ‬
‫للدرا�سات الفل�سفية‬
‫ع�ضو الجمعية البارز‪ ،‬و�أ�شرف عليها رئي�س‬ ‫�سنوات ذلك الذي نظمته الجمعية الجزائرية‬
‫في ق�سنطينة وثيقة‬ ‫الجمعية الدكتور عمر بو �ساحة‪ ،‬و�شارك فيها‬ ‫للدرا�سات الفل�سفية المعروفة بكثافة ن�شاطاتها‬
‫فكرية عربية‬ ‫بطبيعة الحال المخت�صون العرب في ميادين‬ ‫وحيوية تطلعات نخبها‪ ،‬نحو �إعطاء التوا�صل‬
‫الفل�سفة والعلوم الإن�سانية واالجتماعية‪ ،‬من‬ ‫العربي دوره و�أهميته في خلق الديناميكية‬
‫متميزة‬
‫كل من تون�س وال�سعودية وم�صر وال�سودان‬ ‫الالزمة والح�ضور القوي والفاعل‪ ،‬و�صدر عنه‬
‫ولبنان وفرن�سا والجزائر‪� ،‬إ�ضافة �إلى ح�ضور‬ ‫جملة مهمة من التو�صيات المعمقة والكثيفة‪،‬‬
‫وم�شاركة �أكثر من ثالثين جامعة‪.‬‬ ‫التي ارت�أينا في (ال�شارقة الثقافية) �ضرورة‬
‫وربما ك��ان محور التوا�صل بين العرب‬ ‫التطرق �إليها ولمخرجاتها قبل �سنوات في‬
‫والغرب‪ ،‬من �أهم ما تم البحث فيه و�إغنائه‪،‬‬ ‫مدينة ق�سنطينة عا�صمة الثقافة العربية‬
‫لما كان له من �أهمية ودور في تجديد الفكر‬ ‫وقتها‪ ،‬والذي احت�صنته كلقا ٍء ا�ستثنائي عبر‬
‫العربي المعا�صر (ك�ضرورة ُملحة)‪ ،‬ولهذا‬ ‫بها (�أي المدينة) من عوالم التاريخ وال�سياحة‬
‫فنحن في هذه القراءة المت�أنية للكتاب المهم‬ ‫والتراث‪ ،‬التي كانت تعي�شها وقتها �إلى عوالم‬
‫�إي��اه �سنحاول التركيز �أكثر على المو�ضوع‬ ‫الفكر والإث��راء الإن�ساني‪ ،‬وهو ما كانت في‬
‫ونخت�صر للقارئ والمهتم بع�ض حيثياته‬ ‫حاجة �إل��ى ت�أكيده عبر جملة الموارد‪ ،‬التي‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪58‬‬


‫�أخيلة‬

‫منا�سبات كثيرة‪ ،‬ومن �أبواب �شتى منذ القديم‪،‬‬ ‫و�سطوره‪ ،‬التي يذهب بع�ضها مبا�شرة �إلى تلك‬
‫غير �أن م�ؤتمر الجمعية الجزائرية للدرا�سات‬ ‫العالقة المتفاقمة مع الغرب‪ ،‬كم�ستعمر �سابق‬
‫الفل�سفية هذا‪ ،‬و�ضمن جملة الم�ستجدات التي‬ ‫�أحيان ًا �أو كمت�صالحة معه ك�شريك ومتعاون‬
‫تطرق �إليها بقوة كما �أ�سلفنا‪ .‬قد ذهب بعيداً‬ ‫�أحيان ًا �أخرى‪ ،‬فهذه العالقة كم�سلمة توا�صل‬
‫في الت�شخي�ص واقتراح ما يمكن من عوامل‬ ‫ثقافي ناعم �أو متناطح فكري مت�شنج‪ ،‬لها‬
‫م�ساعدة ت��ؤدي �إلى مفهوم الحرية ك�أ�سا�س‬ ‫ما لها وعليها ما عليها‪ ،‬كما نعلم من �أهمية‬
‫�أبحاث الم�ؤتمر‬ ‫لأي تقدم �أو تمدن‪� ،‬إ�ضافة طبع ًا �إلى ق�ضايا‬ ‫بين جميع العرب في عملية القراءة والتجديد‬
‫تنوعت وتجاوزت‬ ‫حقوق الإن�سان في مواجهة اال�ستبداد‪ .‬نعم‬ ‫لفكرهم الم�شترك‪ ،‬لأن التوا�صل المكثف لهم‬
‫الأنماط ال�سائدة‬ ‫�إن التوا�صل الثقافي بين الفكر العربي وذلك‬ ‫جميع ًا ولأ�سباب �شتى لم يتوقف يوم ًا عبر‬
‫الغربي قد �أدى منذ زم��ن �إل��ى ه��زات كثيرة‬ ‫التاريخ الطويل‪ ،‬حتى غدت ال�صور الم�شتركة‬
‫في الطرح‬ ‫�أدت بدورها �إل��ى معادلة التغيير المن�شودة‬ ‫نقاط ًا محورية في المفهوم الرابط بينهما‪،‬‬
‫ول��و على مهل وب��ال��ت��دري��ج‪ ،‬لجعل الثقافة‬ ‫الأمر الذي جعل الطرفين يحددان من خاللها‬
‫تتكثف وتتراكم وتتوافق �إل��ى حد بعيد مع‬ ‫ُجملة م��ن القيم التي ال منا�ص م��ن الدفع‬
‫بنية االحتكاك المتجددة بالرغم من العوائق‬ ‫�إلى ا�ستدامتها وتبنيها بقوة‪ ،‬وقد كانت كما‬
‫الت�شريعية المتمثلة في مداومة التركيز على‬ ‫نعلم م�صاحبة دائ��م� ًا لالقتراب ال�سيا�سي‬
‫الثقافات الوطنية وحدها والذهاب بها بعيد ًا‬ ‫واالقت�صادي‪ ،‬كذلك ما �ضاعف يوم ًا بعد يوم‬
‫في تف�سير التوا�صل كمفهوم �شامل ودائ��م‬ ‫ب�شر بواقعية جديدة‪،‬‬ ‫من انطباعاتها العامة ل ُت ِّ‬
‫لتقارب الح�ضارات بع�ضها من بع�ض‪.‬‬ ‫�أكثر فع ًال في الحياة الثقافية العربية التي‬
‫ركز على محور‬ ‫وقد كان من بين �أهم نتائج ذلك الم�ؤتمر‬ ‫كان روادها في المنطقة ممن تدرب في الغرب‬
‫الفارق وال�شهير كذلك الت�أكيد على �ضرورة‬ ‫�أ�ص ًال بالتوازي مع رواد �آخرين �أ�سهموا كما‬
‫التوا�صل بين العرب‬ ‫الإ���س��راع ف��ي ح��ل ق�ضايا ال��داخ��ل العربية‬ ‫ذكرنا في البناء االقت�صادي ورفع من�سوب‬
‫والغرب لتجديد‬ ‫قبل كل �شيء من �أجل معرفة الذات وبنائها‬ ‫التنمية في بالدهم تدفق الثروات والموارد‬
‫العقل المعا�صر‬ ‫ب�صالبة وثقة‪ ،‬ب��دل الت�شويه المتكرر الذي‬ ‫ال�ضخمة وغيرها في المراحل المتالحقة‪.‬‬
‫اليزال يناف�س ذاته مرحلة �إثر مرحلة وبلداً �إثر‬ ‫وهكذا‪ ،‬كانت النخبة العربية المت�أثرة‬
‫بل ٍد رغم و�ضوح ال�صورة‪ ،‬مع العلم �أن الحكم‬ ‫والمنتجة للثقافة في مقدمة من تبنى الأفكار‪،‬‬
‫على الثقافة العربية في الأ�صل ب�أنها كانت‬ ‫وربما العقائد والأل��وان الإيديولوجية وحتى‬
‫حكم جائر‬ ‫ٌ‬ ‫جامدة ورجعية �أو �إق�صائية هو‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬كذلك الأم ��ر ال��ذي دف��ع ال��دوائ��ر‬
‫وغير �صحيح لأن تاريخها الزاهي يقول غير‬ ‫والم�ؤ�س�سات في بالدها �إلى �إن�شاء الجمعيات‬
‫ذلك‪ ،‬وما عملية التجديد هذه وما �سبقها �سوى‬ ‫المتخ�ص�صة التي تعنى بالمجتمعات الغربية‬
‫�إحياء لذلك المجد ال��ذي انطف�أ قلي ًال ب�سبب‬ ‫وترجمة ما يمكن ترجمته من �إبداعات لها في‬
‫جملة من التمزقات ال�سيا�سية والأيديولوجية‪،‬‬ ‫الميادين التاريخية وال�سيا�سية واالقت�صادية‪،‬‬
‫�أكد �ضرورة الإ�سراع‬ ‫التي �ستنتفي �سريع ًا بدورها بعد موجة نقد‬ ‫وبطبيعة الحال الثقافية الفاعلة بال�ضبط كما‬
‫في حل الق�ضايا‬ ‫الذات واالندماج في المد الح�ضاري االن�ساني‬ ‫فعل الغربيون عندما ترجموا التراث العربي‬
‫الواعد‪.‬‬ ‫دائم ًا و�أخذوا ب�سبله وهم ي�ؤ�س�سون لحداثتهم‬
‫العربية للم�شاركة‬ ‫بقي فقط �أن نقول �إن الجمعية الجزائرية‬ ‫ذات يوم‪.‬‬
‫في المد الح�ضاري‬ ‫للدرا�سات الفل�سفية‪ ،‬التي ير�أ�سها المفكر‬ ‫وبطبيعة الحال ال يمكن �أن نن�سى في هذا‬
‫الإن�ساني‬ ‫المعروف عمر بو�ساحة‪ ،‬هي اليوم ركيزة‬ ‫ال�سياق �أدوار الباحثين والأكاديميين العرب‬
‫متفردة في المنطقة‪ ،‬حاولت كثيراً والتزال‪،‬‬ ‫الذين ا�ستهواهم المناخ العربي الغني ب�شكل‬
‫ال ��خ ��روج ب��ال��م��ج��ت��م��ع م��ن ب��ع�����ض ع��وال��م��ه‬ ‫عام‪ ،‬فف�ضلوا البقاء واال�ستقرار �إلى جوانبه‬
‫وكال�سيكياته الباهتة �إلى العولم الإن�سانية‬ ‫والم�ساهمة من خالله ولو عن بعد في تقريب‬
‫الأو�سع والأ�شمل‪ ،‬كما �أ�سلفنا َع� َّل فرج ًا ما‬ ‫الم�سائل الح�سا�سة الخا�صة ب��ه‪ ،‬وت�شجيع‬
‫لا ي�سطع في هذه المنطقة‪ ،‬التي‬ ‫ينبثق و�أم� ً‬ ‫مجتمعاتهم على �سرعة التفاعل واالندماج‬
‫تراجعت كثيراً مقارنة ب�أي مكان �آخر على‬ ‫فيها‪.‬‬
‫وجه الأر�ض‪.‬‬ ‫�صحيح �أن المو�ضوع قد تم التطرق �إليه في‬

‫‪59‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫حقق في محاولة اغتيال نجيب محفوظ‬

‫�أ�شرف الع�شماوي‪:‬‬
‫الأدب جعلني قا�ضي ًا �أكثر رحمة و�إن�سانية‬
‫‪ -‬ال يوجد �سبب محدد‪ ،‬بل الرغبة في‬
‫الكتابة في التعبير عما يدور بخاطري من‬
‫�أفكار‪� ،‬أريد م�شاركة قارئ ال �أعرفه فيها‪.‬‬
‫رغبة ملحة لم �أ�ستطع مقاومتها في �سن‬
‫الثالثين‪ ،‬ومن يومها �صارت الكتابة طق�س ًا‬
‫يومي ًا على مدار ثالثة وع�شرين عام ًا وحتى‬
‫الآن‪ .‬ربما كان لمالحظة �أحد ر�ؤ�سائي في‬
‫النيابة العامة ال��دور الأك��ب��ر‪ ،‬عندما كنا‬
‫بحكم عملنا كمحققين ق�ضائيين في النيابة‬
‫العامة الم�صرية‪ ،‬نقوم بتلخي�ص الق�ضايا‬
‫قبل �إحالتها للمحكمة‪ ،‬فالحظ �شيئ ًا ما في‬
‫�أ�سلوبي‪ ،‬فقام با�ستدعائي ونبهني قائ ًال‬
‫بالحرف (نحن نحيل الق�ضايا للقا�ضي‬
‫لكي يحكم فيها بالقانون‪ ،‬ال نحكي له‬
‫حكايات عن نف�سية المتهم‪ ،‬و�صف مكان‬
‫الجريمة وب��واع��ث��ه��ا)‪ ،‬م��ن يومها ب��د�أت‬
‫ال��ف��ك��رة تختمر ب��ر�أ���س��ي‪ ،‬وم�ضيت وراء‬
‫الحكاية ومازلت‪� .‬ساعدني �أني�س من�صور‪،‬‬
‫و�إبراهيم عبدالمجيد‪ ،‬وخيري �شلبي‪ ،‬مع‬
‫حفظ الأل��ق��اب‪ ،‬وكانوا �سبب ًا في ظهوري‬
‫وانت�شاري‪ ،‬و�س�أظل �أحمل لهم هذا الجميل‬ ‫�أ�شرف الع�شماوي‪ ،‬القا�ضي الذي اقتحم عالم الرواية‪،‬‬
‫ما حييت‪ .‬في تقديري �أن الرابط �إن�ساني‬
‫بين الق�ضاء والأدب‪ ،‬وبالن�سبة لي الق�ضاء‬ ‫وا�ستطاع �أن يحجز لنف�سه مكان ًا على خريطة الكتابة‬
‫جعلني �أديب ًا �أغو�ص في �أعماق النفو�س‬ ‫ف��ي م�صر وال��وط��ن ال��ع��رب��ي‪ ،‬حققت كتاباته نجاحات‬
‫ب�صورة �أعمق‪ ،‬من فرط ما ر�أيت من �آالف‬ ‫كبيرة ومقروئية عالية‪ ،‬كما تميز ب��غ��زارة الإن��ت��اج‪.‬‬
‫الق�ضايا‪ ،‬التي حكمت فيها‪� ،‬أما الأدب فقد‬ ‫�أ�صدر (‪ )8‬رواي��ات طويلة هي (زم��ن ال�ضباع ‪2010‬م)‪،‬‬
‫جعلني قا�ضي ًا �أكثر رحمة و�إن�سانية‪.‬‬ ‫�ضياء حامد‬
‫و(ت��وي��ا) ال��ت��ي و�صلت �إل���ى القائمة الطويلة للبوكر‬
‫¯ كنت المحقق في ق�ضية محاولة اغتيال‬ ‫للرواية العربية (‪2012‬م)‪ ،‬وترجمت �إلى اللغتين الإيطالية واليابانية‪.‬‬
‫نجيب محفوظ‪ ،‬ولم تكن دخلت عالم الأدب‬
‫بعد‪� ،‬ألم تقلق من مواجهة نف�س الم�صير؟‬ ‫التي فازت بجائزة �أف�ضل رواية تاريخية‬ ‫ورواي����ة (ال��م��ر���ش��د) ال��ت��ي ف ��ازت بجائزة‬
‫‪ -‬وقتها ل��م �أك ��ن كتبت بعد وكنت‬ ‫من ملتقى مملكة البحرين الثقافي لعام‬ ‫�أف�ضل رواي��ة في ا�ستفتاء القراء بجريدة‬
‫منبهراً بالأ�ستاذ محفوظ للغاية كقارئ‪،‬‬ ‫(‪2019‬م)‪ ،‬و�أ���ص��در في (‪2016‬م) رواي��ة‬ ‫الد�ستور الم�صرية عام (‪ 2013‬م)‪ ،‬ورواية‬
‫ولما جل�ست معه لم�ست الجانب الإن�ساني‬ ‫(تذكرة وحيدة للقاهرة )‪ ،‬وفي (‪2018‬م)‬ ‫(ال��ب��ارم��ان) التي �صدرت في (‪2014‬م)‪،‬‬
‫والح�س الفكاهي ب�سهولة‪ ،‬وظللت قريب ًا منه‬ ‫���ص��درت رواي� ��ة (���س��ي��دة ال��زم��ال��ك)‪ ،‬وف��ي‬ ‫وف��ازت بجائزة �أف�ضل رواي��ة من الهيئة‬
‫حتى عام (‪2000‬م)‪ ،‬لكني لم �أ�ستطع �أخذ‬ ‫(‪2019‬م) �صدرت رواي��ة (بيت القبطية)‪.‬‬ ‫العامة للكتاب لعام (‪2014‬م) ك�أف�ضل‬
‫ر�أيه في م�سودتي الأولى‪� ،‬شعرت بخوف من‬ ‫¯ كيف جاءت خطوة دخولك عالم الأدب‪،‬‬ ‫رواية عربية‪ ،‬وترجمت �إلى اللغات؛ الفرن�سية‬
‫�أن يقول لي ر�أيا �سلبي ًا‪ ،‬لكنني بعد الن�شر‬ ‫وهل هناك رابط بين عالم الأدب وعالم‬ ‫والمقدونية وال�صربية والإنجليزية‪ ،‬وفي‬
‫لم �أ�شعر بالخوف بالتعر�ض للم�صير ذاته‪،‬‬ ‫القانون ؟‬ ‫(‪2015‬م) �صدرت له رواية (كالب الراعي)‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪60‬‬


‫محاورة‬

‫وخبايا التحقيقات وما يدور بم�سرح الجريمة‬ ‫وال �أظ��ن �أن الأ�ستاذ نجيب نف�سه كان ي�شعر‬
‫ب�سهولة‪� .‬أما ا�ستدعاء توفيق الحكيم وروايته‬ ‫بالخوف قبلها‪ ،‬ال �أحد يكتب ب�إخال�ص وينتابه‬
‫(يوميات نائب في الأرياف) فلها �سببان؛ الأول‬ ‫خوف �أو قلق‪ ،‬الهاج�س الأ�سا�سي هو و�صول‬
‫�شجعني على دخول‬ ‫تحية وتقدير من تلميذ لأ�ستاذه‪ ،‬خا�صة �أننا من‬ ‫الفكرة �إلى المتلقي‪.‬‬
‫عالم الأدب �أني�س‬ ‫نف�س الخلفية المهنية بالنيابة العامة‪� .‬أما ال�سبب‬
‫الثاني فهو �إي�ضاح معنى ق�صدته بالرواية‪ ،‬و�أن‬ ‫¯ كيف تعامل معك الو�سط الأدبي والنقدي‪،‬‬
‫من�صور و�إبراهيم‬ ‫ال �شيء تغير على مدار خم�سة وثمانين عام ًا‪،‬‬ ‫خا�صة �أنك من خارجه ‪ ،‬ومع و�صول روايتك‬
‫عبدالمجيد وخيري‬ ‫تف�صلني عن زمن رواية الحكيم‪ .‬ال �شيء تغير‬ ‫(تويا) �إلى القائمة الق�صيرة لجائزة البوكر‬
‫�شلبي‬ ‫في البيروقراطية والقوانين وطريقة التعامل مع‬ ‫العربية؟‬
‫المواطنين‪ ،‬بل زاد عليها الكثير‪.‬‬ ‫‪ -‬الو�سط الثقافي تعامل معي بحذر �شديد‬
‫في البدايات عام (‪2010‬م)؛ لأنني كما و�صفوني‬
‫¯ �أزمة كورونا التي يعي�شها العالم الآن‪ ،‬هل‬ ‫(من خارج ال�صندوق الأدبي)‪ ،‬لكن عقب و�صول‬
‫�ألهمتك عم ًال جديداً؟ وما هي ر�ؤيتك للأدب بعد‬ ‫روايتي (تويا) لقائمة البوكر‪ ،‬فوجئت بهجوم‬
‫هذه الجائحة؟‬ ‫�شديد غير مبرر بالن�سبة لي‪ ،‬وظل هذا الهجوم‬
‫الو�سط الأدبي تعامل‬ ‫‪� -‬أزمة كورونا كانت �سبب ًا في كتابة �سردية‬ ‫م�ستمراً بعد فوزي بجائزة �أف�ضل رواية عربية‬
‫معي بحذر �شديد‬ ‫طويلة بمزاج رائق ‪ .‬العزلة ملهمة وت�ساعد كثيراً‬ ‫عن رواية (البارمان)‪ ،‬ولوال �أن جمال الغيطاني‪،‬‬
‫على التركيز‪� .‬أنا لم �أكتب عن الوباء‪ ،‬ولم يلهمني‬ ‫كان رئي�س ًا للجنة التي اختارت روايتي‪ ،‬لكان‬
‫في البدايات لأنني‬ ‫عم ًال جديداً‪ ،‬لكني ا�ستكملت بحما�س وهمة العمل‬ ‫الهجوم �أ�شد �ضراوة‪ .‬حتى الآن العالقة بيني‬
‫من خارج ال�صندوق‬ ‫الذي بد�أت فيه منذ دي�سمبر الما�ضي‪ ،‬حيث �أعكف‬ ‫وبين الو�سط االدب��ي �أ�شبه بالحرب ال��ب��اردة‪،‬‬
‫الأدبي‬ ‫على كتابة رواي��ة جديدة مختلفة في �أجوائها‬ ‫وال �أعرف �سبب ًا محدداً‪� ،‬أنا �أكتب وفقط ولم �أعد‬
‫عن كل �أعمالي ال�سابقة‪ ،‬وتدور في عدة �أزمنة‬ ‫ورا�ض عن م�سيرتي‪ ،‬و�أخذت حقي‬ ‫ٍ‬ ‫�أنظر خلفي‪،‬‬
‫وتحتاج �إلى تركيز منحنى الوباء �إياه ب�سخاء‪� .‬أما‬ ‫في جوائز ومبيعات ونقد �أدبي محترم من كبار‬
‫ر�ؤيتي للأدب بعد الجائحة‪ ،‬ف�أظن �أن الكثيرين‬ ‫النقاد بالوطن العربي‪ ،‬و�أحترم �أعمال كل من في‬
‫من الكتاب �سيت�أثرون‬ ‫الو�سط الأدبي‪ ،‬لكني ال �أدخل في معارك �أبداً‪ ،‬وال‬
‫بالوباء و�سينجرفون‬ ‫�أظن �أنني �س�أفعلها يوم ًا ما‪.‬‬
‫ف� ��ي ال ��ك ��ت ��اب ��ة ع��ن��ه‪،‬‬
‫ورب ��م ��ا ت��ك��ون ه��ن��اك‬ ‫¯ هل الكتابة عن المهم�شين هي م�شروع �أ�شرف‬
‫�أع��م��ال ج��ي��دة‪ ،‬لكنني‬ ‫الع�شماوي؟‬
‫�أظ��ن �أن �أغلب الأعمال‬ ‫‪� -‬إلى حد كبير‪ ،‬المهم�شون حا�ضرون في‬
‫ال��ت��ي ت��ت��ن��اول ظاهرة‬ ‫رواياتي‪� ،‬أعتقد �أنهم الأولى بالكتابة‪ ،‬لديهم‬
‫�أو ح��دث�� ًا م��ا ب�سرعة‬ ‫درام��ا حقيقية وق�ص�ص �إن�سانية ت�ستحق �أن‬
‫تكون �أع��م��ال تقريرية‬ ‫تروى‪ ،‬كما �أن �أغلب �أفكار رواياتي تدور عن‬
‫غير مكتملة وبال ر�ؤية‬ ‫الهموم العامة والنف�س الب�شرية بتناق�ضاتها‪،‬‬
‫وا�ضحة‪� .‬أي�ض ًا �أخ��اف‬ ‫فمن الطبيعي �أن يكون لهم دور البطولة في‬
‫م��ن ت��أث��ر ���س��وق الن�شر‬ ‫�أغلب الأعمال‪� .‬أتمنى �أن يطول بي العمر وت�سمح‬
‫وه����و م���ن ال ��ب ��داي ��ات‬ ‫ال�صحة بكتابة الأفكار التي �أحتفظ بها عنهم‪،‬‬
‫يتعافى ب��ال��ك��اد‪ ،‬ولم‬ ‫الأمر يتطلب ع�شرين عام ًا على الأقل‪.‬‬
‫تكن تنق�صه الجائحة‪،‬‬
‫الن�شر الإلكتروني لن‬ ‫كقا�ض في كتابتك لرواية‬ ‫ٍ‬ ‫¯ هل �أث��ر عملك‬
‫ي��ك��ون ب ��دي�ل ً�ا ق��وي�� ًا‪،‬‬ ‫(بيت القبطية)؟ وما هي داللة ا�ستدعاء توفيق‬
‫و�أتمنى ع��ودة الندوات‬ ‫الحكيم وروايته (يوميات نائب في الأرياف)؟‬
‫وال ��م ��ع ��ار� ��ض وف��ت��ح‬ ‫‪� -‬أي روائي لديه هموم عامة وخا�صة‪ ،‬ولديه‬
‫المكتبات ودعم �صناعة‬ ‫خبرات من عمله وي�ستطيع �أن يرى بعمق �أكثر لو‬
‫الن�شر‪ ،‬لكي تعود على‬ ‫كتب عن وظيفته‪ .‬بالطبع عملي �ساعدني في‬
‫م��ا ك��ان��ت ع��ل��ي��ه على‬ ‫�سهولة الكتابة ال�سردية عن �شخ�صية البطل (نادر‬
‫الأقل‪.‬‬ ‫فايز) المحقق الق�ضائي‪ ،‬وجعلني �أ�سرد الحوادث‬
‫من م�ؤلفاته‬

‫‪61‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫حين تكون بيروت «العنقاء»‬


‫ف�ضاء روائي ًا‪..‬‬
‫ً‬
‫نبيل �سليمان‬

‫بيت محمود المدر�س الم�سلم العازب‪ ،‬والذي لج�أت‬ ‫لي�س الف�ضاء الروائي هذا ال�شارع �أو ذلك‬
‫�إليه رنا ال�شابة الم�سيحية فراراً من القتال‪ ،‬لكن‬ ‫�داث ما‬
‫ذي��اك المقهى‪ ،‬حيث تدور �أح� ٌ‬ ‫المنزل �أو ّ‬
‫الق�صف المتبادل بين طرفي ال�صراع ي�أتي على‬ ‫في رواية ما‪ .‬وبعبارة �أدق‪ ،‬لي�س الف�ضاء الروائي‬
‫فيفر منه المحا�صران‪ ،‬ليتلقف القتل‬ ‫ّ‬ ‫البيت‪،‬‬ ‫بالمكان �أو المكون الجغرافي في الرواية‪ ،‬فقط‪ ،‬بل‬
‫محمود‪ .‬و�إذا كان حديث الف�ضاء الروائي ي�أتي‬ ‫هو ذلك مجبو ًال بالتاريخ وال�شخ�صية‪ .‬واالبتداء‬
‫قا�صراً ف��ي ه��ذه ال��رواي��ة‪ ،‬ف��الأم��ر يختلف في‬ ‫بهذا التلخي�ص (القا�صر �أو الجائر) قد اقت�ضاه‬
‫رواية يا�سين رفاعية (ر�أ�س بيروت ‪1992 -‬م)‪.‬‬ ‫العزم على الكتابة عن العنقاء بيروت في المدونة‬
‫وعنوان الرواية‪ ،‬هو ا�سم حي بيروتي �شهير‪ .‬وقد‬ ‫الروائية ال�سورية‪ ،‬وه��و ما يفوق لبيروت في‬
‫اختار بطل الرواية (�أبو ب�سام) بيروت وطن ًا له بعد‬ ‫المدونة الروائية العربية �أو العالمية‪ ،‬وكذلك ما‬
‫�سوريا‪ ،‬مثلما فعل يا�سين رفاعية الذي عا�ش في‬ ‫لدم�شق‪ /‬ال�شام‪� /‬سوريا‪ /‬في الرواية اللبنانية‪.‬‬
‫بيروت ن�صف قرن‪ ،‬منذ منت�صف �ستينيات القرن‬ ‫ثمة باقة من ال��رواي��ات‪ ،‬تبدو بيروت فيها‬
‫الع�شرين‪ .‬وكما تلفح ال�سيرية رواية (ر�أ�س بيروت)‬ ‫ف�ضاء وحيداً‪ ،‬دون �أن ينال من وحدته �أن يتالمح‬
‫ً‬
‫تلفحها النو�ستالجيا �إلى بيروت ما قبل الحرب‪.‬‬ ‫في الرواية ما يلتب�س بف�ضاء �آخر �أو �أكثر‪ ،‬فيما‬
‫الكتابة عن‬ ‫ف�أبو ب�سام‪ ،‬ينادي بيروت اليوتوبيا التي يحلم‬ ‫تناولت‬
‫ُ‬ ‫هو غالب ًا وم�ضات لمكان �أو �أكثر‪ .‬وقد‬
‫بها الفنانون‪ ،‬ومنها بيروت القديمة الجوهرة‪،‬‬ ‫الف�ضاء البيروتي‪ ،‬في رواي��ات عديدة‬
‫َ‬ ‫من قبل‬
‫(العنقاء) بيروت في‬
‫بيروت الأحياء الفقيرة‪ ،‬التي لم يكن (�أبو ب�سام)‬ ‫لغادة ال�سمان وحنا مينة وحليم بركات‪ .‬ولهاته‬
‫المدونة الروائية‬ ‫يعرف �أنها في المدينة‪ ،‬حيث بات حي (ر�أ���س‬ ‫الروايات �أ�صناء‪ ،‬في ر�أ�سها رواية مروان طه مدور‬
‫ال�سورية ما يفوق‬ ‫بيروت) منها �ساحة �صراع‪ ،‬ولكل ذل��ك يقول‬ ‫(جنون البقر ‪1992 -‬م)؛ فالرواية �سير ٌة لبيروت‬
‫�سواها من المدونات‬ ‫�أبو ب�سام‪( :‬هذه مدينة �ستغرق بدماء �أبنائها)‪.‬‬ ‫يموت‪،‬‬ ‫في زمن الحرب الأهلية‪ ،‬يرويها ر�ؤوف ّ‬
‫الروائية‬ ‫وبالمقابل‪ ،‬يرى (�أب��و ب�سام) في الزنزانة‪ ،‬في‬ ‫فيما يروي �سيرة حياته وهو الميت الذي تقاذفته‬
‫كابو�س الدم‪� ،‬أن بحر الدم يبلغ �صخرة الرو�شة‪،‬‬ ‫الحرب من حفرة قذيفة �إل��ى مقبرة جماعية‪،‬‬
‫ثم يغمر البحر الأزرق‪ ،‬لكن ال�صخرة تظل م�شرئبة‬ ‫بعدما كان ال�صعود قد تقاذفه حتى بات يطمح‬
‫بعنقها‪ .‬وقد تابع يا�سين رفاعية ما كان في‬ ‫برئا�سة الدولة‪ .‬وقد تحققت لرواية الكاتب الراحل‬
‫روايتيه ال�سابقتين من ر�سم الف�ضاء البيروتي‬ ‫الوحيدة �أولويتها بالبناء ال�سريالي ل�سيرتي‬
‫في رواياته (امر�أة غام�ضة ‪1993 -‬م)‪ ،‬و(دماء‬ ‫يموت‪ ،‬حيث تواترت واندغمت‬ ‫المدينة ورفيق ّ‬
‫و(�سوريو ج�سر الكوال ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫بالألوان ‪2006 -‬م)‪،‬‬ ‫الم�شهديات‪ ،‬وع�صف التخييل‪ ،‬كما ك��ان للغة‬
‫‪2013‬م)‪ .‬ويلفت في الأخيرة �أنها عمن �أ�سميهم‬ ‫ع�صفها‪ ،‬وبكل ذلك كان للف�ضاء البيروتي امتيازه‬
‫بعمال التراحيل ال�سوريين في بيروت‪.‬‬ ‫الروائي الفائق‪.‬‬
‫�إذا كان �أغلب الروايات ال�سورية التي جعلت‬ ‫قبل ذلك‪ ،‬ومنذ بداية الحرب‪ ،‬جاءت رواية‬
‫ف�ضاء لها ق��د تعلق بالحرب الأهلية‬ ‫ً‬ ‫ب��ي��روت‬ ‫(الممر ‪1978 -‬م) ليا�سين رفاعية (‪- 1934‬‬
‫درة تلك‬ ‫ّ‬ ‫فلعل‬ ‫‪1990‬م)‪،‬‬ ‫‪-‬‬ ‫(‪1975‬‬ ‫اللبنانية‬ ‫‪2016‬م)‪ ،‬وتحدد فيها الف�ضاء في الممر داخل‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪62‬‬


‫�شظايا‬

‫ا�شتغال مطاع �صفدي على (المكان) في هذه‬ ‫الروايات هي (فردو�س الجنون ‪1996 -‬م) لأحمد‬
‫الرواية‪ ،‬ق ّل نظيره‪ .‬وفي تف�صيل القول‪ ،‬ما ي�ؤكد‬ ‫يو�سف داوود‪ .‬وقد ترامى ف�ضاء هذه الرواية �إلى‬
‫�أن حيدر ما ق�صد بالمكان �إال الف�ضاء‪.‬‬ ‫موطن بطلها بليغ حمدي في �سوريا‪ ،‬و�إلى ما تق ّلب‬
‫في رواية (با�سمة بين الدموع ‪1958 -‬م)‬ ‫فيه في لبنان ول�سان حاله ينب�ض (�أريد جبهتي)‪،‬‬
‫لعبد ال�سالم العجيلي (‪2006 - 1918‬م) توم�ض‬ ‫وما جبهته �إال بيروت التي ير�سمها كواحة من‬
‫�أحيان ًا تكون بيروت‬ ‫ب��ي��روت فقط ف��ي منطلق ال��رواي��ة تحت عنوان‬ ‫لوحات ف�سيف�ساء الموت المكثف والمت�شابه في‬
‫(الطريق الزلقة)‪ .‬وكذلك الأمر في رواية (الجائع‬ ‫�سائر المدن والعوا�صم‪ .‬وحين ت�س�أل (روز بليغ)‬
‫الف�ضاء الوحيد في‬ ‫�إل��ى الإن�سان ‪1973 -‬م) للكاتب ع‪� .‬آل �شبلي‬ ‫عن جهله ببيروت يخاطبها‪( :‬اتركيني �أخترع ما‬
‫الرواية و�أحيان ًا‬ ‫(‪1992 - 1922‬م)‪ ،‬حيث يتكرر ما في رواية‬ ‫ينا�سبني‪ ،‬و�إن لم تقتنعي ب�أن بيروتنا هي كل‬
‫تكون واحداً من‬ ‫حنا مينة (الثلج ي�أتي من النافذة) من لجوء‬ ‫بيروت ممكنة في الدنيا‪ ،‬فاف�صليني من الرواية)‪.‬‬
‫ف�ضاءات الرواية‬ ‫البطل الذي يالحقه الأمن في دم�شق �إبان الوحدة‬ ‫بيروت في (فردو�س الجنون) واقع وخيال‪،‬‬
‫ال�سورية الم�صرية‪� ،‬إلى بيروت‪.‬‬ ‫مفردة وجمع‪ ،‬تراها زهرة كمائن و�ألغام و�أعالم‬
‫بخالف ما �سبق في ال��رواي��ات التي كانت‬ ‫وخطب‪ ،‬وت��راه��ا كذبة حرية‪ ،‬وواح��ة وبالون ًا‬
‫بيروت وحدها‪ ،‬يبدو ح�ضور الحرب‬ ‫ُ‬ ‫ف�ضاء لها‬
‫ً‬ ‫وم�ستنقع ًا م��ن وح ��ول ال��ه��ج��ان��ات‪ ،‬و(مخب�أ‬
‫محدوداً‪ ،‬ومن ذلك رواية (ج�سر الموت ‪1997 -‬م)‬ ‫ل�صعاليك ملفلفين ب�أحجية الوطنجية وبخور‬
‫لإبراهيم عبيدو (‪2015 - 1948‬م)‪ ،‬وفيها يروي‬ ‫العروبية وبوهيمية النقد والأنترنا�سيونالية)‪� .‬أما‬
‫زجه في‬ ‫الرقيب ال�سوري محمود‪ ،‬ما كابد من ّ‬ ‫زوج (زهرة) فيراها طاحونة‪ ،‬وي�شبهها ب�سدوم‪.‬‬
‫ق��وات ال��ردع‪ ،‬من �صيدا �إل��ى الكرنتينا وبيروت‬ ‫ويجزم الراهب و�أكاديمي الفل�سفة �سليمان‪� ،‬أن‬
‫ال�شرقية‪� ،‬إلى ما تعنونت به الرواية‪( :‬ج�سر الموت)‪.‬‬ ‫اليهود ما كانوا ليبلغوا بيروت لوال �أنها مهزومة‬
‫في رواية خيري الذهبي (طائر الأيام العجيبة ‪-‬‬ ‫منذ دهور‪ .‬وها هو بليغ يخاطب رواة الرواية ب�أنه‬
‫غالب ًا ما ي�سعى‬ ‫الو ْكد في‬
‫‪1977‬م)‪ ،‬وكما في (جيل القدر) يكون ُ‬ ‫�سيتابع ما يحلو له من التخيالت ليرى �إلى �أين‬
‫الروائي �إلى تج�سيد‬ ‫طالب الجامعة الأمريكية‪ ،‬لكن الن�ضال الطالبي‬ ‫�سي�صل مع هذه الـ (بيروت) التي يطلب الرواة‬
‫بيروت وقيامها من‬ ‫في رواي��ة الذهبي‪ ،‬ينتهي بال�سقوط على درب‬ ‫منه اختراعها‪ ،‬والتي لن يجعلها �أقل من تلحي�ص‬
‫ال�صحافة والجا�سو�سية‪� .‬أما رواية ممدوح عزام‬ ‫محكم لكل هذا ال�شرق الأو�سط �أو الأدنى‪.‬‬
‫رماد ج�سدها لأنها‬ ‫(�أر�ض الكالم ‪2005 -‬م)‪ ،‬ففيها (تغريبة) عمال‬ ‫تتقد وتت�ألق (فردو�س الجنون) بما �أنجزت‬
‫النقاء‬ ‫التراحيل ال�سوريين من ال�سويداء وريفها �إلى‬ ‫م��ن جِ ب ّلة الف�ضاء ال��روائ��ي بجنون المخيلة‪،‬‬
‫بيروت في خم�سينيات القرن الما�ضي‪ .‬وقد ترك‬ ‫وببناء ال�شخ�صيات‪ ،‬وبتالطم الأحداث التي تلطم‬
‫هاني الراهب (‪2000 - 1941‬م) في روايته‬ ‫الواقع بقدر ما تلطم الخيال‪ ،‬وكل ذلك في لغة‬
‫ي�شف‬
‫(خ�ضراء كالبحار ‪ )2000 -‬ا�سم الف�ضاء ّ‬ ‫تمت�ص ال�سخرية والفل�سفة وال�سيا�سة والرطانات‬
‫من البناء الروائي الرهيف المحكم والحداثي عن‬ ‫البيروتية‪ ،‬ليكون للبناء الروائي نهو�ضه الحداثي‬
‫الزخم الناري م�ساكنها‬
‫ُ‬ ‫بيروت‪ ،‬التي افتر�س فيها‬ ‫البديع‪.‬‬
‫كما �سكانها‪ .‬وبطل ال��رواي��ة النحات والر�سام‬ ‫م��ن ال��رواي��ات المبكرة التي ل��م تكن رهن‬
‫(فرا�س) يرى في ح�شا�شته �سقوف المدينة التي‬ ‫ب��ي��روت فقط‪ ،‬لأن ب��ي��روت واح��د م��ن ف�ضاءات‬
‫هدمتها القذائف‪ ،‬فالزمن هو زمن الحرب‪ ،‬مع‬ ‫روايتي (جبل القدر ‪1961 -‬م)‪ ،‬و(ثائر محترف‬
‫التذكير ب�أن بيروت لي�ست وحدها الف�ضاء في‬ ‫‪1962 -‬م) لمطاع �صفدي (‪2016 - 1929‬م)‪.‬‬
‫الف�ضاء في الرواية‬ ‫(خ�ضراء كالبحار) الذي يترامى �أي�ض ًا �إلى كندا‬ ‫ففي الأول��ى تجمع بيروت في الحفل الجامعي‬
‫لي�س المكان �أو‬ ‫وب��اري�����س‪ .‬وم��ن �آخ��ر م��ا لبيروت ف��ي المدونة‬ ‫و�سواه بين �شخ�صياتها من ذل��ك الجيل الذي‬
‫الجغرافيا بل هو‬ ‫الروائية ال�سورية‪ ،‬رواية عبير �إ�سبر (�سقوط حر)‪،‬‬ ‫كانت تمور به خم�سينيات القرن الما�ضي‪ ،‬و�سماه‬
‫حيث لم تعد بيروت الجنة ال�ضائعة‪ ،‬بل المنفى‪.‬‬ ‫جمال عبدالنا�صر بما تعنونت الرواية به‪( :‬جيل‬
‫الف�ضاء المجبول‬ ‫وبعد‪ ،‬فقد يبدو الف�ضاء الروائي في الروايات‬ ‫ال��ق��در)‪ .‬وه��و الجيل ال��ذي �سي�شعل رواي��ة (ثائر‬
‫بالتاريخ وال�شخ�صية‬ ‫الأربع ع�شرة ال�سابقة قاب�ض ًا‪ ،‬ولي�س فقط في زمن‬ ‫محترف) �أي�ض ًا‪ ،‬وفيها ي�ؤوب الثائر (كريم) �إلى‬
‫الحرب‪ .‬غير �أن ما يظل ينب�ض في هذه الروايات‪،‬‬ ‫بيروت ليت�أمل حياته من ثورة �إلى �أخرى‪ ،‬وتكون‬
‫كما في مدونة بيروت الروائية‪ ،‬ما كان منها من‬ ‫بيروت كما كل لبنان فيما زلزله عام (‪1958‬م)‪.‬‬
‫�سوريا �أو من لبنان �أو غيرهما‪ ،‬هو قيامة بيروت‬ ‫وقد ذهب الفيل�سوف ال�سوري الراحل �أحمد حيدر‬
‫من رماد ج�سدها‪ ،‬لأنها العنقاء‪.‬‬ ‫(‪2007 - 1928‬م) قبل �ستين �سنة �إل��ى �أن‬

‫‪63‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫كتاباته واعية بذاتها‬
‫�إليا�س فركوح‬
‫ن�صو�صه مغامرة �إبداعية‬
‫في تجديد ال�سرد‬
‫�أثار الرحيل المفاجئ للروائي‪،‬‬
‫والقا�ص‪ ،‬والمترجم‪ ،‬والنا�شر‬
‫الأردني �إليا�س فركوح (‪-1948‬‬
‫يوليو ‪ )2020‬ردود فعل وا�سعة‬
‫اعتدال عثمان‬
‫ف��ي واق��ع��ن��ا الأدب�����ي ال��ع��رب��ي‪،‬‬
‫فالكاتب ال��راح��ل يعد واح��د ًا‬
‫من الكتاب الطليعيين في مجال التجريب الروائي‬
‫والق�ص�صي‪ ،‬التفتت ال�ساحة الأدبية �إلى تجربته‬
‫المختلفة‪ ،‬كذلك حققت ثالثيته الروائية (قامات‬
‫الزبد ‪ ،)1987‬و(�أعمدة الغبار ‪ ،)1996‬و(�أر�ض‬
‫اليمبو�س ‪� )2007‬إلى جانب �أعماله الروائية‬
‫والق�ص�صية والنثرية الأخ��رى‪ ،‬تجاوب ًا‬
‫ملمو�س ًا لدى عدد من كبار النقاد العرب‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪64‬‬


‫درا�سة‬

‫وال�شرا�سة‪ ،‬و�سفك الدماء‪ ،‬وانتهاك الحرمات حتى‬ ‫لعل من �أهم مالمح تجربة فركوح ال�سردية‪،‬‬
‫حرمة الموت‪.‬‬ ‫�أن��ه يكتب كتابة واع��ي��ة ب��ذات��ه��ا‪ ،‬فهو يختار‬
‫�أما الأهم في هذه الكتابة التجريبية‪ ،‬فهو‬ ‫بق�صدية متعمدة التجديد في �شكل الكتابة‪،‬‬
‫كيف يبتكر فركوح �شك ًال جديداً ل�سرد التجربة‬ ‫ولغتها‪ ،‬ور�ؤيتها‪ ،‬بينما يطرح ب�شكل �ضمني‬
‫تجربته تدخل‬ ‫الغائرة في العمق ال�سحيق للنف�س الب�شرية‪،‬‬ ‫�أحيان ًا‪ ،‬وب�شكل ظاهر �أحيان ًا �أخرى‪ ،‬مثل ق�صة‬
‫في مجال التجريب‬ ‫و�أن يعبر عنها بكتابة مختلفة‪ ،‬مت�أنية‪ ،‬كا�شفة‬ ‫(�أ�سرار �ساعة الرمل ‪� ،)1991‬س�ؤال الكتابة حول‬
‫للحقائق الخافية‪ ،‬التي يج�سدها من خالل ر�ؤية‬ ‫كيفية توالد الحكايات‪ ،‬وهل تتوالد في ذهن‬
‫الفني الم�شغول‬
‫خا�صة‪ ،‬م�ستمدة من الواقع‪ ،‬لكنها تحمل الكثير‬ ‫الكاتب مما كان‪� ،‬أو مما يعي�ش‪� ،‬أو مما يحلم به‪،‬‬
‫بوعي و�إتقان لحرفة‬ ‫من المرارة‪ ،‬والوعي ال�شقي‪ ،‬والغ�ضب المكتوم‪،‬‬ ‫ممتزج ًا في كل الأحوال بالخيال؟ وهل هذا هو‬
‫الكتابة و�أ�سرارها‬ ‫والغرائبية‪ ،‬بينما تكمن في الخلفية مناخات‬ ‫الذي ي�شكل كيمياء الن�ص الخا�صة التي تختلف‬
‫القمع المعلن والخفي‪ ،‬الظاهرة والمتوارية خلف‬ ‫من كاتب �إلى �آخر؟‬
‫الأقنعة‪.‬‬ ‫ي��رى محمد دك���روب‪� ،‬أن الحكايات لدى‬
‫�إن ال�سرد ينقلب لديه من ت�سجيل حدث واقعي‬ ‫فركوح (�إذ تنكتب‪ ،‬ف�إنها تتوالد لحظة كتابتها‪،‬‬
‫بظالله �أو ذكرى م�ستعادة �أو حلم كابو�سي �أو م�شهد‬ ‫ك�أنما ال��رواي��ة ���ص��ارت ه��ي حكاية نف�سها)‪،‬‬
‫غرائبي‪� ،‬أو مقتطفات من �أخبار �صحافية �سيا�سية‬ ‫وي�ضيف؛ �أن كتابة ف��رك��وح ت��دخ��ل ف��ي هذا‬
‫�أو يوميات ومذكرات‪� ،‬إلى ت�شكيل �سردي مبتكر‪،‬‬ ‫الن�سيج من الت�سا�ؤالت والإ�شكاليات التقنية‬
‫لديه قدرة فائقة‬ ‫يحمل �صفات هجينة من �أنواع الفنون‪ ،‬تمتزج فيه‬ ‫الحياتية‪ ،‬وتطرح علينا‪ ،‬وعلى نف�سها‪ ،‬ت�سا�ؤالتها‬
‫على الغو�ص في‬ ‫الكتابة باللوحة الت�شكيلية‪ ،‬وال�صور الفوتوغرافية‪،‬‬ ‫و�إ�شكالياتها‪ ،‬كما تدخل بهذا �أي�ض ًا في مجال‬
‫�أعماق النف�س‬ ‫وف��ن ال��ك��والج الب�صري‪ ،‬وال��ن��ح��ت‪ .‬ولعل �أب��رز‬ ‫التجريب الفني‪ ،‬الم�شغول بوعي‪ ،‬و�إتقان لحرفة‬
‫الب�شرية وك�شف‬ ‫ن�صو�ص فركوح في هذا ال�صدد (غريق المرايا)‬ ‫الكتابة و�أ�سرارها‪� .‬إنها كتابة تحتفي كما يقول‬
‫(‪ )2017‬حيث تترا�سل الفنون على نحو ي�شكل‬ ‫�إدوارد خراط (بنظرة الن�ص �إلى ذاته في مر�آة‬
‫المناطق المعتمة‬ ‫ما ي�شبه التنا�ص في الكتابة الأدبية‪ ،‬حين يحيل‬ ‫الن�ص نف�سها)‪ ،‬وهو ما يعرف بـ(ميتافك�شن) �أو‬
‫فيها‬ ‫ن�ص ًا ما �إلى ن�ص �آخر ب�صورة وا�ضحة �أو خفية‪،‬‬ ‫ما وراء الق�ص‪.‬‬
‫لكن الإحالة هنا تكون �إلى فنون ب�صرية‪ ،‬تتداخل‬ ‫�سمة �أخ ��رى ب ��ارزة ف��ي كتابات فركوح‪،‬‬
‫مع بع�ضها بع�ض ًا‪ ،‬كما تتداخل مع تفا�صيل الواقع‬ ‫يلتفت �إليها فخري �صالح‪ ،‬هي قدرته الفائقة‬
‫المعي�ش‪ ،‬والفل�سفة‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والأ�سطورة‪.‬‬ ‫على الغو�ص في �أعماق النف�س الب�شرية‪ ،‬وك�شف‬
‫المناطق المظلمة المجهولة الكامنة‪ ،‬والمحركة‬
‫للفعل الب�شري على الرغم من خفائها‪.‬‬
‫�إن فركوح‪ ،‬ال يكتفي بر�سم المالمح الدقيقة‬
‫ل�شخو�صه الروائية والق�ص�صية‪� ،‬سواء الج�سدية‬
‫�أو النف�سية �أو االجتماعية‪ ،‬لكنه يغو�ص عميق ًا‬
‫ف��ي م��ا يعتمل ف��ي دواخ��ل��ه��م م��ن ���ص��راع��ات‪،‬‬
‫وتمزقات‪ ،‬وانهيارات‪ ،‬ظاهرة �أحيان ًا‪ ،‬ومموهة‬
‫�أحيان ًا �أخ��رى‪ ،‬لكنها فاعلة في كل الأوق��ات‪،‬‬
‫وذل��ك بو�صفهم نماذج تعاي�ش الواقع العربي‬
‫بت�صدعاته المتتالية‪ ،‬وانعكا�ساتها على ما يعتمل‬
‫في وعي الفرد‪ ،‬و(ال وعيه) �أي�ض ًا‪ ،‬في�صير نهب ًا‬
‫لأ�شكال القمع المجتمعي على نحو ما يتبدى في‬
‫تفا�صيل الحياة اليومية‪ ،‬الواقعة بدورها تحت‬
‫�سطوة االنك�سارات على الم�ستوى العام‪ ،‬وا�ستبداد‬
‫الأعراف ال�سائدة با�سم التقاليد تارة‪ ،‬وبا�سم من‬
‫ينتحلون �سلطة تف�سير المقد�س والمدن�س تارة‬
‫�أخرى‪ ،‬حتى �إن الفرد يبادر �أحيان ًا �إلى الم�شاركة‬
‫في قمع نف�سه بنف�سه‪ ،‬خوف ًا �أو جبن ًا‪ ،‬نتيجة‬
‫غياب الوعي‪ .‬وفي هذا ال�سياق تنفلت الغرائز‬
‫البدائية من عقالها‪ ،‬وتغو�ص ال��ذات‪ ،‬دون �أن‬
‫تدري‪ ،‬في جحيم ال�شهوات الوح�شية‪ ،‬والعنف‪،‬‬
‫من م�ؤلفاته‬

‫‪65‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫درا�سة‬

‫وفي ن�صو�ص �أخرى؛ يك�سر فركوح الحدود‬


‫التقليدية الفا�صلة بين الرواية والق�صة‪ ،‬حيث‬
‫تتداخل كذلك �أنماط �سردية متنوعة‪ ،‬لي�صبح‬
‫الن�ص (حالة) تختزن حياة كاملة‪ ،‬وتعبر عن‬
‫ر�ؤية خا�صة بالكاتب‪ ،‬نابعة‪ ،‬كما يقول فركوح‪،‬‬
‫من (يقين مفقود‪ ،‬كان حا�ضراً في البداية‪ ،‬وما‬
‫لبث �أن �أ�ضاعته انك�سارات ال�شباب‪ ،‬وهزائم‬
‫الن�ضوج‪ ،‬وخ�سوف كل الجنات الموعودة)‪.‬‬
‫�إن الكاتب هنا ال ي�شير �إلى تاريخ �شخ�صي‬
‫فح�سب‪ ،‬بل �إن هذا التاريخ نف�سه ال ينف�صل عن‬
‫فركوح في �إحدى الندوات‬
‫الأكبر في �سردية فركوح‪ ،‬فهو يبدو واعي ًا ب�أن‬ ‫�أبناء جيله على امتداد الخريطة العربية‪ ،‬الذين‬
‫اللغة درب من دروب �سيرورة المعرفة المفتوحة‬ ‫عانوا االنك�سار المجتمعي‪ ،‬واالغتراب الثقافي‬
‫لدى الكاتب‪ ،‬خ�صو�ص ًا �إذا كان �صاحب موهبة‬ ‫وال�شخ�صي‪� ،‬أولئك الذين عا�صروا عام النكبة‬
‫�أدبية ا�ستثنائية‪ ،‬و�إرادة للتمرد على الم�ألوف‬ ‫الفل�سطينية (‪ ،)1948‬ال��ذي ول��د فيه فركوح‪،‬‬
‫وال�سائد‪ ،‬ف�إنه ال بد �أن يبلغ بلغته مقام ًا خا�ص ًا‬ ‫م��روراً ب�أحداث مف�صلية في تاريخنا العربي‬
‫يم ّكنه‪ ،‬كما يقول في�صل دراج (من تحقيق هدف‬ ‫المعا�صر‪ ،‬خالل حقبة الخم�سينيات وما بعدها‪،‬‬
‫م��زدوج‪ :‬النفاذ من المادة اللغوية �إل��ى جوهر‬ ‫يتناولها فركوح في رواياته مثل الفترة الفا�صلة‬
‫الكتابة التي تحرر المعطى من داللته الم�ألوفة‪،‬‬ ‫بين هزيمة (‪ )1967‬و�سقوط مخيم تل الزعتر‪،‬‬
‫يك�سر فركوح الحدود‬ ‫والولوج من الظاهر الب�شري �إلى جوهر الوجود‬ ‫وخ��روج المقاومة الفل�سطينية من بيروت عام‬
‫التقليدية الفا�صلة‬ ‫الإن�ساني الحافل بعوالم مليئة بالمفاج�آت)‪.‬‬ ‫(‪ ،)1982‬والأحداث المف�ضية �إلى العدوان على‬
‫بين الرواية والق�صة‬ ‫ن�ستطيع �أن نقول �أي�ض ًا‪� ،‬إن فركوح كثيراً ما‬ ‫بغداد عام (‪ ،)1991‬وغير ذلك من �أحداث اهتز‬
‫لي�صبح الن�ص حالة‬ ‫ي�ستمد من عالم ال�شعر ر�ؤى وتجليات متعددة‬ ‫معها الحلم القومي قبل �أفوله الأخير‪ .‬وكذلك ف�إن‬
‫الإيحاءات‪ ،‬يقدمها في �إطار �سردي يحمل من‬ ‫فركوح‪ ،‬ال ينف�صل في كتابته عن مدن عربية‬
‫تختزن حياة كاملة‬
‫الق�صيدة الر�ؤية والر�ؤيا مع ًا في �آن‪ .‬و�إذا كان‬ ‫عمان والقد�س وبيروت‪ ،‬عا�ش فيها‬ ‫رئي�سية‪ ،‬هي ّ‬
‫بر�ؤية خا�صة‬ ‫ف��رك��وح‪ ،‬ي��ج��اوز ف��ي ���س��رده الإط���ار الحكائي‬ ‫وكتب عنها‪ ،‬و�شيد من خاللها عمارته ال�سردية‬
‫التقليدي في مبناه‪ ،‬ولغته‪ ،‬ف�إنه يفتح ال�سرد‬ ‫التجريبية التي تكثفت جمالياتها بعد البدايات‪.‬‬
‫�أي�ض ًا على ت�أمالت في مغزى الوقائع الم�سرودة‪،‬‬ ‫يرى فركوح‪� ،‬أن الكتابة هي الو�سيلة الوحيدة‬
‫وم��ا تتركه م��ن �أث ��ر ف��ي نفو�س ال�شخ�صيات‬ ‫المتاحة لمحاولة العثور على تف�سير للهزائم‪،‬‬
‫الق�ص�صية‪ ،‬وما تخلفه من هواج�س‪ ،‬وانطباعات‬ ‫والخ�سارات‪ ،‬وتبدد الحلم القومي‪ .‬وعبر الكتابة‬
‫ور�ؤى ت�ساعد على تفجر ال�صور ال�شعرية‪ ،‬وذلك‬ ‫�أي�ض ًا ي�ستطيع ت�أمل الواقع في عمق تفا�صيله من‬
‫على نحو يقترب من تفاعل ال�شاعر مع اللغة عند‬ ‫خالل تفكيكه‪ ،‬لكي يتمكن من �أن يطرح الأ�سئلة‬
‫كتابة الق�صيدة‪.‬‬ ‫الم�ؤرقة على هذا الواقع‪ ،‬وعلى نف�سه في �آن‪،‬‬
‫ي�شتغل على اللغة‬ ‫هي �أي�ضا لغة ذات �أوجه‪ ،‬فهي تارة حادة‪،‬‬ ‫بينما يدرك �أن هذه الأ�سئلة‪ ،‬قد ال تجد �إجابات‬
‫للنفاذ �إلى جوهر‬ ‫ذات حواف‪ ،‬وزوايا �صارمة‪ ،‬وقاطعة‪ ،‬بغير �أدنى‬ ‫�شافية �أو قد ت�ستع�صي على مجرد الطرح خارج‬
‫الكتابة التي تحرر‬ ‫تزايد �أو ا�ستر�سال‪ ،‬وتارة مخاتلة‪ ،‬تلقي بظالل‬ ‫مجال الكتابة‪.‬‬
‫المعطى من داللته‬ ‫المعاني على الكلمة والجملة‪ ،‬فتقترب �أي�ض ًا‬ ‫جدير بالذكر‪� ،‬أن ال�شغل على اللغة هو الإنجاز‬
‫من ال�شعر‪ ،‬وتجذب القارئ‪،‬‬
‫الم�ألوفة‬ ‫وتدعوه �إلى االنتباه �إلى تلك‬
‫الع ْذ َبة‬
‫الرهافة ال��ج��ارح��ة‪َ ،‬‬
‫الم َع ّذبة التي تذهب بالن�ص‬ ‫ُ‬
‫نحو �أبعاد و�آفاق بغير حدود‪.‬‬
‫وع��ل��ى ال��رغ��م م��ن غياب‬
‫�شم�س الأمل في �أعمال �إليا�س‬
‫فركوح‪ ،‬ف�إن كتاباته ت�ضيء‬
‫�سماء �سرد عربي‪ ،‬خارج من‬
‫وح�شة العمر‪ ،‬وعذابات �ضياع‬
‫اليقين �إلى نور الفن الجميل‪.‬‬ ‫د‪ .‬محمد دكروب‬ ‫في�صل دراج‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪66‬‬


‫مقاالت‬
‫ر�أي‬

‫العزلة و�أدب ال�سكون‪..‬‬

‫حاتم عبدالهادي ال�سيد‬

‫اتخذها بع�ض الأدب��اء والفال�سفة لإعادة‬ ‫ي��ب��دو �أن ال��ع��زل��ة ه��ي �أك��ث��ر الأ���ش��ي��اء‬
‫االعتبارية للذهنية‪ ،‬ل��ل��ذات التي تن�شد‬ ‫�إمتاع ًا في ع�صرنا الحالي‪ ،‬ويبدو �أي�ض ًا‬
‫�أدب ال�سكون �أو ال�صمت هو‬ ‫الف�ضيلة‪ ،‬وتبحث عن اليقين والبرهان‪ ،‬في‬ ‫�أنها يمكن �أن تكون دافع ًا لإيجاد �أدب‬
‫�أدب عالمي معروف وو�سيلة‬ ‫زمن تف�شت فيه �أوبئة كبرى مثل‪ :‬الكذب‪،‬‬ ‫ال�سكون‪ ،‬ال�صمت‪� ،‬أدب الهدوء‪ ،‬والولوج الى‬
‫اتخذها الأدباء لتطهير‬ ‫ال��خ��داع‪ ،‬ح��ب ال���ذات‪ ،‬التعالي وغيرها‬ ‫عالم الذات عبر مجتمعات �أ�صبحت العزلة‬
‫الذات‬ ‫من الأمرا�ض والأوبئة االجتماعية التي‬ ‫فيها ح�صافة‪ ،‬والبعاد حكمة‪ ،‬وال�صمت‬
‫تطاول كورونا‪ ،‬فهي �أكبر من الطاعون‪،‬‬ ‫بالغة فوق البالغة المعروفة‪.‬‬
‫والكوليرا وكورونا وغيرها‪.‬‬ ‫ولعلنا نلوذ بال�صمت‪ ،‬بالجلو�س في‬
‫هاربين من كوليرا‪� ،‬أو من كوفيد‪� ،‬أو من‬ ‫ن��ع��ود ال��ى �أدب االع ��ت ��زال‪� ،‬أدب��ي��ات��ه‬ ‫ال��م��ن��ازل‪ ،‬باالبتعاد ع��ن مخالطة الكل‪:‬‬
‫ط��اع��ون‪ ،‬ب��ل ك��ان��وا ه��ارب��ي��ن م��ن ال��ذات‬ ‫وفوائده‪ ،‬فهو كال�صمت ف�ضيلة كبرى‪ ،‬وهو‬ ‫الأ�صدقاء‪ ،‬الأع ��داء‪( ،‬الأع��دق��اء)‪ ،‬وتجيء‬
‫�إليها‪ ،‬ومن المجتمع �إليه‪ ،‬ومن الواقع �إلى‬ ‫�أحد �أنواع النظر والت�أمل في الكون والعالم‬ ‫ك��ورون��ا لتفر�ض العزلة الق�صرية على‬
‫عوالم متخيلة‪ ،‬مبتغاة‪ ،‬لذا كانت المدينة‬ ‫وال��ح��ي��اة‪ ،‬وه��و خرقة ال�صوفي‪ ،‬وب��ردة‬ ‫العزلة االختيارية التي ي�صنعها الكاتب �أو‬
‫الفا�ضلة عند �أفالطون مدينة مثالية‪ ،‬مثل‬ ‫المحبين‪ ،‬وبالغة الحكماء والفال�سفة‪.‬‬ ‫ال�شاعر لنف�سه‪ ،‬فهو ينف�صل عن المجتمع ‪-‬‬
‫الجنة والفردو�س الأع��ل��ى‪ :‬كل في �شغل‬ ‫ومن فوائد و�أدب��ي��ات العزلة التوقف مع‬ ‫ظاهري ًا ‪ -‬لكنه متوا�شج معه في ق�ضاياه‪،‬‬
‫فكهون‪ ،‬ولكننا اليوم‪ :‬كل في �شغل وحيرة‪،‬‬ ‫النف�س ومحا�سبتها‪ ،‬والوقوف �إلى مو�ضع‬ ‫ومع ذلك ال ي�شارك‪ ،‬ي�صمت‪ ،‬يتابع‪ ،‬وهو‬
‫هلع من مجهولية الموت والمر�ض‪ ،‬عبر‬ ‫يقيم فيها ذاته‪ ،‬ويقوم ما‬ ‫قدم للإن�سان‪ّ ،‬‬ ‫ف��ي برجه العاجي ال��ذي ابتناه نا�شداً‬
‫كمامات التقية‪ ،‬وعبر مالحقة الف�ضائيات‬ ‫اع��وج ف��ي حياته و�سلوكياته‪ ،‬يحا�سب‬ ‫الهدوء‪ ،‬واالختالء مع الذات‪.‬‬
‫لمتابعة �أخبار المر�ض العالمي الكوني‪:‬‬ ‫نف�سه‪ ،‬ويعيد برمجة عقله و�سلوكياته‬ ‫�إن �أدب ال�سكون‪� ،‬أو �أدب ال�صمت‪،‬‬
‫�أعداد الم�صابين‪ ،‬حاالت الوفيات‪� ،‬أخبار‬ ‫الم�ستقبلية‪ ،‬ويقيد ذاته ليكبح جماحها‪،‬‬ ‫ه��و �أدب عالمي م��ع��روف‪ ،‬وه��و و�سيلة‬
‫م��ن ت��م ح�صرهم‪ ،‬و�أ���ص��ب��ح ال��خ��وف هو‬ ‫وليقرر ما يريد وما ال يريد‪ ،‬وما يلزم وما‬
‫الم�سيطر على الفرد والمجتمع والكون‬ ‫ال يلزم‪ ،‬ففي ال�صمت بالغة ال�س�ؤال‪ ،‬وقوة‬
‫والحياة‪ ،‬ولم نرجع �إلى الخالق كي ننجو‬ ‫االحتمال‪ ،‬والركون الى الهدوء وال�صفاء‬ ‫من فوائد العزلة التوقف‬
‫برحمته‪ ،‬وكي تتفتح لنا الطرق ون�سعى‬ ‫النف�سي المن�شود‪.‬‬ ‫مع النف�س ومحا�سبتها‬
‫�إل��ى ال�سالم النف�سي‪ ،‬وال��ه��دوء المن�شود‪،‬‬ ‫لقد �أنتج الكتاب الكبار ابداع ًا �إن�ساني ًا‬ ‫وتقرير ما تريد وما ال‬
‫وال�سالم النف�سي واالجتماعي‪.‬‬ ‫لا‪ ،‬وه��م ف��ي عزلتهم‪ ،‬ول��م يكونوا‬ ‫ه��ائ� ً‬ ‫تريد‬

‫‪67‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫يتطلب الخبرة الفنية والفكرية‬

‫العيد جلولي‪� :‬أدب الطفل‬


‫غاياته تربوية جمالية‬
‫الأطفال دورة (‪2010‬م)‪ .‬و(ق�ص�ص الأطفال‬ ‫البروفي�سور العيد جلولي عميد كلية‬ ‫ت��ح��دث ال��ب��اح��ث‬
‫بالجزائر درا�سة في الأدب الجزائري الموجه‬ ‫الأدب العربي بجامعة ورقلة بالجنوب‬ ‫ف��ي �أدب الطفل‬
‫للأطفال)‪� ،‬سنة (‪2013‬م)‪ .‬و(درا�سات نقدية‬ ‫الجزائري‪� ،‬شارك في �أن�شطة ثقافية عربية‬
‫في �أدب الطفل التون�سي)‪ .‬ويكرم الباحث‬ ‫للطفل في ال�شارقة وتون�س ودول �أجنبية‪،‬‬
‫ال���ب���روف���ي�������س���ور‬
‫جلولي بجائزة بمنا�سبة طبع كتابه على‬ ‫�صدرت له م�ؤلفات عديدة‪ ،‬منها (الن�ص‬ ‫العيد جلولي عن‬
‫هام�ش توزيع ه��ذه الجائزة بتون�س في‬ ‫الأدب����ي ل�ل�أط��ف��ال ف��ي ال��ج��زائ��ر‪ :‬درا���س��ة‬ ‫ج��م��ال��ي��ات �أدب‬
‫مطلع �أبريل المقبل‪.‬‬‫تاريخية فنية في فنونه ومو�ضوعاته) �سنة‬ ‫أحمد‬ ‫�‬ ‫أميمة‬ ‫�‬ ‫د‪.‬‬
‫الطفل‪ ،‬و�أنه يرى‬
‫�ضرورة وجود م�شروع ثقافي متكامل‪ ،)2003( ،‬و(الن�ص ال�شعري الموجه للأطفال‬
‫في الجزائر ‪ -‬درا�سة) ‪ ،)2008( -‬والفائز ¯ ظهر �أدب الطفل بالجزائر في ال�سبعينيات‬
‫بجائزة عبدالحميد �شومان في مجال �أدب عبر من�شورات الم�ؤ�س�سة الوطنية للن�شر‬
‫ي��ح��ت��وي ف��ي ج��وف��ه �أدب ال��ط��ف��ل‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪68‬‬


‫مقابلة‬

‫والتوزيع‪ .‬قبل ذلك �أل��م تكن هناك كتابات‬


‫للطفل؟‬
‫‪ -‬الكتابة للطفل في الجزائر تعود �إلى فترة‬
‫اال�ستعمار‪ ،‬وخ�صو�ص ًا عندما بد�أ يت�شكل الوعي‬
‫القومي للأمة الجزائرية والمرتبط بالنه�ضة‬
‫العربية في الم�شرق‪ ،‬ففي الربع الأول من‬
‫القرن الع�شرين ظهرت حركة الإ�صالح الوطنية‬
‫بزعامة ال�شيخ عبدالحميد بن بادي�س ذات‬
‫التوجه القومي الديني‪ ،‬وبد�أت ت�ؤ�س�س المدار�س‬
‫العربية الحرة وتر�سل البعثات العلمية لتكوين‬
‫المعلمين �إلى تون�س وم�صر والعراق و�سوريا‬
‫والكويت وال�سعودية‪ ،‬وف��ي ظل ه��ذه البيئة‬
‫الإ�صالحية وفي مدار�سها ومعاهدها بد�أت‬
‫تت�شكل مالمح �أدب طفل جزائري مت�أثراً بهذه‬
‫البيئة‪ ،‬ومحقق ًا لغاياتها و�أهدافها؛ وكان معظم‬
‫من�شئيه في بداية الأمر من معلمي المدار�س‬
‫العيد جلولي مع العربي بنجلون داخل‬
‫مكتبة ب�سوق الدباغين في تون�س‬ ‫ع��دي��دة‪ ،‬ولأن ال��ظ��روف التي كانت تعي�شها‬ ‫الحرة يبتغون من خالله تحقيق غايات تربوية‬
‫الجزائر في تلك الفترة‪ ،‬خ�صو�ص ًا في الن�صف‬ ‫ومقا�صد �أخالقية‪ ،‬ومن دالئل احتكاك قادة‬
‫الأول من القرن الع�شرين كانت �أن�سب لظهور‬ ‫جمعية العلماء الم�سلمين الجزائريين بحركة‬
‫فن ال�شعر �سواء للكبار �أو ال�صغار‪ ،‬فمعظم الرواد‬ ‫الت�أليف في مجال �أدب الطفل في الم�شرق‬
‫ال�شارقة ت�ستحق‬ ‫الأوائل‪ ،‬الذين �أثروا الحركة الأدبية ب�إنتاجهم‪،‬‬ ‫العربي عثورنا على ن�صين نادرين للعالمة‬
‫كانوا �شعراء‪ ،‬كما كانوا دعاة �إ�صالح ديني‬ ‫ال�شيخ محمد الب�شير الإبراهيمي‪ ،‬ي�شيد فيهما‬
‫لقب عا�صمة الثقافة‬
‫واجتماعي‪.‬‬ ‫ب��رائ��د �أدب الطفل العربي كامل الكيالني‪،‬‬
‫العربية في م�سيرتها‬ ‫الن�ص الأول���ى ع��ب��ارة ع��ن ر�سالة بعث بها‬
‫الرائدة برعاية‬ ‫¯ من هم رواد الحركة الأدبية في تلك الحقبة؟‬ ‫ال�شيخ الإبراهيمي من بغداد �إلى الأ�ستاذ كامل‬
‫�سلطان الثقافة‬ ‫‪ -‬ع��ن��دم��ا ن��ع��ود �إل����ى م ��ا ك���ان يكتبه‬ ‫كيالني بتاريخ (‪1952‬م)‪ ،‬والن�ص الثاني‬
‫والفكر‬ ‫معلمو و�شيوخ المدار�س الإ�صالحية‪ ،‬نجد‬ ‫مقالة ن�شرها الإبراهيمي في �صحيفة (الأيام)‬
‫ن�صو�ص ًا �شعرية كثيرة موجهة لأط��ف��ال‬ ‫ال�صادرة بدم�شق بتاريخ (‪ 12‬يوليو ‪1956‬م)‬
‫المدار�س وفتيانها‪ ،‬وكلها تهدف �إلى تحقيق‬ ‫تحت عنوان (الكيالني‪ :‬باني الأجيال)‪.‬‬
‫غايات تعليمية‪ ،‬و�أه��داف تربوية‪ ،‬ومقا�صد‬ ‫والحقيقة �أنه من ال�صعوبة البالغة محاولة‬
‫�أخالقية؛ ولعل �أق��دم ه��ذه الن�صو�ص‪ ،‬يعود‬ ‫تحديد تاريخ معين لبداية هذا اللون من الكتابة‬
‫�إلى الثالثينيات من القرن الع�شرين‪ ،‬ففي تلك‬ ‫في الجزائر‪ ،‬غير �أن ال�شعر الموجه للأطفال‬
‫الفترة نظـم ال�شاعـر محمد العيـد �آل خليفة‬ ‫كان �أ�سبق في الظهور من الن�ص النثري‪ ،‬نظراً‬
‫الكتابة للطفل بد�أت‬ ‫مجموعة من الق�صائد ال�شعرية موجهة لأطفال‬ ‫�إلى �أن فن ال�شعر هو الفن المتوارث من �أجيال‬
‫تت�شكل في الجزائر‬ ‫المدار�س‪ ،‬والمت�صفح لديوان محمد‬
‫مع احتكاك قادة‬ ‫العيد‪ ،‬يلحظ وج��ود ق�صائد كثيرة‬
‫جمعية العلماء‬ ‫ت ��دور مو�ضوعاتها ح��ول ال�شباب‬
‫والأطفال‪ ،‬ومن �شعراء الطفولة �أي�ض ًا‬
‫بحركة الت�أليف في‬ ‫ال�شيخ محمد الطاهر التليلي‪ ،‬وال�شيخ‬
‫الم�شرق العربي‬ ‫محمد بن العابد الجاللي‪ ،‬والأ�ستاذ‬
‫محمد ال�صالح رم�����ض��ان‪ ،‬وال�شيخ‬
‫�أحمد �سحنون‪ ،‬وال�شاعر ال�شيخ محمد‬
‫اللقاني ب��ن ال�سايح‪ ،‬و�أب ��و بكر بن‬
‫رح��م��ون‪ ،‬وع��ب��دال��رح��م��ن بالعقون‪،‬‬
‫ومحمد الهادي ال�سنو�سي الزاهري‪،‬‬
‫من م�ؤلفاته للأطفال‬

‫‪69‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫الأعلى حاكم ال�شارقة‪،‬‬ ‫وجلول ال��ب��دوي‪ ،‬ومحمد ال�شبوكي‪ ،‬والربيع‬
‫ورع��اي��ة قرينته �سمو‬ ‫بو�شامة‪ ،‬وعبدالكريم العقون‪ ،‬و�أب��و القا�سم‬
‫ال�شيخة ج��واه��ر بنت‬ ‫خمار‪ ،‬وعمر البرناوي‪ ،‬ومفدي زكريا‪ ،‬ومو�سى‬
‫م��ح��م��د ال��ق��ا���س��م��ي‪،‬‬ ‫الأحمدي نويوات وغيرهم‪.‬‬
‫رئ ��ي ��� ��س ��ة ال��م��ج��ل�����س‬ ‫وبعد اال�ستقالل‪ ،‬بد�أت في الجزائر حركة‬
‫الأعلى ل�ش�ؤون الأ�سرة‬ ‫�أدبية جديدة‪ ،‬و�أخ��ذت البالد تتغير مالمحها‬
‫ف��ي �إم����ارة ال�����ش��ارق��ة‪،‬‬ ‫نحو الأف�ضل‪ ،‬فانت�شر التعليم‪ ،‬وانت�شرت معه‬
‫وق����د ح�����ض��رت دورة‬ ‫حركة ثقافية‪ ،‬حاولت تعوي�ض �سنوات التخلف‬
‫محمد ب�شير الإبراهيمي‬ ‫عبدالحميد بن بادي�س‬ ‫(‪2014‬م) و���ش��ارك��ت‬ ‫التي فر�ضها اال�ستعمار الفرن�سي على ال�سكان‪،‬‬
‫ف��ي ن ��دوة ح��ول كتاب‬ ‫وكان التركيز يومئ ٍذ من�صب ًا على �أدب الكبار‬
‫الطفل مع مجموعة من‬ ‫وثقافتهم‪ ،‬ول��م يهتم �أح��د بثقافة الأط��ف��ال‬
‫المتخ�ص�صين في مجال‬ ‫و�أدب��ه��م �إال ف��ي ال�سبعينيات‪ ،‬حين �شرعت‬
‫الطفولة‪ ،‬وتلعب ال�شيخة‬ ‫الم�ؤ�س�سة الوطنية للكتاب وقتئ ٍذ في ن�شر هذا‬
‫ب��دور بنت �سلطان بن‬ ‫الأدب واالهتمام به‪ ،‬فظهر كثير من الكتاب‬
‫محمد القا�سمي‪ ،‬هي‬ ‫وال�شعراء ي�ضيق هذا الحوار على ذكرهم جميع ًا‪.‬‬
‫الأخرى دوراً مهم ًا في‬
‫م��ج��ال ال��ث��ق��اف��ة‪ ،‬فهي‬ ‫¯ �شاركت في مهرجان ال�شارقة القرائي للطفل‪،‬‬
‫مفدى زكريا‬ ‫كامل الكيالني‬ ‫رئي�سة هيئة ال�شارقة‬ ‫كيف ترى اهتمام ال�شارقة في �أدب وكتاب‬
‫لال�ستثمار والتطوير‬ ‫الطفل؟‬
‫(� ��ش ��روق)‪ ،‬والم�ؤ�س�س وال��رئ��ي�����س التنفيذي‬ ‫‪ -‬في البدء ال بد �أن نذكر �أمراً مهم ًا وهو‬
‫لمجموعة (كلمات)‪ ،‬وهي �أول دار ن�شر �إماراتية‬ ‫�أن اختيار ال�شارقة عا�صمة عالمية للكتاب‬
‫متخ�ص�صة ح�صري ًا بن�شر كتب الأطفال في‬ ‫لعام (‪2019‬م) لم ي�أت من فراغ‪ ،‬بل هو تتويج‬
‫اللغة العربية‪ ،‬وهي �أول عربية تفوز بمن�صب‬ ‫لم�سيرة طويلة من العمل الثقافي الذي انتهجته‬
‫معلمو المدار�س‬ ‫نائب رئي�س االتحاد الدولي للنا�شرين‪ ،‬ولها‬ ‫الإم��ارة‪ ،‬ويكفي �أن نذكر �أن معر�ض ال�شارقة‬
‫توجهوا في البداية‬ ‫اهتمام كبير بكتاب الطفل‪.‬‬ ‫الدولي للكتاب‪ ،‬يحتل المرتبة الثالثة في العالم‬
‫والحقيقة �أن ال�شارقة ت�ستحق لقب عا�صمة‬ ‫ك�أكبر معر�ض دولي للكتاب‪ ،‬وهو ي�ست�ضيف‬
‫ب�أ�شعارهم �إلى �أطفال‬
‫الثقافة العربية‪ ،‬بما تقدمه م��ن �إن��ج��ازات‬ ‫نحو �أل��ف وخم�سمئة نا�شر من مختلف دول‬
‫المدار�س لتحقيق‬ ‫ثقافية‪ ،‬ي�صعب في هذه العجالة الحديث عنها‬ ‫ال��ع��ال��م‪ ،‬و�أم���ا م��ه��رج��ان ال�����ش��ارق��ة القرائي‬
‫غايات تعليمية‬ ‫في اللغة والمعاجم والم�سرح والكتاب‪ ،‬وهي‬ ‫للطفل فهو مهرجان كبير يقام ب�شكل �سنوي‬
‫تربوية‬ ‫م�سيرة رائ��دة في ظل رعاية �سلطان الثقافة‬ ‫بتوجيهات �صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور‬
‫والفكر‪.‬‬ ‫�سلطان بن محمد القا�سمي ع�ضو المجل�س‬

‫¯ الكتابة لعالم الطفولة‬


‫الزاهي بفرا�شات الأحالم‪..‬‬
‫كيف يلج ال��ك��ات��ب هذا‬
‫الكتابة للأطفال‬ ‫العالم الغام�ض في الن�ص‬
‫�سرداً �أو �شعراً؟‬
‫تتطلب المعرفة‬ ‫‪ -‬الكتابة للأطفال‬
‫بعالم الطفولة‬ ‫ت��ت��ط��ل��ب م��ع��رف��ة بعالم‬
‫والخبرة والن�ضج‬ ‫ال��ط��ف��ول��ة وم�لاب�����س��ات��ه‬
‫الفني‬ ‫المختلفة‪ ،‬وه��ي كتابة‬
‫لها خ�صو�صيتها‪ ،‬ونتيجة‬
‫لهذا ذه��ب بع�ض النقاد‬
‫والم�شتغلين ب�أدب الطفل‪،‬‬
‫�إل���ى �أن �أدب الأط��ف��ال‬
‫العيد جلولي في �إحدى الندوات‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪70‬‬


‫مقابلة‬

‫�أدب �صعب‪ ،‬ووجه ال�صعوبة فيه هو �أن ي�ضع‬


‫كاتب الأطفال في ح�سابه كثيراً من التقنيات‪،‬‬
‫وير�صد �إزاء ذهنه كثيراً من الحقائق التي ال‬
‫تقبل الجدل‪ ،‬وم��ن ه��ذه الحقائق والتقنيات‬
‫مراعاة الم�ستوى العمري والفكري واللغوي‬
‫والنف�سي وغير ذلك؛ ولهذا فالكتابة للأطفال‬
‫ت�أتي في الذروة‪ ،‬ذروة التعبير‪ ،‬ذروة الخبرة‪،‬‬
‫ذروة الن�ضج الفني‪ ،‬ولي�س من قبيل الم�صادفة‬
‫�أن كبار الأدباء في العالم‪ ،‬اتجهوا �إلى الطفولة‬
‫وكتبوا لها‪ ،‬بعد �أن تربعوا على قمة المجد‬
‫وال�شهرة‪ ،‬و�أع��ط��وا معظم ما �أع��ط��وا للكبار‪.‬‬
‫ور�شة �أطفال من معر�ض ال�شارقة الدولي للكتاب‬ ‫ففي الأدب الغربي �أ�سماء بارزة كتبت ال�شعر‬
‫للأطفال‪� ،‬أمثال ال�شاعر ت‪�.‬س‪� .‬إليوت‪ ،‬و�ألك�سندر‬
‫بو�شكين‪ ،‬وفي الأدب العربي �أمثال �أحمد �شوقي‬
‫و�سليمان العي�سى‪ ،‬ومحمد الأخ�ضر ال�سائحي‪.‬‬
‫ومجمل ال��ق��ول ف��ي ه��ذا ال��م��و���ض��وع‪ ،‬هو‬
‫�أن �أدب الأطفال يت�سم بخ�صو�صيات ت�ضبط‬
‫المبدعين في هذا المجال‪ ،‬وتجعلهم في حالة‬
‫وعي بالمراحل العمرية التي يمر بها الأطفال‪،‬‬
‫والمو�ضوعات التي يتجاوب معها ه ��ؤالء‪،‬‬
‫�إ�ضافة �إل��ى االعتبارات التربوية والنف�سية‪،‬‬
‫وهذا ال يعني الت�ضحية بالأ�س�س والمقومات‬
‫الجمالية‪ ،‬فهذا الأدب عمل فني جمالي قبل �أن‬
‫يكون عم ًال تربوي ًا تعليمي ًا‪.‬‬
‫من مدار�س الأطفال في الجزائر‬
‫(الأدب التفاعلي الموجه للأطفال)‪ ،‬ثم طورت‬ ‫¯ لماذا ي�شكو النا�شرون الجزائريون قلة الن�ص‬
‫تلك المداخلة في بحث ون�شرته بمجلة (الأثر)‬ ‫الق�ص�صي للأطفال؟ و�أين الق�صور حتى يحدث‬
‫ال�صادرة عن كلية الآداب واللغات بجامعة‬ ‫هذا الفراغ؟‬
‫�شهدت الجزائر بعد‬ ‫ورقلة بالجزائر‪ ،‬وعنوانها (نحو �أدب تفاعلي‬ ‫‪ -‬غياب الت�شجيع ي�ؤدي �إلى غياب الن�ص‬
‫للأطفال) تحدثت فيها عن الن�شر الإلكتروني‬ ‫الجميل‪ ،‬وع��دم وج��ود حوافز م��ادي��ة‪ ،‬يجعل‬
‫اال�ستقالل حركة‬ ‫والكتاب الرقمي‪ ،‬وعن المواقع التفاعلية على‬ ‫ال��ك��ت��اب المحترفين ي��زه��دون ف��ي الكتابة‬
‫�أدبية متقدمة في‬ ‫�شبكة الإنترنت‪ ،‬وعن الو�سائط الرقمية‪ ،‬وتتبعت‬ ‫للأطفال‪ ،‬و�أي�ض ًا غياب م�شروع مجتمعي ُي� ِؤمن‬
‫�أدب الكبار وال�صغار‬ ‫جملة من المواقع على ال�شبكة المتخ�ص�صة في‬ ‫بالطفولة ك�صانعة للم�ستقبل‪ ،‬كل هذا ي�ؤدي الى‬
‫ثقافة و�أدب الطفل‪ ،‬وخل�صت �إل��ى �أن الطفل‬ ‫فراغ محزن في مجال الكتابة للأطفال‪ ،‬ومن‬
‫محا�صر اليوم بهذه المواقع والتي يميل �إليها‬ ‫ثم ي�شكو النا�شرون قلة الن�صو�ص الجميلة‪،‬‬
‫الطفل‪ ،‬بحكم �أنها ت�ستخدم ال�شا�شة الزرقاء‬ ‫التي ت�ستجيب لمتطلبات الطفولة‪.‬‬
‫والو�سائط الرقمية وت�ستثمر اللون والمو�سيقا‪،‬‬ ‫�أما مواطن الق�صور في �أدب الطفل‪ ،‬فهي‬
‫البد من تبني‬ ‫وال�ضوء‪ ،‬وهي �أدوات ت�شد �إليها الطفل‪ ،‬ولهذا‬ ‫في غياب ا�ستراتيجية ترعاها الدولة‪ ،‬وت�شرف‬
‫م�شاريع خا�صة ب�أدب‬ ‫ال بد من و�ضع برامج خا�صة ومراقبة ذكية‪،‬‬ ‫عليها‪ ،‬وتهتم بالطفولة من جميع النواحي‪،‬‬
‫الطفل �أمام هيمنة‬ ‫حتى ال نترك الطفل يتخلى عن الكتاب الورقي‪،‬‬ ‫ون�أمل �أن تتحقق هذه اال�ستراتيجية‪ ،‬و�أن يكون‬
‫وفي الوقت نف�سه‪ ،‬ن�شجعه على ا�ستغالل هذه‬ ‫لنا كما لغيرنا مجل�س �أعلى للطفولة‪.‬‬
‫الن�شر الإلكتروني‬
‫الو�سائط من دون تطرف وال �إدمان‪ ،‬والحقيقة‬
‫�أن هذا المو�ضوع يتطلب الدرا�سة والتحليل‪،‬‬ ‫¯ نحن في ع�صر الـ(�سو�شيال ميديا) والن�شر‬
‫حتى ن�ضمن لأطفالنا م�ستقب ًال في عالم ي�شهد‬ ‫الإلكتروني‪� ..‬أين موقع الطفل العربي من هذا؟‬
‫�صراعات كثيرة وتحديات خطيرة‪.‬‬ ‫‪ -‬منذ �سنة (‪2000‬م) قدمت مداخلة بعنوان‬

‫‪71‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫النجاة من‬
‫ُحرفة الأدب‬ ‫د‪ .‬حاتم ال�صكر‬

‫من ت�سا�ؤالت �أجاب عنها غيالن‪ ،‬ا�ستوقفني‬ ‫لطالما �ضج الأدب����اء وال��ف��ن��ان��ون عبر‬
‫���س ��ؤال ع��ن تف�سير ات��ج��اه غ��ي�لان للدرا�سة‬ ‫التاريخ بال�شكوى مما ي�صيبهم في حياتهم‬
‫العلمية وعمله مهند�س ًا‪ ،‬خالف المتوقع من‬ ‫م��ن �ضنك و�ضيق‪ .‬وق��د ت��ن��وع ذل��ك العنت‬
‫ابن ل�شاعر عربي‪� ،‬أ�سهم في تجديد الق�صيدة‪،‬‬ ‫والتهمي�ش من مجتمعاتهم و�سلطاتها النافذة‪،‬‬
‫و�صارت له في ال�شعرية العربية مكانة بارزة‪،‬‬ ‫لي�شمل ح�صار �إبداعهم �أو م�صادرته ومنعه‪،‬‬
‫بل تخطى عمله وطنه والبالد العربية‪ ،‬وغدا‬ ‫ومالحقتهم بعد قوله �أو ن�شره‪ ،‬ثم ت�أتي �سلطة‬
‫�شاعراً معروف ًا في العالم‪ ،‬عبر ترجمة �أعماله‪،‬‬ ‫العرف نف�سه‪ ،‬حيث ينالهم من اعترا�ضات‬
‫وما ُكتب من درا�سات �أكاديمية ونقدية حول‬ ‫مجتمعهم على �أفكارهم وتجلياتها الن�صية‪،‬‬
‫�شعره‪� ،‬أجاب غيالن ب�أن ما دفعه للدرا�سة‬ ‫�أو تعامله معهم بدون ما ي�ستحقون‪.‬‬
‫�أ�شد ما يتعر�ض له‬ ‫العلمية بعيداً عن الأدب‪ ،‬هو ما جرى لوالده‬ ‫لكن �أ�شد ما تعر�ض له الك ّتاب والأدب��اء‬
‫في حياته من �شظف العي�ش والتهمي�ش‪ ،‬وما‬ ‫ف��ي حياتهم ه��و �سلب حقوقهم الفكرية‪،‬‬
‫الك ّتاب والأدباء‬ ‫�صرح بها في ق�صائده‪،‬‬‫ناله من ظلم و(ق�سوة) ّ‬ ‫وتجاهل �أو�ضاعهم‪ ،‬ودفعهم �إلى االفتقار‪،‬‬
‫هو �سلب حقوقهم‬ ‫ي�شخ�ص هذه الق�سوة‬
‫بل جعلته ت�أثراً وغ�ضب ًا ّ‬ ‫وحرمانهم من �أي تميز �أو تعامل ع��ادل‪..‬‬
‫الفكرية‬ ‫حتى لدى �أهله وحبيباته‪ .‬ربما لم يكن توجه‬ ‫ف�ض ًال عن المظالم التي وقعت عليهم‪ ،‬فلم‬
‫غيالن للعلم اختياراً واعي ًا ب�شكل متكامل في‬ ‫ينالوا �أي تكريم م�ستحق ي�ضعهم في الذاكرة‬
‫حينه‪ ،‬وال �صادراً عن �إدراك ت��ام‪ ،‬لكنه في‬ ‫الوطنية لبلدانهم‪ ،‬عبر تخليدهم في ن�صب‬
‫دالالته يرينا هول ما ي�صيب المبدع والمفكر‬ ‫وتماثيل منا�سبة‪ ،‬واعتماد �أماكن درا�ستهم‬
‫في �أوطاننا؛ يناله الحيف‪ ،‬وتحاربه ال�سلطة‬ ‫وعي�شهم �أماكن تذكارية ترعاها الم�ؤ�س�سات‬
‫والمجتمع لتحرمه م��ن وظيفته‪ ،‬وتراقب‬ ‫ون�شرها‪� ،‬أو �إحياء‬
‫وجمع م�ؤلفاتهم ْ‬ ‫الثقافية‪ْ ،‬‬
‫نتاجه‪ ،‬وال يتلقى من مجتمعه ما ينا�سب‬ ‫ذكراهم ودرا�سة �أعمالهم؛ و�سوى ذلك من‬
‫جهده‪ ،‬وتذهب حقوقه نهب ًا لج�شع النا�شرين‬ ‫�سبل االحتفاء المعنوي بهم‪ ،‬ما يمكن �أن يعد‬
‫وهو�سهم بالبيع والت�سويق‪.‬‬ ‫احتفاء بالثقافة والفكر‪ ،‬وت�شجيع الأفراد على‬
‫ل��م ي��ن��ل ال�����س��ي��اب خ�ل�ال رح��ل��ة حياته‬ ‫االحتذاء بهم‪.‬‬
‫و�سجن‬
‫ٌ‬ ‫مبكر‬
‫ٌ‬ ‫يتم‬
‫الق�صيرة �إال العذاب والعناء؛ ٌ‬ ‫تلك �أفكار عادت لت�شغلني‪ ،‬و�أنا �أتابع ندوة‬
‫وف�ص ٌل م��ن الوظيفة‪ ،‬وم��ر���ض ل��م يجد من‬ ‫تفاعلية �أقامها برنامج (كتاب مفتوح) ال�شهر‬
‫ي�شفيه منه‪ ،‬وعداء من رفاقه‪ ،‬وتهم وت�صغير‬ ‫الما�ضي‪ ،‬وكان ال�ضيف على مدى حلقتين هو‬
‫و�شائعات تم�س حياته ال�شخ�صية‪ ،‬ف�ض ًال‬ ‫غيالن االبن الأكبر لل�شاعر بدر �شاكر‬
‫عن وطنيته‪ .‬يذكر غيالن �أن �أ�سرته لم تكن‬ ‫ال�سياب‪ .‬ومن �ضمن ما طرح في الندوة‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪72‬‬


‫كلمات‬

‫الخالفة التي ن�ش�أ فيها‪ ،‬وتج�سدت الرفاهية‬ ‫م�ستقرة في �سكن‪ ،‬وعا�شت في بيوت م�ؤجرة‬
‫في ت�شبيهاته و�صوره‪ ،‬لكن ال�شعر لم ي�ؤهله‬ ‫�أو حكومية‪� ،‬سرعان ما ُطلب منهم مغادرتها‬
‫للخالفة و�أطيح به‪ ،‬وثمة من ا�ضطرتهم الفاقة‬ ‫بعد وفاة والده‪.‬‬
‫و�أدركتهم الحرفة فعمدوا �إلى االنتحار‪� ،‬أو �إلى‬ ‫م�س حياة ال�سياب‬ ‫وك��ان الإه��م��ال ق��د َّ‬
‫هجر الكتابة والت�أليف‪ .‬وق��د و�صلت ب�أبي‬ ‫كلها‪ ،‬وانتهى به الأمر متنق ًال بين م�ست�شفيات‬
‫غيالن بدر �شاكر‬ ‫حيان التوحيدي حال ال�ضيق �أنه �أحرق كتبه‬ ‫العوا�صم حتى مات غريب ًا‪ .‬وليته �سلم من‬
‫ال�سياب اتجه �إلى‬ ‫في عملية انتحار رمزي احتجاج ًا على ما‬ ‫الظلم والعنت بعد موته‪ ،‬فبح�سب ما قال‬
‫الدرا�سة العلمية‬ ‫قوبل به من رف�ض وتهمي�ش‪ .‬فقال في ر�سالة‬ ‫(غ��ي�لان)‪ ،‬عند طبع �أع��م��ال��ه الكاملة بعد‬
‫بعيداً عن معاناة �أبيه‬ ‫جوابية �إلى من المه على حرق كتبه‪� ،‬شاكي ًا‬ ‫�سنوات من وفاته‪ ،‬لم تت�سلم الأ�سرة الحقوق‬
‫الأدبية والحياتية‬ ‫مما لقيه (كيف �أتركها لأن��ا���س جاورتهم‬ ‫المن�صو�صة في العقد مع الدار النا�شرة‪� ،‬إال‬
‫ع�شرين �سنة‪ ،‬فما �صح لي من �أحدهم وداد؟‬ ‫بعد �سنين وبتدخل ر�سمي من وزارة الثقافة‬
‫وال ظهر لي من �إن�سان منهم حفاظ‪ ،‬ولقد‬ ‫توا�ص َل ن�شر الطبعات الالحقة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫العراقية‪ ،‬كما‬
‫ا�ضطررت بينهم بعد ال�شهرة والمعرفة في‬ ‫من دون الوفاء ب� ّأي من م�ستحقات الأ�سرة‪،‬‬
‫�أوقات كثيرة‪� ،‬إلى �أكل الخ�ضر في ال�صحراء‪،‬‬ ‫كما هو معتاد في �أعراف �إعادة الن�شر‪.‬‬
‫و�إلى التكفف الفا�ضح عند الخا�صة والعامة)‪.‬‬ ‫مقاالت كتبها ال�سياب في حالة توتر‬
‫وتمثل ه��ذه الر�سالة عندي دف��اع� ًا عن‬ ‫وت��ج��اذب م��ع الآخ��ري��ن‪ ،‬ن�شرتها دار ن�شر‬
‫المحروفين والمعذبين في زمنهم‪ ،‬وو�سط‬ ‫معروفة دون ا�ستئذان م��ن ورث��ة ال�سياب‪،‬‬
‫من ال ي��ق��درون عملهم‪ ،‬ويتركونهم للفاقة‬ ‫ودون عقد يو�ضح الحقوق بال�ضرورة‪..‬‬
‫التي �أجبرته وهو في العقد العا�شر من عمره‬ ‫مقاالت لم ين�شرها في كتاب‪ ،‬خالل حياته‬
‫دور ن�شر �شهيرة‬ ‫وبعد م�ؤلفاته الكثيرة في الفل�سفة والأدب‬ ‫لمعرفته بظرفيتها والت�شنج المختفي بين‬
‫ت�صدر نتاجات‬ ‫وداً من �أحد‪.‬‬ ‫�أن يتغذى بالكفاف‪ ،‬وال يجد ّ‬ ‫طياتها‪ ..‬ت�صبح كتاب ًا يتداوله ق��را�ؤه‪ ،‬حتى‬
‫الأدباء بعد رحيلهم‬ ‫وتنب�أ في ثنايا الر�سالة‪ ،‬بم �ستناله كتبه لو‬ ‫دون مراجعة و�إي�ضاحات بال�سياق الذي‬
‫دون ا�ستئذان من‬ ‫حافظ عليها وتداولها من �سيجهلون مبتغاه‬ ‫كتبت فيه‪ ،‬ون�شرت في ال�صحافة في �أوج‬
‫فيها‪ ،‬ويحرفون كالمه �أو ي�سيئون قراءته‪.‬‬ ‫اختالفه مع الآخرين‪ ،‬واالندفاع في �صياغة‬
‫ورثتهم‬ ‫فالتوحيدي لم ير من معا�صريه �إال �أنا�س ًا‬ ‫�أفكاره ب�شكل حجاجي‪ ،‬ممتثل لوقائع طارئة‬
‫ال ي�أبهون به برغم معرفته و�شهرته‪ ،‬ويزيد‬ ‫ذات ُبعد �شخ�صي غالب ًا‪.‬‬
‫لالئمه (�إن العلم ‪ -‬حاطك‬ ‫ِ‬ ‫حجة ثابتة بقوله‬ ‫تناول غيالن‪ ،‬ما ارتكبه النا�شرون‪ ،‬ال‬
‫اهلل ‪ُ -‬يراد للعمل‪ ،‬كما �أن العمل يراد للنجاة)‪.‬‬ ‫�سيما في المواقع الإلكترونية و�سواها من‬
‫وهذا ما لم يوفره له علمه وال عمله فيه فلم‬ ‫�أخطاء في �سيرة ال�سياب‪ ،‬و�إ�شاعة قناعات‬
‫ينج من حرفة الأدب‪..‬‬
‫ُ‬ ‫لي�ست حقيقية كالمبالغة في حالة فقره‬
‫ولقد �أدركت الحرفة ك ّتاب ًا و�شعراء كثراً‪،‬‬ ‫مث ًال‪� ،‬أو الحديث عن عالقاته العاطفية ب�شكل‬
‫ف�أكلت �أعمارهم ولم تدعهم يكملون م�شروع‬ ‫م�سيء ل�شخ�صه‪ ،‬بل ذكر �أن بع�ض المطبوعات‬
‫لي�س ال�سياب حالة‬ ‫حياتهم ويوا�صلون نتاجهم‪ ،‬بل تابعهم الغبن‬ ‫ت�ضمنت �أخطاء في ال�صياغة‪ ،‬لي�ست في �أ�صول‬
‫نادرة فقد تعر�ض‬ ‫حتى بعد وفاتهم‪ ..‬ولي�س ال�سياب حالة نادرة‪،‬‬ ‫الق�صائد‪ ،‬كما يعرف الجميع‪.‬‬
‫الكثير من ال�شعراء‬ ‫فقد تعر�ض كثير من �شعراء التجديد والحداثة‬ ‫وك��ان حديث غيالن عن توجهه العلمي‬
‫للحرفة والفاقة‪ ،‬ونالهم العناء والمر�ض‪،‬‬ ‫ي�شخ�ص حرفة الأدب التي �أ�صابت والده‪،‬‬
‫والأدباء للعناء‬ ‫فذهبوا وفي نفو�سهم غ�صة مما الق��وه من‬ ‫والتي تحدثت عنها كتب التراث‪ ،‬والحرفة‬
‫والمر�ض والفاقة‬ ‫جحود‪ ..‬والأخطر �أن يكون ما نالوه �سبب ًا في‬ ‫التي عنها يتحدثون لي�ست المهنة �أو الميزة‬
‫تنفير الآخرين من الأدب و�أ�سبابه‪ ،‬كما �صرح‬ ‫الحرفة‬‫الوظيفية والمهارة‪ ،‬بل هي رديف ُ‬
‫غيالن‪ .‬وذاك قريب مما قاله �أبو تمام حين‬ ‫(ب�ضم الحاء) التي تدل على الب�ؤ�س والحرمان‬
‫�شكا من �أنه لم (يدرك) ما ابتغى لأنه (�أدركته‬ ‫والتعا�سة‪ ،‬وقد روي في مقتل ال�شاعر عبداهلل‬
‫حرفة الأدب)‪ ،‬الهي ًا بالجنا�س البديعي الذي‬ ‫بن المعتز �أن النا�س قالت قتلته حرفة الأدب‬
‫و�سم �أ�سلوبه عن الم�صير الذي القاه بديع‬ ‫لأن��ه تولى الحكم ليلة واح��دة‪ .‬واب��ن المعتز‬
‫�صوره و�ألفاظه وفكره و�أ�شعاره‪.‬‬ ‫لم تفقره الحرفة بل كان مرفه ًا في ق�صور‬

‫‪73‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫الديمقراطية في ب�لاد الأمريكان مزيفة‬
‫وال �أ�سا�س لها من ال�صحة)‪ ،‬ويقول (�إنغار‬ ‫هجر �صخب المدينة نحو الرومان�سية الريفية‬

‫كنوت هام�سون من �إ�سكافي‬


‫�سالتن ك��ول��و) �إن كنوت هام�سون كان‬
‫فخوراً بجذوره الريفية وكان يتباهى بها‬
‫�أم��ام الجميع‪ ،‬بل �إنه حاول في جميع ما‬
‫كتب �أن يبتكر ما ي�سميه بـ(الرومان�سية‬
‫الزراعية) الم�ضادة ل�صخب المدينة الحديثة‬ ‫�إلى «نوبل» للآداب‬
‫وللح�ضارة المادية‪.‬‬
‫ي��ت��م��ي��ز ه��ام�����س��ون ب ��أ���س��ل��وب ل��غ��وي‬
‫جمالي م��ت ��أث��راً بالعنا�صر الأ�سلوبية‬
‫ك��ن��وت ه��ام�����س��ون (‪� 4‬أغ�سط�س ‪1859‬م ‪19 -‬ف��ب��راي��ر‬
‫لكل م��ن �ستراندبيرغ‪ ،‬و�إب�����س��ن‪ ،‬ونيت�شه‪،‬‬ ‫‪1952‬م)‪ ،‬من �أه��م و�أب��رز و�أ�شهر كتاب القرن الع�شرين‬
‫ودو�ستويف�سكي‪ ،‬على الرغم من �أنه كان ينكر‬ ‫والحائز ج��ائ��زة نوبل ل�ل��آداب (‪1920‬م)‪ ،‬ينتمي �إل��ى‬
‫�أحيان ًا ت�أثير �ستراندبيرغ في �أدب��ه‪ ،‬وهذا‬ ‫عائلة ريفية فقيرة‪ ،‬كان هام�سون االبن الرابع لأ�سرة‬
‫الأ�سلوب كان يت�ضح في رواياته وت�صوراته‬ ‫فقيرة تكونت من �سبعة �أبناء‪ ،‬انتقل مع �أ�سرته وهو في‬
‫الأدبية والأ�سلوبية الفنية‪ ،‬خا�صة و�صفه‬ ‫حوا�س محمود‬
‫العميق للإن�سان وتعقيدات حياته المعا�صرة‬
‫الثالثة من عمره للحياة فوق الدائرة القطبية ال�شمالية‪،‬‬
‫والتناق�ضات التي تع�صف بوجوده‪.‬‬ ‫ف�أثرت الطبيعة في عقله وفنه‪ ،‬ولكنه في التا�سعة من عمره �أر�سل للحياة‬
‫كما �أن �أح��د الروائيين قد ذه��ب �إلى‬ ‫مع عمه الذي عامله بق�سوة وخ�شونة فقد كان ي�ضربه ويجوعه �أحياناً‪.‬‬
‫ح� ��دود الإق�����رار ب � ��أن ه��ام�����س��ون تخطى‬
‫دو�ستويف�سكي نف�سه‪ :‬و�صول هام�سون �إلى‬ ‫بالقطارات‪ ،‬فقد كان يعمل في �أي مكان‬ ‫وي��ع��ت��رف ه��ام�����س��ون ب����أن ع�صبيته‬
‫مناطق مخيفة في النف�س الب�شرية لم ي�صل‬ ‫و�أي مجال يوفر له فر�صة عمل من �أجل‬ ‫المزمنة كانت نتيجة للطريقة التي عامله‬
‫�إليها دو�ستويف�سكي‪.‬‬ ‫ك�سب قوت يومه‪ ،‬وخالل عمله كان ي�ستخدم‬ ‫بها عمه‪ ،‬هذه الق�سوة التي ا�ضطرته للهرب‬
‫ويكتب هام�سون بلغة �سردية عذبة‬ ‫قلمه لي�شغله عن �شدائد العمل‪ ،‬فيحكي عن‬ ‫�إلى (لومي) وهناك حاول ك�سب عي�شه ب�شتى‬
‫و�شعرية للغاية‪ ،‬يحفر هام�سون في �أعماق‬ ‫كل ما كان ي�شغل �أفكاره‪.‬‬ ‫الطرق‪ ،‬فعمل ك�صانع �أحذية وكان يحمل‬
‫�شخ�صياته وال يكف عن الحفر‪.‬‬ ‫وع��ن��دم��ا ع ��اد م��ن �أم��ري��ك��ا ق ��ال (�إن‬ ‫الحجارة‪ ،‬ثم �سافر �إل��ى �أمريكا وا�شتغل‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪74‬‬


‫جوائز‬

‫نظراتها التزال مثقلة بالنقانق‪ ،‬حين‬


‫فقدت‬
‫ّ‬ ‫إلي في اللحظة ذاتها‬ ‫ا�ستدارت � َّ‬
‫و�شعرت برغبة في القيء)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�شهية‪،‬‬
‫ف��ي رواي��ت��ه (ف��ي��ك��ت��وري��ا) كتب‬
‫عن الحب‪ ،‬حيث يقول‪ :‬ولكن ما هو‬
‫الحب بال�ضبط؟ هل هو ريح تداعب‬
‫�شجرة ال��ورد؟ وهو مو�سيقا جهنمية‬
‫نيت�شه‬ ‫�ستراندبيرغ‬
‫ترق�ص حتى قلوب ال�شيوخ وهم على‬
‫حافة القبر‪ .‬وله رواية بعنوان (بان)‬
‫���ص��درت ع��ام (‪1894‬م) بعد �أرب��ع‬
‫�سنوات من رواي��ة (ال��ج��وع)‪ ،‬تعتبر‬
‫(ب��ان) من الأع��م��ال الأدب��ي��ة المهمة‬
‫التي جذبت انتباه واهتمام النقاد �إلى‬
‫�أدب هام�سون‪ ،‬وتحتل ثيمة الإن�سان‬
‫دو�ستويف�سكي‬ ‫�إب�سن‬ ‫المعا�صر وعالمه النف�سي وتناق�ضاته‬
‫الداخلية‪ ،‬وهو يواجه وج��وده الآني‬ ‫ون��ال��ت رواي��ت��ه (ال��ج��وع) ال�����ص��ادرة عام‬
‫مكانة مركزية في هذه الرواية وكامل �أدب‬ ‫(‪١٨٩٠‬م) �شهرة عالمية وا�سعة النطاق‪،‬‬
‫هام�سون‪ ،‬وقد �أ�صدر �أكثر من (‪ )40‬رواية وعدداً‬ ‫وبح�سب ح�سونة الم�صباحي‪ ،‬فالبطل في هذه‬
‫من الدواوين ال�شعرية والم�سرحيات والكتب‬ ‫الرواية هو الجوع ولي�س ال�صحافي المعدم‪،‬‬
‫عانى كثيراً في‬ ‫النثرية‪� ،‬أُهمل هام�سون و�أدب��ه في النرويج‬ ‫الذي يكابده في كل الأوق��ات‪ ،‬هذا ال�صحافي‬
‫البحث عن لقمة‬ ‫ل�سنوات طويلة‪ ،‬ب�سبب مواقفه ال�سيا�سية‪ ،‬وبعد‬ ‫ال� ��ذي ي��ع��م��ل بالقطعة وي��را���س��ل ال�صحف‬
‫عي�شه وعمل‬ ‫نهاية الحرب العالمية الثانية حوكم و�أودع‬ ‫والمجالت النرويجية في مدينة (كري�ستيانا)‬
‫م�صحة للأمرا�ض العقلية‪.‬‬ ‫(�أو�سلو اليوم)‪ ،‬و�أحيان ًا ينال مكاف�أة على مواده‬
‫في �شتى المهن‬ ‫وخالل فترة وجوده في الم�صحة العقلية‪،‬‬ ‫المن�شورة ب�ضع كرونات ال تكفيه �سد رمقه‬
‫المتوا�ضعة‬ ‫كتب هام�سون ن�ص ًا خا�ص ًا بالمرافعة عن نف�سه‬ ‫ومقاومة جوعه‪ ،‬هو يخ�شى الموت جوع ًا وهذا‬
‫وعن �أفكاره والتي حملت عنوان (على الدروب‬ ‫الهاج�س يالحقه با�ستمرار‪ ،‬وهو يوا�صل �سعيه‬
‫حيث ينبت الع�شب)‪� ،‬إال �أن النرويج �أع��ادت‬ ‫الحثيث وتجواله في مدينة قا�سية و�سط جموع‬
‫االعتبار لهام�سون و�أدب��ه‪� ،‬إذ �أحيت الذكرى‬ ‫م�سكونة بالأنانية وبالأحقاد‪ ،‬ال تحركها وال‬
‫الخم�سين بعد المئة لوالدته في عام (‪2009‬م)‪،‬‬ ‫تعنيها �سوى م�صالحها المادية ال�ضيقة‪ ،‬وهو‬
‫هاجر �إلى �أمريكا‬ ‫من خالل �إ�صدار طابع بريدي و�إن�شاء متحف‬ ‫ال �أمنية له �سوى الح�صول على قطعة خبز �أو‬
‫للبحث عن الحلم‬ ‫يخلد ا�سمه‪� ،‬سيما و�أنه نال جائزة نوبل على‬ ‫قطعة لحم �أو قطعة جبن (�آه‪ ...‬لو ثمة ما يمكن‬
‫�إال �أنه عاد منك�سر‬ ‫�أدب��ه‪ ،‬ويعد �إطالق م�صلحة البريد النرويجية‬ ‫�أن �آكله في يوم جميل كهذا اليوم! ال�شعور بهذا‬
‫الخاطر‬ ‫هذا الطابع ‪ ،‬الذي يحمل �صورة الكاتب خطوة‬ ‫ال�صباح ال�سعيد هزني فلم �أعد قادراً على كبح‬
‫�إ�ضافية في م�سار �إعادة االعتبار لهام�سون‪،‬‬ ‫جماح فرحي‪ ،‬و�شرعت �أدن��دن بلحن من دون‬
‫علم ًا �أنه الوحيد الذي حرم هذا االمتياز لفترة‬ ‫�سبب محدد‪� ،‬أم��ام محل لبيع اللحوم‪� ،‬سيدة‬
‫طويلة من بين ثالثة �أ�سماء نرويجية نالت‬ ‫ما�سكة ب�سلتها توقفت عن ال�سير وراحت تت�أمل‬
‫(نوبل) للآداب‪.‬‬ ‫نقانق لغذائها‪ ،‬حين مررت بالقرب منها‬
‫ف��ي ه ��ذا ال�����ص��دد ق ��ال �أح��د‬ ‫�سن‬
‫ال��ي‪ ،‬لم تكن لها غير ّ‬ ‫نظرت ّ‬
‫بلغت �إ�صداراته‬ ‫الم�س�ؤولين في م�صلحة البريد‬ ‫�أمامية واح��دة‪ ،‬متوتراً و�سهل‬
‫�أكثر من (‪ )٤٠‬رواية‬ ‫ويدعى هالفورث �ستينغ في‬ ‫االنفعال‪ ،‬كما هو حالي خالل‬
‫وم�سرحية وديوان ًا‬ ‫بيان (حان الوقت لكي نكرم‬ ‫الأي��ام الأخ��ي��رة‪� ،‬أحدثت لي‬
‫�أث��ر هام�سون‪ ،‬باتت �أخيراً‬ ‫ال�سيدة فج�أة �شعوراً بالنفور‬
‫�شعري ًا‬ ‫ول��ك��ل ال��ح��ائ��زي��ن ج��ائ��زة‬ ‫وال��ت��ق��زز‪��� ،‬س� ّن��ه��ا الطويلة‬
‫(نوبل) للآداب �صورهم على‬ ‫ال�صفراء بدت �شبيهة ب�إ�صبع‬
‫طابع بريدي)‪.‬‬ ‫�صغير خ��ارج من فكيها‪ ،‬وكانت‬
‫جائزة نوبل‬

‫‪75‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫عزف على �أوتار الكلمات بمهارة‬

‫ف�ؤاد قنديل‪..‬‬
‫روح �شفافة محبة للأدب والفنون‬
‫ب���د�أ م�سيرته الأدب ��ي ��ة ف��ي منت�صف‬
‫ال�ستينيات ون�شر الق�ص�ص والمقاالت‬ ‫كان متمكن ًا من �أدواته ولغته ويعزف على �أوتار الكلمات‬
‫في معظم المجالت وال�صحف الم�صرية‬ ‫بمهارة‪ ،‬تمنح �سطوره عذوبة و�شجناً‪ ،‬وقد جعل قلمه‬
‫والعربية‪� ،‬سافر على نفقته الخا�صة �إلى‬ ‫�سفير ًا للب�سطاء والمهم�شين‪ ،‬يحلم معهم ويحلم لهم‪،‬‬
‫ع�شرين دول��ة؛ من اليابان وال�صين �إلى‬ ‫يطارد الكلمات ليقتن�ص �صور ًا لم تخطر على بال‪� .‬إنه‬
‫�أمريكا للتح�صيل الثقافي والمعرفي‪ .‬كانت‬
‫الأدي��ب ف�ؤاد قنديل‪ ،‬الذي تخبرنا �سيرته الذاتية �أنه‬
‫لقنديل روح محبة ل�ل�أدب والفن‪ ،‬عا�شقة‬ ‫ناجي العتري�س‬
‫للب�شر والحياة‪ ،‬متطلعة �إلى الجمال‪ ،‬الذي‬ ‫ول��د في (‪� 5‬أكتوبر ‪ )1944‬في م�صر الجديدة لأ�سرة‬
‫معو ًال في‬
‫هو هدف لكل فكر وفن و�أدب؛ ّ‬ ‫تنتمي لمدينة بنها بمحافظة القليوبية‪ ،‬وح�صل على لي�سان�س الآداب ق�سم‬
‫تغير �سلوكيات الب�شر �صوب هذا الجمال‬ ‫ُّ‬ ‫الفل�سفة وعلم النف�س من جامعة القاهرة‪ .‬وعمل منذ عام (‪ )1962‬في �شركة‬
‫على المثقفين الملهمين‪ ،‬وذلك حتى ت�صبح‬ ‫م�صر للتمثيل وال�سينما‪ ،‬ثم انتقل عام (‪� )1977‬إلى الثقافة الجماهيرية‪،‬‬
‫الحياة جديرة ب�أن نحياها‪ .‬وكانت تن�ساب‬
‫حيث تولى العديد من المنا�صب الإدارية العليا؛ �أ�س�س الإدارة العامة للن�شر‪،‬‬
‫في ثنايا �سطوره‪ ،‬بين الفينة والفينة‪ُ ،‬جمل‬
‫�شاعرية تربت على الن�ص‪ ،‬فتحيله �إلى‬ ‫والإدارة العامة لرعاية المواهب‪ ،‬والإدارة العامة لثقافة ال�شباب والعمال‪.‬‬
‫قطعة من الجمال؛ مهما تناول هذا الن�ص‬
‫من مو�ضوعات و�أف��ك��ار‪ ،‬بعيدة عن الجو‬
‫المهي�أ لهذه الدفقات ال�شعرية؛ وهذا لي�س‬
‫بم�ستغرب عنه‪ ،‬فقد ب��د�أ �شاعراً ثم تحول‬
‫�إلى الق�صة والرواية‪ ،‬فاكت�سبت �أعماله تلك‬
‫الرائحة‪ ،‬فحبه الأول يعي�ش معه ويت�سلل‬
‫دونما �شعور �إلى �سطوره‪ ،‬فتقر�أ ك�أنك ت�سمع‬
‫(�شدو البالبل)‪ .‬ذلك (المفتون) ال��ذي ولج‬
‫معظم �أبواب الأدب‪ ،‬م�ستلهم ًا الواقع بعنفه‬
‫و�صخبه وق�سوته ليحوله �إلى ن�صو�ص تعين‬
‫قارئ �أدبه على موا�صلة وعثاء الحياة‪.‬‬
‫�آم��ن قنديل ب ��أن دور الأدي ��ب تق�صي‬
‫الأل ��م الإن�����س��ان��ي‪ ،‬والك�شف عنه بمب�ضع‬
‫جراح يعرف مواطنه جيداً‪ ،‬لذا كان يترك‬
‫�شخ�صياته ع��ل��ى �سجيتها ك��ي تف�صح‬
‫عما تخبئه في دواخلها من خالله‪ .‬كان‬
‫�شاغله ذلك الإن�سان الذي يقترب من حافة‬
‫ال�سقوط‪ ،‬وفي ذلك يقول‪�( :‬شاغلي الأوحد‬
‫الإن�سان الذي �أ�شعر ب�أنه ُمعر�ض لل�سقوط‪،‬‬
‫ف�أت�أهب دائم ًا لألحق به‪ ،‬وكثيراً ما ي�سبقني‬
‫وي�سقط‪ ،‬ف�أ�سجل حالته وا�ستبطن م�شاعره‬
‫لأبثها في ن�صو�صي)‪ .‬عرف �أن الحياة مهما‬
‫طالت ف�أمدها ق�صير؛ لذلك انكب على العمل‬
‫ب��د�أب و�إ���ص��رار �شديدين يقر�أ ويكتب‪� .‬آثر‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪76‬‬


‫م�سيرة‬

‫االبتعاد عن جو ال�شللية الذي ي�صنعه �أن�صاف‬


‫الموهوبين والموهومون لأنف�سهم للتغطية‬
‫على �ضعفهم الأدبي‪ ،‬ولمجاملة بع�ضهم بع�ض ًا‬
‫لت�صدر الم�شهد الثقافي بالباطل‪ ،‬فربح نف�سه‬
‫وربحنا �أدب ًا متنوع ًا‪ .‬عا�ش الرجل معظم حياته‬
‫يواجه الكذب والنفاق والتملق والرياء ويقاوم‬
‫القهر والجبن و(الفهلوة)‪.‬‬
‫ك��ان يحب الخير للجميع‪ ،‬وي ��أخ��ذ بيد‬
‫الموهوبين من ال�شباب‪ ،‬و�شهدت الفترة التي‬
‫عمل بها م�س�ؤو ًال عن ن�شر �أعمال ال�شباب في‬
‫من م�ؤلفاته‬
‫فخ�صه‬
‫ولم يغفل �أديبنا الكبير �أهمية الطفل‪َّ ،‬‬ ‫الهيئة العامة لق�صور الثقافة وهيئة الكتاب‪،‬‬
‫بعدة ق�ص�ص ورواي���ات‪ ،‬منها (مغامرة في‬ ‫دعم ًا كبيراً منه لل�شباب الكتاب والنقاد؛ وكان‬
‫الهرم‪ ،‬مدينة الدخان‪ ،‬التو�أم الرائع‪ ،‬ال�ساحرة‬ ‫دائم الثقة �أن الكون يت�سع للجميع‪ ،‬والأرزاق‬
‫والملك‪ ،‬ذقن البا�شا‪ ..‬خط �أحمر‪ ،‬والولد الذهبي)‪.‬‬ ‫مق�سمة بالق�سطا�س‪ ،‬وهو القائل‪( :‬الكون ملك‬
‫وقد ا�ستلهم قنديل الواقعية ال�سحرية كثيراً‬ ‫الجميع وال��رزق ال براعة فيه‪ ،‬ولي�س بحاجة‬
‫كتب ال�شعر والق�صة‬ ‫في �أعماله‪ ،‬وظهرت ب�صورة �أو�ضح في عمله‬ ‫للحيل ح��ت��ى ي��ت��م ا���ص��ط��ي��اده‪ ،‬ف��ه��و يعرف‬
‫والرواية ونال‬ ‫الأكثر جما ًال بين ن�صو�صه (روح محبات)‪ ،‬فقد‬ ‫عناوين م�ستحقيه‪ ،‬ف�أه ًال به �إذا جاء‪ ،‬و�أه ًال‬
‫العديد من الجوائز‬ ‫اعتمد الفانتازيا الرمزية �إذا جاز لنا التعبير‪،‬‬ ‫به �إذا تخلف)‪ .‬وهذه الأريحية جعلته يعي�ش‬
‫الأدبية والتقديرية‬ ‫وا�ستخدم الأ�سلوب الواقعي و�أ�سلوب الالمعقول‬ ‫حياته حري�ص ًا على راحته النف�سية‪ .‬كتب عدة‬
‫بتناغم مميز‪ ،‬حيث ي�سرد ق�صة ديك ينتمي �إلى‬ ‫رواي��ات رائعة وممتعة‪ ،‬منها (ال�سقف‪ ،‬الناب‬
‫�ساللة �أمريكية‪ ،‬يكبر وينمو ب�شكل غير عادي‬ ‫الأزرق‪� ،‬أ�شجــان‪ ،‬ع�شق الأخر�س‪ ،‬مو�سم العنف‬
‫في �إحدى قرى م�صر‪ ،‬حتى �أ�صبح بحجم رجل‬ ‫الجميل‪ ،‬ع�صر واوا‪ ،‬بذور الغواية‪ ،‬حكمة العائلة‬
‫�ضخم يعبث ب�شرف القرويين‪ ،‬في �إ�شارة منه‬ ‫المجنونة‪ ،‬الحمامة البرية‪ ،‬روح محبات‪ ،‬رتق‬
‫�إلى تغير مفردات الحـياة والقيم الريفية وكيف‬ ‫ال�شراع‪ ،‬قبلة الحياة‪ ،‬المفتون‪ ،‬ن�ساء و�ألغام‪،‬‬
‫�آمن ب�أن دور‬ ‫تبدل حالها‪ ،‬وق��د ق��ال عنه الناقد والأدي��ب‬ ‫دولة العقرب‪ ،‬و�أهل ال�سوق)‪.‬‬
‫الأديب هو الك�شف‬ ‫الكبير الراحل عبدالمنعم تليمة‪� ،‬إن لم يكن‬ ‫وتظل رواية (المفتون) هي �أ�شهر رواياته‬
‫عن موا�ضع الألم‬ ‫كاتب ًا فح�سب‪ ،‬وال مجرد ح ّكاء‪ ،‬بل كان مثقف ًا‬ ‫بين محبي وع�شاق الأدب‪ ،‬كما �أ�سهم قنديل‬
‫رائع ًا من الطراز الأول‪ ،‬و�إن درا�سته لعلم النف�س‬ ‫بجهد وا���ض��ح ف��ي مجال الق�صة الق�صيرة‪،‬‬
‫الإن�ساني م�ستلهم ًا‬ ‫والفل�سفة‪ ،‬انعك�ست على رواي��ات��ه و�إنتاجه‬ ‫وكان له �إبداع مميز فيها‪ ،‬مثل (عقدة الن�ساء‪،‬‬
‫الواقعية ال�سحرية‬ ‫الأدب��ي‪ ،‬وظهرت جلي ًا في كتاباته و�أعماله؛‬ ‫كالم الليل‪ ،‬العجز‪ ،‬ع�سل ال�شم�س‪� ،‬شدو البالبل‬
‫في كتاباته‬ ‫فكان الن�سق المن�ضبط والإيقاع الر�صين واللغة‬ ‫والكبرياء‪ ،‬الغندورة‪ ،‬زهرة الب�ستان‪ ،‬قناديل‪،‬‬
‫الأدبية الأكثر التزام ًا‪.‬‬ ‫رائ��ح��ة ال� ��وداع‪� ،‬سوق الجمعة‪ ،‬حدثني عن‬
‫لقد ظل قنديل طوال حياته يتخذ هذا الخط‬ ‫البنات‪ ،‬وميالد في التحرير)‪ .‬وله العديد من‬
‫منوا ًال له‪ ،‬ولم يحد عنه ولم يجنح يوم ًا �إلى‬ ‫الدرا�سات �أبرزها عن �شيخ النقاد محمد مندور‪،‬‬
‫ابتذال اللغة �أو العبارة‪ ،‬كما �أنه �أحب الرموز‬ ‫و�إح�سان عبدالقدو�س‪ ،‬ونجيب محفوظ‪ ،‬و�أدب‬
‫تطلع دائم ًا �إلى‬ ‫وا�ستخدمها كثيراً‪ ،‬وك��ان ذل��ك وا�ضح ًا في‬ ‫الرحلة في التراث العربي‪ ،‬وكتاب فن كتابة‬
‫روايته (ال�سقف) التي خاطب بها �أحد الر�ؤ�ساء‬ ‫الق�صة‪ ،‬وغيرها من الدرا�سات المهمة‪.‬‬
‫الجمال الذي هو‬
‫الراحلين من خالل الرموز‪ .‬كان لف�ؤاد قنديل‬
‫هدف كل فكر وفن‬ ‫ن�صيب كبير من الجوائز‪ ،‬حيث ح�صل على‬
‫و�أدب‬ ‫جائزة الدولة للتفوق في الآداب عام (‪،)2004‬‬
‫وج��ائ��زة ال��دول��ة التقديرية ف��ي الآداب عام‬
‫(‪ ،)2010‬وجائزة الطيب �صالح في الق�صة‬
‫الق�صيرة ع��ام (‪ .)2011‬رح��ل �أديبنا الكبير‬
‫بج�سده عن عالمنا في (‪ 3‬يونيو ‪ ،)2015‬لكنه‬
‫باقٍ في �سماء الأدب ب�إنتاجه المتنوع والغزير‪.‬‬ ‫محمد مندور‬ ‫الطيب �صالح‬

‫‪77‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫�إيليا حاوي‪..‬انفتح على كل‬


‫مدار�س النقد وتيارات المعرفة‬ ‫عبدو وازن‬

‫كانت ت�ساعده على �أن ي�صيب في �أحكامه‬ ‫ع��ا���ش ال��ن��اق��د �إي��ل��ي��ا ح���اوي (‪–1929‬‬
‫النقدية وتحليالته وت��أوي�لات��ه‪ .‬ولعل د�أب��ه‬ ‫‪ )2000‬في ظل �شقيقه ال�شاعر خليل حاوي‪،‬‬
‫ال��ن��ق��دي وال��ن��ه��ج ال����ذي اخ ��ت ��اره ب��ح��ري��ة‪،‬‬ ‫ول��م ي�ش�أ ط��وال حياته �أن يبرح ذل��ك الظل‬
‫جعاله ناقداً فريداً ومميزاً عن �سائر النقاد‬ ‫ليخرج �إل��ى �ضوء ال�شهرة على ال��رغ��م من‬
‫الأكاديميين و�أ�صحاب المناهج المحددة‪ ،‬في‬ ‫ذيوع كتبه النقدية‪ ،‬ال �سيما في الجامعات‬
‫معنى االنفتاح على مدار�س نقدية منهجية‬ ‫والأكاديميات‪ .‬وكان حين ت�س�أله عن نف�سه‬
‫عدة‪ ،‬وعلى تيارات معرفية بعيداً عن االنغالق‬ ‫يتحدث عن �شقيقه‪ ،‬الذي �آلمه موته الم�أ�ساوي‬
‫�ضمن منهج واح��د �أو ر�ؤي��ة نقدية واح��دة‪.‬‬ ‫ولبث ي�ؤلمه حتى رمقه الأخير‪ .‬كان ي�ضع‬
‫لم يلتزم في ما‬ ‫وفرادته تنبع �أي�ض ًا من تلك الطوية الأدبية‬ ‫�شقيقه ال�شاعر في المقدمة لين�سحب هو �إلى‬
‫كتبه بمنهج ثابت‬ ‫والخامة الإبداعية‪ ،‬اللتين كانتا تهجعان‬ ‫عالمه الرحب‪ ،‬عالم النقد الأدب��ي الم�شرع‬
‫بل تنقل بين جل‬ ‫فيه‪ .‬ولم ت�� َأب نزعته الأدبية‪� ،‬إال �أن تتجلى‬ ‫على حقول المعرفة‪ ،‬من فل�سفة وتاريخ وعلم‬
‫المناهج م�ستخل�ص ًا‬ ‫في رواي��ات قليلة كتبها في ن َف�س ملحمي‪،‬‬ ‫جمال وعلم نف�س‪.‬‬
‫منها ما يفيده‬ ‫نم عن قدرة في �صوغ اللغة‪ ،‬وحبك الن�سيج‬ ‫ّ‬ ‫تحل ال��ذك��رى ال��ع�����ش��رون لرحيل �إيليا‬
‫الروائي المتين وخلق ال�شخ�صيات التي �شاء‬ ‫ح��اوي‪ ،‬في مرحلة يعاني فيها لبنان �أ�شد‬
‫يحملها الكثير م��ن المالمح والأف��ع��ال‬ ‫ّ‬ ‫�أن‬ ‫لكن هذا الناقد‬‫�أزماته‪� ،‬سيا�سي ًا واقت�صادي ًا‪ّ ،‬‬
‫ال��ق��دري��ة‪ .‬ولعل ثقافته الوا�سعة و�إج��ادت��ه‬ ‫يظل حا�ضراً من خالل كتبه التي تربو على‬
‫اللغتين الفرن�سية والإنجليزية‪� ،‬ساعدتاه في‬ ‫ال�ستين كتاب ًا؛ في النقد الأدب��ي والم�سرحي‬
‫االطالع على الآداب ومدار�س النقد العالمية‪،‬‬ ‫والفل�سفة والنقد الجمالي‪ ،‬والت���زال لديه‬
‫القديمة والحديثة‪.‬‬ ‫مخطوطات ع��دي��دة ل��م ت��خ��رج �إل ��ى ال�ضوء‬
‫لم يلتزم �إيليا حاوي‪ ،‬في معظم ما كتب‬ ‫ومقاالت ال تح�صى‪ ،‬ما برحت طي الأدراج‪.‬‬
‫من نقد منهج ًا ثابت ًا‪ ،‬بل راح يتنقل بين‬ ‫وكتبه التي طالما تناقلها ويتناقلها القراء‬
‫متعدد الجذور‬ ‫المناهج م�ستخل�ص ًا منها ما يفيده‪ ،‬ويخدم‬ ‫والطالب الجامعيون والنقاد على ال�سواء‪،‬‬
‫والف�ضاءات يلم‬ ‫عمله التحليلي والت�شريحي‪ ،‬فهو ناقد حر‪،‬‬ ‫هي مراجع واف��رة ون��ادرة في الحقول التي‬
‫بالفل�سفة وعلم‬ ‫و�أ�صر على �أن يكون ح��راً في ما اختط من‬ ‫تطرقت �إليها بدءاً من ال�شعر العربي القديم‪،‬‬
‫النف�س والأدب‬ ‫�سبل وطرائق‪ ،‬هي �سبله وطرائقه التي ا�ستنها‬ ‫وانتهاء بال�شعر العربي الحديث‪ ،‬عالوة على‬
‫بحذاقة ووع��ي‪ ،‬من تاريخ النقد وحا�ضره‪،‬‬ ‫�أبحاث ر�صينة في الأنواع الأدبية والمدار�س‬
‫المقارن والأ�سلوبية‬ ‫ومن مدار�سه المتعددة‪ .‬وكان يدع الن�صو�ص‬ ‫والم�سرح العالمي‪ .‬ولعل �أكثر ما يميز نتاجه‬
‫�أو الكتب والق�ضايا المطروحة للنقد والتحليل‪،‬‬ ‫النقدي‪ ،‬تلك ال�سال�سة في الأ�سلوب وال�سهولة‪،‬‬
‫تختار تحت مجهره المنهج ال��ذي يالئمها‪،‬‬ ‫التي تخفي مرا�س ًا �صعب ًا‪ ،‬والح�صافة التي‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪�-‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪78‬‬


‫�أ�ضواء‬

‫ل��م �أع ��رف ن��اق��داً عا�ش ف��ي الظل مثلما‬ ‫فيعمد �إل��ى م�ساءلتها وتحليلها ونقدها‪،‬‬
‫ع��ا���ش �إي��ل��ي��ا ح� ��اوي‪ ،‬ب��ع��ي��داً م��ن الأ���ض��واء‬ ‫م�ستخدم ًا طرائق عدة‪ ،‬بغية ا�ستنباط الأحكام‬
‫والإع�ل�ام وال�صحافة‪ .‬وكانت ت�صدر كتبه‬ ‫الدقيقة‪.‬‬
‫ف�ضل العي�ش في‬ ‫من غير �ضو�ضاء �أو متابعة �صحافية‪ ،‬فال‬ ‫وكان �إيليا حاوي ناقداً متعدد الجذور‬
‫الظل بعيداً عن‬ ‫هو ك��ان يعمد �إل��ى ترويجها �إعالمي ًا‪ ،‬وما‬ ‫والف�ضاءات‪ ،‬يلم بالفل�سفة �إلمامه بعلم النف�س‬
‫الأ�ضواء والإعالم‬ ‫كان ال�صحافيون والنقاد يت�صدون لها �أو‬ ‫والأدب المقارن والبنيوية والأ�سلوبية‪� ،‬إ�ضافة‬
‫وال�صحافة من غير‬ ‫يكتبون عنها‪ ،‬علم ًا �أن بع�ض ًا من كتبه‪ ،‬كانت‬ ‫�إلى اعتماده ال�سيرة والنقد الأدبي القديم �أو‬
‫بمثابة الأحداث النقدية‪ ،‬وخ�صو�ص ًا تلك التي‬ ‫الأ�صيل الذي تلقنه على الآمدي وابن قتيبة‬
‫�ضو�ضاء‬
‫تناول فيها �أعالم الم�سرح في العالم‪ ،‬قديمه‬ ‫و�سواهما‪ ..‬ولم يكن ي�شعر ب�أي ت�شتت منهجي‬
‫وحديثه‪ .‬كتابه مث ًال عن �صموئيل بيكيت‪،‬‬ ‫مادام هو قائد ال�صنيع النقدي‪ ،‬يعرف كيف‬
‫هو من �أهم ما كتب عن الم�سرحي الرائد في‬ ‫ي�ستعين بمنهج دون �آخ ��ر‪� ،‬أو يعرف متى‬
‫الوطن العربي‪ .‬ويمكن �إدراج��ه �أي�ض ًا �ضمن‬ ‫ينبغي له �أن يلج�أ �إل��ى طريقة نقدية دون‬
‫الكتب العالمية المهمة التي تناولت رائد‬ ‫�أخرى‪.‬‬
‫م�سرح العبث‪ .‬وكذلك كتابه عن �شك�سبير �أو‬ ‫وف ��ي رح���اب ع��ال��م��ه ال��ن��ق��دي‪ ،‬الأدب���ي‬
‫بيراندللو �أو �سوفوكلي�س �أو �أوجين يون�سكو‪.‬‬ ‫والجمالي والم�سرحي‪ ،‬لم يكن من الم�ستهجن‬
‫زخرت م�ؤلفاته في‬ ‫وقد زخرت هذه الم�ؤلفات بمرجعيات نقدية‬ ‫�أن يجتمع �شمل ابن الرومي وام��رئ القي�س‬
‫�شاملة‪ ،‬قديمة وحديثة‪ .‬وفيها ك��ان يرجع‬ ‫والحطيئة والمتنبي و�إليا�س �أبو �شبكة و�أحمد‬
‫عالم الأدب والم�سرح‬ ‫�شوقي ونزار قباني وبدر �شاكر ال�سياب وخليل‬
‫ح��اوي �إل��ى الم�صادر �أي�ض ًا‪ ،‬محل ًال ومفنداً‬
‫والنقد بمرجعيات‬ ‫ومترجم ًا في �أحيان‪.‬‬ ‫ح��اوي و�سوفوكلي�س و�شك�سبير و�صموئيل‬
‫نقدية �شاملة قديمة‬ ‫�أما كتبه النقدية التي و�ضعها عن �شقيقه‬ ‫بيكيت و�أوجين يون�سكو‪ ،‬و�سواهم ممن ي�صعب‬
‫وحديثة‬ ‫ال�شاعر الرائد خليل ح��اوي؛ فهي تعد بين‬ ‫تعدادهم‪ ..‬وقارئه ي�شعر حق ًا‪ ،‬كلما انتقل من‬
‫�أهم الأبحاث النقدية‪ ،‬التي تناولت �صاحب‬ ‫كتاب �إلى �آخر‪� ،‬أنه ينتقل من منهج �إلى �آخر‪،‬‬
‫لا و�إ���ض��اءة‬
‫(ن��ه��ر ال��رم��اد)‪ ،‬تحلي ًال وت���أوي� ً‬ ‫وم��ن ن�ص نقدي �إل��ى ن�ص نقدي �آخ��ر‪ .‬على‬
‫لأ�سرار ال�صنيع ال�شعري‪ ،‬الرمزي وال�صوفي‬ ‫�أن وح��دة التجربة النقدية تكمن في اللغة‬
‫والفل�سفي‪ ،‬وك�شف معانيه و�أبعاده‪ ،‬وكذلك‬ ‫والأ���س��ل��وب‪ ،‬اللذين يتيحان للقارئ فر�صة‬
‫جمالياته الفنية و�إي��ق��اع��ات��ه المو�سيقية‬ ‫التمتع بما يقر�أ‪ .‬فال جفاف في اللغة النقدية‬
‫ونظامه التفعيلي وبنيانه الهند�سي‪.‬‬ ‫وال اف��ت��ع��ال �أو ا�صطناع‪ ،‬وال ن�����ض��وب‪ ،‬بل‬
‫ك��ان �إيليا ح��اوي ق��ارئ� ًا نهم ًا‪� ،‬أم�ضى‬ ‫ن�صو�ص نقدية تهدر كالأنهار‪ ،‬وتطوف كا�سرة‬
‫معظم حياته نا�سك ًا �أو �شبه نا�سك‪ ،‬منقطع ًا‬ ‫الحواجز وال��ح��دود‪ .‬وال يتوانى ال��ق��ارئ عن‬
‫وجد في عمله‬ ‫�إلى القراءة والت�أليف‪ ،‬مكب ًا على �آلته الطابعة‪،‬‬ ‫اال�ست�سالم �إلى التيار الجارف‪ ،‬الذي يحمله‬
‫ر�سالة �إن�سانية‬ ‫التي ظل متم�سك ًا بها في زمن الآالت الحديثة‬ ‫�إلى عالم من الت�أمل والتحليل والكتابة‪ .‬ف�إيليا‬
‫معرفية ف�أم�ضى‬ ‫�أو الكمبيوتر‪ .‬وفي عزلته النبيلة تلك‪ ،‬كان‬ ‫حاوي �أديب �أو كاتب‪ ،‬قبل �أن يكون ناقداً‪ ،‬بل‬
‫�إيليا حاوي �سعيداً‪ ،‬غير مبال ال بال�شهرة وال‬ ‫هو �أديب وناقد مع ًا‪ ،‬خبر �إغراء الكلمة و�سحر‬
‫معظم حياته نا�سك ًا‬ ‫بالمنا�صب‪ ..‬ك��ان يكفيه �أن ينهي �ساعات‬ ‫الكتابة‪ .‬ولعله في عدم ق�صر فنه النقدي على‬
‫منقطع ًا �إلى القراءة‬ ‫تدري�سه الجامعي القليلة‪ ،‬لينكفئ على �أوراقه‬ ‫منهج واحد‪� ،‬شاء �أن ي�شبع نهمه الحارق �إلى‬
‫والكتابة‬ ‫كاتب ًا بنهم وغزارة‪ .‬ولم يكن يثنيه عن عمله‬ ‫الكتابة‪ .‬ولم يكن يخ�شى‪ ،‬عندما يختار ال�سيرة‪،‬‬
‫�شاغل �آخ��ر وال ت�سرقه منا�سبة‪ ،‬فظل طوال‬ ‫�أن تقوده هذه ال�سيرة �إلى غمار ال�سرد‪ ،‬فكان‬
‫�أعوام مكب ًا على حرفته التي كان يجد فيها‬ ‫يكتب وك�أنه يكتب لنف�سه وعن نف�سه‪ ،‬متقم�ص ًا‬
‫ر�سالة �إن�سانية ومعرفية‪.‬‬ ‫روح من يكتب عنه‪.‬‬

‫‪79‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫عبقري كل الع�صور‬

‫ليوناردو دافين�شي‬
‫عالم وباحث ومخترع وفنان‬

‫اكت�سب الإيطالي ليوناردو دافين�شي (‪)1519 - 1452‬‬


‫�شهرته ومكانته‪ ،‬من كونه ر�سام ًا عبقري ًا موهوباً‪� ،‬أبدع‬
‫اللوحة الأكثر �شهرة في كل الع�صور (الجيوكندا) �أو‬
‫(الموناليزا) التي �صنفت ب�أنها �أكثر الأعمال الفنية‬
‫�شهرة في تاريخ الفن‪ ،‬وقد بد�أ دافين�شي ر�سمها في عام‬
‫وليد رم�ضان‬
‫(‪ )1503‬وانتهى منها في عام (‪ ،)1519‬لكن دافين�شي‬
‫الر�سام العبقري‪ ،‬امتلك قدرات �أخرى في معظم العلوم والمعارف والفنون‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪�-‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪80‬‬


‫عبـاقرة‬

‫اهتمام ًا من الزوجة الأولى �ألبيرا‬ ‫ويمكننا �أن ن�صف ه��ذا الفنان العبقري‬
‫دي جوفانتي لكنها ماتت عام‬ ‫ب��ـ (عبقري ك��ل ال��ع�����ص��ور)؛ فهو ح��ال��ة فريدة‬
‫(‪ )1464‬بعد �أن انتقلت العائلة‬ ‫وا�ستثنائية لم تتكرر �إنه عالم وباحث وفنان‪،‬‬
‫ال��ى فلورن�سا‪ ،‬ث��م ت ��زوج وال��ده‬ ‫ا�ستطاع �أن يقدم للب�شرية اختراعات و�إنجازات‬
‫فران�شي�سكا‪ ،‬التي �أنجبت �ستة‬ ‫و�أبحاث ًا ومخططات و�أعما ًال فنية‪ ،‬من الم�ستحيل‬
‫�أطفال لي�صبح دافين�شي �شقيق ًا‬ ‫�أن ينجزها �شخ�ص واح���د‪� ،‬أو حتى ع�شرة‬
‫لا‪ ،‬وبعد وف��اة‬ ‫�أك��ب��ر ل��ـ (‪ )12‬ط��ف� ً‬ ‫�أ�شخا�ص‪ ،‬حتى �إن بع�ضهم و�صفه ب�أنه ع�شرة‬
‫وال��ده ح��دث خ�لاف بينه وبينهم‬ ‫عقول في ج�سم واح��د‪ ،‬وو�صفه �آخ ��رون ب�أنه‬
‫حول الميراث ال��ذي تركه الوالد‪،‬‬ ‫عبقري التاريخ الب�شري كله‪ ،‬في فن الر�سم وفي‬
‫كما ورث دافين�شي بع�ض الأموال‬ ‫علوم �أخرى مختلفة‪.‬‬
‫عن جده الذي تولى تربيته‪.‬‬ ‫ذاع��ت �شهرة دافين�شي كفنان ل��م يتكرر‪،‬‬
‫كان ليوناردو دافين�شي �شاب ًا‬ ‫ونالت (الموناليزا) �شهرة �أ�صابت المتابعين‬
‫و�سيم ًا لبق ًا‪ ،‬ولديه القدرة على‬ ‫والخبراء والمحللين بالده�شة‪ ،‬لكن دافين�شي كان‬
‫الإقناع والحديث بطالقة‪ ،‬يجيد‬ ‫ال يقل عبقرية في علوم �أخرى وفنون �أخرى غير‬
‫رك ��وب الخيل وال��ع��زف بمهارة‬ ‫الر�سم‪ ،‬فهو نحات ومعماري وباحث ومو�سيقي‬
‫على الآالت المو�سيقية بجانب‬ ‫وعالم نبات وعالم خرائط وفلكي وجيولوجي‪،‬‬
‫الغناء‪� ..‬أع�سر‪� ..‬سريع الت�شتت‪..‬‬ ‫ومخترع ب��ارع ومهند�س وميكانيكي ومحلل‬
‫�أج��اد تعليم نف�سه بعيداً عن �أي‬ ‫وباحث في علم الت�شريح الإن�ساني‪ ،‬و�شاعر‬
‫اللوحة الأكثر �شهرة «الموناليزا»‬ ‫ن��وع م��ن ال�سلطة‪ ،‬وك��ان��ت لديه‬ ‫ومطرب ومبتكر وفيل�سوف‪ ..‬لقد اجتمعت كل‬
‫قدرة على الإبداع‪ ،‬فكان يهرب من‬ ‫هذه ال�صفات في دافين�شي ‪ -‬ولد ليوناردو دي‬
‫درو�س اللغة الالتينية في البداية‪ ،‬وتعلم القراءة‬ ‫�سير بييرو دافين�شي يوم (‪� 15‬إبريل عام ‪)1452‬‬
‫�أ�شهر �أعماله‬ ‫والكتابة والح�ساب من تلقاء نف�سه تقريب ًا‪،‬‬ ‫في بلدة �إيطالية �صغيرة (فن�شي) تبعد قلي ًال عن‬
‫الفنية (الموناليزا)‬ ‫وع��اد ليتعلم اللغة الالتينية بجانب مفاهيم‬ ‫المدينة بين �أنجيانو وفالتوغتانو ‪ ..‬والده ال�شاب‬
‫الريا�ضيات المعتمدة على المنطق والأدب‬ ‫الثري كاتب العدل‪ ،‬ووالدته كاترينا فتاة من‬
‫و(الع�شاء الأخير)‬ ‫والمو�سيقا والت�صوير‪.‬‬ ‫العبيد الذين تم �أ�سرهم من �شمال �إفريقيا‪ ،‬ليعي�ش‬
‫وقبل وفاته �أو�صى‬ ‫في عام (‪� )1466‬ألحقه والده بم�شغل للفنون‬ ‫دافين�شي حياة غير مكتملة نتيجة فقدان الأم‪،‬‬
‫بجميع ممتلكاته‬ ‫يملكه �صديقه �أندريا دل فيروكيو في فلورن�سا‪،‬‬ ‫برغم اهتمام والده ورعاية الأ�سرة له‪ ،‬وهو الأمر‬
‫لإخوته وللفقراء‬ ‫التي كانت المركز الرئي�سي للعلوم والفن في‬ ‫الذي جعله ال يهتم كثيراً بتعليمه الأ�سا�سي‪.‬‬
‫�إيطاليا‪ ،‬وهناك ب��رزت موهبة دافين�شي في‬ ‫ت��زوج الأب ث�لاث م��رات‪ ،‬ووج��د دافين�شي‬

‫لوحة «الع�شاء الأخير»‬

‫‪81‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫من �أعماله‬
‫�إل��ى جانب المق�صات والبكرات والزمبركات‬ ‫فن الت�صوير والنحت‪ ،‬خ�صو�ص ًا بعد اهتمام‬
‫ومحمل الأ�سطنيات و�أجهزة القيا�س‪ ،‬التي تقوم‬ ‫فيروكيو فنان ذلك الع�صر بال�صبي الموهوب‬
‫بقيا�س الرطوبة وتقلبات الطق�س والم�سافات‪.‬‬ ‫(‪� 14‬سنة)‪ ،‬وخالل ع�شرة �أيام ق�ضاها دافين�شي‬
‫وب����رع داف��ي��ن�����ش��ي ف��ي ال��ط��ب وال��ف��ي��زي��اء‬ ‫في هذا الم�شغل �أنجز الكثير من الأعمال الرائعة‬
‫والريا�ضيات وعلم الت�شريح والب�صريات وعلوم‬ ‫في الت�صوير والنحت‪ ،‬ف�أ�صبح م�ساعداً لفيروكيو‬
‫الحياة وال��وراث��ة والفلك والعمارة والهند�سة‬ ‫حيث �ساعده في �أعماله الموكلة �إليه‪ ،‬وقام‬
‫قدم للب�شرية �أعما ً‬
‫ال‬ ‫والطيران وعلم الخرائط‪ ،‬وكانت فترة �شبابه‬ ‫بم�ساعدة فيروكيو بر�سم المالك ال�صغير الجاثم‬
‫فنية واختراعات‬ ‫مليئة بالإنجازات والأعمال الفنية واالبتكارات‪،‬‬ ‫على ركبتيه من الي�سار‪ ،‬كما �أ�صبح دافين�شي‬
‫و�إنجازات و�أبحاث ًا‬ ‫و�ساهم تنقله ما بين فلورن�سا وميالنو وروما‬ ‫ع�ضواً في دليل فلورن�سا للر�سامين‪.‬‬
‫ومخططات علمية‬ ‫وباري�س في القراءة واالط�لاع وتدوين جميع‬ ‫ا�شتغل دافين�شي بمهنة الر�سم‪ ،‬و�أ�صبح‬
‫الظواهر‪ ،‬فكانت الأفكار تطارده �أينما ذهب‪،‬‬ ‫�أكثر تفوق ًا على �أ�ستاذه ومعلمه فيروكيو‪ ،‬فقام‬
‫فريدة في تنوعها‬ ‫فقد �سيطرت عليه فكرة الطيران‪ ،‬وكان ال�س�ؤال‬ ‫بر�سم ج��داري لكني�سة الق�صر القديم‪ ،‬ولكن لم‬
‫الدائم ال��ذي يحاول �أن يجد له �إج��اب��ة‪ :‬ما هو‬ ‫يتم �إنجازها وكانت لوحة (توقير ماغى) التي‬
‫�ضغط الهواء على �أجنحة الطيور وهي تحلق؟‬ ‫بد�أها عام (‪� )1481‬أول �أعماله المهمة و�أي�ض ًا‬
‫وه��ل يمكن للإن�سان �أن ي�صنع �آل��ة طائرة؟‬ ‫لم يكملها ليقوم بعدها بت�صميم بع�ض الأنظمة‬
‫فا�ستهوته فكرة الطيران وبحث في �إمكانية‬ ‫الدفاعية �ضد التهديد الم�ستمر من تركيا‪ ،‬فقد‬
‫طيران الإن�سان‪ ،‬وكان م�سحوراً بفكرة �أن يحلق‬ ‫�شغل دافين�شي من�صب المهند�س الع�سكري‪ ،‬بعد‬
‫النا�س في ال�سماء كالطيور‪ ،‬وفكر ب�صنع �آلة على‬ ‫�أن اختاره الدوق لودوفيكو لهذا المن�صب الذي‬
‫�شكل جناحين تتيح للإن�سان الطيران وكنتيجة‬ ‫احتفظ به عندما انتقل ملك ميالنو �إلى البندقية‪،‬‬
‫لدرا�ساته المعمقة في الطيران‪ ،‬قام بتطوير �آلة‬ ‫ونجح دافين�شي في اختراع المدفع الر�شا�ش‬
‫ت�أثر بفل�سفة‬ ‫تقي�س �سرعة الرياح ت�ستعمل بب�ساطة ولتكون‬ ‫وال��دب��اب��ة التي ت�سير ف��ي جميع االتجاهات‪،‬‬
‫�أفالطون وا�ستفاد‬ ‫�أكثر دقة في تحديد �سرعة الرياح‪ ..‬كما �ساهمت‬ ‫وتحمل ع��دداً كبيراً من الأ�سلحة‪ ،‬كما اخترع‬
‫مخططات ومالحظات دافين�شي في �صناعة �أول‬ ‫غوا�صة للغو�ص في �أعماق البحار‪.‬‬
‫من بطليمو�س‬ ‫طائرة هليكوبتر‪ ،‬حيث �أظهرت مخططاته مدى‬ ‫�أنجز دافين�شي ع�شرات االختراعات التي‬
‫و�أرخميد�س و�أر�سطو‬ ‫دقة ت�صويره لفكرة الطائرة و�أجزائها وطريقة‬ ‫كان له ال�سبق في تقديم معظمها �إلى الب�شرية‪،‬‬
‫وغيرهم ممن قدموا‬ ‫عملها ‪ ،‬خا�صة فكرة المروحة الر�أ�سية‪.‬‬ ‫قبل �أن تظهر �إلى الحياة في �شكلها الكامل‪� ..‬أما‬
‫للب�شرية ع�صارة‬ ‫اخترع دافين�شي الج�سور المتنقلة والعربات‬ ‫االختراعات التي لم تخرج �إلى النور‪ ،‬فكان ال�سبب‬
‫الم�صفحة و�سترة الغو�ص ال��واق��ي��ة‪ ،‬واخترع‬ ‫وراء عدم ظهورها هو التكاليف الباهظة التي لم‬
‫فكرهم‬ ‫ال��ط��ائ��رة ال�����ش��راع��ي��ة وال��ب��ارا���ش��وت وط��ائ��رة‬ ‫تكن متوافرة في ذاك الع�صر‪ ،‬وكان دافين�شي‬
‫الهليكوبتر‪ ،‬فكان �أول من �صمم نموذجه للطائرة‪،‬‬ ‫�سباق ًا في اختراع المرفاع النقال‪ ،‬والمرفاع‬
‫و�أو�ضح �أن الإن�سان ب�إمكانه التحليق والطيران‪،‬‬ ‫التر�س‪ ،‬وال��م��رف��اع ال��ق��ادر على حمل كني�سة‬
‫وقام بت�صميم �سيارة م�صفحة �أر�ضية وحفارة‬ ‫بكاملها‪ ،‬و�أي�ض ًا اخترع «الب�ستون» الذي يتحرك‬
‫مائية وبكرة و�سفينة طائرة‪ ،‬وقام بت�شريح (‪)30‬‬ ‫بالبخار ومحول الحركة والمفتاح الإنجليزي‪..‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪�-‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪82‬‬


‫عبـاقرة‬

‫جثة‪ ،‬وا�ستبدل الع�ضالت ب�سال�سل و�أوتار ليرى‬


‫كيفية عملها‪ ،‬وعمل على درا�سة توظيف الطاقة‬
‫ال�شم�سية من خ�لال المرايا‪ ،‬وق��دم ر�سومات‬
‫ومخططات لمظلة الهبوط‪ ،‬وبرع دافين�شي في‬
‫�صناعة �ساعات الجيب والجدار وجعلها �أكثر‬
‫دقة‪ ،‬وطور �ساعة تحتوي على �آلتين م�ستقلتين‪،‬‬
‫الأول��ى لل�ساعات والثانية للدقائق‪ ،‬وتميزت‬
‫�ساعاته با�ستخدام اللوالب بد ًال من الأثقال‪ ،‬كما‬
‫�أ�ضاف لل�ساعة مزولة ت�سجل مراحل حياة القمر‬
‫ن�صف ال�شهرية‪ ،‬و�أدخ��ل في �صناعات ال�ساعة‬
‫مواد جديدة مثل الأحجار الكريمة والألما�س‪..‬‬
‫كما كانت لدافين�شي درا�سات في علم النبات‬
‫والريا�ضيات وعلم الفلك ودرا�سة المياه ال�سطحية‬
‫وتيارات المحيطات و�أمواج البحار والأنهار‪ ،‬كما‬
‫�صفحة من الد�ستور الغذائي �أتالنتيكو�س‬ ‫كان رائ��داً في علم الب�صريات والهيدروكيات‪،‬‬
‫�أنه �سيكون �صاحب اللوحة الأ�شهر في التاريخ‪،‬‬ ‫واعتمد ب�شكل كامل على الم�شاهدة والتجربة في‬
‫و�صاحبة اللوحة كانت زوجة التاجر الفلورن�سي‬ ‫بحثه وطريقه �إلى المعرفة‪.‬‬
‫فران�شي�سكو ديل جيوكوندو‪ ،‬واللوحة ين�سبها‬ ‫ا�ستفاد دافين�شي من الفال�سفة والعلماء الذين‬
‫بع�ضهم �إلى �ساالري (‪ )1524-1480‬و�أي�ض ًا‬ ‫قدموا للب�شرية ع�صارة فكرهم‪ ،‬فقر�أ دافين�شي في‬
‫برع في الطب‬ ‫لفري�سي�سكو ميلزي (‪ ،)1572-1493‬وهي‬ ‫الفل�سفة والأدب والعلوم والطب والعمارة والفلك‪،‬‬
‫والفيزياء‬ ‫مقا�س ‪�77‬سم ‪� 53 -‬سم وتعني كلمة موناليزا‬ ‫وت�أثر بفل�سفة �أف�لاط��ون‪ ،‬وق��ر�أ كتب وم�ؤلفات‬
‫(�سيدتي ليزا) وي�صل عدد زوار اللوحة في معر�ض‬ ‫بطليمو�س و�إقليد�س و�أرخميد�س و�إ�سترابون‬
‫والريا�ضيات وعلم‬ ‫اللوفر بباري�س �إل��ى (‪ )6‬ماليين زائ��ر �سنوي ًا‪،‬‬ ‫وبليتو�س وفيروفيو�س و�أر�سطو وكليوميدي�س‬
‫الت�شريح والب�صريات‬ ‫وح�صلت اللوحة على هذه ال�شهرة مع بداية القرن‬ ‫وغيرهم‪.‬‬
‫والفلك والهند�سة‬ ‫التا�سع ع�شر‪ ،‬مع بداية �شهرة دافين�شي‪.‬‬ ‫وكان اهتمام دافين�شي بالعلوم واالختراعات‬
‫والطيران وابتكر في‬ ‫بد�أ دافين�شي في ر�سم ليزا جوكوندو في عام‬ ‫�سبب ًا في تراجع �إنتاجه الفني كر�سام عبقري‬
‫(‪ )1503‬في ع�صر النه�ضة الإيطالية‪ ،‬وتوفي‬ ‫قدم �أروع و�أ�شهر اللوحات (الموناليزا) (‪-1503‬‬
‫كل منها ما يخلده‬ ‫بعد �شهور من االنتهاء من ر�سم اللوحة عام‬ ‫‪( )1519‬الع�شاء الأخير ‪ ،)1498-1495‬كما‬
‫(‪ ،)1519‬و�أخذ اللوحة معه �إلى فرن�سا بعد تلقيه‬ ‫�أنتج الكثير من �أع��م��ال النحت خ�لال �شبابه‪،‬‬
‫دعوة من الملك فران�سوا الأول‪ ،‬وتوفي دافين�شي‬ ‫ف�صنع من الطين بع�ض ال��ر�ؤو���س ل�سيدات كن‬
‫قبل �أن ي�سلمها لفران�سي�سكو جوكوندو �أو زوجته‪،‬‬ ‫ي�ضحكن‪ ،‬وتعد التجربة الوحيدة الم�ؤكدة بفن‬
‫وفي عام (‪� )1530‬أ�صبحت اللوحة ملك ًا لملك‬ ‫النحت لدافين�شي الن�صب (التمثال) غير المكتمل‬
‫فرن�سا وظلت في ق�صر فونتينيلو‪ ،‬ثم نقلها الملك‬ ‫لفران�شي�سكو �سفور�سا‪.‬‬
‫لوي�س الرابع ع�شر �إلى ق�صر فر�ساي‪ ،‬وبعد الثورة‬ ‫كانت �أح�لام دافين�شي بال ح��دود‪ ،‬و�أفكاره‬
‫الفرن�سية وفي عام (‪ )1797‬نقلها �إلى متحف‬ ‫كال�شالل الهادر وفي مختلف المجاالت‪ ،‬وقد قدم‬
‫اللوفر‪.‬‬ ‫مخطط ًا لمدينة نموذجية‪ ،‬جمع فيها بين ر�ؤيته‬
‫تعر�ضت اللوحة لل�سرقة ومحاولة الت�شويه‬ ‫و�أحالمه المعمارية والفنية‪ ،‬و�أفكاره العلمية‬
‫�أكثر من م��رة‪ ،‬وق��د تمت �سرقتها من المتحف‬ ‫والهند�سية في م�شروع عمالق‪ ،‬وكان وراء هذه‬
‫في عام (‪ )1911‬وا�ستعادتها ال�شرطة بمعجزة‪،‬‬ ‫الخطوة اجتياح الطاعون لمدينة ميالنو‪ ،‬ما‬
‫وي�ؤكد بع�ض الخبراء �أن اللوحة الموجودة في‬ ‫ت�سبب في الق�ضاء على �أكثر من ثلث �سكانها‪،‬‬
‫اللوفر مقلدة‪ ،‬وهي محاطة ب�صندوق زجاجي‬ ‫وحاول دافين�شي �أن يقدم ر�ؤية جديدة للمدينة‬
‫م�صفح لحمايتها �ضد ال�سرقة ومحاولة الت�شويه‪.‬‬ ‫في مبانيها و�شوارعها واالهتمام بال�صرف‬
‫من اختراعاته‬
‫توفي دافين�شي يوم (‪ 2‬مايو عام ‪)1519‬‬ ‫ال�صحي والحمامات وم�صافي المياه‪ ،‬ومكبات‬
‫�أثناء وجوده في فرن�سا خالل عمله لدى الملك‬ ‫القمامة‪ ،‬في محاولة لتقليل الخ�سائر في الأرواح‬
‫فران�سي�س الأول‪ ،‬كان قد وهب في و�صيته جميع‬ ‫بالق�ضاء على التلوث وتكد�س ال�سكان‪.‬‬
‫ممتلكاته �إلى �إخوته وللفقراء والمحتاجين‪.‬‬ ‫عندما ر�سم دافين�شي الموناليزا‪ ،‬لم يكن يعلم‬

‫‪83‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫غارودي‪..‬‬
‫المفكر التنويري‬ ‫د‪ .‬عبدالعزيز المقالح‬

‫�أما ال�صورة الأولى لرد الفعل لدى رجال‬ ‫لم ينل مفكر عالمي ما ناله المفكر روجيه‬
‫ال�سلطة التقليدية والمال‪ ،‬فقد اتخذت �شكل‬ ‫غارودي‪ ،‬منذ �أعلن �إ�سالمه‪ ،‬ووجد في الإ�سالم‬
‫محاكاة الغرب‪ ،‬واالن�ضمام الفعلي لوحدانية‬ ‫نهج ًا �إن�ساني ًا‪ ،‬ي�شق طريق ًا جديداً للإن�سانية في‬
‫ال�سوق‪ ،‬تحت القناع الم�ضلل للمظاهر الدينية‬ ‫ع�صرنا الحديث‪ ،‬وقد اختار المترجم‪� ،‬أن يثبت‬
‫ال�شكلية المتعلقة بالتفاهات الخارجية‪.‬‬ ‫وجهة النظر هذه في مقدمة كتاب غ��ارودي‬
‫وفي ال�صورة الثانية نجد مواجهة خيانات‬ ‫(الإ�سالم) قائ ًال‪( :‬لي�س هذا الكتاب تاريخي ًا‬
‫�صارخة بهذا القدر‪ ،‬دخلت ال�شعوب بمجموعها‬ ‫للإ�سالم وال تفكيراً مجرداً في الهوته‪� ،‬إنه‬
‫في مقاومة الأوامر االقت�صادية‪ ،‬التي فر�ضت‬ ‫كتاب قام على بركان التوترات التاريخية‬
‫في تخليد اال�ستعمار القديم ب�أ�شكال جديدة‪،‬‬ ‫المعا�صرة‪ ،‬التي ي�شكل الم�سلمون محورها‬
‫مع ما لها من تبعيات �سيا�سية و�صور الب�ؤ�س‬ ‫الأ�سا�سي‪� .‬أم��ا تفكيري‪ ،‬خالل هذه ال�سنوات‬
‫االقت�صادي الناجمة عنها‪.‬‬ ‫الع�شر الأخيرة‪ ،‬ف�إن له جذوره العميقة‪ ،‬في هذه‬
‫غارودي وجد في‬ ‫ول��ك��ن مهما يكن رف�����ض ه��ذه النزعات‬ ‫الهزات‪ ،‬تلك هي الم�صادر العميقة لهذا التفكير‪،‬‬
‫الإ�سالم نهج ًا �إن�ساني ًا‬ ‫اال�ستعمارية �سلمي ًا‪ ،‬ومهما تكن رغبة هذه‬ ‫في عظمة الإ�سالم و�صور االنحطاط التي ورط‬
‫ال�شعوب في ا�ستعادة هويتها‪ ،‬رغبة عادلة‬ ‫فيها‪.‬‬
‫في ع�صرنا الحديث‬ ‫وم�شروعة‪ ،‬ف�إنها ال تفلح في �إن�شاء م�شروع‬ ‫�أم��ا الهدف ال��ذي ين�شده هذا الكتاب فهو‬
‫حقيقي‪ ،‬خالق للم�ستقبل‪ ،‬وكل �شيء يتم كما لو‬ ‫ب�سيط؛ فنحن نعتمد على تحليل العظمة‬
‫�أن معار�ضة الغرب ال تكون �إال بتقليد الما�ضي‪،‬‬ ‫الما�ضية‪ ،‬التي عرفها الإ�سالم‪ ،‬باعتباره مبدع ًا‬
‫ما�ض �أ�سطوري‪� ،‬سابق للهيمنات التي ق�ضت‬ ‫ٍ‬ ‫لمبادرة تاريخية‪ ،‬وتحليل �أ�سباب االنحدار‬
‫عليها‪.‬‬ ‫التي �أخ�ضعته ال�ستعمار الأم�س‪ ،‬واال�ستعمار‬
‫ولم تكن عبقرية فقهائنا الكبار‪ ،‬وال �سيما‬ ‫الجديد اليوم‪ .‬ونبحث عن‪ :‬كيف للإ�سالم �أن‬
‫�أبو حنيفة وال�شافعي‪ ،‬تكمن على وجه الدقة في‬ ‫يعود فيجد مكانه في �إعادة تنظيم عالم �صار‬
‫االقت�صار على تكرارٍ حرفي للقر�آن الكريم �أو‬ ‫فو�ضى‪ ،‬وهيمنة للإمبراطورية نا�شرة النظرية‬
‫لتف�سيرات القر�آن‪ ،‬بل على العك�س‪ ،‬في �أال ُيقر�أ‬ ‫الليبرالية‪ ،‬والأكثر تدميراً للعالم برمته‪ ،‬والتي‬
‫القر�آن الكريم بعيون موتى‪ ،‬ولكن بفكر نقدي‬ ‫مردها وجدانية �إله ال�سوق‪� ،‬أي المال‪� .‬إن ال�صور‬ ‫ّ‬
‫وتاريخي‪ ،‬ون�ستخل�ص منه المبادئ الأبدية‪،‬‬ ‫الحالية لرد فعل العالم الإ�سالمي على هذه‬
‫التي تكون القواعد الأ�سا�سية لكل مجتمع‬ ‫الفو�ضى بدت غير ناجعة‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪84‬‬


‫ت�أمالت‬

‫�إن كل ه�ؤالء الرجال‪ ،‬مهما يكن ا�سم الدين‬ ‫�إن�ساني‪� ،‬أي �إلهي (ال�شريعة)‪� ،‬أي محاوالت‬
‫الذي يعتنقونه‪ ،‬هم ال�شهداء الأحياء على الإله‬ ‫لتطبيق هذه المبادئ على الأو�ضاع التاريخية‬
‫نف�سه‪.‬‬ ‫الجديدة (�أي الفقه)‪ ..‬ومثال ذلك‪� ،‬أن قوانين‬
‫كتابه لي�س تاريخ ًا‬ ‫ويهدف هذا الكتاب فقط �إل��ى م�ساعدتنا‬ ‫الإرث والزواج وحقوق المر�أة و�صور اللبا�س‪،‬‬
‫للإ�سالم وال تفكيراً‬ ‫نحن بدورنا‪ ،‬على �أن نكون رج��ا ًال �صامدين‬ ‫ال يمكن �أن تكون واح��دة في مجتمع بدوي‪،‬‬
‫�ضد وقاحة ال�سادة‪.‬‬ ‫ومجتمع زراع ��ي ومجتمع �صناعي‪ .‬وكما‬
‫مجرداً في الهوته‬ ‫وه��ك��ذا يو�ضح (غ����ارودي) ف��ي مقدمته‬ ‫يبين لنا (�أب��و حنيفة) �أن في و�سع الإن�سان‬
‫و�إنما في عظمة‬ ‫الطويلة وجهة نظره‪ ،‬وكما �أ�شارت المقدمة‬ ‫�أن يكون م�سلم ًا ح�سن الإ���س�لام‪ ،‬في مجتمع‬
‫الإ�سالم‬ ‫للدكتورة (جورجيت عطية �إبراهيم) �إلى بع�ض‬ ‫مختلف جداً عن مجتمع المدينة‪ ،‬ف�إن الأمر‬
‫هذه الحقائق عندما قالت في مقدمتها‪:‬‬ ‫اليوم بالن�سبة �إلينا‪ ،‬بعد �أن تبين كيف يمكن‬
‫(ي�سرني �أن �أق��دم للقارئ العربي باكورة‬ ‫�أن نعي�ش الإ�سالم ونعبد اهلل في مجتمعاتنا‪،‬‬
‫�أعمالي كتاب (الإ�سالم) للمفكر والفيل�سوف‬ ‫ال في االنعزال والحلم بعودة �إل��ى الما�ضي‪،‬‬
‫الفرن�سي الم�شهور روجيه غارودي‪ ،‬وتلك الثقة‬ ‫بل بالن�ضال مع كل الم�ؤمنين الذين يعتقدون‬
‫التي �أوالن��ي �إياها‪� .‬إن قلق النا�شر الم�س�ؤول‬ ‫مثلنا �أن للعالم معنى‪ ،‬و�أن العالم واحد �ضد‬
‫ال يقل عن قلق الباحث ال��ذي ي�سعى دائم ًا‬ ‫كل �صور اال�ستعمار‪ ،‬ينا�ضل فيه الم�سلمون‬
‫�إلى الإجابة عن الأ�سئلة المعرفية الكت�شاف‬ ‫والم�سيحيون والبوذيون‪ ،‬لكي يعطوا كل �إن�سان‬
‫الحقيقة‪ ،‬ذلك �أن اختيار النا�شر لما ين�شر ُيعد‬ ‫مهما يكن لونه و�أ�صله ودينه كل الو�سائل‪،‬‬
‫في حد ذاته م�س�ؤولية كبرى‪ ،‬لأنه يعرف ويدرك‬ ‫التي ت�ساعده على تفتيح كل الإمكانيات التي‬
‫العقيدة هي طريقة‬
‫مدى ت�أثير الكلمة في عقول النا�س ونفو�سهم‪،‬‬ ‫يحملها في داخله‪.‬‬
‫عمل على �أن نظل‬ ‫و�أولها ديمقراطية الحرف والكلمة‪ ،‬كي نبوح‬ ‫ونحن ال ن�ستطيع �أن نفعل ه��ذا وحدنا‪،‬‬
‫�صامدين للمواجهة‬ ‫فيها بمكنونات القلب والفكر والروح‪ ،‬ون�صبها‬ ‫وال�سبب‪� ،‬أو ًال‪ ،‬هو �أننا ال نملك حلو ًال جاهزة‬
‫ومجابهة الظلم‬ ‫كتاب ًا ي��دور في مجمل �أب��ع��اده على ق�ضايا‬ ‫لكل م�شكالت زماننا هذا‪ ،‬ثم لأن هذا الن�ضال‬
‫واال�ستبداد‬ ‫الع�صر ويناق�شها‪ ،‬وق�ضايا الوطن �ضمن البعد‬ ‫هو ن�ضال كل �أ�صحاب العقيدة �أو الم�ؤمنين‬
‫القومي والح�ضاري والإن�ساني)‪.‬‬ ‫بعقيدة‪ ،‬مهما يكن نوع �إيمانهم‪ ،‬وال يهمني‬
‫�إذاً‪ ،‬ال بد من ت�سجيل �صدق الموقف في‬ ‫ما يقوله الإن�سان عن عقيدته �أنا م�سلم �أو �أنا‬
‫قولنا‪� ،‬إن الإ�سالم بعد حقيقي للح�ضارة التي‬ ‫م�سيحي‪� ،‬أو هندو�سي‪ ،‬بل �إن ال��ذي يهمني‪،‬‬
‫ننتمي �إليها‪ ،‬فلم ال يكون البدء من هنا؟!‪.‬‬ ‫هو ما تفعله هذه العقيدة في هذا ال�شخ�ص‪.‬‬
‫وكما ق��ال (غ���ارودي) �أي�ض ًا‪( :‬لي�س هذا‬ ‫فالعقيدة لي�ست معتقداً‪ ،‬بل هي طريقة عمل‪،‬‬
‫الكتاب تاريخ ًا للإ�سالم‪� ،‬إنه محاولة لإطالق‬ ‫والعقيدة هي ما يجعلنا رجا ًال يقفون �صامدين‬
‫�أح��ك��ام رزي��ن��ة على الأ���س��ب��اب ال��ت��ي كونت‬ ‫ال م�ست�سلمين‪ ،‬و�أك��ب��ر ج��ه��اد ه��و �أن نقول‬
‫�آمن ب�أن الإ�سالم‬ ‫عظمته و�سببت �أي�ض ًا انح�سارات في الما�ضي‬ ‫نبينا‪.‬‬
‫الحقيقية على ما يقول ّ‬
‫والتبا�سات في الحا�ضر‪� ،‬إنه محاولة هدفها‬ ‫�إنك تقول �إنك م�سيحي؛ فهل �أنت م�ستعد مثل‬
‫ي�شكل البعد‬ ‫تقديم الفكر والحكم الرزين الذي كون عظمته‬ ‫النبي عي�سى لرف�ض الخ�ضوع لقوانين المعبد‬
‫الحقيقي للح�ضارة‬ ‫عبر التاريخ‪ .‬وال��واق��ع �أن الإ���س�لام يمثل من‬ ‫وقوانين المحتل الروماني حتى الموت؟ وهل‬
‫التي ينتمي �إليها‬ ‫الناحية ال�سو�سيولوجية ف��ي نهاية هذه‬ ‫�أنت م�ستعد للمقاومة كما يفعل؟ و�أنت تقول‬
‫القرن ُخم�س الإن�سانية‪ .‬فهل الإ�سالم في هذا‬ ‫�إنني هندو�سي؛ فهل �أنت م�ستعد مثل غاندي‬
‫المنظور الكلي نذير بتهديد �أم ب�شير بـ�أمل؟‬ ‫�إلى �إثارة �شعبك كله �ضد المحتل اال�ستعماري‪.‬‬
‫وهدفنا �أن ندلي في هذه الم�س�ألة بعنا�صر‬ ‫وتقول �إنك م�سلم‪ ،‬فهل �أنت م�ستعد مثل نبينا‬
‫للتفكير واالختيار)‪ .‬وفي هذه المالحظات التي‬ ‫لمجابهة تجار مكة؟ �أو لقبول النفي كال�صوفي‬
‫�ضمنتها المقدمات‪ ،‬ما يوحي بالجهد العظيم‬ ‫الأندل�سي ابن عربي‪� ،‬أو مثل الأمير عبدالقادر‬
‫ال��ذي تحمله (غ� ��ارودي) قبل �إ�سالمه وبعد‬ ‫تلميذ ابن عربي‪ ،‬لمنح حياتك وحريتك في‬
‫�إ�سالمه‪.‬‬ ‫�سبيل تحرير �شعبك؟‬

‫‪85‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫ال ن�ص من دونه‬
‫العنوان وجه الن�ص الواعد بج�سد متكامل‬
‫لم ي�ش ّبه جاك دريدا العنوان بالثريا اعتباطاً؛ فهو وجه الق�صيدة‪ ،‬و�أول ما نراه من مالمحها‪،‬‬
‫�إن��ه �أل��ق عينيها ال��واع��د بكيان �شعري مكتمل‪ ،‬وه��و العتبة الرئي�سة للولوج في الق�صيدة‪،‬‬
‫والخطوة الأه��م في التوا�صل مع المتلقي‪ ،‬ومن ثم الدخول �إل��ى عوالمه‪ ،‬وهو �أعلى اقت�صاد‬
‫لغوي ممكن‪ .‬والعنوان في العمل الأدب��ي دائم ًا ما يحمل �أب��ع��اد ًا داللية تحيل �إل��ى م�ضامين‬
‫الن�ص‪ ،‬وربما ي�شكل العنوان ن�ص ًا موازياً؛ بو�صفه مفتاح ًا نعبر به �إلى �أغ��وار الن�ص‪ ،‬ونك�شف‬
‫م�صطفى القزاز‬
‫مقا�صده المبا�شرة والرمزية‪ ،‬وبالتالي هناك عالمات جدلية م�ستمرة بين العنوان والن�ص‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪86‬‬


‫�إ�ضاءة‬

‫كتاب (عتبات) حيث عد جينيت العنوان �أهم‬ ‫ويبدو �أن ال�شاعر العربي القديم لم يكن‬
‫عنا�صر الن�ص الموازي‪.‬‬ ‫بحاجة �إل��ى ت�سمية ق�صيدته �أو عنونتها؛‬
‫يعدُّ العتبة الرئي�سة‬ ‫ويرى ليو هوك �أن العنوان هو (مجموعة‬ ‫لأن ا�سمها يولد معها‪� ،‬إما في المطلع‪ ،‬و�إما‬
‫كلمات وجمل‪ ،‬وحتى‬ ‫ٍ‬ ‫العالمات الل�سانية‪ ،‬من‬ ‫القافية‪ ..‬وق��د ا�شتهرت الق�صائد العربية‬
‫للولوج �إلى الن�ص‬ ‫ن�صو�ص‪ ،‬قد تظهر على ر�أ�س الن�ص لتدل عليه‬ ‫القديمة بمطالعها‪ ،‬مثل (بانت �سعاد) �أو‬
‫والخطوة الأهم في‬ ‫وتعينه‪ ،‬وت�شير �إلى محتواه الكلي‪ ،‬ولتجذب‬ ‫بقوافيها مثل (�سينية البحتري)‪ ،‬غير �أن‬
‫التوا�صل مع المتلقي‬ ‫جمهوره الم�ستهدف)‪� .‬إذاً فهو بنية �صغرى ال‬ ‫الإ�شارة �إلى الق�صيدة بمطلعها �أو قافيتها‬
‫يمكن ب�أي حال �أن تنف�صل عن البنية الكبرى‬ ‫ال تعطي للقارئ �أو ال�سامع �أي فكرة عن‬
‫(الن�ص) التي تندرج تحتها‪.‬‬ ‫الق�صيدة‪� ،‬إذا لم يكن له �سابق خبرة بها‪ ،‬وقد‬
‫واعتبر العنوان �إلى ٍ‬
‫وقت قريب هام�ش ًا ال‬ ‫ال�سنة في ال�شعر العربي �إلى ع�صر‬ ‫�سارت هذه ُّ‬
‫يعتبر مفتاح ًا نعبر‬ ‫قيمة له‪ ،‬وملفوظ ًا لغوي ًا ال يقدم �شيئ ًا لتحليل‬ ‫النه�ضة الحديثة‪ ،‬حين بد�أت رياح التيارات‬
‫الن�ص الأدب��ي؛ لذلك لم يهتم به النقاد‪ ،‬بل‬ ‫الأدب��ي��ة الغربية تهب على منطقة ال�شرق‬
‫به �إلى �أغوار الن�ص‬ ‫تجاوزوه كما تجاوزوا باقي العتبات الأخرى‬ ‫العربي من خالل �أقالم بع�ض المثقفين الذين‬
‫ونك�شف مقا�صده‬ ‫التي تحيط بالن�ص‪� ،‬إلى �أن جاءت المناهج‬ ‫در�سوا الثقافة الغربية في �أوروبا‪ ،‬وكان من‬
‫المبا�شرة والرمزية‬ ‫النقدية ما بعد البنيوية فخ�صته بقدرٍ كبي ٍر‬ ‫�آثار ذلك ظهور العنوان في الق�صيدة العربية‪،‬‬
‫م��ن الأه��م��ي��ة؛ واهتمت بتفا�صيل الن�ص‬ ‫وك��ان العنوان في هذه المرحلة ي�شير في‬
‫وت�ضاري�سه الإبداعية الفنية كوحدة مكتملة‪،‬‬ ‫الغالب �إلى فحوى الق�صيدة‪ ،‬و�أ�صبح القارئ‬
‫بداية بالجانب ال�شكلي‪ ،‬ثم عتبة العنوان‪،‬‬ ‫ي�ستطيع �أن يدرك مو�ضوع الق�صيدة‪ ،‬الذي‬
‫هو ال�ضوء ال�ساطع‬ ‫مروراً بكل تف�صيلة في الن�ص الأدبي؛ حيث‬ ‫�صار جزءاً من مهمة ال�شاعر‪ ،‬بعد �أن كان من‬
‫الذي ينير ظالم‬ ‫�إنها ت�سعى �إلى االنكباب على �أدبية الن�ص‬ ‫مهام القارئ �أو الم�ستمع قديم ًا‪ ،‬فهو بمثابة‬
‫الن�ص وي�ساعد على‬ ‫الداخلية بخالف الجوانب الخارجة عنه‪،‬‬ ‫بطاقة تعارف بين الق�صيدة والقارئ يقدمها‬
‫واهتمت �أي�ض ًا بالن�ص وعنوانه الذي اعتبرته‬ ‫ال�شاعر قبل الق�صيدة‪ ،‬فمن الي�سير على‬
‫اكت�شاف متاهاته‬
‫مكون ًا �أ�سـا�سي ًا ودا ًال من الدوال التي ت�شكل‬ ‫القارئ �أن يدرك مو�ضوعات بع�ض ق�صائد‬
‫�أدب���ي���ة خ��ا���ص��ة‬ ‫�أح��م��د �شوقي م��ن عناوينها‪ ،‬مثل ق�صائد‬
‫م�ستقلة ال يمكـن‬ ‫�شوقي (كبار الحوادث في وادي النيل) و(‬
‫اال���س��ت��غ��ن��اء �أو‬ ‫نهج البردة)‪ ،‬ومثل ق�صائد حافظ �إبراهيم‬
‫التغا�ضي عنها‪.‬‬ ‫(حادثة دن�شواي)‪ ،‬و(حريق ميت غمر)‪.‬‬
‫وهنا نحاول‬ ‫وق��د اهتم النقاد ف��ي �أوروب���ا بدرا�سة‬
‫�أن ن�سلط ال�ضوء‬ ‫كـ(ن�ص) م�ستقل في وقت �سابق جداً‬ ‫ٍّ‬ ‫العنوان‬
‫على هذا المكون‬ ‫مقارنة بالنقاد العرب‪ ،‬ذلك لأن العنوان كان‬
‫الأ�����س����ا�����س����ي‪/‬‬ ‫قديم ًا قدم �صناعة الكتب في �أوروبا‪ ،‬وكان‬
‫ال�������ع�������ن�������وان‬ ‫كتاب (الكتب في القرن الثامن) للفرن�سيين‬
‫المفتاحي للعمل‬ ‫فران�سوا ف ��روري و�أن���دري فونتانا �أواخ��ر‬
‫حافظ �إبراهيم‬ ‫جاك دريدا‬ ‫الفني‪ ،‬لما ي�شكله‬ ‫�ستينيات القرن الما�ضي (‪ -)1968‬باكورة‬
‫أولي‬
‫من انطباع � ٍّ‬ ‫الإنتاج النقدي الذي يهتم بالعنوان في بحث‬
‫ع��ن طبيعة ه��ذا‬ ‫م�ستقل‪ ،‬كما � ّأن للفرن�سي ليو ه��وك دوراً‬
‫ال��ع��م��ل‪ ،‬ور�سمه‬ ‫�إرها�صي ًا في ت�أ�سي�س علم العنونة ‪ ،‬وذلك‬
‫لأف������ق ال��ت��وق��ع‬ ‫عندما كتب كتابيه الم�شهورين (من �أجل‬
‫ل� ��دى ال��م��ت��ل��ق��ي‪،‬‬ ‫�سيموطيقا العنوان) �أو (عالمة العنوان)‪،‬‬
‫ي ��خ ��ت ��ل ��ف ه� ��ذا‬ ‫اللذين يعدان من �أ�سا�سيات درا�سة �أ�صول‬
‫الأفق في ات�ساعه‬ ‫ونظريات (علم العنونة)‪.‬‬
‫و���ض��ي��ق��ه ع��ل��ى‬ ‫وق ��د ك��ل��ل ج��ي��رار جينيت م��ج��ه��ودات‬
‫الم�ش ّكلة‬
‫ُ‬ ‫ال��ل��غ��ة‬ ‫�أ�سالفه بالنجاح الباهر المميز حين بنى‬
‫للعنوان نف�سه‪،‬‬ ‫على ما قدمه �سابقوه‪ ،‬و�أ�صدر �أول م�صدر‬
‫جيرارد جينيت‬ ‫�أحمد �شوقي‬ ‫وت����أت���ي �أه��م��ي��ة‬ ‫حقيقي كامل متكامل في علم العنونة‪ ،‬وهو‬

‫‪87‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫�إ�ضاءة‬

‫ثقافية وتحدد ق�صديته بم�ساعدة داللتين‬ ‫كون ًا ن�صي ًا ال يقل �أهمية عن‬
‫العنوان لكونه ُم ّ‬
‫هما‪ :‬الداللة التجريبية والداللة التاريخية‪،‬‬ ‫مكونات الن�ص الأخرى من متن وفكرة يدور‬
‫يحمل �أبعاداً داللية‬ ‫وقد حدد جيرار جينيت‪� ،‬أربع وظائف للعنوان‬ ‫حولهما الن�ص؛ فالعنوان له دور فاعل؛ حيث‬
‫وربما ي�شكل ن�ص ًا‬ ‫ه��ي‪ :‬الوظيفة التعيينية‪ ،‬وه��ي التي ُتبرز‬ ‫ي�شكل �سلطة الن�ص وواجهته المرئية للوهلة‬
‫موازي ًا‬ ‫هوية الن�ص وانتماءه‪ ،‬والوظيفة الوظيفية‪،‬‬ ‫الأول���ى‪ ،‬كما �أن��ه الجزء ال��دال من الن�ص‪،‬‬
‫وه��ي ت ��ؤك��د �أن ال��ع��ن��وان و���ص��ف قبل كل‬ ‫وهذا ما ي�ؤهــله للك�شف عن طبيعة الن�ص‪،‬‬
‫�شيء‪ ،‬ووظيف ُة المدلول‪ ،‬وهي ترتبط‬ ‫والم�ساهمة ف��ي ف��ك غمو�ضه‪ ،‬ب��ل ي�شارك‬
‫بالوظيفة الثانية‪ ،‬فللعنوان وظيفة‬ ‫م�شارك ًة فاعل ًة في فهم كامل الن�ص؛ وهذا‬
‫داللية ف�ض ًال عن وظيفة المدلول؛‬ ‫ودافع‬
‫ٌ‬ ‫يعني �أن العنوان هو مر�آة متن الن�ص‪،‬‬
‫ن�ص‬
‫لأنه ُيعد ن�ص ًا قائم ًا ي�شير �إلى ٍ ّ‬ ‫�أ�سا�سي لقراءته‪ ،‬ومن ثم ف�إن الأهمية التي‬
‫يكتب‪ ،‬و�أخيراً وظيفة الإغ��راء‪ ،‬التي‬ ‫يحظى بها العنوان تنبع بداي ًة من اعتباره‬
‫ت�ؤكد جاذبية العنوان بالن�سبة �إلى‬ ‫المفتاح الأول في التعامل مع داللة الن�ص‪،‬‬
‫المتلقي‪.‬‬ ‫حيث ال يمكن للقارئ �أن يدخل مغارة كتاب‬
‫وقد ظل االهتمام (بالعنونة)‬ ‫مغلقٍ ال يمتلك مفتاحه‪ .‬العنوان �إذاً هو‬
‫في ال��درا���س��ات النقدية العربية‬ ‫ال�ضوء ال�ساطع ال��ذي ُي�ضيء ظالم الن�ص‪،‬‬
‫وقت قريب‪،‬‬ ‫الحديثة غائب ًا حتى ٍ‬ ‫وي�ساعد على ا�ستك�شاف متاهاته‪ ،‬فهو بذلك‬
‫وك� ��ان االه��ت��م��ام م��ن�����ص��ب� ًا على‬ ‫�ضروري �ضرورة الن�ص نف�سه؛ لأنه ال ن�ص‬
‫المتن وحده دون نظر �إلى الن�ص‬ ‫من دون عنوان؛ فالمتلقي يدخل �إلى العمل‬
‫الموازي‪/‬العنوان‪ ،‬لكن مع انت�شار‬ ‫من بوابة العنوان‪ ،‬ويوظف خلفيته المعرفية‬
‫المناهج النقدية الحديثة‪ ،‬وانت�شار‬ ‫في ا�ستنطاق دواله وقواعد تركيبه‪ ،‬وكثيراً‬
‫ال��ت��راج��م النقدية المعا�صرة‪ ،‬ال‬ ‫ما كانت داللية العمل وفهمه ناتجين عن‬
‫�سيما الفرن�سية منها‪� ،‬أخذ االهتمام‬ ‫فهم عنوانه فهم ًا جيداً؛ لهذا يمثل العنوان‬
‫بالعنوان ي ��زداد‪ ،‬وذل��ك مع بروز‬ ‫اللغوي الأعلى في الن�ص‪ ،‬وهذه‬ ‫ّ‬ ‫االقت�صاد‬
‫اتجاهات ما بعد البنيوية‪ ،‬وب��د�أ‬ ‫ال�صفة على قدرٍ كبي ٍر من الأهمية‪.‬‬
‫العنوان يحتل مكان ًة متقدم ًة في‬ ‫وللعنوان وظائف عديدة؛ �إذ يرى كريفل‬
‫ه��ذه ال��درا���س��ات م��ن حيث تميزه‬ ‫به ٍو‬
‫(�أن للعنوان وظيفة ن�صية؛ لأنه بمثابة ْ‬
‫وا�ستقالليته الداللية‪.‬‬ ‫يتم الدخول منه �إلى الن�ص‪� ،‬إذ ت�ؤطره خلفية‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪88‬‬


‫مقاالت‬
‫وم�ضات‬

‫�شجون ال�صحافة الثقافية‬


‫الإع�لان��ات للثقافة؟ حيث �إن��ه غالب ًا كان‬ ‫هذا العنوان لي�س جديداً‪ ،‬لكن الحاجة‬
‫يتم ت�أجيل‪� ،‬أو حتى �إلغاء ال�صفحة الثقافية‬ ‫�إلى طرحه مراراً وتكراراً‪ ،‬تبدو �أمراً �ضروري ًا‬
‫لم�صلحة �إع�لان تجاري ربما ال قيمة له‪،‬‬ ‫بحكم �إ�شكاليته الكبيرة ف��ي �صحافتنا‪،‬‬
‫الأم��ر ال��ذي ي�ؤكد �أن الإع�لام تحول بوجه‬ ‫ف��ف��ي تقييم ل��ل��واق��ع ال��ح��ال��ي لل�صفحات‬
‫من الوجوه �إلى م�شروع تجاري مربح على‬ ‫الثقافية‪ ،‬وا�ستح�ضار محطات مهمة مرت‬
‫ح�ساب ال�ش�أن الثقافي‪.‬‬ ‫بها �صفحاتنا الثقافية‪ ،‬ك�إ�صدار المالحق‬
‫كذلك غياب النقد الأدب��ي المتخ�ص�ص‬ ‫الثقافية التي ا�ستطاعت �أن تح�شد متابعين‬
‫�سلوى عبا�س‬ ‫في معظم ال�صحف التي تهتم بنقل الخبر‬ ‫وقراء لها‪ ،‬لمتابعة ما يكتبه �أدباء ومبدعون‪،‬‬
‫�أو الكتابة عن رواي��ة �أو م�شروع م��ا‪ ،‬دون‬ ‫�أ ّثروا في هذه ال�صحافة‪ ،‬وفي الواقع الثقافي‬
‫الدخول لعمق المو�ضوع وتحليله‪ ،‬ي�سهم في‬ ‫من خالل المناظرات العديدة التي �أث��ارت‬
‫مكتب رئي�س التحرير ال��ذي يقرر �صالحية‬ ‫�إ�ضعاف ال�صفحة الثقافية‪ ،‬وهذا يعني حاجة‬ ‫حراك ًا وجد ًال في ال�ساحة الثقافية‪ ،‬وتحديداً‬
‫ن�شرها‪ ،‬حتى لو تعار�ض ذلك مع وجهة نظر‬ ‫ال�صحافة لمتخ�ص�صين يعملون على �إ�ضاءة‬ ‫في فترة ال�سبعينيات‪ ،‬التي كانت مرحلة‬
‫رئي�س الق�سم‪ ،‬وبالمقابل هناك مواد يرف�ضها‬ ‫ه��ذه الم�سائل بتحليالتهم ومداخالتهم‪،‬‬ ‫مميزة في تاريخ الحياة الثقافية‪ ،‬وهنا‬
‫رئي�س التحرير‪ ،‬على الرغم من �أنها قد ت�سهم‬ ‫ليرتقوا بال�صفحة الثقافية �إل��ى �أن تكون‬ ‫يح�ضرنا ال�س�ؤال‪ :‬من الم�س�ؤول عن غياب كل‬
‫في تحريك الحالة الثقافية‪ ،‬فال�صحافة مر�آة‬ ‫مقروءة على الأقل‪ ،‬ولعل الجواب عن �س�ؤال‬ ‫هذا الحراك والنب�ض الثقافي؟‬
‫المجتمع‪ ،‬تعبر عن حقيقة كل ما يح�صل‬ ‫عدم جذب الثقافة للقارئ‪ ،‬يكمن في غياب‬ ‫ول��ل��ح��ق��ي��ق��ة ال يمكننا ال��ح��دي��ث عن‬
‫وفي كل الظروف‪ ،‬ولكنها كما نراها تبدو‬ ‫ال�سجاالت الفكرية الحقيقية التي كانت‬ ‫ال�صحافة الثقافية ب��م��ع��زل ع��ن ظ��روف‬
‫في معظم الأحيان انعكا�س ًا خاطئ ًا للحياة‬ ‫تح�صل بين ك� ّت��اب ون��ق��اد كبار ف��ي زمن‬ ‫ال�صحافة ب�شكل عام‪ ،‬والتي �صارت تحكمها‬
‫الثقافية في البلد‪.‬‬ ‫ال�سبعينيات‪ ،‬وحتى منت�صف الت�سعينيات‬ ‫ال�شهادة الجامعية‪ ،‬بغ�ض النظر عن م�ؤهالت‬
‫كما ال يخفى على �أح��د‪� ،‬أن ال�صحافة‬ ‫على �صفحات الجرائد‪ ،‬ما يغني ال�صفحة‬ ‫ح��ام��ل ه��ذه ال�����ش��ه��ادة‪ ،‬وب��ه��ذه المعطيات‬
‫الثقافية محكومة ب��م��دى ج ��ودة الحياة‬ ‫الثقافية لتفيد القارئ وتجذبه لمتابعتها‪.‬‬ ‫�أ�صبحت ال�صحافة‪ ،‬منبراً لكل من يعرف‬
‫الثقافية‪ ،‬ف�إذا كان الم�شهد الثقافي �ضبابي ًا‬ ‫وال يمكننا �إال �أن نلحظ الفرق بين �صحافة‬ ‫القراءة والكتابة‪ ،‬دون االهتمام بتدريب هذه‬
‫وم ��أزوم � ًا‪ ،‬ف�إنها مر�آته‪ ،‬ونحن لي�س لدينا‬ ‫تلك الأيام وال�صحافة الآن‪ ،‬حيث �إن كل فرد‬ ‫الكوادر وزجها مبا�شرة في العمل ال�صحافي‪،‬‬
‫عالقات ت�ؤ�س�س لحراك ثقافي متفاعل‪ ،‬وهذا‬ ‫بمقدوره الآن �أن يكون �أديب ًا �أو �صحافي ًا‬ ‫برغم جهلها ب�ألف باء الكتابة ومتطلبات‬
‫باعتقادي عائد لأ�سباب مالية و�إداري���ة‪،‬‬ ‫بحكم تعدد و�سائل االت�صال والتعبير التي‬ ‫هذه المهنة‪ .‬والمفارقة �أن الإدارات توزع‬
‫وتتحمل الم�ؤ�س�سات المعنية م�س�ؤولية تطوير‬ ‫تتيح له هذا‪ ،‬والفرق كبير بين زمن ال مكان‬ ‫ال��ك��وادر على الأق�سام ح�سب رغبتهم على‬
‫الم�شهد الثقافي‪ ،‬و�إذا كنا نريد حل �إ�شكالية‬ ‫فيه للكلمة �إال عبر الجريدة‪ ،‬وزمن �آخر تتيح‬ ‫مبد أ� (�صحافة جبران الخاطر) دون الوقوف‬
‫ال�صحافة الثقافية‪ ،‬ف�إننا بحاجة �إلى �إجراء‬ ‫�أدوات��ه الإلكترونية مكان ًا للكتابة في �أي‬ ‫عند مدى �أهلية هذا ال�شخ�ص �أو ذاك للعمل‬
‫درا�سة للجمهور‪ ،‬ال��ذي تتوجه �إليه لتخرج‬ ‫وقت‪.‬‬ ‫في هذا الق�سم �أو غيره‪ ،‬والق�سم الثقافي في‬
‫منه ب�صياغات محددة لنقاط قوته و�ضعفه‪،‬‬ ‫وق��د يكون هناك من ي�ضع اللوم على‬ ‫�أي �صحيفة ال يختلف في حاله عن الأق�سام‬
‫وت��خ��ت��ار الم�ساحة ال��ت��ي ت��ود �أن تمار�س‬ ‫م�شرفي ال�صفحات الثقافية‪ ،‬ب�أنهم ال يهتمون‬ ‫الأخ���رى‪ ،‬حيث تفرز ل��ه ك��وادر تفتقر �إل��ى‬
‫دوره��ا فيها‪ ،‬وت�ضع ت�صوراً للم�ستهدفين‬ ‫بتطوير الكوادر الثقافية في المجتمع‪ ،‬من‬ ‫المرجعية الثقافية‪ ،‬ومع ذلك يبقى هناك‬
‫من وجودها‪ ،‬مع تعريفات دقيقة لأهدافها‬ ‫منطلق �أن ال�صفحة الثقافية ال بد لها من‬ ‫قارئ ثقافي موجود دائم ًا ويتابع ما يكتب‬
‫ور�سالتها ور�ؤي��ت��ه��ا‪ ،‬ث��م ت��ح��دد الو�سائل‬ ‫معادلة �أ�سا�سها ال�ضمير المهني الحقيقي‪،‬‬ ‫وما ين�شر‪.‬‬
‫والأدوات التي �سوف ت�ستخدمها لتحقيق‬ ‫وهنا نقول له�ؤالء‪� :‬إن م�شرفي ال�صفحات‬ ‫وال�س�ؤال ال��ذي يطرح نف�سه �أي�ض ًا‪ :‬هل‬
‫ذلك‪� ،‬سواء من حيث م�ستوى اللغة الم�ستخدمة‬ ‫الثقافية‪ ،‬غير مخولين بت�أهيل �أح��د �إال‬ ‫تهتم ال�صحف بهذا القارئ من خالل دعمه‬
‫و�أ�شكال الخطاب والأ�شكال الفنية المتبعة‬ ‫برغبة الإدارة‪ ،‬كذلك ال بد من التو�ضيح �أنه‬ ‫وم�شاركته ف��ي تفعيل ه��ذه ال�صفحات‪،‬‬
‫في الكتابة‪ ،‬مروراً بتجديد �شكل ال�صحيفة‪،‬‬ ‫ال يمكن لرئي�س ق�سم �أن يوجه محرراً �أو �أن‬ ‫وت�أكيد الدور المهم والتنويري الذي تلعبه‬
‫وانتهاء بخطة توزيعها زمني ًا ومكاني ًا‪ ،‬وهنا‬
‫ً‬ ‫يكون و�صي ًا عليه‪ ،‬لأن كل واحد يعتبر نف�سه‬ ‫ال�صحافة الثقافية في ال�صحف التي تعاني‬
‫ن�شير �إلى �أن ما يقدم تحت م�سمى (ال�صحافة‬ ‫مدرك ًا لما يعمل ولي�س بحاجة لتوجيه �أحد‪،‬‬ ‫�أي�ض ًا �إ�شكاليات ومعوقات تبرز في مناف�سة‬
‫الثقافية) اليوم في بع�ض ال�صحف‪ ،‬هو �أقرب‬ ‫وه��ن��اك م�شكلة (حجم العمل)‪� ،‬أي المواد‬
‫للمنوعات‪ .‬وم��ن ال�����ض��روري الحديث عن‬ ‫المطلوبة من كل محرر لقاء راتبه‪ ،‬والتي‬
‫ال�صحافة الثقافية ال من خالل �شكلها‪ ،‬و�إنما‬ ‫تفر�ض على رئي�س الق�سم قبول مواد قد ال‬ ‫ال بد من ت�أكيد الدور‬
‫من خ�لال القيمة التي تمتلكها في �أدائها‬ ‫تكون بالم�ستوى المطلوب والموافقة عليها‪،‬‬ ‫التنويري الذي تلعبه‬
‫لمهمتها التثقيفية والتوعوية‪ ،‬مع �أن الثقافة‬ ‫لأن نظام ال�صحيفة يفر�ض ذل��ك‪ ،‬ي�ضاف‬
‫ال�سائدة اليوم هي ثقافة ال�صورة والإنترنت‪.‬‬ ‫�إلى ذلك م�شكلة المواد التي ت�صل عن طريق‬
‫ال�صحافة الثقافية‬

‫‪89‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫هي�أ لها طه ح�سين الطريق �إلى الأدب‬

‫�سهير القلماوي‪ ..‬رائدة و�أ�ستاذة الأجيال‬


‫كان الأدب قدرها حين �أغلق الطب �أبوابه �أم��ام طموحها العلمي‪ ،‬فهي أ�‬
‫لها د‪ .‬طه ح�سين الطريق �إل��ى كلية الآداب‪ ،‬لتجد بغيتها في ال�شعر‬
‫والأدب والنقد‪ ،‬فت�صبح الكلمة مفتاح وجودها ودليل �أحالمها‪ ،‬وو�سيلتها‬
‫لتحقيق غاياتها‪ ،‬وغايتها التي ت�سمو على كل الغايات‪ .‬لكنها لم تذهب‬
‫بطموحاتها �إلى الحد الذي تتعطل فيه الطموحات (فال يمكن �أن ننتج‬
‫د‪ .‬بهيجة م�صري �إدلبي‬ ‫�إذا ما تجاوزنا بالآمال حدود الطاقة الب�شرية التي حددها لنا الخالق)‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪90‬‬


‫�ضفاف‬

‫ف��ي ال��م��ق��اب��ل ال يعني ذل ��ك ت�ضييق ًا‬


‫لرهاناتها‪،‬وتحديداً ل�سقف طموحاتها‪ ،‬و�إنما‬
‫�إدراك�� ًا للطاقة التي ت�ضع الطموح في مقام‬
‫التحقق‪ .‬لذلك لم يكن رهانها في الثقافة‬
‫والأدب �أن ت�سلك الم�سالك ال�سهلة والمتاحة‬
‫والم�ألوفة‪ ،‬وال �أن تختبر ذاتها في المختبر‬
‫عبدالمنعم تليمة‬ ‫طه ح�سين‬ ‫الأكثر تداو ًال‪ ،‬و�إنما كان رهانها رهان التحدي‬
‫للذات في اختيار الطرق الطويلة والأب��واب‬
‫ال�ضيقة‪� ،‬ش�أنها �ش�أن ا�ستاذها طه ح�سين‪ ،‬لأنها‬
‫على يقين تام �أن ره��ان التحدي هو الأكثر‬
‫ان�سجام ًا مع طاقتها في البحث والتحليل‬
‫والك�شف‪ ،‬دون �أن يقت�صر ه��ذا الرهان على‬
‫بحثها الأدب��ي والثقافي فح�سب‪ ،‬و�إنما في‬
‫فل�سفتها الحياتية ون�ضالها من �أجل الو�صول‬
‫فاروق خور�شيد‬ ‫�صالح عبد ال�صبور‬ ‫بالمر�أة �إلى المقام الذي يليق بوجودها‪ ،‬ويليق‬
‫وخطوة وا�سعة في ترقية التاريخ الأدب��ي‪،‬‬ ‫بمكانتها االجتماعية والإن�سانية‪.‬‬
‫مبين ًا �سبب الروعة في �إ�شارات ثالث‪ ،‬الأولى‬ ‫كانت �أول امر�أة تح�صل على الدرجة الأولى‬
‫تت�صل بالدكتورة �سهير القلماوي‪ ،‬بجهدها‬ ‫العلمية ف��ي الأدب‪ ،‬ب��ل �أول ام ��ر�أة تت�صدى‬
‫الأدبي ور�ؤيتها العميقة في خياراتها البحثية‬ ‫للمو�ضوعات القلقة في التاريخ‪ ،‬ما زاده��ا‬
‫والمعرفية‪ ،‬والإ���ش��ارة الثانية في المو�ضوع‬ ‫يقين ًا في الطريق الذي اختارته‪ ،‬وفي الرهان‬
‫حين اختارت من الأدب ال�شعبي جزءاً من �أدق‬ ‫المعرفي الذي تراهن عليه‪ ،‬فكانت ر�سالتها‬
‫كان رهانها التحدي‬ ‫�أجزائه‪ ،‬و�أ�شقها و�أ�شدها ع�سراً على الباحث‬ ‫للدكتوراه بحث ًا في �أيقونة الق�ص العربي كتاب‬
‫والتواء على الدار�س‪ ،‬وهو كتاب �ألف ليلة وليلة‪،‬‬
‫ً‬ ‫(�ألف ليلة وليلة) الذي كما ترى كان (الحافز‬
‫للذات هو الأكثر‬ ‫الذي خلب عقول الأجيال في ال�شرق والغرب‪،‬‬ ‫الأه��م لعناية الغرب بال�شرق عناية تتعدى‬
‫ان�سجام ًا مع طاقتها‬ ‫�سواء بما يحمل من متعة ولهو وت�سلية‪� ،‬أو بما‬ ‫النواحي اال�ستعمارية والتجارية وال�سيا�سية)‪.‬‬
‫وموهبتها الأدبية‬ ‫هو خليق �أن يكون مو�ضوع ًا �صالح ًا للبحث‬ ‫وبالتالي �أرادت ببحثها ت�أ�صيل هذا الإرث‬
‫المنتج وال��در���س الخ�صب‪ ،‬لتكون الإ���ش��ارة‬ ‫الحكائي في الذاكرة العربية‪ ،‬با�ستعادته من‬
‫الثالثة في براعة هذه الر�سالة‪ ،‬وهي كونها‬ ‫البعد‬
‫الجهد اال�ست�شراقي الذي كان بعيداً كل ُ‬
‫دلي ًال دقيق ًا للذين يريدون �أن يقر�ؤوا �ألف ليلة‬ ‫عن الأ�صل العربي للق�صة‪ .‬لذلك جاء و�صف‬
‫وليلة‪ ،‬قراءة تعتمد على التروية والتفكير‪.‬‬ ‫طه ح�سين لهذه الر�سالة ب�أنها ر�سالة بارعة‬
‫وحين نختبر الب�صيرة النقدية لدى د‪�.‬سهير‬
‫القلماوي‪ ،‬ن��درك ذلك العمق في فهم الن�ص‬
‫وتحليله‪ ،‬وف��ي الك�شف عن ل��ذة الن�ص التي‬
‫�سعت من �أجل و�صول‬ ‫ي�شترك فيها الناقد مع المتلقي‪ ،‬فمن (مهمة‬
‫الناقد �أن يدل و�أن ي�شير و�أن يرينا ما يجب‬
‫المر�أة �إلى المقام‬ ‫�أن نرى‪ ،‬ولكنه يجب �أن يكون حذراً كل الحذر‬
‫الذي يليق بمكانتها‬ ‫في �إ�صدار الأحكام‪ ،‬فلعل �أكثر ما يف�سد متعة‬
‫االجتماعية‬ ‫الت�أثر الحر بالن�ص الأدبي‪� ،‬أن نتلقى في �ش�أنه‬
‫والإن�سانية‬ ‫�أحكام ًا قبل �أن نواجهه‪� .‬إن لذة الم�شاركة في‬
‫�إ�صدار الحكم ال تعدلها لذة‪ ،‬والقارئ يجب �أن‬
‫يتمتع بلذة الم�شاركة في �إ�صدار الحكم (وبرغم‬
‫ذلك فال �أحكام نهائية في موازين النقد كما‬
‫ترى القلماوي‪ ،‬بل ت�أخذ بمقولة �إليوت‪ :‬البد‬
‫للنقد كل مئة عام �أو نحوها‪ ،‬من �أن يراجع‬
‫الأحكام القديمة‪ ،‬لي�صوغها في �ضوء التغيرات‬
‫�سهير القلماوي‬

‫‪91‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫�ضفاف‬

‫ركزت في بحثها‬
‫حول كتاب (�ألف ليلة‬
‫وليلة) على ت�أ�صيل‬
‫البحث في الإرث‬
‫الحكائي وتر�سيخه‬
‫في الذاكرة العربية‬ ‫�أثناء تكريمها من عبد النا�صر وثروت عكا�شة‬

‫الجهل و�أتعلم ال��دق��ة والمنهجية العلمية‪،‬‬ ‫التي طر�أت على الإن�سانية �صياغات جديدة �أو‬
‫و�أدركت من خاللها عمق المقولة التي تقول‪:‬‬ ‫يعدلها تعدي ًال �شام ًال �إذا لزم الأمر)‪.‬‬
‫العلم ال يعطيك بع�ضه �إال بعد �أن تعطيه كلك‪.‬‬ ‫قدمت القلماوي للمكتبة العربية �أعما ًال‬
‫�أب��ت القلماوي‪� ،‬إال �أن تكون كما تريد‪،‬‬ ‫مازالت �شاهدة على مكانتها ور�ؤيتها وعمق‬
‫مخل�صة الختياراتها ولر�ؤيتها ولفل�سفتها‬ ‫تحليلها للن�ص والكائن والمجتمع‪�( ،‬أحاديث‬
‫�أكدت �أن مهمة الناقد‬ ‫ف��ي نه�ضة الإن�����س��ان‪ ،‬ونه�ضة المجتمع‬ ‫جدتي‪ -‬ال�شياطين تلهو‪ -‬ثم غربت ال�شم�س‪-‬‬
‫�أن يدل وي�شير‬ ‫الم�صري والعربي‪ ،‬لي�س من خ�لال اختبار‬ ‫�ألف ليلة وليلة‪� -‬أدب الخوارج‪ -‬المحاكاة‬
‫ويرينا ما يجب �أن‬ ‫الواقع با�ضطراباته وقلقه في مختبر الذات‬ ‫ف��ي الأدب‪ -‬ف��ي النقد الأدب���ي‪ -‬ذك��رى طه‬
‫والمجتمع‪ ،‬و�إنما في مختبر التاريخ‪ ،‬كما‬ ‫ح�سين)‪ .‬ف�ض ًال ع��ن ترجماتها المختلفة‬
‫نرى‬ ‫اختبرت التاريخ في مختبر الواقع‪ ،‬فكانت‬ ‫ال��ت��ي ت ��ؤك��د ر�سالتها الأدب��ي��ة والمعرفية‬
‫قراءتها للتاريخ عبر الأدب ال لمجرد القراءة‬ ‫والثقافية والإن�سانية‪ .‬كما تخرج على يديها‬
‫والتح�صيل العلمي‪ ،‬و�إنما لت�ضع هذا التاريخ‬ ‫�أع�لام في النقد والأدب (د‪.‬عبدالمح�سن طه‬
‫في مختبر الك�شف‪ ،‬وف��ي مختبر الب�صيرة‬ ‫ب��در‪ -‬د‪.‬عبدالمنعم تليمة‪ -‬ال�شاعر �صالح‬
‫لت�أ�صيل فعل التغيير‪،‬‬ ‫عبدال�صبور‪ -‬الأدي���ب ف���اروق خور�شيد‪-‬‬
‫ول��ت��ك��ون الكلمة دلي ًال‬ ‫د‪.‬جابر ع�صفور)‪.‬‬
‫ل��ل��ج��ي��ل ف� ��ي ت�����ش��ك��ي��ل‬ ‫�أ�ستاذة الأجيال والرائدة في الأدب والنقد‬
‫وجوده‪ ،‬ور�سالة وطنية‬ ‫والن�ضال المجتمعي‪ ،‬لي�س من �أج��ل حرية‬
‫وقومية و�إن�سانية من‬ ‫المر�أة فح�سب‪ ،‬و�إنما من �أجل حرية المجتمع‬
‫�أج��ل رفعة الأم��ة‪ ،‬فكما‬ ‫ككل‪ ،‬كان لها الف�ضل في ت�أ�سي�س �أول معر�ض‬
‫ترى (�إن �أي �أدب قديم‬ ‫للكتاب في ال�شرق الأو�سط‪ :‬معر�ض القاهرة‬
‫�أو ح ��دي ��ث‪ ،‬غ��رب��ي �أو‬ ‫الدولي للكتاب في عام (‪ ،)1967‬كما �أ�سهمت‬
‫���ش��رق��ي‪� ،‬أدب �إن�ساني‬ ‫في دفع الحركة الثقافية والأدبية �إلى مقام‬
‫ل��ه طاقته التي تم ّكنه‬ ‫الفعل والفاعلية خ�لال ت�سلمها العديد من‬
‫من القيام بهذا ال��دور‪،‬‬ ‫المنا�صب ال�سيا�سية والثقافية‪ ،‬لينه�ض‬
‫ولكن �أدب �أم��ة بعينها‬ ‫الم�شهد الثقافي على م�ساحة م��ن ال��ر�ؤى‬
‫هو الأ�سا�س الأول‪ ،‬الذي‬ ‫المختلفة‪ ،‬برهانها على مبد�أ �أن العلم اختالف‪،‬‬
‫يجب �أن ُيبنى عليه كل‬ ‫تلك الجملة التي كانت حجر الأ�سا�س في تفكير‬
‫�صرح لأي �أدب لها بعد‬ ‫الدكتور جابر ع�صفور‪ ،‬ال��ذي يقول‪ :‬تعلمت‬
‫ذل��ك‪ ،‬وعلى متانة هذا‬ ‫منها حق االختالف وتعلمت �أن االختالف هو‬
‫الأ�سا�س ال �أق��ول متانة‬ ‫�أ�سا�س العلم‪ ..‬تعلمت كيف �أحترم العلم الذي‬
‫البناء كله‪� ،‬إنما حياته‬ ‫بدا خلي فلي�س هناك من�صب يفوق العلم الذي‬
‫ب�أ�سرها)‪.‬‬ ‫تحمله نفو�سنا‪ ..‬وعلمتني �أن �أقلع عن �شجاعة‬
‫من م�ؤلفاتها‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪92‬‬


‫مقاالت‬
‫مدارات‬

‫تعار�ض �أم توافق‬


‫الكتاب الورقي‬
‫وال�صوتي والرقمي‬
‫م�أمون كيوان‬
‫وقد حققت الكتب ال�صوتية هدفها في‬ ‫�صوتي في التاريخ‪ ،‬وت�ضمن الت�سجيل‬ ‫ٍ‬ ‫كتاب‬
‫ٍ‬ ‫اقتحمت التطورات التكنولوجية الهائلة‬
‫الوقت الحالي‪ ،‬مع انت�شار ثقافة االطالع لدى‬ ‫بع�ض ًا من ق�صائد ال�شاعر الإنجليزي دايالن‬ ‫كل جوانب الحياة في ال�سنوات الأخ��ي��رة‪،‬‬
‫النا�س عن طريق ات�ساع حجم الإقبال على‬ ‫توما�س‪ ،‬غير �أن رواج الكتب ال�صوتية لم ي�صل‬ ‫و�أ�صبح القارئ ال يتحدث عن نيته الدخار‬
‫الكتب‪ ،‬كما واجهت الكتب ال�صوتية‪ ،‬انتقادات‬ ‫�إلى ذروته حتى عام (‪1980‬م)‪ ،‬عندما �أ�صبحت‬ ‫المزيد من المال انتظاراً لمعر�ض الكتاب‪� ،‬أو‬
‫كثيرة من النخب الثقافية لمحاربة ‪�-‬أو‬ ‫ال�شرائط ال�سمعية (الكا�سيتات) في متناول‬ ‫من �أجل زيارة بع�ض المكتبات القتناء كتبه‬
‫تقييد‪ -‬هذه الظاهرة‪ .‬وذلك على خلفية وجود‬ ‫الجميع‪ ،‬وحينها فقط �أ�صبح للكتب ال�صوتية‬ ‫المف�ضلة‪ ،‬ولكن تحول الحديث لي�صبح على‬
‫م�شاكل ومخاوف من �أبرزها‪:‬‬ ‫�شركات متخ�ص�صة للإنتاج والت�سويق‪ ،‬حيث‬ ‫م�ستوى الكتب الإلكترونية وال�صوتية‪ .‬وبات‬
‫�أن يحل الكتاب ال�صوتي مكان الكتاب‬ ‫قامت بت�سجيل الكتب الدرا�سية والثقافية على‬ ‫هناك �إل��ى جانب الكتاب ال��ورق��ي‪ ،‬الكتاب‬
‫ال��ورق��ي‪ ،‬م��ا ي�شكل نقل ًة ثقافي ًة محفوف ًة‬ ‫حد �سواء‪ ،‬ما �أ�سهم في ت�شكيل قاعدة بيانات‬ ‫الإلكتروني والكتاب ال�صوتي‪ ،‬مما ا�ستدعى‬
‫بالمخاطر‪ ،‬يمكن �أن ت���ؤدي في الم�ستقبل‬ ‫�ضخمة‪ ،‬اعتمد عليها فيما بعد‪.‬‬ ‫حالة من الجدل والمقارنة بين هذه الأنواع‬
‫أداة للقراءة والمعرفة‪،‬‬ ‫�إلى نهاية (الكتاب) ك� ٍ‬ ‫وم��ع ب��داي��ة ال��ث��ورة الرقمية ف��ي بداية‬ ‫من الكتب يبدو �أنها �صعبة وغير محايدة‬
‫وتعوي�ضه بف�ضاء رقمي خالٍ من ال�ضوابط‬ ‫الألفية الحالية‪ ،‬انتع�ش �سوق الكتب ال�صوتية‬ ‫ال ت�ستوفي �شروط المقارنة المو�ضوعية �أو‬
‫والمعايير التي تحكم �إنتاج الكتب ون�شرها‪،‬‬ ‫ب�شكلٍ كبير‪ ،‬حيث �أ�صبح ال��ت��داول يتم عن‬ ‫محدودة الجدوى‪ ،‬وذلك على غرار المقارنة‬
‫ما يف�سح المجال �أكثر �أم��ام المحتوى غير‬ ‫طريق الإنترنت‪ ،‬وتم �إن�شاء العديد من المواقع‬ ‫بين الر�ؤية وال�سمع‪� ،‬أو بين الثقافة المكتوبة‬
‫الم�س�ؤول �أو الهادف‪� .‬إ�ضافة �إلى �أن بع�ض‬ ‫الإلكترونية المتخ�ص�صة‪ ،‬ب�إن�شاء وت�سويق‬ ‫والثقافة ال�شفهية �أو ال�سماعية‪.‬‬
‫ت�سجيالت الكتب ال�صوتية مليئة بالأخطاء‬ ‫الكتب ال�صوتية على م�ستوى العالم‪ ،‬بما ي�شمل‬ ‫و�إذا كانت الم�سيرة التاريخية للكتاب‬
‫اللغوية الكارثية‪ ،‬التي تنتقل �إلى �آذان وعقول‬ ‫منطقتنا العربية‪ ،‬فكان �صعود عدة من�صات‬ ‫الورقي المرتبطة‪ ،‬من حيث ن�ش�أتها ب�صناعة‬
‫الم�ستمعين‪.‬‬ ‫للكتب ال�صوتية منها �ستوريتل (‪Storytel‬‬ ‫الورق وانت�شار المطابع‪ ،‬م�ألوفة محطاتها‪.‬‬
‫�إل��ى جانب وج��ود نوعيات كثيرة من‬ ‫‪ )2005‬ومن�صة (كتاب �صوتي) (‪2016‬م)‪،‬‬ ‫ثمة من يعتقد �أنه �أال تعار�ض بين الكتاب‬
‫الكتب‪ ،‬ال يمكن للقارئ �أن يتفاعل معها‬ ‫وتطبيق (اقر�أ لي) على الموبايل‪ .‬وقامت فكرة‬ ‫الورقي والكتاب الإلكتروني‪ ،‬و�أن ك ًال منهما‬
‫وي�ستوعبها ويفهم ما ترمي �إليه وهو يتعامل‬ ‫التطبيق على منح ال�سكان خيار ا�ستغالل‬ ‫ي�سير في طريق غير الأخرى لجهة متطلبات‬
‫تعبر عن‬ ‫معها ككتاب �صوتي‪ ،‬حيث �إنها ربما ّ‬ ‫وقتهم ال�ضائع في الموا�صالت‪ .‬قدم التطبيق‬ ‫جمهوره‪ .‬و ُتف�ضل الكتب الإلكترونية لكونها‬
‫مو�ضة جديدة‪ ،‬وهي مو�ضة تنا�سب الكتب‬ ‫في البداية مقاطع �صوتية ق�صيرة لبع�ض‬ ‫ال تحتل م�ساحة في المخزن‪ ،‬وبالتالي ال‬
‫الم�سلية وبع�ض الكتب الأدبية �أكثر من الكتب‬ ‫مقاالت ال��ر�أي‪ ،‬و�سريع ًا �صار التطبيق يقدم‬ ‫تحتاج �إلى المزيد من الجهد‪ ،‬من �أجل تعبئتها‬
‫المتخ�ص�صة‪ ،‬والتي تحمل �أي�ض ًا طابع ًا �أدبي ًا‬ ‫الكتب ال�صوتية‪.‬‬ ‫وتخزينها و�شحنها‪ ،‬وهو ما يكلف النا�شر‬
‫عميق ًا بع�ض ال�شيء‪.‬‬ ‫و�أ�سهمت الكتب ال�صوتية ف��ي �إتاحة‬ ‫�أعباء �إ�ضافية‪ ،‬وهذا بالن�سبة �إلى النا�شرين‪،‬‬
‫ويبدو �أنه بد ًال من المقارنة بين الكتاب‬ ‫فر�صة للمطالعة‪ ،‬في ظ��روف ي�صعب على‬ ‫وكذلك الحال بالن�سبة للكتاب والقراء‪.‬‬
‫الورقي والكتاب الإلكتروني والكتاب ال�صوتي‬ ‫القارئ فيها حمل الكتاب‪ ،‬كالأماكن العامة‬ ‫وكان عام (‪1952‬م) قد �شهد ت�سجيل �أول‬
‫والدخول في متاهات معادلة �صفرية �إلغائية‪،‬‬ ‫و�أوقات اال�ستراحة واال�سترخاء‪.‬‬
‫ُيف�ضل تحديد جوهر وطبيعة العالقة راهن ًا‬ ‫�إن �أكثر المنجذبين لهذا النوع الجديد من‬
‫وم�ستقب ًال بين هذه الأنواع للكتاب و�صناع‬ ‫الكتب‪ ،‬هم في الأ�سا�س �إما �شباب اليزالون في‬ ‫يتغير �شكل الكتاب‬
‫ويرجح �أنها لي�ست‬ ‫وجمهور قراء كل منها‪ُ .‬‬ ‫بدايات طريقهم مع القراءة‪ ،‬والفريق الثاني‬ ‫ومحتواه الفكري و�أهداف‬
‫بحال من الأحوال عالقة عابرة �أو مو�سمية‬ ‫هو ه��ؤالء المفتونون بالتكنولوجيا‪ ،‬الذين‬ ‫ت�سويقه مع متطلبات‬
‫�أو �سطحية‪ ،‬بل عالقة تكاملية �ستتبلور بمرور‬ ‫وجدوا فيها المالذ والم�أمن‪ ،‬وال يتعاملون‬ ‫الحياة وتطورها‬
‫الوقت دينامياتها‪.‬‬ ‫بغيرها‪ ،‬وهي عندهم �أ�سلوب حياة‪.‬‬

‫‪93‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫ا�ستواء الن�ضج في ق�صيدة لم تكتمل‪..‬‬
‫قراءة في ديوان‬
‫ال�شاعر �صالح محمود �سلمان‬
‫�إن الم�ستعر�ض لم�سيرة ال�شاعر �صالح �سلمان الأدب��ي��ة وال�����ش��ع��ري��ة‪ ،‬والمتتبع لمنعرجاتها‬
‫وان��ع��ط��اف��ات��ه��ا‪ ،‬خ�ل�ال م��ا ي��ق��ارب رب���ع ق���رن م��ن ال��زم��ن م��ن ال��ك��ت��اب��ة وال��ت���أل��ي��ف ال�����ش��ع��ري��ي��ن‪ ،‬وم��ن‬
‫�أل���وان و�أج��ن��ا���س الكتابة الأدب��ي��ة الأخ����رى‪� ،‬إن��م��ا يمر بحقل وا���س��ع الطيف م��ن المنتج الأدب��ي‬
‫ولنلج ب��داي��ة �إل��ى م�ضامين‬ ‫ْ‬ ‫الإب��داع��ي‪� ،‬أث��م��ر اثنتي ع�شرة زه���رة‪ ،‬ه��ن م��ا يفُحن ب���أري��ج ���ش��ع��ره‪..‬‬
‫العناوين ومقوالتها الجوهرية التي لمح �إليها (النا�شر) من �أن��ه��ا‪( :‬تحمل �أف��ك��ار ًا نبيلة‪ ،‬منها‬
‫ليندا �إبراهيم‬ ‫ما يت�صل ب��ذات ال�شاعر وهمومه الخا�صة‪ ،‬ومنها ما يت�صل بالذات الجمعية والهموم العامة)‪.‬‬
‫و�أ�ضاف النا�شر‪( :‬وال يخفى الن َف�س الفل�سفي‬
‫والنزعة الت�أملية في متون الكثير من ن�صو�ص‬
‫المجموعة‪.)..‬‬
‫ولأح� ��دد فيما يلي ث�لاث��ة م�����س��ارات لهذه‬
‫الدرا�سة تتالمح ف��ي‪� :‬أو ًال‪ -‬النف�س الفل�سفي‪،‬‬
‫ثاني ًا‪ -‬النزعة الت�أملية‪ ،‬ثالث ًا‪ -‬جماليات الن�ص‬
‫ال�شعري‪.‬‬
‫‪ -‬النف�س الفل�سفي‪ :‬ويظهر جلي ًا في �أكثر‬
‫من ن�ص في المجموعة‪ ،‬ومثاله الوا�ضح ن�ص‬
‫(ال�����س ��ؤال) تحت ع��ن��وان رئي�س (ف��ي بقعة ما)‬
‫و�أقتب�س‪�( :‬س�ؤال على كل مفترق واق��ف‪ ،‬يعبر‬
‫النا�س قدامه حاملين �إجاباتهم‪ ،)..‬هذا مطلع‬
‫فل�سفي بامتياز ي�ضعنا �أمام ال�س�ؤال الأكبر‪ ،‬وهو‬
‫�أن المعرفة تبتدئ بال�س�ؤال‪ ،‬و�أن ال�س�ؤال � ّأ�س‬
‫البحث‪ ،‬في الطريق �إلى ماهيات العلل الكبرى‪..‬‬
‫وليقفل ثالثية الن�صو�ص هذه بن�ص (الو�صية)‪:‬‬
‫(ا�شربوا ما ت�شا�ؤون‪ ..‬غنوا‪ ،‬احلموا‪ ،‬واذك��روا‬
‫خلكم‪ ..‬ط� ّ�ي��روا في ال�سماء الع�صافير والقبل‬
‫البي�ض‪ ..‬عبوا �سالفاتكم من ك�ؤو�س الغزاالت‪،‬‬
‫عي�شوا كما ت�شتهون‪.)...‬‬
‫في �إ�شارة �إلى ما يدركه ال�سائل‪ ،‬من �سالف‬
‫رحيق المعرفة‪ ،‬بعد عمر من الأ�سئلة‪ ،‬ولت�أتي‬
‫على �شكل و�صية‪ .‬ولو �أردنا اال�ستفا�ضة‪ ،‬لوقعنا‬
‫في �أكثر من مكان من ن�صو�ص المجموعة على‬
‫ن َف�س فل�سفي �أو فكرة فل�سفية‪ ،‬وهي لعمري غاية‬
‫منتهى الفكر وما يكدح ال�شاعر لمقاربته‪ ،‬ولو‬
‫على تخوم التخوم‪ ،‬ولو لدرجة التلوح ب�شم�س‬
‫الحقيقة الو�ضيئة فقط‪ ،‬ولو من غير احتراق‪..‬‬
‫‪ -‬النزعة الت�أملية‪ :‬وت�أتي كمثال �صارخ‬
‫في عنوان ومتن ن�ص (لم تكتمل فينا الق�صيدة)‬

‫العددالثامن الأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪94‬‬


‫مداخلة‬

‫ت��ن��ق��اد ل��ه��ا ال��ل��غ��ة ط��ائ��ع� ًة‬ ‫والتي ت�سم المجموعة ككل‪ ،‬وت�ضج بالأ�سئلة‬
‫ك��ال�����س��ح��ر‪ .‬ي��ق��ول ال�����ش��اع��ر‪:‬‬ ‫الذاتية التي ي�س�ألها ال�شاعر لنف�سه‪� ،‬أو ل�صنوه‬
‫(�صبي ح�ضورك‪.)...‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�شاعر ال��ذي يتلب�سه‪� ،‬أو يفتر�ضه ليحاوره‪،‬‬
‫ف����م����ف����ردة (ال� ���� ��ص� ��ب‪،‬‬ ‫وليحملها كل �آماله و�آالمه الما�ضية والحا�ضرة‬ ‫ّ‬
‫واالن�صباب) تحيل لفعل مادي‬ ‫وال��ك��ائ��ن��ة والآت���ي���ة‪ ،‬ف��ي ل��ب��و���س م��ن مخيلة‬
‫مح�سو�س‪ ،‬ولكن ماذا ت�صب؟‬ ‫مثيولوجية تنم عنها مفردات (الغمر‪ ،‬الحبر‪ ،‬رحم‬
‫�إنه ح�ضورها‪� ،‬أي مجاز‪ ،‬و�أين؟‬ ‫الزجاجة‪ ،‬محاو ًال لملمة �صراخه المكتوم)‪ ،‬ليبزغ‬
‫في ك�أ�س (مح�سو�س مادي)!!!‬ ‫في �صوت الق�صيدة كحكم نهائي‪ :‬لم تكتمل في‬
‫ثم‪� :‬ست�سقيه (الح�ضور) وهذا‬ ‫تداع نف�سي فكري‬ ‫الق�صيدة‪ ،‬وليثبت بعدها في ٍ‬
‫(مجاز) �آخر‪ ...‬ثم ماذا �سي�سقى‬ ‫(مونولوج داخلي) في ختام الن�ص‪ ،‬ب��أن عدم‬
‫ال�شاعر من يديها بعد كل هذا‬ ‫اكتمال الق�صيدة �أف�ضل لجهة ا�ستمرار الحياة‪،‬‬
‫ال�سكب؟ �إن��ه يطلب �أن ي�سقى‬ ‫ولت�شف ق�صيدته عن مقولة‪� :‬إن الق�صيدة ال تكتمل‬
‫غيابه‪ ،‬ولت�أتي ه��ذه الجملة‬ ‫وال ينبغي لها ذلك‪ ،‬ف�إن اكتملت ماتت وانتهت‪،‬‬
‫ال�����ش��ع��ري��ة غ��ا���ص��ة ب��ال��ر�ؤى‬ ‫وهذا مناف لكل �شروط الإبداع والحياة‪..‬‬
‫والإح��االت وال�صور والمجاز‪،‬‬ ‫جماليات الن�ص ال�شعري ل��دى ال�شاعر‬
‫محلقة على جناح ده�شة ولكن‬ ‫�سلمان‪( :‬توليفة النثر)‪ -‬الوزن‪ ،‬وكمثال عليها‬
‫بهدوء ن��اي ال�شاعر وبوحه‪،‬‬ ‫ن�ص (ارتدادات)‪ ،‬وهو ن�ص مختلف عما تعودته‬
‫لأن البوح �أتى �سرائري ًا ذاتي ًا‬ ‫الذائقة والقارئ‪ ،‬ولعل �أهم ما فيه‪ ،‬بعد المقوالت‬
‫من م�ؤلفاته‬ ‫بنف�س فل�سفي‬ ‫ٍ‬ ‫نف�سي ًا ت�أملي ًا‬ ‫المهمة التي يطلقها ال�شاعر في ثنايا الن�صو�ص‪،‬‬
‫م�ستوى‬
‫ً‬ ‫وثبات وتيرة الن�سيج ال�شعري العالي)‪،‬‬ ‫هي التوليفة الفنية المغايرة بين ن�ص نثري‬
‫ودالالت و�صوراً بياني ًة ور� ًؤى و�شك ًال‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ومفردات‬ ‫ون�ص م��وزون‪ ،‬لت�أتي في ف�ضاء ن�ص متكامل‬
‫فني ًا و�إحكام ًا لبناء الن�صو�ص‪ ،‬ب�شكلٍ يكاد الدار�س‬ ‫المعنى والمبنى‪ :‬فني ًا‪ ،‬وحكائي ًا‪ ،‬و�سردي ًا‪،‬‬
‫�أو المتذوق عالي التذوق ال يلحظ فيه �أية ثغرة‪� ،‬أو‬ ‫ا�ستطاع ال�شاعر تحميلها ما �أراد �أكثر مما لو‬
‫هنة‪� ،‬أو �ضعف‪ ،‬بل تجان�س �شبه تام في المحبوك‬ ‫�سكبها في �شكل فني واح��د‪ ،‬وهي قلما تتوافر‬
‫نتلم�س النف�س‬ ‫ال�شعري على طول ن�صو�ص المجموعة‪ ،‬وهذا من‬ ‫وتنقاد لمن ق�صدها‪ ،‬وك�أنها على توافق تام‬
‫الفل�سفي والنزعة‬ ‫�أجمل و�أبرز ما يميز هذه المجموعة لتكون متوجة‬ ‫م�ضمر مع عنوان الن�ص (ارتدادات)‪.‬‬
‫الت�أملية في متون‬ ‫ل�سني عطاء ومنتج ال�شاعر �سلمان حتى الآن‪.‬‬ ‫و(لغة المجاز العالية العابرة للن�صو�ص)‪:‬‬
‫الكثير من ق�صائد‬ ‫ولأتوقف بعد ما تقدم‪ ،‬عند العنوان نف�سه‪( :‬لم‬ ‫والمفتوحة على الده�شة والإح��االت المتعددة‪،‬‬
‫الديوان‬ ‫تكتمل فينا الق�صيدة)‪ ..‬والذي كثيراً ما �أحالني‪،‬‬ ‫هي ما ي�سم ن�صو�ص المجموعة ككل‪ ،‬وبالأخ�ص‬
‫�أول ما قر�أته �إلى عناوين مماثلة �أو م�شابهة �أو‬ ‫الن�صو�ص الآتية‪:‬‬
‫مقاربة من الذاكرة‪ ،‬والتي يوردها كاتب‪� ،‬أو �شاعر‪،‬‬ ‫(تو�شيحات)‪ :‬لنت�أمل قوله (في البال �إبريق‬
‫بعد مرحلة غير قليلة من تبلور م�سيرته الأدبية‬ ‫يفي�ض بما تعتق‪ ،‬ك�أ�س �سمارٍ يحاول �أن يطير‪،‬‬
‫والإبداعية ب�شكل عام‪ ،‬وبعد كثير من الت�أمل في‬ ‫ونرج�س ْه‪ ،)...‬وقوله‪( :‬في البال‪ ..‬يا كرزاً يناولني‬
‫م�شروعه ال�شعري‪ ،‬فمث ًال (�أدوني�س) كتب‪( :‬الهوية‬ ‫فمي‪)...‬‬
‫غير المكتملة)‪ ،‬ومحمد عمران في �أواخ��ر �أيامه‬ ‫هذه اللغة المفتوحة على غير المعتاد من‬
‫كتب (ق�صيدة لم تكتمل‪ ،)..‬ومحمود دروي�ش (ال‬ ‫ال�صور‪ ،‬والتي باتت �سمة اللغة ال�شعرية والن�سيج‬
‫�أري��د لهذي الق�صيدة �أن تنتهي‪ ..)..‬وغيرها (لم‬ ‫الخا�ص بال�شاعر وحده‪ ،‬والمفتوحة على �شتى‬
‫تكتمل فينا الق�صيدة)‪ ،‬ولو اكتملت النتهى الإبداع‬ ‫الت�أويالت والتف�سيرات‪ ،‬ومثل قوله‪( :‬حين يبكي‬
‫وانتهت التجربة ال�شعرية‪ ،‬وهذا محال في ال�سيرة‬ ‫على نف�سه ال�صمت) و�س�أقف عند ن�ص (�صبي‬
‫الب�شرية والإن�سانية للمبدع‪..‬‬ ‫فادح على لغة المجاز العالية‬ ‫ٍ‬ ‫ح�ضورك) كمثالٍ‬
‫بقي �أن نذكر‪� ،‬أن المجموعة �صادرة عن‬ ‫هذه؛ ففي هذا الن�ص‪ ،‬تبرز الغنائية الهادئة‬
‫الهيئة ال�سورية للكتاب‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬في‬ ‫مترف بجمالية‬ ‫ٍ‬ ‫المهودجة على �شجنٍ جميلٍ‬ ‫ْ‬
‫مئة وت�سعين �صفحة من القطع المتو�سط‪ ،‬ت�ضم‬ ‫ٍ‬
‫عالية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حرفية‬ ‫�شفيفة‪ ،‬تنم عن‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫�شعرية‬ ‫ٍ‬
‫لغة‬
‫ثمانية و�أربعين ن�ص ًا �شعري ًا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫�صافية‬ ‫ٍ‬
‫رهيفة‬ ‫�شعري متقنٍ ‪ ،‬ون ْف ٍ�س‬
‫ٍّ‬ ‫ون�سج‬
‫ٍ‬
‫محمد عمران‬

‫‪95‬‬ ‫العدد الثامن الأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫�س�ؤال المرجعية في ال�شعرية العربية المعا�صرة‬


‫خ�صو�صية الذات وكونية المعرفة‬
‫د‪ .‬يحيى عمارة‬

‫عن البعد المعرفي في الن�ص ال�شعري العربي‬ ‫من بين الأ�سئلة المعرفية التي تطرحها‬
‫المعا�صر بالمغرب قائ ًال‪( :‬لم يعد المتن ال�شعري‬ ‫ال�شعرية العربية ال��م��ع��ا���ص��رة‪ ،‬نجد ���س��ؤال‬
‫المعا�صر بالمغرب يعرف ح��دوداً في التفاعل‬ ‫المرجعية‪ ،‬وهو ال�س�ؤال الذي �أثبت جدارته في‬
‫مع الثقافة الإن�سانية‪ ،‬ولم يعد يخ�شى توظيف‬ ‫تو�ضيح خ�صو�صية الق�صيدة وكونية المعرفة‪.‬‬
‫ما َت َر َّ�سب في ذاكرته من ميراث ح�ضاري �شامل‪.‬‬ ‫ف�إذا كان النقاد العرب القدامى‪ ،‬قد تحدثوا عن‬
‫�إن ال�شاعر المغربي المعا�صر تفتح على العطاء‬ ‫هذا ال�س�ؤال انطالق ًا من مفهوم ثقافة ال�شاعر‪،‬‬
‫الإن�ساني‪ ،‬وفي الوقت نف�سه انتبه �إلى ما يحيط‬ ‫كما ي�شير �إلى ذلك ابن ر�شيق القيرواني‪ ،‬في‬
‫به من حكايات‪ ،‬وخرافات و�أح��داث تاريخية‬ ‫م�صدره النقدي ال��ذائ��ع ال�صيت (العمدة في‬
‫ون�صو�ص دينية و�شعرية وفكرية‪ ،‬فدمج كل هذا‬ ‫محا�سن ال�شعر و�آداب���ه) في حديثه عن �أدب‬
‫وغيره في بنية الن�ص التي �أ�صبحت معتمدة في‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬ف�إن النقاد العرب المعا�صرين‪ ،‬قاموا في‬
‫تركيبها على �إحاطة ال�شاعر بكل ما يمكن �أن‬ ‫مجمل درا�ساتهم و�أبحاثهم بتحديده في البعد‬
‫ي�سهم في بناء عالمه ال�شعري)‪.‬‬ ‫المعرفي الم�ؤ�س�س على مفاهيم وم�صطلحات‬
‫البعد المعرفي‬ ‫وب��ذل��ك‪ ،‬يتعرف ال��ق��ارئ للن�ص ال�شعري‬ ‫متعددة‪ ،‬ت�صب كلها في البعد المعرفي المت�أثر‬
‫لدى النقاد العرب‬ ‫�إل��ى ك��ل الأ���ص��ول وال��رواف��د وال��م ��ؤث��رات‪ ،‬من‬ ‫بمجموعة من الأن�ساق الثقافية‪ ،‬والمكانية‪،‬‬
‫خالل وقوفه على �س�ؤال المرجعية‪ .‬فكل حديث‬ ‫واالجتماعية وال�سيا�سية والجمالية؛ لت�صبح‬
‫المعا�صرين يت�أثر‬
‫عن المرجعية يف�ضي دون محالة �إل��ى الحفر‬ ‫بذلك وظيفة المرجعية من الوظائف التي تك�سب‬
‫بمجموعة من‬ ‫ف��ي المكونات الن�صية‪ ،‬ال��ت��ي ت�ستمد منها‬ ‫الق�صيدة العربية خ�صو�صية هوية ال��ذات ال‬
‫الأن�ساق الثقافية‬ ‫موهبة ال�شاعر و�صورها و�أفكارها و�ألفاظها‪،‬‬ ‫تكون �إال بها‪ ،‬ومر�آة االنفتاح على معرفة الآخر‪،‬‬
‫والفكرية والجمالية‬ ‫وخا�صة بالبحث في التنا�ص والت�أثر والتداخل‬ ‫فهي ا�ستك�شاف لما كان �سبب ًا مبا�شراً في تفاعل‬
‫واال�ستلهام‪ .‬فكم من �شاعر عربي معا�صر ا�شتهر‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬مع تجربته الذاتية والمو�ضوعية ثقافي ًا‬
‫بهيمنة مرجعية محددة في م�سيره ال�شعري‪،‬‬ ‫وجمالي ًا واجتماعي ًا ومكاني ًا و�سيا�سي ًا‪.‬‬
‫حتى ُل ِّق َب بها‪ ،‬وخا�صة المرجعية المكانية‪،‬‬ ‫وتعد المرجعية من الو�سائط التي تجمع‬
‫ولنا في الخريطة ال�شعرية العربية �أمثلة عديدة‬ ‫بين عملية القراءة‪ ،‬واال�ستيعاب‪ ،‬والتفاعل قبل‬
‫على ذلك‪ ،‬فحينما تقول �شاعر المدينة العربية‬ ‫الإب��داع‪ ،‬وبين عملية الكتابة بو�صفها تعبيراً‬
‫مث ًال‪ ،‬تتم الإ�شارة �إلى ال�شاعر الم�صري �أحمد‬ ‫معرفي ًا عن �أحا�سي�س المبدع‪� ،‬إزاء واقعه الر�ؤيوي‬
‫عبدالمعطي حجازي‪ ،‬وديوانه (مدينة بال قلب)‪،‬‬ ‫المتعدد‪ .‬فبوا�سطة البحث فيها‪ ،‬يتمكن المتلقي‬
‫وهو الديوان الذي يتغنى فيه بمدينة القاهرة‪،‬‬ ‫من �إدراك الخ�صو�صية الكاملة‪ ،‬والحقيقية‬
‫ليجعلها بنية ت�شكيلية في لوحة (ت�صويرية‬ ‫لل�شعر وعوالم ال�شاعر خا�صة‪ .‬وهذا ما �أ�شار �إليه‬
‫�شاملة‪ ،‬تزخر بالر�ؤى وال��دالالت)؛ و�إلى �شاعر‬ ‫والم َن ِّظر العربي محمد بني�س‪ ،‬في حديثه‬ ‫ال�شاعر ُ‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪96‬‬


‫�سطور‬

‫المتميزة يمنى العيد قائلة‪�( :‬إن الإبداعية‬ ‫الأ���س��ط��ورة مث ًال‪ ،‬تذهب الذائقة �إل��ى ال�شاعر‬
‫العربية بعالقتها بالمكتوب كـ(مرجع)‪ ،‬هو‬ ‫العراقي ب��در �شاكر ال�سياب‪ ،‬ال��ذي جعل من‬
‫الموروث‪ ،‬الخا�ص‪ ،‬والكوني‪ .‬وبعالقاتها بالحي‬ ‫الرافد الأ�سطوري العربي وغير العربي‪ ،‬مكون ًا‬
‫كـ(مرجع)‪ ،‬ي�صير مكتوب ًا‪ .‬بهذه العالقة النقدية‬ ‫رئي�س ًا من مكونات الق�صيدة الجديدة‪ ،‬وهكذا‬
‫خ�صو�صية هوية‬ ‫المزدوجة‪ ،‬النامية على حد االختالف والنق�ض‪،‬‬ ‫دواليك‪ ،‬وهذا مو�ضوع ي�ستحق الدرا�سة والبحث‪.‬‬
‫الذات ال تكون �إال‬ ‫تكون الكتابة كتابة معا�صرة‪ ،‬ويكون القول‪،‬‬ ‫�إ�ضافة �إلى ذلك‪ ،‬فمن مميزات الق�صيدة العربية‬
‫في خ�صو�صيته العربية‪ ،‬معا�صراً‪ ،‬فخ�صو�صية‬ ‫المعا�صرة عن الق�صائد ال�سابقة‪ ،‬نجد ميزة‬
‫من خالل المرجعية‬
‫القول العربي هي خ�صو�صية الموقع‪ ،‬الذي منه‬ ‫انفتاحها ب�شكل �شامل على مرجعيات عالمية‬
‫المعرفية واالنفتاح‬ ‫ينه�ض في هذا الزمن العربي‪ ،‬وهي خ�صو�صية‬ ‫مختلفة‪ ،‬لم ي�ألفها القارئ منذ ع�صور َخ َل ْت‪.‬‬
‫على الآخر‬ ‫العالقة‪/‬العالقات التي تنه�ض نقداً بين الموقع‬ ‫ت�أ�سي�س ًا على هذه الفكرة‪ ،‬كل حديث عن‬
‫ومراجعه ن��ق��داً‪ ،‬تختلف ب��ه الكتابة فتكون‬ ‫المرجعية الغربية‪ ،‬يكون حديث ًا عن الإحالة‬
‫�إبداعا)‪.‬‬ ‫على المراجع الثقافية والمعرفية التي ك�سبها‬
‫فمن الخال�صات التي ن�صل �إليها؛ �إن �س�ؤال‬ ‫ال�شاعر العربي من قراءاته المتعددة للتجارب‬
‫المرجعية في ال�شعرية العربية‪ ،‬قد �أ�سهم في‬ ‫واالتجاهات‪� ،‬سواء �أكانت فردية �أم جماعية‪.‬‬
‫بناء الذات العربية معرفي ًا وثقافي ًا وجمالي ًا‪،‬‬ ‫وهنا ال بد �أن نذكر �أن مجموعة من الم�صطلحات‬
‫انطالق ًا من خ�صو�صيات تلك الذات‪ ،‬المنبثقة‬ ‫والمفاهيم النقدية ال�شعرية العربية �أ�صبحت‬
‫من ذاكرة تراثية �شعرية باذخة‪َ ،‬ق َّل مثيلها في‬ ‫�سائدة في الم�شهد النقدي العربي نتيجة �أثر‬
‫ال�شاعر المغربي‬ ‫ذاك��رات العالم‪ ،‬ومن توظيف داللي وجمالي‪،‬‬ ‫المرجعية في ق�صائد ال�شعراء العرب‪.‬‬
‫ينطلق من م��راع��اة ال�سياق والن�سق‪ ،‬اللذين‬ ‫لقد نحت النقاد العرب �أف��ك��ار التيارات‪:‬‬
‫المعا�صر انفتح على‬ ‫يت�صالن وجداني ًا وعقالني ًا بالبنيات الثقافية‬ ‫الكال�سيكية‪ -‬الرومان�سية‪ -‬الحداثة وما �شابه‬
‫العطاء الإن�ساني‬ ‫والح�ضارية والمجتمعية والجمالية العربية‪،‬‬ ‫ذلك‪ ..‬انطالق ًا من الأثر المرجعي الكامن في �شعر‬
‫عموم ًا مع الحفاظ‬ ‫التي كانت وراء الإبداع؛ لينتقي منها ما ينا�سب‬ ‫ال�شعراء‪ .‬وفي هذه النقطة‪ ،‬تتحول المرجعية‬
‫على ما يحيط به من‬ ‫تجربته؛ �إما متجاوب ًا ومهادن ًا‪ ،‬و�إما متفاع ًال‬ ‫من ظاهرة الت�أثر والت�أثير �إلى م��ر�آة معرفية‬
‫خ�صو�صية‬ ‫وم�شاك�س ًا في الوقت نف�سه‪ ،‬معلن ًا بذلك عن‬ ‫للخروج من �أَ ْ�سر المحلية وال ُق ْطرية �إلى نطاق‬
‫�إ�سهامه بنف�سه في ت�شييد ق�صيدة الذات العربية‪،‬‬ ‫العالمية الوا�سع عن طريق �إ���ش��ارات وا�ضحة‬
‫ت�شييداً معا�صراً‪ ،‬ي�ستمد �إبداعيته وفرادته من‬ ‫�أحيان ًا‪ ،‬وغام�ضة �أحيان ًا �أخرى‪� ،‬إلى �أن ال�شاعر‬
‫الن�ص العربي بو�صفه (كيان ًا تاريخي ًا يفتح‬ ‫العربي لم يعد �سجين ذاته الثقافية‪� ،‬أو �شاعراً‬
‫مجراه م�أخوذاً بقديمه وما�ضيه‪� ،‬أي ما ت�أ�س�س‬ ‫بالفطرة وال�سليقة‪ ،‬بل �شاعراً متزوداً بمعرفة‬
‫قبله من ن�صو�ص و�إبداعات)‪ ،‬ومت�أثراً بواقعه‬ ‫الآخ��ر‪ ،‬وه��ذا لي�س عيب ًا كما راج عند ثلة من‬
‫الم�ستنبط من البنيات ال�سيا�سية واالجتماعية‬ ‫النقاد والدار�سين العرب‪ ،‬لأن ال�شعرية العربية‬
‫والح�ضارية والفكرية القديمة والمعا�صرة؛‬ ‫�أُ ْخ ٌت �شرعية لل�شعريات ال�سائدة في العالم التي‬
‫�أ�سهمت المرجعية‬ ‫وم��ن االت�����ص��ال بالثقافات الأخ����رى‪ ،‬لي�س‬ ‫تمتاح �أفق الإبداعية من �ساللة الت�أثير والت�أثر‪.‬‬
‫ال�شعرية العربية في‬ ‫لتكرار مكونات تجاربها �أو ا�ستن�ساخ بنيات‬ ‫ومن ثم‪ ،‬فالعالقة بين مرجعية الذات ومرجعية‬
‫بناء الذات العربية‬ ‫م�ضامينها وجمالياتها‪ ،‬بل لتعميق ال�شعرية‬ ‫الآخ��ر في ال�شعرية العربية‪ ،‬قائمة على مبد�أ‬
‫العربية وجعلها �أكثر �إن�سانية وكونية‪ ،‬وهي‬ ‫التحاور ولي�س على مبد�أ التقليد‪ .‬ونعتقد �أن‬
‫معرفي ًا وثقافي ًا‬ ‫الغاية التي ا�ستطاع ثلة من رواد ال�شعر العربي‬ ‫المبدع العربي قد عانى كثيراً هذا المبد�أ‪ .‬لأن‬
‫وجمالي ًا‬ ‫المعا�صر الو�صول �إليها‪ ،‬بحيث ولجت الق�صيدة‬ ‫النقد ترك مرجعية (�صوت) الذات جانب ًا‪ ،‬واهتم‬
‫م�سكن العالمية من باب التعبير الأ�صيل عن‬ ‫بمرجعية (�صدى) الآخ��ر في الن�ص الإبداعي‬
‫النف�سية العربية‪ ،‬بخطابات مختلفة‪ ،‬تتوك�أ على‬ ‫العربي فقط؛ مع العلم �أن �أكثر المبدعين العرب‬
‫مرجعيتين‪ :‬مرجعية الذات ومرجعية الكونية‪،‬‬ ‫تفاع ًال مع الكونية هو �إلى حد بعيد مبدع �أكثر‬
‫لت�صبح بذلك ق�صيدة تفر�ض عوالمها على‬ ‫ت�شبع ًا بالذات التراثية من جهة؛ والذات الواقعية‬
‫المهتمين والباحثين بكل �أ�صنافهم وميوالتهم‪،‬‬ ‫المت�أثرة بالموروث بكل �أ�شكاله و�أنواعه من‬
‫مثل باقي ق�صائد الأقطار والأمم في العالم‪.‬‬ ‫جهة �أخرى‪ .‬وهذا ما ت�شير �إليه الناقدة العربية‬

‫‪97‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫�شارك �أحمد �شوقي في ريادة الم�سرح ال�شعري‬

‫عزيز �أباظة‪..‬‬
‫�شاعر كبير القامة والمقام‬

‫خ� ّل��ف ع��زي��ز �أب��اظ��ة خم�س مجموعات‬ ‫ول��د ال�شاعر عزيز �أباظة ف��ي(‪� 3‬أغ�سط�س ع��ام ‪1889‬م) في‬
‫�شعرية‪� ،‬أواله��ا ديوانه (�أن��ات حائرة) الذي‬ ‫قرية (الربعماية) التابعة لمركز منيا القمح بمحافظة‬
‫ن�شره ف��ي حياته ع��ام (‪1943‬م)‪ ،‬وي�ضم‬ ‫ال�شرقية‪ ،‬وك��ان وال��ده محمد عثمان �أب��اظ��ة با�شا عمدة في‬
‫ق�صائده وبكائياته في زوجته الأولى التي‬
‫م�ستهل حياته و�صاحب �أر����ض‪ ،‬ثم �أ�صبح ع�ضو ًا في مجل�س‬
‫رحلت ع��ام (‪1942‬م)‪ ،‬وك��ان��ت ق��د هي�أت‬
‫له حياة �سعيدة‪ .‬وهو �أول ديوان في ال�شعر‬
‫�شورى القوانين‪ ،‬وفي الجمعية الت�شريعية‪ .‬تفتحت عيونه على‬
‫العربي يخ�ص�صه �صاحبه لبكاء زوجته‪ ،‬وقد‬ ‫خالد بيومي‬
‫بيئة �أدبية �شديدة الخ�صو�صية‪ ،‬ف�أعمامه و�أبناء عمومته‪،‬‬
‫تابعه في هذا الأمر �شاعران هما عبدالرحمن‬ ‫كانوا ي�سكنون القرى المجاورة لقريته‪ ،‬وكانت لهم جميع ًا‬
‫عناية باللغة والأدب وال�شعر ب�صفة خا�صة‪ ،‬وك��ان يح�ضر هذه المجال�س �شاعر �صدقي وطاهر �أب��و فا�شا‪ ،‬وق��د كتب بع�ض‬
‫النيل حافظ �إبراهيم‪ ،‬وال�شيخ عبدالعزيز الب�شري‪ ،‬ومحمد �صادق عنبر وغيرهم‪ .‬ق�صائده في م�صر‪ ،‬وبع�ضها الآخر في مكة‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪98‬‬


‫رواد‬

‫نجيب لقب (بك)‪ ،‬وفي ال�سنة التالية منح محمود‬ ‫والمدينة حين ق�صدهما حاج ًا �سائ ًال اهلل �أن‬
‫تيمور البكوية ب�سبب م�سرحيته (حواء الخالدة)‪.‬‬ ‫يلهمه ال�صبر ويقوي عزيمته‪ ،‬ليقوم على رعاية‬
‫ولكن ما لبث �أن حدث بع�ض الجفاء‪ ،‬وقيل‬ ‫�أبنائه بعد رحيل زوجته‪ .‬ويرى �أباظة‪� ،‬أن هذا‬
‫�إن �سبب هذه الجفوة م�سرحيته (النا�صر) التي‬ ‫ال��دي��وان يمثل بالن�سبة �إليه حالة من حاالت‬
‫�صور فيها �أباظة ف�ساد �أ�سرة حاكمة‪ ،‬انعك�س على‬ ‫ال�سمو الروحي‪� ،‬سواء ر�ضي عنه النا�س �أم لم‬
‫البالد كلها‪.‬‬ ‫ير�ضوا‪.‬‬
‫رخية في‬ ‫ولقد �أتيحت لعزيز �أباظة حياة ّ‬ ‫�أما المجموعات الأربع الأخرى‪ ،‬فقد جمعها‬
‫�أ�صدر خم�سة دواوين‬
‫ظل �أ�سرة كبيرة مي�سورة‪ ،‬وتعليم �أو�صله �إلى‬ ‫ون�شرها �صديقه الفنان �أنور محمد‪ ،‬بعد رحيله‬
‫وت�سع م�سرحيات‬ ‫التخرج في كلية الحقوق عام (‪1923‬م) وا�شتغل‬ ‫بعام واحد‪ ،‬وهي‪( :‬من ال�شرق والغرب‪ ،‬وت�سابيح‬
‫�شعرية حققت له‬ ‫بالمحاماة لمدة عامين‪ ،‬ثم التحق بخدمة النيابة‬ ‫قلب‪ ،‬وفي موكب الحياة‪ ،‬وفي موكب الخالدين)‪،‬‬
‫مكانته الأدبية‬ ‫العمومية �سنة (‪1925‬م)‪ .‬عا�ش �أباظة حياة‬ ‫�إ�ضافة �إلى مجموعة �أخيرة �أبدعها في �أخريات‬
‫اجتماعية �أدبية حافلة‪� ،‬أتاحت له �أن يكون قريب ًا‬ ‫�أيامه وعنوانها‪�( :‬إ�شراقات من ال�سيرة العطرة)‪.‬‬
‫من رموز ع�صره من الكتاب وال�شعراء والمفكرين‪،‬‬ ‫كتب عزيز �أباظة ت�سع م�سرحيات �شعرية‪،‬‬
‫�أ�صدقاء �أعمامه‪ ،‬من �أمثال ال�شيخ عبدالعزيز‬ ‫حققت له مكانة في �إب��داع الم�سرح ال�شعري‪،‬‬
‫الب�شري‪ ،‬و�شاعر النيل حافظ �إبراهيم‪ ،‬ومحمد‬ ‫باعتباره القمة �أو القامة الثانية بعد �أحمد‬
‫ال�سباعي‪ ،‬ومثله الأعلى في ال�شعر و�أ�ستاذه فيه‬ ‫�شوقي‪ ،‬ال��رائ��د الأول لهذا الفن ال�شعري في‬
‫�أحمد �شوقي‪ ،‬الذي كان يعده خليفة له‪ ،‬كما كان‬ ‫العربية‪ ،‬و�صنع �أباظة �صنيع �أ�ستاذه ومثله‬
‫ي�أخذ بيده ويوجهه في �سنوات �إبداعه الأولى‪،‬‬ ‫الأعلى �أحمد �شوقي في ا�ستلهام التاريخ ليكون‬
‫عندما لم�س فيه نبوغه المكبر وموهبته ال�شعرية‬ ‫�إطاراً لم�سرحياته‪ ،‬وهي‪ :‬قي�س ولبنى (على غرار‬
‫البازغة‪ ،‬وتمكنه من لغته التي يبدع بها‪ ،‬ويعبر‬ ‫مجنون ليلى ل�شوقي)‪ ،‬والعبا�سة‪ ،‬والنا�صر‪،‬‬
‫عن �أ�شواقه وخلجات وجدانه؛ نتيجة الطالعه‬ ‫و�شجرة الدر‪ ،‬وغروب الأندل�س‪ ،‬و�شهريار‪ ،‬وقافلة‬
‫الوا�سع‪ ،‬وتمثله لكتابات كبار الأدباء وال�شعراء‬ ‫النور‪ ،‬وقي�صر‪� .‬أما (�أوراق الخريف) فهي م�سرحية‬
‫نجح في م�سرحياته‬ ‫القدامى والمحدثين‪ .‬و�سوف تالزمه هذه ال�صفة‬ ‫ع�صرية‪.‬‬
‫المميزة (تمكنه من اللغة)‪ ،‬وخا�صة بعد ح�صوله‬ ‫وفي هذه الم�سرحيات‪ ،‬يتجاوز عزيز �أباظة‬
‫ال�شعرية في تجاوز‬ ‫على ع�ضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة‪،‬‬ ‫الأف���ق ال��درام��ي لأح��م��د ���ش��وق��ي‪ ،‬وي��ت��ف��وق في‬
‫الأفق الدرامي‬ ‫وم�شاركاته في ق�ضايا اللغة والثقافة العربية‬ ‫�إحكام ر�سم ال�شخ�صيات الم�سرحية‪ ،‬والتعمق‬
‫و�إحكام ر�سم‬ ‫طوال �سنواته المجمعية على مدار �أربعة ع�شر‬ ‫في ت�صويرها‪ ،‬وتحرره من الوحدات التقليدية‬
‫ال�شخ�صيات و�سبر‬ ‫عام ًا‪ ،‬تناول فيها ق�ضايا الم�سرح ال�شعري‪ ،‬ولغة‬ ‫الثالث‪ :‬الزمان والمكان والحدث‪ .‬و�إن لحقت به‬
‫�أغوارها‬ ‫ال�شاعر والف�صحى والعامية من زاوية جديدة‪.‬‬ ‫وجهت من قبل �إل��ى �شوقي‪ ،‬وهي‬ ‫التهمة التي ّ‬
‫كما قدم درا�سة عن الم�ستعرب الألماني ( �إ ّنو‬ ‫طغيان النزعة الغنائية‪ ،‬لكن �شوقي يحتفظ‬
‫ليتمان) عندما خلفه في ع�ضوية المجمع‪ ،‬وقد‬ ‫بف�ضل ال�سبق والريادة و�صنع النموذج والمثال‪.‬‬
‫ا�ستقبله العقاد الذي �سبقه �إلى المجمع بقوله‪:‬‬ ‫وقد منح عزيز �أباظة رتبة البا�شوية‪ ،‬عقب‬
‫(�إنه اهتم بالقدرة ولم يهتم بالتقدير‪ ،‬فلم يعرف‬ ‫ت�أليفه لم�سرحية (العبا�سة) �سنة (‪1946‬م)‪ ،‬وفهم‬
‫الرا�صدون هذا الكوكب �إال وهو في برجه الأ�سمى‪،‬‬ ‫بع�ضهم �أن الم�سرحية ت�ؤيد حق الملك في الت�صرف‬
‫قد جاوز جانبي الأفق‪ ،‬و�أ�صعد في �سمت ال�سماء)‪.‬‬ ‫في وزرائه‪ ،‬وهذا الر�أي بلغ الملك فاروق‪ ،‬فاهتم‬
‫بالم�سرحية لأنه كان قد اختلف مع وزارة الوفد‪،‬‬
‫وبط�ش بها‪ ،‬وح�ضر فاورق الم�سرحية وا�ستدعى‬
‫�أباظة لمقابلته عدة م��رات‪ ،‬ويحكي �أباظة في‬
‫حواره مع ف�ؤاد دوارة‪� ،‬أنه �سمع ب�أذنه النقرا�شي‬
‫با�شا رئي�س ال ��وزراء وقتها‪ ،‬يحتج لأن هناك‬
‫وزراء ووكالء لم ي�أخذوا البا�شوية‪ ،‬فكيف يعطيها‬
‫لمدير �أ�سيوط‪ ،‬ف�أجابه فاروق‪� :‬أنا �أمنحه با�شوية‬
‫من �أجل الأدب‪ .‬وبعد �أ�سبوعين �أقيم حفل �شاي‬
‫في ق�صر عابدين‪ ،‬ودعي الفنانون الذين ا�شتركوا‬
‫في الم�سرحية ولجنة القراءة ومديرو الفرقة‪،‬‬
‫عبد العزيز الب�شري‬ ‫محمد عبد الوهاب‬ ‫محمود تيمور‬ ‫ومنحه الملك اللقب‪ ،‬و�أعطى المرحوم �سليمان‬

‫‪99‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫رواد‬

‫كما امتلأت حياة عزيز �أباظة‪ ،‬بما جعله‬


‫�شديد االنغما�س في حياة المجتمع والقيام بدور‬
‫كبير في حياته الثقافية والأدبية والإداري��ة‪،‬‬
‫و�إ�ضافة �إلى ع�ضويته في مجمع اللغة العربية‪،‬‬
‫اختير ع�ضواً في المجل�س الأعلى للفنون والآداب‬
‫والعلوم االجتماعية‪ ،‬وح�صل على جائزة الدولة‬
‫التقديرية‪ ،‬وات�سعت هذه الحياة ليكون ع�ضواً في‬
‫مجل�س النواب ومديراً للقليوبية والفيوم والمنيا‪،‬‬
‫ومحافظ ًا لمنطقة القناة‪ ،‬ومديراً للبحيرة ثم‬
‫�أ�سيوط‪ ،‬وع�ضواً في مجل�س ال�شيوخ‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬
‫م�شاركاته في مهرجانات ال�شعر العربي في م�صر‬
‫عزيز �أباظة مع يو�سف وهبي‬ ‫وفي خارجها‪ ،‬ودوره في توجيه الحياة ال�شعرية‬
‫حين �أ�صبح رئي�س ًا للجنة ال�شعر بعد رحيل رئي�سها‬
‫الأول عبا�س محمود العقاد‪ ،‬وب�سبب ارتباط ا�سمه‬
‫ارتباط ًا �شديداً ب�شوقي‪ ،‬ونهجه في كتابة الم�سرح‬
‫ال�شعري‪ ،‬فقد لحق به كثير مما كان يوجه �إلى‬
‫العقاد و�شوقي من نقد واتهامات في العقود التي‬
‫تو�سطت القرن الع�شرين‪� ،‬إ�ضافة �إلى بروز العن�صر‬
‫اللغوي في �شعره‪ ،‬وهو ما كان يحول بين انت�شار‬
‫هذا ال�شعر وذيوعه لدى الجمهور العام لل�شعر‪،‬‬
‫الذي وجد في الكثير من ق�صائده‪ ،‬حر�ص ًا على‬
‫ا�ستدعاء المعجم ال�شعري التراثي للق�صيدة‬
‫العربية الكال�سيكية‪ ،‬في الوقت الذي كان �شعراء‬
‫من م�ؤلفاته‬ ‫المهجر وجماعة �أبولو وال�شعر الجديد‪ ،‬قد هي�ؤوا‬
‫الحديث‪ ،‬والطريف �أن الق�صيدة في الأ�صل‪ ،‬جاءت‬ ‫الذائقة ال�شعرية للغة �أكثر ُي�سراً وع�صرية‪ ،‬و�أقرب‬
‫على ل�سان قي�س بن ذري��ح في م�سرحية عزيز‬ ‫�إلى لغة الحياة العامة‪.‬‬
‫�أباظة (قي�س ولبنى)‪ ،‬لكنها �أ�صبحت في الغناء‬ ‫وكان �أباظة يرى �أن �أعظم �شعراء العالم هو‬
‫ق�صيدة تتكلم عن �شط النيل وهم�سات الماء ولقاء‬ ‫(ت‪� .‬س‪� .‬إليوت)‪� ،‬أما �أعظم �شعراء العرب فكان‬
‫اجتمع مع رموز‬ ‫الحبيبين على ال�ضفاف‪ ،‬يقول عزيز �أباظة فيها‪:‬‬ ‫�شوقي‪.‬ويحكي �أب��اظ��ة عن كيفية تعرفه �إلى‬
‫ع�صره من الكتاب‬ ‫ٍ‬
‫بناجية‬ ‫يا منية النف�س ما النف�س‬ ‫�شوقي في حواره معه فيقول‪( :‬لنا قريب يدعى‬
‫وال�شعراء �أمثال‬ ‫وق���د ع�صفت ب��ه��ا ن���أي�� ًا وه��ج��ران��ا‬ ‫محمد بك �أباظة كان مديراً لم�صلحة الأمالك‪،‬‬
‫أ�ضنيت �أ���س��وان ما ترقى مدامعه‬ ‫ِ‬ ‫�‬ ‫وكان �صديق ًا ل�شوقي‪ ،‬وحافظ �أي�ض ًا‪ ،‬وحين عاد‬
‫عبدالعزيز الب�شري‬ ‫وهجت فوق ح�شايا ال�سهد حيرانا‬ ‫ْ‬ ‫�شوقي من الأندل�س‪ ،‬كان ي�سكن �إلى جوار قريبي‬
‫وحافظ �إبراهيم‬ ‫يبيت ي���ودع �سمع الليل عاطفة‬ ‫هذا‪ ،‬فرجوته �أن ي�صحبني لزيارته‪ ،‬وكنت في‬
‫والعقاد ومحمد‬ ‫���ض��اق ال��ن��ه��ار ب��ه��ا ���س��ت��ر ًا وكتمانا‬ ‫�أوائ��ل عهدي بمدر�سة الحقوق‪ ،‬فاعتبرت هذه‬
‫ال�سباعي‬ ‫هل تذكرين ب�شط النيل مجل�سنا‬ ‫الزيارة‪ ،‬من الأح��داث المهمة في حياتي‪ .‬فقد‬
‫ن�شكو ه��وان��ا فنفنى ف��ي �شكاوانا‬ ‫ر�أي��ت هذا ال�شاعر ال�ضخم ال يكاد يتكلم‪ ،‬ف�إذا‬
‫تن�ساب ف��ي هم�سات ال��م��اء �أنّتنا‬ ‫تكلم فبعبارات ال يمكن �أن يت�صور الإن�سان �أنها‬
‫وت�ستثير ���ش��ج��ون ال��ن��ه��ر نجوانا‬ ‫الخلق‪ ،‬كالم عادي‬ ‫ّ‬ ‫�صادرة عن ذلك ال�شاعر‬
‫هذا �شاعر كبير القامة والمقام‪ ،‬لم ين�صفه‬ ‫جداً حتى ال تكاد تح�س ب�أنك تجل�س مع �شاعر‪،‬‬
‫ع�صره‪ ،‬وهو �صاحب الإنجاز الم�سرحي ال�شعري‬ ‫بعك�س حافظ الذي تجل�س �إليه فتعتقد �أنه �أ�شعر‬
‫منحه الملك فاروق‬ ‫الباذخ‪ ،‬والمجموعات الر�صينة البديعة من ال�شعر‬ ‫الجن والإن�س)‪.‬‬
‫رتبة (البا�شوية)‬ ‫الغنائي‪ ،‬لم يلتفت �إليه �أ�صحاب النقد الجديد‪ ،‬ولم‬ ‫لكن ه��ذا الأم���ر ل��م يحل بين ن��م��اذج من‬
‫لمكانته الأدبية‬ ‫ي�شغل به �أ�صحاب النقد الأيديولوجي رف�ض ًا منهم‬ ‫�شعر عزيز �أباظة والنا�س‪ ،‬حين اختار محمد‬
‫لطبقته االجتماعية الأر�ستقراطية‪ ،‬وقد رحل عن‬ ‫عبدالوهاب ق�صيدته (هم�سة حائرة) ليتغنى بها‪،‬‬
‫عالمنا في (‪ 10‬يوليو ‪1973‬م)‪.‬‬ ‫الأمر الذي جعلها واحدة من كال�سيكيات الغناء‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪100‬‬


‫مقاالت‬
‫فوا�صل‬

‫روايات متعددة عن ملحمة عنترة‬


‫ونجد بن ه�شام‪ ،‬وجينة اليماني وغيرهم‪ ،‬وقد‬ ‫�شخ�صية عنترة ب��ن ���ش��داد العب�سي‪ ،‬من‬
‫ذكر على ل�سان الأ�صمعي قوله‪�( :‬أخذنا عنهم‬ ‫ال�شخ�صيات التي فر�ضت نف�سها على التاريخ‬
‫هذه الروايات والأخبار لتكون تذكرة لمن ي�أتي‬ ‫العربي‪ ،‬وتناقلت �أخباره من جيل �إلى جيل‪،‬‬
‫بعدنا في غابر الأع�صار)‪.‬‬ ‫ربما ل�شجاعته وفرو�سيته‪ ،‬وربما لق�صة الحب‬
‫الرواية الثانية ذكرها ابن �أب��ي �أ�صيبعة‬ ‫العذري التي جمعت بينه وبين ابنة عمه‪ ،‬وربما‬
‫في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)‪،‬‬ ‫لل�صراع العرقي الذي دخله مع والده وقبيلته‪،‬‬
‫ون�سب ت�أليف ال�سيرة �إل��ى الطبيب العراقي‬ ‫ورب��م��ا لجميع ه��ذه العنا�صر‪ ،‬ال��ت��ي نحتت‬
‫محمد بن المجلي بن ال�صائغ الجزري الملقب‬ ‫�شخ�صية درامية تجذب الأنظار وت�شد الأذان‪.‬‬
‫عالء عريبي‬ ‫بالعنتري‪ ،‬قال‪� ( :‬إن العنتري كان في �أول �أمره‬ ‫�أخ��ب��ار عنترة التي و�صلتنا قليلة ج��داً‪،‬‬
‫يكتب �أحاديث عنترة العب�سي ف�صار م�شهوراً‬ ‫معظمها رك��زت على �شجاعته وق�صة حبه‬
‫عليه انتهى به �إلى مثل ما انتهى الأول‪ ،‬وهكذا‬ ‫بن�سبته �إليه)‪ .‬و�أخ��ذ بهذه الرواية الم�ست�شرق‬ ‫ومحاولته مع والده لالعتراف به‪ ،‬وبرغم قلة‬
‫�إلى نهاية الق�صة‪ ،‬وقد �أثبت في هذه الكتب ما‬ ‫الفرن�سي كر�سان بر�سيفال‪ ،‬ال��ذي طبع لهذه‬ ‫هذه الأخبار‪ ،‬ن�سج الخيال ال�شعبي ق�صة طويلة‬
‫ورد من �أ�شعار العرب المذكورين فيها‪ ،‬غير انه‬ ‫ال�سيرة ملخ�ص ًا في باري�س‪.‬‬ ‫عن حياته‪� ،‬شبهها بع�ض الباحثين بالإلياذة‪،‬‬
‫لكثرة تداول النا�سخين لها ف�سدت روايتها بما‬ ‫وقد ا�ستبعد الباحثون �صحة الروايتين‪،‬‬ ‫و�أطلقوا عليها ا�سم (�إلياذة العرب) �أو �إلياذة‬
‫وقع فيها من الأغالط المكررة بتكرار الن�سخ‪.‬‬ ‫ولم يقفوا �أمامهما كثيراً لتناول ال�سيرة بع�ض‬ ‫ال�صحراء‪ ،‬هذه الإلياذة هي �سيرة عنترة بن‬
‫وقد بلغنا عن رجل من �أهل حم�ص‪ ،‬كان‬ ‫الأح����داث‪ ،‬التي وقعت بعد وف��اة الأ�صمعي‬ ‫�شداد‪ ،‬التي تناولت ب�إ�سهاب جميع مراحل‬
‫يح�ضر كل ليلة �إل��ى حلقة الق�صا�ص‪ ،‬ي�سمع‬ ‫والعنتري ب�سنوات‪.‬‬ ‫حياته منذ مولده وحتى �شيخوخته ووفاته‬
‫ف�ص ًال من ق�صة عنترة‪ ،‬ففي �إح��دى الليالي‪،‬‬ ‫نعود �إلى الرواية الثالثة‪ ،‬والتي ن�سبت �إلى‬ ‫مقتو ًال‪ ،‬دارت وقائعها في الجزيرة العربية‪،‬‬
‫ت�أخر في حانوته �إلى ما بعد المغرب‪ ،‬فح�ضر‬ ‫القا�ص الم�صري ال�شيخ يو�سف بن �إ�سماعيل‬ ‫والعراق‪ ،‬و�سوريا‪ ،‬وبالد فار�س‪ .‬ا�ستغرقت نحو‬
‫�إل��ى هناك ب��دون ع�شاء‪ ،‬وك��ان في تلك الليلة‬ ‫هذه الرواية‪� ،‬أ�شار �إلى هذه الرواية على عجالة‬ ‫�ستة قرون من الزمان‪ ،‬منذ الع�صر الجاهلي‬
‫�سياق حرب عنترة مع ك�سرى‪ ،‬فقر�أ القا�ص �إلى‬ ‫الم�ست�شرق الألماني (ليتمان) في بحثه عن‬ ‫وحتى الحروب ال�صليبية‪ ،‬هذه الملحمة التي‬
‫�أن وقع عنترة في الأ�سر عند الفر�س‪ ،‬فحب�سوه‬ ‫(�ألف ليلة وليلة) المن�شور في دائرة المعارف‬ ‫�صدرت في ثمانية مجلدات من القطع المتو�سط‪،‬‬
‫وو�ضعوا القيد في رجله‪ ،‬وهناك قطع الكالم‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬وذك��ر هذه الرواية ب�شكل مف�صل‬ ‫ويقدر عدد �صفاحتها بنحو (‪� 3‬آالف و‪)600‬‬
‫وانف�ضت النا�س فدخل على الرجل �أمر عظيم‬ ‫ال�شاعر والأديب ال�سوري �إ�سكندر بك �إيكاريو�س‬ ‫�صفحة‪ ،‬قيل �إن م�ؤلفها كاتب م�صري‪ ،‬و�إنه‬
‫وا���س��ودت الدنيا في عينيه‪ ،‬وذه��ب �إل��ى بيته‬ ‫(ت ‪1885‬م)‪ ،‬ن�شرها �سنة (‪1868‬م) في كتابه‬ ‫قام بت�أليفها في ع�صر العزيز باهلل (ت ‪386‬هـ)‬
‫حزين ًا كئيب ًا‪ ،‬فقدمت �إليه زوجته الطعام‪ ،‬فرف�س‬ ‫(منية النف�س في �أ�شعار عنتر عب�س)‪ ،‬و�أغلب‬ ‫خام�س الخلفاء الفاطميين‪ ،‬ويدعى ال�شيخ‬
‫المائدة برجله فتك�سرت ال�صحون وان�صب ما‬ ‫الظن �أنه �أخذها عن مقدمة ملخ�ص ال�سيرة التي‬ ‫يو�سف بن �إ�سماعيل‪ ،‬و�ألفها بتكليف من العزيز‬
‫فيها على فر�ش البيت‪ ،‬و�شتم المر�أة �شتم ًا قبيح ًا‬ ‫ن�شرها الم�ست�شرق الفرن�سي كر�سان بر�سيفال‪،‬‬ ‫باهلل‪ ،‬فقد جرت بع�ض الخالفات داخل ق�صر‬
‫ف�صادمته في الكالم ف�ضربها �ضرب ًا �شديداً‪،‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫الخليفة‪ ،‬وتناقلتها �أل�سن العامة‪ ،‬ف�أح�ضر ال�شيخ‬
‫وخرج يدور في الأ�سواق وهو ال يقر له قرار‪،‬‬ ‫(ون�ش�أ بم�صر من �أفا�ضل الرواة �شيخ يقال‬ ‫يو�سف‪ ،‬وطلب من �أن يختلق ق�صة ي�صرف بها‬
‫ثم غلب عليه الحال فذهب �إلى بيت الق�صا�ص‬ ‫له ال�شيخ يو�سف بن �إ�سماعيل‪ ،‬وك��ان يت�صل‬ ‫العامة عما جرى في ق�صره‪.‬‬
‫فوجده نائم ًا ف�أيقظه وقال له‪ :‬و�ضعت الرجل‬ ‫بباب العزيز في القاهرة‪ ،‬فاتفق �أن حدثت‬ ‫قبل �أن نف�صل الحديث عن ه��ذه الواقع‪،‬‬
‫في ال�سجن مقيداً و�أتيت تنام م�ستريح البال‪،‬‬ ‫ريبة في دار العزيز‪ ،‬ولهجت النا�س بها في‬ ‫ونجيب عن ال�س�ؤال‪ :‬هل �ألفت �سيرة عنترة في‬
‫ف�أرجوك �أن تكمل لي هذا ال�سياق �إلى �أن تخرجه‬ ‫المنازل والأ�سواق ف�ساء العزيز ذلك‪ ،‬و�أ�شار �إلى‬ ‫م�صر؟ ن�شير على عجالة �إل��ى روايتين �سبق‬
‫من ال�سجن‪ ،‬ف�إنني ال �أقدر �أن �أنام وال يطيب‬ ‫ال�شيخ يو�سف المذكور �أن يطرف النا�س بما‬ ‫ون�سب ت�أليف ال�سيرة �إل��ى م�ؤلفين بعينهما‪،‬‬
‫عي�شي مادام على هذه الحال‪ ،‬وانظر ما تجمعه‬ ‫ع�ساه �أن ي�شغلهم عن هذا الحديث‪ ،‬وكان ال�شيخ‬ ‫الأول��ى وقد ناق�شها الم�ست�شرق برنارد هيلر‪،‬‬
‫من الجمهور في ليلتك ف�أنا �أعطيك �إياه الآن‪،‬‬ ‫وا�سع الرواية في �أخبار العرب‪ ،‬كثير النوادر‬ ‫وذك��رت في مقدمة �سيرة عنترة‪ ،‬حيث ن�سب‬
‫ف�أخذ الق�صا�ص الكتاب وقر�أ له باقي ال�سياق‪،‬‬ ‫والأحاديث‪ ،‬وكان قد �أخذ روايات �شتى عن �أبي‬ ‫ن�ساخ ال�سيرة ت�أليفها �أو جمعها وترتيبها �إلى‬
‫حتى خرج عنترة من ال�سجن‪� ،‬إلى هنا انتهت‬ ‫عبيدة ونجد بن ه�شام وجهينة اليماني الملقب‬ ‫الأ�صمعي (ت ‪216‬هـ)‪ ،‬قالوا �إنه �سمع �أخبارها‬
‫هذه الرواية التي تن�سب �سيرة عنترة لم�ؤلف‬ ‫بجهينة الأخبار‪ ،‬وعبدالملك بن قريب المعروف‬ ‫من البلخي‪ ،‬و�سيار‪ ،‬وحماد الراوية‪ ،‬وابن قتيبة‬
‫م�صري‪ ،‬وكما هو وا�ضح ال تمتلك ما يدعمها‪،‬‬ ‫بالأ�صمعي وغيرهم من ال��رواة‪ ،‬ف�أخذ يكتب‬ ‫الفزاري‪ ،‬والأ�شعث الثقفي‪ ،‬وابن خدا�ش المثنى‪،‬‬
‫و�أغلب الظن �أنها غير م�ؤكدة‪ ،‬لأنه �أو ًال لم يرد‬ ‫ق�صة لعنترة‪ ،‬ويوزعها على النا�س‪ ،‬ف�أعجبوا‬
‫عن الم�ؤرخين‪ ،‬ذكر لكاتب في الع�صر الفاطمي‬ ‫بها وا�شتغلوا عما �سواها‪ .‬ومن تلطفه في الحيلة‬ ‫لي�صرف العامة عن‬
‫با�سم ال�شيخ يو�سف بن �إ�سماعيل‪ ،‬وثاني ًا لم‬ ‫�أنه ق�سمها �إلى اثنين و�سبعين كتاب ًا‪ ،‬والتزم في‬
‫يذكر وقوع �أح��داث مريبة في �أي عهد خليفة‬ ‫�آخر كل كتاب �أن يقطع الكالم عند معظم الأمر‬ ‫خالفات الق�صر‪� ..‬أمر‬
‫فاطمي‪� ،‬أ�ضف �إلى هذا عدم ذكر هذه الرواية‬ ‫الذي ي�شتاق القارئ �إلى الوقوف على تمامه‬ ‫َ‬
‫يو�سف بن‬ ‫العزيز باهلل‪،‬‬
‫ب�أحد المظان التاريخية التي تقع بين �أيدينا‪.‬‬ ‫فال يفتر عن طلب الكتاب الذي يليه‪ ،‬ف�إذا وقف‬ ‫�إ�سماعيل بت�أليفها‬

‫‪101‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫الجوائز اعتراف مادي ومعنوي بالمبدع‬

‫عبدالرزاق الدربا�س‪:‬‬
‫الم�شهد الثقافي الإماراتي‬
‫خ�صب ومتنوع‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪102‬‬


‫وجوه‬

‫ي��ع��د ال�����ش��اع��ر ال�����س��وري ع��ب��دال��رزاق ال��درب��ا���س واح����د ًا من‬


‫ال�����ش��ع��راء ال��م��ع��روف��ي��ن ع��ل��ى م�ستوى ال��وط��ن ال��ع��رب��ي‪ ،‬ول��ه‬
‫ح�����ض��وره المميز وال��ف��اع��ل ف��ي ال��ح��راك ال��ث��ق��اف��ي‪ ،‬وام��ت��د‬
‫ح�����ض��وره �إل����ى الأدب ال��ت��رك��ي وال���ه���ن���دي والإن��ج��ل��ي��زي‪،‬‬
‫م����ن خ��ل��ال اخ���ت���ي���ار ب��ع�����ض ال��م��ت��رج��م��ي��ن ل��ن�����ص��و���ص��ه‪.‬‬
‫عبدالعليم حري�ص‬
‫�سلطان القا�سمي‬ ‫قدم الكثير‬ ‫وفي حوار معه‪� ،‬أكد الدربا�س �أن حاكم ال�شارقة‪ّ ،‬‬
‫له �أيادٍ بي�ضاء على‬ ‫المبادرات ك ّم ًا ونوعاً‪� ،‬أ�سهمت في �إثراء الم�شهد الثقافي الإماراتي‬ ‫ِ‬ ‫للثقافة من‬
‫الم�شهد الثقافي‬ ‫والعربي‪ ،‬و�آخ��ر تلك المبادرات كانت جائزة ال�شارقة لنقد ال�شعر العربي‪.‬‬
‫الإماراتي والعربي‬
‫¯ ما هي الم�ؤثرات التي قادت الدربا�س تجاه‬ ‫ولفت الدربا�س في لقاء مع مجلة «ال�شارقة‬
‫دروب ال�شعر منذ البداية؟‬ ‫الثقافية»‪� ،‬إلى �أنه ت�أثر بحكمة زهير بن �أبي‬
‫‪ -‬في االنطالق من الخطوات الأولى‪ ،‬هناك‬ ‫ُ�سلمى في تجربته ال�شعرية‪ ،‬ولم يتجاهل �شجاعة‬
‫الكثير من الم�ؤثرات التي تلعب دوره��ا في‬ ‫عنترة‪ ،‬ودبلوما�سية النابغة‪ ،‬ومغامرات امرئ‬
‫كنت‬
‫توجيه دفة القارب الأدبي‪ ،‬فمنذ �صغري ُ‬ ‫القي�س‪ ،‬وطموح طرفة بن العبد‪� ،‬إال �أنه ينحاز �إلى‬
‫�أحب الخلوة مع الطبيعة‪ ،‬وقراءة هذا الإبداع‬ ‫الخن�ساء في عمق حزنها وقوة �إيمانها‪.‬‬
‫الإل��ه��ي في الب�شر والحجر وال�شج ِر وحركة‬ ‫و�أو�ضح �أن الم�شهد الثقافي في الإمارات‬
‫الزمن وت�أثيره في النا�س وكفاحهم في دروب‬ ‫خ�صب ومتنوع‪ ،‬وا�سع في كل الأجنا�س الأدبية‬
‫الحياة‪ ،‬وطقو�س الف�صول الأرب��ع��ة وب�ساطة‬ ‫والمظاهر الثقافية‪ ،‬ومنفتح على كل التيارات‬
‫الحياة في قريتنا الوادعة (ركايا كفر�سجنة)‬ ‫غربال‬
‫ٌ‬ ‫والأقطار العربية‪ ،‬و�أ�شار �إلى �أن الجوائز‬
‫جائزة ال�شارقة لنقد‬ ‫رائع‪ ،‬ب ِه ُي�شار للمتميز‪ ،‬وهي بمثابة اعتراف‬
‫القريبة من معرة النعمان في الريف ال�سوري‬
‫ال�شعر تحفز النقاد‬ ‫البديع‪ ،‬وكانت هذه هي الأجواء في يومياتي‪،‬‬ ‫وتميزها‪.‬‬
‫مادي ومعنوي بن�ضج التجربة ّ‬
‫على المو�ضوعية‬ ‫فع�شق ُتها وخ ّزنتها في وجداني‪،‬‬
‫وتمنح ال�شعر دوره‬ ‫ودخلت‬
‫ُ‬ ‫أم�سكت يدي بالقلم‬‫ْ‬ ‫حتى �‬
‫الفاعل والم�ؤثر‬ ‫أح�س‬‫َّ‬ ‫�‬ ‫ف‬ ‫والكتابة‪،‬‬ ‫�راءة‬ ‫�‬ ‫�ق‬
‫�‬ ‫ال‬ ‫عالم‬
‫ك��ل م��ن ح��ول��ي ب��اخ��ت�لاف��ي عن‬
‫�أق ��ران ��ي ف��ي ال ��ق ��راءة والكتابة‬
‫وال��ت��ف��ك��ي��ر وال��ن��ظ��رة ل�ل�أ���ش��ي��اء‪،‬‬
‫ومن هناك‪ ،‬من �أبعد طيوف في‬
‫بالي‪ ،‬جاءت الق�صيدة الملت�صقة‬
‫ب��الأه��ل والأر������ض ون��ب��ع ال��م��اء‬
‫واالخ�ضرار الخ�صيب‪ ،‬واالرتحال‬
‫الم�ؤلم والطموح العالي والجمال‬
‫البيئة والطبيعة‬ ‫ال�لاف��ت‪ ،‬ويمكن اعتبار ك� ّل تلك‬
‫وراء دخولي عالم‬ ‫رات مهم ًة في توجيه‬ ‫الأ�شياء م�ؤ ّث ٍ‬
‫القراءة والكتابة‬ ‫م�شاعري ومركبي نحو ال�شعر‪ ،‬منذ‬
‫وت�شكيل نظرتي‬ ‫بدايات ت�شك ّل الوعي عندي‪.‬‬
‫للحياة والأ�شياء من‬ ‫¯ جائزة ال�شارقة لنقد ال�شعر‬
‫حولي‬ ‫العربي‪ ،‬والتي �أطلقها �صاحب‬
‫ال�سمو حاكم ال�شارقة‪ ،‬كيف �ست�سهم‬
‫هذه الجائزة بمنظورك في �إعادة‬
‫ال�شعر للريادة كما كان في ظل‬
‫هيمنة الرواية على الم�شهد الأدبي؟‬
‫من م�ؤلفاته‬

‫‪103‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫المختلف‪ ،‬وللبحتري في ديباجته المن�سابة‪،‬‬ ‫‪ -‬ال�شارقة عا�صمة دائمة للثقافة‪ ،‬فقد‬
‫ولأب��ي عثمان الجاحظ في طرافته وبالغته‪،‬‬ ‫ُت� ّ�وج� ْ�ت عا�صم ًة للثقافة العربية‪ ،‬وللثقافة‬
‫وعلو همته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولأب��ي العالء المعري في علمه‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬وعا�صمة عالمية للكتاب‪ ،‬ومدينة‬
‫والبن زيدون في وزارته وع�شقه‪ ،‬ولخير الدين‬ ‫�صديقة للطفل‪ ،‬وهي في كل ذلك جديرة‪ ،‬لأنها‬
‫الزركلي في حبه لوطنه ومهاراته البحثية‪،‬‬ ‫ؤية بعيدة المدى ل�صاحب ال�سمو‬ ‫تنطلق من ر� ٍ‬
‫ولنزار قباني في جر�أته وموقفه ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي؛‬
‫ولجبران خليل جبران في ت� ّأمله‪� ،‬أما الذين لم‬ ‫قدم‬ ‫ع�ضو المجل�س الأعلى حاكم ال�شارقة‪ ،‬الذي ّ‬
‫�أذكرهم فقد �أ ّثروا في تجربتي و�أثروها �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫كم ًا ونوع ًا ما يجعل ك َّل‬ ‫ِ‬
‫المبادرات ّ‬ ‫للثقافة من‬
‫وهذا الت�أثير نابع من وجود جوانب في ذاتي‪،‬‬ ‫العطاءات الأخ��رى �أق � ّل‪ ،‬و�آخ��ر تلك المبادرات‬
‫تتبع‬‫مر به ه�ؤالء الكبار‪ ،‬ومحاولة ّ‬ ‫ت�شبه ما ّ‬ ‫كانت جائزة ال�شارقة لنقد ال�شعر العربي‪،‬‬
‫مواقفهم و�أ�شعارهم في الجوانب المختلفة‪.‬‬ ‫تعار�ض بين ال�شعر والرواية‪،‬‬
‫َ‬ ‫وفي الحقيقة ال‬
‫لي�س كل ما �أكتبه‬ ‫ي�سد‬
‫�سبق لأحدهما على الآخ��ر‪ ،‬فكالهما ّ‬ ‫وال َ‬
‫�أن�شره وغير مت�سرع‬ ‫¯ كيف تنظر �إلى الم�شهد الثقافي في الإمارات‪،‬‬ ‫لكن الذي نالحظه – ونحن‬ ‫فراغ ًا منا�سب ًا له‪ّ ،‬‬
‫كونك عا�صرت الكثير من التجارب والأجيال‪،‬‬ ‫من المتابعين لحركة الإب ��داع والن�شر‪ّ � -‬أن‬
‫بالن�شر لأن الكلمة‬ ‫خالل وجودك بال�ساحة الأدبية بالإمارات؟‬ ‫كمية المطبوع من ال��دواوي��ن كبيرة‪ ،‬والنقد‬
‫م�س�ؤولية و�أثر يبقى‬ ‫‪ -‬الم�شهد الثقافي في الإم��ارات خ�صب‬ ‫الموازي لها قلي ٌل بل ن��ادر‪ ،‬وال�شاعر يحتاج‬
‫بعد رحيل المبدع‬ ‫ومتنوع‪ ،‬وا���س��ع ف��ي ك��ل الأج��ن��ا���س الأدب��ي��ة‬ ‫�إل��ى الناقد‪ ،‬ليعرف موقعه وطريقه‪ ،‬ور�أي‬
‫والمظاهر الثقافية‪ ،‬ومنفتح على كل التيارات‬ ‫المعايير الفنية واللغوية والت�أثير الجماهيري‬
‫ومتجدد مع �أجيال متعاقبة‬ ‫ّ‬ ‫والأقطار العربية‪،‬‬ ‫لإبداعه‪ ،‬ومن هنا كانت الجائزة عام ًال مهم ًا‬
‫من الأدباء والوجوه الطامحة‪ ،‬بمواكبة �إعالم‬ ‫�سد هذا النق�ص وت��دارك تلك الفجوة بين‬ ‫في ّ‬
‫�اد محترف‪ ،‬يوثق ال��ح��دث‪ ،‬م��ع الجمهور‬ ‫ج� ّ‬ ‫المن�شور والمنقود‪ ،‬والجائزة بمعاييرها ود ّقتها‬
‫النوعي المواكب للن�شاط‪ ،‬وكل ذلك برعاية‬ ‫وقيمتها �سوف تح ّفز النقاد على ت�أطير النق ِد‬
‫ّ‬
‫كريمة من �أ�صحاب ال�سمو الح ّكام والجهات‬ ‫بمعاييره الأكاديمية وترك االنطباع والر�أي‬
‫الر�سمية المعنية ب��ذل��ك‪ ،‬وك��م ي�سعدنا �أن‬ ‫ال�شخ�صي‪ ،‬والبعد عن التجريح والتحطيم والـ‬ ‫ّ‬
‫ن��رى �أدب ��اء الإم ��ارات‬ ‫(ال�شللية) ال�ضيقة التي �أ�ساءت للنقد‪ ،‬و�أتوقع‬ ‫ّ‬
‫وق ��د ���ش � ّق��وا طريقهم‬ ‫للجائزة �إقبا ًال كبيراً خا�صة و�أنا العارف ب�آلية‬
‫ون�ضجت تجاربهم‪،‬‬ ‫الم�شاركات والت�سويق والتحكيم المو�ضوعي‬
‫التي ك ّنا �شاهدين على‬ ‫في �شارقة الخير‪� ،‬آم ًال من النقاد وال�شعراء �أن‬
‫بداياتها‪ ،‬خا�صة � ّأن‬ ‫يكونوا عون ًا وماد ًة عالية القيمة لتفعيل هذه‬
‫لي تجربة في رئا�سة‬ ‫ق�صدها‬
‫الجائزة وتحقيق �أهدافها ال�سامية‪ ،‬التي َ‬
‫نادي ال�شعر في اتحاد‬ ‫�سلطان الخير من �إطالقها في الميدان الأدبي‪.‬‬
‫ك ّتاب و�أدباء الإمارات‬
‫(‪،)2009 – 2002‬‬ ‫¯ من من ال�شعراء والأدباء كان لهم �أثر في‬
‫جبران خليل جبران‬ ‫خير الدين الزركلي‬
‫م����ن خ��ل��ال ن�����ش��اط‬ ‫تجربتك؟‬
‫�أ�سبوعي وور���ش عمل‬ ‫‪ -‬هذا ال�س�ؤال ت�صعب الإجابة عنه‪ ،‬ذلك‬
‫نقدية وجوائز واحتفاء‬ ‫جانب م�ؤثر في‬ ‫ٌ‬ ‫ل ّأن ك � َّل قامة �شعرية لها‬
‫ب� ��دواوي� ��ن � ��ص ��ادرة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫زاوية ما‪ ،‬ومن الإجحاف �أن نقول مث ًال �أ ّثرت‬
‫ول�ست �أغالي لو قلت‬ ‫حكمة زه��ي��ر ب��ن �أب ��ي ُ�سلمى ف��ي تجربتي‪،‬‬
‫�إن الحركة الثقافية‬ ‫و�أتجاهل �شجاعة عنترة ودبلوما�سية النابغة‪،‬‬
‫في الإم ��ارات ال نظير‬ ‫ومغامرات ام��رئ القي�س‪ ،‬وطموح طرفة بن‬
‫ل ��ه ��ا ف����ي ال�����س��اح��ة‬ ‫العبد‪ ،‬هذا في الحقبة الجاهلية‪� ،‬أما في الزمن‬
‫الخليجية والعربية‬ ‫التالي وحتى الآن‪ ،‬ت�أثرت بكل ال�شعراء الفحول‬
‫الكم والنوع‪،‬‬‫من حيث ّ‬ ‫قلت لي لمن تنحاز �أكثر‬ ‫من زاوية معينة‪ ،‬ولو َ‬
‫واال�ستمرار والجوائز‪،‬‬ ‫ربما لأجبتك‪ ،‬بانحيازي للخن�ساء‪ ،‬في عميق‬
‫�صالحة غاب�ش‬ ‫محمد البريكي‬ ‫وال����م����ه����رج����ان����ات‪،‬‬ ‫حزنها وقوة �إيمانها‪ ،‬لمجنون ليلى في حبه‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪104‬‬


‫وجوه‬

‫ومزية‪ ،‬يجب �أن‬


‫ّ‬ ‫والرعاية الر�سمية‪ ،‬وتلك نعمة‬
‫نعترف بالف�ضل لأهل الف�ضل في ذلك ال�صنيع‬
‫الجميل‪.‬‬

‫¯ �إلى �أين و�صل الدربا�س في م�سيرته الأدبية‪،‬‬


‫حدثنا عن نتاجك الأدبي في مجال ال�شعر؟‬
‫‪ -‬التزال مناجلنا في حقول القمح‪ ،‬و�أك ّفنا‬
‫في غ�صون الزيتون‪ ،‬تحاول زي��ادة الإنتاج‬
‫يحب‪ ،‬وفي ال�شعر ح ّتى‬ ‫وتح�سينه و�إي�صاله لمن ّ‬
‫الآن لي ثمانية دواوين مطبوعة‪ ،‬والتا�سع قيد‬
‫الإنجاز‪ ،‬بدءاً بديوان ( ليلى و�أح�لام الرجال‬
‫معد بدم�شق‪ ،‬وانتهاء‬ ‫‪ )1995‬ال�صادر عن دار ّ‬
‫بديوان (مع انحناء �ضلوعي ‪ )2019‬ال�صادر‬
‫عن دائرة الثقافة بال�شارقة‪ ،‬مروراً بـ ( عابر‬
‫�سبيل‪ ،‬ع�صافير الدم‪� ،‬أجنحة الكالم‪ ،‬و�شم على‬
‫جدار ال��روح‪ ،‬موانئ النور�س‪ ،‬بيادر ال��ورق)‪،‬‬
‫العوي�س يكرمه‬
‫�إ�ضافة �إلى كتاب في النثريات المنوعة (في‬
‫‪ -‬الم�سرح �أب��و الفنون كلها‪ ،‬من خالل‬ ‫خا�صرة الأيام) �صدر عام (‪ )2017‬في القاهرة‪.‬‬
‫الجمع بين الكتابة والمو�سيقا‪ ،‬والأزي���اء‬ ‫مت�سرع بالن�شر‪� ،‬إذا‬
‫ّ‬ ‫وفي هذا المجال �أنا غير‬
‫والإ���ض��اءة والجمهور والأث� ��ر‪ ،‬وباالنتقال‬ ‫ال �أن�شر �إال ما �أقتنع بجودته ون�ضجه وتوقيته‪،‬‬
‫�إل��ى م�سرح الطفل‪ ،‬ي�صبح الأم��ر �أكثر �أهمية‬ ‫�إ ْذ لي�س كل ما �أكتبه �أن�شره‪� ،‬إيمان ًا م ّني ب� ّأن‬
‫من الخطورة بمكان‬ ‫وخ��ط��ورة في الكتابة‪ ،‬لأن��ه يدخل في باب‬ ‫أثر يبقى‬ ‫الكلمة المن�شورة م�س�ؤولية وتاريخ و� ٌ‬
‫�أن يقتحم الكاتب‬ ‫التوجيه والتربية والإر�شاد وتكوين ال�شخ�صية‬ ‫بعد رحيل الكاتب‪� ،‬إ�ضافة �إلى مئات الن�صو�ص‬
‫والتفكير‪ ،‬وف��ي ه��ذا المجال يجب �أن يكون‬ ‫والمقاالت والدرا�سات والبحوث‪ ،‬المن�شورة في‬
‫عالم الطفل دون‬
‫الموجه للطفل‬
‫َّ‬ ‫الكاتب حذراً في نتاجه الأدبي‬ ‫ال�صحف والمجالت والمواقع الإلكترونية‪..‬‬
‫الإلمام ب�أدب الطفل‬ ‫���س��واء ف��ي ال�شعر والق�صة والم�سرح‪ ،‬ومن‬
‫وجوانبه التربوية‬ ‫مجموعاتي الق�ص�صية للأطفال (�ضيفة الم�ساء‬ ‫¯ ما �أثر الم�شاركة في الجوائز �أو الفوز بها في‬
‫والنف�سية‬ ‫‪ ،1998‬جمعية المعلمين) و(القمر الغائب‪،‬‬ ‫تجربة الأديب؟‬
‫وزارة الثقافة وتنمية المعرفة ‪ ،)2015‬وفي‬ ‫غربال رائع‪ ،‬ب ِه ُي�شار للمتميز‪،‬‬‫ٌ‬ ‫‪ -‬الجوائز‬
‫�شعر الطفل لي ( تبا�شير الفجر‪� ،‬أنجال هزاع‬ ‫وهي بمثابة اعتراف مادي ومعنوي بن�ضج‬
‫ب��ن زاي��د ‪ ،)2008‬و(م�����ش��ارق الخير‪ ،‬مراكز‬ ‫ع�شت هذه التجربة‬ ‫ُ‬ ‫وتميزها‪ ،‬و�أن��ا‬
‫ّ‬ ‫التجربة‬
‫الأطفال والفتيات بال�شارقة)‪� ،‬أما في م�سرح‬ ‫م�شارك ًا غير فائز لكن دون �إحباط‪ ،‬وم�شارك ًا‬
‫قدمت ت�أليف ًا و�إخ��راج� ًا م�سرحية‬ ‫الطفل فقد ّ‬ ‫فائزاً لكن دون غرور‪ ،‬ثم مح ّكم ًا م�ؤتمن ًا للعديد‬
‫(خ��ط��وات للفرح) خ�لال مهرجان ال�شارقة‬ ‫تطورت‬‫من هذه الجوائز‪ ،‬وفي الحاالت الثالث‪ّ ،‬‬
‫لم�سرح الطفل (‪ ،)2013‬وه��ن��اك م�سرحية‬ ‫تجربتي وازدادت عمق ًا ون�ضج ًا و�شعوراً‬
‫الم�شهد الإماراتي‬ ‫(نهاية طريق) خالل مهرجان م�سرح الفرجان‬ ‫بالم�س�ؤولية‪� ،‬أم��ا المكاف�أة المادية للجوائز‬
‫الثقافي فاعل‬ ‫(‪ ،)2018‬وم�سرحية ( ال�شنطة ال�سوداء) خالل‬ ‫مهمة ل�ل�أدي��ب‪ ،‬لتحفيزه على العطاء‬ ‫ف�إنها ّ‬
‫وم�ؤثر ومنفتح على‬ ‫الم�سرح الك�شفي (‪ ،)2019‬و�أوبريت (منارة‬ ‫والن�شر‪ ،‬خا�ص ًة في ع�صر التهمي�ش المادي‬
‫الثقافات‬ ‫وطن) لإدارة مراكز النا�شئة (‪ ،)2019‬وكلها‬ ‫للأدباء‪� ،‬إ�ضافة �إلى تحريك المياه الراكدة في‬
‫ح�صلت على ترتيب عالٍ من لجان التحكيم‬ ‫ال�ساحة الأدبية‪ ،‬و�شحذ الهمم نحو نتاج �أدبي‬
‫في �أحد الجوانب الفنية‪� ،‬إ�ضافة لأعمال �أخرى‬ ‫فكري راقٍ يزيد في مكنوز الجمال‪ ،‬ويرفع من‬
‫غير من�شورة ولم ُت َق ّدم على خ�شبة الم�سرح‪،‬‬ ‫مقام الآداب موازا ًة بالفنون الأخرى‪.‬‬
‫والم�سرح زاخ� ُ�ر بالن�شاط‪ ،‬لأن الأط��ف��ال هم‬
‫�أجمل جمهور م�سرحي في الحياة‪ ،‬و�سيبقى‬ ‫¯ لك تجربة مع م�سرح الطفل‪ ،‬فكيف ترقب‬
‫المتجدد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫م�سرحهم حاف ًال بالعطاء‬ ‫م�سرح الطفل وم�ستقبله في الوطن العربي؟‬

‫‪105‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫جبرائيل �سعادة‬
‫مبدع متعدد وهو مفرد‬
‫�أني�سة عبود‬

‫الحرمان من محبوبته دفعه لأن يبذل حبه‬ ‫(�إن الرجل ال��ذي �أمامكم هو عالم �آث��ار‪،‬‬
‫الكبير باتجاه المعرفة‪ ،‬ويرهن حياته للآثار‬ ‫ولكن عالم الآث��ار هذا هو �شاعر لأن��ه يع�شق‬
‫والأدب وال�شعر والمو�سيقا‪ ،‬حيث فاز بجائزة‬ ‫وطنه)‪.‬‬
‫الم�سرح عن ن�صه (العا�صي ال ين�سى) في فترة‬ ‫هكذا قدم مدير �آثار فرن�سا وعالم الآثار‬
‫الوحدة بين �سوريا وم�صر ع��ام (‪1960‬م)‪،‬‬ ‫�أندريه ب��اروت الأدي��ب والمو�سيقي جبرائيل‬
‫وف ��از بجائزة ال�شعر ع��ن ق�صيدة مكتوبة‬ ‫�سعادة �أثناء �إلقائه محا�ضرته في متحف‬
‫بالفرن�سية‪ ،‬وكتب الق�صة الق�صيرة ون�شر في‬ ‫اللوفر في فرن�سا‪� .‬أما في �سوريا فكنا نلقبه‬
‫دوريات عربية واجنبية‪ .‬اهتم بال�ش�أن الثقافي‬ ‫بـ(منارة الالذقية)‪ ،‬هو ال��ذي يعرفه بحرها‬
‫و�أق���ام �أول ��ى دعائمه ف��ي المدينة؛ ف�أ�س�س‬ ‫و�أوابدها و�أبجدية �أوغاريت وقالعها وغاباتها‬
‫رابطة ال�شباب‪ ،‬ثم �أ�س�س النادي المو�سيقي في‬ ‫و�أغ��ان��ي ال��دل��ع��ون��ا وال��ع��ت��اب��ا‪� ،‬إ���ض��اف��ة �إل��ى‬
‫الالذقية التي كان يحب �أن ي�سميها با�سمها‬ ‫المو�سيقا العربية والعالمية‪ .‬كان بيته مفتوح ًا‬
‫الأوغاريتي (راميتا)‪.‬‬ ‫لكل الدار�سين والباحثين في �شتى مجاالت‬
‫غير �أن��ه تحول ف��ج��أة �إل��ى درا���س��ة �آث��ار‬ ‫العلوم والآداب؛ �إنه جبرائيل �سعادة الذي ولد‬
‫لقب بـ(منارة‬ ‫�أوغاريت و�أبجديتها‪ ،‬بعد �أن وقع في يده كتاب‬ ‫في ع�شرينيات القرن الما�ضي و�أ�س�س للحياة‬
‫الالذقية) فقد خبره‬ ‫بعنوان (ر�أ���س �شمرا) �أثناء زيارته لباري�س‪،‬‬ ‫الثقافية والمو�سيقية في المدينة‪ ،‬ثم امتد‬
‫بحرها و�أوابدها‬ ‫ما لفت انتباهه �إلى �أهمية مملكة �أوغاريت‬ ‫ن�شاطه �إلى �سوريا كلها‪ ،‬ومن ثم �إلى العالم‪،‬‬
‫و�أبجدية �أوغاريت‬ ‫و�أبجديتها ورقمها ومو�سيقاها و�آداب��ه��ا‬ ‫حيث كان يتقن عدة لغات ويكتب ويحا�ضر‬
‫�إ�ضافة �إلى تراثها‬ ‫القديمة‪ ،‬حيث تم العثور على نوتات مو�سيقية‬ ‫بالفرن�سية‪.‬‬
‫مدونة على رقم فخارية‪ .‬كان يعتز جداً بتاريخ‬ ‫حين التقيته �أول مرة كانت بت�شجيع من‬
‫الغنائي والمو�سيقي‬
‫ر�أ�س �شمرا؛ غير �أن البحث في الآثار لم يعقه‬ ‫�أحد الكتاب الكبار الذي ن�صحني بزيارة هذا‬
‫عن ت�سلم رئا�سة اتحاد الكتاب في الالذقية‪،‬‬ ‫الأديب والباحث‪ ،‬و�أخذ ر�أيه باعتباري كاتبة‬
‫وهو ال�شاعر وكاتب الق�صة ومقدم البرامج‬ ‫جديدة ومن واجبي التعرف �إليه‪ .‬ومع �أني‬
‫الإذاعية ب�أهمية المو�سيقا العربية الأ�صيلة‪.‬‬ ‫تهيبت لقاءه وتلعثمت بوجوده‪� ،‬إال �أن �صداقة‬
‫ك����ان‪��� ،‬س��ع��ادة‪ ،‬ي��ح��ب �أل ��ح ��ان ري��ا���ض‬ ‫�أدبية ومو�سيقية وـــــ (الذقانية) – جميلة‬
‫ال�سنباطي والق�صبجي ويعتبرهما �أه��م من‬ ‫جمعتنا وا�ستمرت بيننا‪.‬‬
‫عبدالوهاب‪ ،‬وكان عا�شق ًا للتراث المو�سيقي‬ ‫كان مبهراً في ثقافته وجريئ ًا في نقده‬
‫الالذقاني بكل �أل��وان��ه؛ ال�شعبي‪ ،‬والطربي‪،‬‬ ‫وق��ول ر�أي��ه‪ .‬لم يتزوج جبرائيل �سعادة على‬
‫ف�شجع الفنانين ال�شباب ولحن لهم‪ ،‬و�أق��ام‬ ‫الرغم من ق�صة حبه ال�شهيرة لفتاة �سورية ظل‬
‫لأجلهم المهرجانات وال��ل��ق��اءات‪ ،‬كما اهتم‬ ‫يتحدث عنها باحترام و�أل��م‪ .‬وقيل ظل يحمل‬
‫بالجانب ال�سياحي للتعرف �إل ��ى �سوريا‬ ‫�صورتها في محفظته حتى مماته‪ .‬غير �أن هذا‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪106‬‬


‫كنوز‬

‫ل��م يكتف جبرائيل ���س��ع��ادة بالأن�شطة‬ ‫و�أواب��ده��ا وح�ضارتها القديمة‪ ،‬فكان يطبع‬
‫الأدب��ي��ة والفنية والبحث الأث ��ري والبرامج‬ ‫ن�شرات وملخ�صات �سياحية تقدم للزائرين‪،‬‬
‫الإذاع��ي��ة وال�سياحية‪ ،‬ب��ل اهتم بالأن�شطة‬ ‫كما كان يقيم الرحالت ال�سياحية �إلى المواقع‬
‫الريا�ضية و�أ�س�س نادي ًا ريا�ضي ًا مهم ًا‪� ،‬سرعان‬ ‫والقالع الأثرية م�صطحب ًا الأدباء والمو�سيقيين‬
‫يتقن عدة لغات‬ ‫ما دمجه مع النوادي الأخرى‪ ،‬مطلق ًا عليه ا�سم‬ ‫والباحثين‪.‬‬
‫ّ‬
‫وظفها في الكتابة‬ ‫(نادي ت�شرين الريا�ضي)‪ ،‬ومازال بنف�س اال�سم‬ ‫كان‪� ،‬سعادة‪ ،‬فع ًال منارة للمدينة ي�ضيئها‬
‫حتى الآن‪ .‬وهو مثقف فريد و�شخ�صية نادرة ال‬ ‫بالفن الراقي والمو�سيقا وعلوم الآثار والق�صة‬
‫و�إ�صدار الن�شرات‬ ‫يجود بمثلها الزمن دوم ًا‪� ،‬شخ�صية تجمع �شتى‬ ‫وال�شعر‪ ،‬وقد �أ�س�س جمعية راقية �أطلق عليها‬
‫والمحا�ضرات‬ ‫الفنون والآداب والمعرفة‪ ،‬ف�ض ًال عن ت�صنيفه‬ ‫ا�سم (جمعية العاديات) تعنى ب�آثار �سوريا‬
‫والندوات حول‬ ‫كعالم �آثار كبير له مكانته الوطنية والدولية‪،‬‬ ‫وتاريخها ومعالمها الح�ضارية‪ ،‬وت�ضم‬
‫ع�شقه لوطنه‬ ‫فقد كان يبرمج وقته دقيقة بدقيقة؛ فالوقت‬ ‫كبار الأدب��اء والمثقفين و�أ�صحاب الكفاءات‬
‫مقد�س بالن�سبة له‪ ،‬حيث �إن مواعيده كانت‬ ‫العلمية‪ ،‬ف�صارت مثل بيت عائلي للمميزين‪،‬‬
‫مقد�سة وعمله د�ؤوب ال ينتهي‪ ،‬ما يذكرني‬ ‫حيث يجتمعون ويناق�شون �شتى الق�ضايا‬
‫بالروائي الكبير نجيب محفوظ‪ ،‬ال��ذي كان‬ ‫الجمالية والفكرية في �صالون الندوات‪ ،‬التي‬
‫مثا ًال الحترام الوقت والمواعيد‪ .‬و�أظن �أن كل‬ ‫كانت تقام في بيت �سعادة الكبير‪ ،‬الذي تميز‬
‫المبدعين الكبار يقد�سون الوقت (لأنه كال�سيف‬ ‫بمكتبته ال�ضخمة المتنوعة‪ ،‬وبالح�ضور الراقي‬
‫�إذا لم تقطعه قطعك)‪.‬‬ ‫للأع�ضاء وال�ضيوف‪ ،‬من كل �أنحاء �سوريا‬
‫فاز بجوائز �شعرية‬ ‫لم �أزر جبرائيل �سعادة على حين غرة‪ ،‬على‬ ‫وخارجها‪.‬‬
‫الرغم من تقديره للمبدع ولل�صداقة‪ ،‬بل كان‬ ‫ُيحكى �أن �سعادة تلقى هاتف ًا من �سفير‬
‫وكتب ون�شر ق�ص�صه‬ ‫علي �أخذ الموعد الم�سبق؛ كان يكره الت�أخير‬ ‫اليونان في العام (‪1966‬م) كي ي�ستقبل �أحد‬
‫في دوريات عربية‬ ‫ّ‬
‫�أو التبكير‪ ..‬فهو من�شغل جداً‪ ،‬مو�سوعة تاريخ‬ ‫الأم���راء اليونانيين ال��ذي �سيزور الالذقية‪،‬‬
‫و�أجنبية وت�سلم‬ ‫الالذقية ‪ -‬بحوث مو�سيقية‪ ،‬محا�ضرات �أدبية‪..‬‬ ‫باعتباره القن�صل الفخري لليونان‪ ،‬وعندما‬
‫رئا�سة اتحاد الكتاب‬ ‫ترجمات ومقابالت وطالب جامعة يبحثون‬ ‫التقاه �سعادة‪ ،‬كان الأمير مي�شيل ابن عم الملك‬
‫في الالذقية‬ ‫في مكتبته‪ ،‬وي�ساعده طاقم عمل مثل خلية‬ ‫م�ستلقي ًا ويتحدث �إلى الذين حوله فقال �سعادة‬
‫النحل‪ ،‬ينظم المواعيد واللقاءات والدعوات‬ ‫له (�أنا قن�صل اليونان هنا وقد بلغت �أن �أ�ضع‬
‫والمحا�ضرات‪ ،‬كان م�ؤ�س�سة ثقافية واجتماعية‬ ‫تحت ت�صرفكم ما تحتاجونه)‪ .‬نظر �إليه الأمير‬
‫بحالها قلما نجد نظيره في زماننا‪.‬‬ ‫دون اهتمام وقال‪� :‬شكراً وهو ممدد‪ .‬فانزعج‬
‫رح��ل جبرائيل ���س��ع��ادة ع��ن عمر ناهز‬ ‫جبرائيل �سعادة وا�ستدار حانق ًا‪� ،‬إال �أن الأمير‬
‫ال�سبعين عام ًا‪ ،‬وقد ترك مكتبة �ضخمة ت�ضم‬ ‫ا�ستوقفه وق��ال ل��ه( �أري��د لقاء �شخ�ص يدعى‬
‫�أكثر من �ستة ع�شر �ألف كتاب موزعة بين الأدب‬ ‫جبرائيل �سعادة‪ ،‬لقد قر�أت عنه كثيراً و�سمعت‬
‫والمو�سيقا والعلوم والفلك وال�شعر والآثار‪ ،‬وقد‬ ‫عنه الكثير)‪ .‬ف�أجاب �سعادة (�أنا هو)‪ ،‬فقفز الأمير‬
‫تبرع بها لجامعة الالذقية (جامعة ت�شرين)‪.‬‬ ‫من مكانه ووقف باحترام وحياه ب�إجالل‪.‬‬
‫كرم عربي ًا وعالمي ًا‬ ‫كرم جبرائيل �سعادة في بلدان كثيرة‪ ،‬لكن‬ ‫لقد كان ا�سم �سعادة ينت�شر ويتجاوز �سوريا‬
‫و�أطلق ا�سمه على‬ ‫�سوريا كرمته في حياته و�أطلقت ا�سمه على‬ ‫�إلى العالمية‪ ،‬حيث كتب بالفرن�سية والعربية‬
‫ال�شارع الذي يقع فيه‬ ‫�شارع بيته الذي يقع و�سط الالذقية ويمتد �إلى‬ ‫عن �أوغاريت التي �سحرته‪ .‬و�أنجز مو�سوعة‬
‫منزله وعا�ش فيه‬ ‫البحر غرب ًا‪ ،‬كما �أنتج عنه وعن – ال ذقيته –‬ ‫تاريخ الالذقية المهمة‪ ،‬كما عمل على ت�صنيف‬
‫طوال حياته‬ ‫التي منحها قلبه وعقله وحبه و�إبداعه ومكتبته‬ ‫المواقع وال��ت�لال الأث��ري��ة ف��ي �سوريا وع��دد‬
‫‪ -‬فيلم وثائقي بعنوان‪( :‬رجل ومدينة)‪ .‬في‬ ‫منها �أكثر من ثالثة �آالف تل‪ ،‬وكان متحم�س ًا‬
‫حياة ه��ذا الباحث كنوز كثيرة ال يت�سع لها‬ ‫ومثابراً لبحوثه‪� ،‬إذ تم ت�أ�سي�س رابطة �أ�صدقاء‬
‫المجال في هذه العجالة‪� ،‬إال �أنه عدة رجال‬ ‫(�أوغاريت) �أوا�سط القرن الما�ضي‪ .‬وعندما �سئل‬
‫في رجل واحد‪ ،‬وعدة مبدعين في مبدع واحد‪.‬‬ ‫عن �سبب اهتمامه الكبير ب�آثار بلده �أجاب‪:‬‬
‫متعدد وهو مفرد‪.‬‬ ‫(الوطن لي�س �أر�ض ًا وح�سب)‪.‬‬

‫‪107‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫حكايته مع الخبز والكتابة‪ ..‬حكاية �ساخنة‬

‫جمال بربري‪ :‬ح�صلت على‬


‫منحة تفرغ لكتابة روايتي الأولى‬
‫مار�ست حرفة الأدب على م��ر التاريخ فئات اجتماعية متعددة‪ ،‬وب��رغ��م �أن الإب���داع هو‬
‫الفي�صل في �أي عمل �أدب���ي‪ ،‬ف���إن ق�ص�ص الأدب���اء ت�ؤكد �أن الأدب���اء �أ�صحاب الحرف كانت‬
‫لهم غ��ال��ب�� ًا ال��ق��درة على ر���ص��د تفا�صيل ال��واق��ع ب�شخو�صه و�أح���داث���ه ب�صدق وعفوية‪.‬‬
‫وجمال بربري خباز يعمل في �أح��د الأف���ران في �إح��دى ق��رى محافظات ال�صعيد‪ ،‬ن�ش�أ في‬
‫قرية ب�سيطة نائمة في ح�ضن الجبل‪ ،‬وعلى الق�صا�صات الورقية كتب �أول��ى محاوالته‪،‬‬
‫الأمير كمال فرج‬
‫ففي ك��ل �صباح يقف �أم���ام ال��ن��ار الحامية‪ ،‬يعد الخبز‪ ،‬لتتلقفه ع��ي��ون و�أي����ادي الزبائن‬
‫بفرح‪ ،‬وم��ن زبائن الفرن ب�أنماطهم المختلفة وحكاياتهم الغريبة‪ ،‬ا�ستلهم �شخ�صيات ق�ص�صه ورواي��ات��ه‪.‬‬

‫� ��ص ��درت ل��ج��م��ال ���س��ت م��ج��م��وع��ات‬


‫ق�ص�صية‪ ،‬ت��دور ح��ول الأح�لام والجدران‬
‫والوجع ه��ي‪( :‬ال��ج��دران)‪�( ،‬أح ��زان ال تجد‬
‫من يكتبها)‪( ،‬م�شكاة الوجع)‪( ،‬بورتريهات‬
‫�سريالية)‪( ،‬م��ازال��ت ل��دي �أح��زان �أخ��رى)‪،‬‬
‫(�أحالم على حافة اليقظة)‪ ،‬ورواية بعنوان‬
‫(دوائر مغلقة)‪.‬‬
‫وبعد تعب طويل ورك�ض م�ستمر وراء‬
‫(ال��ن� َّ�داه��ة)‪ ،‬حقق جمال حلمه الأول في‬
‫القاهرة‪ ،‬وح�صل على منحة تفرغ من وزارة‬
‫الثقافة‪� ،‬سيخ�ص�صها‪ ،‬كما يقول‪ ،‬للعمل على‬
‫رواية (نبي قارة الأحالم) التي تدور حول‬
‫الجوع‪ ،‬في هذا الحوار يتحدث بربري عن‬
‫حكاياته مع الخبز والفقر والكتابة‪.‬‬

‫¯ ماذا �أ�ضافت لك مهنة الخباز‪ ...‬وهل كان‬


‫لها انعكا�سات على كتاباتك؟‬
‫‪ -‬ف��ي الأول والأخ ��ي ��ر‪ ،‬ه��ي و�سيلة‬
‫للح�صول على لقمة العي�ش‪ ،‬ومنها �أ�صرف‬
‫على �أ�سرتي‪ ،‬ربما يكون العائد منها قلي ًال‬
‫ال يكفي‪ ،‬وتعبها �شديداً‪ ،‬خا�صة و�أنا �أقف‬
‫يومي ًا ل�ساعات �أمام النيران الالهبة‪ ،‬في‬
‫جو �أ���س��وان الالفح ال��ذي ال يرحم‪ ،‬ولكني‬
‫تعودت على ذلك منذ ال�صغر‪.‬‬
‫كما �أ�ضافت لي هذه الحرفة الكثير‪،‬‬
‫فقد تعلمت منها ال�صبر والتحمل‪ ،‬و�أ�صبحت‬
‫رج ًال �أ�صرف على نف�سي‪ ،‬من دون احتياج‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪108‬‬


‫�إبداع‬

‫�إلى م�صروف من �أ�سرتي‪ ،‬فمنذ �صغري �أعي�ش‬


‫من كدي وعرقي‪ ،‬و�أ�شتري مالب�س الدرا�سة‬
‫والعيد‪ ،‬وق��د ا�ستلهمت تجربتي الأول ��ى في‬
‫الكتابة‪ ،‬من مواقف كنت �أراه��ا من الزبائن‬
‫الواقفين في طوابير الخبز‪ ،‬فمنهم ال�شيخ‪،‬‬
‫والل�ص‪ ،‬والفقير‪ ،‬والموظف محدود الدخل‪،‬‬
‫حتى �أفراد ال�شرطة‪ ،‬وكذلك الفتاة‪ ،‬وال�سيدة‪،‬‬
‫وط�لاب ال��م��دار���س‪ ،‬في المخبز تقف �أمامي‬
‫�شرائح متعددة ومتباينة من المجتمع‪ ،‬حتى‬
‫ال�شحاذون لهم ق�ص�ص غريبة جداً‪ ،‬جميعهم‬
‫في �أوق��ات ال�صفاء‪ ،‬يحكون لي عن حياتهم‬
‫ال�سابقة بكل �أوجاعها‪ ،‬يجترون كل �شيء‬
‫�أم��ام��ي ب��دون خجل‪ ،‬وم��ن ه���ؤالء ا�ستلهمت‬
‫ن�صو�صي الأولى‪.‬‬

‫¯ يقول النقاد (التجربة الإبداعية الحقيقية‬


‫تتولد من رحم المعاناة)‪ ،‬فهل �أنت مع هذه‬
‫المقولة ؟ وهل كان للمعاناة دور في تجربتك‬
‫الإبداعية؟‬
‫‪ -‬المعاناة هي الدافع الأول والأ�سا�سي في‬
‫رحلتي مع الورقة والقلم‪ ،‬ورحلة البحث عن‬
‫عالمي الخا�ص‪ ،‬فقد ذقت الجوع والحرمان منذ‬
‫¯ للبيئة والمكان دور في ت�شكيل �شخ�صية‬ ‫ال�صغر‪ ،‬وكتبت �أول ن�صو�صي على ق�صا�صات‬
‫المبدع‪ ،‬ما هو ت�أثير قريتك الأ�سوانية فيك؟‬ ‫الأوراق‪ ،‬وكان �أمامي طريقان ال ثالث لهما‪،‬‬
‫‪ -‬المجتمع الأ�سواني مختلف‪ ،‬فهو ي�ضم‬ ‫�إما طريق ال�ضياع‪ ،‬و�إما طريق الإبداع‪.‬‬
‫كافة �أطياف المجتمع الم�صري‪ ،‬فمنهم النوبي‬ ‫القيت ممن حولي في البداية �سخرية‪،‬‬
‫�أ�صدرت �ست‬ ‫وال�صعيدي والفالح والقبطي والم�سلم‪ ،‬وكلهم‬ ‫ولكن كنت من�شغ ًال بتكوين وجهتي في الكتابة‪،‬‬
‫مجموعات ق�ص�صية‬ ‫يمتزجون في بوتقة الحياة‪ ،‬لكل منهم عاداته‬ ‫وب��د�أت الطريق مع �صديق مقرب ل��ي‪ ،‬ولكن‬
‫وتقاليده الخا�صة به‪ ،‬ومع ذلك تلوح ال�شم�س‬ ‫للأ�سف �سقط هذا ال�صديق في براثن الإدمان‬
‫و�أ�شتغل الآن على‬ ‫الحارة وجوههم فال ف��رق بينهم‪ ،‬كل منهم‬ ‫ومات �أمامي‪ ،‬ف�أكملت الطريق وحيداً بال رفيق‪،‬‬
‫روايتي الأولى‬ ‫ي�شرب الماء من نيل نقي بدون مر�شح‪ .‬و�أنا‬ ‫كان الطريق �صعب ًا في البداية‪ ،‬ولكني مازلت‬
‫ن�ش�أت في قرية (ه��ارون) في زاوي��ة الجبل‪،‬‬ ‫م�صمم ًا عليه‪.‬‬
‫وهي تتكون من بيوت �صغيرة تحت�ضن المقابر‬
‫¯ مع التحديات التي تواجهها الثقافة المقروءة ومكبات القمامة‪ ،‬من هذه البيئة الفقيرة من‬
‫ككل �أمام طوفان الثقافة الب�صرية‪ ،‬هل مازالت حيث ال�شكل الغنية من حيث الم�ضمون‪ ،‬ا�ستقيت‬
‫مقولة (الرواية ديوان العرب) �سارية حتى الآن �شخ�صيات ق�ص�صي ورواياتي‪.‬‬
‫�أ�ستلهم مالمح‬ ‫بر�أيك؟‬
‫‪ -‬مع تقديري لل�شعر وه��و فن العربية ¯ ال��ج��دران‪ ،‬ال��وج��ع‪ ،‬ال�سريالية‪ ،‬الإغ�ل�اق‪،‬‬
‫�شخ�صياتي الأدبية‬ ‫الأول‪ ،‬الرواية حالي ًا هي المر�آة التي تعك�س الأحزان‪ ..‬مفردات فر�ضت نف�سها على عناوين‬
‫من زبائن الفرن‬ ‫نب�ض المجتمع و�أحواله‪ ،‬فالحكي �أن�سب لهذا كتبك‪ ،‬لت�شكل الطق�س النف�سي لها‪ ..‬لماذا الحزن‬
‫الذين �أتعامل معهم‬ ‫الجيل‪ ،‬الذي يعنى �أكثر بالأحداث والتفا�صيل‪ ،‬هو الم�سيطر في كتاباتك؟‬
‫‪ -‬الفقر وال��ع��وز وق��ل��ة ال��م��ال العنا�صر‬ ‫والرواية التي ال تعبر عن وجدان �شعب وطبقة‬
‫معينة من المجتمع‪ ،‬وتلم�س وجدان القارئ‪ ،‬الأ�سا�سية في تجربتي الأدبية‪ ،‬والحزن نوع من‬
‫ال قيمة لها‪ ،‬لذلك ت�ستحق الرواية �أن تكون النبل‪ ،‬ويبقى ال�س�ؤال‪ :‬ماذا لو كنت غني ًا‪ ..‬هل‬
‫�أكتب عن الوجع؟ �إنها عالمة اال�ستفهام الف�ضية!‬ ‫ديوان العرب‪.‬‬

‫‪109‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫�إبداع‬

‫�أعمل في �أحد‬
‫الأفران نهاراً و�أتفرغ‬
‫للكتابة لي ً‬
‫ال‬

‫تعلمت من مهنة‬
‫الخباز ال�صبر‬
‫والتحمل واالعتماد‬
‫على الذات من كدي‬
‫وعرقي‬

‫جمال بربري‬

‫¯ كيف ح�صلت على منحة التفرغ من وزارة‬ ‫¯ تقيم في �أ�سوان بعيداً عن �صخب العا�صمة‪،‬‬
‫ت�أثرت في بداياتي‬ ‫الثقافة؟ وما هي خططك المقبلة؟‬ ‫هل ت�ؤمن بالعامل الجغرافي في الأدب‪،‬‬
‫‪ -‬ح�صلت عليها بعد رحلة معاناة و�سفر �إلى‬ ‫وثنائية (العا�صمة والأقاليم) وم��اذا تعتبر‬
‫بالكاتب المغربي‬ ‫القاهرة (‪ )1000‬كيلومتر بالقطار لمدة (‪)14‬‬ ‫القاهرة بالن�سبة لك؟‬
‫محمد �شكري الذي‬ ‫�ساعة‪ ،‬قدمت فيها ثالث ن�سخ من كل مجموعة‬ ‫‪ -‬عندما ب��د�أت الكتابة في قريتي كنت‬
‫ا�ستهواني �أ�سلوبه‬ ‫ق�ص�صية وف��ق القواعد‪ ،‬وبعد ت��داول الطلب‪،‬‬ ‫�أت�ساءل‪ ..‬كيف �أ�صل �إلى نقطة ال�ضوء وعالم‬
‫الأدبي‬ ‫وافقوا على المنحة‪ ،‬وب��إذن اهلل �س�أخ�ص�صها‬ ‫ال�شهرة‪ ،‬وكتاب يحمل ا�سم جمال بربري‪ ،‬ولكن‬
‫لكتابة رواي��ة‪ ،‬وكالعادة �ستكون عن الجوع‪،‬‬ ‫بف�ضل اهلل وعالم الإنترنت‪ ،‬و�صلت كلمتي‬
‫ولكن برغم فرحي بهذه المنحة‪ ،‬ف�إن �صعوبة‬ ‫�إلى قلوب النا�س‪ ،‬وعبرت من م�صر �إلى جميع‬
‫الحياة �ست�شكل عائق ًا �أمام محاوالت التفرغ‬ ‫ال��دول‪ .‬ولكن مازالت القاهرة تمثل لي نقطة‬
‫تمام ًا للكتابة‪.‬‬ ‫مف�صلية في البلوغ �إلى عالم الجوائز وال�شهرة‪،‬‬
‫القاهرة هي التي تعطى �صكوك الإب��داع‪ ،‬فلو‬
‫بقي عبا�س محمود العقاد مقيم ًا في �أ�سوان‪،‬‬
‫هل كنا �سن�سمع به؟‬

‫¯ ما هو التيار �أو الكاتب الذي و�ضع ب�صمته‬


‫عليك‪ ،‬و�أ�سهم في تحديد هويتك الإبداعية؟‬
‫‪ -‬الكاتب المغربي محمد �شكري كاتبي‬
‫الأول‪ ،‬خا�صة في روايته (الخبز الحافي)‪،‬‬
‫فهو يكتب بلغة الوجع‪ ،‬التي تالم�س �شغاف‬
‫قلبي وج�سدي‪ ،‬كما �أن �أ�سلوبه في الق�ص‬
‫والحكاية ي�ستهويني‪ ،‬كما �أن له قدرة رائعة‬
‫على ال�سرد‪.‬‬
‫محمد �شكري‬ ‫عبا�س العقاد‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪110‬‬


‫فن‪.‬وتر ‪.‬ريشة‬
‫حديقة بيت في فا�س‬

‫¯ �سالم الدباغ‪ ..‬حرية الر�سم وك�سر قوانينه‬


‫¯ في�صل �سلطان‪ :‬الفن لي�س �شرفة تُرى منها الأ�شياء‪� ..‬إنه موقف‬
‫¯ جوان جان‪ :‬كل م�سرح يرتبط بح�ضارته روحي ًا وفكري ًا‬
‫¯ محمد الح َّياني‪ ..‬جمع بين الكلمة المعبرة واللحن الأ�صيل‬
‫¯ فيلـم «فور�سـت غـامب»‪ ..‬حقق مكانة �سينمائية عالمية‬
‫¯ �شرلوك هولمز المخبر ال�سري العبقري‬

‫‪111‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫يحاول ا�سترجاع مرجعياته الغائبة‬

‫�سالم الدباغ‪ ..‬حرية الر�سم وك�سر‬


‫قوانينه من �أجل بنية قوية غام�ضة‬
‫ظل المربع يتحرك في م�ساحة المخيلة‬ ‫�سالم ال��دب��اغ (‪1941‬م) الفنان ال��ذي يتجاوز �سياقاته‬
‫وال�سطح الت�صويري‪ ،‬ف��ي ح ��وار متوالد‬ ‫المو�ضوعية ب��ط��روح��ات مناكفة لل�سائد‪ ،‬رم��ى حجر ًا‬
‫ي�سوقنا �إلى �أ�سئلة كبيرة تتعلق بقدرة الفنان‬
‫على ا�ستنطاق طاقة هذا ال�شكل المحدود‪،‬‬ ‫ف��ي ب��رك��ة تنتظم ف��ي �سياقات التزيينية والواقعية‪،‬‬
‫حيث ن��رى �إل ��ى م��رب��ع ي��ت��داخ��ل م��ع �آخ��ر‬ ‫واالل��ت��زام بمو�ضوعات ج��اه��زة وم��ت��وارث��ة‪ ،‬ليجرح تلك‬
‫ومربع وحيد ي�شع من ج�سده �شعاع �أقرب‬ ‫ال�سكونية بمب�ضع ال��م��غ��ام��رة‪ ،‬حيث ح��دا ب���أح��ده��م �أن‬
‫�إل��ى طبيعة �شعر الماعز‪ ،‬وما يتحرك في‬ ‫محمد العامري‬
‫�أط��ف���أ �سيجارة ف��ي �أح��د �أعماله المعلقة على ال��ج��دار‪.‬‬
‫بيوتات البدو‪ ،‬تلك المخيلة التي انت�صرت‬
‫تجاه الكون والوجود‪ ،‬فالمرئي لديه طفولتي‪ ،‬في طريقي �إلى المدر�سة‪ ،‬اعتدت �إلى موجودات ريفية ب�سيطة لتجد نف�سها‬
‫م��ادة لتجاوزها بمن�أى ع��ن ت�سجيلها‪ ،‬على ر�ؤي ��ة الن�ساء ين�سجن الخيام في تنمو في تاريخ جديد‪ ،‬ينم عن عالمات‬
‫فكانت �أعماله مادة �إ�شكالية لما تثيره من ال�شوارع)‪ ،‬فكان لتلك المادة الأثر الفاعل فائقة في تر�سيخ ذاك��رة بعيدة ال يراها‬
‫فعل مغاير في �سياق التجارب ال�سائدة‪ ،‬فهو في ذاك��رت��ه الب�صرية‪ ،‬بيوت البدو التي‬
‫عا�ص يبحر �ضد التيار الجارف‪ُ .‬ن ِ�س َجت من �شعر الماعز وما يطل من ال�صوف‬
‫�أ�شبه بنهر ٍ‬
‫يقول ال��دب��اغ في ذات ال�سياق‪( :‬في الأ�سود المحمول على ر�ؤو�س البدويات‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪112‬‬


‫لون‬

‫�إال الحاذق‪ ،‬فقد اختبر تلك المفردات‬


‫ب�شكل مبكر منذ منت�صف ال�ستينيات‬
‫من القرن الفائت‪ ،‬محرك ًا بذلك غرابة‬
‫ال�����س��ؤال بما يخ�ص طبيعة اللوحة‪،‬‬
‫اللوحة التي تناكف غنائية طاغية‬
‫كانت �سائدة في ال�ساحة العراقية‪،‬‬
‫والم�صدر الآخ��ر ال��ذي توافق مع ما‬
‫يريده الدباغ �شكل الكعبة‪ ،‬المكعب‬
‫الأ�سود ومدياته الطاغية فيما يخ�ص‬
‫الجانب الروحاني عند الم�سلمين‪ ،‬لكنه‬
‫لم يكن معنيا بهذا الجانب بقدر ما‬
‫كان منده�ش ًا بوجود هذا ال�شكل‪ ،‬مكعب‬
‫�أكاديمية الفنون الجميلة العليا الدورة الأولى ‪�- 1961‬سالم الدباغ‬
‫خالد عزت خ�ضر ‪،‬جرجي�س محمود الرا�ضي ‪،‬وليلى العطار‬
‫�أ�سود ثابت وحوله حركة م�ضادة من‬
‫البيا�ض‪ ،‬عالقات ب�صرية دينامية‬
‫بتلك الكثافة‪ ،‬كما لو �أن��ه يحاول �أن يجد ظ ًال‬ ‫بين الثابت الأ�سود والمتحرك الأبي�ض‪ ،‬فكان‬
‫لليله‪ ،‬فما يبثه الأ�سود فهو بمثابة الإف�صاح‬ ‫له كل تلك التجليات‪ ،‬التي ذهبت مبا�شرة في‬
‫عن جوهر عميق ال بد من الغط�س فيه لمعرفة‬ ‫اختبار جوهر الأ�شياء‪ ،‬الجوهر المختبئ تحت‬
‫المدرك والح�سي‬ ‫جوهر وجوده الأ�سا�سي‪ ،‬الجوهر ُ‬ ‫ق�شرة الأ�شياء‪ ،‬فالأ�سود عالم م�ضيء بالن�سبة‬
‫الملمو�س‪ ،‬فعلينا �أن نبد�أ بمعرفة حقيقة وجود‬ ‫للدباغ‪ ،‬لون يخبئ تحت معطفه هواج�س العالم‬
‫ج�سد الأ�سود كمادة لها طغيانها في الوجود‪،‬‬ ‫�أجمع‪ ،‬حيث يتحرك الدباغ في ا�ستنطاقه عبر‬
‫فهي اجتراحات قدمها (الدباغ) لنا لتثير �أ�سئلة‬ ‫الك�شط والحك والتحليل‪ ،‬كما لو �أنه يبحث عن‬
‫يعمد �إلى طروحات‬ ‫عديدة في ذاكرتنا‪� ،‬أ�سئلة لها ح�ضورها في‬ ‫لي ْل الأ�سود‪ ،‬فكان يك�سر‬
‫�ضوء لكواكب بعيدة في ْ‬
‫مناكفة لل�سائد‬ ‫داللة الأ�سود وارتباطاته المعرفية في الحياة‬ ‫دكانة الأ�سود بمجموعة من الحركات الخطوطية‬
‫ال�شعبية وال��ك��ون‪ ،‬فهل اللون الأ���س��ود هو جزء‬ ‫المت�شعبة والخارجة من عمق العتمة‪ ،‬فهي ت�شكل‬
‫تتجاوز �سياقاتها‬ ‫من الغياب؟ ولماذا ارتبط في الذاكرة ال�شعبية‬ ‫هوام�ش مهمة‪ ،‬تحيلنا �إلى ما يحتويه المربع‬
‫المو�ضوعية‬ ‫بمفاهيم ِ‬
‫الحداد؟ وارتبط كذلك بال�س ْتر واالختباء‬ ‫الأ�سود من ف�ضاءات عميقة �صامتة‪ ،‬تحتاج �إلى‬
‫والت�سلل والكمائن والتجويف والجوف والأعماق‬ ‫تنقيب دقيق في م�ستويات الأ�سود وتعدداته في‬
‫والدواخل!‬ ‫الم�ساحة الواحدة‪.‬‬
‫فالم�ساحة ال�سوداء بالن�سبة للدباغ‪ ،‬ج�سد‬ ‫تلك الحواف التي نرى فيها عالمات وا�ضحة‬
‫تتحرك عبره الأ�شياء‪ ،‬فهو الوجود الع�ضوي‬ ‫لمرجعياته الب�صرية‪ ،‬حيث تبد�أ العتمة كثيفة‬
‫لطبيعة مخيلته الفنية‪ ،‬وما يطمح �إليه في هذه‬ ‫لتبد�أ بالتال�شي والخفة في الهوام�ش المحيطة‬
‫الم�ساحة‪ ،‬تمام ًا كما تعامل‬
‫(ميرلو بونتي) في فل�سفة الج�سد‬
‫الإن�ساني كوجود ع�ضوي محكوم‬
‫بكثافة مادته الحيوية‪.‬‬
‫�إن الدباغ يتعامل مع مربع‬
‫ك�سر َدكانة الأ�سود‬ ‫مت�شبع بحاالته الزمنية ودورة‬
‫وجوده في اللوحة وظالل الواقع‪،‬‬
‫بحركات الخطوط‬ ‫تتيح طرائقه ف��ي التعامل مع‬
‫الخارجة من عمق‬ ‫التق�شف اللوني‪ ،‬ال�سعي الم�ستمر‬
‫العتمة‬ ‫لإيجاد م�سارات دقيقة تتوا�صل‬
‫فيما بينها عبر ت��رددات الأ�سود‬
‫وا�شتقاقاته‪ ،‬حيث تتداخل تارة‪،‬‬
‫وتارة �أخرى تتقاطع فيما بينها‬
‫لت�شكل متن ًا وهام�ش ًا في ذات‬
‫الوقت‪.‬‬

‫‪113‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫لون‬

‫من �أعماله‬
‫وكذلك وبر الماعز المتحرك على ظهور الدواب‬ ‫لم يترك الدباغ‪ ،‬م�ساحاته اللونية الداكنة دون‬
‫و�صورة الكعبة التي �أده�شته بمفارقات �ضخامة‬ ‫تعميق‪ ،‬و�إزاحة نحو ذاكرته الأولى‪ ،‬فظهور المثلث‬
‫المكعب الأ�سود وال ��دوران‪ ،‬والأبي�ض المنتظم‬ ‫مث ًال‪� ،‬أو المكعب هو بمثابة عالمة �إ�شارية على‬
‫حولها‪ ،‬هذا يكفي للدباغ ليقدم لنا جملة تحتمل‬ ‫طبيعة خزانه الب�صري فيما يخ�ص الخيمة والكعبة‬
‫�أ�سئلة ال تنتهي‪ ،‬فهي ال�شهية ال�شغوفة بتحوير‬ ‫مع ًا‪ ،‬وهي محركات تتحول وتتبدل من موقع‬
‫يجرح تلك ال�سكونية‬ ‫وتحريك ج�سد �أ�سود‪ ،‬يرتفع وينخف�ض‪ ،‬ويحاور‬ ‫�إلى �آخر‪ ،‬فالمثلث والمربع والم�ستطيل‪ ،‬وبع�ض‬
‫بمب�ضع المغامرة‬ ‫الم�ساحات البي�ضاء وظاللها الخفيفة التي ت�سيل‬ ‫الألوان كالأحمر والأخ�ضر والفيروزي هي مح�ض‬
‫من قوة الدكانة في اللوحة‪ ،‬ر�سوم الدباغ‪ ،‬هي‬ ‫مرئيات انغرم بها الفنان ليختبرها في مو�ضع‬
‫كنهر عا�ص يبحر‬
‫بمثابة ت�شييد لعالمات محورية فيما يخ�ص‬ ‫مرجعياتها ومديات انت�شارها‪ ،‬في ذاكرة تحت�شد‬
‫�ضد التيار‬ ‫مفرداته وعنا�صره الفنية‪ ،‬وما تحمله من دالالت‬ ‫بتلك الم�شهديات‪ ،‬فقد �أزاحها من واقعها التقليدي‬
‫ورموز ور�سائل بعيدة‪ ،‬و�صو ًال �إلى �إق�صاء تقليدية‬ ‫لي�أخذها �إلى تاريخ جديد في العمل الفني‪.‬‬
‫ال�شكل الهند�سي (ال��م��رب��ع) وتقديمه ب�صورة‬ ‫ما �إن ننفذ �إلى مناخات (الدباغ) ال�سوداء‬
‫متقدمة‪ ،‬من حيث طاقة ح�ضوره المحوري في‬ ‫حتى ن�صطدم بعظمة طرائقه ف��ي م��ح��اورات‬
‫ال�سطح الت�صويري‪ ،‬ككينونة تواجه عريها عبر‬ ‫داخلية للون يعد ثقي ًال وجارف ًا في �أي م�ساحة‬
‫�ساللة الأ�سود وتجلياته المتعددة‬ ‫يو�ضع‪ ،‬فتروي�ض الأ�سود يحتاج �إلى ر�ؤية متقدمة‬
‫لوحاته ت�سوقنا �إلى‬ ‫�أعتقد �أن ما نراه في بنية العمل الفني لدى‬ ‫للمغامرة فيه‪ ،‬ف�أ�صبح اللون الأ�سود ج�سداً يظهر‬
‫الدباغ‪ ،‬تعود في وجودها �إل��ى مرجعياته في‬ ‫بقوة الح�ضور‪ ،‬ويتماهى في م�ساحات �أخرى‪،‬‬
‫�أ�سئلة تتعلق بقدرة‬
‫الحفر (الجرافيك) فقد ازاح الفعل الجرافيكي �إلى‬ ‫تارك ًا خلفه ظال ًال �سالت من ج�سده‪ ،‬يحيلنا هذا‬
‫الفنان على ا�ستنطاق‬ ‫حرية الر�سم وك�سر قوانينه في �سبيل �إيجاد بنية‬ ‫الأمر �إلى �صدقية عالية ونادرة من قبل الدباغ‪،‬‬
‫طاقة ال�شكل‬ ‫�أكثر قوة وغمو�ض ًا‪ ،‬لون ينم عن مخبوءات �سرية‬ ‫في الإ�صرار على خطابه المغامر‪ ،‬والذي القى‬
‫المحدود‬ ‫كثيرة داخله‪ ،‬فهو الذي يمت�ص كل ما يقع عليه‬ ‫�صدى قوي ًا في منت�صف ال�ستينيات من القرن‬
‫من �ضوء‪ ،‬خ ّزان الأ�سرار المب�صور منها والمخبوء‬ ‫الما�ضي‪ ،‬لي�صبح فارقة مهمة في الت�شكيل‬
‫كذلك‪ ،‬فهو بمثابة الحاجز الذي يحقق وجوده‬ ‫العراقي فيما بعد‪ ،‬م�ستمداً �إيمانه من طبيعة‬
‫بالغمو�ض والعمق وال�سلطة والقوة‪.‬‬ ‫محيطه وحيزه البريء‪ ،‬فالن�ساء يرتدين ال�سواد‪،‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪114‬‬


‫مقاالت‬
‫مقاربـات‬

‫االحتفاء الت�شكيلي بالمعتم والخافت‬


‫يعتبر ال��ب��ع��د ع��ن النمطية المتعمدة‪ ،‬ال�شخ�صيات الرئي�سة الكثير من التفا�صيل‬
‫اتجاه ًا مميزاً ب��ارزاً ومقاب ًال للهو�س اللوني وال��م�لام��ح داخ��ل الظل وال��ن��ور تبع ًا لإتقان‬
‫المتفجر والمقترح‪ ،‬من �أجل حركة في اللوحة مبدعها‪ ،‬الأم ��ر ال��ذي م ��ازال م�شهده ال يكف‬
‫جديدة تهلك ما قبلها من خجل الظل وتواريه عبر الع�صور عن طرح الت�صورات والتكهنات‬
‫وانطوائه‪،‬ولون ًا من �شرائح الخداع الب�صري والتذاكي من المتلقي للقفز على المطروح في‬
‫واالهتزاز والمفاج�أة‪ ،‬وال�صوت القوي المزخرف العمل‪ ،‬بل كثيراً ما يعمل هذا الإعماء المتعمد‬
‫عند (ماتي�س) �شديد ال�صراحة على ال�سطح في من الفنان �إلى قفز الم�شاهد وغو�صه بدواخل‬
‫نجوى المغربي‬ ‫تدرجاته ذات المرجعية‪ ،‬فاال�ستديو الأحمر‪ ،‬كان ال�شخ�صيات المر�سومة‪ ،‬فنجاح ال�ضوء في‬
‫نق ًال �شديد الدقة لما يعتمل فيه من انفعاالت‪� ،‬إذا اختراق الظل لمزيد من �إ�ضافة ال�ضبابية �إليه هو‬
‫والتجان�س ف��ي م��ا بينها وارت���داء �ألوانها‪-‬‬ ‫ما قدم المو�ضوع والخط على اللون الذي اخت�صر المعادلة الجبارة لت�ساوي الكائن والم�سكون‪،‬‬
‫وال�صالت بيننا وطفل (دوم��ي��ه) المعلق على‬ ‫العوامل الثالثة و�أعطى الم�شاهد ما يبحث عنه‪ ،‬رغبة في التميز واالحتفاء بالتغييب‪.‬‬
‫الحائط‪ ،‬ق��ط��ارات ال�سعادة‪ ،‬ع��رب��ات الدرجة‬ ‫وال ينفي ذلك �أن حوارات الظل هي مغامرة‬ ‫طاغ فوق �ضمنيات المر�سومة‪ ،‬يحوي‬ ‫من لون ٍ‬
‫الثالثة‪ ،‬وقد تبدو تجريديات ال يمكن تحققها‪،‬‬ ‫�صوت ًا ورائحة وت�شجيع ًا على مالم�سته‪ ،‬ما (دال ��ي) الكبرى التي ك��ان ي�أمل من خاللها‬
‫وهي �أ�شكال �صامتة ذات خطوط و�ألوان وك�أنها‬ ‫يحرك غرائز وحوا�س مختلفة تفوق ما ي�ستدعيه التب�شير بالحلول �أو اختبار المتذوق في عقدة‬
‫�شخ�صت لتحكي لنا ق�صة �أو ت�سوق حدث ًا ما‬ ‫ال��ط��رح‪ .‬ل��ذا؛ �أغ��رى (ماتي�س) فكرته الجديدة �أو م�ضمون‪ ،‬و�صو ًال �إلى المولعين ب�سكب ال�ضوء‬
‫باللون وال��ظ��ل ونظريات فراغها وملم�سها‬ ‫بال�صعود والترقي‪ ،‬ففي (الرق�صة) �صياغة عند مناطق الحياة لمقاومة الت�صحر كما �أراد‬
‫وطاقة الحجم والقيمة التعبيرية من حيث‬ ‫ذات مرونة ور�ؤي��ة و�أداء �أو�صلت ال�صورة �إلى البع�ض‪� ،‬أو لتوثيق الفكرة الملونة والمظللة‪،‬‬
‫ال�شكل من اال�ستدارة �إلى ر�شاقة التكوين والفكرة‬ ‫�أبعد منها بانفعال وخيال �أ�شد �إتقان ًا وحيوية‪ ،‬وهو ثراء �أطلقه (كليمت ومانيه) �صاحبا �أ�شهر‬
‫وحركة الفر�شاة واالنتقال ال�سل�س �إلى المعنى‬ ‫خالف ًا لما فعله منزل �سيزان المعلق من محاولة فر�شاة القطة وفاح�صة و�أ�سطورية‪ ،‬ال تبدو‬
‫والغاية الرمزية‪ -‬الأم والطفل‪ -‬فالفنان يرتكب‬ ‫التحرر باللون‪ .‬وعلى الرغم من تقنيات عديدة عتبات الن�ص الت�شكيلي ذات جاهزية للحوار‬
‫عملية توزيع البويات على القما�شة بقلبه قبل‬ ‫من المغامرة لحذف الظل‪ ،‬فقد اكت�سبت لحظة مع م�شاهدها �إال �إذا اتزن الأمر ولم يبالغ في‬
‫يده ومنذ الأزل مع تغيير الم�ستقبالت الثالثة‪:‬‬ ‫لعب الورق عند (�سيزان) حركة ميزتها وح�سبت نظريات الخدع والإيهام والتهويل فيها‪ ،‬وتكون‬
‫نف�س الفنان‪ /‬القما�شة‪ /‬المتلقي‪ ،‬وكلها بعيدة‬ ‫لم�صلحتها م��ح��اوالت التخل�ص م��ن الظالل �شخ�صية الرا�سم هنا هي المحر�ض الرئي�سي‬
‫تمام ًا عن التنفيذ وفر�ش الأل��وان وال�شخو�ص‬ ‫بك�سر الأل��وان وحرقها وتعتيمها وا�ستبدالها على العمل‪ ،‬ول��ذا ت�أتي مت�شابهة مع نماذج‬
‫والتعامل مع الق�صة المراد عر�ضها‪ ،‬وبع�ض‬ ‫ب�أفكار مكملة لمو�ضوع اللوحة‪ ،‬عك�س (ديجا) ر�سمه في بدايتها كتخطيط �أولي (ا�سكت�ش)‪ ،‬وقد‬
‫الباحثين �أي�ض ًا ي�شركون حامل اللوحة في‬ ‫الذي ق�سم الوقت على ال�سطح دون مزج‪ ،‬فحظي تحر�ض اللوحة على تتبع الأح��داث وت�أريخها‬
‫العائلة الت�شكيلية لي�أتي الح�صاد الرائع نتاج‬ ‫بتوزيع حوا�س المتلقي‪ ،‬وهي �إ�ضافة �سادت للمدن والظواهر والعديد من تفا�صيل يعمد‬
‫�ضرب اللون مع التفا�صيل بواقع بين الإ�ضاءة‬ ‫لنحر ا�ستخدام الظالل لم�صلحة لونين �أو ثالثة �إليها الفنان لإث��ارة ذهن وعواطف المتلقي‪،‬‬
‫والإظ�لام م�سكون ًا بما ي�شبه الأ�ساطير برغم‬ ‫من نواتج النور النا�صع دون الت�سليم بالت�ضاد‪ ،‬والأخرى التي يكت�شفها بنف�سه وقد ال يق�صدها‬
‫تحكم م�ساحة القما�شة في حجمه‪ ،‬وعلى جانب‬ ‫اللهم �إال في بقعة (جوجان) المتروكة عمداً الرا�سم‪ ،‬وقد يلهث الرائي خلف بعد ثالث توهمه‬
‫�آخ��ر‪ ،‬لون وظل موندريان في م�ساحات �أ�شد‬ ‫ليركن بها الفراغ م�ستقب ًال خليط ًا من الظل في ال�صورة �أو حدث ر�سم مج ّز�أً‪ ،‬لم يق�صد به‬
‫�ضيق ًا وبال مو�ضوع‪ ،‬فقط لتحكي مهارة لغة‬ ‫(مونيه) �سوى تحفيز العين على التخيل‪.‬‬ ‫وال�ضوء‪.‬‬
‫فنان‪� ،‬أن يتعمد البع�ض جمع اللون حول خطوط‬ ‫بال�شك‪ ،‬هناك رواب��ط قد تجمع مفردات‬ ‫وجبة جديدة للم�شاهد ليتعثر فيها بذكاء‬
‫داكنة هو ما كان �إثبات ًا للواقع بفوقية تعبيرية‬ ‫ق�صدية المبدع‪� .‬إن وجود الظالل ال يعني �أن اللوحة �إل��ى ح��دث م��ا �أو نتيجة (مق�صودة)‬
‫عمدها (ماتي�س) تمهيداً لل�سرعة الحياتية‬ ‫نوراً كان يمكنه �أن يحل‪ ،‬بل بعداً ثالث ًا يجب �أن م�ستهدفة من الفنان م�سبقاً‪ ،‬وقد تترك النهاية‬
‫بلغة (�أرن�ست وبيكمان وكاندني�سكي) الذين‬ ‫يقع كحل هند�سي للم�شاهد والفنان مع ًا يخرج كحفل في الهواء مفتوحة‪� ،‬إال �أن ذلك ال يتعدى‬
‫�شحنوا الداخل والخارج بالمعاناة واال�ستياء‬ ‫بفك ترميز اللوحة‪ ،‬وهو ما فعلته مدار�س الظل �سوى عدد ب�سيط من الأعمال التي يربطها ولو‬
‫والالمنطق وزي��ادة االغتراب‪ ،‬وهو ما التقطه‬ ‫والنور كلها على الأغلب دون م��زج‪ ،‬وبهدف �شريط ذكريات واحد‪ ،‬وغالب ًا ما ت�شعر برغبتك‬
‫واع لباطن متحرك‬ ‫(ما�سون فميرو) ك�إبداع ٍ‬ ‫تب�سيط الأ�شياء‪ ،‬ففي حوارات (رامبرانت) غيبت الجامحة �أن تكون منهم �أو �صديق ًا لهم‪� ،‬إذ لم‬
‫لخ�صه الأ�سود والرمادي‪ ،‬م�ضاف ًا �إلى �أبي�ض‬ ‫تطمح �أن ت�صبح ممن يخ�صه حدثهم الم�صور‪،‬‬
‫الم�شاعر القوية والجمود‪ ،‬الذي لم يكن فن ًا بقدر‬ ‫وهذا ما كان في �أعمال هال�س وعمال المناجم‬
‫ما كان نقداً الذع ًا كبلوك م�ضاف ًا �إليها كل �ألوان‬ ‫وفالحي موا�سم الح�صاد والفتاتين وفتيات‬ ‫وجود الظالل ال يعني �أن‬
‫الفن المفرغ من المحتوى والعاطفة واللون‬ ‫نوراً كان يمكنه �أن يحل بل النهر‪ ،‬وقد يمثل فرد �سكان المدينة ب�أكملها‬
‫والحركة والأداء‪ ،‬وحتى من �إطار يحدد اللوحة‪،‬‬ ‫�أو راكبي القطار ب�سحنتهم‪ ،‬وكلها مجموعات‬
‫رغبة جارفة في االتحاد مع المتلقي تداعى على‬ ‫تح�س ب�أنها ت�شعر بالن�شوة لأنهم معاً‪ -‬عبقرية‬
‫هو بعد ثالث وحل هند�سي‬
‫�أثرها التعريف الأول لفن ولوحة‪.‬‬ ‫الرا�سم‪� ،‬أطفال (ري��ن��وار) الم�شبعة بال�صالت‬ ‫للم�شاهد والفنان‬

‫‪115‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫م�سيرة ناقد وفنان ت�شكيلي‬

‫في�صل �سلطان‪:‬‬
‫الفن لي�س �شرفة تُرى منها‬
‫الأ�شياء‪� ..‬إنه موقف‬

‫م�سيرة الناقد وال��ف��ن��ان اللبناني د‪ .‬في�صل �سلطان غنية‬


‫ومت�شعبة‪ ،‬وكان لها ح�ضورها الم�شع في ال�صحافة الثقافية‬
‫ال��ل��ب��ن��ان��ي��ة‪ ،‬خ��ا���ص��ة ف���ي �صحيفتي (ال�����س��ف��ي��ر وال��ن��ه��ار)‪،‬‬
‫ع��ل��ى م���دى �أك��ث��ر م��ن ن�صف ق���رن‪ ،‬ن�شر خ�لال��ه��ا ك��ث��ي��ر ًا من‬
‫ال��درا���س��ات وال��م��ق��االت القيمة وال��دق��ي��ق��ة‪ ،‬ع��ن المعار�ض‬
‫�أديب مخزوم‬
‫والأح���داث الفنية الت�شكيلية‪� ،‬إل��ى جانب معار�ضه الفردية‬
‫وال���ج���م���اع���ي���ة‪ ،‬وم�������ش���ارك���ات���ه ف���ي ال���م���ه���رج���ان���ات وال�����ن�����دوات ال���دول���ي���ة‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪116‬‬


‫ت�شكيل‬

‫لكلمة اهلل التي يرددها الدراوي�ش‬


‫ب�شكل متوا�صل‪ ،‬خ�لال دورانهم‬
‫حتى تحقيق االنخطاف الكامل �أو‬
‫اتجه في بداياته �إلى‬ ‫الغيبوبة الروحية‪ ،‬حيث االندماج‬
‫التعبير عن الحاالت‬ ‫الكامل لج�سد الإن�سان ال�صوفي‬
‫ال�صوفية و�إبراز‬ ‫وروحه بحب اهلل‪.‬‬
‫ك��ان يريد �أن يظهر جمالية‬
‫جمالية الكتابة‬
‫الكتابة التي يبلورها دوران حركة‬
‫وحركة الأج�ساد‬ ‫الأج�ساد وفق دالالت الفن الحركي‬ ‫هانز هارتونغ‬ ‫�أن�سي الحاج‬
‫‪ .ART GESTUELLE‬وقد و�صف‬
‫الناقد جوزيف طراب هذه التجارب (في مقال‬ ‫كانت بداياته الفنية عام (‪1974‬م) بمعر�ض‬
‫ن�شره بالفرن�سية في جريدة ال�صفا) ب�أنها نابعة‬ ‫�أقامه في جمعية الفنانين في بيروت‪ ،‬تركز على‬
‫متق�ص‪ .‬وعلى هذا الأ�سا�س �أي�ض ًا اعتبر‬ ‫من فكر‬ ‫حروفية‪ ،‬وفي عام (‪1994‬م)‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ت�شكيلية‬ ‫ٍ‬
‫�صياغة‬
‫ّ‬
‫�أبرز ما يميز كتاباته‬ ‫الناقد العراقي بلند الحيدري تجربته ب�أنها من‬ ‫�أق��ام في �صالة م�سرح بيروت معر�ض ًا تحت‬
‫الفنية قدرتها‬ ‫التجارب المهمة التي �أدرجها في �سياق ظواهر‬ ‫عنوان (ليل �أزرق) عك�س عمق تحوالته الت�شكيلية‬
‫االتجاهات الحروفية العربية المعا�صرة‪ ،‬كتب‬ ‫والتقنية الم�ستمدة من �إيقاعات الف�سيف�ساء‬
‫على تحقيق منتهى‬
‫عنها في كتاب (زمن لكل الأزمنة) عام ‪1981‬م‪.‬‬ ‫ال�شرقية‪ ،‬والقادمة من انطباعات ر�ؤية مدينة‬
‫عنا�صر ال�سحر‬ ‫و�أجد �أن �أبرز ما يميز كتاباته النقدية هو‬ ‫بيروت البحرية في لحظات الغروب والليل‪.‬‬
‫والإدها�ش‬ ‫ان�سيابها بطالقة وحيوية‪ ،‬ق��ادرة على تحقيق‬ ‫در���س الفن (الر�سم والت�صوير الزيتي) في‬
‫منتهى عنا�صر ال�سحر والإدها�ش والإقناع (حتى‬ ‫معهد الفنون في الجامعة اللبنانية ما بين عامي‬
‫�إنه يكتب النقد �شعراً منثوراً) ‪ ...‬وفي هدا ال�صدد‬ ‫(‪1969‬م ‪1973-‬م)؛ �أي خالل المرحلة الذهبية‬
‫يقول‪ :‬هناك عالقة وثيقة تربطني بعدد من‬ ‫من فنون ب��ي��روت‪ ،‬وف��ي تلك المرحلة تفتحت‬
‫عمله الفني وفي‬ ‫الأ�ساتذة ال�شعراء‪� ،‬أمثال �أن�سي الحاج و�أدوني�س‪،‬‬ ‫ب�صيرته الفنية والثقافية على مجمل االتجاهات‬
‫لذا يرى �أن العمل الفني في �سياق �آفاقه اللونية‬ ‫الفنية الحديثة‪ ،‬وعلى مجمل الأ�سئلة الفنية‬
‫�سياق �آفاقه اللونية‬ ‫التي �أطلقتها معار�ض بيروت‪ ،‬خالل انفتاحها‬
‫والخطية والكتلوية يحمل دالالت �شعرية؛ فاللوحة‬
‫والخطية يحمل‬ ‫�شبيهة بالجملة ال�شعرية‪ ،‬وهي تقوم �أ�ص ًال على‬ ‫الحيوي على الفنون العربية والعالمية‪ ،‬وهذا ما‬
‫دالالت �شعرية‬ ‫عالقات ت�شكيلية تجاورية‪ ،‬ح�سب قواعد البالغة‬ ‫�أ�سهم في نهاية مطاف درا�سته الأكاديمية‪ ،‬في‬
‫في الت�أليف والتجان�س‪ ،‬في الت�صميم وال�شفافية‪،‬‬ ‫تر�سيخ هواج�س �إمكانية الجمع بين م�ؤ�شرات‬
‫التراث والحداثة‪.‬‬
‫وخ�ل�ال زي��ارت��ه الأول����ى ل��ب��اري�����س ال��ع��ام‬
‫لا ف��ي �أع��م��ال بع�ض‬ ‫(‪1972‬م)‪ ،‬ت ��أم��ل ط��وي� ً‬
‫الفنانين التجريديين الغنائيين‪ ،‬و�شعر وقتها‬
‫ببع�ض االنحياز نحو االتجاه الحركي ال�سائد في‬
‫�أعمال هانز هارتونغ‪ ،‬ال �سيما �أنه كان يبحث عن‬
‫طريق ي�صله مبا�شرة بمظاهر تجليات التجريد‬
‫ال�صافي‪ ،‬يكون على عالقة جمالية مع �إيقاعات‬
‫حركة الكتابة العربية‪ ،‬كتجليات �صوفية تربطه‬
‫مبا�شرة بطروحات جماعة فناني البعد الواحد‬
‫في الت�شكيل العربي الحديث‪.‬‬
‫كان هاج�سه في تلك المرحلة التعبير عن‬
‫ال��ح��االت ال�صوفية التي يمر بها ال��دراوي�����ش‬
‫خالل مزاولتهم طقو�س الذكر‪ ،‬وما ي�سمى محلي ًا‬
‫بــــ(الفتلة المولوية)‪ ،‬وح��اول �أن يج�سد في‬
‫تجاربه تلك العالقة الحميمة التي تجمع ما‬
‫بين الدوران والرق�ص‪ ،‬وحركة �إيقاعات الكتابة‬
‫من �أعماله‬

‫‪117‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫ت�شكيل‬

‫في ا�ستدراج العالقات اللونية‪ ،‬التي تحيلنا‬


‫بدورها �إلى قراءات م�ستفي�ضة للتكوين ال�شامل‬
‫للعمل الفني‪ ،‬ال��ذي نحيله �إل��ى عالمات نثرية‬
‫لوحدات وظواهر ومناخات �شعرية‪ .‬وفي هذا‬
‫ال�سياق يقول في حوار �أجريته معه‪ :‬التجارب‬
‫الفنية هي ثمرة �أعمارنا‪ ،‬هي الر�ؤية ال�شاملة‬
‫للعالم بحلوها ومرها‪ .‬هناك دوم ًا جدار يقف في‬
‫مواجهة تحقيق �أحالمنا الفنية‪ ،‬يتوجب علينا‬
‫تجاوزه؛ �إنها رغبة الحياة في �أن ت�ستمر رغم كل‬
‫الأهوال‪ .‬لذا ترى �أن كل المراحل الفنية متعلقة‬
‫بم�سيرة �أع��م��ارن��ا‪ ،‬ب��الأح��داث وال��ح��روب التي‬
‫ع�شنا ف�صولها‪ ،‬بالقراءات واللقاءات والأ�سفار‪.‬‬
‫فالمراحل الفنية كما �أراها‪ ،‬هي وليدة �صفحات‬
‫�أعمارنا‪ .‬الفن هو و�سيلتنا حتى نعي�ش ونتنف�س‬
‫ون��رى‪ .‬الزمن يم�ضي بخفة‪ ،‬كما لو �أنه خطوة‬
‫فالتة في �صفحات ال قيا�س لها‪ ،‬زمن متبخر‬
‫رغم �سرعته وم�ؤثراته العاطفية‪ .‬لذا �أنا �أعتقد‬
‫الدوران واالنخطاف واالندماج التعبيري‬ ‫�أن عناوين المراحل الفنية تختلف وفق حاالتنا‬
‫االنفالت والحرية و�إعطاء معنى لوجودي ‪� .‬أما‬
‫في تجارب معر�ض (ليل �أزرق)‪ ،‬فقد ظهرت‬ ‫العاطفية و�أبعاد ر�ؤيتنا الثقافية‪.‬‬
‫مقاربات �شرقية و�صفها الروائي �إليا�س خوري‬ ‫ول��م يكن ه��ذا الميل نحو مظاهر ال�سطح‬
‫ب�أنها (مرايا الطبيعة)‪ ،‬وقد تك�سرت �إلى �شظايا‬ ‫الخ�شن في لوحاته �إال ردة فعل عفوية تجاه‬
‫تلتف حولنا وتجعلنا ن��رى الم�شهد ال�شرقي‪،‬‬ ‫التوتر الذي انت�شر على �سطوح يوميات العي�ش‪،‬‬
‫وك�أنه �إيقاعات مو�سيقية محمولة على تقا�سيم‬ ‫في مدينة مفتوحة على احتماالت االنفجارات‬
‫تظهر في �أعماله‬ ‫الألوان‪.‬‬ ‫والق�صف الع�شوائي‪ ،‬في كل لحظة من حياتنا‬
‫من مقاربة ثقافية �أخ ��رى‪� ،‬شكل معر�ض‬ ‫المفجوعة بالحروب‪ .‬كما لو �أنه كان يبحث عن‬
‫مالمح ل�صياغة‬
‫(تحية �إلى ع�صفور حر) المدخل الحقيقي لعوالم‬ ‫ف�سحة تحمل �شيئ ًا من خ�شونة الواقع‪ ،‬كان يعلن‬
‫تكوين م�ستعاد من‬ ‫اللوحة الق�صيدة‪ .‬كان يقر�أ �شعر �أن�سي الحاج‬ ‫من خاللها عن رف�ضه لهمجية الحروب‪ .‬لم تكن‬
‫�أجواء رموز الأحالم‬ ‫وير�سم ويلون ويطير ب�شغف فوق ج�سد اللوحة‬ ‫تلك الف�سحة �سوى النافذة؛ النافذة كانت الحد‬
‫ال�شرقية‬ ‫‪ -‬الق�صيدة‪ .‬كانت رغبات الع�صافير تفتح �أبواب‬ ‫الفا�صل بين الطم�أنينة (في الداخل)‪ ،‬والجحيم‬
‫الغيوم على �شفير الهاوية‪ ،‬وكانت لهفة ال�شعر هي‬ ‫(في الخارج)‪ .‬هذا الإح�سا�س تر�سخ بقوة خالل‬
‫ح�صانته الوحيدة في مزاولة اللوحة – الق�صيدة‪.‬‬ ‫ر�ؤيته المتكررة لت�ساقط الزجاج؛ زجاج النوافذ‬
‫حول تلك التجارب كتبت ال�شاعرة والفنانة �إتيل‬ ‫وواجهات البيوت‪ ،‬بعد كل عملية ق�صف ع�شوائي‬
‫عدنان‪ :‬هذا العمل الجديد لفي�صل �سلطان ينتظم‬ ‫�أو انفجار �سيارة مفخخة‪ ،‬كما لو �أن النوافذ‬
‫حول لقاءات و�صدامات وتحديات‪ ،‬ظاهراً يبدو‬ ‫المت�صدعة تعك�س مرايا �ضحايا الحروب‪.‬‬
‫�أن��ه يخاطب ب�شكل خا�ص �أن�سي الحاج وجه ًا‬ ‫هكذا وجد نف�سه في العام (‪1980‬م) ير�سم‬
‫لوجه‪ ،‬من فنان ل�شاعر‪ ،‬من لوحة لق�صيدة‪.‬‬ ‫النوافذ ال�شرقية كرمز لطم�أنينة م�ستعادة‪.‬‬
‫هذا الإلحاح على الع�صفور لدى في�صل لتلم�س‬ ‫وق��د و�صف الناقد نزيه خاطر‪ ،‬تلك التجارب‬
‫الر�سالة‪ ،‬كما لو �أن المكا�شفة هي دوم ًا اهتمام‬ ‫ب�أنها قريبة جداً من ال�شعر‪ .‬في عام (‪1982‬م)‬
‫كل ال�شعر كل الر�سم‪ .‬ام��ر�أة‪ ،‬ع�صفور‪ ،‬كلمات‪،‬‬ ‫بد�أت تظهر في �أعماله مالمح ل�صياغة تكوين‬
‫طبيعة‪ ،‬ومقاطع من مناظر و�أل��وان‪ ،‬تلتقي في‬ ‫م�ستعاد من �أجواء رموز الأحالم ال�شرقية والر�ؤى‬
‫تنظيم بارع للق�صائد والر�سوم‪ ،‬حين تتطابق‬ ‫المثيولوجية المتداولة في ح�ضارات ال�شرق‬
‫وتتجاوب وتحتك بع�ضها ببع�ض مثل �أم��واج‬ ‫القديم‪ .‬لم يكن يرغب وقتها �إال في التعبير عن‬
‫على موج‪ .‬هذا التحفيز ال�صامت يتيح ل�شيء �أن‬ ‫هواج�سه ال�شرقية التي تعك�س تداعيات مخاطر‬
‫يولد‪ ،‬و�أن ي�صير ممكن ًا ر�ؤيته‪ ،‬و�أن يغدو داللة؛‬ ‫موجات التدمير والنهب والت�شويه للأماكن‬
‫�أي حق ًال لح�ضور �آخر يتعذر التقاطه �إال بن�شوة‬ ‫الأثرية‪.‬‬
‫مناخات �شعرية‬ ‫الروح‪.‬‬ ‫ل��م يكن ه��ذا الحلم ال�شرقي �إال رغبة في‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪118‬‬


‫مقاالت‬
‫فـن‬

‫النحت من �أ�صعب و�أهم الفنون‬


‫وال�صناعة‪ ،‬فال�صناعة وال��ف��ن مرتبطان‬ ‫يعتبر النحت من �أ�صعب و�أه��م الفنون‬
‫ببع�ضهما بع�ض ًا‪ ،‬والتطور يرتبط مع بع�ضه‬ ‫يقدم للمتلقي �أعما ًال‬ ‫الجميلة‪ ،‬فهو ال��ذي ّ‬
‫بع�ض ًا‪ ،‬حيث ال�صناعة بمختلف فروعها؛ من‬ ‫�ضخمة كالن�صب التذكارية والمج�سمات‪ ،‬ذات‬
‫�صناعة ال�سيارات والآالت و�صناعة الأبنية من‬ ‫المدلوالت الرمزية المعبرة‪ ،‬والتي تنت�صب في‬
‫الحديد والفوالذ‪ ،‬تقدم لنا الحديد والبال�ستيك‪،‬‬ ‫ال�ساحات العامة والحدائق والق�صور ب�أبعادها‬
‫فيح�صل لها منعك�س وه��و كيف يمكن �أن‬ ‫الحقيقية‪ ،‬م�ستخدم ًا النحات الكتلة والفراغ‬
‫يبني النحات �أعما ًال فنية من هذه الأفكار‬ ‫في تكوين العمل الفني‪ .‬وفي المقابل هناك‬
‫ه�شام عدرة‬ ‫الجديدة‪ .‬والق�صد هنا �أن ال�صناعة عندما تنتج‬ ‫منحوتات �أخ��رى �صغيرة بمدلوالت رمزية‬
‫تكنولوجيا جديدة‪ ،‬يكون لها منعك�س على‬ ‫وفل�سفية‪ .‬وقد ا�ستخدم النحاتون منذ الع�صور‬
‫وم��ن حيث ال��م��ب��د�أ‪ ،‬ف���إن النحت ي�ستوعب‬ ‫الفن‪� ،‬أي كيف يمكن توظيف هذه المنتجات‬ ‫القديمة الحجر كمادة �أول��ي��ة‪ ،‬وه��ي الأكثر‬
‫كمو�ضوع الكثير من المفردات والمعطيات‬ ‫ال�صناعية ب�إنتاج عمل فني؟‬ ‫ا�ستخدام ًا وانت�شاراً على مر الع�صور لوفرتها‬
‫والتفا�صيل‪ .‬وي��أت��ي الحديد‪ ،‬هنا‪ ،‬كمادة‬ ‫وي��رى المتابعون والمعنيون هنا‪� ،‬أن‬ ‫ف��ي الطبيعة ومقاومتها للزمن وع��وام��ل‬
‫طيعة‪ ،‬وتت�ضمن‬ ‫مغرية جداً لأي نحات ومادة ّ‬ ‫الميثولوجيا القديمة حيث الأ�ساطير ورمزيتها‬ ‫المناخ‪ ،‬ومن ثم توجهوا نحو الخ�شب كمادة‬
‫�أفكاراً ال تنتهي‪.‬‬ ‫وفل�سفتها و�أبطالها الخرافيون‪ ،‬ا�ستندت �إلى‬ ‫�أولية‪ ،‬فقدموا للعالم منحوتات رائعة ُت�شعر‬
‫وللنحت الحديدي �أ�سماء معروفة عالمي ًا‬ ‫أدوات تنا�سب زمانها‪� .‬أما الآن؛ فنحن‬ ‫فك ٍر و� ٍ‬ ‫الإن�سان بب�ساطة الحياة‪ ،‬حيث الخ�شب الحنون‬
‫كر�سوا ه��ذه ال��ظ��اه��رة‪ ،‬وه��م عا�شوا ع�صر‬ ‫في زمن معا�صر له م�شكالته و�أدواته ولديه‬ ‫المطواع الم�أخوذ من �أ�شجار الغابة العذراء‬
‫الحديد في �أوروبا وما بعد الحديد (الكروم)‪،‬‬ ‫الميثولوجيا الخا�صة به‪ ،‬ولذلك عكف العديد‬ ‫ومن الطبيعة تلك الأم المعطاءة بال حدود‪.‬‬
‫مثل الفرن�سي (�سيزار بالداكيني ‪-1921‬‬ ‫من النحاتين على التجريب ومحاكاة الواقع‬ ‫بقي الحال هكذا حتى منت�صف القرن‬
‫‪ )1998‬وهو من �صنع تمثال �سيزر‪ ،‬الذي‬ ‫المعا�صر من خالل �أ�سئلة واقعية‪ ،‬وهي �أنه‬ ‫الما�ضي‪ ،‬ليكت�شف النحاتون �أن��ه يمكنهم‬
‫يقدم في حفل توزيع جوائز �سيزر ال�شهيرة‬ ‫ّ‬ ‫كيف ينظرون ل�سنوات قادمة وكيف يمكن‬ ‫االع��ت��م��اد ع��ل��ى ال��م��ع��ادن ك��م��ادة �أول��ي��ة‬
‫المخت�صة بال�سينما الفرن�سية‪ ،‬والذي يقام في‬ ‫لهم �أن يعك�سوا الحا�ضر لتكري�سه للم�ستقبل‬ ‫لمنحوتاتهم ون�صبهم الكبيرة‪ ،‬فا�ستخدموا‬
‫�شهر فبراير من كل عام‪ ،‬وتنظمه �أكاديمية‬ ‫ك��ظ��اه��رة �أو ت��وق��ع��ات‪ ،‬ف��ال��ف��ن��ان بحد�سه‬ ‫النحا�س‪ ،‬ولكن على ما يبدو لم يحقق النحا�س‬
‫الفنون وتقنيات ال�سينما الفرن�سية منذ عام‬ ‫وح�سه المتوقد دائم ًا با�ستطاعته �أن يتوقع‬ ‫ّ‬ ‫لهم ما �أرادوه‪ ،‬فكان توجههم في ال�سنوات‬
‫(‪ )1976‬و�أخ��ذت ا�سم النحات ال�شهير �سيزر‬ ‫وي�ست�شرف الم�ستقبل‪ ،‬ب��ل ر�أى ه���ؤالء �أن‬ ‫الأخ��ي��رة نحو الحديد والألمنيوم‪ ،‬لي�شكال‬
‫وتعادل جائزة الأو�سكار الأمريكية‪ ،‬وهناك‬ ‫الواجب الإبداعي وال�صيرورة واال�ستمرارية‬ ‫المادة الأولية لمنحوتاتهم‪ ،‬برغم �صعوبة‬
‫النحات الفرن�سي الأمريكي (�أرمان فرنانديز‬ ‫تفر�ض عليهم البحث دائم ًا عن �أدوات جديدة‬ ‫التعامل معها‪ ،‬فبد�ؤوا يقدمون للعالم المعا�صر‬
‫‪ )2005 -1928‬ال��ذي ق� ّ�دم �أع��م��ا ًال نحتية‬ ‫وم��واد خام مبتكرة تلهم خيالهم الإبداعي‬ ‫تقدم‬‫وللأجيال القادمة منحوتات غريبة‪ّ ،‬‬
‫حديدية تركيبية تجريدية و�سوريالية‪ ،‬من‬ ‫و�أفكارهم الخ ّالقة‪ ،‬وتلبي �شغف المتلقي في‬ ‫للم�شاهد والمتلقي �إبهاراً ب�صري ًا وجماليات‬
‫مخلفات من�ش�آت الأبنية الجديدة وم�شيدات‬ ‫متابعة وم�شاهدة مظاهر �إبداعية جديدة في‬ ‫خا�صة برغم قتامة لون الحديد و�صرامته‪،‬‬
‫ال�شوارع (الخردة وبقايا الألمنيوم والكروم)‬ ‫مجال النحت والفنون عموم ًا‪ .‬فكان الحديد‬ ‫ومع ذلك ا�ستجاب الحديد ب�شكل قوي و�سل�س‬
‫كذلك هناك العديد من النحاتين العرب‪ ،‬الذين‬ ‫و�شقيقه الألمنيوم (ال��ك��روم) ال��ذي يعك�س‬ ‫لأفكار النحاتين المتجددة‪.‬‬
‫قدموا �أعما ًال نحتية حديدية كثيرة وب�أفكار‬ ‫ال�ضوء فيعطي جماليات خا�صة للعمل‪ ،‬بينما‬ ‫ي�ؤكد العديد من المعنيين والباحثين‬
‫�إبداعية و�أ�ساليب متنوعة‪ ،‬والزائر لمدينة‬ ‫الحديد يمت�ص ال�ضوء‪� ،‬إنهما متعاك�سان‬ ‫ف��ي مجال النحت‪� ،‬أن الع�صر الحالي هو‬
‫(دي فران�س) المدينة الجديدة قرب العا�صمة‬ ‫تمام ًا‪ ،‬ولذلك فالحديد يم ّكن المتلقي من‬ ‫ع�صر نحت الحديد والكروم‪ ،‬وهو متناغم مع‬
‫الفرن�سية باري�س‪ ،‬ي�شاهد كيف �أنها ت�ضم‬ ‫الدخول �إلى عمق العمل النحتي‪ ،‬وي�شعر ب�أنه‬ ‫مفردات الزمن والحداثة‪ ،‬لأن الحديد الذي‬
‫م�ساحات نحتية كبيرة كلها لأ�سماء نحاتين‬ ‫حول لعمل فني ي�صبح‬ ‫حتى المعدن عندما ُي َّ‬ ‫بد�أت به العمارة الحديثة المعا�صرة بالعالم‬
‫عالميين زينوا المدينة الجديدة ب�أعمالهم‬ ‫لديه �شعور و�إح�سا�س ت�ست�شعره الحركة‬ ‫الجديد (بعد �أن كان العالم القديم ي�ستخدم‬
‫ب��م��ب��انٍ عمالقة م��ن ال��ح��دي��د والبال�ستيك‬ ‫وال��ج��م��ال‪ ،‬حتى ال�صد�أ ف��ي الحديد يعطي‬ ‫ال�صخر وال��ح��ج��ارة والخ�شب ف��ي عمارة‬
‫والزجاج‪ ،‬ومن خالئط جديدة‪ ،‬كذلك متحف‬ ‫جماليات وقيمة �إ�ضافية للمنحوتة والعمل‪.‬‬ ‫مبانيه وق�صوره) جاء ا�ستخدامه في الفن‬
‫(بومبيدو) الفرن�سي مبني كله من الحديد‬ ‫وم��م��ا ال���ش��ك ف��ي��ه؛ �أن ه��ن��اك تجارب‬ ‫كنتيجة معطيات معروفة كالعمارة الحديثة‬
‫وال��م��ع��ادن كبناء وك��أع��م��ال فنية‪ ،‬وكذلك‬ ‫م�ستمرة عالمي ًا وعربي ًا في مجال النحت‬
‫متحف (نابو) في لبنان الذي افتتح قبل نحو‬ ‫الحديدي‪ ،‬وهذه التجارب تحتاج �إلى تقديم‬ ‫النحت الحديدي قدّ م للفن‬
‫عام‪ ،‬كان الحديد حا�ضراً في عمارة المبنى‬ ‫المادة المنا�سبة‪ .‬ولذلك ف�إن المعدن حالي ًا‬ ‫ال نحتية‬ ‫المعا�صر �أعما ً‬
‫وفي المنحوتات المعرو�ضة‪ ،‬وفي �أمريكا‬ ‫كظاهرة‪ ،‬ب��د�أ يتكر�س في نتاج الفنانين‪.‬‬
‫يدخلون الكروم كثيراً في الأعمال الفنية‪،‬‬ ‫وللحديد جمالياته والم�ستقبل له‪ ،‬خا�صة‬ ‫ون�صب ًا �ضخمة �إبداعية‬
‫كمعدن له عالقة بفكرة الخلود واال�ستمرار‪.‬‬ ‫عندما يو�ضع في مكانه ال�صحيح والمعبر‪.‬‬ ‫جمالية برغم ق�ساوته‬

‫‪119‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫التجريب مرحلة عابرة في م�سيرة الم�سرح العربي‬
‫جوان جان‪:‬‬
‫كل م�سرح يرتبط بح�ضارته روحي ًا وفكري ًا‬
‫�أك��د الناقد والكاتب الم�سرحي ج��وان ج��ان �أن الم�سرح‬
‫نجح الم�سرح‬ ‫ال�����س��وري ل��ه �سمات تميزه ع��ن م�سارح ال���دول الأخ���رى‪،‬‬
‫ال�سوري منذ �أبي‬ ‫�سواء من حيث ال�شكل �أو الم�ضمون‪ ،‬و�أ�ضاف في لقاء مع‬
‫خليل القباني وحتى‬ ‫«ال�شارقة الثقافية» �أن محاوالت التجريب على ال�شكل‬
‫الآن في �أن ير�سخ‬ ‫الفني �أو الم�ضمون‪ ،‬ما هي �إال �أم��ور طارئة على حركة‬
‫وحيد تاجا‬
‫خ�صو�صيته �شك ً‬
‫ال‬ ‫الم�سرح ال�سوري خا�صة والعربي عامة‪� ،‬إذ �سرعان ما‬
‫وم�ضمون ًا‬ ‫تعود هذه الم�سارح �إلى �أ�صولها المرتبطة بح�ضارة المنطقة روحي ًا وفكرياً‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪120‬‬


‫م�سرح‬

‫تامر العربيد‬ ‫ممدوح عدوان‬ ‫فواز ال�ساجر‬

‫عجاج �سليم‬ ‫�أبو خليل القباني‬ ‫زيناتي قد�سية‬

‫يذكر �أن الكاتب والناقد الم�سرحي جوان حركة الم�سرح ال�سوري خا�صة والعربي عامة‪،‬‬
‫جان خريج المعهد العالي للفنون الم�سرحية‪� ،‬إذ �سرعان ما تعود هذه الم�سارح �إلى �أ�صولها‬
‫مجمل هذه التجارب‬ ‫ق�سم النقد والدرا�سات الم�سرحية‪ .‬عمل �أمين ًا ثم المرتبطة بح�ضارة المنطقة روحي ًا وفكري ًا‪.‬‬
‫كان فيها مجال وا�سع‬ ‫رئي�س ًا لتحرير مجلة (الحياة الم�سرحية) منذ‬
‫لالرتجال‬ ‫عام (‪1999‬م) وحتى الآن‪ .‬من �أهم �أعماله‪ ¯ :‬يعتبر النقاد �أن التجربة الأهم في تاريخ‬
‫(وراء ال�ستار‪ -‬مقاالت نقدية في الم�سرح الم�سرح ال�سوري‪ ،‬والتي قدمت نموذج ًا �سوري ًا‬
‫ال�سوري)‪( ،‬م�سرح بال كوالي�س‪� -‬إطاللة على لمفهوم الم�سرح التجريبي تمثّلت في م�شروع‬
‫الحركة الم�سرحية ال�سورية)‪( ،‬ق���راءات في الراحل فواز ال�ساجر‪ ..‬ما ر�أيك؟‬
‫الن�ص الم�سرحي ال�سوري)‪( ،‬ق�صة الم�سرح)‪،‬‬
‫(ح��ك��اي��ات م�سرحية)‪�( ،‬سعد اهلل ون��و���س)‪.‬‬
‫¯ هل ن�ستطيع الحديث الآن عن م�سرح �سوري‪،‬‬
‫يتمتع ب�سمات وخ�صائ�ص معينة‪� ،‬أم الحديث‬
‫عن م�سرحيات �سورية يغلب عليه طابع‬
‫التجريب؟‬
‫�شك �أن الم�سرح ال�سوري‪ ،‬ومن خالل‬ ‫‪ -‬ال ّ‬
‫م�شواره الطويل الممتد زمني ًا �إلى �سبعينيات‬
‫القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬مع تجربة رائد الم�سرح‬
‫العربي �أبو خليل القباني‪ ،‬و�صو ًال �إلى يومنا‪ ،‬قد‬
‫ر�سخ �سمات وخ�صائ�ص تميزه عن م�سارح الدول‬ ‫ّ‬
‫الأخ��رى‪� ،‬سواء من حيث ال�شكل �أو الم�ضمون‪،‬‬
‫على الرغم من م�شاركته لم�سارح العديد من‬
‫البلدان العربية في خ�صائ�صها و�سماتها‬
‫العامة‪ ،‬المعتمدة على النهل من التراث ال�شعبي‬
‫الغني‪ ،‬وما محاوالت التجريب على‬ ‫ّ‬ ‫العربي‬
‫ال�شكل الفني �أو الم�ضمون‪� ،‬إال �أمور طارئة على‬
‫جوان جان‬

‫‪121‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫‪ -‬من الم�ؤكد �أن تجربة المخرج الم�سرحي‬
‫الراحل فواز ال�ساجر‪ ،‬قد �ش ّكلت في �سبعينيات‬
‫وثمانينيات القرن الع�شرين‪َ ،‬مع َلم ًا متميزاً من‬
‫معالم الم�سرح ال�سوري‪ ،‬ال على �صعيد الإخراج‬
‫فح�سب‪ ،‬بل وعلى �صعيد الت�أهيل والتعليم‪،‬‬
‫من خالل قيام ال�ساجر بتدري�س �أجيال من‬
‫الم�سرحيين ال�سوريين في المعهد العالي للفنون‬
‫الم�سرحية بدم�شق‪ ..‬ولكن اعتبار هذه التجربة‬
‫هي الأميز والأكثر ر�سوخ ًا من بين التجارب‬
‫الأخ ��رى‪ ،‬ربما ك��ان فيه ظلم لهذه التجارب‬
‫عبدالمنعم عمايري‬ ‫مها ال�صالح‬ ‫ولتجربة ال�ساجر نف�سها‪ ،‬التي لم تقطع حبل‬
‫التوا�صل مع التجارب ال�سابقة والمعا�صرة‬
‫قد�سية في (المونودراما) مازالت را�سخة في‬ ‫لها‪ ،‬بل اعتبرت نف�سها دائم ًا امتداداً لتجربة‬
‫الذاكرة‪ ،‬بالإ�ضافة �إل��ى تجارب كثيرة قد ال‬ ‫الم�سرحيين ال�سوريين والم�سرح ال�سوري‬
‫تكون بنف�س درج��ة د�أب ال�صالح وقد�سية‪،‬‬ ‫‪.‬‬
‫الم�ضي قدما في تجارب (المونودراما)‬
‫ّ‬ ‫على‬ ‫¯ بالتالي كيف تنظر �إلى ما ُقدم من عرو�ض‬
‫ولكنها تجارب هامة بكل الأحوال‪ ،‬وال �شك �أن‬ ‫تجريبية‪ ،‬لكل من رغدة ال�شعراني �أو عبدالمنعم‬
‫محاوالت التجديد على الجانب الفكري‪ ،‬لعب‬ ‫عمايري �أو تامر العربيد �أو زيناتي قد�سية؟‬
‫دوراً ب��ارزاً في انطالق م�سرح (المونودراما)‬ ‫‪ -‬هي كلها ت�شكل باقة جميلة في حديقة‬
‫تجربة فواز ال�ساجر‬ ‫في �سوريا وهو الم�سرح الذي �أ�س�س له الكاتب‬ ‫الم�سرح ال�سوري‪ ،‬وكل واحدة من هذه التجارب‬
‫�شكلت معلم ًا من معالم‬ ‫الن�ص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الراحل ممدوح ع��دوان‪ ،‬على �صعيد‬ ‫لها م��ا يميزها ع��ن غيرها‪ ،‬فتجربة رغ��دة‬
‫الم�سرح ال�سوري على‬ ‫لتتبعه مجموعة من المحاوالت لك ّتاب �آخرين‪،‬‬ ‫ال�شعراني على �سبيل المثال تميزت بال�شكالنية‬
‫�صعيد الإخراج وهي‬ ‫متفاوتة في نجاحها وقدرتها على تجذير هذا‬ ‫المفرطة على �صعيد الم�ضمون‪ ،‬بينما حاول‬
‫ممتدة حتى الآن‬ ‫النوع من الم�سرح في تربة الم�سرح ال�سوري‪.‬‬ ‫عبدالمنعم عمايري �أن ينجح في الإع�لاء من‬
‫�ش�أن الجانبين‪ ،‬ال�شكل والم�ضمون‪ ،‬ونجح‬
‫الحظ غياب الن�ص الم�سرحي في معظم‬ ‫¯ ُي َ‬ ‫في ذلك �إل��ى حد بعيد‪ ،‬في الوقت ال��ذي عمل‬
‫العرو�ض الم�سرحية‪ ،‬في حين �أن الن�ص هو‬ ‫فيه تامر العربيد على �إحياء الأ�شكال الفنية‬
‫فقري في �أية م�سرحية؟‬
‫عمود ّ‬ ‫العربية التراثية‪ ،‬وك��ان لأعماله الم�سرحية‬
‫الم�ستفيدة من التراث ال�شعبي �صداها الوا�سع‪،‬‬
‫بينما تميزت تجربة زيناتي قد�سية بتنوعها‬
‫ال�شديد وعدم ر�ضوخها لأ�شكال فنية محددة‪،‬‬
‫فقد ق��دم (المونودراما) مثلما ق��دم الأعمال‬
‫المعتمدة على المجاميع الب�شرية‪ ،‬كما قدم‬
‫الن�ص الكال�سيكي والن�ص التجريبي‪ ،‬ولج�أ‬
‫�إلى الم�سرح العالمي‪ ،‬بنف�س درجة لجوئه �إلى‬
‫الم�سرح العربي‪ ..‬وهناك تجارب م�سرحية‬
‫�سورية ع��دي��دة‪� ،‬أثبتت ح�ضورها وفرادتها‬
‫كتجربة المخرج عجاج �سليم‪ ،‬على �سبيل المثال‪.‬‬

‫¯ ت�أخذ (المونودراما) حيزاً وا�سع ًا في العرو�ض‬


‫الم�سرحية ال�سورية‪ ..‬لماذا بر�أيك؟‬
‫‪( -‬ال��م��ون��ودرام��ا) لي�ست ج��دي��دة على‬
‫الحركة الم�سرحية ال�سورية‪ ،‬فمنذ �سبعينيات‬
‫ال��ق��رن الما�ضي ك��ان��ت ه��ن��اك ت��ج��ارب في‬
‫(المونودراما)‪ ،‬وتجارب مها ال�صالح وزيناتي‬
‫م�سرحية «رحلة حنظلة»‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪122‬‬


‫م�سرح‬

‫من الم�سرح ال�سوري‬


‫‪ -‬هناك العديد من المحاوالت �سوري ًا وبين المخرجين‪ ،‬الذين يتناولون �أعمالي‪،‬‬
‫وعربي ًا وعالمي ًا‪ ،‬عملت على تهمي�ش دور ���س��واء ف��ي دم�شق �أو بقية ال��م��دن ال�سورية‪.‬‬
‫الن�ص في العر�ض الم�سرحي‪ ،‬ولكن �أين هي‬ ‫ّ‬
‫هذه المحاوالت اليوم؟ معظمها �أ�صبح في ذمة ¯ ك��ان التراث بو�صفه تاريخ ًا‪ ،‬و�أ�ساطير‪،‬‬
‫التاريخ وعلى �أوراق الوثائق ال �أكثر‪ ..‬اليوم �أدرك وحكايات �شعبية‪ ،‬ي�شكل المادة الرئي�سة لأكثر‬
‫الم�سرحيون العرب تحديداً �أن الكلمة هي الأبقى الن�صو�ص الم�سرحية‪� ،‬أما في ال�سنوات الأخيرة‬
‫من �سمات الم�سرح‬ ‫في الم�سرح‪ ،‬ال ن�ص ًا فح�سب‪ ،‬بل وعر�ض ًا �أي�ض ًا‪ ،‬فقد غاب التراث غياب ًا كامالً‪ ،‬فما �أ�سباب ذلك؟‬
‫ال�سوري النهل من‬ ‫‪ -‬لي�س من ال�سهولة دائم ًا توافر ن�صو�ص‬ ‫لأنه مهما بلغت براعة المخرج وخبرة الممثل‬
‫المطلعون‬
‫ومهارة الف ّني وجمال الديكور و�سحر المو�سيقا‪ ،‬من هذا النوع‪ ،‬فالك ّتاب الم�سرحيون ّ‬
‫التراث ال�شعبي وهو‬ ‫تبقى ال��ف��ك��رة ه��ي الأ���س��ا���س وه��ي العن�صر على ال��ت��راث ب�شكل ك� ٍ‬
‫�اف ق� ّل��ة‪ ،‬وت��ن��اول هذا‬
‫ما يت�شارك به مع‬ ‫الأكثر ت�أثيراً وديمومة في العمل الم�سرحي‪ .‬التراث م�سرحي ًا �أمر محفوف بالمخاطر‪� ،‬إذا‬
‫الم�سرح العربي‬ ‫مطلع ًا بما يكفي‬‫لم يكن الكاتب الم�سرحي ّ‬
‫عموم ًا‬ ‫العربي بكافة مناحيه‪ ،‬كما �أن‬ ‫ّ‬ ‫¯ ب�صفتك كاتب ًا‪� ..‬إلى �أي مدى ت�سمح باالرتجال على التراث‬
‫الأ�شكال الفنية الناتجة عن تناول التراث‬ ‫الم�سرحي؟‬
‫ّ‬ ‫ن�صك‬
‫في ّ‬
‫‪ -‬هناك العديد من الن�صو�ص‪ ،‬التي كتب ُتها م�سرحي ًا‪ ،‬ربما ا�ستنفدت �أغرا�ضها وو�سائلها‪،‬‬
‫كانت ذات طابع كوميدي �ساخر‪ ،‬وبالتالي بعد ازده���ار الم�سرح المعتمد على التراث‬
‫هذا يعني �أن هناك مجا ًال لالرتجال من قبل في �ستينيات و�سبعينيات القرن الما�ضي‪.‬‬
‫الممثل‪ ،‬وه ��ذا ح�صل ف��ي م�سرحي َتي (ن��ور‬
‫العيون)‪ ،‬و(ه���وب‪ ..‬ه��وب) اللتين �أخرجهما ¯ كيف ترى م�س�ألة انح�سار ظاهرة م�سرح‬
‫العرو�ض التجريبية‬ ‫�أو ًال المخرج عجاج �سليم‪ ،‬ثم ُق ِّدمتا من خالل الحكواتي بعد انت�شارها ب�شكل وا�سع في‬
‫الم�سرحية ت�شكل‬ ‫عدة مخرجين ك�سهيل عقلة‪ ،‬ونور�س �أبوعلي‪ ،‬معظم الأقطار العربية؟‬
‫باقة جميلة متنوعة‬ ‫‪ -‬ه��ذه ال��ظ��اه��رة وغيرها م��ن الظواهر‬ ‫وعلي عبدالحميد‪ ،‬الذين �أخرجوا (نور العيون)‬
‫ولكنها لي�ست على‬ ‫ب��ر�ؤى �إخراجية مختلفة‪ ،‬وفايز �صبوح الذي الم�سرحية العربية مرتبطة ب�شكل وثيق‬
‫نف�س الم�ستوى من‬ ‫�أخ��رج (ه��وب‪ ..‬ه��وب) بعد عامين من �إخ��راج بمحاوالت التجريب على �أ�ساليب وطرائق‬
‫عجاج �سليم لها‪ .‬ومجمل هذه التجارب‪ ،‬كان تقديم الم�سرح العربي‪ ،‬وق��د ازده���رت هذه‬
‫الإبداع‬ ‫وتعرف �إليها جمهور الم�سرح العربي‬ ‫فيها مجال وا�سع لالرتجال بخالف الن�صو�ص التجارب ّ‬
‫الأخرى التي كتب ُتها‪ ،‬والبعيدة �إلى حد ما عن من خالل المهرجانات الم�سرحية العربية‪ ،‬التي‬
‫الكوميديا‪ ،‬والتي كان فيها حجم االرتجال �ساعدت على �إبراز وتطوير هذه التجارب‪ ،‬من‬
‫�أق ّل‪ ..‬ولكن بالمجمل هناك تن�سيق كامل بيني خالل االحتكاك مع التجارب العربية المماثلة‪.‬‬

‫‪123‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫ثريا جبران‪..‬‬
‫الممثل هو كل الحياة على‬
‫�أنور محمد‬
‫خ�شبة الم�سرح‬

‫�أقنعة ال�شخ�صية‪ ،‬فتك�شف زيفها ونفاقها‬ ‫ثريا جبران (‪ )2020-1952‬الممثلة‬


‫وخيانتها؛ خياناتها وبطوالتها‪ .‬ثريا ممثلة‬ ‫الم�سرحية‪ ،‬والوزيرة (بنت ال�شعب)‪ ،‬الممثلة‬
‫م�سرحية تعرف كيف تنقل ما تحت القناع‬ ‫ذات الإح�سا�س المتوهج التي تخترق القلب‬
‫�إلى ما فوق القناع‪ ،‬وهي تغذي بـ(روحها)‬ ‫كاللهب الثاقب ب�سخريتها وتهكمها من‬
‫ديمومة الزمن وديمومة المكان على الخ�شبة‪،‬‬ ‫ال�شر ال��ذي يفتر�س الحياة فتفرجينا كيف‬
‫فن�أتلف معها‪ ،‬مع ج�سدها الم�سرحي‪.‬‬ ‫تق�شر جلده ال�سميك؛ وت�ضحك‪ .‬ثريا‬ ‫تق�شره‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ثريا جبران الممثلة‬ ‫في (�أرب ��ع �ساعات في �شاتيال) ك�أننا‬ ‫جبران التي اختطفت عام (‪ )1991‬وهي في‬
‫تحافظ على زي‬ ‫ن�ستمع ون�شوف قيثار ًة ت�سبح‪ ،‬ن��واة النار‬ ‫الطريق للم�شاركة في البرنامج الحواري‬
‫ب�ساط من الثلج‪ ،‬وقد �صار‬‫ٍ‬ ‫ي�شع نورها في‬ ‫التلفزيوني (رج ��ل ال�ساعة) على القناة‬
‫ال�شخ�صية في‬ ‫الحوار‪/‬الكالم‪ /‬اللغة تنبثق؛ ينبثق دمها‬ ‫المغربية الثانية‪ ،‬وتعر�ضت للتعذيب وحلق‬
‫تقلباتها حيث تولد‬ ‫الإيقاعي من على م�سامات ج�سدها‪� .‬إنها‬ ‫�شعر الر�أ�س؛ تفهم دورها الذي تلعبه وتنفذ‬
‫الحياة‬ ‫ممثلة قل مثيلها في فهم لعبة التمثيل‪،‬‬ ‫�إلى �أعماق ال�شخ�صية الداخلي‪ ،‬وال تكرر في‬
‫فحركاتها �أي�� ًا ك��ان دور ال�شخ�صية التي‬ ‫�أدائها؛ ال تكرر حرك ًة‪� ،‬إال �إذا كانت �ست�ضيف‬
‫ت�ؤديها‪ ،‬هي وم�ضات برقية‪ ،‬وم�ضات نور‬ ‫فيها �إ�شارة ت�صعد �أو تهمد ال�صراع‪ .‬التكرار‬
‫ت�ضيء �أف��ق� ًا؛ �آف��اق� ًا في النف�س الإن�سانية‬ ‫���ض��رورة درام��ي��ة‪ ،‬ولكن لتلعب ذاك اللعب‬
‫وك�أنها في ن�شوة‪ .‬ثريا جبران؛ وهو ا�سمها‬ ‫ال��م��ادي ال��ذي يك�شف عن (وح�شة) ال��روح‪،‬‬
‫الفني‪ ،‬فيما ا�سمها هو ال�سعدية قريطيف‪،‬‬ ‫خا�صة ف��ي م�سرحية (�أرب���ع �ساعات في‬
‫�ضد االن��ح��ط��اط‪ ،‬فتم�سك ب���أدواره��ا التي‬ ‫�شاتيال) ت�أليف ال�شاعر والم�سرحي الفرن�سي‬
‫تمثلها وه��ي على الخ�شبة‪/‬الركح لتوقف‬ ‫جان جينيه (‪ )1986-1910‬على م�سرح‬
‫ت��ده��ور الإن�����س��ان ف�لا يتحول �إل ��ى وح�ش‬ ‫القباني بدم�شق (‪� )2006‬إخراج عبدالواحد‬
‫تمتلك قدرة هائلة‬
‫مناه�ض للحياة الإن�سانية؛ حروب‪ ،‬حروب؛‬ ‫ع��وزري‪ ،‬تراها تهبط‪ ،‬تهبط‪ ،‬تنكر‪ ،‬تتنكر‪،‬‬
‫على الذهاب �إلى‬ ‫مجاعات‪ ،‬دماء‪ ،‬دماء‪ .‬طبع ًا هي ب�أدوارها‬ ‫تنخف�ض‪ ،‬تت�ستر‪ ،‬ثم ت�صدمنا كمتفرجين‪.‬‬
‫�أق�صى حاالت التوتر‬ ‫في م�سرحيات مثل‪� :‬أبو نوا�س (‪� ،)1984‬ألف‬ ‫هذا لعب ممثل ولي�س تلعيب مخرج‪.‬‬
‫واالنفعاالت‬ ‫حكاية وحكاية في �سوق عكاظ (‪،)1985‬‬ ‫ال��م��م��ث��ل ه��و ك��ل ال��ح��ي��اة ع��ل��ى خ�شبة‬
‫�أرب��ع �ساعات في �شاتيال (‪ )2001‬ال تقوم‬ ‫الم�سرح‪ ..‬ثريا جبران تحافظ في تمثيلها‬
‫بتروي�ض و�أن�سنة الوح�ش الذي في �أعماق‬ ‫على ارت��داء (زي) ال�شخ�صية في تقلباتها‪،‬‬
‫الإن�سان‪ ،‬ولكنها تحرره من قيود و�أ�سالك‬ ‫تختلف مع المتفرج‪ ،‬يختلف معها المتفرج؛‬
‫وحيطان (المداجن) العقائدية‪ ،‬وهي بذلك‬ ‫�إن��ه االخ��ت�لاف‪ ،‬ال��ذي يولد الحياة وينزع‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪124‬‬


‫�أ�صوات‬

‫ٍ‬
‫لحظة‪،‬‬ ‫الزمن‪ ,‬هي ت�شتغل بوعي نف�سي‪ ،‬كل‬ ‫تمثل لدرجة تح�سب من كثرة دفاعها عن‬
‫حتى لو كانت بمقدار ثانية هي ال تهدرها‬ ‫(فكرة) الم�سرح �أنها �ست�سقط على الخ�شبة‪،‬‬
‫على الخ�شبة‪ ،‬فالزمن الم�سرحي لي�س لحظة‬ ‫و�شجاعة العروق المتوح�شة‬ ‫ٍ‬ ‫وهي ت ْن�سل ٍ‬
‫بقوة‬
‫ميتة‪/‬ما�ضية مهما كان فيها من خدو�ش‬ ‫من ال�شخ�صية‪ .‬حتى في م�سرحياتها التي‬
‫وندوب وكلوم‪( .‬الزمن) عند ثريا‪ -‬و�أعتقد‬ ‫ا�شتغلتها م��ع المخرج الطيب ال�صديقي‬
‫في �أعمالها‬ ‫�أن��ه��ا الممثلة العربية ال��ت��ي ت��ع��رف كيف‬ ‫مثل‪« :‬ديوان �سيدي عبدالرحمان المجذوب‪،‬‬
‫الم�سرحية مع‬ ‫توظفه وتدفعه وهي تتقلب‪ ،‬تتقنع لتخترق‬ ‫مقامات بديع الزمان الهمذاني‪ ،‬الإمتاع‬
‫حجاب الفكر‪ .‬وه��ذه تعود لوعيها ب�أهمية‬ ‫وال��م��ؤان�����س��ة‪ ،‬الفيل وال�����س��راوي��ل‪ ،‬ال��ح��راز‪،‬‬
‫الطيب �صديقي‬ ‫دور الممثل؛ روح تحلق وج�سد ينهار‪ ،‬وقدرة‬ ‫خلقنا لنتفاهم» �أو م�سرحية «�إيمتى نبداو‬
‫نجحت في تحويل‬ ‫هائلة على الذهاب �إلى �أق�صى حاالت التوتر‬ ‫�إيمتى» من ت�أليف الراحل محمد بن قطاف‬
‫وتكثيف م�شاعر‬ ‫واالنفعاالت والإره ��اق الع�صبي‪ ،‬وم��ن ثم‬ ‫�إخ����راج ع��ب��دال��واح��د ع����وزري‪ ،‬ك��ان��ت ثريا‬
‫تراها فج�أ ًة وقد فرغتها‪ ،‬فتحقق �شيئ ًا من‬ ‫جبران في تمثيلٍ مختلف‪ ،‬تمثيل ال يماثله‬
‫ال�شخ�صيات‬ ‫ذروة م�سرحية‪.‬‬ ‫تمثيل‪ -‬تذكرني بالممثلة ال�سورية مها‬
‫ثريا جبران وهي تمثل ت�شعل حرائق‪،‬‬ ‫ال�صالح؛ الممثلة التي تقب�ض على �أدوار‬
‫تفرجينا حتى تلك النار المخنوقة تحت‬ ‫�شخ�صياتها‪ ،‬فال يفروا منها حتى يعترفوا‬
‫الرماد وهي تفحم‪ .‬فعقلها التمثيلي ال يجن‪،‬‬ ‫بما لم يعترفوا به للمحقق‪ .‬وهذا ما تحققه‬
‫و�إن جن فل�ضرورة ال�صراع‪ ،‬فهي ت�شتغل‬ ‫ٍ‬
‫وتكثيف‬ ‫ثريا جبران‪ ،‬في عمليات تحويلٍ‬
‫دوره ��ا كما تلك ال�شجرة‪ ،‬التي �ضربتها‬ ‫لم�شاعر ال�شخ�صية‪ ،‬التي تمثلها كانت ملك ًة‬
‫�صاعقة وتفحمت‪ ،‬لكنها ت�ستمر في الإزهار‬ ‫�أو �سيد ًة �أو خادمة؛ هي تعرف كيف تتنكر‬
‫لديها تلقائية‬ ‫من ذاك الغ�صن‪ /‬الخيط النباتي الذي �أفلت‬ ‫وتذهب بالمتفرج‪ ،‬في�شوف �شروخ النف�س‬
‫وعفوية مع وعي‬ ‫من كهربة ال�صاعقة‪.‬‬ ‫وت�صدعاتها وانزياحاتها؛ عجزها و�ضعفها‬
‫نف�سي باللحظة‬ ‫ممثلة تعرف كيف تلعب بم�شاريع الج�سد‬ ‫وخوار قواها‪.‬‬
‫الفكرية؛ �سيا�سية‪ ،‬اجتماعية‪ ،‬اقت�صادية‪،‬‬ ‫في «�أربع �ساعات في �شاتيال» ت�صرخ؛‬
‫الآنية‬ ‫ريا�ضية‪ ،‬فيزيائية‪ ،‬غرامية‪ .‬ثمة انعكا�س‬ ‫وك�أن �صراخها �صراخ خر�ساء‪ .‬هي تطالع‪،‬‬
‫وث��م��ة م��ن��ع��ك�����س‪ ،‬وع��ي��ي ووع����ي الآخ����ر‪-‬‬ ‫تغرف من العمق؛ عمق الذات الإن�سانية التي‬
‫كالهما �أ�سا�س وجودنا‪ .‬هي تريد �أن تفهم‬ ‫ارتكبت ما ارتكبت من جرائم و�آثام وذنوب‪،‬‬
‫المتفرج �أن‪ :‬الخ�صم‪ ،‬العدو‪ ،‬ال�شرير‪ ،‬الطيب‪،‬‬ ‫ك�أنها تريدها لي�س ق�����س��راً‪� -‬أن تعترف‪:‬‬
‫المغفل‪ ،‬المراوغ‪ ،‬الماكر‪ ،‬ال�صديق‪ ،‬العا�شق‪،‬‬ ‫ك� ْ�م ك��ان��ت خ�سي�سة وو�ضيعة حين فعلت‬
‫المع�شوق‪ ،‬الخائن‪ ،‬البطل‪ .‬اليمكن �أن يتعالى‬ ‫ما فعلت‪ .‬هو الم�سرح‪ ،‬التمثيل‪ ،‬الممثل‪-‬‬
‫على �إن�سانيته‪ ،‬لنفتتن بالحرية‪ ،‬وما لعبة‬ ‫الممثلة التي ت�شتغل دورها �شرير ًة �أم خير ًة‬
‫وهم‪.‬‬‫المرايا �إال ْ‬ ‫بحد�س وا�ست�شعارٍ يقوم على المعرفة‪ ،‬مع‬ ‫ٍ‬
‫ح��رك��ة ال��ج�����س��د ع��ل��ى ال��م�����س��رح وج��ود‬ ‫�شي ٍء من االرت��ج��ال العبقري حين ينقطع‬
‫مزجت بين الحوار‬ ‫الوجود‪ ،‬كما الحوار اللغة هي الوجود‪ .‬ثريا‬ ‫حبل ال��ك�لام‪ -‬تتبع �إي��ق��اع النف�س وحميا‬
‫ولغة الج�سد‬ ‫جبران تنوجد على الم�سرح لي�س فقط على‬ ‫المو�سيقا للحدث‪/‬ال�صراع وهي تمثل؛ تنقل‬
‫بمعرفية فنية‬ ‫الخ�شبة‪/‬الركح‪ ،‬بل في بيتها‪ ،‬في ال�شارع‪،‬‬ ‫وتتنقل على الخ�شبة‪/‬الركح‪ ،‬تعبر الزمن‬
‫في المطعم‪ ،‬في المعبد‪ ،‬المقهى‪ ،‬الفرا�ش‪،‬‬ ‫في «�أربع �ساعات في �شاتيال» من الحا�ضر‬
‫عالية‬ ‫في مكتبها وزي��ر ًة للثقافة المغربية‪ ،‬في‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وبن�شاط‬ ‫الذي �صار ما�ضي ًا �إلى الم�ستقبل‪،‬‬
‫في‪ .‬فاللغة كانت لل�شخ�صية التي تلعبها �أو‬ ‫ذهني حذق‪ ،‬ترى تلقائيتها وعفويتها من‬
‫كانت لغة خطابها اليومي مع النا�س‪ ،‬ف�إنما‬ ‫�شدة �إيمانها بـ(العقل) حيث الحقيقة التي‬
‫لغة تمكننا من‬ ‫ن�شوفها وهي تلعب بها من ٍ‬ ‫نبحث عنها‪ .‬فتدمغ تعار�ضات الع�ضوي مع‬
‫(المعرفة) �أن نعرف ونعرف‪� ،‬إلى لغة تجعلنا‬ ‫الح�سي‪ ،‬وقد فا�ضت روحها ب�آالم الحا�ضر‬
‫نح�س ونح�س‪.‬‬ ‫الذي يحز ب�سكين الما�ضي‪ .‬ثريا جبران تمرر‬

‫‪125‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫عندليب الأغنية المغربية‬

‫محمد الح َّياني‪..‬‬


‫جمع بين الكلمة المعبرة واللحن الأ�صيل‬
‫الح َّيا ِني واحد ًا من رواد الأغنية المغربية الأ�صيلة �أيام الزمن الجميل‪ ،‬فقد‬
‫يعد الفنان محمد ِ‬
‫و�ضع ب�صمته الخا�صة والمتميزة على تاريخها‪ ،‬باختياراته الغنائية الجميلة و�صوته الح�سا�س‬
‫العذب وتوا�ضعه ونبل �أخالقه‪� ،‬إلى �أن �أ�صبح �أ�سطورة فنية وغنائية‪ ،‬حلقت عالي ًا في �سماء الطرب‬
‫العربي‪ ،‬في م�شوار طويل جاوز الثالثين عاماً‪ ،‬وكان محمد الحياني المطرب المف�ضل لمعظم‬
‫المغاربة بمختلف �أعمارهم و�أطيافهم‪ ،‬بمن فيهم الملك الراحل الح�سن الثاني‪ ،‬الذي �أطلق عليه لقب‬
‫محمد الع�ساوي‬
‫(عندليب المغرب)‪،‬افتخار ًا به �أمام �صديقه العندليب الأ�سمر الفنان الم�صري عبدالحليم حافظ‪.‬‬
‫ولد محمد الحياني بحي (درب الكارتون)‬
‫بمدينة ال��دار البي�ضاء �سنة (‪1947‬م)‪ ،‬في‬
‫�أ���س��رة متو�سطة ال��ح��ال‪ ،‬وق��د �أم�ضى �سنوات‬
‫طفولته بهذه المدينة‪ ،‬قبل �أن ينتقل في نهاية‬
‫الخم�سينيات �إلى مدينة الرباط‪ ،‬حيث عا�ش في‬
‫كنف �أخته الكبرى (فاطنة)‪ ،‬التي كانت داعمته‬
‫وم�شجعته الأولى‪ ،‬منذ �أن اكت�شفت �شغفه بالفن‬
‫والغناء‪ ،‬و�ساعدته على االلتحاق بالمعهد‬
‫الوطني للمو�سيقا‪ ،‬ال��ذي تلقى فيه درو�سه‬
‫الأولى في الغناء الكال�سيكي‪ ،‬على يد ثلة من‬
‫خيرة المو�سيقيين المغاربة والأجانب‪ ،‬ومن‬
‫�أبرزهم الأ�ستاذة الفرن�سية (�أوريل)‪ ،‬التي كان‬
‫لها �أثر كبير في بعث موهبته الفنية وتهذيب‬
‫ميله الفطري �إلى الغناء‪.‬‬
‫وبعدما ق�ضى الحياني فترة في تعلم‬
‫�أ���ص��ول الغناء بالمعهد‪ ،‬تقدم �إل��ى مباراة‬
‫بق�سم المو�سيقا بالإذاعة الوطنية المغربية‬
‫�سنة (‪1964‬م) التي اجتازها بنجاح‪ ،‬ثم بد�أ‬
‫م�شواره الفني �ضمن ك��ورال الجوق الوطني‪،‬‬
‫فمكنه ذلك من االحتكاك بعمالقة المو�سيقا‬
‫المغربية �آن��ذاك‪� ،‬أمثال‪ :‬عبدالقادر الرا�شدي‪،‬‬
‫علي الحداني‪� ،‬أحمد البي�ضاوي‪ ،‬عبدالنبي‬
‫ال ��ج ��راري‪ ،‬عبدالحميد ب��ن ب��راه��ي��م‪ ،‬ح�سن‬
‫القدميري‪ ..‬ثم تحول‪ ،‬كعادة جل المطربين‬
‫المبتدئين‪� ،‬إل��ى تقليد المغنين الم�شارقة‪،‬‬
‫خا�صة عبدالحليم حافظ‪ ،‬الذي كان يجد في‬
‫�أغانيه المجال الأمثل‪ ،‬ل�صقل موهبته و�إرهاف‬
‫�إح�سا�سه باللحن والكلمة‪.‬‬
‫لكن الف�ضل الكبير ف��ي ظ��ه��ور محمد‬
‫الحياني‪ ،‬لأول مرة �أم��ام الجمهور كمطرب‬
‫للأغنية المغربية الأ�صيلة‪ ،‬يرجع �إلى ال�شاعر‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪126‬‬


‫مو�سيقا‬

‫الح َّداني‪ ،‬ففي حين كان هذا الأخير‬ ‫الغنائي علي َ‬


‫يبحث عن �صوت يحمل �شعره �إلى �آفاق �أخرى‪،‬‬
‫كان الحياني‪ ،‬ع�ضواً في الكورال الوطني‪ ،‬يبحث‬
‫عن فر�صة ت�أخذه لإبراز قدراته ال�صوتية‪ ،‬فهذه‬
‫العالقة‪ ،‬نتج عنها ت�سجيل �أول �أغنية للحياني‬
‫تحت عنوان (غياب الحبيب)‪ ،‬وقد �أبانت هذه‬
‫عبدالقادر الرا�شدي‬ ‫علي الحداني‬ ‫عبدالحليم حافظ‬ ‫التجربة الأول���ى تميز ه��ذه الموهبة ال�شابة‬
‫ال�صاعدة‪ ،‬مقارنة بباقي المغنين الآخ��ري��ن‪،‬‬
‫�إذ برعت في �أداء الأغنية الزجلية والق�صيدة‬
‫الف�صيحة مع ًا‪ ،‬وتلك ملَكة قلما تهي�أت لغيرها‬
‫من المطربين‪.‬‬
‫وبعد نجاح �أول �أغنية‪� ،‬أ�صبح الحياني محط‬
‫اهتمام �ألمع الملحنين وكتاب الكلمات المغاربة‪،‬‬
‫ال�شيء الذي قاده �إلى ت�سجيل ثاني �أعماله �سنة‬
‫(‪1968‬م) تحت عنوان (من �ضي ْب َهاك) التي مدح‬
‫فيها الر�سول (�صلى اهلل عليه و�سلم)‪ ،‬وهي من‬
‫كلمات علي ال�صقلي‪ ،‬و�ألحان عبدالقادر الرا�شدي‪،‬‬
‫وقد حققت ن�سب ا�ستماع عالية على �أمواج الإذاعة‬
‫الوطنية‪ ،‬ثم بلغ الحياني بعدها �أوج م�ساره الفني‬
‫�أحد م�شاهد الفيلم المغربي «دموع الندم»‬
‫من خالل �أداء دور البطولة في فيلم (دموع الندم)‬ ‫(راح��ل��ة) التي كتبها‬ ‫ِ‬ ‫�سنة (‪1970‬م) ب�أغنيته‬
‫الذي �أخرجه الراحل (ح�سن المفتي)‪.‬‬ ‫ال�شاعر عبدالرفيع الجواهري ولحنها عبدال�سالم‬
‫وكان بمقدور الحياني‪� ،‬أن ي�صبح نجم ًا المع ًا‬ ‫عامر‪ ،‬وكانت هذه الأخيرة قد �أ�سالت لعاب فنانين‬
‫في مجال ال�سينما الغنائية المغربية‪ ،‬لوال الظروف‬ ‫عدة حاولوا غناءها قبله‪.‬‬
‫العامة التي طبعت الم�شهد الفني الوطني برمته‪،‬‬ ‫و�إل ��ى جانب الأع��م��ال ال��م��ذك��ورة فقد �أدى‬
‫�شجعه الملك الح�سن‬ ‫خا�صة خالل منت�صف الثمانينيات وما بعدها‪،‬‬ ‫الحياني طوال م�شواره روائ��ع خالدة مثل (ياك‬
‫ما جعل الحياني يفكر في االعتزال مبكراً‪ ،‬ب�سبب‬ ‫الجرح برا)‪( ،‬غ ّنت لنا الدنيا)‪( ،‬ق�صة الأ�شواق)‪،‬‬
‫الثاني بعد �أن �أعجب‬ ‫(و ْق َتا�ش تغني يا قلبي)‪،‬‬
‫حالة الإحباط النف�سي التي كان يعي�شها‪ ،‬خا�صة‬ ‫(�أنا حر)‪( ،‬ذكرى طفولة)‪َ ،‬‬
‫بموهبته وقدمه‬ ‫بعد رحيل رفيق دربه‪ ،‬الملحن عبدال�سالم عامر‪،‬‬ ‫اي ْن‬ ‫ك‬
‫ََ ْ‬ ‫(م‬ ‫�ر)‪،‬‬
‫�‬ ‫ح‬ ‫�ا‬
‫�‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫�سيدي‬ ‫(من بعد الغربة)‪( ،‬يا‬
‫ل�صديقه الفنان‬ ‫وتراجع م�ستوى الأل��ح��ان‪� ،‬إل��ى جانب معاناته‬ ‫َبا�س)‪ ..‬لكن �شهرته على الم�ستوى العربي �ستكون‬
‫عبدالحليم حافظ‬ ‫ال�شخ�صية‪ ،‬التي ظلت في حكم الكتمان نظراً لكونه‬ ‫مع �أغنية (بارد و�سخون)‪ ،‬التي نال بها الجائزة‬
‫�شخ�ص ًا كتوم ًا‪� ،‬إال �أن �ضغط العائلة �أثناه عن الم�ضي‬ ‫الوطنية الكبرى للأغنية المغربية عام (‪1972‬م)‪،‬‬
‫في عزلته‪ ،‬وهكذا‪ ،‬عاد الحياني �سنة (‪1991‬م)‬ ‫وهو ما حقق له نجاح ًا منقطع النظير‪ ،‬وامتداداً‬
‫ب�ألبوم جديد اختتم به م�شواره الفني‪ ،‬و�إن لم يكن‬ ‫جماهيري ًا �شعبي ًا وا�سع ًا‪ ،‬وحظيت كذلك هذه‬
‫يعلم بذلك حينذاك‪ ،‬وقد �ضم هذا الألبوم �أغاني ظل‬ ‫الأغنية بالإعجاب ال�شخ�صي للملك الراحل الح�سن‬
‫يرددها كثيراً في �أيام حياته الأخيرة‪ ،‬من بينها‪،‬‬ ‫الثاني الذي كان ُي�سمعها ل�ضيوفه من مختلف‬
‫أنت ِل َّيا و�أنا ِليك)‪�( ،‬إيليزا)‪� ،‬إلى‬
‫(دنيا)‪( ،‬م�ستحيل)‪َ �( ،‬‬ ‫الأقطار العربية‪ ،‬كما �أن عبد الحليم حافظ �أبدى‬
‫�أن وافته المنية يوم (‪� 23‬أكتوبر ‪1996‬م)‪ ،‬بعد‬ ‫�إعجابه ال�شديد بموهبته‬
‫احتك بعمالقة‬ ‫�صراع مرير مع المر�ض‪ ،‬مخلف ًا وراءه �إرث ًا فني ًا‬ ‫وبالموازاة مع التجربة الغنائية‪ ،‬فقد اقتحم‬
‫المو�سيقا المغربية‬ ‫�سيظل �شاهداً على �صدق عطائه‪.‬‬ ‫الحياني‪ ،‬عالم ال�سينما في مطلع الثمانينيات‪،‬‬
‫�أمثال الرا�شدي‬
‫والحداني والبي�ضاوي‬
‫والجراري وبن‬
‫�إبراهيم والقدميري‬

‫محمد الحياني في �إحدى ال�سهرات الفنية رفقة الجوق الوطني‬

‫‪127‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫المراجعات‪ ..‬و�أهميتها‬
‫غ�سان كامل ونو�س‬

‫الق�ضية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫م�ؤمن ًا بالر�سالة و�أمين ًا على‬ ‫ن�ست�سلم �أحيان ًا للعادة ول�ضغوط الحاجة‬
‫�شك في � ّأن � ّأي�� ًا م ّنا‪ ،‬وف��ي � ّأي‬
‫وم��ا من ّ‬ ‫والمتط ّلبات وال��وق��ت‪� ،‬أو تهيمن علينا‬
‫�سيما في المجال‬ ‫ميدان كان ن�شاطه؛ وال ّ‬ ‫المكابرة والثقة الزائدة بالنف�س‪ ،‬فنمتنع‬
‫وتجدداً وانفتاح ًا‬‫ّ‬ ‫حيوية‬
‫ّ‬ ‫الثقافي‪ ،‬الأكثر‬ ‫ملي ًا؛‬
‫عن �أن نراجع ما �أنجزنا‪� ،‬أو نتو ّقف ّ‬
‫على مختلف الآف ��اق‪ ،‬وت�أثيراً في جوانب‬ ‫نقدي ًا في ما نقول �أو نقوم‬ ‫ّ‬ ‫لنف ّكر تفكيراً‬
‫يجب �أال تهيمن‬ ‫ال��ح��ي��اة جميعها؛ يحتاج �إل ��ى المراجعة‬ ‫عملي‪ ،‬بالر�ؤى‬ ‫نظري �أو‬ ‫به‪ ،‬في � ّأي مجال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫علينا الثقة الزائدة‬ ‫الذاتية‪� ،‬أو �إعادة النظر في نتاجه بعد حين‬ ‫ّ‬ ‫نف�سها‪ ،‬والآل� ّ�ي��ات والأ�ساليب عينها‪ ،‬من‬
‫بالنف�س �أو المكابرة‬ ‫من الزمن‪� ،‬أو مرحلة من الم�سيرة التي قد‬ ‫وتغير الأحياز‬ ‫ّ‬ ‫دون اهتمام بمرور الزمن‬
‫تطول وتتطاول‪ ،‬وعليه �أن يتابع الأ�صداء‪،‬‬ ‫والبيئات‪ ،‬وتوافر الممكنات واالحتماالت‬
‫ونحن نراجع ما قد‬ ‫التي يتركها عمله ل��دى مختلف ال�شرائح؛‬ ‫وربما بما اعترانا نحن من تعب‬ ‫الأخ��رى‪ّ ،‬‬
‫�أنجزناه في مرحلة ما‬ ‫وخ�صو�ص ًا من هم حري�صون على الح�ضور‬ ‫تقدم في العمر‪،‬‬ ‫�شح �أو �إفال�س‪� ،‬أو ّ‬ ‫�أو ملل �أو ّ‬
‫والم�شاركة والتفاعل‪.‬‬ ‫واختالف في النظرة‪� ،‬أو فتور في الحما�سة‪،‬‬
‫ولي�س �أم��راً مبتوت ًا به �أو مفروغ ًا منه‬ ‫�أو دخ��ول ان�شغاالت �أخ ��رى على الم�سار‬
‫التدريجي‬
‫ّ‬ ‫الحتمي‪� ،‬أو االنتقال‬ ‫ّ‬ ‫التغيير‬ ‫الم�ألوف‪ ..‬ما ي� ّؤدي �إلى تكرار �أو برودة‪� ،‬أو‬
‫�اد من م�سار �إل��ى م�سار‪� ،‬أو‬ ‫التغير ال��ح� ّ‬
‫ّ‬ ‫�أو‬ ‫والفعالية والمردود‪� ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫�ضعف في القيمة‬
‫من م�ستوى �إلى �آخ��ر؛ لكن هناك بالت�أكيد‬ ‫الحيوية والمبادرة‬ ‫ّ‬ ‫الت�أثير والتل ّقي‪ ،‬وافتقاد‬
‫�ضرورة للوقوف عند ما كان ويكون‪ ،‬وفيما‬ ‫والإقدام والمغامرة‪ ..‬وهذا �أمر خطير‪ ،‬ينبغي‬
‫يتابع العمل في اال ّتجاه‬ ‫يمكن �أن يكون؛ وقد َ‬ ‫عدم اال�ستهانة به �أو اال�ستهتار بتبعاته‪ ،‬وقد‬
‫المجال الثقافي‬ ‫عينه وبوتيرة �أف�ضل‪ ،‬ونظرة �أو�ضح‪ ،‬وثقة‬ ‫ال�ضارة؛ الهتمامنا بمتابعة‬ ‫ّ‬ ‫ال نرى �آث��اره‬
‫الت�شبث‬
‫ّ‬ ‫�أك��ب��ر؛ كما � ّأن م��ن غير المعقول‬ ‫وا�ستمراريته الفاترة وتف�صيالته‬ ‫ّ‬ ‫العمل ذاته‪،‬‬
‫بحيويته وتطلب‬
‫بر�أي �أو موقف �أو تقويم‪� ،‬أو اال�ست�سالم ل ّأي‬ ‫عينها‪ ،‬وردود الأفعال المعتادة‪ ،‬مع ما قد‬
‫ا�ستمرار تجدده‬ ‫أهم ّية بمكان �أن نراجعه‪،‬‬ ‫منها؛ بل من ال ّ‬ ‫يعتريها هي الأخرى من عادة‪� ،‬أو مجاملة‬
‫وانفتاحه يحتاج �إلى‬ ‫و�أن ن�ستمع �إل��ى م��ا يقول الآخ���رون فيه‪،‬‬ ‫ؤولية؛‬
‫جد ّية �أو م�س� ّ‬ ‫ونفاق وتز ّلف‪ ..‬وعدم ّ‬
‫�أو �أن ننظر في ما يرون هم‪ ،‬وما ي ّتخذون‬ ‫بل �إ ّننا ن�ستدعيها �أحيان ًا‪ ،‬ونطالب بها‪ ،‬وقد‬
‫المراجعة الذاتية‬
‫من مواقف‪ ،‬ويطرحون من �أفكار‪ ،‬ونقارن‬ ‫�سلبية تجاه من يتوانى‬ ‫ّ‬ ‫نظهر ردود �أفعال‬
‫و�إعادة النظر‬ ‫مختلف الآراء المتوافقة �أو المتعار�ضة‪،‬‬ ‫عن �إب��دائ��ه��ا! وق��د نخا�صم من ي�سارر‪� ،‬أو‬
‫والتقييم‬ ‫ونناق�شها مع �أ�صحابها‪� ،‬أو على الأق� ّل مع‬ ‫يجاهر ب��ر�أي مخالف؛ ح ّتى لو كان ناقداً‬
‫إيجابية من‬
‫ّ‬ ‫ذواتنا‪ ،‬ونحاكمها برحابة و�‬ ‫مهتم ًا �صادق ًا‬
‫ّ‬ ‫مخت�ص ًا‪� ،‬أو متابع ًا‬
‫ّ‬ ‫�اداً‬
‫ج� ّ‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪128‬‬


‫�أقالم‬

‫جادة في �سبيل‬ ‫بد من القيام با�ستبيانات ّ‬ ‫ّ‬ ‫وم�صداقيتها‪� ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫منظورنا‪ ،‬ونرى مدى د ّقتها‬
‫ذلك‪ ،‬ت�شمل ما �أُنتج‪ ،‬ومن �أَنتج‪ ،‬وما ُن�شر‪،‬‬ ‫وخلفياتها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫م�صدرها‬ ‫�صحتها‪ ،‬ون�ستوثق من‬ ‫ّ‬
‫الم�صدرة‬ ‫ّ‬ ‫وما ُيعتزم ن�شره‪ ،‬وما �أهمية المواد‬ ‫بد من‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫بل‬ ‫أ�س؛‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫وال‬ ‫بها‪،‬‬ ‫قناعتنا‬ ‫ونختبر‬
‫وتقنياتها‪ ،‬و�أ�ساليب ن�شرها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومو�ضوعاتها‬ ‫ونتقبل القيام بذلك‪ ،‬ويمكننا‬ ‫ّ‬ ‫�أن نتوا�ضع‪،‬‬
‫لي�س �أمراً مبتوت ًا‬ ‫آليات العمل ب�ش�أن ذل��ك‪ ،‬و�سبل تداولها‪،‬‬ ‫و� ّ‬ ‫الأخذ بها �أو ببع�ضها‪� ،‬أو بما نقتنع به منها‪،‬‬
‫والم�ستجدات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�ع‬
‫�‬ ‫�واق‬ ‫�‬ ‫�ل‬
‫�‬ ‫ل‬ ‫مالءمتها‬ ‫�دى‬ ‫وم �‬ ‫ون�ستقرئ فيه خيراً لنا وللآخرين‪ ،‬وللم�شهد‬
‫به �أو مفروغ ًا منه‬ ‫ويمكن؛ نتيجة ذل��ك‪ ،‬تغيير المح ّكمين �أو‬ ‫الثقافي العام‪ ،‬ونتغا�ضى عن �سوى ذلك‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬
‫التغيير الحتمي �أو‬ ‫المقومين �أو النا�شرين؛ �أو � ّأي من الم�س�ؤولين‬ ‫ّ‬ ‫نفيد الآخرين في تفنيد الفكرة‪� ،‬أو دح�ضها‪،‬‬
‫الحاد من م�سار �إلى‬ ‫عن مختلف مراحل العمل بعد التدقيق فيها؛‬ ‫والتثبت‬‫ّ‬ ‫وندفعهم �إلى المراجعة والتقويم‬
‫كما يمكن تعديل الزوايا والأبواب والمحاور‪،‬‬ ‫والتح ّقق منها قبل انت�شارها �أو تعميمها‪.‬‬
‫�آخر‬ ‫�وي��ات جديدة‪،‬‬ ‫�أو تغيير ترتيبها ح�سب �أول� ّ‬ ‫تخ�ص ه��ذه الم�س�ألة � ّأي فرد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومثلما‬
‫ممن ي�ش ّكل عبئ ًا على نتاج‬ ‫مما �أو ّ‬ ‫والتخفيف ّ‬ ‫ف�إ ّنها تعني � ّأية م� ّؤ�س�سة �أو �إدارة �أو جماعة‬
‫الم� ّؤ�س�سة‪ ،‬من دون اال�ست�سالم للمطلوب‬ ‫دورية‬‫طوعي ًا‪ ،‬وفي �أوقات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ر�سمي ًا �أو‬
‫ّ‬ ‫م�س�ؤولة‬
‫وال�سرعة والم�ألوف والمعتاد و� ّأية اعتبارات‬ ‫مف�صلية؛ كما في � ّأي وقت‪ .‬ومن ال�ضروري‬ ‫ّ‬ ‫�أو‬
‫تردد‪.‬‬ ‫�أخرى‪ ،‬ومن دون � ّأي حرج �أو خجل �أو ّ‬ ‫�أن يقوم بذلك من هو م�س�ؤول وق��ادر على‬
‫ويجب االع��ت��راف � ّأن لك ّل م ّنا عمراً‪،‬‬ ‫الخط البياني للعمل المنجز؛ لي�س‬ ‫ّ‬ ‫مراقبة‬
‫وم�����س��ت��وى‪ ،‬واه��ت��م��ام � ًا‪ ،‬وق����درات‪ ،‬ور�ؤى‬ ‫الكم فح�سب؛ بل ي�شمل ذلك النوع‬ ‫من حيث ّ‬
‫يتغير‬
‫ومواقف‪ ..‬ويتفاوت هذا‪ ،‬ويتمايز‪ ،‬وقد ّ‬ ‫والقيمة والفائدة وال��ج��دوى؛ من دون �أن‬
‫المطلوب �ضرورة‬ ‫ويتحول! ومن الكتابات ما قد ال ينا�سب‬ ‫ّ‬ ‫تطور‬ ‫نن�سى عامل الزمن وت�أثيره‪ ،‬وت�سارع ّ‬
‫الوقوف عند ما كان‬ ‫قر ًاء �أو منا�سبة؛ ومنها ما‬ ‫ّ‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫ظرف‬ ‫أو‬ ‫وقت ًا �‬ ‫وتقنياته‪ ،‬وتزايد متط ّلباته‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫معطيات الع�صر‬
‫لم يعد منا�سب ًا لهذا المنبر ل�سبب �أو �آخر‪.‬‬ ‫الثقافي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫و�إذا التفتنا �أكثر �إلى الجانب‬
‫ويكون وفي ما يمكن‬ ‫ؤولية‪،‬‬ ‫والمو�ضوعية والم�س� ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتفر�ض الجر�أة‬ ‫ف�إ ّننا ن��ق��ول‪ّ � :‬إن على � ّأي كاتب �أو ناقد‬
‫�أن يكون بنظرة‬ ‫�أن نقول �إ ّننا نقر�أ �أحيان ًا لك ّتاب لهم �أ�سماء‬ ‫�إعطاء الوقت المنا�سب للمراجعة والتقويم‬
‫�أو�ضح وثقة�أكبر‬ ‫وتاريخ وح�ضور كان‪ ،‬ونتم ّنى �أن يتو ّقفوا‬ ‫واال�ستيثاق‪ ،‬من جدوى ما �أَنجز‪ ،‬في نظر‬
‫عن الكتابة‪ ،‬ويكتفوا ب�إنجازهم ال�سابق؛ ل ّأن‬ ‫ذاته على الأق ّل؛ ناهيك عن �آراء الآخرين؛ من‬
‫أدبية‪،‬‬ ‫يقدمونه ي�ؤ ّثر �سلب ًا في �سمعتهم ال ّ‬ ‫ما ّ‬ ‫دون �أن يعني ذلك االن�شغال بهذا �إلى درجة‬
‫تر�سخت عبر الزمن‪ ،‬ون�أمل‪� ،‬أو ننتظر‬ ‫التي ّ‬ ‫التو ّقف عن العمل‪ ،‬ريثما ت ّت�ضح النتائج؛‬
‫من �أحد �أن يقول له مثل هذا الر�أي‪ ،‬من دون‬ ‫�إذ � ّإن الم�شروع الثقافي مت�صل ومتوا�شج‬
‫ا�ستحياء �أو مواربة؛ وقد نكون من ه�ؤالء‪،‬‬ ‫ومتفرع‪ ،‬ولك ّل م ّنا‪� ،‬أو يفتر�ض �أن يكون لك ّل‬ ‫ّ‬
‫نقدر‪ ،‬وفي حاجة‬ ‫وال نعترف‪� ،‬أو نكابر‪ ،‬وال ّ‬ ‫الخا�ص‪ ،‬الذي ي�شتغل عليه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منا م�شروعه‬
‫�إل��ى م��ن يقول لنا اح��ت��رام� ًا وت��ق��دي��راً‪ :‬من‬ ‫ويتمنى �إنجازه‪ ،‬ويدخل في مفهوم الم�شروع‬
‫المفيد لكم ولنا �أن تتو ّقفوا هنا! ولينزعج‬ ‫الثقافي العام؛ وقد يعوزه الوقت‪ ،‬والعمر‬
‫م��ن ي��ن��زع��ج‪ ،‬وليغ�ضب م��ن ي��غ�����ض��ب‪� ،‬أو‬ ‫الق�صير‪ ،‬وقد تعثره ظروف كثيرة‪ ،‬وت� ّؤخره‬
‫�أهمية �أن تكون‬ ‫يخا�صم من يخا�صم‪ ..‬نعم؛ الأمر لي�س �سه ًال‬ ‫وم�ستجدة‪ ،‬عن‬ ‫حاجات وم�ستلزمات دائمة‬
‫ّ‬
‫للفعل الثقافي قيمة‬ ‫على القائل والمق�صود بالقول‪ ،‬وال يحدث‬ ‫باطراد‪ ،‬وقد ال يكون التو ّقف‬ ‫الم�ضي فيه ّ‬
‫م�ضافة وجدوى‬ ‫كثيراً‪ ،‬ويجب �أن يكون الت�صريح به مع ّل ًال‪،‬‬ ‫�سلبي ًا؛ ح ّتى �إن كان طارئ ًا غير مح�سوب‪� ،‬إذا‬ ‫ّ‬
‫نية‪،‬‬ ‫وتمعن‪ ،‬وبح�سن ّ‬ ‫ّ‬ ‫وج��اء بعد درا���س��ة‬ ‫حمل مثل تلك المراجعات‪ ،‬وعلينا �أن ن�ستفيد‬
‫قائمة‬ ‫أهم في النهاية �أن تكون‬ ‫لكن ال ّ‬ ‫ونبل غاية؛ ّ‬ ‫�ضارة نافعة!‬ ‫ورب ّ‬ ‫منه قدر الم�ستطاع؛ ّ‬
‫ثقافي تراهن عليه‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي‪ّ � ،‬أي فعل‬ ‫ّ‬ ‫للفعل‬ ‫متقدم‪ ،‬ف� ّإن من المهم‬ ‫ومن منظور ثقافي ّ‬
‫ثقافية‪� ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫الثقافية؛ � ّأية م� ّؤ�س�سة‬ ‫ّ‬ ‫الم� ّؤ�س�سة‬ ‫الثقافية �إجراء مثل هذا التقويم؛‬ ‫ّ‬ ‫للم�ؤ�س�سات‬
‫جماعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فردي �أو‬
‫ّ‬ ‫ثقافي‬
‫ّ‬ ‫يبتغيه � ّأي ن�شاط‬ ‫وهو يختلف عن التقويم الإجرائي الوظيفي‬
‫عي‪ ،‬قيمة م�ضافة‪ ،‬وجدوى‬ ‫تطو ّ‬ ‫وظيفي �أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫محدد؛ بل‬ ‫دوري�� ًا‪� ،‬أو خالل وقت ّ‬ ‫ّ‬ ‫المطلوب‬
‫قائمة �أو منظورة‪.‬‬ ‫هو تقويم للأثر والجدوى‪ ،‬وال ب�أ�س؛ بل ال‬

‫‪129‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫متعة القراءة والفرجة مع ًا‬

‫فيلـم «فور�سـت غـامب»‬


‫حقق مكانة �سينمائية عالمية‬
‫ن�����س��ت��دع��ي ف���ي ه����ذا ال��ح�� ّي��ز‬
‫ال��رواي��ة العالمية (فور�ست‬
‫غامب ‪ )Forrest Gump‬للكاتب‬
‫ون�ستون ج��روم‪ .‬الق�صة التي‬
‫ا�ستلهم منها المخرج ال�سينمائي‬
‫د‪ .‬عبدالكريم الرحيوي‬
‫ال��ع��ال��م��ي روب�����رت زيميك�س‬
‫فيلم ًا �سينمائي ًا يحمل نف�س عنوانها‪ ،‬و�أ�سند دور‬
‫البطولة فيه للنجم ال�سينمائي توم هانك�س‪ .‬هذا‬
‫الفيلم �سيك�سب جوائز الأو�سكار والغولدن غلوب‬
‫ويح�صد جوائز �أخرى و�إي��رادات مالية خيالية‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪130‬‬


‫�أفالم‬

‫ج�����روم‪ ،‬ب��م��ا فيها‬ ‫ي�ستبطن الفيلم حمولة تربوية‪ ،‬تمنح الن�شء‬


‫���ش��خ�����ص��ي��ة غ��ام��ب‬ ‫دافعية للتحدي‪ ،‬وحافزية لتقوية ملكات الإرادة‬
‫والعديد من الأحداث‬ ‫والعزيمة‪ .‬فالبطل �ضحية �إعاقة حركية في فترة‬
‫التي ت��م ت�صويرها‪،‬‬ ‫طفولته؛ لكنه يت�صف بملكات �أخ��رى �سيوظفها‬
‫لتن�سجم مع ال�صناعة‬ ‫توظيف ًا �إيجابي ًا‪ ،‬يعود عليه بالمنفعة وال�شهرة‪ .‬كما‬
‫ال�سينمائية وده�شة‬ ‫�سن�ست�شف �أن المتخ ّلف درا�سي ًا‪ ،‬قد يكون موهبة‬
‫ال�����ص��وت وال�����ص��ورة‬ ‫في مجال �آخر غير تح�صيل المعلومات ال�صفية‪،‬‬
‫ال ��ت ��ي ت��خ��ت��ل��ف عن‬ ‫و�أن اكت�شاف تلك الموهبة و�صقلها‪ ،‬مدخل �إلى‬
‫ده�شة تلقي المقروء‪.‬‬ ‫تحقيق النجاح والت�ألق في مجال الموهبة‪ .‬بمعنى‬
‫وت��ب��دو الحبكة‬ ‫منحى م��ا‪ ،‬قد يكون قوي ًا في‬ ‫ً‬ ‫�أن ال�ضعيف في‬
‫ال�����س��ردي��ة لم�شاهد‬ ‫منحى �آخر‪ ،‬ودور المدر�سة هو البحث عن مكامن‬
‫ال��ف��ي��ل��م م���ن ب��داي��ة‬ ‫قوة �شخ�صية مرتاديها من المتع ّلمين وتوجيههم‬
‫بطـل بطيء الفهـم قوي‬
‫الم�شهد الأول بري�شة تتطاير في ال�سماء‪ ،‬وت�سقط في‬ ‫التوجيه ال�صحيح‪.‬‬
‫البنية من ذوي الإعاقة‬
‫النهاية بجوار قدم فور�ست جامب (توم هانك�س)‪،‬‬ ‫(ف��ور���س��ت غ��ام��ب) ه��و فيلم تراجيكوميدي‬
‫المنتظر با�ستراحة محطة ال��ح��اف�لات‪ ،‬بينما‬ ‫�أمريكي‪� ،‬أنتج عام (‪ ،)1994‬من �إخ��راج روبرت‬
‫هو في انتظار الحافلة رقم (‪ ،)9‬يقوم فور�ست‬ ‫زيميك�س‪ ،‬وبطولة توم هانك�س (‪)Tom Hanks‬‬
‫ب�سرد ق�صة حياته للغرباء الجال�سين بجواره‬ ‫رواية تحمل اال�سم ذاته‪ ،‬للكاتب‬ ‫ٍ‬ ‫وهو م�أخوذ من‬
‫في انتظار حافالتهم‪ .‬ويبد�أ روايته لق�صة حياته‬ ‫ون�ستون جروم عام (‪ .)1986‬وفي عام (‪،)2011‬‬
‫بعام (‪ )1954‬مع دعامات ال�ساق التي كان عليه‬ ‫تم اختيار الفيلم من قبل مكتبة الكونجر�س لحفظه‬
‫ا�ستلهم المخرج‬ ‫ارتدا�ؤها وهو �صغير لتقويم م�شيته و�ساقيه‪ ،‬والتي‬ ‫في �سجالت الأف�لام الوطنية للواليات المتحدة‪،‬‬
‫ب�سببها القى معاملة قا�سية من الأطفال الآخرين‪.‬‬ ‫مغزى جميل)‪.‬‬
‫ً‬ ‫وتاريخي ًا �أو ذا‬
‫ّ‬ ‫كونه (ثقافي ًا‪،‬‬
‫روبرت زيميك�س‬ ‫عا�ش فور�ست مع والدته التي كان لها دور كبير‬ ‫تحكي الق�صة تفا�صيل �سنوات ممتدة من حياة‬
‫فيلمه من رواية‬ ‫في تن�شئته‪ ،‬وت�أثير عميق على �أف��ك��اره‪ ،‬فكانت‬ ‫فور�ست غامب النف�سية والج�سدية والرمزية؛ فهو‬
‫(فور�ست غامب)‬ ‫لها تعبيرات خا�صة في تو�ضيح الأمور له‪ .‬تدير‬ ‫ٍ‬
‫بدنية خالقة‪ ،‬بعد‬ ‫�شخ�ص بطيء الفهم‪ ،‬ذو ق� ّ�و ٍة‬
‫للكاتب ون�ستون‬ ‫والدته منزلها الكبير‪ ،‬المليء بالغرف الفارغة التي‬ ‫�أن تحرر من �إعاقة كانت ت�ؤثر في حركة �ساقيه‬
‫ت�ؤجرها للغرباء والم�سافرين‪ ،‬من �أجل الح�صول‬ ‫الطبيعية‪ ،‬ينت�سب �إلى والية �أالباما‪ ،‬عا�ش وت�أثر‬
‫جروم‬
‫على المال‪ .‬يع ّلم فور�ست �أحد النزالء رق�صة الهيب‬ ‫الجلية التي وقعت في الن�صف‬ ‫ّ‬ ‫ببع�ض الأح��داث‬
‫المت�أرجحة‪ .‬يلتقي (فور�ست) في يومه الأول في‬ ‫الأخير من القرن الع�شرين بالواليات المتحدة‪،‬‬
‫المدر�سة �أثناء ركوبه الحافلة بال�شابة جيني‪،‬‬ ‫تحديداً في فترة ن�ش�أته الممتدة من (‪� 1944‬إلى‬
‫وت�صبح �صديقته المف�ضلة‪ .‬في �أحد الأي��ام �أثناء‬ ‫‪ .)1982‬مع ت�سجيل اختالف �أحداث الفيلم كثيراً‬
‫المتنمرين‪ ،‬اكت�شف (فور�ست) �أن‬
‫ّ‬ ‫هربه من بع�ض‬ ‫عن الأح���داث التي تقوم عليها رواي��ة ون�ستون‬

‫م�شاهد من الفيلم‬

‫‪131‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫وتغادر في وق��ت مبكر �صباح �أح��د الأي ��ام‪ ،‬قرر‬ ‫عالية‪ .‬وعلى الرغم من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ب�سرعة‬ ‫ب�إمكانه الرك�ض‬
‫(فور�ست) �أن يخرج ليرك�ض قلي ًال‪ ،‬الأم��ر الذي‬ ‫ذكائه الأقل من المتو�سط درا�سي ًا‪ ،‬فقد ح�صل على‬
‫يتحول �إلى ماراثون لمدة ثالث �سنوات من ال�ساحل‬ ‫منحة ال�ستكمال الدرا�سة في جامعة �أالباما‪.‬‬‫ٍ‬
‫�إلى ال�ساحل‪� .‬أ�صبح (فور�ست) من الم�شاهير وجذب‬ ‫وان�ضم (فور�ست) �إلى الخدمة الع�سكرية بجي�ش‬
‫العديد من الأتباع‪ .‬خالل فترة رك�ضه‪� ،‬ألهم فور�ست‬ ‫الواليات المتحدة بعد تخرجه‪ ،‬والحق ًا يتم �إر�سالهم‬
‫العديد من �أ�صحاب الم�شاريع‪ ،‬الذين وبعد ف�شل‬ ‫�إلى فيتنام للم�شاركة في الحرب‪ ،‬و�أثناء قيامهم‬
‫نجاحات كبيرة‪ ،‬بما في ذلك المغني (جون‬ ‫ٍ‬ ‫حققوا‬ ‫بدورية‪ ،‬ين�صب كمين للف�صيل‪ .‬ينجح فور�ست في‬
‫لينون) الذي ا�ستوحى من ق�صته �أغنيته الناجحة‬ ‫أربعة من جنود الف�صيل‪ ،‬بما في ذلك قائد‬ ‫�إنقاذ � ٍ‬
‫(تخيل)‪ ،‬التي �صدرت عام (‪.)1971‬‬‫ّ‬ ‫الف�صيل المالزم الأول دان تايلور‪� .‬أ�صيب (فور�ست)‬
‫والتف‬
‫ّ‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫فج‬ ‫توقف‬ ‫وفي يوم من �أيام رك�ضه؛‬ ‫�أي�ض ًا في تلك الحادثة‪ ،‬وح�صل نتيجة ذلك على‬
‫حوله الجميع ينتظرون ما �سينطق به الرجل! وهنا‬ ‫ميدالية ال�شرف من الرئي�س ليندون جون�سون‪.‬‬
‫مت�سمرة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قال قولته ال�شهيرة �أمام جموع‬ ‫�أثناء تعافيه من �إ�صاباته في الم�ست�شفى‪ ،‬يلتقي‬
‫(تعبت! �أظن �أنني �س�أعود �إلى المنزل الآن)‪ ..‬ثم‬ ‫(فور�ست) مر ًة �أخرى بدان تايلور‪ ،‬الذي ُقطعت كلتا‬
‫مل�صق الفيلم‬ ‫عاد �إلى منزله‪.‬‬ ‫�ساقيه بفعل �إ�صابته‪ ،‬وي�صب دان جام غ�ضبه على‬
‫تلقى (فور�ست) ر�سالة من (جيني) تطلب فيها‬ ‫فور�ست لأنه لم يتركه ليموت في المعركة حاله‬
‫مقابلته‪ ،‬الأمر الذي �أتى به �إلى محطة الحافالت‬ ‫كحال �أجداده وتركه (مقعداً)‪.‬‬
‫حيث ب��د�أ يحكي ق�صته‪ .‬عندما الت�أم �شمله مع‬ ‫في الم�ست�شفى‪ ،‬يكت�شف فور�ست قدرته على‬
‫ي�ستبطن الفيلم‬ ‫(جيني)‪ ،‬يكت�شف (فور�ست) �أن لديهم ابن ًا �صغيراً‪،‬‬ ‫لعب تن�س الطاولة‪ ،‬ويبد�أ لعبها �ضمن فريق الجي�ش‬
‫حموالت تربوية‬ ‫وقد �أ�سمته جيني‪ :‬فور�ست‪ .‬تخبر جيني فور�ست‪/‬‬ ‫الأمريكي‪ ،‬لينتهي به الأم��ر �أخيراً �إلى اللعب في‬
‫تمنح الن�شء حافزاً‬ ‫الأب‪� ،‬أنها تعاني فيرو�س ًا غير معروف‪ ،‬وتطلب‬ ‫ال�صيني في جولة النوايا‬‫ّ‬ ‫ال�صين �ضد الفريق‬
‫منه ال��زواج بها فيوافق‪ .‬عادا �إلى والية �أالباما‬ ‫الح�سنة‪ ،‬ويعود منها منت�صراً‪ .‬ليتم ّكن بذلك من‬
‫للتحدي وقوة الإرادة‬
‫مع (فور�ست) االب��ن وت��زوج��ا‪ .‬ك��ان دان تايلور‪،‬‬ ‫لقاء الرئي�س ريت�شارد نيك�سون الذي يقدم له غرف ًة‬
‫والعزيمة‬ ‫من �ضمن الحا�ضرين لحفل الزفاف‪ ،‬الذي �أ�صبح‬ ‫في فندق ووترغيت‪.‬‬
‫�أكثر �سعادة و�ألطف ما يكون‪ ،‬لأنه كان قادراً على‬ ‫تعود (جيني) لزيارة (فور�ست) وتبقى معه‪.‬‬
‫الم�شي بف�ضل �ساقيه اال�صطناعيتين‪.‬‬ ‫يطلب منها (فور�ست) �أن تتزوجه‪ ،‬لكنها ترف�ض‬

‫من الفيلم‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪132‬‬


‫�أفالم‬

‫وتفرغ (فور�ست)‬ ‫ماتت (جيني) بعدها مبا�شرة‪ّ ،‬‬


‫الأب لتربية ابنه وتتبعه درا�سي ًا‪.‬‬
‫يطرح الفيلم‪ /‬الق�صة مجموعة من المقومات‬
‫ٍ‬
‫دعامات لبناء‬ ‫التربوية‪ ،‬التي يمكن ا�ستلهامها‬
‫تع ّلمات قمينة بتحقيق الإفادة المعرفية والمتعة‬
‫ال�صفية في ذات ال��وق��ت‪� ،‬إذ �ست�ساعد على لفت‬
‫وتتبعه وتفاعله‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫انتباه المتع ّلم و�ضمان تركيزه‬
‫فالفيلم ال�سينمائي‪ ،‬الق�صير منه والطويل‪ ،‬جزء‬
‫توم هانك�س‬ ‫روبرت زيميك�س‬ ‫ون�ستون جروم‬ ‫من ال�سيرورة الرقمية الحديثة‪ ،‬من حيث ال�صناعة‬
‫والت�سويق‪ ،‬و�إن كان من قبل حكراً على �صاالت‬
‫العر�ض ال�سينمائية‪ .‬لكن مع انت�شار الو�سائط‬
‫الرقمية الحديثة‪� ،‬أ�صبح منتوج ال�صوت وال�صورة‬
‫ي�سر‬‫اليوم متاح ًا دون �أي��ة �صعوبات‪ .‬وه��و ما ّ‬
‫ا�ستثماره �إيجاب ًا عبر اختيار الأن�سب والأج��دى‬
‫منه �أو ًال‪ ،‬ثم ت�أويله بما يتنا�سب والمعطى التربوي‬
‫والقيمي والتع ّلمي ثاني ًا‪ ،‬وهو عمل منوط بواجبنا‬
‫كهيئة للتدري�س والت�أطير والتن�شيط والإنتاج‬
‫التربوي‪.‬‬
‫هاورد جارنر‬ ‫ريت�شارد نيك�سون‬ ‫ليندون جون�سون‬
‫ومن الفيلم يمكن ر�صد مجموعة من الظواهر‬
‫ٍ‬
‫حركة �أو ب�ص ٍر �أو انطوا ٍء‬ ‫ومثل عليا!! ولي�ست �إعاقة‬ ‫والمعطيات التي تفيدنا في بناء �شخ�صية المتع ّلم‬
‫توح ٍد �أو ما �شابه‪.‬‬
‫�أو ّ‬ ‫بما يعود عليه وعلى مجتمعه ووطنه بالنفع‪ ،‬وبما‬
‫يرجع الف�ضل في نق�ض النظريات القائلة‬ ‫يجعله عن�صراً فاع ًال‪ ،‬لي�س بال�ضرورة درا�سي ًا‪،‬‬
‫بالذكاء الأوح���د‪ ،‬وبناء نظرية جديدة ت�ؤ�س�س‬ ‫داخل الدينامية (ال�سو�سيو اقت�صادية) لمجتمعه‬
‫لعب بطولة الفيلم‬ ‫ل��ذك��اءات متعددة‪� ،‬إل��ى ال�سيكولوجي بجامعة‬ ‫ككل‪.‬‬
‫الممثل توم هانك�س‬ ‫هارفرد (هاورد جاردنر) م�ؤلف كتاب (�أطر العقل)‬ ‫التربية الدامجة م�شروع مجتمعي ت�شاركي‬
‫(‪.)1983‬‬ ‫يعنى بفئة ذات احتياجات خا�صة؛ يقوم‬ ‫من�سجم ْ‬
‫ونال الفيلم عدة‬ ‫(هاورد) هذا تمكن من بناء نظريته على �سبعة‬ ‫على مرتكزات �إن�سانية وحقوقية وقيمية وتربوية‪،‬‬
‫جوائز عالمية‬ ‫ذكاءات �أ�سا�سية على الأقل‪ ،‬واعتبر �أن �أي �إمكانية‬ ‫ويندرج تحت مرتكزات الإن�صاف وتكاف�ؤ الفر�ص‪.‬‬
‫وحقق �إيرادات‬ ‫تتعلق بالقدرة على‪ :‬حل الم�شكالت‪ ،‬ت�شكيل النتائج‬ ‫ويظهر (فور�ست غامب) في طفولته متع ّلم ًا يرتاد‬
‫خيالية‬ ‫في �سياق خ�صب وموقف طبعي؛ هي �ضرب من‬ ‫المدر�سة �أ�سوة ب�أقرانه‪ ،‬لكنه يعاني �إعاقة حركية‬
‫الذكاء‪ .‬ومن خالل هذه المقاربة عمل على تجميع‬ ‫تفر�ض عليه تثبيت دعامات طبية على امتداد‬
‫القدرات وت�صنيفها �إلى فئات �أو ذك��اءات �سبعة‪،‬‬ ‫�ساقيه‪ ،‬ت�ساعده على تقويم م�شيته‪ .‬كما �أنه يعاني‬
‫وهي‪ :‬الذكاء اللغوي‪ :‬القدرة على ا�ستعمال اللغة‬ ‫ن�سبي ًا التوحد‪.‬‬
‫ب�سال�سة‪ .‬والذكاء المنطقي الريا�ضي‪ :‬القدرة على‬ ‫فور�ست‪ ،‬ذلك الطفل ذو الإعاقة‪ ،‬الذي انت�صر‬
‫التعامل مع الأعداد والح�ساب والمنطق الريا�ضي‬ ‫على كل المعيقات التي وقفت في طريقه‪ ،‬لأن‬
‫تغ ّلب خالل �أحداث‬ ‫ب�سرعة ونجاعة‪ .‬والذكاء المكاني‪ :‬القدرة على‬ ‫قلبه خال من الكراهية والبغ�ض‪ ،‬عامر بالحب‬
‫�إدراك العالم المكاني الب�صري بدقة‪ .‬والذكاء‬ ‫والت�ضحية والوفاء‪ ،‬وهو ما دفعه �إلى �أن يقول‬
‫الفيلم الطفل وال�شاب‬ ‫الج�سمي الحركي‪ :‬امتالك الكفاءة ال�ستخدام الفرد‬ ‫للمالزم (دان) بكل عفوية وثقة وبراءة‪�( :‬س�أذهب‬
‫فور�ست على كل‬ ‫لج�سمه ككل‪� ،‬سواء في مهارات المهن والحرف‬ ‫�إلى الجنة)‪ ،‬وهذا النقاء الذي هو مثل ماء ال�سماء‬
‫المعوقات وانت�صر‬ ‫اليدوية والذهنية المختلفة‪� ،‬أو الألعاب والمناف�سات‬ ‫يجعله يربح دائم ًا‪ ،‬ويكاف�أ حتى في م�ضمار الحرب‪،‬‬
‫عليها بما يحمله من‬ ‫الريا�ضية والبدنية‪ .‬والذكاء المو�سيقي‪ :‬القدرة على‬ ‫وي�صل به �إلى لقاء �سادة البيت الأبي�ض المرة تلو‬
‫تعرف ال�صيغ المو�سيقية وتمييزها وتحويلها‬ ‫ّ‬ ‫يتو�شح بها‬
‫ّ‬ ‫الأخ��رى‪ ،‬وينال نجمة ال�شرف‪ ،‬التي‬
‫قيم جميلة‬ ‫والتعبير عنها ج�سدي ًا �أو �صوتي ًا (الغناء)‪ .‬والذكاء‬ ‫الأبطال القوميون للواليات المتحدة‪ ،‬م�ستح�ضراً‬
‫االجتماعي‪ :‬القدرة على �إدراك �أمزجة الآخرين‬ ‫تورطت بم�شكلة‪،‬‬ ‫دائم ًا ن�صيحة �صديقته جيني‪�( :‬إذا ّ‬
‫ومقا�صدهم ودوافعهم وم�شاعرهم والتمييز بينها‪.‬‬ ‫ال تحاول �أن تكون �شجاع ًا)‪.‬‬
‫وال��ذك��اء ال�شخ�صي‪ :‬معرفة ال��ذات وال��ق��درة على‬ ‫وق�صة غامب تجعلنا على قناعة تامة �أن‬
‫الت�صرف توافقي ًا على �أ�سا�س تلك المعرفة الذاتية‪.‬‬ ‫الإعاقة �إعاقة الم�شاعر‪� ،‬إعاقة م�شاعر‪� ،‬إعاقة قيم‬

‫‪133‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫ا�شتهر ببراعته في ا�ستخدام العقل والمنطق‬

‫�شرلوك هولمز‬
‫المخبر ال�سري العبقري‬
‫ال �شك �أن هذا كله �سيظل دوم� ًا المرجع‬ ‫�شخ�صية �شرلوك هولمز‪ ،‬التي ابتدعتها قريحة‬
‫الذي ُيغ ّذي كل َم ْن له اهتمام بهذا النوع من‬ ‫الكاتب البريطاني (ال�سير �آرثر كونان دويل) وكان‬
‫الفنون الإن�سانية‪.‬‬ ‫طبيب عيون معروفاً؛ ت�صور ال�شخ�صية الأُ�سطورية‬
‫وفى تقديرنا �أن كافة نماذج �شخ�صية‬ ‫ال�سري العبقري‪ ،‬ال��ذي ي�ستخدم‬ ‫�شخ�صية المخبر‬
‫ال�سري التي تزدحم بها الروايات‬ ‫البولي�س‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫العقل والمنطق ب��ب��راع��ة يح�سدها عليه �أعظم‬
‫المعا�صرة �أم��ث��ال‪ :‬ب���وارو‪��� ،‬ش��ارل��ي �شان‪،‬‬
‫ماجنوم‪ ،‬والفهد القرمزي‪� ،‬إنما تقتب�س كلها‬ ‫�أية مجدي �إبراهيم‬ ‫ال��ع��ل��م��اء وال��ف�لا���س��ف��ة‪ ،‬ليك�شف غ��وام�����ض ج��رائ��م‬
‫من ذلك العبقري �شرلوك هولمز‪.‬‬ ‫يعجزعن الإت��ي��ان بها �أع��ظ��م عباقرة الإج����رام‪..‬‬
‫ال�سري الآفاق‪ ،‬ما‬
‫بلغت �شهرة هذا المخبر ّ‬
‫جعل ال�سينما تنتج عدداً كبيراً من رواياته‪،‬‬
‫ول�سوء الحظ لم تف ال�سينما هذه الروايات‬
‫حقها؛ فبراعة �شرلوك هولمز‪ ،‬تتج ّلى في‬
‫ا�ستخدام العقل والمنطق‪� ،‬أقل مما تتج ّلى في‬
‫الأح��داث المثيرة والعنف‪ ،‬وهذا �أمر ي�صعب‬
‫على ال�سينما تحقيقه كما ينبغي‪ ،‬ولذلك فقد‬
‫تبدو هذه الأفالم‪ ،‬التي يقوم ببطولتها �شرلوك‬
‫هولمز‪� ،‬إما ُم ّملة وبطيئة الإيقاع‪ ،‬و� ّإما �سريعة‬
‫الحركة ال يكاد الم�شاهد �أن يلتقط بدقة خيوط‬
‫فكرتها‪ ،‬وق��د يرجع ذل��ك �أي�ض ًا �إل��ى براعة‬
‫المم ّثل الذي يقوم بدور هولمز‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وم��ن حيث عالقة �شرلوك هولمز بعالم‬
‫الأدب والكتابة‪ ،‬فقد ن�ش�أت في العالم في‬
‫ثالثينيات القرن الع�شرين جماعات �أدبية‬
‫متعددة تنت�سب �إلى �شرلوك هولمز‪ ،‬تتدار�س‬
‫وتتعمق في‬
‫ّ‬ ‫فيما بينها تلك ال ��رواي ��ات‪،‬‬
‫فهم خفايا النف�س الب�شرية على الطريقة‬
‫(ال�شرلوكية)‪ ،‬وفي عالم الكتابة ظهر ما ال‬
‫يقل عن ثالثين رواية تتناول كلها �شخ�صية‬
‫قدم‬
‫هولمز �أو مورياتي العدو اللدود له‪� ،‬أو ُت ّ‬
‫مغامرات جديدة من�سوبة �إلى البطل المعروف‪.‬‬
‫وف��ي ع��ام (‪1994‬م) ن��ال الدكتور كيث‬
‫�أوتلي‪� ،‬أ�ستاذ علم النف�س التطبيقي في جامعة‬
‫�أونتاريو بكندا جائزة الكومنولث البريطاني‬
‫(مقدارها ثالثة �آالف �إ�سترليني) عن �أول رواية‬
‫كتبها بعنوان (ق�ضية �إميلي)‪ ،‬تدور حول لقاء‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪134‬‬


‫خيال‬

‫بين �شرلوك هولمز و�سيجموند فرويد‪ .‬وقد‬


‫جمة بين هولمز وفرويد؛ فقد‬ ‫ُعقدت مقارنات ّ‬
‫ُولد فرويد �سنة (‪1856‬م) بينما ُولد هولمز‬
‫عام (‪1854‬م)‪ ،‬وابتكر كالهما مهنة جديدة‪:‬‬
‫المح ّلل النف�سي والمخبر ال��خ��ا���ص‪ ،‬ون��ال‬ ‫ُ‬
‫المدخنين؛‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫وكالهما‬ ‫ال�شهرة‪،‬‬ ‫منهما‬ ‫كل‬
‫ال�سيجار لفرويد والغليون لهولمز‪ ..‬وقد‬
‫ظهرت مباحث هولمز لأول مرة في ال�صحف‬
‫البريطانية في نوفمبر (‪1887‬م)‪ ،‬بينما افتتح‬
‫فرويد عيادته في فيينا في �أبريل (‪1886‬م)‪.‬‬
‫وك��ان كالهما حري�ص ًا على ق��ي��ام الدليل‬
‫والبرهان‪ ،‬كان ج ّل ما يعني هولمز �صدور‬
‫هذا الدليل عن فاعل رئي�سي في �شكل اعتراف‬
‫يتلوه في بع�ض الحاالت �صدور �إدان��ة من‬
‫المحكمة‪ ،‬وفي حالة (فرويد) قبول المري�ض‬
‫للتف�سير‪ ،‬وقد انتقى االثنان من �أعمالهما ما‬
‫من �أفالم �شرلوك هولمز‬ ‫يريدان عر�ضه على النا�س‪ ،‬فالكم الهائل من‬
‫كتابات فرويد ال يحتوي �إال على (د�ستة) من‬
‫خطراً داهم ًا عليه‪ ..‬وكذلك تحليل تدمير هذا‬ ‫الحاالت التي ُعر�ضت بكاملها‪ ،‬بينما �أ�شار‬
‫الأب �أو دمار الطفل على يديه‪ ،‬ويظهر مثل‬ ‫�إلى نحو (‪ )130‬حالة �أُخرى‪ّ � ،‬أما ما هو عدد‬
‫توافق كبير بين‬ ‫هذا الأب بو�ضوح في (‪ )23‬حالة من حاالت‬ ‫الحاالت بال�ضبط التي با�شرها خالل حياته‬
‫�شخ�صيتي هولمز‬ ‫هولمز‪.‬‬ ‫المهنية التي امتدت �إلى نحو �أربعين عام ًا فال‬
‫وفرويد من حيث‬ ‫ب��د�أ �شرلوك هولمز حياته المهنية في‬ ‫نعلمه!‬
‫اعتماد الدليل‬ ‫عام (‪1877‬م)؛ �أي قبل �سنتين من التاريخ‬ ‫وبالن�سبة �إل��ى �شرلوك هولمز‪ ،‬فلدينا‬
‫والبرهان‬ ‫المتعارف عليه لقيام �أول مختبر لعلم النف�س؛‬ ‫�ستون حالة معترف ًا بها‪ ،‬و�إ�شارة �إلى ما يزيد‬
‫وهو معمل (فونت) في ليبيزج الألمانية‪ ،‬ولكن‬ ‫على ثماني ح��االت وذل��ك من مجموع يزيد‬
‫لم ي�ستقر به الحال �إال في عام (‪1881‬م)‪ ،‬حين‬ ‫على (‪ )1500‬ق�ضية غالب ًا‪ ،‬كما كان االثنان‬
‫ا�ست�أجر مع الدكتور (واط�سون) الم�سكن ال�شهير‬ ‫(هولمز وفرويد) على دراية وا�سعة باللغات‬
‫بلغت �شهرة هذه‬ ‫في (‪ 221‬ب �شارع بيكر) في لندن‪ ..‬ف�إلى �أي‬ ‫والآداب‪ ،‬وهناك تطابق وا�ضح في المفاهيم؛‬
‫ال�شخ�صية ما جعل‬ ‫حد عرف هولمز االتجاه العلمي في تناول‬ ‫ّ‬ ‫فال�صراع الأ�سا�سي في نظرية التحليل النف�سي‬
‫ال�سينما تنتج عدداً‬ ‫ال�سلوك؟‬ ‫هو ال�صراع الأودي��ب��ي‪ ،‬ال��ذي ي�شمل �صراع‬
‫كبيراً من الأفالم‬ ‫الحق �أن هولمز كان عارف ًا بداروين‪ ،‬انظر‬ ‫ويم ّثل‬
‫الطفل �ضد الأب‪ ،‬يراه م�سيطراً م�ستبداً ُ‬
‫رواية (درا�سة في اللون‬
‫عنه‬
‫الأح����م����ر)‪ ،‬ظ��ه��رت في‬
‫ال�سينما بنف�س اال�سم‪،‬‬
‫كما كان ذا اهتمام �شديد‬
‫ن�ش�أت جماعات‬ ‫ب��ال��وراث��ة وع��ل��ى دراي��ة‬
‫�أدبية متعددة تن�سب‬ ‫بقوانينها – انظر رواية‬
‫نف�سها �إلى �شرلوك‬ ‫(ال��وج��ه الأ���ص��ف��ر) التي‬
‫�صدرت في (‪1886‬م)‪..‬‬
‫هولمز وتتدار�س‬
‫وك��ان يعتقد في وراث��ة‬
‫�شخ�صيته‬ ‫(ال�سمات ال�شخ�صية)‪،‬‬
‫فنجده في رواية (�أ�شجار‬ ‫وليم جيم�س‬ ‫�أرثر كونان دويل‬

‫‪135‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫خيال‬

‫متحف �شرلوك هولمز‬


‫جيم�س بالذاكرة اال�ستطرادية؛ وهي القدرة على‬ ‫ال ��زان النحا�سية) ي�ستدل على ال�شخ�صية‬
‫تذكر كميات كبيرة من المواد التي يبدو �أن ال‬
‫ّ‬ ‫الكريهة لكل م��ن م�ستر وم�سز كا�سل مما‬
‫قيمة لها‪ .‬كذلك كان هولمز في �شتى م�سالكه‬ ‫�شاهده من ا�ستمتاع طفلهما بقتل الح�شرات‬
‫�شخ�صية ابتدعتها‬ ‫ُي�ش ّكل نوع ًا من التوازي مع باحثي علم النف�س‬ ‫بحذائه‪ ،‬وزع��م هولمز �أن ق��درات��ه هو نف�سه‬
‫قريحة الكاتب‬ ‫المعا�صرين له‪ ،‬خا�صة فرويد‪ ..‬وكان كل ما‬ ‫كانت موروثة‪ ،‬ونجده �أي�ض ًا في رواية (المنزل‬
‫يفعله ي�صبح (مو�ضة) على التو‪ ،‬وقد ارتدى‬ ‫لخ�ص‬ ‫تطور الفرد ُي ّ‬
‫الخالي) يدعم نظرية �أن ّ‬
‫البريطاني �آرثر‬
‫النا�س ال�سواد‪ ،‬عندما �أُعلن عن موته خط�أ عام‬ ‫تطور النوع كله‪ ،‬وهو �أمر ال يبعد كثيراً عن‬ ‫ّ‬
‫كونان دويل‬ ‫نظرية التطور‪.‬‬
‫(‪1893‬م)‪ ..‬ولعل بافلوف‪ ،‬كان الوحيد من بين‬
‫�أ�صحاب علم النف�س الذي نال مثل هذا التكريم‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬ك��ان هولمز يعتبر نف�سه بالت�أكيد‬
‫عالم ًا‪ ،‬حيث يقول‪( :‬اال�ستقراء علم م�ضبوط‪،‬‬
‫�أو يجب �أن يكون كذلك‪� ،‬إن ال�صفات المطلوبة‬
‫في المخبر المثالي هي‪ :‬اال�ستقراء والمالحظة‬
‫والمعرفة)‪ .‬ومع �أن ثقافته كانت وا�سعة �إال �أنها‬
‫كانت منتقاة‪ ،‬وقد �سبق هولمز وليم جيم�س في‬
‫ف�شبهها بحجرة فارغة يمل�ؤها‬ ‫ّ‬ ‫تف�سير الذاكرة‬
‫العامل الماهر ب���الأدوات التي ت�ساعده في‬
‫عمله فقط‪ ،‬ولديه منها ت�شكيلة كبيرة متنوعة‬
‫في حالة جيدة و�صالحة لال�ستعمال (درا�سة‬
‫في اللون الأحمر)‪ ،‬بينما ي�صفها وليم جيم�س‬
‫ب�أنها الطريقة التي ُيفكر بها الخبير في خبراته‬
‫وين�سج منها �شبكة من العالقات‪ ،‬بينما قد‬
‫يالحظ وقائع عديمة الفائدة ولكنه �سرعان ما‬
‫�سماه وليم‬ ‫ين�ساها‪ .‬كما تج ّلت لدى هولمز ما ّ‬
‫من روايات �شرلوك هولمز‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪136‬‬


‫تحت دائرة الضوء‬
‫حديقة بيت بغدادي‬
‫قراءات ‪�-‬إ�صدارات ‪ -‬متابعات‬

‫طالب الرفاعي ير�صد مواقف الأدباء العرب حيال الغد والآخر‬ ‫¯‬

‫النه�ضة العربية في الع�صر الحا�ضر‬ ‫¯‬

‫الأدب المقارن‪ ..‬علم تفاعل الثقافات العالمية‬ ‫¯‬

‫�شعرية الأجنا�س الأدبية في الأدب العربي‬ ‫¯‬

‫الخطاب ال�سينمائي بين �أ�سئلة الفن و�أ�سئلة الحرية‬ ‫¯‬

‫د‪ .‬محمد �أبو ال�سعود الخياري واتجاهات ال�سرد في الرواية‬ ‫¯‬

‫‪137‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫قراءات‬

‫«لون الغد‪ ..‬ر�ؤية المثقف العربي لما بعد كورونا»‬


‫طالب الرفاعي‬
‫ير�صد مواقف الأدباء العرب حيال الغد والآخر‬
‫العدادات اللعينة �إلى‬‫الما�ضي‪ ،‬و ُتعيد كافة ّ‬ ‫عن دار ذات‬
‫طالب الرفاعي‬ ‫ال�صفر‪� .‬ألي�س �أملنا جميع ًا �أن تكون وقفة‬ ‫ال�����س�لا���س��ل في‬
‫مقدمة النطالق عالمنا‪� ،‬أخيراً‪ ،‬نحو‬ ‫كورونا ّ‬ ‫الكويت‪ ،‬وبعدد (‪� )350‬صفحة من القطع‬
‫ترامب‪ ،‬والرئي�س الفرن�سي �إيمانويل ماكرون‪،‬‬ ‫غ ٍد مختلف؟)‪.‬‬ ‫المتو�سط‪� ،‬أ���ص��در الأدي���ب الكويتي طالب‬
‫ورئي�س الوزراء البريطاني بوري�س جون�سون‪.‬‬ ‫وجه الرفاعي �س�ؤا ًال محوري ًا للم�شاركين‬ ‫ّ‬ ‫الرفاعي كتابه الجديد (ل��ون ال��غ��د‪ ..‬ر�ؤي��ة‬
‫لي�صل في المح�صلة �إلى ثالث ق�ضايا �ش ّكلت‬ ‫في كتابه وه��و‪�( :‬أرى �أن الب�شرية تجتاز‬ ‫المثقف العربي لما بعد كورونا)‪ .‬و�إذا كان‬
‫الهم الأك��ب��ر والأ�سا�سي في تفكير المبدع‬ ‫ّ‬ ‫منعطف ًا تاريخي ًا للوقوف في وجه (كورونا)‪،‬‬ ‫الرفاعي ق��د ُع��رف بكونه قا�ص ًا وروائ��ي� ًا‬
‫والمفكر العربي وه��ي‪� :‬أو ًال‪ ،‬حال الإن�سان‬ ‫و�أن ما بعد كورونا �سيكون عالم ًا مختلف ًا‬ ‫عربي ًا‪ ،‬و�أ�ستاذاً زائراً لتدري�س مادة (الكتابة‬
‫العربي‪ ،‬ثاني ًا‪ ،‬ال�سيادة العالمية‪ ،‬ثالث ًا‪ ،‬الفكر‬ ‫عما ك��ان قبله‪( :‬ال�سيادة العالمية‪ ،‬و�شكل‬ ‫الإبداعية)‪ ،‬ف�إنه في �إ�صداره الجديد يحاكي‬
‫والثقافة والإبداع‪.‬‬ ‫اال�ستعمار‪ ،‬واالقت�صاد‪ ،‬وتن ّقل الب�شر‪ ،‬والفكر‬ ‫وير�صد وي��وث��ق للفكر العربي‪ ،‬وذل��ك عبر‬
‫يكتب طالب الرفاعي بواقعية و�أل��م عن‬ ‫والثقافة والإب��داع‪ .‬و�أن��ا �أعمل على م�شروع‬ ‫الوقوف على ر�ؤية وتوقع ثمانية وثمانين‬
‫ق�سوة الظروف‪ ،‬التي يحيا ويعمل بها المفكر‬ ‫للوقوف على ت�صور المبدع والمثقف العربي‪،‬‬ ‫مفكراً ومبدع ًا ومثقف ًا عربي ًا‪ ،‬ينتمون لت�سعة‬
‫والمبدع العربي‪ ،‬في مجتمعات ال تعرف‬ ‫للإجابة عن ال�س�ؤال الآت��ي‪ :‬اليوم الثالثاء‬ ‫ع�شر قطراً عربي ًا‪ ،‬عما �سيكون عليه العالم بعد‬
‫الحرية‪ ،‬في �أقطار تعي�ش تحت خط الفقر‪،‬‬ ‫(‪ 24‬مار�س‪�/‬آذار ‪ ،)2020‬فكيف تتخيل يوم‬ ‫جائحة كورونا‪.‬‬
‫مهددة المبدع بعي�شه و�أفراد �أ�سرته‪ ،‬ما يجبره‬ ‫ِّ‬ ‫الأربعاء (‪ 24‬مار�س‪�/‬آذار) في العام القادم؟)‪.‬‬ ‫المفكر ال��ع��ال��م��ي �أم��ي��ن م��ع��ل��وف ق� ّ�دم‬
‫على الهجرة‪� ،‬أو البقاء تحت نار التهديد اليومي‬ ‫لقد داه��م وب��اء كورونا العالم‪ ،‬وعرقل‬ ‫للكتاب‪/‬الدرا�سة قائ ًال‪( :‬من يقر�أ التو ّقعات‬
‫المخيف‪ .‬مدعم ًا ذلك ب�إح�صائيات ودرا�سات‬ ‫و�ش َّل نب�ض الحياة ب�شكل لم ي�سبق للب�شرية‬ ‫ون�سقها الأ�ستاذ طالب‬ ‫والت� ّأمالت التي جمعها ّ‬
‫عربية وعالمية‪ .‬كما يتناول الرفاعي‪ ،‬عالقة‬ ‫�أن عرفته‪ ،‬حتى في �أثناء عي�شها لحروبها‬ ‫الرفاعي في «لون الغد»‪ ،‬ت ّت�ضح �أمامه �صورة‬
‫المفكر والمبدع العربي بالإبداع والثقافة‬ ‫الكونية‪ .‬وعبر �أربعة �أق�سام وخاتمة‪ ،‬يقف‬ ‫عالمنا كما ظهر فج�أ ًة تحت مجهر الجائحة‪.‬‬
‫العالميين‪ ،‬وكيف �أن الترجمات في معظمها‬ ‫الرفاعي على ُبعد‪ ،‬ليرى ما ح� ّل بالعالم‪،‬‬ ‫عال ٌَم لم يعد يثق بالوعود وال بالعقائد وال‬
‫ومند مطلع القرن الع�شرين‪ ،‬جاءت بفكر و�أدب‬ ‫وكيف ينظر ويقر�أ القا�ص والروائي وال�شاعر‬ ‫قويه هزيل‪ ،‬وعظيمه �ضئيل‪،‬‬ ‫عالم ّ‬ ‫ٌ‬ ‫بالقادة‪.‬‬
‫الغرب �إلى المنطقة العربية‪ ،‬دون �أن تنبري‬ ‫والنا�شر والمثقف العربي‪ ،‬لحظة كونية تحفر‬ ‫وثوابته زائفة‪ .‬عالم عليل تائه‪ ،‬يبحث عن‬
‫�أي جهة عربية‪ ،‬حكومية كانت �أو �أهلية‪� ،‬إلى‬ ‫لتخط تاريخ ًا ج��دي��داً للب�شرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫م�سارها‪،‬‬ ‫تغير الم�سار‪ ،‬و ُت�صلح ما �أف�سده‬ ‫بداية جديدة ّ‬ ‫ٍ‬
‫مد ج�س ٍر نحو الغرب‪ ،‬بترجمة الأعمال العربية‬ ‫وت�أتي بجديدها المعتاد ‪،The New Normal‬‬
‫الأهم‪ .‬لي�ضع الرفاعي �أمام الم�ؤ�س�سة العربية‬ ‫والذي �سي�شكل م�ستقبل الب�شرية‪.‬‬
‫الأ�س�س الواجب الأخذ بها للتوا�صل والو�صل‬ ‫ق�سم الرفاعي �إجابات الم�شاركين �إلى‬ ‫ّ‬
‫مع الآخر‪.‬‬ ‫ثالث فئات‪ :‬متفائلين بعدد (‪ )19‬م�شارك ًا‪،‬‬
‫جمع ال��رف��اع��ي‪ ،‬بحرفية ع��ال��ي��ة‪� ،‬أه��م‬ ‫ومت�شائلين بعدد (‪ )45‬م�شارك ًا‪ ،‬ومت�شائمين‬
‫الأ�سماء العربية الفاعلة في الم�شهد الفكري‬ ‫بعدد (‪ )24‬م�شارك ًا‪ ،‬وبالوقوف �أم��ام كل‬
‫والإبداعي والثقافي‪ ،‬لي�ضعها �أمام م�س�ؤولية‬ ‫�دون الرفاعي �أه��م الأف��ك��ار وال ��ر�ؤى‬
‫فئة ي � ّ‬
‫تفكيرها ف��ي الم�ستقبل‪ ،‬وليقدم للقارئ‬ ‫وال��ت��وق��ع��ات‪ ،‬التي دارت ف��ي ذه��ن المفكر‬
‫معمقة عن نظرة‬ ‫العربي والغربي‪ ،‬درا�سة ّ‬ ‫وال��م��ب��دع ال��ع��رب��ي‪ ،‬ويعقد �صل ًة بين ذلك‬
‫العربي لما هو �آت‪ .‬تجدر الإ���ش��ارة �إل��ى �أن‬ ‫وبين �آراء وق��راءات المفكرين وال�سيا�سيين‬
‫الدرا�سة جاءت بمراجعة الدكتور نزار العاني‪،‬‬ ‫العالميين �أم��ث��ال‪ :‬هنري كي�سنجر‪ ،‬ونعوم‬
‫كما �أن الرفاعي �أ�صدر �أكثر من ع�شرين م�ؤ َّلف ًا‪،‬‬ ‫ت�شوم�سكي‪ ،‬وتوما�س فريدمان‪ ،‬ويو�شكا‬
‫و�أن �أعماله الق�ص�صية والروائية‪ُ ،‬ترجمت‬ ‫في�شر‪ ،‬ويوفال هراري‪ ،‬ويربط ذلك كله ب�أهم‬
‫للإنجليزية والفرن�سية والإ�سبانية والألمانية‬ ‫المواقف‪ ،‬التي ج��اءت على ل�سان ال�سا�سة‬
‫وال�صينية والتركية والهندية‪.‬‬ ‫العالميين �أمثال الرئي�س الأمريكي دونالد‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪138‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫النه�ضة العربية‬
‫في الع�صر الحا�ضر‬
‫فبثوا فيها حركات فكرية �أ�س�ست للمدار�س‬ ‫ي ��ذه ��ب ال��ك��ات��ب‬
‫والكتاتيب‪.‬‬ ‫ف���ي ب���داي���ة ك��ت��اب��ه‬
‫وي�ضيف الكاتب‪� ،‬أن��ه بالرغم م��ن �أن‬ ‫النه�ضة العربية في‬
‫النه�ضة العلمية في م�صر لم يكن الأ�صل‬ ‫الع�صر الحا�ضر �إلى‬
‫فيها للكلية الأمريكية وال الكلية الي�سوعية‬ ‫�أن النه�ضة ال�شرقية‬
‫�شكيب �أر�سالن‬
‫ببيروت‪ ،‬وال مكاتب الدولة بالأ�ستانة‪ ،‬ف�إن‬ ‫ال��ع��رب��ي��ة ب����د�أت في‬
‫علماءها الأزهريين كانوا الأ�سا�س في نبوغ‬ ‫الواقع تنمو �أكثر على‬ ‫نجالء م�أمون‬
‫الدوريات والمجالت العلمية ب�شكل دائم‪.‬‬ ‫�أقطاب الفكر العربي‪ ،‬لذلك يمكن القول �إن‬ ‫ي��د محمد ع��ل��ي‪ ،‬فهو‬
‫ويذهب الكاتب‪� ،‬إلى �أن �سوريا �سبقت م�صر‬ ‫ع��دداً كبيراً من �أط��ب��اء �سوريا قد تخرجوا‬ ‫�أول من �أدرك الخطر المحدق بال�شرق من‬
‫في ت�أ�سي�س هذا المجمع‪ ،‬ولكن م�صر �أثرت‬ ‫من الق�صر العيني بم�صر‪ ،‬ويرى الكاتب �أن‬ ‫جراء جموده على �أ�ساليب العمران القديم‪،‬‬
‫النه�ضة العربية بالنهو�ض باللغة العربية‪،‬‬ ‫ك ًال من القطرين الم�صري وال�شامي‪ ،‬ي�شدان‬ ‫وجعل ن�صب عينيه مناه�ض ًا للغرب في‬
‫كما �أن حكومة القطرين ق��دم��ت خدمات‬ ‫بع�ضهما بع�ض ًا ويدعمان بع�ضهما بع�ض ًا‪،‬‬ ‫�أ�ساليبه الجديدة‪.‬‬
‫جليلة في درا�سة المدائن العربية والتنقيب‬ ‫ويتبادالن الت�أثير في الرقي العقلي والثقافي‪.‬‬ ‫ل��ذل��ك يعد محمد ع��ل��ي‪ ،‬ه��و الم�ؤ�س�س‬
‫عن تاريخ العرب‪ ،‬كما قام ك ٌّل من المجمع‬ ‫كما يرى الكاتب �أن ال�صحافة العربية‬ ‫الحقيقي لهذه النه�ضة ال�شرقية العربية‪،‬‬
‫الم�صري والمجمع ال�����س��وري بالعديد من‬ ‫كانت من �أهم عوامل هذه النه�ضة‪ ،‬بما �أثارته‬ ‫لي�س بوادي النيل فح�سب‪ ،‬بل في البالد التي‬
‫الخدمات اللغوية الجليلة‪ ،‬لمواكبة النه�ضة‬ ‫من الحركة الفكرية‪ ،‬ونقلت �أخبار الغرب‬ ‫تجاوزت هذا ال��وادي وفي مقدمتها �سوريا‪،‬‬
‫الع�صرية‪ ،‬ب�صك الم�صطلحات الجديدة في‬ ‫الناه�ض �إل��ى �أه��ل ال�شرق النائم‪ ،‬وكانت‬ ‫و�أول م��ن ا�ستقى م��ن ه��ذه النه�ضة‪ ،‬كان‬
‫اللغة العربية‪.‬‬ ‫�أول ج��ري��دة عربية ت�صدر ف��ي ال�شرق هي‬ ‫ال�سوريون في عهد محمد علي وولده �إبراهيم‬
‫وي�ضيف الكاتب �أنه في القرون الأخيرة‪،‬‬ ‫جريدة (الوقائع) الم�صرية‪ ،‬ويقال �إن �أول‬ ‫كلي ًة عريقة في بيروت‪،‬‬ ‫با�شا‪ ،‬حيث �أ�س�سا ّ‬
‫لوال بقاء الأزهر والجامع الأموي والزيتونة‪،‬‬ ‫جريدة �صدرت في بالد ال�شام‪ ،‬كانت جريدة‬ ‫كانت نبرا�س ًا لطالب العلم والمعرفة في بالد‬
‫يبق �أثر من �آثار اللغة العربية ودرا�سات‬ ‫لم َ‬ ‫(الأخبار) التي �أن�ش�أها خليل �أفندي الخوري‪،‬‬ ‫ال�شام‪.‬‬
‫ال�شريعة الإ�سالمية‪ُ ،‬يبقي للأمة الإ�سالمية‬ ‫وذلك في عام (‪.)1760‬‬ ‫وي��ذك��ر ال��ك��ات��ب‪� ،‬أن الأم����م الأخ� ��رى‬
‫هويتها الحقيقية‪.‬‬ ‫وي ��ؤك��د الكاتب ف��ي معر�ض كتابه �أن‬ ‫كالفرن�سيين والألمان والطليان والرو�س‪ ،‬ر�أوا‬
‫وعن ال�شعر وال�شعراء‪ ،‬يذهب الكاتب �إلى‬ ‫المدار�س في الوطن العربي كانت على هذا‬ ‫�أن �أر�ض �سوريا قابلة لح�صد بذور المعرفة‪،‬‬
‫�أن اللغة العربية‪ ،‬قد تم �إحيا�ؤها على �أكمل‬ ‫النحو‪ ،‬فمدينة بيروت مث ًال وع��دد �سكانها‬
‫وج��ه في ع�صر النه�ضة ال�شرقية الحديثة‪،‬‬ ‫نحو (‪� )200‬ألف ن�سمة‪ ،‬فيها من المدار�س‬
‫حيث تعدد ال�شعراء ال��م��ج��ددون‪ ،‬مثل عمر‬ ‫والجامعات ما يقارن بجامعات ومدار�س‬
‫الأن�سي البيروتي من بيروت‪ ،‬وبطر�س كرامة‬ ‫�أوروب��ا‪ .‬وعن تقدم التعليم في �سائر البالد‬
‫من حم�ص‪� .‬أما عن م�صر؛ فكانت لل�شعر نه�ضة‬ ‫العربية كانت المدار�س الم�سماة بريا�ض‬
‫حقيقية‪ ،‬حيث نه�ض ال�شاعر محمود �صفوت‪،‬‬ ‫الأط��ف��ال كثيرة ف��ي م��دن مملكة ال��ع��راق‪،‬‬
‫بخلق روح جديدة لل�شعر ب�إر�سائه ال�شعر‬ ‫والف�ضل يرجع �إلى المربي العربي الفا�ضل‬
‫المر�سل‪.‬‬ ‫�ساطع الح�صري‪� ،‬أ�ضف �إلى ذلك �أن المكتبة‬
‫كما يذهب ال�شاعر �إلى �أن النه�ضة العلمية‬ ‫ت�صدر كثيراً من الكتب المدر�سية‬ ‫ّ‬ ‫بالقاهرة‬
‫ف��ي ب�لاد ال�سعودية وال��ي��م��ن‪ ،‬ق��د �أر�ساها‬ ‫وغيرها �إلى العراق‪.‬‬
‫المحدثون بتنقية ال��دي��ن م��ن ال��خ��راف��ات‪،‬‬ ‫المجمعين‬
‫َ‬ ‫وي�����ش��ي��ر ال��ك��ات��ب �إل���ى �أن‬
‫و�أن الملك عبدالعزيز �آل �سعود قد �أبهر �أهل‬ ‫العلميين في دم�شق وم�صر‪ ،‬يعدان �صرحين‬
‫المملكة بتحقيق الكثير في مجال التعليم‬ ‫كبيرين على ن�سق الأكاديميات في �أوروبا‪،‬‬
‫ومحو الأمية‪ ،‬التي باتت ق�ضية كبرى في‬ ‫وكانا يجمعان العديد من العلماء العرب‬
‫اليمن‪ ،‬و�أ�صبحت الأمية �أمراً نادراً في اليمن‬ ‫والم�ست�شرقين‪ ،‬الذين يعدون �أ�صحاب �شهرة‬
‫حينذاك‪.‬‬ ‫�سواء في ال�شرق �أو الغرب‪ ،‬كما كانا ي�صدران‬

‫‪139‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫قراءات‬

‫الأدب المقارن‪..‬‬
‫علم تفاعل الثقافات العالمية‬
‫للمقارنة‪ ،‬بينما المدر�سة الأمريكية‪� ،‬ألغت دور‬ ‫ي��ع��ت��ب��ر ال��دك��ت��ور‬
‫الوثيقة كمعيار‪ ،‬وربطت الق�ضية بعالقة الأدب‬ ‫نذير العظمة من جيل‬
‫بغيره من المعارف الإن�سانية‪ ،‬ورفعت الحدود‬ ‫رواد الحداثة ال�شعرية‬
‫والحواجز بين الأدب المقارن والأدب العام‪،‬‬ ‫والأدب العربي‪ ،‬تخرج‬
‫�أي باخت�صار؛ (درا�سة الأدب المقارن خارج‬ ‫في جامعة دم�شق عام‬
‫د‪ .‬نذير العظمة‬
‫الحدود القومية)‪ ،‬للو�صول �إلى حقيقة حركة‬ ‫(‪ )1954‬وح�صل على‬
‫الآداب التبادلية فيما بينها‪.‬‬ ‫الدكتوراه في فل�سفة‬ ‫�شعيب ملحم‬
‫في الباب الرابع من الكتاب تحت عنوان‬ ‫وهذا يلغي المركزية الأوروبية للثقافة‪،‬‬ ‫الأدب من الجامعات‬
‫(�شك�سبير العربي)؛ يقدم لنا الم�ؤلف مروحة‬ ‫التي اعتبرت �أن الثقافة الإغريقية اليونانية‬ ‫الأمريكية‪ ،‬ومار�س التدري�س في جامعات‬
‫وا�سعة ع��ن ت��أث��ر ال�شعراء والكتاب العرب‬ ‫هي الأ�سا�س‪ ،‬و�أن ثقافات ال�شعوب الأخرى‪،‬‬ ‫هارفرد‪ ،‬جورج تاون‪� ،‬إنديانا بورتالند‪ ،‬وعمل‬
‫بالكاتب الم�سرحي الإنجليزي ال�شهير‪ ،‬من‬ ‫وخا�صة ال�شرقية منها‪ ،‬كان لها �إ�سهامها‬ ‫�أ���س��ت��اذاً ل�ل�أدب المقارن في ع��دة جامعات‬
‫خ�لال الثيمات ور�سم ال�شخ�صية والحبكة‬ ‫الوا�سع والعميق في الثقافة الغربية‪ ،‬والتي‬ ‫عربية‪ ،‬وله �أكثر من خم�سين م�ؤلف ًا وع�شرات‬
‫وال��ح��وار‪ ،‬وف��ي الق�صيدة العربية الحديثة‪.‬‬ ‫ب�شر بها ال�شاعر الألماني الكبير (غوته) في‬ ‫الأب��ح��اث وال��درا���س��ات ف��ي دوري���ات عربية‬
‫وفي هذا يرى �أن الم�س�ألة بالن�سبة �إلى المبدع‬ ‫ديوانه (ال��دي��وان ال�شرقي للم�ؤلف الغربي)‪،‬‬ ‫و�أجنبية عديدة‪ ،‬وكتابه هذا له عنوان فرعي‪:‬‬
‫العربي‪ ،‬لم تكن الخيار بين موروثين‪ ،‬الأول‬ ‫م�ؤكداً فيه �أن للأدب روح ًا عالمية‪ ،‬وهذا كان‬ ‫(درا�سة في تبادل الثيمات والرموز والأ�ساطير‬
‫قومي‪ ،‬والثاني �إن�ساني‪ ،‬و�أن هويته الح�ضارية‬ ‫بداية االنطالق �إلى ا�ستنباط علوم ومناهج‬ ‫بين الآداب العربية والأجنبية)‪.‬‬
‫ال ت��ؤرق��ه‪ ،‬بقدر ما ي�ؤرقه �أن يك�شف عنها‪،‬‬ ‫متعددة‪ ،‬كعلم الثيمات‪ ،‬والرموز والأ�ساطير‪،‬‬ ‫ي�شير الم�ؤلف �إل��ى �أن م�صطلح الأدب‬
‫ويدفع بها في حركة التاريخ ويخرجها من‬ ‫وحقل الترجمة‪ ،‬وهجرة الأفكار من ح�ضارة‬ ‫المقارن‪ ،‬كميدان معرفي‪ ،‬واجه �صعوبة كبيرة‬
‫ال��م��وت‪ ،‬لأن الميراث الإن�ساني هو ميراث‬ ‫�إلى �أخرى‪ ،‬والحوافز والتحوالت‪ ،‬وال تقت�صر‬ ‫في �إث��ب��ات وج��وده حتى ثمانينيات القرن‬
‫المبدع ال��ع��رب��ي‪ ،‬وي�ستعر�ض ال��م��ؤل��ف في‬ ‫فقط على عوامل الت�أثر والت�أثير‪ ،‬التي يكون‬ ‫الما�ضي‪ ،‬حيث اعتمدته الجامعات العالمية‬
‫�صفحات ع��دة عالقة كل من �أحمد �شوقي‪،‬‬ ‫فيها للن�ص ح�ضور اختالف ال ح�ضور ائتالف‪.‬‬ ‫غرب ًا و�شرق ًا‪ ،‬مادة تدري�سية في مناهجها‪،‬‬
‫ومطران خليل مطران‪ ،‬وعلي �أحمد باكثير‪،‬‬ ‫يعتمد الم�ؤلف على نظرية (الوهج) الذي‬ ‫وت��م �إر���س��اء ق��واع��د منهجية ومعرفية لهذا‬
‫ولوي�س عو�ض‪ ،‬وبدر �شاكر ال�سياب‪ ،‬و�آخرين؛‬ ‫تتركه الأعمال الفنية الإبداعية على المبدعين‪،‬‬ ‫العلم‪ ،‬فهو يتميز بدرا�سة الفولكلور والآداب‬
‫بوليم �شك�سبير ومدى ت�أثره ب�أ�سلوبه وحبكة‬ ‫وي�ضرب �أمثلة كثيرة على ذلك‪ ،‬كالوهج الذي‬ ‫ال�شعبية والأ�ساطير‪ ،‬و�أي�ض ًا يهتم بالعالقة‬
‫الم�سرحية‪ ،‬واالبتعاد �شعري ًا عن النظم �إلى‬ ‫تركته �أعمال (�ألف ليلة وليلة) و(كليلة ودمنة)‪،‬‬ ‫بين �أدب��اء وكتاب و�أ�ساليب متنوعة‪ ،‬ور�صد‬
‫تعدد التف�صيالت في الق�صيدة‪ ،‬واعتماد المادة‬ ‫�أو (ملحمة جلجام�ش)‪ ،‬وح��دي��ث� ًا (الأر� ��ض‬ ‫المبادالت بينهم‪ ،‬والينابيع التي ا�ستقوا منها‬
‫التاريخية في الأعمال الم�سرحية‪ ،‬لكنها ال‬ ‫الخراب) لـ(ت‪�.‬س �إليوت) وطائر الباترو�س‬ ‫�إبداعاتهم‪ ،‬وقد برز اتجاهان في تقدير هذه‬
‫تتطابق تمام ًا مع �أعمال �شك�سبير وال مع‬ ‫في ق�صيدة البحار القديم ل�صموئيل كولريدج‪،‬‬ ‫العالقة‪ ،‬الأول تمثله المدر�سة الفرن�سية التي‬
‫�أهدافها‪ ،‬و يفرد الكاتب �صفحات عدة لأعمال‬ ‫الذي ا�ستح�ضر من (الرخ) في حكايا ال�سندباد‬ ‫تعد الوثيقة التاريخية الأدبية منهج ًا علمي ًا‬ ‫ّ‬
‫جبران خليل جبران وتوفيق الحكيم وغيرهما‪،‬‬ ‫ورح�لات��ه‪ ،‬وق�صيدة (ال��ب��ات��رو���س) ل�شارل‬
‫وم��دى ت��أث��ر ج��ب��ران و�أب ��و القا�سم ال�شابي‬ ‫بودلير‪ ،‬ولكنها بر�ؤية مختلفة‪ .‬وال يخفى على‬
‫بالفيل�سوف الألماني نيت�شه وينتهي الكاتب‬ ‫المطلعين رائعة (دانتي) في الكوميديا الإلهية‬
‫�إلى خال�صة ن�شوء منهجية جديدة في الأدب‬ ‫وت�أثره بق�صة الإ�سراء والمعراج‪ ،‬وهذا ال يعني‬
‫المقارن‪ ،‬ترتكز على �أربعة �أ�س�س �أو ف�ضاءات‪:‬‬ ‫�أن كل المبدعين �شرق ًا وغرب ًا با�ستلهامهم‬
‫الت�أثر والت�أثير‪ ،‬نظرية الوهج‪ ،‬الترا�سل‪ ،‬نظرية‬ ‫م��وروث��ات ورم ��وز ال�شعوب الأخ� ��رى‪� ،‬أنهم‬
‫الن�ص الم�ضاد‪.‬‬ ‫(�سارقو �أفكار) كما يزعم بع�ض النقاد‪ ،‬وال‬
‫�أن��ه��ا (ت ��وارد خ��واط��ر) �أو م��ا يعرف ب��الأدب‬
‫بـ(التنا�ص) بين كاتبين‪ ،‬و�إنما العبرة في‬
‫الكتاب‪ :‬ف�ضاءات الأدب المقارن‬ ‫كيفية الت�أثير والت�أثر‪ ،‬وتحويل هذه الرموز‬
‫الم�ؤلف‪ :‬د‪ .‬نذير العظمة‬ ‫�إلى دالالت قد تكون مختلفة في م�ضامينها‬
‫النا�شر‪ :‬وزارة الثقافة‪-‬‬ ‫عن الأ���ص��ل‪ ،‬وتفتح �أفق ًا معرفي ًا وجمالي ًا‪،‬‬
‫�سوريا‪2007 -‬‬ ‫وف�ضاءات للخيال الخ�صب‪ ،‬بح�سب الأزمنة‬
‫والأمكنة المختلفة‪.‬‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪140‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫�شعرية الأجنا�س الأدبية‬


‫في الأدب العربي‬
‫خالله على التقرب من عينة من �أدبنا والنظر‬ ‫ي��ع��د ال��ب��ح��ث في‬
‫فيها �أجنا�سي ًا‪ ،‬م�ستعينة بالأدوات والإجراءات‬ ‫ن��ظ��ري��ة الأج ��ن ��ا� ��س‬
‫المعرفية والمنهجية التي يتطلبها المو�ضوع‪،‬‬ ‫الأدب��ي��ة ال��ي��وم‪� ،‬أكثر‬
‫وقد وقع اختيارها على ال�شاعر نزار قباني‪،‬‬ ‫�ضرورة لقدرته على‬
‫باعتبار اكتمال تجربته وتحقق التنوع‬ ‫الك�شف ع��ن العوالم‬
‫د‪ .‬فيروز ر�شام‬
‫الأجنا�سي في ن�صو�صه و�أعماله‪.‬‬ ‫الخفية في بناء الأدب‬
‫والكتاب يقع في (‪� )357‬صفحة من الحجم‬ ‫وت ��ح ��والت ��ه‪ .‬وال��ن��ق��د‬ ‫د‪.‬مريم �أغري�س‬
‫النظرية بفكر جديد‪ ،‬ال يعترف �أ�ص ًال بجدوى‬ ‫المتو�سط‪ ،‬ق�سمته الكاتبة �إلى ثالثة ف�صول‪،‬‬ ‫العربي المعا�صر يبدو‬
‫وجود هذه النظرية‪ ،‬م�شكك ًا فيها وفي مبادئها‪.‬‬ ‫�إ�ضافة �إلى مدخل مفاهيمي ومقدمة وخاتمة‪.‬‬ ‫بعيداً نوع ًا ما عن البحث الأجنا�سي‪ ،‬مقارنة‬
‫كما تناولت الكاتبة الأن���واع ال�شعرية‬ ‫عر�ضت في المدخل المفاهيم والإ�شكاالت‬ ‫مع ما و�صل �إليه النقد الغربي في هذا المجال‪،‬‬
‫التي كتب فيها ن��زار قباني‪ ،‬والتي تنتمي‬ ‫الكبرى في نظرية الأجنا�س الأدبية‪ ،‬وذلك‬ ‫ومت�أخراً ت�أخراً كبيراً عن الدرا�سات العلمية‬
‫في عمومها �إلى جن�س ال�شعر الغنائي‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫من خ�لال محورين‪ :‬الأول تحدثت فيه عن‬ ‫المتعلقة به‪ ،‬ب�سبب قلة البحوث المنجزة بهذا‬
‫الق�صيدة العمودية‪ ،‬الق�صيدة الحرة‪ ،‬وق�صيدة‬ ‫المفاهيم الجوهرية المتعلقة بالكلمات‬ ‫الخ�صو�ص‪� .‬أما الجهود القليلة التي اهتمت‬
‫النثر‪ .‬ثم حددت الت�شكالت النوعية للق�صيدة‬ ‫المفاتيح لهذه الدرا�سة‪ ،‬وهي ال�شعرية والجن�س‬ ‫بدرا�سة وتحليل هذه الم�س�ألة‪ ،‬فيغلب عليها‬
‫النزارية‪ ،‬التي نتجت عن تداخل بع�ض الأنواع‪،‬‬ ‫والأدب‪ .‬والثاني قدمت فيه عر�ض ًا تاريخي ًا‬ ‫الت�شتت المعرفي‪ ،‬ما حال دون وجود نظرية‬
‫وال��ت��ي تتمثل ف��ي‪ :‬الق�صيدة ال�سيرذاتية‪،‬‬ ‫لنظرية الأجنا�س الأدبية في النقد الغربي‪،‬‬ ‫�أجنا�سية وا�ضحة ومتكاملة‪ ،‬تكون م�ستقاة‬
‫الق�صيدة ال��ر���س��ال��ة‪ ،‬الق�صيدة ال��درام��ي��ة‪،‬‬ ‫وناق�شت �أه��م الق�ضايا والإ���ش��ك��االت فيها‪،‬‬ ‫�أ�سا�س ًا من الأدب العربي‪ ،‬خا�صة �إذا علمنا‪،‬‬
‫والق�صيدة الموجزة‪.‬‬ ‫ك�أ�صل الأجنا�س و�أ�س�س ت�صنيفها‪ ،‬وو�ضع هذه‬ ‫�أن الأنواع الأدبية الموجودة فيه هي غير تلك‬
‫انتقلت الكاتبة �إل��ى ا�ستنطاق �شعرية‬ ‫النظرية في النقد العربي‪.‬‬ ‫الأنواع‪ ،‬التي ت�أ�س�ست عليها نظرية الأجنا�س‬
‫الأن��واع النثرية‪ ،‬التي كتب فيها نزار قباني‬ ‫وق��د تو�صلت الكاتبة في ه��ذا المدخل‪،‬‬ ‫الأدبية عند الغرب‪.‬‬
‫الذي �أبدع في ال�شعر الغنائي ب�أنواعه وهي‪:‬‬ ‫�إلى �أن م�صطلحات نظرية الأجنا�س الأدبية‬ ‫ولت�سليط ال�ضوء على هذه النظرية �أ�صدرت‬
‫ال�سيرة الذاتية‪ ،‬المقال ال�صحافي والأدب��ي‪،‬‬ ‫ومفاهيمها‪ ،‬تعاني ا�ضطراب ًا وا�ضح ًا ب�سبب‬ ‫الكاتبة والأديبة الجزائرية فيروز ر�شام كتاب‬
‫والحوارات ال�صحافية‪ ،‬والمقدمات النثرية‪،‬‬ ‫تداخلها ال�شديد من جهة‪ ،‬وغمو�ضها من‬ ‫(�شعرية الأجنا�س الأدبية في الأدب العربي‪:‬‬
‫والم�سرحية‪ .‬وف��ي كل ن��وع ناق�شت جوانبه‬ ‫جهة �أخ��رى (خا�صة بين الجن�س والنوع)‪.‬‬ ‫درا�سة �أجنا�سية لأدب نزار قباني)‪ ،‬عملت من‬
‫الأجنا�سية‪ ،‬وتوقفت ب�إيجاز عند تاريخه كما‬ ‫وربما كان هذا اال�ضطراب تابع ًا �أو نتيجة‬
‫فعلت مع الأنواع ال�شعرية‪،‬‬ ‫لال�ضطراب‪ ،‬الذي يعانيه الأدب في حد ذاته‪،‬‬
‫وق��د خل�صت الكاتبة �إل ��ى �أن �شعرية‬ ‫فهو �أي�ض ًا ال يعرف جواب ًا ل�س�ؤال الفرق بين‬
‫الأن��واع الأدبية في �أدب نزار قباني‪ ،‬انبنت‬ ‫الأدب والال �أدب‪� ،‬أو بين ال�شعر والال �شعر‪.‬‬
‫على عنا�صر ا�شتغل عليها ال�شاعر عن وعي‬ ‫وف��ي ه��ذا المدخل �أي�ض ًا �أك��دت الكاتبة‬
‫�إبداعي ونقدي عميقين‪� ،‬إذ لي�س من ظاهرة في‬ ‫�أن جذور نظرية الأجنا�س الأدبية تعود �إلى‬
‫كتاباته �إال وناق�شها في مقاالته وحواراته‪،‬‬ ‫�أر�سطو‪ ،‬الذي و�ضع مبادئها الأول��ى و�صمم‬
‫فقد لعبت قناعاته النقدية والفنية دوراً مهم ًا‬ ‫تق�سيمها الأول �أي�ض ًا‪ ،‬والمعروف بالتق�سيم‬
‫في توجيه كتاباته توجه ًا �أجنا�سي ًا معين ًا‪.‬‬ ‫الثالثي (غنائي‪ ،‬ملحمي‪ ،‬درامي)‪ .‬ومنذ ذلك‬
‫كما كان لتفاعل الجمهور وا�ستجابته للأنواع‪،‬‬ ‫الحين لم تخرج ه��ذه النظرية عن مقوالته‬
‫التي كتبها دافع يكر�س ال�شعرية الجديدة لهذه‬ ‫و�آرائه طوال القرون التي تلته‪ ،‬وبلغ الأمر �أن‬
‫الأنواع‪.‬‬ ‫�أ�صبحت في وقت الحق مقد�سة‪ ،‬ومال الطرح‬
‫لذا يمكن �أن نقول �إن نزار قباني لم يبتكر‬ ‫النقدي �إلى الدعوة لعدم تجاوز تقاليد الأنواع‬
‫نوع ًا �أدب��ي � ًا ج��دي��داً‪ ،‬لكنه �أب��دع في �شعرية‬ ‫والحدود الفا�صلة بينها‪ .‬لكن الو�ضع �سيتغير‬
‫وغير من مالمحها‬ ‫الأن��واع التي كتب فيها‪ّ ،‬‬ ‫مع بداية القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬حيث تزعزعت‬
‫وجمالياتها‪.‬‬ ‫هذه المقوالت‪ ،‬بعد �أن �أعيد طرح ومناق�شة‬

‫‪141‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬

‫�إ�شكالية التجديد‬
‫فـي الأجنـا�س الأدبـيـة‬ ‫�ضياء الجنابي‬

‫على �شكل نظريات معرفية‪ ،‬تفتح المجال‬ ‫من الالفت للنظر‪� ،‬أن الكثير من المبدعين‬
‫�أمام �آفاق ر�ؤيوية وا�سعة‪ ،‬تعمق ال�سياقات‬ ‫العرب منذ ثمانينيات القرن الما�ضي �إلى‬
‫ال�سليمة للتنويع الكتابي‪ ،‬وذلك ي�ؤدي ب�شكل‬ ‫وقتنا هذا‪ ،‬قد �أداروا ظهورهم لق�ضية ذات‬
‫تلقائي �إلى ت�شييد �أ�سا�سات الإن�شاء والبناء‬ ‫�أهمية بالغة‪ ،‬وهي ق�ضية الأجنا�س الأدبية‪،‬‬
‫ب�إحكام وتوجيه مقبوليات �أنماطه‪.‬‬ ‫وفي الوقت ذاته يحاول الكثير منهم �شرعنة‬
‫وبتدقيق النظر‪ ،‬نكت�شف �أن هناك خيط ًا‬ ‫ذل��ك و�إي��ج��اد غ��ط��اء ن��ظ��ري ل��ه‪ ،‬يتلخ�ص‬
‫رفيع ًا‪ ،‬يربط منطلقات التحرر ونزعات‬ ‫بالدعوة �إلى التحرر من القوالب الجاهزة‪،‬‬
‫التحديث من جهة‪ ،‬ومحددات التجني�س الأدبي‬ ‫وال��ج��ام��دة وب��ث روح ال��ح��داث��ة والتجديد‬
‫من جهة �أخرى‪ ،‬وال بد للكاتب الح�صيف �أو‬ ‫في الم�سارب الإب��داع��ي��ة‪ .‬ومما ال�شك فيه‬
‫المبدع الحقيقي‪� ،‬أن يحافظ على هذا الخيط‪،‬‬ ‫�أن الدعوة �إلى التحرر والتجديد هي دعوة‬
‫من دون التفريط بجانب على ح�ساب الجانب‬ ‫�إيجابية ال غبار على �أهميتها و�أرجحيتها‪،‬‬
‫الكثير من المبدعين‬ ‫الآخ��ر‪ ،‬وخ�صو�ص ًا فيما يتعلق بالتجني�س‪،‬‬ ‫ولكن ال�س�ؤال المهم هو‪ :‬هل من المقنع �أن‬
‫العرب يدعون �إلى‬ ‫كونها عم ًال ت�صنيفي ًا عقالني ًا ي�سم الأعمال‬ ‫ي�سهم التجديد في �إل��غ��اء ق�ضية �أ�سا�سية‬
‫الإبداعية بو�سم خا�ص‪ ،‬يجعله يت�شاكل مع‬ ‫من ق�ضايا النقد الأدب ��ي‪ ،‬وه��ي التجني�س‬
‫التحرر من القوالب‬
‫فئة كتابية معينة ويحقق التوافق القرائي‬ ‫�أو بتعبير �آخ��ر اال�ستغناء ع��ن الأجنا�س‬
‫الجاهزة وبث روح‬ ‫معها‪ ،‬مع الحفاظ على المرونة العالية كي ال‬ ‫الأدبية‪ ،‬التي من خاللها يتم تحديد المالمح‬
‫التجديد‬ ‫ي�سد العقل ال�سبيل على حرية الفعل الإبداعي‪،‬‬ ‫الأ�سا�سية للكتابة الإبداعية؟‬
‫وال يعيق م�سارات النزعة التجديدية‪ ،‬وهذه‬ ‫�إن الوعي ب�ضرورة الحفاظ على �صيرورة‬
‫الإ�شكالية في حقيقة الأم��ر تجعل الكثير‬ ‫الأج��ن��ا���س الأدب ��ي ��ة‪ ،‬وم��راع��اة كينونتها‬
‫من المبدعين مترددين بين التحرر وعدمه‪،‬‬ ‫يفتح الأب��واب على م�صاريعها‪� ،‬أمام ن�ضج‬
‫ولكن الأجدر بالأمر والأجدى �أن يتم م�سك‬ ‫العملية الإبداعية‪ ،‬لأن الحفاظ على الجينات‬
‫خلقة‪ ،‬مع‬‫الع�صا من و�سطها بحرفية وروح ّ‬ ‫الأ�صلية لكل جن�س �أدبي �أو �إبداعي‪ ،‬يقودنا‬
‫مراعاة خ�صو�صية كل طرف من طرفي هذه‬ ‫�إلى احترام الفعل الإبداعي مهما كان �شكله‬
‫المعادلة‪ ،‬وبالتالي ينبغي على المت�صدي‬ ‫�أو لونه‪ ،‬وه��ذا الوعي بالتالي ي�أخذ على‬
‫لفعل الكتابة الأدب��ي��ة �أن يعي طبيعة هذا‬ ‫عاتقه مهمة تقعيد الأ�ساليب الكتابية في‬
‫االختالف‪ ،‬ويعرف �أنه اختالف تنوع ولي�س‬ ‫الأدب‪ ،‬وم��ن ث��م تقنين الأ�س�س الإبداعية‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪142‬‬


‫�أفكار‬

‫النقاد للإبداع‪� ،‬أمران يهدفان �إلى ت�ضبيب‬ ‫اختالف ت�ضاد‪ ،‬فعلى الرغم من التنافر‬
‫الر�ؤية للتخفيف من �أهمية التجني�س‪� ،‬أو‬ ‫الظاهر بينهما‪ ،‬نجد �أن �أحدهما يكمل الآخر‪،‬‬
‫رف��ع �ضوابطه ع��ن النتاج الإب��داع��ي‪ ،‬في‬ ‫فال يمكن م��دح ط��رف وذم الآخ��ر والعك�س‬
‫ال بد من ا�ستمرار‬ ‫الوقت ذات��ه ال يمكننا دح�ض ما هو قائم‬ ‫كذلك‪� ،‬أي بتعبير �آخ��ر ال ن�ستطيع الحكم‬
‫الوعي ب�ضرورة‬ ‫من ت�ضايف نوعي وتداخل �إجنا�سي متحقق‬ ‫ب�صواب �أحدهما وخط�أ الآخر‪.‬‬
‫الحفاظ على‬ ‫في الكثير من الأع��م��ال الأدب��ي��ة‪ ،‬وه��و �أمر‬ ‫ل��و �أم��ع��ن��ا ال��ن��ظ��ر ف��ي عملية االل��ت��زام‬
‫�صيرورة الأجنا�س‬ ‫واق��ع ال مندوحة عنه‪ ،‬وم��ن ه��ذا التداخل‬ ‫ب��الأج��ن��ا���س الأدب ��ي ��ة‪ ،‬وم��دي��ات التجديد‬
‫انبثقت �إ�شكاليتان؛ الأول��ى منهما مرتبطة‬ ‫المفتوحة كل واحد على انفراد‪ ،‬نكت�شف �أن‬
‫الأدبية‬ ‫بالعملية الإبداعية التواقة �إلى التحرر من‬ ‫كليهما مطلوبان في العملية الإبداعية‪ ،‬وال‬
‫القيود‪ ،‬والإ�شكالية الثانية مرتبطة بالعملية‬ ‫يمكن القول‪� ،‬إن االلتزام بالتجني�س الأدبي‪،‬‬
‫النقدية التي تواجه موجات التطور النظري‬ ‫يطم�س �سمة التجديد �أو ي��ف� ّ�رط ف��ي قيمة‬
‫الم�ستمرة‪ ،‬باعتبار �أن النقد �أ�سا�س ًا‪ ،‬قد غادر‬ ‫الحداثة �أو يوقعنا في فخ القولبة‪ ،‬وال �إذا‬
‫منذ �أمد لي�س بالق�صير منطقة التالقي بين‬ ‫�أطلقنا الأعنة لجياد التجديد الجامحة‪ ،‬ف�إننا‬
‫الكتابة النقدية والكتابة الأدبية متوجه ًا‬ ‫�سنغادر منطقة تحديد الأجنا�س الأدبية‬
‫�إلى تبني الأ�س�س العلمية والمنهجية‪ ،‬وهذا‬ ‫المهمة‪ ،‬وم��ن هنا ن�ستخل�ص �أن طبيعة‬
‫ما �أحدث نقلة نوعية في الممار�سة النقدية‪،‬‬ ‫العالقة بين التجني�س الأدب ��ي والتجديد‬
‫المعتمدة على مثلث العلم والمنطق والفل�سفة‪.‬‬ ‫الإبداعي‪ ،‬هي عالقة جدلية تماثل �إلى حد‬
‫التجديد في الأدب‬
‫�إن ق�ضية التداخل الإجنا�سي والت�ضايف‬ ‫بعيد جدلية الإبداع والنقد‪ ،‬حيث بكليهما مع ًا‬
‫عمل ت�صنيعي‬ ‫ال��ن��وع��ي‪ ،‬ب��ات��ت حقيقة ن��اج��زة ال يمكن‬ ‫يكتمل الم�شروع الأدبي وتتعمق مكنوناته‪،‬‬
‫عقالني ال يتعار�ض‬ ‫التغا�ضي عنها‪ ،‬وهذا ما يدعم فكرة التفريع‬ ‫وكما �أن الإبداع في جوهره انعتاق وحرية‬
‫مع حرية الفعل‬ ‫والتوليد التي تف�ضي‪� ،‬أو ت�سمح بوالدة جن�س‬ ‫تطلقهما المخلية‪ ،‬ف�إن النقد بحقيقته ارتكاز‬
‫الإبداعي وتحديثه‬ ‫ما يحمل �صفات هجينة من جن�سين �أو �أكثر‪،‬‬ ‫واع بالأ�ساليب المنهجية العلمية‪ ،‬مع الفهم‬ ‫ٍ‬
‫وهنا يقف التجني�س باعتباره عنوان ًا بارزاً‬ ‫الدقيق والعميق لماورائيات الن�صو�ص‪،‬‬
‫لإ�شكالية كبرى على �صعيد النقد الأدبي‪ ،‬في‬ ‫وخال�صة القول‪ ،‬يتعذر على الأدب بحال‬
‫الوقت الذي تفتح الكتابة الإبداعية �أذرعها‬ ‫من الأح��وال‪ ،‬اال�ستغناء عن الحرية وروح‬
‫�أم��ام �أي تقارب �أو اندماج بين الأجنا�س‬ ‫التجديد ف��ي الإب� ��داع‪ ،‬ال��ذي ه��و م��ن نتاج‬
‫الأدبية‪ ،‬معتبرة ذلك حق ًا طبيعي ًا تكفله حرية‬ ‫المخيلة الحرة‪ ،‬وفي نف�س الوقت ال يمكنه‬
‫المبدع عند الكتابة‪ ،‬والحرية بطبيعتها ت�أبى‬ ‫اال�ستغناء عن النقد‪ ،‬ال��ذي هو نتاج العقل‬
‫�أن تت�ضايف في قوالب محددة‪ ،‬و�أمام هذا‬ ‫المح�ض‪.‬‬
‫وذاك يبقى الخالف على هذه الق�ضية قائم ًا‪،‬‬ ‫ه��ن��اك ع��ائ��ق ال ب��د م��ن ال��ت��وق��ف عنده‬
‫والتنظير لم يفتر �أو يتوانى عن ت�أطير هذا‬ ‫ومعالجة ما يمكن معالجته لتفاديه‪ ،‬وهو‬
‫االلتزام بالتجديد‬ ‫ال�سجال‪ ،‬كما �أن االختالف بين الآراء النقدية‬ ‫�أن بع�ض المت�صدين للعملية الأدبية‪ ،‬ب�شقيها‬
‫الأدبي ال يطم�س‬ ‫لم يتوقف‪ ،‬فمنهم من يقول �إن الأجنا�س‬ ‫الإبداعي والنقدي في العقود الأخيرة‪ ،‬قد‬
‫�سمة التجديد‬ ‫متداخلة فيما بينها ويف�ضي بع�ضها �إلى‬ ‫�أ�صيبوا بحالة من التراخي المعرفي في‬
‫بل يج�سد عالقة‬ ‫بع�ض‪ ،‬ومنهم من يجد �أن التجني�س �أمر ال‬ ‫التعاطي مع متغيرات النظرية الأدبية‪ ،‬ولم‬
‫جدلية �إبداعية‬ ‫يمكن التنازل عنه؛ لأن كل جن�س له �سماته‬ ‫ي�ستطيعوا اللحاق بعربات تطوراتها المهمة‬
‫الخا�صة في مجاله وهي الأقدر على تج�سيد‬ ‫ال�سريعة‪ ،‬ول��م ي��درك��وا قطار الم�ستجدات‬
‫الفعل الإبداعي‪ ،‬ومنهم من يعتقد �أن الحدود‬ ‫المتالحقة‪ ،‬والحيثيات المتنوعة في ثنائية‬
‫بين الأجنا�س الأدبية غير قادرة على ال�صمود‬ ‫الإبداع والنقد مع ًا‪ ،‬وهذا ما �أدى �إلى بروز‬
‫�أمام القدرات االختراقية للمبدعين‪ ،‬وهذا ما‬ ‫�إ�شكالية خطيرة‪ ،‬هي مواربة الإب��داع للنقد‬
‫يدعو النقد العربي المعا�صر �إلى الت�شخي�ص‬ ‫ومداهنة النقد للإبداع‪.‬‬
‫ال�صائب لأ�س�س االختالف والخروج بنظرية‬ ‫معلوم �أن ه��ذه ال��م��وارب��ة عند بع�ض‬
‫نقدية‪ ،‬ت�ستوعب �أبعاد هذه الإ�شكالية‪.‬‬ ‫الكتاب‪� ،‬إذا جاز التعبير‪ ،‬ومداهنة بع�ض‬

‫‪143‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫قراءات‬

‫الخطاب ال�سينمائي‬
‫بين �أ�سئلة الفن و�أ�سئلة الحرية‬
‫وي ��ق ��ارب ال��ح��ق��ي��وي‪ ،‬ت��ل��ق��ي ال��خ��ط��اب‬ ‫ه��ن��اك ف���رق في‬
‫ال�����س��ي��ن��م��ائ��ي‪ ،‬م ��ن خ�ل�ال ت��ح��ل��ي��ل خ��ط��اب‬ ‫ال��دالل��ة بين كلمتي‬
‫ال�صورة‪ ،‬ومنذ المقدمة يطرح الكاتب عالقة‬ ‫(خطاب) و(�سينمائي)‬
‫المتلقي(الم�شاهد) بهذا الخطاب‪.‬‬ ‫ف��ال��خ��ط��اب ي�شتغل‬
‫�سليمان الحقيوي‬ ‫وينق�سم الكتاب �إلى ق�سمين كبيرين‪ ،‬الأول‬ ‫على اللغة‪� ،‬سواء على‬
‫خ�ص�صه الحقيوي‪ ،‬لمقاربة مجموعة من‬ ‫ّ‬ ‫م�ستوى الو�صف �أو‬
‫الأكاديمي لق�ضايا الت�أويل والتلقي‪ ،‬واللغة‬ ‫الق�ضايا تحت عنوان (ق�ضايا في التلقي)‪ ،‬ومن‬ ‫م�ستوى الت�أويل‪ ،‬في‬ ‫�سعاد �سعيد نوح‬
‫النقدية ال�سل�سة والب�سيطة‪ ،‬والتي يمكن �أن‬ ‫هذه الق�ضايا‪ :‬مدخل بتعريف ال�صورة على‬ ‫حين �أن (ال�سينمائي)‬
‫ي�ستوعبها الجمهور العام غير المتخ�ص�ص‪،‬‬ ‫اختالف المجاالت المعرفية التي تداولتها‪،‬‬ ‫مفهوم يقوم على لغة مختلفة ومغايرة‪� ،‬إنها‬
‫وه��ذه المزاوجة بين م�ستويات اللغة‪ ،‬تتيح‬ ‫وعالقة ال�سينما بحدود التلقي‪ ،‬ثم ينتقل‬ ‫لغة ال�صورة‪ ،‬باعتبارها �صناعة لها معجم‬
‫مزاوجة �أخ��رى بال�ضرورة بين نوعين من‬ ‫الكاتب �إلى درا�سة عالقة الأدب بال�سينما من‬ ‫تقنيات مختلفة‪ ،‬والجمع بين المفردتين في‬
‫الجمهور‪ ،‬المتخ�ص�ص والعام؛ ما يتيح للقراء‬ ‫مداخل مختلفة‪ ،‬منها نقل الرواية �إلى ال�شا�شة‬ ‫تركيب لغوي واحد‪ ،‬يتطلب �أن نحلل الم�ستوى‬
‫الغو�ص في ق�ضايا تتعلق بال�سينما‪ ،‬وال�صورة‬ ‫وتمثالت القارئ والم�شاهد‪ ،‬حول ما يقر�أ وما‬ ‫الت�أويلي الداللي‪ ،‬الذي تقدمه اللغة ال�سينمائية‬
‫راهنة و�آنية في �سعي من الكاتب‪� ،‬إلى �أن يقدم‬ ‫ي�شاهد من �أعمال �سينمائية وروائية‪.‬‬ ‫بمفرداتها المختلفة؛ لدرا�سة مفهوم الخطاب‬
‫للقارئ نظريات وم�سائل و�إ�شكاليات فنية‬ ‫وي��رى الكاتب �أن ال�سينما في فترة ما‪،‬‬ ‫ال�سينمائي ودالالت��ه وما هي طرائق البحث‬
‫و�سينمائية ب�أ�سلوب �سهل‪ ،‬ي�شجع �أكثر على‬ ‫ا�ستطاعت تطوير �أدواتها الخا�صة‪ ،‬و�أ�سلوب‬ ‫فيه‪ .‬هذه المقاربة الت�أويلية قدمها لنا الناقد‬
‫القراءة‪ ،‬ويقدم للقارئ مفاتيح لقراءة الفيلم‬ ‫خطابها المتفرد والمتميز عن الأ�سلوب الأدبي‪،‬‬ ‫ال�سينمائي المغربي �سليمان الحقيوي في‬
‫ب�صري ًا‪.‬‬ ‫مع ا�ستطاعتها الحفاظ مع الأدب على و�شا ِئج‪،‬‬ ‫كتابه (الخطاب ال�سينمائي‪ ،‬ق�ضايا في التلقي‬
‫و�أخيراً‪ ،‬ينهي الكاتب الكتاب بخاتمة تدعو‬ ‫واعتباره واح��داً من المنابع الأ�سا�سية لها‪،‬‬ ‫والت�أويل) الذي �صدر �أخيراً (‪ )2020‬عن دار‬
‫�إل��ى �ضرورة العودة �إل��ى الكثير من الق�ضايا‬ ‫لكن مع ا�ستفادة �أي�ض ًا من الفنون الأخرى‪،‬‬ ‫ر�ؤية بالقاهرة‪.‬‬
‫المتعلقة بتلقي الفن وال�سينما عموم ًا‪ ،‬في‬ ‫كالت�شكيل والمو�سيقا والرق�ص‪ ،‬وم��ن بين‬ ‫يهدف الكاتب �إل��ى‪�( :‬إع��ادة بناء عالقة‬
‫زمن ت�ضيق فيه المعرفة بال�صورة ويكثر فيها‬ ‫مظاهر هذا التطور‪� ،‬أن ال�سيناريو ال�سينمائي‪،‬‬ ‫معرفية مع خطاب ال�صورة‪ ،‬الخطاب الذي‬
‫ا�ستهالكها‪ .‬وي�ؤكد ارتباط الفن ب�أ�سئلة الحرية‪،‬‬ ‫لم يعد ُيعتبر نوع ًا �أدبي ًا‪ ،‬كما في ال�سابق‪.‬‬ ‫ن�ستهلكه �أكثر من غيره‪ ،‬لكننا نعرف عنه �أقل‬
‫التي غابت عن الوطن العربي‪ .‬كذلك ي�ؤكد عالقة‬
‫ثم ينتقل الكاتب �إل��ى الك�شف عن لغة‬ ‫من غيره)‪ .‬ويطرح الكاتب �س�ؤا ًال جوهري ًا‪:‬‬
‫الأدب بال�سينما في ال�سيناريو الم�أخوذ عن ن�ص‬
‫النقد ال�سينمائي والمعارك‪ ،‬التي يخو�ضها‬ ‫(ما ال��ذي يجعل ال�سينما تتفوق على باقي‬
‫�سمى بـ(�سينما‬
‫�أدبي‪ ،‬ويك�شف عن مالب�سات ما ُي ّ‬ ‫مع ُ�ص ّناع الفيلم من ناحية والجمهور من‬ ‫الخطابات في �سرد الحكايات والق�ص�ص)‪.‬‬
‫الم�ؤلف) التي يقدمها مخرج برغم طليعيته‪،‬‬
‫ناحية �أخ��رى‪ ،‬ويك�شف �أي�ض ًا عن المعوقات‬
‫�إال �أن��ه ي�ستغني عن الن�ص الأدب ��ي‪ ،‬بل يكتب‬
‫ال�سيناريو بنف�سه‪ ،‬ونرى انحياز الكاتب لهذا النوع‬ ‫التي يواجهها النقد في الوطن العربي‪ .‬ومن‬
‫من ال�سينما (�سينما الم�ؤلف) ويرى �أن المخرج‬ ‫ثم ينتقل �إلى معوقات التلقي التي يعانيها‬
‫فيها يكون �صاحب ر�ؤية فنية وا�ضحة ومختلفة‬ ‫الجمهور على مختلف م�ستوياته (النخبة‪-‬‬
‫للمجتمع وللنا�س‪� ،‬إذ نجده يولي اهتمام ًا كبيراً‬ ‫الجمهور العام)‪.‬‬
‫عبر �صفحات عدة لتجارب مهمة في هذا ال�سياق‪،‬‬ ‫ويذهب الكاتب �إل��ى معالجة مو�ضوع‬
‫كتجربة (الموجة الجديدة) الفرن�سية التي جاءت‬ ‫ال�سينما والعنف‪ ،‬في حين �أن العنوان الفرعي‬
‫�أواخر الخم�سينيات‪ ،‬ودامت طوال عقد ال�ستينيات‬ ‫للكتاب (ق�ضايا التلقي والت�أويل) فقد عالجها‬
‫بر�ؤية مختلفة للعمل ال�سينمائي‪ ،‬تجعل من‬ ‫في الق�سم الثاني‪ ،‬وهذه الق�ضايا متنوعة تدور‬
‫المخرج مرادف ًا للم�ؤلف في الأدب‪ ،‬و�صاحب‬ ‫ما بين ا�ضطهاد ال�صورة وحكاية ال�صورة‪،‬‬
‫العمل ال�سينمائي والم�س�ؤول الأول عنه‪ ،‬ولي�س‬ ‫وحدود الفن والأخالق في ال�سينما‪ ،‬وال�سينما‬
‫مجرد تقني خا�ضع لوجهات نظر المنتجين‬ ‫بين الإب���داع والإن��ت��اج‪ ،‬وال�سينما والربيع‬
‫الطامحين للربح التجاري‪ ،‬وال مجرد منفذ فقط‬ ‫العربي‪ ،‬وال�سينما والثورة‪.‬‬
‫ل�سيناريوهات كتبها الآخرون‪.‬‬ ‫�إن���ه ك��ت��اب يجمع ب��ي��ن ع��م��ق ال��ت��ن��اول‬

‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪144‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫د‪ .‬محمد �أبو ال�سعود الخياري‬


‫ير�صد في درا�سة نقدية‬
‫(اتجاهات ال�سرد في الرواية‬
‫الم�صرية المعا�صرة)‬
‫�سردي؛ تحمل �سمات هذا االتجاه وتدل‬ ‫ت��ن��اول الدكتور‬
‫على خ�صائ�صه ال�سردية‪.‬‬ ‫وال��ن��اق��د الم�صري‬
‫وقد اختارت الدرا�سة علم ال�سرد منهج ًا‬ ‫محمد �أب ��و ال�سعود‬
‫للبحث؛ متو�سمة قدرة هذا المنهج ب�أدواته‬ ‫ال�����خ�����ي�����اري‪ ،‬ف��ي‬
‫د‪.‬محمد �أبو ال�سعود الخياري‬ ‫الدقيقة في الك�شف عن ال�سمات ال�سردية‬ ‫درا� ��س ��ت ��ه ال��ن��ق��دي��ة‬
‫للرواية في تلك الفترة المهمة من تاريخ‬ ‫(ات��ج��اه��ات ال�سرد‬
‫بطريقة ما‪ ،‬يجعلنا نت�أمل هذه الأعمال‪،‬‬ ‫ال��رواي��ة الم�صرية‪ ،‬وذل ��ك عبر مباحث‬ ‫في الرواية الم�صرية‬ ‫زمزم ال�سيد‬
‫�سر نجاحها النقدي‬ ‫محاولين الوقوف على ّ‬ ‫ثالثة هي‪ :‬ال�شخ�صية ال�سردية ‪ -‬الزمان‬ ‫ال����م����ع����ا�����ص����رة)‬
‫والجماهيري‪.‬‬ ‫ال�سردي– الراوي والمروي عليه‪.‬‬ ‫ال�����ص��ادرة حديث ًا ع��ن الهيئة الم�صرية‬
‫وت ��ق ��ود ال ��درا� ��س ��ة ال��م��ع��ت��م��دة على‬ ‫وق ��د ر���ص��د ال��خ��ي��اري ف��ي ال��درا���س��ة‬ ‫العامة للكتاب‪ ،‬والتي جاءت في (‪)370‬‬
‫اال�ستعانة بالر�صد والإح�صاء للروايات‬ ‫اتجاهات �سردية بدت مهيمنة على �أ�شكال‬ ‫�صفحة‪� ،‬أه��م ال�سمات ال�سردية للرواية‬
‫الممثلة لالتجاهات ال��روائ��ي��ة الأرب��ع��ة‪،‬‬ ‫الرواية في العقدالأول من القرن الحادي‬ ‫الم�صرية‪ ،‬ف��ي العقد الأول م��ن القرن‬
‫والمطبقة على الن�ص بالكامل �إلى الخروج‬ ‫والع�شرين وهي‪ :‬رواية الواقعية النقدية‪،‬‬ ‫الحادي والع�شرين‪ ،‬تلك الفترة الحرجة من‬
‫بنتائج منطقية‪ ،‬ت�شير بو�ضوح ودون‬ ‫ورواي����ة ال��واق��ع��ي��ة ال��ت��اري��خ��ي��ة‪ ،‬ورواي ��ة‬ ‫تاريخ م�صر الحديث‪ ،‬والتي �شهدت موجة‬
‫انطباع �أو تحيز �إلى الإجابة عن ال�س�ؤالين‬ ‫الواقعية االفترا�ضية‪ ،‬ورواي��ة الواقعية‬ ‫من اال�ضطرابات االجتماعية وال�سيا�سية‪،‬‬
‫الرئي�سيين‪ ،‬اللذين تطرحهما الدرا�سة‪ :‬ما‬ ‫ال�سحرية‪ .‬ممثلة بنماذج دال��ة ومتنوعة‬ ‫في يناير (‪2011‬م)‪ ،‬ومما ال �شك فيه ف�إن‬
‫ال�سمات ال�سردية للرواية الم�صرية في‬ ‫لتلك االت��ج��اه��ات‪ ..‬وه��ي على الترتيب‪:‬‬ ‫روايات هذه المرحلة‪ ،‬قد اختلفت وتطورت‬
‫العقد الأول من القرن الحادي والع�شرين؟‬ ‫رواية (عمارة يعقوبيان)‪ -‬عالء الأ�سواني‬ ‫�أي�ض ًا على م�ستوى ال�شكل والم�ضمون‪.‬‬
‫وما �أوجه تمايز كل اتجاه روائي عن غيره‬ ‫(‪2002‬م)‪ ،‬ورواية (واحة الغروب)‪ -‬بهاء‬ ‫وانتقت الدرا�سة ع��دداً من الروايات‬
‫من االتجاهات المعا�صرة له من الناحية‬ ‫طاهر (‪2006‬م)‪ ،‬ورواية (في كل �أ�سبوع‬ ‫الدالة لهذه االتجاهات الروائية‪ ،‬وقد جاء‬
‫ال�سردية؟ �إ�ضافة �إل��ى الأ�سئلة ال�سابقة‬ ‫يوم جمعة) �إبراهيم عبدالمجيد (‪2009‬م)‪،‬‬ ‫البحث التطبيقي على رواي��ة لكل اتجاه‬
‫الخا�صة بال�سبب‪ ،‬ف��ي ازده���ار ال��رواي��ة‬ ‫براني) محمد �صالح العزب‬ ‫ورواية (�سيدي ّ‬
‫الم�صرية �شعبي ًا في هذه الفترة وغيرها‪.‬‬ ‫(‪2010‬م)‪.‬‬
‫ي�شار �إلى �أن الناقد الم�صري الدكتور‬ ‫وكان اختيار هذه الروايات بعد الت�أني‬
‫محمد �أب��و ال�سعود الخياري‪ ،‬ح�صل على‬ ‫في الموازنة بين روايات االتجاه الواحد؛‬
‫الماج�ستير ف��ي بنية الق�صة الق�صيرة‪،‬‬ ‫وفاء ل�سمات االتجاه‪.‬‬ ‫بحث ًا عن �أكثرها ً‬
‫وال��دك��ت��وراه في ال��رواي��ة بمرتبة ال�شرف‬ ‫كما راع��ت درا���س��ة الخياري التنوع‬
‫الأولى‪.‬‬ ‫بين �أجيال الروائيين‪ ،‬بهدف ح�صد نتائج‬
‫وح��از كتابه (ات��ج��اه��ات ال�سرد في‬ ‫متنوعة؛ مثل (ب��ه��اء طاهر – �إبراهيم‬
‫ال��رواي��ة الم�صرية) جائزة �أف�ضل كتاب‬ ‫عبد المجيد – ع�لاء الأ�سواني – محمد‬
‫في النقد الأدبي بمعر�ض القاهرة الدولي‬ ‫���ص�لاح ال��ع��زب)؛ ف��ه ��ؤالء �أرب��ع��ة �أج��ي��ال‬
‫للكتاب (‪2020‬م)‪ .‬وم��ن �أه��م درا�ساته‬ ‫روائ��ي��ة م�صرية من روائ��ي��ي ال�ستينيات‬
‫المن�شورة‪ :‬الثورة وال��رواي��ة – الروايات‬ ‫حتى روائيي الألفية الثانية‪ .‬كما لم تغفل‬
‫العربية متاحف �سردية – البلطجي كما‬ ‫ال��درا���س��ة النجاح النقدي والجماهيري‬
‫ر�آه نجيب محفوظ – مغامرة العقاد التي‬ ‫الذي حققته الروايات‪ ،‬وهو و�إن لم يكن‬
‫�أربكت م�سيرة ال�شعر العربي‪.‬‬ ‫معياراً علمي ًا خال�ص ًا‪� ،‬إال �أنه م�ؤ�شر نجاح‬

‫‪145‬‬ ‫العدد الثامن والأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬


‫مقاالت‬
‫كتابات و�أ�شياء‬

‫الإبداع‪..‬‬
‫مواكبة الحياة وجمالية الواقع‬
‫نواف يون�س‬

‫وت�شيخوف و�إدج���ار �آل��ن بو نف�سها على‬ ‫الحالين‪ ،‬ف�إن النتيجة واحدة‪ ،‬في ا�ستمرار‬ ‫لي�س �سه ًال على المبدع عموم ًا‪� ،‬سواء‬
‫الم�شهد الأدب��ي‪ ،‬مع اختالفات فارقة في‬ ‫هذا البحث الدرامي‪ ،‬وانتقاله من ع�صر �إلى‬ ‫كان كاتب ًا �أو فنان ًا‪� ،‬أن يتوجه نحو التجريب‬
‫طبيعة ووظيفة فنياتها التي ا�ستمدت‬ ‫ع�صر‪ ،‬ومن جيل �إل��ى �آخ��ر‪ ،‬وهو ما يتيح‬ ‫�أو محاولة التحديث في مجال �إب��داع��ه‪،‬‬
‫وجودها من فنيات الرواية نف�سها‪ ،‬فالزمن‬ ‫لنا ر�ؤي��ة تلك التيارات والمدار�س‪ ،‬التي‬ ‫بعد �أن بات على يقين‪� ،‬أن جل التيارات‬
‫في الق�صة �أ�صبح محدوداً وق�صيراً‪ ،‬ولم يعد‬ ‫توالت على الم�شهد الإبداعي‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫والأ�ساليب الفنية والأدبية المتبعة‪ ،‬لم تعد‬
‫يمتد حراً وطوي ًال كما في الرواية‪ ،‬وكذلك‬ ‫ف��ي ال��ق��رن ال��ع�����ش��ري��ن‪ ،‬ب��ع��د �أن ���س��ادت‬ ‫تواكب متغيرات ومتطلبات ع�صره‪ ،‬في�سعى‬
‫ال�شخ�صيات المتعددة في الرواية‪ ،‬اقت�صرت‬ ‫الرومان�سية والواقعية لمراحل طويلة‬ ‫بجهد و�شفافية للبحث عن تيار �أو �أ�سلوب �أو‬
‫على �شخ�صية واح���دة بطلة ف��ي الق�صة‬ ‫م�سيرة الإب���داع الإن�ساني‪ ،‬فكان لنا �أن‬ ‫�شكل �أو م�ضمون‪ ،‬ي�ستر�شد منه ويقدر على‬
‫الق�صيرة‪ ،‬و�أ�صبح الحدث م�ضغوط ًا يتفجر‬ ‫نطلع على الرمزية والتعبيرية والم�ستقبلية‬ ‫ا�ستيعاب ر�ؤيته لروح ع�صره‪ .‬ولي�س �سه ًال‬
‫ب�إيقاع الزمن ال�سريع والجملة المكثفة‪،‬‬ ‫والدادائية وال�سريالية والتكعيبية‪ ،‬وغيرها‬ ‫�أي�ض ًا على المبدع‪� ،‬أن يدرك �أو يتو�صل �إلى‬
‫ولم يكتف ك ّتاب الق�صة بذلك‪ ،‬فنف�ضوا هذه‬ ‫من المدار�س والتيارات والنظريات الفنية‬ ‫مبتغاه هذا‪� ،‬إال بالكثير من البحث والمعرفة‬
‫الفنيات وتالعبوا بزمنها وحدثها‪ ،‬و�أدخلوا‬ ‫الأدب��ي��ة الفكرية‪ ،‬وال��ت��ي �أنع�شت الآداب‬ ‫والتجربة الحياتية والفكرية‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬
‫ال�شعر والت�شكيل وال�سينما ووظفوا فنياتها‬ ‫والفنون ور�سخت تطورها وتقدمها‪.‬‬ ‫بعد �أن �أ�صبح م�ؤمن ًا‪ ،‬ب�أن هذه الأ�ساليب‬
‫في ق�ص�صهم‪ ،‬كما فعلت ناتالي �ساروت‬ ‫ول��و تتبعنا ظ��اه��رة ت��ط��ور الأج��ن��ا���س‬ ‫الفنية والفكرية لم تعد تجدي نفع ًا‪ ،‬و�سط‬
‫�ف لفهما منذ‬ ‫و�آالن روب جرييه‪ ،‬وم��ن ل� ّ‬ ‫الأدبية‪ ،‬للوقوف على تلك ال��ر�ؤى الجديدة‪،‬‬ ‫تلك العوامل االقت�صادية واالجتماعية‬
‫خم�سينيات القرن الفائت‪� ،‬إلى ما و�صلنا‬ ‫التي حدثت �شعري ًا و�سردي ًا‪ ،‬وكيف �أنتجت‬ ‫وال�سيا�سية والعلمية والثقافية‪ ،‬والتي‬
‫�إليه من معطيات فنية جديدة تكتنف ال�شكل‬ ‫هذه الأجنا�س من رحمها �أ�شكا ًال جديدة‪،‬‬ ‫تع�صف وتطيح بكل ما يحيط به في مجال‬
‫والم�ضمون في الق�صة الق�صيرة الحديثة‪.‬‬ ‫�سنجد (على �سبيل المثال) الحركة المتقدمة‬ ‫حياته و�إبداعه‪.‬‬
‫ويمكننا �أن نتابع الأمثلة وهي كثيرة‪ ،‬في‬ ‫ف��ي ال�شعرية ال��ع��رب��ي��ة‪ ،‬واالح ��ت ��دام حول‬ ‫وهنا تكمن المفارقة‪ ،‬وي�شتد ال�صراع‬
‫الم�سرح وال�سينما والفن الت�شكيلي‪ ،‬وغيرها‪..‬‬ ‫ق�ضايا ال�شعر‪ ،‬بدءاً من �أبي تمام والبحتري‬ ‫بين التيارات والأ�ساليب الفنية والأدبية‪،‬‬
‫ونتابع ن�ص المبدع في محاوالته الد�ؤوبة‬ ‫والنوا�سي وما لحق بها من �أ�شكال جديدة‪،‬‬ ‫بل بين المبدعين �أنف�سهم‪ ،‬فمنهم من يتبنى‬
‫مع ر�ؤيته المتجددة‪ ،‬نحو التعبير بعيداً عما‬ ‫بد�أت مع المو�شح‪ ،‬ولم تنت ِه مع الكال�سيكية‬ ‫ك�سر و�إلغاء النظريات والأ�س�س التقليدية‪،‬‬
‫�ألفناه واعتدناه في م�سيرة الآداب والفنون‪،‬‬ ‫الجديدة في بدايات القرن الع�شرين‪ ،‬وما‬ ‫التي يرى �أنها �صارت عالة على �إبداعه‪،‬‬
‫حيث نلم�س �أن التغيير بحد ذاته �صار واقع ًا‬ ‫�أ�سفرت عنه ب��روز ق�صيدة التفعيلة‪ ،‬وما‬ ‫ومنهم من يحاول البحث عن �أطر ونظريات‬
‫قائم ًا ومرتبط ًا بما يحيط بالمبدع من‬ ‫القته من معار�ضة قبل �أن ت�صبح �شك ًال له‬ ‫ومفاهيم جديدة‪ ،‬قد ت�ساعده على ابتكار‬
‫متغيرات حياتية وفكرية و�إن�سانية‪ ،‬حتى‬ ‫�شرعيته الفنية والفكرية‪� ،‬إلى جانب الق�صيدة‬ ‫معطى جديد يعينه في التعبير عن ذاته‬
‫�إنه �أم�سى �ضرورة تالم�س كل مناحي الحياة‬ ‫الكال�سيكية‪ ،‬وهو ما ينطبق �أي�ض ًا على ما‬ ‫وال��واق��ع ال��ج��دي��د المحيط ب��ه‪ ،‬وف��ي كال‬
‫التي نعي�شها‪ ،‬لي�صبح المبدع في خ�ضمها‪،‬‬ ‫�أطلقنا عليه ق�صيدة النثر‪ ،‬وما �شكلته من‬
‫مر�آة وجود حية‪ ،‬ال تعك�س الواقع المعي�ش‬ ‫تغيير في ال�شكل والم�ضمون ال�شعري‪.‬‬
‫وح�سب‪ ،‬بل تمزج هذا الواقع بالمخيل في‬ ‫نف�س المثال ينطبق �أي�ض ًا على جن�س‬
‫التيارات والمدار�س‬
‫�سبيل تطويره وتجديده ليبدو �أكثر مثالية‬ ‫الق�صة الق�صيرة‪ ،‬التي خرجت من عباءة‬ ‫�أنع�شت الآداب والفنون‬
‫وجمالية‪.‬‬ ‫الرواية‪ ،‬عندما فر�ضت كتابات موبا�سان‬ ‫ور�سخت تطورها‬

‫العدد الثامن الأربعون ‪� -‬أكتوبر ‪- ٢٠٢٠‬‬ ‫‪146‬‬


‫يمكنك االطالع على مجلتك عبر‪:‬‬
‫• منصات التواصل االجتماعي‬
‫• موقعنا اإللكتروني‬

‫‪shj_althaqafiya‬‬
‫‪Alshariqa althaqafiya‬‬
‫‪www.alshariqa-althaqafiya.ae‬‬

You might also like