You are on page 1of 52

‫مجلة شهرية تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة‬

‫السنة الخامسة ‪ -‬العدد (‪ - )49‬سبتمبر ‪2023‬‬


‫المختارات الشعرية‪..‬‬
‫حفظت إرث العرب من الضياع‬

‫مسكين الدارمي‪..‬‬
‫تُعنى بالشعر واألدب العربي‬
‫ذكرته األجيال «بالخمار األسود»‬

‫أحبها المتنبي‬ ‫حمص‪..‬‬ ‫قصيدة‬ ‫الخير‪..‬‬


‫وتعـلق بهـا ديـك الجـن‬ ‫الطمأنينة والسالم‬

‫الشمـس‪..‬‬
‫حضور ساطع في‬
‫القصيدة العربية‬
‫ي العرب ّي‪..‬‬
‫النص الشعر ّ‬
‫ّ‬
‫وأخيلةٌ ُمغايرة‬
‫سماتٌ جماليةٌ ْ‬
‫ِ‬
‫القصيدة العربية تمتلك كثافتها التعبيرية وسماتها الجمالية وتكويناتها اللغوية البديعة‪ ،‬وهي بهذه السمات‬
‫تواصل مسيرتها في المشهد اإلبداعي بأخيلتها المألوفة والمر ّكبة‪ .‬ومن العالمات التي تجعل النصّ الشعري‬ ‫إصدارات مجلة القوافي‬
‫في أبهى حاالته‪ ،‬اكتمال عناصره واتّساع رؤيته‪ ،‬وهو بهذه الخواصّ يصبح قابالً للتحليل والتأويل‪ ،‬فعلوم‬
‫البالغة تجتهد في توصيف التأثيرات الجمالية التي تح ّدد بيان درجة الشعرية وإبراز معالمها‪ .‬وقد أسهمت‬
‫المختارات الشعرية في حفظ تاريخ القريض‪ ،‬كونه إرث العرب وميدان نهضتهم في كل العصور؛ وفي‬

‫مجلة شهرية تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة‬


‫السنة الخامسة ‪ -‬العدد (‪ - )49‬سبتمبر ‪2023‬‬
‫المختارات الشعرية‪..‬‬

‫مجلة شهرية تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة‬

‫السنة الخامسة ‪ -‬العدد (‪ - )48‬أغسطس ‪2023‬‬


‫مجلة شهرية تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة‬
‫السنة الخامسة ‪ -‬العدد (‪ - )47‬يوليو ‪2023‬‬
‫ذف‪ ..‬بيـان‬ ‫الغة ال َحـ ْ‬ ‫ببال‬
‫إطاللة هذا العدد نتناول مد ّونات الشعر العربي التي تبرز جهود الرّواة في تدوين هذا الرصيد الزاخر‬
‫حفظت إرث العرب من الضياع‬
‫شعري‬ ‫سياق ال ّ‬‫لل َم ْعنى في ال ّ‬

‫من العطاء الشعري‪ ،‬ومن ث ّم نتطرق إلى نماذج كتب شهيرة مثل «المفضَّليات»‪ ،‬و«ديوان الحماسة»‪،‬‬ ‫تُعنى بالشعر واألدب العربي‬
‫إنسـانيّة ال ُّ‬
‫شعـراء‪..‬‬
‫خ فـائـ ٌ‬
‫ض بالمـحبّة‬ ‫تـاريـ ٌ‬ ‫تُعنى بالشعر واألدب العربي‬
‫مسكين الدارمي‪..‬‬
‫ألسود»‬
‫ألجيال «بالخمار ااأل‬
‫ذكرته ااأل‬
‫تُعنى بالشعر واألدب العربي‬

‫و«جمهرة أشعار العرب» وغيرها‪ ،‬فالكثير من الكتب التي حفظت ديوان العرب أبقته في الذاكرة‪.‬‬ ‫صداقة في ال ّ‬
‫شعر‪..‬‬ ‫ال ّ‬
‫وفي استطالع «القوافي» تتجلّى الدوافع الكامنة وراء سفر الشعراء‪ ،‬وتنقّلهم بين األمكنة‪ ،‬بما يخدم الشعر‪،‬‬ ‫إلخاء‬
‫ألهمت معاني الو ّد وااإل‬
‫الموصل العراقية‪..‬‬
‫قيثــــارة الكـلمـــات‬
‫أحبها المتنبي‬ ‫حمص‪..‬‬
‫وتعـلق بهـا ديـك الجـن‬
‫قصيدة‬
‫الم‬
‫سال‬‫الطمأنينة والس‬
‫الخير‪..‬‬

‫وهو ما يطرح التساؤل‪ :‬هل هذه األسفار باستطاعتها أن تكمل الوجه اآلخر للقصيدة‪ ،‬بخاصة أن النصّ‬ ‫ملتقـى‬
‫ُ‬ ‫عـ َدن‪..‬‬
‫َ‬

‫الشعري حين تتهيّأ أحوال تكوينه يتخلّق في العقل الباطن للشاعر وفق المؤثرات التي تحيط به؟‬
‫المــــاء والحــلم‬
‫غــ َ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫ش َ‬ ‫ظــ ّ‬
‫ل‪..‬‬ ‫ال ِّ‬
‫الغية‬ ‫ال ّ‬
‫شعراء بالمعاني الببال‬

‫وتظ ّل المواقف الطارئة التي تحيط بالشعراء في ك ّل العصور تبرز قضاياهم اإلنسانية‪ ،‬وحاجتهم إلى األمن‬ ‫‪ ..‬حضور ٌ‬
‫وار ٌ‬
‫ف فـي الشعـر‬
‫ال َ‬
‫غ ْيم‬

‫واالطمئنان‪ ،‬فإشكالية الجوع التي قد تحدث بسبب ش ّح الطبيعة تُعرّضهم للمحن‪ ،‬وتضطرهم إلى العوز‪،‬‬
‫الشمـس‪..‬‬
‫ابن ال َج ْوزي الشاعر‪..‬‬ ‫حضور ساطع في‬
‫عائـ ٌد من ذاكـرة النسيـان‬ ‫القصيدة العربية‬

‫فينعكس ذلك على مضامين نصوصهم‪ ،‬فيعبرون عنه بالسخرية أحيانا ً أوبتشكيل دالالته وإدراك خطورته‬
‫في حياتهم‪ ،‬وهو ما تبرزه بعض الموضوعات النقدية التي تتعرض لنماذج شعرية عاشت في محيطها‬
‫اإلنساني وهي تعانى وطأة الجوع‪.‬‬ ‫م ْن ِ‬

‫مجلة شهرية تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة‬

‫مجلة شهرية تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة‬


‫صفات‪..‬‬ ‫ال ُ‬

‫السنة الخامسة ‪ -‬العدد (‪ - )44‬إبريل ‪2023‬‬

‫السنة الخامسة ‪ -‬العدد (‪ - )46‬يونيو ‪2023‬‬


‫مجلة شهرية تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة‬
‫السنة الخامسة ‪ -‬العدد (‪ - )45‬مايو ‪2023‬‬
‫مبـــد عــو ن ‪:‬‬
‫وفي موضوع نقدي آخر‪ ،‬تضيء «القوافي» على مفردة «الشمس» التي مثلت حضوراً ساطعا ً في القصيدة‬
‫إشــــادة ال ّ‬
‫مصطلـــح النّقـــد‬ ‫النقـــد مــرآة الشعـــر‬
‫شــــعراء‬
‫بشجــاعـة الفـرسـان‬
‫الشعري‪ ..‬سيرته و ُمبتغاه‬

‫العربية في كل العصور‪ ،‬فقد استلهم الشعراء منها صوراً بديعة حضرت في الغزل‪ ،‬و ُشبّهت بلوحة الضياء‪،‬‬ ‫ا ل ّلاّل‬
‫اّل ذ قيـــــــــــة ‪. .‬‬
‫در ّ ُ‬
‫ة البحـــر والجبــل‬ ‫ُ‬
‫البيئة وال ّ‬
‫شعـراء‪..‬‬
‫إشارات تكبر في المخيلة‬

‫نظراً لطبيعتها الجمالية‪ ،‬وتأثيرها الرمزي في الوجدان‪ ،‬فهي بح ّق مصدر ملهم في الشعرية العربية‪.‬‬
‫تُعنى بالشعر واألدب العربي‬ ‫تُعنى بالشعر واألدب العربي‬ ‫تُعنى بالشعر واألدب العربي‬

‫ابـن النقـيب‪..‬‬ ‫ال ِّ‬


‫ضفاف‪..‬‬ ‫َم ْكنـاس المغربية‪..‬‬

‫وال تزال الذاكرة الشعرية تستدعي النماذج الباهرة في تاريخ القصيدة العربية‪ ،‬مثل مسكين ال ّدارمي الذي‬
‫تفـر ّ َد بعبقـري ّة الخيـال‬ ‫ضــرٌ‬ ‫ت ُ‬
‫خ ْ‬ ‫ال ٌ‬
‫الال‬
‫دال‬
‫د‬ ‫إلنسانية‬
‫ملتقى الحضارات ااإل‬
‫والغنـــاء للطبيعــة‬ ‫في قصائ ِد ال ُّ‬
‫شعراء‬
‫عمرو بن كلثوم‬ ‫الشعـراء ومنتصــف‬
‫العـمر‪ ..‬الذات المغتربة‬ ‫مــر‪..‬‬ ‫ال َ‬
‫ق َ‬
‫ال تزال تذكره األجيال بأبيات «الخمار األسود» فقد تميّز بنبوغه وجزالة لفظه‪ ،‬رغم ضياع أغلب شعره‪،‬‬
‫آلخر في معلّقته‬
‫والبُعد ااآل‬ ‫ت‬
‫ال ٌ‬
‫الال‬
‫دال‬
‫د‬
‫ب وال َ‬
‫خيـال‬ ‫موحيـ ٌة بال ُ‬
‫حـ ّ‬

‫فاستدعاء مقتطفات من حياته يحفظ له الوفاء‪ ،‬ويعيد سيرته إلى المشهد اإلبداعي برؤية مغايرة في الطرح‪.‬‬ ‫بستــان‬
‫ألندلس وحصنه ومنارته‬
‫ااأل‬
‫ب َل َ ْن ِ‬
‫سي َـة‪..‬‬

‫وفي باب «الجانب اآلخر» تتناول «القوافي» موضوع َمرْ ثيّات األخ في الشعر العربي التي ترويها‬
‫ال ُّص ْبـح‪..‬‬
‫حكايات الفقد والبكاء‪ ،‬بعرض نماذج عبّرت صراحة عن الشجن والمشاعر الحزينة‪ ،‬فهذا اللون من‬ ‫مجــاز الشعــراء‬
‫في الب ُشرى والبهجة‬

‫الرثاء يبرز حالة االغتراب التي تنتاب الشعراء إزاء الصورة األليمة التي تتراءى أمامهم‪،‬‬
‫حين يتعرضون لفقد األحبة‪.‬‬
‫وتواصل «القوافي» نشر قصائد الشعراء واإلضاءة على تجاربهم اإلبداعية من كل‬
‫الجوانب‪ ،‬بما يثري المشهد الثقافي ويسهم في تن ّوعه‪.‬‬
‫ص‪.‬ب‪ 5119 :‬الشــــارقـة ‪ -‬اإلمـــــارات العــــربية المتحــــــدة‬
‫الهاتف‪ +971 6 5683399 :‬الب ّراق‪+971 6 5683700 :‬‬
‫البريـد اإللكتروني‪qawafi@sdc.gov.ae :‬‬
‫الموقع اإللكتروني‪www.sdc.gov.ae :‬‬
‫‪poetryhouseshj‬‬
‫‪3‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬
‫مدن القصيدة‬
‫‪36‬‬ ‫مص‪ ..‬أحبّها المتنبّي‬
‫ِح ْ‬
‫الجن‬
‫ّ‬ ‫وتعلّـق بهـا ديك‬

‫مجلـ���ة �شـ���هرية تُ عنـــ���ى‬


‫بال�شــ���عر واألأدب العــربــ���ي‬
‫ت�ص���در ع���ن دائ���رة الثقاف���ة‬
‫العـــدد (‪� - )49‬سبتمبر ‪2023‬‬

‫�شعرا ء العدد‪:‬‬ ‫إطاللة‬ ‫ضياع‬


‫ب من ال ّ‬ ‫َحفَ َظتْ َ‬
‫إرث العر ِ‬ ‫ال ُمختاراتُ الشّعرية‪..‬‬ ‫‪8‬‬ ‫رئي�س دائرة الثقافة‬ ‫األأ�سعار ‪:‬‬
‫عبداهلل بن محمد العوي�س‬ ‫‪ -‬قطر‪ 5 :‬رياالت‬ ‫‪ -‬المغرب‪ 15 :‬درهما‬ ‫‪ -‬اإلمارات‪ 5 :‬دراهم‬

‫‪16‬‬
‫يوسف الكمالي‬ ‫‪ -‬السودان‪ 500 :‬جنيه‬ ‫‪ -‬السعودية‪ 10 :‬رياالت‬ ‫‪ -‬البحرين‪ 500 :‬فلس‬
‫مدير �إدارة ال�ش�ؤون الثقافية‬
‫َ‬
‫الخ ْير‪ ..‬قصيدةُ ال ُّطمأنينة والسالم‬ ‫مسارات‬ ‫‪ -‬الكويت‪ 0.500 :‬دينار‬ ‫‪ -‬سلطنة عمان‪ 0.500 :‬ريال‬
‫محمد العموش‬ ‫محمد �إبراهيم الق�صير‬ ‫‪ -‬مصر‪ 5 :‬جنيهات‬ ‫‪ -‬األردن‪ :‬ديناران‬
‫مدير التحرير‬
‫‪26‬‬
‫محمد بوثران‬ ‫وكالء التوزيع‪:‬‬
‫حسن شهاب الدين‬
‫حوار‬ ‫في الشعر نحتاج الممحاة أكثر من القلم‬ ‫جاسم الصحيّح‪:‬‬ ‫محمد عبداهلل البريكي‬
‫‪ -‬اإلمارات ‪ :‬شركة توزيع‪ ،‬الرقم المجاني ‪8002220 :‬‬
‫جاسم الصحيّح‬ ‫هيئة التحرير‬
‫‪54‬‬
‫‪ -‬السعودية ‪ :‬شركة تمام العالمية المحدودة ‪ -‬الرياض‪ -‬هاتف ‪+966576063677 :‬‬

‫عبدالعزيز األزوري‬
‫ش ََجنُ ال َكلمات بأثر َغ ْير َم ْحدود‬ ‫ع والشّعراء‪..‬‬
‫الجو ُ‬ ‫مقال‬ ‫عبدالرزاق الربيعي‬ ‫‪ -‬البحرين ‪ :‬مؤسسة األيام للنشر‪ ،‬المنامة ‪ -‬هاتف ‪+97497617749 :‬‬
‫‪ -‬الكويت ‪ :‬مجموعة النظائر اإلعالمية‪ ،‬الكويت‪ ،‬هاتف ‪+96524949500 :‬‬
‫نزار �أبو نا�صر‬
‫سليمان اإلبراهيم‬ ‫‪ -‬سلطنة عُمان‪ :‬المتحدة لخدمة وسائل اإلعالم ‪ -‬مسقط ‪ -‬هاتف‪+96824900895 :‬‬

‫إسماعيل ض ّوا‬ ‫عصور‬ ‫ذكرته األجيال «بال ِخمار األسود»‬ ‫سكين الدّارمي‪..‬‬
‫ِم ْ‬ ‫‪58‬‬ ‫عبدالعزيز الهمامي‬
‫حنين عمر‬
‫‪ -‬مصر ‪ :‬مؤسسة األهرام للتوزيع ‪ :‬القاهرة‪ ،‬هاتف ‪+20249704943 :‬‬
‫‪ -‬األردن ‪ :‬وكالة التوزيع األردنية ‪ :‬ع ّمان ‪ -‬هاتف ‪+96495498855 :‬‬
‫خالد الحسن‬ ‫‪ -‬تونس ‪ :‬الشركة التونسية للصحافة ‪-‬تون�س ‪ -‬هاتف ‪+20249704943 :‬‬

‫‪68‬‬
‫�أ�شرف �إبراهيم جمعه‬
‫محمد المحبوبي‬ ‫حضو ٌر ساط ٌع في القصيد ِة العربي ِة‬ ‫س‪..‬‬
‫ش ْم ُ‬
‫ال َّ‬ ‫نقد‬ ‫المتابعة والتن�سيق‬
‫‪ -‬المغرب‪ :‬سوشبرس للتوزيع ‪ -‬الدار البيضاء ‪ -‬هاتف‪+214924989121 :‬‬
‫‪ -‬قطر‪ :‬شركة توصيل ‪ -‬الدوحة‪ ،‬هاتف‪+97494957810 :‬‬
‫هندة محمد‬ ‫هم�سة يون�س‬ ‫‪ -‬دار الراوي للنشر والتوزيع ‪ -‬الخرطوم ‪ -‬السودان هاتف ‪:‬‬

‫رعد أمان‬ ‫تأويالت‬ ‫يودّع ال َغ ْيم في «أعو ُد إلى الفَراغ»‬ ‫سامرائي‪..‬‬


‫محمد ال َّ‬ ‫‪74‬‬ ‫الت�صميم واإلإخراج‬
‫‪+249121306081 - +249123987321‬‬

‫زينب عقيل‬
‫استراحة‬
‫�إيمان محمد المعدّ ي‬ ‫عناوين المجلة‬
‫عبدالعزيز لُو‬ ‫‪86‬‬ ‫«الج ْم ُر ور ٌد آ ِسر»‬
‫يستدعي التفكير في َ‬ ‫د‪ .‬أحمد الهاللي‪..‬‬
‫الكتب‬
‫التدقيق اللغوي‬ ‫اإلمارات العربية المتحدة‪ ،‬حكومة الشارقة‬
‫عبدالله العبد‬ ‫ال�شعار‬
‫ّ‬ ‫فواز‬ ‫دائــــرة الثقـــــافة‬
‫الجانب‬
‫‪92‬‬ ‫الت�صوير‬ ‫ص‪.‬ب‪ ،5119 :‬الشارقــة‬
‫هبة الفقي‬ ‫حكايات الفَ ْقد والبُكاء‬ ‫َمرثيّات األخ في الشّعر‪..‬‬
‫اآلخر‬ ‫�إبراهيم خليل‬ ‫هاتف ‪+97165684999 :‬‬
‫سيدي محمد محمد المهدي‬ ‫بـ ّراق ‪+97165684900 :‬‬
‫‪ -‬المواد المن�شورة في المجلة تعبر عن �آراء كاتبيها وال تعبر بال�ضرورة عن ر�أي المجلة‪.‬‬ ‫التوزيع واإلإعالنات‬ ‫‪Email: qawafi@sdc.gov.ae‬‬
‫عبدالله الخضير‬ ‫‪ -‬ترتيب المواد و األأ�سماء في المجلة يخ�ضع العتبارات فنية‪ - .‬ال تقبل المواد المن�شورة �أو المقدمة لدوريات �أخرى‪.‬‬
‫‪poetryhouse@sdc.gov.ae‬‬
‫‪� -‬أ�صول المواد المر�سلة للمجلة ال ترد ألأ�صحابها ن�شرت �أو لم تن�شر‪.‬‬ ‫خالد �صديق‬
‫‪WWW.sdc.gov.ae‬‬
‫قطرات‬

‫يـقـولون لي‬
‫َ‬
‫ت‬ ‫األم ُر لَ ْ‬
‫ـــم أبِ ْ‬ ‫وإنّـــي إذا مـــا فاتَنـــي ْ‬
‫ـــــرهُ ُمــتَــنَــدِّمــا‬
‫َ‬ ‫ب فِـــكـْـري إ ْث‬
‫أقَـــلِّ ُ‬
‫عــ ْفـــــواً قَــبِــ ْلتُهُ‬ ‫ولَكــِنَّـــــهُ ْ‬
‫إن جــا َء َ‬ ‫ـقـبـاض وإنَّـما‬
‫ٌ‬ ‫ـقـولون لي فـيــــك ا ْن‬
‫َ‬ ‫يَ‬ ‫أبو احلسن‬
‫وإن َمــــا َل لم أُتـبـعــــهُ َ‬
‫هــــاّ ولَ ْيـتَما‬
‫ُ‬
‫ـف ُّ‬
‫اجلرجاني‬
‫أح َجما‬
‫الذ ِّل ْ‬ ‫ـوقِ ِ‬
‫ـن َم ْ‬
‫ع ْ‬‫أوا َر ُجـالً َ‬
‫َر ْ‬
‫ضـاحـكَ عـابـِسـا ً‬‫ِ‬ ‫وأُ ْكــ ِر ُم نَـ ْفـسـي أَ ْن أُ‬ ‫ع ْن َده ُْم‬ ‫أرى النّ‬
‫هان ِ‬
‫َ‬ ‫ه ُم‬
‫ـن دانا ُ‬
‫ــــاس َم ْ‬
‫َ‬
‫ــديـــــح ُمــ َذ َّممــا‬
‫ِ‬ ‫وأن أَتـَـــــلقَّى بـــال َم‬
‫ْ‬ ‫س أُ ْكـ ِرما‬
‫عـ َّزةُ النَّـ ْفـ ِ‬ ‫ـن أ ْك َ‬
‫ـر َمـ ْتـهُ ِ‬ ‫و َم ْ‬
‫الح ِّر نِ ْق َمةً‬ ‫و َك ْ‬
‫ـم نـ ِ ْعـ َمـ ٍة كـانــــت على ُ‬
‫العصر العباسي‬
‫كـان ُكلَّما‬
‫َ‬ ‫العــــ ْل ِم ْ‬
‫إن‬ ‫ق ِ‬ ‫ولَ ْم أَ ْقـ ِ‬
‫ض َحـ َّ‬
‫ــــر َمـ ْغ َ‬
‫ـرما‬ ‫الح ُّ‬‫ـم َمـ ْغــــنَ ٍم يَـ ْعـتَـ ُّدهُ ُ‬
‫و َك ْ‬ ‫ســـلَّمــا‬
‫صــــــيَّرتُهُ لي ُ‬ ‫بدا طَـــ َمـــ ٌ‬
‫ع َ‬
‫ولَ ْم أَ ْبـتَــــ ِذ ْل في ِخ ْد َمـــ ِة ِ‬
‫الع ْل ِم ُم ْه َجتي‬ ‫ـي جـانِبا ً‬ ‫ض َ‬ ‫ومـا ِز ْلتُ ُمـ ْنـحــــازاً بـ ِ ِع ْ‬
‫ـر ِ‬
‫ـن ألُ ْخـ َدمـا‬ ‫ألَ ْخـــــ ِد َم َم ْ‬
‫ــن القَــ ْيــــتُ لَ ِك ْ‬ ‫الصـيـانـَةَ َمـ ْغـنَما‬
‫ِّ‬ ‫ــــن ُّ‬
‫الذ ِّل أعْ ـتَــــ ُّد‬ ‫ِم َ‬
‫ــرسـا ً وأَ ْجـنـيـ ِه ِذلَّةً‬
‫غ ْ‬ ‫أَأَشْــقــى بـ ِــــ ِه َ‬ ‫هــــ ٌل قُ ْلتُ قَ ْد أرى‬
‫إذا قـيــــ َل هـذا َمـ ْنـ َ‬
‫الج ْه ِل قَـــ ْد كان أَ ْح َزما‬
‫ع َ‬ ‫إذن فـاتِّــــبا ُ‬
‫ْ‬ ‫َـحـتَـمـ ُل الظَّمـا‬
‫ـر ت ْ‬
‫الح ِّ‬
‫ـس ُ‬‫ولكــنَّ نَـ ْف َ‬
‫ه ْم‬ ‫ولَ ْو أنَّ أَهْـ َل ِ‬
‫العــــ ْل ِم صـانـوهُ صانَ ُ‬ ‫ض مـا ال يَـشينُها‬
‫ـن بَـ ْعـ ِ‬
‫ع ْ‬ ‫أُنَ ِّ‬
‫ـزهُـهــــا َ‬
‫س لَ ُعـ ِّ‬
‫ظمـا‬ ‫عــظَّمــ ُوه فــي النُّـفـو ِ‬
‫ولَ ْو َ‬ ‫العدا فيـــ َم أو لِما‬ ‫َمـخـافَــــةَ أ ْق‬
‫ــــوال ِ‬
‫ِ‬
‫ولَ ِك ْ‬
‫ــن أهــانـــــوهُ فــهــانوا و َدنَّسـوا‬ ‫سـلَّمـا ً‬ ‫عـ ْيـب اللَّ ِ‬
‫ئيـم ُمـ َ‬ ‫ـن َ‬
‫ع ْ‬‫ـح َ‬ ‫فـأ ُ ْ‬
‫صـبِ ُ‬
‫همـا‬ ‫ـمــــاع َحـتّـى ت َ‬
‫َـجـ َّ‬ ‫ــحـيَّاه بـاأل ْ‬
‫ط‬ ‫ُم َ‬ ‫ـريم ُم َعظَّما‬
‫ِ‬ ‫وقَـ ْد ُر ْحـتُ فـي نَـ ْفـ ِ‬
‫س ال َك ِ‬

‫‪7‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪6‬‬
‫إطاللة‬

‫إن حفـــظ الشـــعر العربـــي‬


‫العربي و َم ْروياته‬
‫ّ‬ ‫ت عيون ّ‬
‫الشعر‬ ‫ع ْ‬
‫م َ‬
‫ج َ‬
‫َ‬
‫عبر التاريخ‪ ،‬من الظواهر‬
‫التـــي تســـتحق الدراســـة‬
‫العرب من ّ‬
‫الضياع‬ ‫ِ‬ ‫ت َ‬
‫إرث‬ ‫ف َ‬
‫ظ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ختارات ّ‬
‫الشعرية‪َ ..‬‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫ال ُ‬
‫النفســـــيّة واالجتماعيـــــة‬
‫ضمـــن تحـــوالت الحضارة‬
‫العربيـــة‪ ،‬وإن كان إنتـــاج‬
‫د‪ .‬حنين عمر‬ ‫النّ ّ‬
‫ـــص الشـــعري المميّـــز‬
‫فيهـــا‪ ،‬أشـــبه بالحصـــول‬
‫علـــى لؤلـــؤة ثمينـــة‪ ،‬فـــإنّ مهمـــة الحفاظ علـــى هذه‬
‫الآللئ مـــن الضياع‪ ،‬كانـــت ال تقل أهمية عـــن إنتاجها‪.‬‬

‫المعلقات كانت أول بادرة لحفظ‬


‫النصوص الشعرية العربية‬

‫وتركزت هذه المهمة الصعبة في بداياتها على الحفظ والمشافهة‪،‬‬


‫وذلك عكس أغلب الحضارات التي ضاعت قصائدها غير المدوّنة‪ ،‬إذ حمل‬
‫الرواة العرب على عواتقهم أمانة تناقل الشعر جيالً بعد جيل‪ ،‬لكن مع حلول‬
‫عصور الخالفة اإلسالمية‪ ،‬وانتشار الكتابة والتدوين‪ ،‬بدأت تظهر آليات‬
‫أخرى للمحافظة على هذا اإلرث الذي ال يقدر بثمن‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد عرف العرب فكرة إنشاء «األنثولوجيا» مبكرا‪ ،‬وهي كلمة‬
‫يونانية تعني «باقة الزهور»‪ ،‬وغالبا ً ما يلتبس هذا المصطلح عربيّا ً‬
‫مع كلمة «أنطولوجيا» ‪ -‬أو أنتولوجيا‪ -‬التي لها معنى مختلف تماما ً هو‬
‫«علم الوجود»‪ ،‬بل إن أول من أنشأ فكرة األنثولوجيا‪ ،‬وجمع المقطوعات‬
‫ال ّشعرية‪ ،‬كان ال ّشاعر ميلياغروس الغَداري الذي ولد ونشأ في غدار وهي‬
‫«أم قيس» باألردن حالياً‪ ،‬ونشأ وتعلّم في مدينة صور اللبنانية‪ .‬وعند‬
‫العرب‪ ،‬فإن جمع النصوص لحفظها‪ ،‬قد بدأ مع فكرة جمع المعلّقات السبع‪،‬‬
‫التي حددها ح ّماد الرّاوية‪ ،‬المولود في الكوفة عام ‪680‬م والمتوفّى في‬
‫بغداد عام ‪773‬م‪ ،‬ليفتح الباب بعده‪ ،‬لظهور كتب المختارات ال ّشعرية‪ ،‬وبدء‬
‫الجمع والتصنيف‪ ،‬ما جعل هذه المدوّنات ومؤلّفيها‪ ...‬مثار اهتمام ودراسات‬
‫وتحليل‪ ،‬عربيا ً وعالمياً‪.‬‬

‫ال ُمفَ ّ‬
‫ضليات‬
‫ويع ّد كتاب «ال ُمفَضَّليات» الذي جمعه ّ‬
‫العاّلمة المفضّل بن محمد‬
‫الضبّي ‪ -‬بين عامي ‪762‬م و‪784‬م ‪ -‬من أقدم المجموعات الشعرية التي‬

‫‪9‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪8‬‬
‫إطاللة‬

‫وإيراق‬
‫ِ‬ ‫ق‬ ‫يا عيـــ ُد ما لَـــ َك ِمـــن ش ْ‬
‫َـــو ٍ‬
‫هـــوال طَـــ ّر ِ‬
‫اق‬ ‫ـــف عَلـــى األَ‬‫و َمـــ ِّر طَ ْي ٍ‬
‫ِ‬ ‫ضل أشعاراً‬
‫جمع المف ّ‬
‫ت ُم ْحتَفِيا ً‬
‫والحيّـــا ِ‬
‫َ‬ ‫ســـري عَلى األَ ْي ِ‬
‫ـــن‬ ‫يَ ْ‬
‫أحيَت األلفاظ العربية المندثرة‬
‫ســـاق‬
‫ِ‬ ‫نَ ْفســـي فِـــدا ُؤ َك ِمنْ ســـا ٍر عَلى‬
‫واصلُها‬
‫الحـــــ ِّر إِذ ُكنّـــا نُ ِ‬ ‫طَ ْي ِ‬
‫ـــف ا ْبنَـــ ِة ُ‬
‫اق‬ ‫اجتُنِنـــتَ بُهـــــا بَ ّعــــــ َد التِّفِـــ ّر ِ‬ ‫ثُـــ َّم ْ‬

‫وقد أورد المفضَّل في الكتاب أكثر من قصيدة لعدد من الشعراء‪ ،‬مثل‬ ‫حفظت أشعار العرب‪ ،‬إذ لم يسبقه أحد في هذا المجال‪ّ ،‬إاّل ح ّماد الراوية‬
‫سالمة بن جندل‪ ،‬وال ّش ْنفرى‪ ،‬وشبيب بن البرصاء‪ ،‬والمرقِّش األصغر‪،‬‬ ‫الذي جمع المعلقات السبع‪ ،‬واختلف معه المفضّل فيها‪ ،‬فأخرج من قائمتها‬
‫ومرار بن منقذ‪ ،‬وعبدة بن الطيب وغيرهم‪ ،‬وراعى في االختيار أجزل‬ ‫عنترة والحارث بن حلّزة‪ ،‬واستبدل بهما النابغة واألعشى‪.‬‬
‫النصوص وأقواها‪.‬‬ ‫وقد ولد المفضّل عام ‪718‬م‪ ،‬في الكوفة وتوفّي فيها نحو ‪784‬م‪ .‬وقال‬
‫وقسّم النّقاد الحقا ً «ال ُمفَضَّليات» إلى أربعة أقسام‪ ،‬وفق األغراض التي‬ ‫من الشعر الجاهلي سوى هذه المجموعة الموثّقة‪ ،‬ألمكن وصف تقاليده‬ ‫عنه أبو الطيّب اللغوي «هو أوثق من روى الشعر من الكوفيين»‪ .‬وكان‬
‫تناولها‪ ،‬وهي األوصاف والتشبيهات والفخر والمعاني العامة؛ ولع ّل من‬ ‫وصفا ً دقيقاً‪ ،‬فقد مثَّلت جوانب الحياة الجاهلية‪ ،‬ودارت مع األيام واألحداث‪،‬‬ ‫معلّما للخليفة المهديّ‪ ،‬ابن الخليفة جعفر المنصور‪ ،‬وقيل إنه جمعها بناء‬
‫أجمل األبيات التي وردت فيه ما قاله الشاعر الجاهلي صريم بن معشر‬ ‫وعالقات القبائل بعضها ببعض‪ ،‬وبملوك الحيرة والغساسنة‪ ،‬وانطبعت في‬ ‫على طلبه‪ .‬كما أن هناك رواية أخرى تورد أنه جمعها أثناء هروبه‪ ،‬وقبل‬
‫الملّقب بـ «أفنون» على بحر الطويل‪:‬‬ ‫كثير منها البيئة الجغرافية‪ ،‬وقد جاء فيها غير قليل من الكلمات المندثرة‬ ‫صدور عفو المنصور عنه‪ ،‬وأيا ً تكن صحة الروايتين‪ ،‬فإن المستنتج هو أنه‬
‫ســـهُ‬ ‫ب ال َم ْر ُء نَ ْف َ‬ ‫وال َخ ْيـــ َر فيمـــا َك َّ‬
‫ـــذ َ‬ ‫التي لم ترد في المعاجم اللغوية»‪.‬‬ ‫ألّف الكتاب بين عامي ‪ 764‬و‪784‬م‪.‬‬
‫وتَ ْقوالِـــ ِه لِلشَـــي ِء يـــا لَيْـــتَ ذا لِيـــا‬ ‫وال ب ّد من اإلشارة إلى أن العنوان األصلي لهذا المصنّف هو «كتاب‬ ‫وتجمع «ال ُمفَضَّليات» ‪ 126‬قصيدة‪( ،‬وفي نسخ أخرى ض ّمت ‪130‬‬
‫ئ‬ ‫وإِنْ أَع َْجبَتـــ َك الدَّهـــ َر حا ٌل ِمـــن ا ْم ِر ٍ‬ ‫االختيارات»‪ ،‬وغيّر من نقلوه اسمه في ما بعد‪ ،‬لينسب إلى كاتبه‪ ،‬ولم‬ ‫قصيدة)‪ ،‬وعدد الشعراء ‪ 67‬شاعراً‪ ،‬أغلبهم جاهليون‪ ،‬فليس فيهم سوى‬
‫فَ َدعْــــــهُ ووا ِكـــــ ْل حالَــــــهُ واللَّيالِيـــا‬ ‫يكن فيه أي ترتيب للنصوص أو شرح لها‪ ،‬لكن شروحه أضافها الحقا ً من‬ ‫عشرين شاعراً من المخضرمين ومن العصر اإلسالمي‪ .‬وقد جاء في كتاب‬
‫ـــرنَ مـــا بِـــ ِه‬ ‫يَ ُر ْحـــنَ َعلَ ْيـــــ ِه أَو يُ َغيِّ ْ‬ ‫حققوه‪ ،‬وطبعته األشهر تبدأ بقصيدة رقيقة ألحد أهم الشعراء الصعاليك وهو‬ ‫«الفهرست» البن النديم‪ ،‬أنها «مئة وثما ٍن وعشرون قصيدة‪ ،‬وقد تزيد‬
‫يش وانِيا‬ ‫وإِنْ لَـــم يَ ُكـــنْ في َج ْوفِـــ ِه ال َع ُ‬ ‫تأبّط ش ّراً‪ ،‬ومطلعها‪:‬‬ ‫وتنقص»‪ .‬ويرى شوقي ضيف في كتابه «العصر الجاهلي»‪« :‬ولو لم يصل‬
‫الحتـــوفَ َكثيـــ َرةٌ‬ ‫فَطَـــأْ ُم ْع ِرضـــا ً إِنَّ ُ‬
‫وإِنَّـــ َك ال تُ ْبقــــــي بِنَ ِ‬
‫فســــــ َك باقِيـــــــا‬
‫لَ َع ْم ُر َك مـــا يَـــدْري ا ْم ُر ٌؤ َكيْـــفَ يَتَّقي‬
‫إِذا هُـــ َو لَـــ ْم يَ ْج َعـــل لَـــهُ اللَّـــهَ واقِيـــا‬

‫والمالحظ أنه لم يرد ذكر ّإاّل لشاعرة واحدة أطلق عليها «امرأة من بني‬
‫صا ً قصيراً من خمسة أبيات‬ ‫حنيفة»‪ ،‬ولم يذكر اسمها الصريح‪ ،‬وأدرج لها ن ّ‬
‫فقط‪ ،‬من الرثاء‪ ،‬وجاء فيه‪:‬‬
‫أَال َهلَـــ َك ابْــــــنُ قُــــــرَّانَ َ‬
‫الح ِميـــــــ ُد‬
‫الجلَّــــــي أَبـــو َع ْمــــــ ٍرو ي ِزي ُد‬
‫أَ ُخــــــو ُ‬
‫أَالَ َهلَـــ َك ا ْمـــــــ ُر ٌؤ َهلَ َكـــــــتْ ِرجـــــا ٌل‬
‫فلـــــم تُ ْفقَــــــدْ‪ ،‬وكـــــان لـــهُ الفُقُـــو ُد‬

‫كتاب االختيارات‬
‫ضليات‬
‫هو االسم األصلي لل ُمف ّ‬
‫مخطوط شرح المفضليات لالٔنباري‬

‫‪11‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪10‬‬
‫إطاللة‬

‫ورغم جمال القصيدة وجزالتها‪ ،‬فإنّه حق التساؤل مرة أخرى‪ ،‬عن‬ ‫ومن الغريب وغير المفسّر‪ ،‬أن يستبعد المفضّل نصوص شاعرات‬
‫السبب وراء تخطي عالمات الشعر النسائي المعروفة في الكتابين السابقين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وغيرهن‪،‬‬ ‫مجيدات وشهيرات‪ ،‬مثل الخنساء وليلى األخيلية وصفيّة الشيبانية‬
‫وهل هو مقصود‪ ..‬أم أن شعر النّساء لم يكن متاحا ً للجمع من المصادر التي‬ ‫ويورد نصا ً قصيراً‪ ،‬غير محكم البناء‪ ،‬ضمن سلسلة قصائد طويلة ومهمة‬
‫اعتُ ِمد عليها‪ ،‬فآثرا تخطيه والتركيز على ما يمكن جمعه بسهولة؟‬ ‫كالتي جاءت في الكتاب‪.‬‬
‫ضلِيّات» و«األَصْ َم ِعيّات»‪ ،‬قد اتخذتا النهج‬
‫كما يُشار هنا إلى كون «ال ُمفَ َّ‬
‫نفسه‪ ،‬في طريقة اختيار النصوص‪ ،‬إذ ركز المؤلفان على اللغة واأليديولوجيا‪،‬‬ ‫األص َم ِعيّات‬
‫ْ‬
‫ضلِيّات»‪ ،‬بسبب كونها ‪ -‬حسب الرواية األولى ‪ -‬موجهة‬ ‫ويفسّر ذلك في «ال ُمفَ َّ‬ ‫ومن الكتب التي ال يمكن تجاوزها في تاريخ جمع الشعر العربي‪،‬‬
‫لغاية تعليمية‪ ،‬أما «األَصْ َم ِعيّات»‪ ،‬فقد تأثرت بها فانتهجت نهجها‪.‬‬ ‫«األصْ َم ِعيّات» لـ «راوية العرب» واسمه الكامل أَبو َس ِعيد َع ْب ُد ال َملِ ِك بْنُ‬
‫ب ب ِن َع ْب ِد ال َملِ ِك ب ِن أَصْ َم َع البا ِهلِ ّي البَصْ ِريّ‪ ،‬ولقّب «األصْ َم ِع ّي»‪ .‬ولد عام‬ ‫قَ ِري ٍ‬
‫الحماسة‬ ‫ديوان َ‬ ‫‪ 741‬م في البصرة‪ ،‬وتوفي فيها عام ‪ 831‬م‪ ،‬وقد كان عالما ً باللغة والشعر‪،‬‬
‫لكن كتابا ً جديداً سيظهر ليحتل المرتبة الرابعة بعد ما سبق‪ ،‬وليغيّر‬ ‫وهو من قال عنه األخفش‪« :‬ما رأينا أحداً أعلم بالشعر من األصْ َم ِع ّي»‪.‬‬
‫مفهوم المختارات‪ ،‬وهو «ديوان ال َحماسة» الذي ألّفه َحبِيبُ بنُ أَوْ س ب ِن‬ ‫ويصفه أبو الطيب اللغوي «كان أتقن القوم لغةً‪ ،‬وأعلمهم بالشعر‪ ،‬وأحضرهم‬
‫ث الطَّائِ ّي‪ ،‬المكنّى «أبا ت ّمام»‪ ،‬وهو شاعر شهير من شعراء العصر‬ ‫الحار ِ‬
‫ِ‬ ‫حفظاً»‪ .‬وقد كان يطوف بالوادي ليجمع القصائد‪ ،‬وكان يحفظ أكثر من عشرة‬
‫العباسي‪ ،‬ولد عام ‪ 804‬م‪ ،‬في مدينة جاسم (بمنطقة َحوْ ران في سوريا)‪،‬‬ ‫آالف بيت‪ ،‬حتى أطلق عليه هارون الرّشيد لقب « َشيْطان ال ِّشعر»‪.‬‬
‫وتُوفّي عام ‪ 846‬م في الموصل‪ .‬سافر في ريعان شبابه إلى مصر وتعلّم‬ ‫كما تفوّق األَصْ َم ِع ّي في العلوم الطبيعية وعلم الحيوان‪ ،‬وله مؤلفات‬
‫فيها‪ ،‬وبرع في قول الشعر واشتُهر في مجالسها‪ ،‬وحين ذاع صيته‪ ،‬استقدمه‬ ‫كثيرة فيها مثل «الخيل»‪ ،‬و«اإلبل»‪ ،‬و«الوحوش»‪ ،‬و«خلق اإلنسان»‪.‬‬
‫الخليفة المعتصم إلى بغداد‪ ،‬وأصبح من أبرز الشعراء في زمانه‪ ،‬ثم ّ‬
‫واّله‬ ‫ويروى أنه كان عالما ً بتشريح الحيوانات‪ ،‬وقد استطاع رفع تح ّد أطلقه‬
‫بريد الموصل عام ‪ 844‬م‪ ،‬لتوافيه المنيّة فيها بعد عامين فقط‪.‬‬ ‫الفضل بن الربيع‪ ،‬حين طلب تسمية كل جزء من حصان يملكه‪ ،‬فأبهره‬
‫ورغم حياته القصيرة ووفاته في مطلع األربعين‪ ،‬فإن أبا ت ّمام ترك‬ ‫األصْ َم ِع ّي بقدرته على ذلك‪ ،‬وقدم شواهد شعرية على تسمياته إلظهار تمكنّه‬
‫إرثا ً شعريا ً وثقافيا ً ضخماً‪ ،‬بداية من ديوان قصائده‪ ،‬وصوالً إلى مؤلفات‬ ‫اللغوي اإلصطالحي‪.‬‬
‫تصنيفية منها « ُم ْختار أشعار القبائل»‪ ،‬و«فُحول الشعراء»‪ ،‬وأشهرها «ديوان‬ ‫«الحماسة» جمع نصوصا ً‬ ‫صاً‪ ،‬وآخرون قالوا إنها ‪ 92‬نصاً‪ ،‬ويعود‬ ‫وهناك من قال إن عددها ‪ 72‬ن ّ‬
‫الحماسة» الذي يع ّد من كتب المختارات ال ّشعرية المتقدمة‪ ،‬فقد كان أول كتاب‬ ‫هذا االختالف إلى تقاطع بعض نصوصه مع ما جُمع في «ال ُمفَضَّليّات»‪.‬‬
‫للشاعرات العربيات‬ ‫ورغم أنه ُع ّد في المرتبة الثانية بعد «ال ُمفَضَّليّات»‪ ،‬فإنه القى نقداً‬
‫مختارات يلتزم خاصيّة التبويب الواضح للنصوص‪ ،‬وفق الغرض الشعري‪،‬‬
‫فأولّه باب الحماسة الذي س َمي باسمه لكونه األول واألغزر‪ ،‬ثم تليه أبواب‬ ‫كثيراً؛ فمثالً يصفه ابنُ النديم بقوله « َع ِم َل األَصْ َم ِع ُّي قطعةً كبيرةً من أشعار‬
‫أخرى هي المراثي‪ ،‬واألدب‪ ،‬والنسيب‪ ،‬والهجاء‪ ،‬واألضياف والمديح‪،‬‬ ‫وتغيب الشاعرات الشهيرات مرة أخرى في «األَصْ َم ِعيّات»‪ ،‬إذ ال يأتي‬ ‫صار روايتِها»‪.‬‬ ‫ضيَّ ِة عند العلماء؛ لِقلَّ ِة غريبِها واختِ ِ‬ ‫ليست بال َمر ِ‬‫ْ‬ ‫العرب‪،‬‬
‫والصفات‪ ،‬والسير والنعاس‪ ،‬الملح‪ ،‬ومذ ّمة النساء‪ .‬وكان لهذا الكتاب صدى‬ ‫ّإاّل على ذكر شاعرة جاهلية واحدة هي سعدى بنت الشمردل الجهنية‪ ،‬التي‬ ‫لكن أغلب هذا النقد‪ ،‬كان بسبب اختصاره لبعض النصوص‪ ،‬وتخطيه‬
‫واسع جداً‪ ،‬فقد استحسنه الجمهور والنقاد‪ ،‬وتبارى العلماء في شرحه ‪ -‬وفاقت‬ ‫أورد لها قصيدة رثائية من ثالثين بيتا ً على بحر الكامل‪ ،‬مطلعها‪:‬‬ ‫ستشر ُق «كارل بروكلمان» أن‪« :‬األَصْ َم ِعيّات‬ ‫ألغلب اإلسنادات‪ .‬إذ يرى ال ُم ِ‬
‫«إن أبا ت ّمام في اختياره الحماسة‬ ‫شروحه األربعين مؤلفا ً ‪ -‬حتى قيل عنه ّ‬ ‫ع‬‫نـــون أُ َر َّو ُ‬
‫ِ‬ ‫أَ ِمـــــــنَ الحــــــوا ِد ِ‬
‫ث وال َم‬ ‫لم تل َق ما لَقِيَ ْتهُ ال ُمفَضَّليّات وغيرُها من االنتشار والقَبول‪ ،‬ألنَّها أق ُّل اشتماالً‬
‫أشعر منه في شعره»‪ ،‬وفق ما جاء في مقدمة التبريزي‪.‬‬ ‫هجـــ ُع‬ ‫وأَبيــــــتُ لَ ْيلـــــــي ُكلَّـــــــهُ ال أَ َ‬ ‫وألن األَصْ َمع َّي َع َم َد فيها إلى اختصار الرواية»‪.‬‬ ‫على غريب العربيّة‪َّ ،‬‬
‫ونجد في «ديوان الحماسة» عدداً كبيراً من ال ّشعراء والمقاطع الشعرية‬ ‫وأَبيـــــــتُ ُمخلِيَـــــــةً أُبَ ّكــــــي أَســـ َعداً‬ ‫ومن النصوص التي وردت في أول الكتاب‪ ،‬قصيدة للشاعر المخضرم‬
‫المقتطفة من نصوص عبر مختلف العصور‪ ،‬جمعت فيها أسماء مشهورة‬ ‫ولِ ِمثلِــــــ ِه تَبكــــــي ال ُعيــــونُ وتَه َمـــ ُع‬ ‫ُس َحيم بن وثيل بن عمرو الرياحي‪ ،‬يفتخر فيها بنفسه‪:‬‬
‫وأخرى مغمورة‪ ،‬وتميّزت بالقصر واإليجاز‪ ،‬والتزمت الغرض الذي صنّفت‬ ‫ليحـــةُ أَنَّهـــا‬ ‫وتَبَيَّــــــــنُ ال َعيـــــــنُ الطَ َ‬ ‫ع الثَّنَايَـــا‬ ‫أَنَــــــا ابْــــــنُ َجـــــا وطَـــاَّ ُ‬
‫فيه‪ ،‬دون مراعاة الترتيب أحياناً‪ ،‬ومثال على ذلك ما جاء في باب الحماسة‪،‬‬ ‫َخيـــل َوتَد َم ُع‬
‫ِ‬ ‫ع الد‬ ‫الجـــ َز ِ‬
‫تَبكـــــي ِمـــنَ َ‬ ‫ـــــــع ال ِعما َمـــةَ تَع ِرفُونـــي‬ ‫ِ‬ ‫ض‬ ‫متَــــــى أ َ‬
‫صين بن الحُمام المرّي (على الطويل)‪:‬‬ ‫من أبيات للشاعر الجاهلي ال ُح َ‬ ‫ولَقَـــ ْد بَـــدا لـــي قَبـــ ُل فيما قَـــد َمضى‬ ‫وإِنَّ َم َكــانَنــــــا ِمـــــــنْ ِح ْمـــيَــــــــ َر ٍّ‬
‫ي‬
‫الحيـــاةَ فَلَـــم أَ ِجـــ ْد‬ ‫و َعلِمـــتُ ذا َك لَـــ َو انَّ ِعلمــــــا ً يَنفَـــ ُع‬ ‫ـــــط ا ْل َع ِر ِ‬
‫يـــن‬ ‫س ِ‬ ‫ث ِمـــنْ َو َ‬ ‫َمـــكانُ اللَّ ْيـــ ِ‬
‫تَأ َ َّخـــرتُ أَســـتَبقي َ‬
‫ث َوال َمنـــــــونَ ِكلَي ِهمـــا‬ ‫أَنَّ َ‬
‫الحـــــــوا ِد َ‬ ‫وإِنِّـــــــي ال يَ ُعــــــــو ُد إِلَـــ َّي قِ ْرنِـــــــي‬
‫لِنَ ْفســــــي َحيـــــــاةً ِمثـــ َل أَنْ أَتَقَ َّد َمـــا‬
‫ع‬ ‫بــــــان َولـــو بَكـــى َمـــن يَجـــ َز ُ‬ ‫ِ‬ ‫ال يُ ْعتِ‬ ‫يـــن‬ ‫َ‬
‫ــــــــب إِاَّلَّ فِـــــــي ق ِر ِ‬ ‫ِّ‬ ‫َغـــــــدَاةَ ا ْل ِغ‬
‫ب تَدمـــــى ُكلو ُمنا‬ ‫فَلَســـنا عَلـــى األَعقا ِ‬ ‫ولَقَـــــــد َعلِمـــــــتُ بِـــأَنَّ ُك َّل ُمؤخـــ ٍر‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ومـــــــا َذا يَــــــــ َّد ِري الشُّـــ َعرا ُء ِمنِّـــي‬
‫ولَ ِكــــــن عَلـــى أَ ْقدا ِمنـــا تَقطُ ُر ال ِّد َمــــا‬ ‫ســـــــبي َل األَ َّوليــــــنَ َ‬
‫ســـيَتبَ ُع‬ ‫يَ ْومــــــا ً َ‬ ‫وقَــــــ ْد جــــــا َو ْزتُ حــــــــ َّد األَ ْربَ ِع ِ‬
‫يـــن‬
‫جـــال أَ ِع َّز ٍة‬
‫ٍ‬ ‫يُفَلِّقــــــنَ هامــــــا ً ِمـــنْ ِر‬ ‫ولَقَـــد َعلِمــــــتُ لَـــ َو انَّ ِعلمــــــا ً نافِ ٌع‬ ‫ســــــينَ ُم ْجتَ ِمعـــا ً أَشُـــدِّي‬ ‫أَ ُخـــــــو َخ ْم ِ‬
‫ق وأَظلَمـــا‬ ‫َعلَ ْينـــا َوهُـــ ْم كانـــوا أَعَـــ َّ‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫ـــــــب ف ُمـــ َو ِّد ُ‬
‫ٌ‬ ‫ـــــــي ذا ِه‬
‫ٍّ‬ ‫أَنْ ُكــــــ ُّل َح‬ ‫ُّـــــــــــؤون‬
‫ِ‬ ‫َونَ َّج َذنِــــي ُمـــــــدا َو َرةُ الش‬

‫‪13‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪12‬‬
‫إطاللة‬

‫أَعَـ ْيـنَــــ ّي لَـــ ْم ْ‬


‫أخـتَـ ْل ُكـمــــا بِــــخيان ٍة‬
‫«جمهرة أشعار العرب»‬ ‫أَبـــى الدهـــ ُر واأليّـــــــا ُم أَنْ أَتَ َ‬
‫صبَّـــرا‬ ‫كتب أخرى حفظت ديوان العرب‬
‫صنّف مستويات الشعراء‬ ‫ومــــا ُكــــ ْنتُ أَ ْخشـــى أَنْ أَكونَ َكأنّني‬ ‫وأبقته بالذاكرة‬
‫بَـعـيــــ ٌر إِذا يُـ ْنـعــــى أُخــــ ّي تَــــح ّ‬
‫سرا‬
‫صـــم زوراً عنْ أُبَـــ ّي َمهابَةً‬ ‫تَـــرى َ‬
‫الخ ْ‬
‫بـأزورا‬‫ــليـس عَــــن أُ َخـــ َّي ْ‬‫ٌ‬ ‫ــس َج‬‫ولَ ْي َ‬

‫وألبي ت ّمام كتاب مختارات آخرى بعنوان الوحشيات ويس ّمى كذلك‬ ‫وهذه األبيات الثالثة الواردة في الحماسة‪ ،‬تعطي فكرة واضحة عن‬
‫واستهل البُحتُري «كتاب الحماسة» بأبيات للشاعر الجاهل ّي َع ْمرو بن‬
‫«ال َحماسة الصغرى»‪ ،‬سار في جمعه على ما سبق في « َحماسته» الكبرى‬ ‫طريقة إنشاء المؤلف‪ ،‬فبالرجوع إلى القصيدة الكاملة‪ ،‬نجد أن أبا ت ّمام اختار‬
‫ا ِإلطنابَ ِة الخ َْز َرج ّي (على بحر الوافر)‪:‬‬
‫من أبواب‪ ،‬وجمع فيه نصوصا ً لشعراء مقلّين ومغمورين‪.‬‬ ‫يراع ترتيبها األصلي بل عكسه تماماً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ثالثة أبيات فقط من ‪ 45‬بيتاً‪ ،‬ولم‬
‫أَبَــــــتْ لِــــــي ِعفَّتِــــي وأَبَـــى إِبائِـــي‬
‫فجعل البيت األول من آخر النص‪ ،‬واختار الثاني من منتصفه‪ ،‬أما الثالث‬
‫يـــح‬
‫ـــن ال َّربِ ِ‬ ‫وأَ ْخـــــــ ِذي َ‬
‫الح ْمـــــ َد بِالثَّ َم ِ‬ ‫الحماسة‬ ‫كتاب َ‬ ‫فهو يقع في بدايته ومرتبط بصورة شعرية قبله‪ ،‬ولم تكن هناك حاجة لفعل‬
‫ســو ِر مالِـــــــي‬
‫وإِعْطائِــــــي عَلى ال َم ْع ُ‬ ‫ويظهر عنوان «ال َحماسة» مرة أخرى‪ ،‬في كتاب مختارات آخر‬ ‫ذلك‪ ،‬ألن النّص كلّه في الحماسة‪ ،‬وكان يمكن اختيار أبيات منه بترتيبها‬
‫ـــيح‬
‫ش ِ‬ ‫طـــــل ال ُم ِ‬
‫ِ‬ ‫ض ْربِـــي ها َمــــــةَ البَ‬ ‫و َ‬ ‫للبُحتُريّ‪ ،‬واسمه الكامل أَبُو عبا َدةَ ال َولي ُد بنُ ُعبَ ْي ٍد بِ ِن يَحْ يَى التَّنُو ِخ ّي الطَّائِ ّي‪.‬‬ ‫الحقيقي دون أي إخالل بقيمة النموذج‪ .‬ولم يتوقف أبو ت ّمام عند هذا الح ّد‬
‫وقَ ْولِـــــي ُكلَّمــــــا َجشَـــأَتْ َ‬
‫وجاشَـــتْ‬ ‫ولد عام ‪ 821‬م في منبج (بسوريا)‪ ،‬وتُوفّي فيها عام ‪ 897‬م‪ .‬وكان أحد‬ ‫من التغيّرات غير المبررة‪ ،‬بل كان يسمح لنفسه بتغيير كلمات ال تعجبه في‬
‫ــــــك ت ُْح َمـــــــ ِدي أَ ْو تَ ْ‬
‫ســــــتَ ِر ِ‬
‫يحي‬ ‫ِ‬ ‫َم َكانَ‬ ‫أشهر شعراء العصر العباسي‪ ،‬إلى جانب المتنبّي وأبي ت ّمام الذي قد ّمه‬ ‫األبيات التي يختارها أيضاً‪.‬‬
‫ألَدفـــــــ َع عــــــنْ َمـــــ َكا ِر َم صالِحـــا ٍ‬
‫ت‬ ‫وتعهّده‪ ،‬فأصبح تلميذاً له‪ ،‬واستوحى منه فكرة إنجاز كتاب صنّفه معارضة‬ ‫ّ‬
‫أغلبهن لسن‬ ‫لكن يحسب له أنه أدرج عدداً من ال ّشاعرات في مختاراته‪،‬‬
‫لـ «ديوان الحماسة»‪ ،‬لكنه سار فيه على نهج أستاذه في تبويب مختاراته‬ ‫بعضهن في «الحماسة»‪ ،‬مثل كبشة بنت مع ّدي كرب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مشهورات‪ ،‬وجاء ذكر‬
‫يح‬
‫ص ِح ِ‬
‫ض َ‬ ‫وأَ ْح ِمـــي بَ ْعـــ ُد عَـــنْ ِع ْ‬
‫ـــر ٍ‬
‫واستهاللها بغرض الحماسة‪ ،‬وضاعف عددها ووسّع تبويبها‪ ،‬حتى بلغ عدد‬ ‫أغلبهن في باب المراثي‪ ،‬مثل ريطة‬‫ّ‬ ‫وعاتكة بنت نفيل‪ ،‬في حين وردت أسماء‬
‫أبواب الكتاب ‪ 174‬باباً‪ .‬كما خصص آخرها لشعر النساء في المراثي‪،‬‬ ‫بنت عاصم‪ ،‬وأ ّم قيس الضبية‪ ،‬وال ُّسلَ َكة أ ُّم ال ُّسلَيْك‪ ،‬وعمرة بنت مرداس ‪-‬‬
‫ويمكن القول إن كتاب «ال َحماسة» ‪ -‬رغم غزارة مختاراته وجمالها ‪-‬‬
‫منهن‪ ،‬مثل الخنساء وليلى األخيلية‪.‬‬ ‫وأورد أسماء الشهيرات ّ‬ ‫وهي ابنة الخنساء‪ -‬التي أورد لها أبياتا ً في رثاء أخيها مرداس بعد وفاته‪:‬‬
‫لم يحظ بما حظي به «ديوان الحماسة» ألستاذه أبي ت ّمام‪ ،‬وظلت شروحه‬
‫قليلة واهتمام النّقاد والجمهور به أقل من سابقه‪.‬‬

‫َج ْم َه َرةُ أشْعار ال َعرب‬


‫يع ّد « َج ْمهَ َرةُ أ ْشعار ال َعرب في الجاهليّة واإلسالم» من الكتب المعروفة‬
‫في جمع المختارات‪ ،‬رغم مؤلّفه المجهول نسبيّاً‪ ،‬الذي ال يعرف عنه سوى‬
‫أن اسمه «أبو زيد محمد بن أبي الخطّاب القرش ّي»‪ ،‬وأنه توفي نحو ‪ 786‬م‪.‬‬
‫ويرد اسمه في مراجع قليلة جداً‪ ،‬ما يجعله مثار تساؤالت كثيرة‪ ،‬مثلما يثير‬
‫تقسيمه التساؤالت أيضاً‪ ،‬فهو مجموع ‪ 49‬قصيدة‪ ،‬مقسّمة على سبعة أبواب‬
‫هي‪ :‬السُّموط (وهي المعلّقات) ثم تليها ال ُم َج ْمهَرات وال ُم ْنتَقَيات وال ُم َذهَّبات‬
‫وال َمراثي وال َمشوبات والملحمات‪ ،‬ولم يعرف أصل واضح ألغلب هذا‬
‫التصنيف ومفاهيمه‪ ،‬لكنه يبقى عالمة مهمة يمكن الرجوع إليها ولو بشكل‬
‫عابر في كثير من الدراسات‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ويمكن أن نذكر في األخير كتاب «طبَقات فحول الشعراء» لمؤلفه‬
‫ساّلم ال ُج َمحي‪ ،‬الذي يع ّد كتابا ً نقديا ً في المقام األول‪ ،‬صنّف‬ ‫محمد بن ّ‬
‫مستويات الشعراء ال النصوص‪ ،‬إذ قسّم إلى عشر طبقات من شعراء‬
‫الجاهلية‪ ،‬وعشر من شعراء اإلسالم‪ .‬وأورد مختارات شعرية لهم في سياقه‬
‫النقدي‪ .‬كما جاءت بعد ذلك كتب أخرى كثيرة‪ ،‬كان لها في حفظ ديوان‬
‫العرب‪ ،‬وتعزيز صالبة وجوده في الذاكرة‪ ،‬وصبّت كلها في نهر واحد‪...‬‬
‫نهر الشعر العربي الذي يمضي هادرا عبر التاريخ‪.‬‬ ‫شرح ديوان الحماسة ‪ -‬التبريزي‬

‫‪15‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪14‬‬
‫مسارات‬

‫تجلّى في الشعر العربي‬ ‫ذكر ُه الشعراء وع ّدوه من الفضائل‬


‫بأغراضه المختلفة‬
‫ُّ‬
‫الطمأنينة والسالم‬ ‫ال َ‬
‫خ ْير‪ ..‬قصيد ُة‬

‫وش ّكلت هذه الثنائية (الخير والشرّ) فكرة مركزيّة في كثير من القصائد؛‬
‫كيف ال؟ فعلى أجنحة الخير تحلّق أحالم اإلنسان التي تنقله الى عالم السالم‬
‫واالستقرار‪ ،‬والطمأنينة‪ ،‬هذا العالم ش ّكل موضوعا ً تدبّره كثير من الشعراء‪،‬‬
‫كزهير بن أبي سلمى في حكمته‪ ،‬والسموأل في وفائه‪ ،‬وحكايته مع دروع‬
‫امرئ القيس‪ ،‬تؤ ّكد غلبة القيم الرفيعة‪ ،‬عندما ا ْستَودعها السموأل‪ ،‬فطلبها‬
‫الحارث بن أبي َش ِمر ال َغسّان ّي‪ ،‬وألَ ّح في طلبها‪ ،‬فرفض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫منه ملك الحيرة‬
‫فل ّما َدهَم جي ُشه ديار السموأل‪ ،‬فأخذ ابنه و َخيّر الحارث السموأل بين َدف ِعْ‬
‫الدروع التي في ِحرْ زه وقَ ْتل ابنه‪ ،‬اختار السَّموأل الوفا َء بال ِّذ ّمة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫َوفَ ْيــــــتُ بــــــأ ْد ُرع ال ِك ْنــــــ ِد ِّ‬
‫ي أنّــــــي‬
‫إذا مــــــا خـــــــانَ أ ْقـــــــوا ٌم َوفَ ْيــــتُ‬ ‫الخيــر حاضــر فــي معظــم مــا يطرحــه الشــاعر مــن‬
‫موضوعــات؛ فهــو أحــد طرفــي ثنائيــة فاعلــة فــي‬
‫أن األعشى قال‪:‬‬ ‫فضرب به المثل بالوفاء‪ ،‬حتى ّ‬ ‫معظــم األعمال األدبية بشــكل عام والشــعرية بشــكل‬
‫أل إِ ْذ طَـــافَ ال ُه َمـــا ُم بِ ِه‬
‫ْ‬ ‫ُكـــنْ كال َّ‬
‫ســـ َم ْو ِ‬ ‫خــاص‪ ،‬إذ مثّلــت بــؤرة األحــداث التــي قامــت عليهــا‬
‫ـــل َجـــ َّرا ِر‬ ‫َّ‬
‫ســـوا ِد الل ْي ِ‬ ‫ـــل َك َ‬ ‫َ‬
‫فِـــي َج ْحف ٍ‬ ‫األعمــال الخالــدة‪ ،‬كالمالحــم الســومرية واليونانيــة‬
‫ـــر ِد ِمـــنْ تَ ْيمـــا َء َم ْن ِزلُـــهُ‬ ‫بِاألَ ْبلَ ِ‬
‫ـــق ا ْلفَ ْ‬
‫والرومانيــة‪ ،‬والشــعر العربــي بأغراضــه المختلفة‪.‬‬
‫عبد الرزّاق الربيعي‬
‫صيـــنٌ َو َجـــا ٌر َغ ْيـــ ُر َغدَّا ِر‬ ‫صـــنٌ َح ِ‬ ‫ِح ْ‬ ‫عمان‬ ‫ُ‬

‫لقد تغنّى الشاعر العربي بالقيم النبيلة‪ ،‬النابعة من حبّه للفضيلة والخير‪،‬‬
‫حث عليها المصلحون والمف ّكرون‪،‬‬ ‫فعمل الخير من األخالق الحميدة التي ّ‬
‫وألن «من البيان لحكمة» ولكون الشعر ديوان‬ ‫ّ‬ ‫ودعت إليها الشرائع‪،‬‬
‫العرب‪ ،‬فقد دعا الشعراء الناس إلى عمل الخير‪ ،‬قال عَبيد بن األبرص‪:‬‬
‫ع الـــذي أ ْلفَ ْيتَـــهُ َرمضـــا ً‬‫أنـــا الشُّـــجا ُ‬
‫صادي‬ ‫ـــو ِر ِد ال ّ‬
‫ع الما َء من ذي ال َم ْ‬ ‫يُنـــاز ُ‬
‫َ‬
‫الخ ْيـــ ُر يَ ْبقـــى وإنْ طـــا َل ال َّزمـــانُ بِ ِه‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َّـــر أخبَـــث مـــا أوعيتُ ِمـــنْ زا ِد‬ ‫والش ُّ‬

‫والبيت األخير ينسب إلى طرفة بن العبد‪ ،‬لكن الميداني في كتاب‬


‫«األمثال»‪ ،‬يؤكد نسبته لألبرص‪ ،‬ولعمل المعروف ناس كرام‪ ،‬يق ّدرون‬
‫حذر زهير بن أبي سلمى‪ ،‬من فعل الخير في غير أهله‪ ،‬وتكون‬ ‫قيمته؛ وقد ّ‬
‫نتيجة ذلك الندم‪ ،‬بقوله‪:‬‬
‫َ‬ ‫صنَ ِ‬
‫ـــع ال َمعْروفَ فـــي غ ْي ِر أ ْهلِ ِه‬ ‫و َمنْ يَ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يَ ُكـــنْ َح ْمـــ ُدهُ ذ ّمــــــا ً َعل ْيــــــ ِه ويَنـــد َِم‬

‫‪17‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪16‬‬
‫مسارات‬

‫والتسابق إلى فعل الخير من مكارم األخالق‪ ،‬ومن يستبق إلى فعل‬ ‫وقيل أيضاً‪:‬‬
‫الخير له األفضلية‪ ،‬وينال تقدير المجتمع‪ ،‬يقول أبو العتاهية‪:‬‬ ‫ـــع ال َمعْروفَ فـــي َغ ْي ِر أ ْهلِ ِه‬
‫صنَ ِ‬ ‫و َمنْ يَ ْ‬
‫ـــز ٍم علـــى ثِقَ ٍة‬
‫أخي مـــا نَ ْحن مـــنْ َح ْ‬ ‫يُالقـــي الّـــذي القـــى ُمجيـــ ُر ا ِّم عام ِر‬
‫ت نَ ْ‬
‫ســـتَبِ ُ‬
‫ق‬ ‫حتّـــى نكونَ إلـــى َ‬
‫الخ ْيـــرا ِ‬
‫الذي تعود قصته كما جاء في مجمع األمثال‪ ،‬ألبي الفضل الميداني‪،‬‬
‫ويقول أيضاً‪:‬‬ ‫إلى أعرابي ا ّدعى أن أُ َّم عامر (وهي الضبع) كان طريدته فآواها إلى أن‬
‫عاجـــاً‬‫ِ‬ ‫ــــس ُكــــ ُّل َ‬
‫الخيـــ ِر يَأتـــــي‬ ‫َ‬ ‫لَ ْي‬ ‫هاجمته وبقرت بَطنَه‪ ،‬فجا َء ابنُ َع ٍّم له يَطلُبهُ‪ ،‬فوجده مقتوالً‪ ،‬فالتَفتَ إلى‬
‫ٌ‬
‫الخــ ْيـــــــ ُر ُحـظـــــــوظ و َد َر ْج‬ ‫إِنَّمـــــــا َ‬ ‫الضبع‪ ،‬فلم يرها فاتبعها ولَم ينزل حتى أدركها‪ ،‬فقتلها وأنش َد يقول‪:‬‬ ‫ض ِع‬‫َمو ِ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫عــــاش لـــهُ‬
‫َ‬ ‫ال يَــــــزا ُل ال َمــــــر ُء مـــا‬ ‫ـــع ال َمعروفَ فـــي َغ ْي ِر أهلِ ِه‬ ‫و َمنْ يَصنَ ِ‬
‫ـــج‬
‫ِ ْ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫َع‬ ‫ت‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫َأبـــــ‬
‫د‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫د‬
‫ْ‬ ‫ـــــ‬ ‫ص‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫فـــي‬ ‫ٌ‬ ‫ة‬ ‫ـــ‬ ‫حاج‬
‫َ‬ ‫يُالقـــي َكمـــا القـــى ُمجيـــ ُر ا ِّم عا ِمـــ ِر‬
‫أعَـــ َّد لَهـــا ل ّمـــا اســـــتجا َرتْ بِبَيتِـــ ِه‬
‫والذي يفعل الخير ال يحصد ّإاّل الخير‪ ،‬وتلك معادلة‪ ،‬واضحة المعالم‪،‬‬ ‫قــــــاح الدَّوائـــ ِر‬ ‫ألبــــــان اللّ‬ ‫أحاليـــب‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كما بيّنت التجارب اإلنسانيّة‪ ،‬التي تطرّق إليها الشعراء في قصائدهم‪ ،‬ومن‬ ‫يدعو إلى مكارم األخالق‪ ،‬وكيف يلين الشعر وهو منبع الحكمة‪ ،‬والصدق؟‬ ‫روف هذا َجـــزا ُء َمنْ‬ ‫ِ‬ ‫فَقُ ْل لِـــ َذوي ال َم ْع‬
‫بينهم أبو العتاهية بقوله‪:‬‬ ‫فخير الشعر لدى حسّان بن ثابت الذي يتحلّى بقول الصدق‪:‬‬ ‫عـــروف علـــى َغ ْي ِر شـــا ِك ِر‬
‫ٍ‬ ‫يَجـــو ُد بِ َم‬
‫ــــــام الفَتــــــى يَـــو َم نَفَـــ ْع‬
‫ِ‬ ‫َخ ْيــــــ ُر أَيّ‬ ‫ت أ ْنـــــــتَ قائلُـــهُ‬
‫وإنَّ أشْــــــ َع َر بَ ْيــــــ ٍ‬
‫صنَـــ ْع‬ ‫َ‬
‫الخ ْيـــ ِر أبقـــى مـــا َ‬ ‫ع َ‬ ‫واصطنـــا ُ‬
‫ِ‬
‫بيــــــتٌ يُقـــال‪ ،‬إذا أ ْنشَـــــ ْدتَه‪َ ،‬‬
‫صدَقـــا‬ ‫وقد ازدهر هذا الغرض مع انطالق الدعوة اإلسالمية‪ ،‬فالدعوة إلى‬
‫ــــــــر ِء في َم ْعروفِـــــــ ِه‬
‫ْ‬ ‫ونَظيـــــــ ُر ال َم‬
‫لكن الكثير من الشعر الذي قيل في الخير‪ ،‬ضاع لألسف‬ ‫الخير واجب‪ّ ،‬‬
‫شـــافِـــــ ٌع َمـــــــتَّ إِلَيـــــــ ِه فَشَـــــــفَ ْع‬
‫الشديد‪ ،‬بسبب عدم تدوين تلك األشعار في كتب‪ ،‬فضاعت علينا ثروة‬
‫َــــــر وال‬
‫ِّ‬ ‫مـــــا يُنـــــــا ُل َ‬
‫الخ ْيـــــــ ُر بِالش‬ ‫يسعى الشعراء إليه‬
‫كبيرة‪ ،‬جعلت األصمعي (ت‪216‬هـ) حين يفحص الذي وصل من شعر‬
‫ع إِ ّاّل مــــــــا َز َر ْع‬
‫صـــــــ ُد الـــــــ ّزا ِر ُ‬‫يَ ْح ِ‬
‫لتحقيق رسالة سامية‬ ‫ضعُف‬‫تلك المرحلة يقول «الشع ُر نَ ِك ٌد بابُه الشرُّ‪ ،‬إذا أ ْدخلتَه في باب الخير َ‬
‫والنَ »‪ ،‬مستدالً بخل ّو شعر ذلك العصر‪ ،‬عصر اإلسالم‪ ،‬من الشعر الذي‬

‫ّ‬
‫حذر زهير من فعل الخير‬
‫في غير أهله‬

‫فالذي يصنع الخير يعيش مع ّززاً بين الناس‪ ،‬على العكس منه الذي‬
‫يجانبه‪ ،‬فعاقبة ذلك العمل وخيمة‪ ،‬يقول الحطيئة‪:‬‬
‫َمـــنْ يَ ْف َع ِ‬
‫ـــل ا ْل َخ ْيـــ َر ال يَ ْعـــ َد ْم َجوا ِزيَهُ‬
‫ـــرفُ بَيْنَ اللَّـــ ِه َوالنَّا ِ‬
‫س‬ ‫ال يَ ْذه ُ‬
‫َـــب ا ْل ُع ْ‬
‫ســـر بِ ِه‬
‫ُّ‬ ‫ص ْد ما يُ‬ ‫ع َ‬
‫الخ ْيـــ َر يَ ْح ُ‬ ‫َمـــنْ يَ ْز َر ِ‬
‫س‬‫كـــوس علـــى ال ّرا ِ‬‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫َّـــر َمن‬
‫ع الش ِّ‬ ‫وزا ِر ُ‬

‫وهذه فكرة ذكرها الشعراء‪ ،‬في أبيات سارت على ألسن الناس‪،‬‬
‫فتداولوها على نطاق واسع في مختلف العصور‪ ،‬فاالنسان مجبو ٌل على‬
‫عمل الخير‪ ،‬والسعي الى تحقيقه ونشره بين الناس‪ ،‬ليع ّم السالم والتعايش‬
‫السلمي‪ ،‬أ ّما الش ّر فمنبوذ يحاول اإلنسان االبتعاد عنه والتحذير منه‪ ،‬ويدعو‬
‫أبو العالء المعرّي‪ ،‬إلى نشر الخير‪ ،‬ففي ذلك تحفيز لآلخرين لبناء مجتمع‬
‫صالح قائم على القيم السليمة‪:‬‬

‫‪19‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪18‬‬
‫مسارات‬

‫ع إذا ُجبروا‬ ‫صنـــو ٌ‬ ‫الخ ْي ُر فـــي النّا ِ‬


‫س َم ْ‬ ‫َ‬ ‫ســـ ِمعوا‬ ‫أَعـــو ُذ بِاللَـــ ِه ِمـــن قَ ٍ‬
‫ـــوم إِذا َ‬
‫س ال يَ ْفنـــى وإنْ قُبِروا‬
‫َّـــر في النّا ِ‬
‫والش ُّ‬ ‫ســـ ّروهُ أَو شَــــــ ّراً أَذاعـــوهُ‬‫َخيـــراً أَ َ‬
‫ناطقَـــةً‬
‫ـــي ِ‬ ‫مالـــي َرأ ْيـــتُ دُعـــاةَ ال َغ ِّ‬
‫والصراع بين الخير والش ّر أزلي‪ ،‬وحين يغلب الش ّر الخير‪ ،‬يغيب‬ ‫القتـــل داعوهُ‬
‫ِ‬ ‫ص ُمتُ َخ ْوفَ‬
‫والرشـــ َد يَ ْ‬
‫ُّ‬
‫العدل‪ ،‬وتخت ّل الموازين‪ ،‬وقد عبّر عن هذا الشاعر معروف الرصافي بقوله‪:‬‬
‫ض ســـحاب ٍة‬ ‫أرى الخ ْي َر في األحيا ِء و ْم َ‬ ‫والخير بالنسبة للمعرّي يأخذ معاني فلسفيّة متع ّددة‪ ،‬منها‪ :‬مجافاة الشرّ‪،‬‬
‫وتجنّب الكره‪ ،‬والحسد‪ ،‬والمشاعر السلبيّة التي تورث البغضاء‪:‬‬
‫بدا ُخلَّبــــــا ً والشـــــــ َّر ضربــــــةَ ِ‬
‫الزم‬
‫وب الصّائمونَ له‬ ‫الخ ْيـــ ُر صو ٌم يـــ ُذ ُ‬
‫ما َ‬
‫إذا مـــا رأ ْينـــا واحـــــــداً قـــا َم بانيـــا ً‬ ‫ٌ‬
‫ســـ ِد‬‫الج َ‬
‫صـــاة‪ ،‬وال صـــوفٌ على َ‬ ‫وال َ‬
‫هُنــــــاك رأ ْينـــــا َخ ْلفَـــهُ أ ْلـــفَ هـــا ِد ِم‬ ‫تـــر ُك الشّـــ ِّر ُمطّ َرحـــا ً‬
‫ْ‬ ‫وإنّمـــا هـــ َو‬
‫ســـتَميلُه ْم‬
‫ومـــا جـــا َء فيهـــ ْم عـــاد ٌل يَ ْ‬ ‫ســـ ِد‬
‫صـــ ْد َر من ِغ ٍّل و ِمنْ َح َ‬ ‫ضـــ َك ال ّ‬‫ونف ُ‬
‫ـــش واأل ْنعـــا ُم خائفةً‬
‫الوح ُ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬
‫مـــا دامـــ ِ‬
‫صـــدَّه أ ْلـــفُ ظالِ ِ‬
‫ـــم‬ ‫ق ّإاّل َ‬
‫الحـــ ّ‬
‫إلـــى َ‬
‫ســـك لألســـ ِد‬ ‫ُّ‬
‫ص ّح أم ُر الن ْ‬ ‫ف ْرســـاً‪ ،‬فما َ‬ ‫َ‬

‫ويضع الشاعر الحسن بن أبي حصينة (‪ 388‬هـ ‪ 457 -‬هـ ‪998 /‬م‬
‫‪1065 -‬م) قاعدة نفسية‪ ،‬مفادها بأن اإلنسان رهن أعماله‪ ،‬فمن يعمل خيراً‬
‫يرى شوقي أن الخير‬ ‫يجد خيراً على عكس من يضمر ش ّراً بقوله‪:‬‬
‫يعين على الوفاء‬ ‫مـــا قُـــ ِّد َم البَ ْغـــ ُي إِ ّاّل أُ ِّخـــ َر ال َّرشَـــ ُد‬
‫ـــاس يُلقونَ عُقبى ُك ِّل مـــا اعتَقَدُوا‬ ‫ُ‬ ‫والنّ‬
‫ســـاس َخ ْيراً َرأى َخ ْيراً و َمنْ َولَدَتْ‬ ‫َ‬ ‫َمنْ‬
‫ُ‬
‫أفعالـــهُ الشَـــ َّر القـــى شَـــ َّر مـــا تَلِـــ ُد‬ ‫َ‬

‫لكن عمل الخير هو الذي يبقى‪ ،‬يخلّد أثر اإلنسان؛ يقول الشاعر خليل مردم بك‪:‬‬ ‫وقال أبو الفتح البُستي وهو من أعالم العصر العبّاسي‪:‬‬
‫الخ ْيـــر إنْ أثَرا‬
‫ميل وفِ ْعـــ ُل َ‬ ‫ص ْنـــ ُع َ‬
‫الج ِ‬ ‫ُ‬ ‫ففي النهاية ال ينفع اإلنسان سوى صالح األعمال كما يقول أمير الشعراء‪:‬‬ ‫َمـــنْ كانَ لِ ْل َخ ْيـــ ِر َمنّاعـــا ً فلَ ْي َ‬
‫ـــس لـــه‬
‫ْمـــال الفَتـــى أَثَـــرا‬
‫وأحمـــ ُد أع‬
‫أ ْبقـــى ْ‬
‫ســــــــوى‬ ‫ال يَـ ْنـفَـــــــــ ُع ال َمـيْـــــــــتَ ِ‬ ‫ْ‬
‫وأخـــدانُ‬ ‫الحقيقـــة إخـــوانٌ‬ ‫علـــى َ‬
‫ِ‬
‫صــــــــالِ َحــــــــــــــ ٍة ُمــــــد ََّخــــــــــ َر ْه‬ ‫ت تطلُبُهـــا‬ ‫ســـ َل فـــي َ‬
‫الخ ْيـــرا ِ‬ ‫َع التّكا ُ‬
‫د ِ‬
‫ســـتُ أ ْف َهـــ ُم َم ْعن ًى لِ ْل َحيا ِة ســـوى‬
‫بَ ْل لَ ْ‬
‫سـوقَــــةُ ِعــــ ْنـ‬ ‫قَــــــــ ْد تُــــــرفَـــــــ ُع ال ّ‬ ‫َ‬
‫بالخ ْيـــرات َكسْـــانُ‬ ‫ســـ َع ُد‬
‫فل ْيـــس يَ ْ‬‫َ‬
‫عيـــف وإ ْنقـــا ِذ الـــذي َعثَرا‬
‫ِ‬ ‫ض‬
‫َـــن ال َّ‬
‫ع ِ‬ ‫ـــــــــ َد اللَ ِه فَ‬
‫صــــــــ َر ْه‬‫ق القَـيـ َ‬ ‫ـــــــــــو َ‬
‫ْ‬
‫س فــــــي َغـــــــــ ٍد‬ ‫و ُكــــــــ ُّل نَــفــــــــــ ٍ‬
‫وفي الختام الب ّد لنا من شكر الله على نعمة الخير؛ يقول محمود سامي‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫َمـــيِّتَـــــــــــــــــــة فـــــــــ ُمـنـشَــــــــ َر ْه‬
‫البارودي الذي يبتهل إلى الله أن يقرّب الخير منه ويبعد الشرّ‪:‬‬
‫ــــــــــل الـــــــ‬
‫ِ‬ ‫َوإِنَّــــــــهُ َمـــــــــنْ يَــ ْع َم‬ ‫يدعو المع ّري لنشره‬
‫لَـــ َك ا ْل َح ْمـــ ُد إِنَّ ا ْل َخ ْيـــ َر ِم ْنـــ َك وإِنَّنِـــي‬ ‫ـــــخـ ْيــــ َر أَ ِو الشَـــــــــــــ َّر يَــــــــــــ َر ْه‬
‫َ‬ ‫كونه قيمةً إنسانيةً‬
‫ت شـــا ِك ُر‬ ‫ســـ َماوا ِ‬ ‫ب ال َّ‬‫ص ْن ِعـــ َك يـــا َر َّ‬ ‫لِ ُ‬
‫فَأ َ ْنـــتَ الَّـــ ِذي أَ ْولَ ْيتَنِـــي ُك َّل نِ ْع َمـــ ٍة‬ ‫وجزاء الخير خير كثير‪ ،‬فهو يدفع الشرّ؛ قال خليل مطران‪:‬‬
‫اصطَفَ ْتنِي ا ْل َعشـــائِ ُر‬‫وه ََّذ ْبتَنِـــي َحتَّـــى ْ‬ ‫ْفـــع الشَّـــ َّر َع ْنك ْم‬ ‫باشـــروا َ‬
‫الخ ْيـــ َر يَد ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫فَقَـــ ِّر ْب لِـــ َي ا ْل َخ ْي َر الَّـــ ِذي أَنَـــا را ِغ ٌ‬ ‫سال ُم‬ ‫ٌ‬
‫ص َمـــــــة و َ‬ ‫الخ ْيـــــــر ِع ْ‬ ‫إنمـــــــــا َ‬ ‫ّ‬ ‫واألخ الحقيقي هو الذي يعين على عمل الخير‪ ،‬فَدُون ذلك الهوان؛ يقول‬
‫وبا ِع ْدنِـــ َي الشَّـــ َّر الَّـــ ِذي أَنـــا حـــا ِذ ُر‬ ‫ميـــل َجميـــ ٌل‬
‫ِ‬ ‫الج‬ ‫ب ِمـــنَ َ‬‫ـــــر ٍ‬
‫ض ْ‬ ‫ُكـــــ ُّل َ‬ ‫الشاعر أحمد شوقي‪:‬‬
‫غ ْيــــــــ َر أنَّ ال َعــــزيـــــــ َز فيـــ ِه التَّمامُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫والذ ْخـــر فـــي ال ُّد ْنيـــا أخٌ‬ ‫يـــا أخـــي‬
‫وسيظل الخير الغاية التي يسعى اليها اإلنسان‪ ،‬لتحقيق األمل في حياة‬ ‫الخ ْيـــ ِر علـــى َ‬
‫الخ ْيـــ ِر أعانـــا‬ ‫حاضـــ ُر َ‬ ‫ِ‬
‫مستقرة ينعم فيها بالجمال والسالم‪ ،‬ويبقى الحلم الذي يعبّر عنه األدباء‬ ‫والنفس البشرية مجبولة على عمل الخير‪ ،‬رغم وجود الشرّ‪ ،‬الذي يراه‬ ‫وإذا ال ُّد ْنيـــــــا َخلَــــــتْ ِمـــنْ َخيّــــــ ٍر‬
‫والشعراء‪ ،‬من أجل تحقيق رسالة اإلنسانية‪.‬‬ ‫صالً ومتجذراً في قصيدته «المواكب»‪:‬‬
‫الشاعر جبران خليل جبران‪ ،‬متأ ّ‬ ‫وخلَـــتْ ِمـــنْ شـــاك ٍر هانَـــتْ هَوانـــا‬ ‫َ‬

‫‪21‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪20‬‬
‫شعر‬

‫بوصلة النجاة‬ ‫باب في ُم ُدن ّ‬


‫الذاكرة‬ ‫ض ٌ‬ ‫َ‬
‫ــــــح‬
‫الجميل مال ِم ُ‬
‫ِ‬ ‫وبـــ ِه مـــنَ ال َّز ِ‬
‫مـــن‬ ‫ـــح‬ ‫َّ‬
‫للط ِّيبـــات مفا ِت ُ‬ ‫فـــي والـــدي‬ ‫ـــــك وا ّتزا ِن ْك؟‬
‫َ‬ ‫مـــا بيـــــنَ َط ِ‬
‫يش‬ ‫ْ‬
‫ـــــــك‬ ‫أغــــــزالتـــــــان تعلّقــــا ِن‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫تصــــــاف ُح‬ ‫وبصـــــدر ِه أحال ُمـــــنا َت‬ ‫ظهــــــر ِه َســــبعونَ عامـــاً دامياً‬ ‫فـــي‬ ‫ـــدن احتقا ِن ْك‬ ‫ُّ‬ ‫ِب َت ِش‬ ‫َّ‬ ‫أ ْم لَ ْيلَ‬
‫ِ‬ ‫ــــــف عنْ ُم ِ‬ ‫الضبـــــــا‬ ‫تـــــــان ِمـــــــنَ‬
‫ِ‬
‫خنق األســــــى ِن ْصفـــــاً‪ ،‬و ِن ْص ٌف با ِئ ُح‬
‫َ‬ ‫ــح ٌ‬
‫ــــة‬ ‫ــــــىء ُب َّ‬
‫ُ‬ ‫فـــي َص ْوت ِه م َّمــــا يخ ِّب‬ ‫ُح ســـــوى َصـــــدى ِمــــــنْ عُ نفــــــوا ِن ْك‬ ‫الريــــا‬
‫ـــــــن ّ‬
‫ِ‬ ‫باألمـــــس لَـــ ْم َت ُك‬
‫ِ‬
‫ــــح‬ ‫لكـــــنَّ َب ْو َص َ‬
‫ـــــلة ال َّنـجــــا ِة ُتـكـا ِف ُ‬ ‫ـره ٌ‬
‫ــــق‬ ‫ول ُه جبيــــــنٌ ‪ -‬كالقصيد ِة ‪ُ -‬م َ‬ ‫َ‬
‫جــــــوع إلى َمكا ِن ْك‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ـــــق ِمنَ ّ‬
‫الر‬ ‫ــــــــــك الطـــــــريـــ‬ ‫واآلنَ يمن ُع‬
‫وعيو ُنـــــ ُه عَ نْ َق ْح ِط ِهــــــنَّ َبوا ِئ ُ‬
‫ـــــح‬ ‫َ‬
‫غــــــال ِســــــــني ِن ِه‬ ‫أبــــاح لنا‬
‫َ‬ ‫ولقــــد‬ ‫ــ ِة ما تبـــدّى ِمـــنْ َهــــــوا ِن ْ‬
‫ــــك‬ ‫بأزيــــاء الهُ ــــــــو ّيـ‬ ‫فــــاســـ ُت ْر‬
‫ِ‬
‫محمد العموش‬ ‫كــــــــــادح»‬
‫ُ‬ ‫«يا أ ُّيها اإلنســــــانُ إ َّن َك‬ ‫وتكــــــا ُد تقرأُ في صحيفـــــــ ِة وجهــ ِه‬ ‫يوسف الكمالي‬
‫األردن‬
‫ــــل وأ ْن َت َت ُ‬
‫سقط ِمـــــنْ ِحصا ِن ْك‬ ‫ِ‬ ‫الصــــــهيـ‬
‫توحــــات َّ‬
‫ِ‬ ‫واذ ُكـــــر ُف‬ ‫ُعمان‬
‫ســــابح‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ـــــرات مـ َ‬ ‫ول ُه ال ّنجــــــو ُم ال ّزاهِ‬ ‫س‬ ‫الليـــل َخــــلو ُة يو ُن ٍ‬
‫ِ‬ ‫ببطــــــن‬
‫ِ‬ ‫ولـــ ُه‬
‫الورو َد علـــــى ِلسا ِن ْك‬
‫َت ْخشـــــى ُ‬ ‫ـــــــــق ِعبـــــــــــار ٍة‬
‫ِ‬ ‫ـــم‬ ‫ٌ‬
‫أرض ِب ُع ْ‬
‫أصــــ َغ َر ما ِبهـــــا « ُم َتســـا ِم ُح»‬‫ولع َّل ْ‬ ‫ولوالـــــدي ‪ -‬كالط ِّيـــــبينَ ‪ -‬عُ ـيـو ُبــــ ُه‬
‫ُ‬
‫ينزف ِمنْ أذا ِن ْك‬ ‫ــــــر ِد»‬
‫ْ‬ ‫كـ «ال ُك‬ ‫ٌ‬
‫ــروحـــــــة‬ ‫وســــماؤهــــــــا َم ْج‬
‫ـارح‬
‫وج ُ‬ ‫روف‪َ ،‬‬
‫الح ِ‬ ‫ــو ُت مـَ ْج ُ‬
‫روح ُ‬ ‫فالص ْ‬
‫َّ‬ ‫ــت ِب َح ْن َجــرتي ُغصــونُ قصيدتي‬
‫ـس ْ‬‫يبـِ َ‬
‫ـــك‬ ‫ْ‬
‫ــــــط ِمـــــنْ ِجنا ِن ْ‬ ‫يـــا آد ُم ْ‬
‫اه ِب‬ ‫َ‬
‫ذاق الهـــــــوى‪:‬‬ ‫ْ‬
‫قالـــت لِمــــــنْ‬
‫وأنـــا ِبــــ ُك ِّل قصــــائدي َ‬
‫لـــك َمــــا ِد ُح‬ ‫َ‬
‫رثــــائك يا أبي‬ ‫ــــص ُف القصيــــد ِة في‬
‫ِن ْ‬
‫أجــــل ِمـــنْ َن َزق ْ‬
‫افتتا ِن ْك‬ ‫ُّ‬ ‫ــــن‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫أقـــــــل ِمـــــــنَ َ‬
‫الحنيــــــ‬ ‫ٌ‬
‫أرض‬
‫ــــطبي َحــــنينٌ وال َت َـذ ّكــــ ُر َقــــا ِد ُح‬
‫َح َ‬ ‫ــــوقي إل ْي َك َمـوا ِقــ ٌد‬
‫الصـد ِْر منْ َش ْ‬
‫في َّ‬ ‫ِ‬

‫وحــــا َر َّ‬ ‫ــــــت األدلّ ُ‬


‫ـــة ُقــــــــ َّو ًة‬ ‫َ‬ ‫الح ِتضا ِن ْك‬ ‫ُ‬
‫تركـــــض ْ‬ ‫ــــــناء‬
‫َ‬ ‫َح ْس‬ ‫ـــزيــــز‪ ،‬رأي َتهــــــــــا‬
‫ُ‬ ‫لَ ْ‬
‫ــــوال ال َع‬
‫ــارح‬
‫الش ُ‬ ‫في َمــــ ْت ِن ْأوجــــاعي‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫تعارض‬ ‫ولقـــد‬
‫مالـــح‬ ‫ْ‬
‫ـــــــذ ٌب‬ ‫ُمـت َكـــــ ِّد ٌر َصـــــ ْف ٌو وعَ‬ ‫َحـــ ِذ ٌر‪َ ،‬جســــــو ٌر حـــــــاز ٌم‪ ،‬متـــ َر ِّد ٌد‬
‫بخ ْي ُزرا ِن ْ‬
‫ـــك‬ ‫يليــــــق َ‬
‫ُ‬ ‫ــــومــــــاً‬
‫َي ْ‬ ‫ــــــب لَـــــــ ْم َي ُكنْ‬
‫ُ‬ ‫هـــــــذا ال َّت َخ ُّش‬
‫ُ‬
‫ـــح‬
‫راش ُ‬ ‫َو َر ٌق يظلِّـلُـــــــني‪ِ ،‬‬
‫وح ْبـــــري ِ‬ ‫ـــــات القصيــــــد ِة تا ِئــــ ٌه‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫محط‬ ‫أنا في‬ ‫بطاقــــات ائ ِتمــــا ِن ْك‬
‫ِ‬ ‫ــبي ِمــــنْ‬ ‫لـــيء‪َ ،‬فلَ ْي َ‬
‫ـــس َق ْلــــ‬ ‫ُ‬ ‫وأنـــا ال َم‬

‫ســـائح؟‬
‫ُ‬ ‫ـــــــــئ في الحقيـــب ِة‬
‫ُ‬ ‫ماذا ُيع ِّب‬ ‫ً‬
‫ســـــياحة‬ ‫ُ‬
‫أتيــــــت إلى الحيـــــــا ِة‬ ‫إ ّني‬ ‫امتنا ِن ْك‬
‫ـــو َم ْ‬ ‫ِد‪ ،‬وما ْ‬
‫اغ َتنــــــى َي ْ‬ ‫الجحـــو‬
‫ـــــــو َم ُ‬
‫ْ‬ ‫يفتقــــــر َي‬
‫ْ‬ ‫لـــم‬

‫نازح‬
‫ُ‬ ‫صــــــنع األوطــانَ شـِــــــ ْع ٌر‬
‫ُ‬ ‫ال َي‬ ‫موطـــــناً‬
‫ِ‬ ‫ال َت ْســـــأليني أنْ أُحيلَ ِ‬
‫ـــــك‬ ‫ْ‬
‫ـــــك‬ ‫ــــــر فـــي َمكا ِن‬
‫َ‬ ‫ِمـــنْ أنْ أف ّك‬ ‫شـــاغلي‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ـــــــق ال َمكــــانــــــ ِة‬ ‫َقلَ‬

‫‪23‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪22‬‬
‫شعر‬

‫ب الهديل‬
‫ِمنْ كتا ِ‬ ‫بوح العارفين‬
‫علـــــى صوتِنـــــــا أيّا ُمنـــــــا تتـــو َّكأ ُ‬ ‫اغتـــراب والمســـافاتُ َم ْرفـــأ ُ‬
‫ٌ‬ ‫ُخطانـــا‬ ‫الطيـــن حب ُر‬
‫ِ‬ ‫وأصلُـــكَ قبـــل هذا‬ ‫ســـر‬
‫ُّ‬ ‫العارفون‪ ،‬وأنتَ‬
‫َ‬ ‫ـــوح‬
‫ُ‬ ‫يبُ‬
‫ونكبـــــــ ُر أنهــــــاراً ولـــــآن نَ ْظ َمـــأ ُ‬ ‫ُ‬
‫منـــذ ُكنّـــا غمائمـــا ً‬ ‫نســــــي ُر إلينــــــا‬ ‫عيـــــن ال تَقِ ُّ‬
‫ـــر‬ ‫ٍ‬ ‫وخلفَـــكَ ألـــفُ‬ ‫عـــدم تهادى‬
‫ٍ‬ ‫عــدم إلى‬
‫ٍ‬ ‫ومـن‬

‫وح فينـــا فَنَ ْدفَأ ُ‬


‫ْي ُح ْم ُر‬ ‫ض‪ ،‬وتُ ْن ُ‬
‫كس وه َ‬ ‫على مض ٍ‬ ‫حين‬
‫ٍ‬ ‫لـــك الرايـــاتُ تُرفـــ ُع ك ّل‬
‫وت ْكســـو َعـــرا َء الــــ ّر ِ‬ ‫ـــع تُظلُّنـــا‬
‫وأســـــماؤُنا أشـــــجا ُر َد ْم ٍ‬
‫فـــا يومـــا بخلـــتَ ‪ ،‬وذاك عُذ ُر‬ ‫إذا عُـــ ّد الكرا ُم‪ ،‬فأنـــتَ منهم‬
‫ـــو ٍء حل ُمها ليـــس يُ ْطفَأ ُ‬
‫ض ْ‬ ‫َعصافيـــ َر َ‬ ‫ـــدس فـــي شُـــ ُرفاتِه‬
‫ُّ‬ ‫لنـــا َوطــــــنٌ نَ ْن‬
‫بَ َر ْتـــهُ النـــــازالتُ ‪ ،‬وأنـــتَ جه ُر‬ ‫وليـــس يـــــراكَ إال ذو فـــؤا ٍد‬
‫َ‬
‫فيفتـــــح شـــــبا َك الهديـــــــل فنقـــرأُ‬
‫ُ‬ ‫تـــــــد ُّق علــــــى آفاقِـــــــــه لثغاتُنـــا‬
‫حسن شهاب الدين‬ ‫ســـ ْت ُر‬
‫الليل ِ‬
‫ِ‬ ‫كأنّـــكَ مـــن ظـــام‬ ‫إذن‬
‫ـــزار بغيـــر ٍ‬
‫ُ‬ ‫تـــزور‪ ،‬وال تُ‬
‫ُ‬ ‫محمد بوثران‬
‫مصر‬ ‫الجزائر‬
‫ب‪ ..‬تـُـــ ْم َأَلُ‬
‫يانـــع الغيـــ ِ‬
‫ِ‬ ‫ســـا ٌل بتمـــ ٍر‬ ‫لـــهُ قامـــة ُالنخـــ ِل التقـــ ِّي وصوتُنـــا‬ ‫إليـــــكَ أســـــي ُر‪ ،‬هـــا إنّــــي أُقِ ُّر‬ ‫ذكرتُكَ ســـاعةً‪ ،‬فنســـيتُ أنّي‬
‫ْي قَ ْف ُر‬
‫علـــى دار اإلقـــامـــــة وه َ‬ ‫هبّي‬
‫الريح؛ ُ‬
‫َ‬ ‫يداي تحـــــاوران‬
‫َ‬
‫حيــــــن تفجــــــأ ُ‬
‫َ‬ ‫وتشب ُهنا أمطـــــــا ُرهُ‬ ‫ص ْح ِو ِمنْ أُ ْف ِ‬
‫ق صيفِ ِه‬ ‫قميص ال َّ‬
‫َ‬ ‫نَ َ‬
‫س ْجنا‪..‬‬
‫دنـــــوتُ إليـــكَ ‪ ،‬والممشـــى يَفِ ُّر‬ ‫وســـاقي كلّما التفّتْ بســـاقي‬
‫ويُط ِع ُمنــــــا خبــــــ َز الحنيــــ ِن فنبـــرأُ‬ ‫وننـــأى‪ ..‬فينمو فـــي الســـناب ِل ُحزنُنا‬
‫ع ْم ُر‬
‫خطاي ُ‬
‫َ‬ ‫ت‪ ،‬إنَّ‬
‫من الخطـــــوا ِ‬ ‫وقلبـــي يســـتد ُّل بمـــا تبقّـــى‬
‫ب يُ ْخبَأ‬
‫بأوراقِنـــا‪ ..‬مـــازال فـــي الغيـــ ِ‬ ‫ــــــش عَــــــنْ َغـــ ٍد‬
‫ُ‬ ‫يؤ ِّرقُنـــا أنَّـــا نفتِّ‬
‫ـــر‬
‫س ُّ‬ ‫لعلّي أســــــتجي ُر بِمــــــا تُ ِ‬ ‫صبر صبـــراً‪ ،‬ث ّم صبراً‬
‫ُ‬ ‫أال يـــا‬
‫ضـــأ‬
‫ومعراجهــــــا فـــي صوتِنـــا يتو َّ‬
‫ُ‬ ‫صلـِّـــي‪ ..‬فَت ْ‬
‫َصطَـــفُّ المـــآذنُ خلفَنا‬ ‫نـ ُ َ‬ ‫ستُشـــ ِرق‪ ،‬ك ّل هذي األرض قب ُر‬ ‫أنـــا ُم‪ ،‬وال يقيـــنٌ أنّ شمســـا ً‬

‫صــابيحهـــــا كــانـــــت بنـــــا تتنبَّـــأ‬


‫ُ‬ ‫َم‬ ‫ونَ ْبكـــــي إذا ما أطفـــــــأ َ الليـــ ُل َو ْردةً‬ ‫وإن أَمسيتُ ‪ ،‬هــل سيجيء ْ‬
‫فج ُر؟‬ ‫وإنْ أصحو فال أدري أَأُمســـي‬

‫حيـــن يبـــدأُ‬ ‫تناثـــ َر فينــــــا شـــــيبُها‬ ‫واألرض طفلةٌ‬ ‫األرض‬ ‫ألنـَّـــا ا ْبتَ َدأنـــا‬ ‫وحولـــي النا ُر‪ ،‬حـــو َل النار نه ُر‬ ‫بان‬
‫ٍ‬ ‫قلـــق كأنّي غصـــنُ‬
‫ٍ‬ ‫على‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫معلّقـــةٌ‪ ،‬أبعـــ َد المـــــا ِء جمـــ ُر؟‬ ‫الريح‪ ،‬روحي‬
‫ُ‬ ‫ـــب‬
‫ه ّ‬ ‫فأنّى ق ْد ت ُ‬
‫ليـــس نُطفأ‬
‫َ‬ ‫فنغـــــدو شـــظايا‪ ..‬إنَّمـــا‬ ‫ســــــاق ْط َن ِمـــنْ أ ْبجديــــــ ٍة‬
‫كواكـــب ي ّ‬
‫ُ‬
‫س ُر‬
‫كؤوس الموت‪ ،‬بعد اليـس ِر عُــ ْ‬
‫َ‬ ‫العارفـــون إذا أداروا‬
‫َ‬ ‫يبـــوح‬
‫ُ‬

‫‪25‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪24‬‬
‫حـــوار‬

‫سيرةٌ شعريّة وشخصيّة‬


‫اتّسمـت بالتمــيّز‪ ،‬عبــــر‬ ‫اتّسمت سيرته بالتميّز واإلبداع‬
‫سنـــوات مــن اإلبـــــداع‬
‫والحضــور في المحـــافل‬
‫األدبيّـــة الممتـــدّة مشرقا ً‬
‫جاسم الصحيّح‪:‬‬
‫ومغـــرباً‪ .‬عالقتـه بالشعر‬
‫مميّزة ومتكافئة‪ ،‬فما يكتبه‬ ‫في الشــعر نحتاج الممحاة أكثر من القلم‬
‫أحمد الصويري‬
‫سوريا‬
‫يمتع به ذائقة الجمــهور؛‬
‫فالشـاعر السعودي جاسم‬
‫الصحيّــح يرى أنّ الكتابة لعبةٌ جا ّدةٌ تحتاج إلى‬
‫ذكاء القلب‪ ،‬وأّنّ الشّعر والثقافة ليس لهما دور‬
‫ي جماع ّي في المجتمعات العربيّة منذ قرون‪.‬‬ ‫تغيير ّ‬

‫كتبتُ قصائد في أمريكا‬


‫ارتبطت بالغربة والحنين‬

‫وفي هذا الحوار يحدثنا عن قضايا تتعلّق بال ّشعر والنقد والمشهد الثقاف ّي‬
‫العرب ّي‪.‬‬

‫‪ -‬لم تكن انطالقتك الشّعرية عبر صحف أو أمسيات؛ ّ‬


‫هاّل تحدّثنا عن‬
‫خصوصية هذه االنطالقة ومدى تأثيرها في تجربتك؟‬
‫البداية كانت بكتابة قصائد للمحافل الدينية‪ ،‬والمشاركة بها في تلك‬
‫المحافل‪ ،‬فكانت القصائد تميل إلى المباشرة والوضوح‪ ،‬وكأنّها مكتوبة‬
‫بالتماهي مع أذواق الناس ووعيهم‪ .‬ثم جاءت المشاركات الوطنية التي ال‬
‫ولكن الحقا ً جاءت الكتابات الذاتية‪ ،‬خصوصا ً‬
‫تختلف كثيراً عن سابقتها‪ْ ..‬‬
‫عندما كنت أدرس في أمريكا‪ ،‬حيث ابتعثتني شركة «أرامكو» منتصف‬
‫ثمانينات القرن الماضي‪ ،‬فكانت قصائدي المرتبطة بالغربة والحنين إلى‬
‫الوطن واألهل واألصدقاء‪.‬‬

‫صصك العلم ّي تأثير في تجربتك الشعريّة؟‬ ‫‪ -‬هل كان لتخ ّ‬


‫بأن الشعر هندسة معنويَّة للذات البشرية بوساطة اللغة‪ ،‬كي‬‫أنا مؤمن َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تكون هذه الذات أكثر جماال ودفئا وإنسانية‪ .‬ولكن ليس لتخصصي العلمي‬
‫تأثير ظاهر ومباشر في شعري‪ ،‬وإن وردت بعض المفردات المهنية في‬
‫بعض قصائدي‪ .‬وال يخفى عليك أن كثيراً من الشعراء المعروفين‪ ،‬كان‬
‫تخصصهم بعيداً من الشعر‪ ،‬ولع ّل الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي‪ ،‬مثال جل ّي‪.‬‬

‫‪27‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪26‬‬
‫حـــوار‬

‫الشطرنج؛ فالشعر يحتاج إلى ذكاء القلب‪ ،‬وليس ذكاء العقل فقط‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫وبمقدار ما نتألم نتعلم‪ ،‬فال توجد معرفة مجَّانية‪ ،‬وإنما تأتي المعرفة‪،‬‬
‫استسهال الكتابة الشعرية قد يفضي بالكاتب إلى حال من عدم الجدوى‪،‬‬ ‫عبر المكابدة والتجربة والمعاناة والخبرة الحسية باأليام‪.‬‬ ‫كتبتُ شعراً أكثر مما ينبغي‬
‫والعقم في كل ما يكتبه‪.‬‬ ‫أن يُكتَب‬
‫قبل أن نكتب‪ ،‬يجب أن نحمل الشعر على سبعين محمالً من الجديّة واإليمان‬ ‫‪ -‬تشبّه نفسك بالحوت في بحر الهوى؛ هل أنت كذلك في الشعر؟‬
‫به منقذاً للذات البشرية من أزماتها‪ ،‬وبوصلةً تشير إلى جهة اآلدمية الحقيقية‪،‬‬ ‫في الشعر‪ ،‬أنا الحبيس في بطن الحوت‪ ،‬يجوس بي محيطَ الظلمات كلّما‬
‫األمر الذي يجعل الشاعر يستشعر المسؤولية الكبرى تجاه كل كلمة يد ِّونها‪.‬‬ ‫حانت الكتابةُ التي تمثِّل مكابدةً ال تلين‪ .‬وحينما أُكمل تسبيحة النَّظم‪ ،‬يقذفني‬
‫الحوت على شاطئ النهاية‪ ،‬وتنمو عل َّي يقطينةُ القصيدة‪.‬‬ ‫‪ -‬جاسم الصحيّح‪ ،‬حارس مرمى االنتظار؛ كم هدفا ً حقق على نفسه أو لها؟‬
‫‪ -‬توقفت عن النشر خمس سنوات؛ هل هو قرار أو فرصة للتأمل كي تعرف‬ ‫وهل استطاع ص ّد الهجوم المباغت للقاء؟‬
‫«ما وراء حنجرة المغنّي»؟‬ ‫‪ -‬حصلت على بُردة عكاظ وكثير من الجوائز‪ ،‬ومن المؤكد أنّك مررت‬ ‫ُ‬
‫الخيبات‬ ‫لقد تم َّزقت ِشبا ُك مرماي من كثرة األهداف التي سجَّل ْتها‬
‫كتبت شعراً كثيراً‪ ،‬ربما أكثر مما ينبغي لل ّشعر أن يُكتَب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أعتقد أنني‬ ‫بمسابقات لم يحالفك فيها الحظ‪ ،‬لماذا يتّهم بعضهم المسابقات بعدم‬ ‫واإلحباطات فيه‪ ،‬من دون أن أستطيع إجادة دور الدفاع الذي أناطته بي‬
‫وهذا من أخطاء تجربتي مع الكتابة‪ .‬ال ّشعر كثافة مثل ْأن نختصر شجرة‬ ‫الصدقية في حال عدم فوزهم؟‬ ‫وأتعذب‪ ،‬حتى أسقط‬ ‫ّ‬ ‫فن ال أجيده‪ ،‬لذلك دائما ً ما أتخبّط فيه‬
‫الحياة‪ .‬االنتظار ٌّ‬
‫زيتون في قارورة زيت‪ ،‬فضالً عن ذلك‪ ،‬ال ّشعر قيمة تتجلّى في الكيف وليس‬ ‫بعض المتسابقين الذين ال يحالفهم الحظ في الفوز‪ ،‬يعيشون حال إحباط‬ ‫في هاويته الممتدة إلى األسفل بال قاع أخير‪.‬‬
‫في الك ّم‪ ،‬لذلك نحتاج إلى استخدام الممحاة في كتابته أكثر من استخدام القلم‪.‬‬ ‫وتعروهم انفعاالت لحظية‪ .‬وك ّل من ال يستطيع التح ّكم في انفعاالته‪ ،‬يمارس‬
‫وهذا ما يجعلني أتأنّى في طباعة أي ديوان‪ ،‬رغم تشجيع الناس لي على‬ ‫ولكن هؤالء قلَّة مقابل اآلخرين الذي‬
‫الشكاوى والتذمر‪ ،‬ويرمي االتهامات‪َّ .‬‬ ‫‪ -‬تحدثت عن الوعي بأنه يمشي عكس ما نتوقع‪ ،‬وشبّهته بذئب البُحتُر ّي‪،‬‬
‫النشر‪ ،‬والتعبير عن رغبتهم في االطالع على األسرار الجديدة المخبوءة‬ ‫يتحكمون في عواطفهم ويضبطون ذواتهم في لحظات االنفعال‪ ،‬فال تكون‬ ‫وبأنّه شرس؛ فهل يلتهمنا وعيُنا المرعب الممتع كما تقول؟‬
‫وراء حنجرة المغنِّي‪.‬‬ ‫لهم ردة فعل غاضبة في حال عدم الفوز‪ .‬وكما قال حبيبنا الشاعر المبدع عبد‬ ‫أعتقد أن أبا الطيّب‪ ،‬أفضل من عبَّر عن الوعي بقوله‪:‬‬
‫الله أبو شميس «الجوائز أرزاق»‪.‬‬ ‫عيـــم بِ َع ْقل ِه‬ ‫ذو ال َع ْق ِ‬
‫ـــل يَشْـــقى فـــي النَّ ِ‬
‫الجهالـــة فـــي الشَّـــقاو ِة يَ ْن َع ُم‬ ‫وأخـــو َ‬
‫‪ -‬وقفت على منابر كثيرة في أنحاء الوطن العربي‪ ،‬وماتزال لديك رهبة‬
‫المنبر؛ ماذا تقول للذين يستسهلون النشر؟‬ ‫هكذا هو الوعي (ذو العقل) حال من حاالت الشقاء األليم الذي نحتضنه‬
‫الشعر منقذ البشرية‬ ‫مشكلة أولئك الذين يستسهلون الكتابة الشعرية‪ ،‬وليس مجرد النشر‪.‬‬ ‫بأن المعرفة سُلَّ ٌم يرفعنا إلى مرتبة الجمال اإلنساني‪،‬‬
‫بسعادة وفرح‪ ،‬إليماننا َّ‬
‫من أزماتها‬ ‫الكتابة لعبةٌ جا ّدة مثل لعبة الشطرنج‪ ،‬وربما تحتاج أكثر مما تحتاجه‬ ‫مهما تكن هذه المعرفة موجعة‪.‬‬

‫‪ -‬هل أنصفك النقّاد؟ وكيف تنظر إلى المشهد النقدي بالتوازي مع المشهد‬
‫الشعري؟‬
‫ً‬
‫كان المشهد النقدي متقدما على المشهد الشعري عندما كان النقد‬
‫أدبياً‪ ،‬ومنذ أن جاء النقد الثقافي وأهمل النقد األدبي‪ ،‬تقهقر النقد‬
‫وتقدم المشهد الشعري‪ .‬انا أعتقد أن الباحثين في شهادات الماجستير‬
‫والدكتوراه‪ ،‬كتبوا عن شعري كثيراً من الدراسات األدبية التي‬
‫طُبعت‪ ،‬وهنا بعض منها‪:‬‬
‫‪ -‬الدكتورة سها صاحب‪ ،‬جامعة كربالء في العراق (شهادة الدكتوراه‬
‫عن أطروحتها «التناصّ في شعر جاسم الصحيّح»)‪.‬‬
‫‪ -‬األستاذة نورة القحطاني‪ ،‬جامعة اإلمام في السعودية (شهادة‬
‫الماجستير عن دراستها‪« :‬العتبات في شعر جاسم الصحيّح»)‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب «جاسم الصحيّح‪ ..‬خرج إلى القصيدة ولم يع ْد» للدكتور‬
‫حسين سرمك من العراق‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب «جاسم الصحيّح بين الشاعر واألسطورة» للدكتور يحيى‬
‫العبد اللطيف من السعودية‪.‬‬ ‫جاسم الصحيح في مهرجان الشارقة للشعر العربي ‪2023‬‬

‫‪29‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪28‬‬
‫حـــوار‬

‫حنجرة األيام‬ ‫ربما يكون في منافسة شديدة مع مواقع التواصل‪ ،‬ولكنه يبقى غذا ًء‬
‫للنفس البشرية‪ ،‬ال يمكن لها أن ّ‬
‫تتهذب وتتج ّمل ّإاّل به‪.‬‬
‫أسرار الشّعر مخبوءة‬
‫جاسم الصحيّح ‪ -‬السعودية‬
‫وراء حنجرة المغنِّي‬
‫‪ -‬الشهرة والمنابر؛ هل هي مقياس الجودة‪ ،‬أم ضربة حظّ؟ وفي حال كانت‬
‫ضربة حظّ‪ ،‬أين هو دور الناقد في رصد الحقيقي وتمييزه ّ‬
‫للغث؟‬
‫ال يوجد حُكم مطلق على العالقة بين الشهرة والمبدع‪ .‬فهناك مبدعون‬
‫إنْ أَ ْر َ‬
‫ض َع ْتـــ َك فلـــم يُ ْخ ِط ْئنِـــ َي اللَّبَنُ‬ ‫ســـ ِد)‪َ ..‬‬
‫آخ ْتني بِـــ َك ال ِم َحنُ‬ ‫(أبا ال ُم َح َّ‬ ‫ظفروا بالشهرة استحقاقا ً وجدارة‪ ،‬وهناك من ظفروا بالشهرة عبر ضربات‬
‫الحظ؛ إذن‪ ،‬فالحكم نسبي جداً‪ ،‬وال يمكن تعميمه‪ .‬أما دور النقاد فقد كان‬
‫القوافي كيـــف يَتَّ ِزنُ !؟‬ ‫ْ‬ ‫َمنْ ال يُجيـــ ُد‬ ‫القوافـــي واتَّ َز ْنتَ بها‪..‬‬
‫ْ‬ ‫أَ َجـــدْتَ أنتَ‬ ‫كبيراً في الثمانينات والتسعينات‪ ،‬ولكنه تضاءل الحقا ً في الخليج‪ ،‬واستطاع‬ ‫‪ -‬حدّثنا عن جديد َسفَ ْرجلة لُغتك أو لنقُل ما «آخر مقامات الشعر»؟‬
‫أضعاف مـــا بِ َك عبر الشِّـــع ِر أقترنُ‬ ‫َ‬ ‫بي ِمن شكاوا َك ما روحي ب ِه اقترنتْ‬ ‫الشعر أن يسبق النقد في المضمار‪ ،‬عكس ما كان يحدث في تلك العقود‪.‬‬ ‫آخر ديوان أصدرته كان بعنوان «طيو ٌر تُ َحلِّ ُق في ال ِمصْ يَدَة»‪ ،‬وهو‬
‫ماذا ســـيَفع ُل َمنْ (كافو ُرهُ) ال َّز َمنُ !؟‬ ‫تشـــكو وأنتَ لدى (كافو َر) ُمرتَ َهنُ !‬ ‫الديوان الرابع عشر في مسيرتي الشعرية‪ .‬واآلن أعمل على مختارات من‬
‫‪ -‬هل ترى الشعر وصفا ً خارجيا ً من دون الغوص في الجوهر‪ ،‬أم أنّ الغناء‬ ‫هذه الدواوين لطباعتها قريباً‪ ،‬بإذن الله تعالى‪.‬‬
‫منفـــى؟ وكان يُ َر ِّجـــي أنَّهـــا وطـــنُ‬ ‫ماذا ســـيَفع ُل َمـــنْ ألفَى الحيـــاةَ لهُ‬ ‫يقتصر على السهل من الشعر؟‬
‫واإلحنُ‬ ‫َ‬ ‫غـــداةَ حاقتْ بـــ َك األحقـــا ُد‬ ‫طُوبى لقِرطا ِســـ َك الوافـــي وفا َء ٍ‬
‫أخ‬ ‫الغناء في العادة يتخفّف من الشعر قدر اإلمكان‪ ،‬فالقصيدة المكثفة‬ ‫‪ -‬كان الشعر ديوان العرب وناقل أخبارهم؛ أين هو الشعر في عصر‬
‫شعريا ً يصعب غناؤها‪ .‬أما الشعر في الخليج فهو شبيه بالشعر في الوطن‬
‫س) يُختَ َزنُ‬ ‫وظَ َّل َكن ُز َك فـــي (القِرطا ِ‬ ‫(اللي ُل) خانَـــ َك و(البيدا ُء) قد َغ َد َرتْ‬ ‫«الميديا»؟ وهل استطاع مواكبة المعاصر في حياة العرب ونقله كما كان‬
‫العربي‪ ،‬حيث يوجد قامات شعرية كبيرة‪ ،‬سواء في السعودية أو في البحرين‬ ‫من قبل؟ وكيف تصف عالقتك بمواقع التواصل؟‬
‫كـــي ال يبـــو َر وال ينتابَـــهُ ال َعفَـــنُ‬ ‫لحا فـــي موائ ِد ِه‬ ‫مـــا زلتَ للشِّـــع ِر ِم ً‬ ‫أو بقية دول الخليج‪ ،‬ومن هؤالء األساتذة محمد العلي‪ ،‬وقاسم حداد‪ ،‬ومحمد‬ ‫تتغيّر القصيدة في مضمونها‪ ،‬عبر العصور‪ ،‬فال يمكن أن تكون‬
‫خاب َمنْ رحلوا فيها‪ ،‬و َمنْ ظَ َعنُوا‬ ‫ما َ‬ ‫قاومـــتَ َدهـــ َر َك بالترحا ِل فـــي لُغ ٍة‬ ‫الثبيتي وغيرهم كثير‪.‬‬ ‫اهتمامات القصيدة في العصر الحديث‪ ،‬مثل اهتماماتها في العصر القديم‪،‬‬
‫إذا ما استثنينا الحاالت اإلنسانية‪ .‬مثالً‪ ،‬في السابق‪ ،‬كان النحو ُّي يكتب قواعد‬
‫أنَّ الـــذي يصطفيـــ ِه الشـــع ُر ال يَ ِهنُ‬ ‫وكنـــتَ في قُـــ َّو ِة المعنـــى على ثق ٍة‬
‫‪ -‬هل بقي للشّعر والثقافة دور في حياتنا؟‬ ‫النحو عبر أرجوزات شعرية‪ ،‬وكان الفيلسوف يكتب فلسفته شعراً‪ ،‬وكان كل‬
‫ب ‪ -‬على أيَّا ِمكَ‪ ،‬الفِتَنُ‬ ‫‪ -‬مـــن ك ِّل صو ٍ‬ ‫فمـــا َو َه ْنـــتَ وقد شَـــنَّتْ عواصفَها‬ ‫الشعر والثقافة منذ قرون ليس لهما دو ٌر تغيير ٌّي جماع ٌّي في المجتمعات‬ ‫مبدع في مجال ما‪ ،‬يحاول أن يعبِّر عن إبداعه عبر الشعر‪.‬‬
‫شمطا َء ليســـتْ على اإلنسا ِن تُ ْؤتَ َمنُ‬ ‫خلـــف قافيـــ ٍة‬‫َ‬ ‫أَ َّمـــا أنـــا ف ُمقِيـــ ٌم‬ ‫العربية‪ ،‬ولكن في الوقت نفسه‪ ،‬الشعر والثقافة يعمالن بق َّوة في صناعة‬ ‫فالشعر في العصر الحديث تحرر من قيود هذه الوظيفة‪ ،‬وأصبح طليقا ً‬
‫شخصية اإلنسان الذي يؤمن بهما فردياً‪.‬‬ ‫يسير في اتجاه ذاته ويبحث عن أسرارها‪.‬‬
‫عنِّي‪ ،‬يُ َز ِّملُني ‪ -‬من وحشـــتي ‪َ -‬كفَنُ‬ ‫في عُزلتي؛ غيـــ َر أنَّ الوح َي منقط ٌع‬
‫ق ناعـــ ٌم لَ ِدنُ‬ ‫حيـــث الحـــوا ُر عنـــا ٌ‬ ‫ق نفســـي ْإذ أُحا ِو ُرها‬ ‫حســـبي أُعان ُ‬
‫ص فثا َر اللحنُ والشـــجنُ‬ ‫من الخـــا ِ‬ ‫يـــا َمنْ رأى في القوافـــي ما يُ َؤ ِّملُهُ‬
‫جارح َخ ِشـــنُ‬ ‫ٌ‬ ‫لحـــن إال‬
‫َ‬ ‫فيهـــا‪ ،‬فـــا‬ ‫ص َدأٍ‬ ‫األيـــام مـــن َ‬
‫ِ‬ ‫ضقنَـــا بحنجـــر ِة‬ ‫ِ‬
‫فـــي األبجديـــ ِة ميـــزانٌ ‪ ..‬وال يَ ِزنُ !‬ ‫ت َعص ٌر مائـــ ٌل‪ ،‬ولنا‬ ‫لنـــا من الوقـــ ِ‬
‫ض‪ ،‬وانغلقتْ في وجه ِه ال ُمدُنُ‬ ‫في األر ِ‬ ‫تـــاهَ المدى‪ ،‬وأضا َع الشـــع ُر رحلتَهُ‬
‫المســـتنقع‪ ،‬النَّتَنُ‬
‫ِ‬ ‫يفيـــض على‬
‫ُ‬ ‫كما‬ ‫ســـأ َ ٌم‬ ‫يفيض علـــى أيَّا ِمنا َ‬ ‫ُ‬ ‫ســـى‬ ‫أم َ‬
‫تشـــي ُع في القو ِل حتى تُز َكـــ َم األُ ُذنُ‬ ‫قصائـــ ُد ال َعصـــ ِر باتـــتْ ذاتَ رائح ٍة‬
‫وليس فـــي غابـــ ِة المعنى لنـــا فَنَنُ‬ ‫َ‬ ‫مـــا ثَـــ َّم للنـــو ِر عنـــوانٌ فنتب ُعـــهُ‬
‫سفُنُ‬ ‫الاَّلشيء يا ُ‬ ‫تُجدي‪ ،‬فـ ِسيري إلى َّ‬ ‫اآلن تِيـــهٌ دون بوصلـــ ٍة‬ ‫شـــراعُنا َ‬

‫جاسم الصحيّح وأحمد محمد عبيد من مهرجان الشارقة للشعر العربي ‪2016‬‬

‫‪31‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪30‬‬
‫استطالع‬

‫ت ُ ْث ِري تجاربهم وت ُ ِ‬
‫السفر يُغني معجم الشاعر‬
‫بألوا ٍن من التعبير‬ ‫لهمهم نُصوص ًا َ‬
‫جديدة‬
‫على َسفَ ٍر هذا الوجود بأسره‪،‬‬
‫في أكبر مجرّاته وأصغر ذراته‪،‬‬ ‫هل ت ُ ْكمل الوج َه اآلخر للقصيدة؟‬
‫أسفار ُ الشعراء‪ْ ..‬‬
‫ْ‬
‫وإنّه ل َسفَ ٌر ُم ْسفِ ٌر في ك ِّل آن‪ .‬ومنه‬
‫َسفَ ُر اإلنسان في المكان‪ .‬فإذا كان‬
‫اإلنسانُ شاعراً ‪ -‬أظنّني كذلك في‬ ‫إعداد‪ :‬د‪ .‬حنين عمر‬
‫فإن األماكن التي‬ ‫بعض األحيان ‪ّ -‬‬
‫يُتاح له أن يراها تح ُّل الكثير من‬ ‫الشّعر َســـفَ ٌر في الخيال والجمال‪ ،‬والشّعراء مسافرون‬
‫رؤى مراياها طبيعةً وناساً وثقافةً‪،‬‬ ‫عبد القادر الحصني‬
‫بطبيعتهـــم فـــي أرض اللغة‪ ،‬لذا كان تأثيـــره فيهم أكبر‬
‫في انشغاالت فكره وهواجس‬
‫نفسه وتطلعات روحه إلى اكتناه إنسانيّته‪ ،‬ويتب ّدى ذلك‪ ،‬على نح ٍو له عالقة‬ ‫مـــن غيرهم‪ ،‬فهـــو يثـــري تجاربهم ورؤاهـــم‪ ،‬ويفتح‬
‫بخصوصيّة تلقّيه وتفاعله وتمثُّله‪ ،‬في لغته وخياله وموسيقاه وأفكاره ورؤاه‪.‬‬ ‫أمامهـــم آفاقـــا ً أوســـع‪ ،‬الكتشـــاف الحياة واكتســـاب‬
‫ولع ّل األسفار على األرض‪ ،‬أن تكون للشاعر أكثر غن ًى من األسفار عندما‬
‫الخبرات‪ ،‬واســـتلهام نصـــوص جديدة‪.‬‬
‫تكون كتباً‪ ،‬فليس من سمع كمن رأى‪ .‬والحياة أوسع من المكتبات‪ .‬وأيّاً يكن‬
‫التشابه في األماكن‪ ،‬كونها حوامل‪ ،‬فإنها عوالم ال تحصى تبايناتها من حيث‬ ‫إذ يقول اإلمام الشافعي‪:‬‬
‫المحموالت‪ .‬فاألسواق المحيطة مثالً بالجامع األمو ّي بدمشق‪ ،‬غير المحيطة‬ ‫وطـــان في طَلَ ِ‬
‫ب ال ُعال‬ ‫ِ‬ ‫َن األَ‬
‫تَ َغ َّرب ع ِ‬
‫بجامع الزيتونة بتونس‪ ،‬غير المحيطة بسيدي الحسين والسيّدة زينب‬ ‫وســـافِر فَفي األَســـفا ِر َخ ْم ُ‬
‫س فَوائِ ِد‬
‫بالقاهرة‪ ...‬إلخ‪ ،‬وقد أتاحت لي الحياة الثقافيّة أن أزور البلدان العربيّة‪ ،‬وبلداناً‬
‫أخرى في العالم‪ :‬الصين‪ ،‬الهند‪ ،‬روسيا‪ ،‬تركيا‪ ،‬سويسرا‪ ،‬ماليزيا‪ ،‬ما أتاح‬ ‫ســـفَر وتأثيراتها في الشّاعر‬
‫ولســـبر أغوار تجارب ال َّ‬
‫لشعري أن يرى أكثر‪ ،‬ويغتن َي بألوا ٍن من التعبير‪ ،‬ال أش ُّك في أنّها مدينة لك ّل‬
‫ما انح َّل فيها من لوينات ما رأيت‪ .‬هذا عدا القصائد التي كتبتها لمد ٍن أحببتها‪.‬‬
‫النص‪،‬‬
‫َ‬ ‫وقصائـــده‪ ،‬ولمعرفة مدى فاعليتها في تشـــكيل‬
‫وتحفيز الخيال والمشـــاعر‪ ،‬جمعـــت «القوافي» آراء‬
‫حسن شهاب الدين‪:‬‬ ‫عدد من الشّـــعراء في هذا االســـتطالع‪.‬‬
‫تجربة فريدة لكي يصافح الشعراء األبجدية‬
‫السفر ليس االنتقال من مكان إلى آخر فقط‪ ،‬ولكنه تجربة‬
‫فريدة وخاصة للشعراء‪ ،‬حيث يجد الشاعر نفسه في‬
‫وجود يختلف جذريا ً عن بيئته‪ ،‬حينها يشعر بأن قلبه ال‬
‫عينيه قد صار كاميرا القطة تختزن المشاهد ومشاعر‬
‫الناس‪ ،‬فيقرأ جغرافيا أرواحهم‪ ،‬ويتماهى مع تلك المدينة‬
‫الجديدة‪ ،‬ويخلع عنه رداء المكان المعتاد‪ ،‬ويرتدي هواء‬
‫تلك الدروب‪ ،‬ويحيا وكأنه ولد من جديد‪ .‬وحين يعود ال‬
‫ب ّد أن يحمل معه في حقيبة سفره ذكريات ال تنسى‪ ،‬هي‬
‫زاد قصائده الجديدة؛ هكذا أشعر في كل سفر لي‪ .‬كما أن‬
‫حضور المهرجانات والمحافل الشعرية الكبرى كان دوما ً‬
‫فرصة ثمينة ألصافح جمهور الشعر المحبّ من المحيط‬
‫إلى الخليج‪ ،‬ولرؤية األصدقاء الذين ال نتالقى ّإاّل في عالم‬
‫التواصل‪ ،‬وهذا وحده يجعل من السفر أمراً ممتعاً‪.‬‬

‫‪33‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪32‬‬
‫استطالع‬

‫زرت أماكن مثلت رصيداً‬ ‫يمنحني السفر فرصةً لفهم‬ ‫محاولة لتحريك بوصلة‬
‫إضافيا ً لوعيي ولغتي‬ ‫الكون أكثر‬ ‫الطبيعة نحو الحنين‬
‫ض نَ ْبضا ً‬‫فأ ْق ِطفُ ِمن دُوار األر ِ‬ ‫يمنحني السفر فرصةً ألفهم‬ ‫سيقول بعض الشعراء إنهم‬
‫يُسافِ ُر بِي إلى األبَ ِد الفَ ِ‬
‫سيح‬ ‫الكون أكثر‪ ،‬وأحبّ األرض‬ ‫الماضون إلى المعنى‪ ،‬بل‬
‫ق األعَالِي‬ ‫وحي طائ ٌر قَلِ ُ‬
‫و ُر ِ‬ ‫أوسع قليالً بعد‪ ،‬أحرص على‬ ‫إنهم في سفر تجبرهم عليه‬
‫يح‬
‫ص ِر ِ‬ ‫ت َ‬‫ص ْم ٍ‬ ‫يُؤ ّولُنِي إلى َ‬ ‫الخروج من كل رحلة بقلب‬ ‫رؤيتهم الكونية وخطاهم‬
‫هكذا عبّرت عن هاجس السفر‪ ،‬في‬ ‫مدجّــج بالـذكــريات عــن كل‬ ‫المستمرة نحو أعمق س ّر‬
‫إحدى قصائدي‪ .‬السفر وع ٌد دائم‬ ‫األماكن‪ .‬ال أتذكر أنني خرجت‬ ‫في النفس‪ ،‬واثقون بلغتهم‬
‫بالمزيد من المعرفة‪ ،‬المزيد من‬ ‫من لقاء ساحر بمدينة ما‪ ،‬دون‬ ‫الخاّلقة للكشف عما عجز‬ ‫ّ‬
‫الشغف‪ ،‬المزيد من األوكسجين‬ ‫موالي علي‬ ‫أن أكتبها كما تستحق قصيدة‪،‬‬ ‫سمية دويفي‬ ‫عبد اللطيف بن يوسف عنه الفالسفة والعلماء‬
‫لرئاتنا العطشى باستمرار إلى هواء‬ ‫إذ ال تكون القصائد بعد السفر‬ ‫والنفسانيون؛ سيقول الشعراء‬
‫الحياة‪ ،‬وما تزخر به من ثراء وجودي‪ .‬كل األماكن التي قادني السفر إليها‪ ،‬مثلت‬ ‫بالنسبة لي قصائد عن األماكن والبلدان فحسب‪ ،‬وإنما تكون تخليداً للحال‬ ‫كالما ً عظيما ً عن السفر عبر الزمن عبر األبجدية‪ ،‬ففي الشعر‬
‫رصيداً إضافياً لوعيي ولغتي‪ ،‬ودخلت تفاصيلها في تشكيل ذاكرة الكتابة لدي‪.‬‬ ‫النفسية واإلنسانية التي خرجت بها من بهجة التجربة‪ ،‬ومن معرفة‬ ‫أنت تقفز بين جزر االستعارات فوق لغة متحركة‪ ،‬يس ّمونها قصد‬
‫ولع ّل هذه القيمة األثيرة والمتجددة للسفر‪ ،‬هي ما يفسّر كيف تحول بيت المتنبي الشهير‪:‬‬ ‫األرض ومعرفة اإلنسان‪ ،‬ومن معنى االكتشاف والمغامرة والتعرّف إلى‬ ‫القصيدة‪ ،‬وقد يأتي من سيسميها السفر على غير هدى‪ .‬وتعجبني‬
‫يـــح ت َْحتـــي‬ ‫علـــى قَلَ ٍ‬
‫ـــق كأنَّ ال ّر َ‬ ‫آفاق أخرى للثقافات البشرية المتنوعة‪ .‬وأعتقد أن كل هذه المكتسبات التي‬ ‫رواية أن الشعر ولد أوالً مع حداة العيس في السفر الطويل‪ ،‬كأن‬
‫شـــــــماال‬ ‫أوج ُههــــــا َجنوبـــــا ً أو ِ‬
‫ّ‬ ‫تأتي من السفر بشكل خاص‪ ،‬حاالت عميقة من الوعي بالكون‪ ،‬تقدمها‬ ‫الشعر هو الخطى العكسية للمسافر‪ ،‬نحو المنبع ال المصبّ ‪ ،‬نه ٌر‬
‫ً‬
‫إلى ما يشبه مبدأ يتداوله الشعراء‪ ،‬تعبيرا عن ذواتهم وما ينتابها من‬ ‫لي كل رحلة من زاويتها التي تكون أكثر جماالً في كل مرة‪ ،‬وتنعكس‬ ‫يجري إلى الوراء‪ ،‬ومحاولة مستحيلةٌ لتحريك بوصلة الطبيعة‬
‫توق إلى السفر الفعلي والمجازي‪.‬‬ ‫على اإللهام الشعري وعلى اللغة والصور والرؤى التي تصنع القصيدة‪.‬‬ ‫إلى جهة الحنين‪.‬‬

‫يفصح عن أسرار الشاعر‬ ‫يثري المخزون الثقافي‬ ‫الكتابة في الغربة مشحونة‬


‫ويلتقط مفاتيح غموضه‬ ‫والفكري لدى للشاعر‬ ‫بعاطفة اإلبداع‬
‫السف ُر الذي ال يؤتي ثماره على‬ ‫إ ّن روح الشـــاعـــر مســـافــرة بالفطرة‪،‬‬ ‫منذ طفولتي وأنا أعيش مع شعور‬
‫الروح والذاكرة‪ ،‬مراوحةٌ في‬ ‫وتتجاوز السفر المكاني إلى سفر من نوع‬ ‫كنت أترك‬ ‫السفر ال ُمقلق‪ ..‬فقد ُ‬
‫المكان‪ ،‬وإقامةٌ لم تتقدم خطوةً‬ ‫آخر‪ ،‬وهو السفر عبر الزمن في رحلته‬ ‫الح ّي الذي أسكنهُ متنقالً وأهلي‬
‫ولم تضع أجنحةً للتحليق بالذات‬ ‫ص إلى آخر‪..‬‬‫إلى الخلود من ن ّ‬ ‫إلى محلّة أخرى‪ ،‬ألسباب تتعلق‬
‫والسموّ‪ ،‬بتجرب ٍة تلقي بظاللها لمدى‬ ‫السفر في معناه اللغوي‪ ،‬هو االنكشاف‬ ‫بعمل والدي‪ ،‬األمر الذي جعلني‬
‫زمن ٍّي أبعدَ‪ ،‬ولذاكر ٍة تع ُّج باألصوا ِ‬
‫ت‬ ‫والظهور‪ .‬وقيل قطع المسافة‪.‬‬ ‫آنس بفكرة الرحيل‪ ،‬فهو الرفيق‬
‫ت المتراكمة‪.‬‬ ‫والصور والخبرا ِ‬
‫ِ‬ ‫والشاعر يسافر معنا إلى مدن‬ ‫الدائم في رحلة عمري‪.‬‬
‫أحبُّ السف َر إلى األماك ِن التي‬ ‫د‪ .‬حسن النّجار‬ ‫الخيال والمجاز‪ ،‬ممتطيا ً ظهر‬ ‫شريهان الطيب‬ ‫عدت بعد السفر إلى الوطن‪،‬‬ ‫وقد ُ‬ ‫مؤيد نجرس‬
‫تعلنُ ذاتَها بكل صراحة‪ ،‬وال‬ ‫اللغة‪ ،‬كاشفا ً عن حسّه المرهف‬ ‫والقصائد تنفرط من خافق ّي‪...‬‬
‫تواربُ أبوابَها عن مكنو ِن هُويّتِها‪ ،‬وإلى األماك ِن التي تبتلعُك من ُذ أن تحطَّ‬ ‫وإحساسه المختلف بالعالم واألشياء في رحلة فريدة لسبر أغوار النصّ ‪.‬‬ ‫تارةً حنينا ً إلى وط ٍن ظل يعيش بأرواحنا طيلة ترحالنا‪ ،‬وتارةً أخرى‬
‫رحالَ َك في لحظتِ َك األولى وأنتَ تتن َّش ُق هوا َءها‪ ،‬وتنخرطُ في زحا ِمها كأن َك‬ ‫السفر مصدر إلهام مستمر‪ ،‬وتجديد للعاطفة؛ إذ إن الرتابة ال تصنع الشعر‬ ‫إلى أصدقاء ظلوا خلف أسالك البعد الشائكة‪ ..‬والسفر نحو جليد األماكن‬
‫جز ٌء أصي ٌل من لوحتِها‪ .‬وأساف ُر ألرى العال َم ف ّي أنا‪ ،‬وألرى ذاتي عبر‬ ‫الجيّد‪ ،‬كان ال ب ّد من وجود حركة أو ربكة أو قلق يعيشه الشاعر‪ ،‬ليكتب‬ ‫البعيدة وهوائها البارد الذي يد ّق نوافذ الروح قبل نوافذ الغرفة‪ ،‬قارعا ً‬
‫العالم‪ ،‬وأنا أسير في دروب جديدة عل َّي أكتشفُ من أنا‪ ،‬فالسفر من اسمه‬ ‫شعراً‪ ،‬والسفر يوفّر هذا الجو‪ ،‬بدءاً من لذة االكتشاف‪ ،‬إلى جماليات‬ ‫جرس الذكريات و ُمقلبا ً كرّاس الطفوالت‪ ،‬يصنع داومة قلق تعيش معي‪،‬‬
‫يُسفر عن أسرارنا‪ ،‬وإن الشعر هو بحث وسؤال واكتشاف وكذلك السفر‪.‬‬ ‫المكان والزمان واآلخر والتفاعل المستمر بينهما‪.‬‬ ‫وهذا يبدو واضحا ً على سطوري وكتاباتي؛ فالكتابة بعد تجربة السفر تأتي‬
‫وللسفر عندي مقاصد عدة‪ ،‬منها النظر في جمال الطبيعة‪ ،‬ومصافحة‬ ‫وللسفر فوائد عظيمة تعود على النفس البشرية وعلى الشاعر‪ ،‬منها‬ ‫للكاتب وهي مشحونة بعاطفة غزيرة‪ ..‬التطفئها أمطار الشتاء وال يُس ّكنها‬
‫اإلنسان في حدود وجوده‪ ،‬ومنها إشعال نار الشعر إذ ننفخ عليها‬ ‫التمازج واالنصهار في ثقافات جديدة‪ ،‬واكتساب المعارف والعلوم‪،‬‬ ‫البرد القارس؛ إذ تنضج فكرة الكتابة ساخنةً وهي تُطهى على أعصاب‬
‫ت شاسعةً للركض في هذي‬ ‫بمراوح السفر لنؤجّجها‪ ،‬فتضيء لنا مساحا ٍ‬ ‫وتوسعة المخزون الثقافي والفكري للشاعر‪ ،‬لذا أجد ج ّو المهرجانات‬ ‫الذكريات وعبق األرض األم‪ ،‬لذا فإنني بكل األحول أجد أن السفر محفز‬
‫سفر جديد‪.‬‬‫المروج الممتدة خلف قصائد ستقترب منّا كلّما أوغلنا في ٍ‬ ‫الشعرية يق ّدم الكثير إلثراء المشهد وخدمة األدب وإحياء القصيدة‪.‬‬ ‫مهم للكتابة ألنه المحك الحقيقي لتجربة الشاعر‪.‬‬

‫‪35‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪34‬‬
‫مدن القصيدة‬

‫إن كان لنهر العاصي‬


‫مكانة الشريان فيها‪،‬‬
‫فـــإن لها في ســـوريا‬
‫مكانـــة القلـــب‪ ،‬فهي‬
‫ســـواء مـــن حيـــث‬
‫الموقـــع أو الوظيفية‬
‫جغرافيّـــا ً واقتصاديّا ً‬
‫إباء الخطيب‬
‫سوريا‬ ‫وزراعيّـــا ً تتوســـط‬
‫البالد وتنبـــض فيها‪.‬‬
‫إنهـــا ِح ْمـــص أكبـــر المحافظات الســـورية‬
‫مســـاحةً‪ ،‬وثالثتهـــا تعداداً ســـكانيّاً‪.‬‬

‫نضرة من يزورها تسكنه‬


‫مدينة ِ‬
‫قبل أن يسكنها‬

‫ضرة من يزورها تسكنه قبل أن يسكنها؛ كيف ال وهي التي أحبّها‬ ‫مدينة ن ِ‬
‫المتنبّي وتغنّى بها‪ ،‬على الرغم من سجنه فيها لمدة عامين‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أَو ِه بَديــــــ ٌل ِمـــــــن قَولَتـــــــي واهـــا ً‬
‫لِ َمــــــنْ نَــــــأَتْ والبَديـــــــ ُل ِذ ْكراهـــا‬
‫ـــــــب ِح ْمصـــــــا ً إِلـــى ُخ ِ‬
‫ناصــــــ َر ٍة‬ ‫ُّ‬ ‫أُ ِح‬
‫ــــــــب َم ْحياهـــا‬
‫ُّ‬ ‫و ُكـــــــ ُّل نَ ْفـــــــ ٍ‬
‫س ت ُِح‬

‫ولكونها جوهرة المنطقة الوسطى فقد ُخلق فيها مسار ثقافي نقي‪ ،‬تأثر‬
‫بالتاريخ العريق لهذه المدينة‪ ،‬وأثر في محيطها الثقافي أيضاً‪ ،‬بل أسهم في‬
‫تشكيل الحركات األدبية المحيطة واألكثر بعداً‪ ،‬فمنها خرج شعراء كثر‪ ،‬وبها‬
‫تغنّى كثير منهم‪ ،‬حتى وصل الحال ببعضهم لع ّدها مركزاً أدبيا ً فاعالً‪ ،‬وهنا‬
‫شاعر يستحق أن يكون شاعراً‬ ‫ٍ‬ ‫يقول الشاعر اللبناني جوزيف حرب‪« :‬ما من‬
‫ما لم تعترف به ِح ْمص»‪.‬‬
‫تمنح زوارهــا الطمأنينة وتمتعهم بجمال الطبيعة‬
‫وبقراءة التاريخ سنجد أن أقدم األسماء المعروفة ل ِح ْمص هو «إيميسيا»‬
‫الذي يعتقد أنه مشتق من قبيلة «إيمساني» التي حكمت ِح ْمص قرونا ً ع ّدة‪،‬‬
‫من القرن األول قبل الميالد وحتى القرن الثالث‪.‬‬
‫ِح ْمص‪..‬‬
‫واستقر أغلب الباحثين على أن «إيمسيا» قد اختصرها العرب إلى‬
‫«إيمس» أو ِح ْمص‪ ،‬بعد الفتح اإلسالمي لبالد الشام‪ .‬كما قيل إن لفظ اسم‬ ‫أحبّهــا المتنبّي وتعلّق بها ديك الجن‬
‫ِح ْمص آرامي‪ ،‬ومعناه األرض الليّنة‪ ،‬وس ّميت بذلك لوقوعها في السهل‪.‬‬

‫‪37‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪36‬‬
‫مدن القصيدة‬

‫ٌ‬
‫ــــــــــث‬ ‫بيـــــــب فمــــــــاتَ لَ ْي‬
‫ٌ‬ ‫مـــاتَ َح‬
‫وبـــــــاخ نَ ْجــــ ُم‬
‫َ‬ ‫وغـــــــاض بَ ْحـــــــ ٌر‬
‫َ‬ ‫الشعراء تغنّوا بها‬
‫ســـمتْ عُيـــــــونُ الـــــــ ّردى إلَ ْيــــــــ ِه‬ ‫َ‬ ‫وعدوها مركزاً أدبيا ً فاعالً‬
‫ســــــمو‬ ‫ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫مـــــــا‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫ك‬
‫َ ُ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫إلـــى‬ ‫وهـــــي‬
‫ت ال َمنـــايـــــــا‬ ‫اجتــاحــــــ ِ‬
‫مـــا أ ُّمــــــ َك ْ‬
‫ُكــــــــــ ُّل فـــــــــــــؤا ٍد عليـــــــــــ َك أُ ُّم‬
‫تاريخياً‪ ،‬تعاقبت على ِح ْمص الكثير من الحضارات‪ ،‬مثل اآلرامية‬
‫اشتُهر في ِح ْمص‪ ،‬ثلّة من الشعراء الذين أرسلتهم إلى المهجر‪ ،‬ومنهم‬ ‫واإلغريقية والرومانية والفارسية واإلسالمية‪ .‬وبقيت تحت سيطرة الرومان‬
‫حسني غراب الذي قال عنه عمر أبو ريشة «أصفى شعراء المهجر»‪.‬‬ ‫فترة طويلة‪ ،‬حتى دخلها المسلمون في عام ‪ 636‬م بقيادة الصحابي الجليل‬
‫ولد غراب في ِح ْمص ‪1899‬م‪ ،‬وهاجر إلى البرازيل ‪1920‬م‪ ،‬وكان‬ ‫نصر سمعان‬ ‫عبد السالم عيون السود‬ ‫خالد بن الوليد‪ ،‬وس ّميت باسمه فمن يذكر ِح ْمص‪ ،‬ال ب ّد أن يذكر أنها مدينة ابن‬
‫يصدر شعره في مجلة «العصبة األندلسية» في البرازيل؛ قال في ِح ْمص‪:‬‬ ‫الوليد‪ ،‬وهي التي احتضنت ضريحه بعد أن توفّي فيها سنة ‪ 641‬م‪.‬‬
‫ق علــــى‬ ‫ص لنا َد ْمـــ ٌع يُرا ُ‬ ‫أبَ ْعـــ َد ِح ْمـــ ٍ‬ ‫وفضالً عن تاريخها العريق‪ ،‬اشتهرت بأعالمها الذين خلّدهم التاريخ‪،‬‬
‫ث َهلَـــ ُع‬
‫َمنـــاز َل أ ْم بِنـــا ِمـــنْ حـــــاد ٍ‬ ‫عرف شعره بالجزالة ومتانة السبك وقوة اللفظ‪ ،‬وعرف عنه أنه لم يكن‬ ‫لما لهم من أثر عظيم‪ ،‬كالبابا انكيتوس الذي كان بابا روما‪ ،‬واإلمبراطورة‬
‫دا ٌر نَ ِحـــنُّ إلَ ْيهــــا ُكلَّمـــا ُذ ِكــــــــــــ َرتْ‬ ‫شاعر بالط قطّ؛ وهو القائل‪:‬‬ ‫الجن ال ِح ْمصي الذي ُع ّدت‬
‫الرومانيّة جوليا دومنا‪ ،‬والشاعر العباسي ديك ّ‬
‫كأنَّمـــا هـــي ِمـــنْ أ ْكبــــا ِدنا قِطَـــــ ُع‬ ‫ص ِمنْ شـــأني وال طلَبي‬ ‫شـــ ّدةُ ِ‬
‫الح ْر ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫حياته أسطورة بمعنى الكلمة‪ ،‬وقد ارتبط بشكل كبير اسم حمص مدينة الشعر‬
‫صبـــــا نأســـى لِفُ ْرقَتِــــ ِه‬ ‫ـــب لل ِّ‬‫و َم ْل َع ٌ‬ ‫ـــب ِمـــنْ َه ّمـــي وال أ َربـــي‬‫كاس ُ‬ ‫وال ال َم ِ‬ ‫والشعراء باسمه‪ ،‬لما ذاع له من صيت وصل إلى معظم بالد المشرق واسمه‬
‫ع‬ ‫ســـوا ِد ال َعـــــ ْي ِن ُمنتـــز ُ‬ ‫كأنَّـــهُ ِمـــنْ َ‬ ‫نوائـــــب نابَ ْتنــــــي وحا ِدثـــــــةٌ‬
‫ُ‬ ‫لكـــنْ‬ ‫الجن‪ ،‬بسبب‬‫عبد السالم بن رغبان‪ ،‬المولود سنة ‪ 161‬هجرية‪ ،‬لقب بديك ّ‬
‫ث والنُّـــ َو ِ‬
‫ب‬ ‫ق باألحـــدا ِ‬ ‫وال َّدهْـــ ُر يطـــ ُر ُ‬ ‫لون عينيه األخضر‪ ،‬وقد كان بيته مقصداً لكبار شعراء عصره‪ ،‬إذ قال عنه‬
‫ولَ ْيـــس يَ ْعـــ ِرفُ لـــي قَـــدْري وال أدَبي‬ ‫الجن واإلنس»‪ .‬كذلك كان أبو ت ّمام أحد‬ ‫الشاعر دعبل الخزاعي‪« :‬إنه أشعر ّ‬
‫ب‬‫ّإاّل ا ْمـــــــر ٌؤ كــــــان ذا قَـــ ْد ٍر وذا أ َد ِ‬ ‫تالمذته‪ ،‬وجاءه البُحتُريّ‪ ،‬ليتتلمذ عليه‪ ،‬كما ورد في « َوفَيات األ ْعيان» البن‬
‫اشتهرت بأعالمها‬ ‫خلّكان‪ ،‬ووصفه ابن رشيق القيرواني‪ ،‬بأنه من المعدودين في إجادة الرثاء‪،‬‬
‫الذين خلّدهم التاريخ‬ ‫توفي ديك الجنِّ مهموما ً نادماً‪ ،‬سنة ‪ 236‬هجرية‪ ،‬فرثاه أبو ت ّمام‬ ‫وهو أشهر فيه من أبي ت ّمام‪ ،‬وله فيه طريقة انفرد بها‪ ،‬وقصده أيضا ً أبو‬
‫بقصيدته المعروفة‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫نواس ليقول له‪« :‬فتن أهل العراق بشعرك»‪.‬‬

‫ومن أبرز شعراء العصبة األندلسية في البرازيل ال ِح ْمصيين‪،‬‬


‫نصر سمعان‪ ،‬ابن قرية القصير الذي ثقّف نفسه‪ ،‬واتّسم بوالئه للعروبة‬
‫وتغنيه بأمجادها‪.‬‬
‫أما الشاعر ميشيل مغربي ‪1901‬م ‪1977 -‬م‪ ،‬فيع ّد من مؤسسي‬
‫«العصبة األندلسية»‪ ،‬وله ديوانان مطبوعان‪ ،‬وقد قال هائما ً عندما التقى‬
‫حمص بعد فرقة ثالثين عاماً‪:‬‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫الحبيبـــة َم ْرحبا ً‬ ‫ـــص َ‬ ‫ُ‬ ‫ـــص يـــا ِح ْم‬
‫ُ‬ ‫ِح ْم‬
‫يــــــــــال‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫بِنَســـــي ِم ِك ال ُمتَ َعطـــــــــ ِر األذ‬
‫ْ‬
‫باألزهـــا ِر بالــــ‬ ‫ـــــك ال َغنّـــا ِء‪،‬‬
‫برياض ِ‬‫ِ‬
‫ـــــــــــال‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ـــــأثما ِر باألشْــــــــجا ِر باألظ‬
‫ت بِعاقِـــ ٍر‬‫ســـ ِ‬ ‫أنْ تُ ْن ِجبـــي الشُّـــ َعرا َء لَ ْ‬
‫طـــال‬
‫ِ‬ ‫ِمـــنْ خالـــدي الشُّـــــــهدا ِء واأل ْب‬

‫نسيب عريضة (‪1887‬م ‪1946 -‬م)‪ ،‬شاع ٌر وقاصٌّ حمصي‪،‬‬


‫مخطوط كتب العمدة البن رشيق القيرواني‬
‫هاجر إلى الواليات المتحدة‪ ،‬عام ‪1905‬م‪ ،‬وهناك أسس مطبعة وأصدر‬

‫‪39‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪38‬‬
‫مدن القصيدة‬

‫من شعراء ِح ْمص ممدوح السكاف‪ ،‬ووصفي قرنفلي‪ ،‬الملقب «شاعر‬ ‫وفؤادك‪ ،‬فحين زارها عام (‪1956‬م) الشاعر محمد مهدي الجواهري (‪1898‬م‬ ‫مجلة «الفنون» عام ‪1912‬م‪ .‬كان أحد مؤسسي «الرابطة القلمية» في‬
‫حمص»‪ ،‬وعمر الفرّا الملقب «شاعر البداوة الحمصي» وقد اشتُهرت له‬ ‫‪1997 -‬م) أقام فيها يومين‪ ،‬فما كان منه ّإاّل أن تغنى بسحرها وأهلها‪:‬‬ ‫نيويورك عام ‪1920‬م‪ ،‬وقد ضمت هذه الرابطة كثيراً من أدباء المهجر‬
‫قصيدة «قصّة َح ْمدة»‪ .‬ونذكر من إبداعات القرنفلي قوله‪:‬‬ ‫ـــص يَ ْج َمـــ ُع لُ ْطفـــا ً‬
‫َ‬ ‫يـــا شَـــبابا ً بِ ِح ْم‬ ‫في أمريكا الشمالية‪ ،‬له ديوان «األرواح الحائرة»‪ ،‬وقد توفي عريضة‬
‫يـــو َم تقـــو ُل‪ُ :‬ك ُّل َجوارحي‬
‫ْ‬ ‫ســـ ْمرا ُء‪،‬‬
‫َ‬ ‫ِمـــنْ ورو ٍد وقـــــــ ّوةً ِمـــنْ أُســـــــو ِد‬ ‫قبل صدوره بأربعة أيام‪.‬‬
‫ســـ َم ُر‬ ‫ُ‬
‫ديـــث األ ْ‬ ‫َخـــ َد ٌر‪ ،‬يُدغد ُغـــه َ‬
‫الح‬ ‫هَكـــــــذا ِم ْثــــ ُل لَ ْونِ ُكـــ ْم فـــي ال َمنايـــا‬ ‫يقول فيها‪:‬‬
‫ال‪ ،‬ال تَســـــ ْلني‪ ،‬مـــا تَقـــو ُل‪ ،‬وإنّمـــا‬
‫الجدو ِد‬
‫ـــونُ ُ‬ ‫واألمــــانــــــي كــــــانَ لَ ْ‬ ‫َن ال َوطَنْ‬
‫يا َد ْه ُر قَ ْد طا َل البُعا ُد ع ِ‬
‫هَكــــــذا ِم ْثلُ ُكــــــ ْم بَنـــى ال َم ْجـــ َد فـــي‬ ‫ُرجى وقَ ْد فات الظَّ َعنْ‬
‫َه ْل ع َْودةٌ ت ْ‬
‫ســـ ْل َك ْيـــف‪ ،‬أنّـــي ال أ ِعي‪ ،‬بـــل أ ْنظُ ُر‬
‫َ‬
‫ب خال ُد بـــنُ الولي ِد‬ ‫ـــر ِ‬
‫الح ْ‬‫ســـ ْل ِم وفي َ‬ ‫ال ّ‬ ‫ش َو ال َكفَنْ‬‫ص ولَ ْو َح ْ‬
‫ـــب الشِّـــ ْعر‪ ،‬فِ ْتنَةُ نُ ْطقِها‬
‫س ُ‬ ‫وح ْ‬
‫سبي‪َ ،‬‬
‫َح ْ‬ ‫ُع ْد بي إلى ِح ْم ٍ‬
‫ـــونُ عَدنـــا‬ ‫هكــــــذا ِم ْثـــ ُل لَ ْونِ ُكـــ ْم لَ ْ‬
‫َـــهي نَ ْك َهتِـــــــه‪َ ،‬غــــــداةَ تُثَ ْرثِـــ ُر‬ ‫وش‬ ‫وا ْهتِف أتَ ْيتُ بعاثِ ٍر َم ْردو ِد‬
‫ُّ‬ ‫ـــــــــونُ ُكـــــــ ِّل شَهي ِد‬
‫ْ‬ ‫نَ شَــــــــهي ٌد ولَ‬
‫ضريحي ِمنْ ِحجا ٍر سو ِد‬ ‫واج َع ْل َ‬
‫ْ‬
‫أريــــــــج الـــ ُورو ِد‬
‫ِ‬ ‫ســـــــــا ٌم علـــى‬ ‫و َ‬
‫واّلدة لل ّشعراء والمبدعين‪ ،‬ونذكر على‬ ‫ص ّ‬ ‫وإلى اليوم ال تزال ِح ْم َ‬ ‫الرعـــو ِد‬‫َزيــــــــج ُّ‬
‫ِ‬ ‫ســــــا ٌم علـــى ه‬ ‫و َ‬
‫سبيل المثال ال الحصر الشاعر عبد القادر الحصني‪ ،‬والشاعر حسن‬
‫بعيتي‪ ،‬وغيرهما الكثير من الشعراء والشاعرات‪ ..‬ومما تجلّى به‬ ‫كما برز فيها اسم الشاعر عبد السالم عيون السود‪ ،‬المق ّل في شعره‬ ‫من شعرائها المعروفين‬
‫«بعيتي» قوله‪:‬‬ ‫والباذخ بعذوبته‪ ،‬حيث قال في إحدى قصائده‪:‬‬
‫عبد الباسط الصوفي‬
‫وح َخلَ ْعــــــتُ اآلنَ ِظلّـــي‬‫الـــر ُ‬
‫ُّ‬ ‫شَـــفَّ ِ‬
‫ت‬ ‫أيْـــنَ أنـــا يـــا لَ ْيـــ ُل‪َ ..‬مـــنْ يَ ْعلَــــــ ُم‬
‫ط ْفـــتُ ال َو ْحـــ َي عَـــنْ طُـــو ِر الت ََّجلّي‬
‫وقَ َ‬ ‫لَقَـــــــ ْد َكوانـــــــي ُج ْن ُحـــــــ َك ال ُم ْظلِـــ ُم‬
‫باحثـــا ً مـــا ِز ْلـــتُ عَـــنْ نـــا ِر هُـــد ً‬
‫ى‬ ‫األرض وغـــا َم الفَضـــا‬ ‫ُ‬ ‫ضلّـــــتْ بـــي‬ ‫َ‬
‫أصطَليهـــا ِم ْثلَمـــا عاهَـــــــدْتُ أه ْ‬
‫ْلـــي‬ ‫ْ‬ ‫األضـــــــــوا ُء واأل ْن ُجـــــ ُم‬
‫ْ‬ ‫ت‬
‫وغــــــــار ِ‬ ‫ومن شعراء ِح ْمص المعروفين أيضا ً عبد الباسط الصوفي الذي‬
‫َهتَـــــــفَ الشِّـــــــ ْع ُر وقَــــــ ْد أع َْج ْزتُـــهُ‬ ‫أيْــــــنَ أنـــا يـــا لَ ْيــــــ ُل‪ ..‬أيْـــنَ الّتـــي‬ ‫ولد سنة ‪1931‬م‪ ،‬كان مدرسا ً للغة العربية‪ ،‬أُوفد في بعثة إلى «غينيا»‬
‫َعلَّـــــ َك اآلنَ تَرانــــــي قُ ْلـــتُ عَلـّـــي‬ ‫ـــف فـــي َغ ْفوتـــي‬ ‫َمـــ َّرتْ ُمـــرور الطَّ ْي ِ‬ ‫لتدريس العربية‪ ،‬وهناك مات سنة ‪1960‬م‪ ،‬وبعد ذلك أُصدر له ديوان‬
‫صـــدى‬ ‫ق ومـــا ِمــــــنْ َ‬ ‫َغيّبهـــا األُ ْفـــ ُ‬ ‫«أبيات ريفية» في بيروت‪.‬‬
‫تتميز ِح ْمص باتساع ريفها‪ ،‬وكثرة بساتينها‪ ،‬حيث نجد أغلب قراها‬ ‫ــــــع ِمـــنْ ُم ْقلَتـــي‬
‫ِ‬ ‫ّإاّل ا ْنحــــــدا ُر ال َّد ْم‬ ‫حمص مدينة حميمة تم ّر بها فتمنحك الهناء والطمأنينة تمتّع ناظريك‬
‫مصايف رائعة‪ ،‬تتكلّل بالخضرة وتزدان برونق الطبيعة‪ ،‬وقد قال في وصف‬
‫ذلك شاعرها نصر سمعان‪:‬‬
‫تِـــــــــ ْل َك َ‬
‫الخمائـــ ُل َجــــــنّاتٌ ُمنَـــ َّو َرةٌ‬
‫ــــــاق‬
‫ِ‬ ‫ب َعبّ‬ ‫بِ ُك ِّل َزهْـــــ ٍر َز ِك ِّي ال َ‬
‫طيـــــــ ِ‬
‫والطَّـــــــــــ ْي ُر ما بَيْنَ تَ ْغريــ ٍد و َز ْق َزقـَـ ٍة‬
‫ــراق‬
‫ِ‬ ‫والمـــــــا ُء ما بَيْنَ فَــــــ ّوا ٍر و َرقـْ‬
‫صــــــــون َحــفيفٌ حــــا َر سا ِم ُعــهُ‬
‫ِ‬ ‫ولِ ْل ُغ‬
‫ّـــاق‬
‫ـــــس ُعش ِ‬‫ُ‬ ‫ق أوراقِهـــا أ ْم َه ْم‬ ‫أخ ْفـــ ُ‬
‫َ‬

‫ص‪ ،‬فقد وردت في كثير من‬ ‫وقد تختلط على العابر أدبيا ً تسمية ِح ْم َ‬
‫قصائد شعراء العصر األندلسي‪ ،‬فهي في تلك السطور مدينة إشبيلية الحالية‬
‫التي كان يطلق عليها ِح ْمص في ذلك العصر‪.‬‬
‫وأخيراً‪ ،‬كما تتوسّط ِح ْمص جغرافيا البالد‪ ،‬فإنها تتوسّط‬
‫الحركة األدبية عبر العصور أيضاً‪ ،‬وإن كان هذا التوسّط أو‬
‫الصوت قد ارتفع منذ العصر العباسي وما بعد فإنه جاء مؤثراً‬
‫تأثيراً حيويا ً ومتج ّدداً‪.‬‬ ‫جامع خالد بن الوليد‬

‫‪41‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪40‬‬
‫شعر‬

‫ألنّي ُغ ْربة‬ ‫قبضةٌ من جبال النور‬


‫لشمســـك قَـــ ْد أتَ ْيتُ‬
‫ِ‬ ‫بال ِظـــ ٍّل‬ ‫ويديـــــك بيـــتُ‬
‫ِ‬ ‫غربـــةٌ‪،‬‬
‫ألنّـــي ُ‬ ‫َ‬
‫قـــال ِقفا‬ ‫األطالل‬
‫ِ‬ ‫شـــوق ولَ ْي َ‬
‫س إلـــى‬ ‫ٌ‬ ‫ـــت َو ْصفـــاً ل ُه ِمنْ َح ْي ُثمـــا ا َّت َصفا‬
‫حاو ْل ُ‬
‫َ‬
‫وبـــك ارتَ َم ْيتُ‬
‫ِ‬ ‫وعُـــدْتُ كبذر ٍة‪،‬‬ ‫َم َحـــوتُ حقيقـــةَ ال َّ‬
‫صبَّـــا ِر عنّي‬ ‫هـــور ال ُع ْم ِر مـــا ا ْن َق َطفا‬
‫ِ‬ ‫َو َه ْب ُتـــ ُه ِمنْ ُز‬ ‫طاعـــنٌ حـــ ِذ ٌق‬
‫وشـــ ْع ٌر ِ‬
‫أنـــا وطينـــي ِ‬
‫دمائي فارت ََو ْيتُ‬
‫ْ‬ ‫ســـقطتُ على‬ ‫أنا ال َم ْقطو ُ‬
‫ع ِمن ش ََجــ ِر ال َعطاشَى‬ ‫أويـــل ُم ْر َت ِجفا‬
‫ِ‬ ‫ولَـــ ْم أ ُكـــنْ قب ُل فـــي ال ّت‬ ‫أويـــل ُم ْر َت ِجفاً‬
‫ِ‬ ‫ـــر ُت في ال ّت‬
‫وكانَ أنْ ِس ْ‬
‫ـــك ِمنْ َخ ْي ِط ال ّرؤى َط َرفا‬
‫وس ْو َف ُت ْم ِس ُ‬
‫َ‬ ‫تقـــو ُل لـــي لُ َغتي‪ :‬فـــاآلنَ َصـــ ِّل َمعي‬
‫وحين لَ َم ْ‬
‫ســـتِني يومـــا ً َج َر ْيتُ‬ ‫َ‬ ‫وقبلـــك ُك ْنـــتُ نَ ْهراً فـــي ُركو ٍد‬
‫ِ‬
‫والص ُحفا‬
‫ُّ‬ ‫ـــي‬ ‫و ُت ْف ُ‬
‫ـــرغ ال ّنو َر فـــي َج ْن َب َّ‬ ‫اإليمـــان َت ْب َع ُثنـــي‬
‫ِ‬ ‫َت َض ُّمنـــي « َم ّك ُ‬
‫ـــة»‬
‫ثر ِمـــنْ عُيوني قَـــ ْد بَ َك ْيتُ‬
‫وأ ْك َ‬ ‫إليك أ ْب َع َد ِمـــنْ طريقي‬
‫ِ‬ ‫َمشَـــ ْيتُ‬
‫سليمان اإلبراهيم‬ ‫ـــت وا ْل َت َحفـــا‬
‫«بإذ ِخ ِرها» فنـــا َم فيـــ ِه َحمـــا ُم ال َب ْي ِ‬ ‫أضالعـــي ْ‬ ‫رت ْ‬ ‫و ُك ْن ُ‬
‫ـــت َب ّخ ُ‬ ‫عبد العزيز األزوري‬
‫سوريا‬ ‫كما ال َّزيتـــونُ ْ‬
‫إذ َم ْعنـــاهُ َز ْيتُ‬ ‫ـــب أنْ نَ ْبكـــي كثيراً‬ ‫فَ َم ْعنـــى ُ‬
‫الح ِّ‬ ‫ـــو ِن َح َّف ْتهـــا َمالئ َك ٌ‬
‫ـــة َ‏ف َحـــد َّق الد َّْهـــ ُر فيهـــا َقـــ ْد َر مـــا َث ِقفا‬ ‫وح إلـــى ال َك ْ‬
‫ُر ٌ‬
‫السعودية‬

‫احتَ َم ْيتُ‬
‫بالقـــاع ْ‬
‫ِ‬ ‫آن‬
‫ط ِ‬‫ِم َن الشُّـــ ْ‬ ‫غـــريقــــــا ً‬ ‫أُ ِحبُّ ِ‬
‫ـــك‪ ،‬فَ ْلتَقولينـــي َ‬
‫ـــو أنَّ ال َمدى ا ْن َك َشـــفا‬ ‫ُ‬
‫الحقيقة لَ ْ‬ ‫هـــي‬ ‫َكـــ ْم صور ٍة َي ْن َتشـــي فيهـــا ال َمجا ُز ُهنا‬
‫َ‬
‫الختَفَ ْيتُ‬
‫لـــك ْ‬
‫ِ‬ ‫ـــم‬
‫َس ْ‬ ‫ـــو لَ ْم أ ْبت ِ‬
‫ولَ ْ‬ ‫وأنَّ َمالمحـــي آثــــــا ُر َو ْجــــــ ٍه‬ ‫ِســـد ٍْر‪ ..‬و ُت ْط ِعـــ ُم ِمـــنْ َح ّباتـــ ِه ُ‬
‫الح َنفا‬ ‫ور» َتهْ ِب ُط عَ نْ‬
‫«جبال ال ّن ِ‬
‫ِ‬ ‫شاه ْد ُتها ِمنْ‬
‫َ‬
‫ه َو ْيتُ‬
‫أراك لِـــذا َ‬
‫ِ‬ ‫علَ ْيـــ ِه لِكـــي‬
‫َ‬ ‫َخيالي ال َه ُّ‬
‫ش يَ ْع ِج ُز عَـنْ ُ‬
‫صعودي‬ ‫ز ّمـــاً‪ ..‬فمـــا َج َّ‬
‫ـــف َم ْعنـــا ُه وال َن ِشـــفا‬ ‫المـــــاء آي َتـــ ُه‬
‫ُ‬ ‫شـــــاء َز َّم‬
‫َ‬ ‫و َك ْي َفمـــــا‬
‫كالســـ ِّر ُمختبئاً فـــي َو ْج ِه َمـــنْ عَ َرفا‬
‫ِّ‬ ‫نة‬‫طاع ً‬
‫اإليمـــان ِ‬ ‫وهـــي فـــي‬‫كأ َّنهـــا ْ‬
‫َمخافَـــةَ أنْ أضي َع إذا َمشَـــ ْيتُ‬ ‫َمشَـــ ْيتُ ‪ ،‬ت ََر ْكتُ َخ ْلفي ُخ ْب َز قَ ْلبي‬ ‫ِ‬
‫الو ْق ِ‬
‫ـــت وا ْن َص َرفا‬ ‫إ ْكســـير ُه في أعالي َ‬ ‫َيقي ُنهـــا أنَّ «إبراهيـــ َم» َص َّ‬
‫ـــب لهـــا‬
‫وهـــا أنا َد ْمعـــةٌ ولَ ِ‬
‫ـــك ا ْنتَ َم ْيتُ‬ ‫ُيـــون أ ّمي‬
‫َ‬ ‫ـــك تُش‬
‫ْـــبهين ع‬
‫َ‬ ‫رأ ْيتُ ِ‬
‫و َت ْمـــ ُر ُه فـــي َي َد ْيهـــا َب ْعـــ ُد ما ُق ِشـــفا‬ ‫س ِب َج ّن ِتهـــا‬ ‫ــــــرد َْو ٌ‬
‫«أحمـــدَ» ِف ْ‬‫ْ‬ ‫وأنَّ‬
‫َز َرعْ تُ ســـيوفَهُ‪ ،‬و َدمي َجنَ ْيتُ‬ ‫شـــ ْع ٍر‬ ‫ّ‬
‫فــــــا َح ِ‬ ‫أُ ِحبّ ِ‬
‫ـــك هكـــذا‪،‬‬
‫ـــراء فا ْن َك َشـــفا‬
‫ُ‬ ‫َشـــ ّع ْت ب ِه لُ ٌ‬
‫غـــة َخ ْض‬ ‫ض َن ً‬
‫دى‬ ‫حاء َم ْح ُ‬ ‫وص ْو ُت ِج ْب َ‬
‫ريل في األ ْن ِ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫هد َّْمـــتُ نَ ْفســـي ْ‬
‫إذ بَنَ ْيتُ‬ ‫وقَـــ ْد َ‬ ‫ألعيـــش فيها‬
‫َ‬ ‫بَنَ ْيـــتُ قصائـــداً‬
‫ـــوال أحالَ ْت لهـــا طينَ الـــ ّرؤى َخ َزفا‬ ‫لَ ْ‬ ‫األرض باهِ ٌ‬
‫تة‬ ‫ِ‬ ‫ـــزاء ســـير ُة َهـــذي‬
‫ُ‬ ‫عَ ْج‬
‫عنَ ْيتُ‬
‫أكـــون أنـــا َ‬
‫َ‬ ‫ولَكـــنْ أنْ‬ ‫أحبّ ِك‪ ،‬لَ ْ‬
‫ســـتُ أعْنـــي أنْ تكوني‬ ‫واّل ِك وازدلفـــــا‬ ‫ّ‬
‫حـــظ مـــن ّ‬ ‫ٌ‬
‫هـــات فيا‬ ‫اال ّتجاهـــات مثـــ ُل األُ ْحجيـــات‪َ :‬متـــا‬
‫ِمنْ ِض ّفـــ ِة ال َع ْر ِ‬
‫ش إيناســـاً لِ َمنْ َو َجفا‬ ‫َف‬
‫عوث فـــي َصد ٍ‬‫وأ ّنـــك اللؤلـــ ُؤ ال َم ْب ُ‬
‫لَـــنْ َت ْفهموا ال َب ْح َر َح ّتى َت ْفهَ موا َّ‬
‫الصدَفا‬ ‫الض َفـــ ِة ْ‬
‫األخرى تقـــو ُل لنا‪:‬‬ ‫َف ِح ْك ُ‬
‫مـــة ِّ‬

‫‪43‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪42‬‬
‫شعر‬

‫َعباءةُ أمي‬ ‫كس ُر الور ِد‬


‫َك ْيـــا يضيـــ َع دعـــا ُء اآل ِه فـــي َكفّي‬ ‫ح زخرفْ سورةَ َ‬ ‫يا َم ْطل َع ُ‬ ‫راحي‬ ‫مت َص ُ‬
‫وت ِج ِ‬ ‫الص ِ‬
‫وبالغتي في َّ‬ ‫صاح‬ ‫يق بغايـــ ِة ْ‬
‫صمتـــي الع ِم ُ‬
‫ف‬‫الح ْر ِ‬ ‫الج ْر ِ‬ ‫اإلف ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫ص ِ‬ ‫خـــارج ال َو ْ‬
‫َ‬ ‫يقو ُل‪ :‬لَ ْيـــاي لَ ْيلى‬ ‫ى‬
‫وكنْ كما أنتَ في وج ِه اليقي ِن ســـد ً‬ ‫ياحي‬
‫وفمي َم َجا ِديفـــي‪ِ ..‬ب َو ْجـــ ِه ِر ِ‬ ‫ذلك َز ْورقي‬ ‫َو ْجهي أمـــا َم ال ِّريح‪َ ..‬‬
‫ِ‬
‫ف‬‫يريدُنـــي وردةً تســـعى إلـــى القَ ْط ِ‬ ‫وقلـــب فتـــ ًى‬
‫ُ‬ ‫ح‬ ‫بهـــا ا ْنحنـــاءةُ ّ‬
‫فـــا ٍ‬ ‫موجـــ ُه أَ ْشـــ ِف ْق علـــى ال َم َّاَّل ِح‬
‫يـــا َ‬ ‫وق في ُطوفا ِن ِه‬ ‫راف َّ‬
‫الش ِ‬ ‫دمعي اق ِت ُ‬
‫ف‬‫ـــو ِ‬
‫الخ ْ‬ ‫للحلـــم َّأذنَنـــي فـــي باحـــ ِة َ‬
‫ِ‬ ‫و ُم ْذ رأ ْيـــتُ هواها البِ ْكر‪ ..‬صوتُ دمي‬
‫بص َباحي‬ ‫دت عُ صفـــور ٌة َ‬ ‫مـــا غـــ َّر ْ‬ ‫عام مضى‬ ‫اك ِمـــنْ‬ ‫ل ْم ْأفتح ُّ‬
‫الشـــ َّب َ‬
‫درب البـــكا ِء فتاهـــتْ دمعـــةُ ال َع ْز ِ‬
‫ف‬ ‫ُ‬ ‫وامتـــ َّد لَ ْحـــنٌ ُمســـنٌّ وانتشـــى لهفا ً‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫َع ْينٌ وشـــينٌ وقافٌ ‪ :‬حكمـــةُ ال َّ‬
‫ض ْع ِ‬ ‫قـــافٌ وال ٌم وبـــــا ٌء‪ :‬أغنيـــاتُ َدمـــي‬ ‫اح‬
‫األبـــواب لألشـــ َب ِ‬
‫َ‬ ‫أفتـــح‬
‫َ‬ ‫لـــنْ‬ ‫البـــاب يط ُر ُق ِنـــي ود َْمعـــي ذاهِ ٌل‬
‫ُ‬
‫صفُ أُ ْف ٍ‬
‫خالد الحسن‬ ‫إسماعيل ض ّوا‬
‫العراق‬ ‫عَنْ ِح ْكم ِة ال َو َط ِن ال َم ْخبو ِء بال َك ْس ِ‬
‫ـــف‬ ‫س راودتْ لُ َغتي‬‫ق وشَـــ ْم ٌ‬ ‫لي نِ ْ‬ ‫اح‬ ‫وختــا ُمــــــ ُه بال َم ْد َمــــــع َّ َّ‬
‫الســــف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بـــأو ِل َب ْســـ َم ٍة‬
‫َّ‬ ‫ـــب ُي ْغ ِرينـــا‬
‫الح ُّ‬
‫ُ‬ ‫سوريا‬
‫ف‬ ‫حجـــتْ إليـــ ِك وصلَّتْ غيمـــةُ َ‬
‫الح ْر ِ‬ ‫َّ‬ ‫طافـــتْ بـــ ِك البي ُد يـــا أ ّماهُ أســـطُ ُرها‬
‫ـــاح‬
‫يض ِ‬ ‫اإل َ‬ ‫ُق ْل َنــــــا‪ :‬وال يحلـــو َ‬
‫مـــع ِ‬ ‫شـــيء غا ِم ٌ‬
‫ض‬ ‫ٌ‬ ‫قالوا بـــأنَّ ُ‬
‫الح َّب‬
‫ف؟‬‫ـــر ِ‬ ‫ِطفـــ ٌل تحاولُـــهُ إغماضـــةُ ُ‬
‫الج ْ‬ ‫ت ســـما ًء‪ ،‬نَ ْهـــ ُر يقظتِها‬
‫ـــم ارتديـــ ِ‬ ‫َك ِ‬
‫األرواح‬ ‫َ‬
‫رقصـــــة‬ ‫ال ته َد ِئـــي‪ ..‬يـــا‬ ‫َف الهوى‬ ‫هو َر ْق ُ‬
‫صة األرواح ِمنْ د ِّ‬ ‫َ‬
‫للهاربيـــن الذين استُشْـــ ِهدوا َخ ْلفي؟‬
‫َ‬ ‫ت بُـــكا َء النّـــاي أدْعيـــةً‬‫و َكـــ ْم لَ َم ْمـــ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف؟‬‫ص ِ‬ ‫بحروف الـ «ك ِّل» والنِّ ْ‬
‫ِ‬ ‫َم ْكسور ٍة‬ ‫ســـ ْهواً فـــي ُمخيّلـــ ٍة‬
‫ت َ‬ ‫و َكـــ ْم تَ َعثَّ ْ‬
‫ـــر ِ‬ ‫ولِكـــي ُت ِريحي الـــ ُّر َ‬
‫وح‪ ..‬ال ترتاحي‬ ‫إيقاع ِه‬
‫ِ‬ ‫القلب ِمـــنْ‬
‫ُ‬ ‫يســـتريح‬
‫َ‬ ‫كي‬
‫ســـ ْق ِ‬
‫ف‬ ‫مجـــذوب بـــا َ‬
‫ٌ‬ ‫بـــأنَّ ُح ْلمـــ َي‬ ‫و َك ْم و َكـــ ْم!! َغ ْي َر أنَّ ال ِعشْـــ َ‬
‫ق أ ْنبأني‬ ‫للقار ِئيـــنَ ال ِعطــــــ َر فـــي ألواحـــي‬
‫ِ‬ ‫الو ِريـــ ِد أَ َر ْق ُت ُه‬
‫لـــم أك ُت ِم الـــ َّد َم في َ‬
‫حيـــن ا ْنتابَـــهُ طَ ْرفي‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫ـــن ال ِغيابـــا ِ‬
‫ِم َ‬ ‫الم أتـــى‬ ‫وأنَّ َع ْرشـــا ً لبلقيـــ ِ‬
‫س الـــ َك ِ‬ ‫جاجـــ ُه ِبرياحـــي‬ ‫ح َّتـــى َك َس ُ‬ ‫طر فـــي أَ ْك َما ِم ِه‬
‫ـــرت ُز َ‬ ‫فه ُ‬
‫مت ال ِع َ‬ ‫أنا مـــا ِ‬
‫صفي‬ ‫ِط ْفـــ ُل ا ْنتِظاري إلـــى أنْ خانَهُ َع ْ‬ ‫الريح هُـــ َّز بِها‬
‫ِ‬ ‫وأنَّ أرجوحـــةً فـــي‬
‫بأضلُعـــي ِم ْص ِ‬
‫باحي‬ ‫ح َّتـــى أُ ِض ْ‬
‫ـــي َء ْ‬ ‫اح ِه‬
‫ـــار في ِم ْص َب ِ‬ ‫وج ِه ْل ُت َ‬
‫زيت ال َّن ِ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫ص ْي ِ‬ ‫ش ْمســـا ً ليُ ْغ ِرقَني فـــي هاج ِ‬
‫س ال َّ‬ ‫َ‬ ‫وظـــ َّل يَ ْنقشُـــني ِظـــاً وأنقشُـــهُ‬
‫ف‬ ‫شـــاختْ علـــى َّ‬
‫َ‬ ‫دَمعاتُ أ ْغني ٍة‬ ‫أجري َكنَ ْهـــ ِر «كما ٍن» كلّمـــا َهطَلتْ‬ ‫باحي‬ ‫َّ‬
‫فشـــق فيـــ ِه َص ِ‬ ‫قلبي ال ُّت َ‬
‫راب‪..‬‬ ‫الظـــا ُم أَ َز ْح ُت عَ نْ‬
‫غشـــاني َّ‬
‫فإذا َت َّ‬
‫الذ ْر ِ‬
‫تمتـــ ُّد أحرفُـــهُ ســـ ّراً إلـــى الـــ َّرفِّ‬ ‫وأقـــرأُ األمنيـــا ِ‬ ‫اح‬ ‫ََ‬ ‫ومشـــى بد َْر ِب ال َق‬ ‫لوان َخ َّ‬ ‫َقوســـاً ِمنَ َ‬
‫البيض فـــي زم ٍن‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ـــوس ُر ْو َح أق ِ‬
‫ِ‬ ‫بصد ِْر ِه‬
‫ـــط َ‬ ‫األ ِ‬
‫ج ِمـــنْ َكفّي‬‫َك ْيـــا يَضي َع دُعـــا ُء ال َم ْو ِ‬ ‫وأســـت ُر البحـــ َر‪ْ ..‬أرمي ِعنـــ َدهُ َز َمنا ً‬

‫‪45‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪44‬‬
‫أجنحة‬

‫بَ ْيت شعر «نواكشوط»‬ ‫تجربته الشعرية حظيت باهتمام النقد األكاديمي‬
‫ع ّزز اإلبداع بموريتانيا‬
‫محمد المحبوبي‪:‬‬
‫ّ‬
‫«القوافي» التقته‪ ،‬وأجرت معه هذا الحوار‪:‬‬ ‫عروس الثقافة العربية‬
‫ُ‬ ‫الشارق ُة‬
‫‪ -‬هل تراجع دور الشعر على حساب الرواية في موريتانيا والمنطقة العربية؟‬
‫ال أرى أن مساحة الشعر في خريطة الذوق العربي تقلصت‪ ،‬وكل‬
‫التجارب البديلة‪ ..‬نحن نعاني طفولةً ثقافيةً غير متواضعة‪ ،‬فالسرد لون‬
‫تعبيري من أمتع األنماط األدبية‪ ،‬بل قد يكون أجمل من الشعر في بعض‬
‫األحيان‪ ،‬لكنه في النهاية ليس أصعب من قرض قصيدة فاتنة‪ ..‬وأغلب‬
‫التصريحات المعادية للشعر ال يستطيع أئ ّمتها قرض بيت واحد‪ .‬الشعر‬
‫يختزل أشكال األدب كافة‪ ،‬ويزيد عليها بالعنصر ال ُمعجز والعتبة العالية‬
‫الموسيقا؛ لهذا نجد شعراء روائيين من الطراز الرفيع عندنا‪ ،‬كأحمد ولد‬
‫عبد القادر‪ ،‬ومباركة بنت البراء‪ ،‬والمختار السالم أحمد سالم‪ ،‬في حين‬
‫ال نجد العكس‪ ..‬وهذا ما نلحظه في الحياة الثقافية العربية‪ ،‬عبر كثير من‬
‫الشعراء الروائيين والزاحفين إلى الشعر‪.‬‬

‫‪ -‬هل ترى أن الشاعر العربي أسهم في بناء اإلنسان النموذج؟‬


‫ظ ّل الشاعر العربي على م ّر التاريخ متكلما ً مخوالً‪ ،‬ومبعوثا ً خاصا ً‬
‫للسالم والخير والمحبة‪ ..‬لكن مع تطورات الحياة المعاصرة‪ ،‬أصبح‬
‫بعض الشعراء يرتهن ألحاسيسه ال ُم ْفرطة وانفراداته الحائرة‪ ..‬ال أتحدث‬
‫عن جيل أمل دنقل‪ ،‬ونزار قباني‪ ،‬وعمر أبي ريشة‪ ..‬فقد صوّبوا كلماتهم‬
‫تجاه الخيبات وقاوموا الوجع العام‪ ،‬وإنما أعني هنا الجيل المنكفئ الذي‬
‫طالما ساوره الركون لرثاء الذات‪ ..‬ما ينتظره كثير من الشاعر اليوم أن‬
‫يتخلّى عن عقدة «الرومانسية المثالية» وأن يتجاوزها إلى القضايا الرئيسة‪،‬‬
‫الوطن‪ ،‬اإلنسان‪ ،‬الحياة‪ .‬هذا ما يستوظفون من الشاعر في أيامنا هذه‪..‬‬

‫‪ -‬ولكن متى تخلّى شعراء الجيل الحديث عن دورهم الجميل؟‬


‫أرى أن الشاعر المعاصر حاضر في كل تفاصيل ال َمعيشة‪ ..‬وقد‬
‫تجاوز كثير من الشعراء شكاوى الهجر‪ ،‬وبوح الظل‪ ،‬ومراثي الصباح‪،‬‬
‫وكل أطاريح االجتماع النمطي‪ ،‬إلى مواكبة مستجدات الزمن‪ ،‬وطفق‬
‫يتعاطى حضاريا ً مع العصر ويشتغل على القصيدة الكونية‪ ..‬القصيدة‪/‬‬ ‫الشـــاعر الموريتانـــي محمد ولـــد المحبوبـــي‪ ،‬أحد أبـــرز وجوه الجيـــل الشـــعري الجديد في‬
‫الفعل‪ ..‬التي ترصد الطفرات الجديدة وتُغلب االنشغاالت الكبرى وال‬ ‫موريتانيـــا‪ ،‬وأحـــد األصوات الشـــعرية العربية الشـــابّة التـــي تجمع في قصائدهـــا بين اإلبداع‬
‫تستطيع أن تعيش سوى األمل‪ ،‬مص ِّورة أمام بصائرنا الحياة‪ ،‬حوريةً‬
‫المختار السالم‬ ‫والتم ّكـــن مـــن لغـــة الضـــاد‪ ،‬وقد بـــدأت تجريتـــه الشـــعرية تعـــرف طريقها إلـــى أطروحات‬
‫من عرائس الـ‪ ..‬ماوراء‪ ،‬قد انبجست منها نضرة األنوثة‪ ،‬وفاضت من‬
‫أعطافها غمائم البخور وأشذاء الغيوب الخضراء‪.‬‬
‫موريتانيا‬ ‫الدكتـــوراه فـــي اآلداب الحديثـــة‪ ،‬بمجموعاته الشـــعرية‪ ،‬وبعـــض األعمال األدبيـــة األخرى‪.‬‬

‫‪47‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪46‬‬
‫أجنحة‬

‫هل من المستساغ أن ال يتقن المتأ ّدب قواعد اللغة التي يكتب بها‪..‬؟ أخاف‬ ‫الشاعر المعاصر مهما بدا غارقا ً في ندوب انكساراته‪ ،‬فإن في داخله‬
‫أن تتسرّب إلينا هذه العدوى‪ ،‬خاصة في ظل التدفقات الهائلة لمجتمع‬ ‫همس أغنية جميالً يحلُم باليوم الذي يَجنح فيه اإلنسان للسلم‪ ،‬وتسقط مقولة‬
‫َ‬
‫المعلومات‪ ،‬وطغيان الشاشات‪.‬‬ ‫إنه بالمرصاد ألخيه اإلنسان‪.‬‬

‫‪ -‬وماذا عن حضور المرأة الطاغي في قصائدك؟‬ ‫‪ -‬ما الحدود الفاصلة بين الشاعر شاعراً والشاعر فاعالً في مرافق الحياة‬
‫المرأة هي النجوم‪ ،‬والقمر‪ ،‬والتقاسيم التي تنادمنا في سكينة الليل‪،‬‬ ‫األخرى؟‬
‫وتتجلّى في مباهج القصيد والتماعات النجوى‪ ،‬رو ٌح شفافة تختصر‬ ‫ال أعتقد أن الحدود الفاصلة المعنوية بين الحضورين موصدة دائماً‪،‬‬
‫ستجف إنسانيته‪ ،‬وينطفئ من‬‫ُّ‬ ‫كل األشياء الجميلة‪ ،‬ومن لم يفهمها‪،‬‬ ‫هناك عالقات و ّدية وتفاهمات على خصوصية كل من الشاعر والفاعل؛‬
‫الداخل إلى األبد‪.‬‬ ‫لكن البرزخ المختبئ بينهما ليس حائالً؛ فكالهما تتقلب في أعماقه فصول‬
‫عاطفة بني البشر من تهاليل السعداء‪ ..‬وأنّات المحزونين‪.‬‬
‫الشاعر إنسان‪ ،‬وله أن يعمل في مختلف حقول الحياة‪ ،‬لكن عليه أن‬
‫والذات األخرى‪ ،‬هكذا كان‬ ‫الذات الشاعرة ّ‬ ‫يراعي خصوصية كل من ّ‬
‫الشعر يختزل أشكال األدب‬
‫الشعراء الصعاليك‪ ..‬يؤمنون بالحياة ويتقلدون فيها كل المرافق ويسلكون‬
‫والعتبة العالية الموسيقا‬ ‫من أجلها كل الصعاب؛ وفي تاريخ الشعر الحديث ظل محمود سامي‬
‫البارودي‪ ،‬يحمل قضاياه بيد‪ ،‬ويكتب الشعر باليد األخرى‪ ،‬حتى استقرّت به‬
‫الحال في سرنديب‪ ،‬وليس ببعيد من ذلك‪ ،‬غازي القصيبي‪ ،‬فقد كان شاعراً‬
‫‪ -‬ما س ّر اهتمامك باللغة العربية‪ ،‬وحرصك على سالمتها؟‬ ‫فاخراً وسفيراً فوق العادة لبالده‪ ،‬يمتهن اإلدارة والحقوق‪ ..‬ورحم الله الهوى‬
‫‪ -‬من الشاعر بنظرك؟ وهل يستقيل من وظيفته؟‬
‫رحيل الكبار المؤتمنين عليها هو الغيرة عليها من الذوبان الذي حصل‬ ‫وأهله؛ قضى إبراهيم ناجي‪ ،‬في عيادته الخاصة طبيبا ً بارعاً‪ ،‬وهو الذي‬
‫الشاعر مجنون أنيق‪ ،‬يستيقظ قبل اآلخرين على نسائم اللغة األخرى‪..‬‬
‫لبعض اللغات األخرى‪ ..‬فحينما تطالعك كتابات من درسوا‪ ،‬سنوات ع ّدة‬ ‫خلف خوالده الشعرية في ليالي القاهرة‪ ..‬والشيخ ولد بلعمش‪ ،‬كان شاعراً‬
‫و ُمواعَدات اإللهام‪ .‬يتبيّن المناخ الروحي المختلف جيداً‪ ،‬فتلقاه يرثي في‬
‫بعض مساقات العلوم االجتماعية واإلنسانية حصراً باللغة العربية‪ ،‬وما‬ ‫في الليل ومهندسا ً في النهار‪ ،‬كما يقول عن نفسه‪.‬‬
‫ُخطا الغيمات المتعبة‪ ،‬ويغت ّم من رفيف اإلشراقات المؤجّلة‪ ..‬وألنه مسكون‬
‫بلقطاته القُزحية ومشارفه الخضراء‪ ،‬فإنه يتهلّل طربا ً للمواسم السماوية‬ ‫زالت حروفهم لم تشبّ عن طوق اللحن والتكسير‪ ،‬يح ّق لك أن تتساءل‬ ‫وفي فكرة عامة‪ ،‬الشعر ِهواية وهُوية‪ ،‬لكنه ليس مهنة جامعة‪،‬‬
‫المنسية‪ ،‬ويغنّي للفوز القادم من مدائن الفجر‪.‬‬ ‫قرأت أن بعضا ً من كبار‬
‫ُ‬ ‫كيف نحمي هذه اللغة من األخطار المحدقة بها؟‬ ‫تختصر كل تفاصيل اإلنسان‪ ،‬والشعر والحياة؛ وا َحـتان جميلتان تستظل‬
‫باختصار إنه الطفل الذي يرقص في النسخة األولى من كوامننا الغافية‪،‬‬ ‫األدباء يقدم أعماله لمدقق لغوي بعد كتابتها‪ ،‬تماما ً كما يقدمها للمترجم؛‬ ‫تحتهما اإلنسانية‪.‬‬
‫وفي تقديري‪ ،‬يستقيل «الشاعر» من أحاسيسه‪ ،‬من طبيعته‪ ،‬من ذاته‪ ،‬حين‬
‫«ال يكون شاعراً»‪ ..‬حين يركن إلى طينة األرض‪ ،‬ويُجافي َرفاقةَ السماء‪.‬‬

‫‪ -‬أعادت بيوت الشعر الروح إلى األجيال الشعرية والمدارس الشعر؛ فكيف‬
‫تنظر إليها؟‬
‫بيوت الشعر مرافق ثقافية ُمنيفة تأوي إليها أفئدة المبدعين‪ ،‬فتلتقي على‬
‫مختلف ألوان الشعر‪ ،‬وهكذا من الطبيعي أن تتّسع للقصائد التراثية بوصفها‬
‫ثليالً إبداعيا ً له جمهور ما زال يتمسك به‪ ،‬لكن باستقراء عام للمشهد الشعري‬
‫الذي استظهرت فيه بيوت الشعر حركة دائبة‪ ،‬نلحظ الحضور الطاغي للنص‬
‫الشعري الحديث‪ ،‬ومحاولة الخروج بالقصيدة العربية من دائرة التقليد في‬
‫الموضوع والقالب والفكرة واألسلوب‪ ،‬وانتهاج المسالك الحديثة في الكتابة‬
‫الشعرية‪ ،‬األمر الذي نستطيع معه أن نقول إن اإلبداع واإلجادة لم ينضبا‪.‬‬

‫‪ -‬الشارقة فاعل ثقافي عالمي‪َ ،‬ع ِملَتْ على هذه المكانة عبر مك ّونتي‬
‫األصالة واالنفتاح؛ ما تعليقك؟‬
‫خاّلبة‪ ،‬استطاعت أن تكون بح ّق عروس الثقافة‪،‬‬ ‫الشارقة مدينة ثقافية ّ‬
‫وأن تعيد للحياة األدبية شيئا ً من عطرها و ِحلِيّها الضائع‪ ..‬ويدرك القارئ‬ ‫المدينة القديمة في شنقيط‬

‫‪49‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪48‬‬
‫أجنحة‬

‫مرثاة متأخرة‬ ‫ليس من المستساغ عدم إتقان‬


‫مح ّمد المحبوبي ‪ -‬موريتانيا‬
‫المتأدّب للغته العربية‬

‫لتاريخ الفكر االجتماعي‪ ،‬أن األمم التي أعلت شأن اآلداب‪ ،‬تش ّع فيها‬
‫األزهـــا ِر‬ ‫ْ‬ ‫حيـــن تَ ْغفـــو طفولـــةُ‬ ‫َ‬ ‫وتسامح‬
‫ٍ‬ ‫الحضارة‪ ،‬وتستنير العقول‪ ،‬ويسودها الرق ّي‪ ،‬فتعيش في سال ٍم‬
‫وانسجام‪ ،‬وعلى العكس من ذلك «ما ذلّت لغة شعب ّإاّل ذلّ‪ ،‬وال انحطّت إاّلّ‬
‫مـــاء النَّهـــا ِر‬
‫ِ‬ ‫َمـيديـــــن فـــي ِد‬
‫َ‬ ‫وت‬ ‫كان أمره في ذهاب وإدبار»‪ ،‬كما يقول الرافعي‪ ،‬وهكذا تألقت الشارقة حين‬
‫ـــن اللُّ ْؤ‬
‫نتاك ِم َ‬ ‫ضـــ ّل َو ْج ِ‬ ‫حيـــن ت َْخ َ‬ ‫َ‬ ‫استحدثت للمثقفين والمبدعين مثابات يسيمون فيها ويسرحون‪ ،‬ويتطارحون‬
‫أسئلة اللغة واألدب والثقافة‪ ،‬في مناخ يؤثّث أحوال اإلبداع ويشجّع على‬
‫ق النّا ِر‬ ‫يـــذوب فَ ْ‬
‫ـــو َ‬ ‫ُ‬ ‫ل ِؤ َوشْــــياً‪..‬‬
‫العطاء‪ ،‬بتنظيم مئات األماسي الشعرية والندوات األدبية والنقدية والثقافية‪،‬‬
‫ق الســّــ‬ ‫َفــــين بالشَّـــفَ ِ‬
‫َ‬ ‫حين ال ت َْحت‬ ‫َ‬ ‫محمد المحبوبي في بيت الشعر في نواكشوط ‪2019‬‬ ‫والمهرجانات والدورات التدريبية‪ ،‬في زمن تقهقرت فيه الثقافة البنّاءة‪،‬‬
‫س ْي َن ِخ ْلسةَ األعْ ما ِر‬ ‫ـــــــــاجي وتَ ْن َ‬ ‫وكادت غدران اإلبداع أن تغيض؛ هذا ما أضفى على هذه المدينة حلل‬
‫هذه البيوت المجتمع الثقافي‪ ،‬عبر العناية بالشعراء وتشجيعهم على القول‪،‬‬ ‫اإلشادة‪ ،‬ومنحها أوسمة تركت ذكراً حسنا ً وأثراً طيبا ً في سوح واسعة‪.‬‬
‫شـــين وال ُعطـــو ُر تُناجيـ‬ ‫َ‬ ‫حيـــن ت َْم‬‫َ‬ ‫ونشر أعمالهم اإلبداعية وفتح المباريات أمامهم‪ .‬كما دفعتهم إلى المشاركة‬
‫ت» لِ ْلقيثا ِر‬ ‫ـــــــك‪َ ..‬كنَ ْجوى «البَيَا ِ‬ ‫ِ‬ ‫في الفعاليات الثقافية كافة‪ ،‬وقدمتهم للجمهور‪ .‬خاصة أنها أطلّت في زمن‬ ‫‪ -‬كنت من الجيل الذي رافق من قرب افتتاح «بيت الشعر» في نواكشوط؛‬
‫توجهت فيه العقول تلقاء اآللة والتقانة‪ ،‬ولم يعد للشعر ذلك االكتراث الذي‬ ‫بعد هذه السنوات على تجربة بيوت الشعر ما النقلة المرتقبة في عملها‬
‫ب «آذا‬ ‫هلين عن ِطيــــ ِ‬ ‫َ‬ ‫حينمـــا ت َْذ‬ ‫ظ ّل يعرفه طيلة عقود؛ ولعل هذا ما أحظى هذه البيوت أهمية بالغة‪ ،‬ما زالت‬ ‫لتعزيز القصيدة العربية؟‬
‫كين عَنْ شَجا « ِم ْهيا ِر»‬ ‫َر»‪ ..‬وت َْح َ‬ ‫تحافظ عليها ألداء رسالتها في بناء مجتمع سليم الذوق والتفكير‪ ،‬يتطلّع‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إذا كانت التنمية تعني في إحدى دالالتها جهدا واعيا لتحسين أحوال‬

‫ـــك أُ ْنثـــى‪..‬‬ ‫حيـــن ال ت َْذ ُك‬


‫إلى مستقبل زاهر تسوده قيم المحبة والخير والجمال‪ ..‬وبرأيي ال توجد‬ ‫الحاضر والمستقبل‪ ،‬وتعزيز القدرات اإلنسانية‪ ،‬فإن بيوت الشعر سعت‬
‫ريـــن أنّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫نقلة مرتقبة لتعزيز القصيدة العربية‪ ،‬أجدى وأفضل من مثل هذه الحواضن‬ ‫جاهدة إلى االستثمار في الثقافة‪ ،‬كونها أحد المنظورات اإلستراتيجية‬
‫والجلّنـــا ِر‬
‫ُ‬ ‫ســـاالت ال َغ ْي ِ‬
‫ـــم‬ ‫ِمـــنْ ُ‬ ‫االجتماعية اإلنسانية‪ ،‬والفسح التربوية الباهرة التي تؤثثها بيوت الشعر‪.‬‬ ‫الفاعلة‪ ،‬من أجل رفعة األمم والشعوب حاضراً ومستقبالً‪ ،‬وهكذا أحيت‬
‫دون قَ ْلبي‬ ‫ِ‬ ‫َســـتيقظين مـــنْ‬
‫َ‬ ‫حين ت‬ ‫َ‬
‫ســـرا ِر‬ ‫َناميـــن فـــي لَظـــى األ ْ‬ ‫َ‬ ‫وت‬
‫ثين بالطّـــ ِّل‪ ..‬و«الما‬ ‫حيـــن ال تَ ْعبَ َ‬ ‫َ‬
‫لوف» والبَ ْح ِر والشَّـــذا وال َهزا ِر‬ ‫ِ‬
‫ــــوى‪ُ ،‬مـتُّ أرثيـ‬ ‫ً‬ ‫سجــــلي أنّني َج‬ ‫ِّ‬
‫هزائمي وا ْنتِصاري‬ ‫وأرثي َ‬ ‫ْ‬ ‫ــــــك‬
‫ِ‬

‫نواكشوط‬

‫‪51‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪50‬‬
‫أصداء المعاني‬

‫ب إذا َج َرتْ‬ ‫الجنـــو ِ‬


‫وقال ابن ال ُّد َميْنة‪:‬‬
‫وقَـــ ْد َج َعلـــتْ ريَّـــا َ‬
‫والنقيض يمكن أن يكون هو الذي نضطر إلى معاشرته‪ ،‬وهذا يدعو إلى ال ِح ْلم‪،‬‬
‫لكن إذا كان هذا غير محتمل‪ ،‬فقد يكون الجهل هو المطلوب للتعامل معه‪..‬‬
‫بدائع البالغة‬
‫َطيـــب‬
‫ُ‬ ‫ض ْعفِهـــا تَ ْبـــدا لنــــــا وت‬ ‫علَـــى َ‬ ‫فصوّر ببراعة هذا التناقض بالمقابلة بين الشطر األول والثاني‪ ،‬والطباق‬
‫نـــوب بريَّـــا ِمـــنْ أُ َم ْي َمـــةَ تَ ْغتـــ ِدي‬‫ٌ‬ ‫َج‬ ‫بين ال ِح ْلم وال َجهْل‪ ،‬ث ّم استعارته البديعة بتشبيه العقل بالفرس‪ ،‬والتهوّر أحيانا ً‬ ‫يقـــول الشـــاعر محمـــد بن‬
‫وتــــــــؤوب‬
‫ُ‬ ‫ِحجــازيَّـــــةً عُلــــويــــــةً‬ ‫بالفرس أيضاً‪ ،‬وكذلك طباقه بين اللَّجْ م واإلسراج‪ ،‬ث ّم بين التقويم واالعوجاج‪..‬‬
‫حازم الباهلي إنه بمعاشرته‬
‫وقال صخر الحرمازي‪:‬‬ ‫وكان اختياره لبحر الطويل مناسبا ً لهذه الصور واألفكار‪.‬‬
‫لَ َع ْمـــ ُر َك مـــا ميعـــــا ُد َع ْينَ ْيـــ َك بالبُـــكا‬ ‫ومن قصيدة غزلية ألحمد شوقي‪ ،‬انتقيت هذه األبيات‪:‬‬
‫بعض الناس‪ ،‬أضحى يعيش‬
‫نــــــــوب‬
‫ُ‬ ‫ـــــــب َج‬
‫َّ‬ ‫بــــــدارا َء ّإاّل أنْ تَ ُه‬ ‫صـــوا ِر ُم األَقـــدا ِر‬‫فـــــون َ‬
‫ِ‬ ‫الج‬
‫فـــي ذي ُ‬ ‫تناقضا ً بيّناً‪ ،‬فـــأ ّي واحد منّا‬
‫أُعاشـــــ ُر فـــي دارا َء َمــــــنْ ال أُحبُّـــهُ‬ ‫عـــاك الباري‬ ‫ِ‬ ‫راعـــي البَ ِريَّـــــةَ يـــا َر‬ ‫ال يحتاج إلى األنـــاة وال ِحلم‬
‫حبيـــب‬
‫ُ‬ ‫مــــــل مهجــــــو ٌر إلـــ َّي‬ ‫ِ‬ ‫وبال َّر‬ ‫فـــــق الَّـــذي ِمـــنْ دونِـــ ِه‬
‫ِ‬ ‫َزهْـــرا ُء بِاألُ‬ ‫فـــي مواجهـــة كثيـــر مـــن‬
‫ـــب النُّهــــــى وتَطــــــا ُو ُل األَ ْفـــكا ِر‬ ‫َو ْث ُ‬ ‫فواز الشعار‬ ‫األوضـــاع المعيشـــية مـــن‬
‫وقال يَزيد بن الطثرية‪:‬‬ ‫واإلمســـا ِء بَـــل‬ ‫بـــاح ِ‬
‫ِ‬ ‫ص‬ ‫يـــا زينَـــةَ ِ‬
‫اإل ْ‬ ‫سوريا‬
‫ســـعي إلى الـــرزق وتأمين‬
‫ـــل هبَّـــتْ‬‫يـــح نَ ْحـــ َو األَ ْث ِ‬
‫الر ُ‬ ‫إذا مـــا ِّ‬ ‫ســـحا ِر‬ ‫اآلصــــــال واألَ ْ‬
‫ِ‬ ‫يـــــا َرونَــــــ َ‬
‫ق‬
‫ً‬
‫يـــــــح طيِّبـــــة َجنوبـــا‬ ‫وجـــــــدتُ ال ِّر‬ ‫لقـــاك ثُ َّم ِمـــنَ الدُّجى‬
‫ِ‬ ‫ضحـــى أَ‬ ‫أَ ْلقـــى ال ُ‬
‫متطلّبـــات الحيـــاة‪ ،‬فضالً عن معايشـــة النـــاس بمختلف‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ســــــ ِري‬ ‫األرواح تَ ْ‬
‫َ‬ ‫فمـــــــاذا يَ ْمنَـــــــ ُع‬ ‫ســــــبُ ٌل إِلَيــــــك َخفِيَّـــــــةُ األَغــــــوا ِر‬‫ُ‬ ‫مشـــاربهم وثقافاتهـــم وانتماءاتهم وهذا يحتـــاج إلى كثير‬
‫بـــريَّــــــا أُ ِّم َع ْمـــــــر ٍو أنْ تَطيبـــــــــا‬ ‫من التعقّـــل‪ ،‬ألنّ طبائع النـــاس متباينة فمـــن ترتاح إليه‬
‫خلـــق‬ ‫ســـن‬ ‫ألَ ْيســـتْ أُعْطيـــتْ فـــي ُح‬ ‫انتقى شوقي‪ ،‬أجمل الكلمات وأر ّق العبارات‪ ،‬للتغ ّزل بهذه الحسناء‪ ،‬ففي‬ ‫وتهنـــأ في معاشـــرته‪ ،‬قد ال يكـــون موجـــوداً كل الوقت‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫جفنيها الساحرين‪ ،‬سيفان قاطعان‪ ،‬بتشبيه بليغ حقّق كل ما يمكن أن يتخيّله‬
‫ت ال ُعيوبـــا‬‫وجنِّبـــ ِ‬
‫كمــــــــا شـــــــاءتْ ُ‬
‫ق المفارق‬
‫قالوا في العا ِش ُ‬ ‫قارئ األبيات لجمال عينيها‪ ،‬لذلك يرجوها بأن تخفّف سحرهما‪ ..‬فضالً‬ ‫واخترت من قصيدته هذه األبيات‪:‬‬
‫عن استعارته األ ّخاذة بتشبيه العقول بكائن يتقافز ليصل إلى هذا الجمال‬ ‫الح ْل ِ‬
‫ــــم إِنَّني‬ ‫لَئِــــنْ ُك ْنتُ ُم ْحتاجـــا ً إِلَى ِ‬
‫الفريد‪ ،‬وكذلك استعارته األخرى بتشبيه األفكار بكائن أيضا ً يمت ّد ويتطاول‪..‬‬ ‫ين أَ ْح َو ُج‬ ‫ض األَحايِ ِ‬ ‫إِلَـــى َ‬
‫دعابات الشعراء‬ ‫يحتاج إلى أن يرى ما يشوقه بذكر حبيبته‪ ،‬ومن الشعراء الع ّشاق من تفاءلوا‬
‫وطباقه بين اإلصباح واإلمساء‪ ،‬وكذلك بين اآلصال واألسحار‪ ،‬في وصف‬
‫الج ْه ِل في بَ ْعـــ ِ‬
‫الح ْل ِم ُم ْل َجــــ ٌم‬ ‫لح ْل ِ‬
‫ـــم بِ ِ‬ ‫ولـــي فَـــــ َر ٌ‬
‫س لِ ِ‬
‫ت من شعرها‪..‬‬ ‫طرها أو ُخصال ٍ‬ ‫بما تحمله الرياح‪ ،‬فلعلّها تأتي بشي ٍء منها‪ِ ،‬ع ِ‬
‫قال جرير‪:‬‬
‫خاّلبة وسكينة ورونق في كل األوقات‪ ..‬ث ّم‬ ‫حسن هذه الصبيّة؛ فهي زينة ّ‬ ‫ســ َر ُج‬ ‫ـل ُم ْ‬‫الج ْه ِ‬
‫ــــل بِ َ‬
‫لج ْه ِ‬ ‫س لِ َ‬ ‫ولي فَــ َر ٌ‬
‫قا َل أبو دُالمة يهجو نفسه ‪:‬‬
‫جبـــل‬ ‫يـــان ِمـــنْ‬ ‫يـــا حبَّـــذا جبـــ ُل ال َّر‬
‫تشبيهها بالضُّحى‪ ،‬وإذا ما ا ْدله ّم الليل‪ّ ،‬‬
‫فإن السُّبل إلى رؤيتها متع ّددة وقد‬ ‫فَ َمــــنْ شا َء تَ ْقــــويمي فَــــإِنّي ُمقَــــ َّو ٌم‬
‫أال أ ْبلِـــــــ ْغ لَ َد ْيـــــــ َك أبـــا دُال َمــــــــــ ْة‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫يـــان َمـــنْ كانـــا‬ ‫وحبَّـــذا ســـاكنُ ال َّر‬
‫تكون غير منظورة‪ ..‬واختار بحر الكامل لتكتمل به صور اإلبداع‪.‬‬ ‫و َمــــنْ شــــا َء تَ ْعــــويجي فَإِنّي ُم َعـ َّو ُج‬
‫ـــرام وال ال َكرا َمـــ ْة‬
‫ِ‬ ‫فَلَسْــــــتَ ِمـــنَ ال ِك‬ ‫ِ‬
‫وحبَّـــذا نَفَحـــاتٌ مـــنْ يمانيَـــ ٍة‬
‫وج َمعْــــــتَ بؤســـا ً‬ ‫َج َمعْـــتَ دَما َمــــــةً َ‬
‫يـــان أحيانـــا‬
‫ِ‬ ‫قبـــل ال َّر‬
‫ِ‬ ‫تأتيـــ َك مـــنْ‬
‫كــــــذا َك اللُّـــــــؤ ُم تَ ْتبَ ُعـــــــهُ الدَّما َمـــ ْة‬
‫وقال ذو الرّمة‪:‬‬
‫صبْـــتَ نَعيـــ َم ُد ْنيـــا‬ ‫فـــإنْ تَـــ ُك قَـــ ْد أَ َ‬
‫ب‬‫يـــاح مـــن نَ ْحـــ ِو جان ٍ‬ ‫ُ‬ ‫األر‬
‫ت ْ‬ ‫إذا هبَّـــ ِ‬
‫ت القِيـــــا َم ْة‬
‫فَـــا ت ْفــــ َر ْح فَقَـــ ْد َدنَــــ ِ‬
‫َـــوقي هبوبُها‬ ‫هـــاج ش ْ‬ ‫َ‬ ‫مـــي‬
‫ٍّ‬ ‫بـــ ِه أ ْه ُل‬
‫َّ‬
‫نـــان منـــهُ وإنمـــا‬ ‫ِ‬ ‫ىت ْ‬
‫َـــذ ِرفُ ال َع ْي‬ ‫هَـــو ً‬
‫وقال البُحتر ّي ُمته ّكماً‪:‬‬
‫ُ‬
‫س َح ْيـــث َحـــ َّل َحبيبُها‬ ‫ْ‬
‫هـــوى ُك ِّل نَفـــ ٍ‬
‫ـــــــــو‬
‫ْ‬ ‫إنَّ ال ّزمــــــــانَ زمـــــــــــانُ َ‬
‫س‬
‫الخ ْلـــــــــق بَ ْ‬
‫ـــو‬ ‫وجميـــــــع هــــــــذا َ‬ ‫َ‬ ‫وقال قيس بن الملوّح‪:‬‬
‫ى‬ ‫َ‬
‫ســــــألتَهـــــــ ُم نــــــــــــد ً‬ ‫فـــــــــــإذا َ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫ـــي نَعْمـــانَ باللـــ ِه خليـــا‬ ‫أيـــا َجبَلَ ْ‬
‫فجـــــــوابُ ُهــــــــــم عــــــــــــن ذا َك َو ْو‬ ‫صبا يُ ْخلِ ْ‬
‫ـــص إل َّي نَســـي ُمها‬ ‫ق ال َّ‬ ‫طريـــ َ‬
‫ــــــو َء بُ ْخـــاً‬
‫ْ‬ ‫ض‬
‫ــــــــو يَ ْملِكــــــــونَ ال َّ‬
‫ْ‬ ‫لَ‬ ‫ْـــف منِّـــي َحرارةً‬ ‫أو تُش ِ‬
‫أجـــ ْد بَ ْردَهـــا ْ‬
‫ــــو‬
‫ض ْ‬ ‫ـخـ ْلـــــــــق َ‬‫لَــــــــ ْم يَـــــــــ ُكنْ لِ ْل َ‬ ‫صمي ُمهـــا‬‫ق ّإاّل َ‬‫علـــى َكبِـــ ٍد لـــ ْم يَ ْبـــ َ‬ ‫َ‬
‫ســـــــــ ِر ِه ْم‬ ‫َ‬ ‫َذه‬
‫َــــــــــب ال ِكـــــــــــرا ُم بأ ْ‬ ‫ســـمتْ‬ ‫ريـــح إذا مـــا تَنَ َّ‬
‫ٌ‬ ‫صبـــا‬
‫فـــإنَّ ال َّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫شــط العرب في مدينة البصرة‬
‫وبَـقـــــــــى لَـنــــــــــا لَـ ْيــــــــتٌ ولَ ْ‬
‫ــــو‬ ‫مـــوم تجلـــتْ غيو ُمها‬
‫ٍ‬ ‫س َمغ‬ ‫علـــى نَفـــ ِ‬

‫‪53‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪52‬‬
‫مقــال‬

‫التَّقشّف واإلمالق سمةٌ عا َّمةٌ‬ ‫دفعهم للحوار مع قضاياهم اإلنسانية بشفافية وصدق‬
‫طبعت حياة الجاهليّين‬
‫الكلمات بأثر َ‬
‫غ ْير َم ْحدود‬ ‫ن َ‬ ‫ج ُ‬
‫ش َ‬ ‫ّ‬
‫والشعراء‪َ ..‬‬ ‫ع‬
‫الجو ُ‬
‫أن النَّسق‬ ‫ولئن رأى دارسونَ أمثال أحمد أمين‪ ،‬وعل ّي الورديّ‪َّ ،‬‬
‫ي والثّقاف ّي المهيمن في القصيدة العربيَّة هو نسق المركز أو‬ ‫ال ّشعر ّ‬
‫نسق المؤسَّسة الرَّسميّة‪ ،‬فإنّنا‪ ،‬هنا‪ ،‬نُجلي النَّسق النَّقيض أي نسق‬ ‫الجـــوع‪ ،‬في القصيـــدة العربيَّـــة‪ ،‬عالمـــةٌ ســـيميائيَّةٌ تُ ْ‬
‫ض ِم ُر‬
‫الهامش‪ .‬فنقرأ ديوان ال ّشعر العرب ّي لنُقارب القصيدة الَّتي يُولّدها‬ ‫دالال ٍت ثقافيَّـــةً واجتماعيَّـــة ونفســـيَّةً‪ ،‬وليس مج َّرد إشـــار ٍة‬
‫الجوع والتَّق ُّشف‪ ،‬وتَ ْعبُ ُر من أقاليم التَّهميش والعوز والنّسيان‪ ،‬إلى‬
‫عضويَّـــ ٍة تـــد ُّل علـــى خـــواء البطـــن مـــن الطّعـــام‪ .‬فالكالم‬
‫فتنة الحضور وضوء الحياة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الشّـــعر ّي علـــى الجـــوع ينقلـــه مـــن الحاجـــة العضويَّة إلى‬
‫ففي الجاهليَّة ش َّكل التَّق ّشف واإلمالق‪ ،‬سمة عا َّمة طبعت حياة الجاهليّين‬
‫على اختالف طبقاتهم لقلّة الموارد الطَّبيعيَّة عموماً‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬برزت‬
‫القضيَّـــة الحقوقيَّة‪ ،‬ومن مدار اإلحســـاس الجســـد ّي الفرد ّي‬
‫ت المجتمع الجاهل ّي قسمةً حا َّدة بين‬ ‫فوارق طبقيَّة واجتماعيَّة بيّنة ق َس َم ِ‬ ‫د‪ .‬أحمد علي شحوري‬ ‫إلى مـــدار المف َّكر به إنســـانيّاً‪ ،‬ومـــن الطَّبيع ّي إلـــى الثَّقاف ّي‪.‬‬
‫ً‬
‫طبقَتَي «ال َجوْ عى» و«ال ُم ْتخمين نسبيا»‪ ،‬أو غير ال َجوْ عى‪ ،‬على األقلّ‪،‬‬ ‫لبنان‬
‫أن ش ّح الطَّبيعة كان يضع الجميع إزاء اختبار التَّمرين اليوم ّي‬ ‫نظراً إلى َّ‬
‫ولكن ما يه ّمنا‪ ،‬في هذا المقام‪ ،‬ليس الجوع النّاتج من صراع‬ ‫على الموت‪ْ .‬‬
‫اإلنسان مع الطَّبيعة‪ ،‬بل الجوع ذو الوجه االجتماع ّي والثقاف ّي الذي يُخلفه‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫سو ُء توزيع الثّروة‪.‬‬
‫والكالم عن الجوع في الجاهليَّة‪ ،‬يأخذنا تلقائيّا ً إلى ديوان الصّعاليك؛‬
‫ش بك ّل جال ٍء‪ ،‬إذ تُوحّدهم بطونُهم‬ ‫فقد جسَّد هؤالء النَّس َق الثّقاف َّي المه َّم َ‬
‫ال ُخ ْمص والرَّغبة في نيل متطلباتهم المفقودة‪ ،‬فهذا ال ُّسلَ ْي ُك بن ال ُّسلَ َكة‪ ،‬ذو‬
‫اللّون األسود لم تعترف قبيلته بنسبه إليها لكونه ابنَ أَ َم ٍة‪ ،‬فخرج منها‪ ،‬وهو‬
‫يُبيّن ش َّدة الجوع الَّذي كان يل ُّم به في الصّيف حتّى ليكاد يُغشى عليه‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫صــــ ْعلَ ْكتُ ِحـــــ ْقبَةً‬ ‫ومـــا نِ ْلتُهـــا حتّى تَ َ‬
‫ب ال َمـــــنِيَّ ِة أَعْــــرفُ‬ ‫ســـــــبا ِ‬ ‫و ِكدْتُ ألَ ْ‬
‫ض َّرني‬ ‫يف َ‬ ‫ص ِ‬ ‫وحتّـــى رأ ْيتُ الجـــو َع بال َّ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫إذا ق ْمـــتُ تَغشـــاني ِظـــا ٌل فأ ْ‬
‫ســـ ِدفُ‬

‫أن هؤالء الصّعاليك‬ ‫ويلفت الباحث يوسف خليف‪ ،‬في هذا المقام‪ ،‬إلى َّ‬
‫ّ‬
‫جميعهم فقدوا «توافقهم االجتماع ّي» مع قبائلهم‪ ،‬لذلك اندفعوا إلى تبني نس ٍق‬
‫متجاوز يتخطّى نهائيَّة الرّؤية المعهودة إلى‬ ‫ٍ‬ ‫ثقاف ّي واجتماع ّي بدي ٍل‪ ،‬نس ٍق‬
‫اإلنسان والمجتمع‪ ،‬إذ أبدى هؤالء رؤيةً جديدةً مبتدؤها الواقع المعيش‪ ،‬رؤيةً‬
‫تنبت في أرض المغامرة المفتوحة على الح ّريَّة أو الهالك‪ ،‬ال في االستسالم‬
‫لل ّشبَع الموهوم ال ّزائف الذي يُجسّده رهنُ الجائع حريَّتَهُ وطاقاتِه الجسديَّةَ‬
‫ت زهي ٍد قد يَقيه الموتَ ‪ .‬لذلك يذهب عُرْ وةُ بنُ ال َورْ د‪ ،‬إلى المدى‬ ‫مقابل قو ٍ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫األقصى في رهانه على ح ّريّته وحقه في الشبع أو دونه الموت‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫احـــ َي وأَ ْنـــتَ ُحـــ ٌّر‬
‫فَقُ ْلـــتُ لَـــهُ‪ :‬أَال ْ‬
‫ستَشْـــــبَ ُع فـــي حياتِـــــ َك أَ ُو تَمـــــوتُ‬‫َ‬

‫‪55‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪54‬‬
‫مقــال‬

‫ى‬‫وباتَـــتْ بُطونٌ ســـا ِغباتٌ علـــى طَو ً‬ ‫بأن الح ّريَّة تشارك ومسؤوليَّة‪ ،‬وبهذا‬ ‫إن الصّعاليك آمنوا َّ‬ ‫بل َّ‬
‫ت األُ ْخــــرى بِطي ِ‬
‫ب ال َمطــــا ِع ِم‬ ‫وأُ ْت ِخ َمـــ ِ‬ ‫صعاليك الَّذي يُبرز «فلسفة‬ ‫المعنى نفهم قول عُرْ وة بنُ الورد‪ ،‬سيّد ال َّ‬ ‫ش ُّح الطَّبيعة وضعهم‬
‫ضـــــراعةً‬‫فـــوس الخاوياتُ َ‬
‫ُ‬ ‫أَهَذي النّ‬ ‫ُشرك‬ ‫الصَّعلكة» بأنَّها نو ٌع من المشاركة اإلنسانيَّة المسؤولة‪ ،‬في ِ‬ ‫وجها ً لوجه مع ال ِم َحن‬
‫اآلخرين في طعامه‪ ،‬حتّى ليكتفي بالماء البارد أحياناً‪ ،‬مؤثراً اآلخرين‬
‫نُباهـــي بها األَ ْقـــــرانَ يَ ْ‬
‫ـــو َم التَّصاد ُِم؟‬
‫على نفسه وجسده الهزيل‪:‬‬
‫ســـوم َكثيـــ َر ٍة‬
‫ٍ‬ ‫ســـمي فـــي ُج‬ ‫أُقَ ِّ‬
‫ســـ ُم ِج ْ‬
‫أ ّما في قصائد شعراء الحداثة‪ ،‬فتبدو نزعة التَّمرّد على النَّماذج ال َّشعريَّة‬ ‫وأَ ْحســـو قَ‬
‫ـــراح المـــا ِء والمـــا ُء با ِر ُد‬
‫َ‬ ‫البحث عن ال َّشبع إنّما هو بحث عن نسق جدي ٍد‪ ،‬وعق ٍد اجتماع ٍّي اختيار ٍّي‬
‫والثّقافيَّة جليَّةً؛ إذ يجيء الشاعر الحديث إلى القصيدة من أقاليم االحتراق‪،‬‬
‫بدي ٍل؛ فال َّشنفرى‪ ،‬يُ ْش ِه ُر هجرانَهُ ويُعلن انتسابَهُ الح ّر إلى نظرائه المعوزين‬
‫ومن جغرافيا بال خرائط مسبَّقة‪ ،‬ال يقوده غير بوصلة لهيبه ّ‬
‫الذات ّي‪ ،‬فينفتح‬
‫وعليه‪ ،‬فقد وضعت حياتهم قيما ً للفروسيَّة والبطولة الجاهليَّة‪.‬‬ ‫متطلّعا ً إلى حقوقه وح ّريّته‪:‬‬
‫ال ّشعر «هنا اآلنَ » على إيقاع اله ّم الوجود ّي الرّاهن‪ ،‬وير ُّج نهائيَّة األنساق‬
‫أ ّما أبو ال َّش َم ْق َمق فيكشف عن نس ٍق ثقاف ّي يُباينُ النَّسق السّائد‪ ،‬فيصف‬ ‫أَقيمـــوا بَنـــي أُ ّمـــي ُ‬
‫صـــدو َر َم ِطيِّ ُكـــ ْم‬
‫ال ّشعريَّة الرّفيعة المفتوحة على التَّجريب واالختالف‪ ،‬وبذلك تتموضع‬
‫ساخر مؤل ٍم‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫فقره وجوعه بأسلوب‬ ‫ســـوا ُك ْم َأَلَ ْميَـــ ُل‬ ‫فإنّـــي إلـــى قَ ْ‬
‫ـــو ٍم ِ‬
‫القصيدة على محور التَّزامن الّذي ينفتح على الواقع ّي والعين ّي والمعيش ّي؛‬
‫ولَقَـــــــــ ْد أَهــــــ َز ْلـــــــــــتُ حتّـــــــــى‬
‫إذ يتكلَّم ال ّسيّاب‪ ،‬على الجوع الَّذي اختبره في بيئته الفقيرة‪ ،‬وعاين تجلّياته‬
‫س َخيــــالــــــي‬ ‫ت الشَّــــــــــ ْم ُ‬ ‫َم َحـــــــــ ِ‬ ‫وليس إشهار الجوع في بنية القصيدة العربيَّة بالفعل اليسير‬
‫النَّفسيَّة فيقول‪:‬‬
‫ســــــــــتُ حتّـــــــــــى‬ ‫ولَقَــــــــــ ْد أَ ْفــــلَ ْ‬ ‫المحدود األثر والفاعليَّة‪ ،‬ألنَّه يجعل الجوع ما َّدةً للتّواصل والحوار‬
‫الماليين الفقي َر ْه‬
‫ِ‬ ‫الجياع‪َ ،‬م َع‬
‫ِ‬ ‫إنّي َ‬
‫شبَ ْبتُ َم َع‬ ‫َحـــــــــــــ َّل أَ ْكلــــــــــــي لِعيالـــــــــــي‬ ‫والتّخاطب‪ ،‬ومن ثَ َّم يرفعه إلى مستوى التَّلقّي‪ ،‬ليكون قضيَّةً ثقافيَّةً‬
‫فَ َع َر ْفتُ أسراراً كثي َر ْه‬ ‫عا َّمةً‪ ،‬كفيلةً بوضع منظومة الفضيلة وأخالقيَّة الفروسيَّة الجاهليَّة‬
‫ب و ُك َّل أَ ْل ِ‬
‫وان الدّعا ْء‬ ‫ت القُلو ِ‬ ‫ُك َّل ْ‬
‫اختالجا ِ‬ ‫وعلى النَّحو نفسه‪ ،‬يُصوّر أبو فرعون السّاس ّي‪ ،‬تصويراً واقعيّا ً حلو َل‬ ‫وسؤال‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ث‬
‫موضع بح ٍ‬
‫ضري َر ْه‬‫إِ ْغضا َءةَ ال ُمقَ ِل ال َّ‬ ‫«أبي َع ْمرة»‪ ،‬أي الجوع في بيته‪ ،‬وبروز العشب في تنّوره لقلّة حنطته‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫سلب ح ّريّتهم مقابل غذا ٍء زهي ٍد‪ ،‬بل اختاروا‬ ‫ُ‬
‫لقد رفض الصّعاليك َ‬
‫أَنـــا أَبـــو فِ ْرعَـــونُ ‪ ،‬فَاعْـــ ِرفْ ُك ْنيَتـــي‬ ‫ً‬
‫الجوع طائعين ما دام مفتوحا على احتمال الح ّريَّة‪ ،‬فطوّعوا الجوع‬
‫ولئن كانت معركة االنبعاث مريرةً وقاسيةً وطويلةً‪ ،‬فلم يسقط‬ ‫َحـــ َّل أبــــو عَـــــ ْم َرةَ فـــي ُح ْج َرتــــــي‬ ‫وتعالَوْ ا عليه‪ ،‬ليكون سبيلهم إلى نيل حقوقهم‪ ،‬وإلى تحقيق عدال ٍة اجتماعيَّ ٍة‬
‫هؤالء ال ّشعراء في ف ّخ التّشاؤم واالنهزام‪ ،‬بل أبرزوا الجوع فعالً‬ ‫ت بُر َّمتـــــي‬‫ســـيج ال َع ْن َكبــــــو ِ‬
‫ُ‬ ‫وحـــ َّل نَ‬
‫َ‬ ‫ويستف التّراب‬ ‫ّ‬ ‫منشود ٍة؛ فهذا ال َّش ْنفرى‪ ،‬يتعالى على جوعه حتّى يُميته‪،‬‬
‫مولّداً‪ ،‬يُح ّرضهم على األمل وتخطّي الخيبات‪ ،‬إذ يقول ال ّشاعر‬ ‫َـــب تَنّـــوري َوقَلَّـــــــــتْ ِح ْنطَتـــي‬
‫َ‬ ‫ش‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫إلخفاء عوزه وحاجته‪:‬‬
‫اللّبنان ّي شوقي بزيع‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ــــوع حتّــــى أ ِميتَـهُ‬
‫ِ‬ ‫أُديــــ ُم ِمطَــــا َل ُ‬
‫الج‬
‫الجوع‪،‬‬ ‫ع ِمنَ‬ ‫فَقا َم ِ‬
‫الجيا ُ‬ ‫وفي العصر الحديث‪ ،‬نطالع لدى ال ّشعراء المعاصرين‪َ ،‬و ْعيا ً بالصّراع‬ ‫ص ْفحا ً فأ ُ ْذهَــــ ُل‬ ‫ب َع ْنهُ ِّ‬
‫الذ ْكـــ َر َ‬ ‫وأضـــ ِر ُ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫بين َم ْن يملك و َم ْن يعمل؛ إذ يُدرج ال ّشاعر مح َّمد مهدي الجواهريّ‪ ،‬التَّخلُّص‬ ‫َ‬
‫ض َك ْيال يُ َرى لــــهُ‬ ‫األر ِ‬‫ب ْ‬ ‫َوأَ ْ‬
‫ستَــــفُّ ت ُْر َ‬
‫ت‪،‬‬‫ضحايا ِمنَ ال َم ْو ِ‬ ‫قا َم ال ّ‬
‫من الجوع ضمن تطلّع اإلنسان إلى النّهوض بأحواله‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫َعلَــــ َّي ِمنَ الطَّ ْ‬
‫ــــو ِل ا ْمــــ ُر ٌؤ ُمتَطَــــ ِّو ُل‬
‫صغا ُر ِمنَ األُ ّمهاتْ‬
‫قا َم ال ّ‬

‫أ ّما ال ّشاعر اليمن ّي عبد العزيز المقالح‪ ،‬فيجعل للجوع معنى اجتماعيّا ً‬
‫حقوقيّاً‪ ،‬فيتمنّى لو أنَّه يُو ّزع األرض على ّ‬
‫الفاّلحين‪ ،‬يزرعونها لينالوا‬
‫الكثير من الخيرات؛ يقول‪:‬‬
‫ياع‬
‫ض ِ‬ ‫ش ْمشونَها الجبّا َر في لَ ْي ِل ال ّ‬‫لَ ْو أنَّني َ‬
‫شاع‬
‫ض بَيْنَ الكادحينَ على ال َم ِ‬ ‫َو َّزعْتُ ُك َّل األر ِ‬
‫ياع‬ ‫أَ ْلقَ ْيتُ ما َج َم َع القُساةُ ال ُم ْت َخمونَ إلى ِ‬
‫الج ِ‬
‫َض َعفينَ وثيقةَ ال َعد ِْل الجماعي‬ ‫وكت ْبتُ لِ ْل َم ْ‬
‫ست ْ‬

‫أن قراءة النّسق الثّقاف ّ‬


‫ي‪ ،‬في قصائد ال ّشعر‬ ‫ختاماً‪ ،‬نتبيَّن َّ‬
‫ي‪ ،‬تقودنا إلى أه ّميَّة نفض الغبار عن األصوات المضمرة‬ ‫العرب ّ‬
‫الَّتي تفتح استعادتها نافذة على الحوار وال ّرأي اآلخر في فضاء‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫منزل بدر شــاكر السياب في البصرة‬
‫ثقافتنا العربيَّة‪.‬‬

‫‪57‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪56‬‬
‫عصور‬

‫من أشهر شعراء الحماسة‬ ‫ع ِر َ‬


‫ف بنبوغه وجزالة لفظه‬ ‫ُ‬
‫ب عريق‬ ‫وصاحب نَ َ‬
‫س ٍ‬ ‫ُ‬
‫سكين ال ّدارمي‪..‬‬
‫ِم ْ‬
‫«بالخمار األسود»‬
‫ِ‬ ‫ذكرته األجيال‬
‫عاش حياته في العصر األموي‪ ،‬وقد وفد من العراق إلى الشام‪ ،‬لمدح‬ ‫َ‬
‫بني أمية‪ .‬أ ّما والدته‪ ،‬فقد رجحتها الروايات في العصر الراشدي‪ ،‬وهو القائل‪:‬‬ ‫حيـــن نصبـــت الدولة األمويـــة خيمـــة ملكها‪ ،‬نبتت شـــجرةُ شـــع ِره‪،‬‬
‫أخــــــا َك أخـــا َك إنَّ َمـــنْ ال أخـــــا لـــه‬
‫ومـــدّت أغصانَهـــا لتؤثـــث مســـاحةً مـــن الفـــيء والجمـــال؛ هـــو‬
‫ـــاح‬
‫ِ‬ ‫س‬ ‫َ‬
‫ســــــاع إلـــى ال َه ْيجـــا بِغ ْي ِر ِ‬
‫ٍ‬ ‫َك‬
‫ربيعـــة بـــن عامر بـــن أنيـــف بن شـــريح بن عمـــرو بن عـــدس بن‬
‫التسمية‬ ‫دارم بـــن تميـــم‪ ،‬أو هـــو ِم ْســـكين الدارمي‪ ،‬شـــاع ٌر عراق ٌّي شـــجا ٌع‬
‫يعو ُد سبب تسميته ِم ْسكينَ ال ّدارمي‪ ،‬إلى أبيا ٍ‬
‫ت قالها‪ ،‬وليس إلى ال َم ْس َكنة‬ ‫يُعـــ ُّد مـــن أشـــراف تميـــم التـــي أنجبـــت فحـــول الشـــعراء‪ ،‬أمثـــال‬
‫ضعْف والفَ ْقر‪ ،‬فقد كان سيداً من سادات قومه وأشرافهم‪ ،‬وكان يتفاخر‬ ‫وال َّ‬ ‫أسيل سقالوي‬
‫جريـــر والفـــرزدق‪ ،‬ويُعـــ ُّد واحـــداً مـــن أشـــهر شـــعراء الحماســـة‪.‬‬
‫كثيراً بهذا اللقب الذي ير ّدده في أغلب قصائده‪ ،‬ولكن ليس من جهة المعنى‬ ‫لبنان‬
‫ب عريق ومكانة بين الناس‪ ،‬ويُع ّد من الشعراء‬ ‫الداللي للكلمة‪ ،‬فهو ذو نس ٍ‬
‫ت قالوها‪:‬‬ ‫العرب الذين يُلقّبون بأبيا ٍ‬
‫أنـــا ِمسْـــــــكينُ لِ َمــــــــنْ أ ْن َكرنـــــــي‬
‫ولِ َمـــــنْ يَ ْع ِرفُنــــــــي ِجـــــــــ ّد نَطَـــ ْ‬
‫ق‬
‫ـــــــاس ِع ْرضـــي إنّنـــي‬ ‫َ‬ ‫ال أبيـــــــ ُع النّ‬
‫ق‬‫ـــــــاس ِع ْرضـــي لَنَفَ ْ‬
‫َ‬ ‫لَ ْو أبيــــــ ُع النّ‬

‫إن سبب التسمية‪ ،‬يعو ُد إلى كونه فقيراً ومحتاجاً‪ ،‬ألنه‬ ‫ومنهم من قال ّ‬
‫ّ‬
‫لجأ إلى أهله وعشيرته‪ ،‬وسألهم‪ ،‬فأعطوه‪ ،‬ولكني أراها رواية ضعيفة‬
‫والشاهد قوله‪:‬‬
‫ســـكينا ً وكانَـــتْ لَجاجـــةً‬ ‫ســـ ّميتُ ِم ْ‬ ‫و ُ‬
‫ـــب‬
‫وإنـــي ل ْمسْـــكينٌ إلـــى اللـــه را ِغ ُ‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ـــاس مالَ ُه ْم‬
‫َ‬ ‫وإِنّـــي ا ْمـــ ُر ٌؤ ال أَســـأ َ ُل النّ‬
‫ـــب‬ ‫شـــ ْعري وال تَ ْعمـــى عَل َّي ال َم ِ‬
‫كاس ُ‬ ‫بِ ِ‬

‫خطب ِمسْكينُ‬‫َ‬ ‫ورو َي عن األصمع ّي‪ ،‬في أمر التسمية‪ ،‬أنه قال‪:‬‬
‫ال ّدارم ّي فتاةً من قو ِمه‪ ،‬فكرهته لسوا ِد لونِه وقلّة مالِه‪ ،‬وتزوّجت بعدَه رجالً‬
‫ب ِمسْكين‪ ،‬فم ّر بهما مرةً‪ ،‬وهي‬ ‫ليس مثل نس ِ‬ ‫يسار له َ‬ ‫ٍ‬ ‫من من قو ِمه‪ ،‬ذا‬
‫جالسة مع زو ِجها وقال‪:‬‬
‫أَنـــا ِمسْـــــــكينُ لِ َمــــــــنْ يَ ْع ِرفنــــــــي‬
‫ُ‬
‫ســــ ْمرةُ أَ ْلـــــــوانُ ال َع َر ْب‬ ‫لَ ْونِـــــــ َي ال ُّ‬
‫َمـــــــنْ رأَى ظَ ْبيــــــــا ً َعلَ ْيـــــــ ِه لُؤلُ ٌؤ‬
‫ب‬ ‫ض ّْ‬
‫ـــــــن َم ْقرونـــا ً بِ َ‬
‫ِ‬ ‫واضــــــح َ‬
‫الخ َّد ْي‬ ‫َ‬

‫‪59‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪58‬‬
‫عصور‬

‫ال ِخمار األسود‬


‫ومن أحواله الطريفة وقصصه اللطيفة‪ ،‬وقد زهد وانقطع في المسجد‪،‬‬ ‫اتّسمت قصائدهُ بالدّهشة‬
‫أن بعض التجّار قدم إلى المدينة‪ ،‬ومعه حمل من ال ُخ ُمر السود‪ ،‬فلم يجد‬
‫والفصاحة وجمال المضمون‬
‫لها طالباً‪ ،‬وكسدت عليه وضاق صدره‪ ،‬فقيل له ما ينفقها لك ّإاّل ِمسْكين‬
‫ال ّدارمي‪ .‬فقصده وروى عليه القصة‪ ،‬فقال له كيف أعمل وقد تركت الشعر‬
‫وعكفت على هذه الحال‪ ،‬فقا َل له التاجر أنا رج ٌل غريب وليس لي بضاعة‬ ‫ُ‬
‫سوى هذا الحمل‪ ،‬وتضرّع إليه‪ .‬فخرج من المسجد وأعاد لبا َسه األول وقال‬ ‫حظوة ومكانة‬
‫البيتَين المعروفين‪:‬‬ ‫وكان صاحب حظوة ومكانة لدى الح ّكام‪ ،‬ومن الذين يؤخذ برأيهم‪،‬‬
‫ســـو ِد‬ ‫الخمـــا ِر األَ ْ‬
‫ليحـــ ِة فـــي ِ‬ ‫قُـــ ْل لِ ْل َم َ‬ ‫وكان يزيد بن معاوية‪ ،‬يستعين به‪ ،‬و ِمسْكين ال يتر ّدد في تلبية طلباته‪ ،‬بل‬
‫ـــــــك ُمتَ َعبّــــــــ ِد‬
‫ٍ‬ ‫بناس‬
‫ِ‬ ‫مـــاذا فَ َع ْلــــــ ِ‬
‫ت‬ ‫إن يزيداً طلب منه أن يذكره ويقترحه للملك في‬ ‫كان صوته إلى أبيه‪ ،‬حتى ّ‬
‫صـــــــا ِة ثِيابَـــهُ‬ ‫قَـــ ْد كانَ شَـــــــ ّم َر لل َّ‬ ‫شعر يُنشدها عند معاوية‪ ،‬حتى إذا احتش َد مجلس معاوية بوجوه بني‬ ‫أبيات ٍ‬
‫ـــج ِد‬
‫س ِ‬ ‫ب ال َم ْ‬ ‫ت لـــهُ ببـــــــا ِ‬ ‫حتـــى قَ َعـــ ْد ِ‬ ‫أمية وأشراف الناس‪ ،‬دخ َل ِمسْكين‪ ،‬ويزيد جالس عن يمين أبيه‪ ،‬فأنش َد قائالً‪:‬‬
‫إنْ أُ ْد َع ِم ْ‬
‫ســـكينا ً فإنّـــي ابـــنُ َم ْعشَـــ ٍر‬
‫فشا َع بين الناس أن ِمسْكين الدارمي‪ ،‬قد رجع إلى ما كانَ عليه‪ ،‬وأحبَّ‬ ‫فكانَ أول من دعا إلى يزيد بالخالفة‪ ،‬وقال له معاوية‪ :‬ننظر فيما‬ ‫أحمــــــي َع ْن ُهـــ ُم وأذو ُد‬
‫س ْ‬ ‫ِمنَ النّـــــــا ِ‬
‫خمار أسود‪ ،‬فل ْم تب َق في المدينة حسناء‪ّ ،‬إاّل طلبت خماراً أسود‪،‬‬ ‫واحدة ذات‬ ‫قلت يا ِمسْكين‪ ،‬ونستخير الله‪ .‬فَلم يتكلم أح ٌد في ذلك من بني أمية‪ّ ،‬إاّل‬ ‫إلي َك أميـــــــ َر المؤمنيـــــــنَ َر َح ْلتُهـــــا‬
‫ٍ‬
‫ّ‬
‫رغباتهن فيه‪ ،‬وتنافسن في شرائه‪ ،‬فبا َع التاجر الحمل الذي كانَ معه‬ ‫لكثرة‬ ‫باإلقرار والموافقة‪ ،‬وهذا الذي أراده يزيد‪ ،‬ليعلم ما عندهم‪ ،‬ث ّم وصله‬ ‫تُثيـــــــ ُر القَطــــــا لَ ْيـــاً وهُـــنَّ هُجو ُد‬
‫بأضعاف ثمنه‪ .‬فلما فرغ منه عاد ِمسْكين إلى تعبّده وانقطاعه‪.‬‬ ‫يزيد ومعاوية‪ ،‬فأجزال صلته‪ .‬وكذلك فعل زياد والي العراق‪ ،‬وحين‬
‫هلك زياد رثاه قائالً‪:‬‬ ‫إلى أن قال‪:‬‬
‫ديوانه الشعري‬ ‫ــــــام ولَّــــــــتْ‬
‫ِ‬ ‫َرأ ْيـــتُ زيــــــادةَ اإل ْ‬
‫س‬ ‫ــــــاه ر ُّبــــــــهُ‬ ‫إذا ال ِم ْنبَـــ ُر ال َغ ْر ُّ‬
‫بـــي َخ ّ‬
‫جمع عبدالله الجبوري‪ ،‬وخليل العطية‪ ،‬ما تيسّر من شعر ِمسْكين‬ ‫َجهـــــــاراً حيـــــــنَ فارقَهـــــــا زيـــا ُد‬ ‫فــــــــإنَّ أميــــــــ َر المؤمنيـــــنَ يزيـــ ُد‬
‫الدارمي‪ ،‬في ديوان وحقّقاه عام ‪ 1389‬للهجرة‪ 1970 /‬للميالد‪ ،‬وكان‬
‫مجموع أبيات الديوان مئتين واثنين وتسعين بيتاً‪ ،‬وبعدها حقّقته كارين‬
‫صادر‪ ،‬عام ‪2000‬م‪ ،‬فجاء في ثالثمئة وخمسة أبيات‪.‬‬

‫لغته ومعجمه‬
‫كان ِمسْكين ال ّدارم ّي‪ ،‬سيداً شريفاً‪ ،‬وشاعراً ُمجيداً‪ ،‬من أشهر شعراء‬
‫عصره وفحولهم‪ ،‬واتّسمت قصائده بالدهشة والجزالة‪ ،‬ورقّة التعبير وقوّته‪،‬‬
‫ووفرة المعاني‪ ،‬ووضوح الغاية‪ .‬ويعبّر معجمه ال ّشعريّ‪ ،‬ع ّما اختاره من‬
‫ألفا ٍظ ومعا ٍن تش ّكل بها شعره‪ ،‬ويكشف لنا عن اتصال معانيه بالعناصر‬
‫التي تحيط به‪ ،‬على اختالفها وتنوعها‪ ،‬وموقفه إزاء العالم‪ ،‬وانعكاس هذا‬
‫الموقف على رؤيته الشعرية‪ .‬ونالحظ حضور معجم الصحراء والموت‬
‫والحرب والدين واألخالق واألمثال وغيرها‪.‬‬

‫أغراضه الشعرية‬
‫نظم ِمسْكين ال ّدارمي‪ ،‬شعراً في أغراض متعددة‪ ،‬كالكرم والفخر‬
‫والحماسة‪ ،‬والهجاء والرثاء‪ ،‬والنقائض والغيرة والغزل‪ ،‬وحسن الجوار‬
‫والحث على مكارم‬‫ّ‬ ‫والهاجرة‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وعُرف عنه الحكمة في شعره‬
‫األخالق‪ ،‬والنبل وحسن اختيار الصاحب‪ ،‬وهذا التنوع كان طبيعيا ً في ظل‬
‫ازدهار الشعر في العصر األمويّ‪ ،‬واتّساع مجاالته ومراميه‪ ،‬وتنوع ألفاظه‬
‫ومعانيه‪ ،‬تبعا ً للمظاهر التي استج ّدت في هذا العصر‪ .‬ويع ّد َمسْكين الدارم ّي‪،‬‬ ‫قصر المشتى ‪ -‬من الحواضر االٔموية‬

‫‪61‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪60‬‬
‫عصور‬

‫س أنْ يَ ْنظروا‬ ‫تغـــــــا ُر علـــــى النّـــــــا ِ‬ ‫من الشعراء ال ُمقلّين‪ ،‬ومع هذا لم يصل إلينا شعره كامالً‪ ،‬بل ضاعت قصائده‬
‫من ال ُمقلّين ولم يصل إلينا‬ ‫ت النَّظَ ْ‬
‫ـــر‬ ‫وهَـــــــ ْل يَ ْفتِــــــنُ ال ّ‬
‫صالحـــا ِ‬ ‫كحال غيرها من التراث المندثر عبر الزمن والتاريخ‪ ،‬ولكننا سنعرض هنا‬
‫فـــإنّـــــــي ســـأ ُ ْخلــــــي لَهـــــا بَ ْيتَهـــا‬ ‫أغراض متنوعة لمسناها في شعره‪:‬‬ ‫بعض الشواهد الشعرية عن‬
‫شعره كامالً‬ ‫ٍ‬
‫ســـــــها أو تَـــــــ َذ ْر‬
‫فَت َْحفَـــــــظُ فـــي نَ ْف ِ‬
‫الغزل‪ /‬الوصف‪ /‬الهوى‬
‫ومما قاله في حُسن الجوار‪:‬‬ ‫ـــف إِ ْذ ُو ِ‬
‫صفَتْ‬ ‫ص ِ‬ ‫كأنَّ صورتَهـــا في ال َو ْ‬
‫واحـــــــــدةٌ‬‫نا ِري ونـــــــــا ُر الجـــــــا ِر ِ‬ ‫ُق‬
‫صريّـــ ِة ال ُعت ِ‬ ‫ـــن ِمـــنَ ال ِم ْ‬‫دينـــا ُر َع ْي ٍ‬
‫وقال‪:‬‬ ‫وإلَ ْيـــــــــه قَ ْبلـــــــي تُ ْنــــــــ َز ُل القِـــ ْد ُر‬ ‫َف‬
‫صد ٍ‬ ‫اص فـــي َ‬ ‫أَو ُد ّرةٌ أَ ْعيَـــ ِ‬
‫ت ال َغـــ ّو َ‬
‫ف وال َّر ْحـــ ُل َر ْحلُهُ‬ ‫طعامي طَعـــا ُم ال َّ‬
‫ض ْي ِ‬ ‫َ‬ ‫ي ْإذ أجـــــا ِو ُره‬ ‫ضــــــ َّر جــــــــار َ‬‫مـــــا َ‬ ‫ق‬‫غ فـــي َو َر ِ‬ ‫ص ّوا ُ‬‫َـــب صا َغـــهُ ال ّ‬ ‫أَو َذه ٌ‬
‫ولَـــ ْم يُ ْل ِهنـــي َع ْنـــــهُ غــــــزا ٌل ُمقَنّـــ ُع‬ ‫ســـــــــ ْت ُر‬‫أنْ ال يكــــــــونَ لِبَ ْيتِــــــــه ِ‬
‫َ‬
‫ديـــث ِمـــنَ القِـــــــرى‬ ‫أَ َح ِّدثُـــهُ إِنّ َ‬
‫الح‬ ‫أَعْمــــــى إذا مـــا جارتـــــــي َخ َر َجـــتْ‬
‫ـــوفَ يَ ْه َج ُع‬
‫س ْ‬‫وتَعْـــرفُ نَ ْفســـي أنّـــه َ‬
‫الخـــ ْد ُر‬
‫ي جا َرتــــــي ِ‬ ‫حتّــــــى يُــــــ َوا ِر َ‬ ‫كتب بأغراض متعددة‬
‫وأَصـــــ ُّم َع ّمـــــــا كـــــــان بَ ْينَ ُهمــــــــا‬ ‫كالكرم والجود والفخر‬
‫ســــــ ْمعي ومـــــا بـــــي َغ ْيـــ َره َو ْقـــ ُر‬ ‫َ‬
‫وقال في الحماسة‪:‬‬
‫ضاحكا ً‬ ‫ِ‬ ‫ســـ َّرنِي ال َّدهْـــ ُر‬‫ســـتُ إِذا ما َ‬‫ولَ ْ‬
‫وقال في ال َكرم‪:‬‬ ‫وجاء عن األصمعي أنه قال‪ ،‬أحسن ما قيل في ال َغيْرة قول ِمسْكين ال ّدارمي‪:‬‬
‫ث ال َّد ْه ِر‬ ‫خاشعا ً ما ِعشْـــتُ ِمنْ حا ِد ِ‬ ‫ِ‬ ‫وال‬
‫ضـــي لِمالِـــي ِوقَايَـــةً‬ ‫وال جا ِع ً‬ ‫نـــــزال َر ْحلِ ِه‬
‫ِ‬ ‫ض ْيفـــي قَ ْبـــل إِ‬ ‫أُ ِ‬
‫ضاحـــ ُك َ‬ ‫ستَشـــــــــيـ‬ ‫أال أيُّهــــــا الغائـــــــــ ُر ال ُم ْ‬
‫ـــا ِع ْر ِ‬
‫ْ‬
‫ضـــي فيَ ْحـــ ِر ُزهُ َوف ِري‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ديـــب‬
‫ُ‬ ‫ـــب ِع ْنـــدي وال َم َحـــ ُّل َج‬ ‫ص ُ‬‫ويَ ْخ ُ‬ ‫ـــــطُ عَـــــــا َم تَغـــــــا ُر إذا لَـــ ْم تُ ِغ ْ‬
‫ـــر‬
‫ول ِكـــنْ أقِي ِع ْر ِ‬
‫ســـ ِري وأُ ْبـــ ِدي ت ََج ُّمالً‬ ‫ضياف أَنْ يَ ْكثُ َر القِرى‬
‫ِ‬ ‫ـــب لألَ‬
‫ص ُ‬ ‫الخ ْ‬
‫َوما ِ‬ ‫س إذا ِخ ْفتَها‬ ‫ـــــــر ٍ‬
‫ْ‬ ‫فَمــــــــا َخ ْيـــــــ ُر ِع‬
‫أَ ِعـــفُّ لَـــدَى ُع ْ‬
‫صيـــب‬
‫ُ‬ ‫ول ِكنَّمــــــا َو ْجــــــهُ ال َكريـــــم َخ‬ ‫ت إذا لَـــ ْم يُـــ َز ْر‬
‫ومــــــا َخ ْيــــــ ُر بَ ْيــــــ ٍ‬
‫ســـ ِر‬ ‫وال َخ ْيـــ َر فِي َمـــنْ ال يَ ِعفُّ لَدَى ا ْل ُع ْ‬

‫وجاء في وصفه الهاجرة (وقت ش ّدة الشمس)‪:‬‬


‫وهاجرة ظَلَّـــــــتْ كـــــــأَنَّ ِظبا َءهـــــــا‬
‫ســـجو ُد‬ ‫ـــرون ُ‬
‫ِ‬ ‫إِذا مــــــا اتَّقَ ْتهــــــا بالقُ‬
‫س فَ ْوقَها‬‫ب ِمـــنَ الشَّـــ ْم ِ‬
‫َلوذ لِشـــؤبو ٍ‬‫ت ُ‬
‫ـــنان طَريـــ ُد‬
‫ِ‬ ‫َكمـــــا ال َذ ِمـــنْ َحـــ ِّر ال ِّ‬
‫س‬

‫وم ّما جاء في إخالصه للخليل وأخالقه الحميدة قوله‪:‬‬


‫إِذا مـــــا َخليلـــــــي خانَنـــــي وا ْئتَ َم ْنتُهُ‬
‫فَــــــــذا َك َوداعيـــــــ ِه وذا َك َوداعُهـــــا‬
‫َر َددْتُ َعلَ ْيــــــــــ ِه ُو َّدهُ وتَـــــ َر ْكتُهــــــــا‬
‫ع َرجاعُهــــــا‬ ‫ُمطَلَّقَـــــــةً ال يُســـــــتَطا ُ‬
‫الحيـــاء الَّذي تَرى‬ ‫وإِنّـــي ا ْمـــر ٌؤ ِمنّي َ‬
‫ليـــــــل ِخداعُهـــا‬
‫ٍ‬ ‫ـــــاق قَ‬
‫ٍ‬ ‫عيـــش بأ َ ْخ‬
‫ُ‬ ‫أَ‬

‫توف َي ِمسْكين ال ّدارمي‪ ،‬سنة ‪ 90‬للهجرة‪ ،‬في خالفة الوليد بن عبد‬


‫عاش حياته في أوائل عهد األمويين في الكوفة سيّداً شريفا ً‬
‫َ‬ ‫الملك‪ ،‬بعد أن‬
‫وشجاعا ً من سادات قومه بني تميم‪ ،‬فحال من فحو ِل الشعراء‪ ،‬وأنهى حياته‬
‫ً‬
‫متنسّكا ً عابداً‪ ،‬مالزما ً المسجد‪ ،‬مبتعداً عن ّ‬
‫ملذات الدنيا‪ ،‬ساعيا ً وراء‬
‫العبادة‪ ،‬منقطعا ً إلى الله‪.‬‬

‫‪63‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪62‬‬
‫شعر‬

‫صديقُك‬ ‫ال تست ِهنْ بالحصى‬


‫ُ‬ ‫ويَ ْجــري ُّ‬
‫الزال ُل وال تَش‬
‫ْـــرب؟‬ ‫ب؟‬ ‫الحمـــا ُم وال تَ ْ‬
‫ط َر ُ‬ ‫أيَشْـــدو َ‬ ‫شـــقي فـــي َت ْرحالِ ِهـــا ُي ْضني‬ ‫فصا َر ِع‬ ‫ـبع ريـحاً َجــــ َّر ْ‬
‫حت ُم ْزني‬ ‫كــــنت أ ْت ُ‬
‫ُ‬ ‫َقـ ْد‬
‫َ‬
‫ـــب‬ ‫ْ‬
‫األخيَ ُ‬ ‫يكــدِّرهـــــا ظنُّـــــكَ‬ ‫لنفســــــكَ ُم ْرتابــــــةً‬
‫ِ‬ ‫َأاَل مـــا‬ ‫األشـــواك في لَ ْحني‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫أخشـــى عَ لي ِه ِمنَ‬ ‫الـــو ْر ُد َي ْبكـــي‪ ،‬كأنَّ ال َق ْح َ‬
‫ـــط َي ْح ُض ُن ُه‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫عليكَ إليــكَ هـــــــو األ ْق َ‬
‫ـــر ُ‬ ‫ق الذي قلبُه‬
‫الصديـــــ ُ‬
‫ّ‬ ‫وحتّـــى‬ ‫الج ْف ِن‬
‫فـــو ْرداً و َيرمينـــي علـــى َ‬
‫ِو ْرداً ِ‬ ‫ــــي َي ْسك ُبني‬
‫ض ِف ّ‬‫َبـ ْعضي َســــا ٌم و َب ْع ٌ‬
‫بر َحـ ّتى ُتــــواريني كـما ال ُغ ْص ِن‬
‫بـالص ِ‬
‫ّ‬ ‫راء َتــــ ْغ ِسلُني‬
‫الــــس ْم ِ‬
‫َّ‬ ‫كأمطار َك‬
‫ِ‬ ‫ِو ْردي‬
‫ع ْهــــ ُد النّــوى ال ُم ْج ِد ُ‬
‫ب‬ ‫وغركَ َ‬
‫َّ‬ ‫ض ِه‬
‫ع ْن َح ْو ِ‬ ‫َحتَ وأَعْ َر ْ‬
‫ضـتَ َ‬ ‫أَش ْ‬
‫الحل ُم َي ْســـ َت ْعصي علـــى َّ‬
‫الط ْع ِن‬ ‫كأ ّنهـــا ُ‬ ‫ش‬ ‫بول ِمنْ عَ َط ٍ‬ ‫ض يا ُكــــلّ َي ال َم ْج َ‬ ‫واألر ُ‬
‫ْ‬
‫ب؟‬
‫حج ُ‬
‫سنا بد ِرها يَ ُ‬
‫ـــــن ذا َ‬
‫ْ‬ ‫و َم‬ ‫الحيا ِة‬
‫بليـــل َ‬
‫ِ‬ ‫صديقُـــكَ بَـــد ٌ‬
‫ْر‬
‫رعد أمان‬ ‫ـــجني‬‫ُتعانـــ ُد ال ّنهْ ـــ َر أو َت ْنســـ ُّل ِمنْ ِس ْ‬ ‫بـالحصى فــــي َقـ ْل ِبها لُـ َغ ٌة‬‫َ‬ ‫ــــس َت ِهنْ‬
‫ال َت ْ‬ ‫هندة محمد‬
‫اليمن‬ ‫س تُســـتَع َذ ُ‬
‫ب‬ ‫ـــر ِ‬
‫الج ْ‬‫موقَّعـــةُ َ‬ ‫صبحهــــا نغمةٌ‬
‫ِ‬ ‫صديقُـــكَ في‬ ‫أغ ٌ‬ ‫َتـ ْنـساه ْ‬ ‫تونس‬
‫ـضـني‬ ‫ـخـض ُّر فــي ِح ْ‬‫ـنـية َي ْ‬ ‫األحـــــزانُ فـــــي َو َت ٍ‬
‫ــر‬ ‫وال َتـ ُغــــ ّر ّن َك ْ‬
‫تطلب‬
‫ُ‬ ‫ويعطيـــكَ من غي ِر مـــا‬ ‫صديقُـــكَ يأخـــــ ُذ ِم ْ‬
‫ـــن ع ُْم ِره‬ ‫زال م ّوالُـــ ُه َيهْ مـــي علـــى ُح ْز ِني‬
‫مـــا َ‬ ‫ايات في َج َس ٍد‬ ‫أســــقي ِه ِمنْ َشـــ َغ ِف ال ّن ِ‬
‫ْ‬
‫ـــب‬
‫ه ُ‬ ‫وحيـــن الفِـــدا كلُّـــه يو َ‬
‫َ‬ ‫فـــإن شـــئتَ نَ ْبضا ً َحبـــاكَ ب ِه‬
‫ْ‬ ‫ـن‬‫ــــسي بــال د َْف ِ‬
‫ٌّ‬ ‫ض َمـ ْن‬ ‫بــاآلهِ‪ ،‬والـ َبـ ْع ُ‬ ‫ــــساء َتـراتــــي ٌل ُمـلَـ َّو َن ٌة‬
‫ِ‬ ‫ــــض الـ ّن‬
‫َبـ ْع ُ‬
‫أكتـــب؟‬
‫ُ‬ ‫فمـــاذا أقـــو ُل ومـــا‬ ‫أح ُرفي‬
‫وصفِـــه ْ‬
‫ْ‬ ‫ـــر فـــي‬
‫قص ُ‬ ‫تُ ِّ‬ ‫ـع َّ‬
‫الــظـنِّ‬ ‫ســاط ُ‬
‫ِ‬ ‫ـش ُ‬
‫ـتـاقهنَّ َمــســــا ٌء‬ ‫َي ْ‬ ‫ــــهار وقـَــ ْد‬
‫ِ‬ ‫أغـــان لـلـ َّن‬
‫ٍ‬ ‫ـضـهــــنّ‬‫و َبـ ْع ُ‬

‫ب؟‬ ‫هــدى ت َْر َ‬


‫غ ُ‬ ‫بضيــاء ال ُ‬
‫ِ‬ ‫َمتـــى‬ ‫الل‬
‫الض ِ‬
‫ّ‬ ‫ب‬ ‫أيا ُم ْدلِجا ً في ِ‬
‫شـــعا ِ‬ ‫ـعــــات ِمــنَ الـ َعـ ْي ِن‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫مـثـل د َْم‬ ‫َتـ َفـ َّر ْ‬
‫طت‬ ‫ـسـ َب َح ًة‬ ‫لَــ َكـ ْم َمــ َر ْرنَ عـلــــى َكـ ّف َ‬
‫ـيك َم ْ‬

‫َـــب‬
‫ـــن‬
‫الح ْس ِ‬‫آيـــات ِمنَ ُ‬
‫ٍ‬ ‫ـــمي‬
‫إس َ‬ ‫وصـــا َر ْ‬ ‫ُم ْذ ِض ْعنَ في ُس ْمر ِة األ ْنهار ِص ْر ُت َن ً‬
‫دى‬
‫وليـــــس يلـــــو ُم وال يَ ْعت ُ‬ ‫الرضا‬
‫ـــن ّ‬
‫ق بِ َع ْي ِ‬
‫الصدي ُ‬
‫ّ‬ ‫يَـــراكَ‬
‫صـارت ُحـقو ُل الـ ُّرؤى ْ‬
‫أشهى ِمنَ ال َمنِّ‬ ‫ْ‬ ‫ـــياء الــــ َق ْلب ُسـ ْن ُب ً‬
‫لة‬ ‫ــــذ َب َـذ ْرنَ ضـ ِ َ‬
‫و ُم ْ‬
‫ِ‬
‫ـــب‬
‫ض ُ‬ ‫يســـامح دومـــا ً وال ي ْغ َ‬
‫ُ‬ ‫وإن أنـــتَ أخطـــــأتَ في حقِّ ِه‬
‫ْ‬
‫كـالـو ْه ِن‬
‫َ‬ ‫ـقـاض‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫لـلـطـالعينَ مـــــن األ ْن‬ ‫ـئـذ َن ًـة‬
‫ـت ِم َ‬‫الــو ْق ِ‬
‫ــــب َ‬‫الـخـالـدات ِبـ َقـ ْل ِ‬
‫ُ‬
‫أب‬
‫الوفـــي ُ‬
‫َّ‬ ‫ق‬
‫الصديـــ َ‬
‫ّ‬ ‫كـــــأنَّ‬ ‫ريـــح األذى‬
‫َ‬ ‫بروحـــه‬
‫ِ‬ ‫يَقيـــكَ‬
‫هجروا ُســـ ْفني؟‬
‫َرب ّ‬ ‫أي د ٍ‬ ‫لِ ْل َغ ْي ِ‬
‫ـــب ِمنْ ّ‬ ‫س‬‫حوت ِمنْ َق َب ٍ‬
‫الـس َف ُر الــــ َم ْن ُ‬ ‫ُ‬
‫ــــطاه ُم َّ‬ ‫ُخ‬
‫شــــموس الجفـــا تَ ْغ ُر ُ‬
‫ب‬ ‫َ‬ ‫وخ ِّل‬ ‫ســـ ْع ِد في أفقِه‬
‫فأشـــ ِرقْ كما ال َّ‬ ‫يـــاء ال ّندى ْإذ َي ْســـ َتحي ِم ّني‬ ‫ذابات الـــ ُّرؤى ُك ْ‬ ‫ِمن لَهْ ف ٍة فـــي عَ‬
‫أ ْم مـــن َح ِ‬ ‫تبت‬ ‫ِ‬
‫ال ِحـــ َّل فـيـهــــا وال َت ْـرحـالُها ُي ْ‬
‫ـضـني‬ ‫ــؤجـ َر ٌة‬ ‫ُكــــــ ُّل الـ ِّن ِ‬
‫ـسـاء عَ ـنـاويــــنٌ ُم َّ‬
‫ات فــــي عَ ـد ِْن‬ ‫أو َيــــ ْك َتفيها لَــــ ُه َ‬
‫الـج ّن ُ‬ ‫الــــص ْب ُر ِفـ ْت َن َت ُه‬
‫َّ‬ ‫َمــنْ َيـ ْعـ َتريها يـكـونُ‬

‫‪65‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪64‬‬
‫شعر‬

‫أكا ُد أَ ِجفْ‬ ‫ديث ّ‬


‫الذكريات‬ ‫َح ُ‬
‫ــــــــات ا ْل َف َتـــــــى ْ َ‬
‫اأْل ْس َع ِد‬ ‫ِ‬ ‫و ِمنْ ِذ ْك َر َي‬ ‫ـــوى ِمــــــنْ َن ِشـــي ِدي‬ ‫أَ َكا ُد أَ ِج ُّف ِس َ‬ ‫كان الطّريـــ ُ‬
‫ق إلـــى َع ْينَ ْيـــ َك يَ ْختَنِـــ ُ‬
‫ق‬ ‫َ‬
‫وح َكال َّز َب ِد‬ ‫صـــــــدَى الـــ ُّر ِ‬
‫َ‬
‫ــــــال َ‬ ‫َف َس‬ ‫ص ْو ِتـــي‬ ‫ــــــر ُت َجــــــ َّر َة َ‬ ‫ْ‬ ‫ـــك َك َّس‬ ‫لِ َذلِ َ‬
‫ق‬
‫ســـ ْي ُل أســـئل ٍة يَشـــقى بهـــا الـــ َو َر ُ‬
‫و َ‬
‫ــــــي يـــا َســـ ِّي ِدي‬ ‫َ‬ ‫وجــــــ ِّر ْب ُه ُمو ِم‬ ‫َ‬ ‫يـــا‬ ‫ــــــل ُك ِّنـــي َق ِل ً‬ ‫ُ‬ ‫ـــت‪ :‬أَيـــــا لَ ْي‬ ‫َو ُق ْل ُ‬
‫ســـ ْم ُر تُشْـــهدُنا‬ ‫ت ّ‬
‫الذكريـــاتُ ال ّ‬ ‫وكانـــ ِ‬
‫ــــــل ِمـــــنْ َج َســـ ِدي‬ ‫ُ‬ ‫صا ِئ َد َتهْ ِط‬ ‫ا ْل َق َ‬ ‫ــــــس َغ ْيـــــــــ َر أَنَّ‬ ‫ٌ‬ ‫أَ َنا َم َطـــــــ ٌر َي ِاب‬
‫ـــن الــــــــد َّْر ِب َوا ْل َبلَ ِد‬ ‫ـــــــت عَ ِ‬ ‫ُ‬ ‫وغ ْب‬
‫ِ‬ ‫داخ ِلـــي‬ ‫ــــــت ِفـــي ِ‬ ‫ُ‬ ‫َك ِثيـــــــراً َت َغ َّر ْب‬ ‫أوطانِنــــــا قَلَـــ ُ‬
‫ق‬ ‫أنَّ ال ّرجـــــو َع إلـــــى ْ‬
‫ــــــا َم ْو ِعـــ ِد‬ ‫ــــــب ِب َ‬ ‫ٍّ‬ ‫ـــر ُح‬ ‫إِلَـــى َنهْ ِ‬ ‫يان‬ ‫ْت َق ْل ِبــــــي علـــى ا ْل َج َر ِ‬ ‫ـــــود ُ‬
‫وعَ َّ‬
‫ـــح َر فِ ْتنَتِـــ ِه‬
‫ق يَ ْرمـــي ِس ْ‬ ‫لكنّـــهُ الش ْ‬
‫َّـــو ُ‬
‫ـــــل ِفـــي ا ْل َم ْشـــهَ ِد‬ ‫ـــي ا ْل ُم َت َم ِّث ُ‬ ‫َو ْج ِه َ‬ ‫حـــــاولُ ِنـــــــــي‬ ‫ِ‬ ‫راء ُي‬ ‫أَ َنا ا ْلــ‪ ..‬ما َو ُ‬
‫ـــــت َولَـــ ْم أَ ْق ِ‬ ‫اخ َت َف ْي ُ‬ ‫َحـــ َّد أَ ِّنـــي ْ‬ ‫ق‬
‫علـــى ُجفـــو ٍن بمـــا ِء ال َع ْيـــ ِن ت َْحتَـــ ِر ُ‬ ‫زينب عقيل‬
‫عبد العزيز لو‬
‫السنغال‬
‫ص ِد‬ ‫ــــــح‬
‫ٌ‬ ‫ض‬ ‫ـــــــــي َك ُح ْز ِنــــــــي و ُم َّت ِ‬ ‫ٌّ‬ ‫َخ ِف‬ ‫لبنان‬
‫ـــــول ولَـــ ْم أَ ْه َت ِد‬
‫ِ‬ ‫ص‬ ‫س ِســــــ َّر ا ْل ُو ُ‬ ‫َ‬ ‫ضــــــ ٍة أَ ْم َن ُح ال َّنـا‬ ‫و ِمنْ حيــــ َر ٍة َم ْح َ‬ ‫ـــب‪َ ،‬هـــ ْل لِ ْلقَ ْلـــ ِ‬
‫ب ُم ْع ِجـــزةٌ؟‬ ‫لكنّـــهُ القَ ْل ُ‬
‫ـــي لَــــــ ْم َي ُعـــ ِد‬ ‫َجـــ َرى لَـــ ْم َي ُعـــ ْد لِ َ‬ ‫ْ‬
‫ـــراري ال َك ِ‬
‫الم‬ ‫ِ‬ ‫وص ْو ِتي الَّـــ ِذي ِفي َب‬ ‫َ‬
‫َبهْ َج ِتهــــــــا‪ ..‬وأَنـــــــــا َمــــــــ َد ِدي‬ ‫وســـ ِّي ُد‬ ‫ُ‬ ‫الذ ْك َر َي‬ ‫أَ َنـــا َهــــــ ِذ ِه ِّ‬ ‫ق‬
‫الحبَ ُ‬
‫ق علـــى أوجا ِعـــ ِه َ‬ ‫َك ْ‬
‫ـــي يَســـتفي َ‬
‫ــــــــات َ‬
‫صـــــي ِبـــا عَ ـــ َد ِد‬ ‫وأَ ْن َســـــــى وأُ ْح ِ‬ ‫راحي‬ ‫صي ِج ِ‬ ‫ـــاس أُ ْح ِ‬ ‫وما ِز ْل ُت َكال َّن ِ‬ ‫الحنيـــ ِن ثقيـــ ٌل فـــي تَ َه ُّجـــ ِده‬
‫ـــض َ‬
‫بَ ْع ُ‬
‫ــــ ُه َق ْل ِبي‪ ..‬أُ َنا ِدي ِه‪ :‬يــــــــا َك ِبــــــ ِدي‬ ‫ـــابــ‬ ‫ــــــي ٍء ُي َش ِ‬ ‫ْ‬ ‫ـــــل عَ لَـــى أَ ِّي َش‬ ‫أُ ِط ُّ‬ ‫وح ْ‬
‫أختَنِـــ ُ‬
‫ق‬ ‫أكلّمـــا حـــا َم فَ ْ‬
‫ـــوق الـــ ّر ِ‬
‫ــــر ِح ِفـــي ا ْل َولَ ِد‬ ‫ــــــر ا ْل ُج ْ‬ ‫ِ‬ ‫آخ‬ ‫إِلـــى ِ‬ ‫طاي‬ ‫وصاح ْب ُخ َ‬ ‫ِ‬ ‫ص ِدي ِقـــي‬ ‫ـــط ُكنْ َ‬ ‫َف َق ْ‬
‫أْل َبــــــــ ِد‬ ‫الشــــ ْعر ِل ْ َ‬ ‫َح ِفـــي ُشـــــ ْبهَ ِة ِّ‬ ‫س ال ُّرو‬ ‫وإِنْ ِشـــ ْئ َت ُكنْ لُ َغ ِتي ْ‬ ‫ف يَ ْتبَ ُعني‬
‫ـــو ِ‬
‫الخ ْ‬‫ـــراب َ‬
‫ُ‬ ‫كان ُغ‬
‫ـــرتُ ‪َ ،‬‬
‫َعبَ ْ‬
‫ِ‬ ‫واغ ِم ِ‬
‫ان َجـــــــ َرى دُو َن َمـــــا عُ َقـــــــ ِد‬ ‫أغ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ـــر ُت َنهْ ـــ َر‬ ‫ص ْ‬ ‫ـــو أَ َّن ِنـــي ِ‬ ‫ـــت لَ ْ‬ ‫َت َم َّن ْي ُ‬ ‫ولَـــ ْم أ ُكـــنْ فيـــ َك‪ ،‬في مـــا تَدّعـــي أَثِ ُ‬
‫ق‬
‫ــــــوى َقــــا َمـــــ ِة ا ْل َج َســــــ ِد‬ ‫َ‬ ‫َي ْوماً ِس‬ ‫َفأُ ْهـــ ِدي إِلـــى َولَـــ ٍد لَـــ ْم َي ُخـــنْ ِف َّي‬ ‫أجوبـــةً‬
‫ت ْ‬ ‫ـــأتُ َكأســـ َي قَ ْبـــل ال َم ْ‬
‫ـــو ِ‬ ‫َم َ‬
‫ـــــوى ا ْل َبلَـــــــــ ِد‬ ‫وه َ‬ ‫ــــــة‪َ ..‬‬ ‫ً‬ ‫َج ًة َغ ْي َم‬ ‫ـــــــن و َد َّرا‬ ‫ِ‬ ‫َسأُ ْهـــ ِديـــــ ِه عُ ْص ُفو َر َت ْي‬
‫ــــك ا ْل َم ْ‬
‫ــــو ِقـــــــ ِد‬ ‫ال َق ِدي َم ِة ِفــــــي َذ ِل َ‬ ‫رات‬ ‫الســـهَ ِ‬ ‫ـــوم ِمـــنَ َّ‬ ‫وس ْ ُ‬ ‫أس ظَنّـــا ً حينمـــا نَطَقوا‬
‫َكـــ ْم َخيّ َب الـــ َك ُ‬
‫ـــر َب ن ُج ٍ‬ ‫ِ‬
‫ــــــر َنـــ ِدي‬ ‫ٍ‬ ‫ات عُ ْم‬ ‫ِحبـــاً ُك ْن ُتـــــ ُه َذ َ‬ ‫ــــك ال َّر ْح ِب يا صا‬ ‫َســـــــا ٌم عَ لَى َق ْل ِب َ‬ ‫أج َم ُعهُ‬
‫ف ْ‬ ‫َـــي َء َغ ْيـــ َر النَّ ْ‬
‫ـــز ِ‬ ‫و ُعدْتُ ال ش ْ‬
‫ـــــر َنــــا ولَــــ ْم ُيولَ ِد‬ ‫الَ ِذي َقـــــــ ْد َك ِب ْ‬ ‫يل‬ ‫َســـا ٌم عَ لَـــى ُح ْل ِمنـــا ا ْل ُم ْســـ َت ِح ِ‬ ‫ـــي تَ ْبكي لـــه ال ُّط ُر ُ‬
‫ق‬ ‫و َغ ْيـــ َر َ‬
‫ص ْوتِـــ َك َك ْ‬
‫علـــى مـــا َت َب َّقـــــى ِمـــــنَ ا ْل َولَـــ ِد‬ ‫ضـــى و‬ ‫ـــي ٍء َم َ‬ ‫ـــا ٌم عَ لَـــى ُك ِّل َش ْ‬ ‫َس َ‬

‫‪67‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪66‬‬
‫نقـــد‬

‫للشّـــ ْمس فـــي وجـــدان‬


‫طبيعهتا الجمالية أثَّر َ ْ‬
‫ت في نفوس الشعراء‬
‫اإلنســـان العربـــي عموماً‪،‬‬
‫والشّـــاعر خصوصا ً حضو ٌر‬
‫الفـــت‪ ،‬فقـــد ذكـــر صاحب‬ ‫العربية‬
‫ِ‬ ‫القصيدة‬
‫ِ‬ ‫س‪ ..‬حضور ٌ ساطعٌ في‬ ‫َّ‬
‫الش ْم ُ‬
‫«القامـــوس المحيـــط»‪ ،‬أنّ‬
‫العـــرب كانـــوا يجلّونهـــا؛‬
‫د‪ .‬سماح حمدي‬ ‫فالشّـــمس مصـــدر الـــدّفء‬
‫تونس‬ ‫ضياء‪ ،‬وهـــي التي تنبت‬ ‫وال ّ‬
‫األعشـــاب وتنزل األمطار‪ ،‬فتهب الحيـــاة والخصب‪ ،‬وهي‬
‫التي تمدّهم بأشـــ ّعتها أيضـــاً‪ ،‬لذلك ســـ ّموها «ذات حمم»‬
‫و«ذات حميـــم»‪ ،‬وعدّوهـــا رمـــزاً للخصـــب والجمـــال‪.‬‬

‫است ْل َه َم الشعراء قديما ً‬


‫صوراً بديعة من إشراقها‬

‫ولل ّش ْمس خصلةٌ أخرى هيّأتها ألن تكون محبوبة مبجّلة‪ ،‬فهي فضالً عن‬
‫النّور والبهاء واإلشراق‪ ،‬عالية سامقة في السّماء‪ ،‬وهو عل ٌّو زادها هيبةً‪،‬‬
‫فاشرأبّت نحوها األعناق إعجاباً‪ ،‬وتطلّعت إليها األبصار انبهاراً‪ ،‬لتعلّق‬
‫ال ُمهج بك ّل ما هو بعيد وشاهق‪.‬‬
‫ولم يكن ال ّشاعر القديم‪ ،‬بمنأى عن تلك الرّؤى والتّصوّرات القديمة‪،‬‬
‫الذاكرة الجمعيّة‪ ،‬فاكتظّ الشعر العرب ّي‬ ‫أو على األق ّل ما تبقّى منها‪ ،‬منبثّا ً في ّ‬
‫القديم بالصّور البديعة التي استُحضرت ال ّشمس فيها‪ ،‬لتشبيه الحبيبة‪ ،‬أو‬
‫التكنية عنها‪ .‬فكانت مثالً مرجعا ً (مشبّها ً به) لجمال الوجه وبهاء الطّلعة‬
‫حيناً‪ ،‬ولبياض األسنان وإشراقها حينا ً آخر‪ .‬وستنصرف ه ّمتنا في هذه‬
‫المقاربة السريعة إلى تتبّع صورة ال ّشمس وأشكال حضورها في ال ّشعر‬
‫العربي الفصيح‪ ،‬مستندين إلى بعض النّماذج الشعريّة التي ذاع صيتها‪ ،‬بدءاً‬
‫بالعصر الجاهل ّي‪ ،‬وصوالً إلى ال ّشعر العرب ّي الحديث‪ ،‬مروراً بنماذج من‬
‫ال ّشعر الجاهل ّي والمخضرم‪ ،‬وال ّشعر األمويّ‪ ،‬فالعبّاسي واألندلس ّي‪.‬‬
‫حضرت ال ّشمس في غزل عنترة بن ش ّداد العبسي‪608( ،‬م) في حبيبته‬
‫عبلة‪ ،‬فأنطقها من أجلها‪ ،‬وجعلها تتوجّه بالخطاب إلى عبلة‪ ،‬موصية إياها‬
‫فوس الوحشةُ؛ يقول عنترة‪:‬‬‫بأن تكون خليفتَها إذا ما اسو ّد الليل‪ ،‬ودهمت النّ َ‬
‫س ِع ْنـــ َد ُغروبِها‬‫أَشـــا َرت إِلَ ْيها الشَّـــ ْم ُ‬
‫تَقو ُل إِذا اِســـ َو َّد الدُّجـــى فا ْطلِعي بَ ْعدي‬

‫‪69‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪68‬‬
‫نقـــد‬

‫في نظره تفوقها‪ ،‬ألنّها صنوها في النّور والضّياء‪ ،‬وتزيد عليها باالبتسامة‬
‫ضياء‬ ‫والثغر‪ ،‬إذ أنشد قائالً‪:‬‬
‫شبّهها الشعراء بلوحة ال ّ‬ ‫ض َرت في غزل عنترة‬‫َح َ‬
‫أَنيـــري َمـــكانَ البَـــ ْد ِر إِنْ أَفَـــ َل البَ ْد ُر‬
‫في عيون الناظرين‬ ‫بحبيبته عبلة‬
‫َأخ َر الفَ ْج ُر‬
‫س ما است َ‬ ‫ش ْم ِ‬‫وقومي َمقا َم ال َّ‬
‫ض ْوؤها‬ ‫س ال ُمنيـــ َر ِة َ‬ ‫فيـــك ِمنَ الشَّـــ ْم ِ‬
‫ِ‬ ‫فَ‬
‫وللمتنبّي (‪ 965‬م) مع صورة ال ّشمس في مقام رثاء الحبيبة محموالً‬ ‫ســـ ُم َوالثَـــــــ ْغ ُر‬
‫ـــس لَهـــا ِم ْن ِك التَبَ ُّ‬ ‫ولَ ْي َ‬
‫على الغزل‪ٌ ،‬‬ ‫وغير بعيد عن هذه المعاني‪ ،‬نقف في شعر ال ّشاعر المخضرم سويد بن‬
‫س على‬ ‫شأن‪ ،‬وأ ّي شأن؛ إذ يقف موقف المتأ ّمل في شمسين‪ :‬شم ٍ‬
‫ً‬
‫الحقيقة يجرّد منها أخرى على المجاز؛ األولى تطلع نهارا ّ‬ ‫وقد يستحضر ال ّشاعر مصادر النّور الطبيعيّة‪ :‬ال ّشمس والقمر جميعاً‪،‬‬ ‫كاهل اليشكريّ‪( ،‬ت‪ 683 .‬م)‪ ،‬وهو يتغ ّزل بحبيته‪ ،‬على تشبيه بديع لوجه‬
‫ولكن مصيرها‬
‫أن حبيبته هي مصدر الضّياء بما هو رمز للحياة واألنس والدفء‪،‬‬ ‫ليبيّن ّ‬ ‫الحبيبة بقرن ال ّشمس بجامع الجمال واإلشعاع‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إلى الغياب ليالً‪ ،‬وأخرى كانت مشرقة في سماه‪ ،‬ولكنّها أفلت إلى غير‬
‫رجعة‪ ،‬فتمنّى متفجّعاً‪ ،‬لو ّ‬ ‫ويجعلها المقياس الذي يقيس به مدى الجمال‪ ،‬ويفضّلها عليهما معاً‪ ،‬أ ّما‬ ‫واضحا ً‬
‫ِ‬ ‫ـــــــح ال ِمـــــــرآةَ َو ْجهــــــا ً‬
‫ُ‬ ‫تَ ْمنَ‬
‫أن شمس الحقيقة تفدي شم َسه المجازيّة اآلفلة؛‬
‫ُ‬ ‫عينا الحبيبة فمتفوّقتان على ما في ال ّشمس والبدر مجتمعين من نور‪ ،‬فيعقد‬ ‫ارتَفَ ْع‬ ‫ِم ْث َل قَ ْر ِن الشَّــــ ْمس فـــي ال َّ‬
‫ص ْح ِو ْ‬
‫الموت‪:‬‬ ‫يقول المتنبّي في رثاء خولة أخت سيف الدولة الحمداني‪ ،‬وقد غيّبها‬
‫ســــــ ْي ِن َغائِـــبَــةٌ‬ ‫مقارنة طريفة بينهما‪ ،‬ويكون التميّز لليلى التي جمعت ك ّل سمات الجمال‬
‫فَلَيْتَ طالِ َعـــــةَ ال َّ‬
‫ش ْم َ‬
‫الموجودة في عناصر الطبيعة المختلفة‪ ،‬ففي حضرة ليلى تغيب ك ّل مواطن‬ ‫ويستوقفنا‪ ،‬ههنا‪ ،‬وجه الحبيبة الذي يش ّكل لوحة من الضّياء تبهر‬
‫ســــــ ْي ِن لَ ْم تَــــ ِغ ِ‬
‫ب‬ ‫ولَيـــتَ غائِبَـــةَ ال َّ‬
‫ش ْم َ‬
‫الجمال األخرى‪ ،‬وتتالشى؛ يقول قيس من القصيدة نفسها‪:‬‬ ‫النّاظرين‪ ،‬وينتشر ذاك الضّياء في الكون‪ ،‬فينشر معه البِشر والحياة‪ ،‬مثلما‬
‫آب النّها ُر بِــــها‬ ‫ولَيْـــتَ َعيْـــنَ التـــي َ‬
‫بَلـــى لَ ِك نـــو ُر الشَّـــ ْمس والبَـــدر ُكلُّهُ‬ ‫شبّه أسنان حبيبته بشعاع ال ّشمس إشراقا ً وتأللُؤاً وبياضاً‪:‬‬
‫ب‬‫ـــن التـــي َزالَـــتْ ولَـــ ْم تَؤ ِ‬ ‫فِـــداء َع ْي ِ‬
‫س وال بَـــ ْد ُر‬ ‫يـــك شَـــ ْم ٌ‬‫وال َح َملَـــتْ عَينَ ِ‬ ‫واضحـــا ً‬
‫ِ‬ ‫ُحــــــ ّرة ت َْجلــــــو شَــــــــتيتا ً‬
‫َّـــرقَةُ الـــأَّ ال ُء والبَـــ ْد ُر طالِ ٌع‬
‫ـــك الش ْ‬ ‫لَ ِ‬ ‫ســـط ْعَ‬ ‫َ‬
‫س فـــي الغ ْي ِم َ‬
‫ُـــعاع الشَّــــ ْم ِ‬
‫ِ‬ ‫كش‬
‫وقد طارت في اآلفاق واشتُهرت أبيات البن العميد (ت‪ 970 .‬م)‪ :‬ورد‬
‫فيها ذكر ال ّشمس ثالث مرّات‪ :‬شمس أولى على وجه الحقيقة‪ ،‬فالحبيبة‬
‫ــــــح ُر‬
‫ْ‬ ‫ب والنَّ‬ ‫س لَهـــا ِم ْن ِ‬
‫ـــك التَّرائِ ُ‬ ‫ولَ ْي َ‬
‫قامت تظلّل حبيبها من الشمس ولهيبها‪ ،‬خوفا ً عليه من أذى حرارتها‪،‬‬
‫الضحى‬ ‫س ال ُمنيـــ َر ِة بِ ُّ‬ ‫و ِمنْ أَيْنَ لِلشَّـــ ْم ِ‬ ‫وال ّشمس‪ ،‬فضالً عن ذلك‪ ،‬رمز للنّور والبهاء الذي يب ّدد ال ّشعور‬
‫ـــن فـــي طَرفِهـــا فَ ْت ُر‬ ‫بِ َم ْكحولَـــ ِة ال َع ْينَ ْي ِ‬ ‫بالوحشة النّاجم عن اليوم الغائم‪ ،‬وتط ّل الحبيبة فتب ّدد إحساس الضّيق الذي‬
‫فبادلها ال ّشاعر حبّا ً بحبّ ‪ ،‬وفضّلها على نفسه‪ ،‬وعطف البيت الثاني على‬
‫وأَنّـــى لَهـــا ِمـــنْ َد َّل لَ ْيلـــى إِذا ا ْنثَنَتْ‬ ‫ينتاب ال ّشاعر في ظ ّل غياب حبيبته‪ .‬من ذلك قول قيس بن الملوّح (ت‪.‬‬
‫البيت األوّل في ما يشبه التفسير‪ ،‬مبديا ً عجبه من التباس جمالين‪ :‬جمال‬
‫ســـها ال ُذ ْع ُر‬ ‫بِ َع ْينَـــي َمهـــا ِة ال َّر ْم ِل قَ ْد َم َّ‬ ‫‪ 688‬م) متغنّيا ً بحبيبته ليلى‪ ،‬داعيا ً إيّاها إلى القيام مقام ال ّشمس‪ ،‬إذ إنّها‪،‬‬
‫طبيع ّي وجمال بشريّ‪ .‬وق ّدم ال ّشمس الثانية الواردة‪ ،‬على وجه االستعارة‬
‫على ال ّشمس الثالثة الواردة على وجه الحقيقة‪ ،‬ونسب لتلك الفاعليّة ومعاني‬
‫الحن ّو والرأفة‪ ،‬ولهذه معاني القسوة والعدوان‪ ،‬موحيا ً بضرب من الصّراع‬
‫بين الخير والشرّ؛ يقول ابن العميد‪:‬‬
‫قا َمـــتْ تُظَلِّلُنــــــي ِمــــــنَ الشَّـــــــ ْم ِ‬
‫س‬
‫ــــــب إلـــــ َّي ِمـــنْ نَ ْفســـي‬
‫ُّ‬ ‫أح‬
‫ــــــس َ‬
‫ٌ‬ ‫نَ ْف‬
‫ب‬‫قــا َمــتْ تُظَلِّلُنــي و ِمــــــــنْ ع ََجـــــــ ٍ‬
‫س تُظَلِّلُنــــــي ِمــــــنَ الشَّـــ ْم ِ‬
‫س‬ ‫شَــــــ ْم ٌ‬

‫وللمعتمد بن عبّاد (‪1095‬م)‪ ،‬صور طريفة جرى فيها مجرى‬


‫األندلسيّين الذين كلِفوا بالطّبيعة الخصبة‪ ،‬وتملَّوْ ا جمال عناصرها‪ ،‬فكان لها‬
‫في أشعارهم حضوران‪ :‬حضور على الحقيقة وآخر على المجاز‪ ،‬وها هو‬
‫يصف ممدوحه‪ ،‬فيرى علّة غياب ال ّشمس هي الخجل من جمال الممدوح‪،‬‬
‫وتزيد سرعةُ غيابه المعنى جماالً وجالالً‪ ،‬جسّدهما في هيئة من يتوارى‬
‫صه؛ يقول‪:‬‬ ‫م ّمن يفوقه‪ ،‬ويخشى أن يفضح نق َ‬
‫س ت َْخ َجــــــ ُل ِمــــــنْ َجمالِـــــكْ‬‫الشّـــــ ْم ُ‬
‫ً‬
‫ســـــ ِرعَــــــة لِـــذلِـــــــــكْ‬‫َغيــــــب ُم ْ‬
‫ُ‬ ‫فت‬‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ــــــــث يَ ْحيـــــــــــا أنْ يُصــــــــو‬ ‫وال َغ ْي‬
‫ب لِمـــــــا يَـــــــراهُ ِمــــــــنْ نَـــــــوالِكْ‬ ‫َ‬

‫‪71‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪70‬‬
‫نقـــد‬

‫التي استحضرناها آنفاً‪ .‬وتشير جميعاً‪ ،‬وإن بأقدار متفاوتة‪ ،‬إلى توظيف‬
‫الوجود ّي والما ّدي من أجل الجمال ّي والرّمزي‪ ،‬وهو ما يرسّخ تلك القرابة‬ ‫قيس جعل ليلى‬
‫المفترضة التي عقدها بعض النقّاد بين ما هو فنّي وجمال ّي‪.‬‬ ‫في شعره تفوقها جماالً‬
‫أ ّما أحمد شوقي‪ ،‬أمير الشعراء‪ ،‬فيقول راثيا ً ال ّزعيم المصري سعد‬
‫زغلول الذي وافته المنية سنة ‪:1927‬‬
‫ضحاها‬ ‫ــــس ومالـــوا بِ ُ‬ ‫َ‬ ‫شَـيَّعــــوا الشَّـ ْم‬
‫ق َعلَ ْيهـــا فَبَكاهـــا‬ ‫وا ْن َحــــنى الش ْ‬
‫َّــــر ُ‬
‫ب لَ ّمــــا أَفَــــلَتْ‬
‫لَ ْيــتَـنــــي فــــي ال َّر ْكــــ ِ‬ ‫وحين نصل إلى ال ّشعر الحديث‪ ،‬نجد حضوراً مختلفا ً لل ّشمس‪ ،‬إذ تتحوّل‬
‫يــوشَـــــ ٌع هَــــ َّمتْ فَـنــــادى‪ ،‬فَـثَـنـاهـا‬ ‫إلى موضوع للتأ ّمل والعبرة في مظاهر قدرة الله‪ ،‬وبديع صنعه في الكون‪،‬‬
‫ــو ُمهــا‬ ‫ســـــواداً يَ ْ‬ ‫ـــــح َ‬ ‫الصــ ْب َ‬ ‫َجـــــلَّ َل ُّ‬ ‫فهذا الكوكب الغامض غموضا ً ال يخفّفه تأللؤه في السّماء وسطوعه ك ّل يوم‬
‫َـخــــلَ ْع دُجـاهــــا‬
‫ض لَـــ ْم ت ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فـ َكــــأنَّ األ ْر َ‬ ‫َ‬ ‫فوق الرّؤوس‪ ،‬مدعاة لهدي اإلنسان إلى الله معبوده الح ّق‪ .‬فقد انبرى حافظ‬
‫وجنى‬ ‫ض نـــوراً َ‬ ‫ِهـــــــ َي طَ ْلـــ ُع الـــ َّر ْو ِ‬ ‫إبراهيم‪ ،‬يع ّدد خصال ال ّشمس‪ ،‬ويصف روعتها‪ ،‬وهيمنتها على كثير من‬
‫ســـمينْ‬ ‫طيب اليا َ‬
‫َ‬ ‫ِهـــــــ َي نَشْـــ ُر ال َو ْر ِد‪،‬‬ ‫أن الشمس ال تعدو أن تكون‬ ‫عناصر الطبيعة األخرى‪ ،‬وهكذا يخلص إلى ّ‬
‫ي‬
‫بجمال رمز ّ‬
‫ٍ‬ ‫اكتستْ‬ ‫س ومـــــا فـــي آيِــــــــها‬ ‫إنّمـــا الشَّـــ ْم ُ‬ ‫آيةً من اآليات ال ّدالة على قدرة الله وعظمته؛ قال‪:‬‬
‫في الشعر العربي‬ ‫َ‬
‫عـــــان ل َم َعــــــــتْ للعا ِرفيــــــنْ‬
‫ٍ‬ ‫ِمـــنْ َم‬ ‫ـــــــاس ضلُّــــــــوا و َغـــ َو ْوا‬
‫َ‬ ‫ب إنَّ النّ‬ ‫َر ِّ‬
‫ِح ْكمــــــةٌ بالغـــــــةٌ قَــــــــ ْد َمثلــــــــتْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ي الخاســـرينْ‬ ‫س َرأ َ‬
‫أوا فـــي الشَّـــ ْم ِ‬ ‫و َر ْ‬
‫ــــــــو ٍم عاقلـــــــــــينْ‬
‫ْ‬ ‫قُـــــــدْرةَ الل ِه لِقَ‬ ‫ســـــــبَتِها‬‫ض فــــــي نُ ْ‬ ‫ِهـــــــ َي أُ ُّم ْ‬
‫األر ِ‬
‫ـــونُ َجنيـــــنْ‬ ‫ِهــــــ َي أُ ُّم ال َك ْ‬
‫ــــو ِن وال َك ْ‬
‫أن ال ّشاعر قد استعار ال ّشمس على طريقة‬ ‫نالحظ في هذه األبيات ّ‬
‫أن هذا النّموذج قد اكتسى طابعا ً جدليّا ً عقليّاً‪ ،‬ابتلع‬
‫والجدير بالمالحظة ّ‬ ‫ِهـــــــ َي أُ ُّم النّــــــــا ِر والنّــــــــو ِر معـــا ً‬
‫ّ‬
‫القدامى ونهجهم‪ .‬فحضور صورة الشمس كان في سياق التفجّع على‬
‫ال َمرْ ث ّي والتعبير عن سموّه ونبله‪ ،‬وفضله على النّاس وشهرته‪ .‬وهي‬
‫ّ‬
‫أو يكاد‪ ،‬البع َد الشعر ّي والجمال ّي للقصيدة‪ ،‬على خالف النماذج السّابقة‬ ‫ِهـــــــ َي أُ ُّم ال ّر ِ‬
‫يـــح والمـــا ِء ال ُمعيــــنْ‬

‫استعارة تصريحيّة ذكر فيها المستعار (أو المشبّه به)‪ ،‬وبنى مقابلة كبرى‪،‬‬
‫وصورة ممت ّدة قائمة على التّناظر والتناقض‪ ،‬تأتلف جميعا ً في ثنائيّة النّور‬
‫والظلم‪ ،‬فالمرث ّي قرين ال ّشمس‪ ،‬بغيابه ينتشر الظّالم‪ ،‬وتكسو الصب َح العتمةُ‪،‬‬
‫ويتم ّدد اللّيل‪ .‬وهكذا يقيم تشاكالً فنّيّا ً بين عالم الطبيعة وعالم البشر‪ ،‬ويسقط‬
‫ما بنفسه من الوجع واألسى على العالم الخارجي‪ ،‬ويضيق صدره بهذا‬
‫المصاب الجلل؛ ولكن هيهات فغروب شمسه ال إشراق بعده‪.‬‬
‫أن العرب قد درجت على تشبيه الرّجل بالبدر‪،‬‬ ‫وغن ّي عن التّذكير ّ‬
‫والمرأة بال ّشمس‪ ،‬لعلّ ٍة تعود إلى معتقدات أسطوريّة قديمة تتعلّق بما‬
‫أضفَوه على ال ّشمس والقمر من رموز ودالالت مشتقّة م ّما طوّح به الخيال‬
‫واعتصرته األذهان‪ ،‬وم ّما وهبه الوجود من خبرات وتجارب‪ ،‬غير ّ‬
‫أن‬
‫شوقي ينزاح عن هذا التقليد‪ ،‬فيشبّه المرث ّي بال ّشمس ال بالبدر أو القمر‪.‬‬
‫فإن في اكتشاف حقيقة ال ّشمس‪ ،‬بوصفها غازات‬ ‫وأيّا ما كان األمر‪ّ ،‬‬
‫مشتعلة وتفاعالت كيميائيّة ملتهبة‪ ،‬سحب منها تلك الهالة القديمة‪ ،‬والمسحة‬
‫الجماليّة الحالمة التي نظر بهما إليها اإلنسان القديم‪ ،‬وال سيّما منهم ال ّشعراء‪،‬‬
‫وهذا ما يفسّر‪ ،‬في نظرنا‪ ،‬إلى ح ّد بعيد‪ ،‬خل ّو ال ّشعر العربي الحديث‪ ،‬من تلك‬
‫الصّور والبالغات الموصولة بال ّشمس‪ ،‬أو على األقل انزياحهم بقدر ما عن‬
‫سُنن القدامى في التّصوير‪ ،‬وترسّم خطاهم حذو النّعل بالنّعل‪ ،‬وفق ما رأينا‬
‫مع حافظ إبراهيم وشوقي‪ ،‬وتحوّلها‪ ،‬نعني صورة ال ّشمس‪ ،‬إلى مستوى ذي‬
‫مسحة عقلية حجاجيّة‪ ،‬وهو ما يستح ّق أن يفرد بدراسة خاصّة‪ ،‬يتتبّع فيها‬
‫النّاقد ال ّدارس صورة ال ّشمس في ال ّشعر العربي المعاصر‪.‬‬

‫‪73‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪72‬‬
‫تأويالت‬

‫الذات الشاعرة تبحث‬ ‫قصيدته تعبر عن داللية العودة وشعرية األلم‬


‫بالنص‬
‫ّ‬ ‫عن كينونتها الضائعة‬
‫السامرائي‪..‬‬
‫محمد َّ‬
‫غ ْيم في «أعو ُد إلى ال َ‬
‫فراغ»‬ ‫يو ّدع ال َ‬
‫ومنذ تبيّن عتبة عنوان قصيدة الشاعر محمد حسن السَّامرائي‪« ،‬أعو ُد‬
‫إلى الف َراغ»‪ ،‬تعلن الذات الشاعرة العودة بعد رحيل مفترض في أقاصي‬
‫عالمها الداخلي‪ ،‬وهي تبحث عن كينونتها الضائعة‪ ،‬وأحالمها المأمولة‬ ‫ال شـــك فـــي أن الكتابة الشـــعرية رحلة من نـــوع خاص تعبـــر خاللها الذات‬
‫وجدوى وجودها في هذا العالم‪ ،‬غير أن هذه العودة تقترن بالفراغ وتنش ُّد‬ ‫الشـــاعرة مناطق قصيّة فـــي الداخل‪ ،‬وتقتحـــم عوالم مجهولهـــا وهي تبحث‬
‫إليه بعد سفر رمزي متخيَّل في مجاهيل روحها؛ سفر مثقل بالبحث والسؤال‬ ‫عـــن أناها وســـ ّر وجودها في هذا العالم‪ ،‬هذا الســـفر الذي تمنحـــه اللغة بكل‬
‫والتأمل‪ ،‬ومن ث َّم تصبح العودة إلى عالم الفراغ «أعود إلى الفراغ»‪ ،‬رحلة‬ ‫طاقتها الرمزية‪ ،‬يســـمح للـــذات الشـــاعرة بدخول مغامـــرة الرحيل‪ ،‬وطرق‬
‫جديدة تدور في فلك التيه والضياع والخوف من المجهول‪ ،‬ويصبح الرحيل‬
‫أبواب الســـؤال ومفـــازات النفس الغائـــرة والعصية على القبـــض والتحديد‪.‬‬
‫حالة نفسية تنخرط خاللها الذات الشاعرة في حلقة ال تنف ّك عن الدوران‪،‬‬
‫وتصبح العودة إلى الفراغ ذهابا ً جديداً في رحلة البحث والسؤال‪ ،‬حيث‬
‫الطريق هي المحور‪ ،‬وحيث الوصول ال يُفضي ّإاّل إلى نقط ٍة جديدة للبحث‬ ‫د‪ .‬صباح الدبّي‬
‫عن كينونة الذات‪ ،‬وهي تتداعى وتضيع وتفقد أملها وتستعيد أوهامها‪.‬‬ ‫المغرب‬
‫إن البحث المضني في رحلة الحياة الصعبة‪ ،‬واالكتواء بنيران‬
‫أحزانها‪ ،‬واالنجراف إلى مهاويها المخيفة‪َ ،‬خلّف لدى الذات الشاعرة حالة‬
‫من الهشاشة والتشظَّي‪ ،‬بشك ٍل أصبحت معه مقاومتها ضربا ً من المغامرة‬
‫المط َّوقة بالمجهول‪ ،‬حيث ال ضوء يبدو بعد عتمة الليل‪ ،‬وال خالص سوى‬
‫سراب األحالم المأمولة والمستحيلة‪.‬‬
‫لقد شارفت الذات وهي تقاوم أحزانها‪ ،‬وتتخفّف مما يعتمل في صدرها‪،‬‬
‫على جرف الحياة وعلى هاويتها‪ ،‬حيث أ ّي انحناء تدفعه رياح آالمها يُفضي‬
‫إلى الهالك‪ .‬لقد بلغت الهشاشة أقصى معانيها‪ ،‬وأصبح القلب المثخن‬
‫بالجرح واأللم والمعاناة‪ ،‬مع ّداً للتداعي والتش ِّظي‪ ،‬ولو مسَّه شجن األغاني‬
‫ورقة اللحن والكالم‪ ،‬تلك الرقة المغلَّفة بالحزن الدفين الذي يقع مثل السيف‬
‫على شغاف القلب‪:‬‬
‫الحيـــا ِة تَ َر ْكـــتُ ق ْلبـــا ً‬
‫ف َ‬ ‫علـــى ُجــــــ ُر ِ‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫ســـــــ ْتهُ أغنيـــــــــــة تَــــداعــــى‬ ‫إذا م َّ‬

‫هذا القلب الذي لم يعد بوسعه أن يتح َّمل ثقل األنين واأللم‪ ،‬ولم تسعفه‬
‫محاوالت رأب الصدع وجبر الكسر‪ ،‬أصبح من فرط هشاشته قابالً للتالشي‬
‫والتداعي في أي لحظة ألم أخرى مضاعفة‪ ،‬بل في أي حالة تما ٍه مع شجن‬
‫تبثّه أغنية تعبر الروح‪ .‬وغير بعيد من التشظّي الروحي‪ ،‬ال يلبث الجسد أن‬
‫يعلن تهاويه وتداعيه أمام فرط ما تستشعره الذات من معاناة‪ ،‬وهي تقاوم‬
‫وجودها في هذا العالم‪ ،‬وتواجه قبح الواقع ومآسيه‪ ،‬ويصبح الوداع بإحالته‬
‫الرمزية على النهاية والفقدان‪ ،‬تجليا ً رمزيا ً للجسد في تهاويه وتداعيه‪ ،‬تبعا ً‬
‫لتداعي الروح المنكسرة والمتعبَة‪ .‬وبذلك يصبح التداعي المزدوج للروح‬

‫‪75‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪74‬‬
‫تأويالت‬

‫بعيدة عن شاطئ األمان‪ ،‬وعن منافذ الضوء التي ت ِعد بانكشاف الرؤية‬ ‫والجسد‪ ،‬من فرط األلم موتا ً رمزيا ً تعلنه الذات‪ ،‬وتع ّده خالصها واتساعها‬
‫ووضوح األفق وراحة النفس‪ ،‬وبذلك تتجه رمزية الضوء في مسار‬ ‫بعد الضيق المحيط من كل جانب‪:‬‬
‫عكسي ارتدادي‪ ،‬يكشف سقوط الذات الشاعرة في مهاوي الظلمة التي‬ ‫سعي أنْ أ ُمــــــــ َّد يَــــــدي أخيـــــــراً‬
‫ب ِو ْ‬
‫حفرها الحزن واالنكسار واأللم؛ فقرب الصبح يقابله بعد الذات عنه‪،‬‬ ‫ســـدي ال َوداعـــا‬ ‫وأنْ أُ ْلقــــــي علـــى َج َ‬
‫والقمر الذي يفترض أن يضيء العالم‪ ،‬ينطفئ لتضيئه الذات الشاعرة‬ ‫لَقَـــ ْد ضاقَـــــتْ ِخيــــــاراتي كثيـــــــراً‬
‫بالضياع؛ إنها شعرية المفارقة التي تسلب الضوء داللته الرمزية‪،‬‬ ‫ـــــوتُ أ ْكثَ َرها اتِّســـاعا‬
‫وصـــــــا َر ال َم ْ‬
‫وتجعله طاقة من الظلمة والتيه والضياع‪.‬‬
‫هذان التيه والضياع يعيداننا إلى رحلة البحث الرمزية التي تعلنها‬
‫القصيدة منذ عتبة العنوان‪ ،‬إذ تقترن العودة بكل دالالت التشظّي والفراغ‬ ‫قصيدته مثقلة ٌ‬
‫والضياع‪ ،‬ويصبح تكرار الفعل «أعود»‪ ،‬تكريسا ً لخيبة هذه الرحلة الداخلية‬ ‫بالبحث والسؤال والتأمل‬
‫نحو الخالص واألمان‪:‬‬
‫ب أنـــا بَعيـــ ٌد‬ ‫ـــح القَريـــــ ِ‬
‫الص ْب ِ‬
‫ُّ‬ ‫َـــن‬
‫ع ِ‬
‫هذا االرتباط الرمزي للسعة بالوداع وبالموت‪ ،‬يحيل على شعرية‬
‫ضياعـــا‬‫وعَـــنْ قَ َمـــ ٍر أضـــــي ُء لـــهُ ال َّ‬
‫المفارقة ومأتميتها في الوقت نفسه‪ ،‬فالوجود المادي الذي يمثله الجسد‪،‬‬
‫ــــــر َوهْما ً‬
‫ُّ‬ ‫أج‬
‫ــــــراغ ُ‬
‫ِ‬ ‫أعـــو ُد إلـــى الفَ‬
‫وتداعي القلب الموجود على جرف الحياة يقذف بالذات إلى ضيقها‪ ،‬في حين‬
‫يـــح ضاعا‬
‫ِمـــنَ ال ُع ْمـــ ِر الذي فـــي ال ّر ِ‬ ‫يصبح الوداع والغياب والموت‪ ،‬سعة أفق متخيَّلة يبني فيها الشاعر وجوده‬
‫ضميـــري‬ ‫ــــدالع فـــي َ‬
‫ٍ‬ ‫أعـــو ُد إلـــى ا ْن‬ ‫الرمزي الجديد‪ ،‬والمتخفّف من كل تبعات األلم والعذاب والمعاناة‪.‬‬
‫إذا أ ْطفـــــأتُــــــــهُ زا َد ا ْنـــــــــ ِدالعــــــا‬ ‫إن الذات الشاعرة وهي تعلن هذه المفارقة بين الوجود المادي‬ ‫ث ّم ّ‬
‫تواصل القصيدة بناء كونها التخييلي‪ ،‬بتعميق داللية الضياع والتيه‬ ‫ّ‬
‫والوجود المتخيَّل‪ ،‬وبين ضيق هذا الوجود واتساعه‪ ،‬تكشف هذا التعالق‬
‫واالغتراب في عالم ال يشي سوى بمهاويه وعتماته‪ ،‬وتتج ّدد رحلة‬ ‫النصّي بقولة النفّري «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»؛ وبذلك يقترن‬
‫ق‬
‫الوداع والغياب والموت آفا ٌ‬ ‫البحث المضنية عن الكينونة وجدوى الوجود في هذا العالم ال ُمت ِعب‬ ‫الخالص والسعة بالوجود الرمزي للذات الشاعرة‪ ،‬ويقترن الضيق بوجودها‬
‫متخيَّلةٌ لدى الشاعر‬ ‫الكاسر لتوازن الذات وأمانها‪ ،‬وفي رحلة البحث هذه‪ ،‬تجد الذات نفسها‬ ‫المادي في عالم مثقل‪.‬‬

‫تختزن العودة إذن طاقة سلبية تقترن بمعاني الفراغ والوهم والضياع‪،‬‬
‫وبذلك يتعالى الصوت الداخلي‪ ،‬بتكرار الفعل «أعود»‪ ،‬ليعلن مأساة الذات‬
‫وألمها ال ُمضاعف‪ ،‬وسقوطها في عتمات الخوف والحزن واالنكسار وانسداد‬
‫األفق؛ وكلّما تكررت المحاولة للخروج من هذه المهاوي‪ ،‬باءت بالفشل‪،‬‬
‫وتحول ال َعود من محموديته وسالمته‪ ،‬إلى مآسيه وعتماته «أعو ُد إلى‬
‫دالع» «إذا ْ‬
‫أطفأتُهُ زا َد ا ْن ِدالعا»‪« ،‬أعو ُد إلى الفَراغ»‪« ،‬ال ُع ْم ُر ضاع»‪.‬‬ ‫ا ْن ٍ‬
‫ال تجد الذات الشاعرة مناصا ً من هذه الرحلة السيزيفية المثقلة بالمعاناة‬
‫واأللم واالنكسار‪ ،‬لتجد نفسا ً في كل محاولة في أقاصي الهاوية‪ ،‬ثم تعود‬
‫الرحلة وتدور في حلقة ال تنتهي‪ ،‬وهي تبحث عن أمانها وتوازنها الداخلي‬
‫وخالصها المأمول من الحزن واأللم‪ ،‬غير أنها وفي مغامرة هذا الرحيل‬
‫الصعب‪ ،‬تعلن حاالً من التخلِّي يصبح معها كل شيء بال معنى وال جدوى‪،‬‬
‫فسيّان عندها أن تعتم الدنيا أو تضيء‪ ،‬وأن تبقى األشياء أو ترحل‪ ،‬وأن‬
‫تنكسر الروح أو تُجبَر‪ ،‬وبذلك يصبح «ال َوداع» بؤرةً رمزيةً تتخلّق حولها‬
‫عناقيد الصور‪ ،‬إذ يتحول الوداع إلى ُمغتسل روحي تطرح عبره الذات كل‬
‫أوهامها وآالمها‪ ،‬وكل أحزانها وانكساراتها‪ ،‬وتتخفف من تعلقها بكل شيء‪،‬‬

‫‪77‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪76‬‬
‫تأويالت‬

‫عظيماً‪ ،‬فقد أصبح بمقدورها أن تتشبّث بحبال نفسها لتنجو وتتحرر‪،‬‬ ‫برمزية هذا الوداع الكلّي والشامل الذي ال تبقي بعده الذات ّإاّل على جوهرها‬
‫ولتضيء وتزهر منفردة من دون الحاجة إلى أي شيء أو أحد‪ ،‬سوى ما‬ ‫الصافي‪ ،‬بعيداً من كل ما من شأنه أن يضنيها ويزيد من ألمها؛ إنها حال‬
‫تمنحه روحها من قوة داخلية اكتسبتها بعد مكابدة الحزن واأللم‪:‬‬ ‫السكينة الداخلية التي يمنحها هذا الوداع بكل طاقته‪:‬‬
‫ضـــوءاً‬ ‫َوداعـــا ً للفَـــــرا ِ‬
‫ش َو َجـــــدْتُ َ‬ ‫يــــــــــــــوم إذا أرادَتْ‬
‫ِ‬ ‫َوداعــــــــــا ً لِ ْل ُغ‬
‫ســأ ْق ِ‬
‫صــــــ ُدهُ لِيَ ْمنَ َحنـــــــي شُـــعاعـــــا‬ ‫ُمعانَقَتــــــي ســـأ ْمنَ ُحهــــــا ِذراعــــــــا‬
‫َوداعـــا ً للطّيـــو ِر تَ َر ْكــــــتُ روحــــــي‬ ‫َوداعــــــــــا ً لِ ْلقَــــــــوا ِر ِ‬
‫ب إنْ تَ َمنَّـــــتْ‬
‫ُمـــواربَـــــــةً‪ ،‬لِتَ ْه ُجرنــــــي تِبـاعـــــــا‬ ‫شـــــراعا‬ ‫ُمغـا َد َرتــــــي ســـأُهْديهـــــــا ِ‬

‫لقد وجدت الذات ضوءها الخالص‪ ،‬فال حاجة لها للتعلق بالفَراش‪ ،‬وقد‬ ‫لقد تحولت المشيئة والتمنّي من الذات إلى األشياء التي كانت تتعلق‬
‫تركت روحها مواربةً لتفك تعلُّقها بالطيور إذا أرادت المغادرة‪ ،‬بل إنها‬ ‫بها‪ ،‬وانعكست المرايا‪ ،‬لتصبح الذات غنية عن كل شيء‪ ،‬ال تعقد انتظاراتها‬
‫ذهبت أبعد من ذلك‪ ،‬حين أعلنت الوداع الرمزي لذاتها في حال تخ ٍّل كامل‪،‬‬ ‫وآمالها على أي شيء‪ ،‬فمن أراد البقاء أبقته‪ ،‬ومن تمنّى المغادرة ساعدته‪،‬‬
‫لتضيء وتلتمع بموتها المشتهى‪:‬‬ ‫فالغيوم والقوارب برمزيتها المائية المحيلة على االخضرار وبلوغ شاطئ‬
‫أحتـــاج َزهْـــواً‬
‫ُ‬ ‫َوداعــــــا ً لـــي فَقَــــــ ْد‬ ‫األمان‪ ،‬لم تعد تشكل بالنسبة للذات الشاعرة خالصاً‪ ،‬إذ أعلنت وداعها‬
‫أل ْبــــــدو أ ْكثَــــــ َر ال َم ْوتــــــى ا ْلتِماعـــا‬ ‫بكل وضوح‪ ،‬وتركت الخيار لها إذا أرادت أن تبقى أو تظل‪ ،‬هذه السكينة‬
‫الداخلية التي خلقها «التخلِّي‪ /‬الوداع» هي التي جعلت الذات الشاعرة‬
‫إنها حال من الزه ّو يعلنها الوداع والتخلِّي في أعلى معانيهما‪ ،‬فال أمان‬ ‫تتخفَّف من تناقضاتها وصراعاتها‪ ،‬ومن أحزانها وآالمها‪.‬‬
‫وال خالص ّإاّل بهما‪ ،‬حيث تتجرد الذات من كل متعلَّقاتها‪ ،‬لتعلن وجودها‬
‫المأمول والمتخيَّل‪ ،‬بعيداً من كل المآسي والخيبات واالنكسارات واألحزان‪،‬‬ ‫يستمر الوداع بداللته الرمزية في تشكيل عناقيد الصور‪ ،‬وفي كشف‬
‫حالة التوازن الداخلي الذي خلقته الذات لنفسها في هذه الرحلة التي تواجه‬
‫ويصبح التماعها في الموت حياة أخرى ال يدرك نورها سواها‪ ،‬إذ يتحول‬ ‫رمزيةُ الضوء تعبّر‬
‫الموت من رمزيته المأتمية‪ ،‬إلى وجود آخر تختاره الذات الشاعرة‪ ،‬لتدرك‬ ‫قبح الواقع وجور الدنيا‪ ،‬وانكسار األحالم واآلمال وتعاظم األحزان‪،‬‬
‫ويصبح التخلِّي عن «الفَراش» بوصفها قرينا ً للضوء‪ ،‬وعن «الطيور»‬
‫عن الحزن واالنكسار واأللم‬
‫كينونتها‪ ،‬ولتعلن حياتها المتفرِّدة والمضيئة‪.‬‬
‫هذا الوداع المأهول برمزيته العالية‪ ،‬والمشحون بطاقة التخلِّي‬ ‫بوصفها معادالً رمزيا ً للحرية واالنطالق اكتفاء ذاتيا ً كبيراً‪ ،‬وكشفا ً روحيا ً‬
‫الكبيرة‪ ،‬يمت ّد إلى كل شيء‪ ،‬حتى المعنى ودعته الذات وتركته وحيداً‪،‬‬
‫لتغنم وحدتها المرجوّة‪:‬‬
‫أَخيــــــراً أ ْتــــــ ُر ُك ال َم ْعنــــــى َوحيــــداً‬
‫ســـتَطاعا‬‫لِيَ ْت ُر َكنــــــي َوحيــــــداً مـــــا ا ْ‬

‫إن التَّرك والتخلِّي والوداع‪ ،‬هي الطريق الذي اختارته الذات للخالص‪،‬‬
‫إذ يصبح التخلص من كل شيء سراً للخالص‪ ،‬وتصبح الذات في فرديتها‬
‫قادرة على التنصُّل من كل ما من شأنه تعميق مأساتها في هذا الوجود‪ ،‬فهي‬
‫ترأب صدع نفسها بنفسها‪ ،‬وتعيد ترميم ذاتها بذاتها‪ ،‬وتلفُظ الحزن الذي‬
‫أنهك روحها إلى مهاوي الغياب‪:‬‬
‫ب ُحقــــــو َل ُح ْزنـــي‬ ‫وأ ْفت ُ‬
‫َــــح لِ ْلغيــــــا ِ‬
‫الجياعـــــا‬ ‫لِيُ ْط ِعــــــ َم ِمنْ َ‬
‫ســـنابِلِهـــــا ِ‬

‫إنها حال من التم ُّرد التي تعلنها الذات بهذا الوداع الرمزي الكبير‪،‬‬
‫لتنجو بنفسها ولترسم مسار رحلتها في وجودها الجديد ال ُمتخيَّل‪ ،‬وبذلك‬
‫تتجه الطاقة الرمزية للوداع في مسار ترميم الحطام الداخلي‪ ،‬ورأب‬
‫الصدع الجوّاني‪ ،‬ولملة شظايا الروح‪ ،‬بما يجعلها قادرة على مواصلة‬
‫رحلتها في هذا الوجود‪.‬‬

‫‪79‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪78‬‬
‫تأويالت‬

‫القصيدة تضع القارئ أمام ذات‬ ‫قصيدته تل ّ‬


‫خص دورة الحياة في ثالث لوحات بنائية‬
‫وأسرة وزمان ومكان وحنين‬
‫محمد مو ّفق العيّاش‪..‬‬
‫يشدو شعر ًا في « َقبَس من َ‬
‫حنين»‬
‫تتمثل البنية األولى بما يمكن أن نسميه «البنية التلخيصية» التي‬
‫تحتل البيتين األولين في مطلع القصيدة‪ ،‬إذ تشكل هذه البنية ملخص‬
‫الرؤية العامة للنصّ ‪ ،‬وبؤرة البوح الشعري التي يمكن بها الوقوف‬ ‫تنهـــض قصيـــدة «قَبَ ٌ‬
‫ـــس ِمـــنْ َحنين»‪ ،‬للشـــاعر‬
‫على إشكالية المكان والزمان والحنين إليهما‪ ،‬في حاضنة الواقع‬ ‫محمـــد العيّاش‪ ،‬على ثـــاث لوحـــات بنائية تتآزر‬
‫األُ َسري؛ فقول الشاعر في المطلع‪:‬‬ ‫فيمـــا بينهـــا‪ ،‬لبلورة البنـــاء العام للقصيـــدة كلّها‪.‬‬
‫َي أُ ِّمـــي نَشَـــأنا ووالِدي‬ ‫على ســـا ِعد ْ‬
‫ـــري ال َّروافِـــد‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫وح ْول ُهمـــا نَ ْجـــري َك َج‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ســـوا ِع ُد قـــ ْد نَ َمتْ‬
‫وحيـــنَ َكبِ ْرنـــا وال َّ‬
‫ق ســـا ِع ِدي‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـــو أبقي ِهمـــا ف ْو َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫تَ َمن ْيـــتُ ل ْ‬ ‫أ ‪ .‬د‪ .‬جاسم محمد‬
‫جة ‪ -‬العراق‬
‫الع ّ‬
‫إنما يلخص إطاراً مشهديّا ً لدورة حياة كاملة‪ ،‬تبدأ بالنشوء‪،‬‬
‫وتنتهي بالكبَر في أكناف والدين ترعرت الذات المندمجة مع ذوات‬
‫األخوة في الضمير «نا» بين أحضانهما‪ .‬وعند هذه البنية تتل ّخص‬
‫فكرة القصيدة‪ ،‬لتضع القارئ أمام ذات وإخوة وأسرة وزمان ومكان‬
‫وحنين‪ ،‬إلى كل هذه المفردات‪.‬‬
‫أما اللوحة البنائية الثانية التي تسهم في البناء العام للقصيدة‪ ،‬فهي ما‬
‫يمكن أن نسميه «بنية ال َحنين» التي تأتي على شكل انثياالت في أبيات‬
‫«أحن» دور المولّد الصوري‬ ‫ُّ‬ ‫متسلسلة مترابطة‪ ،‬يؤ ّدي فيها الفعل المضارع‬
‫الذي ينطلق منه الشاعر في بناء البيت‪ ،‬من جهة‪ ،‬وفي ربطه بسابقه وما‬
‫يليه من أبيات‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬لتشكل تركيبة «أ ِح ُّن إلى» التي تكررت‬
‫ست مرات في غضون القصيدة بنية مولدة‪ ،‬تأتي على شكل تكرارات‬
‫تعاضد البناء من جهة‪ ،‬وتسهم في االسترسال الشعري الذي تنثال منه‬
‫المجازات واالستعارات واألغراض البالغية‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬ساعية إلى‬
‫تكوين الصور الجزئية في كل بيت‪ ،‬ليربطها الشاعر على نحو متسلسل‬
‫بصور األبيات األخرى‪ ،‬ليتولد من هذا الربط قصيدة تشتغل اشتغاالً واضحا ً‬
‫ومنطقيّا ً على بلورة وحدتها العضوية وجمالياتها الفنية‪.‬‬
‫أما اللوحة البنائية الثالثة‪ ،‬فهي ما يمكن أن نسميه «بنية الشتات»‪ ،‬وهي‬
‫لوحة تل ّخص الزمن الحاضر الذي يختلف ألفة وطراوة عن الزمن الماضي‬
‫تحن إليه الذات الشاعرة‪ ،‬إذ تصطبغ هذه اللوحة بسوداوية شمولية‬ ‫الذي ّ‬
‫ُ‬
‫تؤكد الشتات‪ ،‬عبر دوال وتراكيب من قبيل الفعل المبني للمجهول «نثِرْ نا»‪،‬‬
‫وأصابتنا عيون الحواسد‪ ..‬مع نفي التغريد والعودة عن الطيور التي هي‬
‫المعادل الموضوعي للشاعر‪ ،‬وحاضنته األسرية المتمثلة في الضمير «نا»‬
‫الذي في بداية القصيدة‪ ،‬وهي تخلص إلى نهايتها بالقول‪:‬‬

‫‪81‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪80‬‬
‫تأويالت‬

‫ترى في الماضي زمنا ً أمثل ـ وتل ّخص الزمن الحاضر بكونه حالة استالب‬ ‫ت لُؤلُـــ ٍؤ‬ ‫نُثِ ْرنـــا علـــى ال ُّد ْنيـــا َك َحبَّـــا ِ‬
‫لجماليات ماضوية‪ ،‬ال تملك الذات الشاعرة سبيالً إلى مجابهتها ّإاّل بالحنين‬ ‫واســـد‬
‫الح ِ‬ ‫َ‬ ‫كأنَّـــا أصابَ ْتنـــا ُعيُـــونُ‬
‫الى الماضي‪ ،‬وتغيّب المستقبل تماماً‪ ،‬والنأي بالرؤيا عن التفكير فيه‪.‬‬ ‫ومـــا ُك ُّل طَ ْيـــ ٍر فـــي ال ِعشـــا ِ‬
‫ش ُم َغ ِّر ٌد‬
‫ومن الطبيعي أن يكون عامل المكان المرتبط بالزمن‪ ،‬هو اآلخر عامالً‬ ‫ومـــا ُك ُّل طَ ْيـــ ٍر طـــا َر َع ْنهـــا بِ َعائـــ ِد‬
‫رافداً لرؤيا الشاعر للعالم بكل ما فيها من حنين ـ إذ يشكل المكان الحاضن‬
‫للماضي منبع شوق ومنبع مرارة فق ٍد في اآلن نفسه عند الشاعر هنا‪ ،‬إذ‬
‫يرتبط المكان في القصيدة بسياق افتقاد ّ‬
‫يلف مفرداته التي جاءت على شكل‬
‫بنيةُ الحنين التي تأتي على شكل‬
‫تراكيب مفردات ومتعلّقات أثاث مكانية‪ ،‬من قبيل البيت‪ ،‬الحارة‪ ،‬المكتبة‬
‫انثياالت في أبيات مترابطة‬
‫الغرفة‪ ،‬الوسائد‪ ،‬كرم الزيتون‪ ،‬الجدران‪ ،‬الملعب ـ الساحة‪ ،‬المساجد؛‬
‫ومن ثم الدالّة المكانية المركزية « َحوْ ران» التي تشكل حاضنا ً مكانيّا ً لكل‬
‫المفردات المكانية السابقة‪ ،‬وهذه كلها تشكلت تصويريا ً بتركيبة «أ ِح ُّن إلى»‬
‫الموغلة في الشوق الزمن الماضي‪.‬‬
‫وتأسيسا ً على ما سبق يمكن نقديّا ً مالحظة حضور الفضاء الشعري‬
‫وتبلوره‪ ،‬في هذه القصيدة من ثالثية (ال ّزمان ‪ /‬المكان ‪ /‬الرّؤيا للعالم)‪ ،‬وهي‬
‫بنيةُ الشتات تُ ّ‬
‫لخص الحاضر‬ ‫مفردات فضاء شعري تشتغل بسالسة واسترسال مدروس‪ ،‬متناغمة فيما‬
‫الذي يختلف عن الماضي‬ ‫بينها لطرح شعرية القصيدة طرحا ً إقناعيّا ً وجماليّا ً في الوقت نفسه‪ .‬فالزمان‬
‫منه والخوف من مجرد التفكير فيه أو التلميح إليه‪ ،‬بعد أن وصلت الذات‬ ‫في هذه القصيدة يل ّح على الزمن الماضي بشفافيته وحن ّو ِه‪ ،‬وهو زمن‬
‫الشاعرة من النشأة وجمال الزمن القصير فيها إلى الحاضر الكابي الذي‬ ‫قصير كما يبدو عبر بناء النصّ ال نجده ّإاّل في مطلع القصيدة المكوّن من‬
‫لقد طرح النص هنا في لوحاته الثالث رؤية للعالم‪ ،‬مفادها أن مرور‬ ‫تفرّغت القصيدة للتفصيل في التعبير عن حنين الذات إليه‪ ،‬ليطرح الشاعر‬ ‫بيتين؛ في حين أن الزمن الحاضر وهو الزمن المرير‪ ،‬يستغرق سائر أبيات‬
‫الزمن حالة مرعبة عندما تلقي بظالل مروره على المطارح واألشياء‪،‬‬ ‫صا ً مفعما ً بـ «النوستالجيا الشعرية»‪ ،‬وهي نوستالجيا نكوصية حزينة‪،‬‬
‫هنا ن ّ‬ ‫القصيدة‪ ،‬مغيّبا ً الزمن المستقبل ومنكراً لوجوده أصالً في كناية عن اليأس‬
‫فدراما مرور الزمن هي في النهاية فقد‪ ،‬سواء ذاتيا ً فلسفياً‪ ،‬من كون مرور‬
‫الزمن يعني نقصا ً في أعمار االشياء‪ ،‬أو بتأثير مرور الزمن في األشياء‪،‬‬
‫فهو الكفيل بتغييرها وسلبها جماليات بكورتها ونقائها األول‪.‬‬
‫ّ‬
‫وربطا ً لذلك كله بعنوان القصيدة‪ ،‬يمكن مالحظة أن الدالة العنوانية‬
‫«قَبس» التي وردت في تركيبة العنوان «قَبَسٌ من َحنين» توحي على نحو‬
‫مراوغ بالقلة؛ فالقبس كما هو معروف ثقافيّا ً هو القليل من النّار‪ ،‬قال تعالى‬
‫س‪(}...‬اآلية‬‫آنست ناراً لعلّي آتيك ْم منها بِقَبَ ٍ‬
‫ُ‬ ‫على لسان سيدنا موسى {إنّي‬
‫الكريمة)‪ ،‬والشاعر يوظف المفردة في بنية العنوان هنا‪ ،‬ليوحي للقارئ‬
‫كما نفهم‪ ،‬بأن كل ما سيأتي من َحنين طاغ في النص إلى الزمان والمكان‬
‫ومفرداتهما‪ ،‬ما هو ّإاّل قبس قليل جداً مما يعتمل في النفس من نار الحنين‪،‬‬
‫في إشارة الى أن ما تكتنزه النفس من َحنين‪ ،‬أكبر وأع ّم وأشمل وأكثر ألما ً‬
‫وإيغاالً في التعبير عن ضآلة هذا القبس‪ ،‬يورده الشاعر مشفوعا ً بدالّة « ِمن»‬
‫التبعيضية التي تفيد التقليل‪ ،‬ليوحي للقارئ بأن هذا ال َحنين النصي الجارف‪،‬‬
‫ما هو ّإاّل بعض من قَبس يستلّه الشاعر من نار ذاته‪ ،‬ليطرحه أمام القارئ‪،‬‬
‫بما ال يمثل فعالً فداحة نار ال َحنين التي بين جوانحه‪.‬‬
‫هندس الشاعر قصيدته‪ ،‬ببناء تسلسلي‪ ،‬منتقالً من لوحة بنائية إلى‬ ‫َ‬ ‫لقد‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أخرى‪ ،‬انتقاال مدعوما بحسن التخلص‪ ،‬وهو انتقال بنائي ينطلق من الماضي‬ ‫ً‬
‫إلى الحاضر‪ ،‬ويغيّب المستقبل‪ ،‬دائراً في فلك اإلحساس بال َحنين الذي ينطلق‬
‫من ذات الشاعر‪ ،‬مغلّفا ً مفردات المكان الماضي بكل ما هو حزين وشفيف‪،‬‬
‫في اآلن نفسه‪ ،‬متجاهالً المستقبل ومنشغالً عنه بال َحنين‪ ،‬ال َحنين فقط‪.‬‬

‫‪83‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪82‬‬
‫شعر‬

‫صـــ َد ُح ِمـــنْ ِحـــراء‬


‫ـــو ٌق يَ ْ‬
‫َش ْ‬ ‫أَ ْطال ٌل جديدة‬
‫ـنــــــاء‬
‫ُ‬ ‫ص ْفــــ ٌو ِب ُبـ ْعـــ ِد َك أو َه‬‫ِفـــال َ‬ ‫ــــواء‬
‫ُ‬ ‫ـــل مــــا فيهــــا َس‬ ‫َســـوا ٌء ُك ُّ‬ ‫ـــرب ِمنْ دَمي‬ ‫مـــا د ُْم َت َت ْذ َب ُحني و َت ْش ُ‬ ‫ـــم‬ ‫َ ْ ِّ‬
‫يــــــاء لِل ُم َت َكل ِ‬ ‫قالــــــت لــــــ ُه‪ :‬ال‬
‫مــــاء‬
‫ُ‬ ‫الس‬
‫فـر َح ِتهـــا َّ‬‫ــو َب ْ‬ ‫ــع َث ْ‬
‫و َت ْخ َل ُ‬ ‫ــونُ ْإذ مــا ِغ ْب َ‬
‫ـــت عَ ْنــ ُه‬ ‫يغيــب ا ْل َك ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫مـــا َيفعـــل ال َّرســـا ُم إنْ لـــ ْم َي ْر ُس ِ‬
‫ـــم‬ ‫نـــــت ُجــــــدْرانَ المدينـــ ِة كلِّهـــا‬
‫ُ‬ ‫ل َّو‬
‫إلى روحـــي َوفــي َيـــ ِد َك الـــ َّر ُ‬
‫واء‬ ‫َو َو ْحـــدي أَعْ ـ ُبـــ ُر ْ َ‬
‫اأْل ّيــــا َم عَ ْط َشـى‬ ‫الســـلَّ ِم‬
‫ـــــر ُر ْتبـــ ٍة في ُّ‬ ‫واص َعـــ ْد ِ‬ ‫واص َن ْع ُح ْفر ًة‬ ‫إ ْن ْ‬
‫آلخ ِ‬ ‫ْ‬ ‫مـــــاق ْ‬
‫ِ‬ ‫ـــزل إلى األعْ‬
‫ـفــــاء‬
‫ُ‬ ‫الص‬ ‫ـحلِّ ُ‬
‫ـــق َبـ ْيـــنَ َج ْن َب ْيــــ ِه َّ‬ ‫ُي َ‬ ‫ـجـــراً‬ ‫ـــت َف ْ‬
‫َتـكـَـ َّد َر ِت ا ْلحيـــا ُة َف ُك ْن َ‬ ‫أر َتمي!‬ ‫أي ُح ْض ٍ‬
‫ـــن ْ‬ ‫وأنـــا ُهنا فـــي ِّ‬ ‫أرض نا َم َمنْ َس َ‬
‫ـــلب الرؤى‬ ‫أي ٍ‬‫فـــي ِّ‬
‫ـــف ُخ ْط َ‬
‫ـــو ِت َ‬ ‫ــع َخ ْل َ‬ ‫ـجـنـــــانُ ِبـ ُك ِّ‬ ‫ــــت ا ْل ِ‬ ‫ُ‬ ‫قـــال‪ :‬القصيد ُة مـــا أقـــو ُل وإنَّ لي‬
‫َ‬
‫بــــاء‬
‫ُ‬ ‫ـك ْ ِ‬
‫اإْل‬ ‫وأ ْي َن َ‬ ‫ـــل وا ٍد‬ ‫ـح ِ‬ ‫وفـ ِّت َ‬ ‫ريف ال َم ْو ِســـمي‬‫الخ ِ‬ ‫عُ ْمراً يدو ُر على َ‬
‫ـهــــاء‬
‫ُ‬ ‫ـــك ا ْل َخـ ْيـــ ُر يولَــــ ُد وا ْل َب‬
‫َو ِم ْن َ‬ ‫ــاس َخ ْلقــاً‬‫ـت َخ ْيـــ َر ال ّن ِ‬ ‫ـدت َف ُك ْن َ‬
‫ُو ِل َ‬ ‫أصاب َعهــــــا ولَـــــ ْم تتألَّ ِم‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ـــــــت‬ ‫عَ ّض‬ ‫قالـــت لَـــه فـــي البـــاب‪ :‬إنَّ َج ً‬
‫ميلة‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫َذ َه َب ْ‬
‫هبة الفقي‬ ‫لِـ ُك ِّ‬ ‫َ‬ ‫ـــــت ال ُّر ْس َ‬ ‫عبداهلل العبد‬
‫مصر‬ ‫ــــــداء‬
‫ُ‬ ‫ـــر الل ِه ا ْبــ ِت‬
‫ــل َبــشــــــا ِئ ِ‬ ‫فيــك َي ْبقـى‬ ‫ــل ل ِكــنْ‬ ‫َخ َت ْم َ‬ ‫الح ِّي لَ ْم َي ْســـ َت ْع ِص ِم‬
‫ـــف في َ‬ ‫يوس ٍ‬ ‫عَ نْ ُ‬ ‫أصاب ُعهـــا و َت ْحكي ِن ْســـو ٌة‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ـــت‬ ‫سوريا‬
‫ـــراء‬
‫ُ‬ ‫ــــو ٍق ِح‬ ‫نــاداك فــي َش ْ‬ ‫َ‬ ‫و َكـ ْم‬ ‫ــك الّ َليـــالي‬
‫ـحـ َبـ ِت َ‬
‫ص ْ‬ ‫لَ َكــ ْم َحـ َّن ْ‬
‫ــت ِل ُ‬ ‫ــــــم‬
‫ـــــــعــور ال ُم ْبـــهَ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِم ْثــــــــــل ُّ‬
‫الش‬ ‫وأنا أُ ِح ُّ‬
‫س ِب َرعْ ش ٍة َم ْجنون ٍة َم ْجهول ٍة‬
‫هــــاء‬ ‫نــــور َط ْلـ َع ِت َ‬
‫ــــك ا ْن ِت‬ ‫وليــس لِ‬ ‫ــت بال ُب ْشـــرى ُمنيــراً‬
‫ـراجـــا ِجـ ْئ َ‬
‫ِس ً‬ ‫غـــام في َوعْ ـــي ال َعمي‬ ‫ْ‬ ‫فيـــك َك ْي َ‬
‫ـــف أقولُ ُه؟‬ ‫َ‬ ‫شـــي ٌء جميـــ ٌل‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫كالمـــاء كاألن ِ‬ ‫ِ‬
‫يـــاء‬
‫الض ُ‬‫ــو ُذ ِكــ َر ِّ‬ ‫ــف لَ ْ‬ ‫ـت ا ْل َو ْص ُ‬
‫وأ ْن َ‬ ‫َ‬
‫فــوك َي ْومـاً‬ ‫ص‬ ‫ـس لَ ْ‬
‫ــو َو َ‬ ‫ـت ّ‬
‫الش ْم ُ‬ ‫َفأَ ْن َ‬ ‫ـــران فـــي ُمتشـــاب ٍه أو ُم ْح َك ِ‬
‫ـــم‬ ‫ِ‬ ‫عُ ْم‬ ‫قـــال‪ :‬ال َقصيد ُة ما أقـــو ُل ولَ ْيس لي‬
‫َ‬
‫ـفـــــاء‬
‫ُ‬ ‫ـط‬
‫اإلص ِ‬ ‫ُ‬
‫ـلـيـــق ْ‬ ‫ـــر َك ال َي‬
‫ِبـ َغـ ْي ِ‬ ‫ـــك ال َّر ْحمـــنُ َف ْ‬
‫ـــرداً‬ ‫َ‬
‫صــاغ َ‬ ‫َن ِب ٌ‬
‫ــي ‪..‬‬ ‫واســـلَمي»‬ ‫عبلة ْ‬ ‫َ‬ ‫َو ِع ِمي صباحاً دا َر‬ ‫بالجـــواء َت َكلَّمـــي‬ ‫َ‬
‫«يـــا دا َر عَ ْبلـــة ِ‬
‫ــك َت ْزدَهــي ْ َ‬ ‫شـــاع ُ‬
‫يــــاء‬
‫ُ‬ ‫ُب فـيـهـــا ا ْل ِكـ ْب ِ‬
‫ــر‬ ‫َتـكـــا ُد َتــد ُّ‬ ‫اأْل ْخ ُ‬
‫ــالق َح ّتـى‬ ‫وباس ِم َ‬
‫ْ‬ ‫قـــل ُم ْع َجمـــي‬ ‫وح ٍ‬ ‫لقبيلـــ ٍة ُك ْبـــرى َ‬ ‫رية فـــي دَمـــي‬ ‫ِ‬ ‫ال أ ْنتمـــي والّ‬
‫جـــاء‬
‫ُ‬ ‫ض الـ َّر‬ ‫َف َي ْعـلــو فـي َفـــم ْ َ‬
‫اأْل ْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َفأَ ْن َ‬
‫ــت ا ْل ُم ْص َطفـى ا ْل ُم ْختـــا ُر َت ْعلــو‬ ‫راء ِمـــنْ ُم َت َرد َِّم»‬ ‫«ه ْل غاد َر ُّ‬
‫الشـــــ َع ُ‬ ‫َ‬ ‫جانبـــي َر ُجـــ ٌل يقو ُل لِ َن ْف ِســـ ِه‪:‬‬
‫ْ‬ ‫عَ ـــنْ‬
‫ـنـــــاء‬
‫ُ‬ ‫ـنــــاك َّ‬
‫الـث‬ ‫َ‬ ‫ـسـمـــو ِلـ َمـ ْع‬ ‫وال َي ْ‬ ‫الش ْعــــ ُر َقـــدْراً‬
‫فيـــك ِّ‬
‫َ‬ ‫عَ ظيـ ٌم‪ ..‬ال َي‬ ‫ْأمشـــي و َي ْر َت ِســـ ُم الـــ َكال ُم على َفمي‬ ‫دافـــق ِمـــنْ َب ْي ِن ِهـــ ْم‬
‫ٍ‬ ‫وأنـــا َك َنهْ ٍ‬
‫ـــر‬
‫ـيــــاء‬‫ُ‬ ‫وأَ ْبـيـــاتـــي ُيـد َِّثــ ُرهــــا ا ْل َ‬
‫ـح‬ ‫ـــواك َت َظ ُّ‬
‫ــل َخ ْجلــى‬ ‫َ‬ ‫لُغـاتـي فـي َه‬ ‫ُ ُ‬
‫ـــح ٍة ِمـــنْ ق ْمق ِ‬
‫ـــم‬ ‫ـــحر ّي ٍة‪ ..‬أو َم ْس َ‬ ‫ِس ْ‬ ‫كانـــوا َيعـــدّونَ الـــكال َم ِبلَ ْمســـ ٍة‬
‫ـبـــــاء‬
‫ُ‬ ‫ُروب أ ْنـفــــاســـي َه‬ ‫ــل د ِ‬ ‫و ُك ُّ‬ ‫ـو َتـى‬
‫ـــب َم ْ‬ ‫ــك ُم ْفـــ َر ُ‬
‫دات ا ْل ُح َّ‬ ‫ودو َن َ‬ ‫ـــعراء مـــا َم ْعنى «ال ّرمي»‬ ‫ُ‬ ‫َف َت َعلّ َم ُّ‬
‫الش‬ ‫ّيـــن فيهم َن ْ‬
‫ـــر َد ُه‬ ‫عـــاء الد ِ‬
‫ُ‬ ‫و َرمـــى‬
‫َيـحـيـــنَ لِـهــ ِذ ِه الـ ُّد ْنـيـــا ا ْلـ َف‬ ‫ش َح ّتـى‬ ‫صـــال ُة َر َّب ا ْل َع ْ‬ ‫عَ لَ ْي َ‬ ‫َمـــنْ عَ لَّـــ َم اإل ْنســـانَ مـــا لَـــ ْم َي ْعلَ ِم‬ ‫وخ ْلف ُه‬
‫ضـــيء َ‬ ‫َ‬
‫ـنـــاء‬
‫ُ‬ ‫ـــر ِ‬ ‫ــك َ‬ ‫ُ‬ ‫ق َمـــ ٌر و َمـــنْ عَ ٍ‬
‫ـــدم ُي‬
‫ـلـقــــــاء‬
‫ُ‬ ‫ـجـ َمـ َعـنـــا الّ‬
‫ـجـ َّنـ ِتـــ ِه َو َي ْ‬
‫ِب َ‬ ‫َو َحـ ّتـى ُيـ ْنـ ِعــ َم ا ْلـهـــادي عَ ـ َلـ ْيـنـــا‬ ‫واسلَمي»‬ ‫ساء «دا َر عَ ْبلَ َة ْ‬‫َو ِع ِمي» َم ً‬ ‫«يـــا دا َر عَ ْب َ‬
‫لـــة بالجـــواء َت َكلّمـــي‬

‫‪85‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪84‬‬
‫استراحة الكتب‬

‫ليـــس منوطا ً بشـــعرية اليوم‬ ‫مفارقات إبداعية تدعو للتأ ّمل‬


‫ٌ‬ ‫في ديوانه‬
‫أن تصنـــع الحـــدث‪ ،‬بـــل أن‬
‫تذكي جذوة القلق لصناعته‪،‬‬
‫بســـبر أغوار الواقع وتجديد‬ ‫د‪ .‬أحمد الهاللي‪..‬‬
‫المفاهيم‪ ،‬وصـــوالً إلى خلق‬
‫ثقافـــة مغايـــرة يتحقـــق بها‬ ‫آسر»‬
‫ج ْمر ُ ور ٌد ِ‬
‫يستدعي التفكير في «ال َ‬
‫التحـــول المنشـــود‪ ،‬وهـــذا‬
‫د‪ .‬فتحي الشرماني‬
‫اليمن‬
‫يعني ضـــرورة تركيز الجهد‬
‫النقـــدي علـــى تموضعـــات‬
‫الوعـــي المختلف‪ ،‬وتشـــظّيات الرؤيـــة المغايـــرة‪ ،‬للتأكد‬
‫مـــن نضجهـــا وتحوالتها ومـــدى قدرتهـــا علـــى التأثير‪.‬‬

‫يستحضر ُح ْمرة الورد‬


‫بوصفه ضداً الحمرار َ‬
‫الج ْمر‬

‫وتستوقفنا في هذا السياق تجربة الشاعر السعودي أحمد الهاللي‪ ،‬في‬


‫ديوانه «ال َج ْم ُر َورْ ٌد آ ِسر»‪ ،‬وهو يرتاد بالشكل التراثي فضاءات جديدة‬
‫تتخصّب فيها الشعرية بوعي مفارقي؛ فالهاللي في هذا العنوان ال ي ْكلف‬
‫بالوهم وطفولة التفكير التي تستدعي ثنائية ال َج ْمرة ‪ /‬التّ ْمرة‪ ،‬كما أنه ال يرى‬
‫ال َج ْمر بعيون الثقافة السائدة التي تحمل الجسد على االبتعاد عن لسعاته‪،‬‬
‫وإنما هو وفق منطقه الخاص يستعذب هذه الخطورة‪ ،‬ويستحضر حمرة‬
‫الورد بوصفها ض ّداً ثقافيا ً الحمرار الجمر‪ ،‬في إصرار على المغامرة‬
‫واإلقبال بكل الحواسّ ‪ ،‬على ما يتهيّبه العقل وتنفر منه كل الحواس؛ ال‬
‫لتكون المتعة العطرية وروعة المنظر مجرد ثمرة حسية لهذا االنتقال‪،‬‬
‫وإنّما ليتحقق التحول من األلم‪ /‬ال َج ْمرة‪ ،‬إلى األمل‪ /‬الوردة‪ ،‬وهي إشارة‬
‫إلى أن تحقيق أهداف المستقبل يظل مرهونا ً بخوض المعترك الثقافي ضد‬
‫أنساق اإلعاقة‪ .‬ويبقى السؤال هنا عن قيمة هذه العنونة المفارقية وتجلياتها‬
‫في نصوص الديوان؟‬

‫نسق مغاير‬
‫يتجلى المكوّن البصري والعطري لصورة الورد في إحساس شعري‬
‫ينتظم ج ّل تجارب الديوان‪ ،‬فشاعرنا أكثر ميالً إلى جمالية تأللؤ عيني‬
‫المحبوبة‪ /‬األرض‪ /‬القصيدة‪ ،‬ورؤيته للعالم عبرهما‪ ،‬وجمالية عطرها‪،‬‬
‫بوصفه أثراً لها في حال غيابها‪ ،‬وعبر االستغراق في حالتي التفحص هاتين‪،‬‬

‫‪87‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪86‬‬
‫استراحة الكتب‬

‫نفسها التي حكت عنها بنية المفارقة في قصيدة «قَ ْطرةٌ من ُغ ِ‬


‫بار ال َّش ْمس»‪،‬‬ ‫ينساب مخيال الهاللي شعريةً قلقةً مأخوذةً بالعمق النفسي والفلسفي‪ ،‬وإعادة‬
‫حيث يص ّر شاعرنا على إشعال األفكار من فحم جمجمة‪.‬‬ ‫النظر في حقائق األشياء‪ ،‬تارةً‪ ،‬والتطلع إلى ثقافة جديدة‪ ،‬تارةً أخرى‪ .‬ومن‬
‫الجميل أن يتل ّخص كال هذين المسارين في قصيدة اختار لها عنوانا ً مفارقيا ً‬
‫صورة األنثى‬ ‫هو «خ َْلفَ ظَهْر الليل»؛ فليل الشاعر هنا يأتي ض ّداً لليل الفيزيائي المعروف‬
‫تجيء المحبوبة المتش ّكلة في وعي شاعرنا‪ ،‬أنثى َمصوغةً من‬ ‫بإطباقه‪ ،‬وعجز اإلنسان عن التحرر منه‪ ،‬كما عبر النابغة الذبياني عن ذلك‬
‫تصوراته المغايرة وشخصيته المتطلّعة إلى تحوّالت واعية في الثقافة‬ ‫حين قال «فإنّ َك كاللّ ْي ِل الّذي هو ُم ْدركي»‪ ،‬أما شاعرنا‪ ،‬فإنه يص ّر على تحقيق‬
‫والتفكير؛ فهذه األنثى ليست مجرد صورة جميلة‪ ،‬بل هي كيان يمنح ذات‬ ‫أشياء بعيداً من هيمنة هذا الليل « ِم ْن ورا ِء ظَهْر ِه ال فَوْ َق ظَهْره»‪ ،‬بما ين ّم‬
‫الشاعر‪ /‬اإلنسان المعاصر‪ ،‬وجوداً حقيقياً‪ ،‬وبدونها يظ ّل معتماً‪ ،‬فهو يعبّر‬ ‫عن رغب ٍة في االنفكاك من هيمنة ليل النسق الثقافي المطبق‪ ،‬ولهذا كان البيت‬
‫عن عالقته بشمسه‪ /‬أنثاه‪ ،‬بقوله في قصيدة «فا ْستَوى على فوقه»‪:‬‬ ‫األخير من هذه القصيدة محور هذه الرؤية بقوله‪:‬‬
‫أرانــــــي حيـــنَ أَل َم ُ‬
‫ســــــني ُزجــاجـــا ً‬ ‫جـــاج قَصيد ٍة‬
‫ِ‬ ‫ســـ ُك ْب هُمو َمـــك في ُز‬
‫وا ْ‬
‫ش ْمســـي‬‫ولكــــــنْ ال أَشُــــــفُّ بغ ْيـــــ ِر َ‬ ‫فالج ْمـــ ُر َو ْر ٌد فـــي القَصيــــــد ِة ِ‬
‫آســـ ُر‬ ‫َ‬

‫فمن المفارقة أال تكون األنثى هنا زجاجاً‪ /‬قوارير‪ ،‬يدل على وجودها‬
‫ضياء الرجل‪ ،‬وإنما العكس‪ ،‬فإشراق األنوثة هنا معيار الختبار صدق‬
‫شفافية الذات الشاعرة‪ ،‬ثم صدقية الثقافة المعاصرة‪ ،‬وتطلع مجتمعاتها إلى‬
‫هُويّة خطابه تحلّق في عوالم‬
‫النهوض‪ ،‬بوصف األنثى هنا أساسا ً فوقيّا ً يستوي عليه بشكل نادر وعجيب‬ ‫المعنى الوصف‬
‫وجود الرجل‪ ،‬وأن تكون المرأة شمسا ً لزجاج يتجلمد بدونها؛ فهي إذن‬
‫قيمة مجتمعية رائدة ومصدر للتوثب والطموح‪ ،‬السيما حين تصبح األنوثة‬
‫الجديدة فكرةً للتحوّل المنشود‪ ،‬إذ يتضح في قصيدة « َر ْقصٌ على َميْس ِم‬ ‫ع ّما تتب ّدى عليه في ظاهره‪ ،‬وأن يكون الورد اآلسر هو في حقيقة األمر‬ ‫فالهاللي هنا يفصح عن الهوية الثقافية لخطابه‪ ،‬وهو يؤكد ضرورة‬
‫َورْ دة»‪ ،‬أنها هي الجمرة‪ /‬الوردة التي يطلب منها أن تصبّ النور في رئته‪،‬‬ ‫ناراً تتلظّى‪ .‬والنتيجة أن القصيدة لم تعد مجرد واحة للتنفيس أو التجريب‬ ‫التحليق في عوالم المعنى‪ ،‬بعيداً من الوصف أو االسترجاع الذي يحيل‬
‫ويتحوّل هو في عينيها إلى سؤال تطلع‪ ،‬مثلما يرى في حركة جسدها تعبيراً‬ ‫االستعراضي‪ ،‬بل هي مجال الشتعال الطموح وتوقّد األمل‪ ،‬وهي الرؤية‬ ‫الشاعر إلى مجرد مؤرّخ‪ ،‬إذ إنه يص ّر على أن تكون حقيقة الشيء مختلفة‬
‫عن كينونة ذاته‪.‬‬

‫شعريته قلقة مأخوذة بالعمق‬


‫النفسي والفلسفي‬

‫وألن هذه هي ثقافة الهاللي الراسخة في تفكيره‪ ،‬نجده في قصيدة‬


‫«فَضا ٌء ُحرّ»‪ ،‬يسرد عن هذه األنثى « َ‬
‫ضجي ُج أمانيها التي صاغَها ال َج ْمرُ»‪،‬‬
‫أي أن الجمر‪ /‬هموم التحول والتجديد التي صنعت هُويّة الشاعر‪ ،‬وصنعت‬
‫القصيدة هي أيضا ً من صنعت األنثى‪ /‬المحبوبة‪ ،‬ومن ث ّم يَغدو زجاج القصيدة‬
‫الذي ينسكب فيه اله ّم‪ ،‬هو رقة األنثى وشفافية كيانها المتخم باإلنسانية‪،‬‬
‫وحمل اله ّم الوطني‪ ،‬ولذلك نراه في قصيدة «وحي ٌد في بالون ٍة فارغ ٍة»‪،‬‬
‫يسير على خطى السيّاب في جعل عيني األنثى مصدراً لألمل‪ ،‬وغيابها عن‬
‫المعترك الحضاري يعني الجمود واالنهيار والتالشي؛ إذ يقول‪:‬‬
‫ســـرى َد ْم َعـــهُ ونَفى‬
‫نـــــك أ ْ‬
‫ِ‬ ‫وبَ ْحـــ ُر َع ْي‬
‫سفني‬‫ُ‬ ‫داك ال ُمشْــــتهى ُ‬‫ِمث َل القَذى عَنْ َم ِ‬ ‫ْ‬

‫‪89‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪88‬‬
‫استراحة الكتب‬

‫يوظّف التراث في شعره‬ ‫القصيدة لديه واحة للتنفيس‬


‫ويط ّوع معه الخيال‬ ‫أو التجريب‬

‫مستق ّر الرؤية المفارقية‬ ‫فجمالية تصوير الذات المتشوّقة إلى المحبوب‪ ،‬مثل البالونة الفارغة‪،‬‬
‫تنتهي كثير من البنى المفارقية عند شاعرنا إلى نزعة تشكيك بغير‬ ‫وفقدان الثبات والتوازن واالستقرار ‪ -‬هي حال يولّدها غياب هذا المحبوب‬
‫«نزيف على‬ ‫ٍ‬ ‫ال َمرئ ّي‪ ،‬في ظل هيمنة النسقية التي تحيل التفكير إلى‬ ‫الذي كان في عينيه ما يمنح شاعرنا طاقة الحياة ووهج التفاؤل‪ ،‬وإبحار‬
‫رصيف أبكم»‪ ،‬كما هو عنوان إحدى قصائده‪ ،‬التي تستعر فيها المفارقة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫اإلرادة نحو تحقيق األحالم‪ .‬ولكن يأتي في تجربة الهاللي ما يبقي في‬
‫حين يؤكد يقظة الحسّ برمزية مغايرة لما هي عليه الغيوم في المعتاد‬ ‫المكان على رائحة المحبوب‪ ،‬لتقطع دابر العشق النسقي المبدد للطاقات‪،‬‬
‫(وا ْنتبه للغيوم!!)‪ ،‬ففي هذه الحال يغدو عنده بريق األماني مصيدةً لألحالم‬ ‫والمورّث لالضحمالل والهزال والموت‪ ،‬فيأتي قوله‪:‬‬
‫والتساؤالت الفلسفية‪ ،‬ويكون الماء في مرأى ظبي القصيدة النافر‪ ،‬مختلفا ً‬ ‫تبّـــا ً لِ ِع ْطـــ ِر ِك ْ‬
‫أحيـــا فـــي ال َعمـــى لُ َغةً‬
‫لكن ماؤه يُ ْشبهُ ال َوحْ شا»‪.‬‬
‫ليكون كالمستجير من الرمضاء بالنار «يرى الما َء ْ‬ ‫واف على رُخا ٍم مؤنّث»‪ ،‬حيث‬ ‫الهم اإلنساني‪ ،‬كما هي الحال في قصيدة «ت َْط ٌ‬ ‫ضـــتْ فَتَهـــاوى دونَهـــا َح َزنـــي‬ ‫تَرا َك َ‬
‫ومثل ذلك مفارقات كثيرة يأتي فيها «النَّ ْه ُر حينَ يَ ْطلُبُ َرشفة»‪ ،‬و« َمط َم ُع‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫يصبح الجسد هو الوطن‪ ،‬وكما هو األمر في قصيدة «فا ْستَوى على فَوْ قِه»‬
‫صرْ َخةُ القَصْ ِر حينَ يُصب ُح ُغرفةً»‪ ،‬وليس‬ ‫ص ُشرْ فَةً»‪ ،‬و« َ‬ ‫القاع ْأن يُراقِ َ‬
‫ِ‬ ‫التي مضى فيها يشكو اله ّم إلى المحبوبة‪.‬‬ ‫فالعطر هنا أثر للمحبوبة الغائبة يشعل ذكراها في الوجدان فيبعث الحياة‬
‫ذلك ّإاّل ألن الواقع الذي يعيشه الشاعر‪ ،‬ينبني على مفارقة ثقافية عبّر عنها‬ ‫ً‬
‫ف على َمقا ِم الرّوح»‪ ،‬نموذجا لتوحّد‬ ‫بل إننا نرى في قصيدة «ع َْز ٌ‬ ‫ض ْت»‪،‬‬‫ويصنع الرؤية «أحْ يا في ال َعمى» وينطق اللسان بالبوح «لُ َغةً تَرا َك َ‬
‫بقوله في قصيدة «ثُكنات ال ّش ّك»‪:‬‬ ‫صورتي المحبوبة واألُ َّمة في مخيال الشاعر‪ ،‬فيراهما شيئا ً واحداً‪ ،‬وذلك‬ ‫وتنطفئ األحزان‪ ،‬فهو إذن عشق جديد ال يأتي فيه انقطاع المحبوبة‪ ،‬وإنما‬
‫يـــا لَ ْل َمتاهَـــ ِة‪ ،‬إنّـــي فـــي الفَضـــا ِء يَ ٌد‬ ‫صوْ تِها أ ّمةٌ بَيْضاء نا ِعمة»‪ ،‬وكأنه يو ّد اإلشارة‬
‫حين تأتي المحبوبة «في َ‬ ‫تجربة أم ٍل وتطلع مادامت عطرية األثر قد حلّت مح ّل مأساوية الطلل‪ ،‬وأن‬
‫ب‬‫وفـــي األراضيـــنَ أ ْقـــدا ٌم بـــا ُر َكـــ ِ‬ ‫إلى أن األنثى‪ /‬أ َمة الله هي جوهر تكوين األ ّمة (بتشديد الميم) ومحور‬ ‫يظل غياب المحبوبة لدى إحساس الشاعر في حكم الحضور‪ ،‬فهي إذن‬
‫فاعليتها وحيويتها‪.‬‬ ‫فرصة سانحة لقصيدة العشق أن تتراسل فيها الهموم الخاصة مع تجارب‬
‫فغرائبية الصورة هنا تبدو بها الذات العربية المعاصرة عاجزة عن‬
‫تحقيق الطموحات؛ مادام أساسها الثقافي ال يتحقق به تحول نوعي‪ ،‬مثلما أن‬
‫خل ّو السيقان من الركب يفقد الجسد قدرته على الحركة‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكننا نقرأ في قصيدة «الشاعر»‪ ،‬صورة الذات النشطة للتجديد أمام‬
‫إحباط العوائق‪ ،‬حين تجد هذا الشاعر «يُساب ُق ما يَرْ جو فَيَ ْلقاهُ ما يَ ْخشى»‪.‬‬
‫كما لم تفتر ه ّمة شاعرنا عن اجتراح الرؤى المختلفة في قوالب سحرية‬
‫أو استفزازية للعقل النَّسقي‪ ،‬فهو في قصيدة «عُبو ٌر من َوري ٍد أبْيض»‪ ،‬يبحث‬
‫صبْح شيئا ً آخَرا»‪.‬‬ ‫عن منطق جديد ومفاهيم جديدة بقوله‪َ « :‬د ْعني أس ّمي ال ُّ‬
‫كما يقف في قصيدة أخرى على النقيض من حبّ النجاة عند اإلنسان ليقول‬
‫َرق»‪ ،‬ونجده يختار لقصائد أخريات مس ّميات مفارقية‪ ،‬مثل‬ ‫«هيّا إلى الغ ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫قصيدة «الرّبي ُع يحت ُّل الفصول»‪ ،‬وقصيدة «أ ْه ُل َمكةَ ال يَ ْعرفونَ ِشعابَها»‪،‬‬
‫في إلحاح منه على إعادة قراءة التراث والمسلَّمات الثقافية‪ ،‬كي يتحفّز‬
‫العقل لفهم متطلبات المستقبل ومواجهة المخاطر المحدقة بأدوات جديدة‬
‫أكثر ذكا ًء وفاعلية‪.‬‬
‫إن الشاعر‬ ‫وألن المجال ال يتسع لمزيد بسط وتحليل؛ يكفينا القول‪ّ :‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫الهاللي في ديوانه «ال َج ْم ُر َورْ ٌد آ ِسر»‪ ،‬اختار التحليق بحثا عن نسق جديد‪،‬‬
‫وليست جمالية المفارقة الثقافية ّإاّل واحدة من أدوات البناء التي تكسب هذا‬
‫النوع من الخطابات المتجاوزة قدرةً على التأثير والتجدد‪.‬‬

‫‪91‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪90‬‬
‫الجانب اآلخر‬

‫قـــد يـــرى بعضهـــم أن‬


‫مشاعر ال َحزينة‬ ‫عبّر عن ّ‬
‫الش َجن وال َ‬ ‫تُ َ‬
‫الرثـــاء ليس ســـوى مادة‬
‫إنســـانية‪ ،‬إال أنـــه تعدّى‬ ‫ّ‬
‫الشعر‪..‬‬ ‫مرثيّات األخ في‬
‫َ‬
‫المناســـبة وصـــار نوعا ً‬
‫شـــعريا ً ومجـــاالً إلبـــداع‬
‫الحـــال اإلنســـانية‪ ،‬مثله‬
‫حكايات ال َ‬
‫ف ْقد والبُكاء‬
‫حسين الضاهر‬ ‫مثـــل الغـــزل‪ ،‬والمديـــح‪،‬‬
‫سوريا‬
‫والتأمـــل‪ ..‬كمـــا أخـــذ‬
‫مســـاحة ربما تبتعد عـــن الذاتية لتدخـــل التمجيد أحيانا ً‬
‫كرثاء أصحاب الشـــأن‪ ،‬أما في الذاتي منها فقد شـــملت‬
‫ذوي القربى واألزواج واألحبّـــة واألصدقاء وحتى ذهب‬
‫بعض الشـــعراء إلى رثاء أنفســـهم قبل المـــوت؛ لتكون‬
‫الحـــال هنـــا في أعمـــق نقطـــة مـــن الذاتية‪.‬‬

‫لَبيد يرثي أخا ً له‬


‫بأسلوب معبّر في قصيدة‬

‫وألن الشعر أسمى طرائق التعبير عن الدواخل‪ ،‬وألنه لم يكن‬


‫لدى العرب قوالً عابراً فقط‪ ،‬بل كان وما زال فضا ًء إلطالق المشاعر‬
‫واألحاسيس‪ ،‬استخدموا الرثاء تعبيراً عن الفقد والحزن على من يحبّون‪،‬‬
‫فكيف إن كان ال َمرْ ث ّي أخاً! فهنا سطعت الشعورية لديهم في أوضح تجلياتها‪.‬‬
‫وفي الموروث الشعري العربي نرى حاالت كثيرة لرثاء اإلخوة‪ ،‬منذ أن‬
‫كان الشعر لسانا ً للعرب في الجاهلية وما بعدها‪ ،‬وحتى يومنا هذا‪..‬‬
‫ربما أول شعور يطغى على حال الرثاء‪ ،‬التعبير عن المحنة التي‬
‫حلّت‪ ،‬وفي هذا يقول لَبي ُد بن ربيعة‪ ،‬من قصيدة يرثي فيها أخاه‪:‬‬
‫إنَّ ال َّر ِزيّـــــــةَ ال َرزيّـــــــةَ مثلَهـــــــا‬
‫ب‬‫ـــو ِء ال َك ْو َكـــ ِ‬
‫ض ْ‬ ‫فُ ْقــــــدانُ ُكـــــ ِّل ٍ‬
‫أخ َك َ‬
‫عـــاش فـــي أ ْكنافِ ِهـــ ْم‬
‫ُ‬ ‫َـــب الذيـــن يُ‬ ‫َذه َ‬
‫ب‬ ‫ـــف َك ِج ْلـــ ِد ْ‬
‫األجـــ َر ِ‬ ‫وبَقيـــتُ فـــي َخلَ ٍ‬

‫وهنا يؤكد لَبيد‪ ،‬أن ال مصيبة مثل مصيبة فقدان األخ الذي رحل وتركه‬
‫كالجلد األجرب‪ .‬وبالتوازي مع ذلك يتغنّى دريد بن ال ِّ‬
‫ص ّمة‪ ،‬بأمجاد أخيه‬
‫عبدالله‪ ،‬وصموده في ساحات الوغى‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫‪93‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪92‬‬
‫الجانب اآلخر‬

‫تستبد الروابط التي تبلغ أش ّدها في حال الفقد‪ ،‬فيجلي الدمع الغباش عن‬ ‫فَـــإِنْ يَـــ ُك عَبدُاللَـــ ِه َخلّــــــى َمكانَـــهُ‬
‫كلمات ومشاعر تدهم وجدان المتلقّي‪ ،‬ليحسّ بعمق المصاب الذي ح ّل على‬ ‫فَمـــا كــــانَ َوقّافـــا ً وال طائِ َ‬
‫ـــش اليَـــ ِد‬
‫من أطلقها‪ ،‬وهذا ال يحيد القصيدة عن ساحة الفن‪ ،‬بل تراها‪ ،‬رغم المشاعر‬ ‫يــــــاح تَنا َو َحـــتْ‬
‫ُ‬ ‫وال بَ ِرمــــــا ً إِذا ال ِّر‬
‫الفياضة‪ ،‬تبقى زاخرة بالمعنى واالشتغال اللغوي والشعري‪.‬‬ ‫ضـــ ِد‬‫شـــيم ال ُم َع َّ‬
‫ِ‬ ‫ب ال ِعضـــا ِه وال َه‬ ‫بِ َرطـــ ِ‬
‫ومن المالحظ غلبة شعر الرثاء‪ ،‬عموماً‪ ،‬ورثاء اإلخوة على وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬ضمن العصر الجاهلي وبداية الدعوة اإلسالمية‪ ،‬واقتصار باقي‬ ‫في الجاهلية عرف الرثاء‪ ،‬عموماً‪ ،‬بعفويته وصدقه‪ ،‬كما حضر بكونه‬
‫العصور على القليل من هذا النوع الشعري‪ ،‬ربّما تعود هذه القلة إلى االستقرار‬ ‫نوعا ً من إيقاد الحمية والدعوة للثأر‪ .‬أما مع دخول اإلسالم‪ ،‬فقد اتسم بالتسليم‬
‫الذي ح ّل مع ظهور اإلسالم ديناً‪ ،‬وفرضه تشريعات تحرّم القتل والقتال‪،‬‬ ‫ألمر الله‪ ،‬ألن الرضا بالقضاء والقدر أحد أركان اإليمان‪ .‬كما أخذ أحيانا ً‬
‫وربما كون المراحل التي ازدهر فيها الشعر وأدواته‪ ،‬كالعصر العباسي‪ ،‬رأت‬ ‫منحى الفخر‪ ،‬خصوصا ً إن كان الميت شهيداً‪.‬‬
‫في الرثاء مادة ضيّقة‪ ،‬وربما الفتقار المنقول عن هذه العصور‪.‬‬
‫أما في العصري األموي‪ ،‬فيحضر رثاء محمد بن الحنفية‪ ،‬ألخيه‬
‫الحسن بأبيات يقول فيها‪:‬‬ ‫ُمت ّمم بن نويرة ذكر شمائل أخيه‬
‫ناحتْ َحمامــــةُ أ ْيكــــ ٍة‬
‫سأبكيــــ َك مــــا َ‬ ‫ومن أبلغ ما قاله مت ّمم أيضاً‪ ،‬في رثاء أخيه مالك قصيدته «العينية»‬
‫ضيب‬ ‫َ‬ ‫الحجـــا ِز ق‬ ‫وما ْ‬ ‫نص مؤثر‬
‫في ّ‬
‫ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ضـــ َّر في د َْو ِ‬ ‫اخ َ‬ ‫التي ُس ّميت أ َّم المراثي‪ ،‬حيث قال فيها‪:‬‬
‫ُ‬
‫ت تَحوطــــهُ‬ ‫ريـــب وأكنــــافُ البُيــــو ِ‬
‫ٌ‬ ‫َغ‬ ‫ـــز ُو ال ِّرجـــا َل َرأَ ْيتَـــهُ‬
‫س ال َغ ْ‬ ‫ضـــ َّر َ‬
‫وإِنْ َ‬
‫ريــــب‬
‫ُ‬ ‫ب َغ‬‫أال ُك ُّل مـــا ت َْحــــتَ التُّــــرا ِ‬ ‫ســـ َم ْيدَعا‬‫صدْقا ً في الِّلقا ِء َ‬ ‫ب َ‬ ‫الح ْر ِ‬ ‫أَ َخـــا َ‬
‫الخ ْيـــ ُل أَ ْج َم َحـــتْ‬
‫ومـــا كانَ َوقَّافـــا ً إذا َ‬ ‫وفي هذا السياق ذهب الشاعر مت ّمم بن نويرة‪ ،‬إلى ذكر شمائل أخيه‬
‫وهنا تبرز حال االغتراب التي يشعر فيها أخو الفقيد‪ ،‬االغتراب على‬ ‫وال طائِشــــــا ً عنــــــ َد الِّلقـــا ِء ُم َدفَّعـــا‬ ‫مالك‪ ،‬بعد أن وافته المنية‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫الجهتين‪ ،‬في ضفّة الحياة الدنيا وفي اآلخرة‪ .‬أما مليكة الشيبانية‪ ،‬فقد رثت‬ ‫يـــاح تَنا َو َحـــتْ‬
‫ُ‬ ‫نِ ْعـــ َم القَتيـــ ُل إذا ِّ‬
‫الر‬
‫أخاها حزنا ً وتخليداً لبطولته‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫وتع ّد عينية مت ّمم‪ ،‬من أبلغ قصائد الرثاء‪ ،‬كونها اشتملت على اشتغاالت‬ ‫ت َْحـــتَ اإلزا ِر قُتِ ْلـــتَ يـــا ابـــنَ األَ ْز َو ِر‬
‫ت‬‫ف حتّى ال َمما ِ‬ ‫ُّموع بِوا ِك ٍ‬
‫يا َعيْنُ جودي بالد ِ‬ ‫لغوية وشعورية‪ ،‬ربّما لم توجد في غيرها من قصائد الرثاء‪ّ ،‬إاّل أنها‪ ،‬كذلك‪،‬‬ ‫ض ِمـــ ُر الفَ ْحشـــا َء ت َْحـــتَ ردائـــ ِه‬
‫ال يُ ْ‬
‫روب ِمنَ النِّسا ِء الشَّاريا ِ‬
‫ت‬ ‫الح َ‬‫ض َر ُ‬ ‫قوال لِ َمنْ َح َ‬ ‫نهجت منهجا ً مباشراً بالطرح‪ ،‬فكانت بعيدة نوعا ً ما عن الرمزية والمجاز‪.‬‬ ‫ُح ْلــــــ ٌو شـــــمائلُهُ عَفيــــــفُ ال ِمئْـــ َز ِر‬
‫ش ُم ْثبَتا ِ‬
‫ت‬ ‫سيْنَ بَ ْعد َغضار ٍة ونَ ِ‬
‫عيم َع ْي ٍ‬ ‫أَ ْم َ‬
‫ت‬
‫ش نا ِع ٍم صا َرتْ ِعظا ُم ُه ُم ُرفا ِ‬‫ِمنْ بَ ْع ِد َع ْي ٍ‬

‫هنا تستحضر مليكة‪ ،‬حزنها عطيةً على روح أخيها‪ ،‬وكأن كثرة الحزن‬
‫تعبير عن مقام الفقيد في القلب‪ ،‬وغلبة الفراغ الذي خلّفه غيابه‪.‬‬
‫الاّلحقة تميّزت قصيدة محمد بن كعب الغنوي‪ ،‬التي رثى‬ ‫وفي العصور ّ‬
‫فيها أخاه أيضاً‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أَخـــي كانَ يَ ْكفِينـــي‪ ،‬و َكــــانَ يُ ِعينَنـــي‬
‫ـــوب‬
‫ُ‬ ‫ت ال َّدهْـــ ِر ِحيـــنَ تَنُ‬ ‫علـــى نَائِبَـــا ِ‬
‫ع اشْـــتَ َر ْيتُهُ‬‫ت ال ّد ْنيـــا تُبـــا ُ‬ ‫ـــو كانَـــ ِ‬ ‫فَلَ ْ‬
‫يب‬‫فـــوس ت َِط ُ‬
‫ُ‬ ‫بِ َمـــا لَـــ ْم تَ ُكـــنْ َع ْنـــهُ النّ‬
‫ي وقيـــ َل لـــي‪:‬‬ ‫بِ َع ْينَـــ َّي أَ ْو يُ َمنَـــى يَـــ َد َّ‬
‫ُوب‬ ‫الج ْ‬
‫ـــذالَنُ يَ ْ‬
‫ـــو َم يَـــؤ ُ‬ ‫هُـــ َو ال َغانِـــ ُم َ‬

‫بينما يتجلّى الفقد أيضا ً في قصيدة أبي ت ّمام التي رثى فيها أخاه‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫ـــو كانَ يَف َه ُمـــهُ‬‫إِنّـــي أَظُـــنُّ البِ ْلـــ َي لَ ْ‬
‫ـــن‬
‫س ِ‬ ‫الح َ‬
‫صـــ َّد البِلى عَـــنْ بَقايا َو ْج ِه ِه َ‬ ‫َ‬
‫يـــا َموتَـــهُ لَـــ ْم تَـــ َد ْع ظَ ْرفـــا ً وال أَدَبا ً‬
‫إِ ّاّل َح َكمــــــتَ بِـــــ ِه لِلَّحـــــــ ِد َوال َكفَ ِ‬
‫ـــن‬

‫‪95‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪94‬‬
‫الجانب اآلخر‬

‫جـــــــا َو ْرتَ َربَّــــ َك إبراهيـــ ُم ُمطَّ ِرحـــا ً‬


‫ض ِد‬ ‫أخــــــاك أح َمـــــ َد يَشـــ ُكو قِلَّـــة ال َع ُ‬ ‫تجلّت صور مؤلمة‬
‫يَقـــو ُل وال َّد ْمـــ ُع فـــي َخ َّد ْيـــ ِه ُم ْنت َِظـــ ٌم‬
‫في رثاء أبي ت ّمام ألخية‬
‫كال ِع ْقــــــ ِد ُم ْنتَثِــــــ ٌر كاللُّؤلُــــــؤ البَـــ َد ِد‬
‫أخـــي قَ ْد ُك ْنـــــتَ لـــي ع َْونا ً أَشُـــــ ُّد بِ ِه‬
‫صــري َخ ْيـــ َر ُم ْعتَ َمـــ ِد‬ ‫أَ ْزري و ُك ْنــتَ لِنَ ْ‬
‫س ُم ْنفَ ِرداً‬ ‫أصبَ ْحـــتَ بَ ْع َد األُ ْنـــ ِ‬ ‫ـــو َم ْ‬
‫فاليَ ْ‬
‫عند فراق األحبة يُعبّر الشخص عما يجيش في نفسه‪ ،‬بطريقته التي‬
‫ـــن ال ُع َد ِد‬
‫س ِ‬ ‫و ُك ْنـــــتَ لي عُـــــ ّدةً ِمنْ ْ‬
‫أح َ‬
‫ألن المصاب الذي يكون فيه‪،‬‬ ‫من المؤكد تكون خالية من التكلّف والتصنّع‪ّ ،‬‬
‫يحجبه عن بناء األفكار أو تصنّع الحزن‪ .‬فهذا يعبّر بالبكاء‪ ،‬وغيره بالعويل‪،‬‬
‫محمد العثمان‬ ‫المنفلوطي‬ ‫ث حزين ٍة‪ ،‬حروفها‬ ‫وآخر بالصبر‪ .‬أ ّما الشعراء فتتحول دموعهم إلى مرا ٍ‬
‫أبرزت حال االغتراب‬
‫اآلالم‪ ،‬و ِسفرها قلب ُمضنى وقافيتها اللوعة واألسى‪ ،‬وبحرها من فيضانات‬
‫التي تنتاب الشعراء‬
‫وبحور العبرات والحسرات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الدموع‬
‫ـــــــوزي فَ َد ْيتُـــــــ َك ُكـــــــ ُّل هاتِفَــــــ ٍة‬
‫ْ‬ ‫فَ‬
‫الحقا ً تفيض مشاعر جميل صدقي ال ّزهاوي‪ ،‬في رثاء أخيه عبد الغني‪،‬‬
‫ســـ ِم ِك ال َع ْذ ِ‬
‫ب‬ ‫صـــ ْد ِر تَ ْن ِطـــ ُ‬
‫ق با ْ‬ ‫فـــي ال َّ‬
‫ويفجعه رحيله الذي ال رجعة منه فيقول‪:‬‬
‫وفي هذه القصيدة يروي المنفلوطي‪ ،‬رحيل عضده الذي كان عونا ً له يش ّد‬ ‫ــــــرتُ قَ ْبــــــ َر َك حيــــــنَ َر َّوعَنـــي‬‫با َك ْ‬ ‫الحلَكْ‬‫َن النّو ِر تولّى راحالً إلى َ‬ ‫أخي ع ِ‬
‫به أزره‪ ،‬واليوم أصبح بال سند منفرداً‪ ،‬بعدما كان أخوه ع ّدته وعتاده في الدنيا‪.‬‬ ‫ب‬ ‫أنّ القُبـــــــــو َر َكثيفــــــــةُ َ‬
‫الح ْجـــــــ ِ‬ ‫سلكَْ‬‫جوع َمالهُ أخي َ‬ ‫للر‬ ‫ً‬
‫س طريقا ُّ‬ ‫لَ ْي َ‬
‫ِ‬
‫وبعيداً من كون رثاء األخ حضر لدى الشعراء مادةً للتعبير‪ ،‬فإن‬ ‫س النَّها ِر إنّما أخي َدلَكْ‬ ‫ش ْم ُ‬‫ما َدلَ َكتْ َ‬
‫بعضهم أغرته تلك الحال‪ ،‬فراح يكتب عنها وبها‪ ،‬من دون أن يعيشها مثل‬ ‫عندما يغادر محبوب قريب منّا في سفر‪ ،‬فإننا نشعر تجاهه بفقد كبير‪،‬‬ ‫أخي أخي إنّي أُنادي َك وال َج َ‬
‫واب لَكْ‬
‫إيليّا أبي ماضي الذي قال في رثاء األخ عموماً‪:‬‬ ‫فكيف إن كان المسافر بال رجعة‪ ،‬وتحجبه عنا القبور‪ ،‬كما في قول شفيق‬
‫الحزينُ‬ ‫ص ْب َر َ‬ ‫أَبَ ْع َد َك يَ ْع ِرفُ ال َّ‬ ‫المعلوف‪ ،‬إن القبور كثيفة الحجب‪.‬‬ ‫وبالطريقة المباشرة التي توحي بعظم المصاب ورثى فيها ال ّزهاوي‪،‬‬
‫وقد طاحت بمهجته المنون‬ ‫وعن رثاء األخ أيضا ً نجد الشاعر واألديب مصطفى لطفي المنفلوطي‪،‬‬ ‫شقيقه‪ ،‬تحضر للشاعر شفيق المعلوف‪ ،‬رثائية تناول فيها وفاة أخيه‬
‫س ْه ٍم‬‫ش ِّر َ‬ ‫َر َم ْت َك يَ ُد ال َز ِ‬
‫مان بِ َ‬ ‫يبدع في نظم دموعه على خ ّد القصيدة ويقول‪:‬‬ ‫فوزي‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫الخؤونُ‬ ‫ضيتَ بَكى َ‬ ‫فَلَ ّما أَنْ قَ َ‬
‫َرما َك َوأَنتَ َحبَّةُ ُك ِّل قَل ٍ‬
‫ب‬
‫لوب لَهُ َرنينُ‬‫َريف فَالقُ ُ‬
‫ش ٍ‬

‫على الرغم من سم ّو الرابط األخوي‪ ،‬وسم ّو المشاعر التي يجسدها‬


‫الفقد‪ ،‬فإن عالقة األخوّة فيها من العمق والتعقيد‪ ،‬ما لم تتناوله أقالم الشعراء‪،‬‬
‫وخصوصا ً في الحقب السابقة لعصرنا‪ ،‬فمثلما ذكرنا‪ ،‬بقيت معظم أمواج الحزن‬
‫تتالطم على شواطئ القصدية‪ ،‬من دون التو ّغل في رمال اإلتقان‪ ،‬إال أننا اليوم‬
‫نرى اشتغاالت فنية متقنة‪ ،‬وفي هذا الشأن تحضرنا قصيدة للشاعر محمد طه‬
‫العثمان‪ ،‬بعنوان «الكأسُ شاخَت بكفّي» يرثي فيها أخاه أحمد‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ســـ َك بي‬ ‫َ‬
‫عـــــاث َه ْم ُ‬ ‫ها أ ْنتَ ِم ْل ُء بُكائي‬
‫س َغدي‬ ‫الح ْرمـــانُ َم َّ‬ ‫و ِم ْلء أ ْمســـي إذا ِ‬
‫ضـــتْ َمنا ِهلُـــهُ‬ ‫و ِدفئـــ َك البِ ْكــــ ُر قَـــ ْد فا َ‬
‫وجــاءنـــــي بســـــرا ِر البُ ْعـــــ ِد وال َك َم ِد‬

‫وعبر ما سبق يتبيّن لنا غرض من أغراض الشعر‪ ،‬فهو في هذا الجانب‬
‫لسان قلب الشاعر‪ ،‬والهُويّة التي يتحرّك فيها ضمن مجتمعه‪ ،‬يمدح ويذ ّم‪،‬‬
‫يحبّ ويبغض‪ ،‬يفرح ويحزن‪ ،‬ويبكي بدالً عن الدموع مفردات‪.‬‬

‫‪97‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪96‬‬
‫شعر‬

‫طف ٌل يقرأُ ال ُم َعلّقة‬ ‫شطآن أخيلتي‬


‫ع ِة‬ ‫ب ما يُ ْغـــري إلى ال َّد َ‬ ‫غنّ ْيـــتُ لِ ْل ُح ِّ‬ ‫َ‬ ‫ـــن قَ ْريَتَهُ‬ ‫َكمـــا يُ َز ِّمـــ ُل فـــي بُ ْر َد ْي ِ‬
‫ْـــواق في لُ َغتي‬
‫ِ‬ ‫وما يُعي ُد هوى األش‬ ‫اآلن ُر ْؤيَتَهُ‬ ‫َ‬ ‫طـــي‬ ‫بـــاب يُ َغ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ض‬
‫هذا ال َّ‬
‫هاجتْ بِحاري لَ َعـــ َّل ال َم ْو َج يَ ْذ ُكرني‬ ‫َ‬ ‫َمشْـــيا ً إلى اللـــ ِه وال ُّد ْنيا تُشَـــيِّ ُعهُ‬
‫عتي‬ ‫ـــف ُح ْل ٍم تراءى َه َّز أشْـــ ِر َ‬ ‫َكطَ ْي ِ‬ ‫يـــن إِلى أنْ َم َّل ِمشْـــيَتَهُ‬ ‫الحنِ ِ‬ ‫ِم ْثـــ َل َ‬
‫ار‪ ،‬تِ ْلـــكَ النّا ُر تَ ْمنَ ُحني‬ ‫َمنْ يُوقِ ُد النّ َ‬ ‫عة ً‬ ‫ـــرت مو ِّد َ‬ ‫ق قد َم ّ‬ ‫وذي الحدائـــ ُ‬
‫ص ْو َم َعتي‬ ‫ب َ‬ ‫َج ْم َر ال ُمناجا ِة في ِم ْحرا ِ‬ ‫ـــجيَّتهُ‬
‫س ِ‬ ‫ق النَّ ْخ َل واســـتبقى َ‬ ‫فعانَـــ َ‬
‫ص ْوتُ شَـــهيقي لَ ْحظَ َز ْفرتِها‬ ‫كان َ‬ ‫ما َ‬ ‫الكـــوخ‪ ..‬ال ما ٌء بج َّرتِ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ال قِد َْر في‬
‫عبداهلل الخضير‬
‫ســـطَ َح ْن َجرتـــي‬ ‫ّإاّل أنينـــا ً تَ َغنّـــى و ْ‬ ‫طفا شَـــ ِهيَّتَهُ‬ ‫الو ْقـــتُ قَـــ ْد أَ ْ‬ ‫َكأَنَّمـــا َ‬
‫سيدي محمد محمد المهدي‬
‫السعودية‬ ‫موريتانيا‬
‫ق بي َو َجعي‬ ‫مـــا إنْ تَنَ َه ّْدتُ َحتّى ضا َ‬ ‫غ نَ ْجواهُ فـــي ِم ْحراب ع ُْزلَت ِه‬ ‫يَصو ُ‬
‫ســـتُ خانَ ْتنـــي َمعـــي رئتي‬ ‫وإنْ تَنَفَّ ْ‬ ‫ـــل لِ ْحيَتَهُ‬ ‫فَيَ ْغ ُمـــ ُر ال َّد ْمـــ ُع ِم ْث َل َ‬
‫الح ْق ِ‬
‫ـــح اللَّ ْيل ما َه َدأتْ‬ ‫بج ْن ِ‬
‫صالتي ُ‬ ‫ـــوال َ‬ ‫لَ ْ‬ ‫ســـهُ ‪ -‬يَ ْعدو ‪ -‬على أَثَ ِري‬ ‫ع نَ ْف َ‬ ‫وباخ ٍ‬
‫ِ‬
‫ـــب َم ْئ َذنتي‬
‫بالح ِّ‬ ‫ُ‬ ‫روحـــي‪ ،‬وال َّ‬
‫أذنَتْ‬ ‫كان بَيَّتَـــهُ‬ ‫اآلن مـــا قَـــ ْد َ‬ ‫َ‬ ‫ـــح‬
‫ض َ‬ ‫لِيَ ْف َ‬
‫ـــل يُوصلُهُ‬ ‫ب‪َ ،‬‬
‫غـــرا ُم اللَّ ْي ِ‬ ‫ب قَ ْل ٍ‬ ‫فَـــ ُر َّ‬ ‫ســـهُ‬ ‫هاج ُ‬
‫ِ‬ ‫ســـ َّر والتَأْ ِوي ُل‬‫يُلَ ْملِـــ ُم ال ِّ‬
‫ـــر ُم ْل ِهمتي‬‫روح تَ َمنّـــتْ َه ْج َ‬ ‫ٍ‬ ‫ب‬
‫و ُر َّ‬ ‫ضيَّتَهُ‬ ‫س في الرؤيـــا قَ ِ‬ ‫شـــاع ٍر َد َّ‬ ‫ِ‬ ‫َك‬
‫الحـــزنُ يَ ْح ِملُني‬ ‫لَ ْو أنّني ُمتُّ ‪ ،‬ذاكَ ُ‬ ‫وى‬‫فَ َخبَّأ َ ْتـــهُ ُجفونُ المـــا ِء ذاتَ َه ً‬
‫برتي‬ ‫الح ْز ِن َم ْق َ‬
‫ب ُ‬ ‫ف ِحجـــا ِ‬ ‫هناكَ َخ ْل َ‬ ‫ه ِويَّتَـــهُ‬‫لـــــوب ُ‬
‫ٌ‬ ‫ئ َم ْ‬
‫ط‬ ‫َكمـــا يُ َخبِّــــ ُ‬
‫وجالً‬ ‫ســـلّ َل ِمنّـــي خائفـــا ً ِ‬ ‫ِط ْفلـــي تَ َ‬ ‫ق َمرا ِكبَهُ‬ ‫ف «الغو ُل» في ت َْو ٍ‬ ‫لِيَ ْخ ِط َ‬
‫ض َعتي؟‬ ‫سيَ ْع ِرفُ ِط ْفلي َو ْجهَ ُم ْر ِ‬ ‫فَ ْهل َ‬ ‫صيَّتَهُ؟‬ ‫ض‪ :‬من يتلو َو ِ‬ ‫األر ُ‬ ‫خ ْ‬ ‫َص ُر َ‬ ‫َوت ْ‬
‫دون تَأتأ ٍة‬ ‫َ‬ ‫شـــ ْعري‬ ‫ســـيَ ْقرأُ ِ‬ ‫و َهـــ ْل َ‬ ‫ـــر ُم ْبتَ ِكراً‬ ‫غوص الفِ ْك َ‬ ‫ُ‬ ‫هُنـــا اليَقِينُ يَ‬
‫ضيع غـــدا يَ ْهـــوى ُم َعلَّقَتي‬ ‫ٍ‬ ‫فَ َكـــ ْم َر‬ ‫ت فِ ْديَتَهُ‬‫ط ِن الحـــو ِ‬ ‫كإبـــن َمتّـــى بِبَ ْ‬ ‫ِ‬
‫ضيَّ َعهُ‬ ‫ضيع َمشـــى َد ْربـــا ً فَ َ‬ ‫ٍ‬ ‫و َكـــ ْم َر‬ ‫ُـــطآن أَ ْخيِلَتي‬ ‫ِ‬ ‫اآلن في ش‬ ‫َ‬ ‫ش‬‫فَفَتِّـــ ِ‬
‫ط َوهُ فـــي ُك ْن ِه بوصلتي‬ ‫َحتّى رأى َخ ْ‬ ‫قَـــ ْد يَ ْقـــ ِذفُ اليَـــ ُّم لِلدُّنيـــا بَقِيَّتَـــهُ‬

‫‪99‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪98‬‬
‫القَصيدةُ‬
‫وأحالم الشّاعر‬
‫ْ‬
‫الشاعر يكتب عن رغبته في النقش على رمال البحر‪ ،‬وعلى رواسي القلب‪ ،‬ألنّه يدافع‬
‫الوجع بالكلمات‪ ،‬ويدفع عن نفسه بالثمانية والعشرين حرفاً نفسها الملل؛ فهو يعرف كيف‬
‫للسفر مع القصيدة‪ ،‬ألنه ال يضمن أن تنتظره ً‬
‫قليال حتى يخلو‬ ‫يرتّب األوراق ويع ّد نفسه َّ‬
‫لها‪ ،‬بعيداً من الذين يحاولون أن يعرفوا مسارها‪ ،‬ومع من حظها في هذا اليوم؛ فالقصيدة‬
‫تجف أوراقها‪ ،‬قبل أن‬‫تتخفى حين تختار من يعرف كيف َيصوغها قبل أن ّ‬ ‫شجاعة ال ّ‬
‫الاّلمعة‪ .‬وكلّما ركض الشاعر نحوها‪ ،‬منحته‬ ‫تشيخ وتهرم دون أن تتباهى بأضوائها ّ‬
‫العمر الذي يكفي لكي يذكره الناس في حلقات الكالم الجانبي؛ فهو يفضلها على أي شيء‪،‬‬
‫وهذا التفضيل نابع من محبّة عميقة لتراكيبها الخيالية التي تتكاثر مثل غابة من الثمار‪.‬‬
‫فدام َم ْج ُد القصيدة‪ ،‬ودام َم ْج ُد الشعر‪ ،‬ودامت األنهار والصدفات وأوراق الشجر‪ ،‬والطيور‬
‫التي تت َم ْوسق وتغتسل بماء الشعر؛ فماذا يمكن للشاعر أن يفعله‪ ،‬إذا رافقته قصيدة على‬
‫البحر؟ هل يبتسم لها‪ ،‬أم يترك لها حرية الغناء؟ في كل األحوال ستكون لحظات سعيدة‬
‫مرة‬
‫التي يجتمع فيها الشاعر مع قصيدة وسط حشد من محبّي الشعر‪ ،‬وقد حدث أكثر من ّ‬
‫أن الشاعر قال قصيدة بين الجموع‪ ،‬فرزق خيراً كثيراً‪ ،‬وعاد إلى أهله مسروراً؛ فهذا‬
‫هو اإلخالص الحقيقي للحروف التي تنبت على شجر القصيدة‪ ،‬هذه هي قمة الوعي بأن‬
‫ً‬
‫مستحيال‪ ،‬كما يتخيّل بعضهم‪ ،‬فكل األمكنة بالنسبة للشاعر‬ ‫الحلم بين طيّات األوراق ليس‬
‫ال أهمية لها‪ ،‬حين تغيب القصيدة وحين تحضر‪ ..‬تحضر األعراس كلها‪ ،‬فاشتبكي يا‬
‫أحالم مع تنويعات الشاعر الذي يعبر إلى طريق الشعر الذي ال يبتغي غيره‪ ،‬وال يرجو‬
‫سواه‪ ،‬فالشعر غصن زهور‪ ،‬والقصائد تمنح الشاعر الدهشة‪ ،‬فمن نافذة الشعر تنطلق‬
‫مراكب الخيال‪ ،‬لترسو على شواطئ تسكنها النوارس‪ ،‬فال تذهب األحالم أبداً‪ ،‬والشاعر‬
‫الحقيقي ال يرى طريقاً آخر سوى الشعر‪ ،‬فطريقه هو اإلنصاف‪ .‬وكلّما قال الشاعر يا‬
‫أيّتها الكلمات أضيئي في اليابسة والبحر‪ ،‬وانهضى لتتخذي مساراً في‬
‫حــديث‬
‫ال�شعر‬
‫القمر ْين‪ ،‬خارجاً‬
‫َ‬ ‫الفضاءات‪ ،‬أجابته الكلمات‪ :‬ليكن الشعر منبعثاً من ضوء‬
‫عن أسوار الزمن‪ ،‬ألنه ال يركض في األقفاص المغلقة‪.‬‬

‫محمد عبداهلل البريكي‬

‫العدد (‪� - )49‬سبتمرب ‪2023‬‬ ‫‪100‬‬


www.sdc.gov.ae

You might also like