You are on page 1of 26

‫نزعة الثقافة األبوية العربية يف اضطهادها للحداثة!

؟‬

‫بوزيان بغلول‬
‫‪‬‬

‫حتت مسميات عدة كان آخر ربع قرن نشهده قد نضح بنشاط فكري‪ ،‬بل وقل نظريه عىل‬
‫مستوى النخب املثقفة إعالميا وأكاديميا مناقشة وحتليال ـ بل حتى نقدا‪ ،‬متحيصا وترشحيا ـ‬
‫مفيضة يف موقع احلداثة الغربية عىل خارطة الفكر العريب الراهن‪ ،‬بعد جس نبض تضاريسها عىل‬
‫خارطة الفكر الغريب احلديث واملعاص حيث نشأت‪ ،‬وبخاصة ملا أخذت هوة اإلنتاج واخللق‬
‫الفكريني بينه وبني العرب تتسع بالطراد رغم تلهف مرتاكم لستيعاب احلداثة الغربية‪ ،‬أم ترى‬
‫أن استيعاب العرب كان ينقصه يشء ما يكون قد جعل ماكنتها ل تعمل مثل ما هي تعمل لدى‬
‫الغرب الصائر إىل التطور املذهل يف شتى امليادين والعرب الصائرين إىل الزمة الفكرية والعلمية‬
‫بعد طرحهم للمناهج التقليدية جانبا؟ فكان حاهلم أشبه حينئذ عىل طريق احلداثة باملركبة املنكوبة‬
‫‪ ،coincé‬حيث ل هي تزحزحت إىل الوراء ول هي تقدمت‪.‬‬

‫فعال‪ ،‬قد غصت منشورات وملحقات الثقافة العربية املعاصة‪ ،‬ونقصد تلك املسؤولة مسؤولية‬
‫حضارية أمام نفسها‪ ،‬بمجالت مشهود هلا تارخييا بتحريك النشاط الفكري إنتاجا وإبداعا‪ ،‬خذ‬
‫مثال جملة العريب الكويتية لوحدها قد علق بذهننا كثري من مقالهتا العقالنية والتنويرية املرشحة‬
‫واآلخذة عىل عاتقها بذلك النشاط مأخذ اجلد‪ ،‬وهذا مقال بعنوان (الرواية يف الكويت من‬
‫التقليدية اىل آفاق احلداثة‪ .‬عدد ‪ )533‬مازلنا نذكره بعد قرابة عرشين سنة إلصابته هدف ما جتىل‬
‫لنا عرب الواقع خالل مسريتنا‪ ،‬من نكبات وتشوهات وأزمات استيعابنا للحداثة‪ ،‬واآلخر الذي‬
‫عنوانه (إشكالية توصيف احلداثة وما بعدها‪ .‬عدد ‪ )462‬و(ل بديل عن احلداثة‪ .‬العدد‪)571‬‬

‫‪ .‬باحث في تحليل الخطاب الثقافي‪ .‬الجزائر‬

‫‪1‬‬
‫و(احلداثة وما بعد احلداثة عدد ‪ )618‬و(العوملة امتداد للحداثة أم نقيض هلا؟ عدد ‪)610‬‬
‫و(اهلوية العربية بني سندان التغريب ومطرقة التطرف‪ .‬عدد ‪ )612‬و(استحالة اهليمنة ثقافيا‪ .‬عدد‬
‫‪ )562‬فضال عن ملحقها الفكري "كتاب العريب"‬

‫إن جل هذه القالم قد مترست يف نقودها وحتليالهتا النقدية التطبيقية مثلنا؛ بالحتكاك بالواقع‬
‫امللموس ولو أن العدد غري اليسري كان ملام بام كان ينرش يف جملتي عامل الفكر وعامل املعرفة وفصول‪،‬‬
‫واملواكبة ملجلة العريب يف نقد احلداثة يف الجتاهني؛ الول املتصور أن أزمة وانتكاسة حداثة العرب‬
‫يف هتافتها عليها دون انتقاء ما يصلح‪ ،‬وهو تصور وطني ذو قرابة باملاركسية‪ ،‬والثاين وهو تصور‬
‫أصويل‪ ،‬فيعتقد أنه ل حداثة ملخلوق يف معصية مبادئ الرشيعة ومصالح الرشع‪ .‬ومن تلك‬
‫العناوين الدسمة التي عجت هبا جملة عامل الفكر ومازالت أذكرها ما تعود لمحد أبو زيد أو فؤاد‬
‫زكريا والطيب تيزيني (عوملة احلداثة وتفكيك الثقافات الوطنية‪ .‬عدد ‪ ،2003‬ومقالت التنوير‪.‬‬
‫عدد مارس ‪ )2001‬ومقالت املغربيني التي ينقصها دوما ملح اللغة (كاخلطاب عن "حرب‬
‫الثقافات" يف الفكر الغريب‪ .‬عدد ‪ )2007‬فال أقرؤها لعبد اهلل العروي واجلابري وجعيط وأركون‬
‫إل مقروءة من أحد حمرري املجلة املهوسني باملوضوع كعيل وطفة‪ ،‬أما عامل املعرفة فعكفت عىل‬
‫إصدار سلسلة كتاب يف جملة‪ ،‬ومما أصدرته حول املوضوع مرتمجا كان "طرائق احلداثة‪"1999 .‬‬
‫و" من احلداثة إىل العوملة‪.."2004 .‬‬

‫وباحتكاكها الكاديمي هذا‪ ،‬جاز لألقالم الفكرية املواكبة لينع مرحلة مر هبا الفكر العريب‬
‫املعاص خماضا وصاعا بني التجديد والصالة‪ ،‬والطويل نسبيا الذي يرجع لنهاية القرن التاسع‬
‫عرش‪ ،‬أن توافق ما كنا نبحث عنه إثر مرحلة نضجنا الفكري‪ ،‬مرحلة الشباب املألة باحلرية والقلق‬
‫إزاء الواقع امللتبس بعد عرشية الدم مبارشة‪ ،‬وحلسن احلظ وجدنا أن ذلك من خصائص احلداثة‬
‫نفسها‪" :‬احلداثة مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي ل ينقطع للكشف عن ماهية الوجود‪ ،‬وبحث‬

‫‪2‬‬
‫ل يتوقف أبدا عن إجابات تغطي مسألة القلق الوجودي وإشكاليات العرص التي تثقل عىل‬
‫الوجود اإلنساين"‪ 1‬فمصطلح احلداثة مفهوم معريف فلسفي يشمل مجيع العلوم‪ ،‬ل يعرب عن‬
‫مرحلة زمنية معينة عكس احلديث واملعاصة إل يف جماوزته للتقليد‪ ،‬لنه يعكس صورة نسق‬
‫اجتامعي متكامل‪ ،‬ومالمح نسق مرشوع منظم وآمن‪ ،‬يقوم عىل أساس العقالنية يف خمتلف‬
‫املستويات والجتاهات‪ .‬وحتى يوصف املرء باحلداثة جيب أن يعتمد أهم مبادئها‪ :‬العقالنية‬
‫واحلرية‪.‬‬

‫واحلداثة بريئة من قانون الال قانون أو املصلحة املشرتكة واملقاصد العليا التي تتبناها النظمة‬
‫املجزئة للحداثة إل لهنا تقع ضد احلرية‪ ،‬أي التقليد‪ ،‬ونعني هبا النظام الذي قام اقتصاده عىل‬
‫أسس مادية جدلية حداثية لكن سياسيا وفكريا قام عىل دوغام رفض الديمقراطية واحلرية من‬
‫خالل نفيها عن اآلخر‪ ،‬والنظام الشرتاكي يف القتصاد مهام حاول اليوم أن يتخىل أو يتحرر من‬
‫الفكر الشيوعي ل يقنعنا‪ ،‬لن وجوده اليوم له عالقة بأسباب التقليد بشكل أو آخر‪ ،‬فوجود كيانه‬
‫الفكري الغامض متمثل يف املقابلة والضدية ملجرد املقابلة والضدية‪ ،‬والتقليدي يف المر أنه مومئ‬
‫للجانب النفيس‪ ،‬والذي ل تكفيه العلامنية والديمقراطية الغربية‪ ،‬هو يريد من مقابلتها الشعور‬
‫النفيس ل الوعي العقالين‪ ،‬وبدون وعي أو عقالنية افعل ما شئت‪ ،‬فعىل سبيل املثال تعترب حداثة‬
‫العرب املشارقة أكثر جتليا من حداثة املغرب العريب نتيجة مأزق الخري يف هويته؛ جينيا ولغويا‪،‬‬
‫والتي سعى للتغطية عنها بحداثة مشوهة ومز َّيفة‪ ،‬فحتى تكون حداثيا لبد أن تبني حداثتك‬
‫اللغوية والدبية والنقدية عىل إرثها التقليدي املادي وتأيت باجلديد‪ ،‬ل أن تزدري منه ازدراء من‬
‫فقد وعيه نتيجة فرط تعصبه‪ ،‬ولترتك إذن من يملك تلك التقليدية؛ وهم كُثر يف املناطق الداخلية‬

‫‪1‬‬
‫‪ .‬علي أسعد وطفة‪ ،‬مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬موقع وطفة نت‪ ،‬نقال عن ‪Danilo Martuccelli, Sociologie‬‬
‫‪de la modernité, E.Gallimard, Paris, 1999.‬‬

‫‪3‬‬
‫للوطن يمر إىل احلداثة ول تقصيه ول تضطهده يف حداثته احلقة‪ ،‬ويف املغرب العريب تشكل‬
‫هاجس ثقايف طبقي تارخييا‪ ،‬وحتول إىل أيديولوجيا عن طريق السياسة‪ ،‬فتحالف الصويل‬
‫التقليدي (تقليدا فكريا‪/‬دينيا) مع املفتقد هلوية لغوية تقليدية (املادية) ضد من يملكها لخذ‬
‫مكانه‪ ،‬فكان للتخلف السيايس والثقايف واحلضاري (احلداثي) يف آن أن ي ُعم بالطراد‪.‬‬

‫وكذلك الصولية السالمية هي فاعلة؛ يف جتزيئ احلداثة متخبطة يف التقليد‪ ،‬ونخشى أنه إذا‬
‫وجد فنا للدبلوماسية أو سياسة (والسياسة هي فن املمكن) تتجاوز احلداثة لدى الغرب وأمريكا‬
‫باخلصوص (كقضية الصحراء الغربية مثال) فألهنا اشتمت يف القضية تقليدا ويد مقاصدية أبوية‬
‫للطرفني املشار إليهام أعاله‪ ،‬وسبب عدم قابلية احلداثة للتجزيء ( كل حداثي علامين والعكس‬
‫غري صحيح) يظهر عدم جتانس الفكر العريب املعاص وعدم رسوه عىل قاعدة حداثية صحيحة‬
‫(حتى ل نقول متينة لن ثقافة املامرسة لدهيا دور يف ذلك) عىل مستوى الفراد الباحثني‪ ،‬خذ‬
‫حداثة أدونيس التي مل يشاككها أي اعتوار عكس حداثة نرص حامد أبو زيد بالرغم أنه أكثر علامنية‬
‫من أدونيس‪ ،‬لن موضوع علومه يف حتليل خطاب القرآن كان علامنيا بامتياز‪ ،‬أي كيفية جعل‬
‫الدين خاص بصاحبه فقط‪ ،‬وهو مل يقر بذلك صاحة برغم نبوغه يف التأويل القرآين فالتبست‬
‫حداثته بالتباس خطابه العلامين‪ ،‬وكان عليه برأينا جماوزته التخصص يف حتليل اخلطاب الديني‬
‫بعد ما حصل له‪ ،‬إىل حتليل اخلطاب الثقايف بشكل عام‪ ،‬من ذلك خطاب العوملة مثال‪ ،‬والتي مثلام‬
‫قلناه عن السياسة نقوله عنها‪ ،‬فاملدار كله موقع العقل واحلرية بني التقليد واحلداثة‪.‬‬

‫وقد تطلعنا إىل تلك املقالت يف جملة العريب بشغف وهنم التامسا لإلجابة عن ذلك القلق ــ وما‬
‫بالك لو تطلعنا إىل املزيد من العناوين الخرى التي كانت تعج هبا جمالت مركز دراسات الوحدة‬
‫العربية واملستقبل العريب السعودية وغريمها‪ ،‬وتوزع نذرا هنا يف اجلزائر ـ وكانت "العريب" تصل‬
‫اجلزائر بثمن ‪ 80‬دينار فقط فكنا نقتنيها شهريا قبل أن تنفذ‪ ،‬فجمعنا منها من ‪ 1999‬إىل ‪2015‬‬

‫‪4‬‬
‫أكثر من ‪ 150‬جملة‪ ،‬أما عامل الفكر فحصلنا عىل أعداد قيمة يف تناوهلا للموضوع بمعدل عدد أو‬
‫عددين يف كل عام‪ ،‬من ‪ 2001‬حتى العام ‪ ،2008‬وبام حوته من مقالت نرية ووجبات دسمة‬
‫خماطبة حلداثة العرب خماطبة لئقة ل يرتقي إليها إل الضالعون يف الفصحى املتعودون عىل‬
‫التحرير الراقي‪ ،‬مل نعاين قط يف الحاطة بالعناص املعرفية الفرعية التي كان موضوعنا ملذكرة‬
‫املاجستري يتطلبها‪ ،‬ومل تكن العريب عموما حمط غزو القالم املغاربية كي تبصمها ببصامهتا الالهثة‬
‫وراء احلداثة اإلجرائية يف امليدان الفلسفي والنقد اجلديد باخلصوص‪ ،2‬لهنم مل يكونوا ذوو‬
‫مستوى عال حتكام يف العربية‪ ،‬مع أن بعضهم له عالقة بفنيات الكتابة والكتابة الروائية كمحمد‬
‫برادة ومرزاق بقطاش‪ ،‬طبعا ل نتحدث هنا عن اخلصوصيات ولكن عن املشرتك العام الذي‬
‫جيمع العرب‪ ،‬كل العرب بلغتهم‪ ،‬لننا لو فعلنا لوجدنا عبد اهلادي التازي والطاهر بن عاشور‬
‫قلامن مؤسسان هلذه املجلة‪.‬‬

‫فام موقع مترس أصحاب هذه املقالت الترشحيية من الثقافة البوية أو البوية يف الثقافة العربية؟‬
‫والتي ل تعني سلطة الب ‪ Patriarchy‬بشكل إقصائي ضد النساء فقط وإنام لكل ما هو‬
‫خاضع لسلطة الب أو أي شخص يملك السلطة‪" ،‬فالبطريركية وهي تسمى نظام أبوي‬
‫وذكورية‪ ،‬تنظيم اجتامعي يتميز بسيادة الذكر الرئيس (الب) وتبعية النساء والذرية له بام فيه‬
‫التبعية القانونية‪ ،‬وتفرتض التوريث واستكامل النتساب لذكور من الساللة‪ ،‬متوسلة ‪-‬عادة‪-‬‬

‫‪ .2‬ألنه عكس حداثة المغرب العربي الفكرية التي مانعها أقبل بنهم وشغف باحثوه المفرنسين على الحداثة التقنية؛ العلمية واالجرائية لتطبيقها‬
‫على اللغة العربية وآدابها من ذلك اللسانيات والمناهج الشكالنية والبنيوية‪ ،‬والسبب كامن في ضعف المطارحات السجالية والنقدية عبر الصحافة‪،‬‬
‫التي تعد رافد معرفي مهم لقسمي اللغة العربية والفلسفة‪ ،‬فقد شكلت وسائل االعالم العربية بنخبتها عبر المجالت العربية المتخصصة ذات‬
‫المشارب المتنوعة فيتوا موثوق به لمنح الضوء األخضر من عدمه‪ ،‬عكس ما حصل مع المغاربة‪ ،‬وهذا إن عبر عن شيء لم يعبر عن أصالة‬
‫الهوية اللغوية واألدبية العربية المشرقية في مقابل المغاربية فقط‪ ،‬بل كذلك على نمو الوعي النقدي وبتعدديته استقل عن مركزه الوحيد واألوحد‬
‫أجهزة الدولة الوطنية‪ .‬وينظر في هذا الشأن مقدمة كتاب "نقطة ابتداء في الحداثة والتحديث والنقد الثقافي" لعباس جاسم سبيال‪ .‬في هذا الكتاب‬
‫تناول ثقافة الحداثة برؤية سياسية وكان عليه في النقد الثقافي أن يتناول السياسي برؤية ثقافية بتغيير اسم اليسار الجديد إلى الثقافة الجديدة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫بالعراف والتقاليد "‪ 3‬أي قد حتولت عن طريق الثقافة؛ باملحاكاة والتامهي الستعاري إىل أبوية‬
‫السلطة‪ ،‬وأبوية السياسة والقتصاد‪ ،‬وأبوية احلزب‪ ،‬وأبوية الستاذ اجلامعي (الذي يعد السلوك‬
‫البوي وجماراة نزعته تفوقا)‪ ،4‬واجلامعة السوسيو ـ ثقافية ضد ما هيدد كياهنم‪ ،‬فالكل يامرسها‬
‫ضد سلطة ضد‪ ،‬حتى تلك املتبنية الثورة العلمية الكونية يف إطار جمتمع إنساين يسوده التنظيم‬
‫والعقالنية ونعني هبا احلداثة‪.‬‬

‫والنظام البوي العريب يف تارخيه سليل النظام القبيل قبل اإلسالم‪ ،‬يف سعي كل قبيلة متميزة يف‬
‫تفوقها يف جمال من املجالت إىل هتجني مواليدها عليه حتى تبقى حمافظة عىل متيزها أمام القبائل‪،‬‬
‫ويتجاوز التهجني العتبارات املنطقية واإلنسانية أو ما نسميه اليوم بحقوق اإلنسان؛ باعتبار أنه‬
‫يغطي عىل الفوارق‪/‬الطاقات الذهنية التي يولد هبا البرش‪ ،‬وجتعل الواحد منهم يف بحثه عام يسد‬
‫هذا النقص‪ ،‬دون وضع اآلخرين يف العتبار‪ ،‬يلجأ إىل الدين ثم إىل السلوكيات التي تيش عن‬
‫نقصا يف الطاقة الذهنية‪ ..‬وقاب قوسني أو أدنى جاء عنوان مقالتنا مشاكال لختطاف ثم سبي‬
‫فاضطهاد احلداثة اضطهاد السيد أو ويل المر العريب لمته أو جاريته‪ ،‬ذلك أن املكونني اللذين‬
‫ما فتئ يكشفان عورة حداثة العرب كرونولوجيا مها الستمرار (باإلضافة إىل قمع املرأة) يف‬
‫تطبيق قانون التفويض البوي أو درء الخطار الفكرية اخلارجية عن طريق رشعنة قانون الال‬
‫قانون مراعاة للمصلحة ــ وسمها ما شئت حينئذ‪ :‬مصلحة عليا‪ ،‬املصلحة املشرتكة أو فقه‬
‫املقاصد‪ ..‬ــ‬

‫‪ . 3‬ينظر موقع ويكيبيديا‪:‬‬


‫‪https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85_%D8%A3%D8%A8%D9%88%D9%8A‬‬
‫‪ . 4‬بينما يلمح نصر حامد أبوزيد ضد هذا الواقع المؤلم بقوله‪ " :‬أنا معلم قبل أن أكون باحثا وأعلم الطلبة كيف يفكرون ال كيف يتلقون المعرفة‬
‫الجاهزة‪ ،‬إذا لم يكن بين طالبي من هو قادر على تجاوز أفكاري فهذا فشل مني وهو الفشل الذي تعيشه المؤسسات األكاديمية" ينظر ندوة‬
‫إعادة تعريف القرآن‪ ،‬المحاضرة الرابعة‪ ،‬مكتبة اإلسكندرية‪https://www.youtube.com/watch?v=L8ZRrY6GqyQ ،2008 ،‬‬

‫‪6‬‬
‫بيد أن أخالقنا العلامنية وتكويننا الكاديمي أفضيا يف النهاية بأن ل نجاري عناوين مقالت‬
‫الصحف وكليشيهات متوهنا املصورة اليومية‪ ،‬كتطويع احلداثة‪ ،‬ومراودة احلداثة‪ ،‬ومغازلة‬
‫احلداثة وغريها الكثري من العناوين الطنانة‪ ،‬ذلك أن الكثريين الواقعون حتام هم يف ظل أزمة‬
‫احلارض الفكري العالق هذا‪ ،‬واقعون يف هاجس التوجس املزمن من أخالقيات احلداثة املنافية‬
‫لخالق ما تعودوا عليه من تسرت وتأمري لألنثى بالئتامن مهام كانت؛ إما ُأما أو اختا او بنتا إذا مل‬
‫تفطر عليها يف بيتها الول‪ ،‬واحلق احلق أن جل كتاب الديار العربية حمقون يف حترزهم من أخالق‬
‫بعض العلامنيني العرب الذين ل يفهمون العلامنية فهام حضاريا‪ :‬ل يفهمون العلامنية إل باعتبارها‬
‫جمال حتقيق املنازع والرغبات الفردية جسدية كانت أو معنوية‪ ،‬والعلامنية ليست كذلك أبدا ــ‬
‫ولينظر أحدهم يف أخالق العلامنيني الغربيني السوياء إذا ما كانوا يرشبون اخلمر كي يعربدوا‬
‫ويأتوا الشهوات أم حلاجة غذائية ملحة يفعلون‪ ،‬وإذا ما رشبوا تلك اخلمرة وهم بإزاء من جيتمعن‬
‫بأمهاهتم واخواهتم وبناهتم هل يقعون يف معاكستهن كام يفعل الغالب العم من العلامنيني العرب‬
‫أم ل؟! ــ وربام هذا التصور هو نتيجة مبارشة لبنية جمتمعاهتا الثقافية الكابت حلرية الفراد‬
‫واجلامعات كام يقول به ميسون العتوم‪ ":‬املرأة ليس معطى بيولوجيا أو طبيعيا بقدر ما هو بناء‬
‫تارخيي وثقايف واجتامعي صنعته قوى اهليمنة املتصارعة يف املجتمع"‪.5‬‬

‫ولعل هذا السلوك الغرائزي اهلاجيس والتوجيس املرسخ بالعادة الال مفكر فيها مث ُله مثل الدابة‬
‫املربوطة التي رسعان ما تلتحق مبارشة بحقل القمح بعد أن فك رباطها‪ ،‬وحشائش الرب دوهنا‬
‫واسعة رحبة‪ ،‬فيضطر صاحبها أن ُيعيدها إىل وضعها السابق‪ ،‬وهكذا دواليك يسري احلارض دائرا‬
‫يف جلباب املاض‪ ،‬فكام يعمل العقل يف بنية بني العقل الواعي والعقل الالواعي‪/‬الباطني تعمل‬
‫بنية الكون ويف كل ثقافة عىل حدة؛ فام يرفضه ويشمئز منه العقل الباطن للمسلمني (مما يسمونه‬

‫‪ . 5‬ميسون العتوم‪ ،‬جسد المرأة والدالالت الرمزيّة‪ :‬دراسة أنثروبولوجية بمدينة ع ّمان (األردن)‪ ،‬إنسانيات‪ ،‬العدد ‪ ،2013 ،59‬ص‪.11‬‬

‫‪7‬‬
‫اتباع اهلوى أو عدم ضبط رغبات النفس رشط أن تكون واقعية وغري مكبوتة) ل يشمئز منه العقل‬
‫الباطن للعلامنيني ــ عىل أن نفرق بني العلامنيني الغربيني والعلامنيني العرب لختالف الرشوط‬
‫احلضارية يف سياقيهام ــ لكنهم يشمئزون وهيجرون ما حيبذه العقل الباطن للمسلمني من‬
‫سلوكيات اجتامعية غري ديمقراطية واحتيالية‪ ،‬وهي إما تتم يف الرس أو عالنية واقعة حتت محاية‬
‫املقاصد العليا من صميم النظام البوي‪ ،‬وهي متيز املجتمعات التي تعيش احلاجة ونظامها‬
‫القتصادي ليس حرا ول تنافسيا‪ ،‬بل هو حمتكر لدى مجاعة معينة كالنظام الشرتاكي‪ ،‬من هذه‬
‫السلوكيات‪ :‬الرسقة مادية كانت أو معنوية‪ ،‬الغش يف مجيع مراحل احلياة واستعامل املزور‪ ،‬املحاباة‬
‫والنفوذ الداري‪ ،‬رشاء الذمة يف الدارة‪ ،‬الرتشاء‪ ،‬الكذب‪ ،‬تكوين املعارف التكسبية عىل‬
‫مستوى أفراد احلي واملؤسسة واملدينة والقطر‪ ،‬إسداء غري معقول للشكر يتحول إىل دعم سيايس‬
‫بالتملق ليل هنار ارتزاقا‪ ،‬حتى ل يصل المر بالبوية إىل استعامل العصا واجلزرة‪ ..‬وفوق هذا‬
‫وذاك املقاصد العليا هلذا النظام تبيح تلفيق التهم الباطلة للعلامنية احلقة عىل أهنا ـ بالتعميم ـ كفر‬
‫وشيطان وزندقة وهلم جر‪ ،‬بينام هي يف احلقيقة منهج اختاره اإلنسان للرتفع عن حيوانيته بعد‬
‫خماض عسري من املكابدة يف القرون الوسطى ثم يف قرون التنوير‪.‬‬

‫فاإلشكالية اهلاجس إن صح التعبري‪ ،‬والتي متنع من النعتاق من سجن سكون وعلوق‬


‫احلارض والرضا به واقعا ُمم َّجدا‪ ،‬نحو أفق التطور الال حمدود كامن يف اعتقادنا املدعوم بالنظرية‬
‫العلمية التي تنسجم مع إمكانية مزج وتوليف املنهج املستعار بكذا من آلية منهجية ومعرفية لكي‬
‫يأيت عىل القد‪ ،‬فتداخل املنطق العلمي واملنطق الفلسفي واملنطق اإلنساين حينئذ ويف وقت واحد‬
‫يف آلية التفكري العريب املنشغل باحلداثة واملنشغل بام ينهض بمستوى معيشته هبا معا يعد قفزا عىل‬
‫أهم مبدأ من مبادئ احلداثة أل وهو عقالنية املنهج وليس علميته‪.‬‬

‫‪ .1‬كيف صار العرب إىل انتقاء احلداثة إذن تشوهيها وتزييفها؟‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫تقول النظرية العلمية يف ميدان العلوم الجتامعية أن احلرية مكون أسايس بل جوهري يف‬
‫خطاب احلداثة‪ ،‬إذا ما جتاوز سياسيا ينحرف خطاهبا بداهة إىل الديامغوجية‪ ،‬وهو خطاب أشبه‬
‫بانتهاز الفرص والتوافق والتحالف مع التقليد والرجعية‪ ،‬وقد ل تكمن اآللية املشرتكة يف‬
‫اخلطاب الديامغوجي دوما لكن يف النظام البوي‪ ،‬كون "املنظومة البوية نتاج نظام تقليدي يعاين‬
‫من اختاللت اجتامعية وحضارية كامنة يف طبيعة العالقة بني احلداثة والرتاث‪ ،‬بوصفها عالقة‬
‫تضاد وتناقض‪ ،‬فالبوية ل ترى يف الرتاث غري سلفية تقديس املاض وعبودية الذات (العائلة‬
‫القبيلة‪/‬الطائفة الدولة) وإن كان الب مركز نظام العائلة‪ ،‬فإن الفرد مركز نظام الدولة‪ ،‬إذا‬
‫مركزية الواحد غري املتعدد مصدر القوة املنفردة بالسلطة (الفوهرر‪ ،‬الزعيم‪ ،‬الدكتاتور) عىل وفق‬
‫نسق من املبادئ والقيم املتوارثة املتبادلة يف النظام البوي (‪ )..‬إن كانت البوية هي إرث قائم‬
‫عىل مركزية الفرد وقدسية اإلسالف ومنطق القوة ‪ ،‬فهي نقيض العقالنية والنقدية والتعددية"‪6‬‬

‫وإذا كان املراد من النظام البوي البيولوجي اخلوف عن مستقبل البناء‪ ،‬فإن النظام البوي غري‬
‫البيولوجي هو اخلوف عن مستقبل الب‪ ،‬والستاذ اجلامعي خاصة يف الدراسات العليا‪ ،‬الذي‬
‫يظل يبرش طالبه بالنظام السيايس والديني عن طريق ممارسات غري عقالنية وغري ديمقراطية هو‬
‫بالكاد يقول له وباحلرف الواحد‪ :‬أنا أفضل منك دائام ولن تستطيع جتاوزي أبدا مهام كنت ذكيا‪.7‬‬

‫أجل‪ ،‬فكل من الرجعية والدولة التي ختتطف املجتمع املدين لبتالع حقوقه املرشوعة يف احلرية‬
‫والعدل واملساواة وجدا يف البوية نظاما بنيويا تقابليا ضد املجتمعات الرأساملية احلرة والليربالية‬
‫ــ وهي إن مل تكن استعامرا سابقا سبب حدوثه جوانب تقليدية كانت ندا ومنافسا هلا عىل امتالك‬
‫املجتمعات امتالكا سياسيا‪ ،‬وهو حال املعسكرين الغريب بقيادة أمريكا واملعسكر الرشقي بقيادة‬
‫الحتاد السوفيايت سابقا ــ وبه يسبقان الفكار اجلاهزة سياسية (منتهى النظام السيايس املكتمل)‬

‫‪ . 6‬عباس عبد جاسم‪ ،‬نقطة ابتداء في الحداثة والتحديث والنقد الثقافي‪ ،‬مركز كالوير الثقافي‪ ،‬العراق‪ ،2013 ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ .7‬ينظر نصر حامد أبوزيد‪ :‬الحياة هي مغامرة‪ ،‬في الموقع‪https://kiraatn.blogspot.com/2021/07/blog-post_7.html :‬‬

‫‪9‬‬
‫والدينية (منتهى الفكار الغيبية املكتملة) حفاظا عىل عدم تغلغل تلك احلداثة الفكرية‬
‫باخلصوص‪ ،‬وهي صناعة "اآلخر" إىل بنياهنام احلضاري ليس املشيد عىل العلم وعلامنية الدولة‪،‬‬
‫لكن املشيد عىل النظام البوي‪.‬‬

‫واآلخر هو املصطلح الذي خلقه التقليد‪ ،‬وورثته عنه ثم رعته دون وعي ثم اهتمت الستعامر‬
‫باستحداثه‪ ،‬بتخطيط القائمني جلعل النشء أو الجيال اجلديدة يؤمن هبذا النظام كام يؤمن املؤمن‬
‫بإهله حتى ولو اضطرهتا الظروف إىل الكراه والرتهيب لالقتداء وإسداء الشكر والطاعة‪،‬‬
‫وبالبحث الدائب يف صدور الناس عام من شأنه أن يقوض ذلك البناء الذي أساسه سيايس‬
‫سلطوي وديني قمعي اقصائي‪ ،‬بأسلوب العصا واجلزرة‪ ،‬أي احتذي بالنظام البوي املكتمل أو‬
‫انتظر من احلداثة أن تؤكلك عيشا‪ ،‬وذلك من أجل احلفاظ عىل الوضع القائم املرتسب يف النفوس‬
‫شخصية وهوية وأصالة وشهامة تقليدية غري معتدة ل بتغري اهلويات ول بتغري الثقافات‪ ،‬ويف‬
‫املؤسسات اجلامعية بخاصة يف الدراسات العليا يامرس الستاذ الناقد البوية وهو غري مكرتث‬
‫بأهنا هي طريق العلم نحو مناقضة العقالنية والوقوع يف فخ زيف احلداثة وتشوهيا‪ ،‬لكن ل من‬
‫سمع ول من درى‪..‬‬

‫فأمامك يا طالب العلم حتضريا لدكتوراتك النظام البوي بالعصا واجلزرة إىل جانب املنهج‬
‫العلمي‪ ،‬رضيت أهال وسهال مل ترض الباب خيرج مجال‪ ،‬وأين احلرية والعدل واملساواة جوهر‬
‫احلداثة؟ أين املراقب واملفتش بني كل حق وواجب جيمع بني اثنني؟ أين هم؟ ل أحد يدري‪ ،‬بل‬
‫أغلبهم يدري لكن يصم أذنيه ويغض طرفه وكأنه ل يدري‪ ،‬لنه قد علم أن الدور املوايل قد يأيت‬
‫عليه‪ " ،‬ل يمكن حترير الثقافة من اإلراثة البوية إل بتحرير الذات من عبادة الفرد من جهة‪،‬‬
‫وحترير البنيات القتصادية من التبعية من جهة أخرى "‪ .8‬عىل أن مناهضة أي نظام اقتصادي‬

‫‪ . 8‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.18‬‬

‫‪10‬‬
‫وسيايس قائم وناجح يف سياقه جيب أن يتم بتقديم مرشوع اقتصادي جديد يتجاوز هذا النظام‪،‬‬
‫ل جمال ملعادة العوملة الرأساملية معاداة فيها تقليد إل من خالل مبادئ التجاوز واحلرية والختيار‪.‬‬

‫إذا كان مرشوع التحديث يف العامل العريب مل يلق صداما سياسيا ومدنيا كام لقه مرشوع احلداثة‪،‬‬
‫فان مرد ذلك ان احلداثة تتعلق بفكر اإلنسان ومفاهيمه وبنية الدولة‪ ،‬ومرحلة التطور القتصادي‬
‫الجتامعي والتطور السيايس أيضا‪ ،‬بينام يعرب التحديث عن نفسه بالتطبيقات العلمية والتقنية‬
‫واملخرتعات‪ ،‬ووسائل الستعامل اليومي وما يشبهها‪ ،‬وفكر النسان أي املجتمع املدين‪ ،‬وهو‬
‫مصطلح سيايس يقابل مصطلح املجتمع السوسيو ـ ثقايف علميا يف العامل العريب‪ ،‬وكان دوما حتت‬
‫سيطرة الدولة‪ ،‬والدولة هي التي قسمت املجتمع إىل‪ :‬مدين وسيايس وطبقي‪ ،‬لذلكم فإن مطب‬
‫اإلشكالية القائمة عربيا هي يف أنظمة احلكم العربية امللتفة حول املقاربة التي تضمن مصلحة‬
‫السيايس مع مصلحة املدين الذي ترك مكانه شاغرا ملجتمع الصولية الدينية ومل يعد له وجود‪،‬‬
‫فوجوده داخل حكم هذه النظمة ليس عمليا فعال لكن نظري رمزي‪ ،‬يظهر فقد شكليا أثناء‬
‫النتخابات والعياد العاملية مثل عيد املرأة وعيد الشغل وعيد احلب وهلم جر‪.‬‬

‫ويمكن توضيح إشكالية استيعاب احلداثة الغربية عربيا من خالل مقاربة منهجية تتلخص يف‬
‫بنية تقابلية ثنائية وقد جتلت يف إشكالية الصالة واملعاصة أو إشكالية علامنية الدولة‪ ،‬وقد بلور‬
‫هذه الثنائية‪ ،‬كالعادة نظام احلكم السيايس بعد النكسة وتقوى أكثر نشاطا عقب هناية السبعينيات‬
‫(بعد التطبيع) والثامنينيات إىل غاية هناية التسعينيات‪ ،‬وكانت بنية هذه املجتمعات السياسية‬
‫مهيأة‪ ،‬لن السيايس كان طاغ عىل الثقايف حينئذ‪ ،‬والبنية التي نعني هي الطوباوية الشرتاكية‬
‫مقابل الربجوازية املتلهفة لليربالية الغربية‪ ،‬وصول إىل الثنائية الراهنة وهي الرتاث واحلداثة أو‬
‫انغالق املحلية عن العوملة‪ ،‬ولنبدأ بعرض الثنائية الوىل التي لبست فيها احلداثة ثوب إشكالية‬
‫التحديث إىل حد ما‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ 1.1‬طوباوية السلطوية الشرتاكية يف مقابل الربجوازية‪:‬‬

‫يرى عديد العلامنيني العرب منهم صادق جالل العظم أن املجتمع املدين يف أغلب البالد العربية‬
‫من صنع الدولة احلديثة والتحديثية حتديدا‪ .‬ويرجع إىل مرحلة ما يسمى بالتنظيامت العثامنية (أي‬
‫الربوسرتويكا العثامنية) التي انطلقت بزخم حوايل سنة ‪ ،1730‬وقلدها حممد عيل باشا الكبري يف‬
‫مرص وباقي املقاطعات بعده‪ .‬و"كانت الدولة أول من أدخل فكرة سيادة القانون عىل اجلميع‪،‬‬
‫لكن املجتمع املدين هو الذي يطالب اليوم بتطبيق الفكرة والتقيد هبا‪ ،‬يف حني أن الدولة هي التي‬
‫تتلكأ‪ ،‬لن يف ذلك انتزاعا لسلطات ومواقع وامتيازات وحيازات‪ ...‬إلخ‪ .‬وهذه معركة أرى أنه‬
‫لبد من خوضها يف الوقت احلارض"‪ 9‬وهذا يعود إىل إغفال التمييز بني الدولة كمجموعة‬
‫مؤسسات يسودها قانون التنافس احلر وبني غري ذلك بأجهزة سلطوية وذلك هي قبضة "البوية‬
‫السياسية" متجلية سواء يف احلكم باملذهب الشيوعي ثم الشرتاكي فالتقدمي يف تاريخ أغلبية‬
‫أنظمة احلكم العربية املعاصة وإن مل جتهر به صاحة‪ ،‬دون احلديث عن العسكر لن لذلك عالقة‬
‫بالدين السيايس‪.‬‬

‫ومع أن التسلطي والديني القمعي يبدوان ومها بإزاء السياسة سواء يف مواجهة واضطهاد‬
‫املجتمع الهيل واملدين غري أن الطرائق ختتلف‪ ،‬أما إذا أردنا مجع الثنني يف كيان واحد‪ ،‬فاملصطلح‬
‫املناسب عندئذ هو املجتمع السيايس‪ .‬وبتغري الظروف العربية املرحلية املعروفة يف تارخيها‬
‫اجتامعيا واقتصاديا تغريت طبيعة الدولة‪ ،‬وهنا يف هذه الناحية بالذات تبدو الدولة إىل حد معني‬
‫شبه إطار تنشط فيه كل مرة طبقة أو فئة طبقية وعالقات طبقية خمتلفة‪ ،‬مما يستتبع عالقات متغرية‬
‫بني الدولة واملجتمع املدين بحسب الفئة الطبقية الفاعلة‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ .‬صادق جالل العظم‪ ،‬العلمانية والمجتمع المدني‪ ،‬في النهج‪ ،‬العدد ‪ ،40‬صيف ‪ ،1995‬ص‪.191‬‬

‫‪12‬‬
‫إن طبقة (أهل الدولة الرستقراطية) وعىل رأسها السلطان العثامين‪ ،‬أو حممد عيل باشا‪ ،‬ومن‬
‫تالهم هي التي وضعت من خالل تغيري عالقات امللكية اللبنات الوىل لتحديث املجتمع العريب‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬يف الوقت نفسه بدأت تنشأ يف بالدنا طبقة أو فئات طبقية حديثة تسمى «بورجوازية»‪،‬‬
‫وأرادت هذه بطبيعة احلال أن تصيغ املجتمع عىل صورهتا‪ .‬وقد عملت عىل هذا ضمن إطار‬
‫الدولة‪ ،‬وخارج إطارها أيضا‪ .‬وهي عموما مؤلفة من أناس مؤهلني تعليميا ومتنورين ومتأثرين‬
‫بالغرب‪ ،‬ينحدرون غالبا من الطبقات املالكة العليا والوسطى يف املجتمع‪ ،‬ويعيشون بنسب‬
‫متفاوتة من مردود ملكياهتم‪ ،‬هؤلء سامهوا مع بعض أهل الدولة وقتئذ يف حتديث املجتمع‪ .‬هذا‬
‫من جهة‪ /‬ومن جهة أخرى هذه الفئة وليست الدولة هي التي قادت احلملة لفرض الدساتري‬
‫والقوانني احلديثة‪ ،‬وهي أول من أنشأ الحزاب السياسية‪ ،‬وأصدر الصحف واملجالت وأقام‬
‫التجمعات الثقافية‪ .‬ويف ظل سلطتها أسست فيام بعد النقابات والحتادات املهنية‪ ...‬وغريها مما‬
‫ُيعد من كيانات املجتمع املدين‪.‬‬

‫والطريق "الدولوية" يف التحديث طريق أبوية‪ ،‬مل تكن رضورية بالنسبة للبورجوازية بقدر‬
‫رضورهتا بالنسبة لألرستقراطية القديمة‪ ،‬ثم بعدئذ للبورجوازية الصغرية‪ ،‬ذلك لن سلطتها ل‬
‫تنحرص ضمن الدولة أي فقط بأساليب البريوقراطية والمن والسياسة التي حتفظ النظام البوي‬
‫أبا عن جد‪ ،‬بل أيضا وبالصل تقوم سلطتها عىل أساس القتصاد وملكية وسائل اإلنتاج‬
‫والتبادل‪ ،‬ومن املعلوم أن الفكر البورجوازي الصيل (أي الليربايل) ل يقدس الدولة‪ ،‬بالعكس‬
‫ـ حتجيم دور الدولة ووظائفها إىل احلد الدنى‬ ‫‪10‬‬
‫كان يرى ـ عىل القل حتى ظهور الكينزية‬

‫‪ .‬العنصر األساسي الذي تقوم عليه فكرة النظرية الكينزية‪ ،‬هو أن االقتصاد الكلي يمكن أن يكون في حالة من عدم التوازن لفترة طويلة‪،‬‬ ‫‪10‬‬

‫لذلك تدعو هذه النظرية التي وضعها "جون مينارد كينز" إلى تدخل الحكومة‪ ،‬للمساعدة في التغلب على انخفاض الطلب الكلي‪ ،‬وذلك من‬
‫أجل الحد من البطالة وزيادة النمو‪ .‬ينظر ما هي النظرية الكينزية في االقتصاد‪ ،‬موقع أرقام‪:‬‬
‫‪https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/507877‬‬

‫‪13‬‬
‫الذي لبد منه لالستثامر والسالم الجتامعي‪ .‬وعىل الرغم من تصالح البورجوازية مع‬
‫الرستقراطية‪ ،‬خصوصا بعد الستقاللت‪ ،‬فإن الفكر الليربايل كان يف ظل احلكم البورجوازي‬
‫الوطني يتقوى عىل حساب الفكر الكائن وهو الفكر الشرتاكي والفكر التقليدي املحافظ‪.‬‬

‫أما الرشحية الجتامعية التي قامت سلطتها عىل أساس سيايس‪ ،‬وعىل قوة أجهزة الدولة‬
‫والدعاية اليديولوجية للمثقفني‪ ،‬فهي نخبة البورجوازية الصغرية‪ ،‬وذلك منذ اخلمسينيات يف‬
‫العديد من البلدان العربية مثل؛ مرص وسورية والعراق وتونس واليمن واجلزائر‪ ،‬وليبيا‪،‬‬
‫والسودان‪ ،‬وفلسطني‪ .‬تتكون هذه النخبة اجلديدة بالصل يف أغلبها من عاملني ذهنيني مسيسني‬
‫وضباط صغار وطنيني‪ ،‬ينحدرون من طبقات صغرية امللكية تعيش غالبا عىل قوة عملها‪ ،‬ول‬
‫ترتبط بمصالح اقتصادية أو سياسية بالدول الستعامرية‪ .‬فلم يكن بيد هذه النخبة للوصول إىل‬
‫السلطة واحلف اظ عليها ولتنفيذ أهدافها‪ ،‬دون رشاكة الطبقات الدنيا سوى الوسائل والدوات‬
‫الدولوية‪ ،‬ففعلت كل يشء بالدولة وحتت جناح (أو حتت خمالب الدولة بتأثري هذا الفرق‬
‫اجلوهري كان التحديث البورجوازي العريب بطيئا‪ ،‬وحتى مرتددا‪ ،‬فبدا طبيعيا‪ ،‬يف حني جرى‬
‫التحديث البورجوازي الصغري عنيفا ورسيعا‪ ،‬ولذلك يعد شبه اغتصايب وغري راسخ) وخالصة‬
‫القول إن النخبة الجتامعية يف الوظيف العمومي اخلدمايت‪ ،‬عموما كقوى قومية حتررية‪ ،‬هي التي‬
‫هيمنت عىل املجتمع املدين أو هي التي ألغته (عمليا)‪ ،‬من خالل السيطرة عىل الدولة ثم السيطرة‬
‫هبا‪ .‬والسؤال اجلوهري أين احلداثة يف مرحلة كانت تعج بتقنياهتا يف العلوم والتكنولوجيا‬
‫والنسانيات؟ هي بالذات ـ عربيا ـ يف التقنية فقط لكن الفكر القتصادي والسيايس والثقايف‬
‫فمستثنى‪.‬‬

‫ويف ميدان النقد الديب ملا تطورت الدراسات الباختينية بمنأى عن الشعرية الشكالنية‪ ،‬حيث‬
‫كانت متثل الوجه الثاين هلا‪ ،‬وقد كتب هلا النتشار بعد ترمجة نصوصها من الروسية إىل الفرنسية‬

‫‪14‬‬
‫أو اإلنجليزية‪ .‬فجاءت عىل مقاس ما ترضاه النظمة البوية ومؤسساهتا الكاديمية‪ ،‬واملتمثلة‬
‫أساسا يف أعامل باختني املقابلة لليربالية الربجوازية‪ ،‬واحلداثة بمعنى عام يف "شعرية‬
‫دوستويفسكي" ثم "مجالية الرواية ونظريتها" و"املاركسية وفلسفة اللغة"‪ ،‬وكلها مؤلفات‬
‫تداخلت مع بعضها وتكاملت لتقدم من جهة تصورا جديدا حول مفهوم الرواية ونقدها‬
‫وأصوهلام غري البورجوازية؛ وقد راقت هذه النتكاسة احلداثية كثريا النقد الكاديمي يف أغلب‬
‫الدول العربية لتقدمها منهجية يف مقاربة جانب الدللة يف النص الرسدي بصفة عامة والرواية‬
‫بصفة خاصة‪ ،‬وهو يشء مهم بالنسبة هلم معتبريهنا (بعد اكتامل تطور قواعد ومبادئ بنيوية مجاعة‬
‫تل كيل) نوع من املسار التصحيحي يف تلكم املناهج احلداثية الشكالنية والبنيوية ذات اخلصائص‬
‫العلمية التنويرية الزاهدة يف الدوغامئية‪.‬‬

‫‪ 2.1‬السلطوية واستثامرها إلشكالية الصالة واملعاصة‪:‬‬

‫عىل خلفية الرصاع بني التيار الديني والعلامين يف الفكر العريب احلديث واملعاص املمتد واملتجدد‬
‫عرب املراحل السابقة ـ عىل القل ـ بسبب عجز الدولة الوطنية (وهي دولة احلكم املطلق يف‬
‫أغلب الدول العربية) عرف الربع الخري من القرن العرشين بروز الرصاع يف شكل إشكالية‬
‫فكرية‪ ،‬ولعل استجابة أصحاب املشاريع الفكرية الداعية إىل هنضة المة وختليصها من عثرهتا‬
‫تلخصت وحتصنت بالتموقع ضمن ثالث جبهات‪ ،‬كل جبهة منها تقدم حال وتدافع عنه‪ ،‬وكأننا‬
‫يف ساحة حرب فكرية‪ ،‬كل جهة تتحلق حول رأهيا وتأخذ تطلق النتقادات إىل اجلبهتني‬
‫الخريني؛ فأصحاب اجلبهة الوىل حتلقوا حول العودة إىل الرتاث‪ ،‬معتربين أن العودة إىل آراء‬
‫وحياة السلف الصالح هي احلل ملواجهة هذا التقدم الغريب‪ ،‬واعتربوا أن «اإلسالم هو احلل»‬
‫ولكن بأي صورة وعىل أي شكل؟! فقد تناسى هؤلء أهنم ليسوا يف فهمهم لإلسالم كالسلف‬
‫الصالح‪ ،‬وليسوا يف درجة علمهم ول يف درجة جرأهتم ول حتى يف أدنى درجة من درجات‬

‫‪15‬‬
‫وعيهم! أما أصحاب اجلبهة الثانية فقد اعتربوا أن النسالخ من العرص والعودة إىل املاض‬
‫والتمسك بالرتاث إنام هو رضب من اجلنون‪ ،‬ولذا رأوا الرأي النقيض؛ إذ وجدوا أن احلل هو يف‬
‫الخذ بكل أساليب العرص التقدمية يف صورهتا الغربية احلديثة وقطع الصلة متاما بالرتاث‪،‬‬
‫وتناسوا أن جمرد الخذ بالساليب الغربية والتشكل بمظاهرها احلضارية لن يكون أبدا هو طريق‬
‫التقدم دون هوية تصهرهم‪ ،‬فلكل أمة هوية لبد منها حتى حيدث التاميز مع اآلخر ثم قبوله مهام‬
‫كانت صور تقدمه‪.‬‬

‫فاحلداثة ل تصنعها املناهج الشكلية يف يد بضعة أفراد تشكلوا بزي ومناهج حياة وأخذ نواتج‬
‫علوم حضارة أخرى‪ ،‬بل التقدم يصنعه الشعب العامل كام تصنعه الصفوة‪ ،‬بينام رأت البقية الباقية‬
‫املشكلة من النخب الدولة أن الرصاع بني اجلبهتني لن يؤدي إىل نتيجة‪ ،‬حيث إن كليهام يدعو إىل‬
‫حل غري واقعي وغري منطقي وغري عق الين‪ ،‬ومن ثم فقد رأوا أن احلل العقالين واملنطقي هلذه‬
‫اإلشكالية هو يف التوفيق بني دعاة الصالة (الرتاث) وبني دعاة املعاصة (الخذ بالثقافة والعلوم‬
‫الغربية) عىل أن يقوم هذا التوفيق عىل أساس أنه ل مانع يمنع من أن نأخذ من الرتاث اإلسالمي‬
‫كل ما حيض عىل العقل والعلم وصحيح الدين بالطبع‪ ،‬وأن نقيم املقاربة عىل أساس ذلك مع‬
‫حضارة العرص التي أساسها أيضا العقل والعلم‪ .‬وقد تناسى هؤلء كذلك أن يف التوفيق يكمن‬
‫التلفيق الذي تظل معه اإلشكالية قائمة! فاملسألة ليست خانات ثالثا‪ :‬الرتاث والعرصانية‬
‫وبضمهام نخرج باخلانة الثالثة‪ ،‬خانة التوفيق بني الصالة واملعاصة‪ ،‬إذ إن هذه الدعوة أكدت يف‬
‫الواقع الثنائية رغم أهنا دعت لتجاوزها‪ ،‬وتبنت دعائم الرصاع‪ ،‬بني أن نكون تراثيني تقليديني‬
‫وبني أن نكون معاصين نعيش قيم العرص؛ ففي قيم العرص ما يتعارض حتام مع قيم الرتاث‪ ،‬ويف‬
‫قيم الرتاث ما يرفض الكثري من قيم العرص‪ ،‬واخلالصة أن الرصاع سيظل رغم الدعوة إىل التوفيق‬
‫بني ثنائية الصالة واملعاصة‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫وعىل الرغم من وضوح املصطلحني واختالفهام فإهنام يف النقد العريب يتفقان من حيث ارتباطهام‬
‫بالعرص احلديث من الناحية الزمنية وصدورمها عن روح هذا العرص وخصائصه واجتاهاته‬
‫ومذاهبه املختلطة بالسياق والواقع العريب‪ ،‬فاحلداثة كام يذهب أغلب النقاد‪ ،‬هي تعبري حضاري‬
‫واستجابة لقضايا العرص وطرقه يف التذوق والتفكري والتعبري املبنية عىل ما سبقها من حضارات‪،‬‬
‫وآخر هذه احلضارات هي احلضارة العربية السالمية‪ ،‬لكن تأثري النقد الواقعي املرتبط بالحزاب‬
‫احلاكمة التي تصف نفسها بالوطنية وجتذره يف مؤسساته فكانت يد عون خللق اإلشكالية‬
‫ورعايتها متلصا بالتمييز "بني احلداثة ‪ La Modérnité‬أو احلداثية ‪ lé modérnismé‬أو‬
‫العرصية‪ ،‬أي اثارة الطرف الصويل وجعله مقابال للطرف احلداثي خاصة يف الشعر كفرع من‬
‫فروع احلداثة الفكرية‪ ،‬ويف كل قطر عريب سواء كان حمافظا كدول اخلليج أو اشرتاكيا قوميا يف‬
‫ذلك الوقت‪ ،‬مثل مرص واجلزائر والعراق وسوريا‪ ،‬باعتبار حداثته ليست من صميم تصور علمي‬
‫علامين‪ " :‬كتابات كثري من الدباء اللبنانيني الذين يتزعمهم سعيد عقل وأدونيس‪ ،‬وغريمها من‬
‫احلداثيني الذين فهموا احلداثة عىل أهنا مترد ورفض للرتاث العريب بجوانبه املختلفة‪ ،‬فانساقوا‬
‫بذلك مع التيارات العدمية والفوضوية والشعوبية‪ ،‬اليشء الذي جعل من احلداثة‪ ،‬خصام للرتاث‬
‫وبديال للقديم‪ ،‬وقد دفع ذلك ببعض النقاد الواقعيني اىل استعامل املعاصة‪ ،‬بدل من احلداثية‬
‫لرتباط هذه الخرية بالجتاه السلبي عىل الرغم من أن املعاصة هي أكثر‪ .‬ارتباطا بحركة الزمن‪،‬‬
‫ويف ذلك يقول الدكتور جابر عصفور إن ارتباط املعاصة بالعرص‪ ،‬جمرد العرص‪ ،‬ينأى باملصطلح‬
‫‪11‬‬
‫عن اقتناص روح العرص‪ ،‬فيتحول املصطلح إىل جمرد وعاء زمني"‬

‫ناهيك أن املعاصة هذه مل تعد حسب الطيب تيزيني تعني التوجه إىل أوروبا بمنجزاهتا‬
‫الصناعية العلمية‪ ،‬وإنام أصبحت القدرة الفعلية عىل استخدام الرؤية الكثر علمية وثورية يف‬

‫‪ . 11‬جابر عصفور‪ ،‬معنى الحداثة في الشعر المعاصر‪ ،‬فصول‪ ،‬مجلد ‪ ،4‬عدد ‪ ،4‬يوليو ‪ ،1984‬ص ‪.36‬‬

‫‪17‬‬
‫تقيص الواقع العريب املعاص يف وضعه ويف آفاق تقدمه تقصيا ل يتوقف عند النقد‪ ،‬بل يطرح‬
‫التجاوز اجلديل الثوري له من خالل اكتشاف البديل اجليد‪ ،‬والعمل عىل إبداعه عرب نشاط سيايس‬
‫علمي متآخ بصورة عميقة مع متثل وفهم اإلشكالت والعوامل والكوابح وهذا يعني دللة‬
‫مصطلح احلداثة أو ببساطة التخيل عن النظام البوي حتالفا ونشاطا سياسيا أو تلفيقا واحتيال‬
‫حتزيئيا للحداثة نفسها (املادية فقط) فاملعاصة ل تكون كذلك باإلتباع وجمرد السطحية املتعلقة‬
‫بمظاهر الشياء واملقابلة ملا هو أصيل إل عن طريق احلداثة‪ .‬فال يكون الشاعر معاصا بمجرد‬
‫أن يصف الصاروخ أو التليفزيون‪ ،‬أو عظمة الشرتاكية‪ .‬مثل هذا الشاعر بالنسبة للمفهوم‬
‫احلديث للشعر هو رجعي عظيم الرجعية‪ ،‬واقرتان املعاصة بالبعد الزمني وروح العرص جيعلها‬
‫مرتبطة باحلداثة إن مل نقل ترادفها رغم ما تتسم به احلداثة من جتاوز للحارض نحو املستقبل‪.‬‬
‫"وعىل نقيض ذلك يتخذ مفهوم احلداثة يف بلدان العامل الثالث والعامل العريب صيغة املقابلة (أصيل‬
‫ـ معاص) لطمس التأخر التارخيي والستالب احلداثي وسط ركام (بالغات) احلداثة‬
‫‪12‬‬
‫وأسطوريتها السحرية"‬

‫ولعله من انعكاسات خلفية الرصاع املفتعل املضمر الظاهر يف إذكاء التقابل بني الصالة‬
‫واملعاصة إذكاء فيه حيلة ثقافية من قبل أنظمة احلكم البوية اشتداد اإلشكالية اللغوية يف املغرب‬
‫العريب‪ ،‬وعىل مجيع املستويات حتى الكاديمية منها‪ ،‬ومسألة اللغوية واهلوية يف اجلزائر تُعد مسألة‬
‫من أبرز مكونات أزمة بناء الدولة يف أفريقيا واملغرب العريب‪ .‬ويف هذا الصدد أكد وزير الرتبية‬
‫والتعليم السبق عيل بن حممد يف برنامج بال حدود بالقول‪« :‬إن املعركة حول اللغة واهلوية يف‬
‫‪13‬‬
‫اجلزائر مل تندلع‪ ،‬لهنا مل ختفت قط وكانت دائام حارضة»‬

‫‪12‬‬
‫‪ .‬محمد برادة‪ ،‬اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة‪ ،‬فصول‪ ،‬مجلد ‪ ،4‬عدد ‪ ،3‬ابريل ‪ ،1984‬ص‪.16‬‬
‫‪13‬‬
‫‪ .‬برنامج بال حدود‪ ،‬صراع اللغة والهوية بالجزائر‪ ،‬األبعاد والتداعيات‪ ،‬قناة الجزيرة الفضائية‪ 21 ،‬أكتوبر ‪،2015‬‬

‫‪18‬‬
‫ومن التأثريات السلبية لتاريخ الستعامري يف املنطقة املغاربية وللعوملة قضية أخرى أكثر‬
‫خطورة‪ ،‬هي أن واقعه اللغوي يتسم بالثنائية اللغوية‪( 14‬الدارجة ــ الفصحى‪ ،‬الفرنسية ــ‬
‫الفصحى‪ ،‬الدارجة ــ الفرنسية من افتعال السلطوية ثم تسيسها‪ ،‬لبتزاز هذا الطرف أو ذاك من‬
‫ثمة الظهور بمظهر املتحكم والعارف بخبايا القضية ليطيل جثومه يف احلكم‪ ،‬وهذه الوضعية سبق‬
‫لوزير الول السابق سيد امحد غزايل وصفها بالراعي الذي يقطع ثيابه إلعادة خياطتها‪ ،‬ويصفها‬
‫الباحث اجلزائري ناص جايب بأهنا أزمة مستحكمة ويذهب إىل القول بأن الزمة أعيد إنتاجها‬
‫بعد الستقالل بواسطة مؤسسات الدولة الوطنية نفسها ونحبها‪ ،‬وإل كيف نفرس أن يدرس‬
‫الطالب كل حياته مثال بالعربية عندما يكون طالبا يف العلوم الدقيقة والرياضيات وعندما يريد‬
‫أن يتوجه إىل اجلامعة يطلب منه أن يتعلم بلغة أخرى‪ ،‬وهي الفرنسية التي مل يدرسها إل قليال‬
‫جدا (‪ )..‬نطلب منه التعامل يف املؤسسة الصناعية واإلدارة وغريمها من مؤسسات الشغل بلغة‬
‫عندما يكون خترج بلغة أخرى‪ ،‬ومل يتعلمها (‪ )..‬وختيل النتائج املرتتبة عىل هذا الوضع اللغوي‬
‫‪15‬‬
‫املريض‪ ،‬خذ مثال الفضائح التي تظهر عند كتابة الوثائق الرسمية بام فيها السامء»‬

‫‪ 3.1‬ماذا سيبقي من حداثة العرب يف ظل الرصاع الشد بني العوملة واملحلية؟‬

‫عىل خلفية الرصاع بني التيار الديني والتيار العلامين يف الفكر العريب احلديث واملعاص وحتت‬
‫رعاية الدولة الوطنية تطورت اإلشكالية السابقة بمصطلحات ومسميات مستجدة‬

‫‪14‬‬
‫‪ .‬الثنائية اللغوية هي اصطالح حديث العهد يطلق على ظاهرة لغوية اجتماعية وهي استعمال لغتين‪ :‬اللغة األصلية ولغة ثانية‪ ،‬ويقابله‬
‫في اللغة اإلنكليزية كلمة ‪ Bilingualism.‬ولهذه الظاهرة ارتباط وثيق بهوية الفئات وعالقاتها بغيرها من الدول االستعمارية‪ .‬انظر‪ :‬عبد الرحمن‬
‫الحاج صالح «الثنائية اللغوية بالنسبة للغة العربية وأوصافها الحقيقية‪ :‬اإليجابية منها والسلبية» مجلة المجمع الجزائري للغة العربية‪ ،‬العدد ‪15‬‬
‫حزيران‪/‬يونيو (‪ ،)2012‬ص ‪.9‬‬
‫‪ . 15‬ناصر جابي‪ ،‬االنقسام اللغوي أضعف النخب الجزائرية‪ ،‬الجزيرة نت‪،2015/08/26 ،‬‬
‫‪https://www.aljazeera.net/culture/2015/8/26/%D8%AC%D8%A7%D8%A8%D9%8A-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%82%D8%B3%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D9%88%D9%8A%D8%A9-‬‬
‫‪%D8%A3%D8%B6%D8%B9%D9%81%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AE%D8%A8‬‬

‫‪19‬‬
‫كالرتاث‪/‬املحلية والعوملة‪ ،‬بيد أن املعنى كان واحدا وهو اجهاض املرشوع احلداثي بجعله يزداد‬
‫مرضا مع انقضاء تاريخ احلداثة نفسها يف الغرب وظهور تيار ما بعد احلداثة كتيار فكري ومعريف‬
‫جديد غري أن بروزه كان واضحا أكثر يف الفنون البرصية‪.‬‬

‫نخشى أن احلداثة فعل ل يقوم عىل الختيار الواعي فقط‪ ،‬بل بالختيار الذي فيه جمازفة خروجا‬
‫من مأزق خيص الفعالية الفكرية والدبية والفنية‪ ،‬ول يقوم عىل التجاوز‪ ،‬بل عىل البناء عىل ما‬
‫كان‪ ،‬عكس املعاصة التي هي جمرد وجود يف الزمن تنطوي عىل نوع من الختيار بالرضورة‪.‬‬
‫وتبعا لذلك فان وضع العوملة بدل للحداثة يف طريق الرتاث اسرتاتيجية سياسة للقفز عىل مبادئ‬
‫احلداثة أو تغيريها وفق متطلبات السياق "املعركة بني احلداثة والرتاث معركة مصطنعة‪ ،‬املعركة‬
‫احلقيقية هي بني احلداثة الصلية واحلداثة املزورة بني احلداثة التارخيية وبني احلداثة اهلاربة من‬
‫وجه التاريخ‪ ،‬بني احلداثة املؤسسة عىل اإليامن بحضارة المة والتفاعل احلضاري‪ ،‬وبني احلداثة‬
‫‪16‬‬
‫الفوضوية اهلائمة حتت أي فضاء إل الفضاء العريب! "‬

‫ويف بداية القرن املاض مع طفرة تقنية التصال والرقميات أصبحت مقولة الطريق املخترص‬
‫للحداثة والتقدم والقوة يكمن يف التحرض والصناعة ينزاح لصالح ثنائية املؤسسات املرصفية‬
‫العمالقة واملعلوماتية‪ ،‬فقد قللت العوملة من ثنائية العامل عن طريق النظام القتصادي اجلديد‬
‫وقاربت من متاهي الثقافات برغم أنه يمكن أن تضحى دولة غنية ساعية إىل هذا النظام بني ليلة‬
‫وضحاها فقرية‪ ،‬وبغض عن املشاكل العاملية املتساوية الرضار كتدمري البيئة‪ ،‬استمرت التيارات‬
‫النعزالية البوية بتشويه العوملة بمقابلتها بمفارقات الدين‪ ،‬وفهم الرتاث التي هي جزء منه عىل‬
‫أنه اجتهاد وجزء من الدين وليس العكس‪ ،‬كام فعلت إثر صدمة احلداثة‪ ،‬بجعلها أيقونة الستعامر‬
‫واقتصاد اإلفقار العام لصالح رفاه النخبة‪" ،‬ويف (عاملنا العريب واملسلم) يف خضم صدمة احلداثة‬

‫‪ . 16‬جهاد فاضل‪ ،‬قضايا الشعر الحديث‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬بيروت‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪.73‬‬

‫‪20‬‬
‫منذ احتالل نابليون مرص حتى يومنا متاوج احلديث يف احلداثة ويف مفردات تتوالد يف حميطها عىل‬
‫غرار «التنوير‪ ،‬التجديد‪ ،‬املعاصة‪ ،‬التنمية‪ ،‬التقدم‪ ،‬التخلف؛ وأصبحت مفردات تستدعي اجلدل‬
‫‪17‬‬
‫وافرتاق املسارات بني رؤية متثل القطيعة مع الدين كمرجعية فكرية‪ ،‬وأخرى تنطلق من الدين"‬

‫من هذا املنطلق فإن التوجس الديني من مبادئ احلداثة الفكرية ومن أخالقيات كانت دوما‬
‫حمل نقد هلا‪ ،‬وهو منطق براغاميت انتهازي ضاغط عىل السلط إلقامة النظام البوي بعالقة حتالفية‬
‫معها يف الخري إما كأحزاب معتدلة أو جمتمعا دينيا حيتل غصبا مكانة املجتمع املدين‪ ،‬كام نستشف‬
‫يف هذا التصور (سواء اشرتاكيا وطنيا كان وظل مشمئز من النظام الرأساميل احلر أو اسالمي‬
‫مشمئز من اخالقيات جمتمعاهتا) عن احلداثة‪ ،‬ووفق هذا التصور الرتاث لدهيا جزء من الدين لنه‬
‫ل يوجد آخر لديه إل باعتباره كافرا! يعني الرتاث مقولة فقهية ـ علمية أو علمية ـ فقهية بامتياز‬
‫وتعني التجديد واحلداثة (يف اإلسالم الدين‪ :‬وهو القرآن والسنة الثابتة والرتاث‪ :‬وهو الجتهاد‬
‫البرشي يف الفهم والتطبيق املستند للرشوط العلمية والتحريف‪ :‬اآلراء غري امللتزمة بالرشوط‬
‫‪18‬‬
‫العلمية)‬

‫ولدى كليهام هناك تنايس أو التغاض عن عنرص مهم هو رشط احلرية واملشاركة‪ ،‬وذلك إذا ما‬
‫نم نم عن أدجلة وتسبيق للفكرة عن البنية (بنية احلداثة) وهذا عدم فهم للحداثة وانغالق عنها يف‬
‫غياهب التقليد والدوغام‪" :‬بدأت الثورة الصناعية الوروبية حينام بدأت الكنيسة واإلقطاع‬
‫التقليدي بالتضاؤل لصالح رجال العامل‪ ،‬وأخذت املزارع الصغرية تلتحق بالكبرية لنعدام‬
‫القدرة عىل املنافسة‪ .‬هذه الثورة الصناعية التي أذنت بولدة احلداثة كانت مريرة‪ ،‬حيث حتول‬
‫املزارعون الذين خرسوا أراضيهم إىل عاطلني أو عامل مستأجرين يف املصانع الكبرية وبأجور‬

‫‪ . 17‬السيد جعفر العلوي كالم عن الدين والحداثة‪ ،‬البصائر‪ ،‬العدد ‪ ،43‬ص‪.72‬‬


‫‪ . 18‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.72‬‬

‫‪21‬‬
‫زهيدة وظروف عمل قاسية‪ ،‬وكان الربح الوفري ملالك املصنع‪ .‬وهكذا توالد الفقر أيضا يف‬
‫الرأساملية‪ ،‬وربام أسهم الستعامر يف ختفيف التناقض الطبقي يف املجتمعات الوروبية بتخليق‬
‫طبقة عاملية رخيصة يف البالد املستعمرة وهكذا ارتبط التقدم بالستعامر خالقا أبشع الصور‪ ،‬كام‬
‫أن العرص احلديث الرقمي وما بعد احلداثة التقليدية ارتبط باهليمنة المريكية وحروهبا العاملية‬
‫املتنقلة وبالزمات العاملية اخلانقة القتصادية والبيئية بعد احلرب العاملية الثانية خرجت الوليات‬
‫املتحدة القوة الوحيدة والساملة من آثار احلرب املبارشة السلبية‪ ،‬وكان إجياد السواق اجلديدة‬
‫ومكافحة املد الشيوعي قد آذن بمرشوع مارشال لتسرتد أوروبا عافيتها‪ ،‬وبخطط تنموية يف‬
‫البلدان اآلسيوية وغريها لتقليل مشاكل الفقر لئال جتتذهبم الشيوعية"‬

‫ولعل خري دليل عىل خطئ وانحراف هذا التصور انحرافا سياسيا وفكريا إمكانية رده عىل عقبيه‬
‫بالربهان‪ ،‬ذلك أن ضد احلداثة كام ذكرنا أعاله تقمع املرأة واملرأة يف النظام الرأساميل الليربايل جتىل‬
‫دورها يف‪" :‬يف الوليات املتحدة تشكل النساء حوايل مخيس القوة العاملة‪ ،‬ويعادل متوسط‬
‫أجورهن ثالثة أمخاس متوسط أجور الذكور وهكذا نجد أن الستغالل الزائد للنساء كوسيلة‬
‫إنتاج موجود يف القتصاد املركزي‪ ،‬ولكن الصفة الرئيسية خلضوع املرأة لحتياجات الرأساملية‬
‫املتقدمة ل تكمن يف ذلك‪ ،‬بل يف دورها كعامل استهالك‪ .‬يشرتط الرتاكم املستمر يف املركز التوسع‬
‫املستمر للطلب عىل البضائع الصناعية من قبل الطبقات العاملة‪ .‬عندما يكون الرجال ملتزمني‬
‫بإنتاج البضائع لفرتة طويلة من النهار يصبح من حق النساء الضطالع بمسؤولية إدارة‬
‫الستهالك‪ .‬إن عزلة النساء يف الرأساملية املتقدمة تنشأ بشكل رئييس يف هذه املهمة املفروضة التي‬
‫هي حتويل البضاعة إىل قيمة استعاملية‪ .‬وباملقارنة بالقطاع الكفايف لالقتصاد املحيط‪ .‬فإن تبعية‬
‫املرأة تنشأ يف دورها نصف الربوليتاري بدل من كوهنا عامل استهالك‪ .‬إن تقسيم العاملة من حيث‬
‫النوع والذي هو بشكل رئييس بني أدوار اإلنتاج والستهالك يفعل فعله يف املركز بني إنتاج‬

‫‪22‬‬
‫البضاعة وإنتاج القيمة الستعاملية‪ .‬وسينتج عن ذلك أقسى أنواع الستغالل لهنا تراكم كمية‬
‫كبرية من املهام التي تتطلب قوة جسدية والتي جيب القيام هبا ضمن رشوط بدائية للغاية ‪ -‬حراثة‬
‫قطعة الرض املعيشية والطعام وتربية وإطعام الطفال والهتامم باملنزل والذهاب إىل السوق‪...‬‬
‫كام تالحظ وكالة التنمية الدولية الكندي )‪ (195 : 1966) (CIDA‬عمل مكثف يرهق إىل درجة‬
‫‪19‬‬
‫اإلهناك ومهام كان سنها صغريا فهي تبدو مسنة ومنهكة‪ ..‬إن الطفال مساعد رئييس لعملها "‬

‫مسألة صاع احلداثة مع الدين واجلدل النظري الذي أفىض إىل حتكيم سياسوي بني هذا الطرف‬
‫وذاك تعود يف سياقها العريب لتأثريات العوملة بجميع أنواعها (اإلجيابية عىل املجتمع املدين‬
‫والسلبية عىل النظمة البوية السلطوية والتيار الصويل) طبعا مل ترض تلكم السياسة اجلميع‪،‬‬
‫فتأسست نظرية املستبد العادل يف الوعي العريب الراهن‪ ،‬وعىل ذلك الوعي العريب التساؤل أول‬
‫حول موقع الشعوب من اضطهاد السلطوية للحداثة‪ ،‬فإنه جمرد حديثنا عن الوعي ييش عن‬
‫اضطهاد الشعوب لنفسها‪ ،‬فهي التي تصنع طغاهتا‪ ،‬بل أهنم هم الطغاة برضاهم عىل الطاعة‬
‫والنصياع‪ ،‬فمن يصنع من؟ الظامل أم املظلوم؟ املتجرب أم املقموع؟ احلاكم أم املحكوم؟ طبقا‬
‫ملقولة ابن خلدون عن ولع املغلوب يف اتباع الغالب فإن الشعوب التي يضطهد حكامها احلداثة‬
‫وهم املعنيني بمكاسبها قبلهم وأمام أعينهم! وهم ساكتني يضطهدون أنفسهم!‬

‫اجلربوت السيايس ظاهرة معقدة جدا وتشتمل عىل ظواهر متواشجة يصفها الواصفون وحي ِّللها‬
‫املح ِّللون‪ ،‬وتشخيصها عادة ما يتم من خارجها "وهنا تأيت أمهية الشهادة الفردية حني تنخرط يف‬
‫ميثاق السرية الذاتية‪ ،‬وهنا تُطرح قضية أخرى لن تقل أمهيتها عن أمهية املسألة اجلوهرية الوىل؛‬
‫إهنا قضية الوعي بتولد احلكم املطلق‪ ،‬أعني‪ :‬متى ينجيل الوعي بالظاهرة؟ وكيف يتشكل إدراك‬

‫‪19‬‬
‫‪ .‬تيمونز ريبرتس وآيمي هايت‪ ،‬من الحداثة الى العولمة الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة سمر الشيشكلي‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،310‬ديسمبر‬
‫‪ ،2004‬ص‪.15‬‬

‫‪23‬‬
‫الناس هلا؟ ماذا حيصل لدى املثقف النقدي من مرتتبات مالزمة لذاك الوعي؟ ويف املقابل‪ :‬ملاذا‬
‫يغيب الوعي؟ وكيف ترتوض النفوس عىل مداراة الظلم والطغيان؟ ولكن السؤال القسى‪:‬‬
‫كيف تتحدد مسؤولية املثقف بعد إدراكه التصادم العنيف بني آلياته الفكرية ومشاهداته‬
‫السياسية؟"‬

‫إن سلطة اخلطأ يف الفعل السيايس أعظم كثريا مما تكون عليه يف اإلنجاز الفكري ويف اإلنتاج‬
‫غالب قاهر‪ ،‬وسلطته‬
‫ٌ‬ ‫املعريف ويف التدبر الثقايف؛ لن اخلطأ الذي هو اسرتاتيجي بالرضورة‪،‬‬
‫متجددة بذاهتا‪ ،‬سواء اتصل بفعل القرار أو جال يف حقل اخلطاب‪ ،‬والسبب هو أن فعل الكالم‬
‫يف غري السياسة منفصل عن فعل احلدث‪ ،‬لقد كانت الثقافة دوما هي كبش الفداء عند حصول‬
‫أدنى ضائقة اقتصادية وستوجد حتام يف النظام البوي سياسة وبالنظام البوي ثقافة عرب الشعب‬
‫الذي ل ُيؤمن بقوته‪ .‬وهكذا ما انفك الشأن الثقايف حيمل أعباء السياسة‪ ،‬ثم يقع تطويعه‪ ،‬كي‬
‫يكون رأس القاطرة يف احلملة النسقية التي تسعى إىل صهر اهلويات اإلنسانية يف هوية استباقية‬
‫جاهزة جديدة ستكون هي بالفعل الالهوتية‪.‬‬

‫إ ن جوهر اخلطأ السيايس الكرب يكمن يف التحريف النظري واإلجرائي الذي نراه يطرأ عىل‬
‫مفهوم الرباغامتية كمبدأ مرجعي وكآلية إجرائية لتوظيفه سياسيا يف التوفيق بني الطرفني النفيضني‬
‫ليس إل‪ ،‬لن أحد الطرفني هو ضد التوفيق نفسه‪ ،‬ولن التوفيق علم اجرائي مادي حيد من علم‬
‫الالهوت وبالتايل زيف التوفيق الذي يصح تسميته تلفيق أيضا‪ :‬ولنرضب عن صاع املشهد‬
‫السيايس اللبناين عىل خلفية حماولة حداثية يف جتاوز الواقع العريب (بحكم ريادة لبنان التنويري‬
‫عىل املستوى العريب) ولكن طرفاها علامنية مسيحية وغري مسيحية مقابل طائفية شيعية وسنية‬
‫جتسدت عىل ارض الواقع وتنامت بتنامي بؤر اخلالفات مع مرور الزمن لن هلا يف الواقع النظري‬
‫من خالف عميق ما جيعلها تطفو‪ :‬فلقد عاش اللبنانيون املسيحيون‪ ،‬يكتبون ويرتمجون‬

‫‪24‬‬
‫ويتحدثون‪ ،‬عن احلداثة والتنوير حتى أصبحت بالدهم ‪ ،‬قلعة التنوير الوىل يف الرشق الوسط‬
‫فعال ‪ ،‬ولكنهم عندما تقاتلوا سنة ‪ 1975‬مل يتقاتلوا عىل حداثة ول تنوير‪ ،‬ولكن عىل الدولة‬
‫الطائفية‪ ،‬وبعد أن انتهت احلرب‪ ،‬وأصبح هناك مرشوع لتأسيس الدولة اللبنانية الوطنية‪ ،‬فقد‬
‫اختاروا يف النهاية نموذج تلفيقي (الدولة اإليرانية الطائفية)‬

‫وقد ظل القباط املرصيون يقاتلون تيار اإلسالم السيايس السني بكل قواهم من أجل الدولة‬
‫احلديثة والوطن الواحد‪ ،‬ولكنهم وبمجرد أن بزغ نجم تيار اإلسالم السيايس الشيعي التوفيقي‬
‫ختلوا عن مبدأ الكفاح من أجل ذلك الوطن احلديث الواحد‪ ،‬الذين محلوا راياته مع منذ ثورة‬
‫‪ ،1919‬أمال يف النضامم إىل مرشوع متكني القليات الذي يرعاه نظام املاليل اإليراين‪ .‬ولقد عاش‬
‫شيعة العراق يشتكون من ظلم نظام صدام حسني السنى‪ ،‬وارتدوا أثواب الشيوعية تارة‪،‬‬
‫واحلداثة الوربية تارة أخرى‪ ،‬حتى إذا آلت إليهم السلطة‪ ،‬بعد زوال نظام صدام‪ ،‬نسوا كل ذلك‬
‫واختاروا طريق إيران الطائفية ال لهنا وفقت بني الشيوعية والعلامنية وبدأوا يف اضطهاد‬
‫رشكائهم السنة‪ ،‬ونفس اليشء بالنسبة القلية العلوية يف سوريا مع توفيقية السلطوية والقلية‬
‫احلوثية يف اليمن‪ ،‬ويعود فشل أي مرشوع حتديثي حاثي عريب مرحلة أو جيل بعد آخر إىل كون‬
‫أقليات الرشق تعد جزء من املشكلة‪ ،‬بعكس أقليات الغرب التي كانت جزء من احلل‪.‬‬

‫ويف جمال ختصصنا النقدي فإنه ل سبيل إىل كتابة تاريخ احلداثة العربية يف جمال العلوم اإلنسانية‬
‫والجتامعية إل بإقامة جرس متحرك بني العلم اللغوي وعلم اخلطاب‪ ،‬من حيث هو شامل علم‬
‫الشعر وعلم فنون النثر وعلم النص بصفة عامة‪ ،‬والسبب يف ذلك أن استنباط اللساين لنواميس‬
‫الظاهرة اللغوية يظل ناقصا إن مل يتقص أرسار اخلطاب اإلبداعي‪ ،‬وأن استكشاف نقاد الدب‬
‫لشعرية اخلطاب يظل مبتورا ما مل يتسلح بمعرفة اخلصائص اللسانية الواسمة للبنى الرتكيبية التي‬
‫حتكم اخلطاب التداويل‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وخالصة القول بعد ربع قرن من قراءتنا إلشكالية احلداثة عربيا (هناك من وصفها بالومهية‬
‫والفتعال‪ ،‬ومنهم من وصفها بالستعصاء) بيد أهنا ل تعدو إشكالية من اإلشكاليات املعربة عن‬
‫عدم توافق ما اشتملت عليه من العقالنية والتنوير يف أوروبا مع السياق العريب‪ ،‬لن الدين فيه‬
‫مطلق وجماله احليوي جمتمع جتمعه البوية‪ ،‬لذ من املحال أن يأخذ مكانه املجتمع املدين وهو بذلك‬
‫يامنع حداثة العرب بمعنى الكلمة؛ أول وجدت احلداثة لتوكيلها بتفكيك النظام البوي‪ ،‬وعدم‬
‫تفكك النظام البوي حينئذ يعني أن القاعدة الساسية التي تستند إليها البنى السياسية‬
‫والقتصادية (ليربالية وديمقراطية) شكلية ل تستجيب يف متثيل احلريات وحقوق اإلنسان‬
‫والعدالة الجتامعية‪ ،‬وهذا يعني أن رموز النظام البوي قد تعايش احلداثة تلفيقا وتشوهيا‪ .‬وثانيا‬
‫دوران اإلشكاليات الثقافية التي تتحكم فيها السياسة والتي تغذي املامنعة مرحلة بعد أخرى‪،‬‬
‫كالتي تناولنهام‪ ،‬أي إشكالية الصالة واملعاصة ثم إشكالية العوملة جاعلة ممانعة الدارة ملرور تيار‬
‫احلداثة أمرا مؤكدا‪.‬‬

‫ولعل تأملنا يف احلداثة بيننا وبينهم‪ ،‬مفهوما نظريا وواقعا ملتمسا‪ ،‬أبان أن املرشوع ُاضطهد حقا‬
‫ومازال‪ ،‬بوقوعه بني شد وجذب طريف ُمزمن مومئ بأمارات انتكاسة املرشوع‪ ،‬ناهيك أنه‬
‫استوعب واس ُتهلك ونفذ يف موطن نشأته ومازال الشد واجلذب قائام حوله بعد رحيله‪ ،‬وإذا كان‬
‫املرء مؤمنا أو ملحدا أو علامنيا يرى يف عمله ما يدخله اجلنة‪ ،‬فإننا نخشى أن احلداثة ما هي إل‬
‫جتل من جتليات سيميوطيقا بنية الكون أو بالء يف وجه من سرتهقهم قرتة‪ ،‬أي تغشاهم ذلة يوم‬
‫ل ظل إل ظله بسببها ـ باملفهوم التقليدي ـ لوقوفهم حجر عثرة (ملن كان يظن أن احلداثة دنيا‬
‫فإنه قد خرس بتخسريها دينه ودنياه)‬

‫‪26‬‬

You might also like