Professional Documents
Culture Documents
ظلت العقوبة لحقبة طويلة من الزمن الصورة األساسية إن لم تكن الوحيدة للجزاء الجنائي.
ومع تطور الفكر العقابي تبث عجز العقوبة عن القيام بالدور المنوط بها والذي يتجلى في
الحد من ظاهرة اإلجرام والقضاء عليها داخل المجتمع ،مما أدى إلى ظهور ما يسمى
بالتدابير الوقائية على يد المدرسة الوضعية كنظرية ،أي أن التدابير كانت من قبل ظهور
المدرسة الوضعية .وبذلك لم يعد الهدف من الجزاء الجنائي هو إيالم المجرمين المحكوم
عليهم واالنتقام منهم ،بل غدا ذلك الهدف متمثال في فكرة إعادة تأهيل هؤالء المحكوم عليهم
وإ دماجهم في المجتمع.
وللوفاء بهذه األهداف الجديدة في مجال العقاب ظهرت كما سبق القول فكرة التدابير الوقائية
التي تتميز ببعض الخصائص ولتطبيقها يجب أن تتوفر بعض الشروط كما أنها تخضع
لضمانات وقواعد قانونية .هذه التدابير ال تهدف إلى إيالم المجرم واالنتقام منه كما هو الشأن
بالنسبة للعقوبة وإ نما تهدف إلى إصالح المجرم وإ عادة تكييفه مع المجتمع ومساعدته على
االنخراط واالندماج من جديد في حظيرة المجتمع.
إذن سنعمل من خالل هذا الفصل األول على بيان ماهية هذه التدابير وتطورها التاريخي
وذلك في (فرع أول) ،ثم بيان خصائصها وشروطها ،وكذلك الضمانات والقواعد القانونية
التي تخضع لها هذه التدابير في (فرع ثاني).
الفرع األول :ماهية التدابير الوقائية وتطورها التاريخي
اختلف الفقهاء في شأن الطبيعة القانونية للتدابير الوقائية وكان هذا الموضوع مثارا لتضارب
اآلراء نظرا للصراع القائم بين االتجاهات المذهبية في السياسة الجنائية لتحديد طبيعة
العقوبة( ) .وكان من المتعين اتخاذ موقف لتحديد المدلول القانوني للتدابير الوقائية ،وما إذا
كانت جزاء جنائي تتحقق له جميع صفات الجزاء الجنائي ،أو أنه مجرد إجراء أو معاملة أو
إعادة تأهيل ،وقد انعكس هذا الخالف على طبيعة التدابير الوقائية أيضا ،فيرى جانب من
الفقه أنها تدابير ذات طبيعة قضائية ،ويرى جانب آخر أنها إجراءات إدارية .ويترتب على
هذا الخالف األخير تحديد خضوعها لنطاق قانون العقوبات أو القانون اإلداري( ) .ويذهب
الرأي الراجح في الفقه إلى أن التدابير االحترازية جزاء جنائي ،كما أنها ذات طبيعة قضائية
وتخضع بالتالي لقانون العقوبات ،كما يالحظ أن هناك تعدد في التسميات التي أعطيت لهذه
التدابير وأيضا في التعريفات .وسوف نبرز ذلك من خالل التطرق إلى تعريف التدابير
الوقائية (مطلب أول) وإ لى أهمية هذه التدابير (مطلب ثاني) وطبيعتها (مطلب ثالث).
أعطيت للتدابير الوقائية عدة تعريفات لكن قبل التطرق إلى هذه األخيرة البد من اإلشارة إلى
أن هناك اختالف حول تسمية هذه التدابير فهناك من يطلق عليها التدابير االحترازية ومن
التشريعات التي تسير في هذا االتجاه نذكر مصر ولبنان واألردن وهناك من يطلق عليها
تدابير األمن وهناك من يطلق عليها اسم التدابير الوقائية ،وقد صار المشرع المغربي في هذا
االتجاه وهذا ما يالحظ من خالل الفصل األول من القانون الجنائي المغربي .أما بالنسبة
للتعريفات فهناك عدة تعريفات ومن بينها التعريف الذي قال إن التدبير الوقائي هو معاملة
فردية قسرية ينص عليها القانون لمواجهة الخطورة المتوافرة لدى األفراد للدفاع عن المجتمع
ضد الجريمة .فهو معاملة فردية تنزل بشخص معين بعد أن تثبت خطورته على المجتمع
لتحول دون إجرامه( ) وتوصف كذلك بأنها قسرية وقانونية( ).
ويوضح هذا التعريف الخصائص األساسية للتدبير الوقائي في أنه مجموعة من اإلجراءات
تقتضيها مصلحة المجتمع في مكافحة اإلجرام ،ومن ثم كان لها طابع اإلجبار والقسر ،فهي
تفرض على من ثبت أنه مصدر خطر على المجتمع ،وال يترك األمر فيها إلى خياره ولو
كانت تدابير عالجية ،أو أساليب مساعدة اجتماعية يستفيد منها من توقع عليه ،ومصدر
االلزام واإلجبار أن الهدف األخير للتدبير هو حماية المجتمع من الظاهرة اإلجرامية ،وليس
من المنطق أن يكون تحقيق هذه المصلحة مرتهنا بمشيئة فرد ،وقد ال تلتئم هذه المشيئة مع
تلك المصلحة( ) .فهناك تعريف آخر يعرف التدابير بأنها وسائل للحماية والوقاية لمنع
خطورة المجرم من احتمال عودته إلى ارتكاب جريمة في المستقبل( ).
ويعرفها البعض اآلخر بأنها جزاء جنائي يستهدف مواجهة الخطورة اإلجرامية الحالية لدى
األشخاص لدرئها عن المجتمع ،ويرى أنصار هذا التعريف أنه يتعين بيان أنه جزاء جنائي
يتخذ في مواجهة الحاالت التي ينزل بها التدبير قبل ارتكاب الجريمة وليس قاصرا على
المجرم ،وأن تعريف التدابير الوقائية بأنه ينزل بأحد األشخاص وليس األفراد يجعله يشمل
األشخاص المعنوية أيضا( ).
ويرى البعض أنه يمكن تعريف التدابير بأنها مجموعة من اإلجراءات القضائية صادرة ضد
األشخاص الطبيعيين واالعتباريين واألشياء لمواجهة الخطورة اإلجرامية التي تتواجد لديهم
إذا ما ارتكبت جريمة من أجل الدفاع عن المجتمع( ).
هذه جملة من التعاريف التي أعطيت للتدابير الوقائية ،أما بالنسبة للمشرع المغربي ومن
خالل تصفح النصوص القانونية المنظمة للتدابير الوقائية وذلك ما بين المادة 61إلى المادة
104من القانون الجنائي المغربي يالحظ أنه لم يقم بتقديم تعريف لها ،ويمكن تقديم تعريف
لها وذلك من خالل الخصائص التي تميزها ،هذا التعريف يمكن تلخيصه فيما يلي :بأنها
نظام قانوني يرمي أساسا إلى حماية المجتمع من الخطر الكامن في بعض األفراد الذين
أصبحوا بحكم استعدادهم اإلجرامي مهيئين أكثر من غيرهم الرتكاب ما من شأنه أن يؤدي
إلى االضطراب االجتماعي ،كالمجانين والعائدين واألحداث ،ويكون ذلك إما بالتحفظ عليهم
وإ ما بعالجهم وإ ما بتهذيبهم وإ صالحهم بقصد إعانتهم على استرداد مكانتهم وإ دماجهم من
جديد في المجتمع.
فالتدبير إذن ال يعتبر عقوبة يجب إيقاعها على الشخص بسبب ارتكابه ألحد األفعال المخالفة
للقانون الجنائي والتي تعد جريمة كما هو األمر بالنسبة لنظام العقوبة ،وإ نما يراد بها مواجهة
ما قد يصدر عن الشخص من خطر في المستقبل وجرائم .فالمجنون مثال الذي يرتكب
جريمته وهو في حالة جنون ال يمكن معاقبته من الناحية الجنائية النعدام مسؤوليته الجنائية
ولكن يجوز الحكم بوضعه في مؤسسة لعالج األمراض العقلية لمدة غير محددة تنتهي حتما
بشفائه والغاية من هذا الوضع باألساس حفظ المجتمع مما قد يرتكبه هذا الشخص غير
الممكن مساءلته من جرائم قد ارتكبها وبالتالي سوف يتم الحد من هذه الخطورة .إذا كان هذا
هو تعريف التدابير الوقائية فأين تتجلى أهميتها ؟ وهذا ما سنتطرق له في المطلب القادم.
سبقت اإلشارة إلى أن التدابير الوقائية تعد الوسيلة الثانية للسياسة الجنائية في مكافحة
اإلجرام ،وذلك إلى جانب العقوبة والتي ظلت أي هذه األخيرة وقتا طويال الوسيلة الواحدة في
مجال محاربة الظاهرة اإلجرامية وذلك عبر حقب طويلة من الزمن .غير أن قصور العقوبة
في مواضع متعددة عن أداء وظيفتها االجتماعية ،مما اقتضى البحث عن نظام يحل مكانها
في هذه المواضع ،أو يقف إلى جانبها لكي يساندها ويضيف إليها ما تفتقده من فاعلية،
ويتجلى قصور العقوبة في تحقيق هدفها والمتمثل في تطهير المجتمع من آفة اإلجرام في
مواضيع عدة من بينها حالة انعدام المسؤولية الجنائية كالشخص المجنون الذي يرتكب عدة
جرائم فال يمكن توقيع العقوبة وذلك بسبب انعدام مسؤوليته الجنائية أي انعدام الركن المعنوي
للجريمة ،ومن خالل هذا القصور تبرز أهمية التدابير الوقائية والتي يمكن تطبيقها أي هذه
األخيرة على الحالة السابقة وكذلك في مواضع أخرى تبدو غير كافية العقوبة فيها لمواجهتها
وذلك مثل الخطورة اإلجرامية كحالة معتاد اإلجرام فلو اكتفى المشرع بالعقوبة وحدها لعجز
عن مكافحة اإلجرام ،ومن ثم كان التبرير الحقيقي للتدابير هو سد مواضع الثغرات والقصور
في نظام العقوبة وهذا ال يعني االنتقاص من قيمة العقوبة التي تظل األساس األول في
مواجهة ومكافحة الظاهرة اإلجرامية.
كما تتجلى أهمية التدابير الوقائية في أنها تحرص على حماية الحريات العامة فأغلب هذه
التدابير ال مفر للمجتمع من اتخاذها ،ألنها الوسيلة الوحيدة لوقايته من خطورة الشك فيها
وذلك مثل تدبير إيداع المجانين في مؤسسة للعالج .وبذلك فإن التدابير تسعى إلى إعادة
إدماج الجانحين من عديمي المسؤولية والمعتادين داخل المجتمع فالتدبير الذي يضع المجنون
في مستشفى للعالج ال يقصد به المشرع معاقبة هذا المجنون وذلك بإيالمه عن الجريمة التي
ارتكبها سابقا وإ نما المقصود به التحفظ عليه وعالجه إذا أمكن وهكذا بالنسبة لباقي أنواع
التدابير األخرى والتي وإ ن كان تنفيذها في حق الشخص قد يؤدي إلى إيالمه بعض األحيان
إال أن هذا اإليالم غير مقصود لذاته وإ نما المقصود منه هو اتقاء خطورته والتحفظ عليه أو
عالجه بالدرجة األولى وحماية المجتمع من الخطورة اإلجرامية الكامنة فيه ،جاء في مذكرة
تقديم مجموعة القانون الجنائي لسنة “ 1962تعتبر التدابير الوقائية من بين أهم ما استحدثه
القانون الجنائي وما استعاره من التشريعات المعاصرة ،إذ تهدف مقتضياته إلى تفادي الخطر
االجتماعي الكامن في بعض المجرمين كما تتضمن كذلك ،وهذا يتجلى من اسمها إما تدابير
للحماية الفردية وإ ما وسائل للدفاع ،وإ ذا كان أكثر هذه التدابير يوافق عقوبات إضافية سبق
التنصيص عليها في القوانين السابقة ،فإن البعض منها يعتبر حديثا”( ) .من هنا إذا تتجلى
أهمية التدابير الوقائية والتي يجب االعتناء بها حتى تحقق األهداف المرجوة منها.
المطلب الثالث :طبيعة التدابير الوقائية
اختلف الفقهاء بشأن طبيعة التدابير الوقائية وذلك من ناحية هل يمكن اعتبارها جزاء جنائي
أم أنها مجرد إجراء أو معاملة أو إعادة تأهيل (أوال) ومن ناحية أخرى هل تعتبر تدابير ذات
طبيعة قضائية أم أنها ذات طبيعة إدارية (ثانيا).
اختلف الفقه الجنائي فيما إذا كان للتدابير الوقائية صفة الجزاء الجنائي أو ال وذلك إلى
اتجاهين :
االتجاه األول :يرى أن التدابير الوقائية ليس لها صفة الجزاء تأسيسا على أن العقوبة جزاء
رادع يطبق بعد ارتكاب الجريمة وليس لمنع ارتكاب جرائم جديدة ،والعقوبة ال تدافع وال
تعالج وال تكيف بل تعاقب ،أما التدابير الوقائية فهي على العكس إجراءات مانعة تطبق بعد
ارتكاب الجريمة ولكن ليس بسبب الجريمة وال تهدف إلى الجزاء ولكن منع الخطر ،ولهذا
فإن التدابير ليست ألم ،بل إجراء يؤدي إلى جعل الجاني الخطر في موقف يستحيل معه
الضرر أو زيادة هذا الضرر ،ومن ثم فإن العقوبة والتدابير الوقائية تمثالن قطاعان متوازيان
ومتقابالن في مجال القانون الجنائي بالمعنى الواسع ،فالعقوبة تحقق القانون الرادع ،أما
التدابير فتحقق القانون المانع( ).
فهذا االتجاه يرى أن التدابير الوقائية ليس جزاء ،إذ أن أهم ما يميز الجزاء أنه تعبير عن لوم
الشارع ،ومن ثم كان مفترضا مسؤولية من يوقع عليه ذلك أن الجزاء يفترض أمرا أو نهيا
يعيه من يوجه إليه ،ويستطيع االمتثال إليه ولذلك ينتظر منه المشرع ذلك فإذا خالفه كان
جدير باللوم وكان الجزاء الذي يوقع عليه هو التعبير القانوني عن هذا اللوم ،وليس التدبير
الوقائي كذلك إذ يتجرد من معنى اللوم والجزاء فال يستهدف مقابلة خطأ ،وإ نما مجرد
مواجهة خطورة فهو مجرد أسلوب دفاع اجتماعي ،ومن ثم كان متصورا اتخاذه إزاء
أشخاص غير مسؤولين كالمجانين ومن وضعتهم الظروف االجتماعية في حالة خطرة
كالمتشردين والمتسولين( ) .وهذا هو التبرير الذي اعتمده هذا االتجاه وقد أيد الفقيه “روكس”
هذا االتجاه بقوله إن التدابير أكثر اتساعا من فكرة العقوبة ،ولذلك فإن التدابير الوقائية ليست
جزاء أخالقيا لخطأ ،ولكن طبيعة العقوبة في اإليالم والزجر على خالف طبيعة التدابير التي
تتجرد من إلحاق ضرر بالجاني وإ يالمه ،أي أن التدبير ال يتضمن عناصر التهديد واإليالم،
وردع الغير ذلك أن أسلوب التدبير يتمثل في حماية المجتمع من خطورة محتملة( ).
وينتهي الفقيه “بترو سيلي” إلى ذات النتيجة ،وإ ن كان يؤسس رأيه على تقسيم التدابير إلى
تدابير جزائية وغير جزائية ،والتي يمكن اختصارها إلى عقوبات وتدابير ،وتتضمن التدابير
الجزائية أو العقوبات تهديد بوضع قيود على النشاط القانوني للفرد الذي يتمتع باألهلية،
وتوجب كذلك استخدام إكراه نفسي يؤدي إلى إلزام هذا الفرد باحترام القاعدة القانونية اآلمرة،
وتوقع العقوبات بعد ذلك العصيان وبسببه .أما التدابير غير الجزائية فهي التي تقرر إسباغ
الحماية على الشخص بال اشتراك إلرادته في ذلك وحيث ال توجه إليه القاعدة القانونية.
وعلى هذا فإن جميع التدابير الدفاعية هي تدابير غير عقابية ،وبالتالي فإن التدابير الجزائية
هي العقوبة ،والتدابير غير الجزائية هي التدابير الوقائية( ) .وهذا االتجاه هو السائد في الفقه
اإليطالي ويستند أنصار هذا االتجاه إلى الحجج واألسانيد اآلتية :
ـ أن الصراع ضد الجريمة ال يقتصر على استخدام العقوبة ألنه سيظل هناك مجرمون
خطرون حتى بعد تنفيذ العقوبة عليهم ،كما سنجد مجرمين غير معاقبين وال يمكن معاقبتهم
ولكنهم خطرين.
ـ أن لكل من العقوبة والتدابير الوقائية تنظيم خاص به ،فالعقوبة هدفها الردع والتدابير
الوقائية هدفها المنع ،والعقوبة دائما رادعة وتنسب إلى الجريمة التي وقعت وحيث ال يوجد
جزاء ال يوجد عقاب.
ـ أن التدبير يتجه إلى المستقبل ليواجه احتماال قد ينطوي عليه ،ويعني ذلك أنه ال يتجه إلى
الماضي فليس من أغراضه أن يكون حسابا للجاني من أجل سلوك إجرامي صدر عنه وليس
من شأنه أن يكون جزاء عن جريمة ارتكبت فعال.
ـ أن مهمة المشرع ال تقف عند وضع جزاءات ،وإ نما تتضمن في المقام األول تحديد الحقوق
والمصالح الجديرة بالحماية الجنائية ،وبيان عناصرها ورسم نطاق الحماية التي يسبغها
عليها ،وحين يفرغ من ذلك يحدد الجزاء الجنائي لالعتداء على هذا الحق أو المصلحة.
االتجاه الثاني :يذهب إلى أن التدابير الوقائية لها صفة جزائية تأسيسا على أن الوظيفة
الوقائية للتدابير وإ ن كانت تختلف بالطبع عن وظيفة العقوبة التي يناط بها أساسا الردع إال
أنها ال تحول دون اعتبار التدابير من قبيل الجزاءات الجنائية خاصة وأنه ال يوجد في
التشريع ما يمنع من قبول تعريف واسع لفكرة الجزاء يشمل الجزاء الرادع ،والجزاء
الوقائي ،وعلى ذلك فإن الجزاء الجنائي إما عقوبات وإ ما تدابير وقائية( ).
ويرى “أنتروليزي” أن التدابير االحترازية هي عقوبات جزائية ذلك ألنها تفترض وقوع فعل
مخالف لقواعد النظام القانوني المعمول به ،وهذه التدابير ما هي إال رد فعل على هذا السلوك
ذاته ،وبالرغم من أن للتدابير الوقائية وظيفة مانعة على خالف العقوبة التي لها وظيفة رادعة
فإن ذلك ال يمنع الباتة من أن تكون التدابير عقوبات جزائية( ).
ويرى “مارك آنسل” أن التدابير لها صفة الجزاء الجنائي ،فالعبرة عنده بالجزاء الجنائي
سواء كان عقوبة أو تدبير ،وال خالف بين االثنين من الناحية الجزائية ،وأن الدور الذي يقوم
به القاضي الجنائي في العقوبة واحد وهو مجرد عمل اجتماعي من أجل تقويم المجرم
واستعادته إلى حظيرة المجتمع ،ويضيف “آنسل” بأن المقابلة بين العقوبة والتدابير ال تفهم إال
بالتمييز بين من يمكن إسناد األفعال إليهم ،ومن ال يمكن ذلك بالنسبة لهم ،وبين المسؤولين
وغير المسؤولين ،ويرتب على ذلك أنه ال يوجد مبرر للتمييز النظري المجرد بين العقوبة
والتدبير ألن العبرة بالمحتوى الذي يهدي إلى معالجة المجرم اجتماعيا وأنه يجب أن تندرج
التدابير والعقوبات في نظام موحد للدفاع االجتماعي حيث ال توجد عقوبات وال تدابير بل
جزاءات غير مسماة ،والتي ستكون مستوحاة بواسطة معايير نفسية واجتماعية وأخالقية( )،
كما أن الذي يهم الدفاع االجتماعي ليس هو اسم الجزاء وإ نما مضمونه الذي يجب أن يتجه
إلى عالج المحكوم عليه( ).
ويستند أنصار هذا الرأي الذي يرى أن للتدابير الوقائية صفة الجزاء إلى األسانيد اآلتية :
ـ أن التدابير جزاء جنائي يجري تطبيقه عمال بإخضاع المحكوم عليه لطبيب جسماني أو
نفسي أو لمحض إجراء تحفظي .وهو جزاء جنائي ألن فيه انتقاص من حق المحكوم
عليه( ).
ـ أن تدابير التقويم التي فرضها المشرع لمن يجرم من األحداث كالوضع في مؤسسة
إصالحية والتوبيخ وغيرها ،الغرض منها تقويم األحداث واألخذ بيدهم في الطريق المستقيم
منعا لهم من المضي في انحرافهم ،وهي تعتبر بمثابة جزاءات أصلية فرضها المشرع لمثل
هؤالء األحداث( ).
ـ يعد التدبير الوقائي والعقوبة بمثابة الدعامتين اللتين ينبغي إقامة صرح لكل تعديل جنائي
عليهما ،ولذلك ينبغي بالضرورة تحديد دور هذين الجزائين الجنائيين في القانون الجنائي
الحديث ،وحيث يتطلب ذلك أن يكون الجزاء الجنائي صادرا من جهة قضائية وبعد ارتكاب
جريمة( ).
ـ أن مباشرة إجراءات الدفاع االجتماعي تتضمن فضال عن العمل على إصالح الفرد وإ عادته
إلى المجتمع صفة الجزاء على أساس أن إجراء التدبير يتضمن صفة الجزاء( ).
ـ تشكل بعض الجزاءات الجنائية في آن واحد عقوبات وتدابير احترازية كغلق المؤسسة،
والتي تحقق غرضا واحدا هو مجازاة المتهم ،وحماية العامة من منع تجدد الجريمة
مستقبال( ).
ـ أن كلمة الجزاء ذات معنى عام ،فهي تشمل رد فعل مخالفة أي فرع من فروع القانون بيد
أن كلمة العقوبة تفصح عن أشد جزاءات القانون ومن ثم تندرج التدابير تحت وصف
الجزاءات.
ويالحظ أن المشرع المغربي يسير في االتجاه الذي يعتبر التدابير الوقائية جزاء جنائيا وذلك
من خالل الفصل األول من القانون الجنائي الذي يورد التدابير على جانب العقوبة وذلك
باعتبارهما من الوسائل التي يعتمدها المشرع وذلك كجزاء عن مخالفة نصوص القانون
الجنائي.
اختلف الفقه الجنائي في تحديد طبيعة التدابير كما سلف الذكر وذلك ما إذا كانت ذات طبيعة
قضائية أم ذات طبيعة إدارية.
االتجاه األول :إن التدابير الوقائية هي ذات طبيعة قضائية ويؤيد ذلك طابع الشرعية الذي
يسود نظام التدابير ،وال يغير من هذه الطبيعة أن المشرع قد يصف أحيانا التدابير بكونها
إدارية ذلك أن وصف المشرع ال يغير من حقيقة األشياء ،كما ال يغير وصف المتعاقدين من
الطبيعة القانونية الصحيحة لتعاقدهم( ).
ويرى أنصار هذا الرأي في الفقه اإليطالي أن األمر يحتاج إلى التفرقة بين الوالية القضائية
والوالية اإلدارية ،إذ أن المعروف أن الصفة المميزة للوالية القضائية تتلخص في الحياد بين
الطرفين ،كما أن الجهاز المنفذ للوالية القضائية يقوم بحماية الحقوق الموضوعية من غير أن
يكون طرفا ذا مصلحة فيها ،بينما نجد أن الجهاز المخول له ممارسة الوالية اإلدارية يعمل
كصاحب للحق الشخصي بسبب تحقيق مصلحته الذاتية( ).
ـ أن التشريعات الجنائية تتبع مبدأ الشرعية أيضا في نطاق التدابير االحترازية ،كما أن تقنين
اإلجراءات الجنائية يعالج التدابير االحترازية بنفس الوسائل واألشكال الخاصة بالدعوى
القضائية.
ـ أن من بين سلطات قاضي التنفيذ في القانون اإليطالي رخصة تطبيق وتعديل واستبدال
وإ لغاء األحكام التي أعلن عنها قاضي الموضوع( ).
ـ أن التدابير االحترازية ليست لها وحدها خصيصة عدم تحديد مدتها إذ توجد نظم أخرى
تعرف عدم التحديد بالنسبة للعقوبة غير محددة المدة كما في الواليات المتحدة األمريكية.
ـ أن التدابير جزء من قانون العقوبات ذلك ألن التقنين الجنائي قد نص عليها ونظمها ،وأنها
وسيلة من وسائل الكفاح ضد الجريمة.
االتجاه الثاني :يرى الرأي الثاني في الفقه أن التدابير هي إجراءات من طبيعة إدارية ،فقد
قيل إن وظيفة القاضي الجنائي تتمثل في التعرف على الجزاء الجنائي المنصوص عليه في
القانون وتطبيقه ،فإذا تولى القاضي وظيفة مختلفة كما في حالة وقاية المجتمع من أخطار
محتملة فإن عمله حينئذ لم يعد قضائيا بل أصبح إداريا( ).
ويستند أنصار هذا الرأي على الحجج والمبررات اآلتية :
ـ من المعروف أن التدابير االحترازية تهدف إلى منع وقوع ضرر اجتماعي ،وحيث أن
وظيفة منع األضرار االجتماعية الناتجة من نشاط األفراد من اختصاص الشرطة ،ونظرا
ألن اختصاصات الشرطة تدخل في نطاق القانون اإلداري ،فالتدابير إذن إجراءات إدارية.
ـ أن التدابير الوقائية ليست بعقوبة ،وتطبق على األشخاص الذين ال تستند إليهم األفعال
المكونة للجريمة ،فهي بذلك تدخل أيضا في نطاق قانون الشرطة ألن قواعده تمارس في حق
هؤالء األشخاص السابق ذكرهم.
ـ تتصف التدابير بعدم التحديد ،وهي الصفة التي تضم هذه التدابير إلى مجال العقوبات
اإلدارية التي تسود فيها قاعدة عدم التحديد الناتجة عن مناسبة العقوبة للضرر.
ـ أن التدابير االحترازية ما عدا المصادرة قابلة لإللغاء والتعديل واالستبدال ،كما أن مبدأ
حجية الشيء المقضى به ال تسري في مواجهة التدابير االحترازية حيث أن قاضي التنفيذ
يستطيع الذهاب إلى عكس ما حكمت به محكمة الموضوع.
ويذهب الفقيه “بيتول” على القول بأنه إذا تأكد الطابع اإلداري للتدابير فإنه ليس من الصعب
إدماج التدابير في مهام الشرطة تلك المهام التي تهدف بحكم طبيعة األشياء إلى الدفاع عن
المجتمع ضد خطر أضرار اجتماعية( ).
ونرى أن التدابير الوقائية في التشريع المغربي هي ذات طبيعة قضائية ،فهي تخضع لمبدأ
الشرعية وتوقع بواسطة القضاء وهذا ما يتجلى من خالل تسمية بعض أنواع هذه التدابير
مثل الوضع القضائي في مؤسسة للعالج وأيضا الوضع القضائي في مؤسسة فالحية وبالتالي
فهي تخضع إلشراف السلطة القضائية التام.
إذا كانت التدابير الوقائية ذات طبيعة قضائية ولها صفة جزاء جنائي فما هو التطور الذي
قطعته وكيف جاءت هذه التدابير إلى الوجود ؟ هذا ما سنالحظه في المبحث القادم.
:Related Posts
قرأوا أيضا...
ABDU
رد
الدكتور حسين
ارجو فتح البحث كامال مع مصادره وجزاكم اهلل خيرا على عملكم .
رد
مراجع MARAJE3
السالم عليكم
كان في رأس الموضوع رابط الموضوع األول للبحث .فكل بحث لدينا نقوم بتجزيئه
لمواضيع لتعميم اإلستفادة قدر اإلمكان.
تم وضع روابط باقي الموضوع ..في حالة عدم توفر روابط فتوجد قائمة البحوث أدخلها.
حياك اهلل
رد
BELAMACH ALI
السالم عليكم
لكن أرجوا منكم إمدادنا بالئحة المراجع الخاصة بهذا الجزء من الموضوع
و شكرا
رد
YASSOU YASMINE
سالم انا عايزة مساعدة في موضوع عنوان شروط الوقاية من الجريمة افكار العداد مذكرة
من فضلكم المساعدة و شكرا
رد
اترك تعليقاً
لن يتم نشر عنوان بريدك اإللكتروني .الحقول اإللزامية مشار إليها بـ *
اكتب هنا...
اكتب هنا...
االسم*
االسم*
البريد اإللكتروني*
البريد اإللكتروني*
الموقع
الموقع
احفظ اسمي ،بريدي اإللكتروني ،والموقع اإللكتروني في هذا المتصفح الستخدامها المرة
المقبلة في تعليقي.
تعرف على
للحد من التعليقات المزعجة والغير مرغوبةّ .
هذا الموقع يستخدم ّ Akismet
كيفية معالجة بيانات تعليقك.