Professional Documents
Culture Documents
!?نزعة الثقافة الأبوية العربية في اضطهادها للحداثة
!?نزعة الثقافة الأبوية العربية في اضطهادها للحداثة
؟
بوزيان بغلول
حتت مسميات عدة كان آخر ربع قرن نشهده قد نضح بنشاط فكري ،بل وقل نظريه عىل
مستوى النخب املثقفة إعالميا وأكاديميا مناقشة وحتليال ـ بل حتى نقدا ،متحيصا وترشحيا ـ
مفيضة يف موقع احلداثة الغربية عىل خارطة الفكر العريب الراهن ،بعد جس نبض تضاريسها عىل
خارطة الفكر الغريب احلديث واملعاص حيث نشأت ،وبخاصة ملا أخذت هوة اإلنتاج واخللق
الفكريني بينه وبني العرب تتسع بالطراد رغم تلهف مرتاكم لستيعاب احلداثة الغربية ،أم ترى
أن استيعاب العرب كان ينقصه يشء ما يكون قد جعل ماكنتها ل تعمل مثل ما هي تعمل لدى
الغرب الصائر إىل التطور املذهل يف شتى امليادين والعرب الصائرين إىل الزمة الفكرية والعلمية
بعد طرحهم للمناهج التقليدية جانبا؟ فكان حاهلم أشبه حينئذ عىل طريق احلداثة باملركبة املنكوبة
،coincéحيث ل هي تزحزحت إىل الوراء ول هي تقدمت.
فعال ،قد غصت منشورات وملحقات الثقافة العربية املعاصة ،ونقصد تلك املسؤولة مسؤولية
حضارية أمام نفسها ،بمجالت مشهود هلا تارخييا بتحريك النشاط الفكري إنتاجا وإبداعا ،خذ
مثال جملة العريب الكويتية لوحدها قد علق بذهننا كثري من مقالهتا العقالنية والتنويرية املرشحة
واآلخذة عىل عاتقها بذلك النشاط مأخذ اجلد ،وهذا مقال بعنوان (الرواية يف الكويت من
التقليدية اىل آفاق احلداثة .عدد )533مازلنا نذكره بعد قرابة عرشين سنة إلصابته هدف ما جتىل
لنا عرب الواقع خالل مسريتنا ،من نكبات وتشوهات وأزمات استيعابنا للحداثة ،واآلخر الذي
عنوانه (إشكالية توصيف احلداثة وما بعدها .عدد )462و(ل بديل عن احلداثة .العدد)571
1
و(احلداثة وما بعد احلداثة عدد )618و(العوملة امتداد للحداثة أم نقيض هلا؟ عدد )610
و(اهلوية العربية بني سندان التغريب ومطرقة التطرف .عدد )612و(استحالة اهليمنة ثقافيا .عدد
)562فضال عن ملحقها الفكري "كتاب العريب"
إن جل هذه القالم قد مترست يف نقودها وحتليالهتا النقدية التطبيقية مثلنا؛ بالحتكاك بالواقع
امللموس ولو أن العدد غري اليسري كان ملام بام كان ينرش يف جملتي عامل الفكر وعامل املعرفة وفصول،
واملواكبة ملجلة العريب يف نقد احلداثة يف الجتاهني؛ الول املتصور أن أزمة وانتكاسة حداثة العرب
يف هتافتها عليها دون انتقاء ما يصلح ،وهو تصور وطني ذو قرابة باملاركسية ،والثاين وهو تصور
أصويل ،فيعتقد أنه ل حداثة ملخلوق يف معصية مبادئ الرشيعة ومصالح الرشع .ومن تلك
العناوين الدسمة التي عجت هبا جملة عامل الفكر ومازالت أذكرها ما تعود لمحد أبو زيد أو فؤاد
زكريا والطيب تيزيني (عوملة احلداثة وتفكيك الثقافات الوطنية .عدد ،2003ومقالت التنوير.
عدد مارس )2001ومقالت املغربيني التي ينقصها دوما ملح اللغة (كاخلطاب عن "حرب
الثقافات" يف الفكر الغريب .عدد )2007فال أقرؤها لعبد اهلل العروي واجلابري وجعيط وأركون
إل مقروءة من أحد حمرري املجلة املهوسني باملوضوع كعيل وطفة ،أما عامل املعرفة فعكفت عىل
إصدار سلسلة كتاب يف جملة ،ومما أصدرته حول املوضوع مرتمجا كان "طرائق احلداثة"1999 .
و" من احلداثة إىل العوملة.."2004 .
وباحتكاكها الكاديمي هذا ،جاز لألقالم الفكرية املواكبة لينع مرحلة مر هبا الفكر العريب
املعاص خماضا وصاعا بني التجديد والصالة ،والطويل نسبيا الذي يرجع لنهاية القرن التاسع
عرش ،أن توافق ما كنا نبحث عنه إثر مرحلة نضجنا الفكري ،مرحلة الشباب املألة باحلرية والقلق
إزاء الواقع امللتبس بعد عرشية الدم مبارشة ،وحلسن احلظ وجدنا أن ذلك من خصائص احلداثة
نفسها" :احلداثة مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي ل ينقطع للكشف عن ماهية الوجود ،وبحث
2
ل يتوقف أبدا عن إجابات تغطي مسألة القلق الوجودي وإشكاليات العرص التي تثقل عىل
الوجود اإلنساين" 1فمصطلح احلداثة مفهوم معريف فلسفي يشمل مجيع العلوم ،ل يعرب عن
مرحلة زمنية معينة عكس احلديث واملعاصة إل يف جماوزته للتقليد ،لنه يعكس صورة نسق
اجتامعي متكامل ،ومالمح نسق مرشوع منظم وآمن ،يقوم عىل أساس العقالنية يف خمتلف
املستويات والجتاهات .وحتى يوصف املرء باحلداثة جيب أن يعتمد أهم مبادئها :العقالنية
واحلرية.
واحلداثة بريئة من قانون الال قانون أو املصلحة املشرتكة واملقاصد العليا التي تتبناها النظمة
املجزئة للحداثة إل لهنا تقع ضد احلرية ،أي التقليد ،ونعني هبا النظام الذي قام اقتصاده عىل
أسس مادية جدلية حداثية لكن سياسيا وفكريا قام عىل دوغام رفض الديمقراطية واحلرية من
خالل نفيها عن اآلخر ،والنظام الشرتاكي يف القتصاد مهام حاول اليوم أن يتخىل أو يتحرر من
الفكر الشيوعي ل يقنعنا ،لن وجوده اليوم له عالقة بأسباب التقليد بشكل أو آخر ،فوجود كيانه
الفكري الغامض متمثل يف املقابلة والضدية ملجرد املقابلة والضدية ،والتقليدي يف المر أنه مومئ
للجانب النفيس ،والذي ل تكفيه العلامنية والديمقراطية الغربية ،هو يريد من مقابلتها الشعور
النفيس ل الوعي العقالين ،وبدون وعي أو عقالنية افعل ما شئت ،فعىل سبيل املثال تعترب حداثة
العرب املشارقة أكثر جتليا من حداثة املغرب العريب نتيجة مأزق الخري يف هويته؛ جينيا ولغويا،
والتي سعى للتغطية عنها بحداثة مشوهة ومز َّيفة ،فحتى تكون حداثيا لبد أن تبني حداثتك
اللغوية والدبية والنقدية عىل إرثها التقليدي املادي وتأيت باجلديد ،ل أن تزدري منه ازدراء من
فقد وعيه نتيجة فرط تعصبه ،ولترتك إذن من يملك تلك التقليدية؛ وهم كُثر يف املناطق الداخلية
1
.علي أسعد وطفة ،مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة ،موقع وطفة نت ،نقال عن Danilo Martuccelli, Sociologie
de la modernité, E.Gallimard, Paris, 1999.
3
للوطن يمر إىل احلداثة ول تقصيه ول تضطهده يف حداثته احلقة ،ويف املغرب العريب تشكل
هاجس ثقايف طبقي تارخييا ،وحتول إىل أيديولوجيا عن طريق السياسة ،فتحالف الصويل
التقليدي (تقليدا فكريا/دينيا) مع املفتقد هلوية لغوية تقليدية (املادية) ضد من يملكها لخذ
مكانه ،فكان للتخلف السيايس والثقايف واحلضاري (احلداثي) يف آن أن ي ُعم بالطراد.
وكذلك الصولية السالمية هي فاعلة؛ يف جتزيئ احلداثة متخبطة يف التقليد ،ونخشى أنه إذا
وجد فنا للدبلوماسية أو سياسة (والسياسة هي فن املمكن) تتجاوز احلداثة لدى الغرب وأمريكا
باخلصوص (كقضية الصحراء الغربية مثال) فألهنا اشتمت يف القضية تقليدا ويد مقاصدية أبوية
للطرفني املشار إليهام أعاله ،وسبب عدم قابلية احلداثة للتجزيء ( كل حداثي علامين والعكس
غري صحيح) يظهر عدم جتانس الفكر العريب املعاص وعدم رسوه عىل قاعدة حداثية صحيحة
(حتى ل نقول متينة لن ثقافة املامرسة لدهيا دور يف ذلك) عىل مستوى الفراد الباحثني ،خذ
حداثة أدونيس التي مل يشاككها أي اعتوار عكس حداثة نرص حامد أبو زيد بالرغم أنه أكثر علامنية
من أدونيس ،لن موضوع علومه يف حتليل خطاب القرآن كان علامنيا بامتياز ،أي كيفية جعل
الدين خاص بصاحبه فقط ،وهو مل يقر بذلك صاحة برغم نبوغه يف التأويل القرآين فالتبست
حداثته بالتباس خطابه العلامين ،وكان عليه برأينا جماوزته التخصص يف حتليل اخلطاب الديني
بعد ما حصل له ،إىل حتليل اخلطاب الثقايف بشكل عام ،من ذلك خطاب العوملة مثال ،والتي مثلام
قلناه عن السياسة نقوله عنها ،فاملدار كله موقع العقل واحلرية بني التقليد واحلداثة.
وقد تطلعنا إىل تلك املقالت يف جملة العريب بشغف وهنم التامسا لإلجابة عن ذلك القلق ــ وما
بالك لو تطلعنا إىل املزيد من العناوين الخرى التي كانت تعج هبا جمالت مركز دراسات الوحدة
العربية واملستقبل العريب السعودية وغريمها ،وتوزع نذرا هنا يف اجلزائر ـ وكانت "العريب" تصل
اجلزائر بثمن 80دينار فقط فكنا نقتنيها شهريا قبل أن تنفذ ،فجمعنا منها من 1999إىل 2015
4
أكثر من 150جملة ،أما عامل الفكر فحصلنا عىل أعداد قيمة يف تناوهلا للموضوع بمعدل عدد أو
عددين يف كل عام ،من 2001حتى العام ،2008وبام حوته من مقالت نرية ووجبات دسمة
خماطبة حلداثة العرب خماطبة لئقة ل يرتقي إليها إل الضالعون يف الفصحى املتعودون عىل
التحرير الراقي ،مل نعاين قط يف الحاطة بالعناص املعرفية الفرعية التي كان موضوعنا ملذكرة
املاجستري يتطلبها ،ومل تكن العريب عموما حمط غزو القالم املغاربية كي تبصمها ببصامهتا الالهثة
وراء احلداثة اإلجرائية يف امليدان الفلسفي والنقد اجلديد باخلصوص ،2لهنم مل يكونوا ذوو
مستوى عال حتكام يف العربية ،مع أن بعضهم له عالقة بفنيات الكتابة والكتابة الروائية كمحمد
برادة ومرزاق بقطاش ،طبعا ل نتحدث هنا عن اخلصوصيات ولكن عن املشرتك العام الذي
جيمع العرب ،كل العرب بلغتهم ،لننا لو فعلنا لوجدنا عبد اهلادي التازي والطاهر بن عاشور
قلامن مؤسسان هلذه املجلة.
فام موقع مترس أصحاب هذه املقالت الترشحيية من الثقافة البوية أو البوية يف الثقافة العربية؟
والتي ل تعني سلطة الب Patriarchyبشكل إقصائي ضد النساء فقط وإنام لكل ما هو
خاضع لسلطة الب أو أي شخص يملك السلطة" ،فالبطريركية وهي تسمى نظام أبوي
وذكورية ،تنظيم اجتامعي يتميز بسيادة الذكر الرئيس (الب) وتبعية النساء والذرية له بام فيه
التبعية القانونية ،وتفرتض التوريث واستكامل النتساب لذكور من الساللة ،متوسلة -عادة-
.2ألنه عكس حداثة المغرب العربي الفكرية التي مانعها أقبل بنهم وشغف باحثوه المفرنسين على الحداثة التقنية؛ العلمية واالجرائية لتطبيقها
على اللغة العربية وآدابها من ذلك اللسانيات والمناهج الشكالنية والبنيوية ،والسبب كامن في ضعف المطارحات السجالية والنقدية عبر الصحافة،
التي تعد رافد معرفي مهم لقسمي اللغة العربية والفلسفة ،فقد شكلت وسائل االعالم العربية بنخبتها عبر المجالت العربية المتخصصة ذات
المشارب المتنوعة فيتوا موثوق به لمنح الضوء األخضر من عدمه ،عكس ما حصل مع المغاربة ،وهذا إن عبر عن شيء لم يعبر عن أصالة
الهوية اللغوية واألدبية العربية المشرقية في مقابل المغاربية فقط ،بل كذلك على نمو الوعي النقدي وبتعدديته استقل عن مركزه الوحيد واألوحد
أجهزة الدولة الوطنية .وينظر في هذا الشأن مقدمة كتاب "نقطة ابتداء في الحداثة والتحديث والنقد الثقافي" لعباس جاسم سبيال .في هذا الكتاب
تناول ثقافة الحداثة برؤية سياسية وكان عليه في النقد الثقافي أن يتناول السياسي برؤية ثقافية بتغيير اسم اليسار الجديد إلى الثقافة الجديدة.
5
بالعراف والتقاليد " 3أي قد حتولت عن طريق الثقافة؛ باملحاكاة والتامهي الستعاري إىل أبوية
السلطة ،وأبوية السياسة والقتصاد ،وأبوية احلزب ،وأبوية الستاذ اجلامعي (الذي يعد السلوك
البوي وجماراة نزعته تفوقا) ،4واجلامعة السوسيو ـ ثقافية ضد ما هيدد كياهنم ،فالكل يامرسها
ضد سلطة ضد ،حتى تلك املتبنية الثورة العلمية الكونية يف إطار جمتمع إنساين يسوده التنظيم
والعقالنية ونعني هبا احلداثة.
والنظام البوي العريب يف تارخيه سليل النظام القبيل قبل اإلسالم ،يف سعي كل قبيلة متميزة يف
تفوقها يف جمال من املجالت إىل هتجني مواليدها عليه حتى تبقى حمافظة عىل متيزها أمام القبائل،
ويتجاوز التهجني العتبارات املنطقية واإلنسانية أو ما نسميه اليوم بحقوق اإلنسان؛ باعتبار أنه
يغطي عىل الفوارق/الطاقات الذهنية التي يولد هبا البرش ،وجتعل الواحد منهم يف بحثه عام يسد
هذا النقص ،دون وضع اآلخرين يف العتبار ،يلجأ إىل الدين ثم إىل السلوكيات التي تيش عن
نقصا يف الطاقة الذهنية ..وقاب قوسني أو أدنى جاء عنوان مقالتنا مشاكال لختطاف ثم سبي
فاضطهاد احلداثة اضطهاد السيد أو ويل المر العريب لمته أو جاريته ،ذلك أن املكونني اللذين
ما فتئ يكشفان عورة حداثة العرب كرونولوجيا مها الستمرار (باإلضافة إىل قمع املرأة) يف
تطبيق قانون التفويض البوي أو درء الخطار الفكرية اخلارجية عن طريق رشعنة قانون الال
قانون مراعاة للمصلحة ــ وسمها ما شئت حينئذ :مصلحة عليا ،املصلحة املشرتكة أو فقه
املقاصد ..ــ
6
بيد أن أخالقنا العلامنية وتكويننا الكاديمي أفضيا يف النهاية بأن ل نجاري عناوين مقالت
الصحف وكليشيهات متوهنا املصورة اليومية ،كتطويع احلداثة ،ومراودة احلداثة ،ومغازلة
احلداثة وغريها الكثري من العناوين الطنانة ،ذلك أن الكثريين الواقعون حتام هم يف ظل أزمة
احلارض الفكري العالق هذا ،واقعون يف هاجس التوجس املزمن من أخالقيات احلداثة املنافية
لخالق ما تعودوا عليه من تسرت وتأمري لألنثى بالئتامن مهام كانت؛ إما ُأما أو اختا او بنتا إذا مل
تفطر عليها يف بيتها الول ،واحلق احلق أن جل كتاب الديار العربية حمقون يف حترزهم من أخالق
بعض العلامنيني العرب الذين ل يفهمون العلامنية فهام حضاريا :ل يفهمون العلامنية إل باعتبارها
جمال حتقيق املنازع والرغبات الفردية جسدية كانت أو معنوية ،والعلامنية ليست كذلك أبدا ــ
ولينظر أحدهم يف أخالق العلامنيني الغربيني السوياء إذا ما كانوا يرشبون اخلمر كي يعربدوا
ويأتوا الشهوات أم حلاجة غذائية ملحة يفعلون ،وإذا ما رشبوا تلك اخلمرة وهم بإزاء من جيتمعن
بأمهاهتم واخواهتم وبناهتم هل يقعون يف معاكستهن كام يفعل الغالب العم من العلامنيني العرب
أم ل؟! ــ وربام هذا التصور هو نتيجة مبارشة لبنية جمتمعاهتا الثقافية الكابت حلرية الفراد
واجلامعات كام يقول به ميسون العتوم ":املرأة ليس معطى بيولوجيا أو طبيعيا بقدر ما هو بناء
تارخيي وثقايف واجتامعي صنعته قوى اهليمنة املتصارعة يف املجتمع".5
ولعل هذا السلوك الغرائزي اهلاجيس والتوجيس املرسخ بالعادة الال مفكر فيها مث ُله مثل الدابة
املربوطة التي رسعان ما تلتحق مبارشة بحقل القمح بعد أن فك رباطها ،وحشائش الرب دوهنا
واسعة رحبة ،فيضطر صاحبها أن ُيعيدها إىل وضعها السابق ،وهكذا دواليك يسري احلارض دائرا
يف جلباب املاض ،فكام يعمل العقل يف بنية بني العقل الواعي والعقل الالواعي/الباطني تعمل
بنية الكون ويف كل ثقافة عىل حدة؛ فام يرفضه ويشمئز منه العقل الباطن للمسلمني (مما يسمونه
. 5ميسون العتوم ،جسد المرأة والدالالت الرمزيّة :دراسة أنثروبولوجية بمدينة ع ّمان (األردن) ،إنسانيات ،العدد ،2013 ،59ص.11
7
اتباع اهلوى أو عدم ضبط رغبات النفس رشط أن تكون واقعية وغري مكبوتة) ل يشمئز منه العقل
الباطن للعلامنيني ــ عىل أن نفرق بني العلامنيني الغربيني والعلامنيني العرب لختالف الرشوط
احلضارية يف سياقيهام ــ لكنهم يشمئزون وهيجرون ما حيبذه العقل الباطن للمسلمني من
سلوكيات اجتامعية غري ديمقراطية واحتيالية ،وهي إما تتم يف الرس أو عالنية واقعة حتت محاية
املقاصد العليا من صميم النظام البوي ،وهي متيز املجتمعات التي تعيش احلاجة ونظامها
القتصادي ليس حرا ول تنافسيا ،بل هو حمتكر لدى مجاعة معينة كالنظام الشرتاكي ،من هذه
السلوكيات :الرسقة مادية كانت أو معنوية ،الغش يف مجيع مراحل احلياة واستعامل املزور ،املحاباة
والنفوذ الداري ،رشاء الذمة يف الدارة ،الرتشاء ،الكذب ،تكوين املعارف التكسبية عىل
مستوى أفراد احلي واملؤسسة واملدينة والقطر ،إسداء غري معقول للشكر يتحول إىل دعم سيايس
بالتملق ليل هنار ارتزاقا ،حتى ل يصل المر بالبوية إىل استعامل العصا واجلزرة ..وفوق هذا
وذاك املقاصد العليا هلذا النظام تبيح تلفيق التهم الباطلة للعلامنية احلقة عىل أهنا ـ بالتعميم ـ كفر
وشيطان وزندقة وهلم جر ،بينام هي يف احلقيقة منهج اختاره اإلنسان للرتفع عن حيوانيته بعد
خماض عسري من املكابدة يف القرون الوسطى ثم يف قرون التنوير.
8
تقول النظرية العلمية يف ميدان العلوم الجتامعية أن احلرية مكون أسايس بل جوهري يف
خطاب احلداثة ،إذا ما جتاوز سياسيا ينحرف خطاهبا بداهة إىل الديامغوجية ،وهو خطاب أشبه
بانتهاز الفرص والتوافق والتحالف مع التقليد والرجعية ،وقد ل تكمن اآللية املشرتكة يف
اخلطاب الديامغوجي دوما لكن يف النظام البوي ،كون "املنظومة البوية نتاج نظام تقليدي يعاين
من اختاللت اجتامعية وحضارية كامنة يف طبيعة العالقة بني احلداثة والرتاث ،بوصفها عالقة
تضاد وتناقض ،فالبوية ل ترى يف الرتاث غري سلفية تقديس املاض وعبودية الذات (العائلة
القبيلة/الطائفة الدولة) وإن كان الب مركز نظام العائلة ،فإن الفرد مركز نظام الدولة ،إذا
مركزية الواحد غري املتعدد مصدر القوة املنفردة بالسلطة (الفوهرر ،الزعيم ،الدكتاتور) عىل وفق
نسق من املبادئ والقيم املتوارثة املتبادلة يف النظام البوي ( )..إن كانت البوية هي إرث قائم
عىل مركزية الفرد وقدسية اإلسالف ومنطق القوة ،فهي نقيض العقالنية والنقدية والتعددية"6
وإذا كان املراد من النظام البوي البيولوجي اخلوف عن مستقبل البناء ،فإن النظام البوي غري
البيولوجي هو اخلوف عن مستقبل الب ،والستاذ اجلامعي خاصة يف الدراسات العليا ،الذي
يظل يبرش طالبه بالنظام السيايس والديني عن طريق ممارسات غري عقالنية وغري ديمقراطية هو
بالكاد يقول له وباحلرف الواحد :أنا أفضل منك دائام ولن تستطيع جتاوزي أبدا مهام كنت ذكيا.7
أجل ،فكل من الرجعية والدولة التي ختتطف املجتمع املدين لبتالع حقوقه املرشوعة يف احلرية
والعدل واملساواة وجدا يف البوية نظاما بنيويا تقابليا ضد املجتمعات الرأساملية احلرة والليربالية
ــ وهي إن مل تكن استعامرا سابقا سبب حدوثه جوانب تقليدية كانت ندا ومنافسا هلا عىل امتالك
املجتمعات امتالكا سياسيا ،وهو حال املعسكرين الغريب بقيادة أمريكا واملعسكر الرشقي بقيادة
الحتاد السوفيايت سابقا ــ وبه يسبقان الفكار اجلاهزة سياسية (منتهى النظام السيايس املكتمل)
. 6عباس عبد جاسم ،نقطة ابتداء في الحداثة والتحديث والنقد الثقافي ،مركز كالوير الثقافي ،العراق ،2013 ،ص.17
.7ينظر نصر حامد أبوزيد :الحياة هي مغامرة ،في الموقعhttps://kiraatn.blogspot.com/2021/07/blog-post_7.html :
9
والدينية (منتهى الفكار الغيبية املكتملة) حفاظا عىل عدم تغلغل تلك احلداثة الفكرية
باخلصوص ،وهي صناعة "اآلخر" إىل بنياهنام احلضاري ليس املشيد عىل العلم وعلامنية الدولة،
لكن املشيد عىل النظام البوي.
واآلخر هو املصطلح الذي خلقه التقليد ،وورثته عنه ثم رعته دون وعي ثم اهتمت الستعامر
باستحداثه ،بتخطيط القائمني جلعل النشء أو الجيال اجلديدة يؤمن هبذا النظام كام يؤمن املؤمن
بإهله حتى ولو اضطرهتا الظروف إىل الكراه والرتهيب لالقتداء وإسداء الشكر والطاعة،
وبالبحث الدائب يف صدور الناس عام من شأنه أن يقوض ذلك البناء الذي أساسه سيايس
سلطوي وديني قمعي اقصائي ،بأسلوب العصا واجلزرة ،أي احتذي بالنظام البوي املكتمل أو
انتظر من احلداثة أن تؤكلك عيشا ،وذلك من أجل احلفاظ عىل الوضع القائم املرتسب يف النفوس
شخصية وهوية وأصالة وشهامة تقليدية غري معتدة ل بتغري اهلويات ول بتغري الثقافات ،ويف
املؤسسات اجلامعية بخاصة يف الدراسات العليا يامرس الستاذ الناقد البوية وهو غري مكرتث
بأهنا هي طريق العلم نحو مناقضة العقالنية والوقوع يف فخ زيف احلداثة وتشوهيا ،لكن ل من
سمع ول من درى..
فأمامك يا طالب العلم حتضريا لدكتوراتك النظام البوي بالعصا واجلزرة إىل جانب املنهج
العلمي ،رضيت أهال وسهال مل ترض الباب خيرج مجال ،وأين احلرية والعدل واملساواة جوهر
احلداثة؟ أين املراقب واملفتش بني كل حق وواجب جيمع بني اثنني؟ أين هم؟ ل أحد يدري ،بل
أغلبهم يدري لكن يصم أذنيه ويغض طرفه وكأنه ل يدري ،لنه قد علم أن الدور املوايل قد يأيت
عليه " ،ل يمكن حترير الثقافة من اإلراثة البوية إل بتحرير الذات من عبادة الفرد من جهة،
وحترير البنيات القتصادية من التبعية من جهة أخرى " .8عىل أن مناهضة أي نظام اقتصادي
10
وسيايس قائم وناجح يف سياقه جيب أن يتم بتقديم مرشوع اقتصادي جديد يتجاوز هذا النظام،
ل جمال ملعادة العوملة الرأساملية معاداة فيها تقليد إل من خالل مبادئ التجاوز واحلرية والختيار.
إذا كان مرشوع التحديث يف العامل العريب مل يلق صداما سياسيا ومدنيا كام لقه مرشوع احلداثة،
فان مرد ذلك ان احلداثة تتعلق بفكر اإلنسان ومفاهيمه وبنية الدولة ،ومرحلة التطور القتصادي
الجتامعي والتطور السيايس أيضا ،بينام يعرب التحديث عن نفسه بالتطبيقات العلمية والتقنية
واملخرتعات ،ووسائل الستعامل اليومي وما يشبهها ،وفكر النسان أي املجتمع املدين ،وهو
مصطلح سيايس يقابل مصطلح املجتمع السوسيو ـ ثقايف علميا يف العامل العريب ،وكان دوما حتت
سيطرة الدولة ،والدولة هي التي قسمت املجتمع إىل :مدين وسيايس وطبقي ،لذلكم فإن مطب
اإلشكالية القائمة عربيا هي يف أنظمة احلكم العربية امللتفة حول املقاربة التي تضمن مصلحة
السيايس مع مصلحة املدين الذي ترك مكانه شاغرا ملجتمع الصولية الدينية ومل يعد له وجود،
فوجوده داخل حكم هذه النظمة ليس عمليا فعال لكن نظري رمزي ،يظهر فقد شكليا أثناء
النتخابات والعياد العاملية مثل عيد املرأة وعيد الشغل وعيد احلب وهلم جر.
ويمكن توضيح إشكالية استيعاب احلداثة الغربية عربيا من خالل مقاربة منهجية تتلخص يف
بنية تقابلية ثنائية وقد جتلت يف إشكالية الصالة واملعاصة أو إشكالية علامنية الدولة ،وقد بلور
هذه الثنائية ،كالعادة نظام احلكم السيايس بعد النكسة وتقوى أكثر نشاطا عقب هناية السبعينيات
(بعد التطبيع) والثامنينيات إىل غاية هناية التسعينيات ،وكانت بنية هذه املجتمعات السياسية
مهيأة ،لن السيايس كان طاغ عىل الثقايف حينئذ ،والبنية التي نعني هي الطوباوية الشرتاكية
مقابل الربجوازية املتلهفة لليربالية الغربية ،وصول إىل الثنائية الراهنة وهي الرتاث واحلداثة أو
انغالق املحلية عن العوملة ،ولنبدأ بعرض الثنائية الوىل التي لبست فيها احلداثة ثوب إشكالية
التحديث إىل حد ما.
11
1.1طوباوية السلطوية الشرتاكية يف مقابل الربجوازية:
يرى عديد العلامنيني العرب منهم صادق جالل العظم أن املجتمع املدين يف أغلب البالد العربية
من صنع الدولة احلديثة والتحديثية حتديدا .ويرجع إىل مرحلة ما يسمى بالتنظيامت العثامنية (أي
الربوسرتويكا العثامنية) التي انطلقت بزخم حوايل سنة ،1730وقلدها حممد عيل باشا الكبري يف
مرص وباقي املقاطعات بعده .و"كانت الدولة أول من أدخل فكرة سيادة القانون عىل اجلميع،
لكن املجتمع املدين هو الذي يطالب اليوم بتطبيق الفكرة والتقيد هبا ،يف حني أن الدولة هي التي
تتلكأ ،لن يف ذلك انتزاعا لسلطات ومواقع وامتيازات وحيازات ...إلخ .وهذه معركة أرى أنه
لبد من خوضها يف الوقت احلارض" 9وهذا يعود إىل إغفال التمييز بني الدولة كمجموعة
مؤسسات يسودها قانون التنافس احلر وبني غري ذلك بأجهزة سلطوية وذلك هي قبضة "البوية
السياسية" متجلية سواء يف احلكم باملذهب الشيوعي ثم الشرتاكي فالتقدمي يف تاريخ أغلبية
أنظمة احلكم العربية املعاصة وإن مل جتهر به صاحة ،دون احلديث عن العسكر لن لذلك عالقة
بالدين السيايس.
ومع أن التسلطي والديني القمعي يبدوان ومها بإزاء السياسة سواء يف مواجهة واضطهاد
املجتمع الهيل واملدين غري أن الطرائق ختتلف ،أما إذا أردنا مجع الثنني يف كيان واحد ،فاملصطلح
املناسب عندئذ هو املجتمع السيايس .وبتغري الظروف العربية املرحلية املعروفة يف تارخيها
اجتامعيا واقتصاديا تغريت طبيعة الدولة ،وهنا يف هذه الناحية بالذات تبدو الدولة إىل حد معني
شبه إطار تنشط فيه كل مرة طبقة أو فئة طبقية وعالقات طبقية خمتلفة ،مما يستتبع عالقات متغرية
بني الدولة واملجتمع املدين بحسب الفئة الطبقية الفاعلة.
9
.صادق جالل العظم ،العلمانية والمجتمع المدني ،في النهج ،العدد ،40صيف ،1995ص.191
12
إن طبقة (أهل الدولة الرستقراطية) وعىل رأسها السلطان العثامين ،أو حممد عيل باشا ،ومن
تالهم هي التي وضعت من خالل تغيري عالقات امللكية اللبنات الوىل لتحديث املجتمع العريب.
لكن ،يف الوقت نفسه بدأت تنشأ يف بالدنا طبقة أو فئات طبقية حديثة تسمى «بورجوازية»،
وأرادت هذه بطبيعة احلال أن تصيغ املجتمع عىل صورهتا .وقد عملت عىل هذا ضمن إطار
الدولة ،وخارج إطارها أيضا .وهي عموما مؤلفة من أناس مؤهلني تعليميا ومتنورين ومتأثرين
بالغرب ،ينحدرون غالبا من الطبقات املالكة العليا والوسطى يف املجتمع ،ويعيشون بنسب
متفاوتة من مردود ملكياهتم ،هؤلء سامهوا مع بعض أهل الدولة وقتئذ يف حتديث املجتمع .هذا
من جهة /ومن جهة أخرى هذه الفئة وليست الدولة هي التي قادت احلملة لفرض الدساتري
والقوانني احلديثة ،وهي أول من أنشأ الحزاب السياسية ،وأصدر الصحف واملجالت وأقام
التجمعات الثقافية .ويف ظل سلطتها أسست فيام بعد النقابات والحتادات املهنية ...وغريها مما
ُيعد من كيانات املجتمع املدين.
والطريق "الدولوية" يف التحديث طريق أبوية ،مل تكن رضورية بالنسبة للبورجوازية بقدر
رضورهتا بالنسبة لألرستقراطية القديمة ،ثم بعدئذ للبورجوازية الصغرية ،ذلك لن سلطتها ل
تنحرص ضمن الدولة أي فقط بأساليب البريوقراطية والمن والسياسة التي حتفظ النظام البوي
أبا عن جد ،بل أيضا وبالصل تقوم سلطتها عىل أساس القتصاد وملكية وسائل اإلنتاج
والتبادل ،ومن املعلوم أن الفكر البورجوازي الصيل (أي الليربايل) ل يقدس الدولة ،بالعكس
ـ حتجيم دور الدولة ووظائفها إىل احلد الدنى 10
كان يرى ـ عىل القل حتى ظهور الكينزية
.العنصر األساسي الذي تقوم عليه فكرة النظرية الكينزية ،هو أن االقتصاد الكلي يمكن أن يكون في حالة من عدم التوازن لفترة طويلة، 10
لذلك تدعو هذه النظرية التي وضعها "جون مينارد كينز" إلى تدخل الحكومة ،للمساعدة في التغلب على انخفاض الطلب الكلي ،وذلك من
أجل الحد من البطالة وزيادة النمو .ينظر ما هي النظرية الكينزية في االقتصاد ،موقع أرقام:
https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/507877
13
الذي لبد منه لالستثامر والسالم الجتامعي .وعىل الرغم من تصالح البورجوازية مع
الرستقراطية ،خصوصا بعد الستقاللت ،فإن الفكر الليربايل كان يف ظل احلكم البورجوازي
الوطني يتقوى عىل حساب الفكر الكائن وهو الفكر الشرتاكي والفكر التقليدي املحافظ.
أما الرشحية الجتامعية التي قامت سلطتها عىل أساس سيايس ،وعىل قوة أجهزة الدولة
والدعاية اليديولوجية للمثقفني ،فهي نخبة البورجوازية الصغرية ،وذلك منذ اخلمسينيات يف
العديد من البلدان العربية مثل؛ مرص وسورية والعراق وتونس واليمن واجلزائر ،وليبيا،
والسودان ،وفلسطني .تتكون هذه النخبة اجلديدة بالصل يف أغلبها من عاملني ذهنيني مسيسني
وضباط صغار وطنيني ،ينحدرون من طبقات صغرية امللكية تعيش غالبا عىل قوة عملها ،ول
ترتبط بمصالح اقتصادية أو سياسية بالدول الستعامرية .فلم يكن بيد هذه النخبة للوصول إىل
السلطة واحلف اظ عليها ولتنفيذ أهدافها ،دون رشاكة الطبقات الدنيا سوى الوسائل والدوات
الدولوية ،ففعلت كل يشء بالدولة وحتت جناح (أو حتت خمالب الدولة بتأثري هذا الفرق
اجلوهري كان التحديث البورجوازي العريب بطيئا ،وحتى مرتددا ،فبدا طبيعيا ،يف حني جرى
التحديث البورجوازي الصغري عنيفا ورسيعا ،ولذلك يعد شبه اغتصايب وغري راسخ) وخالصة
القول إن النخبة الجتامعية يف الوظيف العمومي اخلدمايت ،عموما كقوى قومية حتررية ،هي التي
هيمنت عىل املجتمع املدين أو هي التي ألغته (عمليا) ،من خالل السيطرة عىل الدولة ثم السيطرة
هبا .والسؤال اجلوهري أين احلداثة يف مرحلة كانت تعج بتقنياهتا يف العلوم والتكنولوجيا
والنسانيات؟ هي بالذات ـ عربيا ـ يف التقنية فقط لكن الفكر القتصادي والسيايس والثقايف
فمستثنى.
ويف ميدان النقد الديب ملا تطورت الدراسات الباختينية بمنأى عن الشعرية الشكالنية ،حيث
كانت متثل الوجه الثاين هلا ،وقد كتب هلا النتشار بعد ترمجة نصوصها من الروسية إىل الفرنسية
14
أو اإلنجليزية .فجاءت عىل مقاس ما ترضاه النظمة البوية ومؤسساهتا الكاديمية ،واملتمثلة
أساسا يف أعامل باختني املقابلة لليربالية الربجوازية ،واحلداثة بمعنى عام يف "شعرية
دوستويفسكي" ثم "مجالية الرواية ونظريتها" و"املاركسية وفلسفة اللغة" ،وكلها مؤلفات
تداخلت مع بعضها وتكاملت لتقدم من جهة تصورا جديدا حول مفهوم الرواية ونقدها
وأصوهلام غري البورجوازية؛ وقد راقت هذه النتكاسة احلداثية كثريا النقد الكاديمي يف أغلب
الدول العربية لتقدمها منهجية يف مقاربة جانب الدللة يف النص الرسدي بصفة عامة والرواية
بصفة خاصة ،وهو يشء مهم بالنسبة هلم معتبريهنا (بعد اكتامل تطور قواعد ومبادئ بنيوية مجاعة
تل كيل) نوع من املسار التصحيحي يف تلكم املناهج احلداثية الشكالنية والبنيوية ذات اخلصائص
العلمية التنويرية الزاهدة يف الدوغامئية.
عىل خلفية الرصاع بني التيار الديني والعلامين يف الفكر العريب احلديث واملعاص املمتد واملتجدد
عرب املراحل السابقة ـ عىل القل ـ بسبب عجز الدولة الوطنية (وهي دولة احلكم املطلق يف
أغلب الدول العربية) عرف الربع الخري من القرن العرشين بروز الرصاع يف شكل إشكالية
فكرية ،ولعل استجابة أصحاب املشاريع الفكرية الداعية إىل هنضة المة وختليصها من عثرهتا
تلخصت وحتصنت بالتموقع ضمن ثالث جبهات ،كل جبهة منها تقدم حال وتدافع عنه ،وكأننا
يف ساحة حرب فكرية ،كل جهة تتحلق حول رأهيا وتأخذ تطلق النتقادات إىل اجلبهتني
الخريني؛ فأصحاب اجلبهة الوىل حتلقوا حول العودة إىل الرتاث ،معتربين أن العودة إىل آراء
وحياة السلف الصالح هي احلل ملواجهة هذا التقدم الغريب ،واعتربوا أن «اإلسالم هو احلل»
ولكن بأي صورة وعىل أي شكل؟! فقد تناسى هؤلء أهنم ليسوا يف فهمهم لإلسالم كالسلف
الصالح ،وليسوا يف درجة علمهم ول يف درجة جرأهتم ول حتى يف أدنى درجة من درجات
15
وعيهم! أما أصحاب اجلبهة الثانية فقد اعتربوا أن النسالخ من العرص والعودة إىل املاض
والتمسك بالرتاث إنام هو رضب من اجلنون ،ولذا رأوا الرأي النقيض؛ إذ وجدوا أن احلل هو يف
الخذ بكل أساليب العرص التقدمية يف صورهتا الغربية احلديثة وقطع الصلة متاما بالرتاث،
وتناسوا أن جمرد الخذ بالساليب الغربية والتشكل بمظاهرها احلضارية لن يكون أبدا هو طريق
التقدم دون هوية تصهرهم ،فلكل أمة هوية لبد منها حتى حيدث التاميز مع اآلخر ثم قبوله مهام
كانت صور تقدمه.
فاحلداثة ل تصنعها املناهج الشكلية يف يد بضعة أفراد تشكلوا بزي ومناهج حياة وأخذ نواتج
علوم حضارة أخرى ،بل التقدم يصنعه الشعب العامل كام تصنعه الصفوة ،بينام رأت البقية الباقية
املشكلة من النخب الدولة أن الرصاع بني اجلبهتني لن يؤدي إىل نتيجة ،حيث إن كليهام يدعو إىل
حل غري واقعي وغري منطقي وغري عق الين ،ومن ثم فقد رأوا أن احلل العقالين واملنطقي هلذه
اإلشكالية هو يف التوفيق بني دعاة الصالة (الرتاث) وبني دعاة املعاصة (الخذ بالثقافة والعلوم
الغربية) عىل أن يقوم هذا التوفيق عىل أساس أنه ل مانع يمنع من أن نأخذ من الرتاث اإلسالمي
كل ما حيض عىل العقل والعلم وصحيح الدين بالطبع ،وأن نقيم املقاربة عىل أساس ذلك مع
حضارة العرص التي أساسها أيضا العقل والعلم .وقد تناسى هؤلء كذلك أن يف التوفيق يكمن
التلفيق الذي تظل معه اإلشكالية قائمة! فاملسألة ليست خانات ثالثا :الرتاث والعرصانية
وبضمهام نخرج باخلانة الثالثة ،خانة التوفيق بني الصالة واملعاصة ،إذ إن هذه الدعوة أكدت يف
الواقع الثنائية رغم أهنا دعت لتجاوزها ،وتبنت دعائم الرصاع ،بني أن نكون تراثيني تقليديني
وبني أن نكون معاصين نعيش قيم العرص؛ ففي قيم العرص ما يتعارض حتام مع قيم الرتاث ،ويف
قيم الرتاث ما يرفض الكثري من قيم العرص ،واخلالصة أن الرصاع سيظل رغم الدعوة إىل التوفيق
بني ثنائية الصالة واملعاصة.
16
وعىل الرغم من وضوح املصطلحني واختالفهام فإهنام يف النقد العريب يتفقان من حيث ارتباطهام
بالعرص احلديث من الناحية الزمنية وصدورمها عن روح هذا العرص وخصائصه واجتاهاته
ومذاهبه املختلطة بالسياق والواقع العريب ،فاحلداثة كام يذهب أغلب النقاد ،هي تعبري حضاري
واستجابة لقضايا العرص وطرقه يف التذوق والتفكري والتعبري املبنية عىل ما سبقها من حضارات،
وآخر هذه احلضارات هي احلضارة العربية السالمية ،لكن تأثري النقد الواقعي املرتبط بالحزاب
احلاكمة التي تصف نفسها بالوطنية وجتذره يف مؤسساته فكانت يد عون خللق اإلشكالية
ورعايتها متلصا بالتمييز "بني احلداثة La Modérnitéأو احلداثية lé modérnisméأو
العرصية ،أي اثارة الطرف الصويل وجعله مقابال للطرف احلداثي خاصة يف الشعر كفرع من
فروع احلداثة الفكرية ،ويف كل قطر عريب سواء كان حمافظا كدول اخلليج أو اشرتاكيا قوميا يف
ذلك الوقت ،مثل مرص واجلزائر والعراق وسوريا ،باعتبار حداثته ليست من صميم تصور علمي
علامين " :كتابات كثري من الدباء اللبنانيني الذين يتزعمهم سعيد عقل وأدونيس ،وغريمها من
احلداثيني الذين فهموا احلداثة عىل أهنا مترد ورفض للرتاث العريب بجوانبه املختلفة ،فانساقوا
بذلك مع التيارات العدمية والفوضوية والشعوبية ،اليشء الذي جعل من احلداثة ،خصام للرتاث
وبديال للقديم ،وقد دفع ذلك ببعض النقاد الواقعيني اىل استعامل املعاصة ،بدل من احلداثية
لرتباط هذه الخرية بالجتاه السلبي عىل الرغم من أن املعاصة هي أكثر .ارتباطا بحركة الزمن،
ويف ذلك يقول الدكتور جابر عصفور إن ارتباط املعاصة بالعرص ،جمرد العرص ،ينأى باملصطلح
11
عن اقتناص روح العرص ،فيتحول املصطلح إىل جمرد وعاء زمني"
ناهيك أن املعاصة هذه مل تعد حسب الطيب تيزيني تعني التوجه إىل أوروبا بمنجزاهتا
الصناعية العلمية ،وإنام أصبحت القدرة الفعلية عىل استخدام الرؤية الكثر علمية وثورية يف
. 11جابر عصفور ،معنى الحداثة في الشعر المعاصر ،فصول ،مجلد ،4عدد ،4يوليو ،1984ص .36
17
تقيص الواقع العريب املعاص يف وضعه ويف آفاق تقدمه تقصيا ل يتوقف عند النقد ،بل يطرح
التجاوز اجلديل الثوري له من خالل اكتشاف البديل اجليد ،والعمل عىل إبداعه عرب نشاط سيايس
علمي متآخ بصورة عميقة مع متثل وفهم اإلشكالت والعوامل والكوابح وهذا يعني دللة
مصطلح احلداثة أو ببساطة التخيل عن النظام البوي حتالفا ونشاطا سياسيا أو تلفيقا واحتيال
حتزيئيا للحداثة نفسها (املادية فقط) فاملعاصة ل تكون كذلك باإلتباع وجمرد السطحية املتعلقة
بمظاهر الشياء واملقابلة ملا هو أصيل إل عن طريق احلداثة .فال يكون الشاعر معاصا بمجرد
أن يصف الصاروخ أو التليفزيون ،أو عظمة الشرتاكية .مثل هذا الشاعر بالنسبة للمفهوم
احلديث للشعر هو رجعي عظيم الرجعية ،واقرتان املعاصة بالبعد الزمني وروح العرص جيعلها
مرتبطة باحلداثة إن مل نقل ترادفها رغم ما تتسم به احلداثة من جتاوز للحارض نحو املستقبل.
"وعىل نقيض ذلك يتخذ مفهوم احلداثة يف بلدان العامل الثالث والعامل العريب صيغة املقابلة (أصيل
ـ معاص) لطمس التأخر التارخيي والستالب احلداثي وسط ركام (بالغات) احلداثة
12
وأسطوريتها السحرية"
ولعله من انعكاسات خلفية الرصاع املفتعل املضمر الظاهر يف إذكاء التقابل بني الصالة
واملعاصة إذكاء فيه حيلة ثقافية من قبل أنظمة احلكم البوية اشتداد اإلشكالية اللغوية يف املغرب
العريب ،وعىل مجيع املستويات حتى الكاديمية منها ،ومسألة اللغوية واهلوية يف اجلزائر تُعد مسألة
من أبرز مكونات أزمة بناء الدولة يف أفريقيا واملغرب العريب .ويف هذا الصدد أكد وزير الرتبية
والتعليم السبق عيل بن حممد يف برنامج بال حدود بالقول« :إن املعركة حول اللغة واهلوية يف
13
اجلزائر مل تندلع ،لهنا مل ختفت قط وكانت دائام حارضة»
12
.محمد برادة ،اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة ،فصول ،مجلد ،4عدد ،3ابريل ،1984ص.16
13
.برنامج بال حدود ،صراع اللغة والهوية بالجزائر ،األبعاد والتداعيات ،قناة الجزيرة الفضائية 21 ،أكتوبر ،2015
18
ومن التأثريات السلبية لتاريخ الستعامري يف املنطقة املغاربية وللعوملة قضية أخرى أكثر
خطورة ،هي أن واقعه اللغوي يتسم بالثنائية اللغوية( 14الدارجة ــ الفصحى ،الفرنسية ــ
الفصحى ،الدارجة ــ الفرنسية من افتعال السلطوية ثم تسيسها ،لبتزاز هذا الطرف أو ذاك من
ثمة الظهور بمظهر املتحكم والعارف بخبايا القضية ليطيل جثومه يف احلكم ،وهذه الوضعية سبق
لوزير الول السابق سيد امحد غزايل وصفها بالراعي الذي يقطع ثيابه إلعادة خياطتها ،ويصفها
الباحث اجلزائري ناص جايب بأهنا أزمة مستحكمة ويذهب إىل القول بأن الزمة أعيد إنتاجها
بعد الستقالل بواسطة مؤسسات الدولة الوطنية نفسها ونحبها ،وإل كيف نفرس أن يدرس
الطالب كل حياته مثال بالعربية عندما يكون طالبا يف العلوم الدقيقة والرياضيات وعندما يريد
أن يتوجه إىل اجلامعة يطلب منه أن يتعلم بلغة أخرى ،وهي الفرنسية التي مل يدرسها إل قليال
جدا ( )..نطلب منه التعامل يف املؤسسة الصناعية واإلدارة وغريمها من مؤسسات الشغل بلغة
عندما يكون خترج بلغة أخرى ،ومل يتعلمها ( )..وختيل النتائج املرتتبة عىل هذا الوضع اللغوي
15
املريض ،خذ مثال الفضائح التي تظهر عند كتابة الوثائق الرسمية بام فيها السامء»
عىل خلفية الرصاع بني التيار الديني والتيار العلامين يف الفكر العريب احلديث واملعاص وحتت
رعاية الدولة الوطنية تطورت اإلشكالية السابقة بمصطلحات ومسميات مستجدة
14
.الثنائية اللغوية هي اصطالح حديث العهد يطلق على ظاهرة لغوية اجتماعية وهي استعمال لغتين :اللغة األصلية ولغة ثانية ،ويقابله
في اللغة اإلنكليزية كلمة Bilingualism.ولهذه الظاهرة ارتباط وثيق بهوية الفئات وعالقاتها بغيرها من الدول االستعمارية .انظر :عبد الرحمن
الحاج صالح «الثنائية اللغوية بالنسبة للغة العربية وأوصافها الحقيقية :اإليجابية منها والسلبية» مجلة المجمع الجزائري للغة العربية ،العدد 15
حزيران/يونيو ( ،)2012ص .9
. 15ناصر جابي ،االنقسام اللغوي أضعف النخب الجزائرية ،الجزيرة نت،2015/08/26 ،
https://www.aljazeera.net/culture/2015/8/26/%D8%AC%D8%A7%D8%A8%D9%8A-
%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%82%D8%B3%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-
%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D9%88%D9%8A%D8%A9-
%D8%A3%D8%B6%D8%B9%D9%81%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AE%D8%A8
19
كالرتاث/املحلية والعوملة ،بيد أن املعنى كان واحدا وهو اجهاض املرشوع احلداثي بجعله يزداد
مرضا مع انقضاء تاريخ احلداثة نفسها يف الغرب وظهور تيار ما بعد احلداثة كتيار فكري ومعريف
جديد غري أن بروزه كان واضحا أكثر يف الفنون البرصية.
نخشى أن احلداثة فعل ل يقوم عىل الختيار الواعي فقط ،بل بالختيار الذي فيه جمازفة خروجا
من مأزق خيص الفعالية الفكرية والدبية والفنية ،ول يقوم عىل التجاوز ،بل عىل البناء عىل ما
كان ،عكس املعاصة التي هي جمرد وجود يف الزمن تنطوي عىل نوع من الختيار بالرضورة.
وتبعا لذلك فان وضع العوملة بدل للحداثة يف طريق الرتاث اسرتاتيجية سياسة للقفز عىل مبادئ
احلداثة أو تغيريها وفق متطلبات السياق "املعركة بني احلداثة والرتاث معركة مصطنعة ،املعركة
احلقيقية هي بني احلداثة الصلية واحلداثة املزورة بني احلداثة التارخيية وبني احلداثة اهلاربة من
وجه التاريخ ،بني احلداثة املؤسسة عىل اإليامن بحضارة المة والتفاعل احلضاري ،وبني احلداثة
16
الفوضوية اهلائمة حتت أي فضاء إل الفضاء العريب! "
ويف بداية القرن املاض مع طفرة تقنية التصال والرقميات أصبحت مقولة الطريق املخترص
للحداثة والتقدم والقوة يكمن يف التحرض والصناعة ينزاح لصالح ثنائية املؤسسات املرصفية
العمالقة واملعلوماتية ،فقد قللت العوملة من ثنائية العامل عن طريق النظام القتصادي اجلديد
وقاربت من متاهي الثقافات برغم أنه يمكن أن تضحى دولة غنية ساعية إىل هذا النظام بني ليلة
وضحاها فقرية ،وبغض عن املشاكل العاملية املتساوية الرضار كتدمري البيئة ،استمرت التيارات
النعزالية البوية بتشويه العوملة بمقابلتها بمفارقات الدين ،وفهم الرتاث التي هي جزء منه عىل
أنه اجتهاد وجزء من الدين وليس العكس ،كام فعلت إثر صدمة احلداثة ،بجعلها أيقونة الستعامر
واقتصاد اإلفقار العام لصالح رفاه النخبة" ،ويف (عاملنا العريب واملسلم) يف خضم صدمة احلداثة
. 16جهاد فاضل ،قضايا الشعر الحديث ،دار الشروق ،بيروت ،دت ،ص.73
20
منذ احتالل نابليون مرص حتى يومنا متاوج احلديث يف احلداثة ويف مفردات تتوالد يف حميطها عىل
غرار «التنوير ،التجديد ،املعاصة ،التنمية ،التقدم ،التخلف؛ وأصبحت مفردات تستدعي اجلدل
17
وافرتاق املسارات بني رؤية متثل القطيعة مع الدين كمرجعية فكرية ،وأخرى تنطلق من الدين"
من هذا املنطلق فإن التوجس الديني من مبادئ احلداثة الفكرية ومن أخالقيات كانت دوما
حمل نقد هلا ،وهو منطق براغاميت انتهازي ضاغط عىل السلط إلقامة النظام البوي بعالقة حتالفية
معها يف الخري إما كأحزاب معتدلة أو جمتمعا دينيا حيتل غصبا مكانة املجتمع املدين ،كام نستشف
يف هذا التصور (سواء اشرتاكيا وطنيا كان وظل مشمئز من النظام الرأساميل احلر أو اسالمي
مشمئز من اخالقيات جمتمعاهتا) عن احلداثة ،ووفق هذا التصور الرتاث لدهيا جزء من الدين لنه
ل يوجد آخر لديه إل باعتباره كافرا! يعني الرتاث مقولة فقهية ـ علمية أو علمية ـ فقهية بامتياز
وتعني التجديد واحلداثة (يف اإلسالم الدين :وهو القرآن والسنة الثابتة والرتاث :وهو الجتهاد
البرشي يف الفهم والتطبيق املستند للرشوط العلمية والتحريف :اآلراء غري امللتزمة بالرشوط
18
العلمية)
ولدى كليهام هناك تنايس أو التغاض عن عنرص مهم هو رشط احلرية واملشاركة ،وذلك إذا ما
نم نم عن أدجلة وتسبيق للفكرة عن البنية (بنية احلداثة) وهذا عدم فهم للحداثة وانغالق عنها يف
غياهب التقليد والدوغام" :بدأت الثورة الصناعية الوروبية حينام بدأت الكنيسة واإلقطاع
التقليدي بالتضاؤل لصالح رجال العامل ،وأخذت املزارع الصغرية تلتحق بالكبرية لنعدام
القدرة عىل املنافسة .هذه الثورة الصناعية التي أذنت بولدة احلداثة كانت مريرة ،حيث حتول
املزارعون الذين خرسوا أراضيهم إىل عاطلني أو عامل مستأجرين يف املصانع الكبرية وبأجور
21
زهيدة وظروف عمل قاسية ،وكان الربح الوفري ملالك املصنع .وهكذا توالد الفقر أيضا يف
الرأساملية ،وربام أسهم الستعامر يف ختفيف التناقض الطبقي يف املجتمعات الوروبية بتخليق
طبقة عاملية رخيصة يف البالد املستعمرة وهكذا ارتبط التقدم بالستعامر خالقا أبشع الصور ،كام
أن العرص احلديث الرقمي وما بعد احلداثة التقليدية ارتبط باهليمنة المريكية وحروهبا العاملية
املتنقلة وبالزمات العاملية اخلانقة القتصادية والبيئية بعد احلرب العاملية الثانية خرجت الوليات
املتحدة القوة الوحيدة والساملة من آثار احلرب املبارشة السلبية ،وكان إجياد السواق اجلديدة
ومكافحة املد الشيوعي قد آذن بمرشوع مارشال لتسرتد أوروبا عافيتها ،وبخطط تنموية يف
البلدان اآلسيوية وغريها لتقليل مشاكل الفقر لئال جتتذهبم الشيوعية"
ولعل خري دليل عىل خطئ وانحراف هذا التصور انحرافا سياسيا وفكريا إمكانية رده عىل عقبيه
بالربهان ،ذلك أن ضد احلداثة كام ذكرنا أعاله تقمع املرأة واملرأة يف النظام الرأساميل الليربايل جتىل
دورها يف" :يف الوليات املتحدة تشكل النساء حوايل مخيس القوة العاملة ،ويعادل متوسط
أجورهن ثالثة أمخاس متوسط أجور الذكور وهكذا نجد أن الستغالل الزائد للنساء كوسيلة
إنتاج موجود يف القتصاد املركزي ،ولكن الصفة الرئيسية خلضوع املرأة لحتياجات الرأساملية
املتقدمة ل تكمن يف ذلك ،بل يف دورها كعامل استهالك .يشرتط الرتاكم املستمر يف املركز التوسع
املستمر للطلب عىل البضائع الصناعية من قبل الطبقات العاملة .عندما يكون الرجال ملتزمني
بإنتاج البضائع لفرتة طويلة من النهار يصبح من حق النساء الضطالع بمسؤولية إدارة
الستهالك .إن عزلة النساء يف الرأساملية املتقدمة تنشأ بشكل رئييس يف هذه املهمة املفروضة التي
هي حتويل البضاعة إىل قيمة استعاملية .وباملقارنة بالقطاع الكفايف لالقتصاد املحيط .فإن تبعية
املرأة تنشأ يف دورها نصف الربوليتاري بدل من كوهنا عامل استهالك .إن تقسيم العاملة من حيث
النوع والذي هو بشكل رئييس بني أدوار اإلنتاج والستهالك يفعل فعله يف املركز بني إنتاج
22
البضاعة وإنتاج القيمة الستعاملية .وسينتج عن ذلك أقسى أنواع الستغالل لهنا تراكم كمية
كبرية من املهام التي تتطلب قوة جسدية والتي جيب القيام هبا ضمن رشوط بدائية للغاية -حراثة
قطعة الرض املعيشية والطعام وتربية وإطعام الطفال والهتامم باملنزل والذهاب إىل السوق...
كام تالحظ وكالة التنمية الدولية الكندي ) (195 : 1966) (CIDAعمل مكثف يرهق إىل درجة
19
اإلهناك ومهام كان سنها صغريا فهي تبدو مسنة ومنهكة ..إن الطفال مساعد رئييس لعملها "
مسألة صاع احلداثة مع الدين واجلدل النظري الذي أفىض إىل حتكيم سياسوي بني هذا الطرف
وذاك تعود يف سياقها العريب لتأثريات العوملة بجميع أنواعها (اإلجيابية عىل املجتمع املدين
والسلبية عىل النظمة البوية السلطوية والتيار الصويل) طبعا مل ترض تلكم السياسة اجلميع،
فتأسست نظرية املستبد العادل يف الوعي العريب الراهن ،وعىل ذلك الوعي العريب التساؤل أول
حول موقع الشعوب من اضطهاد السلطوية للحداثة ،فإنه جمرد حديثنا عن الوعي ييش عن
اضطهاد الشعوب لنفسها ،فهي التي تصنع طغاهتا ،بل أهنم هم الطغاة برضاهم عىل الطاعة
والنصياع ،فمن يصنع من؟ الظامل أم املظلوم؟ املتجرب أم املقموع؟ احلاكم أم املحكوم؟ طبقا
ملقولة ابن خلدون عن ولع املغلوب يف اتباع الغالب فإن الشعوب التي يضطهد حكامها احلداثة
وهم املعنيني بمكاسبها قبلهم وأمام أعينهم! وهم ساكتني يضطهدون أنفسهم!
اجلربوت السيايس ظاهرة معقدة جدا وتشتمل عىل ظواهر متواشجة يصفها الواصفون وحي ِّللها
املح ِّللون ،وتشخيصها عادة ما يتم من خارجها "وهنا تأيت أمهية الشهادة الفردية حني تنخرط يف
ميثاق السرية الذاتية ،وهنا تُطرح قضية أخرى لن تقل أمهيتها عن أمهية املسألة اجلوهرية الوىل؛
إهنا قضية الوعي بتولد احلكم املطلق ،أعني :متى ينجيل الوعي بالظاهرة؟ وكيف يتشكل إدراك
19
.تيمونز ريبرتس وآيمي هايت ،من الحداثة الى العولمة الجزء الثاني ،ترجمة سمر الشيشكلي ،عالم المعرفة ،العدد ،310ديسمبر
،2004ص.15
23
الناس هلا؟ ماذا حيصل لدى املثقف النقدي من مرتتبات مالزمة لذاك الوعي؟ ويف املقابل :ملاذا
يغيب الوعي؟ وكيف ترتوض النفوس عىل مداراة الظلم والطغيان؟ ولكن السؤال القسى:
كيف تتحدد مسؤولية املثقف بعد إدراكه التصادم العنيف بني آلياته الفكرية ومشاهداته
السياسية؟"
إن سلطة اخلطأ يف الفعل السيايس أعظم كثريا مما تكون عليه يف اإلنجاز الفكري ويف اإلنتاج
غالب قاهر ،وسلطته
ٌ املعريف ويف التدبر الثقايف؛ لن اخلطأ الذي هو اسرتاتيجي بالرضورة،
متجددة بذاهتا ،سواء اتصل بفعل القرار أو جال يف حقل اخلطاب ،والسبب هو أن فعل الكالم
يف غري السياسة منفصل عن فعل احلدث ،لقد كانت الثقافة دوما هي كبش الفداء عند حصول
أدنى ضائقة اقتصادية وستوجد حتام يف النظام البوي سياسة وبالنظام البوي ثقافة عرب الشعب
الذي ل ُيؤمن بقوته .وهكذا ما انفك الشأن الثقايف حيمل أعباء السياسة ،ثم يقع تطويعه ،كي
يكون رأس القاطرة يف احلملة النسقية التي تسعى إىل صهر اهلويات اإلنسانية يف هوية استباقية
جاهزة جديدة ستكون هي بالفعل الالهوتية.
إ ن جوهر اخلطأ السيايس الكرب يكمن يف التحريف النظري واإلجرائي الذي نراه يطرأ عىل
مفهوم الرباغامتية كمبدأ مرجعي وكآلية إجرائية لتوظيفه سياسيا يف التوفيق بني الطرفني النفيضني
ليس إل ،لن أحد الطرفني هو ضد التوفيق نفسه ،ولن التوفيق علم اجرائي مادي حيد من علم
الالهوت وبالتايل زيف التوفيق الذي يصح تسميته تلفيق أيضا :ولنرضب عن صاع املشهد
السيايس اللبناين عىل خلفية حماولة حداثية يف جتاوز الواقع العريب (بحكم ريادة لبنان التنويري
عىل املستوى العريب) ولكن طرفاها علامنية مسيحية وغري مسيحية مقابل طائفية شيعية وسنية
جتسدت عىل ارض الواقع وتنامت بتنامي بؤر اخلالفات مع مرور الزمن لن هلا يف الواقع النظري
من خالف عميق ما جيعلها تطفو :فلقد عاش اللبنانيون املسيحيون ،يكتبون ويرتمجون
24
ويتحدثون ،عن احلداثة والتنوير حتى أصبحت بالدهم ،قلعة التنوير الوىل يف الرشق الوسط
فعال ،ولكنهم عندما تقاتلوا سنة 1975مل يتقاتلوا عىل حداثة ول تنوير ،ولكن عىل الدولة
الطائفية ،وبعد أن انتهت احلرب ،وأصبح هناك مرشوع لتأسيس الدولة اللبنانية الوطنية ،فقد
اختاروا يف النهاية نموذج تلفيقي (الدولة اإليرانية الطائفية)
وقد ظل القباط املرصيون يقاتلون تيار اإلسالم السيايس السني بكل قواهم من أجل الدولة
احلديثة والوطن الواحد ،ولكنهم وبمجرد أن بزغ نجم تيار اإلسالم السيايس الشيعي التوفيقي
ختلوا عن مبدأ الكفاح من أجل ذلك الوطن احلديث الواحد ،الذين محلوا راياته مع منذ ثورة
،1919أمال يف النضامم إىل مرشوع متكني القليات الذي يرعاه نظام املاليل اإليراين .ولقد عاش
شيعة العراق يشتكون من ظلم نظام صدام حسني السنى ،وارتدوا أثواب الشيوعية تارة،
واحلداثة الوربية تارة أخرى ،حتى إذا آلت إليهم السلطة ،بعد زوال نظام صدام ،نسوا كل ذلك
واختاروا طريق إيران الطائفية ال لهنا وفقت بني الشيوعية والعلامنية وبدأوا يف اضطهاد
رشكائهم السنة ،ونفس اليشء بالنسبة القلية العلوية يف سوريا مع توفيقية السلطوية والقلية
احلوثية يف اليمن ،ويعود فشل أي مرشوع حتديثي حاثي عريب مرحلة أو جيل بعد آخر إىل كون
أقليات الرشق تعد جزء من املشكلة ،بعكس أقليات الغرب التي كانت جزء من احلل.
ويف جمال ختصصنا النقدي فإنه ل سبيل إىل كتابة تاريخ احلداثة العربية يف جمال العلوم اإلنسانية
والجتامعية إل بإقامة جرس متحرك بني العلم اللغوي وعلم اخلطاب ،من حيث هو شامل علم
الشعر وعلم فنون النثر وعلم النص بصفة عامة ،والسبب يف ذلك أن استنباط اللساين لنواميس
الظاهرة اللغوية يظل ناقصا إن مل يتقص أرسار اخلطاب اإلبداعي ،وأن استكشاف نقاد الدب
لشعرية اخلطاب يظل مبتورا ما مل يتسلح بمعرفة اخلصائص اللسانية الواسمة للبنى الرتكيبية التي
حتكم اخلطاب التداويل.
25
وخالصة القول بعد ربع قرن من قراءتنا إلشكالية احلداثة عربيا (هناك من وصفها بالومهية
والفتعال ،ومنهم من وصفها بالستعصاء) بيد أهنا ل تعدو إشكالية من اإلشكاليات املعربة عن
عدم توافق ما اشتملت عليه من العقالنية والتنوير يف أوروبا مع السياق العريب ،لن الدين فيه
مطلق وجماله احليوي جمتمع جتمعه البوية ،لذ من املحال أن يأخذ مكانه املجتمع املدين وهو بذلك
يامنع حداثة العرب بمعنى الكلمة؛ أول وجدت احلداثة لتوكيلها بتفكيك النظام البوي ،وعدم
تفكك النظام البوي حينئذ يعني أن القاعدة الساسية التي تستند إليها البنى السياسية
والقتصادية (ليربالية وديمقراطية) شكلية ل تستجيب يف متثيل احلريات وحقوق اإلنسان
والعدالة الجتامعية ،وهذا يعني أن رموز النظام البوي قد تعايش احلداثة تلفيقا وتشوهيا .وثانيا
دوران اإلشكاليات الثقافية التي تتحكم فيها السياسة والتي تغذي املامنعة مرحلة بعد أخرى،
كالتي تناولنهام ،أي إشكالية الصالة واملعاصة ثم إشكالية العوملة جاعلة ممانعة الدارة ملرور تيار
احلداثة أمرا مؤكدا.
ولعل تأملنا يف احلداثة بيننا وبينهم ،مفهوما نظريا وواقعا ملتمسا ،أبان أن املرشوع ُاضطهد حقا
ومازال ،بوقوعه بني شد وجذب طريف ُمزمن مومئ بأمارات انتكاسة املرشوع ،ناهيك أنه
استوعب واس ُتهلك ونفذ يف موطن نشأته ومازال الشد واجلذب قائام حوله بعد رحيله ،وإذا كان
املرء مؤمنا أو ملحدا أو علامنيا يرى يف عمله ما يدخله اجلنة ،فإننا نخشى أن احلداثة ما هي إل
جتل من جتليات سيميوطيقا بنية الكون أو بالء يف وجه من سرتهقهم قرتة ،أي تغشاهم ذلة يوم
ل ظل إل ظله بسببها ـ باملفهوم التقليدي ـ لوقوفهم حجر عثرة (ملن كان يظن أن احلداثة دنيا
فإنه قد خرس بتخسريها دينه ودنياه)
26