You are on page 1of 14

‫المقالة المطولة‬

‫اللغة العربية (أ) المستوى العادي‬

‫التمرد في شعر أبي نواس‬


‫‪:‬كيف تمثل التمرد في شعر أبي نواس؟ سؤال البحث‬

‫اسم الطالب‪ :‬إبراهيم جرار‬

‫المعلمة‪ :‬سناء عابد‬

‫عدد الكلمات‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫فهرس المحتويات‬

‫الصفحة (‪)٣‬‬ ‫مقدمة‬


‫الصفحة (‪)٤‬‬ ‫حياة أبي نواس وعصره‬

‫الصفحة (‪)٥-٤‬‬ ‫شعوبية ابي نواس‬

‫الصفحة (‪)٧-٦‬‬ ‫مظاهر التمرد في شعر أبي نواس‬


‫الصفحة (‪)٧-٦‬‬ ‫التمرد على المقدمة الطللية‬
‫الصفحة (‪)٨-٧‬‬ ‫خمريات أبي نواس وتمرده‬
‫الصفحة (‪)١١-٩‬‬ ‫تمرده بغزله بالمذكر‬
‫الصفحة (‪)١٢-١١‬‬ ‫التمرد على الدين اإلسالمي‬
‫الصفحة (‪)١٣‬‬ ‫خاتمة‬

‫‪2‬‬
‫المقدمة‪:‬‬
‫خلق هللا الناس مختلفين‪ ،‬ولم يجعل التشابه سنته فيهم‪ ،‬ولعل أحد أسرار الجمال يكمن في االختالف‪ ،‬ولما ك‪FF‬ان العص‪FF‬ر‬
‫العباسي أكثر عصور الدولة اإلسالمية تنوّعا ً على الصعيد االجتماعي والفك‪FF‬ري واالقتص‪FF‬ادي‪ ...‬فق‪FF‬د ك‪FF‬ان التن‪FF‬وع الش‪FF‬عري‬
‫أبرز ما يميزه‪ ،‬فإلى جانب األغراض التقليدية‪ F‬من مدح وهجاء ورث‪FF‬اء وغ‪FF‬زل ووص‪FF‬ف‪ ...‬ب‪FF‬رزت أغ‪FF‬راض أخ‪F‬رى تح‪F‬اكي‬
‫الحياة بطبيعتها والناس بتوجهاتهم‪ .‬ولعل ظاهرة التم‪F‬رّد في الش‪F‬عر تنس‪F‬جم م‪F‬ع التوجه‪F‬ات المتم‪F‬ردة فكري‪F‬ا ً واجتماعي‪F‬اً؛ فق‪F‬د‬
‫كانت الشعوبية حين شعر غير العرب بازدراء المسلمين لهم رغم حاجتهم لهم في تثبيت دعائم الدولة العباسية‪ ،‬كما ظه‪FF‬رت‬
‫الزندقة حين شاع الخمر والمج‪FF‬ون والحري‪FF‬ة الفكري‪FF‬ة‪ ...‬ولم‪FF‬ا كنت بطبعي إنس‪FF‬انا ً يك‪FF‬ره النمطي‪FF‬ة وينف‪FF‬ر من المس‪FF‬لّمات؛ فق‪FF‬د‬
‫تو ّجهت في كتابة مقالتي هذه نحو الشاعر المتم ّرد الحسن بن هانئ المكنى بأبي نواس‪.‬‬
‫تمرد أبو نواس على العادات والتقاليد بافتخاره بفعل المحرمات‪ ،‬باإلضافة إلى تمرده على ال‪FF‬دين اإلس‪FF‬المي الح‪F‬اكم في‬
‫ذلك الوقت‪ .‬وتتمحور أهمية الموضوع حول الجرأة والالمباالة التي اتصف بها أبو نواس في حياته من تمرده على الع‪FF‬ادات‬
‫والتقاليد إلى تمرده على السلطة الدينية‪ F،‬جاعلةً إياه أحد أشهر شعراء عصره‪.‬‬
‫بع‪F‬د الق‪F‬راءة بش‪F‬كل مفص‪F‬ل عن حي‪F‬اة أبي ن‪F‬واس ونش‪F‬أته‪ ،‬ك‪F‬ان من الص‪FF‬عب اختي‪F‬ار س‪F‬ؤال البحث؛ لك‪FF‬ثرة المواض‪F‬يع‬
‫واألفكار المتعلقة بحياة الشاعر ومذهبه؛ لذلك قررت أن أتحدث عن حياة أبي نواس ونش‪FF‬أته‪ ،‬واالتج‪FF‬اه الش‪FF‬عوبي في زمان‪FF‬ه‬
‫الذي أفضى إلى شعوبيته‪ ،‬إضافة إلى تمرده االجتماعي والديني‪ .‬ولم تخل مسيرة البحثية من العقبات‪ ،‬فقد كان أكبر تح‪ٍ F‬د لي‬
‫جمع المعلومات واألبيات الشعرية ووضعها في إطار ي ّوضح للقارئ توجهات الشاعر التمرّدية‪ ،‬وقد تغلبت عليها من خالل‬
‫قراءة ديوان ابي نواس‪ ،‬واختيار أنسب األبيات الشعرية التي ساهمت في اإلجابة على سؤالي الذي كان مفاده ‪:‬‬
‫كيف تمثل التمرد في شعر أبي نواس؟‬
‫وق‪FF‬د قمت بوض‪FF‬ع منهجي‪FF‬ة لإلجاب‪FF‬ة على الس‪FF‬ؤال‪ ،‬استعرض‪F‬ت من خالله‪FF‬ا حي‪F‬اة الش‪F‬اعر وعص‪FF‬ره‪ ،‬منتقالً إلى مذهب‪FF‬ه‬
‫الشعوبي وأسباب تمرده‪ ،‬ومن ث ّم التحدث عن مختلف مظاهر التمرد عن‪F‬د أبي ن‪F‬واس‪ ،‬فب‪F‬دأت ب‪F‬التمرد على المقدم‪F‬ة الطللي‪F‬ة‬
‫باعتبارها أحد المتوارثات الفنية عند العرب‪ ،‬ثم تطرقت للخمريات مظاهر التم‪F‬رد فيه‪F‬ا‪ ،‬والغ‪F‬زل بالم‪F‬ذكر باعتب‪F‬اره ش‪F‬ذوذاً‬
‫واختالفا ً عن المعهود‪ ،‬ثم تطرّقت للتمرّد الديني والتزندق‪.‬‬
‫كان ديوان الشاعر أهم المصادر المس‪F‬تخدمة وأكثره‪F‬ا ترك‪FF‬يزاً؛ وذل‪F‬ك بس‪F‬بب ق‪F‬راءتي لل‪FF‬ديوان واس‪F‬تخدامي للعدي‪FF‬د من‬
‫األبي‪F‬ات ال‪F‬تي قمت بتحليله‪FF‬ا‪ ،‬ج‪F‬اعالً منه‪F‬ا مح‪FF‬ور بح‪FF‬ثي‪ .‬كم‪F‬ا اعتم‪FF‬دت على بعض الكتب والدراس‪F‬ات ال‪FF‬تي تض‪F‬من البحث‬
‫توثيقها‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫حياة أبي النواس وعصره‪:‬‬
‫كان مولد الحسن بن هانئ الملقب بأبي نواس عام‪١٤١‬هجري في مدينة‪ F‬األحواز في خوزس‪FF‬تان‪ ،‬أن‪FF‬ه ذاق م‪FF‬رارة اليتم بوف‪FF‬اة‬
‫أبيه في طفولته‪ ،‬بعد‪ F‬م ّدة وجيزة من انتقال العائلة إلى البصرة‪ .‬فلم تهتم به أم‪FF‬ه كث‪FF‬يراً‪ ،‬حيث أرس‪FF‬لته إلى العط‪FF‬ار ليعلم‪FF‬ه الق‪FF‬راءة‬
‫والحرف المختلفة‪ .‬كان محبا ً للشعر والقراءة منذ صغره‪ ،‬فكان يق‪FF‬رأ الق‪FF‬رآن ويجلس في مج‪FF‬الس ال‪FF‬دين مس‪FF‬تمعاً‪ ،‬يكتس‪FF‬ب الثقاف‪FF‬ة‬
‫وعلوم اللغة وقواعدها‪ ،‬ولكن أمه فضلت التجارة‪ .‬كان منزل أمه ملج‪FF‬أ لمح‪FF‬بي المتع‪FF‬ة وروّاد الش‪FF‬هوات والمج‪FF‬ون‪ ،‬يقض‪FF‬ون في‪FF‬ه‬
‫الوقت حتى أثناء وجوده؛ مما أدى إلى رسوخ هذه الممارسات نمطا ً ك‪FF‬بر الحس‪FF‬ن وه‪FF‬و يش‪FF‬اهده‪ .‬وبع‪FF‬د أن ت‪FF‬زوجت أم‪FF‬ه من أح‪FF‬د‬
‫زائريها الماجنين‪ ،‬زاد إهمالها له‪ ،‬بل إنها تركته وحيداً‪ ،‬فاحتض‪F‬نه والب‪F‬ة بن الحب‪F‬اب ال‪F‬ذي ك‪F‬ان ماجن‪F‬ا ً خليع‪F‬ا ً من أه‪F‬ل البص‪F‬رة‪،‬‬
‫وكان له أثر كبير في تكوين شخصية أبي نواس وبعض العقد النفسية التي تولّ‪FF‬دت لدي‪FF‬ه‪ .‬فك‪FF‬ان يص‪FF‬طحب الحس‪FF‬ن مع‪FF‬ه لحض‪FF‬ور‬
‫مجالسه التي تنقسم إلى لهو وخالعة وشرب الخمرة‪ ،‬واألشعار المتمحورة حول تل‪F‬ك الممارس‪F‬ات‪ .‬حيث ك‪F‬ان أب‪F‬و ن‪F‬واس يقض‪F‬ي‬
‫معظم وقته مع هؤالء الماجنين‪ ،‬يشربون ويعبثون‪ ،‬ولعله بذلك اكتسب تلك الصفات منهم (ابو النصر‪.)١٩٧٠ ،‬‬

‫عاش أبو نواس في العصر العباسي الذي اختلف عن سابق الحضارات العربي‪F‬ة اإلس‪F‬المية بظه‪F‬ور العدي‪F‬د‪ F‬من الممارس‪F‬ات‬
‫المستَم ّدة من الحضارة الفارسية‪ ،‬كما ش ّكل العنصر غير العربي أحد ركائز ذلك المجتمع؛ مما أدى إلى انتش‪FF‬ار الفس‪FF‬ق والمج‪FF‬ون‬
‫واكتساب العرب تلك الممارسات البعيدة عن الدين والثقافة العربية المحافظة‪ .‬فقد شهد العصر العباسي ظهور الحان‪FF‬ات وانتش‪FF‬ار‬
‫الفسق والمجون‪ ،‬ولعل الخليفة األمين الذي كان رمزاً للفساد ش‪F‬جّع مث‪F‬ل ه‪F‬ذه الظ‪F‬واهر وش‪F‬ارك فيه‪FF‬ا‪ ،‬حتّى إن‪FF‬ه ك‪F‬ان ن‪FF‬ديما ً ألبي‬
‫نواس‪ .‬وهكذا لم يكن أبو نواس سوى أحد إف‪FF‬رازات عص‪F‬ره‪ ،‬فق‪FF‬د ك‪FF‬انت الظ‪F‬روف مهيئ‪FF‬ة له‪FF‬ذه الشخص‪FF‬ية على ص‪F‬عيد شخص‪FF‬ي‬
‫واجتماعي أن تترعرع في تلك البيئة الماجنة التي ظهر فيها الخمر والفسق والمج‪FF‬ون والغ‪FF‬زل بالم‪FF‬ذكر والش‪FF‬عوبية والزندق‪FF‬ة ‪...‬‬
‫ليكون ابنا ً وفيا ً لتلك البيئة التي امتزجت فيها األجناس والديانات واألفكار المتناقضة ليظهر أبو نواس الذي رباه والبه بن الحباب‬
‫أن الرج‪FF‬ل ت‪FF‬اب في آخ‪FF‬ر حيات‪FF‬ه وتزهّ‪FF‬د وقص‪FF‬د الح ّج معلن‪F‬ا ً‬
‫ونشأ بعيداً عنه حنان األم ورعاية األب‪ .‬غير أن الروايات تشير إلى ّ‬
‫والءه للدين وهلل ‪( ...‬ابو النصر‪.)١٩٧٠ ،‬‬

‫شعوبية أبي نواس‪:‬‬

‫كان أبو نواس أحد أتباع الحركة الشعوبية ومناصريها‪ ،‬حيث ظه‪F‬ر مفه‪F‬وم الش‪F‬عوبية في الحض‪F‬ارة العربي‪F‬ة اإلس‪F‬المية‬
‫بسبب اختالط العرب المسلمين مع غير العرب من مختلف الحضارات والقوميات‪ .‬وكان هذا نتيج‪FF‬ة توس‪FF‬ع الحض‪FF‬ارة اإلس‪FF‬المية‬
‫وسيطرتها على الكثير من ال‪FF‬دول ذات الحض‪F‬ارات القديم‪F‬ة‪ F‬كبالد ال‪FF‬روم والف‪FF‬رس وض‪FF‬مها للحكم الع‪FF‬ربي اإلس‪FF‬المي (الهزايم‪FF‬ة‪،‬‬
‫محمد‪ ،)٢٠١٠ ،‬فعلى الرغم من مناداة اإلسالم بالمساواة بين مختلف األجناس واألدي‪FF‬ان‪ ،‬إال أن الم‪FF‬والي وغ‪FF‬ير الع‪FF‬رب ش‪FF‬عروا‬
‫بالتمييز والكراهية من العرب المسلمين بسبب إبعادهم عن الحكم واستيالئهم على حضاراتهم وإجبار الم‪FF‬والي على دف‪FF‬ع الجزي‪FF‬ة‬
‫(شلبي‪ .)١٩٨٣ ،‬فتولد الحقد ونشأ الفكر الشعوبي عند الفرس أوالً‪ ،‬وقد تبنى بعض غير العرب هذا االتجاه االجتماعي لمحارب‪FF‬ة‬
‫حضارات العرب المسلمين واالنتقام منهم‪ ،‬وكان أبو نواس أحد مناصريه (العرفي‪.)١٩٧٩ ،‬‬

‫‪4‬‬
‫اش‪FF‬تهر الع‪FF‬رب بكتاب‪FF‬ة الش‪FF‬عر وتوظيف‪FF‬ه وس‪FF‬يلة لالفتخ‪FF‬ار بثقاف‪FF‬اتهم وقوم‪FF‬تيهم العربي‪FF‬ة وتمجي‪FF‬د أحس‪FF‬ابهم وأنس‪FF‬ابهم‬
‫وانتصاراتهم‪ ،‬والحط من شأن أعدائهم‪ .‬وكانوا ينشدونه في أسواقهم وأفراحهم وأتراحهم؛ لذلك استخدم الشعوبيون الشعر س‪FF‬الحا ً‬
‫يهاجمون به العرب وثقافتهم‪ .‬تبنّى الشعوبية عدة شعراء‪ ،‬كان من أبرزهم أبو ن‪FF‬واس ال‪FF‬ذي س‪ّ F‬خر ش‪FF‬عره لمحارب‪FF‬ة الع‪FF‬رب ودعم‬
‫الشعوبية‪ ،‬فسخر من العربي ومدح الفارسي‪ .‬كذلك افتخر بنشر الخالعة والمجون وتقديس الخمريات في شعره‪ ،‬ومحاربة ال‪FF‬دين‬
‫اإلسالمي ومبادئه‪ .‬وقد اتصفت القصائد العربية بوجود المقدمة الطللية التي كانت جزءاً من التقاليد الشعرية التي اتبعها الش‪FF‬عراء‬
‫منذ العصر الجاهلي إلى ما بعد عصر أبي نواس؛ ألنها تعبّر عن حياة العرب وحلّهم وترحالهم واهتماماتهم‪ ،‬فهاجمها أب‪F‬و ن‪F‬واس‬
‫ألنه لم يجدها إال مج ّرد تقليد للسابقين وتعبير عن حياة بعيدة عن واقعه األقرب إلى االستقرار بعي‪FF‬داً‪ F‬عن حي‪FF‬اة البادي‪FF‬ة ال‪FF‬تي عبّ‪FF‬ر‬
‫عنها الشعر القديم آنذاك (الهزايمة‪ ،‬محمد‪.)٢٠١٠ ،‬‬

‫‪5‬‬
‫مظاهر التم ّرد في شعر أبي نواس‬

‫التمرد على المقدمة الطللية‪:‬‬

‫مثلت المقدمة الطللية حياة العرب القديمة‪ ،‬فهي جزء من تراثهم وترمز إلى أص‪FF‬التهم وثق‪FF‬افتهم؛ ل‪FF‬ذلك اتخ‪FF‬ذ أب‪FF‬و ن‪FF‬واس‬
‫شعره منبراً يهاجم من خالله العرب المسلمين بتسفيه المقدمة الطللية وجعلها محط‪F‬ا ً للس‪FF‬خرية‪ .‬وق‪FF‬د عم‪FF‬ل أب‪FF‬و ن‪FF‬واس ب‪FF‬ذلك على‬
‫شرخ بين العربي وتراثه‪ ،‬حيث دعا أن يستبدل بها وصف عادات من المجتمع المتحضر الذي يميل إلى االستقرار‪ ،‬ولم‪FF‬ا‬
‫ٍ‬ ‫إحداث‬
‫كان شاعرنا يعشق الخمرة وينادي بالمجون والخالعة ليحط من مثاليات العرب والمس‪FF‬لمين‪ ،‬فق‪FF‬د ن‪FF‬ادى باس‪FF‬تبدال مقدم‪FF‬ة خمري‪FF‬ة‬
‫بهذه المقدمة التقليدية‪ F،‬ولعل هذا كان بسبب ثورته ضد العرب ودعمه للشعوبية (شلبي‪ .)١٩٨٣ ،‬ومن األمثل‪FF‬ة على س‪FF‬خرية أبي‬
‫نواس على األطالل قوله‪:‬‬

‫كانت تحل بها هند وأسماء‬ ‫" لتلك أبكي وال أبكي لمنزلة‬

‫وأن تروح عليها اإلبل والشاء" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)٧‬‬ ‫حاشا لدرة أن تبنى الخيام لها‬

‫يسخر أبو نواس في ه‪FF‬ذين البي‪FF‬تين من من‪FF‬ازل الع‪FF‬رب الق‪FF‬دماء ومكانته‪FF‬ا ل‪FF‬ديهم‪ ،‬فال ت‪FF‬روق ل‪FF‬ه خي‪FF‬امهم المناس‪FF‬بة لحي‪FF‬اة‬
‫الصحراء التي تربى فيها اإلبل والشاء‪ ،‬حيث ينفي بكاءه عليها ألنها ال تعني له شيئاً‪ ،‬لكنه يبكي للخم‪F‬رة ومكانته‪F‬ا العالي‪F‬ة عن‪F‬ده‪،‬‬
‫فيقلل من شأن العرب وأصالتهم‪ ،‬ويعزز من مكانة الف‪FF‬رس وحض‪FF‬ارتهم‪ ،‬ولع‪FF‬ل ذك‪FF‬ره أس‪FF‬ماء نس‪FF‬اء عربي‪FF‬ات (هن‪FF‬د وأس‪FF‬ماء) في‬
‫معرض التفنيد يؤكد اتجاهه الشعوب ّي‪ ،‬كما أنه يرفع من شأن الخمرة ب‪FF‬ذكر اس‪FF‬م اإلش‪FF‬ارة ال‪FF‬دال على البع‪FF‬د (تل‪FF‬ك)‪ ،‬ثم إن الع‪FF‬رب‬
‫كانوا يبكون على األطالل بينما شاعرنا يبكي للخمرة وكأن‪FF‬ه يتض‪F‬رّع في محرابه‪FF‬ا‪ ،‬وي‪FF‬ذكر الم‪FF‬رأة الفارس‪FF‬ية (درة) وينزهه‪FF‬ا أن‬
‫تبنى لها الخيام‪ ،‬كما أنه يذكر الفعل (تروح) ليجعله مزدوج الداللة (الرواح والرائحة)‪ ،‬ث ّم إنه يذكر اإلب‪FF‬ل والش‪FF‬اء باعتباره‪FF‬ا من‬
‫الحيوانات التي كانت تمثل صلب الحياة العربية في حلّها (الشاء) وترحالها (اإلبل)‪.‬‬

‫ويجمع بين األطالل والخمرة في شعره‪ ،‬رافعا ً من شأن الخمرة وساخراً من األطالل‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫فهي تأبَى د ْع َوةَ النَّ َس ِ‬


‫ب‬ ‫"ال ت َِش ْنها بالتي ُك ِره ْ‬
‫َت‪،‬‬

‫َو ْال ْه عنه بابنة العن ِ‬


‫ب" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)٤٩‬‬ ‫عن َرس ٍْم‪ ،‬وعن ُكث ِ‬
‫ب‪،‬‬ ‫َع ّد ْ‬

‫ينهى الشاعر مخاطبه – ولعله يخاطب نفس‪FF‬ه – في ه‪FF‬ذين البي‪FF‬تين أن يس‪FF‬يء خط‪FF‬اب الخم‪FF‬رة أو يؤذيه‪FF‬ا ب‪FF‬ذكر أس‪FF‬مائها‬
‫المكروهة ألنها تكره التباهي باألنساب‪ ،‬ولعله بذلك يغمز بالعرب الذين يعدون التباهي باألنساب من أبرز شيمهم‪ ،‬كما ي‪FF‬دعو إلى‬
‫تجاوز الرسوم (األطالل) والكثبان (رمال الصحاري العربية) واللهو بالخمرة التي كنّى عن ذكرها بوصف ما ك‪FF‬ان أص‪FF‬لها حين‬
‫قال (ابنة العنب)‪ ،‬فهو يفضل ذكر الخمرة صراحة على ذكر األطالل في مطالع القصائد‪ .‬ويستمر أبو نواس في هجومه وانتق‪FF‬اده‬
‫وسخريته من العرب بقوله‪:‬‬

‫‪6‬‬
‫َوتُبلي عَه َد ِج َّدتِها ال ُخطوبُ‬ ‫األطالل تَسفيها الجنوبُ‬
‫َ‬ ‫َع‬
‫"د ِ‬

‫تَ ُخب بها النَّجيبةُ والنّجيبُ " (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)٣٤‬‬ ‫ب ال َوجْ نا ِء أرْ ضا ً‬
‫وخ ّل لِرا ِك ِ‬

‫َع"‪ ،‬حيث يدعو إلى االبتعاد عن األطالل التي ال تعنيه‪ ،‬كما ال يعني‪FF‬ه أي‬
‫يبدأ أبو نواس قصيدته باستخدام فعل األمر "د ِ‬
‫شيء متعلق بالعرب وتراثهم‪ ،‬ثم إنه ال يأبه أن تسفي تلك األطال َل الري ُح الجنوبيةُ وأن تبليها الخطوب والمصائب مما ي‪FF‬ؤدي إلى‬
‫نسيانها‪ ،‬ثم إنه يدعو للرحيل عن األرض العربية (خ ّل) التي يعتز فيها العرب بركوب اإلبل (الوجناء والنجيبة) فه‪FF‬و ال يري‪FF‬د أن‬
‫يبقى أو ينتمي لتلك األرض‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬كان التمرد على تقليد القدماء ال‪F‬ذين ذك‪F‬روا الطل‪F‬ل في مط‪F‬الع قص‪F‬ائدهم من خالل ال‪F‬دعوة لالبتع‪F‬اد عن‪F‬ه وذك‪F‬ر‬
‫الخمرة في مقدمات القصائد باعتبارها تمثل حضارة الفرس بينما تمثل األطالل تخلف العرب وحضارتهم‪.‬‬

‫خمريات أبي نواس وتمرده‪:‬‬

‫كان للخمرة مكانة كبيرة في حياة شاعرنا‪ ،‬فقد عُرف أبو النواس بشغفه بشرب الخمرة التي كانت تش‪FF‬كل أح‪FF‬د مقوم‪FF‬ات‬
‫حياته‪ .‬كذلك كان لها الدور األكبر في جعله أحد أشهر الش‪F‬عراء في زمان‪F‬ه؛ ألنه‪F‬ا اتخ‪FF‬ذت حيّ‪F‬زاً رحب‪F‬ا ً في قص‪F‬ائده ال‪F‬تي تمح‪FF‬ور‬
‫معظم أفكارها حول وصف الخمرة ومكانتها‪ .‬ولكنه لم يكن كغيره من الشعراء‪ ،‬فقد كان يب‪F‬وح برذائل‪F‬ه ويواج‪F‬ه الن‪F‬اس بمش‪F‬اكله‪،‬‬
‫فلم يخجل من إدمانه وهوسه وجنونه بهذا المشروب المسكر بل كان يفتخر وين‪F‬ادي به‪F‬ا‪ .‬لع‪F‬ل الس‪F‬بب ال‪F‬رئيس خل‪F‬ف هوس‪F‬ه ه‪F‬ذا‬
‫وجود بعض العقد النفسية التي كان يحاول إخفاءها من خالل افتخاره فاقتراف المحرمات‪ ،‬ولع ّل ذل‪FF‬ك يع‪FF‬ود إلى خجل‪F‬ه من نس‪F‬به‬
‫في عصر األنساب‪ ،‬فقد شكلت عقدة النسب هذه خلال في شخصية شاعرنا‪ ،‬فمن كان يظن أن ه‪FF‬ذا اإلنس‪FF‬ان ال‪FF‬ذي يفتخ‪FF‬ر برذائل‪FF‬ه‬
‫ويحويها في قصائده يعاني من عقدة نفسية قد تكون سببا الرتكابه جميع رذائله (العقاد‪.)١٩٦٨،‬‬

‫اختلف النقاد ومؤرخو األدب حول السبب الرئيس الذي أدى إلى إدمان شاعرنا على شرب الخم‪FF‬ر‪ ،‬ولكنهم اتفق‪FF‬وا على‬
‫أنها أصبحت بمكانة عشيقة له استولت على حياته‪ ،‬بل أصبحت حياته كلّه‪F‬ا؛ مم‪F‬ا أدى إلى الس‪F‬يطرة على قاموس‪F‬ه الش‪FF‬عري‪ ،‬فق‪FF‬د‬
‫استخدمها وسيلة يتمرد من خاللها على العرب والدين اإلسالمي الذي حرم شرب الخمر‪ .‬ولهذا السبب نرى تكرار ذك‪FF‬ر الخم‪FF‬رة‬
‫ووصفها في شعره الذي استخدمه وسيلة للتعبير عن أهميتها(العقاد‪.)١٩٦٨،‬‬

‫لي القبر اال بقطربّل‬ ‫"خليلي باهلل ال تحفرا‬


‫وال تدنياني إلى السنبل‬ ‫خالل المعاصر بين الكروم‬
‫إذا عصرت ضجة األرجل" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)٤٨٣‬‬ ‫لعلي أسمع في حفرتي‬

‫يدرك متأمل هذه األبيات مدى تعلق أبي نواس بالخمرة حين يتمنى أن يكون قريبا ً منها حتى بع‪FF‬د ممات‪FF‬ه‪ ،‬فه‪FF‬و يخ‪FF‬اطب‬
‫خليلي‪F‬ه على س‪F‬بيل االلتم‪F‬اس مس‪F‬تذكراً خط‪F‬اب الش‪F‬عراء في مط‪F‬الع القص‪F‬ائد القديم‪F‬ة وذك‪F‬ر الرحل‪F‬ة بص‪F‬حبة الخليلين‪ ،‬غ‪F‬ير أن‪F‬ه‬
‫يدعوهما أن يجعال قبره في قطربّل حيث الخ ّمارات ومعاص‪F‬ر الك‪FF‬روم‪ ،‬ألن‪F‬ه ال يحب أن يك‪FF‬ون قريب‪F‬ا ً من حق‪F‬ول القمح والس‪F‬نابل‬

‫‪7‬‬
‫التي تمثل الحياة الرعوية‪ ،‬ولكنه يف ّ‬
‫ض ل على كل ذلك سماع ضجة األرجل التي تعصر الخمر؛ لذلك يستخدم (لعل) والذي قد يدل‬
‫على التوقع أيضاً‪.‬‬

‫وقد بكى أبو نواس‪ ،‬ولكن ما أبكاه لم يكن بكاء األطالل وما يتركه الراحلون من دمن وآثار‪ ،‬فما الذي أبكى شاعرنا؟‬

‫وما بي من عشق‪ ،‬فأبكي من الهجر‬ ‫"بكيت‪ ،‬وما أبكي على دمن قفر‪،‬‬
‫فذاك الذي أجرى دموعي على النحر‬ ‫ولكن حديث جاءنا عن نبيّنا‪،‬‬
‫فلما نهى عنها بكيت على الخمر‬ ‫بتحريم شرب الخمر‪ ،‬والنهي جاءنا‪،‬‬
‫أعزز فيها بالثمانين في ظهري"‬ ‫فأشربها صرفاً‪ ،‬وأعلم أنني‬
‫(أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)٢٤٣‬‬

‫ك في حيات‪FF‬ه بس‪FF‬بب‬
‫تظهر لنا هذه األبيات أن الخمرة هي نقطة الضعف الوحيدة عند أبي النواس‪ ،‬حيث يش‪FF‬ير أن‪FF‬ه لم يب‪ِ F‬‬
‫هجر المحبوبة ورحيلها عن ديارها‪ ،‬كما لم يبك األطالل التي أقفرت من أهلها وخلت من األحبة‪ ،‬ولكن م‪FF‬ا يبكي‪FF‬ه ح‪FF‬ديث تح‪FF‬ريم‬
‫الخمر الذي سمعه عن النبي‪ .‬ولعل المالحظ يجد أن الشاعر ال يعترف بتحريم الخمر في القرآن‪ ،‬كما أنه يقول (حديث جاءنا عن‬
‫نبينا) ولم يقل (من نبيّنا) زيادة في التشكيك بصحة رواي‪FF‬ة الح‪FF‬ديث‪ ،‬ثم ي‪F‬بين أن دموع‪FF‬ه ج‪F‬رت على نح‪F‬ره (عنق‪F‬ه) ولم يق‪FF‬ل على‬
‫ّ‬
‫ووض‪F‬ح في ال‪F‬بيت‬ ‫خديه أو وجنتيه كناية عن غ‪F‬زارة تل‪FF‬ك ال‪F‬دموع‪ .‬ثم يعلن مجاهرت‪F‬ه في ش‪F‬ربها بع‪FF‬دما بيّن بك‪FF‬اءه على فراقه‪FF‬ا‪،‬‬
‫األخير من المقطع أنه يشربها صافية غير ممزوجة وال مخففة بالماء (صرفاً) وهو يعلم ّ‬
‫أن سيعاقب بح‪ّ F‬د ش‪FF‬رب الخم‪FF‬ر (ثم‪FF‬انين‬
‫جلدة في ظهره) ولع ّل شاعرنا لم يأبه لذلك العقاب؛ ألنه ك‪FF‬ان يعلم ّ‬
‫آن بعض والة األم‪FF‬ر ك‪FF‬انوا يش‪FF‬ربون الخم‪FF‬ر وينادمون‪FF‬ه‪ ،‬فه‪FF‬ل‬
‫سيُح ّدون بالجلد ليح ّد هو؟!‬

‫يعد أبو نواس من أشهر شعراء الخمر؛ فمن الطبيعي أن يتفنن في وصف معشوقته وبي‪FF‬ان لونه‪FF‬ا وجماله‪FF‬ا في الك‪FF‬أس‪،‬‬
‫بل لقد جعلها معشوقته التي أغنته عن ذكر النساء‪ ،‬وليس أجمل من مزج جمال المرأة بجمال الخمرة وتأثير كل منهما عليه‪ ،‬فه‪FF‬ا‬
‫هو يقول‪:‬‬

‫واشرب على الورد من حمراء كالورد‬ ‫"ال تبك ليلى‪ ،‬وال تطرب إلى هند‬
‫أجدته حمرتها في العين والخ ِّد‬ ‫كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها‬
‫من كفِّ جارية ممشوقة الق ّد‬ ‫فالخمر ياقوتةٌ‪ ،‬والكأس لؤلؤةٌ‬
‫خمراً فما لك من سكرين من ب ِّد‬ ‫تسقيك من عينها خمراً‪ ،‬ومن يدها‬
‫شي ٌء خصصت به من بينهم وحدي" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)١٨٠‬‬ ‫لي نشوتان‪ ،‬وللندمان واحدةٌ‬

‫ينهى الشاعر نفسه زاجراً أن يبكي ليلى أو أن ينتشي لذكر هند‪ ،‬ونراه هنا يستخدم اس‪FF‬مين عرب‪FF‬يين من أس‪FF‬ماء النس‪FF‬اء‪،‬‬
‫ليع ّمق فكرة السخرية من البكاء على األطالل أو التغزل بالنساء العربيات في نزع‪FF‬ة ش‪FF‬عوبية واض‪FF‬حة‪ ،‬وي‪FF‬دعو للش‪FF‬رب والغ‪FF‬زل‬
‫بالمرأة الساقية‪ .‬ويذكر بعض صفات تلك الخمرة مبينا ً أثرها على شاربها‪ ،‬حيث تسبب احمرار الوجه والعينين‪ F،‬ث ّم إنه يك‪FF‬ني عن‬
‫ذكر لونها بذكر الياقوتة الحمراء‪ ،‬ويكني عن ذكر لون الكأس ببيان لونه األبيض الالمع كاللؤلؤ‪ ،‬ث ّم ينتقل لوصف الساقية متغزالً‬

‫‪8‬‬
‫بق ّد ها الممشوق ومدى سحر نظراتها‪ ،‬وكأنها تسكره بنظراتها الساحرة قبل أن تسكره بما تصبه من الخمر؛ مما يؤدي إلى س‪FF‬كره‬
‫مرتين رغم أن باقي السكارى يكتفون بسبب واحد للسكر والنشوة؛ وهكذا نجد الشاعر يخص نفسه بسكرين ‪ :‬من الجارية الساقية‬
‫ومن الخمرة المشروبة‪ .‬ونجد الشاعر في هذه األبيات يشبه الخمر بالياقوت والكأس باللؤلؤ بتشبيه بليغ ال وجه للشبه وال أداة فيه‬
‫للمبالغة في بيان اقتراب الصورة‪ ،‬ولعل الشاعر يجعل المشبه به من الآللئ واليواقيت الثمينة كناية عن ارتفاع القيمة‪ ،‬ولإلش‪FF‬ارة‬
‫إلى البيئة الثرية التي كانت الخمرة تعاقَر فيها‪ .‬ثم إنه يخص نفس‪FF‬ه بنش‪FF‬وتين دالل‪FF‬ة على م‪FF‬دى قرب‪FF‬ه من الخم‪FF‬رة والم‪FF‬رأة الس‪FF‬اقية‬
‫ليتأثر هذا التأثر العظيم بهما‪.‬‬

‫ومن ناحية آخرى‪ ،‬حاول شاعرنا من خالل هذا الوصف والتشبيه أن يجذب الق‪F‬رّاء للوق‪FF‬وع في حب الخم‪F‬رة‪ .‬فبوص‪F‬فه‬
‫هذا النابض من داخل‪FF‬ه والمفعم بحب‪FF‬ه الحقيقي الص‪F‬ادق للخم‪F‬رة‪ ،‬ن‪FF‬رى ص‪FF‬ورة جمالي‪FF‬ة جدي‪FF‬دة تبعث في نفس الق‪FF‬ارئ الرغب‪FF‬ة في‬
‫شربها والشعور بمفعولها‪ .‬ومن هنا يشجّع أبو ن‪FF‬واس على ش‪F‬رب الخم‪FF‬رة والتم‪FF‬رد ال‪FF‬ديني ص‪FF‬انعا من قص‪FF‬ائده ووص‪F‬فه للخم‪FF‬ر‪،‬‬
‫حركة شعرية تدعو إلى عدم االهتمام بالدين وقوانينه وتركز على الس‪FF‬عي للس‪FF‬عادة والحري‪FF‬ة عن طري‪FF‬ق معاقرته‪FF‬ا (أب‪FF‬و النص‪FF‬ر‪،‬‬
‫‪.)١٩٧٠‬‬

‫حسن ‪ ،‬طيب ‪ ،‬لذيذ ‪ ،‬زالل !‬ ‫"فهي بكر كأنها كل شيء‬

‫إن فيها لموضعا للمقال" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)٤٨٩‬‬ ‫ولعمر المدام إن لمت فيها‬

‫يجعل أبو نواس الخمرة موضعا ً للقول رغم أنه قد يالم على ذكرها‪ ،‬ويجعلها تشبه ك‪FF‬ل ش‪FF‬يء حس‪FF‬ن طيب لذي‪FF‬ذ ص‪FF‬اف‬
‫"زالل"‪ ،‬وقبل ذلك يصفها بالبكر كناية عن الجمال والعنفوان وش ّدة التأثير‪.‬‬

‫شكلت جميع هذه األبيات دالئل مختلفة تؤكد استحقاق شاعرنا لقب المتمرد الديني فنراه يصف مكانة الخمرة وحبه له‪FF‬ا‬
‫من خالل قصائده والتي يتحدى بها الدين الذي يحرّم الخم‪FF‬رة تحريم‪F‬ا ً واض‪FF‬حا ً وك‪FF‬ذلك الق‪FF‬وانين واألع‪FF‬راف االجتماعي‪FF‬ة العربي‪FF‬ة‬
‫واإلسالمية‪ ،‬فهو غير مبا ٍل بعواقب أفعاله‪.‬‬

‫تمرده بغزله بالمذكر‪:‬‬

‫يكتف أبو نواس بشرب الخمر وانتقاد العرب وتراثهم‪ ،‬بل اكتسب لقب شاعر التمرد على القيم االجتماعي‪FF‬ة المرعي‪FF‬ة‬
‫ِ‬ ‫لم‬
‫حين كان يمارس المجون ويتغزل بالمذكر في شعره‪ .‬ولعل واحداً من أسباب شذوذه هذا كان بس‪F‬بب معاش‪F‬رته لوالب‪F‬ة بن الحب‪F‬اب‬
‫ومجالسة أصدقائه الماجنين‪ ،‬فقد ترعرع بينهم واكتسب كثيراً من صفاتهم (الشكعة‪ .)١٩٨٠ ،‬هذا إضافة إلى أن ظ‪FF‬اهرة الش‪FF‬ذوذ‬
‫والغزل بالمذكر كانت في عصره بسبب اختالط الشعوب والثقاف‪FF‬ات المختلف‪FF‬ة‪ ،‬كم‪FF‬ا ك‪F‬انت بس‪FF‬بب ك‪FF‬ثرة الج‪F‬واري واإلم‪FF‬اء ك‪FF‬ثرة‬
‫جعلت الرجال يعرضون عن طلب النساء شهوة‪ ،‬والميل لجنس الذكور لوجود بعض الذكور من الشواذ والخصيان في القصور‪،‬‬
‫وقد كانت النساء يتشبهن بالذكور ليصبحن أكثر طلبا ً ّ‬
‫فكن يرسمن شوارب من الخضاب والزعفران‪ ،‬بينما كان ال‪FF‬ذكور يرجّل‪FF‬ون‬
‫شعورهم الطويلة ويتمايلون في مشيتهم ويرققون أصواتهم ليستميلوا طالبي الشهوة منهم (خليف‪ .)١٩٨١ ،‬وهكذا ك‪FF‬انت ظ‪FF‬اهرة‬
‫الشذوذ الجنسي جديدة في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬وكان وجودها تم‪F‬رداً على س‪F‬لطة ال‪F‬دين اإلس‪F‬المي الس‪F‬ائدة آن‪F‬ذاك‪ .‬ونحن نعلم أن‬
‫(ولُوطً‪F‬ا ِإ ْذ قَ َ‬
‫‪F‬ال‬ ‫الشذوذ الجنسي وممارسة اللواط تع ّد من الفواحش التي نهى هللا عنه‪F‬ا وذب ق‪F‬وم ل‪F‬وط بس‪F‬ببها‪ ،‬حيث ق‪F‬ال تع‪F‬الى‪َ :‬‬

‫‪9‬‬
‫لِقَوْ ِم ِه َأتَْأتُونَ ْالفَا ِح َشةَ َما َسبَقَ ُك ْم بِهَا ِم ْن َأ َح‪ٍ F‬د ِمنَ ْال َع‪F‬الَ ِمينَ ‪ِ .‬إنَّ ُك ْم لَتَ‪ْF‬أتُونَ ال ِّر َج‪ F‬ا َل َش‪ْ F‬ه َوةً ِم ْن دُو ِن النِّ َس‪F‬ا ِء بَ‪F‬لْ َأ ْنتُ ْم قَ‪F‬وْ ٌم ُم ْس‪ِ F‬رفُونَ ‪)...‬‬
‫(القرآن الكريم‪ ،‬سورة األعراف)‪.‬‬

‫مولع القلب بالغالم الظريف" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)٤٢٥‬‬ ‫"من يكن يعشق النساء فإني‬

‫يعلن أبو نواس في هذا البيت ولع قلبه وشدة تعلقه بالغالم الظري‪F‬ف‪ ،‬رغم تعل‪F‬ق غ‪F‬يره من الن‪F‬اس بالنس‪F‬اء‪ ،‬ثم إن‪F‬ه ي‪F‬أتي‬
‫(إن)‪ ،‬كما يجعل تعلق الناس بالنساء عشقا ً بينما عبّر عن عالقته ب‪FF‬الغالم الظري‪FF‬ف أنه‪FF‬ا ول‪FF‬ع القلب وهي‬
‫ببيان ذلك مؤكداً بحرف ّ‬
‫درجة في الحب أعلى من مجرد العشق‪ ،‬ولعل هذا اإلعالن بعد اسم (من) النكرة الذي قد يكون لالستفهام أو للشرط‪ ،‬جاء للتعبير‬
‫ّ‬
‫يقص‪F‬ر بوص‪FF‬فه وبي‪FF‬ان‬ ‫عن النفس بعد بيان االتجاه العام للغزل عند الناس هو الميل للنساء‪ .‬وحين يذكر الفتى ال‪FF‬ذي يتغ‪FF‬زل ب‪FF‬ه ال‬
‫جماله األخاذ من خالل التصوير واإليحاء باإلغراء‪ .‬فها هو يقول‪:‬‬

‫ق ال َّر َشا ُحسْنا ً ولِينَا‬


‫َ‬ ‫ـديــع الحُـسْــ ِن قـد فـَــا‬
‫ِ‬ ‫" َوبَ‬

‫ــ ِه يُـنَـاغي اليَــا َسـ ِمــينـَـــا‬ ‫تَحْ ـ َسـبُ ال َورْ َد ب َخـ ّديْـ‬

‫نَــظَــراً ِز ْد ُ‬
‫ت جُنــونَــا‬ ‫ت إلَـيْـــ ِه‬ ‫كلّما ْ‬
‫از َد ْد ُ‬

‫َحلّ ِ‬
‫ت ال ِخ ْد َر ِسنينَا" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)٦١٠‬‬ ‫ظَ ّل يَ ْسقِينَا ُمداماً‪،‬‬

‫يصف أبو نواس الفتى المتغ ّزل به‪ ،‬ويبين أنه كان أحد السقاة البارعين‪ ،‬وفي مسته ّل المقط‪FF‬ع يص‪FF‬فه أن‪FF‬ه ب‪FF‬ديع الحس‪FF‬ن‪،‬‬
‫وقد تفوق بجماله على الغزال في الحسن والجمال واللين لكثرة تمايله ورقّته‪ ،‬ث ّم يصف احمرار خديه وبياض عينيه ب‪FF‬ورد أحم‪FF‬ر‬
‫يناغي ويداعب الياسمين‪ ،‬ثم إن النظر إليه يزيد التعلق به‪ ،‬ويربط بينه وبين مجلس الش‪FF‬راب حين ي‪FF‬ذكر أن‪FF‬ه ك‪FF‬ان س‪FF‬اقياً‪ .‬وينتق‪FF‬ل‬
‫ببراعة ليصف الخمرة التي كان يسقيها ذاك الغالم‪ .‬فهي خمرة معتقة بقيت سنين في مخدعها (خدرها) بعيداً‪ F‬عن أيدي الش‪FF‬اربين‬
‫وأنظارهم‪ .‬ونالحظ بدء المقطع الشعري بواو رُبّ التي تد ّل هنا على التكثير لنتبيّن‪ F‬أن لغزل بالمذ ّكر كان ظاهرة ش‪FF‬ائعة ولم يكن‬
‫مقتصراٍ على أبي نواس‪ ،‬ثم يأتي بالتأكيد بحرف التحقيق (قد) قبل الفعل الماضي ليدل على مدى جمال ه‪FF‬ذا المتغ ‪ّ F‬زل ب‪FF‬ه‪ ،‬وحين‬
‫أتى بالتشبيه جاء بالفعل (تحسب) للداللة على أن المرء يقع في الشك لشدة الشبه بين خد الغالم والورد األحم‪FF‬ر‪ ،‬ث ّم إن‪FF‬ه يش‪FF‬خص‬
‫األزهار في استعارة مكنية‪ F‬تجعل الورد له (المناغاة) وهي من صفات الناس‪ .‬ثم جاء بما يد ّل على االس‪FF‬تمرار م‪FF‬رتين (كلم‪FF‬ا ‪)...‬‬
‫و(ظ ّل ‪ )...‬ثم إنه ربط بين الغالم المتغزل به وبين الخمرة المطلوبة التي كث‪FF‬يراً م‪FF‬ا تغ‪ّ F‬زل الش‪FF‬اعر به‪FF‬ا وجعله‪FF‬ا عروس‪F‬ا ً وام‪FF‬رأة‬
‫مخبوءة في خدرها‪ ،‬وبكراً ‪ ...‬ليجعل لذلك الغالم أكثر مقبولية لديه ولدى كل من يدورون في فلكه‪.‬‬

‫ولِذي الوج ِه ال َغضُو ِ‬


‫ب‬ ‫ب‪،‬‬ ‫"قل لذي الطّ ِ‬
‫رف الخَلو ِ‬

‫ب‬ ‫حسنُ أعنا َ‬


‫ق القلو ِ‬ ‫ولمن يثني إلي ِه ال‬

‫ب‬ ‫ض ْع ٍ‬
‫س كثي ِ‬ ‫على ِ‬ ‫قضيب البا ِن يهت ّز‬
‫َ‬ ‫يا‬

‫‪10‬‬
‫ب‬
‫كالم من قري ِ‬
‫أو ٍ‬ ‫بسالم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫قد رضينَا‬

‫ب‬
‫وبتعظيم الصّلي ِ‬
‫ِ‬ ‫فبروح القُدس عيسى‪،‬‬
‫ِ‬

‫ث ّم سلّ ْم يا َحبيبي" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)٦٩‬‬ ‫قف إذا ِجْئتَ إلينا‪،‬‬


‫ْ‬

‫يخاطب الشاعر من يمكن أن يوصل كالمه لهذا الغالم أن يخبره رسالة من الشاعر‪ .‬وال ينسى أبو نواس أن يصف هذا‬
‫الغالم أن طرفه (نظرته) تخلب اللب‪ ،‬وقد جاء الشاعر بصيغة المبالغة (الخلوب) ليد ّل على مدى ت‪FF‬أثيره على من ينظ‪FF‬ر إلي‪FF‬ه‪ ،‬ثم‬
‫يذكر فيه صفة التثني والتمايل التي تميل القلب إليه‪ ،‬ولعل توظيف الجناس (يثني والتث‪FF‬ني) يخل‪FF‬ق ج‪ّ F‬واً إيقاعي‪F‬ا ً داخلي‪F‬ا ً يبعث على‬
‫التطريب كما يجعل المتلقي يفكر في اللفظ مرتين بمعنيين‪ F‬مختلفين أولهما الميل القلبي والثاني والتمايل والدالل‪ ،‬وبعد ذلك يش‪FF‬ير‬
‫الشاعر إلى اكتفائه من ذلك الفتى بالسالم أو الكالم من قريب‪ ،‬ثم يشير إلى ديانت‪FF‬ه حين ي‪FF‬ذكر (روح الق‪FF‬دس وعيس‪FF‬ى والص‪FF‬ليب)‬
‫وهي من المقدسات المسيحية التي يقسم عليه بها أن يقف إذا وصله ثم يسلّم عليه‪ .‬ويناديه الشاعر بوصف (حبيبي) جاعالً حرف‬
‫النداء صالحا ً للقريب والبعيد‪ F،‬وفق الحالة التي يك‪FF‬ون عليه‪FF‬ا المخ‪FF‬اطب‪ .‬ولع‪FF‬ل الش‪FF‬اعر ي‪FF‬أتي على ذك‪FF‬ر ظ‪FF‬اهرة س‪FF‬قاة الخم‪FF‬ر في‬
‫األديرة من الغلمان أم الفتيات اللواتي كن يسمحن بمغازلتهن من مرتادي تلك األديرة لغ‪FF‬رض ش‪FF‬رب الخم‪FF‬رة غ‪FF‬ير المحرّم‪FF‬ة في‬
‫الديانة المسيحية التي تجعل من أولئك الغلمان رهبانا ٍ محجمين عن الزواج؛ مما يتيح الفرصة لغزلهم والتغزل بهم‪.‬‬

‫التمرد على الدين اإلسالمي‪:‬‬

‫كان أبو نواس يفتخر بزندقته وتمرّده على الدين في شعره وينادي ب‪FF‬الكفر؛ ولع‪FF‬ل ذل‪FF‬ك ألن‪FF‬ه ك‪FF‬ان يرب‪FF‬ط بين الحض‪FF‬ارة‬
‫‪F‬ف ب‪FF‬التمرد على الع‪FF‬ادات والتقالي‪FF‬د وال‪FF‬دين اإلس‪FF‬المي من خالل‬
‫اإلس‪FF‬المية والع‪FF‬رب ال‪FF‬ذين تم‪FF‬رد عليهم بش‪FF‬عوبيته‪ ،‬ث ّم إن‪FF‬ه لم يكت‪ِ F‬‬
‫معاقرته للخمرة وحبه وغزله بالمذكر‪ ،‬فقد كان متمرداً على الدين بمجاهرته بفعل المحرمات‪ ،‬وأدت زندقته وهجومه على الدين‬
‫علم بزندق‪FF‬ة أبي ن‪FF‬واس في ش‪FF‬عره‪ ،‬س‪FF‬مع على األرجح بقصص‪FF‬ه‪ ،‬مث‪FF‬ل دخول‪FF‬ه المس‪FF‬جد –‬
‫إلى دخول‪FF‬ه الس‪FF‬جن‪ .‬ومن لم يكن على ٍ‬
‫وسماعه الشيخ يتلوى‪" :‬قل أيها الكافرون"‪ ،‬حيث كان ورده‪" :‬لبيك"‪ ،‬فشرب في المساجد والمجالس الديني‪F‬ة‪ F‬وش‪FF‬جع على الفس‪FF‬اد‬
‫والزندقة (العقاد‪ .)١٩٦٨ ،‬ومن األمثلة على الزندقة في شعره قوله‪:‬‬

‫ت" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)١١٧‬‬


‫ْص جبّا َر السموا ِ‬
‫قم سيدي نع ِ‬ ‫"يا أحم ُد المرتجى في ك ّل نائبة ٍ‬

‫فهو يتعمد نداء أحمد؛ ألن هذا االسم يشير إلى اسم الرسول الكريم حيث يصفه بأنه المرتجى في النائبات وأنه سيّده‪ ،‬ثم‬
‫يدعوه إلتيان أفعال العصيان‪ ،‬ويص ّر ح بتحدي هلل حين يقول (جبار السماوات) فهو يتحدى الجبار وال يخافه! ويدعو سم ّي الن‪FF‬بي‬
‫أو النبي نفسه دون تورّع أو تأثّ م‪ .‬وها هو ينكر الجنة والنار بعد الموت ويعلن انصرافه للغواية والكفر الصريح حين يقول‪:‬‬

‫وصرفت معرفتي إلى اإلنكار‬ ‫" فدعي المالم فقد أطعت غوايتي‬

‫في جنة مذ مات أو في نار" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص )‬ ‫ما جاءنا أح ٌد يخبِّر أنه‬

‫‪11‬‬
‫يدعو مخاطبته أن تترك لومه وتقريعه على فعل‪FF‬ه المحرم‪FF‬ات وإتيان‪FF‬ه المنك‪FF‬رات؛ فه‪FF‬و ال يب‪FF‬الي ب‪FF‬ذلك ويعلن أن‪FF‬ه يطي‪FF‬ع‬
‫غوايته ويحول معرفته اليقينية إلى اإلنكار الذي هو أقوى من الشك‪ ،‬ولعل صرف المعرفة فيه تأكيد‪ F‬االبتع‪FF‬اد والكف‪FF‬ر على علم ال‬
‫عن جهل وعدم دراية‪ .‬فهو يعرف ويحرف وفي البيت البيت الث‪FF‬اني ينفي أن يك‪FF‬ون أح‪FF‬د ج‪FF‬اء ليخ‪FF‬بر أن هن‪FF‬اك جن‪FF‬ة أو ن‪FF‬اراً بع‪FF‬د‬
‫الم‪FF‬وت‪ ،‬فك‪F‬ل من م‪F‬اتوا لم يع‪FF‬ودوا ليخ‪FF‬بروا من بق‪F‬وا عم‪F‬ا وج‪F‬دوا بع‪FF‬د تجرب‪FF‬ة الم‪F‬وت؛ فه‪FF‬و ينك‪F‬ر المغيب‪F‬ات مم‪FF‬ا علم من ال‪FF‬دين‬
‫بالضرورة عن طريق القرآن والحديث النبوي وال يؤمن إال بما أخبر به من مات من الناس؛ فلما انتفت المعرف‪FF‬ة المادي‪FF‬ة بالس‪FF‬مع‬
‫انتفى اإليمان‪.‬‬

‫وجاء في إعالن كفره وزندقته تض ّجره من الصوم وشهر رمضان الذي منعه من شرب الخمر فقال‪:‬‬

‫وزوى اللهو فغارا‬ ‫"منع الصوم العقارا‬

‫م لله ّم أسارى‬ ‫وبقينا في سجون الصو‬

‫فيه من ليس يدارى‬ ‫غير أنا سنداري‬

‫ح صغاراً وكبارا" (أبو نواس‪ ،١٩٨٠،‬ص‪)٢٧٩‬‬ ‫نشرب الليل إلى الصب‬

‫يعلن أبو نواس في ه‪F‬ذه األبي‪F‬ات امتعاض‪F‬ه من ش‪F‬هر الص‪F‬يام ال‪F‬ذي من‪F‬ع العق‪F‬ار والله‪F‬و المج‪F‬ون ال‪F‬ذي غ‪F‬ار واض‪F‬محل‬
‫بقدومه‪ ،‬فقد أعرض الناس عن المنكرات وتمس‪F‬كوا بالطاع‪F‬ات‪ ،‬ثم يص‪F‬ف الص‪FF‬وم أن‪FF‬ه س‪F‬جان وأن الص‪F‬ائمين يقبع‪FF‬ون في س‪F‬جنه‬
‫مهمومين مغمومين أسارى حيث ال لهو وال شراب وال مج‪FF‬ون‪ ،‬ولكن‪FF‬ه يعلن أن‪FF‬ه سيس‪FF‬تغفل ويخفي معاص‪FF‬يه ع ّمن ال يخفى علي‪FF‬ه‬
‫شيء‪ ،‬ولعلنا نرى ما كان عليه الشاعر من التظ ّر ف في التزندق حيث إنه يؤمن بإخفاء المنكرات عن هللا العليم الذي ال يخفى ليه‬
‫شيء‪ ،‬ولعل ذلك في لحظات اسياق وراء الشهوة واإلدمان‪ ،‬فهو يشرب ورفاقه في الليل حتى الصباح بكؤوس ص‪FF‬غيرة وكب‪FF‬يرة‪،‬‬
‫فهل يكني بذلك عن صيامه في النهار وسكره في الليل؟! أم أنه يعلن امتعاضه من نهار شهر رمضان عموماً؟‬

‫وهكذا نجد أن أبا نواس كان يعلن زندقته وعصيانه هلل‪ ،‬باعتبار ذل‪FF‬ك من متطلب‪FF‬ات المج‪FF‬ون وش‪FF‬رب الخم‪FF‬ر والتظ‪F‬رّف‬
‫والغزل‪ ،‬ألن الدين يمنع كل ذلك ويعتبره معاصي يحاسب عليها المرء؛ فأعلن أبو نواس براءت‪F‬ه من اإليم‪F‬ان بالحس‪F‬اب والعق‪F‬اب‬
‫بعد الموت‪ ،‬فغدا متمرّداً على الدين وأركانه ومقتضياته‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫الخاتمة‬

‫كانت رحلة بحثية تحليلية ممتعة هذه التي أتاحت لي فرصة التعرف على شاعر صادق التعبير عما يجول في خ‪FF‬اطره‪،‬‬
‫فقد كان أبو نواس ابنا ً شرعيا ً لعصره‪ ،‬فقد كان عصره يع ّج باالختالف والمتناقضات‪ ،‬فعبّر عن ذل‪FF‬ك بص‪FF‬دق‪ ،‬وك‪FF‬انت الظ‪FF‬روف‬
‫االجتماعية التي أنجبته كفيلة بأن تخلق منه شاعراً متمرداً‪.‬‬

‫تم ّرد أبو نواس على كل إفرازات الحضارة العربية اإلسالمية؛ انطالقا ً من مذهب الشعوبية التي كان يؤمن ب‪FF‬ه وي‪FF‬دعو‬
‫له‪ ،‬فقد تم ّرد على المقدمة الطللية التي كان العرب يق ّدس‪FF‬ونها فني‪F‬ا ً ويتوارثونه‪FF‬ا‪ ،‬ف‪FF‬دعا إلى مقدم‪FF‬ة من ن‪FF‬وع آخ‪FF‬ر تق‪FF‬وم على ذك‪FF‬ر‬
‫الخمرة‪ ،‬لتكون الخمرة مدخالً آخر من مداخل تمرده الشعري واالجتماعي واألخالقي‪ ،‬غير أن‪FF‬ه لم يكن ليع‪FF‬اقر الخم‪F‬رة ل‪FF‬وال أن‪FF‬ه‬
‫وجد له ندماء من ذوي الشأن واألمر والنهي‪ ،‬كما وجد بيئة خصبة للقول فيها ووصفها وبيان أثرها‪ ،‬ليكون شاعر الخم‪FF‬رة األول‬
‫بال منازع‪ .‬وكان الغزل بالمذكر والمجون من مظاهر العص‪F‬ر العباس‪F‬ي الفني‪FF‬ة واالجتماعي‪FF‬ة؛ لك‪FF‬ثرة الج‪FF‬واري وإع‪FF‬راض الن‪FF‬اس‬
‫عنهن ووجود الخلعاء الم ّجان الذين تربى الشاعر في كنف أحدهم‪ ،‬فكان هذا مدعاة للغزل بالم‪F‬ذكر ليك‪F‬ون تم‪F‬رداً على م‪F‬ا تع‪F‬وده‬
‫ّ‬
‫العرب من غزل بالنساء‪ .‬وكان التزندق وإعالن الكفر بم‪FF‬ا علم من ال‪FF‬دين من موض‪FF‬وعات التم‪FF‬رد لدي‪FF‬ه؛ ألن ال‪FF‬دين من مقوم‪FF‬ات‬
‫الحضارة التي احتلت بالد فارس منبع الشعوبية‪.‬‬

‫وهكذا كانت حياة الشاعر وبيان ش‪F‬عوبيته م‪FF‬دخالً مناس‪F‬با ً لإلجاب‪FF‬ة عن س‪F‬ؤال البحث (كي‪F‬ف تمث‪F‬ل التم‪FF‬رد في ش‪FF‬عر أبي‬
‫ن‪FF‬واس؟) وإني إذ آم‪FF‬ل آن أك‪FF‬ون وفيت الموض‪FF‬وع حق‪F‬ه بحث‪F‬ا ً وتحليالً‪ ،‬ف‪FF‬إنني أدع‪FF‬و إلى دراس‪FF‬ات مستفيض‪FF‬ة في تراثن‪FF‬ا الش‪FF‬عري‬
‫لظواهر أخرجته عن نمطيته وأغراضه التقليدية‪ ،‬ثم إنني أدعو إلى نظرة تحليلية للشعر تقوم على تقصي فنياته وجمالياته إضافة‬
‫إلى ربطه بعصره وحياة الشاعر وظروفه التي أفرزت هذا الشعر‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫قائمة المراجع‪:‬‬

‫القرآن الكريم‪.‬‬

‫أبو نواس‪ .)١٩٨٠( .‬الديوان‪ .‬بيروت‪ :‬دار صادر‪.‬‬

‫أبو النصر‪ ،‬عمر‪ .)١٩٧٠( .‬أبو نواس ـ حياته الجنسية ولياليه الصاخبة وغرامياته وعبثه ولهوه ومباذله‪ .‬بيروت‪.‬‬

‫الشكعة‪ ،‬مصطفى‪ .)١٩٨٠( .‬الشعر والشعراء في العصر العباسي‪( .‬الطبعة الخامسة)‪ .‬بيروت‪ :‬دار العلم للماليين‪.‬‬

‫العرفي‪ ،‬إسماعيل‪ .)١٩٧٩( .‬في الشعوبية‪ .‬الجمهورية العراقية‪.‬‬

‫العقاد‪ ،‬عباس محمود‪ .)١٩٦٨( .‬أبو نواس ـ الحسن بن هانئ‪( .‬الطبعة االولى)‪ .‬بيروت‪ :‬دار الكتاب العربي‪.‬‬

‫الهزايمة‪ ،‬فاروق‪ .‬محمد‪ ،‬محمد عبد المجيد‪ .)٢٠١٠( .‬الشعوبية بين التأصيل النظري والممارسة العملية‪ :‬أبو نواس نموذجا ً‪.‬‬
‫(العدد‪ ،٢٢ F‬مجلد ‪ .)٢‬مصر‪ :‬مجلة الدراسات العربية (كلية دار العلوم ‪ -‬جامعة المنيا)‪.‬‬

‫خليف‪ ،‬يوسف‪ .)١٩٨١( .‬تاريخ الشعر في العصر العباسي‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الثقافة للطباعة والنشر‪.‬‬

‫شلبي‪ ،‬سعد إسماعيل‪ .)١٩٨٣( .‬الشعر العباسي ــ التيار الشعبي‪ .‬القاهرة‪ :‬مكتبة غريب‪.‬‬

‫‪14‬‬

You might also like