You are on page 1of 11

‫َم َعالِ ُم فِي الت َّْو ِحيد‬

‫احلمد هلل رب العاملني ‪ ،‬والعاقبة للمتقني ‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ‪ ،‬وأشهد أنَّ حممداً‬
‫وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أمجعني ‪ ،‬أما بعد ‪:‬‬ ‫عبده ورسوله ‪ ،‬صلى اهلل َّ‬
‫أيها اإلخوة الكرام ‪ :‬هذا لقاء ملوضوع عظيم للغاية وكبري جداً وكل ٍ‬
‫واحد منا حمتاج إليه تذكرةً وتبصرة ‪،‬‬
‫وهلذا لنصرب حمتسبني صربنا عند اهلل تبارك وتعاىل بالوقوف على جوانب هذا املوضوع من باب املذاكرة‬
‫واملدارسة ألعظم أم ٍر على اإلطالق أال وهو ‪ :‬توحيد اهلل جل وعال ‪ ،‬وموضوع هذا اللقاء عنوانه « معامل يف‬
‫التوحيد » ‪ ،‬وسأحتدث أيها اإلخوة حول هذا املوضوع\ ويف معامل التوحيد عن نقاط ستة وهي ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬خصائص التوحيد وفضائله ‪.‬‬
‫وثانياً ‪ُّ :‬‬
‫حد التوحيد وحقيقته ‪.‬‬
‫وثالثاً ‪ :‬حتقيق التوحيد وتكميله ‪.‬‬
‫ورابعاً ‪ :‬نواقض التوحيد ونواقصه\ ‪.‬‬
‫وخامساً ‪ :‬مصدر التوحيد ومنبعه\ ‪.‬‬
‫وسادساً ‪ :‬مثار التوحيد وفوائده ‪.‬‬
‫فهذه ستة نقاط سيدور حوهلا احلديث بإذن اهلل تبارك وتعاىل يف لقاءنا هذا ‪ ،‬وكل نقطة من هذه النقاط حتتاج‬
‫إىل بسط وسعة يف البيان\ لكنين سأجتزئ يف هذه النقاط من الكالم\ ما حيقق املقصود بإذن اهلل تبارك وتعاىل ‪،‬‬
‫ونبدأ مستعينني باهلل مستمدِّين العون\ والتوفيق منه تبارك وتعاىل يف نقاط موضوعنا هذا ‪.‬‬

‫‪ ‬النقطة األولى ‪ :‬خصائص التوحيد وفضائله ‪.‬‬


‫أيها اإلخوة الكرام ‪ :‬التوحيد له خصائص كثرية جداً وفضائل عديدة تدل على مكانته\ العليا ومنزلته الرفيعة‬
‫وسأشري هنا إىل عشر خصائص للتوحيد ‪:‬‬
‫األوىل ‪ :‬أنه الغاية اليت ُخلقنا ألجلها وأوجدنا لتحقيقها كما يدل لذلك قول اهلل سبحانه وتعاىل ‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫ون} [الذاريات‪ ]56:‬ومعىن { ِإاَّل لِيَ ْعبُ ُدو ِن} أي ليوحدون ‪ ،‬فالتوحيد هو‬ ‫ت ْال ِج َّن َواِإْل ْن َ‬
‫س ِإاَّل لِيَ ْعبُ ُد ِ‬ ‫{ َو َما خَ لَ ْق ُ‬
‫الغاية اليت ُخلقنا ألجلها يف هذه احلياة ‪ ،‬واهلل سبحانه وتعاىل مل خيلقنا عبثاً وال يرتكنا أيضاً سدى ومهال بل‬
‫ليوحدوه ‪ ،‬ألجل هذا خلقهم ‪ .‬فمن خصائص التوحيد أنه‬ ‫خلق اخللق ليعبدوه وأوجدهم تبارك وتعاىل ِّ‬
‫الغاية اليت ُخلق اخللق ألجلها وأوجدوا لتحقيقها ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫نيب بعثه اهلل جل وعال فإن‬ ‫األمر الثاين ‪ :‬أن التوحيد هو حمور دعوة األنبياء\ واملرسلني مبعىن ‪ :‬أن كل ٍّ‬ ‫‪‬‬
‫دعوته ترتكز على التوحيد وتقوم عليه ‪ ،‬وهذا أدلته كثرية منها ‪ :‬قول اهلل سبحانه ‪َ {:‬ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك ِّل‬
‫ُأ َّم ٍة َر ُسواًل َأ ِن ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َواجْ تَنِبُوا الطَّا ُغوتَ } [النحل‪ ]36:‬وقول اهلل سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬و َما َأرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِكَ‬
‫وحي ِإلَ ْي ِه َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل َأنَا فَا ْعبُ ُدو ِن } [األنبياء‪ ]25:‬قال تعاىل ‪َ { :‬وا ْسَألْ َم ْن َأرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِكَ‬ ‫ُول ِإاَّل نُ ِ‬
‫ِم ْن َرس ٍ‬
‫ِم ْن ُر ُسلِنَا َأ َج َع ْلنَا ِم ْن ُدو ِن الرَّحْ َم ِن آلِهَةً يُ ْعبَ ُدونَ } [الزخرف‪ ]45:‬وقال جل وعال ‪َ { :‬و ْاذ ُكرْ َأ َخا عَا ٍد ِإ ْذ َأ ْن َذ َر‬
‫خَلفِ ِه َأاَّل تَ ْعبُ ُدوا ِإاَّل هَّللا َ } [األحقاف‪ ]21:‬خلت النذر من‬ ‫ت النُّ ُذ ُر ِم ْن بَي ِْن يَ َد ْي ِه َو ِم ْن ْ‬
‫اف َوقَ ْد َخلَ ِ‬‫قَوْ َمهُ بِاَأْلحْ قَ ِ‬
‫بني يديه ومن خلفه أي ‪ :‬أن الرسل قبله وبعده متفقون\ على هذه الغاية {َأاَّل تَ ْعبُ ُدوا ِإاَّل هَّللا َ } ‪ .‬فهذا من‬
‫الدالئل على أن التوحيد مرتكز دعوة األنبياء\ واملرسلني ‪ ،‬وهلذا فإن أول كلمة يسمعها األقوام من أنبيائهم\‬
‫وأول ما يبدأوهنم به يف باب الدعوة إىل اهلل ‪ :‬الدعوة إىل توحيده ؛ ألنه هو األساس الذي يُبىن عليه الدين‬
‫‪ ،‬فإن مثل الدين مثل شجرة ‪ ،‬ومن املعلوم أن الشجرة هلا أصل وهلا فرع ‪ ،‬وال يستقيم أمر شجرة إال‬
‫ب هَّللا ُ َمثَاًل َكلِ َمةً طَيِّبَةً َك َش َج َر ٍة‬‫ض َر َ‬ ‫بأصلها وال يستقيم أمر الدين إال بأساسه وهو التوحيد {َألَ ْم تَ َر َك ْيفَ َ‬
‫ت َوفَرْ ُعهَا فِي ال َّس َما ِء} [إبراهيم‪ ، ]24:‬وكما أن الشجرة إذا قُطع أصلها ماتت فكذلك الدين‬ ‫طَيِّبَ ٍة َأصْ لُهَا ثَابِ ٌ‬
‫إذا مل يقم على التوحيد مل يُنتفع به ‪ ،‬فمكان التوحيد من الدين مكان األصول من األشجار والقواعد من‬
‫البنيان ‪ .‬ومما يدل على أن التوحيد حمور دعوة األنبياء واملرسلني ومرتكز رسالتهم قول النيب صلى اهلل عليه‬
‫اح ٌد)) أي عقيدتنا\ واحدة كلنا‬ ‫وسلم فيما صح عنه ((اَأْلنْبِياء\ ِإخوةٌ ِمن عاَّل ٍت و َُّأمها ُتهم َشىَّت و ِد ُينهم و ِ‬
‫َ ُْ َ‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫َ ُ َْ ْ َ‬
‫دعاة إىل دين اهلل ‪ ،‬وأمهاتنا\ شىت أي شرائعنا خمتلفة {لِ ُكلٍّ َج َع ْلنَا ِم ْن ُك ْم ِشرْ َعةً َو ِم ْنهَاجًا} [املائدة‪. ]48:‬‬
‫األمر الثالث من خصائص التوحيد ‪ :‬أنه أول واجب على املكلف ؛ فأول ما جيب على اإلنسان‬ ‫‪‬‬
‫للدخول يف هذا الدين هو التوحيد ‪ ،‬وأول ما يُبدأ به اإلنسان\ من الدعوة إىل اهلل سبحانه وتعاىل من هذا‬
‫ت َأ ْن ُأقَاتِ َل‬ ‫ِ‬
‫الدين هو التوحيد ‪ ،‬وهذا يدل عليه دالئل عديدة منها ‪ :‬قول النيب صلى اهلل عليه وسلم ((ُأم ْر ُ‬
‫َّاس َحىَّت يَ ْش َه ُدوا َأ ْن الَ ِإلَهَ ِإاَّل اللَّهُ)) ‪ ،‬ومنها قوله عليه الصالة والسالم ملعاذ بن جبل عندما بعثه إىل‬ ‫الن َ‬
‫اليمن (( إنك تأيت قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن ال إله إال اهلل )) ؛ فالتوحيد هو‬
‫أول ما جيب على املكلفني وبه يبدءون ‪ ،‬وهو أول ما يدخل اإلنسان به يف هذا الدين ‪ ،‬فالدين قائم على‬
‫التوحيد وهو أساس الدين الذي عليه يبىن ‪.‬‬
‫األمر الرابع من خصائص التوحيد وميزاته ‪ :‬أنه سبب األمن واالهتداء\ يف الدنيا واآلخرة ‪ ،‬واقرأ هذا يف‬ ‫‪‬‬
‫قول اهلل سبحانه وتعاىل {الَّ ِذينَ آ َمنُوا َولَ ْم يَ ْلبِسُوا ِإي َمانَهُ ْم بِظُ ْل ٍم ُأولَِئ َك لَهُ ُم اَأْل ْم ُن َوهُ ْم ُم ْهتَ ُدونَ } [األنعام‪، ]82:‬‬
‫يوحد اهلل‬ ‫للموحد الذي ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫األمن واالهتداء ألهل التوحيد ‪ ،‬األمن بيد اهلل وال يعطيه سبحانه وتعاىل إال‬
‫وخيلص الدين له سبحانه وتعاىل ودليل ذلك اآلية قال ‪{ :‬الَّ ِذينَ آ َمنُوا َولَ ْم يَ ْلبِسُوا ِإي َمانَهُ ْم بِظُ ْل ٍم ُأولَِئكَ لَهُ ُم‬

‫‪2‬‬
‫اَأْل ْم ُن َوهُ ْم ُم ْهتَ ُدونَ } ؛ ما معىن { بِظُ ْل ٍم }؟ ملا نزلت هذه اآلية كما جاء يف احلديث الصحيح شق أمرها‬
‫على الصحابة رضي اهلل عنهم وأتوا النيب صلى اهلل عليه وسلم وقالوا ‪ :‬يا رسول اهلل أينا مل يظلم نفسه ؟‬
‫ك لَهُ ُم اَأْل ْم ُن َوهُ ْم‬‫يعين ما منا إال وقد ظلم نفسه واهلل يقول {الَّ ِذينَ آ َمنُوا َولَ ْم يَ ْلبِسُوا ِإي َمانَهُ ْم بِظُ ْل ٍم ُأولَِئ َ‬
‫ُم ْهتَ ُدونَ }‪ ،‬فمعىن ذلك ال حظ لنا من األمن واالهتداء\ ألن كل واحد منا قد ظلم نفسه ‪ ،‬فقال عليه‬
‫الصالة\ والسالم ‪ (( :‬ليس ذاك )) يعين ليس هذا هو معىن الظلم يف اآلية ((أما قرأمت قول العبد الصاحل ‪-‬‬
‫يعين لقمان احلكيم‪{ -‬يَا بُنَ َّي اَل تُ ْش ِر ْك بِاهَّلل ِ ِإ َّن ال ِّشرْ كَ لَظُ ْل ٌم َع ِظي ٌم} [لقمان‪ ، ]13:‬ففسر عليه الصالة‬
‫والسالم الظلم يف قوله {الَّ ِذينَ آ َمنُوا َولَ ْم يَ ْلبِسُوا ِإي َمانَهُ ْم بِظُ ْل ٍم }بالشرك ؛ فأفادت اآلية بتفسري النيب صلى‬
‫موحد مل يقع يف الشرك ‪ -‬له األمن واالهتداء\ يف الدنيا‬ ‫اهلل عليه وسلم هلا أن الذي آمن ومل يشرك ‪ -‬أي ِّ‬
‫ومن عليه باألمن‬ ‫واآلخرة ؛ فهذه من خصائص التوحيد ‪ :‬من كان موحداً منحه اهلل سبحانه وتعاىل َّ‬
‫واالهتداء\ يف الدنيا واآلخرة ‪.‬‬
‫األمر اخلامس ‪ :‬أن التوحيد فيه السالمة من االضطراب والتناقض خبالف العقائد األخرى ‪ ،‬فالعقائد‬ ‫‪‬‬
‫األخرى أيًّا كانت مضطربة ومتناقضة قد قال اهلل سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬ولَوْ َكانَ ِم ْن ِع ْن ِد َغي ِْر هَّللا ِ لَ َو َج ُدوا فِي ِه‬
‫اختِاَل فًا َكثِيرًا} [النساء‪ ، ]82:‬فالعقائد اليت خيرتعها الناس وحُيْ ِدثوهنا فيها من االضطراب والتناقض\ الشيء‬ ‫ْ‬
‫الكثري ‪ ،‬أما اإلميان الصحيح واالعتقاد السليم والتوحيد الراسخ املستمد من كتاب اهلل وسنة نبيه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم فهو سامل من ذلك كله ‪.‬‬
‫سادساً من خصائص التوحيد ‪ :‬أنه موافق للفطر السليمة والعقول املستقيمة ؛ فالتوحيد هو دين الفطرة‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،‬ولو ترك اإلنسان\ وفطرته ملا قبِل غري التوحيد ألنه يتوافق مع الفطرة بل هو الفطرة كما قال اهلل سبحانه‬
‫ِّين ْالقَيِّ ُم‬
‫ك الد ُ‬ ‫يل لِخ َْل ِ‬
‫ق هَّللا ِ َذلِ َ‬ ‫ط َرتَ هَّللا ِ الَّتِي فَطَ َر النَّ َ‬
‫اس َعلَ ْيهَا اَل تَ ْب ِد َ‬ ‫ِّين َحنِيفًا فِ ْ‬ ‫وتعاىل {فََأقِ ْم َوجْ هَ َ‬
‫ك لِلد ِ‬
‫خروج عن الفطرة‬ ‫ٌ‬ ‫اس اَل يَ ْعلَ ُمونَ } [الروم‪ ، ]30:‬فالتوحيد هو دين الفطرة أما الشرك فهو‬ ‫َولَ ِك َّن َأ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫واحنراف عنها ‪ ،‬وهلذا جاء يف صحيح مسلم حديث قدسي قال اهلل تعاىل فيه ‪(( :‬خلَ ْق ِ ِ‬
‫ت عبَادي ُحَن َفاءَ‬ ‫َ ُ‬
‫اجتَالَْت ُه ْم َع ْن ِدينِ ِه ْم)) ؛ خلقت عبادي حنفاء ‪ :‬أي على الفطرة اليت هي‬ ‫ني فَ ْ‬
‫ِ‬
‫ُكلَّ ُه ْم‪َ ،‬وِإن َُّه ْم َأَتْت ُه ُم الشَّيَاط ُ‬
‫حرفتهم عن دينهم ‪ ،‬وجاء يف الصحيح من حديث أيب هريرة عن‬ ‫التوحيد فأتتهم الشياطني فاجتالتهم أي َ‬
‫صَرانِِه‪َ ،‬ك َما‬ ‫ود ِإاَّل يولَ ُد علَى ِ‬
‫الفطَْر ِة‪ ،‬فَ ََأب َواهُ يُ َه ِّو َدانِِه‪َ ،‬ويُنَ ِّ‬ ‫النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال ‪(( :‬ما ِمن مولُ ٍ‬
‫ُ َ‬ ‫َ ْ َْ‬
‫يمةَ‪َ ،‬ه ْل جَتِ ُدو َن فِ َيها ِم ْن َج ْد َعاءَ‪َ ،‬حىَّت تَ ُكونُوا\ َأْنتُ ْم جَتْ َدعُو َن َها؟)) البهيمة خترج من بطن أمها‬ ‫ِ‬
‫ُتْنت ُجو َن البَه َ‬
‫ِ‬
‫مجعاء ؛ اآلذان موجودة األطراف موجودة األيدي موجودة ‪ ،‬فإذا انقطعت منها رجل أو يد أو أذُن أو حنو‬
‫ذلك هذا ليس من أصل خلقتها وإمنا هذا بفعل الناس بعدما خرجت تامة وكاملة ‪ ،‬قال ((إال أن تكونوا‬
‫متجس أو وقع يف أي نوع‬ ‫تنصر أو هتَّود أو َّ‬ ‫أنتم الذين جتدعوهنا )) فكذلك املولود يولد على الفطرة ‪ ،‬إذا َّ‬

‫‪3‬‬
‫من أنواع\ االحنراف والزيغ والضالل والباطل هذا بفعل األبوين أو احمليط الذي ينشأ فيه "وينشأ\ ناشئ‬
‫الفتيان منَّا على ما كان عوده أبوه" قال ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو ميجسانه )) ومل يقل "أو يسلِّمانه"‬
‫وولد على الفطرة ‪ ،‬فالتوحيد هو دين الفطرة والشرك وغريه من الضالل والباطل كل ذلكم‬ ‫ألنه هو نشأ ُ‬
‫مصادم للفطرة مباين هلا ‪ 0‬فإذاً من خصائص التوحيد أنه موافق للفطرة السليمة وموافق أيضاً للعقول‬
‫املستقيمة ‪ ،‬العقل املستقيم الذي مل يزغ ومل ينحرف ال يرضى بغري التوحيد وال يقبل إال التوحيد ‪ ،‬من‬
‫اح ُد ْالقَهَّارُ(‪َ )39‬ما‬ ‫عقل سليم ويرضى بتعدد اآلهلة!! {َأَأرْ بَابٌ ُمتَفَرِّ قُونَ خَ ْي ٌر َأ ِم هَّللا ُ ْال َو ِ‬ ‫الذي عنده ٌ‬
‫تَ ْعبُ ُدونَ ِم ْن ُدونِ ِه ِإاَّل َأ ْس َما ًء َس َّم ْيتُ ُموهَا َأ ْنتُ ْم َوآبَاُؤ ُك ْم َما َأ ْن َز َل هَّللا ُ بِهَا ِم ْن س ُْلطَا ٍن } [يوسف‪. ]40-39:‬‬
‫األمر السابع من خصائص التوحيد ‪ :‬أن التوحيد هو الرابطة احلقيقية\ الباقية املستمرة يف الدنيا واآلخرة‬ ‫‪‬‬
‫‪ ،‬وال يوجد رابطة بني الناس إطالقاً مثل رابطة التوحيد ‪ ،‬ألن هذه الرابطة اليت بني أهل التوحيد واإلميان‬
‫ْض َع ُد ٌّو ِإاَّل ْ‬
‫ال ُمتَّقِينَ } [الزخرف‪:‬‬ ‫ضهُ ْم لِبَع ٍ‬ ‫هي رابطة باقيةٌ مستمرةٌ دائمة يف الدنيا واآلخرة {اَأْل ِخاَّل ُء يَوْ َمِئ ٍذ بَ ْع ُ‬
‫‪ ، ]67‬قال يف آية أخرى ‪َ { :‬وتَقَطَّ َع ْت بِ ِه ُم اَأْل ْسبَابُ } [البقرة‪ ]166:‬أي العالئق والصالت\ ؛ فكل صلة منقطعة‬
‫وكل حب منقطع وكل تواصل زائل إال احلب والصلة والتواصل يف التوحيد واإلميان باهلل ‪ ،‬فما كان هلل‬
‫دام واتصال ‪ ،‬وما كان لغريه انقطع وانفصال ‪ ،‬مهما كانت الرابطة قوية ومهما كانت الصلة عميقة‬
‫ستنتهي إما يف الدنيا أو يف اآلخرة قطعاً‪ ،‬إال الصلة اليت تكون\ على توحيد اهلل سبحانه وتعاىل وحسن‬
‫اإلميان به فهذه صلة دائمة مستمرة باقية يف الدنيا واآلخرة ‪.‬‬
‫ني عذب ومورد زالل ‪ ،‬فهو‬ ‫األمر الثامن من خصائص التوحيد ‪ :‬سالمة مصدره فهو مأخوذ من مع ٍ‬ ‫‪‬‬
‫مستمد من كتاب اهلل ذي اجلالل ومن سنة رسوله صلوات اهلل وسالمه عليه الذي ال ينطق عن اهلوى إن‬
‫مفصالً بعض الشيء ‪.‬‬ ‫حديث عنه َّ‬ ‫ٌ‬ ‫هو إال وحي يوحى ‪ ،‬وهذا جانب سيأيت‬
‫التاسع من خصائص التوحيد ‪ :‬الثبات واحلفظ ‪ ،‬واهلل تبارك وتعاىل تكفل حبفظ هذا التوحيد وحفظ‬ ‫‪‬‬
‫ُظ ِه َرهُ َعلَى الدِّي ِن ُكلِّ ِه َولَوْ َك ِرهَ‬ ‫ق لِي ْ‬‫ين ْال َح ِّ‬
‫هذا الدين وبقائه {هُ َو الَّ ِذي َأرْ َس َل َرسُولَهُ بِ ْالهُدَى َو ِد ِ‬
‫[الروم‪:‬‬ ‫ْال ُم ْش ِر ُكونَ } [التوبة‪ِ{ ]33:‬إ َّن هَّللا َ يُدَافِ ُع َع ِن الَّ ِذينَ آ َمنُوا} [احلج‪َ { ]38:‬و َكانَ َحقًّا َعلَ ْينَا نَصْ ُر ْال ُمْؤ ِمنِينَ }‬
‫ت فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوفِي اآْل ِخ َر ِة} [إبراهيم‪. ]27:‬‬
‫ِّت هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُوا بِ ْالقَوْ ِل الثَّابِ ِ‬
‫‪{ ]47‬يُثَب ُ‬
‫األمر العاشر ‪ :‬اشتماله على مثار كثرية وفضائل عديدة وآثار متنوعة يف الدنيا واآلخرة سيأيت احلديث‬ ‫‪‬‬
‫عن بعضها يف متام هذا املوضوع وختامه ‪.‬‬

‫‪ ‬بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الثانية وهي حد التوحيد وحقيقته ؛ ما هو التوحيد وما حقيقته ؟‬

‫‪4‬‬
‫أصل يدل على اإلفراد ‪ .‬وتوحيد اهلل إفراده سبحانه وتعاىل‬ ‫يوحد توحيداً ‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫وحد ِّ‬‫التوحيد ‪ :‬مصدر للفعل َّ‬
‫ونفي الشريك عنه يف حقوقه جل وعال وخصائصه ‪ ،‬ال شريك له يف شيء من خصائصه وال يف شيء من‬
‫ورزقاً وإحياءً وإماتةً وتدبرياً هذا‬ ‫حقوقه سبحانه وتعاىل على عباده ‪ .‬فالربوبية التصرف يف هذا الكون خلقاً َ‬
‫من خصائص اهلل ‪ ،‬أمساؤه احلسىن وصفاته العليا ومشيئته\ النافذة وقدراته الشاملة وعلمه الواسع وكماله جل‬
‫وعال يف أمسائه وصفاته هذا من خصائص اهلل ‪ ،‬فمن أعطى أحداً من املخلوقات شيء من خصائص اهلل نقض‬
‫هبذا توحيده ‪ .‬وحقوق اهلل سبحانه وتعاىل على العباد أن يعبدوه وال يشركوا به شيئا كما يف حديث معاذ قال‬
‫له النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ (( :‬أتدري ما حق اهلل على العباد وما حق العباد على اهلل ؟ قال حق اهلل على‬
‫العباد أن يعبدوه وال يشركوا به شيئا ‪ ،‬وحق العباد على اهلل أن ال يعذب من ال يشرك به شيئا )) فالعبادة حق‬
‫هلل سبحانه وتعاىل فمن صرف شيئا من العبادة لغري اهلل نقض بذلك توحيده ‪ ،‬فالتوحيد هو إفراد اهلل جل وعال‬
‫حبقوقه وخصائصه ‪ ،‬والشرك هو تسوية غري اهلل باهلل يف شيء من حقوقه أو خصائصه ‪ ،‬فهذه حقيقة التوحيد ‪:‬‬
‫ك‬ ‫أن نفرد اهلل جل وعال وأن ال جنعل معه شريكاً { َوا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َواَل تُ ْش ِر ُكوا بِ ِه َش ْيًئا} [النساء‪َ { ]36:‬وقَ َ‬
‫ضى َربُّ َ‬
‫صينَ لَهُ ال ِّدينَ } [البينة‪ ، ]5:‬واآليات يف هذا‬ ‫َأاَّل تَ ْعبُ ُدوا ِإاَّل ِإيَّاهُ } [اإلسراء‪َ { ، ]23:‬و َما ُأ ِمرُوا ِإاَّل لِيَ ْعبُ ُدوا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ‬
‫املعىن كثرية ؛ فهذا هو التوحيد وهذه هي حقيقته ‪ .‬وإذا تأملت ذلك تبني لك أن التوحيد يف ضوء ما دل عليه‬
‫أقسام ثالثة‪ :‬توحيد الربوبية\ ‪ ،‬وتوحيد األمساء والصفات ‪ ،‬وتوحيد‬ ‫كتاب اهلل وسنة نبيه صلى اهلل عليه وسلم ٌ‬
‫األلوهية\ ‪.‬‬
‫أما توحيد الربوبية فهو إفراد اهلل سبحانه وتعاىل باعتقاد أنه وحده اخلالق الرازق املالك املنعم املتصرف‬ ‫‪‬‬
‫الذي ال شريك له يف شيء من ذلك ‪.‬‬
‫وتوحيد األمساء والصفات هو إفراده سبحانه وتعاىل بأمسائه احلسىن وصفاته العال الواردة يف كتابه وسنة‬ ‫‪‬‬
‫نبيه صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬قال اهلل تعاىل ‪{ :‬هَّللا ُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل هُ َو لَهُ اَأْل ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى} [طه‪ ، ]8:‬وقال تعاىل‪:‬‬
‫{قُ ِل ا ْد ُعوا هَّللا َ َأ ِو ا ْد ُعوا الرَّحْ َمنَ َأيًّا َما تَ ْد ُعوا فَلَهُ اَأْل ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى} [اإلسراء‪ ، ]110:‬قال جال وعال ‪{ :‬هُ َو‬
‫ب َوال َّشهَا َد ِة هُ َو الرَّحْ َم ُن ال َّر ِحي ُم (‪ )22‬هُ َو هَّللا ُ الَّ ِذي اَل ِإلَهَ ِإاَّل هُ َو ْال َملِ ُ‬
‫ك‬ ‫هَّللا ُ الَّ ِذي اَل ِإلَهَ ِإاَّل هُ َو عَالِ ُم ْال َغ ْي ِ‬
‫ق‬‫ْالقُ ُّدوسُ ال َّساَل ُم ْال ُمْؤ ِم ُن ْال ُمهَ ْي ِم ُن ْال َع ِزي ُز ْال َجبَّا ُر ْال ُمتَ َكبِّ ُر ُسب َْحانَ هَّللا ِ َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ (‪ )23‬هُ َو هَّللا ُ ْالخَ الِ ُ‬
‫كي ُم} [احلشر‪-22:‬‬ ‫ض َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِ‬ ‫ت َواَأْلرْ ِ‬
‫اوا ِ‬ ‫ص ِّو ُر لَهُ اَأْل ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى يُ َسبِّ ُح لَهُ َما فِي ال َّس َم َ‬ ‫ارُئ ْال ُم َ‬ ‫ْالبَ ِ‬
‫‪. ]24‬‬
‫والقسم الثالث ‪ :‬توحيد األلوهية\ وهو إفراد اهلل سبحانه وتعاىل بالعبادة وإخالص الدين له والرباءة\ من‬ ‫‪‬‬
‫صينَ لَهُ ال ِّدينَ } ‪ ،‬وقال {َأاَل هَّلِل ِ الد ُ‬
‫ِّين‬ ‫الشرك كما قال اهلل تعاىل ‪َ { :‬و َما ُأ ِمرُوا ِإاَّل لِيَ ْعبُ ُدوا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ات َو ْه َو يَ ْدعُو م ْن ُدون اللَّه ندًّا َد َخ َل الن َ‬
‫َّار))‬ ‫ْالخَ الِصُ } [الزمر‪ ، ]3:‬قال عليه الصالة والسالم‪َ (( :‬م ْن َم َ‬
‫فتوحيد األلوهية\ هو أن يُفرد اهلل بالعبادة ‪ :‬بالدعاء ‪ ،‬الرجاء ‪ ،‬اخلوف ‪ ،‬النذر ‪ ،‬الذبح ‪ ،‬الصالة\ ‪ ،‬الصيام‬
‫‪5‬‬
‫ي َو َم َماتِي هَّلِل ِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ (‪ )162‬اَل َش ِري َ‬
‫ك‬ ‫إىل غري ذلك من العبادات {قُلْ ِإ َّن َ‬
‫صاَل تِي َونُ ُس ِكي َو َمحْ يَا َ‬
‫ت} [األنعام‪ ]163-162:‬وهذا هو التوحيد وهذه حقيقته ‪.‬‬ ‫ك ُأ ِمرْ ُ‬
‫لَهُ َوبِ َذلِ َ‬
‫واحد منها ضد ؛ فتوحيد الربوبية ضده جحد خصائص اهلل يف ربوبيته\ أو‬ ‫وهذه األقسام الثالثة للتوحيد لكل ٍ‬
‫إعطاء شيء من خصائص اهلل تبارك وتعاىل يف ربوبيته\ لغريه سبحانه وتعاىل ‪ .‬وتوحيد األمساء والصفات ينتقض‬
‫بتعطيل أمساء اهلل وصفاته وجحدها أو بتشبيه\ اهلل تعاىل خبلقه تعاىل اهلل عما يقولون ‪ ،‬قال جل وعال‪ُ { :‬سب َْحانَ‬
‫[الصافات‪-180:‬‬ ‫صفُونَ (‪َ )180‬و َساَل ٌم َعلَى ْال ُمرْ َسلِينَ (‪َ )181‬و ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ }‬
‫َربِّكَ َربِّ ْال ِع َّز ِة َع َّما يَ ِ‬
‫‪ . ]182‬فهذه حقيقة التوحيد وهذا حدُّه ‪.‬‬

‫‪ ‬األمر الثالث من معالم التوحيد ‪ :‬حول تحقيق التوحيد وتكميله ‪.‬‬


‫أن أهلها يدخلون اجلنة يوم‬ ‫وحتقيق التوحيد هذه درجة عليا ومنزلة منيفة وشريفة ‪ ،‬ذكر عليه الصالة\ والسالم َّ‬
‫القيامة\ بدون حساب وال عذاب ‪ ،‬يف احلديث املشهور حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما قال عليه الصالة‬
‫والسالم (( وفيهم سبعون ألفاً يدخلون احلنة بغري حساب وال عذاب )) مث ذكرهم قال (( هم الذين ال‬
‫يسرتقون وال يتطريون وال يكتوون\ وعلى رهبم يتوكلون\ )) فهذه درجة عالية يف التوحيد وهي حتقيق التوحيد‬
‫وتكميله ‪.‬‬
‫وحتقيق التوحيد املراد به ‪ :‬تتميم التوحيد وتكميله وتصفيته\ وتنقيته\ من شوائب الشرك والبدع واملعاصي ؛ هذا‬
‫حتقيق التوحيد ‪ :‬أن جيتهد العبد يف تكميل التوحيد وتتميمه وأن جيتهد يف تصفيته\ وتنقيته\ من شوائب الشرك‬
‫يسميها أهل العلم العوائق اليت تعوق السائر يف سريه إىل اهلل والدار‬
‫والبدع واملعاصي\ ‪ ،‬وهذه األمور الثالثة\ ِّ‬
‫واآلخرة‪ :‬عائق الشرك وعائق البدعة وعائق املعصية ؛ أما عائق الشرك فاخلالص منه بإخالص التوحيد هلل ‪،‬‬
‫وأما عائق البدعة فاخلالص منه بلزوم السنة واتباع\ الرسول صلى اهلل عليه وسلم والسري على منهاجه ‪ ،‬وأما‬
‫عائق املعصية\ فبالبعد منها واحلذر من الوقوع فيها والتوبة\ النصوح إىل اهلل سبحانه وتعاىل إذا وقع يف شيء من‬
‫الذنوب واملعاصي ‪ .‬فإذا كان العبد هبذه الرتبة فإنه بلغ حتقيق التوحيد ‪.‬‬
‫وحتقيق التوحيد أيضا على رتبتني ‪ ،‬وكل من أهل الرتبتني يدخلون اجلنة يوم القيامة\ بدون حساب وال عذاب‪:‬‬
‫الرتبة األوىل من حتقيق التوحيد هي رتبة املقتصدين ‪ ،‬واملقتصدون حمققون\ للتوحيد ‪ .‬واملقتصد ‪ :‬هو‬ ‫‪‬‬
‫من فعل الواجب وترك احملرم ‪ ،‬فإذا كان العبد هذه حاله يف دنياه حمافظاً على الواجبات والفرائض جمانباً‬
‫للمحرمات والكبائر واآلثام فإنه قد حقق التوحيد التحقيق الواجب وكان من املقتصدين وهم ممن يدخل‬
‫اجلنة بدون حساب وال عذاب ‪ .‬فهذه رتبة يف حتقيق التوحيد ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫والرتبة الثانية\ أعلى من هذه الرتبة وهي ‪ :‬حتقيق التوحيد التحقيق املستحب وهي مرتبة السابقني‬ ‫‪‬‬
‫باخلريات وهم الذين مع حفظهم وعنايتهم بالواجبات وبُعدهم عن الكبائر واحملرمات فهم إضافةً إىل ذلك‬
‫متنافسون\ يف الرغائب والنوافل\ واملستحبات ‪.‬‬
‫فهؤالء احملققون\ للتوحيد بقسميهم املقتصدين والسابقني باخلريات كلهم يدخل اجلنة يوم القيامة بدون حساب‬
‫وال عذاب ‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل ‪{ :‬ثُ َّم َأوْ َر ْثنَا ْال ِكت َ‬
‫َاب الَّ ِذينَ اصْ طَفَ ْينَا ِم ْن ِعبَا ِدنَا فَ ِم ْنهُ ْم ظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه َو ِم ْنهُ ْم‬
‫ات َع ْد ٍن يَ ْد ُخلُونَهَا} [فاطر‪ ]33-32:‬أي‬ ‫ك هُ َو ْالفَضْ ُل ْال َكبِي ُر (‪َ )32‬جنَّ ُ‬ ‫ت بِِإ ْذ ِن هَّللا ِ َذلِ َ‬
‫ق بِ ْالخَ ْي َرا ِ‬ ‫ُم ْقت ِ‬
‫َص ٌد َو ِم ْنهُ ْم َسابِ ٌ‬
‫‪ :‬يدخل جنات عدن الثالثة\ ‪ :‬الظامل لنفسه ‪ ،‬واملقتصد ‪ ،‬والسابق باخلريات ‪ .‬أما املقتصد والسابق باخلريات‬
‫فإن دخوهلما إىل اجلنة دخوالً أولياً بدون حساب ‪ ،‬وأما الظامل لنفسه وهنا أقف وأسألكم ما املراد بظلم‬
‫النفس هنا ؟ هل هو املراد باآلية املتقدمة\ {الَّ ِذينَ آ َمنُوا َولَ ْم يَ ْلبِسُوا ِإي َمانَهُ ْم بِظُ ْل ٍم } ؟ هل املراد بالظلم هنا يف‬
‫ات َع ْد ٍن يَ ْد ُخلُونَهَا}‬ ‫قوله { فَ ِم ْنهُ ْم ظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه } أي بالشرك ؟ ال ؛ ألن اهلل قال يف اآلية اليت تليها { َجنَّ ُ‬
‫واملشرك اجلنة عليه حرام {اَل تُفَتَّ ُح لَهُ ْم َأ ْب َوابُ ال َّس َما ِء َواَل يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ} [األعراف‪ ]40:‬اجلنة حرام عليهم ‪ ،‬إذاً‬
‫ما املراد بقوله{ فَ ِم ْنهُ ْم ظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه }؟ أي ظلمها بالذنوب اليت دون الشرك ‪ ،‬وقع يف كبائر ومعاصي وآثام‬
‫دون الشرك ‪ ،‬فمن جاء يوم القيامة بذنوب ومعاصي وآثام دون الشرك أيضاً هو يدخل اجلنة ‪ ،‬لكن هل‬
‫يدخلها دخوالً أولياً بدون حساب وال عذاب كاملقتصد والسابق باخلريات ؟ كال ‪ ،‬فهو عُ ْرضة للعذاب‬
‫وعرضة للعقاب واحلساب ‪.‬‬
‫فإذاً قوله { فَ ِم ْنهُ ْم ظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه }املراد بالظلم للنفس هنا ‪ :‬أي باملعاصي اليت دون الشرك ‪ ،‬وهلذا إذا مضيت\ يف‬
‫ضى َعلَ ْي ِه ْم فَيَ ُموتُوا َواَل‬ ‫قراءة هذه اآليات جتد بعدها بقليل يقول اهلل { َوالَّ ِذينَ َكفَرُوا لَهُ ْم نَا ُر َجهَنَّ َم اَل يُ ْق َ‬
‫ط ِر ُخونَ فِيهَا َربَّنَا َأ ْخ ِرجْ نَا نَ ْع َملْ َ‬
‫صالِحًا َغي َْر‬ ‫ور (‪َ )36‬وهُ ْم يَصْ َ‬ ‫ك نَجْ ِزي ُك َّل َكفُ ٍ‬ ‫ف َع ْنهُ ْم ِم ْن َع َذابِهَا َك َذلِ َ‬ ‫يُخَ فَّ ُ‬
‫ير (‪)37‬‬ ‫الَّ ِذي ُكنَّا نَ ْع َم ُل َأ َولَ ْم نُ َع ِّمرْ ُك ْم َما يَتَ َذ َّك ُر فِي ِه َم ْن تَ َذ َّك َر َو َجا َء ُك ُم النَّ ِذي ُر فَ ُذوقُوا فَ َما لِلظَّالِ ِمينَ ِم ْن ن ِ‬
‫َص ٍ‬
‫} ؛ قوله هنا { فَ َما لِلظَّالِ ِمينَ } ختتلف عن قوله { فَ ِم ْنهُ ْم ظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه } ؛ هناك { ظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه } أي ‪ :‬باملعصية‬
‫والذنب الذي دون الشرك ‪ ،‬وقوله هنا { فَ َما لِلظَّالِ ِمينَ } أي للمشركني ‪ ،‬املراد بالظلم هنا الشرك والكفر‬
‫باهلل { َو ْال َكافِرُونَ هُ ُم الظَّالِ ُمونَ } [البقرة‪ . ]254:‬إذاً حتقيق التوحيد وتكميله على رتبتني ‪ :‬رتبة املقتصد ورتبة‬
‫السابق باخلريات ‪.‬‬

‫‪ ‬ننتقل إلى النقطة الرابعة وهي ‪ :‬نواقض التوحيد ونواقصه‬


‫التوحيد له نواقض وله نواقص ؛ ونواقض\ التوحيد هي اليت حتبط الدين وتبطل الدين كله وهي الكفر باهلل‬
‫والشرك والنفاق اخلالص ‪ ،‬الكفر بأنواعه والشرك بأنواعه\ والنفاق األكرب بأنواعه هذه كلها نواقض للتوحيد‬
‫تنقض\ التوحيد من أصله وهتدمه من أساسه ‪ ،‬فالشرك األكرب بأنواعه والكفر األكرب بأنواعه والنفاق\ األكرب‬

‫‪7‬‬
‫ك اَأْل ْسفَ ِل ِمنَ‬
‫بأنواعه كلها ناقضة للتوحيد وهادمة له من األساس ‪ ،‬قال اهلل تعاىل {ِإ َّن ْال ُمنَافِقِينَ فِي ال َّدرْ ِ‬
‫ار} [النساء‪ ]145:‬وقال تعاىل { َو َم ْن يَ ْكفُرْ بِاِإْل ي َما ِن فَقَ ْد َحبِطَ َع َملُهُ } [املائدة‪ ]5:‬وقال تعاىل ‪َ { :‬ولَقَ ْد ُأ ِ‬
‫وح َي ِإلَ ْيكَ‬ ‫النَّ ِ‬
‫َوِإلَى الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِكَ لَِئ ْن َأ ْش َر ْكتَ لَيَحْ بَطَ َّن َع َملُكَ } [الزمر‪ . ]65:‬فالتوحيد ينتقض\ وينهدم ويبطل بالشرك األكرب‬
‫بأنواعه والنفاق\ األكرب بأنواعه\ والكفر األكرب بأنواعه\ ‪ .‬وهذه اجلملة يطول احلديث يف الكالم\ عليها وذكر‬
‫تفاصيلها ‪.‬‬
‫تبطله وال هتدمه من األساس ومن ذلكم الكفر‬ ‫وأما نواقص التوحيد فهي األمور اليت تُنقص\ التوحيد وال ِ‬
‫ف‪َ ،‬وِإ َذا اْؤ مُتِ َن َخا َن)) ؛ هذه‬ ‫ب‪َ ،‬وِإ َذا َو َع َد ْ‬
‫َأخلَ َ‬ ‫األصغر ‪ ،‬ومن ذلكم النفاق\ العملي مثل ((ِإ َذا َحد َ‬
‫َّث َك َذ َ‬
‫نواقص\ للتوحيد إذا وجدت يف العبد نقص توحيده ونقص إميانه ‪ ،‬وكذلك الشرك األصغر واأللفاظ الشركية‬
‫اليت ال يقصد اإلنسان حقيقتها وإمنا تقع على لسانه هذه تُنقص\ توحيده ‪ ،‬أما إذا اعتقد حقيقتها كانت من‬
‫الشرك األكرب الناقض للتوحيد ‪.‬‬
‫اخلالصة ‪ :‬أن التوحيد له نواقض تنقضه\ من األساس وهتدمه من األساس ‪ ،‬وهناك\ نواقص تُضعف التوحيد ‪.‬‬
‫واملعاصي\ والبدع أيضاً تُضعف التوحيد وتُضعف اإلميان وهلذا ينبغي على املؤمن أن يكون على ٍ‬
‫رعاية لتوحيده‬
‫ناقض وكل ناقص لتوحيده ‪.‬‬ ‫وعناية\ به من كل ٍ‬

‫‪ ‬األمر الخامس ‪ :‬مصدر التوحيد ومنبعه ‪.‬‬


‫دين صحيح وإميا ٌن قومي وعقيدةٌ مباركة مستمدةٌ من كتاب اهلل وسنة نبيه عليه الصالة\ والسالم ‪.‬‬ ‫التوحيد ٌ‬
‫وكل ما عند الناس من‬ ‫التوحيد هو الدين الوحيد واإلميان الوحيد والعقيدة\ الوحيدة اليت نزلت من السماء ‪ُّ ،‬‬
‫عقائد مغايرة للتوحيد ومنافية له فهي عقائد نابتة يف األرض اخرتعها الناس وأحدثوها وأوجدوها ‪ .‬فالتوحيد‬
‫هو العقيدة الوحيدة اليت نزلت من السماء بوحي اهلل وهو دين اهلل الذي رضيه لعباده قال اهلل تعاىل ‪:‬‬
‫ل ِم ْنهُ } [آل عمران‪:‬‬ ‫يت لَ ُك ُم اِإْل ْساَل َم ِدينًا} [املائدة‪ ، ]3:‬وقال تعاىل ‪َ { :‬و َم ْن يَ ْبت َِغ َغ ْي َر اِإْل ْساَل ِم ِدينًا فَلَ ْن يُ ْقبَ َ‬
‫ض ُ‬‫{ َو َر ِ‬
‫‪ ، ]85‬وقال تعاىل { َو َم ْن يَرْ َغبُ ع َْن ِملَّ ِة ِإب َْرا ِهي َم ِإاَّل َم ْن َسفِهَ نَ ْف َسهُ } [البقرة‪ ، ]130:‬وقال تعاىل ‪ِ{ :‬إ َّن ال ِّدينَ ِع ْن َد‬
‫هَّللا ِ اِإْل ْساَل ُم} [آل عمران‪ ]19:‬فالتوحيد هو وحي من اهلل منزل على عباده وهو دين اهلل الذي خلق اخللق ألجله‬
‫وأوجدهم لتحقيقه ‪ ،‬وهلذا مر معنا { َولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُكلِّ ُأ َّم ٍة َر ُسواًل َأ ِن ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ } [النحل‪َ{ ، ]36:‬أتَى َأ ْم ُر هَّللا ِ‬
‫وح ِم ْن َأ ْم ِر ِه َعلَى َم ْن يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه‬
‫ْجلُوهُ ُسب َْحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ (‪ )1‬يُن َِّز ُل ْال َماَل ِئ َكةَ بِالرُّ ِ‬
‫فَاَل تَ ْستَع ِ‬
‫َأ ْن َأ ْن ِذرُوا َأنَّهُ اَل ِإلَهَ ِإاَّل َأنَا } [النحل‪ . ]2-1:‬بالتوحيد يبعثون ويُرسلون به فهو وحي من اهلل سبحانه وتعاىل ‪ .‬أما‬
‫العقائد املوجودة يف الناس املخالفة للتوحيد واملناقضة\ له فهي عقائد نبتت يف األرض واخرُت عت\ وأوجدها الناس‬
‫‪ ،‬وهلذا كان من طريقة األنبياء يف إبطال العقائد اليت بني الناس من شرك وكفر ونفاق وغري ذلك من أنواع\‬

‫‪8‬‬
‫الضالل بيان أنه مل ينزل ‪ ،‬قد مر معنا قول يوسف عليه السالم لصاحيب السجن { َأَأرْ بَابٌ ُمتَفَرِّ قُونَ َخ ْي ٌر َأ ِم‬
‫ان }‬ ‫ط ٍ‬ ‫اح ُد ْالقَهَّارُ(‪َ )39‬ما تَ ْعبُ ُدونَ ِم ْن ُدونِ ِه ِإاَّل َأ ْس َما ًء َس َّم ْيتُ ُموهَا َأ ْنتُ ْم َوآبَاُؤ ُك ْم َما َأ ْنزَ َل هَّللا ُ بِهَا ِم ْن س ُْل َ‬
‫هَّللا ُ ْال َو ِ‬
‫[يوسف‪ ، ]40-39:‬ويف سورة النجم قال اهلل تعاىل ‪َ{ :‬أفَ َرَأ ْيتُ ُم الاَّل تَ َو ْال ُع َّزى (‪َ )19‬و َمنَاةَ الثَّالِثَةَ اُأْل ْخ َرى (‪)20‬‬
‫الذ َك ُر َولَهُ اُأْل ْنثَى (‪ )21‬تِ ْلكَ ِإ ًذا قِ ْس َمةٌ ِ‬
‫ضيزَى (‪ِ )22‬إ ْن ِه َي ِإاَّل َأ ْس َما ٌء َس َّم ْيتُ ُموهَا َأ ْنتُ ْم َوآبَاُؤ ُك ْم َما َأ ْنزَ َل‬ ‫َألَ ُك ُم َّ‬
‫ان } ‪.‬‬ ‫هَّللا ُ بِهَا ِم ْن س ُْلطَ ٍ‬
‫ُأخذ التوحيد من هذا املورد العذب‬ ‫فإذاً التوحيد مصدره ومنبعه كتاب اهلل وسنة نبيه صلى اهلل عليه وسلم ‪ِ .‬‬
‫ومن هذا املنهل الصايف كتاب اهلل وسنة رسوله عليه الصالة والسالم ‪ .‬والعقائد اليت عند الناس من أين جاءوا‬
‫هبا ؟ ما مصدرها ؟ إما العقل بعقله أو بوحي ولكن ممن ؟ { َوِإ َّن ال َّشيَا ِطينَ لَيُوحُونَ ِإلَى َأوْ لِيَاِئ ِ‬
‫ه ْم} [األنعام‪]121:‬‬

‫وحي من الشيطان ‪ ،‬كما جاء أحد السلف إىل ابن عباس رضي اهلل عنه قال له ‪ :‬إن مسيلمة زعم الليلة أنه‬
‫"ص َدق" فارتاب الرجل كيف صدق ؟! قال ابن عباس‬ ‫نزل عليه وحي !! قال ابن عباس رضي اهلل عنهما ‪َ :‬‬
‫رضي اهلل عنهما قال اهلل تعاىل‪َ { :‬وِإ َّن ال َّشيَا ِطينَ لَيُوحُونَ ِإلَى َأوْ لِيَاِئ ِه ْم} ‪ ،‬فالشيطان يوحي إىل أهل الضالل‬
‫بأفكار بعقائد بأمور بوساوس خبطرات مث يبدأ يدعو الناس إليها هبذا الوحي الذي نزل عليه من الشيطان {هَلْ‬
‫اك َأثِ ٍيم} [الشعراء‪ ، ]222-221:‬الشيطان يتنزل ويوهم من‬ ‫ين (‪ )221‬تَنَ َّز ُل َعلَى ُكلِّ َأفَّ ٍ‬ ‫ُأنَبُِّئ ُك ْم َعلَى َم ْن تَنَ َّز ُل ال َّشيَ ِ‬
‫اط ُ‬
‫يتنزل عليه أنه يوحي إليه ‪.‬‬
‫فتأيت مثل هذه العقائد إما بوحي من الشيطان ‪ ،‬أو بإعمال اإلنسان\ والعياذ باهلل فكره اجملرد وعقله القاصر‬
‫ويبدأ خيرتع ‪ ،‬أو بأشياء يتوصل إليها اإلنسان بذوقه الفاسد ‪ .‬وهلذا بعض الناس تأيت عنده أعمال وعبادات‬
‫وطقوس يقول يف االستدالل هلا ‪ :‬جربنا أو جرب مشاخينا ‪ .‬من قال أن الدين واالعتقاد يؤخذ بالتجارب أو‬
‫من مصادره التجارب ؟ وبعضهم يأخذها من املنامات\ ؛ يأيت بعقيدة\ أو بفكرة يقول رأيت يف املنام\ ويبين عليها‬
‫ديناً أو عقيدة وهكذا دواليك من املصادر اليت يأخذ منها الناس عقائد ما أنزل اهلل تبارك وتعاىل هبا من سلطان‬
‫‪.‬‬
‫إذاً هذه العقيدة\ عقيدة التوحيد اليت هي دين اهلل سبحانه وتعاىل الذي ال يقبل اهلل دينا سواه هي عقيدة‬
‫ومنهل صايف ‪ ،‬ومن هنل من املورد األول ومن املنهل العذب وجد بقية املنابع كدرة‬ ‫ٍ‬ ‫مورد ٍ‬
‫عذب‬ ‫مستمدة من ٍ‬
‫وملوثة ‪ ،‬لكن مىت يعرف اإلنسان\ أن بقية هذه املنابع أو املصادر ملوثة إال إذا عرف املنبع الصايف ‪ ،‬إال إذا‬
‫عرف املنبع النقي\ الذي هو وحي اهلل سبحانه وتعاىل وتنزيله ‪ .‬وهلذا كثري من املشركني بعد هدايتهم ودخوهلم‬
‫يف التوحيد تبني هلم أهنم كانوا قوماً ال يعقلون ‪ ،‬بينما أهنم يف وقت ضالهلم وشركهم وباطلهم يظنون أن هذا‬
‫هو العقل الصحيح لكن ملا عرفوا التوحيد الصحيح والدين الصحيح وهداهم اهلل إليه تبني هلم أهنم كانوا قوما‬
‫ال يعقلون ‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫وهلذا كان بعض الصحابة أحيانا جيلسون يذكرون من أخبارهم الغريبة عندما كانوا على الشرك وحيمدون اهلل‬
‫الذي هداهم إىل اإلسالم والتوحيد ؛ يذكر بعضهم أهنم أيام الشرك كانوا يف سفر مجاعة وكانوا دائماً يف‬
‫أسفارهم حيملون األصنام اليت يعبدوهنما معهم إذا وقفوا يف مكان اجتهوا إليها بالعبادة ‪ ،‬يقول كنا يف سفر‬
‫فبينما حنن جلوس إذا ٍ‬
‫مبناد ينادي قال ‪ " :‬يا قوم احبثوا عن ربكم فإنا قد فقدناه " احلجر الذي معهم الذي‬
‫يعبدونه ضاع فُِقد ‪ ،‬يقول فتفرقنا يف األودية نبحث عن الرب املفقود كل واحد يف جهة ‪ ،‬يقول فبينما حنن‬
‫مبناد ينادي " يا قوم إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه" ‪ :‬وجدوا حجر آخر مثل ذاك احلجر أو مقارب‬ ‫نبحث إذا ٍ‬
‫له فجاءوا به واجتهوا إليه يعبدونه ويرجونه ويصرفون له الدعاء والرجاء ‪ ،‬أين عقول هؤالء ؟! هم يف وقت‬
‫هذا العمل وهذه املمارسة يقولون عن أنبياء وعن رسله أهنم جمانني ويعدُّون أنفسهم أهنم هم العقالء ‪ ،‬لكن إذا‬
‫أنار اهلل البصائر بالتوحيد واإلميان وهدى اهلل عز وجل القلوب هلذا اإلسالم\ تبني لإلنسان أن تلك املصادر‬
‫ملوثة مشوبة بكل باطل وضالل‪.‬‬

‫‪ ‬األمر األخير من معالم التوحيد ‪ :‬هو ثمار التوحيد وفوائده ‪.‬‬


‫تعد وال تستقصى ‪ ،‬وانظر اإلشارة إىل ذلك يف قوله تبارك وتعاىل {َألَ ْم ت ََر‬
‫والتوحيد له مثار ال حصى وفوائد ال ُّ‬
‫ت َوفَرْ ُعهَا فِي ال َّس َما ِء (‪ )24‬تُْؤ تِي ُأ ُكلَهَا ُك َّل ِحي ٍن‬
‫ب هَّللا ُ َمثَاًل َكلِ َمةً طَيِّبَةً َك َش َج َر ٍة طَيِّبَ ٍة َأصْ لُهَا ثَابِ ٌ‬ ‫َك ْيفَ َ‬
‫ض َر َ‬
‫} [إبراهيم‪ ]25-24:‬أي مثارها وفوائدها ‪.‬‬
‫إن كل‬ ‫ففوائد التوحيد ومثار التوحيد على العبد يف دنياه وأخراه ال حد هلا وال حصر ‪ ،‬بل نقول قوالً كليًّا ‪َّ :‬‬
‫خري يناله العبد يف الدنيا واآلخرة وكل شر ينجو منه العبد يف الدنيا واآلخرة هو من مثار التوحيد وأثر من آثار‬
‫فإن من أعظم مثار التوحيد وآثاره أنه‬ ‫التوحيد ‪ .‬وإذا دخلنا يف شيء من التفاصيل يف مثار التوحيد وآثاره َّ‬
‫يصحح األعمال ويزكيها ؛ إذ األعمال أيًّا كانت ومهما كانت ال تصح من العامل وال تُقبل منه إال بالتوحيد‬ ‫ِّ‬
‫‪ ،‬فهو لألعمال كاألساس للبنيان وكاألصول لألشجار ‪ ،‬وهلذا قال اهلل تعاىل ‪َ { :‬و َم ْن َأ َرا َد اآْل ِخ َرةَ َو َس َعى لَهَا‬
‫صالِحًا ِم ْن َذ َك ٍر َأوْ‬ ‫ك َكانَ َس ْعيُهُ ْم َم ْش ُكورًا} [اإلسراء‪ ، ]19:‬وقال جل وعال‪َ { :‬م ْن َع ِم َل َ‬ ‫َس ْعيَهَا َوهُ َو ُمْؤ ِم ٌن فَُأولَِئ َ‬
‫ُأ ْنثَى َوهُ َو ُمْؤ ِم ٌن فَلَنُحْ يِيَنَّهُ َحيَاةً طَيِّبَةً َولَنَجْ ِزيَنَّهُ ْم َأجْ َرهُ ْم بَِأحْ َس ِن َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ } [النحل‪ ]97:‬فالتوحيد هو‬
‫يصحح األعمال ويزكيها ‪ ،‬ولو كان عند اإلنسان من األعمال الشيء الكثري والعدد الوفري فإهنا ال تُقبل‬ ‫الذي ِّ‬
‫منه إال إذا كانت قائمةً على التوحيد وال تصح منه إال إذا كانت قائمة على التوحيد ‪ ،‬وهلذا قال اهلل تعاىل‪:‬‬
‫{ َو َما َمنَ َعهُ ْم َأ ْن تُ ْقبَ َل ِم ْنهُ ْم نَفَقَاتُهُ ْم ِإاَّل َأنَّهُ ْم َكفَرُوا بِاهَّلل ِ َوبِ َرسُولِ ِه } [التوبة‪ ، ]54:‬وقال تعاىل‪َ { :‬و َم ْن يَ ْكفُرْ‬

‫‪10‬‬
‫ك لَِئ ْن َأ ْش َر ْكتَ لَيَحْ بَطَ َّن َع َملُكَ‬ ‫بِاِإْل ي َما ِن فَقَ ْد َحبِطَ َع َملُهُ } [املائدة‪ ، ]5:‬وقال { َولَقَ ْد ُأ ِ‬
‫وح َي ِإلَ ْيكَ َوِإلَى الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ َ‬
‫} [الزمر‪ ]65:‬فالتوحيد يصحح األعمال بل ال تصح إال به ‪.‬‬
‫ك هُ ُم ْ‬
‫ال ُم ْفلِحُونَ } [البقرة‪:‬‬ ‫والتوحيد سبب الفالح والرفعة يف الدنيا واآلخرة {ُأولَِئكَ َعلَى هُدًى ِم ْن َربِّ ِه ْم َوُأولَِئ َ‬
‫‪ ]5‬؛ فأهل التوحيد هم أهل االهتداء ‪ ،‬وأهل التوحيد هم أهل الفالح ‪ ،‬والفالح هي أعظم ٍ‬
‫كلمة قيلت يف‬
‫حيازة اخلري ‪ ،‬فاملفلح هو من حاز خري الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وال حُي از اخلري وال يُظفر به يف الدنيا واآلخرة إال‬
‫بالتوحيد هلل وإخالص الدين له سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫وسبب للنجاة من عذاب اهلل وسخطه ‪ ،‬فمن لقي اهلل‬ ‫ٌ‬ ‫سبب للفوز بكرامة اهلل وجنَّته‬ ‫ومن مثار التوحيد ‪ :‬أنه ٌ‬
‫وخلِّد فيها أبد اآلباد قال اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل موحداً دخل اجلنة ‪ ،‬ومن لقي اهلل والعياذ باهلل مشركاً دخل النار ُ‬
‫تعاىل‪ِ{ :‬إ َّن هَّللا َ اَل يَ ْغفِ ُر َأ ْن يُ ْش َر َك بِ ِه َويَ ْغفِ ُر َما ُدونَ َذلِكَ لِ َم ْن يَ َشا ُء } [النساء‪ ، ]48:‬فالتوحيد من آثاره ومثاره‬
‫الفوز باجلنة والنجاة من النار ‪.‬‬
‫النجاة من النار للموحد كيف تكون ؟ هل هي جناةٌ من الدخول أو جناة من اخللود يف النار ؟ جواب هذا‬
‫مضى ؛ إن كان املوحد حمققاً توحيده التحقيق الواجب أو التحقيق املستحب فهذه جناةٌ من الدخول ‪ ،‬ينجو‬
‫من دخول النار ‪ .‬أما إذا كان موحداً لكنه ارتكب\ معاصي وآثام دون الشرك فالنجاة هنا من النار جناةٌ من‬
‫اخللود ألنه ال خيلد يف النار إال املشرك ‪ ،‬وهلذا جاء يف احلديث القدسي (( أخرجوا من النار من قال ال إله إال‬
‫اهلل ويف قلبه أدىن مثقال ذرة من إميان )) وهلذا التوحيد جناةٌ من النار ‪ ،‬فإن كان التوحيد حمققاً فهي جناة من‬
‫الدخول ‪ ،‬وإن كان ليس عن حتقيق فهو جناة من اخللود يف النار ‪.‬‬
‫حد هلا وال عد ‪ ،‬وهذه كلمات قليالت ومعامل حول هذا املوضوع العظيم ‪ ،‬ونسأل اهلل عز‬ ‫ومثار التوحيد ال َّ‬
‫وجل أن ينفعنا مجيعاً مبا علَّمنا ‪ ،‬وأن جيعل ما مسعناه حجةً لنا ال علينا ‪ ،‬وأن يهدينا مجيعاً سواء السبيل ‪.‬‬

‫واهلل أعلم وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا\ حممد وآله وصحبه أمجعني ‪.‬‬

‫‪11‬‬

You might also like