You are on page 1of 169

‫العفـــــــو‬

‫واالنتقام‬
‫لوكيوس أنايوس سينيكا‬
‫‪1‬‬
‫ الم�ؤلف‪ :‬لوكيو�س �أنايو�س �سينيكا‬
‫ ‬
‫‪‬‬
‫ العنوان‪ :‬العفو واالنتقام‬
‫ ‬
‫‪‬‬
‫ ترجمة‪ :‬د‪ .‬حمادة �أحمد علي‬
‫ ‬
‫‪‬‬
‫ الطبعة‪ :‬الأولى ‪2020‬‬
‫ ‬
‫‪‬‬
‫ ت�صميم الغالف‪ :‬عمرو الكفراوي‬ ‫ ‬
‫‪‬‬
‫ م�ست�شار الن�شر‪� :‬سو�سن ب�شير‬
‫ ‬
‫‪‬‬
‫ المدير العام‪ :‬م�صطفى ال�شيخ‬
‫ ‬
‫‪‬‬

‫رقم اإليداع‪:‬‬
‫‪2019 / 20430‬‬
‫الرتقيم الدولي‪ISBN :‬‬
‫‪978 - 977 - 765 - 247 - 6‬‬
‫جميع الحقوق محفوظة‪ .‬ال يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أى جزء منه‪ ،‬أو تخزينه فى نطاق‬
‫استعادة المعلومات‪ ،‬أو نقله بأى شكل من األشكال دون إذن مسبق من الناشر‪.‬‬
‫‪All rights are reserved. No part of this book may be reproduced, stored in a retrieval‬‬
‫‪system, or transmitted in any form, or by any means without prior permission in‬‬
‫‪writing from the publisher.‬‬

‫‪Afaq Bookshop & Publishing House‬‬

‫‪1 Kareem El Dawla st. - From Mahmoud Basiuny st. Talaat Harb‬‬
‫‪CAIRO – EGYPT - Tel: 00202 25778743 - 00202 25779803 Mobile: +202-01111602787‬‬
‫‪E-mail:afaqbooks@yahoo.com – www.afaqbooks.com‬‬
‫‪ 1‬شارع كريم الدولة‪ -‬من شارع حممود بسيوين ‪ -‬ميدان طلعت حرب‪ -‬القاهرة ‪ -‬مجهورية مرص العربية‬
‫ت‪ - 00202 25779803 - 00202 25778743 :‬موبايل‪01111602787 :‬‬

‫‪2‬‬
‫لوكيو�س �أنايو�س �سينيكا‬

‫العفو واالنتقام‬
‫ترجمة‬
‫د‪ .‬حمادة أحمد علي‬
‫رئي�س ق�سم الفل�سفة‬
‫جامعة جنوب الوادي‬

‫آفاق للنشر والتوزيع‬

‫‪3‬‬
‫بطاقة الفهرسة‬
‫إعداد الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية‬
‫إدارة الشؤون الفنية‬

‫سينيكا‪ ،‬لوكيوس أنايوس‬


‫العفو واالنتقام‪ -‬ترجمة ‪ :‬د‪ .‬حمادة أحمد علي‬
‫ط‪1‬القاهرة ‪-‬آفاق للنشر والتوزيع ‪2020 -‬‬
‫‪ 168‬ص‪ 24 ،‬سم‪.‬‬

‫رقم اإليداع ‪2019 / 20430‬‬


‫الترقيم الدولي ‪978 - 977 - 765 - 247 - 6‬‬
‫‪ - 1‬العنوان‬
‫أ ‪ -‬سينيكا‪ ،‬لوكيوس أنايوس‬

‫‪4‬‬
‫المحتويات‬
‫‪9‬‬ ‫ ‬
‫سينيكا وعالمه‬

‫‪12‬‬ ‫مقدمة موجزة عن الرواقية ‬

‫‪18‬‬ ‫ ‬
‫رواقية سينيكا‬

‫‪23‬‬ ‫ ‬
‫تراجيديا سينيكا‬

‫‪27‬‬ ‫ ‬
‫دراما سينيكا بعد المرحلة الكالسيكية‬

‫‪31‬‬ ‫ ‬
‫عــن العفـــو‬

‫‪33‬‬ ‫ ‬
‫مقدمة األطروحة‬

‫‪38‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬
‫الفضيلة‬

‫‪44‬‬ ‫ ‬
‫األمير‬

‫‪53‬‬ ‫ ‬
‫الكتاب األول‬

‫‪99‬‬ ‫ ‬
‫الكتاب الثاني‬

‫‪111‬‬ ‫ ‬
‫تأليه كالوديوس المقدَّ س‬

‫‪113‬‬ ‫ ‬
‫مناسبة الكتاب وغرضه‬

‫‪114‬‬ ‫العنوان والمؤلف ‬


‫‪5‬‬
‫‪115‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬
‫هجائية مينيبين‬

‫‪117‬‬ ‫ ‬‫كالوديوس ونيرون‬

‫‪121‬‬ ‫ ‬
‫مختصر‬

‫‪125‬‬ ‫ ‬‫التأليه وآراء سينيكا الفلسفية‬

‫‪141‬‬ ‫ ‬
‫تأليه كالوديوس المقدَّ س‬

‫‪6‬‬
‫�إلى ابنتي البكر‬
‫رويدا‬

‫‪7‬‬
8
‫سينيكا وعالمه‬
‫الحظ سينيكا في رسالته (‪ )Letter 13.14‬أن ما صنع عظمة سقراط هو موته‬
‫بسم الشوكران‪ ،‬حيث أكد موته صمود مبادئه الفلسفية‪ ،‬واعتقاده بأن الموت ليس‬
‫ُ‬
‫مخيفًا‪ ،‬وقد القى سينيكا مصير سقراط حين حكم عليه نيرون باالنتحار عام ‪65‬م‪،‬‬
‫صواب‪ ،‬حيث إن‬
‫ٌ‬ ‫ونعتقد أن ما ذهب إليه تاكيتوس ‪ Tacitus‬في حوليته (‪)15.63‬‬
‫الرواقية الرومانية وازنت بين موته وموت سقراط وهو يتحدث عن الفلسفة بسكينة‬
‫ينصب وصف تاكيتوس هنا على‬
‫َّ‬ ‫بين أصدقائه بينما يتقطر الدم من عروقه‪ .‬ولم‬
‫وعظ سينيكا فحسب‪ ،‬بل كذلك على منهج حياته‪.‬‬

‫وقد مُنيت حياة سينيكا بخيبة أمل من الناحية السياسية نتيجة تأثرها بالنفي‬
‫أخيرا‪ ،‬وتخبرنا كتاباته‬
‫ً‬ ‫والعودة وتسوية عالقته باإلمبراطور نيرون تلميذه وقاتله‬
‫باليسير عن وظيفته السياسية وعالقته بنيرون باستثناء ما يمكن أن نستشفه من‬
‫مقاله عن العفو ‪ .On Clemency‬وتخبرنا المصادر المتأخرة مثل تاكيتوس‬
‫وسويتونيوس وكاسيوس ديو (‪150‬ق‪.‬م‪235-‬م) ‪Dio Tacitus, Suetonius,‬‬
‫‪ and Cassius‬أن سينيكا ُولد لعائلة عريقة في الفروسية بمدينة قرطبة ‪Corduba‬‬
‫في هسبانيا بين عامي ‪ 4-1‬قبل الميالد‪ ،‬وهو االبن الثاني من ثالثة أبناء لهيلفيا‬
‫ولوكيوس أنايوس سينيكا‪ ،‬واألخ األصغر هو أنايوس ميال وهو والد الشاعر‬
‫‪9‬‬
‫صبيا‬
‫لوكان‪ .‬وقد قضى األب فترة كبيرة من حياته في روما‪ ،‬وكان حينها سينيكا ًّ‬
‫ً‬
‫تلميذا للفيلسوف سكيتوس‪،‬‬ ‫صغيرا‪ ،‬وهناك تلقى تعليمه في البالغة‪ ،‬وأصبح‬
‫ً‬
‫وتأخر دخوله في الحياة السياسية‪ ،‬وحين امتنع ترشحه للمنصب في عهد تيبريوس‬
‫اعت َّلت صحته وأصابه الربو وربما السل‪ ،‬وكانت عالقته بالسياسة قصيرة‪ ،‬ونجا من‬
‫عداء كاليجوال بفضل موهبته في الخطابة كما تخبرنا المصادر‪ ،‬ونفاه كالوديوس‬
‫إلى كورسيكا بعد وفاة كاليجوال بفترة وجيزة عام ‪ 41‬م بتهمة الزنا في جوليا ليفيال‬
‫الشقيقة الصغرى لكاليجوال‪ ،‬وهذا االدعاء كاذب بالتأكيد‪ .‬وقد قضى سينيكا‬
‫وقته في المنفى في دراسة الفلسفة‪ ،‬وكتب «عزاء إلى هيلفيا» والدته‪ ،‬و«عزاء إلى‬
‫بوليبيوس» السكرتير الخاص لكالوديوس‪ ،‬ويكشف في هذا الكتاب عن رغبته في‬
‫العودة إلى روما‪.‬‬

‫وحين عاد سينيكا إلى روما بضمانات عدة‪ ،‬كان كالوديوس قد تزوج فتا ًة‬
‫جرمانية هي أجريبينا الصغرى‪ ،‬والتي حثته على استقدام سينيكا لتعليم ابنها نيرون‬
‫ذي االثني عشر عامًا‪ ،‬وقد كان لكالوديوس ابنٌ آخر أصغر منه هو بريتانيكوس‪،‬‬
‫ومن الواضح أن أجريبينا المرا ِوغة طمحت أن ترى ابنها من لحمها ودمها على‬
‫العرش‪ .‬وبعد أن توفي كالوديوس بخمس سنوات ناورت أجريبينا حتى تمكن‬
‫ابنها من تولي عرش اإلمبراطور‪ ،‬وبعد فترة وجيزة دست السم لبريتانيكوس عام‬
‫‪55‬م‪ .‬وقد عمل سينيكا مستشارًا لنيرون مع قائد برايتوري هو سكتوس أفرانيوس‬
‫بوروس ‪ Sextus Afranius Burrus‬من عام ‪ 54‬وحتى تضاءل نفوذه في نهاية‬
‫العقد‪ .‬ونحن نعلم أنه كتب مقاله «عن العفو» لنيرون؛ ليلقيه على مجلس الشيوخ‬
‫عقب انضمامه إليه بفترة وجيزة‪ ،‬وقد احتوى مقاله «عن العفو» على بعض الشكوك‬
‫من خطة نيرون للحفاظ على اإلمبراطور الشاب من العدو المسعور‪ ،‬واستخدم‬
‫مشيرا بها إلى نيرون السيناتور الروماني من باب المماثلة‬
‫ً‬ ‫سينيكا كلمة ملك ‪rex‬‬
‫واالندهاش‪ ،‬ويبدو أنه امتدح نيرون‪ ،‬وأشار إلى سلطته التي ال حدود لها وإلى‬
‫‪10‬‬
‫قيمة العفو التي قد تحفظه من تقلبات السلطة‪ ،‬وأيدت اإلدارة القضائية والمدنية‬
‫اإلمبراطورية سينيكا وبوروس‪.‬‬

‫ويؤكد كثير من المؤرخين القدماء والمحدثين أن الفترة األولى من حكم‬‫ِّ‬


‫نيرون التي أدارها سينيكا وبوروس‪ ،‬هي فترة سادها االنسجام والعدل ُ‬
‫وأطلق عليها‬
‫خمسية نيرون ‪ ،quinquennium Neronis‬وبدأ االنحطاط بقتل نيرون ألجريبينا‬
‫عام ‪59‬م‪ ،‬وكتب بعدها خطا ًبا لإلمبراطور يبرئ نفسه‪ ،‬وربما كان هذا مثالاً‬
‫ً‬
‫متورطا بسبب منصبه ككبير مستشاري نيرون‪ ،‬وحتى‬ ‫لفيلسوف عظيم وجد نفسه‬
‫يزيل الغموض حول مَن جعلوا معارضتهم لنيرون واضحة مثل ثراسي بياتوس‬
‫‪ Thrasea Paetus‬وهيلفيديوس بريسكوس ‪ .Helvidius Priscus‬ويحتمل أن‬
‫خيرا بوقوفه‬
‫مشاركته في األحداث السياسية قادته العتقاده أن بإمكانه أن يفعل ً‬
‫بجانب نيرون‪ ،‬الذي تخلى عن نصح سينيكا‪.‬‬

‫وقد تضاءل تأثير سينيكا على نيرون بعد موت بوروس عام ‪62‬م‪ ،‬وحاول‬
‫التنحي عن منصبه مرتين عام ‪62‬م و‪64‬م‪ ،‬ورفض نيرون المحاولتين‪ ،‬وغيب‬
‫سينيكا نفسه عن األحداث بعد عام ‪64‬م‪ .‬وفي عام ‪65‬م جاءت مؤامرة بيزونية‬
‫‪ Pisonian‬لقتل نيرون ليتولى محله الزعيم كالبورنيوس بيزو ‪C. Calpurnius‬‬
‫ً‬
‫متورطا في المحاولة فقد برأ سينيكا‬ ‫‪ ،Piso‬ورغم أن لوكان ابن أخ سينيكا كان‬
‫نفسه‪ ،‬ولكن نيرون انتهز الفرصة ليأمر معلمه القديم بقتل نفسه‪ ،‬فقطع سينيكا‬
‫شرايينه‪ .‬ويخبرنا تاكيتوس أن نحافة سينيكا وتقدمه في العمر قد أعاقا تدفق الدم‬
‫منه‪ ،‬وحين فشل االنتحار في قتله‪ ،‬أجلسوه في حمام ساخن حتى يتدفق الدم منه‬
‫بسرعة‪ ،‬وحاولت زوجته االنتحار بعده‪ ،‬ولكنهم أنقذوها بأمر نيرون‪.‬‬
‫رواجا عند المسيحيين ُ‬
‫األ َول‪ ،‬وأثرت كتاباته األخالقية على‬ ‫ً‬ ‫ولقي سينيكا‬
‫القديس بولس‪ ،‬ونال حقه من النقد‪ ،‬ونشب عليه هجوم للتناقض الظاهر بين‬
‫‪11‬‬
‫تعاليمه الرواقية في عدم االهتمام بالمظاهر الخارجية ورأيه في تكديس الثروة‪،‬‬
‫وربما لم ينلْ لهذا السبب نفس احترام الرواقي موسونيوس روفوس الذي‬
‫لُقِّب بـ«سقراط الروماني»‪ .‬والشخص الوحيد الذي هاجم سينيكا في حياته هو‬
‫سيلليوس‪ ،‬بسبب تراكم ما يقرب من ‪ 300‬مليون سسترس منذ صعود نيرون‬
‫للسلطة نتيجة الرسوم الباهظة على إيطاليا والواليات األخرى‪ ،‬و ُنفي سيلليوس‬
‫إلى جزيرة بليار الختالسه وتلصصه‪ .‬ويبدو أن سينيكا كان متقش ًفا رغم ثروته‪،‬‬
‫وفي مقاله «عن الحياة السعيدة» ‪ De vita beata‬اتخذ موقف الفيلسوف الغني‬
‫صاحب الثروة التي ُتربح و ُتخسر‪ ،‬وموقفه منها منفصل تما ًما‪ .‬ويحتمل سينيكا في‬
‫تقديرنا تناقضات عدة فرضتها حياته السياسية‪.‬‬

‫مقدمة موجزة عن الرواقية‪:‬‬


‫رواد‬
‫تأثيرا في العالم‪ .‬بدأت بأعمال وتعاليم ثالثة َّ‬
‫الرواقية من أكثر الفلسفات ً‬
‫أساسيين للمدرسة الرواقية اليونانية‪ ،‬وهم‪ :‬زينون الكتيومي (‪335-263‬ق‪.‬م)‪،‬‬
‫وكليانتس (‪331-232‬ق‪ .‬م)‪ ،‬وخريسبوس (‪280-207‬ق‪.‬م)‪ .‬وأصبحت‬
‫حركة فلسفية رائدة في العالم اليوناني الروماني القديم‪ ،‬وشكلت تطور الفكر في‬
‫العصر المسيحي‪ .‬وقد تال الرواقيةَ اليونانية رواقيةُ بانيتوس (‪185-109‬ق‪ .‬م)‪،‬‬
‫جسدا بعض مالمح المذهب الرواقي‪.‬‬
‫وبوزدنيوس (‪135-51‬ق‪ .‬م)‪ ،‬اللذين َّ‬
‫وواصل المفكرون الرومانيون المسيرة‪ ،‬وأصبحت الرواقية معتقدً ا شبه رسمي‬
‫للعالم الروماني في األدب والسياسة‪ .‬وإن لم يتفق شيشرون مع الرواقية في المسائل‬
‫الميتافيزيقية والجمالية‪ ،‬إلاَّ أن مواقفه األخالقية والسياسة خضعت لفكرهم‪ ،‬وحتى‬
‫لو لم يتفق مع الرواقية فقد كان يبذل جهده ليقر باالتفاق معها‪ ،‬كما شكل سينيكا‬
‫وإبكتيتوس رواقية النصف األول من القرن الثاني‪ ،‬وقد كتب موسونيوس روفوس‬
‫واإلمبراطور ماركوس أوريليوس كتابات رواقية تمثل آخر كتابات اليونان‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫إن إسهامات الرواقية الرومانية كانت هائلة عند خريسبوس‪ ،‬فقد ابتدع‬
‫منطق القضايا وفلسفة اللغة‪ ،‬ناهيك عن اإلنجازات غير المسبوقة في علم النفس‬
‫األخالقي‪ ،‬وكذلك التمييز بين عالقة الميتافيزيقا والجمال بالفلسفة األخالقية‬
‫والسياسية‪ .‬ومن المؤسف أن كل أعمال الرواقية اليونانية قد ُفقدت‪ ،‬وعلينا‬
‫أن نتناول فكرهم من خالل فقرات تركها لنا ديوجين اليرتوس في كتابه «حياة‬
‫الفالسفة»‪ ،‬وشيشرون‪ ،‬وسكتوس أمبريكوس في كتاباته الشكية‪ ،‬والتي كان‬
‫الرواقيون هدفها المحوري‪ .‬وأما أعمال المفكرين الرومان فقد ُعدلت لتناسب‬
‫الواقع الروماني‪ ،‬وقد ساهمت في نظرتهم اإلبداعية‪ ،‬وهذا يعني أن معرفتنا‬
‫بالمنطق والفيزياء في الرواقية أقل بكثير من معرفتنا باألخالق عندهم‪ ،‬حيث كان‬
‫جل اهتمام الرومان بالجانب العملي‪.‬‬

‫وتتشابه غاية الفلسفة الرواقية مع المدارس الفلسفية األخرى في العصر‬


‫الهيللينستي‪ ،‬حيث حررت المزيد من أشكال العوز الدنيوي والفشل األخالقي‪،‬‬
‫لذا كانت الرواقية كلية الوجود في مجتمعاتها على خالف المدارس األخرى‬
‫المنافسة لها‪ ،‬ومن ثم شددت على دراسة منظومة ثالثية من المنطق والطبيعة‬
‫واألخالق لفهم العالم وترابطاته‪ ،‬لدرجة أن شيشرون الروماني اعتقد أنه باإلمكان‬
‫التمسك بالحقائق األخالقية الرواقية دون اعتقاد يقيني في عقالنية العالم‪ .‬وهذا‬
‫الموقف مبتدع من شيشرون‪ ،‬على حد تعبير إيمانويل كانط‪.‬‬

‫عقليا‪ ،‬وكل ما يحدث فيه‬


‫ًّ‬ ‫وتنصب الطبيعة الرواقية على أن العالم ُك ٌّل َّ‬
‫منظ ٌم‬
‫يحدث على خير وجه‪ ،‬وإن كان موقف اليبنتز من التجسد قد ظهر في كانديد‬
‫لفولتير وهو يرفض الدين التقليدي التجسيدي‪ ،‬فإن الرواقية وهبت اسم زيوس‬
‫لمبدأ عقالني ُيحيي العالم ككل‪ ،‬واعتبروه دالل ًة على حسن النظام العام للكون‬
‫حتى في األحداث البسيطة أو المؤلمة مثل الزالزل والصواعق‪ ،‬وهذا النظام‬
‫أخالقي مبني على جالل الباطني وقيمة القدرات األخالقية للكل‪ .‬وآمنت الرواقية‬
‫‪13‬‬
‫أن هذا النظام حتمي؛ ألن كل شيء يحدث وف ًقا للضرورة‪ .‬ولكونهم توافقيين‬
‫ً‬
‫أيضا آمنوا بأن حرية إرادة اإلنسان متوافقة مع صحة الحتمية‪ ،‬وقد أدخلهم هذا‬
‫في نقاشات ملتهبة مع األرسطيين الال توافقيين‪ ،‬وهذا ما جعل إسهامهم في مسألة‬
‫مفتوحا للمناظرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫حرية اإلرادة‬

‫ونبعت األخالق الرواقية من فكرة القدرة العقلية الال محدودة في كل إنسان‪،‬‬


‫وفهمت الرواقية الرومانية هذه القدرة على أنها محور عملي وأخالقي‪ ،‬خال ًفا‬
‫ألفالطون الذي لم يفكر في أن َمن لديهم موهبة طبيعية في تعلم الرياضيات أفضل‬
‫ٌ‬
‫عملية‪.‬‬ ‫قيمة‬ ‫ً‬
‫تشككا حتى لو درسوا منط ًقا له ٌ‬ ‫ممن ليس عندهم‪ ،‬ويصبحون أكثر‬ ‫َّ‬
‫ورأى الرواقيون أن كل البشر متساوون من حيث القدرة التي يحتكمون بها على‬
‫قدرة االختيار وتوجيه حياتهم التي قد تصل عند البعض إلى غاية لها قيمة‪ ،‬لذا‬
‫يقولون إن ما يميز اإلنسان عن الحيوان قدرة االختيار والرفض‪ ،‬وقد كرسوا جان ًبا‬
‫لمعالجة سلوك الحيوان خال ًفا لمعظم المدارس القديمة األخرى‪ ،‬ومن َثم رأوا أن‬
‫المعاملة الحسنة والالئقة هي غاية األخالق الوحيدة‪ ،‬فاألطفال على حد قولهم‬
‫يقبلون على العالم مثل حيوانات صغيرة بتوجه طبيعي نحو الحفاظ على الذات‪،‬‬
‫نظرا‬
‫ولكن دون فهم للقيمة الحقة‪ ،‬ومع ذلك يحدث تغير ملحوظ ينشأ عندهم ً‬
‫لطبيعتهم الفطرية ويصبح بإمكانهم تقدير أهمية القدرة على االختيار والمنهج‬
‫وجه هذا االعتراف الناس إلى احترام‬ ‫األخالقي الذي َّ‬
‫شكل العالم برمته‪ ،‬وقد َّ‬
‫الذات واآلخرين بطريقة جديدة‪ .‬وكان الرواقيون جادين في مسألة المساواة؛ فقد‬
‫حثوا على تعليم العبد والمرأة‪ ،‬وقد كان إبكتيتوس ذاته عبدً ا‪.‬‬

‫وقد ربطت الرواقية نظرتها األخالقية بالعواقب السياسية الفعلية‪ ،‬وهي تؤكد‬
‫على المساواة في الحقوق السياسية وإتاحة الفرص االقتصادية المتكافئة‪ ،‬ورغم‬
‫أن األصولية الرواقية أبقت على األهمية القصوى للسياسة‪ ،‬إال أن القيمة األخالقية‬
‫هي الجوهرية فحسب‪ ،‬فالسعي نحو المال والشرف والسلطة والصحة البدنية‬
‫‪14‬‬
‫وحتى حب األصدقاء واألطفال والزوجة يمكن أن يكون معقولاً إن لم ُي ِع ْق ُه شيء‪،‬‬
‫وهو ليس قيمة جوهرية حقة‪ ،‬وقد أطلقوا عليه «تفضيل المحايدات»‪ ،‬وال يتناسب‬
‫مع القيمة األخالقية‪ .‬لذا حين ال يصل المرء إلى ما يتمناه‪ ،‬فمن الخطأ أن يأسى‪.‬‬

‫وهذا هو السياق الذي قدم فيه الرواقيون لمذهب األباثيا ‪ apatheia‬أي التحرر‬
‫من االنفعاالت‪ ،‬وهم يدافعون عن العواطف واالنفعاالت األسمى حيث تنطوي‬
‫على تقدير حسن للخير الظاهر‪ ،‬وهم يرون أن الرواقي الحق ال تحمل جنباته هذه‬
‫االضطرابات الشخصية‪ ،‬وقد أدركوا أن أحداث الصدفة تكمن في سيطرتنا‪ ،‬حيث‬
‫وجدت الرواقية أنه ال ضرورة للحزن والغضب والخوف أو حتى الفرح؛ ألن‬
‫هذه المشاعر تجشؤات عقل يترقب في قلق ورعب أشياء محايدة‪ ،‬ويمكننا أن‬
‫نعيش حياة الفرح الحقة إذا قدرنا كل شيء قدره‪ ،‬والتقدير الحق للشيء يكمن في‬
‫سيطرتنا المطلقة على زمننا‪.‬‬

‫ولم يدرك الرواقيون أن من الصعب التخلي عن الضالالت الثقافية التي‬


‫تأسست على االنفعاالت المرفوضة‪ ،‬وهكذا كانت الحياة الرواقية عملية عالجية‬
‫مستمرة أبدعتها التدريبات العقلية لفطام العقل من مصادراته الفجة‪ .‬وتصف‬
‫أعمالهم عملية العالج‪ ،‬والتي يمكن للقارئ أن يحقق من خاللها الفضيلة الرواقية‪،‬‬
‫وغالبًا ما يشركون القارئ في هذه العملية‪ ،‬فقد وصف أبكتيتوس وماركوس‬
‫أوريليوس عملية التأمل المتكررة‪ ،‬كما وصف سينيكا في مقاله «عن الغضب»‬
‫‪ ،‬ويعرض سينيكا في خطاباته أيضًا دور المعلم الحكيم الذي‬ ‫محاسبة ذاته‬
‫فيم إذا كان هو ذاته‬
‫ُيمكن أن يقوم بها في مثل هذه العملية‪ ،‬ولم يفكر سينيكا َ‬
‫خال ًيا من المصادرات الخاطئة‪ .‬إن الرجل الحكيم بهذا المعنى مثال بعيد‪ ،‬وليس‬
‫واقعا دنيو ًّيا‪ ،‬خاص ًة عند الرواقيين الرومان‪ .‬والعون األكبر في العملية العالجية هو‬
‫ً‬
‫دراسة التشوهات المرعبة التي تعانيها هذه المجتمعات برغبتها في الخير الظاهر‪،‬‬
‫ولو عاين المرء الوجه القبيح للسلطة والشرف أو حتى الحب بما فيه الكفاية‪،‬‬
‫‪15‬‬
‫فربما قد يتوقف المرء عن التقدم نحو الفضيلة الحقة‪ ،‬وهكذا كان سينيكا في مقاله‬
‫«عن الغضب» مثالاً لنوع شائع في الرواقية‪.‬‬

‫ولم يطرح الرواقيون أي تغيير فعلي في توزيع الخيرات الدنيوية كما يفترض‬
‫اعتبارا متكافئًا لتصنيف البشر بسبب اعتقادهم‪ ،‬وهم يعتقدون أن االعتبار‬
‫ً‬ ‫المرء‬
‫المتكافئ ال يستلزم معالجة كل شخص‪ ،‬ولذا حث سينيكا السادة على عدم قهر‬
‫العبيد وعدم استخدامهم كأدوات جنسية؛ فإن عادة العبودية الصمت‪ ،‬وال يوجد‬
‫ما هو أسوأ من الصمت‪ .‬ورأى سينيكا أن الحرية الحقة هي الحرية الباطنية‪ ،‬وأما‬
‫الشكل الخارجي ليس جوهرًا‪ .‬وقد يتشابه سينيكا مع موسونيوس روفوس‪ ،‬حيث‬
‫دعا إلى معاملة المرأة معاملة حسنة‪ ،‬ناهيك عن حصولها على التعليم الرواقي‪.‬‬
‫وتقييد المرأة في النظام القانوني بدور منزلى حيث يتولى الرجل السلطة المصيرية‪،‬‬
‫ولم يتحدث سينيكا عما سيتحقق من فضيلة عن رواقية المرأة في حالة مكوثها في‬
‫جزء من الكرامة‪،‬‬
‫المنزل‪ .‬ويعتقد بعض الرواقيين الرومانيين أن الحرية السياسية ٌ‬
‫ولذلك غاب الدعم للمؤسسات الجمهورية‪ ،‬إال أن االهتمام بالظروف الخارجية‬
‫الذي تتفق عليه الرواقية ال يزال غامضًا‪ ،‬ومن المؤكد أن عمق الحزن عند شيشرون‬
‫وقعا من حزنه على موت ابنته‪.‬‬
‫على فقدان الحرية السياسية كان أشد ً‬
‫وقد ثار جدل هائل حول ما إذا كانت األباثيا الرواقية قد فصلت الناس عن‬
‫السياسة الرديئة أم أنها أعانتها‪ ،‬ومن المؤكد أن الرواقيين كما هو معلوم قد نصحوا‬
‫باعتزال السياسة‪ ،‬واعتقدوا أن الثورة أسوأ من انعدام القانون‪ .‬ويروي بلوتارخ أن‬
‫بروتوس األفالطوني سأل المتأمرين عن اغتيال يوليوس قيصر هل كانوا يقبلون‬
‫المبدأ الرواقي أم يؤمنون بأن انعدام القانون أسوأ من الحرب األهلية؟ إال أن غير‬
‫الرواقيين انحازوا لمجموعة القتلة‪ .‬وانضم في عهد نيرون كثير من الرواقيين‬
‫البارزين ‪-‬بما فيهم لوكان ابن أخ سينيكا‪ -‬إلى الحركات السياسية الجمهورية التي‬
‫سياسيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫تهدف إلى اإلطاحة بنيرون‪ ،‬وفقدوا حياتهم نظير هذا‪ ،‬وانتحروا‬
‫‪16‬‬
‫واعتقد الرواقيون ‪-‬من منظور أخالقي‪ -‬أن الحدود القومية ال عالقة لها‬
‫بالشرف والثروة والجنس والميالد‪ ،‬ورأوا أنهم مواطنون كونيون‪ ،‬وقد ظهر‬
‫اصطالح “مواطن العالم” عند ديوجين الكلبي‪ ،‬وتمسك به الرواقيون‪ ،‬وصار‬
‫جذرا للمواطنة الكونية الحديثة‪ ،‬ولكن ما يطلق عليه مواطنة كونية غير واضح‬
‫ً‬
‫عمل ًّيا‪ .‬واعتقد شيشرون في كتابه «الواجبات» أن فضائلنا اإلنسانية المشتركة‬
‫مقيدة ببعض الحدود الصارمة لدواعي الحرب ونوع السلوك المباح فيها‪ ،‬وهكذا‬
‫صك شيشرون أساس القانون الحديث في الحرب‪ ،‬وأنكر أن تلتزم إنسانيتنا بأي‬
‫واجب في توزيع الخيرات المادية لما وراء حدودنا‪ .‬وقد أثر كتاب الواجبات‬
‫لشيشرون في األجيال التالية في هذا الصدد‪ ،‬وقد بالغ شيشرون في إلقاء اللوم‬
‫على الرواقيين؛ ألننا نعمل بعيدً ا عن معتقداتنا في القانون الدولي خاصة في مجال‬
‫صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫فهما‬
‫الحرب والسالم‪ ،‬وال نفهم بيننا واجباتنا المادية ً‬
‫وقد امتد تأثير الرواقية ليطال التراث الفكري الغربي برمته‪ ،‬ويدين لها‬
‫بد ٍ‬
‫ين ثقيل‪ ،‬ويكفي مثال واحد لمفكر مسيحي استغرق في‬ ‫الفكر المسيحي َ‬
‫الرواقية‪ ،‬وهو كليمنت السكندري‪ .‬وحتى أوغسطين الذي طعن فيما تطرحه‬
‫الرواقية حيث وجد أنه من الطبيعي أن ينطلق من مواقفها‪ .‬ومن الملفت أن‬
‫كثيرا من الفالسفة في طليعة العصر الحديث تحولوا نحو الرواقية‪ ،‬ولم يتجهوا‬
‫ً‬
‫نحو أفالطون وأرسطو‪ ،‬وقد ُبنيت األفكار األخالقية الديكارتية على القوالب‬
‫الرواقية‪ ،‬واستغرق اسبينيوزا في الرواقية في كل واردة عنده‪ ،‬وتأسست‬
‫الغائية عند ليبنتز على الرواقية‪ ،‬ووضع هوجو جروتيوس أفكاره عن القانون‬
‫واألخالقية الدولية على قوالب رواقية‪ ،‬ولجأ آدم سميث إلى الفكر الرواقي‬
‫فحسب ولم يتجه للمدارس الفكرية القديمة األخرى‪ ،‬وبُنيت أفكار روسو عن‬
‫التربية في جوهرها على نماذج رواقية‪ ،‬ووجد كانط إلها ًما في الفكر الرواقي‬
‫عن إجالل اإلنسان والمجتمع العالمي السلمي‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫جلي‪ ،‬فالشعراء والتربويون الرومان كانوا‬
‫ٌّ‬ ‫وتأثير الرواقية في تاريخ األدب‬
‫على بينة من األفكار الرواقية‪ ،‬وأشاروا إليها في غالبية أعمالهم‪ ،‬كما هو واضح‬
‫عند فيرجيل ولوكان‪ .‬ويكشف التراث األدبي األوربي المتأخر عن نفوذ الرواقيين‬
‫في األدب الروماني‪ ،‬ناهيك عن تأثر عصرهم ذاته بأعمال شيشرون وسينيكا‬
‫وماركوس أوريليوس‪.‬‬

‫رواقية سينيكا‬
‫والء ُه للرواقيين في كتاباته بوصفهم‬
‫َ‬ ‫يصف سينيكا نفسه بالرواقي‪ ،‬ويعلن‬
‫«أهلنا»‪ ،‬ويستقل بذاته في عالقته ببعض الرواقيين‪ ،‬في حين أنه يلتزم بأسس‬
‫المذهب الرواقي‪ ،‬ويعيد صياغته بناء على تجربته وقراءته المتبحرة للفالسفة‬
‫اآلخرين‪ ،‬واتبع في هذا منهج التراث الفلسفي الرواقي الذي يجسده بانيتوس‬
‫وبوزدونيوس‪ ،‬اللذان قدما بعض العناصر األفالطونية واألرسطية لتتكيف مع‬
‫رحب‬
‫رواقية المجتمع الروماني‪ .‬ويختلف سينيكا عن سابقيه من الرواقيين؛ ألنه َّ‬
‫بالفلسفة اإلبيقورية باختالفاتها‪.‬‬

‫وركز سينيكا في تطبيق المبادئ األخالقية الرواقية على حياته وحياة اآلخرين‬
‫بالمثل‪ ،‬والتساؤل الذي هيمن على كتاباته الفلسفية هو‪ :‬كيف يعيش المرء حياة‬
‫يضع اإلنسانَ‬
‫خيرة؟ وكان سينيكا يرى أن السعي للفضيلة والسعادة مسعى بطولي ُ‬
‫حول سينيكا‬
‫الناجح فوق بطش االنتهازية وفي مستوى الرب‪ ،‬ولتحقيق هذه الغاية َّ‬
‫الحكيم إلى شخصية ملهمة‪ ،‬بإمكانه تحفز اآلخرين ليتبعوا مثاله بلطف اإلنسانية‬
‫وبهجة الهدوء‪ ،‬ومفتاح فلسفته هو كيف يوفق المحنة اإلنسانية بالعناية اإللهية‪،‬‬
‫وكيف يحرر ذاته من انفعاالت الغضب والحزن‪ ،‬وكيف يواجه الموت‪ ،‬وكيف‬
‫‪18‬‬
‫يحرر ذاته من المشاركة السياسية‪ ،‬وكيف يعيش الفقر ويستخدم الثروة‪ ،‬وكيف يفيد‬
‫اآلخرين‪ ،‬وقد نظر إلى هذه المساعي في سياق أسمى وهو منظور األلوهية العاقلة‬
‫والفاضلة ليحقق نفس الفضيلة في محاوالت البشر‪ .‬وقد ناقش سينيكا في مجال‬
‫خاصا بالصداقة وموقف‬
‫ًّ‬ ‫السياسة العفو عند الحاكم األسمى‪ ،‬وقد أولى اهتما ًما‬
‫العبيد والعالقات اإلنسانية‪ ،‬وهدف إلى استبدال البنية االجتماعية باعتمادها على‬
‫الثروة ببنية أخالقية مقاربة وف ًقا لغاية الحكيم‪.‬‬

‫لقد تخلل كتابات سينيكا قلق ومخاوف شخصية‪ ،‬ورغم أن القارئ المعاصر‬
‫يقرأ عن حياة سينيكا األرستقراطية في عهد كالوديوس ونيرون‪ ،‬وعن ضعف وقوة‬
‫شخصيته‪ ،‬إال أنه يتجاوز في الوقت نفسه اهتمامات سينيكا وعصره‪ .‬وقد يتردد‬
‫بين جمهور المعاصرين أن دعوته للبشر ليتوحدوا؛ هي مطلب لعبيده واهتمامه‬
‫باالنفعال اإلنساني وإصراره على التقوقع في ذاته لتحقيق السعادة‪ ،‬وأن شخصية‬
‫سينيكا أوقعت عديدً ا من القراء في إشكالية‪ ،‬وقد صوره بعض من معاصريه أنه‬
‫منافق وال يمارس ما يعظ به‪ ،‬وأن أعمال سينيكا ‪-‬خاصة تعازيه لبوليببوس وألمه‬
‫هيلفيا ومقاله عن الحياة السعيدة‪ -‬كانت لخدمة مصالح شخصية‪ ،‬ورأى سينيكا في‬
‫خطابه ‪ 84‬أنه بدل تعاليمه التي جمعها كالرحيق في ٍّ‬
‫كل يعكس التركيب المعقد‪.‬‬

‫لقد قسم الرواقيون المنطق إلى‪ :‬الجدل وهو حجة قصيرة‪ ،‬والخطاب وهو‬
‫عرض مستمر‪ .‬وقد تجنبت كتابات سينيكا الجدل والمنطق الصوري عمو ًما‪ ،‬ومع‬
‫ذلك يعرض بين حين وآخر رقائق من المنطق الرواقي بسخرية؛ ألن ما تحمله الدقة‬
‫حسن ما عليه المرء‪ ،‬وينبغي تجنب كل أنواع المراوغات‬
‫عقيم وال ُي ِّ‬
‫ٌ‬ ‫المنطقية تز ُّيدٌ‬
‫سواء أكانت تنطوى على خيط رفيع في الجدل وتقيم فرو ًقا لفظية خفية للغاية‪ ،‬أم‬
‫تتضمن تفسيرات فلسفية عويصة‪ ،‬وحين يعمل سينيكا هكذا‪ ،‬فإنه يجعل القارئ‬
‫متيقنًا من معرفة أن بإمكانه هزيمة منافسه إن أراد‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫وعلمنا ضئيل عن وجهة نظر الرواقيين في الخطاب‪ ،‬ويتضح هذا عند سينيكا‬
‫حيث استخدم طائفة من الطرق البالغية الرومانية إلقناع القراء برسالته الفلسفية‪،‬‬
‫واكتظت كتاباته بأمثلة حية واستعارات جمة وأقوال دالة لها وقع مؤثر‪ ،‬فهو‬
‫يعرف كيف يغير لهجته من الحديث العرضي إلى الموعظة الرصينة واالستنكار‬
‫شعبيا‪ ،‬يلقيه على لسان شخصيات متنوعة‪ ،‬واشتملت عناوين‬
‫ًّ‬ ‫الساخر‪ .‬وكان نصه‬
‫موضوعاته الجمهور والمعارضين االفتراضيين واألصدقاء والرموز التاريخية‪،‬‬
‫وجال في الطريق كصديق حميم وأحيانًا كعدو رجيم‪ ،‬واتبع سينيكا كليانتس‬
‫وحول ِشعره ً‬
‫نثرا‪ ،‬حتى يحث القارئ على تحسين ذاته‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وبالنظر إلى الغايات األخالقية عند سينيكا‪ ،‬ربما يكون من الغرابة أن يكرس‬
‫عملاً مطولاً للتساؤالت الطبيعة في الفيزياء‪ ،‬ويصف العمل برمته كغايات أخالقية‪.‬‬
‫مرارا على أن العقل قد يرتقي إذا تجاوز االهتمامات اإلنسانية الضيقة‬
‫وأصر سينيكا ً‬
‫وعاين العالم بأسره‪ ،‬وأن تأمل العالم الطبيعي تتمة للفعل األخالقي برؤية السياق‬
‫الكامل للفعل اإلنساني‪ ،‬فنحن نرى الرب في مجده الكامل يهب الحياة لإلنسان؛‬
‫ألنه يدبر العالم برمته‪ .‬ونثر سينيكا رسائله األخالقية بعيدً ا عن محاوراته الطبيعية‬
‫المحضة‪ ،‬وأكد على ضرورة أن يواجه اإلنسان األحداث الطبيعية كالموت‬
‫والكوارث الطبيعية بامتنان للرب‪ .‬وهو يحذر من إساءة استخدام اإلنسان للمصادر‬
‫الطبيعية‪ ،‬واالنحطاط الذي يصاحب التقدم‪ .‬ويصوب سينيكا في جل نقاشه عن‬
‫الطبيعة المذهب الرواقي‪ ،‬سواء أكان باإلضافة أم التعديل‪ ،‬وهو يفند تاريخ الجدل‬
‫حول الطبيعة بداية من فلسفة ما قبل سقراط حتى عصره بغية تحسين المذهب‬
‫الرواقي‪.‬‬

‫وكتب سينيكا في الرسالة (‪ )Letters 45.4‬أن الفالسفة السابقين قد اكتشفوا‬


‫األشياء لذاتها‪ ،‬وتركوا لنا بعضها لندرسها؛ ألنهم لم يدركوا ُكنهها‪ .‬وعرض سينيكا‬
‫في نقاشاته عن الكون تعاليمه األخالقية ليوضح رؤيته عن العدالة والتجديد‪ ،‬وكان‬
‫‪20‬‬
‫أساسا للتجديد‪ ،‬ورسم‬
‫ً‬ ‫إسهامه وجهة نظر جديدة‪ ،‬واستخدم االختالفات الرواقية‬
‫صورة للتحديات التي تواجه اإلنسان‪ ،‬وإلى السعادة التي ينتظرها َمن يمارسون‬
‫تمسك بالتفرقة بين‬
‫الفلسفة الحقة‪ .‬واتفق سينيكا مع األصولية الرواقية‪ ،‬حيث َّ‬
‫المنفعة والخير‪ ،‬والحاجة إلى استئصال االنفعاالت‪ ،‬وتفضيل عقالنية المرء‬
‫الحكيم‪ ،‬وتماثل الرب والقدر‪ ،‬وربط ما أضافه لألخالق بحس ِشعري مرهف‬
‫حول هذه االختالفات إلى منطلقات للفعل‪.‬‬

‫ونظر النقاد إلى الحكيم الرواقي على أنه أسمى من إمكانات البشر‪ ،‬وأنه‬
‫متحجر العواطف‪ .‬واعترف سينيكا أن الحكيم أمر نادر الحدوث بل هو كالعنقاء‪،‬‬
‫وقد يظهر كل خمسمائة عام (‪ ،)Letters 42.1‬وليس الحكيم كما يرى سينيكا‬
‫عائ ًقا للتقدم‪ ،‬بل هو الملهم به‪ ،‬ومنح سينيكا الحرية للحكيم من واقع الحياة‪،‬‬
‫مستشهدًا بكاتو األصغر ‪ the younger Cato‬عدو يوليوس قيصر‪ ،‬ولم يكن كاتو‬
‫حكيما على الحقيقة‪ ،‬ويقول سينيكا في مقاله «عن الثبات»‪« :‬لست على يقين إن‬
‫ً‬
‫كان كاتو تجاوزني أو ال»‪ .‬وهو ال يطمس بهذا االختالفات الرواقية‪ ،‬بل يسلط‬
‫الضوء على القوة الباطنة للحكيم بمثال كاتو وأمثلة أخرى من الماضى الروماني‪.‬‬
‫ودمج سينيكا الحكيم الرواقي بالصورة التراثية للبطل الروماني‪ ،‬وهكذا ح َّفز َّ‬
‫قراءه‬
‫الرومانيين لتأدية واجبهم بمحاكاتهم للحكيم‪.‬‬

‫ويحدد سينيكا ثالث مراحل للتقدم األخالقي دون مستوى الحكيم‪ ،‬ويعاينها‬
‫وف ًقا الفتقادنا لالنفعاالت العقلية (‪ .)Letters 75‬واألولى هي حالة تقترب من‬
‫وجود الحكيم‪ ،‬وهو الشخص الذي لم يتيقن بعد أن الوجود بإمكانه مجابهة‬
‫االنفعاالت العقلية وتسمى العواطف أباثيا‪ .‬والثانية وهي المرحلة األدنى من‬
‫المرحلة السابقة‪ ،‬وهو الشخص الذي ينزلق إلى مستوى أدنى في التقدم يتجنب‬
‫ً‬
‫بعضا من االنفعاالت العقلية‪ .‬واألخيرة وهي أدنى المراحل‪ ،‬وهم أناس ال يحصون‬
‫وال يحققون أي تقدم‪ ،‬ولم ْ‬
‫يقل سينيكا في حقهم شيئًا سوى أنه تجنبهم ألنهم‬
‫‪21‬‬
‫ملوثون‪ ،‬وهم مختلفون عن الذين يناضلون‪ ،‬ويذوقون المر في البداية ليصبحوا في‬
‫حالة أفضل؛ إال أنها فترة وجيزة وستنقضي‪ ،‬ويقول سينيكا عنهم‪“ :‬حين ُيحرمون‬
‫األنين واآلهات‪ ،‬س ُيختار منهم ألطف النبرات” (‪ .)Letters 23.4‬وال يزال سينيكا‬
‫يصر على أن هذه الكلمات حقة وغايتها الوصول للحق بقدر الممكن‪ .‬والحكيم‬
‫ٌ‬
‫عرضة للصدمات‪ ،‬وتبدو ردود األفعال آنية مثل االنفعاالت العقلية‪ ،‬ولكن هذه‬
‫االستجابات االضطرارية قد تنجح مباشرة برسوخ الحكم‪ .‬والحكيم ‪-‬عند‬
‫سينيكا‪ -‬ودود مع اآلخرين ومغمور بالبهجة‪ ،‬وال عالقة له بالمتعة الزائلة التي‬
‫يتعاطها اآلخرون من المظاهر‪ .‬ويصور سينيكا التطور األخالقي على أنه نضال‬
‫ٌّ‬
‫شاق أو حملة عسكرية أو مداهمة متصاعدة لمواقع العدو‪ ،‬حيث يتكهن العدو‬
‫شرسا من ضحيته‪ ،‬وربما يستسلم منافسه‪ ،‬وسيظفر إذا قاوم حتى نهاية‬
‫ً‬ ‫هجو ًما‬
‫المعركة‪ ،‬وقد تأتي الكوارث على المناضل من أشخاص آخرين‪ ،‬أو من الظروف‬
‫المحيطة به‪ ،‬ومنها الموت والنفي واالضطهاد والمرض‪ ،‬وقد حفلت حياة سينيكا‬
‫بأمثلة شتى‪ ،‬وذهب سينيكا إلى أن الشدائد وسائل للتقدم األخالقي‪ ،‬وأن الظروف‬
‫تعين َمن يناضلون للوصول إلى التقدم األخالقي‪.‬‬

‫يتغيا التقدم األخالقي ال يجابه الظواهر الخارجية فحسب‪ ،‬بل ينظر‬ ‫و َمن َّ‬
‫ونفسا تسعى إلى‬
‫ً‬ ‫في ذاته‪ .‬ويخبرنا سينيكا ‪-‬من وحي أفالطون‪ -‬أن بداخلنا ر ًّبا‪،‬‬
‫تحرير ذاتها من براثن الجسد‪ .‬ويدعو سينيكا القارئ إلى أن يرتد إلى ذاته الباطنة‬
‫ليتأمل حالة بعينها‪ ،‬ومن ثم يتجه نحو تأمل اإلله‪ ،‬ويجري هذا االنسحاب على‬
‫أيضا‪ .‬ومن األفضل ألاَّ يطول عمل المرء في االشتغال بالسياسة‪.‬‬
‫الحياة الفاعلة ً‬
‫وهكذا ربط سينيكا االنسحاب األخالقي بمحاولة انسحابه من السياسة في األيام‬
‫األخيرة من عمره‪ ،‬وهو يصر على االستمرار في إعانة اآلخرين بتعاليمه الفلسفية‬
‫كأي رواقي آخر‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫تراجيديا سينيكا‪:‬‬
‫كتب سينيكا ثمانية أعمال تراجيدية‪ ،‬وهي‪ :‬أجاممنون‪ ،‬وثيستيس‪ ،‬وأوديبوس‪،‬‬
‫وميديا‪ ،‬وفايدرا‪ ،‬وفوينيساي أي النساء الفينيقيات‪ ،‬وطروادة ‪ Troades‬أي النساء‬
‫الطرواديات‪ ،‬وهيركوليس فورينس ‪ Hercules furens‬أي جنون هرقل‪ .‬وال‬
‫يتبق من فوينيساي سوى‬
‫تشتمل على أوكتافيا الكبرى‪ ،‬وهيروكليس أوتيوس‪ ،‬ولم َّ‬
‫شذرات‪ ،‬وقد ُنظر لهذه الدراما بأوجه شتى عبر القرون‪ ،‬وال يزيد َمن ينقدها على‬
‫أنها مجرد نصوص معيبة للدراما اليونانية القديمة لمسائل قد عالجها سينيكا‪ ،‬ولم‬
‫يكن دوره فيها سوى أنه استخرجها من مخبأ الفلسفة الرواقية الرومانية‪ ،‬وس َّلط‬
‫عليها الضوء‪ ،‬وأسرف في التمثيل البالغي عليها‪ ،‬أو أعاد بناء المسرحيات المفقودة‬
‫لسوفوكليس ومَن تبعه من شعراء أتيكا‪ ،‬وفرضت علينا السمات التي ميزت الدراما‬
‫صوابها وال تستحق االهتمام النقدي اآلن‪ .‬والحقيقة أنَّ دراما سينيكا نصوص ممتدة‬
‫للتراجيديا الرومانية عند ماركوس باكيوفيوس ولوكيوس أكسيوس التي افتقدتها‬
‫األجيال‪ .‬وقد ُترجمت نصوص سينيكا الدرامية إلى اللغة اإلنجليزية عام ‪1581‬م‬
‫كتراجيديات تيني ‪ ،Tenne‬وأثرت على التراجيديين في العصر اإلليزابيثي‪ ،‬ربما‬
‫قد تحول سينيكا إلى كتابة الدراما قبل فترة حكم كاليجوال ‪ 41-37‬ق‪ .‬م‪ ،‬رغم‬
‫أنه ال يمكن تحديد متى بدأ بالضبط‪ ،‬وقد حفظ أجاممنون ‪ Agamemnon‬أول‬
‫إشارة للمسرحيات على حائط في بومبي‪ ،‬ونستنتج منها أنها ُكتبت قبل ثورة بركان‬
‫فيزوف عام ‪ 71‬ق‪ .‬م‪ .‬وال يؤكد التحليل األسلوبي والبنيوى لمسرحيات سينيكا‬
‫هذا‪ ،‬ويبدو أن الباحثين متفقون على أن ثيستس وفونيسيا من األعمال المتأخرة‪،‬‬
‫ونحن نعجز عن تحديد تاريخ الدراما عند سينيكا وعالقته بمقاالته وخطاباته‪،‬‬
‫وشعره قد أرشدت بعض القراء في القرن الخامس‬ ‫رغم أن هناك انطباعات في نثره ِ‬
‫العتبار سينيكا في أعمالهم‪ ،‬ومنهم الكاهن والخطيب سيدونيوس أبولليناريس‬
‫‪ ،Sidonius Apollinaris‬ومن بعده أيراسموس وديدرو‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫إن التشكيك في كتابات سينيكا أمر طبيعي‪ ،‬نتج عن فشل الرواقية كطريقة‬
‫رد هذا الفشل إلى ضعف أتباعها في التحكم في‬
‫للحياة في األعمال الدرامية‪ ،‬و ُي ُّ‬
‫موضوعا‬
‫ً‬ ‫الرغبة واالنفعال‪ ،‬أو صعوبة ممارسة الرواقية ذاتها‪ ،‬أو أن العالم ليس‬
‫للعناية الربانية‪ .‬وأن دراما سينيكا مفتوحة للنقاش وتفترض قراءتها إتاحة‬
‫الفرصة لألسطورة التي تدين موت كاسندرا أو بوليكسينا على يد كليتيمنسترا‬
‫‪ Clytemnestra‬أو أوليسوس‪ ،‬واستفاد سينيكا من هذه الحقيقة التراجيدية ليطرح‬
‫دراميا‬
‫ًّ‬ ‫مفهوم القدر الذي ال يرحم وعدم جدوى مُالحظاته‪ .‬واعتُبرتْ ثيستس عملاً‬
‫في الجمهورية المتأخرة؛ لذا فهي العمل الوحيد الكامل لدينا‪ ،‬حيث نجده فيما‬
‫ُيسمى المنفى‪ ،‬والذي يمتدح حياة العوز ألبنائه‪ ،‬ويذكرهم بأن الشخص الوحيد‬
‫السعيد الذي يعيش بال خوف‪ ،‬هو َمن يشرب في ٍ‬
‫أوان فخارية‪ .‬ولكن حين ُدعي‬
‫إلى العودة إلى قصر أرجوس لتآمر أخيه أتريوس الذي تسبب في نفيه‪ ،‬استجاب‬
‫إلغرائه بالعودة بعد شيء من تردد‪ ،‬وقال البنه‪“ :‬إني أتبعك”‪ ،‬ولكن لم يستسلم‬
‫في اتباعه للحياة المترفة على عكس رفاهية الخير الرواقي‪.‬‬

‫إن ما تبقى بشكل جيد ليس إلاَّ ركام أسطورة‪ ،‬حيث يجلس ثيستس مرتد ًيا ز ًّيا‬
‫ٍ‬
‫وبعض من الخمر المعتق‪ ،‬وتجشأ من شبعه‪،‬‬ ‫ملكيا‪ ،‬ويستمتع بشراب ُيط ِّيب القلب‬
‫ًّ‬
‫وهب فزِعًا حين أبلغه أتريوس أن عشاءه ُصنع من أوصال أبنائه‪ ،‬ولكن هل هنا‬
‫تفسير أخالقي أو رسالة فلسفية؟! وإذا تابعنا وجهة نظر رواقي آخر هو إبكتيتوس‬
‫الذي وصف التراجيديا كما تحدث وهو القائل‪“ :‬حين تحدث الصدفة‪ُ ،‬ي َغشى‬
‫على الحمقى” ‪ .Discourses 2.26.31‬ونخلص إلى أن قصة ثيستس توضح‬
‫واضحا‬
‫ً‬ ‫درسا‬
‫بالضبط استسالم الحمقى لرغبة السلطة‪ ،‬وتبدو معالجة سينيكا ً‬
‫نشوة النصر التي سيطرت على آتريوس في‬ ‫يُق ِّوض به عوامل عدة‪ ،‬وهي‬
‫نهاية الدراما التي هي أصداء ال يمكن إنكارها من الوعظ الرواقي‪ ،‬وثان ًيا هشاشة‬
‫المدنية والقيم الدينية في المشهد الجحيمي الذي ُيضحي فيه أتريوس باألطفال‪،‬‬
‫‪24‬‬
‫وهذا المشهد صورة زائفة للتضحية ذاتها‪ ،‬ويظهر الملقنون لالبتذال الرواقي في‬
‫مسرحيات عدة مثل فايدرا وكليتيمنسترا وميديا‪ ،‬وهم يلقنون العبارة على عكس‬
‫تساوقها مع الفعل‪ ،‬ولعب كريون ‪ Creon‬الدور نفسه في مسرحية أجاممنون‪.‬‬

‫ولدى أنصار سينيكا شكوك أكبر حول قيمة النجاح الدنيوي في دراما ثيستس‪،‬‬
‫السلطة؟ وقال إنه غير واثق بأنه يشعر أن‬
‫حين يسأل أوديب هل متعة اإلنسان في ُّ‬
‫اإلجابة ال‪ ،‬ويقدم أوديب من بداية المسرحية متناقضات ب ِّينة ألسالفه اليونانيين‬
‫الذين أكدوا على اكتشاف ميالد الهوية هنا‪ ،‬حيث يغمر أوديب اإلحساس بالدنس‪،‬‬
‫وفزع الملك حتى من الدراما المفتوحة؛ ألنه لن يستطيع الهروب من نبوءة قتل‬
‫أبيه ظ ًّنا منه أنه مسؤول عن اجتياح الطاعون لمدينة طيبة‪ ،‬حتى أنه تمنى الموت‬
‫جزعا‪ ،‬واختلفت حالته االنفعالية عن شخصيته المحورية في مسرحية‬
‫ً‬ ‫السريع‬
‫سوفكليس‪ .‬إن نص سينيكا هو تقرير مطول لكريون في استحضار شبح آيوس في‬
‫حديقة مظلمة‪ ،‬وهو أمر غاب في عمل سوفكليس‪ ،‬وقد ُأسقط إحساس الشخصية‬
‫التي تتفاعل على خشبة المسرح‪ ،‬ليجعل الشعور في دراما سينيكا محر ًما‪ ،‬ويصبح‬
‫دافعا له‪.‬‬
‫حديث الشخصيات ر ًّدا على العنف‪ ،‬أكثر من كونه ً‬
‫إن تدنيس السماء من منظور اإلنسان يتعارض مع الطبيعة الرواقية‪َ ،‬و ُو ِج َد‬
‫له صدى في مسرح سينيكا‪ ،‬حيث وضع مذهب الرواقية نصب عينيه العالقة بين‬
‫الكون وأجزائه‪ .‬وتواف ًقا مع هذا الرأي‪ ،‬فإن النوما أو الروح الحيوية ُيقابل كل نتائج‬
‫المادة بانسجام كوني لألجزاء مع الكل‪ .‬وكما يقول إبكتيتوس في ‪Discourses‬‬
‫‪“ :1.4.1‬كل األشياء مترابطة ببعضها‪ ،‬وتتأثر أشياء األرض بما هو سماوي”‪،‬‬
‫ولكن ما نراه في الدراما مشهد مريب لهذا االنسجام‪ ،‬وفكرة ضعف المرء أو‬
‫التهوين من شأنه بإمكانها أن تعطل اللوجوس العقالني المنسجم الذي يعكس‬
‫وجهة نظر المذهب عن العالم الذي قد نصل إلى إدراكه بالفهم والعقل‪ ،‬وهكذا‬
‫نرى العالم يرتجف وقانون السماء يضطرب في عبارات مسرحية ميديا‪ ،‬والشمس‬
‫‪25‬‬
‫من جريمة أتريوسفي مسرحية ثيستس‪ ،‬وتختفي أصوات‬ ‫تحجب وجهها‬
‫الجوقة بعد افتضاح نوايا فيدرا الخفية‪ ،‬وبشارة هوريفك التي تنذر بما ّ‬
‫يحل في‬
‫طروادة في مسرحية فيدرا‪ .‬وتختلف مسرحيات سينيكا عن التراجيديا اليونانية‪،‬‬
‫حيث ال دور فيها للمؤسسات المدنية أو حتى تتدخل في هذه العالقة‪ ،‬ومعالجة‬
‫مفهوم األرباب غير المغلوطة فيها‪ .‬ويدعو جيسون القراء لمطالعة مسرحية ميديا‬
‫التي ترى أنه ال يوجد رب في السماوات‪ ،‬والعربة التي كانت تجنح هي دليل على‬
‫العون الرباني‪ ،‬فاألرباب معضلة ال يمكن معالجتها هنا‪.‬‬

‫دائما؛‬
‫إن الشخصيات الرئيسة في ميديا وثيستس مثيرة للقلق ال ألنها تنتصر ً‬
‫ولكن ألن طريقة نصرها تتوافق مع غاية الطموح الرواقي‪ ،‬حيث تتبنى وصاياهم‬
‫موق ًفا بعينه تجاه العالم‪ ،‬وهو التخلي عن الروابط العائلية واالجتماعية ورفضهم‬
‫للنظام األخالقي للعالم من حولهم‪ ،‬ومحاولتهم العيش في أنويتهم باعتبارها‬
‫خاصا ومستقلاًّ‬
‫عالما ًّ‬
‫أفضل صورة للحياة‪ .‬وطغاة سينيكا مثل حكمائه‪ ،‬فهم يبنون ً‬
‫حول ذواتهم ال يمكن اختراقه‪ ،‬وهم ال يستنكرون ذواتهم‪ .‬وهناك انقسام في‬
‫الحوار مع النفس بين الضرورة األولى وهو رغبة النفس‪ ،‬والضرورة الثانية وهو‬
‫اعتبارا الئ ًقا كمبدأ حاكم لهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫الحكم عليها‪ ،‬فهم يختارون‬

‫وهذا يؤدي بدوره إلى طابع بعد مسرحي ‪ metatheatrical‬في عديد من‬
‫المسرحيات‪ ،‬ففي مسرحية ميديا على سبيل المثال تظهر ميديا وهي تنظر إلى‬
‫فصول سابقة في قصتها لتكتشف ما هو مناسب لشخصيتها‪ ،‬وأوديب عندما يغلق‬
‫عينيه يالحظ أن “هذا الوجه يليق به هو” أو كما يقول أتريوس‪“ :‬هذه جريمة‪ ،‬هذا‬
‫الوجه يناسب ثيستس ويناسب أتريوس ً‬
‫أيضا” ‪ ،Thyestes 271‬ويبدو أن طابع‬
‫ما بعد المسرحية يعلو على اهتمام النخب الرومانية التقليدية‪ ،‬حيث إنها تعرض‬
‫أفعالاً مثالية قد ُيجمع عليها الجمهور وهي تتبنى مثالية أخالقية بعينها‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫وقد ناقش الباحثون باستفاضة مسألة أداء مسرحيات سينيكا على المسرح‬
‫قديما‪ ،‬ويرى الباحث األلماني فريدرك ليو في القرن التاسع عشر أن هذه‬
‫ً‬
‫التراجيديات ُكتبت لإلنشاد فحسب‪ ،‬فمن غير المعتاد أو من المحال تجسيد‬
‫التضحية الحيوانية والقتل على المسرح‪ ،‬ويبقى السؤال بال جواب‪ ،‬ولكن سواء‬
‫أكان الجمهور العادي في المسرح أم في مقصورة اإلنشاد‪ ،‬فإنهم يشاركوننا‬
‫معرفة كاملة بكيفية تحول القصة‪ ،‬وتشابه ذواتهم مع الشخصية الرئيسة في الواقع‪،‬‬
‫وإن سعادتنا في مشاهدة دراما سينيكا قد توسع مداركنا حين نالحظ سعادة هذه‬
‫الشخصيات التي تئن من األلم‪ .‬ويقول سينيكا في مسرحية طروادة في سطر شهير‬
‫للرسول الذي يأتي بأخبار عن قاتل أستياناكس ويقص مشهد موت أستياناكس‬
‫ويجسده للمسرح‪“ :‬الجزء األكبر من الحشد المكتظ يمقت الجريمة ويشاهدها”‪،‬‬
‫وهذا التوتر بين هاجس السادية والفزع الذي تعرضه دراما سينيكا يمكننا من‬
‫التعرف على عدم رضى المشاهدين من مسرحيات سينيكا البائسة‪.‬‬

‫دراما سينيكا بعد المرحلة الكالسيكية‪:‬‬


‫تُوِّجت دراما سينيكا مرتين‪ ،‬إحداهما في الفترة اإلليزابثية‪ ،‬واألخرى في‬
‫قديما حتى‬
‫يومنا هذا‪ .‬ورغم أن سينيكا لم يشر إلى تراجيدياته‪ ،‬فقد كانت معروفة ً‬
‫عند بؤثيوس ‪ 524-480‬م الذي وضع عزاءه للفلسفة على غرار قصائد سينيكا‬
‫الغنائية‪ ،‬وقد غابت دراما سينيكا عن األنظار‪ ،‬إلى أن نشر باحث دومنيكي ‪-‬هو‬
‫نيقوال تريفيت‪ -‬طبعة شعبية لها وع َّلق عليها عام ‪1300‬م‪ .‬وعقب عمل نيقوال‬
‫بقرنين ظهرت ترجمات عامية في اللغة اإليطالية والفرنسية واإلسبانية‪ ،‬فقد قلدها‬
‫ألبرتينو موساتو‪1329 -1261‬م في إيطاليا‪ ،‬وكتب على غرارها مأساته إكيرينيس‬
‫‪ Ecerinis‬لتحذير صديقه باديونس من خطر طاغية فيرونا‪ ،‬وترجم جاسبر هيوود‬
‫‪ Jasper Heywood‬الكاهن اليسوعي والشاعر عام ‪1598 -1535‬م ثالث‬
‫‪27‬‬
‫مسرحيات لسينيكا‪ .‬وتال هذه الترجمات عام ‪1581‬م ترجمة توماس نيوتن لدراما‬
‫تين ‪ Tenne‬إلى اللغة اإلنجليزية‪ .‬وال ُتعتبر هذه الدراما مجرد ظل شاحب لسابقتها‬
‫اليونانية‪ ،‬وقد تمسك باتريك وسليوتاتي وسكليجر بأن دراما سينيكا ليست أقل‬
‫شأنًا من الدراما اليونانية‪ ،‬وقد وضع سكليجر سينيكا في بحث له عن ِّ‬
‫الشعر على‬
‫قدم المساواة مع الدراميين اليونان‪ ،‬بل إنه قد يفوق يوربيديس في األناقة واأللمعية‪.‬‬

‫نموذجا للترجمة‬
‫ً‬ ‫وأخذ َّ‬
‫الكتاب المسرحيون في عصر إليزابيث سينيكا‬
‫والمحاكاة‪ ،‬وزعم ت‪ .‬س‪ .‬إليوت أنه “ما من مؤلف أ َّثر بعمق على العقل اإلليزابيثي‬
‫أو صورة التراجيديا في عصر إليزابيث بقدر ما فعل سينيكا”‪ ،‬وهناك إجماع على‬
‫أن إليوت كان مح ًّقا فيما قال‪ .‬ولعل من العجب أن ُيحكم على سينيكا في العصر‬
‫الذي كان ينظر إلى التراجيديا على أنها تمثيل صائب لألنفة والتكبر والطموح‬
‫والفخر والظلم والغضب والحسد والكراهية والخصومة والنهب والخيانة والغدر‬
‫وجميع أنواع الشرور‪.‬‬

‫وقد قرأ كيد ومارلو ومارستون وشكسبير سينيكا في المدرسة‪ ،‬وتبين‬


‫أعمالهم الدرامية تأثير سينيكا فيهم بشكل أو بآخر‪ ،‬فالمتجولون في إلسينور‬
‫في رواية هملت لشكسبير يعبرون عن رأيهم قائلين‪“ :‬ليس سينيكا ثقيلاً وليس‬
‫بلوتوس خفيفًا”‪ ،‬ويبين تيتوس أندرونيكوس في شكسبير التأثير األكبر لسينيكا‬
‫بتوقه لالنتقام واالغتصاب وضرب األعناق والسحل والجنون‪ ،‬وفي ريتشارد‬
‫الثالث وماكبث لشكسبير أمثلة للمتهور والمكتئب والطموح بين أبطال الرواية‬
‫المتعطشين للسلطة‪ ،‬وكما نرى مثل هذا التأثير في دراما توماس كيد التراجيدي‬
‫اإلسباني حيث تتحدث عن هاجس االنتقام عند األشباح من وراء القبور‪.‬‬

‫دائما‪ ،‬ورأى‬
‫ويرتبط محتوى األعمال الدرامية عند سينيكا بالدرس األخالقي ً‬
‫تريفيت في تقديمه لمسرحية ثيستس أنها تعلم الصحيح من األخالق‪ ،‬كما أنها‬
‫‪28‬‬
‫عرض بسيط إلمتاع الجمهور‪ .‬وقد دافع اليسوعي مارتن أنطونيو ديلريو ‪-1551‬‬
‫‪1608‬م‪ ،‬وكذلك موساتو من قبله عن استخدام الدراما الرومانية في التعليم‬
‫توجيها يتزيا بالحكمة‪ ،‬وتراجعت دراما سينيكا بعد‬
‫ً‬ ‫المسيحي حيث إنها تفترض‬
‫منتصف القرن السابع لسوء السمعة‪ .‬وانتهز الشاعر جون درايدن فرصة تقديمه‬
‫لمسرحية أوديب لينتقد سينيكا ونصوص كورنيي قائلاً ‪« :‬إن سينيكا يلهث خلف‬
‫التعبيرات الطنانة والجمل الرمزية والمفاهيم الفلسفية التي تصلح للدرس أكثر‬
‫من المسرح»‪ .‬واستخدم التراجيدي الفرنسي جان راسين ‪1699 -1639‬م سينيكا‬
‫نموذجا في مسرحيته فيدرا‪ ،‬وا َّدعى في الوقت نفسه أن والءه األساسي ليوربيديس‪.‬‬
‫ً‬
‫وليس هذا مستغر ًبا؛ ألن الرومانسيين ال يجدون وقتًا ليحبوا سينيكا‪ ،‬وقد طفح‬
‫االهتمام في اآلونة األخيرة بجوانب األداء واألدب في دراما سينيكا بعد ظهور‬
‫الطبعات الجديدة والدراسات األكاديمية وبعض من العروض المسرحية لها‪،‬‬
‫وتجدر اإلشارة هنا إلى طبعة سارة كين المعدلة لمسرحية فايدرا التي ظهرت في‬
‫نيويورك في مايو ‪1996‬م‪ ،‬وكتاب مايكل إليوت «دراما أوديب بعد الهولوكست»‬
‫بجامعة حيفا في إسرائيل في ‪2005‬م‪ ،‬وإخراج جوان أكاالتيس لمسرحية ثيستس‬
‫على مسرح محكمة شيكاغو ‪2007‬م‪.‬‬

‫وهناك مالحظة على هذه الترجمة‪ ،‬وهي أنها صيغت بشكل يوافق االصطالح‬
‫اإلنجليزي نظيره الالتيني بدقة متناهية ووضوح‪ ،‬وتوازي أسلوب النثر مع‬
‫ِّ‬
‫الشعر‪ .‬والقصد من هذه الترجمة هو وضع بنية لعمل تفسيري‪ ،‬أكثر من كونها‬
‫نقلاً لتفسيرات شخصية‪ ،‬وهي تتجنب االصطالحات التي تنطوي على مضامين‬
‫أخالقية مسيحية ويهودية‪ ،‬وإذ اقتضت الحاجة إلى تفسي ٍر وضعناه في الهامش‪،‬‬
‫توضيحا ألسماء األعالم في األساطير والجغرافيا‪.‬‬
‫ً‬

‫‪29‬‬
30
‫عــن العفـــو‬

‫‪31‬‬
32
‫مقدمة‬
‫األطروحة‬
‫خلف نيرون والده بالتبني كالوديوس ‪ Claudius‬بعد فترة وجيزة في أكتوبر‬
‫‪54‬م‪ ،‬وأشاد به سينيكا وهاجم سلفه الميت بعنف‪ ،‬واتضح هذا في كتاب تأليه‬
‫‪ ،Apocolocyntosis‬وبمرور عام أو عامين قبل أن يبدأ سينيكا‬ ‫كالوديوس(*)‬

‫نؤرخ لها بالتقريب‪ :‬ينقسم كتاب العفو‬


‫في كتاباته التالية الممتدة التي يمكن أن ِّ‬
‫إلى كتابين‪ ،‬بدأت كتابته ما بين ديسمبر ‪55‬م وبين ديسمبر ‪ 56‬م(((‪ ،‬وال نعرف‬
‫حتى لو كانت موجودة‪ ،‬فليس بمقدورنا‬ ‫للكتابة(((‬ ‫المناسبة الدقيقة التي دفعته‬
‫وعممت في زمن سينيكا أم ُحجبت‪ .‬ومن‬
‫معرفة ما إذا كانت الرسالة قد انتهت ُ‬
‫الواضح أنها غير كاملة في بداية الكتاب الثاني‪ ،‬ولكننا نعرف الخطة العامة التي‬
‫تدور في ذهنه‪ ،‬وبمقدورنا أن نرى كيف يركز العمل في الحديث عن الظروف‬
‫السياسية العامة لحكم نيرون المبكر‪.‬‬

‫ُسمى هذا المجلد تأليه كالوديوس اإللهي ‪.The Gourdification of (the Divine) Claudius‬‬
‫(*) ي َّ‬
‫((( حول تاريخ العمل انظر ‪ ،9.1‬تجنبت هنا أن يكون هناك ٌ‬
‫مقال آخر “ ‪On the Brevity of Life‬‬
‫“ قد كتب في عام ‪ 55‬انظر (‪ ،)Griffin 1976, 401–7‬وحول خطة العمل انظر أدناه‪ ،‬وحول‬
‫مكانة الهيللينستية في الخلفية العقلية للكتاب‪ ،‬انظر “«‪ kingship theory‬عند ‪Braund 2009,‬‬
‫‪.24–30‬‬
‫((( يروي سينيكا الحكاية في ‪ ،2-2.1‬يبدو كأنه خيال مناسب‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫عبر عنه أحيا ًنا‪ ،‬ولكنه مفهوم على الدوام بالشرور الرئيسة‬
‫وبداية هناك تباين ُي َّ‬
‫لعهد كالوديوس‪ :‬حيث قسوته وشذوذه في المسائل القضائية (((‪ .‬وقد وضع سينيكا‬
‫في خطاب تقلد نيرون للمنصب أمام مجلس السوناتو ً‬
‫نقاطا يرفض فيها نيرون‬
‫«الممارسات األخيرة التي أشعلت نيران السخط»‪ ،‬وخصها بعادات كالوديوس‬
‫القضائية‪ ،‬وأعاد سينيكا إلى السوناتو رجلاً ُنفي التهامه بالزنىا باإلمبراطورة‬
‫ميسالينا ‪ Messalina‬إلظهار رحابة صدره “قدم ضمانة رصينة لعفوه في خطبه‬
‫المتكررة‪ ،‬حيث كان سينيكا صوت اإلمبراطور الذي يصدح”(((‪ ،‬وأسهم كتاب‬
‫العفو بوضوح في محاولة ‘وسم’ نيرون بأنه نمط مختلف لإلمبراطور‪ .‬ويمكن‬
‫لالدعاءات الكبيرة التي قدمها سينيكا لطهارة نيرون – «غير المعيوبة والتي لم‬
‫تسفك دم مواطن» (‪ )5.1.1 ،2.11.1‬أن تعين في مواجهة الشائعات مهما‬
‫كانت‪ ،‬وهي أن هذا العهد لم يختلف عن الحقب السالفة إطالقًا؛ ألن بريتانيكوس‬
‫‪55‬م االبن الشرعي لكالوديوس والمنافس لسلطان نيرون مات بشكل غير متوقع‪،‬‬
‫ومن المرجح أنه ُسمم بأمر نيرون(((‪.‬‬

‫ويقدم كتاب العفو بعبارات عامة محاولة لتوجيه نيرون ويعلل له التفكير‬
‫في طبيعة قوته‪ ،‬ومجمل المحاولة تقريظ ُيلقي بظالله عليه‪ ،‬ويبدو هذا التقريظ‬
‫موضوعيا يجمع المواعظ األخالقية أحيا ًنا أخرى‪ ،‬حيث‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫بسيطا أحيا ًنا‪ ،‬ووص ًفا‬
‫قصد سينيكا حث نيرون على الفضيلة واإلشادة به كما لو كان فاضلاً بالفعل‪،‬‬
‫وقد استعمل هذا المنهج في الخطاب السياسي الروماني من قبل‪ ،‬خاصة في‬
‫خطابات ‪ orations‬التي ألقاها شيشرون أمام يوليوس قيصر في أواخر ‪46‬‬
‫و‪45‬ق‪.‬م‪ ،‬عندما كان قيصر هو القاضي األسمى األوحد (ديكتاتور)‪ :‬وعندما دافع‬

‫‪(3) See 1.1.4, 10.3, 23.2nn.‬‬


‫‪(4) Accession speech: Tacitus Annals 13.4.2 (Seneca’s authorship: Cassius Dio 61.3.1).‬‬
‫‪Pardon: Tacitus Annals 13.11.2.‬‬
‫‪(5) Suetonius Nero 33.2–3, Tacitus Annals 13.15–17, Cassius Dio 61.7.4.‬‬

‫‪34‬‬
‫عن الرجال الذين ُيحاكمون أمام قيصر (‪On Behalf of Ligarius, On Behalf‬‬
‫‪ ،)of King Deiotarus‬واستعمل شيشرون الثناء –بما في ذلك الثناء على عفو‬
‫قيصر‪ -‬ال سيما عندما شكر قيصر الستعادة عدو سابق من المنفى (‪On Behalf‬‬
‫‪ )of Marcellus‬ليوضح الدور المدني المناسب الذي يأمل أن يؤديه الديكتاتور‪.‬‬
‫واستعمل بليني األصغر ‪- the younger Pliny‬بعد جيلين من سينيكا‪ -‬المنهج‬
‫نفسه عندما شكر اإلمبراطور على منحه لقب قنصل لمنطقة تراجان ‪ ،Trajan‬وهو‬
‫المثال المفصل لهذا النوع من روما القديمة‪ ،‬وال يزال المجاز الذي تبناه سينيكا في‬
‫مفتتح خطابه لنيرون – حين يتحدث عن رغبته “أخدمك كمرآة لك لترى نفسك”‬
‫(‪ )1.1.1‬يتردد صداه في العصور الوسطى وعصر النهضة في التسمية التي‬
‫أطلقت على هذا النوع –“مرآة األمراء”‪ -‬حيث يعتبر كتاب األمير لميكافيللى‬
‫أفضل مثال مشهور لها(((‪.‬‬

‫يشرح سينيكا خطته للعمل في مفتتح الكتاب األول (‪ ،)1.3.1‬فالجزء‬


‫األول يركز على اللين‪ ،‬والجزء الثاني يفسر طبيعة العفو وصفته؛ ألن هناك رذائل‬
‫بعينها تحاكى الفضائل‪ ،‬وهي ال تستقر على وجه بعينه إذا لم تحصل أنت على‬
‫انطباع واضح لدالالتها المميزة‪ .‬والجزء الثالث يتساءل كيف يمكن جلب العقل‬
‫لهذه الفضيلة وتقويتها‪ ،‬وامتالكها بالتدريب‪.‬‬

‫وال تتماشى األطروحة التي نقرؤها اآلن مع هذه الخطة؛ ألن الجزء الثالث‬
‫مفقود تمامًا‪ ،‬إما بسبب التلف الذي تسبب فيه نقل العمل‪ ،‬وإما أن سينيكا قرر أن‬
‫يتخلى عن المشروع(((‪ ،‬ومن ثم ال تفسر الخطة أن سينيكا ينوي أن يلقي المشروع‬

‫‪(6) On the reflections of and on the principate in Seneca’s writings, see esp. Griffin 1976,‬‬
‫‪202–21.‬‬
‫((( إذا تخلى سينيكا عن ذلك ألي سبب‪ ،‬فمن المفترض أنه لم ُيعمم إن لم يوجد بين أوراقه بعد موته‪،‬‬
‫وكمسألة ثانوية إننا ال نعلم ما إذا كان العمل الكامل سوف يتألف من ثالثة كتب مثل كتاب «عن‬
‫الغضب»‪ ،‬أم أن القسم الثالث المفقود سوف يزن الكتاب الثاني‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫بالقالب نفسه المستخدم في كتابه «عن الغضب»‪ ،‬مع التعديالت التي ُأجريت‬
‫ألجل االختالفات بين مداهمة الرذيلة والترويج للفضيلة – وألجل االختالفات‬
‫الموجهة ألقرانه في كتاب الغضب والموجهة ألميره في العفو‪.‬‬

‫ويفتتح كال الكتابين بخطاب بالغي بديع‪ ،‬وهي معالجات أولية لموضوعاتها‪:‬‬
‫حيث ينبه في كتاب الغضب الكتاب األول على أن استئصال الغضب مرغوب‬
‫فيه وممكن‪ ،‬وينبه كذلك في كتاب العفو على أن العفو صواب ونفع للبشر على‬
‫العموم ولكنه لألمير قبلهم‪ .‬وقبل االحتفاء بخيرية نيرون ومزايا عفوه (‪)2.1‬‬
‫يرسم خطته كما في الفقرة المقتبسة أعاله (‪ ،)1.3‬ويحدد سينيكا الجزء األطول‬
‫لكتابه (‪ )9-19 -2.3‬بتمجيد العفو – كفضيلة «مناسبة للملك أو األمير» تخدم‬
‫أمن كليهما وتوجههما (‪ -)9-5.19 ،6.8 -2.3‬ويوضع داخل اإلطار سلسلة‬
‫من االعتبارات اإلضافية‪:‬‬

‫السلوك المثالى ألغسطوس (‪.)3.11-1.9‬‬

‫حجج منطقية تتحدث عن أمن األمير (‪.)5.13-4.11‬‬

‫دور األمير كأب صالح (‪.)5.15 -1.14‬‬

‫دروس مستفادة من سلوك الحيوانات (‪.)4.19-1.16‬‬

‫ويطوق سينيكا الكتاب بتحليل األهداف المالئمة للعقاب (‪ ،)25-24‬وهو‬


‫موضع يتعلق بالمخاطب (انظر قسم ‪ 3‬أدناه)‪ ،‬ويذكرنا في الوقت نفسه بكتاب‬
‫الغضب (انظر ‪ -)16-15.1‬وبتقديم صورة مرعبة للقسوة‪ -‬تعكس العفو‪-‬‬
‫كعدو للسعادة (‪.((()25-26‬‬

‫ويتحول سينيكا بعد هذه المقدمة واسعة النطاق للقضايا األساسية والثانوية‪،‬‬

‫((( ُكشفت عالقات هيكلية مفصلة في الكتاب األول انظر ‪.Mortureux 1973, 69‬‬

‫‪36‬‬
‫والثناء الموجز على نيرون في بداية الكتاب الثاني (‪ )2-1‬إلى مقاربة دقيقة من‬
‫الناحية الفلسفية – والتوازى بينها وبين كتاب الغضب واضح‪ ،‬فكما بدا في كتاب‬
‫الغضب الثاني بوصف دقيق لطبيعة وآلية الغضب وتمييزه عن ‘البهيمية’ (‪-1.2‬‬
‫‪ ،)5‬كذلك يصف سينيكا مفهوم العفو ذاته (‪ )3‬ويثبت أن نقيضه الحق ليست‬
‫الصرامة ‪ severitas‬بل القسوة ‪ ،)3-1.4( crudelitas‬ويميز بين اتجاهين يمكن‬
‫الخلط بينهما‪ :‬الشفقة ‪ )4.6-4.4( misericordia‬وهي مدانة‪ -‬ألنها عاطفة‪-‬‬
‫ألنها تسن نتائج ال عقالنية للتقييم الخاطئ‪ ،‬والمغفرة ‪ )7( ignoscere‬وهي مدانة‬
‫ألنها – “صفح عن عقاب مستحق”‪ -‬وتسن الظلم حيث تمنح المرء أقل مما‬
‫(((‬
‫يستحق ‪ ،‬ولم ْ‬
‫يقم بعد هذا التمييز بين العفو والمغفرة مقارنة (إن كان النص‬
‫كاملاً )‪ ،‬وال يمكننا أن نعرف بوضوح إلى متى استمر سينيكا في هذا القالب‪،‬‬
‫ولكننا نعرف أنه انتقل بها ليقدم نصيحة عملية في تحقيق وتعزيز السلوك الفاضل‬
‫للعفو وف ًقا للخطة المذكورة (‪ )1.3.1‬والتوازي مع كتاب الغضب واضح هنا‬
‫ً‬
‫أيضا في الجزء األخير وهو الجزء ‘العالجي’ في هذا العمل (‪،)43.3-2.18‬‬
‫والذي ُك ِّرس للنصيحة العملية في تحاشى أو تعديل رذيلة الغضب‪.‬‬

‫ولمعرفة المزيد عن النص وموازنة هذه المقدمة‪ ،‬يمكننا أن ندرس بمزيد من‬
‫التفصيل جانبين رئيسين عند سينيكا‪ ،‬األول طبيعة العفو الذي ينبه إليها‪ ،‬والثاني‬
‫مكانة الرجل الذي ينبهه‪ -‬الفضيلة واألمير‪.‬‬

‫((( يمكن أن ُيقاس الفارق بين الوفرة الخطابية للكتاب األول والدقة الفلسفية في الكتاب الثاني بحقيقة‬
‫أن العفو في الكتاب األول يقارن بالشفقة (‪ )1.1.4‬والمغفرة (‪)4 ،10،1 ،9.6 ،1.2.2‬‬
‫والرذائل الفعلية التي تمايزت في الكتاب الثاني‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫الفضيلة‬
‫جاء سينيكا بشيء جديد للغاية في محاولة تفسير العفو ‪ clementia‬والحث‬
‫على غرسه(‪ ،((1‬وقد وضعت المناقشات الالتينية السابقة الفضائل في االعتبار‬
‫واصف ًة إياها على أنها نوع من ضبط النفس ‪ temperantia‬أو وصفها مع “استعداد‬
‫يختر أحد‬
‫ْ‬ ‫لترضيتها ‪ ”placabilitas‬بدافع “حماسي كبير”(‪ ،((1‬ولكن لم‬
‫الرومانيون أن يكتب كتا ًبا مطولاً عن العفو وال أحد اليونانيين كذلك؛ ألنه ال‬
‫ٍ‬
‫معان‬ ‫توجد كلمة يونانية أو مفهوم يتطابق تما ًما مع كلمة العفو الالتينية‪ .‬وهناك‬
‫يونانية تقاربت مع الفكرة نفسها وتدل بقدر ما على بعض الصفات التي تحتويها‬
‫كلمة العفو‪ .‬ومن بين هذه الكلمات الرئيسة ‘الحلم ‪ -’epieikeia‬استعداد ضبط‬
‫النفس خاصة في مواجهة الخطأ أو اإلثارة‪ -‬وكلمة ‘اللطف ‪ ’praötês‬وكلمة‬
‫معا فإنها‬
‫‘العاطفة لجنس البشر ‪ .’philanthrôpia‬ولو أخذنا كل هذه الكلمات ً‬
‫جزئيا صفة حاسمة للعقل جوهرية لتصور الفضيلة‬
‫ًّ‬ ‫ال تقابل العفو؛ ألنها ال تستلزم‬
‫عند سينيكا كما سنرى‪.‬‬

‫ويمكننا أن نبدأ مقاربة هذا التصور بالنظر أولاً إلى التعريفات التي يقدمها‬
‫سينيكا في بداية الكتاب الثاني (‪ :)2-1.2.3‬إن العفو هو‪:‬‬

‫‪(10) 10. Griffin 2003 is the best brief overview. Also important and accessible are Griffin‬‬
‫‪1976, 133–71, and 2000, 535–45; Inwood 2005, 201–23; Konstan 2005; and Dowling‬‬
‫‪2006, all with references to earlier discussions.‬‬
‫‪(11) See, respectively, Cicero On Invention 2.164 and On Appropriate Actions 1.88. On‬‬
‫‪“great-spiritedness” (magnitudo animi), see On Anger 1.20.1n.‬‬

‫‪38‬‬
‫«اعتدال العقل ‪ ”temperantia‬عندما يكون له القدرة على االنتقام‪ ،‬أو “لطف‬
‫‪ lenitas‬األسمى نحو األدنى في إقرار العقاب”‪ ،‬ومن اآلمن تقديم تعريفات عدة‬
‫خشية أن ُي َق ِّص َر التعريف األوحد في تغطية المسألة وبالتالي يمكن أن نعرفه‪.‬‬

‫“ميل العقل نحو اللطف في فرض العقاب”‪ .‬والتعريف التالي ال يغطي كل‬
‫حالة‪ ،‬لكنه يقترب من الحقيقة بدقة‪ :‬وهو أن العفو هو‪:‬‬

‫«االعتدال ‪ moderatio‬الذي يقلل الفعل والعقاب المستحق إلى حدٍّ ما»‪.‬‬

‫شكليا في ميزتين نتوقع وجودهما في تعريف‬


‫ًّ‬ ‫وتشترك التعريفات األربعة‬
‫الفضيلة‪ ،‬وال تقل في تعريف الرواقية‪ :‬فجميعها اختارت صفة بعينها للعقل –‬
‫االعتدال أو (الميل إلى) اللطف‪ -‬وأقامت كلها صفة العقل في العالقة بنوع‬
‫للفعل بعينه ‪ -‬وهي العقاب‪ ،‬في حالة التعريفات الثالثة األخيرة أو الفعل المحدد‬
‫بقليل االنتقام‪ ،‬وفي حالة التعريف األول يخشى سينيكا من تقديم تعريف ال يفي‬
‫بالغرض؛ ألن التعريفات التي أعطاها ال تعبر بشكل ٍ‬
‫كاف عن صفة مرتبطة بالعقل‬
‫يشير إليها سينيكا في مناقشته برمتها‪.‬‬

‫وإذا وضعنا كل مالحظات سينيكا في االعتبار‪ ،‬فيمكن أن نلخصها بالقول‪:‬‬


‫وروحا متقدة‪ ،‬يولد لهدوء وصفاء‬
‫ً‬ ‫وإنسانيا‬
‫ًّ‬ ‫(أ) إن العفو يستلزم تصر ًفا لطي ًفا‬
‫عقلي‪( .‬ب) ويميل الناس بهذا التصرف إلى أن يجازوا األخطاء بعدل وباعتدال‬
‫استجاباتهم المرتبطة بما تستحقه بدقة‪ ،‬ويمكننا أن نوضح شيئًا من أن صفات‬
‫«لطيف وإنساني وروح متقدة» التي تستدعي الفضائل اليونانية المذكورة أعاله‬
‫تلتقط عناصر أساسية لخطاب سينيكا‪ :‬حيث تتكرر اإلشارة إلى ‘روح متقدة’‬
‫و‘لطيفة’ باستمرار‪ ،‬في حين أن كلمة ‘إنسانية’ جزء من الرسالة الرواقية «لتكون‬
‫وناظرا لمصالح الناس جميعهم على المستوى الفردي والجمعي»‬
‫ً‬ ‫نافعا ومعينًا‬
‫ً‬
‫(‪)2.5.3‬؛ «ألننا ولدنا لعون رفقائنا ولنضيف إلى الخير العام‪ ،‬الذي نمنح منه‬
‫‪39‬‬
‫نصي ًبا لكل شخص» (‪ ((1()3.6.2‬ويعكس حال ‘بشكل عادل ‪ ’fairly‬اهتمام‬
‫سينيكا المتكرر بـ‘اإلنصاف’ (مثال ‪ ،)1.18-2.7.1‬وفي حين أن الحد من‬
‫فكرة استجابة المرء فإنه يتعلق بما يمكن أن يستحق جلب العفو بفضيلة أخرى‬
‫يقرنها سينيكا بالصرامة ‪ :severitas‬حيث تختار الصرامة أقسى استجابة يتلقاها‬
‫وجيها في أي حالة‬
‫ً‬ ‫نظرا إلى نوع الخطأ الذي ارتكب‪ ،‬ويجد العفو سب ًبا‬
‫الخطأ ً‬
‫بعينها لتخفيف تلك االستجابة لصالح اإلنصاف(‪ ،((1‬والسبب الوجيه هو المفتاح‬
‫بالطبع‪ :‬إنه يوضح لماذا يكون العفو فضيلة والشفقة ضع ًفا ورذيلة(‪ ،((1‬ويشير إلى‬
‫لماذا’الهدوء والصفاء العقلي’ هما أهم عناصر الملخص أعاله‪ ،‬لسببين‪ :‬األول‬
‫هو أن جملة سينيكا «الهدوء والصفاء العقلي» تمجد إصراره المتكرر على لزومية‬
‫الهدوء والصفاء في مقابل االضطراب والغموض (على سبيل المثال ‪،1.5.5‬‬
‫‪ ،)2.6.1 ،13.4 ،2.7‬والثاني ‪-‬وهو األهم‪ -‬وهو أن يبسط الصفاء العقلي ما‬
‫يجعل كل شيء ممكنًا –اللطف واإلنسانية والروح المتقدة واالهتمام باالعتدال‬
‫واإلنصاف والبحث عن األسباب الوجيهة‪ -‬ألننا ندرك بها الطبيعة الحقة لألشياء‬
‫ونحدد قيمتها الصواب‪ .‬والحقيقة أن «صفاء العقل» من شأنه أن ُيرسي بالضرورة‬
‫التعريف الرواقي للفضيلة‪.‬‬

‫ويمكن الحكم على ملخصنا من الحكاية التي يرويها سينيكا في الكتاب‬


‫األول (‪:)7–1.15.2‬‬

‫‪(12) Great-spiritedness: 1.20.3, 2.1.1, cf. 2.5.4. Mildness and gentleness: 1.8.6, 9.1, 11.1,‬‬
‫‪13.4, 16.1, 22.3, 24.1, 2.1.1, 2.1, 5.1. Humaneness: see also 1.1.3, 3.2, 11.2, 13.4,‬‬
‫‪and on the doctrine of “appropriation” that underlies this quality and Stoic social‬‬
‫‪thought more generally, 1.13.4n., On Anger 2.31.7n.‬‬
‫‪(13) For strictness and clemency, cf. 1.1.4 and esp. 2.4, with the anecdote of Tarius’s son‬‬
‫‪discussed below and Griffin 2003, 174.‬‬
‫(‪ ((1‬تنظر الشفقة في الحالة التي يكون فيها المرء وليس علتها‪ ،‬ويتفق العفو مع العقل ‪. Cf. 2.5.1‬‬

‫‪40‬‬
‫«وعندما اكتشف تاريوس أن ابنه ُيخطط لقتله وأدانه في المحكمة واحتجز‬
‫في منزله‪ ،‬رضي الجميع بحكم النفي على الشاب – و ُنفي هذا ُ‬
‫المدلل في ماسيليا‬
‫وقدم له األب اإلجازة السنوية نفسها التي اعتيد أن يقدمها له قبل وصمه بالعار‪،‬‬
‫ٍ‬
‫امرئ في روما – حيث ال يفتقر األوغاد‬ ‫وبسبب هذه اإليماءة السخية‪ ،‬اعتقد كل‬
‫إلى محا ٍم‪ -‬أن الشاب قد ُأدين بالفعل ورأوا أن األب عاجز عن كرهه أو إدانته‪...‬‬
‫وعندما كان تاريوس ذاه ًبا إلى مجرى المحكمة‪ ،‬طلب من القيصر أوغسطوس‬
‫الجلوس في مجلسه االستشاري‪ ،‬وجاء أوغسطوس إلى منزله الخاص وجلس‬
‫بجوار تاريوس كمستشار – لم يقل « ال‪ ،‬ال تدعه يأتي إلى بيتي»؛ ألن في هذه‬
‫الحالة ستكون المحاكمة للقيصر وليس لألب‪ .‬وعندما استُمع إلى القضية‬
‫و ُفحصت األدلة بدقة – تلك األمور التي أثارها الشاب وتلك التي تدينه‪ -‬طالب‬
‫أوغسطوس كل رجل بتدوين حكمه خشية أن ُيطلق الجميع حكم قيصر على‬
‫نفسه‪ ،‬وقبل أن ُتفتح األلواح‪ ،‬أقسم اليمين بأنه ال ينوي قبول ميراث تاريوس الذي‬
‫كان ثر ًّيا‪ .‬سيقول ٌ‬
‫امرؤ ما‪« :‬هذا أمر تافه‪ ،‬وال يستحق أن تفسح له غرفة بالتصويت‬
‫إلدانة االبن»‪ ،‬وأعتقد أنه على العكس من ذلك تما ًما‪ :‬كان ينبغي ألي أحد من‬
‫لتحمل الكالم الخبيث‪ ،‬ولكن‬
‫ُّ‬ ‫قومنا أن يكون عنده ثقة كافية في ضميره الحي‬
‫يجب على األمراء أن يقدموا تنازالت كثيرة حتى للنميمة‪ ،‬فهو أقسم بأنه لن يقبل‬
‫الميراث‪ .‬والحقيقة أن تاريوس َف َق َد في اليوم نفسه اثنين من ورثته‪ ،‬ولكن قيصر‬
‫أ ّمن حريته في الحكم‪ ،‬وبعد أن أكد أن صرامته لم تكن محل اهتمام بذاته – أمر‬
‫تقديرا لألب‪ .‬لم ينتبه لعبء‬
‫ً‬ ‫قائم عند األمراء‪ -‬قال إنه ينبغي إبعاد االبن من المكان‬
‫الحكم الذي أقامه بل للرجل الذي نصحه‪ ،‬ولم ُيحتم السلب وال الثعابين وال‬
‫زنزانة السجن بل خطط ليرضي األب بعقوبة خفيفة على االبن الشاب الذي اقتيد‬
‫إلى جريمة اعترف بها على نفسه بسلوكه المخجل وهو على مقربة خطوة واحدة‬
‫من البراءة‪ :‬وأبعد عن المدينة وعن وجه أبيه»‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫نموذجا لألمير الصالح‪ ..‬ليقارن باألب‬
‫ً‬ ‫وكما يقول سينيكا‪« :‬الواقعة نفسها تقدم‬
‫الصالح» (‪ ،)1.15.3‬والمدرك لوضع أغسطوس كأمير صالح يرعى المجلس‬
‫معا كأميرين‬
‫االستشاري لتاريوس من عاتق مثقلة به سلطته‪ ،‬وأغسطوس وتاريوس ً‬
‫صالحين وأبوين كذلك يتفقان في الحكم بأنهما نموذج للعفو‪ ،‬ويجب على الرجلين‬
‫أن يدركا اللطف واإلنسانية والروح المتقدة الصافية للعقل غير الملبدة باالنفعاالت‬
‫– الغضب والكراهية‪ -‬التي ربما قد تثيرها محاولة قتل األبرياء بالحكم الخاطئ‬
‫الذي تقود إليه االنفعاالت‪ ،‬وبالقدر نفسه من الوضوح تمثل العقوبة التي يتفقون‬
‫عليها بعض االعتدال في االستجابة المتعلقة بما قد يستحقه بصرامة‪ :‬وفي حالة قتل‬
‫األبرياء فإن العقوبة المقبولة بعدالة صارمة صورة بشعة لإلعدام(‪ .((1‬ونهاية‪ ،‬يجب‬
‫أن تكون نتيجة الحكم عادلة لسبب مقبول يمكن إقراره بشفافية‪ :‬فالشاب الذي كان‬
‫بال لوم «كان على بعد خطوة واحدة من البراءة»‪ ،‬والحظ أن العفو في هذه الحالة‬
‫«يقلل الفعل و العقاب المستحق لدرجة ما» (‪ ،2.3.2‬وراجع ‪ )2.6.3‬وتؤدي‬
‫عفوا‪ -‬ليس أنه‬
‫إلى “عقاب ألطف”‪ ،‬ولكن ما هو ضروري للحكم –ما يجعله ً‬
‫ألطف بل أنه حصل درجة حقة من التخفيف‪ ،‬وتقدم مجموعة متباينة من الحقائق‬
‫–مثل االبن الذي لم يكن بريئًا‪ -‬وسوف يقضي الشخص العفو بدرجة مختلفة من‬
‫التخفيف‪ -‬ربما النفي في مكان أقل جاذبية أو بإباحة غير سخية‪ .‬وقدرة العفو الحقة‬
‫لقياس النتجة بعقالنية بهذه الطريقة هو ما يسمح لسينيكا بأن ُيدعى “العفو ممارسة‬
‫حرة للحكم‪ :‬حيث يجعل الحكم قراراته ليست وف ًقا لصيغة محددة‪ ،‬بل وف ًقا لما‬
‫هو عادل وصالح‪ ...‬وليس كما لو كان الفعل دون ما هو عدل‪ ،‬بل كما لو كان القرار‬
‫الذي وصل إليه الحكم أكثر عدل”(‪.((1‬‬

‫‪(15) See On Anger 1.16.5n.‬‬


‫(‪ ((1‬قيل كل هذا في النص ‪ ،2.7.3‬يجب أن نعترف أن اعتبار سينيكا ناقص في أحد الجوانب الهامة‬
‫على األقل‪ :‬مع أن الحكيم بحكم تعريفه يعرف كيفية قياس درجة العفو تما ًما في حالة بعينها‪ ،‬إال‬
‫أن بقيتنا في حاجة ليتعلم المبادئ الواجب تطبيقها‪ ،‬وعلى أي حال النص الموجود ال يغفل هذه‬
‫التعاليم (‪).cf. 2.6.3n‬‬

‫‪42‬‬
‫وتوضح حكاية حكم تاريوس أن صفاء العقل ينتج األحكام الجوهرية للعفو‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ويماثل صفاء العقل الذي يتحاشى األحكام الجوهرية ‘لالنفعاالت’(‪((1‬؛ فالعقل‬
‫الذي يعفو ال يعرف الغضب مطل ًقا‪ ،‬وليس بسبب العقل الرواقي الصوري – العفو‬
‫فضيلة والغضب رذيلة‪ -‬ال يتعايشون في العقل ذاته؛ بل ألن العقل الذي يعفو ال‬
‫يفلت من العقل إلى األخطاء التي تجعل الغضب ممكنًا(‪ ،((1‬وهذا الربط بين‬
‫العفو وتجنب الخطأ يتماس مع أمر آخر مهم‪ -‬غال ًبا ما يغفل عنه المرء والحقيقة‬
‫أنه يخفيه‪ ،‬عندما يقال إن العفو صفة بنيوية في جوهرها تظهر من خالل األسمى‬
‫المعطي والمتلقي‬
‫تجاه األدنى‪ .‬وصحيح أن أحد تعريفات سينيكا تتضمن شرط أن ُ‬
‫للعفو هما حاالت متباينة(‪ .((1‬ويصح هذا في الممارسة ويختلف في الحاالت‬
‫األغلب أو حتى توجد بين قاضي الحكم والمذنب أو بين الغازي والمغزو‪ .‬وعلينا‬
‫التأكد من أن مثل هذه االختالفات مشروطة الظروف وليس جوهرية للفضيلة‬
‫ذاتها‪ ،‬وهي كفضيلة – تعني أنها فعل لعقل إنساني يصدر األحكام بالطريقة التي‬
‫تقصدها الطبيعة‪ -‬فالعفو يجب أن يكون مناس ًبا لكل البشر بما هو‪ ،‬والحقيقة‬
‫من الصعوبة أن تجد مرجعيات ألقرانهم الذين يقال إنهم يتصرفون بعفو تجاه‬

‫(‪ ((1‬عن تجنب االنفعال انظر مقدمة الغضب القسم الثاني‪.‬‬


‫‪(18) On the impossibility of virtue and vice coexisting in the same mind, see On Anger‬‬
‫‪2.12.2. For the contrast between clemency and anger see, e.g., 1.5.4–5, 7.3–4, 11.1,‬‬
‫‪17.1, 19.4, On Anger 2.5.3, 13.2, 23.4; on clemency as the opposite of anger, see also‬‬
‫‪Cicero On Appropriate Actions 1.88.‬‬
‫‪(19) 2.3.1, quoted above. In Cicero’s definition of clementia at On Invention‬‬
‫‪2.164—“clementia, per quam animi temere in odium alicuius †iniectionis [vel‬‬
‫‪invectionis]† concitati comitate retinentur” the corrupt word has since the sixteenth‬‬
‫‪century commonly been emended to read inferioris, on the model of Seneca’s‬‬
‫‪definition (“clemency, by which minds that have been rashly roused to hatred‬‬
‫‪of someone inferior are restrained by friendliness”). But it is not clear that the‬‬
‫‪emendation is correct; given Seneca’s particular focus in addressing Nero, it might‬‬
‫‪actually introduce an anachronism. The point being made in the text is in any case‬‬
‫‪not affected.182‬‬

‫‪43‬‬
‫بعضهم في عصر شيشرون(‪ ،((2‬كما يالحظ سينيكا أن «العفو يجعل أي أسرة‬
‫تتمتع بالسعادة والسكينة» (‪ ،)1.5.4‬بعد إصراره على أن « العفو أمر طبيعي لكل‬
‫البشر» (‪ ،)1.5.2‬وصفاء العقل الذي يجلبه العفو لمجازاة األخطاء بعدل هو‬
‫خير إنساني حق‪ ،‬وأ ًّيا كانت المستويات االجتماعية التي ارتكبت عليها األخطاء‬
‫وعوقبت بها‪.‬‬
‫ُ‬

‫ومن ثم‪ :‬كما الحظنا بالفعل سينيكا يقول إن‪« :‬العفو ال يليق بأحد أفضل من‬
‫الملك أو األمير» (‪ ،)4 ،1.5.2 . ،1.3.3‬وهو يخاطب نيرون الذي جثم على‬
‫المكانة األسمى وليس المنصب األعلى‪ ،‬ولذلك فقد حان الوقت الذي يفكر فيه‬
‫سينيكا كيف يتقرب من أميره‪ ،‬ويحثه على هذه الفضيلة‪.‬‬

‫األمير‬
‫مفتاحا ألفعاله العامة أثناء وبعد الحرب األهلية‬
‫ً‬ ‫لقد جعل يوليوس قيصر العفو‬
‫بسبب مزاجه وميله الشخصي وإثبات أنه ليس سولال آخر يرغب في استعمال‬
‫القوة الغاشمة لينتقم بقسوة (‪ ،)cf. 1.12.1–3‬وتبعه الرجال الذين نفذوا إلى‬
‫” وهم ساللة يوليو‪-‬كلوديان ‪ ،Julio-Claudian‬وعندما‬ ‫سلطانه “الرجال‬
‫صوت السوناتو عام ‪ 27‬ق‪.‬م أن أوكتافيان وريث قيصر ينبغي أن يكون معلو ًما‬
‫َّ‬
‫مثل أوغسطوس‪ ،‬كما صوت ً‬
‫أيضا على أن ُيكرم بدرع ذهبي منقوش بفضائله‬
‫عينها التي تنطوي على العفو والشجاعة والعدل والشفقة‪ .‬وصك تبيريوس خليفة‬
‫أوغسطوس عملة معدنية على وجهها األول صورته ووجهها اآلخر العفو‪ ،‬حتى‬
‫كالوديوس القاسي احتفل بسينيكا لعفوه (‪)Consolation to Polybius 13.2‬‬

‫‪(20) See the references gathered at Griffin 2003, 161, and the general thrust of the‬‬
‫‪argument in Konstan 2005.‬‬

‫‪44‬‬
‫عندما حاول استدعاء سينيكا من المنفى(‪.((2‬‬

‫ولكن ترمي الطريقة التي يتحدث بها سينيكا عن موقف نيرون من عفوه‬
‫في ظالل مختلفة‪ ،‬وقد كتب سينيكا خطاب تسلم المنصب لنيرون في أكتوبر‪،‬‬
‫ً‬
‫شريكا لهذا الجسد‬ ‫واعترف بسلطة السوناتو ومسؤولياته‪ ،‬وألمح إلى أنه سيعمل‬
‫(‪ ((2‬وف ًقا لنموذج العالقة بين «الرجل األسمى» والسوناتو الذي كان سار ًيا على‬
‫اسميا منذ زمن أوغسطوس‪ ،‬ومع ذلك لم يذكر كتاب العفو في أي موضع‬‫ًّ‬ ‫األقل‬
‫الشراكة االسمية أو السوناتو ذاته‪ ،،‬ونقرأ بدلاً من ذلك في مطلع األطروحة‬
‫أن « العفو ال يناسب أحدً ا أفضل من الملك أو األمير» (‪ ،)1.3.3‬ونجد هنا‬
‫ذكر لقب نيرون باعتباره ً‬
‫ملكا‪ ،‬وهو اللقب الذي كان لعنة على الطبقات العليا‬
‫الرومانية منذ ُطرد ملوك المدينة وتأسست الجمهورية في أواخر القرن السادس‬
‫قبل الميالد‪ ،‬وعندما نرى أن سينيكا يتحدث بعد ذلك «األمراء والملوك وحراس‬
‫النظام المدني وبأي اسم آخر يمضون» (‪ )1.4.3‬ونجده في باقي العمل يشير إلى‬
‫الملك واألمير إلى أنهما مختلفان‪ ،‬فإننا نستخلص نتيجتين‪ :‬أن الترجمة المعقولة‬
‫لكلمة ‪ princeps‬في هذا العمل هي االشتقاق الصريح لها وهي كلمة ‪ prince‬بكل‬
‫االرتباطات الملكية التي تجلبها الكلمة‪ ،‬وكل األلقاب المتباينة لهذا النوع من‬
‫الناس التي يعيها سينيكا ال يستوجب مقارنتها بالسلطة االستبدادية التي ُيعلم تما ًما‬
‫أنها ُتمارس هذا الصنف من السياسة‪.‬‬

‫إذَنْ أطروحة نيرون تؤكد بال ريب وال خجل أنه ملك‪ ،‬وأعظم ممن يحكمهم‬
‫بال قياس‪ ،‬كما يوضح سينيكا بطرق مختلفة‪ ،‬ففى بداية العمل (‪ )1.1.2‬بينما‬
‫يتطلع نيرون إلى ‘المرآة’ التي يحملها سينيكا أمامه متخيلاً أنه يسأل‪« :‬هل أجد من‬
‫بين البشر ما ُيرضي و ُيختار للعمل بدلاً من اآللهة على األرض؟»‪ ،‬وال يجيب سينيكا‬

‫(‪ ((2‬لالطالع على هذه األمثلة وغيرها انظر ‪.Griffin 2003, 165–67‬‬
‫‪(22) Tacitus Annals 13.4.1–2.‬‬

‫‪45‬‬
‫صراحة هنا على السؤال “ فيختار َمن و ُيرضي َمن؟” والعبارات التالية – على سبيل‬
‫المثال‪“ :‬وكذلك المرء الذي لديه قدرة وهب الحياة وسلبها يستعمل هبة األرباب‬
‫العظمى بسمو‪ ،‬ويصح هذا في حالة الرجال الذين يعرف أنهم يتمتعون بمكانة‬
‫عالية مساوية له” (‪ -)1.21.2‬تقودنا إلى أن نستنتج اإلجابة “باآللهة ذاتها”(‪،((2‬‬
‫وأضف إلى ذلك ال ُيفترض أن نيرون ملتزم بأى قانون‪ :‬فعند قرب نهاية الخطاب‬
‫االفتتاحى يصور نفسه قائلاً ‪« :‬فإنني أحتاط وأستبقي العفو‪ ،‬وأراقب نفسي كما لو‬
‫كنت ملتز ًما بأن أقدم حسا ًبا للقوانين عن ذلك العفو أستدعيه من غياهب الظالم إلى‬
‫النور‪ ،‬لقد تأثرت بأن أحدهما بدأ الحياة واآلخر أوشك على النهاية» (‪ ،)1.1.4‬إن‬
‫القوة االفتراضية للعبارة تقبل حقيقة أن األمراء كانوا قانو ًنا ألنفسهم‪ ،‬ويؤكد سينيكا‬
‫مرارا بصور مختلفة على المسافة الهرمية بين نيرون والذين يعتمدون عليه‪ ،‬وفي‬
‫ً‬
‫المجاز المستعار من معاملة األطفال اليتامى الذين في عشيرته هو وصيهم المخلص‬
‫(‪ )18.1 ،1.1.5‬والوالد الخير (‪ )16.2 ،1.14.1‬أو الطبيب (‪)2–1.17.1‬‬
‫أو المعلم (‪ )1.16.2‬إنه ‘العقل’ أو ‘النفس الحي’ للجسد السياسي الذي «لن‬
‫يكون إال وزن ميت‪ ...‬إن غاب عن السلطة المركزية عقل عظيم» (‪،1.35 ،1.4.1‬‬
‫‪« )2.2.1‬في حين يقبض على مصائر ومواقف البشر في قبضته» (‪،)1.1.2‬‬
‫والناس مجتمعون حيوانات جر ربما تفلق نيرها أو قيودها» (‪.)4.2 ،1.1.1‬‬

‫يشغل هذا المنصب طاغية؟ ويجيب سينيكا عن‬ ‫كيف ال يثبت أن‬
‫السؤال مباشرة (‪« :)3 ،1.12.1‬يختلف الطاغية عن الملك في تصرفه ولقبه‪...‬‬
‫والعفو عند الطاغية والملك كبير للغاية»(‪ .((2‬غير المقيد بالقانون والمؤسسات‪،‬‬

‫(‪ ((2‬لالطالع على أن نيرون رفيق اآللهة انظر ‪ .1.1.2, 1.4, 5.7, 7.1, 8.3, 19.8–9،‬وللحجة القائلة بأن‬
‫سينيكا ينوي تمثيل نيرون على أنه خيار اآللهة “وصي” انظر ‪.Fears 1975‬‬
‫(‪ ((2‬األسس التقليدية التي تميز الطاغية عن الملك تختلف عن التمييز القائم على الشخصية الذي‬
‫يضعه سينيكا هنا ‪.see 1.12.1n‬‬

‫‪46‬‬
‫والملك يتحاشى النموذج السيئ – السلطة العمدية المطلقة للطاغية‪ -‬ويقترب‬
‫من النموذج الخير‪ ،‬فيغرس الملك العفو واإلنسانية ووضوح الروح المتقدة التي‬
‫تتدفق عليه‪ ،‬بعبارة أخرى حيث ال قوة للقانون والمؤسسات‪ ،‬وكل ما يتوقف على‬
‫الشخصية‪ ،‬واألسباب التي اختارها األمير لتنظيم تصرفه‪ ،‬ولكن تبدو هذه اإلجابة‬
‫مجرد وضع للسؤال األصلي بصيغة مختلفة‪ :‬لماذا اختار مثل هذا الرجل أن ينظم‬
‫سلوكه بهذه الطريقة؟‬

‫ألن هذه الصيغة من السؤال تطرح نوعين مختلفين من اإلجابة‪ ،‬وكالهما ٌ‬


‫طرف‬
‫ً‬
‫تخطيطا لثناء معياري ملحوظ‬ ‫تقليدي للنصيحة المقدمة للملوك‪ ،‬األول أن هناك‬
‫ٌّ‬
‫نوعا بعينه من الخيرية يستلزمه العفو ألنه‬
‫طبيعيا أن يغرس ً‬
‫ًّ‬ ‫بالفعل‪ ،‬فنيرون يرغب‬
‫ً‬
‫مفترضا للظهور «أصيل ووتيد» (‪ ،)1.1.6‬إنه‬ ‫خ ِّير بالفعل‪ :‬وخيره «فطري» وليس‬
‫«حفظ المجتمع من إراقة الدماء‪ ،‬وهذا إنجاز –وهذا موضع للفخار أنك لم تدع‬
‫قطرة دم واحدة ُتنزف في العالم‪ -‬وهذا أمر جلل معجب ألنه لم يعهد بسيف السلطة‬
‫من قبل ألي أحد في المرحلة األولى من حياته» (‪ ،)1.11.3‬ألنه أظهر بإحجامه‬
‫عن موت حتى المجرمين المدانيين‪ ،‬فكيف يصارع خيره حظه (‪.((2()2.1.1‬‬
‫ولكن االرتباط بنداءات صاخبة لتصور نيرون الذاتي هذا تخطيط آخر استُعمل‬
‫بإفراط وبفاعلية‪ :‬حيث الطمأنة بأن «الخيرية الفريدة لن تضيع سدى‪ ،‬ولن تقابل‬
‫جاحدً ا أو قاض ًيا خبي ًثا‪ :‬وسوف يقدم لك االمتنان بالمقابل‪ ،‬ولن يعز ً‬
‫امرأ على آخر‬
‫معزتك للشعب الروماني‪ ،‬وهذا خير عظيم مقيم» (‪.)1.1.5‬‬
‫بقدر َّ‬

‫ولذلك يقدم سينيكا أولاً سلسلة مطولة من الحجج الصريحة الحذرة تهدف‬
‫نافع ً‬
‫أيضا‪:‬‬ ‫إلى إقناع نيرون بأن العفو ليس صوا ًبا فحسب‪ ،‬بل ٌ‬

‫‪cf.,‬‬ ‫(‪ ((2‬تعزز مقدمة الكتاب الثاني كلها هذه الخطة؛ ألن نداءات الخيرية تلبي شعور نيرون بعظمته‬
‫)‪. e.g., 1.5.6 (Nero as “master of the world”), 1.8.4 (Nero as the sun‬‬

‫‪47‬‬
‫•إن العظمة الراسخة المستقرة تتبع رجلاً واحدً ا يعلم الجميع أنها لهم بقدر‬
‫ما يعلو عليهم‪ ...‬والناس من أجل هذا الرجل على استعداد تام أن يلقوا‬
‫بأنفسهم على السيوف المسنونة ويتخلوا عن حياتهم إذا كان دربه لألمان‬
‫مهد بجثثهم (‪.)1.3.3‬‬
‫ُي َّ‬
‫•والمرء الذي قد ينتقم في إيماءته‪ ،‬ويدَّ عي بأنه على يقين أنه س ُيحتفى بكرمه‬
‫إذا ترك فرصة االنتقام تمضي (‪.)1.7.3‬‬

‫•جلب له (أوغسطوس) عفوه أمنه وسالمة باله‪ ،‬فرأى الناس فضله بامتنان‪،‬‬
‫لذلك ملك بقبضته رقبة الشعب الروماني الذي لم يخضع بعد لسلطان‬
‫الحاكم‪ ،‬فصنع عفوه شهرته إلى يومنا هذا‪ ،‬وهو شيء يتمتع به قلة من‬
‫األمراء األحياء (‪.)1.10.2‬‬

‫•العفو إ َذنْ ال يريح البشر فحسب بل يجعلهم آمنين‪ ،‬وهو زينة للسلطة‬
‫األسمى وضمانة لألمن (‪.)1.11.4‬‬

‫•وعندما يكون الملك رزينًا سكينًا تتبعه قواته التي تعينه‪ ،‬وبمجرد أن‬
‫يستعملهم ألمر عام أو عسكري يتوقون للمجد‪ ،‬ويتحملون بسرور كل‬
‫مهمة‪ ،‬كما لو كان أحدهم يحمي أحد والديه (‪.)1.13.1‬‬

‫•يميل إلى مسار ألطف وهو ُيظهر عدم رغبته في اللجوء للمداوة القاسية عندما‬
‫ُي ْنادى بالعقوبة‪ ،‬وال يعرف أفكار وحشية أو عدائية بل يمارس سلطانه بروية‬
‫ومن أجل الخير‪ ،‬وهو يرغب في أن يستحسن مواطنيه أوامره‪ .‬إنه يعتقد أنه‬
‫ملكا للجميع‪...‬‬‫محظوظ إلى أقصى مدى إن نجح في أن يجعل حظه الحسن ً‬
‫ٌ‬
‫وإن صنع األمير األمان بلطفه‪ ،‬فلن يحتاج إلى حراس‪ :‬وسوف تبسط أسلحته‬
‫(‪.)5–1.13.4‬‬

‫•فما من حاجة لبناء القالع الرصينة أو تحصين التالل المنحدرة أو تسوير‬


‫جوانب الجبال لحماية النفس بسلسلة من الحصون واألبراج؛ فالعفو‬
‫‪48‬‬
‫يضمن للملك أن يكون آمنًا في العراء‪ ،‬وحب مواطنيه هو حصنه الحصين‬
‫الوحيد (‪.)1.19.6‬‬

‫ولكن هناك دروس جمة هنا تزيد عن رسالة «دفع الخيرية» وهي تقابل‬
‫اإلحسان من األعلى إلى األسفل ولطف اإلنسانية بامتنان األسفل لألعلى والحب‬
‫– وروابط المودة التي تربط األمير بالشعب في هذا النموذج ال تقل في أهميتها‬
‫كالتبادل التقليدي الذي ينطوي أفضال ممنوحة ومردودة‪ ،‬رغم أن األبعاد الهرمية‬
‫حقيقيا‬
‫ًّ‬ ‫لم تتقلص للحظة‪ ،‬وتبني أشكال االتصال التي تعزز االتصال تبادلاً‬
‫لالهتمام‪ ،‬حيث يتعهد كل طرف بجعل اآلخر آمنًا (‪ ،)cf. 1.19.5‬وعندما يكون‬
‫األمير “رجلاً يعلم الجميع أنها لهم بقدر ما يعلو عليهم”‪.‬‬

‫وأخيرا‪ ،‬كان هناك وضع قانوني نوعي لألمير يمارس فيه العفو ويهم النخبة‬
‫ً‬
‫السياسية الذين (خلف نيرون ذاته) وكانوا جمهور سينيكا الرمزي(‪ ،((2‬وكانت في‬
‫نهاية الجمهورية تقدم التهم الكبرى للنخبة – تهمة إساءة التصرف في المقاطعات‬
‫والتحريض على العنف والفساد االنتخابي والخيانة وما شابه ذلك‪ -‬وعادة ما كان‬
‫ُيقدم للمحاكمة أمام إحدى «محاكم التحقيق الدائمة» ‪quaestiones perpetuae‬‬
‫المكرسة للقانون العام‪ ،‬وتحدد في مثل هذه الحاالت الجريمة والعقوبة المقابلة‬
‫باعتبارها مسألة إيجابية‪ .‬وكانت لجنة القضاة في «المحكمة الدائمة مسؤولة عن‬
‫تقرير مسألة الذنب‪ ،‬ولكن لم يكن لها دور في تقييم العقوبة‪ -‬وبالتالي لم يكن‬
‫منظور لتطبيق نوع االعتدال العقلي الملزم في كتاب العفو عند سينيكا(‪.((2‬‬
‫ٌ‬ ‫لها‬

‫(‪ ((2‬حول هذا األمر انظر ‪.Griffin 1976, 161–64, and 2003, 175–77‬‬
‫توجيهيا مع العفو‪ ،‬وسعى‬
‫ًّ‬ ‫(‪ ((2‬على النقيض كان للشفقة دور شائع في هذه المحاكم‪ ،‬وآخر يوفر تباينًا‬
‫المحامي في محاولة إثارة الشفقة للمدعي عليه إلقناع القضاة بأن المدعي عليه ضحية الواقع‬
‫وليس جان ًيا‪ -‬في الحقيقة إنه بريء – أو أن كل االمور التي يتم النظر فيها تستوجب أن يخلع‬
‫المدعي عليه من الخطاف رغم ذنبه الفعلي‪ ،‬ولكن أ ًّيا من هذه الخطوات ليس لها عالقة بالعفو‬
‫الذي يحث عليه سينيكا‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫سمى كوجنيتيو‬
‫وبموجب المبدأ صار من المعتاد إجراء شكل آخر من المحاكمة ( ُي َّ‬
‫‪ )cognition‬يشكل أمام السوناتو أو األمير‪ ،‬وفي المحكمة نفسها‪ -‬كما في محكمة‬
‫المواطنين غير الشرعيين أمام حاكم المقاطعة‪ ،‬أو في المحاكمة المحلية التي رأيناها‬
‫في وقت سابق في حكاية لوكيوس تاريوس‪ -‬حيث يتمتع الشخص أو األشخاص‬
‫الذين يحكمون القضية بحرية كافية في تقييم العقوبة‪ ،‬وكذلك في تقرير ما إذا كانوا‬
‫يميلون في اتجاه الصرامة أو العفو‪ ،‬وكانت مسألة النتيجة في مثل هذه الحاالت‬
‫ألقران سينيكا إذا كان األمير هو القاضي أو أعضاء آخرون من السوناتو‪ ،‬وهم يتبنون‬
‫حجج النبالة األخالقية والفائدة العملية التي يقدمها سينيكا ألجل العفو‪.‬‬

‫وفي هذا الحدث بالطبع يوجه سينيكا أميره سواء في هذه األطروحة أو في‬
‫محادثاتهم وال يأخذ بها‪ ،‬وعلى سبيل المثال عندما قتل نيرون أمه في ‪ ،59‬ولفق‬
‫لها جرائم حدثت في الماضي‪ ،‬وعفا عن الذين زعم أنها نفتهم‪ ،‬ال يمكن القول‬
‫هنا إنه ُيظهر العفو الذي تحدث عنه سينيكا(‪ ،((2‬والعاقبة أن ُيوصف سينيكا في‬
‫السنوات األخيرة من حكم نيرون بمعلم الطاغية(‪ ،((2‬وال نعلم متى قيم سينيكا‬
‫أميره وخيبة أمل تعاليمه‪ ،‬ولكننا قد نأخذ كتاب العفو رمزً ا لفشله(‪.((3‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪(28) Tacitus Annals 14.11, 12.3–4.‬‬


‫‪(29) Cassius Dio 61.10.2.‬‬
‫(‪ ((3‬تعتمد هذه الترجمة اإلنجليزية على إصدار )‪ Ermanno Malaspina (Alessandria, 2001‬إال‬
‫أن هناك مواضع استوجبت الرجوع إلى إصدارات أخرى‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫مراجع للقراءة‬
Miriam Griffin. 1976. Seneca: A Philosopher in Politics. Oxford:

Clarendon Press.

Miriam Griffin. 2003. “Clementia after Caesar: From Politics

to Philosophy.” In Caesar against Liberty? Perspectives on

HisAutocracy, ed. F. Cairns and E. Fantham. Cambridge: Francis

Cairns, 157–82.

M. B. Dowling. 2006. Clemency and Cruelty in the Roman World.

Ann Arbor: University of Michigan Press

51
52
‫الكتاب الأول‬

‫‪53‬‬
54
‫قررت أن أكتب عن العفو لعلي أخدم القيصر نيرون‪ ،‬وهو مرآة لك إن‬ ‫‪ 1 - 1‬‬
‫جاز هذا‪ ،‬حتى تظهر لك ذاتك كما لو كنت بمقربة من أن تنال عظيم‬
‫المباهج برمتها‪ ،‬وأن الربح الحق لألفعال القويمة يكمن في أدائها‪ ،‬حيث‬
‫ال ُيجنى من الفضائل سوى ذاتها‪ ،‬ومن الحسن أن تجني نتاج طويتك‬
‫الصالحة‪ ،‬ومن ثم تنظر إلى حشود الناس التي ال حدود لها أمامك‪ ،‬ومن‬
‫بينهم المتخاصمون والمتناحرون بال َج َلد كما لو كانوا مسعورين وهم‬
‫يدمرون بعضهم بمجرد أن ينفلع هذا القيد(‪ ،((3‬ويقول للذات‪:‬‬

‫«هل وجدت بين البشر ما ُيبهجني وما اختاره ألعمل في نفع األرباب‬ ‫‪ 2 - 1‬‬
‫على األرض هنا؟ هل أقضي بأمور الحياة والموت في األمم‪ ،‬وأقبض‬
‫وبشفتي اللتين تصرحان‬
‫َّ‬ ‫على قسمة البشر وموضعهم في كفة يدي‪،‬‬
‫بالحظ الذي تود أن تمنحه لكل مخلوق؟ ويستمد الناس والمدن أسباب‬
‫بهجتها من إجابتي‪ ،‬فال نطاق في أي أين يزهو دون رغبتي وهواي‪ ،‬فآالف‬
‫السيوف تكبت سالمي وال تستل في غفوتي‪ ،‬والتي تدمر بها العشيرة‬
‫الجذر والفرع‪ ،‬و ُترسل خاللها للعيش في أي أين‪ ،‬وتمنح بها الحرية‬
‫وتنزعها كذلك‪ ،‬ويستعمل بها الملوك العبيد‪ ،‬وتكلل بها الرؤوس بمجد‬
‫موضوع لحكمي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ملكي‪ ،‬وتسقط بها المدن التي ترتفع– وكل هذا‬

‫وعندما أمتلك هذه القدرات الشاسعة في تصرفي‪ ،‬فإن الغضب ال يدفعني‬ ‫‪ 3 - 1‬‬
‫لفرض عقوبات غير عادلة– ال‪ ،‬فال أفعل طيش الشباب وال أتحدى تهور‬
‫الناس الذي يستمد غال ًبا التحمل حتى من القلوب الرحيمة‪ ،‬وال من‬
‫نوع المجد ‪-‬وهو مروع ولكنه شائع في القيادات العليا‪ -‬ويعتمد على‬
‫استعمال اإلرهاب ليستعرض المرء نفوذه‪ ،‬فسيفي مغمود‪ ،‬والحري‬

‫‪(31) In place of the lacuna posited here by Malaspina, I translate et, with some later manuscripts‬‬
‫‪and most editors.‬‬

‫‪55‬‬
‫ثابت حده‪ ،‬وأنا مقتصد كلية حتى في الدم المنحط‪ ،‬وال أحد يفشل في‬
‫شيء آخر يمدحه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أن يظفر بفضلي بحكم كونه إنسا ًنا‪ ،‬وإن لم يكن لديه‬

‫فإنني أحتاط وأستبقي العفو‪ ،‬وأراقب نفسي كما لو كنت ملتز ًما بأن‬ ‫‪ 4 - 1‬‬
‫أقدم حسا ًبا للقوانين(‪ .((3‬ذلك العفو أستدعيه من غياهب الظالم‬
‫إلى النور(‪ ،((3‬لقد تأثرت بأن أحدهما بدأ الحياة واآلخر أوشك على‬
‫النهاية‪ ،‬ولطفت بأحدهما لمكانته الرفيعة واآلخر لوضاعته‪ ،‬وعندما ال‬
‫أجد سب ًبا للشفقة(‪ ،((3‬فأنا رحيم من أجل نفسي‪ ،‬وإن دعتني األرباب‬
‫الخالدة للمحاسبة اليوم‪ ،‬فإنني مهيأ أن أمنح الحساب لجنس البشر”‪.‬‬

‫وبمقدورك أن تعلن هذا بجرأة يا قيصر‪ :‬فكل ما ُعهد لعهدتك اإليمانية‬ ‫‪ 5 - 1‬‬
‫به أمان‪ ،‬وأنت قد انتقصته(‪ ،((3‬ولم ينتقص من األمة ذرة بقوة أو استراق‪،‬‬
‫وتتوق إلى ما ندر من المديح‪ ،‬الذي لم َي َن ْل ُه أي من أسالفك‪ :‬حيث مدح‬
‫البراءة(‪ ،((3‬وهذه الخيرية الفريدة لن تضيع سدى ولن تقابل جاحدً ا أو‬

‫اسميا ‘األول بين المتساويين’ فإنه كان مميزً ا‬


‫ًّ‬ ‫(‪ ((3‬الصياغة االفتراضية البحتة المقصودة‪ :‬مع أن األمراء‬
‫عن المواطنين اآلخرين على األقل أنه ليس مسؤولاً أمام القانون سواء من الناحية العملية أو‬
‫النظرية (األمراء غير ملزمين بالقانون) (‪cf. the dictum of the third-century-CE jurist‬‬
‫‪Ulpian, “The princeps is not bound by the laws”; Digest 1.3.31.pr.). Cf. also‬‬
‫‪.§12.1n‬‬
‫(‪ - ((3‬أول التعبيرات الضمنية والصريحة لوالد نيرون بالتبنى أن كالوديوس (‪)cf. §§10.3, 23.2 nn.‬‬
‫الذي تعرض لالنتقاد بسبب سلوكه القضائي المتقلب (‪cf. Apocolocyntosis 10.4, 14.2,‬‬
‫‪.)Tacitus Annals 13.4.2, Suetonius Claudius 14–15‬‬
‫(‪ ((3‬األمثلة السابقة التي تنطوي على أسباب خارجية لحقائق القضية تفترض أن سينيكا يفكر في‬
‫الشفقة باعتبارها استجابة لمعاناة مدركة (‪ )cf. 2.5.1‬وليس استجابة مدركة فحسب بل أنها ظلم‬
‫‪.(Aristotle Rhetoric 2.8 1385b13–14); cf. also 2.5.4‬‬
‫(‪ ((3‬كثير من الكلمات قد ُفقد في نقله هنا‪ ،‬ولكن المعنى المطلوب واضح‪ ،‬وتعكس الترجمة اإلضافات‬
‫الشائعة المقبولة “‪omnia, quae in fidem tutelam<que tuam venerunt, tuta ha>beri,‬‬
‫‪”nihil per te neque vi neque clam <adimi> rei publicae‬‬
‫(‪ ((3‬أول قمع لقاتل بريتانيوس ‪.cf. esp. §11.2 below‬‬

‫‪56‬‬
‫قاض ًيا خبي ًثا‪ :‬وسوف يقدم لك االمتنان بالمقابل‪ ،‬ولن ُيعز ٌ‬
‫امرؤ على آخر‬
‫بقدر معزتك للشعب الروماني‪ ،‬وهذا خير عظيم مقيم‪.‬‬

‫لقد تكبدت عبئًا ثقيلاً على عاتقك‪ ،‬ولم يتحدث أحد عن أوغسطوس‬ ‫‪ 6 - 1‬‬
‫اإللهي اآلن أو السنوات ُ‬
‫األول لتبيريوس(‪ ،((3‬وال يسعى أحد إلى ٍ‬
‫مثال‬
‫أميرا(‪((3‬‬
‫ويحكم بنموذج قد تلقيناه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وهو يحاكي جانبك ومكانتك‬
‫قد يكون هذا تحد ًيا إن كانت هذه الخيرية ليست فطرية بل مفترضة‬
‫للمناسبة‪ ،‬فال يمكن ألحد أن يعمل طر ًفا لفترة طويلة‪ ،‬فسرعان ما‬
‫يرتد الطبع إلى طبيعته الحقة‪ ،‬ولكن األشياء األصيلة الوتيدة المدعومة‬
‫بالحقيقة والنضارة ‪-‬إن جاز التعبير‪ -‬تعظم وتحسن بمرور الزمن‪.‬‬

‫وقد واجه الشعب الروماني مقامرة حين ُغ ِم َط الدور الذي سيتخذه‬ ‫‪ 7 - 1‬‬
‫شخصك النبيل‪ ،‬ولكن َلبيت رغبات الناس اآلن‪ ،‬وليس هناك خطر‬
‫مفاجئ من نسيان شخصك‪ ،‬وتيقن أن الرخاء المفرط يخلق في الناس‬
‫الجشع‪ ،‬وال يمكن ضبط رغباتهم الجامحة تما ًما فيرسمون ً‬
‫خيطا لما‬
‫فمن نجحوا‬
‫سوف يكتسبونه‪ ،‬وهناك تقدم من العظيم إلى األعظم‪َ ،‬‬
‫في تحقيق توقعاتهم احتضنوا توقعات من نوع أشد شائنة‪ ،‬وال يزال‬
‫مواطنوك ال يسعهم إال أن يعترفوا بأنهم سعداء‪ ،‬وال يمكن أن ُيضاف‬
‫إلى حظهم الطيب شيء باستثناء ذلك‪.‬‬

‫أمورا تجبرهم على القيام بهذا‪ ،‬وهو أمر يجعل الناس يتباطؤون في‬
‫ً‬ ‫إن‬ ‫‪ 8 - 1‬‬
‫أن يفعلوا‪ :‬فالحرية الوافرة والعميقة من العناية‪ ،‬وهي بمنأى عن الزلل‪،‬‬
‫وحال االزدهار الحق لألمة يحوم أمام أعينهم‪ ،‬وال يفتقرون شيئًا للحرية‬

‫(‪ ((3‬وجهة النظر التقليدية هنا منعكسة ‪ Tacitus Annals 4.1.1‬في أن تيبيريوس حكم بعد فوز‬
‫أوغسطوس في ‪ 14‬م حتى أصبح تأثير وزيره سيجانوس بالغ األهمية ‪.esp. from 23 on‬‬
‫(‪ ((3‬حول كلمة ‪ princeps‬إلى المصطلح المترجم هنا باعتباره األمير ‪§3.3n. below‬‬

‫‪57‬‬
‫الكاملة إال الفجور لتدمير ذاتها‪.‬‬

‫ومع هذا كله‪ ،‬هناك إجالل لرحمتك التي ُيعرف عظيمها وقليلها على‬ ‫‪ 9 - 1‬‬
‫ٍ‬
‫امرئ الخيرات األخرى بما يتناسب‬ ‫نحو مكافئ‪ ،‬حيث ُيدرك كل‬
‫وحظهم الحسن‪ ،‬وتعظم أو تقل وفق توقعهم لها‪ ،‬ولكن الكل يتوقع أن‬
‫تستمد الفائدة ذاتها من الرحمة‪ ،‬وال أحد يرضى َم ِل ًّيا عن براءته وأنه ال‬
‫يبتهج لرؤية العفو وهو يقف متأه ًبا لفشل اإلنسان‪.‬‬

‫وأعرف ً‬
‫بعضا يعتقدون أن العفو يدعم أردأ الناس‪ ،‬حيث إنه ليس‬ ‫‪ 1 - 2‬‬
‫ضرورة حتى ُترتكب بعض األخطاء‪ ،‬وهي الفضيلة التي ال مكان لها‬
‫بين األبرياء‪ ،‬أولاً مثلما ُيستعمل الطب بين المرضى و ُيحتفى به بين‬
‫األصحاء ً‬
‫أيضا‪ ،‬وكذلك حتى تقدير عفو األبرياء رغم الناس الذين‬
‫يستحقون العقاب يسعون لدعمها‪ ،‬ثان ًيا للعفو مكانٌ في شخصية األبرياء‬
‫حيث ُيالم الناس أحيا ًنا على أشياء رديئة الحظ‪ ،‬وال يعين العفو األبرياء‬
‫فحسب بل الفضيلة على الغالب‪ ،‬وبقدر ما يحدث في بعض األشياء في‬
‫حاالت بعينها أنه بمقدورك أن تعاقب كما ُتثني(‪ ،((3‬فإن حقيقة التناسب‬
‫العريض للناس يمكن أن ُيعيد البراءة إذا ‪.((4(...‬‬

‫وليس من المناسب أن تتخلى عن العفو كلية‪ ،‬فعندما ُيمحى التمايز بين‬ ‫‪ 2 - 2‬‬
‫األخيار واألشرار تتوالى الفوضى وتتفشى الرذائل‪ ،‬وبالتالي فإن المرء‬
‫نوعا من االعتدال ليعرف كيف تتمايز الطبائع التي‬
‫بحاجة إلى أن ُيطبق ً‬

‫(‪ ((3‬صياغة غامضة من المفترض أنها تعطي (على سبيل المثال) مقاومة الطاغية ‪.cf. §26.1‬‬
‫”‪(40) Lost in the lacuna is some idea along the lines of “if they’re given a second chance‬‬
‫‪(Basore’s si <poenae remissio fuerit>) or “if you treat them as innocent” (si <eos‬‬
‫‪pro innocentibus habeas>) or “if clemency gives them hope” (Ball’s si <clementia‬‬
‫‪spem restituerit>). What S. should not say here is “if you forgive them” (Préchac’s‬‬
‫‪si <ignoscas>), since he will distinguish clementia from forgiveness at 2.7. But he is‬‬
‫‪not always self-consistent; cf. the end of this paragraph.‬‬

‫‪58‬‬
‫يمكن مداواتها والتي فقدناها(‪ ،((4‬فال ينبغي لرحمة المرء أن تكون‬
‫عشوائية أو مقيدة للغاية‪ :‬كما لو كان للقاسي أن يعفو عن الجميع بقدر ما‬
‫ال يعفو عن أحد‪ ،‬ويجب علينا أن نستبقي المعنى‪ ،‬ولكن التوازن صعب‬
‫مهما كان مقياس اإلنصاف صار ًما (‪ ،((4‬لذا ينبغي أن يميل المعيار إلى‬
‫اتجاه أكثر إنسانية‪.‬‬

‫ومن األفضل معالجة هذه األمور في موضعها المناسب‪ ،‬وسوف‬ ‫‪ 1 - 3‬‬


‫ُأ ِّ‬
‫قسم الموضوع اآلن إلى ثالثة أقسام(‪ :((4‬القسم األول عن اللين‬
‫(‪ ،leniency((4‬والقسم الثاني يوضح طبيعة العفو وما يشم ُل ُه؛ ألن هناك‬
‫رذائل بعينها تحاكي الفضائل وال يمكن القبض عليها من جانب واحد‬
‫إن لم تستبن دالالتها المتمايزة بوضوح‪ ،‬ونتساءل في القسم الثالث عن‬
‫كيفية جلب العقل لهذه الفضائل وتقويتها وممارستها التي تخصها‪.‬‬

‫وليس من بين الفضائل ما هو أفضل يناسب اإلنسان؛ ألنها ليست أكثر‬ ‫‪ 2 - 3‬‬
‫إنسانية‪ ،‬ويجب أن يكون هذا مسألة اتفاق عام‪ ،‬ليس بيننا فحسب(‪،((4‬‬

‫(‪ ((4‬عن العقاب باعتباره شفاء انظر ‪ ،On Anger 1.16‬وعن أهداف العقاب انظر ‪.§21–22 below‬‬
‫(‪ ((4‬يتحدث سينيكا بغزارة وغير دقة‪ ،‬وعلى النقيض من االدعاء في ‪ 2.7.3‬الذي يقرر أن العفو بحكم‬
‫الواقع عادل‪.‬‬
‫(‪ ((4‬الجزء األول هو موضوع الكتاب األول‪ .‬ويتضمن الثاني تعريف العفو وتمييزه عن رذائل الشفقة‬
‫‪ misericordia‬والصفح ‪ venia‬في ‪ ،7–2.3‬والجزء الثالث إما قد ُفقد وإ َّما غير مكتمل‪.‬‬
‫‪(44) The translation reflects Kronenberg’s animi remissionis—literally “of the relaxation‬‬
‫‪of the mind,” esp. with regard to strictness or severity (OLD s.v. remissio 4b, cf.‬‬
‫]‪§24.1: “People better obey someone who gives his orders in a milder [remissius‬‬
‫‪way”)—adopted instead of the archetype’s manumissionis printed by Hosius and‬‬
‫‪obelized by Malaspina (with a lacuna posited following). The reading is consistent‬‬
‫‪with the thought that clemency depends on mental calm and clarity and is hindered‬‬
‫;‪by mental turbulence and upset: cf. §5.5, 7.2, 13.4, 2.6.1 and introduction, section 2‬‬
‫‪similar thoughts occur also in On Anger (cf. esp. 1.16.6–7).‬‬
‫‪On‬‬ ‫(‪ ((4‬هذه مناصرة للرواقية؛ ألن سينيكا استعمل صيغة الجمع للشخص األول بهذا المعنى انظر‬
‫‪.Anger 1.5.2n‬‬

‫‪59‬‬
‫اجتماعيا ُولِ َد للخير العام‪ ،‬ولكن‬
‫ًّ‬ ‫فمن الذي يكون إنسا ًنا لكونه حيوا ًنا‬
‫َ‬
‫بين الذين يكرسون اإلنسان للمتعة وينظرون لمصالحهم في أقوالهم‬
‫وأفعالهم(‪ .((4‬فإذا كان اإلنسان يسعى للسالم والسكينة‪ ،‬سوف يجد‬
‫جزءا من طبيعته؛ ألن الفضيلة تهوى السالم و ُتملكنا على‬
‫ً‬ ‫الفضيلة‬
‫نفوسنا‪.‬‬

‫وقيل إن أفضل َمن يناسبه العفو هو الملك أو األمير(‪((4‬؛ ألن الثروة‬ ‫‪ 3 - 3‬‬
‫الكبيرة تجلب الشرف والمجد إذا كانت سلطتهم نافعة‪ ،‬فامتالك القوة‬
‫لفعل الضرر مهلكة للسلطة‪ ،‬فالعظمة الراسخة المتوازنة يتصف بها‬
‫الرجل الذي يعرفه اآلخرون بمدرج أن يعلو عليهم فحسب‪ ،‬والذين‬
‫يوميا لرفاهيتهم سواء أكانوا فرادى أم مجتمعين‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫تجدهم متوجسين‬
‫وعندما يظهر ال ينتشر الناس كما لو كانت بعض الوحوش الضارية‬
‫نجما‬
‫أفواجا كما لو كان ً‬
‫ً‬ ‫اللعينة قد قفزت من مخبئِ ِه‪ ،‬يتدافعون نحوه‬
‫ً‬
‫فياضا‪ ،‬والناس من أجل هذا الرجل على استعداد تام أن يلقوا‬ ‫المعا‬
‫ً‬
‫بأنفسهم على السيوف المسنونة ويتخلوا عن حياتهم إذا كان دربه‬
‫لألمان ُيمهد بجثثهم‪ :‬يسهرون الليل ليحموا نومه‪ ،‬ويحيطونه مثل درع‬

‫(‪ ((4‬هذه مناصرة لألبيقورية؛ ألن غايتهم القصوى ‘السعادة’ بالمعنى المحدد لغياب األلم‪ ،‬و‘التحرر من‬
‫االضطراب ‪ ’ ataraxia‬الذي يشجع على الطمأنة السياسية‪ ،‬رغم أن سينيكا يصور هذه الغايات‬
‫هنا على أنها مجرد أنانية‪ :‬راجع توافق الحكيم (‪cf. On the Wise Man’s Consistency 15.4,‬‬
‫‪On Favors 4.2.1), he is capable of a more nuanced response, esp. in the Moral‬‬
‫‪.)Epistles (e.g., 9, 21.3ff., 25.4ff .‬‬
‫ملكا ‪ rex‬فاللقب يسيء إلى الموروث الروماني السياسي‪ ،‬لقد كان ‘الرجل األهم’‬ ‫(‪ ((4‬لم يكن نيرون ً‬
‫(أمير)‪ ،‬وجذوراللقب لصيقة بالجمهورية‪ ،‬اختاره أوغسطوس ليصف مكانته في المجتمع‬
‫ويستعمله جميع األباطرة الالحقين له‪ ،‬ويحل سينيكا بداية من الفقرة §‪ 4.3‬وطوال األطروحة‬
‫االختالف بين الملك واألمير (”‪ )cf. §4.3n. on “Caesar‬وقد ترجمت كلمة ‪ princeps‬لكلمة‬
‫‪ prince‬أمير ألنها قريبة الداللة فيما يفكر فيه سينيكا (‪.)e.g., §5.7 below‬‬

‫‪60‬‬
‫جوانحه‪ ،‬وعندما تداهمه المهالك يضعون أنفسهم في طريقها(‪.((4‬‬

‫ولم تعقد المدن والشعوب هذا االتفاق دون سبب‪ ،‬وهو أن يحبوا ويحموا‬ ‫‪ 4 - 3‬‬
‫بملوكهم بهذه الطريقة ويضحوا بحيواتهم وما يملكون من أجل أمان‬
‫الحاكم‪ ،‬ال‪ ،‬وال يعني أنهم مجانين أو ال يقدرون قيمة حيواتهم عندما‬
‫ُت ْق ِد ُم آالف عدة على حمل السالح من أجل شخص بعينه ويتكبدون‬
‫عجوزا وضعي ًفا(‪.((4‬‬
‫ً‬ ‫الموت إلنقاذ حياة رجل واحد قد يكون‬

‫رضاء‬
‫ً‬ ‫مثلما ُيستعبد الجسد بأسره للعقل – رغم أن الجسد أكبر وأكثر‬ ‫‪ 5 - 3‬‬
‫للبصر بينما نحالة العقل مخفية وموضع خفائه غير معلوم‪ -‬واأليادي‬
‫واألقدام واألعين تؤدي أوامر العقل‪ ،‬والجلد يحميها‪ ،‬وال نزال ننبطح‬
‫ألمره أو نندفع باضطراب عندما ُيصدر األمر‪ ،‬ونحن نسبر البحار بح ًثا‬
‫عن فائدة إن كانت سيادة العقل جشعة بينما لو كان توا ًقا للمجد فقد‬
‫منذ أمد بعيد‪ ،‬أو نعاني الموت‬ ‫(‪((5‬‬ ‫وضعنا يدنا اليمنى في اللهب‬
‫إن الحشد الغفير من الناس المحيطين بنفس رجل بعينه‬ ‫طوعا(‪((5‬‬
‫ً‬

‫(‪ ((4‬لالطالع على التناقض بين اإلمبراطور الرديء الذي يشاكل البهيمة المخيفة واإلمبراطور الخ ِّير‬
‫الذي يحبه الناس ويحمونه طوعً ا انظر ‪..Pliny Panegyric 48–49‬‬
‫(‪ ((4‬لالطالع على التقدير العقالني للناس لإلحسان الذي يمنحه الحاكم المقسط وطواعيتهم للدفاع‬
‫كبيرا” انظر ‪.Polybius 6.6.10–12‬‬ ‫عنه “حتى لوكان ً‬
‫شيخا ً‬
‫ُ‬
‫(‪ ((5‬يشير سينيكا إلى أسطورة جايوس موكيوس ‪ Gaius Mucius‬الذي لقب سكيفوال ‪ Scaevola‬أي‬
‫‘شمالي ‪ ’ Lefty‬بعد أن أغرق يده اليمنى في النار ليُرى الرس بورسينا ‪ Lars Porsenna‬ملك‬
‫أتروسكان المادة التي صنعها الرومان – وقعت هذه الحادثة عندما كان بورسينا يحاول أن يجبر‬
‫الرومان على استعاده ملكه تاركوين المبجل ‪ Tarquin the Proud‬الذي ُنفي عام ‪ 509‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪(51) I translate voluntariam subivimus <mortem>, the easiest correction of the‬‬
‫‪archetype’s corrupt reading, voluntariam subsiluimus (cf. Malaspina’s voluntariam‬‬
‫‪sub<ivimus mortem aut *** sub>siluimus). Most earlier corrections have tried‬‬
‫‪to salvage subsiluimus (“leapt beneath”), perhaps correctly, taking S. to be‬‬
‫‪referring to Marcus Curtius’s legendary leap into a chasm that had opened in the‬‬
‫‪Roman forum, an act that satisfi ed an oracle and saved his city (e.g., Hosius’s‬‬
‫‪voluntarii <terram> subsiluimus, “willingly leapt beneath the earth”).‬‬

‫‪61‬‬
‫تحكمهم روحه ويرشدهم منطقه‪ُ ،‬ق ِّدر له الغلبة وتحطيم ذاتها بجيوشها‬
‫إن لم يرفعها بتروية‪.‬‬

‫‪ 1 - 4‬وهكذا فإن سالمة الملوك التي يحبونها تقود جحافلهم إلى المعركة‪،‬‬
‫عشرة في آن من أجل شخص واحد‪ ،‬عندما يركضون لمقابلة الخط‬
‫األمامي للعدو ويعرضون صدورهم للجروح خشية أن تتحول معايير‬
‫معا فهو النفس‬
‫معركة قائدهم في الجو‪ ،‬وألنه العروة التي تربط األمة ً‬
‫الحي الممتشق بالكثرة‪ ،‬والكثرة بذاتها ال شيء سوى وزن ميت‪ ،‬وفريسة‬
‫لاللتهام وغياب للعقل العظيم للسلطة المركزية‪ .‬حينما ال ُيؤذى الملك‬
‫فالكل فكر واحد‪ ،‬وعندما ُيفقد ُتكسر ُعرى األمان(‪.((5‬‬

‫وسوف تعني هذه الكارثة نهاية السالم لروما وتدمير ثروات مجتمعنا‬ ‫‪ 2 - 4‬‬
‫العظيم‪ ،‬وسيبقى هذا المجتمع بمنأى عن الخطر طالما أنه يعرف كيف‬
‫فرط فيها أو لم يمنعها من التبديل فسوف‬
‫يتحمل مقاليد األمور‪ ،‬وإن َّ‬
‫ُتضيعهم بعض المفاسد‪ ،‬وسوف تمزق هذه الوحدة وينفلت هذا النسيج‬
‫مطيعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫لسلطتنا العليا‪ ،‬وتنحل سيادة مدينتنا ولن تجد لها‬

‫ولهذا السبب ليس من الغريب أن األمراء والملوك وحراس النظام‬ ‫‪ 3 - 4‬‬


‫المدني ‪-‬وأ ًّيا كان االسم الذي يطلقونه‪ -‬محبوبون أكثر من العالقات‬
‫ٍ‬
‫امرئ عاقل يالحظ أن الشؤون العامة أكثر‬ ‫الشخصية‪ :‬حيث إذا كان أي‬
‫أهمية من الشؤون الخاصة‪ ،‬فهذا يعني أن الشخص الذي ترتكز عليه‬
‫األمة أعز ً‬
‫أيضا‪ ،‬ومنذ أمد بعيد وحتى اآلن دمج قيصر(‪ ((5‬شطري األمة‬

‫‪(52) Virgil Georgics 4.212–13; cf. §19.2 below.‬‬


‫(‪ ((5‬يستعمل سينيكا هنا االسم‪ ،‬وفي األصل الكنية ألحد فروع عشيرة جوليان (”‪،)cf. “Kaiser‬‬
‫ومكافئ لالصطالحات التي استعملت في الجملة السابقة (الملك واألمير وحارس النظام المدني‬
‫”‪.)“prince,” “king,” “guardian of the civil regime‬‬

‫‪62‬‬
‫معا‪ ،‬فقيصر يحتاج إلى قوة األمة‪،‬‬
‫بحيث ال يمكن فصلهما إال بتدميرهما ً‬
‫رئيسا لها‪.‬‬
‫بينما تحتاج األمة قيصر ً‬
‫يبدو أن حديثي قد انحرف عن الموضوع إلى حد ما‪ ،‬ولكن تيقن أنه مؤثر‬ ‫‪ 1 - 5‬‬
‫في األمر تما ًما(‪((5‬؛ ألنك إن كنت تفكر في عقل األمة وهو جسدك (هكذا‬
‫الحجة في هذه النقطة) فإنني أتصور أنك ترى مدى ضرورة العفو؛ ألنك‬
‫تفصل نفسك عندما يراك اآلخر مفصولاً ‪ ،‬وبالتالي عليك أن تفصل حتى‬
‫المواطنين المستحقين للعقاب كما تبتر أطرافك المتعثرة‪ ،‬وإن تطلبت‬
‫بعض األمور إراقة الدم عليك التحقق خشية أن يزيد الشق عن الضرورة‪.‬‬

‫وكما قلت‪ :‬العفو أمر طبيعي(‪ ((5‬للبشر جميعهم‪ ،‬وتيقن أنه من األفضل‬ ‫‪ 2 - 5‬‬
‫أن يتزيا به الناس في القيادة بقدر ما يملكه لحماية أحوالهم وما لديه من‬
‫مقدرات مادية تكشف عن ذاتها‪ ،‬فضرر قسوة المرء على أخيه بسيط!‬
‫ولكن وحشية األمراء تعني الحرب‪.‬‬

‫وفوق هذا فإن الفضائل ُتوجد في انسجام الدولة المتبادل بحيث ال‬ ‫‪ 3 - 5‬‬
‫يزيد أحد طرفيها في التفضيل أو الشرف أكثر من اآلخر(‪ ،((5‬فالحرية‬
‫مفعما‬
‫ً‬ ‫الممنوحة مالئمة لصنوف بعينها من الشخصيات(‪ ،((5‬فكونك‬
‫بالحيوية(‪ ((5‬فهذا صائر ألي ٍ‬
‫فان حتى المتواضع‪ :‬فهل ما هو عظيم أو‬

‫(‪ ((5‬وعد سينيكا في ‪ 1.3‬أن يكون الموضوعي األول هو سكينة العقل التي تفضي إلى العفو‪ ،‬ويبدأ‬
‫اآلن التعامل مع هذا الموضوع مباشرة‪.‬‬
‫حرفيا “وف ًقا للطبيعة ‪ .”secundum naturam‬وحول أهمية هذا المعيار بالنسبة للرواقيين انظر‬
‫ًّ‬ ‫(‪((5‬‬
‫مقدمة عن الغضب القسم الثاني‪.‬‬
‫(‪ ((5‬هذا موقف الرواقيين األصيل ‪.cf. On Anger 1.11.2n‬‬
‫(‪ ((5‬لالطالع على المبدأ القائل ينبغي أن نتصرف بطرق تناسب صفاتنا –وصفاتنا المشتركة هي أننا‬
‫بشر‪ ،‬وصفاتنا الفردية بمواهبها المتفردة ومزاجاتها‪ ،‬انظر ‪Cicero On Appropriate Actions‬‬
‫‪.1.107ff‬‬
‫(‪ ((5‬حول هذه الفضيلة انظر ‪.On Anger 1.20–21 and accompanying note‬‬

‫‪63‬‬
‫سموا أشد بالدة من شفا المصيبة؟ ال تزال هذه الصفة تتمتع بنطاق‬
‫أعظم ًّ‬
‫وافر من الحظ الحسن و ُينظر إليها بمزية أفضل من منصة القاضي عن‬
‫المكان الذي يقف فيه المتفرجون‪.‬‬

‫إن العفو يصل باألسرة إلى السعادة والسكينة‪ ،‬ولكنه مثير لإلعجاب في‬ ‫‪ 4 - 5‬‬
‫شيوعا فيه؛ ألن المرء الذي ال يعرف غضبه عوائق والذي‬
‫ً‬ ‫القصر وهي أقل‬
‫تكتسب أحكامه الفظة قبول َمن يدينهم‪ ،‬الذين ال يقاطعهم أحد والذين‬
‫ال يعتزمون التضرع حين يزيد غيظهم عن ًفا أكثر من المألوف‪ -‬ذلك‬
‫الشخص الذي يفكر في نفسه‪“ :‬هل بإمكان أي امرئ أن يكسر القانون‬
‫بأخذ الحياة‪ ،‬ولكني فحسب بمقدوري كذلك بصون حياته”(‪.((5‬‬
‫إن الروح العظيمة هي التي تزيين للحظ الحسن العظيم‪ ،‬وإن لم َت َ‬
‫رق‬ ‫‪ 5 - 5‬‬
‫بذاتها إلى مستوى الحظ الحسن وتطول أجنحتها فإنها تمرغ حتى الحظ‬
‫الحسن على األرض‪ ،‬إن السمة المميزة للروح العظيمة هي المسالمة‬
‫والهدوء والنظر على المذابح واإلهانات من موضع السمو‪ ،‬فاالغتياظ‬
‫في الغضب مخنث‪ ،‬وكذلك القسوة على َمن يلقون أنفسهم على قدمك‬
‫فتمزقهم بأسنانك – هذا سلوك الوحوش‪ ،‬وليست عند الوحوش نبالة‪.‬‬
‫فالفيلة واألسود تمرغ الحيوانات التي تطرحها‪ ،‬إنه سلوك االفتراس‬
‫الذي يحكمهم‪.‬‬

‫والغضب المتوحش المتصلب ال يصدر عن الملك‪ ،‬وهو الذي ال ُيظهر‬ ‫‪ 6 - 5‬‬


‫لآلخر حين ينزل به الغضب لمستوى اآلخر(‪ ((6‬وإن اكتسب حياة ومكانة‬

‫(‪ ((5‬تخفي المفارقة أمرًا‪ -‬كي يلغي العفو ما يقوله القانون فإن المخطأ قد يدان‪ -‬قد يعود إليه سينيكا‬
‫في الكتاب الثاني‪ ،‬حيث يستوجب عليه أن يفسر لماذا ينبغي للحكيم أن يعطي الناس كل ما‬
‫يستحقونه‪ ،‬ويكون هاد ًئا‪ ،‬ويتظاهر بأنه يعطي أقل مما يستحقه الناس‪.‬‬
‫(‪ ((6‬لالطالع على الدوافع الذاتية المماثلة لضبط الغضب راجع ‪.cf. On Anger 2.34.2, 3.32.1‬‬

‫‪64‬‬
‫بالمدَّ عى عليهم الذين يستحقون فقد الحياة والمكانة‪ ،‬فإنه‬
‫اجتماعية تليق ُ‬
‫مسموحا به فقط لمن هو في محل الحكم‪ :‬فالحياة يمكن أن‬
‫ً‬ ‫يصنع شيئًا‬
‫تأخذ طري ًقا مما هو أسمى وال يمكن أن تمنح لما هو أدنى‪.‬‬
‫ولكونك ً‬
‫منقذا فهذا سمة مميزة للحظ األسمى‪ ،‬والتي ال ينبغي أن يزيد‬ ‫‪ 7 - 5‬‬
‫اإلعجاب بها عندما تمنح نفس قوة األرباب‪ ،‬الذين يشرق لطفهم في‬
‫ضوء النهار على األخيار واألشرار‪ ،‬وإن األمير بطلبه مسلك األرباب‬
‫ينبغي أن يسعد لرؤية مواطنيه ألنهم أخيار ونافعون‪ ،‬بينما يترك آخرين‬
‫ليدير ظهره للرفقة‪ ،‬ودعه يبتهج بوجود البعض‪ ،‬وينظر ِ‬
‫بح ْل ٍم لوجود‬
‫آخرين‪.‬‬

‫في هذا المجتمع –حيث الحشود في حراك متواصل على الشوارع‬ ‫‪ 1 - 6‬‬
‫الفسيحة التي ازدحمت كلما أبطأت الحواجز تدفقها الجارف‪ ،‬وحيث‬
‫تطلب المقاعد في الثالثة مسارح في الوقت نفسه(‪ ،((6‬وحيث تستهلك‬
‫جميع منتجات المزارع في العالم بأسره‪ -‬تخيل مدى الخراب العظيم‬
‫حكما صار ًما قد ُيبرر‪.‬‬
‫ً‬ ‫هناك إذا بقي الكسر فحسب‬

‫وكم يندر وجود القاضي الذي ال يتحمل المسؤولية بموجب القانون‬ ‫‪ 2 - 6‬‬
‫ٍ‬
‫امرئ‬ ‫الذي يوجه تحقيقه؟ وكم يندر المتهم البريء؟ فال تزيد مقاومة‬
‫عندما يتعلق األمر بمنح العفو أكثر َمن الذي يستحق أن يسعى نحوه‬
‫غال ًبا‪.‬‬

‫كلنا يقترف الخطأ(‪ ،((6‬فبعضنا يفعله بطرق ضارية‪ ،‬وآخر بتفاهة‪،‬‬ ‫‪ 3 - 6‬‬

‫‪Marcellus‬‬ ‫(‪ ((6‬هذه هي مسارح بومبي (أول مسرح دائم في روما أقيم عام ‪ 55‬ق‪.‬م) ومارسيلوس‬
‫ً‬
‫(أيضا عام ‪13‬‬ ‫(بدأ بعد فترة وجيزة من بومبي ولم ينشأ حتى عام ‪ 13‬ق‪.‬م ) وبالبوس ‪Balbus‬‬
‫ق‪.‬م)‬
‫(‪ ((6‬حول الموضع راجع ‪.cf. esp. On Anger 2.10.2–6, 28, 3.26.3–5‬‬

‫‪65‬‬
‫والبعض بغرض‪ ،‬وآخر بدافع عشوائي أو يضل الطريق بشر آخر‪،‬‬
‫وبعض منا يتوقف بنوايانا الخيرة وال يصمد قليلاً ‪ ،‬ونفقد براءتنا على‬
‫مضض وبال هوادة‪ ،‬وال يقتصر األمر على ذلك بل نستمر في السقوط‬
‫حتى نهاية أيامنا‪.‬‬

‫طهر المرء ضميره حيث ال شيء يصرفه أو يخدعه‪ ،‬فإنه ال‬


‫وحتى لو َّ‬ ‫‪ 4 - 6‬‬
‫يزال يصل إلى البراءة بفعل الخطأ(‪.((6‬‬

‫وبما أنني ذكرت األرباب‪ ،‬فمن الحري وضع هذا النموذج لألمير‬ ‫‪ 1 - 7‬‬
‫ليحاكيه‪ :‬دعه يتمنى أن يعامل مواطنيه كما يود أن تعامله األرباب‪ ،‬فهل‬
‫من مصلحتنا أن القوى التي ذكرناها عاليه ال تعرف الصفح حين نخطئ‬
‫أو نضل؟ إن عداوتهم قد تمتد لتدميرنا تما ًما‪ ،‬والحري أنَّ أي ملك‬
‫يكون آمنًا وال تجتمع أطرافه(‪.((6‬‬

‫وإن كانت األرباب عادلة وفياضة باليسر بما هي ال تعاقب اآلثام الجسيمة‬ ‫‪ 2 - 7‬‬
‫بتفجير الرق‪ ،‬فمن اإلنصاف أن يمارس اإلنسان باعتدال مسؤوليته على‬
‫وإرضاء للعين عندما تكون‬
‫ً‬ ‫اآلخرين‪ ،‬ويتأمل إذا ما كانت حالة أشد جذ ًبا‬
‫السماء صافية والشمس مشرقة‪ ،‬أو عندما يهز قصف الرعد المتكرر كل‬
‫الخلق‪ ،‬وتبرق الصواعق من كل حدب! فإن الممارسة المتروية والهادئة‬
‫للقوة لها نفس مظهر السماء الصافية والباهية‪.‬‬

‫والحكم الملكي عندما يقسو يغرق في الضباب والظالل‪ ،‬ويرتعد الناس‬ ‫‪ 3 - 7‬‬
‫بمعفي من‬
‫ٍّ‬ ‫من كل جانب ويولولون‪ ،‬وحتى َمن يدق الناقوس ليس‬
‫الزعزعة‪ .‬ويمكن للمرء أن يتغافل بيسر عن البسطاء الذين يعندون في‬

‫(‪ ((6‬يشير سينيكا إلى الحكيم “الذي ال يغضب من الخطائين؛ ألنه يؤمن بأن الحكيم ال يولد بل ُيصنع”‬
‫(‪.)On Anger 2.10.6‬‬
‫(‪ - ((6‬هذا بعد أن ُبغض المخطئ بتوعده انظر ‪.On Anger 3.23.6n‬‬

‫‪66‬‬
‫حقيقيا‪ ،‬وآالمهم من أخطاء فعلية‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫ضررا‬
‫ً‬ ‫السعي لالنتقام‪ :‬فهم يعانون‬
‫وهم يخشون االحتقار أو أن يظهروا ضعفاء‪ ،‬وليسوا رحماء حين ال‬
‫يردون للذين يضرونهم‪ ،‬والمرء الذي قد ينتقم في إيماءته‪ ،‬ويدعي بأنه‬
‫على يقين أنه ُسيحتفى بكرمه إذا ترك فرصة االنتقام تمضي‪.‬‬

‫والناس في وقفة ذلهم لديهم متسع أكبر حين يقدمون على استعمال‬ ‫‪ 4 - 7‬‬
‫القوة وشد المالبس واالندفاع في المشاجرات وتغاضيهم عن غضبهم‪،‬‬
‫ضررا خفي ًفا‪ ،‬وأما بالنسبة للملك فإن‬
‫ً‬ ‫وضربات معتادة تصنع بالتساوي‬
‫رفع صوته بلغة معادية يتعارض مع جالله‪.‬‬

‫هل تعتقد أنه من المجحف أن تجرد الملوك من حرية التعبير عما في‬ ‫‪ 1 - 8‬‬
‫عقولهم حتى في أقل ما يملكونه؟ و«هذه عبودية» كما تقول “وليست‬
‫سلطة سامية”‪ ،‬هل تعني أنك ال تجد سلطتك لتكون عبودية نبيلة(‪((6‬؟‬
‫إن موقف هؤالء الذين يظلون مختبئين في الحشد مختلفين‪ :‬حيث‬
‫صراعا طويلاً لتُرى‪ ،‬ورذائلهم مكفورة في الظالل‪،‬‬
‫ً‬ ‫تخوض فضائلهم‬
‫ولكن كلمات وأفعال الناس الذين في موقفك تجعل تجوالهم محل‬
‫حرصا على سمعتهم الذين‬
‫ً‬ ‫القيل والقال‪ .‬ولهذا السبب أكثر الناس‬
‫تتردد أسماؤهم على كل شفاه‪ ،‬أ ًّيا كان صنف االسم الذي يتداولونه‪.‬‬

‫فكم من األشياء ُتستنكر عليك وهي مسموحة لنا بفضلك! فبمقدوري‬ ‫‪ 2 - 8‬‬
‫أن أتجول في المدينة دون خوف في كل أرجاء المدينة‪ ،‬ودون مرافقة‬
‫رفيق‪ ،‬وال يوجد سالح في بيتي وال بجانبي‪ ،‬ولكنك تعيش مع السالح‬

‫(‪ ((6‬الفكرة المفارقة التي ترى أن السلطان الملكي “عبودية ممجدة” استئنفت عنها أدناه‪ ،‬وعبر عنها‬
‫بالملك المقدوني أنتيجونوس الثاني جوناتوس ‪( Antigonus II Gonatas‬حكم من ‪-276‬‬
‫‪ 239‬انظر ‪ )Aelian Miscellaneous History 2.20‬وانظر ‪Consolation to Polybius 7.2‬‬
‫أمورا عدة‪.‬‬
‫)‪ (on Claudius‬حيث يشير سينيكا إلى أن األمير رغم كل قوته إال أنه يحظر ً‬

‫‪67‬‬
‫حتى في حالة السالم الذي توفره‪ ،‬وال تستطيع أن تبتعد في حياتك عن‬
‫الحاشية التي ُتبقيك في سياج وتتبعك أينما حللت‪.‬‬

‫الضرورة‬ ‫وهذه(‪((6‬‬ ‫هذه عبودية الجالل األسمى‪ :‬ال يمكن تقليصها‪،‬‬ ‫‪ 3 - 8‬‬
‫تشارك بها األرباب المحبوسين في السماء ً‬
‫أيضا‪ ،‬وغير مسموح لهم أن‬
‫يهبطوا(‪ ((6‬من فوق بأكثر من أن ُيأمنوك لتفعل كذلك‪ :‬لقد زرعت مؤقتًا‬
‫على سيادتك‪.‬‬

‫قليلون َمن هم على وعي بتحركات الرجال مثلي‪ُ ،‬يسمح لنا بأن نغدو‬ ‫‪ 4 - 8‬‬
‫ونروح و ُنغير مالبسنا دون أن يالحظنا الناس في جمعهم‪ ،‬وال يمكنك‬
‫ويحيط بك ضوء عظيم يوجه نظرات‬ ‫الشمس(‪((6‬‬ ‫أن تختبئ إال من‬
‫الجميع‪ ،‬هل تفكر أنك تغدو للتو؟ إنك ُتشرق‪.‬‬

‫ال يمكن أن تتحدث دون أن تستمع أمم العالم لما تقول‪ ،‬وال ينتابك‬ ‫‪ 5 - 8‬‬
‫الغضب دون أن يرتعد العالم‪ ،‬وال ُتلقي بأحد على األرض دون أن‬
‫ترج المنطقة المجاورة‪ ،‬مثل ضربات البرق ُتعرض قلة للخطر و ُتخيف‬
‫الكل‪ ،‬فالعقوبات التي يفرضها الرعب المنتشر على مدى واسع َيزيد‬
‫على الضرر‪ ،‬ليس دون سبب؛ فعندما يتمتع المرء بقوة كاملة ال ينصب‬
‫االهتمام في مقدار ما فعله‪ ،‬بل في مقدار ما يمكن أن يفعله‪.‬‬

‫(‪ ((6‬انظر ترجمة إيراسموس ‪ Erasmus‬لكلمة ‪ ista‬و ‪.ipsa‬‬


‫وجها‬
‫ً‬ ‫(‪ ((6‬يشير سينيكا إلى التصور الشائع بأن اآللهة باعتبارها موجودات تمنع عادة االتصال بالبشر‬
‫لوجه‪ ،‬والالهوت الرواقي الذي اعتبر اإلله مبدأ العناية العقالني الذي ينتشر ويحكم العالم فسر‬
‫وحدة الوجود التقليدية باعتبارها تجليات عدة لهذا المبدأ‪.‬‬
‫(‪ ((6‬توقع سينيكا تأليه نيرون مع اإلله أبوللو في صفته كالشمس؛ ليكون باع ًثا لعهده‪ ،‬محتف ًيا به في‬
‫حضرت صورته بتاج مشع‪ ،‬انظر‬ ‫ْ‬ ‫النصوص األدبية وبصك العملة في أرجاء اإلمبراطورية‪ ،‬حيث‬
‫‪.Champlin 2003:112ff‬‬

‫‪68‬‬
‫بالسخافات(‪((6‬‬
‫التي يتلقوها‬ ‫وأضف إلى هذا االعتبار‪ :‬حيث تعبأ‬ ‫‪ 6 - 8‬‬
‫ٍ‬
‫مزيد من السخافات‪ ،‬فالملوك‬ ‫تجعل الناس البسطاء أكثر عرضة لتلقي‬
‫يستمدون األمن بموثقية من اللطف؛ ألن العقاب يقمع كراهية القلة‬
‫ولكنه يحفز كراهية الكل‪.‬‬

‫وينبغي للرغبة في الغضب أن تتوقف قبل أن يصير الكف علة للغضب‪،‬‬ ‫‪ 7 - 8‬‬
‫وإال ُتصبح مثل األشجار التي ُتقلم فتطلق فروعها عال ًيا‪ ،‬وكثير من‬
‫النباتات التي ُتقطف فتتبرعم بكثافة‪ ،‬وكذلك تضخم قسوة الملك‬
‫صفوف أعدائه بتدميرها‪ :‬فكل َمن ُيقتل آباؤه وأطفاله وأقرباؤه وأصدقاؤه‬
‫سوف يحل محلهم‪.‬‬

‫وأود أن أقنعك بهذه الحقيقة بمثال من عائلتك‪ ،‬فقد كان أوغسطوس‬ ‫‪ 1 - 9‬‬
‫أميرا(‪ ((7‬معتدلاً ‪ ،‬وإذا شرع المرء في تقدير حكمه وكذلك فعل‬
‫اإللهي ً‬
‫ليوقن‪ ،‬وحمل السالح في محنة الجمهورية التي شارك فيها الجميع(‪،((7‬‬
‫وكان في عمرك أي بلغ الثامنة عشرة‪ ،‬وطعن أصدقاء في القلب‪ ،‬ونصب‬
‫بالفعل مؤامرة لمارك أنطوني حين كان قنصلاً ‪ ،‬وصار طر ًفا ح ًّقا في‬
‫المحظورات(‪.((7‬‬

‫وبلغ األربعين بمرور الزمن‪ ،‬وهو يقضي الوقت في الغال‪ ،‬ووصله بيانٌ بأن‬ ‫‪ 2 - 9‬‬

‫(‪ ((6‬انظر ‪.On Anger 2.11.1‬‬


‫(‪ ((7‬عن صبر أوغسطوس انظر ‪.On Anger 3.23.4–8‬‬
‫(‪ ((7‬قراءة في مبدأ عام لإلمبراطورية ‪communi quidem rei publicae‬‬
‫‪(72) The only reasonable construction of the passage treats the clauses “By the time he was‬‬
‫‪your age. . . .” and “by the time he was forty . . .” as parallel and requires a full stop‬‬
‫‪before the first (Grifffin 1976:408–11). Augustus had not in fact done all the things‬‬
‫‪mentioned by the age of 18 (the proscriptions, for example, postdated his twentieth‬‬
‫‪birthday), but S. does not let chronological precision stand in the way of making a‬‬
‫‪point (cf. Griffin ibid. with, e.g., On Anger 1.20.4n.). The passage dates the treatise‬‬
‫‪to Nero’s nineteenth year (15 December 55 to 14 December 56).‬‬

‫‪69‬‬
‫لوكيوس سينا ‪ Lucius Cinna‬رجل ليس على قدر من الذكاء‪ ،‬حيث كان‬
‫يتآمر عليه(‪ ،((7‬فأين ومتى وكيف سوف يهجم عليه عن طريق أحد المتآمرين؟‬

‫وقرر أن ينتقم من سينا‪ ،‬وأمر باجتماع حاشية القنصل‪ ،‬وقضى ليلة‬ ‫‪ 3 - 9‬‬
‫كريما للغاية‬
‫ً‬ ‫مزعجة وهو يفكر في أنه أدان شا ًّبا من أسرة عريقة كان‬
‫باستثناء هذه الحادثة‪ ،‬وهو حفيد جنايوس بومبي‪ ،‬الرجل الذي كان‬
‫ُيملي على مارك أنطوني فرمان المحظورات على العشاء ال يستطيع أن‬
‫يقتل رجلاً واحدً ا وحيدً ا‪.‬‬

‫علي أن أفعل إذنْ ؟‬ ‫وبدأ يئن بصوت ٍ‬


‫عال‪ ،‬وكلماته تتصارع مع نفسها‪ “ :‬ماذا َّ‬ ‫‪ 4 - 9‬‬
‫هل أدع قاتلي يتجول دون أن أحرص أن أقتله حين يدمرني القلق؟ ألم ُيعاقب‬
‫حين يجرؤ ليس على قتلي بل ليقدم لي أضحية دموية؟” – ألن سينا قرر أن‬
‫يهاجم أوغسطوس وهو ُيضحي‪“ -‬أبعد أن نجوت من أغوار حروب أهلية‬
‫عدة‪ ،‬ومناوشات برية وبحرية‪ ،‬وجلبت السالم على األرض والبحر؟”‪.‬‬
‫وعاد مرة أخرى بعد أن وقع في الصمت للكالم بصوت ٍ‬
‫عال وغضب‬ ‫‪ 5 - 9‬‬
‫يتحدث عن نفسه أكثر مما يتحدث عن سينا‪ “ :‬لماذا تعيش إذا كان يهتم‬
‫بموتك كثيرون؟ أي نهاية سوف يرسمها العقاب وإراقة الدماء؟ صار‬
‫رأسي هد ًفا لشباب شرفاء المولد‪ ،‬والذين يسنون سيوفهم للمباغتة‪ :‬إن‬
‫تدميرا أعظم”‪.‬‬
‫ً‬ ‫الحياة ال تستحق ثمنًا ً‬
‫باهظا إذا كان منع تدميري يتطلب‬

‫(‪ ((7‬الرجل الذي يُدعى “لوكيوس سينا ‪ ”Lucius Cinna‬كان جنايوس كورنيلوس سينا ماجنوس‬
‫‪ Gnaeus Cornelius Cinna Magnus‬ابن لوكيوس كورنيلوس سينا‪ -‬حماه يوليوس قيصر‬
‫عدوا ألوغسطوس‬ ‫ًّ‬ ‫“ولِدَ‬
‫وافق الح ًقا على قتله‪ -‬وحفيد بومبي العظيم‪ ،‬ويوصف في ‪ 8‬باعتباره ُ‬
‫ولم يصنع” أصبح قنصلاً عام ‪5‬م‪ ،‬وتأريخ سينيكا للحادث إلى وقت كان فيه أوغسطوس في‬
‫الغال في األربعينيات من العمر‪ ،‬ومن المرجح أنه كان في عام ‪ 14-16‬ق‪.‬م‪ ،‬ومكانته التاريخية‬
‫محل شك‪ ،‬وهناك طبعة متوسعة ربما أسندت إلى سينيكا بشكل مباشر أو غير مباشر موجودة في‬
‫‪ 22.2–55.14 Cassius Dio‬يرجع تاريخها إلى ‪4‬م‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫وقاطعته زوجته ليفيا(‪ ((7‬وقالت‪“ :‬هل تأخذ بنصيحة امرأة؟ هل تفعل‬ ‫‪ 6 - 9‬‬
‫ما يصنعه الطبيب عندما ال تكون الوصفات المعتادة غير مجدية‪ :‬فجرب‬
‫عالجات مضادة‪ ،‬فالصرامة لن تصل بك إلى مكانٍ‪ ،‬فقد قلد ليبيدوس‬
‫‪ Lepidus‬سالفيدينوس ‪ ،Salvidienus‬وقلد مورينا ‪ Murena‬ليبدوس‪،‬‬
‫وقلد كايبوي ‪ Caepio‬مورينا‪ ،‬وقلد إجناتيوس ‪ Egnatius‬كايبوي –‬
‫ولن أقول شيئًا عن آخرين أستقبح ذكرهم(‪ ،((7‬جرب اآلن وانظر كيف‬
‫سوف يصل بك العفو‪ :‬وتجاهل لوكيوس سينا‪ ،‬لقد ُقبض عليه ولن‬
‫ُيلحق بك أذى‪ ،‬مع ذلك يمكن أن ُيسدي لسمعتك بعض الخير”‪.‬‬

‫ناصحا وشكر زوجته بحرارة‪ ،‬وأمر بإلغاء‬


‫ً‬ ‫وابتهج أوغسطوس ألنه وجد‬ ‫‪ 7 - 9‬‬
‫اجتماع حاشية القنصل‪ ،‬واستدعى سينا نفسه‪ ،‬وبغض النظر عن ما كان‬
‫في ديوانه أمر بتوفير كرسي آخر لسينا‪ ،‬وقال‪“ :‬أطلب منك أولاً وقبل‬
‫كل شيء أال تقاطعني وأن أتحدث أو تتفوه خالل تعليقاتي‪ ،‬وسوف‬
‫أعطيك ما تحب من الوقت لتتحدث‪.‬‬

‫(‪ ((7‬ليفيا دورسيال )‪ Livia Drusilla (58 BCE–29 ce‬زوجة أوغسطوس وأم تيبيريوس‪ُ ،‬طلقت من‬
‫وأمرت عام ‪ 39‬بالزواج من أوغسطوس‪ ،‬ولكن نجت‬ ‫والد األخير تيبيريوس كالوديوس نيرون‪ُ ،‬‬
‫منه خمسة عشر عا ًما‪ ،‬ثم ألهت حفيدها كالوديوس‪.‬‬
‫(‪ ((7‬عُين كوينتوس سالفيدينوس روفوس سالفوس ‪ Quintus Salvidienus Rufus Salvius‬قنصلاً‬
‫عم ‪39‬ق‪.‬م حين اتهم في والئه ألوكتفيان وأُدين من السوناتو (‪،)Cassius Dio 48.33.1–3‬‬
‫واألسماء األخرى المذكورة هنا ماركوس إيميلوس لبيدوس ‪Marcus Aemilius Lepidus‬‬
‫ابن تريومفير ‪ triumvir‬مؤامرة بتاريخ ‪ ،29‬وفارو مورينا ‪ Varro Murena‬وفانيوس كايبيو‬
‫معا عام ‪ ،22-23‬وماركوس إجناتوس روفوس ‪Marcus‬‬ ‫‪ Fannius Caepio‬اللذان عمال ً‬
‫‪ Egnatius Rufus‬الذي ُأعدم عام ‪ 19‬بسبب أعمال عنف ال تستهدف أوغسطوس مباشرة‪ ،‬وانظر‬
‫‪ Suetonius Augustus 19.1‬الذي ذكر عديدًا من المتآمرين بما فيهم الحر أسينيوس إبيكادوس‬
‫‪ Asinius Epicadus‬والعبد تيليفيوس ‪ ،Telephus‬ويضع سينيكا هذا األخير في االعتبار فعندما‬
‫يذكر ليفيا فهو يشير إلى َمن يعتبر أن أفعالهم مصدر للخجل‪ ،‬أما األشخاص ذوو المكانة المتردية‬
‫فكانوا بالنسبة للعقل اليوناني مشينين في حد ذاتهم‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫عدوا ولست‬
‫«يا سينا رغم أني عثرت عليك في معسكر أعدائي‪ -‬مولود ًّ‬ ‫‪ 8 - 9‬‬
‫مصنوعا‪ -‬سوف أتركك تعيش وتحتفظ بممتلكات عائلتك‪ ،‬اليوم تزهو‬
‫ً‬
‫وتغني حتى يحسد المنتصرون المهزمين‪ ،‬لقد مررت على كثير من‬
‫اآلباء الذين قاتلوا بجواري ألعطيك التبجيل الذي تسعى إليه‪ ،‬ورغم‬
‫أنني أستحق تقديرك‪ ،‬فقد تعهدت بقتلي”‪.‬‬

‫في هذه اللحظة صرخ سينا كما لو كان مجنو ًنا‪ ،‬وقال أوغسطوس‪”:‬‬ ‫‪ 9 - 9‬‬
‫ْ‬
‫تحفظ وعدك يا سينا‪ :‬لقد اتفقنا أال تقاطع‪ ،‬وكما قلت إنك تستعد‬ ‫لم‬
‫لقتلي”‪ ،‬وحدد المكان ورفاقه في المؤامرة‪ ،‬واليوم‪ ،‬وترتيب َّ‬
‫الش َرك‪،‬‬
‫والشخص المنوط به السالح‪.‬‬

‫مشدوها وصامتًا ال بسبب اتفاقهم‪ ،‬بل ألنه على وعي‬


‫ً‬ ‫‪ 10 - 9‬وعندما رأى سينا‬
‫تام بما فعله‪ ،‬قال أوغسطوس‪“ :‬ما هدفك بهذا الصنيع؟ هل تعني أن‬
‫أميرا؟ يا إلهي‪ ،‬إن الرومان في شر درب إن كنت أنا الشيء‬
‫تقيم نفسك ً‬
‫الوحيد بينك وبين السلطان األسمى ! إنك ال تستطيع أن تحمي أسرتك!‬
‫لقد ُهزمت اآلن في ردائك‪ ،‬وأسقطه أثر رجل حر(‪ ،((7‬ح ًّقا لن يكون‬
‫يسيرا كما تظن(‪ ((7‬من أن ترفع العويل والبكاء للقيصر! انظر‪ :‬إن‬
‫ً‬ ‫شيئًا‬
‫كنت أنا العقبة الوحيدة ألمانيك فهل تتحمل معك باولوس وفابيوس‬
‫ماكسيموس ورجال مثل كورسوس وسيرفيليوس (‪– Servilius((7‬‬
‫نعم‪ ،‬والجحافل الكبيرة من النبالء‪ ،‬ال الذين ال يقدمون شيئًا سوى‬

‫(‪ ((7‬كما كان من المخجل أن تتعرض للهجوم الجسدي من مثل هذا الشخص (‪ ،)§6n.‬ومن المشين‬
‫أن ُيظهر أنه أقل نفو ًذا‪.‬‬
‫‪(77) The translation reflects Haase’s putas, for potes.‬‬
‫(‪ ((7‬من المفترض أن سينيكا يفكر في األرستقراطيين الذين تقلدوا لقب القنصل في عهد أوغسطوس‬
‫—‪Cossus Cornelius Lentulus (in 1 BCE), Lucius Aemilius Paulus (1 CE),‬‬
‫‪ Marcus Servilius (3 CE), Paullus Fabius Maximus (11 CE)-‬مع أن ظهورهم كان شا ًّذا‬
‫قبل التاريخ الذي يحدده سينيكا‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫االسم بل الذين يجلبون الشرف ألسالفهم؟”(‪.((7‬‬

‫‪ 11 - 9‬ولن نأخذ نصيب األسد في هذا الكتاب بتكرار ما كل ما قاله (ألنه تحدث‬
‫ما يربو عن ساعتين‪ ،‬وهو يضع الطريقة التي سيقر بها العقوبة الوحيدة‬
‫التي سينالها سينا)‪ :‬وقال أوغسطوس‪“ :‬سأمنحك حياتك‪ ،‬كنت ساب ًقا‬
‫عدوي بالسالح واآلن متآمر وقاتل‪ ،‬ومن هذا اليوم نبدأ صداقتنا‪ ،‬ودعنا‬
‫نتنافس لنرى َمن الذي سيتصرف بحسن النية– أنا كمنقذ لك أو أنت‬
‫كمدين لي”‪.‬‬

‫‪ 12 - 9‬وبعد ذلك منحه أوغسطوس بالفعل قنصلية‪ ،‬ووبخه ألنه لم يجرؤ على‬
‫مخلصا ووريثه الوحيد(‪ ،((8‬ولم‬
‫ً‬ ‫الطلب‪ ،‬واتخذ سينا خليلاً وصدي ًقا‬
‫يصر أوغسطوس هد ًفا للتآمر مرة أخرى‪.‬‬
‫ْ‬
‫فمن الذي‬‫‪ 1 - 10‬إن جدك العظيم األكبر(‪ ((8‬عفا عن الذين غزوه‪ ،‬وإن لم يفعل َ‬
‫جند من معسكر أعدائه سالوست ‪ Sallust‬ورجالاً مثل‬ ‫سيحكم؟ فإنه َّ‬
‫ككيوس ‪ Cocceius‬وديلليوس ‪ Dellius‬وحاشية من أقرب المقربين‬
‫له(‪ ،((8‬وسرعان ما أدخل في عفوه رجالاً مثل دوميتيوس ‪Domitius‬‬
‫وميساال ‪ Messala‬وأسينيوس ‪ Asinius‬وشيشرون ‪ – Cicero‬في‬

‫حرفيا “الذين هم زينة ألقنعة ألسالفهم ‪ ،”imaginibus suis decori sint‬إشارة إلى أقنعة‬ ‫ًّ‬ ‫‪-‬‬ ‫(‪ ((7‬‬
‫الشمع ألسالفهم‪ ،‬حيث إن الرومانيين كانوا يشرفون بعمل فتحة في بهو منازلهم‪ ،‬ويقصد‬
‫سينيكا أن الناس ال ُيسمون بمعايير أسالفهم بل يضيفون بريقهم إليهم‪.‬‬
‫‪ -‬كان إدخال شخص في إرادة آخر من الوسائل السائدة التي استعملها الرومان للداللة على‬ ‫(‪ ((8‬‬
‫األلفة االجتماعية واالحترام (‪)Champlin 1991‬‬
‫‪ -‬يتحدث سينيكا عن أصل نيرون الحميم من أوغسطوس باعتباره نجل أجربيانا الصغرى وحفيد‬ ‫(‪ ((8‬‬
‫أجرييانا الكبرى ابنه جوليا وأغسطوس ابنها الوحيد‪،‬‬
‫حرفيا “ العصبة برمتها (الذين لهم حق) الدخول أولاً انظر ‪On Favors 6.34.1–2 S. traces‬‬
‫ًّ‬ ‫‪-‬‬ ‫(‪ ((8‬‬
‫‪to Gaius Sempronius Gracchus (d. 121 BCE) and Marcus Livius Drusus (d. 109‬‬
‫)‪ BCE‬ممارسة النبل الروماني لتقسيم أصدقائهم إلى درجات محاكاة للملوك الهيللينستيين‪ ،‬وقد‬
‫اتخذ كالوديوس أصدقاء بعينهم للدخول في حضرته )‪.(Pliny Natural History 33.41‬‬

‫‪73‬‬
‫الحقيقة كل نخب المجتمع(‪ ،((8‬أما بالنسبة لمَن مثل ليبيدوس– تركه‬
‫يصون موته(‪ !((8‬ترك ليبيدوس بشرف يناسب مواطنًا رائدً ا في المجتمع‪،‬‬
‫يسمح بنقل وظيفة رئيس الكهنة له حتى مات اآلخر؛ أراد أن تكون‬
‫ْ‬ ‫ولم‬
‫شر ًفا وليس غنيمة‪.‬‬

‫‪ 2 - 10‬جلب له عفوه أمنه وسالمة باله‪ ،‬فرأى الناس فضله بامتنان‪ ،‬لذلك ملك‬
‫بقبضته رقبة الشعب الروماني الذي لم يخضع بعد لسلطان الحاكم‪،‬‬
‫عفو ُه شهر َت ُه إلى يومنا هذا‪ ،‬وهو شيء يتمتع به قلة من األمراء‬
‫فصنع ُ‬
‫األحياء(‪.((8‬‬

‫أمرا لنقوم بذلك(‪ ،((8‬ونقبل أن‬ ‫‪ 3 - 10‬نحن نعتقد أنه رب‪ ،‬لكن لم َّ‬
‫نتلق ً‬
‫‪Gaius‬‬ ‫(‪ ((8‬قائمة الجمهوريين الذين اختارهم أوغسطوس ومنهم جايوس سالوستيوس كريسبوس‬
‫‪ Sallustius Crispus‬حفيد االبن وابن بالتبني للمؤرخ سالوست ‪ ،Sallust‬وماركوس كوشيوس‬
‫نيرفا ‪ Marcus Cocceius Nerva‬كان قنصلاً عام ‪ 36‬ق‪.‬م بعد عفو أوكتافيان عنه‪ ،‬وكيونتوس‬
‫ديلوس ‪ Quintus Dellius‬الذي أطلق عليه ‘المتسابق البهلوان’ في زمن الملوك الثالثة الرتباطه‬
‫برجال السياسة على التوالي وانفصاله عنهم حتى استقر على أوكتافيا بعد معركة أكتيوم‪،‬‬
‫وجنايوس دوميتيوس أهنوباربوس ‪ Gnaeus Domitius Ahenobarbus‬مشايع لقتل يوليوس‬
‫قيصر وبروتوس ثم مارك أنطوني‪ ،‬والذي تحول في الوقت المناسب إلى أوكتافيان قبل أكتيوم‪،‬‬
‫وماركوس فاليريوس ميساال كورفينوس ‪ Marcus Valerius Messala Corvinus‬قنصل عام‬
‫‪ 31‬ق‪.‬م الذي يشبه في وظيفته أهنوباربوس‪ ،‬وجايوس أسينيوس بولليو ‪Gaius Asinius Pollio‬‬
‫(انظر ‪ )On Anger 3.23.5n.‬الذي حافظ على مزيد من استقالل أوغسطوس عن اآلخرين الذين‬
‫سماهم‪ ،‬وماركوس تيليوس شيشرون ‪ Marcus Tullius Cicero‬قنصل عام ‪30‬ق‪.‬م‪ ،‬وهو االبن‬
‫الفاسق للخطيب وهو الرجل الوحيد الذي نجا من عائلته من اإلبعاد‪.‬‬
‫(‪ ((8‬أقدم وأعظم األرستقراطيين في حكومة الثالثة ماركوس إيميليوس ليبيدوس ‪(Marcus Aemilius‬‬
‫‪ Lepidus (ca. 89–ca. 13‬الذي همشه أنطوني وأوكتفيان ونفاه األخير عام ‪ ،36‬وسمح له بالعودة‬
‫إلى روما واحتفظ بوظيفة ‪ pontifex maximus‬حتى وفاته والتي خلفه فيها يوليوس قيصر عام ‪.44‬‬
‫(‪ ((8‬وهذا طبيعة سينيكا‪ ،‬فهو على استعداد بالتضحية باالتساق من أجل سطر حسن‪ :‬على النقيض في‬
‫الفقرة ‪ 1.8‬حول شهرة األمراء التي ال مفر منها‪.‬‬
‫(‪ ((8‬على النقيض (بالتضامن) مع كالوديوس الذي يسخر سينيكا من تأليهه في كتاب تأليه كالوديوس‬
‫‪.Apocolocyntosis‬‬

‫‪74‬‬
‫خيرا يستحق اسم أبيه لمجرد أنه لم يرد اإلهانات‬
‫أميرا ً‬
‫أغسطوس كان ً‬
‫التي يعانيها بقسوة (وإن حساسية األمراء لإلهانات أعلى من األضرار)‪،‬‬
‫إنه ضحك من التعليقات الخشنة التي حيكت عليه(‪ ،((8‬وعندما كان‬
‫يفرض عقوبة كان يجربها على نفسه‪ ،‬ونأى بنفسه عن قتل الرجال الذين‬
‫أدانهم بتهمة الزنا مع ابنته‪ ،‬فقد منحهم رسائل عبور يكونون بها آمنين‬
‫عندما يرسلهم بعيدً ا(‪.((8‬‬

‫‪ 4 - 10‬هذا هو جوهر المغفرة‪ :‬وهو أن تعطي ضمانة لألمان ال أن تمنحنه‬


‫فحسب‪ ،‬وعندما يعلم كثير من الناس هذا‪ ،‬فالغاضبون لحاجتك على‬
‫استعداد إلسعادك بسفك دماء أناس آخرين‪.‬‬

‫‪ 1 - 11‬هذا هو سلوك أوغسطوس في الشيخوخة أو مقتبل كبر سنه‪ ،‬فعندما‬


‫كانت تشتد أموره وتهتاج غض ًبا فإنه يقوم بأشياء عدة يعيد فيها النظر‬
‫مليا فيما بعد على مضض‪ ،‬وال يجرؤ أحد أن يقارن أوغسطوس‬
‫ًّ‬
‫اإللهي بلطفك‪ ،‬حتى لو وضع تقدم سن أوغسطوس مقابل شبابك‪،‬‬
‫ورحيما– وكان ذلك بالطبع بعد تلطيخ بحر أكتيوم‬
‫ً‬ ‫الجما‬
‫ً‬ ‫نعم‪ ،‬كان‬
‫بالدم الروماني‪ ،‬وبعد أن دمر أسطوله وعدوه في صقلية‪ ،‬وبعد حرب‬
‫البيريسين ‪ the Perusine War‬والتحريمات ‪.((8( proscriptions‬‬

‫(‪ ((8‬راجع ‪.On Anger 3.23.4–8‬‬


‫(‪ ((8‬الجوانب المخيلة في سلسلة زيجات الساللة الملكية واألخيرة إلمبراطور المستقبل تيبيريوس‬
‫وابنة أوغسطوس جوليا المزمع ارتباطها بعالقات زنا عدة انظر ‪a partial catalog: Velleius‬‬
‫‪ Paterculus 2.100.4–5‬والتي نفاها والدها عام ‪2‬ق‪.‬م‪ ،‬وال يذكر سينيكا هذا الحدث‪ ،‬واختار‬
‫كلمات هنا “أبعدهم ‪ ”sent them away‬وهو تعبير لطيف‪ :‬وعلى األقل نفي أحد عشاقها‪ ،‬انظر‬
‫‪ Tacitus Annals 1.53.3–4‬واآلخر أمر بإعدامه (‪.)ibid. 1.10.4, Cassius Dio 55.10.15‬‬
‫(‪ ((8‬يشير سينيكا إلى نظام الترتيب الزمني العكسي لهزيمة أوغسطوس ألنطوني وكليوباترا في ‪31‬‬
‫ق‪.‬م‪ ،‬والحرب ضد سيكتوس بومبيوس عام ‪ 36‬ولوكيوس أنطونيوس عام ‪ 41‬والقتل في بداية‬
‫الملوك الثالثة عام ‪.)cf. On Anger 2.2.3n.( 43‬‬

‫‪75‬‬
‫«عفوا»‪ ،‬وهذا القيصر هو العفو الحق – ألنه‬
‫ً‬ ‫‪ 2 - 11‬أنا ال ُأسمي القسوة المضنية‬
‫ٍ‬
‫لماض‬ ‫بال عيب ولم يسفك دماء مواطنيه‪ -‬والنوع الذي ال يبدأ من ندم‬
‫وحشي(‪ ،((9‬في موقف السلطان األسمى في ضبط النفس الحق‪ ،‬والتائق‬
‫ْ‬
‫فأقبل لهذا‪ :‬لتتخلص من حافة سلطة‬ ‫لربط البشر جميعهم بالذات(‪،((9‬‬
‫الفرد وال تتطلع لكيف يمكن للمرء أن يفلت من مواجهة أحد مواطنيه‬
‫بعيدً ا عن انفعال متحمس أو حماقة متهورة أو بسبب أحد قد أفسد بما‬
‫وضعه األمراء السالفون والمتقدمون‪.‬‬

‫‪ 3 - 11‬أنت يا قيصر‪ ،‬حفظت المجتمع من إراقة الدماء‪ ،‬وهذا إنجاز –وهذا‬


‫موضع للفخار أنك لم تدع قطرة دم واحدة ُتنزف في العالم‪ .-‬وهذا أمر‬
‫جلل معجب؛ ألنه لم يعهد بسيف السلطة من قبل ألي أحد في المرحلة‬
‫األولى من حياته‪.‬‬

‫‪ 4 - 11‬العفو إ َذنْ ال يريح البشر فحسب بل يجعلهم آمنين‪ ،‬وهو زينة للسلطة‬
‫األسمى وضمانة لألمن‪ ،‬فلماذا يصل الملوك إلى الشيخوخة ويورثون‬
‫ممالكهم ألبنائهم وأحفادهم في حين أن سلطان الطغاة بغيض وقصير‬
‫األجل؟ ما الفرق بين الطاغية والملك ( حيث تتساوى ثرواتهم ولديهم‬
‫المتعة(‪((9‬‬ ‫الرخصة ذاتها)؟ إن الطغاة ينغمسون في العنف على سبيل‬
‫بينما يفعل الملوك‪ ،‬كذلك فحسب لبعض األسباب الضرورية‪.‬‬

‫‪« 1 - 12‬وماذا إ َذنْ » ربما قد تعترض «وهل ال يقتل الملوك الناس عادة؟»‪ ،‬نعم‪،‬‬
‫ولكن بقدر ما يستحثهم الصالح العام‪ ،‬والوحشية أقرب إلى قلوب‬

‫(‪ ((9‬حتى لو لم تكن الحقيقة معروفة على نطاق واسع‪ ،‬فإن سينيكا على وعي بمسؤولية نيرون عن وفاة‬
‫بريتانيكوس‪.‬‬
‫‪(91) The translation starts from Mazzoli’s comprendendi item sibi amor to provide a‬‬
‫‪stopgap for the archetype’s deeply corrupt conpraenditte sibi mor.‬‬
‫(‪ ((9‬هذه عالمة الرجل ‘الهمجي’ في ‪.On Anger 2.5‬‬

‫‪76‬‬
‫الطغاة‪ ،‬فالطاغية يختلف عن الملك في سلوكه وليس في لقبه(‪،((9‬‬
‫جديرا لملوك عدة وكذلك لوكيوس‬
‫ً‬ ‫فقد كان ديونيسوس األكبر مثالاً‬
‫سولال‪ ،‬فما الذي منع أن ُيطلق عليه اسم طاغية‪ ،‬هل ألنه توقف عن قتله‬
‫فحسب حين نفد من األعداء(‪((9‬؟‬

‫‪ 2 - 12‬نعم‪ ،‬قلص حكمه المطلق ولبس رداء المواطن البسيط‪ ،‬وأي طاغية‬
‫شرب من دم اإلنسان بشراهة كما فعل هو؟ لقد أمر بذبح سبعة آالف‬
‫مواطن روماني‪ ،‬وهو يجلس بالقرب من معبد بيلونا ‪temple of‬‬

‫‪ ((9( Bellona‬يسمع بكاء وعويل آالف عدة يندفعون تحت السيف‪،‬‬


‫وقال لمجلس الشيوخ المرعوب‪“ :‬هيا بنا إلى العمل الذي أمامنا أيها‬
‫اآلباء المجندون! نقتل حفنة من الخونة بأمري”‪.‬‬

‫‪ 3 - 12‬لم تكن هذه كذبة‪ ،‬قد بدا هؤالء لسولال حفنة‪ ،‬وسوف نرتد لسولال‬

‫(‪ ((9‬الحكام الملكيون الذين اكتسبوا لقب الطاغية في اليونان في القرن السابع والسادس قبل الميالد‬
‫أوليا بحقيقة أنهم حققوا سلطانهم الفريد باالغتصاب بدلاً من الوسائل التي‬
‫يختلفون عن الملوك ًّ‬
‫أقرها المجتمع مثل (الميراث)‪ ،‬كما وضعها أرسطو (‪ .)Politics 3.9.3 1285a15ff.‬ويكمن‬
‫االختالف بين الذين حكموا بالقانون وبالتوافق مع رعاياهم والذين لم يفعلوا كذلك‪ ،‬ويقيم‬
‫سينيكا في كتاب العفو تمييزً ا مختل ًفا يستثمر فيه كل شيء في الشخصية ويتجنب مسألة القانون‬
‫التي يرتبط بها حاكم مثل نيرون نظر ًّيا (§‪.).1.4n‬‬
‫(‪ ((9‬سيطر ديونيسوس األكبر السيراكوزي على شرق صقلية بحق شرعي أو اخر من نهاية القرن‬
‫الخامس حتى ‪ ،367‬رغم تعليق سينيكا هنا بأن هناك حكايات عدة تحضره لنمطية القاضي‪،‬‬
‫وقد أنهى لوكيوس كورنيلوس سولال فيليكس ‪Lucius Cornelius Sulla Felix (ca. 138–79‬‬
‫)‪ - BCE‬وهو رجل ال يرحم ومؤيد لحكم السوناتو األرستقراطي ‪ -‬ما يقرب من عقد في الحرب‬
‫األهلية في روما بتقلده منصب الديكتاتور الدستوري‪ ،‬وصوره شيشرون بالطاغية ‪(Against‬‬
‫رومانيا لهذا النوع في هذا الكتاب وفي كتاب عن‬‫ًّ‬ ‫)‪ Verres 2.3.81–82‬وأصبح سولال مثالاً‬
‫الغضب ‪.On Anger 1.20.4, 2.2.3, 34.3, 3.18.1–2‬‬
‫(‪ ((9‬عادة ما يجتمع السوناتو في المعابد – بما في ذلك معبد بيلونا إلهة اشتعال المعارك‪ ،‬الذي يقع في‬
‫الطرف الجنوبي من حرم مارتيوس‪ ،‬خارج حدود المقدسة للمدينة‪ ،‬وقد تبع هذا الحادث هزيمة‬
‫سولال ألعدائه في معركة بوابة كولين في نوفمبر ‪ 82‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫عاجل(‪ ،((9‬وحين نتناول مسألة كيف ينبغي للمرء أن يتعامل مع غضب‬
‫األعداء على األقل يفصل مواطنيه عن الجسد السياسي ويتجاوز هذا‬
‫التصنيف‪ ،‬وأعود إلى األمر الذي أثرته‪ :‬هناك بون شاسع بين الملك‬
‫والطاغية يخلقه العفو‪ ،‬فكالهما تحيطه األسلحة‪ ،‬فأحدهما تحمى‬
‫أسلحته السالم‪ ،‬واآلخر يستعملها للتخويف لكبح الكراهية البغيضة‪،‬‬
‫وهو ليس بمقدوره النظر برباطة جأش إلى األيادي التي عهد إليها‬
‫باألسلحة‪.‬‬

‫‪ 4 - 12‬يدور الطاغية في دائرة مفرغة؛ فهو يكره ألنه يخاف‪ ،‬و ُيخوف ألنه يكره‪،‬‬
‫لذا يلجأ إلى هذا ال َّن ْظم البغيض(‪ ((9‬الذي يدمر به كثيرين – “ دعهم‬
‫يكرهوا شريطة أن يخافوا”‪ -‬وهو ال يعي ضراوة الغضب الذي ينشأ عن‬
‫ُيبقي أفكارنا في الضبط‪،‬‬ ‫يعتدل(‪((9‬‬ ‫نمو الكراهية؛ ألن الخوف حين‬
‫وحين يستقر الخوف ويشحذ ويهدد بشدة يفسد العقول فتطيش ويحثها‬
‫على الجرأة فتصنع كل شيء‪.‬‬

‫‪ 5 - 12‬والخيط الذي يعلق بالريش يحجم الحيوانات البرية‪ ،‬ولكن حين بتقدم‬
‫الفارس المدجج عليهم من خلفهم سيحاولون الفرار(‪ ،((9‬ويطئون‬
‫الخوف الذي قد فروا منه‪ ،‬فالشجاعة تحد عندما ُتزيف بالضرورة‬
‫القصوى‪ ،‬ويترك الخوف بعض الشعور باألمن‪ ،‬ويقدم احتمالاً لألمل‬
‫أكثر من الخطر‪ ،‬وبصورة أخرى‪ ،‬إذا كان الذي يرضخ للمخاوف مراد ًفا‬

‫(‪ ((9‬وعد لم يتحقق في كتابه‪.‬‬


‫(‪ ((9‬هذا السطر من الشاعر أكسيوس أتريوس ‪ Accius Atreus‬انظر ‪On Anger 1.20.4n., and cf.‬‬
‫‪2.2.2 below‬‬
‫(‪ ((9‬يتحدث سينيكا باصطالحات مشتركة هنا وعلى النقيض من كتاب الغضب ‪Anger 1.10.4‬؛ ألن‬
‫الرواقية األصيلة ترى أن االنفعال الحق ال يمكن ضبطه‪.‬‬
‫(‪ ((9‬األداة التي ُيطلق عليها “الخوف ‪ ”formido‬انظر ‪.On Anger 2.11.5n‬‬

‫‪78‬‬
‫للعقوبات‪ ،‬فمن الغوث بالفعل أن يسرع إلى الخطر‪ ،‬ويتخلص من حياة‬
‫المرء كما لو كانت حياة اآلخرين‪.‬‬

‫‪ 1 - 13‬وعندما يكون الملك رزينًا ساكنًا تتبعه قواته التي تعينه‪ ،‬وبمجرد أن‬
‫يستعملهم ألمر عام أو عسكري يتوقون للمجد‪ ،‬ويتحملون بسرور كل‬
‫مهمة كما لو كان أحدهم يحمي أحد والديه؛ ألنه يعتقد أنه يساهم في‬
‫ً‬
‫ومتعطشا للدماء ليس‬ ‫راحة بال الناس‪ ،‬ولكن عندما يكون الملك قاس ًيا‬
‫بمقدور حارسه أن يعينه بل يشعر باالضطهاد‪.‬‬

‫‪ 2 - 13‬ليس بمقدور أحد أن يتخذ خد ًما صالحين بنوايا صالحة خالصة في حين‬
‫ٍ‬
‫كأدوات للتعذيب مثل مخلعة أو أدوات مصممة للقتل أو‬ ‫يستعملهم‬
‫يعاملهم كوحوش ُيلقي إليهم البشر‪ ،‬فما من ُمخاصم أشد شقاء وقل ًقا‬
‫من هذا الرجل‪ ،‬يخشى األرباب والبشر ألنهم شاهدون وناقمون ألفعاله‪،‬‬
‫ومن ثم يصل إلى النقطة التي يستطيع فيها تحويل سلوكه‪ ،‬ومن المؤكد‬
‫أن األسوأ من بين الصفات الرديئة لقسوة اآلخرين‪ :‬هو أنك ال تستطيع‬
‫أن تستعيد خطواتك لألفضل بل تستديم عليها‪ ،‬وتستعمل جرائم جديدة‬
‫شريرا؟‬
‫ً‬ ‫لدرء عواقب قديمة‪ ،‬فمن أشد تعاسة من رجل عليه أن يكون‬

‫‪ 3 - 13‬يا له من أمر بيئس‪ -‬في عينيه‪ ،‬على أي حال! فمن غير المفهوم ألي أحد‬
‫ٍ‬
‫كأدوات لسلطانه‪ ،‬وينظر إلى‬ ‫أن يشفق على رجل يستعمل القتل والسرقة‬
‫كل شيء بارتياب في الداخل والخارج‪ ،‬ويلجأ إلى السالح ألنه يخاف‬
‫منه‪ ،‬وال يثق في والء األصدقاء وال تفاني األبناء‪ ،‬وعندما ينظر حوله‬
‫فيما فعله وما ينوي فعله وما ُيكنه صدره المشحون بالجرائم والتعذيب‬
‫كرها في عينيه‬
‫غال ًبا ما يخشى الموت ويأمل فيه على الغالب؛ ألنه أعظم ً‬
‫من الذين يخدمونه‪.‬‬

‫‪ 4 - 13‬وعلى العكس تما ًما‪ ،‬فإن اإلنسان الذي يجعل كل شيء موضوع اهتمامه‬
‫‪79‬‬
‫يراقب بعض األشياء أكثر وبعضها أقل‪ ،‬بل يرعى كل عنصر للدولة كما‬
‫جزءا من نفسه (‪ ،((10‬يميل إلى مسار ألطف وهو ُيظهر عندما‬
‫ً‬ ‫لو كان‬
‫أفكارا‬
‫ً‬ ‫ُي ْنادي بالعقوبة عدم رغبته في اللجوء للمداوة القاسية‪ ،‬وال يعرف‬
‫وحشية أو عدائية بل يمارس سلطانه بروية ومن أجل الخير‪ ،‬وهو يرغب‬
‫ٌ‬
‫محظوظ إلى أقصى مدى‬ ‫في أن يستحسن مواطنيه أوامره‪ .‬إنه يعتقد أنه‬
‫إن نجح في أن يجعل حظه الحسن ً‬
‫ملكا للجميع‪ :‬حسن العشرة وودود‬
‫ولين في تعبيره (وهذا ما ترتقي به األمم) ويميل إيجا ًبا إلى المطلب‬
‫المعقول‪ ،‬وال يعارض بشدة غير المعقول‪ ،‬يحبه المجتمع كله ويدافع‬
‫عنه ويعتز به‪.‬‬

‫‪ 5 - 13‬يتحدث الناس عنه فيما بينهم كما في وجهه‪ ،‬ويرغبون في تربية األطفال‪،‬‬
‫ويسحبون القساوة التي أصابتنا من مشكالت المجتمع (‪ .((10‬فكل إنسان‬
‫متيقن بأن أبناءه سوف يمتنون له إلظهارهم في مثل هذا السن‪ ،‬وإن صنع‬
‫األمير األمان بلطفه فلن يحتاج إلى حراس‪ ،‬وسوف تبسط أسلحته‪.‬‬

‫‪ 1 - 14‬فما إ َذنْ واجبه؟ مثلما يفعل اآلباء الصالحون‪ ،‬الذين قد اعتادوا أن‬
‫يوجهوا أبناءهم بلطف أحيا ًنا ويشدوا عليهم أحيا ًنا وينصحوهم‬
‫االبن من أول‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرجل الرشيدُ‬ ‫جرم‬
‫وتكرارا حتى بالضرب‪ ،‬وال ُي ِّ‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫ً‬
‫مخالفة له‪ ،‬أليس كذلك؟ ال‪ ،‬إنه ال يجر القلم ليقر هذا األمر إال عندما‬
‫تتغلب األضرار بتكرارها ورعونتها على صبره‪ ،‬أو عندما يكون الذي‬

‫(‪ ((10‬ينطبق الموقف الخاص بالتوقع المعياري للحاكم عند الرواقية وهو أن كل الناس وهم يتطورون‬
‫فكر ًّيا يعتبرون اآلخرين موضوعات تكافئ اهتمامهم‪ ،‬ويكمن هذا التناسب في هذا التوقع‪ .‬انظر‬
‫مقدمة كتاب عن الغضب القسم الثاني ‪.On Anger introduction, section 2, 2.31.7n‬‬
‫‪(101) I translate reducitur in place of the manuscripts’ nonsensical recluditur (cf.. Watt‬‬
‫‪1994, 230, suggesting repudiatur).‬‬

‫‪80‬‬
‫يخشاه(‪ ((10‬أسوأ من السلوك الذي يدينه‪ ،‬وحينما ُيقبل على هذا يحاول‬
‫بطرق عدة أن ينتشل الصفة المعوجة من حالتها األنية وحالها المؤسف‪،‬‬
‫وتتخذ اإلجراءات األخيرة عندما ُيفقد األمل‪ ،‬وال أحد يصل إلى محك‬
‫المضنية إال بعد محاوالت من المداوات الممكنة(‪.((10‬‬
‫العقوبة ُ‬

‫‪ 2 - 14‬فاألشياء التي يفعلها األب ينبغي أن يفعلها األمير والذي نطلق‬


‫الوطن‘(‪((10‬‬
‫ألسباب ال عالقة لها بمداهنة خاوية‪ ،‬هذه‬ ‫عليه ‘أبو‬
‫األلقاب ُتمنح بشرف‪ .‬لقد أطلقنا على الرجال ‘العظيم’ و‘المحظوظ’‬
‫و‘أغسطوس‘(‪ ،((10‬وكومنا كل التسميات الممكنة الستعراض‬
‫العظمة(‪ ،((10‬ولقد أطلقنا على الرجل ‘أبو الوطن’ لنعرف أنه ُمنح سلطان‬
‫األب(‪ ((10‬الذي يضع خير ما هو متوازن لألبناء ويضع مصالحهم بعد‬
‫مصالحه‪.‬‬

‫(‪ ((10‬من المفترض أن السلوك السيئ يخشى المستقبل– وال يتخفى السلوك السيئ في الحاضر‪.‬‬
‫(‪ ((10‬وهكذا رؤية العقاب في كتاب الغضب ‪.On Anger 1.16.2–3, 19.5–7, and cf. §22 below‬‬
‫(‪ ((10‬عبارة مشرفة تنطبق بشكل غير رسمي على الوطنيين الرومان‪ ،‬وأصدر السوناتو مرسو ًما الح ًقا‬
‫ليوليوس قيصر في ‪ 45‬ق‪.‬م وألغسطوس في عام ‪ 2‬ق‪.‬م‪ ،‬ورفض تيبيريوس قبولها ولكنها‬
‫اصطالحا إمبراطور ًّيا فيما بعد‪ ،‬حيث يمكن القول “ إن األمير هو والد الوطن” (‪Digest‬‬
‫ً‬ ‫صارت‬
‫‪.)48.22.18.1‬‬
‫(‪ ((10‬يشير سينيكا على التوالي إلى جنايوس بومبيوس ماجنوس “ العظيم ‪ ”the Great‬وليوكيوس‬
‫كورنيلوس سولال فيليكس “المحظوظ ‪ ،”the Fortunate‬وبالطبع لقب أوغسطوس الذي‬
‫رسميا كجزء‬ ‫ًّ‬ ‫منحه السوناتو لجايوس يوليوس قيصر أوكتافيانوس في ‪ 27‬يناير ق‪.‬م‪ ،‬وأفترض‬
‫من ألقابهم عن طريق األباطرة الالحقين ما عدا تيبريوس‪.‬‬
‫‪(106) The translation follows Kruczkiewcz in deleting the otiose phrase hoc illis tribuentes‬‬
‫‪(“ascribing this to them”) at the end of this sentence.‬‬
‫(‪ ((10‬كان األطفال الرومان يخضعون لسلطة األب ‪ patria potestas‬بغض النظر عن أعمارهم طالما‬
‫أن األب على قيد الحياة‪ ،‬وفي حاالت االنحراف يمارس األب سلطته – بما فيها الحياة والموت‪-‬‬
‫في إقامة محاكمة محلية من النوع الموصوف في الفقرة ‪.15‬‬

‫‪81‬‬
‫‪ 3 - 14‬فدع األب أن يكون بطيئًا في بتر أطرافه(‪ ،((10‬دعه حتى يفعلها مرة‬
‫ويضعهم في مكانهم‪ ،‬وعندما يتأخر فعله دعه يئن‪ ،‬فحين يتسرع المرء‬
‫في اإلدانة يكون كما لو كان سعيدً ا باإلدانة‪ ،‬فالعقاب السريع عقاب‬
‫ظالم على الغالب(‪.((10‬‬

‫‪ 1 - 15‬وأستدعي حالة تريكو ‪ Tricho‬الفارس الروماني الذي هاجمه الناس‬


‫باإلبر ‪ ((11( styluses‬في المنتدى ألنه جلد ابنه حتى الموت‪ ،‬وأنقذه‬
‫سلطان أوغسطوس بالكاد من إساءة اآلباء واألبناء على حد سواء‪.‬‬

‫‪ 2 - 15‬وعندما اكتشف تاريوس(‪ ((11‬أن ابنه ُيخطط لقتله وأدانه في المحكمة‬


‫واحتجز في منزله‪ ،‬رضي الجميع بحكم النفي على الشاب – و ُنفي هذا‬
‫المد َّلل في ماسيليا(‪ ،((11‬وقدم له األب اإلجازة السنوية نفسها التي اعتاد‬
‫أن يقدمها له قبل وصمه بالعار‪ ،‬وبسبب هذه اإليماءة السخية‪ ،‬اعتقد كل‬
‫امرئ في روما – حيث ال يفتقر األوغاد إلى محا ٍم‪ -‬أن الشاب قد ُأدين‬
‫ٍ‬
‫قادرا على إدانته‪.‬‬
‫بالفعل ورأوا أن األب عاجز عن كرهه‪ ،‬بل ليس ً‬

‫نموذجا لألمير الصالح لتقارنه باألب‬


‫ً‬ ‫‪ 3 - 15‬وتقدم هذه الواقعة لك ً‬
‫أيضا‬
‫الصالح‪ ،‬وعندما كان تاريوس ماض ًيا إلى مجرى المحكمة‪ ،‬طلب من‬

‫مجازا بالطبع مستغلاًّ فكرة أن األطفال قريبون من والديهم كما اآلباء قريبون من‬
‫ً‬ ‫(‪ ((10‬يتحدث سينيكا‬
‫أطرافهم‪ ،‬وما يصح في العالقة بين اآلباء واألطفال فهو صحيح‪ ،‬وف ًقا للرواقيين الذين يرون أن كل‬
‫العالقات اإلنسانية مفهومة على نحو صحيح ‪.On Anger 1.15.2n‬‬
‫(‪ ((10‬الكفاءة “تقري ًبا” اختيار عليل فالمعاقبة المفرطة هي أن تعطي بأكثر مما يستحق‪ ،‬وهذا أمر غير‬
‫منصف (‪.)cf. 2.7.1‬‬
‫(‪ ((11‬األدوات المدببة تُستعمل للكتابة على المناضد الخشبية المشمعة‪.‬‬
‫(‪ ((11‬خدم لوكيوس تاريوس روفوس أوغسطوس في سلسلة من األوامر العسكرية أثناء الحرب‬
‫األهلية وبعدها‪ ،‬وكان ُيكافئ بالثروة والقنصلية في ‪ 16‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫(‪ ((11‬مرسليا الحديثة تأسست كمستعمرة يونانية في أواخر القرن السادس قبل الميالد‪ ،‬وكانت مركزً ا‬
‫للثروة والثقافة‪ ،‬ووجهة عامة لنفي الرومانيين‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫القيصر أوغسطوس الجلوس في مجلسه االستشاري‪ ،‬وجاء أوغسطوس‬
‫إلى منزله الخاص وجلس بجوار تاريوس كمستشار – لم يقل “ ال‪ ،‬ال‬
‫تدعه‪ ،‬يأتي إلى بيتي”‪ ،‬ألن في هذه الحالة ستكون المحاكمة للقيصر‬
‫وليس لألب‪.‬‬

‫‪ 4 - 15‬وعندما استُمع إلى القضية و ُفحصت األدلة بدقة ‪-‬تلك األمور التي‬
‫أثارها الشاب وتلك التي تدينه‪ -‬طلب أوغسطوس كل رجل بتدوين‬
‫حكمه خشية أن ُيطلق الجميع حكم قيصر على نفسه(‪ ،((11‬وقبل أن‬
‫تُفتح األلواح‪ ،‬أقسم اليمين بأنه ال ينوي قبول ميراث تاريوس الذي كان‬
‫ثر ًّيا(‪.((11‬‬

‫‪ 5 - 15‬سيقول ٌ‬
‫امرؤ ما‪ “ :‬هذا أمر تافه‪ ،‬وال يستحق أن تفسح له غرفة بالتصويت‬
‫إلدانة االبن”‪ ،‬وأعتقد أنه على العكس من ذلك تما ًما‪ .‬كان ينبغي ألي‬
‫أحد من قومنا أن يكون عنده ثقة كافية في ضميره الحي لتحمل الكالم‬
‫الخبيث ولكن يجب على األمراء أن يقدموا تنازالت كثيرة حتى للنميمة‪،‬‬
‫فهو أقسم بأنه لن يقبل الميراث‪.‬‬

‫‪ 6 - 15‬والحقيقة أن تاريوس َف َق َد في اليوم نفسه اثنين من ورثته(‪ ،((11‬ولكن‬


‫قيصر أ ّمن حريته في الحكم‪ ،‬وبعد أن أكد أن صرامته لم تكن محل‬
‫اهتمام بذاته –أمر قائم عند األمراء‪ -‬قال إنه ينبغي إبعاد االبن من المكان‬
‫تقديرا لألب‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 7 - 15‬لم ينتبه لعبء الحكم الذي أقامه بل للرجل الذي نصحه‪ ،‬ولم ُيحتم‬

‫(‪ ((11‬في قضايا االستماع‪ ،‬طلب نيرون من أعضاء مجلسه االستشاري وضع آرائهم مدونة كتابة دون‬
‫علمه (‪.)Suetonius Nero 15.1‬‬
‫(‪ ((11‬حول ممارسة جعل قيصر وري ًثا انظر ‪.cf. §9.12n. above‬‬
‫(‪ُ ((11‬يفترض أن االبن قد ُحرم من الميراث (‪ )cf. §14.1‬رغم ما أظهره له والده في المنفى‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الثعابين(‪((11‬‬
‫وال زنزانة السجن‪ ،‬بل خطط ليرضي األب‬ ‫السلب وال‬
‫بعقوبة خفيفة على االبن الشاب الذي اقتيد إلى جريمة اعترف بها على‬
‫نفسه بسلوكه المخجل وهو على مقربة خطوة واحدة من البراءة‪ُ ،‬‬
‫وأبعد‬
‫عن المدينة وعن وجه أبيه‪.‬‬

‫‪ 1 - 16‬والحكيم الذي يستشيره آباؤه ويورثونه بجانب أبنائهم األبرياء! وهذا‬


‫نوع العفو الذي يستحقه األمير‪ :‬أينما حل يصنع اللطف‪ ،‬أما بالنسبة‬
‫للملك فال أحد ‪-‬مهما قل شأنه‪ -‬فإن موته سوف يكشفه‪ :‬مهما كان‬
‫الشخص ومهما كان طرفه من السلطان‪.‬‬
‫‪ 2 - 16‬دعنا ننظر إلى أقل صور السلطة‪ ،‬لنجد ً‬
‫نمطا للسلطة العظمى‪ ،‬فليس‬
‫هناك نوع بعينه للقيادة‪ :‬حيث يقود األمير مواطنيه‪ ،‬واألب أبناءه‪،‬‬
‫والمعلم تالميذه‪ ،‬وقائد المائة جنوده المشتركين‪.‬‬

‫‪ 3 - 16‬إن الرجل الذي يهذب أبناءه بالضرب المتواصل حتى في أقل خطأ‬
‫فمن المعلم الجدير‬
‫يرتكبونه سيبدو أسوأ نوع من اآلباء‪ ،‬أليس كذلك؟ َ‬
‫األحرار(‪((11‬‬
‫هل الذي ينقذ طالبه إذا‬ ‫بالدراسات التي تليق بالرجال‬
‫فشلت ذواكرهم أو زاغت أبصارهم عند القراءة‪ ،‬أم الذي يفضل أن‬
‫يصوب ويعلم بلوم يبدأ بحمرة الخد من الخجل؟ أرني قائدً ا ‪tribune‬‬
‫عفوا‪.‬‬ ‫وحشيا‪ ،‬وسوف ُأريك ً‬
‫امرأ يفر منه الجنود في الصحراء ً‬ ‫ًّ‬
‫‪ 4 - 16‬أليس من غير المعقول‪ ،‬أليس كذلك‪ ،‬أن تكون قاس ًيا متعجر ًفا في أن‬
‫المرئ عاجز عن الكالم مثل حيوان أبكم؟ ومن ثم فإن‬ ‫ٍ‬ ‫أمرا‬
‫تعطي ً‬
‫المدرب المتمرس ال ُيخيف الخيل بالضربات المتكررة‪ ،‬وإال فإنه يعند‬

‫(‪ ((11‬لمعرفة دور الثعابين والطرود في معاقبة قاتل أبيه انظر ‪.On Anger 1.16.5n‬‬
‫(‪ ((11‬وهكذا المعنى الحرفي لعبارة سينيكا ‪ – liberalia studia‬الذي استمد منه المفهوم المعاصر‬
‫“الدراسات الليبرالية ‪ liberal studies‬أو اآلداب الليبرالية ‪.”liberal arts‬‬

‫‪84‬‬
‫ويتقلب‪ ،‬ما لم يهدئه بالمداعبة‪.‬‬

‫‪ 5 - 16‬ويصدق الشيء نفسه على الصياد الذي يستعمل كال ًبا مدربة لتتبع‬
‫فريسته وتطاردها‪ :‬فهو ال ُيرهبها (فهذا ُيبطئ همتها‪ ،‬وبترويعها يحط‬
‫من تربيتها)‪ ،‬وال يمنحها رخصة للتجول حول هنا وهناك‪ ،‬ويمكنك أن‬
‫تضيف لهذه األمثلة معالجات لتحمل الوحوش البطيئة – التي ُولدت‬
‫للبلية والتعسف‪ -‬التي ُتقاد بقسوة مفرطة لرفض النير‪.‬‬

‫طبعا ويحتاج إلى مهارة في معالجته أكثر من‬


‫‪ 1 - 17‬وال يوجد حيوان أسوأ ً‬
‫اإلنسان‪ ،‬حيث ال يتوقف في حاجته الكبيرة للحلم‪ ،‬فما الذي يزيد عليه‬
‫في الحماقة حين يحمر وجهه عند الغضب سوى البغال والكالب‪ ،‬بل‬
‫إن أسوأ المعاني الممكنة أن ُتخضع إنسا ًنا إلنسان آخر؟ ونحن نعالج‬
‫األمراض وال نغضب‪ ،‬وهذا مرض عقلي‪ ،‬ال يحتاج إلى مداواة لطيفة‬
‫معالجا ال يعادي المريض بأي حال(‪.((11‬‬
‫ً‬ ‫فحسب بل يحتاج‬

‫‪ 2 - 17‬إن داللة الطبيب الرديء أن ييأس من العثور على دواء‪ :‬فالمرء المكلف‬
‫برفاهية الكل قد يأخذ النهج ذاته من الذين ُأصيبت عقولهم‪ ،‬فال يتخلى‬
‫على عجل عن األمل ويعلن أن األعراض قاتلة‪ ،‬واألحرى أن يناضل ضد‬
‫العيوب ويقاومها‪ ،‬ومواجهة بعض الناس بأمراضهم وخداع اآلخرين‬
‫باستعمال حمية لطيفة هادف في مداواتهم وسريع وفعال باألدوية التي‬
‫تعمل دون الكشف عنها‪ ،‬وينبغي لألمير أال يقلق من استعادة الصحة‬
‫فحسب‪ ،‬بل أال يترك ندو ًبا تشوه‪.‬‬

‫(‪ ((11‬أمراض العقل هي صفة سيئة ‪ ،morositas‬وال يؤكد استعمال كلمة ‘مرض’ مستوى االستعمال‬
‫الرواقي؛ ألن كلمة مرض اعتقاد تقييمي معتنق‪ ،‬ولكنه خاطئ ويؤدي بنا إلى االنفعال (‪Graver‬‬
‫‪ )2002a:150–53‬ولكن على المرء أن يتخيل كيف أن كلمة مرض بالمعنى السينيكي تؤدي بنا‬
‫إلى تجربة المرض بالمعنى المعيار الرواقي‪ ،‬ولالطالع على مجاز ‘الشفاء’ قارن على سبيل المثال‬
‫‪.On Anger 1.6.2, 2.10.7‬‬

‫‪85‬‬
‫‪ 3 - 17‬وال يكتسب الملك مجدً ا من معاقبة وحشية (وهل من أحد يشك في‬
‫هذا؟)‪ ،‬ولكنه يحصل على عظيم المجد إن أبقى سلطانه قيد التحقق‪،‬‬
‫يحفظ كثيرين من غضب آخرين‪ ،‬وال يقدم أحدً ا ضحية له‪.‬‬

‫‪ 1 - 18‬إن إعطاء أوامر للعبيد بأسلوب معتدل يستحق الثناء(‪ ،((11‬حتى في حالة‬
‫ْ‬
‫تغمض عينيك عن معاناتهم بقدر سجية الخلق والصفاء‬ ‫الرقيق‪ ،‬فال‬
‫اللتين ُمنحتا لك‪ ،‬والتي ادخرتها حتى لألسرى والذين اشتريتهم‪ ،‬فعندما‬
‫أحرارا وشريفي المولد ومبجلين فال تتجنبهم – ال تعاملهم‬
‫ً‬ ‫يكون الناس‬
‫رقي ًقا وال ُت ْ‬
‫سئ إليهم‪ ،‬بل عاملهم كأناس من رتبه دنيا وصلوا إليك هدايا‬
‫وليسوا عبيدً ا‪.‬‬

‫‪ 2 - 18‬و ُيسمح للعبيد باللجوء للتشريع(‪ ،((12‬فيجوز لهم القيام بأى شيء‬
‫وكل شيء للعبد‪ ،‬فالحقوق المشتركة للكائنات الحية تقول إن بعض‬
‫األشياء ال يمكن القيام لإلنسان(‪َ .((12‬‬
‫فمن الذي ال يكره فيديوس بولليو‬
‫‪ Vedius Pollio‬أشد من كره عبيده له‪ ،‬ألنه سمن ثعابينه بدم البشر‪ ،‬وأمر‬
‫أن ُيلقى َمن ارتكبوا ً‬
‫بعضا من الجرم في بركة مملؤة بثعابين السمك‬
‫‪eels‬؟(‪ ،((12‬لقد استحق هذا الرجل أن يموت ألف مرة‪ ،‬سواء لتغذيته‬
‫للعبيد بالموريس ‪ morays‬وهو ينوي إطعام الموريس بهم أو لتربية‬
‫ثعابين السمك بهدف إطعامهم بالطريقة نفسها‪.‬‬

‫(‪ ((11‬يتبع سينيكا رأي الرواقية الرشيد بأن العبودية مجرد حالة مشروطة للنفس المادية‪ :‬حيث إن‬
‫األشخاص المستعبدين لهم نفس الطبيعة العقلية لألحرار‪ ،‬فهم رفقاؤنا بقدرة مكافئة للفضيلة‬
‫‪.Moral Epistles 47, On Favors 3.18–28‬‬
‫(‪ ((12‬هذا لإلله أو لألمير ذاته‪ ،‬لممارسة العبيد واآلخرين الذين يبتغون اللجوء أو القرب من تمثال‬
‫اإلمبراطور ‪Pliny Epistles 10.74, Tacitus Annals 3.36.1, Suetonius Augustus 17.5,‬‬
‫‪.Tiberius 58‬‬
‫‪(121) ough a slave qua “animate tool” (cf. Aristotle Politics 1 ,253b27ff.‬‬
‫(‪ ((12‬لالطالع على القصة انظر ‪.On Anger 3.40.2n‬‬

‫‪86‬‬
‫‪ 3 - 18‬وقد ُيشار إلى السادة القساة كأهداف بغيضة ومكروهة في المجتمع‬
‫بأسره‪ ،‬فأخطاء الملوك ولوثاتهم يتسع نطاقها‪ ،‬وتنتقل الكراهية لهم عبر‬
‫األجيال‪ ،‬فكم كان من األفضل أال ُيولد بدلاً من أن ُيحسب ممن يولدون‬
‫لقارعة الناس!‬

‫‪ 1 - 19‬وليس بمقدور أحد أن يتخيل أي شيء يصدر من حاكم إال العفو‪،‬‬


‫مهما كان نوع الحاكم‪ ،‬ومهما كانت المحاذير التي وضعها في مشاركة‬
‫اآلخرين‪ ،‬ومن المؤكد أننا نقبل أن العفو أبدع وأعظم قوة تتفوق فيه‪-‬‬
‫وال يمكن أن تكون هذه القوة مضرة إذا ُطلبت وف ًقا لقانون الطبيعة(‪.((12‬‬

‫‪ 2 - 19‬فالملك وسيلة الطبيعة‪ :‬و ُيدرك هذا األمر من الحيوانات األخرى خاصة‬
‫عند النحل(‪ ،((12‬فغرفة ملكهم متسعة للغاية‪ ،‬وفي مكان آمن من الخلية‪،‬‬
‫في المركز‪ ،‬وال يرهق نفسه أثناء عمل اآلخرين‪ ،‬وإذا ُفقد الملك ينهار‬
‫ينصبون أكثر من حاكم(‪ ،((12‬ويسعون للعثور‬
‫المجتمع بأسره‪ ،‬حيث ال ِّ‬
‫على أحد في المعركة هو األسمى‪ ،‬وزد على ذلك أن الملك بارز في‬
‫صورة جسمه ويختلف عن اآلخرين في الحجم والروعة‪.‬‬

‫‪ 3 - 19‬ومن ثم فإنه يتفرد بالسمة عاليه‪ ،‬في حين أن النحل سريع الغضب‬
‫(نظرا لقدراته الجسمية) وعنيف للغاية‪ ،‬يخلف وراءه شوكته‬
‫ً‬ ‫للغاية‬
‫مفترسا‬
‫ً‬ ‫في لدغته‪ ،‬والملك ليس له شوكة(‪((12‬؛ ألن الطبيعة ال تريده‬

‫(‪‘ ((12‬قانون الطبيعة’ نظام عقالني للعالم‪ ،‬وهو كامن‪ ،‬وبالتالي ال يكون خبي ًثا‪.‬‬
‫(‪ ((12‬وصف شبيه النحل في األدب الالتيني بفرجيل ‪Vergil ,Georgics 4.149ff ., esp. 210ff‬‬
‫في تكريسهم لحاكمهم‪ ،‬حيث اقتبس سينيكا هذه العالقة بالفعل (‪ ،)§4.1‬وأخطأ اليونانيون‬
‫والرومانيون فكر ًّيا حين اعتقدوا أن ملكة النحل ٌ‬
‫ملك‪.‬‬
‫(‪ ((12‬اختلف عن أرسطو الذي يقول إن كل خلية لها حكام عدة‪ ،‬وتنهار إذا قلوا أو زادوا (‪History of‬‬
‫‪.)Animals 5.22 553b14–19‬‬
‫(‪ ((12‬يختلف عن أرسطو الذي يرى أن ملك النحل له شوكة (حمة) ولكن ال يستعملها (‪History of‬‬
‫‪.)Animals 5.21 553b5–7‬‬

‫‪87‬‬
‫كثيرا‪ ،‬وطرحت أسلحته جان ًبا‪ ،‬ونزعت‬‫ويسعى للعقاب الذي ُيكلف ً‬
‫أسلحة غضبه‪ ،‬وهذا درس هائل للملوك العظماء؛ ألن الطريقة الطبيعية‬
‫ويقدم بالعمل على أصغر‬ ‫الصغيرة(‪((12‬‬ ‫لتحمل اآلالم في مخلوقاته‬
‫تدرج مثاالت رائعة(‪.((12‬‬

‫‪ 4 - 19‬وعلينا أن نخجل بعدم محاكاة سلوك هذه المخلوقات الصغيرة‪ ،‬حيث‬


‫ينبغي لعقل البشر أن يكون أكثر اعتدالاً لقدرته الكبرى على إحداث‬
‫الضرر‪ ،‬والحق أنني أتمنى أن ينطبق المبدأ نفسه لجنس البشر كما هو في‬
‫النحل‪ ،‬فسوف تتعطل قوة غضبه بجانب أسلحته‪ ،‬ولن يتمكن أن يصيب‬
‫كثيرا‬
‫بألم أكثر من مرة‪ ،‬أو يعتمد على آخر ليقضي كراهيتنا! ألنه يسهل ً‬
‫استنفاد الغضب إذا سعت إلى الرضى فحسب خالل جهودها وجازفت‬
‫بالموت في إنفاق قوتها‪.‬‬

‫‪ 5 - 19‬حتى لو كانت األمور كذلك‪ ،‬فمسار الغضب ليس آمنًا‪ ،‬فال يسعها‬
‫إال الشعور بالخوف بنفس قدر سعيها إلى تخويف اآلخرين(‪ ((12‬وال‬
‫يسعها إال أن ُتبقي العين متيقظة حول كل يد‪ ،‬وتتحفز للهجوم حتى لو‬
‫لم تتعرض للمطاردة‪ ،‬فليس لديهم خالص آخر من الفزع‪ ،‬فهل يتحمل‬
‫أحدٌ أن يعيش هذه الحياة حين يكون بمقدوره أن يمارس القوة القانونية‬
‫بال ضرر وهو آمن بطريقة تجلب العافية والمرح على كل جانب؟ من‬
‫الخطأ أن تعتقد أن الملك آمن حيث ال يوجد شيء بجانب الملك آمن‪،‬‬
‫وكي ُيرتب األمان يجب أن يتعهد كل جانب ويصنع الطرف اآلخر من‬
‫األمن‪.‬‬

‫(‪ ((12‬لالطالع على هذه القضية ‪.Pliny Natural History 11.1–4‬‬


‫‪(128) The translation reflects Hosius’s documenta in minima parere, for the archetype’s‬‬
‫‪corrupt documentam minima argere; the point is anyway clear.‬‬
‫(‪‘ ((12‬الحلقة المفرغة’ للكراهية والخوف المشار إليها في ‪.§12.4‬‬

‫‪88‬‬
‫‪ 6 - 19‬فما من حاجة لبناء القالع الرصينة أو تحصين التالل المنحدرة أو‬
‫تسوير جوانب الجبال لحماية النفس بسلسلة من الحصون واألبراج؛‬
‫فالعفو يضمن للملك أن يكون آمنًا في العراء‪ ،‬وحب مواطنيه هو حصنه‬
‫الحصين الوحيد‪.‬‬

‫‪ 7 - 19‬فما أجمل أن تعيش مع كل َمن يتمنون لك الحياة ويتعهدونك ألجل‬


‫حريتهم‪ ،‬أو ألجل أناس يحفزهم الخوف ال األمل إن توعكت‬
‫طوعا ألجل‬
‫ً‬ ‫عافيتك‪ ،‬أو ال يتعلق أحد بأي شيء ثمين ال يساوم به‬
‫سعادة حاميه‪.‬‬

‫‪ 8 - 19‬ويقينًا الرجل المعني بكالمنا ظاهر(‪ ((13‬واألمارات الراسخة لخيريته أن‬


‫فمن يجرؤ على تدبير بعض‬
‫األمة ال تنتسب إليه بل ينتسب إلى األمة‪َ ،‬‬
‫المهالك لمثل هذا الرجل؟ و َمن إذا كان بمقدوره أن يرغب عن أن يثني‬
‫ضربة الحظ الرديء عن رجل يزدهر في كنفه العدل والسالم واالحتشام‬
‫الجنسي واألمن واحترام الذات؟ ويتمتع المجتمع المزدهر بإمداد وفير‬
‫بكل السلع‪ ،‬ويتطلع إلى حاكمه بنفس فكر ملكته عقولنا؛ فإن األرباب‬
‫الخالدة تمكننا من رؤيتها بالنظر إليها بمهابة وإجالل‪.‬‬

‫‪ 9 - 19‬وماذا بعد؟ أال يشغل مكا ًنا بقرب األرباب الذين يسلكون وفق طبائعهم‬
‫مستعملين قدرتهم اللطيفة والكريمة إلصالحنا؟ هذه هي الغاية المناسبة‬
‫والمثال األنسب‪ :‬حيث ُتعتبر األعظم ألنك األفضل‪.‬‬

‫‪(130) This is the most textually troubled passage in the treatise. Most editors read some‬‬
‫‪version of “o ne ille cui contingit <ut> sibi quoque vivere debeat” (with Baehren’s‬‬
‫‪suppletion of ut and various choices in punctuation), but I can find in those words‬‬
‫‪no thought appropriate to the context, nor does any suggested alternative seem‬‬
‫‪convincing. The possibility of a more extensive lacuna after contingit cannot be‬‬
‫‪ruled out.‬‬

‫‪89‬‬
‫‪ 1 - 20‬وهناك سببان لألمير حتى ُيعاقب‪ ،‬إذا انتقم لنفسه أو إذا انتقم لغيره‪،‬‬
‫وسوف أتناول الحالة األولى أول(‪ ،((13‬إن من الصعب ضبط النفس‬
‫حين يرضى العقاب مظلمة شخصية أكبر من مسألة تهذيبية‪.‬‬

‫مخلصا ونحثه للبحث عن‬


‫ً‬ ‫‪ 2 - 20‬ومن النافلة هنا أن نحذر األمير من أن يكون‬
‫الحق(‪ ((13‬ليدعم الصالح بقوة ووضوح‪ ،‬ويعي شؤون المدعى عليه التي‬
‫ال يقل وتدها عن ركازة القاضي(‪((13‬؛ ألن هذه النصيحة لصيقة بالعدل‬
‫وليس العفو‪ ،‬وأحثه اآلن أن تبقى قبضته قوية على أفكاره حين ُيهان‬
‫صراحة‪ ،‬وال يعاقب إال إذا كان بمقدوره هذا بحصافة وإال عليه أن يكبح‬
‫نفسه‪ ،‬ويتحرر من أن ينخرط حيث يتعلق األمر به ال بآخر قد أخطأ‪.‬‬

‫‪ 3 - 20‬فمثال هذا الرجل العظيم(‪ ((13‬ليس كر ًما في كلفة اآلخر بل ُيعطي ما‬
‫يعطي لنفسه بعض الكلفة‪ ،‬ولذا سوف أطبق اصطالح ‘العفو’ ليس‬
‫لرجل متساهل حيث مصيبة اآلخر محل خالف بل لرجل ال ينقلب حين‬
‫ينكدر‪ ،‬والذي يعلم أن الروح العظيمة تستلزم التسامح من مكانة السلطة‬
‫األسمى‪ ،‬وال شيء يسمو على األمير الذي ُأهين وأفلت من أن ُيعاقب‪.‬‬

‫جزئيا أو األمن للمستقبل(‪،((13‬‬


‫ًّ‬ ‫‪ 1 - 21‬ويقدم القصاص عادة الراحة للمصاب‬

‫(‪ ((13‬تناول هذا بداية من الفقرة ‪.22‬‬


‫(‪ ((13‬الحاجة إلى الحكم على تصرفات اآلخرين بإنصاف وعدم القفز لالستنتاجات أو الثقة في‬
‫اإلشاعات موضوع رئيس في كتاب الغضب ‪On Anger: 2.22.2–27.4, 29–31.5, 3.12.1–4,‬‬
‫‪.26.1, 26.3–5, 28.4–30.2, 32.2–34.2‬‬
‫]‪(133) The translation reflects Lipsius’s transposition of ut (“ut innocentiae faveat et [ut‬‬
‫‪appareat, <ut> non minorem agi rem periclitantis quam iudicis sciat”).‬‬
‫‪(134) Cf. §5.3n. above.‬‬
‫(‪ ((13‬حول األهداف المناسبة للعقاب انظر ‪ On Anger 1.15–16‬حيث البعد الفعال المشار إليه هنا‬
‫– “راحة المظلوم”‪ -‬فهمه غائب‪ ،‬ويتضمن “أمان المستقبل” إعادة تأهيل أو ردع أو زوال مصدر‬
‫الضرر ‪.§22.1 below‬‬

‫‪90‬‬
‫وقدرة األمير في الحياة تعلو ً‬
‫أيضا على طلب الراحة‪ ،‬وقدرته الواضحة‬
‫ً‬
‫أيضا على توكيد ألم غيره‪ ،‬ويخص هذا التعليق المداهمات والغارات‬
‫التي يشنها األسافل؛ ألنه يرى أن الذين كانوا قرناءه صاروا اليوم أدنى‬
‫ٍ‬
‫كاف‪ ،‬وحتى العبد يمكن أن يقتل الملك‪ ،‬وكذلك‬ ‫منه‪ ،‬وهذا تبرير‬
‫الثعبان والسهم‪ ،‬ولتحافظ على حياة – ال ُيقام هذا إال برجل أعظم من‬
‫الذي آمنه‪.‬‬

‫‪ 2 - 21‬وكذلك المرء الذي لديه قدرة وهب الحياة وسلبها يستعمل هبة األرباب‬
‫العظمى بسمو‪ ،‬ويصح هذا في حالة الرجال الذين ُيعرف أنهم يتمتعون‬
‫له(‪((13‬‬
‫بمجرد الحكم عليهم‪ ،‬وقد تمتع بانتقام‬ ‫بمكانة عالية مساوية‬
‫كامل وحقق كل ما يتطلبه العقاب الحق‪ ،‬فأن تدين بحياتك المرئ ما‬
‫العلى لينبطح عند قدم عدوه وينتظر‬
‫بمثابة ضياعها‪ ،‬فعندما ُيلقى أحد من ُ‬
‫حكم اآلخر على حياته ومملكته تجلب حياته المجد لمخلصه‪ ،‬حيث‬
‫يكتسب شهرة عريضة بتركه اآلخر دون أن يصيبه بدلاً من أن يمسحه من‬
‫أنموذجا أبد ًّيا لفضيلة اآلخر‪ ،‬في حين أنه‬
‫ً‬ ‫على وجه البسيطة‪ ،‬وهو يبقى‬
‫كان سيمر بلحظة قد تؤدي لالنتصار‪.‬‬

‫‪ 3 - 21‬والحقيقة إذا كانت مملكة اآلخر تأمن بترك مسؤوليته‪ ،‬وإذا كان بإمكانه السيادة‬
‫التي سقطت منه‪ ،‬فإن الرجل الذي يقنع بأنه لن يأخذ شيئًا سوى المجد من‬
‫انتصارا على انتصاره‬
‫ً‬ ‫ثمارا هائلة من الثناء‪ ،‬ويساوي هذا‬
‫ملك مهزوم يجني ً‬
‫وشهادة بأن المرء عثر على المنتصر ليمتلك ال شيء جدير بالنصر‪.‬‬

‫‪ 4 - 21‬وينبغي على األمير أن يتعامل باعتدال مع مواطنيه سواء الحقير منهم أو‬
‫الوضيع‪ ،‬وال يكترث إن كانت مسألتهم تافهة‪ :‬فينبغي أن تدخر البعض‬

‫(‪ ((13‬كما سيتضح أن سينيكا يفكر في األمراء والملوك األجانب‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫بسرور‪ ،‬وتثير غضب آخرين بالعفة – عليك أن تسحب يدك كما تفعل‬
‫في المخلوقات الصغيرة التي تؤذيك إذا سحقتها‪ .‬وأما في حالة الذين‬
‫يعتبرون عقاب المجتمع بأسره وحمايته بالمصالح‪ ،‬فعليك أن تتحين‬
‫الفرصة لعمل بارز للعفو‪.‬‬

‫‪ 1 - 22‬دعونا ننتقل إلى أضرار أناس آخرين بغية لما يسعى إليه القانون في‬
‫تحقيق هذه األهداف الثالثة التي ينبغي لألمير أن يسعى إليها‪ :‬سواء‬
‫تقويم الشخص المعاقب أو إصالح أي شخص بمعاقبته أم السماح‬
‫ألي منهم أن يعيش بأمان بمجرد أن ينزع الفاسدين من بينهم‪ .‬وسوف‬
‫يسهل عليك أن ُت ِّ‬
‫قوم المخطئ نفسه بعقوبة أقل‪ :‬فالمرء يدبر حياته بعناية‬
‫حين يتخلى عن شيء ما بأكمله ودون شائبة‪ ،‬في حين ال يخجل أحدٌ‬
‫الحترام الذات الذي فقده تما ًما‪ ،‬وعدم وجود ما تؤثر عليه العقوبة نوع‬
‫من اإلفالت منها‪.‬‬

‫‪ 2 - 22‬ويعمل االستعمال العفوي للعقاب على تقويم عادات المجتمع؛ ألن‬


‫عديدً ا من المخالفين يجعلون من مسألة الخطأ عادة‪ ،‬واإلدانات التي‬
‫تأتي مغلظة وسريعة ُتخفف من وصمة العقاب وصرامته‪ ،‬وإن كانت غير‬
‫مخففة تفقد سلطتها األخالقية وهي أكبر قوة مداوية‪.‬‬

‫‪ُ 3 - 22‬يرسي األمير ممارسات صالحة للمجتمع ويستأصل الرذائل إذا كان‬
‫صبورا عليها – ليس بموافقتها بل بتولي تعقبها دن قصد وبتفجيعها(‪،((13‬‬
‫ً‬
‫إن عفو الحاكم يجعل الناس يستحون من ارتكاب الخطأ‪ .‬فإن ُعين‬
‫العقاب من رجل لطيف فهو مؤلم‪.‬‬

‫‪ 1 - 23‬وسوف ترى ‪-‬عالوة على ذلك‪ -‬أن الجرائم التي ُيعاقب عليها تلك‬

‫(‪ ((13‬إظهار سينيكا للنفور الذي سوف يحتفي به في ‪.2–2.1‬‬

‫‪92‬‬
‫التي ارتكبت‪ ،‬فقد خاط والدك(‪ ((13‬رجالاً كثيرين في أجولة على مدار‬
‫خمس سنوات يفوق ما سمعناه في كل األزمنة السالفة مجمعة‪ .‬كان‬
‫األطفال أقل جرأة في انتهاك الحرمات كما لو كان ال يوجد قانون يستر‬
‫الجريمة(‪ ،((13‬وفضل الناس في الماضي البعيد الذين كانوا بعيدي النظر‬
‫وعلى دراية بطبيعة األشياء أن يتغافلوا الجريمة كما لو كان ال يمكن‬
‫تصورها أو لم يتوقعوا تلك الجرأة‪ ،‬واألحرى كان معاقبتها ويروا من‬
‫ثم أنها يمكن أن ُترتكب‪ .‬وهكذا جاءت مذابح القتل على طول الخط‬
‫مع القانون‪ ،‬كما لفتت العقوبة انتباههم للفعل‪ ،‬ووصل تفاني األبناء إلى‬
‫حضيضه بمجرد أن رأينا األجولة تزيد على الصلب(‪.((14‬‬

‫نادرا ما ُيعاقب فيه الناس ُتقبل الطهارة لتتمتع‬


‫‪ 2 - 23‬وفي المجتمع الذي ً‬
‫خيرا عا ًّما‪ ،‬شريطة أن يكون المجتمع‬
‫بالدعم العام‪ ،‬و ُيفضل اعتبارها ً‬
‫طاهرا‪ ،‬وسيكون األمر أشد نقمة للذين يمرقون عن المعيار‬
‫ً‬ ‫نفسه‬
‫العام للصالح إذا وجدوا أنفسهم قلة‪ ،‬وصدقني من المخاطرة أن تدع‬
‫المجتمع يعرف كم عدد الخبثاء فيه‪.‬‬

‫‪ 1 - 24‬وفي فترة من الزمن اقترح مجلس الشيوخ تمييز العبيد عن األحرار‬


‫بمالبسهم(‪ ،((14‬وصار من البين مدى الخطر المهدد إذا وضعنا عبيدنا‬
‫في اعتبارهم‪ ،‬وعلينا أن نخشى النتيجة نفسها إن لم ُيغفر لك‪ :‬سرعان ما‬
‫تكون الغلبة للشريحة األسوأ في المجتمع‪ ،‬وتعدد فرص العقاب ال يقل‬

‫(‪ ((13‬اإلمبراطور كالوديوس والد نيرون بالتبني‪ ،‬حول عقاب قاتل أبيه انظر ‪،.On Anger 1.16.5n‬‬
‫وحول ولع كالوديوس بالعقاب وهو داللة على الوحشية والدموية ‪.Suetonius Claudius 34.1‬‬
‫‪(139) Cicero On Behalf of Sextus Roscius 70 (a case of parricide.‬‬
‫(‪ ((14‬كثير من أبناء الرومان قد ُعوقبوا أكثر من العبيد وغير المواطنين (‪.)cf. §26.1‬‬
‫(‪ ((14‬ال يوجد دليل على حدوث هذه الحركة في السوناتو في زمن سينيكا‪ ،‬وهنا استعمل سينيكا‬
‫حقيقيا على أي حال‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫خياله‪ ،‬وكان قلق الرومان تجاه عبيدهم‬

‫‪93‬‬
‫في العار لألمير عن تعدد الوفيات للطبيب‪ ،‬واألفاضل من الناس يطيعون‬
‫ً‬
‫امرأ يعطي أوامره باعتدال‪.‬‬

‫‪ 2 - 24‬إن العقل اإلنساني عنيد بطبيعته‪ ،‬يناضل ضد أي شيء يضاده أو يضع‬


‫عقبة في دربه‪ ،‬فيالحقه وال يقوده‪ ،‬مثلما توجه الخيول األصيلة النبيلة‬
‫بكبح الجماح‪ ،‬وهكذا تتبع الطهارة الطوعية العفو بدافع من باطنها‪،‬‬
‫ويعتقد المجتمع أنها تستحق الحماية ألجل خيريتها‪ ،‬وهذا هو الدرب‬
‫الذي نحرز فيه تقد ًما‪.‬‬

‫‪ 1 - 25‬القسوة هي أقل نوع من شرور اإلنسان‪ ،‬وال ُتستحق بالعقل اللطيف‬


‫لإلنسان(‪ ،((14‬هي نوع من البهيمية للجنون يبتهج بالجروح الدموية‪،‬‬
‫يتخلص فيها المرء من إنسانيته‪ ،‬يستجمع فيها بعض صفات مخلوقات‬
‫الغابة‪ ،‬فأخبرني أيها اإلسكندر ما الفرق بين أن ترمي ليسيماخوس‬
‫لألسد أو تقرضه بأسنانك(‪((14‬؟ فالوحشية من سماتك‪ ،‬آه‪ ،‬كم تتمنى‬
‫أن تقرضه بفكيك اللذين منحتهما لتلتهم بهما الرجال وليس األسد‬
‫بمخالبه! نحن ال نرغب في يدك البغيضة‪ -‬المعروف عنها المصدر‬
‫ٍ‬
‫امرئ أو أن أفكارك الوحشية‬ ‫ً‬
‫منقذا ألي‬ ‫اليقين لتدميرهم(‪ - ((14‬كن‬
‫– المعروفة لدى األمم أنها شر مستطير‪ -‬تريح هذا الجانب من الذبح‬
‫الدموى‪ :‬ونسميه اآلن ‘العفو’ إذا منحت جالد البشر مهمة قتل صديقك‪.‬‬

‫‪ 2 - 25‬ولهذا السبب ينبغي أن نكره الوحشية؛ إنها تتخطى حدود العرف أولاً ‪،‬‬
‫وتتعدى حدود البشر ثان ًيا في البحث عن صور جديدة من العقاب‬

‫(‪ ((14‬هذا وثيق الصلة بالحجة القائلة بأن الغضب على النقيض من طبيعتنا كبشر (–‪On Anger 1.5.2‬‬
‫‪ ،)3‬رغم أن مالحظات سينيكا التالية توضح أن القسوة التي يفكر فيها تتجاوز نوع الوحشية التي‬
‫يمارسها فاالريس وكاليجوال (‪.)On Anger 2.5 and 2.19.1n.‬‬
‫(‪ ((14‬لالطالع على هذه الحادثة انظر ‪.On Anger 3.17.1n‬‬
‫(‪ ((14‬يلمح سينيكا إلى قتل اإلسكندر لصديقه كليتوس في حالة سكر ‪.On Anger 3.17.1n‬‬

‫‪94‬‬
‫وفي استدعاء مواهب خاصة لتحلم بوسائل لمضاعفة األلم وإطالته‪،‬‬
‫في إحالل البؤس محل الشرور‪ .‬وفي النهاية ُتختزل أفكارها المريضة‬
‫والكريهة إلى جنون مطلق‪ :‬وقد تتحول القسوة إلى متعة‪ ،‬ويصبح‬
‫ارتكاب القتل بهجة فعلية(‪.((14‬‬

‫‪ 3 - 25‬ومن المسالك المكروهة(‪ ((14‬لمثل هذا الرجل‪ :‬السم وكلب السيف‪.‬‬


‫كما أن هناك مصادر عدة تتعقبه مثل األشخاص الذين عرضهم للخطر‪،‬‬
‫وهو يعاني من مؤامرات خاصة واضطرابات عامة‪ ،‬ولن ُيلقي المصدر‬
‫البسيط الطفيف للدمار مد ًنا برمتها إلى الفورة‪ ،‬وتتسع رقعة الجنون‬
‫والغضب‪ ،‬ولن تحد أهدافه التي تسقط من كل جانب‪.‬‬

‫‪ 4 - 25‬وتهرب الثعابين الصغيرة عن أنظارنا‪ ،‬وال تلملمها قوى المجتمع‪،‬‬


‫ً‬
‫وحشا‪ -‬تسمم اآلبار‬ ‫وعندما يتجاوز حجمها المعتاد تنمو وتصبح‬
‫برضابها‪ ،‬و ُتحمص أي شيء تنفس فيه‪ ،‬وتسحق كل شيء في طريقها‪.‬‬
‫ويمكن للشرور التافهة أن تخدعنا وتمنحنا الزلة‪ ،‬بل نمضي مباشرة‬
‫لمواجهتها إذا كانت ضخمة‪.‬‬

‫‪ 5 - 25‬وبالطريقة نفسها ال يزعج مرض شخص بعينه حتى األسرة‪ ،‬ولكن حين‬
‫يسبب الطاعون وفيات عدة يثير المجتمع ويقاتل‪ ،‬كما يرفع الناس‬
‫أكفهم لألرباب الحقة‪ .‬وإذا اشتعلت النيران في أحد المنازل أخمدتها‬
‫األسرة والجيران بالماء‪ ،‬ولكن إذا ابتلعت النيران منازل عدة فال يمكن‬
‫إخمادها إال بجانب كبير من المدينة‪.‬‬

‫‪ 1 - 26‬وعندما يقسو البسطاء حتى العبيد ينتقمون‪ ،‬فإنهم يواجهون مو ًتا محق ًقا‬

‫(‪ ((14‬يفكر سينيكا في ‘المرض’ الحالة الكامنة خلف الغضب‪ ،‬وهو ما يشخصه ‘بالهيمية ‘‪On Anger‬‬
‫‪.2.5; cf. 2.4.2 below‬‬
‫‪(146) Reading aversio, odia in place of eversio, †odiae† printed by Malaspina.‬‬

‫‪95‬‬
‫بالصلب‪ ،‬فكل األمم والشعوب قد تعهدت بتدمير الحكام الطغاة سواء‬
‫عندما ُيعانون أو يتعرضون للتهديد‪ ،‬وأحيا ًنا يستنهض حراس الطغاة‬
‫فيعاملونهم بغدر وشراسة ووحشية أو بأي طريقة شريرة دربهم عليها‬
‫شريرا؟ فال يظل‬
‫ً‬ ‫الطغاة‪ ،‬فماذا يتوقع المرء من شخص علمه أن يكون‬
‫قابعا لفترة من الزمن أو يمضي سوء التصرف إلى مأربه الذي ينشده‪.‬‬
‫الشر ً‬
‫‪ 2 - 26‬وإن افترضنا أن القسوة آمنة‪ ،‬فأي صنف من الممالك تتمتع بها؟ مدينة‬
‫تشبه المدينة التي استولى عليها بالحرب‪ ،‬حيث ُترى الرهبة المضنية‬
‫على كل وجه‪ :‬فأينما حللت ترى الحزن واالرتباك والرجفة‪ ،‬وأينما‬
‫نظرت تدرك السعادة بالخوف‪ ،‬ويتجه الناس للمآدب بصعوبة‪ ،‬وحتى‬
‫الثملون يقبضون على ألسنتهم‪ ،‬والواشون يفتشون عن أسباب لتوجيه‬
‫وأعدت األلعاب بنفقة كبيرة وفخامة ملكية ومجموعة‬‫التهم(‪ُ ،((14‬‬

‫منتقاة من العارضين المهرة‪ ،‬الذين يمكنهم االستمتاع بها في السجن؟‬

‫‪ 3 - 26‬أيتها األرباب الخيرة‪ ،‬أي نوع من الشر البائس هذا – القتل والغضب‬
‫والبهجة في صليل القيود وتطاير رؤوس المواطنين وإراقة الدماء أينما‬
‫حللت ووضع اآلخرين في رحلة مخيفة في مرأى منكم(‪((14‬؟ كيف‬
‫يختلف نوع الحياة التي نعيشها لو كانت الدببة واألسود هم حكامنا‪،‬‬
‫وإن كانت الثعابين وكل الحيوانات المؤذية قد ُمنحت الهيمنة علينا؟‬
‫ً‬
‫وحوشا‬ ‫‪ 4 - 26‬هذه المخلوقات مجردة من العقل‪ ،‬وإدانتنا واتهامنا بكوننا‬
‫‪ monsters‬يحرمها من إيذائها(‪ ،((14‬ووجود النوع نفسه حتى بين‬
‫الحيوانات يجلب األمن‪ ،‬بينما جنون وحشية اإلنسان ال يكبح من‬

‫حرفيا” تطلب فيها الحيثيات المادية للتهمة والمحاكمة”‪.‬‬


‫ًّ‬ ‫(‪((14‬‬
‫(‪ ((14‬على نقيض االستجابة التي أثارها الرجل الهادئ الموصوفة في §‪.3.3‬‬
‫(‪ ((14‬لالطالع على الحجة انظر ‪.On Anger 2.8.3‬‬

‫‪96‬‬
‫مداهمة حتى أقرب الروابط‪ ،‬إنه يتعامل مع ما له وغربائه على نحو‬
‫مختلف – ُيصبح أشد إثار ًة كلما طال أمده(‪ -((15‬ومن ثم ينتقل من قتل‬
‫األفراد إلى تدمير قبائل بأكملها‪ُ ،‬يحاسبها بإظهار قوة إشعال النار في‬
‫المساكن وتجريف المدن القديمة‪ ،‬يعتقد أنه لم ينجز مهمة القائد بأمر‬
‫قتل واحد أو اثنين‪ ،‬بل يحكم بأن ينزل إلى رتبة جندي عام إذا لم تنتظر‬
‫جماعة بائسة بأكملها ضربة الجالد في آن(‪.((15‬‬

‫‪ 5 - 26‬وتكمن السعادة الحقة في منح الوجود الحسن لكثيرين‪ ،‬واستدعائهم‬


‫للحياة من الموت‪ ،‬وفي كسب التاج المدني بالعفو(‪ ،((15‬وليس من‬
‫زخرفة أرقى تجدر بسمو األمير من ذلك التاج المكتسب لحماية‬
‫حيوات المواطنين‪ -‬ليس األسلحة التي ُتجرد من األعداء الغزاة وليست‬
‫العربات الملطخة بدماء البرابرة وليست الغنائم المكتسبة في الحرب‪،‬‬
‫هذا يشبه قدرة الرب‪ :‬فإما أن تؤ ِّمن الناس وقطعان بأكملها في آن مثل‬
‫خدمتك العامة‪ ،‬وإما أن تقتل أعدا ًدا غفيرة دون تمييز في قوة حريق أو‬
‫مبنى منهار‪.‬‬

‫‪(150) The text is defective, and Gertz’s correction, translated here—“quo plus se exercitat,‬‬
‫‪<eo incitat>ior”—has the advantage of readily explaining the error (it presumes that‬‬
‫‪the scribe’s eye jumped from the end of exercitat to the middle of incitatior, thus‬‬
‫‪omitting the intervening text). But “more aroused” does not directly respond to the‬‬
‫‪preceding thought, which concerns savagery’s failure to draw a relevant distinction.‬‬
‫‪Did S. perhaps write “<eo caec>ior” (“becoming more random the longer it keeps‬‬
‫?)”‪at it‬‬
‫‪(151) Malaspina, following Mazzoli, posits a lacuna at this point, perhaps correctly. He‬‬
‫‪also suggests, less securely, that the lost material would have included the treatment‬‬
‫‪of Sulla promised at §12.3.‬‬
‫(‪ ((15‬منح أكليل من أوراق البلوط لجندي أنقذ رفيقه في المعركة‪ ،‬وذبح العدو‪ ،‬وقبض على األرض‬
‫المتنازع عليها‪ ،‬ومنح السوناتو مثل هذا الطوق ألوغسطوس ليمضي بالدرع الذهبية التي قد‬
‫يحتفي به في عفوه والفضائل األخرى (‪.)Res Gestae 34.2‬‬

‫‪97‬‬
98
‫الكتاب الثاني‬

‫‪99‬‬
100
‫لقد انتقلت للكتابة عن العفو للقيصر نيرون عاليه بتعليقى لك‪ ،‬واسترقت‬ ‫‪ 1 - 1‬‬
‫نفيسا‬
‫السمع باندهاش عندما قلت هذا‪ ،‬ورويت بتعجب لآلخرين كال ًما ً‬
‫ومفعما بالحيوية ولطي ًفا للغاية والذي تفجر على نحو مفاجئ وعفوي بال‬
‫ً‬
‫كلفة‪ ،‬يجعلك تفكر في كيف تتصارع خيريتك مع حظك الحسن‪.‬‬

‫إن حاكمك البريتوري بوروس (‪ Burrus((15‬رجل بارز‪ُ ،‬ولد ليخدمك‬ ‫‪ 2 - 1‬‬


‫كأمير‪ ،‬واعتزم معاقبة قاطعي طريق‪ ،‬وطلب منك أن تكتب ما ينوي‬
‫معاقبتهما به وكيف‪ ،‬وبعد مماطلتك في أداء هذا الواجب مرات عدة‬
‫أخيرا‪ ،‬وعندما أصدر مسوغ االتهام وسلمه لك‬
‫ً‬ ‫ضغط عليك للقيام به‬
‫أميا!”‪.‬‬
‫–كالكما تردد‪ -‬وصرخت‪“ :‬أتمنى لو كنت ًّ‬
‫هذه العبارة التي يجدر أن تكون مسموعة لكل الناس الذين يقيمون في‬ ‫‪ 3 - 2‬‬
‫سلطاننا وكل الذين يعيشون خارج حدودنا‪ ،‬ويرون حريتهم مهددة‪،‬‬
‫وكل الذين يقفون ضدها بشجاعة وقوة! العبارة التي ينبغي أن ُتنشر أمام‬
‫كل المجالس اإلنسانية وتطلب حلف يمين الوالء للملوك واألمراء‬
‫األجانب! والعبارة التي تجدر بطهارة فطرة جنس البشر‪ ،‬والتي يمكن‬
‫بها استعادة العصر الذهبي األسطوري(‪!((15‬‬

‫ويقينًا أن نقرر اآلن الخير والحق ونطرد شهوة خيرات اآلخرين –مصدر‬ ‫‪ 4 - 1‬‬
‫كل كرب‪ ،-‬ومن المناسب استعادة الكمال األخالقي مع النية الخالصة‬

‫حاكما‬
‫ً‬ ‫(‪ ((15‬سكتوس أفرينيوس بوروس ‪ Sextus Afranius Burrus‬من جنوب الغال‪ ،‬أصبح‬
‫للحرس البرايتوري في عهد كالوديوس ‪51‬م وظل في المنصب حتى وفاته‪ ،‬وكان مسؤولاً عن‬
‫توجيه نيرون في السنوات األولى من حكمه مع سينيكا‪ ،‬وكان الشخص الوحيد المسموح له‬
‫مسلحا لسلطة اإلمبراطور‬
‫ً‬ ‫بحمل السيف في حضور اإلمبراطور‪ ،‬وكان الحاكم الرايتوري امتدا ًدا‬
‫(‪)Millar 1977:123‬‬
‫(‪“ ((15‬العصر الذهبي” هو زمن عدن عندما عاش البشر في سالم ووئام مدعومين بالطبيعة المثمرة‬
‫تلقائيًّا‪ ،‬ويرجع تخيل العصر الذهبي في األدب الالتيني إلى ‪ ،Vergil Eclogue 4‬وكون نيرون‬
‫ضمانة لعصر ذهبي جديد فهو ‘تنبأ’ بألوهية كالوديوس ‪.Apocolocyntosis 4.1.8–9‬‬

‫‪101‬‬
‫واالعتدال جن ًبا بجنب؛ ألن الرذائل استطالت بجور وأثمرت في النهاية‬
‫عصرا سعيدً ا َّ‬
‫وضاء‪.‬‬ ‫ً‬
‫ونأمل أن يتحقق هذا يا قيصر بإيمان جزل‪ ،‬وسوف يصل لطف روحك‬ ‫‪ 1 - 2‬‬
‫وينتشر في ربوع سلطاننا(‪ ،((15‬وسوف ُيحبك كل شيء على شاكلتك‪،‬‬
‫وسوف تبدأ العافية من الرأس‪ ،‬وسوف ُيمأل العقل بالحياة أو ُتفعم‬
‫بالحيوية كل األشياء المرهقة‪ ،‬وسيكون هناك مواطنون‪ ،‬وسوف يكونوا‬
‫موالين جديرين بهذه الخيرية‪ ،‬وسوف ُيستعاد السلوك القويم لكل ربوع‬
‫العالم‪ ،‬وسوف ترفع يدك لتجازى في أي مكان تملكه‪.‬‬

‫اسمح لى أن أستطرد قليلاً في عبارة لك ليس تمل ًقا ألذنيك (هذا‬ ‫‪ 2 - 2‬‬
‫ليس طريقى‪ُ ،‬‬
‫وأفضل أن أخبرك الحقيقة بدلاً من أن أمنحك متعة وأنا‬
‫متزلف)‪ ،‬ولكن ما غايتي إ َذنْ ؟ أن أوقفك على أن تكون على دراية‬
‫بأعمالك الخيرة وأقوالك بقدر الممكن‪ ،‬لذا ربما قد ُتقبل على ما تفعله‬
‫اآلن بدافع االندفاع الفطري‪ ،‬إنني أفكر في األمر‪ :‬كلمات كثيرة تبدو‬
‫عظيمة بل مقيتة وقد شقت طريقها بين الرجال وصارت مشهورة بكونها‬
‫على شفاه الجميع‪ ،‬مثل قول “دعهم يكرهوا شريطة أن يخافوا”‪ ،‬وهناك‬
‫امرؤ قائلاً ‪“ :‬بعد موتي قد ُتلعن األرض‬
‫نظم يوناني يشبه هذا يتحدث به ٌ‬
‫بالنار”‪ ،‬وأشياء من هذا القبيل(‪.((15‬‬

‫‪ -‬رجع المترجم من الالتينية إلى ‪Hosius’s omne imperii corpus (for the archetype’s‬‬ ‫(‪ ((15‬‬
‫‪corrupt omne imne imperii corpus), against Rossbach’s per omne immane‬‬
‫‪imperii corpus, printed by Malaspina. S. uses immane only with deeply negative‬‬
‫‪connotations (e.g., §2.3 below, “monstrous [immani] and hateful [invisa]”), and‬‬
‫‪.it is hardly likely to be used here‬‬
‫(‪ ((15‬سبق ذكر أن الشطرة األولى من أكيوس أتريوس ‪ .at 1.12.4‬والثانية من تراجيديا يونانية مجهولة‬
‫(‪ ،)TGrF 2, frag. 513‬وقد كشف عنها (‪ )Cassius Dio 58.23.4‬عندما استعملها شخص ما‬
‫حي” ‪Suetonius Nero 38.1‬‬ ‫في محادثة‪ ،‬وأولها نيرون بتعديلها بقول “ال‪ ،‬بينما أنا ٌّ‬

‫‪102‬‬
‫وقد عبرت فطنة البشر بطريقة ما أو بأخرى عن المشاعر القوية والعاطفية‬ ‫‪ 3 - 2‬‬
‫نفسا‬ ‫ً‬
‫وبغيضا‪ :‬فلم يصل إلى سمعي أن ً‬ ‫وحشيا‬
‫ًّ‬ ‫حين يكون الموضوع‬
‫خيرة ولطيفة تحض بقول متقد(‪ ،((15‬فما النتيجة إ َذنْ ؟ عليك في بعض‬
‫وقسرا وترد ًدا للغاية‪ -‬أن تكتب شيئًا ما‬
‫ً‬ ‫نادرا‬
‫األمور‪ -‬وإن كان هذا ً‬
‫يجعلك تكره أنه بمقدورك أن تكتب‪ ،‬حيث يجب أن تفعلها كما تفعلها‬
‫ٍ‬
‫بتوان شديد وإرجاء كثير‪.‬‬

‫خادعا لنا أحيا ًنا‪ ،‬ويقودنا إلى اتجاه‬


‫ً‬ ‫وقد يصير اسم العفو الظاهر‬ ‫‪ 1 - 3‬‬
‫معاكس‪ ،‬فدعنا نرى ما العفو وما صفاته وأين نحدد التمايزات المتعلقة‬
‫به‪ .‬إن العفو «اعتدال العقل عندما يملك القدرة على االنتقام» أو “اعتدال‬
‫األسمى نحو األدنى في ردع العقاب”‪ ،‬ومن المطمئن تقديم تعريفات‬
‫عدة خشية أال يغطي التعريف الواحد األمر‪ ،‬وإن جاز القول ضياع‬
‫القضية(‪ ((15‬وبالتالي يمكن أن نعرفه بأنه «ميل العقل نحو االعتدال في‬
‫فرض العقاب»‬

‫ولن يغطي التعريف التالي كل حالة‪ ،‬ولكنه يقترب من الحقيقة تقري ًبا‬ ‫‪ 2 - 3‬‬
‫وهو أن “العفو اعتدال يقلص الفعل والعقاب المستحق إلى حد ما”‪،‬‬
‫عما يفعل!”(‪ ،((15‬ومن‬ ‫ً‬
‫اعتراضا‪“ :‬ال توجد فضيلة ألي أحد تقل َّ‬ ‫ونتوقع‬
‫ثم يفهم الكل أن العفو يعوق ذاته باختزال ما يمكن تعيينه باستحقاق‪.‬‬

‫ويعتقد الجاهل أن الصرامة مضادة للعفو‪ ،‬ولكن ال توجد فضيلة عكس‬ ‫‪ 1 - 4‬‬

‫(‪ ((15‬يبدو أن مالحظة نيرون محل الثناء عاليه تفي بالمعيار؛ لذلك يضحي سينيكا باالتساق أو الدقة‬
‫ألجل عبارة ملفتة لالنتباه ‪.On Anger 2.8.3n‬‬
‫(‪ ((15‬يستعمل سينيكا المجاز وأسلوب اإلسقاط ‪ ،formula excidere‬ويشير إلى قضية مفقودة في‬
‫القانون بإدخال خاطئ أو سوء صياغة (‪.)cf. OLD s.v. formula 6c‬‬
‫(‪ ((15‬هذا األمر عصيب لسينيكا وقد تناوله في الفقرة ‪ 7‬أدناه قبل بدء النص مباشرة‪ ،‬وانظر ً‬
‫أيضا ‪see‬‬
‫‪.also 6.3n‬حول تضمين هذه المؤهالت باعتبارها درجات ‘أو نس ًبا مستح ًّقا ‪.’due proportion‬‬

‫‪103‬‬
‫أي شيء آخر‪ ،‬إ َذنْ ما الذي يضاد العفو؟ القسوة‪ ،‬وما هي إال فظاظة‬
‫العقل في فرض العقاب‪ ،‬وقد يعترض أحدهم “ بل بعض الناس ال‬
‫يفرضون عقا ًبا وهم قساة – على سبيل المثال الذين يقتلون الغرباء الذين‬
‫يتخطون دروبهم ال ألجل االكتساب بل ألجل القتل‪ ،‬والحقيقة أنهم‬
‫ال يكتفون بالقتل بل يعذبونهم مثل بوسيريس ‪ Busiris‬وبروكوستيس‬
‫(‪ Procustes((16‬والقراصنة الذين ضربوا أسراهم وحرقوهم أحياء”‪.‬‬

‫ضررا) وليس‬
‫ً‬ ‫ح ًّقا يبدو هذا قسوة‪ ،‬بل ليس سع ًيا لالنتقام (ألنه ال يتكبد‬ ‫‪ 2 - 4‬‬
‫غض ًبا ألفعال خاطئة (ألنه ال تسبقه جريمة) إنه يقع خارج تعريفنا الذي‬
‫ُحدد بإفراط العقل في فرض العقاب‪ ،‬ويمكننا القول‪ :‬إن السلوك اآلخر‬
‫ليس قسوة بل بهيمية(‪ ((16‬تنهل المتعة في الوحشية أو يمكن أن نطلق‬
‫عليه حماقة‪ ،‬فهناك أنواع عدة للقسوة‪ ،‬وما من توثيق أشد في تشخيصه‬
‫من ذاك الذي يصل إلى غاية قتل الناس وتمزيقهم إلى أجزاء‪.‬‬

‫سوف أطلق على الذين لديهم أسباب للعقاب أنهم ‘قساة’‪ ،‬ولكن لم‬ ‫‪ 3 - 4‬‬
‫حدا للعقاب كما في حالة فاالريس (‪ Phalaris((16‬الذي ورد‬
‫يضعوا ًّ‬
‫أنه مارس وحشيته ليس ضد األبرياء فحسب بل ضد أي إنسان وأي‬
‫شيء يستحسنه المرء‪ ،‬ويمكننا تحاشي الخلط ونستعمل هذا التعريف‪:‬‬
‫وهو أن القسوة هي ميل العقل نحو الفظاظة القصوى‪ ،‬ويرفض العفو‬
‫هذه الصفة ويجبرها أن تبقى بعيدة عنه؛ ألنه بصرامته يأتلف العفو‪.‬‬

‫(‪ ((16‬نموذجان للقسوة يقترنان هنا باألدب الالتيني‪ :‬وهما بوروس ملك مصر الذي ضحى بالغرباء‬
‫أيضا بداماستيس‬ ‫لزيوس حتى قتله هيروكليس‪ ،‬وبروكروستيس ‪( Procrustes‬المعروف ً‬
‫‪ Damastes‬أو بوليبيمون ‪ ) Polypemon‬قتله ثيسيوس بعد أن قبض عليه قاطع طريق في أتيكا‬
‫وعذبه ومدده على سرير وقطع أطرافه‪.‬‬
‫(‪ ((16‬حول البهيمية ‪ feritas‬انظر ‪.see 1.25.2n‬‬
‫(‪ ((16‬على نقيض ‪ On Anger 2.5.1‬حيث إن فاالريس ليس مثالاً للقسوة بل للبهيمية التي نقاشناها‬
‫للتو‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫ومن المناسب أن نسأل ما الشفقة ونحن بصدد هذا األمر؛ ألن معظم‬ ‫‪ 4 - 4‬‬
‫ٍ‬
‫امرئ ميال للشفقة‬ ‫الناس يثنون عليها بوصفها فضيلة‪ ،‬ويدَّ عون أن كل‬
‫إنسان خير‪ .‬وهذه ً‬
‫أيضا رذيلة للعقل(‪ .((16‬وتقترب كلتا الرذيلتين‬
‫‪-‬القسوة والشفقة‪ -‬من العفو والصرامة‪ ،‬وعلينا أن نتحاشاهما‪ ،‬فنحن‬
‫ننزلق إلى القسوة ألنها تشبه الصرامة(‪ ،((16‬بينما ننزلق إلى الشفقة ألنها‬
‫تشبه العفو‪ ،‬والخلط في اتجاه الشفقة ينطوي على مخاطرة أقل‪ ،‬والذين‬
‫يرتدون عن الحق يخطئون في كلتا الحالتين بالتساوي(‪.((16‬‬

‫وكما أن الدين يعتز باألرباب في حين تجرحهم الخرافات‪ ،‬ولذا كل‬ ‫‪ 1 - 5‬‬
‫الصالحين ُيظهرون العفو واللطف ويتحاشون الشفقة؛ ألنها زلة لروح‬
‫بائسة تنهار باالنفعال بمتاعب الناس(‪ ،((16‬وبالتالي هو أكثر ألفة عند‬
‫األشرار‪ :‬النساء العجائز والحمقاوات اللواتي يتحركن بالدموع‪ ،‬فالشفقة‬
‫تنظر إلى حالة المرء فحسب وليس علتها والعفو يتوافق مع السبب‪.‬‬

‫إني أعلم أن الرواقيين يتمتعون بسوء السمعة بين الجهال لكونهم قساة‬ ‫‪ 2 - 5‬‬
‫للغاية‪ ،‬ولذا من غير المرجح أن يقدموا للملوك واألمراء نصيحة‪،‬‬
‫و ُينحى إليهم الالئمة في توكيدهم على أن الحكيم ال يشعر بالشفقة‬

‫(‪ ((16‬هذا كانفعال وهو من وجهة نظر الرواقية رذيلة في حد ذاته انظر ‪On Anger, introduction,‬‬
‫‪.section 2‬‬
‫‪(164) - Gertz’s supplement—“<per speciem enim severitatis in crudelitatem incidimus>,‬‬
‫‪per speciem clementiae in misericordiam”—is necessary, and the sense is clear.‬‬
‫(‪ ((16‬هذا مختلف في الفكر الرواقي‪ ،‬حيث إن كل الرذائل مثل كل الفضائل هي وحدة مطلقة ودون‬
‫درجات ‪.cf. 1.5.3n‬‬
‫فنيا وهو كلمة ‪ species‬بمعنى صورة ذهنية أو انطباع ‪impression‬‬ ‫اصطالحا ًّ‬
‫ً‬ ‫(‪ ((16‬يستعمل سينيكا‬
‫وهو يشير إلى إدراك تقييمي ينطلق من االنفعال عندما نقبل االنطباع باعتباره صوا ًبا (‪cf. On‬‬
‫‪ .)Anger introduction, section 2 and 1.2.5n.‬وعن االنطباعات وعالقتها بالشفقة ‪cf.‬‬
‫‪.1.1.4n. and §4 below‬‬

‫‪105‬‬
‫وال يغفر(‪ ،((16‬وهذا التوكيد في حد ذاته ليس منص ًفا؛ ألن الرواقيين‬
‫ال يفسحون أملاً للخطأ اإلنساني ويحيلون أوجه القصور جميعها إلى‬
‫العقاب مباشرة‪.‬‬

‫وإن كان الحال كذلك‪ ،‬فما الحكمة من ذلك؟ وهو أن يندفع الناس نحو‬ ‫‪ 3 - 5‬‬
‫التخلي عن إنسانيتهم وتحرمهم من تقديم العون المتبادل وهو المالذ‬
‫اآلمن من المصيبة – لماذا ال ينبغي أن تكون مذمومة؟ ال‪ ،‬فليست من‬
‫مدرسة أرق وألطف من الرواقية‪ ،‬وال تزيد عنها في حبها لجنس البشر‬
‫نافعا وخدو ًما‪،‬‬
‫وانجذابها للخير العام‪ ،‬لدرجة أن غايتها أن تكون ً‬
‫وال تنظر إلى اهتماماتها ذاتها كمدرسة بل في اهتمامات الناس على‬
‫المستوى الفردي والجمعي‪.‬‬

‫الشفقة محنة ناتجة عن انطباع بعدم سعادة اآلخرين أو حزن ينشأ‬ ‫‪ 4 - 5‬‬
‫بمتاعب اآلخرين الذين يعتقد المرء أنهم يعانون وهم ال يستحقون هذا‪،‬‬
‫ولكن ال يصيب الحكيم محنة(‪ ((16‬وعقله مبتهج‪ ،‬وال يحدث له شيء‬
‫يضعه في محنة‪ ،‬وزد على ذلك‪ ،‬وال شيء يجذب اإلنسان بقدر الروح‬
‫العظيمة‪ ،‬والروح ذاتها ال تكون عظيمة وموحشة في آن واحد‪.‬‬

‫فالكآبة تفسد عقولنا وتعزلها و ُتقبضها‪ :‬وهذا ال يصيب الحكيم حتى‬ ‫‪ 5 - 5‬‬
‫في ظل خسائره‪ ،‬ويقاوم أي غضب في مصيبته فيرديه ويحطمه أمامه‪،‬‬
‫وهو ُيبقي على تعبيره هاد ًئا ثابتًا(‪ ،((16‬وهو ما ال يستطيع فعله إذا أفسح‬
‫المجال للحزن‪.‬‬

‫(‪ ((16‬تنسب وجهة النظر هذه إلى الرواقيين ‪at SVF 3.640–41; cf. Cicero On Behalf of Murena‬‬
‫‪.62‬‬
‫(‪ ((16‬لالطالع على المبدأ الرواقي األصيل انظر ‪.cf., e.g., Cicero Tusculan Disputations 3.7f‬‬
‫(‪ ((16‬هذه الصورة المتقدة لسقراط في ‪ ،On Anger 2.7.1‬ولم يحافظ كل الرواقيين على وجهة النظر الضارة‬
‫لال مباالة في المظهر والزينة انظر ‪.the fragment of Epictetus preserved at Gellius 19.1‬‬

‫‪106‬‬
‫وأضف إلى ذلك حقيقة أن الحكيم بعيد النظر ولديه خطة للفعل جاهزة‪،‬‬ ‫‪ 1 - 6‬‬
‫وال شيء جلي َّ‬
‫وضاء يأتي من شيء ما غامض‪ ،‬فالحزن غير مناسب‬
‫لرؤية جوهر األشياء ومعرفة ما هو مفيد وتجنب المخاطر واالعتداد بما‬
‫هو عدل‪ ،‬ولذلك ال يأسى الحكيم؛ ألن هذا يستلزم بؤس العقل‪.‬‬
‫ويفعل الحكيم كل األشياء األخرى التي يرغبها من يشعرون بالشفقة(‪((17‬‬
‫َ‬ ‫‪ 2 - 6‬‬
‫ببهجة وعقل مطمئن‪ ،‬ينجذب لدموع اآلخرين وال ينضم إليهم‪ ،‬يمد‬
‫نوعا‬
‫يده للسفينة الغارقة‪ ،‬وهو المالذ للمنفي‪ ،‬والعملة للمحتاج‪ -‬ليس ً‬
‫من اإلهانة يقدمه الذين يريدون أن ُيظهروا التعاطف مع بعضهم والذين‬
‫يشمئزون ممن يساعدونهم ويخافون أن يلمسوهم‪ ،‬ولكن عملة يقيمها‬
‫إنسان آلخر من مصدر يتشاركون فيه(‪ ،((17‬سيحرر االبن من الجواب‬
‫لدموع األم ويتراجع عن قيوده‪ ،‬ويعفي المجالد من تدريباته(‪،((17‬‬
‫ويدفن جثة المجرم‪ ،‬ولكن يفعل كل هذه األشياء بسكينة عقل وملمح‬
‫ثابت‪.‬‬

‫نافعا‪ ،‬حيث ولد لعون‬


‫وال يشعر الحكيم بالشفقة بل يقدم العون ويكون ً‬ ‫‪ 3 - 6‬‬
‫رفقائه وإضافة الخير العام الذي يمنحه لكل امرئ يتشارك معه‪ ،‬ويجعل‬
‫متاحا حتى للبؤساء الذين في حاجة للتقويم (‪ ،((17‬ويعين‬
‫ً‬ ‫صالحه‬
‫بابتهاج المنكوبين و َمن تعسروا بالصدفة‪ ،‬ويقف في درب المصيبة بقدر‬

‫(‪ ((17‬ترجمت كلمة ‪ volunt‬بكلمة يريدون بدلاً من كلمة أريد في المتن الذي أترجم منه‪.‬‬
‫‪(171) On Favors 2.13.2.‬‬
‫(‪ ((17‬كان الرجل الذي ُيدرب في مدرسة المجالدين (‪ )ludus‬عادة عبدً ا‪ ،‬ويؤدي به التدريب غال ًبا إلى‬
‫الموت في الحلبة‪.‬‬
‫(‪ ((17‬عبارة “في تناسب الواجب” عبارة تتناول مسألة أساسية تتعلق بالعفو‪ ،‬وإن كان العفو يسلتزم‬
‫مغفرة “ إلى حد ما” انظر عاليه ‪ 3.2‬بأي مبدأ عقالني نقرر درجة المغفرة؟ انظر أدناه ‪3.7‬‬
‫المقولة المذكورة تتوازن مع هذه الجملة ‪ ”-‬المتألمون بالحظ”‪ -‬وهي ال عالقة لها بالعفو‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫استطاعته‪ ،‬فمتى يفضل استعمال قوته ومصادره في استعادة ما أطاح به‬
‫سوء الحظ؟ من المؤكد أن تعبيره غير منبوذ‪ ،‬وال عقله ً‬
‫أيضا‪ ،‬وإن كان‬
‫على مرأى من امرئ ُكسرت ساقه أو ُسحقت عظامه‪ ،‬فإنه يدعم عجزه‬
‫لمن أصابتهم‬
‫بعكاز‪ ،‬إنه يفعل الخير لكل َمن يستحق‪ ،‬وينظر بعطف َ‬
‫المحنة مثل األرباب‪.‬‬

‫فالمواساة جار بؤس حيث تتجذر عن بعض الصفات من النوعية‬ ‫‪ 4 - 6‬‬


‫نفسها‪ ،‬فالعين تلتهب حين يلتهب اآلخر ويضعف‪ ،‬ولك أن تتيقن‪ -‬مثل‬
‫مرحا حين يجعل دو ًما ابتسامة واحدة حين يبتسم‬
‫الرب أنه مرض وليس ً‬
‫اآلخرون أو يفغرون أفواههم حين يتثاءبون كل مرة(‪ ،((17‬والمواساة‬
‫رذيلة عقول خائفة من البؤس‪ .‬فحين يطلبها المرء للحكيم‪ ،‬فإنه يطلب‬
‫منه أن يئن وينحب لموت الغرباء(‪.((17‬‬

‫والسؤال‪“ :‬لماذا ال يمنح المغفرة؟”‪ .‬حسنًا(‪ ،((17‬ولنحدد أولاً ماهية‬ ‫‪ 1 - 7‬‬


‫‘الغفران’ وسوف نفهم لماذا ال ينبغي أن يمنحه‪ ،‬فالغفران تخفيف‬
‫لعقاب مستحق(‪ ،((17‬ولماذا ما ينبغي للحكيم أن يمنحه يمكن تفسيره‬
‫رئيسا‪ ،‬وحتى نتعامل مع السؤال‬
‫ً‬ ‫بالتفصيل من ِق َبل الذين لديهم هد ًفا‬
‫باختصار نتخطى (إن جاز التعبير ) على صالحية اآلخر‪ .‬وسوف أقول‬

‫ً‬
‫أمراضا‪ ،‬بل استجابات‬ ‫(‪ ((17‬على نقيض ‪ On Anger 2.2.5, 4.2‬حيث االبتسام والتثاؤب الال إرادي ليسا‬
‫طبيعية‪ ،‬ويستعملها سينيكا قياسات مماثلة لتوضيح الهزة العقلية األولى كمقدمة لالنفعال‪.‬‬
‫(‪ ((17‬هذا التماثل يتسم بالضعف؛ ألنه يشير إلى أن الحكيم ينظر إلى موت الغرباء بال اكثراث أو يعتبر‬
‫سوء حظ الغرباء غري ًبا عليه أو على أصدقائه‪.‬‬
‫‪(176) The translation reflects Hosius’s agedum, adopted as a stopgap where the archetype‬‬
‫‪read vacuam. (Malaspina obelizes vacuam and posits a lacuna, probably correctly.).‬‬
‫(‪ ((17‬الصفح يعفي أو يتابع تقييم التخلي الذي أُجري في حين أن العفو ‪-‬في مثال سينيكا‪ -‬يشكل‬
‫فعل التقييم ذاته‪،.‬‬

‫‪108‬‬
‫هذا‪ :‬إن المغفرة ُتمنح َ‬
‫لمن ينبغي أن ُيعاقب‪ ،‬وال يفعل الحكيم شيئًا‬
‫ينبغي أال يفعله وال ينسى شيئًا ينبغي أن يفعله‪ ،‬وبالتالي هو ال يحول‬
‫عقا ًبا ينبغي أن ُيفرض‪.‬‬

‫إن ما تريد أن تكسبه من المغفرة قد يمنحه لك الحكيم بطريق أكثر‬ ‫‪ 2 - 7‬‬


‫شر ًفا؛ ألنه سوف يدخرك ويفكر في اهتماماتك الحقيقية ويضبطك‪،‬‬
‫وسوف يفعل ما سيفعله كما لو كان يغفر لك ولكنه لن يغفر لك؛ ألن‬
‫َمن يغفر يعترف بأنه قد يتجاهل فعل شيء يجب القيام به‪ ،‬إنه يمنح ً‬
‫امرأ‬
‫بعينه عتا ًبا وليس عقا ًبا‪ ،‬ويرى أنه مرحلة من الحياة ال سبيل لتقويمه‪.‬‬
‫وهناك امرؤ آخر مصاب تما ًما بسوء اإلرادة‪ ،‬فهذا يتحمل جريمته(‪،((17‬‬
‫سالما ألنه قد ُضلل أو ألنه انزلق وهو ثمل‪ ،‬وسوف يطلق‬
‫ً‬ ‫وسوف يرحل‬
‫صراح األعداء دون أذى‪ ،‬وأحيا ًنا بكلمات تقدير إذا استدعوا للحرب‬
‫لداع مشرف‪ ،‬أي ألجل والء أو دفاعة معاهدة أو حريتهم‪.‬‬
‫ٍ‬

‫وتناسب هذه األفعال العفو ال المغفرة‪ ،‬ويمارس العفو حرية الحكم‪:‬‬ ‫‪ 3 - 7‬‬
‫حيث ال يجعل األحكام لصيغة بعينها بل وفق ما هو عدل وخير‪ ،‬وبعيدً ا‬
‫عن اإلفراط‪ ،‬و ُيقيم القيمة القضية بالقدر الذي تبتغيه‪ ،‬وتضع األشياء‬
‫كلها ليس كما لو كانت تقل عما هو عدل‪ ،‬بل كما لو كانت ما وصلت‬
‫إليه األحكام أعظم عدل(‪ ،((17‬ولكن أن تغفر فإنك تتخلى عن عقاب‬
‫امرئ تقضي بأنه ينبغي عقابه‪ .‬والمغفرة هي تقليص لعقاب مستحق‪.‬‬
‫وينجز العقل هذا في المقام األول‪ :‬حيث يؤكد أن الذين يتخلون عنه ال‬
‫ُيعانون شيئًا آخر‪ ،‬فهو أكمل من المغفرة وأعظم تشري ًفا‪.‬‬

‫إحساسا مناس ًبا بالخجل‪.‬‬


‫ً‬ ‫(‪ ((17‬ذلك المرء الذي يظهر أن لديه‬
‫(‪ ((17‬على النقيض ‪« 1.2.2‬أ ًّيا كان اإلجراء الذي سيكون مجرد إنصاف ‪ aequo plus‬يجب أن يقلب‬
‫المقياس في اتجاه إنساني»‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫وفى رأيي‪ ،‬أن محك الجدل ينطوي على مسألة االصطالحات في حين‬ ‫‪ 4 - 7‬‬
‫أن الجوهر مسألة اتفاق بالتوكيد‪ ،‬وسوف يخفف الحكيم العقاب‬
‫بحاالت عدة‪ ،‬وسوف يقي كثيرين ليست صفاتهم سليمة ولكنهم‬
‫قادرون على التقويم‪ ،‬إنه يحاكي الفالحين األخيار الذين ال يعتنون‬
‫باألشجار التي تنمو مستقيمة فحسب‪ ،‬بل يدعمون تلك التي اعوجت‬
‫فروعا أخرى خشية أن تتوقف عن النمو‪،‬‬
‫ً‬ ‫لسبب ما ليقيموها‪ ،‬ويقلمون‬
‫ويخصبون التي أضعفتها التربة الفقيرة‪ ،‬ويمنحون أشعة الشمس للتي‬
‫ُحجبت عنها‪ ،‬لذلك يدرك الحكيم الشخصية التي يتعامل معها ونظامها‬
‫قوم ويقيم تشوهها‪.‬‬
‫وكيف ُي ِّ‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪110‬‬
‫المقد�س‬
‫َّ‬ ‫ت�أليه كالوديو�س‬

‫‪111‬‬
112
‫مناسبة الكتاب وغرضه‬
‫تُوفي اإلمبراطور كالوديوس في ‪ 13‬أكتوبر عام ‪ 54‬م عن عمر يناهز أربعة‬
‫وستين عا ًما‪ ،‬والسبب المحتمل للوفاة هو السم‪ ،‬رغم أن الك َّتاب القدامى اختلفوا‬
‫مهووسا‬
‫ً‬ ‫سمم‪ ،‬ابتهج كثير من الناس بموت كالوديوس مع أنه لم يكن‬
‫الم ِّ‬
‫في هوية ُ‬
‫مثل سلفه كاليجوال‪ ،‬فقد كان صعب المراس قاس ًيا‪ ،‬وغير متو َّقع الفعل‪ ،‬وبجانب‬
‫ٌ‬
‫أغراض لتعجيل زواله‪ .‬وبغض النظر عن الطريقة التي‬ ‫هذا ُأحيط بحاشية كانت لها‬
‫تُوفي بها‪ ،‬فإن المسؤولية المطلقة في موته تقع على عاتق أجربيانا ‪Agrippina‬‬

‫آخر زوجاته األربع‪ ،‬وهي امرأة تتمتع بسلطة إجرامية بائنة‪ ،‬حيث أشارت على‬
‫كالوديوس بتبني نيرون‪ ،‬ابنها من زيجة سابقة‪ ،،‬وقد عضد هذا التبني من سلطة‬
‫بريتانيكوس ‪ Britannicus‬ابن كالوديوس وزواجه من ميسالينا ‪Messalina‬‬

‫سيئة السمعة عام ‪41‬م‪ ،‬وأعطى للشاب والكهل رفقة التعاقب‪ ،‬ولكن مسيرة نيرون‬
‫سريعا وحانت وفاة كالوديوس بشكل مثير للريبة‪ ،‬في آن ُحرم فيه‬
‫ً‬ ‫مضت قد ًما‬
‫بريتانيكوس من منح توجا الشجاعة ‪ ،toga of manhood‬وحرصت أجربيانا‬
‫بمجرد خروج كالوديوس من الطريق بمعاونة مستشارين موثوق بهم على تولي‬
‫(وسمم عام ‪ ،55‬ولم يدم بريتانيكوس‬
‫نيرون ‪-‬وليس بريتانيكوس‪ -‬زمام األمور ُ‬
‫)‪ ،‬وقد أُعلن كالوديوس إلهًا من السوناتو بعد وفاته بفترة‬ ‫التعيس مع والده‬
‫قصيرة – وهذه الخطوة عززت مكانة الشاب نيرون‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫لم تكن عالقة سينيكا بكالوديوس حميدة‪ :‬حيث كان مسؤولاً عن نفيه‪،‬‬
‫معلما لنيرون‬
‫ً‬ ‫وحتى بعد أن عاد من النفي بقي بعيدً ا‪ ،‬وعلى النقيض فقد كان‬
‫الشاب‪ ،‬وكانت أجربيانا حليفةً له‪ ،‬وقد أعانها سينيكا على ضمانة خالفة نيرون‪،‬‬
‫وسرعان ما صار حاكمًا لإلمبراطورية‪ ،‬ويتقاسم السلطان مع بوروس ‪Burrus‬‬
‫ويوالي الحرس البرايتوري (كتب خطاب موت كالوديوس لنيرون)‪ ،‬لذا َّ‬
‫مكن‬
‫وضع سينيكا من أن يجد يوم ‪ 13‬أكتوبر يو ًما سعيدً ا بالفعل‪.‬‬

‫لقد كُتب كتاب التأليه ‪ ،Apocolocyntosis‬ونُشر بعد موت كالوديوس بفترة‬


‫قصيرة‪ ،‬ومن المقبول أنه ُكتب للقراء العوام في ساتورناليا ‪ Saturnalia‬في ديسمبر‬
‫عام ‪ – 54‬عطلة احتفالية ماتعة كان كالوديوس يحب فيها المآدب واالستمتاع‪،‬‬
‫وكان نيرون سيد المحتفلين‪.‬‬

‫العنوان والمؤلف‬
‫ذكر معلق قديم واحد فقط ‪-‬هو كاسيوس ديو بعد مضي أكثر من قرن‪ -‬كتاب‬
‫سبب للتشكيك في المؤلف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫سينيكا عن موت كالوديوس وتأليهه‪ ،‬وليس لدينا‬
‫فالمخطوط المعروف ينسب العمل له‪ ،‬مع أن أقدم مخطوطة للكتاب ترجع إلى‬
‫القرن التاسع الميالدي‪ ،‬وتأيد االعتبارات األسلوبية إجماع اآلراء‪ ،‬ألن ِّ‬
‫الشعر في‬
‫القسم السابع والثاني عشر يكشف العالقة الوطيدة بالبيان واالستعمال الموزون‬
‫في تراجيديا سينيكا‪ ،‬والحجة الوحيدة التي تنفي أن العمل من أعمال سينيكا هي‬
‫الرأى القائل بأن الفيلسوف الحاذق ال يبتهج أو يحقد‪ ،‬ومع ذلك كان سينيكا رجلاً‬
‫معقدً ا للغاية‪ ،‬ومن الصعب أن تتساير معتقداته الفلسفية مع حياته‪.‬‬
‫إن ديو هو مَن أعطانا عنوان الكتاب ومحتواه‪َّ :‬‬
‫«ألف سينيكا كتا ًبا أطلق عليه‬
‫‪114‬‬
‫التأليه‪ ،‬وإنه كما لو كان لبعض ملوك مؤلهين»‪ ،‬ومن بين المخطوطات القديمة‬
‫عنوان «تأليه كالوديوس اإلله بالهجائية»‪ ،‬والذي يبدو أنه وصف للفهرسة أكثر‬
‫من العنوان‪ ،‬وعنونته مخطوطات أخرى «العزف على موت كالوديوس»‪ ،‬وهو‬
‫استعمال سائد في العصر الوسيط‪ ،‬ولذلك من األصوب أن نتبع ديو‪.‬‬

‫إن كلمة ‪ A kolokynte‬اليونانية هي ‪ cucurbita‬في الالتينية‪ ،‬وتعني القرع‬


‫‪ ،gourd‬وهو قريب النسبة من اليقطين ‪ ،pumpkin‬وقد ناقش إيدن ‪P. T. Eden‬‬
‫‪-‬أفضل المعلقين على الكتاب‪ -‬بإقناع أن االستعارة تعبر عن الفراغ‪ ،‬حيث إن‬
‫القرع المجفف أجوف و"الرأس مثل القرع" وتعني ‘مخادع’ أو ‘رأس فارغ’‪،‬‬
‫قسما مفقو ًدا من العمل والذي يتحول فيه‬
‫ً‬ ‫وافترض بعض الكتاب أن هناك‬
‫كلوديوس حرف ًّيا إلى يقطين‪ ،‬ولكن هذا مزحة بحرفية مكتئبة‪ ،‬وكما أن السوناتو‬
‫جعل كالوديوس إلهًا (أدى إلى تأليهه)‪ ،‬فإن كتاب سينيكا صنع منه ما كان عليه‬
‫دو ًما وهو مخادع‪ ،‬وقد استبدلت كلمة مخادع ‪ fool‬في اليونانية مرتين إلى كلمة‬
‫إله ‪ god‬في الحديث عن كالوديوس (‪ ،)sections 7 and 8; see notes‬ويتضمن‬
‫العنوان استبدال المزحة نفسها‪.‬‬

‫هجائية مينيبين ‪Menippean Satire‬‬

‫هي هجائية رومانية تبدأ من لوكيلوس (‪103-180‬ق‪.‬م)‪ ،‬وهي شخصية‬


‫غامضة تحظى باإلعجاب في القدم خاصة بعض الشعراء ُ‬
‫األول‪ ،‬بما فيهم الشاعر‬
‫الملحمي أنيوس ‪ Ennius 239–169 BCE‬والذي أ َّلف قصائد ُتدعى هجاء‬
‫‪ ،saturate‬والكلمة تعني ‘مزيج من األدب ‪ ،’miscellanies‬وهي تخبرنا القليل‬
‫نوعا قد قيل من خالل المنظر‬
‫عن وجهة القصائد أو ما تهتم به‪ ،‬وهذا النوع إن كان ً‬
‫رومانيا‪ ،‬إال‬
‫ًّ‬ ‫ابتكارا‬
‫ً‬ ‫األدبي كوينتيليان ‪ Quintilian‬في القرن األول الميالدي ليكون‬
‫أن الشاعر هوراس أكثر معقولية حين يرى أن لوكيلوس قد استعاره من الكوميديا‬
‫‪115‬‬
‫اليونانية القديمة‪ .‬ومن الظاهر أن لوكليلوس هو الشاعر الروماني األول الذي طور‬
‫شيء من عمله‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الهجائية كوسيلة لإلساءة الشخصية والنقد االجتماعي‪ ،‬ولم َ‬
‫يبق‬
‫ولكن ُينظر إلى الشعراء الالحقين في هذا النوع من هوراس (‪ )65–8 BCE‬إلى‬
‫بريسوس (‪ )34–62 CE‬وجوفينال (‪ )c. 60–140 CE‬على أنهم استمرار لتراث‬
‫قد بدأه‪ ،‬حيث تنطوي أعمالهم على الشجب االجتماعي والحماقة والفساد‬
‫الشخصي‪ ،‬وأحيانًا ما تكون النبرة سوداوية للغاية كما هي عند جوفينال‪ ،‬وأحيا ًنا‬
‫نسبيا كما هي عند هوراس الذي يرفض الشاعر اإلنجليزي دريدن ‪Dryden‬‬
‫لطيفة ًّ‬
‫موقفه اإلنساني من حيث كونه ‘عبد محكمة متكلف تما ًما ‪a well-mannered‬‬

‫‪.’court slave‬‬

‫ومع ذلك ال نعول على هذا التراث في كتابنا الذي يرتبط بهجائية مختلفة‬
‫ترتبط بالكاتب الروماني مينيبوس ‪ Menippus‬في القرن الثالث والكاتب الروماني‬
‫شائعا‪ ،‬ولم َ‬
‫يبق من عمل‬ ‫ً‬ ‫فارو )‪ Varro (116– 27 BCE‬ذلك النوع الذي كان‬
‫مينيبوس شيءٌ‪ ،‬ولم يُنشر من عمل فارو إال جزء ضئيل – مع أن شيشرون قال‬
‫إنَّ فارو واحدً ا من الك َّتاب الموسوعيين حيث نشر ‪ 490‬كتا ًبا منها ‪ 150‬هجائية‪،‬‬
‫منتجا على األقل حتى زمن‬
‫ً‬ ‫و ُقلدت أعماله على نطاق واسع‪ ،‬وظل هذا النوع‬
‫الكاتب اليوناني لوكان ‪ Lucian‬في القرن الثاني الميالدي‪.‬‬

‫إننا نعلم أن هجائية مينيبوس تحتوي على مزيج من ِّ‬


‫الشعر والنثر وأسلوب‬
‫ٍ‬
‫وعال‪ ،‬إنه يضفي لألدب محاكاة ساخرة‪ ،‬وينطوي على أخالقيات جادة‬ ‫خافت‬
‫وكوميديا لطيفة‪ ،‬ومع هذا ال نعلم شيئًا مفيدًا يعيننا على فهم كيف استعمل سينيكا‬
‫هذا النوع بطريقة مميزة‪ ،‬وبمقدورنا إعادة بناء النوع فحسب من النص الذي أمامنا‪.‬‬

‫ولذلك فحصنا نقاط ضعف مركزية األخالق في عمل مينيبوس وجوفينال‬


‫وهجائية هورس‪ ،‬حيث ثبات مشاعر الشعراء‪ ،‬وحيث يتهاوى متحدثونا من‬
‫‪116‬‬
‫الرسمي إلى المبتذل‪ ،‬ومن الغضب إلى الفرح‪ ،‬بطريقة توحي بانفكاك االحتفالية‬
‫بدلاً من المالحظة األخالقية‪.‬‬

‫وربما الملمح الملحوظ في نصنا هو أيضًا ملمح في هجائية مينيبوس‬


‫عمو ًما‪ ،‬وهو استعمال متحرر عادة في االقتباسات األدبية اليونانية إلى جانب‬
‫الالتينية خاصة في العبارة التي تقتضي ضرب المثل‪ ،‬والدارسون الرومان (الذين‬
‫ينهون دراستهم في أثينا) يقرؤون األدب والفلسفة بطالقة في لغتها األصلية‪،‬‬
‫فرسائل شيشرون لمجموعة المراسلين تخللتها عبارات يونانية بحرية‪ ،‬ويشير‬
‫حضور اليونانية بجانب المزح إلى كتابة التاريخ والمذاهب الفلسفية‪ ،‬ويتعامل مع‬
‫الجمهور المستهدف للعمل على أنهم مثقفون‪ ،‬ولكن ربما تكون ثقافتهم ليست‬
‫عالية‪ .‬ويتوقع شيشرون أن زوجته تيرينتيا ‪- Terentia‬غير المثقفة (مثل النساء‬
‫عمو ًما) وغير المتعلمة في أثينا‪ -‬تفهم عبارات اليونانية‪ .‬وتسعى نحو ُمزَ ٍح لطيفة‬
‫ذات طبيعة فلسفية‪.‬‬

‫كالوديوس ونيرون ‪:‬‬


‫وقد تركض تقييمات عهد كالوديوس حول سلسلة من اإلدانات القاسية لسينيكا‬
‫ومعاصريه لالستحسان العاطفي لربورت جريفز‪ ،‬وشعبية كتاب جريفز األول‬
‫«كالوديوس وكالوديوس اإلله» – ناهيك عن اإلصدار المتلفز الذي يلعب فيه الممثل‬
‫ديريك جاكوبي دور اإلمبراطور‪ -‬جعل معظم المفكرين غير المتخصصين يفكرون‬
‫في كالوديوس‪ :‬إنه رجل المع حاذق وطيب القلب‪ ،‬وهذه الفضائل تستتر بعجزه‬
‫الجسدي‪ ،‬رغم أن روايتينا األوليتين التاريخيتين القديمتين عن كالوديوس وهما‬
‫حوليات تاكيتوس ‪ Annals of Tacitus‬والسيرة الذاتية التي وضعها سويتونيوس‬
‫‪ Suetonius‬مستمدة من مصادر معادية لإلمبراطور‪ ،‬والرؤية الهادئة بكليتها لألدلة‬
‫توضح لنا أن جريفز جانبه الصواب‪ ،‬وكذلك سينيكا في بعض النواحي‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫الشيء الوحيد الصواب الذي ذهب إليه المصدران عن كالوديوس هو‬
‫اإلعاقة الجسدية والعرج‪ ،‬حيث كان له رجفة أ َّثرت على يده ورأسه‪ ،‬وكان لديه‬
‫عيب في الكالم‪ ،‬مع أنه قيل إنه حين يتحدث من نص ُمعدٍّ ولم يكن متعص ًبا يمكن‬
‫فهمه على نحو حسن‪ .‬وقد ذكر بوليو ‪ Polio‬الشلل الدماغى ومتالزمة توريت‬
‫‪ Tourette’s syndrome‬ومتالزمة أسبرجر ‪ ،Asperger’s syndrome‬وربما ما‬
‫يتناسب مع هذه األعراض هو الشلل الدماغي‪ ،‬وقد وصفته أمه بأنه «مسخ إنسان‬
‫بدأته الطبيعة ولم تنتهِ»‪ ،‬وقد كان جريفز مح ًّقا في أن حالته الجسدية قد نجته من‬
‫الخطر حتى اعتالء العرش‪.‬‬

‫كان كالوديوس في سن المراهقة ُيرى على ما يرام عندما كان يجلس أو ال‬
‫قائما‪ ،‬ولكن كان له صفات مثيرة لالشمئزاز‪ ،‬ومنها الضحكة البغيضة‪ ،‬وحب‬
‫يزال ً‬
‫الضرط العالي‪ ،‬والسيالن الدائم لألنف‪ ،‬وكان يحشر نفسه على مآدب الوالئم‪،‬‬
‫وحبه للمضاربة‪ .‬وكان سينيكا أفضل من جريفز ألنه أهمل تركيز كالوديوس على‬
‫مسألة الجنس‪ ،‬حيث سخر كالوديوس من الكتاب القدامى لتقويضهم الجنس‬
‫على الرجل والمرأة‪ ،‬في حين أن الشذوذ كان هو السائد في روما في هذه الفترة‬
‫مع بعض القيود في بعض الطبقات االجتماعية السياسية‪.‬‬

‫واألمر الذي يتمتع فيه جريفز بأفضلية عن سينيكا هو أن كالوديوس لم يكن‬


‫غبيا‪ ،‬وغال ًبا ما يحملق في الفضاء‪ ،‬وبدا وكأنه يتغافل عن كثير من اإلعدامات التي‬
‫ًّ‬
‫أمر بها‪ ،‬وأمر أن يزور الناس نفسهم المحكمة في اليوم التالي‪ .‬لقد كتب كت ًبا عدة‬
‫ومنها عشرون كتا ًبا عن تاريخ األترورية باليونانية‪ ،‬وعن الحروب األهلية األولى‬
‫بالالتينية‪.‬‬

‫كان كالوديوس قائدً ا كفؤً ا‪ ،‬غزت روما في عهده بريطانيا‪ ،‬وأدار شؤو ًنا‬
‫وعرف عنه اهتمامه باألعمال العامة‪ ،‬شيد‬
‫عسكرية أخرى على نحو حسن‪ُ ،‬‬
‫‪118‬‬
‫ً‬
‫عروضا وألعا ًبا شعبية – منها جانب من‬ ‫مجريين للماء وطر ًقا وقنوات عدة‪َّ ،‬‬
‫نظم‬
‫مسرح غريب يتصارع فيه هو مع حوت قاتل محاصر في ميناء أوستيا‪ .‬وبجانب‬
‫البناء أعاد ترميم وتزيين المباني التي لها مكانة‪ ،‬واهتم بشؤون المقاطعات‪ ،‬ووسع‬
‫من المواطنة‪ .‬ولكن سينيكا تغافل عن هذا أو تعامل معه بتجاهل‪ ،‬وركز فحسب‬
‫على الحماقة‪.‬‬

‫أحب كالوديوس األمور القانونية‪ ،‬ومدد جلسات المحاكمة‪ ،‬وغال ًبا ما كان‬
‫يترأسها‪ ،‬وقدم إصالحات مفيدة‪ ،‬ولكن مصادرنا جميعها تتفق على أنه كان متدخلاً‬
‫وانتقاميا بشكل ملحوظ (ابتكر مزيدً ا من األشغال‬
‫ًّ‬ ‫ومتقل ًبا وغير مكترث بالشاهد‬
‫وهمش دور الباحثين القانونيين‪ ،‬وحول سينيكا هذا األمر إلى مزح)‪،‬‬
‫للمحاميين َّ‬
‫كان شغو ًفا بإصدار مراسيم ال حدود لها؛ ففي إحدى المناسبات المعروفة صك‬
‫مرسو ًما يعلن فيه أن الضرط مفيد للصحة العامة‪ .‬كان يحب مشاهدة العقوبات‬
‫القاسية‪ ،‬حيث كان يبتكر في التعذيب بما يفوق المعيار الروماني‪.‬‬

‫لم يُنصَّبْ كالوديوس على العرش من السوناتو‪ ،‬بل من الحرس البرايتوري‬


‫‪ .praetorian guard‬ولذلك واجهه عداء وخطر مجلس السوناتو طوال جلوسه‬
‫على العرش‪ ،‬وواجه في ظل القلق السيناتوري انتقادات عدة العتماده على غير‬
‫األرستقراطيين‪ ،‬وتعبيره عن التحيز الطبقي‪ .‬وما يسقطه جريفز الفساد األخالقي‬
‫الذي أحدثه الخطر والرفض المستمر‪ .‬وتصور مصادرنا كالوديوس بأنه مريض‬
‫ٍ‬
‫وقت‪ ،‬ويعقد‬ ‫بجنون العظمة ومتصلب – بمقدوره أن يخلق التهديدات في كل‬
‫العزم على اقتالع مصدرها المتخيل دون محاكمة عادلة‪ .‬إن تصوير سينيكا‬
‫لجرائمه النفعية وشخصيته االنتقامية صحيح‪ ،‬ومثال لشخصيته المشوهة التي عبر‬
‫عنها سينيكا ح ًّقا هي تلك الحادثة التي تقشعر لها األبدان التي أعدم فيها زوجته‬
‫ميسالينا‪ ،‬ثم يسأل بعد ذلك لماذا لم ِ‬
‫تأت إلى مائدة العشاء؟‬
‫‪119‬‬
‫لقد كان سينيكا على صواب فيما رآه في شخصية كالوديوس‪ ،‬فهو يقلل من‬
‫قدرته العقلية ومهارته السياسية‪.‬‬

‫وأما عن بطل الرواية اآلخر في العمل وهو نيرون – في سن السابعة عشرة‪-‬‬


‫وسيما للغاية وواعدً ا‪ .‬وقد كان ًّ‬
‫جليا شغفه بالتمثيل والغناء‪ ،‬وهذا ساقه‬ ‫ً‬ ‫فقد بدا‬
‫الحقًا لمسائل وخيمة‪ ،‬ومقارنة سينيكا ألبوللو هي واحدة من األمور التي راعاها‬
‫نيرون في العملة المعدنية والرموز العامة‪ .‬وقد كان له نصيب من الشر األخالقى‬
‫مع أم مثل أجربيانا وزوج أم مثل كالوديوس‪ ،‬وربما كان يتآمر لقتل منافسه‬
‫بريتانيكوس‪ ،‬وسوف تكون أمه واحدة من أهدافه العديدة الالحقة‪ ،‬والتي سوف‬
‫ً‬
‫شوطا طويلاً لتعود إلى الشاطئ وهو‬ ‫يجد صعوبة في التخلص منها‪ ،‬والتي سبحت‬
‫يعتقد أنها غرقت في الخليج‪.‬‬

‫وربما قد شهد سينيكا الصديق والمعلم والفيلسوف األخالقي بوادر هذه‬


‫الكارثة على نيرون‪ ،‬وطالما بقي سينيكا وبوروس على رأس الحكم فقد عرفت‬
‫روما الحكم الرشيد‪ ،‬وقد ُعرفت فترة خمس سنوات هذه ‘الرفاهية النيرونية‬
‫‪ ’ quinquennium Neronis‬بأنها أعظم فترات اإلمبراطورية‪ ،‬لذلك كان سينيكا‬
‫ً‬
‫شريكا فيه‪ .‬ولكن بعد أن رأى‬ ‫مح ًّقا بالترحيب بالعصر الجديد‪ -‬شريطة أن يكون‬
‫في وقت الحق أنه ليس بمقدوره كبح تجاوزات نيرون تقاعد عن السياسة‪ ،‬وهي‬
‫محاولة تصدى لها نيرون ببراعة‪ ،‬ويبدو في هذه الفترة وهي فترة المأزق السياسي‬
‫أنه قد تآمر على حياة نيرون‪ ،‬فقضى نيرون عليه باالنتحار‪ ،‬و ُتوفي عام ‪65‬م بطريقة‬
‫تحاكي موت سقراط‪ ،‬وقد الحت هذه األحداث الكئيبة في الطريق منذ عام ‪54‬م‪،‬‬
‫وليس من العبث وال المكر أن يدَّ عي المتحدث في الكتاب أن هناك حقبة جديدة‬
‫أفضل قد بدأت‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫مختصر‬
‫رغم أن كتابنا موجز إال أنه مركب‪ ،‬لذا فإننا في حاجة إلى العمل قبل السؤال‬
‫عن كل ما يعنيه‪.‬‬

‫بالمؤرخ‪ ،‬وهو يناقش‬


‫ِّ‬ ‫يقدم المتحدث المجهول الموضوع واص ًفا نفسه‬
‫دليله(‪ )1‬بعد أن أعطى وص ًفا شعر ًّيا ًّ‬
‫بيانيا للتاريخ والزمن يقر هذه الحقائق في‬
‫النثر – ثم يعود ِّ‬
‫للشعر مرة أخرى وهو يقترب من موضوعه موت كالوديوس(‪)2‬‬
‫يتحدث ماركوري ‪ Mercury‬رسول األرباب إلى األقدار ويتوسل إليهم ليمنحوا‬
‫كالوديوس وروما فرصة بأن يسمحوا له بالموت‪ ،‬وتتذمر كلوثو ‪ Clotho‬ألنها‬
‫أرادت أن تمنح كالوديوس وقتًا لتمديد المواطنة الرومانية في أنحاء العالم كله‪،‬‬
‫ولكنها تتنازل‪ ،‬ومنحته الموت في المستقبل القريب(‪ .)3‬ويتبع المقطع ِّ‬
‫الشعري‬
‫الرصين وصف التغزل في األقدار‪ :‬حيث قطعت خيط كالوديوس وتتفجر حياة‬
‫ذهبيا جديدًا‪ ،‬ويغيث أبوللو‬
‫جديدة رائعة‪ :‬خيط من الذهب الثمين‪ ،‬ويدشن عصرًا ًّ‬
‫العمل وهو يالحظ أن الشخص المقصود يتشابه مع نفسه في المالمح والنعمة‪،‬‬
‫لقد بدأ عصره بالرخاء وااللتزام بالقانون‪ ،‬وتضاهى بالنجوم والشمس‪ ،‬و ُل ِّقب‬
‫بالقيصر نيرون‪ ،‬ومنحت الكيسيس ‪ Lachesis‬وهي نوع من األقدار سنوات‬
‫إضافية عدة‪ ،‬وحكمت على كالوديوس بالموت‪ ،‬وكان هذا بينما يستمع لبعض‬
‫الممثلين الهزليين‪ ،‬وكانت كلماته األخيرة بعد الضجيج العالي‪« :‬من هذا الجانب‬
‫‪121‬‬
‫الذي يجده أيسر للتواصل»‪ ،‬والعبارة الخالدة «أعتقد أيتها السماوات الخيرة أنني‬
‫دمرت نفسي»‪ ،‬ويعلق المتحدث «حسنًا‪ ،‬ال أعلم هذا‪ ،‬ولكنه من المؤكد أنه حطم‬
‫كل شيء آخر»(‪ .)4‬يقول المتحدث إنه ليس بحاجة لمزيد من الحديث عما‬
‫سيحدث في األرض‪ ،‬حيث ال أحد يغفل السعادة‪ ،‬ويتلقى جوبتر في السماء رسالة‬
‫شخصا أعرج قد وصل‪ ،‬فيهز رأسه ويتكلم بطريقة غير مفهومة‪ ،‬ويرسل‬
‫ً‬ ‫مفادها بأن‬
‫هيروكليس ليتعامل مع المسخ الجديد‪ ،‬ويتراجع هيروكليس‪ ،‬فهذا الوحش ال‬
‫مثيل له على اإلطالق‪ ،‬ويستحضر هوميروس في اليونانية ويسأل عن أصل الزائر‪،‬‬
‫وكالوديوس سعيد‪ ،‬فالحديث سيطول أنشطته العلمية والتاريخية‪ ،‬ويجيب‪،‬‬
‫ويستشهد بهوميروس مرة أخرى ليوطد أصوله الطروادية(‪ .)5‬وتظهر اآللهة‬
‫حماسا ً‬
‫بالغا اآلن‪ ،‬وتقول لهيروكليس إن الحكاية كلها أكاذيب‪ ،‬فالرجل ولد ح ًّقا‬ ‫ً‬
‫في ليون في الغال‪ ،‬ويشعر كالوديوس بالغضب‪ ،‬حيث ُأسيء فهم إشارته اللطيفة‬
‫إلى قصة إينياس ‪ ،Aeneas‬فقد كان يغمز ويهز يده بالطريقة التي اعتاد أن يقوم‬
‫بها عندما يأمر بضرب العنق‪ ،‬وال أحد يكترث له(‪ ،)6‬استعمل هيروكليس لهجة‬
‫صارمة وأمر كالوديوس بأن يقص أصوله‪ ،‬وهذه المرة بالنظم الالتيني‪ ،‬ويدرك‬
‫كالوديوس بأنه ال يحتفظ بسلطانه األسمى في هذا المكان الجديد‪ ،‬ويتحدث اآلن‬
‫بأدب جم‪ ،‬ويسأل هيروكليس ليكون كفيله أمام األرباب األخرى‪.‬‬

‫وبعد فجوة في النص المنقول التي قد يتضح خاللها أن هيروكليس‬


‫وكالوديوس قد اقتحما مجلس سوناتو اآللهة‪ ،‬ويطرح رب غير معروف االسم‬
‫إلها أبيقور ًّيا‬
‫بعض األسئلة‪ ،‬أي نوع من اآللهة يكون كالوديوس؟ من المؤكد ليس ً‬
‫ألن هذا اإلله «ال يزعج نفسه‪ ،‬وال يزعج اآلخرين»‪ ،‬هل هو إله رواقي؟ لكنه ليس‬
‫كرويا‪ ،‬وينبغي أن يكون جوبتر أحد الذين قدموه؟ ولكن كالوديوس قتل صهره‬
‫ًّ‬
‫لزنا المحارم‪ ،‬وجوبتر ال يحب هذا‪ ،‬حيث إنه هو في عالقة زنا المحارم‪ ،‬أضف‬
‫إلى هذا هل بمقدور رجل مثل كالوديوس فعل أي خير ألي أحد؟ إنه ال يعرف‬
‫‪122‬‬
‫حتى ماذا يفعل في غرفة نومه(‪ .)8‬ومن ثم يدرك جوبتر أن هذا النقاش عن االقتراح‬
‫ال ينبغي أن يدور مع الزائرين الحاضرين‪ ،‬مما جعل هيروكليس وكالوديوس‬
‫يغادران‪ ،‬ويتحدث جانوس ‪ Janus‬بوضوح بما يتناسب طبيعته المزدوجة‪ ،‬على‬
‫أي حال ينتهي هذا اليوم إلى أنه ال ينبغي لإلنسان أن يكون إلهًا‪ ،‬ويتحدث ديسبيتر‬
‫‪ Diespiter‬لصالح كالوديوس‪ ،‬وهيروكليس يعد الغرفة والطبل يدق(‪.)9‬‬

‫ومن ثم ينهض اإلمبراطور أوغسطس اإللهي ليتحدث‪ ،‬ويوجه الئحة اتهام‬


‫ظلما وبقسوة‪ ،‬ويتحول من الشرور العامة إلى معاناة‬
‫لكالوديوس ألنه قتل الناس ً‬
‫عائلته‪ :‬حيث قتل كالوديوس جولياس الثاني ‪ the two Julias‬حفيدة أوغسطس‬
‫العظيم‪ ،‬وقتل سيالنوس ‪ L. Silanus‬حفيده‪ ،‬ولم يفحص القضية أو يستمع‬
‫إلى الشاهد‪ ،‬ولم يسلك اآللهة مسلكه‪ ،‬وأسوأ ما فعله جوبتر على اإلطالق هو‬
‫كسر ساق فولكان ‪ Vulcan‬وشنق زوجته‪ ،‬وعلى النقيض قتل كالوديوس زوجته‬
‫ميسالينا‪ ،‬ثم يسخر أوغسطس من جسد كالوديوس قائلاً ربما يأخذه جسده على‬
‫محمل الجد كإله‪ ،‬ويفترض حلاًّ بأن يرحل كالوديوس عن السماء و ُيعاقب بشدة‪.‬‬

‫وينتزع ماركوري كالوديوس من رقبته ويجره للعالم السفلي (‪،)11-10‬‬


‫وفي طريقهم لألسفل يمرون بجنازة كالوديوس‪ ،‬وأدرك كالوديوس أنه ُتوفي‪،‬‬
‫والجميع سعيد للغاية – الجميع باستثناء محاميي المحكمة‪ ،‬و ُتغني ترنيمة جنائزية‬
‫ُتشيد بكالوديوس‪ ،‬وهو سعيد بالثناء عليه ويعمي بالسخرية فيها‪ ،‬وعند وصوله‬
‫حياه نارسيوس ‪ Narcissus‬الطليق (وهو سكرتير كالوديوس الذي‬
‫للعالم السفلى َّ‬
‫أجربته أجربيانا أم نيرون على االنتحار بعد مقتل كالوديوس بوقت قصير‪ ،‬وذهب‬
‫للعالم السفلي قبل كالوديوس بسبب جولة كالوديوس في السماء)‪ ،‬ويشعر‬
‫ناسيوس بقلق بسيط في سيربيريوس ‪Cerberus‬؛ ألن الكلب الذي يحرس أبواب‬
‫هاديس ‪ Hades‬ال يشبه كلبه األبيض الصغير في المنزل‪ ،‬ويستقبل سكان الجحيم‬
‫كالوديوس بهتافات من عبادة إيزيس‪ ،‬وعلى رأسهم الممثل الراقص منيستر‬
‫‪123‬‬
‫وتجمع حشد كبير‪ ،‬ويسعد‬
‫َّ‬ ‫‪ Mnester‬الذي قتله كالوديوس ليُسعد ميسالينا‪،‬‬
‫كالوديوس لرؤية أصدقاء عدة‪ ،‬ويلفت أحد األصدقاء االنتباه بأنهم وصلوا إلى‬
‫جميعا‪ ،‬ويقترح بأنهم يذهبوا إلى المحكمة‬
‫ً‬ ‫العالم السفلي ألن كالوديوس قتلهم‬
‫(‪.)13-12‬‬

‫ويُأخذ كالوديوس إلى قاضي الجحيم أيكوس ‪Aeacus‬؛ ألنه متهم بجرائم‬
‫قتل ال ُتحصى‪ ،‬ولم يجد محام ًيا يدافع عنه‪ ،‬ليفسد االدعاءات عليه‪ ،‬ونجح االدعاء‬
‫وتناقش العقوبة‪ :‬فهل يحل كالوديوس مكان سيزيف ‪ Sisyphus‬وتانتالوس‬
‫‪ Tantalus‬أو إكسون ‪Ixion‬؟ ال‪ ،‬يجب أن ُتستنبط بعض المهام العقيمة التي‬
‫ناسبت حياته‪ ،‬فقد أمر بلعب النرد‪ ،‬وصندوق النرد مثقوب‪ ،‬وقررت العقوبة بشكل‬
‫شاعري‪ ،‬ثم يظهر جايوس قيصر(كاليجوال)‪ ،‬ويطلب من كالوديوس أن يكون‬
‫قانونيا لتقديم االلتماسات لجايوس‬
‫ًّ‬ ‫عبده‪ ،‬و ُلبيت رغبته‪ُ ،‬‬
‫وعين كالوديوس موظ ًفا‬
‫)‪.Gaius’s freedman Menander (14-15‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪124‬‬
‫التأليه وآراء سينيكا الفلسفية‬
‫كيف يرتبط النص الذي نحن بصدده بالرواقية؟ وفقًا آلراء سينيكا الفلسفية‬
‫التي ُعبر عنها باتساق في بقية أعماله النثرية‪ ،‬ينبغي لألخيار أن يولوا أهمية فحسب‬
‫إلرادتهم وأغراضهم األخالقية‪ ،‬وأما األحداث الخارجية التي تكمن في مجال‬
‫موضوعا لتعلقنا المتحمس‪ ،‬ولهذا السبب فإن الرواقي الذي‬
‫ً‬ ‫الصدفة فليست‬
‫أسباب للحزن والغضب والخوف أو حتى األمل؛ فكل هذه‬
‫ٌ‬ ‫يعيش ح ًّقا ليس لديه‬
‫األشياء تضلل العقل وهي تكمن في التعلق بعوارض الحياة‪ .‬ويعترف سينيكا‬
‫مرارا بأن تطوره األخالقي غير مكتمل‪ ،‬ولكن يقدم نفسه في كل مكان مناضلاً‬
‫ً‬
‫لتحقيق المعايير الرواقية‪ ،‬وهذه القواعد رخصة للسخرية – ولكنها نوع مستقل‬
‫تنظر في الحمقى الذين يتعلقون عب ًثا باألشياء الخارجية (كما في الهجائية العاشرة‬
‫لجوفينال)‪ ،‬وما الروح التي تحفز نصنا؟‬

‫ضليع‬
‫ٌ‬ ‫كيف يقدم المتحدث نفسه؟ وما نوع الجمهور الذي يخاطبه؟ إنه‬
‫في السياسة‪ ،‬واالستعمال الساخر للمعاني التي تصادف جمهوره الضالع ً‬
‫أيضا‬
‫ٍ‬
‫امرئ له تجربته‬ ‫بالسياسة‪ ،‬ويتطور االنطباع حين يخبرنا أنه تلقى القصة خفية من‬
‫مع غموض مجلس الشيوخ‪ .‬فهو يتوقع أن يعرف جمهوره قصة صعود دروسيال‬
‫‪ Drusilla‬المزعومة‪ ،‬وهي عينة من ال َّنم ِّ في عصر كاليجوال‪ ،‬ويضع كل هذا‬
‫المتحدث وجمهوره مباشرة داخل العالم السياسي في ذلك الوقت بدلاً من أن‬
‫يبتعدوا عنه‪ ،‬ويسخر المتحدث في الوقت نفسه من لغة التأريخ واحتجاجها على‬
‫الحقيقة خالية التحيز‪ ،‬ويتوقع أن جمهوره على دراية بهذا النوع من الكتابة ً‬
‫أيضا‬
‫‪125‬‬
‫حتى لو ذهبوا للمزاح (والمزاح ما تجعله عاطفة وانحياز لكالوديوس و ُيقدم على‬
‫أنه حقيقة واضحة بسيطة‪ ،‬أو يحتمل أن تكون كذلك)‪.‬‬

‫وهذا الحضور للذات ال يتعارض مع الرواقية‪ ،‬ولكن السخرية مما هو رسمي‬


‫وتاريخي بهذه الطريقة المفعمة بالمرارة غير معروفة في المنهجية الرواقية‪ ،‬وزد‬
‫على ذلك االتجاه المتعالي تجاه جمهوره واستعماله لالبتذال بجانب األسلوب‬
‫الرفيع الحاضر ال يوحي بالرزانة‪ ،‬ويمنح الخليط الهيولى لألساليب انطباع برش‬
‫فوران من زجاجة عندما يسحب منها الفلين‪ :‬حيث قد انبعث من الحرية خليط‬
‫عشوائي من المشاعر‪.‬‬

‫والملحوظ من بين هذه المشاعر الجموح‪ ،‬الجموح تجاه ماذا؟ تجاه أي‬
‫قيود على الصديق السياسي قبل كل شيء‪ ،‬ويقدم المتحدث نفسه محتفلاً بنهاية‬
‫الطغيان الذي منعه من الحديث بحرية – مثل شخص يهتم بالسياسة والتغيرات‬
‫التي تجلبها‪ ،‬وال تقول الرواقية الرشيدة «أعلم أنني قد عتقت من اليوم‪»..........‬‬
‫حر دو ًما‪ ،‬وإمكان الحرية في أي شخص بغض‬
‫كما تصر الرواية على أن الحكيم ٌّ‬
‫النظر إلى الظروف‪ ،‬وتعلمنا الرواقية أن حريتنا الحقة عقلية‪ ،‬وال تعتمد على موت‬
‫أحمق بأي حال‪.‬‬

‫ثم نأتي لمسألة تاريخ «‪ 13‬أكتوبر عام جديد لعصر السعادة العظمى»‪ ،‬وهذا‬
‫تقسيم زمني للرواقية‪ ،‬فالسعادة بملكنا في كل زمن‪ ،‬ليس لها بداية وال نهاية‪ ،‬ال‬
‫تبدأ بموت أحمق ومجيء القيصر نيرون‪ ،‬كما تعبر األجزاء الجريئة في المفتتح‬
‫عن بعض االنفعاالت غير الرواقية في جو من الغضب والحقد واالحتفال‪ ،‬لذا تعبر‬
‫هذه العبارة عن شعور ال يمكن أن يطلق سوى األمل‪ .‬وترفض الرواقية االعتراف‬
‫باالنفعاالت؛ ألنها رفيقة الخوف‪ ،‬فتجرع األمل من التوق لعوارض الحياة‪.‬‬

‫والعمل كما الحظنا قد تداول بعد فترة وجيزة من موت كالوديوس‪ ،‬وما من‬
‫‪126‬‬
‫دليل على اإلطالق على أن العصر الذي دشنه هو ح ًّقا عصر سعادة (وبالطبع لم‬
‫يكن)‪ ،‬فلتسميه التعلق بأشياء غير يقينية‪ ،‬كما قلنا‪ :‬هناك بعض أسباب للتفاؤل‬
‫وأيضًا أسباب عدة للخوف‪ ،‬ربما يعبر المتحدث عن أمل سينيكا ورفيقه بوروس‬
‫من إمكان السيطرة على نيرون وأمه‪.‬‬

‫إن كتاب العفو الذي ُكتب في فترة كتابة هذا العمل يفترض االتجاه الرواقي‬
‫موقفًا تجاه مستقبل نيرون‪ ،‬حيث يعطيه نصيحة أخالقية ويخول له األمر التباعها‪،‬‬
‫وهي ألاَّ تدع رفاهيتك تعتمد على اختياراتك‪ .‬وفي هذا الكتاب على النقيض لم‬
‫نسمع نصيحة ُتعطى من موقف الثبات‪ ،‬ولكن تكهن غير حصيف عن مستقبل كل‬
‫الرومانيين بما فيهم المتحدث ذاته‪ ،‬وطابع من االحتفال عن هذا االحتمال‪ ،‬وهذه‬
‫ليست مشاعر رواقية‪ ،‬والحقيقة أن الرواقية تحث على التأمل المستمر لألشياء‬
‫الرديئة التي قد تحدث‪ ،‬حتى ال نقع في فخ األمل بالتحديد‪.‬‬

‫إن مفتتح العمل يشير بالفعل إلى سيكولوجيا غير رواقية‪ ،‬ونجد باالنتقال‬
‫إلى جسد النص قراءة رواقية أصيلة ساخرة‪ :‬حيث معاملة كالوديوس الساخرة‪،‬‬
‫ومعاقبة إسقاطاته الخلقية والجسدية‪ ،‬وطرد األرباب له‪ ،‬ومحاكمته ومعاقبته‪،‬‬
‫لذلك أعتقد أنه بعد أن خاطب العمل في مفتتحه نيرون والتزامه بالمشاعر العامة‪،‬‬
‫رواقيا‬
‫ًّ‬ ‫تحول إلى سجل رواقي حقيقي‪ ،‬ودعنا نتساءل ما االختالف لو كان العمل‬
‫ُق ًّحا؟‬

‫أولاً‪ :‬إن الهجوم على كالوديوس مقتضب‪ ،‬وكان لدينا شعور حسن من‬
‫سوء كالوديوس كمثال‪ ،‬كما استعمل سينيكا جايوس قيصر (كاليجوال مثالاً في‬
‫كتاب عن الغضب)‪ ،‬ولكن بعد ذلك نبتعد عن المشاعر األخالقية العامة‪ ،‬وكان‬
‫كالوديوس هو محرك العمل على طوله‪ ،‬وقصة العمل هي مفاجأة رفضه‪ ،‬وانتباه‬
‫المتحدث لكالوديوس مفتون ومسحور ومشمئز‪ -‬وهي مواقف مفهومة للمتحدث‬
‫‪127‬‬
‫والجمهور اللذين عاشا مع هذا الرجل سنوات عدة بائسة‪ ،‬ومشاريعهم النادرة التي‬
‫أعاقتها حماقته‪ ،‬وقتل أقاربهم لنزواته الظالمة‪ ،‬وضياع حياتهم لقسوته وغبائه‪.‬‬
‫وبمقدورنا أن نتخيل هذه المشاعر في وقت يتغير فيه النظام‪ ،‬وعندما يرحل قائد‬
‫ال يحظى بشعبية‪ .‬والحقيقة أن معرفة هذه المشاعر هي طرف كبير لجعل النص ال‬
‫ً‬
‫مضحكا اآلن بعيدً ا عن لحظته التي ُكتب فيها‪.‬‬ ‫يزال‬

‫وما هو واضح أن المتعة التي يمنحها العمل لهذا التركيز المفتون هي غير‬
‫رواقية بالمرة‪ ،‬وجمهورها َّ‬
‫مركب من أشخاص يهتمون بالسياسة – الذين يشعرون‬
‫بالكراهية واالشمئزاز والحزن على القتلى‪ ،‬ويأملون في زمن أفضل قادم‪ ،‬ويصور‬
‫سينيكا نفسه في أعماله الفلسفية على أنه رجل لديه ميل قوي للغضب‪ ،‬وهو ما‬
‫يجب عليه أن يكافحه ليسيطر عليه‪ ،‬ويصور نفسه في كتاب الغضب ‪-‬المكتوب‬
‫‪43‬م حتى العظات األخالقية المكتوبة ‪64-63‬م‪ -‬بأنه يواجه صعوبة في السيطرة‬
‫على انفعاله نحو اإلهانات والعمر وهلم جرا‪ ،‬وال يشفيه تفحصه لذاته‪ ،‬ويستمر‬
‫مبهجا للغضب‬
‫ً‬ ‫انفجارا‬
‫ً‬ ‫في النضال ضد االنفعال األساسي‪ ،‬ونرى في كتاب التأليه‬
‫غير المقيد بأي تأمل رواقي‪ ،‬ويغرس العمل ويلبي انفعاالت الغضب المتشابهة‬
‫في جمهوره‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬إن صورة األرباب في العمل ليست رواقية تمامًا‪ ،‬وتصرف هيروكليس‬
‫وفيفير ‪ Fever‬مثير للسخرية‪ -‬ولكن جوبتر ذاته منسي ومرتبك وقائد وحاكم‬
‫رديء‪ ،‬وهذا غير مقبول‪ ،‬وأقرب للكفر بما هو ممكن في العالم الرواقي‪ ،‬حيث‬
‫يمثل زيوس (جوبتر) العقالنية الكاملة وأخالق الكمال‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬إن المركز األخالقي هو كالم أغسطوس‪ ،‬إنه جاد وإلهي ومعجب‪،‬‬
‫ولكن أي حالة من الذهنية كان عليها أوغسطوس كما ُصورت؟ إنه غاضب‬
‫حتى ال يستطيع أن يحتوي ذاته‪ ،‬ويشعر بالخجل ً‬
‫أيضا‪ :‬ويقول إنه يشعر بالخجل‬
‫‪128‬‬
‫أمام المنصب الذي صنعه بذاته عندما يرى أنه شغل منصب كالوديوس‪ ،‬و ُيصور‬
‫الغضب والخجل كردود فعل مناسبة تما ًما لقتل كالوديوس أقارب أوغسطوس‪،‬‬
‫وسينيكا متورط ً‬
‫أيضا؛ ألن أحد قتلة يوليوس االثنين هو يوليا الذي اتهم باقتراف‬
‫جريمة الزنا‪ ،‬والذي من أجله فقد حياته‪ ،‬وسواء أكانت هي الحقيقة في القصة أم‬
‫ال‪ ،‬فإن القراء يفترضون أن المؤلف غير مكترث لمصيرها‪.‬‬

‫أمرا يحتاج إلى صحة تاريخية‪ ،‬فقد‬


‫وليس عزو الغضب ألغسطوس بأي حال ً‬
‫مرارا على‬
‫ُعرف أوغسطوس بالعفو وضبط النفس‪ ،‬و ُيقدَّ م في كتاب عن الغضب ً‬
‫أنه مثال حسن لعدم الغضب‪ .‬وكذلك كاليجوال مثال سيئ لعدم ضبط الغضب‬
‫كثيرا من أقاربه وتجاهل‬
‫رغم طبيعته المعتدلة‪ ،‬وكيف للمرء أال يغضب ممن قتل ً‬
‫القانون بمزيج من الوقاحة والغلظة في الحكم برمته؟ وقد ُيقدم سخطه على أنه‬
‫إنصاف وعقالنية‪ ،‬ويقبل العمل التقييم البسيط لهذه األحداث الخارجية‪ ،‬ويؤيد‬
‫الغضب باعتباره استجابة عقالنية ألهميتها‪.‬‬
‫راب ًعا‪ :‬ليس هناك عفو في الكتاب‪ ،‬بل نبذ فيه العفو بالفعل‪ ،‬والعمل ٍ‬
‫تال لكتاب‬
‫عن الغضب بدفاعه البليغ عن إدراك العفو لإلخفاقات اإلنسانية‪ ،‬وقد ُكتب ً‬
‫أيضا‬
‫الموجه إلى نيرون الذي يتضمن‬
‫َّ‬ ‫متزامنًا بفترة وجيزة أو تزيد مع كتاب عن العفو‬
‫مذهب سينيكا برمته عن العفو‪ ،‬حيث يعد العفو طر ًفا ها ًّما عند الرواقية الرومانية‬
‫تمش ًيا مع القيمة التي يوليها الرومان لفضيلة العفو‪ ،‬وال ُيظهر كتابنا أي عفو على‬
‫اإلطالق لتشوهات كالوديوس‪ ،‬وليس من محاولة لتوضيح أنه ناتج عن ظروف‬
‫قاهرة لحياة اإلنسان أو عن حماقات ثقافة فاسدة بعينها‪ ،‬وزد على ذلك عندما‬
‫تُفرض العقوبة من قبل إيكوس ينجلي عدم العفو‪ ،‬فروح العمل ال تعفو كما يليق‬
‫بالخيال السياسي المتشبع بالغضب بل ال تليق برواقية سينيكا‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬هناك تركيز لنوع من السعادة يركن إلى الصدفة‪ ،‬وقد رأينا هذا التوكيد في‬
‫ً‬
‫‪129‬‬
‫المفتتح‪ ،‬ولكن توضح صورة جنازة كالوديوس «أن الجميع مبتهجون وسعداء‪ ،‬وأن‬
‫الرومانيين كانوا يتجولون كاألحرار»‪ ،‬بالطبع يمكن أن يحتوي النص الرواقي على‬
‫مثل هذا السرد‪ ،‬ولكن قد ُأتبع بتفكير عن خيالء اآلمال الدنيوية‪ ،‬وإنكار أن ما كان‬
‫يختبره هؤالء الناس كان هو الحرية والسعادة الحقة (وهذه هي الطريقة التي تعمل‬
‫بها هجائية جوفينال السعادة الدنيوية‪ ،‬فالهجائية العاشرة ثابتة في العمل الرواقي)‪.‬‬

‫فكاهيا‬
‫ًّ‬ ‫وأخيرا‪ :‬في قلب العمل تعبير مربك عن األمل‪ ،‬وثناء شعري ليس‬
‫ً‬
‫لنيرون‪ ،‬ومحاولة فهمه بهذه الطريقة تتعارض مع جمال ِّ‬
‫الشعر (الذي يعكس‬
‫صدى فرجيل في أنشودة الرعاة الرابعة‪ ،‬ونبوءتها بالعصر الذهبي)‪ ،‬والدليل‬
‫السياقي المسهب بأن األمل في مستقبل عظيم قد ُعبر عنه بفيض ومشاعر متقدة‬
‫في زمن تنصيب نيرون على العرش‪ ،‬فمن بمقدوره أن يتحدث عن الحالة الذهنية‬
‫لحياة المؤلف الواقعية بما هي وهو يؤلف هذه السطور والتي يعلن فيها أبوللو أن‬
‫نيرون يساويه في الموهبة والجمال؟ وأ ًّيا كانت حالة الوصي الجديد على العرش‪،‬‬
‫فإن النص ذاته ُيعبر بجرأة عن أمل في حقبة سعادة وثقة في رجل قد ملكها في‬
‫سلطانه ليحققها‪ ،‬في الوقت نفسه قد ُينظر إلى األمل في جمهوره المقصود على‬
‫أنه هش‪ ،‬ويجب أن يكون األمل الهش ونيرون ذاته طر ًفا من هدف النص الرواقي‬
‫األصيل‪ ،‬بدلاً من األمل الحقيقي والصورة المستقيمة كلية لفضائل نيرون‪.‬‬

‫رواقيا في تركيزه على االشمئزاز‪ ،‬إنه يتضمن النزعة األولى‬


‫ًّ‬ ‫العمل إ َذنْ ليس‬
‫للرواقية‪ ،‬والمتحدث يلفت االنتباه باالشمئزاز المتدفق لجسد كالوديوس‪ ،‬ثم‬
‫يبني تواز ًنا بين خلل جسده والجسد السياسي‪ :‬فكالهما قد ُيحطم بسبب أمور‬
‫خارجة عن كالوديوس‪ ،‬ومن ثم فإن المشهد السياسي كريه ومقزز‪.‬‬

‫ويعبر االشمئزاز عن كراهية ورفض للمادة أو الشخص باعتباره كراهية ممكنة‬


‫للذات‪ ،‬وقد عثر البحث التجريبي عبر الثقافات – خاصة العمل الهام لعالم النفس‬
‫‪130‬‬
‫ٍ‬
‫ملحوظ في المحتوى المعرفي لالنفعال‬ ‫ٍ‬
‫اتساق‬ ‫بول روزين ‪ -Paul Rozin‬على‬
‫عبر المجتمعات‪ .‬ويرى روزين بأدلته التجريبية أن االشمئزاز ليس مجرد نفور‪،‬‬
‫ألن الجوهر ذاته أو الرائحة ذاتها تثير رد فعل مباين لالشمئزاز يعتمد على تصور‬
‫موضوعي للموجود‪ :‬على سبيل المثال سواء أكان يعتقد أن الرائحة من براز أم‬
‫من جبن‪ ،‬ويختلف االشمئزاز عن الخوف من الخطر؛ ألن الحيوانات المثيرة‬
‫لالشمئزاز تظل كذلك حتى بعد زوال خطرها المحتمل‪ .‬وأضف إلى ذلك قد‬
‫يتفشى االشمئزاز عادة من ‘الموضوعات األولية’‪ -‬المخلفات الجسدية واألجسام‬
‫المتحللة‪ -‬للناس والفئات التي ُترى على أنها غير مكترثة‪ ،‬ويلوثون صفاء النفس‬
‫حتى لو كان هؤالء ال يشكلون أي خطر للنفس‪.‬‬

‫ومن ثم فإن لالشمئزاز ديناميكية مختلفة عن الغضب‪ ،‬فميل الغضب يسجل‬


‫األلم الحاضر ويخطط لخير المستقبل‪ ،‬ولكن خير المستقبل انفصال ونبذ وليس‬
‫تقويما (هدف الغضب كما ُوصف من التحليالت الرواقية وغير الرواقية)‪ .‬ويرغب‬
‫ً‬
‫الشخص المشمئز في أن يبتعد عن الشخص المثير لالشمئزاز أو الشيء‪ ،‬سواء‬
‫بإبعاد نفسه أو إبعاد الشيء ذاته‪.‬‬

‫ولنفرض أننا اآلن نفكر في الغضب واالشمئزاز في السياسة‪ ،‬فغال ًبا ما‬
‫سنغضب من سياسيينا‪ ،‬وغال ًبا ما سنشعر باالشمئزاز أو ننفر مما هو سياسي أو‬
‫مجموعة السياسيين‪ ،‬ونحن نقول «مشمئز» و نرغب في القيء‪ ،‬وهذان ردا فعل‬
‫متمايزان في األهمية‪ ،‬ونركز في الغضب على الفعل أو األفعال الخاطئة‪ ،‬ونقول‬
‫«ينبغي أال يحدث‪ ،‬ويستحق المرء العقاب» ونعتزم التقويم أو تصويب التوازن‪،‬‬
‫وفي اشمئزازنا نقول‪« :‬يخ ‪ Yuck‬أخرجني من هنا»‪ ،‬ونعتبر سياسيينا ملوثات قذرة‬
‫ونرغب في االبتعاد عنهم‪ ،‬سواء بقذفهم على كومة قمامة أو – إن لم يمكن هذا‪-‬‬
‫إخراج أنفسنا من السياسة‪ .‬واالشمئزاز في عالم السياسة يؤدي إلى النقاء‪ ،‬وهذا ما‬
‫ال ُي ِّ‬
‫قدمه عالم السياسة‪.‬‬
‫‪131‬‬
‫وليس لالشمئزاز أصل نظري في الفكر اليوناني والروماني‪ ،‬ولكن دراسة‬
‫روبرت كاستر ‪ Robert Kaster‬الهامة عن االشمئزاز ‪ fastidium‬تمكننا من فهم‬
‫السمات المميزة لالشمئزاز الروماني‪ ،‬حيث درس كاستر كل تكرارات المصطلح‬
‫وارتباطاته في الالتينية اإلمبراطورية والجمهورية‪ ،‬ويرى كاستر أن المصطلح انت ُِفي‬
‫من مقولتين للتجربة االنفعالية مختلفتين تما ًما‪ ،‬أحد نوعي االشمئزاز قد وصفته‬
‫للتو‪ :‬حيث نفور قوي من فكر الملوث كما يشير كاستر والذي تدعم مادته حجج‬
‫علم النفس الحديث‪ ،‬فاالشمئزاز لموضوعات أولية بعينها ولكن االستجابة نفسها‬
‫تمتد غال ًبا إلى الناس الذين ُينظر إليهم على أنهم غير مكترثين‪.‬‬

‫ما هو مميز في الترتيب الروماني هو أن المصطلح نفسه ‪ُ fastidium‬ي َّ‬


‫عين‬
‫لتجربة مختلفة أخرى ً‬
‫أيضا يجعله أقرب إلى تجربة االشمئزاز أكثر من أي ثقافات‬
‫أخرى‪ ،‬وهذا ما يُطلق عليه كاستر ‘التصنيف التداولي’‪ .‬فمصطلح ‪fastidium‬‬
‫يتضمن التفكير في شيء أو شخص وهو دون شيء آخر‪ ،‬إنه قريب من االزدراء‬
‫لكنه ليس بحاجة إلى احتقار‪ ،‬ويخلق ارتباطات هامة للغاية بين نوعي االزدراء‬
‫‪ ،fastidium‬وفي بعض األحيان تقود التجربة األولية الجسدية المرئ إلى تصنيف‬
‫الشيء أو الشخص بأنه متدنٍّ ‪ ،‬وفي أحيان أخرى يقود التصنيف األولى للتدني إلى‬
‫إلصاقه بالشخص أو بشيء له خصائص مشمئزة معروفة‪.‬‬

‫إن نظرية االشمئزاز تضيء ديناميات نصنا‪ ،‬أولاً ‪ :‬التصنيف المتدني‬


‫لكالوديوس يقود إلى إلصاق الرائحة الكريهة الناتجة عن بوله به‪ ،‬فكل البشر‬
‫يغيطون ولكن عنده األمر مختلف‪ ،‬ويمكن أن يقال بسبب تغوطه وقسوته إنه أفسد‬
‫كل شيء‪ .‬ومع ذلك يوضح نصنا في هذا الصدد على األقل بداية لنقلة أخرى؛‬
‫حيث إن حقيقة الخيرات السياسية قد طغت على كل شيء تؤدي إلى اتجاه التقليل‬
‫من هذه الخيرات على األقل‪ ،‬واالشمئزاز منها نوع من الترتيب التداولي‪ ،‬وبالطبع‬
‫التصنيف المتدني لخيرات الحظ هو بالضبط ما ُتوصي به الرواقية‪ ،‬والتصنيف‬
‫‪132‬‬
‫ظاهرا للعيان‪ .‬وقد ُيعرض خيال النقاء على‬
‫ً‬ ‫المتدني ليس ثابتًا في النص باعتباره‬
‫موضعا ألمل مستحيل لوجود سياسي غير ملوث‪،‬‬
‫ً‬ ‫جسد نيرون اآلن‪ ،‬ويصير نيرون‬
‫ً‬
‫متخذا الخطوة األولى خارج العالم بقوله‪" :‬ما‬ ‫قصيرا‬
‫ً‬ ‫نفسا‬
‫ولكن المتحدث التقط ً‬
‫الذي يحطم كل هذه السياسة"‪ ،‬وقد أخذ الخطوة األولى نحو تقليل هذه التقييمات‬
‫بطريقة فعليه ومنهجية‪ -‬ليس فقط لكالوديوس بل لروما واإلمبراطور والتحول‬
‫السياسي ذاته‪ .‬ويمكن للمرء في معايير العالم الرواقي أن يعيش بال اشمئزاز كما‬
‫هو الحال دون غضب وخوف‪ ،‬ولكن االشمئزاز يعين المرء على أن يبدأ ليتحرك‬
‫في اتجاه هذا العالم‪.‬‬

‫ومن ثم هذا الهجاء هو عمل لسينيكا يظهر فيه لنا التاريخ‪ :‬حيث يقود التعقيد‬
‫والغموض والغمر والنفور السياسي المغالي المرء الذي أحب الفلسفة الرواقية‬
‫وصارع طوال حياته بوالء مزدوج‪ ،‬وبالنظر إلى بذور التحيز الرواقي في العمل‪،‬‬
‫فإن سينيكا طلب الح ًقا أن ُيعفى من واجباته ولم يكن ذلك مفاجأة‪ ،‬وكذلك‬
‫الطريقة الكريمة والسقراطية النتحاره في نهاية المطاف‪ ،‬فال يزال الهجاء غار ًقا في‬
‫عالم ‘الخيرات الخارجية’ وهي تتحرك في هذا االتجاه‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪133‬‬
134
‫شكر وتقدير‬
‫إنني مدين بالفضل إلى كاتلين كولمان ومارجريت جريفر‪ ،‬وزمالئي‬
‫المحررين على التعليقات المفصلة‪ ،‬وكذلك جيفري جارالند وكاترين كيرن‬
‫لمساعدتهما البحثية القيمة وأفكار جيدة عدة‪.‬‬

‫‪135‬‬
136
‫مزيد من القراءة‬
Eden, P. T. Seneca: Apocolocyntosis. Cambridge: Cambridge

University Press, 1984 (with fuller bibliography).

Weinreich, Otto. Senecas Apocolocyntosis. Berlin: Weidmannsche

Buchhandlung, 1923.

Braund, S. and James, P., “Quasi Homo: Distortion and Contortion

in Seneca’s Apocolocyntosis,” in Braund, S. and Gold, B. eds., Vile

Bodies: Roman Satire and Corporeal Discourse, Arethusa 31 (1998),

285–311.

Coffey, Michael. Roman Satire. London: Methuen, 1976.

Champlin, Edward. Nero. Cambridge, MA: Harvard University

Press, 2003.

Freudenberg, Kirk, ed. The Cambridge Companion to Roman Satire.

Cambridge: Cambridge University Press, 2005.

Griffin, Miriam T. Seneca: A Philosopher in Politics. Oxford:

Clarendon Press, 1975.

137
———. Nero: The End of a Dynasty. London: Duckworth, 1974.

Kaster, Robert A. “The Dynamics of Fastidium.” Transactions of the

American Philological Association 131 (2001), 143–89.

———. Emotion, Restraint, and Community in Ancient Rome.

New York: Oxford University Press, 2007.

Leach, Elinor Winsor. “The Implied Reader and the Political

Argument in Seneca’s Apocolocyntosis and De Clementia,”

Arethusa22 (1989), 197–230.

Levick, Barbara. Claudius. New Haven

and London: Yale University Press, 1990.

Momigliano, Arnaldo D. Claudius, the Emperor and his Achievement,

tr. G. W. D. Hogarth. Oxford: Clarendon Press, 1934; reprinted

with added material, Cambridge: Cambridge University Press,

1961.

Nussbaum, Martha. “Equity and Mercy.” Philosophy and Public

Affairs 22 (1993), 83–125; revised version in Nussbaum, Sex and

Social Justice. New York: Oxford University Press, 154–83.

———. The Therapy of Desire: Theory and Practice in Hellenistic

Ethics. Princeton, NJ: Princeton University Press, 1994; updated

edition 2009.

———. Hiding From Humanity: Disgust, Shame, and the Law.

138
Princeton, NJ: Princeton University Press, 2004.

———. “Stoic Laughter: A Reading

of Seneca’s Apocolocyntosis,” in

Bartsch, S. and Wray, D., eds., Seneca and the Self. Cambridge:

Cambridge University Press, 2009, 84–112.

———. “Philosophical Norms and Political Attachments: Cicero

and Seneca,” in D. Frede, ed., Body and Soul in Ancient Philosophy.

Berlin: De Gruyter, 2009, 425–44.

O’Gorman, Ellen. “Citation and Authority in Seneca’s

Apocolocyntosis,” in Freudenberg, 95–108. Eden, P. T. Seneca:

Apocolocyntosis. Cambridge: Cambridge University Press, 1984

(with fuller bibliography).

139
140
‫ت�أليه كالوديو�س المق َّد�س‬

‫‪141‬‬
142
‫أود أن أسجل اإلشارات التي صدرت في السماء عن الثالث عشر من‬
‫أكتوبر(‪ ((18‬في العام الجديد الذي بدأ فيه عصر للسعادة القصوى‪ ،‬ولم أحمل‬
‫بغيضة لمحاباة أو حقد‪ :‬بل الحقيقة الموضوعية فحسب‪ ،‬وإن سألني امرؤ ومن‬
‫أين تحصلت على معلوماتي‪ -‬قبل كل شيء‪ ،‬إن لم أشعر بها فلن أجيب‪ ،‬فمن‬
‫سيجبرني؟ أعلم أنني قد ُأعتقت من اللحظة التي قابل فيها نهايته‪ -‬ذلك الرجل‬
‫حقيرا»‪،‬‬
‫ً‬ ‫حيا على القول المأثور «فالمرء قد يولد إما ً‬
‫ملكا وإما‬ ‫الذي كان دليلاً ًّ‬
‫مؤر ًخا‬ ‫وإن كنت أشعر بالرغبة في الرد‪ ،‬فسوف أقول ما أرتضيه(‪َ ،((18‬‬
‫فمن طلب ِّ‬
‫مضطرا لتحديد مصدرى فاسأل الرجل‬
‫ًّ‬ ‫ليكشف مصادره؟ ولكن ال يزال‪ ،‬وإن كنت‬
‫الذي شاهد دروسيال (‪ Drusilla((18‬وهو يصعد للسماء‪ ،‬وسوف يقول الرجل‬
‫نفسه إن كالوديوس سلك الطريق ذاته ‘بخطوات غير متكافئة‘(‪ .((18‬وسواء أكان‬
‫يريد ذلك أم ال‪ ،‬فعليه أن يرى كل شيء يصعد للسماء‪ ،‬حيث إنه مسؤول عن طريق‬
‫أبيان ‪ Appian‬الذي صعد فيه كل من أوغسطوس اإللهي والقيصر تيبيريوس إلى‬

‫(‪ ((18‬لغة مجلس الشيوخ الرسمية‪.‬‬


‫حرفيا “ كل ما يأتي على فمي”‪ ،‬ولكن الكلمة للفم ‪ buccam‬مبتذلة تما ًما‪ ،‬وهي شائعة في‬ ‫ًّ‬ ‫(‪((18‬‬
‫االستعمال العامي‪ ،‬ولكنها غير مقبولة في االستعمال األدبي والصحفي‪.‬‬
‫(‪ ((18‬جوليا دروسيال ( ‪ )Julia Drusilla17–38 CE‬كانت لها بأخيها السفاح جايوس (كاليجوال)‬
‫وص ِّوت على ألوهيتها‪ ،‬وأقسم سيناتور ُيدعى لوكيوس‬
‫لسنوات عدة‪ ،‬وعند وفاتها رثاها بحرقة‪ُ ،‬‬
‫جيمينوس ‪ Lucius Geminus‬اليمين أنه رآها تصعد إلى السماء‪ ،‬وأنها استقرت مثل بانثيا‬
‫‪. Panthea‬‬
‫(‪ ((18‬وردت كلمة غير متعادلة ‪ Non passibus aequis‬في إنيادة فرجيل ‪2.723 Virgil Aeneid‬‬
‫حيث استعملها ليصف خطوات آنيوس االبن األصغر ليوليوس‪ ،‬أي خطواته «غير متكافئة لوالده‬
‫البالغ»‪ ،‬وسينيكا يحول العبارة إلى مزحة على عرج كالوديوس‪ ،‬حيث خطواته غير المتكافئة‬
‫لبعضها‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫سرا‪ ،‬ولن ينطق بكلمة والناس‬
‫األلهة كما تعلمون‪ .‬وإذا سألته‪ ،‬فسوف يخبرك ًّ‬
‫حوله؛ ألنه بعد أن أقسم في السوناتو أنه رأى دروسيال يصعد إلى السماء‪ -‬ورغم‬
‫هذه المعلومات المفيدة لم يصدقه أحد‪ -‬فأقسم أنه لن يقول شيئًا مطل ًقا حتى لو‬
‫رأى‪.‬‬

‫الرجل الذي ُقتل في وسط المنتدى‪ ،‬ماذا سمعت منه في هذا اليوم؟ سوف‬
‫أروي بمصداقية ووضوح – ويقينًا أتمنى له المعافاة والسعادة‪.‬‬

‫رسم فوبيوس ‪ Phoebus‬القوس من نوره‬

‫مسارا أقصر نحو العمق‬


‫ً‬ ‫وسلك‬

‫وطالت ساعات الظل النائمة‬

‫وادعت ثينثيا النصر‬

‫وقد زاد إمبراطوريتها الشتاء القبيح‬

‫وقطف الخريف اليانع األمجاد السعيدة‬

‫وصاحب الكرم يخبر باخوس بالعمر‬

‫فمضى يقطف حبات العنب المتبقية(‪.((18‬‬

‫أعتقد أنك سوف تفهمني إذا قلت‪ :‬إنه يوم الثالث عشر من أكتوبر‪ ،‬وال‬
‫أستطيع أن أخبرك الساعة الدقيقة (فمن األيسر أن يقبل الفالسفة بما هو أكبر من‬
‫الساعات!) ولكن كانت ال تزال الساعة ما بين الظهيرة والواحدة بعد الظهر «وهذا‬
‫وقت فج للغاية‪ ،‬وفكر في األسلوب األدبي‪ :‬حيث ال تروق قناعة الشعراء في‬
‫وصف شروق الشمس وغروبها‪ ،‬وهم يتطفلون في هذا الوقت على مآدب غدائنا‪،‬‬

‫(‪ ((18‬تفعيلة سداسية‪ ،‬وهي تقري ًبا فيرجيلية اإلمالء‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫فهل سيتفقدون هذه الساعة الجذابة؟»‪.‬‬

‫وقد تجاوزت عربة فيبيوس‬

‫منتصف فلكه نحو الليل‬

‫وهز خصره المنهك وح َّنى نوره‬

‫منحدرا على طول مساء مائل‪.‬‬


‫ً‬ ‫وانحنى‬

‫مخرجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وتنفس كالوديوس‪ ،‬ولكنه لم يجد‬

‫ومن ثم نحا ماركوري الذي كان سعيدا دوما بكالوديوس أحد األقدار‬
‫ِ‬
‫«أنت امرأة قاسية قح! لماذا تسمحين بتعذيب الرجل الفقير؟‬ ‫الثالثة جان ًبا وقال‪:‬‬
‫أال تمنحيه راحة من معاناته؟ لقد قضى اآلن أربعة وستين عا ًما يناضل فيها مع‬
‫حياته‪ ،‬لماذا تحقدين عليه وعلى الجمهورية؟ دعي للمنجمين حق التغيير‪ ،‬لقد‬
‫إمبراطورا‪ ،‬وليس من‬
‫ً‬ ‫كانوا يتوقعون وفاته كل عام– بل كل شهر‪ ،‬منذ أن أصبح‬
‫عجب أن يخطئوا‪ ،‬وألاَّ يبين أحدهم ساعته األخيرة‪ ،‬فال أحد حتى يدرك أنه على‬
‫قيد الحياة‪ ،‬فافعلي ما يجب القيام به‪:‬‬

‫امنحيه الموت‪ ،‬دعي الملك األفضل يحكم في الردهة الفارغة(‪.((18‬‬

‫وأجابت كلوثو‪« :‬عن طريق هيروكليس! أود أن أمنحه برهة زمن حتى يمنح‬
‫المواطنة آلخر المتشردين الباقيين»‪ -‬ألنه قرر أن يرى كل اليونانيين والغاليين‬
‫واإلسبانيين والبريطانيين يلبسون التوجا (‪« toga((18‬وحيث إنك تحب اإلبقاء‬

‫(‪ ((18‬انظر ‪ ،virgil Georgics 4.90‬واستشهد به في كتاب عن العفو ‪ :On Clemency 1.19.2‬حيث‬
‫تعليمات للنحال حول ما يفعله ذكر النحل الذي فقد السباق لقيادة الخلية (وكذلك يشكر فيرجيل‬
‫الملوك وليس الملكات الذين يحكمون مملكة النحل)‬
‫مثيرا للجدل في تمديده للمواطنة سواء منحه إياها لمجموعة مقاطعات أو‬ ‫(‪ ((18‬كان كالوديوس ً‬
‫ألفراد‪ ،‬وقد ُيدفع بهذه السياسة من أسس عسكرية‪ :‬حيث يمكن للمواطنين أن يخدموا في الفيالق‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫على بعض األجانب لتربية الماشية‪ ،‬وهذا ما تصر عليه‪ ،‬فليكن ذلك»‪ ،‬ومن ثم‬
‫صغيرا وأخرجت ثالثة مغازل «األول ألوجرينوس ‪Augurinus‬‬
‫ً‬ ‫فتحت صندو ًقا‬
‫والثاني لبابا ‪ Baba‬والثالث لكالوديوس(‪ ،((18‬وقالت هؤالء الرجال الثالثة‬
‫قررت أن يموتوا في العام نفسه‪ ،‬متوالين بدقائق معدودة‪ ،‬فلن أرسله بعيدً ا دون‬
‫رفاق‪ ،‬فليس من الصواب أن الرجل الذي اعتاد رؤية اآلالف يتابعونه ويسبقونه‬
‫ويلتفون حوله أن يغادر خلسة بمفرده‪ ،‬إنه سيكون راض ًيا عن هذه الرفقة في هذه‬
‫اللحظة»‪.‬‬

‫واضعا النهاية‬
‫ً‬ ‫القدر على مغزل قذر‪ ،‬وينهشه‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الغزل‬ ‫«ولذا هي تتكلم وينسج‬
‫لحياته الملكية البليدة‪ ،‬ولكن الخيس تشد َشعرها الطويل ألعلى في عقدة عجيبة‪،‬‬
‫وتتوج جبينها بأكليل موسى والذي تملكه‪ ،‬وتسحب من خصلة الثلج األبيض ً‬
‫خيطا‬
‫المعا‪ ،‬من الصوف األبيض يوجهها بيد سعيدة‪ ،‬كلما دارت به يتحول اللون بشكل‬
‫ً‬
‫ساحر‪ ،‬وقفت أختها مندهشة‪ :‬تحول الصوف الشائع فجأة إلى معدن ثمين‪ ،‬وعلى‬
‫هذا الخيط الجميل يدور العصر الذهبي‪ ،‬وبال نهاية‪ ،‬يغزل جزة الصوف السعيدة‪،‬‬
‫وتملؤها أيديهم بفرح‪ ،‬والعمل جميل‪ ،‬والمهمة تسير بعجل دون جهد‪ ،‬ويلف‬
‫الخيط الدقيق المغزل الدوار بيسر‪ ،‬تجاوزت سنواته نيستور ‪ Nestor‬وتيثونوس‬
‫‪ ،Tithonus‬وكان فويبوس هناك ً‬
‫أيضا‪ ،‬يعينهم ويغني ويسعد باألوقات المقبلة‪،‬‬
‫سهل عملهم‪ ،‬وفي‬
‫وينتزع القيثارة اآلن‪ ،‬ويساعد في الغزل‪ ،‬ويسحرهم بصوته و ُي ِّ‬
‫حين يكيلون الثناء على قيثارة أخيهم وغنائه‪ ،‬يدورون أكثر مما اعتادوا‪ ،‬فثناؤهم‬
‫جعل عملهم يتجاوز فترة حياة اإلنسان الطبيعية‪ ،‬ويقول أبوللو‪“ :‬أيتها األقدار‪،‬‬
‫ال تجعليه أقصر‪ ،‬دعيه يحيا وراء سنوات الفانين‪ ،‬فهذا الرجل يشبهني في النعمة‬

‫(‪ ((18‬يرى إيدن ‪ Eden‬ربما ذلك بداية قافية لحضانة ُص ِّم َم ْت لتعليم األطفال حروف الهجائية‪ ،‬فأول‬
‫اسمين مختلقين فكلمة بابا ‪ Baba‬توحي بالغباء‪ ،‬وفي سياق كالوديوس تذكرنا بالعرج‪ -‬وهو‬
‫اتصال مناسب‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫والجمال‪ ،‬وال تقل مهارته في الغناء‪ ،‬إنه سوف يمنح سنوات سعيدة لشعبه المنهك‪،‬‬
‫إنه سوف يحطم الصمت الطويل للقوانين‪ ،‬كما تبدد الزهرة ‪ ((18( Lucifer‬النجوم‬
‫بتحليقها السريع‪ ،‬وكما تنهض نجوم الليل ‪ Hesperus‬عندما تعود إلى الليل‪ ،‬أو‬
‫عندما ُيذوب احمرار الفجر الظالل‪ ،‬ويبزغ النهار والشمس‪ ،‬في روعته ينظر إلى‬
‫العالم‪ ،‬وتسرع عربته من بوابة البداية‪ :‬مثل اقتراب قيصر اآلن‪ ،‬مثل نيرون اآلن‬
‫وكل روما تنظر إليه‪ ،‬حيث يبرق وجهه المضيء بإشراق لطيف‪ ،‬وتكشف رقبته‬
‫الجميلة جمال َشعره المتدلي”(‪.((18‬‬

‫وهذا ما قاله أبوللو‪ ،‬ولكن الخيس منذ أن َض ُعف لهذا الرجل حسن المظهر‪،‬‬
‫انغمست فيه بسخاء‪ ،‬ومنحت نيرون سنوات عدة من مخزونها‪ ،‬أما بالنسبة‬
‫لكالوديوس فقد أخبروا الجميع باالحتفال والكلمات الميمونة لترسل له خارج‬
‫الباب(‪.((19‬‬

‫ظهورا لحياته‬
‫ً‬ ‫إنه ضحى بحياته(‪ ،((19‬ومنذ هذه اللحظة كف عن أن يعطي‬
‫(وبالمناسبة توفي وهو يستمع إلى الممثلين الساخرين‪ ،‬لذلك قد ال تجد سب ًبا‬
‫يخيفني منهم)‪ ،‬وآخر كلماته ُسمعت بين البشر – بعد أن سمع صو ًتا عاليا من‬
‫جانب يسهل التواصل معه‪ ،‬وقال‪« :‬أيتها السماوات‪ ،‬أعتقد أنني حطمت نفسي»‪،‬‬
‫حسنًا‪ ،‬ال أعرف هذا‪ ،‬ولكن يقينًا قد حطم كل شيء‪.‬‬

‫ومن النافل أن تخبر عن األحداث الالحقة على األرض‪ ،‬فأنت تعرفها تما ًما‪،‬‬

‫(‪ ∗ ((18‬الزهرة حين تكون نجمة صباح‪.‬‬


‫(‪ ((18‬ملحمة التينية سداسية التفعيلة‪ ،‬وهي فرجيلية األسوب في األساس‪.‬‬
‫(‪ ((19‬شعر إيامي سداسي التفعيلة ‪ iambic hexameter‬في اليونانية‪ ،‬وهي شذرة معروفة من يوربيديس‬
‫‪ Euripides’ Cresphontes‬اقتبسها شيشرون في (‪ )Tusculan Disputations 1.48.115‬في‬
‫المواعظ األصيلة للحزن (لمعاناة المستقبل) في الميالد والفرح (لنهاية المتاعب) في الموت‪،‬‬
‫ويستعمل سينيكا المسلك نفسه ليعلق على الفرح الذي يشعر به الجميع عند وفاة كالوديوس‪.‬‬
‫(‪ ((19‬إبوليت ‪ Ebuliit‬وهي تشير إلى فقاقيع سائلة‪ ،‬وال تحدد فتحة يتدفق منها السائل‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫وما من خطر إلغفال فرحة العامة وقد دمغت ذكريات الناس‪ ،‬وال أحد يغفل ما‬
‫يجعله سعيدً ا‪ ،‬استمع اآلن إلى األعمال المتداولة في السماء‪ ،‬ويتحمل َمن روى‬
‫لي مسؤولية دقة هذا التقرير‪.‬‬

‫جاء الرسول إلى جوبتر يخبره أن الرجل قد وصل‪ ،‬وهو طويل القامة َ‬
‫وشعره‬
‫نوعا من التهديد‪ ،‬ألنه ظل يهز جيئًة وذها ًبا‪ ،‬ويسحب‬
‫أبيض للغاية‪ ،‬وبدأ يختلق ً‬
‫قدمه اليمنى للخلف‪ ،‬وقال الرسول إنه سأله عن البلد الذي جاء منه‪ ،‬فتمتم الرجل‬
‫بشيء غير مفهوم‪ ،‬فصوته مبحوح‪ ،‬وكالمه مشوه‪ ،‬ولم يستطع الرسول أن يسأله‬
‫ٍ‬
‫مكان مألوف‪.‬‬ ‫رومانيا أو من أي‬
‫ًّ‬ ‫يونانيا أو‬
‫ًّ‬ ‫عن اللغة التي يتحدثها‪ ،‬فلم يكن‬

‫ومن ثم أمر جوبتر هيروكليس ‪-‬الذي كان يتجول في أنحاء العالم ويبدو أنه كان‬
‫على دراية بكل بلدانه‪ -‬بأن يكشف األصل القومي لهذا الرجل‪ ،‬وكان هيروكليس‬
‫منزعجا من النظرة األولى له‪ ،‬رغم أنه لم يعتد أن يستاء من المسوخ(‪ ،((19‬وعندما‬
‫ً‬
‫رأى الوجه العجيب والمشية الغريبة‪ ،‬وهذا الصوت – الذي بدا وكأنه ال يشبه شيئًا‬
‫لبيئة الحيوان‪ ،‬ولكنه صنف لنوع من صوت نباح أجش‪ ،‬والذي عادة ما يصدره‬
‫حصان البحر(‪ -((19‬وفكر أن عمله الثالث عشر كان في يده‪ ،‬وعندما تفحص‬
‫المخلوق جيدً ا‪ ،‬وبدا وكأنه يشبه إنسا ًنا‪ ،‬اقترب فوجده غال ًما من اليونان‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫َمن أنت؟ ومن أين؟ صف مدينتك وأهلك(‪((19‬؟‬

‫وابتهج كالوديوس ألنه وجد علماء كالسيكيين هناك‪ ،‬وكان يأمل أن يقدروا‬
‫كتاباته التاريخية‪ ،‬لذلك تحدث بسطر من هوميروس يدلل على أنه قيصر‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫(‪ ((19‬ربما يقصد كما يرى إيدن “ الذي يخشى المسوخ في بعض المناسبات وليس على اإلطالق”‪.‬‬
‫ملموسا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حرفيا “وحوش البحر ‪ ،”sea beasts‬ولكن تتضح الفكرة أكثر إذا تخيل المرء مثالاً‬
‫ًّ‬ ‫(‪((19‬‬
‫(‪ ((19‬انظر ‪( 1.170 Homer Odyssey‬مع تعديل واحد بسيط)‪ ،‬ولكن نمط السؤال شائع عند‬
‫هوميروس‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫من طروادة‪ ،‬وألقت بي الريح على ساحل تراقيا(‪ ،((19‬ولكن السطر التالي كان أكثر‬
‫صد ًقا‪ ،‬وبالدرجة نفسها من هوميروس‪ :‬وأنا سلبت المدينة ودمرت الناس(‪.((19‬‬

‫ووضع واحدة على هيروكليس لم تكن حادة للغاية‪ ،‬إذ لم تكن فيفر ‪Fever‬‬
‫هناك(‪( ((19‬حيث تخلت عن معبدها‪ ،‬وجاءت مرافقة وحيدة لكالوديوس تاركة‬
‫وراءها كل األرباب اآلخرين في روما) وقالت‪« :‬األكاذيب وليس شيئًا سوى‬
‫األكاذيب‪ ،‬تلك هي قصته‪ ،‬وسوف أخبرك أنا الذي عشت معه سنوات عدة‪ :‬إنه‬
‫وُلد في ليون (‪ ،Lyons((19‬وهو مواطن من مدينة موناتيوس‪ ،‬وأخبرك بأنه ُولد على‬
‫بعد ستة عشر ميلاً من فيينا (‪ ،Vienne((19‬ومولود من أصل غالي (‪،Gaul((20‬‬
‫وفعل ما يجب على الغال فعله‪ :‬لقد استولى على روما(‪ ((20‬أنا أضمن لك أنه‬
‫وُلد في ليون حيث حكم لينيكوس ‪ Licinus‬لسنوات عدة‪ ،‬ولكنك وأنت الذي‬
‫قد تجولت في األماكن أكثر من أي سائق بغل ينبغي أن تعرف طول المسافة من‬

‫(‪ ((19‬انظر ‪ ،9.39 Odyssey‬أوديسا إلى ألكينوس ‪ ،Alcinoos‬حيث اتبع كل األباطرة ممارسة‬
‫يوليوس قيصر في المطالبة بنسب إينياس وأمير طروادة‪.‬‬
‫(‪ ((19‬انظر ‪ 9.40 .Odyssey‬مع حذف الكلمة األولى من السطر “ إلى أسماروس ‪.”to Ismarus‬‬
‫(‪ ((19‬عرفت فيفر بأنها إلهة رومانية‪ ،‬وكان لها ضريح في باالتين ‪ ،Palatine‬وكانت ماالريا ‪Malaria‬‬
‫تهديدً ا عا ًّما في المنطقة‪ ،‬ولهذا من المحتمل أن فيفر كانت تتصل باآللهة لهذا السبب‪ ،‬لذلك‬
‫تقول “وأنا الذي عشت معه لسنوات عدة” ترتبط برجفة كالوديوس والحركات غير المنضبطة‬
‫للرعشة‪ ،‬وارتجاج شخصية ماالريا‪.‬‬
‫(‪ ((19‬ولد كالوديوس في لوجدينوم ‪( Lugdunum‬ليون) في ‪1‬أغسطس ‪ 10‬ق‪.‬م‪ ،‬كان أبوه دروسوس‬
‫في حملة ضد الجرمان ووالدته أنطونيا ‪ Antonia‬ترافقه‪.‬‬
‫(‪ ((19‬هذه المدينة في غاليا ناربونينسيس ‪ Gallia Narbonensis‬منافسه لليون‪ -‬وضعت لتورية لفظية‬
‫تالية‪.‬‬
‫ً‬
‫وأيضا تعني‬ ‫(‪ ((20‬غاليوس جيرمانوس ‪ Gallus germanus‬تورية‪ :‬وتعني جيرمانوس ‘أصيل’‬
‫جيرمانوس ‘جرماني’ تورية‪ :‬وتعني جيرمانوس ’ أصيل’ ً‬
‫وأيضا تعني جيرمانوس ‘جرماني’ إشارة‬
‫إلى ميالد كالوديوس باعتباره ’ ‪ ’German Gaul‬في أرض العدو‪.‬‬
‫(‪ ((20‬استولى الغاليون على روما عام ‪ 390‬ق‪.‬م انظر تاكيتوس ‪ ،Tacitus ,Annals 11.24.9‬وأشار‬
‫كالوديوس إلى هذا الحدث في الكالم‪ ،‬والمالحظ أنه يرجع إلى االقتباس من هوميروس في نهاية‬
‫الفصل الخامس‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫زانثوس ‪ Xanthus‬إلى رون ‪.((20(»Rhône‬‬
‫ٍ‬
‫بنبرة عالية يحكمها‪ ،‬وال يفهم أحد‬ ‫وهنا اشتاط كالوديوس‪ ،‬وتحدث بغضب‬
‫ما يقول‪ ،‬وأعطى األمر لفيفر أن تعاقب‪ ،‬واستعمل اإلشارة التي اعتاد استعمالها‬
‫لقطع رقبة الناس‪ ،‬ويده ترتجف‪ ،‬وتثبت بما فيه الكفاية لهذا الغرض فحسب‪ ،‬وأمر‬
‫بقطع رقبتها‪ ،‬فعليك أن تعتقد أن كل الناس كانوا ِحلاًّ له‪ :‬فقليل من الناس أعاروه‬
‫اهتما ًما(‪.((20‬‬

‫ومن ثم قال هيروكليس‪« :‬استمع لي! وتوقف عن الحماقة‪ ،‬لقد جئت إلى‬
‫مكان تمضغ فيه الفئران حتى الحديد(‪ ،((20‬وأخبرني الحقيقة عاجلاً ‪ ،‬قبل أن‬
‫ملهما أصبح شخصية مأساوية وقال(‪:((20‬‬‫ً‬ ‫ُأخرج التفاهة منك»‪ ،‬وليجعل نفسه‬
‫« ُبح بمدينة والدتك بال ٍ‬
‫توان‪ ،‬أو أصدعك بهذه الهراوة َ‬
‫فتلق حتفك‪ ،‬وغال ًبا ما تقتل‬
‫هذه الهراوة الملوك الجبابرة‪ ،‬أرني صوتك وكالمك غير الواضح؟ ما عشيرتك؟‬
‫أخرج صوتك‪ ،‬فذات مرة بحثت عن أرض‬
‫ْ‬ ‫وما وطنك؟ ارفع رأسك المنكس؟‬
‫بعيدة للملك ثالثة أضعاف‪ ،‬ورعيت ماشية نبيل إلى مدينة أناخوس ‪ Inachus‬من‬
‫البحر الغربي‪ ،‬ورأيت جرفًا يظهر بين نهرين – يواجهه فويبوس دو ًما كلما صعد‪-‬‬
‫حيث يتدفق رون العظيم في سيل جارف‪ ،‬والعرار ‪ the Arar‬مستغر ًبا أين يجد‬

‫(‪ ((20‬زانثوس ‪ Xanthus‬هو نهر يتدفق عبر طروادة القديمة‪ ،‬ويتدفق رون عبر ليون‪.‬‬
‫(‪ ((20‬واصل كالوديوس االتجاه الذي بدأه سلفه‪ ،‬حيث كلف العبيد المحررين بمهام زائدة‪ ،‬ففي عام‬
‫‪ 48‬قد أصبح ناركيسوس وال ًيا للحرس ليوم واحد‪ ،‬وكان الخدم يكافئون بالشرف مقارنة بما‬
‫يمنح أعضاء السوناتو‪ ،‬فقد حصل ناركيسوس على ‪ ornamenta quaestoria‬وباالس ‪Pallas‬‬
‫على ‪( ornamenta praetorian‬ومن المفارقات أن ُيكافأ القتراحه بأن المرأة الحرة تعمل مع‬
‫العبيد)‪.‬‬
‫واضحا أنها للمزحة‪ :‬فمثل هذا المكان يمكن‬
‫ً‬ ‫(‪ ((20‬كلمة ‘حتى’ ليست في النص الالتيني‪ ،‬ولكن يبدو‬
‫أن تقرض فيه الفئران الصغيرة والكبيرة الحديد‪ ،‬فهو مكان مهيب‪.‬‬
‫(‪ ((20‬الكالم التالي محاكاة رائعة للتراجيديا ُكتبت بطريقة ‪ ،Latin iambic senarii‬ومستوى الحوار‬
‫مقياس لتراجيديا سينيكا‪ ،‬والتفعيلة والمفرادت قريبة من عمله ‪Hercules Furens‬‬

‫‪150‬‬
‫مجراه‪ ،‬ويغسل بصمت الضفاف بالمياه الضحلة الراكنة‪ ،‬فهل هي هذه األرض‬
‫التي التقطت فيها أنفاسك األولى؟»‪.‬‬

‫وقال هذه جرأة وقوة كافية‪ :‬ولكن مع ذلك ُيروع من فطنته ويخشى “خرقة‬
‫من األزرق”(‪ .((20‬وعندما رأى هيروكليس ما كان عليه الرجل‪ ،‬تغافل عن تفاهته‪،‬‬
‫وأدرك أنه ال أحد في روما يساويه‪ ،‬وأنه مات هنا ألنه ليس لديه النفوذ نفسه‪:‬‬
‫فالمتعجرف هو ملك على ركام حطامه(‪ ،((20‬وهكذا بدأ يتكلم كاآلتي (بقدر‬
‫ما يمكن فهمه)‪« :‬هيروكليس أقوى األرباب‪ ،‬كنت أتمنى أن تتحدث نيابة عني‬
‫في هذا الجمع‪ ،‬وإن سألني أحد عن شاهد شخصي‪ ،‬فسوف أذكرك أنت؛ ألنك‬
‫تعرفني تما ًما‪ ،‬وإن كنت تفكر في العودة فسوف تتذكر أنني من سمعت الشكاوى‬
‫شهري يوليو وأغسطوس‪ ،‬وأنت تعلم كم التهديدات‬
‫أمام معبدك طوال النهار في َ‬
‫علي تحملها‪ ،‬واالستماع إلى محاميي المحكمة ليل نهار‪ ،‬وإن كنت‬
‫التي كان َّ‬
‫قد مررت بهذه التجربة رغم أنها قوية للغاية‪ ،‬لفضلت أن تنظف زرائب أيجين‬
‫كثيرا في التفاهة ((‪ )((20‬ولكن منذ أن تمنيت‪.((20(...‬‬
‫‪ :Augean‬لقد أطلت ً‬
‫(‪ ((20‬في اليونانية ‪ môrou plêgên‬وهي “ضرب األحمق”‪ ،‬ويغير سينيكا العبارة التراجيدية الشائعة‬
‫على ضرب الرب‪ ،‬بمعنى لطمة زيوس الصاعقة‪ ،‬الستبدال كلمة أحمق ‪ môros‬بكلمة رب ‪.theos‬‬
‫(‪ ((20‬قول مأثور ولكن يضاف إليه فكاهة‪ :‬تورية على جالوس (كل من غال ومتعجرف)‪ ،‬وإشارة إلى‬
‫كالوديوس الذي حول روما إلى كومة من الخراب‪.‬‬
‫(‪ ((20‬كان العمل السادس لهيروكليس تنظيف إسطبل لثالثة آالف من ماشية الملك أوجايوس‪ ،‬والتي‬
‫لم ينظفها لسنوات عدة‪ ،‬وكم التفاهة المنسوب للمحامين له أبعاد هائلة‪ ،‬والمزحة المضافة هي‬
‫أن كالوديوس بعيد عن تنظيف التفاهة‪ ،‬وهو ذاته محطم كل شيء‪.‬‬
‫(‪ ((20‬يجب أن تتضمن هذه الفجوة في المخطوطات نهاية خطاب كالوديوس‪ ،‬بما في ذلك محاولة‬
‫عرضا لهيروكليس عندما يقول‬ ‫ً‬ ‫تطويع معونة هيروكليس في مشروع األلوهية‪ ،‬ربما قدم‬
‫هيروكليس الح ًقا‪“ :‬هذا المنقار قريب من قلبي” (‪ -)mea res agitur‬ومع ذلك قد تُفسر هذه‬
‫أوليا بتأليه‬
‫المالحظة بطريق آخر (انظر ادناه) حيث اقتحم االثنان منزل آلهة السوناتو‪ ،‬وقدَّ ما طل ًبا ًّ‬
‫كالوديوس‪ .‬ويرى فينريك ‪ Weinreich‬أن هذا كان وقتا مناس ًبا لمحاكاة ساخرة غير مترابطة‬
‫ونمط قديم لخطابات كالوديوس‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫«‪ ...‬ولست مندهشًا من أنك متهمٌ في ديوان السوناتو؛ ألنه ال شيء خارج‬
‫حدودك(‪ ،((21‬وأخبرنا فحسب أي نوع من األرباب تتمنى أن ُيقبل‪ ،‬ال يمكن أن‬
‫يكون الرب األبيقوري؛ ألن هذا النوع من األرباب ال ُيزعج نفسه وال يسبب لآلخرين‬
‫إزعاجا(‪ ،((21‬هل هو اإلله الرواقي؟ كيف يمكن أن يكون؟ هل هو مدور مثل الكرة‬
‫ً‬
‫كما يقول فارو ‪ Varro‬بال رأس وال ُق ْل َفة؟ هناك شيء من إله الرواقية فيه‪ ،‬وأرى‬
‫اآلن‪ :‬أنه بال قلب وال رأس(‪ ،»((21‬عن طريق هيروكليس ! إذا طلب هذا االمتياز‬
‫من ساتورن ‪ Saturn‬حيث يحتفل هذا اإلمبراطور الساتورني ‪Saturnalicus‬‬
‫(‪ princeps((21‬بشهر عطلة على مدار العام كله‪ ،‬ولم يحصل عليه‪ ،‬ولكن ينبغي أن‬
‫ٍ‬
‫ومعاد للغاية لكالوديوس‪.‬‬ ‫(‪ ((21‬ال يمكن تحديد المتحدث‪ ،‬ولكن الواضح أنه قرأ مزيدً ا من الفلسفة‪،‬‬
‫(‪ ((21‬منقولة من األقوال األولى ألبيقور ‪ .Epicurus’s Kuriai Doxai‬وانظر ديوجين الالئرتي‬
‫‪ .Diogenes Laertius X.139‬حيث اعتقد أبيقور أن اآللهة هادئة وغير منزعجة‪ ،‬وليست في‬
‫حاجة للبشر‪ ،‬وال تمتن لسخائهم‪ ،‬وال تغضب من تجاهلهم‪ ،‬ووف ًقا للرواية الكاملة التي قدمها‬
‫الشاعر الروماني لوكريتوس قد يقنعنا الكهنة بالخوف من اآللهة‪ ،‬والعقاب الذي قد يصيبننا به‪،‬‬
‫ولكن يوضح الفهم العقالني للعالم أن هذه المخاوف بال أساس‪ .‬وموطن الفكاهة هنا هو محاولة‬
‫مشيرا إلى أن اإلمبراطور له فلسفة مميزة‪ ،‬ويكمن‬‫ً‬ ‫إضفاء معنى فلسفي لسياسة عبادة اإلمبراطور‪،‬‬
‫موطن الفكاهة اآلخر في فكرة أن كالوديوس مثل اإلله األبيقوري المستقل الذي ال يهتم بالعقاب‪.‬‬
‫(‪ ((21‬ترى الرواقية أن اإلله نظام أخالقي وعقالني متأصل في العالم كله‪ ،‬وفي العظة األخالقية ‪Moral‬‬
‫‪ Epistle 41‬المشهورة لسينيكا يقول سينيكا‪« :‬على الناس أال ينحنوا أمام صور اإلنسان بل يبجلوا‬
‫العقالنية األخالقية التي في ذواتهم كما هي في العالم ككل»‪ .‬وكان الرواقيون طبائعيين ً‬
‫أيضا‬
‫وكل جوانبهم للشخصية مادية‪ ،‬لذا فإن محاولة فارو لوصف شكل األلوهية ليست سخيفة على‬
‫غامضا‪ ،‬وعبارة “بال قلب وال رأس” ترجع على األرجح‬ ‫ً‬ ‫اإلطالق‪ ،‬مع أن محتوى الوصف يبقى‬
‫إلى اعتقاد الرواقية في أن الحكيم يغرس ألوهيته التي تفتقر إلى االنفعاالت –مع أن هذا مؤكد‪،‬‬
‫حيث إن الرواقيين يضعون األخالق والعقل واالنفعاالت في القلب‪ .‬وربما يشير االفتقار إلى‬
‫الرأس افتقار اإلله إلى الخصوصية التاريخية وكذلك التحيز‪ :‬حيث تحث التدريبات العقلية‬
‫الرواقية غال ًبا الطالب على أن يتشاكلوا مع العالم‪ ،‬وأن يفكروا في ذواتهم ككل مترابط وليس‬
‫كأجزاء‪ .‬وإن فكاهة التفكير في كالوديوس على أنه إله رواقي على نفس الدرجة في حالة اإلله‬
‫األبيقوري؛ ألن كالوديوس ليس مثالاً لألخالق الكاملة العقالنية واإلنصاف والخلو من االنفعال‪.‬‬
‫مولعا ب ‪ Saturnalia‬ويمدد‬ ‫ً‬ ‫(‪ Saturnalicus princeps ((21‬تعبير جديد حيث كان كالوديوس‬
‫فترته ويلتحق باالحتفاالت بحماس‪ ،‬ولكنه كان من نوعية الحكام الذين يحولون األشياء‪ ،‬ففي‬
‫عهده كله كان ‪ Saturnalia‬غير عقالني ومسر ًفا‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫ندخله في رفقة اآللهة – ناهيك عن جوبتر الذي أدانه بالسفاح! ألن كالوديوس قتل‬
‫صهره سيالنوس ‪‘ Silanus‬لماذا‪ ،‬أنا أسألك؟’ ألنه كان لديه أخت أشد إثارة من‬
‫الشابات‪ ،‬وأطلق عليها الجميع فينوس ‪ ،Venus‬ولكنه فَضَّل أن يطلق عليها جونو‬
‫(‪ ،Juno((21‬وأنت تقول لماذا أخته؟ ‘أحب أن أعرف’‪ ،‬اسمع يا غبي‪ :‬يمكنك أن‬
‫تقطع ً‬
‫شوطا في أثينا‪ ،‬ولكن يمكنك أن تقضي كل الوقت في اإلسكندرية(‪ ،((21‬وأنت‬
‫تقول ‪« :‬ولكن بما أنك في روما‪ ،‬فإنك مطالب بتدريب على التقشف»(‪ ((21‬هل هو‬
‫ماض لتقويم الفوضى لنا؟ إنه ال يعرف حتى ما يجري في غرفة نومه‪ ،‬فرأسه ح ًّقا في‬
‫ٍ‬

‫السحب(‪.((21‬‬

‫«يريد أن يكون إلهًا؟ فال يكفي أن يكون لديه معبد في بريتين (‪Britain((21‬‬

‫‪L. Junius‬‬ ‫(‪ ((21‬كانت جونو ‪ Juno‬أخت جوبتر ورزوجته‪ ،‬وجونيوس سيالنوس توركيوتوس‬
‫‪ Silanus Torquatus‬الحفيد األكبر ألغسطوس‪ ،‬خطبه كالوديوس البنته أوكتافيا‪ ،‬ولكن قررت‬
‫أجربيانا أنه من الصالح أن تتزوج أوكتافيا نيرون‪ ،‬لذلك كان عليها أن تتخلص من سيالنوس‪ ،‬ثم‬
‫فتنت سيالنوس بأخته جونيا كالفينا ‪ Junia Calvina‬واتهمتهم بسفاح المحارم‪ ،‬وأدانه السوناتو‪،‬‬
‫وانتحر في ‪49‬م في اليوم نفسه الذي تزوج فيه كالوديوس بأجربيانا‪ ،‬ومن المفارقات في الموقف‬
‫برمته أن كالوديوس عم أجربيانا‪ ،‬وهذا الزواج كان صاد ًما بالمعايير الرومانيية ناهيك عن أنه غير‬
‫قانوني بالمرة‪ ،‬ويقول سويتونيوس ‪ Suetonius‬إنه لفت االنتباه إلى جانب سفاح المحارم في‬
‫الصراع بوصفها ‘ابنة’ و‘مرضعة’‪.‬‬
‫(‪ ((21‬يمكن ألبناء نفس األب في أثينا أن يتزوجوا وليس األبناء من نفس األم‪ ،‬ولكن في اإلسكندرية‬
‫عند البطالمة شاع الزواج بين اإلخوة واألخوات كلهم‪.‬‬
‫حرفيا “ الفئران تلعق حجر الرحى” وهي عبارة غامضة ربما تدلل على التقشف ( يمكن لعق‬ ‫ًّ‬ ‫(‪((21‬‬
‫غبار الطحين من الرحى إن لم تتمكن من العثور على ما يكفيك من الطعام في أي مكان)‪.‬‬
‫مشهورا بالفلك ‪ meteôria‬حيث ينظر إلى الفضاء وال يالحظ شيئًا‪ ،‬ولكن‬ ‫ً‬ ‫(‪ ((21‬كان كالوديوس‬
‫خاضعا‬
‫ً‬ ‫الفقرة تشير إلى الفقر الجنسي‪ ،‬حيث ُعرف عن كالوديوس عاطفته للمرأة‪ ،‬وبكونه‬
‫لزوجاته‪ ،‬وربما تكون اإلشارة إلى المعرفة والسيطرة وليس نقص الرجولة‪ ،‬وعُرف عن ميسالينا‬
‫كثرة العشاق حتى إنها تنافست يو ًما ما مع عاهرة في معاشرة أكبر عدد من الرجال في ليلة واحدة‪،‬‬
‫قانعا لفترة طويلة بإخالصها‪.‬‬
‫ومع ذلك كان كالوديوس ً‬
‫(‪ - ((21‬في ‪.(Colchester (Camulodunum‬‬

‫‪153‬‬
‫وأين يعبده المتوحشون ويصلون ‘ليواجه األحمق حين يحسن التصرف؟»(‪.((21‬‬

‫وأخيرًا بزغ نهار جوبتر(‪ ((22‬حيث لم يكن يُسمح ألعضاء السوناتو أن يعبروا‬
‫عن آرائهم أو يعقدوا ً‬
‫نقاشا في وجود الغرباء في حجرة السوناتو‪ ،‬وقال‪« :‬الزمالء‬
‫أعضاء السوناتو األعزاء(‪ :((22‬لقد سمحت لك بعقد جلسة استماع‪ ،‬ولكنك حولتها‬
‫إلى فوضى حقيقية‪ ،‬أود أن تحترم قواعد حجرة مجلس السوناتو‪ ،‬كيف يفكر فينا‬
‫(أى نوع من الموجودات هو)؟ هم يطلبون من كالوديوس المغادرة‪ ،‬وأول َمن سأله‬
‫عن رأيه هو األب جانوس (‪ ،Janus((22‬لقد ُعين ليكون قنصل ما بعد الظهيرة‪ ،‬ومن‬
‫المقرر أن تبدأ المدة من ‪1‬يوليو(‪ -((22‬وهو رجل كان بإمكانه أن يرى «من الخلف‬
‫واألمام»(‪ ((22‬حين يتعلق األمر بعمله‪ ،‬وبسبب أنه عاش في المنتدى تحدث ببالغة‬
‫وإفراط‪ ،‬ولم يستطع المختزل ‪ )((22(( stenographer‬مواكبته‪ ،‬ولذلك فلن ُأدلي‬
‫كثيرا عن عظمة اآللهة‪:‬‬
‫بما قاله‪ ،‬وال أرغب في وضع الكلمات في فمه‪ ،‬فهو تحدث ً‬
‫إلها جعلته‬
‫ومثل هذا شرف لم ُيعط ألحد‪ ،‬وقال « إن كان هناك شيء عظيم يصنع ً‬
‫اآلن سخرية زهيدة (‪ ،((22‬وهكذا بما أنني ال أرغب في صنع حجة مغالطة على‬

‫(‪ ((21‬في اليونانية ‪ môrou euêlatou tuchein‬اإلنابة الثانية لألحمق؛ ألن كلمة إله هذه المرة في صيغة‬
‫مشتركة للصالة‪.‬‬
‫(‪ ((22‬يُصور جوبتر على أنه مهمل وغير كفء مثل كالوديوس نفسه‪.‬‬
‫(‪ ((22‬حرف ًّيا أعضاء مجلس السوناتو ‪ patres conscripti‬وهي صيغة خطاب للسوناتو المجتمع‪.‬‬
‫مثاليا من اتجاهين‪.‬‬
‫(‪ ((22‬جانوس إله األبواب والبوابات ويبدو ًّ‬
‫(‪ ((22‬يسخر سينيكا من عادة الشرف قصيرة األجل لمنصب القنصل‪ :‬ويبدو أن جانوس قنصل لفترة ما‬
‫بعد الظهيرة فقط‪ ،‬ربما ليس لديه عمل على اإلطالق‪ ،‬حيث إن مجلس السوناتو غال ًبا ما يتوقف‬
‫في منتصف النهار‪.‬‬
‫(‪ ((22‬تستعمل العبارة الهوميرية في اليونانية لوصف ذكرى الرجال األقدمين من الماضي وإيحاء‬
‫المستقبل‪ ،‬ويطبقها هنا على جانوس بالمعنى الحرفي‪.‬‬
‫(‪ ((22‬نوتاريوس ‪ Notarius‬في هذا التوقيت هو نظام اختزال ُطور لتسجيل األفعال اليومية للسوناتو‬
‫‪ acta senatus‬والذي بدأ العمل به ‪ 59‬ق‪.‬م بإشراف يوليوس قيصر‪.‬‬
‫(‪ ((22‬كلمة ‪ Fabam mimum‬مسرحية الحبة “ ‪ « bean farce‬وكانت مسرحية هزلية مبتذلة للترفيه‪،‬‬
‫والمقصود بمعنى الحبة غير واضح‪ ،‬ربما يوحي بتقديس الموتى‪ ،‬وقد تُلمح الجانب النظري‬
‫لكالوديوس والجانب العملي للعجرفة‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫إلها‬
‫الشخص ‪ ad hominem argument‬سوف أمضي بعد هذا اليوم حتى ال أصنع ً‬
‫من ‘الذين يأكلون ثمرة األرض’ أو الذين تغذيهم ‘األرض الواهبة للحياة‘(‪،((22‬‬
‫إلها أو يقال عنه إنه إله أو يصور كذلك‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫امرئ يناقض قرار السوناتو إما ُيصنع ً‬ ‫وأي‬
‫يجب أن نمنحه للشياطين (‪ ،((22‬أو نصارعه مع المتطوعين الجدد(‪ ((22‬في ألعاب‬
‫المجالدة القادمة»‪.‬‬

‫والتالي الذي طلب منه أن يعبر عن رأيه هو ديسبيتر ‪ Diespiter‬ابن فيكا بوتا‬
‫(‪ Vica Pota((23‬وكان قنصلاً منتخ ًبا‪ ،‬ومراب ًيا للمال لزمن قصير‪ ،‬واعتاد أن يكسب‬
‫عيشه ببيع وثائق المواطنة‪ ،‬ومشى هيروكليس نحوه متود ًدا ولمس أذنه(‪ ((23‬واقترح‬
‫االقتراح التالي‪« :‬حيث إن كالوديوس المؤله فيه قرابة دم ألوغسطس المؤله‪ ،‬وال‬
‫يقل عن جدته المؤلهة أوجوستا ‪ ،Augusta‬وتأليهه أمر‪ ،‬ويتجاوز كل البشر في‬
‫الحكمة‪ ،‬ومن المصلحة الوطنية أن يكون هناك امرؤ بمقدوره أن ‘يلتهم اللفت‬
‫المبخر’ مع رومولوس (‪ ،Romulus((23‬واقترح بأن كالوديوس المؤله ينبغي أن‬
‫إلها من اليوم فصاعدً ا‪ ،‬بالطريقة نفسها التي أصبح فيها أي شخص ً‬
‫إلها وفق‬ ‫يكون ً‬
‫أصول القانون‪ ،‬ويُضاف هذا الحدث إلى تحوالت أوفيد ‪Metamorphoses of‬‬

‫‪.((23(»Ovid‬‬

‫هناك كلمات عدة تُظهر أن كالوديوس هو الغالب؛ ألن هيروكليس رأى أن‬

‫(‪ ((22‬كلتا العبارتين الهومرتين مقتبسة من اليونانية‪.‬‬


‫(‪ ((22‬الرفيس ‪ Larvis‬أرواح شريرة‪ ،‬وغال ًبا أشباح الموتى‪.‬‬
‫(‪ ((22‬كان الجند المتطوعون ‪ auctorati‬مواطنين يبيعون أنفسهم لمدارس المجالدين‪.‬‬
‫(‪ ((23‬ديسبيتر هو إله السماء اإليطالية األصلي‪ ،‬ويرتبط أحيا ًنا بجوبتر (ولفظهما قريب)‪ -‬لكن ليس هنا‬
‫حيث إنهما شخصيتان متمايزتان هنا‪.‬‬
‫(‪ ((23‬طريقة شائعة لتذكير الشاهد فيما يحاول تذكره‪.‬‬
‫(‪ ((23‬الشذرة نهاية لسداسية التينية لم تُشهد في مكان آخر‪.‬‬
‫(‪ ((23‬الكتب الخمسة عشرة الملحمية التي ألفها أوفيد (‪ )43 BCE–17 CE‬تصف التأليه عند‬
‫رومولوس ويوليوس قيصر‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫قوته في النار تواصل التجول هنا وهناك قائلاً « ال تقاومني؛ فهذا المنجل قريب من‬
‫قلبي(‪ ،((23‬وإن كنت تريد شيئًا يو ًما ما فسوف أرد الفضل‪ ،‬وإن خدشت ظهري‬
‫فسوف أخدشك»(‪.((23‬‬

‫‪ – 10‬ومن ثم وقف أوغسطوس المؤله عندما جاء دوره ليعبر عن رأيه‪،‬‬


‫وتحدث ببالغة طليقة(‪ ،((23‬وقال‪« :‬أيها السادة أعضاء السوناتو الزمالء‪،‬‬
‫إلها لم أتفوه بكلمة‪ ،‬وما يهمني هو‬
‫أنت تطلبون شهادتي وأنا منذ أن أصبحت ً‬
‫عملي(‪ ،((23‬وليس بمقدوري أن أخفي رأيي طويلاً ‪ ،‬وال أن أكبح األلم‪ ،‬فهذا العار‬
‫يحملني أثقل مما أتحمل‪ ،‬هل ألجل هذا جلبت السالم لألرض والبحر؟ وهل‬
‫ألجل هذا أتيت بالحروب األهلية إلى نهايتها؟ وهل ألجل هذا أقمت المدينة على‬
‫أساس قانوني متين والتي جملتها باألعمال العامة أليس كذلك؟ ليس بمقدوري‬
‫أن أفكر فيما أقوله أيها السيناتورات الموقرون‪ ،‬ال توجد كلمات تجاري سخطي‪،‬‬
‫ولذلك ألجأ إلى القول المعروف للرجل البليغ ميساليا كورفينوس ‪Messala‬‬

‫‪‘ Corvinus‬أخجل من منصبي”(‪.((23‬‬

‫« هذا الرجل أعضاء السوناتو الموقرون‪ ،‬الذي أنظر إليه على أنه ال تهابه ذبابة‬

‫(‪ ((23‬ربما يرى كثيرون بسبب أن كالوديوس وعد هيروكليس مكافئة ليعينه‪ ،‬ويكفي أن نتذكر أن هيروكليس‬
‫نفسه رجل تحول إلى إله‪ ،‬فمن الطبيعي لديه مصلحة في مصير إنسان آخر يسعى إلى التأليه‪.‬‬
‫حرفيا‪”،‬تغسل يدي األخرى” ‪.manus manum lavat‬‬ ‫ًّ‬ ‫(‪((23‬‬
‫(‪ُ ((23‬عرف أوغسطوس ببالغته‪ ،‬وهذا الخطاب جاد تما ًما في األسلوب‪ ،‬وقطعة خطابية مؤثرة‪.‬‬
‫(‪ ((23‬يستعمل أوغسطوس اعتداله وتقديره المعروفين لكسب تعاطف الجمهور‪.‬‬
‫(‪ ((23‬حرج اإلمبراطور ‪“ Pudet imperii‬إنني أخجل من منصبي في القيادة”‪ -‬استعملها هنا لإلشارة‬
‫إلى الخالف الذي ابتدعه أوغسطوس نفسه‪ :‬حيث المبدأ‪ ،‬وقال هذه العبارة السياسي والجندي‬
‫البارز ميساال كورفينوس )‪ Messala Corvinus (64 BCE–8 CE‬وهو مجهول المكان‪ ،‬ربما‬
‫وعزل بعد ستة أيام فقط‪ ،‬ومن المرجح أنه رأى‬ ‫حاكما‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫يشير إلى مناسبة بعد أن عينه أوغسطوس‬
‫أن المنصب المسؤول عن شرطة المدينة َي ْع َم ُل بطريقة قمعية‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫واعتاد أن يقتل البشر بسهولة مثل كالب جاثمة(‪((23‬‬
‫علي أن أقوله‬
‫‪ ،‬ماذا ينبغي َّ‬
‫وقت للحداد على كارثة المدينة‪ ،‬وأركز على‬
‫لدي ٌ‬
‫عن الرجال األفاضل؟ فليس َّ‬
‫المصائب التي ار ُتكبت في حق عائلتي‪ ،‬وسوف أتغافل عن السابق‪ ،‬وأصف األمر‬
‫األخير‪ ،‬وحتى لو لم يعرف كاحلي ذلك‪ ،‬فأنا أعرف‪‘ :‬فالركبة أقرب للقلب من‬
‫عظمة الذقن’ ((‪ ،)((24‬وهذا الرجل الذي تراه هناك بعد اختفاء سنوات عدة متغط ًيا‬
‫بأسمى(‪((24‬‬
‫أظهر اهتمامه لي امتنانه باآلتي‪ ،‬فقد قتل الجوليتين وهم أحفادي‬
‫الكبار‪ ،‬أحدهما بالسيف واآلخر بالجوع(‪ ،((24‬وقتل حفيدي األكبر لوكيوس‬
‫سيالنوس – وسوف تحكم يا جوبتر فيما إذا كانت قضية ظالمة‪ ،‬وعلى أي حال‬
‫هذا نفسه حدث لك إن كنت سوف تنظر إليه بإنصاف‪ .‬أجبني يا كالوديوس‬
‫المؤله(‪ :((24‬لماذا حكمت على الرجال والنساء الذين قتلتهم قبل أن تتفحص‬
‫جانبهم في القضية وقبل أن تسمع شهادتهم(‪((24‬؟ لماذا ُتدار األمور بهذه الكيفية؟‬
‫يقينًا ال تدار من السماء هكذا‪.‬‬

‫‪ -11‬انظر إلى جوبتر الذي حكم لسنوات عدة‪ ،‬والشيء الوحيد الذي فعله‬

‫(‪ ((23‬إشارة أخرى للتغوط – وهذه إشارة مهذبة تمش ًيا مع النبرة العالية للكلمة تُقارن جرائم قتل‬
‫كالوديوس بقتل كلب‪ ،‬ومن المفترض أنها تعني تلوث الجسم السياسي‪.‬‬
‫(‪ ((24‬فقرة معطوبة وصعبة‪ ،‬ولكن ربما يكون المعنى أن أوغسطوس يعرف شخصية كالوديوس من‬
‫خالل قتله ألقارب أوغسطوس‪.‬‬
‫(‪ ((24‬أخذ كالوديوس كنية قيصر مثل أسالفه‪ ،‬ويُخبرنا سويتونيوس أن قسمه المفضل هو “أقسم‬
‫بأوغسطوس”‪ ،‬وهو يود التوكيد على التقارب المزعوم لسياسته مع سياسة الرجل العظيم‪.‬‬
‫(‪ ((24‬األولى هي جوليا ‪ Julia‬ابنة دروسوس ابن تيبيريوس‪ ،‬واألخرى جوليا ليفيال وهي ابنة‬
‫جيرمانيكوس ‪ ،Germanicus‬وكالهما تعرض لعداوة ميسالينا‪ ،‬وهو ما دفع كالوديوس‬
‫إلدانتهما‪ .‬وكما يرى سويتونيوس “أن التهمة غير واضحة‪ ،‬وال يوجد فرصة للدفاع”‪ ،‬لقد ذبحت‬
‫األولى‪ ،‬وتوفيت الثانية في المنفى‪ ،‬وكانت إحدى التهم الموجهة لجوليا ليفيال هي الزنا مع‬
‫سينيكا‪ ،‬وذهب سينيكا إلى المنفى معها عام ‪41‬م‪.‬‬
‫(‪ ((24‬مفارقة معقدة – مثل ديسبيتر رغم نواياه الساخرة والعدائية‪ ،‬يشير أوغسطوس إلى كالوديوس‬
‫بأنه مؤله بالفعل‪ ،‬وبالطبع هو كذلك‪.‬‬
‫(‪ ((24‬وف ًقا لمصادرنا هي ممارسة شائعة لكالوديوس‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫أنه كسر ساق فولكان ‪ Vulcan‬وركله بالقدم‪ ،‬وألقاه من عتبة السماء(‪ ،((24‬ومن ثم‬
‫غضب من زوجته وعلقها(‪ ،((24‬لكنه لم يقتلها‪ ،‬أليس كذلك؟ أما أنت فقد قتلت‬
‫كنت َع ًّما لها بقدر ما أنا لك عم‪ ،‬هل تقول ‘ال أتذكر‘؟ ربما تلعنك‬
‫ميسالينا التي َ‬
‫اآللهة‪ ،‬فعدم تذكرك لقتلها أمر مشين أكبر من القتل ذاته(‪.((24‬‬

‫«وأضف إلى هذا أنه لم يتوقف عن اضطهاد جايوس قيصر حتى بعد موته‪،‬‬
‫وكذلك كالوديوس قتل صهره(‪ ،((24‬ورفض‬ ‫صهره(‪((24‬‬ ‫فقد قتل جايوس‬
‫جايوس أن يُطلق على ابن كراسوس ‪ Crassus‬لقب ‘العظيم‘‪ ،‬وأعاد كالوديوس‬
‫له االسم ولكن أخذ رأسه(‪ ،((25‬فقد قتل من أسرة واحدة كراسوس وبومبيوس‬
‫ماجنوس ‪ Pompeius Magnus‬وسكريبونيا (‪ – Scribonia((25‬وليست عشيرة‬
‫غبيا بما فيه الكفاية‬ ‫بالتحديد بل كلهم نبالء(‪((25‬‬
‫‪ ،‬وكان كراسوس في الحقيقة ًّ‬
‫فكان بمقدوره أن يكون ً‬
‫ملكا‪ ،‬هذا هو الرجل الذي تريدون أن تؤلهوه اآلن!‬

‫(‪ ((24‬انظر ‪.Homer Iliad 15.18‬‬


‫(‪ ((24‬في الفقرة نفسها يذكر زيوس هيرا في مناسبة سابقة حيث علقها في السماء بسنادين مربوطة في‬
‫قدمها‪ ،‬ولكن التلميحات معقدة‪ :‬فكسر الساق والتعليق عقوبات شائعة على العبيد‪ ،‬ويرى إيدن‬
‫أن جوبتر يوضح أنه تعامل مع زوجته وعشيقته مثل العبيد‪ ،‬وهي مداهنة يصعب تصويرها‪.‬‬
‫(‪ ((24‬يقرر سويتونيوس أنه بعد إصدار األمر بموت ميسالينا‪ ،‬ذهب كالوديوس لتناول العشاء‪ ،‬وسأل‬
‫عن عدم وجوها على المائدة‪.‬‬
‫(‪ ((24‬أمر جايوس بانتحار جونايوس سيالنوس صديق تيبيريوس عام ‪38‬م‪.‬‬
‫(‪ ((24‬يمكن أن تكون اإلشارة إلى سيالنوس الذي ذُكر مرتين‪ ،‬أو على بومبيوس ماجنوس الذي ُذكر‬
‫الحقًا‪ ،‬والذي تزوج عام ‪41‬م أنطونيا ابنة كالوديوس‪.‬‬
‫(‪ ((25‬أخذ كاليجوال لقب”العظيم ‪ ”Magnus‬من ‪ ،Cn.Pompeius‬وُقتل بناء على طلب ميسالينا‬
‫عام ‪41‬م‪.‬‬
‫(‪ ((25‬كراسوس ‪ Crassus‬هو م‪.‬ليكينيوس كراسوس فروجي ‪ M. Licinius Crassus Frugi‬والد‬
‫أرستقراطيا قو ًّيا‪ ،‬وسبب وفاته غير‬
‫ًّ‬ ‫بومبيوس ماجنوس ‪ ،Cn. Pompeius Magnus‬وكان‬
‫معروف‪ ،‬وشبهة قتله مقبولة‪ .‬وسكريبونيا ذكرناها أدناه فهي ابنة كراسوس وأخت ماجنوس‪.‬‬
‫(‪ ((25‬فقرة معطوبة وصعبة‪ ،‬ولكن معناها واضح‪ :‬هؤالء الناس لم ُيحصروا في طبقة النبالء (فأجدادهم‬
‫من طروادة) ولكنهم ال يزالون نبالء‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫«انظر إلى جسده الذي شكله غضب اآللهة منذ والدته‪ ،‬حيث وضعته في‬
‫معا بسرعة فليأخذني عبدً ا‬
‫حجم صغير‪ ،‬وإذا استطاع أن يجمع ثالث كلمات ً‬
‫إلها؟ و َمن سيؤمن به؟ وإذا أ َّلهتم أناس مثل هذا فلن يؤمن‬
‫فمن الذي سيعبده ً‬
‫له‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫لنمض مباشرة إلى‬ ‫بكم أحدٌ باعتباركم آلهة‪ .‬السادة أعضاء السوناتو الموقرون‬
‫أجب أحدً ا بقسوة انتقا ًما‬
‫ْ‬ ‫لب األمر‪ :‬إذا كنت قد برأت نفسي بينكم‪ ،‬وإذا كنت لم‬
‫لظلمي‪ ،‬أقدم االقتراح التالي –وقرأ من من مفكرته‪« -‬حيث إن كالوديوس المؤله‬
‫قتل صهره أبيوس سيالنوس (‪ Appius Silanus((25‬وأبناء صهره بومبيوس‬
‫ماجنوس ولوكيوس سيالنوس وبنات صهره كراسوس فروجي ‪Crassus Frugi‬‬

‫(رجل مثل هذا مثل حبتين بازالء في بؤجة) وبنات صهرته سكريبونيا‪ ،‬وزوجته‬
‫ميسالينيا‪ ،‬وغيرهم ممن يصعب ذكرهم‪ ،‬فأقترح أنه ينبغي أن ُيعاقب بشدة‪ ،‬وألاَّ‬
‫ُيمنح أي حصانة من القضاء‪ ،‬وأن يتم ترحيله في أقرب وقت ممكن‪ ،‬وأن يغادر‬
‫السماء خالل ثالثين يو ًما وأوليمبوس خالل ثالثة”‪.‬‬

‫مرروا االقتراح للتصويت‪ ،‬وال تتوانوا‪ ،‬واقبض عليه يا ماركوري‪ ،‬وال ِو رقبته‪،‬‬
‫واسحبه إلى الجحيم من السماء‪ ،‬ذلك المكان الذي يقولون ال أحد يعود منه(‪.((25‬‬

‫‪ -12‬وعندما كانوا يسيرون على طول الطريق المقدس(‪ ،((25‬سأل ماركوري‬

‫(‪ ((25‬س‪ .‬أبيوس إينيوس سيالنوس ‪ C. Appius Iunius Silanus‬وهو قنصل في عام ‪28‬م‪ ،‬تزوج‬
‫دوميتيا ‪ Domitia‬أم ميسالينا عن طريق كالوديوس‪ ،‬وبعد أن استفزميساليا برفض تقدمها‪ ،‬فقد‬
‫أخبرت هي وناركسوس كالوديوس بأنهما حلما بأن أبيوس يغتاله‪ ،‬فأمر بقتله على الفور‪.‬‬
‫(‪ Unde negant redire quemquam ((25‬سطر مشهور من قصيدة كاتيلليوس ‪ Catullus‬عن وفاة‬
‫عصفور ليسبيا ‪ ،)3.12( Lesbia‬حيث يتصور الطائر الصغير بطريقة مأسوية‪ ،‬وهو يقوم برحلة‬
‫قاتمة إلى العالم السفلي‪ ،‬وعلى النقيض هنا فالسماء هي المكان “الذي يقولون ال يرجع منه‬
‫أحد”‪ :‬فبمجرد أن يصل المرء إلى السماء ال يُلقى منها‪ ،‬ومع ذلك فإن كالوديوس استثناء لهذه‬
‫القاعدة‪ ،‬وهو مثل العصفور اآلن‪ ،‬وهو في طريقه للعالم السفلي‪.‬‬
‫(‪ ((25‬فيا سكرا أو الطريق المقدس ‪ Via Sacra‬هو الطريق الذي سوف يُحمل فيه رفات كالوديوس‬
‫من الباالتيوم على المنتدى‪ ،‬حيث ُيلقي خطابه الجنائزي‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫عما يجري لهذا الحشد الكبير من الناس‪ :‬هل من الممكن أن يكون جنازة‬
‫كالوديوس؟ الحقيقة لقد ُرتب كل شيء ببذخ وروعة‪ ،‬يمكنك أن ترى بوضوح‬
‫أنها جنازة إله(‪ ،((25‬حشد ضخم‪ ،‬وتجمع كبير لعازفي البوق‪ ،‬والعازفون على كل‬
‫أدوات النحاس –حتى يسمعها كالوديوس‪ .‬الجميع مبتهج وسعيد‪ ،‬والرومانيون‬
‫يتجولون مثل األحرار‪ ،‬وأجاثون ‪ Agathon‬وقليل من المحامين يبكون‪ ،‬وكان‬
‫حزنهم عمي ًقا‪ ،‬ويخرج علماء القانون من ظالل تبدو شاحبة وهازلة‪ ،‬وبالكاد‬
‫يتنفسون‪ ،‬كما لو كانوا يعودون للحياة في تلك اللحظة(‪.((25‬‬

‫معا وينعون سوء حظهم‪،‬‬


‫وعندما رأى أحدهم المحامين يضعون رؤوسهم ً‬
‫أقبل عليهم وقال‪« :‬ألم أقل لكم إن ساتورناليا ‪ Saturnalia‬لن يدوم لألبد”‪.‬‬

‫وعندما رأى كالوديوس جنازته أدرك أنه مات‪ ،‬حيث ُعزف اللحن الحزين‬
‫“بأغنية رائعة ورقص”(‪.((25‬‬

‫من الدموع(‪((25‬‬ ‫ابكوا سيلاً‬

‫والطموا صدوركم‬

‫(‪ ((25‬وصف كل مَن تاكيتوس وسويتونيوس طبيعة الجنازة الفخمة مقارنة بكالوديوس‪.‬‬
‫(‪ ((25‬أسف المحامون ألوقات التقاضي التي كانوا يقضونها في عهد كالوديوس ألنها ولت‪ .‬وعلماء‬
‫القانون الذين فسروا القانون نفسه‪ ،‬والذين ُظلموا في عهد كالوديوس يأملون في رجوع كرامتهم‬
‫السالفة‪.‬‬
‫(‪ ((25‬مصدرها في اليونانية غير واضح‪.‬‬
‫(‪ ((25‬الديرج ‪ The dirge‬في الالتينة قصيدة ساخرة بلحن حزين‪ ،‬وهي قصيدة كورالية مفضلة في‬
‫تراجيديا سينيكا‪ ،‬والجناس أداة سينيكية شائعة‪ ،‬وقد استُعمل هنا بطريقة ساخرة‪ ،‬ويتضمن الديرج‬
‫هنا إنجازات حقيقية لكالوديوس ولكن لهجته ساخرة‪ ،‬ليخلط الخير مع الشر والسخيف بحيث‬
‫ال يؤخذ على محمل الجد‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫ودعوا المنتدى يرن بأصوات الحزن‬

‫رحل َمن ال ُيجارى عقله‬

‫فمن األشجع؟ ال أحد‬


‫َ‬
‫غيره في العالم بأسره‬

‫هاجم بسرعة وواجه بخفة‬

‫الثوار البارثيين ‪ Parthian‬المهزومين‪.‬‬

‫وسعى الفرس الستعمال األسلحة الخفيفة‬

‫وجه القوس‬
‫وبيد واثقة َّ‬
‫فاخترق العدو‪.‬‬

‫وولى الميديون ‪ Mede‬ظهورهم للميدان‬

‫بخرق صغير‪.‬‬

‫والبريتونس ‪ Britons‬وراء البحار المعروفة‪.‬‬

‫دروعا زرقاء داكنة(‪.((26‬‬


‫ً‬ ‫والبريجانتس يحملون‬

‫أُجبر على ارتداء نير رومولوس‬

‫رج المحيط‬

‫بالفأس الروماني ومجاالتها الجديدة لإلمبراطورية‬

‫يبرئ قضاياه‬
‫احزنْ على القاضي الذي ِّ‬
‫أسرع من أي ٍ‬
‫قاض آخر‬

‫(‪ ((26‬استعمل البريتون صبغة جافة داكنة تُسمى ‪ woad‬لتلوين عناصر متنوعة بما فيها الدروع‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫يسمع من طرف واحد‬
‫ُ‬ ‫فأحيا ًنا‬

‫وغال ًبا ال يسمع أي طرف‬

‫لم َ‬
‫يبق القاضي الذي يستمع الدعاوي‬

‫على مدار العام!‬

‫مينوس ‪ Minos‬قاضي الموتى الصامتين‬

‫حاكم المائة مدينة كريتية‬

‫سوف يتقاعد ويمنحك كرسيه في المحكمة‪.‬‬

‫الطموا صدوركم بأصابع متألمة‬


‫آه أيها المحامون ارتابوا جنس البشر(‪((26‬‬

‫احزنوا احزنوا أيها الشعراء الضالعون‬

‫واحزنوا أيها المقامرون‬

‫يا َمن ربحتم السمين من صندوق النرد(‪.((26‬‬

‫‪ -13‬ابتهج كالوديوس بهذا الثناء كله‪ ،‬وأراد أن يمكث طويلاً للمشاهدة‪،‬‬


‫وشاحا حول رأسه حتى ال‬
‫ً‬ ‫ولكن ماركوري ‪-‬نذير اآللهة‪ -‬قبض عليه‪ ،‬ولف‬
‫يتعرف عليه أحد‪ ،‬وجره إلى حرم مارتيوس (‪ ،Martius((26‬ودخلوا العالم‬

‫حرفيا األجناس الفاسدة ‪.venale genus, a corrupt species‬‬


‫ًّ‬ ‫(‪((26‬‬
‫(‪ ((26‬كانت هناك قوانين ضد المقامرة‪ ،‬ولكن هوس كلوديوس المعلن بلعبة النرد جعل من المستحيل‬
‫تنفيذها‪.‬‬
‫(‪ ((26‬ربما حُرقت رفات كالوديوس على ضفة نهر‪ ،‬كانت جزءًا من حرم مارتيوس ‪Campus‬‬
‫‪.Martius‬‬

‫‪162‬‬
‫السفلي من البوابة بين التبر ‪ Tiber‬والطريق المكفور‪ ،‬وقد أخذ ناركسوس‬
‫وطيبها باالغتسال‪ ،‬وجاء ليقابل‬ ‫الحر طري ًقا مختصرا وسبقه (‪((26‬‬
‫‪ ،‬ونظف نفسه َّ‬ ‫ً‬
‫كالوديوس‪ ،‬وقال‪« :‬لماذا تتساقط اآللهة لزيارة البشر؟» وقال ماركوري‪« :‬اذهب‬
‫وأخبرهم أننا هنا»‪.‬‬

‫وطار ناركسوس قبل أن ينتهي الحديث‪ ،‬ومال كل شيء فهون صعدته‪،‬‬


‫ومع أن ناركسوس مصاب بالنقرس لم يستغرق لحظة حتى يصل إلى باب ديس‬
‫‪ Dis‬حيث يستلقي سيبيروس – الوحش ذو المائة رأس‪ -‬كما يقول هوراس‬
‫صغير لونه أبيض‪ ،‬فانزعج عندما رأى‬
‫ٌ‬ ‫كلب‬
‫ٌ‬ ‫(‪ .Horace((26‬وكان لناركسوس‬
‫ذلك الكلب األسود األشعث‪ ،‬وهو ال يرغب أن يصطدم بهذا النوع في الظالم‪،‬‬
‫وقال بصوت جهور‪« :‬كالوديوس سيقترب من هنا»‪ ،‬وجاءوا من وسط الهتافات‬
‫يغنون‪« :‬وجدناه‪ ،‬هيا نفرح»(‪ .((26‬هنا كان جايوس سيلوس ‪ Gaius Silius‬المعين‬
‫قنصلاً وجونكوس البرايتور ‪ Juncus the praetor‬وسكتوس تراولوس ‪Sextus‬‬

‫‪ Traulus‬وماركوس هيلفيوس ‪ Marcus Helvius‬وتروجوس ‪ Trogus‬وكوتا‬


‫‪ Cotta‬وفيتيوس فالينوس ‪ Vettius Valens‬وفابيوس ‪ Fabius‬وبعض الفرسان‬
‫الرومانيين الذين قتلهم ناركسوس‪ .‬وكان وسط هذا الحشد من المغنيين منيستر‬
‫‪ Mnester‬الممثل الذي جعله كالوديوس يراقب انضباط ميسالينا‪ ،‬وكان عمره‬

‫(‪ ((26‬ناركسوس ‪ Narcissus‬الرجل الحر القوي‪ ،‬كان مرتبطًا بثقة بعهد كالوديوس‪ ،‬وبالتالي كان هد ًفا‬
‫لعداء أجربيانا‪ ،‬وخرج من المدينة للعالج من النقرس عندما ُقتل كالوديوس‪ ،‬وأمر باالنتحار حين‬
‫عودته إلى روما‪ ،‬وهنا يصل إلى العالم السفلي قبل كالوديوس؛ ألنه لم يتبع الطريق المنعطف‬
‫للسماء‪.‬‬
‫(‪ ((26‬انظر ‪.Odes 2.13.33 ff‬‬
‫(‪ ((26‬استعمل في اليونانية طقوسًا عجيبة في عبادة إيزيس‪ ،‬إنها تحيي باكتشاف ثور جديد‪ُ ،‬يعتقد أنه‬
‫تجسيد جديد ألوزوريس‪ ،‬وهكذا استُقبل كالوديوس الذي ُأقيمت له في التو جنازة على األرض‪،‬‬
‫وهو ُيحيى باعتباره مولو ًدا جديدً ا بين األموات‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫أقصر منها حيث قطع رأسه(‪.((26‬‬

‫وسرعان ما انتشرت الشائعات بأن كالوديوس قد وصل‪ ،‬وأول َمن أسرع‬


‫في الخروج من األحرار بوليبوس ‪ Polybius‬ومايرون ‪ Myron‬وأربوكراس‬
‫‪ Arpocras‬وأمفيوس ‪ Ampheus‬وفيرونوتوس ‪ Pheronaotus‬كل الذين أرسلهم‬
‫كالوديوس أمامه‪ ،‬لذلك لم يفتقر إلى الحاضرين‪ ،‬ومن ثم اثنان من الحكام‬
‫البرايتوريين وهما جوستوس كاتونيوس ‪ Justus Catonius‬وروفريوس بوليو‬
‫‪ ،Rufrius Pollio‬ومستشاروه بيدو بومبيوس ‪ Pedo Pompeius‬وساتورنينوس‬
‫لوكيوس ‪ Saturninus Lusius‬ولوبوس ‪ Lupus‬وسيلر أسينيوس ‪Celer Asinius‬‬

‫وأخيرا جاءت ابنة أخيه وابنة أخته وصهر أبنائه وصهره وصهرته‬
‫ً‬ ‫وكل المتميزين‪،‬‬
‫وكل أقاربه‪ ،‬وجاءوا ص ًّفا الستقبال كالوديوس‪ .‬وعندما رآهم كالوديوس‪ ،‬صرخ‬
‫جميعا هنا؟»‪ .‬فأجاب بيدو‬
‫ً‬ ‫قائلاً ‪‘ “ :‬العالم برمته مليء باألصدقاء‘(‪ ((26‬كيف أنتم‬
‫بومبيوس(‪« :((26‬ماذا تقول‪ ،‬أنت مثالاً للقسوة؟ تسأل كيف؟ ومن الذي أرسلنا‬
‫إلى هنا سوى أنت‪ ،‬أنت قتلت كل أصدقائك‪ ،‬ودعونا نذهب إلى المحكمة‪ ،‬وهذه‬
‫المرة سأريكم منضدة المدعى عليه ومقعد القاضي»‪.‬‬

‫‪ -14‬وقاده بيدو بومبيوس إلى قاعة محكمة أياكوس (‪ Aeacus((27‬الذي‬

‫(‪ ((26‬كان منيستر ممثلاً وراقصًا يحظى بإعجاب كبير‪ ،‬ومن سوء الحظ أنه جذب انتباه ميسالينا‪ ،‬التي‬
‫طلبت من كالوديوس أن يأمره بأن يقضي كل ما أمرت به هي‪ ،‬ويبدو أنه فشل في االمتثال‪ ،‬وأمر‬
‫كالوديوس بإعدامه‪ ،‬ويخبرنا تاكيتوس أنه خلع كل مالبسه ليظهر لإلمبراطور عالمات الضرب‬
‫الوحشي على جسده‪ ،‬ويريه أنه ضحية للقوة‪ ،‬وقال كالوديوس‪ :‬ال يهم سواء أكانت المسألة نتيجة‬
‫إجبار أم اختيار‪ -‬ومضى قد ًما في التنفيذ (‪.)Annals XI.36.1–3‬‬
‫(‪ ((26‬الشذرة في اليونانية جزء من الكوميديا‪.‬‬
‫(‪ ((26‬غير معروف‪.‬‬
‫(‪ ((27‬قاضي العالم السفلي التقليدي‪ ،‬بيده كل إجراءات محكمة العالم السفلي‪ ،‬يلقي نظرة على‬
‫المؤسسات الرومانية المعروفة‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫يترأس القضايا المرفوعة بموجب قانون القتل العمد(‪ ،((27‬وطلب بيدو اإلذن‬
‫عضوا‬
‫ً‬ ‫بتوجيه التهمة ضد كالوديوس(‪ ((27‬وتالوة االتهام‪ :‬حيث قتل خمسة وثالثين‬
‫رومانيا وآخرين «مثلما ينثر حبيبات الرمال‬
‫ًّ‬ ‫فارسا‬
‫ً‬ ‫من السوناتو وواحدً ا وعشرين‬
‫أخيرا بوبليوس‬
‫ً‬ ‫وذرات الغبار»(‪ ،((27‬لم يجد كالوديوس محام ًيا يمثله‪ ،‬وظهر‬
‫فصيحا بلسان‬
‫ً‬ ‫بترونيوس ‪ Publius Petronius‬صديق قديم له‪ ،‬وكان رجلاً‬
‫كالوديان(‪ ((27‬وطلب االستمرار‪ ،‬فرفض‪ ،‬وتال بومبيوس االتهام بهتاف جهور‪،‬‬
‫وبدأ محامي الدفاع محاولة نقاش صاحبه في القضية‪ ،‬وأخبره أياكوس وهو رجل‬
‫منصف بأنه لن يستطيع ذلك‪ ،‬وبعد سماع طرف واحد في القضية‪ ،‬أدان كالوديوس‬
‫قائلاً ‪ :‬هل تعاني مما أصبت به اآلخرين‪ ،‬سوف يقام القسط المستقيم(‪.((27‬‬

‫وخيم صمت طويل‪ ،‬أصاب الجميع بالصدمة‪ ،‬مندهشين من حداثة‬


‫ْ‬
‫يحدث أبدً ا‪ .‬أما بالنسبة لكالوديوس‪ ،‬فبدت‬ ‫الفكرة(‪ ،((27‬وقالوا‪ :‬هذا األمر لم‬
‫الفكرة غير منصفة أكثر من الرواية(‪.((27‬‬

‫ودار نقاش طويل حول الجملة وما يجب أن يعانيه‪ ،‬وهناك َمن قالوا إن‬
‫على فترات‪ ،‬وإن تانتالوس سوف يموت من العطش ما لم‬ ‫سيزيف قد دفع له‬

‫(‪ ((27‬أصدر القانون سولال ‪ the lex Cornelia de sicariis‬عام ‪81‬ق‪.‬م والذي ينص على عقوبة‬
‫اإلعدام على القتل أو الشروع فيه‪.‬‬
‫(‪ ((27‬يمكن المقاضاة بأي مواطن‪.‬‬
‫(‪ ((27‬انظر ‪.Homer Iliad, 9.385‬‬
‫(‪ ((27‬حاز بيترونيوس ‪ P. Petronius‬على وظيفة متميزة ومعقولة حيث كان وال ًيا ‪ proconsul‬آلسيا‬
‫من ‪ ،30-29‬وليس هناك دليل آخر على أنه كان صدي ًقا لكالوديوس‪.‬‬
‫(‪ ((27‬انظر في اليونانية ‪ Hesiod frag. 286 M–W‬وهو استشهاد بقول مأثور‪ ،‬والتركيز هنا على أن‬
‫كالوديوس يحصل على نوع العدالة المنحرفة التي قضى بها هو من قبل‪.‬‬
‫(‪ ((27‬من المفترض أن العدالة قد تحولت إلى درجة عالية من الغموض في عهد كالوديوس‪ ،‬حتى‬
‫بدت فكرة العدالة المتزنة والمتداولة غريبة‪.‬‬
‫(‪ ((27‬ما هو معروف عن كالوديوس هو إجراء محاكمة دون سماع الطرفين‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫يعنه أحد‪ ،‬وفي مرحلة ما ينبغي أن يأخذ أكسيون ‪ Ixion‬الفقير المكبح الموضوع‬
‫على عجالته‪ ،‬ولكن تقرر عدم إعطاء راحة للمتخاصمين القدامى‪ ،‬خشية أن‬
‫يتوقع كالوديوس في مرحلة ما االعتبارات نفسها‪ ،‬وعليه أن يحلم بنوع جديد من‬
‫العقاب‪ ،‬فبعض المهام العقيمة تنطوي على أمل لغاية دون أي نتيجة‪ ،‬ومن ثم أمره‬
‫أياكوس بلعب النرد باستعمال صندوق النرد المثقوب من األسفل‪.‬‬

‫وبالفعل بدأ كالوديوس بتعقب مكعبات النرد التي تسقط دو ًما‪ ،‬وال يجدها‬
‫في أي مكان‪:‬‬

‫‪ -15‬وكلما حاول الرمي من حافة صندوق النرد‬

‫هرب المربعان من الفتحة المثقوبة في األسفل‬

‫وعندما يلتقطهما بجرأة ويحاول رميهما مرة أخرى‬

‫مثل رجل على حافة اللعب ويحاول دو ًما أن يلعب‬

‫فيخدع المكعب أمله‬

‫ويديم التخفي‬

‫فيميت التعامل المزدوج منزل ًقا من أصابعه‬

‫مثل َمن يلمس قمة جبل‬

‫ويسقط سيزيف الحمل من على كتفيه‬

‫ولكن دون جدوى(‪.((27‬‬

‫(‪ ((27‬ملحمة سداسية ‪ ،Epic hexameters‬في األصل ال يوجد بيت ناقص‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫وظهر جايوس قيصر غفلة‪ ،‬وطلب من كالوديوس باعتباره عبده‪ ،‬ودعا‬
‫الشهود الذين رأوه وهو يضرب كالوديوس بالسياط والعصي وكفوفه(‪ ،((27‬و ُت ِل َي‬
‫حكم المحكمة‪ :‬ومنحه أياكوس لجايوس قيصر‪ ،‬وهو بدوره أعطاه لرجله الحر‬
‫ميناندر ‪ Menander‬ليكون كاتب قانونه المسؤول عن االلتماسات(‪.((28‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫(‪ ((27‬تشهد عدة مصادر على السلوك القاسي لكاليجوال تجاه كالوديوس‪.‬‬
‫(‪ ((28‬وينتهي األمر بكالوديوس الذي كان يعطي األحرار سلطا ًنا ًّ‬
‫فذا إلى أن يصبح خاد ًما بال سلطان‬
‫ووظيفة مملة‪.‬‬

‫‪167‬‬

You might also like