You are on page 1of 5

‫مدى سلطة القاضي في تقدير العقاب‬

‫مقدمة ‪:‬‬
‫لم تعد السياسة العقابية مبنية على إنزال العقوبة ألجل ردع الجاني فحسب بل أصبحت تهتم‬
‫بشخصية الجاني وتحاول إدماجه داخل المجتمع وذلك بتقرير العقوبة وتتبع مراحل احتجازه داخل‬
‫المؤسسة السجنية بل وحتى خارجها تفاديا للعود وتطبيقا لتدابير وقائية سليمة تتماشى مع المواثيق‬
‫الدولية الرامية إلى حماية السجناء ومراعاة لسياسة جنائية عادلة حتى بعد مرحلة النطق بالحكم‪.‬‬

‫والحديث عن تفريد العقاب يستلزم البحث في المعادلة المعقدة المكونة من ثالثة متغ‪66‬يرات غ‪66‬ير‬
‫ثابت‪66‬ة في علم اإلج‪66‬رام والعق‪66‬اب وهي الجريم‪66‬ة والمج‪66‬رم والعقوب‪66‬ة‪ ،‬ولع‪66‬ل العقوب‪66‬ة هي المجه‪66‬ول‬
‫األصعب في هذه المعادلة‪ ،‬ذلك لتجاذبها بين نظريات متعددة وفي كث‪66‬ير من األحي‪66‬ان متناقض‪66‬ة في‬
‫تفسير الفلسفة الكامنة وراء تشريع العق‪6‬اب‪ ،‬وظلت الم‪6‬دارس التقليدي‪6‬ة القديم‪6‬ة هي الس‪6‬ائدة ول‪6‬وقت‬
‫ليس ببعيد في تحديد الفلسفة العقابية والمتمثلة بضرورة تطبيق العقوب‪66‬ة على م‪66‬رتكب الجريم‪66‬ة ألن‬
‫ذلك يستوجب العدل وتفرضه ضرورة التأكيد على رفض المجتمع للتصرف اإلجرامي حيث كانت‬
‫العقوبة هي الجواب الحتمي للجريمة وفي هذه المرحلة كان ينظر للعقوبة على أساس أن لها ط‪66‬ابع‬
‫القصاص واالنتقام وبالتالي اصطبغت بما يسمى (الوظيفة االستبعادية للعقوب‪66‬ة) إال أن‪66‬ه وفي خض‪66‬م‬
‫التطور الذي عرفته الدراسات الجنائية والعقابية بدأ فقهاء القانون بالبحث عن أنجع الوسائل لجع‪66‬ل‬
‫العقوب‪66‬ة مالئم‪66‬ة لشخص‪66‬ية المج‪66‬رم وال‪66‬دوافع الكامن‪66‬ة وراء ارتكاب‪66‬ه للجريم‪66‬ة و النظ‪66‬ر للمج‪66‬رم ال‬
‫باعتباره مجرما تجب معاقبته ب‪66‬ل كم‪66‬ريض تجب معالجت‪66‬ه فخلص‪66‬وا إلى ان‪66‬ه من غ‪66‬ير المنطقي ان‬
‫تنطبق نفس العقوبة على شخص يرتكب جريمة قتل بدافع الس‪66‬رقة و ش‪66‬خص ي‪66‬رتكب جريم‪66‬ة قت‪66‬ل‬
‫ضد زوجته نتيجة اندفاعاته العاطفية و النفسية جراء مفاجئته لزوجته وهي متلبسة بجريمة الخيان‪66‬ة‬
‫الزوجية مثال ‪.‬‬
‫فلهذا األخير أن يتمتع بتخفيف للعقوبة وعدم مساواته بالشخص الذي يقتل بدافع السرقة وهو م‪66‬ا‬
‫مهد لظهور ما صار يطلق عليه تفريد العقوبة ومن‪66‬ه ج‪66‬اء إح‪66‬داث مؤسس‪66‬ة قاض‪66‬ي تنفي‪66‬ذ العقوب‪66‬ات‬
‫كترجمة عملية لهذه الرغبة التي لطالما راودت المهتمين بالشأن الحقوقي و القانوني بالمغرب ‪.‬‬
‫اشكالية البحث‬
‫مذى سلطة القاضي التقديرية الواسعة في تفريد العقاب ‪.‬‬
‫المبحث األول ‪ :‬النظرية العامة لمبدأ تفريد العقاب‬
‫من خالل هذا المبحث سنقوم بتعريف مبدأ تفريد العقوبة والتطرق ألنواعه مع إعطاء نبذة عن‬
‫تطوره خالل المطلب األول لننتقل بعد ذلك ألساس سلطة القاضي الجنائي في تفريد العقاب‬
‫المطلب الثاني‪.‬‬
‫المطلب األول ‪ :‬التعريف بمبدأ التفريد وأنواعه وتطوره‬
‫سنتناول خالل هذا المطلب تعريف مبدأ تفريد العقاب و أنواعه في الفقرة األولى بينما‬
‫سنتطرق لتطوره في الفقرة الثانية وذلك كالتالي‪.‬‬

‫الفقرة األولى ‪ :‬التعريف بمبدأ التفريد و أنواعه‬


‫أ – التعريف بتفريد العقاب ‪ :‬التفريد هو إعطاء القاضي سلطة تقديرية واسعة الختيار العقوبة‬
‫المناسبة في نوعها ومقدارها بالنسبة للحالة الماثلة أمامه‪ ،‬وعرفها البعض بأنه إخضاع كل مجرم‬
‫بحسب حالته أو درجة خطورته لما يالئمه من تدابير وقائية وعالجية وتربوية تتضمن تهذيبه‬
‫وتربيته ‪ ، 1‬كما يعرفه البعض أيضا أال يكون العقاب عاما موحدا بالنسبة إلى كل من اقترفوا جرما‬
‫واحدا بل أن يختلف من فرد إلى أخر وفقا االختالفات في الشخصية والدوافع وسائر الظروف‬
‫التي تدفع إلى الجريمة داخلية أو خارجية بين البشر‪.2‬‬
‫فتفريد العقاب يعتبر وسيلة أساسية تمكن من مالئمة العقوبة لكل مجرم على حدة وذلك عن‬
‫طريق األخذ بعين االعتبار الظروف المادية التي ارتكبت فيها الجريمة والظروف الشخصية‬
‫المتعلقة بالمجرم‪.‬‬

‫‪ - 1‬محمد العروص المختصر في شرح القانون ج‪.‬م الجزء ‪ 1‬القانون الجنائي العام الطبعة األولى ‪ 2015‬مطبعة مرجان ص ‪.233‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ .‬لطيفة العروص سلطة القاضي التقديرية في تفريد الجزاء الطبعة األولى ‪ 2007‬المطبعة طوب بريس الرباط ‪-‬‬
‫يجد القاضي الزجري نفسه أمام عدة متغيرات عليه أن يأخذها بعين االعتبار عند دراستها‬
‫والنطق بالحكم الصادر باإلدانة وقد تبنى المشرع المغربي عدة آليات تساعد القاضي الزجري‬
‫على تحديد العقوبة المالئمة تبعا لشخصية المجرم وظروفه الشخصية والظروف المادية التي‬
‫صاحبت ارتكاب الجريمة وكل هذه اآلليات تدخل في إطار ما يسمى بتفريد الجزاء‪.3‬‬
‫ولتطبيق مبدأ التفريد بكيفية صحيحة هناك شروط ضرورية تضم في مجملها ‪:‬‬
‫تنوع العقوبات‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫معرفة شخصية المتهم‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫توسيع سلطة القاضي التقديرية دون السقوط في التحكم‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫ب‪ -‬أنواع التفريد ‪ :‬تنقسم أنواع التفريد إلى ثالثة أنواع تكمل كل منها األخرى وهي ‪:‬‬

‫‪ ‬التفريد القانوني ‪ :‬المتمثلة في كون المشرع وانطالقا من معطيات عامة تمكن من تحديد العقوبة‬
‫حسب نوع الجريمة أهي جناية أم جنحة أم مخالفة‪.‬‬

‫التمييز بين المجرم العادي والمجرم السياسي وبين المجرم المتعود على الجريمة والمجرم‬
‫المبتدئ‪.‬‬

‫التمييز بين المجرم الراشد والمجرم الحدث‪ ،‬النص على األعذار المعفية من العقوبة رغم‬
‫ثبوت الجريمة وهي ترد على حاالت محددة على سبيل االحصر نذكر منها نص الفصل ‪ 296‬من‬
‫ق‪.‬ج‪.‬م والذي جاء فيه تشجيع المجرم على الكشف عن جريمته والتبليغ عن المساهمين معه‪.‬‬

‫األعذار القانونية المخففة من العقاب ‪:‬‬ ‫‪-‬‬


‫وهي تمتع الجاني باإلعفاء الجزئي من العقوبة وفي الحدود التي يقررها القانون وهي أيضا‬
‫جاءت على سبيل الحصر ومثال ذلك حالة قتل األم لوليدها (الفصل ‪ 397‬من ق‪.‬ج‪.‬م)‪.‬‬
‫الظروف القانونية التي ترفع العقوبة ‪ :‬ويتعلق األمر بظروف التشديد والتعدد وحالة‬ ‫‪-‬‬
‫العود فالظروف المشددة تكون مرتبطة بظروف ارتكاب الجريمة أو بإجرام المتهم وهي ظروف‬
‫محددة في القانون‪.‬‬
‫التفريد القضائي ‪ :‬وهو الذي يتواله باختيار العقوبة المناسبة للجاني وتطبيقها عليه في‬ ‫‪‬‬
‫حدود السلطات أو الصالحيات التي يعترف للقاضي في هذا المجال ومن صور التفريد القضائي‬

‫‪3‬‬
‫لطيفة المهداني حدود سلطة القاضي التقديرية في تفريد الجزاء‪،‬ط‪ 1،2007‬الطبعة طوب بريس الرباط ‪-‬‬
‫أن يترك المشرع للقاضي سلطة اختيار القدر المالئم من العقوبة بين حديها االدنى واألقصى‬
‫كاالختيار بين اإلعدام والسجن مدى الحياة أو لمدة معينة في الجنايات أو بين السجن والغرامة‬
‫في الجنح أو إمكانية النزول بالعقاب درجة أو درجتين وفق ما تقتضيه ظروف الجريمة‬
‫وتطبيق العقوبات البديلة وأيضا الحكم بالعقوبة مع تأجيل تنفيذها‪.‬‬
‫التفريد التنفيدي ‪ :‬يتحقق هذا النوع من التفريد إذا خولت لسلطة التنفيذ الوسائل التي‬ ‫‪‬‬
‫تتمكن بها من جعل كيفية تنفيذ العقوبة المالئمة لظروف كل محكوم عليه‪ ،‬فيسمح لها تصنيف‬
‫المحكوم عليهم وإخضاع كل طائفة اإلجراءات تنفيذ تصلح أفرادها‪ ،‬وإعطاء العفو الخاص لفائدة‬
‫المحكوم عليهم وبالتالي إما إلطالق سراح المعني باألمر أو التخفيض من عقوبته أو إبدالها‬
‫بأخرى أخف منها والسراح الشرطي ال يمنح إال بشروط منها أن يكون المعني باألمر حسن‬
‫السيرة في السجن أو إذا ظهر إطالق سراحه مفيدا للمجتمع وأن يقضي المحكوم عليه جزءا من‬
‫العقاب‪.‬‬
‫الفقرة الثانية ‪ :‬تطور مبدأ تفريد العقاب‬

‫إن مقياس العقوبة من أقدم القضايا التي طردها رد الفعل االجتماعي ضد االعتداء أو الخطيئة‬
‫أو الجريمة واإلنسانية لربما طبقت فكرة التفريد بشكل بدائي حتى قبل ظهور القانون الوضعي‬
‫بصيغته الحديثة فنجد بعض صور التفريد على بساطتها حتى في المجتمعات البدائية‬
‫واإلمبراطوريات التيوقراطية لكننا سنقتصر في هذه الفقرة على التصرف للمدارس الجنائية التي‬
‫ظهرت إبان التطور العلمي للعقاب ألن مبدأ التفريد لم يتم االهتمام به وبشكل عقالني إال في خضم‬
‫عقلنة العقوبة وإخضاعها للمنطق السليم‪.‬‬
‫وهذه المدارس منها من ركزت على التفريد القانوني كالمدرسة التقليدية ومنها من ركزت على‬
‫التفريد اإلداري كالمدرسة الوضعية وهناك مدارس حاولت التوفيق بين التفريد اإلداري والقضائي‬
‫ويتعلق األمر بمدرسة الدفاع االجتماعي والمدرسة التقليدية الحديثة‪.4‬‬
‫المدرسة التقليدية ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫من زعماء هذه المدرسة الفيلسوف بيكاريا حيث أن هذه المدرسة ال تأخذ بعين االعتبار‬
‫مصلحة الجاني حيث يقول بيكاريا في هذا الصدد أن هدف العقوبة هو منع الجاني من اإلساءة‬
‫مجددا للمجتمع ولمناهضة وسائل التعذيب التي كانت قائمة في السابق قامت هذه المدرسة‬
‫بوضع مبدأ شرعية العقاب والتجريم دون المجرم وعلى أساس المساواة في العقوبة‪.‬‬
‫المدرسة الوضعية ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪4‬‬
‫‪.‬عبد الواحد العلمي شرح القانون الجنائي القسم العام ‪- 2007‬‬
‫تميزت بمعارضتها للمدرسة التقليدية وانطلقت هذه المدرسة من ايطاليا بزعامة الطبيب‬
‫الفيلسوف المشهور لومبروزو حيث انتقل بفضل فلسفته من االهتمام بالجريمة إلى االهتمام‬
‫بالمجرم وقد ساهم في هذه المدرسة كل من جاروفالو وفيري حيث تناولت نظريتهم ضرورة‬
‫البحث عن أسباب الجريمة في ذات المجرم بالرغم من اختالفهم حول هذه النقطة حيث اهتم‬
‫لومبروزو بالمجرم نفسه وبظروفه البيولوجية والنفسية أما فيري فهو يرجع أسباب الجريمة‬
‫لمجموعة من العوامل جعلته يقدم على تقسيم المجرمين إلى خمسة أصناف ‪ :‬مجرم بالصدفة ‪-‬‬
‫مجرم باالعتياد – مجرم بالعاطفة – المجرم المجنون ثم المجرم بالميالد أو الفطرة‪.‬‬
‫المدرسة التقليدية الحديثة ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫إذا كانت المدرسة التقليدية اهتمت بالظروف المادية المرتبطة بالجريمة والمدرسة الوضعية‬
‫ركزت اهتمامها على المجرم فإن المدرسة الحديثة حاولت التوفيق بين المدرستين وجاءت بنظرية‬
‫متكاملة ومتوازنة حيث حضت أفكارها باهتمام كبير من طرف معظم التشريعات و أخص بالذكر‬
‫المشرع المغربي الذي أخد بمبادئ هذه المدرسة فيما يتعلق بالمسؤولية الجنائية وتفريد العقاب‬
‫ومن أهم ما جاءت به هذه المدرسة هو إقامة نوع من التوازن بين الحرية والجبرية‪.‬‬
‫مدرسة الدفاع االجتماعي الحديث ‪:‬‬
‫تبنى مارك أنسل مذهب مدرسة الدفاع االجتماعي الحديث والذي اهتم على الخصوص بتقنيات‬
‫تفريد الجزاء حيث خلص إلى مجموعة من المبادئ وهي ‪:‬‬
‫الشرعية في التجريم‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫حرية االختيار أساس للمساءلة الجنائية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ضرورة إبقاء الجزاء بنوعيه العقوبة والتدابير الوقائية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ضرورة تناسب الجزاء مع الخطأ‪.‬‬ ‫‪‬‬

You might also like