You are on page 1of 216

‫شرح اسم احلكيم‬

‫الدورة الصيفية من عام ‪1433‬هـ‪-‬‬

‫لألستاذة أانهيد السمريي‬

‫اللقاء األول‬

‫‪1‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫الرمحن الرحيم‬
‫بسم هللا ّ‬
‫أخواتنا الفاضالت‪ ،‬إليكن سلسلة تفاريغ من دروس أستاذتنا الفاضلة أانهيد السمريي حفظها هللا‪،‬‬
‫وفّق هللا بعض األخوات لتفريغها‪ ،‬ونسأل هللا أن ينفع هبا‪ ،‬وهي تنزل يف مدونة ( ِعـ ْل ٌـم يُـ ْنـتَـ َفـ ُـع بِـ ِـه)‬

‫‪https://anaheedblogger.blogspot.com/‬‬

‫تنبيهات هامة‪:‬‬

‫السلف الصاحل‪.‬‬
‫والسنة على فهم ّ‬
‫منهجنا الكتاب ّ‬ ‫‪‬‬
‫هذه التّفاريغ من اجتهاد الطّالبات ومل تطّلع عليها األستاذة حفظها هللا‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وجل‪ ،-‬فما ظهر لكم من صواب فمن هللا وحده‪ ،‬وما ظهر لكم فيه من‬
‫عز َّ‬
‫الكمال هلل ‪َّ -‬‬ ‫‪‬‬
‫شيطان‪ ،‬ونستغفر هللا‪.‬‬
‫خطأ فمن أنفسنا وال ّ‬
‫حيب ويرضى‪.‬‬
‫وهللا املوفّق ملا ّ‬

‫‪2‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني‪ ،‬نبينا حممد وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫هذا هو لقاؤان األول يف السلسة اليت ضمن الدورة الصيفية لعام ‪1433‬ه‪ ،-‬وسيكون كالمنا‪-‬إن شاء هللا‪-‬يف هذه الساعة‬
‫املباركة عن أمسائه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬وستكون لقاءاتنا حول األمساء اجلامعة‪ ،‬وسنشرح يف هذا اللقاء‪ :‬ما معىن األمساء اجلامعة؟‬
‫وكيف تتم دراستها؟‬

‫َمسَاءُ احلُ مس َىن}(‪ ،)1‬ومعىن احلُسىن‪ :‬أي البالغة‬


‫وجل‪-‬له األمساء احلسىن‪ ،‬فقد قال يف كتابه يف أربعة مواضع‪َ { :‬وهلل األ م‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬
‫وجل‪-‬يدل على صفة هلل‪:‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل‪-‬يتضمن صفة‪ ،‬مبعىن أن دجد اساسم هلل‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫يف احلُسن غايته؛ ألن كل اسم من أمساء هللا‪َّ -‬‬

‫مثال اسم ( الغفور )‪ :‬سنجد أن الصفة فيه هي ( املغفرة )‪.‬‬


‫فلو أخذان ً‬ ‫‪-‬‬
‫لو أخذان اسم ( الرحيم )‪ :‬ستكون الصفة فيه هي ( الرمحة )‪ .‬وهكذا‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫يف املقابل أن اخللق هلم أمساء َح َسنة‪ ،‬لكن ليس شرطًا أن كل صاحب اسم حسن يكون حام ًال لصفة امسه‪ ،‬لكن سابد أن‬
‫وجل‪-‬أن كلها حسىن‪،‬‬
‫عز َّ‬
‫يوصف بكل صفة موجودة يف كل اسم من أمسائه‪ ،‬إىل أن جند أن من ُحسن أمساء هللا‪َّ -‬‬
‫تعرف أن هللا َ‬
‫وإىل أن نصل فنجد أن كل اسم من أمساء هللا العظيمة تدل على صفاته‪ ،‬وكل اسم من أمسائه يشرتك مع غريه يف الدسالة على‬
‫عز وجلَّ‪-‬‬
‫عظمة هللا‪ ،‬فأنت عندما تدرس األمساء كلها سيقع يف قلب تعظيمه وهيبته‪ ،‬ويقع يف قلب حمبته والتعلق به‪ ،‬فأمساؤه‪َّ -‬‬
‫ابسم من أمسائه‪ ،‬وتعاجل‬ ‫ُحسىن حال انفصاهلا‪ ،‬وحال اجتماعها س تورث القلب العبودية واجلالل واهليبة‪ ،‬فأنت تعاجل قلب‬
‫جمل أمسائه‪:‬‬
‫حيات مبُ َ‬
‫فأنت إن كنت يف حال ضعف وفقر‪ :‬سابد أن تعاجل قلب ابمسه الغين‪ ،‬القوي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولو كنت يف حال ذنب‪ :‬سا بد أن تعاجل قلب ابمسه التواب‪ ،‬الغفور‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولو كنت يف حال من األمل‪ :‬ستعاجل قلب ابمسه اجلبار‪ ،‬الرحيم‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫إ ًذا أنت حتتاج امسه يف مواطن‪ ،‬حتتاجه يف عالج قلب وحيات ‪ ،‬مث من أجل أن يستقيم أمرك كله ستحتاج إىل أن تكون‬
‫كل هذه األمساء يف فؤادك‪ .‬ماذا سيحصل ل بعد ذل ؟ سيحصل ل من تعظيمه واسانكسار بني يديه والذل ما حيصل‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة األعراف‪]180:‬‬


‫‪3‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬أن بعض األمساء يكون فيها عدة صفات‪-‬أي‪ :‬أن اساسم الواحد من بعض أمساء‬
‫عز َّ‬
‫مث اعلم أن من ُحسن أمساء هللا‪َّ -‬‬
‫هللا قد يتضمن عدة صفات‪ ،-‬لو أخذان مثالً‪:‬‬

‫‪ o‬اسم ( املـُحسن ) ستجد أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬حمسن إىل اخللق كلهم‪ ،‬حمسن يف خلقهم‪ ،‬يف رزقهم‪ ،‬يف جربهم‪ ،‬حمسن‬
‫فيما أظهره يف صورهم‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬وهو املصور‪ ،-‬حمسن يف تدبريه‪ .‬فتجد أن اإلحسان يدخل يف أمور عدة‪ ،‬ويف عدة‬
‫صفات‪.‬‬
‫واألمساء اجلامعة غالبًا تكون ُمشكلة ملن يقرؤها ويدرسها؛ ألهنا تتداخل عليه‪.‬‬

‫إذًا‪ :‬ما معىن االسم ِ‬


‫اجلامع؟‬

‫وجل‪ ،-‬واجتماعها يدل على ُحسن عظيم‪ .‬فأنت تفهم الصفات منفردة‪ ،‬مث‬
‫عز َّ‬
‫هو اسم يتضمن عدة صفات هلل‪َّ -‬‬
‫دجتمع هذه الصفات يف هذا اساسم‪.‬‬

‫عموما‪ ،‬كأن‬
‫ولتتصوروا املسألة أكثر سأعيدها لكم لكن ليس من نقطة (اساسم اجلامع)‪ ،‬وإمنا سأتكلم عن تقسيم األمساء ً‬
‫العنوان‪:‬‬

‫وجل‪-‬‬
‫عز َّ‬
‫أقسام أمساء هللا‪َّ -‬‬

‫األمساء املنفردة‪ :‬مثل‪ :‬اسم ( الغفور ) هذا اسم منفرد‪ ،‬واملعىن يف هذا اساسم أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪ :-‬يغفر‪ ،‬والصفة‪:‬‬ ‫‪-1‬‬
‫املغفرة‪ ( .‬التواب ) الصفة فيه‪ :‬التوبة‪ .‬هذه امسها‪ :‬أمساء منفردة‪ ،‬كل اسم حيمل صفة‪.‬‬

‫شكور)‪ .‬كل‬
‫ٌ‬ ‫غفور‬
‫رحيم )‪ٌ ( ،‬‬ ‫‪ -2‬هذه األمساء املنفردة قد تنضم إىل غريها يف القرآن فتصبح أمساء مقرتنة‪ :‬مثل‪ٌ (:‬‬
‫غفور ٌ‬
‫كماسا‪.‬‬
‫اسم على ح َدة فيه كمال‪ ،‬واساجتماع واساقرتان يزيده ً‬
‫قدير)‪ :‬اسم ( العفو ) احلُسن فيه‪ :‬أن هللا يعفو‪ ،‬و( القدير ) احلُسن فيه‪ :‬قدرة هللا‪ ،‬وعندما يقرتانن كما يف قوله‬
‫(عفو ٌ‬
‫مثال‪ٌ :‬‬
‫ً‬
‫اَّللَ َكا َن َع ُف ًّوا قَد ًيرا }(‪ ،)1‬كيف سيأيت احلُسن؟ سيزيد ُحسنًا عليه‪ ،‬فنقول‪ :‬إنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يعفو عن اخللق‬
‫تعاىل‪ { :‬فَإ َّن َّ‬

‫)‪[ (1‬سورة النساء‪]149 :‬‬


‫‪4‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫مع متام قدرته عليهم‪ ،‬فالعفو من القدير متام اإلحسان‪ .‬فقد تعفو وأنت ضعيف غري قادر‪ ،‬لكن ما نوع هذا العفو؟ عفو‬
‫انقص‪ .‬لكن عفو القادر هو العفو الكامل‪.‬‬
‫معا ليزيد احلُسن فيها‪.‬‬
‫إذًا‪ :‬تنضم األمساء ً‬
‫‪ -3‬األمساء املزدوجة‪ :‬مثل‪( :‬املعطي املانع)‪( ،‬القابض الباسط)‪( ،‬اخلافض الرافع)‪ ،‬هذه األمساء جيب أن تُذكر ً‬
‫معا وسا‬
‫فصل بينها لتكون أمساءً هلل‪ ،‬وهناك من سا يُثبتها‪.‬‬
‫يُ َ‬
‫وجل‪-‬هو (املعطي املانع)‪ ،‬وسا تقويل (املعطي) فقط‪ ،‬أو (املانع) فقط؛ ألن‬
‫عز َّ‬
‫معا أي‪ :‬سابد أن تقويل إن هللا‪َّ -‬‬
‫سابد أن تُذكر ً‬
‫قادرا على املنع‪-‬تعاىل هللا عن ذل ‪ ،-‬بل هو اتم التصرف‪ ،‬هو (املعطي املانع)‪.‬‬
‫من يظن أن هللا يعطي فقط سيظن أنه ليس ً‬
‫عز‬
‫مثال‪ :‬إن هللا يعطي املتقني؟ نعم؛ عندما تقيدينها على أهلها يصح الفصل‪ ،‬ومثله القول أبنه‪َّ -‬‬
‫لكن هل يصح أن تقويل ً‬
‫وجل‪-‬هو‬
‫عز َّ‬
‫وجل‪-‬مينع الفاسقني‪ .‬لكن سا تقويل عن هللا إطالقًا إنه مانع! أو إطالقًا إنه ُمعط! وإمنا تقويل‪ :‬هذا ُرزق ألن هللا‪َّ -‬‬
‫َّ‬
‫املعطي املانع‪ ،‬يعطي من يشاء‪ ،‬ومينع رزقه عمن يشاء‪ ،‬خافض رافع‪ ،‬قابض ابسط وهكذا‪ ،‬كل هذه األمساء من هذا النوع‪.‬‬
‫‪ -4‬األمساء اجلامعة‪-‬اليت هو موضوعنا‪:-‬‬

‫ما معىن اساسم اجلامع؟ هو اسم يتضمن عدة صفات من صفات هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،-‬دجتمع حتت هذا اساسم‪ ،‬وقد دجد‬
‫هذه الصفات منفردة‪ ،‬واجتماعها حتت هذا اساسم يدل على صفة زائدة‪ ،‬فاألمساء اجلامعة ليست جمرد مجع لعدة صفات حتت‬
‫اسم واحد وإمنا فيها إضافة‪ ،‬وفَهم هذه األمساء اجلامعة يسهل علي فَهم التدبر؛ ألن سرتى آاثر ذل يف الكتاب‪ .‬سنضرب‬
‫مثاسا على اسم (الصمد)‪:‬‬
‫ً‬

‫الصمد معناه‪ :‬السيد العظيم الذي قد َك ُمل‪َ " .‬ك ُمل" يف ماذا؟ َك ُمل يف علمه‪ ،‬وحكمته‪ ،‬وحلمه‪ ،‬وابقي الصفات اليت‬
‫خاصا ابهلل‪،‬‬
‫يعدها‪ .‬الصمد هو السيد‪ ،‬والعرب تقول لسيد القوم إنه صمد‪ ،‬لكن هذه التسمية انتهت بعدما صار هذا اساسم ًّ‬
‫أصال؟ ألن له صفات حسنة كاملة‪،‬‬
‫سيدا ً‬
‫صمدا‪ ،‬ويصمدون إليه‪ .‬ملاذا صار ً‬
‫متداوسا قبل ذل ‪ ،‬فيسمون السيد ً‬
‫ً‬ ‫لكنه كان‬
‫سيدا إسا‬
‫سيدا يف البشر ستكون صفاته احلسنة الكاملة كامل ًة على قَدر الكمال البشري‪ ،‬فهو لن يصبح ً‬
‫وابلطبع عندما يكون ً‬
‫سيدا‪.‬‬
‫إذا كان عنده علم‪ ،‬حلم‪ ،‬حكمة‪ ،‬سلطة‪ ،‬قدرة‪ ،‬وعدة صفات كاملة أصبح هبا ً‬

‫ماذا ستقولني عن (الصمد) امسًا هلل؟ ستقولني إنه السيد‪ .‬وما صفة هذا السيد؟ صفته أنه كامل‪ .‬كامل يف ماذا؟ كامل يف‬
‫علمه‪ ،‬يف حلمه‪ ،‬يف حكمته‪ ،‬يف رمحته‪ ،‬يف قدرته‪ .‬ستأتني أبمساء كثرية وصفات كثرية هلل حتت اسم الصمد‪ ،‬بل إن الصمد من‬

‫‪5‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫أمجع األمساء‪ ،‬فهو أعظم اسم جامع‪ ،‬حبيث أن كل أمساء هللا تدخل حتت اسم (الصمد)‪ ،‬فهو‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬السيد الذي‬
‫قد َك ُمل يف كل صفات الكمال‪ ،‬فتعدين صفات كمال هللا كلها‪ ،‬وتقولني إنه قد َك ُمل فيها‪ .‬أنت تعرفني أن هللا (عليم)‬
‫و(حكيم) و(رزاق)‪ ،‬و(الصمد) معناه‪ :‬السيد الذي قد َك ُمل يف علمه‪ ،‬ويف رمحته‪ ،‬ويف رزقه‪...‬إىل ابقي صفات الكمال اليت‬
‫تعدينها وتعرفينها عن هللا‪ ،‬عندما تشرحني اسم (الصمد) ستقولني‪ :‬هو السيد الذي قد َك ُمل يف كل صفة أنت تعرفها من‬
‫جامعا‪.‬‬
‫صفات كماله‪ ،‬وهلذا أصبح امسًا ً‬

‫(الصمد) أسهل مثال يُضرب يف ذل ‪ ،‬فهو السيد الذي َك ُمل يف عظمته‪-‬وعظمته اسم جامع‪( ،‬العظيم) من األمساء‬
‫اجلامعة‪ ،‬وكذل (احملسن) من األمساء اجلامعة‪-‬ولذل يعترب اسم (الصمد) أمجع اسم من أمساء هللا‪ ،‬وحق له أن تكون سورة‬
‫شرحا تفصيليًّا اسم (الصمد) ستأتني بكل صفات هللا‪ ،‬وتقولني‪ :‬قد‬
‫اإلخالص تعدل ثلث القرآن؛ ألن عندما تشرحني ألحد ً‬
‫َك ُمل يف علمه‪َ ،‬ك ُمل يف حكمته‪َ ،‬ك ُمل يف رمحته‪ ،‬يف رزقه‪ ،‬يف عطائه‪ ،‬يف إحسانه‪ ،‬يف عظمته‪ ،‬ستعددين كل الصفات فتقولني‪:‬‬
‫إنه الكامل؛ ولذل هو السيد‪ .‬مث تقولني‪ :‬مل‪-‬ا َك ُمل يف كل صفاته ح ّق أن تصمد إليه القلوب‪" .‬تصمد إليه" أي‪ :‬تلجأ إليه‬
‫وقت حاجتها‪.‬‬

‫فأصبح ساسم الصمد شقان‪:‬‬

‫ؤد ِده‪.‬‬
‫‪ -1‬السيد الذي قد َك ُمل يف ُس َ‬
‫‪ -2‬الذي تصمد إليه كل اخلالئق يف كل شيء‪.‬‬

‫وهذا من فطرهتا‪ ،‬فهي قد فُطرت على أن هناك يف السماء َمن هو كامل الصفات‪ ،‬فال تتجاهلوا هذه الفطرة‪ ،‬هذه الفطرة‬
‫سورة اإلخالص هي أول ما يـُلَ َّقنه‬ ‫موجودة مع أطفالنا‪ ،‬كلهم يف قلوهبم فطرة أن يف السماء َمن هو كامل الصفات؛ ولذل‬
‫أصال تسألينه‪ :‬ما معىن كذا؟ وما معىن كذا؟‬
‫الطفل بعد الفاحتة‪ ،‬وعندما يـُلَقَّنها من لسان َسؤول وقلب عقول‪-‬فتكونني أنت ً‬
‫ستقع السورة يف قلبه‪.‬‬

‫على كل حال‪ ،‬ما ميزة األمساء اجلامعة يف الدراسة؟‬

‫دجد شواهدها يف القرآن كثرية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫حتتاج إىل تتبع‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫‪6‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫كرر‪.‬‬
‫واألمساء اجلامعة غالبًا سا تُ َّ‬ ‫‪‬‬

‫ومن األمثلة على ذل ‪:‬‬

‫‪( o‬القيوم) من األمساء اجلامعة الذي ُمجع حتته كل األمساء الفعلية‪ ،‬مل تأت يف القرآن إسا ثالث مرات‪ ،‬وهي قوله تعاىل‪:‬‬
‫وم}(‪ )1‬يف البقرة وآل عمران‪ ،‬وقوله تعاىل‪َ { :‬و َعنَت الم ُو ُجوهُ ل مل َحي الم َقيوم }(‪ )2‬يف سورة طه‪.‬‬ ‫اَّللُ َسا إَٰلَ َه إَّسا ُه َو م‬
‫احلَي الم َقي ُ‬ ‫{ َّ‬

‫الص َم ُد}(‪.)3‬‬ ‫‪( o‬الصمد) اسم جامع جلميع صفات الكمال هلل‪ ،‬مل تأت إسا مرة واحدة يف قوله تعاىل‪َّ { :‬‬
‫اَّللُ َّ‬

‫‪( o‬البَـ ّر) من األمساء اجلامعة العظيمة اليت دجمع كل أنواع اإلحسان للخلق‪ ،‬ومل تأت إسا مرة واحدة يف قوله تعاىل‪{ :‬إنَّهُ‬
‫يم})‪.)4‬‬
‫ُه َو المبَـر الَّرح ُ‬
‫وجل‪ ،-‬ومل تأت إسا مرة واحدة يف قوله تعاىل‪:‬‬ ‫‪( o‬املؤمن) من األمساء اجلامعة اليت ُمجع حتتها كمال عظيم هلل‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫{الم ُم مؤم ُن الم ُم َهميم ُن})‪.)5‬‬

‫مهما‪ ،‬وهو‪ :‬أن اساسم الذي يتكرر له معىن‪ ،‬واساسم الذي تأيت مرة واحدة له معىن‪ .‬فكثري‬
‫فأنت اآلن سابد أن تفهم شيئًا ًّ‬
‫منا يتصور أن اساسم الذي تأيت مرة واحدة تكون حاجتنا له أقل من غريه‪ ،‬سا‪ ،‬ابلعكس! اساسم الذي تأيت مرة واحدة‪-‬إن كنت‬
‫جيدا‪-‬ستجد شواهده يف القرآن‪.‬‬
‫تفهمه ً‬

‫وجل‪:-‬‬
‫عز َّ‬
‫مثال‪ :‬اسم (القيوم) ورد ثالث مرات فقط يف القرآن‪ ،‬لكن كل صفة فعلية تدل على قيومية هللا‪َّ -‬‬
‫ً‬

‫فهو سبحانه ميس السماء أن تقع على األرض‪ :‬وهذا دال على قيوميته‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫يرسل الرايح‪ :‬وهذا دال على قيوميته‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫خيلق اخللق‪ :‬وهذا دال على قيوميته‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫(‪)6‬‬
‫إحياؤه‪-‬سبحانه وتعاىل‪ :-‬وهذا دال على قيوميته‪.‬‬ ‫وسى}‬
‫{ َوأ مَو َحميـنَا إ َىل أُم ُم َ‬ ‫‪-‬‬

‫)‪[ (1‬سورة البقرة‪[ ،]255 :‬سورة آل عمران‪.]2 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة طه‪]111 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة اإلخالص‪]2 :‬‬
‫)‪[ (4‬سورة الطور‪]28 :‬‬
‫)‪[ )5‬سورة احلشر‪]23 :‬‬
‫)‪[ (6‬سورة القصص‪]7 :‬‬
‫‪7‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫{فَـَرَد مد َانهُ إ َىل أُمه}(‪ )1‬فعل يدل على قيوميته‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫إ ًذا‪ :‬ابلرغم من أن اسم (القيوم) ورد ثالث مرات فقط‪ ،‬لكن كل فعل هلل دجده يف القرآن يدل على قيوميته‪.‬‬

‫أنيت اآلن إىل‪:‬‬

‫وجل‪-‬‬
‫عز َّ‬
‫قاعدة مهمة عند أهل السنة واجلماعة يف معاملة أمساء هللا‪َّ -‬‬

‫وجل‪ :-‬أن نُثبِت الصفات اليت وردت يف هذه األمساء من غري حتريف وال‬ ‫عز َّ‬‫من القواعد املهمة يف معاملة أمساء هللا‪َّ -‬‬
‫الس ِميع الب ِ‬
‫صريُ}(‪ .)2‬وهذه‬ ‫تعطيل‪ ،‬ومن غري تكييف وال متثيل‪ ،‬وإمنا نؤمن أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪{ :-‬لَي ِ ِ ِ‬
‫س َكمثْله َش ْيءٌ َو ُه َو َّ ُ َ‬
‫ْ َ‬
‫القاعدة مع وضوحها لكن األقدام زلَّت فيها‪.‬‬

‫سنناقش اآلن تفاصيل اإلميان هبذه القاعدة‪:‬‬

‫أوال‪:‬‬
‫‪ً ‬‬

‫وجل‪-‬عندما خيربان عن شيء من أمسائه وصفاته فإنه يريد منا أن نعتقده‪ ،‬فهل تظن أن هللا خيربك أنه استوى على‬
‫عز َّ‬
‫أن هللا‪َّ -‬‬
‫العرش‪ ،‬وأنه ينزل إىل السماء الدنيا‪ ،‬وأنه رحيم‪ ،‬وأنه غفور‪ ،‬وأنه تواب‪ ،‬مث سا يُطلَب من شيء؟! هللا أخربك بذل من أجل أن‬
‫تعتقده‪ ،‬وإذا اعتقدت انتفعت‪.‬‬

‫كل خرب يف القرآن عن هللا يُراد من أهله ومن يسمعه أن يعتقدوه‪ ،‬وسا يعطلوه‪ ،‬وسا يرتكوا التفكري يف مدلوله‪ .‬وقد َوهم َمن‬
‫وجل‪ ،-‬فبعض الناس خوفوا غريهم أبن سا تدخلوا يف ابب األمساء حىت سا تزل أقدامكم!!‬
‫عز َّ‬
‫خوف الناس من معرفة أمساء هللا‪َّ -‬‬
‫وحنن نقول‪ :‬أن هللا ما أخربان هبا إسا من أجل أن نعتقدها‪ .‬فأنت ستُسأل يوم القيامة‪ :‬ماذا كنت تفعل ابلكتاب؟ أُخربت أن‬
‫أوصاف هللا كذا وكذا‪ ،‬فماذا كنت تعمل؟ سنُسأل‪ :‬عن ماذا كنتم تعلمون؟‬

‫وجل‪-‬ما أخربان يف كتابه أبمسائه‬


‫عز َّ‬ ‫من املسؤوليات ِ‬
‫العظام علينا‪ :‬أن نتعلم صفات هللا كما أخربان هبا‪ ،‬فاهلل‪َّ -‬‬ ‫ولذل‬
‫وصفاته لكي نرتكها وهنملها‪ ،‬بل أخربان هبا لكي نعتقدها‪ ،‬ونل ّقنها أبناءان‪ ،‬وهذا التلقني أمر مهم ًّ‬
‫جدا‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة القصص‪]13 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة الشورى‪]11 :‬‬
‫‪8‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ض ُع َفت العقائد؟ بسبب عدم التلقني‪ .‬أنت ما علي من ابن ! سا تظن أن ردود فعله هذه القائمة أمام هي ردود‬
‫ملاذا َ‬
‫فعل قلبه‪ ،‬فقلبه مفطور على احلق‪ ،‬أنت ارم سهم ‪ ،‬وسيصل إىل مكانه املناسب دون أن تشعر‪ ،‬ودون أن يشعر ابن ‪ ،‬ال‬
‫ِ‬
‫سمع له‪ ،‬وتستجوبه‪ ،‬وتتأكد أنه يفهم معىن اسم (القيوم) ومعىن اسم‬
‫يُطْلَب يف هذه املرحلة وال يف املراحل اليت بعدها أن تُ ّ‬
‫(الصمد)‪ ،...‬ليس هذا املطلوب! وإمنا املطلوب‪ :‬أن يـُ َعاد على إذنه أمساء هللا ومعانيها واالنفعاالت هبا حىت تستقر يف‬
‫قلبه‪.‬‬

‫إذًا‪ :‬هذا أول أمر علينا أن نتفق عليه‪ ،‬وهو أن أهل السنة واجلماعة يعلمون أن هللا ما أخرب عن أمسائه وصفاته إسا من أجل‬
‫وجل‪ ،-‬يَهم اإلنسان أنه خياف من‬
‫عز َّ‬
‫و(الوهم) سبب من أسباب اإلمهال ألمساء هللا‪َّ -‬‬
‫أن نعتقدها‪ ،‬وليس من أجل أن هنملها‪َ ،‬‬
‫التفكري يف كيفيتها! ولذل حنن سنضع قواعد وضوابط للتفكري فيها‪ ،‬لكننا لن هنملها‪.‬‬
‫كيف ُهنمل هذه األخبار العظيمة؟!‬
‫وم َسا ََتم ُخ ُذهُ سنَةٌ َوَسا نـَ موٌم}(‪ ،)1‬والنيب‪-‬صلَّى هللا عليه‬
‫مثال‪ :‬هللا يقول ل هذا اخلرب العظيم عنه يف كتابه أنه هو {احلَي ال َقي ُ‬
‫ً‬
‫وسلَّم‪ -‬يبني ل أن هذه أعظم آية يف الكتاب‪ ،‬كما يف حديث أُب بن كعب أن رسول هللا‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬قال‪" :‬اي أاب‬
‫املنذر أتدري أي آية من كتاب هللا مع أعظم؟ " قال‪ :‬قلت‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ .‬قال‪ " :‬اي أاب املنذر أتدري أي آية من كتاب‬
‫وم}‪ .‬قال‪ :‬فضرب يف صدري‪ ،‬وقال‪ " :‬وهللا ليَـ مهنَ العلم أاب‬ ‫اَّللُ َسا إَٰلَهَ إَّسا ُه َو م‬
‫احلَي الم َقي ُ‬ ‫هللا مع أعظم؟ " قال‪ :‬قلت‪َّ { :‬‬
‫املنذر"(‪.)2‬‬
‫فتأيت بعد هذا كله تقرأ آية الكرسي وتكررها دون أن تفهمها؟! هذا نوع دجاهل للخرب‪ ،‬نوع دجاهل ألمهية ما أخرب هللا به‪.‬‬

‫‪ ‬اثنيًا‪:‬‬

‫أن هللا أخربان أنه ال مياثله شيء‪ ،‬وليس له َِمس ّي‪ ،‬وليس له ُكفؤ‪ ،‬وهذا من أصول اعتقادان اليت جنمعها مع ما سبق‪.‬‬

‫ماذا ستفهم من اجلمع بني األصل األول والثاين؟ ستُثبت الصفات بدون أي ماثلة‪ .‬فبمجرد أن خيطر يف عقل سؤال عن‬
‫كيفية صفة من الصفات تقطع التفكري وتستعذ ابهلل؛ ألن الشيطان يلبس علي يف أول األمر‪ ،‬لكن ستستعيذ وتستعيذ وهترب‬
‫منه‪ ،‬وتطلب من هللا إىل أن يثبت ‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة البقرة‪]255 :‬‬


‫)‪ (2‬رواه مسلم يف صحيحه (كتاب صالة املسافرين وقصرها‪ ،‬ابب فضل سورة الكهف وآية الكرسي‪)810 ،‬‬
‫‪9‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫عالِج قلبك ابليأس من معرفة الكيفية‪ ،‬قل له‪ :‬لو أدركت كل تفاصيل األمور اليت سا تستطيعها يف احلياة فإن لن تستطيع‬
‫إدراك صفات هللا‪ ،‬لو أدركت كيف تسري هذه الكهرابء‪ ،‬وهذه الرسائل كيف تُرسل‪ ،‬وهذا "الكمبيوتر" كيف يشتغل‪ ،‬وهذه‬
‫أيضا إدراك صفات هللا‪ .‬فهو يضغط‬
‫الطائرة كيف تطري‪ ،‬لو أشغلت نفس إبدراك هذا كله‪ ،‬اعلم أن بعدما تدركه لن تستطيع ً‬
‫صمنع اإلنسان! فكيف بصفات هللا؟!!‬
‫على الكهرابء‪ ،‬وسا يستطيع أن يفسرها‪ ،‬وهذا من ُ‬

‫سا بد أن يصل اإلنسان إىل درجة اليأس من معرفة كيفية الصفات‪ ،‬والشيطان جيرب اإلنسان؛ ألن هذا الشيطان‪-‬والعياذ‬
‫ابهلل‪-‬ما يُلقي يف عقل اإلنسان إذا أراد أن يستعمل أي أداة من األدوات احلديثة أبن يبحث عن وصفها‪ ،‬لكنه عندما يسمع‬
‫خرب عن هللا يُلقي يف قلبه أن يتساءل عن كيفيته‪ ،‬فهذا من وسواسه‪.‬‬

‫س َكمثمله َش ميءٌ َوُه َو‬


‫إذًا‪ :‬جنمع بني األصلني األول والثاين‪ ،‬فنقول‪ :‬أخربان هللا بصفاته كي نعتقدها‪ ،‬وأخربان يف كتابه أنه‪{ :‬لَمي َ‬
‫يع البَصريُ}‪ ،‬فهو ليس له مسي‪ ،‬وليس له كفؤ‪ .‬سأعتقد أن صفاته اثبتة له‪ ،‬وأنه سا مياثله أحد‪ .‬ومع أول معركة يف هذا‬ ‫السم ُ‬
‫َّ‬
‫ستكون هناك صعوبة‪ ،‬لكن عندما يستقر اساعتقاد الصحيح يف الفؤاد سينقطع األمر‪.‬‬

‫س َكمثمله َش ميءٌ}‪ ،‬وتشرحها له‪ ،‬فتقول‪ :‬أي‪ :‬سا‬


‫والصغري سا بد أن يـُلَقَّن هذا‪ ،‬وكلما يسأل ‪ :‬كيف؟ وكيف؟ ستقول له‪{ :‬لَمي َ‬
‫مثيل له‪ ،‬وسا ميكن إدراك صفاته‪ ،‬عقل سا يستطيع ذل ‪ ،‬أنت شيء صغري سا ميكن إدراك هذه الصفات العظيمة‪ .‬وتكرار‬
‫هذا يقطع من قلوهبم األمل يف معرفة الصفات‪.‬‬

‫ومرة أخرى سنقول‪ :‬من املؤكد أن ضعف اللغة من األسباب اليت تؤثر على اساعتقاد‪.‬‬

‫الناس كلهم يقولون‪" :‬سا إله إسا هللا"‪ .‬ونشعر أن قوهلا سهل‪ ،‬لكن ما هبم كفار قريش مل يقولوها ابلرغم من ذل ؟! السبب‪:‬‬
‫أصال‪ ،‬فلو أننا عرفنا معىن اسم (هللا) فقط‬
‫أهنم فهموا معناها‪ .‬لكن الذي يرددها اليوم يفعل ضدها؛ ألنه سا يدري ما معناها ً‬
‫حلُلَّت مشاكل كثرية يف حياتنا‪ ،‬لكننا نردد هذا اساسم العظيم دون أن نَعي معناه‪ ،‬وهذا بسبب ضعف اللغة‪.‬‬

‫أيضا من األسباب املؤثرة على اساعتقاد‪ ،‬وأسباب أخرى كثرية اجتمعت على بعض‪ ،‬وأخرجت هذا‬
‫واإلمهال ألخبار هللا ً‬
‫وجل‪-‬أن يكشف الغُمة عنا‪ ،‬وأن نكون سببًا حقًّا لكشف الغمة‪ ،‬وصحيح أننا نقول كل‬
‫عز َّ‬
‫النموذج من اجليل أسأل هللا‪َّ -‬‬
‫دقيقة‪ :‬حنن يف فنت‪ .‬وتأتينا اساكتئاب بسبب هذا‪ ،‬لكن مع ذل نسأل هللا أن يرفع راية التوحيد‪ ،‬ويقوي هذه البالد املباركة‪،‬‬
‫ويعوضنا مبن يسري يف مسرية األسالف يف الدعوة للتوحيد!‬

‫‪10‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫درسا من ‪15‬‬ ‫ً‬ ‫صحيح أننا نعيش يف فنت‪ ،‬لكن يف املقابل نرى وسائل الدعوة إىل هللا اليوم يسرية‪ .‬تسمع وأنت يف فراش‬
‫دقيقة‪ ،‬أو يرسل ل أحدهم كلمتني من كالم أهل العلم‪ ،‬فأصبحت دجين من مثار العلم‪ ،‬وهذا يرفع عن ذاك‪ ،‬وهذا ابلطبع ل َمن‬
‫ص َدق‪ ،‬وها هم أهل السنة واجلماعة بفضل هللا هلم صوت يف األرض كلها‪ ،‬نسأل هللا أن يقوي صوهتم!‬
‫َ‬

‫حنن نقول‪ :‬سا َتيت لنفس ابساكتئاب وأنت تفكر فقط يف الزاوية السوداء وأن الفنت قوية‪ ،‬وإمنا فَكر يف اجلهة األخرى‪ :‬اآلن‬
‫خريا وبركة؟! صحيح أن الفنت‬
‫وأنت يف بيت تستطيع أن تدرس وتتعلم‪ ،‬والناس يف آخر الدنيا يستطيعون أن يتعلموا‪ ،‬أليس هذا ً‬
‫أيضا ارتفعت‪ ،‬الناس كلهم يتحركون ابدجاه العلم‪-‬صحيح أهنا حركة بطيئة‪ ،‬لكن هناك حركة‪،-‬‬
‫ارتفعت‪ ،‬لكن وجوه اخلري ً‬
‫والتقصري الذي مضى انتهى‪ ،‬وغفر هللا عما سلف‪.‬‬

‫لما وُك ِش َفت عنه غُ ّمة اجلهل جيب أن يُف ّكر يف تقوية نفسه‪ ،‬ويف إمداد عمره أبحد بعده‪ .‬اعمل ل‬ ‫ِ‬
‫كل من رزقه هللا ع ً‬
‫ًّ‬
‫صفا اثنيًا يبقى بعد موت ! تُعلمه وتُفهمه‪ ،‬وتبذل جهدك يف ذل ‪ ،‬وتنقل له بدون خبل‪ .‬قل لنفس ‪ :‬سأموت قريبًا‪ ،‬وما مضى‬
‫ليس أكثر ما سيأيت‪ ،‬وهلذا سابد أن أكون يل صفًّا اثنيًا‪ ،‬من شخصني أو ثالثة‪ ،‬أربعة‪ ،‬عشرة‪ ،‬الذي أستطيعه! وأبذل جهدي‬
‫وهنارا لعلهم يستمرون يف الدعوة إىل هللا ويف نشر العلم‪ ،‬فيكونون استمر ًارا يل‪ ،‬سا بد من تكوين صف اثن من كل مكان‪،‬‬
‫ليال ً‬‫ً‬
‫البد من نشر عقيدة أهل السنة واجلماعة ابلتوريث‪ ،‬فالعلم يـُ َوَّرث‪ ،‬نسأل هللا أن يفتح لنا ً‬
‫مجيعا!‬

‫ذكران أصلني يف عقيدتنا يف جادة أهل السنة يف هذا الباب‪:‬‬

‫وجل‪-‬ملا أخربان عن أمسائه وصفاته أخربان هبا من أجل أن نعتقدها‪.‬‬


‫عز َّ‬
‫األصل األول‪ :‬اتفقنا أن هللا‪َّ -‬‬

‫األصل الثاين‪ :‬أنه سا َمسي له‪ ،‬وسا ُك مفؤ‪ ،‬وسا ند‪.‬‬

‫واملفرتض أن جنمع بني األصلني‪ :‬فنعتقد أمساءه وصفاته دون أن يقع منا أي متثيل‪.‬‬

‫‪ ‬اثلثًا‪:‬‬

‫وجل‪-‬وصفاته جيب أن مير‪-‬على األقل‪-‬أبربع مراحل‪:‬‬


‫عز َّ‬
‫تعلم أمساء هللا‪َّ -‬‬

‫‪ ‬املرحلة األوىل‪ :‬اإلمجال يف إثبات األمساء والصفات أبدلتها‪.‬‬


‫‪11‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫جممال]‪ُ ،‬مر على كل األمساء‬


‫تعرف اساسم‪ ،‬وتعرف أنه اثبت بدليل كذا‪ ،‬وتعرف معناه على اإلمجال [اساسم‪ ،‬ودليله‪ ،‬ومعناه ً‬
‫هبذه الطريقة إىل أن تعرف هل هذا امسًا هلل أم سا؟‬

‫أيضا‪.‬‬
‫وجل‪-‬وصفاته بشواهدها ً‬ ‫‪ ‬املرحلة الثانية‪ :‬التفصيل يف معرفة أمساء هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬

‫قليال‪ ،‬وأنخذ األدلة اليت تدل على املعاين التفصيلية؛ ألن كل اسم له معان تفصيلية‪ ،‬وتظهر آاثره يف كذا‬
‫نتقدم هبذه اخلطوة ً‬
‫وكذا‪.‬‬

‫وجل‪-‬وصفاته على وجه اإلمجال‪.‬‬ ‫‪ ‬املرحلة الثالثة‪ :‬دراسة حال املـُخالفني يف أمساء هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬

‫تعرف أن هناك من ينفي صفات هللا‪ ،‬تعرف أن هناك من عطلها‪ ،‬تعرف أن هناك من سا يؤمن أن هللا ينزل‪ ،‬تعرف كل هذا‬
‫خصوصا أن هللا ابتلى أهل السنة واجلماعة هبؤساء (الروافض) الذين أتوا إىل كل‬
‫ً‬ ‫ابإلمجال حىت سا يهامج هذا الفكر املخالف‪،‬‬
‫أصول الدين فشوهوها‪ ،‬أتوا إىل توحيد األلوهية فشوهوه‪ ،‬أتوا إىل توحيد األمساء والصفات فشوهوه‪ .‬هؤساء هلم صفة املـَ مكر؛ ألهنم‬
‫سا يقولون ل مباشرة‪ :‬حنن كذا وكذا‪ ،...‬وإمنا يُلقون علي الشبَه‪ ،‬فأنت افهم على وجه العموم حال هؤساء الـ ُمخالفني‪،‬‬
‫ومبجرد أن تسمع َمن يُلقي علي الشبَه ُسد أذني ‪ ،‬وقل‪ :‬أان جاهل‪ ،‬وهناك َمن له علم يف هذه األمور‪ ،‬ويعرف كيف يرد‬
‫صا لكي أطبب ‪ .‬فهل‬ ‫علي ‪ ،‬نعم‪ ،‬أان اآلن صحيح بفضل هللا‪ ،‬وأعتقد ما اعتقده الصحابة والتابعني‪ ،‬لكين لست طبيبًا متخص ً‬
‫تأيت املريض لغري الطبيب‪ ،‬ويقول له‪ :‬طَببين‪ ،‬أان عندي املرض الفالين؟! سا! وإمنا يذهب للطبيب‪.‬‬

‫مثال‪-‬على موقع من املواقع كال‪-‬‬


‫سرا‪ ،‬فهم مجاعة مرتبة‪ ،‬يدخل أحدهم‪ً -‬‬
‫واعلموا أن هؤساء ختصصوا فينا وهذا ليس ًّ‬
‫"فيسبوك" أو غريه‪ ،‬ويقول ل ‪ :‬أان أريد أن أستقيم على الدين‪-‬هذا لو كان من الروافض‪ ،‬والنصراين يقول ل ‪ :‬أان أريد أن‬
‫أسلم‪ ،‬لكن جاوبوين على هذا السؤال‪ .‬وهذا السؤال عبارة عن ماذا؟ عبارة عن ُشبهة يلقيها يف قلب من أجل أن تستقبلها‪،‬‬
‫وتدخل يف الش ‪ ،‬وقد عومل هؤساء من بعض َمن فهم حاهلم‪ ،‬فيقول له‪ :‬إذا عندك ُشبَه سأقابل ومعي الشيخ الفالين‪ ،‬قل له‬
‫أصال متخصص يف‬ ‫كل ما عندك‪ ،‬وهو سريشدك‪ .‬ودجده‪-‬هذا الرافضي أو النصراين‪-‬بعد هذا يذهب‪ ،‬وسا يرينا وجهه!! ألنه ً‬
‫هذه العملية‪ .‬وهذا هو م مكر الليل والنهار! وهلذا سا بد أن تفهموا هذه األمور‪ ،‬وحنن سا نريد أن نقول إهنا أمور ُمَطَّط هلا‪ ،‬ولكن‬
‫سنقول إن الساحة مسحت هبا‪ ،‬الوضع العام مسح ملثل هؤساء أبن ُخيرجوا رؤوسهم لنا‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫إذًا يف املرحلة الثالثة‪ :‬تعرف على حال املخالفني على وجه اإلمجال‪ ،‬أهنم نفوا كذا‪ ،‬وأنكروا كذا من صفات هللا‪ ،‬لكن بعد‬
‫أيضا على وجه‬
‫ً‬ ‫املرور ابملرحلتني السابقة ابلطبع‪ ،‬بعدما تعرف أمساء هللا وصفاته وأفعاله على وجه اإلمجال‪ ،‬وبعدما تعرف ذل‬
‫التفصيل‪.‬‬

‫‪ ‬املرحلة الرابعة‪-‬وهي ملن ختصص يف هذا الباب‪ :-‬أن يعرف كيف يرد على هؤساء املخالفني على وجه التفصيل‪.‬‬

‫فمن سار هذا الطريق وكانت عنده األدلة سيصل يف النهاية ملعرفة كيفية الرد عليهم‪ ،‬فهو سيدرس "الطحاوية" و"التدمرية"‬
‫و"الواسطية" وتفصيلها‪-‬والواسطية من النوع الثاين والثالث وليس الرابع‪ ،‬لكن التدمرية والطحاوية من النوع الرابع‪ ،-‬وهذه بعض‬
‫الرسائل ألهل العلم الكبار‪ ،‬اليت ردوا فيها على املخالفني‪.‬‬

‫عقائدكم أمانة حتملوهنا!! ستُسألون يوم القيامة‪ :‬ماذا كنتم تظنون يف ربكم؟ جيب أن تكون عقيدت يف هللا من أوضح ما‬
‫يكون‪ ،‬وهذه العقيدة كما أهنا أمانة يف عنق أنت ستُسأل عنها‪ ،‬ستُسأل على ماذا ربيت ولدك من العقائد؟ سا يوجد مدرسة‬
‫ختتربه يف هذا‪ ،‬أنت لقمنه ولقمنه! مث يوم القيامة اعتذر لرب أن َّلقنته ما تستطيع‪ ،‬لكن املشكلة هي أن أكون أان بنفسي جاهلة‪،‬‬
‫سا أعرف هللا‪ ،‬وسا أعرف أمساءه وصفاته وأفعاله على وجه التفصيل‪ ،‬وليس يف قليب التعظيم الالزم؛ ألن التعظيم ال أييت من‬
‫ث من اآلابء ألبنائهم‪ ،‬روح حيملها من‬
‫فراغ‪ ،‬التعظيم أييت بعدما جتمع يف قلبك معاين أمسائه وصفاته‪ ،‬والتعظيم هذا روح تُـبَ ّ‬
‫ِ‬
‫تستخسر يف هذا جه ًدا‪ ،‬بل املفرتض أن تكون حياتك كلها من أجل معرفة هللا‪.‬‬ ‫ف هللا‪ ،‬فالبد من بذل اجلهد‪ ،‬وال‬
‫َع َر َ‬

‫وجل‪-‬وصفاته خطة طويلة املدى ملن أراد أن يسري فيها‪ ،‬وأنت على أقل‬ ‫وهذه األربعة املراحل لتعلُّم أمساء هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫تقدير تعال ابلثالثة األوىل‪.‬‬

‫واملقصد أننا نريد أن نقضي وقت هذه اللقاءات من أجل أن نقول‪ :‬اي ربنا أان أريد أن تكون عقيديت صحيحة‪ ،‬وأن ألقاك‬
‫وأان صاحب ُمعتَـ َقد صحيح‪ ،‬فأ مُع َذر هبذا اساعتقاد! طلب العلم يف هذا الباب ابب العقيدة من األولوايت اليت علينا مسؤوليتها‪،‬‬
‫والواقع اليوم يشهد أن هذه املسؤولية مسؤولية خطرية‪ ،‬مبعىن أن إن مل تكن على علم أبمساء هللا وصفاته‪ ،‬وعلى علم أبصول‬
‫وجل‪-‬أن‬
‫عز َّ‬
‫دين ‪ ،‬فال تستغرب أن دجد حول اإلحلاد! وسا تستغرب أن خيرج من بيوت أهل اإلميان ملحدون! فنسأل هللا‪َّ -‬‬
‫يَقينا شر أنفسنا‪ ،‬ويَقي أوسادان ذل !‬

‫‪13‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫طلب الوقاية هذا حيتاج إىل ُجهد‪ ،‬وهذا الذي نفعله هو ُجهد املـُقل‪ ،‬فوقت هذه اللقاءات من هذه اإلجازة الطويلة ومقابل‬
‫هذا العمر والنعم العظيمة سا يعترب شيئًا! مث أن وقت هذه اللقاءات كلها على بعضها سا شيء يف نفس حبر العلم‪ ،‬لكننا فقط‬
‫وجل‪-‬أن يفتح علينا هبذا العمل أبو ًااب للعلم‪ ،‬ويثبت اإلميان يف قلوبنا وقلوب‬
‫عز َّ‬
‫نعتذر إىل هللا أننا نعتين بعقائدان‪ ،‬عل هللا‪َّ -‬‬
‫وجل‪-‬أن تكون هذه الساعات العظيمة من حياتنا طلبًا للعلم وسببًا لزايدة اإلميان‪ .‬وأول وأهم‬
‫عز َّ‬
‫أبنائنا‪ ،‬وحنتسب على هللا‪َّ -‬‬
‫أسباب زايدة اإلميان‪-‬كما اتفقنا ساب ًقا‪ :-‬العلم النافع‪ .‬فنحن حنتسب على هللا الطلب‪ ،‬وخروجنا له‪ ،‬واجتماعنا يف هذه‬
‫وجل‪-‬أن يزيد إمياين وإميانكم‪ ،‬وأن جيمع قلوبنا على توحيده‪ ،‬له‬
‫عز َّ‬
‫الساعات املباركة أن تكون طلبًا لزايدة اإلميان‪ ،‬فأسأل هللا‪َّ -‬‬
‫وظاهرا وابطنًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وآخرا‪،‬‬
‫أوسا ً‬
‫احلمد ً‬

‫*أذكركم ابلواجب‪ :‬يفرتض أن تقرؤوا آل عمران من أوهلا آلخرها‪ ،‬وحتددوا تقريبًا موضوعها‪.‬‬

‫خريا‪.‬‬
‫جزاكم هللا ً‬

‫‪14‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء الثاين‬

‫‪15‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫طريقة الدراسة‪:‬‬

‫اتفقنا ساب ًقا على أربع خطوات للدراسة‪:‬‬

‫وجل‪-‬على وجه اإلمجال‪ ،‬مبعىن‪:‬‬


‫عز َّ‬
‫اخلطوة األوىل‪ :‬أن أعرف معاين أمساء هللا‪َّ -‬‬

‫‪ ‬مأد ُرس كل اسم من أمساء هللا‪.‬‬

‫‪ ‬أعرف أين ثبت‪.‬‬

‫‪ ‬أعرف معىن اساسم على وجه اإلمجال‪ ،‬وشيء من تفاصيل املعىن‪.‬‬

‫أحتول من هذا إىل القرآن‪ ،‬فأرى آاثر هذا اساسم يف القرآن‪.‬‬


‫اخلطوة الثانية‪َّ :‬‬

‫مثال‪ :‬اسم هللا (القيوم)‪ :‬سأحبث عن آاثر قيوميَّته يف كل شيء‪ ،‬اسم هللا (احلكيم)‪ :‬سأحبث عن آاثر حكمته يف كل شيء‪،‬‬
‫الوهاب)‪ :‬سأرى ما هي اهلبات اليت يهبُها للخلق‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫اسم هللا ( َّ‬

‫إ ًذا‪ :‬سأتعلم معىن االسم على وجه اإلمجال من كتب مثل كتاب "فقه األمساء احلسىن"‪ ،‬مث بعد ذلك أخرج إىل القرآن‬
‫ألجد شواهد على هذا االسم‪.‬‬

‫سنبدأ اليوم ابخلطوة األوىل‪ ،‬وغالبًا ما تكون اخلطوة األوىل سريعة إذا كنا سنأيت ابلثانية‪ ،‬وتكون الدراسة بطيئة إذا أدخلنا‬
‫معا‪ -،‬درسنا اسم الودود يف السنة املاضية وأدخلنا اخلطوتني يف نفس الوقت‪ ،‬فأخذان معناه على وجه العموم مث مباشرة‬ ‫اخلطوتني ً‬
‫املرة سنفصل بني اخلطوتني‪:‬‬
‫أخذان شواهده من القرآن‪-‬لكننا هذه َّ‬

‫‪ ‬سأقرأ املعىن من كتاب "فقه األمساء"‪-‬كأن اآلن تقرئني بنفس ‪.-‬‬

‫مث نتدرب بعد ذل على فتح املصحف‪ ،‬ورؤية آاثر احلكمة يف النصوص‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫بسم هللا‪...‬‬

‫‪16‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫دائما عندما نبدأ يف دراسة األمساء نسأل أهم سؤال‪ :‬ما دليلي على أنه اسم؟ هذا أهم سؤال جيب أن يكون اثبتًا يف ذهن ‪،‬‬
‫ً‬
‫ما دليل على أن (الوهاب) اسم من أمساء هللا؟ فأحفظ كذا وكذا من األدلَّة‪ .‬ما دليل أن القيوم من أمساء هللا؟ أحفظ كذا‬
‫وكذا‪.‬‬

‫ما دليلك أن (احلكيم) من أمساء هللا؟‬

‫يقول الشيخ عبدالرزاق البدر‪-‬حفظه هللا‪" :-‬وقد ورد اسم هللا (احلكيم) يف القرآن الكرمي ما يقرب من مائة مرة‪ ،‬قال‬
‫يم}(‪ ،)3‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫اَّلل َع ِزيز ح ِكيم}(‪ ،)2‬وقال تعاىل‪{ :‬و َّ ِ‬ ‫ِ (‪)1‬‬ ‫ِ‬
‫يم َحك ٌ‬
‫اَّللُ َعل ٌ‬ ‫َ‬ ‫اخلَبريُ} ‪ ،‬وقال تعاىل‪َ { :‬و َُّ ٌ َ ٌ‬
‫يم ْ‬ ‫تعاىل‪َ { :‬و ُه َو ا ْحلَك ُ‬
‫يما}(‪".)4‬‬ ‫ِ‬ ‫{وَكا َن َّ ِ‬
‫اَّللُ َواس ًعا َحك ً‬ ‫َ‬

‫أمورا‪:‬‬
‫سنالحظ هنا ً‬

‫‪ ‬األمر األول‪ :‬أمر واضح وهو‪ :‬أن هذا اساسم َّ‬


‫تكرر يف القرآن ما يقارب مائة مرة‪.‬‬

‫األمر الثاين‪ :‬سنالحظ أنه اقرتن أبمساء متعددة‪ ،‬منها‪ :‬اخلبري‪ ،‬العزيز‪ ،‬العليم‪ ،‬الواسع‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ما املفرتض فعله يف هذه اخلطوة؟‬

‫املفرتض أن َتيت من "املعجم املفهرس أللفاظ القرآن" ابملائة موضع اليت ورد فيها اسم احلكيم‪ ،‬فتبدئني من اليوم بكتابة‪ :‬ورد‬
‫اسم احلكيم يف آية كذا واقرتن بكذا‪ ،...‬وتقومني بعمل جدول‪:‬‬

‫(منوذج جلدول اساستقراء)‬

‫اساسم املقرتن مع اسم (احلكيم)‬ ‫رقم اآلية‬ ‫السورة‬ ‫اآلية‬

‫الواسع‬ ‫‪130‬‬ ‫النساء‬ ‫يما}‬


‫اَّللُ َواس ًعا َحك ً‬
‫قال تعاىل‪َ { :‬وَكا َن َّ‬

‫)‪[ (1‬سورة األنعام‪]18 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة البقرة‪]228 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة النساء‪]26 :‬‬
‫)‪[ (4‬سورة النساء‪]130 :‬‬
‫‪17‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫أحدا من َخلقه‪.‬‬
‫وجل‪-‬هبا ً‬
‫عز َّ‬
‫*مالحظة مهمة‪ :‬سا ُختطئوا فتَصفوا هللا بصفة وصف هللا‪َّ -‬‬

‫مرة‪ .‬مث‬
‫مثال‪ :‬يف دجربة قريبة قمنا هبا مع اسم الرؤوف‪ :‬الرؤوف ورد يف القرآن عشر مرات‪ ،‬فقالوا يل‪ :‬إنه ورد إحدى عشر َّ‬
‫ً‬
‫سواي‪ .‬فعددانها إىل أن وصلنا لسورة ال توبة‪ ،‬فقالوا‪ :‬ورد يف التوبة مرتني‪ .‬فماذا كان اخللل؟ أنه ورد فيها‬ ‫قلنا‪ :‬سا أبس‪َّ ،‬‬
‫سنعدها ًّ‬
‫وص ًفا للنيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ ،-‬أن النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬رؤوف‪ .‬فوقع هذا اخلطأ‪ ،‬فمن الضروري عند املالحظة أن‬
‫ودائما ما يقع هذا اخلطأ يف امسي الرؤوف والشكور؛ ألن هللا وصف نوح‪-‬‬
‫وجل‪ً ،-‬‬
‫عز َّ‬
‫تتأكدي أبن اساسم ورد هنا يف حق هللا‪َّ -‬‬
‫عليه السالم‪-‬أبنه عبد شكور‪ ،‬وأن النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬رؤوف‪.‬‬

‫دال على ثبوت كمال احلُكم هلل وكمال احلِكمة "‬


‫قال‪ " :‬وهذا االسم العظيم ٌّ‬

‫معا‪:‬‬
‫سيتضمن معنيان ً‬
‫ّ‬ ‫األويل‬
‫إذًا معناه َّ‬

‫كمال احلُكم‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫كمال احلِكمة‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫وسيشرح اآلن كال املعنيني‪ ،‬قال‪ّ " :‬أما كمال احلُكم فبثبوت أن احلُكم هلل وحده حيكم بني عباده مبا يشاء‪ ،‬ويقضي فيهم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َك ِم ا ْحلَاك ِم َ‬ ‫اَّللُ ِأب ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫ويسمى هذا جواب‬ ‫ني} " اجلواب‪ :‬بلى‪َّ .‬‬ ‫س َّ‬ ‫اد حلكمه‪ ،‬وال مع ّقب لقضائه‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬أَلَْي َ‬ ‫مبا يريد‪ ،‬ال ر َّ‬
‫ني}(‪ ،)3‬وقال تعاىل‪{:‬إِ ِن ا ْحلُ ْك ُم إَِّال‬ ‫ِ‬ ‫منفي‪" .‬وقال تعاىل‪{ :‬أَفَـغَيـر َِّ ِ‬
‫اَّلل أَبْـتَغي َح َك ًما} ‪ ،‬وقال تعاىل‪َ { :‬و ُه َو َخ ْيـ ُر ا ْحلَاك ِم َ‬
‫(‪)2‬‬
‫َْ‬
‫(‪)5‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ (‪)4‬‬
‫ضا‬‫َح ًدا} ‪ ،‬وليس ألحد أن يراجع هللا يف حكمه كما يراجع الناس بعضهم بع ً‬ ‫ََّّلل} ‪ ،‬وقال تعاىل‪َ { :‬وَال يُ ْش ِر ُك ِيف ُح ْكمه أ َ‬
‫اب}(‪ ،)6‬فحكمه يف خلقه انفذ ال ر َّ‬ ‫يع ا ْحلِس ِ‬ ‫اَّلل َْحي ُكم َال مع ِّق ِ ِ ِ‬
‫اد له‪".‬‬ ‫ب حلُ ْكمه َو ُه َو َس ِر ُ َ‬ ‫يف أحكامهم‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬و َُّ ُ ُ َ َ‬

‫املعىن واضح على وجه العموم‪ ،‬وساحظوا أننا ندرس دراسة َّأولية فنأخذ اجململ‪ ،‬مث بعد هذا سننتقل وأنخذ التفصيل‪-‬إن شاء‬
‫هللا‪.-‬‬

‫)‪[ (1‬سورة التني‪]8 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة األنعام‪]114 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة األعراف‪]87 :‬‬
‫)‪[ )4‬سورة األنعام‪]57 :‬‬
‫)‪[ )5‬سورة الكهف‪]26 :‬‬
‫)‪[ (6‬سورة الرعد‪]41 :‬‬
‫‪18‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ماذا فهمنا اآلن؟ فهمنا أن احلُكم هلل حيكم بني عباده كما يشاء‪ ،‬ويقضي بينهم كما يريد‪ ،‬ال ر َّ‬
‫اد حلكمه‪ ،‬وال يستطيع‬
‫أحد أن يراجع هللا يف حكمه‪.‬‬
‫ماذا نعتقد يف حكمه؟ نعتقد أنه خري احلاكمني وأحكم احلاكمني‪.‬‬
‫مسيعا‬
‫قال‪ " :‬وثبوت احلكم له سبحانه يتضمن ثبوت مجيع األمساء احلسىن والصفات العلُيا؛ ألنه ال يكون َح َك ًما إال ً‬
‫خبريا متك ِلّ ًما مدبًِّرا‪ ،‬إىل غري ذلك من األمساء والصفات‪" .‬‬
‫عليما ً‬
‫بصريا ً‬
‫ً‬
‫يعين كون تثبتني أن هللا حكيم حيكم بني عباده‪ ،‬إذًا أنت تثبتني أنه مسيع‪ ،‬بصري‪ ،‬عليم‪ ،‬قريب‪ ،‬متكلم‪ ،‬تثبتني مجلة عظيمة‬
‫من صفاته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬الالزمة لثبوت احلكم هلل‪.‬‬
‫قال‪ " :‬ويف هذا إبطال جلعل احلكم لغري هللا؛ ألن احلكم ال يكون َّإال لكامل الصفات الذي له األمر‪ ،‬وبيده التصرف‪،‬‬
‫اَّللُ َال إِلَ َه إَِّال ُه َو لَهُ ا ْحلَ ْم ُد ِيف ْاأل َ‬
‫ُوىل‬ ‫وأتمل هذا املعىن يف قوله تعاىل‪{ :‬فَا ْحل ْكم َِِّ‬
‫َّلل ال َْعلِ ِّي الْ َكبِ ِري}(‪ ،)1‬وقوله تعاىل‪َ { :‬و ُه َو َّ‬ ‫َّ‬
‫ُ ُ‬
‫َو ْاآل ِخ َرةِ َولَهُ ا ْحلُ ْك ُم َوإِلَْي ِه تُـ ْر َجعُو َن}(‪ ".)2‬أي‪ :‬ألنه هللا اإلله الذي سا إله إسا هو فإنه ُحي َمد على ذل يف األوىل واآلخرة‪ ،‬وما‬
‫يستحقه‪ :‬احلُكم؛ ل‪َ -‬ما له من متام األلوهية‪.‬‬
‫قال‪" :‬وقوله تعاىل‪{ :‬وما ا ْختـلَ ْفتم فِ ِيه ِمن َشي ٍء فَح ْكمه إِ َىل َِّ‬
‫اَّلل}(‪ ")3‬أي‪ :‬يـَُرد إىل كتاب هللا وسنَّة النيب‪-‬صلَّى هللا عليه‬ ‫ْ ُ ُُ‬ ‫ََ َ ُْ‬
‫وسلَّم‪ ،-‬فما َح َك َما به فهو احلق‪ ،‬وما خالفهما فهو ابطل‪.‬‬

‫ْت َوإِلَْي ِه أُنِيب}(‪")4‬‬ ‫قال‪ " :‬مث قال ُمبَـيِّنًا صفات من له احلكم‪َ { :‬ذلِ ُك ُم َّ‬
‫اَّللُ َرِّّب َعلَْي ِه تَـ َوَّكل ُ‬

‫أول وصف‪َ { :‬علَميه تَـ َوَّك مل ُ‬


‫ت} أي‪ :‬اعتمدت عليه بقليب يف جلب املنافع ودفع املضار واث ًقا به‪.‬‬

‫انظري هلذه اآلايت املتتابعة يف الشورى‪:‬‬

‫يب}‪ ،‬أي‪ :‬بعدما أخرب‪-‬سبحانه‬ ‫ممهُ إ َىل هللا َذل ُك ُم هللاُ َرب َعلَميه تَـ َوَّك مل ُ‬
‫ت َوإلَميه أُن ُ‬ ‫اختَـلَ مفتُ مم فيه م من َش ميء فَ ُحك ُ‬
‫األوىل‪َ { :‬وَما م‬
‫ت}‬ ‫وتعاىل‪-‬أن ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه يـَُرد إىل هللا‪ ،‬قال ُمبَـينًا صفات من له احلكم‪ :‬هو هللا رب الذي { َعلَميه تَـ َوَّك مل ُ‬
‫أتوجه له بقليب وبدين‪.‬‬
‫يب} أي‪َّ :‬‬
‫أي‪ :‬اعتمدت عليه واطمأننت له‪َ { ،‬وإلَميه أُن ُ‬

‫)‪[ (1‬سورة غافر‪]12 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة القصص‪]70 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة الشورى‪]10 :‬‬
‫)‪[ (4‬سورة الشورى‪]10 :‬‬
‫‪19‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اجا} ماذا يفعل لكم؟ {يَ مذ َرُؤُك مم فيه} أي‪:‬‬ ‫الس َم َاوات َواأل مَرض َج َع َل لَ ُك مم م من أَنمـ ُفس ُك مم أ مَزَو ً‬
‫اجا َوم َن األَنمـ َعام أ مَزَو ً‬ ‫الثانية‪{ :‬فَاط ُر َّ‬
‫س َكمثمله َش ميءٌ‬
‫اجا‪{ ،‬لَمي َ‬
‫اجا‪ ،‬وجعل لكم ألنعامكم أزو ً‬
‫يبثكم ويكثركم‪ ،‬ويكثر مواشيكم بسبب أنه جعل لكم من أنفسكم أزو ً‬
‫يع البَصريُ}(‪.)1‬‬
‫السم ُ‬
‫َوُه َو َّ‬

‫يم}(‪.)2‬‬
‫ط الرمز َق ل َمن يَ َشاءُ َويـَ مقد ُر إنَّهُ ب ُكل َش ميء َعل ٌ‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَرض يـَمب ُس ُ‬
‫يد َّ‬
‫الثالثة‪{ :‬لَهُ َم َقال ُ‬

‫إ ًذا‪ :‬من صفاته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬أنه ربنا‪ ،‬وأن عليه اساعتماد وإليه اإلانبة‪ ،‬وهو فاطر السماوات‪ ،‬وهو الذي كثران وأعطاان‪،‬‬
‫وهو‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصري‪ ،‬له مقاليد السماوات واألرض‪ ،‬ماذا يفعل للخلق؟ يبسط الرزق ملن‬
‫يشاء ويقدر‪ ،‬فيوسع على قوم‪ ،‬ويضيق على قوم‪ ،‬وهو بكل شي عليم‪.‬‬

‫ِ‬
‫يشرع وحيلّل وحي ِّرم‪َ ،‬‬
‫وج ْع ُل ذلك لغريه أظلم الظلم‬ ‫يقول‪ " :‬أي‪ :‬أن الذي له هذه الصفات هو الذي يستحق أن ِّ‬
‫اَّلل ُح ْك ًما لَِّق ْوٍم يُوقِنُو َن}(‪.")3‬‬
‫اه ِليَّ ِة يـبـغُو َن ومن أَحسن ِمن َِّ‬
‫َْ َ َ ْ ْ َ ُ َ‬
‫وأعظم اجلور {أَفَح ْكم ا ْجل ِ‬
‫ُ َ َ‬

‫أي‪ :‬أن آية الشورى تُبني ل أنه سا يستحق احلكم َّإسا َمن خلق وأعطى ورزق‪َ ،‬‬
‫ومن قليب إليه مطمئن هو الذي يستحق أن‬
‫حيكم بني اخللق‪ ،‬وهو حقيقةً حيكم فيهم أبن يبسط ملن يشاء األرزاق‪ ،‬ويقدر على من يشاء األرزاق‪ ،‬وهو‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬‬
‫يع البَصريُ} جاء يف سياق إثبات احلكم له‪ ،‬أي‪ :‬هو‬‫السم ُ‬
‫س َكمثمله َش ميءٌ َوُه َو َّ‬
‫ليس كمثله شيء‪ ،‬وساحظي قوله تعاىل‪{ :‬لَمي َ‬
‫خريا َّإسا فيه‪ ،‬وكل أحد غري‬
‫س َكمثمله َش ميءٌ} ليس كوصفه أحد من اخللق‪ ،‬فال تظن ً‬ ‫وحده يستحق أن حيكم وسا أحد مثله‪{ ،‬لَمي َ‬
‫وجل‪-‬تعاىل عن ذل كله‪.‬‬ ‫هللا وإن َح َكم فال بد أن يتخطَّفه هواه أو يرتكب األخطاء‪ ،‬وهللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬

‫فرد ابلذل واخلضوع‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬إِ ِن‬ ‫قال‪ " :‬كما أن يف ذلك داللة على أن َمن هذه شأنه هو املستحق وحده أن يُ َ‬
‫ين ال َقيِّ ُم َولَ ِك َّن أَ ْكثَـ َر الن ِ‬
‫َّاس َال يَـ ْعلَ ُمو َن}(‪{ .")4‬أَ مكثَـَر النَّاس َسا يـَ معلَ ُمو َن} ماذا؟‬ ‫ِ ِ‬
‫هلل أَمر أ ََّال تَـعب ُدوا إَِّال إِ ََّّيهُ ذَلِ َ ِ‬
‫ك ال ّد ُ‬ ‫ُْ‬ ‫احلُ ْك ُم إ َّال َ َ‬
‫أكثر الناس سا يعلمون أن هذا الدين هو الذي يُقيمهم‪ ،‬ملاذا؟ ألهنم يستجيبون لنزعات أهوائهم‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة الشورى‪]11 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة الشورى‪]12 :‬‬
‫)‪[ )3‬سورة املائدة‪]50 :‬‬
‫)‪( )4‬سورة يوسف‪)40 :‬‬
‫‪20‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫َخ َر َال إِلَهَ إَِّال ُه َو ُك ُّل َش ْي ٍء َهالِ ٌ‬


‫ك إَِّال َو ْج َههُ لَهُ احلُ ْك ُم َوإِلَْي ِه تُـ ْر َجعُو َن}(‪.)1‬‬ ‫قال‪ " :‬وقال تعاىل‪{ :‬وَال تَ ْدع مع ِ‬
‫هللا إِ ََلًا آ َ‬ ‫ُ ََ‬ ‫َ‬
‫ومن أمساء هللا‪( :‬احلَ َكم)‪ ،‬ففي احلديث عن هانئ بن يزيد احلارثي‪ :‬أنه ملا وفد إىل الرسول‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬مع قومه‬
‫كىن‬ ‫مسعهم يكنّونه أبّب احلكم‪ ،‬فدعاه رسول هللا‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬فقال‪" :‬إن هللا تعاىل هو احل َكم وإليه احلكم‪ِ ،‬‬
‫فل َم تُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فرضي كِال الفريقني‪ .‬فقال رسول هللا‪-‬صلَّى هللا‬ ‫َ‬ ‫فحكمت بينهم‬
‫ُ‬ ‫أاب احلكم؟" فقال‪ :‬إن قومي إذا اختلفوا يف شيء أتوين‬
‫عليه وسلَّم‪" :-‬ما أحسن هذا‪ ،‬فما لك من الولد؟" قال‪ :‬يل ُش َريح ومسلم وعبد هللا‪ .‬قال‪" :‬فمن أكربهم؟" قلت‪ُ :‬ش َريح‪.‬‬
‫قال‪" :‬فأنت أبو ُش َريح‪")2(.‬‬

‫غري الرسول‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬كنيته ألن هذا اساسم خاص هلل‪ ،‬وقد كناه قومه ب‪-‬أب احلكم ملشاعرهم دجاهه‪ ،‬فهم‬
‫الحظ فيه‬
‫سمى به أحد وهو يُ َ‬
‫يالحظون فيه صفة أنه حيكم بينهم فيعدل يف حكمه‪ .‬إ ًذا هذا اساسم‪-‬احلَ َكم‪-‬اسم خاص هلل‪ ،‬سا يُ َّ‬
‫مثال‪ :-‬هذا َحكم املباراة‪ ،‬هذا حاكم يف هذه املسابقة‪ .‬فهذا سا أبس به‪ ،‬لكن مىت يكون اسم‬
‫معىن الصفة‪ ،‬لكن عندما يقولون‪ً -‬‬
‫منوعا؟ إذا لوحظت الصفة فيمن تسمى به‪ ،‬كأن حيكم يف شؤوهنم‪ ،‬ويرضون حبكمه‪ ،‬سا أن يُقيَّد حبال‪ ،‬وإمنا على وجه‬
‫(احلَكم) ً‬
‫اإلطالق‪.‬‬

‫إ ًذا‪ :‬اسم هللا احلكيم حيمل معنيني‪-‬كما اتفقنا‪:-‬‬

‫احلُكم‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫احلكمة‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫وجل‪ ،-‬وأخذان معىن أن له احلُكم‪ ،‬وكيف أنه سا ر َّاد‬


‫عز َّ‬
‫عاما حول أن احلُكم هلل‪َّ -‬‬
‫كالما ًّ‬
‫وكل ما مضى من نقاش كان ً‬
‫حلُكمه‪ ،‬وأن ُحكمه هو الصواب‪ ،‬وأنه جيب علينا أن نستسلم حلُكمه ملا له من كمال الصفات‪ ،‬وجيب أن يكون يف قلوبنا‬
‫عز وج َّل‪-‬القدري والشرعي بدون منازعة‪.‬‬
‫القبول حبكم هللا‪َّ -‬‬

‫أيضا عن احلكمة‪ ،‬مث بعد ذل نبدأ نفصل‪:‬‬


‫عاما ً‬
‫كالما ًّ‬
‫سنقول اآلن ً‬

‫)‪[ (1‬سورة القصص‪]88 :‬‬


‫ب يف تـَ مغيري اسا مسم الم َقبيح‪ .)4955( /‬ورواه النسائي يف سننه‪ /‬يف كتاب آداب القضاء‪ /‬إذَا َح َّك ُموا َر ُج ًال فَـ َق َ‬
‫ضى‬ ‫)‪ (2‬رواه أبو داوود يف سننه‪ /‬يف كتاب األدب‪َ /‬اب ٌ‬
‫بـَميـنَـ ُه مم‪ ،)5387( /‬وصححه األلباين يف صحيح األدب املفرد‪-353 /‬ابب كنية أب احلكم‪.)811( /‬‬
‫‪21‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫يقول‪ ":‬أما كمال احلكمة فبثبوت احلكمة له‪-‬سبحانه‪-‬يف خلقه ويف أمره وشرعه‪ ،‬حيث يضع األشياء مواضعها ويُن ِزَلا‬
‫منازَلا‪ ،‬وال يتوجه إليه سؤال وال يقدح يف حكمته مقال" أي‪ :‬أن هللا {َسا يُ مسأ َُل َع َّما يـَ مف َع ُل َوُه مم يُ مسأَلُو َن}(‪.)1‬‬

‫وجل‪:-‬‬
‫عز َّ‬
‫سيضرب اآلن أمثلة عن حكمة هللا‪َّ -‬‬

‫ومشتمال على احلق‪ ،‬وكان هنايته وغايته احلق‪ ،‬أوجده‬


‫ً‬ ‫يقول‪ " :‬أما احلكمة يف اخللق فإنه‪-‬سبحانه‪-‬خلق اخللق ابحلق‪،‬‬
‫أبحسن نظام‪ ،‬ورتّبه أبكمل إتقان‪ ،‬وأعطى كل خملوق خلقه الالئق به‪ ،‬بل أعطى كل جزء من أجزاء املخلوقات وكل عضو‬
‫من أعضاء احليواانت ِخلقته وهيئته الالئقة به‪ ،‬حبيث ال يُرى فيه شيء من التفاوت واخللل"‬

‫صَر َه مل تَـَرى م من فُطُور ُمثَّ‬


‫الر ممحَن م من تَـ َف ُاوت} ماذا تفعل؟ {فَ مارجع البَ َ‬
‫مث ذكر من أمثلة ذل ‪ :‬السماء‪َ { :‬ما تَـَرى يف َخ ملق َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫أبدا‪.‬‬
‫تفاوات يف خلقه ً‬
‫ص ُر َخاسئًا َوُه َو َحسريٌ} ‪ ،‬سا يُرى ً‬
‫ب إلَمي َ البَ َ‬
‫صَر َكَّرتَـ مني} ماذا سيحصل؟ {يـَمنـ َقل م‬
‫مارجع المبَ َ‬
‫مثال أو أحسن من هذه املوجودات مل يقدروا على ذلك {ص ْنع َِّ‬
‫اَّلل‬ ‫قال‪ " :‬ولو اجتمعت عقول اخللق على أن يقرتحوا ً‬
‫ُ َ‬
‫الَّ ِذي أَتْـ َق َن ُك َّل َش ْي ٍء}(‪")3‬‬

‫نعود ألول الكالم‪ ،‬يقول‪" :‬أما احلكمة يف اخللق فإنه‪-‬سبحانه‪-‬خلق اخللق ابحلق"‬

‫مشتمال على احلق‪ ،‬أي‪ :‬هم أبنفسهم مشتملون على احلق‪،‬‬


‫ً‬ ‫أي‪ :‬خلق كل اخللق ابحلق ليس عبثًا وسا لعبًا‪ ،‬وخلق اخللق‬
‫وستكون هناية اخللق وغاية اخللق هي احلق‪.‬‬

‫ما عالقة هذا ابحلكمة؟‬

‫أان اآلن أفهم أن هذا كالم جممل وأنه غري متبني‪ ،‬لكن أريد منكم أن تقرؤوه وتفكروا فيه‪ ،‬وَتتوا بشواهد من القرآن على هذه‬
‫جممال عن األمساء‪ ،‬مث نفكر فيه ونبحث عنه يف القرآن‪ .‬كيف‬
‫عاما ً‬‫كالما ًّ‬
‫اجلمل اليت قاهلا‪ ،‬فنحن نريد أن نتدرب كيف نقرأ ً‬
‫يكتب العلماء عن أمساء هللا؟ هل يكتبون عنها من تلقاء أنفسهم؟ ابلطبع سا‪ ،‬وإمنا يدرس ويتعلم عن هللا ويبحث‪ ،‬مث يعرب عن‬
‫هذا املوجود يف القرآن هبذا الكالم‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة األنبياء‪]23 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة املل ‪]4-3 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة النمل‪]88 :‬‬
‫‪22‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫لو أتى ل املصنف بكل اآلايت وشرح ل كيف خرج بكل هذه اجلمل سيطول املقام‪ ،‬لكن أنت ماذا تفعل؟‬

‫‪ ‬متر ابملرحلة األوىل‪ :‬تقرأ معىن اساسم على وجه العموم‪-‬كقراءتنا اليوم‪.-‬‬

‫‪ ‬مث يف املرحلة الثانية‪:‬‬

‫‪ .1‬نقسم‪ ،‬ونقول‪ :‬قال يف احلكم [ أ‪ ،‬ب‪ ،‬ج‪ ،‬د ]‪ ،‬ويف احلكمة قال [ أ‪ ،‬ب‪ ،‬ج‪ ،‬د ]‪.‬‬

‫‪ .2‬مث نرى من أين أتى هبذه النقاط؟ فنبحث يف القرآن عن آايت تدل على هذه املعاين‪.‬‬

‫‪ .3‬مث نفهم اآلايت يف سياقاهتا‪ ،‬فتتضح هذه اجلمل اليت كتبها‪.‬‬

‫من اخلطأ أن تظن أن مبرة واحد ستفهم كل هذا على بعضه‪ ،‬أنت اليوم تقرأ كأن تقرؤه مطالعة وتفهم على وجه العموم‪،‬‬
‫مث تقرؤه قراءة جديدة تقسم ل املعاين‪ ،‬مث قراءة جديدة َتيت ل ابألدلة‪ ،‬مث قراءة جديدة تفهم وجه اساستدسال ابألدلة‪ ،‬كنا‬
‫نستطيع أن نشرح االسم وانتهى املوضوع! لكن املسؤولية اليوم ليست جمرد أن أُطلعك على معاين األمساء‪ ،‬املسؤولية اليوم‬
‫هي تعليم الناس كيف يتعلمون‪ ،‬ضروري أن تتعلم كيف تتعلم بنفس ‪ ،‬فبالرغم من وجود اساتصاسات احلديثة وتوفر العلم يف‬
‫كل مكان لكننا مصابون ابلكسل؛ ولذل سا تعتمد على أن تـُلَقَّن العلم‪ ،‬وإمنا سا بد أن تبحث بنفس ‪.‬‬

‫املتقرر أن هللا‪-‬سبحانه‪-‬له الكمال الذي ال حييط به العباد‪ ،‬وأنه ما ِمن كمال تفرضه األذهان‬
‫يقول‪" :‬وإذا كان من ِّ‬
‫وأجل‪ ،‬فإن أفعاله ومجيع ما أوصله إىل اخللق أكمل األمور وأحسنها وأنظمها‬
‫ّ‬ ‫ويق ّدره املق ّدرون إال وهللا أعظم من ذلك‬
‫وحسنه إىل فاعله‪ ،‬والتدبري منسوب إىل مدبّره‪ ،‬وهللا تعاىل كما ال يشبه أحد يف صفاته يف‬
‫وأتقنها‪ ،‬فالفعل يتبع يف كماله ُ‬
‫العظمة واحلُسن واجلمال‪ ،‬فكذلك ال يشبهه أحد يف أفعاله"‪ .‬هذا الكالم اتبع للكالم املاضي‪.‬‬

‫وجل‪-‬حكيم‪ ،‬وأفعاله كلها حكمة‪ ،‬وملوقاته كلها حكمة‪ ،‬ولو اجتمع الناس على‬
‫عز َّ‬
‫ماذا قرر يف أول الكالم؟ قرر أن هللا‪َّ -‬‬
‫أن يقرتحوا فيقولوا‪ :‬لو كان شكل هذا املخلوق كذا لكان أحسن‪ .‬ملا استطاعوا‪ ،‬فإهنم سا جيدون أحسن ما خلق هللا‪ ،‬مث بني أن‬
‫علما‪ ،‬وسا أن يقدره أحد‪ ،‬وإذا قدر َمن قدر كمال هللا‬
‫يوصف به‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬سا ميكن ألحد أن حييط به ً‬‫الكمال الذي َ‬
‫فاهلل أجل ما يقدره أي ُم َقدر‪ .‬وكذل األفعال‪ ،‬فأنت عندما ترى أفعاله ستعلم أن أفعاله سا ميكن أن يقدر اخللق عظمتها‬
‫واحلكمة فيها ولو اجتمعوا‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫فأنت عندما يقال ل ‪ :‬ه ذه احلكمة من الوضوء‪ ،‬وهذه احلكمة من الصالة‪ ،‬أو هذه احلكمة من خلق هذا احليوان‪ ،‬أو هذه‬
‫احلكمة من خلق األرض هبذه الصورة‪ .‬علي أن تقول‪ :‬هذا ما وصلتم إليه من احلكمة‪ ،‬أما أفعال هللا فال ميكن أن حتيطوا هبا‬
‫علما‪ ،‬حبيث أنكم حتصرون كمال حكمته فيما تذكرون؛ لذل من األخطاء اليت حتصل أن يـَُرََّّب الناس على أن يعتقدوا أن هذه‬
‫ً‬
‫فقط هي حكمة هللا من كذا وكذا‪.‬‬

‫مثاسا‪ :‬ما احلكمة من الصيام؟ أن يتقي اإلنسان‪ .‬هل تستطيعني أن َتيت جبملة متصرة عن التقوى؟ أم أن‬
‫وسأضرب لكم ً‬
‫التقوى كلمة كلَّما جاء جيل َّ‬
‫عرب عنها مبا سا يستطيعه عقل َمن قبله بناءً على ظروف وأحوال اخللق؟ فالتقوى عند َمن سبقنا‬
‫ختتلف عن التقوى عندان‪ ،‬فهم كانوا يتقون أن خيرجوا إىل املالهي أو أن خيرجوا إىل أي شيء يلهيهم‪ ،‬أما التقوى اآلن فأنت‬
‫لست حباجة ألن يقال ل ‪ :‬اتق اخلروج ملا يُلهي ‪ .‬وإمنا اتق أبن َتيت أبي شيء يلهي ‪.‬‬

‫واملعىن‪ :‬أن هذه املفاهيم العظيمة تتسع لكل من خلق هللا يف كل عصر‪ ،‬فهي ليست حمصورة وسا ميكن ضبطها‪َّ ،‬‬
‫وإمنا كلما‬
‫قلت عن شيء من احلكمة سا بد أن تقول‪ :‬إن هذا شيء من حكمة هللا‪ ،‬وحكمة هللا يف كل شيء سا ُحياط هبا‪ ،‬فأفعاله كلها‬
‫مثال‪ :‬لو سألنا‪ :‬ملاذا كوكب املشرتي‬
‫أن هناك أشياء سا نعلم احلكمة منها‪ً ،‬‬ ‫حكمة وحكمته سا حياط هبا‪ ،‬والدليل على ذل‬
‫موجود؟ ملاذا كوكب الزهرة موجود؟ هل عندك جواب؟! ماذا سنفعل؟ سنقول‪ :‬إن هللا هو احلكيم‪-‬سبحانه‪-‬الذي سا ميكن ألحد‬
‫أن حييط حبكمته‪ ،‬ال بد أن تشعر ابلعجز عن اإلحاطة حبكمته كما أنك عاجز عن اإلحاطة بكماله‪.‬‬

‫أيضا يف شرعه‪ :‬قال‪" :‬وأما احلكمة يف أمره وشرعه فإنه تعاىل شرع الشرائع‪ ،‬وأنزل الكتب وأرسل الرسل‬
‫سنرى هذا ً‬
‫ألجل غاية‪ .‬ومعرفته‬
‫ّ‬ ‫مهال‪ ،‬ومل يوجدهم ُس ًدى‪ ،‬بل خلقهم ألكمل مقصد وأوجدهم‬ ‫ليعرفه العباد ويعبدوه‪ ،‬فلم خيلقهم ً‬
‫أجل اَلبات‬
‫تعاىل وعبادته وحده ال شريك له‪-‬اليت هي مقصود اخللق‪-‬هي أفضل العطاَّي منه تعاىل لعباده على اإلطالق‪ ،‬و ّ‬
‫وأشرف املِنَن ملن ميُ ّن هللا عليه هبا ويكرمه ببلوغها وحتقيقها‪ ،‬وهي أكمل السعادة والفالح والسرور للقلوب واألرواح‪ ،‬بل‬
‫هي السبب الوحيد للوصول إىل السعادة األبدية‪ ،‬والفالح السرمدي‪".‬‬

‫هنا يبني أن احلكمة من أمره وشرعه وإنزاله لكتبه كلها تدور حول أمر واحد وهو أن يعرفه العباد‪ ،‬وسا تدري كم من وراء‬
‫هذه املعرفة من حكمة‪ ،‬فإن أُس السعادة وأساسها وصالح املرء يف دينه ودنياه كلها تدور حول هذه املعرفة‪ ،‬فال تدري وسا‬
‫تستطيع أن تقدر ما مقدار الرمحة واحلكمة اليت أنعم هللا هبا على العباد حال تعليمه هلم عن نفسه‪ ،‬واخلاسر حقيقةً يف الدنيا‬

‫‪24‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬من أعظم منَنه على اخللق أن أنزل عليهم كتبًا يتعلمون منها عنه‪ ،‬فهذا‬ ‫الذي مل يعرف هللا‪ ،‬هذا حقًّا خاسر! ألن هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫أعظم ما تَسأل عنه‪ ،‬فاهلل أرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل هذه احلكمة اليت هي معرفة هللا‪.‬‬

‫فكان أوىل ما ُدجيب به وقت ما تُسأل عن احلكمة من خلق اخللق وإنشائهم أن تقول‪ :‬خلق هللا اخللق ليعرفوه‪ ،‬فإذا عرفوه‬
‫ت‬
‫عبدوه‪ .‬هذا التسلسل منطقي مفهوم‪ ،‬وله أدلة يف القرآن‪ ،‬ومن أدلته‪-:‬نفس الدليل الذي حنفظه كلنا‪-‬قوله تعاىل‪َ { :‬وَما َخلَ مق ُ‬
‫ني}(‪ ،)1‬وذُكر‬ ‫َّاق ذُو ال ُق َّوة املت ُ‬ ‫يد أَ من يُطمع ُمون إ َّن هللاَ ُه َو َّ‬
‫الرز ُ‬ ‫س إَّسا ليَـ معبُ ُدون} أكمل { َما أُر ُ‬
‫يد ممنـ ُه مم م من رمزق َوَما أُر ُ‬ ‫اجل َّن َواإلنم َ‬
‫هذا املفهوم نفسه يف سورة الطالق‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬هللاُ الَّذي َخلَ َق َسمب َع َمسََوات َوم َن األ مَرض مثمـلَ ُه َّن يـَتَـنَـَّزُل األ مَم ُر بـَميـنَـ ُه َّن} ألجل‬
‫َحا َط ب ُكل َش ميء ع مل ًما}(‪ .)2‬إذًا‪ :‬خلق هللا املخلوقات حلكمة عظيمة‬ ‫َن هللاَ َعلَى ُكل َش ميء قَد ٌير َوأ َّ‬
‫َن هللاَ قَ مد أ َ‬ ‫ماذا؟ {لتَـ معلَ ُموا أ َّ‬
‫وهي‪ :‬معرفته والتمتع بعبادته‪.‬‬

‫بادا‪،‬‬
‫وهذا الكالم الذي قلناه موجود حىت يف أصول الدين‪ ،‬فإنه ما يُشكل على اخللق كوهنم سا يفهمون معىن أن يكونوا ع ً‬
‫عبدا للخلق‪ ،‬فهذا أمر تكرهه وتُبغضه‪ ،‬لكن عندما‬
‫ومضر أن تكون ً‬
‫أتت املفاهيم اجلديدة تشوه كلمة (عبودية)‪ ،‬نعم‪ ،‬أمر مؤذ ُ‬
‫َتيت تتكلم عن احلرية سابد أن تتكلم عنها مبعناها احلقيقي؛ ألن سا تظن أن ستصبح ُحًّرا عندما تتحرر من العبودية هلل! بل‬
‫أنت ستنتقل من نوع عبودية إىل نوع عبودية آخر‪ ،‬ونوع العبودية اآلخر هذا هو العبودية للهوى‪ ،‬والعبودية للهوى جتعلك يف‬
‫ط من مرتبة احليوان‪.‬‬
‫مرتبة أح ّ‬

‫أنتم اآلن لو كنتم يف زايرة ملدينة الطائف أو ملناطق عسري ستتصورون الصورة بوضوح‪ ،‬ففي سفوح جبال الطائف أو يف‬
‫عسري دجدون جمموعات كبرية من القَردة‪ ،‬ميارسون كل احلياة املعروفة‪ ،‬من األكل والشرب والتناسل يف سفوح اجلبال‪ ،‬أمام الناس‬
‫عبدا هلل‪ ،‬ابلضبط هبذه الصورة! هبذا‬
‫بعضا هبا‪ ،‬هذه ابلضبط صورة لإلنسان لو ما كان ً‬
‫كلهم‪ ،‬وهلم أصوات ولغة حيدث بعضهم ً‬
‫اسانفالت! هبذا ال ُقبح! هبذه العالنية! ما عليهم إسا أن يستيقظوا مع شروق الشمس ليأكلوا‪ ،‬ويشربوا‪ ،‬ويتنافسوا‪ ،‬ويتقاتلوا‪،‬‬
‫ويبحثوا عما تأكلونه‪ ،‬ويتناسلوا‪ ،‬مث يتهارجوا ويتصاحيوا‪ ،‬مث يعودوا فيناموا‪ ،‬وانتهى أمرهم!!‬

‫هذه هي صورة األنعام‪-‬احليواانت‪ -‬احلقيقية املعروفة اليت سا جيادل فيها أحد‪ ،‬خلقهم هللا هلذه الصورة من احلياة‪ ،‬لكن هللا‬
‫عبدا هلذه الشهوات‪َ :‬تكل‪ ،‬تشرب‪ ،‬تصارخ‪،‬‬
‫عبدا له ستكون ً‬
‫أخرج من هذه البهيمية‪ ،‬وشرف ‪ ،‬وبـُني ل أن لو مل تكن ً‬

‫)‪[ )1‬سورة الذارايت‪]58-56 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة الطالق‪]12 :‬‬
‫‪25‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫غدا وأكثر‪ ،‬سيكون حال‬


‫تتناسل‪ ،‬وينتهي األمر! وتصبح كل يوم من هذا هلذا‪ ،‬مث أن لن تشبع! ما َتكله اليوم ستطمع فيه ً‬
‫كل يوم إىل األسوأ واألردى يف عدم الشبع وزايدة الطمع‪ .‬البد أن تكون عب ًدا‪ ،‬إن مل تكن عب ًدا هلل كنت عب ًدا َلواك‪.‬‬

‫عبدا هلل؟!‬
‫عبدا هلل؟! ما الذي َسيَضيق علي لو أصبحت ً‬
‫أي شيء حتاربه وتدافعه كي سا تكون ً‬

‫عبدا هلل‪:‬‬
‫امسع ما هي املميزات اليت ستكون ل لو أصبحت ً‬
‫يفرج عليك‪ ،‬إن كنت يف ضيق يلطف بك‪،‬‬
‫سيكون لك سيّد وموىل‪ ،‬تتوكل عليه فيكفيك‪ ،‬تناديه فيسمعك‪ ،‬تسرتزقه فريزقك‪ ،‬إن كنت يف مأزق ّ‬
‫‪1‬‬
‫يب لَهُ؟ َم ْن يَ ْسأَل ُِِن فَأُ ْع ِطيَهُ؟ َم ْن يَ ْستَـ ْغ ِف ُرِين فَأَ ْغ ِف َر لَهُ؟" ) ) كلما شعرت بشعور اخلوف‬ ‫وين فَأ ْ ِ‬
‫َستَج َ‬ ‫يناديك يف الثلث األخري من الليل‪َ " :‬م ْن يَ ْد ُع ِ‬

‫إليه تفزع‪ ،‬إليه تصمد‪ ،‬يكفيك‪ ،‬ويؤويك‪ ،‬بل يعاملك ابجلَ ْرب فيجرب قلبك‪ ،‬ويعاملك ابللطف فيخرجك من مضائق حياتك‪ ،‬ويعاملك بتمام الرأفة‬
‫يضرك يف عبوديته؟!‬
‫فيمهد لك األرض‪ ،‬ويعطيك ما حيملك وينقلك‪ ،‬كل هذا سيكون لك! إذًا ما الذي ّ‬
‫ّ‬

‫عبدا‪ :‬أي‪ :‬أن ل سيد يكفل ل كل شؤون ‪ ،‬ل سيد يقال ل ‪ :‬عامله ابساعتماد والتوكل‪ ،‬وهو يكفي‬
‫معىن أن تكون ً‬
‫كل ما أمه ‪ ،‬واعلم أن سيدك وموساك له كل املل ‪ ،‬يده سحاء الليل والنهار‪ ،‬كرمي‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،-‬خزائنه مألى‪ ،‬أتدري ما‬
‫صت من‬
‫أنفق منذ أن خلق السماوات واألرض إىل أن تقوم الساعة؟ كمثل ما تدخل اإلبرة يف البحر‪ ،‬أتُنقص منه شيئًا؟! لو أن َق َ‬
‫البحر شيئًا لكان ما أنفقه على أهل األرض يف هذا الزمن نقص يف ملكه شيء‪ ،‬لكن ملكه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬سا ينقص‪ ،‬فماذا‬
‫تريد بعد ذل ؟! املطلوب من فقط أن تعتمد عليه وتتوكل عليه‪ ،‬اخلري سيجلبه ل ‪ ،‬الشر سيصرفه عن ‪ ،‬يُقبل علي الشر‬
‫عبدا له وهو‪-‬سبحانه‪-‬وعدك ابلكفاية‪ ،‬ماذا يضرك أن‬
‫فيحفظ منه‪ ،‬فكل ما يقال ل عن العبودية معناه الكفاية‪ ،‬فأنت ُكن ً‬
‫عبدا لرب العاملني؟! إسا أن كلمة العبودية ُشوَهت يف عقول اخللق‪ ،‬وظنوا أهنم يهربون من العبودية والرق‪ ،‬وما عرفوا أهنم‬
‫تكون ً‬
‫عبدا للشيطان واهلوى ما حاله؟ أليست القلوب‬
‫خيرجون من عبودية هللا إىل عبودية الشيطان واهلوى‪ ،‬وما تدري هذا الذي يصبح ً‬
‫بيد هللا؟ فحىت لو انشرح صدرك ألنه عامل برأفته زمنًا من األزمنة‪ ،‬أتظن أنه يُبقي صدرك منشر ًحا؟!‬

‫بعيدا عنه يعامل برأفته وحلمه‪ ،‬وسا يُضيق علي األمور مرًة واحدة‪ ،‬وإمنا يذيق‬
‫وجل‪-‬حينما هترب منه وتذهب ً‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬
‫شيئًا من اآلسام لكي تعود‪ ،‬وهو عن غين‪ ،‬ولكن من متام رأفته خبلقه وتربيته هلم أنه يعيدهم‪ ،‬فأنت عندما تظن خاطئًا‪-‬كما‬
‫يظن َمن ليس له عقل‪ ،‬وليس برشيد‪-‬أن اهلروب من هللا يوصل إىل السعادة تكون قد اغرترت حبلمه‪ ،‬واعلم أن الذين يقولون‬
‫ل ‪ :‬حنن سعداء؛ ألننا يف حرية وانطالق‪ .‬إمنا هم يف زمن بقائهم حتت حلم هللا‪ ،‬وزمن بقائهم حتت حلم هللا هو الذي يوهم‬

‫اَّلل}‪)7494/‬‬
‫يدو َن أَ من يـَُبدلُوا َكالَ َم َّ‬
‫اَّلل تـَ َع َاىل‪{ :‬يُر ُ‬
‫ب قَـ مول َّ‬
‫)‪ (1‬رواه البخاري يف صحيحه (كتاب التوحيد‪َ /‬اب ُ‬
‫‪26‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫فرج على القلوب ولو كانت الدنيا مل ميينهم‪ ،‬فال يغرك هذا اهلروب‪ ،‬واعلم‬
‫الناس أن هؤساء سعداء‪ ،‬مث إذا أتى الضيق وهللا سا يُ َّ‬
‫وجل‪-‬علينا هبا‪ ،‬وشرف تشعر به إذا عرفت هللا‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫أن العبودية نعمة أنعم هللا‪َّ -‬‬

‫ومن متام حكمته يف معاملته خللقه أن جعل كتابه مليئًا ابخلرب عنه‪ ،‬فأعظم احلكم أنه خلقنا ورزقنا ومل يرتكنا ً‬
‫مهال‪ ،‬بل أرسل‬
‫رسوسا‪ ،‬والرسول أتى ابلكتاب‪ ،‬والكتاب فيه خرب عن هللا‪ ،‬فأعظم ما تشعر به وتشاهده من حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬أنه‬
‫إلينا ً‬
‫علَّم عن نفسه‪ ،‬ويف هذا ستكون السعادة والفالح السرمدي‪.‬‬

‫يقول‪" :‬إضافة إىل هذا" يعين إضافةً للخرب عنه‪ .‬ما هو أول الشرع؟ معرفة هللا‪ ،‬أول الدين أن تعرف هللا‪ ،‬أُس الدين وأساسه‬
‫أن تعرفه‪ ،‬فتتجلى احلكمة يف تعليمه لنا عن نفسه‪ ،‬مث إضافة إىل هذا‪":‬فإن شرعه قد اشتمل على كل خري‪ ،‬فأخباره متأل‬
‫وأجل العلوم"‪.‬‬
‫علما وعقائد صحيحة‪ ،‬وتستقيم هبا القلوب ويزول احنرافها‪ ،‬وحيصل َلا أفضل املعارف ّ‬
‫القلوب ً‬

‫وعقائدا صحيحة‪ ،‬فمن حكمته أن‬


‫ً‬ ‫علما‬
‫ً‬ ‫واملقصد من هذا‪ :‬األخبار اليت جاءت يف الشرع‪ ،‬فكل خرب يف القرآن ميأل قلب‬
‫أيضا ستجد أن أوامره‬
‫خيربك عن نفسه مبا أخربك‪ ،‬ومن حكمته أن يعلم هذه العقائد اليت هبا تستقيم القلوب ويزول احنرافها‪ ،‬و ً‬
‫كلها منافع ومصاحل‪.‬‬

‫قال‪" :‬وأوامره كلها منافع ومصاحل‪ ،‬وتُ ِ‬


‫ثمر األخالق اجلميلة واخلصال الكرمية واألعمال الصاحلة والطاعات الزاكية‪،‬‬
‫واَلدي الكامل" إ ًذا هذه آاثر األوامر‪.‬‬

‫عما يضر الناس يف عقوَلم وأخالقهم‬ ‫قال‪" :‬ونواهيه كلها موافقة للعقول الصحيحة ِ‬
‫ينه إال ّ‬
‫والفطَر السليمة‪ ،‬فلم َ‬
‫وأعراضهم وأبداهنم وأمواَلم"‬

‫وجل‪-‬أن‬
‫عز َّ‬
‫هذا كله اآلن جيب أن ندرسه ابلتفصيل من القرآن‪ ،‬أي‪ :‬أننا سنُخرج له شواهد على أن من حكمة هللا‪َّ -‬‬
‫أحكاما‪-‬كله فيه من اخلري واحلكمة‪.‬‬
‫ً‬ ‫أخبارا أو‬
‫شرعه‪-‬سواءً كان ً‬
‫قال‪" :‬ومن حكمه ِ‬
‫وحكمته سبحانه‪ :‬جمازاة احملسن إبحسانه" هذا احلُكم واحلكمة يف اجلزاء‪.‬‬ ‫ُ‬

‫وجل‪-‬تظهر يف ثالثة أمور‪:‬‬


‫عز َّ‬
‫عرفنا اآلن ثالثة أنواع من احلُكم واحلكمة‪ ،‬فنقول‪ :‬أن حكمة هللا‪َّ -‬‬

‫حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف خلق املخلوقات‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫‪27‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف شرع الشرائع‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف اجلزاء‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫احملسن إبحسانه‪ ،‬واملسيء إبساءته‪ ،‬قال تعاىل يف‬ ‫وحكمته سبحانه جمازاة ِ‬ ‫نرى حكمته يف اجلزاء‪ :‬يقول‪" :‬ومن حكمه ِ‬
‫ُ‬
‫لسوأَى}(‪")2‬‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫شأن احملسن‪َ { :‬هل َج َزاء ا ِإل ْح ِ ِ‬
‫َساءُوا ا ُّ‬
‫ين أ َ‬ ‫سان إ َّال ا ِإل ْح َ‬
‫سا ُن} ‪ ،‬وقال يف شأن املسيء‪ُ { :‬مثَّ َكا َن َعاقبَةَ الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬

‫إ ًذا من حكمته يف جزائه أن كانت عاقبة اإلحسان اإلحسان‪ ،‬وعاقبة اإلساءة السوء‪ .‬أين احلكمة يف أن يعاملنا هللا هبذه‬
‫املعاملة؟ احلكمة هي العدل؛ مث من حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬أن يعاملهم بشيء من الفضل‪ ،‬فاحلكمة تكون يف العدل أو يف‬
‫الفضل‪ .‬أي‪ :‬أن معاملة هللا خللقه ليست فقط العدل‪ ،‬وإمنا هناك نوعان من معاملة هللا خللقه تظهر فيهما احلكمة‪ :‬معاملة العدل‬
‫وجل‪-‬أن يعامله‬
‫عز َّ‬
‫ومعاملة الفضل‪ ،‬لكن معاملة الفضل تكون مع احملسن وهنا تكون احلكمة‪ ،‬واملسيء من حكمة هللا‪َّ -‬‬
‫ابإلساءة اليت يستحقها‪ ،‬أما احملسن فيعامله هللا إما ابإلحسان املكافئ وهذا العدل‪ ،‬أو يعامله ابلفضل‪-‬والفضل معناه الزايدة‪،-‬‬
‫وجل‪-‬للمسيئني العدل‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫واألصل يف معاملة هللا للمحسنني الفضل‪ ،‬ويف معاملة هللا‪َّ -‬‬

‫وجل‪-‬خيرب أنه سيعامل املسيء ابلسيئة‪ ،‬وخيرب أنه سا يغفر أن‬


‫عز َّ‬
‫أنيت هنا ملشكلة كبرية يف التفكري دجاه احلكمة اجلزائية‪ :‬هللا‪َّ -‬‬
‫ث ثََالثَة}(‪ ،)3‬وأن الكفار مصريهم اخللود يف النار‪ ،‬خيرب هبذا كله‪ ،‬مث ميوت‬ ‫ين قَالُوا إ َّن َّ‬
‫اَّللَ َاثل ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫شرك به‪ ،‬وخيرب أنه {ل َق مد َك َفَر الذ َ‬
‫يُ َ‬
‫كافر فيقال‪ :‬ربنا قادر على أن يدخله اجلنة‪ ،‬أليس هللا رحيم؟!‪ .‬ما رأيكم؟ إذا عامل هللا من مات على الكفر ابلرمحة فإن ذل‬
‫وجل‪-‬حكيم‪ ،‬ومن حكمته أن يعامل املسيء ابلعدل‪ ،‬وأن يعامل احملسن ابلفضل‪ ،‬فإن قلت خبالف‬
‫عز َّ‬
‫سيخالف احلكمة‪ ،‬هللا‪َّ -‬‬
‫ذل فقد اهتمت حكمته‪.‬‬

‫اد َك} أنت تعاملهم مبا تريد‬


‫ولذل انظري لعيسى‪-‬عليه السالم‪-‬كيف يفهم ذل عن ربه فيقول‪{ :‬إ من تُـ َعذبمـ ُه مم فَإنـ َُّه مم عبَ ُ‬
‫(‪)4‬‬
‫عزة وحكمة‪ ،‬فمن املؤكد أن لن تغفر إسا ملن‬ ‫يم} ‪ ،‬أي‪ :‬إن مغفرت صادرة من َّ‬ ‫العز ُيز احلَك ُ‬
‫ت َ‬ ‫{ َوإ من تَـ مغف مر َهلُمم فَإنَّ َ أَنم َ‬
‫أن اإلنسان سيمشي هذا الطريق الصعب ويشقه‪،‬‬ ‫يستحق املغفرة‪ ،‬لن تغفر ملن حكمت عليه أبنه مسيء‪ ،‬وإسا فمعىن ذل‬
‫ويبقى موح ًدا‪ ،‬وغريه يُشرك ويلهو‪ ،‬مث بعد هذا كله يستوي هو واملوحد! هل تتصور أن من حكمة هللا أن يساوي هذا املشرك‬

‫)‪[ )1‬سورة الرمحن‪]60 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة الروم‪]10 :‬‬
‫)‪[ )3‬سورة املائدة‪]73 :‬‬
‫)‪[ )4‬سورة املائدة‪]118 :‬‬
‫‪28‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ابملؤمن املوحد؟! اجلواب‪ :‬سا! وسا بد أن تتيقن من هذا؛ ألن هذا خيالف حكمة هللا‪ ،‬كيف يقول هللا يف كتابه‪{ :‬إ َّن هللاَ َسا يَـ مغف ُر‬
‫أَ من يُ مشَرَك به َويـَ مغف ُر َما ُدو َن َذل َ ل َم من يَ َشاءُ}(‪ )1‬مث تظن أنه سيأيت حبكم جزائي خيالف ما أخرب به؟! سا ختتلط عليكم الرمحة مع‬
‫يم} أي‪ :‬أن مغفرت لن تصدر إسا من عزة وحكمة‪،‬‬
‫العز ُيز احلَك ُ‬
‫ت َ‬ ‫اد َك َوإ من تَـ مغف مر َهلُمم فَإنَّ َ أَنم َ‬
‫احلكمة‪{ ،‬إ من تُـ َعذبمـ ُه مم فَإنـ َُّه مم عبَ ُ‬
‫فستغفر هلم‪-‬وأنت احلكيم‪-‬إذا استحقوا هذه املغفرة‪.‬‬

‫وجل‪-‬له‬
‫عز َّ‬
‫وجل‪ ،-‬هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫هل تبني لكم كيف حيصل اخللل هنا؟ الناس غالبًا خيلطون بني صفة الرمحة وصفة احلكمة هلل‪َّ -‬‬
‫احلكمة يف خلق اخللق‪ ،‬وله احلكمة يف الشرع‪ ،‬وله احلكمة يف اجلزاء‪ ،‬مث يقول الناس‪ :‬ولكن هذا‪-‬أي‪ :‬من مات على الكفر‪-‬‬

‫وجل‪-‬؟ قال تعاىل‪َ { :‬وقَد ممنَا إ َىل َما َعملُوا م من َع َمل فَ َج َع ملنَاهُ َهبَاءً‬
‫عز َّ‬
‫أعماسا خريية! نقول‪ :‬ماذا قال هللا‪َّ -‬‬
‫أحس َن للناس‪ ،‬وعمل ً‬
‫َ‬
‫(‪)2‬‬
‫منثورا‪ ،‬وقد دعاك هللا بكل‬ ‫ورا} ‪َ { ،‬ما َعملُوا م من َع َمل} أي‪ :‬كل عمل صاحل يتقربون به لكن على الشرك جعلناه هباءً ً‬ ‫َممنـثُ ً‬
‫اآلايت إىل توحيده‪ ،‬فبما أنه دعاك إىل التوحيد وأنت مل تقبل هذا التوحيد سيصبح العدل الذي يوافق حكمته أن ُجيازي‬
‫وجل‪-‬يف‬
‫عز َّ‬
‫موحدا‪ ،‬يقول هللا‪َّ -‬‬
‫اإلنسان على تركه للتوحيد‪ ،‬وأما الفضل فهذا شأنه إىل هللا‪ ،‬ووضع هللا له شرطًا وهو أن تكون ً‬
‫آد َم إنَّ َ لَ مو أَتَـميـتَين ب ُقَراب األ مَرض َخطَ َااي ُمثَّ لَقيتَين ساَ تُ مشرُك ب َشميـئًا"‪-‬عندما تسمع كلمة "شيئًا"‬
‫احلديث القدسي‪َ " :‬اي ابم َن َ‬
‫أبدا‪"-‬ألتَيتُ َ ب ُقَراهبا مغفرةً"(‪ ،)3‬فانظر إىل هذا الفضل‬
‫تشعر أن األمر صعب؛ ألن معناه‪ :‬أسا حيصل لقلب أي التفات لغريه ً‬
‫وجل‪-‬من يشاء بشرط أسا يكون مشرًكا‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫يؤتيه هللا‪َّ -‬‬

‫اد َك َوإ من تَـ مغف مر َهلُمم فَإنَّ َ أَنم َ‬


‫ت‬ ‫فال ختلطوا بني الرمحة واحلكمة‪ ،‬وسا تنسوا كالم عيسى‪-‬عليه السالم‪{ :-‬إ من تـُ َعذبمـ ُه مم فَإنـ َُّه مم عبَ ُ‬
‫يم}‪ ،‬معناه‪ :‬أن من ستغفر له من املؤكد أنه وافق‬ ‫العز ُيز احلَك ُ‬
‫ت َ‬ ‫يم}‪ ،‬مل يقل‪ :‬أنت العزيز الرحيم‪ ،‬وإمنا قال‪{ :‬أَنم َ‬
‫العز ُيز احلَك ُ‬
‫َ‬
‫حكمت يف مغفرته‪ ،‬وأتى ابلشرط الواجب للمغفرة‪.‬‬

‫يسوي سبحانه بني حمس ٍن ومسيء‪ ،‬ال يف الدنيا وال يف اآلخرة"‪.‬‬


‫قال‪" :‬فال ّ‬

‫إن السعة يف الدنيا دليل‬ ‫قد يقول قائ ل‪ :‬هناك حمسنون يف دينهم لكنهم متعبون وعندهم ضوائق‪ .‬سنقول‪ :‬من قال ل‬
‫عبدا محاه الدنيا كما يظل أحدكم حيمي سقيمه املاء"(‪ )4‬ألنه‬
‫الرضا؟! بل قال رسول هللا‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪" :-‬إذا أحب هللا ً‬

‫)‪[ )1‬سورة النساء‪]116 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة الفرقان‪]23 :‬‬
‫)‪ (3‬رواه الرتمذي يف سننه ( كتاب الدعوات‪ /‬ابب فضل التوبة واساستغفار وما ذكر من رمحة هللا لعباده‪ ،)3450( /‬وأخرجه األلباين يف صحيح الرتمذي (‪.)3450‬‬
‫)‪ (4‬رواه الرتمذي يف سننه (كتاب الطب عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ /‬ابب ما جاء يف احلمية ‪ )2036 /‬وقال‪ :‬حديث حسن غريب‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫يؤذيه‪ ،‬أتدري ما دليل رضا هللا عنك؟ انشراح صدرك‪ ،‬وقبولك ألحكامه وحكمه وشرعه وجزائه‪ ،‬وأن يقع يف قلبك أنت‬
‫اضيةً مر ِ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ضيَّةً}(‪ ،)1‬يعيش حياته حىت‬ ‫الرضا عن هللا‪ ،‬فتُنادى فتكون أنت النفس املطمئنة اليت يقال َلا‪ْ { :‬ارجعي إِ َىل َربّك َر َ َ ْ‬
‫لو تقلّب يف الذنوب واملعاصي واألخطاء لكنه دائم التوبة واأل َْوبة واإلانبة إىل ربه واالستغفار‪ ،‬وأهم شيء يف هذا األمر هو‬
‫دائما‪ :‬هل أنت راض عن رب ؟ أم يف قلب شيء من السخط؟ هل ترى حكمه‬
‫ً‬ ‫انشراح صدره ورضاه عن ربه‪ ،‬واسأل نفس‬
‫ليال وهنا ًرا‪ :‬أتؤمن أن هللا‬
‫عرض علينا ً‬
‫يف كذا سا يناسب ؟ وحكمه يف هذا سا يناسب ؟ وأمره يف هذا سا يناسب ؟ هذا اساختبار يُ َ‬
‫اختبار اسم هللا (احلكيم) من أصعب االختبارات‪ ،‬ونتيجة االختبار‪ :‬إذا رضيت فلك الرضا‪ ،‬وإذا رضيت‬ ‫حكيم؟ ولذل‬
‫تكون تل النفس املطمئنة اليت تُنادى‪ { :‬مارجعي إ َىل َرب َراضيَةً َم مرضيَّةً}‪ .‬فما تتصوروا إىل أي درجة دخولنا طيلة الوقت يف‬
‫اختبار الرضا عن أقداره وأحكامه وخلقه وجزائه‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬

‫اه ْم َوَََاتُـ ُه ْم‬


‫اء َْحميَ ُ‬ ‫ات أَ ْن ََْنعلَهم َكالَّ ِذين آَمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫السيِئَ ِ‬ ‫قال‪" :‬قال تعاىل‪{ :‬أَم ح ِس َّ ِ‬
‫الصاحلَات َس َو ً‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫اجتَـ َر ُحوا َّ ّ‬
‫ين ْ‬
‫ب الذ َ‬‫ْ َ َ‬
‫اء َما َْحي ُك ُمو َن}(‪ )2‬وهذا من كمال عدله‪ ،‬وهو مناسب غاية املناسبة حلكمة أحكم احلاكمني سبحانه‪".‬‬ ‫َس َ‬

‫عابرا‪ ،‬وسيأيت الكالم‪-‬إن شاء هللا‪-‬ابلتفصيل‪ ،‬سنعود ونقرأ نفس الكالم لكن سنقسمه أبدلته من‬
‫مرورا ً‬
‫حنن فقط مرران ً‬
‫القرآن‪.‬‬

‫خريا‪.‬‬
‫جزاكم هللا ً‬
‫السالم عليكم ورمحة هللا وبركاته‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة الفجر‪]28 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة اجلاثية‪]21 :‬‬
‫‪30‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء الثالث‬

‫‪31‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫هذا هو لقاؤان الثالث من لقاءات (فقه األمساء احلسىن)‪ ،‬وسا زلنا نتكلم عن اسم (احلكيم)‪ ،‬وقد مرت معنا طريقة الدراسة يف‬
‫دورة هذا العام‪:‬‬

‫أوسا‪ :‬سنفهم معىن اساسم على وجه العموم‪ .‬وما يساعدان على ذل ‪ :‬قراءة رسائل يف معاين األمساء متوسطة‪-‬سا متصرة وسا‬
‫ً‬
‫طويلة‪ ،-‬مثل‪ :‬كتاب (فقه األمساء احلسىن) للشيخ عبد الرزاق البدر‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫كامال‪ :‬نبدأ خنرج من مفاهيمه إىل القرآن‪ ،‬فالشيخ قام بعملية الدراسة للقرآن ومجع هذه‬
‫اثنيًا‪ :‬بعد أن نقرأ معىن اساسم ً‬
‫اجلمل‪ ،‬وأنت سرتجعني مرة أخرى إىل شواهدها من القرآن‪ .‬ملاذا نفعل هذا الفعل؟‬

‫ألننا نتعبد هللا بكالمه‪ ،‬فاملطلوب من طوال الوقت وأنت تتدبر القرآن أن ترى آاثر كمال صفاته يف كتابه‪ ،‬واحلقيقة أن آاثر‬
‫كمال صفات هللا موجودة يف كتابه كله‪ ،‬لكننا سا نستوعب آاثر الكمال هذه نتيجة عدم رد املفاهيم إىل نصوصها‪.‬‬

‫مثاسا حىت تتصوروا املسألة‪- :‬املسألة ليست ابلعسرية‪ ،‬ومع التمرين تصبح يسرية إن شاء هللا‪-‬‬
‫سنضرب ً‬

‫الشيخ عندما بدأ يف اسم هللا (احلكيم) تكلم عن أمرين‪:‬‬

‫‪ .1‬تكلم عن صفة احلُكم هلل‪.‬‬

‫‪ .2‬وتكلم عن صفة احلكمة له‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬

‫والذي سنُظهره أكثر يف دجربتنا هو (احلكمة)؛ ألهنا أكثر خفاءً يف دسالتها‪ ،‬أما احلُكم فيأيت صرحيًا يف كتاب هللا‪ .‬سنقرأ مجلة‬
‫عن احلكمة من الكتاب‪ ،‬وسنفكر‪ :‬ماذا سنفعل؟ كيف سنبحث يف كتاب هللا؟ سنبدأ بتفكيكها والبحث عن دساساهتا يف‬
‫القرآن؛ ألننا على يقني أن أهل السنة واجلماعة مل يكتبوا مفاهيمهم إال أبدلة من القرآن‪ ،‬لكن الشيخ هنا اختصر‪ ،‬وأنت‬
‫ستُخرجني األدلة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫"أما كمال احلكمة‪ :‬فبثبوت احلكمة له سبحانه يف خلقه‪ ،‬ويف أمره‪ ،‬وشرعه‪ ،‬حيث يضع‬
‫يقول الشيخ‪-‬حفظه هللا‪ّ :-‬‬
‫األشياء مواضعها‪ ،‬ويُن ِزَلا منازَلا‪ ،‬وال َّ‬
‫يتوجه إليه سؤال‪ ،‬وال يقدح يف حكمته مقال"‪.‬‬

‫ما معىن احلِكمة؟ أن "يضع األشياء مواضعها‪ ،‬ويُن ِزَلا منازَلا"‪ ،‬واحلكيم لكمال حكمته "ال َّ‬
‫يتوجه إليه سؤال‪ ،‬وال يقدح‬
‫يتوجه إىل احلكيم‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬بسؤال‪،‬‬ ‫يف حكمته مقال"‪ ،‬أي‪َ :‬من كان ً‬
‫عاقال اتم العقل‪ ،‬ويُقبَل منه كالمه‪ ،‬ستجد أنه سا َّ‬
‫وسا يقدح يف حكمته مبقال‪ ،‬بل هذا من شأن السفهاء والناقصني‪.‬‬

‫وحكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬تتجلّى‪:‬‬

‫‪ .1‬يف خلقه‪.‬‬

‫‪ .2‬ويف أمره‪.‬‬

‫‪ .3‬ويف شرعه‪.‬‬

‫سيبدأ الشيخ اآلن يـُ َفصل؛ فهو يريد أن يُظهر لنا حكمة هللا يف َخلقه‪ ،‬وبعد ذل حكمته يف أمره‪ ،‬وبعد ذل حكمته يف‬
‫شرعه‪ ،‬لكن اليوم ستكون املناقشة حول‪ :‬حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف خلقه‪:‬‬

‫ومشتمال على احلق‪ ،‬وكان هنايته وغايته احلق‪ ،‬أوجده‬


‫ً‬ ‫"أما احلكمة يف اخللق فإنه سبحانه خلق اخللق ابحلق‪،‬‬
‫قال‪َّ :‬‬
‫أبحسن نظام‪ ،‬ورتَّبه أبكمل إتقان‪ ،‬وأعطى كل خملوق خلْقه الالئق به‪ ،‬بل أعطى كل جزء من أجزاء املخلوقات‪ ،‬وكل عضو‬
‫الر ْمحَ ِن ِم ْن‬‫من أعضاء احليواانت ِخلقته وهيئته الالئقة به‪ ،‬حبيث ال يُرى فيه شيءٌ من التفاوت واخللل { َما تَـ َرى ِيف َخل ِْق َّ‬
‫ري}(‪ )1‬ولو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب إِلَْي َ‬ ‫ت فَارِج ِع الْبصر هل تَـرى ِمن تَـرى ِمن فُطُوٍر * ُمثَّ ارِج ِع الْبصر َك َّرتَـ ْ ِ ِ‬
‫ٍ‬
‫ص ُر َخاسئًا َو ُه َو َحس ٌ‬‫ك الْبَ َ‬ ‫ني يَـ ْنـ َقل ْ‬ ‫َ ََ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ َ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫تَـ َف ُاو ْ‬
‫مثال أو أحسن من هذه املوجودات مل يقدروا على ذلك {ص ْنع َِّ‬
‫اَّلل الَّ ِذي أَتْـ َق َن ُك َّل‬ ‫اجتمعت عقول اخللق على أن يقرتحوا ً‬
‫ُ َ‬
‫َش ْي ٍء}(‪.)2‬‬

‫العباد‪ ،‬وأنه ما ِمن كمال تفرضه األذهان ويق ّدره‬


‫املتقرر أن هللا سبحانه له الكمال الذي ال حييط به ِ‬
‫وإذا كان من ِّ‬
‫وأجل؛ فإن أفعاله ومجيع ما أوصله إىل اخللق أكمل األمور وأحسنها وأنظمها وأتقنها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املق ّدرون إال وهللا أعظم من ذلك‬

‫)‪[ )1‬سورة املل ‪]4-3:‬‬


‫)‪[ )2‬سورة النمل‪]88 :‬‬
‫‪33‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫العظَمة‬ ‫ِِ ِ‬
‫وحسنه فاعلَهُ‪ ،‬والتدبري منسوب إىل مدبّره‪ ،‬وهللا تعاىل كما ال يشبهه أح ٌد يف صفاته يف َ‬
‫فالفعل يتبع يف كماله ُ‬
‫واحلُسن واجلمال‪ ،‬فكذلك ال يشبهه أحد يف أفعاله"‪.‬‬

‫هبذا يكون انتهى كالم الشيخ حول‪ :‬احلكمة يف اخللق‪.‬‬

‫نبدأ أبول مجلة قاهلا‪ ،‬مث نرى كيف سنتتبع ذل ‪:‬‬

‫ومشتمال على احلق‪ ،‬وكان هنايته وغايته احلق"‪.‬‬


‫ً‬ ‫قال‪َّ " :‬أما احلكمة يف اخللق فإنه سبحانه خلق اخللق ابحلق‪،‬‬

‫سنبحث عن هذا املفهوم من أجل أن نعرف ما معىن‪" :‬خلق اخللق ابحلق"؟ وإىل ماذا تُشري هذه الكلمة؟‬

‫‪ ‬سنبدأ آبية (‪ )73‬يف سورة األنعام‪ ،‬وسنبحث عن كلمة "اخللق" املتصلة "ابحلق"‪ :‬قال تعاىل‪َ { :‬وُه َو الَّذي َخلَ َق‬
‫يم‬
‫احلَك ُ‬‫َّه َادة َوُه َو م‬
‫احلَق َولَهُ الم ُم مل ُ يـَ موَم يُن َف ُخ يف الصور َعاملُ المغَميب َوالش َ‬
‫ض اب محلَق َويـَ موَم يـَ ُقو ُل ُكن فَـيَ ُكو ُن قَـ مولُهُ م‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَر َ‬
‫َّ‬
‫اخلَبريُ}‪.‬‬ ‫م‬

‫ما معىن اآلية؟ ما دسالتها الظاهرة؟‬

‫ض اب محلَق}‪ ،‬أي‪ :‬أن هللا يقرر ل أنه خلق السماوات واألرض ابحلق‪.‬‬ ‫يقول تعاىل‪َ { :‬وُه َو الَّذي َخلَ َق َّ‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَر َ‬

‫اآلن سأفكر‪ :‬ما هو دليلي على أن هللا خلق اخللق ابحلق؟ وما دسالة احلق على مفهوم احلكمة؟‬

‫سنجيب على هذا بعد أن جنمع أكرب عدد من اآلايت الدالة على نفس املعىن‪ ،‬ونفهمها كلها‪.‬‬

‫ني‬
‫َّرهُ َمنَازَل لتَـ معلَ ُموا َع َد َد السن َ‬
‫ورا َوقَد َ‬
‫س ضيَاءً َوالم َق َمَر نُ ً‬ ‫‪ ‬قال تعاىل يف سورة يونس آية (‪ُ { :)5‬ه َو الَّذي َج َع َل الش م‬
‫َّم َ‬
‫اَّللُ ََٰذل َ إَّسا اب محلَق يـُ َفص ُل ماآل َايت ل َق موم يـَ معلَ ُمو َن}‪.‬‬
‫اب َما َخلَ َق َّ‬
‫احل َس َ‬
‫َو م‬

‫اب‬
‫احل َس َ‬
‫ني َو م‬
‫َّرهُ َمنَازَل} والغاية من ذل ‪{ :‬لتَـ معلَ ُموا َع َد َد السن َ‬
‫ورا َوقَد َ‬
‫س ضيَاءً َوالم َق َمَر نُ ً‬
‫َّم َ‬
‫فيها تقرير‪ :‬أبنه سبحانه { َج َع َل الش م‬
‫اَّللُ َٰذَل َ }‪"-‬ذل "‪ :‬اسم إشارة للشمس وللقمر وللحركة‪{-‬إَّسا اب محلَق}‪.‬‬ ‫َما َخلَ َق َّ‬

‫ٱحلَق إن يَ َشأم يُ مذهمب ُك مم َو َتأمت‬


‫ضب م‬‫سلس ََٰمََٰوت َو مسأل مَر َ‬ ‫‪ ‬ننتقل إىل سورة إبراهيم آية (‪ ،)19‬قال تعاىل‪{ :‬أََملم تَـَر أ َّ‬
‫َن هللا َخلَ َق َّ‬
‫خبَملق َجديد}‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫سنقول‪ :‬هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬خلق اخللق ابحلق‪ ،‬بدليل آية سورة إبراهيم اليت تَـ َقَّرر فيها أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬خلق السماوات‬
‫واألرض ابحلق‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬وهي‪ :‬أنه جيب علي أن ترى؛ فقوله تعاىل‪{ :‬أََملم تَـَر} معناه‪ :‬أنه جيب علي أن‬
‫وآية إبراهيم هذه فيها دسالة مهمة ً‬
‫تُالحظ وأن تفكر يف هذا املفهوم العظيم‪ :‬أن هللا خلق السماوات واألرض ابحلق‪.‬‬

‫ابطال‪ .‬ومن‬
‫هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬ما خلق ملوقًا إسا ابحلق‪ ،‬ولكي تفهم هذه اجلملة‪ ،‬سابد أن تفهم‪ :‬أنه مل خيلق ملوقًا ً‬
‫املفرتض عند البحث يف القرآن عن (حكمة هللا تعاىل يف خلقه) أن َتيت هبذين املفهومني؛ ألن كلمة "حق" تقابلها كلمة‬
‫"ابطل"‪ ،‬فتبحث‪:‬‬

‫‪ .1‬عن أدلة تدل على أن هللا خلق اخللق ابحلق‪.‬‬

‫ابطال‪.‬‬
‫‪ .2‬وعن أدلة تنفي أن يكون هذا املخلوق ُخلق ً‬

‫درسا مسعته يف عشرين دقيقة‪ ،‬أو يف ساعة‪ ،‬أو يف‬


‫وهذه هي النتيجة األخرية اليت ستخرجني هبا‪ ،‬حبيث سا يكون اسم احلكيم ً‬
‫آاثرا هلذا اساسم إسا يف اآلايت اليت يُذكر فيها اسم (احلكيم)! والصحيح أن‬
‫ساعتني‪ ،‬مث بعد ذل تقرئني القرآن وسا دجدين ً‬
‫ستجدين آاثر حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف القرآن كله‪ ،‬ومن ذل كل موطن سيذكر هللا فيه أنه خلق املخلوقات ابحلق‪ ،‬سيكون‬
‫هذا دليل لدي على أنه حكيم؛ ألنه خلق املخلوقات ابحلق وليس ابلباطل‪ ،‬خلقها جدًّا وليس هزًسا‪ ،‬فهو حكيم يضع األمور‬
‫موضعها‪.‬‬

‫لتتصوروا كيف أن هذا البحث سيعينكم وقت التدبر‪ ،‬فتقرأ ودجد أن هذا املخلوق‬
‫سا زال أمامنا أدلة طويلة سنمر عليها كلها؛ َّ‬
‫ُخلق ابحلق‪ ،‬فريتبط هذا مباشرة إبميان أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬حكيم‪ ،‬وهذه هي الطريقة اليت ستثبت يف قلب اإلميان هبذا اساسم‪.‬‬

‫اعةَ‬ ‫ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما إَّسا اب محلَق َوإ َّن َّ‬


‫الس َ‬ ‫الس َم َاوات َو ماأل مَر َ‬
‫نذهب اآلن لسورة احلجر آية (‪ :)85‬قال تعاىل‪َ { :‬وَما َخلَ مقنَا َّ‬ ‫‪‬‬
‫يل}‪.‬‬
‫اجلَم َ‬
‫الص مف َح م‬
‫اص َفح َّ‬
‫َآلتيَةٌ فَ م‬

‫يعين‪ :‬السماء ُخلقت ابحلق‪ .‬األرض ُخلقت ابحلق‪ .‬ما بني السماء واألرض ُخلق ابحلق‪.‬‬

‫ض اب محلَق تَـ َع َاىل َع َّما يُ مشرُكو َن}‪.‬‬


‫الس َم َوات َواأل مَر َ‬
‫ومثلها آية (‪ )3‬يف سورة النحل‪ :‬قال تعاىل‪َ { :‬خلَ َق َّ‬ ‫‪‬‬

‫‪35‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫نفس الدسالة‪ :‬أن هللا خلق السماوات واألرض ابحلق‪.‬‬

‫*سيُفيدان جدًّا أن نفكر يف اجلمل اليت بعدها‪ ،‬ولكن مقصدي اآلن‪ :‬أن منر على اآلايت‪ ،‬ونرى كم تكرر يف القرآن اخلرب عن‬
‫أن املخلوقات ُخلقت ابحلق؛ ألن اإلشكال هو‪ :‬أن هذه الكلمة مل تُناقش‪ ،‬مل نفهم ما معناها‪ ،‬وما وجه دسالتها‪.‬‬

‫ض اب محلَق إ َّن يف ََٰذل َ َآليَةً ل مل ُم مؤمن َ‬


‫ني}‪.‬‬ ‫الس َم َاوات َو ماأل مَر َ‬
‫اَّللُ َّ‬
‫آية (‪ )44‬يف سورة العنكبوت‪ :‬قال تعاىل‪َ { :‬خلَ َق َّ‬ ‫‪‬‬

‫ساحظوا هناية اآلية‪{ :‬إ َّن يف ََٰذل َ َآليَةً ل مل ُم مؤمن َ‬


‫ني}‪ ،‬سابد أن نفهم أن خلق السماوات واألرض ابحلق هو آيةٌ للمؤمنني‪ ،‬آيةٌ‬
‫جيب علي أن تفهمها‪ ،‬وأن تتفكر فيها؛ ولذل سنجد أنه جاء على لسان املؤمنني‪ :‬نفي أن ُخيلَق شيء ابلباطل‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫اب النَّار}(‪)1‬؛ ألهنم آمنوا أنه مل ُخيلَق شيء إسا حلكمة وابحلكمة وابحلق‪.‬‬
‫ت َه َذا َابط ًال ُسمب َحانَ َ فَقنَا َع َذ َ‬
‫{ َربـَّنَا َما َخلَ مق َ‬

‫ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما إسا‬


‫الس َم َوات َواأل مَر َ‬ ‫‪ ‬ومثلها آية (‪ )8‬يف سورة الروم‪ :‬قال تعاىل‪{ :‬أ ََوَملم يـَتَـ َف َّك ُروا يف أَنمـ ُفسه مم َما َخلَ َق َّ‬
‫اَّللُ َّ‬
‫َجل ُم َس ًّمى َوإ َّن َكث ًريا م َن النَّاس بل َقاء َرهب مم لَ َكاف ُرو َن}‪.‬‬
‫اب محلَق َوأ َ‬

‫{أ ََوَملم يـَتَـ َف َّك ُروا} تُشبه {أََملم تَـَر} اليت فيها األمر ابلتفكر‪ ،‬وهنا سنتفكر يف أي شيء؟ سنتفكر يف أنفسنا‪.‬‬

‫ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما إسا اب محلَق}‪ ،‬إ ًذا‪ :‬علي أن تتفكر؛ ألن هذه الدسائل‬
‫الس َم َوات َواأل مَر َ‬
‫اَّللُ َّ‬
‫مث أتت اجلملة املقصودة‪َ { :‬ما َخلَ َق َّ‬
‫ما ُوجدت إسا من أجل أن يظهر ل احلق‪ ،‬وتظهر ل احلكمة فيها‪.‬‬

‫َّه َار َعلَى‬ ‫ض اب محلَق يُ َكوُر اللَّمي َل َعلَى النـ َ‬


‫َّهار َويُ َكوُر النـ َ‬ ‫الس َم َوات َواأل مَر َ‬
‫ومثلها آية (‪ )5‬يف سورة الزمر‪ :‬قال تعاىل‪َ { :‬خلَ َق َّ‬ ‫‪‬‬
‫َّار}‪.‬‬
‫َجل ُم َس ًّمى أَسا ُه َو الم َعز ُيز المغَف ُ‬
‫س َوالم َق َمَر ُكل َمجيري أل َ‬ ‫اللَّميل َو َس َّخَر الش م‬
‫َّم َ‬
‫ض اب محلَق}‪ ،‬مث أخرب بشيء من األفعال املتعلقة هبذا‪ ،‬فقال‪{ :‬يُ َكوُر اللَّمي َل‬ ‫الس َم َوات َواأل مَر َ‬
‫أخرب‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬أنه { َخلَ َق َّ‬
‫مشتمال على احلق؛ من أجل‬ ‫ً‬ ‫س َوالم َق َمَر} وهذا كله له زمن‪ ،‬لكنه ُخلق ابحلق‪،‬‬ ‫َّهار َويُ َكوُر النَّـ َه َار َعلَى اللَّميل َو َس َّخَر الش م‬
‫َّم َ‬ ‫َعلَى النـ َ‬
‫أن تصل أنت إىل احلق‪.‬‬

‫ني * َما‬
‫ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما َساعب َ‬ ‫‪ ‬ومثلها آية (‪ )39-38‬يف سورة الدخان‪ :‬قال تعاىل‪َ { :‬وَما َخلَ مقنَا َّ‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَر َ‬
‫امهَا إَّسا اب محلَق َوَٰلَك َّن أَ مكثَـَرُه مم َسا يـَ معلَ ُمو َن}‪.‬‬
‫َخلَ مقنَ ُ‬

‫)‪[ )1‬سورة آل عمران‪]191:‬‬


‫‪36‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وهنا فهمنا املعنيني املتقابلَني‪:‬‬

‫‪ ‬ففي آية (‪ :)38‬نفى سبحانه أن يكون خلق السماوات واألرض وما بينهما لعبًا‪( .‬نفي اللعب)‬

‫‪ ‬مث أثبت‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف آية (‪ :)39‬أنه خلقهما ابحلق‪( .‬إثبات احلق)‬

‫فالسماوات واألرض ما ُخلقتا هكذا َعبَـثًا ولعبًا! وإمنا ُخلقتا ابحلق‪ ،‬وللحق‪ ،‬مشتملتان على احلق‪.‬‬

‫ومن هنا سنبدأ نبحث عن املعىن اآلخر‪ ،‬فنقول‪:‬‬

‫‪ o‬كل مرة سيأيت يف القرآن نفي اللعب والباطل فإن ذل سيدل يف املقابل على حكمة هللا‪.‬‬

‫‪ o‬كل مرة تأيت فيها أن هذه املخلوقات ُخلقت "ابحلق" إ ًذا أكيد سيظهر يل هنا آاثر اسم احلكيم؛ ألن هللا حكيم‬
‫وإثباات لكمال صفاته‪ ،‬واحلق هو أن تعلم أنه ال إله إال هو‪.‬‬
‫إظهارا احلق‪ً ،‬‬
‫فمخلوقاته كلها هلا حكمة‪ ،‬خلقها ً‬

‫فالسماء على اتساعها‪ ،‬واألرض على اخلريات اليت فيها‪ ،‬وما بني السماء واألرض من ملوقات‪ ،‬وما يف األرض من ملوقات‪،‬‬
‫كل ذل يشهد ابحلق‪ ،‬كل ذل يشهد أن هللا كامل الصفات‪ ،‬وأنه هو الذي يستحق أن يكون اإلله الذي يُعبد‪ ،‬فكل‬
‫عرض هذا املعرض للتسلية!! وإمنا عُ ِرض هذا املعرض الطويل‬
‫املخلوقات اليت أمامك مبثابة معرض عُ ِرض عليك‪ ،‬مل يُ َ‬
‫العريض الذي تفتح عينيك عليه وتُ ِ‬
‫غمضها عليه من أجل أن تُثبِت احلق الذي فيه‪ .‬أين حنن من التفكر يف هذا؟!‬

‫اجتَـَر ُحوا‬
‫ين م‬ ‫اآلن سندرس ثالث آايت من سورة اجلاثية (‪ ،)23-22-21‬وسنرى دسالتها‪ :‬قال تعاىل‪{ :‬أ مَم َحس َّ‬ ‫‪‬‬
‫ب الذ َ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫ض اب محلَق‬ ‫األر َ‬
‫الس َم َاوات َو م‬‫اَّللُ َّ‬
‫اه مم َومََاتـُ ُه مم َساءَ َما َمحي ُك ُمو َن * َو َخلَ َق َّ‬ ‫الصاحلَات َس َواءً َمحميَ ُ‬ ‫ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ‬‫السيئَات أَ من َمجن َعلَ ُه مم َكالذ َ‬
‫َّ‬
‫َضلَّهُ َّ‬
‫اَّللُ َعلَى ع ملم َو َختَ َم َعلَى مسَمعه َوقَـ ملبه َو َج َع َل‬ ‫ت َمن َّاختَ َذ إ َهلَهُ َه َواهُ َوأ َ‬ ‫ت َوُه مم سا يُظملَ ُمو َن * أَفَـَرأَيم َ‬
‫َولتُ مجَزى ُكل نـَ مفس مبَا َك َسبَ م‬
‫اَّلل أَفَ َال تَ َذ َّك ُرو َن}‪.‬‬
‫صره غ َش َاوةً فَ َم من يـَ مهديه م من بـَ معد َّ‬
‫َعلَى بَ َ‬

‫ما الرابط بني اآلايت الثالثة؟‬

‫سنفهم آية (‪ )21‬مع آية (‪ )23‬لكي تسهل املسألة‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫يف آية (‪ :)21‬أتى اخلرب عن قوم بقوا طوال عمرهم جمرتحني للسيئات‪-‬واساجرتاح فيه زايدة على معىن اساقرتاف؛ ألن اساجرتاح‬
‫هو‪ :‬اقرتاف ابستهانة مع استمرار‪.-‬‬

‫ت َمن َّاختَ َذ إ َهلَهُ َه َواهُ}‪.‬‬


‫مث قيل ل يف آية (‪{ :)23‬أَفَـَرأَيم َ‬

‫ما هي العالقة بني القوم الذين اجرتحوا السيئات‪ ،‬وبني َمن اختذوا إهلهم هواهم؟ هم أنفسهم! ولكن قيل يف آية (‪ :)21‬سا‬
‫تظن أننا سنُساوي بني َمن اجرتح السيئات‪ ،‬وبني َمن عمل الصاحلات؛ ألن هذا ينايف حكمة هللا احلكيم‪ ،‬من املستحيل أن‬
‫يساوي بينهم سواءً يف حمياهم أو ماهتم!‬

‫تتصور أن‬
‫ض اب محلَق}‪ ،‬مبعىن‪ :‬هل ميكن أن َّ‬ ‫األر َ‬
‫الس َم َاوات َو م‬
‫اَّللُ َّ‬
‫ولكي يظهر األمر أكثر قيل ل يف آية (‪َ { :)22‬و َخلَ َق َّ‬
‫احلكيم الذي خلق السماوات واألرض ابحلق‪ ،‬وظهر يف السماوات واألرض كمال حكمته‪ ،‬أن جيعلهم سواءً يف حمياهم وماهتم؟!‬
‫ابلطبع سا! سا ميكن أن يساوي بني عباده الذين عبدوه وأهلوه‪ ،‬وبني َمن اختذوا إهلهم هواهم!‬

‫وهبذا املعىن ستجدين آاثر اسم (احلكيم) عند قراءة القرآن‪.‬‬

‫احدا من اثنني‪:‬‬
‫كثري من يقرأ القرآن وَتتيه الدساسات يكون و ً‬

‫‪ o‬إما أن يسأل‪ :‬ما هي الدسالة؟ وبعد ذل ينسى‪ ،‬وسا يبحث!‬

‫أصال سا تأيت يف ذهنه سؤال‪" :‬ما العالقة؟"‪.‬‬


‫‪ o‬أو أنه ً‬

‫فهمنا اآلن أنه كلما َتيت كلمة "خلق السماوات واألرض" مع كلمة "احلق"‪ ،‬إ ًذا هناك إشارة واضحة إىل وجود كالم عن‬
‫احلكمة‪ .‬مث وجدان كيف أن هللا يستدل على استحالة أن يُساوي بني َمن اجرتح السيئات وبني َمن َآمن‪ ،‬وبني َمن اختذ إهله هواه‬
‫وبني َمن اختذ هللاَ إهلًا؛ بدليل أن هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬خلق السماوات واألرض ابحلق‪.‬‬

‫اخت َالف اللَّميل‬ ‫نذهب اآلن إىل آواخر آل عمران آية (‪ :)190-191‬قال تعاىل‪{ :‬إ َّن يف َخ ملق َّ‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَرض َو م‬ ‫‪‬‬
‫ودا َو َعلَى ُجنُوهب مم َويـَتَـ َف َّك ُرو َن يف َخ ملق َّ‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَرض َربـَّنَا َما‬ ‫اَّللَ قيَ ًاما َوقُـعُ ً‬
‫ين يَ مذ ُك ُرو َن َّ‬ ‫َّ‬
‫َّهار آل َايت ألُويل ماألَلمبَاب * الذ َ‬ ‫َوالنـ َ‬
‫اب النَّار}‪.‬‬ ‫ت َه َذا َابط ًال ُسمب َحانَ َ فَقنَا َع َذ َ‬
‫َخلَ مق َ‬

‫‪38‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ت َه َذا َابط ًال}‪ ،‬مث جاءت‬


‫وسيتبني لنا من دعائهم ما معىن "احلق"‪ :‬هم قالوا { َربـَّنَا َما َخلَ مق َ‬
‫َّ‬ ‫ظهر هنا موقف أويل األلباب‪،‬‬
‫ابطال‪-‬أي‪ :‬خال من‬
‫الفاء يف قوهلم‪{ :‬فَقنَا}؛ مبعىن‪ :‬ألننا على يقني أبن هذه املخلوقات ُخلقت ابحلق‪ ،‬ومل ُخيلَق هذا اخللق ً‬
‫اب النَّار}‪.‬‬
‫احلكمة‪-‬؛ فمن املؤكد أن هناك جزاء؛ ولذل قالوا مباشرة‪{ :‬فَقنَا َع َذ َ‬

‫هم علموا أن كل هذا اخللق فيه اإلشارة الظاهرة إىل كمال حكمة هللا‪ ،‬كله يدل على اسانتظام‪ ،‬فهموا أن هللا حكيم‪ ،‬وسيضع‬
‫كل شيء يف موضعه؛ ألهنم رأوا أن كل الدنيا تشهد على أن كل شيء ُوضع يف موضعه‪ ،‬حىت أنت اي ملوق! عين ُوض َعت يف‬
‫موضعها‪ ،‬أذن ُوض َعت يف موضعها‪ ،‬كل شيء يف موضعه‪.‬‬

‫علموا أن كل اخللق يشهد ابحلق‪ ،‬واحلق هو أَّسا يُساوى بني الظامل واملظلوم‪ ،‬وسا يُساوى بني العابد هلل والعابد هلواه‪ ،‬سا‬
‫مناسب له‪ ،‬علموا أن أهل الطاعة‬‫ٌ‬ ‫يستوي الصاحل مع الطاحل‪ ،‬وسا املطيع مع العاصي‪ ،‬سا ميكن ذل ! علموا أن لكل ُمستَـ َقر‬
‫مستقرهم اجلنة‪ ،‬وأن ُجيَنَّبوا النار‪ .‬هم دعوا‬
‫َّ‬ ‫موضعهم اجلنة‪ ،‬وأهل املعصية موضعهم النار‪ ،‬ففزعوا مباشرًة طالبني من هللا أن يكون‬
‫ابلنجاة من النار‪ ،‬وكأهنم دعوا هللا أن يعطيهم أسباب النجاة منها‪.‬‬

‫ت َه َذا َابط ًال} مبسألة (احلكمة)‪:‬‬


‫اآلن أريد أن أربط مسألة { َما َخلَ مق َ‬

‫ت َه َذا َابط ًال} معناها‪ :‬أن كل املخلوقات تشهد أن كل شيء ُوضع يف موضعه‪.‬‬
‫{ َما َخلَ مق َ‬

‫وأنت ترى أن كل شيء ُوضع يف موضعه‪ ،‬إسا اخللق! فرتى هذا مرفوعٌ عند الناس‪ ،‬وهو عند هللا سا شيء! وهذا له مكانه‬
‫ني}(‪ ،)1‬وهو نيب من األنبياء!‬
‫اد يُب ُ‬
‫ني َوَسا يَ َك ُ‬
‫وكرامة عند الناس‪ ،‬وليس له كرامة عند هللا! هذا { َمه ٌ‬

‫إذًا‪ :‬اخللق فقط هم الذين سا تظهر لنا هنايتهم‪ ،‬لكننا نعتقد أن كل شيء موضوع يف موضعه‪.‬‬

‫مىت ستظهر مواضع اخللق؟ مواضع اخللق لن تظهر هنا‪ ،‬بل ستظهر هناك‪ ،‬وهذا هو اساختبار!‬

‫سا بد أن نعرف أننا يف اختبار‪ ،‬ولسنا يف وضع نتائج‪ ،‬وهناك فقط كل واحد سيأخذ مكانه‪ ،‬ولن تأخذ موضعه النهائي إسا‬
‫بعيدا عن النار؛ أبن‬
‫هناك‪ ،‬ومن أجل هذا الفهم سأل أولو األلباب هللاَ احلكيم الذي يضع األشياء يف مواضعها‪ :‬أن يضعهم ً‬
‫أسبااب تبعدهم عنها‪.‬‬
‫يُ َسبب هلم ً‬

‫)‪[ )1‬سورة الزخرف‪]52 :‬‬


‫‪39‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫َّ‬ ‫وهذا هو ما قرأانه يف سورة اجلاثية‪{ :‬أ مَم َحس َّ‬


‫الصاحلَات َس َواءً‬ ‫السيئَات أَ من َمجن َعلَ ُه مم َكالذ َ‬
‫ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ‬ ‫اجتَـَر ُحوا َّ‬
‫ين م‬
‫ب الذ َ‬
‫َ‬
‫اه مم َومََاتـُ ُه مم}‪ ،‬مستحيل أن يكونوا سواءً يف حمياهم وماهتم؛ ألن هللا خلق السماوات واألرض ابحلق‪ ،‬أي‪ :‬أنه وضع األشياء‬ ‫َمحميَ ُ‬
‫يف مواضعها‪ ،‬فمن املؤكد أنه بعدما ينتهي اختبارهم سيضعهم مواضعهم‪ ،‬سيضع كل واحد على حسب نتيجة اختباره يف مكانه‬
‫املناسب‪.‬‬

‫هبذا يكون قد اتضح ما معىن "ابحلق"‪ ،‬وما دسالة خلق السماوات واألرض ابحلق على هذا املعىن‪.‬‬

‫و"ابطال"‪.‬‬
‫ً‬ ‫عليكم اآلن أن تبحثوا عن "لعبًا"‬

‫خريا‪.‬‬
‫جزاكم هللا ً‬
‫السالم عليكم ورمحة هللا وبركاته‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء الرابع‬

‫‪41‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم على نبينا حممد وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫وجل‪-‬أن‬
‫عز َّ‬
‫هذا هو لقاؤان الرابع يف سلسلة الكالم حول فقه األمساء احلسىن يف دورتنا ل‪-‬عام ‪1433‬ه‪ ،-‬أسأل هللا‪َّ -‬‬
‫خصوصا وحنن ندخل‬
‫ً‬ ‫سبيال ملرضاته وأن جيعل إمياننا أبمسائه وصفاته سببًا لزايدة إمياننا‪،‬‬
‫جيعلها دورًة مباركة‪ ،‬وأن جيعل علمنا هذا ً‬
‫على هذا الشهر العظيم "شهر القرآن"‪ ،‬فكان من الواجب أن نتعلَّم عن هللا‪ ،‬وعن أمسائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬فنرى آاثر هذا كله‬
‫وحنن نقرأ القرآن‪.‬‬

‫كنا قد اتَّفقنا أن طريقتنا هذه السنة ستكون تشبه طريقة السنة املاضية‪ ،‬ولكن بفرق بسيط وهي أننا قرأان معىن اسم احلكيم‬
‫كله مث بدأان نبحث عن هذه املعاين يف القرآن‪.‬‬

‫بدأان يف الكالم حول اسم هللا احلكيم‪ ،‬وعرفنا أن حكمة هللا تتجلَّى يف ثالثة أمور‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬يف خلقه‪.‬‬

‫األمر الثاين‪ :‬يف أمره‪.‬‬

‫األمر الثالث‪ :‬يف شرعه‪.‬‬

‫وميكن الكالم حول احلكمة يف جزائه‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬

‫أوسا‪.‬‬
‫وجل‪-‬له احلكمة البالغة يف كل خلقه‪ ،‬فبدأان ابحلكمة من اخللق ً‬
‫عز َّ‬
‫بدأان يف اللقاء املاضي نفهم معىن أن هللا‪َّ -‬‬

‫ما معىن احلكمة؟ م‬


‫وضع األمور مواضعها‪ ،‬فإنه سبحانه خلق اخللق ابحلق‪ .‬ما معىن "ابحلق"؟ أي‪ :‬أن خلق السماوات‬
‫كور بعضه على بعض ويتكرر هذا املشهد‪ ،‬لكنه ُوجد وُكرر ابحلق‪ .‬وللتقريب أكثر‪ :‬سنقول‪ُ :‬وجد وُكرر‬
‫واألرض‪ ،‬والليل والنَّهار يُ َّ‬
‫من أجل احلق‪ .‬ما دسالة هذه الباء يف كلمة "ابحلق"؟ دعوين أقول إهنا الباء السببيَّة‪ ،‬فأقرب املعىن‪ ،‬ونقول‪ :‬أي‪ُ :‬وجدوا بسبب‬
‫ووجدوا إلظهار احلق‪ ،‬فأنت اآلن لو كنت يقظًا‪-‬واليقظة شرط‪-‬ماذا سيبني ل تكرار‬
‫احلق‪ .‬أقرب أكثر‪ُ :‬وجدوا مالبسةً للحق‪ُ ،‬‬
‫مشهد الليل والنهار علي ؟ سيبني ل أن هذه األشياء ُوضعت مواضعها من أجل أن تصل أنت إىل احلق‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وهذا جيعلنا نفهم مسألة ليست فلسفية‪ ،‬وإمنا هي مسألة مرَّكبة يف العقول‪ ،‬لكن قليل َمن يلتفت إليها‪ :‬العقالء يفهمون أن‬
‫وجل‪-‬جعل‬ ‫للعقل منافذ‪ .‬عقل أين مكانه؟ مكانه يف فؤادك‪ ،‬أما مَّ فهو املرتجم‪ ،‬مرتجم ألي شيء؟ ملنافذ العقل‪ ،‬فاهلل‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫وب يـَ معقلُو َن هبَا}(‪ .)1‬هل‬
‫ومن املرتجم؟ مَّ ‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬هلُمم قُـلُ ٌ‬
‫وبصرا وفؤ ًادا‪ ،‬والسمع والبصر عبارة عن منافذ للفؤاد‪َ ،‬‬
‫مسعا ً‬
‫لنا ً‬
‫تعرفون ما معىن العقل؟ أي الذي يعقل ‪ ،‬مباذا يربطون اخليل أو اإلبل؟ يربطوهنا بعقال‪ ،‬ماذا يفعلون ابلعقال؟ يشدونه لكي‬
‫تش َّد نفس ‪ ،‬وسا َّ‬
‫تتصرف تصرفًا غري صحيح‪.‬‬ ‫تتصرف تصرفًا سا يرضونه‪ .‬إ ًذا ما معىن أن تعقل؟ أي‪ :‬أن ُ‬
‫مينعوها من أن َّ‬
‫عقل يعقلُ ويُلج ُم ‪ ،‬وهذه املنافذ لو كانت يقظة ماذا ستفعل ب ؟ ستدخل عليها مشاهدات‪ ،‬وهذه املشاهدات عبارة عن‬
‫تقررت إىل أن تصل الفكرة إىل درجة اليقني‪.‬‬
‫تكررت َّ‬
‫فكرة‪ ،‬والفكرة كلما ّ‬

‫كيف تصل األفكار إىل درجة اليقني؟ ابلتكرار‪.‬‬

‫اإلنسان عندما يرى السما وات واألرض بتكرار لنفس املشهد‪ ،‬ويرى الشمس والقمر يتداوسان بنفس األمر‪ ،‬ماذا يعقب هذا‬
‫عامل هذه األمور أبسلوب اإللف والعادة فإن العبد سيغفل‬ ‫ملن كان بصريا؟ سيعقبه اليقني‪ ،‬لكن مىت؟ إذا َّ‬
‫تفكر‪ .‬لكن عندما تُ َ‬ ‫ً‬
‫عن أن كل شيء حول ه انطق‪ ،‬فالشمس تقول له‪ :‬أان سا أحتول من املشرق إىل املغرب بنفس الطريقة وبنفس النظام ألين أستطيع‬
‫علي! والقمر يقول‪ :‬أان سا أحتول من هالل مولود إىل بدر كامل‪ ،‬مث إىل املوت مرة أخرى فأعود‬
‫قائم َّ‬
‫ذل ‪ ،‬وإمنا ورائي من هو ٌ‬
‫هالسا إسا وهناك من يبدل حايل! والسماء تنطق قائلةً ابحلق‪ :‬أان سا أكون موجودة بغري عمد‪ ،‬وسا أسقط على األرض إسا وهناك‬
‫ً‬
‫وسرت علي كما تريد؛ ألن هناك من ذللين!‬
‫َ‬ ‫من ميسكين! واألرض تنطق قائلةً ابحلق‪ ،‬شاهد ًة على كمال هللا‪ :‬ذُللت ل ‪،‬‬
‫والفل دجري يف البحر واملاء يدفعها‪ ،‬فتُحفظ على سطحه‪ ،‬واهلواء حيركها فتسري وسا تظل راكدة!‬

‫ينطق ابحلق ملن كان له مسع‪ ،‬ملن كان له بصر‪ ،‬ملن كان له فؤاد يقظ‪ ،‬كل شيء ينطق ابحلق دسالةً على‬
‫كل شيء حولنا ُ‬
‫غافال عنه! وإمنا‬
‫وجل‪-‬ما جعل هذا املعرض يتكرر علي لتكون ً‬‫عز َّ‬‫احلق‪ ،‬وكل شيء ُوضع يف موضعه ليدل على احلق‪ ،‬فاهلل‪َّ -‬‬
‫ُكرر ع مرضه علي لتعرتف ابحلق‪.‬‬

‫هل اتضح لكم ما معىن أن السماوات واألرض ُخلقتا ابحلق؟ أنت أُمرت أن تعرف أن هذا اخللق كله ُخلق ابحلق‪ ،‬وهو‬
‫مشتمل على احلق‪.‬‬
‫ٌ‬
‫سأشرح اجلملة الثانية‪-‬مجلة‪ :‬كل املخلوقات مشتملة على احلق‪ ،‬رمبا توصالنكم كلتا اجلملتان إىل املعىن‪:‬‬

‫)‪[ (1‬سورة احلج‪]46 :‬‬


‫‪43‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬خلق كل املخلوقات ابحلق‪ ،‬وكل املخلوقات مشتملة على احلق‪ ،‬وقولنا "ابحلق" أي‪ :‬أن كل املخلوقات شاهدة‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬
‫ل ابحلق‪.‬‬

‫ما هو أحق احلق؟ أن هللا كامل الصفات‪ ،‬أنه حي‪ ،‬أنه قيوم‪ ،‬أنه علي‪ ،‬أنه عظيم‪ ،‬أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬الذي يستحق التأليه‪،‬‬
‫ابطال مبجرد الصدفة‪ ،‬وإمنا ُوجدات‬
‫هذا هو احلق الذي تشهد به كل املخلوقات‪ ،‬فلما ُوجدت السماوات واألرض ما ُوجدات ً‬
‫للشهادة على احلق‪ ،‬أترى كيف أن الشمس معتدلة‪ ،‬تسري مسريها سا خترج عنه؟ هذا يدل على أن هناك َمن يسريها‪.‬‬

‫وجل‪-‬يقول عن‬
‫عز َّ‬
‫أن تشهد ابحلق‪ ،‬وهلذا هللا‪َّ -‬‬ ‫هذه األشياء ابحلق‪ ،‬وكان الواجب علي‬ ‫إذا فهمت هذا شهدت ل‬
‫الذين آمنوا‪{ :‬إسا َم من َشه َد اب محلَ َّق َوُه مم يـَ معلَ ُمون}(‪ ،)1‬مباذا ُوصف املؤمنون؟ ُوصفوا أبهنم َشهدوا ابحلق‪ ،‬أتدري ما احلق؟ احلق‪:‬‬
‫أحد أمساء شهادة "سا إله إسا هللا"‪ ،‬فيقول‪-‬سبحانه وتعاىل‪{ :-‬إسا َم من َشه َد اب محلَ َّق َوُه مم يَـ معلَ ُمون} َمن شهد ابحلق‪ :‬أي‪ :‬شهد‬
‫ب"سا إله إسا هللا"‪ ،‬وشهادته ابحلق كانت من وراء ما رأى من السماوات واألرض وما بينهما اللتان ُخلقتا ابحلق‪ ،‬واشتملتا على‬
‫احلق‪.‬‬

‫اآلن سنفهم أكثر معىن كوهنا "مشتملة على احلق"‪:‬‬

‫ين َك َف ُروا َوَك َّذبُوا آب َايتنَا َول َقاء ماآلخَرة‬ ‫َّ‬


‫نذهب إىل سورة الروم ونبدأ القراءة من اآلية السادسة عشر‪ :‬قال تعاىل‪َ { :‬وأ ََّما الذ َ‬
‫ني‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَرض َو َعشيًّا َوح َ‬ ‫احلَ مم ُد يف َّ‬
‫صب ُحو َن * َولَهُ م‬‫ني تُ م‬
‫ني متُم ُسو َن َوح َ‬
‫اَّلل ح َ‬ ‫فَأُوَٰلَئ َ يف الم َع َذاب ُمحم َ‬
‫ض ُرو َن * فَ ُسمب َحا َن َّ‬
‫تُظمه ُرو َن}(‪.)2‬‬

‫أصال إلظهار‬ ‫وجل‪-‬يتكلَّم يف أول السياق‪-‬يف اآلية السادسة عشر‪-‬عن الذين كفروا و َّ‬
‫كذبوا ابآلايت اليت ُوجدت ً‬ ‫عز َّ‬ ‫هللا‪َّ -‬‬
‫احلق‪ ،‬ومن مث إذا َّ‬
‫كذبوا آبايت هللا سيكذبون بلقاء اآلخرة‪.‬‬

‫يف اآلية السابعة عشر والثامنة عشر ماذا ستفعل‪ :‬سبح وامحد‪ ،‬وُكن من الشاكرين احلامدين‪ .‬ملاذا تُسبح‬ ‫وأنت قيل ل‬
‫وحتمد؟ لما ترى من اآلايت‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة الزخرف‪]86 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة الروم‪]18-16 :‬‬
‫‪44‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫احلَ َّي م َن الم َميت‬


‫ني تُظمه ُرو َن * ُخيمر ُج م‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَرض َو َعشيًّا َوح َ‬
‫احلَ مم ُد يف َّ‬
‫نبدأ من اآلية الثامنة عشر‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬ولَهُ م‬
‫ض بـَ مع َد َم موهتَا َوَك َذل َ ُختمَر ُجو َن}(‪.)1‬‬
‫احلَي َوُمحييي ماأل مَر َ‬
‫ت م َن م‬
‫َوُخيمر ُج الم َمي َ‬

‫اآلن فكروا! هذه األشياء ُخلقت ابحلق‪ ،‬مشتملة على احلق‪.‬‬

‫ما هو احلق؟ أن تعرتف يف النهاية أبلوهية هللا‪.‬‬

‫وجل‪-‬له احلمد يف السماوات واألرض؛ ألنه يستحق احلمد‪.‬‬ ‫‪ ‬هللا‪َّ -‬‬


‫عز َّ‬

‫‪ ‬وسا بد أن ستلقاه‪.‬‬

‫وَتمل فقط يف إخراجه للحي من امليت‪ ،‬وإخراجه امليت من احلي‪ ،‬ومنوذج ذل دجده يف األرض‪ :‬من إحيائه األرض بعد‬
‫موهتا‪ ،‬أسا يدل هذا على احلق؟ احلق الذي سيدل عليه ذَكره هللا يف قوله‪َ { :‬وَك َذل َ ُختمَر ُجو َن}‪ ،‬فأنت من املفرتض أسا َتتي‬
‫وجل‪ -‬سيعيدك يف اليوم اآلخر‪ ،‬ملاذا؟ ألن كل نبتة يف األرض تشهد على هذا احلق‪ ،‬كل نبتة تقول‬ ‫عز َّ‬‫حلظة ش يف أن هللا‪َّ -‬‬
‫علي هذا املاء امليت فأحياين هللا! فكما أن هذه األموات‬
‫يف‪ ،‬فأُلقيت يف هذه األرض امليتة‪ ،‬ووقع َّ‬
‫كنت نواة ميت ًة سا حياة َّ‬
‫ل ‪ُ :‬‬
‫مطرا‬
‫ً‬ ‫رميما يف تربة‪ ،‬وسينزل علي‬
‫اجملتمعة‪-‬من الرتبة‪ ،‬واألرض‪ ،‬واحلبة‪ ،‬واملاء‪-‬ملا اجتمعت أحياها هللا‪ ،‬فكذل أنت ستكون ً‬
‫كمين الرجال(‪ ،)2‬فيحيي هللا { َوَك َذل َ ُختمَر ُجو َن}‪.‬‬
‫َ‬
‫ين َك َف ُروا َوَك َّذبُوا آب َايتنَا َول َقاء‬ ‫َّ‬
‫إ ًذا‪ :‬كل نبتة يف األرض تشهد ل ابحلق‪ ،‬واحلق هنا هو البعث‪ ،‬كما أتى يف السياق‪َ { :‬وأ ََّما الذ َ‬
‫ماآلخَرة}‪.‬‬

‫وخيرج امليت من احلي‪ ،‬وحييي‬


‫وجل‪-‬علي ‪ :‬التسبيح واحلمد‪ ،‬وانظر‪ :‬أليس هو الذي ُخيرج احلي من امليت‪ُ ،‬‬
‫عز َّ‬
‫حق هللا‪َّ -‬‬
‫األرض بعد موهتا؟ فك مر يف هذا الذي حول ‪ ،‬ماذا تقول لنفس عندما يتكرر علي مثل هذا املنظر‪ :‬خترج فتجد هذه األرض‬
‫مليئة ابلنبااتت اليت مل تكن؟ ماذا تقول لنفس عن عدد هذا الشجر الذي تراه بعيني وأنت مستيقظ‪-‬لست بغافل‪-‬؟‬

‫)‪[ )1‬سورة الروم‪]19-18 :‬‬


‫نبت ُحلمانـُ ُهم‬
‫كمين الرجال‪َ ،‬فت ُ‬
‫اَّللُ ماءً من حتت العرش َ‬
‫فريسل َّ‬
‫ُ‬ ‫قال‪:‬‬
‫)‪ (2‬ذكره احلاكم يف املستدرك (‪ ،)5/698‬صحيح على شرط الشيخني‪ ،‬وهذا نصه‪َ ..." :‬‬
‫من الثَّرى‪ "...‬احلديث‪.‬‬
‫األرض َ‬
‫ُ‬ ‫ينبت‬
‫وجثمانـُ ُهم من ذل َ املاء‪ ،‬كما ُ‬
‫ُ‬
‫‪45‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫شخصا مستيقظًا‪ ،‬كما سيأيت الوصف يف اآلايت‪:‬‬ ‫ً‬ ‫الغافل الذي يعيش يف العادة واإللف لن يرى شيئًا من هذا‪ ،‬حنن نريد‬
‫{ل َق موم يـَتَـ َف َّك ُرو َن}(‪{ )1‬ل َق موم يـَ معقلُو َن}(‪ ،)2‬فإذا كنت متيقظًا فعلى قدر الشجر الذي تراه أُحيي بعد املوت سيكون يقين ‪ ،‬وختيَّل‬
‫عندما يتكرر علي هذا املنظر‪ ،‬وأنت يف كل مرة تعيد على نفس نفس املفهوم‪ ،‬أي استقرار ألمر الدار اآلخرة والبعث سيكون‬
‫مستقرا عندك مثل اجلبال!‬
‫ًّ‬ ‫يف قلب ؟! سيكون اليقني‬

‫كم مرة مررت على رصيف؟ هل تعرفون كيف يُبىن الرصيف؟ الرصيف هذا فيه إمسنت‪ ،‬واإلمسنت أقوى ما اخرتعه اإلنسان‪،‬‬
‫يصبون اإلمسنت مث يضعون عليه البالط الذي تراه‪ ،‬مث ماذا خيرج من هذا اإلمسنت ومن البالط؟ خترج نبتة!! كيف تشق هذا‬
‫أيضا‬
‫كبريا لتصل إىل الداخل‪ ،‬وقد سا تتمكن ً‬
‫جهدا ً‬
‫ً‬ ‫كله؟! أنت لكي تشق هذا املكان ستأيت آبلة للحفر‪ ،‬وسيتطلب هذا من‬
‫من شقه مع هذا كله! لكن يشقه املل ‪ ،‬الذي سيشق األرض‪ ،‬وسيُخرج هذه األجساد‪ .‬أليست هذه آية؟ كم مرة رأيتها؟‬
‫املفرتض بعدد هذه املرات وتفكريك نفس هذا التفكري تصل إىل اليقني أنه من املستحيل أن مير خباطري أنين لن أخرج يوم‬
‫القيامة‪ ،‬سيُخرجين هللا‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪َ { ،‬وَك َذل َ ُختمَر ُجو َن}‪.‬‬

‫كل شجرة تشهد ل هبذا احلق‪ ،‬وستسري بنفس هذا السري يف كل شيء‪ ،‬وأنت تقرأ يف القرآن سيُقال ل ‪ :‬هذا يشهد ل‬
‫بكذا‪ ،‬وهذا يشهد ل بكذا‪ ،‬حبيث دجتمع كل أركان اإلميان يف قلب ‪ ،‬وأعظم أركان اإلميان‪ :‬معرفة هللا مث َتليهه وتعظيمه وحمبته‪،‬‬
‫هذا هو احلق الذي من أجله ُخلقت السماوات واألرض وما بينهما‪.‬‬

‫آايته أَ من َخلَ َق لَ ُكم م من أَن ُفس ُك مم‬


‫آايته أَ من َخلَ َق ُكم من تـَُراب ُمثَّ إ َذا أَنتُم بَ َشٌر تَنتَش ُرو َن * َوم من َ‬ ‫نُكمل اآلايت‪ :‬قال تعاىل‪َ { :‬وم من َ‬
‫اجا لتَ مس ُكنُوا إلَميـ َها َو َج َع َل بـَميـنَ ُكم َّم َوَّد ًة َوَر ممحَةً إ َّن يف َذل َ َآل َايت ل َق موم يـَتَـ َف َّك ُرو َن}(‪.)3‬‬
‫أ مَزَو ً‬

‫آايته‪ ،}...‬حنتاج أن نـَعُد كم مرة ُكرر فيها هذا اللفظ؟‬


‫كثريا ما يُكرر فيها قوله تعاىل‪َ { :‬وم من َ‬
‫سورة الروم حتتاج إىل دراسة‪ً ،‬‬
‫السور اليت ال بد من دراستها‬
‫ومباذا ُختمت هذه اآلايت؟ ما عالقة آخر السورة مبطلعها؟ سورة الروم وسورة النحل من ُّ‬
‫ابلتفصيل يف هذا الوقت ابلذات؛ ألنك أنت اآلن حتتاج لشواهد قوية تشهد لك على أن ما معك حق‪ ،‬فاحلق مستقر يف‬
‫مهجورا‪ ،‬فيبلى يف قلبك!‬
‫ً‬ ‫قلبك‪ ،‬نعم! ال ننكر ذلك! لكن ال ترتك هذا احلق‬

‫)‪[ )1‬سورة الروم‪]21:‬‬


‫)‪[ (2‬سورة الروم‪)24:‬‬
‫)‪[ )3‬سورة الروم‪)21-20:‬‬
‫‪46‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫قد تأتي شخص وأنت غافل فيقول ل ‪ :‬ما الذي أدراك أن يوم القيامة سيكون؟ من الذي قال ل هذا؟ مثل هذا السهم‬
‫مقتال في ‪.‬‬
‫َتملت فيما حول من اآلايت الدالة على احلق‪ ،‬قد يصيب ً‬
‫الذي يُرسل إلي وأنت غري مستعد له‪ ،‬ومل تكن قد َّ‬
‫تتحصن منه؟‬
‫َّ‬ ‫َمن الذي ُخيرج هذا السهم املسموم من القلب إذا مل‬

‫ضروري جدًّا أن هتتم هبذا النوع من النصوص فتربزه لنفس ‪ ،‬وأان أعرف أن اإلميان ابهلل وبربوبيَّته مستقر بفضل هللا‪ ،‬ولكن‬
‫َمن يضعف سالحه يغلبه عد ُّوه‪ ،‬فأنت اآلن من املفرتض أن تتسلَّح وتستعد ملثل هذا الكالم‪.‬‬

‫اآلن سندرس ما تدل عليه اآلايت‪:‬‬

‫آايته أَ من َخلَ َق ُكم من تـَُراب}‪.‬‬


‫سنبدأ ابآلية األوىل‪ :‬قال تعاىل‪َ { :‬وم من َ‬ ‫‪‬‬

‫بشر منتشر ستعود إىل الرتاب‪ ،‬مث يعيدك مرًة أخرى من هذا‬
‫منتشرا؟ أنت اآلن ٌ‬
‫بشرا ً‬‫ما العالقة بني الرتاب وبني كون اآلن ً‬
‫الرتاب‪ ،‬فكما انتشرت مرةً أوىل ستنتشر مرةً أخرى‪.‬‬

‫كثريا يف هذا‪ ،‬لكين أقوله لكم اآلن ابختصار؛ ألن مقصدي هو أن أصل فقط إىل هذه اجلملة‪ :‬أن هللا‬
‫كالما ً‬
‫املفسرون ذكروا ً‬
‫مشتمال على احلق‪.‬‬
‫ً‬ ‫خلق اخللق ابحلق‪،‬‬

‫آايته أَ من َخلَ َق لَ ُكم م من أَن ُفس ُك مم أ مَزَو ً‬


‫اجا} من أجل ماذا؟ {لتَ مس ُكنُوا إلَميـ َها َو َج َع َل بـَميـنَ ُكم َّم َوَّد ًة‬ ‫قال تعاىل‪َ { :‬وم من َ‬ ‫‪‬‬
‫َوَر ممحَةً}‪.‬‬

‫وجل‪-‬هو الذي جعل بني كل زوجني املودة والرمحة اللتان سببَّتا استمرار احلياة الزوجية‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬

‫خصوصا لو كان هناك منازعات‪ ،‬لكن أنت‬


‫ً‬ ‫اجملرد يقول‪ :‬إن اساحتكاك بني شخصني إذا طال زمنه قلَّت مقابله األلفة‪،‬‬
‫العقل َّ‬
‫مستقرة مع كل ما فيها من الشد‪ ،‬ولكنها‬
‫َّ‬ ‫وجل‪-‬أن جعل احلياة الزوجية تستمر‪ 40-30-20 ،‬سنة‬
‫عز َّ‬
‫ترى من آايت هللا‪َّ -‬‬
‫يتدخل أحد فيه‪ ،‬وسا حيب أن‬
‫مستقرة‪ ،‬مع أن األصل يف اإلنسان أنه كنود‪-‬أي‪ :‬فيه خبل‪ ،‬سا حيب أن َّ‬
‫َّ‬ ‫تعترب بصورة جمملة حياة‬
‫شديدا‪ ،‬ومع ذل َتيت احلياة الزوجية وتصبح آية من‬
‫يالحظه أحد‪ ،‬وسا حيب أن يتابعه أحد‪ ،‬وسا حيب أن يرتبط به أحد ارتباطًا ً‬
‫آايت هللا أن تبقى هذه املودة والرمحة كل هذه السنني‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫استمرت حياهتم مستقرة ماذا سرتى يف استقرارهم؟ سرتى آية‪ ،‬وتقول‪ :‬إن الذي‬
‫َّ‬ ‫وهذا معناه أن حينما تنظر إىل كل من‬
‫أبقى هذه احلياة الزوجية مستمرة هو هللا‪ ،‬واملودَّة والرمحة اليت بينهما إمنا هي من عطاَّي هللا‪.‬‬

‫حمل‪ .‬وهناك َمن‬


‫وهذه اآلية غالبًا ينسبها الناس لكل شيء إسا هلل! فهناك َمن يقول‪ :‬أن املرأة أليفة‪ ،‬ومسكينة‪ ،‬وطيبة‪ ،‬وتت َّ‬
‫يقول‪ :‬إن الرجل صابر‪ ،‬وماذا سيفعل يف أوساده إن طلق زوجته؟ وإىل آخر هذا الكالم‪ ،‬وكل هذا ضد تَفكرك يف كون احلياة‬
‫الزوجية آية‪ ،‬فكم من البيوت وصلت إىل أن تُـ َه ّد مث يلحمها هللا‪ ،‬ويق ِّرهبا هللا‪ ،‬وحيفظها هللا‪ ،‬فبقاؤها آية من آَّيته‪.‬‬

‫وهذه اآلية‪-‬اليت هي آية بقاء البيت الزوجي‪-‬تبني ل أن ملوقاته مشتملة على احلق‪ ،‬مبعىن‪ :‬أن بقاء املودة والرمحة وبقاء‬
‫البيوت دليل على أن الذي يبقيها هو هللا‪ ،‬أما اإلنسان سا يستطيع هو بنفسه أن يبقيها هذا العمر كله‪.‬‬

‫وساحظي قوله تعاىل يف آخر اآلية‪{ :‬إ َّن يف ذَل َ َآل َايت ل َق موم يـَتَـ َف َّك ُرو َن}‪َ ،‬من الذي سيشعر أن هذه اآلية مشتمل ًة على‬
‫احلق؟ الذي يتفكر‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ف أَلمسنَت ُك مم َوأَلم َوان ُك مم إ َّن يف َذل َ َآل َايت ل مل َعالم َ‬
‫ني}‬ ‫اخت َال ُ‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَرض َو م‬
‫آايته َخ مل ُق َّ‬
‫ومثلها قوله تعاىل‪َ { :‬وم من َ‬ ‫‪‬‬

‫ما هي اآلايت هنا؟‬

‫‪ .1‬خلق السماوات واألرض‪.‬‬

‫‪ .2‬اختالف األلسن‪.‬‬

‫‪ .3‬اختالف األلوان‪.‬‬

‫وهذا كله مرتبط خبلق السماوات واألرض‪.‬‬

‫اختالف األلوان ما معناه؟ ما معىن أن هذا اللون الذي نراه هو إشارة إىل احلق؟ حنن سا زلنا على نفس الكالم‪ :‬أنه سبحانه‬
‫مشتمال على احلق‪ .‬فلون ولون جارك يدل على أن ملوقاته مشتملةٌ على احلق‪ ،‬فقد يكون هؤساء من نفس‬
‫ً‬ ‫خلق اخللق ابحلق‪،‬‬
‫البيئة‪ ،‬ومن نفس العائلة‪ ،‬وقد تقرتب أكثر فرتاهم إخو ًاان مث ترى درجة بسيطة من اساختالف‪ ،‬على ماذا يدل هذا؟ يدل على‬
‫وجل‪-‬خيلق ما يشاء وخيتار‪ ،‬فليس من أجل أن هؤساء من عائلة واحدة وهذه هي صبغتهم إذًا سابد أن خترج‬
‫عز َّ‬
‫احلق‪ ،‬وأن هللا‪َّ -‬‬

‫)‪[ (1‬سورة الروم‪]22 :‬‬


‫‪48‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫أشكاهلم هكذا! سا! ليس هكذا! بل هللا خيلق ما يشاء وخيتار‪ ،‬وابدأ من العائلة قبل أن تبدأ من البعيدين عن بعضهم‪ ،‬ابدأ من‬
‫العائلة الواحدة وانظر هل َتيت درجتهم واحدة؟ سا‪ ،‬سا َتيت درجتهم واحدة! سبحان هللا! وحىت التوائم قد سا َتيت درجة ألواهنم‬
‫واحدة‪ ،‬وكل هذا مشتمل على احلق‪.‬‬

‫لو كنت َن يرى اخللق بعني البصرية لرأيت اختالف األلوان يشهد هلل ابحلق‪ ،‬فدرجة اساختالف هذه بني‬ ‫مبعىن أن‬
‫األلوان دجعل تؤمن أنه وحده الذي خلق‪ ،‬وهو وحده الذي خيلق ما يشاء وخيتار‪ .‬كم مرة مرت علي األلوان؟ عدد سا هنائي‪،‬‬
‫كل مرة يُقال ل فيها‪ :‬هذا التكرار الذي حيصل‪ ،‬هذا التكرار الذي أوصل إىل حد اإللف‪ ،‬جيب أن تتبصر فيه‪ ،‬وتراه آية‪،‬‬
‫فالذي خلق هذا األبيض الذي قد يُزعج النظر إليه‪ ،‬وخلق هذا األسود الذي قد سا يكون له يف نفس مكان‪ ،‬الذي خلق‬
‫هذا وهذا هو املل العظيم‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،-‬الذي خيلق ما يشاء وخيتار‪ ،‬أما ما حيصل يف قلب من انزعاج من األلوان اليت سا‬
‫تناسب إمنا هو من صد الشيطان ل عن التفكر‪.‬‬

‫ومن آايته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬ما هو أعجب من ذل ‪ :‬عندما تسمع األلسنة واختالفها‪ ،‬ويقال ل ‪ :‬إن هناك أكثر من ثالثة‬
‫عشر ألف لغة حيَّة يف العامل يتداوهلا الناس‪َ ،‬من علَّمهم؟ أليس هذا سؤ ًاسا جيب أن نسأله أنفسنا؟! هؤساء العرب َمن علَّمهم؟‬
‫والعجم َمن علَّمهم؟ والفرس َمن علَّمهم؟ واهلند َمن علَّمهم؟ والروم َمن علَّمهم؟ واألفارقة َمن علَّمهم؟ وهكذا‪ ،‬سا يوجد أحد‬
‫اخرتع لغته‪ ،‬كلهم علَّمهم هللا‪.‬‬

‫فاختالف األلسنة من آايت هللا‪ ،‬هو الذي ألقى ذل يف نفوسهم‪ ،‬وعلَّمهم كيف يتكلَّمون‪ ،‬مث استعملوها وأحيوها وكثَّروها‬
‫وعاملوها‪ ،‬بل هو الذي وضع يف فطرة اإلنسان أن يُسمي كل شيء‪ ،‬وعلَّمه ذل ‪ ،‬فهذا من عظيم آايته اليت تدلَّ على احلق‬
‫الذي وراءها‪.‬‬

‫كثريا ما تسمعه يف الكالم‪ ،‬إسا اللغة العربية فإهنا لغة مستقيمة‪ ،‬سا تشعر‬
‫ميزا‪ ،‬حرفًا ً‬
‫غالب اللغات سا بد أن يكون فيها حرفًا ً‬
‫األذن حبرف معني يكثر مساعه فيها‪ ،‬وإمنا تشعر ابستقامتها‪ ،‬وهي لغة أهل اجلنة اليت اختارها هللا هلم‪ ،‬وحنن سا نتمدح يف العربية‬
‫ألننا عرب! وإمنا هي اختيار هللا‪ ،‬خيلق ما يشاء وخيتار‪.‬‬

‫مباشرة أن هؤساء من هنا وهؤساء من هنا بسبب طريقة‬ ‫عندما تسمع هذه النربات املتباينة‪ ،‬اليت تبني ل‬ ‫واملقص د‪ :‬أن‬
‫كالمهم‪ ،‬فإنه سا بد أن يتبادر إىل ذهن هذه األسئلة‪َ :‬من علَّمهم؟ َمن جعل ألسنتهم هبذه الصورة؟ َمن جعل سا تستطيع أن‬
‫تتحدث بلغتهم إسا عندما يعوج لسان هلم؟ َمن فعل هذا؟ هللا‪ ،‬وهلذا اختالف األلسنة آية‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫والتنافس على دراسة اللغة اآلن هو تنافس للتفاخر بني الناس‪ ،‬وتُركت شهادة هذه اللغات املختلفة على أن هللا هو احلق!!‬
‫تُركت هذه الشهادة! وأصبح كل التفكري يف نفس اللغة! ألسنا نعيش يف متام الغفلة والسبات؟! ابلرغم من أننا نقرأ سورة الروم‪،‬‬
‫فهي ليست ابألمر البعيد عنا‪ ،‬أو أهنا أمر سا نستطيعه‪.‬‬

‫آايته‪}...‬؟ جيب علي أن‬


‫وجل‪-‬يقول‪َ { :‬وم من َ‬
‫عز َّ‬
‫أان أسأل ‪ :‬هل تعلمني ماذا جيب علي أن تفعلي عندما تسمعني هللا‪َّ -‬‬
‫َّ‬
‫تتفكري عمليًّا‪ ،‬وأن تعايشي هذه اآلية‪ ،‬فإذا حفظتها ودخلت إىل وجدان ‪ ،‬فإن تكرارها يكون ل ‪ :‬أن هللا هو احلق‪ ،‬يكون‬
‫ل الشعور واساعتقاد أبن هللا حق؛ ألن هذه كلها شواهد على أن هللا هو احلق‪ ،‬وأنه العظيم‪ ،‬وأنه اإلله الذي يستحق أن يُعظَّم‪،‬‬
‫وأن يُعبد‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬

‫ضله إ َّن يف َذل َ َآلايت ل َق موم يَ مس َمعُو َن}(‪.)1‬‬ ‫آايته َمنَ ُام ُك مم ابللَّميل َوالنـ َ‬
‫َّهار َوابمتغَا ُؤُك مم م من فَ م‬ ‫مث قال تعاىل‪َ { :‬وم من َ‬ ‫‪‬‬

‫هذه هي النعمة العظيمة اليت يعايشها الناس مث يُناقضوهنا‪َ { :‬منَ ُام ُك مم ابللَّميل}‪ ،‬وابتغاؤكم الفضل ابلنهار‪.‬‬

‫هذه اآلية فيها لف ون مشر‪ :‬فالنوم للَّيل‪ ،‬وابتغاؤكم من فضله للنهار‪.‬‬

‫مث من املؤكد أنه سيتبادر للذهن سؤال‪ :‬ملاذا {إ َّن يف ذَل َ َآلايت ل َق موم يَ مس َمعُو َن}؟ هل قوله تعاىل‪{ :‬ل َق موم يَ مس َم ُعو َن}‬
‫يناسب الليل أم النهار؟ املفرتض أن السمع يناسبه الليل؛ ألن الَّليل وقت للسكون‪ ،‬فيُسمع فيه من الضجيج ما سا يُسمع يف‬
‫النهار‪ ،‬والنهار من الطبيعي أن يكون فيه آية اإلبصار‪ .‬وهذا التفنن العجيب سيأتينا الكالم عنه يف سورة النحل‪ ،‬وسيأتينا‪-‬إن‬
‫أيضا يف بقية التدارس‪.‬‬
‫شاء هللا‪ً -‬‬

‫ض بـَ مع َد َم موهتَا إ َّن يف َذل َ‬


‫الس َماء َماءً فَـيُ محيي به ماأل مَر َ‬ ‫آايته يُري ُك ُم المبَـ مر َق َخ موفًا َوطَ َم ًعا َويـُنَـزُل م َن َّ‬‫‪ ‬مث قال تعاىل‪َ { :‬وم من َ‬
‫ض أب مَمره ُمثَّ إذَا َد َعا ُك مم َد مع َوًة م َن األ مَرض إذَا أَنمـتُ مم َختمُر ُجو َن * َولَهُ َم من يف‬
‫الس َماءُ َواأل مَر ُ‬
‫وم َّ‬ ‫آايته أَ من تَـ ُق َ‬
‫َآل َايت ل َق موم يـَ معقلُو َن * َوم من َ‬
‫الس َم َوات َواأل مَرض ُكل لَهُ قَانتُو َن}(‪.)2‬‬
‫َّ‬

‫املقصد اآلن‪ :‬أن هللا يقول ل ‪ :‬إن كل هذه اآلايت ما ُوجدت إسا ابحلق‪ ،‬وهي مشتملة على احلق‪.‬‬

‫‪ُ ‬وجدت ابحلق‪ :‬لكي يثبت يف قلب احلق‪ ،‬وهو‪:‬‬

‫)‪[ (1‬سورة الروم‪]23 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة الروم‪]26-24 :‬‬
‫‪50‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪.-‬‬
‫عز َّ‬
‫‪ o‬كمال صفات هللا‪َّ -‬‬

‫‪ o‬ووجوب لقائه‪.‬‬

‫حسااب ابلعدل والفضل‪.‬‬


‫ً‬ ‫‪ o‬وأنه سيحاسب‬

‫‪ ‬وأهنا كلها مشتملة على احلق‪ :‬مبعىن أن كل اآلايت يظهر فيها كمال صفات هللا‪.‬‬

‫فصلت كل آية ستجدها مشتمل ًة على شيء من اإلشارات‬


‫فهذه اآلايت دجعل تعتقد كمال صفات هللا‪ ،‬وتعتقد لقاءه‪ ،‬وإذا َّ‬
‫وجل‪.-‬‬
‫عز َّ‬
‫العظيمة لصفات هللا‪َّ -‬‬

‫شرحا نظرًّاي‪ ،‬وبعد ذل سيتم الشرح عمليًّا‪:‬‬


‫سأشرح اآلن معىن "مشتملة" ً‬

‫ما معىن "مشتملة"؟‬

‫وجل‪-‬فتُـ َفندها دجد فيها ما يُرشدك إىل كمال صفات هللا‪،‬‬


‫عز َّ‬
‫"مشتملة" مبعىن‪ :‬أن عندما َتيت لكل آية من آايت هللا‪َّ -‬‬
‫مثال‪ ،‬أو العلم‪ ،‬أو احلكمة‪ ،‬أو اإلحسان‪ ،‬أو اللطف‪.‬‬
‫كالقدرة ً‬

‫فصلتها ستدل على شيء تفصيلي من صفات هللا‪.‬‬


‫إ ًذا‪ :‬نفس اآلايت مشتملة على احلق‪ ،‬كل آية لو َّ‬

‫متصرا‪ ،‬سيشري لكم إىل هذه املسألة‪ :‬كيف أن كل آية‬


‫ً‬ ‫على كل حال‪ :‬حنن لدينا جزءً من كالم ابن القيم‪-‬رمحه هللا‪ ،-‬نقلناه‬
‫فصلتها ستجد‬
‫وجل‪-‬ابحلق‪ ،‬لكي تدل على احلق‪ ،‬وجعلها مشتملةً على احلق‪ ،‬متضمنة له‪ ،‬فلو َّ‬
‫عز َّ‬
‫من آايت هللا‪ :‬خلقها هللا‪َّ -‬‬
‫أهنا تشري إىل كمال صفات هللا‪.‬‬

‫فتأمل خلق‬
‫وجل‪-‬يف خلق السماوات واألرض وما بينهما وما يف األرض‪ّ ،‬‬
‫عز َّ‬
‫قال ابن القيم‪-‬رمحه هللا‪" :-‬من آَّيت هللا‪َّ -‬‬
‫علوها‪ ،‬وارتفاعها‪ ،‬وسعتها‪ ،‬وقرارها‪ ،‬وال َع َمد‬ ‫ِ‬
‫كرة‪ ،‬كيف تراها من أعظم اآلَّيت يف ّ‬
‫كرةً بعد ّ‬
‫السماء‪ ،‬وارجع البصر فيها ّ‬
‫حتتها‪ ،‬وال عالقة فوقها‪ ،‬بل هي َسوكة بقدرة هللا الذي ُميسك السماوات واألرض أن تزوال"‪.‬‬

‫علوها‪ ،‬وارتفاعها‪،‬‬ ‫ِ‬


‫كرة‪ ،‬كيف تراها من أعظم اآلَّيت يف ّ‬‫كرةً بعد ّ‬
‫فتأمل خلق السماء‪ ،‬وارجع البصر فيها ّ‬ ‫يقول‪ّ " :‬‬
‫وسعتها‪ ،‬وقرارها" فهي مستقرة سا هتتز‪ ،‬مع أهنا "ال َع َمد حتتها"‪ ،‬وسا يوجد ما يعلقها من فوقها‪ ،‬فإذا كانت هذه هي صفة‬

‫‪51‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫السماء املخلوقة فما صفة خالقها؟ ومن هنا سيظهر اشتماهلا على احلق‪ ،‬فهي مشتملة على أن خالقها قادر‪ ،‬له كمال القدرة‪،‬‬
‫عظيم‪ ،‬له كمال العظمة‪ ،‬قوي‪ ،‬بديع‪ ،‬وستعدين من أمساء هللا وصفاته ما يناسب خلق هذه السماء‪ .‬ضعي أمساء هللا أمام ‪ ،‬مث‬
‫انظري إىل السماء‪ ،‬وقويل‪ :‬ماذا يتجلَّى يف السماء من اآلايت؟ على ماذا تشتمل السماء يف تفاصيلها من آايت؟‬

‫مشتمل على احلق‪ ،‬كل ملوق يقول ل ‪ :‬هللا عظيم‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫إذًا‪ :‬هللا خلق كل ملوق حلكمة‪ ،‬كل ملوق ينطق ابحلق‪ ،‬كل ملوق‬
‫آايته‪ }...‬قويل‪ :‬ما أبرز هللا آايته يف‬
‫وجل‪-‬ل يف القرآن‪َ { :‬وم من َ‬
‫عز َّ‬
‫قادر‪ ،‬قوي‪ ،‬عليم‪ ،‬قيوم‪ ،‬له املل ‪ .‬فما أن يقول هللا‪َّ -‬‬
‫القرآن إسا ليُخربان أنه موصوف هبذه الصفات‪ ،‬وهذا من حكمته أن جعل كل شيء انطق بكمال صفاته‪ ،‬وما خلق ملوقًا إسا‬
‫هلذه احلكمة‪.‬‬

‫وجل‪-‬ما خلق خملوقًا إال وله حكمة‪ :‬إما االنتفاع أو االستمتاع أو‬
‫عز َّ‬
‫ستخرج بنتيجة مهمة وهي‪ :‬أن هللا‪َّ -‬‬ ‫مث إن‬
‫وجل‪-‬فيه هذه األمور أو بعضها‪.‬‬ ‫االعتبار‪ ،‬سا يوجد ملوق إسا وجعل هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬

‫وكمثال على ذل ‪ :‬كانت احلكمة من النمل وبيوته إىل زمن قريب هي اساعتبار فقط‪ ،‬إىل أن جاء "محض النملي " فأصبح‬
‫نوعا من أنواع اساستمتاع؛ ل َما‬
‫هناك انتفاع‪ ،‬مث أن َمن َتملها‪ ،‬وَتمل حركتها‪ ،‬وَتمل كيف أهنا لو كذبت قتلوها‪ ،‬ستصبح هلا ً‬
‫يراه من هذا املخلوق العجيب‪ .‬وإذا أردت احلقيقة فإن كل املخلوقات فيها احلكمة أبنواعها الثالثة‪ ،‬إسا أن بياهنا خيتلف حبسب‬
‫األزمنة‪.‬‬

‫مشتمال على‬
‫ً‬ ‫هذه هي النتيجة اليت سنخرج هبا‪ ،‬وكل هذا ذكرانه لكي نوضح كلمة واحدة وهي‪" :‬أن هللا خلق اخللق ابحلق‪،‬‬
‫احلق"‪.‬‬

‫أتمل استواءها واعتداَلا‪ ،‬فال ص ْدع فيها‪ ،‬وال فَطْر‪ ،‬وال ش ّق‪ ،‬وال ْأمت‪ ،‬وال ِع َوج‪ .‬مث‬
‫اتبع كالم ابن القيم‪-‬رمحه هللا‪" :-‬مث ّ‬
‫أتمل ما و ِ‬
‫ض َعت عليه من هذا اللون الذي هو من أحسن األلوان‪ ،‬وأش ّدها موافقة للبصر‪ ،‬وتقوية له"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫اآلن سيظهر الكالم حول لون السماء‪ ،‬وكيف أنه "من أحسن األلوان‪ ،‬وأش ّدها موافقة للبصر‪ ،‬وتقوية له"‪ ،‬واملعىن‪ :‬أن‬
‫سا تنزعج ابلنظر إىل لوهنا‪ ،‬سبحان هللا! ويذكر ابن القيم أن من طبهم‪َ :‬من وقع يف الكاللة أو ضعف البصر‪ ،‬فلينظر إىل السماء‬
‫الزرقاء‪ ،‬أو ينظر إىل اخلُضرة ذات السواد‪ ،‬وكلها ملوقاته‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬

‫‪52‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫أتمل حال الشمس والقمر يف طلوعهما وغروهبما إلقامة دوليت الليل والنهار‪ ،‬ولوال طلوعهما لبَطُل أمر العامل‪،‬‬
‫قال‪" :‬مث ّ‬
‫ويتصرفون يف أمورهم والدنيا مظلمة عليهم؟! وكيف كانوا يتهنّون ابلعيش مع فَـ ْقد‬
‫ّ‬ ‫وكيف كان الناس يسعون يف معائشهم‬
‫السبات‪ ،‬ومجوم‬
‫أتمل احلكمة يف غروهبما؛ فإنه لوال غروهبما مل يكن للناس هدوء وال قرار‪ ،‬مع فَـ ْرط احلاجة إىل ُّ‬
‫النور؟ مث ّ‬
‫احلواس‪ ،‬وانبعاث القوى الباطنة‪ ،‬وظهور سلطاهنا يف النوم املُعني على هضم الطعام‪ ،‬وتنفيذ الغذاء إىل األعضاء"‪.‬‬

‫"أتمل حال الشمس والقمر يف‬ ‫حتول اآلن إىل آية أخرى غري السماء واألرض‪ ،‬حتول إىل آية الشمس والقمر‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫طلوعهما وغروهبما"‪ ،‬ماذا ستجد؟ ستجد أن دولة أُقيمت بسبب طلوع الليل والنهار‪ ،‬فلو ما ُوجد الشمس والقمر لَ َما ُوجدت‬
‫األايم‪ ،‬ولو ما ُوجدت األايم لَ َما ُوجدت احلياة؛ ولبَطُل أمر العامل كله! وهذا معىن‪ :‬أن الدول تُقام بسببهما‪ .‬ف(الشمس والقمر)‬
‫وجل‪-‬جعل وقت الشمس هو وقت املعائش‪ ،‬وجعل وقت القمر هو‬
‫عز َّ‬
‫اللذان مها آلَيت (الليل والنهار) يساواي‪ :‬حيات ‪ ،‬وهللا‪َّ -‬‬
‫وقت اهلدوء والسكون الذي أنت حباجة إليه‪.‬‬

‫سنقرر املسائل اليت تناقشنا فيها حول هذه اجلملة من الكتاب‪:‬‬

‫ومشتمال على احلق‪".‬‬


‫ً‬ ‫خلق اخللق ابحلق‪،‬‬ ‫"أما احلكمة يف اخللق‪ :‬فإنه سبحانه‬

‫كل ملوق اشتمل يف تفاصيله‬ ‫‪ ‬احلق من كلمة استحقاق‪.‬‬ ‫احلكمة‪:‬‬


‫على شهادة احلق بكمال‬ ‫‪ ‬أي‪ :‬أن احلق هو‪ :‬استحقاق‬
‫هي وضع األمور مواضعها‬
‫صفات هللا‪.‬‬ ‫هللا لأللوهية والعبادة‪.‬‬

‫فرع من ذلك‪ :‬أن هللا ح ًقا موصوف‬ ‫و ِّ‬ ‫فكل هذا اخللق يدل‬ ‫‪‬‬

‫بكمال القدرة‪ ،‬أن هللا ح ًقا موصوف بكمال‬ ‫على أن هللا يستحق‬
‫العلم‪ ،‬أن هللا ح ًقا موصوف بكمال العظمة‪،‬‬
‫األلوهية‪.‬‬
‫وع ّْد‬
‫أن هللا ح ًقا موصوف بكمال اللطف‪ُ ،‬‬
‫كل ما يُوصف به‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬

‫‪53‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجدان أن كلمة "ابحلق" ُكررت يف القرآن للمخلوقات‪ ،‬ويف كل مرة تقرأ فيها أن هللا خلق املخلوقات ابحلق‪ ،‬كأنه يقال‬ ‫‪‬‬
‫ل ‪ُ :‬خل َقت هذه املخلوقات لتشهد ل أن الذي يستحق األلوهية ومن مث العبادة هو هللا‪ ،‬الذي يستحق أن يتَّجه قلب وفؤادك‬
‫وانكسارك وذل له هو هللا‪.‬‬

‫كلَّما قرأت أن هللا خلق السماوات واألرض وما بينهما ابحلق‪ ،‬وخلق كذا وكذا ابحلق‪ :‬ستفهم أن هذا إشارة إىل‬ ‫‪‬‬
‫احلكمة‪.‬‬

‫آايته‪{ }...‬لَ َعلَّ ُك مم تَـتَـ َف َّك ُرو َن} {ل َق موم يـَتَـ َف َّك ُرو َن} ستفهم أن هللا خيربك أنه حكيم‪ ،‬ما‬
‫‪ ‬كلما قرأت قوله تعاىل‪َ { :‬وم من َ‬
‫جعل هذه اآلية موجودة أمام عيني إسا من أجل أن ترى آاثر كمال صفات هللا فيها‪:‬‬

‫شاهدا ل على كمال صفاته‪.‬‬


‫‪ o‬ما خلق الليل والنهار إسا ليكوان ً‬

‫شاهدا ل على كمال صفاته‪ ،‬ولطفه‪ ،‬ورمحته‪.‬‬


‫‪ o‬ما خلق الزوجني وجعل بينهم مودة إسا ليكون ً‬

‫شاهدا ل على كمال قدرته‪ ،‬ومشيئته‪ ،‬واختياره‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬


‫‪ o‬ما اختلفت هذه األلسن واأللوان إسا ليكون ً‬

‫وهكذا‪...‬‬

‫ابطال‪ ،‬وإمنا‬
‫كل املخلوقات عندما تُذكر ل يف القرآن‪ ،‬ويُذكر ل أهنا من آايته‪ ،‬معىن ذل ‪ :‬أهنا ما ُخلقت لعبًا وسا ً‬ ‫‪‬‬
‫ُخلقت ل آية‪ُ ،‬خلقت ل ابحلق من أجل أن تراها‪ ،‬وتتأملها‪ ،‬وتتدبَّرها‪ ،‬وتقلبها‪ ،‬فتشهد هلل أنه كامل الصفات‪.‬‬

‫هذه هي احلكمة من وجود كل هذه املخلوقات اليت حول ‪ ،‬هذه احلكمة من خروج شجرة يف صحراء! هذه احلكمة من‬
‫ايحا حترك ل األوراق على أغصان‬
‫ايحا حترك ل ورق الشجر الذي على سطح األرض‪ ،‬مث دجد ر ً‬
‫وجود رايح عجيبة! ترى ر ً‬
‫ايحا تَـ ُهب على السحاب‪ ،‬سبحان هللا! كيف تنزل الرايح من فوق إىل حتت‬
‫الشجر دون أن تنزل إىل األرض‪ ،‬مث ترى ابألعلى ر ً‬
‫غبارا ولكن يف السماء‪ ،‬بقي فيها معلَّ ًقا‪ ،‬محله‬
‫أحياان نرى ً‬
‫مث حترك فقط ما على األرض من أوراق‪ ،‬وسا ُحترك ما على الشجر! و ً‬
‫اهلواء‪ ،‬ومل ينزل على الناس‪ ،‬هذا كله ما حصل إسا ابحلق؛ ليشهد ل أن هللا على كل شيء قدير‪.‬‬

‫وأهل جدة هلم سنتان تأتيهم السيل‪ ،‬مث يتكلَّمون‪ ،‬ويطلقون ألسنتهم‪ ،‬ويقولون‪ :‬استعدوا للسيل الثالث! مث ماذا حدث؟! مل‬
‫خريا‪.‬‬
‫َتهتم وسا نقطة مطر؛ هذا لتعلم أن كل شيء خبلقه واختياره‪ .‬وإذا قلت إلحداهن‪ :‬اسأيل هللا اللطف‪ ،‬قويل‪ :‬اي رب اسقنا ً‬

‫‪54‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫تقول ل ‪ :‬سا! سا تصلوا حىت صالة اساستسقاء! هذا هو الكالم الذي يقوله السفهاء الذين سا يعلمون أن هللا حكيم‪ ،‬يفعل ما‬
‫احلق الذي تشري إليه‪:‬‬
‫يشاء وخيتار‪-‬نسأل هللا أن يسقينا ويسقي املسلمني!‪ .-‬واملقصد‪ :‬أن اخللق إذا ما رأوا يف ملوقات هللا َّ‬
‫فإهنم حينئذ مل يعلموا معىن اسم هللا احلكيم‪ ،‬الذي خلق كل ملوق‪ ،‬وأودع فيه دسالته على احلق‪ ،‬فكل املخلوقات ُخلقت ابحلق‪،‬‬
‫مشتملة على احلق‪.‬‬

‫خريا‪.‬‬
‫جزاكم هللا ً‬

‫‪55‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء اخلامس‬

‫‪56‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫رب اشرح يل صدري‪ ،‬ويسر يل أمري‪ ،‬واحلُل عُقدة من لساين يفقهوا قويل!‬

‫وجل‪-‬أن جيعل خامتة هذا‬


‫عز َّ‬
‫هذا هو لقاؤان اخلامس يف هناية األسبوع األول من الدورة الصيفية لعام ‪1433‬ه‪-‬نسأل هللا‪َّ -‬‬
‫األسبوع خامتة مباركة‪ ،‬وأن تكون األايم القادمة سببًا لزايدة إمياننا‪.‬‬

‫طويال وحنن نناقشه‪.‬‬


‫سا زلنا نتكلم عن هذا اساسم العظيم اسم (احلكيم)‪ ،‬وتفاصيل هذا اساسم تستحق منا أن نقضي زمنًا ً‬

‫وجل‪-‬حكيم‪ ،‬ومن حكمته أن يضع األشياء مواضعها‪ ،‬وهذه احلكمة تظهر يف‪:‬‬
‫عز َّ‬
‫بدأان يف الكالم حول احلكمة‪ ،‬فاهلل‪َّ -‬‬

‫خلقه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ويف أمره‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ويف شرعه وجزائه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫اتفقنا أن هللا خلق املخلوقات ابحلق‪ ،‬ومشتملةً على احلق‪ ،‬وكان هنايته وغايته احلق‪.‬‬

‫أيضا ابألمس يف بداية الكالم عن معىن "مشتملة على احلق"‪ ،‬وسأشري سر ًيعا إىل معىن أن‬
‫انقشنا معىن "ابحلق"‪ ،‬وتناقشنا ً‬
‫"غايته احلق"‪ ،‬مث سأنتقل إىل أن هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪"-‬حكيم يف شرعه"‪ ،‬و"حكيم يف أمره"‪ .‬سنتكلم يف نصف األسبوع القادم‪-‬‬
‫إن شاء هللا‪-‬عن احلكمة يف شرعه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬؛ ألبني لكم بعض مناذج احلكمة يف شرعه‪ ،‬مث سيأتينا الكالم عن حكمة هللا‬
‫يف كل أمره‪.‬‬

‫كالما سابن القيم فيه بيان حلكمة هللا يف املخلوقات‪.‬‬


‫اآلن سنقرأ ً‬

‫مشتمال على احلق‪.‬‬


‫ً‬ ‫وجل‪-‬يف املخلوقات؟ معناها‪ :‬أن كل ملوق ُخلق‬
‫عز َّ‬
‫ما معىن حكمة هللا‪َّ -‬‬

‫وجل‪-‬يُشهدك به أنه يستحق التأليه‪ .‬فأنت إذا فككت هذا املخلوق وقلبت‬
‫عز َّ‬
‫"مشتمال على احلق"؟ أي‪ :‬أن هللا‪َّ -‬‬
‫ً‬ ‫ما معىن‬
‫النظر إليه سرتى اشتماله على الشهادة أبن هللا‪-‬سبحانه‪-‬يستحق التأليه‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫تعظم هللا وحتبه‪ ،‬فتدعوه‬ ‫ومعىن التأليه‪ :‬التعظيم واحملبة‪ ،‬ودعاؤه سبحانه وتعاىل‪-‬دعاء عبادة ودعاء مسألة‪ ،-‬مبعىن أن‬
‫وترجوه‪.‬‬

‫ماذا يُراد من ؟ يُراد من أن تنظر جلميع املخلوقات على أهنا مشتملة على احلق؛ ليقع يف قلب َتليه هللا‪ .‬وكل واحد منا له‬
‫القدرة على هذا التفكري‪-‬تفكري حتليل املخلوقات‪-‬على حسب اجتهاده يف أمرين‪:‬‬

‫يتخصص يف التعلم عن أمور الدنيا‪ ،‬فيبدأ يكتشف أثناء تعلمه أن هذه املخلوقات هي شواهد على‬
‫َّ‬ ‫األمر األول‪ :‬أن‬ ‫‪‬‬
‫احلق‪ .‬فيقول‪ :‬نعم هذا شاهد‪ ،‬وهذا شاهد‪...‬‬

‫وضع األشياء مواضعها‪ ،‬وكل شيء يف جسم‬


‫وجل‪-‬حكيم يف م‬
‫عز َّ‬
‫مثال‪ :‬األطباء هلم أكرب النصيب يف الشعور أبن هللا‪َّ -‬‬
‫ً‬
‫اإلنسان يشهد بذل ‪ ،‬كل شيء يف اجلسم يشهد بكمال صفات هللا‪ ،‬وأن الذي خلقه حكيم‪ ،‬لطيف‪ ،‬رؤوف‪ ،‬رحيم‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أو تكون من يكثر التفكري فتُثري املسائل‪ ،‬ولذل يقول هللا تعاىل يف سورة الواقعة‪{ :‬أَفَـَرأَيمـتُم َّما َمحت ُرثُو َن} ‪{ ،‬أَفَـَرأَيمـتُ ُم الم َماءَ‬
‫الَّذي تَ مشَربُو َن}(‪ .)2‬فكروا يف هذا كله ليظهر لكم أن كل شيء مشتمل على احلق‪ ،‬وإما أن يكون هذا التفكري نتيجة‬
‫التخصص‪ ،‬أو نتيجة كثرة التفكري يف ملوقات هللا‪.‬‬

‫‪ ‬األمر الثاين‪ :‬أن دجد من يرشدك إىل هذا‪ ،‬فتقرأ‪ً -‬‬


‫مثال‪-‬يف كالم َمن له شيء من العلم‪ ،‬وفكر يف املخلوقات‪ ،‬وفهم‬
‫وجل‪-‬اشتمل على احلق‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫احلكمة من خلقها‪ ،‬وأهنا مشتملة على احلق‪ ،‬فيظهر ل أن كل ما خلقه هللا‪َّ -‬‬

‫وجل‪-‬مشتملة على احلق هي‪:‬‬


‫عز َّ‬
‫إ ًذا‪ :‬الطريقان اللذان تصل هبما إىل معرفة أن كل ملوقات هللا‪َّ -‬‬

‫أن تتأمل أنت بنفس ‪ ،‬فتنجح يف ذل نتيجة ختصص وتفكريك بعمق‪ ،‬تنجح يف ذل ألن شديد املالحظة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مثال‪ :‬تطبخني فتتساءلني‪ :‬هذه النار من أين يل هبا؟ من الغاز‪ .‬هذا الغاز من أين يل به؟ وهذا الكربيت من أين يل به؟‬
‫ً‬
‫وهكذا‪ ، ...‬أو تذهبني للحرم املكي‪ ،‬ودجدين يف املطاف أن األرض ابردة‪ ،‬فتسمعني من يقول‪ :‬أن حتت هذا تكييف‪ .‬وآخر‬
‫أن هذا نوع من الرخام الذي خلقه هللا‪ ،‬موجود كما هو يف جبال يف‬ ‫يقول‪ :‬إ ن هذا من اساخرتاعات‪ .‬مث تفهمني بعد ذل‬
‫سويسرا‪ ،‬إسا أهنم يُدخلون عليه بعض التحسينات اليت تعكس حرارة الشمس‪ ،‬فيحوهلا إىل برودة تستمتع أنت هبا أثناء سريك يف‬

‫)‪[ (1‬سورة الواقعة‪]63 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة الواقعة‪]68 :‬‬
‫‪58‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫احلرم‪-‬وهذا من فضل هللا علينا‪ ،‬أسأل هللا أن يرفع راية التوحيد! وأن يُقيم هذه الدولة ويُبقيها!‪ ،-‬فأنت لو كنت شديد املالحظة‬
‫مشتمال على احلق‪.‬‬
‫ً‬ ‫ستبدأ هبذا التفكري! تفكر فتجد أن كل شيء يشهد هلل ابحلق‪،‬‬

‫إذًا‪ :‬الطريق األول قضيت أنت‪.‬‬

‫الطريق الثاين‪ :‬قضية َمن يعلم ‪ ،‬والشرط هنا أن يكون هذا العامل عال ًما مبا يتكلم به‪ ،‬سا يلفق احلقائق‪ ،‬وسا يلوي عنق‬ ‫‪‬‬
‫النصوص ليخرج ابملسائل‪ ،‬وإمنا يتكلم عن علم‪ ،‬وخربة‪ ،‬وصدق‪ ،‬ودراية مبا يقول‪.‬‬

‫وابن القيم‪-‬رمحه هللا‪-‬تكلم يف جزء كبري من كتابه "مفتاح دار السعادة" عن هذه املسألة‪ ،‬وقد أخذان بعض الكلمات لكي‬
‫وجل‪-‬ابحلق‪ ،‬وأنه‬
‫عز َّ‬
‫وجل‪ ،-‬وأن كل شيء يشهد هلل‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫ترتب لنا طريقة التفكري يف التفكر‪ ،‬فتتفكر مث ترى آاثر حكمة هللا‪َّ -‬‬
‫يستحق التأليه‪.‬‬

‫وجل‪{ :-‬قُ ْل أ ََرأَيْـتُ ْم إِن َج َع َل َّ‬


‫اَّللُ‬ ‫عز َّ‬ ‫قال ابن القيم‪-‬رمحه هللا‪" :-‬وقد أشار تعاىل إىل هذا املعىن‪ ،‬ونبَّه عباده عليه بقوله‪َّ -‬‬
‫ضيَ ٍاء أَفَ َال تَ ْس َمعُو َن * قُ ْل أ ََرأَيْـتُ ْم إِن َج َع َل َّ‬ ‫ِ‬
‫اَّلل أيْتِي ُكم بِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َّه َار‬
‫اَّللُ َعلَْي ُك ُم النـ َ‬ ‫َعلَْي ُك ُم اللَّْي َل َس ْرَم ًدا إِ َىل يَـ ْوم الْقيَ َامة َم ْن إِلَهٌ غَْيـ ُر َّ َ‬
‫ِ‬
‫اَّلل أيْتِي ُكم بِلَْي ٍل تَس ُكنُو َن فِ ِيه أَفَ َال تُـ ْب ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ص ُرو َن}(‪.)1‬‬ ‫ْ‬ ‫َس ْرَم ًدا إِ َىل يَـ ْوم الْقيَ َامة َم ْن إِلَهٌ غَْيـ ُر َّ َ‬

‫وخص الليل بذ ْكر السمع؛ ألن سلطان‬ ‫وتصرفه‪،‬‬ ‫خص سبحانه النهار ِ‬
‫بذكر البصر؛ ألنه حملّه‪ ،‬وفيه سلطان البصر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وُخود احلركات‪ ،‬وقوة‬
‫سمع فيه احليواانت ماال تَسمع فيه ابلنهار؛ ألنه وقت هدوء األصوات‪ُ ،‬‬
‫السمع يكون ابلليل‪ ،‬وتَ ُ‬
‫سلطان السمع‪ ،‬وضعف سلطان البصر‪ ،‬والنهار ابلعكس فيه قوة سلطان البصر‪ ،‬وضعف سلطان السمع‪.‬‬

‫اَّلل علَي ُكم اللَّيل سرم ًدا إِ َىل يـوِم ال ِْقيام ِة من إِلَهٌ غَيـر َِّ‬
‫اَّلل‬ ‫ُْ‬ ‫َْ َ َ َ ْ‬ ‫فقوله‪{ :‬أَفَ َال تَ ْس َمعُو َن} راجع إىل قوله‪{ :‬قُ ْل أ ََرأَيْـتُ ْم إِن َج َع َل َُّ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َ‬
‫ضيَ ٍاء أَفَ َال تَ ْس َمعُو َن}‪.‬‬
‫أيْتِي ُكم بِ ِ‬
‫َ‬
‫اَّلل علَي ُكم النـَّهار سرم ًدا إِ َىل يـوِم ال ِْقيام ِة من إِلَهٌ غَيـر َِّ‬ ‫ِ‬
‫اَّلل‬ ‫ُْ‬ ‫َْ َ َ َ ْ‬ ‫وقوله‪{ :‬أَفَ َال تُـ ْبص ُرو َن} راجع إىل قوله‪{ :‬قُ ْل أ ََرأَيْـتُ ْم إِن َج َع َل َُّ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ‬
‫أيْتِي ُكم بِلَْي ٍل تَس ُكنُو َن فِ ِيه أَفَ َال تُـ ْب ِ‬
‫ص ُرو َن}‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫)‪[ )1‬سورة القصص‪]72-71:‬‬


‫‪59‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫َّه َار ِخ ْل َفةً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬تَـبار َك الَّ ِذي جعل ِيف َّ ِ‬
‫ريا * َو ُه َو الَّذي َج َع َل اللَّْي َل َوالنـ َ‬
‫اجا َوقَ َم ًرا ُّمن ً‬
‫وجا َو َج َع َل ف َيها س َر ً‬
‫الس َماء بـُ ُر ً‬ ‫ََ َ‬ ‫ََ‬
‫ورا}(‪.)1‬‬
‫اد ُش ُك ً‬ ‫لِّ َم ْن أ ََر َ‬
‫اد أَن يَ َّذ َّك َر أ َْو أ ََر َ‬

‫فذكر تعاىل خلْق الليل والنهار‪ ،‬وأهنما { ِخ ْل َفة}‪ ،‬أي‪ :‬خيلُ ُ‬


‫ف أحدمها اآلخر‪ ،‬ال جيتمع معه‪ ،‬ولو اجتمع معه لفاتت‬
‫املصلحة بتعاقبهما واختالفهما"‪.‬‬

‫((الشمس والقمر‪ ،‬الليل والنهار))‬

‫وجل‪-‬من حكمة‪ ،‬ونُتبع ما مضى بكالمنا اليوم‪،‬‬


‫عز َّ‬
‫حتدثنا ابألمس عن الليل والنهار‪ ،‬وكيف أهنما يشهدان على ما هلل‪َّ -‬‬
‫ابساستشهاد آبية سورة القصص‪:‬‬

‫اَّللُ َعلَمي ُك ُم اللَّمي َل َس مرَم ًدا} أي‪:‬‬


‫وجل‪-‬لينبه على عظيم منَّته اليت تشهد له ابحلكمة‪{ :‬قُ مل أ ََرأَيمـتُ مم إن َج َع َل َّ‬ ‫عز َّ‬ ‫يقول هللا‪َّ -‬‬
‫اَّلل َتأمتي ُكم بضيَاء أَفَ َال تَ مس َمعُو َن}‪ .‬إذا بقي الليل إىل يوم القيامة ماذا سيحصل؟ أين‬ ‫دائما {إ َ َٰىل يـَ موم المقيَ َامة َم من إَٰلَهٌ َغميـ ُر َّ‬
‫ً‬
‫َٰ‬
‫مصاحل ؟ لن تكون موجودة! فيسأل ‪-‬سبحانه وتعاىل‪َ { :-‬م من إلَهٌ}؟ وهنا الشاهد‪ ،‬أي‪ :‬أن هذا األمر يشهد على أنه إلهٌ‬
‫ووقع يف قلب حمبتُهم‪،‬‬ ‫َٰ‬
‫وتؤهلُهم َ‬ ‫يستحق أن حتبه وتعظمه وتدعوه‪َ { ،‬م من إلَهٌ} أي‪َ :‬من هذا الذي ستعظمه؟ احبث فيمن تُعظ ُمهم َ‬
‫سرمدا إىل يوم القيامة؟!‬
‫بل وامتأل قلب حببهم‪َ ،‬من فيهم يستطيع أن تأيت ل ابلنهار إذا أراد هللا أن جيعل الليل ً‬

‫حمبوب‬
‫ٌ‬ ‫أحدا ويعظمه‪ ،‬سابد أن يَعرض مثل هذه اآلايت على نفسه‪ ،‬فيقول هلا‪ :‬هذا‬ ‫وعلى ذل انظر إىل كل من حيب ً‬
‫معظَّم‪ ،‬وأشعر دجاهه أنه قبلةُ قليب‪ ،‬مث آيت فأقرأ القرآن فيعاجل القرآن قليب‪ ،‬كيف ذل ؟! يسألين هللا‪ :‬إن جعلت الليل ً‬
‫سرمدا‪ ،‬ماذا‬
‫سيفعل ل هذا الذي حتبه وتعظمه؟ أنت تعلم أنه لن يفعل ل شيئًا! فهذا شاه ٌد على أن هللا هو احلق‪ ،‬الذي يستحق أن‬
‫َيؤلَّه‪ ،‬وغريه سا يستحق‪.‬‬

‫أيضا‪ .‬تعال‪-‬على سبيل املثال‪-‬إىل من يؤله‬ ‫وإذا أتيت إىل األشخاص الذين يُؤهلون غري هللا فسيتوجه إليهم هذا السؤال ً‬
‫اَّللُ َعلَمي ُك ُم اللَّمي َل َس مرَم ًدا}‬
‫أيت {إن َج َع َل َّ‬
‫"بوذا"‪-‬أي‪ :‬حيبه ويعظمه‪ ،‬وم من َمث يتوجه إليه بدعاء املسألة ودعاء العبادة‪ ،-‬واسأله‪ :‬أ ََر َ‬
‫هل سيَـ ُرد علي النهار "بوذا" هذا الذي َتؤهله؟! من املؤَّكد أن اجلواب‪ :‬سا‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة الفرقان‪]62-61 :‬‬


‫‪60‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اذهب إىل اهلندوس‪ ،‬الذين يؤهلون البقر‪-‬أي‪ :‬حيبوهنا‪ ،‬ويعظموهنا‪ ،‬ويتوجهون هلا ابلدعاء‪ ،!!-‬واسأهلم‪{ :‬أ ََرأَيمـتُ مم إن َج َع َل َّ‬
‫اَّللُ‬
‫َعلَمي ُك ُم اللَّمي َل َس مرَم ًدا إ َ َٰىل يـَ موم المقيَ َامة} ماذا ستفعل لكم بقرتكم؟! َمن سيأتيكم بضياء؟ هل ستفعل لكم شيئًا هذه اليت َتؤهلوهنا؟‬
‫اجلواب‪ :‬سا‪.‬‬

‫إذًا‪ :‬كل ما حول يشهد ل مباذا؟ يشهد ل أبن هللا هو اإلله الذي يستحق التأليه‪.‬‬

‫ويف اآلايت أحد األدلة الدقيقة اليت تشهد على َتليه هللا‪:‬‬

‫َّه َار َس مرَم ًدا إ َ َٰىل‬ ‫يقول‪-‬سبحانه وتعاىل‪{ :-‬أَفَ َال تَ مس َمعُو َن} يف احلديث عن الليل‪ ،‬وقال‪{ :‬قُ مل أ ََرأَيمـتُ مم إن َج َع َل َّ‬
‫اَّللُ َعلَمي ُك ُم النـ َ‬
‫اَّلل َتأمتي ُكم بلَميل تَ مس ُكنُو َن فيه أَفَ َال تـُمبص ُرو َن} يف احلديث عن النهار‪ ،‬مع تكرار نفس السؤال‪.‬‬ ‫يـَ موم المقيَ َامة َم من إَٰلَهٌ َغميـ ُر َّ‬

‫ملاذا أتت {أَفَ َال تـُمبص ُرو َن} مناسبة للنهار‪ ،‬و{أَفَ َال تَ مس َمعُو َن} مناسبة للَّيل؟‬

‫اجلواب‪" :‬خص سبحانه النهار ِ‬


‫بذكر البصر؛ ألنه حملّه "‪ ،‬أي‪ :‬النهار حمله البصر ألن سلطان البصر يعمل يف النهار حيث‬ ‫ّ‬
‫النور‪ ،‬وخص الليل ابلسمع؛ ألن سلطان البصر خيف يف الليل‪ ،‬ويف املقابل يعلو سلطان السمع‪ ،‬أي‪ :‬أن هتدأ فيه فتسمع‪.‬‬

‫خواتيم اآلايت كلها تدل على أن هذا القرآن من لَ ُدن حكيم خبري‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬

‫وجل‪َ { :-‬ج َع َل اللَّمي َل َوالنـ َ‬


‫َّه َار‬ ‫أمرا آخر عن اللَّيل والنهار‪ ،‬ستسمع أن هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬ ‫ستسمع ً‬
‫ُ‬ ‫أيضا‬
‫إذا نظرت إىل آية الفرقان ً‬
‫معا لَ َما حصلت املصلحة بني العباد من تعاقبهما‪.‬‬ ‫بعضا‪ ،‬سا تأتيان مع بعضهما البتة؛ ألهنما لو أتيا ً‬
‫بعضه ً‬
‫ف ُ‬ ‫خ مل َفةً}‪ ،‬مبعىن‪َ :‬خيلُ ُ‬
‫َّ‬
‫املصاحل‪{ ،‬ل َم من أ ََر َاد أَن يَذ َّكَر أ مَو أ ََر َاد ُش ُك ً‬
‫ورا}‪.‬‬ ‫فيَخلُف النهار الليل من أجل ماذا؟ من أجل أن تنتفع وتتحصل ل‬

‫أتمل احلكمة يف طلوع الشمس على العامل‪ ،‬كيف ق ّدره العزيز العليم سبحانه! فإهنا لو كانت تطلع يف موض ٍع من‬
‫قال‪ّ " :‬‬
‫السماء فتقف فيه وال تعدوه لَ َما وصل شعاعها إىل كثري من اجلهات؛ ألن ظل أحد جوانب كرة األرض حيجبها عن اجلانب‬
‫اآلخر‪ .‬وكان يكون الليل دائما سرم ًدا على من مل تَطلع عليهم‪ ،‬والنهار سرم ًدا على من هي طالعةٌ عليهم‪ ،‬فيفس ُد ِ‬
‫هؤالء‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُ ً‬
‫وهؤالء‪ ،‬فاقتضت احلكمةُ اإلَلية والعناية الرابنية أ ْن قَ َّد َر طلوعها ِمن أول النهار ِمن املشرق‪ ،‬فتشر ُق على ما قابَلها من‬
‫تنتهي إىل الغرب‪ ،‬فتشرق على ما استرت عنها يف أول النهار‪،‬‬
‫شى جهةً بعد جهة‪ ،‬حىت َ‬
‫األفق الغرّب‪ ،‬مث ال تزال تدور وتغ َ‬
‫فيختلف عندهم الليل والنهار‪ ،‬فتنتظم مصاحلهم"‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫سيصبح الليلُ‬
‫ُ‬ ‫الشمس تُشر ُق وتقف على مكان معني وسا تتحرك؟‬ ‫وهذا األمر واضح‪ .‬ما هي املفسدة اليت ستحصل لو َّ‬
‫أن‬
‫َ‬
‫حصل املنفعة هلذه املنطقة حبركة الشمس‪ ،‬مث تنتقل من هذه‬
‫سرمدا على قوم! لكنها تتحرك وتتحرك‪ ،‬فتَ ُ‬
‫النهار ً‬
‫سرمدا على قوم‪ ،‬و ُ‬
‫ً‬
‫املنطقة إىل غريها‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫قيوم قائم عليها‪ُ ،‬حيصل خللقه املصاحل من وراء فعله‪.‬‬


‫فهذا اسانتظام البديع يشهد على ماذا؟ يشهد على أن هناك ٌ‬

‫ابرزا على‬
‫فشجر الزيتون عندما يكون ً‬
‫ُ‬ ‫مثال‪-‬إىل شجر الزيتون‪:‬‬
‫وإذا أردت أن تعرف ما قيمة هذه الشمس اليت تتحرك‪ :‬انظر‪ً -‬‬
‫أنضج ما يكون‪ ،‬ملاذا؟ ألن الزيتون‬
‫التالل‪ ،‬وَتيت عليه الشمس فتمر عليه من ساعة الشروق إىل ساعة الغروب‪ ،‬فإن زيته يكون َ‬
‫حيتاج إىل فرتتني لينضج‪ ،‬فرتة قُرب الشمس وبُعدها‪ ،‬وفرتة اختفائها‪ .‬مبعىن‪ :‬أن الزيت الذي حيويه هذا الزيتون حيتاج أن تكون‬
‫غري موجودةً مث تعود‪ ،‬فكل هذا جيعل زيت الزيتون أنضج ما‬
‫الشمس بعيدة عنه فرتة‪ ،‬مث تصبح قريبة منه يف فرتة أخرى‪ ،‬مث تكو ُن َ‬
‫يكون‪ ،‬فهو كأنه يغلي هبدوء‪ ،‬مث ترتفع درجة حرارته‪ ،‬مث يرجع فيست ُكن‪ ،‬مث يعاود هذا األمر إىل أن ينعقد‪-‬أي‪ :‬تصبح مثرتُه‬
‫أبدا‪ ،‬أنت فقط‬
‫طبخا على أمهل ما يكون‪ ،‬وكل ذل حيصل هلا وأنت سا يد ل فيها ً‬
‫انضجة تأخذها اخللق‪ ،-‬فكأهنا تُطبخ ً‬
‫مستقبل‪.‬‬

‫وبصرك‪-‬وأنت يقظ ليحصل‬ ‫يكرر هذا على منافذ قلب ‪-‬مسع‬


‫عرض الليل والنهار والشمس والقمر؟ َّ‬
‫ُ‬ ‫كرر علي‬‫ملاذا يُ َّ‬
‫اليقني أبنه ما م من إله إسا هللا!‬

‫أتمل احلكمة يف مقادير الليل والنهار جت ْدها على غاية املصلحة واحلكمة‪ ،‬وأن مقدار اليوم والليلة لو زاد على‬
‫قال‪" :‬مث ّ‬
‫يتقارضان‬ ‫ِ‬
‫ما قُ ّدر عليه أو نقص لفاتت املصلحة واختلفت احلكمة بذلك‪ ،‬بل جعل مكياَلا أربعةً وعشرين ساعة‪ ،‬وجعال َ‬
‫اآلخر فيسرتدُّه منه‪ .‬قال تعاىل‪{ :‬يُولِ ُج اللَّيل ِيف النَّهار ويُولِج‬
‫الزَّيدة والنقصان بينهما‪ ،‬فما يَزيد يف أحدمها من اآلخر يعود ُ‬
‫َّهار ِيف الَّليل }(‪ ،)1‬وفيه قوالن‪:‬‬
‫الن َ‬
‫كل ٍ‬
‫واحد منهما‬ ‫دخل ظلمةَ هذا يف مكان ضياء ذلك‪ ،‬وضياء هذا يف مكان ظلمة اآلخر‪ ،‬في ِ‬
‫دخل َّ‬ ‫أحدمها‪ :‬أن املعىن‪ :‬ي ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يف موض ِع ِ‬
‫صاح ِبه‪ ،‬وعلى هذا‪ :‬فهي عامةٌ يف كل ليل وهنار‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة احلديد‪]6 :‬‬


‫‪62‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫لج يف اآلخر‪ ،‬ال يذهب مجلةً‪ ،‬وعلى هذا‪:‬‬ ‫والقول الثاين‪ :‬أنه يزيد يف أحدمها ما ي ِنق ِ‬
‫نقص منه يَ ُ‬
‫صهُ من اآلخر‪ ،‬فما يَ ُ‬‫ُ ُ‬ ‫َ‬
‫لج يف‬ ‫فاآلية خاصةٌ ببعض الساعات يف ٍ ِ‬
‫كل من الليل والنهار يف غري زمن االعتدال‪ ،‬فهي خاصةٌ يف الزمان‪ ،‬ويف مقدار ما يَ ُ‬
‫ّ‬
‫أحدمها ِم ْن اآلخر"‪.‬‬

‫َّه َار يف اللَّميل}‪.‬‬ ‫يُعلق الشيخ على قوله تعاىل‪{ :‬يُول ُج اللَّمي َل يف النـ َ‬
‫َّهار َويُول ُج النـ َ‬

‫أوسا‪ :‬انظر إىل املصاحل العائدة من جمموع ساعات النهار والليل‪.‬‬


‫ً‬

‫أن اللَّيل والنهار يَ ُ‬


‫لج أحدمها يف اآلخر‪.‬‬ ‫اثنيًا‪ :‬اعلَ مم َّ‬

‫والذي يهمنا اآلن قبل التفصيل‪ :‬الفعل {يُول ُج} ُمسنَد إىل َمن؟ ُمسنَد إىل هللا‪ ،‬فاهلل وحده هو الذي يولج الليل يف النهار‪،‬‬
‫ويولج النهار يف الليل‪ .‬إ ًذا‪ :‬هذا الفعل سابد أن يُشعرك أبحد مفهومني‪:‬‬

‫‪ )2‬ومن َمث‪ :‬مىت أؤلهُ هللا؟‬ ‫‪ )1‬مىت سأشعر هبذا الفعل؟‬

‫وستشعر أبحد هذين املفهومني حبسب فهم لكلمة {يُولج}‪.‬‬

‫مىت سأشعر هبذا الفعل؟‬

‫‪ )1‬إما أن يكون وقتًا سا ترى فيه التداخل بني النور والظلمة‪.‬‬

‫مبعىن أن إن وقفت يف الوسط يف حلظة غروب الشمس‪ ،‬ونظرت إىل الغرب‪ ،‬ونظرت إىل الشرق‪ :‬سرتى أن الشرق بدأت‬
‫الشمس‬
‫َ‬ ‫الغرب سازال فيه نور‪ ،‬فيتداخالن ويتداخالن‪ ،‬ويستمر دخول الليل وانسحاب النهار وترى‬
‫َ‬ ‫ظلمتُهُ تَزيد‪ ،‬وسرتى أن‬
‫عبدا موحداً تذكر هللا‪.‬‬
‫تنطفئ‪ ،‬وهذه اللحظة سابد أن تكون فيها ً‬

‫تعلم‬
‫وقت الغروب؛ ألن هذه حلظةٌ ترى فيها اإليالج‪ ،‬حلظةٌ ُ‬ ‫وقت من أوقات ذكر هللا‪ ،‬ومثله ُ‬ ‫الفجر ٌ‬
‫َ‬ ‫ولذل دجد أن‬
‫دخل هذا يف هذا‪ ،‬ويغيـر هذا ِمن هذا‪ :‬هو هللا اإلله الذي يستحق أن تعظمه؛ ِ‬
‫ومن َمثّ يستحق احملبة لِ َما‬ ‫فيها أن الذي ي ِ‬
‫ُ ُّ‬ ‫ُ‬
‫يورثُك من املصاحل‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫‪ ) 2‬أو يكون يف حلظة أخرى دجد فيها الشهادة أبن هللا حق‪ :‬وهي عندما حيني وقت اساعتدال‪ ،‬وسا أعين حلظة كون الساعة‬
‫تناقص وتقارض‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫هنارا يف جهة‪ ،‬وإمنا أعين الوقت الذي حيصل فيه‬
‫ليال يف جهة‪ ،‬والثانية عشرة ً‬
‫الثانية عشرة ً‬

‫لج يف اآلخر‪ ،‬سا يذهب‬


‫نقص منه يَ ُ‬
‫صهُ من اآلخر‪ ،‬فما يَ ُ‬
‫انظري لقول الشيخ‪ ،‬يقول‪(" :‬يوجل) أي‪ :‬يَزيد يف أحدمها ما يُنق ُ‬
‫يذهب إىل النهار‪ ،‬فيطول النهار ببقاء الشمس أطول‪،‬‬
‫قصر الليل‪ُ -‬‬ ‫مجلةً"‪ .‬فالذي نقص من الليل‪-‬وهذا غالبًا يف الصيف إ مذ يَ ُ‬
‫ت من الليل لتعود إىل النهار‪ ،‬مث يكون الشتاء‬
‫أن هللا يُولج هذه الساعات اليت أُخ َذ م‬‫ويبقى القمر والليل فرتة أقصر‪ ،‬فتجد َّ‬
‫ؤخذ الساعات من النهار وتُعطى للَّيل‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ابلعكس من ذل ‪ ،‬فتُ َ‬

‫ويوم يُعطَى فيه للَّيل‪ ،‬فهما عبدان‪ ،‬سا‬ ‫يوم يؤخذ فيه من اللَّيل‪ٌ ،‬‬
‫علم أنه سا الليل وسا النهار يتصرفان إبرادهتما! ٌ‬ ‫وهذا كله لتَ َ‬
‫وتأخذ م ُنهما‪ ،‬فهذا َملَ ُكوتُهُ َحي ُك ُم فيه مبا يُريد‪-‬‬
‫ؤخ ُذ منهما‪ ،‬وإهلُهما هو الذي يُعطيهما ُ‬
‫ميلكان أ من َميتن َعا َع َّما ُسخَرا له‪ ،‬يُعطَى ويُ َ‬
‫اإليالج‪-‬الذي هو فعلهُ‪ :-‬يُشه ُدك على أنه اإلله‪.‬‬
‫ُ‬ ‫سبحانه وتعاىل‪ ،-‬وهذا‬

‫ت كا َن لز ًاما على قلب َ أ من تتقرر فيه‬ ‫تتكرر وتتكرر‪ ،‬وُكلَّما َ‬


‫تكرر م‬ ‫دجدها ُ‬ ‫تثريك! ُ‬
‫عيشها‪ ،‬وجيب أن َ‬
‫تنظر إليها وتَ ُ‬
‫تفاصيل ُ‬
‫ٌ‬ ‫هي‬
‫تأخ ُذ من هناره الذي َخلَ َقهُ ويُعطيه للَيله‪ ،‬وهكذا يف ُكل خ ملقه‪َ .‬خلَ َق‬
‫القائم عليها‪ُ .‬‬
‫هو مال ُكها‪ ،‬وصاحبُها‪ ،‬وسي ُدها ُ‬
‫العقيدةُ أبنه َ‬
‫تأمرها بنفس‬
‫تتحرك الشمس كما ُ‬
‫ُ‬ ‫يعرتض أح ٌد على حكمه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وخلَ َق هذا‪ ،‬فيُعطي هذا ما شاءَ‪ ،‬ويُعطي هذا ما َشاء‪ ،‬وسا‬
‫هذا َ‬
‫الصيف يتبادسان‬
‫طوسا عن جنوهبا‪ ،‬فانظر إىل العجب! الشتاءُ و ُ‬
‫عدد الساعات‪ ،‬انهي عن كوهنا يف مشال الكرة األرضية ختتلف ً‬
‫لكن يَهدي هللاُ بذل َمن يشاء إىل‬
‫أمر َع َجب!! م‬
‫أطول يف وقتها‪ ،‬وهناك تُصب ُح أقصر‪ٌ ،‬‬
‫الشمس اليت هنا َ‬
‫ُ‬ ‫يف األرض‪ ،‬فتُصب ُح‬
‫معرفة أن األمر بيده‪ ،‬والتأليه له‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬

‫((النجوم))‬

‫كنا قد بدأان يف احلديث عن الشمس والقمر‪ ،‬وما يتبعهما من الليل والنهار‪ ،‬واآلن سيأيت الكالم عن النجوم‪:‬‬

‫وعجيب َخ ِ‬
‫لق َها‪ ،‬وأهنا زينةٌ للسماء‪ ،‬وأدلةٌ يُهت َدى هبا يف‬ ‫ِ‬ ‫قال‪" :‬مث أت ََّمل ِحكمتَه تبارك وتعاىل يف هذه النجوم وكثرهتا‪،‬‬

‫طرق الرب والبحر‪ ،‬وما جعل فيها من الضوء والنور حبيث ميكننا رؤيتها مع البُعد املُف ِرط‪ ،‬ولوال ذلك َمل َحي ْ‬
‫صل لنا االهتداء‬
‫والداللة ومعرفة املواقيت‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ج عنه‪،‬‬ ‫ض ْ ِ‬
‫وعلمه أ ْن ال ََت ُر َ‬
‫ت حكمتُه ُ‬ ‫مث أتمل تسخريها‪ ،‬منقادةٌ ألمر رهبا تبارك وتعاىل‪ ،‬جاريةٌ على َسنَن واحد‪ ،‬اقتَ َ‬
‫فجعل منها الربوج‪ ،‬واملنازل‪ ،‬والثوابت والسيارة‪ ،‬والكبار‪ ،‬والصغار‪ ،‬واملتوسط‪ ،‬واألبيض األزهر‪ ،‬واألبيض األمحر‪ ،‬ومنها‬
‫الشمس‬
‫َ‬ ‫ونز َل‬ ‫ما َخيفى على الناظر فال يُد ِرُكه‪ ،‬وجعل منطقة الربوج قسمني‪ :‬مرتفعة ومنخفضة‪ ،‬وقَ َّد َر َس َ‬
‫ريها تقدي ًرا واح ًدا‪َّ ،‬‬
‫ات ِمنها َمنَا ِزَلَا‪:‬‬
‫والقمر والسيار ِ‬
‫َ‬

‫‪-‬فمنها ما يقطعها يف شهر واحد وهو القمر‪.‬‬

‫‪-‬ومنها ما يقطعها يف عام‪.‬‬

‫‪-‬ومنها ما يقطعها يف عدة اعوام‪.‬‬

‫الناس على تلك‬ ‫ِ ُّ‬ ‫ِ‬


‫أسبااب ملا ُحيدثهُ سبحانه يف هذا العامل‪ ،‬فيَستدل هبا ُ‬
‫كل ذلك موجب احلكمة والعناية‪ ،‬وجعل ذلك ً‬
‫ِ‬
‫احلوادث اليت تقارهنا‪ ،‬كمعرفتهم مبا يكون مع طلوع الثرَّي إذا طلعت وغروهبا إذا سقطت‪ :‬من احلوادث اليت تقارهنا‪.‬‬
‫والسيارات‪.‬‬
‫وكذلك غريها من املنازل َّ‬

‫ب منها ظاهرة ال تغيب؛ ل ُق ْرهبا من املركز‪ ،‬ولِما يف ذلك من احلكمة اإلَلية‪،‬‬ ‫أتمل ج ْعلَهُ سبحانَه ِ‬
‫بنات ٍ‬
‫نعش وما قَـ ُر َ‬ ‫مث َّ ْ َ‬
‫وأهنا مبن ِز ِلة األعالم اليت يَهتدي هبا الناس يف الطُُّرق اجملهولة يف الرب والبحر‪ ،‬فهم يَنظرون إليها وإىل اجلَ ْد ِي وال َف ْرقَ َديْن ُكلَّ‬
‫وقت أرادوا فيهتدون هبا حيث شاؤوا"‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫هذه مسألة تتصل ابل َفلَ ‪.‬‬

‫أوسا ابلكالم عن النجوم على وجه العموم‪ ،‬مث عن النجوم اليت يهتدي هبا اخللق على وجه اخلصوص‪.‬‬
‫سنبدأ ً‬

‫كرر علينا‪ ،‬وكثريٌ منا سا يفهمها‬


‫ولتفهمي هذه اهلداية سابد أن تبحثي حول مسألة "اساهتداء ابلنجوم"؛ ألن هذه الكلمة تُ َّ‬
‫أي أحد يراها يعرف مباشرةً أن‬ ‫عني‪ ،‬وأن َّ‬ ‫جيدا‪ ،‬وسا يفهم أن هناك جمموعةٌ من النجوم امسها (بنات نـَ معش)‪ ،‬وهي يف مكان ُم َّ‬
‫ً‬
‫هذا شرقه‪ ،‬وهذا غربه‪ ،‬وهذا مشاله‪ ،‬وهذا جنوبه‪ ،‬وهكذا‪ .‬وفهم هلذا األمر مهم جدًّا‪ ،‬ليس ألجل أن هتتدي للط ُرق‪ ،‬وإمنا ألنه‬
‫سيؤثر على فهم هلذه السماء‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫لكن سا يعين‬
‫وجيب أن ندرك ابتداءً‪ :‬أن فَهم وتصور اسادجاهات تصوًرا خرائطيًّا يف الذهن‪ :‬نوعُ ذكاء‪ ،‬سا ميكن إنكار ذل ‪ ،‬و م‬
‫هذا أن سا تستطيعه! سا! بل كل الناس لديهم مبادئ الذكاء‪ ،‬وإبمكاهنم تنميتها إبذن هللا‪.‬‬

‫ما الفائدة من معرفة اسادجاهات؟‬

‫تعرف أين هي‬ ‫ُّ‬


‫"التفكر"‪ :‬أنت ترى الشمس قد طلعت من جهة‪ ،‬وسا ُ‬ ‫لن أكلم عن مصلحة الدنيا‪ ،‬وإمنا سأكلم عن‬
‫الشرق ُمسي شرقًا؛ ألن الشمس تُشر ُق منه‪،‬‬ ‫تعرف أن هذه اجلهة هي املغرب! و َّ‬
‫أن هذا َ‬ ‫ب من جهة‪ ،‬وسا ُ‬
‫تغر ُ‬
‫جهة الشرق! وتراها ُ‬
‫ب فيه‪ ،‬إن مل تعرف ذل ‪ :‬سينقطع عن هذا النوع من التدبر والتأمل‪.‬‬
‫غر ُ‬
‫الغرب ُمسي غرًاب؛ ألن الشمس تَ ُ‬
‫وهذا ُ‬

‫همهُ‪-‬إن شاء هللا‪.-‬‬


‫سهل فَ ُ‬
‫اجلزء األول من كالم الشيخ‪-‬رمحه هللا‪ :-‬حول النجوم وملعاهنا‪ .‬وهذا ٌ‬
‫يعرف إىل أي‬
‫يتبقى لنا اجلزء الذي فيه احلديث عن النجوم "يف السماء"‪ ،‬وكيف أن السائر فقط مبجرد النظر يف السماء ُ‬
‫قليل منا َمن َمنَّا هذا العلم يف نفسه‪،‬‬
‫انتفع هبا‪ٌ ،‬‬
‫قليل منا َمن َ‬
‫لكن ٌ‬‫جهة سيتجه‪ ،‬بدون أي دليل! ابلطبع هذا من عظيم نعمة هللا! م‬
‫يتأم ُل يف السماء فريى مناطقها وادجاهاهتا‪.‬‬
‫قليل َمن َّ‬
‫ٌ‬
‫أتمل حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف هذه النجوم‪"...‬‬
‫عل كل حال‪ ،‬نبدأ بقوله‪" :‬مث ّ‬

‫(‪ )1‬أول حكمة‪ :‬أهنا منثورة كثرية‪.‬‬

‫ما أن َّ‬
‫تشتد ظلمةُ السماء إسا وتَراها كالثوب الذي ُرص َع ابحلُلي الشديدة اللمعان‪ .‬فتصور‪ :‬هذا الثوب العظيم الذي َخلَ َقهُ‬
‫اهر‬
‫ت كالثوب الذي َحيم ُل جو َ‬ ‫فأصبح م‬
‫َ‬ ‫النجوم‬
‫هللا‪ ،‬هذه السماء اليت تكسو األرض‪ .‬مث تصور‪ :‬كيف نُثرت فيها هذه األجر ُام و ُ‬
‫تَـ مل َمع!‬

‫يد للبشر‬
‫ت أ من سا َ‬ ‫َّعت فتأم ملت‪َّ :‬‬
‫تيقمن َ‬ ‫التمتع‪ ،‬وإذا متت َ‬
‫َ‬ ‫الليل هبذه الصورة؛ ليَـ َق َع ل‬
‫َ‬ ‫جيعل ل‬
‫وجل‪ُ -‬‬
‫عز َّ‬
‫من هنا سرتى أن هللا‪َّ -‬‬
‫تَص َل هلذا البُعد العظيم‪ ،‬سا ميكنهم ذل ! فكلَّما بـَ ُع َدت عن املخلوقات كلَّما زاد يقينُ أبنه سا ميكن ألحد التدخل يف هذه‬
‫املخلوقات العظيمة‪ ،‬فيزداد َتليه هلل‪.‬‬

‫وجل‪-‬من جهة أخرى‪ :‬أدلة يهتدي هبا اخللق‪.‬‬


‫عز َّ‬
‫(‪ )2‬مث إن هذه النجوم جعلها هللا‪َّ -‬‬

‫‪66‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫فانظر إىل آاثر رمحته ورأفته وحكمته! فلو كانت هذه األدلة يف األرض لتعطل بعض أهل األرض عن اساستدسال هبا‪ ،‬مبعىن‪:‬‬
‫حصل ألهل الغرب؟ لن جيدوا هلم أدلة‪.‬‬
‫أهنا لو كانت يف شرق األرض ماذا سيَ ُ‬

‫نور فيها‪ ،‬لتعطل اساستدسال هبا! لكنه سبحانه جعلها يف السماء‪ ،‬حبيث‬
‫األرض ظلمةٌ سا َ‬
‫ولو كانت هذه األدلة يف األرض‪ ،‬و ُ‬
‫حجبها عن أحد‪َ ،‬مل جيعل‬
‫وقف على األرض‪ًّ -‬أاي كانت جهته‪-‬من رؤيتها مادام أنه يف الليل‪ .‬سا يستطيع أح ٌد م‬
‫يتمكن كل َمن َ‬
‫أحدا من اسانتفاع‬
‫مينع أح ٌد ً‬
‫شاعا لكل اخللق‪ ،‬سا ُ‬
‫حصرا على بعض اخللق‪ ،‬وإمنا جعلها حقًّا ُم ً‬
‫وجل‪-‬اهلدايةَ يف الط ُرق ً‬
‫عز َّ‬
‫هللاُ‪َّ -‬‬
‫هبذه النجوم‪.‬‬

‫لم ُع يف الظالم‪.‬‬
‫(‪ )3‬مث إنه جعلها تَ َ‬
‫مثل هذه‬
‫ووًّدا ورأفَةً َ‬
‫أيت رمحةً ُ‬
‫وهذه هي ميزهتا يف اهلداية فهذا "اللمعان" كأنه يف حق السائر "مصباح" يدله ويهديه‪ ،‬فَـ َهل ر َ‬
‫الرأفة؟! طيَّب هللا خلَملقه معاشهم‪.‬‬

‫لكن ُكلَّما‬
‫اتئها تبحث عن هداية‪ ،‬فرتى كيف يهدي هللا هبذا الذي يف السماء‪ ،‬م‬
‫ً‬ ‫ولن تستشعر هذا إسا إذا ختيلت نفس‬
‫اآلَّيت يف َح ِّقه إىل معدومات! بدليل أين إذا سألتكم اآلن‪ :‬مىت آخر مرة َتملنا يف‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫حتولَ ْ‬ ‫استغىن العبد عن ربه وقَ َّل ُّ‬
‫تفكره ّ‬
‫النجوم‪ ،‬ورأينا فيها أهنا آية من آايت هللا‪ ،‬ورأينا أهنا تدل على التأليه؟ سنرى أننا متفاوتون متام التفاوت! لدرجة أن من الناس َمن‬
‫مل يفعل هذا الفعل وسا ملرة يف حياته! أتدري ملاذا؟ ألن هللا سبحانه أغناك ب"الكهرابء"‪ ،‬فكان ردك على هللا‪ :‬أين استغنيت عن‬
‫آاثر إضاءهتا علي ‪،‬‬
‫آايت ! فإن لو مل تكن ُمستغنيًا لكانت النجوم اليت يف السماء نعمةً عظيمة علي ! فعندما تلمع‪ :‬ترى َ‬
‫حرَمها‬
‫ومن َ‬
‫نفسه التدبر والتفكر‪َ ،‬‬
‫خري لكن ل َمن َشكرها‪ ،‬ومل َحيرم َ‬
‫فيكو ُن للقمر لَميـلَةَ البدر طعم يف قلب ‪ .‬والكهرابء ابلطبع ٌ‬
‫عُدم اخلري منها‪.‬‬

‫أيضا سنرى أن هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يُظهر قدرته يف هذه النجوم‪.‬‬


‫(‪ً )4‬‬

‫عدها‪ :‬تصور أن هذه األرض‬ ‫فمع أن النجوم شديدةُ البُعد فوق ما تتصور لكن ضوءها يصل إىل أهل األرض‪ .‬ولتُدرَك بُ َ‬
‫ماليني الشموس اليت معها ماليني املاليني من‬
‫ُ‬ ‫والشمس اليت معها توجدان فيما يسمونه ب ـ"درب التَّـبَّانة"‪ ،‬وهذا الدرب العظيم فيه‬
‫اجملَّرات كهذه وأكرب! ويصل‬
‫اجملَّرة‪ ،‬مث أنه يوجد يف الفضاء املاليني من َ‬
‫الكواكب‪ ،‬وأنت يصل ضوء هذه النجوم اليت يف هذه َ‬
‫الضوء منها كذل ! فسبحان من أعطاها هذا النور‪ ،‬وهذه القوة يف اإلضاءة! وهذه األرقام سا ميكن لعقل تصورها!‬

‫‪67‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫فهذا اخلَلْق ِ‬
‫شاه ٌد على أنه ال يستحق التعظيم إال هللا‪ ،‬ومن َمثّ ال يستحق احملبة إال هو‪.‬‬

‫ت يف الليل ترى‬
‫أصبح َ‬
‫تود َد ل وأنت الضعيف‪ ،‬وهداك هبذه النجوم إىل الطريق؟ زيَّن ل السماء‪ ،‬فمتَّع برؤيتها‪ ،‬و م‬ ‫أسا تراه َّ‬
‫ب النظر إىل السماء يف الليل‬
‫ب َعَرف! فمن جير ُ‬
‫وم من َجَّر َ‬
‫من النور ما ُجيلي عن عيني الظلمةَ‪ ،‬ويُدخ ُل إىل قلب اسانشراح‪َ .‬‬
‫َض َح َ َوأَبم َكى}(‪ ،)1‬فهو‪-‬سبحانه‪-‬الذي‬
‫متفكرا‪ :‬يرى من آاثر انشراح الصدر ما سا يـُ َقدَّر بثمن! وهذا من آاثر‪{ :‬وأَنَّهُ ُه َو أ م‬
‫ً‬
‫يشرح صدور اخللق يف أمور‪ ،‬ويضيقها يف أمور‪.‬‬

‫النجوم سببًا ملعرفة املواقيت‪.‬‬


‫َ‬ ‫وجل‪-‬ابخلَملق‪ :‬أ من َج َعل هذه‬
‫عز َّ‬
‫أيضا من رمحة هللا‪َّ -‬‬
‫(‪ً )5‬‬

‫ف هبا‪-‬كما يُعربون عنه اآلن‪-‬املـََّد واجلَمزر‬


‫عر َ‬
‫صل هبا معرفةُ فصول السنة‪ ،‬ومعرفةُ وقت الزارعة‪ ،‬ويُ َ‬
‫مبعىن‪ :‬أن هذه النجوم َحي ُ‬
‫بسبب قرب النجوم وبعدها‪...،‬واخل ذل من التأثريات‪.‬‬

‫وجل‪.-‬‬
‫عز َّ‬
‫َمن الذي جعل للنجوم هذه التأثريات يف األرض؟ هللا‪َّ -‬‬

‫وكلما زاد اخلَملق معرفةً هبا زادوا اهتداءً ملصاحلهم‪ ،‬وكلَّما قلَّ م‬
‫ت املعرفة قَ َّل اساهتداء‪.‬‬

‫وجل‪-‬واقتضتها حكمته‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫السنَن اليت َسنَّها هللاُ‪َّ -‬‬
‫سخرةٌ ُمنقادةٌ أبمر رهبا‪ ،‬جاريةٌ على َّ‬
‫(‪ )6‬وكلها لو َتملت‪ُ :‬م َّ‬

‫وجل‪-‬ثوابت‪ :‬فجعل منها الربوج واملنازل‪ ،‬ومنها السيارة‪ :‬فجعل منها الصغار‬
‫عز َّ‬
‫ترى منها أصنافًا‪ ،‬منها ما جعلها هللا‪َّ -‬‬
‫والكبار واملتوسط‪ ،‬ومنها األزهر الذي جعل إضاءتَه بيضاء زاهرة مثل لون الفضة‪-‬وهذا هو لو ُن النجوم البعيدة غالبًا‪ ،-‬ومنها ما‬
‫جعل إضاءتَه بيضاء محراء‪ ،‬وهذا اللون تراه يف أحيان كثرية يف أول اكتمال البدر‪.‬‬

‫وجيعل هلا السنَّةَ اليت تسريُ‬


‫ُ‬ ‫قائما عليها‪ ،‬جيعلُها كما يريد‪،‬‬
‫موىل ً‬
‫على ماذا يدل هذا اساختالف يف ألواهنا؟ يدل على أن هلا ً‬
‫عليها كما َأمَرها سبحانه‪ ،‬وسا ختتلف‪ ،‬وسا تعرتض البتَّة‪.‬‬

‫َّدا‬
‫س فال تراها‪ ،‬ومنها‪ :‬اليت تَبقى على حاهلا فرتاها‪ ،‬ومنها‪ :‬الذي مير علي فتَـَراه مرًة‪ ،‬ولن يراهُ جمد ً‬
‫كذل من النجوم‪ :‬ما َختمنَ ُ‬
‫بعد أجيال!‬
‫أحفاد أحفادك! أي‪ :‬أنه َميُر فال يـَُرى إسا َ‬
‫ُ‬ ‫إسا‬

‫الربوج قسمني‪ :‬مرتفعة‪ ،‬ومنخفضة‪.‬‬


‫وج َع َل هللاُ منطقةَ ُ‬
‫َ‬

‫)‪[ (1‬سورة النجم‪]43 :‬‬


‫‪68‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫فسأُرش ُد ُكم إىل ُكتب تقرؤون فيها عن ذل ‪.‬‬


‫سنتكلم عنها بشيء من التفصيل‪ ،‬وإسا َ‬
‫ُ‬ ‫يسَر هللاُ لنا‬
‫*وتفاصيل هذا املوضوع إن َّ‬

‫نتابع القراءة‪:‬‬

‫الكواكب وما فيه ِمن العجائب! كيف َِجت ُد بع َ‬


‫ضها ال يَسريُ إال مع ِرفْـ َقتِه‪ ،‬ال يـُ ْف ِر ُد عنهم َس ْيـ َرهُ‬ ‫ِ‬ ‫نظام َس ِْري‬
‫"مث أت ََّم ْل َ‬
‫قال‪ُ :‬‬
‫صاحبَـتُهُ يف َمن ِزٍل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫غري ُمقيَّ ٍد ٍ‬
‫برفيق وال صاحب‪ ،‬بَ ْل إذا ات َف َق لَهُ ُم َ‬ ‫ض ُهم يَسريُ مطل ًقا َ‬ ‫مجيعا‪ ،‬بل بع ُ‬
‫أب ًدا‪ ،‬بل ال يَسريو َن إال ً‬
‫يتصاحبَا قَطّ‪ ،‬وهذه‬ ‫وفارقَهُ الليلةَ األُخرى‪ ،‬فَـبَـ ْينا تَراهُ ورفي َقهُ وقرينَه إ ْذ رأَيْـتَـ ُهما مفرتقني متباعدين‪ :‬كأهنما َمل‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫وافَـ َقهُ فيه لَْيلةً َ‬
‫هي يف فَـلَ ِك َها‪َ ،‬ك َما‬
‫سري َ‬
‫خاص تَ ُ‬
‫ٌ‬ ‫وس ْيـ ٌر‬
‫سري هبا فَـلَ ُكها‪َ ،‬‬
‫عام يَ ُ‬
‫السيارةُ َلا يف سريها َس ْريان خمتلفان غاية االختالف‪ :‬سريٌ ٌ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫خمتلفتان إىل ِج َهتَـ ْ ِ‬
‫ني‬ ‫ذلك حر ِ‬
‫كتان‬ ‫ِ ِ‬ ‫ذات ال ِّ‬ ‫ذلك‪ٍ :‬‬
‫ذات اليمني‪ ،‬فَللنَّملة يف َ َ‬ ‫والر َحى َأت ُخ ُذ َ‬
‫شمال َّ‬ ‫ب على َر ًحى َ‬
‫بنملة تَ ُد ُّ‬ ‫َشبَّهوا َ‬
‫الرحى َجتذهبا إىل غَري م ِ‬ ‫ِ‬
‫التقدم على ُك ِّل‬
‫َ‬ ‫عل‬
‫قصدها‪ ،‬وبذلك َجي ُ‬
‫َ َ‬ ‫فح َركةُ َّ َ‬
‫أح ُد ُمها بن ْفسها‪ ،‬واألُخرى ُم ْك َرهةٌ عليها؛ َ‬‫ُمتَبايِنَـتَـ ْني‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫منزلة إىل جهة الشرق‪ُ ،‬مث يَسريُ فَـلَ ُك َها ومبَن ِزلَتها إىل جهة ْ‬
‫الغرب"‪.‬‬

‫جنما بعض‬
‫ب ً‬ ‫وبعضها تَ ُكو ُن منفردة‪ ،‬أو تصاح ُ‬
‫ف اآلن الشيخ‪-‬رمحه هللا‪-‬الكواكب السيارة‪ ،‬وأن بعضها تَ ُكو ُن مجاعةً‪ُ ،‬‬
‫يَص ُ‬
‫ب عنه‪.‬‬
‫تذه ُ‬
‫الوقت ُمث َ‬

‫مث بني‪ :‬كيف تسري هذه النجوم؟ فذكر أن هلا َس مريان‪:‬‬

‫سري هبا فَـلَ ُكها‪ .‬أي‪ :‬أهنا مع فَـلَ ‪ُ ،‬‬


‫تسري معه‪.‬‬ ‫عام يَ ُ‬
‫سريٌ ٌ‬ ‫‪‬‬

‫هي يف فَـلَ ِك َها‪.‬‬


‫سري َ‬
‫خاص تَ ُ‬
‫وس ْيـ ٌر ٌ‬
‫َ‬ ‫‪‬‬

‫مساريمن‪،‬‬
‫سري إىل الشرق‪ ،‬فبهذا أصبح للنملة َ‬‫ص ُفوا هذا‪ :‬بنملة تسري على َر ًحى تدور‪ ،‬والنملةُ تَسريُ إىل الغَمرب‪ ،‬والرحى تَ ُ‬
‫وو َ‬
‫َ‬
‫مسريها هي بنفسها غرًاب‪ ،‬ومسري الرحى هبا شرقًا‪ ،‬والنجوم هبذه الطريقة‪ ،‬تسري هي من الغرب إىل الشرق‪ ،‬وفَـلَ ُكها يسري‬
‫ب َعكمسها‪.‬‬

‫واملقصد‪ :‬أن ترى عجبًا عندما تقرأُ يف مثل هذا!‬

‫‪69‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫تستطيع أ ْن تُد ِرَكها ‪ .‬مبعىن‪ :‬أن قد دجد أن احلديث عن النجوم‬ ‫ِ‬


‫ابلتفاصيل اليت‬ ‫ٍ‬
‫اهتمام‬ ‫ماذا حتتاج اآلن؟ حتتاج إىل زَّيدةِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فهما لكمال حكمة هللا تبارك‬
‫انسبَ وأعجب ‪ ،‬و َغريُك انسبَهُ احلديث عن الليل والنهار‪ ،‬سا أبس! مجيل! فَليقرأ ُكل فيما يزيده ً‬
‫وتعاىل‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء السادس‬

‫‪71‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫وجل‪-‬مبنه وكرمه أن جيعلنا من تعرف عليه‬


‫عز َّ‬ ‫هذا هو أسبوعنا الثاين يف الدورة الصيفية لعام ‪1433‬ه‪ ،-‬نسأل هللا‪َّ -‬‬
‫فعظَّمه‪ ،‬ووقع يف قلبه التعلق به وحده‪ ،‬نسأله‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬أن يكون هذا العلم زايدة لإلميان‪ ،‬وأن يكون اجتماعنا من‬
‫املباركة‪ ،‬اليت سا نريد هبا إسا وجهه‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬
‫اساجتماعات َ‬

‫سا زلنا نتكلَّم عن هذا اساسم العظيم اسم (احلكيم)‪ ،‬وقد َّ‬
‫مر معنا أن معىن هذا اساسم يشمل أمرين‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬يشمل احلُكم هلل‪.‬‬

‫األمر الثاين‪ :‬يشمل حكمة هللا يف كل ُحكم‪.‬‬

‫فهو حكيم يضع األشياء مواضعها‪ ،‬وتتجلى حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف‪:‬‬

‫خلقه‪.‬‬

‫وأمره‪.‬‬

‫وشرعه‪.‬‬

‫وجزائه‪.‬‬

‫تتأمل يف كل موطن يقول هللا ل فيه‪{ :‬أََملم‬


‫تتأمل فيما أمرك هللا به‪َّ ،‬‬
‫إمياان هبذه احلكمة علي أن َّ‬
‫ً‬ ‫ومن أجل أن ميتلئ قلب‬
‫تَـَر}‪{ ،‬أََملم تَـَرموا}‪َ { ،‬وم من آَ َايته}‪ ،‬جيب علي أن َّ‬
‫تتأمل يف النصوص اليت تناقش هذه املسائل؛ ليزيد يقين حبكمته‪ ،‬وترد ذل‬
‫على قلب يف كل وقت‪.‬‬

‫واتَّفقنا أن هذا األمر ميكن أن حيصل بطريقني‪:‬‬

‫وجل‪-‬‬ ‫الطريق األول‪ :‬بطريق التأمل‪ :‬يكون عندك علم وخربة يف مسائل فتتأملها أنت بنفس ؛ فيزيد إميان حبكمة هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫مثاسا على ذل ‪ :‬الطبيب‪ ،‬وال َفلَكي‪.‬‬
‫وضربنا ً‬
‫‪72‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫الطريق الثاين‪ :‬أن تقرأ ل َمن كتب يف حكمة هللا‪ ،‬فتعرف أنه حكيم يف كل خلقه‪.‬‬

‫وملا أتينا إىل احلكمة يف اخللق قلنا إن هناك ثالث كلمات متصلة هبا‪:‬‬

‫ما معىن أن هللا حكيم يف خلقه؟ أي أنه‪:‬‬

‫‪ .1‬خلق اخللق ابحلق‪.‬‬

‫ومشتمال على احلق‪.‬‬


‫ً‬ ‫‪.2‬‬

‫‪ .3‬وكان هنايته وغايته احلق‪.‬‬

‫ومعىن "ابحلق"‪ :‬أي‪ :‬أن كل املخلوقات تشهد ابستحقاقه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬لأللوهية‪.‬‬

‫وجل‪-‬يضع األشياء يف مواضعها‪ ،‬فال‬ ‫"مشتمال على احلق"‪ :‬أي‪ :‬أن تفاصيل هذه املخلوقات تُظهر ل أن هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬ ‫ً‬ ‫ومعىن‬
‫احا‪.‬‬
‫ميكن أن تقرتح فوق خلقته وعطائه اقرت ً‬

‫فمن أهم آاثر اإلميان ابسم هللا احلكيم‪ :‬أن سا يتعدَّى العبد حد األدب مع هللا‪ ،‬وسا يقرتح على املل احلكيم أي اقرتاح‪ ،‬وسا‬
‫غري هللا كذا! ملاذا فعل هللا كذا؟ هذا ليس‬
‫تأيت إىل شيء من أقداره فينتقدها‪ ،‬ويقول‪ :‬لو كان هذا كذا! ولو وضع هذا كذا! ولو َّ‬
‫كالم عبد آمن أن هللا حكيم‪ ،‬فإن املؤمن الذي شهد أن سا إله إسا هللا‪ ،‬ليس من إميانه أن ينتقد فعل من يعظمه‪ ،‬ومن يتعلَّق به؛‬
‫مبِن على املفاهيم الباطلة من حرية اآلراء‪ ،‬اليت َّ‬
‫تعدت ابخللق فجعلتهم‬ ‫مبِن على اجلهل ابهلل‪ٌّ ،‬‬‫ألن االنتقاد لفعل هللا ٌّ‬
‫يتكلَّمون على ِفعل هللا‪ ،‬ويظنُّون أن هذا من آاثر احل ِّرَّيت!‬

‫لو تعبدت هللا ابمسه (احلكيم) كما ينبغي‪ ،‬وقلَّبت هذا اساسم‪ ،‬وَتملَّته‪ ،‬وفهمت آاثره؛ سيخرس لسان عن أن تتكلَّم بكلمة‬
‫عن هللا‪ ،‬ستعظم أي انتقاد ميكن أن ينتقده أحد على هللا‪ ،‬بل إن ستجاهد نفس ‪ ،‬وسيَظهر ل ضعف ونقص ‪ ،‬وستلزم‬
‫جانب األدب يف معاملت مع هللا‪.‬‬

‫و‪-‬كما ذكران‪-‬من طرق الوصول هلذا التأمل‪ :‬أن تقرأ ل َمن كتب عن حكمة هللا‪ ،‬وعن حكمته يف ملوقاته‪ .‬وحنن سنبذل‬
‫اليوم جهدان يف قراءة ما نستطيعه‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫تكلمنا يف اللقاء املاضي عن النجوم‪ ،‬وذكران أن هناك جمموعة منها تسمى ب"بنات نعش"‪ ،‬وأنتم تعرفوهنا ابسم "الدب‬
‫القطيب األكرب" و"الدب القطيب األصغر"‪ ،‬وهم عبارة عن‪ :‬جنوم يف السماء‪ ،‬شكلها مربَّع‪ ،‬وله طََرف‪ ،‬وهذا الشكل اثبت يف‬
‫أبدا‪ ،‬وبه يعرفون الشمال واجلنوب والشرق والغرب يف الليل‪.‬‬
‫يتغري ً‬
‫السماء سا َّ‬

‫نعشا‪ ،‬واعتربت ذيله‬


‫ملاذا مسَّته العرب "بنات نـَ معش"؟ ألهنا اعتربت أن هذا املربع‪-‬أو هذا الشكل الذي يُشبه املستطيل‪ً -‬‬
‫البنات‪ .‬والصحيح أن تسموه "بنات نعش"؛ ألن كلمة "الدب القطيب األكرب" و"الدب القطيب األصغر" مبنية على عقيدة يواننية‬
‫ابطلة‪ ،‬أما العرب فيسموهنا "بنات نعش الكربى" و"بنات نعش الصغرى"‪.‬‬

‫وجل‪-‬جعل ابلنجم اهلداية سا بد أن تفهمي معىن ذل ‪ ،‬ثقفي نفس ابملعلومة حىت لو‬ ‫كلَّما قرأت يف كتاب هللا أن هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫أبدا املعلوم‪ ،‬فهذا ليس من صاحلنا‪.‬‬
‫قليال‪ ،‬لكن سا هتجري ً‬
‫قليال ً‬
‫تتصوريها‪ ،‬وبعد ذل ستنكشف املسائل ً‬
‫مل َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫ستقولني‪ :‬ما خلق هللا النجم إسا هلذه الثالثة‬ ‫َّجم ُه مم يـَ مهتَ ُدو َن}‬
‫عندما تريدين أن تشرحي قوله تعاىل‪َ { :‬و َع َال َمات َوابلن م‬
‫املصاحل‪:‬‬

‫‪ .1‬زينة للسماء‪.‬‬

‫‪ .2‬عالمات‪.‬‬

‫‪ .3‬هداية للناس‪.‬‬

‫وكما قال السلف‪ :‬من تعدَّى هذه الثالثة‪ ،‬فقد ظلم نفسه‪ .‬وأي أحد ينظر للنجوم على أن هلا عالقة ابألحداث‪ ،‬أو أهنا‬
‫تدل على شيء من علم الغيب فقد أفسد دينه!‬

‫ت َه َذا َابط ًال‬ ‫التأمل يف السماء من أنواع العبادات‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬ويـَتَـ َف َّك ُرو َن يف َخ ملق َّ‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَرض َربـَّنَا َما َخلَ مق َ‬
‫اب النَّار}(‪ ،)2‬عندما تتأملني ستدخلني يف َرمكب املؤمنني‪ ،‬تدخلني يف َرمكب املتعبدين‪ ،‬املتفكرين‪.‬‬ ‫ُسمب َحانَ َ فَقنَا َع َذ َ‬

‫سنقرأ اآلن كالم ابن القيم‪-‬رمحه هللا‪ ،-‬الذي أظهر فيه حكمة هللا يف َخلقه للهواء هبذه الصفة‪:‬‬

‫)‪[ (1‬سورة النحل‪]16 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة آل عمران‪]191 :‬‬
‫‪74‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫قال‪" :‬مث أتمل هذا اَلواء وما فيه من املصاحل‪ ،‬فإنه حياة هذه األبدان‪ ،‬واملُ ِ‬
‫مسك َلا من داخل مبا تستنشق منه‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬
‫ظاهرا وابطنًا‪ ،‬وفيه تطرد هذه األصوات‪ ،‬فتحملها وتؤ ّديها للقريب والبعيد‪،‬‬ ‫َّ‬
‫خارج مبا تُباشر به من روحه‪ ،‬فتتغذى به ً‬
‫كالربيد والرسول الذي شأنه محْل األخبار والرسائل‪ ،‬وهو ِ‬
‫احلامل َلذه الروائح على اختالفها‪ ،‬ينقلها من موضع إىل‬
‫للحر والربد اللذين هبما‬
‫ضا احلامل ّ‬
‫هتب الريح‪ ،‬وكذلك أتتيه األصوات‪ ،‬وهو أي ً‬
‫موضع؛ فتأيت العب َد الرائحةُ من حيث ّ‬
‫صالح احليوان والنبات"‪.‬‬

‫((اَلواء))‬

‫بـَ َّني أن هذا اهلواء حيتاج منا َتمل يف مصاحله‪ ،‬ومصاحله هذه ستكون من الداخل ومن اخلارج‪ ،‬فاهلواء هو الذي عليه تعيش‪،‬‬
‫وجل‪-‬مادة احلياة يف الداخل‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫جعله هللا‪َّ -‬‬

‫وماذا حيصل يف اخلارج؟ سرتى أن األشياء حول تتأثَّر ابهلواء‪ ،‬وسنبدأ ابألصوات‪ :‬سنجد أهنا ما ُحت َمل إىل أذني إسا بطريق‬
‫اهلواء‪ ،‬فهي "كالربيد والرسول الذي شأنه محْل األخبار والرسائل"‪.‬‬

‫أيضا به تشعر ابلربد واحلر؛ فاهلواء هو احلامل هلما‪.‬‬


‫تشم الروائح إسا إذا محلها اهلواء‪ ،‬و ً‬
‫تشم؛ ألن لن ُ‬
‫أيضا ستجد أن به ُ‬
‫و ً‬

‫وجل‪-‬‬
‫عز َّ‬
‫تشم‪ ،‬وبه تشعر ابحلرارة والربودة‪ ،‬فرتى منَّة هللا‪َّ -‬‬
‫إ ًذا‪ :‬أنت تتنفَّس ابهلواء من الداخل‪ ،‬وبه تسمع من اخلارج‪ ،‬وبه ُ‬
‫هبذه املادة اللطيفة اليت سا تشعر هبا‪ .‬مصاحل رأس كلها دائرة حول هذا اهلواء‪ ،‬السمع من جهة‪ ،‬والشم من جهة‪،‬‬ ‫علي‬
‫أيضا‪.‬‬
‫والتنفس من جهة‪ ،‬وتأتي لبدن كله شعور ابحلرارة والربودة اليت تنفع ‪ ،‬واليت تنفع احليوان والنبات ً‬

‫أنيت اآلن إىل الريح والسحاب‪:‬‬

‫وأتمل كم ُس ّخر للسحاب‬


‫وأتمل منفعة الريح‪ ،‬وما جيري له يف الرب والبحر‪ ،‬وما ُهيّئت له من الرمحة والعذاب‪ّ .‬‬
‫قال‪ّ " :‬‬
‫من ريح حىت أمطر‪:‬‬

‫أوال‪ ،‬فتُثريه بني السماء واألرض‪.‬‬


‫فس ّخرت له (املُثرية) ً‬
‫‪ُ .1‬‬
‫‪ .2‬مث س ّخرت له ِ‬
‫(احلاملة)‪ ،‬اليت حتمله على َمتنِها‪ ،‬كاجلمل الذي حيمل الراوية‪.‬‬ ‫ُ‬

‫‪ .3‬مث ُس ّخرت له (املؤلِّفة)‪ ،‬فتؤلِّف بني كِ َس ِفه وقِطَ ِعه‪ ،‬مث جيتمع بعضها إىل بعض فيصري طب ًقا واح ًدا"‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫((الريح والسحاب))‬

‫سنذكر اآلن العالقة بني الرايح والسحاب‪:‬‬

‫سيتحول إىل ريح‪ ،‬والريح ماذا ستفعل؟‬


‫َّ‬ ‫اهلواء‬

‫وأتمل منفعة الريح‪ ،‬وما جيري له يف الرب والبحر‪ ،‬وما ُهيّئت له من الرمحة والعذاب"‪ ،‬أي‪ :‬أن هذا اهلواء سيجتمع‪،‬‬
‫قال‪ّ " :‬‬
‫ويقوى‪ ،‬فتصبح له قوة أعلى من قوة اهلواء‪ ،‬جيتمع فيصبح رحيًا هلا قوة؛ فتجد آاثرها يف الرب والبحر‪.‬‬

‫يح‪ ،‬فيمر السحاب مبراحل‪َ ،‬تخذه الريح من مرحلة‬


‫وجل‪-‬يسخر للسحاب الر َ‬
‫عز َّ‬
‫ومن آاثر الريح على السحاب‪ :‬أن هللا‪َّ -‬‬
‫أتمل كم ُس ّخر للسحاب من ريح حىت أمطر"‪:‬‬
‫إىل مرحلة‪ .‬قال‪ّ " :‬‬

‫‪ .1‬سخرت له (املثرية) اليت تُثريه وحتركه بني السماء واألرض‪.‬‬


‫‪ .2‬سخرت له (احلاملة) اليت حتمله من أرض إىل أرض‪ ،‬حتمله على َمتنها كاجلمل‪.‬‬
‫‪ُ .3‬سخرت له (املؤلفة) اليت تؤلف بني ك َسفه وقطَعه‪.‬‬

‫أي‪ :‬أن السحاب األخف سيكون يف األعلى‪ ،‬واألثقل سيكون يف األسفل‪ ،‬والريح هي اليت تبدل بينهم‪ .‬ويف النظرايت‪ :‬أن‬
‫السحابة اليت يكون فيها املاء تكون هي األثقل فتنزل‪ ،‬والريح اآلن هي اليت حترك‪ ،‬فرتفع األخف لألعلى‪ ،‬وتُنزل األثقل يف‬
‫احدا‪.‬‬
‫األسفل‪ ،‬وهذا كله أبمر هللا‪ ،‬فيجتمع فيصبح طب ًقا و ً‬

‫قال‪:‬‬

‫هاما ال ماء فيه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫(الالقحة)‪ ،‬مبنزلة الذكر الذي يل ِّقح األنثى ِّ‬
‫ِ‬ ‫‪" .4‬مث ُس ِّخرت له‬
‫فتلقحه ابملاء‪ ،‬ولوالها لكان ج ً‬

‫سوقه إىل حيث أمر‪ ،‬فيُفرِغ ماءه هنالك"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ .5‬مث ُس ّخرت له (املُْزجيَة)‪ ،‬اليت تُـ ْزجيه وتَ ُ‬

‫‪76‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫الريح (الالقحة) مثل اللقاح‪ ،‬دجتمع مع السحاب‪ ،‬فيحصل من اجتماعهما تكون املاء‪ .‬عندما هتب هذه الريح على‬
‫السحاب دجعله يتحرك حركة كأنه أتته الوسادة فيأيت املطر؛ ولذل الناس أصحاب اخلربة يعرفون أن هذه النسمة من الريح هي‬
‫نسمة املطر‪ ،‬فإذا هبَّت يشعرون أهنا ستلقح السحاب فينزل املطر‪.‬‬

‫أما (املـُمزجيَة) فهي ريح تدفع السحاب إىل مكان خاص أراد هللا أن ينزل به املطر‪.‬‬

‫أحياان ُميطر شرقهم‬


‫فأحياان جزء معني من مشاهلم ُميطر‪ ،‬وجنوهبم سا ُميطر! والعكس‪ ،‬و ً‬
‫ً‬ ‫مثال يشعرون هبذا الشيء‪،‬‬
‫أهل "جدة" ً‬
‫دون أن ُميطر غرهبم‪ ،‬والعكس‪ ،‬واملقصد أنه ليس جمرد رؤيت للسحاب معناها نزول املطر‪ ،‬وإمنا سينزل حينما َتيت حلظة الوسادة؛‬
‫فرتين ريح السحاب ولونه قد تغري؛ ألنه سيميل إىل السواد يف تل اللحظة‪ ،‬وستهب عليه ريح تسوقه إىل املكان الذي يريده‬
‫هللا‪ ،‬فتُنزل املطر فيه‪ ،‬ومنه احلديث املعروف يف صحيح مسلم عن أب هريرة عن النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬أنه قال‪" :‬بينا‬
‫غ ماءه يف َحَّرة‪ ،‬فإذا‬‫حاب‪ ،‬فأفر َ‬
‫الس ُ‬ ‫َّ‬ ‫فسم َع صو ًات يف سحابة‪ :‬اسق حديقةَ فُالن‪ .‬فتنحى ذل‬
‫رجل بفالة من األرض‪َ ،‬‬
‫ٌ‬
‫عبد‬
‫رجل قائم يف حدي َقته حيو ُل املاءَ مبسحاته‪ ،‬فقال له‪ :‬اي َ‬ ‫َّ‬
‫شرجةٌ من تل الشراج قد استوعبت ذل املاءَ ُكله‪ ،‬فتتبع املاء‪ ،‬فإذا ٌ‬
‫وات يف‬
‫صً‬ ‫مسعت َ‬
‫هللا‪ ،‬ما امس ؟ قال‪ :‬فالن‪-.‬لالسم الذي َمس َع يف السحابة‪-‬فقال له‪ :‬اي عبد هللا‪ ،‬ملَ تسألين عن امسي؟ فقال‪ :‬إين ُ‬
‫خير ُج‬
‫ت هذا‪ ،‬فإين أنظُُر إىل ما ُ‬
‫السحاب الذي هذا ماؤه‪ ،‬يقول ‪:‬اسق حديق َة فالن‪-‬سامس ‪ ،-‬فما تصنع فيها؟ قال‪َ :‬أما إذ ق مل َ‬
‫وآكل أان وعيايل ثلثًا‪ ،‬وأرد فيها ثلُثَه"(‪.)1‬‬
‫َّق بثـُلُثه‪ُ ،‬‬
‫فأتصد ُ‬
‫منها‪َ ،‬‬

‫صوات خياطب الريح والسحاب‪ :‬أن اسقوا حديقة فالن‪-‬ابمسه‪ ،-‬فتحركت السحابة‬
‫هذا رجل كان يسري‪ ،‬فسمع يف السماء ً‬
‫دوان عن غريها! وهذا كله يبني ل أنه‪-‬سبحانه‬
‫أبمر هللا‪-‬حركها هذا النوع من الريح (املـُزجية)‪ ،-‬فنزل مطرها على هذه احلديقة ً‬
‫وتعاىل‪-‬هو القائم على كل شيء‪ ،‬هو احلكيم يف تصريف كل شيء‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫"‪ .6‬مث ُس ِّخرت له بعد إعصاره (املَُف ِّرقَة)‪ ،‬اليت تَـبُـثّه وتُـ َف ّرقه يف اجلو‪ ،‬فال ينزل ُجمتَ ِم ًعا‪ ،‬ولو نزل ُمجلة ألهلك املساكن‪،‬‬
‫قطرا"‪.‬‬
‫تفرقه فتجعله ً‬
‫واحليوان‪ ،‬والنبات‪ ،‬بل ّ‬

‫)‪ (1‬رواه مسلم يف صحيحه‪ /‬كتاب الزهد والرقائق‪ /‬ابب الصدقة يف املساكني‪.)2984( /‬‬
‫‪77‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫صرة األوىل‪ ،‬ومل يزل يف السحاب ماء‪َ ،‬تيت له الريح (املفرقة) تفرقه عن‬
‫الع م‬
‫بعدما نزل املطر من السحاب‪ ،‬واعتصرته الريح َ‬
‫وجل‪-‬منه ما يناسبهم فقط‪ ،‬سا تصب كل ما عندها صبًّا‪ ،‬وإمنا َتيت هذه الريح‬ ‫عز َّ‬ ‫بعضه لكيال يهل القوم‪ ،‬فيعطيهم هللا‪َّ -‬‬
‫وجل‪-‬ولُقحت ابلريح (امللقحة)‪ ،‬يفرقها‬
‫عز َّ‬
‫فتفرق هذه السحب مع وجود املاء فيها من أجل أسا يهل اخللق‪ ،‬فكما مجعها هللا‪َّ -‬‬
‫وجل‪-‬ابلريح (املفرقة)‪ ،‬وهو‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬حكيم يف كل شأنه‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬

‫حتول رحيًا وعالقته ابلسحاب‪ ،‬واآلن سنقرأ عن الرايح مع الشجر والس ُفن‪:‬‬
‫انتهينا من اهلواء وعالقته ابإلنسان‪ ،‬واهلواء الذي َّ‬

‫سري السفن‪ ،‬ولوالها‬


‫عقيما‪ ،‬وكذلك الرَّيح اليت تُ ّ‬ ‫ِ‬
‫قال‪" :‬وكذلك الرَّيح اليت تل ّقح الشجر والنبات‪ ،‬ولوالها لكانت ً‬
‫لََوقفت على ظهر البحر"‪.‬‬

‫الع َجب! تلقيح الشجر يتم بواسطة ما يسمونه "حبوب اللقاح"‪ ،‬هتب‬
‫هل تعرفون ماذا يعين تلقيح الشجر؟ هو أمر يف غاية َ‬
‫ال رايح فتجعل هذه احلبوب تسقط على مكاهنا يف الزهرة من األشجار الباقية‪ ،‬فسبحان هللا كيف تقع كل حبة لقاح يف مكاهنا!‬
‫وكيف تُثمر يف النهاية هذه الثمرات اليت تراها!‬

‫كل الثمر هذا إمنا هو من ريح أمرها هللا‪ ،‬فهبَّت على حبوب اللقاح‪ ،‬فلقَّحت الزهر‪ ،‬فخرجت الثمرة! كل حبة تفاح َتكلها‪،‬‬
‫وكل حبة برتقال‪ ،‬وكل مثرة َتكلها أمثرت هبذه الصورة! فسبحان هللا هل ميكن أن حيصل هذا كله كما اتفق؟! سا ميكن!! إمنا هي‬
‫حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬

‫ومثله الرايح اليت تسري السفن‪ ،‬لوسا تسخري هللا هذه الرايح لظلَّت السفن رواكد‪ .‬قد يقول قائل‪ :‬السفن اآلن ليست شراعية‪،‬‬
‫وإمنا أصبح هلا حمركات تشغلها‪ .‬واحلقيقة أن َمن يَفهم يف قضية السفن وحمركاهتا يعرف أن أصل حركة هذه احملركات سابد أن‬
‫يكون ابهلواء‪ ،‬هذه املادة املشتَعلة حتتاج للهواء لكي تبقى مستمرة يف احلركة‪.‬‬

‫تربد املاء‪ ،‬وتضرم النار اليت يُراد إضرامها‪ ،‬وجت ّفف األشياء اليت ُحيتاج إىل جفافها‪ ،‬وابجلملة‬
‫قال‪" :‬ومن منافعها أهنا ّ‬
‫فحياة ما على األرض من نبات وحيوان ابلرَّيح"‪.‬‬

‫ابلرغم من كل هذه املنافع اليت ذكرها ابن القيم‪-‬رمحه هللا‪-‬سنقول‪ :‬هناك منافع مل يعدها‪ ،‬ستعدها أنت‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫تتأمل يف هذا األمر‪.‬‬


‫وابجلملة فحياة ما على األرض من نبات وحيوان مرتبط ابلرايح‪ ،‬وبقي علي أن َّ‬

‫َنَت العامل وفسد"‪.‬‬


‫مث قال‪" :‬فإنه لوال تسخري هللا َلا لعباده ل َذ َوى النبات‪ ،‬ومات احليوان‪ ،‬وفسدت املطاعم‪ ،‬وأ َ‬

‫يف حج سنة من السنوات وقعت إشاعة كبرية‪ :‬أبن "إنفلونزا اخلنازير" ستقتل ‪ 60‬مليون شخص على وجه األرض! ويف‬
‫املصل‪ ،‬وسرقوا العامل! وكان احلجاج من بني الناس‬
‫احلقيقة ما مات بعدها وسا أربعة آساف شخص! لكنهم هبذه اإلشاعة ابعوا م‬
‫املهدَّدين ابملرض‪ ،‬فأرسل هللا يف تل السنة رحيًا شديدة يف ليلة عرفة يوم ‪ ،8‬والناس يف مىن‪ ،‬وأصبح الناس يف شيء من اخلوف‪،‬‬
‫مطرا‪ ،‬مث هدأت الدنيا‪ ،‬وعاد الناس من احلج دون أن يُصابوا حىت ب"اإلنفلونزا العادية"‪-‬اليت يرجعون هبا‬
‫وجل‪ً -‬‬
‫عز َّ‬
‫مث أنزل هللا‪َّ -‬‬
‫قليال منها فطهرت األجواء؛ وهلذا هو يقول‪ :‬لو‬
‫عاد ًة من احلج‪ !-‬والسبب‪ :‬تل الرايح يف تل الليلة‪ ،‬وبقي يف اليوم التاسع ً‬
‫َننت العامل‪ ،‬فالريح حترك املطر‪ ،‬والريح واملطر يذهبان ابألوبئة أبمر هللا‪ ،‬ولذل النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬يقول‪:‬‬
‫ما كانت الريح أل َ‬
‫(‪)1‬‬
‫كثريا من األوبئة تذهب بسبب هذه الرايح‪.‬‬
‫يح" ‪ ،‬وكتب َمن كتب من العلماء أن ً‬‫"سا تسبوا الر َ‬

‫مثال‪-‬فإن انقصي العقول سينظرون إىل ما حيصل هلم فقط‪ ،‬أما العقالء سيقولون‪ :‬إن‬
‫ولكن إذا أصاب الناس ريح أرضية‪ً -‬‬
‫إمياان أبي نظرايت‪ ،‬وإن‬
‫إمياان به‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،-‬وليس ً‬
‫هذه احلركة للريح األرضية اليت حترك الرتاب سابد أن فيها تنقية للهواء؛ ً‬
‫كان عندهم َمن يُثبت ذل علميًّا‪ ،‬لكنهم مؤمنون حبكمة هللا قبل مساعهم هلذا الكالم العلمي كله! فال نتعدَّى على أمره‪ ،‬فما‬
‫يتحرك متحرك إسا أبمره‪ ،‬وإذا كنت تؤمن هبذا فال تتكلَّم عن فعله إسا ابلرضا عنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪.-‬‬
‫يسكن ساكن إسا أبمره‪ ،‬وسا َّ‬

‫والغم الذي لو دام ألتلف النفوس‪ ،‬وأسقم احليوان وأمرض‬


‫قال‪" :‬أال ترى إذا ركدت الرَّيح كيف حيدث الكرب ّ‬
‫األصحا ء‪ ،‬وأهنك املرضى‪ ،‬وأفسد الثمار‪ ،‬وعفن الزرع‪ ،‬وأحدث الوابء يف اجلو‪ ،‬فسبحان من جعل هبوب الرَّيح أتيت‬
‫ّ‬
‫َبروحه‪ ،‬ورمحته‪ ،‬ولطفه‪ ،‬ونعمته"‪.‬‬

‫وهذا كله من حكمته‪.‬‬

‫)‪ (1‬رواه الرتم ذي يف سننه‪ :‬كتاب الفنت‪ /‬ابب ما جاء يف النهي عن سب الرايح‪ )2252( /‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫تتأمل‪ ،‬وتقرأ إىل أن تُشبع نفس ‪ ،‬فما أن ترى رحيًا إسا وتقول‪ :‬هبَّت وأتت َبروحه‪،‬‬
‫هذا الكالم ليس كافيًا! علي أن َّ‬
‫ورمحته‪ ،‬ولطفه‪ ،‬ونعمته‪ ،‬وحكمته‪ .‬فرتى فيها كمال صفات هللا‪ ،‬وهكذا تصبح مؤمنًا‪ ،‬عندما ترى أن أفعاله كلها دالة على‬
‫مر معنا‪.‬‬
‫مثال‪ :‬الريح‪ ،‬والكواكب‪ ،‬وكل ما َّ‬
‫الكمال‪ ،‬ومن بينها ما يالمس ‪ ،‬ومن بينها ً‬

‫أنيت اآلن للكالم عن اجلبال‪:‬‬

‫ضلَة يف األرض ال حاجة إليها‪ ،‬وفيها من املنافع‬


‫أتمل احلكمة العجيبة يف اجلبال الذي حيسبها اجلاهل الغافل فَ ْ‬
‫قال‪" :‬مث ّ‬
‫ماال حيصيه إال خالقها وانصبها‪ ،‬ويف حديث إسالم ضمام بن ثعلبة قوله للنيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ :-‬ابلذي نصب‬
‫اجلبال‪ ،‬وأودع فيها املنافع‪ ،‬آهلل أمرك بكذا وكذا؟ قال‪" :‬اللهم نعم"(‪ .)1‬أخرجه مسلم"‪.‬‬

‫((اجلبال))‬

‫هذا أعراب يريد أن يدخل يف اإلسالم‪ ،‬فاستحلف النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،-‬لكنه من فقهه وفَهمه قال‪" :‬ابلذي"‪-‬يعين‬
‫أستحلف ‪"-‬نصب اجلبال‪ ،‬وأودع فيها املنافع‪ ،"..‬فهذا األعراب املشرك يعلم من حكمة هللا ما سا يعلمه كثري من اجلهال‪،‬‬
‫ضلَة يف األرض"‪ .‬مبعىن‪ :‬ما هلا قيمة‪ .‬وهذا النظر‬
‫ولذل ابن القيم يف أول الكالم قال‪" :‬اجلبال الذي حيسبها اجلاهل الغافل فَ ْ‬
‫إىل اجلبال يصل إليه َمن مل يتفكر‪ ،‬فأنت قد تشعر يف أول األمر أن فيها حكمة‪ ،‬وتقول لنفس ‪ :‬سابد أن هلا حكمة‪ .‬ومع‬
‫ضلَة"! ولذا سابد من البحث!‬
‫األايم ومع سكوت عن نفس ‪ ،‬وعدم البحث والتأمل‪ ،‬سيستقر يف قلب أهنا " فَ ْ‬

‫ونتخصص؟ سنقول‪ :‬تعلموا معىن قوله تعاىل يف أواخر سورة آل عمران‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫قد يَرد سؤال‪ :‬أتريدين منا أن نبحث حبثًا علميًّا‪،‬‬
‫اب النَّار}(‪ )2‬هذا هو املطلوب من ‪ :‬أن‬
‫ت َه َذا َابط ًال ُسمب َحانَ َ فَقنَا َع َذ َ‬ ‫{ َويـَتَـ َف َّك ُرو َن يف َخ ملق َّ‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَرض َربـَّنَا َما َخلَ مق َ‬
‫بعلم جمرد‪-‬حىت ليس بعلم متَّصل‬ ‫أن تسمع وتقرأ ما يدل‬ ‫تتأمل وتبحث‪ ،‬ومثل هذه األمور اآلن أصبحت يسرية‪ ،‬ميكن‬
‫َّ‬
‫إمياان‪،‬‬
‫يهتم ابلكواكب‪ ،‬وأنت عليك أن تزداد ً‬
‫يهتم ابلسحاب‪ ،‬ومن ّ‬
‫يهتم ابجلبال‪ ،‬ومن ّ‬
‫ابآلايت‪ ،-‬ربنا جعل يف اخللق من ّ‬

‫صلَّى‬ ‫ول هللا َ‬ ‫ال‪ُ :‬هنينَا أَ من نَ مسأ ََل َر ُس َ‬ ‫)‪ (1‬رواه مسلم يف صحيحه‪ /‬كتاب اإلميان‪ /‬ابب السؤال عن أركان اإلسالم‪ )12( /‬وهذا جزء من نصه‪َ " :‬ع من أَنَس بمن َمال ‪ ،‬قَ َ‬
‫الر ُج ُل م من أ مَهل المبَاديَة ال َمعاق ُل‪ ،‬فَـيَ مسأَلَهُ‪َ ،‬وَمحن ُن نَ مس َم ُع‪ ،‬فَ َجاءَ َر ُج ٌل م من أ مَهل المبَاديَة‪ ،‬فَـ َ َ‬
‫ال‪َ :‬اي ُحمَ َّم ُد‪ ،‬أ ََات َان َر ُسولُ َ فَـَز َع َم‬ ‫ق‬ ‫هللاُ َعلَميه َو َسلَّ َم َع من َش ميء‪ ،‬فَ َكا َن يـُ معجبُـنَا أَ من َجييءَ َّ‬
‫ال‪َ ،‬و َج َع َل ف َيها‬‫اجلبَ َ‬
‫ب َهذه م‬ ‫صَ‬ ‫ال‪ :‬فَ َم من نَ َ‬
‫ال‪« :‬هللاُ»‪ ،‬قَ َ‬ ‫ض؟ قَ َ‬ ‫ال‪ :‬فَ َم من َخلَ َق ماأل مَر َ‬ ‫ال‪« :‬هللاُ»‪ ،‬قَ َ‬ ‫الس َماءَ؟ قَ َ‬ ‫ال‪ :‬فَ َم من َخلَ َق َّ‬ ‫ص َد َق»‪ ،‬قَ َ‬
‫ال‪َ « :‬‬ ‫لَنَا أَنَّ َ تَـ مز ُع ُم أ َّ‬
‫َن هللاَ أ مَر َسلَ َ ‪ ،‬قَ َ‬
‫ال‪« :‬نـَ َع مم»‪...‬احلديث‪.‬‬ ‫آَّللُ أ مَر َسلَ َ ؟ قَ َ‬
‫ال‪َّ ،‬‬ ‫اجلبَ َ‬
‫ب َهذه م‬ ‫صَ‬ ‫ض‪َ ،‬ونَ َ‬ ‫ال‪ :‬فَبالَّذي َخلَ َق َّ‬
‫الس َماءَ‪َ ،‬و َخلَ َق ماأل مَر َ‬ ‫ال‪« :‬هللاُ»‪ ،‬قَ َ‬ ‫َما َج َع َل؟ قَ َ‬
‫(‪[ )2‬سورة آل عمران‪]191 :‬‬

‫‪80‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫خمدوما يصل إليك ما يزيد إميانك‪ ،‬وكل الذي علي أن تتصفَّح وتقرأ؛ فتسبح هللا‪،‬‬
‫ً‬ ‫فهذه نعمة ال يقابلها نعمة! أن تكون‬
‫إمياان أبنه‪-‬‬
‫مثال‪-‬زدت ً‬ ‫وتكربه‪ ،‬وهتلله؛ فيثبت يف قلب اإلميان حبكمته وعظمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،-‬فكلما نظرت إىل اجلبال‪ً -‬‬
‫سبحانه وتعاىل‪-‬حكيم يف فعله‪.‬‬

‫دليال على أن هللا‬


‫هذه عبادة سا هتملوها! هذه العبادة أُمهلت فتزعزع اإلميان‪ ،‬فوصلنا حلال تأيت فيه الواحد فيقول‪ :‬أعطوين ً‬
‫هجر عبادة التفكر‪ ،‬مع أن الشواهد حول سا تنتهي‪.‬‬
‫موجود!! ما السبب لوصولنا هلذا احلال؟ السبب هو م‬

‫وجعل فيها‬
‫حاصال لشراب الناس إىل حني نفاذه‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫مث قال‪" :‬فمن منافعها‪ :‬أن الثلج يسقط عليها‪ ،‬فيبقى يف قُـلَلِها‬
‫والراب ضروب‬
‫فأوال‪ ،‬فتجيء منه السيول الغزيرة‪ ،‬وتسيل منه األهنار‪ ،‬واألودية‪ ،‬فينبت يف املروج والوهاد ُّ‬
‫أوال ً‬
‫ليذوب ً‬
‫النبات‪ ،‬والفواكه‪ ،‬واألدوية اليت ال يكون مثلها يف السهل والرمل"‪.‬‬

‫تصبح اجلبال مثل اإلانء الكبري الذي حيفظ املاء‪ ،‬الذي ينزل بصورة الثلج‪ .‬وأنت تصوري األرض من القطب الشمايل إىل‬
‫وتصوريها كلها مع بعض‪ ،‬وكيف أن الثلج يكون هناك‪ ،‬مث يذوب‬
‫وسط الكرة األرضية‪ ،‬ومن اجلنوب إىل وسط الكرة األرضية‪َّ ،‬‬
‫فينزل على أطرافها‪.‬‬

‫وجل‪-‬من مشال األرض‬


‫عز َّ‬
‫كل ما تسمعينه عن املياه اجلوفية‪ ،‬وكل ما تسمعينه عن املياه اليت حتت األرض‪ ،‬إمنا ساقها هللا‪َّ -‬‬
‫إىل جنوهبا‪ ،‬ومن جنوهبا إىل مشاهلا‪ ،‬وهذا كله بقدرته‪ ،‬فبني هنا ابن القيم‪-‬رمحه هللا‪-‬أن الثلج يسقط على اجلبال‪ ،‬فتصبح‬
‫رويدا‪.‬‬
‫رويدا ً‬
‫كاحلاضنة له‪ ،‬وبعد ذل يذوب ً‬

‫ابردا؛ ألن اجلبال مرتفعة‪ ،‬مث ينزل الثلج الذي‬


‫ثلجا ً‬
‫فاملاء إذا نزل على األرض سيبقى ماءً‪ ،‬لكنه إذا نزل على اجلبال سيصبح ً‬
‫رويدا‪ ،‬فينزل ألهل األرض‪ ،‬وينزل إىل األودية بني اجلبال‪ ،‬فتُسقى به‪،‬‬
‫رويدا ً‬
‫يف األسفل‪ ،‬فماذا حيصل للذي يف األعلى؟ يذوب ً‬
‫وعندما تُسقى األودية َتيت املزروعات‪.‬‬

‫فاحنل مجلة‪ ،‬وساح دفعة‪ ،‬فعُدم وقت احلاجة إليه‪ ،‬وكان يف احنالله‬
‫قال‪" :‬فلوال اجلبال لسقط الثلج على وجه األرض ّ‬
‫ضررا ال ميكن تالفيه‪ ،‬وال دفعة ألذيته"‪.‬‬
‫فيضر ابلناس ً‬
‫مرت عليه‪ّ ،‬‬
‫مجلةً‪ :‬السيول اليت هتُلك ما َّ‬

‫‪81‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫لو مل يكن هناك جبال‪ ،‬لنزلت الثلوج على األرض‪ ،‬مث ذابت‪ .‬وماذا حيصل لو ذابت الثلوج مرًة واحدةً؟ لغرق الناس‪ ،‬لكن‬
‫مر معنا‪.‬‬
‫اجلبال تكون حاميةً لألرض من الثلوج‪ ،‬فإن الثلوج تسقط على أعلى نقطة تقابلها‪ ،‬فتحفظها اجلبال‪ ،‬مث متيل مثلما َّ‬

‫ضا‬ ‫"ومن منافعها‪ :‬ما يكون يف حصوهنا‪ ،‬وقُـلَلِها من املغارات‪ ،‬والكهوف‪ ،‬واملعاقِل اليت مبنزلة احلصون ِ‬
‫والقالع‪ ،‬وهي أي ً‬
‫أكنان للناس واحليوان"‪.‬‬

‫من فوائد اجلبال‪ :‬أن فيها مغارات وكهوف تكون مبثابة احلصون والقالع‪ ،‬وهي أكنان للناس واحليوان‪ ،‬يستظلون فيها‪،‬‬
‫ويستفيدون منها‪.‬‬

‫"ومن منافعها‪ :‬ما ينحت من أحجارها لألبنية على اختالف أصنافها‪ ،‬واأل ِ‬
‫َرحيَة وغريها"‪.‬‬ ‫ُ َ‬

‫مر علينا ساب ًقا أن الرخام املوجود يف املطاف هو عبارة عن قطع من اجلبال‪ ،‬ومن صفته‪ :‬أنه إذا تسلَّطت عليه الشمس أصبح‬
‫ابردا‪.‬‬
‫ً‬

‫وكل الرخام عبارة عن قطع أُخذت كما هي من اجلبال‪ ،‬فتجد يف اجلبال من أنواع احلجارة اليت تكون أقوى وأشد يف البناء‪،‬‬
‫أيضا لتجميل بيوت الناس‪.‬‬
‫وتُستخدم ً‬

‫" ومن منافعها‪ :‬ما يوجد فيها من املعادن على اختالف أصنافها من الذهب‪ ،‬والفضة‪ ،‬والنحاس‪ ،‬واحلديد‪ ،‬والرصاص‪،‬‬
‫والزمرد‪ ،‬وأضعاف ذلك من أنواع املعادن الذي يعجز البشر عن معرفتها"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والزبرجد‪،‬‬

‫أنتم تعرفون أن األملا س عبارة عن أحجار من جبل‪ ،‬وأن الذهب عبارة عن استخالص من كهوف يف جبال‪ ،‬والفضة كذل ‪،‬‬
‫وكل املعادن اليت يستخدمها اخللق بدون استثناء أصل وجودها يف اجلبال‪ ،‬وللناس يف التعامل مع اجلبال طريقني‪:‬‬

‫‪ o‬إما أن يعاملوا اجلبال من اخلارج‪ ،‬مثل ما حيصل عند استخراج األملاس‪.‬‬


‫‪ o‬أو يع املوا كهوف اجلبال من الداخل‪ ،‬مثل ما حيصل عند استخراج الذهب‪ ،‬والفضة‪ ،‬والرصاص‪ .‬وهذه الكهوف هي‬
‫اليت يسموهنا ابملناجم‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫صوان من األعداء‪ ،‬يتحرز فيها عباد هللا من أعدائهم‪ ،‬كما يتحصنون ِ‬


‫ابلقالع‪ ،‬بل تكون‬ ‫"ومن منافعها‪ :‬أهنا تكون ُح ً‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أبلغ وأحصن من كثري من ِ‬
‫القالع واملدن‪".‬‬ ‫َ‬

‫واملقصد‪ :‬أهنا تكون ألهل البالد يف احلروب مبثابة احلُصون‪.‬‬

‫أواتدا تثبِّتها‪ ،‬ورواسي مبنزلة َمراسي السفن‪".‬‬


‫"ومن منافعها‪ :‬ما ذكره هللا تعاىل يف كتابه‪ :‬أن جعلها لألرض ً‬

‫أمر معلوم‪ .‬فقد أخرب هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف كتابه أن هذه اجلبال عبارة عن رواسي يف األرض‪ ،‬أي‪ :‬عبارة عن مثبتات‬
‫وهذا ٌ‬
‫هلا‪.‬‬

‫أتملت ِخلقتها العجيبة البديعة على هذا الوضع وجدهتا يف غاية املطابقة للحكمة؛ فإهنا لو طالت واستدقَّت‬
‫"هذا وإذا ّ‬
‫كاحلائط َّ‬
‫لتعذر الصعود عليها واالنتفاع هبا‪ ،‬وسرتت عن الناس الشمس واَلواء‪ ،‬فلم يتمكنوا من االنتفاع هبا‪".‬‬

‫اآلن الكالم عن احلكمة يف شكلها‪ :‬هي ليست كاحلائط‪ ،‬ولو كانت طويلة واستدقَّت حلصل أمران‪:‬‬

‫‪ o‬لَ َما استطاع أحد أن يرقاها‪ ،‬لكن بشكلها احلايل يستطيع اخللق أن يصعدوا عليها‪ ،‬فيجدوا منافعهم منها‪.‬‬
‫صعودا‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪ o‬لو كانت مثل احلائط لَ َس َرتت الشمس واهلواء‪ ،‬وحجزهتما عن اخللق‪ ،‬ومل ينتفعوا منها‪ ،‬لكنها هبذا الشكل‬
‫ونزوسا‪ ،‬أصبح اسانتفاع ابهلواء والشمس مكنًا‪.‬‬
‫تفاعا‪ً ،‬‬
‫وهبوطًا‪ ،‬وار ً‬

‫السهل‪ ،‬ولَ َما حصل َلم هبا االنتفاع من‬ ‫ِ‬


‫"لو بُسطَت على وجه األرض لضيَّقت عليهم املزارع‪ ،‬واملساكن‪ ،‬ولَ َم َألَت ُ‬
‫التحصن‪ ،‬واملَغارات‪ ،‬واألَكنان‪ ،‬ولَ َما سرتت عنهم الرَّيح‪ ،‬ولَ َما َح َجبَت السيول‪".‬‬
‫ّ‬

‫بدسا من ارتفاعها‪-‬مبعىن‪ :‬لو أصبحت بنفس احلجم‪ ،‬لكن مبسوطة على األرض مثل‬
‫لو بُسطَت اجلبال على األرض ً‬
‫صل أمران‪:‬‬
‫اهلضبات‪َ -‬حلَ َ‬

‫‪ o‬لَضيَّقت األرض املبسوطة على اخللق‪ ،‬و َخلَسر الناس مساحات للزراعة وللمساكن‪.‬‬
‫قليال عن أرض‬
‫‪ o‬ولَ َما استفادوا منها يف رد السيل عنهم‪ ،‬ولَ َما استفادوا منها يف احلصانة؛ ألهنا ستصبح جمرد أرض مرتفعة ً‬
‫السهل‪ ،‬سا فائدة فيها‪.‬‬
‫‪83‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫"ولو ُج ِعلَت مستديرةٌ شكل الكرة مل يتمكنوا من صعودها‪ ،‬وملا حصل َلم هبا االنتفاع التام‪ ،‬فكان أوىل األشكال‬
‫واألوضاع هبا‪ ،‬وأليقها‪ ،‬وأوقعها على وفق املصلحة هذا الشكل الذي نُصبت عليه‪".‬‬

‫أنت تؤمن حبكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف الفوائد اليت أتت من وراء اجلبال‪ ،‬ويف شكلها هذا‪ .‬وكل هذا التأمل والتخيل‪"-‬لو ما‬
‫وجل‪.-‬‬
‫عز َّ‬
‫تفكري فيه إميان حبكمة هللا‪َّ -‬‬
‫كانت كذا‪ ...‬ولو ما كانت كذا"‪ٌ -‬‬

‫ف ُخ ِل َق ْ‬
‫ت * َوإِ َىل‬ ‫اإلبِ ِل َك ْي َ‬
‫"ولقد دعاان هللا سبحانه يف كتابه إىل النظر فيها‪ ،‬ويف كيفية خلقها‪ ،‬فقال‪{ :‬أَفَ َال يَـ ْنظُُرو َن إِ َىل ِْ‬
‫ت}(‪.")1‬‬ ‫ف نُ ِ‬
‫صبَ ْ‬ ‫ت * وإِ َىل ا ْجلِبَ ِ‬
‫ال َك ْي َ‬ ‫السم ِاء َكي َ ِ‬
‫ف ُرف َع ْ َ‬ ‫َّ َ ْ‬

‫تتقرب هبا إىل هللا‪،‬‬


‫ت}‪ ،‬واملقصد‪ :‬أن هذه أحد العبادات اليت َّ‬
‫ف نُصبَ م‬
‫اجلبَال َكمي َ‬
‫وجل‪-‬أمران ابلنظر {إ َىل م‬
‫عز َّ‬
‫الشاهد‪ :‬أن هللا‪َّ -‬‬
‫ومتتثل هبا أمره‪ .‬فأنت حني نظرك إىل اجلبال تعبد هللا أبمور‪:‬‬

‫‪ o‬االمتثال ألمره ابلنظر‪.‬‬


‫‪ o‬تعبده بعبادة ُّ‬
‫التفكر اليت أمرك هبا‪.‬‬

‫مث أنك ستنتفع من النظر يف َشغْل قلبك يف احلق‪ ،‬ومن املؤكد أن مصلحة َشغْل القلب ابحلق تورثك مصلحة أخرى‬
‫وهي‪َ :‬ش ْغله عن الباطل؛ فإن كل َمن انشغل قلبه ابحلق‪ ،‬انشغل عن الباطل؛ ألن وسواس الشيطان ال أييت إال لشخص‬
‫سبيال!‬
‫انشغل عن احلق‪ ،‬فيشغله ابلباطل‪ ،‬ولذلك اشغل نفسك ابحلق ما استطعت إليه ً‬

‫أريد أن أُشري إشارة لئال يقع خلل هنا‪ :‬أول ما تبدأ يف التفكر وأنت سا متل َملَ َكتَه القوية سابد أن يدخل علي من األسئلة‬
‫واساستفهامات ما ُخيشى أن يكون معه وسواس‪ ،‬لكن اعلم أن هذا إشارة اإلميان؛ ألن املؤمن َّ‬
‫يتفكر يف الكون‪ ،‬ويتدبَّر القرآن‪،‬‬
‫فإذا وجد الشيطان منه نشاطًا أَشغَلَه ابلباطل‪ ،‬وأَشغَلَه ابلوسواس‪ ،‬فإذا دافع اإلنسان ذلك‪ ،‬وبغضه‪ ،‬وك ِرهه‪َّ ،‬‬
‫ومتىن أن لو‬
‫سقط من السماء ومل يتكلم هبذا الكالم‪ ،‬فإن هذا إشارة اإلميان‪ .‬وسا أقصد أن الوسواس بنفسه إشارة إىل اإلميان‪ ،‬وإمنا‬
‫بُغض له هو الذي يشري إىل اإلميان‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة الغاشية‪]19-17 :‬‬


‫‪84‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫هذا الفعل‪ ،‬وهذا من عداوته املستدمية‪ ،‬ومن اإلميان‪ :‬أن تدافعه‪ ،‬وتبغضه‪ ،‬وتبغض أفكاره‪،‬‬ ‫سابد أن يفعل الشيطان في‬
‫وتراغمه ابلتدبر والتفكر‪ ،‬دون أن تستسلم!‬

‫مثال‪ :‬تفتح القرآن ودجد أن بدأت تتدبر‪ ،‬فيأيت ل الشيطان بوساوس‪ ،‬فترتك التدبر‪ ،‬وتقول‪ :‬عندما كنت أقرأ‪-‬أي‪ :‬بدون‬
‫ً‬
‫تدبر‪-‬كان حايل أحسن‪ ،‬ما كان مير على خاطري مثل هذه الوساوس!‬

‫انتبه! هذه حيلة من الشيطان! افهم أن املطلوب من وقت ما َتتي الوساوس‪:‬‬

‫‪ o‬أوساً‪ :‬أن تكرهها‪ ،‬وتبغضها‪ ،‬وتتمىن أن تُلقى من السماء وسا تقوهلا‪.‬‬


‫‪ o‬األمر الثاين‪ :‬جيب علي ُمرا َغ َمة الشيطان‪ ،‬ومدافعته‪ ،‬وإجبار نفس على القيام ابلطاعة‪.‬‬

‫*وأان أتكلم هنا عن الوسواس الطارئ الذي يدخل على اإلنسان‪ ،‬أما الوسواس القهري فله طريق آخر يف العالج‪.‬‬

‫" فخلقها ومنافعها من أكرب الشواهد على قدرة ابريها‪ ،‬وفاطرها‪ ،‬وعلمه‪ ،‬وحكمته‪ ،‬ووحدانيته‪ ،‬هذا مع أهنا تسبح‬
‫حبمده‪ ،‬وَتشع له‪ ،‬وتسجد‪ ،‬وتش ّقق‪ ،‬وهتبط من خشيته‪".‬‬

‫انظر إىل هذا كله يف اجلبال سرتى احلكمة‪ ،‬مث ستعجب من أمر آخر‪ :‬وهو أن هذه اجلبال َلا عمل يف العبادة يفوق‬
‫َّ‬
‫وتتشقق‪ ،‬وهتبط حجارهتا من خشية هللا‪ ،‬وأنت سا تستطيع َتويل هذا‬ ‫عملك‪ ،‬فهي تسبح حبمد هللا‪ ،‬وَتشع هلل‪ ،‬وتسجد له‪،‬‬
‫جليداي وقع! هذا الذي يقوله اخللق! وسا يعلمون أهنا تسقط من خشيته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬‬
‫ًّ‬ ‫اهنيارا‬
‫حجرا وقع! أن ً‬
‫إسا بقول ‪ :‬أن ً‬

‫مسارين يف ُّ‬
‫التفكر‪:‬‬ ‫إ ًذا‪ :‬هناك َ‬

‫املسار األول‪ :‬استحضار ما ُميزت به املخلوقات يف خلقتها‪ ،‬واملصاحل العائدة منها‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مثال‪-‬فتقول‪ :‬سبحان َمن َخلَقها هبذه اخللقة‪ ،‬فانتفع اخلَلق منها يف كذا وكذا‪!...‬‬
‫تنظر إىل اجلبال‪ً -‬‬

‫كل يوم يقال لنا‪ :‬أن اجلبال فيها كذا‪ ،‬والسحاب فيه كذا‪ ...،‬لكن هذا يقال على لسان امللحدين والكافرين! فكن مؤمنًا‬
‫أبن هللا خيلق اخللق حبكمة‪ ،‬ويسوق ل اخلري َسوقًا‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫املسار الثاين‪ :‬أن تستظهر اآلايت اليت تتكلَّم عن عبادة هذه اجلمادات‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫فحينما تراها تنظر هلا من جهة حكمة هللا يف خلقها‪ ،‬مث من جهة عظمة هللا يف كون هذه األشياء العظيمة‪-‬اليت حجم‬
‫صدعةً من خشية هللا‪.‬‬
‫ومتَ َ‬
‫وتنشق من خشيته‪ ،‬ولو نزل عليها القرآن‪ ،‬لرأيتها خاشعةً ُ‬
‫َّ‬ ‫ابلنسبة هلا سا شيء‪-‬تعظم هللا‪ ،‬وتسبحه‪،‬‬
‫فتأمل‬
‫فهذا وجه آخر للنظر ملخلوقاته‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،-‬فكما أن احلكمة دجري يف خلقتها‪ ،‬كذل العجب يكون يف عبادهتا‪َّ ،‬‬
‫وَتمل هذا‪.‬‬
‫هذا َّ‬

‫شف َقةٌ من هول ذلك‬ ‫وعظمه‪ ،‬فهي م ِ‬ ‫"هذا وأهنا لَتعلم أن َلا موع ًدا ويوما تُنسف فيها نس ًفا‪ ،‬وتصري كالعهن من هوله‪ِ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ً َ‬ ‫َ‬
‫املوعد‪ ،‬منتظرةّ له‪ ،‬وكانت أم الدرداء‪-‬رضي هللا عنها‪-‬إذا سافرت فصعدت على جبل تقول لِ َمن معها‪ :‬أمسعت اجلبال ما‬
‫ص ًفا * َال تَـ َرى‬
‫ص ْف َ‬ ‫ال فَـ ُق ْل يَـ ْن ِس ُف َها َرِّّب نَ ْس ًفا * فَـيَ َذ ُرَها قَ ً‬
‫اعا َ‬ ‫ك َع ِن ا ْجلِبَ ِ‬
‫وعدها رهبا؟ فيقال‪ :‬ما أمسعها؟ فتقول‪َ { :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫فِ َيها ِع َو ًجا َوَال أ َْمتًا}(‪".)1‬‬

‫نسف فيها نس ًفا"‪ ،‬وتُ َس َّري ً‬


‫سريا‪،‬‬ ‫ويوما تُ َ‬
‫أيضا ما تراه يف هذا املخلوق العجيب‪ ،‬فاجلبال تعلم وأنت تعلم "أن َلا موع ًدا ً‬
‫وهذا ً‬
‫واجلبال تؤمن هبذا املوعد املنتَظَر‪ ،‬وهي من هوله وعظمته ُمشف َقة‪ .‬ولذل "كانت أم الدرداء‪-‬رضي هللا عنها‪-‬إذا سافرت‬
‫فصعدت على جبل تقول لِ َمن معها‪ :‬أمسعت اجلبال ما وعدها رهبا؟ فيقال‪ :‬ما أمسعها؟ فتقول‪َ { :‬ويَ مسأَلُونَ َ َعن‬
‫اجلبَال‪"}...‬اآلية‪.‬‬
‫م‬

‫ماذا سيحصل للجبال يوم القيامة مع أهنا عظيمة كل هذه العظمة؟ {يـَمنس ُف َها َرب} العظيم الذي خلقها‪ ،‬فال تستعظم عليه‪،‬‬
‫مستواي‪ ،‬سا بروز فيه‬
‫ً‬ ‫ص ًفا * َسا تَـَرى ف َيها ع َو ًجا َوَسا أ مَمتًا} مبعىن‪:‬‬
‫ص مف َ‬
‫مساواي لألرض‪ .‬ما صفة هذا القاع؟ { َ‬
‫ً‬ ‫قاعا‬
‫{نَ مس ًفا} فيرتكها ً‬
‫أبدا‪.‬‬
‫ً‬

‫شربا‪ ،‬فسبحان من خلقها ووضعها هذا الوضع! وسبحان من جعلها‬


‫اجلبال عظيمة ابرزة‪ ،‬يظن الناس من قوهتا أهنا سا تتحرك ً‬
‫آية! َمن آمن أبن هللا هو العظيم‪ :‬علم أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬قادر على أن جيعل هذه األشياء العظيمة سا شيء‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة طه‪]107-105 :‬‬


‫‪86‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫"فهذا حال اجلبال وهي احلجارة الصلبة‪ ،‬وهذه رقَّتها‪ ،‬وخشيتها‪ ،‬وتَ َد ْك ُدكها من جالل رهبا وعظمته‪ ،‬وقد أخرب عنها‬
‫ولتصدعت من خشية هللا‪ ،‬فَـيَا عجبًا ِمن ُمضغَة حلم أقسى من هذه‬ ‫َّ‬ ‫فاطرها وابريها أنه لو أَنزل عليها كالمه خلشعت‪،‬‬
‫اجلبال! تسمع آَّيت هللا تتلى عليها‪ ،‬ويُذ َكر الرب تبارك وتعاىل فال تَلني‪ ،‬وال َتشع‪ ،‬وال تُنيب! فليس ِمبُستَن َكر على هللا‪-‬‬
‫انرا تذيبها إذ مل تَِلن بكالمه‪ ،‬وذكره‪ ،‬وزواجره‪ ،‬ومواعظه‪".‬‬
‫وجل‪-‬وال خيالف حكمته أن خيلق َلا ً‬ ‫عز َّ‬‫َّ‬

‫هذا البدن يستحق النار ما دام أنه مل يَلن بكالم ربه‪.‬‬

‫جيدا‪ ،‬وفهم معانيها‪ ،‬وما سا تفهمونه سجلوه‪ ،‬واحبثوا عنه‪.‬‬


‫*املطلوب منكم‪ :‬قراءة سورة ص ً‬

‫‪87‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء السابع‬

‫‪88‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫مر معنا أنه سبحانه‪:‬‬


‫سا زلنا بفضل هللا ورمحته نتكلم عن هذا اساسم العظيم اسم "احلكيم"‪ ،‬وقد َّ‬

‫حكيم يف َخلقه فَـيَ ُ‬


‫ضع األشياء يف مواضعها‪ ،‬فال دجد شيئًا من املخلوقات إسا وقد ُوضع يف موضعه‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫‪)1‬‬

‫حكيم‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف شرعه‪.‬‬


‫‪ )2‬وهو ٌ‬

‫حكيم‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف أمره‪.‬‬


‫‪ )3‬وهو ٌ‬

‫‪ )4‬ويف جزائه‪.‬‬

‫نظرت إىل حكمته يف شرعه ستجد أن هذا األمر يُناقَش من جهات‪:‬‬


‫وإذا م‬
‫وجل‪-‬يف إنزال الكتب وإرسال الرسل‪ .‬انظر إىل حكمة هللا‪ ،‬وكيف أنه‪-‬‬
‫عز َّ‬
‫أول ما يُناقش يف هذا األمر‪ :‬هو حكمة هللا‪َّ -‬‬
‫تسل مسال يف‬ ‫سبحانه وتعاىل‪-‬أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ليُخرجوا الناس من الظلمات إىل النور‪ ،‬وهذا األمر سيجعل‬
‫التفكري‪:‬‬
‫تنظر من جهة حكمة هللا يف اختيار النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.-‬‬
‫ُ‬ ‫‪ )1‬سيجعلُ‬
‫‪ )2‬ومن جهة ُخلُقه‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.-‬‬
‫أهال‬
‫وجل‪-‬جعل يف العرب من امليزات اليت دجعلهم ً‬ ‫‪ )3‬ومن جهة أن النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬عرب‪ ،‬وكيف أن هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫حلمل الرسالة اخلامتة‪ ،‬ويتحملون هبا مسؤولية اخللق كلهم إىل قيام الساعة‪.‬‬

‫وجل‪-‬للنيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬اختيار حكيم‪ ،‬فهو سبحانه خيلق ما يشاء وخيتار‪ ،‬فجعل َّ‬
‫النيب‪-‬‬ ‫عز َّ‬
‫إذًا‪ :‬اختيار هللا‪َّ -‬‬
‫على الكمال البشري‪ ،‬اختاره من خري اخلَلق وأفضل األجناس‪ ،‬وهذه الكلمة حينما تسمعينها سا‬ ‫صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬عالمةً‬
‫وجل‪-‬ملا َخلَق‬
‫عز َّ‬
‫جيدا‪ ،‬ويفهم أن هللا‪َّ -‬‬
‫األمر ً‬
‫فهم هذا َ‬
‫يدرس ما يسمونه ب"اجلغرافيا البشرية" يَ ُ‬
‫ُ‬ ‫تظين أن فيها حتيـًزا‪ ،‬إمنا َمن‬

‫‪89‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اخللق َج َعل هلم طبائع متلفة‪ ،‬كما ورد يف احلديث‪" :‬إن هللا قَ َّس َم بينكم أخالقكم كما قَ َّس َم بينكم أرزاقكم"(‪ ،)1‬واملقصد‬
‫قسم بينكم أرزاقكم‪.‬‬
‫قسم بينكم طباعكم كما َّ‬ ‫ابألخالق هنا يف احلديث‪ :‬األخالق الطَّمبعيَّة‪ ،‬يعين‪َّ :‬‬
‫قليل ماؤها‪ ،‬كثريةٌ جباهلا‪ ،‬رماهلا أعظم وأكثر رمال يف العامل‪ ،‬إذا كانت هذه صفاهتا‬
‫فإذا كانت جزيرة العرب صحراء قاحلة‪ٌ ،‬‬
‫صفاات تناسب هذه اجلغرافيا‪ ،‬فهم أكثر الناس شجاعةً‪ ،‬وأكثر الناس حتم ًال‪ ،‬وأكثر الناس‬
‫اجلغرافية سنجد يف املقابل أن ألهلها ً‬
‫كرما‪ ،‬وأكثرهم َمحيَّة من بني اخلليقة‪ ،‬فإذا محلوا احلق دافعوا عنه‪ ،‬ومحَوه‪ ،‬وبذلوا أمواهلم وأرواحهم‬
‫دفاعا عما يقتنعون به‪ ،‬وأكثرهم ً‬
‫ً‬
‫ابطال أو حقًّا‪ ،-‬ومن‬
‫دوان عن اخلليقة‪-‬سواء كان اعتقادهم هذا ً‬
‫من أجله‪ ،‬فهم كرماء يف بذل أرواحهم وأمواهلم دجاه ما يعتقدون ً‬
‫مثال حرب "داحس والغرباء" سرتى أهنم يتقاتلون أربعني‬
‫أيضا قد تصبح هذه الصفة عيبًا‪ :‬ألن لو أردت أن تفسر ً‬
‫هذه النقطة ً‬
‫أيضا من األمور التافهة‪ ،‬لكن ملاذا فعلوا هذا كله من‬
‫ً‬ ‫عاما‪ ،‬ويفىن الناس‪ ،‬من أجل ماذا؟! من أجل انقة!! ويتقاتلون لغري ذل‬
‫ً‬
‫أجل هذه األمور التافهة؟ ألن فيهم ما يسمى ابحلَميَّة‪ ،‬وألن فيهم ما يسمى ابلشجاعة‪ ،‬فهم سا يقبلون الدون‪ ،‬وسا أن يُداس هلم‬
‫ابطال‪.‬‬
‫طََرف على أي شيء حقًّا كان أو ً‬
‫النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬من هؤساء العرب اختاره وهو كامل الصفات‪ ،‬واختار أمته وأهله من‬
‫وجل‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫فلما اختار هللاُ‪َّ -‬‬
‫العرب وفيهم هذه الصفات‪ ،‬إذا محلوا احلق بذلوا كل جهد من أجله‪ ،‬وإذا خابوا فرتكوه بقيت فيهم الصفات لكن على الباطل‪.‬‬
‫فهو احلكيم‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬اختارهم من دون اخللق‪ .‬وتأيت بعدهم الروم والفرس يف صفاهتم‪.‬‬
‫وجل‪-‬يف اختيار النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬وصفاته‪ ،‬وكيف أن هللا‪َّ -‬‬
‫عز‬ ‫عز َّ‬
‫لكن املقصد‪ :‬هو أن ننظر إىل حكمة هللا‪َّ -‬‬
‫منوذجا‬
‫كمل له صفاته‪ ،‬وكان نسبه من أشرف األنساب‪ ،‬ملاذا هذا كله؟ من أجل أن يكون ً‬ ‫وجل‪-‬اختاره من بني اخلليقة‪ ،‬و َّ‬ ‫َّ‬
‫يستطيع أح ٌد أن يتَّهم النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬يف صفة من صفاته‪ ،‬فهذا من حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف شرعه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عالَميًا‪ ،‬سا‬
‫مادحا وصفه‪َ { :‬وإنَّ َ لَ َعلَ َٰى ُخلُق َعظيم}(‪ ،)2‬وم مدح هللا‪-‬‬
‫كمله؛ وهلذا قال‪-‬سبحانه وتعاىل‪ً -‬‬ ‫أن الذي بلَّغ َ‬
‫شرعه عب ٌد من عباده َّ‬
‫عظيما!‬
‫وجل‪-‬له أبنه على خلق عظيم معناه أنه سيكون حقًّا ً‬‫عز َّ‬‫َّ‬
‫فما أتى َمن يستطيع أن يتهم النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬يف صفاته؛ ولذلك ن ْشر صفات النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬بني‬
‫سبب إلميان أشخاص كثريين؛ فهم حينما يَعرفون َمن هو النيب؟ وما صفاته؟ وما حاله؟ وكيف هو‬ ‫اخلليقة اليت حتارب اإلسالم ٌ‬
‫مع أهله‪ ،‬وكيف أنه‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬ما ضرب ً‬
‫أحدا سا صبيًّا وسا امرأ ًة إسا أن جياهد يف سبيل هللا‪ ،‬وكيف كرمه وجوده‬

‫)‪ (1‬أخرجه أمحد يف املسند (‪ ،)387 /1‬وأخرجه البخاري يف األدب املفرد (‪ ،)275‬وأبو داود يف الزهد (‪ ،)157‬واحلاكم يف املستدرك (‪ ،)33 /1‬أخرجه‬
‫اإلمساعيلي يف معجم الشيوخ (‪.)727_726 /3‬‬
‫)‪[ )2‬سورة القلم‪]4 :‬‬
‫‪90‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وتعامله مع الصغري والكبري‪ ،...‬كل صفات النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬هذه حتتاج إىل نشر؛ ليع ِرف الناس كيف أن هللا‬
‫كمله من اخللق‪.‬‬
‫حكيم‪ ،‬ما اختار لرسالته إال َمن َّ‬
‫إمياان به‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ ،-‬وسيزيد كلمة "الصالة عليه" حيا ًة يف قلوبنا‪ .‬أمل تسمعوا قول النيب‪-‬صلَّى‬
‫ومثل هذا سيزيدان ً‬
‫هللا عليه وسلَّم‪-‬للرجل يوصيه ملا سأله‪ :‬كم أجعل ل من صاليت؟ ‪-‬مبعىن‪ :‬كم أجعل ل من دعائي وقت ما أكون متوج ًها أريد‬
‫أن أدعو؟ مبعىن‪ :‬كم أصلي علي ؟‪-‬انقشها وانقشها إىل أن قال له‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪" :-‬اجعل يل صالت كلها‪ ،‬تُكفى‬
‫مه "(‪.)1‬‬
‫من املؤكد أن هناك سؤال استفهام وهو‪ :‬كيف أُك َفى مهي ويُغ َفر يل ذنيب حينما أصلي على النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬يف‬
‫دليل على إميان أن هللا حكيم‪ ،‬وأنه ما اختار إلبالغ دينه‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫دعائي؟ سيحصل ل ذل ألن الصالة عليه‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ٌ -‬‬
‫وإمياان ابلرسالة اليت جاء هبا الرسول‪-‬صلَّى هللا‬
‫إمياان حبكمة هللا‪ً ،‬‬
‫كامل من اخلليقة‪ .‬فكانت الصالة على الرسول ً‬
‫إسا َم من هو ٌ‬
‫وجل‪-‬؛ وهلذا َمن َعلم مكانة‬
‫عز َّ‬
‫سيصب يف إميانك ابهلل‪َّ -‬‬
‫ّ‬ ‫عليه وسلَّم‪ً ،-‬‬
‫وإمياان بكل األخبار اليت أتى هبا الرسول‪ ،‬وهذا كله‬
‫أبدا أن يعيب فيه‪.‬‬
‫رسوسا سا يستطيع أح ٌد ً‬
‫رسوسا هذا اترخيه‪ً ،‬‬ ‫النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬وجد يف نفسه ً‬
‫رضا عن هللا أنه أرسل له ً‬
‫كلكم تعلمون أن كل عظماء الدنيا سا بد أن ختفى من حياهتم خفااي‪ ،‬وسابد أن تكون فيهم نقاط سوداء تُطوى‪ ،‬أما حياته‪-‬‬
‫نشرا‪ ،‬فال دجد فيها ما يعيب‪ ،‬سا دجد فيها إسا الكمال‪ ،‬وهذا سيجعل تُثين على النيب‪-‬صلَّى‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪-‬فقد نُشرت ً‬
‫ب ذكره وحفظ سنته‪ ،‬وجعل اخللق‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،-‬وتُثين على مرسله احلكيم‪ ،‬الذي طيَّب النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،-‬وطيَّ َ‬
‫يتناقلون ُخلُقه‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬؛ ولذل يُثىن عليه‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬ابلصالة‪ ،‬ويف ثنااي ثنائ على النيب ثناء على‬
‫هللا العظيم‪ ،‬الرب الكرمي احلكيم‪ ،‬الذي جعل خامت املرسلني على هذه الصفة من األخالق‪.‬‬
‫إ ًذا‪ :‬أول ما يتعلق إبميان أن هللا حكيم يف شرعه‪ :‬إميان أن النيب الذي أرسله هللا إلينا خاصة‪ ،‬وإىل اخلليقة عامة‪ ،‬كمله‬
‫وجل‪-‬تظهر يف اختياره للنيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.-‬‬
‫عز َّ‬
‫وجل‪ ،-‬وأن آاثر حكمة هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬

‫نج ّر على األنبياء كلهم‪ ،‬فمن ضعف اإلميان أن ال جتد يف قلبك حبًّا وشوقًا إىل مجيع األنبياء‪ ،‬من ضعف اإلميان أن ال‬
‫ومثل هذا اإلميان جيب أن يَ َ‬
‫جتد يف قلبك مكانةً إلبراهيم‪-‬عليه السالم‪-‬وهو خليل الرمحن! من ضعف اإلميان أن ال جتد يف نفسك مكانة ملوسى‪-‬عليه السالم‪-‬وهو كليم‬
‫مجيعا؟! كل اسم من أمساء هؤالء العظماء جيب أن يكون له رنني خاص يف قلبك‪ ،‬وجيب عليك‬
‫الرمحن! كيف ال جتد يف نفسك مكانة لألنبياء ً‬
‫جيرك ذلك لإلميان والتقوى‪.‬‬
‫عندما تسمع عنهم أن ّ‬

‫)‪ )1‬رواه الرتمذي يف السنن‪ /‬صفة القيامة والرقائق والورع‪ )2457( /‬وقال حديث حسن صحيح‪ ،‬ورواه أمحد يف مسند األنصار رضي هللا عنهم (‪ ،)136/5‬واحلاكم‬
‫وصححه‪ ،‬وحسنه الشيخ األلباين رمحه هللا يف الصحيحة (‪.)954‬‬
‫‪91‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وح َٰى}(‪ ،)1‬اختاره هللا وهو احلكيم‪ ،‬فمن‬ ‫استَم مع ل َما يُ َ‬ ‫اختَـ مرتُ َ فَ م‬
‫وجل‪-‬موسى‪-‬عليه السالم‪ ،-‬فيقول له‪َ { :‬وأ ََان م‬
‫عز َّ‬
‫يكلم هللا‪َّ -‬‬
‫ب إ َ َٰىل ف مر َع مو َن إنَّهُ طَغَ َٰى}(‪ ،)2‬فيقول مباشرًة‪َ { :‬رب‬
‫اإلميان أن تؤمن به‪ ،‬وتتلمس صفات كماله‪ ،‬وترى إميانه‪ .‬يقال له‪{ :‬ا مذ َه م‬
‫احلُ مل ُع مق َد ًة م من ل َساين}(‪ ،)3‬مباشرًة‪ :‬ما له إسا هللا!‬
‫ص مدري * َويَس مر يل أ مَمري * َو م‬
‫ا مشَر مح يل َ‬
‫من إميانك حبكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬أن تُقلِّب يف ذهنك ِس َري هؤالء األنبياء العظماء الذين اصطفاهم هللا‪ ،‬من إميان‬
‫حكيم‪ ،‬أرسل شعيبًا إىل قومه‪.‬‬
‫حكيم‪ ،‬أرسل موسى‪-‬عليه السالم‪-‬إىل قومه‪ .‬هللا ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ابحلكمة أن ما تراهم يف موطن إسا وتقول‪ :‬هللا‬
‫حكيم‪ ،‬أرسل إبراهيم إىل قومه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫هللا ٌ‬
‫وجل‪:-‬‬
‫عز َّ‬
‫تبني لنا إىل هنا أن هللا‪َّ -‬‬
‫‪ -1‬حكيم يف خلقه‪( .‬وانقشنا ذل األسبوع املاضي)‬
‫‪ -2‬حكيم يف شرعه‪ .‬ورأس الشرع‪ :‬أن نتكلم عن‪:‬‬
‫‪ o‬النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬الذي أرسله هللا‪.‬‬
‫‪ o‬وعن الكتاب الذي أنزله هللا‪.‬‬
‫فمن اإلميان حبكمة هللا يف شرعه‪ :‬أن تؤمن هبذا الكتاب العظيم الذي حفظه هللا من كل حتريف‪ ،‬وأظهر فيه اآلايت‬
‫العظيمة‪.‬‬
‫سنرى هذا يف مواطن متعددة‪ ،‬وسنبذل جهودان‪-‬إن شاء هللا‪-‬يف اسانتفاع بوقفات مع القرآن‪ ،‬وسأُطيل يف هذا املوضوع‬
‫لسبب‪ :‬وهو أن شهر رمضان ُمقبِل علينا‪ ،‬وهذا الشهر العظيم يستلزم منا العناية ابلقرآن‪ .‬فأهل العلم يقولون‪" :‬ما فُ ِرض‬
‫(‪)4‬‬
‫وجل‪-‬يف سورة البقرة ملا أخربان عن شهر رمضان‬
‫عز َّ‬ ‫الصيام يف رمضان إال ألن الكتب نزلت فيه" ‪ ،‬وأعظمها القرآن‪ ،‬وهللا‪َّ -‬‬
‫ضا َن الَّ ِذي أُن ِز َل فِ ِيه الْ ُق ْرآ ُن}(‪ ،)5‬دسالةً على أن هذه هي ميزة الشهر‪ ،‬والنيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬يقول‪:‬‬
‫قال لنا‪َ { :‬ش ْه ُر َرَم َ‬
‫َّم م من َذنمبه"(‪.)6‬‬
‫احت َس ًااب ُغفَر لَهُ َما تَـ َقد َ‬
‫اان َو م‬
‫ضا َن إميَ ً‬
‫ص َام َرَم َ‬
‫" َم من َ‬

‫)‪[ )1‬سورة طه‪]13 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة طه‪]24 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة طه‪]27-25 :‬‬
‫)‪ (4‬تفسري ابن كثري (‪)367/1‬‬
‫)‪[ )5‬سورة البقرة‪]185 :‬‬
‫احت َس ًااب م من ماإلميَان‪ .)38( /‬ورواه مسلم يف صحيحه‪ /‬كتاب صالة املسافرين وقصرها‪ /‬ابب الرتغيب‬
‫ضا َن م‬
‫ص موُم َرَم َ‬
‫)‪ )6‬رواه البخاري يف صحيحه‪ /‬كتاب اإلميان‪َ /‬ابب َ‬
‫يف قيام رمضان وهو الرتاويح‪.)760( /‬‬
‫‪92‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫فأنت تريدين أن تُقبلي على شهر القرآن ابلقرآن‪ ،‬وتريدين أن تُقبلي على شهر رمضان ابإلميان‪ ،‬وإن بذلت اآلن جهدك يف‬
‫معا عندما نقضي هذه األايم‪:‬‬
‫تدبر القرآن‪ ،‬سيظهر ل أمران ً‬
‫‪ ‬ستظهر حكمة هللا العظيمة يف كتابه‪.‬‬
‫‪ ‬ولن تظهر حكمة هللا يف كتابه إسا ابلتدبر‪.‬‬
‫معا يف نفس الوقت‪ ،‬وسنجعل مناذج تفصيلية لذل ‪-‬إن شاء هللا‪.-‬‬
‫فسنخدم هاتني الفكرتني ً‬
‫سنبدأ أبهم مسألة‪:‬‬
‫وجل‪-‬يف إنزاله؟‬
‫عز َّ‬
‫مىت ستُدرك عظمة القرآن‪ ،‬وحكمة هللا‪َّ -‬‬
‫ستُدرك ذلك عندما يكون لك نصيب يف اللغة؛ ألن ضعف اللغة سبب عظيم لضعف التدبر‪ ،‬وسبب عظيم لعدم‬

‫اإلحساس بعظمة القرآن‪ ،‬وكلما مرنت نفس على أن تفهم ما تستطيعه من مفاهيم اللغة كلما زدت ً‬
‫فهما للقرآن‪ ،‬وسا أعين‬
‫بذل أن تصبح "سيبويه" يف اللغة! سا! ولكن اعط نفس قواعد يف اللغة‪ ،‬وليس املطلوب هو أن حتفظ القواعد وتسمعها‪،‬‬
‫وتضرب هلا أمثلة يف األخري‪ ،‬سا! ليس هبذه الصورة‪ ،‬بل قواعد تستطيع من خالهلا أن تفهم القرآن‪.‬‬
‫فأول أداة جيب أن تكون مع ‪-‬بعد اليقني أبن القرآن كتاب هللا‪ ،‬وأنه كالم هللا‪ :-‬هي أداة اللغة‪.‬‬
‫كلما صار مع نـَ َهم للغة كلما بدأت تشعر بعظمة القرآن؛ ألنه ليس كأي كتاب‪ ،‬وسا ميكن ملثل هذا أن يقوله البشر!‬
‫مستحيل! إسا أن ضعف اللغة يسبب عدم الشعور هبذه املسألة‪.‬‬
‫سنضرب اليوم بعض األمثلة املتفرقة‪:‬‬
‫أوسا‪ :‬سورة الكافرون‪:‬‬
‫ً‬
‫كثريا ما ُخيطئ الناس عند قراءهتا وحفظها‪ ،‬وحلل املشكلة يقولون ل َمن يريد حفظها‪ :‬عد بيدك عدد آايهتا!‬
‫هي السورة اليت ً‬
‫صرها! والسبب هو شيء مهم وهو عدم فهمنا هلا! حنن نشعر يف داخلنا أن السورة فيها تكرار‪،‬‬
‫يقع اخلطأ يف السورة ابلرغم من ق َ‬
‫لكننا نستحي من ذل ‪ ،‬داخلنا هذه املشاعر‪ ،‬لكننا ساكتون عنها‪.‬‬
‫لن تفهم مسألة هذه السورة إسا حينما تفهم اجلملة يف اللغة العربية‪ .‬سنذهب اآلن إىل اللغة‪ ،‬وسنفهم فقط شيئًا بسيطًا جدًّا‪:‬‬
‫الفرق بني اجلملة اسامسية واجلملة الفعلية‪-‬مبعىن‪ :‬الفرق بني اساسم والفعل‪.-‬‬
‫وهذا ليس صعبًا! فالقاعدة تقول‪:‬‬
‫كل اسم يدل على الثبوت‪ ،‬وكل فعل يدل على احلدوث واالستمرار‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬يقول‪{ :‬قُ مل َاي أَيـ َها الم َكاف ُرو َن (‪َ )1‬سا أ مَعبُ ُد َما تَـ معبُ ُدو َن (‪َ )2‬وَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (‪ })3‬هذا كالم‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬ ‫‪‬‬
‫النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬وهو يتربأ من الكافرين‪.‬‬
‫مث يصف النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬حاله مرة أخرى‪َ { :‬وَسا أ ََان َعاب ٌد َما َعبَ مد ُممت (‪.})4‬‬ ‫‪‬‬
‫ويصف حاهلم مرة أخرى‪َ { :‬وَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (‪.})5‬‬ ‫‪‬‬
‫ما الفرق بني وصف النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬حلاله‪ ،‬وبني وصفه حلال الكافرين؟‬
‫وصف النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬حلال الكافرين‬ ‫وصف النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬حلاله‬
‫مجلتان متطابقتان‪:‬‬ ‫مجلتان متلفتان‪:‬‬

‫{ َوَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (‪})3‬‬ ‫{َسا أ مَعبُ ُد َما تَـ معبُ ُدو َن (‪})2‬‬
‫{ َوَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (‪})5‬‬ ‫{ َوَسا أ ََان َعاب ٌد َما َعبَ مد ُممت (‪})4‬‬

‫اآلن السؤال‪ :‬ملاذا تغري وصف النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬؟ وملاذا ثبت وصفهم؟ وماذا يريد أن خيربان بذل ؟‬

‫النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬نفى عن نفسه عبادة األصنام يف احلالتني‪ ،‬ولكن بصيغتني متلفتني‪:‬‬
‫‪ ‬فقوله‪َ{ :‬سا أ مَعبُ ُد} فعل منفي‪ ،‬أي‪ :‬أنه‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬نفى استمرار ذل الفعل‪.‬‬
‫‪ ‬وقوله‪َ { :‬عاب ٌد} اسم‪ ،‬ونفى الثبوت بقوله‪َ { :‬وَسا أ ََان َعاب ٌد}‪.‬‬
‫مبعىن‪ :‬أنه‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬نفى عن نفسه عبادة األصنام يف احلالتني‪ :‬الثابتة واملتجددة‪ ،‬إذًا‪ :‬هو نفى عن نفسه‬
‫عبادة األصنام يف مجيع األزمنة‪.‬‬
‫حادث وسيزول‪ ،‬فالفعل فيه احلدوث فقط‪ ،‬فكأنه يقال‪ :‬لو قال‪َ{ :‬سا‬
‫ٌ‬ ‫‪ ‬ولو اقتُصر على الفعل‪ :‬ميكن أن يُقال هذا ٌ‬
‫أمر‬
‫أ مَعبُ ُد} األصنام اآلن‪ ،‬إ ًذا ميكن أن يقال له‪ :‬ستعبدها يف املستقبل‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫‪ ‬ولو اقتُصر على اساسم لقيل‪ :‬صحيح أن هذه صفةٌ اثبتة‪ ،‬لكن قد حيدث غريها‪ ،‬فليس ثبوت هذه الصفة معناه‬
‫استمرارها على هذا الوصف؛ ألن اإلنسان قد يفارق وص َفهُ‪.‬‬
‫إذًا‪ :‬ماذا أراد النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬أن يعلن هلم؟ أراد أن يعلن براءته ابلصيغتني‪ :‬الفعلية واالمسية‪.‬‬
‫قال هلم ابلصيغة الفعلية‪ :‬لن حيدث مِن مثل هذا‪ .‬وابسامسية قال‪ :‬وأان اثبت على ذلك‪ .‬وهذا هو تفسري اآليتني يف وصف‬
‫حاله‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.-‬‬
‫تأيت السؤال الثاين‪ :‬ملاذا ثبت وصف حاهلم؟‬
‫نفى هللا عنهم عبادته بصيغة اجلملة اسامسية فقط‪َ { :‬وَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد} مرتني‪ ،‬ومل يذكر اجلملة الفعلية‪ .‬على أي‬
‫شيء يدل هذا؟ يدل على ثبوهتم على حاهلم يف العبادة‪.‬‬
‫وهذا يناسب بداية السورة‪{ :‬قُ مل َاي أَيـ َها الم َكاف ُرو َن}‪ ،‬ومل يقل‪" :‬يكفرون"‪ ،‬ف"الكافرون" اسم يدل على الثبوت‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ب أن‬
‫فناس َ‬
‫ف الك مفر اثبت هلم‪َ ،‬‬
‫وص ُ‬
‫الثابتون على كفرهم‪ ،‬وألن "الكافرون" اسم دال على ثبوت الوصف كان معىن اآلية‪ :‬اي َم من م‬
‫َتيت اجلملتني امسيتني { َوَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (‪َ { })3‬وَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (‪.})5‬‬
‫نبدأ اآلن من أول السورة‪ ،‬وكأننا نفسرها‪:‬‬
‫‪{ -1‬قُ مل َاي أَيـ َها الم َكاف ُرو َن} أي‪ :‬اي َمن ثبت يف حقهم وصف الكفر‪.‬‬
‫‪ -2‬أان بريء من أن أعبد وأن حيدث مين العبادة لغري هللا‪.‬‬
‫‪ -3‬وأنتم اثبتون على كفركم على عبادة غري هللا‪.‬‬
‫‪ -4‬وأان سأستمر على أن سا أعبد إسا هللا‪.‬‬
‫‪ -5‬وأنتم اثبتون على عبادة غري هللا‪.‬‬
‫إ ًذا‪ :‬تربأ النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬من الدخول يف الشرك‪ ،‬ومن جمرد حدوث هذا‪ ،‬وتربأ من أن يفعل أو يدخل يف ذل‬
‫مستقبال‪.‬‬
‫ً‬
‫سابد أن ترددوا هذا الكالم على عقولكم حىت سا ختطئوا! هذه السورة وسورة اإلخالص تسميان ب"سوريت اإلخالص"‪،‬‬
‫وسورة الكافرون من أعظم السور اليت فيها الرباءة من الشرك‪ ،‬إذًا‪ :‬سابد وأن هلا منزلة عظيمة يف الدين‪ ،‬فكيف ختطئ يف قراءهتا؟!‬

‫‪95‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫السمب الذي تظهر فيه أنواع‬


‫السمب العظيم؟ مستحيل! مستحيل أن تأتوا مبثل هذا َّ‬
‫هل ميكن خللق أن تأتوا مبثل هذا الكالم و َّ‬
‫الرباءة‪ ،‬ومناسبة اجلُ َمل حلاله‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ ،-‬ومناسبتها حلال الكافرين‪ ،‬وكل ذل يف آايت متصرة قصرية‪ ،‬معناها‬
‫عظيم! وهلذا الذي سا يفهم هذا‪ :‬سا يفهم إعجاز القرآن؛ فالقرآن فيه ألفاظ سا ميكن أن تأيت هبا إسا حكيم عليم‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫مثال آخر‪ :‬أمساء مكة املكرمة‪:‬‬

‫بَ َّكة‬ ‫مكة‬ ‫اللفظ‬


‫آل عمران‬ ‫سورة الفتح‬ ‫السورة‬
‫قال تعاىل‪{ :‬إ َّن أ ََّو َل بـَميت ُوض َع للنَّاس لَلَّذي بِبَ َّكةَ‬ ‫ف أَيمديـَ ُه مم َعن ُك مم‬‫قال تعاىل‪َ { :‬وُه َو الَّذي َك َّ‬ ‫اآلية‬
‫(‪)2‬‬
‫ني}‬
‫ُمبَ َارًكا َوُه ًدى ل مل َعالَم َ‬ ‫َوأَيمديَ ُك مم َعمنـ ُهم ببَطمن َم َّكةَ من بـَ معد أَ من أَظم َفَرُك مم‬
‫(‪)1‬‬
‫اَّللُ مبَا تَـ مع َملُو َن بَص ًريا}‬
‫َعلَميه مم َوَكا َن َّ‬
‫يف سياق الكالم عن احلج وتشريعه‬ ‫يف سياق الكالم عن الفتح‬ ‫السياق‬

‫أصل معىن َّ‬


‫(بكة)‪ :‬من البَ ‪ ،‬وهو شدة الزحام‪.‬‬ ‫داللة االسم يف إشارة إىل أن هذه القرية املشهورة املعروفة ابمسها‬
‫بني العرب‪ ،‬وأن النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬خرج فأتت هبذا اساسم يف سياق األمر ابحلج لإلخبار هبذا‬ ‫السياق‬

‫املعىن اللطيف‪ ،‬الذي يدل على أن احلج فيه الزحام‪.‬‬ ‫ت إسا ابمسها‬
‫منها‪ ،‬فلما أُشري إىل فتحها ما ُمسيَ م‬
‫املشهور (مكة)‪.‬‬

‫أبدا‪ ،‬سابد أنه كالم من لَ ُدن حكيم عليم‪.‬‬


‫وهنا اإلشارة إىل أن هذا سا تأيت من اخللق ً‬
‫وهذه األمثلة يسرية جدًّا يف حبر األلفاظ القرآنية‪ ،‬اليت من واجبنا أن نتلمسها‪.‬‬
‫مثال آخر‪:‬‬
‫دليل على‬
‫دائما بصيغة األمساء؛ ألن هذا ٌ‬
‫سنعود إىل اجلملة اسامسية والفعلية‪ :‬ساحظوا أن ألفاظ (اإلميان) و(املؤمنني) َتيت ً‬
‫فعال يف كل اآلايت؛ ألن فيه الدسالة على استمراره‪ ،‬إسا يف آية واحدة وصف‬
‫ثبوت اإلميان‪ ،‬بينما جند أن لفظة (اإلنفاق) َتيت ً‬
‫ني}(‪ ،)3‬فأتى اإلنفاق هنا امسًا‪ :‬للدسالة على ثبوت هذه الصفة هلم‪.‬‬
‫هللا املؤمنني فيها أبهنم {املمنفق َ‬

‫)‪[ (1‬سورة الفتح‪]24 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة آل عمران‪]96 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة آل عمران‪]17 :‬‬
‫‪97‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫األصل هو‪ :‬أن تأيت (اإلنفاق) يف القرآن بصورة فعل‪ ،‬وتأيت (اإلميان) بصورة اسم؛ ألن اإلميان‪ :‬ثبات‪ .‬واإلنفاق‪ :‬استمرار‬
‫أيضا على ثباهتم عليه‪ .‬وسنرى من هذا َع َجبًا!‬
‫ودجدد‪ .‬وحينما آتى وص ًفا للمؤمنني دل ً‬
‫سنكتفي هبذه األمثلة‪ ،‬ونبدأ اآلن ابساتفاق على ما سنفعله يف سورة (ص)‪:‬‬
‫غدا قراءة صحيحة؟‬
‫ما هو املطلوب منكم لتقرؤوا السورة ً‬

‫أوال‪ :‬ستقرئني السورة يف جلسة واحدة من أوهلا إىل آخرها دون أن تقطعي القراءة‪.‬‬
‫ً‬
‫اثنيًا‪ :‬سنحدد (موضوع السورة) عن طريق تقسيمها إىل موضوعات‪.‬‬

‫اثلثًا‪ :‬ستجدين يف السورة‪ً :‬‬


‫قصصا لبعض األنبياء‪ .‬املطلوب من أن تبحثي‪ :‬أين ورد اخلرب عن هؤساء األنبياء يف كتاب هللا؟‬
‫بعمل جدول‪ ،‬مع كتابة اآلايت اليت ورد فيها كل نيب من األنبياء‪-‬الذين وردوا يف سورة (ص) فقط‪-‬؛ ألننا‬ ‫فتسجلني ذل‬
‫سنقوم ابملقارنة بني مواطن (ص)‪ ،‬وبقية املواطن يف القرآن‪.‬‬
‫آخر يف القرآن؟ ذُكر يف سورة كذا وسورة كذا‪ ،‬من‬
‫مثال‪ :-‬داود‪-‬عليه السالم‪ .-‬أين ذكر يف موطن َ‬
‫*تذكرين يف اجلدول‪ً -‬‬
‫آية كذا إىل آية كذا‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫*واذهيب إىل "املعجم املفهرس أللفاظ القرآن" ليسهل علي األمر‪-‬إن شاء هللا‪.-‬‬
‫ابعا‪ :‬عدي وساحظي األلفاظ اليت ُكررت يف السورة بنفس اللفظ واملادة‪.‬‬
‫رً‬
‫خامسا‪ :‬ساحظي بداية السورة وخامتتها (وهذه من املالحظات املهمة جدًّا)‪.‬‬
‫ً‬
‫سنضرب هلذه اخلطوة أمثلة ليتضح املراد‪:‬‬
‫‪ .1‬سورة البقرة‪.‬‬
‫بداية السورة‬
‫(‪)1‬‬
‫ين يـُ مؤمنُو َن ابلمغَميب‪}...‬‬ ‫اب َسا ريمب فيه ُه ًدى ل ملمتَّق َ َّ‬
‫ني * الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫{امل * َذل َ المكتَ ُ َ َ‬
‫خامتة السورة‬
‫(‪)2‬‬
‫ول مبَا أُنزَل إلَميه من َّربه َوالم ُم مؤمنُو َن‪}...‬‬
‫الر ُس ُ‬
‫{ َآم َن َّ‬

‫)‪[ )1‬سورة البقرة‪]3-1:‬‬


‫)‪[ (2‬سورة البقرة‪]285 :‬‬
‫‪98‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫(عالقة املقدمة ابخلامتة)‬


‫ب}؟‬ ‫ين يـُ ْؤِمنُو َن ِابلْغَْي ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ستفسرين أول السورة آبخرها‪َ :‬من هم {الذ َ‬
‫ول ِمبَا أُن ِز َل إِلَي ِه ِمن َّربِ ِه والْم ْؤِمنو َن ُكلٌّ آمن ِاب َِّ‬
‫َّلل َوَم َالئِ َكتِ ِه َوُكتُبِ ِه َوُر ُسلِ ِه‪.}...‬‬ ‫الر ُس ُ‬
‫آم َن َّ‬
‫ََ‬ ‫ّ َ ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫فتقولني‪َ { :‬‬

‫أبدا‪ ،‬وهذا األمر حيتاج إىل علم لتفهمه‪.‬‬


‫وهذا هو اإلعجاز العجيب! ستجد بني بداايت وخواتيم كل السور صلة سا تنف ً‬

‫‪ .2‬سورة آل عمران‪.‬‬
‫بداية السورة‪:‬‬
‫ني يَ َديمه} أي‪ :‬لِما‬
‫صدقًا ل َما بـَ م َ‬ ‫وم * نَـ َّز َل َعلَمي َ المكتَ َ‬
‫اب اب محلَق ُم َ‬ ‫اَّللُ َال إِلَهَ إَِّال ُه َو ا ْحلَ ُّي الْ َقيُّ ُ‬
‫{ امل * َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫يل}‬ ‫سبَقه { َوأ َ‬
‫َنزَل التـ مَّوَرا َة َو ماإلجن َ‬
‫خامتة السورة‪:‬‬

‫{ َوإ َّن م من أ مَهل المكتَاب لَ َمن يـُ مؤم ُن اب ََّّلل َوَما أُنزَل إلَمي ُك مم َوَما أُنزَل إلَميه مم َخاشع َ‬
‫ني ََّّلل َسا يَ مشتَـ ُرو َن آب َايت ا ََّّلل‬
‫(‪)2‬‬
‫َمثَنًا قَل ًيال}‬

‫(عالقة املقدمة ابخلامتة)‬


‫ما موقف أهل الكتاب من القرآن؟‬
‫وجل‪-‬أخرب يف ِختام السورة‪ :‬أن من أهل الكتاب َمن يقع منه اإلميان‪ ،‬قال‬ ‫عز َّ‬ ‫ستجدين أن هللا‪َّ -‬‬
‫اش ِعني َِِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تعاىل‪{ :‬وإِ َّن ِمن أ َْه ِل ال ِ‬
‫َّلل َال يَ ْشتَـ ُرو َن‬ ‫اب لَ َمن يـُ ْؤم ُن ِاب ََّّلل َوَما أُن ِز َل إِلَْي ُك ْم َوَما أُن ِز َل إِلَْي ِه ْم َخ َ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫َ ْ‬
‫ت َِّ‬
‫اَّلل ََثَنًا قَِل ًيال}‪.‬‬ ‫ِآبَّي ِ‬
‫َ‬

‫)‪[ )1‬سورة آل عمران‪]3-1 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة آل عمران‪]199 :‬‬
‫‪99‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫سورة آل عمران نزلت يف َوفمد جنران الذين أنكروا على النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬عندما قال هلم‪ :‬أسلموا‪ .‬قالوا‪ :‬أسلمنا من‬
‫(‪)1‬‬
‫اَّلل ماإل مس َال ُم} ‪ ،‬وقد تكررت كلمة (اإلسالم) يف السورة‪ ،‬وعندما جتدين أن كلمةً‬
‫ند َّ‬‫ين ع َ‬ ‫قبل‪َ .‬فرد هللا عليهم‪َّ { :‬‬
‫إن الد َ‬
‫تكررت يف سورة ستفهمني أن هذا هو املوضوع الرئيسي َلا‪.‬‬
‫مث ُختمت سورة آل عمران أبن غالب هؤساء موقفهم هو اإلنكار‪ ،‬ولكن منهم َمن يؤمن ابهلل‪ ،‬ويؤمن مبا أُنزل إلي ‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬ساحظي العالقة بني خواتيم السورة ومطلع السورة اليت بعدها‪.‬‬
‫ً‬
‫فهذه العالقة بني السور تدل على أن هذا القرآن ال يكون إال من حكيم عليم‪ ،‬وكما تعلمون أن ترتيب املصحف‬
‫توقيفي‪-‬أي‪ :‬ال ميكن تغيري ترتيب ُس َوره‪ .-‬انظري إىل هذا التوقيف العجيب! َُتتَم هذه السورة مبفهوم‪ ،‬فتبدأ السورة اليت‬
‫تليها مبفهوم يُؤيّده!‬
‫ضرب!‪-‬ستجدين أن‬
‫مثاسا لتتضح هذه اخلطوة‪ :‬ساحظي العالقة بني سوريت (هود) و(يوسف)‪-‬وهذا أغرب مثال يُ َ‬
‫سنضرب ً‬
‫خامتة سورة هود هي مقدمة لسورة يوسف‪ ،‬وهكذا يف كل القرآن‪.‬‬

‫مطلع سورة يوسف‬ ‫خامتة سورة هود‬


‫ت بِ ِه فُـ َؤ َ‬ ‫ك ِم ْن أَنبَ ِاء ُّ‬
‫الر ُس ِل َما نُـثَـبِّ ُ‬
‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬
‫ص ِ‬
‫ص}‬ ‫َح َس َن الْ َق َ‬
‫كأْ‬‫ص َعلَْي َ‬
‫اد َك}} { ْحن ُن نَـ ُق ُّ‬ ‫{ َوُك ًّال نَّـ ُق ُّ‬
‫ص َعلَْي َ‬
‫(العالقة بني خامتة السورة السابقة مبطلع السورة الالحقة)‬
‫نقص القصص من أجل تثبيت فؤاد النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ ،-‬وهذه القصص اليت‬
‫أي‪ :‬حنن ّ‬
‫صها عليه هي أحسن القصص‪.‬‬
‫نق ّ‬

‫فلو كنت شديد التنبه سرتى عجبًا يف كتاب هللا! سا ميكن أن يكون كالم بشر! فمع طول سورة البقرة تأيت أوهلا موافق‬
‫وختتتَم مبفاهيم‬
‫آلخرها‪ ،‬ومع طول آل عمران تأيت أوهلا مؤيد آلخرها‪ ،‬ومثله يف األعراف واألنفال‪ ،‬ويف كل السور‪ ،‬تُفتَتح السور ُ‬
‫حني نتدارس‬ ‫متقاربة تكاد تكون كاآلية الواحدة‪ ،‬هل ميكن أن يكون هذا كالم بشر؟! مستحيل! وسنرى أعجب من ذل‬
‫سورة (ص)‪-‬إن شاء هللا‪.-‬‬

‫)‪[ (1‬سورة آل عمران‪]19 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة هود‪]120 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة يوسف‪]3 :‬‬
‫‪100‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫أسأل هللا أن ينفعنا هبذه الدراسة‪ ،‬وأن تكون سببًا لزايدة إمياننا به‪ ،‬وزايدة انتفاعنا ابلقرآن‪ ،‬اللهم آمني‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء الثامن‬

‫‪102‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫سا زلنا بفضل هللا ومنته نتدارس هذا اساسم العظيم اسم هللا (احلكيم)‪.‬‬

‫فحكمه كله حكمة‪ ،‬واحلكمة معناها‪ :‬وضع‬ ‫وجل‪-‬وصف احلكمة واحلُكم‪ُ ،‬‬
‫عز َّ‬‫وقد مر معنا أن هذا اساسم معناه‪ :‬أن هلل‪َّ -‬‬
‫أبدا‪ .‬وهو حكيم‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف كل أمره وهنيه‪ ،‬وشرعه‪ ،‬ويف خلقه‪ ،‬وتصريفه‬
‫األمور يف مواضعها‪ ،‬فال يُعاب على واضعها ً‬
‫لألمور‪ ،‬وتدبريه‪.‬‬

‫فإذا َتمل عبد انضج ختلى عن هواه سيجد احلكمة يف كل هذا‪ ،‬لكن اهلوى هو الذي جيعل اخللق سا يرون حكمة هللا يف‬
‫ملوقاته أو يف شرعه وأمره وجزائه‪ ،‬فما أن يوافق الشرع هوى اإلنسان إسا ويعرتف أن كله حكمة‪ ،‬أو يكون من العقالء الذين‬
‫وجل‪-‬وأمره كله حكمة‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫دجردوا من هواهم‪ ،‬فرأوا شرع هللا‪َّ -‬‬

‫اتفقنا على أننا سنناقش حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف شرعه‪ ،‬واتفقنا أن احلكمة يف الشرع تتجلّى يف أمرين‪:‬‬

‫‪ o‬تتجلّى يف إرسال الرسول‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.-‬‬

‫ضا يف إنزال الكتاب‪.‬‬


‫‪ o‬وتتجلّى أي ً‬

‫فالكتاب يتضمن احلكمة العظيمة‪ ،‬وسرتى حكمته تتجلى يف األخبار واألوامر والنواهي‪-‬كما ذكر الشيخ السعدي يف‬
‫النقاش األول‪ ،-‬وقبل هذا كله تتجلى يف أن هذا القرآن حتدى هللا أن تأيت أحد مبثله‪ .‬ما املطلوب من من أجل أن تفهم هذا‬
‫التحدي؟ أن يظهر ل شيء من عظمته وبالغته‪ ،‬وهذا سا يكون إسا بتدبرك آلايته‪.‬‬

‫منوذجا على ذل ‪ :‬سورة الكافرون‪ ،‬وكيف أن َمن يُهمل سورة الكافرون سا يتبني له‬
‫واتفقنا أننا سنتدبر سورة (ص)‪ ،‬وأخذان ً‬
‫أن فيها معان عظيمة اجتمعت يف كلمات متصرة‪ ،‬وكيف أن النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬أظهر براءته من الشرك يف تل‬
‫اللحظة‪ ،‬ويف كل حلظة‪ ،‬وأن كل عبد عليه أن يُظهر براءته من الشرك يف هذه اللحظة‪ ،‬ويف حياته كلها‪ ،‬وأن هذا املعىن إذا مل‬
‫شاهدا به‪ ،‬إذا مل تفهم سورة الكافرون ستعرتف أبي شيء؟ وستتربأ من أي شيء؟ ستكون السورة ابلنسبة‬
‫يتجلى ل لن تكون ً‬

‫‪103‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫َّادا‪ ،‬سا جيعل‬


‫ل جمرد مفهوم عام‪ ،‬لكن املفهوم الدقيق هذا جيعل تقف عند كل آية‪ ،‬سا جيعل تعامل القرآن كأن تعامل َعد ً‬
‫وجل‪-‬وسرتى عجبًا!!‬
‫عز َّ‬
‫تقول ألحد حىت سا ُخيطئ‪ُ :‬عد ُمجَل السورة! وإمنا ستقول له‪ :‬افهم اجلُ َمل! افهم ما يقوله هللا‪َّ -‬‬

‫ومن هذا العجب ما سنراه يف وقفات مع‪:‬‬

‫سورة (ص)‬

‫أي سورة تبتدئ حبروف مقطعة سا بد أن يكون فيها إشارة للحديث عن الكتاب وعظمته‪-‬إما إشارة مباشرة أو غري مباشرة‪-‬‬
‫‪ ،‬وسنرى اآلن يف سورة (ص) ما سيظهر من عظمة القرآن‪.‬‬

‫ما السبب يف كون هذه احلروف َتيت لإلشارة للقرآن؟ ليقال ل ‪ :‬القرآن متكون من احلروف‪ ،‬وهذه احلروف أنت تُدركها‪،‬‬
‫كالما بليغًا مثل القرآن!‬
‫وتستطيع أن تُركب منها كلمات‪ ،‬وهللا يتحداك أن َتيت مبثله‪ :‬فتعال إىل هذا الذي تتكلم به‪ ،‬وأنشئ به ً‬

‫وإذا َتملتم وحصرمت احلروف اليت ورد فيها التحدي ستجدون أهنا نصف احلروف اهلجائية‪ ،‬أتى من كل نوع من احلروف‬
‫مثال‪ :‬احلاء‪ ،‬واجليم‪ ،‬واخلاء‪ ،‬ماذا أتى منها؟ احلاء‪ .‬الصاد‪ ،‬والضاد‪ :‬أتى منهما‪ :‬الصاد‪ ،‬وأتى من احلروف احللقية‬
‫منوذج عليه‪ً .‬‬
‫حرف‪ ،‬ومن حروف اهلمس حرف‪ ،‬وهكذا‪ .‬فرتى عجبًا يف كون حىت هذه األحرف أتت كالنموذج لباقي احلروف‪ ،‬فيقال ل ‪:‬‬
‫تكلَّم هبذا الكالم‪ ،‬وائت مبثل هذا اإلعجاز!‬
‫(‪)1‬‬
‫وجل‪-‬يقسم ابلقرآن؛ ألن الواو هذه تسمى‪ :‬واو القسم‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫يقول سبحانه وتعاىل‪َ { :‬والم ُق مرآن ذي الذ مكر} ‪ .‬هللا‪َّ -‬‬
‫و{الذ مكر} معروف‪ .‬لكن ما معىن {ذي}؟ هو اسم إشارة‪ ،‬لكن {ذي} هنا ليست مبعىن صاحب‪ ،‬إ ًذا على ماذا تدل؟ ما‬
‫املشاعر اليت تقع يف قلب عندما متر علي مثل هذه الكلمات الغريبة؟ لن توقع أي مشاعر ألهنا غري مفهومة! فكل ما أفهمه‬
‫من قوله تعاىل‪{ :‬ص * َوالم ُق مرآن ذي الذ مكر} أن {ص}‪ :‬حرف‪ ،‬وبعد ذل كالم عن القرآن‪ ،‬وأنه ذكر‪ .‬أما {ذي} فليس هلا‬
‫مكان عندي! سا حمل هلا من اإلعراب عندي! وسا حمل هلا من الشعور! مع أن هذه الكلمة تُضاف إىل األشياء الرفيعة‪ ،‬ويُشار‬
‫هبا إىل األشياء ذات املنزلة العالية‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]1 :‬‬


‫‪104‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫{والم ُق مرآن‬
‫املفرتض أن يقع يف قلب وأنت تقرأ هذه الكلمة أهنا إشارة لشيء عظيم‪ ،‬وها هي هنا تشري إىل القرآن ابلعظمة‪َ :‬‬
‫ِذي الذ مكر}‪ ،‬أي‪ :‬والقرآن الذي له مكانة عظيمة يف الذكر‪ .‬ف{ذي} عبارة عن حرفني! لكن السامع الذي يفهم سيعلم أن‬
‫الذي سيأيت الكالم عنه هو شيء عظيم‪.‬‬

‫ين َك َف ُروا} يف أي شيء؟ {يف عَّزة َوش َقاق}(‪.)1‬‬ ‫َّ‬


‫مث قال تعاىل‪{ :‬بَل الذ َ‬
‫ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق}؟ ما معىن {بَل}؟‬ ‫َّ‬
‫ما هذا اسانتقال بني اآليتني { َوالم ُق مرآن ذي الذ مكر* بَل الذ َ‬
‫ما الذي حيصل عندما تقرأ القرآن؟ تفصل بني اآلايت‪ ،‬فتقرأ هذه اآلية لوحدها‪ ،‬وهذه اآلية لوحدها‪ ،‬وهذه اآلية لوحدها‪،‬‬
‫وهكذا! فتصبح املعاين متقطعة غري منظومة‪ ،‬فما يتأثر قلب هبا‪ ،‬وسا تثري مشاعرك‪.‬‬

‫وجل‪-‬خلق يف قلبك مساحة فارغة للمعرفة‪ ،‬وخلق فيه املشاعر‪ .‬مساحة املعرفة هذه امألها معرفة قوية صلبة‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬
‫جتر بدنك للعمل ج ًّرا‪.‬‬
‫ذات ثقل‪ ،‬وهذه املعرفة ستؤثر على مشاعرك‪ ،‬وإذا أثّرت على مشاعرك ستعمل سر ًيعا‪ ،‬لن ّ‬

‫ودائما نقول‪ :‬كلما قرأت القرآن زاد إميان ‪ ،‬كلما قرأته زادت املساحة املعرفية‪ ،‬وامتأل قلب به‪ ،‬فزاد شعورك وَتثرك آبايته‪،‬‬
‫ً‬
‫فتصبح مبجرد أن تسمع هذه الكلمات تُثار دجاهها‪ .‬لكن املشكلة هي أننا ينقصنا قراءة ُمجَل القرآن ابعتبار أهنا منظومة متصلة‪.‬‬

‫ما دسالة {بَل}؟‬

‫َّ‬
‫لو أردت أن تفهم قوله تعاىل‪{ :‬بَ ِل الذ َ‬
‫ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق} ابملعىن الظاهر‬ ‫{بَل} يف اللغة لإلضراب‪ ،‬مبعىن أن‬
‫ستقول‪ :‬لكن الذين كفروا يف عزة وشقاق‪.‬‬

‫ماذا سيصبح املعىن عند اجلمع بني اآليتني؟‬

‫ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق} أي‪ :‬يُقسم هللا ابلقرآن؛ ألنه عظيم‪ ،‬وله مكانة عظيمة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫{ص * َوالم ُق مرآن ذي الذ مكر * بَل الذ َ‬
‫ومدائح عظيمة‪ ،‬وله أثر على القلوب؛ ألن فيه الذكر الذي يُصلحها‪ ،‬وهو يرفع صاحبه‪ ،‬وجيعله من املذكورين عند هللا‪( ،‬لكن)‬
‫سبب عدم انتفاع الذين كفروا من القرآن‪ :‬أن هلم صفتان‪:‬‬

‫‪ .1‬أهنم {يف عَّزة}‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]2 :‬‬


‫‪105‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫‪ .2‬وأهنم يف{ش َقاق}‪.‬‬

‫ولذل مل يكن للقرآن أثر عليهم‪ ،‬ليس لعيب يف القرآن! بل ألن يف قلوهبم عزة وشقاق‪.‬‬

‫وسنبحث بعد ذل عن معىن {عَّزة} و{ش َقاق}‪.‬‬

‫متصال‪ .‬عندما تريدين‬ ‫عندما َتيت هذه املعاين اجلزئية سابد أن تُرَّكب على املعىن العام‪ ،‬حبيث يصري لكال اجلملتني معىن و ً‬
‫احدا ً‬
‫ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق} وأنت سا تعلمني أن (بل) معناها (لكن)‪ ،‬لن تظهر ل عالقة اآلية‬ ‫َّ‬
‫أن تفهمي قوله تعاىل‪{ :‬بَل الذ َ‬
‫الثانية ابألوىل‪.‬‬

‫مثال‪( :‬ذي) عندي مشكلة فيها‪( ،‬بل) عندي مشكلة فيها‪ ،‬ومثل هذا سا جيعلين أرى‬
‫حنن نريد أن نضع أيدينا على الثغرات! ً‬
‫احدا يوصلين إىل املراد‪.‬‬
‫القرآن سياقًا و ً‬

‫وجل‪َ { :‬ك مم أ مَهلَكمنَا من قَـمبلهم من قَـ مرن} يعين هم يف عزة وشقاق‪ ،‬وعليهم أن يعتربوا مبن قبلهم‪{ ،‬فَـنَ َادوا‬
‫عز َّ‬
‫مث يقول هللا َّ‬
‫ني َمنَاص}(‪ )1‬احبثوا عن معناها يف لسان العرب‪.‬‬ ‫تح َ‬ ‫َّوَسا َ‬

‫ابلع َجب‪َ { .‬و َعجبُوا} أي‪ :‬وقع هلم العجب من حال النيب‪-‬صلى هللا عليه‬
‫ملاذا هم يف {عَّزة} و{ش َقاق}؟ ألهنم أُصيبوا َ‬
‫وسلم‪ .-‬عجبوا من ماذا؟ {أَن َجاءَ ُهم منذٌر ممنـ ُه مم}‪ ،‬سبحان هللا! يعجبون أن تأتيهم منذر منهم‪ ،‬ماذا يريدون إ ًذا؟ من أين‬
‫يريدون املنذر؟!‬

‫وأنت تقرئني‬ ‫ال الم َكاف ُرو َن} عن الرسول‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬وصفني‪ََٰ { :‬ه َذا َساحٌر َك َّذاب}(‪ ،)2‬وسيظهر ل‬
‫{ َوقَ َ‬
‫اآلايت‪ :‬على ماذا قالوا ساحر‪ ،‬وعلى ماذا قالوا كذاب‪.‬‬

‫مث جاءت أسئلة استفهام هامة من الكافرين‪:‬‬

‫َج َع َل ماآلهلََة إ ََٰهلًا َواح ًدا}(‪)3‬؟ هذا أول سؤال عندهم‪.‬‬


‫قالوا‪{ :‬أ َ‬ ‫‪‬‬

‫سؤاهلم الثاين‪{ :‬أَأُنزَل َعلَميه الذ مك ُر من بـَميننَا}(‪)1‬؟‬ ‫‪‬‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]3 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]4 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة ص‪]5 :‬‬
‫‪106‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫هم يستعجبون من هذين األمرين‪.‬‬

‫ما األمر الذي يناسبه رميهم للرسول‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬ابلسحر؟ وما األمر الذي يناسبه رميهم له ابلكذب؟‬

‫معهودا عندهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫َج َع َل ماآلهلَةَ إ ََٰهلًا َواح ًدا}؟ يناسبه السحر؛ ألنه أاتهم مبا مل يكن‬
‫قوهلم‪{ :‬أ َ‬

‫وقوهلم‪{ :‬أَأُنزَل َعلَميه الذ مك ُر من بـَميننَا}؟ يناسبه الكذب؛ ألنه‪-‬يف نظرهم‪-‬ادعى شيئًا دعوًة لشرفه‪ ،‬وأنه يكذب يف ادعائه لريفع‬
‫نفسه‪.‬‬

‫عندما تقرأ القرآن ودجد شيئًا من األوصاف‪ ،‬أو من الدعاوى‪ ،‬سابد أن تبحث من أين أتى هذا الوصف؟ ما أصله؟ ما سبب‬
‫قوهلم هذا؟ هل وقع يف عقولكم أثناء قراءتكم للسورة سؤال استفهام‪ :‬ألي شيء قالوا عنه ساحر كذاب؟ إذا ما وقع السؤال‬
‫سابد أن دجد يف السورة ما جييب ‪ ،‬فال تعتمد يف اإلجابة على تفكريك‪ ،‬بل اجلواب‬ ‫فهذا يدل على نقص يف القراءة؛ ألن‬
‫موجود يف السياق‪ .‬واملشكلة أننا عندما نقرأ سا نربط اآلايت ببعضها! حبيث يكون هنا السؤال وهنا اإلجابة‪ ،‬هنا اخلرب وهنا‬
‫بيانه‪ ،‬سا نتصور أن املسألة هكذا! سا ننظر لآلايت على أهنا مسبوكة على معىن واحد‪ ،‬وهلذا سا نشعر إبعجاز القرآن‪.‬‬

‫احدا إىل اآلية (‪ ،)16‬مث يبدأ من اآلية‬


‫مقطعا و ً‬
‫وجل‪-‬عن األنبياء‪ ،‬وسنعترب هذا كله ً‬
‫عز َّ‬
‫أتى يف السياق بعد ذل إخبار هللا‪َّ -‬‬
‫أيضا سليمان وأيوب‪-‬عليهما‬
‫(‪ )17‬خطاب للنيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬أبن يصرب‪ ،‬وأن يَذ ُكر داود عليه السالم‪ .‬وسيُذ َكر ً‬
‫اذكر هؤساء من أجل أن تعلم أن النبوة فيها بالءات‪ ،‬وأن البالءات ترفع من شأن ال‪ُ -‬مبتَلى‪.‬‬
‫السالم‪ .-‬واملعىن‪ :‬م‬

‫لكننا سنرى اآلن عجبًا‪:‬‬

‫‪(( o‬داود عليه السالم))‬

‫وردت قصة داود‪-‬عليه السالم‪-‬يف أربعة مواطن من القرآن‪:‬‬

‫‪ .1‬يف سورة األنبياء‪.‬‬

‫‪ .2‬ويف سورة النمل‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]8 :‬‬


‫‪107‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫‪ .3‬ويف سورة ص‪.‬‬

‫‪ .4‬ويف سورة سبأ‪.‬‬

‫وأنتم قارنتم بني ورودها هنا يف سورة (ص)‪ ،‬وبني ورودها يف ابقي السور‪ .‬هل القصة متشاهبة يف كل املواطن؟ سا‪ .‬قصة‬
‫داود‪-‬عليه السالم‪-‬يف سورة (ص)‪ :‬ورد فيها ذكر "اخلصم" و"خيتصمان"‪ ،‬فانظري للتوافق بني "ص" و"خصم"‪ ،‬وتكرر حرف‬
‫الصاد يف قصة داود‪-‬عليه السالم‪-‬يف سورة (ص)‪ ،‬مع العلم أنه مل يَرد ذكر اخلصم يف قصته إسا يف هذه السورة‪.‬‬

‫تكرر ذكر داود‪-‬عليه السالم‪-‬يف القرآن‪ ،‬ويف كل موطن تُذكر قصته مناسبة للسورة‪ ،‬ففي سورة (ص) وجدان أن النيب‪-‬صلى‬
‫َّ‬
‫هللا عليه وسلم‪-‬يُؤمر ابلصرب‪ ،‬وأن يَذكر ابتالء داود عليه السالم‪ ،‬وصربه على هذا اسابتالء‪ ،‬وأن هللا رفع مكانه‪ .‬وبالء داود‪-‬عليه‬
‫صم}(‪.)1‬‬ ‫وجل‪-‬له يف اخلصم‪ ،‬فأتى ذكر‪َ { :‬وَه مل أ ََات َك نـَبَأُ م‬
‫اخلَ م‬ ‫عز َّ‬
‫السالم‪-‬كله كان يف اختبار هللا‪َّ -‬‬

‫‪(( o‬أيوب عليه السالم))‬

‫ما اشتهر يف وصف أيوب‪-‬عليه السالم‪-‬أنه صابر‪ .‬وردت قصته يف موضعني من القرآن‪:‬‬

‫‪ .1‬يف سورة األنبياء‪.‬‬

‫‪ .2‬ويف سورة (ص)‪.‬‬

‫يف األنبياء وردت قصته من جهة وقوع البالء عليه‪ ،‬ومن جهة دعائه‪ ،‬واستغاثته بربه‪ ،‬لكن مل يُوصف فيها أبنه "صابر"‪ ،‬وإمنا‬
‫ُوصف بذل يف (ص)‪.‬‬

‫هل التوافق اللفظي هذا متبني؟! أتى يف سورة (ص) من أوصاف لألنبياء وألحواهلم فيها حرف "الصاد"‪ ،‬ومع موافقة القصة‬
‫عجز عن اإلتيان مبثله‪ ،‬تعجز أن تستشهد‬
‫للحال‪ ،‬لكن ملا ذُكرت مالبساهتا وأوصافها أتى وبرز فيها حرف "الصاد"‪ ،‬ومثل هذا تَ َ‬
‫بقصة مناسبة يف املكان املناسب مث تكون هبذه الصورة‪.‬‬

‫صار}(‪ ، (2‬مع العلم أهنم مل ُمي َدحوا هبذا الوصف إسا يف (ص)‪.‬‬
‫ُمدح األنبياء يف هذه السورة أبهنم {أُويل ماألَيمدي َو ماألَبم َ‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]21 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]45 :‬‬
‫‪108‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬عندما يُقسم‬
‫عز َّ‬
‫بياان ولتتصوروا هذه املسألة‪ ،‬كيف أن هللا‪َّ -‬‬
‫املسألة حتتاج إىل شيء من الرتكيز! وحىت نزيد األمر ً‬
‫احلب ويف‬
‫ابلقرآن‪ ،‬فإنه يقسم على شرف القرآن ومكانته‪ ،‬ويبدأ حبروف يُظهر ل هبا أن لو تريد أن َتيت مبثل هذا القرآن يف م‬
‫إنزال األشياء منازهلا‪ ،‬ولو قضيت عمرك كله يف ذل ‪ ،‬واجتمعت مع َمن اجتمعت فإن لن تستطيع!‬

‫عجز اإلنسان أن تأيت مبثل هذا القرآن‪ ،‬من كونه تأيت‬


‫مل ننته من سورة (ص)‪ ،‬لكننا أظهران سر ًيعا كيف برز يف هذه السورة م‬
‫مواف ًقا للحكمة‪ ،‬ويُرشد اإلنسان للحق‪ ،‬مث تأيت أبلفاظ مناسبة ل َما ابتدأت به السورة‪.‬‬

‫سورة (ق)‬

‫ب إلَميه م من‬ ‫س به نـَ مف ُسهُ َوَمحن ُن أَقمـَر ُ‬


‫نسا َن َونـَ معلَ ُم َما تـُ َو مسو ُ‬
‫سنأيت اآلن مبثال من سورة (ق)‪ ،‬وسنبدأ من عند آية‪َ { :‬ولََق مد َخلَ مقنَا ماإل َ‬
‫ت َسكَمرةُ‬ ‫يب َعتي ٌد * َو َجاءَ م‬ ‫ظ من قَـ مول إَّسا لَ َديمه َرق ٌ‬ ‫َحمبل الم َوريد * إ مذ يـَتَـلَقَّى الم ُمتَـلَقيَان َعن الميَمني َو َعن الش َمال قَعي ٌد * َّما يـَملف ُ‬
‫ت ُكل نـَ مفس َّم َع َها َسائ ٌق َو َشهي ٌد * لََّق مد ُك َ‬
‫نت‬ ‫يد * َونُف َخ يف الصور ََٰذل َ يـَ موُم الم َوعيد * َو َجاءَ م‬ ‫نت ممنهُ َحت ُ‬ ‫الم َم موت اب محلَق ََٰذل َ َما ُك َ‬
‫ي َعتي ٌد * أَلمقيَا يف َج َهن ََّم ُك َّل َكفَّار َعنيد *‬ ‫ال قَرينُهُ ََٰه َذا َما لَ َد َّ‬ ‫ص ُرَك الميَـ موَم َحدي ٌد * َوقَ َ‬ ‫يف َغ مفلَة م من ََٰه َذا فَ َك َش مفنَا َعن َ غطَاءَ َك فَـبَ َ‬
‫ال قَرينُهُ َربـَّنَا َما أَطمغَميـتُهُ َوَٰلَكن َكا َن يف‬ ‫آخَر فَأَلمقيَاهُ يف الم َع َذاب الشَّديد * قَ َ‬ ‫َّمنَّاع ل ملخري معتَد مريب * الَّذي جعل مع َّ َٰ‬
‫اَّلل إ َهلًا َ‬ ‫ََ َ ََ‬ ‫َم ُم‬
‫ول جلَ َهن ََّم‬‫ي َوَما أ ََان بظََّالم ل مل َعبيد * يـَ موَم نـَ ُق ُ‬‫َّل الم َق مو ُل لَ َد َّ‬
‫ت إلَمي ُكم ابلم َوعيد * َما يـُبَد ُ‬ ‫ي َوقَ مد قَد مَّم ُ‬‫ال َسا َختمتَص ُموا لَ َد َّ‬
‫ض َالل بَعيد * قَ َ‬ ‫َ‬
‫محَ َن‬‫الر م َٰ‬
‫وع ُدو َن ل ُكل أ ََّواب َحفيظ * َّم من َخش َي َّ‬ ‫ني َغميـَر بَعيد * ََٰه َذا َما تُ َ‬ ‫اجلَنَّةُ ل مل ُمتَّق َ‬
‫ول َه مل من َّمزيد * َوأ مُزل َفت م‬ ‫َهل مامتَ َألمت َوتَـ ُق ُ‬
‫ابلمغَميب َو َجاءَ ب َق ملب منيب}(‪.)1‬‬

‫أوصاف اآلخرة واملوقف كله مناسب ملشهد القيامة‪ ،‬وقد سا تلحظ حرف "القاف"‪ ،‬وتسري مع املعىن‪ ،‬لكن َتيت ألفاظ فيها‬
‫سيوصف املشهد كله بغاية من اإلتقان واإلظهار‪،‬‬
‫َ‬ ‫ما أقسم هللا عليه‪ ،‬ليقال ل ‪ :‬أليس هذا حرفًا من احلروف؟ انظر كيف‬
‫وستأيت الكلمات فيها هذا احلرف الذي أنت تتقنه‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة ق‪]33-16 :‬‬


‫‪109‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫سورة القلم‬

‫َنت بن مع َمة َرب َ‬ ‫ظاهرا جدًّا يف سورة القلم‪ :‬سنجد يف السورة هذه األلفاظ‪{ :‬ن َوالم َقلَم َوَما يَ مسطُُرو َن * َما أ َ‬ ‫مثل هذا سيكون ً‬
‫َجًرا َغميـَر مَمنُون * َوإنَّ َ لَ َعلَ َٰى ُخلُق َعظيم * فَ َستُـمبص ُر َويـُمبص ُرو َن * أبَيي ُك ُم الم َم مفتُو ُن * إ َّن َربَّ َ ُه َو أ مَعلَ ُم مبَن‬
‫مبَ مجنُون * َوإ َّن لَ َ َأل م‬
‫ين‪ )1(}...‬إىل آخر السورة‪.‬‬
‫ض َّل َعن َسبيله َوُه َو أ مَعلَ ُم ابلم ُم مهتَد َ‬
‫َ‬

‫اضحا‪ ،‬ما فيه أي إشكال‪ ،‬لكن ما أن تضع عين على النون‬


‫مفهوما و ً‬
‫ً‬ ‫ومعىن‬
‫أنت لو ما ساحظت النون ستالحظ سب ًكا‪ً ،‬‬
‫ستجد عجبًا‪ ،‬ستجد أن هذا املعىن املسبوك الواضح الذي أتى يف مكانه‪ ،‬أتى فيه هذا احلرف بدون تكرار لأللفاظ‪ ،‬أبلفاظ‬
‫وضعت يف مكاهنا‪ ،‬واملعاين ظاهرة فيها‪.‬‬

‫ض ُه مم لبَـ معض ظَه ًريا}(‪.)2‬‬


‫َمن تأيت مبثل هذا؟ {َسا َتأمتُو َن مبثمله َولَ مو َكا َن بـَ مع ُ‬

‫سبكها وانتقاساهتا‪ ،‬مث ستعجب لو ساحظت أن‬


‫ادرس سورة كسورة القلم دراسة بعيدة عن حرف النون‪ ،‬ادرسها وانظر إىل م‬
‫كالما‪ ،‬لكن لن‬
‫غالب اآلايت ُختتم ابحلرف الذي أقسم هللا به‪ .‬ومع أن هذا احلرف هو ما تدركه‪ ،‬وما تستطيع أن تكون به ً‬
‫كالما بليغًا‪ ،‬فيه مجل ذات معاين اتمة اساستقامة‪ ،‬دون أن تُكرر األلفاظ‪.‬‬
‫تستطيع أن تكون به ً‬

‫أيضا‪-‬غري مسألة ال َق َسم واحلروف‪ :-‬البداايت واخلواتيم‪ .‬وهذا ما جيب علي أن تالحظه‪ ،‬ودجعله أمام‬
‫يالحظ يف القرآن ً‬
‫ما َ‬
‫عيني ‪.‬‬

‫نرجع إىل سورة (ص)‪:‬‬

‫اجأ‪-‬‬
‫معىن مسبوًكا‪ ،‬وقصص أتى شاه ُدها مناسب حلال النيب صلى هللا عليم وسلم‪ ،‬لكن ستُـ َف َ‬
‫لو مل تالحظ احلرف ستجد ً‬
‫مثال‪-‬أبن أيوب‪-‬عليه السالم‪-‬ما ُوصف أبنه "صابر" إسا يف سورة (ص)‪ ،‬وما أتى ذكر "اخلصمان" إسا يف (ص)‪ .‬وأنت عندما‬
‫ً‬
‫تراجعني سورة (ص) هبذه النظرة ستتبني ل غري هذه املواطن اليت يربز فيها هذا احلرف‪.‬‬

‫وهذا يظهر خاصة يف هذه الثالث السور اليت بدأت حبرف واحد‪ .‬ويف سور احلروف املقطعة األخرى‪-‬مثل‪( :‬طه) (طسم)‪-‬‬
‫معا‪.‬‬
‫سيظهر ابلطبع نوع آخر من عظمة القرآن‪ ،‬لكن هذا حيتاج إىل أن تتقدموا يف علم البيان والبالغة؛ لتتصوروا املسألتني ً‬

‫)‪[ (1‬سورة القلم‪]7-1 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة اإلسراء‪]88 :‬‬
‫‪110‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫من أدلة ِ‬
‫صدق هذا القرآن‪ :‬ورود أخبار األولني فيه‪ .‬وعندما تنظرين يف سورة (ص) ستجدين الشاهد على ذل ‪،‬‬
‫فاألخبار اليت أتت عن داود وعن سليمان وعن أيوب عليهم السالم‪ ،‬هل هي أخبار خاصة بنا؟ أم أهنا موجودة يف كتب اليهود‬
‫مثال يف قصة داود عليه‬
‫والنصارى؟ اجلواب‪ :‬أهنا موجودة يف كتب اليهود والنصارى‪ .‬يبقى اآلن موقفي وأان أنظر إىل حكمة هللا ً‬
‫السالم‪:1‬‬

‫ال لََق مد ظَلَ َم َ ب ُس َؤال نـَ مع َجت َ إ َ َٰىل ن َعاجه َوإ َّن َكث ًريا م َن م‬
‫اخلُلَطَاء‬ ‫عندما تقرئني قوله‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬على لسان داود‪{ :‬قَ َ‬
‫ود أََّمنَا فَـتَـنَّاهُ}(‪ ،)2‬ماذا تفهم‬
‫يل َّما ُه مم َوظَ َّن}‪-‬أي‪ :‬تيقن‪َ {-‬د ُاو ُ‬ ‫َّ َّ‬
‫الصاحلَات َوقَل ٌ‬
‫ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ‬
‫ض ُه مم َعلَ َٰى بـَ معض إسا الذ َ‬
‫لَيَـمبغي بـَ مع ُ‬
‫من هذه اجلملة األخرية؟ تفهم أن داود‪-‬عليه السالم‪-‬فُنت‪ .‬لكن ما حال هذه الفتنة؟ مل يُذكر ل يف القرآن تفاصيلها‪.‬‬

‫تصوروا كيف تكلم اليهود عن فتنة نبيهم! أليس داود من أنبياء بين إسرائيل املعظَّمني عندهم؟ وهم حياربون يف فلسطني‪-‬أزاهلم‬
‫هللا‪-‬يبحثون عن هيكل سليمان؟! ويرونه من ملوكهم العظماء‪ .‬ومع ذل قالوا يف حق نبيهم‪ :‬أنه رأى امرأة فأُعجب هبا‪ ،‬مث َعلم‬
‫خرج فيه هذا اجلندي‪ ،‬فيُقتَل فيه‪ ،‬لكنه مل يُقتل‪ ،‬فأرسله مرة أخرى‪ ،‬فلم يُقتل‪ ،‬فأرسله‬
‫جيشا؛ ليَ ُ‬
‫أهنا زوجة ألحد جنوده‪ ،‬فجيش ً‬
‫مرة أخرى إىل أن قُتل!! يعين داود‪-‬عليه السالم‪-‬يضحي بكل هؤساء من أجل هذا!! هكذا يتكلمون عن األنبياء! مث بعد أن‬
‫حيصل هذا كله ويتزوجها‪ ،‬تأتيانه امللَكان فيتسوران حمرابه‪-‬على أهنا ملَكان‪ ،‬سا على أهنما خصمان‪-‬فيختصمان‪ ،‬فيَفهم داود‪-‬‬
‫الوقت أنه أخطأ ملا أخذ زوجة الرجل! وهللا هذا الكالم يستحي الواحد أن يقوله على عامة الناس!‬ ‫عليه السالم‪ -‬يف ذل‬
‫فكيف يُقال على نيب؟! كيف يُقال على نيب أنه يفعل هذا كله من أجل أن يَصل إىل شهوته؟! كيف ميكن أن يـُتَّهم األنبياء‬
‫احملرفة‪.‬‬
‫هبذا؟! وهذا اخلرب مسجل عندهم حبروفه يف التوراة َّ‬

‫وجل‪-‬فنت داود عليه السالم‪ ،‬إما تكون فتنته‪ :‬أنه مسع من طرف واحد‪ ،‬وإما‬
‫عز َّ‬
‫أما يف القرآن فيقال ل ‪ :‬انظر للخرب‪ :‬هللا‪َّ -‬‬
‫أن تكون غري ذل ‪ ،‬هللا أعلم هبا! لكن سا تستطيع أن تستقبح من داود‪-‬عليه السالم‪-‬أي فعل‪ ،‬فأنت عندما تقرأ هذه القصة‬
‫هل يقع يف قلب دجاه داود‪-‬عليه السالم‪-‬أي شعور غري أنه نيب‪ ،‬وأن هللا ُخيرب أبنه فُنت‪ ،‬مث األهم من ذل أنه استغفر‪ ،‬وخر‬
‫اكعا‪ ،‬وأانب؟ وأن تسجد يف موطن سجوده‪ ،‬وأنه من بني الذكر الذي يقال يف سجود التالوة‪" :‬اللهم تقبلها مين كما تقبلتها‬
‫ر ً‬
‫وجل‪-‬مل خيربان حىت عن تفاصيل الفتنة اليت‬
‫عز َّ‬
‫من داود"‪ ،‬هل تَفهم شيئًا من القصة غري شرف األنبياء؟ انظر هلذا اإلعجاز! هللا‪َّ -‬‬
‫فُنت هبا؛ ليبقى هؤساء العظماء عظماء يف نفس ‪ ،‬ومل تُكلَّف أن تبحث عن الفتنة‪ ،‬وإمنا أخربك القرآن عن النتيجة املطلوبة من ‪.‬‬

‫)‪ )1‬قصة داود والفتنة اليت حصلت له من القصص اليت انقسم الناس أمامها إىل أقسام‪.‬‬
‫)‪[ )2‬سورة ص‪]24 :‬‬
‫‪111‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ما هي تل النتيجة املطلوبة من ؟ مطلوب من عندما َتتي الفنت أن تَستبصر؛ فقد ُوصف األنبياء يف هناية القصص أبهنم‬
‫صار}‪ ،‬أي‪ :‬هلم بصرية يف قلوهبم يالحظون هبا احلال‪ .‬فقيل ل ‪ :‬ماذا تفعل عندما تُفنت وتقع يف أي خطأ؟‬
‫{أُويل ماألَيمدي َو ماألَبم َ‬
‫وجل‪ ،-‬واستسلم له‪ ،‬وُكن مثل هؤساء العظماء الذين‬
‫عز َّ‬
‫ب إىل هللا‪َّ -‬‬
‫اكعا‪ ،‬وأن م‬
‫وخر ر ً‬
‫أسرع إىل هللا‪ ،‬استغفر كما يستغفر األنبياء‪ُ ،‬‬
‫مدحهم هللا‪ .‬وم ثل هذه األخبار سا َتيت إسا من عند هللا‪ ،‬وانظر ماذا فعل اخللق يف وصفها وَتويلها وتفسريها ملا أتت من‬
‫عندهم!‬

‫استفدان أشياء كثرية ما أخربان هللا به عن داود‪-‬عليه السالم‪-‬يف سورة (ص)‪ ،‬منها‪ :‬قاعدة يف الفقه‪{ :‬إ َّن َكث ًريا م َن م‬
‫اخلُلَطَاء‬
‫ض ُه مم َعلَ َٰى بـَ معض}‪ .‬ومعىن ذل ‪ :‬أن اخلُلطة يف األموال حتتاج إىل قوانني‪.‬‬
‫لَيَـمبغي بـَ مع ُ‬

‫وأنتم سا تتصورون كم من األحكام سنخرج هبا من قصة داود عليه السالم‪ ،‬لكن أن ترتك األحكام‪ ،‬وترتك النتائج‪ ،‬وترتك‬
‫تشوه صورة هذا النيب‪ ،‬تكون بذل قد‬
‫اساعتقاد‪ ،‬وتبحث عن حال فتنة داود عليه السالم‪ ،‬مث دجد إسرائيليات فتدخل إىل قلب ف َّ‬
‫خسرت قيمة القرآن يف قلب ؛ ألن من دسائل عظمة القرآن وحكمة هللا فيه‪ :‬أن يبقى هؤساء العظماء يف مكاهنم عظماء‪ ،‬وحىت‬
‫عندما َتيت أخبار عن بعض ما حصل معهم‪ ،‬فإن حاهلم سا يتحرك‪ ،‬وتبقى هلم نفس املكانة‪.‬‬

‫من اخلطأ وحنن نقرأ القصص القرآين أسا نتلمس حكمة هللا؛ وذل بسبب حرصنا على أن نفهم تفاصيل يف القصة سا تعنينا‪،‬‬
‫تفاصيل ما ذكرها هللا لنا‪ ،‬أو نكون قد تلوثنا يف بداية أعماران بقراءة شيء من هذه القصص واإلسرائيليات‪ ،‬أو مبشاهدة ومتابعة‬
‫شيء من األفالم اليت يصفون فيها مثل هذا القصص‪ ،‬وأنيت بفكران امللوث هذا على القرآن‪ ،‬فينتفي عنا ظهور حكمة هللا يف‬
‫ذكر مثل هذه القصص والفوائد اليت تتبع ذل ‪.‬‬

‫تلوث عقلك أبفالم عرضوا فيها الباطل‪ ،‬وإمنا اقرأ كالم‬


‫تلوث عقلك إبسرائيليات‪ ،‬وال بكالم ليس له أصول‪ ،‬وال ّ‬
‫ال ّ‬
‫هللا‪ِ ،‬‬
‫واعتقد ما يقوله هللا لك‪.‬‬

‫لذل حنتاج أن نعمل دجربة على قصة من القصص‪-‬سواء قصة داود‪ ،‬أو قصة سليمان عليهما السالم‪-‬ومنر على كل كلمة‬
‫من القصة‪ ،‬ونذكر منها فائدة‪ ،‬وخنرج منها بنتيجة‪ .‬فمن حكمة هللا أن تُروى لك قصة يف أقل من عشرة آَّيت‪ ،‬مث تكون‬
‫منهجا حلياتك‪ .‬سبحان هللا!‬
‫ً‬

‫‪112‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫إذًا مرران ب‪ :‬ثالث وقفات تُظ ِهر حكمة هللا يف هذا القرآن‪:‬‬

‫الوقفة األوىل‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫مجال متقطّعة منفصلة‪،‬‬


‫من أجل أن تظهر لك حكمة هللا يف القرآن‪ :‬اقرأ القرآن على أنه متتابع يف فَهمه‪ ،‬وليس ً‬
‫فاآلَّيت ال تُفصل عن بعضها حال فهمها‪ ،‬بل البد من تكوين روابط بينها‪ ،‬سابد أن يكون عندك هذا السؤال‪ :‬ما احلكمة‬
‫يف ذكر هذه اآلية بعد هذه اآلية؟‬

‫مثال‪ :‬سا بد أن تسأل عند قراءت لسورة (ص) هذه األسئلة‪ :‬ملاذا أخرب هللا يف سورة (ص) أهنم قالوا عن الرسول‪-‬صلى هللا‬
‫ً‬
‫عليه وسلم‪ : -‬أنه ساحر كذاب؟ ما الذي جعلهم يعتقدون أنه ساحر؟ وما الذي جعلهم يعتقدون أنه كذاب؟ ما دسالة ذكر‬
‫قصة داود وسليمان وأيوب عليهم السالم هنا؟‬

‫الصاحلَات}(‪،)1‬‬
‫ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫وهذا مثل ما مر معنا يف قوله تعاىل‪{ :‬أ مَم َحس َّ‬
‫السيئَات أَن مجن َعلَ ُه مم َكالذ َ‬
‫اجتَـَر ُحوا َّ‬
‫ين م‬
‫ب الذ َ‬
‫َ‬
‫(‪)2‬‬
‫ت‬‫ض اب محلَق} ‪ ،‬مث أتت آية‪{ :‬أَفَـَرأَيم َ‬
‫اَّللُ ال َّس َم َاوات َو ماأل مَر َ‬
‫وأتت اآلية اليت بعدها تذكر خلق السماوات واألرض ابحلق‪َ { :‬و َخلَ َق َّ‬
‫َمن َّاختَ َذ إ ََٰهلَهُ َه َواهُ}(‪ .)3‬فأنت لو مل تسأل عن الرابط بني اآلايت الثالثة لن تفهم املعىن!! ستظن أن هذا مقطوع عن هذا‪ ،‬وهذا‬
‫أعظم عيب جيعل سا ترى حكمة هللا يف القرآن‪.‬‬

‫الوقفة الثانية‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫وجل‪-‬كله حق وحكمة‪ .‬ورأينا ذل يف تتبعنا يف سورة (ص)‪ ،‬ويف سورة (ق)‪،‬‬


‫عز َّ‬
‫ألفاظ القرآن َُتتار ابعتناء‪ ،‬فكالم هللا‪َّ -‬‬
‫ويف سورة (القلم)‪.‬‬

‫الوقفة الثالثة‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫يقص علينا قصص األنبياء لتكون سري‬


‫وجل‪ّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫وقفنا على شيء من حكمة هللا يف القصص القرآين‪ ،‬وذكران أن هللا‪َّ -‬‬
‫هؤالء العظماء ابلنسبة لنا منهج حياة‪ ،‬فنسري يف حياتنا على سريهم‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة اجلاثية‪]21 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة اجلاثية‪]22 :‬‬
‫)‪[ )3‬سورة اجلاثية‪]23 :‬‬
‫‪113‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫أنت ستقابل الفنت‪ ،‬وستقابل املصائب‪ ،‬وسيقابل املال‪...،‬واخل‪ ،‬فكن يف سريت مع الفتنة كداود‪ ،‬ولتكن سريت مع‬
‫املال كسليمان‪ ،‬ولتكن سريت مع البالء كأيوب‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء التاسع‬

‫‪115‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫سا زلنا‪-‬بفضل هللا ومنته‪-‬نناقش هذا اساسم العظيم‪ :‬اسم (احلكيم)‪.‬‬

‫وجل‪-‬تظهر يف‪:‬‬
‫عز َّ‬
‫مر معنا يف النقاش‪ :‬أن آاثر حكمة هللا‪َّ -‬‬
‫وقد َّ‬

‫أمره‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وشرعه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وخلقه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وجزائه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وما زلنا نناقش حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف شرعه‪ ،‬وشرع هللا يتمثَّل يف‪:‬‬

‫‪ o‬إرساله الرسول‪.‬‬

‫‪ o‬ويف إنزاله الكتاب‪.‬‬

‫وقفنا بني يدي الكتاب‪ ،‬وظهر لنا أن هذا القرآن نزل من لَ ُدن حكيم عليم سبحانه وتعاىل‪ ،‬وأن آاثر حكمته يف القرآن‬
‫تظهر يف‪:‬‬

‫‪ o‬مواضيعه‪.‬‬

‫‪ o‬ويف ألفاظه‪.‬‬

‫‪ o‬ويف بداايت السور وخواتيمها‪.‬‬

‫‪ o‬ويف اتصال آايته كالسلسلة الواحدة‪.‬‬

‫منزل من عند هللا‪.‬‬ ‫كتاب متشابه سا يتناقض‪ ،‬يظهر تشاهبه يف حسنه وكماله‪َّ ،‬‬
‫ويدل من َّأوله إىل آخره على أنه كتاب َّ‬ ‫فهو ٌ‬
‫‪116‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫نتأمل فيها‪ ،‬وظهر لنا شيء من ُحسنها‪ ،‬وكنا قد اتَّفقنا على أن تقسموها؛ ليظهر لكم موضوعها‪،‬‬
‫وقفنا أمام سورة (ص) َّ‬
‫منوذجا على‬
‫ً‬ ‫واتصاهلا ببعضها‪ ،‬ولنرى كيف يظهر فيها احلُسن‪ ،‬والكمال‪ ،‬والتشابه‪-‬الذي هو ضد التناقض‪-‬؛ ومن مث نرى‬
‫حكمة هللا يف هذا الكتاب‪.‬‬

‫بدأان من اآلية األوىل إىل اآلية احلادية عشر‪ ،‬وهذا هو اجلزء األول من ص مدر السورة‪ :‬قال تعاىل‪{ :‬ص َوالم ُق مرآن ذي الذ مكر *‬
‫ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق}(‪ ،)1‬وفيه‪:‬‬ ‫َّ‬
‫بَل الذ َ‬
‫‪ o‬الكالم عن القرآن ومكانته‪.‬‬

‫‪ o‬وسبب عدم انتفاع الكفار به‪.‬‬

‫وجل‪-‬لقارئ القرآن‪ :‬أن القرآن‬


‫عز َّ‬
‫أوسا‪ :‬اتَّفقنا أن {ص} هذا احلرف الذي هو من حروف التهجي‪ ،‬يدل على حتدي هللا‪َّ -‬‬
‫ً‬
‫من هذه احلروف اليت تعرفها‪ ،‬لكن أين أنت من بالغته؟ ملاذا مل َتت مبثله؟‬

‫وجل‪-‬ابلقرآن؛ ألن الواو للقسم يف قوله‪َ { :‬والم ُق مرآن}‪.‬‬


‫عز َّ‬
‫مث أقسم هللا‪َّ -‬‬

‫وأنه‪{ :‬ذي الذ مكر} أي‪ :‬ذو املكانة والشرف العظيم‪ ،‬ومن {الذ مكر}‪ :‬تذكري الناس مبا يغفلون عنه‪.‬‬

‫ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق} "بل"‬ ‫َّ‬


‫ما دام أن القرآن {ذي الذ مكر}‪ ،‬وهو سبب لتذكري الناس‪ ،‬ما سبب كفر الكافرين؟ {بَل الذ َ‬
‫أتت هنا مبعىن‪" :‬لكن"‪ .‬أي‪ :‬لكن الذين كفروا فيهم صفتان‪{ :‬عَّزة َوش َقاق}‪:‬‬

‫‪{ .1‬عَّزة} مبعىن‪ :‬غرور‪.‬‬

‫‪ .2‬و{ش َقاق} مبعىن‪ :‬عناد‪.‬‬

‫ما جزاؤهم بسبب أهنم عاملوا القرآن هبذه املعاملة؟ اجلواب‪َ { :‬ك مم أ مَهلَكمنَا من قَـمبلهم من قَـ مرن}‪ ،‬فماذا فعلوا؟ {فَـنَ َادوا}‪،‬‬
‫ني َمنَاص}(‪.)2‬‬
‫تح َ‬‫وماذا قالوا؟ { َوَسا َ‬

‫‪َ { ‬وَسا َ‬
‫ت} مكونة من‪:‬‬

‫)‪[ )1‬سورة ص‪]2-1 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]3 :‬‬
‫‪117‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫‪" .1‬الواو"‪ ،‬وتسمى‪ :‬واو احلال‪.‬‬

‫‪ .2‬و"سات" من أخوات "ليس"‪ ،‬اليت هي "سا النافية"‪ ،‬وزيد عليها التاء‪ ،‬لكنها خاصة بنفي الزمن‪.‬‬

‫‪{ ‬ح َ‬
‫ني} ظرف زمان‪ .‬أي‪ :‬فنادوا واحلال ليس وقت مناص‪.‬‬

‫‪َ { ‬منَاص} أي‪ :‬جناة‪ ،‬فَـ موت‪ ،‬خروج من األزمة‪.‬‬

‫ملاذا { َمنَاص} وليس أي كلمة أخرى؟ ليظهر هنا حرف "الصاد"‪.‬‬

‫ني َمنَاص}‪ ،‬أي‪ :‬اندوا واحلال ليس وقتًا للهروب أو ال َف موت‪.‬‬


‫تح َ‬
‫مث انظر هلذه الرتكيبة العجيبة‪{ :‬فَـنَ َادوا َّوَسا َ‬

‫من املؤكد أننا نُالم على حالنا يف التعامل مع مثل هذه الكلمات املهمة اليت وردت يف القرآن‪ ،‬اليت يرد يف ذهين سؤال‬
‫جممال! هبذه الطريقة لن تصل لظهور حكمة القرآن ومجاله‪ ،‬لن تصل إسا إذا كان عندك قوة يف‬
‫استفهام عنها‪ ،‬مث أجعلها معىن ً‬
‫وضع السؤال املناسب يف املكان املناسب‪ .‬وقد سا دجد إجابة‪ ،‬سا أبس‪ ،‬هذه ليست مشكلة‪ ،‬لكن املشكلة هي أسا تظهر ل‬
‫أسئلة!‬

‫وجل‪-‬أقسم ابلقرآن‪ ،‬وأنه {ذي الذ مكر}‪ ،‬أي‪ :‬يذكر الناس مبا هم عنه غافلون‪ ،‬مث‬
‫عز َّ‬
‫ما الرابط بني اآلية األوىل والثانية؟ هللا‪َّ -‬‬
‫َتيت اآلية الثانية تبني‪ :‬أن سبب كفر الكافرين‪ ،‬وعدم انتفاعهم ابلتذكري ابلقرآن‪ :‬أهنم {يف عَّزة َوش َقاق}‪ ،‬مث ماذا سيحصل هلم؟‬
‫سيحصل هلم كما حصل ل َمن قبلهم‪َ { ،‬ك مم أ مَهلَكمنَا من قَـمبلهم من قَـ مرن فَـنَ َادوا} واحلال أنه ليس وقتًا لل َف موت والنجاة‪.‬‬

‫ما سبب كون الكافرين {يف عَّزة َوش َقاق}؟ قال تعاىل‪َ { :‬و َعجبُوا}‪-‬أي‪ :‬وقع هلم العجب‪{ -‬أَ من َجاءَ ُه مم ُممنذٌر ممنـ ُه مم َوقَ َ‬
‫ال‬
‫اب}(‪.)1‬‬
‫الم َكاف ُرو َن ََٰه َذا َساحٌر َك َّذ ٌ‬

‫ملاذا وصفوه‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬بساحر؟ ألنه أتى هلم بكالم ما سبق هلم أن مسعوه‪ ،‬ومل تألفوه‪ .‬وبتعبري آخر‪ :‬أتى هلم ب‪-‬‬
‫"ه مرطََقة"‪ .‬ماهي هذه "اهلرطقة" يف نظرهم؟ أنه جعل { ماآلهلََة إ ََٰهلًا َواح ًدا}(‪.)2‬‬
‫َ‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]4 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]5 :‬‬
‫‪118‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫(‪)1‬‬
‫اصربُوا َعلَ َٰى آهلَت ُك مم إ َّن ََٰه َذا لَ َش ميءٌ يـَُر ُاد}‬
‫ماذا فعلوا دجاه هذا املعتقد؟ جيَّشوا جيوشهم‪َ { :‬وانطَلَ َق الم َم َألُ ممنـ ُه مم أَن مام ُشوا َو م‬
‫أي‪ :‬أنه يريد تشويه عقيدتكم‪.‬‬

‫اخت َال ٌق}(‪ :)2‬هذا كالمهم دجاه دعوة الرسول‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ :-‬أنه جعل‬
‫{ َما َمس معنَا هبََٰ َذا يف المملَّة ماآلخَرة إ من ََٰه َذا إَّسا م‬
‫{ ماآلهلَةَ إ ََٰهلًا َواح ًدا}‪.‬‬

‫{أَأُنزَل َعلَميه الذ مك ُر من بـَميننَا}؟!‬

‫الكافرون اهتموا النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬ابلسحر والكذب‪ ،‬وذل لسببني‪:‬‬

‫وصفوه أبنه ساحر ألنه جعل { ماآلهلَةَ إ ََٰهلًا َواح ًدا}‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وصفوه أبنه َّ‬


‫كذاب ألنه يقول‪ :‬أنه أُنزل عليه الذكر من بينهم‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫فرد هللا عليهم‪{ ،‬بَ مل ُه مم يف َش من ذ مكري بَل لَّ َّما يَ ُذوقُوا َع َذاب} ‪ .‬إذًا هذا َّأول َّ‬
‫(‪)3‬‬
‫الرد‪ :‬أن الذي جعلهم يشككون يف أمر‬ ‫َّ‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أهنم يف ش من ذكر هللا‪ ،‬بل احلقيقة‪ :‬أن هذا حاهلم بسبب أن هللا عاملهم حبلمه‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫وجل‪-‬من أجل أن‬
‫عز َّ‬
‫ند ُه مم َخَزائ ُن َر ممحَة َرب َ الم َعزيز الم َوَّهاب} ؟! أي‪ :‬هل عندهم خزائن رمحة هللا‪َّ -‬‬
‫مث قال تعاىل‪{ :‬أ مَم ع َ‬
‫مينعوا عن النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم الن َّبوة؟!‬

‫العزة معناها‪ :‬أنه سا يُغالبه أحد‪ ،‬و{الم َوَّهاب} معناه‪ :‬املـُعطي‪.‬‬


‫وجل‪-‬نفسه أبنه‪{ :‬الم َعزيز الم َوَّهاب}؛ ألن َّ‬
‫عز َّ‬
‫مث وصف هللا‪َّ -‬‬
‫فهو عز ٌيز يـَ َهب َمن يشاء ما يشاء‪ ،‬وسا يستطيع أحد أن يتعدَّى على أمره‪.‬‬

‫َسبَاب}(‪ .)5‬أي‪ :‬إذا كان هلم املـُل ‪ ،‬وحيجبون ما‬


‫الس َم َاوات َو ماأل مَرض َوَما بـَميـنَـ ُه َما فَـ مليَـ مرتَـ ُقوا يف ماأل م‬
‫مث قال تعاىل‪{ :‬أ مَم َهلُم م مل ُ َّ‬
‫َسبَاب}!‬
‫يريدون {فَـ مليَـ مرتَـ ُقوا يف ماأل م‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]6 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]7 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة ص‪]8 :‬‬
‫)‪[ )4‬سورة ص‪]9 :‬‬
‫)‪[ )5‬سورة ص‪]10 :‬‬
‫‪119‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫(‪)1‬‬
‫وجل‪-‬يقول لنبيه‪ :‬هؤساء اجلند‬
‫عز َّ‬ ‫َحَزاب} ‪ .‬هللا‪َّ -‬‬
‫وم م َن ماأل م‬
‫مث يقول هلم‪-‬سبحانه وتعاىل‪ُ { :-‬جن ٌد َّما ُهنَال َ َم مه ُز ٌ‬
‫هزمون‪ .‬وسورة (ص) مكية‪ ،‬أي‪ :‬أن هذا اخلرب أتى يف مكة‪ ،‬مث حتقَّق يف‬ ‫سيجتمعون يف مكان ما‪ ،‬وسيصبحون أحز ًااب‪ ،‬مث سيُ َ‬
‫املدينة‪-‬سواء كما قال قتادة‪ :‬يف بدر‪ .‬أو كما قال غريه‪ :‬يف غزوة اخلندق يف األحزاب‪.-‬‬

‫أين تظهر حكمة هللا‪ ،‬وما يدل على صدق هذا القرآن؟ أن هللا خيرب ابجتماعهم أحز ًااب‪ ،‬وهبزميتهم اليت ستقع‪ ،‬ابلرغم من أن‬
‫النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬يف مكة‪ ،‬ويف حالة ضعف! وهذا دليل على أن هذا القرآن أتى من لَ ُدن حكيم عليم‪ ،‬وأنه‪-‬سبحانه‬
‫وبعيدا عن النصرة‪.‬‬
‫وتعاىل‪-‬جيعل يف قلب نبيه الثقة اليقينيَّة ابنتصار هذا الدين‪ ،‬مهما كان يف الظاهر ضعي ًفا‪ً ،‬‬

‫إذًا‪ :‬رأينا كيف أن آايت الصفحة األوىل‪-‬من أول آية إىل آخرها‪-‬متتابعة‪ ،‬ومرتبطة ببعضها متام اسارتباط‪ .‬وعندما تقرأ ودجد‬
‫أن عندك فجوة يف القراءة فإن لن تصل‪-‬بسبب هذه الفجوة‪-‬إىل ما يريده هللا‪ .‬البد أن حترص على فهم َّ‬
‫الرتابط بني اآلَّيت؛‬
‫وفهما ستجد أن القرآن من سورة الفاحتة‬ ‫أبدا‪ ،‬وإمنا هو وصلة واحدة‪ ،‬لدرجة أن كلَّما زدت ً‬
‫علما ً‬ ‫ألن القرآن ما أتى متقط ًعا ً‬
‫إىل سورة الناس عبارة عن قطعة واحدة‪.‬‬

‫ني َمنَاص} حتتاج لبيان‪،‬‬


‫تح َ‬
‫اآلن أسألكم‪ :‬ما هي الكلمات الصعبة عليكم يف كل هذه الصفحة؟ سنقول‪ :‬كل تركيبة { َوَسا َ‬
‫لكن ابقي اآلايت كلها واضحة‪ .‬إذًا‪ :‬املشكلة كانت يف عدم ظهور ارتباط اآلايت ببعضها فقط! مث أننا مل حنتَج لفهمها إىل‬
‫تفسري‪ ،‬فقط فهمنا آية آية‪ ،‬مث ربطنا بني اآلايت‪ ،‬وهكذا‪ .‬لكن مىت حصل لنا هذا الفهم؟ عندما أثران أنفسنا أبسئلة استفهام‪.‬‬

‫لو قرأت التفسري دون أن تضع أسئلة‪ ،‬فإن صاحب التفسري سيجيب‪ ،‬لكن لن تفهم كالمه‪ ،‬لن تفهم أن هذا هو املعىن‬
‫مثال يف "تفسري السعدي"‪-‬وهو ما ننصح ابقتنائه خاصة يف‬
‫كثريا من سا يستعمل هذه الطريقة دجده يقرأ ً‬
‫ً‬ ‫الذي ينقص ‪ .‬ولذل‬
‫للقرآن‪،‬‬ ‫أسئلة عند قراءت‬ ‫أصال مل تظهر ل‬
‫ً‬‫بداية التدبر‪ ،-‬مث يقول‪ :‬مل أفهم منه شيئًا! ابلطبع لن تفهم منه شيئًا؛ ألن‬
‫بدسا من ‪ ،‬التفسري جياوب على تفكريك فقط‪.‬‬
‫وابلتايل تبحث عن إجابتها يف التفسري‪ .‬التفسري لن يفكر ً‬

‫اب ماألَيم َكة أُوَٰلَئ َ‬


‫َص َح ُ‬
‫ود َوقَـ موُم لُوط َوأ م‬
‫اد َوف مر َع مو ُن ذُو ماأل مَو َاتد * َوَمثُ ُ‬ ‫أنيت لآلايت التالية‪َ { :‬ك َّذبَ م‬
‫ت قَـمبـلَ ُه مم قَـ موُم نُوح َو َع ٌ‬
‫اب}(‪.)2‬‬
‫َحَز ُ‬
‫ماأل م‬

‫)‪[ )1‬سورة ص‪]11 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]13-12 :‬‬
‫‪120‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اب‬
‫َص َح ُ‬
‫ود َوقَـ موُم لُوط َوأ م‬
‫اد َوف مر َع مو ُن} مباذا ُوصف فرعون؟ {ذُو ماأل مَو َاتد * َوَمثُ ُ‬ ‫{ َك َّذبَ م‬
‫ت قَـمبـلَ ُه مم} أي‪ :‬قبل قريش {قَـ موُم نُوح َو َع ٌ‬
‫اب}‪ .‬يعين‪ :‬كل مجاعة من هؤساء كانت حزًاب‪ ،‬وكلهم َّ‬ ‫َٰ‬
‫كذبوا رسلهم‪ ،‬فماذا فعل هللا هبم؟ أوقع هبم العذاب‪.‬‬ ‫ماألَيم َكة أُولَئ َ ماأل م‬
‫َحَز ُ‬
‫وهذا كان قبل مشركي العرب‪.‬‬

‫هنا عندي شاهد مهم على صحة القرآن‪ :‬وهو أن فرعون ُوصف أبنه {ذُو ماأل مَو َاتد}‪ ،‬والوتد‪ :‬هو شيء من خشب أو‬
‫ثباات يف األرض‪ .‬وأنت اآلن ترى هذه األواتد‪ .‬انظروا إىل األهرام‪،‬‬
‫بقوة‪ ،‬حبيث أن الذي يراه يرى ً‬
‫حجارة‪ُ ،‬وضع وثُبت يف األرض َّ‬
‫تُرى كأهنا اثبتةً يف األرض‪ ،‬كأهنا وتد‪.‬‬

‫ُوصف فرعون يف القرآن أبنه {ذُو ماأل مَو َاتد}‪ ،‬وغالب العرب ما رأوا أواتده؛ ألهنم كانوا ذوي رحلة إىل الشام واليمن‪ ،‬وليس‬
‫أيضا للدسالة على عظمة ُملكه‪ ،‬وسلطانه يف األرض‪ ،‬وكثرة بناايته الثابتة اليت سا حتركها الرايح‪ .‬فهل‬
‫ً‬ ‫ووصف بذل‬
‫إىل مصر‪ُ .‬‬
‫وجل‪-‬؟! إذًا {ذُو‬
‫عز َّ‬
‫ميكن أن يعرف الرسول‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬أو َمن كان معه هذا اخلرب إسا أن تأيت من عند هللا‪َّ -‬‬
‫ماأل مَو َاتد} خرب من السماء‪ ،‬من عند هللا‪.‬‬

‫اب ماألَيم َكة}؟ اجتمعوا على‪{ :‬إن ُكل‬


‫َص َح ُ‬
‫ود َوقَـ موُم لُوط َوأ م‬
‫اد َوف مر َع مو ُن ذُو ماأل مَو َاتد * َوَمثُ ُ‬
‫على أي شيء اجتمع {قَـ موُم نُوح َو َع ٌ‬
‫ب الر ُسل فَ َح َّق ع َقاب}(‪ .)1‬كلهم َّ‬
‫كذبوا الرسل؛ فاستحقوا العقاب‪ .‬وهذا هتديد لقريش‪.‬‬ ‫إَّسا َك َّذ َ‬
‫َ‬
‫صمي َح ًة َواح َد ًة َّما َهلَا من فَـ َواق}(‪.)2‬‬
‫مث قال تعاىل‪َ { :‬وَما يَنظُُر ََٰه ُؤَساء إَّسا َ‬

‫ما معىن {فَـ َواق}؟ هو اسم للزمن الذي يفصل ما بني َحلبيت الناقة‪ .‬فالناقة عندما تلد تأيت حليبها يف الضرع‪ ،‬لكنه سا ينزل‬
‫إسا إذا أتى مولودها؛ فإذا أتى رضع منها‪ ،‬ويرتكونه يرضع‪ ،‬مث يدفعونه ويضعون آنيتهم فيحلبوها‪ ،‬مث يبدأ نتاجها يقل‪ ،‬فيعيدوا هلا‬
‫مرًة أخرى فيحلبوها‪.‬‬
‫وليدها فرتة من الزمن‪ ،‬مث يعودون َّ‬

‫فتصوري عندما َتيت هذه الكلمة لشخص عرب‪ ،‬يفهم معناها‪،‬‬


‫والعرب تسمي هذه الفرتة الزمنية بني احللبتني‪" :‬الفواق"‪َّ .‬‬
‫فيتصور أن العذاب سيأيت صيحةً واحدةً‪ ،‬وأنه لن‬
‫َّ‬ ‫ويفهم أن هذا وقت ضيق جدًّا‪ ،‬كأنه‪ :‬سا وقت! فتأيت هذه الكلمة يف أذنه‪،‬‬
‫يكون هناك وقت ليأخذوا أي اسرتاحة‪ ،‬بل سيذهبون فينتهون‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]14 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة ص‪]15 :‬‬
‫‪121‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ومن هذا املعىن أصبحنا نستعمل كلمة "اإلفاقة"‪.‬‬

‫حنن اآلن نقوم بتجربة‪ :‬ننظر نظرات إىل كمال القرآن‪ ،‬فنرى أن القرآن أتى بكل م ِ‬
‫عجز‪ ،‬وال يفهم إعجازه وحالوته‬ ‫ُ‬
‫وطالوته إال الذي يعرف اللغة العربية‪ ،‬فضعفك يف اللغة جعلك حمدود اإلاثرة‪.‬‬

‫{ َوقَالُوا َربـَّنَا َعجل لَّنَا قطَّنَا قَـمب َل يـَ موم م‬


‫احل َساب}(‪" .)1‬القط" مبعىن‪ :‬القسط من الشيء احلسن‪ .‬واملعىن أهنم قالوا‪ :‬اي ربنا عجل‬
‫لنا قسطنا من الشيء احلسن قبل يوم احلساب! مبعىن أهنم‪ :‬يستهزؤون بكالم النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،-‬فكأهنم يقولون‪ :‬أنت‬
‫تقول‪ :‬أننا سنُـ َع َّذب‪ .‬فعجل لنا قسطنا من هذا! فيجعلون العذاب "قطًّا" هلم‪-‬أي‪ :‬شيئًا حسنًا‪.-‬‬

‫زدت علما ِ‬
‫زدت ُعم ًقا يف فَهم النصوص‪ .‬فمن أجل أن تفهمي أهنم يستهزؤون‪ ،‬مل حتتاجي إسا لفهم كلمة {قطَّنَا}‪،‬‬ ‫كلما ِ‬
‫ً‬
‫والبالغ ة تظهر يف كوننا فهمنا من هذه الكلمة الواحدة أن كالمهم فيه تكذيب واستهزاء ابلنيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.-‬‬
‫مفهوم جديد‪ ،‬وعندما يضعف فهمك للَّفظ سيضعف‬ ‫ٍ‬ ‫واملقصود‪ :‬أن اللفظ الواحد من األلفاظ القرآنية ينقل مشاعرك إىل‬
‫حتريك النص ملشاعرك‪.‬‬

‫شا استقبلت النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬ابالستهزاء به‪ .‬فأنت لو كنت يف جمال دعوة عائلت ‪ ،‬وقلت‬
‫رأينا اآلن أن قري ً‬
‫املوت"(‪ .)2‬فقالوا ل ‪ :‬حنن خنتلط ببعضنا من عشر سنوات ومل‬
‫مثال‪ :-‬سا ختتلطوا‪ ،‬سا تستعجلوا يف إفساد بيوتكم‪" ،‬ا محلَ ُمو ُ‬
‫هلم‪ً -‬‬
‫يُصبنا شيء!‪...‬إىل آخر هذا الكالم‪ .‬سا تظين أن هذا األمر حصل ل وحدك‪ ،‬سا تظين أن الوحيدة اليت اُستُهزئ هبا! اقرئي يف‬
‫وجل‪َ {-‬عجل لَّنَا قطَّنَا}‪ ،‬فإذا اُستُهزئ بك‪،‬‬
‫عز َّ‬
‫سورة (ص)‪ ،‬وسرتين أن العرب كانوا يكذبون ويستهزؤون‪ ،‬ويقولون هلل‪َّ -‬‬
‫يشا استهزأت ابلنيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬يف كذا وكذا!!‬‫فاعلمي أن لك سلف سابق قد اُستُهزئ به‪ ،‬أسا ترين أن قر ً‬
‫ِ‬
‫فلنقض هذين اليومني يف فَهم آية من كتاب هللا‪ ،‬ويل‬ ‫العلم يبدأ خبطوة‪ .‬افرتضي أنه بقي يل يومان فقط يف هذه احلياة‪،‬‬
‫مهاجرا‪ ،‬حىت لو مل يبلغ‬
‫ً‬ ‫مهاجرا يف سبيل هللا‪ ،‬ف ُقبض يف طريقه‪ُ ،‬كتب عند هللا‬
‫ً‬ ‫الشرف أن أُقبض على فهم الكتاب‪ ،‬فمن خرج‬
‫هجره‪ .‬واملراد‪ :‬أن األجر يقع ابلنية والشروع يف العمل‪ ،‬سا أن دجلسي أمام القرآن‪ ،‬وتنوي أن تفهميه! سا يكفي هذا!‬
‫َم َ‬

‫نعود مرًة أخرى إىل التقسيم‪ :‬مرران يف مطلع السورة على نوعني من إعجاز القرآن‪:‬‬

‫)‪[ )1‬سورة ص‪]16 :‬‬


‫)‪ )2‬رواه البخاري يف صحيحه‪ /‬كتاب النكاح‪ /‬ابب سا خيلون رجل ابمرأة إسا ذو حمرم والدخول على املغيبة‪ .)4934( /‬ورواه مسلم يف صحيحه‪ /‬كتاب السالم‪ /‬ابب‬
‫حترمي اخللوة ابألجنبية والدخول عليها‪.)2172( /‬‬
‫‪122‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫‪-1‬إعجاز يف ألفاظه‪.‬‬

‫‪-2‬وإعجاز يف أخباره‪.‬‬

‫ورأينا خربين‪:‬‬

‫اخلرب األول‪ :‬أن األحزاب ستُغلَب‪ .‬وهم يف مكة يسمعون هذا اخلرب‪.‬‬

‫اخلرب الثاين‪ :‬أن يقال عن فرعون‪-‬الذي سا يعرفونه‪ ،‬وإمنا هم يسمعون خربه فقط‪ :-‬أنه {ذُو ماأل مَو َاتد}‪ ،‬فيخربهم هللا عن حاله‬
‫يف بلده‪ ،‬وهم بعيدون عنها‪.‬‬

‫وكل هذا دال على عظمة القرآن‪ ،‬وصدقه‪ ،‬وعلى حكمة هللا يف األخبار‪.‬‬

‫احدا‪ ،‬وأن هذه الصفحة األوىل كلها تتكلَّم عن‪:‬‬


‫سنعترب اآلايت من آية (‪ )1‬إىل آية (‪ )16‬جزءًا و ً‬

‫عظمة القرآن‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وحال املكذبني له‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وهتديدهم‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫اب‬
‫ود َذا ماألَيمد إنَّهُ أ ََّو ٌ‬
‫{اص مرب َعلَ َٰى َما يـَ ُقولُو َن َواذم ُك مر َعمب َد َان َد ُاو َ‬
‫بعدها سيأيت املقطع من آية (‪ )17‬إىل آية (‪ :)26‬قال تعاىل‪ :‬م‬
‫ص َل‬
‫مم َة َوفَ م‬ ‫احلك َ‬‫اب * َو َش َد مد َان ُم مل َكهُ َوآتَـميـنَاهُ م‬ ‫ورًة ُكل لَّهُ أ ََّو ٌ‬ ‫ال َم َعهُ يُ َسب مح َن ابلم َعشي َو ماإل مشَراق * َوالطَّميـَر َمحم ُش َ‬ ‫* إ َّان َس َّخ مرَان م‬
‫اجلبَ َ‬
‫ضنَا َعلَ َٰى‬
‫ص َمان بَـغَ َٰى بـَ مع ُ‬
‫ف َخ م‬
‫ع ممنـ ُه مم قَالُوا َسا َختَ م‬
‫ود فَـ َفز َ‬
‫اب * إ مذ َد َخلُوا َعلَ َٰى َد ُاو َ‬
‫صم إ مذ تَ َس َّوُروا المم محَر َ‬ ‫اخلطَاب * َوَه مل أ ََات َك نـَبَأُ م‬
‫اخلَ م‬ ‫م‬
‫ال‬ ‫اح ُكم بـَميـنَـنَا اب محلَق َوَسا تُ مشط مط َو ماهد َان إ َ َٰىل َس َواء الصَراط * إ َّن ََٰه َذا أَخي لَهُ ت مس ٌع َوت مسعُو َن نَـ مع َج ًة َو َ‬
‫يل نـَ مع َجةٌ َواح َدةٌ فَـ َق َ‬ ‫بـَ معض فَ م‬
‫ض ُه مم َعلَ َٰى بـَ معض إَّسا‬
‫اخلُلَطَاء لَيَـمبغي بَـ مع ُ‬‫ال لََق مد ظَلَ َم َ ب ُس َؤال نـَ مع َجت َ إ َ َٰىل ن َعاجه َوإ َّن َكث ًريا م َن م‬ ‫اخلطَاب * قَ َ‬‫أَ مكف ملن َيها َو َعَّزين يف م‬
‫ب * فَـغَ َف مرَان لَهُ َٰذَل َ َوإ َّن لَهُ ع َ‬
‫ند َان‬ ‫ود أََّمنَا فَـتَـنَّاهُ فَ م‬
‫استَـ مغ َفَر َربَّهُ َو َخَّر َراك ًعا َوأ ََان َ‬ ‫يل َّما ُه مم َوظَ َّن َد ُاو ُ‬
‫الصاحلَات َوقَل ٌ‬
‫ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ‬
‫الذ َ‬
‫َّ‬
‫ني النَّاس اب محلَق َوَسا تَـتَّبع ا مهلََو َٰى فَـيُضلَّ َ َعن َسبيل َّ‬
‫اَّلل إ َّن‬ ‫اح ُكم بـَ م َ‬
‫اك َخلي َفةً يف ماأل مَرض فَ م‬ ‫ود إ َّان َج َع ملنَ َ‬
‫لَُزلم َف َٰى َو ُح مس َن َمآب * َاي َد ُاو ُ‬
‫احل َساب}‪.‬‬‫اب َشدي ٌد مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م‬ ‫اَّلل َهلُمم َع َذ ٌ‬
‫ين يَضلو َن َعن َسبيل َّ‬ ‫َّ‬
‫الذ َ‬
‫سنقف وقفات عند قصة‪:‬‬
‫‪123‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫‪(( o‬داود عليه السالم))‬

‫وردت قصة داود‪-‬عليه السالم‪-‬يف أربعة مواطن من القرآن‪:‬‬

‫‪ .5‬يف سورة األنبياء‪.‬‬

‫‪ .6‬ويف سورة النمل‪.‬‬

‫‪ .7‬ويف سورة ص‪.‬‬

‫‪ .8‬ويف سورة سبأ‪.‬‬

‫ممةَ‬
‫احلك َ‬
‫{و َش َد مد َان ُم مل َكهُ َوآتَـميـنَاهُ م‬
‫اب} إىل أن أصل إىل قوله‪َ :‬‬
‫ُوصف داوود‪-‬عليه السالم‪-‬يف سورة (ص) أنه‪َ { :‬ذا ماألَيمد إنَّهُ أ ََّو ٌ‬
‫اخلطَاب}‪ .‬سنالحظ‪:‬‬‫ص َل م‬
‫َوفَ م‬

‫اخلطَاب} إسا يف سورة (ص)‪.‬‬


‫ص َل م‬
‫أن داوود‪-‬عليه السالم‪-‬ما ُوصف أبن له {فَ م‬ ‫‪‬‬

‫وأن قصة "اخلصم" مل َتت إسا يف سورة (ص)‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الروابط بني اآلايت؛ ألننا إذا فقدان الروابط فقدان التسلسل املنطقي للنص يف عقولنا‪ .‬فلو‬
‫اآلن سنرى التقسيمات‪ ،‬ونعرف َّ‬
‫سألنا‪:‬‬

‫ني النَّاس اب محلَق َوَسا‬


‫اح ُكم بـَ م َ‬ ‫ود إ َّان َج َع ملنَ َ‬
‫اك َخلي َفةً يف ماأل مَرض فَ م‬ ‫‪ ‬انتهت القصة ابلتحذير من اهلوى يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫{اي َد ُاو ُ‬
‫تَـتَّبع ا مهلََو َٰى}‪ .‬فماذا يفعل ب اهلوى؟‬

‫َّ‬
‫احل َساب}‪.‬‬
‫اب َشدي ٌد مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م‬
‫اَّلل َهلُمم َع َذ ٌ‬ ‫أتى اجلواب يف هذا التقرير‪{ :‬إ َّن الذ َ‬
‫ين يَضلو َن َعن َسبيل َّ‬

‫ما الرابط بني قصة داوود‪-‬عليه السالم‪ ،)26-17(-‬وبني اآلايت (‪)29-27‬؟‬ ‫‪‬‬

‫‪124‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫َّ‬
‫اب‬
‫اَّلل} ما جزاؤهم؟ { َهلُمم َع َذ ٌ‬ ‫ظاهرا‪ ،‬وذل ابلنظر آلخر آية (‪{ :)26‬إ َّن الذ َ‬
‫ين يَضلو َن َعن َسبيل َّ‬ ‫املفرتض أن يكون الرابط ً‬
‫احل َساب}‪ .‬فكأنه يقال‪ :‬كيف تنسى يوم احلساب؟! جيب علي أسا تنساه‪ .‬إذًا ما الذي سيذكرك‬ ‫َشدي ٌد} ملاذا؟ {مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م‬
‫ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما َابط ًال}(‪.)1‬‬
‫الس َماءَ َو ماأل مَر َ‬
‫به؟ اجلواب‪َ { :‬وَما َخلَ مقنَا َّ‬

‫خريا‪،‬‬
‫جيب علي أن تذكر يوم احلساب؛ ألن هللا حكيم‪ ،‬سا ميكن أن خيلق هللا اخللق‪ ،‬فيعمل هذا العبد سوءًا‪ ،‬ويعمل هذا ً‬
‫ابطال!‬
‫مث ميوتون وسا ُجي َازون! هذا مستحيل! ومستحيل أسا يكون هناك يوم قيامة؛ ألن هذا معناه أن السماوات واألرض ُخلقتا ً‬
‫ابطال‪.‬‬
‫وجل‪-‬ما خلقهما ً‬
‫عز َّ‬
‫وهللا‪َّ -‬‬

‫إذا رأيت أن السماء واألرض ُوضعتا يف مكاهنما‪ ،‬وكل شيء ُوضع يف مكانه‪ ،‬فاعلم أن هللا سيضع أهل احلق يف مكاهنم‪،‬‬
‫وأهل الباطل يف مكاهنم‪ ،‬لكن مىت؟ يوم احلساب‪ .‬فكيف تنسى يوم احلساب؟! سابد أن يبقى هذا اليوم على ابل ‪( .‬سنجد أن‬
‫هذا السياق يشبه سياق سورة اجلاثية)‬

‫ني َكالم ُف َّجار}(‪.)2‬‬


‫ين يف ماأل مَرض أ مَم َمجن َع ُل الم ُمتَّق َ‬ ‫َّ‬
‫الصاحلَات َكالم ُم مفسد َ‬
‫ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ‬
‫مث قال تعاىل‪{ :‬أ مَم َمجن َع ُل الذ َ‬
‫ين‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫اَّلل}‪ ،‬وداوود‪-‬عليه السالم‪-‬منوذج ل‪{-‬الذ َ‬ ‫ين يَضلو َن َعن َسبيل َّ‬ ‫ساحظي أن املفسدين يف األرض هنا‪ :‬هم أنفسهم‪{ :‬الذ َ‬
‫ين يف ماأل مَرض}‪.‬‬
‫ني النَّاس اب محلَق َوَسا تَـتَّبع ا مهلََو َٰى} لكيال يكون { َكالم ُم مفسد َ‬
‫اح ُكم بـَ م َ‬
‫الصاحلَات}‪ ،‬وأمره هللا بقوله‪{ :‬فَ م‬
‫َآمنُوا َو َعملُوا َّ‬

‫إ ًذا معىن ذل ‪ :‬أن اآلايت من آية (‪ )17‬يف قصة داوود إىل آية (‪ )28‬كلها سياق واحد؛ ألن هللا يف آخر قصة داوود يقول‪:‬‬

‫الس َماءَ‬
‫احل َساب}‪ ،‬فكيف ينُسى يوم احلساب والسماوات واألرض كلها تدل على حكمة هللا؟! { َوَما َخلَ مقنَا َّ‬‫{مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م‬
‫ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما َابط ًال}‪ .‬سابد أن تأيت يوم احلساب‪ ،‬فكما جعل هللا السماوات واألرض يف مكاهنما؛ سيجعل املتَّقني يف‬
‫َو ماأل مَر َ‬
‫الفجار يف مكاهنم‪.‬‬
‫مكاهنم‪ ،‬و َّ‬

‫آية (‪ )29‬سنؤجلها إىل أن نرى ما بعدها‪.‬‬

‫‪(( o‬سليمان عليه السالم))‬

‫اب}(‪ .)1‬الصلة واضحة بني اآلايت‪.‬‬


‫ود ُسلَمي َما َن ن مع َم الم َعمب ُد إنَّهُ أ ََّو ٌ‬
‫قال تعاىل بعد ذل ‪َ { :‬وَوَهمبـنَا ل َد ُاو َ‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]27 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة ص‪]28 :‬‬
‫‪125‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫سنالحظ هنا‪َ { :‬وَهمبـنَا}‪ ،‬ويف بداية السورة‪{ :‬الم َوَّهاب}‪ .‬سليمان هبة لداوود‪-‬عليهم السالم‪-‬من جهتني‪:‬‬

‫اجلهة األوىل‪ :‬أن األوساد بنفسهم هبة‪.‬‬

‫اجلهة الثانية‪ :‬أن النبوة هبة‪.‬‬

‫النبوة‪.‬‬
‫وجل‪-‬مجع لداوود يف سليمان نوعني من اهلبات‪ :‬هبة البُ َّنوة‪ ،‬وهبة َّ‬
‫عز َّ‬
‫فاهلل‪َّ -‬‬

‫وردت قصة سليمان‪-‬عليه السالم‪-‬يف أربعة مواطن من القرآن‪:‬‬

‫‪ .1‬يف سورة األنبياء‪.‬‬

‫‪ .2‬ويف سورة النمل‪.‬‬

‫‪ .3‬ويف سورة ص‪.‬‬

‫‪ .4‬ويف سورة سبأ‪.‬‬

‫الصافنَات}(‪ (2‬إسا يف سورة (ص)‪.‬‬


‫مل يَرد الكالم عن { َّ‬

‫َصاب}(‪ )3‬إسا يف سورة (ص)‪.‬‬


‫ثأ َ‬
‫وذُكرت الريح يف سوريت األنبياء وسبأ‪ ،‬لكن مل يُذكر لفظ‪َ { :‬حمي ُ‬

‫َص َفاد}(‪ )4‬إسا يف سورة (ص)‪.‬‬


‫ني يف ماأل م‬
‫ين ُم َقَّرن َ‬
‫آخر َ‬
‫ني ُك َّل بـَنَّاء َو َغ َّواص * َو َ‬
‫مل يُذكر أن هللا سخر له {الشَّيَاط َ‬

‫عندما حتفظ مثل هذه السورة‪ ،‬وتبدأ تقارن بني مواطن ذكر سليمان‪-‬عليه السالم‪ ،-‬سرتى من اإلعجاز يف األلفاظ‪ :‬أن‬
‫أوصافه َتيت يف كل سورة مبا يناسب السورة‪ ،‬ويف نفس الوقت مبا يناسب يف املعىن‪ ،‬مث ُختتار له األلفاظ اليت تُناسب السورة‪ ،‬حىت‬
‫أيضا! وهذا كله دليل على أنه سا ميكن أن يكون هذا القرآن من عند اخللق‪ ،‬سابد أن‬
‫تصل لدرجة أن احلروف مناسبة للسورة ً‬
‫جرب عرف!‬
‫يكون من لَ ُدن حكيم خبري‪ .‬مهما كان عند اخللق من قدرة وبالغة‪ ،‬فإهنم ال ميكنهم أن أيتوا مبثل هذا‪ ،‬ومن َّ‬

‫)‪[ )1‬سورة ص‪]30 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]31 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة ص‪]36 :‬‬
‫)‪[ )4‬سورة ص‪]38-37 :‬‬
‫‪126‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫مثال‪ :‬أريد أن أكتب قطعة لطالب يف الصف الثاين اسابتدائي‪ ،‬وأريد أن أُبرز هلم حرفًا‪ ،‬ويف نفس الوقت أطبق قاعدة حنوية‪،‬‬
‫ً‬
‫شهرا حىت آيت هبا‪ ،‬مث بعد ذل أجد أن أول َمن سرياجعها بعدي سيقول‪ :‬ما هذا‬
‫وأقول هلم معلومات صحيحة‪ .‬قد أفكر فيها ً‬
‫جرب إنشاء ُمجل من أجل إيصال شيء‪ ،‬سيفهم أنه يعجز عن ذل عند أول دجربة‪.‬‬
‫فمن َّ‬
‫كالم غري مرتَّب‪َ .‬‬
‫الكالم! هذا ٌ‬

‫مثال‪ :‬يوجد مفهوم يف التعليم امسه‪" :‬التَّكامل التعليمي"‪ ،‬حيتاج إىل عشرين جلنة من أجل أن يتم‪ ،‬وتُبذل ألجله اجلهود‬
‫ً‬
‫واملراجعات‪ ،‬ويف النهاية يستحيل أن تأتوا هبذا التكامل كما ينبغي‪ .‬بعكس كالم احلكيم اخلبري سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫واملقصود‪ :‬أن مثل هذا النظر يف القرآن نوع من أنواع التعبد‪ .‬من العبادة أن تكرر القراءة‪ ،‬مث خترج فتقول‪ :‬سبحان هللا! لكن‬
‫وَتمل‪ ،‬وفهم‪.‬‬
‫مجال هذا الكالم لن يظهر إسا ل‪َ -‬من تعبَّد‪َّ ،‬‬

‫ننتقل اآلن إىل‪:‬‬

‫‪(( o‬أيوب عليه السالم))‬


‫(‪)1‬‬
‫صب" {إ َّان‬
‫صب َو َع َذاب} نالحظ هنا لفظة‪" :‬نُ م‬ ‫ين الشمَّيطَا ُن بنُ م‬
‫وب إ مذ َان َد َٰى َربَّهُ أَين َم َّس َ‬
‫قال تعاىل‪َ { :‬واذم ُك مر َعمب َد َان أَي َ‬
‫اب}(‪ )2‬وهنا لفظة‪" :‬صابر"‪ .‬وتسمع طوال السورة لفظة‪َ { :‬واذم ُك مر}‪ .‬وكنا قد اتفقنا أننا سابد أن‬ ‫صابًرا ن مع َم الم َعمب ُد إنَّهُ أ ََّو ٌ‬
‫َو َج مد َانهُ َ‬
‫ننتبه للكلمة املتكررة‪ ،‬وسابد أن تفهم‪ :‬ما سبب هذا التكرار؟ ول‪َ -‬من اخلطاب؟ وما فائدته؟ كل هذه األسئلة سابد أن دجيبوا‬
‫عليها‪.‬‬

‫صار}(‪.)3‬‬
‫وب أُويل ماألَيمدي َو ماألَبم َ‬
‫اق َويـَ مع ُق َ‬
‫مث قال تعاىل‪َ { :‬واذم ُك مر عبَ َاد َان إبمـَراه َيم َوإ مس َح َ‬

‫يوصفون بصفات متقاربة‪ ،‬وأنت حتتاج أن دجمع‪ :‬مباذا ُوصف داوود‪-‬عليه السالم‪-‬؟ مباذا ُوصف سليمان‪-‬عليه‬
‫سا زالوا َ‬
‫السالم‪-‬؟ مباذا ُوصف أيوب‪-‬عليه السالم‪-‬؟ مباذا ُوصف‪-‬إبراهيم وإسحاق ويعقوب‪-‬عليهم السالم‪-‬؟‬

‫يوصفوا هبذا الوصف إسا يف سورة (ص)‪ ،‬مث ُوصفوا‬


‫صار}‪ ،‬ومل َ‬
‫ُوصف إبراهيم‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬ويعقوب أبهنم‪{ :‬أُويل ماألَيمدي َو ماألَبم َ‬
‫صة ذ مكَرى الدَّار}(‪ ،)1‬وهذا هو املوطن الوحيد الذي ذُكرت فيه هذه الصفة يف حقهم‪.‬‬
‫اهم خبَال َ‬
‫صنَ ُ‬ ‫بوصف آخر‪{ :‬إ َّان أ م‬
‫َخلَ م‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]41 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]44 :‬‬
‫)‪[ )3‬سورة ص‪]45 :‬‬
‫‪127‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫صة} أي‪ :‬إان خصصناهم بصفة‪{ :‬ذ مكَرى الدَّار}‪ .‬يعين‪ُ :‬خصوا خبصيصة أهنم يذكرون الدار اآلخرة‬ ‫اهم خبَال َ‬
‫صنَ ُ‬ ‫{إ َّان أ م‬
‫َخلَ م‬
‫أيضا هلا عالقة بقصة كل من‬
‫دائما أمام أعينهم‪ ،‬سا يغفلون عنها‪ .‬ومن املؤكد أن هذه الصفة العظيمة هلا عالقة أبول السورة‪ ،‬و ً‬ ‫ً‬
‫داوود‪ ،‬وسليمان‪ ،‬وأيوب‪-‬عليهم السالم‪ .-‬فالبد أن تع ريف أن الكالم عن الدار اآلخرة من عند املشركني إىل هنا هو كالم‬
‫متَّصل‪ ،‬بينه عالقة حتتاجني أن تتنبَّهي هلا‪.‬‬

‫سنعود مرة أخرى لآلايت لنرى عالقتها ابلكالم عن اآلخرة‪:‬‬

‫ماذا كان موقف املشركني؟ {قَالُوا َربـَّنَا َعجل لَّنَا قطَّنَا قَـمب َل يَـ موم م‬
‫احل َساب}‪ .‬يعين‪ :‬يوم احلساب عندهم من َكر‪ ،‬وهم يستهزؤون‬
‫به‪.‬‬

‫ني النَّاس اب محلَق َوَسا تَـتَّبع ا مهلََو َٰى} ماذا يفعل ب اهلوى؟ {فَـيُضلَّ َ‬
‫اح ُكم بـَ م َ‬
‫وجل‪{ :-‬فَ م‬ ‫عز َّ‬‫وداوود‪-‬عليه السالم‪-‬تأمره هللا‪َّ -‬‬
‫َّ‬
‫احل َساب} أي‪ :‬كل َمن ينسى يوم احلساب له‬ ‫اب َشدي ٌد مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م‬ ‫اَّلل َهلُمم َع َذ ٌ‬ ‫اَّلل إ َّن الذ َ‬
‫ين يَضلو َن َعن َسبيل َّ‬ ‫َعن َسبيل َّ‬
‫عذاب شديد‪.‬‬
‫ٌ‬

‫ند َان لَُزلم َف َٰى َو ُح مس َن َمآب}(‪ ،)2‬سازال ذكر اآلخرة؛ فسليمان‪-‬عليه السالم‪-‬‬
‫وسليمان‪-‬عليه السالم‪-‬ما حاله؟ { َوإ َّن لَهُ ع َ‬
‫سيكون له زلفى وقُرَّب‪ ،‬وسيكون مآله إىل خري‪.‬‬

‫وجل‪-‬‬
‫عز َّ‬
‫اب}‪ ،‬أي‪ :‬كثري الرجوع إىل هللا‪َّ -‬‬ ‫ماذا دجدون يف وصف أيوب‪-‬عليه السالم‪-‬؟ {إ َّان َو َج مد َانهُ َ‬
‫صابًرا ن مع َم الم َعمب ُد إنَّهُ أ ََّو ٌ‬
‫من استذكاره لليوم اآلخر‪.‬‬

‫صة ذ مكَرى الدَّار}‪ ،‬فالعبد يكون شديد التوبة واألَوبة يف‬


‫اهم خبَال َ‬
‫صنَ ُ‬ ‫وسيظهر هذا املعىن من قوله سبحانه وتعاىل‪{ :‬إ َّان أ م‬
‫َخلَ م‬
‫حال تذكره لليوم اآلخر‪ .‬واألنبياء أُخلِصوا هبذه اخلالصة‪ :‬أن ذكرى الدار أمام أعينهم‪.‬‬

‫فكأنه يقال ل ‪:‬‬

‫سا تكن كاملشركني الذين استهانوا ابليوم اآلخر‪ ،‬واستهزؤوا به‪.‬‬

‫عذاب شدي ٌد يوم القيامة‪.‬‬


‫واعلم أن من يَضل أو يُضل غريه له ٌ‬
‫)‪[ (1‬سورة ص‪]46 :‬‬
‫)‪[ (2‬سورة ص‪]25 :‬‬
‫‪128‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫واعلم أن هؤساء األنبياء الذين أُمرت أن تذكرهم‪ ،‬كلهم عندهم صفة واحدة مهمة‪ ،‬وهي‪ :‬أن ذكرى الدار أمام أعينهم‪ ،‬سا‬
‫تنف عنهم‪.‬‬

‫ذاكرا‪ ،‬وعندما تقرأ السورة مرة أخرى‬


‫ولذل {اذم ُك مر‪ }...‬تكررت يف هذه السورة؛ دليل على أن املطلوب من أن تبقى ً‬
‫اب}‪ ،‬ومعىن اإلانبة‪ ،‬كلها تدور حول نفس املعاين‪.‬‬
‫ذاكرا له‪ ،‬وهذا هو معىن {أ ََّو ٌ‬
‫سيتبني ل ما هو الشيء الذي ستبقى ً‬
‫َّ‬

‫ني َحلُ مس َن َمآب}(‪{ .)1‬ذ مكٌر} ألي شيء؟ {ذ مكٌر} لألنبياء‪.‬‬


‫مث قال تعاىل‪َٰ { :‬ه َذا ذ مكٌر َوإ َّن ل مل ُمتَّق َ‬

‫احدا؛ ألن كل هذه اآلايت‬


‫فأنت إبمكان أن تبدئي من اآلية (‪-)17‬من قصة داوود‪-‬إىل اآلية (‪ ،)48‬ودجعليها جزءًا و ً‬
‫تدور حول‪( :‬ذكر ال ُك َّمل الذين أُخلصوا خبالصة ذكرى الدار)‪.‬‬

‫ذاكرا هلا؛ ألن صفة األنبياء أهنم ذكروا اآلخرة أمام‬


‫فابق ً‬
‫يف آية (‪ )49‬يقال ل ‪ :‬هذه اآلخرة‪ ،‬وهذا ما سيحصل فيها‪َ ،‬‬
‫ذاكرا لآلخرة أمام عيني ‪.‬‬
‫أعينهم‪ ،‬وأنت لكي تكون كهؤساء ال ُك َّمل جيب أن تكون ً‬
‫الفجار؟ كل هذا ُوصف ل ‪ ،‬إىل أن تصل إىل قصة آدم‪-‬عليه السالم‪.-‬‬
‫ومن هم املتَّقني؟ ومن هم َّ‬
‫ما هي اآلخرة؟ َ‬

‫يل م من ع ملم ابلم َم َإل ماأل مَعلَ َٰى إ مذ َخيمتَص ُمو َن}(‪)2‬؟‬
‫ماذا ستقولني عن آية { َما َكا َن َ‬
‫املقصود {ابلم َم َإل ماأل مَعلَ َٰى}‪ :‬املالئكة‪ ،‬ومعىن { َخيمتَص ُمو َن} سيبقى سؤال استفهام‪.‬‬

‫كالسب الواحد‪ ،‬أوهلا يشري إىل آخرها‪ ،‬وسنجد يف سورة (ص)‬


‫م‬ ‫أتت قصة آدم خامتةً للسورة‪ ،‬وحنن اتفقنا أن السور كلها‬
‫خامتةً من أعجب اخلواتيم! حبيث أن تستطيعني أن ختتمي الصفحة األوىل كلها ابلصفحة األخرية‪.‬‬

‫وختمت السورة بقوله تعاىل‪{ :‬إ من ُه َو إَّسا ذ مكٌر ل مل َعالَم َ‬


‫ني * َولَتَـ معلَ ُم َّن‬ ‫قال تعاىل يف أول السورة‪{ :‬ص َوالم ُق مرآن ذي الذ مكر}‪ُ ،‬‬
‫نـَبَأَهُ بـَ مع َد حني}(‪.)3‬‬

‫ابلعزة والشقاق؟ قوهلم‪ :‬ملاذا يـُ َفضَّل علينا‬ ‫ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق}‪ ،‬ما الذي أصاهبم َّ‬ ‫َّ‬
‫وقال تعاىل عن الكافرين‪{ :‬بَل الذ َ‬
‫استَ مكبَـَر َوَكا َن م َن الم َكافرين}(‪.)1‬‬
‫ابلنبوة؟ وملاذا يدعوان إىل إله واحد؟ وكل هذا الذي قالوه إمنا هو من وحي الشيطان الذي { م‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]49 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]69 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة ص‪]88-87 :‬‬
‫‪129‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫أيضا شيئًا عجيبًا يف قصة آدم يف سورة (ص)‪ :‬ستالحظني أن كل القصة دائرة حول الشيطان‪.‬‬
‫مث إن ستالحظني ً‬

‫ين‬
‫ت فيه من روحي فَـ َقعُوا لَهُ َساجد َ‬ ‫ال َرب َ ل مل َم َالئ َكة إين َخال ٌق بَ َشًرا من طني (‪ )71‬فَإ َذا َس َّويمـتُهُ َونـَ َف مخ ُ‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬إ مذ قَ َ‬
‫يس َما َمنَـ َع َ أَن تَ مس ُج َد ل َما‬ ‫َّ‬
‫ال َاي إبمل ُ‬
‫ين (‪ )74‬قَ َ‬ ‫استَ مكبَـَر َوَكا َن م َن الم َكافر َ‬
‫يس م‬
‫َمجَعُو َن (‪ )73‬إسا إبمل َ‬
‫(‪ )72‬فَ َس َج َد الم َم َالئ َكةُ ُكل ُه مم أ م‬
‫اخ ُر مج ممنـ َها‬
‫ال فَ م‬
‫ال أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين من انَّر َو َخلَ مقتَهُ من طني (‪ )76‬قَ َ‬
‫ني (‪ )75‬قَ َ‬
‫نت م َن الم َعال َ‬
‫ت أ مَم ُك َ‬
‫َستَ مكبَـ مر َ‬
‫يأم‬‫ت بيَ َد َّ‬
‫َخلَ مق ُ‬
‫ال فَإنَّ َ م َن الم ُمنظَر َ‬
‫ين‬ ‫يم (‪َ )77‬وإ َّن َعلَمي َ لَ معنَيت إ َ َٰىل يـَ موم الدين (‪ )78‬قَ َ‬
‫ال َرب فَأَنظ مرين إ َ َٰىل يـَ موم يـُمبـ َعثُو َن (‪ )79‬قَ َ‬ ‫فَإنَّ َ َرج ٌ‬
‫ني (‪.})83‬‬ ‫ني (‪ )82‬إَّسا عبَ َاد َك ممنـ ُه ُم الم ُم مخلَص َ‬ ‫َمجَع َ‬
‫َّه مم أ م‬
‫ال فَبعَّزت َ َألُ مغويـَنـ ُ‬
‫(‪ )80‬إ َ َٰىل يـَ موم الم َوقمت الم َم معلُوم (‪ )81‬قَ َ‬

‫مل يُذكر آدم‪-‬عليه السالم‪-‬يف اآلايت إسا عن طريق اإلشارة إليه فقط يف قوله تعاىل‪{ :‬إين َخال ٌق بَ َشًرا من طني}‪ ،‬وكل‬
‫الوصف الذي ذكر إمنا هو للشيطان‪.‬‬

‫ني}‪ ،‬وغيه هلم هو‬


‫َمجَع َ‬
‫َّه مم أ م‬
‫إ ًذا‪ :‬كل الذي مسعته عن الكافرين يف أول السورة إمنا هو من هذا الذي استكرب‪ ،‬وأَقسم‪َ{ :‬ألُ مغويـَنـ ُ‬
‫ما مسعته يف أول السورة‪.‬‬

‫قصة آدم يف سورة (ص) سا ميكن أن متاثلها قصة يف موطن آخر‪ ،‬فما أتت قصة آدم هبذه الطريقة إسا يف سورة‬ ‫ولذل‬
‫(ص)‪ ،‬وما أتت هبذه الطريقة إسا لتناسب أوهلا‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة ص‪]74 :‬‬


‫‪130‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء العاشر‬

‫‪131‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬


‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬
‫خصوصا عن سورة (ص)‪.‬‬
‫ً‬ ‫سا زلنا نتكلم عن اسم هللا (احلكيم)‪ ،‬وكنا قد تكلمنا‬
‫فهمنا أن ساسم احلكيم عالقة بصفة احلكم هلل‪ ،‬وبصفة احلكمة‪.‬‬
‫بدأان نتناقش عن احلكمة‪:‬‬

‫وجل‪-‬تظهر يف‪:‬‬
‫عز َّ‬
‫وجدان أن الشيخ‪-‬حفظه هللا‪-‬أشار إىل أن أهل السنة يعتقدون أن حكمة هللا‪َّ -‬‬

‫أمره‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وشرعه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وخلقه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وجزائه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مث بدأ يشرح كل نقطة‪ ،‬وذكر عن حكمة هللا يف خلقه‪ :‬أن هللا خلق مجيع املخلوقات ابحلق‪ ،‬مشتملة على احلق‪.‬‬
‫وقلنا إن الشيخ‪-‬حفظه هللا‪-‬مل يقل هذا الكالم إسا بسند من الكتاب والسنة؛ ألننا نعلم أن أهل السنة حىت تعبريهم عن‬
‫احلقائق يكون ابستدساهلم ابلنصوص‪.‬‬
‫فذهبنا إىل القرآن‪ ،‬وحبثنا عن كل دساسات "احلق"‪ ،‬ورأينا عجبًا من هذا الكالم! فهمنا أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬حكيم‪ ،‬ومن‬
‫دساسات حكمته‪ :‬أنه خيربان يف القرآن أنه خلق السماوات واألرض ابحلق‪ ،‬وخلق املخلوقات كلها ابحلق‪ ،‬وأن هذه الكلمة‪-‬‬
‫"ابحلق"‪-‬عندما تتصل خبلق هللا فإهنا تدل على أنه هو احلكيم سبحانه وتعاىل‪ ،‬رغم أن نفس لفظة "حكيم" غري موجودة‪.‬‬
‫وعلمنا أن املخلوقات ُخل َقت مشتملةً على احلق‪ ،‬وهذا تفهمه حينما تقرأ يف كتاب هللا عن آايته‪ ،‬فإن ستجد يف آايت‬
‫على أن ملوقاته مشتملة على الشهادة له أبنه كامل الصفات‪ ،‬ستجد أن ملوقاته تقول ل ‪ :‬الذي‬ ‫وجل‪-‬ما يدل‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬
‫خلقين كامل الصفات‪ ،‬كامل احلكمة‪ ،‬يضع كل شيء يف موضعه‪.‬‬
‫وكان من املمكن أن نتبع يف ذل أحد الطريقتني‪:‬‬

‫‪132‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫الطريقة األوىل‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫أن أنخذ كل اآلايت‪ ،‬ونقوم أبحباث عنها‪.‬‬

‫آايته أَ من‬
‫مثال‪ :‬نذهب لسورة الروم‪-‬السورة اليت أجرينا عليها دجربتنا‪-‬وجند أن هللا أخربان فيها عن آايته‪ ،‬فقال تعاىل‪َ { :‬وم من َ‬
‫ً‬
‫ف أَلمسنَت ُك مم َوأَلم َوان ُك مم‪...)1(}...‬إىل آخر اآلايت‬
‫اخت َال ُ‬
‫الس َم َاوات َو ماأل مَرض َو م‬
‫آايته َخ مل ُق َّ‬
‫اجا‪َ { }...‬وم من َ‬
‫َخلَ َق لَ ُكم م من أَن ُفس ُك مم أ مَزَو ً‬
‫اليت ذكرها هللا يف هذه السورة‪ .‬فنبحث عن األلوان‪ ،‬ودرجاهتا‪ ،‬واساختالف بني الناس‪ ،‬فنرى كيف أن كل شيء يشهد أبن هللا‬
‫حكيم‪.‬‬

‫الطريقة الثانية‪:‬‬ ‫‪‬‬


‫أن تبحثي عمن كتب يف احلكمة اليت تظهر يف املخلوقات‪.‬‬

‫وحنن أخذان هذا الطريق‪-‬الثاين‪ .-‬وجدان من علماء أهل السنة َمن كتب يف ذل ‪ ،‬مثل‪ :‬ابن القيم‪-‬رمحه هللا‪ ،-‬وقرأان جزءًا‬
‫مثال‪-‬عن موضع عيين اإلنسان‪ ،‬وعن موضع الفم‪ ،‬وعن‬ ‫من كالمه‪ .‬لكن الشيخ‪-‬رمحه هللا‪-‬تكلم عن تفاصيل أخرى‪ .‬تكلم‪ً -‬‬
‫موضع اللسان‪ ،‬وعن موضع األذن‪ ،‬وعن موضع األصابع اخلمس‪ .‬فتقرئي كالمه هذا‪ ،‬وتتأملي فيه‪ ،‬وتري حكمة هللا‪ ،‬وأن‬
‫ملوقاته مشتملة على احلكمة‪ ،‬وأنه ما من شيء إسا وقد ُوضع يف موضعه‪.‬‬
‫أتينا بعد ذل حلكمة هللا يف شرعه‪ .‬الشرع هو‪:‬‬
‫إرسال الرسل‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وإنزال الكتب‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وانقشنا بكلمات متصرة‪ :‬حكمته يف إرسال الرسول‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ ،-‬أما احلكمة يف القرآن فهذا ابب واسع‪.‬‬
‫سنبحث عن اإلعجاز يف القرآن من عدة جهات‪:‬‬
‫من جهة ألفاظه‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ومن جهة أخباره‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ومن جهة تشاهبه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫)‪[ )1‬سورة الروم‪]22-21 :‬‬


‫‪133‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ت َرب َ ص مدقًا َو َع مدًسا َّسا ُمبَد َل ل َكل َماته‬ ‫القرآن متشابه‪ .‬أي‪ :‬ليس بشاذ‪ ،‬وسا دجد فيه أخبار كاذبة‪ .‬قال تعاىل‪َ { :‬وَمتَّ م‬
‫ت َكل َم ُ‬
‫يم}(‪ ،)1‬فهو من جهة األحكام عدل‪ ،‬ومن جهة األخبار صدق‪ ،‬ومن جهة األلفاظ متشابه يف احلُسن‬ ‫يع الم َعل ُ‬
‫السم ُ‬
‫َوُه َو َّ‬
‫والكمال‪ ،‬وكذل جند يف جهة اختيار األلفاظ ودساساهتا أعلى أنواع البالغة اليت سا يستطيعها اخللق‪.‬‬
‫وقمنا ببعض التطبيقات على ذل ‪ ،‬كالتطبيق على سورة الكافرون‪ ،‬ورأينا فيها الدسالة البالغية العالية‪ ،‬مث انقشنا سر ًيعا بعض‬
‫األمثلة على العالقات بني بداايت السور وخواتيمها‪ ،‬مث مجعنا قوتنا على أن نتدارس سورة يظهر فيها صدق أخبار القرآن‪،‬‬
‫وعدل أحكامه‪ ،‬وأن ألفاظه غاية يف التشابه واإلحكام واإلتقان‪ ،‬فاخرتان سورة (ص)‪.‬‬
‫كان إبمكاننا أن منر سر ًيعا على النماذج فقط‪ ،‬لكن هناك مصلحة أخرى جعلتنا نقف أمام سورة‪ ،‬وننُاقشها‪ ،‬وهي أننا‬
‫ومن ُوفق لدخول رمضان ومعه إميان فقد حقق شرط حصوله على املغفرة‪ ،‬فعن أب‬
‫ُمقبلون على رمضان الذي هو شهر القرآن‪َ ،‬‬
‫َّم م من ذَنمبه"(‪.)2‬‬
‫احت َس ًااب غُفَر لَهُ َما تَـ َقد َ‬
‫اان َو م‬
‫ضا َن إميَ ً‬
‫ص َام َرَم َ‬
‫هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪َ " :‬م من َ‬
‫وأهم العلم‪ :‬تدبر القرآن‪ .‬ولذل نسمع عجبًا من كالم السلف يف الدسالة على‬ ‫ِ‬
‫و(العلم) من أهم أسباب زَّيدة اإلميان‪ّ ،‬‬
‫يصب اإلميان يف القلب صبًّا هو القرآن‪ ،‬وقد ورد عن بعض الصحابة ما يدل على ذل ‪ ،‬مثل قول أحدهم‪ :‬لو أعلم‬ ‫أن الذي ّ‬
‫دينارا‪ ،‬وحيمل على خيله‪ ،‬فيجاهد يف سبيل هللا‪ ،‬وأعلم أنه أصبح ُمتقب ًال منه‪ ،‬وأابت أقرأ القرآن‪ ،‬سا‬
‫دينارا ً‬
‫رجال ينفق يف ليلة ً‬
‫ً‬
‫متقبال‬
‫اضا‪ ،‬فيقول‪ :‬لو أنه يقرأ القرآن‪ ،‬وشخص جياهد وينفق‪ ،‬وكالمها أصبحا ً‬ ‫أحب أن يكون يل ما فعل‪ .‬مبعىن‪ :‬هو يفرتض افرت ً‬
‫أحب‬
‫منهما‪-‬ألن شرط اسانتفاع ابلعمل‪ :‬أن يقبله هللا‪ ،-‬فلو هذه كفتان‪ :‬كفة إنفاق وجهاد‪ ،‬وكفة تالوة وفهم للقرآن‪ ،‬يقول‪ :‬سا ُ‬
‫أن يكون يل عمله؛ ألن قراءة القرآن من أعظم أسباب زايدة اإلميان‪.‬‬

‫وليس املراد أن جمرد قراءة اآلايت هي من أعظم أسباب زايدة اإلميان‪ ،‬وإمنا التالوة اليت صاحبها يفهم ما يقرأ‪ ،‬وهذا هو‬
‫التدبر‪ .‬الذي يتدبر تأيت ابلكالم من أوله إىل آخره‪ ،‬ومن آخره إىل أوله‪ ،‬ويعيد ذل مر ًارا إىل أن يتبني له شيء جديد‪ ،‬إىل أن‬
‫طبعا حيتاج إىل مراحل من التمرين‪.‬‬
‫يقرأ السورة كأهنا مجلة واحدة‪ .‬وهذا ً‬

‫أول وأهم مرحلة لتمرين النفس على تدبر القرآن‪ :‬أن تقرأ برتكيز‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة األنعام‪]115 :‬‬


‫ب‬
‫صرَها‪َ /‬اب ُ‬
‫ين َوقَ م‬
‫ص َالة ال ُمم َسافر َ‬
‫اب َ‬
‫احت َس ًااب م َن اإلميَان‪ .)38( /‬ورواه مسلم يف صحيحه‪ /‬كتَ ُ‬
‫ضا َن م‬
‫ص موُم َرَم َ‬
‫)‪ (2‬رواه البخاري يف صحيحه‪ /‬كتاب اإلميان‪ /‬ابب‪َ :‬‬
‫يح‪)760( /‬‬
‫ضا َن‪َ ،‬وُه َو التـََّراو ُ‬
‫التـ مَّرغيب يف قيَام َرَم َ‬
‫‪134‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ومن اخلطأ أن تفتح كتاب التفسري قبل أن حتدد ما أشكل علي فهمه! ألن من سا يفهم ما يقرأ فإنه لن يستفيد من كالم‬
‫املفسرين‪.‬‬

‫ما الذي جيعلنا سا نسأل؟ أننا نقتنع ونرضى بفهمنا العام!‬

‫ني َمنَاص}(‪ُ .)1‬كنا‬


‫تحَ‬‫ويف أول سورة (ص) شاهد على ذل ‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬ك مم أ مَهلَكمنَا من قَـمبلهم من قَـ مرن فَـنَ َادوا َّوَسا َ‬
‫ت} كلمة واحدة (الواو‪+‬سات)‪ .‬ومل يتبني لنا من أول قراءة معىن اجلملة‪ ،‬وعندما سا تتمكن من فهم آية‪،‬‬ ‫حنسب أن { َوَسا َ‬
‫سيحجزك عن التسلسل يف الفهم‪ ،‬فتأيت اآلية اليت بعدها‪ ،‬وتفعل نفس‬ ‫وتتجاوزها دون أن تتساءل عن معناها‪ ،‬فإن ذل‬
‫الشيء‪ ،‬مث سا تفهم شيئًا من السورة بعد ذل ! فهذا من األخطاء اليت حتصل أثناء القراءة‪.‬‬

‫إذًا ماذا سنفعل؟ حنتاج إىل تغيري نفس طريقة التالوة؛ لكي حيصل لنا أمرين‪:‬‬

‫ت َرب َ ص مدقًا‬ ‫وجل‪-‬يف هذا القرآن العظيم‪ ،‬ويظهر لنا كيف {َمتَّ م‬
‫ت َكل َم ُ‬ ‫عز َّ‬
‫األمر األول‪ :‬لكي تظهر لنا حكمة هللا‪َّ -‬‬
‫َو َع مدًسا}‪.‬‬

‫وتفكريك يف القرآن‪ :‬قائم صائم‪ .‬وأنت لو‬ ‫جبلوس‬ ‫األمر الثاين‪ :‬أن هذا التدبر والتقليب سبب لزايدة اإلميان‪ ،‬فكأن‬
‫تستغل قوتك يف التفكري يف القرآن وتقليبه سيستقيم القلب‪ ،‬واخلواطر‪ ،‬واإلرادات‪.‬‬
‫ّ‬

‫نعود اآلن لسورة (ص)‪:‬‬

‫بدأت ب‪{-‬ص}‪ .‬وحروف التهجي عندما َتيت يف بداايت السور فإنه يُقصد هبا التحدي‪.‬‬

‫{ َوالم ُق مرآن} مث يقسم هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬هنا ابلقرآن‪ ،‬ألن الواو للقسم‪.‬‬

‫ني}(‪.)3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ما وصف القرآن؟ {ذي الذ مكر} ‪ .‬وقلنا إن هذا يقابل قوله تعاىل يف هناية السورة‪{ :‬إ من ُه َو إَّسا ذ مكٌر ل مل َعالَم َ‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]3 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]1 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة ص‪]87 :‬‬
‫‪135‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫( )‬
‫ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق} ‪ ، 1‬لكن هللا يقول هلم يف ختام السورة‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ما الذي منع الكافرين من التذكر ابلقرآن؟ أن {الذ َ‬
‫ستعلمون نبأ هذا القرآن بعد حني { َولَتَـ معلَ ُم َّن نـَبَأَهُ بـَ مع َد حني}(‪.)2‬‬

‫ني َمنَاص}(‪.)3‬‬
‫تح َ‬
‫وجل‪-‬أنه أهل أقو ًاما قبلهم‪َ { :‬ك مم أ مَهلَكمنَا من قَـمبلهم من قَـ مرن فَـنَ َادوا َّوَسا َ‬
‫عز َّ‬
‫مث خيربهم هللا‪َّ -‬‬

‫اب}(‪... ،)4‬إىل آخر أقواهلم‪.‬‬


‫ال الم َكاف ُرو َن ََٰه َذا َساحٌر َك َّذ ٌ‬
‫من أي شيء يعجبون؟ { َو َعجبُوا أَن َجاءَ ُهم منذٌر ممنـ ُه مم َوقَ َ‬

‫أمورا كثرية‪ ،‬منها‪:‬‬


‫متاما على بدايتها؛ ففي قصة آدم‪-‬عليه السالم‪-‬سنالحظ ً‬
‫هناية السورة ستنطبق ً‬

‫أن قصة آدم ذُكرت يف مواطن متعددة من كتاب هللا‪ ،‬وقد ذُكر اسم آدم صرحيًا يف مخسة مواطن‪ ،‬ومل يُذكر صرحيًا يف‬
‫موطنني‪ :‬يف سورة (ص)‪ ،‬ويف سورة احلجر‪.‬‬

‫ملاذا مل يُذكر اسم آدم‪-‬عليه السالم‪-‬يف سورة (ص)؟ ألن املقصود إبيراد القصة هو إبليس‪.‬‬

‫والكافرون سيشاهبون َم من يف عزهتم وشقاقهم؟ سيشاهبون إبليس‪.‬‬

‫متاما‪:‬‬
‫سنالحظ عدة مالحظات يف القصة تنطبق على حال الكافرين ً‬

‫يل م من ع ملم ابلم َم َإل ماأل مَعلَ َٰى إ مذ َخيمتَص ُمو َن}(‪ .)5‬ألهل العلم قوسان يف اآلية‪ :‬األول‪ :‬أن‬
‫سنبدأ من أول آية يف السياق‪َ { :‬ما َكا َن َ‬
‫املراد هو ختاصم أهل النار‪ .‬والثاين‪ :‬أن املراد بذل قصة آدم‪.‬‬

‫و"املأل األعلى" هم املالئكة‪ ،‬وهذا جيعلنا منيل إىل أن القصة تبدأ من هذه اآلية‪.‬‬

‫سنالحظ أن كلمة "خيتصمون" و"اخلصم" تكررت يف السورة‪ ،‬وسا يوجد موطن من مواطن قصة آدم وردت فيه كلمة‬
‫طويال حول اساختصام‪:‬‬
‫نقاشا ً‬
‫"خيتصمون" إسا هنا يف سورة (ص)؛ والسبب أننا سنجد يف سورة (ص) ً‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]2 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]88 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة ص‪]3 :‬‬
‫)‪[ )4‬سورة ص‪]4 :‬‬
‫)‪[ (5‬سورة ص‪]69 :‬‬
‫‪136‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق}؛ ألن "الشقاق" معناه‪ :‬العناد‬ ‫َّ‬
‫املوطن األول‪ :‬ورد اساختصام يف أول السورة‪ ،‬يف قوله تعاىل‪{ :‬بَل الذ َ‬
‫واخلصومة‪.‬‬

‫املوطن الثاين‪ :‬يف قصة داود عليه السالم‪ ،‬ملا ذُكر "اخلصم" و"خصمان"‪.‬‬

‫املوطن الثالث‪ :‬يف قصة أيوب عليه السالم‪ :‬يف اخلصومة اليت حصلت بينه وبني زوجته‪ .‬سا توجد كلمة "خصومة" هنا‪ ،‬ولكن‬
‫ث}(‪ .)1‬حلف أيوب يف هذه‬ ‫اضرب به َوَسا َمحتنَ م‬
‫وجل‪َ { :-‬و ُخ مذ بيَد َك ض مغثًا فَ م‬
‫عز َّ‬‫يوجد ما يدل على معناها‪ ،‬ولذل أمره هللا‪َّ -‬‬
‫جل‪-‬هبا إهناءً للخصومة‪.‬‬ ‫عز و َّ‬ ‫اخلصومة على زوجته‪ ،‬فخرج من هذا احللف هبذه الطريقة اليت أخربه هللا‪َّ -‬‬

‫املوطن الرابع‪ :‬ختاصم أهل النار‪.‬‬

‫إذًا‪ :‬كان الكالم يف السورة كلها حول اخلصومة‪.‬‬

‫ين}(‪ .)2‬ماذا فعل إبليس؟ استكرب‪.‬‬


‫استَ مكبَـَر َوَكا َن م َن الم َكافر َ‬
‫يس م‬ ‫َّ‬
‫َمجَعُو َن * إسا إبمل َ‬
‫قال تعاىل‪{ :‬فَ َس َج َد الم َم َالئ َكةُ ُكل ُه مم أ م‬
‫ين} ألن هذا الوصف‪"-‬أَّب"‪-‬يناسب‬ ‫الساجد َ‬ ‫ََّب أَن يَ ُكو َن َم َع َّ‬‫يس أ َ َٰ‬
‫وجل‪-‬أخرب أن {إبمل َ‬ ‫عز َّ‬ ‫وسنجد يف سورة احلجر أن هللا‪َّ -‬‬
‫سورة احلجر‪ ،‬فقد ذُكر فيها الكالم عن الذين مل ينقادوا‪ ،‬أما الكالم يف سورة (ص) فعن القوم الذين استكربوا‪ ،‬وهلذا وصف‬
‫وجل‪-‬إبليس ابساستكبار‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬

‫ما الفرق بني اإلابء واساستكبار؟‬

‫اإلابء‪ :‬عدم اسانقياد‪ ،‬والرفض‪.‬‬

‫االستكبار‪ :‬هو أن يرى املتكرب نفسه أحسن من غريه‪.‬‬

‫ال أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين من انَّر َو َخلَ مقتَهُ من طني}(‪.)3‬‬
‫ويف اآلايت شاهد على ذل من قول إبليس‪{ :‬قَ َ‬

‫إ ًذا‪ :‬الذي منع إبليس من السجود هو اساستكبار‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]44 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]74-73 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة ص‪]76 :‬‬
‫‪137‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫خريا من آدم‪ ،‬وهذا هو معىن اساستكبار‪.‬‬


‫كيف خرجنا هبذه النتيجة؟ ألن قوله هذا معناه أنه يرى نفسه ً‬
‫ويف آايت ختاصم أهل النار‪ :‬ماذا قال أهل النار بعدما تشامتوا؟ أين دجدين اساستكبار صراحةً يف كالم أهل النار؟ يظهر‬
‫اساستكبار يف آية‪َ { :‬وقَالُوا َما لَنَا َسا نـََر َٰى ر َج ًاسا ُكنَّا نـَ ُعد ُهم م َن ماألَ مشَرار}(‪ .)1‬ومعىن اآلية‪ :‬أهنم ملا دخلوا النار حبثوا عن أشخاص‬
‫أخيارا‪ ،‬فهم قد عاشوا يف الدنيا مستكربين على أهل اإلميان‪.‬‬
‫كانوا يرون أنفسهم أحسن منهم‪ ،‬يروهنم أشر ًارا‪ ،‬ويرون أنفسهم ً‬
‫دائما أن غري املستقيمني خري حال من املستقيمني‪ ،‬وأن املستقيمني أشرار لكوهنم‬
‫ً‬ ‫ومن املؤكد أن تشعر هبذا‪ ،‬فهم يشعرون‬
‫منعوا أنفسهم من الدنيا‪ ،‬وصدقوا أن هناك قيامة‪ ،‬وأن هناك جزاء! وأهنم أخيار ألهنم متتعوا ابلدنيا! وذل ألن يف قلوهبم استكبار‬
‫وعزة وشقاق‪.‬‬

‫يشاهبون إبليس يف استكباره‪ .‬فالسورة ذكرت‬ ‫أخيارا‪ ،‬ويرون غريهم من األشرار فإهنم بذل‬
‫وكون الكافرين يرون أنفسهم ً‬
‫أشخاصا منعتهم عزهتم وشقاقهم واستكبارهم وعنادهم وخصومتهم أن يؤمنوا‪ ،‬وإبليس استكرب‪ ،‬فصار خياصم ويدافع عن حق‬
‫ً‬
‫خريا من آدم‪.‬‬
‫استكبارا؛ فهو يرى نفسه ً‬
‫ً‬ ‫ليس من حقه‪ ،‬وإمنا فعل ذل‬

‫ني}(‪)2‬؟ ويف هذا اإلشارة‬


‫نت م َن الم َعال َ‬
‫ت أ مَم ُك َ‬
‫َستَ مكبَـ مر َ‬
‫يأم‬‫ت بيَ َد َّ‬
‫يس َما َمنَـ َع َ أَن تَ مس ُج َد ل َما َخلَ مق ُ‬
‫وجل‪َ { :‬اي إبمل ُ‬
‫عز َّ‬
‫يسأله هللا َّ‬
‫إىل تكرمي وشرف آدم عليه السالم؛ فاهلل يذكر إلبليس أن من ميزات آدم‪-‬عليه السالم‪-‬أنه خلقه بيديه‪ ،‬فاملفرتض أن تظهر‬

‫إلبليس هذه احلقيقة‪ ،‬فيسجد كما أمره هللا‪ ،‬لكنه خدع نفسه أبنه أحسن من آدم‪ ،‬وقال‪{ :‬أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين من انَّر َو َخلَ مقتَهُ‬
‫من طني}!‬

‫يشا‪ ،‬وأكثر أذية‪ ،‬يف مقابل‬


‫هل النار خري من الطني؟! هذه اخلريية اليت يدعيها إبليس‪ :‬خريية ابطلة فيها خداع! فالنار أشد طَ ً‬
‫نفعا‪ ،‬وفيها تَنبُت األشجار‪ ...‬اخل‪.‬‬
‫أن الطني أكثر هدوءً‪ ،‬وأكثر ً‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]62 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة ص‪]75 :‬‬
‫‪138‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫(مقابلة بني الكافرين وإبليس)‬

‫الصفة املشرتكة‪:‬‬

‫‪ ‬الكافرون يف عزة وشقاق‬

‫‪ ‬إبليس يف استكبار‬

‫الدعوى الباطلة‬

‫الكافرون يدعون‪:‬‬

‫أهنم خري من النيب صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬


‫(‪)1‬‬
‫{أَأُنزَل َعلَميه الذ مك ُر من بـَميننَا}‬

‫إبليس يدعي‪:‬‬

‫أنه خري من آدم‪-‬عليه السالم‪.-‬‬

‫{أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين من انَّر َو َخلَ مقتَهُ من طني}‬

‫مشاعرهم‬

‫يشعرون أن النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬ليس ذاك العظيم الذي ينتظرونه‪.‬‬


‫(‪)2‬‬
‫{ َوقَالُوا لَ موَسا نـُزَل ََٰه َذا الم ُق مرآ ُن َعلَ َٰى َر ُجل م َن الم َق مريـَتَـ مني َعظيم}‬

‫وإبليس له نفس املشاعر دجاه آدم عليه السالم‪ :‬كيف يُعظَّم آدم‪ُ ،‬‬
‫ويؤَمر ابلسجود له؟!‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]8 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة الزخرف‪]31 :‬‬
‫‪139‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫إذا كان حال اإلنسان االستكبار عن احلق‪ ،‬فالبد أنه سيستشهد على استكباره بدعوى ابطلة‪ ،‬يشعر َمن أمامه أهنا‬
‫صحيحة‪ .‬فدعوى إبليس‪{-‬أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين من انَّر َو َخلَ مقتَهُ من طني}‪-‬ما ادعاها إسا جملرد أنه قرر أن النار خري من الطني!‬
‫لكن أنت حينما تسمع مثل هذه الدعاوى علي أن تبحث عن اخلريية فيها؛ ألنه قد يقع يف قلب تصديقها‪ .‬والكافرون كذل‬
‫انطلقوا وآتمروا أن يصربوا على آهلتهم‪ ،‬وقالوا‪{ :‬إ َّن ََٰه َذا لَ َش ميءٌ يـَُر ُاد}(‪ ،)1‬وهذا جعل الناس يغرتون بدعواهم‪ .‬وهكذا الباطل‪،‬‬
‫يرفع صوته بدعوى‪ ،‬فيصدقها َمن يصدقها‪ ،‬ولو مل حيقق نفس الدعوى‪ ،‬ولو مل يعلم صحتها من بطالهنا‪.‬‬

‫وجل‪-‬ملا أخربان يف آخر سورة (ص) عن قصة إبليس بني لنا‪ :‬أن هناك َمن سار على هذا املنهج‪:‬‬ ‫عز َّ‬‫واملقصود‪ :‬أن هللا‪َّ -‬‬
‫استكرب عن احلق‪ ،‬وكان يف شقاق وخصومة للحق‪ ،‬وادعى ادعاءات ابطلة‪ ،‬واقتنع هبا َمن اقتنع‪ .‬وأن هذا لن خيرجه عن اجلُرم؛‬
‫ففي هناية األمر سنجد أن الشيطان هو الذي لقاه هذه الدعوة‪ .‬فكل َمن تأيت له احلق‪ ،‬فال يقبله‪ ،‬بل وخياصمه‪ ،‬ويرد احلق‬
‫هلواه‪ ،‬لكن يرده بدعوى يصدقها الناس‪ ،‬ستفهمني أن الذي لقنه هذه الدعوى الباطلة هو إبليس‪.‬‬

‫إذًا‪ :‬يظهر من أول السورة وآخرها‪ :‬منهج الناس الذي يسريون فيه إذا وقعوا يف اهلوى‪.‬‬

‫ومن مسعه انكشفت عنه الغُمة‪ ،‬لكن ملاذا مل ينتفع الكافرون به؟! ومثله ابلضبط‪ :‬حال إبليس‪ :‬ملاذا مل‬
‫فهذا القرآن فيه الذكر‪َ ،‬‬
‫ينتفع مبجاورته للمالئكة؟! السبب هو‪ :‬اساستكبار‪ ،‬والعزة‪ ،‬والشقاق‪ ،‬واخلصومة‪ .‬وهذه هي صفات أهل الباطل‪.‬‬

‫و"العزة" هنا مبعىن‪ :‬اساعتزاز عن احلق‪ ،‬واساستكبار عليه‪.‬‬

‫يشوهوا احلق يف قلوب اخللق؛ ليستووا معهم يف‬


‫و"اخلصومة" معناها‪ :‬أن أهل الباطل ال ير ّدون احلق فقط‪ ،‬بل البد أن ّ‬
‫عدم قبول احلق‪ ،‬ويشرتكوا يف الباطل‪.‬‬

‫فمن الطبائع النفسية‪ :‬أهنا تتحاسد يف اخلري‪ ،‬وحتب أن تتشارك يف الشر‪.‬‬

‫اإلنسان سا يريد أن يشاركه غريه يف اخلري‪ ،‬ولكنه حيُب أن يشاركه غريه يف الباطل والفسق والشر؛ ألنه سا يريد أن يكون هو‬
‫وحده من أهل الباطل‪ .‬وهذه طبيعة سابد من معاجلتها؛ ألن إبليس يف املقابل يزكي وحيسن لإلنسان كل الطبائع الباطلة يف‬
‫نفسه‪ ،‬وهو الذي جيُري على لسان الناس دعواهم‪ .‬فهذا الصوت العايل‪ ،‬والقوة يف الباطل‪ ،‬واجلري وراءه‪ ،‬والنداء يف كل مكان‪،‬‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]6 :‬‬


‫‪140‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجيري على ألسنة الشعراء الباطل‪،‬‬


‫يف اإلذاعات وغريها‪ ،‬إمنا تأيت من الشيطان‪ ،‬هو َمن يعطيهم هذه الكلمات‪ ،‬ويركبها هلم‪ُ ،‬‬
‫فتسمعني الشاعر يقول يف قصيدته اإلحلادية‪:‬‬

‫جئت سا أعلم من أين‪ ،‬ولكين أتيت *** ولقد أبصرت أمامي طري ًقا فمشيت‬

‫تصور أن هذه القصيدة أصبحت أغنية يرددها الشباب! تقرأ قصة آدم يف أول املصحف‪ ،‬وسا تعرف من أين أتيت! هذا سا‬
‫صوات عاليًا‪.‬‬
‫يكون إسا من فعل الشيطان‪ ،‬هو الذي يُلقي على ألسنة اخللق الش ‪ ،‬وجيعل له ً‬

‫ملاذا للباطل صوت عال يدخل يف القلوب هبذه الصورة اإلبليسية؟! هذا كله بسبب اساستكبار‪.‬‬

‫أيضا‪ ،‬وهذا الذكر أُنزل للنيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬‬


‫النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬من قريش‪ ،‬ولو ارتفع شأنه سارتفع شأهنم ً‬
‫وهلم‪ ،‬لكن اساستكبار هو الذي جيعل اإلنسان أعمى‪ ،‬سا يرى املصاحل‪.‬‬

‫اساستكبار جيعل اإلنسان يركب كل صعب من أجل أن يظهر فقط‪ ،‬ولذل جند املستكربين يلوون عنق النصوص‪ ،‬وخيرجون‬
‫بكالم من حتت األرض‪ ،‬ليظهروا ويرتفع شأهنم‪.‬‬

‫وجل‪-‬ظهرت حقيقته‪ .‬وهذا معناه‪ :‬أن اإلنسان‬


‫عز َّ‬
‫وأنتم تعلمون أن إبليس كان مع املالئكة‪ ،‬مث ملا أتى هذا األمر من هللا‪َّ -‬‬
‫قد يكون له ظاهر طيب‪ ،‬موافق للحق‪ُ ،‬مهيَّأ له‪ ،‬فيأيت اساختبار من هللا‪ ،‬فريتفع عليه غريه‪ ،‬أو يصل غريه لشأن هو مل يصل إليه‪،‬‬
‫فيقع يف قلبه اساستكبار على احلق‪.‬‬

‫فقريش رفضت بقوة النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬ألهنم ليسوا هم الذين أُنزل عليهم الوحي‪ ،‬وإبليس رفض السجود آلدم ألنه‬
‫املقرب الذي ُسجد له‪ .‬فقد يدعي اإلنسان حب احلق‪ ،‬وامليل إليه‪ ،‬والدفاع عنه‪ ،‬لكن ما أن تأيت احمل ‪ ،‬ويظهر عليه‬
‫مل يكن هو َّ‬
‫غريه‪ ،‬إسا وتظهر حقيقة أنه ليس متَّب ًعا للحق‪ ،‬وإمنا أحب احلق ألنه أظهره‪ ،‬فلما ظهر عليه غريه رفض احلق‪ ،‬واستكرب‪ .‬فهذا‬
‫اخلُبث النفسي شيء خطري جدًّا‪ ،‬يدل على أن اساستكبار قد يكون مبوءً يف النفس‪ ،‬وسا يظهر إسا ابساختبار‪.‬‬

‫مثال‪ :‬أان الوحيدة املستقيمة يف العائلة‪ ،‬وأان اليت آمرهم ابملعروف ً‬


‫دائما‪ ،‬مث تزوج أخي ابمرأة مستقيمة‪ ،‬وبدأت َتمر ابملعروف‪،‬‬ ‫ً‬
‫صحيحا‪ .‬هذه املسألة اليت ذكرهتا فيها خالف‪ .‬وهكذا! هذا امسه‬
‫ً‬ ‫وعائليت تستجيب هلا‪ ،‬فبدأت أقول‪ :‬سا! ليس كل ما قالته‬
‫استكبار عن احلق‪ ،‬سببه احلسد‪ ،‬وهو الذي كان يف قريش‪ ،‬وهو الذي كان يف إبليس‪ ،‬وهو منوذج يتكرر يف احلياة‪ ،‬سا ينتهي‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫مير الناس ابختبارات تُظهر هلم هل هم حيبون احلق؟ أم حيبون أنفسهم؟ كل واحد فينا تأتيه هذا اساختبار‪ :‬هل أنت تتكلم عن‬
‫ملصا تريد وجه هللا‪ ،‬سينزل‬
‫احلق وتدافع عنه ألنه احلق؟ أو لكي تُظهر نفس ؟ سيأتي بالء يكشف هذه احلقيقة‪ ،‬وإن كنت ً‬
‫علي البالء‪ ،‬ويوفق هللا‪.‬‬

‫هؤساء الكفار الذين هم يف عزة وشقاق‪ ،‬واستكربوا عن احلق‪ ،‬وتواصوا‪ ،‬وادعوا اسادعاءات‪ ،‬وصورهتم هي الصورة اإلبليسية‪،‬‬
‫كانوا يُظهرون حب احلق‪ ،‬ويُظهرون الشرف ؛ فقد كانوا هم املأل الذين إذا نظر إليهم الشخص امتألت عينه هبيبتهم‪ ،‬وطموحهم‪،‬‬
‫استكبارا! وهكذا فعل إبليس ملا مل يكن هو املسجود له عصى‪ ،‬ورد أمر هللا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ومكانتهم‪ ،‬لكنهم ملا جاءهم احلق رفضوه‬

‫خاضعا قان ًعا ألمر هللا‪ :‬اجلنة‪ ،‬فال جيعل‬


‫ً‬ ‫كسرا‬
‫ذليال من ً‬
‫ولذل يستحق هؤساء املستكربون على احلق‪ :‬النار‪ ،‬ويستحق َمن كان ً‬
‫وجل‪-‬للمتقني ما للفجار‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬

‫املطلوب منكم اآلن‪ :‬ضبط الكلمات املتكررة يف السورة‪( .‬مثل‪ :‬واذكر‪ -‬ذكر‪)...‬‬

‫خريا‪ ،‬والسالم عليكم ورمحة هللا وبركاته‪.‬‬


‫جزاكم هللا ً‬

‫‪142‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء احلادي عشر‬

‫‪143‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على نبينا حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫سا زلنا مبنة هللا ورمحته نناقش هذا اساسم العظيم‪ :‬اسم (احلكيم)‪.‬‬

‫كثريا‬
‫وقد مر معنا أن هذا اساسم من األمساء اليت حتتوي على معان عظيمة‪ ،‬وأن اإلنسان حيتاج أن يتأمل فيه‪ ،‬ويتدبره‪ ،‬ويقلبه ً‬
‫يف حياته‪ ،‬فاإلميان أبن هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪ -‬حكيم يف شرعه وأمره وتدبريه ويف كل شأنه من األسباب اليت تورثك اليقني‬
‫هبذا الدين‪.‬‬

‫فمن مل يشغل فؤاده آباثر حكمة هللا فإن فؤاده سيُشغَل بَرد‬
‫علي أن تشغل فؤادك ابلتفكر يف آاثر حكمته سبحانه وتعاىل‪َ ،‬‬
‫أمر هللا!‬

‫نفس لن تطيع إن مل متألها ابحلق‪ ،‬ولذا جيب علي أن تستعمل القدرة العقلية اليت وهب هللا إايها ابلتأمل يف آاثر أمسائه‬
‫وصفاته‪ ،‬ومن أعظم األمساء اليت حنتاج أن نتأمل فيها‪ :‬اسم احلكيم‪ ،‬وقد مر معنا أنه تكرر يف كتاب هللا مائة مرة بلفظه‪ ،‬غري أنه‬
‫كثريا من جهة املعىن‪ ،‬فكل مرة دجد ذكر خلق السماوات واألرض ابحلق‪ ،‬أو دجد نفي أن ُختلق السماوات واألرض‬ ‫تكرر ً‬
‫آايته‪{ ،}...‬أَفَ َال تَـتَـ َف َّك ُرون‪{ ،}...‬أَفَ َال تَـ معقلُون‪}...‬‬
‫ابلباطل‪ ،‬فاعلم أن املقصود بذل هو احلكمة‪ ،‬وكل مرة يقال ل ‪َ { :‬وم من َ‬
‫فإنه يُراد من أن تتأمل احلكمة يف ذل ‪.‬‬

‫من قواعد الدين املهمة اليت تسبّب لإلنسان اليقني‪ :‬هو أن ي ِ‬


‫عمل عقله يف ظهور آاثر اسم (احلكيم) يف كل شيء‪ ،‬ومن‬‫ُ‬
‫َمث سرتى القلوب املطمئنة َلذا االسم وهبذا االسم آاثر حكمة هللا يف كل شيء‪ ،‬وسيكون الناتج املهم على اإلطالق هو‪:‬‬

‫أن يصل العبد إىل الطمأنينة للدين‪ ،‬والرضا عن هللا‪ .‬فإن لن َ‬


‫ترض عن هللا كما ينبغي‪ ،‬وتطمئن للدين‪ ،‬وتصبح متيقنًا إسا إذا‬
‫فكر قلب ‪ ،‬وتدبر‪ ،‬وكرر النظر يف مسألة ظهور احلكمة‪.‬‬

‫وسا يُقصد بذل أن تعرف احلكمة من األشياء‪ ،‬وإمنا املقصود هو أن تعلم أن هللا حكيم يف كل فعله‪ .‬وقد بقي لنا جزءًا يف‬
‫مناقشة سورة (ص) يقرر هذا املعىن بوضوح‪.‬‬

‫ما هو التسلسل املنطقي الذي نقلنا إىل سورة (ص)؟‬

‫‪144‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬تتجلى يف‪:‬‬
‫عز َّ‬
‫مر معنا أن حكمة هللا‪َّ -‬‬

‫خلقه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ويف شرعه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ويف أمره‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ويف جزائه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وقد تناقشنا يف حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف خلقه‪ ،‬وبقي لنا حكمته يف شرعه‪:‬‬

‫شرع هللا كله حكمة‪:‬‬

‫‪ ‬من جهة إرسال الرسول‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪.-‬‬

‫‪ ‬من جهة إنزال الكتاب‪.‬‬

‫تضمنها هذا الكتاب (حماسن الشريعة)‪.‬‬


‫‪ ‬من جهة األوامر اليت َّ‬

‫سا زلنا نتناقش يف النقطة الثانية وهي‪ :‬عظمة القرآن‪ .‬وكيف يشهد القرآن على أنه كالم من لَ ُدن حكيم عليم‪ ،‬وليس من‬
‫كالم اخللق‪ ،‬وتبني لنا هذا األمر من جهة ألفاظ القرآن ومعانيه‪ ،‬وكيف أن له احلكمة الكاملة‪ ،‬والبالغة التامة‪ ،‬وكيف أن دجد‬
‫السورة الواحدة كأهنا مجلة واحدة‪ ،‬ختربك عن معىن واضح‪ ،‬وتتنقل مع طول آايهتا حول حمور واحد‪ .‬وأنت تستطيع فهم ذل‬
‫بشيء من التدبر‪.‬‬

‫مثاسا على ذل ‪ :‬سورة (ص)‪ .‬وبدأ يظهر لنا شيء من املميزات‪:‬‬


‫وضربنا ً‬

‫ظهر لنا أن هللا أقسم ابلقرآن‪ ،‬وأظمهر فضله‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وأن احلروف املقطعة هلا أثر يف نفس السورة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪145‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وأن األلفاظ تُنتَقى انتقاءً‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وهذا سيظهر ل أكثر وأنت تنظر لآلايت وتقسيمها‪ ،‬وتالحظ بداية السورة وخامتتها‪ ،‬وتالحظ املواضيع اليت يف داخلها‪.‬‬

‫مر معنا تقسيم السورة من أوهلا إىل آخرها‪ ،‬وبقي لنا جزء يف وسط السورة علينا فهمه؛ حىت نعرف أبي شيء سنلحقه‪.‬‬

‫لكن قبل أن أذهب هلذا اجلزء‪ :‬ما العالقة بني أول السورة وآخرها؟‬

‫ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق}(‪ .)1‬تبني لنا أن الكافرين {يف عَّزة َوش َقاق}‪ ،‬وأن‬ ‫َّ‬
‫أول السورة‪{ :‬ص َوالم ُق مرآن ذي الذ مكر * بَل الذ َ‬
‫هذا جعلهم ينكرون ثالثة أمور‪( :‬كلها ظهرت يف الصفحة األوىل)‬

‫‪ .1‬أنكروا ألوهية هللا‪.‬‬

‫‪ .2‬أنكروا رسالة الرسول‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.-‬‬

‫‪ .3‬أنكروا البعث‪.‬‬

‫احل َساب}(‪ .)2‬فهم يستهرتون ابلنيب‪-‬صلَّى هللا عليه‬


‫إنكارهم للبعث يظهر يف قوهلم‪َ { :‬وقَالُوا َربـَّنَا َعج مل لَنَا قطَّنَا قَـمب َل يـَ موم م‬
‫وسلَّم‪ ،-‬ويستهرتون ابخلرب عن البعث‪.‬‬

‫إ ًذا سنقرأ الصفحة األوىل متصلة‪ ،‬وسنقول‪:‬‬

‫اب}(‪ .)3‬ساحر يف أي شيء؟ أنه جعل { ماآلهلََة إ َهلًا َواح ًدا}(‪ .)4‬كذاب‬
‫قالوا عن النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪َ { :-‬ساحٌر َك َّذ ٌ‬
‫يف أي شيء؟ يف أنه أُنزل عليه الذكر من بينهم‪.‬‬

‫مث أتوا إىل ما يدعو إليه من أن احلساب سيقوم‪ ،‬وعاملوا النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬ابستهزاء‪ ،‬وقالوا أمامه وأمام املؤمنني‬
‫الذين يعظمون هللا‪ ،‬ويعلمون حقًّا صدق هذه الرسالة‪َ { :‬ربـَّنَا َعج مل لَنَا قطَّنَا قَـمب َل يـَ موم م‬
‫احل َساب}‪ .‬ما أتت لفظة السخرية‪ ،‬وإمنا‬
‫أتى لفظ يدل عليها؛ فنحن ملا فهمنا {قطَّنَا} عرفنا أن هذه الكلمة سا تقال إسا فيما يُكتب من الشيء احلسن‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]2-1 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]16 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة ص‪]4 :‬‬
‫)‪[ (4‬سورة ص‪]5 :‬‬
‫‪146‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وعندما نذهب ألوصاف أهل النار يف نفس السورة‪-‬وهذه من األشياء اليت سنالحظها‪ :-‬جند أهنم يسألون‪َ { :‬ما لَنَا َسا نـََرى‬
‫ر َج ًاسا ُكنَّا نَـعُد ُه مم م َن ماألَ مشَرار}(‪)1‬؟ ماذا حصل؟ {أ ََّختَ مذ َان ُه مم س مخرًّاي}؟ ومعناه‪ :‬أهنم كانوا على حق‪ ،‬وحنن سخران هبم؟ {أ مَم‬
‫‪2‬‬
‫احدا من هذين السببني جعل‬
‫ص ُار} ؟ أم أهنم حقًّا أهل شر‪ ،‬ولكن زاغت عنهم األبصار؟! فهم يرون أن و ً‬
‫ت َعمنـ ُه ُم ماألَبم َ‬
‫َزا َغ م‬
‫أيضا إىل أن وصف أهل النار هؤساء أهنم أصحاب سخرية‪.‬‬
‫هؤساء غري موجودين‪ .‬ويف هذا إشارة ً‬

‫تصوروا أهنم حىت بعد دخوهلم النار يبحثون عمن كانوا يستهزؤون هبم! وهذا معناه أن أهل النار من أهل الكفر صفتهم مع‬
‫هتز الناس‪ ،‬فمن مل‬
‫دائما‪ :‬االستهزاء‪ ،‬هذه صفة ال تنفك عنهم‪ ،‬واالستهزاء نوع من أنواع احلرب النفسية اليت ّ‬
‫أهل اإلميان ً‬
‫يكن إميانه اثبتًا ستهزه مثل هذه األمور‪.‬‬

‫ويف آخر السورة‪ :‬مسعنا ً‬


‫خربا عن الشيطان‪:‬‬

‫ما سبب وصول الشيطان ملا وصل إليه؟ اساستكبار‪.‬‬

‫(العالقة بني أول السورة وخامتتها)‬

‫خامتة السورة‬ ‫أول السورة‬

‫(سلَف الكفار)‬
‫الشيطان َ‬ ‫الكفار‬

‫استكرب على آدم‪.‬‬ ‫‪‬‬ ‫يف عزة وشقاق‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ورأى نفسه أحسن منه‪.‬‬ ‫‪‬‬ ‫فاسكتربوا عن احلق‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ال أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين م من َانر َو َخلَ مقتَهُ م من طني}(‪.)4‬‬
‫{قَ َ‬ ‫‪‬‬ ‫قالوا‪{ :‬أَأُنمزَل َعلَميه الذ مك ُر م من بـَميننَا}(‪.)3‬‬ ‫‪‬‬

‫إذًا‪ :‬فهمنا من أول السورة وآخرها أن داء االستكبار لو أصاب أح ًدا منعه من قبول احلق‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة ص‪]62 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]63 :‬‬
‫)‪[ (3‬سورة ص‪]8 :‬‬
‫)‪[ (4‬سورة ص‪]76 :‬‬
‫‪147‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وفهمنا أن من إعجاز القرآن أن دجد أول السورة مرتبط آبخرها‪.‬‬

‫وهذا سيجعلنا نشري إىل‪:‬‬

‫(القصص القرآين)‬

‫يظن أن القصص تتكرر يف القرآن‪ ،‬واحلقيقة‪ :‬أن القصة ال تَ ِرد يف سورة‬


‫كثري َن يقرأ القرآن وهو ال يعرف حكمة هللا ّ‬
‫إال وهي مناسبة َلا‪ ،‬فما تأيت من القصة إسا اجلزء الذي يناسب السورة‪.‬‬

‫ومن أمثلة هذا‪ :‬ورود قصة آدم يف سورة (ص)‪.‬‬

‫فإهنا ما وردت فيها إسا لإلشارة إىل َسلَف هؤساء الكفار‪ ،‬ولذل مل يُذكر آدم ابمسه‪ ،‬ومل يُذكر تفاصيل خلقه‪ ،‬وإمنا كان كل‬
‫الرتكيز يف تل اآلايت على إبليس‪ ،‬وقصته‪ ،‬واستكباره‪ ،‬وعدم قبوله‪ ،‬فما أتى من قصة آدم إسا اجلزء الذي يوافق أول السورة‪،‬‬
‫السلَف‪.‬‬
‫ف هلذا َ‬
‫فكأنه يقال‪ :‬هؤساء املشركون َخلَ ٌ‬

‫وإذا أردت أن تتتبع كل السور ستجد أن القصة سا َتيت إسا مناسبة للسورة‪.‬‬

‫وجل‪-‬عن قصة موسى عليه السالم‪ ،‬وأخرب عن السامري‪ ،‬وكيف أنه نسي ملا صنع‬
‫عز َّ‬
‫مثال آخر‪ :‬يف سورة طه‪ :‬ملا أخرب هللا‪َّ -‬‬
‫آد َم م من قَـمب ُل فَـنَس َي َوَملم َجن مد لَهُ َع مزًما}(‪ ،)1‬فجاء‬
‫العجل‪ُ ،‬ختمت السورة بقصة آدم عليه السالم‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬ولََق مد َعه مد َان إ َىل َ‬
‫اخلرب يف طه عن قصة آدم مواف ًقا لقصة السامري‪.‬‬

‫يف طريف سورة (ص)‪ :‬ذُكر املشركون وإبليس‪.‬‬

‫ويف وسطها‪ :‬ذُكر أهل اإلميان (داود وسليمان وأيوب‪ ،‬مث إبراهيم‪ ،‬وغريهم من األنبياء عليهم السالم)‪-‬وهذه هي اآلايت اليت‬
‫صة ذ مكَرى الدَّار}(‪ .)2‬وهذه اخلالصة اليت ُوصفوا‬
‫اه مم خبَال َ‬
‫صنَ ُ‬ ‫تركنا شرحها‪ ،-‬مث ذُكر يف وصفهم شيء مهم‪ :‬قال تعاىل‪{ :‬إ َّان أ م‬
‫َخلَ م‬
‫هبا هي اخلالصة اليت افتقدها أهل الشرك‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة طه‪]115 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة ص‪]46 :‬‬
‫‪148‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ال َرب فَأَنمظ مرين إ َىل يـَ موم يـُمبـ َعثُو َن}(‪ .)1‬إذًا هو‬
‫وكذل إبليس‪ ،‬ما منزلة الدار اآلخرة عنده؟ ماذا يعرف عنها؟ ماذا قال؟ {قَ َ‬
‫وسيحاسبون‪ ،‬لكن استكباره منعه من االنتفاع مبا يعلم‪ ،‬فأصبح مبنزلة‬
‫َ‬ ‫مؤمن ابلدار اآلخرة؛ ألنه يعرف أن اخللق سيجتمعون‪،‬‬
‫َمن ال يعلم! وهذه املعلومة مهمة جدًّا‪.‬‬

‫السورة كلها ستجتمع يف الكالم عن {ذ مكَرى الدَّار}‪:‬‬

‫‪ o‬ما هي مشكلة أهل الشرك؟ اساستهتار بيوم القيامة‪ .‬قالوا‪َ { :‬ربـَّنَا َعج مل لَنَا قطَّنَا قَـمب َل يـَ موم م‬
‫احل َساب}‪.‬‬

‫‪ o‬وإبليس قال‪َ { :‬رب فَأَنمظ مرين إ َىل يـَ موم يـُمبـ َعثُو َن}‪.‬‬

‫هذان طرفان للموقف من يوم القيامة‪.‬‬

‫‪ o‬وذُكر يف وسط السورة صفة األنبياء واملرسلني‪ :‬أن هللا أخلصهم خبالصة‪ ،‬وهي ذكرى الدار‪.‬‬

‫ذاكرا‬
‫ذاكرا ملن بقي ً‬
‫ابق ً‬‫ذاكرا داود وأيوب وإبراهيم عليهم السالم‪َ .‬‬
‫ابق ً‬‫فيصبح اخلطاب للنيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ :-‬أن َ‬
‫للدار اآلخرة‪.‬‬

‫أيضا‪.‬‬
‫وسنرى يف الوسط كيف أتت آايت من قصة داود وقصة سليمان‪-‬عليهما السالم‪-‬تشري إىل هذا املعىن ً‬

‫كثريا إىل يوم احلساب يف السورة؛ إشارة إىل أن صالح املرء يدور حول ذكراه ليوم القيامة‪.‬‬
‫أُشري ً‬
‫سنقرأ اآلن من آخر آية يف قصة داود‪-‬عليه السالم‪-‬مع ثالث آايت بعدها‪:‬‬

‫ني النَّاس اب محلَق وَسا تَـتَّبع ا مهلَوى فَـيُضلَّ َ َع من َسبيل َّ َّ‬


‫اَّلل إ َّن الذ َ‬
‫ين‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اح ُك مم بَـ م َ‬
‫اك َخلي َفةً يف ماأل مَرض فَ م‬ ‫ود إ َّان َج َع ملنَ َ‬
‫قال تعاىل‪َ { :‬اي َد ُاو ُ‬
‫ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما َابط ًال َذل َ ظَن‬ ‫الس َماءَ َو ماأل مَر َ‬
‫احل َساب (‪َ )26‬وَما َخلَ مقنَا َّ‬ ‫اب َشدي ٌد مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م‬ ‫اَّلل َهلُمم َع َذ ٌ‬‫يَضلو َن َع من َسبيل َّ‬
‫ني‬
‫ين يف ماأل مَرض أ مَم َمجن َع ُل الم ُمتَّق َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الصاحلَات َكالم ُم مفسد َ‬ ‫ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ‬ ‫ين َك َف ُروا م َن النَّار (‪ )27‬أ مَم َمجن َع ُل الذ َ‬ ‫ين َك َف ُروا فَـ َويم ٌل للذ َ‬
‫الذ َ‬
‫آايته َوليَـتَ َذ َّكَر أُولُو ماألَلمبَاب}‪.‬‬
‫اب أَنمـَزلمنَاهُ إلَمي َ ُمبَ َارٌك ليَ َّدبـَُّروا َ‬
‫َكالم ُف َّجار (‪ )28‬كتَ ٌ‬

‫كان الكالم عن داود‪ ،‬مث أتى بعده مباشرة‪ :‬أن هللا وهب لداود سليمان‪-‬عليهما السالم‪.-‬‬

‫)‪[ (1‬سورة ص‪]79 :‬‬


‫‪149‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫السؤال اآلن‪ :‬ما عالقة هذه اآلايت هبذا السياق؟‬

‫شديدا؛ بسبب نسياهنم ليوم احلساب‪.‬‬


‫عذااب ً‬
‫انظري آلخر آية (‪ :)26‬سيعذب هللا الذين يضلون عن سبيله ً‬

‫إ ًذا‪ :‬املنهي عنه يف اآلَّيت هو نسيان يوم احلساب‪ ،‬وليس الكفر به‪.‬‬

‫سيحاسب‪.‬‬
‫َ‬ ‫ذاكرا له‪ ،‬ال يتعامل مع األشياء على أنه‬
‫ما معىن أن اإلنسان ينسى يوم احلساب؟ أي‪ :‬يغفل عنه‪ ،‬ال يبقى ً‬

‫ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما َابط ًال}‪ .‬أي‪َ :‬من نسي يوم‬


‫الس َماءَ َو ماأل مَر َ‬
‫وجل‪َ { :-‬وَما َخلَ مقنَا َّ‬
‫عز َّ‬
‫ما سبب نسيان يوم احلساب؟ يقول هللا‪َّ -‬‬
‫احلساب وغفل عنه هو عبد ا ّهتم هللا بعدم احلكمة ! ألن هللا احلكيم الذي خلق السماوات واألرض‪ ،‬وجعل كل شيء يف‬
‫موضعه‪ ،‬كيف يُظن به أنه سا جيعل املتقني يف موضعهم والكفار يف موضعهم؟!‬

‫كل شيء يف الدنيا يسري على حكمة هللا‪ ،‬وكل شيء يف موضعه يشهد حبكمة هللا‪ ،‬إسا اإلنسان فإنه يسري ضمن اساختبار‪،‬‬
‫مبعىن أن اإلنسان إما أن يكون من األخيار أو من ال ُفجار‪ ،‬فهو الذي خيتار‪.‬‬

‫مىت سيشهد اإلنسان حبكمة هللا؟ عندما تأيت املصري‪ ،‬عندما يضع هللا املتقني يف مكاهنم‪ ،‬والفجار يف مكاهنم‪.‬‬

‫ابطال!‬
‫ين َك َف ُروا}‪ .‬ما هو ظن الذين كفروا؟ ظنوا أن هللا خلق السماوات واألرض ً‬ ‫َّ‬
‫وجل‪{ :‬ذَل َ ظَن الذ َ‬
‫عز َّ‬
‫ولذل يقول هللا َّ‬
‫هم سا يقولون ذل ‪ ،‬ولكنهم إن اعتقدوا أنه سا يوجد يوم قيامة وحساب‪ ،‬وإن اعتقدوا أن هللا سيجعل املتقني كالفجار‪ ،‬فإهنم‬
‫ين َك َف ُروا م َن النَّار}‪ .‬سيكون‬ ‫َّ‬
‫ابطال‪ ،‬ولذل قال هللا يف حقهم‪{ :‬فَـ َويم ٌل للذ َ‬
‫بذل قد اعتقدوا أن هللا خلق السماوات واألرض ً‬
‫جزاؤهم النار؛ ألهنم ظنوا يف حكمة احلكيم أنه سيجعل املتقني كالفجار!‬

‫هذه اآلية ختصنا‪ ،‬سا تظنوا أن املخاطَب هبا غريان!‬

‫وعليها راجع نفس ‪ :‬هل أنت من نسي يوم احلساب؟‬

‫ابطال؟‬
‫بصورة أخرى‪ :‬هل أنت من يعتقد أن هللا خلق السماوات واألرض ً‬

‫وشخصا غري مستقيم‪ ،‬وترى أن هذا غري املستقيم متمتع يف الدنيا‪ ،‬واملستقيم‬
‫ً‬ ‫مستقيما‪،‬‬
‫ً‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫بصورة أخرى‪ :‬عندما ترى‬
‫حرم نفسه من أمور الدنيا‪ ،‬هل تستحسن حال غري املستقيم؟‬

‫‪150‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اعتقدت‬
‫َ‬ ‫إذا استحسنت حال غري املستقيم‪ ،‬ورأيت أنه يف حال أخري من املستقيم الذي حرم نفسه شيئًا من الدنيا‪ ،‬فإن قد‬
‫ابطال‪.‬‬
‫وظننت أن هللا خلق السماوات واألرض ً‬

‫مثال‪ :‬صيادلَة يشتغلون يف صيدلية‪ ،‬واحد منهم يستفيد من عروض الشركات‪ ،‬مبعىن أن الشركة تقول له‪ُ :‬خذ هذا املنتج‪،‬‬
‫وبعه‪ ،‬وحنن نعطي عمولة أو هدية‪...‬اخل‪ ،‬والثاين يقول‪ :‬أان سا آخذ‪ ،‬املال هذا يف نظري حرام‪ ،‬واساثنان زميالن يف صيدلية‬
‫واحدة‪ ،‬ويسكنون يف عمارة واحدة هلذه الشركة‪ ،‬فاألول أدخل أوساده يف مدارس ودفع هلم‪ ،‬واآلخر تراكم عليه إجيار البيت‪.‬‬

‫أنت اآلن ماذا تعتقد يف هذا املشهد؟‬

‫اندرا ما نقول ألنفسنا إن هذا مال حرام‪ ،‬بل سابد أن حنتال على هذا الكالم‪ ،‬ونقول‪ :‬سا هذا تشدد! لكن ليُعلم أن أي‬
‫حنن ً‬
‫بدن نـَبَت من ُس محت فالنار أوىل به‪ .‬واملشكلة اآلن يف ظن ‪ ،‬لو كنت تظن أن هذا الذي يتمتع ابلدنيا‪ ،‬أو يف رغد من عيشه‪،‬‬
‫وميشي يف حياته‪ ،‬وليس له ديون بسبب أخذه للمال احلرام‪ ،‬لو كنت تظن أن هذا خري من الذي اتقى فدخل يف أزمة‪ ،‬فمعناه‬
‫ابطال‪ .‬أو كنت سا تؤمن أبن األمر سيعتدل‪ ،‬وأن املتقي سريتفع‪ ،‬وأن الفاجر سيحل‬
‫أن تظن أن هللا خلق السماوات واألرض ً‬
‫مكانه‪ ،‬مبعىن أن سا تؤمن أن هذا زمن وسيمر‪ ،‬مث يضع هللا كل شخص يف مكانه املناسب‪ ،‬فمعناه أن تظن أن هللا خلق‬
‫ابطال‪.‬‬
‫السماوات واألرض ً‬

‫تكمن يف أفكاران!‬
‫وهذا يؤيد الكالم الذي ذكرانه يف اللقاء املاضي‪ :‬أن مشكلتنا ُ‬
‫رضا عن صاحب احلرام‪،‬‬‫ً‬ ‫أنت ترين منظر هذا الذي اختار احلالل‪ ،‬واآلخر الذي اختار احلرام‪ ،‬لو وجدت يف قلب‬
‫واعتقدت أنه أحسن يف حياته‪ ،‬ويف معيشة أبنائه‪ ،‬وأنه خري من هذا الذي ضيق على نفسه‪ ،‬فإن ذل معناه أن تعتقدين أن‬
‫ابطال!‬
‫السماوات واألرض ُخلقتا ً‬

‫ين يف‬ ‫َّ‬


‫الصاحلَات َكالم ُم مفسد َ‬
‫ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ‬
‫وجل‪-‬يقول يف اآلية بعدها‪{ :‬أ مَم َمجن َع ُل الذ َ‬
‫عز َّ‬
‫وهذا هو نسيان البعث؛ ألن هللا‪َّ -‬‬
‫هذا؟! لو‬ ‫ماأل مَرض}؟! أتظن هذا؟! أتظن أنه سيستقر األمر‪ ،‬فيبقى هذا صاحب ديون‪ ،‬وهذا صاحب سعة؟! أتظن يف رب‬
‫شرعا َمن استقام عليه هل ! إ ًذا أنت بذل تتهم هللا‬
‫ابطال‪ ،‬وأنه شرع ً‬
‫ظننت هذا معناه أن تظن أنه خلق السماوات واألرض ً‬
‫يف حكمته!‬

‫‪151‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وهذا الذي حيصل إمنا هو اختبار‪ ،‬وسابد من اساختبار‪ ،‬فالدنيا بُنيت على اساختبار والبالء‪ .‬كل شيء يف الدنيا ميشي يف‬
‫ويوضع كل شخص يف مكانه‬ ‫صراطه املستقيم‪ ،‬واإلنسان هو الوحيد الذي عنده اختيارات‪ ،‬لكن هذا اساختبار سينتهي‪َ ،‬‬
‫املناسب‪.‬‬

‫ني َكالم ُف َّجار}؟! هل تتصور أن يوم القيامة سيأيت ويكون هذا املتقي مثل هذا الفاجر؟! اجلواب‪ :‬سا! سابد أن‬
‫{أ مَم َمجن َع ُل الم ُمتَّق َ‬
‫حترر هذا املعىن يف كل موقف‪ ،‬فتقول‪ :‬هذا التقي الذي خاف هللا‪ ،‬ومنع نفسه من احلرام‪ ،‬مهما ظهرت عليه عالمات النقص‬

‫هنا‪ ،‬فهو يوم القيامة يف مكانه املناسب لو كان صادقًا‪ ،‬وهذا الذي فَ َجر سيأيت يوم القيامة َ‬
‫ويوضع يف مكانه املناسب ما دام‬
‫مات على ذل ‪.‬‬

‫ابطال‪ ،‬وهللا ينفي هذا اساعتقاد‪ ،‬ويقول‪َ { :‬وَما‬


‫ما حال الذين نسوا يوم احلساب؟ يعتقدون أن هللا خلق السماوات واألرض ً‬
‫ابطال‪ ،‬لكن مادام أهنم أنكروا أن‬
‫ين َك َف ُروا}‪ .‬هم ما قالوا إن هللا خلقهما ً‬ ‫َّ‬
‫ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما َابط ًال َذل َ ظَن الذ َ‬
‫الس َماءَ َو ماأل مَر َ‬
‫َخلَ مقنَا َّ‬
‫هللا يضع الذين آمنوا يف مكاهنم‪ ،‬والذين كفروا يف مكاهنم‪ ،‬فهذا يتبع أهنم ظنوا هذا الظن‪.‬‬

‫مبعىن‪ :‬أن َمن مل يتدبر الظاهر فيصل به إىل الباطن فقد فسد فكره‪.‬‬

‫أن هللا يضع كل شيء يف موطنه‪ .‬وهذا سريشدك إىل‬ ‫و(الظاهر) هو‪ :‬أن السماوات واألرض وكل ما فيهما يشهد ل‬
‫(الباطن) وهو‪ :‬أن يوم القيامة سيأيت‪ ،‬وسيضع هللا الذين آمنوا يف مكاهنم‪ ،‬والذين كفروا يف مكاهنم‪.‬‬

‫أسا ترين أن هللا وضع النجوم يف السماء؛ لرياها كل أحد‪ ،‬ويهتدي هبا الطريق‪ ،‬وسا يستطيع أحد أن حيجبها عن أحد؟ أسا‬
‫وجل‪-‬وضع اجلبال يف موضعها ليسد‬
‫عز َّ‬
‫ترين أنه وضع األهنار على األرض لئال حيجب أحد عن أحد املاء؟ أسا ترين أن هللا‪َّ -‬‬
‫عن الناس الريح والسيل؟ أسا ترين أن هللا جعل الثمار مدودة يف األرض؟‬

‫هذا كله ُوضع يف مكانه! اجلبال يف األرض يف مكاهنا املناسب‪ ،‬واألهنار يف األرض يف مكاهنا املناسب‪ ،‬والسهول يف األرض‬
‫يف مكاهنا املناسب‪ ،‬والنجوم يف السماء يف مكاهنا املناسب‪ ،‬والرايح َتيت يف وقتها املناسب‪.‬‬

‫أبدا!‬
‫ابطال؟ سا ً‬
‫إ ًذا‪ :‬هل تشهدين هلل أنه وضع كل شيء يف موضعه؟ نعم‪ .‬هل يوجد شيء ُوضع ً‬

‫‪152‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وَتملي يف كل األمور حول ! فمن متام رمحته ابخللق أن هذا اهلواء الذي حيتاجه كل اخللق ما جعله هللا ُمل ًكا ألحد‪ .‬من متام‬
‫رمحته أن املاء‪-‬الذي تأيت بعد اهلواء أمهية‪-‬سيله هللا يف األرض‪ ،‬وجعل كل أحد يستطيع أن يتحسسه‪ ،‬فيحفر يف األرض‬
‫وخيمرجه‪ ،‬وسا يصري ُمل ًكا للخلق‪.‬‬
‫ُ‬

‫اهلواء األعلى أمهية سا ميكن لكل اخللق أن يتحكموا فيه‪ ،‬مث املاء أقل منه‪ ،‬مث األكل أقل منه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫انظري ألمر هللا العظيم‪ :‬تصوري لو (زمزم) غري موجودة يف احلرم‪ ،‬ماذا سيحصل؟ ماذا كانت الدولة ستفعل؟ أرض صحراء‪،‬‬
‫واد حوله جبال‪ ،‬إذا مل يوجد به ماء لن تأتيه اخللق! ولن يـَتَو َاردوا على احلرم‪ .‬مث أن هذا املاء ليس أي ماء‪ ،‬وإمنا ماء لو شربه‬
‫طعم وتُس َقى من ماء زمزم‪ ،‬مث سا حتتاج ألي أمر آخر‪ .‬لو ما‬
‫اإلنسان بنية اإلشباع يُشبع حىت من الطعام! َتيت وتسكن احلرم‪ ،‬تُ َ‬
‫وجد ماء زمزم ماذا سيحصل؟! مهما كانت الدول غنية من أين ستشرب هذه املاليني اليت َتيت؟! ومن سريحتل هلم ابملاء؟ إذًا‬
‫هذا دليل على أن هللا يضع األمور يف موضعها‪ ،‬وحنن نشهد هلل بذل ‪.‬‬

‫أبدا‪ .‬وإذا رأينا أن هؤساء املتقني‬


‫وجل‪-‬يضع كل األمور يف موضعها إ ًذا سا يوجد شيء ابطل يف األرض ً‬
‫عز َّ‬
‫مادام أن هللا‪َّ -‬‬
‫ينقص ماهلم‪ ،‬وينقص حاهلم‪ ،‬وهم يف ضيق يد‪ ،‬وهذا الفاجر يستمتع ابملال ويستمتع بكذا وكذا‪ ،‬سنقول‪ :‬حنن نشهد هلل أنه‬
‫وضع كل شيء يف السماوات واألرض يف موضعه‪ ،‬ومن هذا الظاهر نشهد أنه سابد أن يكون مآل املتقني إىل املكان املناسب‪،‬‬
‫ومآل الفجار إىل املكان املناسب‪.‬‬

‫سيوضعون يف املكان املناسب؟ فتستنبط من هذا أنه سابد أن هناك يوم القيامة‪ ،‬فمن تدبَّر ظاهر السماوات‬
‫َ‬ ‫تأيت سؤال‪ :‬مىت‬
‫واألرض‪َّ ،‬‬
‫تيقن بباطن األمر‪ ،‬وهو يوم القيامة‪.‬‬

‫ومن كان له عقل واجتهد يف فَهم هذا‪ُ :‬رق َي من هذا النوع من التدبر يف الظاهر‪،‬‬
‫كل واحد عنده عقل ويستطيع أن يفهم‪َ ،‬‬
‫ووصل إىل الباطن‪.‬‬

‫ض‬
‫أعر َ‬
‫وجل‪َ -‬‬
‫عز َّ‬ ‫آايته َوليَـتَ َذ َّكَر أُولُو ماألَلمبَاب}‪ .‬كأنه يقال ل ‪ :‬هللا‪َّ -‬‬
‫اب أَنمـَزلمنَاهُ إلَمي َ ُمبَ َارٌك ليَ َّدبـَُّروا َ‬
‫وجل‪{ :-‬كتَ ٌ‬
‫عز َّ‬
‫يقول‪َّ -‬‬
‫ابطال‪ ،‬وصار اخلطاب ألويل األلباب‪-‬الرسول‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬‬ ‫عن الكافرين الذين ظنوا أن السماوات واألرض ُخلقتا ً‬
‫واملؤمنني‪-‬الذين تدبروا يف ظاهر السماوات واألرض‪ ،‬فتبني هلم أن هذا الظاهر يدل على الباطن وهو يوم القيامة‪ ،‬وأن يوم القيامة‬
‫لن يكون املتقني فيه كالفجار‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫علما ويزيدهم ُرقيًّا لو تدبروه‪.‬‬


‫كتااب مبارًكا يزيدهم ً‬
‫وجل‪-‬إىل أن أنزل إليهم ً‬
‫عز َّ‬
‫مث رقاهم هللا‪َّ -‬‬

‫فهذا الكتاب أُنزل إليكم‪ ،‬ووصفه‪ :‬أنه مبارك‪ ،‬كثري اخلريات‪ ،‬فتدبروه وتذكروه‪ ،‬واعلموا أن التدبر والتذكر ص َفتَا أويل األلباب‬
‫ابطال‪.‬‬
‫الذين رأوا أن السماوات واألرض ما ُخلقتا ً‬

‫نقطة البداية يف اإلميان هي أن تؤمن أن هللا حكيم له كمال احلكمة‪ ،‬ولذل قلنا يف بداية اللقاء أن هذا االسم وهذه‬
‫الصفة من أعظم األمساء والصفات اليت تسبّب اليقني يف القلب‪ ،‬وهلذا يقول األعراب‪ :‬البَـ معرة تدل على البعري‪ ،‬واألثَر يدل‬
‫على املسري‪ ،‬مث مساء ذات أبراج‪ ،‬وأرض ذات فجاج‪ ،‬أسا تدل أن هلا مل كامل الصفات؟! فهؤساء رأوا أن السماوات واألرض‬
‫ابطال‪ ،‬وهذا التفكري دهلم أنه سابد من يوم حساب‪ .‬مث أن هؤساء الذين أقبَلوا هبذه النفوس ُربوا‪ ،‬وأُعطوا نعمة‪ ،‬وهبهم‬
‫ما ُخلقتا ً‬
‫كتااب‪ ،‬وصفه أنه مبارك‪ .‬فهم مع نظرهم إىل السماء واألرض‪ ،‬أنزل عليهم الكتاب‪ ،‬فأخربهم عن األوائل وعن األواخر‪ ،‬وعن‬
‫هللا ً‬
‫القصص احلق‪ ،‬وأخربهم عن اجلنة وما فيها‪ ،‬فعقوهلم بعد أن وصلت إىل املعىن العام‪ ،‬جاء القرآن املبارك فأعطاهم التفاصيل اليت‬
‫هبا يثبت اليقني يف قلوهبم‪.‬‬

‫ولذل سابد أن تشعر أن اإلميان حبكمة هللا يورث اإلنسان اليقني‪ .‬اإلميان حبكمة هللا جيعل تقول‪ :‬مستحيل أن يكون كل‬
‫أبدا! وإمنا هذه‬
‫خريا من املسلمني؟! سا ً‬
‫شيء يف موضعه‪ ،‬مث سا يعتدل موضع الناس! هل ميكن أن يبقى الكفار طوال العمر ً‬
‫الدنيا دول‪ ،‬فعندما يرتاجع الناس عن دينهم يكون اجلزاء أن الكفار سريتفعون عليهم‪ ،‬وعندما ترتفع بدين سيكون اجلزاء أن‬
‫هذه األمة سرتتفع‪ ،‬مث يف يوم القيامة سا ميكن أن جيعل هللا املتقني كالفجار‪.‬‬

‫اآلن بعدما فهمت هذا الفاصل بني قصة داود وقصة سليمان‪-‬عليهما السالم‪ ،-‬كيف ستحفظ اآلايت؟ كيف ستنظر‬
‫لتتابعها؟‬

‫عندما تسأل عن العالقة سابد أن يرزق هللا اإلجابة‪ ،‬ومبا أن تفهم أن هذا الكالم أتى من حكيم عليم إ ًذا سابد أن يكون‬
‫أبدا‪ ،‬وعدم اليقني هبذا هو الذي أضعف يف النفوس‬
‫متتابعا‪ ،‬سا ميكن أن تكون هناك فجوة أو انتقالة مفاجئة بني اآلايت ً‬
‫الكالم ً‬
‫قوة التدبر‪ ،‬وجعلنا نقرأ القرآن دون أن نسأل عن العالقة بني اآلايت!‬

‫للمعرض‬
‫هذا العلم رزق‪ ،‬وقلب إانء هذا الرزق‪ ،‬وهللا سيسخر ل العلم أينما كان‪ ،‬لكنه سيسخره ملن يبحث عنه‪ ،‬وليس ُ‬
‫عنه‪ .‬سا تكتف ابإلميان اإلمجايل‪ ،‬وأن هذا القرآن كله حكمة‪ ،‬بل سابد من اإلميان التفصيلي‪ ،‬واإلميان التفصيلي معناه أن تُشغل‬

‫‪154‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫الرسول‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬بداود وسليمان وأيوب وإبراهيم‬


‫َ‬ ‫نفس ابلتفكري‪ :‬ما وجه ورود هذه القصة هنا؟ ملاذا يذكر هللاُ‬
‫مجيعا؟ ما الصفة املميزة هلم؟ ماذا أعطاهم هللا؟ تسأل نفس كل هذه األسئلة‪ ،‬مث تأتي الرزق‪.‬‬
‫عليهم السالم ً‬

‫كلكم تؤمنون أن هللا قال‪َ { :‬ولََق مد يَ َّس مرَان الم ُق مرآ َن للذ مكر فَـ َه مل م من ُم َّدكر}(‪ .)1‬أنت ستُقبل على رب ‪ ،‬وتقول‪ :‬اي رب أعطيتين‬
‫كتااب ميسًرا للذكر‪ .‬هل ينكر أحد أن هللا يسر القرآن للذكر؟ سا‪ .‬مادام أن تعتقد ذل إذًا أين عنايت ابلذكر؟ أين اساشتغال‬
‫ً‬
‫به؟! احلمد هلل أن عرب لست أبعجمي‪ ،‬تفهم اخلطاب‪ ،‬وترد اجلواب‪ ،‬ول قدرة على القراءة‪ ،‬وعندك أمن وأمان‪ ،‬هذا كله‬
‫خري كثري!‪-‬نسأل هللا أن يزيده‪ ،‬ويثبته‪ ،‬ويدفع عن البالد والعباد كل شر‪ ،‬ويدفع عن بالد املسلمني‪ .-‬أنت تتمتّع ابلنعم اليت ال‬
‫ووفرة أهل العلم‪ ،‬لكن أين طلبك وانكسارك بني يدي هللا من أجل أن تُرزق‬ ‫ِ‬
‫ووفرته‪َ ،‬‬
‫يتمتّع هبا غريك من وجود العلم‪َ ،‬‬
‫علما؟!‬
‫ً‬

‫استَـ مه ُدوين أَ مهد ُك مم")‪ ،(2‬سا تظن العلم‬


‫ضال إساَّ َم من َه َديمـتُهُ‪ ،‬فَ م‬
‫وجل‪-‬يف احلديث القدسي‪َ " :‬اي عبَادي ُكل ُك مم َ‬
‫عز َّ‬ ‫يقول هللا‪َّ -‬‬
‫حكرا ألحد‪ ،‬وسا تستصعب طُُرقه‪ ،‬وسا تقل‪ :‬من أين أجد َمن يُفهمين؟ فقط أظ ِهر صدق إرادتك يف‬ ‫حصرا على أحد‪ ،‬وسا ً‬ ‫ً‬
‫أعرض هللا عنه‪.‬‬ ‫أعرض َ‬ ‫ومن َ‬ ‫طلب العلم‪ ،‬ووهللا ال خيذل هللا عباده! َمن آوى إىل هللا آواه هللا‪َ ،‬‬

‫نعود لسورة (ص)‪ ،‬ونرى أكثر الكلمات اليت تكررت فيها‪:‬‬

‫أكثر ما تكرر يف السورة الكالم حول "الذكر"‪.‬‬ ‫‪o‬‬

‫أيضا وصف "أواب"‪.‬‬


‫ُكرر ً‬ ‫‪o‬‬

‫وصف "احلساب"‪.‬‬ ‫‪o‬‬

‫"اخلصومة"‪.‬‬ ‫‪o‬‬

‫"مآب"‪.‬‬ ‫‪o‬‬

‫مثاسا ألكثر كلمة ذُكرت‪( :‬كلمة الذكر)‪:‬‬


‫نشرح ً‬

‫)‪[ (1‬سورة القمر‪]17 :‬‬


‫)‪ (2‬رواه مسلم يف صحيحه‪ /‬كتاب الرب والصلة واآلداب‪ /‬ابب َمحترمي الظ ملم‪.)6737( /‬‬
‫‪155‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫أول موطن‪ُ :‬وصف القرآن أنه {ذي الذ مكر}‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أيضا يف اآلية الثامنة‪{ :‬أَأُنمزَل َعلَميه الذ مك ُر م من بَـميننَا بَ مل ُه مم يف َش م من ذ مكري}‪.‬‬


‫ً‬ ‫ووصف بذل‬
‫ُ‬ ‫‪‬‬

‫من إنزال‬ ‫م من ذ مكري}‪ ،‬وهذا هو الذي جعلهم يُنكرون‪ ،‬فهم يف ش‬ ‫وجل‪-‬هنا عن الناس أهنم {يف َش‬
‫عز َّ‬
‫يقول هللا‪َّ -‬‬
‫القرآن على الرسول‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.-‬‬

‫م من ذ مكري}؟! واملقصود‪ :‬أهنم يشكون يف ذكر هللا‪ ،‬أي‪ :‬يف‬ ‫هم يقولون‪{ :‬أَأُنمزَل َعلَميه الذ مك ُر م من بـَميننَا بَ مل ُه مم يف َش‬
‫استحقاقه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬لالنفراد ابأللوهية‪.‬‬

‫ود َذا ماألَيمد‬ ‫‪ ‬يف آية (‪ :)17‬خطاب للنيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ .-‬يقول هللا له‪ { :‬م‬
‫اص مرب َعلَى َما يـَ ُقولُو َن َواذم ُك مر َعمب َد َان َد ُاو َ‬
‫اب}‪.‬‬
‫إنَّهُ أ ََّو ٌ‬

‫صب َو َع َذاب}‪.‬‬
‫ين الشمَّيطَا ُن بنُ م‬
‫وب إ مذ َان َدى َربَّهُ أَين َم َّس َ‬
‫يف املوطن التايل مباشرة‪َ { :‬واذم ُك مر َعمب َد َان أَي َ‬ ‫‪‬‬

‫ويف آية (‪ )45‬أمره أن يذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب‪-‬عليهم السالم‪.-‬‬ ‫‪‬‬

‫ويف (‪ )48‬إمساعيل واليَ مسع‪-‬عليهما السالم‪.-‬‬ ‫‪‬‬

‫إذًا‪ :‬القرآن ذي الذكر‪ ،‬وهم أنكروا الذكر‪ ،‬وهللا تأمر نبيه‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬أن يصرب‪ ،‬ويذكر األنبياء‪.‬‬

‫مث يقول تعاىل يف هناية السورة يف آية (‪َ { :)49‬ه َذا ذ مكٌر َوإ َّن ل مل ُمتَّق َ‬
‫ني َحلُ مس َن َمآب}‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫جنمع املعىن يف اآلايت‪ ،‬فنقول‪:‬‬

‫خيرب هللا رسوله يف أول السورة أن هذا القرآن ذو الذكر‪ ،‬أي‪ :‬ذو املكانة العالية‪ ،‬الذي إذا ذكره صاحبه يرتفع إىل املكانة‬
‫أن تذكره‪،‬‬ ‫العظيمة من جهة‪ ،‬وتنكشف عنه غُمة الغفلة من جهة أخرى‪ .‬فاملطلوب من أجل أن يبقى هذا القرآن يف قلب‬
‫وتذكر الصاحلني الذين انتفعوا به عرب العصور‪ ،‬ومنهم‪ :‬داود وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإمساعيل‪ ...‬اخل األنبياء املذكورين‬
‫عليهم السالم‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫واعلم أن العبد من أجل أن يبقى على ِذكر من اخلري البد أن يذكر أهل اخلري‪ ،‬ويتمثّلهم‪ ،‬ويتمثّل قصصهم‪ ،‬وير ّدها‬
‫ني}(‪ ،)1‬فإن تقوى العبد ابتباعه الذكر سا تكون إسا‬ ‫اَّلل وُكونُوا مع َّ ِ ِ‬
‫الصادق َ‬ ‫ََ‬ ‫وجل‪{ :‬اتَّـ ُقوا ََّ َ‬
‫عز َّ‬
‫على نفسه‪ ،‬ولذلك يقول هللا َّ‬
‫بذكر َمن صدق‪ ،‬فمن دعائم الدين‪ :‬أن تذكر األنبياء واملرسلني وأصحاب الدين‪ ،‬سواء كانوا معاصرين أو سابقني؛ ألن هللا‬
‫ني}‪ ،‬فال تكفي جمرد تقوى هللا‪ ،‬وإمنا سابد أن تكون مع الصادقني‪.‬‬
‫الصادق َ‬ ‫يقول‪{ :‬اتـَّ ُقوا َّ‬
‫اَّللَ َوُكونُوا َم َع َّ‬

‫عبدا أراد أن يتعلم‬


‫ضَرب مثال هلذا فيقال‪ :‬لو أن ً‬
‫مبعىن أن العبد قد يتعلم احلق‪ ،‬لكن إذا مل يصحب أهله ما تبني له احلق‪ .‬ويُ م‬
‫فنًّا من الفنون‪-‬خياطة‪ ،‬سباحة‪...‬اخل‪ ،-‬فقرأ يف هذا الفن‪ ،‬مث أتى ليطبقه‪ ،‬هل سيقدر على تطبيقه مبجرد القراءة؟ سا! بل سابد‬

‫أن يكون معه َمن يرشده لكي ينفذ‪ ،‬ويُصلح له َخطأه‪ ،‬ويـُمرشده‪ .‬وهلذا أخرب هللا نبيه‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬أن م‬
‫اصرب‪ ،‬واذكر هذا‬
‫وهذا من الصاحلني ال ُك َّمل من اخللق؛ لرتى منهجهم فتسري عليه‪.‬‬

‫مع الصادقني‪ ،‬فماذا تفعل؟ ترى أيوب‪-‬عليه‬ ‫الغفلة‪ ،‬وجيعل‬ ‫وابلنسبة لنا حنن‪ :‬هذا القرآن ذو الذكر‪ ،‬يكش ف عن‬
‫السالم‪-‬وحاله يف الصرب‪ ،‬ترى داود‪-‬عليه السالم‪-‬وحاله يف الفتنة‪ ،‬ترى إبراهيم وإمساعيل وإسحاق ويعقوب‪ ،‬وترى كل األنبياء‬
‫وحاهلم فيما كانوا فيه‪ ،‬فتجد نفس يف حال تشبه أيوب عليه السالم‪ ،‬ويف حال تشبه سليمان عليه السالم‪ ،‬ويف حال تشبه‬
‫ني}‪.‬‬
‫الصادق َ‬ ‫داود عليه السالم‪ ،‬ويف حال تشبه إبراهيم‪-‬عليه السالم‪{ .-‬اتـَّ ُقوا َّ‬
‫اَّللَ َوُكونُوا َم َع َّ‬

‫هجر القرآن أن ال تذكر ال ُك َّمل الذين وصفهم هللا يف كتابه؛ ألن النيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ُ -‬كرر عليه أن اذكر‬
‫فمن ْ‬ ‫ِ‬
‫ابق على ذكراهم‪ ،‬فهم الصادقون الذين أُمرت أن تتقي هللا وتكون معهم‪.‬‬ ‫واذكر واذكر‪ ،‬مبعىن‪َ :‬‬

‫واملقصود‪ :‬أن التأمل يف كتاب هللا يُظهر لك أن هللا حكيم‪ ،‬خاطب اخللق ابلكمال‪ ،‬فاحملروم هو َمن َح َرم نفسه من‬
‫التأمل يف كتاب هللا‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة التوبة‪]119 :‬‬


‫‪157‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء الثاين عشر‬

‫‪158‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫سا زلنا بفضل هللا ومنته نتدارس هذا اساسم العظيم‪ :‬اسم هللا (احلكيم)‪.‬‬

‫أايما أكثر يف مناقشته وتتبع معناه‪ ،‬ويف احلقيقة لو بذل اإلنسان جهده وهو يتلو‬
‫وهذا اساسم العظيم يستحق منا أن نعيش ً‬
‫تدبرا‬
‫كتاب هللا من أوله إىل آخره للبحث يف آاثر حكمة هللا يف كل شيء فإنه سيجد أن هذا املوضوع سا ينفض‪ ،‬بل كلما زاد ً‬
‫فهما حلكمة هللا‪.‬‬
‫للقرآن كلما زاد ً‬
‫حكيم‪:‬‬
‫وقد مر معنا أن معىن هذا اساسم العظيم‪ :‬أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪ٌ -‬‬

‫يف خلقه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ويف شرعه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ويف أمره‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ويف جزائه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أما حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف خلقه فقد تبينت لنا من خالل النقاش يف ذل ‪.‬‬

‫وأما حكمته يف شرعه فقد ذكران هذا املفهوم من جهات‪:‬‬

‫‪ o‬من جهة حكمته يف إرسال الرسل‪ ،‬وابلذات يف إرسال النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.-‬‬

‫‪ o‬ومن جهة أن هللا حكيم يف شرعه‪ ،‬وأن هذا الشرع يتمثّل يف القرآن‪.‬‬

‫وجل‪ ،-‬ورأينا كيف أن هذا الكتاب عظيم يدل على حكمة هللا‪ ،‬وكيف أنه حيمل اإلعجاز‬
‫عز َّ‬
‫فتوقفنا وقفة مع كتاب هللا‪َّ -‬‬
‫وجل‪-‬حكيم‪ ،‬فلم تَرد هنا صفة إسا حلكمة‪ ،‬ومل تَرد هنا قصة إسا ملغزى ومقصد‪،‬‬
‫عز َّ‬
‫من كل معانيه‪ ،‬وأن َمن قرأه سيجد أن هللا‪َّ -‬‬
‫وهكذا‪ .‬وتدارسنا يف ذل سورة ص‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬يف شرعه‪ ،‬وسننتقل اآلن إىل حكمته يف األوامر والنواهي‪.‬‬


‫عز َّ‬
‫ال زلنا نتكلم عن حكمة هللا‪َّ -‬‬

‫من حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف أمره! فاهلل حكيم يف أمره مبعىن أنه‬ ‫*تنبيه‪ :‬سا ختلطوا بني هذا وبني ما سيأتينا بعد ذل‬
‫حكيم يف تدبريه لشؤون اخللق‪ ،‬وكأن املقصود هو أمره الكوين‪ ،‬مبعىن القضاء والقدر‪.‬‬

‫شرع هللا كله حكمة‪:‬‬

‫‪ ‬من جهة إرسال الرسول‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪.-‬‬

‫‪ ‬من جهة إنزال الكتاب‪.‬‬

‫تضمنها هذا الكتاب (حماسن الشريعة)‪.‬‬


‫‪ ‬من جهة األوامر اليت َّ‬

‫يُناقَش موضوع (حكمة هللا يف أمره وهنيه) بعنوان آخر هو‪( :‬حماسن الشريعة) أو (حماسن الدين اإلسالمي)‪ ،‬مبعىن أن تنظر‬
‫حملاسن الدين‪ ،‬وتتأمل فيها‪ ،‬وتقلبها‪ ،‬وتفهمها‪ ،‬فتتعبد هللا بعبادة اإلميان أبنه حكيم‪ ،‬وأنه ما شرع شيئًا إسا وفيه احلُسن التام‪ ،‬فلو‬
‫أتى َمن يزخرف ل القول فأنت متل يف عقيدت أن هذا الدين كله حماسن‪.‬‬

‫كل شرع هللا فيه حكمة ‪ ‬وأنت تتعبد هللا ابليقني أبن الشرع كله حماسن‬

‫وسيقدم الشيخ السعدي‪-‬رمحه هللا‪-‬يف كتابه "الدرة املختصرة يف حماسن الدين" مقدمة تُظهر لنا كيف أن دراسة حماسن‬
‫الدين قُربة إىل هللا‪.‬‬

‫سنقرأ أول الرسالة‪ ،‬مث سننتقي ما نستطيع من احملاسن أثناء النقاش‪:‬‬

‫"بسم هللا الرمحن الرحيم"‬

‫‪160‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫"احلمد هلل‪ ،‬حنمده‪ ،‬ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونتوب إليه‪ ،‬ونعوذ ابهلل من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا‪ ،‬من يَهده هللا فال‬
‫مِ‬
‫ضل له‪ ،‬ومن يُضلل فال هادي له‪ .‬وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأن حمم ًدا عبده ورسوله‪-‬صلَّى هللا عليه‬ ‫ُ‬
‫ريا‪.‬‬ ‫وسلَّم‪ً -‬‬
‫تسليما كث ً‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫أكمل األدَّين وأفضلها‪ ،‬وأعالها وأجلّها‪ ،‬وقد َح َوى من‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫فإن دين اإلسالم الذي جاء به حممد‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ُ -‬‬
‫احملاسن والكمال والصالح والرمحة والعدل واحلكمة ما يَشهد هلل تعاىل ابلكمال املطلَق‪ ،‬وسعة العلم واحلكمة‪ ،‬ويشهد‬
‫حقا‪ ،‬وأنه الصادق املصدوق‪ ،‬الذي ال ينطق عن اَلوى {إِ ْن ُه َو إَِّال َو ْح ٌي‬
‫لنبيه‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬أنه رسول هللا ًّ‬
‫وحى}(‪.")1‬‬
‫يُ َ‬

‫إ ًذا حماسن الشريعة تشهد أبي شيء؟‬

‫‪ -1‬تشهد هلل ابلكمال املطلق‪ ،‬وسعة العلم واحلكمة‪.‬‬


‫‪ -2‬وتشهد للنيب‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬أنه رسول هللا حقًّا‪ ،‬وأنه الصادق واملصدوق‪.‬‬

‫ملاذا ندرس حماسن الشريعة؟‬

‫ألن حماسن الشريعة من الشواهد على علم هللا وحكمته‪.‬‬

‫فنحن نتدارس اسم هللا احلكيم‪ ،‬ونريد أن تظهر لنا حكمة هللا‪ ،‬وما يدل على حكمة هللا ما سندرسه من حماسن الشريعة‪.‬‬

‫وأجل شاهد هلل ابلتفرد ابلكمال املطلق كله‪ ،‬ولنبيه‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬‬
‫ّ‬ ‫"فهذا الدين اإلسالمي أعظم برهان‪،‬‬
‫ابلرسالة والصدق‪.‬‬

‫وغرضي من هذا التعليق إبداء ما وصل إليه علمي من بيان أصول حماسن هذا الدين العظيم؛ فإين وإن كان علمي‬
‫قصر كل القصور عن إبداء بعض ما احتوى عليه هذا الدين من اجلالل واجلمال والكمال‪ ،‬وعباريت تضعف عن‬
‫ومعرفيت تَ ُ‬
‫)‪[ )1‬سورة النجم‪]4 :‬‬
‫‪161‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫يوصل إىل غايته ومعظمه‪ ،‬فال ينبغي‬


‫فضال عن التفصيل يف املقال‪ ،‬وكان ما ال يُ ْد َرك مجيعه وال َ‬
‫شرحه على وجه اإلمجال‪ً ،‬‬
‫استَطَ ْعتُ ْم}(‪.)1‬‬ ‫نفسا إال وسعها {فَاتَّـ ُقوا َّ‬
‫اَّللَ َما ْ‬ ‫أن يُرتك منه ما يعرفه اإلنسان لعجزه عما ال يعرفه‪ ،‬فال يُكلف هللا ً‬

‫وذلك أن يف معرفة هذا العلم فوائد متعددة‪:‬‬

‫‪-1‬منها‪ :‬أن االشتغال يف هذا املوضوع الذي هو أشرف املوضوعات وأجلّها من أفضل األعمال الصاحلة‪ .‬فمعرفته‬
‫والبحث عنه والتفكري فيه وسلوك كل طريق حيصل إىل معرفته خري ما شغل العبد به نفسه‪ ،‬والوقت الذي تُنفقه يف ذلك‬
‫هو الوقت الذي لك ال عليك"‪.‬‬

‫وجل‪-‬عن النقص‪،‬‬ ‫تفكريك يف حماسن الشرع عبادة وقرىب‪ ،‬كأن تسبح وتكرب وهتلل؛ ألن اندجها أن تعتقد تنزيه هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫وأن له الكمال املطلق‪ ،‬وأن له احلكمة املطلقة‪ ،‬فمن َمث كان الوقت الذي تقضيه فيه ل سا علي ‪.‬‬

‫"‪-2‬ومنها‪ :‬أن معرفة النعم والتح ّدث هبا قد أمر هللا هبا ورسوله؛ وهو من أكرب األعمال الصاحلة؛ وال شك أن البحث‬
‫أجل نعمه سبحانه على عباده‪ .‬وهو الدين اإلسالمي الذي ال يقبل هللا من أحد دينًا‬
‫يف هذا اعرتاف وحت ّدث وتف ّكر يف ّ‬
‫عاء للمزيد من هذه النعمة‪.‬‬
‫شكرا هلل‪ ،‬واستد ً‬
‫سواه‪ ،‬فيكون هذا التحدث ً‬

‫تعظيما له‬
‫ً‬ ‫عظيما‪ ،‬وكلما كان العبد أعرف هبذا الدين وأشد‬
‫ً‬ ‫تفاوات‬
‫‪-3‬ومنها‪ :‬أن الناس يتفاوتون يف اإلميان وكماله ً‬
‫وأصح يقينًا‪ ،‬فإنه برهان على مجيع أصول اإلميان وقواعده"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إمياان‬
‫وابتهاجا كان أكمل ً‬
‫ً‬ ‫وسرورا به‬
‫ً‬

‫ك فَـ ْليَـ ْف َر ُحواْ‬ ‫ض ِل ِّ‬


‫اَّلل َوبَِر ْمحَتِ ِه فَبِ َذلِ َ‬ ‫عبادة (الفرح ابلدين) عبادة من العبادات اليت يغفل عنها الناس‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬قُ ْل بَِف ْ‬
‫ُه َو َخ ْيـ ٌر ََِّّا َْجي َمعُو َن}(‪ ،)2‬مبعىن أن عندما تقرأ حماسن الدين سيقع يف قلب فرح وانشراح أبن هذا الدين هو الدين الذي تدين‬
‫فرحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫به‪ ،‬وأنه عظيم‪ ،‬وأنه كامل‪ ،‬ففرح به نوع من أنواع العبادة‪ ،‬والذي سيدخل ل الفرح أن تتعلم حماسنه (احملاسن ستورث‬
‫والفرح عبادة وقربة إىل هللا)‪.‬‬

‫"‪-4‬ومنها‪ :‬أن من أكرب الدعوة إىل دين اإلسالم شرح ما احتوى عليه من احملاسن اليت يقبلها ويتقبّلها كل صاحب‬
‫عقل وفطرة سليمة‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة التغابن‪]16 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة يونس‪]58 :‬‬
‫‪162‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫فلو تص ّدى للدعوة إىل هذا الدين رجال يشرحون حقائقه ويبينون للخلق مصاحله‪ ،‬لكان ذلك كافيًا كفايةً اتمةً يف‬
‫جذب اخللق إليه"‪.‬‬

‫هذا الكالم موجه ألهل الدعوة‪ ،‬سواء الدعوة املباشرة أو الدعوة عن طريق الوسائل‪ ،‬فلو عرف الناس احملاسن‪ ،‬مث بذلوا‬
‫جهدهم يف شرحها لغريهم‪ ،‬جلذبوا بذل القلوب لالستقامة‪.‬‬

‫سننتقل إىل بعض األمثلة اليت ضرهبا الشيخ‪-‬رمحه هللا‪-‬ليظهر فيها حماسن الدين‪:‬‬

‫قال‪" :‬املثال السابع‪ :‬ما جاءت به الشريعة من إابحة البيوع‪ ،‬واإلجارات‪ ،‬والشركات‪ ،‬وأنواع املعامالت اليت تتبادل‬
‫فيها املعاوضات بني الناس يف األعيان‪ ،‬والديون‪ ،‬واملنافع‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫فقد جاءت الشريعة الكاملة ِحب ّل هذا النوع وإطالقه للعباد؛ الشتماله على املصاحل يف الضرورَّيت واحلاجيات‬
‫والكماليات‪ ،‬وفَ َس َحت للعباد فَ ْس ًحا صلحت به أمورهم وأحواَلم‪ ،‬واستقامت معايشهم‪.‬‬
‫و َش َرطَت الشريعة يف ِح ّل هذه األشياء‪ :‬الرضا من الطرفني‪ ،‬واشتمال العقود على العلم‪ ،‬ومعرفة املعقود عليه‪ ،‬وموضوع‬
‫العقد‪ ،‬ومعرفة ما يرتتب عليه من الشروط‪.‬‬
‫ومنعت من كل ما فيه ضرر وظلم من أقسام امليسر‪ ،‬والراب‪ ،‬واجلهالة‪.‬‬
‫أتمل املعامالت الشرعية رأى ارتباطها بصالح الدين والدنيا‪ ،‬وشهد هلل بسعة الرمحة‪ ،‬ومتام احلكمة‪ ،‬حيث أابح‬
‫فمن ّ‬
‫َ‬
‫سبحانه لعباده مجيع الطيبات‪ ،‬من مكاسب ومطاعم ومشارب‪ ،‬وطرق املنافع املنظمة احملكمة‪".‬‬
‫من احملاسن اليت تظهر يف الشريعة‪ :‬ما جات به الشريعة من إابحة البيوع‪ ،‬واإلجارات‪ ،‬والشركات‪ ،‬وأنواع املبيعات اليت فيها‬
‫معاوضات‪.‬‬

‫تعلم أن هللا خلق اإلنسان سا‬‫ما احلُ مسن يف هذا؟ احلُ مسن يظهر يف كون اإلنسان حباجة إىل املعاوضة‪ ،‬ويظهر يف كون‬
‫يستطيع اساكتفاء‪ ،‬فال بد أن حتصل حالة من املعاوضة‪ ،‬وحاسات املعاوضة هذه إذا مل تكن مضبوطة فإن مصاحل الناس ستذهب‪،‬‬
‫فالشيوعية منعت املعاوضة‪ ،‬ومنعت البيع‪ ،‬والرأمسالية جعلت بدل املعاوضة الراب‪ ،‬فريبو هذا على هذا‪ ،‬أما الدين اإلسالمي فقد‬
‫أابح البيع وحرم الراب‪ ،‬أابح املعاوضات لتستقيم حياة الناس‪ ،‬مث أن هذه املعاوضات غالبًا ستسبب إشكاسات يف العالقات‪ ،‬فقد‬
‫مترا برب‪ ،‬فيظهر هنا من حماسن الشريعة‬
‫مثال ً‬
‫أرضا ب َدار‪ ،‬ويتعاوض ً‬
‫يشعر اإلنسان أنه مظلوم‪ ،‬أو قد يُعتدى عليه‪ ،‬فيتعاوض هذا ً‬
‫احدا‪.‬‬
‫نظاما و ً‬
‫أهنا مسحت ابملعاوضات ولكن حكمت فيها‪ ،‬حبيث يكون للمعاوضات ً‬
‫‪163‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫فمثال‪ُ :‬مينع أن يعاوض بني متر رديء كثري ومتر جيد قليل؛ ألن اإلنسان سيغرت يف أول هذه املعاوضة أبن هذا انفع؛ ألن هذا‬
‫ً‬
‫جيد وهذا قدمي‪ ،‬لكن سابد أن مير يف خواطر اخللق بعد هذه املعاوضة أن هذا ظُلم‪ ،‬فمن الظلم أن يعطي الكثري مقابل القليل‪،‬‬
‫وإن كان القليل أجود من الكثري‪ ،‬فال حتصل معاوضة من نفس النوع بني رديء وجيد‪.‬‬

‫مثال آخر‪ :‬سا حتصل معاوضة يف بيع الذهب ابلذهب إسا بعد أن يكون ل متام احلرية يف البيع واملقابضة‪ ،‬مث تشرتي ما‬
‫جديدا‪ ،‬فتعطيه الذهب‬
‫ً‬ ‫تريد‪ .‬مبعىن أنه سا يصلح أن َتخذ ذهب القدمي‪ ،‬وتذهب إىل احملل الذي تريد أن تشرتي منه ذهبًا‬
‫القدمي‪ ،‬ويعطي مقابله الذهب اجلديد‪ ،‬بل جيب أن تبيع وتقبض وَتخذ مال يف يدك‪ ،‬مث تشرتي مبال الذي بيدك ما تريد‬
‫حرا متام احلرية يف شرائ للذهب اجلديد‪ ،‬وسا حيصل ل غش‪ .‬فأنت لو بعت الذهب‬
‫منه‪ ،‬من أجل فض النزاعات‪ ،‬فتكون ًّ‬
‫ابلذهب‪ ،‬فإن ستندم على القدمي بعدما تنتهي لذة اجلديد‪ ،‬وستقول‪ :‬ذاك كان أثقل‪ ،‬وأجود‪ ،‬وأفضل‪ .‬ولذا نقول‪ :‬بع‪ ،‬واقبض‬
‫مثنه‪ ،‬مث اشرت ما تريد‪.‬‬

‫املعاوضات ابب خطري من أبواب اخلالف‪ ،‬وساحظ هذا عندما يتعاوض اإلخوان يف البيت الواحد‪ ،‬فهم يتعاوضون إىل أن‬
‫تشتعل بينهم احلرب‪ ،‬فيقول األخ ألخيه‪ :‬أنت أخذت حقي! فريد اآلخر عليه‪ :‬لكن أنت من‬ ‫ينتهي مرادهم‪ ،‬مث بعد ذل‬
‫أعطيتين إايه! وهكذا‪.‬‬

‫هذا النموذج هو النموذج الكبري الذي أتت الشريعة فحكمت به‪.‬‬

‫علي أن أتقابض‪ ،‬مث أرجع مرة أخرى وأشرتي منه؟! سا داعي هلذا‪ ،‬وإمنا أعطيه ويعطيين‪ ،‬وينتهي‬
‫لو قال أحدهم‪ :‬ملاذا َّ‬
‫املوضوع! نقول‪ :‬سا! أنت سابد أن متتثل أمر الشريعة؛ ل‪-‬ما يف ذل من ُحسن‪ ،‬فأنت بنفس سا تعرف نفس ‪ ،‬وهذه الشريعة‬
‫شرعها ل احلكيم العليم الذي يعلم َمن أنت‪ ،‬ويعلم أن لو قبضت املال ستذهب من قلب حرارة الفقد‪ ،‬مث َتيت بعد ذل‬
‫حالوة اساقتناع‪ .‬جرب هذا وستفهم‪ ،‬فإن للفقد حرارة ولالقتناء حالوة سا تعوض‪.‬‬

‫أنت عندما َتخذ الفلوس ستذهب حرارة الفقد‪ ،‬وعندما تشرتي أنت بنفس بكامل حريت ستأتي حالوة اساقتناع‪ ،‬مث‬
‫حرا‪ ،‬ل أن تبيع هنا وتشرتي هناك‪ .‬هذا ابإلضافة إىل ما حيدث يف معاوضات الذهب ابلذهب من الغش‬
‫أن هكذا ستصبح ًّ‬
‫يف ذل ‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬يعلم حباجة الناس إىل املعاوضات‪ ،‬وشرع هلم يف دينهم ما حيملهم على‬
‫عز َّ‬
‫واملقصود أن من حماسن الشريعة أن هللا‪َّ -‬‬
‫املعاوضة أبقل مشاكل مكنة‪ ،‬حبيث يستفيدون وسا يتضررون من حصول املعاوضات املـُفسدة ملاهلم‪.‬‬

‫مثاسا آخر‪ ،‬وهو‪" :‬ما جاءت به الشريعة من إابحة الطيبات من املطاعم واملشارب واملالبس واملناكح‬
‫مث ضرب الشيخ ً‬
‫وغريها‪.‬‬

‫فكل طيب انفع فقد أابحه الشارع من أصناف احلبوب والثمار‪ ،‬وحلوم احليواانت البحرية مطل ًقا‪ ،‬واحليواانت الربية‪ ،‬ومل‬
‫مينع من هذا إال كل ٍ‬
‫خبيث ٍّ‬
‫ضار على الدين أو العقل أو البدن أو املال‪.‬‬

‫يضرهم‪ ،‬ومن حماسن‬


‫فما أابحه فإنه من إحسانه سبحانه‪ ،‬وحماسن دينه‪ .‬وما منعه فإنه من إحسانه‪ ،‬حيث منعهم َا ّ‬
‫دينه‪ ،‬حيث إن احلُسن اتبع للحكمة واملصلحة‪ ،‬ومراعاة املضار‪".‬‬

‫من حماسن الدين‪ :‬ما جات به الشريعة من إابحة الطيبات من املطاعم واملشارب واملالبس واملناكح‪ ،‬ويقابل ذل أهنا مل حترم‬
‫إسا اخلبيث‪-‬أي‪ :‬ما يضر‪.-‬‬

‫فأنت دجد أن ابب اإلابحة واسع‪ ،‬وابب التحرمي ضيق‪ ،‬فلم حيرم إسا كل ما يضر الدين أو العقل أو البدن أو املال‪ ،‬وهذا‬
‫األمر معلوم مفهوم‪ ،‬مبعىن أن الشرع حرم يف املال‪ :‬الراب؛ ملا فيه من ضرر‪ ،‬وحرم يف العالقات اجلنسية ما فيه ضرر‪ ،‬وحرم يف‬
‫األكل والشرب ما فيه ضرر على العقل وعلى البدن‪ ،‬فكل ما أس َكَر أصبح حر ًاما؛ ألن العقل حمفوظ‪ ،‬وكل ما أهل البدن مثل‬
‫السموم وما يقرتب منها أصبح حر ًاما؛ ألن هذا يؤدي إىل هالك البدن الذي هو أمانة عندك‪.‬‬

‫أقل اخلبيث!‬
‫إ ًذا من حماسن الشريعة أهنا ما حرمت إال اخلبيث‪ ،‬وأحلّت كل طيب‪ .‬واحلمد هلل ما أكثر الطيب‪ ،‬وما ّ‬

‫وهلذا عندما يتفلسف أحدهم فيقول‪ :‬ملاذا إذا ذحبنا الذبيحة أبنفسنا‪ ،‬ومسينا عليها‪ ،‬أصبحت طيبة؟ وإذا تردت ووقعت‬
‫فماتت أصبحت خبيثة؟ سنقول‪ :‬حىت لو مل نعلم الكالم املعاصر‪-‬الذي يدل على أن هنا جيتمع الدم اخلبيث‪...‬واخل‪ ،-‬وتركنا‬
‫ومسي عليه فأُهنر دمه فإن هذا هو احلالل الطيب‪ ،‬وخالفه خبيث‪ ،‬وإن مل أطلع على‬
‫هذا كله‪ ،‬فإننا نعتقد حكمة هللا‪ ،‬فما ذُبح ُ‬
‫خبثه‪ ،‬فكل ما مل يُسم عليه‪-‬أي‪ :‬مل يقال عليه عند الذبح‪ :‬بسم هللا‪-‬فهو خبيث‪ ،‬سواء تبني ل خبثه أو مل يتبني‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫الشريعة بينت ل أن ما ُمسي عليه فهو طيب‪ ،‬وما مل يُسم عليه فهو خبيث‪ ،‬مث َتيت اساكتشافات املعاصرة فتقول‪ :‬أن هذا‬
‫الذي مل يُ َنهر دمه ومل يُسم عليه يكون فيه من اخلُبث يف دمه ما هللا به عليم‪ ،‬لكن هل أنت ستنتظر أن يقول ل هؤساء‪ :‬هذا‬
‫خبيث وهذا طيب؟ أم أن مؤمن ابلغيب؟!‬

‫وجل‪-‬حكيم فإنه سيُظهر ل‬


‫عز َّ‬
‫إذًا من حماسن الشريعة أهنا أابحت كل طيب‪ ،‬وحرمت كل خبيث‪ ،‬وإن آمنت أبن هللا‪َّ -‬‬
‫الطيب فيما أحله‪ ،‬واخلبث فيما حرمه‪ ،‬فالعبد حمفوظ يف دينه‪ ،‬ويف بدنه‪ ،‬ويف عرضه‪ ،‬ويف عقله‪ ،‬ويف ماله‪ ،‬وما ُحرم شيء إسا‬
‫حلفظ هذه الكليات اخلمس‪.‬‬

‫مث قال‪" :‬وكذلك ما أابحه من األنكحة‪ ،‬وأن للعبد أن ينكح ما طاب له من النساء مثىن وثالث ورابع؛ ملا يف ذلك من‬
‫مصلحة الطرفني‪ ،‬ودفع ضرر اجلانبني‪.‬‬

‫ومل يبح للعبد اجلمع بني أكثر من أربع حرائر؛ ملا يرتتب على ذلك من الظلم وترك العدل‪.‬‬

‫حرصا على‬
‫مع أنه حثّه عند خوف الظلم‪ ،‬وعدم القدرة على إقامة حدود هللا يف الزوجية على االقتصار على واحدة؛ ً‬
‫نيل هذا املقصود‪.‬‬

‫وكما أن الزواج من أكرب النعم ومن الضرورَّيت‪ ،‬فإابحة الطالق كذلك؛ خشية عيشة اإلنسان مع َمن ال تالئمه وال‬
‫س َعتِ ِه} "‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِ‬ ‫توافقه‪ ،‬واضطراره للبقاء يف ضنك احلال وشدة العسر‪{ :‬إِن يَـتَـ َف َّرقَا يـُغْ ِن ّ‬
‫اَّللُ ُكالًّ ّمن َ‬

‫وجل‪-‬أابح الطيبات من كل شيء‪ ،‬وحرم اخلبائث من كل شيء‪ ،‬سواء كان يف‬


‫عز َّ‬
‫هذه النقطة اتبعة ملا مضى‪ ،‬وهي أن هللا‪َّ -‬‬
‫املطاعم واملشارب‪ ،‬أو حىت يف املناكح والزواج والطالق‪ ،‬فأابح الزواج‪ ،‬وأابح الطالق‪ ،‬يف مقابل أن القوانني الوضعية متنع الطالق‬
‫وتسمح ابلعشيق!!‬

‫أيضا‪" :‬ما شرعه هللا ورسوله بني اخللق من احلقوق اليت هي صالح وخري وإحسان وعدل وقسط وترك‬
‫ً‬ ‫ومن ذل‬
‫للظلم‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة النساء‪)130 :‬‬


‫‪166‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وذلك كاحلقوق اليت أوجبها وشرعها للوالدين‪ ،‬واألوالد‪ ،‬واألقارب‪ ،‬واجلريان‪ ،‬واألصحاب‪ ،‬واملعاملني‪ ،‬ولكل واحد من‬
‫الزوجني على اآلخر‪.‬‬
‫وكلها حقوق ضرورَّيت وكماليات‪ ،‬تستحسنها الفطر والعقول الزاكية‪ ،‬وتتم هبا املخالطة‪ ،‬وتتبادل فيها املصاحل‬
‫واملنافع‪ ،‬حبسب حال صاحب احلق ومرتبته‪.‬‬
‫وكلما تف ّكرت فيها رأيت فيها من اخلري وزوال الشر‪ ،‬ووجدت فيها من املنافع العامة واخلاصة‪ ،‬واإللفة ومتام العشرة‪:‬‬
‫ما يشهدك أن هذه الشريعة كفيلة بسعادة الدارين‪.‬‬
‫حاصال فيها التعاون التام‬
‫ً‬ ‫ترى فيها هذه احلقوق جتري مع الزمان واملكان واألحوال والعُرف‪ ،‬وتراها ُحم ِّ‬
‫صلة للمصاحل‪،‬‬
‫على أمور الدين والدنيا‪ ،‬جالِبة للخواطر‪ ،‬مزيلة للبغضاء والشحناء‪.‬‬
‫وهذه اجلمل تعرف ابالستقراء والتتبّع َلا يف مصادرها ومواردها‪".‬‬

‫أيضا‪ :‬ما شرعه هللا ورسوله بني اخللق من احلقوق اليت فيها صالح وخري وإحسان وعدل وقسط‪ .‬واحلقوق‬
‫من حماسن الشريعة ً‬
‫معلومة‪ ،‬رتب الشرع احلقوق ترتيبًا منطقيًّا‪ ،‬فبدأ حبق هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬مث حبق الوالدين‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فهذا الرتتيب املنطقي جيعل‬
‫احلياة يف حالة من التوازن‪ ،‬حبيث أنه سا يُقدم صاحب حق أدىن على صاحب حق أعلى‪.‬‬

‫وقد رأينا من ضعف الشريعة يف قلوب اخللق أهنم سا يتوازنون يف مسألة احلقوق‪ ،‬فهم يسريون يف إعطاء احلقوق على هواهم‪،‬‬
‫ويطالبون اخللق يف إعطاء احلقوق على هواهم!‬

‫مثاسا‪( :‬اخللط بني حق الوالدين وحق الصحبة)‪.‬‬


‫ً‬ ‫أضرب يف ذل‬

‫أحياان زمالء أو صحبة فيها خري وصالح‪ ،‬لكنها تكون سببًا يف تقصريك يف حقوق الوالدين‪ ،‬وإذا قصرت يف حق‬
‫ً‬ ‫يكون ل‬
‫هؤساء الزمالء هامجوك! واملؤسف أهنم مستقيمون‪ ،‬فاملفرتض أن املستقيم إذا اجتمع مع مستقيم فإنه يعينه على أداء احلقوق‪ ،‬سا‬
‫أن يسبب له أزمة يف احلقوق!! وهكذا الزميالت جيتمعن على العلم والطلب‪ ،‬وتكون الزميلة سبب لتقصري األوىل مع زوجها‪ ،‬أو‬
‫أيضا يف األعمال‪ ،‬فتكون املوظفة ملتزمة بوظيفتها‪ ،‬لكن هلا زميلة تضغط عليها حىت ومها يف الدوام‪ ،‬مع‬
‫مع والديها! ويظهر هذا ً‬
‫أحياان تقول هلا‪ :‬نتدارس‪ .‬لكن كل شيء له حقوقه‪ ،‬فأان اآلن عندي وظيفة سابد أن‬
‫أهنما مستقيمتان! فتكلمها يف اهلاتف‪ ،‬و ً‬
‫أقوم هبا‪ ،‬أان اآلن عندي بر لوالدي‪ ،‬وجيب أن أقوم هبما‪ ،‬عندي حق للزوج جيب أن أقوم به‪ ،‬فتقول هلا‪ :‬أتؤنسني زوج ‪ ،‬أم‬

‫‪167‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫تتدارسني معي؟! نعم‪ ،‬إيناس الزوج رغم أنه ليس طلب للعلم لكنه واجب وحق من حقوقه‪ ،‬فاختلط األمر على الناس‪ ،‬واملشكلة‬
‫األكرب عندما خيتلط األمر على املستقيمني! فلو اختلط األمر على عامة الناس لكان األمر أهون‪ ،‬أما عندما خيتلط على‬
‫املستقيمني فهذا دليل على أهنم مل يروا حماسن الشريعة‪ ،‬ومل يتدارسوها‪.‬‬

‫فمن حماسن الشريعة أن يُق ّدم صاحب احلق األعلى على صاحب احلق األدىن‪ ،‬وإذا تزامحت احلقوق فإنه يبدأ ابألعلى‬
‫على األدىن‪ ،‬وأنت معذور يف إسقاط األدىن إذا تزاحم مع األعلى‪ ،‬معذور أن سا ترد على هاتف إذا كنت اآلن تقوم بعمل‪،‬‬
‫حىت إذا حصل لألدىن نوع ضرر يف مقابل أن األعلى حمفوظ حقه‪.‬‬

‫إىل أن نصل إىل تَ َدن غري مستوعب يف احلقوق عند الناس الذين ليس هلم دين‪ ،‬وهذا مثل ما تسمع يف اهلندوسية‪ ،‬أو داينة‬
‫السيخ الذين يعظمون البقرة‪ ،‬فإن هؤساء الذين يعظمون البقرة هلم مقالة‪ ،‬أوهلا يبدأ أبن يقال‪ :‬أمنا البقرة!! مث يعدد املصاحل‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬أمنا احلقيقية ترضعنا سنتني‪ ،‬وبعد ذل تكلفنا من األشغال ما يقضي عمران كله‪ ،‬لكن أمنا البقرة ترضعنا ابللنب عمرها‬
‫كله‪ ،‬وسا تطلب منا شيئًا‪ ،‬أمنا احلقيقية إذا ماتت ستحتاج جنازة‪ ،‬وأن نعمل هلا كذا وكذا‪ ،‬أما أمنا البقرة عندما متوت فإننا‬
‫سنستفيد منها كلها! وبعد هذا اساستنتاج العقلي الفاسد يقال‪ :‬إذًا َمن ستكون حقوقه أعلى؟‬

‫كالمهم هذا موجود ابلضبط ابلرتمجة احلرفية‪ ،‬وهو يُعد عندهم أكرب رأس يف اإلصالح اساجتماعي‪.‬‬

‫انظروا هلذا اسانقالب يف احلقوق الذي هو دليل على عدم استقامة الدين! لكن عندما ترتتب احلقوق واألولوايت فإن هذا‬
‫دليل على حماسن الدين‪.‬‬

‫مثاسا آخر تظهر فيه حماسن الدين وهو‪" :‬ما جاءت به الشريعة من انتقال املال والرتكات بعد‬
‫مث ضرب الشيخ‪-‬رمحه هللا‪ً -‬‬
‫املوت‪ ،‬وكيفية توزيع املال على الورثة‪.‬‬
‫ب لَ ُك ْم نَـ ْفعاً}(‪ ،)1‬فوضعها هللا بنفسه حبسب ما يعلمه من‬
‫وقد أشار تعاىل إىل حكمة ذلك بقوله‪{ :‬الَ تَ ْد ُرو َن أَيـُّ ُه ْم أَقـ َْر ُ‬
‫بربه وفضله‪ ،‬مرتِّبًا ذلك ترتيبًا تشهد العقول الصحيحة‬
‫قرب النفع‪ ،‬وما حيب العبد عادة أن يصل إليه ماله‪ ،‬وما هو أوىل ّ‬
‫حبُسنه‪ ،‬وأنه لو وكل األمر إىل آراء الناس وأهوائهم وإراداهتم حلصل بسبب ذلك من اخللل واالختالل وزوال االنتظام‬
‫وسوء االختيار ما يشبه الفوضى‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة النساء‪]11 :‬‬


‫‪168‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجعل الشارع للعبد أن يوصي يف جهات الرب والتقوى بشيء من ماله فيما ينفعه آلخرته‪ ،‬وقيَّد ذلك ابلثلث فأقل لغري‬
‫قياما للناس ملعبةً يتالعب هبا قاصرو العقول والدَّينة عند انتقاَلم من الدنيا‪ .‬أما‬
‫وارث؛ لئال تصري األمور اليت جعلها هللا ً‬
‫مانع َلم من صرفه فيما يضرهم غالبًا‪".‬‬
‫حاَلم يف حالة صحة األجسام والعقول‪ ،‬فيما خيشونه من الفقر واإلفالس ٌ‬

‫ووزعت بصورة توافق ما تقبله النفس‬‫أيضا مسألة انتقال األموال والرتكات‪ ،‬فإن األموال قُسمت ُ‬
‫من حماسن الشريعة ً‬
‫اإلنسانية‪ ،‬فيكون األقرب فاألقرب له نصيب من هذا املال‪ ،‬وإمنا ُشرع هذا لفض النزاعات‪ ،‬أما إذا قُسم املال على اهلوى‬
‫شبيها ابلفوضى!‬
‫فسيكون األمر ً‬

‫وجل‪-‬لصاحب املال أن يوصي يف جهات الرب والتقوى بشيء من ماله مبا ينفعه يف آخرته وقيَّده‬
‫عز َّ‬
‫جعل هللا‪َّ -‬‬ ‫ولذل‬
‫ابلثلث؛ لكيال حيكم عليه هواه حلظة املوت‪ ،‬فيَحرم من له حقوق‪ .‬وإذا قال قائل‪ :‬لكن صاحب املال يف الدنيا وهو على قيد‬
‫احلياة يكتب كذا وكذا ملن شاء؟! سنقول‪ :‬نعم‪ ،‬لكن ُش َّحه سيمنعه من دفع كل املال وهو يف متام صحته‪ ،‬وحينما يوش على‬
‫وجل‪-‬هو مال املل‬
‫عز َّ‬
‫املوت‪ ،‬ويرى أن نفسه ستذهب‪ ،‬ويكون له هوى يتخطفه‪ ،‬فإنه سيمنع هؤساء الورثة حقوقهم‪ ،‬وهللا‪َّ -‬‬
‫وهو الذي يؤيت املل من يشاء‪.‬‬

‫تصرفت الشريعة هبذا املخزون‪ .‬واملقصود أن هذا املال َخ مزنة أنت‬


‫ص َّور كيف ّ‬
‫إذا فهم العبد أنه على املال جمرد خازن لَتَ َ‬
‫على هذه اخلزنة‪،‬‬ ‫انتهت سلطت‬ ‫حارسا‪ ،‬وابتُليت كيف ستتصرف يف هذا املال املخزون؟ فإذا انقضت حيات‬ ‫تقف عليها ً‬
‫وانتقلت إىل غريك ليُبتلى هبا‪ ،‬ويُرى ماذا يفعل‪.‬‬

‫فعدم تصور املال على أنه عارية‪ ،‬وأن فيه متَـ َرب ُمبتلى‪ ،‬تُرى كيف ستفعل فيه‪ ،‬جيعل اإلنسان يظن أنه مال له‪ ،‬فيتصرف‬
‫فيه كما يشاء‪ ،‬وهلذا أتت الشريعة حتجزه عن ذل ‪ ،‬فال يقول أحد‪ :‬هذا مايل! أان حر فيه! نقول‪ :‬سا أنت جمرد خازن على‬
‫وجل‪.-‬‬
‫عز َّ‬
‫املال‪ ،‬حارس له‪ ،‬وال ُـمل ُمل هللا‪َّ -‬‬

‫وتنوعها حبسب اجلرائم‪.‬‬


‫أيضا‪" :‬ما جاءت به الشريعة اإلسالمية من احلدود ّ‬
‫ومن األمثلة ً‬
‫وخيتل به الدين والدنيا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهذا ألن اجلرائم والتعدي على حقوق هللا وحقوق عباده من أعظم الظلم الذي ُخي ّل ابلنظام‪،‬‬
‫حدودا تردع عن مواقعتها‪ ،‬وَت ّفف من وطأهتا‪ ،‬من القتل‪ ،‬والقطع‪ ،‬واجلَلْد‪ ،‬وأنواع‬
‫ً‬ ‫والتجرءات‬
‫ّ‬ ‫فوضع الشارع للجرائم‬
‫التعزيرات‪.‬‬
‫‪169‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫قاوم‬
‫وكلها فيها من املنافع واملصاحل اخلاصة والعامة ما يعرف به العاقل ُحسن الشريعة‪ ،‬وأن الشرور ال ميكن أن تُ َ‬
‫دفعا كامالً إال ابحلدود الشرعية اليت رتّبها الشارع حبسب اجلرائم قلةً وكثرًة‪ ،‬وشدةً وضع ًفا‪".‬‬
‫وتُدفَع ً‬

‫أبدا‪.‬‬
‫سنرى هذا احلُسن العظيم يف الشريعة‪ ،‬الذي هو نوع من احلُسن سا ُجياريه شرع يف األرض ً‬

‫لو نظران إىل مسألة احلدود والعقوابت وما أتى يف الشريعة منها‪ ،‬سنجد أهنا أتت يف موطنها الصحيح‪ ،‬ولن منثل عليها‪ ،‬وإمنا‬
‫سنمثل على ما يسمونه أبحكام الدميقراطية‪ ،‬أو الدميقراطية يف التحكيم‪.‬‬

‫ما معىن "الدميقراطية"؟ معناها‪ :‬شعب حيكم نفسه مبمثلني له‪ ،‬لكن املقصود يف األصل هو أن حيكم الشعب نفسه‪.‬‬

‫فمثال‪ :‬هذه جرمية سرقة حصلت يف هذه العمارة من هذا احلي‪ ،‬لو ُسئل أصحاب املال نفسهم‪-‬الذين حصلت هلم جرمية‬ ‫ً‬
‫السرقة‪ِ :-‬بَ حتكمون على السارق لو وجدانه؟ سيتمنون لو أهنم قتلوه؛ ألهنم ُهم الذين أُخذ ماهلم‪ ،‬ووقع هلم الرعب‪ ،‬وحصل هلم‬
‫اخلوف‪ ،‬فحاهلم سيكون على أشده من جهة املشاعر‪ .‬وحىت جرياهنم القريبون سيكون عندهم أثر خوف من هذه السرقة‪ ،‬ألن‬
‫هذا معناه أن اللص يدور يف احلي‪ ،‬وهلذا سيقولون‪ :‬لو وجدانه سنقطع يده‪ ،‬سنسجنه‪ ،‬سنفعل كذا وكذا‪ .‬لكن مجاعة احلي‬
‫اآلخر البعيد الذين مسعوا عن هذا اخلرب‪ ،‬لو ُسئلوا‪ :‬ماذا نفعل ابلسارق؟ أصحاب املال املسروق يريدون أن يقطعوا يده‪ ،‬ومجاعة‬
‫حمتاجا! فَـ ُهم أشخاص يف‬
‫أبدا‪ ،‬ما رأيكم؟ سيجيبون‪ :‬حرام! هذا كالم َمن سا قلب له! قد يكون اللص ً‬ ‫يريدون أن يسجنوه ً‬
‫خربا طفي ًفا‪.‬‬
‫طرف املدينة البعيد‪ ،‬مل يشعروا أبي مشاعر‪ ،‬وسا حصل هلم أي َتثر من وقوع السرقة‪ ،‬وإمنا مسعوه ً‬

‫سنأيت هبذه األقوال كلها‪ ،‬ونقول‪ :‬ماذا سنفعل اآلن؟ بعقل َمن سنحكم؟ هل سنحكم بعقل َمن َتثر وتضرر؟ أم بعقل الذي‬
‫قليال؟ أم بعقل الذي مل يصله شيء من الضرر؟ من املؤكد أن هذه العقول كلها ستختلف‬
‫جاوره؟ أم بعقل الذي بـَ ُعد عنه ً‬
‫عارض ورفض القصاص‪-‬هو الذي وقعت له السرقة فإن الدائرة‬
‫حبسب هواها‪ ،‬فنحن لو أ ََد مران الدائرة‪ ،‬وجعلنا البعيد‪-‬الذي َ‬
‫ستتحول‪ ،‬وسيصبح هو َمن يُطالب ابلقتل‪.‬‬

‫واملقصود‪ :‬أن مسألة احلدود هذه ال ميكن أن تكون حتت تفكري اخللق؛ ألهنم البد أن يتأثروا هبواهم‪ ،‬فاألحكام اليت‬
‫وح ْبس للناس عن اإلمث واملنكر ال تستطيعها النفوس؛ ألهنا تضع نفسها مكان مرتكب اجلرمية‪ ،‬أو‬
‫فيها منع‪ ،‬وفيها نوع َز ْجر َ‬
‫أبدا ملثل هذا‪.‬‬
‫متاما ضده‪ ،‬فالنفس سا تستوي ً‬
‫يعصف هبا اهلوى فيجعلها ً‬

‫‪170‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬هي أحسن أحكام ُوض َعت للخلق‪ ،‬بل كما مر معنا أن يف القصاص حياة‪ ،‬فأنت ترى‬
‫عز َّ‬
‫ولذل كانت أحكام هللا‪َّ -‬‬
‫وجل‪-‬من حكمة يف هذا‪ ،‬فهو العليم اخلبري الذي يعلم‬
‫عز َّ‬ ‫شخصا قد ذهب‪ ،‬لكن يف املقابل‪ُ :‬حفظَت حياة اخللق لما هلل‪َّ -‬‬
‫ً‬
‫ومن أَمن العقوبة أساء األدب‪ ،‬وهذا كله يف نفسيات الناس‪ ،‬فال يُطالَب‬
‫نفوس اخللق‪ ،‬فاحلد إذا وقع على اإلنسان خاف‪َ ،‬‬
‫الناس ابملثالية! الناس لو ما ُوض َعت هلم احلدود متادوا‪ ،‬وإذا ما خافوا فإهنم لن يبتعدوا عن اخلطأ‪ ،‬ولن يتوقفوا عن فعله‪.‬‬

‫اجلَ مهَر ابلس َوء م َن الم َق مول إساَّ َمن‬


‫ولذل ما تراه يف أحكام الشريعة‪ :‬ما ورد يف سورة النساء‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ساَّ ُحيب اَّللُ م‬
‫ظُل َم}(‪ ،)1‬مع أن اآلية اليت بعدها‪{ :‬إن تـُمب ُدوام َخ مرياً أ مَو ُختم ُفوهُ أ مَو تَـ مع ُفوام َعن ُس َوء فَإ َّن اَّللَ َكا َن َع ُفواً قَديراً}(‪ .)2‬يقول أهل العلم‪:‬‬
‫وجل‪-‬سا حيب اجلهر ابلسوء‪ ،‬وأن تتكلم على أحد إسا لو ظُلمت‪ ،‬أما اساستثناء هذا فيتعامل به‬
‫عز َّ‬
‫األصل يف الشرع‪ :‬أن هللا‪َّ -‬‬
‫َمن َوجد يف نفسه أنه لو ما تكلم عن ظُلمه نـَ َهَز إىل السيف‪ .‬فهناك نفوس ربنا خلقها شديدة‪ ،‬فيها محية قوية لنفسها‪ ،‬لو‬
‫ظُلمت وما تكلمت عن ظلمها وأمرهتا الشريعة ابلسكوت‪ ،‬فإهنا ستذهب وَتخذ السيف وتقتل ظاملها‪ ،‬فمن أجل تنفيس ما يف‬
‫قلوب هؤساء أُذن هلم أن يتكلموا عن ظلمهم ويشتكوا؛ لئال يتحول هذا الغيظ إىل اعتداء أكرب منه‪.‬‬

‫شرعا ألطف‬
‫وأتت اآلية اليت بعدها مباشرة تدعوان إىل العفو‪ ،‬وعدم معاملة اخللق إسا مبا حنب أن يعاملنا هللا به‪ ،‬فهل ترى ً‬
‫وجل‪-‬سا حيب اجلهر ابلسوء‪ ،‬سا حيب أن تتكلم عن الناس‪ ،‬لكن إن كنت سا تقدر على العفو‪،‬‬
‫عز َّ‬
‫من هذا راعى النفوس؟! هللا‪َّ -‬‬
‫وسا تستطيع السكوت عما أصاب من ظلم فتكلَّم؛ لكيال تتحول َمجرة الظلم هذه إىل اعتداء أعلى‪ .‬فانظر إىل لطافة احلكم‪،‬‬
‫أيضا من سا يستطيع ضبط نفسه‪ ،‬ذكر األعلى‪ ،‬وذكر األدىن‪ ،‬حبيث يستطيع‬
‫وكيف أنه راعى َمن يستطيع ضبط نفسه‪ ،‬وراعى ً‬
‫فمن َرَّوض نفسه واستطاع أن يعفو سيعامله هللا ابلعفو‪َ ،‬ومن سا يستطيع ذل ف مليتكلَّم عند َمن‬
‫كل الناس الدخول حتت هذا‪َ ،‬‬
‫ينفعه الكالم معه‪ ،‬حبيث خترج هذه اجلمرة وتنطفئ‪ .‬وأنتم تعرفون أن بعض املظلومني يرون أن الكالم ينفس عنهم‪ ،‬وبعضهم يرى‬
‫أن الكالم سا جيدي شيئًا‪.‬‬

‫واملقصود هو أن ننظر لسماحة الشريعة وحماسنها‪ ،‬وكيف أهنا راعت كل اخللق‪ ،‬وأن األحكام كلها أتت يف مواطنها‪.‬‬

‫ومن األمثلة على ُحسن الشريعة‪" :‬ما جاءت به الشريعة من األمر ابحلَ ْجر على اإلنسان عن التصرف يف ماله إذا كان‬
‫ضرا به أو بغريه‪.‬‬
‫تصرفه ُم ًّ‬

‫)‪[ )1‬سورة النساء‪]148 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة النساء‪]149 :‬‬
‫‪171‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وذلك كاحلَ ْجر على اجملنون والصغري والسفيه وحنوهم‪ ،‬واحلَ ْجر على الغرمي ملصلحة غُرمائه‪.‬‬

‫وكل هذا من حماسن الشريعة‪ ،‬حيث منعت اإلنسان من التصرف يف ماله الذي كان يف األصل مطلق التصرف فيه‪،‬‬
‫ولكن ملا كان تصرفه ضرره أكثر من نفعه وشره أكرب من خريه َح َج َر عليه الشارع َح ْج ًرا للتصرفات يف ميدان املصاحل‪،‬‬
‫وإرشادا للعباد أن يسعوا يف كل تصرف انفع غري ضار‪".‬‬
‫ً‬

‫وهذا األمر ظاهر‪.‬‬

‫ماسا‪ ،‬إذا أُطلقت يده يف املال استطاع كل أحد أن ميكر به‪ ،‬وتأخذ ماله‪ ،‬أو ضيعه هو يف َس َفه‪،‬‬
‫مثال‪ :‬هذا طفل صغري َورث ً‬
‫ً‬
‫وعندما يكرب يلوم الناس الذين حوله‪ ،‬ويقول‪ :‬ملاذا مل متنعوين؟! ملاذا مل تُرشدوين للصواب؟!‬

‫ماسا‪ ،‬كمديرة مدرسة وعندها معلمات‪ ،‬وهذه املديرة مل حتصل على أموال من‬
‫أو من وجه آخر‪ :‬يكون اإلنسان قد غرم ً‬
‫الطالب من أجل أن تعطي املعلمات رواتبهم‪ ،‬وبقي احلال على هذا يف الشهر األول والثاين والثالث‪ ،‬وأتوا قبل اساختبارات أو‬
‫وبدسا من أن‬
‫أثناءها وقالوا للطالب‪ :‬لن نعطيكم شهاداتكم إسا إذا أعطيتموان أقساط املدرسة‪ ،‬فأخذت املديرة أقساط املدرسة‪ً ،‬‬
‫تعطي املعلمات رواتبهم‪ ،‬أخذت األقساط وسافرت هبا!!‬

‫وحجر‬
‫فدعيت هذه املديرة إىل احملكمة‪ُ ،‬‬
‫حكما من احملكمة ابحلجر على أموال املديرة‪ُ ،‬‬
‫فذهب أصحاب الرواتب واستصدروا ً‬
‫عليها يف التعامل مع ماهلا‪ ،‬ابلرغم من أن هذا ماهلا‪ ،‬وهو موضوع يف البن ابمسها‪ ،‬لكن هل ُيع َقل أن حتجز هي للسفر‪،‬‬
‫وتؤجل رواتب هؤساء املعلمات للعام القادم؟!! هل فعل املعلمات صحيح؟ ابلطبع صحيح‪ ،‬سا بد‬
‫وتصرف املال يف عشرة أايم‪َّ ،‬‬
‫أن حيجروا عليها ولو كان هذا ماهلا؛ ألجل أن تأخذ هؤساء الغرماء حقهم‪ ،‬وما يتبقى من املال فهو هلا‪ ،‬تذهب به مكان ما‬
‫تريد!‬

‫موقف الناس من مثل هذه األحداث خيتلف على حسب موضعهم من الدائرة‪ ،‬فإن الناس البعيدون عن هذا هامجوا احملاكم‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬كيف ُحي َجر على ماهلا؟ ماهلا هذا ملكها! واملعلمات أصحاب َديمن‪ ،‬وعندما ترجع هي من سفرها تتصرف معهم!!!‬

‫‪172‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫واملقصد من هذا هو أن ننظر حلفاظ الشريعة على احلدود‪ ،‬وعلى استقرار الناس‪ ،‬وعدم تالعب الناس ببعضهم‪ ،‬فاحلَجر من‬
‫املصاحل الشرعية‪ ،‬اليت سا دجعل السفيه يتصرف يف املال‪ ،‬وسا دجعل اجملنون يتصرف يف املال‪ ،‬وإن كان بعض الناس استعملوا احلجر‬
‫أصال من املصاحل الشرعية‪.‬‬
‫فيما سا يليق‪ ،‬لكن احلجر ً‬

‫ومن صور حماسن الشريعة‪" :‬ما جاءت به الشريعة من مشروعية الواثئق اليت يتوثّق هبا أهل احلقوق‪.‬‬
‫وذلك كالشهادة اليت تُستوىف هبا احلقوق‪ ،‬ومتنع التجاحد‪ ،‬ويزول هبا االرتياب‪.‬‬
‫وكالرهن‪ ،‬والضمان‪ ،‬والكفالة‪ ،‬اليت إذا تعذر االستيفاء َّن عليه احلق رجع صاحب احلق إىل الوثيقة اليت يُستوىف منها‪.‬‬
‫وال خيفى ما يف ذلك من املنافع املتنوعة‪ ،‬وحفظ احلقوق‪ ،‬وتوسيع املعامالت‪ ،‬ور ّدها إىل القسط والعدل‪ ،‬وصالح‬
‫األحوال‪ ،‬واستقامة املعامالت‪.‬‬
‫فلوال الواثئق لتعطّل القسم األكرب من املعامالت‪ ،‬فإهنا انفعة للمتوثِّق‪ ،‬انفعة ملن عليه احلق من وجوه متعددة معروفة‪".‬‬

‫من حماسن الشريعة‪ :‬التوثيق يف الديون واحلقوق‪.‬‬

‫ب عليه احلق‪-‬إذا اعتمد على ذاكرته سينسى‪ ،‬ويدخل الناس يف‬ ‫وج َ‬
‫أان أتذكر ما يل عند فالن‪ ،‬لكن نفس احملقوق‪-‬الذي َ‬
‫إشكاسات سا هناية له‪ ،‬فال يُعتمد على الذاكرة حىت يف العالقات احلسنة‪ ،‬وإمنا من الواجبات علينا أن تُسجل احلقوق(‪ ،)1‬سواء‬
‫كانت الديون أو التبادسات النفعية‪ ،‬مثل‪ :‬القروض‪...‬وإخل‪.‬‬

‫على كل حال هذا جزء يسري من الكالم على حماسن الشريعة‪.‬‬

‫*سأطلب منكم للقاء القادم أن ُحتضروا معكم جدول مواطن ورود اسم هللا (احلكيم)‪ ،‬فنحن عند بداية كالمنا عن اسم هللا (احلكيم) ذكران أن‬
‫هذا اساسم ورد يف القرآن أكثر من مائة مرة‪ ،‬واتفقنا أنكم ستستخرجون هذه املواطن من املعجم املفهرس أللفاظ القرآن‪ ،‬وتكتبوهنا يف جدول‪.‬‬

‫)‪ (1‬كما أوجبت ذل بعض املذاهب‪ ،‬وبعضها يرى أن العبد تأمث إذا ما وثق وكتب‪ ،‬وهناك َمن يرى أن هذا للنَّدب‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء الثالث عشر‬

‫‪174‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬
‫ُ‬

‫سازلنا بفضل هللا ومنته نتدارس هذا اساسم العظيم‪ ،‬اسم هللا (احلكيم)‪ ،‬ونسأله‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬إبذنه وأبمره وبفضله أن‬
‫تستقر يف قلوبنا معاين هذا اساسم العظيم؛ فنتمتع به يف حياتنا‪ ،‬وخنرج ابلنتائج من دراسته‪ ،‬اليت من أمهها‪ :‬الرضا عن هللا‪ ،‬فإن‬
‫الرضا عن هللا إذا وقع يف القلب كانت تل هي النفس املطمئنة اليت يُقال هلا‪ { :‬مارجعي إ َ َٰىل َرب َراضيَةً َّم مرضيَّةً}(‪ ،)1‬فمن عاش‬
‫حياتَه راضيًا عن هللا يف أفعاله‪ ،‬وأحكامه‪ ،‬وشرعه‪ ،‬وتصنيفه‪ ،‬وأوامره فإنه سيتمتع هبذه النفس املطمئنة‪.‬‬

‫ني َذل َ َسا إ َىل َه ُؤَساء َوَسا إ َىل‬


‫ني بـَ م َ‬
‫والذي جيعل أهل النفاق يرتددون يف نفاقهم‪ ،‬وسا يلوون على شيء‪ ،‬ويكونون { ُم َذبم َذب َ‬
‫َه ُؤَساء}(‪ )2‬هو أهنم مراتبون‪ ،‬يف ريبهم يرتددون‪ ،‬مث إهنم يرتبصون‪ ،‬بسبب أهنم سا يقني عندهم‪ ،‬فهم إذا وجدوا نتائج مادية من‬
‫وجل‪-‬يف وصفهم‪-‬الذي سا نزال خناف منه‪ ،‬وسابد أن حنذره‪َ { :-‬وَٰلَكنَّ ُك مم‬ ‫عز َّ‬ ‫الشرع قَبلوا به‪ ،‬وإذا مل جيدوا تركوه! وهلذا يقول هللا‪َّ -‬‬
‫ور}(‪.)3‬‬
‫اَّلل َو َغَّرُكم اب ََّّلل المغَُر ُ‬
‫صتُ مم َو مارتَـمبـتُ مم َو َغَّرتم ُك ُم ماأل ََماين َح َّ َٰىت َجاءَ أ مَم ُر َّ‬
‫فَـتَنتُ مم أَن ُف َس ُك مم َوتَـَربَّ م‬

‫وح ْكمه؛ فمن آاثر اإلميان‬


‫وجل‪ُ -‬‬
‫عز َّ‬
‫فمن فَـ ََت نفسه‪ ،‬وتربّص‪ ،‬واراتب‪ ،‬فإنه فعل هذا كله ألنه ال يُؤمن حب ْك َمة هللا‪َّ -‬‬
‫َ‬
‫ابسم (احلكيم)‪ :‬طرد النفاق‪ ،‬ووراثة الطمأنينة‪.‬‬

‫النفس املطمئنة هي النفس املتي ّقنة بكمال هللا‪ ،‬وابستحقاقه لأللوهية‪ ،‬وبكمال شرعه‪ ،‬ودينه‪ ،‬وأمره‪ ،‬وقضائه‪ ،‬وقدره‪.‬‬

‫سنناقش اليوم جزءًا آخر من الكالم حول (حماسن الدين) اليت تظهر فيها حكمة هللا يف شرعه‪ .‬سنأخذ ما تيسر‪ ،‬مث ننتقل‬
‫وغدا إن شاء هللا سيكون كالمنا عن مجَمع اسم هللا‬
‫إىل (حكمة هللا يف أمره وقضائه)‪ ،‬وهذا سيكون آخر جزء ابلنسبة لنا‪ً .‬‬
‫[احلكيم] من القرآن‪ ،‬وبعد غد سنمر من جديد على اساسم كامالً ابلتقريرات اليت خرجنا هبا‪-‬إن شاء هللا‪.-‬‬

‫حنن نتكلم عن شيء من حماسن الدين؛ ألن هذا يُربز لنا حكمة هللا يف شرعه‪ .‬وحنن نتبع هذه الطريقة يف دراسة األمساء؛‬

‫وجل‪-‬واسعة يف فهمها‪ ،‬مبعىن أنه حىت تتمكن من فهم اسم واحد فإن حتتاج أن تقضي جزءًا ً‬
‫كبريا‬ ‫عز َّ‬‫لنفهم أن أمساء هللا‪َّ -‬‬
‫من حيات يف البحث إىل أن تتبني ل معاين اساسم‪ .‬وها حنن قد تنقلنا من مكان إىل مكان وحنن نناقش اسم هللا [احلكيم]‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة الفجر‪]28 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة النساء‪]143 :‬‬
‫)‪[ )3‬سورة احلديد‪]14 :‬‬
‫‪175‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫سنعدد اآلن‪ :‬ماذا درسنا خالل اسم هللا [احلكيم]؟‬

‫وجل‪:‬‬
‫عز َّ‬
‫فتحنا يف أول يوم كتاب "فقه األمساء احلسىن"‪ ،‬وقرأان معىن اساسم من أوله آلخره‪ ،‬وخرجنا أبننا فهمنا أن هللا َّ‬

‫‪-‬له احلُكمم‪.‬‬

‫ممة‪.‬‬
‫‪-‬وله احلك َ‬
‫ممة ألن احلُكمم سيأيت من ورائها‪ ،‬واتفقنا على أن هللا [احلكيم] هو الذي له احلكمة البالغة‪:‬‬
‫وكان تركيزان على احلك َ‬
‫‪-‬يف خلقه‪.‬‬

‫‪-‬ويف أمره‪.‬‬

‫‪-‬ويف شرعه‪.‬‬

‫بدأان أوساً حبكمته يف خلقه‪ ،‬وأتينا جبملة من كالم املؤلف‪ ،‬اليت قال فيها‪" :‬أما احلكمة يف اخللق‪ :‬فإنه سبحانه خلق اخللق‬
‫ومشتمال على احلق"‪ .‬أخذان هاتني اجلملتني‪ ،‬وخرجنا للقرآن‪ ،‬وبدأان نبحث عن ورود كلمة (احلق) يف خلق السماوات‬
‫ً‬ ‫ابحلق‪،‬‬
‫واألرض‪ ،‬ويف غري ذل ‪ ،‬وتبني لنا معىن (ابحلق)‪ ،‬وتبني لنا عكسها‪ :‬معىن (ابلباطل)‪ ،‬وقضينا يف هذا يومني‪.‬‬

‫مشتمال على احلق"‪ ،‬وقلنا إن هذا معناه أن َتيت إىل ملوقات هللا وترى فيها احلق‪ ،‬وظهور‬
‫ً‬ ‫مث أردان أن نعرف ما معىن "‬
‫ح مك َمة هللا فيها‪ ،‬وأن هللا قد وضع كل شيء يف موضعه‪ .‬واتفقنا كيف تُدرس مثل هذه األمور‪ ،‬وانتهينا إىل أن قرأان جزءًا من‬
‫كالم ابن القيم‪-‬رمحه هللا‪-‬يف كتابه‪" :‬مفتاح دار السعادة"‪.‬‬

‫مث تكلمنا بعد ذل عن حكمة هللا يف شرعه‪ ،‬ودخل حتت هذا ثالثة أمور‪:‬‬

‫وجل‪-‬احلكيم أرسل الرسول‪ ،‬وأيده ابملعجزات‬ ‫األمر األول‪ :‬حكمته يف إرسال الرسول‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ .-‬فاهلل‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫اليت تدل على صدق نبوته‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ت َرب َ ص مدقًا َو َع مدًسا}(‪.)1‬‬ ‫األمر الثاين‪ :‬حكمته يف إنزال القرآن الذي فيه الشرع‪ ،‬وترى فيه كمال احلكمة‪َ { ،‬وَمتَّ م‬
‫ت َكل َم ُ‬
‫وجل‪-‬يف القرآن‪.‬‬
‫عز َّ‬‫منوذجا لبيان حكممة هللا‪َّ -‬‬
‫وطبقنا على سورة (ص)‪ ،‬فكانت ً‬

‫وجل‪-‬يف شرعه من جهة األحكام‪ ،‬ويظهر ذل عند البحث عن حماسن الدين‪.‬‬ ‫األمر الثالث‪ :‬حكمة هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬

‫سنكمل قراءتنا يف رسالة الشيخ السعدي‪-‬رمحه هللا‪"-‬الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي"‪.‬‬

‫ممة هللا يف أمره‪ ،‬واملراد أبمر هللا هنا‪ :‬قضاؤه وقدره‪.‬‬


‫مث بعد ذل سنتكلم عن حك َ‬
‫شارع َعليه ِمن ا ِإلحس ِ‬
‫ان‬ ‫ث ال ّ‬
‫"ما َح ّ‬
‫َْ‬ ‫ذكر الشيخ السعدي‪-‬رمحه هللا‪-‬يف رسالته أمثلة انفعة تظهر فيها حماسن الدين‪ ،‬منها‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كسب ِ‬ ‫ال ّذي ي ِ‬
‫كسب َهذا النّوع‬ ‫صاحبه األج ِر ع ْند هللا ْ‬
‫واملعروف عن َد النّاس‪ُ ،‬مث يرجع إليه ماله بعينه أو بَدله‪ ،‬فَي ُكون َم َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ض َرر‪.‬‬ ‫املكاسب‪ ،‬دو َن أ ْن يلَحق ص ِ‬
‫احبه َ‬ ‫ِ‬ ‫أجل‬
‫َ َ‬ ‫ّ‬

‫لقرض‪ ،‬واَ َلعاريّة‪َ ،‬و ِحنومها‪.‬‬ ‫َوذلِ َ‬


‫ك كاَ ْ‬
‫ِ‬
‫صى‪.‬‬ ‫اجات‪ ،‬وتَفريِج ال ُك ُرَابت‪ ،‬وحصول اخلريات ّ‬
‫واملربات َما َال يُع ّد وال ُحي َ‬ ‫املصاحل‪َ ،‬وقَضاء احلَ َ‬
‫فإن يف ذلك من َ‬

‫ك ِم َن اخلَ ْري‬
‫ومج ًيال‪َ ،‬م ْع َما ي ْتبع َذلِ َ‬
‫س ًاان َ‬ ‫ذر عن َد أخيِه ْ‬
‫إح َ‬ ‫أجرا جزيالً‪ ،‬وبَ َ‬
‫احبه يـرجع إِليه ماله‪ ،‬وقد اس ِ‬
‫تفاد م ْن َربِه ً‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫وص ِ‬
‫َ‬
‫الصدر‪ ،‬وحصول األُل َف ِة واملو ّدة‪.‬‬ ‫والربَكة‪ ،‬وانْ ِش َر ِ‬
‫اح َّ‬ ‫َ‬

‫مت ا ِإل َش َارةُ إِ َىل ِح ْك َمتِه ِيف الزَكاة َوالصدقة "‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫وأما ا ِإلحسا ُن احملض الّذي ي ِ‬
‫عطيه صاحبه جمَّ ًاان وال يرجع إِلَ ِيه‪ ،‬فقد تَـ َق ّد ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ْ َ‬

‫وجل‪-‬حيث الناس على القرض‪ .‬والقرض والعارية متلفان عن الصدقة‪ ،‬فقد ورد يف احلديث أن‬
‫عز َّ‬
‫من حماسن الدين‪ :‬أن هللا‪َّ -‬‬
‫(‪)2‬‬
‫مثاسا‪ :‬يكون ل‬
‫ضاعف إىل مثانية عشر ضع ًفا ‪ ،‬ولنفهم سبب ذل سنضرب ً‬
‫ضاعف بعشرة أمثاهلا‪ ،‬أما القرض فيُ َ‬
‫الصدقة تُ َ‬
‫مائة ألف رايل‪ ،‬وتريد أن ُخترج منها صدقة‪ ،‬ستحسب أهنا إذا خرجت لن تعود ل يف الدنيا‪ ،‬وبناءً على ذل ستتصدق بعشرة‬

‫)‪[ (1‬سورة األنعام‪]115 :‬‬


‫)‪ )2‬روى ابن ماجه يف سننه‪ /‬يف كتاب الصدقات‪ /‬ابب القرض‪ )2431( /‬عن أنس بن مال ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬رأيت ليلة أسري ب على‬
‫ابب اجلنة مكتواب‪ :‬الصدقة بعشر أمثاهلا‪ ،‬والقرض بثمانية عشر‪ ،‬فقلت‪ :‬اي جربيل ما اب ل القرض أفضل من الصدقة؟ قال‪ :‬ألن السائل يسأل وعنده‪ ،‬واملستقرض سا‬
‫يستقرض إسا من حاجة " [حكم األلباين]‪ :‬ضعيف جدًّا‪.‬‬
‫‪177‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫آساف فقط‪ ،‬لكن يُقال ل يف القرض‪ :‬اعطه ولو تسعني أل ًفا‪-‬مثالً‪ ،-‬وستُؤجر على هذا مثانية عشر ضع ًفا‪ ،‬مع اعتقادك أن‬
‫املقرتض سريدها إلي ‪ ،‬فتكون مبثابة املغامرة‪.‬‬

‫هناك فرق بني أن تعطي وأنت تعرفني أن هذا املال لن يرجع ل ‪ ،‬وبني أن تعطي وأنت على انتظار الرد‪ ،‬وسا زالت ملكية‬
‫أحدا؛‬
‫األمر موجودة يف نفس ‪ ،‬فهذا فيه نوع مشاحة حتتاج إىل عالج‪ ،‬وهلذا يقول كثري من الناس‪" :‬أان أتصدق‪ ،‬وسا أُقرض ً‬
‫ألن القرض سيلزم مين السعي وراء املقرتض ملطالبته مبايل"‪ .‬مع أن أجر القرض يف املضاعفة أعلى من أجر الصدقة؛ ألن يف‬
‫القرض ستعطي أكثر‪ ،‬فأنت قد تُقرض مببلغ تسعني أل ًفا؛ ألن مطمئن أبهنا ستعود‪ ،‬لكن يف الصدقة لن ُخترج إسا عشرة آساف‪،‬‬
‫مع أن الناس حول حمتاجون أن تقرضهم تسعني‪ ،‬سا أن تتصدق عليهم بعشرة!‬

‫ولو انتشر مثل هذا األمر حلصل من اخلري للبالد والعباد ما يكفينا شر البنوك الربوية‪ ،‬وشر السجون اليت تقف وراءها الديون!‬
‫النفوس عندما تشح ابملال حيصل يف اجملتمع مثل هذه املشاكل‪.‬‬

‫حينما ترى أن هللا حض الناس على القرض والعارية‪ ،‬ستجد أن النفوس اليت تنتظر األجر من هللا يهون عليها األمر‪ .‬مث سا‬
‫تظنوا أن األمر يتوقف عند "عشرة" و"مثانني" و"تسعني" ألف! بل تصل املسألة إىل حد أن تعريي جارت آنيت ‪ ،‬أسا تسمعني‬
‫يف القرآن قوله تعال‪َ { :‬وميَمنَـعُو َن الم َماعُو َن}(‪ ،)1‬عندما تقرضني جارت املاعون؛ من أجل أن تستضيف ضيوفها‪ ،‬تكونني من ُوعد‬
‫بثمانية عشر ضع ًفا‪ ،‬فال يشرتط أن يكون اإلقراض يف األموال العظيمة‪ ،‬وإمنا حىت األمور اليسرية تدخل فيه‪.‬‬

‫دائما‪ ،‬والقرض ماذا يفعل يف القلب؟ يهون هذا الشح؛ فاملل ُملك ولكنه يف يد غريك يتمتع به‪ ،‬مث يعود‬
‫املل فيه شح ً‬
‫ل ‪ ،‬وأنت مأجور بال كلفة على ذل ‪ .‬سا دجعلي الشيطان يُبخل عن أمر وراءه أجر عظيم‪ ،‬أو يُنسي األجر العظيم من وراء‬
‫هذا األمر!‬

‫أنت اآلن يف موقف العارية هذا أمام مشكلتني‪:‬‬

‫‪-‬إما أن تعطي جريان صحون ‪ ،‬وتقويل‪ :‬إن شاء هللا تسلم وسا تنكسر‪ .‬وختبئي اجليدة‪ ،‬وتُظهري الرديئة‪.‬‬

‫أجر‬ ‫‪-‬وإما أن متدي هلم يدك دون أن حتتسيب األجر على هللا من وراء هذه العملية‪ ،‬فتعطيهم من ابب اجملاملة‪ ،‬فيفوت‬
‫املضاعفة‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة املاعون‪]7 :‬‬


‫‪178‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫واملقصود‪ :‬هو أن تنظري إىل الشريعة‪ ،‬وكيف أهنا حثت على أعمال تنالني أجرها‪ .‬فهذا املاعون اآلن مغلق عليه سا تنتفعني‬
‫به‪ ،‬هو ماعون ملَّك هللا إايه‪ ،‬مث متدين يدك به لتجري علي األجور‪َّ .‬‬
‫َتمل ُحسن اإلسالم يف ذل ‪ ،‬أرأيت كرمي مثله سبحانه‬
‫وتعاىل؟! ميلك ‪ ،‬مث يفتح ل ابب العارية‪ ،‬مث يعيدها إلي ‪ ،‬وجيري علي األجر‪.‬‬

‫مثال‪-‬حتتاج يف زفافها إىل ملبس‪ ،‬ساعة‪...‬أي شيء‪ ،‬فتستعري من ‪ ،‬وهكذا‪ ،‬كل شيء سأُدخله‬
‫ومثله يف كل شيء‪ :‬امرأة‪ً -‬‬
‫ابب القرض والعارية‪ ،‬وأنت مأجورة على هذا ابملضاعفة‪.‬‬

‫أما (الفرق بني القرض والعارية)‪ :‬فالقرض مثل العارية‪ ،‬لكن هناك فروق سنذكرها بوجه العموم‪ :‬يف القرض والعارية تبقى‬
‫مثال‪-‬سا يدخل يف العارية‪ ،‬فأنت‬
‫العني كما هي مث تسرتدها‪ ،‬لكن القرض يكون ابملال‪ ،‬والعارية ابألشياء احملسوسة‪ ،‬فالطعام‪ً -‬‬
‫عندما تعطني جارت بصلة أو بيضة حتتسبينها على هللا صدقة‪ ،‬فما يُن َف مق وسا يعود يسمى صدقة‪ ،‬وما يُن َفق ويعود يسمى قرض‬
‫أو عارية‪.‬‬

‫ماذا يفعل ب الشيطان حينما تُقرضني؟ يقول ل ‪ :‬لن ُحيسن هذا املقرتض استعمال القرض‪ ،‬كيف تقرضينه؟! من املؤكد أنه‬
‫وجل‪-‬هو الذي حيفظ ل مال ‪ ،‬فهذه ابتالءات‬
‫عز َّ‬
‫سيعيد إلي العارية اتلفة‪ .‬لكن علي أن تقاومي هذا‪ ،‬واعلمي أن هللا‪َّ -‬‬
‫خيترب هللا فيها صدق ‪ .‬واعلمي أن هذه العارية حينما تنكسر فإن هذا هو الوقت الذي انقضى فيه اسانتفاع هبا‪ ،‬سواء كانت‬
‫عندك أو عند مستعريها! فأنت تتعامل يف هذا كله مع هللا!‬

‫واملقصود‪ :‬أننا سننظر حملاسن هذا الدين‪ ،‬وكيف أنه حيث على القرض والعارية‪ ،‬وعلى نفع إخوان ‪ ،‬مع أن مال هذا سا‬
‫زال ل ‪ ،‬مل حيصل فيه شيء‪ ،‬وسيعود ل مرة أخرى‪.‬‬

‫وحل املشكالت‪،‬‬
‫صومات‪ّ ،‬‬
‫لفصل اخلُ ُ‬
‫سا ْ‬‫ُس ً‬ ‫جعلها َّ‬
‫الشارع أ ُ‬ ‫"األصول وال َقواعد الّيت َ‬
‫ُ‬ ‫أيضا‪:‬‬
‫ومن صور حماسن الدين ً‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫أحد املتَداعيني َعلى َ‬
‫رجيح َ‬
‫وتَ ِ‬

‫وافقة ِ‬
‫ول مبنية علَى العدل والربهان‪ ،‬واطّراد العرف‪ ،‬وم ِ‬
‫الفطَر‪ ،‬فَإنّه َج َع َل البيّنة َعلى ُكل َمن ا ّد َعى َشيئًا أَو‬ ‫ُ‬ ‫ُْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أص ٌ َ ّ‬‫فإَهنا ُ‬
‫مبجرد ال ّد ْع َوى‪:‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت لَهُ احلَق الّذي ا ّدعى به‪َ ،‬وَمىت ملَ أيت إال ّ‬ ‫حقا ِمن احلُقوق‪ ،‬فَإذا أتَى ابِلبينة الّيت تُـ َرِّج ُح جانبه َوتُـ َق ِّويه‪ :‬ثَـبَ َ‬
‫ًّ‬
‫لمد َعى َعلَ ِيه احلَق‪.‬‬ ‫الد ْع َوى‪ ،‬وملَ يَ َتو َّجه لِ َّ‬
‫املد َعى َعليه َعلى نفي َّ‬‫ف َّ‬ ‫َحلَ َ‬

‫املبنِيَّة واَلعُ ْرف املطّرد َ‬


‫بني النّاس من البَـيِّنَات‪.‬‬ ‫جعل الْ َقرائِ َن ْ‬ ‫ارع الْبَـيِّنَات ِحب ْسب َمر ِ‬
‫اتب األَ ْشياء‪َ ،‬و َ‬ ‫وج َعل َّ‬
‫الش ِ‬
‫‪179‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ِ ِ‬
‫فالبَـيِّنةُ‪ْ :‬‬
‫اس ٌم َجام ٌع ل ُك ّل ماَ يبُـ َِّ‬
‫ني احلَق وي ُد ّل َعلَْيه‪.‬‬

‫ش ِ‬
‫اكل واملنَ َاز َعات‪.‬‬ ‫حل امل َ‬ ‫سا ِوي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اخلصم ْني طريق الصلح العادل املناسب لكل قضية طري ًقا إىل ّ‬
‫َ‬ ‫وج َع َل عند االشتبَاه وتَ َ‬
‫َ‬
‫العباد يف مع ِ ِ‬ ‫فيه وال ي ِ‬
‫فكل طريق ال ظُلم ِ‬
‫انفع َلم‪ ،-‬فقد حث عليه إذا كا َن وسيلَة إِىل ْ‬
‫فصل‬ ‫صيَة هللا‪-‬وهو ٌ‬ ‫َ َْ‬ ‫دخل‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫اجرات‪.‬‬
‫ش َ‬ ‫صوماَت وقطْ ِع امل َ‬
‫اخلُ ُ‬
‫وساوى ِيف َهذا بني ال َقوي واَل ّ ِ‬
‫ؤوس ِيف مجي ِع احلُقوق‪.‬‬ ‫ضعيف‪ ،‬وا ّلرئيِس ْ‬
‫واملر ُ‬ ‫ّ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬

‫الع ْد ِل وع َدِم احلَْيف"‪.‬‬ ‫ِ‬


‫وأرضى اخلصوم بسلوك طُرق َ‬

‫سنرى هنا حماسن الشريعة يف اخلصومات‪:‬‬

‫مثال‪ :‬شخص يقول‪ :‬أان يل مال عند فالن‪ .‬مبجرد أن يقول‬


‫لو تُرك كل ُمدعي تأخذ بدعوته‪ ،‬سافرتى الناس على بعضهم‪ً .‬‬
‫هذا سيقول الناس‪" :‬سا دخان بدون انر"‪ ،‬ويتهمونه أبنه أخذ مال فالن‪ ،‬لكن الشريعة سا تقبل مثل هذا الكالم؛ فهو مبثابة‬
‫األوهام‪.‬‬

‫مثال‪ :‬شخصان كاان يف سفر‪ ،‬ومل يتواثقا‪ ،‬أو كاان يف حال من الصحبة واألخوة والعالقة اجليدة‪ ،‬فتبادسا أو أخذ هذا مال هذا‬
‫ً‬
‫على هذا العهد‪ ،‬مث افرتقا‪ ،‬فجحده‪ .‬كل هذه أشياء ميكن أن حتصل‪ ،‬وهي سا ختلوا من حالتني‪:‬‬

‫أ‪-‬إن كان له بينة‪-‬والبينة هي‪ :‬ما يُثبت أن هذا األمر له‪ :-‬فإنه سيدعي وتأيت ابلبينة‪ ،‬ولن يكون للثاين ما يرد به على‬
‫األول‪.‬‬

‫ب‪-‬أما إذا مل تتوفر البينة‪ :‬ما احلل يف مثل هذا؟ هل سيذهب ماله؟ سا! وإمنا سيأيت ابليمني (حيلف)‪.‬‬

‫فمن حماسن الشريعة أهنا جعلت مسألة اخلصومات وفض النزاعات واضحة‪:‬‬

‫أوسا‪.‬‬
‫‪-‬فإنه سا يوجد قبول لدعوى من غري بينة‪ ،‬هذا ً‬

‫‪-‬مث إن املدعي إذا أتى ابلبينة اليت تقوي حجته‪ :‬ثبت له احلق‪.‬‬

‫‪-‬ومىت مل تأت إسا مبجرد الدعوى‪ :‬فإن املدعى عليه سيحلف بنفي هذا األمر‪.‬‬
‫‪180‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫والناس يقول ون يف مثل هذا‪ :‬أنه سيحلف‪ ،‬ويفوز‪ .‬نقول‪ :‬نعم‪ ،‬هذا شيء يلزمه‪ .‬مث أتظن وأنت تؤمن ابلغيب أنه حيلف ابهلل‬
‫كاذاب ويرتكه هللا؟! لن يرتكه هللا! وهذا اإلميان من سيجعل هذا احلكم من حماسن الشريعة؛ ألنه لو‬
‫يف جملس ُحكم حل ًفا ابطالً ً‬
‫أُعطي كل ُمدعي بدعوته سافرتى الناس على بعضهم‪.‬‬

‫كاذاب فليعلم ما سينزل عليه من العقوبة! ولذل يف‬


‫وصاحب اليمني هذا إن كان يعظم هللا فإنه سيقسم ابلصدق‪ ،‬وإن كان ً‬
‫مثل هذا اجمللس قبل أن يُطلب من الشخص أن حيلف‪ ،‬يعظه القاضي‪ :‬أن لو أقسمت وأنت كاذب فإنه سيحل علي من‬
‫كاذاب‪.‬‬
‫العقوابت كذا وكذا وكذا‪ ،‬حبيث أنه يرتدع عن القسم ً‬

‫فهذا مدع وليس معه بينة‪ ،‬واآلخر يُكذبه! هل سنبقى على هذا احلال دون الفصل بينهما؟! ابلطبع سا! وهلذا سا يوجد حل‬
‫يفصل بينهما إسا ال َق َسم‪ ،‬مع التحذير من الكذب يف القسم‪.‬‬

‫ارع الْبَـيِّنَات ِحب ْسب َمر ِ‬


‫اتب األَ ْشياء"‪.‬‬ ‫"وجعل َّ‬
‫الش ِ‬ ‫وقوله‪َ :‬‬

‫هل البينة هي الكتابة أم العُرف؟ هل هناك أشياء عرفية تقوم مقام البينة؟ نعم‪ ،‬العُرف يدخل ضمن البينات‪.‬‬

‫مثال‪-‬سا يوجد إرغام فيها؛ ألن الشريعة ملـا شرعت الصلح مل دجعله سببًا ألن ترتك أنت حق جماملةً‪ ،‬وإمنا‬
‫فمسألة الصلح‪ً -‬‬
‫صح ل أن تدخل هذا الطريق‪.‬‬
‫إذا اقتنعت ابلصلح بطرق سا يوجد فيها ضغط علي ‪َّ ،‬‬

‫مثال قتل خطأ‪ ،‬وأتوا أهل القاتل إىل أهل املقتول وأرادوا منهم أن يتنازلوا بدفع مبلغ معني من الدية‪ ،‬سا يصح أن‬
‫فلو حدث ً‬
‫تأيت أحد ذو شرف ومنصب ويضغط عليهم مع عدم قبوهلم! فنقول لصاحب الشرف واملنصب هذا‪ :‬أن تنازهلم إذا مل يكن‬
‫ابختيا رهم ورضاهم‪ ،‬بل كان بسبب ضغط عليهم‪ ،‬فأنت يف ذل آمث‪ .‬سا بد أن يكون التنازل برضاهم‪ ،‬وإبقناعهم‪ ،‬وبتطييب‬
‫خواطرهم‪ ،‬أو جبربهم مبال‪ ،‬أو أبي صورة‪ ،‬لكن ليس ابلضغط عليهم فهذا حقهم‪.‬‬

‫وهذا كأن تأيت شيخ قبيلة ألهل املقتول الذين يريدون القصاص لولدهم‪ ،‬فيقول هلم‪ :‬عليكم أن تقبلوا! فال يقبلوا‪ ،‬فيغضب‬
‫عليهم هذا الشيخ‪ ،‬وخيرجهم من القبيلة! هذا سا يصح! كل حل ملشكلة سابد فيه من تراضي األطراف‪ ،‬وسا حيق ل أن تستعمل‬
‫جاه يف الضغط على اخللق‪.‬‬

‫أو تأيت أحد فيضغط على أصحاب الدية‪ ،‬ويقول هلم‪ :‬هذا فقري‪ ،‬حرام أن َتخذوا منه دية‪ .‬سا! غري صحيح! هذه الدية من‬
‫الشرع‪ ،‬وسا يصح ألحد أن ُحيرم ما شرع هللا‪ ،‬حلول املشاكل جيب أال تكون مبعصية‪ ،‬فال تراض على معصية‪.‬‬
‫‪181‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫مثاسا آخر تظهر فيه حماسن الشريعة‪ ،‬وهو‪" :‬ما جاءت به الشريعة من األمر ابلشورى‪ ،‬والثناء على املؤمنني‬
‫ذكر الشيخ ً‬
‫أبن مجيع أمورهم الدينية والدنيوية الداخلية واخلارجية شورى بينهم‪.‬‬

‫وهذا األصل الكبري قد أمجع العقالء على استحسانه‪ ،‬وعلى أنه هو السبب الوحيد يف سلوك أصلح األحوال‪ ،‬وأحسن‬
‫الوسائل حلصول املقاصد وإصابة الصواب‪ ،‬وسلوك طرق العدل‪.‬‬

‫وأنه أرقى لألمم العاملة عليه يف حتصيل كل خري وصالح‪ ،‬وكلما ازدادت معارف الناس‪ ،‬واتّسعت أفكارهم عرفوا شدة‬
‫احلاجة َلذا ومقداره‪.‬‬

‫وملـَّا كان املسلمون قد طبّقوا هذا األصل يف صدر اإلسالم على أمورهم الدينية والدنيوية كانت األمور مستقيمة‪،‬‬
‫واألحوال يف رقي وازدَّيد‪ ،‬فلما احنرفوا عن هذا األصل ما زالوا يف احنطاط يف دينهم ودنياهم‪ ،‬حىت وصلت هبم احلال إىل‬
‫ما ترى‪ ،‬فلو راجعوا دينهم يف هذا األصل وغريه ألفلحوا وَنحوا"‪.‬‬

‫األصل الشرعي الذي يدل على حماسن الشريعة هنا هو‪ :‬الشورى‪.‬‬

‫ماذا تعين الشورى؟‬

‫يتقرب هبا إىل هللا‪ ،‬فالقوم الذين جيتمعون للتشاور عبدوا هللا بذل ‪.‬‬
‫الشورى نوع من أنواع العبادة اليت ّ‬

‫ما هو الدليل على أن الشورى عبادة؟ أ مَم ُره‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬هبا(‪ ،)1‬فاهلل يقول لنبيه‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪َ { :-‬و َشاومرُه مم يف‬
‫األ مَمر} (‪ ،)2‬فعُلم من ذل أهنا عبادة‪.‬‬

‫ومن األخطاء اليت حتصل يف الشورى‪:‬‬

‫‪-1‬أن يستشري اإلنسان غري مستحضر أهنا عبادة‪.‬‬

‫)‪ (1‬فمن طرق اساستدسال على أن هذا الفعل عبادة‪ :‬أن تأيت يف القرآن بصيغة األمر‪ ،‬ويف هذا احلال‪ :‬إما أن ُحيمل هذا األمر على الوجوب‪ ،‬أو على النَّ مدب‪.‬‬
‫)‪[ )2‬سورة آل عمرن‪]159 :‬‬
‫‪182‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫مثالً‪ :‬دخلت يف مشكلة اقتصادية‪ ،‬أو اجتماعية‪ ،‬مع الزوج‪...‬إخل‪ ،‬فأتصل على َمن له خربة‪ ،‬وأكلمه وأحكي له القصة‪،‬‬
‫وآخذ منه الكالم الذي أشعر أنه ينفعين‪ ،‬وأقوم هبذه العملية كلها على وجه العادة‪ ،‬مع أهنا يف احلقيقة عبادة وقربة إىل هللا! حنن‬
‫خنسر هبذا‪ :‬نية القربة إىل هللا بطلب الشورى‪.‬‬

‫‪-‬فأنت مىت ما تقربت إىل هللا بطلب الشورى جاءك التوفيق للرأي السديد‪.‬‬

‫‪-‬كون تعبد هللا ابلشورى معناه أن لن تنفرد برأي ‪.‬‬

‫وجل‪َ -‬ك َّمل غريك من اخللق‪.‬‬


‫عز َّ‬
‫‪-‬كون تعبد هللا ابلشورى معناه أن تعتقد أن عقل انقص‪ ،‬وأن هللا‪َّ -‬‬

‫موجودا يف القلب‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪-‬بعبادة الشورى تكسر الكرب الذي قد يكون‬

‫سفيها‪ ،‬أو ذا هوى‪ ،‬أو قرانءه الذين هم ذوو هوى مثله‪ ،‬فيخرج‬
‫‪-2‬أو يستشري َمن ال يصلُح لالستشارة‪ ،‬كأن يشاور ً‬
‫بذلك من العبادة إىل املعصية‪.‬‬

‫‪-3‬أو يستشري يف وضع ال يصح أو ال ينفع معه االستشارة‪.‬‬

‫مثال‪ :‬تأيت أحدهم لشخص مستشار يف هذه املسألة‪ ،‬له علم وخربة‪ ،‬فيستشريه وهو خارج من مكان‪ ،‬أو وهو داخل إليه‪ ،‬أو‬
‫ً‬
‫جامعا لفكره‪ ،‬فمن َمث تكون اإلجاابت مقتضبة (موجزة)‪ ،‬أو انقصة‪ .‬فنقول للمستشري يف هذه احلالة‪ :‬قد‬
‫وهو مستعجل مل يكن ً‬
‫ارتكبت مالفة؛ ألن املشاورة عبادة‪ ،‬جيب أن تتهيأ هلا ظروفُها‪ ،‬فلو أشار علي مبا يُفسد دين نتيجة عجلت وإحلاح تكون‬
‫بذل قد أفسدت أنت دين ‪.‬‬

‫‪-4‬عدم اإلحسان يف عرض ما يطلب له االستشارة‪.‬‬

‫‪-5‬عدم قبول الشورى بعد طلبها‪.‬‬

‫فتتعب نفس ‪ ،‬وتذهب‪ ،‬وتستشري‪ ،‬وتقف‪ ،‬وتنتظر‪ ،‬وتناقش الذي تستشريه‪ ،‬مث بعد أن يشري علي ‪ ،‬حتاول أن تقنعه مبا يف‬
‫رأس ‪ ،‬وهو يقنع أن هذا غري صحيح‪ ،‬ويف آخر هذا كله‪ :‬خترج من عنده ومل تعجب مشورته‪ ،‬فرتميها وراءك ومتشي‪ ،‬وتفعل‬
‫الذي يف رأس !! أنت هبذا ما عبدت هللا بل خالفت أمره!‬

‫‪183‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫االستشارة مسؤولية‪ ،‬ال تستهينوا هبا! ليس كل من دجده يف طريق تستشريه على أن هذا شيء من العادات‪ ،‬مث بعد أن‬
‫لن تقبل إسا ما يدور يف‬ ‫قبلتها! ملاذا استشرت إذًا ما دام أن‬ ‫يشريك‪ :‬ترمي استشارته إن مل توافق رأي ‪ ،‬وإن وافقت رأي‬
‫رأس ؟!‬

‫وجل‪-‬أمران أن نتخلى عن‬


‫عز َّ‬
‫أما لو أراد ابستشارته أن يوافقه من أمامه على رأيه فإن هذا مل يعد عبادة بل صار هوى‪ ،‬فاهلل‪َّ -‬‬
‫هواان ابلشورى‪ ،‬وأنت خرجت من عند املستشار بنفس هواك‪ ،‬إذًا‪ :‬مل تستفد من هذه العبادة‪.‬‬

‫جماان؛ ألن ذل قربة إىل هللا‪.‬‬


‫أيضا متعلقة ابلشورى‪ :‬وهي أن الصحيح يف تقدمي املشورة للغري أن يكون ً‬
‫وهناك مسألة ً‬

‫مثالً‪ :‬أنت اآلن ستقدم على شراء بيت يف مكان معني‪ ،‬وتريد أن تعرف هل يف هذه العملية ربح ل أم سا؟ فتذهب وتشاور‬
‫ماسا على جهدهم الذي يقدمونه‪.‬‬
‫أانسا عندهم معلومات‪ ،‬وهم مقابل مشورهتم وحبثهم ودراستهم تأخذون ً‬
‫ً‬

‫أيضا يتقربون بتقدميها‪.‬‬


‫لكن الصحيح أن تكون الشورى جمانية؛ ألهنا قربة إىل هللا‪ ،‬فأنت تتقرب بطلب املشورة وهم ً‬

‫لكن إذا حصل وأخذوا على هذا أمو ًاسا‪ ،‬فإهنم تأخذوهنا مقابل ما يقدمونه من خدمات‪ ،‬فمكاتب اساستشارات التعليمية‪،‬‬
‫ومكاتب اساستشارات اساقتصادية‪ ،‬ومكاتب اساستشارات اهلندسية‪ ،‬ومكاتب اساستشارات الرتبوية‪ ،‬كل هؤساء سا يقدمون ل‬
‫أجرا مقابل هذه الدراسة اليت سيدرسوهنا‪.‬‬
‫املشورة إسا بعد شيء من الدراسة‪ ،‬وهلذا هم تأخذون ً‬
‫ما هي األمور اليت جيب أن يتحلّى هبا املستشار؟‬

‫ني عبَاد َك يف َما َكانُوا فيه‬ ‫األمر األول‪ :‬التقرب إىل هللا ابلشورى‪ ،‬ومن َمث سيتعبّد هللا بعبادة االستهداء {أ َ‬
‫َنت َمحت ُك ُم بـَ م َ‬
‫َخيمتَل ُفو َن}(‪ ،)1‬فيدعو‪ :‬اللهم اهدين ملا اختُلف فيه من احلق إبذن (‪ .)2‬فيكون من عادة هذا املستشار أن يستهدي هللا‪ ،‬فإذا‬
‫استهدى هللا سينتفي من قلبه أي شيء يدور حول الكرب والثقة ابلرأي‪.‬‬

‫األمر الثاين‪ :‬عدم مطاوعة اَلوى واملؤثرات النفسية على االستشارة‪.‬‬

‫)‪[ (1‬سورة الزمر‪]46 :‬‬


‫)‪ )2‬روى مسلم يف صحيحه‪ /‬يف كتاب صالة املسافرين وقصرها‪ /‬ابب الدعاء يف صالة الليل وقيامه‪ )770( /‬بسنده عن أب سلمة بن عبد الرمحن بن عوف‪ ،‬قال‪:‬‬
‫سألت عائشة أم املؤمنني‪ ،‬أبي شيء كان نيب هللا صلى هللا عليه وسلم يفتتح صالته إذا قام من الليل؟ قالت‪ :‬كان إذا قام من الليل افتتح صالته‪« :‬اللهم رب جربائيل‪،‬‬
‫وميكائيل‪ ،‬وإسرافيل‪ ،‬فاطر السماوات واألرض‪ ،‬عامل الغيب والشهادة‪ ،‬أنت حتكم بني عبادك فيما كانوا فيه خيتلفون‪ ،‬اهدين ملا اختلف فيه من احلق إبذن ‪ ،‬إن‬
‫هتدي من تشاء إىل صراط مستقيم»‪.‬‬
‫‪184‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫مثال‪ :‬يكون لدى املستشار خلفية عن هؤساء الناس‪ ،‬فيحرتمهم أو حيتقرهم‪.‬‬


‫ً‬

‫مرت حباسات ومواقف سيئة مع زوجها‪ ،‬فتأيت أنت وتستشريينها يف مسألة الطالق‪ ،‬ماذا ستقول ل ؟‬
‫أو تكون املستشارة قد َّ‬
‫ستقول‪ :‬اطليب الطالق! بدون تفكري! ألهنا َتثرت حبالتها النفسية‪ ،‬وهذه اساستشارة ابلطبع اتبعة للهوى فتأمث عليها؛ ألن‬
‫املستشار مؤمتن‪ .‬وأنت علي أسا تستشريي شخصية معقدة نفسيًّا!‬

‫أحياان يكون لدى املستشار هدف بعيد املدى‪ ،‬كمن يريد أن تنتشر يف اجملتمع بعض األفكار الفاسدة‪ ،‬فيشري على هذا‬
‫أو ً‬
‫بكذا‪ ،‬ويشري على هذا بكذا‪ ،‬حبيث تنتظم منظومة من الفساد بسبب مشورته للخلق‪.‬‬

‫األمر الثالث‪ :‬أن يسأل املستشار أسئلة ال عالقة َلا مبوضوع االستشارة‪.‬‬

‫أحياان من بعيد قد تشعرين أن هذه األسئلة ليس هلا عالقة ابلقضية‪ ،‬مع أهنا‬
‫طبعا سا حيكمه إسا املستشار‪ ،‬فأنت ً‬
‫هذا األمر ً‬
‫يف احلقيقة متعلقة هبا‪.‬‬

‫مثاسا على ذل ‪ :‬هذه امرأة أتت تستشري يف قضية تعليمية‪ ،‬فتسأهلا املستشارة‪ :‬كم عمرك؟ هل أنت متزوجة أم سا؟‬
‫نضرب ً‬
‫كم طفل عندك؟ ما عالقة هذه األسئلة مبوضوع اساستشارة؟!‬

‫لكن أنت تريدين أن َتخذي قر ًارا‪ :‬هل ترتكني وظيفت أو سا؟ فأسأل ‪ :‬كم لدي من أطفال؟ هل أطفال صغار؟ فرمبا‬
‫بسبب ضغط األطفال لن تقدري على النجاح يف عمل ‪ ،‬إ ًذا األفضل أن تقدمي إجازة أمومة‪.‬‬

‫فاألسئلة قد يكون بعضها متعل ًقا مبوضوع اساستشارة‪ ،‬وبعضها يكون جمرد تدخل وتطفل‪ ،‬فتستغل املستشارة املوقف‪ ،‬وَتخذ‬
‫معلومات بعيدة‪.‬‬

‫دخوال يف مسائل ال‬


‫ضربت لكم أمثلة بسيطة لكن احلقيقة أن املوضوع أبعد من هذا‪ ،‬لقد وجدان يف االستشارات الزوجية ً‬
‫حيق للمستشار أن يسأل عنها يف احلياة اخلاصة بني الرجل واملرأة‪ .‬فاملرأة َتيت تستشري يف مسألة ختص الزواج‪ ،‬لكن هذا‬
‫املستشار‪-‬رجل كان أو امرأة‪-‬يسأل أسئلة فيها تطفل‪ ،‬واملرأة بسبب عدم وعيها دجيبه‪ ،‬ويف هذا دخول يف احلرج‪ ،‬ويف الكالم‬
‫يضا نفسيًّا‪ ،‬فيستمتع مبثل هذه األسئلة‪ ،‬ومبثل هذه‬
‫الذي ليس له عالقة أبصل املوضوع‪ .‬أو يكون نفس هذا املستشار مر ً‬
‫اإلجاابت‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫حذرا‪ ،‬فإن كنت تشري الناس‪ :‬سا تسأل إسا فيما خيص األمر أو حوله‪ ،‬فاألمر أمانة‪ ،‬وحىت‬
‫وهلذا سابد أن يكون اإلنسان ً‬
‫أسئلت أنت مؤمتَن عليها‪.‬‬

‫األمر الرابع‪ :‬على املستشار أن حيذر من أن ُخيرِج سر من استشاره‪.‬‬

‫ت فَه َي أ ََمانَةٌ"(‪ ،)1‬مبعىن لو‬


‫الر ُج ُل اب محلَديث ُمثَّ المتَـ َف َ‬
‫َّث َّ‬
‫من القيم العُليا اإلسالمية‪ :‬كتمان السر‪ ،‬وقد ورد يف احلديث‪" :‬إ َذا َحد َ‬
‫سرا‪ ،‬وكما يقال‪ :‬كتمان‬
‫كنت جالسة مع شخص‪ ،‬مث التفت ليتأكد من عدم وجود أحد‪ ،‬مث كلم ‪ ،‬فإن هذا مباشرة يعترب ًّ‬
‫األسرار يدل على جواهر الرجال‪ .‬ومن ترك كتمان السر فقد ترك قيمة من أعظم القيم اإلسالمية‪.‬‬

‫ضائعا‪ ،‬حتت ضغوط‪ ،‬وقد يوصله هذا إىل قتل نفسه‬


‫اتئها يف الطريق‪ً ،‬‬
‫أحياان ً‬
‫جدا‪ :‬قد يكون الشخص ً‬ ‫هناك نقطة مهمة ً‬
‫مثال‪-‬والعياذ ابهلل‪-‬؛ بسبب أنه ارتكب خطأً ما‪ ،‬وهذا حيدث غالبًا مع الشاابت‪ ،‬فتقع خطأً يف جرمية الزان‪ ،‬وبعد ذل خترج‬
‫ً‬
‫منها دون أن يعلم أحد عنها‪ ،‬مث تتطور املسألة وتكرب‪ ،‬وحيصل يف نفسها شيء من اسانفعاسات‪ ،‬وهي سا تفهم ما هبا‪ ،‬وسا تعرف‬
‫كيف اخلروج من هذا‪ ،‬مث تأيت "عريس" وراء "عريس"‪ ،‬وهي سا تعلم ماذا تفعل! بعد ذل تتمىن أن متوت‪ ،‬فتحاول أن تفعل يف‬
‫نفسها كذا وكذا‪.‬‬

‫بعيدا‪ ،‬واستشارت سا تعين حبال أن هللا سرت علي وأنت فضحت نفس ‪ ،‬فكثري‬
‫شخصا ً‬
‫ً‬ ‫نقول هلذه اآلن‪ :‬اخرجي استشريي‬
‫من الناس يرتكون اساستشارة بسبب عدم فهمهم ملعىن "فضح النفس"‪ ،‬فضح النفس هو‪ :‬أن يتكلم اإلنسان عن أخطائه لغري‬
‫أيضا فيه نوع تفاخر‪ ،‬أما أن تذهب عند أحد فتستشريه لكي َترج من‬
‫فائدة‪ ،‬مع َمن ال يستفيد من الكالم معه‪ ،‬والفضح ً‬
‫أزمة‪ ،‬فهذا أمر شرعي مندوب تتعبّد هللا به‪.‬‬

‫أانسا ميوتون حتت ضغط أمور كهذه‪ .‬هم ادجهوا إىل اخلطأ بسبب عدم وجود َمن‬
‫وهذه الثقافة جيب أن تنتشر‪ ،‬حىت سا جند ً‬
‫يرشدهم إىل الصواب‪ ،‬وقد سا جيدون ًّ‬
‫حال إسا قتل أنفسهم‪ ،‬فيهلكوا بدون مشورة!‬

‫عقوال أخرى‪ ،‬وأن تزيد من‬


‫كل هذه األمور تُبني ل ما يف الشريعة من حماسن‪ .‬فإن الشورى معناها‪ :‬أن جتمع إىل عقلك ً‬
‫قدرتك على فهم األمور من خالل عقول اخللق‪ ،‬وهذا ما يسمونه اليوم جبلسات العصف الذهِن‪ ،‬واالنتفاع املركب من‬
‫الزمالء‪ ،‬كل هذا ابلضبط هو عبادة الشورى‪ ،‬بشرط أن تدخل فيها على أهنا عبادة‪ ،‬وخترج منها وأنت سليم أمني‪.‬‬

‫)‪ (1‬رواه أبو داود يف سننه‪ /‬كتاب األدب‪ /‬ابب يف نقل احلديث‪ )4868( /‬حكم األلباين‪ :‬حسن‪.‬‬
‫‪186‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫مثاسا آخر‪ ،‬وهو‪" :‬أن هذه الشريعة جاءت إبصالح الدين‪ ،‬وإصالح الدنيا‪ ،‬واجلمع بني مصلحة الروح‬
‫مث ذكر الشيخ ً‬
‫واجلسد‪.‬‬

‫حيث هللا ورسوله على القيام ابألمرين‪ ،‬وأن كل واحد منهما َُِ ٌّد لخآخر‪،‬‬
‫وهذا األصل يف الكتاب والسنة منه شيء كثري‪ّ ،‬‬
‫ومعني عليه‪.‬‬

‫وهللا تعاىل خلق اخللق لعبادته‪ ،‬والقيام حبقوقه‪ ،‬وأ ََد ّر عليهم األرزاق‪ ،‬ونَـ َّوع َلم أسباب الرزق‪ ،‬وطرق املعيشة؛ ليستعينوا‬
‫قياما لداخليّتهم وخارجيّتهم‪.‬‬
‫بذلك على عبادته‪ ،‬وليكون ذلك ً‬

‫ومل أيمر بتغذية الروح وحدها وإمهال اجلسد‪.‬‬

‫كما أنه هنى عن االشتغال ابللذات والشهوات‪ ،‬و(أمر) بتقوية مصاحل القلب والروح‪ .‬ويتضح هذا يف أصل آخر‪ .‬وهو‬
‫هذا‪:‬‬

‫أن الشرع جعل العلم‪ ،‬والدين‪ ،‬والوالية‪ ،‬واحلكم متآزرات متعاضدات‪.‬‬

‫يقوم الوالَّيت‪ ،‬وتنبِن عليه السلطة واألحكام‪.‬‬


‫فالعلم والدين ّ‬

‫والوالَّيت كلها مقيدة ابلعلم والدين الذي هو احلكمة‪ ،‬وهو الصراط املستقيم‪ ،‬وهو الصالح والفالح والنجاح‪.‬‬

‫فحيث كان الدين والسلطة مقرتنني متساعدين فإن األمور تصلح‪ ،‬كما أن األحوال تستقيم‪.‬‬

‫اختل النظام‪ ،‬وفقد الصالح واإلصالح‪ ،‬ووقعت الفرقة‪ ،‬وتباعدت القلوب‪ ،‬وأخذ أمر‬
‫وحيث فصل أحدمها عن اآلخر ّ‬
‫الناس يف االحنطاط‪.‬‬

‫تنوعت‪ ،‬واالخرتاعات مهما عظمت وكثرت‪ ،‬فإنه مل يرد منها شيء‬


‫يؤيد هذا‪ :‬أن العلوم مهما اتّسعت‪ ،‬واملعارف مهما ّ‬
‫ينايف ما دل عليه القرآن‪ ،‬وال يناقض ما جاءت به الشريعة‪.‬‬

‫فالشرع ال أييت مبا حتيله العقول‪ ،‬وإمنا أييت مبا تشهد العقول الصحيحة حبُسنه‪ ،‬أو مبا ال يهتدي العقل إىل معرفته مجلة‬
‫مثاال آخر‪ .‬وهو‪:‬‬
‫تفصيال‪ .‬وهذا ينبغي أن يكون ً‬
‫ً‬ ‫أو‬

‫‪187‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫أن الشرع ال أييت مبا حتيله العقول‪ ،‬وال مبا ينقضه العلم الصحيح‪.‬‬

‫وهذا من أكرب األدلة على أن ما عند هللا حمكم اثبت‪ ،‬صاحل لكل زمان ومكان‪.‬‬

‫وهذه اجلمل املختصرة تُعرف على وجه التفصيل ابلتتبّع واالستقراء جلميع احلوادث الكونية‪ ،‬وحوادث علوم االجتماع‪،‬‬
‫وتطبيق ذلك إذا كان من احلقائق الصحيحة على ما جاء به الشرع‪ ،‬فبذلك يُعرف أنه تبيان لكل شيء‪ ،‬وأنه ال يغادر‬
‫صغرية وال كبرية إال أحصاها"‪.‬‬

‫هذا األ صل له درجات‪ ،‬لكن املهم أن تفهمه على وجه العموم‪ :‬فمن حماسن هذا الدين أنه سا يفصل بني الدين والدنيا‪،‬‬
‫أدر عليهم األرزاق‪ ،‬وسبَّب هلم أسباب الرزق؛ لتأيت‬
‫مبعىن‪ :‬أن هللا تعاىل خلق اخللق لعبادته والقيام حبقوقه‪ ،‬ويف نفس الوقت َّ‬
‫العبادات من وراء هذه األسباب‪.‬‬

‫وجل‪-‬جعل للخلق طُرقًا ينتقلون هبا من مكان إىل مكان‪ ،‬من أول اخلليقة واخللق ينتقلون‪ ،‬مث‬
‫عز َّ‬
‫سأضرب لكم مثاساً‪ :‬هللا‪َّ -‬‬
‫أتى التطور‪ ،‬فأصبحوا ينتقلون ابلطائرات والسفن‪...‬وإخل‪ .‬هل الدين مينع من ركوب طائرة؟ سا‪ ،‬ملاذا؟ ألن الدين أتى ُمصل ًحا‬
‫لدين ودنياك‪ ،‬فكل ما ينفع يف الدنيا وال ِ‬
‫خيدش الدين فإن الشرع ال مينعه‪ ،‬بل تأمرك أن دجعل هذا سببًا لطاعته‪.‬‬

‫عندما يركب طيار مسلم الطائرة‪ ،‬يقول وهو يستعملها‪" :‬بسم هللا‪ ،‬توكلنا على هللا‪ ،‬وسا حول وسا قوة إسا ابهلل"‪ ،‬وأنت تركبينها‬
‫فتقولني‪" :‬سبحان الذي سخر لنا هذا" وغريها من األذكار‪ ،‬أصبحت بذل الدنيا سببًا للطاعة وليس العكس‪ ،‬فهذا من حماسن‬
‫الشريعة‪ :‬أن الدنيا يف ديننا سبب لطاعة هللا‪ ،‬وليست سببًا لرتك الطاعة عند َمن استقام‪.‬‬

‫مثال آخر‪ :‬أنت عندك وسائل اتصال كثرية‪ ،‬ماذا تفعل هبا؟ قد تكون وسائل اساتصال هذه سببًا لطاعة هللا‪ ،‬وقد تكون سببًا‬
‫ملعصيته‪ ،‬فالشريعة سا ُحترم علي استخدام أي أداة حديثة ما دام أهنا سا تناقض الدين‪ ،‬لكن استعملها يف طاعة هللا‪ .‬وهذا من‬
‫وجل‪-‬جعل الدنيا بني يدي أهل الدين ينتفعون هبا يف طاعته‪ ،‬فأصبحت الدنيا سببًا للوصول إىل‬
‫عز َّ‬
‫حماسن الدين‪ :‬أن هللا‪َّ -‬‬
‫انتفاعا هبا لدينك‪.‬‬
‫ً‬ ‫الدين‪ ،‬وكلما تطورت الدنيا كلما قيل لك‪ِ :‬زد‬

‫الناس يف كل مكان يف العامل حيفظون القرآن مع اهليئة العاملية حلفظ القرآن يف اململكة‪ ،‬عن طريق برانمج (‪ )Skype‬الذي‬
‫اخرتعه أهل الكفر‪ ،‬فأنت سا ُمتنع من استعمال الدنيا‪ ،‬بل اجعلها سببًا يف زايدة طاعة هللا‪ ،‬وهذا من حماسن الدين‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫تتطور الدنيا أميا تطور‪ ،‬ويقال ل ‪ :‬تَسلَّم هذا التطور‪ ،‬وانتفع به‪ ،‬فهو يزيدك طاعة هلل‪ .‬وسا يقال ل ً‬
‫أبدا‪ :‬الدنيا منوعة‪،‬‬
‫حمرمة علي ‪ ،‬كما يفعل "السيخ"‪ ،‬فمن دينهم أن حيرموا أنفسهم من الدنيا‪ .‬أما ديننا فيقول‪ُ :‬خذ من الدنيا‪ ،‬وزد طاعة هلل‪ ،‬فكل‬
‫طيعا هللا أكثر‪ :‬أنت مدوح عليها‪.‬‬
‫زايدة يف الدنيا دجعل م ً‬

‫على كل حال‪ ،‬هبذا يكون قد انتهى كالمنا عن حماسن الدين‪.‬‬

‫وجل‪-‬يف أمره‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫اللقاء القادم إن شاء هللا سنتكلم عن حكمة هللا‪َّ -‬‬

‫خريا‪.‬‬
‫جزاكم هللا ً‬
‫والسالم عليكم ورمحة هللا وبركاته‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء الرابع عشر‬

‫‪190‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على نبينا حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫سا زلنا بفضل هللا ومنَّته نناقش هذا اساسم العظيم من أمساء هللا‪ ،‬وهو اسم‪( :‬احلكيم)‪.‬‬

‫وإمياننا هبذا االسم َا يطيّب لنا احلياة؛ فإن اإلنسان إذا آمن أن ربه حكيم ُرِزق عبادة من أعظم العبادات‪ ،‬وهي‬
‫عبادة‪ :‬حسن الظن‪ ،‬اليت إذا عبد اإلنسان ربه هبا كان ً‬
‫أهال ألن يكون من أهل اجلنة؛ فالنيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬أوصاان‬
‫مجيعا‪ :‬أسا منوت إسا وحنن حنسن الظن ابهلل‪ ،‬فعن جابر رضي هللا عنه قال‪ :‬مسعت رسول هللا‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬قبل موته‬ ‫ً‬
‫َح ُد ُك مم إَّسا َوُه َو ُمحيس ُن ابهلل الظَّ َّن"(‪.)1‬‬
‫بثالثة أايم يقول‪"َ :‬سا َميُوتَ َّن أ َ‬

‫من أين سيأيت إحسان الظن؟ وما عالقته ابسم هللا احلكيم؟‬

‫مر معنا أن اسم هللا (احلكيم) معناه‪ :‬أن هللا يضع األمور يف موضعها‪ ،‬يف خلقه وشرعه وأمره‪ .‬وسنبدأ اليوم نقاشنا يف‬
‫َّ‬
‫حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف أمره‪ ،‬واملقصود ب"أمره"‪ :‬أي قضائه وقدره‪.‬‬

‫فإن َمن آمن حبكمة هللا يف القضاء والقدر‪ ،‬سابد أن يصل إىل عبادة حسن الظن‪.‬‬

‫وحلسن الظن مكانة عظيمة يف الشريعة‪ ،‬بل أن أهل النار ما أدخلهم النار إسا سوء ظنهم ابهلل‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ { :‬و َذل ُك مم‬
‫ظَن ُك ُم الَّذي ظَنَـمنـتُ مم بَرب ُك مم أ مَرَدا ُك مم}(‪ ،)2‬فسوء الظن يُردي صاحبه‪.‬‬

‫إمياان يورثِن حسن ظ ٍّن ابهلل؟‬


‫كيف أؤمن ابسم (احلكيم) ً‬

‫يسرا‪ ،‬وأنه‬
‫عليم وخبري‪ ،‬وأنه على كل شيء قدير‪ ،‬وأنه حيب عباده‪ ،‬وما يريد هبم إسا ً‬
‫ٌ‬ ‫نقول وابهلل التوفيق‪ :‬أبن تعلم أن رب‬
‫يعاملهم بربه‪ ،‬فهو البَـر‪ ،‬وأنه يعاملهم بكرمه‪ ،‬فهو الكرمي‪ ،‬وأنه يعاملهم جبوده‪ ،‬فهو اجلواد سبحانه وتعاىل‪ ،‬وتعلم أن رب عز ٌيز‬
‫أمرا فال راد ألمره‪ ،‬وسا غالب له‪.‬‬
‫إذا قضى ً‬
‫ثالثة فروض دجتمع مع بعضها‪ ،‬فرتى بعد ذل معىن (احلكيم) فيها‪:‬‬

‫)‪ (1‬رواه مسلم يف صحيحه‪ /‬كتاب اجلنة وصفة نعيمها وأهلها‪ /‬ابب األمر حبسن الظن ابهلل تعاىل عند املوت‪.)2877( /‬‬
‫)‪[ (2‬سورة فصلت‪]23 :‬‬
‫‪191‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫لطيف يف علمه‪ ،‬يعلم دقائق األمور‪ ،‬ودقائق املصاحل‪.‬‬


‫اإلميان بعلمه‪ :‬تؤمن أبنه عليم‪ ،‬خبري‪ٌ ،‬‬ ‫‪‬‬
‫اإلميان برمحته وحبه خللقه‪ ،‬وإرادته هلم اليسر‪ ،‬وعدم حب العسر هلم‪ ،‬وتعلم عن بره‪ ،‬فهو البَـر الكرمي‪ ،‬وتعلم عن جوده‬ ‫‪‬‬
‫وإحسانه ووده‪ ،‬وكل ما يتصل هبذه الصفات العظيمة‪.‬‬
‫أمرا قضاه‪ ،‬سا يستطيع أحد أن يرد أمره‪.‬‬
‫اإلميان أبن هللا على كل شيء قدير‪ :‬وأنه عز ٌيز‪ ،‬وأنه سا غالب له‪ ،‬وإذا أراد ً‬ ‫‪‬‬
‫إذا فهمت هذا عن رب ‪ ،‬ماذا ستقول عن األقدار اليت قد َرها علي ؟ ماذا تنتظر َن وصفه أنه بكل شيء عليم؟ ماذا‬
‫تنتظر َن وصفه أن رمحته وسعت كل شيء؟ ماذا تنتظر َن وصفه أنه على كل شيء قدير؟‬
‫عليم خبري مبصاحل ‪ ،‬يعلم كل شيء‪ ،‬بل هو يف علمه لطيف‪ ،‬يعلم لطائف األمور ودقائق العلوم‪ ،‬ويرمح ‪ ،‬وحيب ‪ ،‬ويودك‪،‬‬
‫وحيب ل اخلري‪ ،‬وسا يريد ب العسر‪ ،‬بل يريد ب اليسري‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪ ،‬فال تأيت َمن يغالب إرادة هللا؛ بل إذا أراد‬
‫ب َعلَى أ مَمره َولَك َّن أَ مكثَـَر النَّاس َسا يـَ معلَ ُمو َن}(‪ ،)1‬فإذا كانت هذه صفات من قدَّر ل األقدار‪ ،‬ومن جعلها‬
‫شيء نفذ { َوهللاُ َغال ٌ‬
‫علي مكتوبة‪ ،‬ماذا تنتظر منه؟‬
‫ما يُنتظر منه إال كل خري‪ ،‬ما يُنتظر منه إسا أن تكون األقدار يف أماكنها‪ ،‬كلها دجري على احلكمة‪ ،‬حبيث تصل يف هناية‬
‫طريف املسألة‪.‬‬
‫األمر إىل املقصود من حيات ‪ ،‬لكن اإلنسان يغفل عن ّ‬
‫ما مها هذان الطرفان؟‬
‫أوال‪ :‬يغفل أنه يف اختبار‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫اثنيًا‪ :‬يغفل أن املطلوب منه هو أن ينجح من أجل أن ُجيازى على ذلك ابجلنة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫يغفل عن اختباره‪ ،‬وعن جزاء اساختبار! ولذا يقال هلذا الغافل‪ :‬اعلم أن الذي اختربك وابتالك ابلدنيا‪( :‬حكيم) يف اختياره‬
‫وحكيم يف تدبري احلال اليت تدور حولك‪ ،‬حبيث أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬ق ّدر‬
‫ٌ‬ ‫نوع اختبارك‪ ،‬ونوع األسئلة اليت تُعرض عليك‪،‬‬
‫لك األقدار‪ ،‬وهيّأ لك من األمور ما جيعل النجاح يف االختبار أقرب ما يكون إليك‪ ،‬لكن أهم شيء هو أال تُ ِّ‬
‫عوق نفسك‪،‬‬
‫وال تغفل عن طريف املسألة‪.‬‬

‫أنت موجود يف الدنيا لتُخترب‪ ،‬ومادة اساختبار هي‪ :‬ما ُكتب علي من األقدار‪.‬‬

‫كيف يُقدر علي احلكيم‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬األقدار؟‬

‫)‪[ )1‬سورة يوسف‪]21 :‬‬


‫‪192‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫معني‪ ،‬كل هذه املالبسات اليت ُحتيط ب ‪ ،‬تناسب أن تأتي هذا‬


‫معني‪ ،‬ويف وضع َّ‬
‫أنت ُخلقت يف طبيعة معيَّنة‪ ،‬يف وسط َّ‬
‫اساختبار‪ ،‬فتنجح‪ ،‬وتكون اجلائزة‪ :‬اجلنة‪.‬‬

‫يناسب كل أوضاع ‪ ،‬وجيعل أقرب ما تكون إىل النجاح‪ ،‬فالذي بين وبني النجاح هو الستار فقط‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫اختبارك الذي أاتك‬
‫خريا يل‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الستار بني الشهادة والغيب‪ ،‬وكلما آمنت ابلغيب‪ ،‬كلما تكشَّف ل األمر‪ ،‬فتقول‪ :‬هنا أان أُختَرب‪ ،‬ولو صربت سيكون ً‬
‫أحدا ليس من أهل العلم‪ ،‬فتقولني له‪ :‬زوجي أخذ مايل‪ .‬فيعطي ‪-‬هذا املستشار‪-‬حماضرة! وخيربك أبن هذا‬
‫مثال‪ :‬تستشريين ً‬
‫ً‬
‫دائرا حول مال‬
‫وجل‪-‬جعل اختبارك كله ً‬ ‫عز َّ‬ ‫ليس من حقه‪ ،‬وأن من حق أن تفعلي كذا وكذا‪ ،...‬وهو سا يفهم أن هللا‪َّ -‬‬
‫أصال‪ ،‬وليس حول أي شيء آخر‪ ،‬وأن بين وبني النجاح هذه اخلطوة‪ :‬أن تؤمين أبن هللا هو الرزاق‪ ،‬وأنه هو َمن سيعوض ‪،‬‬
‫ً‬
‫سحاء الليل والنهار‪ ،‬وخزائنه مألى؟ أتدري ماذا أنفق منذ‬
‫وأن إذا أنفقت بيمين سيعطي ‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،-‬أليست يده َّ‬
‫أن خلق األرض حىت تقوم الساعة؟ مثل ما يدخل أحدكم اإلبرة يف البحر‪ ،‬ماذا َتخذ من البحر؟ سا شيء!‬

‫أتدري من هو هللا الذي خيتربك يف هذه احلياة؟‬

‫وبني النجاح إسا هذا‬ ‫اساختبارات اليت تناسب ‪ ،‬وسا يوجد بين‬
‫إذا علمت من هو‪ :‬ستكون متنب ًها ألنه حكيم‪ ،‬أدخل‬
‫دوان عن اخلليقة سأدخل هذا اساختبار‪ ،‬أان ابلذات‬
‫الستار الذي هو‪ :‬اإلميان ابلغيب‪ ،‬وإذا آمنت ابلغيب ستنجح‪ ،‬وتقول‪ :‬أان ً‬
‫تأتيين هذا الشخص ويفعل ب كذا؛ ألن ب من الطباع النفسية‪ ،‬واألوضاع اساجتماعية‪ ،‬واخلربات‪ ،‬والتَّجارب ما جيعلين أجنح‪.‬‬
‫األرض وحبها فتبقى وترسب!‬
‫نفس و ُ‬
‫ُ‬ ‫فإما أن يدفع إميان ابلغيب فتنجح‪ ،‬أو تعيق‬

‫ومع ذل فإن اللطيف اخلبري سا خيتربك مرًة واحدة‪ ،‬ويرتك إن رسبت‪ ،‬وإمنا يعيد علي اساختبار‪ ،‬تعاد علي املسألة نفسها‬
‫وختترب فتنجح‪.‬‬
‫من أجل أن ترقى ُ‬

‫مثال‪ :‬ملاذا ميوت هذا‬


‫لن تظهر حكمة هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف أقداره وشرعه ملن ينظر إىل أمره القدري نظرًة منفصلة‪ ،‬فيقول ً‬
‫أوسادا إسا وميوتون؟ ملاذا هؤساء عندهم ولد معاق؟‬
‫هبذه الصورة؟ ملاذا سا تلد هذه ً‬

‫سا يتكلم اإلنسان مع ربه هبذه الصورة!! فهذا الذي تتكلَّم عنه هو اللطيف اخلبري‪ ،‬العليم احلكيم‪ ،‬العزيز احلكيم‪ ،‬وأنت لو‬
‫فهمت احلياة ستفهم أن هذه األقدار مناسبة لالختبار‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫أنت اآلن يف قاعة اختبار كب رية‪ ،‬هل ستجد يف قاعة اساختبار ما يطيب للنفوس‪ ،‬وتنشرح له الصدور؟ هل ستجلس يف هذه‬
‫القاعة على أفضل حال؟! أم أن الناس كلهم مشدودون فيها‪ ،‬وكل شيء على احلد؟‬

‫مشدودا‬
‫ً‬ ‫الناس يعرفون ماذا تعين قاعة اساختبار‪ .‬يعرفون معىن أن يكون اإلنسان متَـبَـًرا‪ ،‬وكيف هو حاله أثناء اساختبار‪ :‬يكون‬
‫حامال للهم‪ ،‬سا يريد أن يتمتَّع‪ ،‬دجده يشرب كأس ماء فقط من أجل أن يعيش‪ ،‬سا أن يقضي الساعات يف قضاء بعض‬
‫ً‬
‫احلاجات البسيطة! بل هو يشعر أن ليس لديه وقت‪.‬‬

‫ب‬
‫َحس َ‬
‫فالذي نظر إىل حياته هبذه النظرة‪ ،‬ستكون هذه أول ورقة تنكشف له‪ ،‬يفهم منها حكمة هللا‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬امل * أ َ‬
‫َّاس أَ من يـُمتـَرُكوا أَ من يَـ ُقولُوا آَ َمنَّا َوُه مم َسا يـُ مفتَـنُو َن}(‪ )1‬هذا مستحيل!‬
‫الن ُ‬
‫واعلم أنك لست الوحيد الذي قال‪ :‬آمنت‪ ،‬ف ُفَِت‪ ،‬بل العامل كله جيب أن يعرف أن األرض ُخلقت للبالء؛ كما قال‬
‫س ُن َع َم ًال}(‪ ،)2‬فلو‬ ‫ِ‬ ‫ْك َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير * الَّ ِذي َخلَ َق املَْو َ‬
‫ت َواحلَيَا َة ليَـ ْبـلُ َوُك ْم أَيُّ ُك ْم أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫تعاىل‪{ :‬تَـبَ َار َك الَّ ِذي بِيَ ِد ِه املُل ُ‬
‫فهمت حقيقة احلياة ستفهم ما هي احلكمة‪ ،‬لكن لو كنت تظن أن احلياة طيب وسعادة وهناء وسا يوجد فيها منغصات‪،‬‬
‫انقصا؟ أين احلكمة أبن سا يطيب يل نوم؟ أين احلكمة‬
‫ستكون غري راض أبقدار هللا‪ ،‬وتتساءل‪ :‬أين احلكمة يف أن يكون هذا ً‬
‫مستمتعا بنومي مث أفزع من سا شيء؟ أين احلكمة يف أن األبناء ما تأتون إسا ابملشاق؟ سا خيرجون إسا مبشقة من‬
‫ً‬ ‫يف أن أكون‬
‫أمهاهتم‪ ،‬مث يُعيشون آابءهم وأمهاهتم يف مشقة تربيتهم وإطعامهم‪ ،‬مث دجد أن هذه املشقة حمبوبة‪ ،‬فأنت حتب أبناءك‪َّ ،‬‬
‫وتتلذذ‬
‫بوجودهم‪ ،‬مع كوهنم مشقة علي ‪ ،‬فكيف جيتمع يف الدنيا كل هذا؟‬

‫شخصا اعتدى علي ‪،‬‬


‫ً‬ ‫جيتمع كل هذا يف الدنيا ألهنا دار اختبار‪ ،‬لن تطيب هنا‪ ،‬هنا ليس مكان ساستيفاء احلقوق‪ .‬فلو أن‬
‫مث ُرَّد إلي حق ‪ ،‬لبقي نفس اساعتداء يؤمل يف نفس !‬

‫سابد أن تفهم هذه القاعدة‪ :‬أنت ما أتيت للدنيا لتطيب أو لتستمتع‪ ،‬بل أنت هنا يف رحلة سريعة‪.‬‬

‫اختبارا‪ ،‬لكن سا بد أن نسأل‪ :‬ما عوامل هذا اساختبار؟‬


‫ً‬ ‫إذًا‪ :‬تقرر أن ستدخل‬

‫)‪[ )1‬سورة العنكبوت‪]2-1 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة املل ‪]2-1 :‬‬
‫‪194‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫حكيم‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف خلق طباع اخللق ابلتفاوت‪ ،‬فجعل بعضهم لبعض‬


‫ٌ‬ ‫هللا عليه من طباع‪ ،‬فهو‬ ‫عوامله‪ :‬ما خلق‬
‫فتنة‪.‬‬

‫ومن‬
‫أبدا بيتًا يكون الرجل واملرأة فيه متطاب َقني‪ ،‬بل سابد أن يكوان كأسنان املشط‪ ،‬يتداخل بعضها يف بعض‪َ .‬‬
‫ولذل سا دجد ً‬
‫تصور املسألة دخل هذا اساختبار هبدوء‪ ،‬ومن مل يتصورها خرج منها بدون توازن‪.‬‬

‫حكيم يف تقديره علي هذه األقدار‪ .‬وكأنه يقال‬


‫ٌ‬ ‫حكيم يف خلق هبذه الطباع‪ ،‬مث أنه‬
‫واملقصود‪ :‬أن هللا‪-‬سبحانه وتعاىل‪ٌ -‬‬
‫ل ‪ :‬انظر إىل هذه األقدار مبا مع من إميان ويقني ابهلل‪ ،‬وأخبار عن الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫ث سا‬
‫َمجي َع مل لَهُ مَمَر ًجا * َويـَ مرُزقمهُ م من َحمي ُ‬ ‫جالسا يف مكان تقرأ القرآن‪ ،‬مث مررت بقوله تعاىل‪َ { :‬وَم من يـَتَّق ا ََّّللَ‬
‫ً‬ ‫لو كنت‬
‫مثال‪ ،-‬مث تأتي من ميد يده‪( .‬وقت‬ ‫‪ً -‬‬ ‫ب}(‪ ،)1‬وبغريها من آايت اإلنفاق‪ ،‬فاعلم أن اساختبار سيأتي ‪ ،‬فتذهب لعمل‬ ‫َمحيتَس ُ‬
‫قراءة القرآن كان هو وقت الدرس‪ ،‬واآلن أتى اساختبار)‬

‫وهلذا خيرب‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف قصة آدم‪-‬عليه السالم‪-‬يف سورة طه‪ :‬أبنه عندما أنزل آدم إىل األرض قال‪ { :‬ماهبطَا ممنـ َها‬
‫اي فَ َال يَضل َوَسا يَ مش َقى}(‪ .)2‬فأنت اآلن يف األرض يف اختبار‪،‬‬
‫ض ُك مم لبَـ معض َع ُدو فَإ َّما َتأمتيَـنَّ ُك مم مين ُه ًدى فَ َمن اتـَّبَ َع ُه َد َ‬
‫َمج ًيعا بـَ مع ُ‬
‫واملادة اليت ستخترب فيها‪ :‬هو ما ينزل عليك من السماء‪ ،‬وحلظة االختبار هي‪ :‬األقدار اليت جتري عليك‪.‬‬

‫أين احلكمة يف هذه األقدار؟‬

‫هناك حكمة عظيمة؛ فأنت ال تُبتلى بشخص‪ ،‬وال بوضع‪ ،‬وال أبي نوع بَلِيَّة‪ ،‬إال ويف طباعك وأوضاعك ويف ما علمته‬
‫ما يعينك على النجاح‪ ،‬وما بين وبني النجاح إسا الستار بني الدنيا والغيب‪ ،‬أي‪ :‬بين وبني اإلميان ابليوم اآلخر‪.‬‬

‫وهلذا تسمع الناس يشتكون من بعض شؤوهنم‪:‬‬

‫فامرأة تقول‪ :‬مللت من زوجي‪ ،‬جالس يف البيت طوال الوقت‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫والثانية تقول‪ :‬مللت منه‪ ،‬خارج البيت طوال الوقت‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫)‪[ )1‬سورة الطَّالق‪]3-2 :‬‬


‫)‪[ (2‬سورة طه‪]123 :‬‬
‫‪195‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ولو مسعت األوىل شكوى الثانية لقالت هلا‪ :‬ابلعكس! األفضل ل أن جيلس خارج املنزل‪.‬‬

‫والثانية ستقول لألوىل‪ :‬ابلعكس! األفضل ل أن جيلس يف البيت‪.‬‬

‫وأنت تقولني‪ :‬سبحان هللا! ملاذا مل يكن هذا زوج الثانية‪ ،‬واألخرى زوجها ذاك؟ ملاذا سا يكون هذا ابلتبادل؟‬

‫أصال مبنيَّة على اسابتالء واساختبار‪ ،‬فهذه حاجتها النفسية‪ :‬أن سا يكون ابقيًا‪ ،‬فيختربها هللا‪-‬‬
‫سنقول‪ :‬كيف ذل ؟! القصة ً‬
‫وجل‪-‬ببقائه‪ ،‬وإن جنحت خفَّف عنها اساختبار‪ ،‬وتَ َك َّون هلا يف طبيعتها ما يعينها على حتمله‪ ،‬واألخرى ابلعكس‪ ،‬لو جنحت‬
‫عز َّ‬
‫َّ‬
‫وجل‪-‬عليها زوجها‪ ،‬ويبقى عندها‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫يف الصرب‪ :‬سريد هللا‪َّ -‬‬

‫واملقصود‪ :‬أن هذه كلها اختبارات مبنيّة على قاعدة الصرب واحلَْبس‪ ،‬وعدم االنفعال السريع والردود اليت ال تكون الئقةً‬
‫أبقدار هللا‪.‬‬

‫هل تعرف من مع وأنت حابس نفس يف فرتة اساختبار وإىل أن تنجح؟ هل تعرف من مع يؤيدك وينصرك‪ ،‬وبه تُبصر‪،‬‬
‫ين}(‪ ،)1‬هذه هي الوساية‪.‬‬
‫الصابر َ‬ ‫وبه تَسمع‪ ،‬وبه تَبطش‪ ،‬وبه متشي؟ أتدري من؟ {إ َّن َّ‬
‫اَّللَ َم َع َّ‬

‫وجل‪-‬يؤيدك وينصرك ويوفق للخروج من كل اختبار‪.‬‬


‫عز َّ‬
‫اختبارا وأنت صادق سا تظن أن لوحدك‪ ،‬بل هللا‪َّ -‬‬
‫ً‬ ‫عندما تدخل‬

‫فانظر إىل احلكمة العظيمة‪ :‬كيف يُبتلى الناس ببالءات‪ ،‬وتكون هذه األقدار عليهم مبثابة اساختبارات‪ ،‬فيمرون بذل كله من‬
‫يد ب ُك ُم المعُ مسَر}(‪.)2‬‬
‫اَّللُ ب ُك ُم الميُ مسَر َوَسا يُر ُ‬
‫يد َّ‬‫أبدا‪ ،‬بل {يُر ُ‬
‫أجل أن يفوزوا وينجحوا‪ ،‬وليس من أجل أن يَبلوا ً‬

‫"ه مل م من ُم مستَـ مغفر؟ َه مل م من َاتئب؟"(‪ .)3‬كل هذا يدل‬


‫فمن بره على خلقه‪ ،‬وإحسانه إليهم‪ ،‬وتودده إليهم‪ :‬مناداهتم كل ليلة‪َ :‬‬
‫وجل‪-‬يريدك أن تنجح‪ ،‬فقدر علي هذه األقدار اليت هي مبثابة اساختبار‪ ،‬وهيأ ل الظروف اليت هبا تنجح‪،‬‬
‫عز َّ‬
‫على أن هللا‪َّ -‬‬

‫)‪[ )1‬سورة البقرة‪]153 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة البقرة‪]185 :‬‬
‫)‪ )3‬روى مسلم يف صحيحه‪ /‬يف كتاب صالة املسافرين وقصرها‪ /‬ابب الرتغيب يف الدعاء والذكر يف آخر الليل‪ ،‬واإلجابة فيه‪ )758(-172 /‬عن أب سعيد‪ ،‬وأب‬
‫ول‪َ :‬ه مل م من ُم مستَـ مغفر؟ َه مل م من َاتئب؟ َه مل‬ ‫ث اللَّميل ماأل ََّو ُل‪ ،‬نـََزَل إ َىل َّ‬
‫الس َماء الدنمـيَا‪ ،‬فَـيَـ ُق ُ‬ ‫هريرة‪ ،‬قاسا‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إ َّن هللاَ ميُمه ُل َح َّىت إ َذا ذَ َه َ‬
‫ب ثـُلُ ُ‬
‫م من َسائل؟ َه مل م من َداع؟ َح َّىت يـَمنـ َفجَر الم َف مجُر"‪.‬‬
‫‪196‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫عن‬ ‫ني}(‪ ،)1‬فرمبا سا تستطيع أن تنجح وحدك‪ ،‬فاحبث ل‬ ‫منهجا تدرسه‪ ،‬وقال ل ‪{ :‬اتـَّ ُقوا هللاَ َوُكونُوا َم َع َّ‬
‫الصادق َ‬ ‫وأعطاك ً‬
‫وجل‪-‬هبم‪.‬‬
‫عز َّ‬‫صحبة صاحلة‪ ،‬ولو كنت صادقًا سيهيئ هللا ل صحبةً صاحلة‪ ،‬تسمع منهم اخلري‪ ،‬فتنتفع هبم‪ ،‬ويرشدك هللا‪َّ -‬‬

‫وجل‪-‬لإلنسان كل الظروف اليت هبا ينجح يف اساختبار‪ ،‬وهبا ينجح يف اساستعانة به‪ ،‬واللجوء إليه‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫إذًا‪ :‬هيأ هللا‪َّ -‬‬

‫وجل يهيئ اإلنسان ألن ينجح‪ ،‬ويلجأ إليه يف وقت الشدة‪ ،‬وسا جيزع‪:‬‬
‫عز َّ‬
‫سأحكي هذه القصة احلقيقية؛ ألبني كيف أن هللا‪َّ -‬‬

‫فأصرت زميلة يل أن تركب معي‬


‫هذه امرأة تقول‪-‬يف أايم الدوام يف رمضان من عام ‪1421‬هتقريبًا‪ :-‬خرجت من عملي‪َّ ،‬‬
‫من أجل أن أوصلها‪ ،‬وقد كان يف نفسي من الضيق؛ ألننا كنا يف هنار رمضان والشوارع مزدمحة‪ ،‬فلم أكن أرغب يف إيصاهلا‪،‬‬
‫أوسا مث أذهب‪ ،‬فشعرت هي أين وجدت يف نفسي من التثاقل بوجودها معي‪ ،‬فبقيت تُسليين يف الطريق‪،‬‬
‫فقلت هلا‪ :‬سأوصل ً‬
‫وتكلمين حول احلروق والعسل وأثره يف عالجها‪ ،‬وكيف أن العسل مبجرد أن تضعيه على احلرق يذهب أثره‪...‬وإخل‪.‬‬

‫وضعت جلسة القهوة‪ ،‬وابدرت يف اإلفطار‪،‬‬


‫ُ‬ ‫مث ذهبت إىل بييت‪ ،‬وأتى وقت اإلفطار‪ ،‬وعندي طفلة عمرها سنة وشهرين‪.‬‬
‫وذهب والدها يف دربه يصلي‪ ،‬فأتت طفليت وفتحت "ترمس القهوة"‪ ،‬وسكبته على نفسها‪ ،‬ودخلت الطفلة مباشرًة يف إغماء‪،‬‬
‫صرخت صرخة واحدة فقط‪ ،‬وغابت عن الوعي!‬
‫َ‬

‫مل يكن أ مام األم اآلن إسا الكالم الذي مسعته يف النهار‪ ،‬الكالم الذي كانت تقوله هلا زميلتها ابلتفصيل‪ :‬عندما نضع العسل‬
‫نقول‪ :‬بسم هللا‪ ،‬ونستعني ابهلل‪ ،‬ونؤمن أنه أمر هللا‪...‬‬

‫تقول األم‪ :‬أصبحت مثل الذي ميشي على خط واحد‪ ،‬أخذت العسل ووضعته ومسَّيت واستعنت‪ ،‬ومجعت قليب أسا أجزع من‬
‫وجل‪--‬فهي قد شعرت أن طفلتها ماتت‪ .-‬تقول‪ :‬وهللا‪ ،‬وهللا يشهد يف السماء أن أابها ما أتى من الصالة إسا‬
‫عز َّ‬
‫أمر هللا‪َّ -‬‬
‫والبنت يقظة‪ ،‬وسا أثر لشيء‪.‬‬

‫وجل‪-‬ال خيتربك إال بعدما يهيِّئك لالختبار‪ ،‬ويُسمعك كيف جتيب‪ ،‬سا خيتربك إسا بعدما‬
‫عز َّ‬
‫الشاهد من القصة‪ :‬أن هللا‪َّ -‬‬
‫يقول ل ‪ :‬هذا طريق الصواب‪ ،‬لكن كن ذا مسع‪ ،‬وذا بصر‪ ،‬وانتفع من اخللق‪.‬‬

‫)‪[ )1‬سورة التوبة‪]119 :‬‬


‫‪197‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫كم من امرأة خرجت من بيتها للعمل وهي تقول‪ :‬أان لن أرجع بييت‪ ،‬سأتطلَّق من زوجي! مث تذهب إىل الدوام فتجد‬
‫صديقتها تشتكي من مصائب زوجها‪ ،‬فيقع يف قلبها أن زوجها أفضل‪ ،‬وأهون‪ .‬كم مير علي مثل هذه املواقف اليت تقول ل ‪:‬‬
‫تتعجل؟! الكثري!‬
‫ترسب‪ ،‬سا َّ‬
‫اجنح‪ ،‬سا ُ‬

‫األم تركب معها زميلتها‪ ،‬وحتكي هلا هذا الكالم ابلتفصيل‪ ،‬وهي تسمع أبذنيها‪ ،‬ودجمع قلبها‪ ،‬كيف تأيت مثل هذا‬ ‫فتل‬
‫كثريا‪ ،‬وتسمع‬
‫التوفيق؟! هذا سا تأيت إسا من احلكيم سبحانه‪ .‬صحيح أن هذا املوقف يعترب مبثابة الكرامة‪ ،‬لكن مير علي أمثاله ً‬
‫وجل‪-‬يُشهدك على نعمه‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫مثل هذا‪ ،‬لكن سا تفتح أذني وعيني لرتى كيف أن هللا‪َّ -‬‬

‫تفعل هذا املوقف يف أحد! وهذا‬


‫شخصا على تصرفه مع ‪ ،‬مث سا مير يوم أو يومان إسا ودجد نفس‬
‫ً‬ ‫كم من املرات تلوم‬
‫حيصل مع من أجل أن يقال ل ‪ :‬أن ه قد حيصل من هذا املوقف‪ ،‬فهو خارج عن إرادت ‪ .‬ويظهر ل أن أسأت الظن يف‬
‫الشخص الذي لُمتَه‪.‬‬

‫كم مرة أسأان الظن يف الناس‪ ،‬مث مرت علينا مواقف جعلتنا نقول‪ :‬وهللا مسكني! فتعود أنت وتتوب عن سوء الظن الذي‬
‫تتصور أن هذا تأيت مبثابة الصدفة؟ سا! بل يقدر هللا ل هذه األقدار ليدفع إىل‬
‫مررت به؟ أليس هذا كله فعل احلكيم؟! هل َّ‬
‫اببه فتنجح‪.‬‬

‫أنت لو فهمت‪ :‬ملاذا ُو ِجد اخللق؟ وإىل ماذا يدفعهم رهبم؟ لَ َما شككت يف احلكمة من أي موقف‪ ،‬لكننا غيَّبنا هاتني‬
‫احلقيقتني‪ ،‬وأصبحنا نقول‪ :‬ما احلكمة أن يكون هلذه معاق؟ ما احلكمة أن زوج هذه يفعل هبا كذا؟ هذه امرأة سا يوجد فيها أي‬
‫ملتفت عنها‪ ،‬ملاذا حيصل مثل هذا؟ وجند أن الناس يتناقلون قاعدة أن‬
‫ٌ‬ ‫شيء انقص‪ ،‬وهي شديدة التعلق بزوجها‪ ،‬لكن قلبه‬
‫"الرجال سا خري فيهم"‪ ،‬ويقولون عن هذا الزوج‪ :‬من املؤكد أنه مرتبط أبخرى‪ ،‬أو من املؤكد أنه مسحور‪...،‬وإخل‪.‬‬

‫وجل‪-‬حكيم‪ ،‬قدَّر هذا اسالتفات القليب لئال حيصل يف قلب الزوجة تعلق بغري هللا‪ ،‬وأن هذا‬
‫عز َّ‬
‫وسا جند َمن يقول‪ :‬أن هللا‪َّ -‬‬
‫سيدفعها للجوء إىل هللا‪.‬‬

‫الدنيا كلها؟! مىت سرتحل لآلخرة لو أن كل ما أردته كان عندك؟! مىت ستقول‪ :‬اي‬ ‫كيف سرتحل لآلخرة لو طابت ل‬
‫رب؟! مىت ستضطر إليه؟!‬

‫كل األقدار موجودة هلذين العاملني‪:‬‬

‫‪198‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫العامل األول‪ :‬أن احلياة إمنا هي اختبار‪.‬‬

‫أبدا‪ ،‬وإمنا تُدفع لتنجح‪.‬‬ ‫العامل الثاين‪ :‬أن سا تُدفع ُ‬


‫لرتسب ً‬

‫عاجزا عنه؟ وكم أغمض عيني عنه؟‬


‫ً‬ ‫فكم حفظ من الذنب؟ وكم جعل‬

‫أليس هذا كله من حفظه؟! بلى! هذا كله من أجل أن تنجح‪.‬‬

‫أقدارا تصرف أهل الشر عنك‪ ،‬أليس هذا‬


‫أنت تقول‪َّ :‬ي رب احفظِن فليس لدي قدرة على منع نفسي! فيق ّدر لك ً‬
‫كله تشهدون عليه؟! بلى‪ ،‬وهللا نشهد! وكلما طالت ب احلياة ستشهد على ذل أكثر‪ ،‬كلما طالت احلياة كلما وجدت‬
‫أمورا تدفعك إىل االستقامة على دينه‪ ،‬إال أن هناك من يسمع ويرى‪،‬‬ ‫عز َّ ِ‬
‫وجل‪-‬يدبّر لك ً‬ ‫مواقف تشهد على أن هللا‪َّ -‬‬
‫وهناك من عطَّل مسعه وبصره‪.‬‬

‫حكيم يف كل أقداره‪ ،‬لكن هذه احلكمة ال يفهمها َمن تعنَّت يف‬


‫ٌ‬ ‫حكيم يف كل أمره‪،‬‬
‫واملقصود‪ :‬أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪ٌ -‬‬
‫النظر إىل أقدار هللا(‪.)1‬‬

‫علي أن أفهم أن كل الذي قُدر‬


‫علي أن أفهم‪ :‬ملاذا ُوجد اخللق؟ إىل ماذا يدفعهم رهبم هبذه األقدار؟ َّ‬
‫التعنت سا يصلح‪ ،‬وإمنا َّ‬
‫جنحت فيها ترقَّيت‪ ،‬وكان اجلزاء هنا‪ :‬ذَوقًا فقط‪ ،‬وهناك تطعمه ً‬
‫طعاما‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫علي هو مبثابة اختبارات إن‬
‫َّ‬

‫وعلى هذا سيرتتب أمر جديد‪ ،‬وهو‪:‬‬

‫وجل‪-‬قدر هذه األقدار مبا يالئم من طباع‪ ،‬ومبا يالئم من حال‪ ،‬وأن كل هذه‬ ‫أن املطلوب منك لو تيقَّنت أن هللا‪َّ -‬‬
‫عز َّ‬
‫مرت معنا‬
‫األقدار قُدرت ل لتدفع للنجاح يف اساختبار‪ :‬هو أن تتعبَّد الرب بعبادة حسن الظن؛ فإن قاعدة املعرفة‪-‬اليت َّ‬
‫يف النقاش‪-‬تُل ِزمنا ّأال ننظر لشيء من أقدار هللا إال وحنن نعتقد أن فيه احلكمة‪ ،‬فإذا طابت نفسك َلذا األمر‪ُ ،‬رزقت أن‬
‫وثباات‪.‬‬
‫ينكشف لك يف كل موطن ما يزيدك يقينًا ً‬

‫سنقول مرة أخرى‪ :‬أن يف هذه املسألة ثالثة أمور‪:‬‬

‫‪ .1‬أن سا تستطيع أن تفهم حكمة هللا يف أقداره إسا إذا فهمت سبب وجودك يف الدنيا‪.‬‬

‫)‪" (1‬تعنَّت" مبعىن أن يقول‪ :‬أريد سببًا هلذا‪ ،‬وسببًا هلذا!‬


‫‪199‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫‪ .2‬أن معىن احلكمة هو‪ :‬وضع الشيء يف موضعه‪.‬‬

‫وجل‪-‬عندما ابتالك واختربك إمنا يريد ب اليسر‪ ،‬ويريد أن ينجي ‪ ،‬ويريد أن يرشدك إىل طريق‬
‫عز َّ‬
‫‪ .3‬أن تعلم أن هللا‪َّ -‬‬
‫اهلداية‪ ،‬فأقداره كلها تدفع إىل جنَّاته‪.‬‬

‫مىت ستدفعك هذه األقدار للجنة؟ لو آمنت ابلغيب ‪ ،‬ولذا سابد أن تعرف‪ :‬ما هو موضع ؟ افهم أنت موجود هنا ألي‬
‫شيء؟ وهذه األقدار تدفع ألي شيء؟ أنت موجود هنا لالختبار‪ ،‬وعندك أدلة كثرية على تدل على ذل ‪.‬‬

‫حنن اآلن نقرر أن كل األقدار عبارة عن اختبار‪ ،‬ولذل عندما يسأل أحد‪ :‬ملاذا يغيب عنا القدر؟ سنقول‪ :‬اساختبار سابد أن‬
‫يكون غائبًا ابلطبع! أنت عليك أن أتخذ مادة االختبار‪ ،‬وتدرسها‪ ،‬مث بعد ذلك أتتيك االختبارات يف حلظات احلياة‪ ،‬فأنت‬

‫طوال الليل والنهار ُخمترب‪ ،‬واملنهج واضح‪ ،‬فال ِّ‬


‫تقصر يف دراسة املنهج لكي تنجح‪.‬‬

‫أنت تقرأ كل يوم سورة الفاحتة‪ ،‬وتقول‪:‬‬


‫(‪)1‬‬
‫‪ ‬جنحين اي رب‪.‬‬ ‫{ ماهد َان الصَرا َط امل مستَق َيم}‬

‫ني}(‪ : )2‬أان أستعني ب لكي أجنح‪.‬‬


‫{إ َّاي َك نَ مستَع ُ‬

‫إ ًذا هذا هو املـُعطى األول‪ :‬أن سرتى حكمة هللا يف أقداره عندما تعلم سبب وجود اخللق يف الدنيا‪ ،‬وكيف أن هذه األقدار‬
‫متاما‪ ،‬وكلما أقبلت على هللا واستعنت به‪ :‬وفق ‪ ،‬وأرشدك‪،‬‬
‫هي اختبارات هلم‪ ،‬وكيف أن هذه اساختبارات َتيت مالئمة هلم ً‬
‫وأوصل إىل الطريق املستقيم‪.‬‬

‫اه ْم}(‪ .)3‬البد أن تكون متي ّقنًا أبن هللا ال خيذلك‪ ،‬وال يرتكك‪ ،‬وكل‬ ‫َّ ِ‬
‫اد ُه ْم ُه ًدى َوآ ََات ُه ْم تَـ ْق َو ُ‬
‫ين ْاهتَ َد ْوا َز َ‬
‫قال تعاىل‪َ { :‬والذ َ‬
‫ما عليك هو أن جتمع قلبك على إرادة اَلدى فيهديك‪.‬‬

‫إذا فهمت هذا‪ ،‬وفهمت أن كل أقداره أتت يف موطنها على احلكمة‪ ،‬وأن النوع الذي جاءك هو الذي يناسب ‪ :‬وجب‬
‫علي أن حتسن الظن به إطالقًا‪ ،‬وتقول‪ :‬كل الذي تأيت من هللا يناسبين‪ ،‬كل الذي تأيت من هللا إمنا هو يف طريق اساختبار الذي‬

‫)‪[ )1‬سورة الفاحتة‪]6 :‬‬


‫)‪[ )2‬سورة الفاحتة‪]5 :‬‬
‫)‪[ )3‬سورة حممد‪]17 :‬‬
‫‪200‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬هو أن أجنح وأُوفَّق يف هذا اساختبار‪ ،‬وأن َّ‬


‫أتصرف فيه كما حيب ربنا ويرضى‪ .‬هذا هو‬ ‫عز َّ‬
‫أختربه‪ ،‬وكل ما أسأله من هللا‪َّ -‬‬
‫مستقبال فقد فقال تعاىل فيه‪{ :‬ل َك مي َسا ََتم َس موا َعلَى َما فَاتَ ُك مم َوَسا تَـ مفَر ُحوا مبَا آَ َات ُك مم}(‪ ،)1‬هذا‬
‫ً‬ ‫كل ما يُثقل ‪ ،‬أما ما سيكون‬
‫القدر مكتوب‪ ،‬وأاتك يف اختبار‪ ،‬إن تنجح فيه يرفع هللا‪ ،‬وإن مل تنجح فاعلم أن ذل بسبب ذنب ‪ ،‬والتوبة ابهبا مفتوح‪،‬‬
‫ولذل اقرتن مع اسم احلكيم مع اسم التواب‪.‬‬

‫يتصرف كما حيب هللا؛ ألنه لو فعل‬


‫مثال‪ :‬شخص فقد حبيبه ابملوت‪ ،‬جيب عليه اآلن ّأال حيمل إال مهًّا واح ًدا وهو‪ :‬أن َّ‬
‫ً‬
‫ص َرب‪-‬فإن املفقود لن يعود‪ ،‬فاساختبار هو‪ :‬هل ستنجح أم سرتسب؟ هل سيُبىن ل بيت‬‫أي فعل من األفعال‪-‬سواء َجزع أم َ‬
‫احلمد؟ أم سيكون هذا املوت سببًا جلزع ‪ ،‬وأن تتكلَّم عن هللا مبا سا يرضيه؟‬

‫أنت يف بداية األمر فهمت احلياة‪ ،‬فهمت أن تُعطى هذا اسابن عارية ُمستَـَرَّدة‪ ،‬مث تأخذه هللا‪ ،‬تُعطى هذا املال عارية مث‬
‫تأخذه هللا‪ ،‬تُعطى هذا البيت عارية مث تأخذه هللا‪ ،‬وخيتربك هبذا األخذ‪.‬‬

‫فتؤجر عليهم‪ ،‬مث‬


‫هللا إايهم‪ ،‬فرتبيهم َ‬ ‫إسا أن يرزق‬ ‫مثال لألبناء‪ :‬أنت تُعطاهم يف األصل من غري حول ‪ ،‬ما ل‬
‫وانظر ً‬
‫أيضا عليهم‪.‬‬
‫فتؤجر ً‬
‫تأخذهم من فتصرب‪َ ،‬‬
‫أعطاك‪...‬فشكرت‪...‬أ ِ‬
‫ُجرت‬

‫أخذ منك‪...‬فصربت‪...‬أ ِ‬
‫ُجرت‬

‫وكل هذا يف دائرة االختبار‬

‫أنت تؤمن أن هللا حكيم فتُحسن به الظن‪ ،‬تؤمن أنه من حكمته قدَّر علي هذا القدر لكي تنجح‪ ،‬وترتفع منزلة يف اجلنة سا‬
‫تدركها بعمل ‪.‬‬

‫هللا ينظر إىل اعتقاد قلبك يف حلظة املصاب والبالء‪ ،‬وأول ما يتخطَّفك الشيطان يف هذه اللحظة‪ ،‬لذا علي أن ُحتسن‬
‫أحسنت التعامل‬
‫ُ‬ ‫الظن ابهلل‪ ،‬وتقول‪ :‬أن هذا القدر فيه من اخلري‪ ،‬والرفعة‪ ،‬والدفع إىل النجاح‪ ،‬والدفع إىل املنازل العُلى‪ ،‬وأنين لو‬
‫أتصوره‪.‬‬
‫معه‪ :‬فإن هللا سيعطيين شيئًا فوق الذي َّ‬

‫)‪[ (1‬سورة احلديد‪]23 :‬‬


‫‪201‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ولذل تأيت الناس يوم القيامة فريون ما ألهل البالء من منزلة عالية‪ ،‬فيتمنوا لو أهنم نُشروا يف الدنيا ابملناشري‪.‬‬

‫وتتصورها بعني صحيحة‪ ،‬هذا هو التوفيق الذي سينقلك إىل اإلميان حبكمة هللا‪ ،‬أما إذا أردت‬
‫َّ‬ ‫تتحرر من الدنيا‪،‬‬
‫فكونك َّ‬
‫أن أقول ل حكمة هللا اليت توافق هواك فلن أستطيع أن أجيب ؛ ألن حكمة هللا مرَّكبة على إميان أبن هذه الدنيا دار اختبار‪،‬‬
‫إمياان وتقوى فإن قلبك سيقوى على احتمال‬
‫إمياان وتقوى‪ ،‬وإذا ازددت ً‬
‫وجل‪-‬كلما َنحت وارتفعت زادك ً‬
‫عز َّ‬
‫وأن هللا‪َّ -‬‬
‫االختبار األصعب‪ ،‬فيأتيك هذا االختبار‪ ،‬فتثبت فرتتفع أكثر‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫كثري من الناس يقولون‪ :‬إذا كانت زَّيدة اإلميان ستأيت يل بزَّيدة املصائب فإننا ال نريده!‬

‫واجلواب‪ :‬أن هذا كالم ال يصدر إال ِمن َس ِفيه‪ ،‬ال يفهم عن ربه شيئًا‪ ،‬فإن زايدة اإلميان يف قلب لو مثَّلناها ً‬
‫متثيال ماد ًّاي‬
‫سنقول‪ :‬لو وضعنا اآلن على جزء من أرض هذا املسرح مدة كبرية متلئة ابهلواء‪ ،‬وجعلنا اجلزء الثاين بدون مدة هوائية‪ ،‬وافرتضنا‬
‫أننا ألقينا من مكان عال كرة معدنية‪ ،‬هل ستسمع هلذه الكرة املعدنية صواتً عندما تسقط على املخدة اهلوائية؟ سا‪ .‬ملاذا؟ ألن‬
‫امتصت الثقل‪ ،‬ودفعته‪.‬‬
‫املخدة َّ‬

‫صوات عاليًا‪ ،‬وهذه هي القلوب اجلرداء اليت سا‬


‫أما اجلهة الثانية‪-‬اليت ليس فيها مدَّة‪-‬لو أسقطنا الكرة املعدنية عليها ستسمع ً‬
‫صدى عاليًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫إميان فيها‪ ،‬أقل مصيبة تنزل عليها تعطي مقابلها‬

‫إمياان فكأنه هذه املخدة اهلوائية‪ ،‬إذا سقطت عليه املصيبة فإن إميانه سيدفع أثرها‪ ،‬فال دجد من هذا‬
‫أما القلب الذي امتأل ً‬
‫القلب املمتلئ نفس أثر القلب اخلاوي‪.‬‬

‫شخصا خيسر شيئًا من ماله أو ولده وسا يبكي ذاك البكاء الشديد الذي قد يصدر من انكسر له كأس يف بيته‪،‬‬
‫ً‬ ‫ولذل ترى‬
‫وَتَزَّم! هذه التصرفات ُمؤذنة مبا يف القلب من إميان‪.‬‬
‫فاهنار َ‬

‫حسن ظن املطلق ابهلل يستلزم أن لن تناقش يف قَ َدره‪ ،‬وإمنا ستكون على يقني أنه حصل حلكمة‪ ،‬واحلكمة دائرة حول رفع‬
‫وحسن حال العبد يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫املنزلة‪ُ ،‬‬

‫أيضا يف الدنيا‪ ،‬أسا ترى أن من أقداره‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬أن جعل األنبياء‬


‫فاهلل سا حيسن حال يف اآلخرة فقط‪ ،‬وإمنا حيسنه ً‬
‫وسوا اخللق؟ والغنم أقرب ما يكون للخلق‪ ،‬فهذا نوع تدريب‪ ،‬وأنت تعيشه يف حيات ‪،‬‬
‫وسون الغنم؛ لينتقلوا بعد ذل فيَ ُس ُ‬
‫يَ ُس ُ‬

‫‪202‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪ِّ -‬‬
‫يقدر عليك‬ ‫عز َّ‬
‫مثال‪-‬يف جمتمع مع َّني من أجل أن تنتقل بعد ذل إىل جمتمع يناسب هذا اجملتمع‪ ،‬فتجد أن هللا‪َّ -‬‬
‫فتعيش‪ً -‬‬
‫أمورا إذا نظرت إليها جي ًدا سرتى كيف أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬نقلك من طَور النقص إىل طَور الكمال يف شأن دينك‬
‫ً‬
‫ودنياك‪ ،‬وليس يف شأن دينك فقط!‬

‫ما هو أثر حسن الظن ابهلل؟ ال ِّرضا عن هللا‪ .‬وهذه هي الغاية اليت نرجوها‪:‬‬

‫رضا عن هللا‪.‬‬
‫دوما ً‬
‫أن يبقى يف قلوبنا ً‬ ‫‪‬‬

‫أن يبقى يف قلوبنا شوق إىل هللا‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫شكر هلل‪.‬‬
‫أن يبقى يف قلوبنا ٌ‬ ‫‪‬‬

‫حيصل من زايدة اليقني بسبب الرضا عن هللا ما سا حيصل بسبب غريه‪ ،‬فأنت إذا أحسنت الظن يف هللا كما ينبغي سابد أن‬
‫رضيت طابت نفسك بكل شيء‪ ،‬وإذا ِ‬
‫رضيت كشف هللا لك بعض األمور‬ ‫تنتقل من حسن الظن إىل الرضا عن هللا‪ ،‬فإذا ِ‬

‫اليت تزيدك يقينًا‪.‬‬

‫وجل‪-‬خري‪ ،‬فيزيدك هللا يقينًا عندما ترضى عنه هذا‬


‫عز َّ‬
‫علي أن حتيا حمسنًا الظن‪ ،‬عندك يقني أن كل ما يقضي به هللا‪َّ -‬‬
‫الرضا‪ ،‬ويكشف ل شيئًا من حكمته‪ .‬وهذه من عطااي هللا اليت تسبب ثبات املؤمن على يقينه أبن هللا حكيم‪ ،‬وهذا من األمور‬
‫املهمة‪.‬‬

‫آاثر الرضا عن هللا‪:‬‬

‫وجل‪.-‬‬
‫عز َّ‬
‫‪-1‬قوة التعلق ابهلل‪َّ -‬‬
‫سائرا يف حياته ليس له صمد وسا ملجأ وسا ُمتَّ َكأ وسا ُمغيث إسا هللا؛ ألنه يعلم أن هللا وحده هو الذي‬
‫ومعناها‪ :‬أن يبقى العبد ً‬
‫خريا للعبد‪ ،‬فحسن ظن ابهلل جيعل متعل ًقا به‪ ،‬سا تطرق ابب غريه‪ ،‬ورضاك عن هللا جيعل‬
‫يُقدر األقدار‪ ،‬وأنه يريد أبقداره ً‬
‫دائما‪.‬‬
‫تطرق اببه ً‬
‫‪-2‬كثرة الدعاء‪.‬‬
‫فيكون هذا العبد ما أن يصيبه أمر إسا ولسانه يلهج بدعاء هللا‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬ابلطاعات‪.‬‬
‫عز َّ‬
‫‪-3‬االجتهاد يف شكر هللا‪َّ -‬‬
‫وجل‪.-‬‬
‫عز َّ‬
‫جمتهدا يف الطاعات‪ ،‬يسارع إىل رضا هللا‪َّ -‬‬
‫فمن آمن حبكمة هللا‪ ،‬وأحسن الظن به‪ ،‬ورضي عنه‪ ،‬دجده ً‬
‫‪-4‬أن يكون هذا العبد َن ِّ‬
‫يرضي اخللق عن هللا‪.‬‬
‫وجل‪.-‬‬
‫عز َّ‬
‫يسخط وسا يُسخط الناس على هللا‪َّ -‬‬
‫فال َ‬
‫‪-5‬أن يكون هذا العبد قوًَّّي يف إخالصه‪.‬‬
‫سا يلتفت قلبه مينةً وسا يسرة لغري هللا‪ ،‬فال يالحظ رضا اخللق‪ ،‬بل يالحظ رضاه سبحانه وتعاىل؛ ألنه هو العظيم يف نظره‪.‬‬
‫‪-6‬كثرة التوبة‪.‬‬
‫فإن العبد سا يطيق إسا اإلانبة إىل هللا‪.‬‬
‫ِ‬
‫وينجيه يف الضيق‪.‬‬
‫‪-7‬اليقني أبن هللا ينصره ّ‬
‫(‪.)1‬‬
‫وان}‬
‫وهذا عكس ما يظنه املنافقون الذين قيل فيهم‪َ { :‬وتَظُنو َن ابهلل الظنُ َ‬
‫فإن أول آاثر ضعف اإلميان حبكمة هللا يف األقدار‪ :‬أن يسيء العبد الظن ابهلل‪ ،‬فييأس من َروح هللا‪.‬‬
‫يتغري فيك طبع‪،‬‬
‫َّيئسا أن َّ‬
‫فرج لك هم‪ً ،‬‬ ‫َّيئسا أن يُ َ‬
‫َّيئسا من رمحته‪ً ،‬‬
‫َّيئسا من َروح هللا‪ً ،‬‬
‫وهلذا كلما الحظت نفسك ً‬
‫يتحول حالك‪ ،‬اعلم أنك أسأت الظن ابهلل‪ ،‬وإذا أسأت الظن ابهلل‪ ،‬فإن هذا يُرَّكب عليه أن سا تؤمن بكمال‬
‫َّيئسا أن َّ‬
‫ً‬
‫حكمته‪ ،‬وأنه على كل شيء قدير‪ ،‬وأنه يضع األمور يف موضعها‪ ،‬وأنه ابتالك هبذا األمر من أجل أن تلهج‪ ،‬وتقول‪ :‬اي رب‪،‬‬
‫وتسأله‪ ،‬وتدعوه‪.‬‬

‫ومن هنا سأقول كلمة متصرة يف (مسألة‪ :‬تكرار وقوع اإلنسان يف الذنب)‪:‬‬

‫يف الذنب سا تسمح‬ ‫وجل‪-‬حكيم حىت يف مثل هذه األمور‪ ،‬مبعىن‪ :‬أنه عندما يتكرر وقوع‬
‫عز َّ‬
‫سابد أن تعلم أن هللا‪َّ -‬‬
‫للشيطان أن تأخذك إىل اليأس‪ ،‬بل فليأخذك اإلميان حبكمة هللا إىل شدَّة اللجوء واإلانبة إليه‪ ،‬وتكرارها‪ ،‬وعدم التوقف عنها‬
‫مهما أخذت نفس إىل الذنب‪.‬‬

‫تالعب هبم الشيطان‪ ،‬وإمنا اعلم أن من‬


‫أتغري! هذا كالم اليائسني الذين َ‬
‫سا تعامل هللا ابلعكس‪ ،‬وتقول‪ :‬سا يوجد أمل يف أن َّ‬
‫النفوس ما يكون من طبعها ِ‬
‫الكرب‪ ،‬فإذا أحسنَت‪ ،‬وعبَدت‪ ،‬وقامت الليل‪ ،‬ومل تُذنب‪ :‬انتفخت!! فكان أثر هذا االنتفاخ‬

‫)‪[ )1‬سورة األحزاب‪]10 :‬‬


‫‪204‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫وجل‪-‬ابلذنب‪ ،‬فما أن َّ‬


‫تتذكر أهنا طائعة إال وتتّهم نفسها أبهنا عاصية‪،‬‬ ‫عز َّ‬ ‫أن تدخل النار بسبب ِ‬
‫الكرب‪ ،‬فيكسرها احلكيم‪َّ -‬‬
‫فتبقى يف حال ُّ‬
‫الذل املمدوح‪ .‬فهذه النفوس سا تصلح إسا هبذه الطريقة‪.‬‬

‫عندما جيد بعض الناس أهنم يكررون املعصية فإهنم ييأسون من َروح هللا‪ ،‬فيقال هلم‪ :‬سا! بل أكثروا من اإلانبة‪ ،‬فإن نفس‬
‫العود والرجوع سا يكون إسا من‬
‫العود والرجوع‪ ،‬وهذا َ‬
‫التوبة املتكررة عبادة جديدة‪ ،‬وهذا هو معىن اإلانبة‪ ،‬فاإلانبة مأخوذة من َ‬
‫إنسان يدخل للذنب‪ ،‬وخيرج منه‪.‬‬

‫كثريا‪ ،‬يتذكر دقائق ذنبه فيعود إىل ربه‪ ،‬بل َّ‬


‫يتذكر الذنوب البعيدة اليت اتب عنها‪ ،‬فيستحي أن‬ ‫إ ًذا‪" :‬املنيب" عب ٌد يعود إىل ربه ً‬
‫فتتحول سيئاته إىل حسنات!‬
‫تفاعا عند ربه‪َّ ،‬‬
‫يلقى ربه هبا‪ ،‬فيبقى جيدد توبته ويراجعها‪ ،‬فتزداد مكانته ار ً‬

‫منكسرا بني يديه‪ ،‬سا تُقدم على الذنب وأنت مستهني ابهلل‪ .‬لكن إذا وقعت‬
‫ً‬ ‫متصال به‪،‬‬
‫ابق ً‬‫أبدا‪ ،‬بل َ‬
‫سا تيأس من َروح هللا ً‬
‫وجرت قدماك إىل الذنب‪ ،‬فعلي بقوة اإلانبة‪ ،‬وحسن الظن يف هللا أبنه سا يرد َمن أقبل عليه‪ ،‬وأن هناك حكمة وراء إصابت‬
‫َّ‬
‫للذنب‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اللقاء اخلامس عشر‬

‫‪206‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدان حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫سا زلنا‪-‬بفضل هللا وبرمحته‪-‬نناقش هذا اساسم العظيم‪ :‬اسم هللا احلكيم‪ .‬وهذا هو لقاؤان األخري ملناقشته‪.‬‬

‫سنعاجل يف لقائنا اليوم‪ :‬املسألة األخرية اليت اتَّفقنا عليها‪ ،‬وهي‪ :‬اجلداول اليت خرجتم هبا من قراءتكم وإحصائكم ساسم احلكيم‬
‫يف القرآن‪.‬‬

‫مرة‪ ،‬فبماذا اقرتن هذا االسم العظيم؟‬


‫تكرر يف القرآن قرابة املائة َّ‬
‫اسم احلكيم ّ‬

‫أكثر امسني اقرتان به مها‪( :‬العزيز) و(العليم)‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أيضا ب(اخلبري)‪.‬‬
‫واقرتن ً‬ ‫‪‬‬

‫وب(التَّواب) مرة واحدة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وب(العلي) مرة واحدة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫اسع) حكيم‪.‬‬
‫وأتى يف النساء يف آية (‪ )130‬أنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪(-‬و ٌ‬ ‫‪‬‬

‫أيضا ب(احلميد)‪.‬‬
‫واقرتن ً‬ ‫‪‬‬

‫كيف تستدل ابسم احلكيم؟ وعلى ماذا ستستدل؟ سنرى بعض املواطن لنجيب عن ذل ‪:‬‬

‫ث فيه مم َر ُس ًوسا ممنـ ُه مم يـَمتـلُو َعلَميه مم‬


‫‪ .1‬نبدأ بسورة البقرة آية (‪ )129‬يف سياق دعاء إبراهيم‪-‬عليه السالم‪ ،-‬قال‪َ { :‬ربـَّنَا َوابمـ َع م‬
‫يم}‪.‬‬
‫احلَك ُ‬ ‫ممةَ َويـَُزكيه مم إنَّ َ أَنم َ‬
‫ت الم َعز ُيز م‬ ‫احلك َ‬
‫اب َو م‬
‫آايت َ َويـُ َعل ُم ُه ُم المكتَ َ‬
‫َ‬

‫ما دسالة خمتم اآلية ابلعزيز احلكيم؟‬

‫هذا مشروع للمستقبل‪ :‬جيب عليك دراسة كل هذه املواطن بسؤال يقول‪ :‬ملاذا ُختمت هذه اآلية هبذين االمسني؟‬

‫‪207‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫فأنت قد فهمت معىن (احلكيم)‪ ،‬بقي أن تضيف عليه معىن (العزيز‪ ،‬العليم‪ ،‬التواب‪ ،‬العلي)‪ ،‬وترى ما دسالة خمتم اآلايت‬
‫هبذه األمساء‪.‬‬

‫ث‬
‫قائال‪َ { :‬ربـَّنَا َوابمـ َع م‬
‫حنن هنا يف سياق الكالم حول النبوات‪ ،‬واإلرشاد إىل الدين‪ ،‬مث جند أن إبراهيم‪-‬عليه السالم‪-‬يدعو ربنا ً‬
‫يم}‪.‬‬
‫احلَك ُ‬ ‫ممةَ َويـَُزكيه مم إنَّ َ أَنم َ‬
‫ت الم َعز ُيز م‬ ‫احلك َ‬
‫اب َو م‬
‫آايت َ َويـُ َعل ُم ُه ُم المكتَ َ‬
‫فيه مم َر ُس ًوسا ممنـ ُه مم يـَمتـلُو َعلَميه مم َ‬

‫(العزيز) مبعىن‪ :‬أن أمرك انف ٌذ يف إرسال رسول‪ ،‬ورسول الذي سرتسله سيكون عز ًيزا بعزك‪.‬‬

‫(احلكيم) يف اصطفاء هذا الرسول واختياره‪ ،‬ويف الشرع الذي ستشرعه هلم‪ ،‬ويف الوقت الذي سرتسله هلم‪ ،‬ويف احلال الذي‬
‫سرتسله هلم‪ .‬ستظهر على رسول كل آاثر حكمت ‪.‬‬

‫كالما يف معىن اسم (احلكيم) سنأيت اآلن أبدلته‪:‬‬


‫قرأان ً‬

‫من أين أتى العلماء واملؤلفني أبن هللا حكيم يف شرعه؟ كيف خرجوا هبذه النتيجة؟‬

‫أتوا لآلايت‪ ،‬ورأوا خواتيمها‪ ،‬فخرجوا هبذه النتيجة‪ :‬أن اسم احلكيم يف سياق الكالم حول الدين والرسول يدل على‬
‫حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف شرعه‪.‬‬

‫ف يَ َشاءُ َسا إلَ َه إَّسا ُه َو الم َعز ُيز‬ ‫‪ .2‬نرى آية (‪ )6‬يف سورة آل عمران‪ ،‬قال تعاىل‪ُ { :‬ه َو الَّذي يُ َ‬
‫صوُرُك مم يف ماأل مَر َحام َكمي َ‬
‫يم}‪.‬‬
‫احلَك ُ‬
‫م‬

‫هنا تظهر حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬يف خلقه‪.‬‬

‫يم}‪.‬‬
‫احلَك ُ‬ ‫اد َك َوإ من تَـ مغف مر َهلُمم فَإنَّ َ أَنم َ‬
‫ت الم َعز ُيز م‬ ‫‪ .3‬أنيت إىل آية (‪ )118‬يف سورة املائدة‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬إ من تـُ َعذبمـ ُه مم فَإنـ َُّه مم عبَ ُ‬

‫وجل‪-‬يف جزائه‪ ،‬فالسياق عن يوم القيامة‪ ،‬وهذا من كالم عيسى‪-‬عليه السالم‪ ،-‬فهو يقول‪ :‬اي رب‬
‫عز َّ‬
‫تظهر هنا حكمته‪َّ -‬‬
‫يم}‪ ،‬أي‪( :‬حكيم) سا تغفر إسا ل َمن أتى أبسباب‬
‫احلَك ُ‬ ‫إن إن أخذهتم فعذبتهم فهم عبادك‪َ { ،‬وإ من تَـ مغف مر َهلُمم فَإنَّ َ أَنم َ‬
‫ت الم َعز ُيز م‬
‫املغفرة‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫فأنت سا تغفر هلم من ذلة؛ ألن العزيز‪ ،‬وسا من وضع الشيء يف غري موضعه؛ فأنت حكيم‪ ،‬ومن املؤكد أن ستغفر ملن أتى‬
‫أبسباب املغفرة‪.‬‬

‫وهذه اآلية رد على كل َمن قال‪ :‬قد يغفر هللا ملشرك! قد يغفر هللا ملن مات على الكفر! سا ُحتَجروا رمحة هللا!‬

‫يم}‪ ،‬ومن املؤكد‬


‫احلَك ُ‬ ‫اد َك َوإ من تَـ مغف مر َهلُمم فَإنَّ َ أَنم َ‬
‫ت الم َعز ُيز م‬ ‫يُرد عليهم‪ :‬أبن عيسى‪-‬عليه السالم‪-‬يقول‪{ :‬إ من تـُ َعذبمـ ُه مم فَإنـ َُّه مم عبَ ُ‬
‫أن مغفرة هللا صادرة من عزه‪ ،‬فال أحد جيربه‪ ،‬وليس ألحد أن يفعل ذل ! ومغفرته صادرة من حكمته‪ ،‬أي‪ :‬أنه سيضع مغفرته‬
‫ني َكالم ُف َّجار}(‪)1‬؟!‬
‫يف مكاهنا‪{ ،‬أ مَم َمجن َع ُل الم ُمتَّق َ‬

‫فاجرا طيلة حياته‪ ،‬وميوت على هذا الفجور‪-‬وأهم الفجور هو عدم عبادة هللا ابلتوحيد‪-‬مث ُجيعل‬
‫يستحيل أن يكون الشخص ً‬
‫هذا كاملتقني؟ هذا َتابه حكمة هللا؛ فاهلل يضع األمور يف مواضعها‪ ،‬وهو سبحانه وتعاىل‪-‬حكيم يف جزائه‪.‬‬

‫مقصدي من هذه التجربة‪ :‬أن تعودوا لكل مواطن اسم احلكيم‪ ،‬وتسألوا‪ :‬ماذا ظهر لنا هنا من حكمة هللا يف أمره‪ ،‬أو شرعه‪،‬‬
‫أو خلقه‪ ،‬أو جزائه؟‬

‫اَّللُ أَ من َتأمتيَين هب مم‬


‫يل َع َسى َّ‬ ‫ت لَ ُك مم أَنمـ ُف ُس ُك مم أ مَمًرا فَ َ‬
‫صمبـٌر َمج ٌ‬ ‫ال بَ مل َس َّولَ م‬
‫‪ .4‬لنرى آية (‪ )83‬يف سورة يوسف‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬قَ َ‬
‫يم}‪.‬‬
‫احلَك ُ‬
‫يم م‬‫َمج ًيعا إنَّهُ ُه َو الم َعل ُ‬
‫هذه أمور حتصل يف احلياة‪ .‬يعقوب‪-‬عليه السالم‪-‬ذهب أبناؤه الثالثة فقال ما قال‪ ،‬مث ُختمت اآلايت أبن هذا القدر الذي‬
‫مجيال‪.‬‬
‫صربا ً‬
‫علي‪-‬ما دمت أعلم هذا‪ :-‬أن أصرب ً‬
‫عليم حكيم‪ ،‬إ ًذا ح ّقه ّ‬
‫وقع‪ ،‬وقع َن وصفه أنه ٌ‬

‫علم وحكمة‪ ،‬فستُحسن الظن‪ ،‬فإذا أحسنت الظن ستتمتع ابلصرب اجلميل‪،‬‬ ‫كما اتفقنا‪ :‬أنت إذا آمنت أن أمره كله فيه ٌ‬
‫يل}‪.‬‬
‫صمبـٌر َمج ٌ‬
‫وليس الصرب القبيح! سا يكن لسان متدًّا على هللا! سا تكن متأفـ ًفا طوال الوقت! بل {فَ َ‬

‫اَّللُ أَ من َتأمتيَين هب مم َمج ًيعا‬


‫أتعلم ماذا قال يعقوب‪-‬عليه السالم‪-‬بعدما فقد ثالثة من أبنائه؟ قال‪ُ -‬حمسنًا الظن يف ربه‪َ { :-‬ع َسى َّ‬
‫معتمدا على العليم احلكيم‪.‬‬
‫ً‬ ‫أحس َن الظن مع فقدان األسباب! ألنه كان‬
‫يم}‪َ .‬‬
‫احلَك ُ‬
‫يم م‬‫إنَّهُ ُه َو الم َعل ُ‬

‫)‪[ )1‬سورة ص‪]28 :‬‬


‫‪209‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫سا بد أن نعلم أن كتاابت أهل السنة اليت يكتبوهنا عن هللا إمنا هي اندجة عن حبثهم ودراستهم هلذا اساسم يف كتاب هللا‪ ،‬ويف‬
‫دساساته‪.‬‬

‫مثال‪-‬طالب علم‪ ،‬وتريد أن تكتب عن اسم (احلكيم)‪ ،‬ستتبع هذه اخلطوات‪:‬‬


‫لكن أنت‪ً -‬‬

‫أوال ‪ :‬ستأيت لكل املواطن اليت ورد فيها هذا اساسم‪ ،‬وكل املواطن اليت يظهر فيها أن هللا خياطبنا فيها حبكمته‪.‬‬
‫ً‬

‫اثنيًا‪ :‬ستبحث عن دسالة كل موطن‪.‬‬

‫كما فعلنا يف خرب يعقوب‪-‬عليه السالم‪:-‬‬

‫عليم حكيم‪.‬‬
‫صبَـَر ألنه ُحيسن الظن ابهلل؛ لعلمه أن هللا ٌ‬
‫ستقرأ اآلية من أوهلا آلخرها‪ ،‬مث تقول‪َ :‬‬

‫فص َرب‪ .‬وهكذا‪.‬‬


‫أحسن الظن‪َ ،‬‬
‫عليم حكيم‪ ،‬وهلذا َ‬
‫مث تقرؤها من آخرها ألوهلا‪ ،‬فتقول‪ :‬هو يعلم أن هللا ٌ‬
‫أمورا‪ ،‬وما سنتعلَّمه أن يعقوب‪-‬عليه السالم‪-‬خياطب نفسه يف هذه اآلية‪ ،‬ويقول‬
‫فهذه هي عالقتنا ابلرسل‪ ،‬سنتعلم منهم ً‬
‫يل}‪ ،‬مث يُظهر حسن ظنه ابهلل؛ فالصرب اجلميل سا ينايف ُحسن الظن‪ ،‬بل أصرب وأان مؤمن أبن هللا‬
‫صمبـٌر َمج ٌ‬
‫أيضا‪{ :‬فَ َ‬
‫ألبنائه ً‬
‫عليم حكيم‪.‬‬
‫سيعطيين؛ وهذا من إمياين أبنه‪-‬سبحانه وتعاىل‪ٌ -‬‬

‫عليم حكيم‪ ،‬وأنه يضع األمور يف مواضعها‪ ،‬وأن حكمته مبنيَّة على علمه‪ ،‬بل على لطيف علمه‬
‫آمنت أن هللا ٌ‬
‫َ‬ ‫لو‬
‫مجيال‪ ،‬وتقول‪ :‬ستتدبر األمور‪.‬‬
‫صربا ً‬
‫سبحانه وتعاىل‪ ،‬فإن هذا سيسبّب لك حسن الظن‪ ،‬وحسن الظن سيجعلك تصرب ً‬

‫مثال‪ :‬لو أن بنتًا تزوجت‪ ،‬ومرت أبزمة مع زوجها‪ ،‬وهي ضعيفة يف تعلقها ابهلل‪-،‬وأنتم تعلمون كيف هي أماين البنات!‪-‬‬
‫ً‬
‫وعندما دخلت احلياة الزوجية‪ ،‬وبدأت حياة اجلد‪ ،‬بدأ يضيق األمر بينها وبني زوجها‪ ،‬وبدأت مالمح اخلوف من الطالق تظهر‪،‬‬
‫عليم حكيم؟‬
‫طبعا يشق قلب األم‪ ،‬لكن أسا تعلم أن هللا ٌ‬
‫ومثل هذا ً‬

‫يرد ابنتها إليه‪ ،‬وأن‬


‫وجل‪-‬ما جعلها متر هبذه األزمة إسا لتُحسن الظن به‪ ،‬فاهلل يريد أن َّ‬
‫عز َّ‬‫قلب األم سينفطر‪ ،‬لكن هللا‪َّ -‬‬
‫يكسرها بني يديه‪ ،‬فتظهر منها العبودية‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫عليم حكيم‪ ،‬وأنه ما أراد ببنتها إسا أن تعود لرهبا‪ ،‬فهذا سيسبب هلا‬
‫سا بد أن يكون موقف األم هنا‪ُ :‬حسن الظن ابهلل‪ ،‬وأنه ٌ‬
‫مجيال‪.‬‬
‫صربا ً‬
‫أن تصرب ً‬
‫هذه خطة احلياة‪:‬‬

‫عليم حكيم ‪ُ ...‬حتسن الظن به ‪ ...‬تصرب على أقداره‬


‫تعلم أن هللا ٌ‬

‫خريا‪ ،‬سأعلم أن األمر‬ ‫إبحسان الظن ِ‬


‫وجل‪ ،-‬مبعىن‪ :‬أين لن أنتظر منه إال ً‬
‫عز َّ‬
‫سأفسر أقدار هللا تفسريات الئقة جبالله‪َّ -‬‬
‫ّ‬
‫ستمر‪ ،‬لكِن أحتاج البتهال‪ ،‬وانكسار‪ ،‬ودعاء‪ ،‬وعدم ثقة يف األطراف‪.‬‬
‫لن يعود إال إىل خري‪ ،‬وأن األزمة ّ‬

‫صدم ابلواقع‪ .‬لكن َمن‬


‫متيل نفوسنا إىل أن هذه البنت لن حتدث هلا مشاكل‪ ،‬وأن هذا الرجل طيب‪ ،‬سا يوجد مثله‪ ،‬مث نُ َ‬
‫أحسن الظن ابهلل سيقول‪ :‬ما ابتلى هللا ابنتنا هبذا البالء إسا لتبتهل‪ ،‬ولتنكسر‪ ،‬ولتبقى بني يدي رهبا‪ ،‬ولئال تثق ابخللق‪.‬‬

‫ستخرج هذه العلَّة ابلبلوى هذه‪ ،‬مث متر‪-‬إن شاء هللا‪ ،-‬وخيرج اخللق منها كما‬ ‫ِعلّة ِ‬
‫كوان للخلق‪ ،‬فتُ َ‬
‫العلل‪ :‬أن جتد يف قلبك ُر ً‬
‫يريد سبحانه وتعاىل‪ ،‬لن خيرجوا إسا وهم منتفعون بقضائه وقدره‪.‬‬

‫اَّللُ َم من يَ َشاءُ‬ ‫‪ .5‬نرى آية (‪ )4‬يف سورة إبراهيم‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬وَما أ مَر َس ملنَا م من َر ُسول إَّسا بل َسان قَـ مومه ليُـبَـ َ‬
‫ني َهلُمم فَـيُضل َّ‬
‫يم}‬‫احلَك ُ‬
‫َويـَ مهدي َم من يَ َشاءُ َوُه َو الم َعز ُيز م‬

‫جيدا‪.‬‬
‫سيصبح اآلن يف اآلايت ُم َكَّررات‪ ،‬لكننا سنحاول أن نَستظهر املعىن ً‬

‫تظهر يف هذه اآلية‪:‬‬

‫وجل‪-‬يف تشريعه يف إرسال الرسل‪.‬‬


‫عز َّ‬
‫حكمة هللا‪َّ -‬‬ ‫‪‬‬

‫أيضا يف أمره‪-‬أي‪ :‬يف قضائه وقدره‪ ،-‬فاهلل يُضل من يشاء‪ ،‬ويهدي من يشاء‪.‬‬
‫وحكمته ً‬ ‫‪‬‬

‫وهذا األمر سأقوله يف كلمة متصرة‪:‬‬

‫َمن الذي يهتدي؟‬

‫‪211‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اه ْم}(‪.)1‬‬ ‫َّ ِ‬


‫آات ُه ْم تَـ ْق َو ُ‬
‫اد ُه ْم ُه ًدى َو َ‬
‫ين ْاهتَ َد ْوا َز َ‬
‫قال تعاىل‪َ { :‬والذ َ‬

‫ثباات وهدايةً‪.‬‬
‫أقدارا تزيده ً‬
‫وجل‪-‬حكيم‪َ ،‬من أقبل بقلبه على ربه صادقًا ق ّدر هللا له ً‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬

‫فأقبِل يُقبِل هللا عليك‪َ ،‬‬


‫ومن آوى إىل هللا آواه هللا‪.‬‬

‫من الذي ي ِ‬
‫ضل؟‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫(‪)2‬‬
‫أوسا‪ ،‬فيكون جزاؤهم أن تزيغ قلوهبم‪ ،‬وهذا من حكمة هللا‪ .‬وقال‬
‫اَّللُ قـُلُوبـَ ُه مم} فهم يزيغون ً‬ ‫غ َّ‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬فَـلَ َّما َزاغُوا أ ََزا َ‬
‫الر ممحَ ُن َمدًّا}(‪ )3‬هو الذي سعى بقدميه للضاللة‪.‬‬
‫تعاىل‪{ :‬قُ مل َم من َكا َن يف الض ََّاللَة فَـ مليَ مم ُد مد لَهُ َّ‬

‫جيدا‪ ،‬سنفهم حديث النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬الذي وصف فيه الثالثة نفر الذين دخلوا على‬
‫لتتصوروا هذه القاعدة ً‬
‫و َّ‬
‫جملسه‪:‬‬

‫عن أب واقد الليثي‪ ،‬أن رسول هللا‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬بينما هو جالس يف املسجد والناس معه إذ أقبل ثالثة نفر‪ ،‬فأقبل‬
‫اثنان إىل رسول هللا‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬وذهب واحد‪ ،‬قال‪ :‬فوقفا على رسول هللا‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ ،-‬فأما أحدمها‪ :‬فرأى‬
‫فُرجة يف احللقة فجلس فيها‪ ،‬وأما اآلخر‪ :‬فجلس خلفهم‪ ،‬وأما الثالث‪ :‬فأدبر ذاهبًا‪ ،‬فلما فرغ رسول هللا‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬‬
‫اآلخ ُر‬
‫اَّللُ ممنهُ‪َ ،‬وأ ََّما َ‬
‫استَ محيَا َّ‬
‫استَ محيَا فَ م‬
‫اآلخ ُر فَ م‬
‫اَّللُ‪َ ،‬وأ ََّما َ‬
‫آواهُ َّ‬
‫اَّلل فَ َ‬ ‫ُخ ُربُك مم َعن النَّـ َفر الثَّالَثَة؟ أ ََّما أ َ‬
‫َح ُد ُه مم فَأ ََوى إ َىل َّ‬ ‫قال‪" :‬أَساَ أ م‬
‫اَّللُ َعمنهُ"(‪.)4‬‬
‫ض َّ‬ ‫ض فَأ مَعَر َ‬‫فَأ مَعَر َ‬

‫األول‪ُ :‬مقبل‪ ،‬أتى حىت وجد فُرجة يف األمام فجلس فيها‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الثاين‪ :‬رأى الزحام فاستحى‪ ،‬وجلس يف آخر اجمللس‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الثالث‪ :‬مل يناسبه الوضع فذهب‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مث فسر النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬أحواهلم الثالثة‪ ،‬فقال‪:‬‬


‫)‪[ (1‬سورة حممد‪]17 :‬‬
‫)‪[ (2‬سورة الصف‪]5 :‬‬
‫(‪[ )3‬سورة مرمي‪]75 :‬‬
‫)‪ )4‬رواه البخاري يف صحيحه‪ /‬كتاب العلم‪ /‬ابب من قعد حيث ينتهي به اجمللس‪ ،‬ومن رأى فرجة يف احللقة فجلس فيها‪ .)66( /‬ورواه مسلم يف صحيحه‪ /‬كتاب‬
‫السالم‪ /‬ابب من أتى جملسا فوجد فرجة فجلس فيها وإسا وراءهم‪)2176( /‬‬
‫‪212‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫اَّللُ" سعى‪ ،‬وحبث‪ ،‬ودخل يف الزحام‪.‬‬


‫آواهُ َّ‬
‫اَّلل فَ َ‬
‫َح ُد ُه مم فَأ ََوى إ َىل َّ‬
‫"أ ََّما أ َ‬ ‫‪‬‬

‫بعيدا عن‬
‫متأخرا‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫أما الثاين فحماسه أضعف‪ ،‬مل يكن كاألول يف محاسه وإقباله‪ ،‬لكنه سا زال متمس ًكا ابخلري‪ ،‬فيأيت‬ ‫‪‬‬
‫اَّللُ ممنهُ" أي‪ :‬استحيا هللا أن يطرده(‪.)1‬‬
‫استَ محيَا َّ‬
‫استَ محيَا فَ م‬
‫اآلخ ُر فَ م‬
‫اساقرتاب من اخلري‪ .‬قال عنه النيب‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪َ " :-‬وأ ََّما َ‬

‫ض هللا عنه‪.‬‬
‫فأعر َ‬
‫أعرض‪َ ،‬‬
‫الثالث‪َ :‬‬ ‫‪‬‬

‫حكيم‪ ،‬يهدي من يشاء‪ ،‬ويضل من يشاء‪ .‬إن أقبلت بقلبك‪ ،‬أقبل هللا عليك‪،‬‬
‫وجل‪ٌ -‬‬‫عز َّ‬ ‫وكذل حالنا يف الدنيا‪ ،‬فاهلل‪َّ -‬‬
‫وإن أعرضت‪ ،‬أعرض هللا عنك ولو بعد حني‪.‬‬

‫مستقيما‪ ،‬لكن من الداخل شخص آخر‪ ،‬تنتظر أي مرج لتخرج!‬


‫ً‬ ‫مثال‪ :‬أنت متثل أن ُم مقبل‪ ،‬وحال أمام الناس يبدو‬
‫ً‬
‫وجل‪-‬سا يطلع على فؤادك؟!‬
‫عز َّ‬ ‫أتظن أن هللا‪َّ -‬‬

‫يف حديث سهل بن سعد الساعدي‪-‬رضي هللا عنه‪ ،-‬أن رسول هللا‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬قال‪" :‬إ َّن َّ‬
‫الر ُج َل لَيَـ مع َم ُل َع َم َل‬
‫يما يـَمب ُدو للنَّاس‪َ ،‬وُه َو م من أ مَهل ا مجلَنَّة"(‪.)2‬‬ ‫يما يـَمب ُدو للنَّاس‪َ ،‬وُه َو م من أ مَهل النَّار‪َ ،‬وإ َّن َّ‬
‫الر ُج َل لَيَـ مع َم ُل َع َم َل أ مَهل النَّار ف َ‬ ‫اجلَنَّة ف َ‬
‫أ مَهل م‬

‫سا تريد إسا هللا‪ :‬لن تطرب نفس‬ ‫يف كل زمن من الشوائب‪ ،‬وَتكدت من كون‬
‫لو كنت ُمقب ًال بصدق‪ ،‬ونقَّيت قلب‬
‫عندما تسمعهم يقولون‪" :‬أن طالب علم‪ ،‬وتتكلم ابآلايت‪ "...‬فتزيد حفظًا لآلايت ألجل هذا الطرب! بل سرتاجع نفس ‪،‬‬
‫وتقول‪ :‬أان سا أريد إسا وجهه‪.‬‬

‫العليم احلكيم عن ذل !‬
‫هل تظن أن هللا سيخذل عندما تنقي نفس ‪ ،‬وتقرتب من النهاية؟! تعاىل هللا ٌ‬
‫لكن أن يكون يف نفس ما يضرها‪ ،‬فتسكت عنها‪ ،‬مث متر علي اخلواطر الرديئة‪ ،‬إىل أن تصبح إرادات مستقرة‪ ،‬وتصبح سا‬
‫تريد بعمل إسا اخللق‪ ،‬ومتثل أن تريد وجه هللا‪ ،‬ومن قوة هذه اإلرادة املستقرة‪ :‬تدخل ابب اخلري وأنت سا تفكر َمن تريد!!‬

‫عليم حكيم‪.‬‬
‫َمن كان هذا حاله سابد أن ُخيذل يف خامتته؛ ألنه ما أعطى قلبه حقَّه يف التفتيش‪ ،‬وهللا ٌ‬

‫فرا‪ ،‬ويستحي من عبد استحيا منه‪.‬‬


‫)‪ )1‬واحلياء من صفاته سبحانه وتعاىل‪ ،‬فاهلل يستحي أن يرد عباده ص ً‬
‫)‪ )2‬رواه البخاري يف صحيحه‪ /‬كتاب املغازي‪ /‬ابب غزوة خيرب‪ .)4202( /‬ورواه مسلم يف صحيحه‪ /‬كتاب اإلميان‪ /‬ابب غلظ حترمي قتل اإلنسان نفسه‪ ،‬وأن من قتل‬
‫نفسه بشيء عذب به يف النار‪ ،‬وأنه سا يدخل اجلنة إسا نفس مسلمة‪)112( /‬‬
‫‪213‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫ولذل أي نوع من الشرك منوع‪ ،‬حىت لفتة الرايء‪-‬لفتة رضا الناس‪-‬تعترب شرًكا؛ ففي احلديث القدسي‪ :‬عن أَنَ ُ‬
‫س بم ُن َمال‬
‫ت لَ َ‬‫آد َم إنَّ َ َما َد َع موتَين َوَر َج موتَين َغ َف مر ُ‬
‫اَّللُ تَـبَ َارَك َوتَـ َع َاىل‪َ :‬اي ابم َن َ‬
‫ال َّ‬ ‫اَّلل‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪-‬يـَ ُق ُ‬
‫ول‪" :‬قَ َ‬ ‫ول َّ‬‫ت َر ُس َ‬
‫ال‪َ :‬مس مع ُ‬
‫قَ َ‬
‫آد َم إنَّ َ لَ مو‬
‫ت لَ َ َوَسا أ َُابيل‪َ ،‬اي ابم َن َ‬ ‫استَـ مغ َف مرتَين َغ َف مر ُ‬
‫الس َماء ُمثَّ م‬
‫ت ذُنُوبُ َ َعنَا َن َّ‬‫آد َم لَ مو بـَلَغَ م‬
‫َعلَى َما َكا َن في َ َوَسا أ َُابيل‪َ ،‬اي ابم َن َ‬
‫أَتَـميـتَين ب ُقَراب ماأل مَرض َخطَ َااي ُمثَّ لَقيتَين َسا تُ مشرُك ب َشميـئًا َألَتَـميـتُ َ ب ُقَراهبَا َم مغفَرة" (‪.)1‬‬

‫آد َم إنَّ َ لَ مو أَتَـميـتَين ب ُقَراب ماأل مَرض َخطَ َااي ُمثَّ لَقيتَين َسا تُ مشرُك ب َشميـئًا" أي‪ :‬سا أكرب وسا أصغر َ"ألَتَـميـتُ َ ب ُقَراهبَا َم مغفَرة"‪.‬‬
‫"اي ابم َن َ‬
‫َ‬

‫يسريا‪ ،‬ألن معناه أن تلتفت لغري هللا‪.‬‬ ‫َّ‬


‫أمرا ً‬
‫صاحب الشرك والرايء يُعذب يف النار؛ فالرايء شرك‪ ،‬وليس ً‬
‫وهذا النوع من الشرك إذا تراكم فإنه ُخيرِج اإلنسان من اإلميان للنفاق‪ ،‬بسبب تراكم التفاته للخلق‪ ،‬وهذا الذي يسبّب‬
‫سوء اخلامتة‪ ،‬وهذا ال يكون إال بسبب عدم التفتيش يف القلب‪ ،‬وعدم االلتفات له‪.‬‬

‫(حكيم) يعرض عليهم املواقف‬


‫ٌ‬ ‫(عليم) مبا يف قلوب اخللق‪،‬‬
‫عليم حكيم‪ ،‬يُضل من يشاء‪ ،‬ويهدي من يشاء‪ٌ :‬‬
‫وجل‪ٌ -‬‬
‫عز َّ‬
‫هللا‪َّ -‬‬
‫أجلهم احملتوم‪ ،‬الذي ستكون خامتتهم فيه‬
‫واألحداث‪ ،‬ويذكرهم‪ ،‬ويُنبههم‪ ،‬ويعلمهم‪ ،‬ويؤدهبم‪ ،‬وهم يف غفلة من شأهنم‪ ،‬حىت تأيت َ‬
‫َح ًدا}(‪ ،)2‬وإمنا العبد هو الذي جيِن على نفسه إبمهاله لقلبه‪.‬‬
‫على ما يوافق حاهلم طيلة حياهتم‪َ { ،‬وَسا يَظمل ُم َرب َ أ َ‬

‫يم}‪.‬‬
‫احلَك ُ‬
‫اَّللُ الم َعز ُيز م‬
‫وسى إنَّهُ أ ََان َّ‬
‫‪ .6‬أنيت ملوطن أخري يف سورة النمل آية (‪ ،)9‬قال تعاىل‪َ { :‬اي ُم َ‬

‫وجل‪-‬ملوسى‪-‬عليه السالم‪-‬يف موقف الوحي‪ ،‬أي‪ :‬أن هللا يـُ معلم موسى ابلرسالة‪ ،‬ويعرف‬ ‫عز َّ‬ ‫هذا يف سياق خطاب هللا‪َّ -‬‬
‫يم}‪.‬‬
‫احلَك ُ‬
‫اَّللُ الم َعز ُيز م‬
‫وسى إنَّهُ أ ََان َّ‬
‫وجل‪-‬ملوسى‪-‬عليه السالم‪-‬فيقول له‪َ { :‬اي ُم َ‬
‫عز َّ‬
‫نفسه‪َّ -‬‬

‫كرر علي ‪.‬‬


‫الشاهد‪ :‬أن هذا اساسم من أعظم األمساء اليت جيب أن تُدرس‪ ،‬وتأخذ وقته يف ذل ‪ .‬اسم عظيم جيب أن يُ َّ‬

‫إذا سأل أحدهم‪ :‬ما ابلكم مهتمون ابسم (احلكيم)؟ ترد فتقول‪ :‬أسا ترى أن هللا ملـا أراد أن يعرف نفسه ملوسى قال له‪َ { :‬اي‬
‫يم}؟!‬
‫احلَك ُ‬
‫اَّللُ الم َعز ُيز م‬
‫وسى إنَّهُ أ ََان َّ‬
‫ُم َ‬

‫إذًا هذا من أهم األمساء اليت جيب أن تعرفها عن هللا؛ لكي حيصل ل َتليهه سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫يح‪.‬‬
‫صح ٌ‬
‫يث َح َس ٌن َ‬
‫ال‪َ :‬حد ٌ‬
‫الرتمذي يف سننه‪ /‬أبواب الدعوات‪َ )3540( /‬وقَ َ‬
‫)‪َ )1‬رَو ُاه م‬
‫)‪[ (2‬سورة الكهف‪]49 :‬‬
‫‪214‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫هذه النصوص سابد أن تكون دقيقة الدسالة يف قلب ‪.‬‬

‫علي أن أُتقن معىن (العزيز احلكيم)‪.‬‬


‫إذا عرف هللا نفسه ملوسى أبنه عز ٌيز حكيم‪ ،‬فيجب َّ‬

‫ما معىن أن يكون هللا هو العزيز احلكيم؟ وملاذا يعرف نفسه‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬ملوسى هبذين اسامسني؟ ألنه من املؤكد أهنما إذا‬
‫ُوجدا اتمان يف القلب حصل التأليه الذي هو املقصود من التعريف‪ .‬فإذا عرف اخللق هللا أبمسائه وصفاته فإهنم سيؤهلونه‪-‬أي‪:‬‬
‫حيبونه ويعظمونه‪ ،‬مث يعبدونه‪ ،-‬وهلذا امسي (العزيز احلكيم) من األمساء الضرورية للوصول للتأليه‪.‬‬

‫تتبصر ما مسّى هللا به نفسه يف كتابه‪ ،‬وتُبصر ابلذات اسم (احلكيم)‪ ،‬فتصبح بينك وبني هذا االسم‬
‫جيب أن تبدأ أعيننا َّ‬
‫العظيم نوع عالقة‪ ،‬حبيث أن ما دجده يف موطن‪-‬سواء أتى نفس اسم (احلكيم)‪ ،‬أو أتى الكالم عن احلُكم‪ ،‬وأنه وحده الذي‬
‫حيكم اخللق‪ ،‬ويشرع هلم الشرائع‪-‬إسا وتسأل نفس ‪ :‬ما دسالة هذا اساسم هنا؟ يف أي شيء تتجلى حكمته‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬‬
‫هنا؟ وقد تتعدد يف اآلية الواحدة أنواع من احل َكم‪.‬‬

‫‪َ ‬ك مون أن هذا اساسم يتكرر يف القرآن قرابة املائة َّ‬
‫مرة‪ :‬يدل على أمهيته‪.‬‬

‫‪ ‬وكون أن هللا يُعرف نفسه ملوسى‪-‬عليه السالم‪-‬هبذا اساسم‪ :‬يدل على أمهيته‪.‬‬

‫‪ ‬وكون أنه من شروط اإلميان الذي سا يصح اإلميان إسا به‪ ،‬فتؤمن أن هللا له احلُكم التام يف الدنيا واآلخرة‪ :‬دليل على أن‬
‫درس‪.‬‬
‫اسم (احلكيم) من أعظم األمساء اليت جيب أن تُ َ‬
‫وجل‪-‬علينا بنعمة عظيمة يف هذه البلد املباركة‪ ،‬أبن جنتمع يف أمن وأمان‪ ،‬وأن تبقى مثل هذه اجملالس‬
‫عز َّ‬
‫وحنن قد أنعم هللا‪َّ -‬‬
‫يوما" اليت كنا‬
‫عامرة بفضله‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬ومنته وحده سا شري له‪ ،‬فأسأله‪-‬سبحانه وتعاىل‪-‬كما يسر هذه "اخلمسة عشر ً‬
‫نرتع فيها يف رايض اجلنة‪ ،‬أن يقبلها منا‪-‬سبحانه وتعاىل‪ ،-‬وأن جيعلها يف موازين احلسنات‪.‬‬

‫خريا‪.‬‬
‫جزاكم هللا ً‬
‫السالم عليكم ورمحة هللا وبركاته‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫شرح اسم الحكيم‬

‫‪216‬‬

You might also like