Professional Documents
Culture Documents
مسكين الدارمي..
تُعنى بالشعر واألدب العربي
ذكرته األجيال «بالخمار األسود»
الشمـس..
حضور ساطع في
القصيدة العربية
ي العرب ّي..
النص الشعر ّ
ّ
وأخيلةٌ ُمغايرة
سماتٌ جماليةٌ ْ
ِ
القصيدة العربية تمتلك كثافتها التعبيرية وسماتها الجمالية وتكويناتها اللغوية البديعة ،وهي بهذه السمات
تواصل مسيرتها في المشهد اإلبداعي بأخيلتها المألوفة والمر ّكبة .ومن العالمات التي تجعل النصّ الشعري إصدارات مجلة القوافي
في أبهى حاالته ،اكتمال عناصره واتّساع رؤيته ،وهو بهذه الخواصّ يصبح قابالً للتحليل والتأويل ،فعلوم
البالغة تجتهد في توصيف التأثيرات الجمالية التي تح ّدد بيان درجة الشعرية وإبراز معالمها .وقد أسهمت
المختارات الشعرية في حفظ تاريخ القريض ،كونه إرث العرب وميدان نهضتهم في كل العصور؛ وفي
من العطاء الشعري ،ومن ث ّم نتطرق إلى نماذج كتب شهيرة مثل «المفضَّليات» ،و«ديوان الحماسة»، تُعنى بالشعر واألدب العربي
إنسـانيّة ال ُّ
شعـراء..
خ فـائـ ٌ
ض بالمـحبّة تـاريـ ٌ تُعنى بالشعر واألدب العربي
مسكين الدارمي..
ألسود»
ألجيال «بالخمار ااأل
ذكرته ااأل
تُعنى بالشعر واألدب العربي
و«جمهرة أشعار العرب» وغيرها ،فالكثير من الكتب التي حفظت ديوان العرب أبقته في الذاكرة. صداقة في ال ّ
شعر.. ال ّ
وفي استطالع «القوافي» تتجلّى الدوافع الكامنة وراء سفر الشعراء ،وتنقّلهم بين األمكنة ،بما يخدم الشعر، إلخاء
ألهمت معاني الو ّد وااإل
الموصل العراقية..
قيثــــارة الكـلمـــات
أحبها المتنبي حمص..
وتعـلق بهـا ديـك الجـن
قصيدة
الم
سالالطمأنينة والس
الخير..
وهو ما يطرح التساؤل :هل هذه األسفار باستطاعتها أن تكمل الوجه اآلخر للقصيدة ،بخاصة أن النصّ ملتقـى
ُ عـ َدن..
َ
الشعري حين تتهيّأ أحوال تكوينه يتخلّق في العقل الباطن للشاعر وفق المؤثرات التي تحيط به؟
المــــاء والحــلم
غــ َ
ل َ
ش َ ظــ ّ
ل.. ال ِّ
الغية ال ّ
شعراء بالمعاني الببال
وتظ ّل المواقف الطارئة التي تحيط بالشعراء في ك ّل العصور تبرز قضاياهم اإلنسانية ،وحاجتهم إلى األمن ..حضور ٌ
وار ٌ
ف فـي الشعـر
ال َ
غ ْيم
واالطمئنان ،فإشكالية الجوع التي قد تحدث بسبب ش ّح الطبيعة تُعرّضهم للمحن ،وتضطرهم إلى العوز،
الشمـس..
ابن ال َج ْوزي الشاعر.. حضور ساطع في
عائـ ٌد من ذاكـرة النسيـان القصيدة العربية
فينعكس ذلك على مضامين نصوصهم ،فيعبرون عنه بالسخرية أحيانا ً أوبتشكيل دالالته وإدراك خطورته
في حياتهم ،وهو ما تبرزه بعض الموضوعات النقدية التي تتعرض لنماذج شعرية عاشت في محيطها
اإلنساني وهي تعانى وطأة الجوع. م ْن ِ
العربية في كل العصور ،فقد استلهم الشعراء منها صوراً بديعة حضرت في الغزل ،و ُشبّهت بلوحة الضياء، ا ل ّلاّل
اّل ذ قيـــــــــــة . .
در ّ ُ
ة البحـــر والجبــل ُ
البيئة وال ّ
شعـراء..
إشارات تكبر في المخيلة
نظراً لطبيعتها الجمالية ،وتأثيرها الرمزي في الوجدان ،فهي بح ّق مصدر ملهم في الشعرية العربية.
تُعنى بالشعر واألدب العربي تُعنى بالشعر واألدب العربي تُعنى بالشعر واألدب العربي
وال تزال الذاكرة الشعرية تستدعي النماذج الباهرة في تاريخ القصيدة العربية ،مثل مسكين ال ّدارمي الذي
تفـر ّ َد بعبقـري ّة الخيـال ضــرٌ ت ُ
خ ْ ال ٌ
الال
دال
د إلنسانية
ملتقى الحضارات ااإل
والغنـــاء للطبيعــة في قصائ ِد ال ُّ
شعراء
عمرو بن كلثوم الشعـراء ومنتصــف
العـمر ..الذات المغتربة مــر.. ال َ
ق َ
ال تزال تذكره األجيال بأبيات «الخمار األسود» فقد تميّز بنبوغه وجزالة لفظه ،رغم ضياع أغلب شعره،
آلخر في معلّقته
والبُعد ااآل ت
ال ٌ
الال
دال
د
ب وال َ
خيـال موحيـ ٌة بال ُ
حـ ّ
فاستدعاء مقتطفات من حياته يحفظ له الوفاء ،ويعيد سيرته إلى المشهد اإلبداعي برؤية مغايرة في الطرح. بستــان
ألندلس وحصنه ومنارته
ااأل
ب َل َ ْن ِ
سي َـة..
وفي باب «الجانب اآلخر» تتناول «القوافي» موضوع َمرْ ثيّات األخ في الشعر العربي التي ترويها
ال ُّص ْبـح..
حكايات الفقد والبكاء ،بعرض نماذج عبّرت صراحة عن الشجن والمشاعر الحزينة ،فهذا اللون من مجــاز الشعــراء
في الب ُشرى والبهجة
الرثاء يبرز حالة االغتراب التي تنتاب الشعراء إزاء الصورة األليمة التي تتراءى أمامهم،
حين يتعرضون لفقد األحبة.
وتواصل «القوافي» نشر قصائد الشعراء واإلضاءة على تجاربهم اإلبداعية من كل
الجوانب ،بما يثري المشهد الثقافي ويسهم في تن ّوعه.
ص.ب 5119 :الشــــارقـة -اإلمـــــارات العــــربية المتحــــــدة
الهاتف +971 6 5683399 :الب ّراق+971 6 5683700 :
البريـد اإللكترونيqawafi@sdc.gov.ae :
الموقع اإللكترونيwww.sdc.gov.ae :
poetryhouseshj
3 العدد (� - )49سبتمرب 2023
مدن القصيدة
36 مص ..أحبّها المتنبّي
ِح ْ
الجن
ّ وتعلّـق بهـا ديك
16
يوسف الكمالي -السودان 500 :جنيه -السعودية 10 :رياالت -البحرين 500 :فلس
مدير �إدارة ال�ش�ؤون الثقافية
َ
الخ ْير ..قصيدةُ ال ُّطمأنينة والسالم مسارات -الكويت 0.500 :دينار -سلطنة عمان 0.500 :ريال
محمد العموش محمد �إبراهيم الق�صير -مصر 5 :جنيهات -األردن :ديناران
مدير التحرير
26
محمد بوثران وكالء التوزيع:
حسن شهاب الدين
حوار في الشعر نحتاج الممحاة أكثر من القلم جاسم الصحيّح: محمد عبداهلل البريكي
-اإلمارات :شركة توزيع ،الرقم المجاني 8002220 :
جاسم الصحيّح هيئة التحرير
54
-السعودية :شركة تمام العالمية المحدودة -الرياض -هاتف +966576063677 :
عبدالعزيز األزوري
ش ََجنُ ال َكلمات بأثر َغ ْير َم ْحدود ع والشّعراء..
الجو ُ مقال عبدالرزاق الربيعي -البحرين :مؤسسة األيام للنشر ،المنامة -هاتف +97497617749 :
-الكويت :مجموعة النظائر اإلعالمية ،الكويت ،هاتف +96524949500 :
نزار �أبو نا�صر
سليمان اإلبراهيم -سلطنة عُمان :المتحدة لخدمة وسائل اإلعالم -مسقط -هاتف+96824900895 :
إسماعيل ض ّوا عصور ذكرته األجيال «بال ِخمار األسود» سكين الدّارمي..
ِم ْ 58 عبدالعزيز الهمامي
حنين عمر
-مصر :مؤسسة األهرام للتوزيع :القاهرة ،هاتف +20249704943 :
-األردن :وكالة التوزيع األردنية :ع ّمان -هاتف +96495498855 :
خالد الحسن -تونس :الشركة التونسية للصحافة -تون�س -هاتف +20249704943 :
68
�أ�شرف �إبراهيم جمعه
محمد المحبوبي حضو ٌر ساط ٌع في القصيد ِة العربي ِة س..
ش ْم ُ
ال َّ نقد المتابعة والتن�سيق
-المغرب :سوشبرس للتوزيع -الدار البيضاء -هاتف+214924989121 :
-قطر :شركة توصيل -الدوحة ،هاتف+97494957810 :
هندة محمد هم�سة يون�س -دار الراوي للنشر والتوزيع -الخرطوم -السودان هاتف :
زينب عقيل
استراحة
�إيمان محمد المعدّ ي عناوين المجلة
عبدالعزيز لُو 86 «الج ْم ُر ور ٌد آ ِسر»
يستدعي التفكير في َ د .أحمد الهاللي..
الكتب
التدقيق اللغوي اإلمارات العربية المتحدة ،حكومة الشارقة
عبدالله العبد ال�شعار
ّ فواز دائــــرة الثقـــــافة
الجانب
92 الت�صوير ص.ب ،5119 :الشارقــة
هبة الفقي حكايات الفَ ْقد والبُكاء َمرثيّات األخ في الشّعر..
اآلخر �إبراهيم خليل هاتف +97165684999 :
سيدي محمد محمد المهدي بـ ّراق +97165684900 :
-المواد المن�شورة في المجلة تعبر عن �آراء كاتبيها وال تعبر بال�ضرورة عن ر�أي المجلة. التوزيع واإلإعالنات Email: qawafi@sdc.gov.ae
عبدالله الخضير -ترتيب المواد و األأ�سماء في المجلة يخ�ضع العتبارات فنية - .ال تقبل المواد المن�شورة �أو المقدمة لدوريات �أخرى.
poetryhouse@sdc.gov.ae
� -أ�صول المواد المر�سلة للمجلة ال ترد ألأ�صحابها ن�شرت �أو لم تن�شر. خالد �صديق
WWW.sdc.gov.ae
قطرات
يـقـولون لي
َ
ت األم ُر لَ ْ
ـــم أبِ ْ وإنّـــي إذا مـــا فاتَنـــي ْ
ـــــرهُ ُمــتَــنَــدِّمــا
َ ب فِـــكـْـري إ ْث
أقَـــلِّ ُ
عــ ْفـــــواً قَــبِــ ْلتُهُ ولَكــِنَّـــــهُ ْ
إن جــا َء َ ـقـبـاض وإنَّـما
ٌ ـقـولون لي فـيــــك ا ْن
َ يَ أبو احلسن
وإن َمــــا َل لم أُتـبـعــــهُ َ
هــــاّ ولَ ْيـتَما
ُ
ـف ُّ
اجلرجاني
أح َجما
الذ ِّل ْ ـوقِ ِ
ـن َم ْ
ع ْأوا َر ُجـالً َ
َر ْ
ضـاحـكَ عـابـِسـا ًِ وأُ ْكــ ِر ُم نَـ ْفـسـي أَ ْن أُ ع ْن َده ُْم أرى النّ
هان ِ
َ ه ُم
ـن دانا ُ
ــــاس َم ْ
َ
ــديـــــح ُمــ َذ َّممــا
ِ وأن أَتـَـــــلقَّى بـــال َم
ْ س أُ ْكـ ِرما
عـ َّزةُ النَّـ ْفـ ِ ـن أ ْك َ
ـر َمـ ْتـهُ ِ و َم ْ
الح ِّر نِ ْق َمةً و َك ْ
ـم نـ ِ ْعـ َمـ ٍة كـانــــت على ُ
العصر العباسي
كـان ُكلَّما
َ العــــ ْل ِم ْ
إن ق ِ ولَ ْم أَ ْقـ ِ
ض َحـ َّ
ــــر َمـ ْغ َ
ـرما الح ُّـم َمـ ْغــــنَ ٍم يَـ ْعـتَـ ُّدهُ ُ
و َك ْ ســـلَّمــا
صــــــيَّرتُهُ لي ُ بدا طَـــ َمـــ ٌ
ع َ
ولَ ْم أَ ْبـتَــــ ِذ ْل في ِخ ْد َمـــ ِة ِ
الع ْل ِم ُم ْه َجتي ـي جـانِبا ً ض َ ومـا ِز ْلتُ ُمـ ْنـحــــازاً بـ ِ ِع ْ
ـر ِ
ـن ألُ ْخـ َدمـا ألَ ْخـــــ ِد َم َم ْ
ــن القَــ ْيــــتُ لَ ِك ْ الصـيـانـَةَ َمـ ْغـنَما
ِّ ــــن ُّ
الذ ِّل أعْ ـتَــــ ُّد ِم َ
ــرسـا ً وأَ ْجـنـيـ ِه ِذلَّةً
غ ْ أَأَشْــقــى بـ ِــــ ِه َ هــــ ٌل قُ ْلتُ قَ ْد أرى
إذا قـيــــ َل هـذا َمـ ْنـ َ
الج ْه ِل قَـــ ْد كان أَ ْح َزما
ع َ إذن فـاتِّــــبا ُ
ْ َـحـتَـمـ ُل الظَّمـا
ـر ت ْ
الح ِّ
ـس ُولكــنَّ نَـ ْف َ
ه ْم ولَ ْو أنَّ أَهْـ َل ِ
العــــ ْل ِم صـانـوهُ صانَ ُ ض مـا ال يَـشينُها
ـن بَـ ْعـ ِ
ع ْ أُنَ ِّ
ـزهُـهــــا َ
س لَ ُعـ ِّ
ظمـا عــظَّمــ ُوه فــي النُّـفـو ِ
ولَ ْو َ العدا فيـــ َم أو لِما َمـخـافَــــةَ أ ْق
ــــوال ِ
ِ
ولَ ِك ْ
ــن أهــانـــــوهُ فــهــانوا و َدنَّسـوا سـلَّمـا ً عـ ْيـب اللَّ ِ
ئيـم ُمـ َ ـن َ
ع ْـح َ فـأ ُ ْ
صـبِ ُ
همـا ـمــــاع َحـتّـى ت َ
َـجـ َّ ــحـيَّاه بـاأل ْ
ط ُم َ ـريم ُم َعظَّما
ِ وقَـ ْد ُر ْحـتُ فـي نَـ ْفـ ِ
س ال َك ِ
7 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 6
إطاللة
ال ُمفَ ّ
ضليات
ويع ّد كتاب «ال ُمفَضَّليات» الذي جمعه ّ
العاّلمة المفضّل بن محمد
الضبّي -بين عامي 762م و784م -من أقدم المجموعات الشعرية التي
9 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 8
إطاللة
وإيراق
ِ ق يا عيـــ ُد ما لَـــ َك ِمـــن ش ْ
َـــو ٍ
هـــوال طَـــ ّر ِ
اق ـــف عَلـــى األَو َمـــ ِّر طَ ْي ٍ
ِ ضل أشعاراً
جمع المف ّ
ت ُم ْحتَفِيا ً
والحيّـــا ِ
َ ســـري عَلى األَ ْي ِ
ـــن يَ ْ
أحيَت األلفاظ العربية المندثرة
ســـاق
ِ نَ ْفســـي فِـــدا ُؤ َك ِمنْ ســـا ٍر عَلى
واصلُها
الحـــــ ِّر إِذ ُكنّـــا نُ ِ طَ ْي ِ
ـــف ا ْبنَـــ ِة ُ
اق اجتُنِنـــتَ بُهـــــا بَ ّعــــــ َد التِّفِـــ ّر ِ ثُـــ َّم ْ
وقد أورد المفضَّل في الكتاب أكثر من قصيدة لعدد من الشعراء ،مثل حفظت أشعار العرب ،إذ لم يسبقه أحد في هذا المجالّ ،إاّل ح ّماد الراوية
سالمة بن جندل ،وال ّش ْنفرى ،وشبيب بن البرصاء ،والمرقِّش األصغر، الذي جمع المعلقات السبع ،واختلف معه المفضّل فيها ،فأخرج من قائمتها
ومرار بن منقذ ،وعبدة بن الطيب وغيرهم ،وراعى في االختيار أجزل عنترة والحارث بن حلّزة ،واستبدل بهما النابغة واألعشى.
النصوص وأقواها. وقد ولد المفضّل عام 718م ،في الكوفة وتوفّي فيها نحو 784م .وقال
وقسّم النّقاد الحقا ً «ال ُمفَضَّليات» إلى أربعة أقسام ،وفق األغراض التي من الشعر الجاهلي سوى هذه المجموعة الموثّقة ،ألمكن وصف تقاليده عنه أبو الطيّب اللغوي «هو أوثق من روى الشعر من الكوفيين» .وكان
تناولها ،وهي األوصاف والتشبيهات والفخر والمعاني العامة؛ ولع ّل من وصفا ً دقيقاً ،فقد مثَّلت جوانب الحياة الجاهلية ،ودارت مع األيام واألحداث، معلّما للخليفة المهديّ ،ابن الخليفة جعفر المنصور ،وقيل إنه جمعها بناء
أجمل األبيات التي وردت فيه ما قاله الشاعر الجاهلي صريم بن معشر وعالقات القبائل بعضها ببعض ،وبملوك الحيرة والغساسنة ،وانطبعت في على طلبه .كما أن هناك رواية أخرى تورد أنه جمعها أثناء هروبه ،وقبل
الملّقب بـ «أفنون» على بحر الطويل: كثير منها البيئة الجغرافية ،وقد جاء فيها غير قليل من الكلمات المندثرة صدور عفو المنصور عنه ،وأيا ً تكن صحة الروايتين ،فإن المستنتج هو أنه
ســـهُ ب ال َم ْر ُء نَ ْف َ وال َخ ْيـــ َر فيمـــا َك َّ
ـــذ َ التي لم ترد في المعاجم اللغوية». ألّف الكتاب بين عامي 764و784م.
وتَ ْقوالِـــ ِه لِلشَـــي ِء يـــا لَيْـــتَ ذا لِيـــا وال ب ّد من اإلشارة إلى أن العنوان األصلي لهذا المصنّف هو «كتاب وتجمع «ال ُمفَضَّليات» 126قصيدة( ،وفي نسخ أخرى ض ّمت 130
ئ وإِنْ أَع َْجبَتـــ َك الدَّهـــ َر حا ٌل ِمـــن ا ْم ِر ٍ االختيارات» ،وغيّر من نقلوه اسمه في ما بعد ،لينسب إلى كاتبه ،ولم قصيدة) ،وعدد الشعراء 67شاعراً ،أغلبهم جاهليون ،فليس فيهم سوى
فَ َدعْــــــهُ ووا ِكـــــ ْل حالَــــــهُ واللَّيالِيـــا يكن فيه أي ترتيب للنصوص أو شرح لها ،لكن شروحه أضافها الحقا ً من عشرين شاعراً من المخضرمين ومن العصر اإلسالمي .وقد جاء في كتاب
ـــرنَ مـــا بِـــ ِه يَ ُر ْحـــنَ َعلَ ْيـــــ ِه أَو يُ َغيِّ ْ حققوه ،وطبعته األشهر تبدأ بقصيدة رقيقة ألحد أهم الشعراء الصعاليك وهو «الفهرست» البن النديم ،أنها «مئة وثما ٍن وعشرون قصيدة ،وقد تزيد
يش وانِيا وإِنْ لَـــم يَ ُكـــنْ في َج ْوفِـــ ِه ال َع ُ تأبّط ش ّراً ،ومطلعها: وتنقص» .ويرى شوقي ضيف في كتابه «العصر الجاهلي»« :ولو لم يصل
الحتـــوفَ َكثيـــ َرةٌ فَطَـــأْ ُم ْع ِرضـــا ً إِنَّ ُ
وإِنَّـــ َك ال تُ ْبقــــــي بِنَ ِ
فســــــ َك باقِيـــــــا
لَ َع ْم ُر َك مـــا يَـــدْري ا ْم ُر ٌؤ َكيْـــفَ يَتَّقي
إِذا هُـــ َو لَـــ ْم يَ ْج َعـــل لَـــهُ اللَّـــهَ واقِيـــا
والمالحظ أنه لم يرد ذكر ّإاّل لشاعرة واحدة أطلق عليها «امرأة من بني
صا ً قصيراً من خمسة أبيات حنيفة» ،ولم يذكر اسمها الصريح ،وأدرج لها ن ّ
فقط ،من الرثاء ،وجاء فيه:
أَال َهلَـــ َك ابْــــــنُ قُــــــرَّانَ َ
الح ِميـــــــ ُد
الجلَّــــــي أَبـــو َع ْمــــــ ٍرو ي ِزي ُد
أَ ُخــــــو ُ
أَالَ َهلَـــ َك ا ْمـــــــ ُر ٌؤ َهلَ َكـــــــتْ ِرجـــــا ٌل
فلـــــم تُ ْفقَــــــدْ ،وكـــــان لـــهُ الفُقُـــو ُد
كتاب االختيارات
ضليات
هو االسم األصلي لل ُمف ّ
مخطوط شرح المفضليات لالٔنباري
11 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 10
إطاللة
ورغم جمال القصيدة وجزالتها ،فإنّه حق التساؤل مرة أخرى ،عن ومن الغريب وغير المفسّر ،أن يستبعد المفضّل نصوص شاعرات
السبب وراء تخطي عالمات الشعر النسائي المعروفة في الكتابين السابقين، ّ
وغيرهن، مجيدات وشهيرات ،مثل الخنساء وليلى األخيلية وصفيّة الشيبانية
وهل هو مقصود ..أم أن شعر النّساء لم يكن متاحا ً للجمع من المصادر التي ويورد نصا ً قصيراً ،غير محكم البناء ،ضمن سلسلة قصائد طويلة ومهمة
اعتُ ِمد عليها ،فآثرا تخطيه والتركيز على ما يمكن جمعه بسهولة؟ كالتي جاءت في الكتاب.
ضلِيّات» و«األَصْ َم ِعيّات» ،قد اتخذتا النهج
كما يُشار هنا إلى كون «ال ُمفَ َّ
نفسه ،في طريقة اختيار النصوص ،إذ ركز المؤلفان على اللغة واأليديولوجيا، األص َم ِعيّات
ْ
ضلِيّات» ،بسبب كونها -حسب الرواية األولى -موجهة ويفسّر ذلك في «ال ُمفَ َّ ومن الكتب التي ال يمكن تجاوزها في تاريخ جمع الشعر العربي،
لغاية تعليمية ،أما «األَصْ َم ِعيّات» ،فقد تأثرت بها فانتهجت نهجها. «األصْ َم ِعيّات» لـ «راوية العرب» واسمه الكامل أَبو َس ِعيد َع ْب ُد ال َملِ ِك بْنُ
ب ب ِن َع ْب ِد ال َملِ ِك ب ِن أَصْ َم َع البا ِهلِ ّي البَصْ ِريّ ،ولقّب «األصْ َم ِع ّي» .ولد عام قَ ِري ٍ
الحماسة ديوان َ 741م في البصرة ،وتوفي فيها عام 831م ،وقد كان عالما ً باللغة والشعر،
لكن كتابا ً جديداً سيظهر ليحتل المرتبة الرابعة بعد ما سبق ،وليغيّر وهو من قال عنه األخفش« :ما رأينا أحداً أعلم بالشعر من األصْ َم ِع ّي».
مفهوم المختارات ،وهو «ديوان ال َحماسة» الذي ألّفه َحبِيبُ بنُ أَوْ س ب ِن ويصفه أبو الطيب اللغوي «كان أتقن القوم لغةً ،وأعلمهم بالشعر ،وأحضرهم
ث الطَّائِ ّي ،المكنّى «أبا ت ّمام» ،وهو شاعر شهير من شعراء العصر الحار ِ
ِ حفظاً» .وقد كان يطوف بالوادي ليجمع القصائد ،وكان يحفظ أكثر من عشرة
العباسي ،ولد عام 804م ،في مدينة جاسم (بمنطقة َحوْ ران في سوريا)، آالف بيت ،حتى أطلق عليه هارون الرّشيد لقب « َشيْطان ال ِّشعر».
وتُوفّي عام 846م في الموصل .سافر في ريعان شبابه إلى مصر وتعلّم كما تفوّق األَصْ َم ِع ّي في العلوم الطبيعية وعلم الحيوان ،وله مؤلفات
فيها ،وبرع في قول الشعر واشتُهر في مجالسها ،وحين ذاع صيته ،استقدمه كثيرة فيها مثل «الخيل» ،و«اإلبل» ،و«الوحوش» ،و«خلق اإلنسان».
الخليفة المعتصم إلى بغداد ،وأصبح من أبرز الشعراء في زمانه ،ثم ّ
واّله ويروى أنه كان عالما ً بتشريح الحيوانات ،وقد استطاع رفع تح ّد أطلقه
بريد الموصل عام 844م ،لتوافيه المنيّة فيها بعد عامين فقط. الفضل بن الربيع ،حين طلب تسمية كل جزء من حصان يملكه ،فأبهره
ورغم حياته القصيرة ووفاته في مطلع األربعين ،فإن أبا ت ّمام ترك األصْ َم ِع ّي بقدرته على ذلك ،وقدم شواهد شعرية على تسمياته إلظهار تمكنّه
إرثا ً شعريا ً وثقافيا ً ضخماً ،بداية من ديوان قصائده ،وصوالً إلى مؤلفات اللغوي اإلصطالحي.
تصنيفية منها « ُم ْختار أشعار القبائل» ،و«فُحول الشعراء» ،وأشهرها «ديوان «الحماسة» جمع نصوصا ً صاً ،وآخرون قالوا إنها 92نصاً ،ويعود وهناك من قال إن عددها 72ن ّ
الحماسة» الذي يع ّد من كتب المختارات ال ّشعرية المتقدمة ،فقد كان أول كتاب هذا االختالف إلى تقاطع بعض نصوصه مع ما جُمع في «ال ُمفَضَّليّات».
للشاعرات العربيات ورغم أنه ُع ّد في المرتبة الثانية بعد «ال ُمفَضَّليّات» ،فإنه القى نقداً
مختارات يلتزم خاصيّة التبويب الواضح للنصوص ،وفق الغرض الشعري،
فأولّه باب الحماسة الذي س َمي باسمه لكونه األول واألغزر ،ثم تليه أبواب كثيراً؛ فمثالً يصفه ابنُ النديم بقوله « َع ِم َل األَصْ َم ِع ُّي قطعةً كبيرةً من أشعار
أخرى هي المراثي ،واألدب ،والنسيب ،والهجاء ،واألضياف والمديح، وتغيب الشاعرات الشهيرات مرة أخرى في «األَصْ َم ِعيّات» ،إذ ال يأتي صار روايتِها». ضيَّ ِة عند العلماء؛ لِقلَّ ِة غريبِها واختِ ِ ليست بال َمر ِْ العرب،
والصفات ،والسير والنعاس ،الملح ،ومذ ّمة النساء .وكان لهذا الكتاب صدى ّإاّل على ذكر شاعرة جاهلية واحدة هي سعدى بنت الشمردل الجهنية ،التي لكن أغلب هذا النقد ،كان بسبب اختصاره لبعض النصوص ،وتخطيه
واسع جداً ،فقد استحسنه الجمهور والنقاد ،وتبارى العلماء في شرحه -وفاقت أورد لها قصيدة رثائية من ثالثين بيتا ً على بحر الكامل ،مطلعها: ستشر ُق «كارل بروكلمان» أن« :األَصْ َم ِعيّات ألغلب اإلسنادات .إذ يرى ال ُم ِ
«إن أبا ت ّمام في اختياره الحماسة شروحه األربعين مؤلفا ً -حتى قيل عنه ّ عنـــون أُ َر َّو ُ
ِ أَ ِمـــــــنَ الحــــــوا ِد ِ
ث وال َم لم تل َق ما لَقِيَ ْتهُ ال ُمفَضَّليّات وغيرُها من االنتشار والقَبول ،ألنَّها أق ُّل اشتماالً
أشعر منه في شعره» ،وفق ما جاء في مقدمة التبريزي. هجـــ ُع وأَبيــــــتُ لَ ْيلـــــــي ُكلَّـــــــهُ ال أَ َ وألن األَصْ َمع َّي َع َم َد فيها إلى اختصار الرواية». على غريب العربيّةَّ ،
ونجد في «ديوان الحماسة» عدداً كبيراً من ال ّشعراء والمقاطع الشعرية وأَبيـــــــتُ ُمخلِيَـــــــةً أُبَ ّكــــــي أَســـ َعداً ومن النصوص التي وردت في أول الكتاب ،قصيدة للشاعر المخضرم
المقتطفة من نصوص عبر مختلف العصور ،جمعت فيها أسماء مشهورة ولِ ِمثلِــــــ ِه تَبكــــــي ال ُعيــــونُ وتَه َمـــ ُع ُس َحيم بن وثيل بن عمرو الرياحي ،يفتخر فيها بنفسه:
وأخرى مغمورة ،وتميّزت بالقصر واإليجاز ،والتزمت الغرض الذي صنّفت ليحـــةُ أَنَّهـــا وتَبَيَّــــــــنُ ال َعيـــــــنُ الطَ َ ع الثَّنَايَـــا أَنَــــــا ابْــــــنُ َجـــــا وطَـــاَّ ُ
فيه ،دون مراعاة الترتيب أحياناً ،ومثال على ذلك ما جاء في باب الحماسة، َخيـــل َوتَد َم ُع
ِ ع الد الجـــ َز ِ
تَبكـــــي ِمـــنَ َ ـــــــع ال ِعما َمـــةَ تَع ِرفُونـــي ِ ض متَــــــى أ َ
صين بن الحُمام المرّي (على الطويل): من أبيات للشاعر الجاهلي ال ُح َ ولَقَـــ ْد بَـــدا لـــي قَبـــ ُل فيما قَـــد َمضى وإِنَّ َم َكــانَنــــــا ِمـــــــنْ ِح ْمـــيَــــــــ َر ٍّ
ي
الحيـــاةَ فَلَـــم أَ ِجـــ ْد و َعلِمـــتُ ذا َك لَـــ َو انَّ ِعلمــــــا ً يَنفَـــ ُع ـــــط ا ْل َع ِر ِ
يـــن س ِ ث ِمـــنْ َو َ َمـــكانُ اللَّ ْيـــ ِ
تَأ َ َّخـــرتُ أَســـتَبقي َ
ث َوال َمنـــــــونَ ِكلَي ِهمـــا أَنَّ َ
الحـــــــوا ِد َ وإِنِّـــــــي ال يَ ُعــــــــو ُد إِلَـــ َّي قِ ْرنِـــــــي
لِنَ ْفســــــي َحيـــــــاةً ِمثـــ َل أَنْ أَتَقَ َّد َمـــا
ع بــــــان َولـــو بَكـــى َمـــن يَجـــ َز ُ ِ ال يُ ْعتِ يـــن َ
ــــــــب إِاَّلَّ فِـــــــي ق ِر ِ ِّ َغـــــــدَاةَ ا ْل ِغ
ب تَدمـــــى ُكلو ُمنا فَلَســـنا عَلـــى األَعقا ِ ولَقَـــــــد َعلِمـــــــتُ بِـــأَنَّ ُك َّل ُمؤخـــ ٍر
َّ َ ومـــــــا َذا يَــــــــ َّد ِري الشُّـــ َعرا ُء ِمنِّـــي
ولَ ِكــــــن عَلـــى أَ ْقدا ِمنـــا تَقطُ ُر ال ِّد َمــــا ســـــــبي َل األَ َّوليــــــنَ َ
ســـيَتبَ ُع يَ ْومــــــا ً َ وقَــــــ ْد جــــــا َو ْزتُ حــــــــ َّد األَ ْربَ ِع ِ
يـــن
جـــال أَ ِع َّز ٍة
ٍ يُفَلِّقــــــنَ هامــــــا ً ِمـــنْ ِر ولَقَـــد َعلِمــــــتُ لَـــ َو انَّ ِعلمــــــا ً نافِ ٌع ســــــينَ ُم ْجتَ ِمعـــا ً أَشُـــدِّي أَ ُخـــــــو َخ ْم ِ
ق وأَظلَمـــا َعلَ ْينـــا َوهُـــ ْم كانـــوا أَعَـــ َّ ع َ
ـــــــب ف ُمـــ َو ِّد ُ
ٌ ـــــــي ذا ِه
ٍّ أَنْ ُكــــــ ُّل َح ُّـــــــــــؤون
ِ َونَ َّج َذنِــــي ُمـــــــدا َو َرةُ الش
13 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 12
إطاللة
وألبي ت ّمام كتاب مختارات آخرى بعنوان الوحشيات ويس ّمى كذلك وهذه األبيات الثالثة الواردة في الحماسة ،تعطي فكرة واضحة عن
واستهل البُحتُري «كتاب الحماسة» بأبيات للشاعر الجاهل ّي َع ْمرو بن
«ال َحماسة الصغرى» ،سار في جمعه على ما سبق في « َحماسته» الكبرى طريقة إنشاء المؤلف ،فبالرجوع إلى القصيدة الكاملة ،نجد أن أبا ت ّمام اختار
ا ِإلطنابَ ِة الخ َْز َرج ّي (على بحر الوافر):
من أبواب ،وجمع فيه نصوصا ً لشعراء مقلّين ومغمورين. يراع ترتيبها األصلي بل عكسه تماماً، ِ ثالثة أبيات فقط من 45بيتاً ،ولم
أَبَــــــتْ لِــــــي ِعفَّتِــــي وأَبَـــى إِبائِـــي
فجعل البيت األول من آخر النص ،واختار الثاني من منتصفه ،أما الثالث
يـــح
ـــن ال َّربِ ِ وأَ ْخـــــــ ِذي َ
الح ْمـــــ َد بِالثَّ َم ِ الحماسة كتاب َ فهو يقع في بدايته ومرتبط بصورة شعرية قبله ،ولم تكن هناك حاجة لفعل
ســو ِر مالِـــــــي
وإِعْطائِــــــي عَلى ال َم ْع ُ ويظهر عنوان «ال َحماسة» مرة أخرى ،في كتاب مختارات آخر ذلك ،ألن النّص كلّه في الحماسة ،وكان يمكن اختيار أبيات منه بترتيبها
ـــيح
ش ِ طـــــل ال ُم ِ
ِ ض ْربِـــي ها َمــــــةَ البَ و َ للبُحتُريّ ،واسمه الكامل أَبُو عبا َدةَ ال َولي ُد بنُ ُعبَ ْي ٍد بِ ِن يَحْ يَى التَّنُو ِخ ّي الطَّائِ ّي. الحقيقي دون أي إخالل بقيمة النموذج .ولم يتوقف أبو ت ّمام عند هذا الح ّد
وقَ ْولِـــــي ُكلَّمــــــا َجشَـــأَتْ َ
وجاشَـــتْ ولد عام 821م في منبج (بسوريا) ،وتُوفّي فيها عام 897م .وكان أحد من التغيّرات غير المبررة ،بل كان يسمح لنفسه بتغيير كلمات ال تعجبه في
ــــــك ت ُْح َمـــــــ ِدي أَ ْو تَ ْ
ســــــتَ ِر ِ
يحي ِ َم َكانَ أشهر شعراء العصر العباسي ،إلى جانب المتنبّي وأبي ت ّمام الذي قد ّمه األبيات التي يختارها أيضاً.
ألَدفـــــــ َع عــــــنْ َمـــــ َكا ِر َم صالِحـــا ٍ
ت وتعهّده ،فأصبح تلميذاً له ،واستوحى منه فكرة إنجاز كتاب صنّفه معارضة ّ
أغلبهن لسن لكن يحسب له أنه أدرج عدداً من ال ّشاعرات في مختاراته،
لـ «ديوان الحماسة» ،لكنه سار فيه على نهج أستاذه في تبويب مختاراته بعضهن في «الحماسة» ،مثل كبشة بنت مع ّدي كرب، ّ مشهورات ،وجاء ذكر
يح
ص ِح ِ
ض َ وأَ ْح ِمـــي بَ ْعـــ ُد عَـــنْ ِع ْ
ـــر ٍ
واستهاللها بغرض الحماسة ،وضاعف عددها ووسّع تبويبها ،حتى بلغ عدد أغلبهن في باب المراثي ،مثل ريطةّ وعاتكة بنت نفيل ،في حين وردت أسماء
أبواب الكتاب 174باباً .كما خصص آخرها لشعر النساء في المراثي، بنت عاصم ،وأ ّم قيس الضبية ،وال ُّسلَ َكة أ ُّم ال ُّسلَيْك ،وعمرة بنت مرداس -
ويمكن القول إن كتاب «ال َحماسة» -رغم غزارة مختاراته وجمالها -
منهن ،مثل الخنساء وليلى األخيلية. وأورد أسماء الشهيرات ّ وهي ابنة الخنساء -التي أورد لها أبياتا ً في رثاء أخيها مرداس بعد وفاته:
لم يحظ بما حظي به «ديوان الحماسة» ألستاذه أبي ت ّمام ،وظلت شروحه
قليلة واهتمام النّقاد والجمهور به أقل من سابقه.
15 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 14
مسارات
وش ّكلت هذه الثنائية (الخير والشرّ) فكرة مركزيّة في كثير من القصائد؛
كيف ال؟ فعلى أجنحة الخير تحلّق أحالم اإلنسان التي تنقله الى عالم السالم
واالستقرار ،والطمأنينة ،هذا العالم ش ّكل موضوعا ً تدبّره كثير من الشعراء،
كزهير بن أبي سلمى في حكمته ،والسموأل في وفائه ،وحكايته مع دروع
امرئ القيس ،تؤ ّكد غلبة القيم الرفيعة ،عندما ا ْستَودعها السموأل ،فطلبها
الحارث بن أبي َش ِمر ال َغسّان ّي ،وألَ ّح في طلبها ،فرفض، ُ منه ملك الحيرة
فل ّما َدهَم جي ُشه ديار السموأل ،فأخذ ابنه و َخيّر الحارث السموأل بين َدف ِعْ
الدروع التي في ِحرْ زه وقَ ْتل ابنه ،اختار السَّموأل الوفا َء بال ِّذ ّمة ،وقال:
َوفَ ْيــــــتُ بــــــأ ْد ُرع ال ِك ْنــــــ ِد ِّ
ي أنّــــــي
إذا مــــــا خـــــــانَ أ ْقـــــــوا ٌم َوفَ ْيــــتُ الخيــر حاضــر فــي معظــم مــا يطرحــه الشــاعر مــن
موضوعــات؛ فهــو أحــد طرفــي ثنائيــة فاعلــة فــي
أن األعشى قال: فضرب به المثل بالوفاء ،حتى ّ معظــم األعمال األدبية بشــكل عام والشــعرية بشــكل
أل إِ ْذ طَـــافَ ال ُه َمـــا ُم بِ ِه
ْ ُكـــنْ كال َّ
ســـ َم ْو ِ خــاص ،إذ مثّلــت بــؤرة األحــداث التــي قامــت عليهــا
ـــل َجـــ َّرا ِر َّ
ســـوا ِد الل ْي ِ ـــل َك َ َ
فِـــي َج ْحف ٍ األعمــال الخالــدة ،كالمالحــم الســومرية واليونانيــة
ـــر ِد ِمـــنْ تَ ْيمـــا َء َم ْن ِزلُـــهُ بِاألَ ْبلَ ِ
ـــق ا ْلفَ ْ
والرومانيــة ،والشــعر العربــي بأغراضــه المختلفة.
عبد الرزّاق الربيعي
صيـــنٌ َو َجـــا ٌر َغ ْيـــ ُر َغدَّا ِر صـــنٌ َح ِ ِح ْ عمان ُ
لقد تغنّى الشاعر العربي بالقيم النبيلة ،النابعة من حبّه للفضيلة والخير،
حث عليها المصلحون والمف ّكرون، فعمل الخير من األخالق الحميدة التي ّ
وألن «من البيان لحكمة» ولكون الشعر ديوان ّ ودعت إليها الشرائع،
العرب ،فقد دعا الشعراء الناس إلى عمل الخير ،قال عَبيد بن األبرص:
ع الـــذي أ ْلفَ ْيتَـــهُ َرمضـــا ًأنـــا الشُّـــجا ُ
صادي ـــو ِر ِد ال ّ
ع الما َء من ذي ال َم ْ يُنـــاز ُ
َ
الخ ْيـــ ُر يَ ْبقـــى وإنْ طـــا َل ال َّزمـــانُ بِ ِه
ُ ْ
َّـــر أخبَـــث مـــا أوعيتُ ِمـــنْ زا ِد والش ُّ
17 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 16
مسارات
والتسابق إلى فعل الخير من مكارم األخالق ،ومن يستبق إلى فعل وقيل أيضاً:
الخير له األفضلية ،وينال تقدير المجتمع ،يقول أبو العتاهية: ـــع ال َمعْروفَ فـــي َغ ْي ِر أ ْهلِ ِه
صنَ ِ و َمنْ يَ ْ
ـــز ٍم علـــى ثِقَ ٍة
أخي مـــا نَ ْحن مـــنْ َح ْ يُالقـــي الّـــذي القـــى ُمجيـــ ُر ا ِّم عام ِر
ت نَ ْ
ســـتَبِ ُ
ق حتّـــى نكونَ إلـــى َ
الخ ْيـــرا ِ
الذي تعود قصته كما جاء في مجمع األمثال ،ألبي الفضل الميداني،
ويقول أيضاً: إلى أعرابي ا ّدعى أن أُ َّم عامر (وهي الضبع) كان طريدته فآواها إلى أن
عاجـــاًِ ــــس ُكــــ ُّل َ
الخيـــ ِر يَأتـــــي َ لَ ْي هاجمته وبقرت بَطنَه ،فجا َء ابنُ َع ٍّم له يَطلُبهُ ،فوجده مقتوالً ،فالتَفتَ إلى
ٌ
الخــ ْيـــــــ ُر ُحـظـــــــوظ و َد َر ْج إِنَّمـــــــا َ الضبع ،فلم يرها فاتبعها ولَم ينزل حتى أدركها ،فقتلها وأنش َد يقول: ض ِعَمو ِ
ِ
َ
عــــاش لـــهُ
َ ال يَــــــزا ُل ال َمــــــر ُء مـــا ـــع ال َمعروفَ فـــي َغ ْي ِر أهلِ ِه و َمنْ يَصنَ ِ
ـــج
ِ ْ لَ ت َع ت ً ا َأبـــــ
د ر
ِ د
ْ ـــــ ص
َّ ال فـــي ٌ ة ـــ حاج
َ يُالقـــي َكمـــا القـــى ُمجيـــ ُر ا ِّم عا ِمـــ ِر
أعَـــ َّد لَهـــا ل ّمـــا اســـــتجا َرتْ بِبَيتِـــ ِه
والذي يفعل الخير ال يحصد ّإاّل الخير ،وتلك معادلة ،واضحة المعالم، قــــــاح الدَّوائـــ ِر ألبــــــان اللّ أحاليـــب
َ
ِ ِ
كما بيّنت التجارب اإلنسانيّة ،التي تطرّق إليها الشعراء في قصائدهم ،ومن يدعو إلى مكارم األخالق ،وكيف يلين الشعر وهو منبع الحكمة ،والصدق؟ روف هذا َجـــزا ُء َمنْ ِ فَقُ ْل لِـــ َذوي ال َم ْع
بينهم أبو العتاهية بقوله: فخير الشعر لدى حسّان بن ثابت الذي يتحلّى بقول الصدق: عـــروف علـــى َغ ْي ِر شـــا ِك ِر
ٍ يَجـــو ُد بِ َم
ــــــام الفَتــــــى يَـــو َم نَفَـــ ْع
ِ َخ ْيــــــ ُر أَيّ ت أ ْنـــــــتَ قائلُـــهُ
وإنَّ أشْــــــ َع َر بَ ْيــــــ ٍ
صنَـــ ْع َ
الخ ْيـــ ِر أبقـــى مـــا َ ع َ واصطنـــا ُ
ِ
بيــــــتٌ يُقـــال ،إذا أ ْنشَـــــ ْدتَهَ ،
صدَقـــا وقد ازدهر هذا الغرض مع انطالق الدعوة اإلسالمية ،فالدعوة إلى
ــــــــر ِء في َم ْعروفِـــــــ ِه
ْ ونَظيـــــــ ُر ال َم
لكن الكثير من الشعر الذي قيل في الخير ،ضاع لألسف الخير واجبّ ،
شـــافِـــــ ٌع َمـــــــتَّ إِلَيـــــــ ِه فَشَـــــــفَ ْع
الشديد ،بسبب عدم تدوين تلك األشعار في كتب ،فضاعت علينا ثروة
َــــــر وال
ِّ مـــــا يُنـــــــا ُل َ
الخ ْيـــــــ ُر بِالش يسعى الشعراء إليه
كبيرة ،جعلت األصمعي (ت216هـ) حين يفحص الذي وصل من شعر
ع إِ ّاّل مــــــــا َز َر ْع
صـــــــ ُد الـــــــ ّزا ِر ُيَ ْح ِ
لتحقيق رسالة سامية ضعُفتلك المرحلة يقول «الشع ُر نَ ِك ٌد بابُه الشرُّ ،إذا أ ْدخلتَه في باب الخير َ
والنَ » ،مستدالً بخل ّو شعر ذلك العصر ،عصر اإلسالم ،من الشعر الذي
ّ
حذر زهير من فعل الخير
في غير أهله
فالذي يصنع الخير يعيش مع ّززاً بين الناس ،على العكس منه الذي
يجانبه ،فعاقبة ذلك العمل وخيمة ،يقول الحطيئة:
َمـــنْ يَ ْف َع ِ
ـــل ا ْل َخ ْيـــ َر ال يَ ْعـــ َد ْم َجوا ِزيَهُ
ـــرفُ بَيْنَ اللَّـــ ِه َوالنَّا ِ
س ال يَ ْذه ُ
َـــب ا ْل ُع ْ
ســـر بِ ِه
ُّ ص ْد ما يُ ع َ
الخ ْيـــ َر يَ ْح ُ َمـــنْ يَ ْز َر ِ
سكـــوس علـــى ال ّرا ٌِ ْ
َّـــر َمن
ع الش ِّ وزا ِر ُ
وهذه فكرة ذكرها الشعراء ،في أبيات سارت على ألسن الناس،
فتداولوها على نطاق واسع في مختلف العصور ،فاالنسان مجبو ٌل على
عمل الخير ،والسعي الى تحقيقه ونشره بين الناس ،ليع ّم السالم والتعايش
السلمي ،أ ّما الش ّر فمنبوذ يحاول اإلنسان االبتعاد عنه والتحذير منه ،ويدعو
أبو العالء المعرّي ،إلى نشر الخير ،ففي ذلك تحفيز لآلخرين لبناء مجتمع
صالح قائم على القيم السليمة:
19 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 18
مسارات
ويضع الشاعر الحسن بن أبي حصينة ( 388هـ 457 -هـ 998 /م
1065 -م) قاعدة نفسية ،مفادها بأن اإلنسان رهن أعماله ،فمن يعمل خيراً
يرى شوقي أن الخير يجد خيراً على عكس من يضمر ش ّراً بقوله:
يعين على الوفاء مـــا قُـــ ِّد َم البَ ْغـــ ُي إِ ّاّل أُ ِّخـــ َر ال َّرشَـــ ُد
ـــاس يُلقونَ عُقبى ُك ِّل مـــا اعتَقَدُوا ُ والنّ
ســـاس َخ ْيراً َرأى َخ ْيراً و َمنْ َولَدَتْ َ َمنْ
ُ
أفعالـــهُ الشَـــ َّر القـــى شَـــ َّر مـــا تَلِـــ ُد َ
لكن عمل الخير هو الذي يبقى ،يخلّد أثر اإلنسان؛ يقول الشاعر خليل مردم بك: وقال أبو الفتح البُستي وهو من أعالم العصر العبّاسي:
الخ ْيـــر إنْ أثَرا
ميل وفِ ْعـــ ُل َ ص ْنـــ ُع َ
الج ِ ُ ففي النهاية ال ينفع اإلنسان سوى صالح األعمال كما يقول أمير الشعراء: َمـــنْ كانَ لِ ْل َخ ْيـــ ِر َمنّاعـــا ً فلَ ْي َ
ـــس لـــه
ْمـــال الفَتـــى أَثَـــرا
وأحمـــ ُد أع
أ ْبقـــى ْ
ســــــــوى ال يَـ ْنـفَـــــــــ ُع ال َمـيْـــــــــتَ ِ ْ
وأخـــدانُ الحقيقـــة إخـــوانٌ علـــى َ
ِ
صــــــــالِ َحــــــــــــــ ٍة ُمــــــد ََّخــــــــــ َر ْه ت تطلُبُهـــا ســـ َل فـــي َ
الخ ْيـــرا ِ َع التّكا ُ
د ِ
ســـتُ أ ْف َهـــ ُم َم ْعن ًى لِ ْل َحيا ِة ســـوى
بَ ْل لَ ْ
سـوقَــــةُ ِعــــ ْنـ قَــــــــ ْد تُــــــرفَـــــــ ُع ال ّ َ
بالخ ْيـــرات َكسْـــانُ ســـ َع ُد
فل ْيـــس يَ َْ
عيـــف وإ ْنقـــا ِذ الـــذي َعثَرا
ِ ض
َـــن ال َّ
ع ِ ـــــــــ َد اللَ ِه فَ
صــــــــ َر ْهق القَـيـ َ ـــــــــــو َ
ْ
س فــــــي َغـــــــــ ٍد و ُكــــــــ ُّل نَــفــــــــــ ٍ
وفي الختام الب ّد لنا من شكر الله على نعمة الخير؛ يقول محمود سامي َ ٌ
َمـــيِّتَـــــــــــــــــــة فـــــــــ ُمـنـشَــــــــ َر ْه
البارودي الذي يبتهل إلى الله أن يقرّب الخير منه ويبعد الشرّ:
ــــــــــل الـــــــ
ِ َوإِنَّــــــــهُ َمـــــــــنْ يَــ ْع َم يدعو المع ّري لنشره
لَـــ َك ا ْل َح ْمـــ ُد إِنَّ ا ْل َخ ْيـــ َر ِم ْنـــ َك وإِنَّنِـــي ـــــخـ ْيــــ َر أَ ِو الشَـــــــــــــ َّر يَــــــــــــ َر ْه
َ كونه قيمةً إنسانيةً
ت شـــا ِك ُر ســـ َماوا ِ ب ال َّص ْن ِعـــ َك يـــا َر َّ لِ ُ
فَأ َ ْنـــتَ الَّـــ ِذي أَ ْولَ ْيتَنِـــي ُك َّل نِ ْع َمـــ ٍة وجزاء الخير خير كثير ،فهو يدفع الشرّ؛ قال خليل مطران:
اصطَفَ ْتنِي ا ْل َعشـــائِ ُروه ََّذ ْبتَنِـــي َحتَّـــى ْ ْفـــع الشَّـــ َّر َع ْنك ْم باشـــروا َ
الخ ْيـــ َر يَد ِ ِ
ب فَقَـــ ِّر ْب لِـــ َي ا ْل َخ ْي َر الَّـــ ِذي أَنَـــا را ِغ ٌ سال ُم ٌ
ص َمـــــــة و َ الخ ْيـــــــر ِع ْ إنمـــــــــا َ ّ واألخ الحقيقي هو الذي يعين على عمل الخير ،فَدُون ذلك الهوان؛ يقول
وبا ِع ْدنِـــ َي الشَّـــ َّر الَّـــ ِذي أَنـــا حـــا ِذ ُر ميـــل َجميـــ ٌل
ِ الج ب ِمـــنَ َـــــر ٍ
ض ْ ُكـــــ ُّل َ الشاعر أحمد شوقي:
غ ْيــــــــ َر أنَّ ال َعــــزيـــــــ َز فيـــ ِه التَّمامُ َ ُّ
والذ ْخـــر فـــي ال ُّد ْنيـــا أخٌ يـــا أخـــي
وسيظل الخير الغاية التي يسعى اليها اإلنسان ،لتحقيق األمل في حياة الخ ْيـــ ِر علـــى َ
الخ ْيـــ ِر أعانـــا حاضـــ ُر َ ِ
مستقرة ينعم فيها بالجمال والسالم ،ويبقى الحلم الذي يعبّر عنه األدباء والنفس البشرية مجبولة على عمل الخير ،رغم وجود الشرّ ،الذي يراه وإذا ال ُّد ْنيـــــــا َخلَــــــتْ ِمـــنْ َخيّــــــ ٍر
والشعراء ،من أجل تحقيق رسالة اإلنسانية. صالً ومتجذراً في قصيدته «المواكب»:
الشاعر جبران خليل جبران ،متأ ّ وخلَـــتْ ِمـــنْ شـــاك ٍر هانَـــتْ هَوانـــا َ
21 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 20
شعر
ســـائح؟
ُ ـــــــــئ في الحقيـــب ِة
ُ ماذا ُيع ِّب ً
ســـــياحة ُ
أتيــــــت إلى الحيـــــــا ِة إ ّني امتنا ِن ْك
ـــو َم ْ ِد ،وما ْ
اغ َتنــــــى َي ْ الجحـــو
ـــــــو َم ُ
ْ يفتقــــــر َي
ْ لـــم
نازح
ُ صــــــنع األوطــانَ شـِــــــ ْع ٌر
ُ ال َي موطـــــناً
ِ ال َت ْســـــأليني أنْ أُحيلَ ِ
ـــــك ْ
ـــــك ــــــر فـــي َمكا ِن
َ ِمـــنْ أنْ أف ّك شـــاغلي
ِ ُ
ـــــــق ال َمكــــانــــــ ِة َقلَ
23 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 22
شعر
ب الهديل
ِمنْ كتا ِ بوح العارفين
علـــــى صوتِنـــــــا أيّا ُمنـــــــا تتـــو َّكأ ُ اغتـــراب والمســـافاتُ َم ْرفـــأ ُ
ٌ ُخطانـــا الطيـــن حب ُر
ِ وأصلُـــكَ قبـــل هذا ســـر
ُّ العارفون ،وأنتَ
َ ـــوح
ُ يبُ
ونكبـــــــ ُر أنهــــــاراً ولـــــآن نَ ْظ َمـــأ ُ ُ
منـــذ ُكنّـــا غمائمـــا ً نســــــي ُر إلينــــــا عيـــــن ال تَقِ ُّ
ـــر ٍ وخلفَـــكَ ألـــفُ عـــدم تهادى
ٍ عــدم إلى
ٍ ومـن
حيـــن يبـــدأُ تناثـــ َر فينــــــا شـــــيبُها واألرض طفلةٌ األرض ألنـَّـــا ا ْبتَ َدأنـــا وحولـــي النا ُر ،حـــو َل النار نه ُر بان
ٍ قلـــق كأنّي غصـــنُ
ٍ على
َ ُ َ
معلّقـــةٌ ،أبعـــ َد المـــــا ِء جمـــ ُر؟ الريح ،روحي
ُ ـــب
ه ّ فأنّى ق ْد ت ُ
ليـــس نُطفأ
َ فنغـــــدو شـــظايا ..إنَّمـــا ســــــاق ْط َن ِمـــنْ أ ْبجديــــــ ٍة
كواكـــب ي ّ
ُ
س ُر
كؤوس الموت ،بعد اليـس ِر عُــ ْ
َ العارفـــون إذا أداروا
َ يبـــوح
ُ
25 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 24
حـــوار
وفي هذا الحوار يحدثنا عن قضايا تتعلّق بال ّشعر والنقد والمشهد الثقاف ّي
العرب ّي.
27 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 26
حـــوار
الشطرنج؛ فالشعر يحتاج إلى ذكاء القلب ،وليس ذكاء العقل فقط .لذلك، وبمقدار ما نتألم نتعلم ،فال توجد معرفة مجَّانية ،وإنما تأتي المعرفة،
استسهال الكتابة الشعرية قد يفضي بالكاتب إلى حال من عدم الجدوى، عبر المكابدة والتجربة والمعاناة والخبرة الحسية باأليام. كتبتُ شعراً أكثر مما ينبغي
والعقم في كل ما يكتبه. أن يُكتَب
قبل أن نكتب ،يجب أن نحمل الشعر على سبعين محمالً من الجديّة واإليمان -تشبّه نفسك بالحوت في بحر الهوى؛ هل أنت كذلك في الشعر؟
به منقذاً للذات البشرية من أزماتها ،وبوصلةً تشير إلى جهة اآلدمية الحقيقية، في الشعر ،أنا الحبيس في بطن الحوت ،يجوس بي محيطَ الظلمات كلّما
األمر الذي يجعل الشاعر يستشعر المسؤولية الكبرى تجاه كل كلمة يد ِّونها. حانت الكتابةُ التي تمثِّل مكابدةً ال تلين .وحينما أُكمل تسبيحة النَّظم ،يقذفني
الحوت على شاطئ النهاية ،وتنمو عل َّي يقطينةُ القصيدة. -جاسم الصحيّح ،حارس مرمى االنتظار؛ كم هدفا ً حقق على نفسه أو لها؟
-توقفت عن النشر خمس سنوات؛ هل هو قرار أو فرصة للتأمل كي تعرف وهل استطاع ص ّد الهجوم المباغت للقاء؟
«ما وراء حنجرة المغنّي»؟ -حصلت على بُردة عكاظ وكثير من الجوائز ،ومن المؤكد أنّك مررت ُ
الخيبات لقد تم َّزقت ِشبا ُك مرماي من كثرة األهداف التي سجَّل ْتها
كتبت شعراً كثيراً ،ربما أكثر مما ينبغي لل ّشعر أن يُكتَب،
ُ أعتقد أنني بمسابقات لم يحالفك فيها الحظ ،لماذا يتّهم بعضهم المسابقات بعدم واإلحباطات فيه ،من دون أن أستطيع إجادة دور الدفاع الذي أناطته بي
وهذا من أخطاء تجربتي مع الكتابة .ال ّشعر كثافة مثل ْأن نختصر شجرة الصدقية في حال عدم فوزهم؟ وأتعذب ،حتى أسقط ّ فن ال أجيده ،لذلك دائما ً ما أتخبّط فيه
الحياة .االنتظار ٌّ
زيتون في قارورة زيت ،فضالً عن ذلك ،ال ّشعر قيمة تتجلّى في الكيف وليس بعض المتسابقين الذين ال يحالفهم الحظ في الفوز ،يعيشون حال إحباط في هاويته الممتدة إلى األسفل بال قاع أخير.
في الك ّم ،لذلك نحتاج إلى استخدام الممحاة في كتابته أكثر من استخدام القلم. وتعروهم انفعاالت لحظية .وك ّل من ال يستطيع التح ّكم في انفعاالته ،يمارس
وهذا ما يجعلني أتأنّى في طباعة أي ديوان ،رغم تشجيع الناس لي على ولكن هؤالء قلَّة مقابل اآلخرين الذي
الشكاوى والتذمر ،ويرمي االتهاماتَّ . -تحدثت عن الوعي بأنه يمشي عكس ما نتوقع ،وشبّهته بذئب البُحتُر ّي،
النشر ،والتعبير عن رغبتهم في االطالع على األسرار الجديدة المخبوءة يتحكمون في عواطفهم ويضبطون ذواتهم في لحظات االنفعال ،فال تكون وبأنّه شرس؛ فهل يلتهمنا وعيُنا المرعب الممتع كما تقول؟
وراء حنجرة المغنِّي. لهم ردة فعل غاضبة في حال عدم الفوز .وكما قال حبيبنا الشاعر المبدع عبد أعتقد أن أبا الطيّب ،أفضل من عبَّر عن الوعي بقوله:
الله أبو شميس «الجوائز أرزاق». عيـــم بِ َع ْقل ِه ذو ال َع ْق ِ
ـــل يَشْـــقى فـــي النَّ ِ
الجهالـــة فـــي الشَّـــقاو ِة يَ ْن َع ُم وأخـــو َ
-وقفت على منابر كثيرة في أنحاء الوطن العربي ،وماتزال لديك رهبة
المنبر؛ ماذا تقول للذين يستسهلون النشر؟ هكذا هو الوعي (ذو العقل) حال من حاالت الشقاء األليم الذي نحتضنه
الشعر منقذ البشرية مشكلة أولئك الذين يستسهلون الكتابة الشعرية ،وليس مجرد النشر. بأن المعرفة سُلَّ ٌم يرفعنا إلى مرتبة الجمال اإلنساني،
بسعادة وفرح ،إليماننا َّ
من أزماتها الكتابة لعبةٌ جا ّدة مثل لعبة الشطرنج ،وربما تحتاج أكثر مما تحتاجه مهما تكن هذه المعرفة موجعة.
-هل أنصفك النقّاد؟ وكيف تنظر إلى المشهد النقدي بالتوازي مع المشهد
الشعري؟
ً
كان المشهد النقدي متقدما على المشهد الشعري عندما كان النقد
أدبياً ،ومنذ أن جاء النقد الثقافي وأهمل النقد األدبي ،تقهقر النقد
وتقدم المشهد الشعري .انا أعتقد أن الباحثين في شهادات الماجستير
والدكتوراه ،كتبوا عن شعري كثيراً من الدراسات األدبية التي
طُبعت ،وهنا بعض منها:
-الدكتورة سها صاحب ،جامعة كربالء في العراق (شهادة الدكتوراه
عن أطروحتها «التناصّ في شعر جاسم الصحيّح»).
-األستاذة نورة القحطاني ،جامعة اإلمام في السعودية (شهادة
الماجستير عن دراستها« :العتبات في شعر جاسم الصحيّح»).
-كتاب «جاسم الصحيّح ..خرج إلى القصيدة ولم يع ْد» للدكتور
حسين سرمك من العراق.
-كتاب «جاسم الصحيّح بين الشاعر واألسطورة» للدكتور يحيى
العبد اللطيف من السعودية. جاسم الصحيح في مهرجان الشارقة للشعر العربي 2023
29 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 28
حـــوار
حنجرة األيام ربما يكون في منافسة شديدة مع مواقع التواصل ،ولكنه يبقى غذا ًء
للنفس البشرية ،ال يمكن لها أن ّ
تتهذب وتتج ّمل ّإاّل به.
أسرار الشّعر مخبوءة
جاسم الصحيّح -السعودية
وراء حنجرة المغنِّي
-الشهرة والمنابر؛ هل هي مقياس الجودة ،أم ضربة حظّ؟ وفي حال كانت
ضربة حظّ ،أين هو دور الناقد في رصد الحقيقي وتمييزه ّ
للغث؟
ال يوجد حُكم مطلق على العالقة بين الشهرة والمبدع .فهناك مبدعون
إنْ أَ ْر َ
ض َع ْتـــ َك فلـــم يُ ْخ ِط ْئنِـــ َي اللَّبَنُ ســـ ِد)َ ..
آخ ْتني بِـــ َك ال ِم َحنُ (أبا ال ُم َح َّ ظفروا بالشهرة استحقاقا ً وجدارة ،وهناك من ظفروا بالشهرة عبر ضربات
الحظ؛ إذن ،فالحكم نسبي جداً ،وال يمكن تعميمه .أما دور النقاد فقد كان
القوافي كيـــف يَتَّ ِزنُ !؟ ْ َمنْ ال يُجيـــ ُد القوافـــي واتَّ َز ْنتَ بها..
ْ أَ َجـــدْتَ أنتَ كبيراً في الثمانينات والتسعينات ،ولكنه تضاءل الحقا ً في الخليج ،واستطاع -حدّثنا عن جديد َسفَ ْرجلة لُغتك أو لنقُل ما «آخر مقامات الشعر»؟
أضعاف مـــا بِ َك عبر الشِّـــع ِر أقترنُ َ بي ِمن شكاوا َك ما روحي ب ِه اقترنتْ الشعر أن يسبق النقد في المضمار ،عكس ما كان يحدث في تلك العقود. آخر ديوان أصدرته كان بعنوان «طيو ٌر تُ َحلِّ ُق في ال ِمصْ يَدَة» ،وهو
ماذا ســـيَفع ُل َمنْ (كافو ُرهُ) ال َّز َمنُ !؟ تشـــكو وأنتَ لدى (كافو َر) ُمرتَ َهنُ ! الديوان الرابع عشر في مسيرتي الشعرية .واآلن أعمل على مختارات من
-هل ترى الشعر وصفا ً خارجيا ً من دون الغوص في الجوهر ،أم أنّ الغناء هذه الدواوين لطباعتها قريباً ،بإذن الله تعالى.
منفـــى؟ وكان يُ َر ِّجـــي أنَّهـــا وطـــنُ ماذا ســـيَفع ُل َمـــنْ ألفَى الحيـــاةَ لهُ يقتصر على السهل من الشعر؟
واإلحنُ َ غـــداةَ حاقتْ بـــ َك األحقـــا ُد طُوبى لقِرطا ِســـ َك الوافـــي وفا َء ٍ
أخ الغناء في العادة يتخفّف من الشعر قدر اإلمكان ،فالقصيدة المكثفة -كان الشعر ديوان العرب وناقل أخبارهم؛ أين هو الشعر في عصر
شعريا ً يصعب غناؤها .أما الشعر في الخليج فهو شبيه بالشعر في الوطن
س) يُختَ َزنُ وظَ َّل َكن ُز َك فـــي (القِرطا ِ (اللي ُل) خانَـــ َك و(البيدا ُء) قد َغ َد َرتْ «الميديا»؟ وهل استطاع مواكبة المعاصر في حياة العرب ونقله كما كان
العربي ،حيث يوجد قامات شعرية كبيرة ،سواء في السعودية أو في البحرين من قبل؟ وكيف تصف عالقتك بمواقع التواصل؟
كـــي ال يبـــو َر وال ينتابَـــهُ ال َعفَـــنُ لحا فـــي موائ ِد ِه مـــا زلتَ للشِّـــع ِر ِم ً أو بقية دول الخليج ،ومن هؤالء األساتذة محمد العلي ،وقاسم حداد ،ومحمد تتغيّر القصيدة في مضمونها ،عبر العصور ،فال يمكن أن تكون
خاب َمنْ رحلوا فيها ،و َمنْ ظَ َعنُوا ما َ قاومـــتَ َدهـــ َر َك بالترحا ِل فـــي لُغ ٍة الثبيتي وغيرهم كثير. اهتمامات القصيدة في العصر الحديث ،مثل اهتماماتها في العصر القديم،
إذا ما استثنينا الحاالت اإلنسانية .مثالً ،في السابق ،كان النحو ُّي يكتب قواعد
أنَّ الـــذي يصطفيـــ ِه الشـــع ُر ال يَ ِهنُ وكنـــتَ في قُـــ َّو ِة المعنـــى على ثق ٍة
-هل بقي للشّعر والثقافة دور في حياتنا؟ النحو عبر أرجوزات شعرية ،وكان الفيلسوف يكتب فلسفته شعراً ،وكان كل
ب -على أيَّا ِمكَ ،الفِتَنُ -مـــن ك ِّل صو ٍ فمـــا َو َه ْنـــتَ وقد شَـــنَّتْ عواصفَها الشعر والثقافة منذ قرون ليس لهما دو ٌر تغيير ٌّي جماع ٌّي في المجتمعات مبدع في مجال ما ،يحاول أن يعبِّر عن إبداعه عبر الشعر.
شمطا َء ليســـتْ على اإلنسا ِن تُ ْؤتَ َمنُ خلـــف قافيـــ ٍةَ أَ َّمـــا أنـــا ف ُمقِيـــ ٌم العربية ،ولكن في الوقت نفسه ،الشعر والثقافة يعمالن بق َّوة في صناعة فالشعر في العصر الحديث تحرر من قيود هذه الوظيفة ،وأصبح طليقا ً
شخصية اإلنسان الذي يؤمن بهما فردياً. يسير في اتجاه ذاته ويبحث عن أسرارها.
عنِّي ،يُ َز ِّملُني -من وحشـــتي َ -كفَنُ في عُزلتي؛ غيـــ َر أنَّ الوح َي منقط ٌع
ق ناعـــ ٌم لَ ِدنُ حيـــث الحـــوا ُر عنـــا ٌ ق نفســـي ْإذ أُحا ِو ُرها حســـبي أُعان ُ
ص فثا َر اللحنُ والشـــجنُ من الخـــا ِ يـــا َمنْ رأى في القوافـــي ما يُ َؤ ِّملُهُ
جارح َخ ِشـــنُ ٌ لحـــن إال
َ فيهـــا ،فـــا ص َدأٍ األيـــام مـــن َ
ِ ضقنَـــا بحنجـــر ِة ِ
فـــي األبجديـــ ِة ميـــزانٌ ..وال يَ ِزنُ ! ت َعص ٌر مائـــ ٌل ،ولنا لنـــا من الوقـــ ِ
ض ،وانغلقتْ في وجه ِه ال ُمدُنُ في األر ِ تـــاهَ المدى ،وأضا َع الشـــع ُر رحلتَهُ
المســـتنقع ،النَّتَنُ
ِ يفيـــض على
ُ كما ســـأ َ ٌم يفيض علـــى أيَّا ِمنا َ ُ ســـى أم َ
تشـــي ُع في القو ِل حتى تُز َكـــ َم األُ ُذنُ قصائـــ ُد ال َعصـــ ِر باتـــتْ ذاتَ رائح ٍة
وليس فـــي غابـــ ِة المعنى لنـــا فَنَنُ َ مـــا ثَـــ َّم للنـــو ِر عنـــوانٌ فنتب ُعـــهُ
سفُنُ الاَّلشيء يا ُ تُجدي ،فـ ِسيري إلى َّ اآلن تِيـــهٌ دون بوصلـــ ٍة شـــراعُنا َ
جاسم الصحيّح وأحمد محمد عبيد من مهرجان الشارقة للشعر العربي 2016
31 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 30
استطالع
ت ُ ْث ِري تجاربهم وت ُ ِ
السفر يُغني معجم الشاعر
بألوا ٍن من التعبير لهمهم نُصوص ًا َ
جديدة
على َسفَ ٍر هذا الوجود بأسره،
في أكبر مجرّاته وأصغر ذراته، هل ت ُ ْكمل الوج َه اآلخر للقصيدة؟
أسفار ُ الشعراءْ ..
ْ
وإنّه ل َسفَ ٌر ُم ْسفِ ٌر في ك ِّل آن .ومنه
َسفَ ُر اإلنسان في المكان .فإذا كان
اإلنسانُ شاعراً -أظنّني كذلك في إعداد :د .حنين عمر
فإن األماكن التي بعض األحيان ّ -
يُتاح له أن يراها تح ُّل الكثير من الشّعر َســـفَ ٌر في الخيال والجمال ،والشّعراء مسافرون
رؤى مراياها طبيعةً وناساً وثقافةً، عبد القادر الحصني
بطبيعتهـــم فـــي أرض اللغة ،لذا كان تأثيـــره فيهم أكبر
في انشغاالت فكره وهواجس
نفسه وتطلعات روحه إلى اكتناه إنسانيّته ،ويتب ّدى ذلك ،على نح ٍو له عالقة مـــن غيرهم ،فهـــو يثـــري تجاربهم ورؤاهـــم ،ويفتح
بخصوصيّة تلقّيه وتفاعله وتمثُّله ،في لغته وخياله وموسيقاه وأفكاره ورؤاه. أمامهـــم آفاقـــا ً أوســـع ،الكتشـــاف الحياة واكتســـاب
ولع ّل األسفار على األرض ،أن تكون للشاعر أكثر غن ًى من األسفار عندما
الخبرات ،واســـتلهام نصـــوص جديدة.
تكون كتباً ،فليس من سمع كمن رأى .والحياة أوسع من المكتبات .وأيّاً يكن
التشابه في األماكن ،كونها حوامل ،فإنها عوالم ال تحصى تبايناتها من حيث إذ يقول اإلمام الشافعي:
المحموالت .فاألسواق المحيطة مثالً بالجامع األمو ّي بدمشق ،غير المحيطة وطـــان في طَلَ ِ
ب ال ُعال ِ َن األَ
تَ َغ َّرب ع ِ
بجامع الزيتونة بتونس ،غير المحيطة بسيدي الحسين والسيّدة زينب وســـافِر فَفي األَســـفا ِر َخ ْم ُ
س فَوائِ ِد
بالقاهرة ...إلخ ،وقد أتاحت لي الحياة الثقافيّة أن أزور البلدان العربيّة ،وبلداناً
أخرى في العالم :الصين ،الهند ،روسيا ،تركيا ،سويسرا ،ماليزيا ،ما أتاح ســـفَر وتأثيراتها في الشّاعر
ولســـبر أغوار تجارب ال َّ
لشعري أن يرى أكثر ،ويغتن َي بألوا ٍن من التعبير ،ال أش ُّك في أنّها مدينة لك ّل
ما انح َّل فيها من لوينات ما رأيت .هذا عدا القصائد التي كتبتها لمد ٍن أحببتها.
النص،
َ وقصائـــده ،ولمعرفة مدى فاعليتها في تشـــكيل
وتحفيز الخيال والمشـــاعر ،جمعـــت «القوافي» آراء
حسن شهاب الدين: عدد من الشّـــعراء في هذا االســـتطالع.
تجربة فريدة لكي يصافح الشعراء األبجدية
السفر ليس االنتقال من مكان إلى آخر فقط ،ولكنه تجربة
فريدة وخاصة للشعراء ،حيث يجد الشاعر نفسه في
وجود يختلف جذريا ً عن بيئته ،حينها يشعر بأن قلبه ال
عينيه قد صار كاميرا القطة تختزن المشاهد ومشاعر
الناس ،فيقرأ جغرافيا أرواحهم ،ويتماهى مع تلك المدينة
الجديدة ،ويخلع عنه رداء المكان المعتاد ،ويرتدي هواء
تلك الدروب ،ويحيا وكأنه ولد من جديد .وحين يعود ال
ب ّد أن يحمل معه في حقيبة سفره ذكريات ال تنسى ،هي
زاد قصائده الجديدة؛ هكذا أشعر في كل سفر لي .كما أن
حضور المهرجانات والمحافل الشعرية الكبرى كان دوما ً
فرصة ثمينة ألصافح جمهور الشعر المحبّ من المحيط
إلى الخليج ،ولرؤية األصدقاء الذين ال نتالقى ّإاّل في عالم
التواصل ،وهذا وحده يجعل من السفر أمراً ممتعاً.
33 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 32
استطالع
زرت أماكن مثلت رصيداً يمنحني السفر فرصةً لفهم محاولة لتحريك بوصلة
إضافيا ً لوعيي ولغتي الكون أكثر الطبيعة نحو الحنين
ض نَ ْبضا ًفأ ْق ِطفُ ِمن دُوار األر ِ يمنحني السفر فرصةً ألفهم سيقول بعض الشعراء إنهم
يُسافِ ُر بِي إلى األبَ ِد الفَ ِ
سيح الكون أكثر ،وأحبّ األرض الماضون إلى المعنى ،بل
ق األعَالِي وحي طائ ٌر قَلِ ُ
و ُر ِ أوسع قليالً بعد ،أحرص على إنهم في سفر تجبرهم عليه
يح
ص ِر ِ ت َص ْم ٍ يُؤ ّولُنِي إلى َ الخروج من كل رحلة بقلب رؤيتهم الكونية وخطاهم
هكذا عبّرت عن هاجس السفر ،في مدجّــج بالـذكــريات عــن كل المستمرة نحو أعمق س ّر
إحدى قصائدي .السفر وع ٌد دائم األماكن .ال أتذكر أنني خرجت في النفس ،واثقون بلغتهم
بالمزيد من المعرفة ،المزيد من من لقاء ساحر بمدينة ما ،دون الخاّلقة للكشف عما عجز ّ
الشغف ،المزيد من األوكسجين موالي علي أن أكتبها كما تستحق قصيدة، سمية دويفي عبد اللطيف بن يوسف عنه الفالسفة والعلماء
لرئاتنا العطشى باستمرار إلى هواء إذ ال تكون القصائد بعد السفر والنفسانيون؛ سيقول الشعراء
الحياة ،وما تزخر به من ثراء وجودي .كل األماكن التي قادني السفر إليها ،مثلت بالنسبة لي قصائد عن األماكن والبلدان فحسب ،وإنما تكون تخليداً للحال كالما ً عظيما ً عن السفر عبر الزمن عبر األبجدية ،ففي الشعر
رصيداً إضافياً لوعيي ولغتي ،ودخلت تفاصيلها في تشكيل ذاكرة الكتابة لدي. النفسية واإلنسانية التي خرجت بها من بهجة التجربة ،ومن معرفة أنت تقفز بين جزر االستعارات فوق لغة متحركة ،يس ّمونها قصد
ولع ّل هذه القيمة األثيرة والمتجددة للسفر ،هي ما يفسّر كيف تحول بيت المتنبي الشهير: األرض ومعرفة اإلنسان ،ومن معنى االكتشاف والمغامرة والتعرّف إلى القصيدة ،وقد يأتي من سيسميها السفر على غير هدى .وتعجبني
يـــح ت َْحتـــي علـــى قَلَ ٍ
ـــق كأنَّ ال ّر َ آفاق أخرى للثقافات البشرية المتنوعة .وأعتقد أن كل هذه المكتسبات التي رواية أن الشعر ولد أوالً مع حداة العيس في السفر الطويل ،كأن
شـــــــماال أوج ُههــــــا َجنوبـــــا ً أو ِ
ّ تأتي من السفر بشكل خاص ،حاالت عميقة من الوعي بالكون ،تقدمها الشعر هو الخطى العكسية للمسافر ،نحو المنبع ال المصبّ ،نه ٌر
ً
إلى ما يشبه مبدأ يتداوله الشعراء ،تعبيرا عن ذواتهم وما ينتابها من لي كل رحلة من زاويتها التي تكون أكثر جماالً في كل مرة ،وتنعكس يجري إلى الوراء ،ومحاولة مستحيلةٌ لتحريك بوصلة الطبيعة
توق إلى السفر الفعلي والمجازي. على اإللهام الشعري وعلى اللغة والصور والرؤى التي تصنع القصيدة. إلى جهة الحنين.
35 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 34
مدن القصيدة
ضرة من يزورها تسكنه قبل أن يسكنها؛ كيف ال وهي التي أحبّها مدينة ن ِ
المتنبّي وتغنّى بها ،على الرغم من سجنه فيها لمدة عامين ،فقال:
أَو ِه بَديــــــ ٌل ِمـــــــن قَولَتـــــــي واهـــا ً
لِ َمــــــنْ نَــــــأَتْ والبَديـــــــ ُل ِذ ْكراهـــا
ـــــــب ِح ْمصـــــــا ً إِلـــى ُخ ِ
ناصــــــ َر ٍة ُّ أُ ِح
ــــــــب َم ْحياهـــا
ُّ و ُكـــــــ ُّل نَ ْفـــــــ ٍ
س ت ُِح
ولكونها جوهرة المنطقة الوسطى فقد ُخلق فيها مسار ثقافي نقي ،تأثر
بالتاريخ العريق لهذه المدينة ،وأثر في محيطها الثقافي أيضاً ،بل أسهم في
تشكيل الحركات األدبية المحيطة واألكثر بعداً ،فمنها خرج شعراء كثر ،وبها
تغنّى كثير منهم ،حتى وصل الحال ببعضهم لع ّدها مركزاً أدبيا ً فاعالً ،وهنا
شاعر يستحق أن يكون شاعراً ٍ يقول الشاعر اللبناني جوزيف حرب« :ما من
ما لم تعترف به ِح ْمص».
تمنح زوارهــا الطمأنينة وتمتعهم بجمال الطبيعة
وبقراءة التاريخ سنجد أن أقدم األسماء المعروفة ل ِح ْمص هو «إيميسيا»
الذي يعتقد أنه مشتق من قبيلة «إيمساني» التي حكمت ِح ْمص قرونا ً ع ّدة،
من القرن األول قبل الميالد وحتى القرن الثالث.
ِح ْمص..
واستقر أغلب الباحثين على أن «إيمسيا» قد اختصرها العرب إلى
«إيمس» أو ِح ْمص ،بعد الفتح اإلسالمي لبالد الشام .كما قيل إن لفظ اسم أحبّهــا المتنبّي وتعلّق بها ديك الجن
ِح ْمص آرامي ،ومعناه األرض الليّنة ،وس ّميت بذلك لوقوعها في السهل.
37 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 36
مدن القصيدة
ٌ
ــــــــــث بيـــــــب فمــــــــاتَ لَ ْي
ٌ مـــاتَ َح
وبـــــــاخ نَ ْجــــ ُم
َ وغـــــــاض بَ ْحـــــــ ٌر
َ الشعراء تغنّوا بها
ســـمتْ عُيـــــــونُ الـــــــ ّردى إلَ ْيــــــــ ِه َ وعدوها مركزاً أدبيا ً فاعالً
ســــــمو ِ ْ َ ت ت مـــــــا ر ْ
ك
َ ُ م ال إلـــى وهـــــي
ت ال َمنـــايـــــــا اجتــاحــــــ ِ
مـــا أ ُّمــــــ َك ْ
ُكــــــــــ ُّل فـــــــــــــؤا ٍد عليـــــــــــ َك أُ ُّم
تاريخياً ،تعاقبت على ِح ْمص الكثير من الحضارات ،مثل اآلرامية
اشتُهر في ِح ْمص ،ثلّة من الشعراء الذين أرسلتهم إلى المهجر ،ومنهم واإلغريقية والرومانية والفارسية واإلسالمية .وبقيت تحت سيطرة الرومان
حسني غراب الذي قال عنه عمر أبو ريشة «أصفى شعراء المهجر». فترة طويلة ،حتى دخلها المسلمون في عام 636م بقيادة الصحابي الجليل
ولد غراب في ِح ْمص 1899م ،وهاجر إلى البرازيل 1920م ،وكان نصر سمعان عبد السالم عيون السود خالد بن الوليد ،وس ّميت باسمه فمن يذكر ِح ْمص ،ال ب ّد أن يذكر أنها مدينة ابن
يصدر شعره في مجلة «العصبة األندلسية» في البرازيل؛ قال في ِح ْمص: الوليد ،وهي التي احتضنت ضريحه بعد أن توفّي فيها سنة 641م.
ق علــــى ص لنا َد ْمـــ ٌع يُرا ُ أبَ ْعـــ َد ِح ْمـــ ٍ وفضالً عن تاريخها العريق ،اشتهرت بأعالمها الذين خلّدهم التاريخ،
ث َهلَـــ ُع
َمنـــاز َل أ ْم بِنـــا ِمـــنْ حـــــاد ٍ عرف شعره بالجزالة ومتانة السبك وقوة اللفظ ،وعرف عنه أنه لم يكن لما لهم من أثر عظيم ،كالبابا انكيتوس الذي كان بابا روما ،واإلمبراطورة
دا ٌر نَ ِحـــنُّ إلَ ْيهــــا ُكلَّمـــا ُذ ِكــــــــــــ َرتْ شاعر بالط قطّ؛ وهو القائل: الجن ال ِح ْمصي الذي ُع ّدت
الرومانيّة جوليا دومنا ،والشاعر العباسي ديك ّ
كأنَّمـــا هـــي ِمـــنْ أ ْكبــــا ِدنا قِطَـــــ ُع ص ِمنْ شـــأني وال طلَبي شـــ ّدةُ ِ
الح ْر ِ ما ِ حياته أسطورة بمعنى الكلمة ،وقد ارتبط بشكل كبير اسم حمص مدينة الشعر
صبـــــا نأســـى لِفُ ْرقَتِــــ ِه ـــب لل ِّو َم ْل َع ٌ ـــب ِمـــنْ َه ّمـــي وال أ َربـــيكاس ُ وال ال َم ِ والشعراء باسمه ،لما ذاع له من صيت وصل إلى معظم بالد المشرق واسمه
ع ســـوا ِد ال َعـــــ ْي ِن ُمنتـــز ُ كأنَّـــهُ ِمـــنْ َ نوائـــــب نابَ ْتنــــــي وحا ِدثـــــــةٌ
ُ لكـــنْ الجن ،بسببعبد السالم بن رغبان ،المولود سنة 161هجرية ،لقب بديك ّ
ث والنُّـــ َو ِ
ب ق باألحـــدا ِ وال َّدهْـــ ُر يطـــ ُر ُ لون عينيه األخضر ،وقد كان بيته مقصداً لكبار شعراء عصره ،إذ قال عنه
ولَ ْيـــس يَ ْعـــ ِرفُ لـــي قَـــدْري وال أدَبي الجن واإلنس» .كذلك كان أبو ت ّمام أحد الشاعر دعبل الخزاعي« :إنه أشعر ّ
بّإاّل ا ْمـــــــر ٌؤ كــــــان ذا قَـــ ْد ٍر وذا أ َد ِ تالمذته ،وجاءه البُحتُريّ ،ليتتلمذ عليه ،كما ورد في « َوفَيات األ ْعيان» البن
اشتهرت بأعالمها خلّكان ،ووصفه ابن رشيق القيرواني ،بأنه من المعدودين في إجادة الرثاء،
الذين خلّدهم التاريخ توفي ديك الجنِّ مهموما ً نادماً ،سنة 236هجرية ،فرثاه أبو ت ّمام وهو أشهر فيه من أبي ت ّمام ،وله فيه طريقة انفرد بها ،وقصده أيضا ً أبو
بقصيدته المعروفة ،ومنها: نواس ليقول له« :فتن أهل العراق بشعرك».
39 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 38
مدن القصيدة
من شعراء ِح ْمص ممدوح السكاف ،ووصفي قرنفلي ،الملقب «شاعر وفؤادك ،فحين زارها عام (1956م) الشاعر محمد مهدي الجواهري (1898م مجلة «الفنون» عام 1912م .كان أحد مؤسسي «الرابطة القلمية» في
حمص» ،وعمر الفرّا الملقب «شاعر البداوة الحمصي» وقد اشتُهرت له 1997 -م) أقام فيها يومين ،فما كان منه ّإاّل أن تغنى بسحرها وأهلها: نيويورك عام 1920م ،وقد ضمت هذه الرابطة كثيراً من أدباء المهجر
قصيدة «قصّة َح ْمدة» .ونذكر من إبداعات القرنفلي قوله: ـــص يَ ْج َمـــ ُع لُ ْطفـــا ً
َ يـــا شَـــبابا ً بِ ِح ْم في أمريكا الشمالية ،له ديوان «األرواح الحائرة» ،وقد توفي عريضة
يـــو َم تقـــو ُلُ :ك ُّل َجوارحي
ْ ســـ ْمرا ُء،
َ ِمـــنْ ورو ٍد وقـــــــ ّوةً ِمـــنْ أُســـــــو ِد قبل صدوره بأربعة أيام.
ســـ َم ُر ُ
ديـــث األ ْ َخـــ َد ٌر ،يُدغد ُغـــه َ
الح هَكـــــــذا ِم ْثــــ ُل لَ ْونِ ُكـــ ْم فـــي ال َمنايـــا يقول فيها:
ال ،ال تَســـــ ْلني ،مـــا تَقـــو ُل ،وإنّمـــا
الجدو ِد
ـــونُ ُ واألمــــانــــــي كــــــانَ لَ ْ َن ال َوطَنْ
يا َد ْه ُر قَ ْد طا َل البُعا ُد ع ِ
هَكــــــذا ِم ْثلُ ُكــــــ ْم بَنـــى ال َم ْجـــ َد فـــي ُرجى وقَ ْد فات الظَّ َعنْ
َه ْل ع َْودةٌ ت ْ
ســـ ْل َك ْيـــف ،أنّـــي ال أ ِعي ،بـــل أ ْنظُ ُر
َ
ب خال ُد بـــنُ الولي ِد ـــر ِ
الح ْســـ ْل ِم وفي َ ال ّ ش َو ال َكفَنْص ولَ ْو َح ْ
ـــب الشِّـــ ْعر ،فِ ْتنَةُ نُ ْطقِها
س ُ وح ْ
سبيَ ،
َح ْ ُع ْد بي إلى ِح ْم ٍ
ـــونُ عَدنـــا هكــــــذا ِم ْثـــ ُل لَ ْونِ ُكـــ ْم لَ ْ
َـــهي نَ ْك َهتِـــــــهَ ،غــــــداةَ تُثَ ْرثِـــ ُر وش وا ْهتِف أتَ ْيتُ بعاثِ ٍر َم ْردو ِد
ُّ ـــــــــونُ ُكـــــــ ِّل شَهي ِد
ْ نَ شَــــــــهي ٌد ولَ
ضريحي ِمنْ ِحجا ٍر سو ِد واج َع ْل َ
ْ
أريــــــــج الـــ ُورو ِد
ِ ســـــــــا ٌم علـــى و َ
واّلدة لل ّشعراء والمبدعين ،ونذكر على ص ّ وإلى اليوم ال تزال ِح ْم َ الرعـــو ِدَزيــــــــج ُّ
ِ ســــــا ٌم علـــى ه و َ
سبيل المثال ال الحصر الشاعر عبد القادر الحصني ،والشاعر حسن
بعيتي ،وغيرهما الكثير من الشعراء والشاعرات ..ومما تجلّى به كما برز فيها اسم الشاعر عبد السالم عيون السود ،المق ّل في شعره من شعرائها المعروفين
«بعيتي» قوله: والباذخ بعذوبته ،حيث قال في إحدى قصائده:
عبد الباسط الصوفي
وح َخلَ ْعــــــتُ اآلنَ ِظلّـــيالـــر ُ
ُّ شَـــفَّ ِ
ت أيْـــنَ أنـــا يـــا لَ ْيـــ ُلَ ..مـــنْ يَ ْعلَــــــ ُم
ط ْفـــتُ ال َو ْحـــ َي عَـــنْ طُـــو ِر الت ََّجلّي
وقَ َ لَقَـــــــ ْد َكوانـــــــي ُج ْن ُحـــــــ َك ال ُم ْظلِـــ ُم
باحثـــا ً مـــا ِز ْلـــتُ عَـــنْ نـــا ِر هُـــد ً
ى األرض وغـــا َم الفَضـــا ُ ضلّـــــتْ بـــي َ
أصطَليهـــا ِم ْثلَمـــا عاهَـــــــدْتُ أه ْ
ْلـــي ْ األضـــــــــوا ُء واأل ْن ُجـــــ ُم
ْ ت
وغــــــــار ِ ومن شعراء ِح ْمص المعروفين أيضا ً عبد الباسط الصوفي الذي
َهتَـــــــفَ الشِّـــــــ ْع ُر وقَــــــ ْد أع َْج ْزتُـــهُ أيْــــــنَ أنـــا يـــا لَ ْيــــــ ُل ..أيْـــنَ الّتـــي ولد سنة 1931م ،كان مدرسا ً للغة العربية ،أُوفد في بعثة إلى «غينيا»
َعلَّـــــ َك اآلنَ تَرانــــــي قُ ْلـــتُ عَلـّـــي ـــف فـــي َغ ْفوتـــي َمـــ َّرتْ ُمـــرور الطَّ ْي ِ لتدريس العربية ،وهناك مات سنة 1960م ،وبعد ذلك أُصدر له ديوان
صـــدى ق ومـــا ِمــــــنْ َ َغيّبهـــا األُ ْفـــ ُ «أبيات ريفية» في بيروت.
تتميز ِح ْمص باتساع ريفها ،وكثرة بساتينها ،حيث نجد أغلب قراها ــــــع ِمـــنْ ُم ْقلَتـــي
ِ ّإاّل ا ْنحــــــدا ُر ال َّد ْم حمص مدينة حميمة تم ّر بها فتمنحك الهناء والطمأنينة تمتّع ناظريك
مصايف رائعة ،تتكلّل بالخضرة وتزدان برونق الطبيعة ،وقد قال في وصف
ذلك شاعرها نصر سمعان:
تِـــــــــ ْل َك َ
الخمائـــ ُل َجــــــنّاتٌ ُمنَـــ َّو َرةٌ
ــــــاق
ِ ب َعبّ بِ ُك ِّل َزهْـــــ ٍر َز ِك ِّي ال َ
طيـــــــ ِ
والطَّـــــــــــ ْي ُر ما بَيْنَ تَ ْغريــ ٍد و َز ْق َزقـَـ ٍة
ــراق
ِ والمـــــــا ُء ما بَيْنَ فَــــــ ّوا ٍر و َرقـْ
صــــــــون َحــفيفٌ حــــا َر سا ِم ُعــهُ
ِ ولِ ْل ُغ
ّـــاق
ـــــس ُعش ُِ ق أوراقِهـــا أ ْم َه ْم أخ ْفـــ ُ
َ
ص ،فقد وردت في كثير من وقد تختلط على العابر أدبيا ً تسمية ِح ْم َ
قصائد شعراء العصر األندلسي ،فهي في تلك السطور مدينة إشبيلية الحالية
التي كان يطلق عليها ِح ْمص في ذلك العصر.
وأخيراً ،كما تتوسّط ِح ْمص جغرافيا البالد ،فإنها تتوسّط
الحركة األدبية عبر العصور أيضاً ،وإن كان هذا التوسّط أو
الصوت قد ارتفع منذ العصر العباسي وما بعد فإنه جاء مؤثراً
تأثيراً حيويا ً ومتج ّدداً. جامع خالد بن الوليد
41 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 40
شعر
احتَ َم ْيتُ
بالقـــاع ْ
ِ آن
ط ِِم َن الشُّـــ ْ غـــريقــــــا ً أُ ِحبُّ ِ
ـــك ،فَ ْلتَقولينـــي َ
ـــو أنَّ ال َمدى ا ْن َك َشـــفا ُ
الحقيقة لَ ْ هـــي َكـــ ْم صور ٍة َي ْن َتشـــي فيهـــا ال َمجا ُز ُهنا
َ
الختَفَ ْيتُ
لـــك ْ
ِ ـــم
َس ْ ـــو لَ ْم أ ْبت ِ
ولَ ْ وأنَّ َمالمحـــي آثــــــا ُر َو ْجــــــ ٍه ِســـد ٍْر ..و ُت ْط ِعـــ ُم ِمـــنْ َح ّباتـــ ِه ُ
الح َنفا ور» َتهْ ِب ُط عَ نْ
«جبال ال ّن ِ
ِ شاه ْد ُتها ِمنْ
َ
ه َو ْيتُ
أراك لِـــذا َ
ِ علَ ْيـــ ِه لِكـــي
َ َخيالي ال َه ُّ
ش يَ ْع ِج ُز عَـنْ ُ
صعودي ز ّمـــاً ..فمـــا َج َّ
ـــف َم ْعنـــا ُه وال َن ِشـــفا المـــــاء آي َتـــ ُه
ُ شـــــاء َز َّم
َ و َك ْي َفمـــــا
كالســـ ِّر ُمختبئاً فـــي َو ْج ِه َمـــنْ عَ َرفا
ِّ نةطاع ً
اإليمـــان ِ وهـــي فـــيكأ َّنهـــا ْ
َمخافَـــةَ أنْ أضي َع إذا َمشَـــ ْيتُ َمشَـــ ْيتُ ،ت ََر ْكتُ َخ ْلفي ُخ ْب َز قَ ْلبي ِ
الو ْق ِ
ـــت وا ْن َص َرفا إ ْكســـير ُه في أعالي َ َيقي ُنهـــا أنَّ «إبراهيـــ َم» َص َّ
ـــب لهـــا
وهـــا أنا َد ْمعـــةٌ ولَ ِ
ـــك ا ْنتَ َم ْيتُ ُيـــون أ ّمي
َ ـــك تُش
ْـــبهين ع
َ رأ ْيتُ ِ
و َت ْمـــ ُر ُه فـــي َي َد ْيهـــا َب ْعـــ ُد ما ُق ِشـــفا س ِب َج ّن ِتهـــا ــــــرد َْو ٌ
«أحمـــدَ» ِف ْْ وأنَّ
َز َرعْ تُ ســـيوفَهُ ،و َدمي َجنَ ْيتُ شـــ ْع ٍر ّ
فــــــا َح ِ أُ ِحبّ ِ
ـــك هكـــذا،
ـــراء فا ْن َك َشـــفا
ُ َشـــ ّع ْت ب ِه لُ ٌ
غـــة َخ ْض ض َن ً
دى حاء َم ْح ُ وص ْو ُت ِج ْب َ
ريل في األ ْن ِ َ
ِ
هد َّْمـــتُ نَ ْفســـي ْ
إذ بَنَ ْيتُ وقَـــ ْد َ ألعيـــش فيها
َ بَنَ ْيـــتُ قصائـــداً
ـــوال أحالَ ْت لهـــا طينَ الـــ ّرؤى َخ َزفا لَ ْ األرض باهِ ٌ
تة ِ ـــزاء ســـير ُة َهـــذي
ُ عَ ْج
عنَ ْيتُ
أكـــون أنـــا َ
َ ولَكـــنْ أنْ أحبّ ِك ،لَ ْ
ســـتُ أعْنـــي أنْ تكوني واّل ِك وازدلفـــــا ّ
حـــظ مـــن ّ ٌ
هـــات فيا اال ّتجاهـــات مثـــ ُل األُ ْحجيـــاتَ :متـــا
ِمنْ ِض ّفـــ ِة ال َع ْر ِ
ش إيناســـاً لِ َمنْ َو َجفا َف
عوث فـــي َصد ٍوأ ّنـــك اللؤلـــ ُؤ ال َم ْب ُ
لَـــنْ َت ْفهموا ال َب ْح َر َح ّتى َت ْفهَ موا َّ
الصدَفا الض َفـــ ِة ْ
األخرى تقـــو ُل لنا: َف ِح ْك ُ
مـــة ِّ
43 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 42
شعر
45 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 44
أجنحة
بَ ْيت شعر «نواكشوط» تجربته الشعرية حظيت باهتمام النقد األكاديمي
ع ّزز اإلبداع بموريتانيا
محمد المحبوبي:
ّ
«القوافي» التقته ،وأجرت معه هذا الحوار: عروس الثقافة العربية
ُ الشارق ُة
-هل تراجع دور الشعر على حساب الرواية في موريتانيا والمنطقة العربية؟
ال أرى أن مساحة الشعر في خريطة الذوق العربي تقلصت ،وكل
التجارب البديلة ..نحن نعاني طفولةً ثقافيةً غير متواضعة ،فالسرد لون
تعبيري من أمتع األنماط األدبية ،بل قد يكون أجمل من الشعر في بعض
األحيان ،لكنه في النهاية ليس أصعب من قرض قصيدة فاتنة ..وأغلب
التصريحات المعادية للشعر ال يستطيع أئ ّمتها قرض بيت واحد .الشعر
يختزل أشكال األدب كافة ،ويزيد عليها بالعنصر ال ُمعجز والعتبة العالية
الموسيقا؛ لهذا نجد شعراء روائيين من الطراز الرفيع عندنا ،كأحمد ولد
عبد القادر ،ومباركة بنت البراء ،والمختار السالم أحمد سالم ،في حين
ال نجد العكس ..وهذا ما نلحظه في الحياة الثقافية العربية ،عبر كثير من
الشعراء الروائيين والزاحفين إلى الشعر.
47 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 46
أجنحة
هل من المستساغ أن ال يتقن المتأ ّدب قواعد اللغة التي يكتب بها..؟ أخاف الشاعر المعاصر مهما بدا غارقا ً في ندوب انكساراته ،فإن في داخله
أن تتسرّب إلينا هذه العدوى ،خاصة في ظل التدفقات الهائلة لمجتمع همس أغنية جميالً يحلُم باليوم الذي يَجنح فيه اإلنسان للسلم ،وتسقط مقولة
َ
المعلومات ،وطغيان الشاشات. إنه بالمرصاد ألخيه اإلنسان.
-وماذا عن حضور المرأة الطاغي في قصائدك؟ -ما الحدود الفاصلة بين الشاعر شاعراً والشاعر فاعالً في مرافق الحياة
المرأة هي النجوم ،والقمر ،والتقاسيم التي تنادمنا في سكينة الليل، األخرى؟
وتتجلّى في مباهج القصيد والتماعات النجوى ،رو ٌح شفافة تختصر ال أعتقد أن الحدود الفاصلة المعنوية بين الحضورين موصدة دائماً،
ستجف إنسانيته ،وينطفئ منُّ كل األشياء الجميلة ،ومن لم يفهمها، هناك عالقات و ّدية وتفاهمات على خصوصية كل من الشاعر والفاعل؛
الداخل إلى األبد. لكن البرزخ المختبئ بينهما ليس حائالً؛ فكالهما تتقلب في أعماقه فصول
عاطفة بني البشر من تهاليل السعداء ..وأنّات المحزونين.
الشاعر إنسان ،وله أن يعمل في مختلف حقول الحياة ،لكن عليه أن
والذات األخرى ،هكذا كان الذات الشاعرة ّ يراعي خصوصية كل من ّ
الشعر يختزل أشكال األدب
الشعراء الصعاليك ..يؤمنون بالحياة ويتقلدون فيها كل المرافق ويسلكون
والعتبة العالية الموسيقا من أجلها كل الصعاب؛ وفي تاريخ الشعر الحديث ظل محمود سامي
البارودي ،يحمل قضاياه بيد ،ويكتب الشعر باليد األخرى ،حتى استقرّت به
الحال في سرنديب ،وليس ببعيد من ذلك ،غازي القصيبي ،فقد كان شاعراً
-ما س ّر اهتمامك باللغة العربية ،وحرصك على سالمتها؟ فاخراً وسفيراً فوق العادة لبالده ،يمتهن اإلدارة والحقوق ..ورحم الله الهوى
-من الشاعر بنظرك؟ وهل يستقيل من وظيفته؟
رحيل الكبار المؤتمنين عليها هو الغيرة عليها من الذوبان الذي حصل وأهله؛ قضى إبراهيم ناجي ،في عيادته الخاصة طبيبا ً بارعاً ،وهو الذي
الشاعر مجنون أنيق ،يستيقظ قبل اآلخرين على نسائم اللغة األخرى..
لبعض اللغات األخرى ..فحينما تطالعك كتابات من درسوا ،سنوات ع ّدة خلف خوالده الشعرية في ليالي القاهرة ..والشيخ ولد بلعمش ،كان شاعراً
و ُمواعَدات اإللهام .يتبيّن المناخ الروحي المختلف جيداً ،فتلقاه يرثي في
بعض مساقات العلوم االجتماعية واإلنسانية حصراً باللغة العربية ،وما في الليل ومهندسا ً في النهار ،كما يقول عن نفسه.
ُخطا الغيمات المتعبة ،ويغت ّم من رفيف اإلشراقات المؤجّلة ..وألنه مسكون
بلقطاته القُزحية ومشارفه الخضراء ،فإنه يتهلّل طربا ً للمواسم السماوية زالت حروفهم لم تشبّ عن طوق اللحن والتكسير ،يح ّق لك أن تتساءل وفي فكرة عامة ،الشعر ِهواية وهُوية ،لكنه ليس مهنة جامعة،
المنسية ،ويغنّي للفوز القادم من مدائن الفجر. قرأت أن بعضا ً من كبار
ُ كيف نحمي هذه اللغة من األخطار المحدقة بها؟ تختصر كل تفاصيل اإلنسان ،والشعر والحياة؛ وا َحـتان جميلتان تستظل
باختصار إنه الطفل الذي يرقص في النسخة األولى من كوامننا الغافية، األدباء يقدم أعماله لمدقق لغوي بعد كتابتها ،تماما ً كما يقدمها للمترجم؛ تحتهما اإلنسانية.
وفي تقديري ،يستقيل «الشاعر» من أحاسيسه ،من طبيعته ،من ذاته ،حين
«ال يكون شاعراً» ..حين يركن إلى طينة األرض ،ويُجافي َرفاقةَ السماء.
-أعادت بيوت الشعر الروح إلى األجيال الشعرية والمدارس الشعر؛ فكيف
تنظر إليها؟
بيوت الشعر مرافق ثقافية ُمنيفة تأوي إليها أفئدة المبدعين ،فتلتقي على
مختلف ألوان الشعر ،وهكذا من الطبيعي أن تتّسع للقصائد التراثية بوصفها
ثليالً إبداعيا ً له جمهور ما زال يتمسك به ،لكن باستقراء عام للمشهد الشعري
الذي استظهرت فيه بيوت الشعر حركة دائبة ،نلحظ الحضور الطاغي للنص
الشعري الحديث ،ومحاولة الخروج بالقصيدة العربية من دائرة التقليد في
الموضوع والقالب والفكرة واألسلوب ،وانتهاج المسالك الحديثة في الكتابة
الشعرية ،األمر الذي نستطيع معه أن نقول إن اإلبداع واإلجادة لم ينضبا.
-الشارقة فاعل ثقافي عالميَ ،ع ِملَتْ على هذه المكانة عبر مك ّونتي
األصالة واالنفتاح؛ ما تعليقك؟
خاّلبة ،استطاعت أن تكون بح ّق عروس الثقافة، الشارقة مدينة ثقافية ّ
وأن تعيد للحياة األدبية شيئا ً من عطرها و ِحلِيّها الضائع ..ويدرك القارئ المدينة القديمة في شنقيط
49 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 48
أجنحة
لتاريخ الفكر االجتماعي ،أن األمم التي أعلت شأن اآلداب ،تش ّع فيها
األزهـــا ِر ْ حيـــن تَ ْغفـــو طفولـــةُ َ وتسامح
ٍ الحضارة ،وتستنير العقول ،ويسودها الرق ّي ،فتعيش في سال ٍم
وانسجام ،وعلى العكس من ذلك «ما ذلّت لغة شعب ّإاّل ذلّ ،وال انحطّت إاّلّ
مـــاء النَّهـــا ِر
ِ َمـيديـــــن فـــي ِد
َ وت كان أمره في ذهاب وإدبار» ،كما يقول الرافعي ،وهكذا تألقت الشارقة حين
ـــن اللُّ ْؤ
نتاك ِم َ ضـــ ّل َو ْج ِ حيـــن ت َْخ َ َ استحدثت للمثقفين والمبدعين مثابات يسيمون فيها ويسرحون ،ويتطارحون
أسئلة اللغة واألدب والثقافة ،في مناخ يؤثّث أحوال اإلبداع ويشجّع على
ق النّا ِر يـــذوب فَ ْ
ـــو َ ُ ل ِؤ َوشْــــياً..
العطاء ،بتنظيم مئات األماسي الشعرية والندوات األدبية والنقدية والثقافية،
ق الســّــ َفــــين بالشَّـــفَ ِ
َ حين ال ت َْحت َ محمد المحبوبي في بيت الشعر في نواكشوط 2019 والمهرجانات والدورات التدريبية ،في زمن تقهقرت فيه الثقافة البنّاءة،
س ْي َن ِخ ْلسةَ األعْ ما ِر ـــــــــاجي وتَ ْن َ وكادت غدران اإلبداع أن تغيض؛ هذا ما أضفى على هذه المدينة حلل
هذه البيوت المجتمع الثقافي ،عبر العناية بالشعراء وتشجيعهم على القول، اإلشادة ،ومنحها أوسمة تركت ذكراً حسنا ً وأثراً طيبا ً في سوح واسعة.
شـــين وال ُعطـــو ُر تُناجيـ َ حيـــن ت َْمَ ونشر أعمالهم اإلبداعية وفتح المباريات أمامهم .كما دفعتهم إلى المشاركة
ت» لِ ْلقيثا ِر ـــــــكَ ..كنَ ْجوى «البَيَا ِ ِ في الفعاليات الثقافية كافة ،وقدمتهم للجمهور .خاصة أنها أطلّت في زمن -كنت من الجيل الذي رافق من قرب افتتاح «بيت الشعر» في نواكشوط؛
توجهت فيه العقول تلقاء اآللة والتقانة ،ولم يعد للشعر ذلك االكتراث الذي بعد هذه السنوات على تجربة بيوت الشعر ما النقلة المرتقبة في عملها
ب «آذا هلين عن ِطيــــ ِ َ حينمـــا ت َْذ ظ ّل يعرفه طيلة عقود؛ ولعل هذا ما أحظى هذه البيوت أهمية بالغة ،ما زالت لتعزيز القصيدة العربية؟
كين عَنْ شَجا « ِم ْهيا ِر» َر» ..وت َْح َ تحافظ عليها ألداء رسالتها في بناء مجتمع سليم الذوق والتفكير ،يتطلّع ً ً
إذا كانت التنمية تعني في إحدى دالالتها جهدا واعيا لتحسين أحوال
نواكشوط
51 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 50
أصداء المعاني
53 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 52
مقــال
التَّقشّف واإلمالق سمةٌ عا َّمةٌ دفعهم للحوار مع قضاياهم اإلنسانية بشفافية وصدق
طبعت حياة الجاهليّين
الكلمات بأثر َ
غ ْير َم ْحدود ن َ ج ُ
ش َ ّ
والشعراءَ .. ع
الجو ُ
أن النَّسق ولئن رأى دارسونَ أمثال أحمد أمين ،وعل ّي الورديَّّ ،
ي والثّقاف ّي المهيمن في القصيدة العربيَّة هو نسق المركز أو ال ّشعر ّ
نسق المؤسَّسة الرَّسميّة ،فإنّنا ،هنا ،نُجلي النَّسق النَّقيض أي نسق الجـــوع ،في القصيـــدة العربيَّـــة ،عالمـــةٌ ســـيميائيَّةٌ تُ ْ
ض ِم ُر
الهامش .فنقرأ ديوان ال ّشعر العرب ّي لنُقارب القصيدة الَّتي يُولّدها دالال ٍت ثقافيَّـــةً واجتماعيَّـــة ونفســـيَّةً ،وليس مج َّرد إشـــار ٍة
الجوع والتَّق ُّشف ،وتَ ْعبُ ُر من أقاليم التَّهميش والعوز والنّسيان ،إلى
عضويَّـــ ٍة تـــد ُّل علـــى خـــواء البطـــن مـــن الطّعـــام .فالكالم
فتنة الحضور وضوء الحياة.
ً ً
الشّـــعر ّي علـــى الجـــوع ينقلـــه مـــن الحاجـــة العضويَّة إلى
ففي الجاهليَّة ش َّكل التَّق ّشف واإلمالق ،سمة عا َّمة طبعت حياة الجاهليّين
على اختالف طبقاتهم لقلّة الموارد الطَّبيعيَّة عموماً .ومع ذلك ،برزت
القضيَّـــة الحقوقيَّة ،ومن مدار اإلحســـاس الجســـد ّي الفرد ّي
ت المجتمع الجاهل ّي قسمةً حا َّدة بين فوارق طبقيَّة واجتماعيَّة بيّنة ق َس َم ِ د .أحمد علي شحوري إلى مـــدار المف َّكر به إنســـانيّاً ،ومـــن الطَّبيع ّي إلـــى الثَّقاف ّي.
ً
طبقَتَي «ال َجوْ عى» و«ال ُم ْتخمين نسبيا» ،أو غير ال َجوْ عى ،على األقلّ، لبنان
أن ش ّح الطَّبيعة كان يضع الجميع إزاء اختبار التَّمرين اليوم ّي نظراً إلى َّ
ولكن ما يه ّمنا ،في هذا المقام ،ليس الجوع النّاتج من صراع على الموتْ .
اإلنسان مع الطَّبيعة ،بل الجوع ذو الوجه االجتماع ّي والثقاف ّي الذي يُخلفه
ّ َّ ّ
سو ُء توزيع الثّروة.
والكالم عن الجوع في الجاهليَّة ،يأخذنا تلقائيّا ً إلى ديوان الصّعاليك؛
ش بك ّل جال ٍء ،إذ تُوحّدهم بطونُهم فقد جسَّد هؤالء النَّس َق الثّقاف َّي المه َّم َ
ال ُخ ْمص والرَّغبة في نيل متطلباتهم المفقودة ،فهذا ال ُّسلَ ْي ُك بن ال ُّسلَ َكة ،ذو
اللّون األسود لم تعترف قبيلته بنسبه إليها لكونه ابنَ أَ َم ٍة ،فخرج منها ،وهو
يُبيّن ش َّدة الجوع الَّذي كان يل ُّم به في الصّيف حتّى ليكاد يُغشى عليه ،فيقول:
صــــ ْعلَ ْكتُ ِحـــــ ْقبَةً ومـــا نِ ْلتُهـــا حتّى تَ َ
ب ال َمـــــنِيَّ ِة أَعْــــرفُ ســـــــبا ِ و ِكدْتُ ألَ ْ
ض َّرني يف َ ص ِ وحتّـــى رأ ْيتُ الجـــو َع بال َّ َ
ُ َ ْ
إذا ق ْمـــتُ تَغشـــاني ِظـــا ٌل فأ ْ
ســـ ِدفُ
أن هؤالء الصّعاليك ويلفت الباحث يوسف خليف ،في هذا المقام ،إلى َّ
ّ
جميعهم فقدوا «توافقهم االجتماع ّي» مع قبائلهم ،لذلك اندفعوا إلى تبني نس ٍق
متجاوز يتخطّى نهائيَّة الرّؤية المعهودة إلى ٍ ثقاف ّي واجتماع ّي بدي ٍل ،نس ٍق
اإلنسان والمجتمع ،إذ أبدى هؤالء رؤيةً جديدةً مبتدؤها الواقع المعيش ،رؤيةً
تنبت في أرض المغامرة المفتوحة على الح ّريَّة أو الهالك ،ال في االستسالم
لل ّشبَع الموهوم ال ّزائف الذي يُجسّده رهنُ الجائع حريَّتَهُ وطاقاتِه الجسديَّةَ
ت زهي ٍد قد يَقيه الموتَ .لذلك يذهب عُرْ وةُ بنُ ال َورْ د ،إلى المدى مقابل قو ٍ
َّ ّ
األقصى في رهانه على ح ّريّته وحقه في الشبع أو دونه الموت ،فيقول:
احـــ َي وأَ ْنـــتَ ُحـــ ٌّر
فَقُ ْلـــتُ لَـــهُ :أَال ْ
ستَشْـــــبَ ُع فـــي حياتِـــــ َك أَ ُو تَمـــــوتَُ
55 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 54
مقــال
ىوباتَـــتْ بُطونٌ ســـا ِغباتٌ علـــى طَو ً بأن الح ّريَّة تشارك ومسؤوليَّة ،وبهذا إن الصّعاليك آمنوا َّ بل َّ
ت األُ ْخــــرى بِطي ِ
ب ال َمطــــا ِع ِم وأُ ْت ِخ َمـــ ِ صعاليك الَّذي يُبرز «فلسفة المعنى نفهم قول عُرْ وة بنُ الورد ،سيّد ال َّ ش ُّح الطَّبيعة وضعهم
ضـــــراعةًفـــوس الخاوياتُ َ
ُ أَهَذي النّ ُشرك الصَّعلكة» بأنَّها نو ٌع من المشاركة اإلنسانيَّة المسؤولة ،في ِ وجها ً لوجه مع ال ِم َحن
اآلخرين في طعامه ،حتّى ليكتفي بالماء البارد أحياناً ،مؤثراً اآلخرين
نُباهـــي بها األَ ْقـــــرانَ يَ ْ
ـــو َم التَّصاد ُِم؟
على نفسه وجسده الهزيل:
ســـوم َكثيـــ َر ٍة
ٍ ســـمي فـــي ُج أُقَ ِّ
ســـ ُم ِج ْ
أ ّما في قصائد شعراء الحداثة ،فتبدو نزعة التَّمرّد على النَّماذج ال َّشعريَّة وأَ ْحســـو قَ
ـــراح المـــا ِء والمـــا ُء با ِر ُد
َ البحث عن ال َّشبع إنّما هو بحث عن نسق جدي ٍد ،وعق ٍد اجتماع ٍّي اختيار ٍّي
والثّقافيَّة جليَّةً؛ إذ يجيء الشاعر الحديث إلى القصيدة من أقاليم االحتراق،
بدي ٍل؛ فال َّشنفرى ،يُ ْش ِه ُر هجرانَهُ ويُعلن انتسابَهُ الح ّر إلى نظرائه المعوزين
ومن جغرافيا بال خرائط مسبَّقة ،ال يقوده غير بوصلة لهيبه ّ
الذات ّي ،فينفتح
وعليه ،فقد وضعت حياتهم قيما ً للفروسيَّة والبطولة الجاهليَّة. متطلّعا ً إلى حقوقه وح ّريّته:
ال ّشعر «هنا اآلنَ » على إيقاع اله ّم الوجود ّي الرّاهن ،وير ُّج نهائيَّة األنساق
أ ّما أبو ال َّش َم ْق َمق فيكشف عن نس ٍق ثقاف ّي يُباينُ النَّسق السّائد ،فيصف أَقيمـــوا بَنـــي أُ ّمـــي ُ
صـــدو َر َم ِطيِّ ُكـــ ْم
ال ّشعريَّة الرّفيعة المفتوحة على التَّجريب واالختالف ،وبذلك تتموضع
ساخر مؤل ٍم ،فيقول: ٍ فقره وجوعه بأسلوب ســـوا ُك ْم َأَلَ ْميَـــ ُل فإنّـــي إلـــى قَ ْ
ـــو ٍم ِ
القصيدة على محور التَّزامن الّذي ينفتح على الواقع ّي والعين ّي والمعيش ّي؛
ولَقَـــــــــ ْد أَهــــــ َز ْلـــــــــــتُ حتّـــــــــى
إذ يتكلَّم ال ّسيّاب ،على الجوع الَّذي اختبره في بيئته الفقيرة ،وعاين تجلّياته
س َخيــــالــــــي ت الشَّــــــــــ ْم ُ َم َحـــــــــ ِ وليس إشهار الجوع في بنية القصيدة العربيَّة بالفعل اليسير
النَّفسيَّة فيقول:
ســــــــــتُ حتّـــــــــــى ولَقَــــــــــ ْد أَ ْفــــلَ ْ المحدود األثر والفاعليَّة ،ألنَّه يجعل الجوع ما َّدةً للتّواصل والحوار
الماليين الفقي َر ْه
ِ الجياعَ ،م َع
ِ إنّي َ
شبَ ْبتُ َم َع َحـــــــــــــ َّل أَ ْكلــــــــــــي لِعيالـــــــــــي والتّخاطب ،ومن ثَ َّم يرفعه إلى مستوى التَّلقّي ،ليكون قضيَّةً ثقافيَّةً
فَ َع َر ْفتُ أسراراً كثي َر ْه عا َّمةً ،كفيلةً بوضع منظومة الفضيلة وأخالقيَّة الفروسيَّة الجاهليَّة
ب و ُك َّل أَ ْل ِ
وان الدّعا ْء ت القُلو ِ ُك َّل ْ
اختالجا ِ وعلى النَّحو نفسه ،يُصوّر أبو فرعون السّاس ّي ،تصويراً واقعيّا ً حلو َل وسؤال.
ٍ ث
موضع بح ٍ
ضري َر ْهإِ ْغضا َءةَ ال ُمقَ ِل ال َّ «أبي َع ْمرة» ،أي الجوع في بيته ،وبروز العشب في تنّوره لقلّة حنطته ،فيقول: سلب ح ّريّتهم مقابل غذا ٍء زهي ٍد ،بل اختاروا ُ
لقد رفض الصّعاليك َ
أَنـــا أَبـــو فِ ْرعَـــونُ ،فَاعْـــ ِرفْ ُك ْنيَتـــي ً
الجوع طائعين ما دام مفتوحا على احتمال الح ّريَّة ،فطوّعوا الجوع
ولئن كانت معركة االنبعاث مريرةً وقاسيةً وطويلةً ،فلم يسقط َحـــ َّل أبــــو عَـــــ ْم َرةَ فـــي ُح ْج َرتــــــي وتعالَوْ ا عليه ،ليكون سبيلهم إلى نيل حقوقهم ،وإلى تحقيق عدال ٍة اجتماعيَّ ٍة
هؤالء ال ّشعراء في ف ّخ التّشاؤم واالنهزام ،بل أبرزوا الجوع فعالً ت بُر َّمتـــــيســـيج ال َع ْن َكبــــــو ِ
ُ وحـــ َّل نَ
َ ويستف التّراب ّ منشود ٍة؛ فهذا ال َّش ْنفرى ،يتعالى على جوعه حتّى يُميته،
مولّداً ،يُح ّرضهم على األمل وتخطّي الخيبات ،إذ يقول ال ّشاعر َـــب تَنّـــوري َوقَلَّـــــــــتْ ِح ْنطَتـــي
َ ش عْ َ أ إلخفاء عوزه وحاجته:
اللّبنان ّي شوقي بزيع: ُ
ــــوع حتّــــى أ ِميتَـهُ
ِ أُديــــ ُم ِمطَــــا َل ُ
الج
الجوع، ع ِمنَ فَقا َم ِ
الجيا ُ وفي العصر الحديث ،نطالع لدى ال ّشعراء المعاصرينَ ،و ْعيا ً بالصّراع ص ْفحا ً فأ ُ ْذهَــــ ُل ب َع ْنهُ ِّ
الذ ْكـــ َر َ وأضـــ ِر ُ
ْ
ِ
بين َم ْن يملك و َم ْن يعمل؛ إذ يُدرج ال ّشاعر مح َّمد مهدي الجواهريّ ،التَّخلُّص َ
ض َك ْيال يُ َرى لــــهُ األر ِب ْ َوأَ ْ
ستَــــفُّ ت ُْر َ
ت،ضحايا ِمنَ ال َم ْو ِ قا َم ال ّ
من الجوع ضمن تطلّع اإلنسان إلى النّهوض بأحواله ،فيقول: َعلَــــ َّي ِمنَ الطَّ ْ
ــــو ِل ا ْمــــ ُر ٌؤ ُمتَطَــــ ِّو ُل
صغا ُر ِمنَ األُ ّمهاتْ
قا َم ال ّ
أ ّما ال ّشاعر اليمن ّي عبد العزيز المقالح ،فيجعل للجوع معنى اجتماعيّا ً
حقوقيّاً ،فيتمنّى لو أنَّه يُو ّزع األرض على ّ
الفاّلحين ،يزرعونها لينالوا
الكثير من الخيرات؛ يقول:
ياع
ض ِ ش ْمشونَها الجبّا َر في لَ ْي ِل ال ّلَ ْو أنَّني َ
شاع
ض بَيْنَ الكادحينَ على ال َم ِ َو َّزعْتُ ُك َّل األر ِ
ياع أَ ْلقَ ْيتُ ما َج َم َع القُساةُ ال ُم ْت َخمونَ إلى ِ
الج ِ
َض َعفينَ وثيقةَ ال َعد ِْل الجماعي وكت ْبتُ لِ ْل َم ْ
ست ْ
57 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 56
عصور
إن سبب التسمية ،يعو ُد إلى كونه فقيراً ومحتاجاً ،ألنه ومنهم من قال ّ
ّ
لجأ إلى أهله وعشيرته ،وسألهم ،فأعطوه ،ولكني أراها رواية ضعيفة
والشاهد قوله:
ســـكينا ً وكانَـــتْ لَجاجـــةً ســـ ّميتُ ِم ْ و ُ
ـــب
وإنـــي ل ْمسْـــكينٌ إلـــى اللـــه را ِغ َُ ّ
ـــاس مالَ ُه ْم
َ وإِنّـــي ا ْمـــ ُر ٌؤ ال أَســـأ َ ُل النّ
ـــب شـــ ْعري وال تَ ْعمـــى عَل َّي ال َم ِ
كاس ُ بِ ِ
خطب ِمسْكينَُ ورو َي عن األصمع ّي ،في أمر التسمية ،أنه قال:
ال ّدارم ّي فتاةً من قو ِمه ،فكرهته لسوا ِد لونِه وقلّة مالِه ،وتزوّجت بعدَه رجالً
ب ِمسْكين ،فم ّر بهما مرةً ،وهي ليس مثل نس ِ يسار له َ ٍ من من قو ِمه ،ذا
جالسة مع زو ِجها وقال:
أَنـــا ِمسْـــــــكينُ لِ َمــــــــنْ يَ ْع ِرفنــــــــي
ُ
ســــ ْمرةُ أَ ْلـــــــوانُ ال َع َر ْب لَ ْونِـــــــ َي ال ُّ
َمـــــــنْ رأَى ظَ ْبيــــــــا ً َعلَ ْيـــــــ ِه لُؤلُ ٌؤ
ب ض ّْ
ـــــــن َم ْقرونـــا ً بِ َ
ِ واضــــــح َ
الخ َّد ْي َ
59 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 58
عصور
لغته ومعجمه
كان ِمسْكين ال ّدارم ّي ،سيداً شريفاً ،وشاعراً ُمجيداً ،من أشهر شعراء
عصره وفحولهم ،واتّسمت قصائده بالدهشة والجزالة ،ورقّة التعبير وقوّته،
ووفرة المعاني ،ووضوح الغاية .ويعبّر معجمه ال ّشعريّ ،ع ّما اختاره من
ألفا ٍظ ومعا ٍن تش ّكل بها شعره ،ويكشف لنا عن اتصال معانيه بالعناصر
التي تحيط به ،على اختالفها وتنوعها ،وموقفه إزاء العالم ،وانعكاس هذا
الموقف على رؤيته الشعرية .ونالحظ حضور معجم الصحراء والموت
والحرب والدين واألخالق واألمثال وغيرها.
أغراضه الشعرية
نظم ِمسْكين ال ّدارمي ،شعراً في أغراض متعددة ،كالكرم والفخر
والحماسة ،والهجاء والرثاء ،والنقائض والغيرة والغزل ،وحسن الجوار
والحث على مكارمّ والهاجرة ،وغيرها ،وعُرف عنه الحكمة في شعره
األخالق ،والنبل وحسن اختيار الصاحب ،وهذا التنوع كان طبيعيا ً في ظل
ازدهار الشعر في العصر األمويّ ،واتّساع مجاالته ومراميه ،وتنوع ألفاظه
ومعانيه ،تبعا ً للمظاهر التي استج ّدت في هذا العصر .ويع ّد َمسْكين الدارم ّي، قصر المشتى -من الحواضر االٔموية
61 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 60
عصور
س أنْ يَ ْنظروا تغـــــــا ُر علـــــى النّـــــــا ِ من الشعراء ال ُمقلّين ،ومع هذا لم يصل إلينا شعره كامالً ،بل ضاعت قصائده
من ال ُمقلّين ولم يصل إلينا ت النَّظَ ْ
ـــر وهَـــــــ ْل يَ ْفتِــــــنُ ال ّ
صالحـــا ِ كحال غيرها من التراث المندثر عبر الزمن والتاريخ ،ولكننا سنعرض هنا
فـــإنّـــــــي ســـأ ُ ْخلــــــي لَهـــــا بَ ْيتَهـــا أغراض متنوعة لمسناها في شعره: بعض الشواهد الشعرية عن
شعره كامالً ٍ
ســـــــها أو تَـــــــ َذ ْر
فَت َْحفَـــــــظُ فـــي نَ ْف ِ
الغزل /الوصف /الهوى
ومما قاله في حُسن الجوار: ـــف إِ ْذ ُو ِ
صفَتْ ص ِ كأنَّ صورتَهـــا في ال َو ْ
واحـــــــــدةٌنا ِري ونـــــــــا ُر الجـــــــا ِر ِ ُق
صريّـــ ِة ال ُعت ِ ـــن ِمـــنَ ال ِم ْدينـــا ُر َع ْي ٍ
وقال: وإلَ ْيـــــــــه قَ ْبلـــــــي تُ ْنــــــــ َز ُل القِـــ ْد ُر َف
صد ٍ اص فـــي َ أَو ُد ّرةٌ أَ ْعيَـــ ِ
ت ال َغـــ ّو َ
ف وال َّر ْحـــ ُل َر ْحلُهُ طعامي طَعـــا ُم ال َّ
ض ْي ِ َ ي ْإذ أجـــــا ِو ُره ضــــــ َّر جــــــــار َمـــــا َ قغ فـــي َو َر ِ ص ّوا َُـــب صا َغـــهُ ال ّ أَو َذه ٌ
ولَـــ ْم يُ ْل ِهنـــي َع ْنـــــهُ غــــــزا ٌل ُمقَنّـــ ُع ســـــــــ ْت ُرأنْ ال يكــــــــونَ لِبَ ْيتِــــــــه ِ
َ
ديـــث ِمـــنَ القِـــــــرى أَ َح ِّدثُـــهُ إِنّ َ
الح أَعْمــــــى إذا مـــا جارتـــــــي َخ َر َجـــتْ
ـــوفَ يَ ْه َج ُع
س ْوتَعْـــرفُ نَ ْفســـي أنّـــه َ
الخـــ ْد ُر
ي جا َرتــــــي ِ حتّــــــى يُــــــ َوا ِر َ كتب بأغراض متعددة
وأَصـــــ ُّم َع ّمـــــــا كـــــــان بَ ْينَ ُهمــــــــا كالكرم والجود والفخر
ســــــ ْمعي ومـــــا بـــــي َغ ْيـــ َره َو ْقـــ ُر َ
وقال في الحماسة:
ضاحكا ً ِ ســـ َّرنِي ال َّدهْـــ ُرســـتُ إِذا ما َولَ ْ
وقال في ال َكرم: وجاء عن األصمعي أنه قال ،أحسن ما قيل في ال َغيْرة قول ِمسْكين ال ّدارمي:
ث ال َّد ْه ِر خاشعا ً ما ِعشْـــتُ ِمنْ حا ِد ِ ِ وال
ضـــي لِمالِـــي ِوقَايَـــةً وال جا ِع ً نـــــزال َر ْحلِ ِه
ِ ض ْيفـــي قَ ْبـــل إِ أُ ِ
ضاحـــ ُك َ ستَشـــــــــيـ أال أيُّهــــــا الغائـــــــــ ُر ال ُم ْ
ـــا ِع ْر ِ
ْ
ضـــي فيَ ْحـــ ِر ُزهُ َوف ِريَ َ َ ديـــب
ُ ـــب ِع ْنـــدي وال َم َحـــ ُّل َج ص ُويَ ْخ ُ ـــــطُ عَـــــــا َم تَغـــــــا ُر إذا لَـــ ْم تُ ِغ ْ
ـــر
ول ِكـــنْ أقِي ِع ْر ِ
ســـ ِري وأُ ْبـــ ِدي ت ََج ُّمالً ضياف أَنْ يَ ْكثُ َر القِرى
ِ ـــب لألَ
ص ُ الخ ْ
َوما ِ س إذا ِخ ْفتَها ـــــــر ٍ
ْ فَمــــــــا َخ ْيـــــــ ُر ِع
أَ ِعـــفُّ لَـــدَى ُع ْ
صيـــب
ُ ول ِكنَّمــــــا َو ْجــــــهُ ال َكريـــــم َخ ت إذا لَـــ ْم يُـــ َز ْر
ومــــــا َخ ْيــــــ ُر بَ ْيــــــ ٍ
ســـ ِر وال َخ ْيـــ َر فِي َمـــنْ ال يَ ِعفُّ لَدَى ا ْل ُع ْ
63 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 62
شعر
َـــب
ـــن
الح ْس ِآيـــات ِمنَ ُ
ٍ ـــمي
إس َ وصـــا َر ْ ُم ْذ ِض ْعنَ في ُس ْمر ِة األ ْنهار ِص ْر ُت َن ً
دى
وليـــــس يلـــــو ُم وال يَ ْعت ُ الرضا
ـــن ّ
ق بِ َع ْي ِ
الصدي ُ
ّ يَـــراكَ
صـارت ُحـقو ُل الـ ُّرؤى ْ
أشهى ِمنَ ال َمنِّ ْ ـــياء الــــ َق ْلب ُسـ ْن ُب ً
لة ــــذ َب َـذ ْرنَ ضـ ِ َ
و ُم ْ
ِ
ـــب
ض ُ يســـامح دومـــا ً وال ي ْغ َ
ُ وإن أنـــتَ أخطـــــأتَ في حقِّ ِه
ْ
كـالـو ْه ِن
َ ـقـاض
ِ ّ
لـلـطـالعينَ مـــــن األ ْن ـئـذ َن ًـة
ـت ِم َالــو ْق ِ
ــــب َالـخـالـدات ِبـ َقـ ْل ِ
ُ
أب
الوفـــي ُ
َّ ق
الصديـــ َ
ّ كـــــأنَّ ريـــح األذى
َ بروحـــه
ِ يَقيـــكَ
هجروا ُســـ ْفني؟
َرب ّ أي د ٍ لِ ْل َغ ْي ِ
ـــب ِمنْ ّ سحوت ِمنْ َق َب ٍ
الـس َف ُر الــــ َم ْن ُ ُ
ــــطاه ُم َّ ُخ
شــــموس الجفـــا تَ ْغ ُر ُ
ب َ وخ ِّل ســـ ْع ِد في أفقِه
فأشـــ ِرقْ كما ال َّ يـــاء ال ّندى ْإذ َي ْســـ َتحي ِم ّني ذابات الـــ ُّرؤى ُك ْ ِمن لَهْ ف ٍة فـــي عَ
أ ْم مـــن َح ِ تبت ِ
ال ِحـــ َّل فـيـهــــا وال َت ْـرحـالُها ُي ْ
ـضـني ــؤجـ َر ٌة ُكــــــ ُّل الـ ِّن ِ
ـسـاء عَ ـنـاويــــنٌ ُم َّ
ات فــــي عَ ـد ِْن أو َيــــ ْك َتفيها لَــــ ُه َ
الـج ّن ُ الــــص ْب ُر ِفـ ْت َن َت ُه
َّ َمــنْ َيـ ْعـ َتريها يـكـونُ
65 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 64
شعر
67 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 66
نقـــد
ولل ّش ْمس خصلةٌ أخرى هيّأتها ألن تكون محبوبة مبجّلة ،فهي فضالً عن
النّور والبهاء واإلشراق ،عالية سامقة في السّماء ،وهو عل ٌّو زادها هيبةً،
فاشرأبّت نحوها األعناق إعجاباً ،وتطلّعت إليها األبصار انبهاراً ،لتعلّق
ال ُمهج بك ّل ما هو بعيد وشاهق.
ولم يكن ال ّشاعر القديم ،بمنأى عن تلك الرّؤى والتّصوّرات القديمة،
الذاكرة الجمعيّة ،فاكتظّ الشعر العرب ّي أو على األق ّل ما تبقّى منها ،منبثّا ً في ّ
القديم بالصّور البديعة التي استُحضرت ال ّشمس فيها ،لتشبيه الحبيبة ،أو
التكنية عنها .فكانت مثالً مرجعا ً (مشبّها ً به) لجمال الوجه وبهاء الطّلعة
حيناً ،ولبياض األسنان وإشراقها حينا ً آخر .وستنصرف ه ّمتنا في هذه
المقاربة السريعة إلى تتبّع صورة ال ّشمس وأشكال حضورها في ال ّشعر
العربي الفصيح ،مستندين إلى بعض النّماذج الشعريّة التي ذاع صيتها ،بدءاً
بالعصر الجاهل ّي ،وصوالً إلى ال ّشعر العرب ّي الحديث ،مروراً بنماذج من
ال ّشعر الجاهل ّي والمخضرم ،وال ّشعر األمويّ ،فالعبّاسي واألندلس ّي.
حضرت ال ّشمس في غزل عنترة بن ش ّداد العبسي608( ،م) في حبيبته
عبلة ،فأنطقها من أجلها ،وجعلها تتوجّه بالخطاب إلى عبلة ،موصية إياها
فوس الوحشةُ؛ يقول عنترة:بأن تكون خليفتَها إذا ما اسو ّد الليل ،ودهمت النّ َ
س ِع ْنـــ َد ُغروبِهاأَشـــا َرت إِلَ ْيها الشَّـــ ْم ُ
تَقو ُل إِذا اِســـ َو َّد الدُّجـــى فا ْطلِعي بَ ْعدي
69 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 68
نقـــد
في نظره تفوقها ،ألنّها صنوها في النّور والضّياء ،وتزيد عليها باالبتسامة
ضياء والثغر ،إذ أنشد قائالً:
شبّهها الشعراء بلوحة ال ّ ض َرت في غزل عنترةَح َ
أَنيـــري َمـــكانَ البَـــ ْد ِر إِنْ أَفَـــ َل البَ ْد ُر
في عيون الناظرين بحبيبته عبلة
َأخ َر الفَ ْج ُر
س ما است َ ش ْم ِوقومي َمقا َم ال َّ
ض ْوؤها س ال ُمنيـــ َر ِة َ فيـــك ِمنَ الشَّـــ ْم ِ
ِ فَ
وللمتنبّي ( 965م) مع صورة ال ّشمس في مقام رثاء الحبيبة محموالً ســـ ُم َوالثَـــــــ ْغ ُر
ـــس لَهـــا ِم ْن ِك التَبَ ُّ ولَ ْي َ
على الغزلٌ ، وغير بعيد عن هذه المعاني ،نقف في شعر ال ّشاعر المخضرم سويد بن
س على شأن ،وأ ّي شأن؛ إذ يقف موقف المتأ ّمل في شمسين :شم ٍ
ً
الحقيقة يجرّد منها أخرى على المجاز؛ األولى تطلع نهارا ّ وقد يستحضر ال ّشاعر مصادر النّور الطبيعيّة :ال ّشمس والقمر جميعاً، كاهل اليشكريّ( ،ت 683 .م) ،وهو يتغ ّزل بحبيته ،على تشبيه بديع لوجه
ولكن مصيرها
أن حبيبته هي مصدر الضّياء بما هو رمز للحياة واألنس والدفء، ليبيّن ّ الحبيبة بقرن ال ّشمس بجامع الجمال واإلشعاع ،فقال:
إلى الغياب ليالً ،وأخرى كانت مشرقة في سماه ،ولكنّها أفلت إلى غير
رجعة ،فتمنّى متفجّعاً ،لو ّ ويجعلها المقياس الذي يقيس به مدى الجمال ،ويفضّلها عليهما معاً ،أ ّما واضحا ً
ِ ـــــــح ال ِمـــــــرآةَ َو ْجهــــــا ً
ُ تَ ْمنَ
أن شمس الحقيقة تفدي شم َسه المجازيّة اآلفلة؛
ُ عينا الحبيبة فمتفوّقتان على ما في ال ّشمس والبدر مجتمعين من نور ،فيعقد ارتَفَ ْع ِم ْث َل قَ ْر ِن الشَّــــ ْمس فـــي ال َّ
ص ْح ِو ْ
الموت: يقول المتنبّي في رثاء خولة أخت سيف الدولة الحمداني ،وقد غيّبها
ســــــ ْي ِن َغائِـــبَــةٌ مقارنة طريفة بينهما ،ويكون التميّز لليلى التي جمعت ك ّل سمات الجمال
فَلَيْتَ طالِ َعـــــةَ ال َّ
ش ْم َ
الموجودة في عناصر الطبيعة المختلفة ،ففي حضرة ليلى تغيب ك ّل مواطن ويستوقفنا ،ههنا ،وجه الحبيبة الذي يش ّكل لوحة من الضّياء تبهر
ســــــ ْي ِن لَ ْم تَــــ ِغ ِ
ب ولَيـــتَ غائِبَـــةَ ال َّ
ش ْم َ
الجمال األخرى ،وتتالشى؛ يقول قيس من القصيدة نفسها: النّاظرين ،وينتشر ذاك الضّياء في الكون ،فينشر معه البِشر والحياة ،مثلما
آب النّها ُر بِــــها ولَيْـــتَ َعيْـــنَ التـــي َ
بَلـــى لَ ِك نـــو ُر الشَّـــ ْمس والبَـــدر ُكلُّهُ شبّه أسنان حبيبته بشعاع ال ّشمس إشراقا ً وتأللُؤاً وبياضاً:
بـــن التـــي َزالَـــتْ ولَـــ ْم تَؤ ِ فِـــداء َع ْي ِ
س وال بَـــ ْد ُر يـــك شَـــ ْم ٌوال َح َملَـــتْ عَينَ ِ واضحـــا ً
ِ ُحــــــ ّرة ت َْجلــــــو شَــــــــتيتا ً
َّـــرقَةُ الـــأَّ ال ُء والبَـــ ْد ُر طالِ ٌع
ـــك الش ْ لَ ِ ســـط ْعَ َ
س فـــي الغ ْي ِم َ
ُـــعاع الشَّــــ ْم ِ
ِ كش
وقد طارت في اآلفاق واشتُهرت أبيات البن العميد (ت 970 .م) :ورد
فيها ذكر ال ّشمس ثالث مرّات :شمس أولى على وجه الحقيقة ،فالحبيبة
ــــــح ُر
ْ ب والنَّ س لَهـــا ِم ْن ِ
ـــك التَّرائِ ُ ولَ ْي َ
قامت تظلّل حبيبها من الشمس ولهيبها ،خوفا ً عليه من أذى حرارتها،
الضحى س ال ُمنيـــ َر ِة بِ ُّ و ِمنْ أَيْنَ لِلشَّـــ ْم ِ وال ّشمس ،فضالً عن ذلك ،رمز للنّور والبهاء الذي يب ّدد ال ّشعور
ـــن فـــي طَرفِهـــا فَ ْت ُر بِ َم ْكحولَـــ ِة ال َع ْينَ ْي ِ بالوحشة النّاجم عن اليوم الغائم ،وتط ّل الحبيبة فتب ّدد إحساس الضّيق الذي
فبادلها ال ّشاعر حبّا ً بحبّ ،وفضّلها على نفسه ،وعطف البيت الثاني على
وأَنّـــى لَهـــا ِمـــنْ َد َّل لَ ْيلـــى إِذا ا ْنثَنَتْ ينتاب ال ّشاعر في ظ ّل غياب حبيبته .من ذلك قول قيس بن الملوّح (ت.
البيت األوّل في ما يشبه التفسير ،مبديا ً عجبه من التباس جمالين :جمال
ســـها ال ُذ ْع ُر بِ َع ْينَـــي َمهـــا ِة ال َّر ْم ِل قَ ْد َم َّ 688م) متغنّيا ً بحبيبته ليلى ،داعيا ً إيّاها إلى القيام مقام ال ّشمس ،إذ إنّها،
طبيع ّي وجمال بشريّ .وق ّدم ال ّشمس الثانية الواردة ،على وجه االستعارة
على ال ّشمس الثالثة الواردة على وجه الحقيقة ،ونسب لتلك الفاعليّة ومعاني
الحن ّو والرأفة ،ولهذه معاني القسوة والعدوان ،موحيا ً بضرب من الصّراع
بين الخير والشرّ؛ يقول ابن العميد:
قا َمـــتْ تُظَلِّلُنــــــي ِمــــــنَ الشَّـــــــ ْم ِ
س
ــــــب إلـــــ َّي ِمـــنْ نَ ْفســـي
ُّ أح
ــــــس َ
ٌ نَ ْف
بقــا َمــتْ تُظَلِّلُنــي و ِمــــــــنْ ع ََجـــــــ ٍ
س تُظَلِّلُنــــــي ِمــــــنَ الشَّـــ ْم ِ
س شَــــــ ْم ٌ
71 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 70
نقـــد
التي استحضرناها آنفاً .وتشير جميعاً ،وإن بأقدار متفاوتة ،إلى توظيف
الوجود ّي والما ّدي من أجل الجمال ّي والرّمزي ،وهو ما يرسّخ تلك القرابة قيس جعل ليلى
المفترضة التي عقدها بعض النقّاد بين ما هو فنّي وجمال ّي. في شعره تفوقها جماالً
أ ّما أحمد شوقي ،أمير الشعراء ،فيقول راثيا ً ال ّزعيم المصري سعد
زغلول الذي وافته المنية سنة :1927
ضحاها ــــس ومالـــوا بِ ُ َ شَـيَّعــــوا الشَّـ ْم
ق َعلَ ْيهـــا فَبَكاهـــا وا ْن َحــــنى الش ْ
َّــــر ُ
ب لَ ّمــــا أَفَــــلَتْ
لَ ْيــتَـنــــي فــــي ال َّر ْكــــ ِ وحين نصل إلى ال ّشعر الحديث ،نجد حضوراً مختلفا ً لل ّشمس ،إذ تتحوّل
يــوشَـــــ ٌع هَــــ َّمتْ فَـنــــادى ،فَـثَـنـاهـا إلى موضوع للتأ ّمل والعبرة في مظاهر قدرة الله ،وبديع صنعه في الكون،
ــو ُمهــا ســـــواداً يَ ْ ـــــح َ الصــ ْب َ َجـــــلَّ َل ُّ فهذا الكوكب الغامض غموضا ً ال يخفّفه تأللؤه في السّماء وسطوعه ك ّل يوم
َـخــــلَ ْع دُجـاهــــا
ض لَـــ ْم ت ْ َ َ
فـ َكــــأنَّ األ ْر َ َ فوق الرّؤوس ،مدعاة لهدي اإلنسان إلى الله معبوده الح ّق .فقد انبرى حافظ
وجنى ض نـــوراً َ ِهـــــــ َي طَ ْلـــ ُع الـــ َّر ْو ِ إبراهيم ،يع ّدد خصال ال ّشمس ،ويصف روعتها ،وهيمنتها على كثير من
ســـمينْ طيب اليا َ
َ ِهـــــــ َي نَشْـــ ُر ال َو ْر ِد، أن الشمس ال تعدو أن تكون عناصر الطبيعة األخرى ،وهكذا يخلص إلى ّ
ي
بجمال رمز ّ
ٍ اكتستْ س ومـــــا فـــي آيِــــــــها إنّمـــا الشَّـــ ْم ُ آيةً من اآليات ال ّدالة على قدرة الله وعظمته؛ قال:
في الشعر العربي َ
عـــــان ل َم َعــــــــتْ للعا ِرفيــــــنْ
ٍ ِمـــنْ َم ـــــــاس ضلُّــــــــوا و َغـــ َو ْوا
َ ب إنَّ النّ َر ِّ
ِح ْكمــــــةٌ بالغـــــــةٌ قَــــــــ ْد َمثلــــــــتْ
َ ّ ي الخاســـرينْ س َرأ َ
أوا فـــي الشَّـــ ْم ِ و َر ْ
ــــــــو ٍم عاقلـــــــــــينْ
ْ قُـــــــدْرةَ الل ِه لِقَ ســـــــبَتِهاض فــــــي نُ ْ ِهـــــــ َي أُ ُّم ْ
األر ِ
ـــونُ َجنيـــــنْ ِهــــــ َي أُ ُّم ال َك ْ
ــــو ِن وال َك ْ
أن ال ّشاعر قد استعار ال ّشمس على طريقة نالحظ في هذه األبيات ّ
أن هذا النّموذج قد اكتسى طابعا ً جدليّا ً عقليّاً ،ابتلع
والجدير بالمالحظة ّ ِهـــــــ َي أُ ُّم النّــــــــا ِر والنّــــــــو ِر معـــا ً
ّ
القدامى ونهجهم .فحضور صورة الشمس كان في سياق التفجّع على
ال َمرْ ث ّي والتعبير عن سموّه ونبله ،وفضله على النّاس وشهرته .وهي
ّ
أو يكاد ،البع َد الشعر ّي والجمال ّي للقصيدة ،على خالف النماذج السّابقة ِهـــــــ َي أُ ُّم ال ّر ِ
يـــح والمـــا ِء ال ُمعيــــنْ
استعارة تصريحيّة ذكر فيها المستعار (أو المشبّه به) ،وبنى مقابلة كبرى،
وصورة ممت ّدة قائمة على التّناظر والتناقض ،تأتلف جميعا ً في ثنائيّة النّور
والظلم ،فالمرث ّي قرين ال ّشمس ،بغيابه ينتشر الظّالم ،وتكسو الصب َح العتمةُ،
ويتم ّدد اللّيل .وهكذا يقيم تشاكالً فنّيّا ً بين عالم الطبيعة وعالم البشر ،ويسقط
ما بنفسه من الوجع واألسى على العالم الخارجي ،ويضيق صدره بهذا
المصاب الجلل؛ ولكن هيهات فغروب شمسه ال إشراق بعده.
أن العرب قد درجت على تشبيه الرّجل بالبدر، وغن ّي عن التّذكير ّ
والمرأة بال ّشمس ،لعلّ ٍة تعود إلى معتقدات أسطوريّة قديمة تتعلّق بما
أضفَوه على ال ّشمس والقمر من رموز ودالالت مشتقّة م ّما طوّح به الخيال
واعتصرته األذهان ،وم ّما وهبه الوجود من خبرات وتجارب ،غير ّ
أن
شوقي ينزاح عن هذا التقليد ،فيشبّه المرث ّي بال ّشمس ال بالبدر أو القمر.
فإن في اكتشاف حقيقة ال ّشمس ،بوصفها غازات وأيّا ما كان األمرّ ،
مشتعلة وتفاعالت كيميائيّة ملتهبة ،سحب منها تلك الهالة القديمة ،والمسحة
الجماليّة الحالمة التي نظر بهما إليها اإلنسان القديم ،وال سيّما منهم ال ّشعراء،
وهذا ما يفسّر ،في نظرنا ،إلى ح ّد بعيد ،خل ّو ال ّشعر العربي الحديث ،من تلك
الصّور والبالغات الموصولة بال ّشمس ،أو على األقل انزياحهم بقدر ما عن
سُنن القدامى في التّصوير ،وترسّم خطاهم حذو النّعل بالنّعل ،وفق ما رأينا
مع حافظ إبراهيم وشوقي ،وتحوّلها ،نعني صورة ال ّشمس ،إلى مستوى ذي
مسحة عقلية حجاجيّة ،وهو ما يستح ّق أن يفرد بدراسة خاصّة ،يتتبّع فيها
النّاقد ال ّدارس صورة ال ّشمس في ال ّشعر العربي المعاصر.
73 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 72
تأويالت
هذا القلب الذي لم يعد بوسعه أن يتح َّمل ثقل األنين واأللم ،ولم تسعفه
محاوالت رأب الصدع وجبر الكسر ،أصبح من فرط هشاشته قابالً للتالشي
والتداعي في أي لحظة ألم أخرى مضاعفة ،بل في أي حالة تما ٍه مع شجن
تبثّه أغنية تعبر الروح .وغير بعيد من التشظّي الروحي ،ال يلبث الجسد أن
يعلن تهاويه وتداعيه أمام فرط ما تستشعره الذات من معاناة ،وهي تقاوم
وجودها في هذا العالم ،وتواجه قبح الواقع ومآسيه ،ويصبح الوداع بإحالته
الرمزية على النهاية والفقدان ،تجليا ً رمزيا ً للجسد في تهاويه وتداعيه ،تبعا ً
لتداعي الروح المنكسرة والمتعبَة .وبذلك يصبح التداعي المزدوج للروح
75 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 74
تأويالت
بعيدة عن شاطئ األمان ،وعن منافذ الضوء التي ت ِعد بانكشاف الرؤية والجسد ،من فرط األلم موتا ً رمزيا ً تعلنه الذات ،وتع ّده خالصها واتساعها
ووضوح األفق وراحة النفس ،وبذلك تتجه رمزية الضوء في مسار بعد الضيق المحيط من كل جانب:
عكسي ارتدادي ،يكشف سقوط الذات الشاعرة في مهاوي الظلمة التي سعي أنْ أ ُمــــــــ َّد يَــــــدي أخيـــــــراً
ب ِو ْ
حفرها الحزن واالنكسار واأللم؛ فقرب الصبح يقابله بعد الذات عنه، ســـدي ال َوداعـــا وأنْ أُ ْلقــــــي علـــى َج َ
والقمر الذي يفترض أن يضيء العالم ،ينطفئ لتضيئه الذات الشاعرة لَقَـــ ْد ضاقَـــــتْ ِخيــــــاراتي كثيـــــــراً
بالضياع؛ إنها شعرية المفارقة التي تسلب الضوء داللته الرمزية، ـــــوتُ أ ْكثَ َرها اتِّســـاعا
وصـــــــا َر ال َم ْ
وتجعله طاقة من الظلمة والتيه والضياع.
هذان التيه والضياع يعيداننا إلى رحلة البحث الرمزية التي تعلنها
القصيدة منذ عتبة العنوان ،إذ تقترن العودة بكل دالالت التشظّي والفراغ قصيدته مثقلة ٌ
والضياع ،ويصبح تكرار الفعل «أعود» ،تكريسا ً لخيبة هذه الرحلة الداخلية بالبحث والسؤال والتأمل
نحو الخالص واألمان:
ب أنـــا بَعيـــ ٌد ـــح القَريـــــ ِ
الص ْب ِ
ُّ َـــن
ع ِ
هذا االرتباط الرمزي للسعة بالوداع وبالموت ،يحيل على شعرية
ضياعـــاوعَـــنْ قَ َمـــ ٍر أضـــــي ُء لـــهُ ال َّ
المفارقة ومأتميتها في الوقت نفسه ،فالوجود المادي الذي يمثله الجسد،
ــــــر َوهْما ً
ُّ أج
ــــــراغ ُ
ِ أعـــو ُد إلـــى الفَ
وتداعي القلب الموجود على جرف الحياة يقذف بالذات إلى ضيقها ،في حين
يـــح ضاعا
ِمـــنَ ال ُع ْمـــ ِر الذي فـــي ال ّر ِ يصبح الوداع والغياب والموت ،سعة أفق متخيَّلة يبني فيها الشاعر وجوده
ضميـــري ــــدالع فـــي َ
ٍ أعـــو ُد إلـــى ا ْن الرمزي الجديد ،والمتخفّف من كل تبعات األلم والعذاب والمعاناة.
إذا أ ْطفـــــأتُــــــــهُ زا َد ا ْنـــــــــ ِدالعــــــا إن الذات الشاعرة وهي تعلن هذه المفارقة بين الوجود المادي ث ّم ّ
تواصل القصيدة بناء كونها التخييلي ،بتعميق داللية الضياع والتيه ّ
والوجود المتخيَّل ،وبين ضيق هذا الوجود واتساعه ،تكشف هذا التعالق
واالغتراب في عالم ال يشي سوى بمهاويه وعتماته ،وتتج ّدد رحلة النصّي بقولة النفّري «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»؛ وبذلك يقترن
ق
الوداع والغياب والموت آفا ٌ البحث المضنية عن الكينونة وجدوى الوجود في هذا العالم ال ُمت ِعب الخالص والسعة بالوجود الرمزي للذات الشاعرة ،ويقترن الضيق بوجودها
متخيَّلةٌ لدى الشاعر الكاسر لتوازن الذات وأمانها ،وفي رحلة البحث هذه ،تجد الذات نفسها المادي في عالم مثقل.
تختزن العودة إذن طاقة سلبية تقترن بمعاني الفراغ والوهم والضياع،
وبذلك يتعالى الصوت الداخلي ،بتكرار الفعل «أعود» ،ليعلن مأساة الذات
وألمها ال ُمضاعف ،وسقوطها في عتمات الخوف والحزن واالنكسار وانسداد
األفق؛ وكلّما تكررت المحاولة للخروج من هذه المهاوي ،باءت بالفشل،
وتحول ال َعود من محموديته وسالمته ،إلى مآسيه وعتماته «أعو ُد إلى
دالع» «إذا ْ
أطفأتُهُ زا َد ا ْن ِدالعا»« ،أعو ُد إلى الفَراغ»« ،ال ُع ْم ُر ضاع». ا ْن ٍ
ال تجد الذات الشاعرة مناصا ً من هذه الرحلة السيزيفية المثقلة بالمعاناة
واأللم واالنكسار ،لتجد نفسا ً في كل محاولة في أقاصي الهاوية ،ثم تعود
الرحلة وتدور في حلقة ال تنتهي ،وهي تبحث عن أمانها وتوازنها الداخلي
وخالصها المأمول من الحزن واأللم ،غير أنها وفي مغامرة هذا الرحيل
الصعب ،تعلن حاالً من التخلِّي يصبح معها كل شيء بال معنى وال جدوى،
فسيّان عندها أن تعتم الدنيا أو تضيء ،وأن تبقى األشياء أو ترحل ،وأن
تنكسر الروح أو تُجبَر ،وبذلك يصبح «ال َوداع» بؤرةً رمزيةً تتخلّق حولها
عناقيد الصور ،إذ يتحول الوداع إلى ُمغتسل روحي تطرح عبره الذات كل
أوهامها وآالمها ،وكل أحزانها وانكساراتها ،وتتخفف من تعلقها بكل شيء،
77 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 76
تأويالت
عظيماً ،فقد أصبح بمقدورها أن تتشبّث بحبال نفسها لتنجو وتتحرر، برمزية هذا الوداع الكلّي والشامل الذي ال تبقي بعده الذات ّإاّل على جوهرها
ولتضيء وتزهر منفردة من دون الحاجة إلى أي شيء أو أحد ،سوى ما الصافي ،بعيداً من كل ما من شأنه أن يضنيها ويزيد من ألمها؛ إنها حال
تمنحه روحها من قوة داخلية اكتسبتها بعد مكابدة الحزن واأللم: السكينة الداخلية التي يمنحها هذا الوداع بكل طاقته:
ضـــوءاً َوداعـــا ً للفَـــــرا ِ
ش َو َجـــــدْتُ َ يــــــــــــــوم إذا أرادَتْ
ِ َوداعــــــــــا ً لِ ْل ُغ
ســأ ْق ِ
صــــــ ُدهُ لِيَ ْمنَ َحنـــــــي شُـــعاعـــــا ُمعانَقَتــــــي ســـأ ْمنَ ُحهــــــا ِذراعــــــــا
َوداعـــا ً للطّيـــو ِر تَ َر ْكــــــتُ روحــــــي َوداعــــــــــا ً لِ ْلقَــــــــوا ِر ِ
ب إنْ تَ َمنَّـــــتْ
ُمـــواربَـــــــةً ،لِتَ ْه ُجرنــــــي تِبـاعـــــــا شـــــراعا ُمغـا َد َرتــــــي ســـأُهْديهـــــــا ِ
لقد وجدت الذات ضوءها الخالص ،فال حاجة لها للتعلق بالفَراش ،وقد لقد تحولت المشيئة والتمنّي من الذات إلى األشياء التي كانت تتعلق
تركت روحها مواربةً لتفك تعلُّقها بالطيور إذا أرادت المغادرة ،بل إنها بها ،وانعكست المرايا ،لتصبح الذات غنية عن كل شيء ،ال تعقد انتظاراتها
ذهبت أبعد من ذلك ،حين أعلنت الوداع الرمزي لذاتها في حال تخ ٍّل كامل، وآمالها على أي شيء ،فمن أراد البقاء أبقته ،ومن تمنّى المغادرة ساعدته،
لتضيء وتلتمع بموتها المشتهى: فالغيوم والقوارب برمزيتها المائية المحيلة على االخضرار وبلوغ شاطئ
أحتـــاج َزهْـــواً
ُ َوداعــــــا ً لـــي فَقَــــــ ْد األمان ،لم تعد تشكل بالنسبة للذات الشاعرة خالصاً ،إذ أعلنت وداعها
أل ْبــــــدو أ ْكثَــــــ َر ال َم ْوتــــــى ا ْلتِماعـــا بكل وضوح ،وتركت الخيار لها إذا أرادت أن تبقى أو تظل ،هذه السكينة
الداخلية التي خلقها «التخلِّي /الوداع» هي التي جعلت الذات الشاعرة
إنها حال من الزه ّو يعلنها الوداع والتخلِّي في أعلى معانيهما ،فال أمان تتخفَّف من تناقضاتها وصراعاتها ،ومن أحزانها وآالمها.
وال خالص ّإاّل بهما ،حيث تتجرد الذات من كل متعلَّقاتها ،لتعلن وجودها
المأمول والمتخيَّل ،بعيداً من كل المآسي والخيبات واالنكسارات واألحزان، يستمر الوداع بداللته الرمزية في تشكيل عناقيد الصور ،وفي كشف
حالة التوازن الداخلي الذي خلقته الذات لنفسها في هذه الرحلة التي تواجه
ويصبح التماعها في الموت حياة أخرى ال يدرك نورها سواها ،إذ يتحول رمزيةُ الضوء تعبّر
الموت من رمزيته المأتمية ،إلى وجود آخر تختاره الذات الشاعرة ،لتدرك قبح الواقع وجور الدنيا ،وانكسار األحالم واآلمال وتعاظم األحزان،
ويصبح التخلِّي عن «الفَراش» بوصفها قرينا ً للضوء ،وعن «الطيور»
عن الحزن واالنكسار واأللم
كينونتها ،ولتعلن حياتها المتفرِّدة والمضيئة.
هذا الوداع المأهول برمزيته العالية ،والمشحون بطاقة التخلِّي بوصفها معادالً رمزيا ً للحرية واالنطالق اكتفاء ذاتيا ً كبيراً ،وكشفا ً روحيا ً
الكبيرة ،يمت ّد إلى كل شيء ،حتى المعنى ودعته الذات وتركته وحيداً،
لتغنم وحدتها المرجوّة:
أَخيــــــراً أ ْتــــــ ُر ُك ال َم ْعنــــــى َوحيــــداً
ســـتَطاعالِيَ ْت ُر َكنــــــي َوحيــــــداً مـــــا ا ْ
إن التَّرك والتخلِّي والوداع ،هي الطريق الذي اختارته الذات للخالص،
إذ يصبح التخلص من كل شيء سراً للخالص ،وتصبح الذات في فرديتها
قادرة على التنصُّل من كل ما من شأنه تعميق مأساتها في هذا الوجود ،فهي
ترأب صدع نفسها بنفسها ،وتعيد ترميم ذاتها بذاتها ،وتلفُظ الحزن الذي
أنهك روحها إلى مهاوي الغياب:
ب ُحقــــــو َل ُح ْزنـــي وأ ْفت ُ
َــــح لِ ْلغيــــــا ِ
الجياعـــــا لِيُ ْط ِعــــــ َم ِمنْ َ
ســـنابِلِهـــــا ِ
إنها حال من التم ُّرد التي تعلنها الذات بهذا الوداع الرمزي الكبير،
لتنجو بنفسها ولترسم مسار رحلتها في وجودها الجديد ال ُمتخيَّل ،وبذلك
تتجه الطاقة الرمزية للوداع في مسار ترميم الحطام الداخلي ،ورأب
الصدع الجوّاني ،ولملة شظايا الروح ،بما يجعلها قادرة على مواصلة
رحلتها في هذا الوجود.
79 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 78
تأويالت
81 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 80
تأويالت
ترى في الماضي زمنا ً أمثل ـ وتل ّخص الزمن الحاضر بكونه حالة استالب ت لُؤلُـــ ٍؤ نُثِ ْرنـــا علـــى ال ُّد ْنيـــا َك َحبَّـــا ِ
لجماليات ماضوية ،ال تملك الذات الشاعرة سبيالً إلى مجابهتها ّإاّل بالحنين واســـد
الح ِ َ كأنَّـــا أصابَ ْتنـــا ُعيُـــونُ
الى الماضي ،وتغيّب المستقبل تماماً ،والنأي بالرؤيا عن التفكير فيه. ومـــا ُك ُّل طَ ْيـــ ٍر فـــي ال ِعشـــا ِ
ش ُم َغ ِّر ٌد
ومن الطبيعي أن يكون عامل المكان المرتبط بالزمن ،هو اآلخر عامالً ومـــا ُك ُّل طَ ْيـــ ٍر طـــا َر َع ْنهـــا بِ َعائـــ ِد
رافداً لرؤيا الشاعر للعالم بكل ما فيها من حنين ـ إذ يشكل المكان الحاضن
للماضي منبع شوق ومنبع مرارة فق ٍد في اآلن نفسه عند الشاعر هنا ،إذ
يرتبط المكان في القصيدة بسياق افتقاد ّ
يلف مفرداته التي جاءت على شكل
بنيةُ الحنين التي تأتي على شكل
تراكيب مفردات ومتعلّقات أثاث مكانية ،من قبيل البيت ،الحارة ،المكتبة
انثياالت في أبيات مترابطة
الغرفة ،الوسائد ،كرم الزيتون ،الجدران ،الملعب ـ الساحة ،المساجد؛
ومن ثم الدالّة المكانية المركزية « َحوْ ران» التي تشكل حاضنا ً مكانيّا ً لكل
المفردات المكانية السابقة ،وهذه كلها تشكلت تصويريا ً بتركيبة «أ ِح ُّن إلى»
الموغلة في الشوق الزمن الماضي.
وتأسيسا ً على ما سبق يمكن نقديّا ً مالحظة حضور الفضاء الشعري
وتبلوره ،في هذه القصيدة من ثالثية (ال ّزمان /المكان /الرّؤيا للعالم) ،وهي
بنيةُ الشتات تُ ّ
لخص الحاضر مفردات فضاء شعري تشتغل بسالسة واسترسال مدروس ،متناغمة فيما
الذي يختلف عن الماضي بينها لطرح شعرية القصيدة طرحا ً إقناعيّا ً وجماليّا ً في الوقت نفسه .فالزمان
منه والخوف من مجرد التفكير فيه أو التلميح إليه ،بعد أن وصلت الذات في هذه القصيدة يل ّح على الزمن الماضي بشفافيته وحن ّو ِه ،وهو زمن
الشاعرة من النشأة وجمال الزمن القصير فيها إلى الحاضر الكابي الذي قصير كما يبدو عبر بناء النصّ ال نجده ّإاّل في مطلع القصيدة المكوّن من
لقد طرح النص هنا في لوحاته الثالث رؤية للعالم ،مفادها أن مرور تفرّغت القصيدة للتفصيل في التعبير عن حنين الذات إليه ،ليطرح الشاعر بيتين؛ في حين أن الزمن الحاضر وهو الزمن المرير ،يستغرق سائر أبيات
الزمن حالة مرعبة عندما تلقي بظالل مروره على المطارح واألشياء، صا ً مفعما ً بـ «النوستالجيا الشعرية» ،وهي نوستالجيا نكوصية حزينة،
هنا ن ّ القصيدة ،مغيّبا ً الزمن المستقبل ومنكراً لوجوده أصالً في كناية عن اليأس
فدراما مرور الزمن هي في النهاية فقد ،سواء ذاتيا ً فلسفياً ،من كون مرور
الزمن يعني نقصا ً في أعمار االشياء ،أو بتأثير مرور الزمن في األشياء،
فهو الكفيل بتغييرها وسلبها جماليات بكورتها ونقائها األول.
ّ
وربطا ً لذلك كله بعنوان القصيدة ،يمكن مالحظة أن الدالة العنوانية
«قَبس» التي وردت في تركيبة العنوان «قَبَسٌ من َحنين» توحي على نحو
مراوغ بالقلة؛ فالقبس كما هو معروف ثقافيّا ً هو القليل من النّار ،قال تعالى
س(}...اآليةآنست ناراً لعلّي آتيك ْم منها بِقَبَ ٍ
ُ على لسان سيدنا موسى {إنّي
الكريمة) ،والشاعر يوظف المفردة في بنية العنوان هنا ،ليوحي للقارئ
كما نفهم ،بأن كل ما سيأتي من َحنين طاغ في النص إلى الزمان والمكان
ومفرداتهما ،ما هو ّإاّل قبس قليل جداً مما يعتمل في النفس من نار الحنين،
في إشارة الى أن ما تكتنزه النفس من َحنين ،أكبر وأع ّم وأشمل وأكثر ألما ً
وإيغاالً في التعبير عن ضآلة هذا القبس ،يورده الشاعر مشفوعا ً بدالّة « ِمن»
التبعيضية التي تفيد التقليل ،ليوحي للقارئ بأن هذا ال َحنين النصي الجارف،
ما هو ّإاّل بعض من قَبس يستلّه الشاعر من نار ذاته ،ليطرحه أمام القارئ،
بما ال يمثل فعالً فداحة نار ال َحنين التي بين جوانحه.
هندس الشاعر قصيدته ،ببناء تسلسلي ،منتقالً من لوحة بنائية إلى َ لقد
ّ ً
أخرى ،انتقاال مدعوما بحسن التخلص ،وهو انتقال بنائي ينطلق من الماضي ً
إلى الحاضر ،ويغيّب المستقبل ،دائراً في فلك اإلحساس بال َحنين الذي ينطلق
من ذات الشاعر ،مغلّفا ً مفردات المكان الماضي بكل ما هو حزين وشفيف،
في اآلن نفسه ،متجاهالً المستقبل ومنشغالً عنه بال َحنين ،ال َحنين فقط.
83 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 82
شعر
85 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 84
استراحة الكتب
نسق مغاير
يتجلى المكوّن البصري والعطري لصورة الورد في إحساس شعري
ينتظم ج ّل تجارب الديوان ،فشاعرنا أكثر ميالً إلى جمالية تأللؤ عيني
المحبوبة /األرض /القصيدة ،ورؤيته للعالم عبرهما ،وجمالية عطرها،
بوصفه أثراً لها في حال غيابها ،وعبر االستغراق في حالتي التفحص هاتين،
87 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 86
استراحة الكتب
فمن المفارقة أال تكون األنثى هنا زجاجاً /قوارير ،يدل على وجودها
ضياء الرجل ،وإنما العكس ،فإشراق األنوثة هنا معيار الختبار صدق
شفافية الذات الشاعرة ،ثم صدقية الثقافة المعاصرة ،وتطلع مجتمعاتها إلى
هُويّة خطابه تحلّق في عوالم
النهوض ،بوصف األنثى هنا أساسا ً فوقيّا ً يستوي عليه بشكل نادر وعجيب المعنى الوصف
وجود الرجل ،وأن تكون المرأة شمسا ً لزجاج يتجلمد بدونها؛ فهي إذن
قيمة مجتمعية رائدة ومصدر للتوثب والطموح ،السيما حين تصبح األنوثة
الجديدة فكرةً للتحوّل المنشود ،إذ يتضح في قصيدة « َر ْقصٌ على َميْس ِم ع ّما تتب ّدى عليه في ظاهره ،وأن يكون الورد اآلسر هو في حقيقة األمر فالهاللي هنا يفصح عن الهوية الثقافية لخطابه ،وهو يؤكد ضرورة
َورْ دة» ،أنها هي الجمرة /الوردة التي يطلب منها أن تصبّ النور في رئته، ناراً تتلظّى .والنتيجة أن القصيدة لم تعد مجرد واحة للتنفيس أو التجريب التحليق في عوالم المعنى ،بعيداً من الوصف أو االسترجاع الذي يحيل
ويتحوّل هو في عينيها إلى سؤال تطلع ،مثلما يرى في حركة جسدها تعبيراً االستعراضي ،بل هي مجال الشتعال الطموح وتوقّد األمل ،وهي الرؤية الشاعر إلى مجرد مؤرّخ ،إذ إنه يص ّر على أن تكون حقيقة الشيء مختلفة
عن كينونة ذاته.
89 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 88
استراحة الكتب
مستق ّر الرؤية المفارقية فجمالية تصوير الذات المتشوّقة إلى المحبوب ،مثل البالونة الفارغة،
تنتهي كثير من البنى المفارقية عند شاعرنا إلى نزعة تشكيك بغير وفقدان الثبات والتوازن واالستقرار -هي حال يولّدها غياب هذا المحبوب
«نزيف على ٍ ال َمرئ ّي ،في ظل هيمنة النسقية التي تحيل التفكير إلى الذي كان في عينيه ما يمنح شاعرنا طاقة الحياة ووهج التفاؤل ،وإبحار
رصيف أبكم» ،كما هو عنوان إحدى قصائده ،التي تستعر فيها المفارقة، ٍ اإلرادة نحو تحقيق األحالم .ولكن يأتي في تجربة الهاللي ما يبقي في
حين يؤكد يقظة الحسّ برمزية مغايرة لما هي عليه الغيوم في المعتاد المكان على رائحة المحبوب ،لتقطع دابر العشق النسقي المبدد للطاقات،
(وا ْنتبه للغيوم!!) ،ففي هذه الحال يغدو عنده بريق األماني مصيدةً لألحالم والمورّث لالضحمالل والهزال والموت ،فيأتي قوله:
والتساؤالت الفلسفية ،ويكون الماء في مرأى ظبي القصيدة النافر ،مختلفا ً تبّـــا ً لِ ِع ْطـــ ِر ِك ْ
أحيـــا فـــي ال َعمـــى لُ َغةً
لكن ماؤه يُ ْشبهُ ال َوحْ شا».
ليكون كالمستجير من الرمضاء بالنار «يرى الما َء ْ واف على رُخا ٍم مؤنّث» ،حيث الهم اإلنساني ،كما هي الحال في قصيدة «ت َْط ٌ ضـــتْ فَتَهـــاوى دونَهـــا َح َزنـــي تَرا َك َ
ومثل ذلك مفارقات كثيرة يأتي فيها «النَّ ْه ُر حينَ يَ ْطلُبُ َرشفة» ،و« َمط َم ُع
ْ ً ْ يصبح الجسد هو الوطن ،وكما هو األمر في قصيدة «فا ْستَوى على فَوْ قِه»
صرْ َخةُ القَصْ ِر حينَ يُصب ُح ُغرفةً» ،وليس ص ُشرْ فَةً» ،و« َ القاع ْأن يُراقِ َ
ِ التي مضى فيها يشكو اله ّم إلى المحبوبة. فالعطر هنا أثر للمحبوبة الغائبة يشعل ذكراها في الوجدان فيبعث الحياة
ذلك ّإاّل ألن الواقع الذي يعيشه الشاعر ،ينبني على مفارقة ثقافية عبّر عنها ً
ف على َمقا ِم الرّوح» ،نموذجا لتوحّد بل إننا نرى في قصيدة «ع َْز ٌ ض ْت»،ويصنع الرؤية «أحْ يا في ال َعمى» وينطق اللسان بالبوح «لُ َغةً تَرا َك َ
بقوله في قصيدة «ثُكنات ال ّش ّك»: صورتي المحبوبة واألُ َّمة في مخيال الشاعر ،فيراهما شيئا ً واحداً ،وذلك وتنطفئ األحزان ،فهو إذن عشق جديد ال يأتي فيه انقطاع المحبوبة ،وإنما
يـــا لَ ْل َمتاهَـــ ِة ،إنّـــي فـــي الفَضـــا ِء يَ ٌد صوْ تِها أ ّمةٌ بَيْضاء نا ِعمة» ،وكأنه يو ّد اإلشارة
حين تأتي المحبوبة «في َ تجربة أم ٍل وتطلع مادامت عطرية األثر قد حلّت مح ّل مأساوية الطلل ،وأن
بوفـــي األراضيـــنَ أ ْقـــدا ٌم بـــا ُر َكـــ ِ إلى أن األنثى /أ َمة الله هي جوهر تكوين األ ّمة (بتشديد الميم) ومحور يظل غياب المحبوبة لدى إحساس الشاعر في حكم الحضور ،فهي إذن
فاعليتها وحيويتها. فرصة سانحة لقصيدة العشق أن تتراسل فيها الهموم الخاصة مع تجارب
فغرائبية الصورة هنا تبدو بها الذات العربية المعاصرة عاجزة عن
تحقيق الطموحات؛ مادام أساسها الثقافي ال يتحقق به تحول نوعي ،مثلما أن
خل ّو السيقان من الركب يفقد الجسد قدرته على الحركة.
ّ
لكننا نقرأ في قصيدة «الشاعر» ،صورة الذات النشطة للتجديد أمام
إحباط العوائق ،حين تجد هذا الشاعر «يُساب ُق ما يَرْ جو فَيَ ْلقاهُ ما يَ ْخشى».
كما لم تفتر ه ّمة شاعرنا عن اجتراح الرؤى المختلفة في قوالب سحرية
أو استفزازية للعقل النَّسقي ،فهو في قصيدة «عُبو ٌر من َوري ٍد أبْيض» ،يبحث
صبْح شيئا ً آخَرا». عن منطق جديد ومفاهيم جديدة بقولهَ « :د ْعني أس ّمي ال ُّ
كما يقف في قصيدة أخرى على النقيض من حبّ النجاة عند اإلنسان ليقول
َرق» ،ونجده يختار لقصائد أخريات مس ّميات مفارقية ،مثل «هيّا إلى الغ ِ
ّ ُ
قصيدة «الرّبي ُع يحت ُّل الفصول» ،وقصيدة «أ ْه ُل َمكةَ ال يَ ْعرفونَ ِشعابَها»،
في إلحاح منه على إعادة قراءة التراث والمسلَّمات الثقافية ،كي يتحفّز
العقل لفهم متطلبات المستقبل ومواجهة المخاطر المحدقة بأدوات جديدة
أكثر ذكا ًء وفاعلية.
إن الشاعر وألن المجال ال يتسع لمزيد بسط وتحليل؛ يكفينا القولّ : ّ
ً
الهاللي في ديوانه «ال َج ْم ُر َورْ ٌد آ ِسر» ،اختار التحليق بحثا عن نسق جديد،
وليست جمالية المفارقة الثقافية ّإاّل واحدة من أدوات البناء التي تكسب هذا
النوع من الخطابات المتجاوزة قدرةً على التأثير والتجدد.
91 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 90
الجانب اآلخر
وهنا يؤكد لَبيد ،أن ال مصيبة مثل مصيبة فقدان األخ الذي رحل وتركه
كالجلد األجرب .وبالتوازي مع ذلك يتغنّى دريد بن ال ِّ
ص ّمة ،بأمجاد أخيه
عبدالله ،وصموده في ساحات الوغى ،فيقول:
93 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 92
الجانب اآلخر
تستبد الروابط التي تبلغ أش ّدها في حال الفقد ،فيجلي الدمع الغباش عن فَـــإِنْ يَـــ ُك عَبدُاللَـــ ِه َخلّــــــى َمكانَـــهُ
كلمات ومشاعر تدهم وجدان المتلقّي ،ليحسّ بعمق المصاب الذي ح ّل على فَمـــا كــــانَ َوقّافـــا ً وال طائِ َ
ـــش اليَـــ ِد
من أطلقها ،وهذا ال يحيد القصيدة عن ساحة الفن ،بل تراها ،رغم المشاعر يــــــاح تَنا َو َحـــتْ
ُ وال بَ ِرمــــــا ً إِذا ال ِّر
الفياضة ،تبقى زاخرة بالمعنى واالشتغال اللغوي والشعري. ضـــ ِدشـــيم ال ُم َع َّ
ِ ب ال ِعضـــا ِه وال َه بِ َرطـــ ِ
ومن المالحظ غلبة شعر الرثاء ،عموماً ،ورثاء اإلخوة على وجه
الخصوص ،ضمن العصر الجاهلي وبداية الدعوة اإلسالمية ،واقتصار باقي في الجاهلية عرف الرثاء ،عموماً ،بعفويته وصدقه ،كما حضر بكونه
العصور على القليل من هذا النوع الشعري ،ربّما تعود هذه القلة إلى االستقرار نوعا ً من إيقاد الحمية والدعوة للثأر .أما مع دخول اإلسالم ،فقد اتسم بالتسليم
الذي ح ّل مع ظهور اإلسالم ديناً ،وفرضه تشريعات تحرّم القتل والقتال، ألمر الله ،ألن الرضا بالقضاء والقدر أحد أركان اإليمان .كما أخذ أحيانا ً
وربما كون المراحل التي ازدهر فيها الشعر وأدواته ،كالعصر العباسي ،رأت منحى الفخر ،خصوصا ً إن كان الميت شهيداً.
في الرثاء مادة ضيّقة ،وربما الفتقار المنقول عن هذه العصور.
أما في العصري األموي ،فيحضر رثاء محمد بن الحنفية ،ألخيه
الحسن بأبيات يقول فيها: ُمت ّمم بن نويرة ذكر شمائل أخيه
ناحتْ َحمامــــةُ أ ْيكــــ ٍة
سأبكيــــ َك مــــا َ ومن أبلغ ما قاله مت ّمم أيضاً ،في رثاء أخيه مالك قصيدته «العينية»
ضيب َ الحجـــا ِز ق وما ْ نص مؤثر
في ّ
ُ ح ِ ضـــ َّر في د َْو ِ اخ َ التي ُس ّميت أ َّم المراثي ،حيث قال فيها:
ُ
ت تَحوطــــهُ ريـــب وأكنــــافُ البُيــــو ِ
ٌ َغ ـــز ُو ال ِّرجـــا َل َرأَ ْيتَـــهُ
س ال َغ ْ ضـــ َّر َ
وإِنْ َ
ريــــب
ُ ب َغأال ُك ُّل مـــا ت َْحــــتَ التُّــــرا ِ ســـ َم ْيدَعاصدْقا ً في الِّلقا ِء َ ب َ الح ْر ِ أَ َخـــا َ
الخ ْيـــ ُل أَ ْج َم َحـــتْ
ومـــا كانَ َوقَّافـــا ً إذا َ وفي هذا السياق ذهب الشاعر مت ّمم بن نويرة ،إلى ذكر شمائل أخيه
وهنا تبرز حال االغتراب التي يشعر فيها أخو الفقيد ،االغتراب على وال طائِشــــــا ً عنــــــ َد الِّلقـــا ِء ُم َدفَّعـــا مالك ،بعد أن وافته المنية ،فيقول:
الجهتين ،في ضفّة الحياة الدنيا وفي اآلخرة .أما مليكة الشيبانية ،فقد رثت يـــاح تَنا َو َحـــتْ
ُ نِ ْعـــ َم القَتيـــ ُل إذا ِّ
الر
أخاها حزنا ً وتخليداً لبطولته ،فقالت: وتع ّد عينية مت ّمم ،من أبلغ قصائد الرثاء ،كونها اشتملت على اشتغاالت ت َْحـــتَ اإلزا ِر قُتِ ْلـــتَ يـــا ابـــنَ األَ ْز َو ِر
تف حتّى ال َمما ِ ُّموع بِوا ِك ٍ
يا َعيْنُ جودي بالد ِ لغوية وشعورية ،ربّما لم توجد في غيرها من قصائد الرثاءّ ،إاّل أنها ،كذلك، ض ِمـــ ُر الفَ ْحشـــا َء ت َْحـــتَ ردائـــ ِه
ال يُ ْ
روب ِمنَ النِّسا ِء الشَّاريا ِ
ت الح َض َر ُ قوال لِ َمنْ َح َ نهجت منهجا ً مباشراً بالطرح ،فكانت بعيدة نوعا ً ما عن الرمزية والمجاز. ُح ْلــــــ ٌو شـــــمائلُهُ عَفيــــــفُ ال ِمئْـــ َز ِر
ش ُم ْثبَتا ِ
ت سيْنَ بَ ْعد َغضار ٍة ونَ ِ
عيم َع ْي ٍ أَ ْم َ
ت
ش نا ِع ٍم صا َرتْ ِعظا ُم ُه ُم ُرفا ِِمنْ بَ ْع ِد َع ْي ٍ
هنا تستحضر مليكة ،حزنها عطيةً على روح أخيها ،وكأن كثرة الحزن
تعبير عن مقام الفقيد في القلب ،وغلبة الفراغ الذي خلّفه غيابه.
الاّلحقة تميّزت قصيدة محمد بن كعب الغنوي ،التي رثى وفي العصور ّ
فيها أخاه أيضاً ،فقال:
أَخـــي كانَ يَ ْكفِينـــي ،و َكــــانَ يُ ِعينَنـــي
ـــوب
ُ ت ال َّدهْـــ ِر ِحيـــنَ تَنُ علـــى نَائِبَـــا ِ
ع اشْـــتَ َر ْيتُهُت ال ّد ْنيـــا تُبـــا ُ ـــو كانَـــ ِ فَلَ ْ
يبفـــوس ت َِط ُ
ُ بِ َمـــا لَـــ ْم تَ ُكـــنْ َع ْنـــهُ النّ
ي وقيـــ َل لـــي: بِ َع ْينَـــ َّي أَ ْو يُ َمنَـــى يَـــ َد َّ
ُوب الج ْ
ـــذالَنُ يَ ْ
ـــو َم يَـــؤ ُ هُـــ َو ال َغانِـــ ُم َ
بينما يتجلّى الفقد أيضا ً في قصيدة أبي ت ّمام التي رثى فيها أخاه ،حيث يقول:
ـــو كانَ يَف َه ُمـــهُإِنّـــي أَظُـــنُّ البِ ْلـــ َي لَ ْ
ـــن
س ِ الح َ
صـــ َّد البِلى عَـــنْ بَقايا َو ْج ِه ِه َ َ
يـــا َموتَـــهُ لَـــ ْم تَـــ َد ْع ظَ ْرفـــا ً وال أَدَبا ً
إِ ّاّل َح َكمــــــتَ بِـــــ ِه لِلَّحـــــــ ِد َوال َكفَ ِ
ـــن
95 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 94
الجانب اآلخر
وعبر ما سبق يتبيّن لنا غرض من أغراض الشعر ،فهو في هذا الجانب
لسان قلب الشاعر ،والهُويّة التي يتحرّك فيها ضمن مجتمعه ،يمدح ويذ ّم،
يحبّ ويبغض ،يفرح ويحزن ،ويبكي بدالً عن الدموع مفردات.
97 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 96
شعر
99 العدد (� - )49سبتمرب 2023 العدد (� - )49سبتمرب 2023 98
القَصيدةُ
وأحالم الشّاعر
ْ
الشاعر يكتب عن رغبته في النقش على رمال البحر ،وعلى رواسي القلب ،ألنّه يدافع
الوجع بالكلمات ،ويدفع عن نفسه بالثمانية والعشرين حرفاً نفسها الملل؛ فهو يعرف كيف
للسفر مع القصيدة ،ألنه ال يضمن أن تنتظره ً
قليال حتى يخلو يرتّب األوراق ويع ّد نفسه َّ
لها ،بعيداً من الذين يحاولون أن يعرفوا مسارها ،ومع من حظها في هذا اليوم؛ فالقصيدة
تجف أوراقها ،قبل أنتتخفى حين تختار من يعرف كيف َيصوغها قبل أن ّ شجاعة ال ّ
الاّلمعة .وكلّما ركض الشاعر نحوها ،منحته تشيخ وتهرم دون أن تتباهى بأضوائها ّ
العمر الذي يكفي لكي يذكره الناس في حلقات الكالم الجانبي؛ فهو يفضلها على أي شيء،
وهذا التفضيل نابع من محبّة عميقة لتراكيبها الخيالية التي تتكاثر مثل غابة من الثمار.
فدام َم ْج ُد القصيدة ،ودام َم ْج ُد الشعر ،ودامت األنهار والصدفات وأوراق الشجر ،والطيور
التي تت َم ْوسق وتغتسل بماء الشعر؛ فماذا يمكن للشاعر أن يفعله ،إذا رافقته قصيدة على
البحر؟ هل يبتسم لها ،أم يترك لها حرية الغناء؟ في كل األحوال ستكون لحظات سعيدة
مرة
التي يجتمع فيها الشاعر مع قصيدة وسط حشد من محبّي الشعر ،وقد حدث أكثر من ّ
أن الشاعر قال قصيدة بين الجموع ،فرزق خيراً كثيراً ،وعاد إلى أهله مسروراً؛ فهذا
هو اإلخالص الحقيقي للحروف التي تنبت على شجر القصيدة ،هذه هي قمة الوعي بأن
ً
مستحيال ،كما يتخيّل بعضهم ،فكل األمكنة بالنسبة للشاعر الحلم بين طيّات األوراق ليس
ال أهمية لها ،حين تغيب القصيدة وحين تحضر ..تحضر األعراس كلها ،فاشتبكي يا
أحالم مع تنويعات الشاعر الذي يعبر إلى طريق الشعر الذي ال يبتغي غيره ،وال يرجو
سواه ،فالشعر غصن زهور ،والقصائد تمنح الشاعر الدهشة ،فمن نافذة الشعر تنطلق
مراكب الخيال ،لترسو على شواطئ تسكنها النوارس ،فال تذهب األحالم أبداً ،والشاعر
الحقيقي ال يرى طريقاً آخر سوى الشعر ،فطريقه هو اإلنصاف .وكلّما قال الشاعر يا
أيّتها الكلمات أضيئي في اليابسة والبحر ،وانهضى لتتخذي مساراً في
حــديث
ال�شعر
القمر ْين ،خارجاً
َ الفضاءات ،أجابته الكلمات :ليكن الشعر منبعثاً من ضوء
عن أسوار الزمن ،ألنه ال يركض في األقفاص المغلقة.