You are on page 1of 148

‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫ت�صدر �شهري ًا عن دائرة الثـقـافـة بال�شـارقة‬

‫ال�سنة ال�ساد�سة‪-‬الـعدد الثــالـث وال�ستـون ‪ -‬يـنـايـر ‪٢٠٢٢‬م‬

‫عبـد الـــرزاق قــرنـــح‬ ‫�أعــالم العــرب والمـ�سلـمـيـن‬


‫ورحــلـــتـــــه نـــحــــــو «نــــوبـــــل»‬ ‫عبـا�س بن فرنـا�س‬

‫�ســـامــــي بــــن عــامـــر‬ ‫مخرج عالمي بتوقيع عربي‬


‫ير�سم برائحة الألوان والمو�سيقا‬ ‫مـ�صـطـفـى العـقــاد‬

‫الخليل‬
‫مدينة ت�شي‬
‫بــجـذورهــا‬
‫التـاريـخـية‬
‫مجالت دائرة الثقافة‬
‫عـدد يناير ‪2022‬‬
‫مجلة شهرية تُ ـعنى بالشعر واألدب الشعبي ‪ -‬السنة الرابعة ‪ -‬يناير ‪2022‬م ‪ -‬العدد (‪)29‬‬
‫تصدر عن دائرة الـثـقـافـة بالشارقـة‬

‫مهرجان الفنون اإلسالمية‬ ‫نافذة الثقافة العربية‬ ‫ت�شدر �شهري ًا عن دائرة الثـقـافـة بال�شـارقة‬
‫«تدرجــــــات» كـــنوز‬ ‫ال�شنة ال�شاد�شة‪-‬الـعدد الثــالـث وال�شتـون ‪ -‬يـنـايـر ‪٢٠٢٢‬م‬

‫وتجليات وجمــاليات‬ ‫عبـد الـــرزاق قــرنـــح‬ ‫اأعــالم العــرب والمـ�سلـمـيـن‬


‫ورحــلـــتـــــه نـــحــــــو «نــــوبـــــل»‬ ‫عبـا�س بن فرنـا�س‬
‫العدد (‪ - )293‬يناير ‪2022‬‬

‫�ســـامــــي بــــن عــامـــر‬ ‫مخرج عالمي بتوقيع عربي‬


‫ير�سم برائحة الألوان والمو�سيقا‬ ‫مـ�سـطـفـى العـقــاد‬

‫الخليل‬
‫شــــعــــراء ‪" :‬الـــــــحـــــــيـــرة مــــن الـــشـــارقـــة"‬ ‫مدينة ت�سي‬
‫تـــراثـــيـــة‬
‫ّ‬ ‫مـــنـــبـــر إبــــــداعــــــي وحــــاضــــنــــة‬ ‫بــجـذورهــا‬
‫احـــــتــفـــــاالً بــــ ‪ 4‬أعــــــوام عــلــى صــدورهـــــا‬ ‫التـاريـخـية‬

‫سلطان‪ :‬المتقاعدون قدموا لنا شبابهم وال يرضينا إال أن نكرمهم‬

‫مجلة شهرية تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة‬


‫ســـلـــطـــان‪ :‬الــمــتــقــاعــدون‬

‫السنة الرابعة ‪ -‬العدد (‪ - )29‬يناير ‪2022‬‬


‫إربــــــد ‪..‬‬
‫السنة الثالثة ‪ -‬يناير ‪2022‬م ‪ -‬الـعدد (‪)28‬‬

‫قـــــدمـــــوا لـــنـــا شــبــابــهــم‬


‫وال يـرضـينـا إال أن نــكرمـهـم‬
‫العدد (‪ )28‬السنة الثالثة ‪ -‬يناير ‪ُ - 2022‬جمادى األولى ‪ 1443‬هـ‬

‫زهـــــرة الشعــــر‬
‫‪ ..2021‬إنـــــــجـــــــــــــــــازات‬
‫تــقــدم وجـــــهـــــــــــــ ًا جــديــد ًا‬
‫وعــروس الشمــال‬
‫لـــلـــســـاحـــل ال ــش ــرق ـــ ـــ ــي‬
‫مــهــرجــان الــشــارقــة كلباء‬
‫لــــلــــجــــواد الــــعــــربــــي‪..3‬‬ ‫الغفران عند الشعراء‪..‬‬
‫جــــــــمــــــــال وأصــــــــالــــــــة‬ ‫تُعنى بالشعر واألدب العربي‬
‫مـجـلـــة شهـريــــة تــنـمويــة ثـقـافـيـــة‬
‫من المنطـقة الشرقية بإمارة الـشارقة‬
‫م‬
‫التمــاس العـــذر في الشـــي ِ‬

‫مجلة شهرية تنموية ثقافية من المنطقة الوسطى بإمارة الشارقة‬

‫شعـر الفكــاهة‬
‫«معرض التخييم‬ ‫الته‬
‫تحت وطأة الواقع وتح ّوّال‬
‫والمغامرات» دعامة‬
‫الــــســــيــــاحــــة ال ــج ــب ــل ــي ــة‬ ‫للسياحة البيئية‬
‫فــي الــمــنــطــقــة الــشــرقــيــة‪..‬‬
‫مساراتترويحكاياتاألجداد‬
‫‪ ..2021‬تحديث‬
‫وتطوير يغير وجه‬
‫الغة الصورة الشعرية‪..‬‬
‫ببال‬
‫المنطقة الوسطى‬ ‫اللـــة المعنـــى والخيــــال‬
‫دال‬‫د‬

‫الحوية‪..‬‬
‫حياة راسخة في أكناف الصحراء‬
‫في الشعر‪..‬‬ ‫السفينة‬
‫غــــربة وتيــــه وترحــــال‬

‫ص‪.‬ب‪ 5119 :‬الشـارقة ‪ -‬اإلمـارات العـربية المتحدة‬


‫البراق‪+971 6 5123303 :‬‬
‫ّ‬ ‫الهاتف‪+971 6 5123333 :‬‬
‫البريـد اإللكتروني‪sdc@sdc.gov.ae :‬‬
‫الموقع اإللكتروني‪www.sdc.gov.ae :‬‬
‫‪sharjahculture‬‬
‫كلمة العدد‬

‫الملكـية الأدبية‬
‫وحماية الإبداع‬
‫الذي يعززه منح الجوائز التقديرية وطباعة‬ ‫�ضرورية لإحداث �أي نقلة على الم�ستويين‬ ‫ال ���ش� ّ�ك � ّأن الإب�����داع ب��ك��ل �أ���ص��ن��اف��ه‬
‫الحق في‬‫ّ‬ ‫الكتب‪ ،‬يجب �أن يكون للم�ؤلف‬ ‫الفكري والثقافي‪ ،‬وكلما جرى ال�سهر على‬ ‫واتجاهاته يحتاج �إلى بيئة �آمنة وجاذبة‪،‬‬
‫منع �أي عمل من �ش�أنه الإ�ساءة �إلى ا�سمه‬ ‫توفير هذه الحماية ازدهر الت�أليف و�أينعت‬ ‫تت�سم بالحرية لكي تنمو غ�صونه وتمتد‬
‫الت�صدي لل�سرقات‬
‫ّ‬ ‫ومكانته و�إبداعه‪ ،‬وكذلك‬ ‫الأقالم وانت�شرت الكتب ودور الن�شر‪ ،‬وات�سعت‬ ‫جذوره وتن�ضج ثماره‪ ،‬ويحتاج �أي�ض ًا �إلى‬
‫واالقتبا�سات الأدبية‪ ،‬خ�صو�ص ًا في ع�صر‬ ‫ال�ساحة للفعل الثقافي‪ ،‬ل ّأن الحفاظ على‬ ‫�أفكار جديدة وم�سارات خ�صبة ووم�ضات‬
‫الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة التي �سهلت‬ ‫حقوق الم�ؤلف و�صون نتاجه من �أي انتهاك‬ ‫�ساحرة لكي يتطور ن�شاطه ويتجلى ح�ضوره‬
‫نقل ون�سخ وا�ستعمال وا�ستغالل العمل‬ ‫يجعالنه ي�شعر بالر�ضى وتحقيق ال��ذات‬ ‫وتتفجر ينابيعه‪� ،‬إال � ّأن ذلك يبقى غير ٍ‬
‫كاف‬
‫الأدبي ب�شكل غير م�شروع‪ ،‬ما يتطلب تكثيف‬ ‫والطم�أنينة‪ ،‬ف�ض ًال عن � ّأن الحماية من خالل‬ ‫ل�صنع ثقافة فاعلة وحالة فكرية متوهجة‬
‫الجهود للحفاظ على حقوق المبدعين‬ ‫هذه الملكية تدفع باتجاه االبتكار واختالق‬ ‫�إن لم ُتحط به �أطر وقوانين و�أنظمة تحفظ‬
‫والمبتكرين‪ ،‬وت�شجيع االبتكار‪ ،‬وحقيقة‬ ‫طرائق معرفية حديثة‪ ،‬وا�ستنبات �أفكار‬ ‫مكانته وت�صون نتاجه‪ ،‬من هنا جاءت‬
‫تبذل حالي ًا كل الجهود في �إطالق المبادرات‬ ‫غير م�سبوقة‪ ،‬و�إي�لاء الأهمية لل�صناعات‬ ‫الملكية الأدبية التي ت�شمل حقوق الم�ؤلف‬
‫الرائدة في مجال مكافحة الجرائم المتعلقة‬ ‫الإبداعية‪� ،‬إذ من �ش�أن كل ذلك �أن تنتقل‬ ‫المادية والمعنوية من بينها؛ الن�شر والطبع‬
‫بالملكية الفكرية والأدبية‪ ،‬وتعزيز الخبرات‬ ‫المجتمعات �إل��ى مرحلة �أك��ث��ر ت�صالح ًا‬ ‫والن�سخ والترجمة‪ ،‬فكانت ال��دع��وة �إل��ى‬
‫وبحث �أف�ضل ال�سبل والممار�سات العالمية‬ ‫وان�سجام ًا ووعي ًا‪ ،‬وتخطو خطوات وا�سعة‬ ‫وتقدم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جعلها �أ�سا�س �أي نه�ضة وح�ضارة‬
‫والتعديات‬
‫ّ‬ ‫للق�ضاء على جرائم القر�صنة‬ ‫والتقدم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في البناء‬ ‫وهي من �أهم الخطوات التي حر�ص العالم‬
‫على الملكية الفكرية في المنطقة‪ ،‬باعتبار‬ ‫كما � ّأن االهتمام بالمبدعين والأدب��اء‬ ‫على تحقيقها وتطويرها بما يتنا�سب مع‬
‫� ّأن حماية هذا الإب��داع و�صونه والحفاظ‬ ‫والمفكرين‪ ،‬وتوفير الحماية لهم ولإنتاجهم‬ ‫متطلبات الع�صر‪ ،‬فكانت اليد التي حمت‬
‫عليه ي�شكالن مع ًا �إحدى دعائم االقت�صاد‬ ‫ه��و ح��م��اي��ة ل�ل�إن��ج��ازات ال��ت��ي حققوها‬ ‫�أروع الإبداعات في ال�شعر والنثر والفل�سفة‬
‫القائم على المعرفة‪.‬‬ ‫والأع��م��ال التي قدموها‪ ،‬وللأفكار التي‬ ‫والفن‪ ،‬وثبتت �أوتادها و�شرعت النوافذ على‬
‫كلما تطورت المجتمعات الإن�سانية‬ ‫عززت القيم الإن�سانية و�صنعت ح�ضارات‬ ‫الثقافات والمتغيرات‪ ،‬لتنه�ض وت�ستمر‬
‫م�ستفيدة من التكنولوجيا وو�سائل االت�صال‬ ‫وثقافات مختلفة‪ ،‬ويعود لها الف�ضل في‬ ‫وتحيا في اللغة والجمال‪.‬‬
‫ومتغيراتها الداخلية‬
‫ّ‬ ‫تحوالتها‬
‫الحديثة في ّ‬ ‫الت�أ�سي�س لحياة �أف�ضل ولم�ستقبل �أكثر‬ ‫� ّإن حماية الإب��داع والمبدعين �ضرورة‬
‫والخارجية‪ ،‬ازدادت الحاجة �إلى المعايير‬ ‫�إب��داع � ًا واب��ت��ك��اراً‪ ،‬واالهتمام بالمبدعين‬ ‫ملحة في هذا الع�صر وك ّل ع�صر‪ ،‬وحاجة‬ ‫ّ‬
‫والنظم وال�صيغ التي تح ّقق العدالة والتنمية‪،‬‬ ‫وحماية �إبداعاتهم هو حماية �أي�ض ًا للكتاب‬
‫وتفتح �آف��اق � ًا جديدة لالبتكار والإب���داع‪،‬‬ ‫ال��ورق��ي وحفظه من االن��دث��ار والنهو�ض‬ ‫المعنى الحقيقي للتكريم‬
‫وتعطي للحقوق �أهمية خا�صة وقيمة �أخالقية‬ ‫ب�صناعته‪ ،‬وهو كذلك حماية لدور الن�شر من‬
‫هو �أن يح�صل الم�ؤلف‬
‫وح�ضارية‪ ،‬تلعب دوراً كبيراً في التغ ّلب على‬ ‫انت�شار الفو�ضى والكتب المزورة وانتهاك‬
‫التحديات ومقاربة الق�ضايا الراهنة وفي‬ ‫الحقوق‪.‬‬ ‫على حقه في الحماية‬
‫ّ‬
‫مقدمتها الق�ضايا الثقافية والفكرية‪.‬‬ ‫وحتى ندرك المعنى الحقيقي للتكريم‪،‬‬ ‫والت�شجيع‬

‫‪3‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫رئي�س دائرة الثقافة‬
‫عبد اهلل بن محمد العوي�س‬

‫مدير التحرير‬
‫نـواف يونـ�س‬

‫هيئة التحرير‬
‫عبد الكريم يون�س‬
‫عـــــزت عـــــمــــــــر‬
‫حــ�ســـــان الـعــبـــد‬
‫عبدالعليم حري�ص‬
‫فــــــوزي �صـــــالـــــح‬

‫‪١٨‬‬ ‫الت�صميم والإخـراج‬


‫محـمـد �سـمــير‬

‫م�ساعد مخرج‬
‫محـمـد غانم‬
‫مدينة الخليل‬ ‫المحتوى الب�صري والإلكتروني‬
‫محـمـد مح�سن‬

‫ت�صدر �شهري ًا عن دائرة الثقافة ‪ -‬ال�شارقة ‪ -‬الإمارات العربية المتحدة‬


‫التوزيع والإعالنات‬
‫ال�سنة ال�ساد�سة‪-‬العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪ ٢٠٢٢‬م‬ ‫خالد �صديق‬

‫مراقب الجودة والإنتاج‬


‫�أحمد �سعيد‬
‫نافذة الثقافة العربية‬
‫قيمـة اال�شـتـراك ال�سنـوي‬
‫الأ�سعار‬ ‫داخل الإمارات العربية المتحدة‬
‫‪ 400‬لرية �سورية‬ ‫�سوريا‬ ‫‪ 10‬دراهم‬ ‫الإمارات‬ ‫بالربيد‬ ‫الت�سليم املبا�شر‬
‫دوالران‬ ‫لبنان‬ ‫‪ 150‬درهم ًا‬ ‫‪ 100‬درهم‬ ‫الأفراد‬
‫‪ 10‬رياالت‬ ‫ال�سعودية‬
‫ديناران‬ ‫الأردن‬ ‫‪ 170‬درهم ًا‬ ‫‪ 120‬درهم ًا‬ ‫امل�ؤ�س�سات‬
‫ريال‬ ‫عمان‬
‫دوالران‬ ‫اجلزائر‬
‫دينار‬ ‫البحرين‬ ‫خارج الإمارات العربية المتحدة‬
‫‪ 15‬درهم ًا‬ ‫املغرب‬
‫‪ ٢٥٠٠‬دينار‬ ‫العراق‬ ‫�شامل ر�سوم الربيد‬
‫‪ 4‬دنانري‬ ‫تون�س‬ ‫‪ ٣٦٥‬درهم ًا‬ ‫جميع الدول العربية‬
‫دينار‬ ‫الكويت‬
‫‪ 3‬جنيهات �إ�سرتلينية‬ ‫اململكة املتحدة‬ ‫‪ 280‬يــورو‬ ‫دول االحتاد الأوروبي‬
‫‪ 4‬يورو‬ ‫دول الإحتاد الأوربي‬ ‫‪ 400‬ريال‬ ‫اليمن‬
‫‪ 300‬دوالر‬ ‫الواليات املتحدة‬
‫‪ 4‬دوالرات‬ ‫الواليات املتحدة‬ ‫‪ 10‬جنيهات‬ ‫م�صر‬ ‫‪ 350‬دوالر ًا‬ ‫كندا و�أ�سرتاليا‬
‫‪ 5‬دوالرات‬ ‫كندا و�أ�سرتاليا‬ ‫‪ 20‬جنيه ًا‬ ‫ال�سودان‬
‫فكر ور�ؤى‬
‫‪62‬‬ ‫جـورج �سارتون م�ؤرخ العلم والح�ضارات‬ ‫‪١٠‬‬
‫الم�ؤرخون العرب وع�صر ال�صورة‬ ‫‪١٢‬‬

‫�أمكنة و�شواهد‬
‫جدل الواقعي والمتخيل في �سيرة عنترة‬ ‫الخليل‪ ..‬مدينة م�ضيافة‬ ‫‪١٨‬‬
‫وتعد ال�سيرة ال�شعبية �إحدى �أكثر الأ�شكال‬
‫يتميز ال�سرد العربي القديم بغنى �أ�شكاله‪ّ ،‬‬ ‫�شنقيط‪ ..‬ذاكرة موريتانيا التاريخية‬ ‫‪24‬‬
‫ال�سردية خ�صو�صية‪� ،‬إذ تتمحور حول �شخ�صية واحدة تمثل ب�ؤرة الحكاية‪...‬‬
‫�إبداعات‬
‫نبيل �سليمان‪ ..‬جمع بين‬
‫الإبداع الروائي والنقد‬ ‫‪٥٢‬‬ ‫�أدبيات‬
‫قا�ص وناقد‬
‫‪28‬‬
‫‪32‬‬
‫تعد تجربة نبيل �سليمان الروائية‪ ،‬وفق‬
‫�أكثر المراقبين والمهتمين بال�ش�أن‬
‫في الم�ست�شفى ‪� -‬شعر مترجم‬ ‫‪٣٥‬‬
‫الثقافي‪ ،‬تجربة عميقة وجادة‪...‬‬ ‫قيمة العطاء ‪ -‬ق�صة ق�صيرة‬ ‫‪38‬‬

‫مرجعيات الن�ص ال�سردي‬


‫�أدب و�أدباء‬
‫‪56‬‬ ‫عند ماركيز‬
‫تكريم الدكتور في�صل د ّراج لدوره الثقافي‬
‫مارون عبود رائد النه�ضة الأدبية في لبنان‬
‫‪٦٦‬‬
‫‪٧٠‬‬
‫ا�شتهرت رواية (مئة عام من العزلة)‬
‫للروائي الكولومبي غابرييل غار�سيا‬ ‫مدحة عكا�ش عميد الثقافة في �سوريا‬ ‫‪٧٨‬‬
‫ماركيز �شهرة كبيرة في العالم‪...‬‬ ‫�سيف الرحبي وجه �شعري ُعماني بامتياز‬ ‫‪٨٨‬‬
‫الإم�����ارات‪��� :‬ش��رك��ة ت ��وزي ��ع‪ ،‬ال��رق��م ال��م��ج��ان��ي ‪8002220‬‬
‫وكـالء التوزيع‬
‫ال�����س��ع��ودي��ة‪ :‬ال�����ش��رك��ة ال��وط��ن��ي��ة ل��ل��ت��وزي��ع ‪-‬ال��ري��ا���ض ‪-‬‬
‫فن‪.‬وتر ‪.‬ري�شة‬
‫ه��ات��ف‪ ،٠٠966114871414 :‬الكويت‪ :‬المجموعة الإع�لام��ي��ة العالمية ‪ -‬الكويت‬ ‫نجاة مكي‪ ..‬تنحاز �ألوانها للأزرق والأبي�ض‬ ‫‪١١٤‬‬
‫‪ -‬ه� ��ات� ��ف‪� ،0096524826821:‬سلطنة ُعمان‪ :‬المتحدة لخدمة و�سائل الإع�ل�ام ‪-‬‬
‫م�سقط ‪ -‬هاتف‪ ،0096824700895 :‬البحرين‪ :‬م�ؤ�س�سة الأي ��ام للن�شر ‪ -‬المنامة‬
‫كرم مطاوع‪ ..‬رجـل المهمات ال�صعبة‬ ‫‪١١٨‬‬
‫‪ -‬هاتف‪ ،0097317617733 :‬م�صر‪ :‬م�ؤ�س�سة الأه��رام للتوزيع ‪ -‬القاهرة ‪ -‬هاتف‪:‬‬ ‫م�صطـفى العقاد مخرج عالمي بتوقيع عربي‬ ‫‪١٢٦‬‬
‫‪ ،0020227704293‬لبنان‪� :‬شركة نعنوع والأوائ����ل ل��ت��وزي��ع ال�صحف ‪ -‬هاتف‪:‬‬
‫عمان ‪ -‬هاتف‪،0096265358855 :‬‬ ‫‪ ،009611666314‬الأردن‪ :‬وكالة التوزيع الأردنية ‪ّ -‬‬
‫المغرب‪� :‬سو�شبر�س للتوزيع ‪ -‬ال ��دار البي�ضاء ‪ -‬ه��ات��ف‪،00212522589121 :‬‬
‫تحت دائرة ال�ضوء‬
‫تون�س‪ :‬ال�شركة التون�سية لل�صحافة ‪ -‬تون�س ‪ -‬هاتف‪0021671322499 :‬‬
‫المكان في روايات عبدالرحمن منيف‬ ‫‪١٣٧‬‬
‫روبرت غرين وثقـافـة النجـاح‬ ‫‪١٤٠‬‬
‫الإمـارات العربيـة المتحدة ‪-‬ال�شـارقة ‪ -‬الل ّية ‪-‬دائرة الثقـافـة‬ ‫عـنـاويـن المـجـلـة‪:‬‬
‫البراق‪+97165123303 :‬‬ ‫ّ‬ ‫الهاتف‪+97165123333 :‬‬ ‫�ص ب‪ 5119 :‬ال�شارقة‬ ‫ر�سوم العدد للفنانين‪:‬‬
‫‪shj.althaqafiya@sdc.gov.ae‬‬ ‫‪shj.althaqafiya@gmail.com‬‬ ‫د‪ .‬جهاد العامري‬ ‫نبيل ال�سنباطي‬
‫‪www.alshariqa-althaqafiya.ae‬‬ ‫‪shj_althaqafiya‬‬ ‫‪Alshariqa althaqafiya‬‬ ‫مهاب لبيب‬ ‫جمال عقل‬
‫تطبيقنا الذكي متوفر على‪:‬‬
‫التوزيع والإعالنات‬
‫¯ترتيب ن�شر المواد وفق ًا لـ�ضرورات فـنية‪.‬‬ ‫البراق‪+97165123259 :‬‬ ‫الهاتف‪+٩٧١٦٥١٢٣٢٦٣ :‬‬
‫¯ المقاالت المن�شـورة تعبر عن �آراء �أ�صحابهـا وال تعبر بال�ضرورة عن ر�أي المجلة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪k.siddig@sdc.gov.ae‬‬
‫¯المجلة غير ملزمـة ب�إعادة �أي مادة تتلقاها للن�شر �سواء ن�شرت �أم لـم تن�شر‪.‬‬
‫¯ حـقوق ن�شر ال�صور والمو�ضوعات الخا�صة محفوظة للمجلة‪.‬‬
‫توزع في جميع �إمارات ومدن الدولة‬
‫¯ال تقبل المواد المن�شورة في ال�صحف والمجالت والمواقع الإلكترونية‪.‬‬ ‫لال�ستفـ�سـار الـرقـم المجـاني‪8002220 :‬‬
‫�أعالم العلماء العرب والم�سلمين‬
‫الرجل الذي طار قبل (‪ )١٢‬قرن ًا‬
‫حكيم الأندل�س‪ ..‬عبا�س بن فرنا�س‬
‫ن�ش�أ عبا�س بن فرنا�س بن وردا�س التاكريني (ت‪887‬م) وتعلم في قرطبة التي‬
‫ق�صدها العرب والعجم لتلقي جميع �أن��واع العلوم في ذلك الع�صر‪ ،‬ونال حظو ًة‬
‫بو�صفه �شاعر ًا في بالط الأمويين في فترتهم الذهبية في بالد الأندل�س‪ ،‬خالل‬
‫القرنين الثاني والثالث الهجريين‪ .‬رحل �إلى عراقِ )دار الحكمة) ودر�س فيها‪ ،‬وعاد‬
‫حام ًال معه كتاب )ال�سند هند( في الريا�ضيات‪ ،‬بعد �أن در�س م�صنفات الطب‪ ..‬ثم‬
‫يقظان م�صطفى‬
‫در�س الأع�شاب‪ ،‬وخ�صائ�ص الأحجار والمعادن وعلوم الفلك والهند�سة والمو�سيقا‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪6‬‬


‫�إ�سهامات‬

‫�أج���اد �أب ��و القا�سم عبا�س بن‬ ‫ولتو ُّقد ذهنه‪ ،‬كان �أدباء الأندل�س و�شعرا�ؤها‪،‬‬
‫ف ��رن ��ا� ��س ال��ع��م��ل ب��ال��ر���س��م‬ ‫وحتى علماء اللغة‪ ،‬يجل�سون حوله يعلمهم‬
‫الهند�سي‪ ،‬حتى لقد غدا من‬ ‫النحو وق��واع��د الإع����راب‪ ،‬ويفك الغام�ض من‬
‫المعماريين؛ فهو �صنع في‬ ‫علم البديع والبيان وعلوم البالغة واللغة‪ ،‬مثل‬
‫مختبر بيته (قب ًة �سماوي ًة)‬ ‫كتاب العرو�ض! ويفك رموز المو�سيقا العربية‬
‫م ّثل فيها �صور الكواكب‬ ‫في الأندل�س‪ ،‬مدخ ًال عليها علم العرو�ض‪ ،‬الذي‬
‫وال�شم�س وال��ق��م��ر وال��ن��ج��وم‬ ‫و�ضعه الخليل بن �أحمد الفراهيدي‪ .‬كان �شاعراً‬
‫والغيوم‪ ،‬وزوده��ا بم�ؤثرات‬ ‫ُمجيداً مليح المعاني بعيد الغور رقيق الذهن (له‬
‫ب�صرية و�صوتية‪ ،‬ف��ي �أول‬ ‫�شخ�ص �إن�سي وفطنة جني!)‪ ..‬ثم �صار مخترع ًا في‬
‫حجرة محاكاة في التاريخ‬ ‫مختلف ال�صنع‪ ،‬عالم ًا في الريا�ضيات‪ ،‬وفي الطب‬
‫للظواهر الجوية المختلفة‪،‬‬ ‫وال�صيدلة والفلك والكيمياء والهند�سة المعمارية‬
‫م��ث��ل ال��ع��وا���ص��ف وال��رع��د‬ ‫والمو�سيقا‪� .‬أتقن اليونانية‪ ،‬وترجم منها �إلى‬
‫وال ��ب ��رق‪ ،‬م��ا ج��ع��ل بيته‬ ‫العربية بع�ض الكتب في الفل�سفة والمو�سيقا‪،‬‬
‫مق�صداً للنا�س ي�ستمتعون‬ ‫وك ّلل معارفه تلك بتع ّلم المو�سيقا والعزف على‬
‫ب��م��ا ي��زخ��ر ب��ه م��ن �أع��اج��ي��ب‬ ‫عديد من �آالتها‪ ،‬و�أتقن نظم المو�شحات وتلحينها‬
‫ال��م��دارات ال�����س��م��اوي��ة‪� ..‬أم��ا‬ ‫م�شاركة على �آلة العود‪ ،‬وو�ضع �سلم ًا مو�سيقي ًا‬
‫على م�ستوى ال��ب�لاد فقد‬ ‫عربي ًا في �ضوء �أوزان ال�شعر العربي وبحوره‪،‬‬
‫ج � ّ�م ��ل م��دي��ن��ة ق��رط��ب��ة‬ ‫و�ص ّنع � ٍ‬
‫آالت مو�سيقي ًة �أندل�سية‪.‬‬
‫بفنون عمارته وبنافوراته‬ ‫فوق هذا وذاك اهتم (ابن فرنا�س) بدرا�سة‬
‫ر�سم تخيلي لـ عبا�س بن فرنا�س‬ ‫و�أفانينه‪ ،‬م�سهم ًا في تحويل المدينة �إلى‬ ‫الأم ��را� ��ض‪ ،‬ودر����س ال��ط��ب وال�صيدلة واهتم‬
‫تحفة فنية فاتنة‪.‬‬ ‫بت�صنيف خ�صائ�ص الأم ��را� ��ض و�أع��را���ض��ه��ا‬
‫كذلك ابتكر عبا�س بن فرنا�س بنف�سه �ساعة‬ ‫وت�شخي�صها وط��رق الوقاية منها‪ ،‬وبت�صنيف‬
‫مائية لقيا�س الوقت بد ّقة �سميت (الميقاتة)‪،‬‬ ‫الأع�شاب وفوائدها الطبية؛ فاتخذه �أم��راء بني‬
‫تعمل على مبد�أ تد ُّفق المياه ب�آلية معقدة ت�ستخدم‬ ‫�أم��ي��ة ف��ي الأن��دل�����س طبيب ًا خا�ص ًا لق�صورهم‬
‫المياه كمحرك �سائل وم�صدر للطاقة‪ ،‬من خالل‬ ‫ل�شهرته وحكمته في �إر�شاداته الطبية الخا�صة‬
‫اعتبر عمالق العلوم‬ ‫تدفقها عبر مجموعة من ال�صمامات مع فتحها‬ ‫بفنون الوقاية من الأمرا�ض‪ .‬وبعدما �صار طبيب‬
‫�أو �إغالقها‪ ،‬وقدمها هدية للأمير الأموي محمد‬ ‫الق�صر و�شاعره �أن�ش�أ مختبراً في داره كان يقوم‬
‫التطبيقية في جل‬
‫بن عبدالرحمن بن الحكم‪ .‬وتقوم فكرة (الميقاتة)‬ ‫فيه بنف�سه ب�صناعة ابتكاراته وتركيباتها‪،‬‬
‫العلوم والمعارف التي‬ ‫على قيا�س الظل وح�ساب درجات زواي��اه‪ ،‬وقد‬ ‫واخت�ص بالأكثر بمعالجة المعادن بالحرارة‪،‬‬
‫در�سها ّ‬
‫ونظر لها‬ ‫ُ�ص ّممت عقاربها لتقي�س‪ ،‬كما �ساعاتنا‪ ،‬الدقائق‬ ‫فا�ستنبط منذ القرن التا�سع الميالدي طريقة‬
‫المق�سم‬
‫ّ‬ ‫والثواني على م�سار ر�ؤو�سها الدائري‬ ‫َ‬ ‫غير م�سبوقة لت�صنيع الزجاج ال�ش ّفاف عالي‬
‫تعد هذه الآلة ال�صورة‬‫�إلى �أقوا�س مت�ساوية؛ وبذا ّ‬ ‫النقاء‪ ،‬ذي الجودة العالية (الكوارتز) من الرمل‬
‫الأول��ى التي ت�أ�س�ست عليها �صناعة ال�ساعات‬ ‫عم االبتكار الأندل�س وانت�شر منها‬ ‫والحجارة‪ ،‬وقد ّ‬
‫المائية �أو الزئبقية �أو ال�ساعات ال�شم�سية الد ّقاقة‪.‬‬ ‫�إلى العالم‪ ،‬خ�صو�ص ًا العالم الأوروبي المجاور‪.‬‬

‫ا�شتغل في‬
‫الريا�ضيات والفلك‬
‫والطب والهند�سة‬
‫والمو�سيقا‬

‫ج�سر ابن فرنا�س في قرطبة‬

‫‪7‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�إ�سهامات‬

‫في �آالت الفلك ابتكر (ابن فرنا�س) �آلة ذات‬


‫ال�س ُد�س‪ ،‬وا�ستخدمها في ر�صد حركة‬ ‫الحلق‪� ،‬أو �آلة ُ‬
‫ال�سيارة‪ ،‬والنجوم والقمر في الليل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكواكب‬
‫معين ًا �أفالكها ومداراتها‪.‬‬
‫وال�شم�س في النهار‪ّ ،‬‬
‫بنية من‬ ‫َ ّ‬ ‫م‬ ‫ال�سماوي‪،‬‬ ‫للعالم‬ ‫والآلة تمثل نموذج ًا‬
‫حلقات و�أط��واق تم ّثل خط اال�ستواء‪ ،‬والمناطق‬
‫المدارية‪ ،‬والدوائر ال�سماوية الأخرى‪ ،‬بها يمكن‬
‫�إجراء العمليات الح�سابية‪ ،‬وت�سجيل المالحظات‬
‫التقريبية‪ ،‬عن طريق تحريك حلقاتها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفلكية‬
‫وِ فق ًا لم�ستوى الحلقات ال�سماوية‪ ،‬وم�صممة‬
‫للدوران حول محورها‪ ..‬ثم ا�ستخدمها بعد قرن‬
‫من الزمان (ابن الهيثم) في التو�صل �إلى العديد‬
‫من منجزاته‪.‬‬
‫قبل المبتكر (�ستي ّللو) بعدة قرون‪ ،‬ابتكر (ابن‬
‫�أول من حاول الطيران‬
‫مهيئ ًا لتجربته الأ�شهر في تاريخ طيران‬ ‫من�صور‪ّ ،‬‬ ‫فرنا�س) قلم الحبر الذي �أ�سهم في تطوير الكتابة‪،‬‬
‫الب�شر‪� ،‬سبقها بدرا�سة حركة الطيور و�أجنحتها‬ ‫بملء �أ�سطوانة بالحبر تت�صل بر�أ�س مدبب يكتب‬
‫وكيفية ارتفاعها في الجو‪ ،‬ومن ثم �أجرى العديد‬ ‫الكلمات‪ ،‬وظل �سائداً ب�شكله التقليدي حتى قبل‬
‫من العمليات الح�سابية في هذا الإطار لتعيين‬ ‫عقود خلت من الآن! واخترع ما ي�ضاهي القنبلة‬
‫الأوزان وال�سرعات وت�أثير قوى مقاومة الرياح‪،‬‬ ‫م�سيلة الدموع من �أخالط كيميائية‪ ،‬و�ص ّنع �آلة‬
‫برع في علم اللغة‬ ‫وغيرها من الم�سائل الدقيقة‪� ،‬إلى �أن �صنع رداء‬ ‫حربية ت�شبه الدبابة ا�ستخدمها حاكم قرطبة في‬
‫وقواعد الإعراب‬ ‫كا�سي ًا من الحرير المتين المك�سو بالري�ش‪ ،‬قام‬ ‫حروبه‪ ،‬وكذلك بع�ض الآالت الهند�سية كالمنقلة‪.‬‬
‫بلب�سه والتحليق به‪.‬‬ ‫كان (ابن فرنا�س) �أول من �صنع النظارات‬
‫وعلم البديع والبيان‬
‫وف��ي بحث علمي �أج���راه �أ���س��ت��اذ التاريخ‬ ‫الطبية‪ ،‬م�ستخدم ًا عد�سات ت�صحيح ال��ر�ؤي��ة‪..‬‬
‫والبالغة والنظارات‬ ‫الأمريكي (لين هوايت) في العام (‪1960‬م) برهن‬ ‫وقام كذلك‪ ،‬بتطوير طريقة تقطيع �أحجار المور‬
‫الطبية‬ ‫فيه �أن تجربة التحليق التي قام بها (ابن فرنا�س)‬ ‫والكري�ستال ال�صلب التي ت�ستخدم بلوراته في‬
‫كانت �أ�ضخم و�أج ��ر�أ تجربة علمية في تاريخ‬ ‫�صناعة العد�سات والمناظير الفلكية‪ ،‬وقبله كان‬
‫ت�ش ْبها �أية �شائبة‬
‫محاولة الإن�سان للطيران؛ �إذ لم ُ‬ ‫هذا العمل �شاق ًا جداً‪ ،‬وقد ا�ستفاد الأوروبيون من‬
‫من خرافة �أو خيال‪ ،‬و�إنما ات�صفت بالمنهجية‬ ‫طريقته الجديدة في التقطيع‪ ،‬وتم تطبيقها في‬
‫العلمية بكل المقايي�س؛ م�ؤيداً ذلك ب�إثباته �أن‬ ‫القرون الو�سطى وحتى اليوم‪.‬‬
‫ُك ّرم في كل الأو�ساط‬ ‫عبا�س بن فرنا�س قد �صار �إل��ى تطبيقها وفق‬ ‫هكذا؛ فقد كان (ابن فرنا�س) �شاعراً ولغوي ًا‬
‫العلمية الغربية‬ ‫نظريتين علميتين و�ضعهما‪ ،‬ومازال ي�ؤخذ بهما‬ ‫وفلكي ًا وطبيب ًا‪ ،‬وعالم ًا تطبيقي ًا حاذق ًا؛ حتى‬
‫�إلى هذا اليوم في مجال الطيران‪.‬‬ ‫لقد ا�ستحق فع ًال �أن ُيطلق عليه و�صف (حكيم‬
‫و�أطلقت (نا�سا) ا�سمه‬ ‫ولكن مخلف ًا �أثره �إلى اليوم‪:‬‬
‫لقد م�ضى الرجل ْ‬ ‫الأندل�س)‪ ..‬وفوق ذلك فقد �أراد (�أن يطير)؛ وليطير‬
‫على فوهة قمرية‬ ‫يتربع الج�سر الم�سمى با�سمه‪ ،‬والذي‬ ‫ففي قرطبة ّ‬ ‫قام ب�أبحاث و�أجرى تجارب في �أثقال الأج�سام‬
‫افتتح في (‪ 14‬يناير ‪2011‬م) على نهر الوادي‬ ‫ومقاومة الهواء لها‪ ،‬وفي ت�أثير �ضغط الهواء في‬
‫مثبت‬
‫الكبير‪ ،‬وفي منت�صفه تمثال البن فرنا�س ّ‬ ‫تلك الأج�سام حال طيرانها‪ ،‬فانكب على ما كتب‬
‫فيه جناحان يمتدان �إلى نهايتي الج�سر‪ ..‬وفي‬ ‫�أوالد مو�سى والخوارزمي والب ّتاني ويحيى بن‬
‫رن��دة الأندل�سية‪ ،‬م�سقط ر�أ�س‬
‫ابن فرنا�س‪ ،‬افتتح مركز فلكي‬
‫يحمل ا�سمه‪ ..‬وتكريم ًا لذاك‬
‫ال��رج��ل‪ ،‬ال��ذي ط��ار قبل اثني‬
‫ع�شر ق��رن � ًا‪ ،‬و�أط��ل��ق��ت وكالة‬
‫الأبحاث الف�ضائية الأمريكية‬
‫(نا�سا) ا�سمه على فوهة قمرية‬
‫ب��ات��ت ُت��ع��رف ب��ـ(ف��وه��ة بن‬
‫فرنا�س القمرية)‪.‬‬
‫ابن الهيثم‬ ‫لين هوايت‬
‫الآلة الفلكية ذات الحلق‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪8‬‬


‫مقاالت‬
‫�إ�ضاءات‬

‫القراءة مفتاح‬
‫م�ستودع المعارف‬

‫رعد �أمان‬ ‫ويحكى عن الجاحظ �أنه (لم يكن يكتفي‬ ‫كثيراً م��ا نتحدث ونكتب ع��ن �أهمية‬
‫�أو يقنع بقراءة الكتاب والكتابين في اليوم‬ ‫ال��ق��راءة‪ ،‬ودور الكتاب في �إث��راء الجوانب‬
‫الوراقين‪،‬‬‫الواحد‪ ،‬بل كان ي�ست�أجر مكتبات ّ‬ ‫المعرفية والفكرية لدى الإن�سان في كل‬
‫العامة‪ .‬و�أذكر يوم ت�س ّلمت �أول جائزة مالية‬ ‫ويبيت فيها للقراءة والنظر‪ ،‬فقد كان يقر�أ‬ ‫زمان ومكان‪ ،‬وكثيراً ما ن�صادف كتابات‬
‫عن ف��وز ق�صيدة لي في م�سابقة �شعرية‬ ‫كل ما يقع بيده وي�ستوفيه كائن ًا ما كان)‪.‬‬ ‫تحث على االطالع والقراءة وتثقيف الذات‪،‬‬
‫محلية‪ ،‬وكنت في ال�سابعة ع�شرة من عمري‪،‬‬ ‫من هنا تبرز �أهمية القراءة ك�ضرورة‬ ‫لما لها من فعل م�ؤثر في العقل وال��روح‬
‫�أذكر �أنني ذهبت �ساعتها وا�شتريت بالمبلغ‬ ‫حياتية مثل ال��م��اء وال��ه��واء للإن�سان‪،‬‬ ‫مع ًا‪ .‬ويتعاظم الأمر عند �أ�صحاب الأقالم‬
‫كله المعجم اللغوي المعروف (المنجد)‬ ‫فمن دونها يظل مفتقداً الكثير من القيم‬ ‫الذين يمار�سون الكتابة با�ستمرار‪ ،‬فالقراءة‬
‫الأبجدي‪ ،‬ومازلت �أحتفظ به �إلى اليوم‪.‬‬ ‫والمفاهيم الأخالقية وال�سلوكية‪ ،‬ويغلق‬ ‫بالن�سبة �إليهم �ضرورة‪ ،‬تم ّكنهم من ارتياد‬
‫مواكب من ال�سنين مرت‪ ،‬كان الكتاب‬ ‫�أمامه م�ستودع العلوم والآداب والمعارف‪،‬‬ ‫�آفاق وا�سعة‪ ،‬والتحليق بعيداً وعميق ًا في‬
‫خاللها �سيد الأيام‪ ،‬وكانت القراءة عرو�س‬ ‫التي عليه �أن يتمثلها في حياته‪ ،‬ويجد‬ ‫ف�ضاءات رحيبة ومديدةـ من الت�أمل والطرح‬
‫الليالي ال��م��زدان��ة ب���أل��وان م��ن المعرفة‬ ‫نف�سه غريب ًا ومنعز ًال عن واقع �صاخب ال‬ ‫والتناول والتحليل‪ ،‬وا�ستدعاء الأفكار‬
‫الإن�سانية وتجلي الفكر والإبداع في �أجمل‬ ‫ي�ؤمن باالنزواء‪� ،‬أو كبحيرة راكدة �آ�سنة في‬ ‫وال�شواهد والمعلومات‪ ،‬وكل ما يحقق لهم‬
‫و�أب��ه��ى ���ص��وره‪ .‬حتى ج��اء عهد ال�شارقة؛‬ ‫عالم يموج بالحركة والتغيير والتطور‪ ،‬وهذا‬ ‫الغايات من وراء الكتابة‪.‬‬
‫ف�أ�شرقت ال��روح ب��أن��وار الثقافة والفنون‬ ‫ال يت�أتى له �إال ب�شحذ العقل والنف�س مع ًا‪،‬‬ ‫محق م��ن ي��ق��ول‪� :‬إن على الكاتب �أن‬
‫والآداب‪ ،‬وفرح العمر وابتهج بمهرجانات‬ ‫بما ي�ضخ فيهما الحياة ويمل�ؤهما بالنور‪،‬‬ ‫يكون قارئ ًا جيداً‪ ،‬لكي يكون كاتب ًا جيداً‪،‬‬
‫و�أعرا�س الكتاب‪ ،‬فهنا الثقافة بال حدود‪،‬‬ ‫ويق�شع عنهما كتل الظالم المتراكمة‪ ،‬و�أعني‬ ‫لكن عليه قبل ذلك �أن يحب الكتاب‪ ،‬و�أن‬
‫هنا مكتبة لكل بيت‪ ،‬هنا حيث للقراءة‬ ‫بذلك القراءة‪.‬‬ ‫تكون بينه وبين الكتب عالقة حب و�شغف‬
‫ن�ش�أ على‬
‫مغنى ومعنى‪ ،‬وحيث الطفولة ُت ّ‬ ‫�أذك��ر �أنني كنت و�أن��ا في العا�شرة من‬ ‫يومية ال تنتهي‪ ،‬هذا الحب هو الذي يمده‬
‫حب الكلمة المقروءة‪ ،‬وعلى حب الكتاب‪،‬‬ ‫عمري‪� ،‬أذه��ب ل��زي��ارة ج��دي كل �أ�سبوع‪،‬‬ ‫بالو�سائل ال�ضرورية وال�سليمة‪ ،‬من مفردات‬
‫فما يقوم به �صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور‬ ‫في�سمح ل��ي با�ستعارة ك��ت��اب واح ��د من‬ ‫ومعانٍ ولغة وبالغة وبيان‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫�سلطان بن محمد القا�سمي ع�ضو المجل�س‬ ‫مكتبته ال�شخ�صية الثرية لأق��ر�أه‪ ،‬على �أن‬ ‫�ضرورات الكتابة‪ ،‬وبالأ�ساليب المتجددة‬
‫الأعلى حاكم ال�شارقة‪ ،‬من مبادرات ال ُتعد‬ ‫ي�س�ألني الأ�سبوع ال��ذي يليه عما قر�أته‬ ‫الم�ساعدة على الخلق واالبتكار والإب��داع‪،‬‬
‫وم�شروعات ال ُتح�صى‪ ،‬وما ير�صد له �سموه‬ ‫قبل �أن يعيرني كتاب ًا �آخر‪ .‬وحين كنت في‬ ‫و�سلوك �سبل الخلود‪ ،‬وفي هذا يقول العقاد‪:‬‬
‫من �إمكانات هائلة مادية وب�شرية‪ ،‬من‬ ‫الثالثة ع�شرة؛ �أخذني وال��دي �إل��ى �إح��دى‬ ‫(ال �أح��ب الكتب لأنني زاه��د في الحياة‪،‬‬
‫�أجل ن�شر عادة القراءة بين النا�س وتوفير‬ ‫المكتبات العامة في مدينتي (عدن)‪ ،‬وهي‬ ‫ولكني �أح��ب الكتب لأن حياة واح ��دة ال‬
‫الكتاب لكل فئات المجتمع‪ ،‬هو نهج �أ�صيل‬ ‫مكتبة (م�����س��واط) وط��ل��ب م��ن م�س�ؤوليها‬ ‫تكفيني)‪ ،‬وقد قلت في هذا المعنى‪:‬‬
‫ت�سير عليه ال�شارقة م�ستر�شدة ب�آراء و�أفكار‬ ‫يومها ت�سجيل ا�سمي لديهم كم�شترك جديد‪،‬‬ ‫ي���وم‬
‫وت��ع��ط��ي��ن��ي ال����ق����راء ُة ك���ل ٍ‬
‫وتوجيهات �سموه‪ ،‬وهو جزء مهم و�أ�صيل‬ ‫ومنحي بطاقة ع�ضوية‪ ،‬لتن�ش�أ منذئ ٍذ عالقة‬ ‫ح���ي���ا ًة ل��ي�����س ي��درك��ه��ا ال��م��م��اتُ‬
‫من م�شروعها الح�ضاري النه�ضوي الكبير‪،‬‬ ‫ح��ب بيني وبين الكتاب وتتعلق نف�سي‬ ‫�إذا اف��ت��ق��د ام������ر�ؤٌ ي���وم��� ًا ك��ت��اب�� ًا‬
‫الذي �أ�سا�سه وهدفه الإن�سان‪ ،‬ف�سموه كان‬ ‫بالقراءة‪ ،‬حتى �إنني �صرت �أ�صرف ال�ساعات‬ ‫��دى منه الحيا ُة‬ ‫فقد �ضاعت ُ���س ً‬
‫وم�شجع ًا على القراءة وعلى‬
‫ِّ‬ ‫واليزال داعم ًا‬ ‫في المكتبات ما بين االط�لاع وال��ق��راءة‬
‫حب الكتاب‪ ،‬وهو القائل‪( :‬الكتاب الكتاب‪،‬‬ ‫والبحث وال��ت��دوي��ن‪ ،‬وك��ل ما ي�ضيف �إلي‬ ‫محق من يقول �إن على‬‫ّ‬
‫وال��ق��راءة ال��ق��راءة‪ ،‬فهما �أغ��ل��ى م��ن كنوز‬ ‫وي�شبع رغباتي في اال�ستزادة من المعارف‪،‬‬
‫الأر�ض كلها)‪.‬‬ ‫وب��الأخ�����ص ف��ي ال�شعر والأدب والثقافة‬ ‫الكاتب �أن يكون قارئ ًا جيداً‬

‫‪9‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫ويرتبط المفهوم الح�ضاري لتاريخ‬ ‫تميز بالنزاهة و�أن�صف العرب‬
‫العلوم‪� ،‬أ�شد االرت��ب��اط بتلك ال��ر�ؤي��ة التي‬
‫يتبناها ج��ورج �سارتون‪ ،‬والتي ت��رى �أن‬
‫العلم منجز ح�ضاري‪� ،‬أ�سهمت في تراكمه‬ ‫جـورج �ســارتـون‬
‫وتطوره جميع الأمم والح�ضارات‪ ،‬فالعلم‬
‫خا�صية �إن�سانية‪ ،‬وال يخ�ص جن�س ًا دون‬
‫غيره من الأجنا�س الب�شرية‪.‬‬
‫م�ؤرخ العلم والح�ضارات‬
‫ولد جورج �سارتون في بلجيكا‪ ،‬ونفي‬
‫يعد جورج �سارتون (‪1956-1884‬م)‪� ،‬أحد �أهم م�ؤرخي‬
‫�إلى الواليات المتحدة عام (‪1915‬م)‪ ،‬وكان‬
‫قد تخ�ص�ص في الفل�سفة والتاريخ الطبيعي‪،‬‬ ‫الح�ضارات والعلم في الع�صر الحديث (في الن�صف الأول‬
‫وبد�أ م�شروعه ال�ضخم لكتابة تاريخ العلم‪.‬‬ ‫من القرن الع�شرين)‪ ،‬و�أكثر م�ؤرخي العلم تقدير ًا لقيمة‬
‫و�أ�س�س في عام (‪1912‬م) مجلة (�إيزي�س)‬ ‫العلم العربي‪ ،‬وتقدير ًا للدور المعرفي التنويري الذي‬
‫التي نقلها معه �إل��ى �أمريكا‪ ،‬وجعل منها‬ ‫لعبه العلم العربي في ت�شكيل العقل الأوروب��ي‪ ،‬اعتبار ًا‬
‫واح��دة من �أ�شهر المجالت المتخ�ص�صة‬ ‫د‪ .‬هانئ محمد‬
‫من القرن الثاني ع�شر الميالدي‪ ،‬وب�صفة خا�صة من خالل‬
‫ف��ي ت��اري��خ العلم حتى الآن‪ .‬وم��ن��ذ عام‬
‫عملية الترجمة العلمية لأمهات الكتب العربية التي تم نقلها �إلى الغرب‪1927( .‬م)‪ ،‬بد�أ ن�شر م�شروعه ال�ضخم تحت‬
‫عنوان (مقدمة في تاريخ العلم)‪ ،‬الذي �أ�صدر‬
‫منه ثالثة مجلدات‪ ،‬و�صل فيها �إلى بداية‬
‫القرن الخام�س ع�شر‪ .‬وق��د ت��رك �سارتون‬
‫كمية �ضخمة من الكتابات المن�شورة‪ ،‬على‬
‫ر�أ�سها ت�سع و�سبعون �سيرة لحياة علماء‬
‫ب��ارزي��ن‪ ،‬وخم�سة ع�شر كتاب ًا‪ ،‬و�أكثر من‬
‫ثالثمئة مقال في فل�سفة العلم وتاريخه‪.‬‬
‫وقد �أ�سهم �سارتون في �إعطاء تاريخ العلم‬
‫مكانته في كل من تاريخ الثقافة‪ ،‬والتاريخ‬
‫االجتماعي‪ ،‬وفل�سفة العلم‪ ..‬كما �أتاح لتاريخ‬
‫العلم بو�صفه علم ًا جديداً‪� ،‬أن يكون جزءاً‬
‫أكاديميين‬
‫َّ‬ ‫�أ�سا�سي ًا من �أي درا�سة �أو منهج �‬
‫في العلوم الإن�سانية‪ .‬وفي الواليات المتحدة‬
‫�أ�س�س �إل��ى جانب مجلته‪ ،‬جمعية خا�صة‬
‫لتاريخ العلم في جامعة ه��ارف��ارد‪ ،‬التي‬
‫التحق للعمل بالتدري�س فيها‪ .‬وبعد ت�أ�سي�س‬
‫الجمعية‪� ،‬أ�ضاف �إلى �أهداف الجمعية �إن�شاء‬
‫علم تاريخ العلم‪ ،‬هدف ًا مثالي ًا ي�ضع �سارتون‬
‫ف��ي �صفوف الم�صلحين االجتماعيين‪،‬‬
‫�إذ �أعلن �أن �إدراك العالقة بين الإن�سان‬
‫وتاريخه االجتماعي وبين تطور العلم‪ ،‬هو‬
‫�أول الطريق نحو (ب�شرية جديدة)‪ ،‬ونحو‬
‫نزعة �إن�سانية جديدة‪ ،‬تتطور عن النزعة‬
‫الإن�سانية‪� ،‬أو (الهيومانيزم) التي ظهرت‬
‫في ع�صر النه�ضة الأوروبية‪ ،‬ودعت العتبار‬
‫الإن�سان محوراً لكل معرفة‪ ،‬وم�صدراً لكل‬
‫فعل في الواقع المعي�ش‪ ،‬والعتبار التجربة‬
‫الإن�سانية معياراً وحيداً وم�صدراً للقيمة‪،‬‬
‫و�إلى تحرير عقل الإن�سان من كل الأهواء‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪10‬‬


‫ا�ست�شراق‬

‫كلمة معجزة مت�ساوي ًا تمام ًا في كل‬ ‫و�أن��واع التع�صب والتمييز بين الب�شر‪ ،‬وكانت‬
‫م��ن الحالتين‪ .‬وق��د ي�صفنا البع�ض‬ ‫�إحدى بدايات التنوير والحداثة والحرية‪.‬‬
‫بالمغاالة حين ن�ستعمل كلمة معجزة‪،‬‬ ‫تميز ج���ورج ���س��ارت��ون بالمو�ضوعية‬
‫ولكن ما حدث في كل من بالد الإغريق‬ ‫والحيادية في كتاباته و�إ�سهاماته المتعددة‬
‫والبالد الإ�سالمية‪ ،‬كان من الغرابة �إلى‬ ‫دون���ه من‬ ‫ف��ي ت��اري��خ ال��ع��ل��وم‪ ،‬وخ��ا���ص��ة م��ا ّ‬
‫درجة تحمل الإن�سان على التطرف في‬ ‫مو�ضوعات عن تاريخ العلم العربي‪ ،‬وبيان‬
‫التعبير‪ ،‬وقد يجوز للم�ؤرخين الم�سلمين‬ ‫قيمته بين �أنظمة العلم الأخرى في الح�ضارات‬
‫�أن يرجعوا �سر انت�شار الإ�سالم‪ ،‬كعقيدة‬ ‫الأخرى‪ ،‬في وقت ا�شتد فيه الهجوم على العرب‬
‫وكدولة‪ ،‬وكذلك انت�شار اللغة العربية‪،‬‬ ‫والم�سلمين‪� ،‬إذ يقول‪( :‬ظلت كتب العلم التي‬
‫�إلى �أنه ن�صر من اهلل لعبده‪ ،‬الذي لوال‬ ‫كتبها العرب في القرون الو�سطى‪� ،‬أهم مورد‬
‫ما �أكده به من ت�أييد ون�صر‪ ،‬ما �أ�س�س‬ ‫ي�ستقى منه العلم الحديث ط��وال ع��دة قرون‬
‫دين ًا كهذا الدين‪ ..‬و�أن �أذكياء الم�سلمين‬ ‫من الزمان‪ .‬ولقد ن�شر هذه الكتب وتناولها‬
‫�أدرك�����وا �أن ه�����ؤالء الأج ��ان ��ب ال��ذي��ن‬ ‫بالتحليل والتعليق عدد كبير من الم�ست�شرقين‬
‫هزموا �أمامهم من الإغ��ري��ق والفر�س‬ ‫عامة‪ ،‬ودار�سي العلوم العربية ب�صفة خا�صة)‪.‬‬
‫والم�صريين والإ�سبان‪� ..‬إل��خ‪ ،‬يعرفون‬ ‫وبهذه ال�شهادة ي�ؤكد �سارتون حقيقة يكاد‬
‫م��ن �أن ��واع الفنون م��ا ال يعرفون هم‬ ‫ينكرها معظم الم�ست�شرقين‪ ،‬وي��ح��اول��ون‬
‫عن �أنف�سهم‪ .‬وهكذا احتاج العرب �إلى‬ ‫االلتفاف عليها‪ ،‬وهي �أن علماء الغرب الو�سيط‬
‫مترجمات عن كتب لـ «جورج �سارتون»‬
‫معاونة ه�ؤالء‪ ..‬وبف�ضل تعاونهم الكامل قامت‬ ‫تالمذة الم�سلمين‪ ،‬تعلموا من كتاباتهم‪ ،‬وفهموا‬
‫يم�ض وقت طويل‬ ‫الإمبراطورية الإ�سالمية‪ ،‬ولم ِ‬ ‫�إ�سهاماتهم العلمية ب�صورة دقيقة‪ ،‬ثم فاقوهم‪..‬‬
‫حتى �أدرك العرب �أن ما لدى هذه ال�شعوب من‬ ‫و�سارتون حين ي�ؤكد هذا‪� ،‬إنما يجيء ت�أكيده‬
‫امتياز ثقافي يرجع في واق��ع الأم��ر �إل��ى ما‬ ‫من منطلق ت�أريخه للح�ضارات‪ ،‬فهو لي�س �أحد‬
‫بد�أ ن�شر م�شروعه‬ ‫لديهم من علوم وفنون‪ .‬ومن هذه النقطة يبد�أ‬ ‫الم�ست�شرقين‪ ،‬ولكنه م�ؤرخ للعلم والح�ضارات‪،‬‬
‫ال�ضخم تحت عنوان‬ ‫ما يمكن �أن ن�سميه بمعجزة العلم العربي‪ .‬ومرة‬ ‫تميز بالنزاهة والمو�ضوعية‪.‬‬
‫(مقدمة في تاريخ‬ ‫�أخرى ُت�ستعمل كلمة معجزة‪ ،‬لأن ما تحقق على‬ ‫و�إيمان جورج �سارتون ب�أن العلم هو �ضمير‬
‫العلم)‬ ‫�أيدي العرب في ميدان العلوم‪ ،‬ال يكاد ي�صدق‪،‬‬ ‫الإن�سانية جميع ًا‪ ،‬ما�ضي ًا وحا�ضراً وم�ستقب ًال‪،‬‬
‫ولم يحدث قط في تاريخ الإن�سانية �أن تمكن‬ ‫دفعه �إلى ا�ستنطاق هذا ال�ضمير عبر الح�ضارات‬
‫قوم من العلم هذا التمكن ال�سريع)‪.‬‬ ‫التي ارتكز فيها وا�ستقام‪ ،‬وهو يفعل ذلك �إنما‬
‫ل��م يكن حكم �سارتون على قيمة العلم‬ ‫�إحقاق ًا للحق من جهة‪ ،‬ومن جهة �أخرى تكوين‬
‫العربي الإ�سالمي من ف��راغ‪ ،‬و�إنما كان من‬ ‫ت�صور يجعل م��ن االع��ت��راف ب��الآخ��ر �شرط ًا‬
‫�أ�سهم في �إعطاء‬ ‫خالل خبرة علمية طويلة تكونت لديه‪ ،‬ومن‬ ‫�أ�سا�سي ًا لمعرفة الذات‪ .‬وعليه ينفي �سارتون نفي ًا‬
‫تاريخ العلم مكانته‬ ‫خالل اطالعه على الوثائق القديمة بلغاتها‬ ‫م�ضاعف ًا �أن يكون العلم منجزاً غربي ًا يرتبط‬
‫في تاريخ الثقافة‬ ‫المختلفة‪ ،‬فقد كان يجيد العديد من اللغات‪،‬‬ ‫باليونان قديم ًا‪� ،‬أو �أن يكون العلم وليد الع�صر‬
‫وفل�سفة العلم‬ ‫ومنها الفرن�سية والإنجليزية والألمانية‬ ‫الحديث‪ ،‬فتاريخ العلم‪ ،‬كما يذهب �سارتون‪،‬‬
‫والإ�سبانية‪ ،‬وبع�ض ال�صينية وال�سن�سكريتية‬ ‫الذي ي�ستهله م��ؤرخ بالقرن ال�ساد�س ع�شر �أو‬
‫والعربية والعبرية‪ ،‬الأمر الذي مكنه من �إجراء‬ ‫القرن ال�سابع ع�شر لي�س ناق�ص ًا فح�سب‪ ،‬بل‬
‫مقارنات عديدة بين الثقافات والح�ضارات‪،‬‬ ‫يكون منطوي ًا على خط�أ فادح وفا�ضح‪ ،‬والذي‬
‫وهو �صاحب تعليقات دقيقة‪ ،‬ن�سب للم�سلمين‬ ‫ال يلم بغير هذا من ق�صة العلم‪ ،‬ف�إنما يملك فكرة‬
‫�أ�شار �إلى �أن �إدراك‬ ‫الف�ضل في تعريف الغربيين بكتب الأقدمين‪،‬‬ ‫م�ضلة عن تاريخ العلم‪ ،‬وبالمثل فكرة م�ضلة عن‬
‫العالقة بين الإن�سان‬ ‫وكيف �أن الترجمات العربية للعلوم اليونانية‬ ‫تاريخ الح�ضارة وتاريخ العقل الإن�ساني‪.‬‬
‫وتاريخه االجتماعي‬ ‫���س��اع��دت على ح�صول ال��غ��رب على �أ���ص��ول‬ ‫وجورج �سارتون يحاول دائم ًا في كتاباته‬
‫الكتابات القديمة المفقودة‪ .‬وقد حدد �سارتون‬ ‫�أن يقرر الحقائق وي�ضعها �أم��ام الفكر كما‬
‫والعلمي �أول الطريق‬
‫هدفه ب�أن يجعل من تاريخ العلم (نظام ًا علمي ًا‬ ‫هي‪ ،‬في غير تحيز �أو تع�صب لأي �شعب من‬
‫نحو (ب�شرية جديدة)‬ ‫من�ضبط ًا) وقال �إنه ي�أمل بذلك �أن ي�سهم في‬ ‫ال�شعوب‪ ،‬وي��ق��ول‪( :‬م��ن الممكن �أن نتحدث‬
‫تو�ضيح التاريخ الفكري الثقافي للإن�سانية‪،‬‬ ‫عن معجزة الثقافة العربية‪ ،‬كما نتحدث عن‬
‫وفي المزيد من فهم طبيعة الإن�سان‪.‬‬ ‫معجزة الثقافة الإغريقية‪ ،‬و�سيكون معنى‬

‫‪11‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫الم�ؤرخون العرب‬
‫وع�صر ال�صورة‬ ‫د‪ .‬محمد �صابر عرب‬

‫الجدد‪ ،‬لم يفكروا في ابتكار منهج جديد للنقد‬ ‫نحن مدينون للرعيل الأول من الم�ؤرخين‬
‫التاريخي‪ ،‬معتبرين كل الكتابات التاريخية‬ ‫العرب‪ ،‬الذين در�سوا في �أوروبا خالل الن�صف‬
‫�أعما ًال ر�صينة‪ ،‬قد يخ�ضع بع�ضها لنقد �سطحي‬ ‫الأول م��ن ال��ق��رن الع�شرين‪ ،‬م��ن الم�صريين‬
‫من قبيل االنطباعات ال�شخ�صية التي ال تخ�ضع‬ ‫وال�شوام والعراقيين‪ ،‬ومعظمهم در�سوا في‬
‫ل��ر�ؤى علمية ر�صينة تحكمها قواعد �صارمة‬ ‫الجامعات الكبرى في بريطانيا وفرن�سا على‬
‫للنقد العلمي‪ ،‬مثل مدار�س النقد الحديث في‬ ‫وج��ه الخ�صو�ص‪ ،‬تبعهم جيل جديد �أح��دث‬
‫حقل الدرا�سات الأدبية‪.‬‬ ‫تطويراً كبيراً في حقل الدرا�سات التاريخية‪،‬‬
‫لقد انح�صرت الكتابات التاريخية في‬ ‫بعد �أن �أدخلوا الفل�سفة والتفكير العلمي ومناهج‬
‫المجال ال�سيا�سي واالجتماعي واالقت�صادي‪،‬‬ ‫البحث الحديثة ك�أحد المقومات المهمة في‬
‫ول��م نلتفت �إل��ى تاريخ الفكر وت��اري��خ العلم‬ ‫هذا المجال من المعارف التاريخية‪ .‬لم يحدث‬
‫وت��اري��خ ال��ف��ن‪� ،‬إ�ضافة �إل��ى افتقاد المكتبة‬ ‫تطوير يذكر من الم�ؤرخين الجدد‪ ،‬فقد �أخذوا‬
‫العربية درا�سات جادة عن الجاليات العربية‬ ‫كل ما قال به �أ�ساتذتهم من قبيل ح�سا�سيتهم‬
‫الرعيل الأول من‬ ‫في الأمريكتين وال��دول الأوروب��ي��ة‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫ال�شديدة في التعامل مع ال��ت��راث‪ ،‬باعتباره‬
‫الم�ؤرخين العرب‬ ‫�إلى الوجود العربي في �آ�سيا و�إفريقيا‪ ،‬وهي‬ ‫�إرث ًا تاريخي ًا ال يجوز نقده �أو �إعادة تفكيكه‪،‬‬
‫�أر�سى قواعد حقل‬ ‫م��و���ض��وع��ات غ��اي��ة ف��ي الأه��م��ي��ة‪ ،‬وال�لاف��ت‬ ‫واخ��ت��اروا �أ�سهل الحلول‪( ،‬لي�س في الإمكان‬
‫الدرا�سات التاريخية‬ ‫للنظر �أن معظم ما ن�شر من ر�سائل ماج�ستير‬ ‫�أبدع مما كان)‪.‬‬
‫ودكتوراه قد افتقد التفكير العلمي الر�صين‪،‬‬ ‫ل��م يختلف الأم� ��ر ف��ي ح��ق��ل ال��درا���س��ات‬
‫و�أحد مقومات التفكير العلمي هو �إعمال العقل‪،‬‬ ‫التاريخية الحديثة والمعا�صرة‪ ،‬فقد تم�سكنا‬
‫واالنفتاح على الدرا�سات الفل�سفية والفكرية‬ ‫ب�شرط مرور ن�صف قرن على كتابة الأحداث‬
‫ك�شرط من �شروط الكتابة التاريخية‪ ،‬لدرجة �أن‬ ‫التاريخية كم�ؤ�شر على حيادية الم�ؤرخ‪ ،‬وهو‬
‫الكثير من هذه الدرا�سات جاءت بمثابة مجرد‬ ‫�أمر لم يعد مقبو ًال في ظل طوفان المعلومات‬
‫جمع معلومات من م�صادرها ومراجعها‪ ،‬من‬ ‫عن الأح��داث المعا�صرة‪ ،‬والدرا�سات الهائلة‬
‫دون تحقيق علمي وفل�سفي ر�صين‪ ،‬وهو ما‬ ‫التي تواكب وقوع الأح��داث التاريخية لحظة‬
‫�أفقدها القيمة العلمية‪.‬‬ ‫بلحظة‪ ،‬ف�ض ًال عن �إتاحة الوثائق بمجرد وقوع‬
‫لفت نظري عمل علمي مبتكر‪ ،‬لم يحظ‬ ‫حدث ما‪� ،‬سواء �أكان ذلك في مجال الحروب �أو‬
‫بما ي�ستحق من عناية الم�ؤرخين والمثقفين‪،‬‬ ‫الأزمات ال�سيا�سية واالقت�صادية‪ ،‬وهو ما يتيح‬
‫برغم �أنه قد ن�شر في دار الكتب منذ �أكثر من‬ ‫للم�ؤرخ �أن يكتب بقدر من المو�ضوعية‪� ،‬إ�ضافة‬
‫ع�شر �سنوات‪ ،‬كتبه الدكتور محمد رفعت الإمام‬ ‫�إل��ى �إهمال الم�ؤرخين العالقة الوثيقة بين‬
‫تحت عنوان (ع�صر ال�صورة في م�صر الحديثة)‪،‬‬ ‫التاريخ والم�ستقبل‪ ،‬كما �أن الم�ؤرخين العرب‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪12‬‬


‫�أ�سئلة‬

‫بالت�صوير ال�شم�سي‪ ،‬وهكذا دخل العالم ع�صر‬ ‫وهو عمل مبتكر في مجال تاريخ العلم‪ ،‬فهو‬
‫ال�صورة‪ ،‬حينما تمكن الإنجليزي (روجر فنتون‬ ‫ي�ؤرخ لمو�ضوع �شائق وممتع‪ ،‬يتناول تاريخ‬
‫) من عمل �أول تحقيق م�صور عن حرب القرم‬ ‫الت�صوير الفوتوغرافي‪ ،‬الذي �أحدث نقلة هائلة‪،‬‬
‫(‪١٨٥٦-١٨٥٣‬م) ومن رحم الت�صوير ال�شم�سي‬ ‫حينما �أ�صبحت ال�صورة �إحدى الوثائق المهمة‪،‬‬
‫تم اختراع التليغراف‪ ،‬مما خدم عمل ال�صحافة‪،‬‬ ‫ابتداء من عام (‪١٨٣٩‬م)‪ ،‬وكانت م�صر في‬
‫الجيل الأو�سط‬ ‫وكان �أول من اخترع هذا الفن هو الإيطالي‬ ‫مقدمة الدول التي ا�ستخدمت هذا الفن الجديد‬
‫نجح في التطوير‬ ‫(ماركوني)‪ ،‬بعدها توالت االختراعات‪ ،‬التي‬ ‫الوافد من فرن�سا‪ ،‬في نف�س العام الذي ظهرت‬
‫عبر مناهج البحث‬ ‫خرجت م��ن رح��م ال�����ص��ورة‪ ،‬لي�س ف��ي مجال‬ ‫فيه‪ ،‬وه��و مو�ضوع �أث��ار ج��د ًال محتدم ًا بين‬
‫الحديثة والتفكير‬ ‫ال�صحافة فقط‪ ،‬بل في مجال الطب‪ ،‬حينما تم‬ ‫دعاة العقل ودعاة الن�ص‪ ،‬حينما �أجمع معظم‬
‫ابتكار �أ�شعة (رونتجن) منذ منت�صف ت�سعينيات‬ ‫علماء الأزه��ر على تحريم الت�صوير‪ ،‬وبقيت‬
‫العلمي‬ ‫ال��ق��رن التا�سع ع�شر‪ ،‬وال��ت��ي تمكن بها من‬ ‫هذه الفتاوى عائق ًا دون �إعمال ال�صورة ك�أحد‬
‫النفاذ �إلى داخل ج�سم الإن�سان‪ ،‬لمعرفة كافة‬ ‫الفنون المبتكرة في تاريخ الب�شرية‪ ،‬لما يقرب‬
‫الأمرا�ض‪ ،‬وهو ما �أحدث تطوراً مذه ًال في علم‬ ‫من ن�صف قرن‪� ،‬إلى �أن �أفا�ض فيها ال�شيخ محمد‬
‫الجراحة‪ ،‬وظهر الت�صوير بالألوان (‪١٩٠٧‬م)‪،‬‬ ‫عبده منحازاً �إلى هذا الإنجاز الذي اعتبره �أمراً‬
‫على يد الأخوين الفرن�سيين لوي�س ولوميير‪.‬‬ ‫م�ستحب ًا‪ ،‬وقد �أفتى ب�أن (ال�صورة حفظت من‬
‫بينما ك��ان (�شامبليون) يعكف على فك‬ ‫�أحوال الأ�شخا�ص في ال�ش�ؤون المختلفة‪ ،‬ومن‬
‫طال�سم التاريخ الم�صري القديم‪ ،‬من خالل‬ ‫�أح��وال الجماعات في المواقع المتنوعة ما‬
‫ما هو مكتوب على حجر ر�شيد‪ ،‬كان الفرن�سي‬ ‫ي�ستحق �أن ت�سمى ديوان الحياة)‪.‬‬
‫يعاني الم�ؤرخ‬ ‫(داج��ي��ر) ي��ج��ري ت��ج��ارب��ه على اخ��ت��راع �آل��ة‬ ‫يعد اختراع �آل��ة الت�صوير عالمة فارقة‬
‫الجديد نتيجة‬ ‫الت�صوير‪ ،‬وهكذا قدم الأخير خدمة جليلة لعلم‬ ‫في تاريخ العلم‪ ،‬فقد �أحدثت ال�صورة تطوراً‬
‫الح�سا�سية ال�شديدة‬ ‫الم�صريات بتوثيقه و�إتاحة درا�سته للعلماء‪،‬‬ ‫هائ ًال في كل مجاالت العلم‪ ،‬ابتداء من الطب‬
‫في التعامل مع‬ ‫وهكذا انتقلت �صورة م�صر القديمة �إلى العلماء‬ ‫والجراحة وتوثيق الحقوق‪ ،‬و�صو ًال �إل��ى ما‬
‫في �أماكنهم دون عناء‪ ،‬وف��ي خطاب �شهير‬ ‫و�صلت �إليه ال�صورة في حياتنا المعا�صرة‪.‬‬
‫التراث‬ ‫لفران�سو �أراج��و �أح��د �أب��رز علماء الم�صريات‬ ‫ومما يثير االنتباه �أن المكتبة العربية تكاد‬
‫ال��ذي �أل��ق��اه ف��ي المعهد العلمي ف��ي باري�س‬ ‫تخلو م��ن درا���س��ة �أك��ادي��م��ي��ة ت��وث��ق لتاريخ‬
‫(‪� ١٩‬أغ�سط�س ‪� ،)١٩٣٩‬أم��ام الرعيل الأول‬ ‫الت�صوير‪ ،‬وما نجم عنه من ث��ورة هائلة في‬
‫من م�ستخدمي �آل��ة الت�صوير التي اخترعها‬ ‫كل المعارف العلمية والإن�سانية‪ ،‬لهذا نحن‬
‫(داجير)‪ ( :‬لو كان الت�صوير ال�شم�سي قد اخترع‬ ‫مدينون له�ؤالء العلماء الذي ابتكروا هذا الفن‬
‫(‪١٧٩٨‬م)‪ ،‬لكانت لدينا اليوم �صور �صادقة‬ ‫خالل الن�صف الأول من القرن التا�سع ع�شر‪،‬‬
‫عن اللوحات الجدارية الهيروغليفية التي حرم‬ ‫اب��ت��داء م��ن م��ح��اوالت الإن��ج��ل��ي��زي (توما�س‬
‫منها العلماء‪ ،‬وكنا قد تم ّكنا من الحفاظ على‬ ‫ودج��ور ‪١٨٠٢‬م)‪ ،‬والفرن�سي (نيقفونبي�س)‪،‬‬
‫يعد د‪ .‬محمد رفعت‬ ‫هذا التراث الإن�ساني من التدمير وال�سرقة‪ ،‬لكن‬ ‫ال��ذي نجح في ت�صوير �أول �صورة ‪،١٨٢٧‬‬
‫بداية جديدة‬ ‫بعد ظهور �آلة داجير �صار من الممكن لرجل‬ ‫وق��د تلقف ه��ذا االخ��ت��راع العلماء الإنجليز‬
‫النفتاح الم�ؤرخين‬ ‫واح��د �أن يقوم بهذا العمل ال�ضخم‪ ،‬ب��د ًال من‬ ‫والأمريكان‪ ،‬و�أ�ضافوا �إليه تطويراً هائ ًال‪ ،‬برغم‬
‫الر�سامين الذين يقطعون وقت ًا م�ضني ًا في هذه‬ ‫�أنهم لم يوفقوا في ت�صوير الأ�شخا�ص‪ ،‬واكتفوا‬
‫العرب على تاريخ‬ ‫المهمة الجليلة)‪.‬‬ ‫بت�صوير الطبيعة‪� ،‬إلى �أن نجح المجري جوزيف‬
‫العلم‬ ‫�إذا كان من ال�صعب‪� ،‬إن ُن ّلم بكل ما كتبه‬ ‫بيتزفال في عام (‪١٨٤٠‬م)‪ ،‬با�ستخدام عد�سة‬
‫الدكتور محمد رفعت‪ ،‬من معلومات وثقت‬ ‫مقعرة لت�صوير الوجوه والأ�شخا�ص‪.‬‬
‫لتاريخ هذا الفن‪� ،‬إال �أن��ه يعد بداية النفتاح‬ ‫�أحدثت ال�صورة نقلة هائلة في تاريخ العلم‪،‬‬
‫الم�ؤرخين العرب على جوانب متعددة من‬ ‫وم��ا تبعها من تطورات مذهلة في التقنية‪،‬‬
‫تاريخ العلم‪ ،‬وهو مجال ي�ستحق �أن يحظى‬ ‫وف��ي مطلع الأربعينيات من القرن التا�سع‬
‫بعناية الباحثين‪ ،‬بعيداً عن هذا الكم الهائل من‬ ‫ع�شر‪ ،‬نظم الفرن�سي (هيبولت) �أول معر�ض‬
‫الدرا�سات النمطية والتقليدية‪ ،‬التي ال ت�شكل‬ ‫لل�صور الفوتوغرافية (‪١٨٤٤‬م)‪ ،‬و�صدرت في‬
‫�إ�ضافة حقيقية للمكتبة التاريخية‪.‬‬ ‫نيويورك (‪١٨٥٠‬م)‪� ،‬أول دورية علمية ُتعنى‬

‫‪13‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫م�ستعرب وا�سع الأفق‬

‫�أغناطيو�س كرات�شكوف�سكي‬
‫كر�س حياته لدرا�سة اللغة العربية‬
‫ّ‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪14‬‬


‫�أبحاث‬

‫اللغة هي الن�سيج الح�ضاري والمعنى الذي �شهد به الفال�سفة‬


‫والمفكرون والم�ست�شرقون‪ ،‬ووظيفتها ال تقف عند حد التوا�صل‬
‫بين �أفراد المجتمع من خالل �أ�صوات تعبيرية‪ ،‬فتنح�صر في‬
‫دائ��رة التب ّين والتبيين و�إعمال العقل و�أنماط التفكير‪ ،‬بل‬
‫نوال يتيم‬
‫تتعداها �إلى بناء ال��ذات وتعميق الجذور وحماية الأ�صول‪.‬‬
‫يعد كبير المدر�سة‬
‫اال�ستعرابية‬ ‫فا�سيليفيا �إنها ح�ضرت �سنة (‪1916‬م) مناق�شة‬ ‫وق��د حظيت اللغة العربية باهتمام بالغ‬
‫الرو�سية في الأدب‬ ‫ر�سالة كرات�شكوف�سكي للماج�ستير في جامعة‬ ‫من الم�ست�شرقين‪ ،‬منهم على �سبيل الذكر ال‬
‫بترغراد (فكانت تميزاً في التحليل وكنزاً من‬ ‫الح�صر‪� ،‬أغناطيو�س كرات�شكوف�سكي كبير‬
‫العربي‬ ‫كنوز المعرفة)‪ ،‬وله �أبحاث �أي�ض ًا حول كل من‪:‬‬ ‫المدر�سة اال�ستعرابية الرو�سية في الأدب العربي‬
‫طه ح�سين‪ ،‬ومحمد تيمور‪ ،‬وتوفيق الحكيم‪،‬‬ ‫القديم‪،‬م�ستعرب وا�سع الأفق متعدد االهتمامات‪،‬‬
‫وميخائيل نعيمة‪ ،‬وال�����ش��اع��ر محمد مهدي‬ ‫تناول الح�ضارة العربية بالدر�س واال�ستق�صاء‬
‫الجواهري‪ ،‬كما ركز في درا�ساته على تاريخ‬ ‫واهتم بمظاهرها الكبيرة وال�صغيرة جميع ًا‪،‬‬
‫الأدب الجغرافي العربي والأندل�سي‪ ،‬وغيرها من‬ ‫حتى قال‪� ( :‬إن المكانة المرموقة التي ت�شغلها‬
‫الدرا�سات التي �شملت جميع فروع اللغة العربية‬ ‫الح�ضارة العربية في تاريخ الب�شرية لأمر م�سلم‬
‫و�آدابها‪.‬‬ ‫به من الجميع في ع�صرنا هذا‪ ،‬وقد و�ضح بجالء‬
‫وهو من ال��رواد القالئل الذين انتبهوا الى‬ ‫في الخم�سين عام ًا الأخ��ي��رة ف�ضل العرب في‬
‫ترجم معاني القر�آن‬
‫ظاهرة الأدب العربي الحديث‪ ،‬حيث قدم فيه‬ ‫تطوير جميع تلك العلوم‪ ،‬التي ا�شتقت لنف�سها‬
‫الكريم ودر�س‬ ‫درا�سات عامة تبحث في تاريخه الحديث ون�ش�أته‬ ‫طرق ًا وم�سالك جديدة في الع�صور الو�سطى‪،‬‬
‫المخطوطات العربية‬ ‫وظواهره‪ ،‬ودرا�سات حوله في بع�ض الأقطار‬ ‫ومازالت حية �إلى �أيامنا هذه)‪.‬‬
‫وبحث في كبار‬ ‫العربية وغير العربية‪.‬‬ ‫وتعد �أبحاث (�أغناطيو�س) عن العالقات‬ ‫ّ‬
‫ويمكن القول �إن هذا الرجل‪ ،‬كما ي�شهد له‬ ‫الأدبية الرو�سية العربية مادة غنية ذات �أهمية‬
‫ال�شعراء العرب‬
‫الكثير من الباحثين‪ ،‬لو لم ي�ضع في حياته كلها‬ ‫فت بتطور هذه العالقات‪ ،‬بدءاً من‬ ‫عر ْ‬‫كبيرة‪ ،‬فقد ّ‬
‫�سوى كتابه‪ ،‬الأقل �شهرة في �أو�ساط الدار�سين‬ ‫الع�صور الو�سطى (القرن الحادي ع�شر)‪ ،‬و�صو ًال‬
‫العرب على �أي حال‪( ،‬تاريخ الأدب الجغرافي‬ ‫�إلى الن�صف الأول من القرن الع�شرين‪.‬‬
‫العربي)‪ ،‬لكان من �ش�أن المن�صفين �أن يقولوا‬ ‫ول��د �أغناطيو�س كرات�شكوف�سكي في (‪16‬‬
‫ب�أنه قد �أ�سدى �إلى التراث العربي واحدة من �أعظم‬ ‫مار�س عام ‪1883‬م) بمدينة (فيلنا) عا�صمة‬
‫الخدمات‪ ،‬وه��و لي�س الكتاب الوحيد‬ ‫ليتوانيا‪ ،‬وقد �أبدى اهتمام ًا ب��الآداب ال�شرقية‪،‬‬
‫ال��ذي و�ضعه‪ ،‬بل ك��ان ج��زءاً من عمل‬ ‫وتعلم اللغة العربية منذ نعومة �أظفاره‪ ،‬حيث‬
‫كبير امتد ط��وال حياته‪ ،‬انتمى بكل‬ ‫ذكر �أن��ه كان في الثانية من عمره حين رحل‬
‫توا�ضع وبكل حب للح�ضارة العربية‬ ‫وال��ده‪ ،‬وا�صطحبه معه �إلى ط�شقند‪ ،‬حيث عين‬
‫الإ�سالمية‪ ،‬من خالل ا�ستعرا�ضه فيه‬ ‫الوالد رئي�س ًا لمدر�سة المعلمين‪ ،‬فتفتح وعيه‬
‫لما �أطلق عليه ا�سم (الأدب الجغرافي‬ ‫مبكراً على العالم الإ�سالمي‪ ،‬من خالل جناحه‬
‫ال��ع��رب��ي)‪ ،‬ف��ق��دم م��و���س��وع��ة حقيقية‬ ‫الآ�سيوي فكان لت�أثيرات تلك المنطقة (وقع �شديد‬
‫دقيقة وعابقة بالمعلومات وال�سير‪،‬‬ ‫في نف�سي �أيام طفولتي‪ ،‬و�أكبر ظني �أني غدوت‬
‫والتحليالت لواحد من فنون الكتابة‬ ‫ميا ًال �إلى ال�شرق‪ ،‬و�إن كنت غير مدرك هذا الميل‬
‫التي �شكلت ج��زءاً �أ�سا�سي ًا‪ ،‬لي�س من‬ ‫الغريزي)‪ ،‬كما يقول عن نف�سه‪.‬‬
‫التراث العربي الإ�سالمي فح�سب‪ ،‬بل‬ ‫كما ب��رز ف��ي الأو���س��اط العلمية الرو�سية‬
‫من الح�ضارة العربية ككل‪ ،‬وهو �أدب‬ ‫ب�صورة خا�صة‪ ،‬بترجمته لمعاني القر�آن الكريم‪،‬‬
‫الرحالت‪�،‬أو الأدب الجغرافي‪� ،‬أو الأدب‬ ‫ودرا�سته المخطوطات العربية القديمة‪ ،‬و�أبحاثه‬
‫�سماه‪� ،‬أخ��ي��راً‪ ،‬الناقد‬
‫ال�سياحي‪ ،‬كما ّ‬ ‫حول �شخ�صيات عربية منها؛ ال�شاعر عبداهلل‬
‫الجزائري الكبير عبداهلل الركيبي‪.‬‬ ‫اب��ن المعتز‪ ،‬والمتنبي‪ ،‬و�أب��و العالء المعري‪،‬‬
‫و�إل�����ى �أدب ال��ع��ج��ائ��ب ي�ضيف‬ ‫و�أبو الفرج الو�أواء الدم�شقي‪ ،‬وتقول الم�ست�شرقة‬
‫كرات�شكوف�سكي م��ا ي��ع��رف ب� ��ـ(�أدب‬ ‫الرو�سية ذات الأ�صل الفل�سطيني كلثوم عودة‬

‫‪15‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�أبحاث‬

‫وقد �سبر الم�ست�شرق‬ ‫الف�ضائل)‪ ،‬و(�أدب المثالب)‪ ،‬وهما �أدبان يهتمان‬


‫�أغ����وار ن�صو�ص عربية‬ ‫بذكر محا�سن ال�شعوب وم�ساوئها‪ ،‬وفق قربها �أو‬
‫كثيرة تنوعت بين �شعر‬ ‫بعدها‪� ،‬أو مراحل العداء �أو ال�سالم معها‪ ،‬ما يعطي‬
‫ونثر‪ ،‬وك�شف لنا وعي ًا‬ ‫هنا الأدب الجغرافي نفحة ذاتية غير مو�ضوعية‪،‬‬
‫فكري ًا نقدي ًا يوجه العملية‬ ‫�ستبقى �آث���ار لها حتى ف��ي �أك��ث��ر الم�ؤلفات‬
‫الإب��داع��ي��ة‪ ،‬ف�سبق تعلقه‬ ‫مو�ضوعية ف��ي ال��م��ج��ال ال��ج��غ��راف��ي وغ��ي��ره‪،‬‬
‫باللغة العربية �أكاديميته‬ ‫وانطالق ًا من هنا يبد�أ البحث في الجغرافيا‬
‫ف��ي تعلمها‪ ،‬وق ��د ك��ان‬ ‫بمعانيها الأقرب الى العلمية‪ ،‬حيث في ف�صول‬
‫في ال�ساد�سة ع�شرة حين‬ ‫متتالية يتو�سع كرات�شكوف�سكي ف��ي تحليله‬
‫وعى انجذابه نحو ال�شرق‪،‬‬ ‫لم�ؤلفات الع�شرات من الجغرافيين والمغامرين‬
‫الجواهري‬ ‫توفيق الحكيم‬
‫ف��دخ��ل ع ��ام (‪1901‬م)‬ ‫والرحالة والحجاج والتجار‪ ،‬الذين توغلوا في‬
‫ق�سم اللغات ال�شرقية في‬ ‫ال�صحارى الإفريقية كما في مناطق الإ�سالم‬
‫جامعة (ب��ط��ر���س��ب��ورغ)‪،‬‬ ‫ومناطق الجوار وبلدان �آ�سيا‪ ،‬وما تي�سر لهم من‬
‫ليدر�س اللغات؛ العربية‬ ‫البلدان الأوروبية‪ ،‬وفي رحاب العالم القديم كله‪.‬‬
‫وال��ف��ار���س��ي��ة وال��ت��رك��ي��ة‬ ‫ولئن كان كرات�شكوف�سكي قد و�ضع العديد‬
‫والتتارية‪ ،‬ولغات �سامية‬ ‫من الدرا�سات كما ذكرنا‪ ،‬ف�إن الأديب ال�سوداني‬
‫�أخ������رى‪ ،‬وراح ي��در���س‬ ‫�صالح الدين ها�شم‪ ،‬مترجم كتابه عن الأدب‬
‫تاريخ ال�شرق الإ�سالمي‪،‬‬ ‫الجغرافي العربي‪ ،‬يقول �إن �أهم كتابين له هما‬
‫م��ن��دف��ع� ًا بخا�صة نحو‬ ‫ال��ل��ذان ن��اال �شهرة عالمية‪« :‬م��ع المخطوطات‬
‫اللغة العربية‪.‬‬ ‫العربية» الذي �صدر في العام (‪1945‬م)‪ ،‬و«من‬
‫محمود تيمور‬ ‫ميخائيل نعيمة‬ ‫ؤلفاته‬ ‫�‬ ‫م‬ ‫عدد‬ ‫وقد بلغ‬ ‫تاريخ اال�ستعراب الرو�سي»‪ ،‬و�صدر في العام‬
‫�أرب���ع���م���ئ���ة وث��م��ان��ي��ة‬ ‫(‪1950‬م) قبل عام من رحيله‪ ،‬ويفيدنا ها�شم‬
‫وخم�سين م�ؤلف ًا‪� ،‬أفرد ُج ّلها لآداب العربية‪ ،‬من‬ ‫ب�أن كرات�شكوف�سكي بعد �سنوات عديدة ق�ضاها‬
‫بحث وترجمة و�شرح ونقد وت�صنيف وتف�سير‬ ‫في درا�سة الأدب وال�شعر العربيين‪ ،‬انهمك طوال‬
‫وتحقيق‪� ،‬إذ �أ���ص��درت ل��ه �أك��ادي��م��ي��ة العلوم‬ ‫ال�سنوات الع�شرين الأخيرة من حياته‪ ،‬بالأدب‬
‫ال�سوفييتية ما بين عامي (‪ 1956‬و‪1960‬م)‬ ‫الجغرافي العربي‪ ،‬وهو ال��ذي كان في الأ�صل‬
‫تناول الح�ضارة‬ ‫�ستة مجلدات ت�ضم مجموع ما كتبه في مختلف‬ ‫مهتم ًا بالجغرافيا ب�شكل عام‪ .‬ولقد مكنه ذلك‬
‫المجاالت الأدبية والفكرية‪.‬‬ ‫االهتمام من و�ضع الكتاب الذي نتحدث عنه‪ ،‬لكن‬
‫العربية بالدر�س‬ ‫وق��د ام��ت��از اال�ست�شراق ال��رو���س��ي عموم ًا‬ ‫كرات�شكوف�سكي رحل عن عالمنا قبل �أن يفرغ من‬
‫واال�ستق�صاء وب ّين‬ ‫والم�ست�شرق (�أغ��ن��اط��ي��و���س كرات�شكوف�سكي)‬ ‫كتابه‪ ،‬فاهتمت به الدوائر العلمية (ال�سوفييتية‬
‫ف�ضل العرب علمياً‬ ‫خ�صو�ص ًا ع��ن غيره م��ن م��دار���س اال�ست�شراق‬ ‫حينذاك) بعد رحيله‪ ،‬فكان من غريب حظه �أن‬
‫بدرا�سة الأدب العربي الحديث‪ ،‬الذي لم تهتم به‬ ‫ي�صدر �أهم كتاب و�ضعه خالل حياته بعد موته‬
‫تلك المدار�س التي اهتمت بالدرا�سات الإ�سالمية‬ ‫ب�سنوات‪.‬‬
‫والنحوية واللغوية القديمة‪،‬‬
‫فبعد ثورة �سنة (‪1917‬م)‪،‬‬
‫ازداد ه��ذا االه��ت��م��ام‪ ،‬لأن‬
‫مدر�سة اال�ست�شراق الرو�سي‬
‫نظرت �إل��ى الأدب الحديث‬
‫ّ‬
‫ركز في درا�سته‬ ‫��ن يمثل‬‫على �أن��ه �أف�ضل َم ْ‬
‫المجتمع العربي المعا�صر‪،‬‬
‫على تاريخ الأدب‬ ‫وه��ذا ما جعله يوقن‪ ،‬ب�أن‬
‫الجغرافي العربي‬ ‫الأدب والتاريخ العربيين‪،‬‬
‫الأندل�سي‬ ‫يعبقان بالإبداعات اللغوية‬
‫وال��ف��ك��ري��ة‪ ،‬فكر�س حياته‬
‫لهما‪ ،‬عا�شق ًا لهذه اللغة التي‬
‫�أفنى حياته في �سبيلها‪.‬‬
‫مكتب �أغناطيو�س في المكتبة الوطنية الرو�سية‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪16‬‬


‫أمكنة وشواهد‬
‫و�سط مدينة اخلليل‬

‫¯ الخليل‪ ..‬مدينة تاريخية ثقافية‬


‫¯ �شنقيط‪ ..‬ذاكرة موريتانيا التاريخية‬

‫‪17‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫يتو�سطها الم�سجد الإبراهيمي‬

‫الخليل‪ ..‬مدينة تاريخية ثقافية‬


‫الآ�شوريين عام (‪ 732‬ق‪.‬م)‪ ،‬والبابليين‬
‫ع��ام (‪ 586‬ق‪.‬م)‪ ،‬والفر�س ع��ام (‪539‬‬ ‫(الخليل) مدينة فل�سطين ّية تقع على ه�ضبة ترتفع‬
‫ق‪.‬م)‪ ،‬والإغريق عام (‪ )322‬ق‪.‬م‪ ،‬التي‬ ‫(‪ )940‬متر ًا عن �سطح البحر‪ .‬يربطها طريق رئي�س‬
‫انتزعها منهم الرومان عام (‪ 63‬ق‪.‬م)‪.‬‬ ‫بمدينتي (بيت لحم) و(القد�س)‪ ،‬وتقع على الطريق‬
‫ُث� ّ�م خ�ضعت ل�سيطرة العرب الم�سلمين‬ ‫تمر ب�أوا�سط فل�سطين رابطة ال�شّ ام بم�صر‬
‫ال�سابع الميالدي‪ .‬وفي �أثناء‬ ‫التي ّ‬
‫في القرن ّ‬ ‫م��رور ًا ب�سيناء‪ .‬وقد بنيت الخليل على �سفحي جبل‬
‫�ضمها لممالكهم‬ ‫ّ ّ‬ ‫تم‬ ‫ال�صليبية‬ ‫الحروب‬ ‫�أ�سماء �أحمد ر�أفت‬
‫ع ��ام (‪1167‬م)‪ ،‬ح��ت��ى هزيمتهم في‬ ‫(الرميدة) وجبل (الر�أ�س) على ارتفاع (‪ )927‬متراً‪.‬‬
‫معركة حطين �سنة (‪1187‬م)‪� ،‬أمام جي�ش‬
‫(�صالح الدين الأيوبي)‪.‬‬ ‫منطقة الحرم الإبراهيمي بعد هجرته من‬ ‫وال� ّ�ي��وم ُتعد م��ن �أك��ب��ر م��دن ال�ضفة‬
‫ولقد و�صف َعا ِلم البلدان (�أبو القا�سم‬ ‫مدينة �أور ال�سومرية‪.‬‬ ‫الغربية من حيث عدد ال�سكان والم�ساحة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫�إبراهيم محمد الكرخي) الم�شهور بلقب‬ ‫ُوج��دت في (الخليل) �آث��ار ُت�شير �إلى‬ ‫االقت�صادية الكبرى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أهميتها‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫تمتاز‬ ‫كما‬
‫(الإ�صطخري)‪ ،‬مدينة (الخليل) بقوله‪:‬‬ ‫وجود مدني في الع�صر البرونزي المبكر‬ ‫ولمدينة (الخليل) �أهمية دينية ق�صوى‪،‬‬
‫(ومن بيت لحم على �سمته في الجنوب‬ ‫(ف��ي ح��دود الن�صف الثاني م��ن الأل��ف‬ ‫حيث يتو�سطها الم�سجد الإبراهيمي‪.‬‬
‫مدينة �صغيرة‪� ،‬شبيهة في القدر بقرية‪،‬‬ ‫الثالث قبل الميالد)‪ ،‬وكانت المدينة في‬ ‫ُ�سميت مدينة الخليل بهذا اال�سم ن�سب ًة‬
‫تعرف بم�سجد �إبراهيم‪ ،‬وفي الم�سجد الذي‬ ‫الأ�صل مدينة كنعانية جليلة مترفة‪ .‬وقد‬ ‫�إلى نبي اهلل �إبراهيم الخليل‪ ،‬عليه ال�سالم‪،‬‬
‫يجمع فيه الجمعة‪ ،‬قبر �إبراهيم و�إ�سحق‬ ‫ّ‬ ‫�سيطرت عليها العديد من القوى‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫حيث يعتقد �أ ّنه �سكن مدينة الخليل في‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪18‬‬


‫�أماكن‬

‫�رة‪ ،‬وي�ضم‬ ‫م�����ص��ق��ول� ٍ�ة ك��ب��ي� ٍ‬ ‫ويعقوب �صف ًا‪ ،‬والمدينة في وهدة بين الجبال‬
‫المبنى مئذنتين‪ ،‬ول��ه �أكثر‬ ‫كثيرة كثيفة الأ�شجار‪ ،‬و�أ�شجار هذه الجبال‬
‫من مدخل‪� ،‬أ�شهرها المدخل‬ ‫و�سائر جبال فل�سطين و�سهلها زيتون وتين‬
‫ال�شمالي‪ّ � .‬أما داخل المبني؛‬ ‫وجميز وعنب‪ ،‬و�سائر الفواكه �أقل من ذلك)‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ف��ي��وج��د م�����س��ج��د ج��ام��ع‪،‬‬ ‫ُعرفت (الخليل) منذ ال ِقدم ب�أ ّنها مدينة‬
‫و�صحن مك�شوف‪ ،‬و�أروق ��ة‪،‬‬ ‫الزراعية من كل جانب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تحيط بها الأرا�ضي‬
‫وغ���رف‪ ،‬وم��م��رات‪ ،‬وق��ب��اب‪،‬‬ ‫وا���ش��ت��ه��رت ب��زراع��ة ال��ع��ن��ب وال��ت��ي��ن وال��ل��وز‬
‫وقبو �أر���ض� ّ�ي ُي��ع��رف با�سم‬ ‫والم�شم�ش والزيتون والحبوب‪ .‬كما مار�س‬
‫ٍ‬
‫مجموعة‬ ‫(الغار)‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬ ‫�سكانها ال�صناعة‪ ،‬حيث انت�شرت ال�صناعة‬
‫النبيين‬
‫َّ‬ ‫من القبور‪ ،‬تخ�ص‬ ‫اليدوية‪ ،‬بل � ّإن بع�ض حارات (الخليل) �سميت‬
‫�إب��راه��ي��م ويعقوب و�إ�سحق‬ ‫الحرف‪ ،‬مثل‪� :‬سوق الح�صرية‪،‬‬ ‫ب�أ�سماء هذه ِ‬
‫وزوجاتهم‪.‬‬ ‫و�سوق الغزل‪ ،‬وح��ارة الزجاجيين‪ ..‬ولمدينة‬
‫وف ��ي الم�سجد م�صلى‬ ‫(الخليل) �شهرة في �صناعة ال�صابون‪ ،‬ودباغة‬
‫الم�ص ّلى‬ ‫من الداخل ُيدعى ُ‬ ‫الجلود‪ ،‬و�صناعة الأكيا�س الكبيرة من �شعر‬
‫(الإ���س��ح��اق��ي)‪ ،‬وتظهر فيه‬ ‫الحيوان‪ ،‬ومعاطف الفرو‪ ،‬والفخار‪ ،‬والن�سيج‪،‬‬
‫حجرتا �إ�سحق (على اليمين)‪،‬‬ ‫الخ�شبية‪ ،‬وال��خ��زف‪ .‬وتجدر‬ ‫ّ‬ ‫وال�صناعات‬
‫ويقع في الن�صف الجنوبي‬ ‫يدوي ًا‬
‫الإ�شارة �إلى � ّأن �أكبر ثوب في العالم حيك ّ‬
‫ويتكون من ثالثة‬ ‫ّ‬ ‫للم�سجد‪،‬‬ ‫(و�سجل في مو�سوعة‬ ‫موجود في مدينة الخليل ُ‬
‫وللم�ص ّلى ثالثة �أبواب‬ ‫�أروقة‪ُ .‬‬ ‫جيني�س ‪ Guinness‬للأرقام القيا�سية)‪ .‬كذلك‬
‫من �شوارع البلدة القديمة‬ ‫ال�شمالية‪ ،‬ويتو�سط‬ ‫ّ‬ ‫في الجهة‬ ‫ت�شتهر (الخليل) بالتجارة‪ ،‬حيث يعتبر �أهلها‬
‫مرخم له ُق ّبة‬ ‫للم�ص ّلى محراب ّ‬ ‫الجنوبية ُ‬ ‫ّ‬ ‫الجهة‬ ‫من �أمهر التجار في فل�سطين‪ ،‬وتنت�شر الأ�سواق‬
‫ذهبة‪ ،‬وعلى جانبيه‬ ‫الم ّ‬‫مزخرفة بالف�سيف�ساء ُ‬ ‫بكثرة‪ ،‬حتى �إن المدينة كلها تعتبر‬ ‫ٍ‬ ‫في الخليل‬
‫رخام‪ ،‬وعلى يمين المحراب يوجد‬ ‫ٍ‬ ‫عمودان من‬ ‫�سوق ًا‪.‬‬
‫ومما‬
‫عد �أق��دم منبر �إ�سالمي‪ّ ،‬‬ ‫المنبر‪ ،‬ال��ذي ُي ّ‬ ‫وم ��ن �أه���م م��ع��ال��م ال��م��دي��ن��ة‪( :‬الم�سجد‬
‫طعم‪،‬‬‫الم ّ‬
‫ميزه �أ ّنه م�صنوع من خ�شب الأبنو�س ُ‬ ‫ُي ِّ‬ ‫ويتكون‬
‫ّ‬ ‫الإبراهيمي)‪� ،‬أو (الحرم الإبراهيمي)‪،‬‬
‫تقع على طريق‬ ‫وال يوجد به �أي م�سمار‪ ،‬حيث ُر ّك��ب بطريقة‬ ‫ال�شكل‪ ،‬تبلغ م�ساحته‬ ‫من بنا ٍء كبي ٍر م�ستطيل ّ‬
‫يربط فل�سطين‬ ‫التع�شيق‪.‬‬ ‫نحو (‪ )2040‬متراً مربع ًا‪ ،‬وتحيط بالمبنى‬
‫بال�شام وم�صر‬ ‫� ّأم��ا (ال ��رواق الإبراهيمي)‪� ،‬أو (الح�ضرة‬ ‫ٍ‬
‫حجارة‬ ‫من الخارج جدران �ضخمة ُبنيت من‬
‫الإبراهيمية)‪ ،‬فيقع في و�سط الم�سجد‪ ،‬حيث‬
‫الم�ص ّلى حجرتين‪ ،‬ت�ضمان قبرين‬ ‫ي�شمل هذا ُ‬
‫رم��زي��ي��ن للنبي �إب��راه��ي��م وزوج��ت��ه ���س��ارة‪،‬‬
‫والحجرتان متقابلتان بينهما ردهة م�ستطيلة‬
‫ال�شكل ذات �سقف معقود‪ .‬وللردهة ج��دران‬
‫م���ؤزرة بالرخام‪ ،‬ال��ذي يعلوه ط��راز رخامي‬
‫طعم بال�صدف‪.‬‬ ‫ُم ّ‬
‫مرت عليها ح�ضارات‬ ‫بينما ي��ق��ع ُم�����ص� ّل��ى (ال��ي��ع��ق��وب� ّ�ي��ة)‪� ،‬أو‬
‫الآ�شوريين‬ ‫ال�شمالية من‬
‫ّ‬ ‫اليعقوبية)‪ ،‬في الجهة‬ ‫ّ‬ ‫(الح�ضرة‬
‫والبابليين والإغريق‬ ‫الم�ص ّلى حجرتين‪،‬‬ ‫الم�سجد‪ ،‬حيث ي�شمل هذا ُ‬
‫والرومان ودخلها‬ ‫فيهما قبرين رمزيين للنبي يعقوب وزوجته‪،‬‬
‫العرب في القرن‬ ‫والحجرتان متقابلتان بينهما ردهة م�ستطيلة‬
‫ال�شكل ذات �سقف م��ع��ق��ود‪ ،‬وفيها بابان‬
‫ال�سابع الميالدي‬ ‫ي�ؤديان للمقامين‪ .‬وتعلو حجرة النبي يعقوب‬
‫مثمنة ال�شكل‪ ،‬جدرانها مزينة بالرخام‬ ‫ُق ّبة ّ‬
‫والملون‪ ،‬يعلوها �إزار كتبت عليه �آيات‬ ‫ّ‬ ‫الأبي�ض‬
‫قر�آنية من �سورة البقرة‪.‬‬ ‫من معالم الخليل‬

‫‪19‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫قديم ًا بلدة (تربينت�س)‪ ،‬وهي‬ ‫وي��ق��ع ُم�ص ّلى (ال��م��ال��ك� ّ�ي��ة) ف��ي ال��زاوي��ة‬
‫تقع بالقرب من مدخل مدينة‬ ‫الغربية للم�سجد‪ ،‬ويت�أ ّلف من رواق‬ ‫ّ‬ ‫ال�شمالية‬
‫ّ‬
‫(ال��خ��ل��ي��ل) ال�شمالي ال�شرقي‪.‬‬ ‫م�ستطيل ال�شكل في �صدره محراب مزخرف‬
‫وع���رف���ت ال��م��ن��ط��ق��ة ف���ي عهد‬ ‫ال�سابع ع�شر‬ ‫ببالط قي�شاني يعود للقرن ّ‬
‫الإمبراطور الروماني (هدريان)‬ ‫الميالدي‪.‬‬
‫(‪138 -117‬م) كمركز تجاري‬ ‫ومن �أهم المعالم الأثرية الأخ��رى (بركة‬
‫م��ه��م‪ ،‬ح��ج��ارة ب��ن��ائ��ه مماثلة‬ ‫ال�سلطان)‪ ،‬وتقع و�سط مدينة (الخليل) �إلى‬
‫غ�سان طهبوب‬ ‫يو�سف الخطيب‬ ‫لحجارة الم�سجد الإبراهيمي‪ ،‬ولم‬ ‫الجنوب الغربي من الم�سجد الإبراهيمي‪ ،‬بناها‬
‫يتبق منه �سوى ثالثة مداميك‬ ‫ال�سلطان (�سيف الدين ق�لاوون الألفي) الذي‬
‫ف��ي بع�ض ال��م��وا���ض��ع‪ ،‬وتوجد‬ ‫تولى ال�سلطة على م�صر وال�شام �أيام المماليك‪،‬‬
‫في المنطقة الجنوبية للموقع‬ ‫م�صقولة وقد اتخذت �شك ًال مربع ًا بلغ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بحجارة‬
‫بئر م�سقوفة بنيت بالحجارة‪،‬‬ ‫طول �ضلعه �أربعين متراً تقريب ًا‪.‬‬
‫� ّإل � ّأن ال�سقف محطم في بع�ض‬ ‫� ّأما (متحف الخليل)؛ فيقع في حارة الدارية‬
‫الموا�ضع‪ ،‬وبالقرب من البئر‬ ‫قرب خان الخليل‪ ،‬وقد كان في الأ�صل حمام ًا‬
‫توجد �أحوا�ض حجرية �صغيرة‬ ‫تركي ًا عرف با�سم حمام �إبراهيم الخليل‪ ،‬وبقرارٍ‬
‫ثورة حوامدة‬ ‫عزالدين المنا�صرة‬
‫ت�ستخدم ل�سقي الحيوانات‪.‬‬ ‫تحول �إلى‬‫من الرئي�س الراحل (يا�سر عرفات) ّ‬
‫إبراهيمية)‪� ،‬أو (تكية �إبراهيم)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫� ّأما (التكية ال‬ ‫متحف‪.‬‬
‫فهي جمعية خيرية تقع بالقرب من الم�سجد‬ ‫كما توجد كني�سة الم�سكوبية‪ ،‬والتي تقع‬
‫قدم الطعام المجاني للفقراء‬ ‫الإبراهيمي ُت ِّ‬ ‫في حديقة الروم الأرثوذك�س غربي المدينة‪،‬‬
‫من �أهم معالمها‬ ‫والأُ�سر المحتاجة على مدار العام‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫وهي بنيت في مطلع القرن الما�ضي‪ ،‬وتبلغ‬
‫الم�سجد الإبراهيمي‬ ‫في �شهر رم�ضان‪ ،‬ما جعل مدينة (الخليل)‬ ‫م�ساحتها (‪ )6002‬متر مربع‪ ،‬وهي مبنية من‬
‫ويعد �أقدم منبر‬ ‫تكت�سب �شهرة وا�سعة ب�أ ّنها‪( :‬المدينة التي ال‬ ‫الحجر‪.‬‬
‫�إ�سالمي‬ ‫تعرف الجوع �أبداً)‪ .‬يعود ُع ْمر هذه التكية �إلى‬ ‫وبمدينة (الخليل) �أي�����ض� ًا ت��وج��د (رام��ة‬
‫العام (‪1279‬م)‪ ،‬حين �أن�ش�أها ال�سلطان (قالون‬ ‫الخليل)‪ ،‬والتي ُيطلق عليها �أي�ض ًا (بئر حرم‬
‫ال�صالحي) في زمن (�صالح الدين الأيوبي)‪.‬‬ ‫الخليل)‪ ،‬حيث كانت تقوم في �ضوء المنطقة‬

‫المعمار والأ�صالة‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪20‬‬


‫�أماكن‬

‫منظر لمدينة الخليل القديمة‬


‫من �سطح بجانب م�سجد قزازين‬

‫الخليلية‬
‫ّ‬ ‫(القاف �إلى �ألف)‪ ،‬كما تمتاز اللهجة‬ ‫ويقول �أهالي (الخليل) � ّإن تاريخ التكية يعود‬
‫المو�سيقية والكلمات بها‪ّ � .‬أما‬
‫ّ‬ ‫بطول النغمة‬ ‫�إلى عهد النبي �إبراهيم الذي ُو�صف ب�أ ّنه‪�( :‬أبو‬
‫فيتميز في منطقة‬ ‫ّ‬ ‫بالن�سبة �إلى الزي التقليدي؛‬ ‫ال�ضيفان)‪ ،‬حيث كان ال ي�أكل � ّإل مع �ضيف‪،‬‬
‫من �أ�شهر الكتاب‬ ‫الغربية عن غيره من‬ ‫ّ‬ ‫الخليل وجنوبي ال�ضفة‬ ‫قدم الطعام لعابري ال�سبيل من ذات‬ ‫كما كان ُي ِّ‬
‫وال�شعراء وال�صحافيين‬ ‫الفل�سطينية الأخ��رى بب�ساطته ولونه‬‫ّ‬ ‫الأزي��اء‬ ‫المكان ال��ذي ت��وزع فيه التكية الطعام هذه‬
‫من �أبنائها يو�سف‬ ‫المق ّلم‪ .‬كما توجد في الخليل‬ ‫ُ‬ ‫أبي�ض‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫الأحمر‬ ‫الأيام‪.‬‬
‫مجموعات �شبابية ُم��ت��ع� ِّ�ددة تهتم ب��الأدب‬ ‫ومن �آثار مدينة (الخليل) �أي�ض ًا؛ (م�سجد ابن‬
‫الخطيب وغ�سان‬ ‫والعربية‪ ،‬ومن �أهمها‬ ‫الفل�سطينية‬ ‫والثقافة‬ ‫عثمان)‪ ،‬الذي يقع بالقرب من �سوق ال�سكافية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫طهبوب وعزالدين‬ ‫الثقافية في الخليل‪ .‬ومن �أ�شهر الكتاب‬ ‫الندوة‬ ‫والمربعة بالبلدة القديمة‪ ،‬ف��ي � ّأول ح��ارة‬
‫ّ‬
‫المنا�صرة‬ ‫وال�شعراء وال�صحافيين فيها‪ ،‬يو�سف الخطيب‪،‬‬ ‫العقابة‪ ،‬وف��ي الطريق ال��م��ؤدي �إل��ى الم�سجد‬
‫وعزالدين المنا�صرة‪ ،‬وغ�سان طهبوب‪ ،‬وثورة‬ ‫الإبراهيمي‪ ،‬وهو �أق��دم م�ساجد المدينة بعد‬
‫حوامدة‪ ،‬وعدد �آخر من الكتاب وال�شعراء‪.‬‬ ‫الم�سجد الإبراهيمي‪ .‬كما يوجد (منتزه الكرمل)‬
‫تم �إن�شا�ؤه على �أرا�ضي بيت كاحل‪ ،‬مقابل‬ ‫الذي ّ‬
‫م�شتل وينابيع (وادي القف)‪ ،‬وفيه يوجد م�سبح‬
‫كبير بموا�صفات �أولمبية‪ .‬وهناك كذلك �شجرة‬
‫(المقد�سية) تقع بالقرب من كني�سة‬ ‫ّ‬ ‫ُتدعي‬
‫الم�سكوبية على جبل الجلدة‪ ،‬وه��ي �شجرة‬
‫�ضخمة‪ ،‬يرجح ب� ّأن ُع ْمرها يزيد على خم�سة‬
‫�آالف �سنة‪ ،‬وال ي�سمح لأح � ٍد بالدخول �إليها‬
‫حفاظ ًا عليها‪.‬‬
‫وقد �شكلت الثقافة معلم ًا مهم ًا من ُه ُوية‬
‫�سكان منطقة الخليل منذ زمن بعيد‪ ،‬والتي‬
‫عبر عن االقت�صاد‬ ‫كانت في الأغلب ثقافة ُت ِّ‬
‫الفل�سطيني‪ ،‬ويظهر االختالف ب�شكلٍ وا�ضح‬
‫ميز �سكان هذه‬ ‫في اللكنة �أو اللهجة التي ُت ِّ‬
‫الفل�سطينية بقلب‬
‫ّ‬ ‫المنطقة عن باقي اللهجات‬
‫الخليل في فترة ال�ستينيات‬

‫‪21‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�إ�شراقات النثر العربي‬
‫مقامات الوهراني ور�سائله‬
‫د‪ .‬حاتم ال�صكَر‬

‫ومن خالل مراجعتي لأغرا�ض درا�سية �أو‬ ‫كنت لوقت طويل �أح�سب �أن هيمنة ال�شعر‬
‫نقدية‪ ،‬حول التراث النثري العربي‪ ،‬وجدت �أن‬ ‫وق��دم معرفته نظم ًا‬ ‫على الثقافة العربية‪ِ ،‬‬
‫التركيز في الدرا�سات الحديثة‪ ،‬با�ستثناءات‬ ‫وقراءة‪ ،‬هما �سبب تراجع االهتمام بالنثر‪ ،‬وقلة‬
‫قليلة‪ ،‬على نوعين بارزين من النثر القديم‪:‬‬ ‫م�صادره ونماذجه و�أنواعه في الأدب العربي‬
‫الإ�شراقات والفيو�ض الت�صوفية‪ ،‬التي حررت‬ ‫درا�س ًة ونقداً‪ .‬لكن الفراغ الوا�ضح لمكانة النثر‬
‫النثر العربي من نمطية الر�سائل والمناو�شات‬ ‫الأدبي في ثقافتنا‪ ،‬بد�أ يلفت انتباهي‪ ،‬برغم‬
‫وال�شروح‪ ،‬و�سواها من عاديات النثر الر�سمية‬ ‫تعلقي بال�شعر وخطابه كتاب ًة ونقداً؛ فالمدر�سة‬
‫والتقليدية‪ ،‬والتي خ�ضعت ال�شتراطات داللية‬ ‫العربية تكتفي بما هو �شائع وي�سير منه‪ ،‬وال‬
‫وبالغية و�صورية �سائدة‪ .‬والنثر المفارِق‬ ‫تمت فهر�سته ر�سمي ًا في‬ ‫تهتم ب�أنواعه �إال بما ّ‬
‫للمو�ضوعات التقليدية وال�صور ال�سائدة‪ ،‬كنثر‬ ‫ثقافتنا‪.‬‬
‫الجاحظ‪ ،‬و�أل��ف ليلة وليلة‪ ،‬والمقامات‪ ،‬وما‬ ‫لا‪ ،‬حتى يبد�أ‬ ‫ك��ان علينا �أن ننتظر ط��وي� ً‬
‫تت�سم كتاباته‬ ‫فيها من فنون ال�سرد و�أبنيته ودالالت��ه‪ ،‬لكن‬ ‫االهتمام بالمقامات مث ًال‪ ،‬والأخبار والنوادر‬
‫بالتزام وا�ضح‬ ‫تركيز ال��در���س الأكاديمي والنقدي في تلك‬ ‫والمجال�س‪ ،‬والحكايات الخرافية‪ ،‬و�ألف ليلة‬
‫المتون التي �أ�صبحت مركزاً �أزاح متون ًا نثرية‬ ‫وليلة والق�ص الحيواني الرمزي‪ -‬كما في كليلة‬
‫بال�سجع وا�ست�شهاد‬ ‫�أخرى �إلى هام�شه‪.‬‬ ‫ودمنة‪ -‬والر�سائل الم�ؤلفة في مو�ضوعات‬
‫بالم�أثور وتوظيف‬ ‫�إن معاينة بع�ض تلك المتون النثرية‬ ‫فل�سفية �أو اجتماعية �شتى‪.‬‬
‫ال�سخرية بتقنية‬ ‫المهم�شة‪ ،‬ترينا �أن بها حاجة لمزيد من ال�ضوء‪:‬‬ ‫وحتى حين تكر�ست الأنواع النثرية و�أخذت‬
‫�أ�سلوبية‬ ‫�أكاديمي ًا ونقدي ًا‪ ،‬ال �سيما �أن الدرا�سات الجديدة‬ ‫مكان ًا في الثقافة العربية‪ ،‬ظل الموروث النثري‬
‫المن�ضوية تحت �شعارات النقد الثقافي تبحث‬ ‫بعيداً عن التداول بالقوة‪ ،‬التي امتلكها ال�شعر‬
‫عن �أن�ساق م�ضمرة‪ ،‬وم�سكوت عنه في المتون‬ ‫ومجاميعه ودواوينه ومختاراته ونقده‪ ،‬وجرى‬
‫التي تدر�سها‪ .‬وال �شك في غنى النثر المهم�ش‬ ‫بال�ضرورة �إغفال الهوام�ش النثرية‪ ،‬تلك التي لم‬
‫بالإ�شارات والعالمات التي يمكن �أن ن�ستخل�ص‬ ‫تلق القبول‬ ‫ُي�سلط عليها �ضوء النقد القديم‪ ،‬ولم َ‬
‫منها ال�سياقات التي و َّلدت ن�سقية القول والفكر‪،‬‬ ‫تحظ‬
‫َ‬ ‫في المدر�سة العربية ومناهجها‪ ،‬ول��م‬
‫وال�شخ�صيات والأحداث‪ ،‬ومن تلك النماذج التي‬ ‫باالهتمام المنا�سب في الدرا�سات الأكاديمية‪،‬‬
‫ات�سمت بالمخالفة لل�سائد �صياغي ًا وفكري ًا‪ ،‬نثر‬ ‫والندوات والم�ؤتمرات وكتب النقد‪ ،‬وما �صدر‬
‫�أبي العالء المعري الذي طغت (ر�سالة الغفران)‬ ‫عنها‪ ،‬على رغ��م قيمته العلمية وتميزه في‬
‫على باقي �أعماله‪ ،‬كالر�سائل التي �أنجزها في‬ ‫كثير من الم�ؤلفات‪ ،‬ال يكافئ مكانتها وقيمتها‬
‫مو�ضوعات �شتى‪.‬‬ ‫التاريخية والفنية‪ ،‬وال نريد هنا �أن نناق�ش‬
‫و ُت��ع��د م��ن��ام��ات ال��وه��ران��ي وم��ق��ام��ات��ه‬ ‫االهتمام المنقو�ص بالنثر الحديث �أي�ض ًا‪،‬‬
‫ور�سائله من �أب��رز تلك المتون المغفلة‪� ،‬أو‬ ‫وانزواء فنونه وقلة مباحثها‪ ،‬فلهذا �ش�أن �آخر‬
‫البعيدة عن اهتمام الدار�سين بما ت�ستحق‪،‬‬ ‫ي�ستوجب وقفة خا�صة‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪22‬‬


‫كلمات‬

‫ال�ضر‪،‬‬
‫حجة الإ�سالم‪ ،‬فدخلتها بعد مقا�ساة ُّ‬ ‫كما تغفلها المناهج الدرا�سية في �أق�سام اللغة‬
‫ومكابدة العي�ش المر‪.‬‬ ‫العربية والدرا�سات الأكاديمية‪ ،‬ربما لجر�أة‬
‫من زاوي��ة المعاني والمو�ضوعات‪ ،‬يمكن‬ ‫محتواها‪ ،‬وم��ا يحف بها من �شعبويات في‬
‫ت�صنيف (الوهراني) ك�سارد مت�صعلك‪ ،‬وذلك ما‬ ‫الم�سميات المتداولة لدى‬ ‫ّ‬ ‫الو�صف والحوار‪� ،‬أو‬
‫كان علينا �أن ننتظر‬ ‫ت�ؤكده �سيرته‪ ،‬فهو مرتحل يرد من (وهران) في‬ ‫عامة النا�س‪ .‬مع علمي بوجود درا�سات مميزة‬
‫ال حتى يبد�أ‬‫طوي ً‬ ‫الغرب الجزائري‪ ،‬ليطوف في �صقلية وم�صر‬ ‫للمنامات �ضمن الخطاب ال�سردي العربي‬
‫وال�شام وب��غ��داد‪ ،‬ويت�صل بطبقات �شتى من‬ ‫الموروث وتقنياته المتقدمة‪ .‬لكنها لم تحظ‬
‫االهتمام بمكانة‬ ‫المجتمع‪ ،‬الذي يقيم بين �أف��راده‪ .‬ولكنه يوثق‬ ‫بالتعريف المنا�سب وال�شيوع ثقافي ًا‪ ،‬حتى‬
‫النثر الأدبي‬ ‫�أ�سفاره و�إقاماته تلك ب�أ�سلوب طريف‪ ،‬وي�صف‬ ‫اختلط م�صطلح المنامات ال�سردي‪ ،‬بمعنى‬
‫مدن �إقامته ومرائيها‪.‬‬ ‫�شعبوي يتناول ال��ر�ؤى والأح�لام والتهي�ؤات‬
‫ف��ن��ي� ًا تت�سم ك��ت��اب��ات��ه ب��ال��ت��زام وا���ض��ح‬ ‫التي يراها الإن�سان في منامه‪ ،‬ويقدم لها‬
‫بال�سجع‪ ،‬وتق�سيم الفقرات بتوازٍ وتقابل طريف‪،‬‬ ‫تف�سيراً ن�سقي ًا بما يوافق الفكر ال�شعبي الجمعي‪.‬‬
‫وا�ست�شهاد بالم�أثور نثراً و�شعراً‪ ،‬وبتوظيف‬ ‫ي ��رد ع��ن��وان ال��ك��ت��اب ال��ج��ام��ع لأع��م��ال‬
‫ال�سخرية المنطوية على �شكوى م��ن العوز‬ ‫(الوهراني) �أو بع�ض منها في المراجع با�سم‬
‫ظل الموروث النثري‬ ‫�أحيان ًا‪� ،‬أو هجاء لأ�شخا�ص خذلوه �أو غبنوه؛‬ ‫(جلي�س ك ّل ظريف)‪ ،‬لكن ن�سبتها �إليه �شاعت‬
‫بعيداً عن التداول‬ ‫كابن ظفير‪ ،‬الذي ورد ذكره في منام �صغير‪،‬‬ ‫و���ص��ارت ع��ن��وان� ًا م��ع��روف � ًا‪ ،‬ف��غ��دت منامات‬
‫مقارنة بال�شعر‬ ‫�رد ما‬‫�ضمن ر�سالة كتبها طالب ًا �إن�صافه ب� ِّ‬ ‫(الوهراني) متداولة كنوع نثري‪ ،‬له في تاريخ‬
‫ا�ستدانه منه‪.‬‬ ‫النثر العربي �أمثلة قليلة‪ .‬لكن (الوهراني) تفرد‬
‫لكن المنام الكبير المتميز بطوله و�سرده‬ ‫عب �سردية رفعته �إلى مقام (ر�سالة‬ ‫بتفا�صيل و ُل ٍ‬
‫المتقن و�شخ�صياته‪ ،‬من �أب��رز �أعماله‪ ،‬وفيه‬ ‫الغفران) للمعري‪ ،‬التي نجد لها ظال ًال وا�ضحة‬
‫تقنية �أ�سلوبية خا�صة جعلت له تلك المكانة‪،‬‬ ‫في �صياغة المنام الكبير وبع�ض الر�سائل‪،‬‬
‫فهو ي�سرد �أحداث ًا ت�شبه في �إطارها ما ورد‬ ‫و�إن تفرد الوهراني نظراً ل�شخ�صيته وتكوينه‬
‫في (ر�سالة الغفران) من تخيل الح�ساب‪ ،‬وما‬ ‫ال�شطاري ب�سخرية محببة‪ ،‬وتحررٍ في �إي��راد‬
‫يح�صل لأفراد من ال�سا�سة والعلماء وال�شعراء‬ ‫المواقف والألفاظ‪ ،‬التي يراها بع�ضهم عامية‪.‬‬
‫تعد منامات الوهراني‬ ‫من مواقف في الجنة والنار والأعراف‪ .‬وتبدو‬ ‫وه��ي ف��ي �سياق خطاب (ال��وه��ران��ي) تت�سق‬
‫ومقاماته ور�سائله‬ ‫ثقافة (الوهراني) و�سعة اطالعه بما يورده‬ ‫وتتوافق مع واق��ع �أو محيط ما ي�سرد‪ ،‬ومع‬
‫من �أبرز المتون‬ ‫من �أ�شعار و�أخبار‪ ،‬وما ي�ست�شهد به من �آيات‬ ‫طبيعة الأح��داث وطرافتها ومفارقاتها‪ ،‬التي‬
‫المغفلة‬ ‫وم�أثورات وحكم‪ ،‬واختالط الخيال بالحقائق‪.‬‬ ‫تعمد اختيارها؛ ليرى القراء ما في الحياة ذاتها‬
‫وكان هو �سارد المنام على مروي له ي�شركه‬ ‫من مفارقات ومظالم‪ ،‬كان هو �أحد �ضحاياها‪.‬‬
‫في الحدث ويزيد من المحاورة‪ ،‬وي�ستح�ضر‬ ‫تعرف بالوهراني (ركن‬ ‫فالم�صادر التي ّ‬
‫عدة �شخ�صيات‪ ،‬حتى يطول المنام الذي ا�ستهله‬ ‫الدين محمد بن محرز الوهراني) من �أدب��اء‬
‫بعبارة تقليدية (ر�أى في ما ي��رى النائم)‪،‬‬ ‫القرن ال�ساد�س الهجري‪ ،‬تذكر عوزه وفقره‪،‬‬
‫وينهي المنام بم�شهد طريف‪ ،‬حيث ي�سقط من‬ ‫ومعاناته في حل وارت��ح��ال بين الأم�صار‪،‬‬
‫�سريره �إلى الأر�ض‪.‬‬ ‫ومخاطبة ذوي ال�ش�أن من ال��والة والق�ضاة‬
‫تفرد الوهراني‬
‫ّ‬ ‫وقد لفت الدار�سين بع�ض نثره المبتكر‪،‬‬ ‫والحكام لإن�صافه‪ ،‬كما ي�صرح‪:‬‬
‫ولعب‬ ‫بتفا�صيل‬ ‫كتلك الر�سائل التي اعتمد فيها �إنطاق الحيوان‪،‬‬ ‫تعذرت م�آربي‪ ،‬وا�ضطربت مغاربي‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫لما‬
‫ٍ‬
‫كما في ر�سالة الطير‪ ،‬و�شكوى بغلته للقا�ضي‪،‬‬ ‫ألقيت حبلي على غاربي‪ ،‬وجعلت ُمذهبات‬ ‫� ُ‬
‫�سردية رفعت من‬ ‫والحديث بل�سان الجماد‪ ،‬وال تخلو كلها من �سرد‬ ‫ال�����ش��ع��ر ب�����ض��اع��ت��ي‪ ،‬وم���ن �أخ��ل��اف الأدب‬
‫مقامه النثري عربي ًا‬ ‫يحفه الجد والهزل‪ ،‬ويت�ضمن بجانب ال�شكوى‬ ‫ر�ضاعتي‪ .‬فما مررت ب�أمير �إال حللت �ساحته‪،‬‬
‫فوائد و�أخباراً وطرائف متنوعة‪ .‬وفي �صياغة‬ ‫وا�ستمطرت راحته‪ ،‬وال بوزير �إال قرعت بابه‪،‬‬
‫مقاماته يظهر �أث��ر بديع الزمان والحريري‪،‬‬ ‫�سيبه‪،‬‬
‫بقا�ض �إال �أخ��ذت َ‬ ‫ٍ‬ ‫وطلبت ثوابه‪ ،‬وال‬
‫لكنه ي�ضع نف�سه راوي ًا لها‪ ،‬وال ينيب عنه �سارداً‬ ‫جيبه‪ .‬فتقلبت بي الأع�صار‪ ،‬وتقاذفت‬ ‫و�أفرغت َ‬
‫كما في مقامات َمن �سبقوه‪.‬‬ ‫بي الأم�صار‪ ،‬فق�صدت مدينة ال�سالم‪ ،‬لأق�ضي‬

‫‪23‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫تمتلك موروث ًا علمي ًا ثقافي ًا‬
‫�شنقيط‪ ..‬ذاكرة موريتانيا التاريخية‬
‫تُعتبر مدينة �شنقيط التاريخية من �أ�شهر م��دن موريتانيا التي تتم ّيز بموقعها‬
‫اال�ستراتيجي بين كثبان الرمال على التخوم الجنوبية من �شمالي موريتانيا‪ ،‬وقد‬
‫لعبت دور ًا كبير ًا في التاريخ ال�سيا�سي واالقت�صادي والثقافي في موريتانيا‪ ،‬ولذلك‬
‫�أُطلق ا�سمها على كامل موريتانيا ِلعظم �ش�أنها عند العرب والم�سلمين‪ ،‬فكانت مركز ًا‬
‫للإ�شعاع الح�ضاري والعلمي‪ ،‬وحا�ضر ًة للثقافة والعلوم‪ ،‬كما احتوت على ٍ‬
‫عدد كبير‬
‫محمد �أحمد عنب‬
‫من المكتبات الزاخرة بالمخطوطات النفي�سة والنادرة‪ ،‬ما جعلها �إحدى الوجهات‬
‫ال�سياحية الثقافية ال�شهيرة لل�سياح العا�شقين للتراث والح�ضارة القديمة‪ ،‬ونظر ًا لأهميتها الكبيرة؛‬
‫فقد �أدرجتها منظمة اليون�سكو �ضمن قائمة التراث العالمي‪.‬‬
‫ويرجع تاريخ �شنقيط �إل��ى ما قبل‬ ‫اخ��ت��ل��ف ال ��م���ؤرخ ��ون ح���ول معنى‬
‫الإ� ��س�ل�ام؛ حيث ك��ان��ت تابعة لمملكة‬ ‫�شنقيط‪ ..‬فمنهم م��ن ق��ال �إن��ه��ا م�شتقة‬
‫غانا الوثنية‪ ،‬وكان �سكانها الأ�صليون‬ ‫من(ال�شقيط)؛ وهو نوع من �أنواع الأواني‬
‫من الأف��ارق��ة والبربر‪ ،‬ثم هاجر �إليها‬ ‫الخزفية ا�شتهرت ب��ه المدينة قديم ًا‪،‬‬
‫كثير م��ن ال��ع��رب م��ن اليمن والجزيرة‬ ‫و�آخرون �أرجعوا �أ�صلها �إلى (�سنقيط) �أي‬
‫العربية وم�صر‪ ،‬وح��دث بينهم تجان�س‬ ‫ط��رف جبل قيط وه��و الجبل المحاذي‬
‫وت�صاهر و�ش ّكلوا �شعب ًا تربطهم وحدة‬ ‫للمدينة‪ ،‬ومنهم م��ن ق��ال �إن �شنقيط‬
‫ال��دم والن�سب‪ ،‬وو�صل الإ�سالم ل�شنقيط‬ ‫كلمة بربرية الأ�صل معناها الخيل �أو‬
‫عبر التجارة بداية القرن الأول للهجرة‪،‬‬ ‫عيون الجبل‪ .‬وتقع مدينة �شنقيط في‬
‫ويذكر الم�ؤرخون �أن �شنقيط يبد�أ تاريخها‬ ‫�شمالي موريتانيا في الجهة ال�شرقية من‬
‫عام (‪160‬هـ‪776/‬م)؛ حيث كانت مدينة‬ ‫والية �أدرار‪ ،‬وتبعد نحو (‪ )533‬كم من‬
‫قديمة ُع��رف��ت ب��ـ(�آب��ي��ر)؛ وه��ي ت�صغير‬ ‫العا�صمة الموريتانية نواك�شوط‪ ،‬وهي‬
‫للكلمة ال�صنهاجية ال�سم (ب��ئ��ر)؛ وهي‬ ‫بالد منخف�ضة كثيرة اله�ضاب وال�سهول‬
‫عين الماء التي ت�أ�س�ست حولها المدينة‪،‬‬ ‫والكثبان الرملية‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪24‬‬


‫مدن‬

‫وعا�شت مدينة �شنقيط الأول��ى (�آبير) خم�سة‬


‫ق��رون بلغت فيها �أوج ازده��اره��ا �إث��ر �سقوط‬
‫دولة المرابطين عام (‪541‬هـ) ونزوح القبائل‬
‫ال�صنهاجية التي كانت تت�ألف منها هذه الدولة‬
‫�إلى الجنوب‪ ،‬ثم ت�أ�س�ست �شنقيط الثانية عام‬
‫(‪660‬ه��ـ‪1262/‬م)‪ ،‬وهي تقع على بعد ثالثة‬
‫كيلومترات �إلى الجنوب الغربي من �آبير‪.‬‬
‫تتمتع �شنقيط ب�أهمية ح�ضارية كبيرة عند‬
‫العرب والم�سلمين‪ ،‬فقد كانت مركزاً ومحطة‬
‫مهمة م��ن محطات ال��ت��ج��ارة ال�صحراوية‪.‬‬
‫دور تاريخي مهم؛ حيث كانت همزة‬ ‫ول�شنقيط ٌ‬
‫و�صل بين �إفريقيا البي�ضاء و�إفريقيا ال�سوداء‬
‫عندما كانت �إحدى بالد التخوم العربية ونقط‬
‫تما�س داخل الحزام الإفريقي‪ ،‬وعندما حملت‬
‫نفائ�س الكتب والمخطوطات‬
‫احتوت على عدد كبير من المكتبات الكبيرة‬ ‫خالل عدة قرون م�شعل الح�ضارة الإ�سالمية‬
‫وال�صغيرة وال��زاخ��رة بالكتب والمخطوطات‬ ‫�إلى ما وراء ال�صحراء‪ ،‬بعد �أن قام بدو ال�صحراء‬
‫النفي�سة والنادرة‪ ،‬وكان الحجاج يحر�صون‬ ‫بعبورها وامتالكها وه��م على ظهور الإب��ل‪،‬‬
‫على اقتناء نفائ�س الكتب والمخطوطات خالل‬ ‫و�أ�صبحت �أهم مراكز تبادل ال�سلع والأفكار‪،‬‬
‫رحلتهم للحج ومرورهم بالعوا�صم العلمية‬ ‫و�أح��د مراكز الإب ��داع‪ ،‬وم�صدر �إ�شعاع حياة‬
‫الكبيرة‪ ،‬ويعود تاريخ بع�ض هذه المخطوطات‬ ‫دينية وثقافية غنية‪.‬‬
‫�إلى القرن التا�سع‪ ،‬ويتناول �أغلبها علوم القر�آن‬ ‫تجمع للحجيج‬ ‫ُّ‬ ‫فقد كانت �شنقيط نقطة‬
‫الكريم و�أحكام ال�شريعة‪� ،‬إل��ى جانب الآداب‬ ‫القادمين من كل حدب و�صوب �ضمن قافلة‬
‫والنحو وال�شعر والطب والفلك وغيرها من‬ ‫موحدة قد ت�ستغرق �أ�شهراً طويلة‪ ،‬ول��م تكن‬
‫لعبت دوراً كبيراً في‬ ‫العلوم‪ ،‬كما ا�شتهرت �شنقيط ب�أنها من �أوائل‬ ‫مجرد رحلة دينية لأداء منا�سك الحج‪ ،‬بل كانت‬
‫البلدان التي �شهدت بناء الجامعات الأهلية في‬ ‫رحل ًة علمية ت�ضم �شخ�صيات علمية مرموقة‪،‬‬
‫التاريخ الموريتاني‬ ‫وعرفت با�سم (المحا�ضر)‬ ‫�شتى �أنحاء المدينة‪ُ ،‬‬ ‫وك��ان الموريتانيون ي�ستغلونها للتدري�س‬
‫وثقافته‬ ‫وم��ف��رده��ا مح�ضرة؛ وه��ي م�ؤ�س�سة ثقافية‬ ‫والدرا�سة‪ ،‬ويعملون خالل هذه الرحلة على‬
‫�إ�سالمية ن�ش�أت في �شنقيط لتكون �أدا ًة لن�شر‬ ‫ن�شر العلوم الإ�سالمية في البالد التي يمرون‬
‫المعرفة وتع ُّلم و�إر�ساء �أ�س�س الدين‪ ،‬وكانت‬ ‫بها‪ ،‬كما يتناف�سون في جلب نفائ�س الكتب‬
‫هذه المحا�ضر ب�سيطة جداً‪ ،‬فكان مقرها في‬ ‫�إل��ى وطنهم الأ�صلي‪ ،‬ف��ذاع �صيتهم ونالوا‬
‫الخيام الم�صنوعة من الوبر‪ ،‬ويدر�س فيها‬ ‫�شهر ًة كبيرة جعلت ا�سم �شنقيط ُيطلق في‬
‫الطلبة على يد �أحد الم�شايخ الدرو�س المختلفة‬ ‫الم�شرق على القطر الموريتاني ب�أكمله‪ ،‬و�أ�صبح‬
‫في المجاالت المرتبطة بال�شريعة الإ�سالمية‪،‬‬ ‫الموريتانيون ُيل ّقبون بال�شناقطة‪ ،‬الأمر الذي‬
‫خرجت هذه المحا�ضر الكثير من العلماء‬ ‫ولقد ّ‬ ‫ع ّزز الدور الديني والتجاري ل�شنقيط‪ ،‬خا�صة‬
‫والأدب ��اء وال�شعراء‪ ،‬وق��د �أقبل النا�س عليها‬ ‫خالل القرن (‪11‬هـ‪17/‬م)‪ ،‬و�أ�صبحت عا�صم ًة‬
‫ب�شغف و�أ�صبحت قبل ًة لطلبة العلم الوافدين من‬ ‫ثقافية لتلك البالد‪.‬‬
‫عرفت ب�أنها من‬ ‫مختلف البلدان العربية والإفريقية والأوروبية‪،‬‬ ‫اكت�سبت �شنقيط �أهمي ًة و�شهر ًة ثقافية‬
‫�أوائل البلدان التي‬ ‫ولذلك ُعرفت �شنقيط بـ(مكة موريتانيا)‪.‬‬ ‫كبيرة حتى ُع��رف��ت بمدينة المكتبات؛ فقد‬
‫وبلغت �شهرة �شنقيط والعلماء‬
‫�شهدت بناء الجامعات‬ ‫ال�����ش��ن��اق��ط��ة �آف����اق ال��ع��ال��م ال��ع��رب��ي‬
‫الأهلية‬ ‫والإ����س�ل�ام���ي‪ ،‬وق���د ازده�����رت ه��ذه‬
‫المدينة ازدهاراً الفت ًا لنظر الباحثين‬
‫والمهتمين بالن�شاط الفكري العربي‪،‬‬
‫وال��ن�����ش��اط العلمي‪ ،‬وك��ان��ت �صورة‬
‫ال�شناقطة وماتزال في البالد العربية‪،‬‬
‫�أن��ه��م الممثلون الأوف ��ي ��اء للثقافة‬
‫العربية الإ�سالمية‪ ،‬و�أنهم �سدنتها في‬
‫قا�صية ديار الإ�سالم المرابطون في‬
‫�أحمد الأمين ال�شنقيطي‬ ‫ﻣﺤﻤﺪ ﻋﺒﺪﺍﻪﻠﻟ ﻭﻟﺪ ﺍﻟﻤ�ﺼﻄﻒ‬

‫‪25‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مدن‬

‫ثغورها حفاظ ًا عليها ون�شراً لها‪ ،‬ولذلك ُعرفت‬


‫�شنقيط ب�أنها مدينة العلم والعلماء‪.‬‬
‫تتميز �شنقيط بطرازها المعماري وبعمارتها‬ ‫ّ‬
‫التقليدية الفريدة التي تعك�س مالمح عمارة‬
‫ال�صحراء‪ ،‬حيث اعتمدت المدينة في عمارتها‬
‫على مواد البناء المحلية من الحجارة والطين‬
‫وبنيت �أ�سقفها ب�ألواح خ�شب النخيل‪،‬‬ ‫اللبن‪ُ ،‬‬
‫ما �أك�سبها ملمح ًا تاريخي ًا مميزاً‪ ،‬وقد ت�أثرت‬
‫من�ش�آت �شنقيط ببع�ض الت�أثيرات المغربية‬
‫والأندل�سية‪ ،‬والتي جاءت عبر القوافل التجارية‬
‫ورحالت التجارة والهجرات وا�ستقرار البنائين‬
‫والمعماريين بها‪ ،‬فجاءت م�آذنها ت�شبه م�آذن‬
‫مواد البناء المحلية من رمل وطين‬
‫تون�س وليبيا والم�آذن الأندل�سية‪ ،‬كما تت�شابه في‬
‫الت�صميم الداخلي و�أ�شكال العقود مع النماذج‬
‫المغربية والأندل�سية مع فارق الإمكانيات‪ .‬وقد‬
‫حافظ الإن�سان ال�شنقيطي على نمط العمران‬
‫الأ�صيل المتوارث منذ مئات ال�سنين‪ ،‬وهو بناء‬
‫ي�ستخدم الحجر الم�صقول المقطع على �أ�شكال‬
‫مترا�صة ومت�ساوية في الأح��ج��ام والأب��ع��اد‪،‬‬
‫وه��ن��اك نمط بناء طيني �أق��ل انتظام ًا على‬
‫وتتميز‬
‫ّ‬ ‫م�ستوى تن�ضيد الحجارة وت�شذيبها‪،‬‬
‫�شنقيط بمنازلها التراثية ذات التخطيط الب�سيط؛‬
‫البيوت جزء من البيئة‬ ‫فلكل منزل بابان‪� :‬أحدهما مخ�ص�ص للرجال‬
‫هذا الم�سجد العديد من الوظائف؛ فمنه انطلقت‬ ‫وال�ضيوف‪ ،‬والآخر للن�ساء‪ .‬كما �أن في كل بيت‬
‫الفتوحات الإ�سالمية وع��ق��دت ب��ه الأل��وي��ة‪،‬‬ ‫مجل�س ًا ي�سمى (درب) وهي �إ�شارة �إلى موقعه‬
‫جهز فيه ال�سرايا‪ ،‬و ُتع ّقد فيه حلقات‬ ‫وكانت ُت ّ‬ ‫ك�أقرب مكان من باب ال�شارع حتى التقع عين‬
‫القر�آن والعلوم المختلفة وغيرها‪ ..‬وقد ا�ستطاع‬ ‫الزائر على الحريم‪ ،‬وللحريم �أي�ض ًا مجل�س يكون‬
‫الم�سجد �أن يظل �شامخ ًا لأكثر من ثمانية قرون‬ ‫�سمى‬
‫بابه داخلي ًا متفرع ًا من �إحدى الغرف ُي ّ‬
‫متتالية‪ ،‬برغم مواد بنائه الب�سيطة من الحجارة‬ ‫�سمى‬‫(ال�سقفة)‪ ،‬وال يخلو بيت من دور علوي ُي ّ‬
‫المحلية والطين الأ�صفر و�سقفه الم�صنوع من‬ ‫(القرب)‪ ،‬وال�سلم ال�صاعد �إليه يكون مت�سع ًا لحد‬
‫ويتميز‬
‫ّ‬ ‫�سعف النخل وجذوعه المدعمة بالطين‪،‬‬ ‫ي�سمح بوجود فناء �أ�سفله تو�ضع فيها قدور‬
‫الم�سجد بخلوه من الزخارف وفق ًا للمذهب‬ ‫الماء لتبقى باردة‪ .‬ومن �أقدم من�ش�آت �شنقيط؛‬
‫تعر�ض‬‫المالكي (مذهب �أه��ل �شنقيط)‪ ،‬وق��د ّ‬ ‫م�سجدها الجامع ال��ذي يعتبر �أح��د المالمح‬
‫اكت�سبت �شنقيط‬ ‫الم�سجد للترميم في الع�صر الحديث وا�ستبدل‬ ‫ويعتبر‬ ‫ميزة في غربي �إفريقيا‪ُ ،‬‬ ‫الم ّ‬
‫المعمارية ُ‬
‫�سقفه �أكثر من مرة‪ ،‬لكنه مازال محتفظ ًا بنف�س‬ ‫الم�سجد و�صومعته ال�شهيرة رمزاً وطني ًا لدولة‬
‫�أهمية و�شهرة‬ ‫ال�شكل المعماري القديم‪ ،‬وحافظ ال�شناقطة على‬ ‫موريتانيا‪.‬‬
‫ثقافية كبيرة حتى‬ ‫تقاليده التراثية وطرازه المعماري الب�سيط في‬ ‫تتميز �شنقيط ب�أنها كانت تحتوي على‬ ‫ّ‬
‫عرفت بمدينة‬ ‫تج�سي ٍد لروح الإن�سان ال�شنقيطي‪ ،‬التي ت�ستمر‬ ‫�أكثر من ثالثين م�سجداً‪� ،‬أقدمها م�سجدها‬
‫في الزمن دون �أن تغيرها حداثته عن �أ�صله‬ ‫العتيق ال��ذي الي��زال قائم ًا حتى اليوم يفوح‬
‫المكتبات‬ ‫ويعتبر �أول العمائر الم�شيدة‬
‫الطيب المنفتح في ثقة وتوازن وعمق ثقافي‬ ‫منه عبق التاريخ‪ُ ،‬‬
‫ممتد لقرون كاملة‪.‬‬ ‫ويتميز بنمطه المعماري الفريد؛‬ ‫ّ‬ ‫في �شنقيط‪،‬‬
‫و�أخ��ي��راً‪ ،‬ه��ذه ق�صة �شنقيط التاريخية‬ ‫حيث �شيد على ن�سق يتيح له البقاء لأطول فترة‬
‫التي تحت�ضنها الكثبان الرملية من جميع‬ ‫زمنية ممكنة‪ ،‬ويقاوم مناخ ال�صحراء المتقلب‪،‬‬
‫االت ��ج ��اه ��ات‪ ،‬وت��ت��م� ّ�ي��ز ب��ط��رازه��ا ونمطها‬ ‫ويتميز الم�سجد بمئذنته الم�شهورة المربعة‬ ‫ّ‬
‫المعماري والعمراني الفريد‪ ،‬وتمتلك موروث ًا‬ ‫ال�شكل ذات الع�شرة �أم��ت��ار‪ ،‬والتي يعتبرها‬
‫علمي ًا وثقافي ًا متنوع ًا جعل منها وجه ًة‬ ‫البع�ض ثاني �أقدم بناء في العالم الإ�سالمي‪.‬‬
‫مف�ضلة لل�سياح الأوروبيين العا�شقين للتراث‬ ‫ويتكون الم�سجد من بهو ال�صالة و�أربعة‬
‫والح�ضارة‪.‬‬ ‫ممرات �إ�ضافة �إلى فناء مك�شوف‪ ،‬وكان ي�ؤدي‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪26‬‬


‫إبداعات‬
‫مدينة اخلليل القدمية‬
‫�شعر ‪ -‬ق�صة ‪ -‬ترجمة‬

‫¯ �أدبيات‬
‫¯ قا�ص وناقد‬
‫¯ �ضجيج ال�صمت ‪ -‬ق�صة ق�صيرة‬
‫¯ في الم�ست�شفى ‪� -‬شعر مترجم‬
‫¯ قيمة العطاء ‪ -‬ق�صة ق�صيرة‬
‫¯ من �أجل �أمي! ‪ -‬ق�صة ق�صيرة‬
‫¯ بـاقـة زهـور ‪ -‬ق�صة مترجمة‬

‫‪27‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫جمال ّيات ال ّلغة‬
‫اب‬
‫ال�شعراء والك ّت ُ‬
‫ُ‬ ‫الخطب ِة‪ ،‬الخاتم ُة‪ ،‬لذا َ‬
‫درج‬ ‫بعد قراء ِة الق�صيد ِة �أو ُ‬ ‫أ�سماع‪َ ،‬‬
‫آخر ما يبقى في ال ِ‬ ‫� ُ‬
‫تمام‬
‫قول �أبي ّ‬‫زون‪ ،‬على االجتها ِد في ر�شاق ِة الخاتم ِة و ُن ْ�ضجِ ها وحالو ِتها وجزال ِتها؛ منها ُ‬
‫مي َ‬
‫الم ّ‬
‫ُ‬
‫عمورية‪:‬‬ ‫ِ ّ‬‫فتح‬ ‫في‬ ‫ق�صيدته‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫خاتم‬ ‫في‬
‫م����ام غ��ي��رِ ُم ْنق َِ�ض ِب‬
‫َم�� ْو���ص��ول ٍ��ة �أ ْو ِذ ٍ‬ ‫الده�رِ ِم ْ�ن َر ِح ٍ�م‬
‫وف َّ‬ ‫كان َب ْي َ�ن ُ�ص ُ�ر ِ‬
‫� ْإن َ‬
‫ا�ض ِ‬
‫كا�س ِم ُ‬
‫هم‬ ‫���رتَ �أَ ْبق َْت َبني ال ْأ�صفَرِ ال ِم ْم َر ِ‬ ‫�����ك ال�ل�اَّ ت���ي ن ِ‬
‫ُ�������ص ْ‬ ‫���ن �أ َّي�����ا ِم َ‬
‫ف��� َب��� ْي َ‬ ‫�إعداد‪ :‬فواز ال�شعار‬

‫الوجو ِه وجل َّْت �أَ ْو ُجهَ ال َع َر ِب‬‫ُ�ص ْف َر ُ‬


‫ودع بها ابن العميد‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫ق�صيدة ّ‬ ‫الطيب‪ ،‬في خاتم ِة‬
‫وقول �أبي ّ‬
‫ُ‬
‫ف�ضل ُُ�ه ِع ْن�دي‬
‫ّ�ف َقلْب�ي ِع ْن َ�د َم ْ�ن ْ‬
‫ُمخل ُ‬ ‫ْ���ت ف�إنّن���ي‬
‫ْ���ب � ْإن َر َحل ُ‬
‫���د ل���ي ِب َقل ٍ‬
‫فج ْ‬‫ُ‬
‫ي�ر َمذمو َم ِ�ة ال َع ِ‬
‫ه�د‬ ‫ُل�ت �أَ�صا َب ْ�ت غَ َ‬
‫َلق ُ‬ ‫َولَ���و فا َر َق ْ‬
‫���ت َن ْف�س���ي ِ�إ َل ْي َ‬
‫���ك َحياتَه���ا‬

‫وادي عبقر‬
‫ِل َمن َط َل ٌل‬
‫�شداد (من الوافر)‬
‫عنترة بن ّ‬
‫ري���������ح ال�������ش���م���الِ‬
‫ُ‬ ‫������ت �آث����������������ا َر ُه‬
‫������ح ْ‬ ‫َم َ‬ ‫ال������ر ْم������لِ ب��ال��ي‬ ‫َّ‬ ‫َ����ل بِ��������وادي‬ ‫ِل���� َم����ن طَ ����ل ٌ‬
‫ِ‬
‫���غ���ان���ي���ه ال���خَ ���وال���ي‬ ‫���ف���ي�������ض َع����ل����ى َم‬
‫ُ‬ ‫َي‬ ‫ِ������ه َو َد ْم������ع������ي ِم�����ن ُج��ف��ون��ي‬ ‫�����ف�����ت ب ِ‬
‫ُ‬ ‫َو َق‬
‫����ج����م����الِ‬
‫ذات ال َ‬ ‫����������ن �أَتْ������رابِ������ه������ا ِ‬ ‫َو َع ْ‬ ‫ٍ‬
‫�������راد‬ ‫�������ن فَ�����ت�����ا ِة َب����ن����ي ُق‬ ‫�أُ������س�����ا ِئ�����لُ َع ْ‬
‫�����س�����ؤال����ي‬ ‫�������������ر ُّد َع����ل����ى ُ‬
‫َ‬ ‫����ع����ي����د ال ُي‬
‫ٌ‬ ‫َب‬ ‫���ل‬ ‫������م ُم���ح���ي ٌ‬ ‫�������س ٌ‬ ‫������ف ُي���ج���ي��� ُب���ن���ي َر ْ‬ ‫َوكَ������ ْي َ‬
‫َو�أَ ْج��������������رى �أَد ُم�������ع�������ي ِم�����ث�����لَ ال��ل��آل����ي‬ ‫ِ�������ه َ���ش��ج��ان��ي‬ ‫ُ������راب ب ِ‬ ‫ُ‬ ‫�����ص����اح ال������غ‬
‫َ‬ ‫�إِذا‬
‫������ن َب���� ْع ِ‬
‫����د ال���وِ����ص���الِ‬ ‫�����ج�����رانِ ِم ْ‬ ‫َوبِ�����ال����� ُه ْ‬ ‫ال�����رزاي�����ا‬‫َّ‬ ‫ِ‬
‫����ن����اف‬ ‫������رن������ي ِب�����أَ ْ‬
‫�����ص‬ ‫َو�أَخ������ َب َ‬
‫����������د �أَ�����ش���� َغ����ل����تَ ب��ال��ي‬ ‫����دن����ي َو َق ْ‬ ‫تُ����ع����ا ِن ُ‬ ‫�������ل َي������ ْو ٍم‬ ‫َ������ك كُ َّ‬ ‫����ن م����ا ل َ‬ ‫���������راب ال���� َب���� ْي َ‬
‫َ‬ ‫غُ‬
‫ُ���ك بِ���ال ِ‬
‫���ح���ب���الِ‬ ‫�����ك �أَو َق���نَ�������ص���ت َ‬ ‫ِف�����راخَ َ‬ ‫�����د � َ��س�� ْي��ف��ي‬ ‫ِ�����ح ِّ‬ ‫�����ت ب َ‬
‫�����ح ُ‬ ‫َك������أَنّ�����ي َق ْ‬
‫������د َذ َب ْ‬
‫������ري بِ����ال���� َم����ق����الِ‬ ‫�������س ّ‬ ‫َو َر ِّو ْح ن��������ا َر ِ‬ ‫���������ر َح َق��ل��ب��ي‬ ‫ب�����ي�����ك داوي ُج ْ‬ ‫َ‬ ‫�����ق َ�أ‬
‫ِ�����ح ِّ‬
‫ب َ‬
‫َ����ت بِ���ه���ا �أَ ْي����������دي ال��� َل���ي���ال���ي‬ ‫َوم������ا فَ���� َع����ل ْ‬ ‫ّ����ت‬ ‫َ���ة �أَ َ‬
‫ي��������ن َح���� َل ْ‬ ‫������ن ُع��� َب��� ْي���ل َ‬
‫������ر َع ْ‬ ‫َوخَ ������ ِّب ْ‬
‫ِ‬
‫�������ف�������اف ال���جِ ���م���الِ‬ ‫ِث���������ر َ�أ ْخ‬
‫َ‬ ‫ُي�����قَ����� ِّب�����لُ �إ‬ ‫���������ل �أَ ٍ‬
‫ر����������ض‬ ‫������م ف�����ي كُ ِّ‬ ‫فَ���قَ���ل���ب���ي ه������ا ِئ ٌ‬
‫����ي����ف ال���خَ ���ي���الِ‬
‫َ‬ ‫����رتَ����ج����ي طَ‬ ‫ٌ‬
‫�����ي�����ال َي ْ‬ ‫خَ‬ ‫��ى‬ ‫ال�����ر ْم�����لِ ُم��ل��ق ً‬ ‫َّ‬ ‫َوجِ ���� ْ���س���م���ي ف���ي جِ ����ب����الِ‬
‫ال�����ج����� ِّو ع��ال��ي‬
‫َ‬ ‫�������ه ف����ي‬
‫�����وح َونَ������� ْو ُح ُ‬ ‫َي�����ن ُ‬ ‫َوف�����ي ال������وادي َع���ل���ى الأَغْ ���������ص����انِ طَ ��� ْي ٌ‬
‫���ر‬
‫����ر ح��ال��ي‬ ‫ُ����ك غَ ����ي ُ‬ ‫�������ش���ك���وى فَ����ح����ال َ‬ ‫َد ِع ال َ‬ ‫���������د �أَ ْب����������دى نَ��ح��ي��ب�� ًا‬ ‫َ�������ه َو َق ْ‬
‫����ت ل ُ‬ ‫فَ����قُ����ل ُ‬
‫������ك������اء ���س��ال��ي‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫َ�����������ذاك ُب‬ ‫�����������ع ف‬
‫بِ���ل��ا َد ْم ٍ‬ ‫ب����اك‬ ‫ٍ‬ ‫�������ض َو�أَن�����������تَ‬‫�أَن��������ا َد ْم�����ع�����ي َي���ف���ي ُ‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪28‬‬


‫�أدبيات‬

‫الأزهار في الليل والنهار» في الأدب‪ .‬و«�أخبار �أبي نوا�س»‪،‬‬


‫وغيرها كثير‪.‬‬
‫ينابي ُع ال ُّل َغ ِة‬
‫يده‬‫و«المحكم» البنِ ِ�س َ‬
‫ُ‬ ‫وقد جمع بين «�صحاح» الجوهري‬ ‫ابن منظور الم�صري‬
‫و«الأزهري» في �سبع وع�شرين مجلداً‪.‬‬
‫ا�سم ُه في الآفاق‪،‬‬ ‫أن�صاري الم�صري؛‬ ‫ّ‬ ‫علي ال‬ ‫مكرم بنِ ّ‬ ‫بن ّ‬ ‫محم ٌد ُ‬ ‫ابن منظور‪ّ :‬‬
‫طير َ‬ ‫أهم �أعماله و�أ�شهرها و�أكبرها‪ ،‬الذي ّ‬
‫و� ّ‬
‫كتابه «ل�سان العرب»‪ ،‬الذي جمع فيه � ّأمهات كتب اللغة‪،‬‬ ‫القا�ضي جمال الدين �أبو الف�ضل‪ ،‬المعروف بابن منظور‪،‬‬
‫فكاد يغني عنها جميع ًا‪ ،‬فهو من �أ�شه ِر المعاجم العربي ِة‬ ‫الح ّجة‪.‬‬‫اللغوي ُ‬‫ّ‬ ‫الأديب الإمام‬
‫أ�شمل َمعاج ِم العربي ِة للألفاظ ومعانيها‪،‬‬ ‫و�أطو ِلها‪ ،‬وهو � ُ‬ ‫ولد بم�صر‪ -‬على الأرجح‪� -‬سنة (‪630‬هـ)‪ ،‬وهو والد‬
‫بي َن‬ ‫المكرم‪ ،‬كاتب الإن�شاء ال�شريف‬ ‫ّ‬ ‫الدين بنِ‬ ‫القا�ضي ُقطب ّ‬
‫أتم الم�ؤلفات التي �ص ّنفت في اللغة‪ .‬وقد جمع فيه ْ‬ ‫و� ّ‬
‫� ّأمهات المعجمات العربية الخم�سة ال�سابقة عليه‪« :‬تهذيب‬ ‫بم�صر‪.‬‬
‫اللغة» للأزهري‪ ،‬و«المحكم» البن �سيده‪ ،‬و«ال�صحاح»‬ ‫ابن منظور‪� ،‬صدراً رئي�س ًا فا�ض ًال في الأدب‪ ،‬عالم ًا في‬ ‫كان ُ‬
‫للجوهري‪ ،‬و«حا�شية ال�صحاح» البن بري‪ ،‬و«النهاية في‬ ‫مليح‬
‫وكان َ‬ ‫َ‬ ‫الفق ِه وال ّلغ ِة‪ ،‬عارف ًا بال ّن ْح ِو وال ّتاريخ والكتاب ِة‪.‬‬
‫غريب الحديث» لع ّزالدين بن الأثير‪ ،‬ولم يذكر «جمهرة‬ ‫الإ ْن�شاء ل ُه َن ْظ ٌم و َن ْث ٌر‪.‬‬
‫اللغة» البن دريد‪ ،‬مع �أنه رجع �إليها كثيراً‪.‬‬ ‫مل في ديوانِ الإ ْن�شاء بالقاهر ِة‪ ،‬ثم‬ ‫لي ْع َ‬‫فات َ‬ ‫ال�ص ُ‬ ‫تلك ّ‬
‫� ّأهل ْت ُه َ‬
‫ال�صحاح‪ ،‬باعتماد‬ ‫الجوهري في ّ‬ ‫ّ‬ ‫ونهج ابن منظور نهج‬ ‫رابل�س‪.‬‬‫يتو ّلى‪ ،‬بعد ذلك‪َ ،‬م ْن ِ�ص َب ال َق�ضاء في َط ُ‬
‫الهجائي للحروف‪ ،‬باني ًا �أبوابه على الحرف‬ ‫الترتيب‬ ‫ومما �أُثر عنه من نظمه قوله‪:‬‬
‫ّ‬
‫الأخير من الكلمة‪ ،‬و�أول �أبوابه ما ينتهي بالهمزة‪.‬‬ ‫ق�����د �أ ِث�����م�����وا ف���ي���ن���ا ِب���ظَ ��� ّن���ه ْ‬
‫ِ���م‬ ‫ال���� ّن����ا�����س ْ‬
‫َ����دري����ن����ا‬
‫�����دق�����وا ب�����الّ�����ذي �أ ْدري وت ْ‬ ‫و������ص ّ‬ ‫َ‬
‫���م‬‫���������ض����ر ِك ف����ي ت�������ص���دي���قِ ق���و ِل��� ُه ُ‬‫ُّ‬ ‫م������اذا ي‬

‫وال�شرط‪ ،‬ال�سبب ُي ْحتاج �إلي ِه‬


‫فقه لغة‬ ‫ب������������ ْأن نُ�����ح����� ّق�����ق م������ا ف���ي���ن���ا َي����ظ���� ّن����ون����ا‬
‫����م����لُ����ك َذنْ�����ب����� ًا واح��������د ًا ث��ق ٌ��ة‬ ‫وح ْ‬ ‫���م���ل���ي َ‬‫َح ْ‬
‫ال�س َب ِب ّ‬ ‫فروق لغوية‪َ :‬ب ْين ّ‬
‫�سبب‪ ،‬وال ُيحتاج �إلي ِه في بقائه‪ّ � .‬أما‬ ‫الم ّ‬ ‫في ُحدوث ُ‬
‫م����ن �إثْ������م ال������� َورى فينا‬ ‫ب���ال��� َع��� ْف��� ِو � ْأج���� َم����لُ ْ‬
‫الم ِ‬ ‫يو�س َف بنِ المخيلي‪،‬‬ ‫من ابنِ‬ ‫ابن َمنظور ْ‬ ‫�سمع ُ‬
‫�شروط وبقائه‪.‬‬ ‫تاج �إلي ِه في حالِ وجو ِد َ‬ ‫في ْح ُ‬ ‫ال�ش ْر ُط؛ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫والتدبر‪ ،‬التف ُّك ُر‪َ :‬ت َ�ص ُّر ُف ال َق ْل ِب بال ّنظ ِر في‬ ‫َب ْي َن التف ّكر‬ ‫ومرت�ضى بنِ حا َتم‪ ،‬وروى َع ْن ُه‬ ‫ُ‬ ‫ل‪،‬‬ ‫ي‬
‫َْ‬‫ف‬ ‫الط‬
‫ُّ‬ ‫بنِ‬ ‫حمن‬ ‫الر‬
‫وعب ّ‬
‫د‬
‫ّ‬ ‫ّ ِ‬
‫العواقب‪َ .‬ب ْي َن‬
‫ِ‬ ‫والتدب ُر‪َ :‬ت َ�ص ُّر ُف ال َق ْل ِب بال ّنظر في‬ ‫الدالئلِ ‪.‬‬ ‫�صر و ِد َم َ‬
‫�شق‪.‬‬ ‫حد َث ب ِْم َ‬ ‫وقد ّ‬ ‫بي‪ْ ،‬‬ ‫ال�سبك ّي وال ّذ َه ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ال�ش ْي ِء‬‫ّ‬ ‫على‬ ‫ء‬‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ال�ش‬
‫ُ ّ ْ‬ ‫حمل‬ ‫‪:‬‬ ‫القيا�س‬
‫ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫د‬ ‫واالجتها‬ ‫القيا�س‬‫ِ‬ ‫م�ؤلفاته‬
‫أعم من‬ ‫ُ ّ‬ ‫�‬ ‫واالجتهاد‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫كام ِه ِل َو ْج ٍه ِم َ ّ َ‬
‫ب‬ ‫ال�ش‬ ‫ن‬ ‫�ض � ْأح ِ‬ ‫في َب ْع ِ‬
‫للكتب‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫اخت�صارات‬ ‫غلب على ابنِ َم ْنظورٍ في توالي ِف ِه ُ‬
‫عمل‬
‫وغي ِر ِه‪َ .‬ب ْي َن ال ِع ْل ِم‬‫يا�س ْ‬ ‫القيا�س‪ ،‬لأ ّن ُه يحتوي على ال ِق ِ‬ ‫ِ‬ ‫ابن َمنظورٍ‬ ‫ال�سابق ِة علي ِه‪ ،‬وفي هذا ُ‬
‫«وكان ُ‬
‫َ‬ ‫ابن َح َجر‪:‬‬ ‫يقول ُ‬
‫ال�ش ْي ِء على ما ُهو ب ِه على �سبيلِ‬ ‫اعتقاد ّ‬
‫ُ‬ ‫واليقين‪ ،‬العلم‪:‬‬ ‫َ‬ ‫وكان ال َي َم ُّل من‬ ‫الم َط ّول ِة‪.‬‬
‫َ‬ ‫أدب ُ‬‫تب ال ِ‬
‫ُم ْغرى باخت�صا ِر ُك ِ‬
‫ف�س بما ُعلم؛ ولهذا ال يجو ُز �أن‬ ‫�سكون ال ّن ِ‬
‫ُ‬ ‫الثقة‪ .‬واليقين‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫أدب‬ ‫أعرف في ُك ُت ِب ال ِ‬‫ال�صفدي �أي�ض ًا‪« :‬وال � ُ‬ ‫ذلك»‪ .‬وقال‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫إح�سا�س‪،‬‬ ‫راك وال‬ ‫هلل تعالى باليقين‪َ .‬ب ْي َن ال ْإد ِ‬ ‫يو�صف ا ُ‬‫َ‬ ‫�صر ُه»‪.‬‬ ‫َ�ش ْيئ ًا � ّإل وق ِد ْ‬
‫اخ َت َ‬
‫لم ُي ِح ّ�س ب ِه‪.‬‬ ‫ال�ش ْي َء و� ْإن ْ‬ ‫إن�سان ّ‬ ‫رك ال ُ‬ ‫راك‪ْ � :‬أن ُي ْد َ‬ ‫ال ْإد ُ‬ ‫ومن �أهم م�ص ّنفاته‪« :‬مختار الأغاني الكبير»‪ ،‬ويقع في ا ْثني‬
‫�ض‬ ‫الب ْع ِ‬ ‫كل ما َت ْ�ش ُع ُر ب ِه ْ‬
‫فقد � ْأح َ�س ْ�ست ُه‪َ .‬ب ْي َن َ‬ ‫�سا�س‪ُّ :‬‬‫وال ْإح ُ‬ ‫و«م ْخت�صر‬‫الحروف ُم ْخ َت�صراً‪ُ ،‬‬ ‫َع َ�ش َر ُجزءاً‪ ،‬وقد ر ّتب ُه على ُ‬
‫زء ال‬ ‫والج ُ‬ ‫ُ‬ ‫وي ْقت�ضي جمع ًا‪.‬‬ ‫�سم َ‬ ‫�ض َي ْن َق ُ‬ ‫والج ْز ِء‪َ ،‬‬
‫الب ْع ُ‬ ‫ُ‬ ‫الدهر» للثعالبي‪،‬‬ ‫و«م ْخت�صر َيتيمة ّ‬ ‫للح�صري‪ُ ،‬‬ ‫َز ْهر الآداب» ُ‬
‫ويقت�ضي ُك ّ ًل‪.‬‬ ‫ينق�سم َ‬ ‫ُ‬ ‫الجزيرة»‪« ،‬نثار‬ ‫و«لطائف ال ّذخيرة في َمحا�سن �أهل َ‬ ‫ُ‬

‫‪29‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�أدبيات‬

‫������ب‬
‫ال������ح ِّ‬
‫ُ‬
‫ف��اع��ج��ب��وا‬ ‫����ا�����س � َأل ْ‬
‫������ه لَ�������� ْو َع��������ةُ‬
‫���ر ال���� ّن ِ‬ ‫ي����ا َم��� ْع َ‬
‫�������ش َ‬
‫م����� ّم�����ا َج������نَ������ ْت ُ‬
‫واح ُة ِّ‬
‫ال�ش ْعر‬ ‫َ‬
‫ال���دج���ى‬‫������د ِر ُّ‬ ‫َ������م َي������ ْن������زِ لْ بِ������ َب ْ‬
‫لَ��������وال ُه ل ْ‬ ‫ت�صم‬ ‫الكرام ُ‬
‫بنت ال ُم ْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫� ُّأم‬
‫ُّ����ر ِب‬
‫ْ������وي ل����ل����ت ْ‬ ‫���������ن �أفْ�������� ِق ِ‬
‫��������ه ال������ ُع������ل ِّ‬ ‫ِم ْ‬
‫ّ�������ه‬
‫�����ن � ْأه�������������وا ُه لَ������� ْو �أن ُ‬ ‫الم ْعت�ص ِم بنِ ُ�صمادح (ولدت ‪1050‬‬ ‫بنت ُ‬ ‫الكرام ُ‬
‫ِ‬ ‫� ُّأم‬
‫�������س���ب���ي بِ����� َم ْ‬‫َح ْ‬
‫��������ه َق�����لْ�����ب�����ي‬ ‫َ‬
‫ف��������ارق��������ن��������ي ت��������ا َب�������� َع ُ‬ ‫والدها‬ ‫ُ‬ ‫أندل�سي ًة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كانت �أمير ًة و�شاعر ًة �‬ ‫ْ‬ ‫للميالد)‪،‬‬
‫ِ‬
‫الطائف‬ ‫ملك‬
‫عت�صم‪ُ ،‬‬ ‫الم ِ‬ ‫بن َم ْعن‪ُ ،‬‬ ‫محمد ُ‬ ‫ٌ‬ ‫�أبو َي ْحيى‬
‫� ّأم الكرام �شاعر ٌة رقيق ٌة بارع ُة ال َغ َزل َح�سن ُة ال ّتعبير‪،‬‬ ‫الم ّرية‪ ،‬في‬ ‫الم ّرية (تتوافق حالي ًا مع ُمحافظ ِة ُ‬ ‫في ُ‬
‫الأندل�س‪� -‬إ�سبانيا)‪.‬‬
‫�ستطيع‬
‫ُ‬ ‫فقد �أ ِث َر �أ ّنها كانت ت�صنع ال ّت َ‬
‫و�شيح‪ ،‬وال َي‬ ‫ف ّنانة؛ ْ‬
‫و�ص ْن ٍ‬ ‫َت ْنتمي �إلى ُ�ساللة بني ُ�صمادح‪ ،‬كان َل َد ْيها ثالث ُة‬
‫عة‪ ،‬لما‬ ‫�شاعر ذو ُق ْدر ِة‪ ،‬وف ّن ٌ‬
‫ان ذو َ�ص ْب ٍر َ‬ ‫ٌ‬ ‫ذلك � ّإل‬
‫الد ْو َل ِة‬
‫الواثق ع ُّز ّ‬ ‫ُ‬ ‫�شعراء‪:‬‬ ‫�أ�ش ّقاء‪ ،‬ولها �إخوة ثالث ٌة‬
‫و�ش ُح ِم ْن َن�سقٍ بعي ِن ِه ّ‬
‫يتكر ُر َب ْي َن �أ ْقفالٍ‬ ‫الم ّ‬
‫�ضع ل ُه ُ‬‫َي ْخ ُ‬ ‫ُ‬
‫و� ْأغ�صانٍ و� ْأدوارٍ و َت ْ�شطي ٍر ‪.‬‬ ‫الد ْو َل ِة الحاجِ ُب �أبو زكريا‬ ‫ورفيع َّ‬ ‫ُ‬ ‫عبداهلل‪.‬‬ ‫حمد ُ‬ ‫�أبو ُم ّ‬
‫تو ّفيت �سنة ‪ 1091‬للميالد‪ ،‬ولم تتجاوز الأربعين‪.‬‬ ‫المرية‬ ‫المعت�صم‪ ،‬ملك ُ‬ ‫ُ‬ ‫يحيى‪ ،‬و�أبو جعفر؛ و�أبوهم‬
‫�شاعر �أي�ض ًا من � ْأهلِ المئ ِة الخام�س ِة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫و� ْأعما ِلها‪،‬‬
‫دل�س � ْأن َي ْعهدوا بِبنا ِتهم‬ ‫لوك الأ ْن ِ‬ ‫وكانت عاد ُة ُم ِ‬ ‫ْ‬

‫المجتمعون‬ ‫�شجب‬ ‫«وقد‬


‫�أخطاء‬‫كثيراً ما نقر�أ هذه العبارة‬
‫هذيب‪ ،‬وقراء ِة‬ ‫َّ ِ‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫عليم‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫بال‬ ‫هن‬‫ّ ْ َ َّ‬ ‫ن‬ ‫د‬ ‫يتعه‬
‫وح ْفظ ِه ‪.‬‬
‫مات‬
‫ال�شعر ِ‬
‫لمع ّل‬‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ذموها»‪،‬‬ ‫أعمال ال َف ْو�ضى»؛ ويق�صدون «ا�ستنكروها �أو ّ‬ ‫� َ‬ ‫من‬‫أديب ابن ِت ِه ِلما ر� ُآه فيها ْ‬ ‫المعت�صم بت� ِ‬ ‫ُ‬ ‫ولذا ْاعتنى‬
‫«جدب المجتمعون‪ ،»...‬ل َأن‬ ‫وهي خط�أ؛ وال�صواب‬ ‫ميل‪،‬‬ ‫الج َ‬ ‫ال�ش ْع َر َ‬ ‫نظمت ّ‬‫ِ‬ ‫نتاج ذلك �أ ّنها‬ ‫َ‬ ‫وكان‬
‫َ‬ ‫ذكا ٍء‪،‬‬
‫َ‬
‫و�شجِ َب‪َ ،‬ي ْ�ش َج ُب َ�ش َجب ًا‪ ،‬فهو‬ ‫َ�ش َج َب‪َ ،‬ي ْ�ش ُج ُب‪�ُ ،‬ش ُجوب ًا‪َ ،‬‬ ‫ببراع ٍة ‪.‬‬
‫َ‬ ‫و�ش ِح‬ ‫الم ّ‬ ‫عقود ُ‬ ‫َ‬ ‫دت‬
‫ون�ض ْ‬ ‫ّ‬
‫اللُ‪َ ،‬ي ْ�ش ُج ُب ُه‬ ‫و�شجِ ٌب‪َ :‬حز َِن َ�أو َه َل َك‪َ .‬‬
‫و�ش َج َبه ّ‬ ‫�شاجِ ٌب َ‬ ‫بن مو�سى بنِ �سعيد في‬ ‫علي ُ‬ ‫قال الأديب �أبو الح�سن‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫َ�ش ْجب ًا �أَي �أَ ْه َل َكه؛ َي َت َع َّدى وال َي َت َع َّدى؛ يقال‪ :‬ما له‬ ‫ومن ِ�ش ْعرها‪:‬‬‫عر؛ ْ‬ ‫ال�ش َ‬‫كانت َت ْن ِظ ُم ّ‬ ‫ْ‬ ‫المغرب‪:‬‬
‫و�ش َج َبه �أَي�ض ًا َي ْ�ش ُج ُبه َ�ش ْجب ًا‪:‬‬
‫الل �أَي �أَ ْه َل َكه؛ َ‬
‫َ�ش َج َبه ّ ُ‬
‫ِن�سان‬
‫ـيب الإ َ‬ ‫الع َن ُت ُي ِ�ص ُ‬
‫وال�ش َج ُب َ‬
‫و�ش َج َبه َ�ش َغله‪َّ .‬‬ ‫َح َز َنه‪َ .‬‬
‫يء‬
‫ال�ش َ‬ ‫�ض‪� ،‬أَو ِقتال‪� .‬أما َج َد َب؛ فهي َج َد َب َّ‬ ‫من َم َر ٍ‬
‫وكل عا ِئ ٍب‪ ،‬فهو جا ِد ٌب؛‬ ‫عابه و َذ َّمه‪ُّ ،‬‬‫َي ْج ِدب ُه َج ْدب ًا‪َ :‬‬
‫الرمة‪:‬‬‫قال ذو ّ‬
‫���ط���قٍ‬ ‫�����د �أَ ِ‬
‫�����س����ي����لٍ ‪ ،‬و َم��� ْن ِ‬ ‫َ�����ك ِم ْ‬
‫�����ن خَ ٍّ‬ ‫فَ���ي���ا ل َ‬
‫������ن خَ ����لْ����قٍ تَ��� َع���لَّ���لَ ج���ا ِد ُب���ه‬
‫�����ي�����م‪ ،‬و ِم ْ‬
‫ٍ‬ ‫َر ِخ‬
‫يجد فيه َع ْيب ًا يعيب ُه ب ِه‪ ،‬فيتع َّل ُل بالباطلِ ‪.‬‬ ‫يقول‪ :‬ال ُ‬
‫والجا ِد ُب‪ :‬الكا ِذ ُب‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪30‬‬


‫يحكى �أن‪..‬‬

‫رهان خا�سر‬
‫ق��ل��ي��ل م���ا �أت����ي����تَ ب���ه و�إن����ي‬ ‫قال معن‪�« :‬أذكره وال �أن�ساه والحمد‬
‫لأطم�ع من�ك بالم�ال الكثي�رِ‬ ‫هلل»‪ ،‬فقال الأعرابي‪:‬‬
‫ُ‬
‫المل�ك عف�و ًا‬ ‫فث�ن فق�د �أت�اك‬ ‫ِّ‬ ‫ف�س�بحان ال�ذي �أعط�اك مل�ك ًا‬ ‫عبدالرزاق �إ�سماعيل‬
‫ب�ل�ا ر� ٍأي وال ع���ق���لٍ م��ن��ي��رِ‬ ‫وعلمك الجلو�س على ال�سريرِ‬
‫فقال معن‪�« :‬أع��ط��وه �أل��ف� ًا ثانية‬ ‫فقال معن‪�« :‬سبحانه وتعالى»‪،‬‬ ‫ا�شتهر الأمير معن بن زائدة بكرمه‬
‫ليكون عنا را�ضي ًا»‬ ‫فقال الأعرابي‪:‬‬ ‫وحلمه و�صفحه عن �أخطاء الآخرين‬
‫فتقدم الأعرابي �إليه وقال‪:‬‬ ‫مادم�ت حي� ًا‬
‫ُ‬ ‫فل�س�ت م�س�لّم ًا‬ ‫وزالتهم‪ ،‬وحين واله الخليفة العبا�سي‬
‫�س��ألت اهلل �أن يبقي�ك ده�ر ًا‬ ‫ع��ل��ى م��ع��نٍ بت�سليم الأم��ي��رِ‬ ‫�أبوجعفر المن�صور على اليمن‪ ،‬تذاكر‬
‫فما لك في البرية من نظيرِ‬ ‫قال معن‪�« :‬إن �سلمت رددنا عليك‬ ‫جماعة �أخبار معن و�أثنوا عليه كثيراً‬
‫فمنك الجود والإف�ضال حق ًا‬ ‫ال�سالم‪ ،‬و�إن تركت فال �ضير عليك»‪،‬‬ ‫لما ات�صف ب��ه م��ن ج��ود وح��ل��م قل‬
‫وفي�ض يديك كالبحر الغزيرِ‬ ‫فقال الأعرابي‪:‬‬ ‫نظيره‪ ،‬وكان من بينهم �أعرابي �أخذ‬
‫ف��ق��ال م��ع��ن‪�« :‬أع��ط��ي��ن��اه لهجونا‬ ‫���س���أرح��ل ع��ن ب�لاد �أن���ت فيها‬ ‫على نف�سه �أن يغ�ضبه‪ ،‬ف�أنكروا عليه‬
‫�ألفين‪� ،‬أعطوه لمديحنا �أربعة»‪ ،‬فقال‬ ‫ول�و ج�ار الزم�ان عل�ى الفقي�رِ‬ ‫ذلك‪ ،‬ووعدوه ب�أن يعطوه مئة بعير �إذا‬
‫الأعرابي‪« :‬ب�أبي �أيها الأمير ونف�سي‬ ‫قال معن‪�« :‬إن جاورتنا فمرحب ًا‬ ‫نجح في �إغ�ضاب معن‪.‬‬
‫ف�أنت ن�سيج وحدك في الحلم‪ ،‬ونادرة‬ ‫بالإقامة‪ ،‬و�إن جاوزتنا فم�صحوب ًا‬ ‫عمد الأع��راب��ي �إل��ى بعير ف�سلخه‬
‫كنت في �صفاتك‬ ‫دهرك في الجود‪ ،‬وقد ُ‬ ‫بال�سالمة»‪ ،‬فقال الأعرابي‪:‬‬ ‫وارت ��دى جلده بعد �أن جعل ظاهره‬
‫بين م�صدق ومكذب‪ ،‬وما دفعني �إلى‬ ‫ناق�صة* بمالٍ‬
‫ٍ‬ ‫فجد لي يا ابن‬
‫ُ‬ ‫باطن ًا وباطنه ظ��اه��راً‪ ،‬ودخ��ل على‬
‫ما فعلت �إال مئة بعير جعلت لي على‬ ‫عزمت على الم�سيرِ‬ ‫ُ‬ ‫ف�إني قد‬ ‫معن ولم ي�سلم عليه‪ ،‬فلم يعره معن‬
‫�إغ�ضابك»‪ ،‬فقال له الأمير‪« :‬ال تثريب‬ ‫فقال معن‪�« :‬أع��ط��وه �أل��ف دينار‬ ‫انتباه ًا‪ ،‬ف�أن�ش�أ الأعرابي يقول‪:‬‬
‫عليك»‪ ،‬و�أمر ب�أن يعطوا الأعرابي (‪)٢٠٠‬‬ ‫تخفف عنه م�شاق الأ�سفار»‪ ،‬ف�أخذها‬ ‫�أتذك�ر �إذ لحاف�ك جل�د ٍ‬
‫�ش�اة‬
‫بعير‪ )١٠٠( ،‬للرهان و(‪ )١٠٠‬له‪.‬‬ ‫الأعرابي وقال‪:‬‬ ‫و�إذ نعلاك م�ن جل�د البعي�رِ‬

‫ٍ‬
‫ناق�صة ‪� :‬أم الأمير ا�سمها زائدة‬ ‫*‬

‫‪31‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫ق�صة‬

‫ق�ص�ص ق�صيرة جداً‬


‫�صالح عبد ال�ستار ال�شهاوي‬

‫حلم م�سافر‬ ‫قريب ًا‬


‫�سافر الحلم وتركني بعد �أن ت�سربت يدها الي�سرى‪ ،‬فر�أيت �إ�صبعها البن�صر يلفه‬ ‫قريب ًا جداً �س�أعاود الخروج من كاميرا‬
‫هاتفي المحمول‪ ،‬و�س�أدعو قلبي �أن ينب�ض بقايا نور �أزاحت عتمة ما بيني وبين راحة خاتم ذهبي تلب�سه كل من لها رفيق درب‪.‬‬
‫في مرة �أخرى‪.‬‬‫ّ‬

‫انتظار‬
‫كجرو جريح مذعور في غابة �أنتظر‬
‫�صياداً متجو ًال‪� ،‬أو �أن تثير رائحة دمائي‬
‫ذئب ًا جائع ًا‪.‬‬

‫رغم وجودك‬
‫رغ ��م وج� ��ودك م��ع��ي‪��� ،‬س ��أظ��ل وح��ي��داً‬
‫يرافقني �أل��م يق�ضم ما تبقى من �أيامي‪،‬‬
‫غيب عني ظلي‪ ،‬لذا �سيظل‬ ‫فوجودك بجانبي ّ‬
‫دعائي بيني وبين نف�سي‪ :‬اللهم �أدم عدم‬
‫القبول بيننا‪.‬‬

‫بوابات ومحطات‬
‫من داخل بوابات الغياب‪� ...‬سافر من‬
‫�سافر وم��ات من م��ات‪ ،‬ول��م يبق لوحدتي‬
‫�سوى تقاطر الذكريات في محطات التقاط‬
‫الأنفا�س‪.‬‬

‫حكايات‬
‫ك��م م��ن الحكايات كنتها‪ ،‬وك��م من‬
‫الحكايات لم تزهر في خريف وقتي‪ ،‬وكم‬
‫من الأوج ��اع تل�سع جلدي بعد �أن �سكن‬
‫�شا�شة حا�سوبي الفراغ‪ ،‬ودفن هاتفي في‬
‫�سلة النفايات بعد �أن كان ي�سكن دوم ًا‬
‫راحة يدي‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪32‬‬


‫قا�ص وناقد‬

‫نقد‬

‫فنيات المفارقة في ق�ص�ص‬

‫�صالح عبد ال�ستار ال�شهاوي‬ ‫عدنان كزارة‬

‫الذاتية الك�شف عن حالتين متناق�ضتين‪:‬‬ ‫من جديد‪ ،‬ف�أي مفارقة رهيبة هذه عندما‬ ‫الق�صة الق�صيرة ج ��داً جن�س �أدب��ي‬
‫مزهرة بوجود الحا�سوب والهاتف الخلوي‬ ‫تتحول التقنية المو�ضوعة �أ�ص ًال في خدمة‬ ‫�شديد الخ�صو�صية‪ ،‬بل �شديد الح�سا�سية‬
‫بين يدي الراوي‪ ،‬وذابلة بفقدهما؛ ليدخل‬ ‫الإن�سان �إلى تهديد لحياته ؟! وفي ق�صة‬ ‫�إذ يخت�صر حالة �إن�سانية �أو موقف ًا نف�سي ًا‬
‫القارئ في دوامة الت�سا�ؤل‪� :‬أكان التخلي‬ ‫(جائزة الن�سيان) تت�سلل المفارقة لتميط‬ ‫على درج��ة عالية من التعقيد في عبارة‬
‫عنهم ًا وهما ع�صبا الحياة المعا�صرة‪،‬‬ ‫اللثام عن كذبة ينفي المت�سابق‪/‬الراوي‬ ‫�شديدة التكثيف‪ ،‬عميقة ال��دالل��ة‪ ،‬تحترم‬
‫بعامل خارجي �أم عامل داخلي يعك�س‬ ‫التورط فيها؛ فذاكرته ال تحتفظ بذكرى‬ ‫ذكاء المتلقي في ا�ستنباط المغزى دون‬
‫�أزم��ة ع�صرية‪ ،‬هي فقدان التوا�صل الحي‬ ‫م��ا لحبيب �أو �صديق حتى يملك �إرادة‬ ‫�إه ��دار القيمة الجمالية‪ .‬و�إذا ك��ان ثمة‬
‫بين الب�شر لم�صلحة التوا�صل االفترا�ضي‪.‬‬ ‫الن�سيان‪ ،‬ف�ض ًال عن الم�شاركة في جائزته‪،‬‬ ‫معايير نقدية لهذا الجن�س الأدب��ي ف�إنها‬
‫وفي ق�صتنا الأخيرة (حلم م�سافر) تكمن‬ ‫ف�أي ب�ؤ�س �إن�ساني هذا؟ وفي ق�صة (رغم‬ ‫�شديدة التباين فيما بين نقاده؛ لأن كل‬
‫المفارقة في التناق�ض بين النور والعتمة‪،‬‬ ‫وج��ودك) يعاني ال��راوي �ألم الوحدة برغم‬ ‫ق�صة من ق�ص�صه الناجحة تقدم �أوراق‬
‫بين الحلم والواقع‪� ،‬إذ يعبر الراوي عن تبدد‬ ‫وجود حبيبته �إلى جانبه‪ ،‬وي�شف بوحه عن‬ ‫اعتمادها كمعايير خا�صة مقنعة بقدر‬
‫حلمه �أو �سفره حين اكت�شف خاتم الخطبة‬ ‫مفارقة‪ ،‬يمليها قدره‪ ،‬بين وجود حبيبته‬ ‫ما هي مربكة العتمادها كمعايير عامة‪.‬‬
‫في بن�صر فتاته‪ ،‬ف�أنار بعتمته ب�صيرته‬ ‫�إل��ى جانبه و�شعوره بالوحدة‪ ،‬فال يملك‬ ‫غير �أن معياراً �شديد الأهمية‪ ،‬ال على نطاق‬
‫�أو حقيقة �أن فتاته لم تكن مخل�صة له‪.‬‬ ‫�سوى التو�سل �إلى اهلل �أن يديم عدم القبول‬ ‫الق�صة الق�صيرة جداً فح�سب‪ ،‬بل على نطاق‬
‫�إننا لنجد �أنف�سنا �أمام ن�صو�ص تراوحت‬ ‫بينهما‪ ،‬فهل هو �صادق في دعائه؟ وفي‬ ‫ال�سرد عامة‪ ،‬يحظى ب�إجماع النقاد فال‬
‫بين ق�ص�ص ق�صيرة جداً‪ ،‬ووم�ضات فنية‬ ‫ق�صة (ب��واب��ات ومحطات) يفطن القارئ‬ ‫ي�ستغنى عن ح�ضوره القوي في الق�صة‬
‫اعتمدت على المفارقة كما �أ�سلفنا كعن�صر‬ ‫�إلى �أن البوابات والمحطات رموز لمراحل‬ ‫الق�صيرة جداً لتحظى بم�صداقيتها كجن�س‬
‫فني �سائد‪ ،‬وعك�ست في م�ضامينها حاالت‬ ‫في حياة الراوي عا�ش فيها مع �أحبة‪ ،‬ثم‬ ‫�أدبي‪� ،‬إنه المفارقة التي تعني باخت�صار‬
‫ي�أ�س مريرة‪ ،‬حيث الألم يولد الإبداع كما‬ ‫غيبهم ال�سفر �أو الموت‪ ،‬وتركوه لوحدته‬ ‫قول المرء نقي�ض ما يعنيه‪ ،‬وهي تقنية‬
‫ذه��ب �إل��ى ذل��ك الرومان�سيون‪ ،‬وتميزت‬ ‫تتقاطر عليها الذكريات لتعينه على التقاط‬ ‫تحرر ال�سرد من المبا�شرة وتهدف �إلى‬
‫لغتها بالتكثيف ال�شديد والإيحاء الثري‬ ‫�أنفا�سه‪ .‬والمفارقة هنا تتجلى في الألفاظ‬ ‫الإثارة والت�شويق �أو مخالفة �أفق التوقع‪،‬‬
‫ال��دالل��ة‪ ،‬و�أب��ان��ت عبر ال��ف��ن ع��ن �أزم ��ات‬ ‫والموقف مع ًا‪ .‬فالبوابات مداخل مثلما هي‬ ‫�أو الإدها�ش بوا�سطة ثنائية الت�ضاد التي‬
‫الإن�سان المعا�صر في معاناته للوحدة‪،‬‬ ‫مخارج‪ ،‬والمحطات ا�ستراحات مثلما هي‬ ‫تحكم مواقف الحياة بجميع مظاهرها‬
‫وفقدانه بو�صلة التوا�صل مع محيطه �أكان‬ ‫منطلقات للرحيل‪ .‬فالمحطات التي �شهدت‬ ‫كافة؛ فهل كانت المفارقة تنتظم ق�ص�ص‬
‫ذلك ب�سبب هيمنة التقنيات على حياته‪،‬‬ ‫رحيل الأحبة بين م�سافر وميت‪ ،‬تقاطرت‬ ‫�صالح عبدال�ستار ال�شهاوي التي بين‬
‫�أم ب�سبب تهتك العالقات الإن�سانية في‬ ‫فيها ذكرياته معهم لت�سعف وحدته وتغنيه‬ ‫�أي��دي��ن��ا؟ �إن��ه��ا ف��ي ق�صة وه��ي ف��ي ق�صة‬
‫عالم مغرق في المادية‪ ،‬ممعن في تكري�س‬ ‫بح�ضورهم الروحي عن غيابهم المادي‪.‬‬ ‫(قريب ًا) قيد ب�سال�سل الهاتف المحمول‬
‫الوحدة كمالذ‪ ...‬و�أي مالذ بائ�س هذا؟!‬ ‫وف��ي ق�صة (حكايات) تتولى المناجاة‬ ‫يحول دون عودة قلب �صاحبه �إلى النب�ض‬

‫‪33‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫ق�صة ق�صيرة‬

‫�ضجيج ال�صمت‬
‫و�أن الطبيب عمل مجهوداً �شاق ًا في تلك‬ ‫وجودها كان وهم ًا و�أنك ن�سجت من خيالك‬
‫الرحلة‪ .‬بعد �أن التقط الطبيب �أنفا�سه بكل‬ ‫�شخ�صية لتتعاي�ش معها)‪� .‬أدام الطبيب‬
‫ف��رح مم�شوق ال�صدر وم��د ي��ده ي�صافح‬ ‫النظر �إليه م�ستفهم ًا عن عدم رده‪� ،‬إلى �أن‬ ‫�سارة عدلي‬
‫�أحمد في ح��رارة ويخرج بريق من عينيه‬ ‫انتبه �إليه �أحمد ورد عليه بالإيجاب بهز‬
‫المع وهو مازال ي�صافحني‪� ،‬س�ألني‪( :‬ماذا‬ ‫ر�أ�سه‪ .‬مرت جل�سة تلو الأخ��رى و�أن��ا هنا‬ ‫نادل رث الثياب‪ ،‬ذو ب�شرة قمحاوية‬
‫�ستفعل الآن؟)‪ .‬انتابني �شعور بالال�شيء‪،‬‬ ‫�أعد خطوط مالمحها من جديد و�أبرز �أدق‬ ‫اللون‪ ،‬وعالمات تتخلل تفا�صيل وجهه‬
‫و�أنا �أجيبه‪( :‬ال �أعرف‪ ،‬لكن �أعتقد �أني علي‬ ‫تفا�صيلها على ج��دران الوهم كما وعدت‬ ‫لتحدد هويته‪ ،‬وال تفارقه �ضحكات �أو‬
‫�أن �أذهب �إليها الآن في مكان تجديد اللقاء‬ ‫الطبيب‪� ،‬إلى �أن و�صلنا �إلى الجل�سة الأخيرة‬ ‫نكات اع��ت��اد �أن يتبادلها م��ع الزبائن‪.‬‬
‫نف�سه‪ ،‬ربما لأخبرها ب�أنها �صارت وهم ًا‪،‬‬ ‫نعود منها بعد ما �ألقينا كل ما يتعلق بها‬ ‫تمتزج �أ�صوات تراق�ص الأكواب الزجاجية‬
‫فقد اعتدت �أن �أخبرها بكل �شيء)‪ .‬لم ينب�س‬ ‫في مخلفات الوهم‪ ،‬ال �أتذكر كم كان عدد‬ ‫ف��ي قعقعة لتلتحم م��ع رن��ي��ن المالعق‬
‫الطبيب ببنت �شفة وغرق في ذهوله‪.‬‬ ‫تلك الجل�سات‪ ،‬كل ما �أتذكره تفا�صيلها‪،‬‬ ‫المعدنية و�سحب الكرا�سي الخ�شبية لتعلو‬
‫به �إلى �سيمفونية لم تحدد م�سارها بعد‪..‬‬
‫ف��ي ال��زاوي��ة الداخلية م��ن يمين المقهى‬
‫يجل�س �أحمد بين �شرود وترقب وتفر�س في‬
‫ق��راءة الوجوه من حوله‪ ،‬على كل طاولة‬
‫ت�سرد الحكايات التي تتناقلها الأجيال‬
‫على الطاولة نف�سها‪ ،‬منهم من يروي عن‬
‫�أحالمه التي �أبت �أن تقف في �صفوف‬
‫االنتظار يوم ًا و�أ���ص��رت على البقاء‪،‬‬
‫وطاولة ت��روى عليها خيبات انتظار‬
‫وط��ن م��ا‪ ،‬وحقائب �سفر ت��ودع عبق‬
‫الرائحة التي في المكان‪ ،‬ووج��وه‬
‫ت��خ��زن ف��ي ال��ذاك��رة‪ ،‬وه��ك��ذا دام��ت‬
‫الحكايات بيننا‪ ..‬عند مفارق الطرق‬
‫يقف �أحمد منت�صب ًا زائغ العينين‪ ،‬ربما‬
‫هو �ضل م�ساره وم��ا ع��اد يفرق بين‬
‫ما كان وما يجب �أن يكون‪� ،‬إل��ى �أن‬
‫تجمدت مالمحه‪ ،‬وت�ساقطت �أوراق��ه‬
‫واحدة تلو الأخرى‪ .‬مر يوم �أو �شهور‬
‫ما ع��اد يفرق بين ما ح��دث وما‬
‫يجب �أن يكون‪� ،‬أيقن وقتها �أنه ال‬
‫مفر من تحديد موعد مع الطبيب‬
‫النف�سي‪ ،‬وف��ي خطوات ثابتة لم يحرك‬
‫فيها جفن‪ ،‬و�صل �إل��ى ال�شازلونج‪ ،‬ومر‬
‫التعارف المبدئي في �سالم‪ .‬وكانت �أولى‬
‫كلمات الطبيب له‪�( :‬سوف نفتر�ض مع ًا �أن‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪34‬‬


‫�شعر مترجم‬

‫في الم�ست�شفى‬
‫طفل يحت�ضن دميته المت�سخة ويهدهدها‬
‫في ممر الم�ست�شفى‬
‫�أتيتَ لي ب�أذرع ممدودة‬
‫بعيد ًا عن والدتك‬
‫ما �أطيب نظرتك المر�صعة بالنجوم‬ ‫ترجمة‪ :‬د‪� .‬شهاب غانم‬
‫�أهو �أنا من تدعو بلطف با�سم «عمي»؟‬ ‫�شعر‪� :‬أو‪� .‬إن‪ .‬في‪ .‬كُ ُرب*‬
‫ابت�سامة جميلة تقترب!‬
‫ال تلتفت لتو�سالت والدتك‪ ،‬وتثبت نظرتك علي!‬
‫يا للنقاء! �أي �إن�سان �سيو ُّد �أن يزرع قبلة عليه‬
‫هل �أنت حقيقة �أم وهم؟‬
‫دعني �ألم�س خدك‬
‫ك�أنه بتلة زهرة مقد�سة‪.‬‬
‫وبينما �أ�ستمع في ده�شة �إلى البهجة التي ال ت�صدق في كلماتك ن�صف الم�شكّلة‪،‬‬
‫ت�أتي والدتك‪ ،‬تم�سك بك وتختفيان خلف الباب‪.‬‬
‫وكلما �أم�شي في هذا الممر يومي ًا‬
‫عيناي تبحثان عنك‬
‫و�أذناي تتلهفان لنطقك بكلمة «عمي»‪.‬‬
‫�أم�س من خالل ثقب‪ ..‬ر�أيتك نائماً‪ ،‬ودميتك التي ال تدرك �شيئاً‪ ،‬كانت تنام بجانبك‪.‬‬
‫بينما جل�ست والدتك الباكية بجانبك على ال�سرير‪.‬‬
‫فهمت كل �شيء‪ ،‬على الرغم من �أنني لم �أ�س�أل �أحداً‪.‬‬
‫وعندما و�ضعوا الحق ًا غطاء �أبي�ض‬
‫على ج�سمك البارد كما لو �أنه �آنية ذهبية‬
‫وقفت بجانبك‪ ..‬ك�أنني بكاء �صامت يمتد عبر عدة والدات‪.‬‬
‫اللحظات المري�ضة في حياتي تطول وتطول‪ ..‬من خالل‬
‫هذا الممر‪.‬‬
‫يحتل بائ�س مت�أوه �آخر ال�سرير الذي �أخليت‪.‬‬
‫ولكنك مازلت على �سريرٍ في ذاكرتي‪.‬‬

‫*�أو‪� .‬إن‪ .‬في‪ .‬كُ ُرب (‪2016 -1931‬م)‬


‫أهم �شعراء لغة الماليالم‪ .‬ح�صل‬ ‫من � ّ‬
‫على جائزة جنانبث عام (‪2007‬م)‪،‬‬
‫وهي �أرفع جائزة �أدبية في الهند‪.‬‬
‫ح�صل على الدكتوراه الفخرية من‬
‫جامعة كيراال في العا�صمة تريفاندرم‪،‬‬
‫وعلى (‪ )14‬جائزة �شعرية مرموقة‬
‫من الهند والعالم‪ .‬ن�شر خالل حياته‬
‫(‪ )21‬مجموعة �شعرية و(‪ )7‬كتب‬
‫نثرية‪ ،‬و�ألّف نحو �ألف �أغنية ظهرت‬
‫في (‪ )232‬فيلم ًا �سينمائ ّياً‪.‬‬

‫‪35‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫عوالم وحكايات‬
‫عبدالفتاح �صبري‪..‬الخفية‬
‫فرج مجاهد عبد الوهاب‬

‫الرجل معروف ًا لكل �أهل القرية‪ ،‬الرجل الذي‬ ‫كثيراً ما يلعب الخيال في نف�س اليافع دوراً‬
‫هاجر وع��اد ب�أمر ال�شرطة في القاهرة التي‬ ‫في تحري�ض ذاكرته‪ ،‬و�إحياء نب�ض ذكورته‪،‬‬
‫�أعيتها حيله وبراعته في الن�شل وال�سرقة‪ ،‬ما‬ ‫في�سترجع ظالل خياالت‪ ،‬غالب ًا ما تكون قديمة‬
‫�أ�صبح خطراً على �أمن القاهرة‪� ،‬صادفه الراوي‬ ‫وبعيدة‪ ،‬تتوارد في الذاكرة بعد �أن �شب واكتملت‬
‫وي�سهر معه في �صومعته و�أعلمه �أن المدينة‬ ‫رجولته‪ ،‬وتحاول مناو�شته من �أجل ا�ستعادتها‬
‫الوا�سعة ت�ضيق بالبع�ض حين ال يكون هناك‬ ‫من الذاكرة‪ ،‬من خالل مجتمع ريفي اليزال على‬
‫تعرف �إل��ى ن�شال محترف وعلى‬ ‫م��ورد رزق‪َّ ،‬‬ ‫طبيعته التي لم ت�شوهها ما �أفرزته الح�ضارة‬
‫يديه تلقى الدرو�س النظرية في عملية الن�شل‪،‬‬ ‫الجديدة‪ ،‬فين�ضح الريف حكاياته المختلفة‪،‬‬
‫ومعه بد�أت الدرو�س العملية حتى �أتقنها تمام ًا‪،‬‬ ‫والم�س)‬
‫ّ‬ ‫ومروياته المتنوعة‪ ،‬التى يكون (الجن‪،‬‬
‫وفي القرية تعلم كيف ي�صنع الناي‪ ،‬وكيف‬ ‫�أحد مرتكزات تلك الحكايات والمرويات التي‬
‫يعزف عليه ويروي له ق�صة حياته‪� ،‬أما ال�سبب‬ ‫منها ما هو حقيقي‪ ،‬ومنها ما هو خيالي‪،‬‬
‫ي�ستعيد القا�ص‬ ‫في طرده من القاهرة �أنه بينما كان في حي‬ ‫�إال �أن من �أهم ما يجمعها هو ال�سرد الحكائي‬
‫ف�ضاء وذاكرة‬ ‫لا مثل �أه��ل اليابان‬ ‫الح�سين وجد �أمامه رج� ً‬
‫ْ‬ ‫الذي يولد الحكاية التي ال يمكن �إال �أن تكون‬
‫وعلى ر�أ�سه طاقية غريبة‪ ،‬احتك به ون�شله‪ ،‬وجد‬ ‫موجودة ب�شكل ما في �أي مكان �أو تجمع ريفي‬
‫طفولته في مجتمع‬
‫ملونة ّد�سها‬
‫في يده نقوداً غير م�صرية‪ ،‬و�أوراق ًا ّ‬ ‫�أو مدني‪.‬‬
‫ريفي لم يزيف‬ ‫في جيبه وغادر �إلى �شبرا في منت�صف الليل‬ ‫من هذا الف�ضاء‪ ،‬ي�ستعيد القا�ص عبدالفتاح‬
‫داهمته ال�شرطة‪ ،‬ف ّت�شوه فعثروا على الأوراق‬ ‫المن�سية‪ ،‬م�ؤكداً‬
‫ّ‬ ‫�صبري عوالم ق�ص�ص طفولته‬
‫المالية و�سجن عام ًا ثم �أبعدوه عن القاهرة‪.‬‬ ‫�أن (هذه الق�ص�ص لي�ست ق�ص�ص ًا حقيقية تمام ًا‪،‬‬
‫�أما المفاج�أة‪ ،‬فكان الرجل الذي �سرقه هو‬ ‫ولي�ست خيالية تمام ًا‪ ،‬وال ال�شخ�صيات‪ ،‬حتى‬
‫(�سوكارنو) الرئي�س الإندوني�سي الذي كان في‬ ‫ولو ت�شابهت الأ�سماء والأماكن مع مثيلها في‬
‫زيارة لم�صر‪.‬‬ ‫عالم الواقع)‪.‬‬
‫وف��ي ق�صة (ال��خ��ائ��ن) ق�صة طريفة عن‬ ‫ومن هذه المرجعيات التذكرية‪ ،‬ي�ستذكر‬
‫الرجل الذي اكت�شف �أنه جا�سو�س خائن لبلده‪،‬‬ ‫(القرينين)‬
‫ْ‬ ‫ثالث ع�شرة ق�صة �أهداها �إلى قريته‬
‫وعند تفتي�شه عثروا على كاميرا غريبة ال�شكل‬ ‫والمرمية في وداعة‬
‫ّ‬ ‫ال�ضاربة في عمق التاريخ‪،‬‬
‫وعلى �أوراق وخرائط‪ِ ،‬قيد �إلى مركز ال�شرطة‪،‬‬ ‫وهدوء في ح�ضن النيل‪.‬‬
‫ولم يعد �أحد يعرف ماذا حدث له‪ ،‬فهل ا�ستطاع‬ ‫في الق�صة الأولى (ما�سح الأحذية‪ ..‬عازف‬
‫�أن يعود �إلى غزة؟ هل تزوج و�أ�س�س عائلة؟ هل‬ ‫الناي)‪ ،‬عودة �إلى الفترة البعيدة‪ ،‬حيث كان‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪36‬‬


‫ف�ضاءات‬

‫الأ�شجار ب��ؤرة من ظالم دام�س ت�صبح واحة‬ ‫مات؟ انقطعت الأخبار حتى وقتنا هذا‪.‬‬
‫خ�صبة ال�ستجالب الأوه��ام والمخاوف‪ ،‬في‬ ‫وفي ق�صة (ال�شيخ بيومي الملط)‪� ،‬إ�شارة‬
‫�إحدى المرات ذهب بر�سالة �إلى �إحدى القرى‬ ‫�إلى المجتمع الريفي‪ ،‬الذي ي�شير �إلى قوى خفية‬
‫المجاورة‪ ،‬وفي العودة وعند زريبة �سالمة التي‬ ‫�أو مجهولة �أو خارجة على الم�ألوف‪ ،‬وهناك‬
‫تعج في الليل بالجان‪ ،‬كما تقول الق�ص�ص‪ ،‬بد�أ‬ ‫من يقول‪ :‬الجن ال��ذي يلب�س �إن�سان ًا لأ�سباب‬
‫الهلع يتلب�سه وفج�أة ي�سمع من يناديه با�سمه‪،‬‬ ‫تعر�ض‬ ‫تعود �إلى الجن‪� ،‬أو لأن هذا الإن�سان ّ‬
‫يعامله وك�أنه �سالمة �صاحب الزريبة‪ ،‬يراه‬ ‫�إلى تعنيف خارج عن الم�ألوف‪� ،‬أما ذلك ال�شيخ‬
‫يقترب منه ر�أى نف�سه في ح�ضن رجل كبير‬ ‫فكان ال يعمل وال ندري من �أين ي�أكل‪ ،‬يعي�ش‬
‫مبهم‪ ،‬الأهم هو عدم قدرتي على النطق قال لي‪:‬‬ ‫في دار �أبيه ال��ذي رحل منذ �سنوات وزوجة‬
‫الق�ص�ص لي�ست‬ ‫�أنا كنت اليوم مري�ض ًا وتعب ًا لم �أ�ستطع مغادرة‬ ‫�أبيه تعي�ش في نف�س الدار‪ ،‬يحمل على كتفيه‬
‫حقيقية تمام ًا‬ ‫الحظيرة‪ ...‬الظالم الدام�س لم يمنع من �أن يرى‬ ‫ُخ��رج� ًا وي�سير في الطرقات‪ ،‬وف��ج��أة ترتفع‬
‫ولي�ست خيالية بحتة‬ ‫قدميه اللتين ت�شبهان �أرجل الماعز و�شعرهما‬ ‫عقيرته بال�سب وال�شتم وهو ال يملك �سوى �سب‬
‫طويل وكثيف‪ ،‬رفع ر�أ�سه في عينه فر�أى مرج ًال‬ ‫و�شتم عائلة العربي �إح��دى عائالت القرية‬
‫من نار يرميه ب�شظايا من نيران‪ ،‬فيهرول طائراً‬ ‫ب�أقذع ال�شتائم‪ ،‬وال �أحد يدرك لماذا هذا ال�شيخ‬
‫غير مدرك لما حوله و�أمامه وخلفه‪ ،‬حتى و�صل‬ ‫يتعر�ض له الأطفال بذكر هذه العائلة‪ ،‬الرجل‬
‫�إلى باب منزله غائب ًا عن الوعي‪ ..‬ومن �ساعتها‬ ‫كان حام ًال لكتاب اهلل‪ ،‬يمر على بع�ض البيوت‬
‫انقطع عن ال�سير لي ًال وحده‪.‬‬ ‫التي تعاقدت معه على تالوة القر�آن �صباح ًا‬
‫ثالث ق�ص�ص ق�صيرة من المجموعة دخلت‬ ‫وم�ساء‪� ،‬أحيان ًا يخرج عن التالوة وي�صرخ‬ ‫ً‬
‫ق�ص مرجعي‬ ‫في ف�ضاء الم�س والجن‪ ،‬من خالل ّ‬ ‫�شاتم ًا عائلة العربي‪ ،‬ويهرف ببع�ض الكلمات‬
‫يعنى ب�سرد ما يمكن �أن يكون وقع فع ًال‪ ،‬ولكن‬ ‫التي ال يعرف �أحد معناها مثل (في�ش ‪ ..‬في�ش ‪..‬‬
‫في مرجعية ال�سرد التخييلي الذي يقوم على‬ ‫في�ش)‪� ،‬أو (بري‪ ،‬بري‪ ،‬بري)‪� ،‬أو يتكلم مع الذين‬
‫ال�سرد التخييلي من حيث الراوي والمروي له‪.‬‬ ‫ال نراهم‪ ،‬زوج��ة �أبيه تحملته كثيراً‪ ،‬ويقال‬
‫ولما كان الراوي في الق�ص المرجعي هو‬ ‫�إنها عملت له عم ًال ت�سبب في ارتكابه �أعمال‬
‫الم�ؤلف نف�سه‪ ،‬فهو ملتزم ب�سرد ما وقع في‬ ‫الجنون‪� ،‬إ�ضافة �إلى حكايات �أخرى مختلفة‪.‬‬
‫(زمكانيتها) المحددة‪.‬‬ ‫وعندما مات كانت جنازته كبيرة‪ ،‬فذهبوا‬
‫يبدو في جل‬
‫وفي هذا الف�ضاء نجح الم�ؤلف عبدالفتاح‬ ‫به باتجاه المقابر‪ ،‬في �آخر حدود القرية‪� ،‬إال‬
‫الق�ص�ص الراوي‬ ‫�صبري في تحريك ذاته الإبداعية كراوٍ �صانع‬ ‫�أنه رف�ض التحرك �إال من �شارع داير الناحية‬
‫الم�ؤلف الملتزم‬ ‫ل�ل�أح��داث‪ ،‬موظف ًا كثيراً من �أ�ساليب ال�سرد‬ ‫عك�س المقابر‪ ،‬والغريب �أن الجنازة توقفت عند‬
‫ب�سرد ما وقع في‬ ‫مد‬
‫المعهودة في الق�ص�ص الإن�ساني‪ ،‬وهذا ما ّ‬ ‫بيت عميد عائلة العربي‪ ،‬ده�ش النا�س‪ ،‬ووري‬
‫الزمكان‬ ‫الق�ص�ص بتلك الحرارة التي ت�شع من خالل‬ ‫جثمانه الثرى و�سط تعجب النا�س‪ ،‬لأنه كان‬
‫لغة الق�ص‪ ،‬التي كان من �أهم نجاحاتها ما‬ ‫يبطئ وي�سرع في م�شوار مثواه الأخير‪ ،‬الغريب‬
‫انعك�س ب�شكل ���ض��روري وفني على طبيعة‬ ‫بعد عدة �أيام‪� ،‬أق�سم بع�ضهم ب�أنهم ر�أوا �أنواراً‬
‫ال��م��روي‪ ،‬وع��ل��ى خ��ط��اب ال���راوي وارتباطه‬
‫ّ‬ ‫تنبعث من قبره لي ًال لعدة ليالٍ ‪ :‬ترى هل كان(‬
‫ع�ضوي ًا في الم�ؤلف نف�سه‪ ،‬م��ؤك��داً ح�ضوراً‬ ‫بيومي الملط ) مجنون ًا �أم مجذوب ًا‪� ،‬أم �إن�سان ًا‬
‫�إبداعي ًا لقا�ص ذكي ومتميز‪ ،‬يعرف �أين ي�ضع‬ ‫يتلب�سه الجن؟!‬
‫قدمه في الحراك الق�ص�صي المعا�صر والمت�ألق‬ ‫ونجد في ق�صة (�سالمة)‪� ،‬إحالة �إلى الريف‬
‫في الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫الأخ�ضر المكتنز بمزروعاته‪ ،‬وفي الليل ت�شكل‬

‫‪37‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫ق�صة ق�صيرة‬

‫قيمة العطاء‬
‫�أ�ضاف مبلغ ًا يعادل ن�صف الذي �أعطانيه‪،‬‬ ‫م��ازال��ت ت��غ��دق عطاءها ط ��وال الأ�سبوع‬
‫تم ّنعت ب�صدق‪ ،‬لك ّنه‪ -‬وعلى الرغم من‬ ‫المن�صرم‪.‬‬
‫اعترا�ضي‪� -‬أق�سم قائ ًال‪:‬‬ ‫أحدث نف�سي‬‫ّ‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫ة)‪،‬‬‫ت‬‫ّ‬ ‫(الم‬ ‫إبريق‬ ‫�‬ ‫أعد‬
‫رحت ّ‬
‫�‬
‫‪� -‬أو ًال‪ ،‬ه��ذه الإ�ضافة لأن��ك �أنقذتني‬ ‫ب�صمت عقلي ناظراً �إلى هاتفي المحمول‬
‫من ورطة م�ستع�صية‪ ،...‬ثاني ًا‪ ،‬لأنك �أنجزت‬ ‫قلت‪ :‬قد ت�أخر الوقت فلن ت��أت��ي‪ .‬و�آزرت‬
‫العمل بزمن غير متو ّقع وبخبرة عالية‬ ‫العبارة بحركة من ي��دي قائ ًال‪ :‬خيراً �أن‬ ‫غ�سان حداد‬
‫تح�سد عليها‪.‬‬ ‫تفعل لأن م��ردود هذا اليوم كان �ضئي ًال‪،‬‬
‫ب�سيارته‪ ..‬ب��دوري؛‬ ‫غ��ادرن��ي ال��رج��ل ّ‬ ‫الرازق رب العباد‪.‬‬ ‫ال�ساعة ت�شير �إل��ى ال��واح��دة والن�صف‬
‫و�ضعت المبلغ الحقيقي في جيبي ونظرت‬ ‫�شربت ب�ضعة �أك��واب وهممت ب�إغالق‬ ‫ظهراً‪ ،‬معظم المحال والور�ش في المنطقة‬
‫�إلى الفائ�ض‪ ،‬قلت ب�صوت �أ�سمعه‪:‬‬ ‫الور�شة‪ ،‬لوال �أن ركن �أحدهم مركبته �أمام‬ ‫ال�صناعية راح��ت تغلق �أبوابها تباع ًا‪...‬‬
‫ّ‬
‫‪� -‬س�أ�شحن هاتفي المحمول بقيمة‬ ‫ترجل وراح يرجوني �أن �أ�صلح‬ ‫الباب‪ ،‬ثم ّ‬ ‫حدثتني نف�سي‪ :‬لم ال تفعل كغيرك؟! �أجبتها‬ ‫ّ‬
‫ال��رب��ع‪ ،‬و�س�أ�شتري �سندوي�شة كباب مع‬ ‫�سيارته‪ ،‬لأن��ه على �سفر طويل وعاجل‪،‬‬ ‫مبرراً ومماط ًال �س�أفعلها؛ بعد االنتهاء من‬
‫الحم�ص والمخلل بقيمة الربع‪ ،‬والباقي‬ ‫ّ‬ ‫فلل�ضرورة �أحكام‪.‬‬ ‫�شرب (الم ّتة)‪.‬‬
‫�س�أبتاع ما تي�سر من الفاكهة التي تحبها‬ ‫ا�ستب�شرت خيراً‪ ،‬راودتني نف�سي على‬ ‫قلت في ���س� ّ�ري‪� :‬صباح ي��وم الخمي�س‬
‫ويف�ضلها ابني‪.‬‬‫ّ‬ ‫زوجتي‬ ‫فقرعني �ضميري كاللطم‪ ،‬ثم رحت‬ ‫ابتزازه ّ‬ ‫الفائت‪ ،‬ج��اءت العجوز الم�ستعطية في‬
‫يدي حتى ظهرت‬ ‫ما كدت �أنهي غ�سل ّ‬ ‫�أعمل‪� ...‬أنجزت المطلوب بزمن قيا�سي وبما‬ ‫الل ال�سماء ت�سكب من‬ ‫موعدها‪ ،‬وكانت ِد ُ‬
‫العجوز وهي تعت�صر ماء‪ ،‬من فورها قالت‬ ‫ورب��ي‪،‬‬
‫ير�ضي الرجل وير�ضي �ضميري ّ‬ ‫فجاجها الغيث الهطيل‪ ..‬من باب ور�شتي‬
‫تهدم جدار بيتي قبل‬ ‫متو�سلة‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫لي راجية‬ ‫ومن فوره �أعطاني المبلغ المتفق عليه‪ ،‬ثم‬ ‫نظرت �إلى الخارج و�أردف��ت قائ ًال ب�صمت‪:‬‬
‫يومين ب�سبب المطر الغزير‪ ،‬لم �أ�ستطع دفع‬
‫كامل المبلغ لإ�صالحه‪ ،‬وقد اعتدت‬
‫على كرمك‪.‬‬
‫بعيني‪ ،‬وعين عقلي‬ ‫ّ‬ ‫نظرت �إليها‬
‫على جيب �سترتي‪� ،‬أخرجت المبلغ‬
‫الفائ�ض ك ّله و�أعطيتها �إياه قائ ًال‪:‬‬
‫خذي‪ ،‬ع�ساه يكفي لترميم ما‬
‫تهدم!!‬
‫ّ‬
‫ده�����ش��ت ال ��م ��ر�أة ال��ع��ج��وز‪،‬‬
‫ن��ظ��رت �إل���ى ي ��دي وتل ّقفت‬
‫المبلغ غير واثقة بنف�سها‪،‬‬
‫ان�سحبت وهي تردد دعاء ملأ‬
‫فراغ الور�شة‪ ،‬حتى �إنني كنت‬
‫�أ�سمع ابتهالها الم�ستمر؛‬
‫وهي تغيب خلف الجدار‪.‬‬
‫�أن��ه��ي��ت ال��م��ه��ام‪،‬‬
‫ث��م �أغ��ل��ق��ت الأب����واب‪،‬‬
‫وغ ��ادرت �إل��ى منزلي‬
‫ف��رح�� ًا‪ ،‬و���ش��ع��وري مفعم‬
‫بامتالء معدتي والهاتف‪،‬‬
‫وم��ع��ي ك��ل م��ا ت�شتهيه‬
‫عائلتي ال�صغيرة‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪38‬‬


‫ق�صة ق�صيرة‬

‫من �أجل �أمي!‬


‫لعل طائرت ُه الورقية تلم�س غيمة عابرة؟‬ ‫الجميع من حوله مثلي‪ ،‬وكان خائف ًا مثلي‪..‬‬
‫فج�أة بد�أ الجميع ي�صرخ من حولي‪ ،‬كان‬ ‫ولكنه كان يطارد وهم الأحالم التي ر�سمها ل ُه‬
‫قائد ال�سفينة ي�صرخ ب�صوت مرتفع‪« :‬الآن �أيتها‬ ‫بائع الموت قبل �أن ي�صعد �إلى هذه ال�سفينة‪.‬‬
‫الأ�سماك اقفزوا �إلى البحر‪ ،‬وحاولوا �أن تنجوا‬ ‫في الزاوية كان هناك �شاب يجل�س بهدوء‬
‫من الحيتان التي �ستواجهكم قبل ان ت�صلوا �إلى‬ ‫وال يتحدث مع �أحد‪ .‬اعتقدت للحظة �أن ُه الوحيد‬
‫�شاطئ»!‬ ‫الذي ربما يعرف النهاية م�سبق ًا؛ ولذلك يحاول‬ ‫ه�شام �أزكي�ض‬
‫قفز الجميع �إل ��ى ال��ب��ح��ر‪ ،‬ف��ي محاولة‬ ‫�أن يختار نهاية هادئة لنف�سه! البحر كان‬
‫للنجاة‪ .‬ال�سفينة �أ�صبحت ف��ارغ��ة تمام ًا‪،‬‬ ‫موح�ش ًا جداً‪ ،‬لدرجة �أنني كنت �أقف على �سطح‬ ‫في ممرات تلك ال�سفينة العتيقة الكبيرة‪،‬‬
‫كالمنزل المهجور‪ ،‬كنت الوحيد الذي نجا من‬ ‫ال�سفينة‪� ،‬أبحث عن �سمكة تمر �أم��ام �أحداقي‬ ‫كنت �أق��ف وح��ي��داً‪ ،‬وك��ان الجميع من حولي‬
‫حماقة الرحيل عن وطنه من �أجل لقمة عي�ش‬ ‫لكي تنطفئ هذه الوحدة التي في داخلي‪ .‬ذلك‬ ‫مجرد خياالت ترتطم بي دون �أن تترك �أث��راً‬
‫مرة‪ ،‬وترك رغيف الكرامة وراءه! الوحيد الذي‬ ‫أنت‬ ‫ِ‬
‫طيفك‪ ،‬و� ِ‬ ‫لم يحدث‪ ..‬لم يمر �أمامي �سوى‬ ‫لمرورها‪.‬‬
‫ا�ستطاع الرجوع بكامل �أنفا�سه دون �أن يتم‬ ‫تناديني كي �أرجع! يا �أمي‪ ،‬نحن الذين نحاول‬ ‫�أخذت �أفكر‪ ..‬ما ال�شيء الذي دفعنا للو�صول‬
‫بقبره بحر مالح فقد وجدت �شاطئ ًا في النهاية!‬ ‫اغتيال الخوف بالهروب نحو الهاوية‪ ..‬ربما‬ ‫هنا؟!‬
‫�أيها الأ�صدقاء‪� ،‬س�أرجع لأن لنا حكاية‬ ‫نحاول �أن نعيد ر�سم الخريطة‪ ،‬لربما يتذكرنا‬ ‫كيف ا�ستطعت �أن �أترك خلفي دعوات �أمي‪،‬‬
‫لم تكتمل‪ ،‬ولأننا نحن الذين �أم�ضينا �أعمارنا‬ ‫الكوكب‪ ،‬ويترك لنا ولو زاوية �صغيرة ال تموت‬ ‫وكل �آث��ار الأ�صدقاء‪ ،‬التي تتراكم في روحي‬
‫ونحن نحاول الهرب‪ ،‬الأوط��ان التي اعتقدنا‬ ‫فيها الأحالم!‬ ‫منذ طفولتي‪ ،‬وكيف اخترت �أن �أكون كالل�ص‬
‫�أنها قا�سية كانت �أكثر حنان ًا من لحظة واحدة‬ ‫�أنا لم �أك��ره يوم ًا وطني و�إنما تعبت من‬ ‫في مركب متجه نحو غربة‪ ،‬تحاول ا�صطيادنا‬
‫ع��ل��ى �سفينة تت�أرجح في بحر خائن!‬ ‫الجذور التي تموت في ترابها قبل �أن تبزغ‪..‬‬ ‫بالر�صا�ص قبل �أن ن�صل �إلى �أي �شاطئ؟!‬
‫لأن �أم���ي ه��ن��اك‪� ،‬أم��ي‬ ‫�س�أرجع‬ ‫�أريد �أن �أرى القطاف ولو لمرة‪� ..‬أريد �أن يكبر‬ ‫الجميع من حولي خائفين‪� ،‬أحدهم كان‬
‫�س�أموت‪ ،‬دون �أن �أ�ست�أذن‬ ‫ال��ت��ي كنت‬ ‫في داخلي‪� ،‬أال يحق للطفل‬ ‫ال����ح����ل����م‬ ‫يقر�أ القر�آن ب�صوت مرتجف‪ ،‬و�آخر كان يتفقد‬
‫منها!‬ ‫�أن يرمي بالخيط بعيد ًا‬ ‫�أوراق� ُه قبل �أن تغرق‪ .‬كان يحاول جمعها في‬
‫حقيبة �صغيرة‪ ،‬ومن ثم في حقيبة �أكبر و�أكبر‪..‬‬
‫وك�أن ُه يحاول حماية حقه في هوية‬
‫غير مبللة‪ ،‬و�آخر كان يتابع تفا�صيل‬

‫‪39‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫ق�صة مترجمة‬

‫باقة زهور‬
‫�سمعت خطى �أب ��ي حين �أق��ب��ل قلق ًا كي‬ ‫ا�ستطعت �أن �أحتمل ولو قلي ًال �سماع �صرير‬
‫يجنبني من الغرق في البركة‪� .‬أخفى وقعها‬ ‫القلم على ورقة دفتري‪.‬‬
‫�أي�ض ًا تعبير حزن �أمي في تلك اللحظة وهي‬ ‫�وم �إل��ى المكان نف�سه‬ ‫كنت �أع��ود كل ي� ٍ‬
‫تن�شفني بالمن�شفة بعد �أن �أنقذتني‪.‬‬ ‫الذي عثرت فيه على ف�ضاء �شفاف‪ ،‬تعبره‬
‫ترجمة‪ :‬رفعت عطفة‬
‫غادرت منزل الطلول‪ ..‬ركبت ال�سيارة‬ ‫�أحيان ًا الأ�سماك و�صفحات كتبي‪� .‬أتذكر �أنه‬ ‫ت�أليف‪ :‬را�ؤول �إيرناندثْ بيبيرو�س*‬
‫قا�صداً المقبرة‪ ..‬ابت�سمت عند قبر والدي‪،‬‬ ‫�صار عندي مجموعة من الأقنعة‪.‬‬
‫لأنني �أعرف �أن ما هو تحت يبقى فوق‪ ،‬و�أن‬ ‫لتماهي مع الما�ضي تداعياته‬ ‫ّ‬ ‫ك��ان‬ ‫كنت �أح��دق في بركة الحديقة‪� ،‬أت�أمل‬
‫ما في الداخل �سيطلع دائم ًا �إلى الخارج‪.‬‬ ‫لحظة ا�ست�سلمت يداي لجنون اللم�س‪ .‬كان‬ ‫الأ�سماك الحمراء في قاع مائها‪ .‬حاولت‬
‫حمدت اهلل على �أن الما�ضي دائم ًا خلفنا‪.‬‬ ‫الوقت يتحلل في ثوانٍ بين �أ�صابعي‪ ،‬وال‬ ‫بواحدة منها‪ .‬ا�ستطعت �أن‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫لوهلة �أن � ْأم�سك‬
‫و�ضعت الباقة ال�صغيرة على ال�ضريح‪ .‬انبثق‬ ‫�أقع على �أملٍ �آخر لأت�أمل مرور ال�ساعات‪.‬‬ ‫�أم�سك بالجلد المحر�شف لأكبرها‪ ،‬لكنها‬
‫الم�ستقبل �أمامي‪ ،‬واختفى الحا�ضر �أمام‬ ‫مازلت �أحتفظ بكل الأقنعة‪ ،‬وم��ع حلول‬ ‫ابتعدت بحركة واح��دة‪ .‬م��ر ًة �أخ��رى‪ ،‬نطت‬
‫عيني‪� .‬شعرت ب�أن ال�سعادة ورائي‪ ،‬و�أنني لن‬ ‫الليل‪� ،‬أنتقي القناع الذي غطى وجهي في‬ ‫�سمك ٌة متو�سطة الحجم و�سقطت في الخارج‪.‬‬
‫�أ�ستطيع �أن �أنظر �إليها �أبداً‪ ،‬كحال الأميال‬ ‫ذاك اليوم الذي فقدت فيه طفولتي‪.‬‬ ‫�أخذتها ب�أ�صابعي ال�صغيرة وقذفت بها نحو‬
‫التي انطوت في الطريق �إلى منزلي الجديد‪.‬‬ ‫هكذا فتحت الن�سيج‪� ،‬أدخلت فيه ر�أ�سي‬ ‫ال�سطح الالمع كمر�آة‪ .‬انتبهت في االنعكا�س‬
‫فج�أة‪ ،‬جعلتني عبارة �ألبرت �أين�شتاين‪:‬‬ ‫ببطء‪ ،‬واختب�أت داخل ال�صور لأنني كنت‬ ‫�إلى لون عيني البراق‪ ،‬و�شعرت ب�أنني ما‬
‫(ماذا تعرف ال�سمكة عن الماء الذي ت�سبح‬ ‫�أع��رف �أن هناك �أم��اك��ن ممنوعة‪ ،‬وربما‬ ‫عدت طف ًال‪.‬‬
‫فيه طوال حياتها) �أقع في جو ذلك ال�صيف‬ ‫ومناطق من مدنٍ‬
‫ٌ‬ ‫�وارع‬
‫غ��رف‪ ،‬زواي ��ا‪��� ،‬ش� ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫احتلت الطحالب وزنابق الماء البركة‪.‬‬
‫الخانق والأليف‪ .‬كنت واثق ًا من �أنني لن‬ ‫ومناطق من الكوكب‪ ،‬لم �أ�ستطع �أن �أط�أها‬ ‫أ�صياف‪ ،‬وكانت كثيرة لدرجة‬ ‫ٌ‬ ‫�رت �‬ ‫م� ْ‬
‫�أعود �أبداً �إلى موطني الأ�صلي‪ ،‬ومن �أن تلك‬ ‫قط‪ .‬ما من �أثر على �أم��واج البحر وال على‬ ‫�أنني لم �أتذكر تلك الم�شاهد‪ ،‬وال حتى في‬
‫الأفكار �ستتال�شى �أمام رحابة الطريق‪.‬‬ ‫رمال ال�صحراء‪.‬‬ ‫الأحالم‪ .‬بعد عدة �سنوات‪ ،‬قررت �أن �أعيد بناء‬
‫لم �أملك �أي �إمكانية لتغيير اللحظة‪.‬‬ ‫بع�ض ال�صور‪ ،‬فعدت �إلى موطني الأ�صلي‪..‬‬
‫لكنني على الأقل اكت�شفت �أنني كنت داخل‬ ‫قفزت من ال�سيارة ورك�ضت بحث ًا عن فناء‬
‫الأقنعة محظوظ ًا ب�سعادة �أنني مختلف‪.‬‬ ‫المنزل‪ ..‬كان كل �شيء مختلف ًا‪ ..‬في الممرات‬
‫في النهاية واجهت الم�صير النهائي ب�أن‬ ‫تظهر الآن م�صاطب خر�سانية‪� .‬أ�صابني‬
‫�ود ل��دي بالكلمات‪..‬‬ ‫قبلت م��ا ه��و م��وج� ٌ‬ ‫حزن‪ .‬كانت الع�صافير تتقافز‪� .‬أنقذت في‬ ‫ٌ‬
‫�أخرجت محفظتي‪ ،‬واخترت ال�صورة‬ ‫فكري �صورة الأ�سماك الحمراء‪ ،‬وحاولت �أن‬
‫من مخبئها بين الأوراق النقدية‪..‬‬ ‫�أعود و�أ�شعر بها بين يدي اللتين كانتا مثل‬
‫كان وجه �أبي مايزال على الورقة‬ ‫�سمكة كانت تع�ض على الطعم‬ ‫ٍ‬ ‫خطافين‪ .‬كل‬
‫ال�صفراء‪.‬‬ ‫تعني �إنقاذاً للذاكرة في الحا�ضر‪� ..‬أود �أي�ض ًا‬
‫ت�أملت النظرة المماثلة‬ ‫�أن �أجرب هذا النوع من ال�صيد مع كتبي‪.‬‬
‫لتلك التي كانت معكو�س ًة‬ ‫م�ل�أت البركة بالكتب‪ ،‬ورح��ت �أرم��ي‬
‫ف��ي م����ر�آة م ��اء ال��ب��رك��ة‪..‬‬ ‫ال�صنارة‪ .‬من ح�سن الحظ علق الم�ؤلف الذي‬
‫اع��ت��رف��ت ب���أن ��ه ك��ان‬ ‫كان ي�ساعدني على اال�ستمرار في االنغما�س‬
‫مماث ًال لوجه ذاك‬ ‫في هذا الواقع‪ ،‬و�أعتقد �أن��ه لوال �أ�سماكي‬
‫ال����رج����ل ال����ذي‬ ‫الملونة‪ ،‬الم�صنوعة من الورق والأغلفة‪ ،‬ما‬
‫منحني الحياة‪.‬‬
‫������س�����ع�����دت‬ ‫* را�ؤول �إيرناندث بيبيرو�س‪ :‬من مواليد ‪،١٩٤٤‬‬
‫حين عرفت �أن‬ ‫المك�سيك‪ .‬كاتب له العديد من المجموعات‬
‫م�صيرنا واح ��د‪.‬‬ ‫الق�ص�صية والروايات‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪40‬‬


‫أدب وأدباء‬
‫منظر عام ملدينة اخلليل‬

‫¯ تقنيات الحداثة عند رواد ال�شعر الحر‬


‫¯ نبيل �سليمان‪ ..‬جمع بين الإبداع الروائي والنقد‬
‫¯ جدل الواقعي والمتخيل في �سيرة عنترة‬
‫¯ مارون عبود‪ ..‬رائد النه�ضة الأدبية في لبنان‬
‫¯ يا�سمينة خ�ضرا‪� ..‬أعماله ترجمت �إلى (‪ )٣٦‬لغة عالمية‬
‫¯ مدحة عكا�ش‪ ..‬عميد الثقافة في �سوريا‬
‫¯ �سيف الرحبي‪..‬وجه �شعري ُعماني بامتياز‬
‫¯ محمد حافظ رجب‪� ..‬أثار ق�ضية الأدب الجديد‬

‫‪41‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫حمل في جعبته الأدبية مفتاح ًا �سحري ًا‬

‫عبدالرزاق قرنح‪..‬‬
‫ورحلته نحو «نوبل»‬
‫م�شهوراً في زنجبار بالرغم من كونها م�سقط‬
‫ر�أ�سه‪ ،‬بل كان م�شهوراً في بريطانيا‪ ..‬وهي‬ ‫مهدت ل��ه الكتابة الطريق لالنغما�س ف��ي واقعية‬
‫الحال نف�سها بالن�سبة �إليه‪ ،‬فال �أحد يعرفه‬ ‫الأدب و�أدبية الواقع‪ ،‬فلم تكن حياته �سهلة‪ ،‬بل كانت‬
‫في زنجبار‪ .‬ولكن باعتباره �أول �إفريقي‪،‬‬ ‫�سل�سلة م��ن الم�آ�سي الأن��ي��ق��ة‪ ،‬وال��ت��ي يبدو �أن��ه تلقاها‬
‫�أ�سمر اللون‪ ،‬يفوز بنوبل ل�ل�آداب منذ �أكثر‬ ‫في ه��دوء �شديد‪ ..‬حمل في جعبته الأدب��ي��ة مفتاح ًا‬
‫من ثالثة عقود‪ ،‬قد تكون زنجبار‪ ،‬والعالم‬
‫�أجمع‪ ،‬على ا�ستعداد الآن لإيالء المزيد من‬
‫�سحرياً‪ ،‬ا�ستطاع �أن يدلف به من بوابة (نوبل) هذا‬
‫�شيرين ماهر‬
‫االهتمام به وب�أعماله‪ ..‬فمن هو عبدالرزاق‬ ‫ال��ع��ام‪ ،‬مع �أن ا�سمه لم يتردد كثير ًا داخ��ل الأو���س��اط‬
‫قرنح الذي ال يعرفه �أحد؟ وكيف بد�أ م�شواره‬ ‫الأدبية‪ ،‬ولم يكن معروف ًا مقارنة ب�أدباء �أفارقة �أكثر �شهرة منه‪ .‬كتاباته‬
‫الأدب��ي بعيداً عن الأ���ض��واء‪ ،‬لي�سطع نجمه‬ ‫برغم �أهميتها‪ ،‬لم تكن �ضمن الأكثر مبيعاً‪ ،‬بل حققت مبيعات متوا�ضعة‪.‬‬
‫ُدفعة واح��دة‪ُ ،‬مقت ِن�ص ًا الجائزة الأهم على‬
‫الإطالق‪ ،‬في عالم الأدب هذا العام؟‬ ‫(الجارديان) �س�ؤا ًال بمنا�سبة فوزه‪ ،‬مت�سائلة‬ ‫هن�أه الأديب النيجيري الم�شهور (وولي‬
‫(مع�ضلة ال��ه��وي��ة واالن��ت��م��اء)‪� ..‬أزم��ة‬ ‫عن كونه قد �أ�صبح ثاني �أ�شهر زنجباري‬ ‫�سوينكا)‪� ،‬أول �إفريقي فائز بنوبل للآداب‪،‬‬
‫حقيقية عاي�شها عبدالرزاق قرنح على مدى‬ ‫بعد مطرب البوب ال�شهير فريدي ميركوري‪،‬‬ ‫لا‪( :‬لقد �أع ��دت نوبل م��رة �أخ ��رى �إل��ى‬
‫ق��ائ� ً‬
‫�سنوات عمره الأولى وما تالها‪ ..‬فعلى الرغم‬ ‫ليجيب ب���أن (م��ي��رك��وري) نف�سه ل��م يكن‬ ‫�أح�ضان القارة الأم)‪ ،‬فيما وجهت له �صحيفة‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪42‬‬


‫جوائز‬

‫حيث تفتحت عينا الفتى ال�صغير على الحياة‬


‫و�سط عالم جديد يت�شكل في �أع��ق��اب الحرب‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬عندما ا�ستقلت زنجبار عن‬
‫بريطانيا ع��ام (‪1963‬م)‪ ،‬ث��م غمرت البالد‬
‫ثورة عارمة‪ ،‬لحق بها انقالب عام (‪1964‬م)‪،‬‬
‫لم يكن معروف ًا‬ ‫�إذ تعر�ض بعده �سكان زنجبار من �أ�صل عربي‬
‫ولي�س م�شهوراً في‬ ‫ال�ضطهاد وا�سع‪ ،‬ما ا�ضطر (قرنح) �إلى الفرار‬
‫�إل��ى المملكة المتحدة وه��و في عمر الثامنة‬
‫الم�شهد الثقافي‬
‫ع�شرة‪ ،‬وعا�ش كالجئ بعيداً عن وطنه‪ .‬بد�أ‬
‫الإفريقي‬ ‫م�شواره الأدب ��ي في الحادية والع�شرين من‬
‫عمره‪ ،‬بالكتابة باللغة الإنجليزية‪ ،‬حيث كان‬
‫يتقنها بحكم درا�سته الأكاديمية في �إنجلترا‪.‬‬
‫ُعرف ب�إنتاجه الأدبي الغزير‪ ،‬وكانت �أولى‬
‫رواي��ات��ه التي �صدرت ع��ام (‪1987‬م) تحمل‬
‫عنوان (ذاك��رة المغادرة)‪ ،‬والتي وثق خاللها‬
‫ذكريات اللجوء الأولى وم�شاعر ما بعد �صدمة‬
‫االغتراب‪ ،‬وهي الرواية الأول��ى من بين (‪)10‬‬
‫خام�س �إفريقي‬ ‫رواي ��ات وع��دد من الق�ص�ص الق�صيرة‪ ،‬التي‬
‫يح�صل على جائزة‬ ‫تمثل مجمل �إنتاجه الأدب���ي‪ ،‬وك��ان �آخرها‬
‫نوبل للآداب‬ ‫رواي��ة (الحياة بعد الموت) التي �صدرت عام‬
‫(‪2020‬م)‪ .‬و�إلى جانب عمله الإبداعي‪ ،‬خا�ض‬
‫رحلة �أكاديمية بد�أها من عام (‪1980‬م) حتى‬
‫ع��ام (‪1982‬م)‪ ،‬عندما حا�ضر ف��ي جامعة‬
‫بايرو كانو بنيجيريا‪ ،‬ثم انتقل �إل��ى جامعة‬
‫(كنت)‪ ،‬وح�صل منها على درج��ة الدكتوراه‪،‬‬
‫وظل يعمل حتى وقت قريب بالجامعة‪ ،‬قبل‬
‫التقاعد‪� ،‬أ�ستاذاً للغة الإنجليزية‬
‫و�آدابها ما بعد حقبة اال�ستعمار‪.‬‬
‫ح�صل على جائزة راديو فرن�سا‬
‫الدولية (‪)Temoin du Monde‬‬
‫عن روايته (‪ ،)By the sea‬كما‬ ‫من �أنه بنى حياة وعائلة في �إنجلترا‪ ،‬لكنه ال‬
‫نال جائزة (‪ )Withbread‬عن‬ ‫يجد نف�سه �إنجليزي ًا‪ ،‬وال ذلك الزنجباري‪ ،‬حيث‬
‫روايته (‪.)Paradise‬‬ ‫تعك�س �أعماله �أن انف�صاله عن ما�ضيه اليزال‬
‫يعد (قرنح) �أحد �أهم الكتاب‬ ‫يطارده ويفر�ض نف�سه على ما ي�سطره قلمه‪،‬‬
‫الذين ظهروا في �شرقي �إفريقيا‬ ‫را�صداً �أوجه االغتراب ال�شعوري ولي�س المكاني‬
‫في العقدين الما�ضيين‪ ،‬حيث‬ ‫فح�سب‪ .‬وك��ي��ف بعد �أن ت ��درج ف��ي م�سيرته‬
‫توالت �أعماله الإبداعية‪ ،‬والتي‬ ‫الأكاديمية والأدبية في المملكة المتحدة‪ ،‬ظل‬
‫تدور كلها حول الرحيل والهجرة‬ ‫يترب�ص به �شعور عدم القدرة على االن�سجام‬
‫والمنفى وال�شتات والتمييز �ضد‬ ‫التام في موطنه الجديد الذي لم يكن �أبداً بدي ًال‬
‫الالجئين الأف��ارق��ة‪ ،‬كذلك �شكل‬ ‫للوطن‪ .‬كذلك لم يكن لوطنه الأم �صورة خالية‬
‫ات�ساع الموقع الجغرافي لرواياته‬ ‫من الم�آ�سي في ذاكرته‪ ،‬ما جعل هاج�س ال�شتات‬
‫على امتداد �ساحل �شرقي �إفريقيا‪،‬‬ ‫هو الملمح الأكثر هيمنة على كتاباته التي‬
‫نقطة تعك�س ال�شتات والمغادرة‬ ‫عك�ست دوم ًا الأزمة الأهم في حياته‪.‬‬
‫�إلى الغرب‪ ،‬حيزاً ثقافي ًا متنوع ًا‬ ‫ُول��د (ق��رن��ح) ع��ام (‪1948‬م)‪ ،‬في جزيرة‬
‫ومعقداً �أبحرت داخله رواياته‬ ‫زنجبار‪ ،‬التي �أ�صبحت الآن جزءاً من تنزانيا‪،‬‬
‫«الفردو�س»‬

‫‪43‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مدينة لندن‬
‫رواي��ات��ه �أنف�سهم في الفجوة بين الثقافات‬ ‫الع�شر‪ ،‬فيما ك��ان �شاغله الأه��م هو النزوح‪،‬‬
‫وال��ق��ارات‪ ،‬بين الحياة التي ُت��رك��ت وراءه��م‬ ‫وال�شخ�صيات التي تبني �أف��ك��اراً جديدة عن‬
‫والحياة الآتية‪ ،‬في مواجهة العن�صرية والتحيز‪،‬‬ ‫الوطن واالنتماء في الهجرة‪ ،‬والتي تتحكم في‬
‫ولكنهم �أي�ض ًا يجبرون �أنف�سهم على ال�صمت‪،‬‬ ‫�سيرها موروثات اال�ستعمار وتاريخ المحيط‬
‫�أو �إعادة ت�شكيل هوياتهم لتجنب ال�صراع مع‬ ‫الهندي من التجارة والعبودية‪ ،‬فكان ي�ستغرق‬
‫الواقع‪.‬‬ ‫في تحليل العالقات والتفا�صيل التي تخلقها‬
‫كذلك ت�شكل �أعماله وا�ستخدامه للغتين‬ ‫المواجهات المختلفة عبر الحواجز‪ .‬كان ير�سم‬
‫في مجمل كتاباته‬ ‫(ال�سواحيلية والإنجليزية) نموذج ًا اللتقاء‬ ‫ال�شخ�صيات التي تت�صارع مع مختلف �أفكار‬
‫الثقافات والهويات الهجينة‪ ،‬وهو ما ينطبق‬ ‫االنتماء‪ ،‬والعالقات غير الم�ستقرة داخل الأ�سر‪،‬‬
‫يتلم�س مع�ضلة‬ ‫على حياته وم�سيرته الأكاديمية والأدب��ي��ة‬ ‫في محاولة خلق م�ساحات جديدة لأنف�سهم‬
‫الهوية واالنتماء بين‬ ‫ب�شكل عام‪ .‬والواقع �أن ال�سردية البحرية تبدو‬ ‫با�ستخدام مجموعة متنوعة من اال�ستراتيجيات‪،‬‬
‫م�سقط ر�أ�سه زنجبار‬ ‫عن�صراً �أ�صي ًال في كتابته‪ ،‬لي�س ب�سبب هجرته‬ ‫ما�ض‬
‫فيما يبقى ما�ضيهم يطارد ذاكرتهم‪� .‬إنه ٍ‬
‫ووطنه �إنجلترا‬ ‫في الما�ضي من جزيرة زنجبار �إلى المملكة‬ ‫يحاولون �إ�صالحه با�ستمرار من خالل تكوين‬
‫المتحدة فح�سب‪ ،‬بل ك�إطار عام لرحالت الهجرة‬ ‫عالقات �أخرى‪ .‬كما يلفت (قرنح) االنتباه �إلى‬
‫بين �شرقي �إفريقيا والمحيط الهندي و�أوروبا‬ ‫اللقاءات التاريخية الحا�سمة بين �شرقي �إفريقيا‬
‫ومنطقة البحر الكاريبي‪ .‬كما احتفظ لنف�سه‬ ‫و�آ�سيا والأرا�ضي العربية والدول الغربية والغزو‬
‫بلغة �سرد مغايرة ميزته عن غيره ممن تحدثوا‬ ‫اال�ستعماري الالحق الذي تالها‪ ،‬وكيف �أثرت‬
‫عن تبعات اال�ستعمار‪ ،‬حيث تمتع بغلبة الجر�س‬ ‫هذه الفتوحات بعمق في العالقات االجتماعية‬
‫الأدب ��ي على الهجاء ال�سيا�سي‪ .‬وال��واق��ع �أن‬ ‫ف��ي المنطقة‪ ،‬لأن��ه��ا كانت ل��ق��اءات تحكمها‬
‫تدور �أحداث رواياته‬ ‫جماليات لغته الأدبية جعلتها �أقرب ما تكون‬ ‫م�صالح ودوافع مت�ضاربة للغاية‪.‬‬
‫حول الرحيل‬ ‫�إلى نثر ر�صين يغزو الروح وي�ستقر بالعقل لما‬ ‫ُتوج م�شوار عبدالرزاق قرنح الطويل بالفوز‬
‫والهجرة والمنفى‬ ‫يحمله من م�ؤ�شرات ا�ستبطانية ُتعيد‬ ‫بجائزة نوبل‪ ،‬لتتركز عليه �أ�ضواء‬
‫وال�شتات المفعمة‬ ‫و�صل الما�ضي بالحا�ضر‪.‬‬ ‫ال�شهرة‪ ،‬ويدخل التاريخ كخام�س‬
‫م��ن ال�����س��م��ات ال��ب��ارزة‬ ‫�إف��ري��ق��ي ي��ف��وز ب��ال��ج��ائ��زة؛‬
‫بذكريات الوطن‬ ‫�أي�ض ًا للغته الأدبية؛ قدرته‬ ‫ح��ي��ث ت��ت��ب��ع‪ ،‬ب��إن�����س��ان��ي��ة‬
‫على تقديم و�صف تف�صيلي‬ ‫طاغية‪� ،‬آثار اال�ستعمار في‬
‫لتجارب �شخ�صياته‪ .‬ومن‬ ‫�شرقي �إفريقيا‪ ،‬و�آث��اره في‬
‫اال���س��ت��رات��ي��ج��ي��ات الأدب��ي��ة‬ ‫ح��ي��اة الأف����راد المهاجرين‬
‫التي يطبقها بنجاح‪ ،‬توظيفه‬ ‫وال�لاج��ئ��ي��ن‪ ،‬ف��ي��ج��د �أب��ط��ال‬
‫جائزة نوبل‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪44‬‬


‫جوائز‬

‫مجموعة متنوعة من الأ�صوات ال�سردية‪ ،‬حيث‬


‫يحر�ص في رواياته على القيام بدور الراوي‪،‬‬
‫ال��ذي يظهر ت��ارة ك�شخ�ص غير موثوق به‪،‬‬
‫لت�صوير العالقات غير المرحب بها بين الأعراق‬
‫في الرواية‪ ،‬وتارة �أخرى يقدم �صوت ال�ضمير‬
‫الغائب ال��ذي يطرح المزيد من الأ�سئلة �أمام‬
‫القارئ‪ .‬كذلك عند النظر في ق�ضايا مثل النظام‬
‫الأبوي والعن�صرية‪ ،‬نجد �أنه ال يقدم الثنائي‬
‫ر‪/‬الم�ستعمر الذي ين�ش�أ فيه التمييز‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم�ستعم‬
‫العن�صري دائم ًا‪ .‬كما �أنه ال يقدم وجهات النظر‬
‫التقليدية لل�سلطة الأبوية التي تتميز دائم ًا‬
‫بالقوة‪� ..‬إنه يقدمه من خالل ال�سماح للقارئ‬
‫باالختالف‪ ،‬والم�شاجرات‪ ،‬والتطلعات‪ ،‬لدعوة‬
‫المح ِّكم‪ ،‬والغو�ص في‬
‫القارئ �إلى القيام بدور ُ‬
‫حياة ال�شخ�صيات وا�ستخال�ص ا�ستنتاجات‬
‫ح��ول تجاربهم‪ ..‬هو يخلق نطاقات مختلفة‬
‫من الهيمنة التي تتجاوز محاور اال�ستعمار‬
‫والظلم لي�شمل التفاعالت المعقدة بين الأفارقة‬
‫والهنود والعرب‪.‬‬
‫من رواياته‬ ‫بد�أ �أول تقدير بارز لأعمال (قرنح)‪ ،‬وهو‬
‫من زنجبار كانت ت�ضغط عليه بقوة وت�أبى �إ ّال‬ ‫في عمر ال��ـ(‪ )46‬عام ًا عندما �أُدرج��ت روايته‬
‫تعبر عن نف�سها �إبداع ًا‪ .‬وبع�ض هذه الروايات‬
‫�أن ّ‬ ‫(ال��ف��ردو���س) في القائمة المخت�صرة لجائزة‬
‫و�صلت �إلى القوائم الق�صيرة والطويلة لجوائز‬ ‫بوكر عام (‪1994‬م)‪ ،‬وهى ت�سرد ق�صة ال�صبي‬
‫�أدبية دولية مرموقة‪.‬‬ ‫يو�سف‪ ،‬الذي يعي�ش في بلدة كاوا في تنزانيا‬
‫روايته (الفردو�س)‬ ‫والواقع �أنه عند قراءة قرنح‪ ،‬ينبغي قراءة‬ ‫في مطلع القرن الع�شرين‪ ،‬يتنقل بين �أدغ��ال‬
‫و�ضعته عام (‪1994‬م)‬ ‫تاريخ زنجبار‪ ،‬فهي دائم ًا �إما �أن تكون مكان‬ ‫�إفريقيا ويتعرف �إلى ثقافات وقبائل مختلفة‪،‬‬
‫الحدث‪� ،‬أو تكون موطن الذاكرة‪ ،‬التي يعود �إليها‬ ‫وم��ع بداية الحرب العالمية الأول ��ى‪ ،‬يتورط‬
‫على عتبة النجاح‬ ‫الروائي م�ستذكراً الطفولة الجميلة والجزيرة‬ ‫التاجر في تجنيد ال�شباب الأفارقة لم�صلحة‬
‫وال�شهرة‬ ‫الرائعة‪ ،‬ولكن ال يغيب عنها ما حدث في زنجبار‬ ‫الألمان على جبهات القتال‪ .‬رواية (الفردو�س)‬
‫عام (‪1964‬م)‪ ،‬وما قام به المناه�ضون للوجود‬ ‫كانت بمثابة العمل الأول الذي �سلط الأ�ضواء‬
‫الال�إفريقي (العربي والإيراني والهندي)‪ ،‬والذي‬ ‫على (ق��رن��ح) ب�شكل غير م�سبوق‪ ،‬وو�صفت‬
‫ذهب �ضحيته �آالف من غير الأف��ارق��ة‪ ،‬وذلك‬ ‫الأمريكية لورا وينترز‪ ،‬في �صحيفة (نيويورك‬
‫بعد اال�ستقالل مبا�شر ًة‪ ،‬و�ضم الجزيرة �إلى ما‬ ‫تايمز) عام (‪1996‬م) الرواية ب�أنها (حكاية‬
‫عرف في ما بعد بتنزانيا‪ ،‬فكان مزيج ًا من‬ ‫متلألئة عن بلوغ �سن الر�شد)‪ ،‬كما قالت عن‬
‫الذاكرة الأليمة‪ ،‬والذاكرة الطفولية البريئة‪ .‬كان‬ ‫روايته (الإعجاب بال�صمت) ب�أنها عمل (ي�صور‬
‫يقوم دوم ًا بهذا التع�شيق الذكي بين الخ�سائر‬ ‫بمهارة معاناة رجل محا�صر بين ثقافتين)‪.‬‬
‫والمكا�سب‪ ،‬المفقود والمتاح‪ ،‬الغائب والحا�ضر‪.‬‬ ‫توالت بعد ذلك نجاحات (قرنح)‪ ،‬ومن بع�ض‬
‫لعبة الحياة‪ ،‬التي مار�سها بمنتهى الر�شاقة مع‬ ‫�أعماله الأخ ��رى‪ :‬طريق الحجاج (‪1988‬م)‪،‬‬
‫حركة ال�شخ�صيات التي تكافح من �أجل �إحياء‬ ‫دوتي (‪1990‬م)‪ ،‬مقاالت في الأدب الإفريقي‪:‬‬
‫بقايا ال�سعادة الغائبة‪.‬‬ ‫�إع��ادة تقييم (‪1993‬م)‪ ،‬الإع��ج��اب بال�صمت‬
‫ففي عالم (قرنح) الأدبي كل �شيء يتغير؛‬ ‫(‪1996‬م)‪ ،‬عن طريق البحر (‪2001‬م)‪ ،‬الهجران‬
‫الذكريات والأ�سماء والهويات‪ ،‬ربما يرجع ذلك‬ ‫(‪2005‬م)‪ ،‬والهدية الأخ��ي��رة (‪ .)2011‬تدور‬
‫�إلى �أن م�شروعه الأدب��ي يت�صف بالالنهائية‪،‬‬ ‫روايته (الإعجاب بال�صمت) حول �شاب ا�ضطر‬
‫فهو بمثابة ا�ستك�شاف �إن�ساني مدفوع ب�شغف‬ ‫�إل��ى الرحيل من زنجبار �إل��ى �إنجلترا ليعمل‬
‫فكري ال ين�ضب‪.‬‬ ‫بالتدري�س‪ .‬فعلى ما يبدو �أن لحظة رحيل (قرنح)‬
‫وولي �سوينكا‬

‫‪45‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫الأديـــب‪..‬‬
‫ومخا�ض الوالدة الأولى‬ ‫م�صطفى عبداهلل‬

‫وبعد هذه ال�شهادة الرائعة‪ ،‬قدم المجموعة‬ ‫(الورد والرماد) هو �أول كتبه‪ ،‬هو �إ�صدار‬
‫�إلى �أ�ستاذه ورفيق م�سيرته البحثية الأ�ستاذ‬ ‫ال�شباب‪ ،‬الكتاب الحلم‪ ،‬مخا�ض الوالدة الأولى‪،‬‬
‫الدكتور محمد القا�ضي‪ ،‬الذي كان ومايزال في‬ ‫وال�صرخة المعلنة عن القدوم �إلى العالم‪� .‬أ�شير‬
‫ريعان �شبابه‪ ،‬فجاء ر�أيه كر�أي توفيق بكار‪،‬‬ ‫هنا �إل��ى كتابات المبدع والناقد والمترجم‬
‫وقد ا�ستحثه ذلك على المبادرة بالن�شر‪.‬‬ ‫التون�سي الدكتور محمد �آيت ميهوب الأولى في‬
‫و�سرعان ما �صدقت نبوءة توفيق بكار‪،‬‬ ‫الق�صة‪ ،‬الكتابات الأولى النا�ضجة بعد �أن بد�أ‬
‫و�صادف الكتاب تقب ًال طيب ًا‪ ،‬وف��از بجائزة‬ ‫يخرب�ش ق�ص�ص ًا �ساذجة تخلط بين الخاطرة‬
‫الإب��داع الثقافي من وزارة الثقافة التون�سية‪،‬‬ ‫والمقالة والق�صة منذ بلغ �سن العا�شرة‪ ،‬قبل �أن‬
‫و�أدرج في برامج المطالعة للمعاهد الثانوية‪،‬‬ ‫يكتب وهو في ال�ساد�سة ع�شرة كتاب ًا نقدي ًا في‬
‫وك ِت َبت فيه‪ ،‬وماتزال‪ ،‬مقاالت عديدة‪ ،‬وو�ضعت‬ ‫ُ‬ ‫م�سرح عزالدين المدني امتد �إلى �أكثر من مئتي‬
‫فيه ث�لاث ر�سائل ماج�ستير‪ .‬وبعد (ال��ورد‬ ‫�صفحة‪.‬‬
‫يبدو �أثر المكان‬ ‫وال��رم��اد) ج��اءت روايته (ح��روف الرمل) ثم‬ ‫�أما �أقا�صي�ص مجموعته (الورد والرماد)‪،‬‬
‫(بنزرت) بارزاً في‬ ‫�أخذته م�شارب البحث و�أغوته الترجمة فغاب‬ ‫التي ين�صب عليها هذا المقال‪ ،‬فكتبها وهو‬
‫كتاباته الإبداعية‬ ‫ف��ي �سحرها‪ ،‬وب ��دا وك ��أن��ه ق��د ن�سي (ال ��ورد‬ ‫في الجامعة يدر�س اللغة والآداب العربية‬
‫فبدت حكاية‬ ‫ذك��ره به �صديقه الدكتور‬ ‫وال��رم��اد) �إل��ى �أن ّ‬ ‫بكلية الآداب بمنوبة‪ ،‬وين�سج على مهل خيوط‬
‫العادل خ�ضر‪ ،‬الم�شرف على �سل�سلة (�أح�سن‬ ‫م�ستقبل قريب يتعانق فيه الإب��داع والبحث‬
‫�أ�سطورية‬ ‫الق�ص�ص) التي ت�صدرها الدار التون�سية للكتاب‪،‬‬ ‫الأكاديمي والنقد الأدب ��ي‪ .‬ه��ذه المجموعة‬
‫وحر�ص على �إعادة ن�شره �ضمن ال�سل�سلة التي‬ ‫وهيئت للطبع قبل تخرجه وح�صوله‬ ‫اكتملت ّ‬
‫يراهن عليها النا�شر محمد المرزوقي‪ .‬ويعترف‬ ‫على الإج��ازة‪ ،‬وكان يدر�س‪ ،‬حينها‪ ،‬على يد‬
‫لي الدكتور محمد �آيت ميهوب ب�أنه لم يكتب‬ ‫�أ�ستاذ الأجيال‪ ،‬م�ؤ�س�س الدرا�سات ال�سردية‬
‫جملة واح��دة في هذه المجموعة الق�ص�صية‬ ‫في الجامعة التون�سية الناقد المبدع توفيق‬
‫�إال وك��ان ي�ستح�ضر مدينته (ب��ن��زرت) التي‬ ‫ب َّكار‪ ،‬فقدمها (�آي��ت ميهوب) �إليه ليقر�أها‬
‫يتعانق فيها الماء وال�سماء‪ ،‬ويتم�شى البحر‬ ‫وين�صحه‪ ،‬وب��ع��د �شهر �أرج��ع��ه��ا �إل��ي��ه مع‬
‫بين �شوارعها و�أزقتها‪ ،‬وتغت�سل ال�شم�س على‬ ‫ابت�سامته المعروفة‪ ،‬وهو يقول له بتوا�ضعه‬
‫جدرانها البي�ض‪ ،‬وتتخذ من �صفحة الماء في‬ ‫الجم‪ ،‬وعيناه ن�صف مغم�ضتين‪( :‬لي�س لدي ما‬
‫الميناء العتيق مر�آة تنظر فيها كل �صباح وهي‬ ‫�أن�صحك به‪ ،‬ف�أنت تمتلك �أدوات الق�ص كلها‪،‬‬
‫تم�شط �شعرها بخيوط النور‪.‬‬ ‫و�أنتظر لك م�ستقب ًال زاهراً)‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪46‬‬


‫بدايـات‬

‫والحياة والعاطفة وجذوة الحكي تلتهب بهما)‪.‬‬ ‫كان ذلك �صريح ًا في ق�ص�ص يعتز بها‬
‫وعن رمزية العنوان‪ ،‬يقول فتحي بن معمر‪:‬‬ ‫كثيراً‪ ،‬مثل‪( :‬حكاية �أجمل �سمكة في العالم)‬
‫الق�ص عند ميهوب‪ ،‬تنبعث الحياة من‬ ‫ّ‬ ‫(وفي‬ ‫�أو (مدن بال �أ�ساطير)‪ ،‬ولكننا نلم�س �أن روح‬
‫الموت وقد يينع الورد من ركام رماد خامد‪.‬‬ ‫(ب��ن��زرت) مبثوثة ف��ي ك��ل م��ا ك��ت��ب‪ ،‬تح�ضر‬
‫محمد �آيت ميهوب‬ ‫فنحن �إذاً ف��ي ك � ّل ال� ّل��وح��ات التي يعر�ضها‬ ‫ب�أماكنها المرجعية‪ ،‬وبنا�سها‪ ،‬وعاداتها‪،‬‬
‫جمع بين الكتابة‬ ‫�وري يقوم على‬ ‫ف��ي ق�ص�صه‪� ،‬أم ��ام وت��د م��ح� ّ‬ ‫وبحرها‪.‬‬
‫الإبداعية والنقد‬ ‫ثنائية‪« :‬الورد» بما هو جمال وحياة وبهجة‪،‬‬ ‫وعن �أق�صو�صة (�أجمل �سمكة في العالم)‬
‫والبحث والترجمة‬ ‫يتحين‬ ‫ّ‬ ‫و»الرماد» بما هو موت وخمود وكمون‬ ‫ّ‬ ‫وح�ضور (بنزرت) في المجموعة‪ ،‬يقول الناقد‬
‫الفر�صة لالنبعاث)‪.‬‬ ‫ن�ص ًا لأ ّنني �أحار‬ ‫فتحي بن معمر‪�( :‬أقول عنها ّ‬
‫وبعد �أن ن�شر كاتبنا (ال���ورد وال��رم��اد)‬ ‫ق�صة �أم حكاية �أم حكايات‬ ‫في تجني�سها؛ �أهي ّ‬
‫و(ح��روف الرمل)‪ ،‬عكف على �إتمام درا�ساته‬ ‫�أم خرافة �أم �أ�سطورة �أم ملحمة‪� ،‬أم جن�س هجين‬
‫العليا‪ ،‬والفراغ من �أطروحة الدكتوراه‪ ،‬وظنها‬ ‫يقتات من ك ّل هذه التي ما فتئت ت�أكل من‬
‫وقفة عابرة يعود منها �سريع ًا �إل��ى الكتابة‬ ‫ر�ؤو�سها طيور الأجنا�س الف ّنية التي تنتقر من‬
‫الإب��داع��ي��ة‪ ،‬ول��ك��ن البحث ك��الأخ��ط��ب��وط �إن‬ ‫الخا�ص‬
‫ّ‬ ‫هنا وهناك لت� ّؤ�س�س عالمها الف ّني‬
‫�أول �أعماله (الورد‬ ‫�أم�سكك فلن يتركك البتة‪ .‬في تلك الأثناء تو ّل َه‬ ‫الذي �أراده �آيت ميهوب‪� ،‬أو على الأق��ل ن�شره‬
‫والرماد) �أو�ضح‬ ‫بالترجمة‪ ،‬و�أنجز عدة ترجمات‪� ،‬أ�ضافت �إليه‬ ‫�ضمن مجموعة ق�ص�صية الحقيقة)‪.‬‬
‫الكثير‪ ،‬ونال عنها جائزة ال�شيخ زايد للكتاب‪.‬‬ ‫وبعد القراءة المت�أ ّنية‪ ،‬ال ن�ستطيع بي�سر‬
‫امتالكه لأدوات‬ ‫لكن ذل��ك كله ال يعني �أن��ه ت��رك الإب���داع في‬ ‫�أن نقطع بر�أي ب�ش�أن جن�س هذا المولود الف ّني‪،‬‬
‫الق�ص فني ًا‬ ‫م�ستوى ر�ؤية العمل البحثي نف�سه‪ ،‬وفي م�ستوى‬ ‫لك ّننا ن�ستطيع �أن نجزم بجودة �سبكه والقدرة‬
‫�أ�سلوب الكتابة والعبارة‪ .‬فمن قر�أ ن�صو�صه‬ ‫العجيبة على �صهر مختلف الألوان فيه‪ ..‬ف�إذا‬
‫الإبداعية ودرا�ساته النقدية وترجماته‪ ،‬يجد‬ ‫ذكي لع�شق‬ ‫نحن‪ ،‬في تقديري‪� ،‬أمام ت�صريف ّ‬
‫خيط ًا رفيع ًا يربط بينها‪.‬‬ ‫مجنون لمدينة البحر وال ّزرقة والجمال‪ ،‬مدينة‬
‫وفي تلك الأثناء �شرع في كتابة روايته‬ ‫ت ّتخذ لنف�سها موقع ال ّتاج على ر�أ���س تون�س‬
‫الثانية‪ ،‬التي �أعلم �أنه لم يتبق على اكتمالها‬ ‫الح�سناء وهي ت�شدو ب�ألحانها من عه ٍد �أندل�سي‬
‫�أجمع النقاد �أن‬ ‫�إال القليل‪ ،‬ولكن ل�سبب من الأ�سباب انف�ض عن‬ ‫يحيا في �شرايينها كما تحيا في �شرايينه‪� .‬إ ّنها‪،‬‬
‫الحياة تبعث من‬ ‫�إكمالها‪ ،‬و�أخذته م�شارب �أخ��رى‪ ،‬ولم ين�شط‬ ‫وبب�ساطة‪ ،‬محاولة �أكاد �أجزم ب�أ ّنها ناجحة‬
‫الموت في جل‬ ‫للعودة �إليها برغم تغير حال الكتابة ال�سردية‬ ‫لأَ ْ�س َط َر ِة المدينة و�صياغة �أ�سطورة البدايات‬
‫ق�ص�صه بدالالت‬ ‫كثيراً عما كان عليه في بداية الت�سعينيات من‬ ‫فيها‪� ،‬أو على الأق��ل ا�ستعادتها‪� ،‬إن كانت قد‬
‫ورموز فنية‬ ‫وتح�سن ظروف الن�شر‪ ،‬وتطور‬ ‫ّ‬ ‫القرن الفائت‪،‬‬ ‫فقدت‪ ،‬لت�ستعيد المدينة ن�ضارتها التي بد�أت‬
‫المواكبة النقدية‪ ،‬وح�ضور جوائز كثيرة‪ ..‬وهنا‬ ‫ربما‪ .‬فهي تقف في‬ ‫ال�سارد ّ‬
‫تخبو في ذهن ّ‬
‫يقول ميهوب‪( :‬ال �أري��د �أن �أظهر في �صورة‬ ‫الطرق‪ ،‬بين الما�ضي تليداً والحا�ضر‬ ‫مفترق ّ‬
‫ال�ضحية‪ ،‬وال �أريد �أن �أتعلل ب�أ�سباب مو�ضوعية‬ ‫�ضبابي ًا‪ .‬ومن خالل هذه‬ ‫ّ‬ ‫والم�ستقبل‬ ‫محيراً‬
‫ّ‬
‫أحملها غيابي الإبداعي‪ ،‬فهذه م�س�ؤوليتي �أنا‪.‬‬ ‫� ّ‬ ‫ماهية هذه القادمة‬ ‫ّ‬ ‫حول‬ ‫الحيرة‬ ‫أت‬ ‫ش�‬‫ن�‬ ‫الحيرة‪،‬‬
‫طبع ًا لم �أبتعد عن الق�صة الق�صيرة والرواية‪،‬‬ ‫من �أعماق البحر (يا �إلهي! امر�أة هي �أم حوت؟)‪.‬‬
‫فقد كتبت ف��ي الأث��ن��اء بع�ض الأقا�صي�ص‪،‬‬ ‫ق�صة مدينة‪،‬‬ ‫فهذا ال ّن�ص �إذاً �أعتى من ّ‬
‫لوحاته الق�ص�صية‬ ‫أدر�س ال�سرد في الجامعات‪،‬‬ ‫وترجمت الكثير‪ ،‬و� ّ‬ ‫و�أقرب �إلى ملحمة (بنزرتية) �أبطالها ينبج�سون‬
‫تقوم على ثنائية‬ ‫و�أح ّكم في م�سابقات تون�سية وعربية‪ .‬ولكن هذا‬ ‫وتتمدد على‬‫ّ‬ ‫من رماد الأ�ساطير لتزهر المدينة‬
‫كله لي�س في طعم‪ ،‬وال في �أهمية �أن ين�شر المرء‬ ‫الن�ص‬
‫�شاطئ البحر بدالل يغوي بالع�شق‪ ،‬فكان ّ‬
‫(الورد) و(الرماد)‬ ‫ن�صو�صه الإبداعية هو‪ .‬ومن الم�ؤكد �أنني قريب ًا‬ ‫�أ�سطورة مدينة‪ ،‬و�أ�سطورة عا�شق‪ .‬وكما يقول‬
‫في‪ .‬و�أود‬ ‫جداً �س�أعود �إلى القا�ص والروائي ّ‬ ‫الحرية �إلى مطلب الحياة‬ ‫ّ‬ ‫ابن معمر‪( :‬من مطلب‬
‫بهذه المنا�سبة �أن �أحيي كل القراء الذين ما‬ ‫يتدرج بنا ميهوب في �سفينته الإبداعية‬ ‫الكريمة ّ‬
‫يذكرونني بـ«الورد والرماد» وبـ«حروف‬ ‫زالوا ّ‬ ‫التي حمل فيها من ك ّل الأزواج‪� ،‬أخياراً كانوا �أو‬
‫الرمل»‪ ،‬وال ينفكون ي�س�ألونني عن جديدي)‪.‬‬ ‫الحب‬
‫ّ‬ ‫�أ�شراراً �إلى ما ال تحلو الحياة إ� ّال به‪� ،‬إلى‬

‫‪47‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫تقنيات الحداثة‬
‫عند رواد‬
‫ال�شعر الحر‬

‫من التقنيات التي تتعلق بالجانب البنائي‬


‫لم تكن منطلقات حركة ال�شعر الحر التي ا�ضطلع بها‬
‫(الهيكل) الذي يتمثل في المقدمة والعر�ض‬
‫والنهاية‪ ،‬وقد تعددت وتنوعت الهياكل‬ ‫ال�شعراء ال��رواد‪ ،‬تقف عند حدود االنفالت من الأوزان‬
‫في تجاربهم‪ ،‬غير �أن (ن��ازك المالئكة)‬ ‫الخليلية ذات الترتيب الهند�سي المقولب‪� ،‬أو االلتزام‬
‫حددتها وفق ر�ؤيتها النقدية في كتابها‬ ‫ال�صارم بالقافية فح�سب‪ ،‬بل �شملت البنية الفنية للق�صيدة‬
‫(ق�ضايا ال�شعر المعا�صر) بثالثة هياكل‬ ‫على �صعيدي المحتوى والبناء الهيكلي‪ ،‬و�شكلت اتجاه ًا‬
‫�أ�سا�سية هي‪ :‬الهيكل الهرمي الذي يرتكز‬ ‫د‪� .‬ضياء الجنابي‬
‫واقعي ًا ذا نزوع تجديدي وثّاب �شمل جميع مناحي الحياة‪.‬‬
‫على الحركة وال��زم��ن‪ ،‬والهيكل الذهني‬
‫الذي تكون الحركة فيه غير مقترنة بزمن‪،‬‬
‫والهيكل الم�سطح الذي يكون مجرداً من‬ ‫كما ج��اء لي�سحق ال�شعر الخطابي الذي‬ ‫وهذا ما �أك��ده رائد ال�شعر الحر الأبرز‬
‫الحركة والزمن‪.‬‬ ‫اعتاد ال�شعراء ال�سيا�سيون واالجتماعيون‬ ‫بدر �شاكر ال�سياب في مقال له في العدد‬
‫ولم تقف �إن��ج��ازات رواد ال�شعر الحر‬ ‫الكتابة به)‪.‬‬ ‫ال�ساد�س من مجلة الآداب عام (‪ )1954‬جاء‬
‫عند ح��دود الهيكل‪ ،‬بل �إنهم ا�ستخدموا‬ ‫لقد حققت ق�صيدة ال�شعر الحر نجاح ًا‬ ‫فيه‪�( :‬إن ال�شعر الحر هو �أكثر من اختالف‬
‫تقنيات ح��دي��ث��ة ف��ي ق�صائدهم منها‪:‬‬ ‫باهراً في ن�سف جدار وحدة البيت ال�شعري‪،‬‬ ‫ع��دد التفعيالت المت�شابهة من بيت �إلى‬
‫الأ���س��ط��ورة والميثولوجيا؛ وه��ي تقنية‬ ‫ف�أدخلت ال�شعر العربي في منعطف تاريخي‬ ‫�آخر‪ ،‬و�إنه بناء فني جديد واتجاه واقعي‬
‫ذات وظيفة فكرية و�سيا�سية‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫مهم‪ ،‬حققت من خالله وح��دة المو�ضوع‬ ‫جديد‪ ،‬جاء لي�سحق الميوعة الرومانتيكية‬
‫�إلى وظيفتها الجمالية‪ ،‬ولعل بدر �شاكر‬ ‫في الق�صيدة العربية عبر اعتمادها جملة‬ ‫و�أدب الأبراج العاجية‪ ،‬وجمود الكال�سيكية‪،‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪48‬‬


‫مداخلة‬

‫ذات��ي بالكوني‪ ،‬وم��ا هو خا�ص بالجماعي‬ ‫ال�سياب‪ ،‬يقف في مقدمة ال�شعراء في براعة‬
‫العام الم�شترك‪ ،‬وقد �أبدع في ا�ستخدامها كل‬ ‫توظيف الأ���س��ط��ورة‪ ،‬لخدمة الق�صيدة فني ًا‬
‫من (عبدالوهاب البياتي‪ ،‬وال�سياب‪ ،‬و�صالح‬ ‫وفكري ًا‪ ،‬حيث لم ُيدخل الأ�سطورة كما هي‬
‫عبدال�صبور‪ ،‬و�أم ��ل دن��ق��ل‪ ،‬وخليل ح��اوي)‪،‬‬ ‫في ق�صائده‪ ،‬بل �أجرى عليها تحويرات وفق‬
‫والمالحظ �أن ال�شعراء ال���رواد‪ ،‬ق��د اكت�شفوا‬ ‫ر�ؤيته العميقة وطورها فني ًا‪ ،‬ولم ينظر �إلى‬
‫�إمكانيات القناع في التعبير ال�شعري القادر‬ ‫الفعل الأ�سطوري بنف�س نظرة كاتب الأ�سطورة‬
‫على حمل الم�ضامين العميقة‪ ،‬ف�شحنوه‬ ‫وحملها‬
‫ذاته‪ ،‬بل �شحنها بطاقة الفعل الخالق ّ‬
‫بهموم الإن�����س��ان وح�����س ال�شاعر و�أع����اروه‬ ‫م�ضامين حديثة �أكثر عمق ًا مما هي عليه‬
‫من التقنيات‬ ‫مواقفهم الحا�سمة من ب�ؤر ال�صراع المحتدمة‬ ‫ومزجها بغيرها من الأ�ساطير‪ ،‬ولم يكتف‬
‫الحديثة التي‬ ‫والمواجهات الم�صيرية التي ي�ضج بها العالم‪،‬‬ ‫بت�ضمين ق�صائده بالأ�ساطير‪ ،‬ب��ل عا�ش‬
‫و�إن من �أبرز معطيات تقنية القناع �أنها تبعد‬ ‫معها وتوحد بها‪ ،‬ويتجلى ذلك في الكثير من‬
‫ا�ستخدمها ال�شاعر‬
‫التطابق بين �شخ�صية ال�شاعر ك�إن�سان ون�صه‬ ‫ق�صائده منها ق�صيدته (من ر�ؤيا فوكاي)‪:‬‬
‫الأ�سطورة وال�سرد‬ ‫كفعل حيوي في الواقع‪ ،‬وبهذا ال�سياق ي�ؤكد‬ ‫ما زال ناقو�س �أبيك يقلق الم�ساء‬
‫والقناع والرمز‬ ‫البياتي في كتابه «تجربتي ال�شعرية»‪�( :‬إن‬ ‫ب�أفجع الرثاء‬
‫وتداخل الأ�صوات‬ ‫الق�صيدة في مثل هذه الحالة عالم م�ستقل عن‬ ‫هياي كونغاي كونغاي‬
‫ال�شاعر‪ ،‬و�إن كان هو خالقها)‪� ،‬إذاً فالقناع هو‬ ‫فيفزع ال�صغار في الدروب‬
‫�شخ�صية افترا�ضية تظهر في الق�صيدة كعن�صر‬ ‫وتخفق القلوب‬
‫خلق لم�ضامين و�أفكار‪ ،‬يحركها ال�شاعر بحرية‬ ‫الدور ببكّين و�شنغهاي‬
‫وتغلق ّ‬
‫حيثما يريد منذ ال�شروع بالق�صيدة حتى‬ ‫من رجع كونغاي كونغاي‬
‫نهايتها‪ ،‬ويمكننا تلم�س ذلك في ق�صيدة �أمل‬
‫دنقل (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)‪:‬‬ ‫ال�سرد الق�ص�صي؛ من ال�شعراء الرواد الذين‬
‫برعوا في ا�ستخدام هذه التقنية نازك المالئكة‪،‬‬
‫و�صالح عبد ال�صبور‪� ،‬إذ عمال على مواءمة‬
‫ال�سرد مع ال�شعر‪ ،‬ويظهر ذلك جلي ًا في ق�صيدة‬
‫(الخيط الم�شدود في �شجرة ال�سرو) التي كتبتها‬
‫نازك عام (‪1948‬م)‪ ،‬وهي ت�سرد ق�صة بال�شعر‬
‫�أو تكتب �شعراً ب�أ�سلوب ق�ص�صي‪ ،‬فت�سرد لنا‬
‫حكاية ح��ب م�أ�ساوية‪ ،‬عبر ت�صوير جميل‬
‫ن�سجتها على �سبعة محاور‪ ،‬ولم ت�ضطرب روح‬
‫ال�شعر فيها‪:‬‬
‫حراك‬
‫ْ‬ ‫دون‬
‫َ‬ ‫هنا‬ ‫�‬
‫ّ أنتَ‬‫ها‬ ‫ثم‬
‫الممر‬
‫ِّ‬ ‫أر�ض‬
‫ِ‬ ‫�‬ ‫في‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫تنها‬ ‫أن‬
‫ْ‬ ‫متعب ًا ِ‬
‫تو�ش ُك �‬
‫البياتي‬ ‫بلند الحيدري‬
‫هناك‬
‫ْ‬ ‫م�شدود‬
‫ٌ‬ ‫الحائر‬
‫ُ‬ ‫طرف َ‬
‫ُـك‬
‫�سر‬
‫ألف ِّ‬‫خيط �شُ َّد في ال�سرو ِة يطوي � َ‬ ‫عند ٍ‬ ‫َ‬
‫وبنف�س التقنية نجد �صالح عبدال�صبور‪ ،‬في‬
‫ق�صيدة (المر�أة وال�شم�س) يقول‪:‬‬
‫نظرت تتلم�س خطوتها في الرمل‬
‫وقامت مرهقة �شمطاء‬
‫�أخذت من �أول دكان‬
‫ما يكفيها من خبز ‪......‬‬

‫ذهبت كي ترقد في ما�ضيها‬


‫القناع؛ تبلورت ه��ذه التقنية كح�صيلة‬
‫مثمرة لنزوع �شعري مغاير‪� ،‬سعى �إلى ا�ستبدال‬
‫فدوى طوقان‬ ‫ال�سياب‬ ‫ما هو غنائي في ال�شعر بالدرامي‪ ،‬وما هو‬

‫‪49‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مداخلة‬

‫وظف ال�شاعر هذه‬


‫التقنيات للتعبير عن‬
‫همومه التي تجاوزت‬
‫البعد ال�شخ�صي‬

‫�سجين في قطا ْر‬‫ٌ‬ ‫�أيتها ال َّعرافة المقد�سة‬


‫ُم َّرةٌ ليلتهُ الأولَى‬ ‫ماذا تفيد الكلمات البائ�سة؟‬
‫و ُم ٌّر يو ُمهُ الأولُ‬ ‫قلت لهم ما ِ‬
‫قلت عن قوافل الغبا ْر‬ ‫ِ‬
‫أر�ض غري َبه‬ ‫في � ٍ‬ ‫ِ‬
‫عينيك‪ ،‬يا زرقاء‪ ،‬بالبوار‬ ‫فاتهموا‬
‫ِ‬
‫كانت ل َياليه الرتي َب ْه‬‫ُم َّر ًة ْ‬ ‫لقد ا�ستطاع ال�شعراء ال ��رواد‪ ،‬من خالل‬
‫تقنية تداخل الأ�صوات والأزمنة عبر ن�سيج‬ ‫القناع �أن يناق�شوا �أخطر الق�ضايا الح�سا�سة‪،‬‬
‫درام��ي فني‪ ،‬يبث في ج�سد الق�صيدة القابلية‬ ‫وهم يتمتر�سون خلفه‪ ،‬ولوال ذلك لدخلوا في‬
‫على الحركة والفعل‪ ،‬وه��ذا ما يبرز العالقة‬ ‫م�شكالت ال قبل لهم بها‪ ،‬ومما ال �شك فيه �أن‬
‫�أدخلت ال�شعر العربي‬ ‫الحيوية‪ ،‬بين مو�ضوع الق�صيدة والأ�سلوب‬ ‫لجوء ال�شاعر العربي المعا�صر لهذه التقنية‪،‬‬
‫في منعطف تاريخي‬ ‫الذي تطرحه‪ ،‬وقد برع با�ستخدام هذه التقنية‬ ‫تقف وراءه �أ�سباب وعوامل �سيا�سية واجتماعية‬
‫(بلند الحيدري)‪ ،‬وخ�صو�ص ًا في ديوانه (حوار‬ ‫كثيرة‪ ،‬وبهذا �أثبت ال ��رواد ق��درة فائقة في‬
‫بعد �أن حققت‬ ‫عبر الأبعاد الثالثة)‪ ،‬حيث ق�صد �أن يقيم حواراً‬ ‫ا�ستثمار ال��رم��وز وال�شخ�صيات التاريخية‬
‫وحدة المو�ضوع في‬ ‫م�سرحي ًا �شعري ًا طرفاه ال�شاعر والمتلقي‪ ،‬من‬ ‫ك�أقنعة ال�ستلهام خطاباتهم‪ ،‬وتحويلها �إلى‬
‫الق�صيدة‬ ‫خ�لال الوعي العميق‪ ،‬ال��ذي ي�ستبطنه الن�ص‬ ‫�صور حديثة محملة بالدالالت المعا�صرة‪.‬‬
‫ال�شعري في بنائية درامية با�ستخدام المجموعة‬ ‫ال��رم��ز؛ ه��ذه التقنية تعتمد على القدرة‬
‫(الكور�س)‪ ،‬التي تتحدث با�سم الآخرين وتفر�ض‬ ‫الإي��ح��ائ��ي��ة‪ ،‬ال��ت��ي ينطوي عليها التركيب‬
‫وجودها في حركة الواقع‪ ،‬كما اعتمد (بلند‬ ‫ال�����ش��ع��ري ف��ي التعبير ع��ن ك��وام��ن النف�س‬
‫الحيدري) ال�ضربات الإيقاعية الحادة‪ ،‬وجعل‬ ‫الإن�سانية الخبيئة وخلجاتها الغام�ضة‪ ،‬ويعد‬
‫نهايات الأ�سطر قوية م�شدودة كي يوفز المتلقي‪،‬‬ ‫الرمز نمط ًا حداثي ًا تفنن فيه رواد ال�شعر‬
‫وهذه التقنية ا�ستخدمها في معظم ق�صائده‪،‬‬ ‫الحر وحولوه بقدراتهم الح�سية والحد�سية‬
‫�إذ يقول في ق�صيدة (نداء الخطايا ال�سبع)‪:‬‬ ‫�إلى اتجاه فني‪ ،‬يرتقي على الأبعاد المادية‬
‫تكذب يا مجنون‬ ‫للظواهر التي يعج بها الواقع‪ ،‬وقد برع الكثير‬
‫تكذب فالم�سمار درب المطرقة‬ ‫من رواد ال�شعر الحر با�ستخدام هذه التقنية‬
‫منطلق حركة‬ ‫جدفت يا ملعون‬ ‫متخذين منها �سالح ًا‪ ،‬لت�شتيت �أنظار الرقيب‬
‫ال�شعر الحديث‬ ‫يا وجهي الآخر في الإن�سان‬ ‫وعدم الوقوع تحت طائلة المحا�سبة‪ ،‬بغية‬
‫�شملت البنية الفنية‬ ‫�إلى متى‬ ‫�إي�صال الق�صائد �إل��ى الجمهور دون منع‬
‫ت�صير لي في مرة �سنبلة‬ ‫ن�شرها من قبل الرقيب‪ ،‬وقد �أثبت رواد حركة‬
‫للق�صيدة‬ ‫ومرة‬ ‫ال�شعر الحر �أمثال (خليل حاوي‪ ،‬و�أدوني�س‪،‬‬
‫ت�صير لي موت ًا وحبل م�شنقة‬ ‫وفدوى طوقان) جدارتهم با�ستخدام التراكيب‬
‫لقد وظف رواد ال�شعر الحر جميع التقنيات‬ ‫الغام�ضة والألفاظ الموحية‪ ،‬لتحويل المعاناة‬
‫الحداثية للتعبير عن همومهم التي تجاوزت‬ ‫الخا�صة والأفكار الم�ؤثرة �إلى هموم �إن�سانية‬
‫البعد ال�شخ�صي‪ ،‬وحلقت في م��دارات الهموم‬ ‫عامة‪ ،‬ون�ست�شهد بق�صيدة (وجوه ال�سندباد)‬
‫القومية والإن�سانية‪.‬‬ ‫لخليل حاوي‪:‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪50‬‬


‫مقاالت‬
‫وم�ضات‬

‫نبيل �سليمان‪..‬‬
‫وح�ضوره الروائي والنقدي‬
‫نقر�أ في �أدب نبيل �سليمان ح�س ًا عالي ًا‬ ‫ف��ي ع��ام (‪2008‬م)‪ ،‬زرت الأدي���ب نبيل‬
‫الفعال والحيوي في‬ ‫ّ‬ ‫باللغة‪ ،‬ه��ذا العن�صر‬ ‫�سليمان في بيته الريفي‪ ،‬ال��ذي يختزن بين‬
‫تقنيات الرواية‪ ،‬وقد �أجاد توظيفها في نتاجه‬ ‫جدرانه حكايات �ألف ليلة وليلة‪ ،‬وبرغم �أنه‬
‫الأدبي‪ ،‬حيث نراها تتفجر بمفردات تختلف ما‬ ‫لقائي الأول معه‪ ،‬ف�إن ما يتمتع به من دماثة‬
‫بين كتاب و�آخر‪ ،‬وعن التقنيات التي يعتمدها‬ ‫بدد حالة التكلف التي‬ ‫الروح وعذوبة الح�ضور‪ّ ،‬‬
‫�سلوى عبا�س‬ ‫ف��ي كتابته‪ ،‬وكيف يعمل على تقنية اللغة‬ ‫كان يمكن �أن ترت�سم على مالمح لقائنا‪ ،‬فكان‬
‫بحيث تجعل االلتماعة الأول��ى حا�ضرة في‬ ‫�أقرب للبوح منه للقاء ال�صحافي الذي تحكمه‬
‫�أي�ض ًا في روايته (ثلج ال�صيف) يتحدث‬ ‫كل كتاب نقر�ؤه له يتحدث‪( :‬هذا هو هاج�س‬ ‫طبيعة الأ�سئلة والأجوبة المقت�ضبة‪ ،‬وهذا لي�س‬
‫عمري وحياتي �أن �أخ��رج من جلدي مرة بعد الأديب �سليمان عن حرب حزيران‪ ،‬وفي رواية‬ ‫غريب ًا على �أديبنا‪ ،‬فغناه الروحي يمثل جزءاً‬
‫مرة مادمت حي ًا‪ ،‬فل ّذة المغامرة في البحث (جرماتي) تناول حرب ت�شرين‪ ،‬وهنا يخطر‬ ‫مهم ًا من غناه الأدب ��ي‪ ،‬حيث حقق ح�ضوراً‬
‫بحد ذاتها‬
‫عن كتابة جديدة‪ ،‬عن بناء روائي جديد‪ ،‬عن ال�س�ؤال‪ :‬هل ب�إمكاننا اعتبار الكتابة ّ‬ ‫الفت ًا ومتميزاً في حقل الأدب ال�سوري خا�صة‪،‬‬
‫لغة جديدة‪ ،‬وعلى الم�ستوى اللغوي �أظ��ن �أن فعل مقاومة؟ فيجيب‪( :‬لي�س بال�ضرورة �أن تلعلع‬ ‫والعربي عامة‪ ،‬نظراً لغزارة �إنتاجه وتنوعه في‬
‫الجذر هو في الن�ش�أة قبل الجامعة‪ ،‬وكذلك الق�صيدة �أو الرواية بالر�صا�ص �أو باال�ست�شهاد‪،‬‬ ‫مجال الرواية والنقد‪ ،‬فما بين روايته الأولى‬
‫في درا�ستي في الجامعة على �أي��دي �أ�ساتذة �أو �أن تتخبط بالدماء حتى تكون كتابة مقاومة‪،‬‬ ‫(وينداح الطوفان) ال�صادرة عام (‪1970‬م)‪،‬‬
‫�أجالء �أن�ش�ؤوني ن�ش�أة لغوية مميزة‪ ،‬ف�ض ًال عما قد يكون ه��ذا‪ ،‬ولكن �شرط �أن يكون محكوم ًا‬ ‫مروراً ب�أعمال �أدبية كثيرة تراوحت بين الرواية‬
‫�أن�ش�أني عليه جدي بما قر�أته تحت و�صايته بالفن ال��ذي هو المعيار الأول والأخير‪ ،‬لذلك‬ ‫والدرا�سات النقدية‪ ،‬و�صو ًال �إلى عمله الأخير‬
‫ال�صارمة من القر�آن �إلى �أ�شعار بدوي الجبل الكتابة نف�سها في زمن كالزمن الذي نعي�شه‬ ‫(تاريخ العيون المطف�أة) (‪2019‬م)‪ ،‬وفوزه‬
‫وغيرها‪ ..‬وبالوقت ذاته �أ�صغي جيداً للنب�ض وال ��ذي يمتد على م��دى ال��ق��رن الع�شرين كله‬ ‫�أخيراً بجائزة �سلطان العوي�س الثقافية لعام‬
‫اللغوي لل�شارع والحياة‪ ،‬فالرواية ال تعي�ش وحتى الآن‪ ،‬هي فعل مقاوم للتكل�س والتخلف‬ ‫(‪2021 -2020‬م)‪ ،‬تمتد تجربة غنية ورائدة‬
‫يكبل روح الإن�سان‪ ،‬وكل ما‬ ‫بلغة القوامي�س ودواوي ��ن ال�شعر التراثي �أو والبالدة وكل ما ّ‬ ‫�سجلها الأديب نبيل �سليمان في معجم الأدب‬
‫ي�شوه القيم الإن�سانية النبيلة الرفيعة‪ ،‬وكل ما‬‫ّ‬ ‫�سواها فقط‪ ،‬فاللغة الروائية تت�شظى لت�صبح‬ ‫والرواية‪ ،‬تجربة تمتد لأكثر من ن�صف قرن‪.‬‬
‫لغات‪ ،‬وه��ذا كله كعجينة يجعل لغة الكاتب يب�شر بالعدالة‪ ،‬بالجمال‪ ،‬ببهجة الحياة‪ ...‬بهذه‬ ‫�أغوته الحكاية منذ طفولته‪ ،‬بت�أثير من‬
‫مميزة‪ ،‬و�أنا حري�ص جداً على هذا التميز و�أعمل المعاني الرحبة‪� ،‬أنظر للمقاومة في الكتابة)‪.‬‬ ‫والده الذي كان يتمتع بقدرة الفتة على ال�سرد‬
‫وفي ت�صريحاته حول فوزه بجائزة �سلطان‬ ‫عليه حتى الآن)‪.‬‬ ‫والت�شويق‪ ،‬عبر �سرده للوقائع كما يتخيلها‪،‬‬
‫وي�شير �أدي��ب��ن��ا ف��ي كتابه (فتنة ال�سرد العوي�س الثقافية يقول الأديب نبيل �سليمان‪:‬‬ ‫و�أ�سهم عامل �آخر في الت�أ�سي�س لتجربة �أديبنا‬
‫والنقد)‪� ،‬إل��ى الممار�سة الروائية للنقد‪ ،‬ونقد (كانت لحظة �سعيدة‪� ،‬أو بالأحرى كانت مفاج�أة‬ ‫النبيل‪ ،‬هو انجذابه للقراءة في �سن مبكرة‪� ،‬إذ‬
‫النقد عبر ا�شتغال الروائي بنقد �شغله الروائي‪� ،‬سعيدة على غير ميعاد‪ ،‬لأنني لم �أنتظرها كما‬ ‫لم يكن قد تجاوز العا�شرة من عمره‪ ،‬عندما بد�أ‬
‫�أو بما يتوازى مع هذا ال�شغل من النقد‪ ،‬وا�شتغال لم �أنتظر غيرها يوم ًا‪ ،‬مثل هذه الجائزة تجعلك‬ ‫بقراءة ال�سرديات التراثية ال�شعبية‪ ،‬وفي مرحلة‬
‫الرواية على نف�سها وعلى غيرها‪ ،‬م�ؤكداً �أي�ض ًا ت�شعر ب�أنك ل�ست وحيداً �أو من�سي ًا في ظالم هذا‬ ‫الحقة تطورت ق��راءات��ه �إل��ى رواي��ات �إح�سان‬
‫�أنه ال غنى عن الناقد �إطالق ًا‪ ،‬وي�أ�سف �أن لدى الليل العربي الطويل)‪.‬‬ ‫عبدالقدو�س‪ ،‬ويو�سف ال�سباعي وغيرهما من‬
‫و� ّأكد الأديب �سليمان �أهمية هذه الجائزة‪،‬‬ ‫بع�ض الك ّتاب مباهاة بالجهل النقدي‪ ،‬ويحلو‬ ‫رواد الأدب العربي‪ ..‬ومن العوامل الغام�ضة‬
‫لبع�ضهم �أن يقول �أنا ال �أبالي بالنقد وال �أفهم كواحدة من �أف�ضل ال ّتكريمات الأدب��ي��ة على‬ ‫التي يمكن �أن تتوافر في �إن�سان دون �آخر‪ ،‬هناك‬
‫به‪ ،‬لكن هذه لي�ست ميزة‪ ،‬وله�ؤالء يقول‪( :‬هناك م�ستوى المنطقة‪ ،‬لإ�سهامها في �إنعا�ش الرواية‬ ‫عامل التخييل‪ ،‬وعنه يقول‪( :‬كان عام ًال �أ�سا�سي ًا‬
‫على م�ستوى ال�ساحة العربية �أمثلة كثيرة من العربية ت�أليف ًا ون�شراً وق��راءة‪ ،‬فهي في واقع‬ ‫في مراهنتي على قراءة الرواية‪ ،‬وكتابتها مع ًا‪،‬‬
‫الروائيين الذين �أثبتوا ح�ضورهم النقدي �إلى الأمر‪ ،‬ت�ش ّكل نافذة م�شرعة على الإبداع الروائي‬ ‫لدرجة �أن التخوم بين الواقعي والمتخيل‪،‬‬
‫جانب ح�ضورهم الروائي‪ ،‬فجبرا �إبراهيم جبرا لجيل الك ّتاب الكبار‪ ،‬الذي اليزال يرفد الحياة‬ ‫ظلت بالن�سبة �إل��ي تخوم ًا متداخلة‪ ،‬وربما‬
‫ك��ان روائ��ي� ًا ون��اق��داً بامتياز‪ ،‬ومثله �إدوارد الثقافية بمزيد من الإب��داع‪� ،‬إل��ى جانب جيل‬ ‫تكون �أحالم اليقظة حتى هذه ال�سن تزاحم في‬
‫الخراط‪ ،‬وغيرهما كثر‪ ..‬وعلى الم�ستوى العالمي الأدباء ال�شباب‪.‬‬ ‫�أعماقي ووعيي حتى الأمور الموعاة تمام ًا)‪.‬‬
‫جائزة �سلطان العوي�س الثقافية لي�ست‬ ‫عبر تاريخ الأدب هناك دائم ًا المبدع الناقد‪،‬‬
‫كما �أن هناك ناقداً فقط ومبدع ًا فقط‪ ،‬ومن هذه الأولى التي ينالها الأديب نبيل �سليمان‪ ،‬وال‬ ‫اللغة الروائية تت�شظى‬
‫علي دائم ًا‪� ،‬أن �أعمق معرفتي بفن التكريم الأول وال الأخير‪ ،‬فقد حاز العديد من‬ ‫الزاوية يلح ّ‬
‫الجوائز العربية‪.‬‬ ‫الرواية �سواء كنت �أكتب نقداً �أم ال)‪.‬‬ ‫لت�صبح لغات وتجعل لغة‬
‫الكاتب مميزة‬
‫‪51‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬
‫جمع بين الإبداع الروائي والنقد‬

‫نبيل �سليمان‬
‫يـحــلـــم بالـتــفــرغ‬
‫للقراءة والكتـابـة‬

‫على م��دار تاريخها‪ ،‬حيث منحت في �أولى‬ ‫ا�ستقبل الو�سط الثقافي والأدبي �أخيراً‪ ،‬ب�سعادة بالغة‪،‬‬
‫دوراتها �إل��ى الأدب ��اء‪ :‬حنا مينه‪ ،‬و�سعداهلل‬
‫ونو�س‪ ،‬ومن ثم الدكتور عبدالرحمن منيف‪،‬‬ ‫ح�صول الأديب والناقد ال�سوري نبيل �سليمان‪ ،‬و�أحد كتاب‬
‫و�صنع اهلل �إبراهيم‪ ،‬و�إدوارد الخراط‪ ،‬وغيرهم‬ ‫مجلة «ال�شارقة الثقافية»‪ ،‬على جائزة �سلطان بن علي‬
‫الكثير م��ن �أع�ل�ام الأدب وال�����س��رد العربي‬ ‫العوي�س الثقافية‪ ،‬بدولة الإمارات العربية المتحدة‪ ،‬في‬
‫المعا�صر‪.‬‬ ‫مجال الق�صة والرواية والم�سرحية‪ ،‬بعد م�سيرة حافلة‬
‫ولد نبيل �سليمان بمدينة (�صافيتا) بريف‬ ‫زمزم ال�سيد‬
‫محافظة طرطو�س ال�سورية‪ ،‬حيث الطبيعة‬ ‫من الإب��داع‪ ،‬ا�ستمرت على مدار �أكثر من (‪ )5‬عقود‪ ،‬من‬
‫ال�ساحرة والآثار التاريخية العريقة‪ ،‬وتلقى‬ ‫العطاء المتجدد‪ ،‬ت�ضمنت (‪ )57‬كتاباً‪ ،‬منها (‪ )22‬رواية‪� ،‬إلى جانب �صدور‬
‫تعليمه في الالذقية‪ ،‬وقد ح�صل �سليمان على‬ ‫(‪ )13‬كتاب ًا حول �أعماله‪ ،‬والعديد من المقاالت والأطروحات الجامعية‪.‬‬
‫�إجازة في اللغة العربية عام (‪1967‬م) من‬
‫كلية الآداب في جامعة دم�شق‪ ،‬ومن ثم عمل‬ ‫تلميذ دائم �أتعلم ممن �سبقوني‪ ،‬وممن جا�ؤوا‬ ‫تعد تجربة �سليمان الروائية‪ ،‬وفق �أكثر‬
‫في بداية حياته مدر�س ًا‪ ،‬وقبل �أن ي�ستقيل من‬ ‫معي وبعدي)‪� ،‬إلى جانب ا�ست�ضافته في �أغلب‬ ‫المراقبين والمهتمين بال�ش�أن الثقافي‪،‬‬
‫التدري�س‪� ،‬أ�س�س مكتبة (�آفاق) (‪1979‬م)‪ ،‬ومن‬ ‫الملتقيات الأدبية والثقافية‪ ،‬على م�ستوى‬ ‫تجربة عميقة وجادة‪ ،‬ويبرز فيها التجريب‬
‫بعدها �أ�س�س (دار الحوار للن�شر والتوزيع)‪،‬‬ ‫الوطن العربي‪ ،‬نظراً لما يتمتع به من تجربة‬ ‫والمثابرة وتجديد ال�سرد وط��رح الق�ضايا‪،‬‬
‫(‪1982‬م)‪ ،‬وقد تفرغ للكتابة ما بين عامي‬ ‫ا�ستثنائية‪ ،‬تو�صف ب�أنها الأكثر غزارة و�إبداع ًا‪.‬‬ ‫التخيل والتاريخ وال�سيرة‬
‫ّ‬ ‫حيث يمزج بين‬
‫(‪1989-1990‬م)‪.‬‬ ‫وتعتبر (جائزة العوي�س الثقافية)‪ ،‬التي‬ ‫والفل�سفة والواقع‪ ،‬متمكن ًا من فتح �أفق فريد‬
‫بد�أ �سليمان م�سيرته الروائية في العام‬ ‫تنظمها م�ؤ�س�سة �سلطان بن علي العوي�س‬ ‫عدة‪.‬‬
‫يجمع بين �أنواع �سردية ّ‬
‫(‪1970‬م) ب��رواي��ة (ي��ن��داح ال��ط��وف��ان) وهو‬ ‫الثقافية بدبي‪ ،‬من �أبرز التكريمات الأدبية‬ ‫�أما عن تجربته النقدية‪ ،‬فهي ت�أ�سي�سية‪،‬‬
‫في �سن الخام�سة والع�شرين‪ ،‬ومن ثم انطلق‬ ‫على م�ستوى الوطن العربي‪ ،‬التي تتوج م�سيرة‬ ‫ر�صد م��ن خاللها الحركة الأدب��ي��ة خا�صة‬
‫�سليمان ب�إبداعه وكتابته‪ ،‬ليرفد المكتبة‬ ‫الأدب��اء العرب‪ .‬وفي دورتها ال�سابعة ع�شرة‬ ‫الرواية‪ ،‬محلي ًا وعربي ًا‪ ،‬وقد و�صف (�سليمان)‬
‫العربية ب��ع��دة رواي����ات ودرا� ��س ��ات‪ ،‬نذكر‬ ‫(‪2021 - 2020‬م) منحت ل�ل�أدي��ب نبيل‬ ‫كتبت حرف ًا في‬‫ُ‬ ‫تجربته النقدية بقوله‪( :‬ما‬
‫منها على �سبيل المثال في مجال الرواية‪:‬‬ ‫�سليمان‪ ،‬لي�ضاف ا�سمه �إلى قائمة تطول من‬ ‫النقد �إال لأفيد منه في كتابة الرواية‪ ،‬محاو ًال‬
‫ال�سجن‪ ،‬قي�س يبكي‪ ،‬مجاز الع�شق‪ ،‬دلعون‪،‬‬ ‫الأدباء والمفكرين العرب‪ ،‬الذين منحوا هذه‬ ‫في كل كتاب‪� ،‬أن �أرى م��اذا ُتقدم رواي��ات‬
‫مدارات ال�شرق في (‪� )4‬أجزاء‪ ،‬وتاريخ العيون‬ ‫الجائزة‪ ،‬فئة الق�صة والرواية والم�سرحية‪،‬‬ ‫الآخرين‪ ،‬الكبار منهم وال�شباب خ�صو�ص ًا‪ ،‬ف�أنا‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪52‬‬


‫�سيرة‬

‫المطف�أة‪ .‬وقد ترجمت بع�ض رواياته‪� ،‬إلى اللغات‪:‬‬


‫الإنجليزية‪ ،‬والرو�سية والإ�سبانية‪ ،‬والفار�سية‪،‬‬
‫والدانماركية‪.‬‬
‫كما �أ�سهم �سليمان بعدة كتب ودرا�سات في‬
‫مجال النقد الأدبي نذكر منها‪:‬‬
‫الأدب والأديولوجيا في �سوريا (باال�شتراك‬
‫مع بوعلي يا�سين)‪ ،‬وم�ساهمة في نقد النقد‬
‫الأدب��ي‪ ،‬وفتنة ال�سرد والنقد‪ ،‬وحوارية الواقع‬
‫والخطاب الروائي‪ ،‬و�شهرزاد المعا�صرة‪ :‬درا�سات‬
‫في الرواية العربية‪ ،‬والمخاتلة ال�سردية‪ ،‬وغيرها‬
‫من الم�ؤلفات النقدية‪ .‬وف��ي المجال الثقافي‬
‫وال�ش�أن العام‪ ،‬قدم (�سليمان) عدة �إ�صدارات منها‪:‬‬
‫في التباب ونق�ضه‪ ،‬و�أقوا�س في الحياة الثقافية‪،‬‬
‫والثقافة بين ال�سالم والظالم‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫ت��وج��ت م�سيرة (�سليمان) الأدب��ي��ة بعدة‬
‫تكريمات منها‪ :‬جائزة غالب هل�سا للإبداع‬
‫الثقافي ‪ -‬عمان‪ ،‬الأردن (‪1994‬م)‪ .‬وجائزة‬
‫با�شراحيل للإبداع الثقافي‪ -‬القاهرة (‪2003‬م)‪.‬‬
‫وك���رم ف��ي م��ع��ر���ض ال��ك��ت��اب ال��دول��ي تون�س‪،‬‬
‫(‪2019‬م)‪ .‬كما حملت رواي��ة م ��دارات ال�شرق‬
‫من �أعماله الأدبية‬
‫من الوقفات والإ���ض��اءات الأدب��ي��ة والثقافية‪.‬‬ ‫(�أربعة �أجزاء‪ :‬الأ�شرعة ‪ -‬بنات نع�ش ‪ -‬التيجان‬
‫بنى نبيل �سليمان في بداية الثمانينيات‬ ‫‪ -‬ال�شقائق) الرقم (‪ )20‬في قائمة �أف�ضل مئة‬
‫منز ًال في قرية (ال��ب��ودي) التي تقع على ُبعد‬ ‫رواية عربية‪.‬‬
‫وهب حياته للكتابة‬ ‫ع�شرين كيلومتراً من مدينة (جبلة) وترتفع‬ ‫كما كتب عن تجربة �سليمان الروائية‪ ،‬عدة‬
‫(‪ )600‬متر عن �سطح البحر مطل ًة على ال�ساحل‬ ‫كتب ودرا�سات‪� ،‬صاغتها �أقالم عربية مهمة‪ ،‬وقد‬
‫فا�ستحق �أن يت�صدر‬ ‫ال�سوري وقد نقل مكتبته �إلى هناك‪ ،‬وحول ذلك‬ ‫قدمت عدة �أطروحات جامعية حول �أعماله‪.‬‬
‫ا�سمه قائمة‬ ‫يقول‪�( :‬أعي�ش فيها عزلتي منذ عام (‪1987‬م)‪،‬‬ ‫يكتب (�سليمان) في عدة دوريات ومجالت‬
‫المبدعين العرب‬ ‫و�أحلم ب�أن �أكون متفرغ ًا للقراءة والكتابة‪ ،‬وال‬ ‫و�صحف ع��رب��ي��ة‪ ،‬م��ق��االت ث��اب��ت��ة‪ ،‬ي��ث��ري من‬
‫يعرف لذة القراءة والكتابة �إال المتفرغ)‪.‬‬ ‫خ�لال��ه��ا الم�شهد ال��ث��ق��اف��ي ال��ع��رب��ي بالكثير‬

‫�أعماله الروائية‬
‫نافذة يطل القارئ‬
‫منها على تاريخ‬
‫�سوريا المعا�صر‬
‫�إدوارد الخراط‬ ‫بو علي يا�سين‬ ‫غالب هل�سا‬

‫كتب (‪ )٥٧‬كتاب ًا منها‬


‫(‪ )٢٢‬رواية كما كتب‬
‫عن �أعماله (‪)١٣‬‬
‫كتاب ًا‬
‫�صنع اهلل �إبراهيم‬ ‫عبدالرحمن منيف‬ ‫حنا مينه‬

‫‪53‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫�أبعاد العمل الفني‬


‫الإبداعي ومكوناته‬
‫د‪ .‬مازن �أكثم �سليمان‬

‫من الأهمية‪ ،‬فالحديث عن �شخ�صية المبدع‬ ‫االهتمام بم�ستوى �إح�سا�س المبدع بالعالم‬ ‫تدل مفردة (العمل) في م�صطلح (العمل‬
‫يعني‪ ،‬من وجهة نظر علم النف�س‪ ،‬البحث‬ ‫المحيط والتعامل معه وما ينتج عن ذلك‬ ‫الفني الإب��داع��ي) على معنى الإن��ت��اج �أو‬
‫في اال�ستعدادات والدوافع والتمثل الفكري‬ ‫من مهارات‪ ،‬ومن الخط�أ � ْأن نعزو القدرة‬ ‫المح�صلة‪ ،‬التي تتوج مجموعة متفاعلة‬
‫والطبع والمزاج والمواقف العاطفية والذكاء‪،‬‬ ‫الإبداعية �إل��ى الموهبة النظرية فح�سب‪،‬‬ ‫ومعقدة من الن�شاطات التي تتج�سد في هذا‬
‫لكن الجانب النف�سي لي�س كل �شيء في‬ ‫فالمبدع لي�س مجرد كائن موهوب فقط؛ بل‬ ‫العمل‪ ،‬في حين �أن (الإب��داع) مفهوم وا�سع‬
‫تكوين ال�شخ�صية الإبداعية‪ ،‬ذلك لأن هناك‬ ‫هو �إن�سان قادر على تنظيم مجموعة معقدة‬ ‫�شامل عميق؛ فهو يمتد من االختراعات‬
‫ت�أثيراً عميق ًا‪� ،‬أي�ض ًا‪ ،‬للعالم االجتماعي في‬ ‫من الن�شاطات للو�صول �إلى تج�سيدها في‬ ‫واالكت�شافات العلمية‪ ،‬مروراً باالبتكارات‬
‫�شخ�صية المبدع‪ ،‬فاال�ستيعاب الفني للعالم‬ ‫عمل فني �إب��داع��ي‪ ،‬وجميع ه��ذه الجوانب‬ ‫والإبداعات الفنية‪ ،‬و�صو ًال �إلى كل �إنتاج‬
‫يقوم في تكوينه لل�شخ�صية الإبداعية على‬ ‫تمثل البعد الفردي ال�شخ�صي في الإبداع‪.‬‬ ‫جديد وقيم‪.‬‬
‫جدلية الذاتي والمو�ضوعي‪.‬‬ ‫�إن البعد الإبداعي االجتماعي هو البعد‬ ‫�إن الإبداع الفني �شكل راقٍ من �أ�شكال‬
‫غير �أن الحديث عن �شخ�صية المبدع‬ ‫الذي يكفل في العمل الفني عملية التوا�صل‬ ‫الن�شاط الإن�����س��ان��ي‪ ،‬وه��و ظ��اه��رة معقدة‬
‫يدفعنا �إلى التمييز بين �شخ�صيته الحياتية‬ ‫بين الفرد والجماعة‪ ،‬فكل عمل �إبداعي هو‬ ‫ج ��داً‪� ،‬أو جملة معقدة م��ن الظواهر ذات‬
‫و�شخ�صيته الإبداعية‪� ،‬إذ �إننا‪ ،‬على الأرجح‪،‬‬ ‫عمل خا�ص وع��ام في الوقت نف�سه؛ �أي‬ ‫وبمعنى �أدق؛‬
‫ً‬ ‫وج ��وه و�أب��ع��اد م��ت��ع��ددة‪.‬‬
‫نجد اختالف ًا بين ال�شخ�صيتين؛ فال�شخ�صية‬ ‫فردي واجتماعي في �آنٍ مع ًا‪ ،‬في حين �أن‬ ‫الإب���داع هو وح��دة متكاملة من العوامل‬
‫المبدعة ه��ي التي تعبر ع��ن نف�سها في‬ ‫البعد التاريخي التطوري هو البعد الذي‬ ‫الذاتية والمو�ضوعية التي ت�شتمل على‬
‫الإب���داع‪ ،‬لتبدو كما لو �أنها ترتفع فوق‬ ‫يج�سد حركة تطور الفن‪ ،‬على نح ٍو عام‪ ،‬عبر‬ ‫ن�شاطات التفكير والخيال والقدرة على نقل‬
‫ال�شخ�صية الحياتية الملمو�سة بكل م�شاغلها‬ ‫م�سيرة التاريخ‪ ،‬فالن�شاط الفني الإبداعي‬ ‫المعلومات‪ ،‬و�إيجاد العالقات بين العنا�صر‬
‫المعي�شية الم�ضطربة واهتماماتها اليومية‬ ‫ه��و ظ��اه��رة �إن�سانية تاريخية تخ�ضع‬ ‫المعرفية والجمالية‪ ،‬وتندرج فيها حركية‬
‫المبا�شرة‪ ،‬فكلما ات�سع حجم ال�شخ�صية‬ ‫لقوانين التطور والجدل واالرتقاء‪ ،‬فالمبدع‬ ‫الحياة العاطفية واالنفعالية والعوامل‬
‫الإبداعية في مقابل ال�شخ�صية الحياتية‪،‬‬ ‫ال يبد�أ من ف��راغ؛ �إنما يعتمد على تراكم‬ ‫ال�شخ�صية والعامة برمتها‪.‬‬
‫ازدادت �أهمية الإب��داع‪ ،‬لكن ذلك ال يعني‬ ‫�ضخم لتراث �إن�ساني وا�سع وخ�صب‪.‬‬ ‫تتمثل �أبعاد العملية الإبداعية في ثالثة‬
‫انف�صال ال�شخ�صية الإبداعية عن ال�شخ�صية‬ ‫لعل تحديد �أب��ع��اد العملية الإبداعية‬ ‫م�ستويات‪ ،‬هي‪ :‬البعد الفردي ال�شخ�صي‪،‬‬
‫الحياتية والواقع انف�صا ًال مطلق ًا؛ ذلك �أن‬ ‫يقود‪ ،‬تلقائي ًا �إل��ى تحديد مكونات هذه‬ ‫والبعد االجتماعي‪ ،‬والبعد التاريخي �أو‬
‫الإب��داع يولد ويت�شكل‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬في‬ ‫العملية �أي�ض ًا‪ ،‬و�أهمها‪ :‬ال�شخ�صية المبدعة‪،‬‬ ‫التطوري‪� .‬إننا حينما نبحث في ماهية‬
‫و�سط اجتماعي ملمو�س ي�ؤثر به ويكون‬ ‫والموهبة‪ ،‬والتجربة الحياتية‪ ،‬والفكر (�أو‬ ‫العمل الفني الإبداعي نقوم بتحليل �شخ�صية‬
‫كثيراً من �أبعاده‪.‬‬ ‫العقيدة)‪ ،‬والحد�س والوعي‪ ،‬والإح�سا�س‬ ‫المبدع مزاجي ًا وعقلي ًا وواقعي ًا‪ ،‬وندر�س‪،‬‬
‫�أما المكون الثاني في العملية الإبداعية‬ ‫بالعالم‪ ،‬والمهارة‪.‬‬ ‫�أي�ض ًا‪ ،‬عالقة الموهبة بالمقدرة والتجربة‬
‫فهو الموهبة‪ ،‬وهي �شرط �إلزامي من �شروط‬ ‫ت��ق��وم �شخ�صية ال��م��ب��دع ف��ي عملية‬ ‫الحياتية‪ ،‬ونهتم بفهم ال�صلة بين الوعي‬
‫الن�شاط الإبداعي؛ �إنها قدرة فطرية ولي�ست‬ ‫جانب كبير‬
‫ٍ‬ ‫الإب��داع ب��دور محوري وعلى‬ ‫والحد�س (الوعي وال�لا وع��ي)‪ ،‬ف�ض ًال عن‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪54‬‬


‫فوا�صل‬

‫�أن االحتكام �إلى الال وعي‪ ،‬وحده‪ ،‬في تحليل‬ ‫مكت�سبة‪ ،‬لأن ال�شخ�صية المبدعة ت�ستطيع �أن‬
‫كيفيات تخليق العمل الفني الإب��داع��ي هو‬ ‫تكت�سب معارف تتحول في عملية الإبداع �إلى‬
‫�صحيح �أن جانبي الحد�س‬ ‫ٌ‬ ‫تطرف مبال ٌغ فيه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫قدرات‪� ،‬إال �أنها ال ت�ستطيع �أن تكت�سب القدرة‬
‫الإبداع الفني �شكل‬ ‫والال وعي يجدان في العملية الإبداعية مت�سع ًا‬ ‫الفطرية التي نطلق عليها ا�سم (الموهبة)‪،‬‬
‫راق من �أ�شكال‬
‫ٍ‬ ‫ال يمكن � ْأن يجداه في �أي مجالٍ �آخر‪ ،‬لكنهما‬ ‫والمتمثلة ب�إمكانات الإن�سان على تكوين‬
‫الن�شاط الإن�ساني‬ ‫عن�صران م��ت��داخ�لان م��ع ال��وع��ي ف��ي �صوغ‬ ‫تفكير فني مجازي خا�ص ينه�ض عليه العمل‬
‫م�ستوى الموقف والر�ؤية في العمل الفني‪ ،‬وفي‬ ‫الإبداعي بما هو قائم على ملكات المبدع في‬
‫ذو وجوه و�أبعاد‬ ‫تحديد خ�صو�صية هذا العمل وجمالياته‪.‬‬ ‫اال�ستيعاب الجمالي واال�ستعاري‪ ،‬ووعي العالم‬
‫�إن جميع م��ك��ون��ات العملية الإب��داع��ي��ة‬ ‫و�إدراكه �ضمن تركيب �شمولي موحد‪.‬‬
‫المذكورة حتى الآن‪ ،‬ال بد لها من مكون �ساد�س‬ ‫�إن تجربة المبدع الحياتية بو�صفها‬
‫يربط بينها‪ ،‬وي�شكل �صلة الو�صل التي تجعل‬ ‫المكون الثالث في العملية الإبداعية هي التي‬
‫كل هذه المكونات نا�شطة في تنا�سق وان�سجام‪،‬‬ ‫تمد العمل الفني بالعمق واالكتمال �أكثر‪ ،‬كلما‬
‫ثالثة م�ستويات‬ ‫�إنه‪ :‬الإح�سا�س بالعالم‪.‬‬ ‫كانت معرفة الحياة التي يكت�سبها المبدع‬
‫تمثل �أبعاد العملية‬ ‫موقع تحيط‬ ‫ٍ‬ ‫في‬ ‫نف�سه‬ ‫الحديث‬ ‫يجد الإن�سان‬ ‫�أو�سع و�أعمق و�أدق‪ .‬فهذه التجربة الحياتية هي‬
‫الإبداعية هي البعد‬ ‫به �آالف الأح��داث‪ ،‬وت�صادفه مئات الظواهر‪،‬‬ ‫التي تعيد بناء الحياة �إبداعي ًا‪ ،‬وهي المكون‬
‫ويتوا�صل معها داخ��ل �شبكة م��ن العالقات‬ ‫الدائم من مكونات الإب��داع التي تجعل عالم‬
‫الفردي ال�شخ�صي‬ ‫غنى وفعالية وجما ًال‪� ،‬إذ تبدو‬
‫االجتماعية‪ ،‬وهذا يكون ر�أيه واعتقاده ومخيلته‬ ‫العمل الفني �أكثر ً‬
‫واالجتماعي‬ ‫�إلى حد بعيد‪ ،‬ويمنحه نظر ًة �شمولية لكل ما‬ ‫معرفة المبدع للحياة قوة فاعلة ت�ؤ�س�س خبرته‬
‫والتاريخي‬ ‫يحيط به‪ ،‬فالمرء ي�ستطيع �أن يراكم معارف‬ ‫جانب �أول‪ ،‬وهو الأمر الذي ينعك�س‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بها‪ ،‬من‬
‫علمية �أو ثقافية �ضخمة‪ ،‬لكنه لن ي�ستطيع �أن‬ ‫جانب ثانٍ ‪ ،‬وعلى نح ٍو مبا�شر وغير مبا�شر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫من‬
‫يكون مبدع ًا �إال �إذا ات�سم بتلك النظرة الوا�سعة‬ ‫في تخليق العمل الفني الإبداعي مجازي ًا‪.‬‬
‫ال�شمولية �إلى الحياة عبر الإح�سا�س بالعالم‪،‬‬ ‫ي�شكل فكر المبدع المكون ال��راب��ع من‬
‫بما هو ظاهرة اجتماعية نف�سية تتجاوز معنى‬ ‫مكونات العملية الإبداعية؛ والفكر هو ما يتراكم‬
‫تقوم �شخ�صية‬ ‫حقل الوعي االعتيادي عند النا�س العاديين �إلى‬ ‫عند كل �شخ�صية مبدعة خالل م�سيرة الحياة‬
‫م�ستوى �صوغ العالم‪ ،‬على نح ٍو خا�ص ومجازي‬ ‫من وجهات نظر محددة حول تف�سير الواقع‬
‫المبدع في عملية‬ ‫وجديد لدى المبدع الأ�صيل‪.‬‬ ‫والعالم والكينونة؛ فما ن�سميه (عقيدة المبدع)‬
‫الإبداع بدور محوري‬ ‫لعل ما يجعل من �سمة الإح�سا�س بالعالم‬ ‫هو مجموع العالقات التي تقيمها ال�شخ�صية‬
‫على جانب كبير من‬ ‫لدى المبدع �سم ًة مبتكرة وخا�صة هو المكون‬ ‫المبدعة م��ع مختلف ج��وان��ب ال��ح��ي��اة؛ من‬
‫ال�سابع من مكونات العملية الإبداعية‪ ،‬وهو‪:‬‬ ‫�سيا�سية ودينية وفل�سفية و�أخالقية وقانونية‬
‫الأهمية‬ ‫المهارة؛ فالمبدع الأ�صيل المبتكر هو الذي‬ ‫وجمالية ت�ؤ�س�س مجمل نظرات المبدع �إلى‬
‫ي�ستطيع � ْأن يذيب جميع مكونات العمل الفني‬ ‫العالم‪ ،‬وتكون ثابت ًة عند بع�ض المبدعين‪� ،‬أو‬
‫الإبداعي في بنية �شمولية خا�صة ومتكاملة‬ ‫متطور ًة متغيرة مع الزمن واختالف العمر‬
‫تعك�س م��ه��ارت��ه ف��ي تخليق ع��ال��م مجازي‬ ‫والتجربة عند البع�ض الآخر‪.‬‬
‫جمالي‪ ،‬له �سماته ورهافته وذكا�ؤه في التقاط‬ ‫و�إذا كان مكون الفكر �أو العقيدة هو المكون‬
‫يولد الإبداع‬ ‫التفا�صيل والمفارقات‪ ،‬ف�ض ًال عن ات�صاف‬ ‫مرتبط بقوة‬
‫ٌ‬ ‫الواعي عند المبدع‪ ،‬فهذا المكون‬
‫ويت�شكل بطبيعة‬ ‫هذا العالم بالخ�صو�صية الفنية والفرادة �شك ًال‬ ‫بالمكون الخام�س ف��ي العملية الإب��داع��ي��ة‪،‬‬
‫الحال في و�سط‬ ‫�زء ع�ضوي من‬ ‫وم�ضمون ًا‪ ،‬فالمهارة هي ج� ٌ‬ ‫والمتمثل ب�صلة الوعي بالحد�س؛ فعندما يندفع‬
‫القدرة التخييلية والمعرفية التي تنه�ض عليها‬ ‫أ�سا�س ما‬
‫المبدع �إلى الإبداع‪ ،‬ف�إنه ينطلق من � ٍ‬
‫اجتماعي ملمو�س‬ ‫موهبة ال�شخ�صية الإبداعية‪ ،‬والتي ت�ستطيع � ْأن‬ ‫لم ي�ص ْغ بعد؛ �أي من �أ�سا�س قائم على مجموعة‬
‫وم�ؤثر‬ ‫تمتلك مفاتيح بناء الداللة الفنية عبر تمثل‬ ‫من العمليات والدوافع ال�سيكولوجية التي لم‬
‫جميع مكونات العملية الإبداعية‪ ،‬و�صياغتها‬ ‫تتحول بعد �إلى فعل‪ ،‬ولذا فهو ال يكاد يعرفها‬
‫في عمل جديد ومبتكر‪.‬‬ ‫تمام ًا‪ ،‬بل ال يميز �إال مالمح عامة فيها‪ ،‬غير‬

‫‪55‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫«مئة عام من العزلة»‬
‫ومرجعيات الن�ص ال�سردي عند ماركيز‬
‫ا�شتهرت رواي��ة (مئة ع��ام من العزلة) للروائي الكولومبي‬
‫غابرييل غار�سيا ماركيز �شهرة كبيرة في مختلف بلدان العالم‪،‬‬
‫�شك‬
‫وال �س ّيما بعد نيله جائزة نوبل عنها عام (‪1982‬م)‪ .‬وبال ّ‬
‫تميزت الرواية‬ ‫ا�ستح ّقت هذه ال�شهرة وهذا التكريم‪ ،‬لما امتازت به من �إبداع‬
‫ب�إبداع �سردي �شكل‬ ‫�سردي �شكّل انعطافة كلّية لفنون ال�سرد في زمانها‪ ،‬وذلك‬‫ّ‬
‫عزت عمر‬
‫انعطافة محلية‬ ‫بما اجترحه من خيال مج ّنح وثقافة عامة ناجمة عن عمله‬
‫لفنون ال�سرد‬ ‫ال�صحافي في دوري��ات و�صحف مختلفة في بالده‪ ،‬وعدد من العوا�صم العالمية‪،‬‬
‫الحديث‬ ‫ومنها مك�سيكو وباري�س‪ ،‬في تلك الآونة من �ستينيات القرن الع�شرين‪ ،‬الخارجة للت ّو‬
‫من م�أ�ساة الحرب العالمية الثانية‪ ،‬باحثة عن �أنماط تعبيرية جديدة‪ ،‬تتجاوز‬
‫فيها الأنماط الكال�سيكية والكال�سيكية الجديدة ال�سائدة‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪56‬‬


‫�أفق‬

‫العالم بعد هذه الترجمة‪ ،‬وال �سيما �سرديات‬ ‫وقد تج ّلى هذا الجديد في �أنماط التجريب‪،‬‬
‫�أمريكا الالتينية ونموذجها الأمثل‪ ،‬الكتابات‬ ‫وعلى نحو خا�ص لدى ك ّتاب الرواية الجديدة‪،‬‬
‫ال�شعرية وال�سردية للكاتب الأرجنتيني خورخي‬ ‫�سمي بك ّتاب (الح�سا�سية الجديدة) مع‬ ‫�أو ما ّ‬
‫لوي�س بورخي�س‪.‬‬ ‫انت�شار رواي ��ات ك � ّل م��ن �أالن روب جرييه‪،‬‬
‫كتب غابرييل غار�سيا ماركيز‪ ،‬روايته في‬ ‫ناتالي �ساروت‪ ،‬مي�شيل بوتور‪ ،‬وغيرهم من‬
‫عام (‪1965‬م) ون�شرت كاملة عام (‪1967‬م)‬ ‫التجريبيين الذين �أ ّث��رت توجهاتهم الفكرية‬
‫في المك�سيك‪ ،‬وبح�سب بع�ض المراجع التي‬ ‫المتحم�س‬
‫ّ‬ ‫والتقنية في كتابات ال�شباب العربي‬
‫الحرة (ويكيبيديا)‬
‫عدنا �إليها‪ ،‬ومنها المو�سوعة ّ‬ ‫للجديد والمفارق في الكتابة الروائية حينها‪،‬‬
‫�أن هذه الرواية وزعت ماليين الن�سخ في �أنحاء‬ ‫ولكن مع الأ���س��ف‪ ،‬ك��ان على ه��ذه ال��رواي��ة �أو‬
‫العالم المختلفة‪ ،‬وح��ازت ع��دداً من الجوائز‬ ‫هذا االتجاه ال�سردي �أن ينتظر ب�ضعة عقود‪،‬‬
‫اجترح ماركيز‬ ‫الدولية‪ ،‬واعتبرت واح��دة من �أه��م الأعمال‬ ‫كي يتخذ مجراه الطبيعي في االنت�شار‪ ،‬وذلك‬
‫خيا ً‬ ‫الأدبية في تاريخ �إ�سبانيا‪ ،‬وظهر ذلك خالل‬ ‫لأ�سباب عديدة‪ ،‬منها‪ :‬المواقف العدائية التي‬
‫ال مجنح ًا باحث ًا‬ ‫الم�ؤتمر الدولي الرابع للغة الإ�سبانية الذي عقد‬ ‫واجهتها م��ن قبل مثقفي الي�سار واليمين‬
‫عن �أنماط تعبيرية‬ ‫في قرطاجة عام (‪2007‬م)‪.‬‬ ‫وبع�ض الن ّقاد‪ ،‬ب�سبب ما يمكن و�صفه ب�صدمة‬
‫جديدة تتجاوز‬ ‫هي �أ�شبه بملحمة عائلية جابهت �أقدارها‪،‬‬ ‫(ما بعد الحداثة)‪ ،‬ك ��أدب طرح نف�سه كبديل‬
‫التقليدية منها‬ ‫�أو بالأحرى لعنة توارثتها هذه العائلة على‬ ‫طليعي‪ ،‬وبالرغم من انت�صار البنيويين له‪،‬‬
‫ثم انقر�ضت‪،‬‬‫مدار مئة عام و�ستة �أجيال توالدت ّ‬ ‫ومنهم روالن بارت لدى تناوله النقدي لتجربة‬
‫وك�أنها عوقبت لجملة المفا�سد التي ارتكبتها‪،‬‬ ‫(جرييه) الروائية‪ ،‬ولذلك ف ��إن ه��ذه الجهود‬
‫مثل‪ :‬الغطر�سة والعنف وال��زواج بالقا�صرات‬ ‫المبكرة لم ت�أخذ ح ّقها في االنت�شار الوا�سع‪،‬‬
‫واالبتعاد عن القيم الدينية‪ ،‬با�ستثناء �أور�سوال‬ ‫�سيما مع �صدور (مئة ع��ام من العزلة)‬ ‫وال ّ‬
‫الأم التي كانت تن�صحهم بالعودة �إلى القيم‬ ‫بمنهجها وبع�ض مواقف كاتبها من �شركات‬
‫غيهم ولم‬ ‫الدينية الفا�ضلة‪ ،‬لكنهم وا�صلوا ّ‬ ‫الموز والحرب الأهلية والطغم الع�سكرية التي‬
‫ي�ستمعوا لن�صائحها‪ ،‬بما في ذلك قولها‪� :‬أخ�شى‬ ‫انت�صرت لأ�صحاب ال�شركات‪ ،‬فق�ضت على‬
‫أبناء ب�أذناب خنازير‪،‬‬
‫ذات يوم �أن تلد الأمهات � ً‬ ‫احتجاج العمال ومزارعي كولومبيا حينها‪،‬‬
‫بد من العقاب‪.‬‬‫وبناء على ذلك كان ال ّ‬ ‫ال�سردي ال��ذي دمج هذا‬‫ّ‬ ‫ومن جانب �أ�سلوبه‬
‫الواقع القا�سي مع الخيال غير المعتاد حينها‪..‬‬
‫فاتفق الن ّقاد على ت�سميتها برواية (الواقعية‬
‫ال�سحرية) التي فعلت فعل ال�سحر ح ّق ًا في‬
‫الم�شهد الإب��داع��ي العالمي‪ ،‬م��ع��زز ًة ح�ضور‬
‫رواية �أمريكا الالتينية واللغة الإ�سبانية‪ ،‬وما‬
‫انف ّكت هذه االنعطافة ال�سردية هادرة كالموج‬
‫روائي �إلى �آخر‪ ،‬ح ّتى يومنا‬
‫ّ‬ ‫المتالحق من جيل‬
‫نطلع على تقييمات الن ّقاد ب�أن‬ ‫هذا‪� ،‬إذ غالب ًا ما ّ‬
‫�أ�سلوب هذه الرواية �أو تلك ينتمي �إلى الواقعية‬
‫ال�سحرية‪.‬‬
‫البحث الجاد في مرجعيات �أو �أ�صول هذا‬
‫ال�ضرب من الكتابة المعززة بالخيال‪ ،‬نلتم�سه‬
‫�إبداعي ًا على �صعيد الثقافة العربية حا�ضراً‪ ،‬في‬
‫التراث ال�شفاهي العربي‪ ،‬وبخا�صة في حكايات‬
‫�سمي بـ(الليالي‬ ‫(�أل ��ف ليلة ول��ي��ل��ة)‪� ،‬أو م��ا ّ‬
‫العربية) في الن�سخة التي ترجمت عنها �إلى‬
‫اللغات الأوروبية في القرن ال�ساد�س ع�شر وما‬
‫بد من التنويه ب�أهمية‬ ‫بعد‪ .‬وفي هذا الإطار؛ ال ّ‬
‫تم اال�صطالح عليه بـ(الحكاية الإطارية)‬ ‫ما ّ‬
‫و(العجائبية) �أو (الفانتازيا) التي درجت في‬
‫غابرييل غار�سيا ماركيز‬

‫‪57‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫وهذا ما حدث في نهاية رواية (مئة عام‬
‫المتخيلة‪ ،‬ولد‬
‫ّ‬ ‫من العزلة) لماكوندو المدينة‬
‫فهبت الرياح لتق�ضي‬ ‫ذلك الطفل بذنب خنزير‪ّ ،‬‬
‫عليها وعلى �آخر �ساللة (بوينديا)‪ .‬ولع ّل هذه‬
‫المرجعية الدينية‪ ،‬كانت �أ�سا�سية ومن �صلب‬
‫المقا�صد الروائية لماركيز‪.‬‬
‫جوزيه �أرك��ادي��و بونديا م�ؤ�س�س العائلة‬
‫ومدينة ماكوندو‪ ،‬كان قد قتل �أحد المراهنين‬
‫خ�لال �صراع الديكة في مدينته ريوها�شا‪،‬‬
‫وغادرها مع زوجته �أور�سوال باحث ًا عن البحر‬
‫لمدة ع��ام‪ ،‬لكنه عندما �أخفق في الو�صول‬
‫�إلى هناك‪ ،‬حلم في �إحدى الليالي بماكوندو‪،‬‬
‫كمدينة فا�ضلة و�أ�سماها (مدينة المرايا)‬
‫ربما ال�صورة الم�ص ّغرة لهذا‬ ‫العاك�سة للعالم‪� ،‬أو ّ‬
‫العالم الناه�ض من حولها‪ ،‬وبعد ذلك �أوقف‬
‫بحثه عن البحر و�شرع في التخطيط لمدينة‬
‫الحلم‪.‬‬
‫ن���وه ���س��ارد ال ��رواي ��ة �إل���ى نجاحه‬
‫وق ��د ّ‬
‫في تخطيط المدينة وهند�ستها ب�شوارعها‬
‫من �أعماله‬
‫ومبانيها بجوار نهر يحيط بها لتبدو كجزيرة‬
‫هذه ال�ساللة المنعزلة تتكرر خاللها �أ�سما�ؤهم‪،‬‬ ‫تعزلها عن العالم الم�ستنقعات وتربطها به‬
‫فال تتعدى ب�ضعة �أ�سماء‪ :‬جوزيه �أرك��ادي��و‬ ‫ب�ضعة دروب جبلية �شا ّقة ال يق�صدها �أحد‬
‫بوينديا‪ /‬زوج �أور���س��وال‪ ،‬م�ؤ�س�س ال�ساللة‬ ‫�سوى مجموعة من الغجر‪ ،‬ت�أتي ك ّل عام في‬
‫و�أبنا�ؤه‪:‬‬ ‫�شهر مار�س وعلى ر�أ�سهم الغجري‪ ،‬المتنبئ‬
‫جوزيه �أرك��ادي��و‪ /‬زوج ريبيكا‪ ،‬ينجبان‬ ‫ملكياد�س‪ ،‬ليبيعوا منتجاتهم ومخترعاتهم‬
‫�أرك��ادي��و‪ /‬زوج القدي�سة �صوفيا‪ ،‬وينجبان‬ ‫الخرافية لأهل ماكوندو الذين كانوا يجهلون‬
‫جوزيه �أركاديو الثاني‪ ،‬وريميديو�س الجميلة‪.‬‬ ‫تطور وت��ق� ّ�دم‪ ،‬فال‬‫ما يجري في العالم من ّ‬
‫�أورليانو الثاني زوج فرناندا وينجبان‬ ‫يميزون م��ا بين الثلج الم�ص ّنع والأ���ش��ي��اء‬
‫ثالثة‪ :‬ميمي وتدعى ريناتا‪ ،‬وجوزيه �أركاديو‬ ‫ال��ج��ام��دة الأخ���رى �إذ ك��ان��ت الده�شة تعقد‬
‫و�أمارانتا �أور�سوال‪ .‬وتنجب ميمي �أوريليانو‬ ‫�أل�سنتهم عندما لم�سه جوزيه �أركاديو وابنه‬
‫دمج الواقع القا�سي‬ ‫�آخر ال�ساللة الكولونيل �أورليانو‪ /‬ابنه �أورليانو‬ ‫�أوريليانو واعتبراه اختراع ًا عظيم ًا مثله‬
‫مع الخيال في‬ ‫جوزيه و(‪ )17‬ابن ًا �آخ��ر من مختلف البلدات‬ ‫مثل المغناطي�س الذي يجذب المعادن‪ .‬وكان‬
‫التي �أقام فيها خالل خو�ضه الحروب الأهلية‬ ‫(ملكياد�س) باعه للف�ضولي جوزيه �أركاديو‬
‫انعطافة �سردية‬ ‫كقائد كبير‪.‬‬ ‫بعدد من القطع الذهبية الحا�صة ب�أور�سوال‪،‬‬
‫�أطلق عليها الواقعية‬ ‫وعلى غ��رار ه��ذه ال�شخ�صيات المتكررة‬ ‫وكان قد ا�شتراه على �أمل �أن يكت�شف من خالله‬
‫ال�سحرية‬ ‫الأ�سماء‪ ،‬تتكرر �أفعالها االعتيادية والعجائبية‪،‬‬ ‫الذهب في باطن الأر�ض‪.‬‬
‫ف�ض ًال عن الحياة االجتماعية وال�سيا�سية‬ ‫وم��ن هنا ت��ب��د�أ �أح ��داث ال��رواي��ة‪ ،‬فيتابع‬
‫ل��م��اك��ون��دو �إب���ان ال��ح��رب الأه��ل��ي��ة‪ ،‬م��ا بين‬ ‫القارئ تاريخ هذه ال�ساللة وم�صائرها‪ ،‬وفق‬
‫�سميت بحرب‬ ‫الليبيراليين والمحافظين التي ّ‬ ‫م��روي��ات واقعية و�أخ���رى خ��راف��ي��ة‪ ،‬يرويها‬
‫الأل���ف ي ��وم‪��� ،‬ش��ارك فيها الكولونيل االب��ن‬ ‫�سارد عليم مبدع في ���س��رده‪ ،‬حيث تتالحق‬
‫ع�سكري‬
‫ّ‬ ‫�أورليانو بونديا وخا�ض حروبه كقائد‬ ‫حكاياته ال�شائقة وتترادف وتتجاور ب�أ�سلوب‬
‫فذ‪ ،‬لكنه في النهاية م ّل هذه الحياة فا�ست�سلم‬ ‫ال�سهل الممتنع‪ ،‬ال�شبيه ب�أ�سلوب (�شهرزاد) في‬
‫لأعدائه وعاد �إلى ماكوندو ليم�ضي ما تب ّقى‬ ‫ت�شويق قارئها ومهارته في �إقامة الحبكات‬
‫من حياته في معمله ال�صغير ي�صنع �سمكات‬ ‫لل�شخ�صيات الداخلة �إل��ى (حكايات الليالي)‬
‫ذهبية �صغيرة‪.‬‬ ‫والخارجة منها‪ ،‬فنتابع نحو �ستة �أجيال من‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪58‬‬


‫�أفق‬

‫وعلى هذا النحو تم�ضي الحياة المعتادة‬


‫في �شبه دائرة مغلقة‪ ،‬تبد�أ الأح��داث فيها من‬
‫نقطة وتنتهي �إليها‪ ،‬بينما نتابع �سير الأجيال‬
‫الجديدة وحكاياتهم‪ ،‬من ابن البن ومن حفيد‬
‫لحفيد ح ّتى �آخر ال�ساللة‪ ،‬الذي ع�صفت به الرياح‬
‫كما ع�صفت بماكوندو مدينة المرايا الفا�ضلة‪،‬‬
‫ولكنها لم تكن كذلك �أب��داً لهذه ال�شخ�صيات‬
‫التي تابعت �سلوكاتها الغرائزية الماجنة‬
‫والم�ستهترة بقيم الف�ضيلة ال��ت��ي تحر�ص‬
‫أ�شد الحر�ص ل�سالمة‬ ‫المجتمعات العاقلة عليها � ّ‬
‫مي�شيل بوتور‬ ‫�أالن روب جرييه‬ ‫�سيرورتها المعا�شية وال��روح��ي��ة المرتبطة‬
‫بالدين‪ .‬لكن وكما يبدو للقارئ‪� ،‬أن (ماكوندو)‬
‫�ستكون بمثابة اال�ستثناء ال�سلبي ل�سلوك‬
‫�أبنائها الم�صابين بلعنة قدرية‪ ،‬فال يتمكنون‬
‫�إزاءه��ا من التح ّكم بم�شاعرهم و�سلوكاتهم‪،‬‬
‫ولع ّلهم ان�سياق ًا وراء ال�شهوات والغرائز‪ ،‬لم‬
‫يكونوا راغبين في ال�سلوك الطبيعي‪ ،‬على الرغم‬
‫من الم�شكالت والم�صائب التي كانت تالحقهم‪.‬‬
‫وظ��ف‬‫ر�أى بع�ض ال��ن � ّق��اد �أن م��ارك��ي��ز ّ‬
‫ماكوندو كرمز لكولومبيا ب�أكملها‪� ،‬أو لع ّله‬
‫يتعداها �إل��ى بع�ض دول العالم الذاهبة �إلى‬
‫القوة والحرب‬ ‫حتفها‪ ،‬ب�إ�صرارها على ثقافة ّ‬
‫بورخي�س‬ ‫ناتالي �ساروت‬
‫لال�ستئثار ب��الأط��اي��ب دون غ��ي��ره��ا‪ ،‬وذل��ك‬
‫ال�ضرب من الأفكار‪ ،‬فهي في النهاية تنه�ض‬ ‫لرغبة (ماركيز) في ربط حكاياته بالتاريخ‬
‫على مجموعة من الحكايات الخرافية المتوارثة‬ ‫الكولومبي‪ ،‬بما ف��ي ذل��ك ح�ضور �شركات‬
‫لدى �س ّكان منطقة الكاريبي بتنوعهم الإثني‬ ‫الموز وا�ستغاللها للعمالة المحلية والمجازر‬
‫والديني منذ ح�ضارة المايا وح ّتى اليوم‪،‬‬ ‫التي ارتكبها الع�سكر انت�صاراً لهذه ال�شركات‬
‫ومن هنا ف�إن فكرة العقاب لماكوندو‪� ،‬ستكون‬ ‫كمقاربة للواقع المعي�ش‪ ،‬واال�سقاطات عموم ًا‬
‫ثيمة الرواية الأ�سا�سية‪ ،‬والأمثلة عديدة‪ ،‬فمنها‬ ‫ممكنة تبع ًا للت�أويل ولثقافة التل ّقي‪ ،‬ولكن‬
‫العقاب بالأمطار وال�سيول �إذ هطلت الأمطار‬ ‫الرواية من حيث الأ�سا�س ال ت�ؤ�س�س لمثل هذا‬
‫على ماكوندو دونما تو ّقف لمدة �أربع �سنوات‬
‫نتلم�س مرجعيات‬ ‫وب�ضعة �أ�شهر فق�ضت على ال��زراع��ة وتربية‬
‫حكايات «�ألف ليلة‬ ‫الموا�شي التي غرقت في ال�سيول‪ ،‬ولما لم ُيج ِد‬
‫وليلة» التي ترجمت‬ ‫هذا العقاب جاءت الريح العاتية ال�صر�صر وفق‬
‫�إلى لغات حية‬ ‫ما ذكرنا �أع�لاه‪ ،‬فتنتهي بذلك هذه الرواية‬
‫وتتحقق نبوءة (ملكياد�س) في � ّأن � ّأول هذه‬
‫عديدة‬ ‫ال�ساللة �سيموت مربوط ًا �إل��ى �شجرة‪ ،‬وكان‬
‫جن فربط �إلى �شجرة‬ ‫(جوزيه الأب) الم�ؤ�س�س قد ّ‬
‫الك�ستناء في حديقة الدار ح ّتى مماته‪ ،‬بينما‬
‫تع�صف الرياح ب�آخر �أحفاده‪ ،‬وبذلك تتداخل‬
‫الم�ؤثرات الأدب��ي��ة بالمرجعيات التاريخية‬
‫والدينية التي ا�ستعر�ضنا بع�ضها لن�ستنتج �أنه‬
‫ال عالقة لنبوءة ملكياد�س في مقا�صد الرواية‬
‫تم توظيف هذه النبوءة كتقنية‬ ‫الأ�سا�سية‪ ،‬و�إنما ّ‬
‫ت�شويقية‪ ،‬اختتم بها ماركيز روايته‪.‬‬ ‫غالف «مئة عام من العزلة»‬

‫‪59‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫الرواية كم�صدر تاريخي‬


‫د‪ .‬علي عفيفي غازي‬

‫لون ًا من �أل��وان الممار�سة الخيالية‪ ،‬وبرغم‬ ‫ه��ل ال��رواي��ة‪��� ،‬س��واء �أك��ان��ت تاريخية �أم‬
‫ذلك‪ ،‬ف�إن الرواية التاريخية ورواية التاريخ‬ ‫�أدبية‪ ،‬تعتبر م�صدراً تاريخي ًا؟ وما الفارق‬
‫كلتيهما تقدمان �إفادة للإن�سانية‪ .‬وي�شجعنا‬ ‫بين ال��رواي��ة التاريخية ورواي���ة التاريخ؟‬
‫ه��ذا لأن نقول ب ��أن ال��رواي��ة من الممكن �أن‬ ‫يعتقد البع�ض �أن الرواية التاريخية نوع من‬
‫تكون م�صدراً تاريخي ًا‪� ،‬إذ �إنها فترة زمنية‬ ‫الأدب الذي يهدف كاتبه �إلى تجنب رهانات‬
‫تتحول �إلى حالة ما�ضوية‪� ،‬أي تاريخ‪ ،‬وجزء‬ ‫الحا�ضر ال��م��ع��ق��دة‪ ،‬وم��ن ث��م ف ��إن��ه ي�ستمد‬
‫من الذاكرة الجماعية‪.‬‬ ‫�شخو�صها من �أح��داث التاريخ مع مراعاته‬
‫التاريخ ال يكون تاريخي ًا �إال عندما يكون‬ ‫ل�شروط ال�سردية ال��روائ��ي��ة‪ ،‬وال ندعي �أن��ه‬
‫في حقله ونظامه‪ ،‬وخا�ضع ًا لفنونه وقوانينه‬ ‫�سيحافظ على الحقائق التاريخية بقالبها‬
‫ال�صارمة‪ ،‬لكنه عندما ي��غ��ادره ليكتب في‬ ‫ال��ج��ام��د ال ��ذي يتعامل ب��ه ال��م���ؤرخ‪ ،‬و�إن��م��ا‬
‫رواي� ��ة‪ ،‬ف ��إن��ه يبتعد ع��ن حقيقته الأول���ى‪،‬‬ ‫�سيختلط عنده الذاتي بالتاريخي بالخيالي‪،‬‬
‫وي�صبح فع ًال روائ��ي � ًا‪ ،‬حيث هو فعل منتج‬ ‫فالرواية التاريخية مزيج من ه�ؤالء جميع ًا‪،‬‬
‫م�شروط ب�شروط العمل ال��روائ��ي‪ ،‬وبالتالي‬ ‫لكنها ت�ضم بين طياتها بع�ض الحقائق‬
‫يت�سع المتخيل‪ ،‬وفي ذات الوقت يحاول �أن‬ ‫التاريخية المجردة‪ ،‬وفي الوقت نف�سه يختلط‬
‫يجد مكان ًا في الأ�شياء المن�سية والمهملة‪� ،‬أو‬ ‫فيها الحا�ضر بالما�ضي؛ �إذ �إنها تمثل قراءة‬
‫الرواية التاريخية‬ ‫الم�سكوت عنها في �صلب التاريخ‪ ،‬فيتعر�ض‬ ‫كاتبها للأحداث التاريخية التي قر�أ عنها‪،‬‬
‫مزيج من الذاتي‬ ‫للأحداث غير المكتوب عنها من قبل الم�ؤرخ‬ ‫فالخيال عند الراوي مقد�س‪ ،‬والحقيقة مجال‬
‫والتاريخي والخيالي‬ ‫العتبارات �سيا�سية �أو �أيديولوجية‪ ،‬ومن ثم‬ ‫انتهاك‪ ،‬وهو موقف مناق�ض لما يراه الم�ؤرخ‬
‫وجزء من الحقيقة‬ ‫ف ��إن ال��رواي��ة بوظيفتها ه��ذه �أق��رب �إل��ى نقد‬ ‫من �أن الحقائق مقد�سة‪ ،‬بينما الخيال مجال‬
‫التاريخ‪� ،‬أو لون من �ألوان الوعي به‪ ،‬برغم عدم‬ ‫دائم لالنتهاك‪.‬‬
‫مطابقتها تمام ًا لرواية التاريخ‪.‬‬ ‫ف��ال��راوي ال ي��رك��ز على م��ج��رد العر�ض‬
‫فالراوي ال يركز في عر�ضه على العر�ض‬ ‫الب�سيط للحقائق والأحداث التاريخية؛ و�إنما‬
‫الب�سيط للحقائق والأحداث التاريخية‪ ،‬و�إنما‬ ‫يكتب تاريخه الخا�ص من خالل حبك الم�شاهد‬
‫يكتب تاريخه الخا�ص‪ ،‬فهو يقدم �شخ�صيات‬ ‫وتوليفها‪ ،‬وه��و �أ�سلوب مختلف عن حبكة‬
‫حقيقية‪ ،‬في �صورة ر�سم لهم فيها مالمحهم‪،‬‬ ‫الحقائق ال�سردية‪ ،‬التي يقوم بها الم�ؤرخ‪ ،‬كما‬
‫يتحاورون مع بع�ضهم بع�ض ًا‪ ،‬وينتج عن‬ ‫�أن الم�ؤرخ يرتبط ارتباط ًا وثيق ًا بما يتوافر‬
‫تفاعلهم ف��ي م��ا بينهم ال��ح��دث التاريخي‪،‬‬ ‫له من �شواهد مادية‪� ،‬سواء �أكانت وثائق �أو‬
‫ولعل ه��ذا يقودنا �إل��ى الت�سا�ؤل‪ :‬هل كتابة‬ ‫مخلفات �آثارية وتراثية‪ ،‬فهو بمثابة القا�ضي‬
‫التاريخ عمل �إبداعي؟ �أم �أن تفاعل الم�ؤرخ مع‬ ‫الذي ي�ست�شهد ب�شهود �أموات‪ .‬وهو هنا عك�س‬
‫الم�شاهد التاريخية ي�شكل لون ًا من �ألوان كتابة‬ ‫الراوي‪ ،‬الذي يكتب رواية تاريخية‪ ،‬ف�إنه يعمل‬
‫الروايات‪ ،‬ما دام يج�سد م�شاهد متخيلة برغم‬ ‫خياله في ر�سم �شخ�صياته و�أحداثه وم�شاهده‬
‫كونها حقيقية؟ وعلى هذا يمكننا التفريق بين‬ ‫الدرامية‪ ،‬فكتابة الم�شاهد التاريخية تمثل‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪60‬‬


‫روافد‬

‫ما قد يحاول �أن يكتب تاريخه‪ ،‬فيمزج في‬ ‫مجال التاريخ ومجال الرواية‪ ،‬فالتاريخ هو‬
‫كتاباته ما بين التاريخ والمتخيل‪ ،‬ب�صورة‬ ‫المادة المنجزة والمنتهية‪ ،‬والم�ؤرخ يتناول‬
‫قد تذيب الفوا�صل بين الحقيقة المو�ضوعية‬ ‫�أح��داث � ًا تف�صله عنها م�سافة زمنية كافية‬
‫والحقيقة المتخيلة‪ ،‬ولعلنا نرجع قلي ًال �إلى‬ ‫لك�شف جوانبها التاريخية كافة‪ .‬ويتبع الناقد‬
‫ن�ش�أة المعرفة التاريخية في رحم الأ�سطورة‪،‬‬ ‫منهج البحث التاريخي التحليلي اال�ستنباطي‬
‫التي لم تكن �أكثر من رواية مجهولة المكان‬ ‫المقارن‪ .‬وه��ذا ما يميز الكتابة التاريخية‬
‫وال ��زم ��ان‪ ،‬وه��م��ا الأ���س��ا���س��ان ال��ل��ذان يقوم‬ ‫عن الكتابة الروائية‪ ،‬و�إن تقاطعتا مع ًا في‬
‫عليهما علم التاريخ‪ ،‬فهو فعل �إن�ساني في‬ ‫بع�ض ال�صفات وال��ع��وام��ل‪ ،‬و�إال �سي�صبح‬
‫الراوي يكتب تاريخه‬ ‫زمان محدد نتج عن تفاعله مع مكان معين‪،‬‬ ‫كل من التاريخ والرواية تاريخ ًا باعتباره‬
‫الخا�ص من خالل‬ ‫بعك�س الرواية التي تمزج الحقيقة التاريخية‬ ‫ما�ضوي ًا‪ ،‬لكن الرواية التاريخية تتميز عن‬
‫حبك الم�شاهد‬ ‫بالق�صة المتخيلة‪ ،‬ك�أن ين�سج الروائي ق�صة‬ ‫رواية التاريخ بالمتخيل‪ ،‬وهو المادة ال�سردية‬
‫وتوليفها الب�س ًا قناع‬ ‫غرامية متداخلة مع �سرده لحوادث التاريخ‪،‬‬ ‫التي تن�ش�أ عن العالقة بين الروائي والحدث‬
‫الم�ؤرخ‬ ‫وهنا يعتمد على التاريخ من حيث الزمان‬ ‫التاريخي‪ ،‬ومن ثم تخرج الرواية التاريخية‬
‫وال��م��ك��ان والأ���ش��خ��ا���ص‪ ،‬بالرغم م��ن �أن��ه ال‬ ‫عن الموثوقية التامة �إلى الموثوقية الن�سبية‪،‬‬
‫يق�صد �سرد الوقائع التاريخية‪ ،‬وفي الوقت‬ ‫بالرغم من �أن عالم المتخيل ين�ش�أ عن المادة‬
‫نف�سه يتمثل التاريخ في جوانبه الناق�صة �أو‬ ‫التاريخية كحقيقة‪ ،‬وم��ن ث��م ف���إن وظيفة‬
‫الم�سكوت عنها‪.‬‬ ‫الروائي �أقرب �إلى الحقيقة الن�سبية‪ ،‬فالحقيقة‬
‫ف��ال��رواي��ة ت�سرد ال��وق��ائ��ع التاريخية‪،‬‬ ‫في الن�ص الإبداعي حقيقة مركبة تن�ش�أ عن‬
‫�ضمن �سردية حوارية متخيلة‪ ،‬تختلط فيها‬ ‫فعل الكتابة وف��ق تعددية ت�أويلية للن�ص‪،‬‬
‫الحقيقة التاريخية ال��م��ج��ردة بالحقيقة‬ ‫ف��ال��روائ��ي ال تهمه الحقيقة المو�ضوعية‬
‫المتخيلة‪( ،‬فالرواية تدرج للوقائع التاريخية‬ ‫كحقيقة ال يداخلها التزيف‪ ،‬و�إنما هدفه الأول‬
‫المرتبكة‪� ،‬ضمن متخيل يعطي الإي��ه��ام‬ ‫ال�سيرورة ال�سردية داخل الن�ص‪ ،‬التي ت�ؤلف‬
‫التاريخ ال يكون‬ ‫بالحقيقة المو�ضوعية‪ ،‬التي لي�ست مهمة �إال‬ ‫لعالمه الخا�ص‪ ،‬وتميزه عن التاريخ كحقيقة‪،‬‬
‫تاريخ ًا �إال عندما‬ ‫من حيث هي تعبير عميق عن لحظة متحركة‬ ‫وتحل فيه الرواية التاريخية كمتخيل بالرغم‬
‫يكون مواكب ًا لفنونه‬ ‫في التاريخ ت�ستطيع الرواية �إلقاء القب�ض‬ ‫من حفاظها على بع�ض مقومات التاريخ‪،‬‬
‫وقوانينه ال�صارمة‬ ‫عليها في كامل توهجها)‪ .‬وبين هذا وذاك؛‬ ‫فعمل الروائي �سردي يتخل�ص من الحقائق‪،‬‬
‫تن�سج الرواية عالمها المتخيل و�شخ�صياتها‬ ‫وبالتالي ف ��إن كتاباته �أو رواي��ات��ه لي�ست‬
‫وعالقاتها المت�ضاربة‪ ،‬وتلقي ال�ضوء على‬ ‫تاريخ ًا بالمعنى الحقيقي للكلمة‪.‬‬
‫اللحظات الأكثر ح�سا�سية في التاريخ‪ ،‬والتي‬ ‫التاريخ �إذاً ال يكون تاريخ ًا �إال �إذا كان‬
‫يعجز الم�ؤرخ المو�ضوعي عن ذكرها‪ ،‬وتوجد‬ ‫في حقله ونظامه ومنهجه وقوانينه وقواعده‪،‬‬
‫فوارق دقيقة بين عمل الم�ؤرخ الذي يتطلب‬ ‫و�إذا ما انتقل �إل��ى ال��رواي��ة ف�إنه لب�س ثوب ًا‬
‫درج��ة كبيرة من المو�ضوعية وال�سرد عند‬ ‫جديداً بعنوان وقوانين ومنهج جديدة‪ ،‬ومنتج‬
‫تناول الحدث التاريخي‪ ،‬م�ستخل�ص ًا العبرة‬ ‫جديد م�شروط بقوانين و�أ�س�س وثوابت الرواية‪،‬‬
‫والعظة ودرو� ��س الما�ضي لتفيد الحا�ضر‬ ‫فالراوي يتعامل مع الحقيقة المخب�أة وراء‬
‫وت�ست�شرف الم�ستقبل‪ ،‬وعندما يغادر التاريخ‬ ‫الحقيقة التي يقول بها الم�ؤرخ‪ ،‬وقد يعجز‬
‫الحقيقة في الن�ص‬ ‫ميدانه ك�سل�سلة وقائع ويعاد تركيبه في‬ ‫ال��م ��ؤرخ ع��ن ذك��ره��ا لأ���س��ب��اب �سيا�سية �أو‬
‫الإبداعي حقيقة‬ ‫العمل ال��روائ��ي‪ ،‬ف��إن��ه يتجرد م��ن الحقيقة‬ ‫اجتماعية �أو �أيديولوجية‪ ،‬فالراوي قد يلب�س‬
‫مركبة تن�ش�أ عن فعل‬ ‫المطلقة‪ ،‬وال تكون الرواية حجة يرجع �إليها‬ ‫قناع الم�ؤرخ‪ ،‬ويحاول �أن يجد لنف�سه مكان ًا‬
‫الكتابة‬ ‫الم�ؤرخ في الحقائق‪ ،‬ولكن لها فائدة عامة‬ ‫بين طيات التاريخ المن�سي �أو الم�سكوت عنه‪.‬‬
‫عبر الطريقة الق�ص�صية التي ت�شخ�ص الوقائع‬ ‫ووظيفة الراوي عندما يكتب رواية تاريخية‬
‫ت�شخي�ص ًا �أق��رب للحقيقة‪ ،‬وتجلياتها في‬ ‫لن تعدو �إال �أن تكون نوع ًا من وعي التاريخ‬
‫�سياق التمثيل ال�سردي الروائي‪ ،‬وت�ستعر�ضها‬ ‫ونقده‪ ،‬وهنا ت�صبح الرواية مرادفة للتاريخ‪،‬‬
‫في �إطار فني متخيل في ن�ص متجان�س �أعيد‬ ‫ولي�ست مطابقة له‪ ،‬لأن الحقيقة التاريخية‬
‫ت�شكيل مواد كثيرة فيه‪ ،‬انف�صلت عن �سياقها‬ ‫تختلط فيها بمخيلة الراوي‪ .‬ومن ناحية �أخرى‬
‫التاريخي الحقيقي‪.‬‬ ‫قد ي�ستعين ال��م��ؤرخ بعمل ال��روائ��ي ليتمثل‬

‫‪61‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫عرفت ب�إلياذة العرب‬
‫جدل الواقعي والمتخيل‬
‫في �سيرة عنترة‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪62‬‬


‫�سرد‬

‫وتعد ال�سيرة‬
‫ّ‬ ‫يتميز ال�سرد العربي القديم بغنى �أ�شكاله‪،‬‬
‫ال�شعبية �إحدى �أكثر الأ�شكال ال�سردية خ�صو�صية‪� ،‬إذ تتمحور‬
‫حول �شخ�صية واحدة تمثل ب�ؤرة الحكاية‪ ،‬منها ينطلق فعل‬
‫تعد ال�سيرة‬ ‫الحكي و�إليها يعود‪ ،‬ومن �أ�شهر ال�سير العربية‪� :‬سيرة عنترة‪،‬‬
‫ال�شخ�صية من �أهم ما‬ ‫و�سيرة �سيف بن ذي يزن‪ ،‬و�سيرة حمزة العرب‪ ،‬و�سيرة بني‬
‫د‪� .‬سعيد بكور‬
‫يميز ال�سرد العربي‬ ‫هالل‪ ،‬و�سيرة الأميرة ذات الهمة‪ ،‬و�سيرة الظاهر بيبر�س‪ .‬وقد‬
‫القديم‬ ‫مرت ال�سيرة في رحلتها التاريخية من طورين‪ :‬طور الم�شافهة وطور التدوين‪ ،‬وي�صل‬ ‫ّ‬
‫الفارق بين لحظة كتابتها ولحظة تدوينها �إلى قرون‪ ،‬الأمر الذي �أثّر في متنها الذي‬
‫داخلته زيادات كثيرة‪ ،‬يمكن للمتلقي مالحظتها‪ ،‬خا�صة‪ ،‬في �سمتي اللغة والأ�سلوب‪.‬‬

‫ينتقل الراوي �إلى و�صف المرعى وخطورته ليبين‬ ‫تعد �سيرة عنترة بن �شداد‪� ،‬أ�شهر ال�سير العربية‬
‫ج�سارة البطل‪ ،‬وت�سلك الق�صة م�سلك ًا مغايراً بظهور‬ ‫على الإط�ل�اق‪ ،‬اكت�سبت �أهميتها وذيوعها من‬
‫الأ�سد مد ّال بقوته وزمجرته‪ ،‬ويبالغ ال��راوي في‬ ‫�شخ�صية (عنترة) ال�شاعر والبطل الأ�سطوري الذي‬
‫قامت على خا�صية‬ ‫و�صف خطورته‪ ،‬فكلما كان قوي ًا كان الذي ي�صرعه‬ ‫جمع بين ال�شعر والف�ضيلة والبطولة‪ ،‬وتقوم على‬
‫تمجيد البطولة‬ ‫�أق��وى‪ ،‬وبعد �أن يخرج ت�شرد الإب��ل وتفر‪ ،‬وي�صل‬ ‫رواي��ة حياته ومغامراته المرتبطة بال�شجاعة‬
‫والمغامرة و�إر�ساء‬ ‫(عنترة) �إلى المكان ويخاطب الأ�سد بما يخاطب‬ ‫وال�شهامة والحب والت�ضحية والإب���اء ون�صرة‬
‫القيم ال�سامية‬ ‫به العدو‪ ،‬متمث ًال ب�شعر في الفخر‪ ،‬وفي هذه الأثناء‬ ‫المظلوم‪ ،‬وهي �سيرة بطولية‪� ،‬سميت ب�إلياذة العرب‪،‬‬
‫يقحم الراوي م�شهد �أخي عنترة و�أبيه لكي يت�سنى‬ ‫وتندرج �ضمن الأدب الملحمي القائم على المبالغة‬
‫نقل الحادثة ون�شرها‪ ،‬وي�صرع عنترة الأ�سد �صرع ًا‪،‬‬ ‫في و�صف البطولة و(�أَ ْ�سطرة) البطل‪ ،‬وت��دور في‬
‫وينتهي الحدث بتعجب الأب وابنه وانبهارهما‪.‬‬ ‫عمقها حول التجربة الوجودية وتحقيق ال��ذات‪،‬‬
‫ت�سير �أح��داث الق�صة وف��ق �سيرورة حكائية‬ ‫وتعتبر ال�سيرة �صورة عن المخيال العربي‪ ،‬المرتبط‬
‫مت�صاعدة‪ ،‬تبد�أ هادئة بت�أثيث الف�ضاء والحدث‪،‬‬ ‫ب�أ�سطرة الوقائع وال�شخ�صيات والحكايات‪.‬‬
‫وتتحول لتنتقل �إل��ى ال�صراع ثم تنتهي نهاية‬ ‫تخلو �سيرة عنترة‪ ،‬من وح��دة الت�أليف ومن‬
‫من ال�سمات المميزة‬ ‫يح�سن ال�سكوت عليها‪ ،‬وفي كل ذلك تتالحم عنا�صر‬ ‫وحدة العقدة‪� ،‬إذ تت�شعب �إلى �أحداث نووية غايتها‬
‫لل�سيرة الجمع بين‬ ‫الحكي تالحم ًا ي�صعب ف ّكه‪ ،‬ونقف على مراحل‬ ‫�إثبات البطولة الخارقة‪ ،‬وفيها عنا�صر تح ّقق المتعة‬
‫�سهولة الأ�سلوب‬ ‫الحبكة فيما يلي‪ :‬البداية‪ :‬و�صول عنترة �إلى الوادي‬ ‫الق�ص�صية ك�شجاعة عنترة وحب عبلة وتمجيد‬
‫المخيف؛ العن�صر المخل‪ :‬ظهور الأ�سد وخروجه من‬ ‫البطولة‪ ،‬وو�صف المعارك‪ ،‬تعلق بها �أحداث طفيلية‬
‫ولين اللغة وتوظيف‬ ‫الوادي؛ الو�سط‪ :‬مواجهة الأ�سد وتهديده ومواجهته؛‬ ‫تق�صر وتمتد‪� ،‬أ�سلوبها �سهل يتجاور فيه الت�سجيع‬
‫ال�سجع وال�شعر‬ ‫عن�صر االن��ف��راج‪� :‬صرع الأ�سد وف�صل ر�أ�سه عن‬ ‫واالزدواج‪ ،‬ويمتزج فيها ال�شعر بالنثر‪.‬‬
‫والنثر‬ ‫ج�سده؛ النهاية‪ :‬انبهار الأب والأخ بالم�شهد‪.‬‬ ‫يبد�أ الن�ص ال��ذي �أخ��ذن��اه نموذج ًا للقراءة‬
‫يمثل عنترة ال�شخ�صية الأب���رز‪ ،‬فهو محور‬ ‫ويحذف م�شهد ما قبل‬ ‫بو�صول عنترة �إلى الوادي‪ُ ،‬‬
‫الحكي وب�ؤرة الق�صة‪ ،‬وكل العنا�صر ُت�ساق لت�صوير‬ ‫الو�صول لأنه غير ذي �أهمية في تطوير الأحداث‪،‬‬
‫قوته و�شجاعته‪ ،‬وي��رك��ز ال���راوي على الجانب‬ ‫وتلخ�صه الجملة ال�سردية (ثم �سار حتى)‪ ،‬بعد ذلك‬

‫‪63‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�سرد‬

‫البطولي ليظهر البطل في �صورة الخارق‪ ،‬وتبدو‬


‫�شخ�صيتا الأب والأخ م�ؤثثتين للف�ضاء الحكائي‪،‬‬
‫معد �أ�سا�س ًا لنقل الم�شهد البطولي‬ ‫�إذ وجودهما ّ‬
‫وروايته‪ .‬و�إلى جانب ال�شخ�صيات نجد مجموعة‬
‫من القوى الفاعلة التي �أ�سهمت في نمو الأحداث‬
‫و�سيرورتها كالو�صول �إلى ال��وادي‪ ،‬وفزع الإبل‪،‬‬
‫وظهور الأ�سد‪ ،‬واالندفاع‪ ،‬وقتل الأ�سد‪ ،‬وال غنى‬
‫عنها في تحريك الخط ال�سردي للأحداث وخلق‬
‫الأثر الت�شويقي‪.‬‬
‫يظهر الراوي مطلع ًا على تفا�صيل الحكي عالم ًا‬
‫بكل �صغيرة وكبيرة‪ ،‬وي�ستعين ب�ضمير الغائب لنقل‬
‫الأح��داث‪ ،‬لذلك ج��اءت معرفته كلية‪ ،‬حيث جعل‬
‫مهي�أة لت�صوير بطولة عنترة‬ ‫ك ّل عنا�صر الحكي ّ‬
‫الخارقة التي تتجاوز حدود المنطق‪ ،‬وقد �ساعدت‬
‫معرفته بالتفا�صيل والجزئيات على جعل المتلقي‬
‫لوحة عنترة العب�سي‬
‫في قلب الحدث‪.‬‬
‫ت�أكيد الغاية التي ي�سعى �إليها وهي تمجيد البطولة‬ ‫ويمثل الو�صف مكون ًا رئي�سي ًا من مكونات‬
‫واقعي ًا و�شعري ًا‪ .‬وح�ضور ال�شعر ال يمكن �أن نعتبره‬ ‫ال�سيرة‪ ،‬يطول ويق�صر ح�سب الغاية‪ ،‬وين�صرف في‬
‫ترف ًا وزيادة بل �إنه فاعل في تقوية البعد الإبهاري‪،‬‬ ‫الحكاية المدرو�سة �إلى و�صف المكان (كثير الع�شب‪،‬‬
‫الذي يفند كون ال�شاعر �إن�سان ًا رقيق الم�شاعر‪.‬‬ ‫�صار الع�شب مثل قامة رج��ل ط��و ًال في عر�ض)‪،‬‬
‫وم��ن ال�ضرورة الإ���ش��ارة �إل��ى طبيعة اللغة‪،‬‬ ‫وو�صف الأ�سد (ل�صوته هدير مثل رحى في بئر‪،‬‬
‫التي تت�سم بلينها وبعدها عن توظيف الألفاظ‬ ‫أحد من الخناجر‪ )...‬والو�صفان ال ينف�صالن‪،‬‬ ‫�أظافر � ّ‬
‫ال�صعبة‪ ،‬ويمكن �أن نجد تبريراً لذلك‪ ،‬بعيداً عن‬ ‫ي�صبان في �إظهار بطولة عنترة الذي ال يهاب‬ ‫ّ‬ ‫�إذ‬
‫حكم النحل والو�ضع‪ ،‬في كون ال�سيرة تتجه �إلى‬ ‫الأمكنة الخالية الموح�شة وال َي ْفرق من الوحو�ش‬
‫الطبقات ال�شعبية‪ ،‬وتق�صد متلقي ًا مخ�صو�ص ًا‪ ،‬لذلك‬ ‫المفتر�سة‪ .‬و�إ�ضافة �إل��ى هذه الوظيفة الع�ضوية‬
‫فالإخال�ص يكون للحكاية ال للغة‪.‬‬ ‫الفاعلة في تطوير الأح���داث‪ ،‬ي�ضطلع الو�صف‬
‫ويتحدث الباحثون ع��ن ت��داخ��ل التاريخي‬ ‫بوظيفة تزيينية ت�صويرية تتمثل في خلق عوالم‬
‫�صورة تعبيريةللظاهر بيبر�س‬ ‫بالأدبي في ال�سيرة ال�شعبية‪ ،‬لكن المالحظ � ّأن‬ ‫تخييلية تبعث في نف�س المتلقي الرعب والتحفيز‬
‫االعتناء‪ ،‬ين�صرف �إلى الجانب الأدبي الفني �أكثر‬ ‫المف�ضي �إلى توقع م�آل الأمور‪ ،‬ووظيفة �إمتاعية‬
‫من غيره‪ ،‬ويح�ضر التاريخي مكم ًال �ش�أنه �ش�أن‬ ‫تزيد في ر�سم عوالم الده�شة واالنبهار‪.‬‬
‫من �أ�شهر ال�سير في‬ ‫العنا�صر الفنية الأخ ��رى‪� ،‬إذ يرفع من من�سوب‬ ‫تقوم ال�سيرة �أي�ض ًا على الجانب الأ�سلوبي الذي‬
‫تراثنا �إلى جانب‬ ‫التخييل الذي يميز ال�سيرة‪.‬‬ ‫ي�سهم في زيادة �إح�سا�س االنبهار وتفعيل حا�سة‬
‫نالحظ مما �سبق �أن الحكاية تمجد �شخ�صية‬ ‫التخييل في الذهن‪ ،‬ف�إيقاع ال�سجع واالزدواج‬
‫عنترة �سير �سيف بن‬ ‫البطل وترفع من �ش�أنها �إلى درجة البطولة الخارقة‬ ‫ت�صور الم�شاهد‬ ‫على �سبيل المثل يقوي من درجة‬
‫ّ‬
‫ذي يزن وبني هالل‬ ‫التي تبتعد عن الواقع‪ ،‬وتخلق عالم ًا �أ�سطوري ًا‬ ‫أح��د من الخناجر‬‫وانفعال النف�س بها (�أظ��اف��ر � ّ‬
‫والأميرة ذات المهمة‬ ‫يبعث على الده�شة المخلوطة باالنبهار‪ ،‬لكن‬ ‫ومخالب �أم�ضى من القوا�ضب‪ ،‬مهلك الأبطال‬
‫والظاهر بيبر�س‬ ‫النف�س تتفاعل مع ذلك لتوقها �إلى الخارق الذي‬ ‫وميتم الأ�شبال)‪ ،‬نقول هذا م�ستح�ضرين طبيعة‬
‫يمثل بدي ًال عن الواقع‪ ،‬وكذلك هي نف�س الإن�سان‪،‬‬ ‫الن�ص ال�سيري الذي كان يلقى �شفهي ًا على الجمهور‬
‫فطرت على التوق �إلى غير الم�ألوف‪ ،‬ومن ال�سمات‬ ‫وما يتطلبه ذلك من عناية بالو�صف وال�سجع‪،‬‬
‫المميزة لل�سيرة الجمع بين‬ ‫اللذين يقويان فاعليته الت�أثيرية‪ ،‬ذلك �أن المطلوب‬
‫�سهولة الأ�سلوب‪ ،‬ولين اللغة‪،‬‬ ‫هو �إمتاع الم�ستمع نف�سي ًا وتخييلي ًا‪.‬‬
‫وتوظيف ال�سجع واالزدواج‪،‬‬ ‫وفيما يخ�ص ال�سمات التنا�صية‪ ،‬نجد ح�ضوراً‬
‫والجمع بين النثر وال�شعر‪،‬‬ ‫لل�شعر‪ ،‬الذي يرد مكم ًال لل�سرد‪ ،‬ولتوظيفه عالقة‬
‫وا�ستخدام الو�صف‪ ،‬هذا �إلى‬ ‫ب�شخ�صية بطل ال�سيرة‪ ،‬فهو �شاعر قبل �أن يكون‬
‫جانب قيامها‪ ،‬على خا�صية‬ ‫بط ًال خارق ًا ي�أتي بالأعاجيب في باب ال�شجاعة‪،‬‬
‫تمجيد البطولة والمغامرة‬ ‫وي�ضفي المقطع ال�شعري ن��وع � ًا م��ن التنويع‬
‫والقيم ال�سامية‪.‬‬ ‫الأ�سلوبي الذي يميز ال�سيرة عن غيرها‪ ،‬ويزيد من‬
‫م�شهد من فيلم «عنترة بن �شداد»‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪64‬‬


‫مقاالت‬
‫�سبر‬

‫«العاد َّية» فخ يقع‬


‫فيه الكثير من ال�شعراء‬
‫الأمير كمال فرج‬

‫والم�س�ؤولية‪ ،‬والبقاء‪ ،‬و�أحيان ًا المكابدة‪،‬‬ ‫والقافية‪ ،‬وين�سى المقومات الإبداعية التي‬ ‫عرف قدامة بن جعفر (‪ 873‬م ‪948 -‬م)‬ ‫َّ‬
‫وي��ج��ب �أن ي�ستح�ضر ال�شاعر ك��ل ذلك‬ ‫تعني ال�صور الفنية المفارقة والمعنى‬ ‫ال�شعر ب�أنه (قول‪ ،‬موزون‪ ،‬مقفى‪ ،‬دال على‬
‫عندما يم�سك القلم ليكتب الق�صيدة‪ ،‬ولي�س‬ ‫المبتكر والتراكيب الموحية المده�شة‪.‬‬ ‫معنى)‪ ،‬وبرغم �أنه جمع بين مقومات ال�شعر‬
‫من المقبول الآن �أن ي�صف ال�شاعر وجه‬ ‫و(العادي) في قامو�س المعاني هو (ب�سيط‪،‬‬ ‫المعروفة‪ ،‬ف�إنه تعريف ناق�ص‪ ،‬فقد افتقد‬
‫محبوبته بالقمر‪ ،‬و�شعرها بالليل وخدها‬ ‫عامة‬ ‫م�ألوف‪ ،‬معهود‪ ،‬غير متجاوز م�ستوى ّ‬ ‫العن�صر الأول وهو (القول) �صفة مهمة وهي‬
‫ب��ال��ورد الأح��م��ر‪ ،‬على ال�شاعر �أن يجتهد‬ ‫ال َّنا�س‪ ،‬وفي مو�ضع �آخر هو‪ :‬العتيق‪ .‬ويقال‪:‬‬ ‫االبتكار والخلق بمعنى �أدق‪( ..‬الإب ��داع)‪،‬‬
‫ليقدم لنا �أو�صافا جديدة ومعاني مبتكرة‬ ‫�أَ ْم� ٌ�ر َع��ا ِد ٌّي جِ � ّ�داً‪ :‬بمعنى َب ِديهِ ٌّي‪َ ،‬ج� َ�ر ْت ِب ِه‬ ‫والتعريف‪ ،‬في ر�أيي‪ ،‬يجب �أن يكون (قول‬
‫و�إبداع ًا حقيقي ًا ينتزع منا كلمة �إعجاب‪،‬‬ ‫كاء َعا ِد ٌّي‪� :‬أي ُم َت َو ِّ�س ٌط‪َ ،‬‬
‫وح َر َك ٌة‬ ‫اد ُة‪ .‬و َذ ٌ‬ ‫ا ْل َع َ‬ ‫مبدع‪ ،‬م ��وزون‪ ،‬مقفى‪ ،‬دال على معنى)‪،‬‬
‫و�أمامه (اللغة) المادة الخام الغنية التي‬ ‫اعتيادي‬
‫ّ‬ ‫أمر‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ع‬ ‫ِي‬
‫ب‬ ‫ط‬ ‫ة‬
‫َ َ َ ٌ َ َّ ٌ‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫أي‬ ‫�‬ ‫‪:‬‬‫ة‬‫َعا ِد َّ ٌ‬
‫ي‬ ‫فالإبداع هو الذي يفرق بين القول ال�سيار‬
‫ت�صنع المعجزات‪.‬‬ ‫�صادف �أو ملحوظ ب�شكل‬ ‫�شاهد �أو ُم َ‬ ‫هو ُم َ‬ ‫والأدب‪ ،‬بين الأغاني الزاعقة التي ن�ستمع‬
‫�أزم��ة الق�صيدة العمودية المعا�صرة‪،‬‬ ‫متكرر)‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫�إليها في �سيارات الأج��رة‪ ،‬وبين الق�صائد‬
‫العادية ال�شعرية‪ ،‬عندما‬
‫ّ‬ ‫في ر�أيي‪� ،‬سببها‬ ‫الكثير من ال�شعر الذي ن�سمعه الآن في‬ ‫الخالدة التي تبقى على مر التاريخ‪ ،‬تلهم‬
‫اهتم الكثير من ال�شعراء بال�شكل‪ ،‬فقدموا‬ ‫ال��ن��دوات والأم�سيات �شعر وفق ًا للقواعد‪،‬‬ ‫النا�س وتعلم الأمم‪.‬‬
‫لنا �أنا�شيد جميلة تطرب لها الأذن‪ ،‬ولكنها‬ ‫ولكنه �شعر عادي‪ ،‬خافت‪� ،‬شعر جميل‪ ،‬ولكن‬ ‫ال يكفي �أن ي�شتمل ال�شعر على ما اتفق‬
‫خالية م��ن ال�����ص��ور ال��ج��دي��دة والمعاني‬ ‫التراكيب م�ست�أن�سة‪ ،‬وال�صور الفنية تقليدية‪،‬‬ ‫عليه وهو الوزن والقافية‪ ،‬ولكن الحم�ض‬
‫المبتكرة‪ ،‬بمعنى �أدق‪ ..‬خالية من الإبداع‪.‬‬ ‫والمعاني قيلت م��ن قبل (‪ )1000‬م��رة‪.‬‬ ‫النووي للأدب هو الإب��داع‪ ،‬الم�شكلة لي�ست‬
‫يجب �أن نعيد تعريف ال�شعر ال��ذي‬ ‫(العادية ال�شعرية) قد يكون متعلق ًا‬ ‫َّ‬ ‫و�سبب‬ ‫ف��ي ال��ك��م‪ ،‬ه��ن��اك �شاعر �أ���ص��در ع�شرات‬
‫و�ضعه قدامة‪ ،‬لي�س فقط لخلوه من العن�صر‬ ‫بالم�ستوى المعرفي لل�شاعر نف�سه‪ ،‬عندما‬ ‫الدواوين‪ ،‬ولم يتبق منها في الذاكرة بيت‬
‫الأه��م وهو (الإب���داع)‪ ،‬ولكن �أي�ض ًا لتغير‬ ‫ين�ش�أ تحت �آل��ة ت�ضخيم �شكل ال�شعر وهو‬ ‫واح��د‪ ،‬و�آخ��ر كتب ق�صيدة واح��دة خلدها‬
‫معنى الق�صيدة على مر الع�صور‪ ،‬وظهور‬ ‫(العرو�ض والقوافي)‪ ،‬فيهمل الجوهر وهو‬ ‫التاريخ‪ .‬لقد مر على التاريخ العربي �آالف‬
‫�أنماط �شعرية حديثة مثل ال�شعر الحديث �أو‬ ‫ال�شعر نف�سه‪ ،‬وقد يتعلق الأمر ب�أ�شياء �أخرى‬ ‫ال�شعراء‪ ،‬ولكن قلة منهم �أبدعوا وتركوا �أثراً‪،‬‬
‫التفعيلي‪ ،‬الذي يتخلى �أحيان ًا عن منظومة‬ ‫مثل حدود الموهبة‪� ،‬أو المعرفة القا�صرة‪،‬‬ ‫قلة منهم بقيت �أبياتهم ترددها الأجيال‬
‫ال�شطرين‪ ،‬و�أحيان ًا القافية‪� ،‬أو المنثور‬ ‫�أو الك�سل ال�شعري‪� ،‬أو المناخ الثقافي‪� ،‬أو‬ ‫حتى الآن‪.‬‬
‫ال��ذي يتخلى عن بحور الخليل بن �أحمد‬ ‫(متطلبات ال�سوق)‪� ،‬إن �صح التعبير‪� ،‬أو‬ ‫(العادية ال�شعرية) فخ يقع فيه الكثير‬‫َّ‬
‫الفراهيدي‪ ،‬ويكتفي بالمو�سيقا الداخلية‪،‬‬ ‫الت�سرع في الكتابة قبل الن�ضج الكافي‪ ،‬وقد‬ ‫من ال�شعراء‪ ،‬وفيها يهتم ال�شاعر بمقومات‬
‫والأنماط التي �ست�أتي في الم�ستقبل والتي‬ ‫يتعلق الأمر من ناحية �أخرى بالنقد الذي‬ ‫ال�شعر ال�شكلية ال��ت��ي تتمثل ف��ي ال��وزن‬
‫ال يعلمها �أحد‪.‬‬ ‫اهتم هو الآخر‪ ،‬في معظم الع�صور‪ ،‬بالقواعد‬
‫نحن بحاجة �إلى تعريف مفتوح جديد‬ ‫ال�شكلية‪ ،‬كما فعل قدامة بن جعفر منذ‬ ‫الإبداع هو الذي يفرق بين‬
‫لل�شعر‪ ،‬ال يهمل المكت�سبات التاريخية‬ ‫(‪� )1074‬سنة‪ ،‬وتبعه العديد من النقاد‪.‬‬
‫التي حققتها الق�صيدة العربية من ناحية‪،‬‬ ‫الإب��داع‪� ،‬سواء كان في ال�شعر �أو فنون‬ ‫القول ال�س ّيار والأدب‪ ..‬بين‬
‫وي�ستوعب حركات التجديد ال�شعري‪ ،‬وما‬ ‫التعبير الأخ��رى عملية غير عادية‪ ،‬تت�سم‬ ‫الأغاني الزاعقة والق�صائد‬
‫�أ�ضافته من �آفاق من ناحية �أخرى‪.‬‬ ‫وال��ج��د واالج��ت��ه��اد‬
‫ّ‬ ‫ب��االه��ت��م��ام وال��ع��م��ل‬ ‫الخالدة‬

‫‪65‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫دراج‪ ،‬ف�إنه‬ ‫والكتاب �إذ يكرم في�صل ّ‬
‫قدم للثقافة العربية درا�سات‬ ‫دراج ّ‬ ‫ي�ؤكد � ّأن ّ‬
‫فذة‪ ،‬ومركزية‪ ،‬ومهمة‪ ،‬يجب الإ�شارة �إليها‬
‫والإ�شادة بها‪ ،‬بما تحمله من عمق و�أ�صالة‬
‫ومنهجية �صارمة‪.‬‬
‫وف��ي ه��ذا ال�صدد يقول ال��م��ح��رران في‬
‫مقدمة الكتاب‪( :‬يتن ّزل ه��ذا الكتاب ليعيد‬
‫لقامو�س العرب المن ّقح كلم ًة عالها اللب�س‬
‫أحبائنا‬ ‫ال��ه��ج��ران‪� ،‬إن��ه��ا ال��وف��اء‪ ،‬ال��وف��اء ل ّ‬
‫�شذي في �أمدائنا‬ ‫أريج ٍّ‬
‫مروا ك� ٍ‬ ‫الأحياء‪ ،‬للذين ّ‬
‫فت�ضوعت �أرواحنا م�سك ًا وعوداً‪ ،‬للذين كانوا‬
‫عمود خيمتنا‪ ،‬وك��ان بهم اكتمال اللحظة‪،‬‬
‫وانت�صار ال��وردة على ال�ضو�ضاء‪ّ � .‬إن هذا‬
‫الكتاب الذي نه�ضنا به يحدونا �شرف العلم‬
‫وموجباته‪ ،‬تكريم ًا لفي�صل دراج‪ ،‬وقد �أر�سى‬
‫بعلمه لوحة من عطاء و�أمثولة جذورها‬
‫ثابتة‪ ،‬وفروعها تملأ الكون زنابق وقطوف ًا‬
‫يانعة)‪.‬‬
‫وقد �أك��د محررا الكتاب �أن هذا الكتاب‬
‫بمثابة ت�أكيد لثقافة الوفاء بقولهما‪�( :‬إنها‬
‫منا�سبة �صالحة لإع��ادة الماء �إلى المحبة‬
‫وال��خ��روج على م ��أل��وف النميمة‪ ،‬وثقافة‬
‫المعنوي بين من‬‫ّ‬ ‫الإق�صاء وتقاليد االغتيال‬
‫من هو عاجز عن‬ ‫ال يحبوننا �إال موتى‪ .‬فك ّل ْ‬
‫يخرب ويف�سد كما‬ ‫االبتكار فهو قادر على �أن ّ‬
‫الفرن�سي �إدغار موران)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يقول �صاحبك‬
‫وي��ج��يء ه��ذا ال��ك��ت��اب بو�صفه ر�سالة‬
‫�شكر وع��رف��ان للدكتور في�صل دراج‪ ،‬من‬
‫طلبته و�أحبته ومريديه على جهوده الكبيرة‬
‫والممتدة ف��ي الثقافة العربية ف��ي خدمة‬
‫العربي‪ ،‬وفي خدمة الفكر‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سفي‬
‫ّ‬ ‫الدر�س‬ ‫تكـريمـ ًا‬
‫دراج‬
‫للدكتـور في�صـل ّ‬
‫العربي المعا�صر‪ ،‬وفي خدمة الرواية العربية‬ ‫ّ‬
‫وتوطين مقوالت النقد الروائي‪ ،‬وتر�سيخها‬
‫العربية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في ال�سياقات‬
‫وق��د ج��اء ال��ك��ت��اب ف��ي ف�صول ثالثة‪،‬‬
‫ت�سبقها مقدمة‪ ،‬ومفتتح‪ ،‬وتتلوها قائمة‬
‫�شهادات ودرا�سات عن دوره الثقافي‬
‫ببلوغرافيا‪ ،‬وذلك على النحو الآتي‪ :‬مفتتح‪:‬‬
‫ويت�ضمن ���ش��ذرات من �سيرة في�صل دراج‪:‬‬
‫ال�صعود �إلى المنفى الأول‪ ،‬وحين كنا نطوف‬
‫�صدر عن الدار الأهلية في بيروت حديثاً‪ ،‬كتاب (حار�س‬
‫في باري�س قبل �أن ن�صل �إليها‪ ،‬والطريق‬ ‫الحكايات‪� :‬شهادات‪ ،‬درا�سات‪ ،‬مراجعات)‪ ،‬تكريم ًا للدكتور‬
‫الطويل �إلى فعل‪ :‬كتب‪.‬‬ ‫في�صل د ّراج)‪ ،‬تحرير‪ :‬عي�سى برهومة وعامر �أبومحارب‪.‬‬
‫المعرفية)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والق�سم الأول (ال�شهادات‬ ‫يقع الكتاب في (‪� )550‬صفحة من القطع المتو�سط‪،‬‬
‫�شخ�صية‬
‫ّ‬ ‫ذكريات‬ ‫على‬ ‫انطوت‬ ‫�شهادات‬ ‫وهي‬
‫ومراجعات عملية كتبها �أ�صدقاء في�صل‬
‫يكرم العلماء الأج�لاء‪ ،‬من خالل‬‫علمي ّ‬
‫ّ‬ ‫تر�سيخ ًا لعرف‬
‫عمر �أبو الهيجاء‬
‫دراج ورفاق دربه الطويل في المعرفة والفكر‬ ‫ا�ستكتاب ثلة من الأقالم النقدية والفكرية للتجمع حول‬
‫الروائي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ناقد �أو مفكر‪ ،‬وتقديم لفيف من الدرا�سات والمقاالت العلمية تكريم ًا له‪ .‬والنقد‬
‫العلمية)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�أما الق�سم الثاني (المراجعات‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪66‬‬


‫نقد‬

‫العزلة واالنف�صال وتقييد‬ ‫وهي مراجعات عامة انبرت لمراجعة م�شروع‬


‫حدود التوا�صل واالحتماء‬ ‫دراج الممتد من الفل�سفة �إل��ى الفكر العربي‬ ‫ّ‬
‫ب��م��ل��ك��ات ال��ف��ع��ل ال��ذات��ي‬ ‫المعا�صر‪ ،‬انتهاء بالرواية محور اهتمامه‪،‬‬
‫والخلق والإب����داع‪ .‬فك�أن‬ ‫و�شغله ال�شاغل منذ �سنين ط��وال ما�ضية‪ ،‬من‬
‫الوجود قد ارت� ّ�د عنده �إلى‬ ‫العربية و�إ�شكاالت الن�ش�أة‪ ،‬الرواية‬ ‫ّ‬ ‫مثل‪ :‬الرواية‬
‫حدود (الوجود في النف�س)‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬في‬
‫ّ‬ ‫والقومية‪ ،‬في الرواية‬ ‫ّ‬ ‫والحداثة‬
‫الحقيقي‬
‫ّ‬ ‫بما هو الموجود‬ ‫التاريخي‪ ،‬وفي�صل‬ ‫ّ‬ ‫التخييل‬ ‫ورواي��ة‬ ‫التاريخ‬
‫ال��ذي يبعث على االكتفاء‬ ‫دراج بين النقد والفكر‪.‬‬
‫وعلى الر�ضا‪ .‬وك�أنه‪ ،‬بما‬ ‫والق�سم الثالث (البحوث المهداة)‪ ،‬وقد قام‬
‫�سعيد يقطين‬ ‫فخري �صالح‬ ‫ه��و فيل�سوف ال ب��م��ا هو‬ ‫الباحث حازم الزواهرة في نهاية الكتاب ب�إعداد‬
‫أدبي‪ ،‬يتع ّلق بالك�شف‬ ‫ناقد � ّ‬ ‫ببلوغرافيا مف�صلة لجل ما كتبه د‪.‬في�صل من‬
‫الأف �ل�اط� ��ون� � ّ�ي الأع���ظ���م‪:‬‬ ‫كتب وبحوث ومقاالت ومراجعات علمية‪.‬‬
‫الوجود الحقيقي لي�س هو‬ ‫وقد �شارك في ت�أليف هذا الكتاب ثلة من‬
‫ال��وج��ود ال�شاهد‪ ،‬الوجود‬ ‫الباحثين العرب وال�شعراء والروائيين من مثل‪:‬‬
‫الهيرقليطي‪ ،‬و�إن��م��ا هو‬‫ّ‬ ‫�إب��راه��ي��م ال�سعــافين‪ ،‬و�إدري�����س الخ�ضراوي‪،‬‬
‫الوجود المفارق‪ ،‬الوجود‬ ‫و�أمـين ال��ـ��زاوي‪ ،‬ورام��ي �أبو�شهاب‪ ،‬و�شكري‬
‫البرمنيدي‪ ،‬المعقول‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫الما�ضي‪ ،‬و�شيـرين �أبوالنجا‪ ،‬و�صبري حافظ‪،‬‬
‫ين�شد التعالي وال��ت��أم��ل‬ ‫وط��ال��ب ال��رف��اع��ي‪ ،‬وع��ب��دال��رح��م��ن ت��ـ��ـ��م��ارة‪،‬‬
‫والخلود)‪.‬‬ ‫وعبدالقادر فيـدوح‪ ،‬وعبدالمجـيد �إبراهيم‪،‬‬
‫المن�صف الوهايبي‬ ‫�إبراهيم ال�سعافين‬ ‫(ول��د ال��دك��ت��ور في�صل‬ ‫وعــمـاد عبداللطيف‪ ،‬وغزالن الها�شمي‪ ،‬وغ�سان‬
‫دراج ف��ي الجاعونة عام‬ ‫عبدالخالـق‪ ،‬وفـائــزة لولـو‪ ،‬وفخري �صالح‪،‬‬
‫(‪1943‬م)‪ ،‬تخرج في فرن�سا عام (‪1974‬م) في‬ ‫وفهمي ج��دع��ان‪ ،‬ومح�سن جا�سم المو�سوي‪،‬‬
‫ق�سم الفل�سفة‪ ،‬وكتب �أطروحة علمية كانت بحثه‬ ‫ومحمد دكـروب‪ ،‬والمن�صف الوهـايبي‪ ،‬ون�ضال‬
‫لنيل درجة الدكتوراه عن (االغتراب بين مارك�س‬ ‫ال�شمالي‪ ،‬وهـدى بركات‪ ،‬ووا�سيني الأعرج‪.‬‬
‫وهيجل)‪.‬‬ ‫وقد حمل غالف الكتاب الذي �صممه زهير‬
‫وخ�ل�ال �سني ع��م��ره ال��م��م��ت��دة‪ ،‬ع��م��ل مع‬ ‫�أبو�شايب كلمة كتبها الدكتور والمفكر فهمي‬
‫الدكتور الراحل �إح�سان عبا�س والدكتورة وداد‬ ‫جدعان تكريم ًا ل�صديقه دراج قال فيها‪( :‬عر�ض‬
‫كتاباته ت�شي بعمق‬ ‫القا�ضي على �إ�صدار �سل�سلة ح�صاد الفكر العربي‬ ‫دراج بما هو‪،‬‬ ‫لي في �سياقٍ ما �أن �أتم ّثل في�صل ّ‬
‫و�أ�صالة منهجه‬ ‫(‪1982-1977‬م)‪ ،‬عن م�ؤ�س�سة نا�صر للثقافة‬ ‫في حياتنا الثقافية المعا�صرة‪ ،‬حالة ف� ّذة‪،‬‬
‫الفكري النقدي‬ ‫في بيروت‪ ،‬ومديراً لق�سم الأبحاث والدرا�سات في‬ ‫حالة ال مثيل لها‪ ،‬ولي�س ذلك لأنه (الناقد) ب�أل‬
‫المركز العربي للدرا�سات اال�ستراتيجية‪ -‬دم�شق‬ ‫والتميز‬
‫ّ‬ ‫التعريف التي تفيد الإط�لاق والفرادة‬
‫(‪2002 -1996‬م)‪ ،‬وعمل �أ�ستاذاً في المعهد‬ ‫معنى ق�صدي ًا ذا‬ ‫ً‬ ‫يج�سد‬
‫عن الأقران‪ ،‬و�إنما لأنه ّ‬
‫العالي للدرا�سات الم�سرحية في جامعة دم�شق‬ ‫ووظيفي يظهران‬ ‫ّ‬ ‫وجودي‬
‫ّ‬ ‫وجوه تمتد في ما هو‬
‫(‪1999 -1997‬م)‪ ،‬ومحكم ًا �أي�ض ًا في العديد‬ ‫لخال�ص وعيي هنا‪ ..‬الآن‪ ،‬في المكان ال�شاهد‬
‫من الجوائز العربية‪ ،‬و�أ�صدر دوري��ة عنوانها‬ ‫الظاهراتي‬
‫ّ‬ ‫والزمان المعطى)‪ .‬يك�شف الح�ضور‬
‫(ق�ضايا و�شهادات) مع الراحلين عبدالرحمن‬ ‫�ري‬‫دراج ف��ي وع��ي��ي ع��ن وج��ه ج��وه� ّ‬ ‫لفي�صل ّ‬
‫منيف و�سعداهلل ونو�س (‪-1989‬‬ ‫ي�شخ�ص في بع�ض �أبطال (ت�شيخوف)‪( :‬ي�ستحيل‬
‫‪1992‬م)‪ ،‬وظ��ه��ر منها �سبعة‬ ‫الر�ضا بالأمر الواقع مثلما ي�ستحيل عدم الر�ضا‬
‫مجلدات‪.‬‬ ‫بهذا الواقع‪ .‬ال مكان للحل الو�سط‪ .‬ولي�س على‬
‫وم��ن �أه��م كتبه‪ :‬في دالالت‬ ‫أر�ضية بيته‬
‫يتمرغ على � ّ‬ ‫ّ‬ ‫المرء بالتالي �إال �أن‬
‫الروائية‪1992( ،‬م)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العالقات‬ ‫وي�صرخ وي�ضربها بر�أ�سه)!‬
‫�ري ��ة ال� ��رواي� ��ة وال���رواي���ة‬ ‫ون ��ظ � ّ‬ ‫الحدي) الذي‬ ‫ّ‬ ‫هو على وجه الدقة (الو�ضع‬
‫العربي‬
‫ّ‬ ‫الثقافي‬
‫ّ‬ ‫المركز‬ ‫العربية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يلهج به ك��ارل يا�سيرز‪ ،‬وال��ذي يقابله في�صل‬
‫عربي‬
‫ّ‬ ‫نقد‬ ‫�اق‬ ‫�‬ ‫�‬ ‫آف‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫(‪2002‬م)‪،‬‬ ‫رواقية‪ .‬في هذه الحدود يرتد‬ ‫ّ‬ ‫ب�صبر وعناد و�إرادة‬
‫معا�صر‪ ،‬باال�شتراك مع �سعيد‬ ‫ي�سلم نف�سه‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫)‪،‬‬‫(الجواني‬
‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫�‬ ‫)‬‫راني‬
‫(الب ّ‬ ‫في�صل من ّ‬
‫يقطين (‪2003‬م)‪ ،‬وال��رواي��ة‬ ‫�إلى (الخارج) الذي ا�ستبد به عقوداً و�أجيا ًال وبات‬
‫وت�أويل التاريخ (‪2004‬م)‪.‬‬ ‫عنده منبع ي�أ�س وقنوط ورف�ض‪ ،‬ومبد�أ لطلب‬
‫من م�ؤلفاته‬

‫‪67‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫ال�سيرة الذات ّية للأديب‬


‫غ�سان كامل ونو�س‬

‫ت�شابه بين �أ�شخا�ص‪ ،‬و�أو�ضاع‪ ،‬وممار�سات‬ ‫يح�سون � ّأن‬‫يعمد كثير من النا�س‪ ،‬الذين ّ‬
‫و�أق���وال في ال��رواي��ة‪ ،‬مع ما هو موجود في‬ ‫خ�صو�صية و�صدى مختلف ًا‪� ،‬إلى كتابة‬ ‫ّ‬ ‫لحياتهم‬
‫الواقع‪ ،‬هو مح�ض م�صادفة‪ ،‬و� ّأن ال�شخو�ص‬ ‫�سيما �أ�صحاب الم�صالح‬ ‫الذاتية؛ وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫�سيرهم‬
‫أعد ذلك‪-‬‬ ‫متخيلة؛ فيما � ّ‬ ‫ّ‬ ‫والأفعال مفتر�ضة �أو‬ ‫ال�سيا�سية‬
‫ّ‬ ‫المختلفة‪:‬‬ ‫الحياة‬ ‫ميادين‬ ‫في‬ ‫والنفوذ‬
‫�شخ�صي ًا‪ -‬دلي ًال على �شيء من الواقع المعي�ش‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫واالجتماعية‪ ...‬ويقومون بذلك‬ ‫ّ‬ ‫واالقت�صادية‬
‫ّ‬
‫�أو ال��م��ع��روف ف��ي ال��ع��م��ل‪ ،‬ح�سب المفهوم‪:‬‬ ‫خ�ضمها‪ ،‬وفي‬ ‫ّ‬ ‫في‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫اتهم‪،‬‬ ‫ؤولي‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫م�س‬ ‫بعد انتهاء‬
‫(يكاد المريب يقول خذوني!) و�س�أبتعد هنا‬ ‫�أواخر �أعمارهم‪� ،‬أو في �أوا�سطها‪ ..‬ويكتب �أدباء‬
‫م�سوغ ًا‪� ،‬إن كان‬ ‫عن التقييم‪ ،‬الذي ال �أجد له ّ‬ ‫الذاتية �أي�ض ًا‪ .‬و�إذا كان الكالم‬ ‫ّ‬ ‫كثر �سيرهم‬
‫للك ّتاب نبوءاتهم‬ ‫الحيز‪ ،‬يتناول الأدباء و�سيرهم؛ فل ّأن‬
‫وقوع هذا الت�شابه �أو عدمه مقبو ًال �أو منبوذاً؛‬ ‫في هذا ّ‬
‫ور�ؤاهم ولهم ملكاتهم‬ ‫ل ّأن الكاتب ابن الحياة بظروفها‪ ،‬و�شروطها‪،‬‬ ‫الآخرين يعمدون �إلى هذا الإجراء‪� ،‬أو يك ّلفون‬
‫التي تحلل وت�ستقرئ‬ ‫الطبيعي‬
‫ّ‬ ‫وك��ائ��ن��ات��ه��ا‪ ،‬وط��ق��و���س��ه��ا‪ ،‬وم���ن‬ ‫�آخ��ري��ن بكتابتها؛ �سبي ًال لتخليد �أعمالهم‬
‫مادته من هذه العنا�صر‬ ‫ي�ستمد ّ‬
‫ّ‬ ‫والمفهوم‪� ،‬أن‬ ‫ي�صح‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ولكن ���س��ؤا ًال‪،‬‬
‫ّ‬ ‫و�إنجازاتهم وذك��راه��م‪..‬‬
‫وت�ستنتج‬ ‫�سيما ك ّتاب‬
‫و�سواها في العي�ش الواقع والمحتمل‪ ،‬و� ّإن ما‬ ‫لماذا يقوم الأدب ��اء بذلك؟! وال ّ‬
‫يذكره الكاتب �أو يثيره عار�ض ًا �أو منتقداً �أو‬ ‫والم�سرحية!‬
‫ّ‬ ‫والق�صة‪ ،‬والمقالة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النثر‪ :‬الرواية‪،‬‬
‫مقرظ ًا‪ ،‬لي�س مجال ا ّتهام �أو �إدانة �أو محا�سبة‬ ‫ّ‬ ‫�إذا كانت جوانب عديدة‪ ،‬ظ��روف‪� ،‬أ�شخا�ص‪،‬‬
‫تميز؛ من حيث‬ ‫�أو م�ساءلة‪ ،‬وال مجال �إ�شادة �أو ّ‬ ‫بيئات‪ ،‬وحيوات‪ ..‬غالب ًا ما تتو ّزع �أعمالهم‪،‬‬
‫مو�ضوعه فح�سب‪� ،‬أو مدى تماثل ما في �سطوره‬ ‫وق��د قيل الكثير في ه��ذا؛ موافقة �أو رف�ض ًا؛‬
‫�أو تقاطعه �أو تعار�ضه مع الواقع‪ ،‬ويجب � ّأل‬ ‫فهناك من يقول � ّإن الأدي��ب‪ ،‬يبقى دائ��راً في‬
‫فن �أو محاولة‬ ‫نن�سى لحظة واحدة‪ّ � ،‬أن ما نقر�ؤه ّ‬ ‫فلك ذاته ومحيطه‪ ،‬ومعرفته المبا�شرة للنا�س‬
‫أدبي �أو ذاك‪ ،‬ويفتر�ض‬ ‫ف ّن ّية في هذا الجن�س ال ّ‬ ‫الروائي‬
‫ّ‬ ‫تنوعت؛ و� ّإن‬ ‫والأحوال‪ ،‬في �أعماله؛ و�إن ّ‬
‫المو�ضوعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التقييم‬ ‫الجاد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�أن يتناول النقد‬ ‫ال�شخ�صية في روايته الأول��ى‬ ‫ّ‬ ‫يكتب تجربته‬
‫المطلوب في العمل‬ ‫الن�ص؛ من حيث‬ ‫ّ‬ ‫والتحليل الف ّن ّي‪ ،‬ما جاء في‬ ‫ربما‪ ..‬فيما هناك �أق��وال �أخ��رى؛ من‬ ‫و�سواها ّ‬
‫الإبداعي ال�صدق‬ ‫الداخلي‪ ،‬وتوافق عنا�صره‪ ،‬وجودة‬ ‫ّ‬ ‫ان�سجامه‬ ‫� ّأن جوانب كثيرة وكائنات و�أحداث ًا في حياة‬
‫البناء‪ ،‬و�أ�ساليب القول و�أدوات ��ه‪ ،‬وما يمكن‬ ‫أدبية؛ كما‬ ‫الكاتب‪� ،‬ستبقى خارج الأعمال ال ّ‬
‫الفني داخل الن�ص‬ ‫�أن يحمل من �أبعاد ومديات‪ ،‬وما يحتمل من‬ ‫إبداعي‪ ،‬يفر�ض نف�سه بهذا القدر �أو‬ ‫� ّأن الخيال ال‬
‫ّ‬
‫بال �أخطاء‬ ‫�إثارة �أو ت�أويل �أو �إرها�ص؛ فللك ّتاب نبوءاتهم‬ ‫أ�سطوري‪ ،‬والخيال‬ ‫ّ‬ ‫ذاك؛ و�صو ًال �إلى الخيال ال‬
‫�أو تناق�ضات‬ ‫ور�ؤاهم؛ ولهم ملكاتهم‪ ،‬التي تح ّلل‪ ،‬وت�ستقرئ‪،‬‬ ‫العلمي (من المعلوم‪ّ � ،‬أن هناك ما يعرف ب�أدب‬ ‫ّ‬
‫وت�ستنتج‪...‬‬ ‫العلمي)؛ �إ�ضافة �إلى � ّأن �إرها�صات بما‬ ‫ّ‬ ‫الخيال‬
‫إبداعي؛ � ّأي عمل‬
‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫العمل‬ ‫في‬ ‫المطلوب‬ ‫� ّإن‬ ‫قد يجري في الم�ستقبل‪ ،‬ال يمكن تجاوزها‪..‬‬
‫الن�ص‪ ،‬وعدم‬‫ّ‬ ‫�إب��داع� ّ�ي‪ ،‬ال�صدق الف ّن ّي داخ��ل‬ ‫يثبت في بداية عمله‬ ‫وفي الوقت ذاته‪ ،‬نجد من ّ‬
‫الوقوع في �أخطاء وتناق�ضات وعدم �إقناع‪،‬‬ ‫الأدب� ّ�ي �إ�شارة �أو مالحظة‪ ،‬ت�شير �إل��ى � ّأن � ّأي‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪68‬‬


‫�أقالم‬

‫التقييمي‪ ،‬والعتب واللوم والإحراجات‪ ،‬التي‬ ‫ّ‬ ‫معرفية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تاريخية �أو‬‫ّ‬ ‫و� ّأل تكون هناك �إ�شكاالت‬
‫هو في غنى عنها‪.‬‬ ‫� ّإل �إذا كان ذلك مق�صوداً من قبل الكاتب‪ ،‬ومن‬
‫إبداعي‪ ،‬فيمكن ذكر كثير‬ ‫ّ‬ ‫الن�ص ال‬‫ّ‬ ‫� ّأما في‬ ‫الن�ص ور�صيده‪..‬‬ ‫�أ�س�س بناء ّ‬
‫ال�سر ّية‬‫ّ‬ ‫من العورات والنزوات والممار�سات‬ ‫� ّأم��ا الن�صو�ص‪ ،‬التي تدخل مبا�شرة في‬
‫تعرف �إليها‪� ،‬أو رويت‬ ‫والعلنية‪ ،‬التي عرفها �أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذاتية؛ فهي تتناول حياة الكاتب‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيرة‬
‫له‪ ،‬من دون حرج‪ ،‬ويمكن �أن ي�ضيف �إليها‪،‬‬ ‫طفولته‪ ،‬ون�ش�أته‪ ،‬و�شبابه‪ ،‬والم�ؤ ّثرات التي‬
‫يحور فيها ما يراه منا�سب ًا ف ّن ّي ًا‪� ،‬أو �إغناء‬ ‫�أو ّ‬ ‫لعبت دوراً في تن�شئته‪ ،‬والظروف‪ ،‬التي �ساقته‬
‫للن�ص والفحوى‪� ،‬أو توثيق ًا للتاريخ‪ ،‬و�إن كان‬ ‫ّ‬ ‫�إلى �أحداث ومهن وبيئات وم�صائر‪� ،‬أو �ساقتها‬
‫من المنطقي‬ ‫الحقيقي‪ ،‬وغير معترف‬ ‫ّ‬ ‫للتوثيق‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫موازي‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫توثيق‬ ‫�إليه‪ ،‬وكان قد تعامل معها؛ �أ�سهمت في تربيته‪،‬‬
‫مدوناته؛‬ ‫ّ‬ ‫تنجو‬ ‫الحقيقي‪ ،‬الذي ال‬ ‫به؛ التاريخ‬ ‫الطبيعي � ّأن‬ ‫�أو �أ�سهم في م�ساراتها‪ .‬وم��ن‬
‫والمتفهم �أال ين�سخ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هو الآخر‪ ،‬من ت�أثيرات �أهواء ورغبات و�ضغوط‬ ‫ال�شخ�صية هذه‬ ‫ّ‬ ‫�سيركز‪ ،‬ح ّتى في �سيرته‬ ‫ّ‬ ‫الكاتب‬
‫الكاتب حياته بجميع‬ ‫مهددات‪..‬‬ ‫ومرغبات �أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ونفوذ وظروف‬ ‫أ�سا�سية‪ ،‬و�سيتغافل‬ ‫ّ‬ ‫مهمة و�‬
‫على عنا�صر يراها ّ‬
‫تفا�صيلها وف�صولها‬ ‫ومن الم�ستحيل ت�سجيل ك ّل �شيء في الحياة‬ ‫ال�شخ�صية‬
‫ّ‬ ‫هام�شي ًا وفق ر�ؤيته‬ ‫ّ‬ ‫عما قد يكون‬ ‫ّ‬
‫م��ن وق��ائ��ع وم�شاعر وع��واط��ف ومواجهات‬ ‫والمتفهم‪ّ � ،‬أل‬‫ّ‬ ‫المنطقي‬ ‫من‬ ‫أن‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫كما‬ ‫ة؛‬ ‫أدبي‬
‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ال‬
‫وكائناتها‬ ‫ّ‬
‫ولقاءات وتوافقات وخ�صومات‪..‬‬ ‫ين�سخ الكاتب حياته بجميع تفا�صيل � ّأيامها‬
‫وهنا نعود �إلى ال�س�ؤال المفتوح‪ :‬ما الذي‬ ‫وف�صولها وكائناتها‪ ،‬ولذلك ف�إ ّنه �سيتغافل‬
‫�ذك��رات��ه �أو �سيرته‬ ‫يغري الأدي���ب بكتابة م� ّ‬ ‫عن �أ�شخا�ص‪ ،‬ويهمل �أحداث ًا ووقائع ال يرى‬
‫الذاتية؟! وكيف ُينظر �إليها؟! وب�� ّأي معيار؟!‬ ‫ّ‬ ‫�أ ّنها ذات قيمة �أو �أثر في حياته؛ كما �سيتج ّنب‬
‫ت�صورات النا�س �إليه‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫يعتد بها في‬‫وهل ّ‬ ‫الحديث عن كثير من العيوب والنواق�ص‪ ،‬التي‬
‫تعد من �إنجازاته‪� ،‬أو‬ ‫خالل كتاباته؟! وهل ّ‬ ‫تعرف �إليها لدى‬ ‫عا�شها بنف�سه وفي نف�سه‪� ،‬أو ّ‬
‫عثراته؟!‬ ‫كائنات �أخرى‪ ،‬وقد جرى‪ ،‬ويجري كالم كثير‬
‫ولي�س المق�صود هنا تلك ال�شهادات‪ ،‬التي‬ ‫(تجر�ؤوا) على قول‬ ‫ّ‬ ‫عن بع�ض الك ّتاب‪ ،‬الذين‬
‫تتناول ظروف الكتابة ب�شكل عام‪� ،‬أو والدة‬ ‫ما ال يقال في العلن؛ من ع��ادات ورغبات‬
‫معين‪ ،‬و�صارت �أمراً م�ألوف ًا في الن�شاطات‬ ‫ن�ص ّ‬ ‫ّ‬ ‫بيئية؛ فيما اقت�صر‬ ‫�شخ�صية �أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫وممار�سات‬
‫والخارجي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ي‬‫ّ‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫المح‬ ‫الم�ستوى‬ ‫على‬ ‫ة‪،‬‬ ‫أدبي‬
‫ال ّ‬ ‫حديث �آخرين عن الم�شرق‪� ،‬أو ما يرونه كذلك‬
‫الكاتب يواجه في‬ ‫بد من ت�أكيد � ّأن تدوين‬ ‫وهنا‪� -‬أي�ض ًا‪ -‬ال ّ‬ ‫في حيواتهم وحيوات معاي�شين‪ .‬ويظهر هنا‬
‫ال�سيرة الذاتية‬ ‫�سيرة للأديب‪ ،‬تختلف فيما �إذا كتبها بنف�سه‪،‬‬ ‫ن�صه‬ ‫بين‪ ،‬بين الذي يقوله الكاتب في ّ‬ ‫فرق ّ‬
‫�أو كتبها �آخ ��رون؛ من دون �أن يختلف �أمر‬ ‫يتن�صل؛ موارب ًا �أو مح ّق ًا من‬ ‫ّ‬ ‫إبداعي‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫حرفها‬‫وقائع ّ‬ ‫النق�صان �أو التحوير �أو التغافل؛ بل يختلف‬ ‫واقعيته‪ ،‬ويفتر�ض � ّأل يحا�سب عليه‪ ،‬وبين‬ ‫ّ‬
‫�شوهها �أو ابت�سرها‬
‫�أو ّ‬ ‫الأ�سلوب‪ ،‬الذي يلحق من يقوم بالكتابة‪ .‬ومن‬ ‫الذاتية المح�سوبة‬ ‫ّ‬ ‫�سيرته‬ ‫في‬ ‫به‬ ‫يعترف‬ ‫ما‬
‫�أو �أ�ضاف �إليها‬ ‫الطبيعي �أن تختلف �سيرة الأدي��ب عن �سيرة‬ ‫ّ‬ ‫إبداعية �أي�ض ًا في‬ ‫ّ‬ ‫�‬ ‫تكون‬ ‫قد‬ ‫التي‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫له‬
‫�سواه من الذين‪ ،‬يرغبون بتخليد م�سيراتهم؛‬ ‫�صياغاتها ولغتها و�أ�سلوبها‪ ،‬وهذا �أمر �آخر في‬
‫المدونة ذاتها‬ ‫ّ‬ ‫من دون �أن نن�سى � ّأن ال�سيرة‬ ‫الم�س�ألة‪ ،‬تجدر الإ�شارة �إليه‪..‬‬
‫وم�شوق ًا‬
‫ّ‬ ‫أدبي‪ ،‬يفتر�ض �أن يكون ج ّذاب ًا‬ ‫ن�ص � ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكن المق�صود في المالحظة �أع�لاه‪ّ � ،‬أن‬ ‫ّ‬
‫أدبي �أي�ض ًا؛ وقد‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫للتقييم‬ ‫ويخ�ضع‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫وحيوي‬
‫ّ‬ ‫الذاتية بوقائع‬ ‫ّ‬ ‫ال�سيرة‬ ‫في‬ ‫هنا‬ ‫ه‬ ‫يواج‬
‫الكاتب َ‬
‫يلج�أ بع�ض من غير الك ّتاب �إلى ك ّتاب؛ ليقوموا‬ ‫�شوهها‪� ،‬أو ابت�سرها‪� ،‬أو �أ�ضاف‬ ‫حرفها �أو ّ‬ ‫ّ‬
‫يتم هذا بعد رحيل‬ ‫بهذا العمل؛ كما يمكن �أن ّ‬ ‫�إليها‪ ،‬و�أخرى تغافل عنها وتج ّنبها‪ ،‬وقد يجد‬
‫�روري �أن يكون‬ ‫�صاحب ال�سيرة؛ وم��ن ال�����ض� ّ‬ ‫معنيين بهذا الذكر �أو بهذا‬ ‫القراء �أنف�سهم ّ‬ ‫بع�ض ّ‬
‫الن�ص ذا م�ستوى �أدب� ّ�ي منا�سب‪ ،‬خالي ًا من‬ ‫ّ‬ ‫مغبة‬ ‫ّ‬ ‫لونه‬ ‫ويحم‬
‫ّ‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫يحملون‬ ‫وقد‬ ‫الإغفال‪،‬‬
‫أهم ّية‬‫ّ‬ ‫�‬ ‫د‬ ‫ؤك‬
‫ّ‬ ‫�‬‫ي‬ ‫وهذا‬ ‫ة‪،‬‬ ‫اللغوي‬
‫ّ‬ ‫والعثرات‬ ‫أخطاء‬ ‫ال‬ ‫ذلك‪ ،‬وهنا ال يمكن للأديب �أن يقول‪ :‬ال �أق�صد‪،‬‬
‫كتابي‬
‫ّ‬ ‫أدبية في � ّأي عمل‬ ‫الأدب والمقدرة ال ّ‬ ‫ثم يقع‬ ‫�ضروري ًا‪ ..‬ومن ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أو ن�سيت‪� ،‬أو لم � َأر هذا‬
‫إبداعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إبداعي �أو غير �‬ ‫ّ‬ ‫�‬ ‫أدبية بالمعنى‬ ‫فخ الم�ساءلة؛ ح ّتى �إن كانت � ّ‬ ‫في ّ‬

‫‪69‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫وال�سريانية بجانب اللغة العربية بعد التحاقه‬
‫بكلية القدي�س يو�سف ومدر�سة القلب الأقد�س‬
‫غلبت عليه نظرة وقلم الناقد‬
‫عام (‪ 1907‬م)‪ ،‬وفي العام (‪1909‬م) ترك‬
‫ال��درا���س��ة ل�ضيق ال��ح��ال‪ ،‬وت��ف��رغ لل�صحافة‬
‫فتر�أ�س تحرير جريدة (الن�صير)‪ ،‬ثم جريدة‬
‫مارون عبود‬
‫(الحكمة) التي �أ�س�سها مع �سليم وهبة‪ ،‬ليبد�أ‬
‫م�سيرته التعليمية متعاقداً مع �إحدى المدار�س‬ ‫رائد النه�ضة الأدبية في لبنان‬
‫�إلى جانب عمله بال�صحافه وكتابة المقاالت‬
‫في جريدة (الرو�ضة) لخليل باخو�س‪ ،‬وجريدة‬ ‫مارون عبود (‪1962-1886‬م) رائد النه�ضة الأدبية في‬
‫(الق�صير) لعبود �أبي را�شد‪ ،‬وجريدة (لبنان)‬
‫لإبراهيم الأ�سود‪ ،‬وفي جريدة (الحكمة) التي‬ ‫لبنان‪ .‬الكاتب وال�شاعر والناقد وال�صحافي والم�سرحي‬
‫�أ�س�سها م ��ارون عبود م��ع �سليم وهبة عام‬ ‫والروائي والمعلم‪ ،‬الذي قال فيه ال�شاعر ال�سورى نزار‬
‫(‪1910‬م)‪.‬‬ ‫قباني (كتبنا �شعر ًا في ع�صر مارون عبود‪ ،‬وعلى محك هذه‬
‫كتب م��ارون عبود الم�سرحية الق�صيرة‬
‫ال�سنديانة الماردة برينا �أقالمنا وتركنا �أ�سماءنا)‪ .‬ترك‬
‫لتعر�ض على الم�سارح المدر�سية‪ ،‬ويقوم‬ ‫وليد رم�ضان‬
‫الطالب بتمثيلها على خ�شبة م�سرح المدر�سة‪،‬‬ ‫الأديب اللبناني نحو (‪ )60‬م�ؤلف ًا في �شتى الفروع الأدبية‪،‬‬
‫وغلبت على ن�صو�ص الم�سرحية القيم الدينية‬ ‫و�سيطرت �شخ�صية الناقد عليه‪ ،‬حيث تربع على عر�ش النقد ل�سنوات طويلة‪.‬‬
‫والقومية واالجتماعية‪ ،‬و�أ�ساليب الف�صاحة‬
‫والبالغة والمحافظة على الهدف التعليمي‬ ‫فيها �أربعة �أعوام ليكون عالم دين‪ ،‬لكنه رف�ض‬ ‫ولد م��ارون عبود في بلدة (عين كفاح)‬
‫والأخ�لاق العامة‪ ،‬وتميز فكر م��ارون عبود‬ ‫اال�ستمرار فيها راف�ض ًا الحياة الكهنوتية‬ ‫التابعة لمدينة جبيل والقريبة من بيروت نحو‬
‫بروح الدعابة وال�سخرية وا�ستخدام الأمثال‬ ‫مف�ض ًال االلتحاق بمدر�سة الحكمة (‪1904‬م)‪،‬‬ ‫(‪ )52‬كم‪� .‬أر�سله والده المزارع‬
‫ال�شعبية والتراث الفكري المحلي والعربي‪،‬‬ ‫حيث �أم�ضى فيها �سنتين و�أظهر منذ البداية‬ ‫�إلى مدر�سة مار يوحنا‬
‫�إ�ضافة �إلى العالمي وبراعة في دقة الو�صف‬ ‫تفوق ًا فى اللغة العربية وميو ًال �أدبية‬ ‫مارون التي �أم�ضى‬
‫والت�شبيه وال�سخرية‪ ،‬مت�أثراً بالجاحظ و�أحمد‬ ‫واهتمام ًا بال�شعر نتيجة احتكاكه‬
‫فار�س ال�شدياق‪ ،‬وعدد من الكتاب الأجانب‬ ‫ب��ال��ط�لاب ال��م��ول��ع��ي��ن بال�شعر‬
‫منهم؛ �سرفانت�س وغوغول وغيرهما‪.‬‬ ‫�أم��ث��ال؛ ر�شيد تقي ال��دي��ن‪،‬‬
‫غلبت على �شخ�صية م��ارون عبود نظرة‬ ‫و�أح ��م ��د ت��ق��ي ال��دي��ن‪،‬‬
‫وق��ل��م ال��ن��اق��د‪ ،‬فقد ت��رب��ع على ع��ر���ش النقد‬ ‫و�سعيد عقل‪ ،‬و�أ�صدر‬
‫ل�سنوات طويلة لما كان يملكه من م�ؤهالت‬ ‫ف��ي ع��ام��ه ال��درا���س��ي‬
‫وخبرة وبراعة في التحليل‪ .‬هو ناقد يجرح‬ ‫الأخ��ي��ر مجلة �أدبية‬
‫ولكنه ال يدمي‪ ،‬وهو ناقد ال يخ�شى في الحق‬ ‫�أ�سماها (ال�صاعقة)‪،‬‬
‫لومة الئ��م‪ ،‬وال ي�سعى �إال لإر�ضاء الحقيقة‬ ‫ك��م��ا ك��ت��ب الق�صائد‬
‫و�ضميره؛ ولذلك يرتعد �أم��ام قلمه �أن�صاف‬ ‫ون�شر بع�ضها في جريدة‬
‫المبدعين‪� ،‬أما المبدعون الحقيقيون فقد وقفوا‬ ‫(الرو�ضة)‪.‬‬
‫�أمام قلمه باحترام كبير ل�شيخ من �شيوخ النقد‬ ‫�أج ��اد م ��ارون عبود‬
‫فى الع�صر الحديث‪ ،‬ولمارون عبود �شعر جيد‪،‬‬ ‫ال��ل��غ��ت��ي��ن ال��ف��رن�����س��ي��ة‬
‫وقد �أ�صدر مجموعة منه بعنوان (زواب��ع) ثم‬
‫توقف بعد ذلك عن كتابة ال�شعر ون�شره‪ ،‬و�أنتج‬
‫ه��ذا الأدي��ب في النثر ال��ذي حرمه عن نظم‬
‫ال�شعر‪ ،‬فاكتفى فيما بعد بالنقد الذي لمع في‬
‫مجاالته المختلفة‪.‬‬
‫ك��ان م��ارون عبود مثقف ًا ثقافة عالية‪،‬‬
‫�سريع البديهة �شهد له عارفوه بال�صفاء وال�صدق‬
‫والنزاهة والمو�ضوعية‪ ،‬وهو �صاحب طرفه‬
‫حا�ضرة وكان خال�ص العروبة قو ًال وفع ًال‪ ،‬وقد‬
‫�سخر علمه و�أدبه لهذه الق�ضية‪ ،‬ففي مرا�سالته‬
‫لأدباء العربية �شيء غير قليل من ذلك‪.‬‬
‫وترك الأديب �آثاراً نقدية مهمة‪ ،‬ا�ستخدم‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪70‬‬


‫رواد‬

‫�سعيد عقل‬ ‫ب�شارة الخوري‬ ‫الفيكونت دو�شاتوبريان‬ ‫�أمين الريحاني‬

‫بديع الزمان الهمذاني‬ ‫غوغول‬ ‫�سرفانت�س‬ ‫�أبو العالء المعري‬


‫ال�شبح الأبي�ض‪ -‬االنتقام الرهيب‪ -‬الأ�سيران‪-‬‬ ‫فيها قلمه البارع ب�أ�سلوب هزلي و�شعبي‪ ،‬وتحليل‬
‫علوم اللغة العربية‪ -‬التاريخ الطبيعى‪ -‬علم‬ ‫غير م�سبوق ا�ستخدم فيه ثقافته الوا�سعة المعبرة‬
‫ال �أدبية‬‫�أظهر ميو ً‬ ‫الكيمياء‪ -‬علم الجيولوجيا‪ -‬علم ال��زراع��ة‬ ‫عن اطالع وا�سع على ثقافات ال�شرق والغرب في‬
‫وتفوق ًا في اللغة‬ ‫الحديثة‪ -‬التق�شف والبذخ‪ -‬كتاب المخدة)‪.‬‬ ‫�آن‪ ،‬ومن كتبه النقدية (مجددون ومجترون ‪ -‬في‬
‫�أغ��ن��ى م� ��ارون ع��ب��ود المكتبة اللبنانية‬ ‫المختبر ‪ -‬جدد وقدماء‪ -‬نقدات عابر ‪ -‬الر�ؤو�س‬
‫العربية واهتمام ًا‬ ‫والعربية بع�شرات الكتب ونال الكثير من الأو�سمة‬ ‫‪ -‬على المحك)‪.‬‬
‫بال�شعر مبكراً‬ ‫وال�شهادات والألقاب من الدولة اللبنانية ودول‬ ‫ت��رك لنا ع���دداً م��ن الكتب ف��ي ال��درا���س��ات‬
‫عربية و�أوروب ��ي ��ة‪ ،‬فقد ح��از و���س��ام المعارف‬ ‫الأدب��ي��ة المهمة ومنها (المخطوطات العربية‬
‫من الدرجة الأول��ى (لبنان)‪ ،‬وو�سام اال�ستقالل‬ ‫‪ -‬زوبعة الدهر �أو �أب��و العالء المعري ‪ -‬ال�شيخ‬
‫غلب على �شخ�صيته‬ ‫من الدرجة الثانية (�شرقي الأردن)‪ ،‬والو�سام‬ ‫ب�شارة الخورى رئي�س لبنان ‪� -‬صقر لبنان �أحمد‬
‫المجيدي (ال�سلطنة العثمانية)‪ ،‬وو�سام القبر‬ ‫فار�س ال�شدياق ‪ -‬رواد النه�ضة الحديثة ‪� -‬أمين‬
‫عمق �إبداع قلمه فتربع‬ ‫المقد�س (ال��ق��د���س)‪ ،‬الو�سام البابوي ال�ضريح‬ ‫الريحاني ‪� -‬أدب العرب ‪ -‬بديع الزمان الهمذاني)‪،‬‬
‫على عر�ش النقد‬ ‫القدي�س بطر�س (روم��ا)‪ ،‬وو�سام المعارف من‬ ‫وله في النقد االجتماعي كتابان؛ (�سبل ومناهج)‪،‬‬
‫رتبة �ضابط (فرن�سا)‪ ،‬الو�سام الأكاديمي من‬ ‫و(كتاب ال�شعب)‪ ،‬وله في النقد ال�سيا�سي عدد من‬
‫رتبة �ضابط (وزارة الفنون الجميلة من‬ ‫الكتب وهي (�أ�شباح ورموز من الجراب ‪ -‬حبر على‬
‫فرن�سا)‪ ،‬وو�سام ال�شرف من الم�ؤ�س�سة‬ ‫ورق ‪ -‬قبل انفجار البركان)‪� ،‬أما الآثار الأدبية‬
‫الأكاديمية للتاريخ الدولي (فرن�سا)‪،‬‬ ‫التى خلفها لنا مارون عبود فهي متنوعة وكثيرة‬
‫وو�سام جوقة ال�شرف من رتبة فار�س‬ ‫و�أهمها الق�صة ت�أليف ًا وترجمة؛ فقد ترجم من‬
‫(ف��رن�����س��ا)‪ ،‬ون���ال ج��ائ��زة م��ن رئي�س‬ ‫الفرن�سية عدداً من الق�ص�ص و�أهمها (رينة ‪� -‬أتاال)‬
‫الجمهورية اللبنانية عام (‪1960‬م)‪.‬‬ ‫وهما للفيكونت دو�شاتو بريان‪ ،‬وقد ترجمهما‬
‫رح��ل م��ارون عبود في الثالث من‬ ‫عن الفرن�سية ون�شرهما عام (‪1910‬م)‪ ،‬وترجم‬
‫يونيو ع��ام (‪1962‬م) ع��ن عمر (‪)76‬‬ ‫عن الفرن�سية �أي�ض ًا ق�صة (الحمل) ون�شرها عام‬
‫ع��ام � ًا‪ ،‬وق��د ف�ضل �أن يق�ضي �سنواته‬ ‫(‪1914‬م)‪ ،‬وم��ن الق�ص�ص التي �ألفها‪( :‬الأمير‬
‫الأخيرة في منزله بين الأ�صدقاء من‬ ‫الأحمرــ ‪1953‬م ‪ -‬فار�س �آغا ‪1964‬م ‪ -‬وجوه‬
‫الأدب���اء وال�شعراء الذين تعرف �إليهم‬ ‫وحكايات ‪1945‬م وهي مجموعة ق�ص�ص ق�صيرة‬
‫خ�لال حياته‪ ،‬وي�صبح ق�صره المنيف‬ ‫‪� -‬أقزام جبابرة ‪1948‬م ‪� -‬أحاديث القرية)‪ ،‬ف�ض ًال‬
‫متحف ًا �أدبي ًا وثقافي ًا يزوره الكثير من‬ ‫عن ال�شعر والم�سرحيات ومجموعة من المقاالت‬
‫النا�س من لبنان وخارجه‪ ،‬لي�ستنيروا‬ ‫ن�شرت بعنوان (مناو�شات)‪.‬‬
‫بثقافته العميقة وفكره ال�شامل‪.‬‬ ‫ومن م�ؤلفاته المخطوطة (العجول الم�سقفة‪-‬‬
‫مارون عبود‬

‫‪71‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫�أني�س الرافعي‬
‫حداثة الحكي في الق�صة‬
‫العربية المعا�صرة‬
‫د‪ .‬يحيى عمارة‬

‫جهة‪ ،‬و�إل��ى اندها�ش ذائقتها القرائية‪� ،‬إزاء‬ ‫ينفتح ال��ع��ال��م الق�ص�صي ل��دى الكاتب‬
‫عوالم التجريب المتمرد‪ ،‬على كل ما هو ثابت‬ ‫المغربي �أني�س الرافعي‪ ،‬على كتابة �سردية‬
‫ومكرر‪ ،‬في ال�سرد الق�ص�صي العربي من جهة‬ ‫معا�صرة‪ ،‬تنت�صر لكل جديد‪ ،‬يبتغي تطوير‬
‫�أخرى‪.‬‬ ‫الحكي العربي‪ ،‬عبر معانقة اللغة الحداثية‪،‬‬
‫لقد عرف الم�شهد الق�ص�صي المغربي ثالث‬ ‫التي تمتاح مكوناتها من الألفاظ المن�سية في‬
‫مراحل مختلفة‪ ،‬من حيث تحديد مفهوم الحكي‬ ‫المعاجم العربية ومن التعابير غير المعيارية‪،‬‬
‫العربي‪ :‬مرحلة الت�شبث بالكتابة الكال�سيكية‬ ‫التي تعمل على رفع �ش�أو اللغة �إلى مرتبة عالية‬
‫التي �أ�س�سها الرواد بعد اال�ستقالل‪ ،‬من �أمثال‪:‬‬ ‫ال ي�ستوعبها �إال الحكي الجديد المغاير لكل‬
‫عبدالكريم غالب‪ ،‬عبدالجبار ال�سحيمي‪ ،‬مبارك‬ ‫�أ�صناف الحكي الكال�سيكي الذي كان متداو ًال‬
‫ربيع‪ ،‬محمد عزيز الحبابي‪ ،‬ومرحلة التجريب‬ ‫�سابق ًا‪ .‬وي�ستنتج ق��ارئ الم�شروع الق�ص�صي‬
‫المقيد بر�ؤية الواقع في �سنوات ال�سبعينيات‬ ‫للكاتب هذا االنفتاح المت�شكل في رباعياته‬
‫والثمانينيات‪ ،‬م��ع �أح��م��د ب��وزف��ور‪ ،‬ومحمد‬ ‫الق�ص�صية المعنونة (متحف العاهات)‪ ،‬وفي‬
‫من الجيل الأدبي‬ ‫ع��زال��دي��ن ال��ت��ازي‪ ،‬ومحمد زف���زاف‪ ،‬و�أح��م��د‬ ‫منها‪(:‬خ َّياط‬ ‫مجموعة �أخرى من محكياته نذكر‬
‫َ‬
‫الجديد الذي �أ�سهم‬ ‫المديني‪ ،‬ومحمد برادة‪ ،‬وعبد الحميد الغرباوي‬ ‫الهيئات‪ ،‬والحيوان ال��دائ��ري) التي �أبدعها‬ ‫ْ‬
‫في تطوير مكونات‬ ‫ومحمد الهرادي‪ ،‬ثم مرحلة �شعريات الحكي‬ ‫للحديث عن حياة الجائحة‪.‬‬
‫الق�صة العربية‬ ‫العربي الجديد التي �ستد�شنها مجموعة البحث‬ ‫ف�أني�س الرافعي من الجيل الأدبي الجديد‪،‬‬
‫�إلى جانب عدد من‬ ‫في الق�صة الق�صيرة بالمغرب لتخو�ض غمار‬ ‫الذي �أ�سهم في تطوير مكونات الق�صة العربية‪،‬‬
‫الدعوة �إلى االنتباه �إلى جديد الم�شهد الق�ص�صي‬ ‫�إلى جانب كل من جمال بوطيب‪ ،‬وعبدال�سالم‬
‫الكتاب المغاربة‬ ‫المغربي‪ ،‬والذي �سينتمي �إليه �أني�س الرافعي‪.‬‬ ‫ال��ج��ب��اري‪ ،‬ومحمد ال��ع��ت��رو���س‪ ،‬وعبدالقادر‬
‫وت��ق��وم الق�صة ل��دى الكاتب المغربي على‬ ‫ال��ط��اه��ري‪ ،‬وح�سن �إغ�ل�ان‪ ،‬وع��ل��ي �أزح���اف‪،‬‬
‫معالجة مو�ضوعات العالم الق�ص�صي ب َن َف ٍ�س‬ ‫والح�سان بنمونة‪ ،‬ولطيفة ب��اق��ا‪ ،‬وفاطمة‬
‫فل�سفي وجمالي‪ ،‬ومعرفي يقترب من تداخل‬ ‫ب��وزي��ان‪ ،‬وفاتحة مر�شيد‪ ...‬كما �شارك في‬
‫الكتابة ال�سردية بباقي الكتابات المنفتحة على‬ ‫�سنوات الت�سعينيات‪ ،‬من القرن الع�شرين في‬
‫ال�شعري‪ ،‬والعجائبي‪ ،‬والأ�سطوري‪ ،‬والملحمي‪،‬‬ ‫ت�أ�سي�س كل من جماعتي (الغا�ضبون الجدد)‪،‬‬
‫والتخييلي‪ ،‬ثم على لغة حكائية ُم َر َّكبة تتركب‬ ‫و(الكوليزيوم الق�ص�صي)‪ ،‬كما هو متداول في‬
‫من القول المغمور‪ ،‬والأ�سلوب المخترق للتداول‬ ‫�سيرته الإبداعية‪ ،‬ومعنى الغ�ضب هنا يقترب‬
‫الحكائي الم�ألوف؛ ومن ت�شكل لغوي متعدد‪،‬‬ ‫معرفي ًا وجمالي ًا‪ ،‬من عدم الر�ضى عما كان‬
‫وذلك لي�س في جملة واحدة �أو جملتين فح�سب‪،‬‬ ‫�سائداً من تجارب �سردية مغربية‪ ،‬لم تكن‬
‫بل في كل المتن الق�ص�صي‪ ،‬بدءاً من العنوان‪،‬‬ ‫ُت ْح ِ�سن الإن�صات �إل��ى تجربة الجيل الجديد‪،‬‬
‫م��روراً بالحبكة‪ ،‬وو�صو ًال عند الن�سق اللغوي‬ ‫المنتمي �إليهم �صاحب المجموعة الق�ص�صية‬
‫الذي ي�صاغ به الن�ص الق�ص�صي‪.‬‬ ‫(�أري��ج الب�ستان في ت�صاريف العميان) من‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪72‬‬


‫�سطور‬

‫محور اال�ستك�شاف والتنب�ؤ والإمتاع والتفاعل‬ ‫ومن النماذج الق�ص�صية التي تت�أ�س�س على‬
‫والده�شة‪ .‬و ُت َم ِّثل مجموعته الق�ص�صية (�أريج‬ ‫ه��ذه الخ�صائ�ص‪ ،‬نجد مجموعته الم�شهورة‬
‫الب�ستان في ت�صاريف العميان) �أنموذج ًا لهذين‬ ‫(م�صحة الدمى)‪ ،‬الم�شيدة بالجمع بين الحكي‬
‫النوعين‪ ،‬ونكتفي بالإ�شارة �إليهما ق�صد البحث‬ ‫والفوتوغرافيا‪ ،‬بين الرمزي والواقعي‪ ،‬بين‬
‫والدرا�سة‪ ،‬لأن المقام ال ي�سمح بالتف�صيل‪.‬‬ ‫التاريخي والعجائبي‪ ،‬بين ال�شعري والنثري‪،‬‬
‫�إن الكاتب المغربي في م�شروعه الق�ص�صي‬ ‫بين الحكائي والت�شكيلي‪ .‬كلها بنيات حداثية‬
‫تقوم الق�صة‬ ‫ال��ح��داث��ي‪ ،‬ي�سعى �إل��ى جعل الق�صة العربية‬ ‫تجريبية جعلت المجموعة تقترب من ال�شعريات‬
‫لديه على معالجة‬ ‫ذات ر�ؤي��ة م��زدوج��ة‪ ،‬تعتمد في عمقها على‬ ‫المعا�صرة‪ ،‬التي عرفها الم�شهد العربي م�شرق ًا‬
‫مو�ضوعات العالم‬ ‫بعدين رئي�سين‪ :‬البعد الخ�صو�صي للمرجعية‬ ‫ومغرب ًا‪ ،‬وه��و الم�شهد ال��ذي عبر عنه �إدوارد‬
‫الق�ص�صي ب َن َف�س‬ ‫ال�سردية المحلية‪ ،‬والبعد الكوني لتوظيف تلك‬ ‫ال��خ��راط‪ ،‬ف��ي حديثه ع��ن مفهوم الح�سا�سية‬
‫فل�سفي جمالي‬ ‫المرجعية‪ .‬حيث ي�ؤكد ذلك قائ ًال في مقدمة‬ ‫الجديدة في ارتباطها بالحداثة قائ ًال‪ ( :‬الحداثي‬
‫(الب ْر�شمان)‪( :‬لقد علمتني ال�سياحة‬ ‫كتابه ُ‬ ‫هو‪ ،‬من بين نتاجات الح�سا�سية الجديدة‪ ،‬ما‬
‫ومعرفي‬ ‫في النظائر الكونية العليا لل�سرد‪� ،‬أن لكل‬ ‫يظل متمرداً‪ ،‬داح�ض ًا‪ ،‬هام�شي ًا‪ ،‬ومقلق ًا‪ ،‬ي�سعى‬
‫كاتب لعبته الخا�صة والأث��ي��رة‪ ،‬التي ينهل‬ ‫م�ستع�ص بطبيعته على‬ ‫ٍ‬ ‫�إل��ى «ن��ظ��ام» قيمي‬
‫منها لي�شيد الجانب التقنوي لن�صه‪ ،‬وفي هذا‬ ‫لبه نواة هدمه وتدميره‪،‬‬ ‫التحقق‪ ،‬لأنه يحمل في ِّ‬
‫ال�سياق‪ ،‬يكفي �أن �أ�سوق «الدمى الرو�سية» عند‬ ‫من �أجل �سعي م�ستمر �إلى قيم (جمالية‪ ،‬وثقافية‪،‬‬
‫كا�ساري�س‪ ،‬و«�أوراق الكوت�شينة» عند كالفينو‪،‬‬ ‫واجتماعية) متجددة‪ ،‬دائمة التجدد‪ ،‬ولي�ست‪-‬‬
‫و«الكلمات المتقاطعة» عند بيريك‪ ،‬و«مربعات‬ ‫فقط‪ -‬جديدة)‪ .‬بهذا المعنى الجمالي‪ ،‬يتعامل‬
‫الحجلة» عند كورتزار‪ ،‬و«البازل» عند بوتزاتي‪،‬‬ ‫�أني�س الرافعي مع مفهوم الق�صة الجديدة‪،‬‬
‫مرجعيته جديدة‬ ‫و«الأرابي�سك» عند لوفكرافت‪ ،‬و«المتاهات»‬ ‫لت�صبح ذات المبدع من�شغلة بتقديم �س�ؤال‬
‫عند بورخي�س‪ ...‬وها �أنذا بدوري �أطرح «لعبتي‬ ‫الحداثة في التجربة ال�سردية‪ ،‬حيث تحيا ذاته‬
‫تنطلق من تراكم‬ ‫الخا�صة والأث��ي��رة» ذات الطابع المغربي‬ ‫قلق ًا وجودي ًا يع�شق مغامرة التجريب‪ ،‬ال�ساعي‬
‫متعدد وتقوم على‬ ‫ال�صرف‪ :‬فلكم وا�سع «البر�شمان»)‪.‬‬ ‫�إل��ى تطور تلك ال ��ذات‪ ،‬انطالق ًا م��ن الغو�ص‬
‫تقنيات لم ي�سبق �أن‬ ‫�إن التجربة الق�ص�صية لدى �أني�س الرافعي‪،‬‬ ‫في الداخل‪ ،‬ال التعلق بالظاهر‪ ،‬ومن م�ؤان�سة‬
‫ا�ستلهمها في ق�ص�صه‬ ‫ال تقدم عالمها �إال �إذا تيقن �صاحبها ب�أن لديه‬ ‫ا�ست�شرافية للحكي الغريب ال��ذي يقدم خدمة‬
‫ال�سابقة‬ ‫جديداً ي�أتلف مع ال�سابق‪ ،‬في الحفاظ على‬ ‫جمالية للغة العربية ‪ ،‬والتي تتجلى في ك�شف‬
‫الن�سق الحداثي القائم على مكونات ن�صية‪،‬‬ ‫المخبوء‪ ،‬والم�ستور‪ ،‬والمهم�ش داخل الل�سان‬
‫تعزز م�شروع الكاتب المتفرد وتختلف عنه‬ ‫العربي لتقول لنا �إن اللغة العربية ت�ستطيع �أن‬
‫في الوقت نف�سه‪ ،‬بالإتيان بهند�سة حكائية‪،‬‬ ‫ترقى �إلى م�صاف اللغات الإبداعية العالمية‪،‬‬
‫تعتمد على مرجعية جديدة تنطلق من تراكم‬ ‫�إذا وج��دت مبدع ًا موهوب ًا يقوم بحفريات‬
‫مرجعي متعدد‪ ،‬وتقوم على تقنيات لم ي�سبق‬ ‫جديدة تنطلق من �شعار البحث عن الجماليات‬
‫�أن ا�ستلهمها في ق�ص�صه ال�سابقة‪� ،‬إنها عملية‬ ‫الباطنية في الأن�ساق اللغوية‪ ،‬والعمل على‬
‫الكتابة بالتجريب التخييلي المغامر‪ ،‬الذي‬ ‫ن�سج عالم حداثي مغاير يراعي �شروط الكتابة‬
‫تعامل مع مفهوم‬ ‫ال يقف عند زاوية من الزوايا ليكرر التجربة‬ ‫الجديدة‪ ،‬التي �أ�صبحت الآن تعتمد على تداخل‬
‫الق�صة الجديدة‬ ‫�أو الر�ؤية‪ ،‬بل لي�ستمر في قول المختلف لكي‬ ‫الأجنا�س والمعارف والت�صورات والعلوم‪،‬‬
‫ي�ستمر مختبر الكتابة وال ي�سقط الحكي في‬ ‫وت�سعى �إلى خيبة انتظار �أفق القارئ‪ ،‬كما ت�ؤكد‬
‫لت�صبح ذات المبدع‬
‫المبتذل‪ ،‬ليبقى ا�سم ًا بارزاً من الأ�سماء العربية‬ ‫ذلك نظرية جمالية التلقي‪� ،‬إذ الكاتب في كل‬
‫من�شغلة بتقديم‬ ‫التي تمكنت من َط� ْ�رق ه��ذه الجماليات بكل‬ ‫مجموعة ق�ص�صية يقدم عالم ًا جديداً وال يقف‬
‫�س�ؤال الحداثة في‬ ‫ثقة المبدع المتجدد‪ ،‬وثبات الكاتب المتمرد‪،‬‬ ‫عند مو�ضوعة واحدة في العالم الق�ص�صي‪ ،‬مع‬
‫التجربة ال�سردية‬ ‫الم َجرب‪� ،‬إن �صح التعبير‪،‬‬
‫(الح ّكاء) ُ‬
‫ومغامرة َ‬ ‫االعتماد على ر�ؤية تداخل الكتابة الق�ص�صية‬
‫الذي يق�ص عجائب الحكي وغرائبه في كتبه‪/‬‬ ‫تارة بالفل�سفة والفكر‪ ،‬وتارة �أخرى بالت�صوير‬
‫ق�ص�صه؛ لكي يقدم للأدب العربي وقارئه متعة‬ ‫والت�شكيل‪ .‬فمن الأنواع الق�ص�صية الجديدة التي‬
‫الت�شويق والحفر وال�سفر في ال�س�ؤال‪ ،‬الأمر الذي‬ ‫�أبدعها كاتبنا ما �أ�سميه (الق�صة الفل�سفية)‪ ،‬ذات‬
‫جعله يح�صل ع��دة جوائز‪ ،‬من بينها جائزة‬ ‫ال�س�ؤال الوجودي والمعرفي والنف�سي‪ ،‬ثم (الق�صة‬
‫(غوتنبيرغ) الدولية للكتاب‪ ،‬فرع اللغة العربية‪.‬‬ ‫الت�شكيلية)‪ ،‬التي تجعل اللوحة الفنية ب�ؤرة‬

‫‪73‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�إن��ه الأدي���ب ال��ج��زائ��ري ال�شهير (محمد‬
‫مول�سهول) الملقب بـ(يا�سمينة خ�ضرا) �ضيف‬
‫معر�ض الكتاب الكبير في دورت��ه الأربعين‪،‬‬
‫يا�سمينة خ�ضرا‬
‫والذي رحنا نلتم�س منه بع�ض م�ؤ�شرات ال�سحر‬
‫والإ���ش��ادة‪ ،‬اللتين يلقاهما هناك دائم ًا في‬ ‫�أعماله ترجمت �إلى (‪)٣٦‬‬
‫لغة عالمية‬
‫�أوروبا و�أمريكا و�آ�سيا‪ ،‬ونفتقدهما في بالدنا‬
‫العربية‪ ،‬موطنه ومجتمعه‪ ،‬هو ال��ذي قالت‬
‫�أعماله �أكثر بكثير مما قال واقعه‪.‬‬
‫وق��د ك��ان اليوم معه مزدحم ًا من كثرة‬
‫ف��ي ل��ق��اء جميل وث���ري للمرة الثانية ف��ي ال�شارقة‪،‬‬
‫االت�صاالت والمالحقات والمواعيد‪ ،‬اغتنام ًا‬
‫لفر�صة ه��ذا ال��وج��ود م��ن قبل الإع �ل�ام �أو‬ ‫م��ع ال��م��ب��دع اال�ستثنائي ال���ذي غ��زا منتديات الغرب‬
‫الم�ؤ�س�سات الثقافية والأكاديمية في الدولة‪،‬‬ ‫ال��وا���س��ع��ة‪ ،‬ف��ي ا�ستقباالتها واح��ت��ف��اءات��ه��ا ب��ه كعربي‬
‫وبالأخ�ص تلك التي تقترب من اللغة الفرن�سية‬ ‫اع��ت��اد مخاطبة من�صاته وج��م��ه��وره‪ ,‬م��ن خ�لال فنون‬
‫تحديداً‪ ،‬مثل البعثة الفرن�سية‪ ،‬وطلبة جامعة‬ ‫ال��رواي��ة الحديثة‪ ،‬تلك التي تحمل �شجون الإن�سان‬
‫�سوربون التي كان �ضيف ًا على طلبتها في‬ ‫محمد ح�سين طلبي‬
‫جملة من اللقاءات المكثفة‪ ،‬للحديث معهم‬ ‫ب�شكل عام‪ ،‬والعربي ب�شكل خا�ص‪ ،‬بلغة فرن�سية م�شبعة‬
‫عن تجربته الثرية‪ ،‬ولإغناء الجانب اللغوي‬ ‫بالأفكار واالكت�شافات واالت��ج��اه��ات‪ ،‬التي يعمل الرجل على االقتراب‬
‫والفكري لديهم‪.‬‬ ‫منها‪ ,‬وتنال الترحيبات ال�لا محدودة والترجمات �إل��ى مختلف اللغات‪.‬‬
‫يا�سمينة خ�ضرا‪ ،‬الذي (وبالكاد) ا�ستطعنا‬
‫اقتنا�ص بع�ض اليوم من برنامجه والخروج‬
‫معه ف��ي ج��ول��ة �شملت ع���دداً م��ن المناطق‬
‫التراثية وال�سياحية في ال�شارقة المت�ألقة‬
‫كعادتها‪ ،‬وبالأخ�ص في مو�سم خا�ص كهذا‬
‫يكون فيه الكتاب �سيد المائدة والح�ضور‬
‫وعري�س الحدائق والمنتديات الزاهية كالعادة‪.‬‬
‫و�أه ��م م��ا تناولناه م��ع ال��رج��ل ه��و ذلك‬
‫ال�صعود الوا�سع في الخط البياني والمتابعات‬
‫الدائمة والمكثفة من قبل الآخرين لإنجازاته‪،‬‬
‫وال��ت��ي ي��ت��م ت��ح��وي��ل معظمها �إل���ى ق��وال��ب‬
‫م�سرحية �أو �سينمائية‪ ،‬تثير ال�شغف والدرا�سة‬
‫وا�ستخال�ص العبر الحياتية‪ ،‬ومع الأ�سف‪ ،‬ف�إن‬
‫ردات الفعل لم تكتمل لدى القارئ العربي‬
‫حولها‪� ،‬إال من خ�لال ذل��ك ال�صدى الغربي‪،‬‬
‫لأن �أعمال الرجل الروائية التي ت�صله �أي‬
‫(ال��ق��ارئ العربي)‪ ،‬ال يتم ت�سويقها بالطرق‬
‫ال�صحيحة في ال�ساحات العربية المتعط�شة‬
‫للقراءة‪� ،‬إ�ضافة �إلى الترجمات ال�سيئة لها‪،‬‬
‫الأمران اللذان �سببا الكثير من اال�ضطراب في‬
‫التفاعل معها‪� ..‬شكوى قوية من الرجل‪ ،‬الذي‬
‫وعد ب�أنه لن ي�سلم م�ستقب ًال �أعماله‪� ،‬إال للأكفاء‬
‫من المترجمين ول��دور الن�شر القوية الواثقة‬
‫والمتمكنة‪ ،‬علم ًا �أن تلك الأعمال قد ترجمت‬
‫�إل��ى (‪ )٣٦‬لغة في �أمريكا و�آ�سيا و�أوروب ��ا‪،‬‬
‫والقت ما ت�ستحق من التقديرات الكثير‪ ،‬وهو‬
‫حزين لذلك الخلل ال��ذي طالما �ضايقه في‬
‫ل�سنوات طويلة‪ ،‬لأن الإن�سان‬‫ٍ‬ ‫المنطقة العربية‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪74‬‬


‫�أ�صداء‬

‫يحمل في م�ضمون‬
‫�أعماله �شجون‬
‫الإن�سان عموم ًا‬
‫العا�صمة الجزائر‬

‫كفرد متخلف غير �سوي‪ ،‬يختار في حياته‬ ‫وتقدمه ٍ‬ ‫العربي ب�صورته وواقعه الحقيقيين‪ ،‬كان دائم ًا‬
‫دائم ًا ذلك العي�ش الم�ضاد للطبيعة الإن�سانية‬ ‫في �صميم وجدانه وتفاعله وواجبه‪.‬‬
‫في ردات فعل عنيفة‪ ،‬وهي موا�ضيع لم تعالج‬ ‫وق��د حاولنا �ضمن جملة م��ن التداعيات‪،‬‬
‫كتاباته تلقى القبول‬ ‫عربي ًا بال�شكل الإبداعي ال�سليم‪ ،‬الذي يفتر�ض فيه‬ ‫ال��ع��ودة �أو ًال بالرجل �إل��ى التن�شئة الع�سكرية‬
‫في الغرب وال تتوافر‬ ‫االجتهاد الفاعل‪ ،‬القريب من لغة البهاء والروح‬ ‫ال�صارمة‪ ،‬التي كونته وعا�شها �ضابط ًا في الجي�ش‬
‫لدى القارئ العربي‬ ‫ال�شفافة‪ ،‬المتطلعة �إلى ال�سمو والغد الم�شرق‪ ،‬مثل‬ ‫الجزائري‪ ،‬لأكثر من ثالثين �سنة‪ ،‬وما منحته من‬
‫كل �شعوب العوالم ال�سعيدة الأخرى‪.‬‬ ‫�أفكار وتوجهات‪ ،‬عبر عنها ب�شتى الأ�ساليب في‬
‫�إن «يا�سمينة خ�ضرا» هو واحد من الأ�سماء‬ ‫�أعماله‪ ،‬التي تجاوزت الأربعين منجزاً (روائي ًا)‬
‫الأدب��ي��ة المنا�ضلة ال��ت��ي تتعر�ض ل��ح��روب ال‬ ‫ناجح ًا‪ ،‬الحظنا �أنه لم تكن لديه رغبة بالحديث‬
‫متناهية �ضمن حلقات التخويف‪ ،‬ال��ذي يزداد‬ ‫عنها ب�شكل مبا�شر‪ ،‬لأن جملة م��ن الأق��ف��ال‬
‫تراكم ًا مع �أمثاله‪ ،‬الذين هم بحاجة ما�سة �إلى‬ ‫والمفاتيح وربما الأ�سرار‪ ،‬تظل تكتنفها‪ ،‬ولكنه‬
‫تحولت معظم‬ ‫�سند يفتقدونه بدون �شك‪ ،‬في هذه المرحلة من‬ ‫حاول التطرق �إليها ب�أ�شكال مح�ض �إبداعية‪ ،‬لها‬
‫رواياته �إلى �أعمال‬ ‫الداخل العربي‪ ،‬وخا�صة الإبداعي منه‪ ،‬بدل ذلك‬ ‫تفا�سير حياتية عامة‪ ،‬ومن غير المرغوب في‬
‫م�سرحية و�سينمائية‬ ‫المعاك�س‪ ،‬الذي ينغم�س في المعارك الهام�شية‬ ‫التوجه �إليها بال�شكل التلقائي الوا�ضح والمبا�شر‪،‬‬
‫المتناق�ضة مع الأ�سف‪.‬‬ ‫الذي تحيطه المحاذير‪ ،‬وربما الأ�سرار‪.‬‬
‫وعن ا�ستماتته الالفتة في الدفاع عن حرفة‬ ‫كما تطرقنا معه بعدها �إل��ى بع�ض الأدب‬
‫الأدب كفعل موثوق‪ ،‬فهو يدعو دائم ًا‪� ،‬إلى نه�ضة‬ ‫واجبات وطنية وقومية‬ ‫ٍ‬ ‫المهاجر‪ ،‬ال��ذي ي ��ؤدي‬
‫�أدبية من�صفة وفاعلة في توجهاتها‪ ،‬وبالأخ�ص‬ ‫الفتتين‪ ،‬غير ذل��ك ال��ذي يقدم ال�صور النمطية‬
‫في هذا الع�صر الروائي العربي‬ ‫ال�شئيمة عن داخلنا العربي‪ ،‬ال��ذي ال ي�سر كما‬
‫المنتع�ش‪ ..‬ولم ين�س التطرق �إلى‬ ‫نعلم‪ ،‬فقال ب�أن تلك �أكثر من تطرق �إليها‪ ،‬وبالغ‬
‫تلك الأمنية �أو ذلك الحلم‪ ،‬الذي‬ ‫في ت�شويه واقعها‪ ،‬و�صورتها هي الأقالم العربية‬
‫ظل يراوده مغترب ًا‪ ,‬بقي فقط �أن‬ ‫المتخاذلة مع الأ���س��ف‪ ،‬والمنطلقة من الداخل‬
‫نذكر ب�أن يا�سمينة خ�ضرا هو‬ ‫م�سلمات يتهم الجميع‬‫ٍ‬ ‫على الغالب‪ ،‬حتى غدت‬
‫وري��ث �أدب��اء الحركة الوطنية‬ ‫في �إث��ارت��ه��ا‪ ،‬لذلك فهو يرجو ال��ق��ارئ العربي‬
‫الجزائرية‪ ،‬الذين توجهوا ذات‬ ‫االقتراب �أكثر من الأق�لام الجادة والمخل�صة‪،‬‬
‫ي��وم �إل��ى الم�ستعمر الفرن�سي‬ ‫للتحقق مما نقدم ك�سفراء حقيقيين في الخارج‬
‫بلغته (الفرن�سية) حتى تكون‬ ‫لأوطاننا‪ ،‬ولهمومها وذلك ما يحدث فع ًال لدى‬
‫مولود فرعون‬ ‫محمد ديب‬ ‫ر�سالتهم وا�ضحة مثل مولود‬ ‫القارئ الغربي‪ ،‬المتفهم والم�ساند لنا �إعالمي ًا في‬
‫فرعون‪ ،‬وكاتب يا�سين‪ ،‬ومالك‬ ‫م�ساحاته ومنابره‪.‬‬
‫ح ��داد‪ ،‬ومحمد دي��ب‪ ،‬ومولود‬ ‫لقد حاول «يا�سمينة خ�ضرا» ذلك و�أبرزه في‬
‫معمري‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ممن قادوا‬ ‫جميع �أعماله تقريب ًا‪ ،‬لتفادي المنزلقات الظالمة‪،‬‬
‫ن�ضال الكلمة والإب ��داع‪� ،‬سواء‬ ‫التي ال تتوقف ع��ن ال�شحن المجانب للواقع‬
‫م��ن العمق ال��ج��زائ��ري وتركوا‬ ‫وحقائقه‪ ،‬لل�سمو دائم ًا بالقراءات المدافعة عن‬
‫�إرث ًا غني ًا في الأدب الفرن�سي‪،‬‬ ‫الهوية (المظلومة)‪ ،‬لذلك هو يعي�ش يومي ًا معارك‬
‫وم��ن ح�سن الحظ �أن الإخ��وة‬ ‫معروف مع المتخاذلين ومع‬ ‫ٍ‬ ‫ال نهاية لها‪ ،‬كقلم‬
‫العرب‪ ،‬قد اقتربوا منه كثيراً‪،‬‬ ‫الم�ؤ�س�سات واللوبيات‪ ،‬التي ال هموم لديها �سوى‬
‫وترجموه حب ًا وتعلق ًا‪.‬‬ ‫و�ضع الإن�سان العربي في ت�شكيلة من ال�صور‪،‬‬
‫من م�ؤلفاته‬

‫‪75‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫ّ‬
‫الـخـلق‬ ‫تـوقنـا‬
‫�إلى ال�سعادة الثقافية‬ ‫د‪ .‬حاتم الفطنا�سي‬

‫والو ُجود وال�سيا�سة والأخالق‪ ،‬ب ْل‬ ‫الحقيق ِة ُ‬ ‫ال�س ْعد)‪،‬‬ ‫بال�س ْع ِد؟ بلى‪( ،‬م� ْ�ن ُحرِمها ُح�رِم ّ‬ ‫ّ‬ ‫نتذكر � ّأن ِحكمة‬ ‫بك‪ِ ،‬ف ْع ًال‪� ،‬أن ّ‬ ‫كم ُهو ُم ْر ٌ‬ ‫ْ‬
‫بر ّم ِت ِه‪.‬‬
‫وح ْكم ُة الخلق ُ‬ ‫الغايات ِ‬ ‫ِ‬ ‫�إ ّنها غاي ُة‬ ‫يق�ص ُدون بها ح�سن‬ ‫هكذا ق��ال ال ُقدامى‪ِ ،‬‬ ‫�اء المعنى على‬ ‫ُ‬ ‫�‬ ‫�ف‬ ‫�‬ ‫�ض‬ ‫�‬ ‫ْ‬ ‫إ�‬ ‫�‬ ‫�ي‬ ‫�‬ ‫ه‬ ‫ال� ُ�وج��ود �إ ّن��م��ا‬
‫ال�سعادة‪،‬‬ ‫ال�سعاد ِة لي�ست ف��ي ّ‬ ‫قيم ُة ّ‬ ‫العام والتو ُّفق في‬ ‫ّ‬ ‫وت�صريف ال�ش�أنِ‬ ‫القيادة ْ‬ ‫الجمعي ِة‬‫ّ‬ ‫�شخ�صي ِتنا‬ ‫ّ‬ ‫كم ُهو جار ٌِح ِل‬ ‫الموجود‪ْ .‬‬ ‫ُ‬
‫الطريق �إليها؛ فطريق ُة ال ّنظر �إلى‬ ‫بل في ّ‬ ‫الحاجات وق�ضا ِء الم�صا ِلح وتحقيقِ‬ ‫ِ‬ ‫توفير‬ ‫�درن��ا‪ ،‬ح�ضار ًة‬ ‫ُ‬ ‫�‬ ‫ق‬ ‫�س‬ ‫�‬ ‫�‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫ْ‬ ‫�‬ ‫�ي‬
‫�‬ ‫ال‬ ‫أن‬
‫ّ‬ ‫�‬ ‫�‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ق‬
‫ْ‬ ‫�أن ن‬
‫فهي‬ ‫ال�سعادة ذات��ه��ا‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫أه��م من ّ‬ ‫ال�سعاد ِة � ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سعادة للمواطنين‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫وم ْ�ستقب ًال‪.‬‬ ‫وتاريخ ًا‪ ،‬ما�ضي ًا وحا�ضراً ُ‬ ‫ِ‬
‫للرغبة فيها‪ ،‬للفعل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ز‬
‫ٍ‬ ‫ف‬ ‫ِّ‬ ‫مح‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫مجر‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫كمقولة‬ ‫رئي�س ِم ْحور ٌِّي �إلي ِه‬ ‫ٌ‬ ‫هدف‬ ‫ٌ‬ ‫ال�سعادة‬ ‫� ّإن ّ‬ ‫رهين‬‫ُ‬ ‫ودنا‬ ‫وج‬ ‫قا�س � ْأن ُن ْ�ؤ ِمن ب� ّأن ُ‬ ‫كم ُهو ٍ‬ ‫ْ‬
‫الفيل�سوف �أندريه‬ ‫ُ‬ ‫ردة الفعل‪ .‬هكذا ي�شترط‬ ‫ِل ّ‬ ‫دة‬‫الفرعي ِة من ج� ْ�و ٍ‬ ‫ّ‬ ‫جميع الأه ��داف‬ ‫ُ‬ ‫ترتد‬
‫ُّ‬ ‫ت�سيي ِر د ّف ِت ِه‬ ‫ْ‬ ‫في‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ك‬
‫ّ‬ ‫نتح‬ ‫ال‬ ‫تاريخ‬
‫ٍ‬ ‫ة‬ ‫ِ‬ ‫حرك‬
‫ك��ون��ت �سبونفيل (ف��ي ترجمة ل�صديقنا‬ ‫للرفاه‬ ‫ّ‬ ‫وتحقيقٍ‬ ‫ِ‬
‫للحاجات‬ ‫ٍ‬
‫ِية‬ ‫ب‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫وت‬ ‫ة‬ ‫ِ‬ ‫للحيا‬ ‫ر�س ِم‬ ‫ْ‬ ‫�ي‬ ‫�‬ ‫ف‬ ‫وال‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫�صل‬ ‫بو‬
‫ْ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫توجي‬ ‫وال ف��ي‬
‫�شرط االقتدار‪ ،‬في‬ ‫الدكتور المعز الوهايبي)‪ْ ،‬‬ ‫أهداف‬ ‫مع لل ِ‬ ‫مج ٌ‬ ‫إن�ساني ِة الإن�سان‪ ،‬وهي ْ‬ ‫ّ‬ ‫ول‬ ‫دافهِ‬ ‫وو�ض ِع � ْأه ِ‬ ‫خارِط ِت ِه وال في �صناعة �آلته ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لب ال�سعادة‪.‬‬ ‫مط ِ‬ ‫ْ‬ ‫الدول‬ ‫ّ‬ ‫ل�سيا�سات‬ ‫مى‬ ‫أ�س‬
‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الهدف‬ ‫بل‬ ‫�سفة‪،‬‬ ‫ل‬
‫وف ْ‬ ‫الحتمي ُة‬
‫ّ‬ ‫رددين �إ ّنها‬ ‫�صاغرين ُم ِّ‬ ‫ِ‬ ‫وغاي ِت ِه‪،‬‬
‫ال�سعاد ُة مطلب ًا يتح ّق ُق �إ ّال‬ ‫ّ‬ ‫تكون‬ ‫ولن‬
‫ْ‬ ‫جرد‬ ‫في ُك ّل المجاالت‪ ،‬فال�سعاد ُة لي�ست ُم ّ‬ ‫آخر) الأقوى‬ ‫ي�صنعها (ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫الميتافيزيقي ُة التي‬ ‫ّ‬
‫امل ِة‪ ،‬ولن يت�أ ّتى‬ ‫ال�ش ِ‬
‫وبالر�ؤي ِة ّ‬ ‫ّ‬ ‫خطيط‬ ‫بال ّت‬ ‫إن�سان‪،‬‬ ‫رغبة‪ ،‬بل هي ُمهِ ّم ٌة ي�ضط ِل ُع بها ال ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ال�س ْي ُر‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫ّ‬ ‫�‬
‫إ‬ ‫(المغلوب)‪،‬‬ ‫لنا‬ ‫منا�ص‬ ‫الغا ِل ُب‪ ،‬فال‬
‫تغي ٍر للم�ستقبل‪ّ � ،‬أي‬ ‫حينٍ ُم ّ‬ ‫بت�ص ُّورٍ ُم ّ‬ ‫ذلك �إ ّال ُّ‬ ‫كونه �إن�سان ًا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫حقيق بِها م��ن جهة ْ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫وه��و‬ ‫أفلي�س‬ ‫لت�صوراته‪ْ � .‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫�ان‬ ‫نهجِ ِه والإ ْذع � ُ‬ ‫على ْ‬
‫راج‬‫ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫د‬ ‫ن‬ ‫واال‬ ‫بانتظاره‬ ‫ال‬ ‫الم�ستقبل‪،‬‬ ‫ب�صناعة‬ ‫الحق‪ّ � ،‬أي‬ ‫ِّ‬ ‫هذا‬ ‫م�ستوى‬ ‫في‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫وعليه‬ ‫المغلوب ُمولع ًا‪� ،‬أب��داً‪ ،‬باال ْق ِتدا ِء بالغالب‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ال�شباب‬ ‫ولن يت�س ّنى ذلك �إ ّال بم�شاركة ّ‬ ‫فيه‪ْ ،‬‬ ‫عليه �أن يكون ق��ا ِدراً على �أن ينه�ض بهذا‬ ‫لا!‪،‬‬ ‫على ح� ّ�د عبارة اب��ن خ��ل��دون؟ بلى! ك� ّ‬
‫الحي ِة في المجتمع‪ ،‬بم�شاركة‬ ‫وك ّل ال ُقوى ّ‬ ‫ُ‬ ‫الواجب عليه �أن ُي ْقبِل على‬ ‫ِ‬ ‫الحق‪ .‬بل من‬ ‫ّ‬ ‫نتق�ص ُد ُه‪ ،‬دالل ًة على التم ُّزقِ الذي‬ ‫ّ‬ ‫باك‬ ‫ْار ِت ٌ‬
‫المبدعين والمث ّقفين‪ُ .‬مهِ ّم ُة الإن�سان هي‬ ‫الحق ح ّتى ي�ستكمل ُ�صورة‬ ‫ِّ‬ ‫هو�ض بهذا‬ ‫ال ّن ِ‬ ‫الحرج بل‬ ‫ِ‬ ‫تابنا‪ ،‬ف� ْ�رداً وجماع ًة‪ ،‬وعلى‬ ‫ي ْن ُ‬
‫ن�شهد ُه‪ ،‬اليوم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وه��و ما‬ ‫ِ�صناع ُة ال ّتاريخ ْ‬ ‫الإن�سان فيه‪ .‬ومعنى ذلك �أ ّن ُه ح ّتى �إذا كانت‬ ‫العربي ُك ّلما �أراد‬ ‫ُّ‬ ‫ه‬ ‫ر‬
‫ْ ْ ُُ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ت�ش‬ ‫ي�س‬ ‫�ذي‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫ز‬ ‫ِ‬ ‫العج‬
‫ْ‬
‫في بع�ض الخطابات انتقا ًال �إلى المرحل ِة‬ ‫يتعي ُن على‬ ‫غب فيه‪ ،‬ف�إ ّن ُه ّ‬ ‫نر ُ‬ ‫ال�سعاد ُة هي ما ْ‬ ‫ّ‬ ‫حال‬‫الحا�ضر‪ .‬هذه ِهي ُ‬ ‫ِ‬ ‫وتجاوز‬
‫ُ‬ ‫راف‬ ‫ت�ش‬
‫ْ‬ ‫اال�س‬
‫ْ‬
‫يتحا�ضن فيه العم ِل ُّي‬ ‫ُ‬ ‫مجتمع‬
‫ٍ‬ ‫العملي ِة‪� ،‬إلى‬ ‫ّ‬ ‫ثمة‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫وم‬ ‫غبة‪.‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫بهذه‬ ‫ي�ضطلع‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫إن�سانِ‬ ‫ال‬ ‫ومات‪،‬‬ ‫وح ُك ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫وب‬ ‫ع‬ ‫ُ‬ ‫�ش‬ ‫ُ‬ ‫م‪،‬‬ ‫اليو‬
‫ْ‬ ‫‪،‬‬ ‫العرب‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫كثير‬
‫معنى‬ ‫ْ‬ ‫فال‬ ‫‪.‬‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ق‬ ‫ال‬ ‫مجتمع‬ ‫إلى‬ ‫�‬ ‫‪،‬‬ ‫أخالقي‬
‫ُّ‬ ‫وال‬ ‫حق‪ ،‬و�إ ّنها لكذلك‪،‬‬ ‫جرد ٍّ‬ ‫ال�سعاد ُة ُم ّ‬ ‫تكون ّ‬ ‫ُ‬ ‫ال‬ ‫وج ْم ُهوراً‪.‬‬ ‫ُنخب ًا ُ‬
‫لم ُت ْفهم فل�سف ُته‬ ‫ْ‬ ‫ما‬ ‫اريخ‪،‬‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ِ‪،‬‬ ‫ز‬ ‫ج‬ ‫ن‬‫للم ْ‬‫ُ‬ ‫تكون كذلك واجِ ب ًا‪ .‬بذلك يتجاو ُز‬ ‫ُ‬ ‫ها‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ولك‬ ‫الظالم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫في‬ ‫�ض‬ ‫ٌ ُ ُ‬ ‫وم‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ثناء‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ا�س‬
‫ك ّال ّ ْ‬ ‫ة‬ ‫ثم‬ ‫!‪،‬‬
‫وم�ضامي ُن ُه ودواعيه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫(ال�سعادة) حالة رغ ِد العي�ش‪ِ ،‬لي ْغ ُدو‬ ‫ُ ّ‬ ‫مفهوم‬ ‫ثمة ُمقارب ٌة �أخرى‬ ‫نمط �آخر يت�ش ّك ُل‪ّ ،‬‬ ‫ثمة ٌ‬ ‫ّ‬
‫ُي��� ْ��ص��ن� ُ�ع ال� ُ�م����ْ�س��ت� ْق��ب� ُ�ل ب��ال� ُ�م��ؤ� ّ��س�����س��ات‬ ‫اال�ستراتيجيات‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ة‬ ‫ً‬ ‫و�شبك‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫ه‬ ‫وتوج‬
‫ُّ‬ ‫ف ْل�سف ًة‬ ‫ت�صورٍ‬ ‫ُّ‬ ‫في‬ ‫إليها‪،‬‬ ‫�‬ ‫نتوق‬ ‫والم�ستقبل‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫للحا�ض‬‫ِ‬
‫بالطموح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الخيرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وبال�شباب‪ ،‬ب ��الإرادة‬ ‫ّ‬ ‫ح�شدٍ‬ ‫ِ‬
‫ت�صوراً و�سيع ًا جامع ًا ل ْ‬ ‫المت ّنوعة‪ ،‬لي ْغ ُدو ُّ‬ ‫ِ‬ ‫فعا ًال‪،‬‬ ‫العربي ع ْق ًال ّ‬ ‫عل الع ْقل‬ ‫يج ُ‬ ‫جدي ٍد‪ْ ،‬‬
‫ّ‬
‫بالعمل‪ ،‬باالبتكار‪ ،‬بال ّتخطيط‪ ،‬بالإنتاج‪،‬‬ ‫ات‬ ‫والغائي ِ‬ ‫ّ‬ ‫ة‪،‬‬ ‫المادي‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫إنجازات‬ ‫الر�ؤى وال‬ ‫ِمن ُّ‬ ‫ي�سعى‬ ‫يجع ُل ُه ع ْق ًال خ ّالق ًا‪ْ ،‬‬ ‫نيراً‪ْ ...‬‬ ‫ُم ْب ِدع ًا‪ّ ،‬‬
‫بالمكتبات وبالت�شجيع‬ ‫ِ‬ ‫بال ّتجارة‪ ،‬بال ّثقافة‪،‬‬ ‫تتخطى‬ ‫ّ‬ ‫الملمو�س ِة والمح�سو�س ِة ا ّل��ت��ي‬ ‫بمنظومة ِمن‬ ‫ٍ‬ ‫البراغماتي ِة‬
‫ّ‬ ‫ي�ض‬ ‫تروِ ِ‬ ‫�إل��ى ْ‬
‫ب��ال��ر�ؤي��ة‬ ‫ّ‬ ‫ع��ل��ى ال���ق���راءة وال ��م ��ع ��رف ��ة‪...‬‬ ‫الفل�سفي‬
‫ّ‬ ‫يا�سي‪� ،‬إلى الخطاب‬ ‫ال�س ّ‬ ‫الخطاب ّ‬ ‫ِ‬ ‫أفلم‬
‫الفهم نف�سه‪ْ � .‬‬ ‫يجد ُد ْ‬ ‫ال ِقي ِم ال ّنبيل ِة‪ ،‬بل ِّ‬
‫بالح ْل ِم‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫والعملية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مي ِة‬
‫اال�ستراتيجية ال ِع ْل ّ‬ ‫ّ‬ ‫تطال هواجِ �س‬ ‫ُ‬ ‫وم ْنه �إلى خطابات �أخ��رى‬ ‫ِ‬ ‫ا�س‪ُ ،‬من ُذ القديم‪ ،‬ح�سن القيادة‬ ‫ي ْقرن ال ّن ُ‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪76‬‬


‫تجارب‬

‫ت�صور ا�ستراتيجي‬ ‫ّ‬ ‫والتحديث والتجديد‪� ،‬ضمن‬ ‫ال�سعادة‬ ‫بال�س ْعي �إلى ّ‬ ‫نع ال ّتاريخ ّ‬ ‫وال ّت ْوقِ ‪ُ ،‬ي ْ�ص ُ‬
‫يهدف �إلى �صناعة ال ّثقاف ِة و�صناعة الم�ستقبل‬ ‫نف�سي ًة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وراحة‬ ‫الء‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ام‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫منيع‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫ي‬‫يظل ِ ّ‬
‫ع�ص‬ ‫هدف ًا ُّ‬
‫إن�سانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في مجال الآداب والعلوم ال‬ ‫يجتمع فيها‬ ‫ُ‬ ‫مجمع ًا لل ِقي ِم‪،‬‬ ‫ال�سعاد ُة ْ‬ ‫تكون ّ‬ ‫بذلك ُ‬
‫حداثي‬ ‫ٍّ‬ ‫م�شروع‬ ‫ٍ‬ ‫يتوق المثقف العربي �إلى‬ ‫�سام ُح‬ ‫والوطني ُة وال ّت ُ‬ ‫ّ‬ ‫ال�صعاب‬ ‫ومغالب ُة ّ‬ ‫ال�ص ْب ُر ُ‬ ‫ّ‬
‫العربية‬ ‫ّ‬ ‫وية‬‫اله ّ‬ ‫تنويري �شامل‪ ،‬ا ْن ِدقاق ًا في ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫الم�صلحة‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫أجل‬ ‫�‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫والتفاني‬ ‫والعلم‬ ‫العمل‬ ‫ب‬ ‫ُ ُّ‬ ‫وح‬
‫ال�سعادة حق للب�شر‬ ‫ِ‬
‫إيجابية‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫بعنا�صرها‬ ‫ا‬ ‫ز‬
‫ً‬ ‫�زا‬ ‫�‬ ‫ت‬ ‫�‬ ‫واع‬
‫ْ‬ ‫ة‪،‬‬ ‫إ�سالمي‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫وتتجاور فيها الأ�صال ُة والحداث ُة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ة‪،‬‬ ‫العام‬
‫ّ‬
‫وواجب ويتجاوز‬ ‫ٍ‬
‫منظومة‬ ‫الكونية والحداثة‪ ،‬في ِ‬
‫كنف‬ ‫وتوق ًا �إلى‬ ‫ال�ض ْو ِء‬ ‫ة‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ها‬ ‫ن‬ ‫�‬
‫إ‬ ‫آخر)‪...‬‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫أنا‪،‬‬ ‫ل‬ ‫(ا‬ ‫فيها‬ ‫يتعاي�ش‬
‫ُ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُْ‬
‫مفهومها في بع�ض‬ ‫�سام ُح‬ ‫ُ‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫وال‬ ‫ة‬ ‫ُ‬ ‫الو�سطي‬
‫ّ‬ ‫ار‬‫ّ ُ‬ ‫�دو‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫ها‬ ‫ور‬
‫ْ ُ‬ ‫ح‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ة‪،‬‬ ‫قيمي‬
‫ّ‬ ‫واعداً ُم ْقت ِدراً‬ ‫في العتمة! بها ن ُق ُّد الكائن بهي ًا ِ‬
‫الأحيان رغد العي�ش‬ ‫واالع ِت ُ‬
‫دال‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫واالنفتاح‬
‫ُ‬ ‫وقبول الآخر‬ ‫ُ‬ ‫وال�س ْلم‬ ‫ِ‬ ‫التحج ِر �أو‬ ‫ُّ‬ ‫طرف �أو‬ ‫واعي ًا‪ ،‬ال مجال لل ّت ُّ‬ ‫مرِن ًا ِ‬
‫على ه��ذا ال ّنحو‪ ،‬يكون مفهوم الثقافة‬ ‫ال�شوفيني ِة في م ُقوال ِت ِه البانية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وغمائي ِة �أو‬
‫ّ‬ ‫الد‬
‫ّ‬
‫لا‪ ،‬ي��ت��ج��اوز تعريفها ال��ذي‬ ‫م��ف��ه��وم� ًا ���ش��ام� ً‬ ‫عملت بع�ض المجتمعات ونحلم‬ ‫لقد ِ‬
‫الذهني‬
‫ّ‬ ‫ي ْق ِ�ص ُرها على تلك الأنماط من ال ّن�شاط‬ ‫�أن نكون مثلها‪ ،‬منذ �سنوات‪ ،‬على �صياغة‬
‫ت�صورٍ‬ ‫ُّ‬ ‫المجردة‪� ،‬إل��ى‬ ‫ّ‬ ‫الرمزية‬
‫ّ‬ ‫والإن��ت��اج��ات‬ ‫ح�ضاري را ِئ ٍد حا ِل ٍم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مجتمعي‬
‫ّ‬ ‫ثقافي‬
‫ّ‬ ‫م�شروع‬
‫ٍ‬
‫� ْأو���س��ع يجمع بين النظري والعملي في �آن‪،‬‬ ‫لكن ال ّأيام والوقائع‬ ‫ّ‬ ‫‪،‬‬‫ا‬‫ً‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫وباوِ‬ ‫طُ‬ ‫بع�ضهم‬ ‫تبره‬
‫ْاع ُ‬
‫ويرتبط بوجهين م ّت ِ�صلين ال ينف�صالن‪� ،‬أق�صد‬ ‫إنجازية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وقابليت ُه ال‬ ‫ّ‬ ‫واقعيت ُه‬ ‫ّ‬ ‫والمنجزات‪ّ � ،‬أكدت‬ ‫ُ‬
‫والكونية‪ .‬وعلى هذا ال ّنحو تغدو‬ ‫ّ‬ ‫الخ�صو�صية‬
‫ّ‬ ‫قو ِة الإرادة والت�صميم وتحيين الأهداف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بف�ضل‬
‫ي�ش ّد كا ّفة القطاعات بع�ضها �إلى بع�ض‪،‬‬ ‫ن�سيج ًا ُ‬ ‫�ض ركائ ِز‬ ‫بع ُ‬ ‫والفن والإبداع‪ْ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بال ّثقافة والفكر‬
‫مهمة الإن�سان‬ ‫المبدع الفرد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كيان‬ ‫عن‬ ‫عبير‬ ‫ت‬
‫ويتجاوز ُ ّ ّ‬
‫ال‬ ‫د‬‫جر‬ ‫م‬ ‫تتج�سم في‬ ‫ّ‬ ‫هذا الم�شروع‪ ،‬بل ُع ْمدت ُه الأ�سا�س‬
‫�صناعة التاريخ وهو‬ ‫�أو ُم��ج� ّ�رد تظهير عقله ووج��دان��ه ومجاالت‬ ‫الثقافية وم� ّؤ�س�سات ال ّن�شر والمج ّال ِت‬ ‫ّ‬ ‫المنابِر‬
‫ما ن�شهده اليوم في‬ ‫ال ّتخييل لديه لترتقي �إل��ى مرتبة الم�شروع‬ ‫ؤولية‬
‫للحرية والم�س� ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمالحق‪ ،‬لت�صبح ُك ًوى‬
‫أ�سا�سية ل�شعب‬ ‫ّ‬ ‫لل�شخ�صية ال‬‫ّ‬ ‫ال�صا ِنع‬ ‫الجماعي ّ‬ ‫ّ‬ ‫والج�سار ِة الإب��داع� ّ�ي��ة‪ ،‬وتكون ُنقطة � ٍ‬
‫إ�شعاع‬
‫بع�ض الخطابات‬ ‫حولها وفيها جِ ّل ًة من‬
‫�ض‬ ‫ُ ُ‬ ‫ف‬ ‫وير‬ ‫كان‬ ‫بما‬ ‫نع‬ ‫ق‬
‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ح�ضارة‪،‬‬ ‫�أو � ّأمة �أو‬ ‫لتجمع ْ‬ ‫ّ‬ ‫و�ضاء ًة‪،‬‬ ‫وب ْهر ًة ّ‬ ‫ُ‬
‫المغلقة‪ ،‬يربط بين لحظات ال ّتاريخ‬ ‫الأزمنة ُ‬ ‫أكاديميين‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫رين‬ ‫ك‬
‫ّ‬ ‫والمف‬ ‫والمبدعين‬ ‫فين‬ ‫ق‬ ‫ّ‬ ‫المث‬
‫بي ْ�س ٍر و�سهولة ومرونة‬ ‫ويتحرك بين ِحقبِه ُ‬ ‫ّ‬ ‫العربية‪ ،‬من الم�شرق والمغرب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من �ش ّتى البالد‬
‫ِ‬
‫تجعل الإب��داع ي�ستلهم الما�ضي وي�ستح�ضر‬ ‫ْ‬ ‫�شرطٍ‬ ‫قيد وال ْ‬ ‫ٍ‬ ‫حرية التعبير من ُدون ْ‬ ‫لهم ّ‬ ‫و ُتتيح ُ‬
‫ويوظ ُفه‪ ،‬كفع ِله مع الحا�ضر‪،‬‬ ‫بع�ض رم��وزه ُ‬ ‫طوقٍ ويتوقون �إلى‬ ‫ّ ْ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫من‬ ‫ون‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫أب‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫الءات‬ ‫وال � ْإم‬
‫ين�شد �إليه من حيث هو يتوق �إلى زمنٍ �آخر‪ ،‬وقد‬ ‫ُّ‬ ‫الق�صية‪.‬‬‫ّ‬ ‫الرحب ِة‬ ‫الآفاقِ ّ‬
‫في�سهم في‬ ‫ُ‬ ‫أخرى‬ ‫�‬ ‫ب‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫بطريقة‪،‬‬ ‫الم�ستقبل‬ ‫يعي�ش‬ ‫الوجود في‬ ‫الوجود في الأذه��ان‪� ،‬إلى ُ‬ ‫من ُ‬
‫وتدب ٍر واقتدار‪.‬‬ ‫بوع ٍي ُّ‬ ‫�صناعته ْ‬ ‫الم�شاريع‪ ،‬فتنجح‬ ‫ُ‬ ‫تتج�سم‬
‫ّ‬ ‫الأعيان‪ُ ،‬يمكن �أن‬
‫ا�ستناداً �إلى هذا الفهم‪ُ ،‬ي�صبِح الفعل في‬ ‫وتتميز وت�سهم في تنمية الإن�سان‪� ،‬سبي ًال من‬ ‫ّ‬
‫نظ ُر (للثقافة‬ ‫عالم ُي ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫الكونية‪ ،‬في‬ ‫ّ‬ ‫ف�ضاءات‬ ‫ُ�سبل ال�سعادة‪.‬‬
‫الم�ستقبل ي�صنع‬
‫ثقافي ًا‬ ‫ّ‬ ‫تحدي ًا‬ ‫ال��واح��دة)‪ ،‬و(ال ّنمط ال��واح��د)‪ّ ،‬‬ ‫في هذه اللحظات الع�صيب ِة من تاريخ � ّأمتنا‪،‬‬
‫بالإرادة الخيرة‪..‬‬ ‫عو ٍلم‬ ‫وح�ضاري ًا ناجِ م ًا عن انت�شار ٍ‬ ‫نفو�س المث ّقفين العرب اليوم �إلى قيام‬ ‫ته ُفو‬
‫ثقافي ُم ْ‬‫ّ‬ ‫نمط‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫بالطموح واالبتكار‬ ‫ال�شعوب في كيانها‪ ،‬بل في وجودها‬ ‫هدد ّ‬ ‫ُي ّ‬ ‫حا�ضنة‪� ،‬إلى ُم� ّؤ�س�سات كبرى‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫منابر خ ّالقة‬
‫والت�شجيع على‬ ‫�أ�ص ًال‪.‬‬ ‫وق �إلى بنائها‪ ،‬كمراكز الإعمار‪ ،‬والمتاحف‬ ‫ن ُت ُ‬
‫المعرفة‬ ‫م�صيري‪ ،‬ال �سبيل �إلى ُمغالبته‬ ‫ّ‬ ‫تحد‬
‫�إ ّن��ه ٍّ‬ ‫ودور الم�سرح‪ ،‬ومراكز التكنولوجيا‪ ...‬نح ُلم‬
‫إيجابي مع‬ ‫ّ‬ ‫�إ ّال باالعتزاز بالذات وال ّتفاعل ال‬ ‫بـ�إن�شاء مراكز ل�صناعة الم�ستقبل‪ ،‬في الآداب‬
‫بد من‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫بل‬ ‫تغيرات‪،‬‬ ‫يج ُد في العالم من ُم ِّ‬ ‫ما ِّ‬ ‫بمهمة‬‫ّ‬ ‫والفنون‪ ،‬والعلوم الإن�سانية‪ ،‬تنه�ض‬
‫المبادرة والفعل الخ ّالق‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫للت�صورات‬ ‫ّ‬ ‫التخطيط وت��ك��ون ق � ّ�وة اق��ت��راح‬
‫تتر�سخ دولة‬ ‫ّ‬ ‫وبذلك‬ ‫الم�ستقبل‬ ‫ن�صنع‬ ‫بذلك‬ ‫والمقاربات الجديدة‪ ،‬وتعمل في الم�ستوى‬
‫دح مو�سيقاها‪.‬‬ ‫وت�ص ُ‬ ‫ال�سعادة‪ ،‬وتتعالى رايا ُتها ْ‬ ‫ّ‬ ‫التطبيقي على �إن�شاء الور�شات ورعاية التجريب‬

‫‪77‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫«الثقافة» من �أعـرق الـمـجـالت الـعـربـيـة‬

‫مدحة عــكـــا�ش‬
‫عميد الثقافة في �سوريا‬
‫أولئك‬ ‫ِ‬
‫العربية يعو ُد �إل��ى � َ‬ ‫ِ‬
‫ال�صحافة‬ ‫أكبر الف�ضل في‬ ‫لعلَّ � َ‬
‫العلم‬
‫وجدوا في ن�شر ِ‬ ‫ِ‬
‫المطبوعة‪ُّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫الكلمة‬ ‫الذين ع�شقوا ر�سالة‬
‫العربي الكبير‪ ،‬وكانوا بحقٍّ‬
‫ِّ‬ ‫والمعرفة بين �أ�صقاع الوطنِ‬ ‫ِ‬
‫حين‬
‫وفر�سان القلم َ‬
‫َ‬ ‫ق��اد َة الفكر‪،‬‬
‫وعوا و�أدركوا دو َر ال�صحافة‬
‫ر�صد الأحداث‬ ‫مفيد فهد نبزو المهم في ِ‬
‫الكبرى ال��ت��ي م��� َّرتْ بها �أمتنا ‪ ،‬فقاموا‬
‫ٍ‬
‫�صفحات‬ ‫ي�ضيء‬
‫َ‬ ‫من �ش� ِ‬
‫أنه � ْأن‬ ‫بت�أريخ ِكلِّ ما ْ‬
‫ِ‬
‫المجيد‪ ،‬لتظلَّ �إرث ًا‬ ‫من تاريخنا‬ ‫ً‬
‫نا�صعة ْ‬
‫المنورين‬
‫َ‬ ‫العديد من‬
‫َ‬ ‫أنجبت‬ ‫خالد ًا ل ٍ‬
‫أمة � ْ‬
‫المبدعين‪ ،‬وف��ي �أكثر من‬ ‫َ‬ ‫والمفكرين‬
‫َ‬
‫م�ضما ٍر وميدانٍ ‪ ،‬وعلى �أكثر من �صعيد‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪78‬‬


‫مداد‬

‫الدور‬ ‫إغفال َّ‬ ‫يمكن � ُ‬ ‫ُ‬ ‫�شك فيه �أن ُه ال‬ ‫ومما ال َّ‬
‫المهم الذي لعبت ُه (الثقافة) مجلة ً و�صحيفة‬
‫منذ ُعام (‪1958‬م) في �إغنا ِء ال�صحاف ِة العربي ِة‬
‫الثقافي ِة‪ ،‬من خاللِ ا�ستقطابها �أع��داداً كبيرة‬
‫وت�شجيعهم وتقوي ِم‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫والمبدعات‪،‬‬ ‫المبدعين‬
‫َ‬ ‫من‬
‫لديهم‪ ،‬والأخ���ذ ب�أيديهم‪ ،‬وه��م في طو ِر‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ما‬
‫قادرين على‬ ‫َ‬ ‫ي�صبحوا‬ ‫حتى‬ ‫فتتبناهم‬
‫ْ‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫البدايات‬
‫نديم محمد‬ ‫كوليت خوري‬ ‫عمر �أبو ري�شة‬ ‫ف�ضاءات الفكر والثقاف ِة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الطيران والتحليقِ في‬
‫�داع‪ ،‬ومن �أجلِ مواكب ِة الأجيالِ‬ ‫أدب والإب� ِ‬ ‫وال ِ‬
‫الح�ضاري‪ ،‬وهذا‬ ‫ِّ‬ ‫الفكري والتطو ِر‬ ‫ِّ‬ ‫التقدم‬
‫ِ‬ ‫لركب‬
‫ِ‬
‫وا�سعة في زمنٍ لم يكن‬ ‫ٍ‬ ‫بالطبع كان ذا � ٍ‬
‫أهمية‬ ‫ِ‬
‫�سحة‬ ‫من ُف ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫المفك‬ ‫ِ‬
‫الباحث‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫المبدع‬
‫ِ‬ ‫للكاتب‬
‫ِ‬
‫المفكرين‬ ‫َ‬ ‫مع غير ِه من‬ ‫من خاللها َ‬ ‫يتفاعل ْ‬ ‫ُ‬
‫تخ�ضع‬ ‫ُ‬ ‫والمبدعين‪ ،‬وك��ان� ْ�ت عملي ُة الن�شر‬ ‫َ‬
‫إلكتروني‬ ‫ِّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫الن�ش‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ع�ص‬ ‫قبل‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫عديدة‬ ‫ٍ‬
‫العتبارات‬
‫للجميع بدونِ ا�ستثنا ٍء‪ ،‬وبدونِ انتقاء‬ ‫ِ‬ ‫المفتوح‬
‫ِ‬
‫القمح م� َ�ن ال ��ز�ؤانِ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫�أو تمييز‪ ،‬وب��دون ِ غربل ِة‬
‫ت�صحيح اللحنِ واخت�صا ِر الح�شو‪ ،‬وتقدي ِم‬ ‫ِ‬ ‫�أو‬
‫من م�ؤلفاته‬ ‫العادي‪ ،‬واختيار الدقيق‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫ألوف‬ ‫�‬ ‫الم‬ ‫على‬ ‫ز‬ ‫ِ‬ ‫الممي‬
‫أكبر الأ�سماء‬ ‫قلت‪َّ � :‬إن � َ‬ ‫عجب �إذا ُ‬ ‫َ‬ ‫الأول��ى‪ ،‬وال‬ ‫الخيرة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫المقا�صد‬ ‫المنا�سب عند التعبير عن‬
‫كان‬ ‫الأدبية العربية �شهر ًة في الوطن والمهجر َ‬ ‫والقيم الفا�ضلة‪ ،‬والغايات النبيلة ال�سامية‪.‬‬
‫تكن بدايت ُه منها‪،‬‬ ‫مكان‪� ،‬إن لم ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ل ُه في (الثقافة)‬ ‫وقد �أو�ضح مدحة عكا�ش رئي�س التحرير‬
‫كبير من �سدن ِة‬ ‫ٌ‬ ‫عدد‬
‫ٌ‬ ‫تحريرها‬ ‫�شارك في‬‫َ‬ ‫فقد‬ ‫و�صاحب (دار الثقافة للطباعة والن�شر) �إيمانه‬
‫الذين وجدوا فيها ملتقى‬ ‫َ‬ ‫الكلم ِة‪ ،‬و� ِ‬
‫أرباب الفكر‬ ‫العميق بما يقوم به من �إنجازات ال غاية له‬
‫عبر عنه عبداهلل‬ ‫طموحاتهم و�آمالهم‪ ،‬وهذا ما َّ‬ ‫منها �إال م�صلحة الوطن والأمة كما في قوله‪:‬‬
‫ال يمكن �إغفال الدور‬ ‫ال�شيتي بقول ِه‪:‬‬ ‫عن موا�صل ِة‬
‫�شهدت (ثقافتنا) الوفية والد َة‬ ‫ْ‬ ‫همة‪ ،‬ولم يقعدنا ك�س ٌل ْ‬ ‫تفتر لنا َّ‬ ‫لم ْ‬
‫المهم الذي لعبته‬ ‫وتبارت �أقالمنا‬ ‫ْ‬ ‫م�شاهير‪،‬‬
‫َ‬ ‫البواكير حتى �صاروا‬ ‫العملِ في �أدا ِء هذ ِه الر�سال ِة التي اخترناها‬
‫مجلة (الثقافة)‬ ‫ومحاوالتنا الأولى‪ ،‬في ظ ِّل �صاحبها ال�صديق‬ ‫را�ضون‪ ،‬وما‬ ‫َ‬ ‫ونحن بها‬ ‫ُ‬ ‫فكانت قدرنا‬ ‫ْ‬ ‫لأنف�سنا‪،‬‬
‫في الم�شهد الثقافي‬ ‫ال�سعيد منا‬
‫ُ‬ ‫فكان‬
‫َ‬ ‫القديم الحميم مدحة عكا�ش‪،‬‬ ‫الكمال‪ ،‬فلنا نجاحاتنا‬ ‫َ‬ ‫ندعي‬ ‫تعودنا قط � ْأن َّ‬
‫من يحظى بن�شر ق�صة �أو ق�صيدة �أو مقالة‪،‬‬ ‫نق�ص ْر في ربط هذا‬ ‫ِ‬ ‫لم ِّ‬ ‫ولنا �إخفاقاتنا �إال �أننا ْ‬
‫ال�سوري والعربي‬
‫وبرغم كل التحديات المادية‪ ،‬وهي باهظة‬ ‫أول‬ ‫َّ َ‬ ‫�‬ ‫ل‬ ‫ولع‬ ‫أمتنا‪،‬‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫وطننا‬ ‫العملِ الكبير بم�صالح‬
‫مكلفة ف��ي ال�صناعة ال�صحافية‪ ،‬فقد ظلت‬ ‫ما نعت ُز به هو محاولتنا الأولى للقا ِء الأدبا ِء‬
‫تعلن عن نف�سها بكثي ٍر من‬ ‫المجلة واثقة الخطى ُ‬ ‫�صفحات هذه‬ ‫ِ‬ ‫العرب على امتداد �أقطارهم على‬ ‫ِ‬
‫تكون وتبقى‪ ،‬حتى‬ ‫َ‬ ‫التوا�ضع والإ�صرار على �أن‬ ‫المجلة‪ ،‬فعمدنا �إلى �إ�صدار �أعدادنا الخا�صةِ‬
‫أحب �إلينا‬‫ُّ‬ ‫�‬ ‫ال‬ ‫وهو‬ ‫‪،‬‬‫د‬ ‫ِ‬ ‫إثبات الوجو‬ ‫باب � ِ‬ ‫ولو من ِ‬ ‫عن محافظات القطر العربي ال�سوري �أو ًال‪،‬‬
‫كانت‬ ‫مثله وال �أ�شهى‪ ،‬لأن ُه ي�شدنا دائم ًا �إلى يوم ْ‬ ‫وتجاوزنا ذلك �إلى الأقطار العربي ِة‪ ،‬ف�أ�صدرنا‬
‫منذ �صدورها في‬ ‫�صاحبها‬ ‫أراد لها‬ ‫المغرب والجزائ ِر‬ ‫�أع���داداً خا�صة عن �أدب ��ا ِء‬
‫ُ‬ ‫وبقيت مثلما � َ‬ ‫ْ‬ ‫واح ًة ومنار ًة‬ ‫ِ‬
‫العام (‪1958‬م) وحتى‬ ‫ورئي�س تحريرها ال�صديق مدحة �أن تبقى‪ ،‬وال‬ ‫ُ‬ ‫المعا�صرين‬ ‫َ‬ ‫وال�سعودي ِة وليبيا‪ ،‬و�أدبا ِء المهج ِر‬
‫رحيل م�ؤ�س�سها �أغنت‬ ‫مطمع له وال مبتغى �إال � ْأن يجع َل منها همز َة‬ ‫َ‬ ‫العرب‬ ‫ِ‬ ‫أدب‬ ‫تر�صد � َ‬ ‫ُ‬ ‫وثائق‬‫َ‬ ‫أعداد‬
‫غدت هذه ال ُ‬ ‫حتى ْ‬
‫ال�صحافة الثقافية‬ ‫بين الثقافة وروادها‬ ‫َ‬ ‫التوا�صلِ‬ ‫وج�سر‬
‫َ‬ ‫الو�صل‬ ‫الدور‬
‫ُ‬ ‫في هذه المرحل ِة من تاريخنا‪ .‬كما َ‬
‫كان‬
‫العربية‬ ‫الأوائل وقرائها و�أ�صدقائها الأوفياء من قدامى‬ ‫تكن‬ ‫دار الثقافة التي لم ْ‬ ‫قامت ب ِه ُ‬ ‫ْ‬ ‫البار ُز لما‬
‫يجمع‬
‫َ‬ ‫ومحدثين‪� .‬إذاً ا�ستطاع مدحة عكا�ش � ْأن‬ ‫ت�سهم‬ ‫ُ‬ ‫راحت‬
‫ْ‬ ‫ملتقى الأدباء والمبدعين فقط‪ ،‬ب ْل‬
‫كتاب ال�ستينيات �أمثال عمر‬ ‫ِ‬ ‫في مجلت ِه � َ‬
‫أقالم‬ ‫أجنا�س‪ ،‬وترعى‬ ‫ِ‬ ‫في طباعة الكتب من كافة ال‬
‫�أبو ري�شة‪ ،‬ونزار قباني الذي ن�شر �أولى ق�صائده‬ ‫ت�شد �أزرهم‬ ‫ال�شعراء والمبدعين الأدب��اء‪ ،‬حيث ُّ‬
‫على �صفحات (الثقافة)‪� ،‬إ�ضافة �إلى الكثيرين‬ ‫انطالقتهم‬
‫ْ‬ ‫وت�ساعدهم في‬ ‫ْ‬ ‫وتطبع لهم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وتن�شر‬
‫ُ‬

‫‪79‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫ح�ص َن‬‫�أنف�سهم غير مع�صومين عن الخط�أ ‪ ،‬لكنه َّ‬ ‫من الأدباء الكبار الذين �أغنوا المجلة بنتاجهم‬
‫نف�س ُه �ضد الم�شاعر الخ�سي�سة‪ ،‬وك��ان كبيرا‬ ‫و�إبداعاتهم �أمثال‪ :‬بدوي الجبل‪ ،‬ونديم محمد‪،‬‬
‫ً دائم ًا‪ ،‬هكذا عرفته وهكذا كان من بعد‪ ،‬وقد‬ ‫ومحمد البزم‪،‬‬
‫�أكد الإعالمي الأديب �أحمد بوب�س �أن مقر مجلة‬ ‫وم��ح��م��د ال��ح��ري��ري ‪ ،‬وغ����ادة ال�سمان‬
‫(الثقافة) لم يكن مجرد مكتب لإدارة المجلة‬ ‫وكوليت خوري وغيرهم من الأ�سماء الكبيرة‪،‬‬
‫وح�سب‪ ،‬بل �إن��ه ك�صالون مي زي��ادة الأدب��ي‬ ‫والم�شهورة في ال�ساحة العربية وبين الأو�ساط‬
‫الذي ينعقد كل ثالثاء‪ ،‬مع فارق ب�سيط هو �أن‬ ‫الأدبية قاطبة‪.‬‬
‫ا�ستقطبت المواهب‬ ‫�صالون مجلة (الثقافة) ينعقد كل يوم‪ ،‬وفيه‬ ‫وم��م��ا ي��ذك� ُ�ر � َّأن ال��ع��دد الأول م��ن مجلة‬
‫الواعدة �أدبي ًا‬ ‫يلتقي محبو الأدب مع الأدباء وال�شعراء الذين‬ ‫�صدر في �شهر �أي��ار عام‬ ‫�ان ق� ْ�د‬ ‫(الثقافة) ك� َ‬
‫َ‬
‫ف�أ�صبحوا رواد الفكر‬ ‫�أ�سهمت مجلة (الثقافة) في �إظهار الكثير منهم‪،‬‬ ‫(‪1958‬م)‪ ،‬وهي مجلة �أدبية فكرية جامعة‬
‫والأدب‬ ‫وكم تحلو الجل�سات بالحديث الذي ير�سله �إلينا‬ ‫توقف‪ ،‬ليبقى‬ ‫ٍ‬ ‫دون‬
‫بقيت م�ستمر ًة في ال�صدور َ‬ ‫ْ‬
‫الأ�ستاذ مدحة‪ ،‬وهذا الحديث العذب كعذوبة‬ ‫جامع لمعظم �أدباء‬ ‫ٍ‬ ‫بتاريخ‬
‫ٍ‬ ‫ال‬
‫ً‬ ‫حاف‬ ‫أر�شيفها‬ ‫�‬
‫مياه عين الفيجة‪ ،‬ولأن اعترافات �أحمد بوب�س‬ ‫�سوريا والوطن العربي والمهجري‪ ،‬وذلك بما‬
‫اعترافات عا�شق فال يكتفي بهذا بل يتابع‬ ‫أ�شرف مدحة‬ ‫خم�سين مجلداً �ضخما ً � َ‬ ‫َ‬ ‫يقارب‬
‫ُ‬
‫اعترافه بالع�شق لعا�صمة اليا�سمين حين قال‪:‬‬ ‫كي‬ ‫ْ‬ ‫�ا‬
‫�‬ ‫�ه‬ ‫�‬ ‫أوراق‬ ‫�‬ ‫ِ‬
‫وت�صنيف‬ ‫�ا‬ ‫�‬ ‫�داده‬ ‫�‬ ‫إع‬ ‫�‬ ‫على‬ ‫بذات ِه‬
‫�أنا �أع�شق مجلة (الثقافة) لأنني �أع�شق دم�شق‪،‬‬ ‫العربي‬ ‫ِّ‬ ‫أدب‬‫تظ َّل وثيقة مهم ًة من وثائقِ ال ِ‬
‫وهذه ال�صبية المغناج جزء من دم�شق ‪ ،‬ملمح‬ ‫قد و�صفها الدكتور ابراهيم‬ ‫وكان ْ‬ ‫َ‬ ‫المعا�صر‪.‬‬
‫من مالمحها الجميلة‪ ،‬هي كالجامع الأموي‬ ‫أ�سماع الأدبا ِء‬ ‫الكيالني ب�أ َّنها �صيح ٌة ر َّن ْت في � ِ‬
‫وجبل قا�سيون والغوطة ونهر بردى‪ ،‬كحارات‬ ‫ال�سواء‪ ،‬ف�أقبلوا عليها‬ ‫أدبين والهواة على َّ‬ ‫والمت� َ‬
‫كانت بمثابة ملتقى‬ ‫دم�شق القديمة‪ ،‬حيث تتعانق ال�شبابيك وتفوح‬ ‫يعطونها ب�سخا ٍء وي ��أخ��ذون منها ب�سخا ٍء‪،‬‬
‫�أدبي يومي للأدباء‬ ‫رائحة اليا�سمين والدفلى وال��ورد الجوري‪.‬‬ ‫لعر�ض‬ ‫ِ‬ ‫الكبار مجا ًال‬ ‫ُ‬ ‫أدب��اء‬
‫وجد فيها ال ُ‬ ‫فقد َ‬
‫والكتاب‬ ‫عالقتي بمجلة (الثقافة) لي�ست عالقة قارئ‬ ‫ووجد‬
‫َ‬ ‫ونظراتهم �إلى الحياة والنا�س‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫أفكارهم‬
‫ْ‬ ‫�‬
‫بمجلة‪� ،‬إنها عالقة عا�شق بمع�شوقة ظلت تزداد‬ ‫يثبتون خطواتهم‬ ‫َ‬ ‫ة‬‫ً‬ ‫�صلب‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫أر�ض‬ ‫�‬ ‫أدبون‬
‫َ‬ ‫�‬ ‫المت‬ ‫فيها‬
‫جما ًال‪ ،‬وك�أني بال�شاعر يق�صدها حين قال‪:‬‬ ‫يتعلمون‬ ‫َ‬ ‫ة‬‫ً‬ ‫مدر�س‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫الهوا‬ ‫فيها‬ ‫ووجد‬
‫َ‬ ‫المترجرجة‪،‬‬
‫���ح���دقُ‬
‫ه���ذي ال���خ���دو ُد وه����ذه ال َ‬ ‫أ�ساليب‬ ‫َ‬ ‫ومناهج التعبيرِ‪ ،‬و�‬ ‫َ‬ ‫أنماط التفكيرِ‪،‬‬ ‫فيها � َ‬
‫������ن ب������ف�������ؤاد ِه ي��ث��قُ‬
‫ف���ل���ي���دن َم ْ‬
‫ُ‬ ‫البيان‪.‬‬
‫دن��وت على الرغم من �أنني ال �أث� ُ�ق‬ ‫ُ‬ ‫و�أن��ا‬ ‫وبمنا�سبة العيد الف�ضي لمجلة (الثقافة)‬
‫يخفق لأق ِّل م�سحة جمال فكيف‬ ‫ُ‬ ‫بف�ؤادي الذي‬ ‫تبارى �أ�صحاب الأق�لام المبدعة في الحديث‬
‫الجمال كل ُه !؟‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫�إذا َ‬ ‫عن المجلة و�صاحبها ذي الثقافتين مجلة‬
‫�ضم ُه عدد كانون الثاني عام‬ ‫و�صحيفة‪ ،‬وهذا ما َّ‬
‫(‪1984‬م)‪ ،‬ال�سنة ال�ساد�سة والع�شرون‪ ،‬حيث‬
‫قال الأديب الأ�ستاذ ن�صر الدين البحرة‪ :‬ي�صعب‬
‫تملك‬ ‫كثيراً �أن تكتب َ عن �إن�سان ٍتحبه‪ ،‬عندئ ٍذ ال ُ‬
‫يقال مو�ضوعي ًا‪ .‬هاهنا تبدو لك‬ ‫تكون كما ُ‬ ‫َ‬ ‫�أن‬
‫يقال �أحيان ًا‬ ‫ُ‬ ‫جوهرها‪.‬‬ ‫في‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫انحياز‬ ‫المو�ضوعية‬
‫و�سط‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫موقف‬ ‫عن بع�ض الأ�شخا�ص‪ :‬ما من‬
‫أمر‬ ‫ولكن ال َ‬ ‫تكره‪َّ ،‬‬ ‫تحب و�إما �أن َ‬ ‫�إزاءهم‪ ،‬ف�إما �أن َّ‬
‫أتذكر‬‫يختلف جداً مع �أ�ستاذنا مدحة عكا�ش‪ُ � ،‬‬ ‫ُ‬
‫الآن كلمة عمر فاخوري الخالدة‪ :‬ال ب�أ�س ال‬
‫ب�أ�س �أن يظ َّل الأديب �إن�سان ًا من لحم ودم‪ ،‬وكان‬
‫�صاحب (�أدي��ب في ال�سوق) يعني �أن الأدي� َ�ب‬
‫وي�صيب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ويكره‪ ،‬يخطئ ُ‬ ‫ُ‬ ‫يحب‬‫ُّ‬ ‫إن�سان كغيره‬ ‫� ٌ‬
‫يعلو ويهبطُ ‪ ،‬غير �أني قد عرفت الأ�ستاذ مدحة‬
‫الرجل‬ ‫َ‬ ‫أ�شك في � َّأن هذا‬ ‫منذ ثالثين �سنة تقريب ًا‪ُّ � ،‬‬
‫يهبط‪ ،‬ربما �أخط�أ‪ ،‬والأنبياء‬ ‫َ‬ ‫يمكن �أن ي�سمو �أو‬
‫مدينة دم�شق‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪80‬‬


‫مداد‬

‫مخطوطاته التي لم تطبع‬ ‫�أم��ا ال�شاعر الكبير �سليمان العي�سى فقد‬


‫بعد‪�( :‬أوراق عمر‪ ،‬و�صحيح‬ ‫خاطب ُه في ق�صيدت ُه التي بعنوان (طفالن‬
‫ال���ل���غ���ة‪ ،‬وم��ج��م��وع��ات‬ ‫وال�ضفة العذراء)‪:‬‬
‫قومية)‪ ،‬وقد منحت ُه رابط ُة‬ ‫ناعورة جاءتْ طفولتنا‬ ‫ٍ‬ ‫من �ضلع ِ‬
‫�إحياء التراث العربي في‬ ‫وم��ن معلقة (العا�صي) �أغانينا‬
‫�أ�ستراليا جائزة جبران‬ ‫وجيل ق َّ��د من حلم ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫�أن��ا و�أن���تَ ‪..‬‬
‫خليل ج��ب��ران العالمية‬ ‫عا�صر ال�شوك �سميناك �ساقينا‬ ‫َ‬ ‫يا‬
‫ع��ام (‪1991‬م)‪ ،‬تقديرا‬ ‫ولأن ال�صداقة َ �صداقة ُ نهر وعمر ي�س�أل ُه‬
‫عبدال�سالم العجيلي‬ ‫بدوي الجبل‬ ‫ٍ‬ ‫بغ�ص ٍة‬
‫ً ل��ج��ه��ود ِه ال��ك��ب��رى في‬ ‫يريد من‬‫وحيرة و�ألم � َّأي �شي ٍء ُ‬ ‫ٍ‬ ‫وحرقة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ن�شر الأدب المهجري‪،‬‬ ‫هذا الدنيا الياب�سة؟‬
‫واهتمام ِه الكبير ب�أدبا ِء‬ ‫ب�ست‬‫تريد من الدنيا التي َي ْ‬ ‫ُ‬ ‫ماذا‬
‫المهجر و�شعرائ ِه قديم ًا‬ ‫وغا�ضت في م�آقينا‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫ال�ضفاف‬ ‫على‬
‫وحديث ًا‪.‬‬ ‫يد‬ ‫تمتد نحو ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫م��اذا ت��ري ُ��د؟ ي��دا ً‬
‫تكريم‬
‫ٍ‬ ‫حفل‬
‫ُ‬ ‫أقيم ل� ُه‬
‫� َ‬ ‫ت�����ش��ده��ا ت��ت��ق�� َّرى ن��ب�����ض��ه��ا فينا‬
‫كبي ٍر ف��ي مدينة حماة‪،‬‬ ‫طفالن في حدق العا�صي و�أغنية‬
‫الكثيرون من‬ ‫َ‬ ‫�شارك فيه‬‫َ‬ ‫مع ًا �سقتنا الهوى جمر ًا وت�سقينا‬
‫�أدب� ��اء ال��وط��ن و�شعرائه‬ ‫ولد مدحة عكا�ش عام (‪1923‬م) في درعا‬
‫نازك المالئكة‬ ‫�أمل دنقل‬
‫تحد َث في ِه‬ ‫حيث َّ‬ ‫ومفكري ِه‪ُ ،‬‬ ‫حموي الأ�صل‬ ‫ُّ‬ ‫بحكم وظيفة والده �آنذاك ‪ ،‬وهو‬
‫ٍ‬
‫ممتعة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ذاتية‬ ‫ٍ‬
‫ب�سيرة‬ ‫المحتفى ب ِه عن بدايات ِه‬ ‫�إ ْذ تلقى تعليمه االبتدائي والثانوي في مدينة‬
‫متذكراً قول الدكتور عبدال�سالم العجيلي الذي‬ ‫تابع‬
‫ثم َ‬ ‫حماة عرو�س العا�صي و�أم النواعير‪َّ ،‬‬
‫كان قوله دائم ًا‪�( :‬أنا و�أبو عا�صم تدم�شقنا مع ًا‪،‬‬ ‫درا�ست ُه في كلية الحقوق بدم�شق ونال �إجازة‬
‫فيا نعم هذه الدم�شقة‪ ،‬ويا حبذا هذا االعتزاز‬ ‫ودر�س الأدب العربي في ثانويات دم�شق‬ ‫فيها‪َّ ،‬‬
‫و�صدق االنتماء)‪ ،‬وقد كرمته وزارة الثقافة‬ ‫�إلى جانب عمله ال�صحافي‪ ،‬كما عمل �أ�ستاذ ًا‬
‫ال�سورية وذلك في العام (‪2007‬م)‪ ،‬وقد تحدث‬ ‫إ�سالمي بدم�شق ومديراً‬ ‫ِّ‬ ‫العربي ال‬ ‫ِّ‬ ‫في المعهد‬
‫في هذا التكريم العديد من الأدباء‪ ،‬وكانت كلمة‬ ‫لكلية دم�شق العربية‪ ،‬ثم نقيب ًا للتعليم الخا�ص‪،‬‬
‫راعي االحتفال الدكتور علي القيم معبر ًة عن‬ ‫وتر�أ�س العديد من الجمعيات الأدب��ي��ة‪ ،‬وهو‬
‫الجوانب الإن�سانية لدى مدحة عكا�ش‪ ،‬حيث‬ ‫ع�ضو لجنة ال�شعر في المجل�س الأعلى لرعاية‬
‫قال‪َّ � :‬إن �أبا عا�صم �شخ�صية جميلة ع�صية على‬ ‫الفنون والآداب‪ ،‬وع�ضو اتحاد الكتاب العرب‬
‫الحق والعرفان الكبير لما‬ ‫الإن�سان �أن يعطيها َّ‬ ‫ومدر ٌ�س في كلية‬ ‫ِّ‬ ‫وع�ضو اتحاد ال�صحافيين‪،‬‬
‫مدحة عكا�ش‬ ‫قدمته للمفكرين والمبدعين‪ ،‬ولذا فهو ي�ستحق‬ ‫وي َع ُّد مرجع ًا مهم ًا لقواعد‬ ‫ال�صحافة بدم�شق‪ُ ،‬‬
‫جعلها منارة ثقافية‬ ‫بجدارة كل تكريم لتفانيه وت�ضحيته في �سبيل‬ ‫اللغة العربية و�آدابها‪ ،‬كما ُي َع ُّد مو�سوعة �شعرية‬
‫فج�سرت العالقة بين‬ ‫�شرف الر�سالة التي كان م�ؤداها المحافظة‬ ‫تختزن الآالف من الأبيات ال�شعرية الجميلة‬
‫على وجه �أمتنا الم�شرق‪ ،‬حيث �أهدى نور ب�صره‬ ‫قرائح‬
‫ُ‬ ‫إبداع الأ�صيلِ ‪ ،‬وجادت بها‬ ‫التي تت�سم بال ِ‬
‫الم�شاهد الثقافية‬ ‫وب�صيرته‪ ،‬وخال�صة �أفكاره لل�صحافة العربية‬ ‫العربي القديم بكافة‬ ‫فحولِ ال�شعرا ِء من ال�شعر‬
‫العربية‬ ‫ِّ‬
‫الثقافية والكلمة المطبوعة‪ ،‬ووهب �أجمل �أيام‬ ‫�أغرا�ض ِه‪ ،‬وخا�صة الحكمة الم�ستمدة من البيئة‬
‫عمره ل�ل�أدب والفكر بتفانٍ لي�س بعده تفان ٍ‬ ‫منذ الع�صر الجاهلي‪� ،‬إ�ضافة �إلى �أخبار العرب‬
‫لي�س لنظير ِه عطاء‪ ،‬وكان رحيله يوم‬ ‫وعطا ٍء َ‬ ‫ونوادرهم وطرائفهم‪.‬‬
‫الأربعاء الموافق ( ‪2011 / 10 / 19‬م)‪ ،‬فنعته‬ ‫من م�ؤلفاته المطبوعة‪( :‬اب��ن الرومي‪-‬‬
‫الأو�ساط الأدبية والثقافية وو�سائل الإعالم‬ ‫درا�سة‪ -‬دم�شق‪1948 -‬م)‪( ،‬ر�سائل الجاحظ‪-‬‬
‫المرئية والم�سموعة والمقروءة‪ ،‬بعد �أن عا�ش‬ ‫دم�شق‪1966 -‬م)‪( ،‬من روائع الأدب الأندل�سي‬
‫وثمانين عام ًا ً كانت حافلة بالعطاء‬ ‫َ‬ ‫ثماني ًة‬ ‫‪ -‬درا�سة ومختارات)‪( ،‬الق�صائد الأولى لبيتر‬
‫ِ‬
‫ال�صرف‪ ،‬م�ؤمن ًا بر�سالته التي كان فيها المثابر‬ ‫ِ‬ ‫تومب�ست) مترجمة عن الإنجليزية‪( ،‬ب��دوي‬
‫والمحب ال�صادق ال�صدوق‪ ،‬فكان حق ًا‬ ‫َّ‬ ‫الد�ؤوب‬ ‫الجبل درا�سة ومختارات‪1968 -‬م)‪( ،‬كتاب‬
‫كما قيل فيه‪ :‬عميد الثقافة ال�سورية‪ ،‬وراوية‬ ‫الثقافة) �صدر العدد الأول والثاني (‪1970‬م)‪،‬‬
‫الع�صر‪ ،‬و�أ�صمعي القرن الع�شرين‪.‬‬ ‫دي�����وان ���ش��ع��ر (ي���ا ل��ي��ل ‪1980-‬م)‪ ،‬وم��ن‬

‫‪81‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫ق�صيدة الم�شهد‬
‫يو�سف عبد العزيز‬

‫ق�صيدة الم�شهد التي نق�صدها هنا هي تلك‬ ‫تعاني الق�صيدة العربية‪ ،‬باعتبارها ق�صيدة‬
‫الق�صيدة التي تقوم على اجتراح م�شهد كلي‬ ‫غنائية‪ ،‬م�شكل ًة بنيوية‪ ،‬تت�صل بوجود فيو�ضات‬
‫من خالل الكتابة ال�شعرية‪ ،‬ينق�سم �إل��ى عدد‬ ‫�شعرية زائدة عن حاجة هذه الق�صيدة‪ .‬ولعلنا ال‬
‫من الم�شاهد الجزئية‪ ،‬المت�شكلة من عدد من‬ ‫نبالغ �إذا قلنا‪� ،‬إن كبار ال�شعراء العرب وقعوا في‬
‫ال�صور ال�شعرية‪ .‬ال نن�سى هنا الحركة التي تتم‬ ‫هذا الخلل‪� .‬أنت تم�سك ق�صيدة ل�شاعر معروف‬
‫من خالل ال�سرد‪ ،‬ذلك الذي ينتقل بالقارئ من‬ ‫وتقر�ؤها‪ ،‬و�إذا قمت تالي ًا بحذف بيت �شعر‬
‫م�شهد �إلى �آخر‪ ،‬حتى ينتهي الأمر به �إلى وجود‬ ‫منها �أو مجموعة من الأبيات‪ ،‬ف�إنك تكت�شف �أن‬
‫ن�ص مكتمل بين يديه‪ ،‬يبد�أ من نقطة معينة‪،‬‬ ‫الق�صيدة لم تت�أثر بهذا الحذف‪ .‬ترى ما ال�سبب؟‬
‫وينتهي في نقطة معينة‪.‬‬ ‫تقوم الحالة الغنائية ف��ي ال�شعر على‬
‫ظهر الم�شهد ال�شعري في الكتابة ال�شعرية‬ ‫تتبع العواطف الإن�سانية من حب و�ألم وفرح‬
‫العربية منذ الع�صر الجاهلي‪ ،‬ولكنه كان ي�أتي‬ ‫وغ�ضب‪� ..‬إلخ‪ ،‬ومحاولة التعبير عنها من خالل‬
‫الغنائية لي�ست ُ�س ّبة‬ ‫من خالل بيت �شعري واحد‪� ،‬أو عدد قليل من‬ ‫ال�شعر‪ .‬هنا ين�ساق ال�شاعر وراء هذه العواطف‪،‬‬
‫في الكتابة ال�شعرية‬ ‫الأبيات في الق�صيدة ال��واح��دة‪ ،‬من ذلك هذا‬ ‫وهذا ما يدفع به �إلى الخروج عن م�سار الن�ص‬
‫البيت لل�شاعر الجاهلي (المثلم ب��ن ري��اح‬ ‫ال�شعري‪� ،‬إلى مناطق �أخرى خارج الن�ص‪ ،‬وهذا‬
‫بل هي حالة‬ ‫المري)‪ ،‬حيث يقول فيه‪:‬‬ ‫ما ي ��ؤدي �إل��ى ت�شكل تلك الحموالت الزائدة‪،‬‬
‫متناغمة مع روح‬ ‫وفيهم‬
‫ُ‬ ‫ت�صيح الردينيات فينا‬ ‫وبالتالي فقدان الوحدة المو�ضوعية للن�ص‬
‫ال�شعر‬ ‫�صياح بنات الماء �أ�صبحن ج ّوعا‬ ‫المكتوب‪.‬‬
‫في هذا البيت نرى م�شهداً �شعري ًا ي�ضج‬ ‫ال بد من الت�أكيد �أن الغنائية لي�ست �سب ًة‬
‫بالحركة‪ ،‬فالرماح تنطلق‪ ،‬وتت�صايح في‬ ‫في الكتابة ال�شعرية‪ ،‬بل هي حالة متناغمة‬
‫المعركة‪ ،‬كما ت�صيح طيور البحر الجائعة وهي‬ ‫مع روح ال�شعر‪ ،‬وال �شعر هناك من دونها‪.‬‬
‫ترفرف فوق الماء‪.‬‬ ‫لكن ال�ستخدام هذه الغنائية بع�ض الم�شكالت‪،‬‬
‫تطور الم�شهد ال�شعري على �أيدي ال�شعراء‬ ‫وعلى ر�أ�سها تلك الزوائد التي تطر�أ على الن�ص‪.‬‬
‫في الع�صر العبا�سي‪ ،‬مثل البحتري‪ ،‬والمتنبي‪،‬‬ ‫من هنا ربما ج��اءت الحاجة ما�س ًة �إلى‬
‫وابن المعتز الذي ر�سم هذا الم�شهد (الت�شكيلي)‬ ‫كتابة ق�صيدة الم�شهد‪ ،‬تلك الق�صيدة التي ت�سير‬
‫لإحدى البرك‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬ ‫في حركة متناغمة ومت�صلة‪ ،‬من بدايتها �إلى‬
‫ك�������أن ال���ب���رك���ة ال���غ���ن���اء ل��م��ا‬ ‫نهايتها‪ ،‬دون �أن يكون هناك ح�شو فيها‪ ،‬ودون‬
‫غ���دتْ ب��ال��م��اء م��ف��ع��م ً��ة ت��م ُ‬
‫��وج‬ ‫�أن يفقد ال�شاعر ال��ذي يكتبها االتجاه الذي‬
‫وق��د الح ال��دج��ى‪ ،‬م���ر�آة ق ْينٍ‬ ‫يق�صده‪� .‬إ�ضافة �إلى الجماليات العالية‪ ،‬التي‬
‫الخليج‬
‫ُ‬ ‫ان�صقلت ومقب�ضها‬ ‫ْ‬ ‫قد‬ ‫يمكن لها �أن تتخلق في ج�سد الن�ص‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪82‬‬


‫ف�صول‬

‫المحت�شدة بالأ�شجار‪ .‬وما حدث للرجل الذي‬ ‫فالبركة هنا ما هي �إال م��ر�آة‪ .‬ومثل هذا‬ ‫ُ‬
‫يظهر هناك‪ ،‬حيث �أم�سكت به منحوتة‪ ،‬وقادته‬ ‫الم�شهد ال�ساحر ال يمكن الو�صول �إليه اليوم‪،‬‬
‫من يده لتقبله‪ ،‬وذل��ك في ظل غياب النا�س‪،‬‬ ‫�إال من خالل م�صور محترف يحمل الكاميرا‪،‬‬
‫ب�سبب يوم الأحد الذي هو يوم عطلة‪ .‬حين ندقق‬ ‫وي�صعد بها مكان ًا مرتفع ًا ليلتقط تلك ال�صورة‬
‫في هذا الم�شهد‪ ،‬يده�شنا ما حدث‪ ،‬حيث تقوم‬ ‫الدقيقة للبركة‪ ،‬حتى لتبدو �شبيهة بالمر�آة‪.‬‬
‫ق�صيدة الم�شهد‬ ‫المنحوتة‪ ،‬ب�أخذ الرجل من ي��ده‪ .‬فهل كانت‬ ‫في الع�صر الحديث تطور الأمر بالن�سبة �إلى‬
‫ت�سير في حركة‬ ‫المنحوتة تعاني ال�شعور بالوح�شة مث ًال‪ ،‬حتى‬ ‫الكتابة الم�شهدية في ال�شعر العالمي‪ ،‬ولم يعد‬
‫تخلت عن حالتها ال�صلبة الجامدة‪ ،‬و�أم�سكت‬ ‫الم�شهد ال�شعري مجرد جزء من الق�صيدة‪ ،‬بل‬
‫متناغمة ومت�صلة من‬ ‫بالرجل؟! من المفارقات الأخرى التي نكت�شفها‬ ‫امتد ليغطي م�ساحة الق�صيدة كاملة‪.‬‬
‫بدايتها �إلى نهايتها‬ ‫هنا؛ �أنه لم يكن هناك �أحد ليرى ما حدث بين‬ ‫كان الختراع ال�سينما في العام (‪1895‬م)‪،‬‬
‫المنحوتة والرجل‪ ،‬با�ستثناء طفل �أعمى كان‬ ‫�أث��ر كبير في كتابة ق�صيدة الم�شهد‪ ،‬وذلك‬
‫ي�شير �إليهما ب�إ�صبعه! وك�أن ال�شاعر �أراد �أن‬ ‫جنب ًا �إلى جنب مع باقي المرجعيات الب�صرية‬
‫يقول لنا‪� ،‬إن الطفل الذي كان �ضريراً‪ ،‬ربما‬ ‫المعروفة‪ ،‬مثل الم�سرح والفن الت�شكيلي‪ .‬هذا‬
‫كان يرى الأ�شياء الجميلة بقلبه‪ .‬وهكذا يمكن‬ ‫االختراع الجديد �أبهر الماليين الذين باتوا‬
‫القول �إن ما قام به ال�شاعر‪ ،‬هو محاولة من‬ ‫متيمين بما ي�شاهدونه على ال�شا�شات‪ ،‬من‬
‫�أجل انت�صار الحب والجمال‪ ،‬وذلك من خالل‬ ‫�أف�لام ت�سرد �أمامهم تلك الحكايات الجميلة‬
‫�أن�سنة الأ�شياء وبعث الحياة في �أو�صالها‪.‬‬ ‫والق�ص�ص الغرائبية‪ .‬ال�شعراء �أي�ض ًا انبهروا �أكثر‬
‫�أخيراً؛ ال بد من مالحظة �أمر مهم في هذا‬ ‫من غيرهم بهذا الخيال المجنح الذي تخلقه‬
‫النوع من الق�صائد‪ ،‬وهذا الأمر يتعلق بـ(الواقع‬ ‫ال�سينما‪ ،‬فانخرطوا في العمل فيها‪� ،‬سواء على‬
‫اختراع ال�سينما‬ ‫ال�سحري)‪ ،‬الذي يتحرك فيه الم�شهد ال�شعري‪،‬‬ ‫�صعيد الإخراج‪� ،‬أو على �صعيد كتابة ال�سيناريو‪.‬‬
‫دفع ال�شعراء �إلى‬ ‫وهو واقع جمالي يت�سبب بمتعة عالية للقارئ‪.‬‬ ‫م��ن المخرجين ال�سينمائيين المهمين من‬
‫تبني طرق �شتى‬ ‫على ال�صعيد العربي؛ فقد ظهرت ق�صيدة‬ ‫ال�شعراء الذين �أبدعوا في هذا المجال‪ ،‬نذكر‬
‫لبناءالق�صيدة‬ ‫الم�شهد ب�صورتها الجديدة‪� ،‬أول ما ظهرت في‬ ‫ك ًال من‪ :‬الفرن�سي جان كوكتو‪ ،‬والإيطالي بيير‬
‫الم�شهدية‬ ‫العراق على �أيدي ثلة من ال�شعراء المجددين‬ ‫باولو بازوليني‪ ،‬والمولدافي �إيميل لوتيانو‪.‬‬
‫الذين كتبوها في �ستينيات القرن الما�ضي‪،‬‬ ‫ومن كتاب ال�سيناريو نذكر ال�شاعر الفرن�سي‬
‫منهم‪ :‬ح�سب ال�شيخ جعفر‪ ،‬يو�سف ال�صائغ‪ ،‬علي‬ ‫الكبير جاك بريفير‪.‬‬
‫جعفر العالق‪ ،‬و�آخرون‪ .‬ثم ما لبث هذا ال�شكل‬ ‫بالن�سبة �إل��ى بريفير‪ ،‬يعد ال�شاعر الأهم‬
‫الجديد �أن انت�شر في باقي الأقطار العربية‪� .‬أما‬ ‫الذي ا�شتغل على �صعيد كتابة ق�صيدة الم�شهد‪،‬‬
‫عن ظهور ق�صيدة الم�شهد بداي ًة في العراق‪،‬‬ ‫فقد كتب ال�سيناريو ل�سبعين فيلم ًا �سينمائي ًا‪،‬‬
‫فال�سبب في ذلك يعود �إلى الأج��واء الثقافية‬ ‫وعمل من خاللها مع عدد كبير من المخرجين‪،‬‬
‫الباذخة‪ ،‬التي �سادت هذا البلد العربي‪ ،‬الغني‬ ‫وبالتالي ف�إن عمله في مجال ال�سينما قد �أفاده‬
‫ب�شعرائه‪� ،‬أولئك الذين كانوا على �صلة عميقة‬ ‫في كتابة هذا النوع من الق�صائد‪ .‬والآن لنقر�أ‬
‫بال�شعر في العالم‪ ،‬فاطلعوا على الجديد منه‪،‬‬ ‫هذه الق�صيدة لبريفير‪ ،‬وهي بعنوان (الأحد)‪،‬‬
‫وت�أثروا به‪.‬‬ ‫لنطل على طبيعة الم�شهد ال�شعري الذي ر�سم‬
‫امتد الم�شهد ال�شعري‬
‫في العقود القليلة الما�ضية‪ ،‬انت�شرت‬ ‫ال�شاعر تفا�صيله بدقة‪:‬‬
‫عالمي ًا ليغطي ال�شعر‬ ‫كتابة ق�صيدة الم�شهد في العالم العربي‪،‬‬ ‫(بين �صفوف الأ�شجار في جادة غوبلن‪/‬‬
‫جميعه في الع�صر‬ ‫بين ال�شعراء ال�شباب‪ ،‬ولكنها على الرغم من‬ ‫منحوتة من الرخام تقودني من يدي‪ /‬اليوم‬
‫الحديث‬ ‫ذلك‪ ،‬ظلت تتحرك في م�ساحة �صغيرة ن�سبي ًا‪،‬‬ ‫هو الأحد‪ /‬وقاعات ال�سينما ممتلئة‪ /‬الع�صافير‬
‫�إذا ما قورنت بالم�ساحة الكبيرة‪ ،‬التي بقيت‬ ‫على الأ���ش��ج��ار تت�أمل الب�شر‪ /‬والمنحوتة‬
‫ت�شغلها الق�صيدة الغنائية‪ .‬ومثل هذه الحالة‬ ‫تقبلني‪ /‬وال �أحد يرانا‪� /‬إال طفل �أعمى‪ /‬كان‬
‫ال ت�ضير النماذج ال�شعرية الجيدة التي تكتب‪،‬‬ ‫ي�شير ب�إ�صبعه �إلينا)‪.‬‬
‫وفي النهاية جميل �أن تتعدد الأغ�صان على‬ ‫ف��ي ه��ذه الق�صيدة‪ ،‬تتبدى الم�شهدية‬
‫�شجرة ال�شعر‪.‬‬ ‫ال�شعرية‪ :‬فنطل على �ساحة غوبلن‪ ،‬والحديقة‬

‫‪83‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫في بو�صلة الق�صيدة المفارقة‬

‫ال�شاعر م�صطفى �أحمد النجار‪:‬‬


‫التجديد والحداثة في جهة واحدة من الإبداع‬
‫يعتبر ال�شاعر م�صطفى �أحمد النجار عالمة مهمة في ق�صيدتنا ال�شعرية المعا�صرة‪ ،‬التي د�أب على‬
‫�صياغة بالغة �صورتها وخطابها طوال عقود‪� ،‬أر�سى من خاللها مالمحه عبر عدة �إ�صدارات تناولها‬
‫كبار النقاد العرب بالدرا�سة والتحليل‪ ،‬كما اع ُت ِمدت في المناهج المدر�سية في �سوريا ولبنان‪،‬‬
‫�إ�ضافة �إلى درا�ستها ب�أطروحات �أكاديمية وجامعية‪ ،‬لنيل درجة الدكتوراه في غير بلد عربي‪..‬‬
‫و�صدر لل�شاعر النجار عدة مجموعات �شعرية نذكر منها‪�( :‬شحارير بي�ضاء‪َ ،‬م ْن �سرق القمر‪،‬‬
‫�أحمد ح�سين حميدان‬
‫�صباحات م�شرقة‪ ،‬غنائيات ع�صرية‪ ،‬من رفيف الروح‪ ،‬على هام�ش ال�سيمفونية الناق�صة‪.)...‬‬
‫¯ منذ مطلع �ستينيات القرن الما�ضي‪ ،‬قدمت‬
‫ق�صائد عمودية وتفعيلية جيدة‪ ،‬ومع ذلك‬
‫جاء �إ�صدارك ال�شعري الأول بق�صيدة النثر‪،‬‬
‫ب َِم تف�سر ذلك؟‬
‫‪ -‬عالقتي بق�صيدة النثر‪ ،‬التي كانت‬
‫ت�سمى ال�شعر المنثور‪ ،‬ترافقت زمني ًا منذ‬
‫البدء بكتابة الق�صيدة العمودية والتفعيلية‬
‫ون�����ش��ره��م��ا ف��ي ال�����ص��ح��اف��ة‪ ،‬ح��ي��ث كنت‬
‫�أ�ستجيب عفوي ًا لإيماني بتعدد الأ�شكال‬
‫الفنية للق�صيدة‪ ،‬وهذا الموقف ا�ستمر معي‬
‫�إل��ى يومنا ه��ذا‪ .‬لقد مرت المرحلة الأول��ى‬
‫من تجربتي مترافقة مع هذا التعدد‪ ،‬وهو‬
‫ما تج ّلى في مجموعتي الأول��ى (�شحارير‬
‫ب��ي�����ض��اء) ال��ت��ي ���ص��درت ع ��ام (‪1963‬م)‬
‫مت�أثرة بكتابات جبران خليل جبران‪ ،‬وما‬
‫ترجمه توفيق اليازجي من ق�صائد لـ(�ألفرد‬
‫دومو�سيه‪ ،‬و�شيللي‪ ،‬وال��ل��ورد ب��اي��رون)‪،‬‬
‫�إ�ضافة �إلى محمد الماغوط و�سليمان عواد‬
‫و�إ�سماعيل عامود‪ ،‬وهو ما �أثمر لدي ق�صائد‬
‫�أكثر جمالية �صدرت في مجموعتي (الوردة‬
‫التعبير‪ ،‬ودفعت بي �إلى الق�صة‪ ،‬والمقاالت ذات التويجات المبعثرة) عام (‪2010‬م)‪.‬‬ ‫حول ما قدمه بهذه الإ�صدارات‪ ،‬وحول‬
‫ال�صحافية والكتابة الإذاع ��ي ��ة‪ ..‬وو�سط‬ ‫العديد من الق�ضايا ال�شعرية المعا�صرة‪،‬‬
‫هذه التعددية‪ ،‬وحدها الق�صيدة ا�ستولت ¯ ما تقوله �سيقودنا �إلى �س�ؤالك عن مفهوم‬ ‫التقيناه ودار معه هذا الحوار‪..‬‬
‫علي و�أ�سرتني‪ ،‬ب�سحر مكونات خطابها‪ ،‬الحداثة ال�شعرية لديك؟‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬من ال�ضروري في هذا ال�سياق االهتداء‬ ‫فحاولت الإفادة من تقنيات الأنواع الأدبية‬ ‫¯ غلب ال�شعر كتاباتك الأخرى الق�ص�صية‬
‫وال��درام��ي��ة في �صياغتها‪ ،‬وت�شكيل بناء ببو�صلة ال�شعر �إلى عدم التفريق بين الحداثة‬ ‫والنقدية‪ِ ،‬ل� َ�م ا�ستولت ق�صائده على كل‬
‫�صورتها الفنية‪ ،‬محاو ًال من خالل ذلك ترك والتجديد الذي حدث في الق�صيدة العربية‬ ‫�إ�صداراتك؟‬
‫مالمحي لتح�ضر معها و�سط زحمة الم�شهد منذ �أم��د‪ ،‬وخ�صو�ص ًا في العهد العبا�سي‬ ‫‪� -‬أج����ل ت��ع��ددت ال��ك��ت��اب��ة ل���دي في‬
‫والأندل�سي‪ ،‬و�صو ًال �إلى المو�شحات وما �سمي‬ ‫ال�شعري العربي �آنئ ٍذ‪.‬‬ ‫البدايات التي �أخذتني �إلى مختلف �أنواع‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪84‬‬


‫محاورة‬

‫من م�ؤلفات ال�شاعر‬


‫¯ لقد �أثمر توا�صلك مع العديد من ال�شعراء‬ ‫ب�شعر التفعيلة �أو ال�شعر الحر‪ ..‬فثمة محاوالت‬
‫العرب �إ�صدارك معهم عدة مجموعات م�شتركة‪،‬‬ ‫تجديدية م� ّ�ر بها ال�شعر العربي في م�سيرته‬
‫ما تقييمك لهذه التجربة؟‬ ‫الطويلة‪ ،‬وبلغت ذروتها في ع�صرنا الراهن‪،‬‬
‫‪ -‬تعتبر مجموعة (ال��خ��روج من كهف‬ ‫وكلها تعتبر ج��زءاً ال يتجز�أ من الحداثة التي‬
‫مجموعته ال�شعرية‬ ‫الرماد) المجموعة الم�شتركة الأول��ى على‬ ‫�أ�ضافت وت�ضيف �إلى الق�صيدة دون قطع الج�سور‬
‫(�صباحات م�شرقة)‬ ‫تو�سعت هذه التجربة‬ ‫ال�صعيد المحلي‪ ،‬ثم ّ‬ ‫مع �أ�صالتها وتراثها العريق‪ ،‬بذريعة الإتيان‬
‫ب�إ�صدار �أعمال �شعرية م�شتركة مع �شعراء من‬ ‫بالال م�ألوف والغريب‪ ..‬في �سياق ذل��ك دعا‬
‫محاولة منه لالرتقاء‬ ‫المغرب وتون�س والأردن‪ ،‬وزاد هذا التوا�صل‬ ‫البع�ض �إلى حرق التراث برمته‪ ،‬وهذا التطرف‬
‫بالق�صيدة �إلى‬ ‫تم من‬ ‫الذي بد�أ بالمرا�سلة عبر البريد الذي ّ‬ ‫الذي ن�ش�أ با�سم الحداثة �أو�صل الق�صيدة �إلى‬
‫م�ستوى خطاب عالم‬ ‫خالله تبادل المطبوعات من كتب ومجالت‪،‬‬ ‫طريق م�سدود‪ ،‬وجعلها عمياء وجوفاء‪ ،‬ف�أ�شاح‬
‫الطفولة‬ ‫و�إدارة ح��وارات ن�شرت عبر ال�صحافة التي‬ ‫القراء عنها‪ ،‬وجعلهم في قطيعة مع ال�شعر‪..‬‬
‫تعرفت من خاللها على �شخ�صيات �أدبية‬
‫مرموقة تبادلنا مع ًا المعارف ووجهات‬ ‫¯ �أنت كتبت النقد �إلى جانب ق�صائدك ال�شعرية‪،‬‬
‫النظر ف��ي ق�ضايا ال�شعر والأدب ب�صفة‬ ‫هل كان ذلك �سببه تراجع النقد في متابعة‬
‫عامة‪ ..‬وفي �سياق هذا التوا�صل ثمة كلمة‬ ‫حال الق�صيدة العربية؟‬
‫ان�شغال النقاد‬ ‫بليغة لل�شاعر المغربي الدكتور محمد علي‬ ‫‪� -‬إن ان�شغال ال��ن��ق��اد بالتنظير‪ ،‬برغم‬
‫بالتنظير برغم‬ ‫الرباوي زميل المجموعة ال�شعرية الم�شتركة‬ ‫�أهميته‪ ،‬واالبتعاد عن النقد التطبيقي واهتمام‬
‫�أهميته واالبتعاد عن‬ ‫(الطائران والحلم الأبي�ض)‪ ،‬قال فيها‪� :‬إذا‬ ‫بع�ضهم بالن�ص الم�شهور �أكثر من المغمور‪،‬‬
‫كانت ُكتب الجغرافيا ت��رى بين مدينتي‬ ‫دفع بالكثيرين �إلى ممار�سة النقد لتالفي هذه‬
‫النقد التطبيقي دفعا‬ ‫(وج��دة) و(حلب) �آالف الأم��ي��ال‪ ،‬ف ��إن ُكتب‬ ‫الفجوة‪ ..‬و�أنا من جراء هذا الإهمال والتق�صير‪،‬‬
‫بالكثير �إلى ممار�سة‬ ‫ال�شعر ت�ؤكد �أن ما بينهما جدول‪ ..‬وفي م�صر‬ ‫قاربت بع�ض ًا من النتاج ال�شعري الباقي في‬
‫النقد‬ ‫والإم ��ارات‪� ،‬صدرت مثل هذه المجموعات‬ ‫جم‪� :‬أنا ل�ست‬
‫الظل كدار�س له‪ ..‬و�أقول بتوا�ضع ّ‬
‫ال�شعرية الم�شتركة و�شاركت في معر�ض‬ ‫ناقداً برغم ما قدمته من درا�سات حول الق�صيدة‬
‫ال�شارقة للكتاب‪.‬‬ ‫وق�ضايا ال�شعر عبر ال�صحافة المحلية والعربية‪..‬‬

‫‪85‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫محاورة‬

‫جبران خليل جبران‬ ‫اللورد بارون‬ ‫د‪� .‬سمر روحي الفي�صل‬ ‫محمود فاخوري‬ ‫عبدال�سالم الم�ساوي‬ ‫�شيللي‬

‫د‪ .‬هيثم الخواجة‬ ‫خالد زغريت‬ ‫محمد الماغوط‬ ‫�سليمان العي�سى‬ ‫�إ�سماعيل عامود‬ ‫�أحمد ف�ضل �شبلول‬
‫المكتوبة عن الأطفال وللأطفال؛ ونذكر في‬ ‫¯ ما ال�شعور الذي ي�ستولي عليك‪ ،‬و�أنت ترى‬
‫هذا ال�سياق �أن ال�شعر المكتوب للأطفال‪ ،‬ينبغي‬ ‫اعتماد العديد من ق�صائدك في المناهج‬
‫�أن تتوافر فيه جملة من ال�شروط ليتنا�سب مع‬ ‫المدر�سية؟‬
‫مرحلتهم العمرية‪ ،‬ويتم �إن�شاده من قبلهم‬ ‫‪ -‬بقي ال�شعر لي بمثابة الرئة الثالثة‪ ،‬و�أنا‬
‫فردي ًا وزمري ًا‪ ،‬ومن �أهم هذه ال�شروط‪ ،‬الإيقاع‬ ‫�أوا�صل الليل بالنهار �شعري ًا ونقدي ًا‪ ،‬والآن‬
‫ثمة محاوالت‬ ‫الذي ي�ساعد الأطفال على الحفظ‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬ ‫وبينما �آخذ ق�سط ًا من الراحة‪ ،‬ال تغادرني المتعة‬
‫تجديدية مر بها‬ ‫الم َب ّ�سطة وال�صور ال�شعرية غير‬
‫اللغة الجميلة ُ‬ ‫و�أنا �أرى ق�صيدة لي قد تقررت من وزارة التربية‬
‫ال�شعر العربي في‬ ‫المركبة التي تراعي �آف��اق الخيال الطفولي‪،‬‬ ‫لطالب المرحلة االبتدائية في �سوريا‪ ،‬واختيرت‬
‫وال��ت��ي تتج�سد م��ن خاللها م�ضامين القيم‬ ‫ق�صيدتان للأطفال في لبنان‪ ،‬كما اعتمدت‬
‫م�سيرته الطويلة‬ ‫التربوية ال�سامية والرفيعة‪ ..‬و�أعترف قائ ًال‬ ‫عدة ق�صائد لي لطلبة اللغة العربية في كلية‬
‫بلغت ذروتها في‬ ‫�إنني بعد ع�شرين عام ًا من تعليم الأطفال‪،‬‬ ‫�آداب جامعة حلب؛ وما زادني غبطة في �سنوات‬
‫ع�صرنا الراهن‬ ‫هيب على كتابتي ال�شعرية لهم‪ ،‬وهو‬ ‫�أقدمت و ِب َت ّ‬
‫المعاناة‪ ،‬ر�ؤية العديد من ق�صائدي في درا�سات‬
‫ما تج ّلى في مجموعتي (�صباحات م�شرقة)‪،‬‬ ‫�أكاديمية و�أطروحات لنيل درجة الدكتوراه‪ ،‬في‬
‫محاو ًال من خاللها االرتقاء بالق�صيدة �إلى‬ ‫غير بلد عربي؛ �إ�ضافة �إلى الدرا�سات النقدية‬
‫م�ستوى خطاب عالم الطفولة‪..‬‬ ‫المن�شورة في كتب وفي ال�صحافة‪ ،‬لأ�سماء �أدبية‬
‫مرموقة من النقاد مثل‪( :‬ح�سن فتح الباب‪ ،‬روز‬
‫غريب‪� ،‬أحمد ف�ضل �شبلول‪ ،‬محمود فاخوري‪ ¯ ،‬بعد عقود �أم�ضيتها مع الق�صيدة‪ ،‬و�أ�صدرت‬
‫الدكتور هيثم يحيى الخواجة‪ ،‬الدكتور �أحمد العديد من المجموعات ال�شعرية التي حظيت‬
‫زي��اد محبك‪ ،‬ف��واز حجو‪� ،‬أحمد دوغ��ان‪� ،‬سمر بح�ضور محلي وعربي‪ ،‬كيف ترى حال الق�صيدة‬
‫الق�صيدة المعا�صرة‬ ‫روح��ي الفي�صل‪ ،‬عبدال�سالم الم�ساوي‪ ،‬خالد اليوم؟‬
‫قطعت �شوط ًا كبيراً‬ ‫‪ -‬قطعت الق�صيدة المعا�صرة �شوط ًا حققت‬ ‫زغريت‪ )..‬مع حفظ الألقاب لهم جميع ًا‪.‬‬
‫حققت فيه �إ�ضافات‬ ‫فيه �إ�ضافات مهمة ال يغفل عنها ناقد من�صف‬
‫¯ اعتماد ق�صائدك في المناهج المدر�سية ومتابع؛ لكنها الآن ت�ضاعفت �أمامها التحديات‬
‫مهمة ال يغفل عنها‬ ‫�سيدفعنا �إل��ى �س�ؤالك عن ال�سمات الواجب الج�سام‪ ،‬الذاتية والمو�ضوعية‪ ،‬فمن الغرابة �أن‬
‫ناقد من�صف‬ ‫يكتفي ال�شاعر بما �أنجزه خالل العقود ال�سابقة‪،‬‬ ‫توافرها في الق�صيدة الطفولية؟‬
‫‪ -‬ما قام به �أحمد �شوقي في هذا الم�ضمار‪ ،‬ويقدمه للمتلقي وك�أنه �شعر اليوم في واقع‬
‫مهد الطريق‪ ،‬ويعتبر عندنا في �سوريا �سليمان مت�أزم‪ ،‬على ال�شعراء �أن يكونوا على م�ستوى‬
‫العي�سى �شاعراً للأطفال بامتياز‪ ،‬و�سبقه تحدياته عبر ق�صيدة طموحة في نواحيها‬
‫تاريخي ًا �إلى ذلك عبدالكريم حيدري‪ ..‬واهتمت الفنية والم�ضمونية‪ ،‬لت�أخذ مكان ًا الئق ًا في‬
‫المناهج ال��ت��رب��وي��ة بالعديد م��ن الق�صائد التراث الإن�ساني‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪86‬‬


‫مقاالت‬
‫ر�أي‬

‫�سر الكتابة‪..‬‬
‫ُّ‬
‫بين الو�ضوح والغمو�ض‬
‫ال�سيد حافظ‬

‫برنارد�شو في كتابه‪ ،‬وهناك كاتب يكتب‬ ‫تظل الكتابة تحمل هم ًا كبيراً لدى‬
‫القارئ يبحث عن متنف�س‬ ‫وال �أح��د ي�سمع عنه‪ ،‬ويظل هنا في حالة‬ ‫المبدع ول��دى المتلقي‪ ،‬فالمبدع يبحث‬
‫في ما يكتبه المبدع‬ ‫ارتباك وغمو�ض؛ هل هذه الكتابة �صالحة‬ ‫عن �أر�ض جديدة �أو اكت�شافات جديدة‪� ،‬أو‬
‫للمجتمع �أو غير �صالحة‪ ،‬لذلك يلج�أ الكاتب‬ ‫يبحث عن متنف�س له‪ ،‬كي ي�صل �إلى القارئ‪،‬‬
‫وال�شعراء في وقته‪ ،‬ويدل على �أن ال�صدق‬ ‫�إلى محاولة المراوغة على م�ستويات عدة‬ ‫والقارئ يبحث عن متنف�س في ما يكتبه‬
‫يبقى والباقي يزول‪ ،‬بدليل �أن هيئة الكتاب‬ ‫في الكتابة كي ي�صل �إلى جمهوره �أو ي�صل‬ ‫المبدع حتى يجد نف�سه �أو يجد حلم ًا �أو يجدد‬
‫الم�صرية طبعت هذه الملحمة في �سبعة‬ ‫بق�ضيته �إلى النا�س‪.‬‬ ‫طاقته الإبداعية �أو الإن�سانية �أو الفكرية �أو‬
‫�أج ��زاء وب�سعر زهيد ج��داً ال ي��أت��ي بثمن‬ ‫لذلك؛ فالو�ضوح �أحيان ًا يكون جريمة‪،‬‬ ‫العاطفية‪ ،‬وكالهما في م�شكلة بين المبدع‬
‫الغالف‪ ،‬وال �أح��د ي�شتريها‪ ،‬لأن الوجدان‬ ‫ولكنه يقلل من الفن‪ ،‬فمث ًال (يفتو�شينكو)‬ ‫وبين المتلقي‪ ،‬فالكاتب عادة ما يكون لديه‬
‫الجمعي للجماهير يرف�ض هذا‪.‬‬ ‫ال�شاعر الرو�سي المولود عام (‪1932‬م)‪،‬‬ ‫هواج�س �أو ق�ضية �أو م�شروع‪� ،‬أو تكون لديه‬
‫فالظاهر في الأدب م�شكلة‪ ،‬والغمو�ض‬ ‫�أوكراني الأ�صل‪ ،‬كان وا�ضح ًا �إلى درجة‬ ‫ف َكر مغايرة‪� ،‬أو تكون لديه ر�ؤية‪� ..‬إذاً الكاتب‬
‫في الأدب م�شكلة �أي�ض ًا‪ ،‬لأن البع�ض يظن‬ ‫فجة للدفاع عن �أفكاره وعن �أفكار حزبه‪،‬‬ ‫يحمل ما يمكن �أن نقول �إنه ر�سالة‪ ،‬وهذا‬
‫�أن الغمو�ض ال�شديد للهروب من الرقابة‬ ‫ف�أ�شعاره �سقطت في المبا�شرة و�ضاعت‬ ‫يعتبر تجاوزاً‪ ،‬لأن الر�ساالت في مفهومها‬
‫والمواجهة مع ال�سلطة‪ ،‬يجعله يقع في‬ ‫هباء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ال�ضيق هي للأنبياء فقط‪ ،‬ولكن الر�ساالت‬
‫فخ الغمو�ض ال�شديد‪ .‬والجماهير عادة �أو‬ ‫وهناك ك ّتاب يهبون �أنف�سهم في �سبيل‬ ‫للب�شر �أي�ض ًا للعلماء والحكماء والأدب��اء‬
‫�أغلبها لي�ست من المتعلمين �أو المثقفين‬ ‫ق�ضية ما‪ ،‬ويظلون يرددونها ب�شكل مبا�شر‪،‬‬ ‫والفنانين والمثقفين يحملونها �إلى النا�س‬
‫بما يكفي‪ .‬ف�إن زمن التلقي لي�س مباح ًا‪،‬‬ ‫وهذا ال�شعر في وقته يكون المع ًا ونا�صع ًا‬ ‫كي ت�صل معاني وت�صل �أفكاراً وت�صل طاقة‬
‫من الممكن ترحيله �أو اال�ستغناء عنه في‬ ‫بف�ضل ال�شخ�صية التي يتغنى بها الكاتب �أو‬ ‫روحية جديدة ي�ستطيع فيها القارئ �أن‬
‫ق�ضية معينة وا�ستقدامه في ق�ضية �أخرى‪،‬‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬ثم بعد موته ينطفئ هذا‪ ،‬والدليل‬ ‫يجد نف�سه‪� ،‬أو تتغير ال�شعوب بالتراكمات‪،‬‬
‫بل يبقى وجوده وح�ضوره م�ستمراً لعملية‬ ‫على ذلك ما كتبه ال�شعراء الم�صريون في‬ ‫فال�شعوب ال تتغير فج�أة �إال في حاالت‬
‫خلق الإب��داع الفني والتجربة الأدبية ذات‬ ‫ملحمة الظاهر بيبر�س‪ ،‬وهي ملحمة في‬ ‫نادرة‪..‬‬
‫الفن العميق‪ ،‬خا�صة �أن قراءة هذه التجربة‬ ‫�سبعة �أجزاء ب�آالف الأوراق وكانوا يتغنون‬ ‫في �إنجلترا مث ًال‪ ،‬عندما كتب برنارد�شو‬
‫من قبل المتلقين ال تكون مت�شابهة‪ ،‬بل‬ ‫بها في �أي��ام بيبر�س‪ ،‬ويمجدون البطل‬ ‫كتابه عن الطب في لندن‪ ..‬ماذا حدث؟ الدنيا‬
‫تتحكم فيها �أ�سباب ذاتية ومو�ضوعية‪ ،‬كما‬ ‫المغوار العظيم القائد المنت�صر‪ ،‬ثم بعد‬ ‫قامت ولم تقعد وتم تغيير النظام الطبي كله‬
‫�أن نتائجها تتغير كلما �أعادها المتلقي مرة‬ ‫موته ال �أحد يغنيها‪� ،‬أو يلقيها �أي �شاعر‬ ‫بناء على ما قدمه وما قاله‬ ‫في بريطانيا ً‬
‫�أخرى‪.‬‬ ‫في �أي منا�سبة‪ ،‬وال �أحد يقر�ؤها وال �أحد‬
‫وهنا الق�ضية ت�صبح مختلفة‪ ،‬حيث‬ ‫ي�شتريها‪ ،‬وال حتى الباحثين لمجرد البحث‬ ‫عندما كتب برنارد �شو عن‬
‫تكمن ف��ي ���س��ر ال��ك��ت��اب��ة ب��ي��ن ال��و���ض��وح‬ ‫عن جماليتها �أو عيوبها‪ ..‬وظلت حبي�سة‬
‫الكتب‪ ،‬وظلت تراث ًا يدل على نفاق الكتاب‬
‫الطب في بريطانيا تغير‬
‫والغمو�ض‪ ،‬التي �ستظل ق�ضية مدى الدهر‪.‬‬
‫النظام الطبي كله‬

‫‪87‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�ش ّكل ب�صمة تعبيرية متفردة‬

‫�سيف الرحبي‬
‫وجه �شعري ُعماني بامتياز‬
‫يكاد يكون ال�شاعر �سيف الرحبي الوجه الأبرز لل�شعر العماني المعا�صر‪ ،‬حيث يحتل‬
‫موقع ًا مهم ًا على خريطة �شعر الحداثة العربية‪ ،‬وبين �شعراء ق�صيدة النثر تحديداً‪،‬‬
‫قدم من م�شروع �إبداعي‪� ،‬سواء في ال�شعر �أو‬ ‫منذ ثمانينيات القرن الع�شرين‪ ،‬بما َّ‬
‫كتاباته النثرية‪ ،‬التي حملت ر�ؤى وجودية وهموم ًا فكرية كبرى‪ .‬تبدو كتابات‬
‫الرحبي‪� ،‬سواء في ال�شعر �أو النثر‪ ،‬ك�سردية كبرى‪ ،‬يمثِّل كل كتاب �أ�صدره ف�ص ًال فيها‬
‫د‪ .‬ر�ضا عطية‬
‫يبني لنف�سه ن�سق ًا �شعر ّي ًا له هويته‬
‫في ات�ساق تكاملي‪ .‬ا�ستطاع �سيف الرحبي‪� ،‬أن َ‬
‫الإبداعية المميزة ومالمحه الجمالية و�سماته الفنية التي جعلت لن�صه ب�صمة تعبيرية خا�صة‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪88‬‬


‫�إبداع‬

‫الموج‬
‫ِ‬ ‫من �أح�شاءِ‬
‫لتكوني خاتَم زواجي‬
‫ِ‬
‫الهائمة‬ ‫أ�شباحي‬
‫َ‬ ‫ُم ْ�ستقر �‬
‫(‪)...‬‬
‫م�سافر ًا نحو ال�شرقِ‬
‫بينما ر�سالت ُِك تقول‬
‫الغرب‬
‫ِ‬ ‫ذاهبة باتجا ِه‬ ‫ٌ‬ ‫� ِ‬
‫إنك‬
‫ِ‬
‫القارات‬ ‫بين‬
‫التائهة َ‬ ‫ِ‬ ‫في � ِّأي ُمفْترقٍ للقوافلِ‬
‫قدم م�شروعه �سواء‬ ‫تلتقي م�صار ُع الع�شّ اقِ ؟‬
‫في ال�شعر �أو كتاباته‬ ‫ال�سير‬
‫َ‬ ‫خياالتُهم الناحلةُ تَغذُّ‬
‫وارف‬ ‫ٍ‬ ‫باتجا ِه ظلٍّ‬
‫النثرية بر�ؤى‬ ‫ِ‬ ‫ِظ ِ‬
‫�صدمة‬ ‫لك الذي يتب ُعني مالك ًا حار�س ًا من‬
‫وجودية �إن�سانية‬ ‫ال ِفراقِ‬
‫طاغ للطبيعة‪،‬‬ ‫ح�ضور ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫في �شعر الرحبي‪،‬‬
‫وخ�صو�ص ًا البحار والمحيطات‪ ،‬في مقابل‬
‫الفيافي وال�صحارى والجبال‪� ،‬أي الطبيعة في‬ ‫�سيف الرحبي يوقع �أحد كتبه‬
‫تراميها المهول وف�ساحتها الرهيبة‪ ،‬والوجود‬
‫في �آفاقه المنفتحة البعيدة؛ لذا فثمة ا�ستغراق‬ ‫وال �شك � َّأن تجربة ال��رح��ب��ي الحياتية‬
‫ت�أملي في ر�ؤي��ة العالم‪ ،‬عند �سيف الرحبي‪،‬‬ ‫والثقافية‪ ،‬ك��ان لها بالغ الأث ��ر ف��ي �شعره‬
‫بتم ُّثل مرهف الح�سا�سية لأ�شيائه وموجوداته‬ ‫�صبي ًا‬
‫ّ‬ ‫وكتابته عموم ًا‪ .‬كانت ن�ش�أته الأول��ى‬
‫في عالقاتها بالذات‪ ،‬فيبدو العالم لديه ن�سق ًا‬ ‫و�شاب ًا يافع ًا في م�صر التي يحمل لها كثيراً من‬
‫من التهويمات‪ ،‬فهو عالم نف�سي بامتياز‪ ،‬من‬ ‫تبدى في �شعره وكتاباته‬ ‫المحبة واالنتماء‪َّ ،‬‬
‫منحنى اختالفي ًا‬
‫ً‬ ‫مثل‬ ‫�صنع ال��ذات ووليد تم ُّثالتها النف�سية‪ .‬وفي‬ ‫عموم ًا‪ ،‬حتى �إ َّنه قد خ�ص�ص ديوان ًا كام ًال عن‬
‫في ال�شعر العربي‬ ‫ت�شكيل الرحبي ل�صوره ال�شعرية ثمة وعي‬ ‫م�شاهداته في م�صر‪ ،‬بعنوان (قطارات بوالق‬
‫المعا�صر ب�أبعاده‬ ‫بدوي يالحق خياالت ال�شاعر في تم ُّثله لحركة‬ ‫ال��دك��رور)‪ ،‬غير ا�ستدعاءاته العديدة لمعي�شه‬
‫الوجود‪ ،‬كما في ت�شبيهه لل�سكينة ب�شيء ُي�س َتل‬ ‫فيها في غير ق�صيدة له‪ ،‬وفي غير كتاب نثري‪،‬‬
‫الفنية والفكرية‬ ‫م��ن �أح�شاء ال��م��وج ال��ذي يبدو ك ��أ َّن��ه وح�ش‬ ‫لكن حياة �سيف الرحبي في الرحيل المداوِ م‬ ‫َّ‬
‫�ذات ال�سكين َة من جوفه‪ .‬كما يتجلى‬ ‫تننزع ال� ُ‬ ‫أمد‬
‫َّ‬ ‫�‬ ‫قد‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫وغرب‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫�شرق‬ ‫والمدن‬ ‫العالم‬ ‫بلدان‬ ‫بين‬
‫عند الرحبي‪ ،‬بو�ضوح‪ ،‬هذا ال�صراع المحتدم‬ ‫تجربته الإبداعية برافد ثري‪� ،‬أ�سهم في منحه ًا‬
‫في داخ��ل ال��ذات‪ ،‬في ارتحاالتها بين ال�شرق‬ ‫وزوده ��ا بوعي فل�سفي ور�ؤي��ة‬ ‫�أب��ع��اداً رحبة َّ‬
‫يفجر الت�سا�ؤالت الهادرة‪،‬‬ ‫والغرب‪ ،‬وهو ما ِّ‬ ‫وجودية وت�أمل كوني‪.‬‬
‫ف�شعر �سيف الرحبي يحمل با�ستمرار �أ�سئلة‬ ‫فني ًا‪ ،‬منحنى‬ ‫م َّثل �شعر �سيف الرحبي‪ّ ،‬‬
‫تبحث عن �أجوبة‪ .‬كما يغلب على �صور الرحبي‬ ‫ال�شعر العماني المعا�صر‪ ،‬بانتمائه‬ ‫غالبفيهلسا‬
‫اختالفي ًا‬
‫ّ‬
‫الح�س ال�سريالي في تركيب عنا�صر ال�صورة‬ ‫�إلى تيار الحداثة ال�شعرية العربية‪ُ ،‬ر َّبما جاء‬
‫تعبيراً عن �شعور بم�أ�ساوية العالم‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬ ‫ذلك ب�أثر ثقافة الرحبي المنفتحة منذ �صباه‬
‫على الإب��داع الحداثي خ�صو�ص ًا في القاهرة‬
‫وبيروت‪ ،‬ما كان له �أكبر الأثر في ت�شكيل وعيه‬
‫الطليعي وج�سارته في خياراته الفنية‪ .‬وفي‬
‫�شعر �سيف الرحبي يح�ضر هذا التردد الوجودي‬
‫والحيرة الدائمة التي تنتاب الذات في طوافها‬
‫الم�ستمر بين ال�شرق والغرب‪ ،‬كما في ديوان‬
‫(من بحر العرب �إلى بحر ال�صين)‪:‬‬
‫ٍ‬
‫قرا�صنة ينتظرون‬ ‫�س�ألقي التح ّية على‬
‫الإع�صار‬
‫�أيتها ال�سكينةُ ‪ ،‬كيف �أ�ستلُّكِ‬
‫من م�ؤلفاته‬

‫‪89‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫الرحبي‪ ،‬ب�إ�شكالية الكتابة التي هي تعبير‬ ‫وجود هموم وجودية كبرى وح�س ت�شا�ؤمي‬
‫ال��ذات المغتربة عن نف�سها‪ ،‬كما في ق�صيدة‬ ‫ي�ساكن الذات في ر�ؤيتها للعالم‪:‬‬
‫بعنوان (الغريب)‪:‬‬ ‫الجال�س على َجفنِ‬ ‫ُ‬ ‫�أ ُّيها الرجلُ‬
‫الغريب‬ ‫روما‬
‫ِ‬
‫أقا�صيه‬ ‫يجرفنا نح َو �‬ ‫الكائن الذي ُ‬ ‫ُ‬ ‫هذا‬ ‫تقر�أ بازوليني وتفكر ‪...‬‬
‫ال�سريرِ‬
‫الطاولة وفوقَ َّ‬ ‫ِ‬ ‫يتك َّو ُر على‬ ‫قادم‬
‫ها هو نيرون ٌ‬
‫كام وجو ٍه و�أماكن‬ ‫ُر ُ‬ ‫أقفا�صه الذهب َّية‬ ‫ِ‬ ‫بع�صافير ِه و�‬
‫ي�ستق�صي تخو َم �أيا ِم ِه‬ ‫يبدو �شعر �سيف الرحبي كلوحة كونية‬
‫في �شعره تتماهى‬ ‫َه�ض َبةً بعد َه ٍ‬
‫�ضبة‬ ‫كبرى ذات عمق تاريخي‪ ،‬ت�صويراً لل�صراعات‬
‫الذات والموجودات‬ ‫برجاً‪ ،‬قريةً مهجورةً‪ ،‬مدينةً �أكلتها الحرب‬ ‫الوجودية الممتدة على مر الأزمنة‪ ،‬فتعك�س‬
‫يق�ض ُم تفاحةً‬‫ِ‬ ‫ال�صورة في هذا المقطع ال�شعري مواجهة تنازع‬
‫ليعيد �إنتاج الواقع‬ ‫ويدخن‪ ،‬متذكراً‪:‬‬ ‫الذات بين (بيير باولو بازوليني) ال�سينمائي‬
‫المعي�ش‬ ‫مقبر َة � ٍ‬
‫أجداد‬ ‫وال�شاعر والكاتب الإيطالي‪ ،‬الذي ُيم ِّثل �أيقونة‬
‫بين الكُثبان‬ ‫النائمة َ‬ ‫ِ‬ ‫�أ�سمالَ �أ ِّم ِه‬ ‫المدافع عن حقوق المظلومين‪ ،‬وروح‬ ‫الإبداع ُ‬
‫الزجاجةَ التي خطفتْها الأيدي‬ ‫اال�ستنارة الفكرية‪ ،‬و(ن��ي��رون) الإم��ب��راط��ور‬
‫عرها‬ ‫يرت�شف َق َ‬
‫َ‬ ‫قبلَ � ْأن‬ ‫الروماني‪ ،‬الذي ُيم ِّثل عالمة العنف والتدمير‬
‫وينام‪.‬‬ ‫الح�ضاري‪.‬‬
‫الخارج مثلَ ذئب‬ ‫ِ‬ ‫الريح ت�ص ِف ُر في‬ ‫ُ‬ ‫وي�أتي �شعر �سيف الرحبي م�شحون ًا بحزن‬
‫ذئاب‬
‫َ ٍ‬ ‫ع‬ ‫قطي‬ ‫أى‬ ‫�‬ ‫ر‬ ‫(لقد‬ ‫عميق‪ ،‬وك� َّأن ق�صيدته هي مرثية للذات والعالم‬
‫في طفول ِته)‪.‬‬ ‫في �آنٍ ‪:‬‬
‫ال�ضيا ُع يم�شي البِ�س ًا ق ّبعةً‬
‫وعلى خَ �صرِ ِه ُزنّا ٌر ِم َن‬
‫الور ِد‬
‫م�صنوعة من �شَ ظَ ايا الذاكر ِة‬ ‫ٌ‬ ‫و�ألحانه‬
‫فال�صبح مازالَ بعيد ًا‬ ‫ُ‬
‫يت�ساقط ثلج ًا وجثث ًا‬ ‫ُ‬ ‫والفجر‬
‫ُ‬
‫عات الع�شاقِ‬ ‫فوق ق ّب ِ‬
‫حنانك �أ ُّيها‬ ‫َ‬ ‫امنحني نفحةً من‬
‫ينه�ش �أح�شائي‬ ‫ُ‬ ‫الطير الذي‬ ‫ُ‬
‫الذهبي‬
‫ِّ‬ ‫ب ِم ِ‬
‫خلبه‬
‫الحنون‬
‫ُ‬ ‫ف�أنا تو�أ ُم َك‬
‫الغيم خرجنا �سوي ًا‬ ‫ِ‬ ‫و ِم ْن َر ِ‬
‫حم‬
‫مع عبدالرزاق الربيعي‬
‫ال�صباح‬
‫ِ‬ ‫مثل جنازتينِ في‬
‫يتبدى ن��وع من‬ ‫في �شعر �سيف الرحبي َّ‬
‫التماهي بين ال��ذات وم��وج��ودات العالم في‬
‫تج�سيد لمبد�أ وح��دة الوجود‪ ،‬فالطبيعة عند‬
‫الرحبي ت�شاطر الإن�سان همومه الوجودية‬
‫الكبرى‪ ،‬وهو �أي�ض ًا يت�آلف معها في تمازج‬
‫م�صيري‪ .‬وال���ذات تعيد �إن��ت��اج العالم وفق ًا‬
‫لذاكرتها فهو عالم نف�سي مح�ض‪ ،‬ف�صور العالم‬
‫هي تداعيات لتموجات الذات الوجدانية‪ ،‬وتبدو‬
‫الذات عند �سيف الرحبي �أكبر من فرديتها‪ ،‬هي‬
‫ذات ت�ستوعب العالم لتم ِّثل الذات الإن�سانية في‬
‫جوهرها الكلي‪.‬‬
‫يقترن الإح�سا�س باالغتراب عند �سيف‬
‫ومع �شاكر نوري‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪90‬‬


‫�إبداع‬

‫م�شهد من بحر م�سقط‬


‫ال�صور الماثلة �أمام العيان الذاتي �إ َّنما خارجة‬ ‫يتكوم على طاول ِت ِه‬ ‫ُ‬ ‫الغريب‬
‫ُ‬
‫من بئر الطفولة‪ ،‬في تعدد لم�ستويات التلفظ‬ ‫وم�صائر‬
‫ُ‬ ‫كام وجو ٍه‬ ‫ُر ُ‬
‫بين مقوالت خبرية تحمل �أحكام ًا‪ ،‬و�أخ��رى‬ ‫ُيحاولُ �أن َيكت َُب‬
‫تحمل تف�سيراً وتو�ضيح ًا للأولى‪.‬‬ ‫عن ماذا؟‬ ‫يكتب ْ‬ ‫ُ‬
‫يح�ضر ذلك (الغريب) في �صورة المنزوي‪،‬‬ ‫العربات المجن ِ‬
‫َّحة‬ ‫ِ‬ ‫روح‬
‫يا َ‬
‫و(المتكوم) في بقعة ما من المكان‪ ،‬فتتمر�أى‬ ‫ِّ‬ ‫ومواكب الفَجرِ‬
‫ِ‬ ‫روح الأمطا ِر‬ ‫يا َ‬
‫ال��وج��وه �أم��ام��ه رك��ام � ًا ف��ي ت�أكيد للتداعي‬ ‫غريب يبكي في �أولِ الطريق‬ ‫ٍ‬ ‫روح‬
‫َ‬
‫ال��وج��ودي‪ ،‬وه��و ما يقف �أمامه حائ ًال دون‬ ‫ويبدو � َّأن ذلك (الغريب) هو الذات ال�ضدية‬
‫عن ماذا؟)‬ ‫يكتب ْ‬‫ُ‬ ‫حاول �أن َيك ُت َب‪/‬‬‫الكتابة‪(ُ :‬ي ُ‬ ‫المتمردة‪ ،‬التي تجنح ب��ال��ذات �إل��ى �أقا�صي‬ ‫ِّ‬
‫(يكتب‬
‫ُ‬ ‫وتبدو الجملة الثانية اال�ستفهامية‪:‬‬ ‫التمرد والرف�ض‪ ،‬ال��ذات التي تت�أمل تاريخ‬ ‫ُّ‬
‫عن ماذا؟) �أقرب �إلى ال�ضد من الجملة ال�سابقة‬ ‫ْ‬ ‫ال��ذات القديم‪� ،‬أماكنها و�أزمنتها المنق�ضية‪،‬‬
‫�اول �أن َيك ُت َب)‪ ،‬ويعمل التدوير‬ ‫عليها‪(ُ :‬ي��ح� ُ‬ ‫لكن ثمة‬‫ك� َّأن الذات تقف على �أطالل ما�ضيها‪َّ ،‬‬
‫(يكتب) على ت�أكيد التردد في‬ ‫ُ‬ ‫بتكرارية الفعل‬ ‫�شعوراً بوح�شية الوجود‪ ،‬مثلما يتجلى ذلك في‬
‫فعل الكتابة لكونها تم ِّثل �أزم��ة �أو �إ�شكالية‬ ‫مثل ذئب)‬ ‫الخارج َ‬ ‫ِ‬ ‫(الريح ت�ص ِف ُر في‬ ‫ُ‬ ‫الت�شبيه‪:‬‬
‫لذلك الغريب‪ ،‬لفقدان الغاية �أو االتجاه المبرر‬ ‫طاغ‬‫في تم ُّثل يغلِّب البعد الوح�شي كعن�صر ٍ‬
‫بيير باولو بازوليني‬ ‫للكتابة‪.‬‬ ‫على عنا�صر الوجود‪ ،‬ت�أكيداً لإح�سا�س الذات‬
‫العربات المج َّنح ِة)‬
‫ِ‬ ‫روح‬
‫َ‬ ‫(يا‬ ‫النداء‪:‬‬ ‫أتي‬ ‫وي�‬ ‫بافترا�سية العالم ووح�شيته‪ ،‬ثم ي�أتي التلفظ‪:‬‬
‫تعبيراً ع��ن ال ��روح الإن�سانية ف��ي �صورتها‬ ‫ذئاب في‪ /‬طفول ِته) مخطوط ًا‬ ‫ٍ‬ ‫قطيع‬
‫َ‬ ‫(لقد ر�أى‬
‫المثالية‪ ،‬كما في الأ�سطورة اليونانية وتحديداً‬ ‫بين قو�سين‪ ،‬ك ��أ َّن��ه تعليق ���ش��ارح ومف�سرِ‬
‫فالعربات المج َّنحة ه��ي تمثيل للعواطف‬ ‫لمرجعية الر�ؤى التي تتداعى على الذات‪ ،‬وك� َّأن‬
‫التي هي بحاجة �إل��ى العقل‬
‫ل�ضبطها‪� ،‬أم��ا روح الأمطار‬
‫وظف �إ�شكالية تعبير‬ ‫وم��واك��ب ال��ف��ج��ر‪ ،‬فهي رمز‬
‫الذات المغتربة عن‬ ‫لخ�صب الحياة وتجددها‪ ،‬لكن‬
‫نف�سها بجوهرها‬ ‫(ال��روح الغريب) ال��ذي يبكي‬
‫الكلي‬ ‫في �أول الطريق هو رمز للروح‬
‫(الإن�ساني الحائر)‪ ،‬ما يجعل‬
‫ال�شعر تمثي ًال لذات تمور بقلق‬
‫وج����ودي‪ ،‬وتعي�ش اغ��ت��راب� ًا‬
‫متفاقم ًا‪.‬‬

‫‪91‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫عمل بائع ًا متجو ًال قبل �أن ي�صبح كاتب ًا‬

‫محمد حافظ رجب‬


‫�أثار ق�ضية الأدب الجديد‬
‫الكاتب محمد حافظ رجب ولد بالإ�سكندرية (‪ 17‬يوليو ‪ - 1935‬وتوفي بالقاهرة ‪ 12‬فبراير‬
‫‪2021‬م)‪ ،‬و�أ���ص��در ع��دة مجموعات ق�ص�صية منها‪ :‬غرباء (‪1968‬م)‪ ،‬الكرة ور�أ���س الرجل‬
‫(‪1968‬م)‪ ،‬مخلوقات ب��راد ال�شاي المغلي (‪1979‬م)‪ ،‬حما�صة وقهقهات الحمير الذكية‬
‫(‪1992‬م)‪ ،‬ا�شتعال ر�أ�س الميت (‪1992‬م)‪ ،‬طارق ليل الظلمات (‪1995‬م)‪ ،‬رق�صات مرحة لبغال‬
‫البلدية (‪1999‬م)‪ ،‬ع�شق كوب ع�صير الجوافة (‪)2003‬م‪ ،‬و�صدرت �أعماله الكاملة في جز�أين‬
‫خليل الجيزاوي‬
‫عام (‪2011‬م)‪ ،‬وترجمت �أعماله للإنجليزية والفرن�سية والألمانية والإيطالية‪.‬‬

‫وعلى الرغم من �أن حافظ رج��ب‪ ،‬لم‬


‫يح�صل �إال على ال�شهادة االبتدائية؛ لكنه‬
‫ق��ر�أ الكثير من الكتب الأدب��ي��ة والنقدية‬
‫والق�ص�ص وال���رواي���ات‪ ،‬خا�صة الأدب‬
‫الرو�سي‪ ،‬وهو يعي�ش بال�شارع جوار باعة‬
‫ال�صحف والمجالت‪ ،‬حين عرفته �أر�صفة‬
‫مدينة الإ�سكندرية بائع ًا ِل �لِّ� ِ�ب والفول‬
‫ال�سوداني وال�سجائر وورق اليان�صيب‪،‬‬
‫وبد�أ يتردد على الندوات ويكتب الق�ص�ص‬
‫الق�صيرة‪ ،‬وي�شارك ع��ام (‪1950‬م) في‬
‫ت�أ�سي�س الرابطة الثقافية للأدباء النا�شئين‪،‬‬
‫وي�ؤ�س�س مع �آخرين رابطة لك ّتاب الطليعة‬
‫بالإ�سكندرية عام (‪1956‬م)؛ ليكتب لطفي‬
‫الخولي ُمب�شراً ب�أدباء الرابطة‪� :‬إن م�ستقبل‬
‫الق�صة الق�صيرة ينبع من ه��ذه الرابطة‪،‬‬
‫ويرا�سل الدوريات الثقافية‪ ،‬وين�شر لطفي‬
‫الخولي الم�شرف على ال�صفحة الثقافية‬
‫بجريدة (الم�ساء) ق�صته الأول��ى‪ ،‬فيعجب‬
‫يحيى حقي رئي�س تحرير مجلة (المجلة)‪،‬‬
‫ب�إحدى ق�ص�صه وين�شرها ويعلق عليها‪ :‬لقد‬
‫التقيت بفنان ي�سبق زمانه بثالثين �سنة‪،‬‬
‫تجده يم�سك القلم كري�شة في مهب الريح‪،‬‬
‫�إنه َغ َّي َر من �شكل وم�ضمون و�أ�سلوب الق�صة‬
‫الق�صيرة‪.‬‬
‫ويقدمه حقي مع مجموعة من �شباب‬
‫الق�صة الواعدين‪ُ ،‬متنبئ ًا لهم بم�ستقبل‬
‫م�شرق‪ ،‬ويطلق عليهم مدر�سة (عي�ش وملح)‪،‬‬
‫وت�صدر الدار القومية للثقافة والن�شر عام‬
‫(‪1960‬م) كتابهم الأول‪ :‬عي�ش وملح‪،‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪92‬‬


‫�أدباء‬

‫والأدباء الم�شاركون هم‪� :‬سيد خمي�س‪ ،‬محمد‬


‫جاد‪ ،‬محمد حافظ رجب‪ ،‬عبا�س محمد عبا�س‪،‬‬
‫الد�سوقي فهمي‪ ،‬وعزالدين نجيب‪.‬‬
‫ويكتب حقي في مقدمته الالفتة‪ :‬هذه‬
‫المجموعة ما �أحبها �إل� َّ�ي‪� ،‬إنها تنطق بمعانٍ‬
‫حلوة جمة‪ ،‬عطر الربيع‪ ،‬وندى الزهر‪ ،‬وهبة‬
‫الن�سيم تن�شط له النف�س‪ ،‬يبدد خمولها ويجدد‬
‫يظل‬‫الأح�ل�ام‪ ،‬لم ت�ست�أثر بها �أنانية ف��رد‪ُّ ،‬‬
‫ي�صحبنا ‪ -‬ارتفع �أو هبط ‪ -‬من �أولها �إلى‬
‫�آخ��ره��ا‪� .‬إنما هي عمل جماعي مت�ساند‪� .‬إن‬
‫���ص��دور ه��ذه المجموعة ينبني على وث��وق‬
‫تجد‬
‫بالنف�س و�شجاعة‪ ،‬من �أجل ذلك �آمل �أن َ‬
‫يتقدم �أ�صحابها �إلى‬‫َ‬ ‫�زاء ح�سن ًا‪ ،‬و�أن‬
‫لها ج� ً‬
‫الأمام خطوة بعد �أخرى‪.‬‬
‫وي�سعى حافظ رجب �إل��ى مقابلة يو�سف‬
‫ال�سباعي‪ ،‬ويطلب العمل بالمجل�س الأعلى‬
‫لرعاية الفنون والآداب بالقاهرة‪ ،‬وي�صف‬
‫رج��ب مقابلته مع يو�سف ال�سباعي ب�أنها‪:‬‬
‫(التحطيم الأول لإرادة �إن�سان �أراد �أن يكون)‪،‬‬
‫وذلك لأنه عر�ض عليه العمل كموظف ب�أر�شيف‬
‫من م�ؤلفاته‬
‫المجلة ب��أن �إح��دى ق�ص�صي ُمخيفة‪ :‬خلفها‬ ‫مما‬ ‫المجل�س الأعلى للفنون‪ ،‬بتقييم مادي �أقل ّ‬
‫�أ�سرار مرعبة‪� ،‬أم��ا بقية نقاد مجلة الثقافة‬ ‫ي�ستحقه‪ ،‬لكنه َق ِب َل الوظيفة‪ ،‬فهي على �أية‬
‫فقد اتهموني بتعاطي الحبوب ال� ُ�م��خ��درة‪،‬‬ ‫حال �أف�ضل من (بهدلة) ال�شوارع‪.‬‬
‫ويكتب ناقد (تقدمي) بعنوان �ضخم‪( :‬الكرة‬ ‫ُ‬ ‫يتذكر حافظ رجب‪� ،‬أنه ذهب ذات م�ساء‬
‫ور�أ� ��س الرجل بين �ضياع المنهج و�ضياع‬ ‫لندوة كان فيها الدكتور يو�سف �إدري�س‪ ،‬يجل�س‬
‫واجه اعترا�ضات‬
‫ويكتب محمود �أمين العالم في مجلة‬ ‫ُ‬ ‫النتيجة)‪،‬‬ ‫ف��وق المن�صة‪ ،‬وحين ر�آه رح��ب ب��ه‪ ،‬ودع��اه‬
‫كثيرة الختالف‬ ‫يرد‬
‫(الم�صور) كلمة ال ب�أ�س بها بعنوان‪( :‬التعقيد‬ ‫للجلو�س معه على المن�صة‪ ،‬لكن رجب ُّ‬
‫�أ�سلوبه في كتابة‬ ‫ويكتب‬ ‫المفتعل غربة عن ال�شعب والحقيقة)‪،‬‬ ‫عليه قائ ًال‪ :‬لقد �شاركت في ذبحنا يا دكتور‬
‫ُ‬
‫الق�صة عن المعايير‬ ‫المب�شر‬‫ُ‬ ‫الموهوم‬ ‫�أحد �أدباء التقليدية‪( :‬المغرور‬ ‫يو�سف‪.‬‬
‫المتعارف عليها‬ ‫ويكتب يحيى حقي ُمعلق ًا‬ ‫ُ‬ ‫ب�سعادة الإن�سانية)‪،‬‬ ‫فيرد �إدري�س قائ ًال‪� :‬أنت كاتب موهوب جداً‬
‫على ق�صة لي‪� :‬إن كتابته �سريالية‪.‬‬ ‫لماذا لم ت�أخذ حقك؟!‬ ‫يا رجب‪ ،‬وعلمت الآن َ‬
‫�رد ح��اف��ظ رج ��ب ع��ل��ى ه��ج��وم مجلة‬ ‫وي� � ُّ‬ ‫�أنت لديك عقدة المظلوم‪.‬‬
‫(الثقافة)‪ ،‬نوفمبر ‪1964‬م قائ ًال‪:‬‬ ‫وي�ؤكد حافظ رجب �أنه واجه اعترا�ضات‬
‫نقول كلمتنا لهذا الزمن‪ :‬كلمات العذاب‬ ‫كثيرة و�صلت �إلى حد الرف�ض‪ ،‬من جيل الأدباء‬
‫جوالو الطرق الع�شرة‬ ‫والي�أ�س (منكم)‪ ،‬نحن ّ‬ ‫والو�سط الثقافي في هذا الوقت‪ ،‬الذين حاولوا‬
‫المع ّفرة‪ ،‬نقول كلماتنا‪ ،‬نقولها ونحن �أن�صاف‬ ‫ُ‬ ‫عرقلة تقدمه الختالف �أ�سلوبه في كتابة‬
‫حاولوا �إغفال ا�سمه‬ ‫مجانين‪� ،‬أن�صاف �أفندية ومثقفين‪ ،‬فج�أة‬ ‫الق�صة عن المتعارف عليه في ذلك الوقت‪� ،‬إال‬
‫من حركة التجديد‬ ‫وج��دن��اك��م مالئكة تعزفون ل�سنابل القمح‬ ‫�أنه لم يهتم بهم ووا�صل الكتابة‪ ،‬حيث �شنت‬
‫في الق�صة الق�صيرة‬ ‫نون ب�أغاني الح�صاد‪ ،‬وفج�أة‬ ‫الذهبية‪ ،‬وتت ّغ ْ‬ ‫عليه مجلة (الثقافة) هجوم ًا �شديداً؛ لأنه يكتب‬
‫وجدنا �أنف�سنا غرباء منبوذين‪ ،‬مرفو�ضين‪.‬‬ ‫بطريقة غريبة وغير مفهومة‪.‬‬
‫المعا�صرة‬ ‫وي�ضيف حافظ رجب ب�أحد حواراته‪ :‬كانت‬
‫ُي ْل ِقى رجب حجراً في بركة الأدباء الكبار‬
‫المناخ الثقافي فا�سداً‬ ‫ُ‬ ‫الراكدة ويم�ضي‪ ،‬وكان‬ ‫�صدمة الكتابات الجديدة �شديدة على الأدباء‬
‫أطلق مقولته ال�شهيرة‬ ‫‪ -‬كما َي ِ�ص ُف ُه ‪ -‬عندما � َ‬ ‫والنقاد‪� ،‬صدمة ه��زت ا�ستقرارهم الواهي‪،‬‬
‫(نحن جيل بال �أ�ساتذة عام ‪1958‬م)‪ ،‬قائ ًال‪:‬‬ ‫فالكاتب محمد فريد �أبو حديد رئي�س تحرير‬
‫وك َّنا ال ندري �أين الم�ستقر؟!‬ ‫ُك َّنا وقتها �صغاراً‪ُ ،‬‬ ‫مجلة (الثقافة) يعترف ف��ي كلمته ب�صدر‬

‫‪93‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�أدباء‬

‫وك��ان عبدالرحمن الخمي�سي وعبد الرحمن‬


‫ال�شرقاوي ‪ -‬وهما نجمان بزغا ُمبكراً ‪-‬‬
‫يقدمان ما لديهما با�سم الواقعية‪ ،‬ومن بعيد‬
‫جاءنا �ضوء ت�شيخوف كاتب رو�سيا الإن�سان؛‬
‫ولأن��ن��ا ُك� َّن��ا �صغاراً فقد تعلقنا بجوركي‪،‬‬
‫رفعنا �صورته وعلقناها بحيث نقر�أ ونكتب‪،‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫لطفي الخولي‬ ‫�صبري حافظ‬
‫كما اتجهت عواطفنا الحارة �إل��ى الخمي�سي‬
‫وال�شرقاوي‪ ،‬تالحقهما حيث كانا‪ ،‬ولم يكن‬
‫يو�سف �إدري�����س قد ت��رك ب�صمته بعد‪ ،‬وكان‬
‫وي�شد‬
‫ُّ‬ ‫وقتها جيل ال�شباب ُي َقلِّ ُد ه�ؤالء الكبار‪،‬‬
‫رج��ب الرحال للقاهرة وي��ؤك��د‪ :‬في القاهرة‬
‫الي َّم‬
‫كتبت الحقيقة‪ ،‬ه��ؤالء وه ��ؤالء يعبرون َ‬ ‫ُ‬
‫ب�سفينة واحدة‪� ،‬أمامنا يقولون‪ :‬ال�شعب الكادح‬
‫ودموع الآهات‪ ،‬و�أمامنا يقول الأعداء‪ :‬الت�سلية‬
‫هي الهدف والو�سيلة‪ ،‬و�أمام �أنف�سهم يتبادلون‬
‫العناق؛ ولأننا ُك َّنا في ال�سوق نبيع ون�شتري‪،‬‬
‫ونحن �صغار الحال والأحوال‪ ،‬فقد تبينا �أننا‬
‫غرباء‪ ،‬غرباء حد القهر‪ ،‬كذلك ك��ان النا�س‬
‫الر�ؤية ال�صحيحة و�إنما �أجادوا القن�ص بليل‪.‬‬ ‫غرباء معنا‪ ،‬وكانت هناك ث��ورة‪ ،‬ودخ��ل كل‬
‫ويكتب الدكتور �صبري حافظ‪ُ ،‬من�صف ًا‬ ‫ُ‬ ‫ال ُك ّتاب طابور العر�ض ال�سريع‪ ،‬و�أدركنا �أننا‪:‬‬
‫كتاباته‪ُ :‬ي َق ِّد ُم الكاتب محمد حافظ رجب‪ ،‬في‬ ‫نحن جيل بال �أ���س��ات��ذة‪ ،‬لم تكن هناك �أب��وة‬
‫�أقا�صي�صه كلها نمط ًا �إن�ساني ًا‪ ،‬يكاد يكون‬ ‫تن�صحنا‪ ،‬ولم يكن هناك �أهل يبحثون ع َّنا‪،‬‬
‫هو الكاتب نف�سه‪ ،‬نمط الإن�سان الم�سحوق‬ ‫حتى �إن النا�س �أخذهم الكابو�س‪ ،‬فتركونا في‬
‫�أول من ا�ست�شعر‬ ‫المقهور‪� ،‬سواء �أكان بائع ًا جائ ًال ‪ -‬وقد كان‬ ‫ال�ساحة وحدنا ‪.‬‬
‫�أهمية البحث عن‬ ‫الكاتب نف�سه في بداية حياته بائع ًا متجو ًال �أو‬ ‫يقف محمد حافظ رجب‪ ،‬في �صدارة ُك َّتاب‬ ‫ُ‬
‫�أ�ساليب تعبيرية‬ ‫عام ًال في مطعم ‪ -‬وقد عمل الكاتب في بداية‬ ‫وي َع ُّد‬
‫الق�صة الق�صيرة بمرحلة ال�ستينيات‪ُ ،‬‬
‫تواكب المتغيرات‬ ‫حياته عام ًال بمطعم �أبيه‪� ،‬أو موظف ًا �صغيراً‪،‬‬ ‫فار�س ًا من فر�سان التجديد الفني‪ ،‬ومع ذلك‬
‫والي��زال الكاتب حتى اليوم موظف ًا �صغيراً‪،‬‬ ‫�أغفل الن ّقاد ا�سمه و�إنتاجه‪ ،‬ون�سبوا محاوالت‬
‫الحديثة‬ ‫ُيعاني �سخافات القبوع بالقرب من قاع ال�سلم‬ ‫التجديد لغيره؛ لأن��ه ل��م يكن م��ن محترفي‬
‫الوظيفي‪� ،‬أو كاتب ًا �شاب ًا في عالم من�صرف‬ ‫العالقات العامة‪ ،‬ولم يكن ذا وظيفة مرموقة‬
‫عن االهتمام بالكلمة‪� ،‬أو ُمتجه ًا للمتاجرة‬ ‫تجذب �إليه الو�صوليين ليكتبوا عنه؛ لقد تجرع‬
‫المتعدد الوجوه‪ُ ،‬يغامر‬ ‫بها‪ ،‬هذا النمط الواحد ُ‬ ‫حافظ رج��ب م��رارة التجاهل حتى الثمالة‪،‬‬
‫ويخو�ض‬
‫ُ‬ ‫به الكاتب مجموعة من المغامرات‪،‬‬ ‫فيكتب الدكتور �سيد حامد الن�ساج‪ ،‬عن هذا‬ ‫ُ‬
‫به عدة تجارب تبلور لنا الكثير من الق�ضايا‬ ‫الب ِّين عام (‪1993‬م)‪� :‬إن حافظ رجب‬ ‫الظلم َ‬
‫ال�شخ�صية الم�صرية في ال�ستينيات ‪.‬‬ ‫ذاق طعم الأي��ام ِم ْلح ًا ُم َ�ص َّفى‪ ،‬وم��رارة في‬
‫وي�ؤكد الدكتور �صبري حافظ في �شهادته‬ ‫الحلق‪ ،‬وغ�صة في القلب‪ ،‬وعذاب ًا مت�ص ًال من‬
‫النقدية بقوله‪َّ � :‬إن �أية درا�سة جادة عن �أدب‬ ‫�أجل لقمة العي�ش‪ ،‬ويكفي �أنه عانى وحده في‬
‫�أعجب بكتاباته‬
‫ال�ستينيات‪ ،‬ال بد �أن تبد�أَ بالكاتب محمد حافظ‬ ‫يكتب ا�سمه ولو ذراً‬ ‫ْ‬ ‫�سبيل ما دعا �إليه‪ ،‬ولم‬
‫يحيى حقي ولطفي‬ ‫رجب؛ لأنه �أول من َف َّجر ق�ضية الأدب الجديد‪،‬‬ ‫للرماد في العيون �ضمن كتاب ال�ستينيات‪،‬‬
‫الخولي ويو�سف‬ ‫وط��رح الأ�سئلة ح��ول هويته؛ ولأن��ه �أول من‬ ‫�إذ اقتن�ص المزيفون ادعاء الريادة‪ ،‬و�أ�صاب‬
‫�إدري�س ون�شروا‬ ‫ا�ست�شعر �ضرورة البحث عن �أ�ساليب تعبيرية‬‫َ‬ ‫المنحازين ق��ذى‪ ،‬فلم ي��روا �إال‬ ‫عيون النقاد ُ‬
‫ق�ص�صه الأولى‬ ‫ومنطلقات بنائية طازجة‪ ،‬تتمكن الأق�صو�صة‬ ‫ثالث ثمار مزهرة فوق �شجرة الق�صة الق�صيرة‬
‫عبرها من ا�ستيعاب هذا التغيير ال�شامل في‬ ‫�ف الآخ ��رون �أدواراً و�أ�سماء‪،‬‬ ‫وال��رواي��ة‪َ ،‬و َز َّي � َ‬
‫الح�سا�سية‪ ،‬وهذا االنقالب الجذري في النمط‬ ‫وانتحلوا ُك َّتاب ًا ال قيمة لهم‪ ،‬وال موهبة لديهم‪،‬‬
‫الب�شري الذي ت�ستقطب همومه‪.‬‬ ‫ال يملكون القدرة على المواجهة �أو الإبداع �أو‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪94‬‬


‫مقاالت‬
‫�ضفاف‬

‫د‪ .‬عبدالمح�سن طـه بـدر‬


‫النقد بين الر�ؤية والواقع والأداة‬
‫مع النقاد الجماليين والنف�سيين‪� ،‬أنه يقف موقف‬ ‫برغم ما عرف عنه من تم�سكه بقناعاته‪،‬‬
‫المعار�ض لهذه المناهج‪ ،‬بل يعني �أن لديه ر�ؤية‬ ‫ور�ؤاه النقدية وتحليالته وا�صطالحاته‪ ،‬ف�إن‬
‫مختلفة في ا�ستجابة هذه المناهج للن�ص الأدبي‪،‬‬ ‫الح�ضور الجوهري لمفردة التطوير في جميع‬
‫فهو (يتفق مع النقاد الجماليين في �أن الأ�سا�س‬ ‫كتاباته النقدية النظرية والتطبيقية‪ ،‬دليل على‬
‫يجب �أن يكون الن�ص الأدب��ي وح��ده‪� ،‬شرط �أن‬ ‫ا�ستجابة هذه القناعات لحركة الواقع في الأدب‪،‬‬
‫ي�سموا الأ�شياء بم�سمياتها‪ ،‬فن�سمي الدرا�سة‬ ‫ّ‬ ‫وحركة الأدب في الواقع‪ ،‬وبالتالي ان�سجام‬
‫د‪ .‬بهيجة م�صري �إدلبي‬ ‫االجتماعية �أو النف�سية‪ ،‬و�إن اتخذت الن�صو�ص‬ ‫التجربة الإبداعية والر�ؤية النقدية مع الحياة‪.‬‬
‫الأدبية مجا ًال لها‪ ،‬درا�سة اجتماعية �أو نف�سية)‪،‬‬ ‫ف�صاحب (تطور ال�شعر الحديث في م�صر)‪،‬‬
‫هذه الذات من دروب‪ ،‬ومنحنيات والتواء وتعقيد‪،‬‬ ‫كما يتفق معهم في �صعوبة الف�صل بين ال�شكل‬ ‫و(تطور الرواية العربية الحديثة)‪ ،‬كان حري�ص ًا‬
‫�إال �أن هذا الأمر ال يعني �أن يكون الأدب ت�سجي ًال‬ ‫والم�ضمون‪ ،‬مادام كالهما ملتحم ًا في الن�ص‬ ‫على تطور الإبداع و�آلياته وخطابه‪ ،‬بقدر حر�صه‬
‫واقعي ًا مبا�شراً لتجارب الحياة‪ ،‬وهنا يف�سر طه‬ ‫الأدبي‪ ،‬ولكن في الوقت نف�سه‪ ،‬يرى �أن النقد ال‬ ‫على تطور الأدوات النقدية في قراءة هذا الإبداع‪،‬‬
‫بدر ما تعني التجربة‪� ،‬أي �أن يكون (الأدب منفرداً‬ ‫بد له من الدخول من هذا الباب ال�ضيق‪ ،‬مادام‬ ‫منحازاً �إل��ى الواقع كمختبر للفعل الإبداعي‬
‫بداللة خا�صة �أو �إح�سا�س خا�ص يعطي له لون ًا‬ ‫الأديب ب�شراً ال يبدع وال يقوم ب�صنع ت�شكيالت‬ ‫والفعل النقدي‪� ،‬سواء في كتابيه ال�سابقين �أو في‬
‫خا�ص ًا في نف�س الأديب �أو الفنان بحيث يمكن‬ ‫جمالية في الفراغ‪ ،‬ولكنه ك�إن�سان‪ ،‬ال بد �أن‬ ‫كتبه (الروائي والأر�ض)‪( ،‬حول الأديب والواقع)‪،‬‬
‫انتزاعه من الحياة لي�صير خبرة وتجربة خا�صة‬ ‫يهدف بعمله �إلى غاية‪ ،‬وال بد �أن يوظف �أدوات‬ ‫و(نجيب محفوظ الر�ؤية والأداة)‪ ،‬دون �أن يكون‬
‫للفنان)‪.‬‬ ‫تعبيره لتحقيق هذه الغاية في �صورتها الأف�ضل‪.‬‬ ‫هذا الواقع عائق ًا �أمام الر�ؤية الفنية والجمالية‬
‫وبالتالي ه��و يرف�ض الأدب ال��ذي يقدم‬ ‫فالأدب كما يرى طه بدر؛ تعبير بالكلمة عن‬ ‫للأدب‪ ،‬بل ثمة ر�ؤية تكاملية بين الواقع ور�ؤية‬
‫خال�صة التجربة‪ ،‬فعلى الأديب �أن يت�أمل تجربته‬ ‫ر�ؤية الأديب لواقعه‪ ،‬و�أن الأديب بعمله الأدبي‬ ‫الأديب لهذا الواقع حين يعيد �إنتاجه عبر تجربة‬
‫�أو ًال‪ ،‬قبل �أن يعبر عنها للك�شف الحقيقي عن‬ ‫يعيد ت�شكيل الواقع ويختار منه ما يتالءم مع‬ ‫حقيقية ال ترتهن �إل��ى المبالغات المجانية‬
‫الواقع وحركته في الذات المبدعة‪.‬‬ ‫رغبته في الك�شف عن ه��ذه ال��ر�ؤي��ة‪ ،‬و�أن هذه‬ ‫وال�سطحية التي تخرج الأدب من كونه �أدب � ًا‪.‬‬
‫عبدالمح�سن طه بدر‪ ،‬لم يكن منغلق ًا على‬ ‫الر�ؤية تك�شف عن �إدراك الأديب لعالقات الواقع‪،‬‬ ‫فهو يرى (�أن ر�ؤي��ة الأدي��ب للحياة وللإن�سان‬
‫ذات ��ه ف��ي ر�ؤي��ت��ه النقدية ومنهجه الواقعي‬ ‫كما تت�ضمن تخيله لل�صورة التي ينبغي �أن‬ ‫عامل م�ؤثر ال في اختيار الأديب لمو�ضوع العمل‬
‫وموقفه من الثقافة الغربية‪ ،‬وموقفه من التراث‬ ‫ت�سود هذه العالقات في الم�ستقبل‪ ،‬و�أن ر�ؤية‬ ‫الأدبي وم�ضمونه فح�سب‪ ،‬ولكنها ت�شكل عام ًال‬
‫والعودة �إلى الما�ضي‪ ،‬بل كان ي�ضع كل ذلك في‬ ‫الأديب كلما كانت �أكثر عمق ًا وح�سا�سية وذكاء‪،‬‬ ‫حا�سم ًا في تحديد وفر�ض �أدوات التعبير التي‬
‫م�ساره الإبداعي‪ ،‬وفي �شرطه الح�ضاري الذي‬ ‫كانت �أقدر على ك�شف القوى التي تعوق حركة‬ ‫يعبر بها الأديب عن م�ضمون عمله الأدبي‪ .‬فثمة‬
‫ال يعيق ا�ستقاللية الذات‪ ،‬كما ال يعيق التوا�صل‬ ‫الواقع وتقهر �إن�سانية الإن�سان‪ ،‬كما �أنها ت�صبح‬ ‫عالقة جدلية بين مفردات الثالوث النقدي‪ ،‬لدى‬
‫الح�ضاري والثقافي‪ ،‬مع الثقافات الأخ��رى‪،‬‬ ‫�أقدر على تخيل طبيعة الم�ستقبل‪ ،‬الذي يحقق‬ ‫عبدالمح�سن طه بدر (التطوير‪ -‬الواقع‪ -‬الر�ؤية)‬
‫ف�ض ًال عن االت�صال الإب��داع��ي والمعرفي بين‬ ‫للإن�سان �إن�سانيته‪ .‬وعلى هذا الأ�سا�س‪ ،‬ي�صبح‬ ‫تنجلي في ر�ؤي��ة المبدع كما تتجلى في ر�ؤية‬
‫الما�ضي والحا�ضر‪ ،‬فقد ك��ان يدعو �إل��ى تلك‬ ‫دور �أدوات التعبير محدداً وحتمي ًا‪ ،‬وي�أتي الحكم‬ ‫الناقد ال��ذي ير�صد تجليات الواقع في الن�ص‬
‫العالقات الجدلية في الن�ص الإبداعي التي تختبر‬ ‫عليها من ح�سن اختيار الأديب لها‪ ،‬وتوظيفها‬ ‫ومدى تفرد هذا الأديب �أو ذاك في �إعادة �إنتاج‬
‫في التجربة الحقيقية للأديب‪� ،‬سواء على م�ستوى‬ ‫بما ين�سجم ور�ؤي��ت��ه ووعيه الجمالي‪ ،‬ليكون‬ ‫ه��ذا الواقع بعيداً عن التفا�ؤل المجاني وعن‬
‫الذات‪� ،‬أو على م�ستوى الواقع المو�ضوعي‪ ،‬ومن‬ ‫المقيا�س الجمالي‪ ،‬في مدى براعته في �إدراك‬ ‫الي�أ�س المزيف)‪.‬‬
‫هنا يرى �أن كل (عمل �أدبي رائع يفتر�ض فيه �أن‬ ‫�سرها وتوظيفها‪.‬‬ ‫وم��ن هنا ك��ان اخ��ت�لاف��ه م��ع م��ن �سبقه‬
‫ي�صدر عن ر�ؤية متكاملة و�شاملة للواقع المعي�ش‪،‬‬ ‫ويرى النقاد �أن منهج عبدالمح�سن طه بدر‬ ‫من النقاد ال��رواد الأوائ ��ل‪ :‬طه ح�سين والعقاد‬
‫يرى فيها الأديب الواقع في حركة حية نامية‬ ‫منهج اجتماعي تاريخي تحليلي جاء تطويراً‬ ‫وغيرهما‪ ..‬اختالف ًا في زاوي��ة الر�ؤية للن�ص‪،‬‬
‫ومتطورة‪ ،‬و�أن حركة الواقع نابعة من القوى‬ ‫لمنهج النقد التاريخي لدى طه ح�سين‪ ،‬والمنهج‬ ‫فهو يرى (�أن االختالف في النظر �إل��ى الن�ص‬
‫المت�صارعة والمتناق�ضة على �ساحته)‪ ،‬بذلك‬ ‫االجتماعي الت�أثري الواقعي عند لوي�س عو�ض‪،‬‬ ‫الأدبي بين المدار�س النقدية لي�س خالف ًا نقدي ًا‬
‫ي�صبح الأدب ملت�صق ًا بالتجربة الإن�سانية‪ ،‬بقدر‬ ‫ومحمد مندور‪ ،‬بهذا المعنى ن��راه مث ًال يختبر‬ ‫في الأ�صل بقدر ما هو خالف يرجع �إلى مواقف‬
‫الت�صاقه بق�ضايا المجتمع وحركة الواقع‪.‬‬ ‫مفهوم (التجربة الإن�سانية) في مفهوم الأدب‪،‬‬ ‫اجتماعية و�سيا�سية للنقاد)‪ .‬وال يعني اختالفه‬
‫ب��ه��ذا يبقى ال��ج��ه��د ال��ن��ق��دي ال���ذي قدمه‬ ‫الذي قال به محمد مندور‪ ،‬في مختبره الخا�ص‬
‫د‪.‬عبدالمح�سن طه بدر‪ ،‬خطوة متقدمة في م�سيرة‬ ‫الذي ين�سجم مع رهاناته النقدية‪ ،‬فيرى �أن الأدب‬
‫النقد الأدبي العربي‪ ،‬على الرغم من �أنه لم يكن‬ ‫(كتجربة �إن�سانية)‪ ،‬رحب رحابة الحياة الإن�سانية‬ ‫ر�ؤية الأديب للحياة‬
‫يطمح �إل��ى تقديم �إج��اب��ات‪ ،‬و�إن��م��ا ك��ان يقدم‬ ‫نف�سها بما تحفل ب��ه م��ن ���ص��راع وت�ضارب‬ ‫والإن�سان عامل م�ؤثر لدى‬
‫فرو�ض ًا و�أ�سئلة مفتوحة على الذاكرة النقدية‬ ‫ومتناق�ضات‪ ،‬تن�ش�أ عن ال�صراع بين رغبة الذات‬
‫والأدبية‪ ،‬لتبقى حية في حركة الحياة‪.‬‬ ‫وبين �شعورها بالم�س�ؤولية‪ ،‬وما ي�ستقر في �أعماق‬
‫�إنجازه للم�ضمون‬

‫‪95‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫قدم رحلته الفكرية في «البذور والجذور والثمر»‬
‫عبدالوهاب الم�سيري‪..‬‬
‫الغائب الحا�ضر في �سفري الأدب والفكر‬
‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪96‬‬
‫�أعالم‬

‫ف��ي �أر�����ض م�����ص��ر ن��ب��ت‪ ،‬وع��ل��ى جبينها حفر‬


‫وجهده �أخاديد من المعارك الفكرية‬ ‫بفكره ُ‬
‫وال�سيا�سية ال��ت��ي �شغلت العالم وم��ازال��ت‪..‬‬
‫���م���ت���ع���ب‪ ..‬في‬ ‫وب���ع���د �أن �أُن���ه���ك ال��ج�����س��د ال ُ‬
‫ث��راه��ا رق��د ب��ع��د �أن واف��ت��ه ال��م��ن��ي��ة‪ .‬ثالثة‬
‫عمر �إبراهيم محمد‬
‫ع�����ش��ر ع���ام��� ًا م���رت ع��ل��ى رح��ي��ل ال��ف��ي��ل�����س��وف‬
‫والمفكر و�أ���س��ت��اذ الأدب الإن��ج��ل��ي��زي وال��م��و���س��وع��ي الم�صري‬
‫الكبير ال��دك��ت��ور ع��ب��دال��وه��اب الم�سيري (‪2008 -1938‬م)‪،‬‬
‫من م�ؤلفاته‬
‫(‪2001‬م) وبعد رحلة عطاء كبيرة عبر م�شوار‬ ‫ومازالت �أفكاره و�آرا�ؤه ومعاركه‪ ،‬وقبلها‬
‫حياته‪ ،‬وه��ي الحياة ال��ت��ي تخللتها معارك‬ ‫ُجل م�ؤلفاته التي جعلت منه واح��داً من �أبرز‬
‫�شتى في الفكر والعلم وال�سيا�سة ما بين ال�سفر‬ ‫و�أنبل ُمفكري ع�صره‪ ،‬نبرا�س ًا حي ًا و�شاهداً على‬
‫والترحال هنا وهناك‪ ،‬وبين المنا�صب العديدة‬ ‫رحلة عطاء كبير لعالم وبروفي�سور ق ّلما يجود‬
‫التى تبو�أها‪ ،‬قد قدم قبل رحيله ب�سبع �سنوات‬ ‫الع�صر بمثله‪.‬‬
‫اهتم الم�سيري‬ ‫�سيرة حياته الفكرية في كتاب بعنوان (رحلتي‬ ‫كان الم�سيري دائم ًا ملء ال�سمع والب�صر‪،‬‬
‫بالمنهجية خالل‬ ‫الفكرية ‪ -‬في البذور والجذور والثمر)‪ ،‬وهي‬ ‫فهو واحد من �أبرز الم�ؤرخين الم�صريين والعرب‬
‫م�سيرته و�أ�سهم في‬ ‫ال�سيرة التي تمنح القارئ الدالالت الكافية عن‬ ‫المتخ�ص�صين في درا�سة (الحركة ال�صهيونية)‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فهم وحل م�شكلة‬ ‫كيف ولدت �أفكار الم�سيري وتكونت‪ ،‬والمنهج‬ ‫ن��راه ف��ي �أغ��ل��ب ال�صحف وال��م��ج�لات‪ ،‬حا�ضراً‬
‫العلمي والتف�سيري الذي طالما ا�ستخدمه‪ ،‬ابتداء‬ ‫في كل منبر للفكر الحر‪ ،‬وموجوداً في ال�شارع‬
‫المنهج‬ ‫المجاز ونهاية التاريخ‪ ،‬وانتهاء‬ ‫من ر�ؤيته في ُ‬ ‫الم�صري و�سط الجموع‪.‬‬
‫ب�أفكاره عن اليهود وال�صهيونية‪.‬‬ ‫ولد عبدالوهاب الم�سيري بمحافظة البحيرة‬
‫والمفكر عبد الوهاب الم�سيري �شغل ال�ساحة‬ ‫ُ‬ ‫بمدينة (دمنهور) في ع��ام (‪1938‬م) لأ�سرة‬
‫الفكرية العربية والعالمية بجل م�ؤلفاته في �شتى‬ ‫مي�سورة الحال وا�صل درا�سته حتى تخرج في‬
‫المجاالت‪.‬‬ ‫كلية الآداب جامعة الإ�سكندرية ق�سم اللغة‬
‫وقدم للأطفال‪ :‬نور والذئب ال�شهير بالمكار‪،‬‬ ‫الإنجليزية عام (‪1959‬م)‪ ،‬ثم عين معيداً بذات‬
‫ترجمت بع�ض‬ ‫و�سندريال وزينب هانم خاتون‪ ،‬ورحلة �إلى جزيرة‬ ‫الجامعة بعد تخرجه‪ .‬وفي عام (‪1963‬م) �سافر‬
‫�أعماله �إلى اللغات‬ ‫الدوي�شة‪ .‬وله ديوان �شعر بعنوان‪� :‬أغاني الخبرة‬ ‫المتحدة الأمريكية لينال درجة‬ ‫�إلى الواليات ُ‬
‫الإنجليزية والتركية‬ ‫وال��ب��راءة‪� :‬سيرة �شبه ذاتية و�شبه مو�ضوعية‬ ‫الماج�ستير‪ ،‬ث��م ال��دك��ت��وراه م��ن جامعة رنجز‬
‫عام (‪2003‬م)‪ ،‬وقد ُترجمت بع�ض �أعماله �إلى‬ ‫بنيوجير�سي عام (‪1969‬م)‪.‬‬
‫والبرتغالية‬ ‫الإنجليزية والتركية والبرتغالية والفار�سية‪.‬‬ ‫عقب العودة �إلى م�صر في بداية ال�سبعينيات‬
‫والفار�سية‬ ‫وما يلفت النظر في �إنجاز الم�سيري الفكري‬ ‫ع��م��ل ب��ال��ت��دري�����س ف��ي ع���دد م��ن ال��ج��ام��ع��ات‬
‫هو اهتمامه ال�شديد بالمنهجية‪ ،‬و�إ�سهاماته في‬ ‫الم�صرية والعربية والإ�سالمية‪ ،‬وعمل �أُ�ستاذاً‬
‫فهم وحل م�شكلة المنهج‪.‬‬ ‫زائ��راً في �أكاديمية نا�صر الع�سكرية‪ ،‬كما عمل‬
‫وكان الدكتور الم�سيري قد ا�شتهر في الفكر‬ ‫ُم�ست�شاراً ثقافي ًا للوفد الدائم لجامعة الدول‬
‫(العلمانية) ولكن‬
‫العربي بم�ساهمته في نقد َ‬ ‫العربية لدى هيئة الأمم المتحدة في نيويورك‬
‫بطريقة مثالية‪ ،‬فلم يكن عنيداً �أو ُمتع�صب ًا في‬ ‫(‪1979 - 1975‬م)‪ ،‬وعمل الدكتور الم�سيري‬
‫�أطروحاته‪ ،‬ويظهر ذلك من خالل طرحه كتاب‬ ‫�أي�ض ًا ع�ضواً بمجل�س الأمناء لجامعة العلوم‬
‫والعلمانية ال�شاملة)‪.‬‬
‫الجزئية َ‬‫(العلمانية ُ‬
‫َ‬ ‫الإ�سالمية واالجتماعية في لي�سبرج بوالية‬
‫المتعددة ودرا�ساته‬‫ُ‬ ‫أخرى‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫مواهبه‬ ‫وبخالف‬ ‫فرجينيا ب�أمريكا‪ ،‬كما ُعين ُم�ست�شاراً للتحرير‬
‫وكتب الأطفال‬ ‫القيمة في الحركات اليهودية‪ُ ،‬‬ ‫في عدد من الحوليات الأكاديمية التي ت�صدر‬
‫والأدب المقارن‪ ،‬وبناء اللُغة وتحليل العالقات‪،‬‬ ‫في ماليزيا و�إي��ران و�إنجلترا وفرن�سا و�أمريكا‪.‬‬
‫فقد ربط الدكتور الم�سيري بين الفكر والحركة‬ ‫وق��ب��ل وف��ات��ه ب��ع��ام ف��ي (‪ 2007‬م) تولى‬
‫كمثقف في‬ ‫والعمل ال�سيا�سي‪ ،‬فلم يعزل نف�سه ُ‬ ‫المن�سق العام للحركة الم�صرية من �أجل‬ ‫من�صب ُ‬
‫برج عاجي‪ ،‬بل نزل لل�شارع و�شارك في تب�صير‬ ‫التغيير‪.‬‬
‫الر�أي العام بوجوده وفكره‪.‬‬ ‫كان الدكتور عبدالوهاب الم�سيري في عام‬

‫‪97‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫محمد �سعيد العريان‬


‫كـر�س جـهوده‬
‫�أديـب ّ‬ ‫�صابر خليل‬
‫لثقافة و�أدب الطفل‬

‫الرافعي عرياني ًا‪ ،‬وقيل �إن العريان �أ�صبح‬ ‫ا�ستطاع الأدي���ب وال��روائ��ي والق�صا�ص‬
‫رافعي ًا‪ ،‬وقال الدكتور طه ح�سين‪( :‬لم ي�صبح‬ ‫الم�صري محمد �سعيد ال��ع��ري��ان (‪-1905‬‬
‫العريان رافعي ًا ولكنه �أ�صبح مدرة الرافعي)‪.‬‬ ‫‪1964‬م)‪� ،‬أن يج�سد ب�صماته في محراب �أدب‬
‫و�أثناء فترة اقترابه من الرافعي ومعاي�شته له‪،‬‬ ‫الأطفال‪ ،‬عبر �إنجازاته الملمو�سة على مدى‬
‫فقد ت�سرب �أ�سلوبه وروح��ه التعبيرية‪ ،‬وربما‬ ‫�أكثر من �أرب��ع وثالثين عام ًا‪ ،‬ب�شكل حقق له‬
‫روحه الفكرية‪ ،‬ومن ثم فقد ظهرت �آثار الرافعي‬ ‫الريادة في ذلك المجال عن جدارة وا�ستحقاق‪،‬‬
‫الأ�سلوبية في كتابة العريان‪.‬‬ ‫حتى �أ�صبح واحداً من رواد �أدب الطفل‪ .‬ولم يكن‬
‫تلقى محمد �سعيد العريان تعليمه الأولي‬ ‫(العريان) مجرد كاتب �أو �أديب فح�سب‪ ،‬بل كان‬
‫بمعهد طنطا الأزه���ري‪ ،‬ثم التحق بمدر�سة‬ ‫�أي�ض ًا تربوي ًا مفكراً‪ ،‬ا�شتهر برواياته التاريخية‬
‫�أ�صدر �أكثر من‬ ‫دار العلوم وتخرج فيها عام (‪1930‬م)‪ ،‬وبد�أ‬ ‫وب�إبداعه الق�ص�صي والفني للأطفال؛ فهو �أول‬
‫‪ ٣٠‬كتاب ًا �أبرزها‬ ‫حياته العملية فور تخرجه في دار العلوم في‬ ‫من �أ�صدر مجلة متخ�ص�صة في �أدب الأطفال‬
‫عام (‪1930‬م)‪ ،‬حيث عمل مدر�س ًا بالتعليم‬ ‫وهي مجلة (�سندباد) التي كانت تعد نوع ًا �أدبي ًا‬
‫(حياة الرافعي‪،‬‬ ‫االبتدائي حتى عام (‪1942‬م)‪ ،‬واهتم خالل‬ ‫فريداً في ع�صره‪ ،‬كما عمل على تطوير التعليم‪،‬‬
‫والعقد الفريد‬ ‫هذه الفترة بكتابة الق�ص�ص للأطفال و�إلقائها‬ ‫م��ن خ�لال عمله ب���وزارة المعارف (التربية‬
‫البن عبدربه)‬ ‫على م�سامعهم‪ ،‬فا�ستطاع ب�إبداعه الدخول �إلى‬ ‫والتعليم الآن)‪ ،‬فكان �أول من �صمم و�أن�ش�أ‬
‫عالم الطفل بتقديم ما يهوى ويرغب فيه وما‬ ‫المكتبة المدر�سية في م�صر‪.‬‬
‫يحتاج �إليه‪ ،‬وه��ذا ما جعله يهتم بالناحية‬ ‫ولد محمد �سعيد العريان في عام (‪1905‬م)‬
‫التربوية في كتاباته للأطفال‪ ،‬فقد حر�ص عند‬ ‫بقرية محلة ح�سن التابعة لمركز المحلة‬
‫كتابة ن�صه الإبداعي للطفل على اختيار اللفظ‬ ‫الكبرى بمحافظة الغربية‪ .‬وتتلمذ على يد‬
‫القريب من عالم الطفل‪ ،‬و�ضمن تح�صيله اللغوي‬ ‫الأديبين الكبيرين م�صطفى �صادق الرافعي‪،‬‬
‫وقدرته على فهمه ومعرفة دالالته‪ ،‬ف�ض ًال عن‬ ‫وعلي الجارم‪ ،‬و�أطلق الرافعي على (العريان)‬
‫توظيف الموروث ال�شعبي والعربي والإن�ساني‬ ‫كاتب وحي الرافعي‪ ،‬وكان الرافعي �أ�صم‪ ،‬فكان‬
‫في الأعمال الإبداعية‪ ،‬والدخول �إل��ى عوالم‬ ‫العريان �صديقه وتلميذه في الوقت نف�سه‪ ،‬وكان‬
‫الأ�سطورة والخرافة والخيال والنبات والحيوان‬ ‫لهذه ال�صداقة �أثر عميق في حياة كل منهما‬
‫والألعاب‪ ،‬والطبيعة ذات ال�صلة الوثيقة بالطفل‪.‬‬ ‫وفي �أعمالهما‪ .‬وقد قال البع�ض‪ :‬لقد �أ�صبح‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪98‬‬


‫م�سارات‬

‫و(عرو�س الببغاء)‪ ،‬و(�أ�صحاب الكهف)‪ ،‬وله‬ ‫وف��ي ع��ام (‪1942‬م)‪ ،‬انتقل �إل��ى العمل‬
‫عدة مجموعات ق�ص�صية مثل (مدينة العجائب‪،‬‬ ‫في ال�سلك الإداري ب��وزارة المعارف (التربية‬
‫وال�صياد ال�ساحر‪ ،‬وال�صندوق ال�صغير)‪.‬‬ ‫والتعليم الآن)‪ ،‬ليلتحق بق�سم مراقبة الثقافة‬
‫وكان محمد �سعيد العريان �صاحب ر�سالة‬ ‫العامة‪ .‬وفي عام (‪1944‬م)‪� ،‬أ�صبح رئي�س ًا‬
‫تربوية‪ ،‬وقد ظهر هذا في العديد من كتاباته‬ ‫لمكتب ال�صحافة ب���ال���وزارة‪ ،‬وت����درج في‬
‫وم�ؤلفاته‪ ،‬التي كان يهدف من ورائها تربية‬ ‫المنا�صب‪ ،‬حتى �شغل وظيفة مدير المكتب‬
‫�أول من �أ�صدر مجلة‬ ‫الن�شء‪ ،‬على القيم الرفيعة والمبادئ ال�سامية‪،‬‬ ‫الفني لوزير المعارف (التربية والتعليم) �آنذاك‪.‬‬
‫متخ�ص�صة للأطفال‬ ‫ب��ل ك��ان واح� ��داً م��ن �أه ��م و�أب� ��رز رواد �أدب‬ ‫ك��ان لمحمد �سعيد ال��ع��ري��ان دور ب��ارز‬
‫الأطفال في ع�صره‪ ،‬وقام ب�إ�صدار العديد من‬ ‫في مجاالت �شتى‪� ،‬سواء في ميادين الأدب‬
‫و�أ�سماها (�سندباد)‬ ‫الم�ؤلفات والأعمال‪ ،‬التي تهدف �إلى االرتقاء‬ ‫والت�أليف‪ ،‬والمحا�ضرة والق�صة وال��رواي��ة‬
‫ب��م��دارك و�سلوك الطفل‪ ،‬فكان �أدب الطفل‬ ‫والمقال‪ ،‬وفي تحقيق التراث‪ ،‬وفي التربية‬
‫الذي �أجاد فيه محمد �سعيد العريان نموذج ًا‬ ‫والتعليم‪ ،‬وكان من كتاب الرواية التاريخية‪،‬‬
‫يمثل الآراء التربوية‪ ،‬التي ك��ان يهدف من‬ ‫وعلى دراية بما يكتبه كتاب الرواية التاريخية‬
‫ورائ��ه��ا �إل��ى تربية الأج��ي��ال على حب اللغة‬ ‫الآخرون �أمثال علي الجارم‪ ،‬ومحمد فريد �أبو‬
‫العربية والوعي بالتاريخ العربي والإ�سالمي‪،‬‬ ‫حديد‪ ،‬وعلي �أحمد باكثير‪ ،‬ونجيب محفوظ‬
‫وبطوالت و�أمجاد العرب والم�سلمين‪ .‬ومهما‬ ‫وغيرهم‪.‬‬
‫يكن من �أمر التاريخ‪ ،‬ف�إن �أ�سلوب محمد �سعيد‬ ‫وك��ان �أول ن�شاطه الأدب��ي امتد‪ ،‬بجانب‬
‫العريان الروائي �أقرب �إلى التعبير الحقيقي‬ ‫الق�صة وال��رواي��ة‪� ،‬إل��ى �أدب الأط��ف��ال و�أدب‬
‫تتلمذ على يدي‬ ‫عن الجو الق�ص�صي ب�صفة عامة‪ .‬ولما كانت‬ ‫الرحالت‪ ،‬وتحقيق التراث وكتابة التراجم‪.‬‬
‫الق�صة‪ ،‬تلعب دوراً رئي�سي ًا ومهم ًا في كتابات‬ ‫و�أ�صدر �أكثر من ثالثين كتاب ًا من �أبرزها كتاب‬
‫الأديبين الكبيرين‬
‫الأط��ف��ال‪ ،‬فهي ت�أخذ ن�صيب ًا واف��راً من �أدب‬ ‫(حياة الرافعي)‪ ،‬وتحقيق كتابي (المعجب‬
‫م�صطفى �صادق‬ ‫الأطفال‪� ،‬إ�ضافة �إلى �إقبال الأطفال �أنف�سهم‬ ‫في تلخي�ص المغرب) لعبد الواحد المراك�شي‪،‬‬
‫الرافعي وعلي الجارم‬ ‫على ح��ب مطالعتها ودرا���س��ت��ه��ا‪ .‬وم��ن هذا‬ ‫و(العقد الفريد) البن عبدربه‪ ،‬كما حقق للرافعي‬
‫المنطلق ف ��إن ق�ص�ص التاريخ والبطوالت‪،‬‬ ‫كتابي (ر�سائل الأح��زان في الجمال والحب)‪،‬‬
‫التي �ألفها محمد �سعيد العريان للأطفال‪،‬‬ ‫و(ال�سحاب الأحمر)‪.‬‬
‫كي تحكي لهم الت�صورات للأحداث الما�ضية‪،‬‬ ‫�أما في مجال �أدب الأطفال‪ ،‬فقد كانت له‬
‫وت�صل �شخ�صياتها بالحا�ضر‪ ،‬تهدف �إلى‬ ‫جهود ال تنكر‪ ،‬ومن �أعماله في هذا المجال‪:‬‬
‫تنمية ارت��ب��اط الطفل بتاريخه‪ ،‬وبكرامته‬ ‫(مجموعة التربية الدينية للمدار�س االبتدائية‬
‫الوطنية‪ ،‬وتنمي عنده الحب ال�صادق للوطن‪،‬‬ ‫ورو�ضة الأطفال)‪ ،‬وفيها بث العقيدة والقيم‬
‫�إ�ضافة لهذا ف�إن ق�ص�ص التاريخ‪ ،‬تعتمد على‬ ‫الإ�سالمية الرفيعة والثقافة المتنوعة للأطفال‪.‬‬
‫ق�ص�ص البطوالت الدينية والوطنية‪ ،‬والتي‬ ‫كما كتب (رح�لات �سندباد)‪ ،‬و(ق�صة العرب)‬
‫ُتحكى للأطفال ال�ستح�ضار الما�ضي وربطه‬ ‫لكري�ستوف كولومبو�س‪ ،‬وفي مجال الرواية‬
‫�صاحب ر�سالة‬ ‫بالحا�ضر‪ ،‬لتوقظ ل��دى الأط��ف��ال ال�شعور‬ ‫التاريخية‪ ،‬فقد قدم �أعما ًال �أكثر حيوية ودقة‪،‬‬
‫تربوية ظهرت في‬ ‫بالتقدير والرغبة في التقليد والمناف�سة‪،‬‬ ‫و�أكثر ن�ضج ًا وواقعية و�إقناع ًا من ق�ص�ص‬
‫العديد من م�ؤلفاته‬ ‫وتهدف �إلى الإعجاب بالأبطال وال�سير على‬ ‫الكثيرين في هذا المجال‪ ،‬وله في هذا المجال‬
‫بهدف تربية الن�شء‬ ‫دروب��ه��م ف��ي ال�شجاعة والحكمة والفطنة‬ ‫(قطر ال��ن��دى)‪ ،‬و(ع��ل��ى ب��اب زوي��ل��ة)‪ ،‬و(بنت‬
‫والت�ضحية‪� .‬أي�ض ًا ف�إن ق�ص�ص الأطفال �أكثر‬ ‫ق�سطنطين)‪ ،‬و(�شجرة الدر)‪ ،‬وق�صة الكفاح بين‬
‫�ألوان �أدب الأطفال انت�شاراً‪ ،‬ففيها من العنا�صر‬ ‫العرب واال�ستعمار‪.‬‬
‫الفنية للق�صة من الحبكة‪ ،‬والبيئة الزمانية‬ ‫كما ا�شتهر محمد �سعيد العريان‪ ،‬ب�إ�صداره‬
‫والمكانية‪ ،‬والمو�ضوع وال�شكل والحجم‪ ،‬ما‬ ‫مجلة (�سندباد) في ع��ام (‪1952‬م)‪ ،‬وكان‬
‫يجعل منها مجا ًال يقبل الأطفال على درا�سته‬ ‫رئي�س ًا لتحريرها لعدة �سنوات‪ ،‬كما �ألف الكثير‬
‫وال�شغف به �أكثر من غيره‪.‬‬ ‫من ق�ص�ص الأطفال‪ ،‬منها (ال�صياد التائه)‪،‬‬

‫‪99‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫بين ال�شعر ولحظة الحلم‬

‫عيد عبدالحليم‪:‬‬
‫ال�شاعر هو الرائي و�سارق النار بامتياز‬
‫�شع ٍر وفك ٍر تحر�ض على المزيد من الحرية‬
‫والتوا�صل والحياة‪.‬‬ ‫ع��ي��د ع��ب��دال��ح��ل��ي��م‪ ،‬ال��ك��ات��ب وال�����ص��ح��اف��ي وال�����ش��اع��ر‪..‬‬
‫بين ال�شعر لحظةُ ال ُ��ح��ل��م‪ ،‬وغ��ن��اء و�أن��ي��ن ال���روح وهي‬
‫¯ يقول هولدرلين‪( :‬يبقى على الأر�ض ما‬ ‫ت�����س��ه ُ��م ف��ي ت��رت��ي��ب ُ���س��رر ال��ح��ي��اة وت��ج��م��ي��ل��ه��ا‪� ..‬إل��ى‬
‫يترك ُه ال�شعراء)‪ ..‬قل لي ماذا ترك ال�شعر؟‬ ‫النثر؛ عطر الفكر لل�سباق‪ ،‬وت��ج��اوز العالم في تعليق‬
‫بل ماذا يترك ال�شعراء ع�شاق الأم�س‪ ..‬غرباء‬
‫يعي�شه الإن�سان الحالم‪ ،‬وهو يقو ُد زورقه‬ ‫ُ‬ ‫ج��ريء عما‬
‫اليوم؟‬ ‫ِعذاب الركابي‬
‫‪ -‬ما يتركه ال�شعر هو �أثر الفرا�شة كما‬ ‫العنيد متحدي ًا �أم����واج ب��ح��اره‪ ..‬ورع��ون��ة عوا�صفه‪.‬‬
‫يقول محمود دروي�ش‪ ،‬ذلك الأث��ر ال��ذي ال‬
‫أخاديد الخلود‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُيرى‪ ،‬لكنه يحفر في الروح �‬ ‫الإن�سان �إلى حياة الحياة‪ ..‬ووجود الوجود!‬ ‫عيد عبدالحليم وال�شعر الم� ّؤ�س�س للحياة‪..‬‬
‫أ�ساطير الجمال‪،‬‬
‫َ‬ ‫وينق�ش على ج�سد الحياة �‬ ‫وال�شاعر �أحد المريدين الواقفين على‬ ‫إحباط وك� ٍ‬
‫آبة‬ ‫واللقاح الم�ضاد لفيرو�س ك ّل � ٍ‬
‫فال�شعر مثل الن�سغ الأخ�ضر‪ ،‬الذي ي�سري‬ ‫باب الحرية‪� ،‬إذ ال �أ�صابع مكهربة بالعدالة‪،‬‬ ‫و�ضج ٍر واغتراب‪�( ..‬أث��ر الفرا�شة)‪ ،‬ومملكة‬
‫ف��ي ج�سد ال�شجرة فيمنحها االزده���ار‬ ‫وهي تطرق هذا الباب‪� ،‬إال �أ�صابع ال�شاعر‪/‬‬ ‫�شاعر يراوغ بال�شعر‬
‫ٌ‬ ‫الجمال في الحياة‪..‬‬
‫واالخ�ضرار‪ ،‬ويجعلها قادرة على الإثمار‪.‬‬ ‫الرائي‪� ،‬سارق النار بامتياز!‬ ‫ال��ذات المتهدمة وه��ي تبحث عن ذاتها‪..‬‬
‫بال�شعر نرى ال�صفات الأجمل في الحياة‬ ‫عيد عبدالحليم وال�شعر‪/‬الحلم‪ ..‬والفكر‪-‬‬ ‫ويتو�سل في ���ش��ذرات الفكر الإ�سهام في‬
‫ونتعامل بها‪ ،‬فلو � ّأن هذه الحياة بال ِ�شعر‪،‬‬ ‫نزهة ال��ع��ق��ل‪ !..‬ولنا ف��ي حديث ِه ���ش� ُ‬
‫�ذرات‬ ‫الق�ضايا الكبرى‪ ،‬حيث الحرية بو�صلة‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪100‬‬


‫مقابلة‬

‫بوجود د‪�.‬سلطان‬
‫القا�سمي �أنا متفائل‬
‫بم�ستقبل الم�سرح‬
‫العربي‬

‫من م�سرحية «باب الفتوح» للكاتب محمود دياب‬

‫¯ منذ ديوانك الأول وو�صو ًال �إلى ديوانك الأخير‬ ‫ت�صور كيف تكون الإقامة عليها؟! ال�شعراء منذ‬
‫(حبر �أبي�ض) و�أنت من �أيتام الحرية ‪/‬الباحث‬ ‫بداية الب�شرية‪� ،‬أعمالهم هي التي جعلت هذه‬
‫عن العدالة في هذا العالم ‪/‬المتاهة؟ ماذا في‬ ‫الحياة قابلة لأن يحيا فيها الب�شر‪ ،‬لأن البديل‬
‫ال�شعراء هم من‬ ‫قوافي الق�صائد �أي�ض ًا؟‬ ‫ك��ان التناحر وال��ح��روب وال��م��وت بالت�أكيد‪.‬‬
‫جعلوا الحياة قابلة‬ ‫‪ -‬ال�شعر من وجهة نظري هو فل�سفة للحياة‪،‬‬ ‫فالحياة هي ما ي�ؤ�س�سه ال�شعراء‪ ،‬ونظرة �سريعة‬
‫للعي�ش منذ البداية‬ ‫ور�ؤيتها بعين الحقيقة‪ ،‬ومنذ بداية كتابتي‬ ‫على الح�ضارات الكبرى كيف تم تخليدها‪َّ � ،‬إن‬
‫لل�شعر و�أنا تتملكني مقولة ل�صالح عبدال�صبور‪،‬‬ ‫ذلك ما تركه �شعرا�ؤها مثلما نرى في الح�ضارة‬
‫وهي (عندي �شهوة لإ�صالح العالم)‪ .‬فال�شعر‬ ‫اليونانية والح�ضارة الفرعونية والح�ضارة‬
‫لي�س تعبيراً مجاني ًا عن العواطف‪� ،‬إنما حفر في‬ ‫الآ�شورية والح�ضارة العربية‪ ،‬وهكذا‪ ..‬و�إذا‬
‫ج�سد الواقع‪ ،‬ومالم�سة لكل مفرداته ال�سيا�سية‬ ‫كان ال�شاعر بحكم تكوينه النف�سي والعاطفي‬
‫واالجتماعية‪ .‬ولي�س عيب ًا �أن يعبر ال�شعر عن‬ ‫يح�س باالغتراب في الحياة‪ ،‬ف� ّإن هذا االغتراب‬
‫الق�ضايا الكبرى‪ ،‬خالف ًا لما يروجه البع�ض‬ ‫يتحول �إلى طاقة روحية يبثها في ق�صائد ِه‪،‬‬
‫من �أن الق�صيدة الحداثية هي بنت التفا�صيل‬ ‫فمن اغتراب ال�شاعر يولد �أمل المتلقي‪ ،‬وهكذا‪..‬‬

‫من م�ؤلفاته‬

‫‪101‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقابلة‬

‫ال�صغيرة فقط‪ ،‬وال عالقة لها بالق�ضايا الكبرى‪،‬‬


‫�أن��ا �أرى هذه اللحظة اختلطت فيها الق�ضايا‬
‫الكبرى بالق�ضايا ال�صغرى والعك�س‪ ،‬وفي هذه‬
‫المتاهة ال بد لل�شعر �أن تكون له مقترحاته‬
‫الجمالية‪ ،‬و�إال لو �صمت ال�شعراء ف�إن �صمتهم‬
‫عد جريمة �إبداعية‪ ،‬فال�شاعر هو فيل�سوف‬ ‫ُي ّ‬
‫عبر دواويني‪،‬‬
‫َ‬ ‫أنا‬ ‫�‬ ‫بالذهب‪.‬‬ ‫توزن‬ ‫جملته‬ ‫إبداع‪،‬‬ ‫ال‬
‫وكذلك عبر كتبي النقدية والفكرية‪� ،‬أعتبر نف�سي‬
‫�أحمد �شوقي‬ ‫�سعداهلل ونو�س‬ ‫محمود دياب‬ ‫�أحد المريدين الواقفين على باب الحرية‪.‬‬

‫الح�ضاري والفكري‪ ،‬الذي تتميز به المنطقة‬ ‫¯ �أ�صدرت كتابين جدليين مهمين في الفكر‬
‫العربية‪ .‬فلو نظرنا �إلى تاريخ ال�صحافة العربية‪،‬‬ ‫والثقافة‪ ،‬قل لي‪ :‬من يعي�ش على هذه التربة‬
‫�سنجد �أن ن�ش�أتها كانت ثقافية‪ ،‬وكانت ق�صائد‬ ‫القلقة؟ الفكر دفقة ال�ضوء والحلم؟ �أم الإن�سان‪/‬‬
‫�إرث ال�شعراء هو‬ ‫�أحمد �شوقي وبيرم التون�سي تن�شر في ال�صفحة‬ ‫الحالم؟ تحت ميكرو�سكوب العولمة والنظام‬
‫الأولى من الجريدة‪� ..‬أما عن (�أدب ونقد)؛ في�أتي‬ ‫العالمي الجديد‪ ،‬الذي وجدنا فيه �إن�سان ًا �أكثر‬
‫الذي خلد الح�ضارات‬ ‫�سبب وج��وده��ا بقوة على ال�ساحة الثقافية‬ ‫امتهان ًا وفقراً وقهراً و�ضياع ًا؟‬
‫الإن�سانية الكبرى‬ ‫العربية برغم �إمكانياتها الب�سيطة من الناحية‬ ‫‪ -‬ح��اول��ت �أن �أر���ص��د م��ا يتعر�ض له‬
‫المادية‪ ،‬وكونها الأكثر ح�ضوراً في الثقافة‬ ‫المبدعون والمفكرون من ت�ضييق‪ ،‬وم�صادرة‬
‫الم�صرية‪ ،‬من كونها �أخل�صت لفكرة الثقافة‬ ‫حرياتهم الإبداعية والفكرية عبر كتابين هما‬
‫الجادة‪ ،‬و�إيمان ًا بتقديم �أفق التجديد في الإبداع‬ ‫(فقه الم�صادرة) و(الحرية و�أخواتها)‪ ..‬حاولت‬
‫والنقد والفكر‪ ،‬منذ ت�أ�سي�سها عام (‪.)١٩٨٤‬‬ ‫تتجدد‬
‫ّ‬ ‫تلم�س �أوج��اع الثقافة العربية التي‬
‫با�ستمرار‪ ،‬من خ�لال و�ضعية المثقف الذي‬
‫ً‬
‫الم�سرح �أي�ضا‪ ،‬وح�صلت على جائزة‬ ‫َ‬ ‫يحمل م�شاعل التنوير في مجتمع يهم�ش دور ¯ كتبت‬
‫ال�شعر لي�س تعبيراً‬ ‫المعرفة‪ ،‬بل ويلغيها �أحيان ًا‪ ،‬لم�صلحة ثقافة توفيق الحكيم‪ ..‬كيف تقيم الحركة الم�سرحية‬
‫مجاني ًا عن العواطف‬ ‫تقليدية ذات طابع �أبوي متخلف‪ ،‬بالرغم من في بالدنا؟‬
‫‪ -‬دعني �أقل في البداية‪َّ � ،‬إن الم�سرح العربي‬ ‫� َّأن الثقافة هي �أحد حوائط ال�صد القوية في‬
‫بل حفر في ج�سد‬ ‫مواجهة القوى الظالمية التي تترب�ص بالأمة‪ .‬من �أه��م التجارب الم�سرحية على الم�ستوى‬
‫الواقع بمقترحات‬ ‫العالمي خالل المئة عام الأخيرة‪ .‬فهناك ك ّتاب‬
‫جمالية‬ ‫¯ ككاتب و�شاعر و�صحافي ورئي�س تحرير يوازون التجارب الكبرى العالمية‪ ،‬مثل‪ :‬محمود‬
‫مجلة ثقافية وا�سعة االنت�شار في م�صر والوطن دي��اب و�سعداهلل ونو�س و�صالح عبدال�صبور‪..‬‬
‫ممن قدموا ر�ؤي��ة عربية في‬ ‫العربي‪ ..‬كيف تقيم �صحافتنا الثقافية؟ البع�ض وغيرهم‪ .‬ه ��ؤالء ّ‬
‫يراها مر�آ ًة مه�شمة‪ ،‬ولماذا (�أدب ونقد) برغم الم�سرح‪ .‬وحالي ًا تلعب المهرجانات الم�سرحية‬
‫العربية دوراً مهم ًا في تحريك المياه الراكدة‪،‬‬ ‫�إمكاناتها الب�سيطة الأكثر ح�ضوراً وانت�شاراً؟‬
‫‪ -‬ال�صحافة الثقافية مظلومة في الوطن وكذلك ال��دور المهم للهيئة العربية للم�سرح‪،‬‬
‫العربي ب�شكل عام‪ ،‬وفي م�صر ب�شكل خا�ص‪ ،‬والتي �أن�ش�أها �صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور‬
‫الثقافة �أحد حوائط‬ ‫فعدد المجالت الثقافية المتخ�ص�صة قليل �سلطان القا�سمي‪� .‬أنا متفائل بم�ستقبل الم�سرح‬
‫ال�صد القوية‬ ‫للغاية ال يتنا�سب مع حجم ال�سكان وال مع البعد العربي بخالف الكثيرين‪ ،‬و�أعتقد �أن الكتابة‬
‫لمواجهة الظالم‬ ‫للم�سرح لها غ��واي��ة خا�صة‪،‬‬
‫والتخلف‬ ‫خا�صة الم�سرح ال�شعري‪ ،‬الذي‬
‫ب����د�أت ف��ي كتابته وح�صلت‬
‫م�سرحيتي الأولى (الجرافة) على‬
‫جائزة توفيق الحكيم من وزارة‬
‫الثقافة الم�صرية‪ ،‬وكتبت بعدها‬
‫ثالث م�سرحيات �أخرى‪ ،‬حاولت‬
‫االقتراب من خاللها من الواقع‪.‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫بيرم التون�سي‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪102‬‬


‫مقاالت‬
‫�آمـال‬

‫الخوف‪ ..‬عدو الإن�سان الأول‬


‫�أي�ض ًا‪ ،‬و�أب��دع��ت عقولهم الحلول والبدائل‪،‬‬ ‫هناك في الزمن البعيد‪ ..‬وفي مغارات‬
‫فهزموا خطر االن��ق��را���ض‪ ،‬ودح ��روا الخوف‬ ‫�أجدادنا حكايات و�أ�ساطير مده�شة‪ ،‬خطها‬
‫على الوجود‪ ،‬وتكاثرت �أعداد الب�شر‪ ،‬وتزايدت‬ ‫الأج����داد ر���س��وم� ًا على �صخور مغاراتهم‪،‬‬
‫الجماعات الب�شرية‪ ،‬وا�ستقرت في حوا�ضر‬ ‫�أو �إ���ش��ارات على دروب �أحفادهم‪� ،‬أو على‬
‫وح�ضارات‪� ..‬إلى �أن حل بالأفراد والجماعات‬ ‫خطها الأجداد تراتيل‬ ‫مفارق ع�شاق الحياة‪ّ ..‬‬
‫والمجتمعات تهديد خطير‪ ،‬وبات العنف اليوم‬ ‫و�صلوات‪ ،‬و�ألحان ًا لأج��را���س معابد‪ ،‬تن�شد‬
‫من كبريات الم�شكالت التي تواجه ال��دول‪،‬‬ ‫�أ�شعار الأن�سنة والجمال‪ ،‬وت�صلي للمحبة‬
‫وتهدد المدنية والتمدن‪ ،‬و�أ�ضحت ال�شعوب‬ ‫وال�سالم والعي�ش الم�شترك‪.‬‬
‫مفيد �أحمد ديوب‬
‫والجماعات والأف��راد يعي�شون خوف ًا جديداً‬ ‫هناك في الزمن البعيد �أقا�صي�ص �أدباء‬
‫م�صدره (داخلي) من �أبناء جلدتهم‪ ،‬م�صدره‬ ‫و�أق��وال مبدعين‪ ،‬وحكايات رحالة‪� ،‬أوج��زوا‬
‫جهاز ناقل‪ ،‬عو�ض ًا عن كونه عق ًال مفكراً‪،‬‬ ‫ومن�ش�ؤه �سلوك العنف والكراهية والإرهاب‪،‬‬ ‫معنى ال��ح��ي��اة‪ ،‬وراك��م��وا درو���س � ًا لتالميذ‬
‫ومبدع ًا للأفكار والحلول‪ ،‬عق ًال تفرد الإن�سان‬ ‫تمار�سه فئات من الب�شر ا�ستخدمت �سالح‬ ‫المعارف والعلوم والآداب‪ ،‬هناك حفر الأجداد‬
‫فيه وبطاقاته و�إبداعاته‪ ،‬فا�ستلبته لم�صلحة‬ ‫الفكر‪ ،‬ذاك ال�سلوك العدواني الذي هو تطبيق‬ ‫في ال�صخر �شرعاتهم ل�صون الوجود والحقوق‪،‬‬
‫مرجعيات ع��دي��دة‪ ،‬و�أف��ق��دت��ه اال�ستقاللية‬ ‫مبا�شر وميكانيكي وانعكا�س لما هو موجود‬ ‫و�أعراف ًا لتحقيق الأمن والأمان‪ ،‬هناك نق�شوا‬
‫والفرادة‪ ،‬و�صادرت حرية التفكير والن�شاط‬ ‫من �أفكار خطيرة اكت�سبها العقل وولجت �إلى‬ ‫في ال�صخر خبراتهم وتجاربهم و�آداب��ه��م‪،‬‬
‫الحر‪ ،‬و�أ�ضعفت فيه الثقة بالذات‪ ،‬وجعلته‬ ‫الذهنية‪ ،‬ثم تعممت وانت�شرت‪.‬‬ ‫لتكون عتبات (�إن�سانية) تكر�س نزوع ًا لتبد�أ‬
‫م�ستباح ًا ومتلقي ًا وم�ست�سلم ًا‪ ،‬م�ستقب ًال‬ ‫تجلى ال�صراع االجتماعي بين فئات‬ ‫�أجيالهم منها‪ ،‬يبد�ؤون وينطلقون من حيث‬
‫لأب�سط �أ�شكال التفكير الب�شري‪ ،‬كل ذلك ترافق‬ ‫الجماعة الواحدة على ال�سطح‪ ،‬فكري ًا وثقافي ًا‪،‬‬ ‫انتهى �إليه �أجدادهم‪ ،‬ليراكموا هم عتباتهم‬
‫بو�سائط الخوف والتخويف‪ ،‬و�أو�صلته لي�صبح‬ ‫بين جبهتين فكريتين متناق�ضتين‪ ،‬بين‬ ‫الجديدة �أي�ض ًا‪ ،‬وهم يبنون في م�سيرتهم عالم ًا‬
‫متكوراً على ذاته‪ ،‬ومحافظ ًا على ثوابته التي‬ ‫ثقافتين متناحرتين‪ ،‬وبذلك تقابل الفكر‬ ‫�أكثر �أن�سنة و�أقل خوف ًا‪ ،‬و�أكثر �أمن ًا‪ ،‬ي�شيدون‬
‫ن�ش�أ عليها‪ ،‬فخلق الخوف منه عق ًال عدائي ًا‬ ‫المدمر �ضد الفكر المعمر‪ ،‬مدعوم ًا بو�سائل‬ ‫مجداً من �سالم ومحبة‪ ،‬ويبنون عالم ًا خالي ًا‬
‫تجاه كل من يخالفه ال��ر�أي‪ ،‬كاره ًا لكل من‬ ‫الإك���راه والتخويف والترهيب‪� ،‬ضد الفكر‬ ‫من الخوف والترهيب‪ ،‬عالم ًا نظيف ًا من نزوع‬
‫يعار�ض تلك الثوابت‪ ،‬وبذلك تفككت روابط‬ ‫الم�سالم ال�سلمي‪ ،‬الأعزل من كل �شيء �إال من‬ ‫بطوالت الحروب المزعومة‪� ،‬أو فارغ ًا من‬
‫المحبة والت�ضامن بين الأفراد والجماعات‪،‬‬ ‫قدرته على الإقناع العقلي‪ ،‬والن�شاط الذهني‪..‬‬ ‫زعامات القتال وتجار االقتتال‪ ،‬ي�شيدون‬
‫وهيمنت نزعات العدوان واالعتداء‪ ،‬وبذلك‬ ‫فات�سم ذاك الفكر المدمر بالإرهاب الفكري‪،‬‬ ‫عالم المحبة والتعاي�ش‪ ،‬وثقافة الت�شارك‪،‬‬
‫تعمم الخوف على كامل �أفراد المجتمع كنظام‬ ‫واتجه �إلى مفا�صل الحياة‪ ،‬وتعطيل محاورها‬ ‫عالم ًا مح�صن ًا ب�أفكار الت�ساوي والندية‪،‬‬
‫حياة‪ ،‬ونمط عي�ش‪ ،‬لي�صبح ثقافة عامة‪ ،‬يطبع‬ ‫الأ�سا�سية‪ ،‬وكثف مفكروه جهدهم في كل‬ ‫و�أفكاراً تناه�ض �أفكار الكراهية والعن�صرية‪..‬‬
‫الثقافة ال�سائدة ب�أثرها‪.‬‬ ‫مجال يعيق تقدم (الوعي) الإن�ساني‪ ،‬وحرفه‬ ‫ليكون عالم ًا �صالح ًا للعي�ش ب�أمان و�سالم‪.‬‬
‫وح�سمت المعارك الثقافية بالنهاية‬ ‫عن م�سار تطوره‪ ،‬وا�ستهدفوا بالمجال الفكري‬ ‫لقد واج��ه �أج��دادن��ا خوفهم ال��ذي ه��و عدو‬
‫لم�صلحة ثقافة ال��خ��وف‪ ،‬خا�صة ب�إعالن‬ ‫ت�أ�سي�س منظومة �أفكار وقيم تناولت وتعاطت‬ ‫الإن�سان الأخطر منذ القدم‪ ،‬واجهوه بالتفكير‬
‫الحرب على الفكر والمفكرين‪ ،‬و�شن الهجوم‬ ‫مع المحاور الأ�سا�سية في الحياة‪.‬‬ ‫والفكرة‪ ،‬و�أبدعوا له حلو ًال عبر تعزيز فكر‬
‫ع��ل��ى الأدب والأدب������اء‪ ،‬و�إط��ل�اق حمالت‬ ‫اتجه مفكرو ذاك االت��ج��اه �إل��ى محور‬ ‫التعاي�ش والمحبة والت�ضامن‪ ،‬و�أر�سوا �أفكار‬
‫العداء واالتهامات على الثقافة والمثقفين‪،‬‬ ‫(الإن�سان) ومكانته‪ ،‬و�إل��ى قيمته‪ ،‬ومعنى‬ ‫�أ�س�س العي�ش الم�شترك‪ ،‬كان ذلك عندما كان‬
‫م�ستخدمة �أ�شكال الخوف والتخويف في‬ ‫وجوده‪ ،‬ف�سعى ذاك الفكر �إلى تحويل معنى‬ ‫عدوهم وخوفهم �سهل العراك‪ ،‬ومقت�صراً على‬
‫�أدوات حربها الثقافية‪ ،‬وم�شكلة جبهة ثقافية‬ ‫وج��ود الإن�����س��ان‪ ،‬م��ن كونه محور الن�شاط‬ ‫خوفهم من قوى الطبيعة المهددة لبقائهم‪ ،‬من‬
‫معادية للتقدم والأن�سنة‪ ،‬جبهة لها نخبها‬ ‫والفاعلية والعمران‪ ،‬ومحور الحياة ومركز‬ ‫غمو�ض ظواهرها المخيفة لهم‪ ،‬ومح�صوراً‬
‫وم�ؤيدوها وجمهورها من الخائفين‪.‬‬ ‫االهتمام وهدف الغايات‪� ،‬إلى كائن ب�شري‬ ‫في عجزهم عن تف�سير �أ�سرار ظواهر الطبيعة‬
‫وهذا ي�ستوجب منا‪ ،‬نحن الآباء والأمهات‪،‬‬ ‫م�سخر لجهة معينة‪� ،‬أو جعله خادم ًا للم�شاريع‬ ‫المهددة لوجودهم‪ ،‬فتغلبوا على ذاك الخوف‬
‫دوراً مهم ًا في م�ؤازرة الم�ؤ�س�سات والحكومات‬ ‫الخا�صة‪ ،‬والجماعات الفئوية‪ ،‬م�ستخدمين‬ ‫(الخارجي) الم�صدر ب�سالح الفكر والفكرة‬
‫التي تناه�ض الخوف والعنف‪ ،‬و�إ�سهام ًا كبيراً‬ ‫في �سعيهم �أدوات الرهاب والترهيب والخوف‪،‬‬
‫في تربية �أوالدن���ا بو�سائل ال�سلم و�أفكار‬ ‫وا�ستخدام �سطوة �سلطات القمع والتخويف‪..‬‬
‫ال بد لنا نحن الآباء من‬
‫ال�سالم‪ ،‬ومناه�ضة العنف‪ ،‬وتح�صين عقولهم‬ ‫ث��م اتجهت تلك ال��ق��وى المهيمنة �إل��ى‬
‫ب�أفكار المحبة وال�سالم والعي�ش الم�شترك‪،‬‬ ‫(العقل) منتج التفكير والأفكار ومبدع الحلول‬ ‫م�ؤازرة دور الم�ؤ�س�سات في‬
‫وتمجيد القيم الإن�سانية‪.‬‬ ‫والبدائل‪ ،‬فجعلت منه مجرد وعاء جامع‪� ،‬أو‬ ‫تمجيد القيم الإن�سانية‬

‫‪103‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫فقال‪ :‬ال ت�صدقه‪ ...‬فلم ت�شهد الدنيا‬ ‫وظف الدعابة للتخفيف من �شبح ال�ضياع‬
‫�أتع�س منه! ف�س�ألته باندها�ش‪ :‬ولماذا‬
‫تخليتم عنه؟ فقال‪ :‬ال‪ ،‬بل مكتوب عليه‬
‫ال�شقاء منذ �أن كان في بطن �أمه‪ ..‬فعندما‬
‫و�ضعنا ا�سمه في ك�شوف المنحة الملكيـــة؛‬
‫عبدالحميد الديب‬
‫�سقط ا�سمه دون بقية الأ���س��م��اء! وعندما‬
‫وجدنا له وظيفة (مراجــع لغــوي) بثالثــة‬
‫�شاعر الب�ؤ�س و�آخر �صعاليك الأدب‬
‫جنيهات �شهري ًا؛ لكن من حظه العاثر؛ �أن‬
‫الذي اختبره كان من �ألد �أعدائه‪ ،‬ولم يقبله!‬ ‫في منت�صف الثمانينيات؛ زرت (مكتبة كيالني) بميدان باب‬
‫وعندما وجدنا (عرو�سة) تنا�سبه؛ وبينما هو‬ ‫الخلق في القاهرة‪ ،‬وهنالك ر�أيت رج ًال كهالً‪ ،‬وقد �أخبرني‬
‫في الطريق �إلى منزلها �صدمته �سيارة‪ ،‬فظل‬ ‫�صاحب المكتبة �أن ه��ذا الرجل من �أ�صدقاء ال�شاعر‬
‫مك�سور ال�ساقين ثالث �سنوات‪ ...‬وظل الرجل‬ ‫(عبدالحميد الديـب)! فقلت له على الفور‪� :‬أنت ممن‬
‫يحكي لنا عن �شقاء الديب وم�آ�سيه ما يجعل‬
‫الحليم حيران!‬
‫عا�شوا في زمن (�شاعر الب�ؤ�س)؟ ف�ضحك من �أعماقه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫محمد عبدال�شافي‬
‫نعم؛ فحياة ال�شاعر عبدالحميد الديـب‬ ‫القو�صي‬ ‫ماذا �أعجبك فيه؟ قلت‪� :‬شاعريته العذبة والجريئة‪.‬‬
‫(‪1946 -1898‬م) �أ�شبه بق�صة تراجيدية‬
‫محكمة‪ ...‬حتى لقبوه بـ(�شاعر الب�ؤ�س)!‬
‫فقد التحق ب��الأزه��ر �سنة (‪1920‬م)‪،‬‬
‫لكنه ما لبث �أن عدل عنه �إلى مدر�سة (دار‬
‫العلوم) ليظفر بالمكاف�أة ال�شهرية التي‬
‫تمنحها لطالبها‪ ،‬لكنه لم يكمل درا�سته!‬
‫ف�أدمن ال�صعلكة وال�ضياع‪ ،‬وق�ضى عمره‬
‫على مقاهي القاهرة و�أر�صفتها‪ ،‬وجرب‬
‫ال�سجن‪ ،‬ودخل م�ست�شفى الأمرا�ض العقلية!‬
‫ل��ذا؛ ج��اءت �شاعريته تعبيراً �صاخب ًا‬
‫و�صادق ًا عن حياة بائ�سة معدمة‪ ...‬فا�ستمع‬
‫�إليه وهو يخاطب غرفته وقد �سترت �أحزانه‬
‫و�آالم��ه وفقره و�شكايته عن النا�س‪� ،‬سيما‬
‫ذوو الل�ؤم منهم‪ ،‬حتى ظن بع�ضهم لفرط‬
‫تجلده وتجمله غني ًا‪ ،‬وما غناه �إال �سراب‬
‫خ��ادع يتظاهر ب��ه �أم ��ام النا�س ليحفظ‬
‫كرامته‪ ،‬لأن النا�س ال يعظمون �إال الأغنياء‪:‬‬
‫يا غرفتي ما ع�شت �أحبوك الر�ضا‬
‫وقيتني ف��ي م��دم��ع��ي‪ ،‬و�شكايتي‬
‫قالوا ا�ستقام لك ال��زم��ان‪ ،‬و�إنما‬
‫ح�صنت بالكبر العظيم كرامتي‬
‫والنا�س �إن لمحوا الغنى في كائنٍ‬
‫فلقد حجبت عن ال��ورى �أو�صابي‬
‫��اب‬
‫�أذن ال��ل��ئ��ي��م ون���ظ���رة ال��م��رت ِ‬
‫�أوه���م���ت ح�����س��ادي ب��ل��م��ع ���س��راب��ي‬
‫و�أن���ا النبيل ال�شهم بين �صحابي‬
‫أرب������اب!‬
‫ِ‬ ‫رف���ع���وه ف���وق م���رات���ب ال‬

‫كان (الديب) يعتقد �أنه طالما �أ�ضفى‬


‫على النا�س من ظله‪ ،‬ومنحهم ر�ضاب بيانه‪،‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪104‬‬


‫حالة‬

‫ويزداد تعجبه من عدم الوفاء عندما يوازن‬ ‫فا ّتجروا به و�أثروا‪ ،‬وهو يتلوى م�سغب ًة وفاقة‪،‬‬
‫بين الإن�سان‪ ،‬وبين الكلب الذي ال يدع �سيده‬ ‫أديب لمع نجمه وت�ألق وكان ي�ستمد‬ ‫فكم من � ٍ‬
‫مهما حل به من فاقة‪ ،‬فال ي�شكو الجوع �أو‬ ‫�ضوءه و�إ�شراقه من نف�س الديب التي �صهرها‬
‫يت�سول‪ ،‬بل ي�شاركه �شظف العي�ش‪:‬‬ ‫الألم فتوهجت‪ ،‬و�إن بقيت را�سبة في البوتقة‪:‬‬
‫ك���ل��اب �إن ك��ل��ب��ت��ن��ا‬
‫ٌ‬ ‫ل���ي���ت ال���ع���ب���اد‬ ‫ي����ا �أم�������ةً ج��ه��ل��ت��ن��ي وه�����ي ع��ال��م��ة‬
‫تحملت ق�سطها ف��ي الب�ؤ�س �صابرة‬ ‫�أع��ي�����ش ف��ي��ك��م ب�ل�ا �أه�����لٍ وال وط���نٍ‬
‫كتب عليه ال�شقاء في‬ ‫ل��� ّم���ا ت����زل ل��ح��ف��اظ ال�����ود ع��ن��وان��ا‬ ‫ول��ي�����س ل��ي م��ن ح��ب��ي ٍ��ب ف��ي ربوعكم‬
‫حياته والزمه �سوء‬ ‫ِ‬
‫ت�ستجد �إن�سانا‬ ‫ت�شك جوع ًا ول��م‬
‫ُ‬ ‫لم‬ ‫�إن ال��ك��واك��ب م��ن ن����وري و�إ���ش��راق��ي‬
‫الحظ‬ ‫ك��ع��ي�����ش م��ن��ت��ج��ع ال���م���ع���روف �أفّ�����اقِ‬
‫ولما ا�شتدت بال�شاعر الفاقة‪ ،‬و�ضاق به‬ ‫�إال الحبيبين‪� :‬أق�لام��ي و�أوراق����ي!‬
‫الحال؛ ت�سلل �إلى الأحزاب ال�سيا�سية‪ ،‬يمدح هذا‪،‬‬
‫ويهجو ذاك‪ ،‬ولم ي�سلم �أحد من هجائه الحارق‪،‬‬ ‫بل ا�ستمع �إليه وهو يبالغ في تقدير نف�سه‪،‬‬
‫وفي مقدمتهم‪ :‬ال��وزراء والأع��ي��ان‪ ،‬كما هجا‬ ‫وال تعجب! ف�إنه عزاء من جفاه الحظ ال�سعيد‪،‬‬
‫الأدباء‪ ،‬ورجال ال�صحافة‪� ،‬أمثال‪ :‬جبرائيل تقال‬ ‫وهو يرى من تغذوا بقلمه قد �سعدوا وظل �شقي ًا‪،‬‬
‫�صاحب جريدة الأهرام‪:‬‬ ‫و�أثروا وما فتئ ذا متربة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وك��ان (ال��دي��ب) ي�صل �إل��ى ذروة الغ�ضب‬
‫ب��ح�����س��رة �إن ����ض���اع ع��م��ري‬ ‫�أم������وت‬
‫وقمة الغيظ من الواقع المحيط به‪ ،‬فك�أنه يقف‬
‫ول������م �أن�������ج ال����ب��ل�اد وم������ن ع��ل��ي��ه��ا‬
‫في و�سط الطريق �شاهراً �سيفه على النا�س‪،‬‬
‫ول�����م �أظ����ف����ر ب���ج���ب���رائ���ي���لَ تَ��� ْق�ل�ا‬
‫م���ن (ال���������ش����وام) ت�������ش���ري���د ًا وق��ت�لا‬ ‫و�صارخ ًا ب�أعلى �صوته‪:‬‬
‫ي��م��ي��ن�� ًا ل��ئ��ن ل���م ي���ؤم��ن��وا بق�ضيتي‬
‫م�سيرته الحياتية‬ ‫بل �ضاق (ال��دي��ب) ذرع�� ًا ب�سائر الأدب��اء‬ ‫�س�أرقب ع��د ًال من ق�ضائي‪ ،‬ف���إن �أب��وا‬
‫والأدبية �أ�شبه بق�صة‬ ‫والكتاب‪ ،‬فهجاهم جميع ًا‪.‬‬ ‫لأم�����ض��ي �إل��ي��ه��م �سهم ظلمي م�سددا‬
‫تراجيدية‬ ‫يعرف ال�شاعر (الديب) ب�أنه �صاحب �أ�شهر‬ ‫�أب���ت ق��وت��ي ف��ي ال��ه��ج��و �أن تتقيدا‬
‫ق�صيدة بذيئة في ال�شعر المعا�صر‪ ،‬وب�سبب‬
‫ك��ان يغلب على (ال��دي��ب) �ضيق ال�صدر كراهية النا�س لها لم يحفظها �أحد‪ ،‬ولم تن�شر‬
‫بالحياة‪ ،‬والتبرم بها‪ ،‬والتمرد عليها‪ ،‬فكان في كتاب! لكنها تك�شف عما تعر�ض له ال�شاعر‬
‫ي�صرح وال يكني‪ ،‬تعبيراً عن فقره وما يعانيه من �ضياع نف�سي‪.‬‬
‫وم��ع ذل��ك؛ ك��ان (ال��دي��ب) يتمتع بالمرح‬ ‫من ذل ونكران يتجرعه ليل نهار‪ .‬بل �صار‬
‫�ساخط ًا على العباد والبالد‪ ،‬و�ساخط ًا على كل والدعابة‪ ،‬وخفة الظل‪ ،‬وربما ا�ستخدم �سالح‬
‫الدعابة للتخفيف من �شبح ال�ضياع‪ ،‬وكابو�س‬ ‫�شيء حوله‪:‬‬
‫وق���د ���س��اء ظ��ن��ي ب��ال��ع��ب��اد جميعهم‬
‫ف�أجمعت �أم��ري في العداء و�أجمعوا‬

‫ف�ض ًال عن الآالم الح�سية‪ ،‬فقد كانت له‬


‫�شكاية من الآالم المعنوية‪ ،‬التي كان م�صدرها‬
‫أنا�س‬
‫ال�شعور بعدم التقدير ونكران الجميل من � ٍ‬
‫�أ�سدى �إليهم معروف ًا‪ ،‬و�أعانهم ب�أدبه حتى‬
‫برزوا في الحياة ثم تنكروا له‪ ،‬فكانوا مث ًال في‬
‫عدم الوفاء‪ ،‬فا�ستمع �إليه ي�صور نكران الجميل‪:‬‬
‫ب��ي��ن ال��ن��ج��وم �أن���ا����س ق���د رفعتهمو‬
‫ن����وح �أن�������ش����أت ح��رم�� ًا‬
‫وك��ن��ت ���س��ف��ي��ن ٍ‬
‫ل��م �أد ِر م��ـ��اذا طعمتم ف��ي موائدكم‬
‫�إل���ى ال�����س��م��اء ف�����س��دوا ب���اب �أرزاق����ي‬
‫ل��ل��ع��ال��م��ي��ن ف���ج���ازون���ي ب����إغ���راق���ي!‬
‫لحم الذبـيحة �أم لحمي و�أخالقي؟!‬

‫‪105‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫حالة‬

‫الم�صائب الذي ال يفارقه! فيحكى �أن حالق ًا‬


‫كان يتعاطف معه‪ ،‬ويحلق له مجان ًا‪ ،‬ويعطيه‬
‫من النقود ما يواجه به حياته الم�ضطربة‪،‬‬
‫فقال في حالقه‪:‬‬
‫�أخ�����ي وج������اري وح�ل�اق���ي ود ّي���ان���ي‬
‫م��ق�����ص��ه ح���ال���ق ل��ل�����ش��ي��ب ي��م��ح��ق��ه‬
‫ومم�سكي �إن �أم���ال ال��ده��ر ميزاني!‬
‫وح��ال��ق ب��ال��ح��دي��ث ال��غ��ث �أح��زان��ي!‬

‫ذات مرة؛ عوتب (الديـب) لأنه لم يقل �شعراً‬


‫في زف��اف الملك ف��اروق‪ ،‬كما قال غيره من‬
‫ال�شعراء‪ ..‬فراح ينكر �أنه من �شعب المليك! و�إال‬
‫لنظر �إليه ورع��اه كما رعى غيره من بطانة‬
‫المازني‬ ‫طه ح�سبن‬ ‫ال�سوء‪ ...‬وكيف ينظم �شعراً وهو الذي يح�س ب�أنه‬
‫�سيزف �إلى الموت عما قريب؟!‪:‬‬
‫كان (الديب) عا�شق ًا للحرية‪ ،‬بل م�ستعداً �أن‬ ‫�أ�أ���ص��وغ ف��ي ع��ر���س المليك ق�صيد ًة‬
‫ل��و ك��ن��ت م��ن �شعب المليك نظمتها ي�ضحي بحياته ثمن ًا للحرية والكرامة‪:‬‬
‫ال����ي����وم �إم�������ا �أن ن��ع��ي�����ش �أع�������ز ًة‬ ‫و�أن����ا �إل���ى ال��م��وت ال��ره��ي��ب زف��اف��ي؟‬
‫ه���ي ���ض��ج��ع��ة روح����ي ب��ه��ا ف���ي ج��ن ٍ��ة‬ ‫م���ن �أدم����ع����ي وج���وان���ح���ي و���ش��غ��اف��ي‬
‫�شكى من عدم‬ ‫ِ‬
‫أم��������وات‬ ‫�أو �أن ن���م���وت �أع�������زة ال‬
‫التقدير ونكران‬ ‫م������اذا ي���ه���م �إذا ف���ق���دت رف���ات���ي؟‬ ‫وبالرغم من ب�ؤ�س ال�شاعر وفقره ال�شديد؛‬
‫الجميل‬ ‫ف���إن ذل��ك ل��م ي��ف� َّ�ت ف��ي ع�ضده‪ ،‬ول��م يحجب‬
‫قبل وفاته ب�شهور قليلة‪ ،‬عطف عليه وزير‬ ‫وطنيته �أو يجعله ي�ساوم عليها‪ ،‬مثلما يفعل‬
‫�ضعفاء النفو�س‪ ،‬بل يراهن على م�ستقبل وطنه ال�ش�ؤون االجتماعية بم�صر‪ ،‬وكان محب ًا للأدب‬
‫والفن‪ ،‬فعينه في وظيفة �شكلية‪ ،‬غير �أ�سا�سية‪،‬‬ ‫و�آمال ال�شباب‪:‬‬
‫وكان �أجرها �أربعة جنيهات �شهري ًا‪ ،‬ولم يكن‬ ‫�إن��������ا ل���ن���رق���ب ل���ل���ك���ن���ان���ة دول������ةً‬
‫ي��ب��ن��ي ال�����ش��ب��اب ج�لال��ه��ا وج��م��ال��ه��ا له مقعد يجل�س عليه‪ ،‬ما جعل (الديب) يقول‬
‫عنها �ساخراً‪:‬‬ ‫م������لء ال��ب�����س��ي��ط��ة ق������و ًة وظ���ه���ورا‬
‫َ‬
‫وي��������ذود ع���ن���ه���ا غ��������دو ًة وب����ك����ورا ب���الأم�������س ك���ن���ت م�������ش���رد ًا �أه���ل��� ّي���ا‬
‫وال����ي����وم ����ص���رت م�������ش���رد ًا ر���س��م��ي��ا!‬
‫لم تم�ض ب�ضعة �شهور على تلك الوظيفة‪،‬‬ ‫ويعلن (ال��دي��ب) ال��ث��ورة على االح��ت�لال‪،‬‬
‫حتى توفي ال�شاعر البائ�س‪ ،‬وجاءه اليوم الذي‬ ‫فيقول‪:‬‬
‫ا�شتاق �إليه كثيراً‪ ،‬وانتظره طوي ًال‪ ،‬وت�ساءل عنه‬ ‫واه��ت��ف ب�شعبك �أن ي��ث��ور مجاهد ًا‬ ‫ْ‬
‫جاءت �شعريته‬ ‫ال���ق���ي���د ����ض���وع���ف وزن������ه و�إ�����س����اره مراراً‪:‬‬
‫تعبيراً �صائب ًا و�صادق ًا‬ ‫رب م��ا ي��وم��ي؟ و�أي����ن منيتي؟‬ ‫وي���ا ُّ‬ ‫م�����ازال خ��ط��ب ال��غ��ا���ض��ب��ي��ن خطيرا‬
‫عن حياة بائ�سة‬ ‫ل���ي ح��ت��ى ف��ي ال��م��ن��ي��ة م��وع ُ��د!‬ ‫�أم����ا َ‬ ‫وال�����س��ج��ن �أ����ص���ب���ح ل��ل��ب�لاد ���س��ع��ي��را‬
‫معدمة‬
‫رحم اهلل (عبدالحميد الديب) �آخر �سل�سلة‬ ‫كما ت��ن��اول (ال��دي��ب) ق�ضية فل�سطين‪،‬‬
‫ال�شعراء ال�صعاليك الذهبية؛ والتي تمتد �إلى‬ ‫حينما و�ضعت تحت االنتداب البريطاني �سنة‬
‫زم��ن ال�شنفرى الأزدي‪ ،‬وع ��روة ب��ن ال��ورد‪،‬‬ ‫(‪1940‬م)‪ ،‬فقال في ق�صيدته (فل�سطين الدماء)‪:‬‬
‫وت�أبط �شراً‪ ،‬وال�سليك بن ال�سلكة‪ ،‬وحاجز بن‬ ‫تيهي فل�سطين ال��دم��اءِ على ال��ورى‬
‫عوف الأزدي‪ ،‬وقي�س الخزاعي‪ ..‬وغيرهم ممن‬ ‫���ي م���ن ب��ن��ي��ك م��ه��ف��ه ٍ‬
‫��ف‬ ‫ف���ل���رب ظ���ب ٍ‬
‫�أث��روا الثقافة العربية ب��أروع قوافي ال�شجن‬ ‫�إن ال���م�ل�ائ���ك وال���م���ل���وك َب���ن ِ‬
‫ُ���وك‬
‫والحزن النبيل‪.‬‬ ‫ب���ج���م���ال���ه وح�������س���ام���ه ي���ف���دي ِ‬
‫���ك‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪106‬‬


‫فن‪.‬وتر ‪.‬ريشة‬
‫من الفولكلور الفل�سطيني‬

‫¯ �سو�سن جالل‪ ..‬لوحاتها حاالت ثقافية جمالية‬


‫¯ �سامي بن عامر‪ ..‬ا�شتم رائحة الألوان النائمة‬
‫¯ نجاة مكي‪ ..‬تنحاز �ألوانها للأزرق والأبي�ض‬
‫¯ كــرم مـطـاوع‪ ..‬رجـل المـهمات ال�صـعـبـة‬
‫¯ نموذجان من الم�سرح الفـرن�سـي الحديث‬
‫¯ م�صطـفى العقاد‪ ..‬مخرج عالمي بتوقيع عربي‬
‫¯ «جاي بيم» ملحمة �سينمائية اجتماعية‬
‫¯ مهرجان كارلوفي فاري وجهة محبي الفن ال�سابع‬

‫‪107‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫ح�سا�سية لونية تتمادى في �شاعريتها‬

‫�سو�سن جالل‪..‬‬
‫لوحاتها حاالت ثقافية جمالية‬
‫خ�سرت الأو�ساط الفنية والثقافية الفنانة الت�شكيلية �سو�سن‬
‫جالل‪ ،‬التي رحلت بدم�شق في ‪� 29‬أبريل (‪2021‬م)‪ ،‬وهي في‬
‫�أوج العطاء وال�شهرة‪ ،‬وكانت منذ عقود‪ ،‬قد �أعلنت اللوحة‬
‫تتداخل �ألوان‬ ‫كم�شروع ثقافي‪ ،‬ي��روي حقائق حياتها وت�أمالتها‪ ،‬ويف�سر‬
‫البهجة والفرح‬ ‫ح�سا�سيتها اللونية المتمادية في ال�شاعرية والغنائية‪.‬‬
‫�أديب مخزوم‬
‫والمو�سيقا الب�صرية‬
‫في �أعمالها‬ ‫باب النقا�ش �أو الحوار الثقافي المفيد‪ ،‬كونها‬ ‫�سو�سن جالل كانت �إحدى �أكثر الفنانات‬
‫في هذه اللوحات تج�سد الزهور ال�شامية في كل‬ ‫ال�����س��وري��ات غ���زارة ف��ي الإن��ت��اج وال��ع��ر���ض‪،‬‬
‫�أ�شكالها و�ألوانها وعنا�صرها‪ ،‬وبر�ؤى حلمية‬ ‫و�أعمالها المنجزة على الورق المقوى بمواد‬
‫�شفافة تلتقي مع تطلعات الحداثة والمعا�صرة‪،‬‬ ‫لونية متنوعة ت�شكل �إ�ضافة لتجاربها ال�سابقة‬
‫وهي من خالل تعاملها اليومي مع تقنيات‬ ‫في �إيقاعاتها وتقنياتها وجمالياتها‪ ،‬وتفتح‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪108‬‬


‫ت�شكيل‬

‫للفن والعمل الت�شكيلي الفراغي في تنويعاته‬ ‫اللون المتنوعة في �أعمالها الأح��دث‪ ،‬تطرح‬
‫وتوجهاته المختلفة‪.‬‬ ‫بع�ض القيم التعبيرية الوثيقة ال�صلة بت�أمالت‬
‫كانت تتم�سك بالحرية التعبيرية وتعاود‬ ‫فنون الع�صر‪ ،‬على الأقل في تركيزها لإظهار‬
‫الر�سم بالمائي والإكريليك والزيتي‪ ،‬ثم ت�ضيف‬ ‫�إ�شراقة و�شاعرية النور المتدفق عبر �إيقاعات‬
‫�أحيان ًا فوق الم�ساحات ال�شفافة‪( ،‬ته�شيرات)‬ ‫الت�شكيل والتلوين‪.‬‬
‫البا�ستيل الطب�شوري‪ ،‬التي ت�أتي بعيدة كل‬ ‫لقد �أبرزت قدرات تعبيرية وتقنية وو�صلت‬
‫الغناء اللوني‬ ‫البعد عن الجماليات الخارجية‪ ،‬كونها تتجه‬ ‫�إل��ى خ�صو�صية في ر�سم ال��زه��ور‪ ،‬و�أف�سحت‬
‫المتتابع في �إطار‬ ‫نحو تفعيل الحوار الذاتي �أو اللغة التعبيرية‬ ‫لوحاتها المجال في اختيار زواي��ا متنوعة‪،‬‬
‫لوحاتها �أ�شبه بنوتات‬ ‫الداخلية‪ ،‬ال�شيء الذي يعطي اللوحة مفهوم ًا �آخر‬ ‫في ت�شكيل لوحات الزهور بات�ساع ورحابة‬
‫مو�سيقية ب�صرية‬ ‫وواقعية جديدة‪ ،‬حيث بدت �شاعرية و�شفافية‬ ‫�ألوانها‪ ،‬ولقد كانت �ألوان الزهور والورود في‬
‫اللون �أ�شبه بواحة ورود وزه ��ور‪ ،‬و�أ�ضحى‬ ‫مائياتها قابلة با�ستمرار لطواعية التغيير‪،‬‬
‫الغناء اللوني المتتابع في �إطار لوحاتها �أ�شبه‬ ‫كونها تعتمد تقنية متنوعة ومواد مختلفة في‬
‫بنوتات مو�سيقية ب�صرية لم�سيرتها الفنية‬ ‫�صياغة �إيقاعات مو�سيقية ال�شكل‪ ،‬ومو�سيقية‬
‫الطويلة‪ ،‬وما ع�صف بها من تغيرات وتبدالت‬ ‫الظالل‪ ،‬التي تخت�صر بدورها تقا�سيم المفردات‬
‫وتحوالت وك�شوفات وانفعاالت ‪.‬‬ ‫الواقعية‪ ،‬نحو ت�شكيل تعبيري يعك�س وهج‬
‫ال�شم�س الذي يحيل �أماكن النور �إلى بيا�ض‪.‬‬
‫لهذا كان �إ�صرارها في �أعمالها الأخيرة‬ ‫االن��ف��ت��اح على �أل� ��وان ال� ��ورود وال��زه��ور‬
‫على البحث عن معنى جديد للم�ساحة‪ ،‬من‬ ‫المحلية �أثمر في لوحات �سو�سن جالل �صياغة‬
‫�أجل �إيجاد حركة مو�سيقية ونغمية م�شحونة‬ ‫فنية حديثة‪ ،‬تحمل نب�ض الرهافة والأناقة‬
‫بغنائية اللم�سة العفوية والتلقائية‪� ،‬ضمن �إطار‬ ‫وال�شاعرية‪ ،‬وت ��ؤك��د مالمح �إ�سقاط ال��ذات‪،‬‬
‫اعتمدت في مراحلها‬ ‫الحلم الرومان�سي والإ�شراقة االنطباعية ‪ .‬كل‬ ‫وتعرفنا �إلى �إمكانياتها في تحريك �إيقاعات‬
‫الأخيرة على الألوان‬ ‫ذلك في خطوات البحث عن حقائق جمالية‬ ‫ظ�لال و�أن���وار العنا�صر الحاملة ف�سحة من‬
‫المائية والمختلطة‬ ‫جديدة‪ ،‬لأن الو�صول �إل��ى اللوحة المغايرة‪،‬‬ ‫�شفافية ت��درج قطف الإح�سا�س‪ ،‬و�صو ًال �إلى‬
‫يعني دوم ًا �إيجاد �أو ابتكار �أبجديتها ولغتها‬ ‫الوهج المتدرج في م�ساحة البيا�ض‪ ،‬الذي يظهر‬
‫ومناخاتها الخا�صة المفتوحة على المفاج�آت‬ ‫ع�شقها للنور ولل�شفافية اللونية المتتابعة في‬
‫الدائمة‪.‬‬ ‫م�ساحة اللوحة‪.‬‬
‫م��ن �أه���م �صفاتها �أن لوحاتها تمحو‬ ‫لقد �أبرزت �أناقة و�شفافية �إ�شعاعات اللون‬
‫الخطوط بين العنا�صر‪ ،‬فاللون هو الذي يحدد‬ ‫المحلي ال��ق��ادم من ت��أم�لات ام��ت��داد الزهور‬
‫العنا�صر‪ ،‬وبذلك حققت في تطلعها وتجديدها‬ ‫وال ��ورود‪ ،‬كما يمكن �أن نراها في حديقة �أو‬
‫ح��االت التوا�صل الحي والتناغم المطلق مع‬ ‫ب�ستان‪ ،‬وبعيداً كل البعد عن النمط التقليدي في‬
‫الأط��روح��ات التحديثية التعبيرية الأ�شكال‬ ‫تج�سيد الزهور‪.‬‬
‫و����ص���و ًال �إل����ى التب�سيط‬ ‫نهج �سو�سن جالل الفني ي�شكل حلقة ال‬
‫التعبيري‪ ،‬ال��ذي ال تغيب‬ ‫تنف�صل عن تاريخ الفن ال�سوري والعربي‪،‬‬
‫عنه �إ���ش��ارات و�إي��ح��اءات‬ ‫كما قدمت في مراحل �سابقة موا�ضيع الوجوه‬
‫الواقع‪.‬‬ ‫والعنا�صر الإن�سانية والطيور والأح�صنة‬
‫�إح�سا�سها المتوا�صل‬ ‫والعمارة القديمة وغيرها‪ ،‬و�أ�سهمت بالتالي‬
‫وال��م��زم��ن باللون جعلها‬ ‫في �إيجاد تنويعات لعنا�صر ت�شكيلية �إيقاعية‬
‫تزاول طوال �أكثر من ن�صف‬ ‫واقعية ومفتر�ضة في عالمها الب�صري المتميز‪،‬‬
‫ق��رن اخ��ت��ب��ارات الحداثة‪،‬‬ ‫ه��ي التي ن�ش�أت ف��ي �أ���س��رة فنية‪ ،‬وتفتحت‬
‫باحثة عن رحابة الم�ساحة‬ ‫عيناها على منحوتات ولوحات والدها الفنان‬
‫ال�����ش��اع��ري��ة‪ ،‬ال��ت��ي تعطي‬ ‫الرائد محمود ج�لال‪� ،‬أح��د �أب��رز رواد و�أع�لام‬
‫ال��ل��ون م� ��داه الإي��ق��اع��ي‪،‬‬ ‫النحت والر�سم الواقعي‪ ،‬وال��ذي تميز بن�صبه‬
‫ل��ي��ط��رب ال��ع��ي��ن ويحقق‬ ‫المرتبط بالعامل والفالح والعنا�صر المحلية‪،‬‬
‫ع��ن��ا���ص��ر ال��ده�����ش��ة‪ .‬ولقد‬ ‫كما خا�ص �شقيقها الراحل خالد جالل غمار‬
‫ركزت في مجمل ت�أمالتها‬ ‫تجربة نحتية حديثة‪ ،‬تبقى �شاهدة على ع�شقه‬
‫�سو�سن جالل‬

‫‪109‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫ت�شكيل‬

‫ال��ف��ن��ي��ة ع��ل��ى �أن ت��ك��ون‬


‫م��ج��ددة داخ���ل معطيات‬
‫الحياة و�أمينة لها‪ ،‬وكانت‬
‫والتزال تبحث عن �صياغة‬
‫فنية حديثة ومعا�صرة‪.‬‬
‫لذا كانت من الفنانات‬
‫ال��ل��وات��ي ع�شن ال��ف��ن من‬
‫�أج��ل الفن‪ ،‬وكانت �إح��دى‬
‫الم�ساهمات‪ ،‬ف��ي نه�ضة‬
‫الفن الت�شكيلي ال�سوري‪،‬‬
‫وف��ي تحويل اللوحة �إل��ى‬
‫ح��ال��ة ثقافية وجمالية؛‬
‫ه��ك��ذا ت�صبح م�ساحات‬
‫ال�������ورود وال����زه����ور في‬
‫لوحاتها مدخ ًال القتنا�ص‬
‫ال�شاعرية اللونية والذهاب‬
‫�أب��ع��د م��ن الإ�� ��ش� ��ارات �أو‬
‫ال��م��ظ��اه��ر ال��خ��ارج��ي��ة‪،‬‬
‫وب��ال��ت��ال��ي ال��و���ص��ول �إل��ى‬
‫ال�����ص��ي��اغ��ة ال��ف��ن��ي��ة في‬
‫من �أعمالها‬
‫وهكذا �أدخلتنا في عوالم ال�شفافية وال�شاعرية‪،‬‬ ‫اتجاهاتها التعبيرية المنطلقة من الواقع‬
‫و�شاهدنا بالتالي تحولها الكبير نحو موا�ضيع‬ ‫لقطف روح الم�شهد بمنظور مغاير لما تراه‬
‫الورود والزهور‪ ،‬الملتقطة من نقطة مقربة في‬ ‫العين في الأب��ع��اد الثالثة‪ ،‬واللجوء �أحيان ًا‬
‫الطبيعة‪.‬‬ ‫�إلى ر�سم الم�شهد من نقطة قريبة‪ ،‬وكل ذلك‬
‫كانت تقدم �أ�شكال الزهور بحركات لونية‬ ‫يعمل على �إلغاء الثرثرة الت�شكيلية‪ ،‬لم�صلحة‬
‫تلقائية حاملة بع�ض مظاهر اللم�سة التعبيرية‬ ‫�إظهار المزيد من االخت�صار والتب�سيط و�إبراز‬
‫والواقعية الجديدة‪ ،‬وهكذا تراوحت في �صياغة‬ ‫الطابع الغنائي‪ ،‬والأخذ بعين االعتبار االتجاه‬
‫مو�ضوعاتها بين الم�شهدية الواقعية‪ ،‬وبين‬ ‫الأ�سلوبي والبعد الفني‪ ،‬الذي يعطيها ا�ستقاللية‬
‫ال��ر�ؤي��ة التعبيرية المنفلتة من قيود الواقع‬ ‫وخ�صو�صية و�شاعرية ب�صرية ‪.‬‬
‫الخارجي المرئي‪.‬‬ ‫ال��راح��ل��ة �سو�سن ج�ل�ال م��ن الفنانات‬
‫في معر�ضها الذي �أقامته في �صالة �شورى‬ ‫القادمات من محترفات كلية الفنون الجميلة‬
‫والدها �أ�ستاذها‬ ‫ع��ام (‪1995‬م) لمنا�سبة ال��ذك��رى الع�شرين‬ ‫بدم�شق عام (‪1977‬م)‪ ،‬والمعروف �أنها تنتمي‬
‫ومعلمها الأول حيث‬ ‫لرحيل والدها الفنان الرائد محمود جالل‪،‬‬ ‫�إلى عائلة فنية ع�شقت الفن �إلى حد ال�صفاء‬
‫عر�ضت مجموعة من اللوحات‪ ،‬التي ج�سدت‬ ‫(والدها الفنان الراحل محمود جالل‪ ،‬و�شقيقها‬
‫�شجعها منذ البداية‬ ‫فيها مو�ضوع المر�أة الريفية‪ ،‬الذي ظهر لأول‬ ‫الفنان الراحل خالد جالل)‪ ،‬كان منزل والدها‬
‫مرة في �شكل متميز في تجربة والدها‪ ،‬الذي‬ ‫منذ طفولتها مركز لقاء الفنانين‪ ،‬ووالدها كما‬
‫�أعطى لمو�ضوع المر�أة ال�شعبية الأهمية الأولى‪.‬‬ ‫تقول كان �أ�ستاذها الأول‪ ،‬حيث �شجعها منذ‬
‫بقيت �سو�سن ج�لال ف��ي �إط ��ار الواقعية‬ ‫البداية ودفعها في اتجاه الفن‪ ،‬ل�صياغة النغم‬
‫الحديثة �أو التعبيرية‪ ،‬ل�شعورها الدائم ب�ضرورة‬ ‫اللوني الذي كان يطل في ر�سومات دفاترها‬
‫التعاطي بلغة ب�صرية مفهومة من قبل الجمهور‪،‬‬ ‫المدر�سية‪.‬‬
‫الذي كانت تطمح دائم ًا بالو�صول �إليه (رغم ما‬ ‫في العقدين الآخ��ري��ن ر�أينا تحو ًال على‬
‫في لوحاتها من اختبارات تقنية حديثة) ولهذا‬ ‫�صعيد المو�ضوعات المطروحة في لوحاتها‪،‬‬
‫ابتعدت عن التجريد ال�صرف‪ ،‬الذي يحتاج �إلى‬ ‫وتحو ًال على �صعيد التقنية‪� ،‬إذ اعتمدت الألوان‬
‫ثقافة وح�سا�سية ب�صرية وجمهور نخبوي‪،‬‬ ‫المائية والمختلطة‪ ،‬في �أكثرية لوحاتها‪،‬‬
‫ن�سبته قليلة ونادرة في وطننا العربي‪.‬‬ ‫بعد تجارب طويلة في مجال الر�سم الزيتي‪،‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪110‬‬


‫مقاالت‬
‫مقاربـات‬

‫الت�شكيل وبراعة الت�صوير‬


‫لتقديم تف�سير‪ ،‬هو ما اعتبر في �أعراف الإبداع‬ ‫يتطلع الفنان �إلى م�سافات �أبعد من الواقع‪،‬‬
‫الأ�صيل جموداً‪ ،‬ال يتوافق مع زوائ��ف ت�صاغ‬ ‫تمثل ه��وي��ة ر�ؤي��ت��ه و�إ���ش��ك��االت��ه��ا‪ ،‬ويتداخل‬
‫م��ع الحقائق ل�صنع ت�شكيل تطرحه مدار�س‬ ‫الت�صنيف في منجزه تبع ًا لفئة ت�أ�صيله ومحاور‬
‫الفن المختلفة بق�صد �إعادة التوازن بين الكائن‬ ‫متغيرات الثقافة المحيطة بالعمل ووعيه الجدلي‪،‬‬
‫المتلقي والبيئة عن طريق �إث ��ارات انفعالية‬ ‫ومرجعية الهويات العميقة الم�ستند �إليها‪ ،‬وت�أتي‬
‫بم�ضامين مختلفة �أغلبها غير متوقعة من جهة‬ ‫ارتهانات الذاكرة لتتكئ على الذواكر التاريخية‪،‬‬
‫الم�شاهد‪ ،‬وهي تعبيرية باهظة‪ ،‬ت�ستدعي �أن‬ ‫زمانية �أو مكانية‪ ،‬وق��د تنفتح على ن��وع من‬
‫تكون اللوحة �أو القطعة الممثلة موجودة قبل‬ ‫التغريب ب ��إح��دى ا�سترجاعات اال�ستن�ساخ‪،‬‬
‫نجوى المغربي‬ ‫الفنان‪ ،‬وهي في الأعمال الآخذة ل�صك الن�ضج‬ ‫�أو عند ا�ستدعاء غير مبا�شر للغات بيكا�سو‬
‫والإب���داع‪ .‬ولعل تفجير الوعي‪ ،‬ك��ان اندماج ًا‬ ‫في «جورنيكا» ال�ضاغطة للمحلية الأ�صيلة‬
‫الت�ضاري�س زمان ًا ومكان ًا لتقدم خطاب ًا مرئي ًا‬ ‫م�ساوي ًا للفكرة قبل االن�صهار في بنيته على‬ ‫بلغة �إن�سانية وا�سعة متطورة وزائ��دة على حد‬
‫يخ�ضع للبقاء من خالل تعددية بنائه وتنظيمه‪،‬‬ ‫القما�شة‪ ،‬الأمر الذي جعل كل نظريات الحوا�س‬ ‫الت�أ�صيل‪ ،‬وهو حد قام بتفعيل المحلية �إلى درجة‬
‫وقد �أخ�ضع �شاجال حدود ال�شكل لكل ما �سبق‬ ‫ت�أن�س هرميات وتكعيبات و�أن��م��اط المغاالة‬ ‫�أنها ا�ستوعبت الهوية الأعلى والهيمنة العالمية‪.‬‬
‫وزي ��ادة‪ ،‬فمزج عين الم�شاهد بين الم�ضمون‬ ‫الرمزية في مخروطيات �سيزان‪ ،‬واختزال براك‪،‬‬ ‫�أما اختالف م�ساحات الإ�شارة؛ فقد يتفق على‬
‫والتكوين‪ ،‬متجاوزاً �أي عالقة بمكونات خارجية‬ ‫ومراحل بيكا�سو المتمايزة‪ ،‬بع�ضها على الكل‪،‬‬ ‫االكتفاء ب�شذرات في اللوحة كفعل كيلي حين‬
‫�أخ���رى‪ ،‬حتى �إن بع�ضهم ا�ستمتع بمو�سيقا‬ ‫و�أخرى على الآخر‪ ،‬لعل تخفيف حدة الخامات‬ ‫ي��وزع ما يغنيها �إ�ضافة �إل��ى ال�ضوء و�ألعاب‬
‫من داخ��ل العمل �أثناء الم�شاهدة‪ ،‬وال يتعدى‬ ‫�أنتج �أ�شكا ًال �أق��ل جموداً من الجدية‪ ،‬وهو ما‬ ‫الت�أثير المتداخلة مع عتمة �أر�ضيتها‪ ،‬وعينات‬
‫منطق تكثيف الجدل‪� ،‬إال تعزيز نظرية التوا�صل‬ ‫و�صف ب�أنه مرحلة (عينة)‪ ،‬لج�س ح�س المجتمع‬ ‫ب��راك بلغات منحنية بين التكامل والتفكيك‬
‫لال�ستمتاع بجوهر العمل من خ�لال خطوط‬ ‫عند بيكا�سو‪ ،‬ولم يركن �إليها كثيراً‪ ،‬وفرقها على‬ ‫وق�صدية التهمي�ش �أحيان ًا‪ .‬لذا؛ فالأثر في المتلقي‬
‫الر�سم كتعبيريات بولوك‪� ،‬شديدة التجريد‪ ،‬والتي‬ ‫�أعماله ك� ��أدوات بحث‪ ،‬ورت��ق‪ ،‬لبع�ض فقرات‬ ‫لي�س �إغناء الحدث قدر ما هو تظاهرة تجريد‬
‫ما �إن قامت حتى انتزعت الحركة وا�ست�أثرت‬ ‫�شخو�ص �أعماله‪� ،‬أما دوائر الو�صف التي احتفت‬ ‫وفعل تلوين وبناء خطاب يعزز الت�سا�ؤالت �أمام‬
‫بها وحولتها من حالتها ال�صلبة الجامدة �إلى‬ ‫بالح�س والمجرد‪ ،‬في (المنطقية) ترتفع لتقارب‬ ‫اللوحة وخلفها‪ ،‬على اعتبار ق�صدية وركاميات‬
‫ال�سائلة لتالئم االن�سكاب و�إرث الحركة والتمدد‬ ‫الجدل‪ ،‬كونها ت�شفيراً عالي ًا ووا�ضح ًا‪ ،‬كامر�أتي‬ ‫ال��ف��ن��ان‪ ،‬ف��ال��خ��روج على ال��م ��أل��وف‪ ،‬وت�سييد‬
‫واالختالط بين ومع عنا�صر �أخ��رى‪ ،‬وهو ما‬ ‫المر�آة‪ ،‬فال تعدو كونها تنفيذاً لوعد االختزال‪،‬‬ ‫التحريف وفق �آليات بع�ض محدثي الحداثة‪ ،‬ما‬
‫ينحو �إلى اال�ستمتاع بجوهر الأ�شياء من خالل‬ ‫الذي قطعه على نف�سه بيكا�سو‪ ،‬ناق ًال �أو منقو ًال‬ ‫هو �إال معالجات لمرحلية الحدث‪ ،‬وفق حجوم �أو‬
‫لغات الحركة المختلفة‪ ،‬والأ�شياء الأكثر ا�ضطراب ًا‬ ‫من �ألوان مو�سيقية‪ ،‬في �أ�شكال �آدمية‪ ،‬وبال �شك �أن‬ ‫حطام �أو ل�صقيات كوالج وتفتيت خطوط‪ ،‬لي�ست‬
‫م��ن الخامات ومنحنيات التموج المختلفة‬ ‫�سطوح العمل تحتفي بنماذج كثيرة لـ(الالمرئي)‬ ‫�سوى عم ٍد من ال�صانع لخرق منطق الأذهان‪ ،‬عبر‬
‫�صعوداً وهبوط ًا تبع ًا لعنا�صر بع�ض الخامات‬ ‫يعانقها الطرح وا�ستطالة اللون وحركة الفكرة‬ ‫تحريف الفكرة و�إثارة الذهن والعبث بالن�سبيات‬
‫ال�صلبة‪ ،‬ذات الحجوم المختلفة‪ ،‬وال يقت�صر‬ ‫والتفاعل مع ف�ضاء اللوحة وبقايا �أيقونات‬ ‫وروابط ال�سببية‪ ،‬فوجوه �آن�سات بيكا�سو ولوت‬
‫�صخب التكوين والتلقي على اقتطاع الخطوط‬ ‫المزج‪ ،‬وهو ما يظهر في بع�ض هيئات م�شاهد‬ ‫وبراك‪ ،‬كلها تجريب في �إفراط الفكرة المائلة‪،‬‬
‫وجدلية المعنى الناتجة مع ال��ردات ال�سريعة‬ ‫لي�س لها مفردات‪� ،‬أو على الأغلب تكويناتها‬ ‫تزاحمها الأجواء والمالب�س جر�أة واندفاع ًا‪ ،‬حين‬
‫للفر�شاة �أو التكوينات الحجرية الم�ضافة للون‪..‬‬ ‫متداخلة ومتراكبة ع��ن عمد ي��ك� ّ�ون م�ساحة‬ ‫يحتفي الح�س بالمجرد تعلو �شيفرة الت�شكيل‪،‬‬
‫ف����إرادة الإب���داع مطلقة عند كاندين�سكي في‬ ‫�أكبر للتخيل والتو�صيف‪ ،‬بعيداً عن االهتمام‬ ‫يبرز الوجه الآخ��ر للم�ضمون‪ ،‬فينك�سر زمان‬
‫غياب ال�شكل وح�ضور المعنى‪� ،‬أو تنظيمية اللون‬ ‫بالت�شبيه‪ ،‬ما ينحو �إل��ى الت�سطيح لم�صلحة‬ ‫ومكان العمل مرتدي ًا �سحنات (ديالكتيكية) تقفز‬
‫وبكثافة في قرقعة الأ�شكال المهند�سة‪ ،‬تترابط‬ ‫الجوهر وبع�ض �أخطاء المزج بين الح�سابات‬ ‫بين براعة الت�صوير وفك رموز اللوحة في جدال‬
‫وتتقاطع وتتالم�س �ضمن حبكة ماتي�س وجيتار‬ ‫الجزئية ومفاهيمية التكوين الفني‪ ،‬فال يفوز‬ ‫نقا�ش النقد والتلقي والإن�شاء‪ ،‬كل منهما تتحكم‬
‫بيكا�سو خارج نطاق الوقت والواقع مطلق ًا تحت‬ ‫الم�شاهد �سوى ب�سيادة الأدوات الم�ستخدمة‪ ،‬وهو‬ ‫به ن�سخة ثقافة ا�ستقباله‪ ،‬فلم ي�ستعر ماتي�س‬
‫مكانية و�أزمنة الم�شاهدة‪ ،‬ربما �صار مذهب ًا‬ ‫نهج �أ�صحاب التفا�صيل والخلفيات ال�صغيرة‬ ‫�أخطاء غيره‪ ،‬وبدا �أنه �أجبر على الإب��داع‪ ،‬وهو‬
‫واحداً بمهنية متنوعة ال تتفرق �إال لتلتقي عقب‬ ‫كتجويف ب��راك‪� .‬إن بع�ض التداخل قد يعطي‬ ‫ما يو�صف بتقييد الرمز �أحيان ًا لتقديم جمالٍ‬
‫ما يعقب الحروب من ت�شوهات الإن�سان‪ ،‬حين‬ ‫حقيقة متخيلة‪ ،‬بع�ضها دعوة �إلى تعديل المجتمع‬ ‫ما لمغادرة الجدال والحجج‪� .‬إن ارتفاع العقل‬
‫ينه�ض الفن ليقوم بدوره فوق م�سطح �أو عبر فراغ‬ ‫�أو النتائج ببع�ض الت�ضاد‪ ،‬ما يف�سر بع�ض‬
‫وليكون خيا ًال محايداً‪ ،‬يقدم مزيداً من التب�صر‬ ‫ال�صرخات والثقوب التي يتبناها الت�شكيليون عن‬
‫في الم�شهد‪ ،‬وهو ما ي�ضاف �إلى �أهم نتائج جدية‬ ‫عمد‪ ،‬في اللوحة �أو المنحوتة‪ ،‬ففوق كاهل العمل‬ ‫حين يحتفي الح�س‬
‫الحداثة‪ ،‬مجموعات الكمان و�آالت العزف وما من‬ ‫يوجد ن�ضال‪ ،‬ودعوة وعر�ض ومعطيات‪ ،‬ودعوة‬ ‫بالمجرد تعلو �شيفرة‬
‫�ش�أنه التو�سط بين المتلقي الم�شاهد و�أزمنة الجدل‬ ‫�إلى االنف�صال‪ ،‬ولو لوقت عن الواقع‪ ،‬و�أحيان ًا‬
‫ون�صف الجدل الآخر بعناية �شديدة مفعمة‪ ،‬بما ال‬ ‫عن الذات‪� ،‬إ�ضافة �إلى �صلة ما من �ألم ورف�ض‬
‫الت�شكيل ويبرز الم�ضمون‬
‫ي�شارك فيها �شاجال �أحداً‪.‬‬ ‫دائمين‪ ،‬وما على ف�ضاء اللوحة �سوى ا�ستيعاب‬ ‫للآخر‬

‫‪111‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫فقد ركز ج ّل اهتمامه الجمالي منذ �أعوام‬
‫طويلة على ما تدب عليه قدماه‪ ،‬على تراب‬ ‫بحثه م�ستمر عن الجمال الكوني‬
‫خبره وهو لم يزل ي��درج بخطواته الأول��ى‬
‫عليه‪ ،‬بل عبث به طف ًال ولم ي��درك �أن هذا‬
‫التراب �سيكون مادته الرئي�سة في ا�ستخراج‬ ‫�سامي بن عامر‪..‬‬
‫كنوزها في الفيزياء الجمالية‪ ،‬ويكمن ذلك‬
‫في القب�ض على الغائب في الثرى‪ ،‬ليلب�سه‬
‫لبو�س ًا جديداً ا�سمه الفن وتجلياته المتفرعة‬
‫ا�شتم رائحة الألوان النائمة‬
‫في المعارف التي امتلكها بن عامر بكونه‬
‫الفنان وال��م��ع��م��اري وال��ب��اح��ث والخبير‪،‬‬
‫لوحات تنبهنا �إلى ما هو تحت جلد التراب‬
‫من عالقات �ساخنة وباردة‪� ،‬إنها المفورة‬
‫الأركيولوجية والإيكولوجية التي تقودنا‬
‫ب�صورة غير م��وارب��ة �إل��ى كونية الجمال‬
‫المبثوث في كل مكان‪.‬‬
‫احتفال متفرد بالطبيعة غير االعتيادية‪،‬‬
‫�صوفي للحوا�س ال�شتمام‬
‫ّ‬ ‫كما لو انها تدريب‬
‫رائحة الأل ��وان النائمة في بطن الأر���ض‪،‬‬
‫يطارد حلم التراب ذاته ليقدمه في �أيقونة‬
‫تت�شكل على �أدي ��م لوحاته كم�ساحة من‬
‫�أورك�سترا لونية‪ ،‬لها تردداتها ومو�سيقاها‬
‫الخفية من خالل تكرارية للوحدات اللونية‬
‫التي جاءت ب�صورة زخرفية مفككة‪ ،‬تحمل‬
‫انتظامها عبر �سياقات تدركها الب�صيرة قبل‬
‫الب�صر‪ ،‬فهي �إحاالت لم�شاهد عالماتية في‬
‫م�ساحة التراب‪ ،‬كتناثر الح�صى‪� ،‬أو انتظام‬
‫الزهور في ف�صل الربيع‪ ،‬نجده وقد ع�شق تلك‬
‫المنطقة من الفن كخيميائي يتلم�س اللون‬
‫وطبائع الملم�س في ال�صخور والحجارة‪،‬‬
‫ف�أعماله تحيلنا �إلى �أ�شياء نعرفها لكنها‬
‫لي�ست هي ب�صورتها الفوتوغرافية‪ ،‬ك�أن‬
‫نتخيل �سجادة محت�شدة ب��ال��زخ��ارف‪� ،‬أو‬
‫م�ساحة تمتلك طاقة هائلة المتزاج العلوي‬
‫في ال�سفلي‪ ..‬بين زغب التراب وف�ضاءات‬ ‫لم يكن الفنان �سامي بن عامر المولود عام (‪1954‬م)‬
‫ال�سماوات الوا�سعة‪ ،‬كمن يقدم لنا ثماراً‬ ‫بمدينة �صفاق�س (جنوبي تون�س العا�صمة)‪� ،‬إال‬
‫بلورية ترحل بنا �إلى عوالم ال منتهية‪� ،‬أقرب‬ ‫حفار ًا معرفي ًا في �سياقات الفعل الجمالي‪ ،‬الذي‬
‫�إلى احتكاك الروح ال�صوفية في عطر التراب‪.‬‬ ‫�أحاله �إلى �أ�سئلة عديدة‪ ،‬مما حدا به للذهاب �إلى‬
‫فهي ترتكز على وع��ي ال��واق��ع‪ ،‬لتحلم‬
‫وتتخيل �أ�صباغ ًا ج��دي��دة‪ ،‬تحمل �صفات‬
‫اختبار ال��م��ادة بو�صفها لغة الطاقة الفيزيائية‬
‫محمد العامري‬
‫ال��م��ادة وال ت�صرح بها‪ ،‬فهي مو�صوفات‬ ‫المحمولة بمو�سيقا الأر�ض‪ ،‬وما تحمله من مفارقات‬
‫متحولة لواقع مرئي‪ ،‬فالمرئي البِكر مادته‬ ‫لونية وعالقات معقدة‪ ،‬تقودنا �إلى مختبر �أنجزه بن عامر عبر �سنين‬
‫الأولى ينزاح في معارف الفنان بن عامر‪،‬‬ ‫طوال‪ ،‬فهو الذي ظل يحدق في �أديم الأر�ض لي�ستخرج طاقة غائبة عن‬
‫ليقدمه ب�صور عديدة كمن يحول التراب �إلى‬ ‫�أنظار الجميع‪ ،‬ن ّبهنا �إلى �ضرورات المكان والزمان وما يمكن �أن نتح�صل‬
‫ذهب يقلده لأرواحنا لنعلو‪ ،‬هند�سة لمو�سيقا‬
‫كانت تنام قبل قليل تحت وطء الأق��دام‪،‬‬
‫عليه من فعل جمالي ال يمكن له االنتهاء‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪112‬‬


‫لون‬

‫يدوزنها لتعلو بنعومة الح�صى الراقد في عين‬


‫النبع‪ ،‬فهو ي�شير �إلى ذلك بقوله‪�( :‬أوا�صل اليوم‬
‫الإبحار في عنا�صر الكون لمزيد من اال�ستماع‬
‫�إلى �سمفونيته‪ ،‬باالعتماد على طاقة الحركة‬
‫ولمعان الأل��وان وال ج�سمية الف�ضاءات‪� .‬ألي�س‬
‫الكون كامن ًا فينا؟)‪.‬‬
‫فالفنان ب��ن عامر يتحرر لحظة الر�سم‬
‫من قيود الر�سم ذات��ه��ا‪ ،‬ليترك ال��م��ادة تتخذ‬
‫�أمكنتها في �سياق المراقب والمهند�س في �آن‪،‬‬
‫فهو يحاول �أن يدخل الطبيعة ذاتها في فعل‬
‫�إب��داع��ات��ه‪ ،‬وف��ي لحظوية التجلي حين الفعل‬
‫يتحول �إلى هواج�س وهذيانات عالية م�شفوعة‬
‫من �أعماله‬ ‫بعاطفة الأر�ض والطفولة‪ ،‬لم يمتثل بن عامر‬
‫�أعماله الأولى التي تعود �إلى مقاطع من الطبيعة‬ ‫�إل��ى كال�سيكيات اللوحة العربية عامة فيما‬
‫المرئية‪ ،‬هي ذاتها التي تتحول في �سياقات‬ ‫يخ�ص مدر�سة بعينها‪ ،‬لكنه ذهب لي�شكل م�ساره‬
‫جديدة لتبني لنف�سها �صيغتها الخا�صة‪ ،‬ك�أنها‬ ‫الخا�ص م�ستفيداً من وعي متقدم بمفاهيم الفن‬
‫ثمرة تدلنا على �شجرة الفنان التي ي�ستظل بها‪،‬‬ ‫الراهن وال�سابق‪ ،‬في ظل هذا التنوع اختار �أن‬
‫فهي لي�ست تحقيب ًا لمرحلة قدمها الفنان‪ ،‬بل‬ ‫يتح�س�س محيطه وحيزه الأقرب لجوهر روحه‪،‬‬
‫�أحال المادة �إلى‬ ‫هي م�سار يتحرك ليراكم مالمح التجربة التي‬ ‫فكانت الأر���ض هي المالذ الأكثر تثويراً في‬
‫طريقة تفكير‬ ‫�صاغت هوية اللوحة و�صاحبها‪.‬‬ ‫�أعماله التي القت تفاع ًال وا�سع ًا لما تمتلكه من‬
‫ال يمكن لم�شاهد يحتك ب�أعمال �سامي بن‬ ‫ما�ضوية راهنة؛ بمعنى �أنها ت�شير �إلى الما�ضي‬
‫جمالي من خالل‬ ‫عامر‪� ،‬إال وي��درك بعاطفته تلك الأر���ض التي‬ ‫الب�صري لتحوله �إلى جمالية راهنة معفاة من‬
‫مفارقات لونية‬ ‫نقلها من �صورتها الأولى‪� ،‬إلى م�سارات جديدة‪،‬‬ ‫برودة الغرب ومتحيزة لحرارة ال�شرق‪ ،‬من خالل‬
‫لتمتلك تاريخ ًا مغايراً في ح�ضورها الفذ‪ ،‬حيث‬ ‫تراكمية ال�سطح الت�صويري وفي تح�س�س ال�سطح‬
‫نتح�س�س طبقات جيرية‪ ،‬و�أخرى جاءت كمقطع‬ ‫والعالقة العاطفية بين المادة والفنان‪ ،‬حيث‬
‫من ت�صدعات جبل‪ ،‬ج��اءت تلك الأحا�سي�س‬ ‫نلحظ طبيعة عمله التراكمي ال��ذي ين�ش�أ من‬
‫ك�صورة متبدلة لما خ ّزنته ال��ذاك��رة وتخيله‬ ‫طبقات تتراكم‪ ،‬كما لو �أنها �أي�ض ًا طبوغرافية‬
‫الفنان‪ ،‬لم تنف�صل �أعماله عن �أبعادها المعرفية‬ ‫حارة‪.‬‬
‫تخفي في تفا�صيلها حكايات و�أنفا�س ًا ّ‬
‫�أدخل الطبيعة في‬ ‫والفل�سفية والأركيولوجية كذلك‪ ،‬فهي مزيج‬ ‫ا�ستطاع �سامي بن عامر �أن يقدم �سياق ًا مهم ًا‬
‫فعل �إبداعاته بعد �أن‬ ‫من الثقافات التي تح�صن بها الفنان �صاحب‬ ‫في طبائع �أعماله التي ظلت تتميز باحتفاظها‬
‫كتاب (معجم م�صطلحات الفنون الب�صرية»)‬ ‫خلقة لتقديم‬ ‫بهويته الجمالية‪ ،‬فهي طاقة ّ‬
‫حوله �إلى هواج�س‬
‫والذي �شكل �إ�ضافة �ضرورية في تثوير وتحقيق‬ ‫حالة ت�ؤن�س الم�شاهد‪ ،‬برغم احتماالت العنا�صر‬
‫فنية‬ ‫الم�صطلح الفني‪ ،‬لذلك ال بد من التقاط ما‬ ‫التي اتخذت تحوالت عديدة‪ ،‬وال مفا�ضلة هنا‬
‫يطمح �إليه بن عامر‪ ،‬في تو�سيع م�ساحة الفنون‬ ‫بين الأنماط التعبيرية التي يقدمها �سامي بن‬
‫فيما بين العامة والنخبة‪ ،‬فلم تكن رحالته‬ ‫عامر ولو كان المو�ضوع مختلف ًا‪ ،‬حيث نرى �أن‬
‫العديدة للأمكنة �إال جزءاً �أ�سا�سي ًا‬
‫م��ن البحث ع��ن لوحته‪ ،‬ف��ي تلك‬
‫الطبقات الترابية‪ ،‬فلم يزل الفنان‬
‫قدم �سياق ًا مهم ًا من‬ ‫المهجو�س ب ��الأر� ��ض وال��ح��ال��م‬
‫وال�صوفي‪ ،‬ال��ذي ام��ت�ل�أت روحه‬
‫خالل مزج الثقافات‬
‫حطم الحدود بين‬ ‫بال�ضوء‪ ،‬فقد ّ‬
‫و�أبعادها المعرفية‬ ‫الممكن والم�ستحيل‪ ،‬وبين الواقعي‬
‫والمتخيل‪ ،‬فجاءت �أعماله ك�إك�سير‬
‫ت���ذوب ف��ي��ه م��درك��ات وم��ع��ارف‬
‫الفنان للكون والحياة‪.‬‬

‫‪113‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫ال ت�ستكين للجاهز والم�ألوف‬

‫نجاة مكي‪..‬‬
‫تنحاز �ألوانها للأزرق‬
‫والأبي�ض‬

‫تفتحت عيناها على ام��ت��داد الخليج العربي‪ ،‬وبما يحتويه‬


‫من �شواطئ ولآل��ئ تغو�ص في �أعماقه‪ ،‬غير �أنها ترنو �إليها‪،‬‬
‫ي�شكل المكان فل�سفة‬ ‫حينما يدها ال�صغيرة ت�شكل بيت ًا م��ن رم��ل وم���اء‪ ،‬فتزينه‬
‫خا�صة في لوحاتها‬ ‫ب��ل���ؤل���ؤة ل��م تثقب‪ ،‬فيبدو كلوحة حكايتها ل��م تكتب‪ .‬فما‬
‫بقيمه ودالالته‬ ‫بين ج��م��وح البحر‪ ،‬وه���دوء ال�����ص��ح��راء‪ ،‬والمباني العتيقة‬
‫عبدالعليم حري�ص‬
‫العميقة‬ ‫في (الفريج)‪ ،‬و�أ�شجار الغاف ال�شامخة و(دلّ���ة) القهوة‪..‬‬
‫ملتقى ال�سمار‪ ،‬وكبرياء ال�صقور و�أ���س��راب الغزالن ال�شاردة (�إال من عينيها)‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪114‬‬


‫�ضوء‬

‫ولدت الفنانة الت�شكيلية الإماراتية دكتورة‬


‫نجاة ح�سن مكي في (دبي) في العام (‪1953‬م)‪،‬‬
‫لذا ي�شكل المكان فل�سفة خا�صة في لوحتها‪،‬‬
‫لما له من قيمة ب�صرية وداللية عميقة‪ .‬وكثيراً‬
‫ما �أكدت مكي ذلك في لقاءاتها وت�صريحاتها‬
‫ال�صحافية‪ ،‬فالمكان بح�سب و�صفها‪( :‬لم يتراجع‬
‫منحى �آخر‬
‫ً‬ ‫في �أعمالها‪ ،‬ولم يغب‪ ،‬و�إنما �أخ��ذ‬
‫الم�ش ّكلة للتكوين ومدلوالتها‬ ‫تج�سد في العنا�صر ُ‬
‫التجريدية‪� .‬أو �أن��ه �أخ��ذ �شكل الإي��ق��اع اللوني‬
‫ّ‬
‫المتناغم‪ ،‬البطيء وال�سريع‪ ،‬و�أحيان ًا‪ ،‬يتخ ّفى‬
‫المكان في مفردة‪� ،‬أو عن�صر‪� ،‬أو رمز)‪.‬‬
‫ولأن للأماكن ذاكرتها الخا�صة‪ ،‬فقد كانت‬
‫بر دبي) الذي‬ ‫نجاة متعلقة بـ(دكان والدها في ّ‬
‫مع محمد المر و�صالح القا�سم في معر�ض �شخ�صي ب�ألمانيا‬
‫ك��ان يمثل لتلك الطفلة (ه��ادئ��ة الوجه ثائرة‬
‫الهمة) كنزاً للأع�شاب‪ ،‬ذات الأل��وان والروائح‬
‫معارفها وممار�ساتها الفنية‪ ،‬ابتداء من طفولتها‬ ‫المختلفة‪ ،‬وق��د ا�ستلهمت مما ك��ان ي�ضم من‬
‫التي �شكلت هذا الثراء والعمق والإح�سا�س بفن‬ ‫الأزاهير وال��ورود والأع�شاب‪ ،‬عدداً من الألوان‪،‬‬
‫البيئة المحلية‪ ،‬فكان البحر والبر‪ ،‬والمالب�س‬ ‫التي الت��زال منعك�ساتها وا�ضحة في �أعمالها‬
‫ال�شعبية وف��ن الحناء والخ�ضاب‪ ،‬والزخرفة‪،‬‬ ‫حتى الآن‪.‬‬
‫لها الأث ��ر الكبير ف��ي �أعمالها الأول���ى‪ .‬وك��ان‬ ‫هكذا هي نجاة مكي منذ طفولتها؛ لديها ولع‬
‫اللون الأزرق بتدرجاته‪ ،‬والأ�صفر بتوا�ؤمه مع‬ ‫بالألوان وتدرجاتها‪ ،‬وقد اختزلت كل ذلك في‬
‫البرتقالي والبني‪ ،‬لهما ح�ضور م�شهود في‬ ‫ذاكرتها الطفولية؛ لتترجمه الحق ًا في �أعمالها‬
‫�أعمالها الت�شكيلية‪.‬‬ ‫الفنية‪.‬‬
‫كما مثلت المر�أة لديها الزم��ة ب�صرية في‬ ‫ولنجاة مكي معجمها اللوني الخا�ص‪،‬‬
‫�أعمالها المتو�سطة والكبيرة‪ ،‬والتي يمكن و�صفها‬ ‫المت�ضمن �ألوان الطيف‪ ،‬ف�صارت �أعمالها معزوفة‬
‫لديها معجمها‬ ‫ب�أنها تحمل قيم ًا تعبيرية وتجريدية ورمزية في‬ ‫مو�سيقية‪ ،‬ت�سري في ف�ضاء ال��روح المتطلعة‬
‫اللغوي المت�ضمن‬ ‫�آن واحد‪.‬‬ ‫نحو الجمال‪ ،‬ورواي��ة وق�صيدة �شعر تعلق على‬
‫وفي �سياق تجربة الفنانة الدكتورة نجاة‬ ‫جدار خيمة في بادية ال�سحر‪ ،‬حيث تدرجت في‬
‫�ألوان الطيف والذي‬ ‫مكي المديدة‪ ،‬والتي ت��ج��اوزت عدة‬
‫ينعك�س في لوحاتها‬ ‫عقود من العطاء المتواتر‪ ،‬تعاملت مع‬
‫مختلف الأدوات التعبيرية والأل��وان‪،‬‬
‫وكذا الأحجام‪ ،‬من الأ�صغر فالأكبر‪ ،‬ثم‬
‫اتجهت نحو الأعمال الفنية البنائية �أو‬
‫التركيبية‪ ،‬حيث ا�ستخدمت المج�سمات‬
‫والأل�����وان والإ����ض���اءات وال��م ��ؤث��رات‬
‫ال�صوتية؛ لتخط لها درب� ًا مفاهيمي ًا‬
‫في �إطار فنون البعد الثالث‪.‬‬
‫مثلت المر�أة في‬ ‫وق��د تفاعلت د‪.‬ن��ج��اة مكي مع‬
‫�أعمالها الزمة‬ ‫المدر�سة الواقعية الأكاديمية‪ ،‬ومن‬ ‫د‪ .‬عمر عبدالعزيز‬ ‫عبدالقادر الري�س‬
‫ب�صرية تحمل‬ ‫ث��م ال��ت��أث��ي��ري��ة �أو االن��ط��ب��اع��ي��ة‪ ،‬ثم‬
‫التفكيك الب�صري للوحة القادمة من‬
‫تعبيريتها‬ ‫الكال�سيكية والت�أثيرية‪ ،‬و�صو ًال �إلى‬
‫وتجريديتها‬ ‫اال�شتغال المفاهيمي البنائي‪.‬‬
‫ورمزيتها‬ ‫وهنا تجدر الإ�شارة �إلى تجربتها‬
‫الأح����دث‪ ،‬المرتبطة بالأ�شعة فوق‬
‫البنف�سجية‪ ،‬ففي �أحدث معر�ض فردي‬
‫لها (�أكتب بالألوان)‪ ،‬احت�ضنت مكي‬
‫الأل��وان‪ :‬الأخ�ضر وال��وردي والأ�صفر‪،‬‬
‫وهو ا�ستمرار ل�سحرها الم�ستمر منذ‬
‫���س��ن��وات ب��ه��ذه الأ���ص��ب��اغ ال��زاه��ي��ة‪،‬‬ ‫د محمد يو�سف‬ ‫�أحمد حيلوز‬

‫‪115‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�ضوء‬

‫حيث عر�ضت لوحاتها تحت �ضوء الأ�شعة فوق‬


‫البنف�سجية‪ ،‬بق�صد منح الزائرين فر�صة لل�شعور‬
‫بالبهجة اللونية واختيارها العمق والتغييرات‬
‫ي�سهلها النيون‪.‬‬
‫التي ّ‬
‫ونجاة مكي �أول �إماراتية تح�صل على درجة‬
‫دك��ت��وراه ف��ي الفنون الجميلة‪ ،‬حيث ح�صلت‬
‫على ال��دك��ت��وراه ف��ي فل�سفة الفن م��ن جامعة‬
‫حلوان بالعا�صمة الم�صرية القاهرة (‪2001‬م)‪،‬‬
‫وماج�ستير الفنون ف��ي الح�ضارة الم�صرية‬
‫القديمة‪1998( ،‬م)‪ ،‬ودبلوم ع��ام في الفنون‬
‫الت�شكيلية بكلية الفنون (‪1996‬م)‪ ،‬وبكالوريو�س‬
‫النحت البارز والميداليات كلية الفنون الجميلة‪،‬‬
‫(‪1982‬م)‪.‬‬
‫كما �أ�سهمت مكي �ضمن نخبة من الفنانين‬
‫الإماراتيين والعرب‪� ،‬أب��رزه��م‪ :‬الدكتور محمد‬
‫يو�سف‪ ،‬وعبدالرحيم �سالم‪ ،‬ومحمد مندي‪،‬‬
‫ومنى الخاجة‪ ،‬ووفاء ال�صباغ‪ ،‬و�أحمد حيلوز‪،‬‬
‫وعبدالكريم ال�سيد‪ ،‬و�إح�سان الخطيب‪ ،‬ومحمد‬
‫فهمي‪ ،‬وج��م��ال ع��ب��دال��ب��دي��ع‪ ،‬وغ��ي��ره��م‪ ...‬في‬
‫تكوين النواة الأول��ى لجمعية الإم��ارات للفنون‬
‫الت�شكيلية‪ ،‬والتي القت دعم ًا من قبل �صاحب‬
‫ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي‬
‫من �أعمالها‬ ‫وتكريم �سمو ال�شيخة لطيفة بنت محمد لإبداعات‬ ‫ع�ضو المجل�س الأعلى لالتحاد حاكم ال�شارقة‪،‬‬
‫الطفولة‪ -‬وجائزة ال��م��ر�أة العربية في مجال‬ ‫حيث وجه �سموه بت�أ�سي�س الجمعية في مطلع‬
‫الفنون‪ -‬وجائزة الدولة التقديرية في العلوم‬ ‫ثمانينيات القرن الما�ضي‪ ،‬لتكون مركزاً الحتواء‬
‫والأدب والفنون‪ /‬ال ��دورة الثانية (‪2008‬م)‬ ‫وتقديم الأعمال والفنانين الإماراتيين والعرب‪،‬‬
‫الإم���ارات‪ -‬وتكريم جمعية الإم���ارات للفنون‬ ‫تحت مظلة ر�سمية ت�ؤمن بقيمة الفن والفنان في‬
‫الت�شكيلية‪ -‬وتكريم م�ؤ�س�سة علي �سلطان‬ ‫خدمة الإن�سانية‪.‬‬
‫اعتبرها النقاد فنانة‬ ‫العوي�س‪ -‬وتكريم جامعة ال ��دول العربية‪-‬‬ ‫أهم الفنانات الت�شكيليات في‬ ‫فمكي تعتبر من � ّ‬
‫ال ت�ستكين للجاهز‬ ‫وم��ه��رج��ان ال���رواد ال��ع��رب‪ /‬ال��ق��اه��رة‪ ،‬م�صر‪-‬‬ ‫الإمارات والوطن العربي‪ ،‬وقد اعتبرها الباحث‬
‫وتكريم دائرة الثقافة لحكومة ال�شارقة‪ -‬وتكريم‬ ‫الدكتور عمر عبدالعزيز في كتابه (التراث في‬
‫والم�ألوف وال تقبل‬ ‫وزارة ال�شباب والريا�ضة الإماراتية‪.‬‬ ‫فنون الإمارات‪ -‬نجاة مكي نموذج ًا) �أنها فنانة‬
‫بتكرار تجاربها‬ ‫كما نالت مكي ع�ضوية عدة م�ؤ�س�سات‪� ،‬إلى‬ ‫ال ت�ستكين للجاهز الم�ألوف‪ ،‬وال تقبل بتكرار‬
‫جانب �أنها �أحد �أع�ضاء مجل�س دبي للثقافة‪ ،‬فهي‬ ‫تجاربها في �أكثر من معر�ض‪ ،‬الأم��ر ال��ذي ال‬
‫ع�ضو في جمعية الإم��ارات للفنون الت�شكيلية‪،‬‬ ‫يمكن تف�سيره خارج الد�أب والإنتاج الم�ستمرين‪،‬‬
‫وجماعة �أ�صدقاء الفن لدول الخليج‪ ،‬وجماعة‬ ‫والمو�صول في �آن واحد بر�ؤية ثقافية م�ؤكدة‪.‬‬
‫الجدار بال�شارقة‪ ،‬وجمعية الإياب للفن الت�شكيلي‬ ‫فمنذ انطالقتها المبكرة‪ ،‬غا�صت الفنانة‬
‫باليون�سكو‪ ،‬واللجنة العليا للت�سامح‪ ،‬وم�ست�شارة‬ ‫نجاة في �شيفرات الفنون ال�شعبية المرتبطة‬
‫اللجنة الفنية لجمعية متالزمة داون‪.‬‬ ‫بالأجواء الن�سائية‪ ،‬وتحديداً ذلك العالم ال�سحري‬
‫وق��د ���ش��ارك��ت ن��ج��اة مكي ف��ي ال��ع��دي��د من‬ ‫لفنون ال��زخ��ارف وال��رق�����ش والنمنمات التي‬
‫المعار�ض الفردية والجماعية داخ��ل الدولة‬ ‫ت�ستبطن خفايا المر�أة وجمالياتها‪ ،‬فيما تعيد‬
‫حازت الكثير من‬ ‫وخ��ارج��ه��ا‪ ،‬ولكونها م��ت��ف��ردة ف��ي لوحاتها‬ ‫ت�أكيد تميمة جمالية‪ ،‬مرتبطة بعوالم جمالية‬
‫التكريمات والجوائز‬ ‫و�أعمالها التي حازت ا�ستح�سان الجميع؛ فقد‬ ‫تت�صل بعوالم �أرحب و�أخفى‪.‬‬
‫�سارعت عدة م�ؤ�س�سات القتناء لوحاتها الفنية‪،‬‬ ‫كما توقف د‪ .‬عمر عبدالعزيز �أمام تجاربها‬
‫محلي ًا وعربي ًا‬ ‫وذل��ك لتجربتها المغايرة في الفن الت�شكيلي‬ ‫المتفردة مقارنة تلك التجربة بتجارب �أخرى‬
‫المعا�صر‪� ،‬إماراتي ًا وعربي ًا وعالمي ًا‪ ،‬وكونها‬ ‫من �أمثال‪ :‬عبدالقادر الري�س‪ ،‬وعبدالرحيم �سالم‪،‬‬
‫حالة ا�ستثنائية فر�ضت نف�سها (دون �ضجيج)‬ ‫وفاطمة لوتاه‪ ،‬وح�سن البدوي‪ ،‬و�آمنة الن�صيري‪.‬‬
‫على ال�ساحة الفنية‪ ،‬لينجذب �إلى �أعمالها �أغلب‬ ‫وح��ازت نجاة مكي الكثير من التكريمات‬
‫المهتمين والدار�سين‪ ،‬ال�ستجالء معجمها اللوني‬ ‫والجوائز‪ ،‬مثل (تكريم جمعية الإمارات للبيئة‪-‬‬
‫الخا�ص بها‪.‬‬ ‫وال�شبكة العربية للم�ؤ�س�سات االجتماعية‪-‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪116‬‬


‫مقاالت‬
‫ظالل‬

‫غــويــا‪ ..‬الفنان الذي‬


‫رف�ضته �أكاديمية الفنون‬
‫تلبية لتجهيز الكني�سة العظمى في هذه‬ ‫(غويا) الفنان الإ�سباني ال�شهير‪ ،‬الذي‬
‫المدينة‪ ،‬كما �أن لوحاته قد طلبت ب�شكل‬ ‫�شكلت ل��وح��ات��ه جملة م��ن التناق�ضات‬
‫وا�سع‪ ،‬وفي عام (‪1774‬م)‪� ،‬أ�ضحى غويا‬ ‫ارتبطت بتحوالته الحياتية وال�سيا�سية‪،‬‬
‫من �أهم فناني هذه المدينة‪.‬‬ ‫فلقد ب��د�أ باللوحات ذات الطابع الديني‪،‬‬
‫حوا�س محمود‬ ‫�شكلت لوحات غويا وحفرياته على‬ ‫حيث كان الع�صر هكذا‪ ،‬وكان غويا وثيق‬
‫المعدن �سج ًال حقيقي ًا‪� ،‬أرخ فيها وقائع‬ ‫ال�صلة بالملوك الإ�سبان لذلك كان ير�سم‬
‫خالل �أوائل القرن الثامن ع�شر و�أوائل القرن‬ ‫و�أح��داث الحرب بين الإ�سبان واالحتالل‬ ‫البورتريهات‪ ،‬وكان ليبرالي ًا ومتعاطف ًا في‬
‫التا�سع ع�شر‪ ،‬وك��ان للوحات غويا ت�أثير‬ ‫الفرن�سي وف�ضائحها‪ ،‬وا�ستطاع عبر لوحاته‬ ‫البدء مع الثورة الفرن�سية وال يعجبه �شيء‬
‫كبير في الجيل الأخير من الفنانين خالل‬ ‫الفنية المعبرة تج�سيد �صرخات �شعبه بكل‬ ‫�أكثر من الذهاب لل�صيد مع عدد من الملوك‬
‫القرن الع�شرين‪ ،‬وخا�صة بابلو بيكا�سو‬ ‫�إح�سا�س �صادق وقدرة تعبيرية فائقة‪.‬‬ ‫الإ�سبان المتتالين المطلقي ال�سلطات‪ ،‬ومن‬
‫وبول �سيزان و�إدغ��ار ديغا�س‪ ،‬وفران�سي�س‬ ‫وك��ان �شاهد عيان على م�آ�سي تلك‬ ‫ثم تحول غويا ليج�سد �أهوال و�آالم الحرب‬
‫بيكون‪ ،‬و�إدوارد مانيه‪ ،‬كما �أرخ لل�سجن‬ ‫الحرب‪ ،‬وكذلك على وح�شية المتقاتلين‬ ‫التي دارت بين ال�شعب الإ�سباني و�سلطات‬
‫في �أعماله وفنه تلك الحياة خلف الق�ضبان‬ ‫من كال الطرفين‪ ،‬وك��ان يقف �إل��ى جانب‬ ‫االحتالل الفرن�سي‪ ،‬ف�أبدع لوحات رائعة‬
‫وعالجها بجدارة في حاالت كثيرة‪ ،‬كهموم‬ ‫الإن�سانية و�إعمال العقل والحكمة‪ ،‬واالبتعاد‬ ‫�ضد ممار�سات االحتالل الفرن�سي العنيفة‬
‫�سيا�سية واجتماعية ت�شغل وجوده وتهدده‪،‬‬ ‫عن الت�شدد والعنف‪ .‬وقد عا�ش غويا حياة‬ ‫�ضد ال�شعب الإ�سباني‪.‬‬
‫فق�ص لنا الفنان بمنتهى الجمالية الفنية‬ ‫طويلة‪ ،‬كان فنه الأول منتمي ًا �إلى مدر�سة‬ ‫ولد فران�شي�سكو غويا في قرية �صغيرة‬
‫ف��ي �أع��م��ال كثيرة الو�ضعيات الق�صوى‬ ‫ال��ب��اروك الم�صقولة والبهيجة‪ ،‬وعندما‬ ‫بالقرب من مدينة �سراقو�صة في و�سط‬
‫لعذابات و�آالم الجن�س الب�شري في ال�سجون‪،‬‬ ‫مر�ض و�أ�صيب بال�صمم تغيرت حياته‬ ‫�إ�سبانيا (‪1828 -1760‬م)‪ ،‬بد�أت حياته‬
‫و�أنزل �أخالقياته و�أحكامه عليها‪ ،‬ح�سبما‬ ‫وانعك�س هذا على نوعية لوحاته الفنية‪� ،‬إذ‬ ‫الفنية م��ع ب��داي��ة ع��ام (‪1760‬م)‪ ،‬تتلمذ‬
‫يرى كل فنان في ع�صره‪.‬‬ ‫�أنجز (اللوحات ال�سوداء)‪ ،‬و(كوارث الحرب)‪،‬‬ ‫على يدي الفنان والأ�ستاذ خو�سيه لوزان‪،‬‬
‫�إن عظمة �أع��م��ال غويا تقف خلفها‬ ‫كما �أن غويا ع��رف بالر�سم على حائط‬ ‫وف��ي مر�سم ه��ذا الفنان ب��د�أ ال�شاب غويا‬
‫ب�صيرته التي ل��م ت��ه��د�أ‪ ،‬ف��ج��اءت بمثابة‬ ‫منزله‪� ،‬إذ �إنه �أطلق المكبوتات المختزنة‬ ‫ير�سم كل ال�صور التي كانت موجودة فيه‪،‬‬
‫ناظمة لمجمل التجربة الإن�سانية‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫خيوط‬ ‫في �أعماقه‪ ،‬وكانت ثمرتها (‪ )14‬لوحة‬ ‫وفي عام (‪1763‬م)‪ ،‬قدم تجربته للدخول‬
‫في �أبعادها الم�أ�ساوية‪ ،‬ولي�ست �شاهدة فقط‬ ‫على الجدران الج�صية لأكبر حجرتين بدون‬ ‫في �أكاديمية المملكة الر�سمية في مدريد‪،‬‬
‫على ع�صره‪ ،‬والمتتبع للحياة الفنية لهذا‬ ‫م�سودات �أو درا�سات مبدئية �أو تح�ضير لها‪،‬‬ ‫لكن لم يقبل طلبه‪ ،‬و�أع��اد االمتحان في‬
‫الر�سام �سيعرف مدى الواقعية في �أعماله‪،‬‬ ‫�إذ �إن هذه اللوحات �أ�صيلة في ت�صويرها‬ ‫(‪1766‬م)‪ ،‬ولم ينجح‪ ،‬هذان الف�شالن �أديا‬
‫واقعية تاريخية فل�سفها على طريقته‬ ‫على نحو رائ���ع‪ ،‬لقد ك��ان غ��وي��ا يحاول‬ ‫به �إلى الذهاب �إلى روما‪ ،‬ومن هناك �أر�سل‬
‫الذاتية في الفن‪ ،‬فلوحة واحدة لغويا تروي‬ ‫في هذه اللوحات تج�سيد العالم الروحي‬ ‫لوحة للدخول في الم�سابقة في (‪1771‬م)‬
‫حدث ًا تاريخي ًا متكام ًال‪ ،‬فن�شاهد اللوحة‬ ‫لعقله عن طريق ه��ذه اللوحات الناتجة‬ ‫في جنوبي �إيطاليا بمدينة بارما (كانت‬
‫الفنية كعمل روائ��ي من مئة �صفحة على‬ ‫عن ح�صيلة البيئة‪ ،‬لقد �أبدع غويا في هذه‬ ‫تحت نفوذ �إ�سبانيا)‪ ،‬ومن هنا �أ�صبح تلميذ‬
‫الأقل‪ ،‬فيه ح�ضور واع �أو غير واع لم�شاعر‬ ‫اللوحات (ال�سوداء) عالم ًا خيالي ًا لم يكن‬ ‫الفنان فران�شي�سكو بايو ال��ذي كان فنان‬
‫الألم قابلة لأن نتوا�صل معها برغم الم�سافة‬ ‫م�ستمداً‪ ،‬كما جرت العادة �آنذاك‪ ،‬من ق�ص�ص‬ ‫بالط الملك في جنوبي �إيطاليا‪ ،‬ومن خالل‬
‫التاريخية بيننا وبينها‪.‬‬ ‫الإنجيل �أو من المو�ضوعات التاريخية‪،‬‬ ‫هذه الم�سابقة و�صلت �أخباره �إلى مدريد‪،‬‬
‫ل ��ذا ن��ج��د �أن �أع��م��ال��ه تمتلك حيوية‬ ‫معظم عنا�صره �ساحرات ومردة‪ ،‬و�أ�شخا�ص‬ ‫ولهذا عاد في نهاية ال�سنة �إلى �سراقو�صة‬
‫فائقة‪ ،‬بحيث يمكن �أن تظل محافظة على‬ ‫م�شوهون‪ ،‬و�أنا�س ب�سطاء مقهورون‪ ،‬وهناك‬
‫معا�صرتها لأوق��ات متقدمة‪ ،‬انطالق ًا من‬ ‫من يرى �أن هذه اللوحات بمثابة وثيقة‬
‫لحظة �إنجازها‪ ،‬وبالتالي يمكننا �إ�سقاطها‬ ‫اتهام يقدمها غويا �ضد قوى الق�سوة والظلم‬ ‫�أبدع في تج�سيد العالم‬
‫على واقعنا الراهن‪ ،‬وهذا ما يعطي �أهمية‬ ‫في �إ�سبانيا في ذلك الع�صر‪.‬‬ ‫الروحي في لوحاته‬
‫فائقة لأعمال هذا الفنان المبدع‪.‬‬ ‫يعتبر غويا من �أعظم الفنانين الإ�سبان‬

‫‪117‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫���د الفنان ال��راح��ل ك��رم م��ط��اوع في‬ ‫ُو ِل َ‬ ‫فار�س الم�سرح العربي‬
‫ال�سابع من دي�سمبر عام (‪1933‬م)‪ ،‬بمحافظة‬
‫كفر ال�شيخ بم�صر‪ ،‬حيث ح�صل على لي�سان�س‬
‫الحقوق من جامعة عين �شم�س‪ ،‬ثم تخرج‬
‫في معهد الفنون الم�سرحية عام (‪1955‬م)‪،‬‬
‫كــرم مـطـاوع‪..‬‬
‫فيخرج‬ ‫ليلتحق بالعمل في الم�سرح ال�شعبي‪ُ ،‬‬
‫م�سرحية (�شعب اهلل المختار) للكاتب علي‬
‫رجـل المـهمات ال�صـعـبـة‬
‫�أحمد باكثير‪.‬‬
‫ح�صل كرم مطاوع على المركز الأول في‬ ‫كرم مطاوع ‪ُ ..‬ممثل م�صري متعدد المواهب ‪ ،‬تميزت‬
‫دفعته بالمعهد العالي للفنون الم�سرحية‪،‬‬ ‫بالرقي‪ ،‬ا�ستطاع �أن ي�صنع تاريخ ًا فني ًا‬
‫وم� ْ�ن َث ّم نال بعثة لدرا�سة الإخ��راج بمدينة‬ ‫ِ‬ ‫�أعماله الفنية ُ‬
‫روما عام (‪1958‬م)‪ ،‬كما قام برحلة فنية‬ ‫حاف ًال امتد لقُرابة �أربعة عقود‪ ،‬وه��و �أح��د عمالقة‬
‫ُمتجو ًال في بع�ض الدول الأوروبية ليتعرف‬ ‫الإخ���راج الم�سرحي الذين �أ�سهموا في تخريج �أمهر‬
‫�إلى االتجاهات الحديثة في فنون الم�سرح‪.‬‬ ‫الدفعات في التمثيل والإخراج‪ ،‬التي �أ�سهمت في �إنعا�ش‬
‫ُ‬
‫وف ��ي ع ��ام (‪1964‬م) غ���ادر م��ط��اوع‬ ‫�أمير �شفيق ح�سانين‬
‫الحراك الم�سرحي العربي في ِح ْقبة ال�سبعينيات‪.‬‬
‫�إيطاليا ع��ائ��داً �إل ��ى م�صر‪ ،‬ل� ُ�ي��خ��رج �أول��ى‬
‫م�سرحياته (الفرافير)‪ ،‬كذلك قدم م�سرحية‬
‫(الفتى م��ه��ران) ع��ام (‪)1965‬م‪ ،‬وه��ي من‬
‫تمثيله و�إخراجه‪ ،‬ويعتبر (�سيد دروي�ش) �أول‬
‫الأعمال ال�سينمائية التي قام ببطولتها كرم‬
‫مطاوع عام (‪1966‬م)‪ ،‬حيث برع في تج�سيد‬
‫�شخ�صية الفنان الوطني �سيد دروي�ش‪.‬‬
‫تفرغ مطاوع نحو ع�شرين عام ًا لأجل‬
‫الم�سرح‪ ،‬حيث �أخرج �أكثر من (‪ )60‬م�سرحية‪،‬‬
‫منها (يا بهية وخبريني‪ -‬دنيا البيانوال)‪ ،‬كما‬
‫برع في تقديم الم�سرحيات التاريخية مثل‬
‫(�أُوديب ‪ -‬وطني عكا ‪ -‬ليلة م�صرع جيفارا‪-‬‬
‫الح�سين ثائراً‪ُ -‬بردة البو�صيري)‪ ،‬وقد تميز‬
‫مطاوع في فل�سفة �إ�ضاءته لعرو�ضه‪ ،‬فهو �أول‬
‫من رف�ض ثبات الديكور‪.‬‬
‫وف ��ي مطلع ال�سبعينيات ع��م��ل ك��رم‬
‫مطاوع مدر�س ًا لطالب المعهد الوطني للفنون‬
‫بالجزائر‪ ،‬وقد تتلمذ على يده بع�ض الفنانين‬
‫الجزائريين‪� ،‬أبرزهم (مرير جمال ‪ -‬عياد‬
‫م�صطفى ‪� -‬صوفيا ‪ -‬زياني �شريف)‪ ،‬كما‬
‫�سافر �إل��ى الكويت لتدري�س الفن الم�سرحي‬
‫وال��درام��ي لطالبها‪ ،‬فا�شترك في الم�سل�سل‬
‫العربي الكويتي (حب في الأندل�س)‪ ،‬كما قدم‬
‫بالتلفزيون الكويتي برنامج (عندما ُيرفع‬
‫ال�ستار)‪.‬‬
‫ومن �أبرز تلميذات كرم مطاوع الفنانة‬
‫الم�صرية الراحلة �سعاد ن�صر‪ ،‬حيث اكت�شف‬
‫موهبتها عندما كان �أ�ستاذها بمعهد التمثيل‪،‬‬
‫كما �شجع مطاوع الفنان الم�صري ماجد‬
‫الكدواني على اقتحام عالم التمثيل‪ ،‬وللعلم‬
‫ف�إن مطاوع هو ُمكت�شف الممثلة الم�صرية‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪118‬‬


‫ر�ؤية‬

‫فترة ال�سبعينيات‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫ويعتبر المخرج البحريني خليفة‬ ‫�سيمون‪ُ ،‬‬


‫ل�صفته ك ��أُ���س��ت��اذ بمعهد‬ ‫العريفي من �أمهر تالميذ كرم مطاوع‪.‬‬
‫الفنون الم�سرحية بم�صر‪،‬‬ ‫وقد ُنقـِر ب��أن كرم مطاوع هو مخرج لكل‬
‫كما تولى م�س�ؤولية البيت‬ ‫الع�صور‪� ،‬إ�ضافة �إلى نجاحه في الت�أليف والنقد‪،‬‬
‫الفني للم�سرح الم�صري‪،‬‬ ‫ول ��ذا �سطع ا�سمه بين كوكبة م��ن المبدعين‬
‫�أي�����ض � ًا ع��م��ل ك ��رم م��ط��اوع‬ ‫الم�صريين‪� ،‬أمثال نبيل الألفي و�سعد �أرد���ش‬
‫م���دي���راً ل��م�����س��رح ال��ج��ي��ب‪،‬‬ ‫و�ألفريد فرج‪.‬‬
‫وم��دي��راً للم�سرح القومي‪،‬‬ ‫لم ُيهمل كرم مطاوع ن�شاطه ال�سينمائي‪،‬‬
‫والم�سرح الغنائي‪ ،‬ورئي�س ًا‬ ‫حيث قدم عدداً كبيراً من الأفالم الناجحة‪� ،‬أبرزها‬
‫للمركز ال��ق��وم��ي لل�سينما‬ ‫(م�صرع الذئاب‪ -‬خطة ال�شيطان)‪� ،‬أما �آخر �أفالمه‬
‫ع��ام (‪1987‬م)‪ ،‬ثم رئي�س ًا‬ ‫ال�سينمائية فهو فيلم (المن�سي) عام (‪1993‬م)‬
‫للقطاع االقت�صادي بهيئة‬ ‫مع الكوميديان عادل �إمام ‪ .‬وقد عر�ض المخرج‬
‫ال�سينما‪ ،‬كما تولى رئا�سة‬ ‫يو�سف �شاهين على الفنان كرم مطاوع م�شاركته‬
‫م��ه��رج��ان الإ���س��م��اع��ي��ل��ي��ة‬ ‫في �إخراج فيلم (الأر�ض)‪.‬‬
‫للأفالم الت�سجيلية في �أواخر‬ ‫�أما درامي ًا فقد برع كرم مطاوع في تقديم‬
‫الثمانينيات‪.‬‬ ‫عدد من الم�سل�سالت التلفزيونية‪ ،‬منها (ال�صبر في‬
‫�ألف كرم مطاوع كتاب ًا‬ ‫المالحات‪ -‬الحفار‪� -‬أرابي�سك)‪ ،‬كما ت�ألق مطاوع‬
‫يتناول ق�صة حياته و�أه��م‬ ‫في دور رجل البولي�س ال�سيا�سي الفا�سد بم�سل�سل‬
‫�أع��م��ال��ه �إخ ��راج�� ًا وتمثي ًال‬ ‫(الآن�سة كاف)‪ .‬قدم الم�سل�سالت التاريخية مثل‬
‫م�شاهد من �أفالمه‬
‫بعنوان (بورتريه كرم مطاوع)‪ ،‬كما �أكد المخرج‬ ‫(الن�سر الأ�سمر) الذي يتحدث عن طارق بن زياد‬
‫الم�صري عمرو دوارة‪ ،‬في كتابه (كرم مطاوع‬ ‫وفتح الأندل�س‪ ،‬وم�سل�سل (الأن�صار)‪ ،‬والم�سل�سل‬
‫رجل المهام ال�صعبة)‪� ،‬أن مطاوع لم يكن يجيد‬ ‫الديني (الطريق �إلى القد�س)‪ ،‬الذي �أنتجته جهة‬
‫تقديم ال ُف ْر َجة فح�سب‪� ،‬إنما كان مفكراً م�سرحي ًا‬ ‫�إنتاج �إماراتية بعجمان في �أواخر الثمانينيات‪.‬‬
‫وعروبي ًا‪ ،‬م�شيراً �إلى �أن ر�ؤية مطاوع الإخراجية‪،‬‬ ‫�أي�ض ًا ج�سد كرم مطاوع �شخ�صية هاملت‪،‬‬
‫التي طرحها عند تناوله لن�ص م�سرحية (�إيزي�س)‬ ‫في رائعة �شك�سبير (هاملت) ع��ام (‪1964‬م)‬
‫ودر�س في‬
‫عمل ّ‬ ‫حولته من خطاب يتحدث عن الم�صرية باعتبار‬ ‫ب��دار الأوب ��را الم�صرية‪ ،‬وق��د ن��ال مطاوع ِدرع‬
‫المعاهد الفنية في‬ ‫(�إيزي�س) رمزاً م�صري ًا �إلى خطاب عربي‪.‬‬ ‫ال�شرطة من وزير الداخلية الم�صري في �أوائل‬
‫رم الفنان كرم مطاوع بح�صوله على و�سام‬ ‫ُك َ‬ ‫الت�سعينيات‪ ،‬لبراعته في �إخراج �آخر م�سرحياته‬
‫م�صر وعدة بلدان‬ ‫الفنون من الدرجة الأول��ى من الرئي�س الراحل‬ ‫(ديوان البقر)‪.‬‬
‫عربية‬ ‫رم‬‫جمال عبدالنا�صر في عام (‪1967‬م)‪ ،‬كما ُك َ‬ ‫وفي عام (‪1970‬م) �سافر كرم مطاوع �إلى‬
‫في مهرجان قرطاج عام (‪1991‬م)‪� ،‬أي�ض ًا كرم‬ ‫العراق لتدري�س فنون الم�سرح بمعاهدها‪ ،‬وهناك‬
‫ا�سمه عدة مرات بعد رحيله‪ .‬وبعد االنتهاء من‬ ‫قدم م�سرحية (وا عروبتاه) على م�سرح بغداد‪،‬‬
‫ت�صوير م�سل�سل (الحفار)‪ ،‬ا�شتد المر�ض على‬ ‫كما قام مطاوع ببطولة الفيلم الم�صري العراقي‬
‫الفنان كرم مطاوع‪ ،‬حيث رحل في التا�سع من‬ ‫(مطاوع وبهية)‪ ،‬حيث تم ت�صويره بالكامل في‬
‫دي�سمبر عام (‪1996‬م)‪ ،‬بعدما �أ�س�س مدر�سة‬ ‫العراق‪ ،‬بعد �أن تم بناء قرية م�صرية ِخ�صي�ص ًا‬
‫الإخ����راج والتمثيل‬ ‫لت�صوير الفيلم‪ ،‬و���ش��ارك ف��ي البطولة بع�ض‬
‫الراقي‪ ،‬وتطرح الآن‬ ‫الفنانين الم�صريين والعراقيين‪.‬‬
‫فكرة تنا�شد الدولة‬ ‫ت��ع��اون ك��رم م��ط��اوع م��ع ال�شاعر �صالح‬
‫الم�صرية ب�إن�شاء‬ ‫جاهين في ت�أ�سي�س (فرقة �أنغام ال�شباب)‪ ،‬كما‬
‫م�سرح يحمل ا�سم‬ ‫كتب جاهين �أ�شعار م�سرحية (�إيزي�س) التي‬
‫كرم مطاوع‪� ،‬أُ�سو ًة‬ ‫�أخرجها كرم مطاوع‪ ،‬وكانت من ت�أليف توفيق‬
‫�سرحي الريحاني‬ ‫ْ‬ ‫بم‬
‫َ‬ ‫دمت الم�سرحية على خ�شبة الم�سرح‬ ‫الحكيم‪ ،‬و ُق َ‬
‫وعلي الك�سار‪ ،‬تقديراً‬ ‫القومي بح�ضور الرئي�س الراحل ح�سني مبارك‪،‬‬
‫لعطائه الم�سرحي‬ ‫واع ُتب َِر ذلك اليوم هو يوم الم�سرح الم�صري‪.‬‬
‫ال���وا����س���ع‪ ،‬ع��رب��ي � ًا‬ ‫و�ش َغ َل كرم مطاوع بع�ض المنا�صب‪ ،‬حيث‬
‫وعالمي ًا‪.‬‬ ‫كان ُمحا�ضراً بمعاهد التمثيل بالبحرين في‬
‫نجيب الريحاني‬ ‫�صالح جاهين‬

‫‪119‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬

‫المخرج الم�سرحي‬

‫ودور الناقد‬ ‫�أحمد الماجد‬

‫في خدمة المجتمع والثقافة الم�سرحية‪،‬‬ ‫الإن�سان �أن يكر�س نف�سه لهذا العمل المعقد‪،‬‬ ‫ا�ستفاد الناقد الم�سرحي في تطوير‬
‫بحكم �أن��ه الحكم بالن�سبة �إل��ى العرو�ض‪،‬‬ ‫فينبغي عليه �أن يتمتع بالمواهب المنا�سبة‬ ‫مناهجه من العلوم الإن�سانية‪ ،‬و�أ�صبح‬
‫وه��و ق��ارئ �أك��ث��ر وع��ي� ًا وخ��ب��رة و�إل��م��ام� ًا‬ ‫من الطبيعة ولو ب�شكلها البدائي‪ ،‬بعد ذلك‬ ‫�أك��ث��ر تخ�ص�ص ًا م��ن ذي قبل م��ت��ج��اوزاً‬
‫ب��الأف��ك��ار والتقنيات‪ ،‬وع��دد ال ب��أ���س به‬ ‫ي�ستطيع تطوير الملكات الطبيعية بتمارين‬ ‫المناهج االنطباعية والنف�سية واالجتماعية‬
‫من النقاد الم�سرحيين بال ر�ؤي��ة للأمور‪،‬‬ ‫معينة للو�صول �إلى الحد الأدنى من العملية‬ ‫والتاريخية‪ ،‬وانعك�س ذل��ك على مجمل‬
‫ويكتفون بتقديم وجهة نظر انطباعية‬ ‫الإبداعية‪.‬‬ ‫الت�صورات العامة لفن الم�سرح وب�ضمنها‬
‫وق��راءة �صحافية عن العر�ض الم�سرحي‪،‬‬ ‫من هنا ج��اء النقد ك�ضرورة ال غنى‬ ‫عمل المخرج‪ ،‬وق��درة الناقد على الت�أويل‬
‫فغياب الناقد الم�سرحي المتخ�ص�ص في‬ ‫عنها‪ ،‬مثل عالمة دالة تر�شد �إلى جوانب لم‬ ‫والإ�شارة �إلى معانٍ خفية‪ ،‬بحيث ت�صبح‬
‫الندوات التطبيقية‪ ،‬التي تلي العرو�ض‪ ،‬وفي‬ ‫يكن المخرج على وجه الخ�صو�ص قد فطن‬ ‫فاعلية عمله منطلقة من تف�سيره للعر�ض‬
‫ال�صحافة على وج��ه الخ�صو�ص‪ ،‬وتولي‬ ‫لها‪ ،‬ف�ض ًال عن �أن النقد ي�شعل روح التناف�س‬ ‫الم�سرحي‪ ،‬الذي يوفر فر�صة كبيرة للمقاربة‬
‫المحررين الثقافيين مهمة النقد الم�سرحي‪،‬‬ ‫بين الفنانين ليرتقي ب�أعمالهم‪ ،‬وكذلك‬ ‫النقدية في اكت�شاف الأن�ساق التوا�صلية‪،‬‬
‫من دون �أن تكون لهم دراي��ة نظرية وال‬ ‫يك�شف عيوب المنتج الم�سرحي‪ ،‬ويمهد في‬ ‫التي يمكن �أن ينتجها ا�شتغال المخرج على‬
‫تطبيقية بالم�سرح‪ ،‬هو ما يجعل ما يكتب‬ ‫�أحيان �إلى اكت�شاف �أ�شكال جديدة للعمل‬ ‫عالمات العر�ض‪.‬‬
‫ف��ي ال�صحافة م��ن نقد م�سرحي‪ ،‬ف��اق��داً‬ ‫الم�سرحي‪� ،‬إال �أن كل ذلك ال يمكن �أن يكون‪،‬‬ ‫لذلك‪ ،‬بات دور مخرجي الم�سرح في‬
‫للمو�ضوعية في كثير من جوانبها‪.‬‬ ‫ما لم تكن العالقة بين المخرج والناقد‬ ‫الوقت الراهن �أكثر �سعة وتعقيداً‪ ،‬بالنظر‬
‫فمنذ �أن ولد النقد‪ ،‬والعالقة على طرفي‬ ‫على وف��اق ووئ��ام ور�ضا‪ ،‬وكذلك القبول‬ ‫لوجود المدار�س الإخراجية المتعددة‪ ،‬وكذلك‬
‫نقي�ض بين المخرج والناقد‪ ،‬فالأول �صانع‪،‬‬ ‫واالقتناع بطروحات الآخ��ر‪ ،‬ف��إن �أختلف‬ ‫ال��ق��راءات النقدية المتعددة‪ ،‬والن�صو�ص‬
‫والثاني باحث عن �أوج��ه ومكامن الخلل‪،‬‬ ‫معك ال يعني �أنني �أكرهك‪� ،‬أن �أخالف ر�أيك‬ ‫الم�سرحية الكثيرة التي تتطلب درا�ستها‬
‫يتمها‪،‬‬
‫التي تركها ال�صانع وراءه دون �أن ّ‬ ‫وما ذهبت �إليه‪ ،‬ال يعني �أنني �أحيلك �إلى‬ ‫درا���س��ة واف��ي��ة‪ ،‬ودخ���ول التكنولوجيات‬
‫فال ه��ذا ير�ضى بف�ضح عثراته‪ ،‬وال ذاك‬ ‫عدم وك�أنك لم تكن‪.‬‬ ‫والتقنيات في بنية العر�ض الم�سرحي‪ .‬ومع‬
‫يقبل بالتغا�ضي عنها‪ ،‬فيحتدم ال�صراع‬ ‫والنقد ال نق�صد به النقد ال�صحافي �أو‬ ‫تطور علم الم�سرح‪� ،‬ش�أنه �ش�أن باقي العلوم‬
‫حد القطيعة المبطنة‪� ،‬أو‬ ‫بينهما حتى ي�صل ّ‬ ‫النقد االنطباعي‪ ،‬فنقاد من هذين ال�صنفين‪،‬‬ ‫الأخ���رى‪ ،‬توجب على المخرج م�ضاعفة‬
‫العداوة الكامنة التي قد تنفجر في لحظة‪،‬‬ ‫هما في حالة وئام متبادل مع المخرجين‪،‬‬ ‫جهوده من �أجل الو�صول �إلى عتبات ذاك‬
‫وكم من ناقد و�صف بالعته �أو الخرف‪ ،‬لأنه‬ ‫�إذ �إنهما يكتفيان بمالم�سة �سطحية عامة‬ ‫التطور على �أقل تقدير‪.‬‬
‫قال ر�أيه ال�صريح بالعر�ض‪ ،‬وكم من مخرج‬ ‫للعر�ض الم�سرحي‪ ،‬دون الدخول �إلى عمق‬ ‫كما �أن تعدد وتنوع المهام الإبداعية‬
‫وجهت �إليه �أح� ُّ�د ال�سهام‪ ،‬ك��ون ر�ؤيته ال‬ ‫وتفا�صيل ال��ع��ر���ض‪ ،‬وي��ح��دث��ون �أح��ي��ان� ًا‬ ‫للمخرج‪ ،‬فر�ض عليه �أن يقابلها ثراء في‬
‫تتفق مع هوى الناقد‪ ،‬وكالهما ال ي�صغيان‬ ‫ت�شوي�ش ًا على فهم ال��ق��ارئ‪ ،‬في حين �أن‬ ‫القدرات الإبداعية عنده‪ ،‬فهي المهنة الأكثر‬
‫لبع�ضهما‪ .‬من �أجل ذلك‪ ،‬ومن �أجل التوفيق‬ ‫�أ�س�س النقد الحقيقية‪ ،‬تقوم على دور الناقد‬ ‫احتياج ًا �إلى تنوع في المواهب‪ ،‬و�إذا �أراد‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪120‬‬


‫مدارات‬

‫المخرج الم�سرحي يختار طرق التف�سير‬ ‫بين الناقد المعتز بر�أيه‪ ،‬والمخرج المتم�سك‬
‫والت�أويل للن�ص‪ ،‬فيبدع عر�ض ًا م�سرحي ًا‪ ،‬بينما‬ ‫ب�أدواته‪ ،‬وجب ال�سعي �إلى عقد هدنة �أو �إقامة‬
‫ي�سلك الناقد الم�سرحي ع��ادة طرق التحليل‪،‬‬ ‫�صلح بينهما‪ ،‬عبر تغيير مفهوم النقد عند‬
‫�أي تحليل ما �آل �إليه تف�سير المخرج‪ .‬فتف�سير‬ ‫االثنين‪ ،‬من كونه �ساحة لل�صراع ونثر العثرات‬
‫تتطلب مهنة‬ ‫المخرج لي�س محدداً ب�شروط‪ ،‬وهو غير محدد‬ ‫على الطرق‪� ،‬إلى كونه منطقة للنقا�ش والتحليل‬
‫الإخراج الم�سرحي‬ ‫بقواعد ثابتة �أو جامدة‪� ،‬إنه االجتهاد الإبداعي‬ ‫والتف�سير والت�أويل‪.‬‬
‫قدرات وموهبة‬ ‫الذي يوظف طاقات ومفاهيم لم تفكر يوم ًا‬ ‫فمهمة الناقد الم�سرحي اليوم‪� ،‬أكثر ع�سر ًا‬
‫� ٌّأي من القواعد الثابتة والمعايير باحتوائها‬ ‫من �أية مهمة نقدية ت�شمل قطاع ًا ثقافي ًا �أو فني ًا‬
‫�إبداعية متنوعة‬ ‫وال�سيطرة عليها‪� ،‬أو ب�إدخالها �ضمن منظومتها‬ ‫�آخ��ر‪ ،‬باعتبار �أن الم�سرح مجموعة مكونات‬
‫الفكرية الخال�صة وال��ج��اه��زة‪� .‬أم ��ا تحليل‬ ‫كثيرة‪ ،‬مدار�س وفل�سفات ومكونات متباينة‬
‫الناقد‪ ،‬فيعتمد �آلية قد ال يحيد عنها‪( :‬ال�شروط‬ ‫وم��ف��ردات و�أ���ش��خ��ا���ص ومو�سيقا و�إ���ض��اءة‬
‫والأه� ��داف والغر�ض وال��وظ��ي��ف��ة‪ .)...‬كما �أن‬ ‫و�أ�صوات ومفاهيم و�أفكار وقوالب وغيرها‪..‬‬
‫الإبداع يكون على الدوام وليد عملية التف�سير‬ ‫كلها تجعل المهمة ف��ي �صميم الم�س�ؤولية‬
‫والت�أويل‪ ،‬والنقد الذي يعتمد التحليل دون �سواه‬ ‫الخطيرة‪ ،‬وتحتاج �إلى قدرات واعية كبيرة‪� ،‬إن‬
‫يلحق دائم ًا بركب الر�ؤى الإخراجية الإبداعية‪،‬‬ ‫لم نقل �إلى م�ؤ�س�سات تعنى بهذا الفن العظيم‪.‬‬
‫�أ�صبح دور مخرجي‬ ‫فيعيد دائم ًا ح�ساباته مع الن�ص الم�سرحي ومع‬ ‫�إن المخرج الم�سرحي المنظم‪ ،‬هو الذي‬
‫العر�ض الم�سرحي‪� .‬إن عالقة النقد الم�سرحي‬ ‫يراه الناقد في كل �شيء‪ ،‬في «الميزان�سين»‬
‫الم�سرح حالي ًا �أكثر‬ ‫بالإبداع الدرامي وبالإخراج‪ ،‬هو �شبيه بعالقة‬ ‫والديكور والم�ؤثرات ال�صوتية والإ�ضاءة‪ ،‬وفي‬
‫تعقيداً مع تعدد‬ ‫العلم بالتكنولوجيا‪ ،‬فنحن نوافق بع�ضهم‬ ‫الم�شاهد الجماعية‪ ،‬ويدخل في اخت�صا�صه‬
‫المدار�س والقراءات‬ ‫الر�أي في وجود ممار�سة نقدية متطورة‪ ،‬وهي‬ ‫جميع عنا�صر ال��ع��ر���ض ال��م�����س��رح��ي‪ ،‬وف��ي‬
‫رهن وجود تراكم �إبداعي متطور �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫مقدمتها �إبداع الممثل‪ ،‬الذي يجب �أن ين�سجم‬
‫النقدية‬ ‫�إن العر�ض الم�سرحي يتحول من بين �أيدي‬ ‫م��ع بقية العنا�صر ف��ي ك � ٍّل واح�� ٍد متكامل‪.‬‬
‫مبدعيه لي�صبح ملك ًا لم�شاهديه‪ ،‬ومن بينهم‬ ‫يقول المخرج الرو�سي �ألك�سي بوبوف‪( :‬على‬
‫النقاد‪� ،‬إذ يتلقون العمل الم�سرحي بحوا�سهم‪،‬‬ ‫المخرج ح�شد الجهود العامة والفردية في‬
‫فيكونون من خاللها م�شاركين ومت�أثرين‪،‬‬ ‫�سبيل تحقيق الخطة الفكرية والفنية الموحدة‬
‫باعتبار �أن الم�سرح فعل الممثل القادر على‬ ‫للعر�ض الم�سرحي‪ ،‬وهي تتحقق من خالل فن‬
‫تج�سيد �صورة الإن�سان االجتماعي‪ .‬من ذلك‬ ‫التكوين الإخراجي‪ ،‬فهو مدعو لأن يعطي كل‬
‫توجب على المخرج ا�ستخدام حوا�سه الخم�س‬ ‫�صور العر�ض الم�سرحي توافق ًا عام ًا‪ ،‬وجميع‬
‫�أثناء انغما�سه في مراقبة العالم بكل تنوع‬ ‫الأف��ع��ال ال��درام��ي��ة فيه منطقية م�شروعة‪،‬‬
‫�أ�شكاله‪ ،‬فتراه يتحول من �أجل هذا بالتناوب؛‬ ‫و�أخيراً �أن يعطي كل �أق�سام العر�ض الم�سرحي‬
‫يحتاج المخرج‬ ‫�إلى ر�سام تارة‪ ،‬و�إلى نحات �أو مو�سيقي تارة‬ ‫تنا�سب ًا �ضروري ًا‪ ،‬فالمخرج مثله مثل الكاتب‬
‫الم�سرحي الواعي‬ ‫�أخرى‪ ،‬وهذه الحوا�س يجب �أن تكون في حالة‬ ‫والر�سام؛ غني بالو�سائل التعبيرية‪ ،‬غير �أن‬
‫�إلى ناقد ينظر بعين‬ ‫جاهزية دائمة لتقبل الحياة ب�شكل ن�شيط‪.‬‬ ‫امتالك حرية التعبير الفني عند المخرج �أمر‬
‫�إن منهجية الناقد و�شفافيته ومهنيته‬ ‫في غاية ال�صعوبة‪ ،‬ذلك �أن و�سيلة فنه مادة‬
‫الحياد للعر�ض‬ ‫وخبرته واحترامه لم�صداقيته وعمله‪ ،‬وكذلك‬ ‫حية ومعقدة هي الإن�سان‪ /‬الممثل)‪ .‬من هنا‬
‫�سعة �صدر المخرج والنظر �إلى العمل الم�سرحي‬ ‫نرى �أن المخرج الم�سرحي الواعي والمتمكن‬
‫على �أن��ه منطقة للنقا�ش والبحث‪ ،‬ه��ي من‬ ‫من �أدواته‪ ،‬هو ناقد بنف�سه‪ ،‬غير �أن قربه من‬
‫�ستديم العالقة ال�صحيحة بين مخرجي الم�سرح‬ ‫العر�ض الم�سرحي واندماجه فيه وان�صهاره‬
‫ونقاده‪ ،‬و�ستبني �سوراً يحمي المنتج الم�سرحي‬ ‫في تفا�صيله‪ ،‬يجعله بحاجة �إلى عين �أخرى‬
‫من الفو�ضى واالتكاء على الفر�ضيات الثابتة‬ ‫تنظر �إلى العر�ض بحياد ومحبة‪ ،‬وهي بما ال‬
‫والأ�شكال الجامدة‪.‬‬ ‫يقبل ال�شك �أو الجدال عين الناقد‪.‬‬

‫‪121‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫تنوعت مدار�سه واتجاهاته‬

‫نموذجان من الم�سرح‬
‫الفـرنـ�ســي الحديث‬

‫فعلى �سبيل المثال‪ ،‬ات�سمت هذه المرحلة‬


‫ببروز دور المخرج‪ ،‬واحتالله موقع ًا �أ�سا�سي ًا‬ ‫ق��ر�أن��ا �أخ��ي��ر ًا كتاب (�أنتولوجيا الم�سرح الفرن�سي‬
‫في العملية الم�سرحية‪ ،‬جعلته �سيد العر�ض‬ ‫الحديث) وهو من �إ�صدارات الهيئة العامة الم�صرية‬
‫بال منازع‪ ،‬وكذلك تطور �أداء الممثل وو�ضعه‬ ‫في جز�أين‪ ،‬ترجمة الناقدة والأكاديمية د‪ .‬ماري‬
‫�ضمن العر�ض الم�سرحي‪ ،‬كما ظهرت التقنيات‬ ‫�إليا�س‪ ،‬وهو عبارة عن مجموعة ن�صو�ص من الم�سرح‬
‫الجديدة التي ا�ستفاد منها الم�سرح ب�شكل كبير‬
‫الفرن�سي المعا�صر‪ ،‬تحمل مالمح التحوالت الكبيرة‬
‫وط� َّ�ور نف�سه من خاللها‪ ،‬كما انفتح الم�سرح‬ ‫�إيريني �سمير حكيم‬
‫في تلك الفترة جغرافي ًا على العالم فا�ستعارت‬ ‫في م�سرح القرن الع�شرين‪ ،‬من حيث تطوره وتتابع‬
‫الم�سارح من بع�ضها‪.‬‬ ‫مدار�سه وتنوع اتجاهاته‪ ،‬فلقد الم�س التغيير على كافة الم�ستويات‪،‬‬
‫وتعود �أهمية هذا الكتاب كم�شروع لترجمة‬ ‫م��ن الن�ص �إل���ى ال��ع��ر���ض حتى العملية الم�سرحية ب�أكملها‪ ،‬وذل��ك‬
‫ه��ذه الن�صو�ص الم�سرحية وتقديمها‪ ،‬وكما‬ ‫بعدما تحرر الم�سرح من �أغلب الأع���راف التي ك َّبلته لفترة طويلة‪.‬‬
‫ذكرت المترجمة‪� ،‬إلى �أنه محاولة ل�سد ثغرات‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪122‬‬


‫م�سرح‬

‫الترجمة التي ع��ادة ما تكون انتقائية‪ِ ،‬تبع ًا‬


‫لرغبة المترجم �أو ِلما يمكن �أن يتوافر بين يديه‪.‬‬
‫كما نجد ف��ي ه��ذه الأن��ت��ول��وج��ي��ا جهداً‬
‫ومحاولة لتعريف القارئ العربي بجزء �أ�سا�سي‬
‫من الم�شهد االجمالي لم�سرح القرن الع�شرين‪،‬‬
‫الذي نجهله �أو نتجاهله ب�سبب غياب الترجمات‬
‫�أو ق َّل ِتها‪ ،‬ويتم فيها طرح ما �سمي بالم�سرح‬
‫الطليعي في الخم�سينيات من القرن الما�ضي‬
‫مي بم�سرح العبث‪ ،‬وما تاله �أو واكبه من‬ ‫و�س ّ‬
‫ُ‬
‫جان لوك الغار�س‬ ‫برنار ماري كولتي�س‬ ‫د‪ .‬ماري �إليا�س‬
‫كتابات ج��ان جينيه‪ ،‬وفران�سوا بييدو‪ ،‬ثم‬
‫م�سرح الحياة اليومية‪ ،‬ممث ًال في فرن�سا بم�سرح‬
‫م�س�ألة المعنى (معنى العمل �أو معنى العالم)‪،‬‬ ‫مي�شيل فينافير الذي اليزال ُيك َتب حتى اليوم‪.‬‬
‫قد �صارت ق�ضية �أخرى ال تعنيهم‪ ،‬فما يهمهم‬ ‫� َّإن الكتابة الم�سرحية الفرن�سية الغزيرة في‬
‫جان لوك الغار�س‬
‫هو و�صف هذا العالم‪ ،‬وطرح الذات (الأنا) التي‬ ‫هذه المرحلة ال تحمل �صفات الن�سبية‪ ،‬وعدم‬
‫اعتمد الحرية في‬ ‫و�سم بها كتابة ما بعد الحداثة‪،‬‬
‫تعي�ش �أو تنتظر الموت في هذا العالم؛ وهو ما‬ ‫االكتراث التي ُت َ‬
‫كتاباته والبعد‬ ‫تعر�ض الكتاب له ولعدد من ه�ؤالء الم�سرحيين‬ ‫فهذه الن�صو�ص وخالف ًا للمرحلة ال�سابقة لها‪،‬‬
‫الكامن في الن�ص‬ ‫الفرن�سيين الذين يعتبرون رواد تلك الفترة‪،‬‬ ‫ال تنفي وج��ود المعنى خا�صة على م�ستوى‬
‫وبع�ض من ن�صو�صهم الم�سرحية‪ ،‬وهم‪:‬‬ ‫التف�صيل‪ ،‬وال تتجاهل متلقيها‪ ،‬بل على العك�س‬
‫برنار ماري كولتي�س‪ ،‬الذي يعتبر �أحد �أهم‬ ‫تمام ًا فهي تطرح �إ�شكالية التلقي على كافة‬
‫ُك َّتاب الجيل الجديد من الم�سرحيين الفرن�سيين‬ ‫تدعي �أنها‬ ‫الم�ستويات‪ ،‬وهي من ناحية �أخرى ال َّ‬
‫برنار ماري كولتي�س‬ ‫والأوروبين‪� ،‬إن لم يكن �أهمهم قطع ًا‪ُ ،‬ولد في‬ ‫تملك منظوراً متكام ًال للعالم‪ ،‬بمعنى �أن الن�ص‬
‫�شكلت ن�صو�صه‬ ‫مدينة (ميتز) الفرن�سية عام (‪1948‬م) وتوفي‬ ‫ال يختزل العالم �أو المجتمع وال يطمح لذلك‪.‬‬
‫الحديثة �أ�سلوب ًا‬ ‫في باري�س عام (‪1989‬م)‪ .‬وكان قد �أ َّلف فرقة‬ ‫لقد كان ه ��ؤالء الكتاب ال�شباب الذين ال‬
‫م�سرحية �سماها (فرقة ر�صيف المحطة)‪ ،‬وقام‬ ‫يدعون �أي انتماء �سيا�سي �أو غيره‪ ،‬وال يجتمعون‬ ‫َّ‬
‫�أقرب �إلى التراجيديا‬ ‫ب�إعداد الكثير من الن�صو�ص الأدبية والم�سرحية‬ ‫في �أي تيار‪ ،‬وال يرتبطون ب�أي فل�سفة وجودية‪،‬‬
‫الإغريقية‬ ‫المعروفة التي قدمتها الفرقة‪.‬‬ ‫قد فقدوا الرغبة بتف�سير �أو فهم العالم‪ ،‬وك�أن‬

‫من الم�سرح الفرن�سي‬

‫‪123‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫م�سرح‬

‫قدمة في هذا الكتاب‪،‬‬ ‫الم َّ‬


‫ومن ن�صو�صه ُ‬
‫ِ‬
‫ن�ص (في عزلة حقول القطن) الذي ُكتب عام‬
‫(‪1986‬م)‪ ،‬وفيه يلتقي �شخ�صان في مكان ما قد‬
‫يكون طريق ًا‪� ،‬أحدهما َيعرِ�ض �أن يبيع ما عنده‬
‫عر�ض‬ ‫وال نعرف ما عنده‪ ،‬والآخر ال يريد ما ُي َ‬
‫عليه وال نعرف ماذا يريد‪ ،‬والم�سرحية قد تكون‬
‫تعر�ض له (كولتي�س)‬ ‫م�ستوحاة من موقف ب�سيط َّ‬
‫لكن (كولتي�س)‬ ‫حين و�صوله �إل��ى نيويورك‪َّ ،‬‬
‫يحول هذا الموقف الب�سيط �إلى مو�ضوع اللقاء‬ ‫ِّ‬
‫في الحياة وت�أثير اللقاء في الفرد‪.‬‬
‫والن�ص الثاني هو (روبرتو رزك��و)‪ ،‬الذي‬
‫الو�شيك في ن�صو�صه ُت�ش ِّكل هاج�س ًا �أ�سا�سي ًا في‬ ‫كان �آخر ن�ص كتبه كولتي�س‪ ،‬فقد انتهى من‬
‫�أعماله وتنتظم حولها كل الموا�ضيع الأخرى‪.‬‬ ‫كتابته ع��ام (‪1988‬م) قبل �أن ي�شتد عليه‬
‫وعلى الرغم من � َّأن فترة �إنتاجه الفني‬ ‫ِ�ضت هذه الم�سرحية في فرن�سا‬ ‫المر�ض‪ ،‬وقد ُعر َ‬
‫تت�سم هذه المرحلة‬ ‫والأدبي لم تكن طويلة‪ ،‬ف�إنه كتب العديد من‬ ‫دمت لأول مرة‬ ‫ُ َ‬‫ق‬ ‫قد‬ ‫أنها‬ ‫�‬ ‫ا‬
‫عام (‪1992‬م)‪ً ،‬‬
‫علم‬
‫الم�سرحيات والن�صو�ص ال�شعرية‪ ،‬ولقد كان‬ ‫في برلين عام (‪1990‬م)‪ .‬وهي م�ستوحاة من‬
‫ببروز دور المخرج‬ ‫يكتب بحرية كبيرة ولم يلتزم في ن�صو�صه‬ ‫ق�صة حقيقية عن مجرم ا�سمه روبرتو �سوكو‪،‬‬
‫باعتباره �سيد‬ ‫كت�شف‬
‫وي َ‬
‫قدمة في‬ ‫الم َّ‬
‫بنوع �أو جن�س‪ ،‬وتعتبر ن�صو�صه ُ‬ ‫عا�ش في �إيطاليا وق َتل مفت�ش �شرطة‪ُ ،‬‬
‫العر�ض بال منازع‬ ‫هذه الأنتولوجيا �أكبر دليل على هذه الحرية‬ ‫بعد القب�ض عليه �أ َّنه مختل عقلي ًا‪ ،‬و�سبق له �أن‬
‫البعد الكامن في الن�ص‪.‬‬ ‫وعلى ُ‬ ‫ق َتل والديه‪ ،‬ثم و�ضعه في م�صح عام (‪1981‬م)‪،‬‬
‫ونجد في ن�ص (ال�سفر �إل��ى اله��اي) الذي‬ ‫ولكن الحافز‬ ‫َّ‬ ‫حتى َه َرب منه عام (‪1986‬م)‪،‬‬
‫�صدر ع��ام (‪1997‬م)‪� ،‬أن��ه يبدو في الظاهر‬ ‫المبا�شر للكتابة بالن�سبة لكولتي�س لم يكن‬
‫كانتقال من المكان‪ ،‬انطالق ًا من فكرة ال�سفر‬ ‫الحادثة بحد ذاتها‪ ،‬بل �صورة المجرم ك�شخ�ص‬
‫التي تظهر في العنوان‪ ،‬ولكنه في جوهره عبور‬ ‫مطلوب للعدالة‪ ،‬حين ر�آها كولتي�س في محطة‬
‫�إلى حميمية �إن�سانية‪ ،‬حيث �إ َّنها حميمية تعي�ش‬ ‫للمترو في (‪1988‬م)‪ ،‬حيث �شدته ال�صورة‬
‫وظف التقنيات‬ ‫الألم ب�أق�صى حاالته‪� ،‬إلى درجة ت�شعر ب�أ َّنها‬ ‫وتابع م�سار الق�صة‪ ،‬وده�شه �سلوك المجرم‬
‫الحديثة وا�ستفاد‬ ‫�شديدة التعبير‪ ،‬حتى لو لم يبد متلقي الن�ص‬ ‫ال�شاب‪ ،‬الذي تم القب�ض عليه بف�ضل �شهادة‬
‫منها في تطوره‬ ‫وا�ضح المعالم‪ ،‬فال ُيظهِ ر لمن يتوجه الن�ص‪،‬‬ ‫مراهقة كانت �صديقته في ال�سابق‪ ،‬ليعرف‬
‫وانفتاحه على العالم‬ ‫وهذا يعطي ن�ص ًا �سردي ًا ملحمي ًا من نوع جديد‪،‬‬ ‫� َّأن ال�شاب انتحر في النهاية‪ ،‬و�أ َّن��ه ا�ستخدم‬
‫مجد البطولة بل ي�سخر من (الأن��ا)‪،‬‬ ‫لأن��ه ال ُي ِّ‬ ‫الأ�سلوب ذاته‪ ،‬الذي قتل به والده‪ ،‬فا�ستهوت‬
‫وكذلك من كل تفا�صيل الحياة‪.‬‬ ‫(كولتي�س) ال�شخ�صية وحولها �إلى �شخ�صية �شبه‬
‫ثم جاءت م�سرحية (ق�صة حب) مذهلة‬ ‫ومن ّ‬ ‫�أ�سطورية‪ ،‬وا�ستخدمها كناية عن العنف‪ ،‬بعيداً‬
‫على م�ستوى الإيهام‪ ،‬فك�سر الإيهام يكمن فيها‬ ‫عن مفهوم الخير وال�شر‪ ،‬فالكتابة هنا ت�شكل‬
‫على م�ستوى الكتابة‪،‬‬ ‫�أ�سلوب ًا جديداً �أقرب �إلى التراجيديا الإغريقية‪.‬‬
‫فالن�ص ُي��ك� َت��ب خالل‬ ‫ويعتبر الفرن�سي جان لوك الغار�س اليوم‬
‫ال��ع��ر���ض‪ ،‬وه ��ذا ي���ؤدي‬ ‫�أحد �أهم ممثلي الم�سرح الفرن�سي الحديث‪ُ ،‬ولد‬
‫�إل���ى خ��ل��ط ب��ي��ن ال ��دور‬ ‫في عام (‪1957‬م) وتوفي في (‪1995‬م)‪ ،‬وهو‬
‫والممثل وال�شخ�صية‪،‬‬ ‫لم يكد يبلغ الثامنة والثالثين من عمره‪ ،‬بعد‬
‫فالكتابة هنا ت�شي بكل‬ ‫معاناة طويلة مع المر�ض‪ .‬كان يعرف كل �شيء‬
‫خباياها‪ ،‬وتظل‪ ،‬برغم‬ ‫عن مر�ضه وموته الو�شيك‪ ،‬لذلك كتب بغزارة‪،‬‬
‫ك��ل ذل��ك‪ ،‬ع�صية وغير‬ ‫وخا�صة ف��ي المرحلة الأخ��ي��رة م��ن حياته‪،‬‬
‫م��ك��ت��م��ل��ة‪ ،‬ف�ل�ا ن��ع��رف‬ ‫وبرغم التنوع الكبير في الموا�ضيع التي تطرق‬
‫المو�ضوع وال الكاتب‬ ‫�إليها‪ ،‬ف�إننا نالحظ ذاتية عالية في كتابته‪،‬‬
‫وال الحكاية‪ ،‬ولكن برغم‬ ‫فهو لم يكتب �إال عن نف�سه وقد يكون ال�سبب‬
‫ذلك الم�سرحية موجودة!‬ ‫في ذلك �شعوره بالموت الو�شيك‪ ،‬وثيمة الموت‬
‫�أعماله �شديدة الحميمية‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪124‬‬


‫مقاالت‬
‫ن�سيم‬

‫فلوبير‪« :‬الكلمة ال تنق�صنا‬


‫�أبد ًا عندما نملك الفكرة»‬
‫لقد ولد فلوبير في (‪ 21‬دي�سمبر ‪1821‬م)‪،‬‬ ‫تحتفل فرن�سا ه��ذا ال��ع��ام ب��ذك��رى م��رور‬
‫في مدينة روان‪� ،‬ضمن عائلة مي�سورة‪ .‬كان‬ ‫مئتي عام على والدة كاتبها الكبير (غو�ستاف‬
‫وال��ده طبيب ًا جراح ًا بارع ًا وم�شهوراً‪ ،‬ويقال‬ ‫فلوبير)‪� ،‬ضمن احتفالية تحمل عنوان (فلوبير‬
‫�إن فلوبير ال�صغير الذي كان يعي�ش في �شقة‬ ‫وت�ضم �أكثر من (‪ )150‬تظاهرة ثقافية‬ ‫ّ‬ ‫‪،)21‬‬
‫يتفرج �سراً على والده‬
‫مال�صقة للم�ست�شفى‪ ،‬كان ّ‬ ‫و(‪ )200‬لقاء‪ ،‬تقام في عدد من المدن التي‬
‫وه��و يقوم بت�شريح الجثث‪ ،‬وه��و ما �أث��ر فيه‬ ‫تمتد على طول وعر�ض مقاطعة النورماندي‬
‫نجوى بركات‬ ‫وجعله الحق ًا يبحث عن الحقيقة وراء المظاهر‪،‬‬ ‫التي �شهدت والدت���ه‪ ،‬وذل��ك ب ��دءاً م��ن �أبريل‬
‫وي�صف بمو�ضوعية وبدقة وواقعية ما يدور من‬ ‫(‪2021‬م)‪ ،‬وحتى �أبريل (‪2022‬م)‪ .‬وت�شتمل‬
‫من الكاتب‪ ،‬ف ��إن ق�صة حياته تمتزج ب�شكل‬ ‫حوله‪ .‬كان فلوبير‪ ،‬برغم جو الم�ست�شفى الكئيب‪،‬‬ ‫االحتفالية على قراءات ومحا�ضرات ومعار�ض‬
‫ع�ضوي مع ق�ص�ص كتبه‪.‬‬ ‫طف ًال مرح ًا وحنون ًا‪ ،‬تع ّلق بوالدته وب�أخته‬ ‫و�أحداث افترا�ضية‪ ،‬تهدف �إلى تعريف الجمهور‬
‫في عام (‪1856‬م)‪ ،‬بد�أت (مدام بوفاري)‬ ‫التي ت�صغره بثالث �سنوات‪� .‬إال �أن الموت الذي‬ ‫غير وجه الأدب‬ ‫العري�ض بالأديب الالمع الذي ّ‬
‫تن�شر ف�ص ًال بعد �آخ��ر ف��ي مجلة (باري�س)‪،‬‬ ‫خطف وال��ده‪ ،‬ومن ثم �شقيقته‪� ،‬ألقى بظالله‬ ‫الفرن�سي‪ ،‬وابتدع رواية جديدة‪ ،‬و�أ ّثر في العديد‬
‫التي �أ�س�سها �صديقه دوكان بعد عودتهما من‬ ‫على حياته‪� ،‬إلى جانب حالته ال�صحية ال�سيئة‬ ‫من الك ّتاب حتى منت�صف القرن الع�شرين‪.‬‬
‫رحلتهما �إل��ى ال�شرق‪ ..‬لكن ال�سلطات �أوقفت‬ ‫التي ا�ضطرته �إلى ترك درا�سة المحاماة بعد �أن‬ ‫تخ ّل�ص فلوبير في �أعماله من (�سلبية‬
‫�صدور المجلة ب�سبب ما اعتبرته منافي ًا لأخالق‬ ‫�أجبره �أبوه على خو�ضها‪ ،‬في حين كان يحلم‬ ‫الغنائية)‪ ،‬بح�سب قوله‪ ،‬التي كانت رائجة‬
‫الع�صر‪ ،‬بما �أن الرواية هي ق�صة خيانة �سيدة‬ ‫هو ب�أن ي�صير كاتب ًا‪.‬‬ ‫من قبله‪ ،‬ومن ح�ضور الكاتب الطاغي الذي‬
‫متزوجة! حوكم فلوبير و�أطلق �سراح الرواية‬ ‫با�شر فلوبير الكتابة‪ ،‬و���س��اءت حالته‬ ‫�وج��ه ال�شخ�صيات وي ��درك ك��ل �شيء عنها‪،‬‬ ‫ي� ّ‬
‫التي نالت �شهرة وا�سعة قبل �صدورها‪ ،‬فتهافت‬ ‫الع�صبية‪ ،‬فن�صحه الأطباء بالإقامة لحين في‬ ‫وم��ن الرومنطيقية التي كافحها بالواقعية‬
‫عليها القراء واحتفى بها بع�ض كبار الأ�سماء‬ ‫مناخ داف��ئ‪ ،‬فقرر ال�سفر مع �صديق الدرا�سة‬ ‫طوال حياته‪ .‬لقد وقف على م�ستوى ال�شخ�صية‬
‫الأدب��ي��ة (ب��ودل��ي��ر‪� ،‬سانت ب ��وف)‪ ،‬وانق�سمت‬ ‫مك�سيم دوكان‪� ،‬إلى بالد ال�شرق‪ ،‬حيث انطلقا‬ ‫الروائية‪ ،‬وتراجع ككاتب لم�صلحتها‪� ،‬أدخل‬
‫حولها ال�صحافة‪ ،‬بين مهاجمة وم�� ّؤي��دة‪� .‬إال‬ ‫في نهاية �أكتوبر (‪1849‬م)‪� ،‬إلى م�صر‪ ،‬ثم �آ�سيا‬ ‫القارئ �إل��ى وعيها وج�سدها معتمداً وجهة‬
‫�صورها فلوبير هي‬ ‫�أن �إي� ّ�م��ا ب��وف��اري‪ ،‬كما ّ‬ ‫ال�صغرى‪ ،‬تلتها تركيا‪ ،‬واليونان‪ ،‬و�إيطاليا‪.‬‬ ‫نظرها الذاتية‪ .‬معه؛ وجدت الأغرا�ض �أي�ض ًا‬
‫�شخ�صية روائية رائعة‪ ،‬ذهبت �ضحية �أحالمها‬ ‫في عام (‪1846‬م)‪ ،‬كان غو�ستاف قد التقى‬ ‫مكانها في الأدب‪ ،‬بحيث كتب برو�ست عام‬
‫الرومنطيقية وقراءاتها‪ ،‬كونها كانت تطمح �إلى‬ ‫بال�شاعرة �إيليز كو�سيه ف��ي محترف �أح��د‬ ‫(‪1920‬م)‪�( :‬إن الأغرا�ض �أ�صبحت مع فلوبير‬
‫حياة ال تمنحها ما تتوق �إليه‪ ،‬حياة مختلفة عن‬ ‫�أ�صدقائه‪ ،‬ف�أعجبته و�أعجبها‪ ،‬وارتبطا بعالقة‬ ‫هي الفاعلة �أو مرتكبة الفعل)‪.‬‬
‫الحياة الريفية البرجوازية الم�ضجرة‪ ،‬بالقرب‬ ‫دام��ت (‪� )10‬أع���وام‪ ،‬تخللها �صعود وهبوط‬ ‫لدى وفاته عام (‪1880‬م)‪ ،‬لم يكن جمهور‬
‫عمن‬‫من زوج طبيب‪ .‬وحين كان ُي�س�أل فلوبير‪ّ ،‬‬ ‫كو�سيه وهي في‬ ‫وف��راق‪ ،‬برغم عي�شه هو في ّ‬ ‫القراء يعرف وجه فلوبير‪ ،‬على الرغم من �شهرته‬
‫تكون ال�سيدة بوفاري‪ ،‬كان يجيب (�إنها �أنا)‪.‬‬ ‫باري�س‪ .‬ذات يوم‪ ..‬قررت �أن ت�أتي �إليه ب�شكل‬ ‫ورواج �أعماله‪ ،‬وعلى الرغم �أي�ض ًا من انت�شار‬
‫ف��ي رواي��ت��ه الثانية‪�( ،‬ساالمبو)‪ ،‬اختار‬ ‫يتزوج‬
‫مفاجئ علها تقنع والدته ب�ضرورة �أن ّ‬ ‫الت�صوير الفوتوغرافي �آنذاك‪ .‬لقد كان (نا�سك‬
‫ما�ض بعيد‪ ،‬وبعث قرطاج‬ ‫ٍ‬ ‫فلوبير العودة �إلى‬ ‫بها‪ ،‬م��ا �أدى �إل��ى قطع عالقته بها نهائي ًا‬ ‫يت�صور‬
‫ّ‬ ‫كروا�سيه)‪ ،‬كما كان يل ّقب‪ ،‬يرف�ض �أن‬
‫ّ‬
‫القديمة حية‪ .‬وحين با�شر التوثيق لعمله‬ ‫و�إلى انعزاله �إلى جانب والدته وابنة �شقيقته‬ ‫ويهرب من ال�صحافة مكتفي ًا ب�صور قليلة‬
‫الجديد‪ ،‬غارق ًا في جمع المراجع وتنويعها‪،‬‬ ‫المتوفاة‪ .‬لقد انهمك فلوبير في الكتابة لي ًال‬ ‫جداً يتقا�سمها مع �أ�صدقائه‪ .‬عدة مرات‪� ،‬سعى‬
‫فهم �أن عليه ال�سفر �إلى هناك‪ ،‬لزيارة الأماكن‬ ‫نهاراً‪ ،‬ولم يكن يتوا�صل مع الآخرين‪ ،‬با�ستثناء‬ ‫م�صور الم�شاهير المعروف الفنان (نادار) �إلى‬ ‫ّ‬
‫والآث ��ار‪ ،‬وه��ذا ما ك��ان‪ .‬عرفت الرواية �شهرة‬ ‫�أ�صدقاء يرا�سلهم بانتظام (ر�سائله جمعت في‬ ‫ت�صويره‪ ،‬لكن الكاتب الوحداني كان يختلق‬
‫كبيرة ل��دى ���ص��دوره��ا ع��ام (‪1862‬م)‪� ،‬أي‬ ‫‪ 13‬مجلداً �ضخم ًا)‪ .‬ومع �أن نتاجه الأدب��ي ال‬ ‫الأع��ذار ويرف�ض العر�ض في كل مرة‪ ،‬مكتفي ًا‬
‫بعد �ستة �أع��وام من بدء العمل عليها‪ ،‬والغرق‬ ‫يعد كتب ًا كثيرة‪� ،‬إذ هي ثالث رواي��ات مهمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بما يعرفه النا�س عنه من خالل �أعماله الأدبية‬
‫في (ع��ذاب��ات الأ���س��ل��وب)‪� .‬أم��ا رواي��ة (التربية‬ ‫وثالث ق�ص�ص ق�صيرة‪� ،‬إ�ضافة �إلى م�سرحيتين‬ ‫فقط‪ ،‬وبالتحديد رواي��ات��ه‪( :‬م ��دام ب��وف��اري‪،‬‬
‫العاطفية)‪ ،‬فهي �إلى حد بعيد �أوتوبيوغرافيا‪،‬‬ ‫ورواي��ة غير منجزة‪ ،‬فقد ع��رف عنه كم كان‬ ‫�ساالمبو‪ ،‬التربية العاطفية‪ ،‬قلب ب�سيط)‪� ..‬إلخ‪.‬‬
‫ت��روي �شباب فلوبير وخيباته و�آماله وولعه‬ ‫ي�صحح‬‫ّ‬ ‫متطلب ًا ودقيق ًا و�صعب ًا مع ذاته‪� ،‬إذ كان‬
‫بال�سيدة �شليزنجر‪ ،‬التي �صادفها ذات يوم‬ ‫ويعيد‪ ،‬ويقر�أ ما يكتب ب�صوت عالٍ لحر�صه على‬ ‫تخل�ص من �سلبية‬
‫تتنزه على �شاطئ البحر‪ ،‬فكانت بمثابة الر�ؤيا‬ ‫مو�سيقا الجمل‪ ،‬وان�ضباط الإيقاع و�ضرورة‬
‫له والوقوع في حب �سيغذي نتاجه ويرافقه‬ ‫وقوع الكلمة المنتقاة في مو�ضعها ال�صحيح‪.‬‬ ‫الغنائية في �أعماله ومن‬
‫طوال حياته من دون �أن يتحقق‪ ،‬لأنها كانت‬ ‫ومع �أن فلوبير كان م�صراً على ا�ستبعاد‬ ‫ح�ضور الكاتب الطاغي‬
‫متزوجة و�أكبر �سن ًا منه‪.‬‬ ‫ذاته من �أعماله‪ ،‬وعلى اعتبار الرجل �أقل �أهمية‬
‫والرومنطيقية‬

‫‪125‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫فتحت له هوليوود �أو�سع �أبوابها‬

‫م�صـطـفـى العــقــــاد‬
‫مخرج عالمي بتوقيع عربي‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪126‬‬


‫�سينما‬

‫(ق��ي��ل لنابليون ب��ون��اب��رت ي��وم�� ًا م��ا‪� :‬إن ج��ب��ال الأل���ب تمنع‬


‫تقدمك‪ ..‬فقال‪ :‬يجب �أن ت��زول من الأر����ض!) ه��ذه الإرادة‬
‫والإ����ص���رار وال��ع��زي��م��ة‪ ،‬ه��ي ال��ت��ي حققت ان��ت�����ص��ارات القائد‬
‫ال��ف��رن�����س��ي ال��ع��ظ��ي��م‪ ،‬وه���ي ن��ف�����س��ه��ا ال��ت��ي خ��ط��ت ن��ج��اح��ات‬
‫در�س الم�سرح‬
‫ال��م��خ��رج ال��ع��رب��ي ال��ع��ال��م��ي م�صطفى ال��ع��ق��اد ال����ذي م��رت‬
‫وال�سينما وتدرب‬ ‫�سو�سن محمد كامل‬
‫ال���ذك���رى ال�����س��اد���س��ة ع�����ش��رة ع��ل��ى وف��ات��ه ال�����ش��ه��ر ال��ف��ائ��ت‪.‬‬
‫على يد هيت�شكوك‬
‫محافظ ًا على انتمائه العربي والإ�سالمي‪ ،‬فقد‬ ‫ول��د المنتج والمخرج ال�سوري العالمي‬
‫رف�ض تغيير ا�سمه حفاظ ًا على هويته العربية‪.‬‬ ‫م�صطفى العقاد في عام (‪1930‬م) بمدينة‬
‫بد�أ العقاد م�سيرته االحترافية من محطة‬ ‫حلب ال�سورية‪ ،‬ودر� ��س ف��ي مدار�سها‪ ،‬وفي‬
‫(�إن‪ .‬بي‪� .‬سي) الأمريكية‪ ،‬ب�إعداد و�إنتاج برامج‬ ‫�أثناء درا�سته فيها قدم م�سرحية (�شاعر من‬
‫تلفزيونية‪ ،‬هي عبارة عن �سيرة ذاتية تتحدث‬ ‫ال�صحراء)‪ ،‬وتم عر�ض الم�سرحية في معظم‬
‫عن مختلف الجماعات العرقية في الواليات‬ ‫�أرج��اء �سوريا‪ .‬ع�شق العقاد فن ال�سينما وهو‬
‫المتحدة الأمريكية‪ ،‬وكيف ت�ؤثر خلفياتهم‬ ‫في �سن العا�شرة‪ ،‬حيث ب��د�أ بت�صوير عائلته‬
‫من �أ�شهر �أعماله‬
‫الثقافية في تفا�صيل حياتهم اليومية‪ ،‬وكون‬ ‫و�أ�شقائه و�أ�صدقائه‪ ،‬وبد�أ �شغفه بالأفالم يكبر‬
‫فيلما (الر�سالة)‬ ‫�شركة (العقاد للإنتاج الدولي) التي تخ�ص�صت‬ ‫معه منذ �صغره‪ ،‬حتى و�صل �إلى عامه التا�سع‬
‫و(عمر المختار)‬ ‫في الأفالم الوثائقية‪ ،‬و�أتاح له نجاح فيلمه‬ ‫ع�شر‪ ،‬وراح في هذه الفترة يعد نف�سه للدرا�سة‬
‫(قي�صر العالم) الذي عر�ض في جميع �أنحاء‬ ‫في �أمريكا ليحقق حلمه‪ ،‬ويدخل عالم الإخراج‬
‫ال��والي��ات المتحدة فتح مكاتب ل�شركته في‬ ‫ال�سينمائي ال��ذي ا�ستهواه برغم �إحباطات‬
‫بيروت ولندن وهوليوود‪.‬‬ ‫الأ�صدقاء والمحيطين به‪ ،‬فا�شترى الكتب التي‬
‫تدر�سها الجامعات الأمريكية وقر�أها‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من معار�ضة والده درا�سة الإخراج‪ ،‬ف�إنه‬
‫�شجعه على تحقيق حلمه‪ ،‬عندما ر�أى �إ�صراره‬
‫على تنفيذه‪ .‬كان والده مربي ًا فا�ض ًال‪ ،‬علمه �أن‬
‫الدين الإ�سالمي دين الرحمة والعدل والم�ساواة‪،‬‬
‫وعند �سلم الطائرة‪ ،‬قدم له مئتي دوالر‪ ،‬ون�سخة‬
‫من القر�آن الكريم ليكون هادي ًا له في وحدته‬
‫وغربته‪.‬‬
‫انتقل العقاد �إل��ى �أمريكا لدرا�سة فنون‬
‫ال�سينما والإخراج في العام (‪1954‬م)‪ ،‬فدر�س‬
‫الفنون الم�سرحية في (جامعة لو�س �أنجلو�س)‬
‫من فيلم «الر�سالة»‬ ‫في كاليفورنيا‪ ،‬وتخرج في الجامعة نف�سها في‬
‫العام (‪1958‬م) بتفوق؛ واليزال ا�سمه يت�صدر‬
‫قائمة المتميزين في هذه الجامعة‪ .‬وفي �أثناء‬
‫أعد فيلم ًا عن (ق�صر الحمراء) نال عنه‬ ‫درا�سته � ّ‬
‫الجائزة الأولى في الجامعة‪ ،‬ثم �أكمل درا�ساته‬
‫العليا فح�صل على درجة الدكتوراه من جامعة‬
‫جنوب كاليفورنيا‪ ،‬وبعد تخرجه في الجامعة‬
‫عمل م�ساعداً للمخرج والمنتج الأمريكي (�ألفرد‬
‫هيت�شكوك)‪ ،‬حيث تدرب على يديه ونال خبرة‬
‫كبيرة من خالل عمله معه‪ .‬وا�ستطاع العقاد‬
‫في العام (‪1962‬م) �أن يطرق �أبواب هوليوود‬
‫من فيلم «عمر المختار»‬ ‫بموهبته الفذة وطاقاته الإبداعية العالية‬

‫‪127‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�سينما‬

‫ك��ان فيلم الر�سالة (‪1976‬م)‪ ،‬وه��و من‬


‫بطولة �أنتوني كوين و�إيرين بابا�س‪� ،‬أول �أعمال‬
‫م�صطفى العقاد المميزة التي القت نجاح ًا‬
‫عالمي ًا كبيراً والتي فتحت له �أبواب العالمية‪،‬‬
‫حيث قام ب�إخراج و�إنتاج ن�سختيه الإنجليزية‬
‫والعربية‪ ،‬ويحكي الفيلم عن ال�سنوات الأولى‬
‫للإ�سالم وق�صة البعثة المحمدية والهجرة التي‬
‫تمت من مكة �إلى المدينة المنورة‪ ،‬ون�ش�أة �أول‬
‫دول��ة �إ�سالمية‪ ،‬ويهدف فيلم (الر�سالة) �إلى‬
‫تعريف الغرب بحقيقة الإ���س�لام‪ ،‬وب�أنه دين‬
‫ال�سالم والمحبة والتعاي�ش‪ .‬كانت الن�سخة‬
‫العربية من بطولة الفنان عبداهلل غيث‪ ،‬والن�سخة‬
‫الإنجليزية من بطولة الممثل العالمي �أنطوني‬
‫كوين‪ ،‬وعندما �سئل العقاد عن ر�ؤيته في فيلم‬
‫الر�سالة قال‪( :‬لقد �شعرت بواجبي كم�سلم عا�ش‬
‫م�صطفى العقاد مع �أنتوني كوين‬
‫و عبداهلل غيث‬
‫يح�ضر لعمل فيلمين‬ ‫ّ‬ ‫العالمي م�صطفى العقاد‬ ‫في الغرب‪ ،‬ب�أن �أقوم بذكر الحقيقة عن الإ�سالم‬
‫�سينمائيين؛ �أولهما يتحدث عن فتح الأندل�س‬ ‫في العالم)‪.‬‬
‫والآخ��ر عن �صالح الدين الأيوبي‪ ،‬ففي عام‬ ‫�أنتج العقاد (‪ )13‬فيلم ًا �أجنبي ًا �أخرج ثالثة‬
‫(‪1995‬م)‪ ،‬قرر �أن يقوم ب�إنتاج فيلم يتحدث‬ ‫منها‪ ،‬ولعل �سل�سلة �أفالم الرعب (الهالويين)‬
‫عن ق�صة �صالح الدين‪ ،‬وهو القائد الم�سلم الذي‬ ‫�أ�شهرها‪ ،‬والتي تم �إنتاج ثمانية �أج��زاء بين‬
‫ح��ارب ال�صليبيين‪� ،‬إال �أن��ه لم ي�ستطع �إيجاد‬ ‫�أعوام (‪1978‬م‪2002 -‬م)‪� ،‬إ�ضافة �إلى فيلم‬
‫التمويل الكافي لإنتاج هذا العمل‪ ،‬فقد كان‬ ‫الرعب (موعد مع الخوف) وال��ذي �أنتجه في‬
‫يحلم ب�إن�شاء مدينة للإنتاج ال�سينمائي على‬ ‫العام (‪1985‬م)‪ ،‬والفيلم الكوميدي (تو�صيلة‬
‫برغم �شهرته‬ ‫م�ستوى الإنتاج العالمي ولكن بروح عربية‬ ‫مجانية) في العام (‪1986‬م)‪ .‬يقول العقاد عن‬
‫العالمية ظل محافظ ًا‬ ‫�إ�سالمية‪.‬‬ ‫�سبب �إخراجه لأفالم الرعب ب�أنه كان لتوفير‬
‫على هويته العربية‬ ‫نال م�صطفى العقاد جوائز كثيرة‪ ،‬في عدد‬ ‫الدعم المادي لفيلم (الر�سالة)‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬
‫الإ�سالمية‬ ‫من المهرجانات ال�سينمائية العربية والدولية‪،‬‬ ‫ميل المجتمع الغربي لم�شاهدة �أف�لام الرعب‬
‫كما نال �أو�سمة عديدة من زعماء عرب و�أجانب‪،‬‬ ‫التي هي جزء من ثقافته ال�شعبية‪ .‬وفي العام‬
‫وكرمه الرئي�س الأمريكي ال�سابق بيل كلينتون‪،‬‬ ‫(‪1981‬م)‪� ،‬أخرج العقاد فيلم (�أ�سد ال�صحراء)‬
‫وك��ان من المفتر�ض �أن يكرم في مهرجان‬ ‫من بطولة �أنتوني كوين‪ ،‬ويحكي الفيلم ق�صة‬
‫دم�شق ال�سينمائي‪ ،‬لكن وفاته حالت دون ذلك‪،‬‬ ‫قائد الثورة الليبية عمر المختار والمعارك‬
‫ومع ذلك فقد منحته الحكومة ال�سورية و�سام‬ ‫التي خا�ضها �ضد الم�ستعمر الإيطالي‪ ،‬وبعد‬
‫اال�ستحقاق من الدرجة الأولى‪ ،‬تقديراً لمواقفه‬ ‫ذلك عمل في �شبكة لإعداد �أفالم بعنوان (كيف‬
‫القومية والوطنية‪ ..‬و�شاءت الأق��دار �أن يرحل‬ ‫يرانا العالم؟)‪ ،‬جاب خالل ت�صويرها مناطق‬
‫م�صطفى العقاد مخرج �أفالم الرعب (هالويين)‬ ‫ع��دي��دة ف��ي العالم‪ ،‬وه��ذا م��ا �أك�سبه معرفة‬
‫في حادث رعب حقيقي هذه المرة‪ ،‬في تفجير‬ ‫بالثقافات المختلفة والمتنوعة‪ .‬كان المخرج‬
‫�أعماله ال�سينمائية‬ ‫�إرهابي (‪2005‬م) مع ابنته‪ ،‬ووري‬
‫القت نجاح ًا كبيراً‬ ‫جثمانه الثرى في مدينته حلب التي‬
‫في �أمريكا والعالم‬ ‫�أحبها ولطالما تغنى بها في موكب‬
‫ر�سمي و�شعبي‪ ،‬تارك ًا خلفه كنزاً‬
‫فني ًا خالداً ونجاح ًا عالمي ًا بنكهة‬
‫عربية‪ ،‬ما جعله يدخل هوليوود من‬
‫�أو�سع �أبوابها‪ ،‬مات وفي قلبه ر�سالة‬
‫�إن�سانية جابت الكون كله محبة‬
‫و�سالم ًا و�إخاء‪ ..‬وب�صمة فنية خالدة‪.‬‬ ‫�إيرين بابا�س‬ ‫هيت�شكوك‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪128‬‬


‫مقاالت‬
‫مرايا‬

‫بين �أدب نجيب محفوظ‬


‫والفـن ال�سينمـائي‬
‫محمد ف�ؤاد علي‬
‫وا�ستمرت عالقتي بنجيب محفوظ وروائعه‬ ‫تعرفت �إل ��ى نجيب محفوظ ك��أدي��ب‬
‫وغيرهما في ا�ستحداث وتحويل رواي��ات‬ ‫قائمة‪ ،‬وزادني ح�صولي على كتاب الناقد‬ ‫و�سيناري�ست من خالل محا�ضرات الأدب‬
‫وق�ص�ص محفوظ الى حواديت وحكايات‬ ‫ال�سينمائى محمود قا�سم المو�سوم (نجيب‬ ‫العربي المعا�صر والمقررة على الطالب‬
‫�سينمائية‪ ،‬ومن �أبرزها روايات‪( :‬الطريق)‬ ‫محفوظ بين الفيلم والرواية) فرح ًا وحبوراً‪.‬‬ ‫المتخ�ص�صين في درا���س��ة اللغة العربية‬
‫و(�أه� ��ل ال��ق��م��ة)‪ ،‬وم��ن �أه ��م الأف �ل�ام التي‬ ‫وعلى الرغم من �ضعف نظري وحاجتي‬ ‫بجامعة عين �شم�س (المرحلة الجامعية‬
‫�أنتجت �سينمائي ًا ول��م ينجزها محفوظ‬ ‫دائم ًا للراحة البدنية نظراً لتقدم عمري‪،‬‬ ‫ومرحلة ال��درا���س��ات العليا)‪ ،‬وال��ت��ي كنت‬
‫�أدبي ًا ب�أ�سمائها‪ ،‬مثل‪( :‬قلب الليل‪ ،‬و�أيوب‬ ‫�شرعت على ال��ف��ور ف��ي ت�صفحه وتقليب‬ ‫حري�ص ًا على ح�ضورها على ال��رغ��م من‬
‫وو�صمة عار‪ ،‬ونور العيون‪ ،‬وليل وخونة‪،‬‬ ‫�صفحاته لأظ��ف��ر بمعلوماته ال��ج��دي��دة‬ ‫تخ�ص�صي ف��ي الفل�سفة بكلية الآداب‬
‫وال�شريد)‪� .‬أو التي �أنجزها �سينمائي ًا لغيره‪،‬‬ ‫والمبتكرة لإ�ضافتها �إل ��ى معلوماتي‬ ‫بجامعة عين �شم�س في �أوائ��ل �سبعينيات‬
‫ومن �أ�شهرها‪�( :‬أنا حرة) الم�أخوذ عن ق�صة‬ ‫ال�سابقة عن �أدب نجيب محفوظ المطبوعة‬ ‫القرن الما�ضي‪ ،‬وقد ا�سترعى انتباهي قول‬
‫�إح�سان عبدالقدو�س‪ ،‬و(النمرود) عن ق�صة‬ ‫في كتب‪� ،‬أو التي ج�سدتها ال�سينما في �أفالم‬ ‫المحا�ضر «نجيب محفوظ‪ ،‬من �أبرز الأدباء‬
‫فريد �شوقي‪ ،‬و(�إحنا التالميذ) فكرة توفيق‬ ‫نالت قبول الجماهير والنقاد‪ ،‬وخير �شاهد‬ ‫العرب والم�صريين الذين �سعدوا بتمثيل‬
‫�صالح وكامل يو�سف‪ ،‬و(جميلة) عن ق�صة‬ ‫على ذلك حر�ص الم�شاهدين‪ -‬و�أن��ا واحد‬ ‫رواياتهم وق�ص�صهم الق�صيرة على ال�شا�شة‬
‫يو�سف ال�سباعي‪ ،‬و(المجرم) ق�صة �إميل‬ ‫منهم‪ -‬على تكرار م�شاهدتها كلما �سمح‬ ‫البي�ضاء‪ ،‬ف�أ�ضافت �إل��ى مكانته ال�سامية‬
‫زوال‪ ..‬وبعد ا�ست�شعار المخرجين والمبدعين‬ ‫الوقت والجهد‪ .‬وقد ا�ستعر�ض ناقدنا قا�سم‬ ‫والرفيعة في مجال الإبداع الكثير والكثير‬
‫ال�سينمائيين اكتمال منظومة نجيب محفوظ‬ ‫العديد من الروايات والق�ص�ص الق�صيرة‬ ‫من ال�شهرة والمجد»‪ ،‬ولما تخرجت وبد�أت‬
‫ال�سينمائية‪� ،‬أعادوا �إنتاج الأفالم القديمة‬ ‫التي �أنجزها محفوظ‪ ،‬وال��م��أخ��وذ عنها‬ ‫�أقر�أ روايات نجيب محفوظ و�أ�شاهد الأفالم‬
‫التي �أنتجت عن روايات نجيب محفوظ في‬ ‫الأف�لام ال�سينمائية‪ ،‬ومن �أبرزها‪( :‬بداية‬ ‫الم�أخوذة عنها‪ ،‬ازددت �شغف ًا وحب ًا للرجل‪،‬‬
‫�صيغ �سينمائية جديدة من حيث الأحداث‬ ‫ونهاية‪ ،‬ميرامار‪ ،‬الل�ص والكالب‪ ،‬ال�سراب‪،‬‬ ‫خا�صة بعدما علمت م�صادفة من والدتي‪،‬‬
‫والأ�سماء‪ ،‬على الرغم من ان�صرافهم عن‬ ‫ال�شحاذ‪� ،‬أه��ل القمة‪ ،‬الحرافي�ش‪ ،‬ال�سمان‬ ‫رحمها اهلل‪� ،‬أنها من مواليد درب المهابيل‬
‫�إنتاج �إبداعات نجيب محفوظ التي �أنجزها‬ ‫والخريف‪ ،‬الطريق‪ ،‬بين الق�صرين‪ ،‬ال�سكرية‪،‬‬ ‫بحي الجمالية في القاهرة‪ ،‬وهو الدرب الذي‬
‫في ثمانينيات القرن الما�ضي‪ ،‬لميلها �إلى‬ ‫ق�صر ال�شوق‪ ،‬القاهرة الجديدة‪� ،‬أو كما‬ ‫ولد ون�ش�أ فيه �أديبنا في �سنواته الأولى‪ ،‬كما‬
‫التجريد والفل�سفة‪ ،‬ومنها‪�( :‬أف��راح القبة‪،‬‬ ‫ي�سميها البع�ض القاهرة ‪ ،30‬وغيرها‪،)..‬‬ ‫�صادف مولد ابني الأكبر يوم ميالد مبدعنا‬
‫ليالي �ألف ليلة‪ ،‬الباقي من الزمن �ساعة‪،‬‬ ‫كما �أكد محمود قا�سم في كتابه الذي فوق‬ ‫العظيم في (‪ 11‬دي�سمبر‪1991‬م)‪ ،‬و�أن��ه‬
‫�أمام العر�ش‪ ،‬رحلة ابن فطومة‪ ،‬العائ�ش في‬ ‫راحة اليد اختالف بع�ض �أح��داث و�أ�سماء‬ ‫ا�ستمد ا�سمه من ا�سم الدكتور نجيب محفوظ‬
‫الحقيقة‪ ،‬ق�شتمر‪ ،‬حديث ال�صباح والم�ساء)‪.‬‬ ‫�أبطال روايات محفوظ عندما ج�سدت فني ًا‬ ‫�إب��راه��ي��م رائ��د ط��ب الن�ساء والتوليد في‬
‫وال تفوتنا الإ���ش��ارة في ه��ذا المقام �إلى‬ ‫على ال�شا�شة البي�ضاء‪( :‬و�صمة عار‪� ،‬سمارة‬ ‫م�صر‪ ،‬بعد تعثر والدته في �إنجابه طبيعي ًا‪،‬‬
‫�إبداعات نجيب محفوظ التي كتبها لل�سينما‬ ‫الأمير‪� ،‬أي��وب)‪ ،‬كما �أ�شار في ثنايا كتابه‬ ‫وكان ال بد من �إجراء عملية قي�صرية لها‪..‬‬
‫مبا�شرة‪ ،‬والتي ذكرها قا�سم في كتابه‬ ‫�إل��ى ق��درات وم��ه��ارات نجيب محفوظ في‬
‫تحت عنوان (فيلمو جرافيا نجيب محفوظ)‬ ‫ر�صد المتغيرات ال�سيا�سية واالقت�صادية‬
‫و�أبرزها‪( :‬المنتقم‪ ،‬مغامرات عنتر وعبلة‪،‬‬ ‫والثقافية التي مر بها المجتمع الم�صري‪.‬‬ ‫ع�شرات الروايات التي‬
‫لك يوم يا ظالم‪ ،‬الوح�ش‪ ،‬ريا و�سكينة‪ ،‬درب‬ ‫كما �أ�شاد قا�سم في كتابه ال��ذي نعر�ض‬ ‫كتبها محفوظ تحولت �إلى‬
‫المهابيل‪ ،‬بين ال�سماء والأر�ض‪ ،‬االختيار‪،‬‬ ‫له في هذا المقام؛ �إلى براعة ال�سيناري�ست‬ ‫�أفالم �سينمائية‬
‫ذات الوجهين‪ ،‬دالل الم�صرية)‪.‬‬ ‫م�صطفى م��ح��رم و�أح��م��د عبا�س �صالح‪،‬‬

‫‪129‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫من الأفالم الهندية الخالدة‬
‫«جــاي بـيـم»‬
‫ملحمة �سينمائية‬
‫اجتماعية‬

‫الأف��ك��ـ��ار ال تتغير في‬


‫ليلة و�ضحاها‪� ،‬إنما تُزرع‬
‫في عقولنا بمرور الوقت‬
‫تو�سع حجم التجارب‬ ‫مع ّ‬
‫التي نعي�شها نتيجة ما‬
‫�أ�سامة ع�سل‬
‫نتعر�ض له من �أح��داث‬
‫ومواقف حقيقية‪ ،‬والفكرة في ال�سينما‬
‫لي�ست عابرة‪ ،‬بل هي مركبة يح�ضر فيها‬
‫الجانب الأدب��ي والر�ؤية الفنية وطريقة‬
‫المعالجة والطرح ال�سينمائي‪ ،‬ما يجعل‬
‫الفيلم ي�ستحق �أن يكون ذاكرة ال�شعوب‪.‬‬

‫�أحداثه على الظلم والتمييز الذي تعانيه طائفة‬ ‫�أم��ا �سر تفوق هذا الفيلم‪ ،‬وال�ضجة التي‬ ‫ومن تلك النوعية‪ ،‬واحتالل المراكز الأولى‬
‫تتعر�ض �إلى �إق�صاء متوا�صل وانتهاكات‪� ،‬سببها‬ ‫�أحدثها داخل المجتمع الهندي وحول العالم‪،‬‬ ‫على موقع ‪ IMDb‬لتقييم الأف�ل�ام‪ ،‬فيلمان‬
‫النظام الموجود في الهند‪ ،‬والمده�ش في هذا‬ ‫يعبر عن حركة جديدة ي�سهم‬ ‫فذلك يعود لكونه ّ‬ ‫هما‪( :‬العراب) الذي ح�صل على تقييم (‪،)9.1‬‬
‫العمل �أن يتولى فيه ممثلون من هذه الفئة للمرة‬ ‫في ن�شرها �شباب ال�سينما‪ ،‬ووجد دعم ًا كبيراً‬ ‫و(الخال�ص من �شاو�شانك) الذي كان الأكثر‬
‫الأولى الأدوار الرئي�سية‪ ،‬و�أن يكون ناطق ًا باللغة‬ ‫من المخرجين والممثلين الذين �أ�شادوا بالعمل‬ ‫تقييم ًا بنتيجة (‪ .)9.2‬ولكن مع نهاية العام‬
‫التاميلية المغمورة‪ ،‬وال يكون من �إنتاجات‬ ‫الفني الفريد من نوعه‪.‬‬ ‫الما�ضي (‪2021‬م)‪ ،‬كانت المفاج�أة ال�سينمائية‬
‫�أف�لام بوليوود ذات الموازنات ال�ضخمة‪ ،‬و�أن‬ ‫فيلم (جاي بيم) من �إخراج كاتب ال�سيناريو‬ ‫غير المتوقعة‪� ،‬أن ي�أتي الفيلم الهندي «جاي‬
‫ت�شارك في دعمة وتقديمه من�صة البث التدفقي‬ ‫(ت‪.‬ج‪ .‬جانافيل) (‪ 42‬عام ًا) والنجم �سوريا‬ ‫ب��ي��م» ويح�صل على نتيجة (‪ ،)9.6‬ليطيح‬
‫(�أم��ازون برايم)‪ ،‬وقد قوبل بالإ�شادة لنجاحه‬ ‫�سيفاكومار الذي لعب دور البطولة‪ ،‬وهو مبني‬ ‫بالفيلمين ال�سابقين بعد �سنوات من ت�صدرهما‬
‫في التعبير عن �أفراد الطبقة الدنيا باعتبارهم‬ ‫على ق�صة حقيقية تعود �إل��ى عام (‪1993‬م)‬ ‫تقييم الموقع ال�سينمائي ال�شهير‪ ،‬لين�ضم �إلى‬
‫�ضحايا ال �صوت لهم‪.‬‬ ‫التما�س‬
‫ٍ‬ ‫لمحام حارب في المحكمة من �أجل‬‫ٍ‬ ‫الئحة من الأعمال التي نطلق عليها �أفالم ًا‬
‫وبقدر ما ي��دور ه��ذا العمل ح��ول �سادية‬ ‫قدمته امر�أة‪ ،‬بعدما احتجزت ال�شرطة زوجها ثم‬ ‫خالدة‪ ،‬حيث ت�ستقي فكرة خلودها من قدرتها‬
‫ال�شرطة‪ ،‬فهو �أي�ض ًا ير�صد طبقات المجتمع التي‬ ‫�أعلنته من عداد المفقودين‪ ،‬وي�سلط ال�ضوء �ضمن‬ ‫على التعبير عن حاالت �إن�سانية‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪130‬‬


‫�أفالم‬

‫التزال �سائدة في �شبه القارة الهندية‪ ،‬ويقدم م�شاهد‬


‫مزعجة و�صادمة حول �أحد الأ�شخا�ص من والية‬
‫تاميل نادو (جنوبي الهند)‪ ،‬والذي يتم القب�ض عليه‬
‫ظلم ًا ل�سرقة م�صوغات ذهبية من زوجة �أحد �أعيان‬
‫قريته‪ ،‬وت�ستخدم ال�شرطة و�سائل تعذيب متعددة‬
‫لإجباره على االعتراف‪ ،‬ويعتمد الفيلم على �سيناريو‬
‫مكتوب بحرفية عالية‪ ،‬ويركز على اال�ضطهاد الذي‬
‫تواجهه �أفراد تلك القبائل المهم�شة‪.‬‬
‫في م�شهد من (جاي بيم)‪ ،‬تلتقي مجموعة من‬
‫رجال تلك القبائل بقائد �شرطة ير�أ�س لجنة تحقيق‬
‫حول اختفاء ثالثة من �أقرباء ال�شخ�ص المفقود‪،‬‬
‫والذين كانت ال�شرطة ت�ستجوبهم ب�ش�أن ق�ضية‬
‫ال�سرقة‪ ،‬وي�ستمع القائد �إلى من جلبهم المحامي‬
‫ليتعرف من خاللهم �إلى حكايات رهيبة عن التمييز‬
‫والتنمر‪� ،‬أخبره �أحدهم �أن �أفراد ال�شرطة اعتقلوه‬
‫لمجرد التحية عليهم‪ ،‬و�أخبره �آخر كيف تم القب�ض‬
‫م�شاهد من الفيلم‬
‫ب��م��ه��ارة‪ ،‬وا�ستيعاب ك��ل تفا�صيلها‪ ،‬المواقف‬ ‫عليه لمجرد �أنه حاول االبتعاد خوف ًا منهم‪ ،‬وحكت‬
‫الإن�سانية بين المحامي والمر�أة التي تريد �أن تعرف‬ ‫امر�أة كيف �أُجبر زوجها على (االعتراف) بجريمة لم‬
‫�أين ذهب زوجها المفقود‪ ،‬وترافقها ابنتها ال�صغيرة‪،‬‬ ‫يرتكبها بعد �أن بد�أ رجال ال�شرطة في التحر�ش بها‪،‬‬
‫كانت �أك��ث��ر م��ن رائ��ع��ة‪ ..‬البحث ع��ن المعلومات‬ ‫وذكر �صبي �أن ال�شرطة �ألقت القب�ض عليه لمجرد‬
‫الفيلم ير�صد ق�صة‬ ‫ورحلة الو�صول �إليها‪� ،‬أ�ضفيا على �أح��داث الفيلم‬ ‫�أنهم لم يتمكنوا من الح�صول على وال��ده‪ ،‬وكيف‬
‫�إثارة توثيقية؛ ال�سرد ال�سينمائي والت�صوير الليلي‬ ‫�أن تلك الحادثة جعلته م�شتبه ًا دائم ًا في المدر�سة‪،‬‬
‫حقيقية تعود �إلى‬ ‫والنهاري وتوظيف الإ�ضاءة‪ ،‬كلها عنا�صر جمالية‬ ‫لي�ؤكد المحامي لقائد ال�شرطة‪� ،‬أن ه�ؤالء الأ�شخا�ص‬
‫العام (‪١٩٩٣‬م)‬ ‫�أ�سهمت في تميز هذا العمل ال�سينمائي‪.‬‬ ‫(ملعونون �إذا فعلوا ذلك‪ ،‬ومدانون �إذا لم يفعلوا!)‪.‬‬
‫في مرحلة ما في الفيلم‪ ،‬الذي يبلغ عر�ضه ثالث‬ ‫هذا الم�شهد الطويل هو �صدى الم�شهد الذي‬
‫�ساعات تقريب ًا‪ ،‬كانت هناك لحظة تثير الق�شعريرة‪،‬‬ ‫افتتح الفيلم‪ ،‬حيث ن��رى العديد م��ن ال�سجناء‬
‫حيث تدير امر�أة قبلية‪ ،‬وهي زوجة الرجل المفقود‬ ‫يخرجون من ال�سجن‪ ،‬عدد قليل من رجال ال�شرطة‬
‫في الفيلم‪ ،‬ظهرها لل�سلطة‪ ،‬راف�ضة االن�صياع لنظام‬ ‫من المراكز المحيطة ينتظرون‪ ،‬وعندما يخرج كل‬
‫�سيناريو العمل‬ ‫الهيمنة‪ ،‬ال��ذي ا�ستغل فقرها‪ ،‬وح��اول ر�شوتها‬ ‫�سجين‪ُ ،‬ي�س�أل عن طبقته‪� ،‬إذا ذك��روا ا�سم طائفة‬
‫لإغ�لاق الق�ضية‪ ،‬وك ��أن هذا الم�شهد الجماهيري‬ ‫�سائدة يطلب منهم المغادرة‪ ،‬لكن �أولئك الذين‬
‫يركز على �إ�شكاالت‬ ‫ينتمون �إلى طائفة �أو قبيلة مهم�شة‪ ،‬يطُ لب منهم‬
‫مكتوب لكل �شخ�صية عانت الظلم من تلك القبائل‪،‬‬
‫الطبقات الدنيا‬ ‫لمنحها فر�صة النظر �إلى م�ضطهديها في �أعينهم‪،‬‬ ‫الوقوف في زاوي��ة‪ ،‬اللتقاطهم كم�شتبه بهم في‬
‫لتقول لهم‪( :‬ال يمكنك ك�سري �أو �شراء �سكوتي)‪.‬‬ ‫العديد من الحاالت التي لم يتم حلها في مركزهم‪،‬‬
‫هذا الم�شهد الذي �صدر في الفيلم‪ ،‬يمثل �شهادة‬ ‫وعندما ي�شتكي رج��ال ال�شرطة من قلة عددهم‬
‫على المقاي�ضات ال�صغيرة التي �سيتعين كذلك على‬ ‫لفر�ض الق�ضايا‪ُ ،‬يقال لهم �إن ب�إمكانهم اتهام‬
‫�صناع ال�سينما رف�ضها‪ ،‬من �أجل عدم ن�شر ق�ص�ص‬ ‫بع�ضهم بارتكاب �أكثر من جريمة‪.‬‬
‫الظلم واال�ستغالل ال�سائدة‪� ،‬أو طرح ق�ضايا توقع‬ ‫وم��ع م�شاهد كهذه‪ ،‬ير�صد المحامي (جاي‬
‫بالفا�سدين‪ ،‬وتدينهم �أمام الر�أي العام‪.‬‬ ‫بيم) مدى قوة الإ�ساءة والإذالل التي تنهال على‬
‫(ج����اي ب ��ي ��م)‪ ،‬ه ��و ن��ظ��رة الف��ت��ة م ��ن �أج ��ل‬ ‫المحرومين‪ ،‬من قبل من هم في ال�سلطة‪ ،‬ونوع‬
‫الم�ضطهدين‪ ،‬لكن هل يتمكن المحامي وزوجة‬ ‫التحدي الذي يتطلبه الأمر لتحقيق العدالة لهم‪.‬‬
‫الرجل المفقود من ك�شف الحقيقة‪ ،‬في ظل وجود‬ ‫ينجح الفيلم في تقديم �صورة دامية للفظائع‬
‫نظام كامل يقف �ضدهما؟ �أح��داث العمل تك�شف‬ ‫والعنف المنهجي الذي ترتكبه ال�شرطة والطبقة‬
‫عن ذل��ك‪ ،‬لكن في النهاية �ستبقى ال�سينما �أداة‬ ‫العليا ونظام العدالة والحكومة �ضد هذه القبائل‪،‬‬
‫الم�ضطهدين للتعبير عن ق�ضاياهم‪ ،‬لأن ما يميز‬ ‫وي�ؤكد حقيق ًة مرير ًة في ال�سنوات الخم�س الما�ضية‪،‬‬
‫الم�ضطهد �أن��ه يعي الظلم‪ ،‬و�أ�سبابه‪ ،‬وبالتالي‬ ‫حيث تم الإبالغ عما مجموعه (‪ )300‬جريمة قتل‬
‫ينا�ضل من �أجل تغييره‪ ،‬وهذا الفيلم �سيبقى في‬ ‫مرتبطة بالطبقات االجتماعية في (تاميل نادو)‬
‫الذاكرة لجر�أة ما طرحه‪ ،‬وتعبيره ببراعة عن �آالم‬ ‫وكان معظم ال�ضحايا من تلك القبائل المهم�شة‪.‬‬
‫و�آمال الم�شاعر الإن�سانية‪.‬‬ ‫وبالفعل‪ ،‬تم ت�صوير م�شاهد قاعة المحكمة‬
‫مل�صق الفيلم‬

‫‪131‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫�أفالم ت�شيكية مده�شة بميزانيات محدودة‬

‫مهرجان كارلوفي فاري‬


‫وجهة محبي الفن ال�سابع‬

‫ينفرد مهرجان (كارلوفي فاري) ال�سينمائي الدولي‪ ،‬عن غيره‬


‫من المهرجانات‪ ،‬بالعديد من التفا�صيل وال�سمات‪ ،‬لي�س فقط‬
‫ب�سبب وجوده في مدينة تُعتبر من �أجمل و�أ�شهر المنتجعات‬
‫اال�ست�شفائية في العالم‪ ،‬والتي تم �ضمها لمناطق التراث‬
‫العالمي التابعة لليون�سكو‪ ،‬بل �إ�ضافة �إلى عمارتها المتفردة‬
‫د‪� .‬أمل الجمل‬
‫في �ألوانها وبهائها‪ ،‬ف�إنها ت�شتهر بينابيعها ذات المياه ال�ساخنة‬
‫التي تبلغ (‪ )١٣‬ينبوع ًا رئي�سياً‪� ،‬إ�ضافة �إلى (‪ )٣٠٠‬ينبوع �صغير‪ ..‬والمده�ش �أنها‬
‫جميع ًا تتفاوت في درجة حرارتها‪ ،‬فبع�ضها دافئ‪ ،‬وبع�ضها الآخر �شديد ال�سخونة‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪132‬‬


‫مهرجانات‬

‫لتقديم فيلمه (الإ���ص�لاح الأول)‪،‬‬ ‫ك��ذل��ك‪ُ ،‬ي��ع��د ال��م��ه��رج��ان وج��ه��ة دائ��م��ة‬


‫وال��ذي ُعر�ض بمنا�سبة تكريمه‪،‬‬ ‫لل�سينمائيين وع�شاق الفن ال�سابع في �أوروبا‪� ،‬إذ‬
‫كما ُمنح جائزة رئي�س المهرجان‬ ‫يعتبر �أهم و�أعرق مهرجان �سينمائي في و�سط‬
‫(ي��ي��ري ب��ارت��و���ش��ك��ا) ليلة ختام‬ ‫و�شرقي �أوروبا‪ .‬ودورة هذا العام هي الخام�سة‬
‫المهرجان الت�شيكي‪ .‬وهنا �صرح‬ ‫والخم�سين‪ ،‬لكن المهرجان عمره الحقيقي‬
‫ه ��وك ب���أن��ه قبيل مجيئه لهذا‬ ‫(‪ )٧٥‬عام ًا‪ ،‬فقد تم ت�أ�سي�سه عام (‪ ،)١٩٤٦‬لكنه‬
‫التكريم �أُخبر �أن (جمهور ال�سينما‬ ‫ظل لعدة �سنوات يقام مرة واحدة كل عامين‬
‫بالت�شيك جمهور من نوعية خا�صة‬ ‫بالتناوب مع مهرجان مو�سكو‪.‬‬
‫م��ن ع�شاق ال�سينما‪ ،‬جمهور لن‬ ‫تتجلى ال�شهرة التي تطغى على كل ما �سبق‬
‫تجده في �أي مكان بالعالم)‪.‬‬ ‫في �أمرين �إ�ضافيين؛ �أن مهرجان (كارلوفي‬
‫لذلك‪� ،‬أي�ض ًا‪� ،‬ستجد جمهور ًا‬ ‫ف��اري) ال�سينمائي الدولي‪ ،‬هو �أحد �أهم �ستة‬
‫عري�ض ًا قادم ًا من براغ التي تبعد‬ ‫مهرجانات �سينمائية في العالم‪ ،‬ويكت�سب‬
‫�ساعتين �أو ثالث �ساعات ح�سب‬ ‫المهرجان الت�شيكي هذه المكانة والخ�صو�صية‪،‬‬
‫و�سيلة الموا�صالت‪� ،‬أو غيرها من‬ ‫نتيجة اه��ت��م��ام منظميه بال�سينما ذات‬
‫المدن الت�شيكية البعيدة والقريبة‪،‬‬ ‫الميزانيات المحدودة �أو المتق�شفة‪ ،‬فما يهمهم‬
‫يح�ضرون بع�شرات المئات �إلى‬ ‫في المقام الأول‪ ،‬هو الجودة الفنية والأ�ساليب‬
‫كارلوفي فاري في فترة انعقاد‬ ‫الإبداعية‪ ،‬التي ت�شي باالبتكار على م�ستوى‬
‫من �أجواء مهرجان كارلوفي فاري‬
‫دورات ال��م��ه��رج��ان‪ ،‬حتى �إن الجمهور ذا‬ ‫ال�سرد ال�سينمائي‪ .‬برنامج المهرجان يتم‬
‫الإمكانيات المحدودة يخ�ص�صون له قطعة‬ ‫ت�صميمه بامتياز‪ ،‬لذلك لن ننده�ش �إذا علمنا �أنه‬
‫�أر�ض ُم�سورة تتحول �إلى ما ي�شبه المع�سكر‪،‬‬ ‫يبيع �سنوي ًا ما بين (‪ ١٢٠‬و‪� )١٤٠‬ألف تذكرة‪،‬‬
‫حيث ُيح�ضر كل �شخ�ص خيمته لينام فيها‬ ‫�إذ يح�ضره ع�شرات الآالف من الم�شاهدين‬
‫لي ًال‪ ،‬وهناك يوفرون لهم ما يحتاجون �إليه‪،‬‬ ‫الذين ي�أتون خ�صي�ص ًا لهذا المهرجان العريق‬
‫حيث ينطلق ال�شباب بعدها لمتابعة عرو�ض‬ ‫ال��ذي يتخذ من مدينة (�سبا) ‪ Spa‬الت�شيكية‬
‫يهتم منظموه‬ ‫الأفالم‪ .‬تجربة لن تراها في �أي مكان �آخر في‬ ‫ال�شهيرة مقراً له‪ ،‬تلك المدينة ب�ألوانها الفاتحة‬
‫العالم‪ ،‬فقط في مهرجان (كارلوفي فاري)‬ ‫المبهجة‪ ،‬والتي �شهدت توافد �سياح القرن‬
‫بالأفالم ذات‬ ‫ال�سينمائي الدولي الذي يقف وراء تنظيمه‬ ‫التا�سع ع�شر لال�ستحمام في �أنهارها‪ ،‬واالرتواء‬
‫الميزانيات‬ ‫جي�ش من المبدعين والمتطوعين الم�سكونين‬ ‫من ينابيعها ال�ساخنة‪.‬‬
‫المحدودة ويركزون‬ ‫بع�شق و�شغف الفن ال�سابع‪.‬‬ ‫�أما اليوم‪ ،‬ف�إ�ضافة �إلى ال�سياح‪ ،‬ي�أتي �إليها‬
‫على الجودة الفنية‬ ‫الأم��ر الآخ��ر‪ ،‬المده�ش بقوة‪ ،‬هو ح�ضور‬ ‫�أي�ض ًا (ال�سينفيليون) من ع�شاق الأفالم‪ ،‬التي‬
‫والإبداعية‬ ‫ال�سينما الت�شيكية ف��ي مختلف �أق�سام هذا‬ ‫ُت�صنع ب�شغف ال تقلل منه الميزانيات المحدود‪،‬‬
‫المهرجان‪ ،‬حيث ت�شعر ب�أنه مهرجان دولي‬ ‫�ستجد ع�شرات المئات م��ن ه��ذه الجماهير‬
‫بحق‪ ،‬يجلب لع�شاقه الأفالم من مختلف �أنحاء‬ ‫يتنقلون بين قاعات العرو�ض‪� ،‬أو ي�ستريحون‬
‫العالم‪ ،‬يكت�شف �سينما جديدة‪ ،‬ويحر�ص على‬ ‫في الحدائق بين الأف�ل�ام‪� ،‬أو يتجولون بين‬
‫فيعيد �صناع‬ ‫تقوية عالقته باكت�شافاته ُ‬ ‫حفالت المو�سيقا الم�صاحبة للمهرجان‪ ،‬حتى‬
‫ومبدعي الأف�لام �إليه م��ج��دداً‪ ،‬لكنه مع ذلك‬ ‫يعودوا �إل��ى الخيام �أو المهاجع مع بدايات‬
‫يهتم بال�سينما المحلية ويمنحها فر�ص ًا‬ ‫ال�ساعات الأولى من �صباح اليوم الجديد‪.‬‬
‫�إذاً‪� ،‬أه��ال��ي جمهورية الت�شيك يع�شقون‬
‫ال�سينما ب�شكل مغاير‪ ،‬وه��ذا م��ا �أل��م��ح �إليه‬
‫الممثل والمخرج والكاتب الأمريكي (�إيثان‬
‫هوك) المر�شح للأو�سكار �أربع مرات‪ ،‬كما ح�صد‬
‫خم�سين جائزة عالمية مرموقة‪� ،‬إ�ضافة �إلى‬
‫(‪ )١٥٠‬تر�شيح ًا لجوائز بالمهرجانات العالمية‪،‬‬
‫ومن بينها العديد من تر�شيحات النقاد‪ .‬وقف‬
‫�إيثان هوك �أعلى خ�شبة م�سرح القاعة الكبرى‬
‫بفندق (تيرمال) و�سط مدينة كارلوفي فاري‪،‬‬
‫�إيثان هوك �أثناء تقديم فيلمه «الإ�صالح الأول»‬

‫‪133‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مهرجانات‬

‫م�ضاعفة لي�شاهدها جمهوره العري�ض‪ ،‬وكذلك‬


‫�ضيوفه العالميون‪ .‬لذلك كله‪ ،‬لم يكن ُمده�ش ًا‬
‫�أو م�ستغرب ًا �أن �أقر�أ قبيل يوم االفتتاح للدورة‬
‫الخام�سة والخم�سين‪ ،‬بالفترة الممتدة بين‬
‫(‪� )٢٨-٢٠‬أغ�سط�س‪ ،‬عن �أن ثالثة �أفالم ت�شيكية‬
‫تفوقت في �شباك التذاكر المحلي‪ ،‬على �إيرادات‬
‫الأفالم الأجنبية الم�ستوردة‪.‬‬
‫م��ن بين ه��ذه الأف �ل�ام الت�شيكية‪ ،‬التي‬
‫ح�صدت الجوائز عن جدارة في الدورة الخام�سة‬
‫والخم�سين لكارلوفي ف��اري‪ ،‬فيلم (زاتوبك)‬
‫ال��ذي ي��دور ح��ول �شخ�صية البطل‪ ،‬وال��ع��داء‬
‫الت�شيكي (�إيميل زاتوبك) الذي ح�صد الميدالية‬
‫الذهبية في �سباق الأولمبياد �أربع مرات‪ ،‬وذلك‬
‫الفنان مايكل كين في المهرجان‬
‫قدرات الطفل الحركية وفكره‪ ،‬فنعي�ش معهم‬ ‫من خالل ت�صوير �أ�سلوبه في التدريب ال�شاق‬
‫على مدار نحو �أرب��ع �سنوات مكثفة‪ ،‬مدركين‬ ‫وال�صبور‪ ،‬والم�سابقات الأرب��ع التي فاز بها‪،‬‬
‫كيف كانا يتعامالن م��ع طفلهما‪ ،‬و�أث��ن��اء‬ ‫وزواج��ه ببطلة الأولمبياد في رم��ي الرمح‪،‬‬
‫ذلك نلمح نظرات الآخرين له‪ ،‬وكذلك معاناة‬ ‫و�صداقاته وانخراطه في الجي�ش‪ ،‬ثم كيف‬
‫الوالدين اللذين �أنكرا ذاتهما لأجل االبن‪.‬‬ ‫وا�صل الحياة بعد ابتعاده عن الأ�ضواء‪.‬‬
‫على �صعيد �آخ��ر‪ ،‬ح�صل الفيلم الوثائقي‬ ‫ُع��ر���ض الفيلم ليلة اف��ت��ت��اح مهرجان‬
‫�إقبال جماهيري غير‬ ‫(كارلوفي فاري) الخام�س والخم�سين‪ ،‬فنال‬
‫الت�شيكي (غرفة الحياة المركزة) على تنويه‬
‫معهود على الأفالم‬ ‫خا�ص م��ن لجنة التحكيم بم�سابقة (�شرق‬ ‫ت�صفيق ًا حما�سي ًا مبهراً‪ ،‬وبالرغم من �أنه ُعر�ض‬
‫المعرو�ضة في‬ ‫الغرب)‪� .‬صحيح �أن الأحداث تدور داخل (غرفة‬ ‫خارج الم�سابقات‪ ،‬لكنه ح�صد جائزة الجمهور‬
‫فعاليات المهرجان‬ ‫العناية المركزة)‪ ،‬لكن �صناع الفيلم اختاروا له‬ ‫عن جدارة‪ .‬كذلك نال الفيلم الت�سجيلي الت�شيكي‬
‫عنوان (غرفة الحياة المركزة) لأنه عمل يحتفي‬ ‫(كل دقيقة) جائزة لجنة التحكيم الخا�صة‪،‬‬
‫بالحياة‪ ،‬بالرغم من �أن��ه ما بين (‪� ٦٠‬إلى‬ ‫في م�سابقة (�شرق الغرب)‪ .‬تدور �أحداثه حول‬
‫‪ )٪٧٠‬منهم ينتهي بهم المطاف �إلى الموت‪،‬‬ ‫زوجين من �سلوفاكيا‪ ،‬قررا �أن ُيكر�سا حياتهما‬
‫لكن الفي�صل هنا �أن الأطباء يمنحون ه�ؤالء‬ ‫لتربية ابنهما وتعليمه ريا�ضات عدة ليتفوق‬
‫المر�ضى الواقفين على �أبواب مغادرة الحياة‬ ‫فيها‪ ،‬وليخلقا منه �شخ�صية مفيدة للمجتمع‪،‬‬
‫ح�ضور الفت لل�سينما‬ ‫قدراً من ال�سكينة‪ ،‬والهدوء وتقبل فكرة الرحيل‬ ‫لكن ذلك يتم وفق نهج �صارم معقد لتنمية‬
‫الت�شيكية الحائزة‬ ‫وتكثيف عالقتهم ب�أ�سرهم‪ ،‬وت�صفية الأجواء‬
‫عدة جوائز عالمية‬ ‫من �أي منغ�صات‪� ،‬إنها ال�شك لحظة فارقة‬
‫و�شديدة ال�صعوبة‪ ،‬عند جميع الأطراف‪ ،‬لكنها‬
‫في ذات الوقت ُتعطي در�س ًا بليغ ًا في التفكير‬
‫في قيمة الحياة‪ ،‬و�إدراك قيمة �أن يكون الإن�سان‬
‫ق��ادراً على التنف�س‪ ،‬وعلى ممار�سة الحركة‪،‬‬
‫وال�شعور بالأ�شياء من حوله‪ ..‬هنا‪ ،‬يتجلى دور‬
‫يعتبر �أحد �أهم �ستة‬ ‫الأطباء في تخفيف الآالم الفيزيائية والفكرية‬
‫عن مر�ضاهم في هذا الم�ست�شفى الجامعي في‬
‫مهرجانات �سينمائية‬
‫براغ‪ ،‬وبناء عالقات جديدة‪� .‬إنه عمل وثائقي‬
‫في العالم‬ ‫يعك�س ال��ج��وان��ب الإن�سانية العميقة حول‬
‫ويظهر التعاطف‬ ‫�أخالقيات رعاية المحت�ضر‪ُ ،‬‬
‫مع ال��ذات والآخ��ري��ن‪ ،‬كما يوثق المحادثات‬
‫الحميمة بين الأطباء والمر�ضى وذويهم‪� ،‬أثناء‬
‫ذلك ُي�ؤكد �أن هناك دائم ًا و�سيلة لتح�سين نوعية‬
‫حياة المر�ضى‪.‬‬
‫طبيبة غرفة العناية المركزة‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪134‬‬


‫تحت دائرة الضوء‬
‫من �أ�سواق مدينة الخليل‬
‫قراءات ‪�-‬إ�صدارات ‪ -‬متابعات‬

‫¯ �س�ؤال الهوية �س�ؤال الوطن في «حرائق خ�ضراء»‬


‫¯ المكان في روايات عبدالرحمن منيف‬
‫¯ تباين �صوت ال�سارد وتوالي الحكي في «�أ�صحاب ون�س»‬
‫¯ روبرت غرين وثقـافـة النجـاح‬
‫¯ رحلة �شعرية ممتعة مع �آثار الحـ�ضـارة الم�صريـة‬
‫¯ تاريخ علوم اللغة العربية‬
‫قدم حالة النفي لن�ص ت�أملي‬ ‫¯ عبدالحكيم الزبيدي َّ‬
‫¯ جماليات ال�سرد عند خليل الجيزاوي‬

‫‪135‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫قراءات‬

‫�س�ؤال الهوية �س�ؤال الوطن في‬


‫«حرائق خ�ضراء»‬
‫المنفى‪ ،‬يكبلها وي�شدها �إل��ى الأر����ض‪ ،‬فال‬ ‫«حرائق خ�ضراء»‬
‫ت�ستطيع االنعتاق وال التحليق بعيداً‪� .‬إنه الوطن‬ ‫هو عنوان المجموعة‬
‫ال�سليب والذات الموجوعة التي ترى في الموت‬ ‫ال�����ش��ع��ري��ة الأح�����دث‬
‫تمطني هي الأخرى ‪/‬في‬ ‫تحرراً‪ ،‬لأن «يد القدر ّ‬ ‫ل��ل�����ش��اع��رة ال�����س��وري��ة‬
‫اتجاهين متعاك�سين ‪/‬فت�ستطيل روحي؛ لتعود‬ ‫لجينة نبهان والتي‬
‫‪/‬وت�ستطيل! ‪�/‬أع�صر قلبي كما لو كان خرقة‪/‬‬ ‫�صدرت عن دار �سويد‬
‫لجينة نبهان‬ ‫ظننتها ُب ِل َيت ‪/‬لوال زعقت روحي و�أوقفتني»‪.‬‬ ‫بدم�شق‪ ،‬حيث تتمثل‬ ‫د‪ .‬هويدا �صالح‬
‫فالروح هنا هي التي تمنع الذات ال�شاعرة‬ ‫فيها ال�شاعرة �أ�سئلة‬
‫من االنهيار‪ ،‬تقيمها روحها مرة ثانية؛ لأن ثمة ثمة حيوات غير مكتملة‪ ،‬و�أح�لام مجه�ضة‪،‬‬ ‫الحياة والموت‪ ،‬الوطن والهوية‪ ،‬الحب والفراق‪،‬‬
‫�أم ًال �أن تعود �إلى «هناك» يوم ًا حين ي�ستقيم وك�أنها تتمثل العتبة الن�صية الأول��ى (حرائق‬ ‫لتكتب لنا عالمها ال��خ��ا���ص لت�سقطه على‬
‫الوطن وتوقفه قوة ال�شعر ربما‪� ،‬أو قوة الإيمان خ�ضراء) في تنكيرها وتعميمها لت�شير �إلى كثرة‬ ‫الهم العام م�سائلة الوجود عما تعانيه الذات‬
‫به ربما‪ .‬ولأن ال��ذات ال�شاعرة تقع �صريعة الحرائق‪ ،‬التي ت�أتيها من كل �صوب‪ ،‬فالأم‪/‬‬ ‫الفردية‪/‬ال�شاعرة والذات الجمعية‪/‬الوطن‪.‬‬
‫المفارقة ما بين الموت والحياة‪ ،‬والحرائق الوطن ينكرها‪ ،‬ويلقيها لمنفاها‪:‬‬ ‫مجموعة تنبني على الثنائية ال�ضدية‬
‫«�أيتها الأنثى‪ ،‬الأم‪ ،‬الوطن!‬ ‫والخ�ضرة‪ ،‬فهي تجعل من الحب �صارعها ومن‬ ‫بين الموت والحياة‪ ،‬الدمار والعمار‪ ،‬الخرائب‬
‫�أخبريني‬ ‫الع�شب جارحها؛ لأنها تخ�شى عدواً محتم ًال �أو‬ ‫والخ�ضرة‪ .‬ثنائية تفي�ض بالداللة على حب‬
‫كيف لقلب لي‬ ‫واقع ًا وهو الحرب‪ ،‬التي �ضيعت الوطن‪.‬‬ ‫الحياة وبرغم تقدم داللة الخرائب على الخ�صب‬
‫�أن ينبذني؟!‬ ‫تمكنت الكاتبة من خالل الثنائية ال�ضدية‬ ‫في العنوان ف�إن ال�شاعرة تمكنت من �إن�صاتها‬
‫وكيف لوطن‬ ‫من خلخلة منظومة مفاهيمية قارة‪ ،‬فالع�شب‬ ‫الرهيف لذاتها العميقة �أن تر�صد عالقة هذه‬
‫منه �أنا‬ ‫الأخ�ضر رمز للخير والخ�صب‪ ،‬ولكنه يجرح‪،‬‬ ‫الذات بالخارج (الحب‪ /‬الوطن‪ /‬الأمل) �سعي ًا‬
‫�أن يمنحني منفاه‬ ‫والحرائق ترمز للخراب والدمار‪ ،‬لكنها ت�صفها‬ ‫�إلى �أن تفتح كوة على الغد الآتي‪ ،‬فهي ال تريد‬
‫وكل ق�ضاياه!‬ ‫بالخ�ضراء‪ .‬ثمة �سوداوية تمزق الذات ال�شاعرة‬ ‫�أن تموت غريبة بعيداً عن الوطن‪ ،‬كما ال تريد‬
‫�أينك؟�أينك؟�أينك‪،‬‬ ‫وت�ضعها في �أتون الثنائية ال�ضدية‪.‬‬ ‫�أن تموت �سليبة من كل مقاومة‪ ،‬فـ«الكثير من‬
‫�أيتها العاطفة الخ�ضراء؟!‬ ‫وك��م��ا �أن��ه��ا تخ�شى ح��ب� ًا ي ��أت��ي ف��ي غير‬ ‫الحياة في انتظاري هناك الم�شكلة الوحيدة‬
‫لقد �أدركتني الحرائق!»‬ ‫موعده‪ ،‬كذلك تعلن لنا �أنها لم تقع في الحب‪،‬‬ ‫�أنني هنا»‪.‬‬
‫ولأنها لم تتمكن من الإجابة عن �س�ؤال‪:‬‬ ‫لكنه حينما �أت��اه��ا في غير موعده هجرها‪،‬‬ ‫في هذه الجملة المفتاح‪ ،‬التي ت�صلح �أن‬
‫وك�أن الحياة ال تمنحها ما تريد‪ ،‬حتى و�إن �أتى «لماذا هي هنا ولي�ست هناك؟ ولماذا نفاها‬ ‫نقر�أ الديوان من خاللها‪ ،‬ثمة «هناك» ‪/‬الوطن‪،‬‬
‫الوطن برغم كل هذا الع�شق‪ ،‬الذي ع�شقته له‪،‬‬ ‫غاب عنها‪.‬‬ ‫ُمر َت َجى ت�سعى ال��ذات ال�شاعرة �إليه و«هنا»‪/‬‬
‫�إن ثيمة ال��م��وت ك��ان��ت وم��ات��زال‪ ،‬ثيمة فهي تلومه‪:‬‬
‫«يا �أيها الوطن ابكني ولو مرة‬ ‫مركزية في ال�شعر العربي المعا�صر‪ ،‬تعبر‬
‫كم بكيتك مغرمة‬ ‫عن فل�سفة ور�ؤي��ة مت�أملة للذات ال�شاعرة في‬
‫احت�ضني الآن‬ ‫توحدها‪ ،‬لتن�سحب بعد ذلك عن الذات الجمعية‬
‫ف�ألثم جرحك‬ ‫ف��ي عموميتها‪ .‬فردانتيها‪ .‬لكن ال��م��وت في‬
‫و�أرتق ما تبقى من يقين»‬ ‫المجموعة ال�شعرية لم يكن في ت� ُأمله مجرد‬
‫تعاتبه‪ ،‬تت�ساءل لماذا �ضيعها و�صيرها‬ ‫مرثية للذات ال�شاعرة‪� .‬إن الموت تحول في‬
‫الديوان �إلى و�سيلة ك�شف ل�صنوف القهر التي �أب��ع��ا���ض� ًا‪� .‬إن��ه��ا ت��ح��اول �أن ت�ستنه�ض روح‬
‫تعر�ضت لها الذات ال�شاعرة والذات الجمعية‪ ،‬المقاومة لهذا الوطن‪ ،‬الذي رغبت في �أن تلثم‬
‫جراحه عله ي�شفى‪ ،‬علها ت�شفى‪.‬‬ ‫ونافذة تطل عليها للغد الآتي المرتجى‪.‬‬
‫أتيت‬
‫َ‬ ‫�‬ ‫هال‬ ‫بعيد‪..‬‬ ‫زمن‬ ‫من‬ ‫المنفي‬ ‫ي‬ ‫ِّ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫يا‬ ‫ينت�شلها‬ ‫ولأنها تدرك �صوت الكلمة‪ ،‬الذي‬
‫من العدم‪ ،‬تحاول �أن تناو�ش الأفكار‪ ،‬لكنها لأكون ك َّل َك‪ .‬وبرغم كل ما تعانيه الذات المبعدة‬
‫«هنا» عن الوطن «هناك» �أنها ال بد عائدة �إليه‪،‬‬ ‫تخ�شى �أن تغتالها تلك الأفكار‪.‬‬
‫التناق�ض بين الحاالت ال�شعرية‪ ،‬ينتقل فهي تخبرنا بذلك‪ ،‬لكن الحرب ت�شعل الحرائق‪،‬‬
‫بالذات ال�شاعرة من ال�سكون �إلى ال�صخب‪ ،‬من تمتهن الإن�سان‪ ،‬تنال من �إن�سانيته‪ ،‬تغيب‬
‫الحب �إلى الموت‪ ،‬من الخ�ضرة �إلى الحرائق‪ ،‬وجوده الفعلي‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪136‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫المكان في روايات‬
‫عبدالرحمن منيف‬
‫والخطاب مالمح خا�صة ج�سدته �شخ�صي ًة‬ ‫تعد الأن�سنة من‬
‫اعتبارية‪ ،‬وجعلته يت�صدر واجهة ال�سرد‪،‬‬ ‫�أروع القيم الجمالية‬
‫لكونه تجلى ب�ؤر ًة ت�شع منها المادة الروائية‬ ‫في الفن‪ ،‬لأن الفنان‬
‫على �أن�ساق الن�ص الروائي‪ ،‬وعمل على ربطه‬ ‫حينما ي�ؤن�سن الأمكنة‬
‫بالإن�سان ربط ًا رحمي ًا‪ ،‬ولذلك �أ�صبحا ذات ًا‬ ‫والحيوانات والأ�شياء‬
‫واحدة)‪.‬‬ ‫وظواهر الطبيعة في‬
‫�أحمد مر�شد‬ ‫في الف�صل الأول (تجليات �أن�سنة المكان‬ ‫د‪ .‬مريم اغري�س عمله الفني‪ ،‬يجعلنا‬
‫الدال على �شخ�صية اجتماعية)؛ ذهب الكاتب‬ ‫نتعرف ب�شكل جديد‬
‫ويجعلها �صاخبة في ف�ضائه ب�شكل �أعمق‪،‬‬ ‫�إلى �أن الذات الإن�سانية تتميز ب�سمات متنوعة‬ ‫يت�سم بالعمق والروعة‪� ،‬إلى تجليات العالم‬
‫و�أكثر ثراء وجما ًال)‪.‬‬ ‫يمكن تق�سيمها �إلى ق�سمين‪� :‬سمات ح�سنة �أو‬ ‫الخارجي ال��ذي ي�صبح �أكثر حيوية وحياة‬
‫في الف�صل الثاني (تجليات �أن�سنة مكونات‬ ‫�إيجابية‪ ،‬و�سمات �سيئة �أو �سلبية‪ .‬وبالتالي‬ ‫و�إن�سانية‪ ،‬ونتلم�س في الوقت نف�سه ر�ؤية‬
‫ال��م��ك��ان)؛ ي��رى الكاتب �أن �أن�سنة المكان‬ ‫ف�إن المكان في رواي��ات عبدالرحمن منيف‬ ‫الفنان الفكرية للحياة والمدى الإن�ساني الذي‬
‫تقت�ضي بال�ضرورة �أن�سنة مكوناته التي‬ ‫ا�صطبغ بهاتين ال�سمتين‪ ،‬فال�سمات الإن�سانية‬ ‫تت�سم ب��ه‪ ،‬ونعي الأ�سباب التي دفعته �إلى‬
‫ت�أتي في مقدمتها الطبيعة بكل عنا�صرها‬ ‫الح�سنة التي تميز بها المكان هي‪ :‬الوعي‪،‬‬ ‫التعبير عن ر�ؤيته بهذا الأ�سلوب‪.‬‬
‫وظواهرها‪ ،‬لذلك وجدنا عبدالرحمن منيف‬ ‫الوفاء‪ ،‬التعاطف‪ ،‬ال�شجاعة‪ .‬وبهذه ال�سمات‬ ‫ولتقريب مو�ضوع الأن�سنة في الأعمال‬
‫في رواياته ي�ضفي عليها �صفات الإن�سان‬ ‫الإيجابية ا�ستطاع المكان �أن يحمي �أهله‬ ‫الأدبية من القارئ‪� ،‬سلط الناقد والأديب �أحمد‬
‫العاقل‪ ،‬وم�شاعره ال�سامية‪ ،‬و�إح�سا�سه الحاد‪،‬‬ ‫ال��ذي��ن يحت�ضنهم‪ ،‬وي��ؤوي��ه��م م��ن ك��ل �أذى‬ ‫مر�شد �ضوءه على المكان وكيف تمت �أن�سنته‬
‫فقد �أحبتها �شخ�صيات رواي��ات��ه‪ ،‬و�ألفتها‬ ‫تعر�ضوا له بف�ضل وعيه النا�ضج و�شجاعته‪.‬‬ ‫في روايات عبدالرحمن منيف‪ ،‬من خالل عمل‬
‫وعاملتها معاملة �إن�سانية راقية‪ .‬وب�أن�سنتها‬ ‫�أما ال�سمات الإن�سانية ال�سيئة �أو ال�سلبية‬ ‫يقع في (‪� )88‬صفحة من الحجم الكبير‪ ،‬مق�سم‬
‫تكون قد خرجت عن وظيفتها البيولوجية‬ ‫التي ات�سم بها المكان في روايات عبدالرحمن‬ ‫�إل��ى ثالثة ف�صول ت�سبقها مقدمة ق�صيرة‬
‫�أو الطبيعية‪ ،‬وقامت بدور �إن�ساني خالق هو‬ ‫منيف فهي‪ :‬العجز‪ ،‬التحول‪ ،‬الخوف‪ ،‬الق�سوة‪.‬‬ ‫ومذيلة بالئحة للم�صادر والمراجع‪ ،‬وقد‬
‫الإح�سا�س بواقع الب�شر الأليم‪ ،‬والتعاطف‬ ‫وقد كانت حا�ضرة بقوة في الأمكنة الآتية‪:‬‬ ‫اختار الكاتب روايات عبدالرحمن منيف‪ ،‬لأن‬
‫معهم‪.‬‬ ‫(الطيبة‪ ،‬حران‪ ،‬وم��وران) في رواية (التيه)‪،‬‬ ‫هذا الأخير (منح المكان على م�ستوى الن�ص‬
‫في الف�صل الثالث (م�ستويات الأن�سنة)؛‬ ‫وي�ستثنى من ذلك (وادي العيون)‪ ،‬لأن الحكي‬
‫يرى الكاتب �أن الأمكنة ومكوناتها الطبيعية‬ ‫الروائي عن هذا المكان انتهى في الربع الأول‬
‫التي وردت في �أعمال عبدالرحمن منيف‪،‬‬ ‫من خما�سية (مدن الملح)‪.‬‬
‫يمكن �أن ن�صنفها �ضمن ثالثة م�ستويات‪:‬‬ ‫لقد ا�ستطاع عبدالرحمن منيف من خالل‬
‫�أماكن �أف�ضل من الإن�سان‪� ،‬أماكن متوازنة‬ ‫المزج بين ال�سمات الح�سنة وال�سيئة‪ ،‬تج�سيد‬
‫ومن�سجمة مع الإن�سان‪ ،‬و�أماكن �أدن��ى من‬ ‫المكان تج�سيداً �إن�ساني ًا مو�ضوعي ًا‪ ،‬وقد تجلت‬
‫الإن�سان‪ .‬وب�شكل ع��ام؛ يمكن �أن نقول �إن‬ ‫ه��ذه ال�سمات الإن�سانية ب�شكل وا�ضح في‬
‫عبدالرحمن منيف‪ ،‬حين �أن�سن الأمكنة‬ ‫روايتي (النهايات) و(مدن الملح)‪ ،‬لأنه في‬
‫والحيوانات والطيور‪ ،‬وغيرها‪ ،‬في رواياته‪،‬‬ ‫هاتين الروايتين انتقل من التعبير عن المكان‬
‫�أعلى من �ش�أنها وقيمتها ومكانتها‪ ،‬وحين‬ ‫بال�صيغة الفردية التي ا�ستخدمها في رواياته‬
‫قارنها بالإن�سان العاقل‪ ،‬وف�ضلها عليه في‬ ‫التي �سبقت �إلى التعبير عن المكان بال�صيغة‬
‫بع�ض المواقف‪ ،‬زاد من قيمتها و�إن�سانيتها‪،‬‬ ‫الجماعية‪ ،‬وهذا االنتقال هو تطور في تعامله‬
‫وهذا التف�ضيل هو �إثبات لحالة ال�ضعف التي‬ ‫مع المكان‪ .‬لأن المكان (لي�س فرداً فقط‪ ،‬و�إن‬
‫تعتري الإن�سان‪ ،‬و�إدان��ة له‪ ،‬لأنه تخلى عن‬ ‫دل الفرد على الجماعة‪ ،‬وج�سد ر�ؤية الم�ؤلف‬
‫قيم الإن�سانية والمثل والمبادئ‪ ،‬وتقاع�س‬ ‫الدالة عليها‪ ،‬والمكان الروائي بقدر ما فيه‬
‫عن ن�صرة �أخيه الإن�سان‪ ،‬والإح�سا�س ب�أزمته‬ ‫من جماعة متفاعلة مع محيطها ف�إنه يمثل‬
‫وقت المحن‪.‬‬ ‫الحياة خير تمثيل‪ ،‬ويعبر عنها‪ ،‬ويدل عليها‪،‬‬

‫‪137‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫قراءات‬

‫تباين �صوت ال�سارد وتوالي الحكي‬


‫في «�أ�صحاب ون�س»‬
‫جل�س على كر�سي‪ ،‬و�أخذ يطل على ال�شارع‬ ‫كتاب (�أ�صحاب‬
‫وال��ن��ا���س‪ ..‬لفت نظره �أن للنا�س وجوه ًا‬ ‫ون�س) لم�ؤلفه الكاتب‬
‫مختلفة‪ ،‬و�أحجام ًا و�ألوان ًا و�أ�شكا ًال‪ ..‬ر�أى‬ ‫ال��روائ��ي ج��ار النبي‬
‫زه��رة تتقافز بفرح‪ ،‬ور�أى عبو�شة يم�شي‬ ‫الحلو‪ ،‬ور�سوم الفنان‬
‫منحني الظهر بعد انتهاء عمله في الفرن‪..‬‬ ‫ح�����س��ن ع��ب��دال��غ��ن��ي‪،‬‬
‫جار النبي الحلو‬ ‫وظل ير�سم وير�سم وتنطق الألوان بالوجوه‬ ‫وال��ذي �صدر حديث ًا‬
‫م�صطفى غنايم‬
‫ور�سم ال�شارع والدكاكين)‪ ..‬لتكتمل فرحة‬ ‫ع��ن‬ ‫(‪2021‬م)‪،‬‬
‫و�سعيه ون�شاطه‪( :‬عبو�شة �أمهر عامل في‬ ‫(ون�����س) ب��اب��ت��ه��اج �أه���ل ال��ح��ي باللوحة‬ ‫ال���م���رك���ز ال��ق��وم��ي‬
‫مخبز بلدتنا‪ ..‬نراه منذ مطلع الفجر حتى‬ ‫وتعليقها على �أ�شهر كافيه في الحي (كافيه‬ ‫لثقافة الطفل (ال��ق��اه��رة)‪ ،‬يمثل متوالية‬
‫الغروب ال يكف عن الحركة‪ ..‬يوزع �أرغفة‬ ‫ال�سعادة) المملوك للعم �إ�سماعيل‪ ..‬ويتبدى‬ ‫ق�ص�صية م�شوقة‪ ،‬يطالع فيها المتلقي‪/‬‬
‫الخبز ال�ساخن على الواقفين في الطابور‬ ‫ال�سر ف��ي اختيار (ون�����س) عنوان ًا للن�ص‬ ‫الطفل �أماكن كثيرة‪ ،‬و�أ�شياء عديدة يحبها‬
‫�أمام المخبز)‪ ..‬وبرغم تنوع �أ�سلوب ال�سرد‬ ‫ومحوراً لأحداثه‪ ،‬ربما لأنه بتعبيره بالر�سم‬ ‫وي�ألفها‪ ،‬تطابق كل ما يحبه وي�شاهده‬
‫بين (�أنا) و(هو)‪ ،‬ف�إن الم�ؤلف يظهر لنا راوي ًا‬ ‫عن الحي و�شخو�صه و�أح��داث��ه في ق�صة‬ ‫ويعاي�شه في مدينته‪� ..‬شارعه‪ ..‬حارته‪،‬‬
‫�أحادي ًا يتحدث با�سمه وينوب عن غيره في‬ ‫(لوحة ون�س) يمثل المعادل المو�ضوعي‬ ‫فيتقابل م��ع �صاحب ال�سوبر م��ارك��ت‪،‬‬
‫طريقة تختفي معها النبرات المتحاورة‪ ،‬ما‬ ‫للم�ؤلف الذي ج�سدهم بكلماته وحكاياته‪،‬‬ ‫وعبو�شة (عامل المخبز)‪ ،‬و�سمير (بائع‬
‫يجعل من هذا العمل فن ًا �أورك�سترالي ًا ي�شبه‬ ‫وم��ن ث��م تتماهى �شخ�صية (ون�����س) مع‬ ‫ال��ف��ول)‪ ،‬وال��رج��ل غ��اوي ال��ق��راءة‪ ،‬وزه��رة‪،‬‬
‫العزف المنفرد‪.‬‬ ‫الم�ؤلف في �صحبة الأبطال‪ ،‬ومعاي�شتهم‪،‬‬ ‫وعبير‪ ،‬وبذرة الأم‪ ،‬والطفل (المق�ص)‪ ..‬كما‬
‫وعلى نمط المتوالية الق�ص�صية التي‬ ‫والتعبير عنهم؛ كلم ًة ور�سم ًا‪.‬‬ ‫يتعاي�ش مع الطفل الفنان (ون�س)‪ ،‬الذي‬
‫تدفع على تتابع الحكي وت�سل�سل الأحداث‬ ‫وق ��د ن ��وع ال��ك��ات��ب ف��ي ط��رائ��ق �سرد‬ ‫جعله الكاتب محوراً للأحداث‪ ،‬يطل علينا‬
‫وت�ضافر ال�شخو�ص‪ ،‬نجح جار النبي الحلو‬ ‫الأح ��داث م�ستخدم ًا �ضمير المتكلم الذي‬ ‫منذ العتبة الأولى (العنوان)‪ ،‬مداراً تلت�صق‬
‫في ر�صد �سحر الحياة‪ ،‬وعبق المكان‪ ،‬في‬ ‫يمثل الر�ؤية الم�صاحبة التي يتماهى فيها‬ ‫به �شخو�ص العمل كافة‪ ،‬فكانوا جميع ًا‬
‫البيئة الم�صرية ال�شعبية‪� ،‬إذ جعلنا الم�ؤلف‬ ‫�صوت الراوي في الن�ص مع �صوت (�أنا) في‬ ‫رفاق ًا و�أ�صحاب ًا له؛ ذلك حين جمعهم ون�س‬
‫نطل على البنت (بذرة الأم) �أمام الفرن مرة‬ ‫حكايات (�سوبر ماركت) و(�أنا بذرة �أمي)‪،‬‬ ‫في لوحة فنية بديعة‪ ،‬ر�سم فيها مالمحهم‬
‫�أخرى في ق�صة (عبو�شة)‪ ،‬ون�شاهد �صاحب‬ ‫و(غ��اوي ق��راءة) التي و�صف فيها الرجل‬ ‫ب�ألوانه المبهرة‪ ،‬وعبر الم�ؤلف عن موهبته‬
‫ال�سوبر ماركت يبيع الحبال الملونة للبنات‬ ‫المثقف وعبر عن �أجواء القراءة لديه قائ ًال‬ ‫وت ��أم�لات��ه وطقو�س ف��ن��ه‪( :‬ف��ي البلكونة‬
‫ال�صغيرات في ق�صة (زهرة)‪ ،‬وكذلك ا�ستدعى‬ ‫على ل�سانه‪�( :‬أنا كما ترون‪..‬‬
‫(رجل البرد) يتوقف لي�شاهد خفة زهرة في‬ ‫على عيني ن��ظ��ارة ق ��راءة‪..‬‬
‫تلك الق�صة‪ ،‬كما هو الحال مع الرجل غاوي‬ ‫نعم و�أن��ا غاوي ق��راءة‪ ..‬في‬
‫القراءة الذي خلع نظارته‪ ،‬و�أخذ يردد ويعبر‬ ‫ال�صبح �أق��وم و�أ�صنع كوب‬
‫بفكره وثقافته عن ر�شاقة الطفلة‪( :‬تحلم‬ ‫�شاي‪ ،‬و�أجل�س لأقر�أ في الأدب‬
‫زهرة �أن تطير)‪ .‬كما نطالع ه�ؤالء ال�شخو�ص‬ ‫والتاريخ وال�سيا�سة والفن)‪،‬‬
‫جميع ًا في ق�صة (لوحة ون�س)‪ ،‬لنجد هذه‬ ‫كما ا�ستخدم �ضمير الغائب‬
‫الق�ص�ص المتوالية تت�ضافر مع بع�ضها‬ ‫ال���ذى ت���وارى فيه ال�سارد‬
‫بع�ض ًا ك�أنها �أح��داث في ق�صة كبيرة‪ ،‬ما‬ ‫�سائق ًا الحكي �إل��ى الأم��ام‬
‫جعل المتلقي‪ /‬الطفل ي�ستمتع بالمكان‬ ‫ان��ط�لاق� ًا م��ن الما�ضي في‬
‫والحياة في الحي الم�صري ال�شعبي‪ ،‬في‬ ‫ق�ص�ص �أخ ��رى‪ ،‬ه��ي‪( :‬رجل‬
‫حبكة فنية ت�سبك فيها المواقف ببراعة‪،‬‬ ‫ال��ب��رد)‪ ،‬و(زه�����رة)‪ ،‬و(ف��ول‬
‫وتتجاور فيها ال�شخ�صيات وتتوالى فيها‬ ‫ال�صباح)‪ ،‬و(ل��وح��ة ون�س)‪،‬‬
‫الأح��داث‪ ،‬ب�صورة يتماهى فيها الفن مع‬ ‫و(عبو�شة)‪ ،‬تلك التي �سرد‬
‫الواقع المعي�ش‪.‬‬ ‫فيها حكاية عبو�شة وكفاحه‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪138‬‬


‫مقاالت‬
‫واحة‬

‫ق�ضايا النقد‬
‫في ال�شعر الجاهلي‬
‫عكاظ منا�سبة �شعرية �سنوية يجتمع فيها‬ ‫يقدم كتاب (�إج��راءات النقد وق�ضاياه‬
‫ال�شعراء‪ ،‬فيكون الإن�شاد بح�ضرة �شاعر ناقد‬ ‫في ال�شعر الجاهلي)‪ ،‬للناقد الدكتور فاروق‬
‫يوازن ويفا�ضل بين المن�شدين‪ ،‬كما ا�شتهر‬ ‫ا�سليم‪ ،‬وال�صادر حديث ًا (‪2021‬م)‪ ،‬عن‬
‫النابغة الذبياني بذلك‪.‬‬ ‫دائ��رة الثقافة بال�شارقة‪� ،‬ضمن �سل�سلة‬
‫�أبرار الآغا‬ ‫جاء الباب الأول (تجليات نقد العرب‬ ‫قراءات لإجراءات نقد ال�شعر‬ ‫ٍ‬ ‫درا�سات نقدية‪،‬‬
‫لل�شعر قبل الإ�سالم)‪ ،‬وفيه ثالثة ف�صول‪:‬‬ ‫ووظائفه‪ ،‬وق�ضاياه المختلفة‪ ،‬لدى العرب‬
‫والفخر والمديح واالعتذار والهجاء والرثاء‪.‬‬ ‫(�أوليات نقد العرب لل�شعر)‪ ،‬و(�أقوال العرب‬ ‫قبل الإ���س�لام‪ ،‬ول��دى من في حكمهم من‬
‫ويتجلى نقد ال�شاعر الجاهلي لإبداعه‬ ‫الناقدة لل�شعر)‪ ،‬و(ال�شاعر ناقداً لل�شعر)‪،‬‬ ‫المخ�ضرمين‪.‬‬
‫ال�شعري في معاناته برهة الإبداع‪ ،‬واختيار‬ ‫وبين �أن نقد العرب لل�شعر ن�ش�أ في �سياق‬ ‫ّ‬ ‫وبين الناقد �أن ال�شفاهية كانت الو�سيلة‬ ‫ّ‬
‫�أف�ضل ال�صور والمعاني والأل��ف��اظ‪ ،‬كما‬ ‫تطور التجربة ال�شعرية من االرتجال فني ًا‬ ‫الرئي�سة لنقل ثقافة العرب قبل الإ�سالم‪،‬‬
‫ان�شغل ال�شاعر بنقد �شعر غيره‪ ،‬م�ضمراً‬ ‫وجمالي ًا �إلى االنتظام‪ ،‬معبراً عنها ب�أربعة‬ ‫فالن�صو�ص النقدية التي و�صلت �إلينا‬
‫مقارنة بين �شعره و�شعر غيره‪.‬‬ ‫معالم رئي�سة‪ ،‬ه��ي‪( :‬التق�صيد) ويعني‬ ‫مقاربة لحقيقتها الأول���ى‪ ،‬المعبرة عن‬
‫وي�ضم ال��ب��اب ال��ث��ان��ي (ق�ضايا نقد‬ ‫مرحلة تجاوز ال�شعر زم��ن المقطعة �إلى‬ ‫جوهر وعي العرب في الجاهلية لل�شعر‪ ،‬و�أن‬
‫العرب لل�شعر قبل الإ�سالم) ثالثة ف�صول‪،‬‬ ‫زمن الق�صيدة المطولة‪ ،‬وكانت نتيجة نقد‬ ‫بع�ضها و�صلنا على نحو دقيق‪.‬‬
‫هي‪( :‬وعي العرب لوظائف ال�شعر)‪ ،‬و(وعي‬ ‫ال�شعراء للمنجز ال�شعري‪ ،‬وكان امر�ؤ القي�س‬ ‫و�أو�ضح في توطئة الكتاب‪� ،‬أن ال�شعر‬
‫العرب ل�ل�إب��داع العربي)‪ ،‬و(وع��ي العرب‬ ‫�أول من �أتقن فن التق�صيد وو�ضع له تقاليده‬ ‫ال��ع��رب��ي م��ر ب��م��راح��ل ت��ط��ور‪ ،‬ن��م��ت فيها‬
‫لثنائيات ق�ضايا نقد ال�شعر)‪ .‬و�أرجع العرب‬ ‫التي �سار عليها ال�شعراء قبل الإ�سالم وبعده‪.‬‬ ‫تجارب ال�شعراء من حالتي الإن�شاد الديني‪،‬‬
‫قبل الإ�سالم �إبداعهم ال�شعري �إلى �أنه وحي‬ ‫وتال مرحلة التق�صيد مرحلة (االختيار)‪،‬‬ ‫و�أغ��ان��ي ال��ع��م��ل‪� ،‬إل ��ى مرحلة الق�صيدة‬
‫من الجن‪ ،‬ومنهم من �أرجعه �إلى الموهبة‬ ‫وك��ان��ت �أول��ي��ة النقد باختيار الق�صائد‬ ‫المتعددة المو�ضوعات‪ ،‬و�أ�سهم فيها ال�شعراء‬
‫الموروثة‪ ،‬ومنهم من �أرجعه �إليهما مع ًا‪،‬‬ ‫الجياد للتدوين والتعليق من عمل النخب‬ ‫المبدعون عبر نقدهم لتجاربهم ولتجارب‬
‫ويتمظهر ذل��ك في مظهرين‪ :‬تفاعل بين‬ ‫المتلقية لل�شعر‪ ،‬راف��ق ذلك مرحلة �ألقاب‬ ‫غيرهم م��ن ال�����ش��ع��راء‪ ،‬ع�ل�اوة على تطور‬
‫وحي الجن والموهبة‪ ،‬وتفاعل بين �شاعر‬ ‫ال�شعراء الفنية ومرحلة الم�صطلحات الفنية‬ ‫المجتمع في بع�ض البيئات‪ ،‬ك�سوق عكاظ‪،‬‬
‫و�آخ��ر‪ .‬واهتم ال�شعراء بتنمية القدرة على‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬وتمثل �ألقاب ال�شعراء في الجاهلية‬ ‫ومكة‪ ،‬ويثرب‪ ،‬ثقافي ًا ولغوي ًا وفني ًا‪.‬‬
‫الإب��داع بالثقافة والرواية وتحدي �شاعر‬ ‫حكم ًا مجتمعي ًا على �أ�شعارهم‪ ،‬ولها طابع‬ ‫و�أ�شار ا�سليم‪� ،‬إلى �أن العرب قبل الإ�سالم‬
‫لآخر والتغني بال�شعر و�شحذ القريحة‪.‬‬ ‫ع��ام وج��زئ��ي خ��ا���ص‪ ،‬حيث �إن الأل��ق��اب‬ ‫اه��ت��م��وا بالف�صاحة وعالقتها بال�شعر‬
‫و�أو�ضح ا�سليم �أن العرب في الجاهلية‬ ‫الفنية العامة مبينة على نظرة عامة على‬ ‫والذات القبلية‪ ،‬فكانت �سمة الزمة لإبداعهم‬
‫عبروا عن وجهات نظر نقدية في ق�ضايا‬ ‫�شعر ال�شاعر‪ ،‬و�أقدمها لقب مهلهل‪� .‬أما‬ ‫ال�شعري الأكثر ح�ضوراً و�شيوع ًا وت�أثيراً‪،‬‬
‫ثنائية‪ ،‬منها‪ :‬التقليد والتجديد‪ ،‬والأ�صالة‬ ‫الم�صطلحات ال�شعرية؛ فقد بلغ القليل منها‬ ‫منوه ًا �إلى �أن ال�شعر كان �سبب ًا رئي�س ًا في‬
‫واالنتحال‪ ،‬وال�صدق وال��ك��ذب‪ ،‬ومحا�سن‬ ‫درجة التمام الم�صطلحي‪.‬‬ ‫رفعة منزلة عدد من ال�شعراء‪ ،‬فبه تكتمل‬
‫ال�شعر وم�ساوئه‪ ..‬فقد حاول بع�ض ال�شعراء‬ ‫و�أف ��اد الناقد ب ��أن نقد العرب لل�شعر‬ ‫ال�سيادة والفرو�سية لدى ال�سادة والفر�سان‪.‬‬
‫تجاوز التقاليد الرا�سخة‪ ،‬ويتجلى �أول‬ ‫الجاهلي له مظهران‪ ،‬نقد ال�شعر بالقول‬ ‫ولفت �إلى �أن ال�شعر‪� ،‬إن�شاداً ونقداً‪ ،‬كان‬
‫تجاوز في االنتقال من نمط المقطعة �إلى‬ ‫ن��ث��راً‪ ،‬ون��ق��ده بالقول �شعراً‪ ،‬ويغلب على‬ ‫من�شط ًا رئي�س ًا للعرب في الجاهلية‪ ،‬وفي‬
‫نمط الق�صيدة‪ ،‬وحر�ص متلقو ال�شعر على‬ ‫الأول �أن��ه��ا �إ� ��ش ��ارات م��وج��زة و�سريعة‬ ‫والمقاول والقبائل في‬ ‫َ‬ ‫مجال�س الملوك‬
‫الت�أكد من �أ�صالة �إب��داع ال�شاعر‪ ،‬في حين‬ ‫وع��ام��ة‪ ،‬كما ج��اء ف��ي تقديم �شاعر على‬ ‫ال��ب��وادي‪ ،‬وف��ي مكة ويثرب‪ ،‬ويمثل �سوق‬
‫حر�ص ال�شعراء على �أ�صالة �شعرهم و�صدقه؛‬ ‫غيره با�ستخدام ا�سم التف�ضيل �أ�شعر‪� .‬أما‬
‫�إال �أن ذلك ال ينفي كذب بع�ضهم في المديح‬ ‫الثاني؛ فيغلب عليه طابع ال�صورة ال�شعرية‬
‫والهجاء‪ .‬ومن �أبرز معايير محا�سن ال�شعر‪،‬‬ ‫التي لج�أ لها ال�شعراء لإب���راز �أفكارهم‬ ‫م ّثل �سوق عكاظ منا�سبة‬
‫�أن يكون ال�شعر وا�ضح ًا ال ا�ضطراب فيه‪،‬‬ ‫النقدية‪ ،‬كما �شكلت الفرو�سية في حياة‬ ‫�سنوية تجمع بين ال�شعر‬
‫و�أن تكون معانيه منا�سبة للمقام وقيم‬ ‫الجاهليين مظهراً نقدي ًا لل�شعر بال�شعر‪،‬‬
‫المجتمع‪.‬‬ ‫وب���رزت مو�ضوعات ال�شعر كالحما�سة‬
‫والنقد‬

‫‪139‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫قراءات‬

‫روبرت غرين‬
‫وثقـافـة النجـاح‬
‫التعامل معها‪ .‬وقد �أو�ضح الكاتب الأمريكي‬ ‫ول�����د (روب������رت‬
‫عدة طرق للتعاي�ش معها �أو تجنبها‪� ،‬سواء‬ ‫غ� ��ري� ��ن) ف� ��ي (‪14‬‬
‫في العمل �أو عالقاتنا مع الآخرين‪ ،‬فبداي ًة‬ ‫م���اي���و ‪1959‬م)‪،‬‬
‫الكاتب ين�صح القارئ ب�أن ال ي�سحب ال�ضوء‬ ‫هو كاتب ومتحدث‬
‫من رئي�سه في العمل‪ ،‬و�أال ي�ضع الثقة الكاملة‬ ‫�أم���ري���ك���ي ا���ش��ت��ه��ر‬
‫في الأ�صدقاء‪ ،‬وعدم الت�صريح بالنوايا لأي‬ ‫بكتبه ح��ول النفوذ‬
‫روبرت غرين‬
‫�شخ�ص منهم‪ ،‬ويجب عليك االمتناع عن‬ ‫نهلة خر�ستوفيد�س واال���س��ت��رات��ي��ج��ي��ات‪،‬‬
‫وعدم �إعطاء وعود كثيرة ربما لن نتمكن‬ ‫�إعطاء معلومات �شخ�صية لأي �شخ�ص بكل‬ ‫و�أل ��ف خم�سة كتب‪،‬‬
‫من الوفاء بها‪.‬‬ ‫�سهولة‪ ،‬فمن الممكن ا�ستغاللها في �أغرا�ض‬ ‫وكان الأكثر مبيع ًا كتاب ي�ضع فيه (‪48‬‬
‫و�أ�شار �إلى �أن التظاهر بالغباء وعدم‬ ‫�أخ����رى‪ ،‬و���ض��رورة االح��ت��ف��اظ بال�صورة‬ ‫قانون ًا للقوة)‪ ،‬ويزعم الكاتب �أنه جمعها‬
‫الفهم �أح��ي��ان � ًا مفيد‪ ،‬لأن ه��ن��اك بع�ض‬ ‫وال�سمعة الطيبة لمن حولك وو�ضع نف�سك‬ ‫من خالل التجارب الب�شرية المختلفة عبر‬
‫الأ�شخا�ص ال يحبون ال�شخ�ص الذكي‪،‬‬ ‫في قالب ال�شخ�ص الناجح القوي‪.‬‬ ‫ثالثة �آالف �سنة‪ ،‬م�ست�شهداً بمئات الأمثلة‬
‫و�أهمية ا�ستخدامنا �سيا�سة االن�سحاب‬ ‫وا�ستطرد الكاتب �أي�ض ًا في �ضرورة‬ ‫والق�ص�ص ومعتمداً على المخزون الثقافي‬
‫�إذا �شعرنا بوجودنا في مو�ضع �ضعف‪،‬‬ ‫وجودك تحت الأ�ضواء و�أمام �أعين النا�س‬ ‫من كل ال�شعوب‪ ،‬وقد بيع �أكثر من (‪)1.2‬‬
‫والتركيز على تقويتها لنرجع مرة �أخرى‬ ‫دوم ًا‪ ،‬ومن الممكن �أن يكون القائد في و�سط‬ ‫مليون ن�سخة في الواليات المتحدة وحدها‪،‬‬
‫بكامل قوتنا‪ ،‬فالأف�ضل حينها �أن نركز‬ ‫المجموعة وي��وزع عليهم بع�ض الأعمال‬ ‫وك��ان��ت نقطة تحول ف��ي حياته‪ .‬يتكون‬
‫على م�صادر قوتنا وتطويرها‪ .‬و�أ�ضاف‬ ‫�أف�ضل من �أن يكون تابع ًا لهم‪ ،‬مع تجنب‬ ‫الكتاب م��ن (‪ )48‬ق��اع��دة تتطلب الكثير‬
‫�أن��ه يمكننا القيام ب��دور الو�سيط وتقديم‬ ‫النقا�شات الكثيرة والثرثرة وال�سعي لتحقيق‬ ‫من الحنكة والبراعة في تتبعها‪ ،‬مع �أخذ‬
‫اقتراحات جيدة والمواظبة على اكت�شاف‬ ‫نتائج ناجحة‪.‬‬ ‫الحيطة والحذر مع قوة الإغ��واء والتعامل‬
‫الذات‪ ،‬والحر�ص‪ ،‬حيث ال يمكنهم �أخذ �أي‬ ‫و�أ���ش��ار �أي�ض ًا �إل��ى تجنب الأ�شخا�ص‬ ‫مع الآخرين‪.‬‬
‫خط�أ علينا‪ ،‬ومن الرائع جداً �أن يكون لك‬ ‫المحبطين واالبتعاد عن طاقاتهم ال�سلبية‬ ‫وبمعنى �آخ��ر؛ فالكتاب يلخ�ص كيف‬
‫مبد�أ وق�ضية تدافع عنها‪ ،‬وجعلها تف�سيراً‬ ‫حتى ال ن�صاب ب��ال��ع��دوى‪ ،‬و�أن نتم�سك‬ ‫تم�سك بزمام الأم��ور حتى ت�صل لأحالمك‬
‫ل��ردود �أفعالنا وت�صرفاتنا‪ ،‬والمواجهة‬ ‫بالإيجابيين والناجحين والأ�شخا�ص‬ ‫با�ستخدام قوتك الداخلية‪ .‬وه��ذا الكتاب‬
‫والدخول بكل جر�أة وثبات في �أي موقف‪.‬‬ ‫�أ�صحاب النفوذ والقوة‪.‬‬ ‫ثقافي يهدف �إل��ى تطوير ال��ذات ومعرفة‬
‫و�أكد الكاتب �أي�ض ًا �أهمية التخطيط لكل‬ ‫وم��ن وجهة نظر الكاتب �أي�����ض� ًا‪� ،‬أن‬ ‫نقاط القوة وال�ضعف في الأ�شخا�ص وكيفية‬
‫�شيء حتى النهاية وبكل مرونة‪ ،‬وعدم‬ ‫نجعل الأ�شخا�ص يعتمدون علينا ب�صفة‬
‫�سرد تفا�صيل نجاحاتك و�إنجازاتك‪ ،‬ولكن‬ ‫م�ستمرة‪ ،‬و�أن نكون نحن الم�صدر الوحيد‬
‫اجعل الجميع ي�ست�شعرون ب�أنك لم تجتهد‬ ‫لهم في المعلومات‪ ،‬و�أن نعبر عن جزء‬
‫وكان الأمر �سه ًال ومي�سراً بالن�سبة �إليك‪،‬‬ ‫�صغير من الحقيقة وال نبوح بكل الحقائق‬
‫و�أن تظل قوتك العقلية مر�سخة ومرتبطة‬ ‫الخا�صة بنا‪ ،‬مع عدم طلب �أي م�ساعدة من‬
‫بعقلهم‪ ،‬وتمتع بالعقل الملكي وكن �أنت‬ ‫�أحد‪ ،‬لكن يف�ضل �أن تكون مقابل م�صلحة‬
‫الملك وتعامل من هذا المنطلق واكت�شف‬ ‫م�شتركة‪.‬‬
‫نقاط �ضعف الآخرين للتغلب عليهم‪ ،‬وكن‬ ‫و�أك��د م��رة �أخ��رى �أن��ه من الممكن �أن‬
‫خبيراً في �إدارة الوقت‪ .‬و�أ�ضاف �أي�ض ًا �أنه‬ ‫نتغيب بع�ض الوقت حتى يفتقدونا‪ ،‬ونجعل‬
‫من ال�ضروري خلق م�شهد مثير لالنتباه‬ ‫ت�صرفاتنا غير متوقعة‪ ،‬مع الغمو�ض في‬
‫وو�ضع نف�سك في قالب ال�شخ�ص الخارق‬ ‫�سلوكنا‪� ،‬إ�ضافة �إل��ى ع��دم االن��ع��زال عن‬
‫وخلق ق�صة لإبهارهم ف�ستجدهم مهتمين‬ ‫النا�س‪ ،‬ولكن نتميز ب�شخ�صية منفردة وال‬
‫بك ب�شكل عجيب وعقلهم معك‪ ...‬فكر كما‬ ‫ن�شبه �أح ��داً‪ .‬وح�� ّذر من الغ�ضب وخ�سارة‬
‫يحلو ل��ك �أن��ت ول��ك��ن ت�صرف كما يحب‬ ‫الأ�صدقاء لأنه وقتها لن ن�ستطيع التمييز‬
‫النا�س‪.‬‬ ‫بين ال�شخ�ص ال�صحيح وال�شخ�ص الخط�أ‪،‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪140‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫رحلة �شعرية ممتعة مع �آثار‬


‫الحـ�ضـارة الم�صريـة‬
‫مما قيل في الآثار من ال�شعر العربي‪ ،‬وذكر‬ ‫ال��م���ؤل��ف �أح��م��د‬
‫كمثال كتاب (ح�سن المحا�ضرة) لم�ؤلفه‬ ‫�أح���م���د ب������دوي‪ ،‬هو‬
‫جالل الدين ال�سيوطي‪ ،‬الذي روى �أن جماعة‬ ‫و�شاعر م�صري‬ ‫ٌ‬ ‫أديب‬
‫� ٌ‬
‫من �أهل التاريخ قالوا‪� :‬إن الذي بنى الأهرام‬ ‫ب��ارز‪ ،‬له العديد من‬
‫ه��و �سوريد ب��ن �سلهوق ب��ن �شرياق ملك‬ ‫ال��م ��ؤل��ف��ات الأدب��ي��ة‬
‫م�صر‪ ،‬وكان قبل الطوفان بثالثمئة �سنة‪،‬‬ ‫وال��ن��ق��دي��ة م��ث��ل‪� :‬أث��ر‬
‫د‪�.‬أحمد �أحمد بدوي‬ ‫و�سبب ذلك �أنه ر�أى منام ًا مقلق ًا‪ ،‬فانتبه‬ ‫الثورة الم�صرية في‬ ‫ناديا عمر‬
‫م��ذع��وراً وجمع ر�ؤ���س��اء الكهنة‪ ،‬ف�أخبروه‬ ‫ال�����ش��ع��ر ال��م��ع��ا���ص��ر‪،‬‬
‫ك���أن �أه���رام م�صر حائط نه�ضت‬ ‫ب�أمر الطوفان‪ ،‬ف�أمر عند ذلك ببناء الأهرام‪،‬‬ ‫و�شوقي في الأندل�س‪ ،‬ومن النقد والأدب‪،‬‬
‫��ان فانينا‬‫ب��ه ي��د ال��ده��ر ال ب��ن��ي ُ‬ ‫وملأها طال�سم وعجائب و�أم��وا ًال وخزائن‬ ‫وال��ت��راج��م‪ :‬ال��ق��ا���ض��ي ال��ج��رج��ان��ي‪ ،‬حياة‬
‫ِ‬
‫مقا�صرِ ه‬ ‫الفخم ِمن ُعليا‬
‫ُ‬ ‫�إيوانُه‬ ‫وغ��ي��ره��ا‪ ،‬وك��ت��ب فيها جميع م��ا قالته‬ ‫البحتري وفنه‪ ،‬وديوان المتنبي في العالم‬
‫الملوك وال ُيبقي الأواوينا‬ ‫َ‬ ‫ُي ْفني‬ ‫الحكماء‪ ،‬وجميع العلوم الغام�ضة‪ ،‬و�أ�سماء‬ ‫العربي وعند الم�ست�شرقين‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫وانتقل الم�ؤلف �إلى (�أبوالهول) وقال‪:‬‬ ‫العقاقير ومنافعها وم�����ض��اره��ا‪ ،‬وعلم‬ ‫ا�ستعر�ض ف��ي كتابه �آث ��ار الح�ضارة‬
‫لقد ر�أينا ال�شعراء فيما عر�ضناه من ال�شعر‬ ‫وي �أي�ض ًا‪،‬‬ ‫الح�ساب والهند�سة والطب‪ ،‬كما ُر َ‬ ‫الم�صرية العريقة منذ �آالف ال�سنين‪ ،‬والتي‬
‫يعدونه من العجائب‪ ،‬ور�أينا بع�ضهم يتخيله‬ ‫�أنها كانت قبوراً لملوك م�صر‪ .‬وقد بدت هذه‬ ‫كانت والت ��زال تبهر العالم وتده�شه �إلى‬
‫ك�أنه رقيب على حبيبين يركبان هودجين‪.‬‬ ‫الحيرة في ال�شعر يومئ ٍذ‪ ،‬فقال بع�ضهم‪:‬‬ ‫يومنا هذا‪ ،‬حتى قال الجاحظ وغيره‪ :‬عجائب‬
‫وهو خيال مجدب ال يحرك النف�س‪ ،‬وال يثير‬ ‫َح َ�س َرت عقولَ �أولي ال ُّنهى الأهرا ُم‬ ‫الدنيا ثالثون �أعجوبة‪ ،‬ع�شرة منها ب�سائر‬
‫وجدانها؛ لأن هذا الج�سد ال�ضخم لأ�س ٍد ر�أ�سه‬ ‫وا�ستُ�ص ِغرت لعظيمها الأج ُ‬
‫���رام‬ ‫البالد والع�شرون الباقية بم�صر‪ ،‬و�أ�شار‬
‫حد رقيب‬ ‫ر�أ�س �إن�سان‪� ،‬أكبر من �أن يقف عند ِّ‬ ‫�����س‪ ،‬موثقة ال��ب��ن��اء‪� ،‬شواهقٌ‬ ‫ُم��ل ٌ‬ ‫الم�ؤلف �إلى �أن هذه الآثار لقيت �صدى في‬
‫على عا�ش َقين‪ .‬وتخيله (ال��ب��ارودي) ك�أنه‬ ‫ق�����ص��رت ل���ع���الٍ دون���ه���ن ���س��ه ُ‬
‫��ام‬ ‫ُ‬ ‫ال�شعر العربي منذ زمن بعيد‪� ،‬أبانها الكاتب‬
‫م�شتاق �إلى مطلع الفجر‪ ،‬و�إذا كان ال�شاعر‬ ‫ل��م �أد ِر حين ك َبا التفكُّر دونها‬ ‫قدم نظرة �شاملة لكثير مما‬ ‫في كتابه هذا‪� ،‬إذ ّ‬
‫يرمز بذلك �إلى مطلع فجر المجد للوطن كان‬ ‫وا�ستعجمت لعجيبها الأوه����ا ُم‬ ‫نظمه ال�شعراء في هذه الآثار وهي‪ :‬الأهرام‪،‬‬
‫الإح�سا�س عميق ًا على حد قوله‪.‬‬ ‫ولعل ه��ذا ال�شعر من �أول ما قيل في‬ ‫�أبوالهول‪ ،‬الهياكل‪ ،‬المقابر‪ ،‬توت عنخ �آمون‪،‬‬
‫�أما منارة الإ�سكندرية فقد كان بنا�ؤها‬ ‫الأه��رام لأنه يتحدث عن مل�ستها‪ ،‬والغالب‬ ‫تمثال رم�سي�س‪ ،‬منارة الإ�سكندرية‪ ،‬عمود‬
‫على ثالثة �أ�شكال‪ ،‬فقريب من الثلث مربع‬ ‫�أن يكون ذلك قبل �أن يحاول (الم�أمون) فتح‬ ‫ال�صواري‪.‬‬
‫مبني بالحجارة‪ ،‬ثم بعد ذل��ك بناء مثمن‬ ‫باب فيها عند زيارته لم�صر‪.‬‬ ‫وف ��ي الف�صل الأول (الأه������رام) ق��ال‬
‫ال�شكل انبنى بال ُآجر والج�ص نحو �ستين‬ ‫�أما المتنبي‪ ،‬وبتعبير الم�ؤ ّلف‪ :‬فقد وقف‬ ‫الكاتب‪ :‬لعل الأه��رام �صاحبة الحظ الأوفر‬
‫ذراع ًا‪ ،‬و�أعالها مدور ال�شكل‪ ،‬وقد تحدث عنها‬ ‫�أمام الهرمين ي�ستعظم �أمرهما‪ ،‬وي�ستعظم‬
‫الم�سعودي في (مروج الذهب)‪ ،‬وال�سيوطي‬ ‫بناءهما‪ ،‬ويجل ال�شعب الذي �أن�ش�أهما‪ ،‬حين‬
‫في (ح�سن المحا�ضرة)‪ ،‬ويقول عنها ابن‬ ‫المنبئ عن الإعجاب‬ ‫ا�ستفهم هذا اال�ستفهام ُ‬
‫ف�ضل اهلل العمري‪ :‬وقد كانت المنارة �سرح‬ ‫�إذ يقول‪:‬‬
‫ناظر‪ ،‬ومطمح �أم��ل حا�ضر‪ ،‬طالما جمعت‬ ‫�أي���ن ال���ذي ال��ه َ��رم��ان ِم���ن ُبنيا ِنه‬
‫�أخ��دان��ا‪ ،‬وك��ان��ت لجياد الخواطر ميدانا‪،‬‬ ‫م��ا ق��وم��ه م��ا ي��وم��ه م��ا الم�صر ُع‬
‫يبق منها �إال ما هو في حكم الأطالل‬ ‫ولم َ‬ ‫ت��ت��خ��ل��ف الآث��������ار ع����ن � ُ��س��ك��ان��ه��ا‬
‫الدوار�س‪ ،‬والر�سوم الطوام�س‪.‬‬ ‫حيناً‪ ،‬و ُي��دركُ ��ه��ا الفناء فتت َب ُع‬
‫و�ضح الم�ؤلف �أنه في عجالة‬ ‫وختام ًا ّ‬ ‫غير �أن فار�س مجال هذه الحلبة‪ ،‬فقد‬
‫تبين االتجاهات المختلفة‪ ،‬التي نظر بها‬ ‫ك��ان ال�شاعر �أحمد �شوقي‪ ،‬على ح� ّ�د قول‬
‫الأدباء �إلى �آثار م�صر في القديم والحديث‪،‬‬ ‫الم�ؤلف‪ ،‬وال��ذي قال في ق�صيدته النونية‬
‫وكلها با�ستثناء ال�شاعر خليل مطران‪،‬‬ ‫الأندل�سية‪:‬‬
‫ُمعجب ٌة بتلك الآثار‪ ،‬م�سجلة ما تدل عليه من‬ ‫ولم ي�ضع حجر ًا ب��انٍ على حجر‬
‫ح�ضارة وعلم وخلق رفيع ح�سب قوله‪.‬‬ ‫أر����ض �إال على �آث��ار بانينا‬ ‫في ال ِ‬

‫‪141‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫قراءات‬

‫تاريخ علوم اللغة العربية‬


‫هذه الكلمة �أدب النف�س‪ ،‬و�أدب الدر�س الذي‬ ‫ب����داي����ة ي�����ش��ي��ر‬
‫ي�ست�أن�س �أحدهما بالآخر‪ ،‬وي�ستمد قوته‬ ‫الكاتب طه ال��راوي‪،‬‬
‫منه‪.‬‬ ‫�إلى �أن العرب قديم ًا‪،‬‬
‫كما يرى الكاتب �أنه حدث الكثير في‬ ‫ك��ان��وا يطلقون لفظ‬
‫تطور معنى الأدب و�صار محتاج ًا �إلى‬ ‫الأدب ع��ل��ى م��ع��انٍ‬
‫تعريف بين معناه النف�سي ومعناه الدر�سي‪،‬‬ ‫عديدة‪ ،‬منها الدعوة‬
‫نجالء م�أمون‬
‫طه الراوي‬ ‫وعلى هذا قال �أبو زيد الأن�صاري المتوفى‬ ‫�إل��ى ال�شيء‪ ،‬فيقال‬
‫�سنه (‪ )215‬هجرية‪�( :‬إن الأدب يقع على كل‬ ‫(�أدب الرجل ي�أدب �أدب� ًا)‪� ،‬إذا �صنع �صنيع ًا‬
‫والإن�شاء‪ ،‬والمحا�ضرات‪ ،‬وهذه الأربعة تعد‬ ‫ريا�ضة محمودة يتخرج بها الإن�سان في‬ ‫ودع��ا النا�س �إليه‪ ،‬وكذلك يطلقونه على‬
‫فروع ًا‪.‬‬ ‫ف�ضيلة من الف�ضائل)‪ ،‬وهذا لما يراه الكاتب‬ ‫الف�ضائل النف�سية والمكارم الخلقية‪ ،‬حتى‬
‫وي��ث��ن��ي ال��ك��ات��ب ع��ل��ى ج��ه��ود ال��ع��رب‬ ‫�شام ًال لأدب النف�س والدر�س‪ ،‬لأن الريا�ضة‬ ‫تطور معنى الكلمة ف�أطلقت على مجموعة‬
‫حينما ���ش��ع��روا ب��ب��وادر اال���ض��ط��راب على‬ ‫المحمودة كما تت�صل بالنف�س تت�صل‬ ‫من علوم العرب‪ ،‬منها‪ :‬ال�شعر‪ ،‬والأخبار‪،‬‬
‫�أل�سنة �أحداثهم‪ ،‬و�شعروا بدبيب اللكنة في‬ ‫بالدر�س‪ ،‬حتى تب�سطت �أمتنا في الح�ضارة‬ ‫والأن�ساب‪ ،‬والنحو‪ ..‬كما يطلق على الرجل‬
‫حوا�ضرهم‪ ،‬وت�سرب العجمية �إلى �أحداثهم‬ ‫وتو�سعت في المعارف‪ ،‬وال �سيما الل�سانية‬ ‫العالم بهذه العلوم ا�سم الأديب‪ ،‬و�إذا �أ�شتغل‬
‫فقلقوا كثيراً‪ ،‬وخ��اف��وا �أن ي�ستفحل تيار‬ ‫منها‪� .‬أ�ضيفت �إلى معنى هذه الكلمة �أمور‬ ‫بتعليمها فهو الم�ؤدب‪.‬‬
‫العجم فيطم�س �آث ��ار لغتهم؛ لغة دينهم‬ ‫لم تكن من معناها �سابق العهد‪ ،‬من ذلك‬ ‫وي�ضيف الكاتب �أنه �إذا كان من الأدب‬
‫و�أ�سا�س ح�ضارتهم‪ ،‬فان�صرفوا �إلى تدقيقها‬ ‫�إطالقها على �أ�صول المنادمة وفنونها‪،‬‬ ‫الذي هو العجب‪ ،‬فكان ال�شيء الذي يعجب‬
‫و�صياغتها‪ ،‬و�صد كل ما قد يعتريها من‬ ‫وعلى فنون النغم و�أ�صول الأغاني‪.‬‬ ‫فيه الح�سن‪ ،‬ولأن��ه �صاحب الرجل الذي‬
‫ط��وارئ الخلل واال�ضطراب فيها‪ ،‬لكونها‬ ‫وي�ؤكد الكاتب فكر ًة محوري ًة م�ؤداها‬ ‫يعجب منه لف�ضله‪ ،‬و�إذا كان من الأدب الذي‬
‫لغتهم وعنوان �سيادتهم و�أ�صل تميزهم‬ ‫�أنه كلما تطورت فنون الل�سانية‪ ،‬ان�ضوت‬ ‫هو الدعاء‪ ،‬فكان ال�شيء الذي يدعو النا�س‬
‫ع��ن �سائر الأم ��م‪ ،‬لذلك ل��م يتركوا الحبل‬ ‫�إلى لواء هذه الكلمة‪ ،‬وبذلك تو�سع معناها‬ ‫�إل��ى المحامد والف�ضائل‪ ،‬وينهاهم عن‬
‫على الغارب‪ ..‬حيث بادر علماء العرب �إلى‬ ‫بتعاقب الزمن تو�سع ًا ظاهري ًا‪ ،‬وبعد كل‬ ‫المقابح والجهل‪.‬‬
‫تدوينها و�ضبط قواعدها وتقييد م�سائلها‪،‬‬ ‫هذا التو�سع �أ�صبح حد الأدب كما قال ابن‬ ‫ويذهب الكاتب �إلى �أن هذا التطور في‬
‫وما برحوا يتنقلون في خدمتها من حال‬ ‫خلدون‪ :‬هو حفظ �أ�شعار العرب و�أخبارهم‪،‬‬ ‫معنى كلمة الأدب قد بد�أ في �أوا�سط القرن‬
‫�إلى حال‪ ،‬حتى ا�ستوت لديهم على توالي‬ ‫والأخ��ذ من كل علم بطرف‪ ،‬ولهذا ال يجوز‬ ‫الأول الهجري‪ ،‬وب��ذل��ك التقى ف��ي معنى‬
‫الأجيال جملة علوم �أطلقوا على مجموعها‬ ‫�أن يتحلى بلقب الأديب‪� ،‬إال من �أتقن الفنون‬
‫علوم اللغة العربية‪� ،‬أو علوم الأدب‪ ،‬هذه‬ ‫ألم بالعلوم ال�شرعية والكونية‪،‬‬ ‫الل�سانية و� ّ‬
‫العلوم تخدم اللغة العربية المعربة للعلوم‬ ‫حيث �إن معنى الأدب قد تطور من حال‬
‫المنقولة للعرب‪ ،‬من حيث �ضبط مفرداتها‪،‬‬ ‫�إلى حال‪ ،‬حتى �أ�صبح جامع ًا بين المعنى‬
‫وبيان مدلول كل لفظ‪ ،‬وهذا ما �أ�سموه علم‬ ‫الخلقي والمعنى الفني‪ ،‬بمعنى �أنه �صار‬
‫اللغة �أو متن اللغة‪.‬‬ ‫�شام ًال المزايا الخلقية والمكارم النف�سية‪،‬‬
‫وي�ؤكد الكاتب �أن العلماء اليوم يردون‬ ‫وزمرة العلوم التي من �ش�أنها تقويم الل�سان‬
‫اللغات �إلى ثالثة �أ�صول‪ :‬ال�سامي والآري‪،‬‬ ‫والعلم‪ ،‬وك��ل ما يعين على الإج���ادة في‬
‫والطوراني‪ ،‬ويعدون اللغة العربية من الأ�صل‬ ‫منثور القول ومنظومه‪ ،‬وكل ما يتو�سل به‬
‫ال�سامي‪ ،‬و�إذا اعتبرت اللغة البابلية التي عثر‬ ‫�إلى فهم كالم العرب في القديم والحديث‪.‬‬
‫على بقيتها في �آثار الدولة الحمورابية‪ ،‬هي‬ ‫كما ير�صد الكاتب اثنا ع�شر فن ًا في هذا‬
‫الأ�صل ال�سامي‪ ،‬الذي �أن�شئت منه اللغات‬ ‫ال�صدد‪ ،‬وهي‪ :‬اللغة‪ ،‬وال�صرف‪ ،‬واال�شتقاق‪،‬‬
‫المن�سوبة �إليها‪ ،‬يترجح �أن اللغة العربية‪،‬‬ ‫وال��ن��ح��و‪ ،‬والمعاني‪ ،‬وال��ب��ي��ان‪ ،‬والبديع‪،‬‬
‫هي �أقرب �أخواتها �إلى ذلك الأ�صل‪� ،‬أو هي‬ ‫والعرو�ض‪ ،‬والقوافي‪ ..‬وهذه تعتبر �أ�صو ًال‪،‬‬
‫الأ�صل نف�سه‪.‬‬ ‫ل��ي��أت��ي بعد ذل��ك ال��خ��ط‪ ،‬وق��ر���ض ال�شعر‪،‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪142‬‬


‫مقاالت‬
‫تما�س‬

‫مكاوي �سعيد‪� ..‬أثرى الحياة‬


‫الثقافية بنتاجه المتميز‬
‫الفكرة وال�شخ�صيات والعقدة والنهاية‬ ‫�إن �أجمل ما يقدم لمكاوي �سعيد في‬
‫و�أحداث منف�صلة عما �سبقها‪ ،‬ولكن جميعها‬ ‫ذكراه‪ ،‬هو تناول �أعماله بالقراءة والفح�ص‬
‫ترتبط مع ًا بذلك الخيط الحريري من وحدة‬ ‫ومقاربتها في ذكرى مكاوي �سعيد الذي‬
‫الإط��ار العام‪ ،‬وال�شخ�صيات التي تجري‬ ‫كتب لل�ضعفاء والمهم�شين‪ ،‬لم يغب عنه‬
‫ثريا عبدالبديع‬ ‫معها الأح���داث‪ ،‬والتي ت�أتي في ت�صاعد‬ ‫�أن يكتب للطفل وعنه‪ ،‬فهو في حقيقته‬
‫جميل منا�سب لحاجة طفل هذا الزمان من‬ ‫واحد من الفئات ال�ضعيفة في مجتمعاتنا‪،‬‬
‫مغامرة وت�شويق وعنا�صر ج��ذب واف��رة‪،‬‬ ‫والتي نهمل االهتمام الحقيقي بها و�إن كان‬
‫م�صباح عالء الدين ال�سحري في يد ح�سام‪،‬‬ ‫ب��داي��ة م��ن اللغة‪ ،‬حيث ج��اءت العناوين‬ ‫الظاهر غير ذلك‪ ،‬وقليلون الذين يعرفون عن‬
‫�إذ يجده في مكتبة والده‪ ..‬وللمفارقة؛ يخرج‬ ‫كلها تحمل المفاج�أة والمغامرة‪ ،‬وهي �سر‬ ‫هذا العمل‪ ،‬وندر تناوله بالنقد �أو بالقراءة‪.‬‬
‫من الم�صباح قزم �ضعيف �صغير ال حول‬ ‫الو�صول لنف�س وعقل ال�صغار‪ ،‬و�سر القبول‬ ‫(جني يبحث عن وظيفة) هو ا�سم العمل‬
‫له وال قوة‪ ،‬كما يت�ضح من المواقف التي‬ ‫ونجاح العمل المقدم لهم‪.‬‬ ‫الوحيد للكاتب والروائي مكاوي �سعيد الذي‬
‫يتعر�ض لها ح�سام مع القزم‪ ،‬فكلما حدث‬ ‫وعن المتوالية؛ فقد حكت عن بطلها‪،‬‬ ‫قدمه للطفل‪ ،‬من بين كل �أعماله الروائية‬
‫موقف يختبر فيه القزم تعاويذه وقدراته‬ ‫وا�سمه ح�سام‪ ،‬وهو هنا في ال�صف الأول‬ ‫والمجموعات الق�ص�صية للكبار‪ ،‬فهو الذي‬
‫ال�سحرية‪ .‬جاء ح�سام بما يمثله ويحمله من‬ ‫الإع�����دادي تقريب ًا كما يتفق ومنطقية‬ ‫�أتحفنا بـ(تغريدة البجعة‪ ،‬وفئران ال�سفينة‪،‬‬
‫تكنولوجيا وع�صرية وحداثة ليهدم موقف‬ ‫ت�صرفاته‪ ،‬فلم يذكر عمره �صراحة في‬ ‫و�أن تحبك جيهان‪ ،‬ومقتنيات و�سط البلد)‪،‬‬
‫ال��ق��زم ال��خ��ارج م��ن م�صباح ع�لاء الدين‬ ‫العمل‪ ،‬لكن يت�ضح من الأحداث‪ ،‬وقد ح�صل‬ ‫وغيرها من �أعمال �أ�صيلة جمعت بين ر�ضا‬
‫(زوبعة) ويفوز وينت�صر عليه في �أكثر من‬ ‫على الإج��ازة ال�صيفية‪ ،‬ومقيم وح��ده في‬ ‫القارئ والناقد مع ًا‪.‬‬
‫مو�ضع ‪.‬‬ ‫الفيال ويرعاه (عم �صابر) الرجل الطيب‬ ‫(ج��ن��ي يبحث ع��ن وظ��ي��ف��ة) ه��و عمل‬
‫ينت�صر مكاوي �سعيد للطفل في الع�صر‬ ‫الأمين‪ ،‬والذي ي�شكو من ت�صرفات ومقالب‬ ‫واحد للطفل لأديب �أثرى الحياة الثقافية‬
‫الحديث ولع�صره‪ ،‬فهو م�ستخدم ل��ـ(الآي‬ ‫ح�سام معه طوال فترة رعايته له‪ ..‬يتمنى‬ ‫بح�ضوره ال��واف��ر و���س��ط ال��ق��اه��رة‪ ،‬حتى‬
‫باد)‪ ،‬يحفظ عليه مقاالته و�أعماله ويجل�س‬ ‫�أن ينتهي الوقت ب�سرعة ليتخل�ص من تلك‬ ‫�صار معلم ًا من معالمها‪ ،‬وكاتب ًا مهتم ًا‬
‫�إليه ويكتب معه �أعماله وحكاياته ‪.‬‬ ‫الم�س�ؤولية‪ ،‬ولحين يلحق ب�أ�سرته في �شرم‬ ‫بالمهم�شين والب�سطاء‪ ..‬وكان الطفل �أحد‬
‫قدم مكاوي عم ًال جيداً للطفل وك�أنما‬ ‫ال�شيخ‪ ،‬وحتى �سفره ي ْق ِدم ح�سام على ن�صب‬ ‫اهتماماته‪ ،‬وعندما كتب له قدم عم ًال كان‬
‫خبر احتياجاته ورغباته وعقليته ونموه‬ ‫الفخاخ لراعيه الطيب عم �صابر‪ ،‬وال��ذي‬ ‫�أحد تحدياته‪ ،‬فجاء عم ًال وحيداً قوي ًا وقديراً‬
‫النف�سي‪ ،‬وم��ا ه��و مهم ل�صحته النف�سية‬ ‫ي�ضع يده على قلبه تح�سب ًا لأي مقلب من‬ ‫ومده�ش ًا للجميع‪ ،‬تمام ًا كبي�ضة الديك!‬
‫وللتربية‪ ،‬فجاء العمل منا�سب ًا لمرحلة‬ ‫م�شاغبات وم�شاك�سات ح�سام معه‪ ،‬لكن‬ ‫اث��ن��ا ع�شر ع��ن��وان � ًا ت��م��وج بال�شغف‬
‫الفتيان بلغته وفكرته ومعالجته للمو�ضوع‪،‬‬ ‫كل هذا يتم ب�شكل لطيف غير مبالغ فيه‪،‬‬ ‫والمغامرة والت�شويق‪�( :‬إجازة ‪ -‬في انتظار‬
‫ونجح في هذا‪ ..‬ولم يقع في عمله الوحيد‬ ‫فالطفل يقوم بعمل م�شاغبات غير م�ؤذية‬ ‫الخدعة ‪ -‬العفريت العجيب ‪ -‬عفريت فوق‬
‫في ما قد يقع فيه الأدب ��اء من �شطحات‬ ‫ال تعدو �أن تكون باب ًا من �أب��واب الفكاهة‬ ‫الرف ‪ -‬حكاية العفريت ال�صغير ‪ -‬الحقيبة‬
‫و�صراعات و�سقطات قد تخرج به عن كونه‬ ‫في الن�ص‪ ،‬ما يجعله لطيف ًا محبب ًا متفهم ًا‬ ‫تتحرك فج�أة ‪ -‬تحدي العفريت ‪ -‬ال حاجة‬
‫عم ًال مق�صوداً للطفل ‪.‬‬ ‫للطفل واحتياجاته وط��اق��ت��ه‪ ..‬فالطفل‬ ‫�إلى العفريت‪ -‬القزم ال يعترف بالهزيمة‬
‫م��ك��اوي �سعيد‪ ..‬الأدي����ب ال ��ذي اهتم‬ ‫عادة يحب عمل تلك الم�شاك�سات ويفرحه‬ ‫‪-‬البلورة العجيبة والب�ساط ال�سحري)‪.‬‬
‫بال�ضعفاء والمهم�شين وال��ق��ط��ط‪ ،‬نجح‬ ‫الإح�سا�س بالن�صر على الكبار في معارك‬ ‫وك��ل م��ن ه��ذه العناوين ه��ي ق�ص�ص‬
‫في تقديم عمل لفئة من ال�ضعفاء‪ ..‬وهم‬ ‫�صغيرة ولطيفة ‪.‬‬ ‫ق�صيرة تحمل عنا�صر الق�صة كاملة؛ من‬
‫الأطفال‪ ..‬وانت�صر لهم‪.‬‬ ‫وهنا ينحاز الم�ؤلف للر�سالة التي يحب‬
‫بين كتابه هذا‬ ‫لي�س ه��ذا فح�سب‪ ،‬بل ّ‬ ‫�أن ت�صل برفق �إلى الفتيان‪ ،‬وهي �أنه ال يمنع‬
‫(جني يبحث عن وظيفة) عن ح�س تربوي‬ ‫من المقالب والفكاهة مادامت غير م�ؤذية‬
‫ال�شخ�صيات في ق�ص�صه‬
‫�سليم‪ ،‬وهو الذي لم يتزوج ولم ينجب �أطفا ًال!‬ ‫وال تخرج عن التهذيب مع الكبار‪.‬‬ ‫ت�سير في ت�صاعد جميل‬
‫رحم اهلل الأديب مكاوي �سعيد‪.‬‬ ‫وت��ت��وات��ر الأح����داث الم�شوقة‪ ،‬فيقع‬ ‫منا�سب لحاجة الطفل‬

‫‪143‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫قراءات‬

‫عبدالحكيم الزبيدي‬
‫قدم حالة النفي لن�ص ت�أملي‬
‫َّ‬
‫�أر���ض العدل وال��ع��ز‪ ،‬وق��د تدفق فيها نبع‬ ‫ج������اء ع���ن���وان‬
‫المحبة والعطاء والكرم والت�سامح‪:‬‬ ‫المجموعة ال�شعرية‬
‫ه��ذي ب�لاد العال �أر����ض الإم���اراتِ‬ ‫(م��راي��ا ال تعك�س)‪،‬‬
‫ِ‬
‫والم�سرات‬ ‫�أر���ض الهنا والأم��ان��ي‬ ‫وال�����ص��ادرة ع��ن دار‬
‫�أر����ض ت�لاق��ت على �أرج��ائ��ه��ا �أم��م‬ ‫روا����ش���ن‪ ،‬ل��ل��دك��ت��ور‬
‫��ات‬ ‫�شتى ال��ل��غ��ات ت�لاق��ت وال��دي��ان ِ‬ ‫ال�شاعر عبدالحكيم‬
‫ت��ع��ي�����ش ف��ي��ه��ا ب��ع��ز وه����ي �آم��ن��ة‬ ‫د‪� .‬سعاد عريقات الزبيدي؛ ليقدم حالة‬
‫د‪ .‬عبد الحكيم الزبيدي‬
‫ِ‬
‫الم�ساحات‬ ‫يرفرف العدل في كل‬ ‫النفي لن�ص ت�أملي‪،‬‬
‫الفرح‪ ،‬ويرمي هذا الحزن وهذا الألم‪:‬‬ ‫ك���أن��ه��ا ج��ن��ة ف��ي الأر������ض وارف���ة‬ ‫عبر ا�ستح�ضار الذكريات والما�ضي الحافل‬
‫ت��ع��ال��ي ف��ي رب���ى الأح��ل�ا ِم‬ ‫زينات‬ ‫ِ‬ ‫بدت على الكون في �أث��واب‬ ‫بالجمال والحب‪ ،‬وقد تغيرت الأحوال‪ ،‬حتى‬
‫ن�����غ�����رق ك������ل م������أ������س�����اةِ‬ ‫يتغنى ال�شاعر بعبقرية الأديب العربي‬ ‫المرايا التي كانت تعك�س ما حولها‪ ،‬تعطلت‬
‫ون���ط���ل���ق روح����ن����ا ط���ي���ر ًا‬ ‫الكبير علي �أحمد باكثير‪ ،‬ابن اليمن المبدع‪،‬‬ ‫وتوقفت عن الحياة‪ ،‬وه��ذا ت�شبيه رمزي‪،‬‬
‫ي��ح��ل��ق ف����ي ال�������س���م ِ‬
‫���وات‬ ‫الذي �شكل عالمة فارقة في الأدب العربي‬ ‫ي�ستدرك الحال التي و�صل �إليها ال�شاعر‪ ،‬من‬
‫ب��ع��ي ً��دا ع��ن ع��ي��ون الخلقِ‬ ‫التاريخي‪ ،‬والذي �أ�سهم ب�أعماله في الم�سرح‬ ‫حزن ولوعة وحنين‪.‬‬
‫وال �آتِ‬ ‫ال دانٍ‬ ‫ال�شعري والقومي‪ ،‬وفي الأعمال التاريخية‬ ‫وي�ستذكر ال�شاعر مناقب وم�آثر ال�شيخ‬
‫���ي ال��م��ا���ض��ي‬‫ن��ع��ي��د ل���ي���ال َ‬ ‫ال��ت��ي ق��دم��ت ع��ب��ر ال ��درام ��ا ال�سينمائية‬ ‫زايد في ق�صيدته (ذكرى زايد الخير)‪ ،‬يعد‬
‫ِ‬
‫وب�������س���م���ات‬ ‫أف��������راح‬
‫ٍ‬ ‫ب���������‬ ‫والتلفزيونية‪:‬‬ ‫مناقب ال�شيخ زايد الذي �أ�س�س دولة اتحاد‬
‫ويعود ليتغنى ال�شاعر بالآباء والأجداد‬ ‫ه����ذا ���ش��ع��اع��ك م�����ش��رق وم��ن��ي ُ��ر‬ ‫الإم����ارات‪ ،‬على ال�شموخ وال��ع��ز؛ لتزدهر‬
‫الذين ورثوا المجد والعزة والكرامة‪ ،‬وزرعوه‬ ‫ي��م�����ض��ي ال���زم���ان وظ��ل��ه م��ن�����ش��و ُر‬ ‫وتطاول الأقمار والنجوم‪ ،‬تاركا �أبناءه‬
‫في نفو�س �أبنائهم‪ ،‬ين�شرون العدل والعلم‪،‬‬ ‫ي�صل الع�صور �إل��ى الع�صور ك�أنما‬ ‫يكملون م�سيرة البناء‪ ،‬وقد �ساروا على درب‬
‫وقد �ساد الأمن والحب والعدل واالزدهار‪.‬‬ ‫ي��ط��وى �إل��ي��ه ال��ع��م��ر وه���و ده���و ُر‬ ‫العز وال�شموخ والإباء‪:‬‬
‫(�أي��ه��ا ال�����س��ائ��ل ع��ن �أخ �ل�اق �آب��ائ��ي‪/‬‬ ‫ف�����إذا ب��ه وال���ق���رن يف�صل بيننا‬ ‫في و�صف (زاي��د) من م�آثر ف�ضله‬
‫و�أج���دادي‪ /‬ترفق‪� /‬أن��ت ال تعرف‪ /‬كيف‬ ‫ح���ي ي������ؤوب ف���ي ال��ح��م��ى وي����دو ُر‬ ‫ت��ق��ف ال���ح���روف �أم��ام��ه��ن ح��ي��ارى‬
‫الخير فيهم‪ /‬يتدفق‪� /‬أنت ال ت��دري‪ /‬ب�أن‬ ‫وعانى الفراق‪ ،‬وقد انفطر الحزن في‬ ‫وي��ت��غ��ن��ى ال�����ش��اع��ر ب��ع�����ش��ق��ه للوطن‬
‫النور من كثبانهم‪ /‬للكون‪� /‬أ�شرق)‪.‬‬ ‫قلبه‪ ،‬على �صديقه الذي مات في (عمان)‬ ‫(الإم��ارات) �أر���ض العال والمجد والكرامة‪،‬‬
‫وتهيم ب��ه م�شاعر االغ��ت��راب والفقد‪،‬‬ ‫بعيداً ع��ن الأه ��ل والأ���ص��ح��اب‪ ،‬م�ستذكراً‬
‫ليعود ويقف على �أطالل دار من رحلوا‪ ،‬وقد‬ ‫خ�صاله والذكريات التي مرت بهما‪ ،‬والأيام‬
‫�أخذهم الموت‪ ،‬فلم يبق غير الحجارة‪ ،‬وغاب‬ ‫التي جمعتهما‪ ،‬ي�صبر نف�سه على هذا الفراق‪،‬‬
‫نورهم والبهجة عن المنزل‪ ،‬و�صار م�أوى‬ ‫لكنه ال ي�ستطيع وقد �أ�ضناه الفراق‪:‬‬
‫للحزن والك�آبة‪ ،‬بعد �أن كان مرتع ًا للفرح‪:‬‬ ‫���ي الت�صبر‬ ‫���ص��ب��رت ول��ك��ن �أي���ن ف ّ‬
‫يا عين �صبي من دموعك واذرف��ي‬ ‫وف���ي ال��ق��ل��ب �آه�����ات ون����ار ت�سعر‬
‫بكّى �صديق العمر والخل الوفي‬ ‫�أك��ت��م ح��زن�� ًا ف��ي ال���ف����ؤاد وغ��ي��ره‬
‫بكّى (�أب���ا حمد) الحبيب ومثله‬ ‫ع��ل��ى ال��رغ��م م��ن��ي دم��ع��ه��ا يتحور‬
‫ُي��ب��ك��ى ع��ل��ي��ه ب��ح�����س��رة وت��ل��ه ِ‬
‫��ف‬ ‫�أب��ك��ي دف��ي��ن�� ًا غ��ال��ه ال��م��وت نائب ًا‬
‫وت�سافر ب��ه الأم��ن��ي��ات وتبعده عمن‬ ‫ب�أعلى ذرا (عمان) والقطر يمطر‬
‫يحب‪ ،‬في�سافر لكن هذا ال�سفر قد حرمه من‬ ‫وي�ستح�ضر الحلم الذي ي�سكن دواخله‪،‬‬
‫يحب وتجرع فيه علقم االغتراب والبعد‬ ‫يحاول ا�ستمطار الما�ضي ليعود حيث هذا‬
‫والحرمان‪ ،‬فعاد لبثها �أ�شواقه‪ ،‬لكن �شاءت‬ ‫الحلم‪� ،‬أو عله ي�ستح�ضر الحبيبة‪ ،‬وتلك‬
‫الأق����دار غير م��ا ���ش��اء و���ص��ارت م��ن �أه��ل‬ ‫الأي���ام؛ لتغدو واق��ع � ًا‪ ،‬ولي�س مجرد حلم‬
‫المقابر‪.‬‬ ‫يدعوها لت�أتي‪ ،‬ليطلقا روحيهما‪ ،‬حيث‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪144‬‬


‫�إ�صدارات‬

‫جماليات ال�سرد عند خليل الجيزاوي‬


‫وي�سيطر �صوتها على ال�سرد‪ ،‬ومنظور الطفل‬ ‫� ��ص ��درت رواي����ة‬
‫الذي ي�ستقبل الحكايات ويعيد ن�سجها‪ ،‬برغم‬ ‫(ال��ب��وم��ة ال�����س��وداء)‬
‫يوجه �إليه ال�سرد‪،‬‬
‫�أن��ه المروي عليه ال��ذي ّ‬ ‫ل����ل����روائ����ي خ��ل��ي��ل‬
‫ويتحقق وج��وده من خالل ال�سرد المطمور‬ ‫الجيزاوي عن �سل�سلة‬
‫تو�سط ًا بين الراوي‬
‫في الرواية؛ فهو ي�ؤ�س�س ّ‬ ‫�إبداعات عربية‪ ،‬دائرة‬
‫ليو�ضح‬
‫ّ‬ ‫‪-‬‬ ‫برن�س‬ ‫والقارئ‪ -‬كما يقرر جيرالد‬ ‫ال��ث��ق��اف��ة بال�شارقة‬
‫ويبرر �أفعاله‪.‬‬
‫ر�ؤيته ّ‬ ‫د‪ .‬تامر عبدالعزيز ع�����ام (‪2021‬م)‪،‬‬
‫نواة الحكي في الرواية تجربة ذاتية في‬ ‫و ُت َم ّثل هذه الرواية‪-‬‬
‫خليل الجيزاوي‬ ‫الأ�سا�س باعتماد ال�سرد على حكايات الجدة‪،‬‬ ‫رقمي ًا‪ -‬الرواية الثامنة في م�شروع الجيزاوي‬
‫التي تتفرع عنها حكايات مت�صلة بثيمة‬ ‫ال��روائ��ي‪ ،‬ال��ذي ينحو نحو معالجة بع�ض‬
‫ثنائية الموت والحياة‪ ،‬الإ�شكالية التي ت� ِّؤرق‬ ‫�أ�سا�سية ُيعيد ال�سرد طرحها ب�شكل تراجيدي‪،‬‬ ‫ال�صور والظواهر االجتماعية في المجتمع‬
‫الراوي والمروي عليه‪.‬‬ ‫حد البكاء والنحيب �إثر‬ ‫تبلغ فيه الم�أ�ساة ّ‬ ‫الم�صري‪ ،‬وير�صد م��ن خاللها تحوالته‪،‬‬
‫ويظهر ف��ي رواي���ات ال��ج��ي��زاوي للمرة‬ ‫(فقد الأحبة) واح��داً بعد الآخ��ر‪ ،‬فتعيد ن�سج‬ ‫وك��ذل��ك يتم ّثل البعد الإن�ساني للما�ضي‬
‫الأول��ى توظيف الخطاب ال�صوفي‪ ،‬وي�أتي‬ ‫حكاياتهم الخا�صة من خالل اتكاء ال�سرد‬ ‫القريب‪� ،‬أما‪ -‬فني ًا‪ -‬فتم ِّثل ُمنعطف ًا ُمهم ًا في‬
‫توظيف ذلك الخطاب ُمعاد ًال لحالة ال�شخ�صية‬ ‫على ال��ج��داري��ات‪ ،‬ومعلقات الحائط‪ ،‬التي‬ ‫م�سيرته الروائية باتجاهها الغرائبي‪ ،‬وهي‬
‫التي تبحث عن ط��وق نجاة لها نتيجة ما‬ ‫تتتابع في ال�سرد‪ ،‬وت�صبح �صوراً ناب�ضة‬ ‫تتمة لل�سيرة الجمعية التي ابتد�أ بذورها مع‬
‫تمر به من �أزمات متالحقة‪ ،‬فتلج�أ �إلى تلك‬ ‫ّ‬ ‫بالحركة والحياة‪ ،‬وتقوم ال��ذات ال�ساردة‬ ‫روايته (�سيرة بني �صالح ‪ -‬دائ��رة الثقافة‬
‫الن�صو�ص التي يحر�ص الكاتب على �إيرادها‬ ‫بتق�سيم تلك الجداريات �إلى ثالثيات �سردية‪،‬‬ ‫بال�شارقة عام ‪2015‬م) التي كانت محاولة‬
‫ب�صورة كاملة‪ ،‬وتتوزع على الف�صول من‬ ‫مع كل �شخ�صية من ال�شخ�صيات الأرب��ع‪،‬‬ ‫ال�ستعادة عالم ال�شخ�صية ومراقبة فعلها‬
‫الثاني �إلى الخام�س‪ ،‬من بين �سبعة ف�صول‬ ‫التي فقدها ال�سارد (الأبناء الثالثة والجد)‪،‬‬ ‫البعيد‪ ،‬و�إع ��ادة ت�أمل ما�ضيها من خالل‬
‫هي ف�صول الرواية‪.‬‬ ‫و ُت�ش ِّكل ك��ل ج��داري��ة منها محطة ُع ْمرية‬ ‫فمر على مناطق من‬ ‫ت�سللها بين المجموع‪ّ ،‬‬
‫ويتحقق المدلول ال�صوفي المت�سق مع‬ ‫بمواقف‪� ،‬أبطالُها هم �أ�صحاب هذه‬ ‫َ‬ ‫تت�صل‬ ‫ال��ذاك��رة‪ ،‬واخ��ت��ار لقطات من حياة الجدة‬
‫المعبر عنها في الرواية‪ ،‬ويتم طرحه‬ ‫َّ‬ ‫الحالة‬ ‫الجداريات‪ ،‬ومعها تتعاقب لوحات ال�سرد‬ ‫والجد والأم والأب والأخت‪ ،‬حتى انتهت به‬
‫هنا ب�شكل وفير‪ ،‬وبنمط تجريبي يتحقق‬ ‫بدقة بالغة تثبت تنظيم ال�سرد‪.‬‬ ‫ُموظف ًا في الحكومة‪.‬‬
‫رواية للكاتب خليل‬‫ٍ‬ ‫للمرة الأولى بو�ضوح في‬ ‫ي�أتي عنوان الرواية ُمرتبط ًا بثيمة الفقد‬ ‫غير �أن رواي��ة (البومة ال�سوداء) تتخذ‬
‫الجيزاوي‪ ،‬ومعه يحمل الن�ص تعددية في‬ ‫الم�سيطرة على الرواية من جهتين؛ الأولى‪:‬‬ ‫خط ًا ُمختلف ًا؛ �إذ تر�صد العالم من منظورين‬
‫الم�صادر وتعددية في الطرح ال�سردي‪ ،‬وهو ما‬ ‫بو�صف البومة ال�سوداء‪ -‬كما هو متداول في‬ ‫�سجل‬
‫متكاملين؛ منظور الجدة التي تريد �أن ُت ّ‬
‫ينحو بالرواية نحو (الميتا �سرد) الذي يتمثل‬ ‫الأعراف ال�شعبية‪ ،‬وكما تطرح الرواية‪ -‬نذير‬ ‫تاريخ العائلة وتحفظه للأجيال القادمة‪،‬‬
‫هنا في بع�ض المواقف ال�سردية المكتنزة في‬ ‫�ش�ؤم ومقترنة ب�أ�ساطير وخرافات �شعبية‬
‫ال�سياق ال�سردي لأحداث الرواية‪ ،‬وتقوم بدور‬ ‫ترى �أنها روح هائمة �شرهة في االنتقام‪،‬‬
‫�سرد موازٍ للأحداث الرئي�سة‪ ،‬وال تت�شابه معها‬ ‫وم��ن ث��م فقد اق��ت��رن��ت ل��دى ال��ج��دة بموت‬
‫داللي ًا فح�سب‪ ،‬بل ُت�سهم في بلورة الر�ؤية‬ ‫�أوالده��ا الثالثة قبل �أن يبد�أ عقدهم الثالث‬
‫ال�سردية وتحريك ال�سرد‪ ،‬كاكتناز الرواية‬ ‫في الحياة‪ ،‬والأخ��رى بارتباطها بالجارة‬
‫ببع�ض المواقف التاريخية �أو بع�ض ال�سرود‬ ‫التي ا�ستعانت بها في �أعمال ال�سحر التي‬
‫التي يمكن ت�صنيفها على �أنها تقع على‬ ‫كانت �سبب ًا في موت �أوالدها‪ ،‬وت�شير الجدة‬
‫هام�ش ال�سرد‪ ،‬لكنها بال �شك ت�صنع فارق ًا في‬ ‫�إلى �أن البومة ال�سوداء كانت تحوم وتنعق‬
‫وتوجه مواقفهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حياة �شخ�صيات الرواية‪،‬‬ ‫على فرع �شجرة الكافور العجوز �أمام الدار‬
‫وه��ي بنية داخلية عميقة تخ�ضع للر�ؤية‬ ‫كل ليلة‪ ،‬حتى ا�صطادها الجد وقام بقتلها‪،‬‬
‫ال�سردية في العمل‪ ،‬و ُت � َن� ِّ�وع �إي��ق��اع ال�سرد‬ ‫وتبعها موت �آخر �أوالدها (حميدو)‪ ،‬ما يعني‬
‫وتك�سر رتابته ونمطيته باالبتعاد قلي ًال عن‬ ‫�أن البومة في الرواية معادل للموت‪ ،‬تقابلها‬
‫�سير الأحبة الذين �سيطرت ثيمة فقدهم على‬ ‫في الواقع �صورة تلك الجداريات ُمعاد ًال‬
‫الرواية‪ ،‬و� ْإن كانت ال تنف�صل عنها تمام ًا؛‬ ‫حرك ًا لل�سرد‪ ،‬فت�ستمد منها الجدة‬ ‫وم ّ‬
‫للحياة ُ‬
‫فهي بنى جزئية داخل البناء الكلي للعمل‪.‬‬ ‫حكاياتها؛ ليقوم ال�سرد في النهاية حول‬

‫‪145‬‬ ‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬


‫مقاالت‬
‫كتابات و�أ�شياء‬

‫واقع وم�ستقبل‬
‫الق�صة الق�صيرة عربي ًا‬
‫هذا التجريب �أ�سهم في فتح �أفق الكتابة‬ ‫موازٍ للرواية‪ ،‬ولكنه يختلف عنه في الوقت‬
‫الق�ص�صية الحديثة‪ ،‬ما دعا �إلى انت�شار �أو�سع‬ ‫نف�سه‪ ،‬وهو ما جعله ي�صبح �أكثر �إقناع ًا في‬
‫لفن الق�صة الق�صيرة عالمي ًا‪ ،‬وخ�صو�ص ًا بعد‬ ‫قبول خ�صائ�صه ومميزاته المتفردة فني ًا‬
‫ما راج ما ي�سمى بالحداثة الأدبية‪ ،‬ف�شهدنا‬ ‫وفكري ًا‪.‬‬
‫�إقبا ًال كبيراً من الق�صا�صين على التجريب‬ ‫وبدرا�سة هذه المقارنة مع الرواية‪ ،‬وجد‬ ‫نواف يون�س‬
‫وخ�صو�ص ًا ف��ي ال�سياق الفني‪ ،‬فتعددت‬ ‫النقاد االختالف مع الق�صة‪ ،‬في الأزمنة‬
‫التيارات واالت��ج��اه��ات وال��م��دار���س الفنية‬ ‫والأح����داث وال�شخ�صيات والأم��ك��ن��ة‪ ،‬ف ��إذا‬ ‫يعد فن الق�صة الق�صيرة‪ ،‬من �أحدث الفنون‬
‫وت�ضاربت فيما بينها‪ ،‬ما �أث��رى الم�شهد‬ ‫كان زمن الحدث في الرواية ي�ستغرق زمن ًا‬ ‫الأدبية من حيث الن�ش�أة‪� ،‬إذا ما قي�س بتاريخ‬
‫الق�ص�صي وفاعليته من جهة‪ ،‬وا�ست�سهاله‬ ‫لا‪ ،‬يمتد �إل��ى ح��ي��وات م��ت��ع��ددة‪ ،‬وعبر‬
‫ط��وي� ً‬ ‫الرواية �أو ال�شعر �أو بقية الفنون والأجنا�س‬
‫وكثرة المنتمين �إليه‪ ،‬ومن جهة �أخرى مازاد‬ ‫�أجيال متتالية‪ ،‬ف�إن زمن الق�صة الق�صيرة‪،‬‬ ‫الأخ�����رى‪ ،‬وب��ال��رج��وع �إل���ى ن��ق��اد الق�صة‬
‫م��ن �إ�شكاليته اخ��ت�لاف النقاد و�أقالمهم‬ ‫يقت�صر على وحدة زمنية محددة‪ ،‬ربما لحظة‬ ‫الق�صيرة‪ ،‬فقد اعتمدوا ظهور جن�س الق�صة‬
‫و�أفكارهم مع ت�ضارب �آرائ��ه��م وتنظيرهم‬ ‫�أو �ساعة �أو يوم‪� ،‬أما بالن�سبة لل�شخ�صيات‬ ‫الق�صيرة لأول مرة‪ ،‬مع نهاية القرن التا�سع‬
‫لمعايير وا�ضحة وجلية لهذا الفن الق�ص�صي‬ ‫والأبطال‪ ،‬والتي تتعدد وتعج بها الرواية‪،‬‬ ‫ع�شر‪� ،‬أو بدايات القرن الع�شرين‪ ،‬وهي بذلك‬
‫الحديث‪.‬‬ ‫ف�إن الق�صة الق�صيرة تكتفي ب�شخ�صية واحدة‬ ‫ال تمت للما�ضي ب�صلة‪ ،‬بل وكما يحلو لبع�ض‬
‫�أم��ا بالن�سبة �إل��ى الم�شهد الق�ص�صي‬ ‫وبطل واح��د‪ ،‬وال ب�أ�س ب�شخ�صيات �أخ��رى‬ ‫النقاد ت�سميتها بمولود القرن الع�شرين‪ ،‬حيث‬
‫العربي‪ ،‬فقد الحت في بدايات ال�سبعينيات‬ ‫عابرة على هام�ش الأمر‪ ،‬وهو ما ينطبق على‬ ‫انطلقت �أو ًال من رو�سيا و�أمريكا‪ ،‬مع كتابات‬
‫وحتى نهاية الأل��ف��ي��ة الثانية‪� ،‬إ���ش��راق��ات‬ ‫الحدث وال��ذي تركز عليه الق�صة الق�صيرة‪،‬‬ ‫جوجول و�إدج��ار �آلن بو‪ ،‬ثم تتابع ظهورها‬
‫الفتة‪� ،‬شملت م�شرق الوطن الكبير ومغربه‪،‬‬ ‫وتحفر فيه ب�ؤرتها‪ ،‬عك�س الرواية التي يمتد‬ ‫في فرن�سا و�إنجلترا‪ ،‬ولم تم�ض فترة وجيزة‬
‫وب���رزت �أ���س��م��اء ق�ص�صية ت��ب��و�أت الم�شهد‬ ‫الحدث فيها ويت�شظى �إل��ى �أح ��داث �أخ��رى‬ ‫حتى انت�شرت الق�صة الق�صيرة في العالم‪،‬‬
‫الثقافي العربي‪ ،‬منها على �سبيل المثال‬ ‫مرتبطة بالحدث الرئي�س بطريقة مبا�شرة �أو‬ ‫وكثر كتابها‪ ،‬وت��ع��ددت اتجاهاتها‪ ،‬حتى‬
‫محمد خ�ضير وزكريا تامر ويحيى الطاهر‬ ‫غير مبا�شرة‪� ،‬إ�ضافة �إلى �أن الق�صة الق�صيرة‬ ‫�أ�صبح لها الآن معاهد متخ�ص�صة لتدري�سها‪.‬‬
‫عبداهلل ووا�سيني الأع��رج ور�شيد بوجدرة‬ ‫انفردت بالتوغل داخل �أبعاد النف�س و�أعماقها‬ ‫وين�صف الكاتب الكبير مك�سيم جورجي‪،‬‬
‫وعزالدين المدني‪ ،‬وكانت ذات اتجاهات‬ ‫الدفينة عبر «المونولوج» والحوار الداخلي‬ ‫القا�ص الأول نيقوالي جوجول‪ ،‬بمقولته‬
‫واقعية ورمزية تجريبية وذلك نتيجة اهتمام‬ ‫لل�شخ�صية‪.‬‬ ‫ال�شهيرة‪( :‬لقد خرجنا جميع ًا من معطف‬
‫الم�ؤ�س�سات المعنية ثقافي ًا‪ ،‬فخ�ص�صت لها‬ ‫وكان �أن �أخذت الق�صة �شرعيتها الفنية‪،‬‬ ‫ج��وج��ل)‪ ،‬ويق�صد ب��ذل��ك ق�صته ال�شهيرة‬
‫نواد للق�صة �إلى‬‫الجوائز والم�سابقات و�إن�شاء ٍ‬ ‫منذ ذلك الوقت �ضمن �سياق فني‪ ،‬يتوافر فيه‬ ‫«المعطف» ال��ذي ب��د�أت بعده‪ ،‬موجة ظهور‬
‫جانب تبني ال�صفحات الثقافية في ال�صحف‬ ‫الزمن والحدث والمكان وال�شخ�صية‪ ،‬وي�ؤطر‬ ‫كتاب للق�صة الق�صيرة‪ ،‬ت��ن��اول��وا وخطوا‬
‫اليومية والمجالت الثقافية الأ�سبوعية‬ ‫بطريقة مت�سل�سلة (بداية – حبكة ‪ -‬نهاية)‬ ‫ب�أقالمهم ق�ضايا وهموم وفكر مجتمعاتهم‬
‫وال�شهرية للكثير من كتاب الق�صة الواعدين‪.‬‬ ‫وظل الحال على و�ضعه هذا نحو مئة �سنة‪،‬‬ ‫ب��ف��ن ج��دي��د‪ ،‬م��ن��ه��م ع��ل��ى �سبيل ال��م��ث��ال‬
‫�إال �أن خفوت ًا وا���ض��ح� ًا الم�����س مكانة‬ ‫وت��ح��دي��داً ف��ي منت�صف خم�سينيات القرن‬ ‫«موبا�سان» في فرن�سا و«ت�شيخوف» في‬
‫ومقام الق�صة في ال�سنوات الأخيرة‪ ،‬وحدث‬ ‫الفائت‪� ،‬إذ ب��رزت كوكبة من الق�صا�صين‬ ‫رو�سيا‪ ،‬وهو ما �أثار اهتمام النقاد في العالم‪،‬‬
‫انزياح كبير للق�صة والق�صا�صين‪ ،‬مقارنة‬ ‫في فرن�سا‪ ،‬قررت خلخلة هذا ال�صرح الفني‬ ‫فلج�ؤوا �إلى مقارنة هذا الفن الأدبي الجديد‬
‫بالرواية وال�شعر والم�سرح‪ ،‬برغم �أنها جن�س‬ ‫المعتمد للق�صة‪ ،‬وعدم التقيد بتلك الفنيات‬ ‫بفن �أدبي �آخر هو الرواية‪ ،‬وتو�صلوا من خالل‬
‫�أدبي يتميز بالقدرة على ا�ستمرارية التطور‬ ‫التقليدية‪ ،‬ومنهم ناتالي �ساروت و�آالن روب‬ ‫هذه المقارنات‪� ،‬إلى خال�صات فنية �أ�سبغت‬
‫ومواكبة المتغيرات والتحوالت المجتمعية‪،‬‬ ‫جرييه ومي�شيل بوتور‪ ،‬فالتزموا خ�صو�صية‬ ‫على هذا الفن �شرعيته الفنية كجن�س �أدبي‬
‫وه��و ما يجعلنا نتوج�س خيفة على مدى‬ ‫الزمن وال�شخ�صية والحدث‪ ،‬ولكنهم تعدوا على‬
‫جاهزية هذا الفن الق�ص�صي للتطور وتر�سيخ‬ ‫الت�سل�سل (بداية – حبكة ‪ -‬نهاية)‪� ،‬إذ بد�ؤوا‬ ‫لقد خرجنا جميع ًا من‬
‫ثوابته الفنية والفكرية في الم�شهد الثقافي‬ ‫من الو�سط �أو الحبكة ثم العودة �إلى البداية‪،‬‬
‫«معطف» جوجول‬
‫العربي م�ستقب ًال‪.‬‬ ‫ومن ثم النهاية‪.‬‬

‫العدد الثالث وال�ستون ‪ -‬يناير ‪- ٢٠٢٢‬‬ ‫‪146‬‬

You might also like