You are on page 1of 9

‫اقتصاد السوق والسياسات االجتماعية‬

‫‪ -‬تعريف إقتصاد السوق‪:‬‬


‫يسمى كذلك باالقتصاد الرأسمالي ‪ ،‬ويقوم على الملكية الخاصة لوسائل اإلنتاج والمبادرة الفردية‬
‫ويخضع لتفاعل العرض والطلب داخل السوق‪.‬‬
‫إن المؤسسات الثالثة الرئيسية الالزمة لـ"البنية< التحتية الخفيفة" في اقتصاد السوق هي‪ :‬النظام‬
‫القانوني‪ ،‬ونظام المحاسبة‪ ،‬والمواقف الثقافية‪ .‬هذه المؤسسات‪ ،‬إذا ما اجتمعت سوية‪ ،‬فهي أشبه‬
‫بكرسي بثالثة أرجل‪ ،‬حيث أن أي ضعف أو قصر في إحداها سيقلل من استقرار الكرسي إلى‬
‫حد كبير‪.‬‬
‫‪ -‬تعريف اقتصاد السوق االجتماعي‪:‬‬
‫أحسن المصطلحات والشعارات ال تعني شيئاً‪ ،‬إذا لم تؤكد الممارسة مصداقيتها‪.‬‬
‫واليوم في إطار الصراع الجاري مع قوى السوق الكبرى التي تريد سوق فوضى تسميها‬
‫«بالحرة»‪ ،‬يأتي مفهوم اقتصاد السوق االجتماعي ليفتح إمكانية‪ ،‬مجرد إمكانية‪ ،‬للقوى المناهضة‬
‫ألخطار السوق الحرة‪ ،‬كي تمنع حدوث كارثة إذا أحسنت تنظيم قواها وعبأت قوى المجتمع‬
‫معرفيا ً وسياسيا ً في االتجاه الصحيح‪.‬‬
‫وبعبارة أدق‪ ،‬إن مصطلح اقتصاد السوق االجتماعي‪ ،‬ليس تعويذة قادرة بلمسة ساحر على إيقاف‬
‫قوى السوق الكبرى المنفلتة والمتوحشة والمرتبطة بقوى السوق العالمية‪ ،‬فالشكل النهائي‬
‫والملموس له ستحدده على األرض محصلة صراع القوى االجتماعية المختلفة‪ ،‬والذي يجري في‬
‫بيئة إقليمية وعالمية غير مالئمة مؤقتا ً للقوى النظيفة في جهاز الدولة والمجتمع‪.‬‬
‫لذلك فإن وضوح صياغة المفاهيم‪ ،‬وإيجاد أشكالها التطبيقية على األرض سيرتدي أهمية كبيرة‬
‫بالنسبة لمآل الصراع الجاري في البالد حول آفاق التطور الالحق‪.‬‬
‫من هنا تأتي أهمية اإلجابة الدقيقة والواضحة عن األسئلة التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬ماهي عالقة اقتصاد السوق‪ ،‬حتى لو كان اجتماعياً‪ ،‬بأشكال الملكية المختلفة (خاص‪،‬‬
‫دولة‪ ،‬عام‪ ،‬الخ)؟‬

‫‪ -‬يحاول البعض أن يتنصل من هذا الموضوع‪ ،‬كي يبقى الطابع االجتماعي القتصاد السوق‬
‫معوماً؟ والمقصود باالجتماعي هو‪ :‬مصالح أية فئة اجتماعية يجب أن يخدم في ظل وجود‬
‫مصالح متناقضة في المجتمع مستحيلة التوافق فيما بينها؟ أي بكالم آخر كيف يجري توزيع‬
‫الدخل الوطني في المجتمع؟ وفي نهاية المطاف ما هي العالقة بين األجور واألسعار؟‬
‫لذلك يبقى الكالم عن اقتصاد السوق االجتماعي بال معنى‪ ،‬إذا لم يالمس أشكال الملكية التي تؤثر‬
‫على طريقة توزيع الدخل‪ ،‬من هنا يصبح واضحا ً أن أي تراجع لدور الدولة وأشكال ملكيتها هو‬
‫خطوة إلى الوراء موضوعيا ً فيما يخص العدالة االجتماعية‪ ،‬حتى لو كان هذا الدور من خالل ما‬
‫ينتجه من قيمة مضافة يجري حتى اآلن ليس لصالح الجماهير الشعبية‪ ،‬فهذا الدور هو شرط‬
‫ضروري للعدالة االجتماعية ولكنه غير كاف إذا لم يرافقه ضرب لمواقع الفساد يسمح‬
‫بإعادة توزيع عادلة‪ ،‬وغني عن البيان أن التراجع عن هذا الشرط الضروري< يطيل المسافة نحو‬
‫العدالة االجتماعية‪.‬‬

‫‪ -2‬ما هي عالقة اقتصاد السوق االجتماعي بدرجة التحكم أو العفوية في االقتصاد؟‬


‫من المعروف أن االقتصاد< اآلن هو في أحسن األحوال اقتصاد سوق مشوه‪ ،‬وهذا يعني أن درجة التحكم فيه‬
‫منخفضة بغض النظر عن اإلعالنات المختلفة حول دور الدولة المركزي< سابقاً‪ ،‬وهذا يعني أن درجة عفوية‬
‫فعل قوانين السوق< عالية‪ ،‬والسير إلى األمام يتطلب تخفيف التشوه وصوالً< إلى إزالته ال زيادته‪ ،‬مما يتطلب‬
‫زيادة درجة التحكم الواعي الذي يتطلب دوراً جديداً للدولة‪ ،‬كما يتطلب تخفيض مساحة عفوية فعل قوانين‬
‫السوق التي تنعش وتقوي قوى< السوق الكبرى‪ ،‬وهذا إن حصل سينعكس إيجابيا ً على و تائر النمو التي تتطلب‬
‫موارد يجب توجيهها< نحوه بشكل واع‪ ،‬كما يتطلب تغيير معادلة األجور< واألرباح بشكل واع وعقالني نحو‬
‫تحقيق العدالة االجتماعية مع كل ما يتطلبه ذلك من تحكم باألسعار والضرائب واالستثمار< وإزالة الفساد‪.‬‬

‫‪ -3‬ما محتوى اقتصاد< السوق االجتماعي بعالقة االقتصادي واالجتماعي؟‬


‫حتى اآلن يح ّمل البعض انخفاض الفعالية االقتصادية لنشاط الدولة ألعبائها االجتماعية‪ ،‬والواقع أن العبء‬
‫االجتماعي هو دور وواجب للدولة‪ ،‬ال مبرر لوجودها دونه في العالم المعاصر‪ ،‬ولكن السؤال‪ :‬كيف يجب‬
‫ممارسة هذا الدور؟‬
‫إن رفع الفعالية االقتصادية على مستوى< المنشأة عبر القضاء على النهب والفساد و الهدر‪ ،‬سيؤمن تلك‬
‫الفوائض الضرورية لممارسة الدولة لدورها< االجتماعي في التعليم والصحة والثقافة‪ ..‬إلخ‪ ..‬التي هي مجاالت‬
‫لالستثمار البعيد المدى وليست استهالكا ً ال تقوى الدولة عليه‪ .‬وخالصة القول إن قوى السوق الكبرى تريد‬
‫تخفيض دور الدولة االقتصادي‪ ،‬وبالتالي االجتماعي‪ ،‬لتصبح ال دولة‪ ،‬كي تبني دولتها الحامية النفالت قوى‬
‫النهب والفساد‪ ،‬ولكن هذه المرة بشكل مقونن ومشروع< حقوقياً‪<.‬‬

‫‪ -4‬وأخيراً‪ <:‬ما وضع قوة العمل في السوق< االجتماعي؟‬


‫من المعروف أن مكونات السوق هي البضائع و الرساميل وقوة العمل‪ ،‬وأنصار< السوق الحرة يريدون تحرير‬
‫سوق البضائع و الرساميل‪ ،‬وإبقاء سوق قوة العمل مقيدة‪ ،‬بالمعنى االقتصادي‪ :‬حيث تثبيت األجور‪ ،‬وبالمعنى<‬
‫السياسي‪ :‬حيث منع أية مطالبة بالحقوق بأي شكل كان‪ .‬إن اقتصاد< السوق االجتماعي الذي يحرر البضائع و‬
‫الرساميل من كل قيد ويبقي قوة العمل مقيدة هو اقتصاد سوق< أكثر تشوها ً من الذي عرفناه‪ ،‬وهو ينقلنا عمليا ً‬
‫إلى دكتاتورية الرساميل‪ ،‬لذلك يصبح تحرير< قوة العمل أجراً وحقوقاً< هو الشرط الضروري القتصاد سوق‬
‫اجتماعي متوازن‪.‬‬

‫‪ -III‬السياسة االجتماعية واقتصاد السوق اإلجتماعي‪:‬‬


‫إن درجة عمق الدور االجتماعي القتصاد< السوق االجتماعي سيحدده عوامل موضوعية لها عالقة بدرجة‬
‫استعداد المجتمع من جهة للدفاع عن حقوقه و من جهة أخرى قدرة جهاز الدولة على‪  ‬استيعاب ضرورات‬
‫الجانب االجتماعي‬
‫‪ ‬من التطور وإيجاد اآلليات والموارد المختلفة الضرورية له‪.‬‬
‫وعن مشكلة الموارد تحديداً لتأمين الدور االجتماعي للدولة‪ ،‬وإمكانية تأمينه ومصادر هذه الموارد سيتحدد<‬
‫مصير العملية االجتماعية كلها‪.‬‬
‫إذ أن حجم الموارد< الضرورية‪ ،‬هي قضية مرتبطة بنهاية المطاف بطريقة تأمينها وتوجيهها< باالتجاه الصحيح‪.‬‬

‫وهذه القضية ال يمكن أن تخرج خارج إطار الصراع االجتماعي بين األجور واألرباح‪ ،‬إذن فتناسب القوى‬
‫االجتماعية والبرامج الملموسة التي تعبر عنها هي التي ستحدد مآل هذه العملية في نتائجها‪.‬‬
‫وفي حال تم تحقيق الجانب االجتماعي وتلبية حاجاته‪ ،‬فستنفتح اآلفاق للعملية االقتصادية نفسها كي ترتقي إلى‬
‫مستوى أعلى نوعيا ً مما كانت عليه‪ .‬وفي حال لم يتحقق ذلك‪ ،‬ستدور العملية االقتصادية في حلقة مفرغة‬
‫باتجاه التباطؤ< التدريجي وانخفاض نسب النمو وتحولها إلى نسب سلبية مع ازدياد< تدهور كل المؤشرات التي‬
‫لها عالقة بالوضع المعاشي واالجتماعي‪<.‬‬
‫لذلك البد من دراسة بعض جوانب هذه العملية واحتماالتها المختلفة في ظل الخيارات واآلراء‪ .‬سنتناول في‬
‫البحث المواضيع التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬مشكلة مستوى المعيشة وطرق حلها‪ :‬حسب دراسة مسح دخل ونفقات األسرة ‪ 2004‬هناك ‪ 3.5‬مليون‬
‫شخص أو‪ %30  ‬من السكان تحت خط الفقر‪ ،‬وكشفت عالقة الفقر بروابط< التعليم والنوع< الجتماعي و التوزع‬
‫الجغرافي ولكنها< لم تستطع أن تكتشف الرابط المركزي للفقر‪.‬‬
‫إن الشعبوية بعينها هي التي تطلق شعارات براقة بحجة محاربة الفقر وغيره ولكن تخفي في طياتها حين‬
‫البحث والتمحيص ديماغوجية اقتصادية تستخدم لغة شعبوية للتطمين‪.‬‬
‫إن قضية مستوى< المعيشة حين المعالجة يجب أن تأخذ بعين االعتبار النقاط التالية‪:‬‬
‫‪  -‬خط الفقر المقترح دوليا ً شيء‪ ،‬والحد األدنى لمستوى< المعيشة الضروري الذي يضمن الحد األدنى للكرامة‬
‫اإلنسانية شيء آخر‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬إن قضية انخفاض مستوى المعيشة تخلق توترا اجتماعيا غير مسموح باستمراره في جو المخاطر اإلقليمية‬
‫والتي يفرضها تغير الوضع الدولي في العقد األخير‪ ،‬إذا كنا نريد الحفاظ على الوحدة الوطنية وعلى إرادة‬
‫المواجهة‪.‬‬
‫‪ -‬المشكلة األساسية تكمن في استحالة حل قضية مستوى< المعيشة ضمن آجال منطقية تفرضها حساسية الوضع‬
‫السياسي الحالي‪ ،‬دون إعادة النظر في العالقة جذرياً< بين األجور< واألرباح‪ ،‬وهي قضية خرجت بالتالي من‬
‫دائرة مفهوم العدالة االجتماعية البحتة إلى دائرة األمن الوطني‪.‬‬
‫‪ -‬من كثرة استخدام< مصطلح الحد األدنى لمستوى المعيشة‪ ،‬تراءى للبعض أن الوصول< إليه هو هدف بحد‬
‫ذاته‪ ،‬بينما المقصود أن يتحول هذا الحد األدنى إلى مقياس لدراسة مستويات المعيشة األخرى وخاصة الحد‬
‫المتوسط للمعيشة الذي يجب أن تذهب الجهود باتجاه ‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن تبحث جديا ً قضية اآلجال الضرورية لحل مشكلة مستوى< المعيشة ليس من زاوية الممكن ضمن‬
‫اإلحداثيات االقتصادية االجتماعية المشوهة الحالية وإنما انطالقا ً من الضرورات السياسية االجتماعية التي‬
‫تفرضها حدة المعركة التي تدور حول البالد وفيها‪ ،‬وأعتقد أن حل هذه المواضيع يجب أن يتم حتى ضمن‬
‫آجال متوسطة فقط ال غير من ‪ 5‬إلى ‪ 10‬سنوات كحد أقصى‪ ،‬فالشعوب تستحق أن تتمتع بثروات وخيرات‬
‫بلدانها وأن ال تؤجل القضية إلى األحفاد دون ضمانات حقيقية‪.‬‬
‫‪ -‬إن انخفاض مستوى المعيشة يخلق سلسلة من المشاكل المشتقة منه وأولها الفساد واالنحرافات< االجتماعية‬
‫واستنزاف< قوى العمل و انخفاض اإلنتاجية وابتعاد< الرساميل عن االستثمار< الحقيقي المنتج نتيجة انخفاض‬
‫القوة الشرائية في المجتمع‪.‬‬
‫والسؤال هل لدينا حلول أخرى حقيقية وقابلة للتطبيق؟‬
‫نعم لدينا‪:‬‬
‫‪ -‬ال يوجد هناك حل إال حل قضية الحد األدنى لألجور< و رفعهما< يتماشى واقتصاد السوق‪.‬‬

‫‪ -2‬البطالة‪:‬‬
‫يجب تحديد مشروع< لتخفيض معدل البطالة إلى أقصى حد ممكن لتخفيض حدة التوتر< االجتماعي الذي تسببه‬
‫ظاهرة خطيرة كالبطالة‪.‬‬
‫ً‬
‫نعتقد أن هذا الموضوع< يندرج أيضا ضمن مفهوم األمن االجتماعي الذي يتطلب حله االلتزام بآجال متوسطة‬
‫المدى‪ .‬فالبطالة إلى جانب كونها قوى< وثروة مهدورة فهي تخلق بؤر< توتر اجتماعي يسبب توسع دائرة‬
‫المهمشين‪.‬‬
‫فهل هناك حلول عملية واقعية للموضوع< في الظرف< الحالي؟‪ .‬إن البحث العلمي الجاد يؤكد أنه يمكن إيجاد‬
‫حلول‬
‫إن حل مشكلة البطالة يتطلب التوسع في االستثمار< وتوسيع< القاعدة االقتصادية‪.‬‬

‫‪ -3‬الدعم الحكومي‪:‬‬
‫ليس هنالك دولة في العالم ال تقدم الدعم لجهات اعتبارية أو فردية‪ ،‬ويخدم الدعم في النهاية أهداف سياسية‬
‫اقتصادية واجتماعية‪.‬‬
‫فالبقرة في أوروبا< تحظى بدعم يومي قدره ‪ 2.5‬دوالر< أما في اليابان فوضعها أحسن إذ تحظى بـ ‪ 7.5‬دوالر‬
‫يومياً‪( ،‬المفارقة مع حد الفقر األدنى)‪.‬‬
‫أما الواليات المتحدة ذات االقتصاد الحر فتدعم مزارعيها‪ ،‬وأوروبا يشكل مجموع الدعم الزراعي ‪ %30‬من‬
‫قيمة اإلنتاج النهائي‪.‬‬
‫إن معزوفة أن يذهب الدعم إلى مستحقيه وإلعادة النظر تحمل في طياتها خطر أن يتبخر< الدعم عن مستحقيه‬
‫وغير مستحقيه‪.‬‬
‫إن سياسة الدعم يجب أن تعتمد على فكرة أن الدولة ال يجب أن تقوم بدور الجابي والتاجر بقدر ما تقوم بدور‬
‫الضامن لألمن االجتماعي ولالستقرار السياسي‪<.‬‬
‫إن السياسة االجتماعية الصحيحة هي التي توجه السياسات االقتصادية ضمن منظور< أولويات وأهداف محددة‬
‫على‬
‫أساس آجال زمنية مدروسة تفرضها ضرورات الواقع اإلقليمي والمحلي‬
‫‪-‬‬
‫السياسات االجتماعية واقتصاد السوق االجتماعي ‪.‬‬

‫‪:‬مقدمة‬
‫عندما تطرح قضايا السياسات االجتماعية وعالقتها باالقتصاد‪ ،‬وبسبب تاريخ هذه العالقة غير الموفق في أكثر‬
‫ٍ‬
‫مستعص في هذه الثنائية‪ ،‬والواقع أن التناقض مصطنع‪ ،‬سببه التطبيقات‬ ‫وجود تناقض‬
‫ُ‬ ‫األحيان‪ ،‬يخطر للذهن‬
‫المشوهة إن كان في مجال االقتصاد أو في مجال السياسة االجتماعية التي كانت تعالج الموضوع المطروح ضمن‬
‫‪.‬خيارات أحادية‪ ،‬مستندة فعالً إلى وجود تناقض بين االقتصادي واالجتماعي‬
‫واألكيد أن أي خيار اقتصادي أو اجتماعي له محتواه وطبيعته االجتماعية التي تعبر عن مصالح محددة في المجتمع‬
‫‪.‬المكون من شرائح وطبقات اجتماعية مختلفة‪ ،‬ومتباينة المصالح‬
‫إن التجربة الماضية والواقع الملموس اليوم يتطلب إعادة البحث في عالقة االقتصادي باالجتماعي للوصول إلى‬
‫‪.‬العالقة الحقيقية بينهما ضمن تأثيرهما المتبادل‬
‫إن مهمة البحث الحالي إثبات افتراض‪ :‬أن السياسة االجتماعية هي جزء مكون ضروري ألي سياسة اقتصادية‪،‬‬
‫‪.‬والتي أصبح بدونها اليمكن تحقيق أي نجاح اقتصادي إن كان في مؤشراته الكمية وباألحرى النوعية‬
‫من هذه الزاوية يرتدي أهمية بحث العالقة بين هذين الحدين في اإلطار الكلي والجزئي‪ ،‬وفي عالقتهما في إطار‬
‫‪.‬الشكل والمضمون وفي تأثير بعضهما على بعض من زاوية العالقة بين العدالة االجتماعية والفعالية االقتصادية‬
‫‪:‬عالقة االقتصادي باالجتماعي‪-I‬‬
‫‪‌:‬أ) من حيث الشكل والمضمون‬
‫إن عالقة االقتصادي باالجتماعي‪ ،‬هي عالقة شكل بمضمون‪ ،‬فالشكل اليتغير إال بتغير المضمون‪ ،‬كما أن تغير‬
‫الشكل يؤدي إلى تغييرات في المضمون‪ .‬فالهدف ليس المؤشرات االقتصادية بحد ذاتها‪ ،‬بل الوصول من خاللها‬
‫‪.‬إلى أحسن المؤشرات االجتماعية قدر اإلمكان‬
‫‪:‬وإ ذا بحثنا العالقة بينهما بشكل أكثر تفصيالً لتبين التالي‬
‫‪.‬شكل متخلف عن حاجات المضمون يؤدي إلى إعاقة التطور كله ‪-‬‬
‫‪.‬عدم تلبية حاجات المضمون وتحقيقها يؤدي إلى عرقلة تقدم الشكل نفسه ‪-‬‬
‫‪.‬إيجاد الشكل المناسب للمضمون يسمح بالتطور المتناغم والمنسجم لالثنين ‪-‬‬
‫‪.‬تحديد حاجات المضمون الحقيقية‪ ،‬يسمح بإعادة صياغة الشكل كي يتناسب معها ‪-‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬نستنتج أن كل الكالم عن التناقض بين االقتصادي واالجتماعي هو كالم غير صحيح إذا لم ينظر له من‬
‫زاوية وحدة هذه الثنائية وتفاعلها المتبادل‪ ،‬أي أن التناقض بينهما ليس مستعصياً يؤدي إلى نفي أحدهما لآلخر بل‬
‫على العكس‪ ،‬هذا التناقض هو من التناقضات الضرورية للتقدم والتي يمكن وعيها والتحكم بها لمصلحة التطور‬
‫‪.‬نفسه‬

‫لقد سادت في العقود الماضية‪ ،‬عقلية تقول إن توفير الشروط االقتصادية للتطور ستضيق هامش تحقيق مكاسب اجتماعية‪،‬‬
‫كما كان يجري تبرير الالفعالية االقتصادية بضرورات اجتماعية‪ .‬والواقع أن هذا التناول أدى في نهاية المطاف إلى تراجع‬
‫االقتصادي واالجتماعي معاً‪ ،‬مما يتطلب تدقيق الرؤية وتصحيحها‪.‬‬

‫‌ب) المستوى الكلي والجزئي (ماكروـميكرو)‬


‫إذا بحثنا في العالقة بين االقتصادي واالجتماعي تاريخياً في ظروف سورية الملموسة لرأينا التالي‪:‬‬
‫أ‌) على المستوى الكلي‪ :‬اقتصادياً تم تحقيق معدالت نمو البأس بها ولكن ليس بسبب الفعالية العالية للمؤسسات‬
‫االقتصادية على المستوى الجزئي‪ ،‬بل بسبب نوع من الريع تم تحقيقه بسبب الظروف اإلقليمية والعالمية‪.‬‬

‫وهذا ماسمح بحل ومعالجة جملة من القضايا االجتماعية في حينه من خالل الفوائض المتاحة والتي لم تكن مصادرها‬
‫داخلية‪.‬‬

‫ب‌) على المستوى الجزئي‪ :‬كانت الفعالية االقتصادية متدنية ألسباب لها عالقة ببنية اإلنتاج وعدم انسيابية عملية اإلنتاج‬
‫والنهب الذي تعرضت له المؤسسات االقتصادية من خالل مدخالتها أو مخرجاتها‪ .‬لذلك عندما كانت تحل بعض المهام‬
‫االجتماعية على المستوى الجزئي كانت تستخدم كحجة لتبرير تدني الفعالية االقتصادية وللتغطية على عملية النهب التي‬
‫كانت تجري على قدم وساق‪.‬‬
‫ونتيجة لكل ذلك جرى تحميل االجتماعي مسؤولية الالفعالية االقتصادية‪ ،‬وكما يتبين فإن ذلك كان غير صحيح ومحاولة لتغطية‬
‫األسباب الحقيقية‪.‬‬
‫إن التجربة المتراكمة في هذا المجال تؤكد أن حل قضية عالقة االقتصادي واالجتماعي على المستوى الكلي والجزئي البد‬
‫من أن تأخذ بعين االعتبار التالي‪:‬‬
‫‪ )1‬تحقيق أكبر فعالية ممكنة على المستوى الجزئي‪.‬‬

‫‪ )2‬من خالل تأمين أكبر فوائض ممكنة على المستوى الكلي‪.‬‬

‫‪ ) 3‬إعادة توجيه جزء من هذه الفوائض لتحقيق سياسات اجتماعية قوية على المستوى الكلي‪.‬‬

‫‪ ) 4‬تحقيق وتنفيذ أية سياسات اجتماعية على المستوى الجزئي‪ ،‬يجب أن يتم ضمن إطار السياسة الكلية وبتفويض من‬
‫الدولة‪ ،‬مقونن وخاص وحسب كل حالة على حدة‪.‬‬

‫‌ج) العدالة و الفعالية‪:‬‬

‫كانت العالقة بين العدالة االجتماعية والفعالية االقتصادية تاريخياً‪ ،‬تحل على حساب أحد طرفي المعادلة‪ ،‬فأي رفع لمستوى‬
‫العدالة االجتماعية كان يرافقه تصور أنه يؤدي إلى انخفاض الفعالية االقتصادية والعكس صحيح‪.‬‬

‫والحقيقة أن التجربة التاريخية كانت تحتوي المثالين‪ :‬مثال التفاعل الصحيح بين طرفي المعادلة ومثال االختالل بينهما على‬
‫حساب أو لحساب أحدهما‪.‬‬

‫ولكن كل ذلك كان يجري في ظروف لم تكن قد تحولت فيه قوة العمل البشرية إلى عامل حاسم في تطور القوى المنتجة كما‬
‫الحال عليه اليوم‪ ،‬وذلك بسبب ازدياد كميات العمل الذهنية في كميات العمل المنتجة مجدداً‪ ،‬مما ينعكس بتطور وتعقد‬
‫التكنولوجيا المستخدمة على أدنى مستويات العملية اإلنتاجية األمر الذي يستدعي أكثر فأكثر االلتفات إلى حاجات قوى‬
‫العمل البشرية وتلبيتها إلى أعلى درجة ممكنة‪.‬‬

‫والحقيقة أنه إذا كان في السابق‪ ،‬وبسبب مستوى تطور القوى المنتجة‪ ،‬يمكن الفصل بين ضرورتي العدالة االجتماعية‬
‫والفعالية االقتصادية سبباً‪ ،‬إال أنه اليوم‪ ،‬يتضح مع الوقت أن هذين العاملين يندمجان في بعضهما البعض‪ ،‬وأصبح أحدهما‬
‫يتطلب اآلخر‪ ،‬وانخفاض وضعف أحدهما يؤدي تلقائياً إلى ضعف وتراجع العامل اآلخر‪.‬‬

‫لذلك تصبح العدالة االجتماعية بمفهومها الضيق (األجور وعالقتها باألرباح) ومفهومها الواسع (مستوى المعيشة ونوعيتها)‬
‫جزءاً مكوناً وفاعال ً في عملية الفعالية االقتصادية‪ ،‬كما أن الفعالية االقتصادية بتطورها تؤمن أرضية تأمين حاجات العدالة‬
‫االجتماعية‪.‬‬

‫وتبقى المشكلة القائمة التي تتطلب الحل عبر النقاش الالحق‪ :‬ماهي المؤشرات التي يجب اعتمادها لقياس مستوى‬
‫الفعالية االقتصادية على المستوى الكلي والجزئي‪ ،‬وهي إذا كانت أكثر وضوحاً على المستوى الكلي نسبياً‪ ،‬إال أنها على‬
‫المستوى الجزئي تتطلب التدقيق والتمحيص‪ ،‬واألكيد أن الربح وحده ليس مقياساً صالحاً لقياس الفعالية على المستوى‬
‫الجزئي فهو مؤشر كمي وتضليلي أحياناً‪.‬‬
‫إن حل هذا اإلشكال علمياً‪ ،‬سيسمح بإيجاد وحدات قياس فعالية الوحدة اإلنتاجية على المستوى الجزئي‪ ،‬بشكل تندمج فيه‬
‫مع جميع مكونات االقتصاد الوطني‪.‬‬

‫والخالصة أن الفعالية االقتصادية والعدالة االجتماعية في حال تم الوصول إلى العالقة المثلى بينهما ستسمحان بـ‪:‬‬

‫‪ -‬التوازن بين األجور واألرباح‪.‬‬

‫‪ -‬إعادة تجديد قوة العمل‪.‬‬

‫‪ -‬إعادة إنتاج االقتصاد الوطني بوتائر أعلى‪.‬‬

‫‪ -‬تحويل تمركز الثروة من نقمة إلى نعمة عبر جعل هذا التمركز بيد المجتمع‪.‬‬

‫‪ -‬تأمين وتائر نمو عالية تنعكس إيجابياً على مستوى ونوعية المعيشة‪.‬‬

‫‪II-‬مفهوم األمن االجتماعي‪:‬‬

‫إن السياسات االجتماعية بمجموعها عند تطبيقها‪ ،‬إما أن تؤدي إلى تحقيق األمن االجتماعي أو ال‪ .‬وهنا مقياس فعاليتها‪.‬‬

‫فاألمن االجتماعي هو جزء مكون من األمن الوطني الذي يختلف مفهومه الحقيقي عن المفهوم المتداول والذي يقصد به أمن‬
‫الدولة‪ ،‬فاألخير مفهوم ضيق وهو يمكن أن يكون أحد مكونات األمن الوطني في أحسن األحوال‪.‬‬

‫فاألمن الوطني هو منظومة أمن شاملة ومتكاملة وتشمل إلى جانب االجتماعي‪ ،‬األمن بمعناه االقتصادي والثقافي‬
‫والسكاني والمائي والطاقي والغذائي والسياسي والعسكري ‪. . . .‬إلخ‪ .‬ويبقى أساس األمن الوطني أكبر من الجانب‬
‫االقتصادي واالجتماعي‪.‬‬

‫وقد ازدادت مؤخراً أهمية األمن االجتماعي بما اليقاس بالمقارنة مع العقود السابقة‪ ،‬بعد اختالل ميزان القوى الدولي‬
‫ومحاولة الواليات المتحدة األمريكية الهيمنة الوحيدة القطب على العالم معتمدة على آليات التفتيت داخلياً في كل منطقة‬
‫وبلد‪ ،‬ومشروع الشرق األوسط الكبير ـ نموذج واضح على ذلك‪.‬‬

‫لذلك تبقى منظومة األمن االجتماعي ـ جهاز الدفاع األساسي عن السيادة والكيان الوطني‪.‬‬

‫فاألهداف البعيدة المدى للمخطط األمريكي ـ الصهيوني تستهدف التصدعات االجتماعية لتوسيعها وتحويلها إلى شروخ تؤدي‬
‫إلى انهيارات كاملة‪ ،‬أي أنها تعتمد في تنفيذ مخططها على الثغرات الداخلية وعوامل الضعف في البنية‪ ،‬بينما كان يتم‬
‫االعتماد في العقود السابقة وبسبب توازن ميزان القوى الدولي على العامل الخارجي بالدرجة األولى‪ ،‬لقد أصبح العامل‬
‫الخارجي في مخططات اليوم عامال ً مساعداً على إحداث تغيير عميق في البنى الداخلية أي بنية الدولة أو المجتمع أو ثقافته‪.‬‬

‫لذلك فإن السياسات االجتماعية في هذه المرحلة لها الدور الحاسم‪ ،‬فهي إما أن تؤدي إلى استقرار وتصليب بنية المجتمع‬
‫والدولة‪ ،‬وإما أن تؤدي إلى توتر يفضي إلى المساعدة موضوعياً على تنفيذ المخططات الخارجية البعيدة المدى‪.‬‬

‫لذلك إذا كنا في الماضي القريب والبعيد‪ ،‬نتعامل مع السياسات االجتماعية من منطلق أيديولوجي له عالقة بالدرجة األولى‬
‫بفهم موضوع العدالة االجتماعية والموقف منها‪ ،‬فإن الموضوع اليوم‪ ،‬تجاوز ذلك بكثير وأصبح له عالقة مباشرة باألمن الوطني‬
‫بالمعنى المباشر‪.‬‬

‫وحين نؤكد على ذلك‪ ،‬النقصد القول إن األمر بشكله الجديد وتطبيقاته هو بحكم الغيب أو موضوعة على بساط التطبيق على‬
‫المستوى البعيد‪ ،‬فإذا علمنا أن عام ‪ 2010‬هو عام حاسم بالنسبة لإلدارة األمريكية إلحداث انعطاف نهائي في منطقتنا يغير‬
‫بنيتها‪ ،‬لفهمنا أن الخطر جدي وأن المطلوب إيجاد حلول سريعة ومعالجات إسعافية لتحويل نقاط ضعفنا إلى نقاط قوة قادرة‬
‫على إحباط كل مايمس األمن االجتماعي كأحد المكونات األساسية لألمن الوطني‪.‬‬

‫‪III-‬منظومة السياسات االجتماعية‪:‬‬

‫سنتناول أهم أهداف منظومة السياسات االجتماعية التي لها دور بحركة الفئات االجتماعية ومناخها وعالقاتها ببعضها البعض‪.‬‬

‫‌أ‪ .‬مستوى المعيشة‪:‬‬

‫تحتل قضية مستوى المعيشة موقع الصدارة في منظومة السياسات االجتماعية لما لها من تأثير مباشر على المجتمع‬
‫ومزاجه ومواقفه‪ ،‬والغريب أن قضية مستوى المعيشة تختصر مؤخراً بقضية الفقر فقط‪ ،‬حتى أن قضية الحد األدنى لمستوى‬
‫المعيشة الذي يقاس عادة على سلة االستهالك المبنية على مستوى األسعار الملموس‪ ،‬أهملت لصالح مؤشرات مجردة‬
‫عالمية غير مالمسة حدة الفقر‪ ،‬مع المالحظة أن مستوى المعيشة يقاس ليس فقط كماً من حيث الدخل المجرد‪ ،‬وإنما أيضاً‬
‫من حيث الخدمات المتوفرة وسعرها ونوعيتها بالمقاييس العالمية‪.‬‬
‫إلى جانب ذلك يجب أن اليهمل أن الحد األدنى لمستوى المعيشة هو مجرد مؤشر‪ ،‬كي تبنى على أساسه مؤشرات أخرى‬
‫ليست أقل أهمية‪ ،‬وهي مثال ً الحد المتوسط لمستوى المعيشة‪ .‬فالهدف الحقيقي اليمكن أن يكون فقط الوصول إلى معادلة‬
‫الحد األدنى لألجور بالحد األدنى لمستوى المعيشة‪ ،‬فهذا المؤشر مع ضرورته‪ ،‬اليكفي لتغيير مستوى المعيشة‪ ،‬بل يجب‬
‫االنطالق منه للوصول إلى الحد المتوسط لمستوى المعيشة الذي بتوفره كوحدة قياس يسمح بمعرفة درجة تأمينه في‬
‫المجتمع مع اآلثار المختلفة اإليجابية أو السلبية المنبثقة عنها‪.‬‬

‫‌ب‪ .‬البطالة‪:‬‬

‫مع تزايد معدالت البطالة وصعوبة إيجاد حلول لها تتغير معها اآلثار السلبية المعروفة تاريخياً والمرافقة لها‪ ،‬فمن ظاهرة غير‬
‫دورية ومتقطعة وغير منتظمة الظهور عند شرائح بعينها‪ ،‬تحولت البطالة إلى ظاهرة ثابتة ومستمرة ومنتظمة الظهور وخاصة‬
‫في القطاعات التي تدخل سوق العمل مجدداً‪ ،‬والتي تبقى مرشحة له لسنوات طويلة‪ ،‬مما يخلق فعلياً شرائح اجتماعية‬
‫جديدة تتميز بزيادة تهميشها عن الشأن االجتماعي والوطني‪ ،‬األمر الذي يخلق قنبلة اجتماعية عالية الخطورة في حال‬
‫انفجرت في ظرف مالئم ما‪.‬‬

‫إن البطالة التعني فقط هدر قوة عمل وإخراجها خارج دائرة الفعل‪ ،‬بل إن البطالة المستمرة هي عامل سلبي في التكوين‬
‫والمزاج االجتماعي بما تخلقه من حالة الانتماء وإحباط‪ ،‬تتجلى في نفسية المهمشين الذين يتحولون إلى قوة متمردة‪ ،‬سهلة‬
‫التحريك ضد كل شيء‪.‬‬

‫والمشكلة األكبر هي إعادة تأهيل العاطلين عن العمل من الشباب‪ ،‬إن استمرار البطالة لسنوات طويلة واستقرارها خلق‬
‫أخطاراً غير معروفة سابقاً‪ ،‬األمر الذي يتطلب معالجتها حفاظاً على االستقرار واألمن االجتماعي‪.‬‬

‫‌ج‪ .‬هجرة العقول‪:‬‬

‫إن جذر البطالة وهجرة العقول واحد‪ ،‬وهو عدم قدرة سوق العمل على استيعاب اإلمكانيات المتوفرة والثانية هي هجرة‬
‫الكفاءات العالية التأهيل‪.‬‬

‫إن هجرة العقول بغض النظر عن الخسائر االقتصادية الكبيرة التي تسببها على مستوى التبادل الالمتكافئ مع الدول‬
‫المتقدمة‪ ،‬تخلق خلخلة اجتماعية وتحمل أضراراً تؤثر على منحى التطور العام في البالد وسرعته وحجمه‪ .‬إن الدراسات‬
‫األخيرة تبين أن هجرة العقول تسبب خسائر كبرى لالقتصاد الوطني ويكمن جذرها في نهاية المطاف في مستوى األجور‬
‫المتوسطة أو المتدنية بالمقارنة مع أمثالها في الدول األخرى‪ ،‬من هنا تأتي األهمية اإلضافية لحساب وضبط الحد المتوسط‬
‫لمستوى المعيشة الذي أتينا على ذكره أعاله‪.‬‬

‫‌د‪ .‬الصحة والتعليم‪:‬‬

‫إن مستوى التعليم والصحة في عالم اليوم يجب أن يعالج ليس من زاوية كونهما خدمتين تقدمان للمجتمع‪ ،‬وإنما من زاوية‬
‫ضرورتهما القصوى لعملية إعادة اإلنتاج االجتماعية الموسعة‪ ،‬فحجم ومستوى التعليم والصحة يحددان إلى حد كبير مستوى‬
‫النمو الالحق‪.‬‬

‫إن الميزة النسبية المؤقتة لسورية اليوم‪ ،‬أنها باستطاعتها أن تجني نتائج ثمار التعليم المجاني في كل المراحل التي تمت‬
‫في العقود السابقة‪ ،‬وهذه الميزة إذا استخدمت بشكل جيد ستسمح باالستخدام األمثل لإلمكانيات التي يجب أن توظف في‬
‫اقتصاد المعرفة‪ ،‬ويجب أن يؤخذ بعين االعتبار أن هذه الميزة آيلة إلى التراجع مع توسع التعليم الخاص في كل المراحل‪،‬‬
‫والمشكلة أن التوظيفات في هذا المجال التظهر فوائدها إال بعد جيل أو جيلين من االستثمار المستمر في هذه القطاعات‪.‬‬

‫وصحيح أن حجم االستثمارات في هذه المجاالت التي يجب أن تنعكس على تحسن المؤشرات النوعية وعدم االكتفاء‬
‫بالمؤشرات الرقمية الكمية مثل حصة الفرد من الخدمات وتطويرها‪.‬‬

‫‌ه‪ .‬السكن‪:‬‬

‫إن مشكلة السكن ليس لها عالقة بالمساحات وبدل السكن عن طريق الشراء واإليجار وعالقته بمستوى المعيشة‪ ،‬بقدر مالها‬
‫عالقة بقضيتين‪:‬‬

‫‪ ) 1‬توسع مناطق المخالفات نتيجة تعقد الوضع السكني مع التوتر االجتماعي الكامن فيها‪ ،‬فمناطق السكن العشوائي حول‬
‫المدن الكبرى هي أحزمة توتر بسبب التهميش الذي تخلقه عطفاً على ظروف السكن والخدمات المتوفرة‪.‬‬

‫‪ ) 2‬توسع الهوة في السكن بسبب ارتفاع أسعار األراضي والبناء بين المناطق الغنية والفقيرة‪ ،‬له آثار معنوية ونفسية بعيدة‬
‫المدى اجتماعياً‪.‬‬

‫إذا جمعنا كل هذه الملفات من مستوى معيشة إلى بطالة وهجرة عقول وصوال ً إلى الصحة والتعليم والسكن‪ ،‬لتوضح حجم‬
‫المشكلة ليس بالمعنى االقتصادي فقط وإنما بالمعنى االجتماعي أيضاً‪ ،‬فهذه الملفات إلى جانب بعضها البعض تخلق وضعاً‬
‫مركباً نوعياً جديداً يتميز باآلتي‪:‬‬

‫‪ -‬زيادة إلى الحد األقصى في درجة التوتر االجتماعي‪ ،‬وهي قابلة لالنفجار مع التأخر في الحل‪.‬‬
‫‪ -‬زيادة درجة اإلرهاق والتعب في المجتمع الذي يتحول إلى الالمباالة أمام حجم المشكلة المتمثلة أمامه‪ ،‬ويعيق بالتالي‬
‫ويصعب أية إمكانية للحلول الالحقة التي تتطلب بحد ذاتها مشاركة مجتمعية واسعة‪.‬‬

‫‪ -‬إن هذه المشاكل باستمرارها تخلق حالة كبح في الوعي االجتماعي تجعله المبالياً وحيادياً أمام المخاطر الخارجية في‬
‫الظروف الحالية المعقدة‪.‬‬

‫وإذا أضفنا إلى ذلك الضخ الذي يقوم به اإلعالم العالمي عبر الفضائيات المختلفة‪ ،‬لتحسسنا حجم الخطر الذي يتوجب التحرك‬
‫السريع إليجاد حلول للمشاكل المعلقة وتنفيذها‪.‬‬

‫‪IV‬اقتصاد السوق االجتماعي كمفهوم‬

‫أحسن المصطلحات والشعارات التعني شيئاً‪ ،‬إذا لم تؤكد الممارسة مصداقيتها‪ .‬فاالقتصاد السوري كان يوصّف خالل عقود‪،‬‬
‫في النصوص القانونية وفي الوثائق الرسمية على أنه اشتراكي‪ ،‬بينما كان في واقع الحال رأسمالياً مشوهاً ومتخلفاً‪ ،‬إذن‬
‫فقوة النص أو المفهوم تأتي من الواقع وليس العكس‪.‬‬

‫واليوم في إطار الصراع الجاري مع قوى السوق الكبرى التي تريد سوق فوضى تسميها «بالحرة»‪ ،‬يأتي مفهوم اقتصاد‬
‫السوق االجتماعي ليفتح إمكانية‪ ،‬مجرد إمكانية‪ ،‬للقوى المناهضة ألخطار السوق الحرة‪ ،‬كي تمنع حدوث كارثة إذا أحسنت‬
‫تنظيم قواها وعبأت قوى المجتمع معرفياً وسياسياً في االتجاه الصحيح‪.‬‬

‫وبعبارة أدق‪ ،‬إن مصطلح اقتصاد السوق االجتماعي‪ ،‬ليس تعويذة قادرة بلمسة ساحر على إيقاف قوى السوق الكبرى‬
‫المنفلتة والمتوحشة والمرتبطة بقوى السوق العالمية‪ ،‬فالشكل النهائي والملموس له ستحدده على األرض محصلة صراع‬
‫القوى االجتماعية المختلفة‪ ،‬والذي يجري في بيئة إقليمية وعالمية غير مالئمة مؤقتاً للقوى النظيفة في جهاز الدولة‬
‫والمجتمع‪.‬‬

‫لذلك فإن وضوح صياغة المفاهيم‪ ،‬وإيجاد أشكالها التطبيقية على األرض سيرتدي أهمية كبيرة بالنسبة لمآل الصراع الجاري‬
‫في البالد حول آفاق التطور الالحق‪.‬‬

‫من هنا تأتي أهمية اإلجابة الدقيقة والواضحة عن األسئلة التالية‪:‬‬

‫‪ .1‬ماهي عالقة اقتصاد السوق‪ ،‬حتى لو كان اجتماعياً‪ ،‬بأشكال الملكية المختلفة (خاص‪ ،‬دولة‪ ،‬عام‪ ،‬إلخ)؟‬

‫يحاول البعض أن يتنصل من هذا الموضوع‪ ،‬كي يبقى الطابع االجتماعي القتصاد السوق معوماً؟ والمقصود باالجتماعي هو‪:‬‬
‫مصالح أية فئة اجتماعية يجب أن يخدم في ظل وجود مصالح متناقضة في المجتمع مستحيلة التوافق فيما بينها؟ أي بكالم‬
‫آخر كيف يجري توزيع الدخل الوطني في المجتمع؟ وفي نهاية المطاف ماهي العالقة بين األجور واألسعار؟‬

‫لذلك يبقى الكالم عن اقتصاد السوق االجتماعي بال معنى‪ ،‬إذا لم يالمس أشكال الملكية التي تؤثر على طريقة توزيع الدخل‪،‬‬
‫من هنا يصبح واضحاً أن أي تراجع لدور الدولة وأشكال ملكيتها هو خطوة إلى الوراء موضوعياً فيما يخص العدالة االجتماعية‪،‬‬
‫حتى لو كان هذا الدور من خالل ما ينتجه من قيمة مضافة يجري حتى اآلن ليس لصالح الجماهير الشعبية‪ ،‬فهذا الدور هو‬
‫شرط ضروري للعدالة االجتماعية ولكنه غير كاف إذا لم يرافقه ضرب لمواقع الفساد يسمح بإعادة توزيع عادلة‪ ،‬وغني عن‬
‫البيان أن التراجع عن هذا الشرط الضروري يطيل المسافة نحو العدالة االجتماعية‪.‬‬

‫‪ .2‬ماهي عالقة اقتصاد السوق االجتماعي بدرجة التحكم أو العفوية في االقتصاد؟‬

‫من المعروف أن االقتصاد السوري اآلن هو في أحسن األحوال اقتصاد سوق مشوه‪ ،‬وهذا يعني أن درجة التحكم فيه‬
‫منخفضة بغض النظر عن اإلعالنات المختلفة حول دور الدولة المركزي سابقاً‪ ،‬وهذا يعني أن درجة عفوية فعل قوانين السوق‬
‫عالية‪ ،‬والسير إلى األمام يتطلب تخفيف التشوه وصوال ً إلى إزالته ال زيادته‪ ،‬مما يتطلب زيادة درجة التحكم الواعي الذي‬
‫يتطلب دوراً جديداً للدولة‪ ،‬كما يتطلب تخفيض مساحة عفوية فعل قوانين السوق التي تنعش وتقوي قوى السوق الكبرى‪،‬‬
‫وهذا إن حصل سينعكس إيجابياً على وتائر النمو التي تتطلب موارد يجب توجيهها نحوه بشكل واع‪ ،‬كما يتطلب تغيير معادلة‬
‫األجور واألرباح بشكل واع وعقالني نحو تحقيق العدالة االجتماعية مع كل ما يتطلبه ذلك من تحكم باألسعار والضرائب‬
‫واالستثمار وإزالة الفساد‪.‬‬

‫‪ .3‬مامحتوى اقتصاد السوق االجتماعي بعالقة االقتصادي واالجتماعي؟‬

‫م ل البعض انخفاض الفعالية االقتصادية لنشاط الدولة ألعبائها االجتماعية‪ ،‬والواقع أن العبء االجتماعي هو دور‬
‫حتى اآلن يح ّ‬
‫وواجب للدولة‪ ،‬المبرر لوجودها دونه في العالم المعاصر‪ ،‬ولكن السؤال‪ :‬كيف يجب ممارسة هذا الدور؟‬

‫إن رفع الفعالية االقتصادية على مستوى المنشأة عبر القضاء على النهب والفساد والهدر‪ ،‬سيؤمن تلك الفوائض الضرورية‬
‫لممارسة الدولة لدروها االجتماعي في التعليم والصحة والثقافة‪ ..‬إلخ‪ ..‬التي هي مجاالت لالستثمار البعيد المدى وليست‬
‫استهالكاً التقوى الدولة عليه‪ .‬وخالصة القول إن قوى السوق الكبرى تريد تخفيض دور الدولة االقتصادي‪ ،‬وبالتالي‬
‫االجتماعي‪ ،‬لتصبح ال دولة‪ ،‬كي تبني دولتها الحامية النفالت قوى النهب والفساد‪ ،‬ولكن هذه المرة بشكل مقونن ومشروع‬
‫حقوقياً‪.‬‬
‫‪ .4‬و أخيراً‪ :‬ما وضع قوة العمل في السوق االجتماعي؟‬

‫من المعروف أن مكونات السوق هي البضائع والرساميل وقوة العمل‪ ،‬وأنصار السوق الحرة يريدون تحرير سوق البضائع‬
‫والرساميل‪ ،‬وإبقاء سوق قوة العمل مقيدة‪ ،‬بالمعنى االقتصادي‪ :‬حيث تثبيت األجور‪ ،‬وبالمعنى السياسي‪ :‬حيث منع أية‬
‫مطالبة بالحقوق بأي شكل كان‪ .‬إن اقتصاد السوق االجتماعي الذي يحرر البضائع والرساميل من كل قيد ويبقي قوة العمل‬
‫مقيدة هو اقتصاد سوق أكثر تشوهاً من الذي عرفناه‪ ،‬وهو ينقلنا عملياً إلى دكتاتورية الرساميل‪ ،‬لذلك يصبح تحرير قوة العمل‬
‫أجراً وحقوقاً هو الشرط الضروري القتصاد سوق اجتماعي متوازن‪.‬‬

‫‪V-‬السياسة االجتماعية واقتصاد السوق االجتماعي‬

‫إن درجة عمق الدور االجتماعي القتصاد السوق االجتماعي سيحدده عوامل موضوعية لها عالقة بدرجة استعداد المجتمع‬
‫من جهة للدفاع عن حقوقه‪ ،‬ومن جهة أخرى قدرة جهاز الدولة على استيعاب ضرورات الجانب االجتماعي من‬

‫مرحلة اقتصاد السوق ‪ :‬عرفت العشرية األخيرة من القرن الماضي مرحلة خطيرة‪ ،‬لم تعرف أبدا البالد إنزالقات كالتي عرفتها خالل هذه‬ ‫‪-‬‬
‫الحقبة‪ ،‬فاألوضاع السياسية غير المستقرة أثرت بصورة سلبية على كل األوضاع االقتصادية واالجتماعية‪.‬‬
‫لــقد عاش االقتصاد الوطني خالل هذه المرحلة هزات عدة جاءت نتيجة تخريبـ العديد من ممتلكات الدولة كحرق المصانع‪،‬ـ هجرة‬
‫اإلطارات والكوادر من جهة‪ ،‬وإفالس المؤسسات وغلقها‪،‬ـ وكذا تسريح عمالها من جهة أخرى‪ ،‬التدهور في قيمة العملة‪ ،‬ولكن رغم هذا‬
‫وذاك بقيت الدولة صامدة أمام هذا الوضع واستمر مسئولي القطاعات االقتصادية في إتباع أنظمة جديدة تخرج البالد من األزمة‪.‬‬
‫وفي سنة ‪1990‬م أصدرت الدولة قانون ‪ 90/10‬الخاص بالقرض والنقد وبموجبه أنشئ مجلس النقد والقروض والذي يعتبر مجلس إدارة‬
‫البنك‪ ،‬فمن خالل هذا القانون (كان أول قانون صدر في تلك المرحلة) أدركت الدولة أن السير األفضل للتنمية والنهوض باقتصادها هو‬
‫االنتقال إلى تحرير االقتصاد الوطني بإتباع سياسة السوق الحرة ورفع يد الدولة عن العديد من األمور االقتصادية وإبراز نية توجهها السياسي‬
‫نحو ما يسمى بـ‪" :‬اقتصاد السوق"‬
‫‪ -‬ماذا نعني باقتصاد السوق ؟ وما هي مبادئه ؟‬
‫‪ -‬وماذا عن الدور الجديد للدولة في ظل هذا النظام ؟‬

‫إن مفهوم السوق يستند إلى مبدأ كمال السوق وهذا المبدأ مفاده سيادة الحالة الطبيعية للسوق ونعني بها المنافسة الكاملة‪ ،‬وفيه يكون‬
‫تدخل الدولة ما هو إال دور منظم ومسير مع ضبط تحرك السوق عن طريق القوانين لتفادي وجود احتكارات وما يعرف اليوم بـ‪" :‬اقتصاد‬
‫السوق"‪ ،‬ومفهومه يختلف من بلد آلخر‪.‬‬

‫مبادئ اقتصاد السوق ‪:‬‬


‫أ‌‪ -‬المصلحة الذاتية‪ :‬هي أهم مبدأ ترتكز عليه الرأسمالية وهي حق الملكية الفردية لوسائل اإلنتاج فهي تقدير الدوافع الذاتية للفرد‪.‬‬
‫ب‌‪ -‬الحرية االقتصادية‪ :‬ويقصد بها أن يتعامل الفرد مع من يشاء ومع من يريد في أي وقت‪.‬‬
‫ت‌‪ -‬الملكية الخاصة لوسائل اإلنتاج‪ :‬ويقصد بها في الفكر الرأسمالي حق الفرد في امتالك واستخدام وسائل اإلنتاج المملوكة بالشكل الذي‬
‫يتحقق مع مصلحته الشخصية‪ ،‬على هذا األساس يقوم اقتصاد السوق بتنظيم الملكية الخاصة وحمايتها‪.‬‬
‫ث‌‪ -‬المنافسة والمبادرة الحرة‪ :‬إن المنافسة تسمح بالديناميكية وهي تمارس على المستويين الوطني والدولي حيث تعوض رجال األعمال‬
‫والمؤسسات منافسة دولية متكافئة‪ ،‬أما المبادرة الحرة فتسمح بالتفتح واالرتقاء وتنمي قدرات اإلبداع‪ ،‬فالدول األكثر تقدما هي التي تدافع‬
‫عن المبادرة الحرة والمنافسة والسوق‪.‬‬

You might also like