Professional Documents
Culture Documents
عدد الكلمات:
1
فهرس المحتويات
2
المقدمة:
خلق هللا الناس مختلفين ،ولم يجعل التشابه سنته فيهم ،ولعل أحد أسرار الجمال يكمن في االختالف ،ولما كFFان العصFFر
العباسي أكثر عصور الدولة اإلسالمية تنوّعا ً على الصعيد االجتماعي والفكFFري واالقتصFFادي ...فقFFد كFFان التنFFوع الشFFعري
أبرز ما يميزه ،فإلى جانب األغراض التقليدية Fمن مدح وهجاء ورثFFاء وغFFزل ووصFFف ...بFFرزت أغFFراض أخFرى تحFاكي
الحياة بطبيعتها والناس بتوجهاتهم .ولعل ظاهرة التمFرّد في الشFعر تنسFجم مFع التوجهFات المتمFردة فكريFا ً واجتماعيFاً؛ فقFد
كانت الشعوبية حين شعر غير العرب بازدراء المسلمين لهم رغم حاجتهم لهم في تثبيت دعائم الدولة العباسية ،كما ظهFFرت
الزندقة حين شاع الخمر والمجFFون والحريFFة الفكريFFة ...ولمFFا كنت بطبعي إنسFFانا ً يكFFره النمطيFFة وينفFFر من المسFFلّمات؛ فقFFد
تو ّجهت في كتابة مقالتي هذه نحو الشاعر المتم ّرد الحسن بن هانئ المكنى بأبي نواس.
تمرد أبو نواس على العادات والتقاليد بافتخاره بفعل المحرمات ،باإلضافة إلى تمرده على الFFدين اإلسFFالمي الحFاكم في
ذلك الوقت .وتتمحور أهمية الموضوع حول الجرأة والالمباالة التي اتصف بها أبو نواس في حياته من تمرده على العFFادات
والتقاليد إلى تمرده على السلطة الدينية F،جاعلةً إياه أحد أشهر شعراء عصره.
بعFد القFراءة بشFكل مفصFل عن حيFاة أبي نFواس ونشFأته ،كFان من الصFFعب اختيFار سFؤال البحث؛ لكFFثرة المواضFيع
واألفكار المتعلقة بحياة الشاعر ومذهبه؛ لذلك قررت أن أتحدث عن حياة أبي نواس ونشFFأته ،واالتجFFاه الشFFعوبي في زمانFFه
الذي أفضى إلى شعوبيته ،إضافة إلى تمرده االجتماعي والديني .ولم تخل مسيرة البحثية من العقبات ،فقد كان أكبر تحٍ Fد لي
جمع المعلومات واألبيات الشعرية ووضعها في إطار ي ّوضح للقارئ توجهات الشاعر التمرّدية ،وقد تغلبت عليها من خالل
قراءة ديوان ابي نواس ،واختيار أنسب األبيات الشعرية التي ساهمت في اإلجابة على سؤالي الذي كان مفاده :
كيف تمثل التمرد في شعر أبي نواس؟
وقFFد قمت بوضFFع منهجيFFة لإلجابFFة على السFFؤال ،استعرضFت من خاللهFFا حيFاة الشFاعر وعصFFره ،منتقالً إلى مذهبFFه
الشعوبي وأسباب تمرده ،ومن ث ّم التحدث عن مختلف مظاهر التمرد عنFد أبي نFواس ،فبFدأت بFالتمرد على المقدمFة الطلليFة
باعتبارها أحد المتوارثات الفنية عند العرب ،ثم تطرقت للخمريات مظاهر التمFرد فيهFا ،والغFزل بالمFذكر باعتبFاره شFذوذاً
واختالفا ً عن المعهود ،ثم تطرّقت للتمرّد الديني والتزندق.
كان ديوان الشاعر أهم المصادر المسFتخدمة وأكثرهFا تركFFيزاً؛ وذلFك بسFبب قFراءتي للFFديوان واسFتخدامي للعديFFد من
األبيFات الFتي قمت بتحليلهFFا ،جFاعالً منهFا محFFور بحFFثي .كمFا اعتمFFدت على بعض الكتب والدراسFات الFFتي تضFمن البحث
توثيقها.
3
حياة أبي النواس وعصره:
كان مولد الحسن بن هانئ الملقب بأبي نواس عام١٤١هجري في مدينة Fاألحواز في خوزسFFتان ،أنFFه ذاق مFFرارة اليتم بوفFFاة
أبيه في طفولته ،بعد Fم ّدة وجيزة من انتقال العائلة إلى البصرة .فلم تهتم به أمFFه كثFFيراً ،حيث أرسFFلته إلى العطFFار ليعلمFFه القFFراءة
والحرف المختلفة .كان محبا ً للشعر والقراءة منذ صغره ،فكان يقFFرأ القFFرآن ويجلس في مجFFالس الFFدين مسFFتمعاً ،يكتسFFب الثقافFFة
وعلوم اللغة وقواعدها ،ولكن أمه فضلت التجارة .كان منزل أمه ملجFFأ لمحFFبي المتعFFة وروّاد الشFFهوات والمجFFون ،يقضFFون فيFFه
الوقت حتى أثناء وجوده؛ مما أدى إلى رسوخ هذه الممارسات نمطا ً كFFبر الحسFFن وهFFو يشFFاهده .وبعFFد أن تFFزوجت أمFFه من أحFFد
زائريها الماجنين ،زاد إهمالها له ،بل إنها تركته وحيداً ،فاحتضFنه والبFة بن الحبFاب الFذي كFان ماجنFا ً خليعFا ً من أهFل البصFرة،
وكان له أثر كبير في تكوين شخصية أبي نواس وبعض العقد النفسية التي تولّFFدت لديFFه .فكFFان يصFFطحب الحسFFن معFFه لحضFFور
مجالسه التي تنقسم إلى لهو وخالعة وشرب الخمرة ،واألشعار المتمحورة حول تلFك الممارسFات .حيث كFان أبFو نFواس يقضFي
معظم وقته مع هؤالء الماجنين ،يشربون ويعبثون ،ولعله بذلك اكتسب تلك الصفات منهم (ابو النصر.)١٩٧٠ ،
عاش أبو نواس في العصر العباسي الذي اختلف عن سابق الحضارات العربيFة اإلسFالمية بظهFور العديFد Fمن الممارسFات
المستَم ّدة من الحضارة الفارسية ،كما ش ّكل العنصر غير العربي أحد ركائز ذلك المجتمع؛ مما أدى إلى انتشFFار الفسFFق والمجFFون
واكتساب العرب تلك الممارسات البعيدة عن الدين والثقافة العربية المحافظة .فقد شهد العصر العباسي ظهور الحانFFات وانتشFFار
الفسق والمجون ،ولعل الخليفة األمين الذي كان رمزاً للفساد شFجّع مثFل هFذه الظFواهر وشFارك فيهFFا ،حتّى إنFFه كFان نFFديما ً ألبي
نواس .وهكذا لم يكن أبو نواس سوى أحد إفFFرازات عصFره ،فقFFد كFFانت الظFروف مهيئFFة لهFFذه الشخصFFية على صFعيد شخصFFي
واجتماعي أن تترعرع في تلك البيئة الماجنة التي ظهر فيها الخمر والفسق والمجFFون والغFFزل بالمFFذكر والشFFعوبية والزندقFFة ...
ليكون ابنا ً وفيا ً لتلك البيئة التي امتزجت فيها األجناس والديانات واألفكار المتناقضة ليظهر أبو نواس الذي رباه والبه بن الحباب
أن الرجFFل تFFاب في آخFFر حياتFFه وتزهّFFد وقصFFد الح ّج معلنFا ً
ونشأ بعيداً عنه حنان األم ورعاية األب .غير أن الروايات تشير إلى ّ
والءه للدين وهلل ( ...ابو النصر.)١٩٧٠ ،
كان أبو نواس أحد أتباع الحركة الشعوبية ومناصريها ،حيث ظهFر مفهFوم الشFعوبية في الحضFارة العربيFة اإلسFالمية
بسبب اختالط العرب المسلمين مع غير العرب من مختلف الحضارات والقوميات .وكان هذا نتيجFFة توسFFع الحضFFارة اإلسFFالمية
وسيطرتها على الكثير من الFFدول ذات الحضFارات القديمFة Fكبالد الFFروم والفFFرس وضFFمها للحكم العFFربي اإلسFFالمي (الهزايمFFة،
محمد ،)٢٠١٠ ،فعلى الرغم من مناداة اإلسالم بالمساواة بين مختلف األجناس واألديFFان ،إال أن المFFوالي وغFFير العFFرب شFFعروا
بالتمييز والكراهية من العرب المسلمين بسبب إبعادهم عن الحكم واستيالئهم على حضاراتهم وإجبار المFFوالي على دفFFع الجزيFFة
(شلبي .)١٩٨٣ ،فتولد الحقد ونشأ الفكر الشعوبي عند الفرس أوالً ،وقد تبنى بعض غير العرب هذا االتجاه االجتماعي لمحاربFFة
حضارات العرب المسلمين واالنتقام منهم ،وكان أبو نواس أحد مناصريه (العرفي.)١٩٧٩ ،
4
اشFFتهر العFFرب بكتابFFة الشFFعر وتوظيفFFه وسFFيلة لالفتخFFار بثقافFFاتهم وقومFFتيهم العربيFFة وتمجيFFد أحسFFابهم وأنسFFابهم
وانتصاراتهم ،والحط من شأن أعدائهم .وكانوا ينشدونه في أسواقهم وأفراحهم وأتراحهم؛ لذلك استخدم الشعوبيون الشعر سFFالحا ً
يهاجمون به العرب وثقافتهم .تبنّى الشعوبية عدة شعراء ،كان من أبرزهم أبو نFFواس الFFذي سّ Fخر شFFعره لمحاربFFة العFFرب ودعم
الشعوبية ،فسخر من العربي ومدح الفارسي .كذلك افتخر بنشر الخالعة والمجون وتقديس الخمريات في شعره ،ومحاربة الFFدين
اإلسالمي ومبادئه .وقد اتصفت القصائد العربية بوجود المقدمة الطللية التي كانت جزءاً من التقاليد الشعرية التي اتبعها الشFFعراء
منذ العصر الجاهلي إلى ما بعد عصر أبي نواس؛ ألنها تعبّر عن حياة العرب وحلّهم وترحالهم واهتماماتهم ،فهاجمها أبFو نFواس
ألنه لم يجدها إال مج ّرد تقليد للسابقين وتعبير عن حياة بعيدة عن واقعه األقرب إلى االستقرار بعيFFداً Fعن حيFFاة الباديFFة الFFتي عبّFFر
عنها الشعر القديم آنذاك (الهزايمة ،محمد.)٢٠١٠ ،
5
مظاهر التم ّرد في شعر أبي نواس
مثلت المقدمة الطللية حياة العرب القديمة ،فهي جزء من تراثهم وترمز إلى أصFFالتهم وثقFFافتهم؛ لFFذلك اتخFFذ أبFFو نFFواس
شعره منبراً يهاجم من خالله العرب المسلمين بتسفيه المقدمة الطللية وجعلها محطFا ً للسFFخرية .وقFFد عمFFل أبFFو نFFواس بFFذلك على
شرخ بين العربي وتراثه ،حيث دعا أن يستبدل بها وصف عادات من المجتمع المتحضر الذي يميل إلى االستقرار ،ولمFFا
ٍ إحداث
كان شاعرنا يعشق الخمرة وينادي بالمجون والخالعة ليحط من مثاليات العرب والمسFFلمين ،فقFFد نFFادى باسFFتبدال مقدمFFة خمريFFة
بهذه المقدمة التقليدية F،ولعل هذا كان بسبب ثورته ضد العرب ودعمه للشعوبية (شلبي .)١٩٨٣ ،ومن األمثلFFة على سFFخرية أبي
نواس على األطالل قوله:
كانت تحل بها هند وأسماء " لتلك أبكي وال أبكي لمنزلة
وأن تروح عليها اإلبل والشاء" (أبو نواس ،١٩٨٠،ص)٧ حاشا لدرة أن تبنى الخيام لها
يسخر أبو نواس في هFFذين البيFFتين من منFFازل العFFرب القFFدماء ومكانتهFFا لFFديهم ،فال تFFروق لFFه خيFFامهم المناسFFبة لحيFFاة
الصحراء التي تربى فيها اإلبل والشاء ،حيث ينفي بكاءه عليها ألنها ال تعني له شيئاً ،لكنه يبكي للخمFرة ومكانتهFا العاليFة عنFده،
فيقلل من شأن العرب وأصالتهم ،ويعزز من مكانة الفFFرس وحضFFارتهم ،ولعFFل ذكFFره أسFFماء نسFFاء عربيFFات (هنFFد وأسFFماء) في
معرض التفنيد يؤكد اتجاهه الشعوب ّي ،كما أنه يرفع من شأن الخمرة بFFذكر اسFFم اإلشFFارة الFFدال على البعFFد (تلFFك) ،ثم إن العFFرب
كانوا يبكون على األطالل بينما شاعرنا يبكي للخمرة وكأنFFه يتضFرّع في محرابهFFا ،ويFFذكر المFFرأة الفارسFFية (درة) وينزههFFا أن
تبنى لها الخيام ،كما أنه يذكر الفعل (تروح) ليجعله مزدوج الداللة (الرواح والرائحة) ،ث ّم إنه يذكر اإلبFFل والشFFاء باعتبارهFFا من
الحيوانات التي كانت تمثل صلب الحياة العربية في حلّها (الشاء) وترحالها (اإلبل).
ويجمع بين األطالل والخمرة في شعره ،رافعا ً من شأن الخمرة وساخراً من األطالل ،فيقول:
ينهى الشاعر مخاطبه – ولعله يخاطب نفسFFه – في هFFذين البيFFتين أن يسFFيء خطFFاب الخمFFرة أو يؤذيهFFا بFFذكر أسFFمائها
المكروهة ألنها تكره التباهي باألنساب ،ولعله بذلك يغمز بالعرب الذين يعدون التباهي باألنساب من أبرز شيمهم ،كما يFFدعو إلى
تجاوز الرسوم (األطالل) والكثبان (رمال الصحاري العربية) واللهو بالخمرة التي كنّى عن ذكرها بوصف ما كFFان أصFFلها حين
قال (ابنة العنب) ،فهو يفضل ذكر الخمرة صراحة على ذكر األطالل في مطالع القصائد .ويستمر أبو نواس في هجومه وانتقFFاده
وسخريته من العرب بقوله:
6
َوتُبلي عَه َد ِج َّدتِها ال ُخطوبُ األطالل تَسفيها الجنوبُ
َ َع
"د ِ
تَ ُخب بها النَّجيبةُ والنّجيبُ " (أبو نواس ،١٩٨٠،ص)٣٤ ب ال َوجْ نا ِء أرْ ضا ً
وخ ّل لِرا ِك ِ
َع" ،حيث يدعو إلى االبتعاد عن األطالل التي ال تعنيه ،كما ال يعنيFFه أي
يبدأ أبو نواس قصيدته باستخدام فعل األمر "د ِ
شيء متعلق بالعرب وتراثهم ،ثم إنه ال يأبه أن تسفي تلك األطال َل الري ُح الجنوبيةُ وأن تبليها الخطوب والمصائب مما يFFؤدي إلى
نسيانها ،ثم إنه يدعو للرحيل عن األرض العربية (خ ّل) التي يعتز فيها العرب بركوب اإلبل (الوجناء والنجيبة) فهFFو ال يريFFد أن
يبقى أو ينتمي لتلك األرض.
وهكذا ،كان التمرد على تقليد القدماء الFذين ذكFروا الطلFل في مطFالع قصFائدهم من خالل الFدعوة لالبتعFاد عنFه وذكFر
الخمرة في مقدمات القصائد باعتبارها تمثل حضارة الفرس بينما تمثل األطالل تخلف العرب وحضارتهم.
كان للخمرة مكانة كبيرة في حياة شاعرنا ،فقد عُرف أبو النواس بشغفه بشرب الخمرة التي كانت تشFFكل أحFFد مقومFFات
حياته .كذلك كان لها الدور األكبر في جعله أحد أشهر الشFعراء في زمانFه؛ ألنهFا اتخFFذت حيّFزاً رحبFا ً في قصFائده الFتي تمحFFور
معظم أفكارها حول وصف الخمرة ومكانتها .ولكنه لم يكن كغيره من الشعراء ،فقد كان يبFوح برذائلFه ويواجFه النFاس بمشFاكله،
فلم يخجل من إدمانه وهوسه وجنونه بهذا المشروب المسكر بل كان يفتخر وينFادي بهFا .لعFل السFبب الFرئيس خلFف هوسFه هFذا
وجود بعض العقد النفسية التي كان يحاول إخفاءها من خالل افتخاره فاقتراف المحرمات ،ولع ّل ذلFFك يعFFود إلى خجلFه من نسFبه
في عصر األنساب ،فقد شكلت عقدة النسب هذه خلال في شخصية شاعرنا ،فمن كان يظن أن هFFذا اإلنسFFان الFFذي يفتخFFر برذائلFFه
ويحويها في قصائده يعاني من عقدة نفسية قد تكون سببا الرتكابه جميع رذائله (العقاد.)١٩٦٨،
اختلف النقاد ومؤرخو األدب حول السبب الرئيس الذي أدى إلى إدمان شاعرنا على شرب الخمFFر ،ولكنهم اتفقFFوا على
أنها أصبحت بمكانة عشيقة له استولت على حياته ،بل أصبحت حياته كلّهFا؛ ممFا أدى إلى السFيطرة على قاموسFه الشFFعري ،فقFFد
استخدمها وسيلة يتمرد من خاللها على العرب والدين اإلسالمي الذي حرم شرب الخمر .ولهذا السبب نرى تكرار ذكFFر الخمFFرة
ووصفها في شعره الذي استخدمه وسيلة للتعبير عن أهميتها(العقاد.)١٩٦٨،
يدرك متأمل هذه األبيات مدى تعلق أبي نواس بالخمرة حين يتمنى أن يكون قريبا ً منها حتى بعFFد مماتFFه ،فهFFو يخFFاطب
خليليFه على سFبيل االلتمFاس مسFتذكراً خطFاب الشFعراء في مطFالع القصFائد القديمFة وذكFر الرحلFة بصFحبة الخليلين ،غFير أنFه
يدعوهما أن يجعال قبره في قطربّل حيث الخ ّمارات ومعاصFر الكFFروم ،ألنFه ال يحب أن يكFFون قريبFا ً من حقFول القمح والسFنابل
7
التي تمثل الحياة الرعوية ،ولكنه يف ّ
ض ل على كل ذلك سماع ضجة األرجل التي تعصر الخمر؛ لذلك يستخدم (لعل) والذي قد يدل
على التوقع أيضاً.
وقد بكى أبو نواس ،ولكن ما أبكاه لم يكن بكاء األطالل وما يتركه الراحلون من دمن وآثار ،فما الذي أبكى شاعرنا؟
وما بي من عشق ،فأبكي من الهجر "بكيت ،وما أبكي على دمن قفر،
فذاك الذي أجرى دموعي على النحر ولكن حديث جاءنا عن نبيّنا،
فلما نهى عنها بكيت على الخمر بتحريم شرب الخمر ،والنهي جاءنا،
أعزز فيها بالثمانين في ظهري" فأشربها صرفاً ،وأعلم أنني
(أبو نواس ،١٩٨٠،ص)٢٤٣
ك في حياتFFه بسFFبب
تظهر لنا هذه األبيات أن الخمرة هي نقطة الضعف الوحيدة عند أبي النواس ،حيث يشFFير أنFFه لم يبِ F
هجر المحبوبة ورحيلها عن ديارها ،كما لم يبك األطالل التي أقفرت من أهلها وخلت من األحبة ،ولكن مFFا يبكيFFه حFFديث تحFFريم
الخمر الذي سمعه عن النبي .ولعل المالحظ يجد أن الشاعر ال يعترف بتحريم الخمر في القرآن ،كما أنه يقول (حديث جاءنا عن
نبينا) ولم يقل (من نبيّنا) زيادة في التشكيك بصحة روايFFة الحFFديث ،ثم يFبين أن دموعFFه جFرت على نحFره (عنقFه) ولم يقFFل على
ّ
ووضFح في الFبيت خديه أو وجنتيه كناية عن غFزارة تلFFك الFدموع .ثم يعلن مجاهرتFه في شFربها بعFFدما بيّن بكFFاءه على فراقهFFا،
األخير من المقطع أنه يشربها صافية غير ممزوجة وال مخففة بالماء (صرفاً) وهو يعلم ّ
أن سيعاقب بحّ Fد شFFرب الخمFFر (ثمFFانين
جلدة في ظهره) ولع ّل شاعرنا لم يأبه لذلك العقاب؛ ألنه كFFان يعلم ّ
آن بعض والة األمFFر كFFانوا يشFFربون الخمFFر وينادمونFFه ،فهFFل
سيُح ّدون بالجلد ليح ّد هو؟!
يعد أبو نواس من أشهر شعراء الخمر؛ فمن الطبيعي أن يتفنن في وصف معشوقته وبيFFان لونهFFا وجمالهFFا في الكFFأس،
بل لقد جعلها معشوقته التي أغنته عن ذكر النساء ،وليس أجمل من مزج جمال المرأة بجمال الخمرة وتأثير كل منهما عليه ،فهFFا
هو يقول:
واشرب على الورد من حمراء كالورد "ال تبك ليلى ،وال تطرب إلى هند
أجدته حمرتها في العين والخ ِّد كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها
من كفِّ جارية ممشوقة الق ّد فالخمر ياقوتةٌ ،والكأس لؤلؤةٌ
خمراً فما لك من سكرين من ب ِّد تسقيك من عينها خمراً ،ومن يدها
شي ٌء خصصت به من بينهم وحدي" (أبو نواس ،١٩٨٠،ص)١٨٠ لي نشوتان ،وللندمان واحدةٌ
ينهى الشاعر نفسه زاجراً أن يبكي ليلى أو أن ينتشي لذكر هند ،ونراه هنا يستخدم اسFFمين عربFFيين من أسFFماء النسFFاء،
ليع ّمق فكرة السخرية من البكاء على األطالل أو التغزل بالنساء العربيات في نزعFFة شFFعوبية واضFFحة ،ويFFدعو للشFFرب والغFFزل
بالمرأة الساقية .ويذكر بعض صفات تلك الخمرة مبينا ً أثرها على شاربها ،حيث تسبب احمرار الوجه والعينين F،ث ّم إنه يكFFني عن
ذكر لونها بذكر الياقوتة الحمراء ،ويكني عن ذكر لون الكأس ببيان لونه األبيض الالمع كاللؤلؤ ،ث ّم ينتقل لوصف الساقية متغزالً
8
بق ّد ها الممشوق ومدى سحر نظراتها ،وكأنها تسكره بنظراتها الساحرة قبل أن تسكره بما تصبه من الخمر؛ مما يؤدي إلى سFFكره
مرتين رغم أن باقي السكارى يكتفون بسبب واحد للسكر والنشوة؛ وهكذا نجد الشاعر يخص نفسه بسكرين :من الجارية الساقية
ومن الخمرة المشروبة .ونجد الشاعر في هذه األبيات يشبه الخمر بالياقوت والكأس باللؤلؤ بتشبيه بليغ ال وجه للشبه وال أداة فيه
للمبالغة في بيان اقتراب الصورة ،ولعل الشاعر يجعل المشبه به من الآللئ واليواقيت الثمينة كناية عن ارتفاع القيمة ،ولإلشFFارة
إلى البيئة الثرية التي كانت الخمرة تعاقَر فيها .ثم إنه يخص نفسFFه بنشFFوتين داللFFة على مFFدى قربFFه من الخمFFرة والمFFرأة السFFاقية
ليتأثر هذا التأثر العظيم بهما.
ومن ناحية آخرى ،حاول شاعرنا من خالل هذا الوصف والتشبيه أن يجذب القFرّاء للوقFFوع في حب الخمFرة .فبوصFفه
هذا النابض من داخلFFه والمفعم بحبFFه الحقيقي الصFادق للخمFرة ،نFFرى صFFورة جماليFFة جديFFدة تبعث في نفس القFFارئ الرغبFFة في
شربها والشعور بمفعولها .ومن هنا يشجّع أبو نFFواس على شFرب الخمFFرة والتمFFرد الFFديني صFFانعا من قصFFائده ووصFفه للخمFFر،
حركة شعرية تدعو إلى عدم االهتمام بالدين وقوانينه وتركز على السFFعي للسFFعادة والحريFFة عن طريFFق معاقرتهFFا (أبFFو النصFFر،
.)١٩٧٠
إن فيها لموضعا للمقال" (أبو نواس ،١٩٨٠،ص)٤٨٩ ولعمر المدام إن لمت فيها
يجعل أبو نواس الخمرة موضعا ً للقول رغم أنه قد يالم على ذكرها ،ويجعلها تشبه كFFل شFFيء حسFFن طيب لذيFFذ صFFاف
"زالل" ،وقبل ذلك يصفها بالبكر كناية عن الجمال والعنفوان وش ّدة التأثير.
شكلت جميع هذه األبيات دالئل مختلفة تؤكد استحقاق شاعرنا لقب المتمرد الديني فنراه يصف مكانة الخمرة وحبه لهFFا
من خالل قصائده والتي يتحدى بها الدين الذي يحرّم الخمFFرة تحريمFا ً واضFFحا ً وكFFذلك القFFوانين واألعFFراف االجتماعيFFة العربيFFة
واإلسالمية ،فهو غير مبا ٍل بعواقب أفعاله.
يكتف أبو نواس بشرب الخمر وانتقاد العرب وتراثهم ،بل اكتسب لقب شاعر التمرد على القيم االجتماعيFFة المرعيFFة
ِ لم
حين كان يمارس المجون ويتغزل بالمذكر في شعره .ولعل واحداً من أسباب شذوذه هذا كان بسFبب معاشFرته لوالبFة بن الحبFاب
ومجالسة أصدقائه الماجنين ،فقد ترعرع بينهم واكتسب كثيراً من صفاتهم (الشكعة .)١٩٨٠ ،هذا إضافة إلى أن ظFFاهرة الشFFذوذ
والغزل بالمذكر كانت في عصره بسبب اختالط الشعوب والثقافFFات المختلفFFة ،كمFFا كFانت بسFFبب كFFثرة الجFواري واإلمFFاء كFFثرة
جعلت الرجال يعرضون عن طلب النساء شهوة ،والميل لجنس الذكور لوجود بعض الذكور من الشواذ والخصيان في القصور،
وقد كانت النساء يتشبهن بالذكور ليصبحن أكثر طلبا ً ّ
فكن يرسمن شوارب من الخضاب والزعفران ،بينما كان الFFذكور يرجّلFFون
شعورهم الطويلة ويتمايلون في مشيتهم ويرققون أصواتهم ليستميلوا طالبي الشهوة منهم (خليف .)١٩٨١ ،وهكذا كFFانت ظFFاهرة
الشذوذ الجنسي جديدة في الحضارة اإلسالمية ،وكان وجودها تمFرداً على سFلطة الFدين اإلسFالمي السFائدة آنFذاك .ونحن نعلم أن
(ولُوطًFا ِإ ْذ قَ َ
Fال الشذوذ الجنسي وممارسة اللواط تع ّد من الفواحش التي نهى هللا عنهFا وذب قFوم لFوط بسFببها ،حيث قFال تعFالىَ :
9
لِقَوْ ِم ِه َأتَْأتُونَ ْالفَا ِح َشةَ َما َسبَقَ ُك ْم بِهَا ِم ْن َأ َحٍ Fد ِمنَ ْال َعFالَ ِمينَ ِ .إنَّ ُك ْم لَتَْFأتُونَ ال ِّر َج Fا َل َشْ Fه َوةً ِم ْن دُو ِن النِّ َسFا ِء بَFلْ َأ ْنتُ ْم قَFوْ ٌم ُم ْسِ Fرفُونَ )...
(القرآن الكريم ،سورة األعراف).
مولع القلب بالغالم الظريف" (أبو نواس ،١٩٨٠،ص)٤٢٥ "من يكن يعشق النساء فإني
يعلن أبو نواس في هذا البيت ولع قلبه وشدة تعلقه بالغالم الظريFف ،رغم تعلFق غFيره من النFاس بالنسFاء ،ثم إنFه يFأتي
(إن) ،كما يجعل تعلق الناس بالنساء عشقا ً بينما عبّر عن عالقته بFFالغالم الظريFFف أنهFFا ولFFع القلب وهي
ببيان ذلك مؤكداً بحرف ّ
درجة في الحب أعلى من مجرد العشق ،ولعل هذا اإلعالن بعد اسم (من) النكرة الذي قد يكون لالستفهام أو للشرط ،جاء للتعبير
ّ
يقصFر بوصFFفه وبيFFان عن النفس بعد بيان االتجاه العام للغزل عند الناس هو الميل للنساء .وحين يذكر الفتى الFFذي يتغFFزل بFFه ال
جماله األخاذ من خالل التصوير واإليحاء باإلغراء .فها هو يقول:
ــ ِه يُـنَـاغي اليَــا َسـ ِمــينـَـــا تَحْ ـ َسـبُ ال َورْ َد ب َخـ ّديْـ
نَــظَــراً ِز ْد ُ
ت جُنــونَــا ت إلَـيْـــ ِه كلّما ْ
از َد ْد ُ
َحلّ ِ
ت ال ِخ ْد َر ِسنينَا" (أبو نواس ،١٩٨٠،ص)٦١٠ ظَ ّل يَ ْسقِينَا ُمداماً،
يصف أبو نواس الفتى المتغ ّزل به ،ويبين أنه كان أحد السقاة البارعين ،وفي مسته ّل المقطFFع يصFFفه أنFFه بFFديع الحسFFن،
وقد تفوق بجماله على الغزال في الحسن والجمال واللين لكثرة تمايله ورقّته ،ث ّم يصف احمرار خديه وبياض عينيه بFFورد أحمFFر
يناغي ويداعب الياسمين ،ثم إن النظر إليه يزيد التعلق به ،ويربط بينه وبين مجلس الشFFراب حين يFFذكر أنFFه كFFان سFFاقياً .وينتقFFل
ببراعة ليصف الخمرة التي كان يسقيها ذاك الغالم .فهي خمرة معتقة بقيت سنين في مخدعها (خدرها) بعيداً Fعن أيدي الشFFاربين
وأنظارهم .ونالحظ بدء المقطع الشعري بواو رُبّ التي تد ّل هنا على التكثير لنتبيّن Fأن لغزل بالمذ ّكر كان ظاهرة شFFائعة ولم يكن
مقتصراٍ على أبي نواس ،ثم يأتي بالتأكيد بحرف التحقيق (قد) قبل الفعل الماضي ليدل على مدى جمال هFFذا المتغ ّ Fزل بFFه ،وحين
أتى بالتشبيه جاء بالفعل (تحسب) للداللة على أن المرء يقع في الشك لشدة الشبه بين خد الغالم والورد األحمFFر ،ث ّم إنFFه يشFFخص
األزهار في استعارة مكنية Fتجعل الورد له (المناغاة) وهي من صفات الناس .ثم جاء بما يد ّل على االسFFتمرار مFFرتين (كلمFFا )...
و(ظ ّل )...ثم إنه ربط بين الغالم المتغزل به وبين الخمرة المطلوبة التي كثFFيراً مFFا تغّ Fزل الشFFاعر بهFFا وجعلهFFا عروسFا ً وامFFرأة
مخبوءة في خدرها ،وبكراً ...ليجعل لذلك الغالم أكثر مقبولية لديه ولدى كل من يدورون في فلكه.
ب ض ْع ٍ
س كثي ِ على ِ قضيب البا ِن يهت ّز
َ يا
10
ب
كالم من قري ِ
أو ٍ بسالم،
ٍ قد رضينَا
ب
وبتعظيم الصّلي ِ
ِ فبروح القُدس عيسى،
ِ
يخاطب الشاعر من يمكن أن يوصل كالمه لهذا الغالم أن يخبره رسالة من الشاعر .وال ينسى أبو نواس أن يصف هذا
الغالم أن طرفه (نظرته) تخلب اللب ،وقد جاء الشاعر بصيغة المبالغة (الخلوب) ليد ّل على مدى تFFأثيره على من ينظFFر إليFFه ،ثم
يذكر فيه صفة التثني والتمايل التي تميل القلب إليه ،ولعل توظيف الجناس (يثني والتثFFني) يخلFFق جّ Fواً إيقاعيFا ً داخليFا ً يبعث على
التطريب كما يجعل المتلقي يفكر في اللفظ مرتين بمعنيين Fمختلفين أولهما الميل القلبي والثاني والتمايل والدالل ،وبعد ذلك يشFFير
الشاعر إلى اكتفائه من ذلك الفتى بالسالم أو الكالم من قريب ،ثم يشير إلى ديانتFFه حين يFFذكر (روح القFFدس وعيسFFى والصFFليب)
وهي من المقدسات المسيحية التي يقسم عليه بها أن يقف إذا وصله ثم يسلّم عليه .ويناديه الشاعر بوصف (حبيبي) جاعالً حرف
النداء صالحا ً للقريب والبعيد F،وفق الحالة التي يكFFون عليهFFا المخFFاطب .ولعFFل الشFFاعر يFFأتي على ذكFFر ظFFاهرة سFFقاة الخمFFر في
األديرة من الغلمان أم الفتيات اللواتي كن يسمحن بمغازلتهن من مرتادي تلك األديرة لغFFرض شFFرب الخمFFرة غFFير المحرّمFFة في
الديانة المسيحية التي تجعل من أولئك الغلمان رهبانا ٍ محجمين عن الزواج؛ مما يتيح الفرصة لغزلهم والتغزل بهم.
كان أبو نواس يفتخر بزندقته وتمرّده على الدين في شعره وينادي بFFالكفر؛ ولعFFل ذلFFك ألنFFه كFFان يربFFط بين الحضFFارة
Fف بFFالتمرد على العFFادات والتقاليFFد والFFدين اإلسFFالمي من خالل
اإلسFFالمية والعFFرب الFFذين تمFFرد عليهم بشFFعوبيته ،ث ّم إنFFه لم يكتِ F
معاقرته للخمرة وحبه وغزله بالمذكر ،فقد كان متمرداً على الدين بمجاهرته بفعل المحرمات ،وأدت زندقته وهجومه على الدين
علم بزندقFFة أبي نFFواس في شFFعره ،سFFمع على األرجح بقصصFFه ،مثFFل دخولFFه المسFFجد –
إلى دخولFFه السFFجن .ومن لم يكن على ٍ
وسماعه الشيخ يتلوى" :قل أيها الكافرون" ،حيث كان ورده" :لبيك" ،فشرب في المساجد والمجالس الدينيFة FوشFFجع على الفسFFاد
والزندقة (العقاد .)١٩٦٨ ،ومن األمثلة على الزندقة في شعره قوله:
فهو يتعمد نداء أحمد؛ ألن هذا االسم يشير إلى اسم الرسول الكريم حيث يصفه بأنه المرتجى في النائبات وأنه سيّده ،ثم
يدعوه إلتيان أفعال العصيان ،ويص ّر ح بتحدي هلل حين يقول (جبار السماوات) فهو يتحدى الجبار وال يخافه! ويدعو سم ّي النFFبي
أو النبي نفسه دون تورّع أو تأثّ م .وها هو ينكر الجنة والنار بعد الموت ويعلن انصرافه للغواية والكفر الصريح حين يقول:
وصرفت معرفتي إلى اإلنكار " فدعي المالم فقد أطعت غوايتي
في جنة مذ مات أو في نار" (أبو نواس ،١٩٨٠،ص ) ما جاءنا أح ٌد يخبِّر أنه
11
يدعو مخاطبته أن تترك لومه وتقريعه على فعلFFه المحرمFFات وإتيانFFه المنكFFرات؛ فهFFو ال يبFFالي بFFذلك ويعلن أنFFه يطيFFع
غوايته ويحول معرفته اليقينية إلى اإلنكار الذي هو أقوى من الشك ،ولعل صرف المعرفة فيه تأكيد FاالبتعFFاد والكفFFر على علم ال
عن جهل وعدم دراية .فهو يعرف ويحرف وفي البيت البيت الثFFاني ينفي أن يكFFون أحFFد جFFاء ليخFFبر أن هنFFاك جنFFة أو نFFاراً بعFFد
المFFوت ،فكFل من مFاتوا لم يعFFودوا ليخFFبروا من بقFوا عمFا وجFدوا بعFFد تجربFFة المFوت؛ فهFFو ينكFر المغيبFات ممFFا علم من الFFدين
بالضرورة عن طريق القرآن والحديث النبوي وال يؤمن إال بما أخبر به من مات من الناس؛ فلما انتفت المعرفFFة الماديFFة بالسFFمع
انتفى اإليمان.
وجاء في إعالن كفره وزندقته تض ّجره من الصوم وشهر رمضان الذي منعه من شرب الخمر فقال:
يعلن أبو نواس في هFذه األبيFات امتعاضFه من شFهر الصFيام الFذي منFع العقFار واللهFو المجFون الFذي غFار واضFمحل
بقدومه ،فقد أعرض الناس عن المنكرات وتمسFكوا بالطاعFات ،ثم يصFف الصFFوم أنFFه سFجان وأن الصFائمين يقبعFFون في سFجنه
مهمومين مغمومين أسارى حيث ال لهو وال شراب وال مجFFون ،ولكنFFه يعلن أنFFه سيسFFتغفل ويخفي معاصFFيه ع ّمن ال يخفى عليFFه
شيء ،ولعلنا نرى ما كان عليه الشاعر من التظ ّر ف في التزندق حيث إنه يؤمن بإخفاء المنكرات عن هللا العليم الذي ال يخفى ليه
شيء ،ولعل ذلك في لحظات اسياق وراء الشهوة واإلدمان ،فهو يشرب ورفاقه في الليل حتى الصباح بكؤوس صFFغيرة وكبFFيرة،
فهل يكني بذلك عن صيامه في النهار وسكره في الليل؟! أم أنه يعلن امتعاضه من نهار شهر رمضان عموماً؟
وهكذا نجد أن أبا نواس كان يعلن زندقته وعصيانه هلل ،باعتبار ذلFFك من متطلبFFات المجFFون وشFFرب الخمFFر والتظFرّف
والغزل ،ألن الدين يمنع كل ذلك ويعتبره معاصي يحاسب عليها المرء؛ فأعلن أبو نواس براءتFه من اإليمFان بالحسFاب والعقFاب
بعد الموت ،فغدا متمرّداً على الدين وأركانه ومقتضياته.
12
الخاتمة
كانت رحلة بحثية تحليلية ممتعة هذه التي أتاحت لي فرصة التعرف على شاعر صادق التعبير عما يجول في خFFاطره،
فقد كان أبو نواس ابنا ً شرعيا ً لعصره ،فقد كان عصره يع ّج باالختالف والمتناقضات ،فعبّر عن ذلFFك بصFFدق ،وكFFانت الظFFروف
االجتماعية التي أنجبته كفيلة بأن تخلق منه شاعراً متمرداً.
تم ّرد أبو نواس على كل إفرازات الحضارة العربية اإلسالمية؛ انطالقا ً من مذهب الشعوبية التي كان يؤمن بFFه ويFFدعو
له ،فقد تم ّرد على المقدمة الطللية التي كان العرب يق ّدسFFونها فنيFا ً ويتوارثونهFFا ،فFFدعا إلى مقدمFFة من نFFوع آخFFر تقFFوم على ذكFFر
الخمرة ،لتكون الخمرة مدخالً آخر من مداخل تمرده الشعري واالجتماعي واألخالقي ،غير أنFFه لم يكن ليعFFاقر الخمFرة لFFوال أنFFه
وجد له ندماء من ذوي الشأن واألمر والنهي ،كما وجد بيئة خصبة للقول فيها ووصفها وبيان أثرها ،ليكون شاعر الخمFFرة األول
بال منازع .وكان الغزل بالمذكر والمجون من مظاهر العصFر العباسFي الفنيFFة واالجتماعيFFة؛ لكFFثرة الجFFواري وإعFFراض النFFاس
عنهن ووجود الخلعاء الم ّجان الذين تربى الشاعر في كنف أحدهم ،فكان هذا مدعاة للغزل بالمFذكر ليكFون تمFرداً على مFا تعFوده
ّ
العرب من غزل بالنساء .وكان التزندق وإعالن الكفر بمFFا علم من الFFدين من موضFFوعات التمFFرد لديFFه؛ ألن الFFدين من مقومFFات
الحضارة التي احتلت بالد فارس منبع الشعوبية.
وهكذا كانت حياة الشاعر وبيان شFعوبيته مFFدخالً مناسFبا ً لإلجابFFة عن سFؤال البحث (كيFف تمثFل التمFFرد في شFFعر أبي
نFFواس؟) وإني إذ آمFFل آن أكFFون وفيت الموضFFوع حقFه بحثFا ً وتحليالً ،فFFإنني أدعFFو إلى دراسFFات مستفيضFFة في تراثنFFا الشFFعري
لظواهر أخرجته عن نمطيته وأغراضه التقليدية ،ثم إنني أدعو إلى نظرة تحليلية للشعر تقوم على تقصي فنياته وجمالياته إضافة
إلى ربطه بعصره وحياة الشاعر وظروفه التي أفرزت هذا الشعر.
13
قائمة المراجع:
القرآن الكريم.
أبو النصر ،عمر .)١٩٧٠( .أبو نواس ـ حياته الجنسية ولياليه الصاخبة وغرامياته وعبثه ولهوه ومباذله .بيروت.
الشكعة ،مصطفى .)١٩٨٠( .الشعر والشعراء في العصر العباسي( .الطبعة الخامسة) .بيروت :دار العلم للماليين.
العقاد ،عباس محمود .)١٩٦٨( .أبو نواس ـ الحسن بن هانئ( .الطبعة االولى) .بيروت :دار الكتاب العربي.
الهزايمة ،فاروق .محمد ،محمد عبد المجيد .)٢٠١٠( .الشعوبية بين التأصيل النظري والممارسة العملية :أبو نواس نموذجا ً.
(العدد ،٢٢ Fمجلد .)٢مصر :مجلة الدراسات العربية (كلية دار العلوم -جامعة المنيا).
خليف ،يوسف .)١٩٨١( .تاريخ الشعر في العصر العباسي .القاهرة :دار الثقافة للطباعة والنشر.
شلبي ،سعد إسماعيل .)١٩٨٣( .الشعر العباسي ــ التيار الشعبي .القاهرة :مكتبة غريب.
14