Professional Documents
Culture Documents
اسم الحكيم PDF
اسم الحكيم PDF
اللقاء األول
1
شرح اسم الحكيم
الرمحن الرحيم
بسم هللا ّ
أخواتنا الفاضالت ،إليكن سلسلة تفاريغ من دروس أستاذتنا الفاضلة أانهيد السمريي حفظها هللا،
وفّق هللا بعض األخوات لتفريغها ،ونسأل هللا أن ينفع هبا ،وهي تنزل يف مدونة ( ِعـ ْل ٌـم يُـ ْنـتَـ َفـ ُـع بِـ ِـه)
https://anaheedblogger.blogspot.com/
تنبيهات هامة:
السلف الصاحل.
والسنة على فهم ّ
منهجنا الكتاب ّ
هذه التّفاريغ من اجتهاد الطّالبات ومل تطّلع عليها األستاذة حفظها هللا.
وجل ،-فما ظهر لكم من صواب فمن هللا وحده ،وما ظهر لكم فيه من
عز َّ
الكمال هلل َّ -
شيطان ،ونستغفر هللا.
خطأ فمن أنفسنا وال ّ
حيب ويرضى.
وهللا املوفّق ملا ّ
2
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني ،نبينا حممد وعلى آله وصحبه أمجعني.
هذا هو لقاؤان األول يف السلسة اليت ضمن الدورة الصيفية لعام 1433ه ،-وسيكون كالمنا-إن شاء هللا-يف هذه الساعة
املباركة عن أمسائه-سبحانه وتعاىل-وستكون لقاءاتنا حول األمساء اجلامعة ،وسنشرح يف هذا اللقاء :ما معىن األمساء اجلامعة؟
وكيف تتم دراستها؟
يف املقابل أن اخللق هلم أمساء َح َسنة ،لكن ليس شرطًا أن كل صاحب اسم حسن يكون حام ًال لصفة امسه ،لكن سابد أن
وجل-أن كلها حسىن،
عز َّ
يوصف بكل صفة موجودة يف كل اسم من أمسائه ،إىل أن جند أن من ُحسن أمساء هللاَّ -
تعرف أن هللا َ
وإىل أن نصل فنجد أن كل اسم من أمساء هللا العظيمة تدل على صفاته ،وكل اسم من أمسائه يشرتك مع غريه يف الدسالة على
عز وجلَّ-
عظمة هللا ،فأنت عندما تدرس األمساء كلها سيقع يف قلب تعظيمه وهيبته ،ويقع يف قلب حمبته والتعلق به ،فأمساؤهَّ -
ابسم من أمسائه ،وتعاجل ُحسىن حال انفصاهلا ،وحال اجتماعها س تورث القلب العبودية واجلالل واهليبة ،فأنت تعاجل قلب
جمل أمسائه:
حيات مبُ َ
فأنت إن كنت يف حال ضعف وفقر :سابد أن تعاجل قلب ابمسه الغين ،القوي. -
ولو كنت يف حال ذنب :سا بد أن تعاجل قلب ابمسه التواب ،الغفور. -
ولو كنت يف حال من األمل :ستعاجل قلب ابمسه اجلبار ،الرحيم. -
إ ًذا أنت حتتاج امسه يف مواطن ،حتتاجه يف عالج قلب وحيات ،مث من أجل أن يستقيم أمرك كله ستحتاج إىل أن تكون
كل هذه األمساء يف فؤادك .ماذا سيحصل ل بعد ذل ؟ سيحصل ل من تعظيمه واسانكسار بني يديه والذل ما حيصل.
وجل-أن بعض األمساء يكون فيها عدة صفات-أي :أن اساسم الواحد من بعض أمساء
عز َّ
مث اعلم أن من ُحسن أمساء هللاَّ -
هللا قد يتضمن عدة صفات ،-لو أخذان مثالً:
oاسم ( املـُحسن ) ستجد أنه-سبحانه وتعاىل-حمسن إىل اخللق كلهم ،حمسن يف خلقهم ،يف رزقهم ،يف جربهم ،حمسن
فيما أظهره يف صورهم-سبحانه وتعاىل-وهو املصور ،-حمسن يف تدبريه .فتجد أن اإلحسان يدخل يف أمور عدة ،ويف عدة
صفات.
واألمساء اجلامعة غالبًا تكون ُمشكلة ملن يقرؤها ويدرسها؛ ألهنا تتداخل عليه.
وجل ،-واجتماعها يدل على ُحسن عظيم .فأنت تفهم الصفات منفردة ،مث
عز َّ
هو اسم يتضمن عدة صفات هللَّ -
دجتمع هذه الصفات يف هذا اساسم.
عموما ،كأن
ولتتصوروا املسألة أكثر سأعيدها لكم لكن ليس من نقطة (اساسم اجلامع) ،وإمنا سأتكلم عن تقسيم األمساء ً
العنوان:
وجل-
عز َّ
أقسام أمساء هللاَّ -
األمساء املنفردة :مثل :اسم ( الغفور ) هذا اسم منفرد ،واملعىن يف هذا اساسم أنه-سبحانه وتعاىل :-يغفر ،والصفة: -1
املغفرة ( .التواب ) الصفة فيه :التوبة .هذه امسها :أمساء منفردة ،كل اسم حيمل صفة.
شكور) .كل
ٌ غفور
رحيم )ٌ ( ، -2هذه األمساء املنفردة قد تنضم إىل غريها يف القرآن فتصبح أمساء مقرتنة :مثلٌ (:
غفور ٌ
كماسا.
اسم على ح َدة فيه كمال ،واساجتماع واساقرتان يزيده ً
قدير) :اسم ( العفو ) احلُسن فيه :أن هللا يعفو ،و( القدير ) احلُسن فيه :قدرة هللا ،وعندما يقرتانن كما يف قوله
(عفو ٌ
مثالٌ :
ً
اَّللَ َكا َن َع ُف ًّوا قَد ًيرا }( ،)1كيف سيأيت احلُسن؟ سيزيد ُحسنًا عليه ،فنقول :إنه-سبحانه وتعاىل-يعفو عن اخللق
تعاىل { :فَإ َّن َّ
مع متام قدرته عليهم ،فالعفو من القدير متام اإلحسان .فقد تعفو وأنت ضعيف غري قادر ،لكن ما نوع هذا العفو؟ عفو
انقص .لكن عفو القادر هو العفو الكامل.
معا ليزيد احلُسن فيها.
إذًا :تنضم األمساء ً
-3األمساء املزدوجة :مثل( :املعطي املانع)( ،القابض الباسط)( ،اخلافض الرافع) ،هذه األمساء جيب أن تُذكر ً
معا وسا
فصل بينها لتكون أمساءً هلل ،وهناك من سا يُثبتها.
يُ َ
وجل-هو (املعطي املانع) ،وسا تقويل (املعطي) فقط ،أو (املانع) فقط؛ ألن
عز َّ
معا أي :سابد أن تقويل إن هللاَّ -
سابد أن تُذكر ً
قادرا على املنع-تعاىل هللا عن ذل ،-بل هو اتم التصرف ،هو (املعطي املانع).
من يظن أن هللا يعطي فقط سيظن أنه ليس ً
عز
مثال :إن هللا يعطي املتقني؟ نعم؛ عندما تقيدينها على أهلها يصح الفصل ،ومثله القول أبنهَّ -
لكن هل يصح أن تقويل ً
وجل-هو
عز َّ
وجل-مينع الفاسقني .لكن سا تقويل عن هللا إطالقًا إنه مانع! أو إطالقًا إنه ُمعط! وإمنا تقويل :هذا ُرزق ألن هللاَّ -
َّ
املعطي املانع ،يعطي من يشاء ،ومينع رزقه عمن يشاء ،خافض رافع ،قابض ابسط وهكذا ،كل هذه األمساء من هذا النوع.
-4األمساء اجلامعة-اليت هو موضوعنا:-
ما معىن اساسم اجلامع؟ هو اسم يتضمن عدة صفات من صفات هللا-سبحانه وتعاىل ،-دجتمع حتت هذا اساسم ،وقد دجد
هذه الصفات منفردة ،واجتماعها حتت هذا اساسم يدل على صفة زائدة ،فاألمساء اجلامعة ليست جمرد مجع لعدة صفات حتت
اسم واحد وإمنا فيها إضافة ،وفَهم هذه األمساء اجلامعة يسهل علي فَهم التدبر؛ ألن سرتى آاثر ذل يف الكتاب .سنضرب
مثاسا على اسم (الصمد):
ً
الصمد معناه :السيد العظيم الذي قد َك ُملَ " .ك ُمل" يف ماذا؟ َك ُمل يف علمه ،وحكمته ،وحلمه ،وابقي الصفات اليت
خاصا ابهلل،
يعدها .الصمد هو السيد ،والعرب تقول لسيد القوم إنه صمد ،لكن هذه التسمية انتهت بعدما صار هذا اساسم ًّ
أصال؟ ألن له صفات حسنة كاملة،
سيدا ً
صمدا ،ويصمدون إليه .ملاذا صار ً
متداوسا قبل ذل ،فيسمون السيد ً
ً لكنه كان
سيدا إسا
سيدا يف البشر ستكون صفاته احلسنة الكاملة كامل ًة على قَدر الكمال البشري ،فهو لن يصبح ً
وابلطبع عندما يكون ً
سيدا.
إذا كان عنده علم ،حلم ،حكمة ،سلطة ،قدرة ،وعدة صفات كاملة أصبح هبا ً
ماذا ستقولني عن (الصمد) امسًا هلل؟ ستقولني إنه السيد .وما صفة هذا السيد؟ صفته أنه كامل .كامل يف ماذا؟ كامل يف
علمه ،يف حلمه ،يف حكمته ،يف رمحته ،يف قدرته .ستأتني أبمساء كثرية وصفات كثرية هلل حتت اسم الصمد ،بل إن الصمد من
5
شرح اسم الحكيم
أمجع األمساء ،فهو أعظم اسم جامع ،حبيث أن كل أمساء هللا تدخل حتت اسم (الصمد) ،فهو-سبحانه وتعاىل-السيد الذي
قد َك ُمل يف كل صفات الكمال ،فتعدين صفات كمال هللا كلها ،وتقولني إنه قد َك ُمل فيها .أنت تعرفني أن هللا (عليم)
و(حكيم) و(رزاق) ،و(الصمد) معناه :السيد الذي قد َك ُمل يف علمه ،ويف رمحته ،ويف رزقه...إىل ابقي صفات الكمال اليت
تعدينها وتعرفينها عن هللا ،عندما تشرحني اسم (الصمد) ستقولني :هو السيد الذي قد َك ُمل يف كل صفة أنت تعرفها من
جامعا.
صفات كماله ،وهلذا أصبح امسًا ً
(الصمد) أسهل مثال يُضرب يف ذل ،فهو السيد الذي َك ُمل يف عظمته-وعظمته اسم جامع( ،العظيم) من األمساء
اجلامعة ،وكذل (احملسن) من األمساء اجلامعة-ولذل يعترب اسم (الصمد) أمجع اسم من أمساء هللا ،وحق له أن تكون سورة
شرحا تفصيليًّا اسم (الصمد) ستأتني بكل صفات هللا ،وتقولني :قد
اإلخالص تعدل ثلث القرآن؛ ألن عندما تشرحني ألحد ً
َك ُمل يف علمهَ ،ك ُمل يف حكمتهَ ،ك ُمل يف رمحته ،يف رزقه ،يف عطائه ،يف إحسانه ،يف عظمته ،ستعددين كل الصفات فتقولني:
إنه الكامل؛ ولذل هو السيد .مث تقولني :مل-ا َك ُمل يف كل صفاته ح ّق أن تصمد إليه القلوب" .تصمد إليه" أي :تلجأ إليه
وقت حاجتها.
ؤد ِده.
-1السيد الذي قد َك ُمل يف ُس َ
-2الذي تصمد إليه كل اخلالئق يف كل شيء.
وهذا من فطرهتا ،فهي قد فُطرت على أن هناك يف السماء َمن هو كامل الصفات ،فال تتجاهلوا هذه الفطرة ،هذه الفطرة
سورة اإلخالص هي أول ما يـُلَ َّقنه موجودة مع أطفالنا ،كلهم يف قلوهبم فطرة أن يف السماء َمن هو كامل الصفات؛ ولذل
أصال تسألينه :ما معىن كذا؟ وما معىن كذا؟
الطفل بعد الفاحتة ،وعندما يـُلَقَّنها من لسان َسؤول وقلب عقول-فتكونني أنت ً
ستقع السورة يف قلبه.
كرر.
واألمساء اجلامعة غالبًا سا تُ َّ
( oالقيوم) من األمساء اجلامعة الذي ُمجع حتته كل األمساء الفعلية ،مل تأت يف القرآن إسا ثالث مرات ،وهي قوله تعاىل:
وم}( )1يف البقرة وآل عمران ،وقوله تعاىلَ { :و َعنَت الم ُو ُجوهُ ل مل َحي الم َقيوم }( )2يف سورة طه. اَّللُ َسا إَٰلَ َه إَّسا ُه َو م
احلَي الم َقي ُ { َّ
الص َم ُد}(.)3 ( oالصمد) اسم جامع جلميع صفات الكمال هلل ،مل تأت إسا مرة واحدة يف قوله تعاىلَّ { :
اَّللُ َّ
( oالبَـ ّر) من األمساء اجلامعة العظيمة اليت دجمع كل أنواع اإلحسان للخلق ،ومل تأت إسا مرة واحدة يف قوله تعاىل{ :إنَّهُ
يم}).)4
ُه َو المبَـر الَّرح ُ
وجل ،-ومل تأت إسا مرة واحدة يف قوله تعاىل: ( oاملؤمن) من األمساء اجلامعة اليت ُمجع حتتها كمال عظيم هللَّ -
عز َّ
{الم ُم مؤم ُن الم ُم َهميم ُن}).)5
مهما ،وهو :أن اساسم الذي يتكرر له معىن ،واساسم الذي تأيت مرة واحدة له معىن .فكثري
فأنت اآلن سابد أن تفهم شيئًا ًّ
منا يتصور أن اساسم الذي تأيت مرة واحدة تكون حاجتنا له أقل من غريه ،سا ،ابلعكس! اساسم الذي تأيت مرة واحدة-إن كنت
جيدا-ستجد شواهده يف القرآن.
تفهمه ً
وجل:-
عز َّ
مثال :اسم (القيوم) ورد ثالث مرات فقط يف القرآن ،لكن كل صفة فعلية تدل على قيومية هللاَّ -
ً
فهو سبحانه ميس السماء أن تقع على األرض :وهذا دال على قيوميته. -
يرسل الرايح :وهذا دال على قيوميته. -
خيلق اخللق :وهذا دال على قيوميته. -
()6
إحياؤه-سبحانه وتعاىل :-وهذا دال على قيوميته. وسى}
{ َوأ مَو َحميـنَا إ َىل أُم ُم َ -
إ ًذا :ابلرغم من أن اسم (القيوم) ورد ثالث مرات فقط ،لكن كل فعل هلل دجده يف القرآن يدل على قيوميته.
وجل-
عز َّ
قاعدة مهمة عند أهل السنة واجلماعة يف معاملة أمساء هللاَّ -
وجل :-أن نُثبِت الصفات اليت وردت يف هذه األمساء من غري حتريف وال عز َّمن القواعد املهمة يف معاملة أمساء هللاَّ -
الس ِميع الب ِ
صريُ}( .)2وهذه تعطيل ،ومن غري تكييف وال متثيل ،وإمنا نؤمن أنه-سبحانه وتعاىل{ :-لَي ِ ِ ِ
س َكمثْله َش ْيءٌ َو ُه َو َّ ُ َ
ْ َ
القاعدة مع وضوحها لكن األقدام زلَّت فيها.
أوال:
ً
وجل-عندما خيربان عن شيء من أمسائه وصفاته فإنه يريد منا أن نعتقده ،فهل تظن أن هللا خيربك أنه استوى على
عز َّ
أن هللاَّ -
العرش ،وأنه ينزل إىل السماء الدنيا ،وأنه رحيم ،وأنه غفور ،وأنه تواب ،مث سا يُطلَب من شيء؟! هللا أخربك بذل من أجل أن
تعتقده ،وإذا اعتقدت انتفعت.
كل خرب يف القرآن عن هللا يُراد من أهله ومن يسمعه أن يعتقدوه ،وسا يعطلوه ،وسا يرتكوا التفكري يف مدلوله .وقد َوهم َمن
وجل ،-فبعض الناس خوفوا غريهم أبن سا تدخلوا يف ابب األمساء حىت سا تزل أقدامكم!!
عز َّ
خوف الناس من معرفة أمساء هللاَّ -
وحنن نقول :أن هللا ما أخربان هبا إسا من أجل أن نعتقدها .فأنت ستُسأل يوم القيامة :ماذا كنت تفعل ابلكتاب؟ أُخربت أن
أوصاف هللا كذا وكذا ،فماذا كنت تعمل؟ سنُسأل :عن ماذا كنتم تعلمون؟
ض ُع َفت العقائد؟ بسبب عدم التلقني .أنت ما علي من ابن ! سا تظن أن ردود فعله هذه القائمة أمام هي ردود
ملاذا َ
فعل قلبه ،فقلبه مفطور على احلق ،أنت ارم سهم ،وسيصل إىل مكانه املناسب دون أن تشعر ،ودون أن يشعر ابن ،ال
ِ
سمع له ،وتستجوبه ،وتتأكد أنه يفهم معىن اسم (القيوم) ومعىن اسم
يُطْلَب يف هذه املرحلة وال يف املراحل اليت بعدها أن تُ ّ
(الصمد) ،...ليس هذا املطلوب! وإمنا املطلوب :أن يـُ َعاد على إذنه أمساء هللا ومعانيها واالنفعاالت هبا حىت تستقر يف
قلبه.
إذًا :هذا أول أمر علينا أن نتفق عليه ،وهو أن أهل السنة واجلماعة يعلمون أن هللا ما أخرب عن أمسائه وصفاته إسا من أجل
وجل ،-يَهم اإلنسان أنه خياف من
عز َّ
و(الوهم) سبب من أسباب اإلمهال ألمساء هللاَّ -
أن نعتقدها ،وليس من أجل أن هنملهاَ ،
التفكري يف كيفيتها! ولذل حنن سنضع قواعد وضوابط للتفكري فيها ،لكننا لن هنملها.
كيف ُهنمل هذه األخبار العظيمة؟!
وم َسا ََتم ُخ ُذهُ سنَةٌ َوَسا نـَ موٌم}( ،)1والنيب-صلَّى هللا عليه
مثال :هللا يقول ل هذا اخلرب العظيم عنه يف كتابه أنه هو {احلَي ال َقي ُ
ً
وسلَّم -يبني ل أن هذه أعظم آية يف الكتاب ،كما يف حديث أُب بن كعب أن رسول هللا-صلَّى هللا عليه وسلَّم-قال" :اي أاب
املنذر أتدري أي آية من كتاب هللا مع أعظم؟ " قال :قلت :هللا ورسوله أعلم .قال " :اي أاب املنذر أتدري أي آية من كتاب
وم} .قال :فضرب يف صدري ،وقال " :وهللا ليَـ مهنَ العلم أاب اَّللُ َسا إَٰلَهَ إَّسا ُه َو م
احلَي الم َقي ُ هللا مع أعظم؟ " قال :قلتَّ { :
املنذر"(.)2
فتأيت بعد هذا كله تقرأ آية الكرسي وتكررها دون أن تفهمها؟! هذا نوع دجاهل للخرب ،نوع دجاهل ألمهية ما أخرب هللا به.
اثنيًا:
أن هللا أخربان أنه ال مياثله شيء ،وليس له َِمس ّي ،وليس له ُكفؤ ،وهذا من أصول اعتقادان اليت جنمعها مع ما سبق.
ماذا ستفهم من اجلمع بني األصل األول والثاين؟ ستُثبت الصفات بدون أي ماثلة .فبمجرد أن خيطر يف عقل سؤال عن
كيفية صفة من الصفات تقطع التفكري وتستعذ ابهلل؛ ألن الشيطان يلبس علي يف أول األمر ،لكن ستستعيذ وتستعيذ وهترب
منه ،وتطلب من هللا إىل أن يثبت .
عالِج قلبك ابليأس من معرفة الكيفية ،قل له :لو أدركت كل تفاصيل األمور اليت سا تستطيعها يف احلياة فإن لن تستطيع
إدراك صفات هللا ،لو أدركت كيف تسري هذه الكهرابء ،وهذه الرسائل كيف تُرسل ،وهذا "الكمبيوتر" كيف يشتغل ،وهذه
أيضا إدراك صفات هللا .فهو يضغط
الطائرة كيف تطري ،لو أشغلت نفس إبدراك هذا كله ،اعلم أن بعدما تدركه لن تستطيع ً
صمنع اإلنسان! فكيف بصفات هللا؟!!
على الكهرابء ،وسا يستطيع أن يفسرها ،وهذا من ُ
سا بد أن يصل اإلنسان إىل درجة اليأس من معرفة كيفية الصفات ،والشيطان جيرب اإلنسان؛ ألن هذا الشيطان-والعياذ
ابهلل-ما يُلقي يف عقل اإلنسان إذا أراد أن يستعمل أي أداة من األدوات احلديثة أبن يبحث عن وصفها ،لكنه عندما يسمع
خرب عن هللا يُلقي يف قلبه أن يتساءل عن كيفيته ،فهذا من وسواسه.
ومرة أخرى سنقول :من املؤكد أن ضعف اللغة من األسباب اليت تؤثر على اساعتقاد.
الناس كلهم يقولون" :سا إله إسا هللا" .ونشعر أن قوهلا سهل ،لكن ما هبم كفار قريش مل يقولوها ابلرغم من ذل ؟! السبب:
أصال ،فلو أننا عرفنا معىن اسم (هللا) فقط
أهنم فهموا معناها .لكن الذي يرددها اليوم يفعل ضدها؛ ألنه سا يدري ما معناها ً
حلُلَّت مشاكل كثرية يف حياتنا ،لكننا نردد هذا اساسم العظيم دون أن نَعي معناه ،وهذا بسبب ضعف اللغة.
أيضا من األسباب املؤثرة على اساعتقاد ،وأسباب أخرى كثرية اجتمعت على بعض ،وأخرجت هذا
واإلمهال ألخبار هللا ً
وجل-أن يكشف الغُمة عنا ،وأن نكون سببًا حقًّا لكشف الغمة ،وصحيح أننا نقول كل
عز َّ
النموذج من اجليل أسأل هللاَّ -
دقيقة :حنن يف فنت .وتأتينا اساكتئاب بسبب هذا ،لكن مع ذل نسأل هللا أن يرفع راية التوحيد ،ويقوي هذه البالد املباركة،
ويعوضنا مبن يسري يف مسرية األسالف يف الدعوة للتوحيد!
10
شرح اسم الحكيم
درسا من 15 ً صحيح أننا نعيش يف فنت ،لكن يف املقابل نرى وسائل الدعوة إىل هللا اليوم يسرية .تسمع وأنت يف فراش
دقيقة ،أو يرسل ل أحدهم كلمتني من كالم أهل العلم ،فأصبحت دجين من مثار العلم ،وهذا يرفع عن ذاك ،وهذا ابلطبع ل َمن
ص َدق ،وها هم أهل السنة واجلماعة بفضل هللا هلم صوت يف األرض كلها ،نسأل هللا أن يقوي صوهتم!
َ
حنن نقول :سا َتيت لنفس ابساكتئاب وأنت تفكر فقط يف الزاوية السوداء وأن الفنت قوية ،وإمنا فَكر يف اجلهة األخرى :اآلن
خريا وبركة؟! صحيح أن الفنت
وأنت يف بيت تستطيع أن تدرس وتتعلم ،والناس يف آخر الدنيا يستطيعون أن يتعلموا ،أليس هذا ً
أيضا ارتفعت ،الناس كلهم يتحركون ابدجاه العلم-صحيح أهنا حركة بطيئة ،لكن هناك حركة،-
ارتفعت ،لكن وجوه اخلري ً
والتقصري الذي مضى انتهى ،وغفر هللا عما سلف.
لما وُك ِش َفت عنه غُ ّمة اجلهل جيب أن يُف ّكر يف تقوية نفسه ،ويف إمداد عمره أبحد بعده .اعمل ل ِ
كل من رزقه هللا ع ً
ًّ
صفا اثنيًا يبقى بعد موت ! تُعلمه وتُفهمه ،وتبذل جهدك يف ذل ،وتنقل له بدون خبل .قل لنفس :سأموت قريبًا ،وما مضى
ليس أكثر ما سيأيت ،وهلذا سابد أن أكون يل صفًّا اثنيًا ،من شخصني أو ثالثة ،أربعة ،عشرة ،الذي أستطيعه! وأبذل جهدي
وهنارا لعلهم يستمرون يف الدعوة إىل هللا ويف نشر العلم ،فيكونون استمر ًارا يل ،سا بد من تكوين صف اثن من كل مكان،
ليال ًً
البد من نشر عقيدة أهل السنة واجلماعة ابلتوريث ،فالعلم يـُ َوَّرث ،نسأل هللا أن يفتح لنا ً
مجيعا!
واملفرتض أن جنمع بني األصلني :فنعتقد أمساءه وصفاته دون أن يقع منا أي متثيل.
اثلثًا:
أيضا.
وجل-وصفاته بشواهدها ً املرحلة الثانية :التفصيل يف معرفة أمساء هللاَّ -
عز َّ
قليال ،وأنخذ األدلة اليت تدل على املعاين التفصيلية؛ ألن كل اسم له معان تفصيلية ،وتظهر آاثره يف كذا
نتقدم هبذه اخلطوة ً
وكذا.
وجل-وصفاته على وجه اإلمجال. املرحلة الثالثة :دراسة حال املـُخالفني يف أمساء هللاَّ -
عز َّ
تعرف أن هناك من ينفي صفات هللا ،تعرف أن هناك من عطلها ،تعرف أن هناك من سا يؤمن أن هللا ينزل ،تعرف كل هذا
خصوصا أن هللا ابتلى أهل السنة واجلماعة هبؤساء (الروافض) الذين أتوا إىل كل
ً ابإلمجال حىت سا يهامج هذا الفكر املخالف،
أصول الدين فشوهوها ،أتوا إىل توحيد األلوهية فشوهوه ،أتوا إىل توحيد األمساء والصفات فشوهوه .هؤساء هلم صفة املـَ مكر؛ ألهنم
سا يقولون ل مباشرة :حنن كذا وكذا ،...وإمنا يُلقون علي الشبَه ،فأنت افهم على وجه العموم حال هؤساء الـ ُمخالفني،
ومبجرد أن تسمع َمن يُلقي علي الشبَه ُسد أذني ،وقل :أان جاهل ،وهناك َمن له علم يف هذه األمور ،ويعرف كيف يرد
صا لكي أطبب .فهل علي ،نعم ،أان اآلن صحيح بفضل هللا ،وأعتقد ما اعتقده الصحابة والتابعني ،لكين لست طبيبًا متخص ً
تأيت املريض لغري الطبيب ،ويقول له :طَببين ،أان عندي املرض الفالين؟! سا! وإمنا يذهب للطبيب.
12
شرح اسم الحكيم
إذًا يف املرحلة الثالثة :تعرف على حال املخالفني على وجه اإلمجال ،أهنم نفوا كذا ،وأنكروا كذا من صفات هللا ،لكن بعد
أيضا على وجه
ً املرور ابملرحلتني السابقة ابلطبع ،بعدما تعرف أمساء هللا وصفاته وأفعاله على وجه اإلمجال ،وبعدما تعرف ذل
التفصيل.
املرحلة الرابعة-وهي ملن ختصص يف هذا الباب :-أن يعرف كيف يرد على هؤساء املخالفني على وجه التفصيل.
فمن سار هذا الطريق وكانت عنده األدلة سيصل يف النهاية ملعرفة كيفية الرد عليهم ،فهو سيدرس "الطحاوية" و"التدمرية"
و"الواسطية" وتفصيلها-والواسطية من النوع الثاين والثالث وليس الرابع ،لكن التدمرية والطحاوية من النوع الرابع ،-وهذه بعض
الرسائل ألهل العلم الكبار ،اليت ردوا فيها على املخالفني.
عقائدكم أمانة حتملوهنا!! ستُسألون يوم القيامة :ماذا كنتم تظنون يف ربكم؟ جيب أن تكون عقيدت يف هللا من أوضح ما
يكون ،وهذه العقيدة كما أهنا أمانة يف عنق أنت ستُسأل عنها ،ستُسأل على ماذا ربيت ولدك من العقائد؟ سا يوجد مدرسة
ختتربه يف هذا ،أنت لقمنه ولقمنه! مث يوم القيامة اعتذر لرب أن َّلقنته ما تستطيع ،لكن املشكلة هي أن أكون أان بنفسي جاهلة،
سا أعرف هللا ،وسا أعرف أمساءه وصفاته وأفعاله على وجه التفصيل ،وليس يف قليب التعظيم الالزم؛ ألن التعظيم ال أييت من
ث من اآلابء ألبنائهم ،روح حيملها من
فراغ ،التعظيم أييت بعدما جتمع يف قلبك معاين أمسائه وصفاته ،والتعظيم هذا روح تُـبَ ّ
ِ
تستخسر يف هذا جه ًدا ،بل املفرتض أن تكون حياتك كلها من أجل معرفة هللا. ف هللا ،فالبد من بذل اجلهد ،وال
َع َر َ
وجل-وصفاته خطة طويلة املدى ملن أراد أن يسري فيها ،وأنت على أقل وهذه األربعة املراحل لتعلُّم أمساء هللاَّ -
عز َّ
تقدير تعال ابلثالثة األوىل.
واملقصد أننا نريد أن نقضي وقت هذه اللقاءات من أجل أن نقول :اي ربنا أان أريد أن تكون عقيديت صحيحة ،وأن ألقاك
وأان صاحب ُمعتَـ َقد صحيح ،فأ مُع َذر هبذا اساعتقاد! طلب العلم يف هذا الباب ابب العقيدة من األولوايت اليت علينا مسؤوليتها،
والواقع اليوم يشهد أن هذه املسؤولية مسؤولية خطرية ،مبعىن أن إن مل تكن على علم أبمساء هللا وصفاته ،وعلى علم أبصول
وجل-أن
عز َّ
دين ،فال تستغرب أن دجد حول اإلحلاد! وسا تستغرب أن خيرج من بيوت أهل اإلميان ملحدون! فنسأل هللاَّ -
يَقينا شر أنفسنا ،ويَقي أوسادان ذل !
13
شرح اسم الحكيم
طلب الوقاية هذا حيتاج إىل ُجهد ،وهذا الذي نفعله هو ُجهد املـُقل ،فوقت هذه اللقاءات من هذه اإلجازة الطويلة ومقابل
هذا العمر والنعم العظيمة سا يعترب شيئًا! مث أن وقت هذه اللقاءات كلها على بعضها سا شيء يف نفس حبر العلم ،لكننا فقط
وجل-أن يفتح علينا هبذا العمل أبو ًااب للعلم ،ويثبت اإلميان يف قلوبنا وقلوب
عز َّ
نعتذر إىل هللا أننا نعتين بعقائدان ،عل هللاَّ -
وجل-أن تكون هذه الساعات العظيمة من حياتنا طلبًا للعلم وسببًا لزايدة اإلميان .وأول وأهم
عز َّ
أبنائنا ،وحنتسب على هللاَّ -
أسباب زايدة اإلميان-كما اتفقنا ساب ًقا :-العلم النافع .فنحن حنتسب على هللا الطلب ،وخروجنا له ،واجتماعنا يف هذه
وجل-أن يزيد إمياين وإميانكم ،وأن جيمع قلوبنا على توحيده ،له
عز َّ
الساعات املباركة أن تكون طلبًا لزايدة اإلميان ،فأسأل هللاَّ -
وظاهرا وابطنًا.
ً وآخرا،
أوسا ً
احلمد ً
*أذكركم ابلواجب :يفرتض أن تقرؤوا آل عمران من أوهلا آلخرها ،وحتددوا تقريبًا موضوعها.
خريا.
جزاكم هللا ً
14
شرح اسم الحكيم
اللقاء الثاين
15
شرح اسم الحكيم
طريقة الدراسة:
مثال :اسم هللا (القيوم) :سأحبث عن آاثر قيوميَّته يف كل شيء ،اسم هللا (احلكيم) :سأحبث عن آاثر حكمته يف كل شيء،
الوهاب) :سأرى ما هي اهلبات اليت يهبُها للخلق ،وهكذا.
اسم هللا ( َّ
إ ًذا :سأتعلم معىن االسم على وجه اإلمجال من كتب مثل كتاب "فقه األمساء احلسىن" ،مث بعد ذلك أخرج إىل القرآن
ألجد شواهد على هذا االسم.
سنبدأ اليوم ابخلطوة األوىل ،وغالبًا ما تكون اخلطوة األوىل سريعة إذا كنا سنأيت ابلثانية ،وتكون الدراسة بطيئة إذا أدخلنا
معا -،درسنا اسم الودود يف السنة املاضية وأدخلنا اخلطوتني يف نفس الوقت ،فأخذان معناه على وجه العموم مث مباشرة اخلطوتني ً
املرة سنفصل بني اخلطوتني:
أخذان شواهده من القرآن-لكننا هذه َّ
مث نتدرب بعد ذل على فتح املصحف ،ورؤية آاثر احلكمة يف النصوص.
بسم هللا...
16
شرح اسم الحكيم
دائما عندما نبدأ يف دراسة األمساء نسأل أهم سؤال :ما دليلي على أنه اسم؟ هذا أهم سؤال جيب أن يكون اثبتًا يف ذهن ،
ً
ما دليل على أن (الوهاب) اسم من أمساء هللا؟ فأحفظ كذا وكذا من األدلَّة .ما دليل أن القيوم من أمساء هللا؟ أحفظ كذا
وكذا.
يقول الشيخ عبدالرزاق البدر-حفظه هللا" :-وقد ورد اسم هللا (احلكيم) يف القرآن الكرمي ما يقرب من مائة مرة ،قال
يم}( ،)3وقال تعاىل: ِ اَّلل َع ِزيز ح ِكيم}( ،)2وقال تعاىل{ :و َّ ِ ِ ()1 ِ
يم َحك ٌ
اَّللُ َعل ٌ َ اخلَبريُ} ،وقال تعاىلَ { :و َُّ ٌ َ ٌ
يم ْ تعاىلَ { :و ُه َو ا ْحلَك ُ
يما}(".)4 ِ {وَكا َن َّ ِ
اَّللُ َواس ًعا َحك ً َ
أمورا:
سنالحظ هنا ً
األمر الثاين :سنالحظ أنه اقرتن أبمساء متعددة ،منها :اخلبري ،العزيز ،العليم ،الواسع.
املفرتض أن َتيت من "املعجم املفهرس أللفاظ القرآن" ابملائة موضع اليت ورد فيها اسم احلكيم ،فتبدئني من اليوم بكتابة :ورد
اسم احلكيم يف آية كذا واقرتن بكذا ،...وتقومني بعمل جدول:
أحدا من َخلقه.
وجل-هبا ً
عز َّ
*مالحظة مهمة :سا ُختطئوا فتَصفوا هللا بصفة وصف هللاَّ -
مرة .مث
مثال :يف دجربة قريبة قمنا هبا مع اسم الرؤوف :الرؤوف ورد يف القرآن عشر مرات ،فقالوا يل :إنه ورد إحدى عشر َّ
ً
سواي .فعددانها إىل أن وصلنا لسورة ال توبة ،فقالوا :ورد يف التوبة مرتني .فماذا كان اخللل؟ أنه ورد فيها قلنا :سا أبسَّ ،
سنعدها ًّ
وص ًفا للنيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم ،-أن النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-رؤوف .فوقع هذا اخلطأ ،فمن الضروري عند املالحظة أن
ودائما ما يقع هذا اخلطأ يف امسي الرؤوف والشكور؛ ألن هللا وصف نوح-
وجلً ،-
عز َّ
تتأكدي أبن اساسم ورد هنا يف حق هللاَّ -
عليه السالم-أبنه عبد شكور ،وأن النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-رؤوف.
معا:
سيتضمن معنيان ً
ّ األويل
إذًا معناه َّ
وسيشرح اآلن كال املعنيني ،قالّ " :أما كمال احلُكم فبثبوت أن احلُكم هلل وحده حيكم بني عباده مبا يشاء ،ويقضي فيهم
ِ ِ
َح َك ِم ا ْحلَاك ِم َ اَّللُ ِأب ْ
()1
ويسمى هذا جواب ني} " اجلواب :بلىَّ . س َّ اد حلكمه ،وال مع ّقب لقضائه ،قال تعاىل{ :أَلَْي َ مبا يريد ،ال ر َّ
ني}( ،)3وقال تعاىل{:إِ ِن ا ْحلُ ْك ُم إَِّال ِ منفي" .وقال تعاىل{ :أَفَـغَيـر َِّ ِ
اَّلل أَبْـتَغي َح َك ًما} ،وقال تعاىلَ { :و ُه َو َخ ْيـ ُر ا ْحلَاك ِم َ
()2
َْ
()5 ِِ ِ ِ ()4
ضاَح ًدا} ،وليس ألحد أن يراجع هللا يف حكمه كما يراجع الناس بعضهم بع ً ََّّلل} ،وقال تعاىلَ { :وَال يُ ْش ِر ُك ِيف ُح ْكمه أ َ
اب}( ،)6فحكمه يف خلقه انفذ ال ر َّ يع ا ْحلِس ِ اَّلل َْحي ُكم َال مع ِّق ِ ِ ِ
اد له". ب حلُ ْكمه َو ُه َو َس ِر ُ َ يف أحكامهم ،قال تعاىلَ { :و َُّ ُ ُ َ َ
املعىن واضح على وجه العموم ،وساحظوا أننا ندرس دراسة َّأولية فنأخذ اجململ ،مث بعد هذا سننتقل وأنخذ التفصيل-إن شاء
هللا.-
ماذا فهمنا اآلن؟ فهمنا أن احلُكم هلل حيكم بني عباده كما يشاء ،ويقضي بينهم كما يريد ،ال ر َّ
اد حلكمه ،وال يستطيع
أحد أن يراجع هللا يف حكمه.
ماذا نعتقد يف حكمه؟ نعتقد أنه خري احلاكمني وأحكم احلاكمني.
مسيعا
قال " :وثبوت احلكم له سبحانه يتضمن ثبوت مجيع األمساء احلسىن والصفات العلُيا؛ ألنه ال يكون َح َك ًما إال ً
خبريا متك ِلّ ًما مدبًِّرا ،إىل غري ذلك من األمساء والصفات" .
عليما ً
بصريا ً
ً
يعين كون تثبتني أن هللا حكيم حيكم بني عباده ،إذًا أنت تثبتني أنه مسيع ،بصري ،عليم ،قريب ،متكلم ،تثبتني مجلة عظيمة
من صفاته-سبحانه وتعاىل-الالزمة لثبوت احلكم هلل.
قال " :ويف هذا إبطال جلعل احلكم لغري هللا؛ ألن احلكم ال يكون َّإال لكامل الصفات الذي له األمر ،وبيده التصرف،
اَّللُ َال إِلَ َه إَِّال ُه َو لَهُ ا ْحلَ ْم ُد ِيف ْاأل َ
ُوىل وأتمل هذا املعىن يف قوله تعاىل{ :فَا ْحل ْكم َِِّ
َّلل ال َْعلِ ِّي الْ َكبِ ِري}( ،)1وقوله تعاىلَ { :و ُه َو َّ َّ
ُ ُ
َو ْاآل ِخ َرةِ َولَهُ ا ْحلُ ْك ُم َوإِلَْي ِه تُـ ْر َجعُو َن}( ".)2أي :ألنه هللا اإلله الذي سا إله إسا هو فإنه ُحي َمد على ذل يف األوىل واآلخرة ،وما
يستحقه :احلُكم؛ لَ -ما له من متام األلوهية.
قال" :وقوله تعاىل{ :وما ا ْختـلَ ْفتم فِ ِيه ِمن َشي ٍء فَح ْكمه إِ َىل َِّ
اَّلل}( ")3أي :يـَُرد إىل كتاب هللا وسنَّة النيب-صلَّى هللا عليه ْ ُ ُُ ََ َ ُْ
وسلَّم ،-فما َح َك َما به فهو احلق ،وما خالفهما فهو ابطل.
ْت َوإِلَْي ِه أُنِيب}(")4 قال " :مث قال ُمبَـيِّنًا صفات من له احلكمَ { :ذلِ ُك ُم َّ
اَّللُ َرِّّب َعلَْي ِه تَـ َوَّكل ُ
يب} ،أي :بعدما أخرب-سبحانه ممهُ إ َىل هللا َذل ُك ُم هللاُ َرب َعلَميه تَـ َوَّك مل ُ
ت َوإلَميه أُن ُ اختَـلَ مفتُ مم فيه م من َش ميء فَ ُحك ُ
األوىلَ { :وَما م
ت} وتعاىل-أن ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه يـَُرد إىل هللا ،قال ُمبَـينًا صفات من له احلكم :هو هللا رب الذي { َعلَميه تَـ َوَّك مل ُ
أتوجه له بقليب وبدين.
يب} أيَّ :
أي :اعتمدت عليه واطمأننت لهَ { ،وإلَميه أُن ُ
اجا} ماذا يفعل لكم؟ {يَ مذ َرُؤُك مم فيه} أي: الس َم َاوات َواأل مَرض َج َع َل لَ ُك مم م من أَنمـ ُفس ُك مم أ مَزَو ً
اجا َوم َن األَنمـ َعام أ مَزَو ً الثانية{ :فَاط ُر َّ
س َكمثمله َش ميءٌ
اجا{ ،لَمي َ
اجا ،وجعل لكم ألنعامكم أزو ً
يبثكم ويكثركم ،ويكثر مواشيكم بسبب أنه جعل لكم من أنفسكم أزو ً
يع البَصريُ}(.)1
السم ُ
َوُه َو َّ
يم}(.)2
ط الرمز َق ل َمن يَ َشاءُ َويـَ مقد ُر إنَّهُ ب ُكل َش ميء َعل ٌ
الس َم َاوات َو ماأل مَرض يـَمب ُس ُ
يد َّ
الثالثة{ :لَهُ َم َقال ُ
إ ًذا :من صفاته-سبحانه وتعاىل-أنه ربنا ،وأن عليه اساعتماد وإليه اإلانبة ،وهو فاطر السماوات ،وهو الذي كثران وأعطاان،
وهو-سبحانه وتعاىل-ليس كمثله شيء وهو السميع البصري ،له مقاليد السماوات واألرض ،ماذا يفعل للخلق؟ يبسط الرزق ملن
يشاء ويقدر ،فيوسع على قوم ،ويضيق على قوم ،وهو بكل شي عليم.
ِ
يشرع وحيلّل وحي ِّرمَ ،
وج ْع ُل ذلك لغريه أظلم الظلم يقول " :أي :أن الذي له هذه الصفات هو الذي يستحق أن ِّ
اَّلل ُح ْك ًما لَِّق ْوٍم يُوقِنُو َن}(.")3
اه ِليَّ ِة يـبـغُو َن ومن أَحسن ِمن َِّ
َْ َ َ ْ ْ َ ُ َ
وأعظم اجلور {أَفَح ْكم ا ْجل ِ
ُ َ َ
أي :أن آية الشورى تُبني ل أنه سا يستحق احلكم َّإسا َمن خلق وأعطى ورزقَ ،
ومن قليب إليه مطمئن هو الذي يستحق أن
حيكم بني اخللق ،وهو حقيقةً حيكم فيهم أبن يبسط ملن يشاء األرزاق ،ويقدر على من يشاء األرزاق ،وهو-سبحانه وتعاىل-
يع البَصريُ} جاء يف سياق إثبات احلكم له ،أي :هوالسم ُ
س َكمثمله َش ميءٌ َوُه َو َّ
ليس كمثله شيء ،وساحظي قوله تعاىل{ :لَمي َ
خريا َّإسا فيه ،وكل أحد غري
س َكمثمله َش ميءٌ} ليس كوصفه أحد من اخللق ،فال تظن ً وحده يستحق أن حيكم وسا أحد مثله{ ،لَمي َ
وجل-تعاىل عن ذل كله. هللا وإن َح َكم فال بد أن يتخطَّفه هواه أو يرتكب األخطاء ،وهللاَّ -
عز َّ
فرد ابلذل واخلضوع ،قال تعاىل{ :إِ ِن قال " :كما أن يف ذلك داللة على أن َمن هذه شأنه هو املستحق وحده أن يُ َ
ين ال َقيِّ ُم َولَ ِك َّن أَ ْكثَـ َر الن ِ
َّاس َال يَـ ْعلَ ُمو َن}({ .")4أَ مكثَـَر النَّاس َسا يـَ معلَ ُمو َن} ماذا؟ ِ ِ
هلل أَمر أ ََّال تَـعب ُدوا إَِّال إِ ََّّيهُ ذَلِ َ ِ
ك ال ّد ُ ُْ احلُ ْك ُم إ َّال َ َ
أكثر الناس سا يعلمون أن هذا الدين هو الذي يُقيمهم ،ملاذا؟ ألهنم يستجيبون لنزعات أهوائهم.
غري الرسول-صلَّى هللا عليه وسلَّم-كنيته ألن هذا اساسم خاص هلل ،وقد كناه قومه ب-أب احلكم ملشاعرهم دجاهه ،فهم
الحظ فيه
سمى به أحد وهو يُ َ
يالحظون فيه صفة أنه حيكم بينهم فيعدل يف حكمه .إ ًذا هذا اساسم-احلَ َكم-اسم خاص هلل ،سا يُ َّ
مثال :-هذا َحكم املباراة ،هذا حاكم يف هذه املسابقة .فهذا سا أبس به ،لكن مىت يكون اسم
معىن الصفة ،لكن عندما يقولونً -
منوعا؟ إذا لوحظت الصفة فيمن تسمى به ،كأن حيكم يف شؤوهنم ،ويرضون حبكمه ،سا أن يُقيَّد حبال ،وإمنا على وجه
(احلَكم) ً
اإلطالق.
احلُكم. -1
احلكمة. -2
يقول ":أما كمال احلكمة فبثبوت احلكمة له-سبحانه-يف خلقه ويف أمره وشرعه ،حيث يضع األشياء مواضعها ويُن ِزَلا
منازَلا ،وال يتوجه إليه سؤال وال يقدح يف حكمته مقال" أي :أن هللا {َسا يُ مسأ َُل َع َّما يـَ مف َع ُل َوُه مم يُ مسأَلُو َن}(.)1
وجل:-
عز َّ
سيضرب اآلن أمثلة عن حكمة هللاَّ -
نعود ألول الكالم ،يقول" :أما احلكمة يف اخللق فإنه-سبحانه-خلق اخللق ابحلق"
أان اآلن أفهم أن هذا كالم جممل وأنه غري متبني ،لكن أريد منكم أن تقرؤوه وتفكروا فيه ،وَتتوا بشواهد من القرآن على هذه
جممال عن األمساء ،مث نفكر فيه ونبحث عنه يف القرآن .كيف
عاما ًكالما ًّ
اجلمل اليت قاهلا ،فنحن نريد أن نتدرب كيف نقرأ ً
يكتب العلماء عن أمساء هللا؟ هل يكتبون عنها من تلقاء أنفسهم؟ ابلطبع سا ،وإمنا يدرس ويتعلم عن هللا ويبحث ،مث يعرب عن
هذا املوجود يف القرآن هبذا الكالم.
لو أتى ل املصنف بكل اآلايت وشرح ل كيف خرج بكل هذه اجلمل سيطول املقام ،لكن أنت ماذا تفعل؟
متر ابملرحلة األوىل :تقرأ معىن اساسم على وجه العموم-كقراءتنا اليوم.-
.1نقسم ،ونقول :قال يف احلكم [ أ ،ب ،ج ،د ] ،ويف احلكمة قال [ أ ،ب ،ج ،د ].
.2مث نرى من أين أتى هبذه النقاط؟ فنبحث يف القرآن عن آايت تدل على هذه املعاين.
من اخلطأ أن تظن أن مبرة واحد ستفهم كل هذا على بعضه ،أنت اليوم تقرأ كأن تقرؤه مطالعة وتفهم على وجه العموم،
مث تقرؤه قراءة جديدة تقسم ل املعاين ،مث قراءة جديدة َتيت ل ابألدلة ،مث قراءة جديدة تفهم وجه اساستدسال ابألدلة ،كنا
نستطيع أن نشرح االسم وانتهى املوضوع! لكن املسؤولية اليوم ليست جمرد أن أُطلعك على معاين األمساء ،املسؤولية اليوم
هي تعليم الناس كيف يتعلمون ،ضروري أن تتعلم كيف تتعلم بنفس ،فبالرغم من وجود اساتصاسات احلديثة وتوفر العلم يف
كل مكان لكننا مصابون ابلكسل؛ ولذل سا تعتمد على أن تـُلَقَّن العلم ،وإمنا سا بد أن تبحث بنفس .
املتقرر أن هللا-سبحانه-له الكمال الذي ال حييط به العباد ،وأنه ما ِمن كمال تفرضه األذهان
يقول" :وإذا كان من ِّ
وأجل ،فإن أفعاله ومجيع ما أوصله إىل اخللق أكمل األمور وأحسنها وأنظمها
ّ ويق ّدره املق ّدرون إال وهللا أعظم من ذلك
وحسنه إىل فاعله ،والتدبري منسوب إىل مدبّره ،وهللا تعاىل كما ال يشبه أحد يف صفاته يف
وأتقنها ،فالفعل يتبع يف كماله ُ
العظمة واحلُسن واجلمال ،فكذلك ال يشبهه أحد يف أفعاله" .هذا الكالم اتبع للكالم املاضي.
وجل-حكيم ،وأفعاله كلها حكمة ،وملوقاته كلها حكمة ،ولو اجتمع الناس على
عز َّ
ماذا قرر يف أول الكالم؟ قرر أن هللاَّ -
أن يقرتحوا فيقولوا :لو كان شكل هذا املخلوق كذا لكان أحسن .ملا استطاعوا ،فإهنم سا جيدون أحسن ما خلق هللا ،مث بني أن
علما ،وسا أن يقدره أحد ،وإذا قدر َمن قدر كمال هللا
يوصف به-سبحانه وتعاىل-سا ميكن ألحد أن حييط به ًالكمال الذي َ
فاهلل أجل ما يقدره أي ُم َقدر .وكذل األفعال ،فأنت عندما ترى أفعاله ستعلم أن أفعاله سا ميكن أن يقدر اخللق عظمتها
واحلكمة فيها ولو اجتمعوا.
23
شرح اسم الحكيم
فأنت عندما يقال ل :ه ذه احلكمة من الوضوء ،وهذه احلكمة من الصالة ،أو هذه احلكمة من خلق هذا احليوان ،أو هذه
احلكمة من خلق األرض هبذه الصورة .علي أن تقول :هذا ما وصلتم إليه من احلكمة ،أما أفعال هللا فال ميكن أن حتيطوا هبا
علما ،حبيث أنكم حتصرون كمال حكمته فيما تذكرون؛ لذل من األخطاء اليت حتصل أن يـَُرََّّب الناس على أن يعتقدوا أن هذه
ً
فقط هي حكمة هللا من كذا وكذا.
مثاسا :ما احلكمة من الصيام؟ أن يتقي اإلنسان .هل تستطيعني أن َتيت جبملة متصرة عن التقوى؟ أم أن
وسأضرب لكم ً
التقوى كلمة كلَّما جاء جيل َّ
عرب عنها مبا سا يستطيعه عقل َمن قبله بناءً على ظروف وأحوال اخللق؟ فالتقوى عند َمن سبقنا
ختتلف عن التقوى عندان ،فهم كانوا يتقون أن خيرجوا إىل املالهي أو أن خيرجوا إىل أي شيء يلهيهم ،أما التقوى اآلن فأنت
لست حباجة ألن يقال ل :اتق اخلروج ملا يُلهي .وإمنا اتق أبن َتيت أبي شيء يلهي .
واملعىن :أن هذه املفاهيم العظيمة تتسع لكل من خلق هللا يف كل عصر ،فهي ليست حمصورة وسا ميكن ضبطهاَّ ،
وإمنا كلما
قلت عن شيء من احلكمة سا بد أن تقول :إن هذا شيء من حكمة هللا ،وحكمة هللا يف كل شيء سا ُحياط هبا ،فأفعاله كلها
مثال :لو سألنا :ملاذا كوكب املشرتي
أن هناك أشياء سا نعلم احلكمة منهاً ، حكمة وحكمته سا حياط هبا ،والدليل على ذل
موجود؟ ملاذا كوكب الزهرة موجود؟ هل عندك جواب؟! ماذا سنفعل؟ سنقول :إن هللا هو احلكيم-سبحانه-الذي سا ميكن ألحد
أن حييط حبكمته ،ال بد أن تشعر ابلعجز عن اإلحاطة حبكمته كما أنك عاجز عن اإلحاطة بكماله.
أيضا يف شرعه :قال" :وأما احلكمة يف أمره وشرعه فإنه تعاىل شرع الشرائع ،وأنزل الكتب وأرسل الرسل
سنرى هذا ً
ألجل غاية .ومعرفته
ّ مهال ،ومل يوجدهم ُس ًدى ،بل خلقهم ألكمل مقصد وأوجدهم ليعرفه العباد ويعبدوه ،فلم خيلقهم ً
أجل اَلبات
تعاىل وعبادته وحده ال شريك له-اليت هي مقصود اخللق-هي أفضل العطاَّي منه تعاىل لعباده على اإلطالق ،و ّ
وأشرف املِنَن ملن ميُ ّن هللا عليه هبا ويكرمه ببلوغها وحتقيقها ،وهي أكمل السعادة والفالح والسرور للقلوب واألرواح ،بل
هي السبب الوحيد للوصول إىل السعادة األبدية ،والفالح السرمدي".
هنا يبني أن احلكمة من أمره وشرعه وإنزاله لكتبه كلها تدور حول أمر واحد وهو أن يعرفه العباد ،وسا تدري كم من وراء
هذه املعرفة من حكمة ،فإن أُس السعادة وأساسها وصالح املرء يف دينه ودنياه كلها تدور حول هذه املعرفة ،فال تدري وسا
تستطيع أن تقدر ما مقدار الرمحة واحلكمة اليت أنعم هللا هبا على العباد حال تعليمه هلم عن نفسه ،واخلاسر حقيقةً يف الدنيا
24
شرح اسم الحكيم
وجل-من أعظم منَنه على اخللق أن أنزل عليهم كتبًا يتعلمون منها عنه ،فهذا الذي مل يعرف هللا ،هذا حقًّا خاسر! ألن هللاَّ -
عز َّ
أعظم ما تَسأل عنه ،فاهلل أرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل هذه احلكمة اليت هي معرفة هللا.
فكان أوىل ما ُدجيب به وقت ما تُسأل عن احلكمة من خلق اخللق وإنشائهم أن تقول :خلق هللا اخللق ليعرفوه ،فإذا عرفوه
ت
عبدوه .هذا التسلسل منطقي مفهوم ،وله أدلة يف القرآن ،ومن أدلته-:نفس الدليل الذي حنفظه كلنا-قوله تعاىلَ { :وَما َخلَ مق ُ
ني}( ،)1وذُكر َّاق ذُو ال ُق َّوة املت ُ يد أَ من يُطمع ُمون إ َّن هللاَ ُه َو َّ
الرز ُ س إَّسا ليَـ معبُ ُدون} أكمل { َما أُر ُ
يد ممنـ ُه مم م من رمزق َوَما أُر ُ اجل َّن َواإلنم َ
هذا املفهوم نفسه يف سورة الطالق ،قال تعاىل{ :هللاُ الَّذي َخلَ َق َسمب َع َمسََوات َوم َن األ مَرض مثمـلَ ُه َّن يـَتَـنَـَّزُل األ مَم ُر بـَميـنَـ ُه َّن} ألجل
َحا َط ب ُكل َش ميء ع مل ًما}( .)2إذًا :خلق هللا املخلوقات حلكمة عظيمة َن هللاَ َعلَى ُكل َش ميء قَد ٌير َوأ َّ
َن هللاَ قَ مد أ َ ماذا؟ {لتَـ معلَ ُموا أ َّ
وهي :معرفته والتمتع بعبادته.
بادا،
وهذا الكالم الذي قلناه موجود حىت يف أصول الدين ،فإنه ما يُشكل على اخللق كوهنم سا يفهمون معىن أن يكونوا ع ً
عبدا للخلق ،فهذا أمر تكرهه وتُبغضه ،لكن عندما
ومضر أن تكون ً
أتت املفاهيم اجلديدة تشوه كلمة (عبودية) ،نعم ،أمر مؤذ ُ
َتيت تتكلم عن احلرية سابد أن تتكلم عنها مبعناها احلقيقي؛ ألن سا تظن أن ستصبح ُحًّرا عندما تتحرر من العبودية هلل! بل
أنت ستنتقل من نوع عبودية إىل نوع عبودية آخر ،ونوع العبودية اآلخر هذا هو العبودية للهوى ،والعبودية للهوى جتعلك يف
ط من مرتبة احليوان.
مرتبة أح ّ
أنتم اآلن لو كنتم يف زايرة ملدينة الطائف أو ملناطق عسري ستتصورون الصورة بوضوح ،ففي سفوح جبال الطائف أو يف
عسري دجدون جمموعات كبرية من القَردة ،ميارسون كل احلياة املعروفة ،من األكل والشرب والتناسل يف سفوح اجلبال ،أمام الناس
عبدا هلل ،ابلضبط هبذه الصورة! هبذا
بعضا هبا ،هذه ابلضبط صورة لإلنسان لو ما كان ً
كلهم ،وهلم أصوات ولغة حيدث بعضهم ً
اسانفالت! هبذا ال ُقبح! هبذه العالنية! ما عليهم إسا أن يستيقظوا مع شروق الشمس ليأكلوا ،ويشربوا ،ويتنافسوا ،ويتقاتلوا،
ويبحثوا عما تأكلونه ،ويتناسلوا ،مث يتهارجوا ويتصاحيوا ،مث يعودوا فيناموا ،وانتهى أمرهم!!
هذه هي صورة األنعام-احليواانت -احلقيقية املعروفة اليت سا جيادل فيها أحد ،خلقهم هللا هلذه الصورة من احلياة ،لكن هللا
عبدا هلذه الشهواتَ :تكل ،تشرب ،تصارخ،
عبدا له ستكون ً
أخرج من هذه البهيمية ،وشرف ،وبـُني ل أن لو مل تكن ً
عبدا هلل؟!
عبدا هلل؟! ما الذي َسيَضيق علي لو أصبحت ً
أي شيء حتاربه وتدافعه كي سا تكون ً
عبدا هلل:
امسع ما هي املميزات اليت ستكون ل لو أصبحت ً
يفرج عليك ،إن كنت يف ضيق يلطف بك،
سيكون لك سيّد وموىل ،تتوكل عليه فيكفيك ،تناديه فيسمعك ،تسرتزقه فريزقك ،إن كنت يف مأزق ّ
1
يب لَهُ؟ َم ْن يَ ْسأَل ُِِن فَأُ ْع ِطيَهُ؟ َم ْن يَ ْستَـ ْغ ِف ُرِين فَأَ ْغ ِف َر لَهُ؟" ) ) كلما شعرت بشعور اخلوف وين فَأ ْ ِ
َستَج َ يناديك يف الثلث األخري من الليلَ " :م ْن يَ ْد ُع ِ
إليه تفزع ،إليه تصمد ،يكفيك ،ويؤويك ،بل يعاملك ابجلَ ْرب فيجرب قلبك ،ويعاملك ابللطف فيخرجك من مضائق حياتك ،ويعاملك بتمام الرأفة
يضرك يف عبوديته؟!
فيمهد لك األرض ،ويعطيك ما حيملك وينقلك ،كل هذا سيكون لك! إذًا ما الذي ّ
ّ
عبدا :أي :أن ل سيد يكفل ل كل شؤون ،ل سيد يقال ل :عامله ابساعتماد والتوكل ،وهو يكفي
معىن أن تكون ً
كل ما أمه ،واعلم أن سيدك وموساك له كل املل ،يده سحاء الليل والنهار ،كرمي-سبحانه وتعاىل ،-خزائنه مألى ،أتدري ما
صت من
أنفق منذ أن خلق السماوات واألرض إىل أن تقوم الساعة؟ كمثل ما تدخل اإلبرة يف البحر ،أتُنقص منه شيئًا؟! لو أن َق َ
البحر شيئًا لكان ما أنفقه على أهل األرض يف هذا الزمن نقص يف ملكه شيء ،لكن ملكه-سبحانه وتعاىل-سا ينقص ،فماذا
تريد بعد ذل ؟! املطلوب من فقط أن تعتمد عليه وتتوكل عليه ،اخلري سيجلبه ل ،الشر سيصرفه عن ،يُقبل علي الشر
عبدا له وهو-سبحانه-وعدك ابلكفاية ،ماذا يضرك أن
فيحفظ منه ،فكل ما يقال ل عن العبودية معناه الكفاية ،فأنت ُكن ً
عبدا لرب العاملني؟! إسا أن كلمة العبودية ُشوَهت يف عقول اخللق ،وظنوا أهنم يهربون من العبودية والرق ،وما عرفوا أهنم
تكون ً
عبدا للشيطان واهلوى ما حاله؟ أليست القلوب
خيرجون من عبودية هللا إىل عبودية الشيطان واهلوى ،وما تدري هذا الذي يصبح ً
بيد هللا؟ فحىت لو انشرح صدرك ألنه عامل برأفته زمنًا من األزمنة ،أتظن أنه يُبقي صدرك منشر ًحا؟!
بعيدا عنه يعامل برأفته وحلمه ،وسا يُضيق علي األمور مرًة واحدة ،وإمنا يذيق
وجل-حينما هترب منه وتذهب ً
عز َّ
هللاَّ -
شيئًا من اآلسام لكي تعود ،وهو عن غين ،ولكن من متام رأفته خبلقه وتربيته هلم أنه يعيدهم ،فأنت عندما تظن خاطئًا-كما
يظن َمن ليس له عقل ،وليس برشيد-أن اهلروب من هللا يوصل إىل السعادة تكون قد اغرترت حبلمه ،واعلم أن الذين يقولون
ل :حنن سعداء؛ ألننا يف حرية وانطالق .إمنا هم يف زمن بقائهم حتت حلم هللا ،وزمن بقائهم حتت حلم هللا هو الذي يوهم
اَّلل})7494/
يدو َن أَ من يـَُبدلُوا َكالَ َم َّ
اَّلل تـَ َع َاىل{ :يُر ُ
ب قَـ مول َّ
) (1رواه البخاري يف صحيحه (كتاب التوحيدَ /اب ُ
26
شرح اسم الحكيم
فرج على القلوب ولو كانت الدنيا مل ميينهم ،فال يغرك هذا اهلروب ،واعلم
الناس أن هؤساء سعداء ،مث إذا أتى الضيق وهللا سا يُ َّ
وجل-علينا هبا ،وشرف تشعر به إذا عرفت هللا.
عز َّ
أن العبودية نعمة أنعم هللاَّ -
ومن متام حكمته يف معاملته خللقه أن جعل كتابه مليئًا ابخلرب عنه ،فأعظم احلكم أنه خلقنا ورزقنا ومل يرتكنا ً
مهال ،بل أرسل
رسوسا ،والرسول أتى ابلكتاب ،والكتاب فيه خرب عن هللا ،فأعظم ما تشعر به وتشاهده من حكمته-سبحانه وتعاىل-أنه
إلينا ً
علَّم عن نفسه ،ويف هذا ستكون السعادة والفالح السرمدي.
يقول" :إضافة إىل هذا" يعين إضافةً للخرب عنه .ما هو أول الشرع؟ معرفة هللا ،أول الدين أن تعرف هللا ،أُس الدين وأساسه
أن تعرفه ،فتتجلى احلكمة يف تعليمه لنا عن نفسه ،مث إضافة إىل هذا":فإن شرعه قد اشتمل على كل خري ،فأخباره متأل
وأجل العلوم".
علما وعقائد صحيحة ،وتستقيم هبا القلوب ويزول احنرافها ،وحيصل َلا أفضل املعارف ّ
القلوب ً
عما يضر الناس يف عقوَلم وأخالقهم قال" :ونواهيه كلها موافقة للعقول الصحيحة ِ
ينه إال ّ
والفطَر السليمة ،فلم َ
وأعراضهم وأبداهنم وأمواَلم"
وجل-أن
عز َّ
هذا كله اآلن جيب أن ندرسه ابلتفصيل من القرآن ،أي :أننا سنُخرج له شواهد على أن من حكمة هللاَّ -
أحكاما-كله فيه من اخلري واحلكمة.
ً أخبارا أو
شرعه-سواءً كان ً
قال" :ومن حكمه ِ
وحكمته سبحانه :جمازاة احملسن إبحسانه" هذا احلُكم واحلكمة يف اجلزاء. ُ
27
شرح اسم الحكيم
احملسن إبحسانه ،واملسيء إبساءته ،قال تعاىل يف وحكمته سبحانه جمازاة ِ نرى حكمته يف اجلزاء :يقول" :ومن حكمه ِ
ُ
لسوأَى}(")2 ِ َّ ِ ()1 شأن احملسنَ { :هل َج َزاء ا ِإل ْح ِ ِ
َساءُوا ا ُّ
ين أ َ سان إ َّال ا ِإل ْح َ
سا ُن} ،وقال يف شأن املسيءُ { :مثَّ َكا َن َعاقبَةَ الذ َ َ ْ ُ
إ ًذا من حكمته يف جزائه أن كانت عاقبة اإلحسان اإلحسان ،وعاقبة اإلساءة السوء .أين احلكمة يف أن يعاملنا هللا هبذه
املعاملة؟ احلكمة هي العدل؛ مث من حكمته-سبحانه وتعاىل-أن يعاملهم بشيء من الفضل ،فاحلكمة تكون يف العدل أو يف
الفضل .أي :أن معاملة هللا خللقه ليست فقط العدل ،وإمنا هناك نوعان من معاملة هللا خللقه تظهر فيهما احلكمة :معاملة العدل
وجل-أن يعامله
عز َّ
ومعاملة الفضل ،لكن معاملة الفضل تكون مع احملسن وهنا تكون احلكمة ،واملسيء من حكمة هللاَّ -
ابإلساءة اليت يستحقها ،أما احملسن فيعامله هللا إما ابإلحسان املكافئ وهذا العدل ،أو يعامله ابلفضل-والفضل معناه الزايدة،-
وجل-للمسيئني العدل.
عز َّ
واألصل يف معاملة هللا للمحسنني الفضل ،ويف معاملة هللاَّ -
ابملؤمن املوحد؟! اجلواب :سا! وسا بد أن تتيقن من هذا؛ ألن هذا خيالف حكمة هللا ،كيف يقول هللا يف كتابه{ :إ َّن هللاَ َسا يَـ مغف ُر
أَ من يُ مشَرَك به َويـَ مغف ُر َما ُدو َن َذل َ ل َم من يَ َشاءُ}( )1مث تظن أنه سيأيت حبكم جزائي خيالف ما أخرب به؟! سا ختتلط عليكم الرمحة مع
يم} أي :أن مغفرت لن تصدر إسا من عزة وحكمة،
العز ُيز احلَك ُ
ت َ اد َك َوإ من تَـ مغف مر َهلُمم فَإنَّ َ أَنم َ
احلكمة{ ،إ من تُـ َعذبمـ ُه مم فَإنـ َُّه مم عبَ ُ
فستغفر هلم-وأنت احلكيم-إذا استحقوا هذه املغفرة.
وجل-له
عز َّ
وجل ،-هللاَّ -
عز َّ
هل تبني لكم كيف حيصل اخللل هنا؟ الناس غالبًا خيلطون بني صفة الرمحة وصفة احلكمة هللَّ -
احلكمة يف خلق اخللق ،وله احلكمة يف الشرع ،وله احلكمة يف اجلزاء ،مث يقول الناس :ولكن هذا-أي :من مات على الكفر-
وجل-؟ قال تعاىلَ { :وقَد ممنَا إ َىل َما َعملُوا م من َع َمل فَ َج َع ملنَاهُ َهبَاءً
عز َّ
أعماسا خريية! نقول :ماذا قال هللاَّ -
أحس َن للناس ،وعمل ً
َ
()2
منثورا ،وقد دعاك هللا بكل ورا} َ { ،ما َعملُوا م من َع َمل} أي :كل عمل صاحل يتقربون به لكن على الشرك جعلناه هباءً ً َممنـثُ ً
اآلايت إىل توحيده ،فبما أنه دعاك إىل التوحيد وأنت مل تقبل هذا التوحيد سيصبح العدل الذي يوافق حكمته أن ُجيازي
وجل-يف
عز َّ
موحدا ،يقول هللاَّ -
اإلنسان على تركه للتوحيد ،وأما الفضل فهذا شأنه إىل هللا ،ووضع هللا له شرطًا وهو أن تكون ً
آد َم إنَّ َ لَ مو أَتَـميـتَين ب ُقَراب األ مَرض َخطَ َااي ُمثَّ لَقيتَين ساَ تُ مشرُك ب َشميـئًا"-عندما تسمع كلمة "شيئًا"
احلديث القدسيَ " :اي ابم َن َ
أبدا"-ألتَيتُ َ ب ُقَراهبا مغفرةً"( ،)3فانظر إىل هذا الفضل
تشعر أن األمر صعب؛ ألن معناه :أسا حيصل لقلب أي التفات لغريه ً
وجل-من يشاء بشرط أسا يكون مشرًكا.
عز َّ
يؤتيه هللاَّ -
إن السعة يف الدنيا دليل قد يقول قائ ل :هناك حمسنون يف دينهم لكنهم متعبون وعندهم ضوائق .سنقول :من قال ل
عبدا محاه الدنيا كما يظل أحدكم حيمي سقيمه املاء"( )4ألنه
الرضا؟! بل قال رسول هللا-صلَّى هللا عليه وسلَّم" :-إذا أحب هللا ً
يؤذيه ،أتدري ما دليل رضا هللا عنك؟ انشراح صدرك ،وقبولك ألحكامه وحكمه وشرعه وجزائه ،وأن يقع يف قلبك أنت
اضيةً مر ِ
ِِ ِ ِِ
ضيَّةً}( ،)1يعيش حياته حىت الرضا عن هللا ،فتُنادى فتكون أنت النفس املطمئنة اليت يقال َلاْ { :ارجعي إِ َىل َربّك َر َ َ ْ
لو تقلّب يف الذنوب واملعاصي واألخطاء لكنه دائم التوبة واأل َْوبة واإلانبة إىل ربه واالستغفار ،وأهم شيء يف هذا األمر هو
دائما :هل أنت راض عن رب ؟ أم يف قلب شيء من السخط؟ هل ترى حكمه
ً انشراح صدره ورضاه عن ربه ،واسأل نفس
ليال وهنا ًرا :أتؤمن أن هللا
عرض علينا ً
يف كذا سا يناسب ؟ وحكمه يف هذا سا يناسب ؟ وأمره يف هذا سا يناسب ؟ هذا اساختبار يُ َ
اختبار اسم هللا (احلكيم) من أصعب االختبارات ،ونتيجة االختبار :إذا رضيت فلك الرضا ،وإذا رضيت حكيم؟ ولذل
تكون تل النفس املطمئنة اليت تُنادى { :مارجعي إ َىل َرب َراضيَةً َم مرضيَّةً} .فما تتصوروا إىل أي درجة دخولنا طيلة الوقت يف
اختبار الرضا عن أقداره وأحكامه وخلقه وجزائه-سبحانه وتعاىل.-
عابرا ،وسيأيت الكالم-إن شاء هللا-ابلتفصيل ،سنعود ونقرأ نفس الكالم لكن سنقسمه أبدلته من
مرورا ً
حنن فقط مرران ً
القرآن.
خريا.
جزاكم هللا ً
السالم عليكم ورمحة هللا وبركاته.
اللقاء الثالث
31
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على سيدان حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
هذا هو لقاؤان الثالث من لقاءات (فقه األمساء احلسىن) ،وسا زلنا نتكلم عن اسم (احلكيم) ،وقد مرت معنا طريقة الدراسة يف
دورة هذا العام:
أوسا :سنفهم معىن اساسم على وجه العموم .وما يساعدان على ذل :قراءة رسائل يف معاين األمساء متوسطة-سا متصرة وسا
ً
طويلة ،-مثل :كتاب (فقه األمساء احلسىن) للشيخ عبد الرزاق البدر-حفظه هللا.-
كامال :نبدأ خنرج من مفاهيمه إىل القرآن ،فالشيخ قام بعملية الدراسة للقرآن ومجع هذه
اثنيًا :بعد أن نقرأ معىن اساسم ً
اجلمل ،وأنت سرتجعني مرة أخرى إىل شواهدها من القرآن .ملاذا نفعل هذا الفعل؟
ألننا نتعبد هللا بكالمه ،فاملطلوب من طوال الوقت وأنت تتدبر القرآن أن ترى آاثر كمال صفاته يف كتابه ،واحلقيقة أن آاثر
كمال صفات هللا موجودة يف كتابه كله ،لكننا سا نستوعب آاثر الكمال هذه نتيجة عدم رد املفاهيم إىل نصوصها.
مثاسا حىت تتصوروا املسألة- :املسألة ليست ابلعسرية ،ومع التمرين تصبح يسرية إن شاء هللا-
سنضرب ً
والذي سنُظهره أكثر يف دجربتنا هو (احلكمة)؛ ألهنا أكثر خفاءً يف دسالتها ،أما احلُكم فيأيت صرحيًا يف كتاب هللا .سنقرأ مجلة
عن احلكمة من الكتاب ،وسنفكر :ماذا سنفعل؟ كيف سنبحث يف كتاب هللا؟ سنبدأ بتفكيكها والبحث عن دساساهتا يف
القرآن؛ ألننا على يقني أن أهل السنة واجلماعة مل يكتبوا مفاهيمهم إال أبدلة من القرآن ،لكن الشيخ هنا اختصر ،وأنت
ستُخرجني األدلة.
32
شرح اسم الحكيم
"أما كمال احلكمة :فبثبوت احلكمة له سبحانه يف خلقه ،ويف أمره ،وشرعه ،حيث يضع
يقول الشيخ-حفظه هللاّ :-
األشياء مواضعها ،ويُن ِزَلا منازَلا ،وال َّ
يتوجه إليه سؤال ،وال يقدح يف حكمته مقال".
ما معىن احلِكمة؟ أن "يضع األشياء مواضعها ،ويُن ِزَلا منازَلا" ،واحلكيم لكمال حكمته "ال َّ
يتوجه إليه سؤال ،وال يقدح
يتوجه إىل احلكيم-سبحانه وتعاىل-بسؤال، يف حكمته مقال" ،أيَ :من كان ً
عاقال اتم العقل ،ويُقبَل منه كالمه ،ستجد أنه سا َّ
وسا يقدح يف حكمته مبقال ،بل هذا من شأن السفهاء والناقصني.
وحكمته-سبحانه وتعاىل-تتجلّى:
.1يف خلقه.
.2ويف أمره.
.3ويف شرعه.
سيبدأ الشيخ اآلن يـُ َفصل؛ فهو يريد أن يُظهر لنا حكمة هللا يف َخلقه ،وبعد ذل حكمته يف أمره ،وبعد ذل حكمته يف
شرعه ،لكن اليوم ستكون املناقشة حول :حكمته-سبحانه وتعاىل-يف خلقه:
العظَمة ِِ ِ
وحسنه فاعلَهُ ،والتدبري منسوب إىل مدبّره ،وهللا تعاىل كما ال يشبهه أح ٌد يف صفاته يف َ
فالفعل يتبع يف كماله ُ
واحلُسن واجلمال ،فكذلك ال يشبهه أحد يف أفعاله".
سنبحث عن هذا املفهوم من أجل أن نعرف ما معىن" :خلق اخللق ابحلق"؟ وإىل ماذا تُشري هذه الكلمة؟
سنبدأ آبية ( )73يف سورة األنعام ،وسنبحث عن كلمة "اخللق" املتصلة "ابحلق" :قال تعاىلَ { :وُه َو الَّذي َخلَ َق
يم
احلَك َُّه َادة َوُه َو م
احلَق َولَهُ الم ُم مل ُ يـَ موَم يُن َف ُخ يف الصور َعاملُ المغَميب َوالش َ
ض اب محلَق َويـَ موَم يـَ ُقو ُل ُكن فَـيَ ُكو ُن قَـ مولُهُ م
الس َم َاوات َو ماأل مَر َ
َّ
اخلَبريُ}. م
ض اب محلَق} ،أي :أن هللا يقرر ل أنه خلق السماوات واألرض ابحلق. يقول تعاىلَ { :وُه َو الَّذي َخلَ َق َّ
الس َم َاوات َو ماأل مَر َ
اآلن سأفكر :ما هو دليلي على أن هللا خلق اخللق ابحلق؟ وما دسالة احلق على مفهوم احلكمة؟
سنجيب على هذا بعد أن جنمع أكرب عدد من اآلايت الدالة على نفس املعىن ،ونفهمها كلها.
ني
َّرهُ َمنَازَل لتَـ معلَ ُموا َع َد َد السن َ
ورا َوقَد َ
س ضيَاءً َوالم َق َمَر نُ ً قال تعاىل يف سورة يونس آية (ُ { :)5ه َو الَّذي َج َع َل الش م
َّم َ
اَّللُ ََٰذل َ إَّسا اب محلَق يـُ َفص ُل ماآل َايت ل َق موم يـَ معلَ ُمو َن}.
اب َما َخلَ َق َّ
احل َس َ
َو م
اب
احل َس َ
ني َو م
َّرهُ َمنَازَل} والغاية من ذل { :لتَـ معلَ ُموا َع َد َد السن َ
ورا َوقَد َ
س ضيَاءً َوالم َق َمَر نُ ً
َّم َ
فيها تقرير :أبنه سبحانه { َج َع َل الش م
اَّللُ َٰذَل َ }"-ذل " :اسم إشارة للشمس وللقمر وللحركة{-إَّسا اب محلَق}. َما َخلَ َق َّ
34
شرح اسم الحكيم
سنقول :هللا-سبحانه وتعاىل-خلق اخللق ابحلق ،بدليل آية سورة إبراهيم اليت تَـ َقَّرر فيها أنه-سبحانه وتعاىل-خلق السماوات
واألرض ابحلق.
أيضا ،وهي :أنه جيب علي أن ترى؛ فقوله تعاىل{ :أََملم تَـَر} معناه :أنه جيب علي أن
وآية إبراهيم هذه فيها دسالة مهمة ً
تُالحظ وأن تفكر يف هذا املفهوم العظيم :أن هللا خلق السماوات واألرض ابحلق.
ابطال .ومن
هللا-سبحانه وتعاىل-ما خلق ملوقًا إسا ابحلق ،ولكي تفهم هذه اجلملة ،سابد أن تفهم :أنه مل خيلق ملوقًا ً
املفرتض عند البحث يف القرآن عن (حكمة هللا تعاىل يف خلقه) أن َتيت هبذين املفهومني؛ ألن كلمة "حق" تقابلها كلمة
"ابطل" ،فتبحث:
ابطال.
.2وعن أدلة تنفي أن يكون هذا املخلوق ُخلق ً
لتتصوروا كيف أن هذا البحث سيعينكم وقت التدبر ،فتقرأ ودجد أن هذا املخلوق
سا زال أمامنا أدلة طويلة سنمر عليها كلها؛ َّ
ُخلق ابحلق ،فريتبط هذا مباشرة إبميان أنه-سبحانه وتعاىل-حكيم ،وهذه هي الطريقة اليت ستثبت يف قلب اإلميان هبذا اساسم.
يعين :السماء ُخلقت ابحلق .األرض ُخلقت ابحلق .ما بني السماء واألرض ُخلق ابحلق.
35
شرح اسم الحكيم
*سيُفيدان جدًّا أن نفكر يف اجلمل اليت بعدها ،ولكن مقصدي اآلن :أن منر على اآلايت ،ونرى كم تكرر يف القرآن اخلرب عن
أن املخلوقات ُخلقت ابحلق؛ ألن اإلشكال هو :أن هذه الكلمة مل تُناقش ،مل نفهم ما معناها ،وما وجه دسالتها.
{أ ََوَملم يـَتَـ َف َّك ُروا} تُشبه {أََملم تَـَر} اليت فيها األمر ابلتفكر ،وهنا سنتفكر يف أي شيء؟ سنتفكر يف أنفسنا.
ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما إسا اب محلَق} ،إ ًذا :علي أن تتفكر؛ ألن هذه الدسائل
الس َم َوات َواأل مَر َ
اَّللُ َّ
مث أتت اجلملة املقصودةَ { :ما َخلَ َق َّ
ما ُوجدت إسا من أجل أن يظهر ل احلق ،وتظهر ل احلكمة فيها.
ني * َما
ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما َساعب َ ومثلها آية ( )39-38يف سورة الدخان :قال تعاىلَ { :وَما َخلَ مقنَا َّ
الس َم َاوات َو ماأل مَر َ
امهَا إَّسا اب محلَق َوَٰلَك َّن أَ مكثَـَرُه مم َسا يـَ معلَ ُمو َن}.
َخلَ مقنَ ُ
ففي آية ( :)38نفى سبحانه أن يكون خلق السماوات واألرض وما بينهما لعبًا( .نفي اللعب)
فالسماوات واألرض ما ُخلقتا هكذا َعبَـثًا ولعبًا! وإمنا ُخلقتا ابحلق ،وللحق ،مشتملتان على احلق.
oكل مرة سيأيت يف القرآن نفي اللعب والباطل فإن ذل سيدل يف املقابل على حكمة هللا.
oكل مرة تأيت فيها أن هذه املخلوقات ُخلقت "ابحلق" إ ًذا أكيد سيظهر يل هنا آاثر اسم احلكيم؛ ألن هللا حكيم
وإثباات لكمال صفاته ،واحلق هو أن تعلم أنه ال إله إال هو.
إظهارا احلقً ،
فمخلوقاته كلها هلا حكمة ،خلقها ً
فالسماء على اتساعها ،واألرض على اخلريات اليت فيها ،وما بني السماء واألرض من ملوقات ،وما يف األرض من ملوقات،
كل ذل يشهد ابحلق ،كل ذل يشهد أن هللا كامل الصفات ،وأنه هو الذي يستحق أن يكون اإلله الذي يُعبد ،فكل
عرض هذا املعرض للتسلية!! وإمنا عُ ِرض هذا املعرض الطويل
املخلوقات اليت أمامك مبثابة معرض عُ ِرض عليك ،مل يُ َ
العريض الذي تفتح عينيك عليه وتُ ِ
غمضها عليه من أجل أن تُثبِت احلق الذي فيه .أين حنن من التفكر يف هذا؟!
اجتَـَر ُحوا
ين م اآلن سندرس ثالث آايت من سورة اجلاثية ( ،)23-22-21وسنرى دسالتها :قال تعاىل{ :أ مَم َحس َّ
ب الذ َ
َ
َّ
ض اب محلَق األر َ
الس َم َاوات َو ماَّللُ َّ
اه مم َومََاتـُ ُه مم َساءَ َما َمحي ُك ُمو َن * َو َخلَ َق َّ الصاحلَات َس َواءً َمحميَ ُ ين َآمنُوا َو َعملُوا َّالسيئَات أَ من َمجن َعلَ ُه مم َكالذ َ
َّ
َضلَّهُ َّ
اَّللُ َعلَى ع ملم َو َختَ َم َعلَى مسَمعه َوقَـ ملبه َو َج َع َل ت َمن َّاختَ َذ إ َهلَهُ َه َواهُ َوأ َ ت َوُه مم سا يُظملَ ُمو َن * أَفَـَرأَيم َ
َولتُ مجَزى ُكل نـَ مفس مبَا َك َسبَ م
اَّلل أَفَ َال تَ َذ َّك ُرو َن}.
صره غ َش َاوةً فَ َم من يـَ مهديه م من بـَ معد َّ
َعلَى بَ َ
37
شرح اسم الحكيم
يف آية ( :)21أتى اخلرب عن قوم بقوا طوال عمرهم جمرتحني للسيئات-واساجرتاح فيه زايدة على معىن اساقرتاف؛ ألن اساجرتاح
هو :اقرتاف ابستهانة مع استمرار.-
ما هي العالقة بني القوم الذين اجرتحوا السيئات ،وبني َمن اختذوا إهلهم هواهم؟ هم أنفسهم! ولكن قيل يف آية ( :)21سا
تظن أننا سنُساوي بني َمن اجرتح السيئات ،وبني َمن عمل الصاحلات؛ ألن هذا ينايف حكمة هللا احلكيم ،من املستحيل أن
يساوي بينهم سواءً يف حمياهم أو ماهتم!
تتصور أن
ض اب محلَق} ،مبعىن :هل ميكن أن َّ األر َ
الس َم َاوات َو م
اَّللُ َّ
ولكي يظهر األمر أكثر قيل ل يف آية (َ { :)22و َخلَ َق َّ
احلكيم الذي خلق السماوات واألرض ابحلق ،وظهر يف السماوات واألرض كمال حكمته ،أن جيعلهم سواءً يف حمياهم وماهتم؟!
ابلطبع سا! سا ميكن أن يساوي بني عباده الذين عبدوه وأهلوه ،وبني َمن اختذوا إهلهم هواهم!
احدا من اثنني:
كثري من يقرأ القرآن وَتتيه الدساسات يكون و ً
فهمنا اآلن أنه كلما َتيت كلمة "خلق السماوات واألرض" مع كلمة "احلق" ،إ ًذا هناك إشارة واضحة إىل وجود كالم عن
احلكمة .مث وجدان كيف أن هللا يستدل على استحالة أن يُساوي بني َمن اجرتح السيئات وبني َمن َآمن ،وبني َمن اختذ إهله هواه
وبني َمن اختذ هللاَ إهلًا؛ بدليل أن هللا-سبحانه وتعاىل-خلق السماوات واألرض ابحلق.
اخت َالف اللَّميل نذهب اآلن إىل آواخر آل عمران آية ( :)190-191قال تعاىل{ :إ َّن يف َخ ملق َّ
الس َم َاوات َو ماأل مَرض َو م
ودا َو َعلَى ُجنُوهب مم َويـَتَـ َف َّك ُرو َن يف َخ ملق َّ
الس َم َاوات َو ماأل مَرض َربـَّنَا َما اَّللَ قيَ ًاما َوقُـعُ ً
ين يَ مذ ُك ُرو َن َّ َّ
َّهار آل َايت ألُويل ماألَلمبَاب * الذ َ َوالنـ َ
اب النَّار}. ت َه َذا َابط ًال ُسمب َحانَ َ فَقنَا َع َذ َ
َخلَ مق َ
38
شرح اسم الحكيم
هم علموا أن كل هذا اخللق فيه اإلشارة الظاهرة إىل كمال حكمة هللا ،كله يدل على اسانتظام ،فهموا أن هللا حكيم ،وسيضع
كل شيء يف موضعه؛ ألهنم رأوا أن كل الدنيا تشهد على أن كل شيء ُوضع يف موضعه ،حىت أنت اي ملوق! عين ُوض َعت يف
موضعها ،أذن ُوض َعت يف موضعها ،كل شيء يف موضعه.
علموا أن كل اخللق يشهد ابحلق ،واحلق هو أَّسا يُساوى بني الظامل واملظلوم ،وسا يُساوى بني العابد هلل والعابد هلواه ،سا
مناسب له ،علموا أن أهل الطاعةٌ يستوي الصاحل مع الطاحل ،وسا املطيع مع العاصي ،سا ميكن ذل ! علموا أن لكل ُمستَـ َقر
مستقرهم اجلنة ،وأن ُجيَنَّبوا النار .هم دعوا
َّ موضعهم اجلنة ،وأهل املعصية موضعهم النار ،ففزعوا مباشرًة طالبني من هللا أن يكون
ابلنجاة من النار ،وكأهنم دعوا هللا أن يعطيهم أسباب النجاة منها.
ت َه َذا َابط ًال} معناها :أن كل املخلوقات تشهد أن كل شيء ُوضع يف موضعه.
{ َما َخلَ مق َ
وأنت ترى أن كل شيء ُوضع يف موضعه ،إسا اخللق! فرتى هذا مرفوعٌ عند الناس ،وهو عند هللا سا شيء! وهذا له مكانه
ني}( ،)1وهو نيب من األنبياء!
اد يُب ُ
ني َوَسا يَ َك ُ
وكرامة عند الناس ،وليس له كرامة عند هللا! هذا { َمه ٌ
إذًا :اخللق فقط هم الذين سا تظهر لنا هنايتهم ،لكننا نعتقد أن كل شيء موضوع يف موضعه.
مىت ستظهر مواضع اخللق؟ مواضع اخللق لن تظهر هنا ،بل ستظهر هناك ،وهذا هو اساختبار!
سا بد أن نعرف أننا يف اختبار ،ولسنا يف وضع نتائج ،وهناك فقط كل واحد سيأخذ مكانه ،ولن تأخذ موضعه النهائي إسا
بعيدا عن النار؛ أبن
هناك ،ومن أجل هذا الفهم سأل أولو األلباب هللاَ احلكيم الذي يضع األشياء يف مواضعها :أن يضعهم ً
أسبااب تبعدهم عنها.
يُ َسبب هلم ً
هبذا يكون قد اتضح ما معىن "ابحلق" ،وما دسالة خلق السماوات واألرض ابحلق على هذا املعىن.
و"ابطال".
ً عليكم اآلن أن تبحثوا عن "لعبًا"
خريا.
جزاكم هللا ً
السالم عليكم ورمحة هللا وبركاته.
40
شرح اسم الحكيم
اللقاء الرابع
41
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم على نبينا حممد وعلى آله وصحبه أمجعني.
وجل-أن
عز َّ
هذا هو لقاؤان الرابع يف سلسلة الكالم حول فقه األمساء احلسىن يف دورتنا ل-عام 1433ه ،-أسأل هللاَّ -
خصوصا وحنن ندخل
ً سبيال ملرضاته وأن جيعل إمياننا أبمسائه وصفاته سببًا لزايدة إمياننا،
جيعلها دورًة مباركة ،وأن جيعل علمنا هذا ً
على هذا الشهر العظيم "شهر القرآن" ،فكان من الواجب أن نتعلَّم عن هللا ،وعن أمسائه وصفاته وأفعاله ،فنرى آاثر هذا كله
وحنن نقرأ القرآن.
كنا قد اتَّفقنا أن طريقتنا هذه السنة ستكون تشبه طريقة السنة املاضية ،ولكن بفرق بسيط وهي أننا قرأان معىن اسم احلكيم
كله مث بدأان نبحث عن هذه املعاين يف القرآن.
بدأان يف الكالم حول اسم هللا احلكيم ،وعرفنا أن حكمة هللا تتجلَّى يف ثالثة أمور:
أوسا.
وجل-له احلكمة البالغة يف كل خلقه ،فبدأان ابحلكمة من اخللق ً
عز َّ
بدأان يف اللقاء املاضي نفهم معىن أن هللاَّ -
42
شرح اسم الحكيم
وهذا جيعلنا نفهم مسألة ليست فلسفية ،وإمنا هي مسألة مرَّكبة يف العقول ،لكن قليل َمن يلتفت إليها :العقالء يفهمون أن
وجل-جعل للعقل منافذ .عقل أين مكانه؟ مكانه يف فؤادك ،أما مَّ فهو املرتجم ،مرتجم ألي شيء؟ ملنافذ العقل ،فاهللَّ -
عز َّ
وب يـَ معقلُو َن هبَا}( .)1هل
ومن املرتجم؟ مَّ ،قال تعاىلَ { :هلُمم قُـلُ ٌ
وبصرا وفؤ ًادا ،والسمع والبصر عبارة عن منافذ للفؤادَ ،
مسعا ً
لنا ً
تعرفون ما معىن العقل؟ أي الذي يعقل ،مباذا يربطون اخليل أو اإلبل؟ يربطوهنا بعقال ،ماذا يفعلون ابلعقال؟ يشدونه لكي
تش َّد نفس ،وسا َّ
تتصرف تصرفًا غري صحيح. تتصرف تصرفًا سا يرضونه .إ ًذا ما معىن أن تعقل؟ أي :أن ُ
مينعوها من أن َّ
عقل يعقلُ ويُلج ُم ،وهذه املنافذ لو كانت يقظة ماذا ستفعل ب ؟ ستدخل عليها مشاهدات ،وهذه املشاهدات عبارة عن
تقررت إىل أن تصل الفكرة إىل درجة اليقني.
تكررت َّ
فكرة ،والفكرة كلما ّ
اإلنسان عندما يرى السما وات واألرض بتكرار لنفس املشهد ،ويرى الشمس والقمر يتداوسان بنفس األمر ،ماذا يعقب هذا
عامل هذه األمور أبسلوب اإللف والعادة فإن العبد سيغفل ملن كان بصريا؟ سيعقبه اليقني ،لكن مىت؟ إذا َّ
تفكر .لكن عندما تُ َ ً
عن أن كل شيء حول ه انطق ،فالشمس تقول له :أان سا أحتول من املشرق إىل املغرب بنفس الطريقة وبنفس النظام ألين أستطيع
علي! والقمر يقول :أان سا أحتول من هالل مولود إىل بدر كامل ،مث إىل املوت مرة أخرى فأعود
قائم َّ
ذل ،وإمنا ورائي من هو ٌ
هالسا إسا وهناك من يبدل حايل! والسماء تنطق قائلةً ابحلق :أان سا أكون موجودة بغري عمد ،وسا أسقط على األرض إسا وهناك
ً
وسرت علي كما تريد؛ ألن هناك من ذللين!
َ من ميسكين! واألرض تنطق قائلةً ابحلق ،شاهد ًة على كمال هللا :ذُللت ل ،
والفل دجري يف البحر واملاء يدفعها ،فتُحفظ على سطحه ،واهلواء حيركها فتسري وسا تظل راكدة!
ينطق ابحلق ملن كان له مسع ،ملن كان له بصر ،ملن كان له فؤاد يقظ ،كل شيء ينطق ابحلق دسالةً على
كل شيء حولنا ُ
غافال عنه! وإمنا
وجل-ما جعل هذا املعرض يتكرر علي لتكون ًعز َّاحلق ،وكل شيء ُوضع يف موضعه ليدل على احلق ،فاهللَّ -
ُكرر ع مرضه علي لتعرتف ابحلق.
هل اتضح لكم ما معىن أن السماوات واألرض ُخلقتا ابحلق؟ أنت أُمرت أن تعرف أن هذا اخللق كله ُخلق ابحلق ،وهو
مشتمل على احلق.
ٌ
سأشرح اجلملة الثانية-مجلة :كل املخلوقات مشتملة على احلق ،رمبا توصالنكم كلتا اجلملتان إىل املعىن:
وجل-خلق كل املخلوقات ابحلق ،وكل املخلوقات مشتملة على احلق ،وقولنا "ابحلق" أي :أن كل املخلوقات شاهدة
عز َّ
هللاَّ -
ل ابحلق.
ما هو أحق احلق؟ أن هللا كامل الصفات ،أنه حي ،أنه قيوم ،أنه علي ،أنه عظيم ،أنه-سبحانه وتعاىل-الذي يستحق التأليه،
ابطال مبجرد الصدفة ،وإمنا ُوجدات
هذا هو احلق الذي تشهد به كل املخلوقات ،فلما ُوجدت السماوات واألرض ما ُوجدات ً
للشهادة على احلق ،أترى كيف أن الشمس معتدلة ،تسري مسريها سا خترج عنه؟ هذا يدل على أن هناك َمن يسريها.
وجل-يقول عن
عز َّ
أن تشهد ابحلق ،وهلذا هللاَّ - هذه األشياء ابحلق ،وكان الواجب علي إذا فهمت هذا شهدت ل
الذين آمنوا{ :إسا َم من َشه َد اب محلَ َّق َوُه مم يـَ معلَ ُمون}( ،)1مباذا ُوصف املؤمنون؟ ُوصفوا أبهنم َشهدوا ابحلق ،أتدري ما احلق؟ احلق:
أحد أمساء شهادة "سا إله إسا هللا" ،فيقول-سبحانه وتعاىل{ :-إسا َم من َشه َد اب محلَ َّق َوُه مم يَـ معلَ ُمون} َمن شهد ابحلق :أي :شهد
ب"سا إله إسا هللا" ،وشهادته ابحلق كانت من وراء ما رأى من السماوات واألرض وما بينهما اللتان ُخلقتا ابحلق ،واشتملتا على
احلق.
أصال إلظهار وجل-يتكلَّم يف أول السياق-يف اآلية السادسة عشر-عن الذين كفروا و َّ
كذبوا ابآلايت اليت ُوجدت ً عز َّ هللاَّ -
احلق ،ومن مث إذا َّ
كذبوا آبايت هللا سيكذبون بلقاء اآلخرة.
يف اآلية السابعة عشر والثامنة عشر ماذا ستفعل :سبح وامحد ،وُكن من الشاكرين احلامدين .ملاذا تُسبح وأنت قيل ل
وحتمد؟ لما ترى من اآلايت.
وسا بد أن ستلقاه.
وَتمل فقط يف إخراجه للحي من امليت ،وإخراجه امليت من احلي ،ومنوذج ذل دجده يف األرض :من إحيائه األرض بعد
موهتا ،أسا يدل هذا على احلق؟ احلق الذي سيدل عليه ذَكره هللا يف قولهَ { :وَك َذل َ ُختمَر ُجو َن} ،فأنت من املفرتض أسا َتتي
وجل -سيعيدك يف اليوم اآلخر ،ملاذا؟ ألن كل نبتة يف األرض تشهد على هذا احلق ،كل نبتة تقول عز َّحلظة ش يف أن هللاَّ -
علي هذا املاء امليت فأحياين هللا! فكما أن هذه األموات
يف ،فأُلقيت يف هذه األرض امليتة ،ووقع َّ
كنت نواة ميت ًة سا حياة َّ
ل ُ :
مطرا
ً رميما يف تربة ،وسينزل علي
اجملتمعة-من الرتبة ،واألرض ،واحلبة ،واملاء-ملا اجتمعت أحياها هللا ،فكذل أنت ستكون ً
كمين الرجال( ،)2فيحيي هللا { َوَك َذل َ ُختمَر ُجو َن}.
َ
ين َك َف ُروا َوَك َّذبُوا آب َايتنَا َول َقاء َّ
إ ًذا :كل نبتة يف األرض تشهد ل ابحلق ،واحلق هنا هو البعث ،كما أتى يف السياقَ { :وأ ََّما الذ َ
ماآلخَرة}.
شخصا مستيقظًا ،كما سيأيت الوصف يف اآلايت: ً الغافل الذي يعيش يف العادة واإللف لن يرى شيئًا من هذا ،حنن نريد
{ل َق موم يـَتَـ َف َّك ُرو َن}({ )1ل َق موم يـَ معقلُو َن}( ،)2فإذا كنت متيقظًا فعلى قدر الشجر الذي تراه أُحيي بعد املوت سيكون يقين ،وختيَّل
عندما يتكرر علي هذا املنظر ،وأنت يف كل مرة تعيد على نفس نفس املفهوم ،أي استقرار ألمر الدار اآلخرة والبعث سيكون
مستقرا عندك مثل اجلبال!
ًّ يف قلب ؟! سيكون اليقني
كم مرة مررت على رصيف؟ هل تعرفون كيف يُبىن الرصيف؟ الرصيف هذا فيه إمسنت ،واإلمسنت أقوى ما اخرتعه اإلنسان،
يصبون اإلمسنت مث يضعون عليه البالط الذي تراه ،مث ماذا خيرج من هذا اإلمسنت ومن البالط؟ خترج نبتة!! كيف تشق هذا
أيضا
كبريا لتصل إىل الداخل ،وقد سا تتمكن ً
جهدا ً
ً كله؟! أنت لكي تشق هذا املكان ستأيت آبلة للحفر ،وسيتطلب هذا من
من شقه مع هذا كله! لكن يشقه املل ،الذي سيشق األرض ،وسيُخرج هذه األجساد .أليست هذه آية؟ كم مرة رأيتها؟
املفرتض بعدد هذه املرات وتفكريك نفس هذا التفكري تصل إىل اليقني أنه من املستحيل أن مير خباطري أنين لن أخرج يوم
القيامة ،سيُخرجين هللا ،وهو على كل شيء قديرَ { ،وَك َذل َ ُختمَر ُجو َن}.
كل شجرة تشهد ل هبذا احلق ،وستسري بنفس هذا السري يف كل شيء ،وأنت تقرأ يف القرآن سيُقال ل :هذا يشهد ل
بكذا ،وهذا يشهد ل بكذا ،حبيث دجتمع كل أركان اإلميان يف قلب ،وأعظم أركان اإلميان :معرفة هللا مث َتليهه وتعظيمه وحمبته،
هذا هو احلق الذي من أجله ُخلقت السماوات واألرض وما بينهما.
قد تأتي شخص وأنت غافل فيقول ل :ما الذي أدراك أن يوم القيامة سيكون؟ من الذي قال ل هذا؟ مثل هذا السهم
مقتال في .
َتملت فيما حول من اآلايت الدالة على احلق ،قد يصيب ً
الذي يُرسل إلي وأنت غري مستعد له ،ومل تكن قد َّ
تتحصن منه؟
َّ َمن الذي ُخيرج هذا السهم املسموم من القلب إذا مل
ضروري جدًّا أن هتتم هبذا النوع من النصوص فتربزه لنفس ،وأان أعرف أن اإلميان ابهلل وبربوبيَّته مستقر بفضل هللا ،ولكن
َمن يضعف سالحه يغلبه عد ُّوه ،فأنت اآلن من املفرتض أن تتسلَّح وتستعد ملثل هذا الكالم.
بشر منتشر ستعود إىل الرتاب ،مث يعيدك مرًة أخرى من هذا
منتشرا؟ أنت اآلن ٌ
بشرا ًما العالقة بني الرتاب وبني كون اآلن ً
الرتاب ،فكما انتشرت مرةً أوىل ستنتشر مرةً أخرى.
كثريا يف هذا ،لكين أقوله لكم اآلن ابختصار؛ ألن مقصدي هو أن أصل فقط إىل هذه اجلملة :أن هللا
كالما ً
املفسرون ذكروا ً
مشتمال على احلق.
ً خلق اخللق ابحلق،
وجل-هو الذي جعل بني كل زوجني املودة والرمحة اللتان سببَّتا استمرار احلياة الزوجية.
عز َّ
هللاَّ -
47
شرح اسم الحكيم
استمرت حياهتم مستقرة ماذا سرتى يف استقرارهم؟ سرتى آية ،وتقول :إن الذي
َّ وهذا معناه أن حينما تنظر إىل كل من
أبقى هذه احلياة الزوجية مستمرة هو هللا ،واملودَّة والرمحة اليت بينهما إمنا هي من عطاَّي هللا.
وهذه اآلية-اليت هي آية بقاء البيت الزوجي-تبني ل أن ملوقاته مشتملة على احلق ،مبعىن :أن بقاء املودة والرمحة وبقاء
البيوت دليل على أن الذي يبقيها هو هللا ،أما اإلنسان سا يستطيع هو بنفسه أن يبقيها هذا العمر كله.
وساحظي قوله تعاىل يف آخر اآلية{ :إ َّن يف ذَل َ َآل َايت ل َق موم يـَتَـ َف َّك ُرو َن}َ ،من الذي سيشعر أن هذه اآلية مشتمل ًة على
احلق؟ الذي يتفكر.
()1
ف أَلمسنَت ُك مم َوأَلم َوان ُك مم إ َّن يف َذل َ َآل َايت ل مل َعالم َ
ني} اخت َال ُ
الس َم َاوات َو ماأل مَرض َو م
آايته َخ مل ُق َّ
ومثلها قوله تعاىلَ { :وم من َ
.2اختالف األلسن.
.3اختالف األلوان.
اختالف األلوان ما معناه؟ ما معىن أن هذا اللون الذي نراه هو إشارة إىل احلق؟ حنن سا زلنا على نفس الكالم :أنه سبحانه
مشتمال على احلق .فلون ولون جارك يدل على أن ملوقاته مشتملةٌ على احلق ،فقد يكون هؤساء من نفس
ً خلق اخللق ابحلق،
البيئة ،ومن نفس العائلة ،وقد تقرتب أكثر فرتاهم إخو ًاان مث ترى درجة بسيطة من اساختالف ،على ماذا يدل هذا؟ يدل على
وجل-خيلق ما يشاء وخيتار ،فليس من أجل أن هؤساء من عائلة واحدة وهذه هي صبغتهم إذًا سابد أن خترج
عز َّ
احلق ،وأن هللاَّ -
أشكاهلم هكذا! سا! ليس هكذا! بل هللا خيلق ما يشاء وخيتار ،وابدأ من العائلة قبل أن تبدأ من البعيدين عن بعضهم ،ابدأ من
العائلة الواحدة وانظر هل َتيت درجتهم واحدة؟ سا ،سا َتيت درجتهم واحدة! سبحان هللا! وحىت التوائم قد سا َتيت درجة ألواهنم
واحدة ،وكل هذا مشتمل على احلق.
لو كنت َن يرى اخللق بعني البصرية لرأيت اختالف األلوان يشهد هلل ابحلق ،فدرجة اساختالف هذه بني مبعىن أن
األلوان دجعل تؤمن أنه وحده الذي خلق ،وهو وحده الذي خيلق ما يشاء وخيتار .كم مرة مرت علي األلوان؟ عدد سا هنائي،
كل مرة يُقال ل فيها :هذا التكرار الذي حيصل ،هذا التكرار الذي أوصل إىل حد اإللف ،جيب أن تتبصر فيه ،وتراه آية،
فالذي خلق هذا األبيض الذي قد يُزعج النظر إليه ،وخلق هذا األسود الذي قد سا يكون له يف نفس مكان ،الذي خلق
هذا وهذا هو املل العظيم-سبحانه وتعاىل ،-الذي خيلق ما يشاء وخيتار ،أما ما حيصل يف قلب من انزعاج من األلوان اليت سا
تناسب إمنا هو من صد الشيطان ل عن التفكر.
ومن آايته-سبحانه وتعاىل-ما هو أعجب من ذل :عندما تسمع األلسنة واختالفها ،ويقال ل :إن هناك أكثر من ثالثة
عشر ألف لغة حيَّة يف العامل يتداوهلا الناسَ ،من علَّمهم؟ أليس هذا سؤ ًاسا جيب أن نسأله أنفسنا؟! هؤساء العرب َمن علَّمهم؟
والعجم َمن علَّمهم؟ والفرس َمن علَّمهم؟ واهلند َمن علَّمهم؟ والروم َمن علَّمهم؟ واألفارقة َمن علَّمهم؟ وهكذا ،سا يوجد أحد
اخرتع لغته ،كلهم علَّمهم هللا.
فاختالف األلسنة من آايت هللا ،هو الذي ألقى ذل يف نفوسهم ،وعلَّمهم كيف يتكلَّمون ،مث استعملوها وأحيوها وكثَّروها
وعاملوها ،بل هو الذي وضع يف فطرة اإلنسان أن يُسمي كل شيء ،وعلَّمه ذل ،فهذا من عظيم آايته اليت تدلَّ على احلق
الذي وراءها.
كثريا ما تسمعه يف الكالم ،إسا اللغة العربية فإهنا لغة مستقيمة ،سا تشعر
ميزا ،حرفًا ً
غالب اللغات سا بد أن يكون فيها حرفًا ً
األذن حبرف معني يكثر مساعه فيها ،وإمنا تشعر ابستقامتها ،وهي لغة أهل اجلنة اليت اختارها هللا هلم ،وحنن سا نتمدح يف العربية
ألننا عرب! وإمنا هي اختيار هللا ،خيلق ما يشاء وخيتار.
مباشرة أن هؤساء من هنا وهؤساء من هنا بسبب طريقة عندما تسمع هذه النربات املتباينة ،اليت تبني ل واملقص د :أن
كالمهم ،فإنه سا بد أن يتبادر إىل ذهن هذه األسئلةَ :من علَّمهم؟ َمن جعل ألسنتهم هبذه الصورة؟ َمن جعل سا تستطيع أن
تتحدث بلغتهم إسا عندما يعوج لسان هلم؟ َمن فعل هذا؟ هللا ،وهلذا اختالف األلسنة آية.
49
شرح اسم الحكيم
والتنافس على دراسة اللغة اآلن هو تنافس للتفاخر بني الناس ،وتُركت شهادة هذه اللغات املختلفة على أن هللا هو احلق!!
تُركت هذه الشهادة! وأصبح كل التفكري يف نفس اللغة! ألسنا نعيش يف متام الغفلة والسبات؟! ابلرغم من أننا نقرأ سورة الروم،
فهي ليست ابألمر البعيد عنا ،أو أهنا أمر سا نستطيعه.
ضله إ َّن يف َذل َ َآلايت ل َق موم يَ مس َمعُو َن}(.)1 آايته َمنَ ُام ُك مم ابللَّميل َوالنـ َ
َّهار َوابمتغَا ُؤُك مم م من فَ م مث قال تعاىلَ { :وم من َ
هذه هي النعمة العظيمة اليت يعايشها الناس مث يُناقضوهناَ { :منَ ُام ُك مم ابللَّميل} ،وابتغاؤكم الفضل ابلنهار.
مث من املؤكد أنه سيتبادر للذهن سؤال :ملاذا {إ َّن يف ذَل َ َآلايت ل َق موم يَ مس َمعُو َن}؟ هل قوله تعاىل{ :ل َق موم يَ مس َم ُعو َن}
يناسب الليل أم النهار؟ املفرتض أن السمع يناسبه الليل؛ ألن الَّليل وقت للسكون ،فيُسمع فيه من الضجيج ما سا يُسمع يف
النهار ،والنهار من الطبيعي أن يكون فيه آية اإلبصار .وهذا التفنن العجيب سيأتينا الكالم عنه يف سورة النحل ،وسيأتينا-إن
أيضا يف بقية التدارس.
شاء هللاً -
املقصد اآلن :أن هللا يقول ل :إن كل هذه اآلايت ما ُوجدت إسا ابحلق ،وهي مشتملة على احلق.
وجل.-
عز َّ
oكمال صفات هللاَّ -
oووجوب لقائه.
وأهنا كلها مشتملة على احلق :مبعىن أن كل اآلايت يظهر فيها كمال صفات هللا.
فتأمل خلق
وجل-يف خلق السماوات واألرض وما بينهما وما يف األرضّ ،
عز َّ
قال ابن القيم-رمحه هللا" :-من آَّيت هللاَّ -
علوها ،وارتفاعها ،وسعتها ،وقرارها ،وال َع َمد ِ
كرة ،كيف تراها من أعظم اآلَّيت يف ّ
كرةً بعد ّ
السماء ،وارجع البصر فيها ّ
حتتها ،وال عالقة فوقها ،بل هي َسوكة بقدرة هللا الذي ُميسك السماوات واألرض أن تزوال".
51
شرح اسم الحكيم
السماء املخلوقة فما صفة خالقها؟ ومن هنا سيظهر اشتماهلا على احلق ،فهي مشتملة على أن خالقها قادر ،له كمال القدرة،
عظيم ،له كمال العظمة ،قوي ،بديع ،وستعدين من أمساء هللا وصفاته ما يناسب خلق هذه السماء .ضعي أمساء هللا أمام ،مث
انظري إىل السماء ،وقويل :ماذا يتجلَّى يف السماء من اآلايت؟ على ماذا تشتمل السماء يف تفاصيلها من آايت؟
مشتمل على احلق ،كل ملوق يقول ل :هللا عظيم، ٌ إذًا :هللا خلق كل ملوق حلكمة ،كل ملوق ينطق ابحلق ،كل ملوق
آايته }...قويل :ما أبرز هللا آايته يف
وجل-ل يف القرآنَ { :وم من َ
عز َّ
قادر ،قوي ،عليم ،قيوم ،له املل .فما أن يقول هللاَّ -
القرآن إسا ليُخربان أنه موصوف هبذه الصفات ،وهذا من حكمته أن جعل كل شيء انطق بكمال صفاته ،وما خلق ملوقًا إسا
هلذه احلكمة.
وجل-ما خلق خملوقًا إال وله حكمة :إما االنتفاع أو االستمتاع أو
عز َّ
ستخرج بنتيجة مهمة وهي :أن هللاَّ - مث إن
وجل-فيه هذه األمور أو بعضها. االعتبار ،سا يوجد ملوق إسا وجعل هللاَّ -
عز َّ
وكمثال على ذل :كانت احلكمة من النمل وبيوته إىل زمن قريب هي اساعتبار فقط ،إىل أن جاء "محض النملي " فأصبح
نوعا من أنواع اساستمتاع؛ ل َما
هناك انتفاع ،مث أن َمن َتملها ،وَتمل حركتها ،وَتمل كيف أهنا لو كذبت قتلوها ،ستصبح هلا ً
يراه من هذا املخلوق العجيب .وإذا أردت احلقيقة فإن كل املخلوقات فيها احلكمة أبنواعها الثالثة ،إسا أن بياهنا خيتلف حبسب
األزمنة.
مشتمال على
ً هذه هي النتيجة اليت سنخرج هبا ،وكل هذا ذكرانه لكي نوضح كلمة واحدة وهي" :أن هللا خلق اخللق ابحلق،
احلق".
أتمل استواءها واعتداَلا ،فال ص ْدع فيها ،وال فَطْر ،وال ش ّق ،وال ْأمت ،وال ِع َوج .مث
اتبع كالم ابن القيم-رمحه هللا" :-مث ّ
أتمل ما و ِ
ض َعت عليه من هذا اللون الذي هو من أحسن األلوان ،وأش ّدها موافقة للبصر ،وتقوية له". ُ ّ
اآلن سيظهر الكالم حول لون السماء ،وكيف أنه "من أحسن األلوان ،وأش ّدها موافقة للبصر ،وتقوية له" ،واملعىن :أن
سا تنزعج ابلنظر إىل لوهنا ،سبحان هللا! ويذكر ابن القيم أن من طبهمَ :من وقع يف الكاللة أو ضعف البصر ،فلينظر إىل السماء
الزرقاء ،أو ينظر إىل اخلُضرة ذات السواد ،وكلها ملوقاته-سبحانه وتعاىل.-
52
شرح اسم الحكيم
أتمل حال الشمس والقمر يف طلوعهما وغروهبما إلقامة دوليت الليل والنهار ،ولوال طلوعهما لبَطُل أمر العامل،
قال" :مث ّ
ويتصرفون يف أمورهم والدنيا مظلمة عليهم؟! وكيف كانوا يتهنّون ابلعيش مع فَـ ْقد
ّ وكيف كان الناس يسعون يف معائشهم
السبات ،ومجوم
أتمل احلكمة يف غروهبما؛ فإنه لوال غروهبما مل يكن للناس هدوء وال قرار ،مع فَـ ْرط احلاجة إىل ُّ
النور؟ مث ّ
احلواس ،وانبعاث القوى الباطنة ،وظهور سلطاهنا يف النوم املُعني على هضم الطعام ،وتنفيذ الغذاء إىل األعضاء".
"أتمل حال الشمس والقمر يف حتول اآلن إىل آية أخرى غري السماء واألرض ،حتول إىل آية الشمس والقمر ،فقالّ :
طلوعهما وغروهبما" ،ماذا ستجد؟ ستجد أن دولة أُقيمت بسبب طلوع الليل والنهار ،فلو ما ُوجد الشمس والقمر لَ َما ُوجدت
األايم ،ولو ما ُوجدت األايم لَ َما ُوجدت احلياة؛ ولبَطُل أمر العامل كله! وهذا معىن :أن الدول تُقام بسببهما .ف(الشمس والقمر)
وجل-جعل وقت الشمس هو وقت املعائش ،وجعل وقت القمر هو
عز َّ
اللذان مها آلَيت (الليل والنهار) يساواي :حيات ،وهللاَّ -
وقت اهلدوء والسكون الذي أنت حباجة إليه.
فرع من ذلك :أن هللا ح ًقا موصوف و ِّ فكل هذا اخللق يدل
بكمال القدرة ،أن هللا ح ًقا موصوف بكمال على أن هللا يستحق
العلم ،أن هللا ح ًقا موصوف بكمال العظمة،
األلوهية.
وع ّْد
أن هللا ح ًقا موصوف بكمال اللطفُ ،
كل ما يُوصف به-سبحانه وتعاىل.-
53
شرح اسم الحكيم
وجدان أن كلمة "ابحلق" ُكررت يف القرآن للمخلوقات ،ويف كل مرة تقرأ فيها أن هللا خلق املخلوقات ابحلق ،كأنه يقال
ل ُ :خل َقت هذه املخلوقات لتشهد ل أن الذي يستحق األلوهية ومن مث العبادة هو هللا ،الذي يستحق أن يتَّجه قلب وفؤادك
وانكسارك وذل له هو هللا.
كلَّما قرأت أن هللا خلق السماوات واألرض وما بينهما ابحلق ،وخلق كذا وكذا ابحلق :ستفهم أن هذا إشارة إىل
احلكمة.
آايته{ }...لَ َعلَّ ُك مم تَـتَـ َف َّك ُرو َن} {ل َق موم يـَتَـ َف َّك ُرو َن} ستفهم أن هللا خيربك أنه حكيم ،ما
كلما قرأت قوله تعاىلَ { :وم من َ
جعل هذه اآلية موجودة أمام عيني إسا من أجل أن ترى آاثر كمال صفات هللا فيها:
وهكذا...
ابطال ،وإمنا
كل املخلوقات عندما تُذكر ل يف القرآن ،ويُذكر ل أهنا من آايته ،معىن ذل :أهنا ما ُخلقت لعبًا وسا ً
ُخلقت ل آيةُ ،خلقت ل ابحلق من أجل أن تراها ،وتتأملها ،وتتدبَّرها ،وتقلبها ،فتشهد هلل أنه كامل الصفات.
هذه هي احلكمة من وجود كل هذه املخلوقات اليت حول ،هذه احلكمة من خروج شجرة يف صحراء! هذه احلكمة من
ايحا حترك ل األوراق على أغصان
ايحا حترك ل ورق الشجر الذي على سطح األرض ،مث دجد ر ً
وجود رايح عجيبة! ترى ر ً
ايحا تَـ ُهب على السحاب ،سبحان هللا! كيف تنزل الرايح من فوق إىل حتت
الشجر دون أن تنزل إىل األرض ،مث ترى ابألعلى ر ً
غبارا ولكن يف السماء ،بقي فيها معلَّ ًقا ،محله
أحياان نرى ً
مث حترك فقط ما على األرض من أوراق ،وسا ُحترك ما على الشجر! و ً
اهلواء ،ومل ينزل على الناس ،هذا كله ما حصل إسا ابحلق؛ ليشهد ل أن هللا على كل شيء قدير.
وأهل جدة هلم سنتان تأتيهم السيل ،مث يتكلَّمون ،ويطلقون ألسنتهم ،ويقولون :استعدوا للسيل الثالث! مث ماذا حدث؟! مل
خريا.
َتهتم وسا نقطة مطر؛ هذا لتعلم أن كل شيء خبلقه واختياره .وإذا قلت إلحداهن :اسأيل هللا اللطف ،قويل :اي رب اسقنا ً
54
شرح اسم الحكيم
تقول ل :سا! سا تصلوا حىت صالة اساستسقاء! هذا هو الكالم الذي يقوله السفهاء الذين سا يعلمون أن هللا حكيم ،يفعل ما
احلق الذي تشري إليه:
يشاء وخيتار-نسأل هللا أن يسقينا ويسقي املسلمني! .-واملقصد :أن اخللق إذا ما رأوا يف ملوقات هللا َّ
فإهنم حينئذ مل يعلموا معىن اسم هللا احلكيم ،الذي خلق كل ملوق ،وأودع فيه دسالته على احلق ،فكل املخلوقات ُخلقت ابحلق،
مشتملة على احلق.
خريا.
جزاكم هللا ً
55
شرح اسم الحكيم
اللقاء اخلامس
56
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على سيدان حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
رب اشرح يل صدري ،ويسر يل أمري ،واحلُل عُقدة من لساين يفقهوا قويل!
وجل-حكيم ،ومن حكمته أن يضع األشياء مواضعها ،وهذه احلكمة تظهر يف:
عز َّ
بدأان يف الكالم حول احلكمة ،فاهللَّ -
خلقه.
اتفقنا أن هللا خلق املخلوقات ابحلق ،ومشتملةً على احلق ،وكان هنايته وغايته احلق.
أيضا ابألمس يف بداية الكالم عن معىن "مشتملة على احلق" ،وسأشري سر ًيعا إىل معىن أن
انقشنا معىن "ابحلق" ،وتناقشنا ً
"غايته احلق" ،مث سأنتقل إىل أن هللا-سبحانه وتعاىل"-حكيم يف شرعه" ،و"حكيم يف أمره" .سنتكلم يف نصف األسبوع القادم-
إن شاء هللا-عن احلكمة يف شرعه-سبحانه وتعاىل-؛ ألبني لكم بعض مناذج احلكمة يف شرعه ،مث سيأتينا الكالم عن حكمة هللا
يف كل أمره.
وجل-يُشهدك به أنه يستحق التأليه .فأنت إذا فككت هذا املخلوق وقلبت
عز َّ
"مشتمال على احلق"؟ أي :أن هللاَّ -
ً ما معىن
النظر إليه سرتى اشتماله على الشهادة أبن هللا-سبحانه-يستحق التأليه.
57
شرح اسم الحكيم
تعظم هللا وحتبه ،فتدعوه ومعىن التأليه :التعظيم واحملبة ،ودعاؤه سبحانه وتعاىل-دعاء عبادة ودعاء مسألة ،-مبعىن أن
وترجوه.
ماذا يُراد من ؟ يُراد من أن تنظر جلميع املخلوقات على أهنا مشتملة على احلق؛ ليقع يف قلب َتليه هللا .وكل واحد منا له
القدرة على هذا التفكري-تفكري حتليل املخلوقات-على حسب اجتهاده يف أمرين:
يتخصص يف التعلم عن أمور الدنيا ،فيبدأ يكتشف أثناء تعلمه أن هذه املخلوقات هي شواهد على
َّ األمر األول :أن
احلق .فيقول :نعم هذا شاهد ،وهذا شاهد...
أن تتأمل أنت بنفس ،فتنجح يف ذل نتيجة ختصص وتفكريك بعمق ،تنجح يف ذل ألن شديد املالحظة.
مثال :تطبخني فتتساءلني :هذه النار من أين يل هبا؟ من الغاز .هذا الغاز من أين يل به؟ وهذا الكربيت من أين يل به؟
ً
وهكذا ، ...أو تذهبني للحرم املكي ،ودجدين يف املطاف أن األرض ابردة ،فتسمعني من يقول :أن حتت هذا تكييف .وآخر
أن هذا نوع من الرخام الذي خلقه هللا ،موجود كما هو يف جبال يف يقول :إ ن هذا من اساخرتاعات .مث تفهمني بعد ذل
سويسرا ،إسا أهنم يُدخلون عليه بعض التحسينات اليت تعكس حرارة الشمس ،فيحوهلا إىل برودة تستمتع أنت هبا أثناء سريك يف
احلرم-وهذا من فضل هللا علينا ،أسأل هللا أن يرفع راية التوحيد! وأن يُقيم هذه الدولة ويُبقيها! ،-فأنت لو كنت شديد املالحظة
مشتمال على احلق.
ً ستبدأ هبذا التفكري! تفكر فتجد أن كل شيء يشهد هلل ابحلق،
الطريق الثاين :قضية َمن يعلم ،والشرط هنا أن يكون هذا العامل عال ًما مبا يتكلم به ،سا يلفق احلقائق ،وسا يلوي عنق
النصوص ليخرج ابملسائل ،وإمنا يتكلم عن علم ،وخربة ،وصدق ،ودراية مبا يقول.
وابن القيم-رمحه هللا-تكلم يف جزء كبري من كتابه "مفتاح دار السعادة" عن هذه املسألة ،وقد أخذان بعض الكلمات لكي
وجل-ابحلق ،وأنه
عز َّ
وجل ،-وأن كل شيء يشهد هللَّ -
عز َّ
ترتب لنا طريقة التفكري يف التفكر ،فتتفكر مث ترى آاثر حكمة هللاَّ -
يستحق التأليه.
وخص الليل بذ ْكر السمع؛ ألن سلطان وتصرفه، خص سبحانه النهار ِ
بذكر البصر؛ ألنه حملّه ،وفيه سلطان البصر
ّ ّ ّ
وُخود احلركات ،وقوة
سمع فيه احليواانت ماال تَسمع فيه ابلنهار؛ ألنه وقت هدوء األصواتُ ،
السمع يكون ابلليل ،وتَ ُ
سلطان السمع ،وضعف سلطان البصر ،والنهار ابلعكس فيه قوة سلطان البصر ،وضعف سلطان السمع.
اَّلل علَي ُكم اللَّيل سرم ًدا إِ َىل يـوِم ال ِْقيام ِة من إِلَهٌ غَيـر َِّ
اَّلل ُْ َْ َ َ َ ْ فقوله{ :أَفَ َال تَ ْس َمعُو َن} راجع إىل قوله{ :قُ ْل أ ََرأَيْـتُ ْم إِن َج َع َل َُّ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َ
ضيَ ٍاء أَفَ َال تَ ْس َمعُو َن}.
أيْتِي ُكم بِ ِ
َ
اَّلل علَي ُكم النـَّهار سرم ًدا إِ َىل يـوِم ال ِْقيام ِة من إِلَهٌ غَيـر َِّ ِ
اَّلل ُْ َْ َ َ َ ْ وقوله{ :أَفَ َال تُـ ْبص ُرو َن} راجع إىل قوله{ :قُ ْل أ ََرأَيْـتُ ْم إِن َج َع َل َُّ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ
أيْتِي ُكم بِلَْي ٍل تَس ُكنُو َن فِ ِيه أَفَ َال تُـ ْب ِ
ص ُرو َن}. ْ َ
َّه َار ِخ ْل َفةً ِ ِ ِ ِ قال تعاىل{ :تَـبار َك الَّ ِذي جعل ِيف َّ ِ
ريا * َو ُه َو الَّذي َج َع َل اللَّْي َل َوالنـ َ
اجا َوقَ َم ًرا ُّمن ً
وجا َو َج َع َل ف َيها س َر ً
الس َماء بـُ ُر ً ََ َ ََ
ورا}(.)1
اد ُش ُك ً لِّ َم ْن أ ََر َ
اد أَن يَ َّذ َّك َر أ َْو أ ََر َ
حمبوب
ٌ أحدا ويعظمه ،سابد أن يَعرض مثل هذه اآلايت على نفسه ،فيقول هلا :هذا وعلى ذل انظر إىل كل من حيب ً
معظَّم ،وأشعر دجاهه أنه قبلةُ قليب ،مث آيت فأقرأ القرآن فيعاجل القرآن قليب ،كيف ذل ؟! يسألين هللا :إن جعلت الليل ً
سرمدا ،ماذا
سيفعل ل هذا الذي حتبه وتعظمه؟ أنت تعلم أنه لن يفعل ل شيئًا! فهذا شاه ٌد على أن هللا هو احلق ،الذي يستحق أن
َيؤلَّه ،وغريه سا يستحق.
أيضا .تعال-على سبيل املثال-إىل من يؤله وإذا أتيت إىل األشخاص الذين يُؤهلون غري هللا فسيتوجه إليهم هذا السؤال ً
اَّللُ َعلَمي ُك ُم اللَّمي َل َس مرَم ًدا}
أيت {إن َج َع َل َّ
"بوذا"-أي :حيبه ويعظمه ،وم من َمث يتوجه إليه بدعاء املسألة ودعاء العبادة ،-واسأله :أ ََر َ
هل سيَـ ُرد علي النهار "بوذا" هذا الذي َتؤهله؟! من املؤَّكد أن اجلواب :سا.
اذهب إىل اهلندوس ،الذين يؤهلون البقر-أي :حيبوهنا ،ويعظموهنا ،ويتوجهون هلا ابلدعاء ،!!-واسأهلم{ :أ ََرأَيمـتُ مم إن َج َع َل َّ
اَّللُ
َعلَمي ُك ُم اللَّمي َل َس مرَم ًدا إ َ َٰىل يـَ موم المقيَ َامة} ماذا ستفعل لكم بقرتكم؟! َمن سيأتيكم بضياء؟ هل ستفعل لكم شيئًا هذه اليت َتؤهلوهنا؟
اجلواب :سا.
إذًا :كل ما حول يشهد ل مباذا؟ يشهد ل أبن هللا هو اإلله الذي يستحق التأليه.
ويف اآلايت أحد األدلة الدقيقة اليت تشهد على َتليه هللا:
َّه َار َس مرَم ًدا إ َ َٰىل يقول-سبحانه وتعاىل{ :-أَفَ َال تَ مس َمعُو َن} يف احلديث عن الليل ،وقال{ :قُ مل أ ََرأَيمـتُ مم إن َج َع َل َّ
اَّللُ َعلَمي ُك ُم النـ َ
اَّلل َتأمتي ُكم بلَميل تَ مس ُكنُو َن فيه أَفَ َال تـُمبص ُرو َن} يف احلديث عن النهار ،مع تكرار نفس السؤال. يـَ موم المقيَ َامة َم من إَٰلَهٌ َغميـ ُر َّ
ملاذا أتت {أَفَ َال تـُمبص ُرو َن} مناسبة للنهار ،و{أَفَ َال تَ مس َمعُو َن} مناسبة للَّيل؟
خواتيم اآلايت كلها تدل على أن هذا القرآن من لَ ُدن حكيم خبري-سبحانه وتعاىل.-
أتمل احلكمة يف طلوع الشمس على العامل ،كيف ق ّدره العزيز العليم سبحانه! فإهنا لو كانت تطلع يف موض ٍع من
قالّ " :
السماء فتقف فيه وال تعدوه لَ َما وصل شعاعها إىل كثري من اجلهات؛ ألن ظل أحد جوانب كرة األرض حيجبها عن اجلانب
اآلخر .وكان يكون الليل دائما سرم ًدا على من مل تَطلع عليهم ،والنهار سرم ًدا على من هي طالعةٌ عليهم ،فيفس ُد ِ
هؤالء َْ ُ َْ ُ ً
وهؤالء ،فاقتضت احلكمةُ اإلَلية والعناية الرابنية أ ْن قَ َّد َر طلوعها ِمن أول النهار ِمن املشرق ،فتشر ُق على ما قابَلها من
تنتهي إىل الغرب ،فتشرق على ما استرت عنها يف أول النهار،
شى جهةً بعد جهة ،حىت َ
األفق الغرّب ،مث ال تزال تدور وتغ َ
فيختلف عندهم الليل والنهار ،فتنتظم مصاحلهم".
61
شرح اسم الحكيم
سيصبح الليلُ
ُ الشمس تُشر ُق وتقف على مكان معني وسا تتحرك؟ وهذا األمر واضح .ما هي املفسدة اليت ستحصل لو َّ
أن
َ
حصل املنفعة هلذه املنطقة حبركة الشمس ،مث تنتقل من هذه
سرمدا على قوم! لكنها تتحرك وتتحرك ،فتَ ُ
النهار ً
سرمدا على قوم ،و ُ
ً
املنطقة إىل غريها ،وهكذا.
ابرزا على
فشجر الزيتون عندما يكون ً
ُ مثال-إىل شجر الزيتون:
وإذا أردت أن تعرف ما قيمة هذه الشمس اليت تتحرك :انظرً -
أنضج ما يكون ،ملاذا؟ ألن الزيتون
التالل ،وَتيت عليه الشمس فتمر عليه من ساعة الشروق إىل ساعة الغروب ،فإن زيته يكون َ
حيتاج إىل فرتتني لينضج ،فرتة قُرب الشمس وبُعدها ،وفرتة اختفائها .مبعىن :أن الزيت الذي حيويه هذا الزيتون حيتاج أن تكون
غري موجودةً مث تعود ،فكل هذا جيعل زيت الزيتون أنضج ما
الشمس بعيدة عنه فرتة ،مث تصبح قريبة منه يف فرتة أخرى ،مث تكو ُن َ
يكون ،فهو كأنه يغلي هبدوء ،مث ترتفع درجة حرارته ،مث يرجع فيست ُكن ،مث يعاود هذا األمر إىل أن ينعقد-أي :تصبح مثرتُه
أبدا ،أنت فقط
طبخا على أمهل ما يكون ،وكل ذل حيصل هلا وأنت سا يد ل فيها ً
انضجة تأخذها اخللق ،-فكأهنا تُطبخ ً
مستقبل.
أتمل احلكمة يف مقادير الليل والنهار جت ْدها على غاية املصلحة واحلكمة ،وأن مقدار اليوم والليلة لو زاد على
قال" :مث ّ
يتقارضان ِ
ما قُ ّدر عليه أو نقص لفاتت املصلحة واختلفت احلكمة بذلك ،بل جعل مكياَلا أربعةً وعشرين ساعة ،وجعال َ
اآلخر فيسرتدُّه منه .قال تعاىل{ :يُولِ ُج اللَّيل ِيف النَّهار ويُولِج
الزَّيدة والنقصان بينهما ،فما يَزيد يف أحدمها من اآلخر يعود ُ
َّهار ِيف الَّليل }( ،)1وفيه قوالن:
الن َ
كل ٍ
واحد منهما دخل ظلمةَ هذا يف مكان ضياء ذلك ،وضياء هذا يف مكان ظلمة اآلخر ،في ِ
دخل َّ أحدمها :أن املعىن :ي ِ
ُ َ ُ
يف موض ِع ِ
صاح ِبه ،وعلى هذا :فهي عامةٌ يف كل ليل وهنار.
لج يف اآلخر ،ال يذهب مجلةً ،وعلى هذا: والقول الثاين :أنه يزيد يف أحدمها ما ي ِنق ِ
نقص منه يَ ُ
صهُ من اآلخر ،فما يَ ُُ ُ َ
لج يف فاآلية خاصةٌ ببعض الساعات يف ٍ ِ
كل من الليل والنهار يف غري زمن االعتدال ،فهي خاصةٌ يف الزمان ،ويف مقدار ما يَ ُ
ّ
أحدمها ِم ْن اآلخر".
َّه َار يف اللَّميل}. يُعلق الشيخ على قوله تعاىل{ :يُول ُج اللَّمي َل يف النـ َ
َّهار َويُول ُج النـ َ
والذي يهمنا اآلن قبل التفصيل :الفعل {يُول ُج} ُمسنَد إىل َمن؟ ُمسنَد إىل هللا ،فاهلل وحده هو الذي يولج الليل يف النهار،
ويولج النهار يف الليل .إ ًذا :هذا الفعل سابد أن يُشعرك أبحد مفهومني:
مبعىن أن إن وقفت يف الوسط يف حلظة غروب الشمس ،ونظرت إىل الغرب ،ونظرت إىل الشرق :سرتى أن الشرق بدأت
الشمس
َ الغرب سازال فيه نور ،فيتداخالن ويتداخالن ،ويستمر دخول الليل وانسحاب النهار وترى
َ ظلمتُهُ تَزيد ،وسرتى أن
عبدا موحداً تذكر هللا.
تنطفئ ،وهذه اللحظة سابد أن تكون فيها ً
تعلم
وقت الغروب؛ ألن هذه حلظةٌ ترى فيها اإليالج ،حلظةٌ ُ وقت من أوقات ذكر هللا ،ومثله ُ الفجر ٌ
َ ولذل دجد أن
دخل هذا يف هذا ،ويغيـر هذا ِمن هذا :هو هللا اإلله الذي يستحق أن تعظمه؛ ِ
ومن َمثّ يستحق احملبة لِ َما فيها أن الذي ي ِ
ُ ُّ ُ
يورثُك من املصاحل.
63
شرح اسم الحكيم
) 2أو يكون يف حلظة أخرى دجد فيها الشهادة أبن هللا حق :وهي عندما حيني وقت اساعتدال ،وسا أعين حلظة كون الساعة
تناقص وتقارض.
ٌ هنارا يف جهة ،وإمنا أعين الوقت الذي حيصل فيه
ليال يف جهة ،والثانية عشرة ً
الثانية عشرة ً
ويوم يُعطَى فيه للَّيل ،فهما عبدان ،سا يوم يؤخذ فيه من اللَّيلٌ ،
علم أنه سا الليل وسا النهار يتصرفان إبرادهتما! ٌ وهذا كله لتَ َ
وتأخذ م ُنهما ،فهذا َملَ ُكوتُهُ َحي ُك ُم فيه مبا يُريد-
ؤخ ُذ منهما ،وإهلُهما هو الذي يُعطيهما ُ
ميلكان أ من َميتن َعا َع َّما ُسخَرا له ،يُعطَى ويُ َ
اإليالج-الذي هو فعلهُ :-يُشه ُدك على أنه اإلله.
ُ سبحانه وتعاىل ،-وهذا
((النجوم))
كنا قد بدأان يف احلديث عن الشمس والقمر ،وما يتبعهما من الليل والنهار ،واآلن سيأيت الكالم عن النجوم:
وعجيب َخ ِ
لق َها ،وأهنا زينةٌ للسماء ،وأدلةٌ يُهت َدى هبا يف ِ قال" :مث أت ََّمل ِحكمتَه تبارك وتعاىل يف هذه النجوم وكثرهتا،
طرق الرب والبحر ،وما جعل فيها من الضوء والنور حبيث ميكننا رؤيتها مع البُعد املُف ِرط ،ولوال ذلك َمل َحي ْ
صل لنا االهتداء
والداللة ومعرفة املواقيت.
64
شرح اسم الحكيم
ج عنه، ض ْ ِ
وعلمه أ ْن ال ََت ُر َ
ت حكمتُه ُ مث أتمل تسخريها ،منقادةٌ ألمر رهبا تبارك وتعاىل ،جاريةٌ على َسنَن واحد ،اقتَ َ
فجعل منها الربوج ،واملنازل ،والثوابت والسيارة ،والكبار ،والصغار ،واملتوسط ،واألبيض األزهر ،واألبيض األمحر ،ومنها
الشمس
َ ونز َل ما َخيفى على الناظر فال يُد ِرُكه ،وجعل منطقة الربوج قسمني :مرتفعة ومنخفضة ،وقَ َّد َر َس َ
ريها تقدي ًرا واح ًداَّ ،
ات ِمنها َمنَا ِزَلَا:
والقمر والسيار ِ
َ
ب منها ظاهرة ال تغيب؛ ل ُق ْرهبا من املركز ،ولِما يف ذلك من احلكمة اإلَلية، أتمل ج ْعلَهُ سبحانَه ِ
بنات ٍ
نعش وما قَـ ُر َ مث َّ ْ َ
وأهنا مبن ِز ِلة األعالم اليت يَهتدي هبا الناس يف الطُُّرق اجملهولة يف الرب والبحر ،فهم يَنظرون إليها وإىل اجلَ ْد ِي وال َف ْرقَ َديْن ُكلَّ
وقت أرادوا فيهتدون هبا حيث شاؤوا". ٍ
أوسا ابلكالم عن النجوم على وجه العموم ،مث عن النجوم اليت يهتدي هبا اخللق على وجه اخلصوص.
سنبدأ ً
65
شرح اسم الحكيم
لكن سا يعين
وجيب أن ندرك ابتداءً :أن فَهم وتصور اسادجاهات تصوًرا خرائطيًّا يف الذهن :نوعُ ذكاء ،سا ميكن إنكار ذل ،و م
هذا أن سا تستطيعه! سا! بل كل الناس لديهم مبادئ الذكاء ،وإبمكاهنم تنميتها إبذن هللا.
ما أن َّ
تشتد ظلمةُ السماء إسا وتَراها كالثوب الذي ُرص َع ابحلُلي الشديدة اللمعان .فتصور :هذا الثوب العظيم الذي َخلَ َقهُ
اهر
ت كالثوب الذي َحيم ُل جو َ فأصبح م
َ النجوم
هللا ،هذه السماء اليت تكسو األرض .مث تصور :كيف نُثرت فيها هذه األجر ُام و ُ
تَـ مل َمع!
يد للبشر
ت أ من سا َ َّعت فتأم ملتَّ :
تيقمن َ التمتع ،وإذا متت َ
َ الليل هبذه الصورة؛ ليَـ َق َع ل
َ جيعل ل
وجلُ -
عز َّ
من هنا سرتى أن هللاَّ -
تَص َل هلذا البُعد العظيم ،سا ميكنهم ذل ! فكلَّما بـَ ُع َدت عن املخلوقات كلَّما زاد يقينُ أبنه سا ميكن ألحد التدخل يف هذه
املخلوقات العظيمة ،فيزداد َتليه هلل.
66
شرح اسم الحكيم
فانظر إىل آاثر رمحته ورأفته وحكمته! فلو كانت هذه األدلة يف األرض لتعطل بعض أهل األرض عن اساستدسال هبا ،مبعىن:
حصل ألهل الغرب؟ لن جيدوا هلم أدلة.
أهنا لو كانت يف شرق األرض ماذا سيَ ُ
نور فيها ،لتعطل اساستدسال هبا! لكنه سبحانه جعلها يف السماء ،حبيث
األرض ظلمةٌ سا َ
ولو كانت هذه األدلة يف األرض ،و ُ
حجبها عن أحدَ ،مل جيعل
وقف على األرضًّ -أاي كانت جهته-من رؤيتها مادام أنه يف الليل .سا يستطيع أح ٌد م
يتمكن كل َمن َ
أحدا من اسانتفاع
مينع أح ٌد ً
شاعا لكل اخللق ،سا ُ
حصرا على بعض اخللق ،وإمنا جعلها حقًّا ُم ً
وجل-اهلدايةَ يف الط ُرق ً
عز َّ
هللاَُّ -
هبذه النجوم.
لم ُع يف الظالم.
( )3مث إنه جعلها تَ َ
مثل هذه
ووًّدا ورأفَةً َ
أيت رمحةً ُ
وهذه هي ميزهتا يف اهلداية فهذا "اللمعان" كأنه يف حق السائر "مصباح" يدله ويهديه ،فَـ َهل ر َ
الرأفة؟! طيَّب هللا خلَملقه معاشهم.
لكن ُكلَّما
اتئها تبحث عن هداية ،فرتى كيف يهدي هللا هبذا الذي يف السماء ،م
ً ولن تستشعر هذا إسا إذا ختيلت نفس
اآلَّيت يف َح ِّقه إىل معدومات! بدليل أين إذا سألتكم اآلن :مىت آخر مرة َتملنا يف
ُ ت
حتولَ ْ استغىن العبد عن ربه وقَ َّل ُّ
تفكره ّ
النجوم ،ورأينا فيها أهنا آية من آايت هللا ،ورأينا أهنا تدل على التأليه؟ سنرى أننا متفاوتون متام التفاوت! لدرجة أن من الناس َمن
مل يفعل هذا الفعل وسا ملرة يف حياته! أتدري ملاذا؟ ألن هللا سبحانه أغناك ب"الكهرابء" ،فكان ردك على هللا :أين استغنيت عن
آاثر إضاءهتا علي ،
آايت ! فإن لو مل تكن ُمستغنيًا لكانت النجوم اليت يف السماء نعمةً عظيمة علي ! فعندما تلمع :ترى َ
حرَمها
ومن َ
نفسه التدبر والتفكرَ ،
خري لكن ل َمن َشكرها ،ومل َحيرم َ
فيكو ُن للقمر لَميـلَةَ البدر طعم يف قلب .والكهرابء ابلطبع ٌ
عُدم اخلري منها.
عدها :تصور أن هذه األرض فمع أن النجوم شديدةُ البُعد فوق ما تتصور لكن ضوءها يصل إىل أهل األرض .ولتُدرَك بُ َ
ماليني الشموس اليت معها ماليني املاليني من
ُ والشمس اليت معها توجدان فيما يسمونه ب ـ"درب التَّـبَّانة" ،وهذا الدرب العظيم فيه
اجملَّرات كهذه وأكرب! ويصل
اجملَّرة ،مث أنه يوجد يف الفضاء املاليني من َ
الكواكب ،وأنت يصل ضوء هذه النجوم اليت يف هذه َ
الضوء منها كذل ! فسبحان من أعطاها هذا النور ،وهذه القوة يف اإلضاءة! وهذه األرقام سا ميكن لعقل تصورها!
67
شرح اسم الحكيم
فهذا اخلَلْق ِ
شاه ٌد على أنه ال يستحق التعظيم إال هللا ،ومن َمثّ ال يستحق احملبة إال هو.
ت يف الليل ترى
أصبح َ
تود َد ل وأنت الضعيف ،وهداك هبذه النجوم إىل الطريق؟ زيَّن ل السماء ،فمتَّع برؤيتها ،و م أسا تراه َّ
ب النظر إىل السماء يف الليل
ب َعَرف! فمن جير ُ
وم من َجَّر َ
من النور ما ُجيلي عن عيني الظلمةَ ،ويُدخ ُل إىل قلب اسانشراحَ .
َض َح َ َوأَبم َكى}( ،)1فهو-سبحانه-الذي
متفكرا :يرى من آاثر انشراح الصدر ما سا يـُ َقدَّر بثمن! وهذا من آاثر{ :وأَنَّهُ ُه َو أ م
ً
يشرح صدور اخللق يف أمور ،ويضيقها يف أمور.
وجل.-
عز َّ
َمن الذي جعل للنجوم هذه التأثريات يف األرض؟ هللاَّ -
وكلما زاد اخلَملق معرفةً هبا زادوا اهتداءً ملصاحلهم ،وكلَّما قلَّ م
ت املعرفة قَ َّل اساهتداء.
وجل-واقتضتها حكمته.
عز َّ
السنَن اليت َسنَّها هللاَُّ -
سخرةٌ ُمنقادةٌ أبمر رهبا ،جاريةٌ على َّ
( )6وكلها لو َتملتُ :م َّ
وجل-ثوابت :فجعل منها الربوج واملنازل ،ومنها السيارة :فجعل منها الصغار
عز َّ
ترى منها أصنافًا ،منها ما جعلها هللاَّ -
والكبار واملتوسط ،ومنها األزهر الذي جعل إضاءتَه بيضاء زاهرة مثل لون الفضة-وهذا هو لو ُن النجوم البعيدة غالبًا ،-ومنها ما
جعل إضاءتَه بيضاء محراء ،وهذا اللون تراه يف أحيان كثرية يف أول اكتمال البدر.
َّدا
س فال تراها ،ومنها :اليت تَبقى على حاهلا فرتاها ،ومنها :الذي مير علي فتَـَراه مرًة ،ولن يراهُ جمد ً
كذل من النجوم :ما َختمنَ ُ
بعد أجيال!
أحفاد أحفادك! أي :أنه َميُر فال يـَُرى إسا َ
ُ إسا
نتابع القراءة:
جنما بعض
ب ً وبعضها تَ ُكو ُن منفردة ،أو تصاح ُ
ف اآلن الشيخ-رمحه هللا-الكواكب السيارة ،وأن بعضها تَ ُكو ُن مجاعةًُ ،
يَص ُ
ب عنه.
تذه ُ
الوقت ُمث َ
مساريمن،
سري إىل الشرق ،فبهذا أصبح للنملة َص ُفوا هذا :بنملة تسري على َر ًحى تدور ،والنملةُ تَسريُ إىل الغَمرب ،والرحى تَ ُ
وو َ
َ
مسريها هي بنفسها غرًاب ،ومسري الرحى هبا شرقًا ،والنجوم هبذه الطريقة ،تسري هي من الغرب إىل الشرق ،وفَـلَ ُكها يسري
ب َعكمسها.
69
شرح اسم الحكيم
70
شرح اسم الحكيم
اللقاء السادس
71
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على سيدان حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
سا زلنا نتكلَّم عن هذا اساسم العظيم اسم (احلكيم) ،وقد َّ
مر معنا أن معىن هذا اساسم يشمل أمرين:
خلقه.
وأمره.
وشرعه.
وجزائه.
وجل- الطريق األول :بطريق التأمل :يكون عندك علم وخربة يف مسائل فتتأملها أنت بنفس ؛ فيزيد إميان حبكمة هللاَّ -
عز َّ
مثاسا على ذل :الطبيب ،وال َفلَكي.
وضربنا ً
72
شرح اسم الحكيم
الطريق الثاين :أن تقرأ ل َمن كتب يف حكمة هللا ،فتعرف أنه حكيم يف كل خلقه.
وملا أتينا إىل احلكمة يف اخللق قلنا إن هناك ثالث كلمات متصلة هبا:
وجل-يضع األشياء يف مواضعها ،فال "مشتمال على احلق" :أي :أن تفاصيل هذه املخلوقات تُظهر ل أن هللاَّ -
عز َّ ً ومعىن
احا.
ميكن أن تقرتح فوق خلقته وعطائه اقرت ً
فمن أهم آاثر اإلميان ابسم هللا احلكيم :أن سا يتعدَّى العبد حد األدب مع هللا ،وسا يقرتح على املل احلكيم أي اقرتاح ،وسا
غري هللا كذا! ملاذا فعل هللا كذا؟ هذا ليس
تأيت إىل شيء من أقداره فينتقدها ،ويقول :لو كان هذا كذا! ولو وضع هذا كذا! ولو َّ
كالم عبد آمن أن هللا حكيم ،فإن املؤمن الذي شهد أن سا إله إسا هللا ،ليس من إميانه أن ينتقد فعل من يعظمه ،ومن يتعلَّق به؛
مبِن على املفاهيم الباطلة من حرية اآلراء ،اليت َّ
تعدت ابخللق فجعلتهم مبِن على اجلهل ابهللٌّ ،ألن االنتقاد لفعل هللا ٌّ
يتكلَّمون على ِفعل هللا ،ويظنُّون أن هذا من آاثر احل ِّرَّيت!
لو تعبدت هللا ابمسه (احلكيم) كما ينبغي ،وقلَّبت هذا اساسم ،وَتملَّته ،وفهمت آاثره؛ سيخرس لسان عن أن تتكلَّم بكلمة
عن هللا ،ستعظم أي انتقاد ميكن أن ينتقده أحد على هللا ،بل إن ستجاهد نفس ،وسيَظهر ل ضعف ونقص ،وستلزم
جانب األدب يف معاملت مع هللا.
و-كما ذكران-من طرق الوصول هلذا التأمل :أن تقرأ ل َمن كتب عن حكمة هللا ،وعن حكمته يف ملوقاته .وحنن سنبذل
اليوم جهدان يف قراءة ما نستطيعه.
73
شرح اسم الحكيم
تكلمنا يف اللقاء املاضي عن النجوم ،وذكران أن هناك جمموعة منها تسمى ب"بنات نعش" ،وأنتم تعرفوهنا ابسم "الدب
القطيب األكرب" و"الدب القطيب األصغر" ،وهم عبارة عن :جنوم يف السماء ،شكلها مربَّع ،وله طََرف ،وهذا الشكل اثبت يف
أبدا ،وبه يعرفون الشمال واجلنوب والشرق والغرب يف الليل.
يتغري ً
السماء سا َّ
وجل-جعل ابلنجم اهلداية سا بد أن تفهمي معىن ذل ،ثقفي نفس ابملعلومة حىت لو كلَّما قرأت يف كتاب هللا أن هللاَّ -
عز َّ
أبدا املعلوم ،فهذا ليس من صاحلنا.
قليال ،لكن سا هتجري ً
قليال ً
تتصوريها ،وبعد ذل ستنكشف املسائل ً
مل َّ
()1
ستقولني :ما خلق هللا النجم إسا هلذه الثالثة َّجم ُه مم يـَ مهتَ ُدو َن}
عندما تريدين أن تشرحي قوله تعاىلَ { :و َع َال َمات َوابلن م
املصاحل:
.1زينة للسماء.
.2عالمات.
.3هداية للناس.
وكما قال السلف :من تعدَّى هذه الثالثة ،فقد ظلم نفسه .وأي أحد ينظر للنجوم على أن هلا عالقة ابألحداث ،أو أهنا
تدل على شيء من علم الغيب فقد أفسد دينه!
ت َه َذا َابط ًال التأمل يف السماء من أنواع العبادات ،قال تعاىلَ { :ويـَتَـ َف َّك ُرو َن يف َخ ملق َّ
الس َم َاوات َو ماأل مَرض َربـَّنَا َما َخلَ مق َ
اب النَّار}( ،)2عندما تتأملني ستدخلني يف َرمكب املؤمنني ،تدخلني يف َرمكب املتعبدين ،املتفكرين. ُسمب َحانَ َ فَقنَا َع َذ َ
سنقرأ اآلن كالم ابن القيم-رمحه هللا ،-الذي أظهر فيه حكمة هللا يف َخلقه للهواء هبذه الصفة:
قال" :مث أتمل هذا اَلواء وما فيه من املصاحل ،فإنه حياة هذه األبدان ،واملُ ِ
مسك َلا من داخل مبا تستنشق منه ،ومن ّ
ظاهرا وابطنًا ،وفيه تطرد هذه األصوات ،فتحملها وتؤ ّديها للقريب والبعيد، َّ
خارج مبا تُباشر به من روحه ،فتتغذى به ً
كالربيد والرسول الذي شأنه محْل األخبار والرسائل ،وهو ِ
احلامل َلذه الروائح على اختالفها ،ينقلها من موضع إىل
للحر والربد اللذين هبما
ضا احلامل ّ
هتب الريح ،وكذلك أتتيه األصوات ،وهو أي ً
موضع؛ فتأيت العب َد الرائحةُ من حيث ّ
صالح احليوان والنبات".
((اَلواء))
بـَ َّني أن هذا اهلواء حيتاج منا َتمل يف مصاحله ،ومصاحله هذه ستكون من الداخل ومن اخلارج ،فاهلواء هو الذي عليه تعيش،
وجل-مادة احلياة يف الداخل.
عز َّ
جعله هللاَّ -
وماذا حيصل يف اخلارج؟ سرتى أن األشياء حول تتأثَّر ابهلواء ،وسنبدأ ابألصوات :سنجد أهنا ما ُحت َمل إىل أذني إسا بطريق
اهلواء ،فهي "كالربيد والرسول الذي شأنه محْل األخبار والرسائل".
وجل-
عز َّ
تشم ،وبه تشعر ابحلرارة والربودة ،فرتى منَّة هللاَّ -
إ ًذا :أنت تتنفَّس ابهلواء من الداخل ،وبه تسمع من اخلارج ،وبه ُ
هبذه املادة اللطيفة اليت سا تشعر هبا .مصاحل رأس كلها دائرة حول هذا اهلواء ،السمع من جهة ،والشم من جهة، علي
أيضا.
والتنفس من جهة ،وتأتي لبدن كله شعور ابحلرارة والربودة اليت تنفع ،واليت تنفع احليوان والنبات ً
.3مث ُس ّخرت له (املؤلِّفة) ،فتؤلِّف بني كِ َس ِفه وقِطَ ِعه ،مث جيتمع بعضها إىل بعض فيصري طب ًقا واح ًدا".
75
شرح اسم الحكيم
((الريح والسحاب))
وأتمل منفعة الريح ،وما جيري له يف الرب والبحر ،وما ُهيّئت له من الرمحة والعذاب" ،أي :أن هذا اهلواء سيجتمع،
قالّ " :
ويقوى ،فتصبح له قوة أعلى من قوة اهلواء ،جيتمع فيصبح رحيًا هلا قوة؛ فتجد آاثرها يف الرب والبحر.
أي :أن السحاب األخف سيكون يف األعلى ،واألثقل سيكون يف األسفل ،والريح هي اليت تبدل بينهم .ويف النظرايت :أن
السحابة اليت يكون فيها املاء تكون هي األثقل فتنزل ،والريح اآلن هي اليت حترك ،فرتفع األخف لألعلى ،وتُنزل األثقل يف
احدا.
األسفل ،وهذا كله أبمر هللا ،فيجتمع فيصبح طب ًقا و ً
قال:
هاما ال ماء فيه. ِ (الالقحة) ،مبنزلة الذكر الذي يل ِّقح األنثى ِّ
ِ " .4مث ُس ِّخرت له
فتلقحه ابملاء ،ولوالها لكان ج ً
سوقه إىل حيث أمر ،فيُفرِغ ماءه هنالك". ِ ِ ِ
.5مث ُس ّخرت له (املُْزجيَة) ،اليت تُـ ْزجيه وتَ ُ
76
شرح اسم الحكيم
الريح (الالقحة) مثل اللقاح ،دجتمع مع السحاب ،فيحصل من اجتماعهما تكون املاء .عندما هتب هذه الريح على
السحاب دجعله يتحرك حركة كأنه أتته الوسادة فيأيت املطر؛ ولذل الناس أصحاب اخلربة يعرفون أن هذه النسمة من الريح هي
نسمة املطر ،فإذا هبَّت يشعرون أهنا ستلقح السحاب فينزل املطر.
أما (املـُمزجيَة) فهي ريح تدفع السحاب إىل مكان خاص أراد هللا أن ينزل به املطر.
صوات خياطب الريح والسحاب :أن اسقوا حديقة فالن-ابمسه ،-فتحركت السحابة
هذا رجل كان يسري ،فسمع يف السماء ً
دوان عن غريها! وهذا كله يبني ل أنه-سبحانه
أبمر هللا-حركها هذا النوع من الريح (املـُزجية) ،-فنزل مطرها على هذه احلديقة ً
وتعاىل-هو القائم على كل شيء ،هو احلكيم يف تصريف كل شيء.
قال:
" .6مث ُس ِّخرت له بعد إعصاره (املَُف ِّرقَة) ،اليت تَـبُـثّه وتُـ َف ّرقه يف اجلو ،فال ينزل ُجمتَ ِم ًعا ،ولو نزل ُمجلة ألهلك املساكن،
قطرا".
تفرقه فتجعله ً
واحليوان ،والنبات ،بل ّ
) (1رواه مسلم يف صحيحه /كتاب الزهد والرقائق /ابب الصدقة يف املساكني.)2984( /
77
شرح اسم الحكيم
صرة األوىل ،ومل يزل يف السحاب ماءَ ،تيت له الريح (املفرقة) تفرقه عن
الع م
بعدما نزل املطر من السحاب ،واعتصرته الريح َ
وجل-منه ما يناسبهم فقط ،سا تصب كل ما عندها صبًّا ،وإمنا َتيت هذه الريح عز َّ بعضه لكيال يهل القوم ،فيعطيهم هللاَّ -
وجل-ولُقحت ابلريح (امللقحة) ،يفرقها
عز َّ
فتفرق هذه السحب مع وجود املاء فيها من أجل أسا يهل اخللق ،فكما مجعها هللاَّ -
وجل-ابلريح (املفرقة) ،وهو-سبحانه وتعاىل-حكيم يف كل شأنه.
عز َّ
هللاَّ -
حتول رحيًا وعالقته ابلسحاب ،واآلن سنقرأ عن الرايح مع الشجر والس ُفن:
انتهينا من اهلواء وعالقته ابإلنسان ،واهلواء الذي َّ
الع َجب! تلقيح الشجر يتم بواسطة ما يسمونه "حبوب اللقاح" ،هتب
هل تعرفون ماذا يعين تلقيح الشجر؟ هو أمر يف غاية َ
ال رايح فتجعل هذه احلبوب تسقط على مكاهنا يف الزهرة من األشجار الباقية ،فسبحان هللا كيف تقع كل حبة لقاح يف مكاهنا!
وكيف تُثمر يف النهاية هذه الثمرات اليت تراها!
كل الثمر هذا إمنا هو من ريح أمرها هللا ،فهبَّت على حبوب اللقاح ،فلقَّحت الزهر ،فخرجت الثمرة! كل حبة تفاح َتكلها،
وكل حبة برتقال ،وكل مثرة َتكلها أمثرت هبذه الصورة! فسبحان هللا هل ميكن أن حيصل هذا كله كما اتفق؟! سا ميكن!! إمنا هي
حكمته-سبحانه وتعاىل.-
ومثله الرايح اليت تسري السفن ،لوسا تسخري هللا هذه الرايح لظلَّت السفن رواكد .قد يقول قائل :السفن اآلن ليست شراعية،
وإمنا أصبح هلا حمركات تشغلها .واحلقيقة أن َمن يَفهم يف قضية السفن وحمركاهتا يعرف أن أصل حركة هذه احملركات سابد أن
يكون ابهلواء ،هذه املادة املشتَعلة حتتاج للهواء لكي تبقى مستمرة يف احلركة.
تربد املاء ،وتضرم النار اليت يُراد إضرامها ،وجت ّفف األشياء اليت ُحيتاج إىل جفافها ،وابجلملة
قال" :ومن منافعها أهنا ّ
فحياة ما على األرض من نبات وحيوان ابلرَّيح".
ابلرغم من كل هذه املنافع اليت ذكرها ابن القيم-رمحه هللا-سنقول :هناك منافع مل يعدها ،ستعدها أنت.
78
شرح اسم الحكيم
يف حج سنة من السنوات وقعت إشاعة كبرية :أبن "إنفلونزا اخلنازير" ستقتل 60مليون شخص على وجه األرض! ويف
املصل ،وسرقوا العامل! وكان احلجاج من بني الناس
احلقيقة ما مات بعدها وسا أربعة آساف شخص! لكنهم هبذه اإلشاعة ابعوا م
املهدَّدين ابملرض ،فأرسل هللا يف تل السنة رحيًا شديدة يف ليلة عرفة يوم ،8والناس يف مىن ،وأصبح الناس يف شيء من اخلوف،
مطرا ،مث هدأت الدنيا ،وعاد الناس من احلج دون أن يُصابوا حىت ب"اإلنفلونزا العادية"-اليت يرجعون هبا
وجلً -
عز َّ
مث أنزل هللاَّ -
قليال منها فطهرت األجواء؛ وهلذا هو يقول :لو
عاد ًة من احلج !-والسبب :تل الرايح يف تل الليلة ،وبقي يف اليوم التاسع ً
َننت العامل ،فالريح حترك املطر ،والريح واملطر يذهبان ابألوبئة أبمر هللا ،ولذل النيب-صلى هللا عليه وسلم-يقول:
ما كانت الريح أل َ
()1
كثريا من األوبئة تذهب بسبب هذه الرايح.
يح" ،وكتب َمن كتب من العلماء أن ً"سا تسبوا الر َ
مثال-فإن انقصي العقول سينظرون إىل ما حيصل هلم فقط ،أما العقالء سيقولون :إن
ولكن إذا أصاب الناس ريح أرضيةً -
إمياان أبي نظرايت ،وإن
إمياان به-سبحانه وتعاىل ،-وليس ً
هذه احلركة للريح األرضية اليت حترك الرتاب سابد أن فيها تنقية للهواء؛ ً
كان عندهم َمن يُثبت ذل علميًّا ،لكنهم مؤمنون حبكمة هللا قبل مساعهم هلذا الكالم العلمي كله! فال نتعدَّى على أمره ،فما
يتحرك متحرك إسا أبمره ،وإذا كنت تؤمن هبذا فال تتكلَّم عن فعله إسا ابلرضا عنه-سبحانه وتعاىل.-
يسكن ساكن إسا أبمره ،وسا َّ
) (1رواه الرتم ذي يف سننه :كتاب الفنت /ابب ما جاء يف النهي عن سب الرايح )2252( /وقال :حديث حسن صحيح.
79
شرح اسم الحكيم
تتأمل ،وتقرأ إىل أن تُشبع نفس ،فما أن ترى رحيًا إسا وتقول :هبَّت وأتت َبروحه،
هذا الكالم ليس كافيًا! علي أن َّ
ورمحته ،ولطفه ،ونعمته ،وحكمته .فرتى فيها كمال صفات هللا ،وهكذا تصبح مؤمنًا ،عندما ترى أن أفعاله كلها دالة على
مر معنا.
مثال :الريح ،والكواكب ،وكل ما َّ
الكمال ،ومن بينها ما يالمس ،ومن بينها ً
((اجلبال))
هذا أعراب يريد أن يدخل يف اإلسالم ،فاستحلف النيب-صلى هللا عليه وسلم ،-لكنه من فقهه وفَهمه قال" :ابلذي"-يعين
أستحلف "-نصب اجلبال ،وأودع فيها املنافع ،"..فهذا األعراب املشرك يعلم من حكمة هللا ما سا يعلمه كثري من اجلهال،
ضلَة يف األرض" .مبعىن :ما هلا قيمة .وهذا النظر
ولذل ابن القيم يف أول الكالم قال" :اجلبال الذي حيسبها اجلاهل الغافل فَ ْ
إىل اجلبال يصل إليه َمن مل يتفكر ،فأنت قد تشعر يف أول األمر أن فيها حكمة ،وتقول لنفس :سابد أن هلا حكمة .ومع
ضلَة"! ولذا سابد من البحث!
األايم ومع سكوت عن نفس ،وعدم البحث والتأمل ،سيستقر يف قلب أهنا " فَ ْ
ونتخصص؟ سنقول :تعلموا معىن قوله تعاىل يف أواخر سورة آل عمران: َّ قد يَرد سؤال :أتريدين منا أن نبحث حبثًا علميًّا،
اب النَّار}( )2هذا هو املطلوب من :أن
ت َه َذا َابط ًال ُسمب َحانَ َ فَقنَا َع َذ َ { َويـَتَـ َف َّك ُرو َن يف َخ ملق َّ
الس َم َاوات َو ماأل مَرض َربـَّنَا َما َخلَ مق َ
بعلم جمرد-حىت ليس بعلم متَّصل أن تسمع وتقرأ ما يدل تتأمل وتبحث ،ومثل هذه األمور اآلن أصبحت يسرية ،ميكن
َّ
إمياان،
يهتم ابلكواكب ،وأنت عليك أن تزداد ً
يهتم ابلسحاب ،ومن ّ
يهتم ابجلبال ،ومن ّ
ابآلايت ،-ربنا جعل يف اخللق من ّ
صلَّى ول هللا َ الُ :هنينَا أَ من نَ مسأ ََل َر ُس َ ) (1رواه مسلم يف صحيحه /كتاب اإلميان /ابب السؤال عن أركان اإلسالم )12( /وهذا جزء من نصهَ " :ع من أَنَس بمن َمال ،قَ َ
الر ُج ُل م من أ مَهل المبَاديَة ال َمعاق ُل ،فَـيَ مسأَلَهَُ ،وَمحن ُن نَ مس َم ُع ،فَ َجاءَ َر ُج ٌل م من أ مَهل المبَاديَة ،فَـ َ َ
الَ :اي ُحمَ َّم ُد ،أ ََات َان َر ُسولُ َ فَـَز َع َم ق هللاُ َعلَميه َو َسلَّ َم َع من َش ميء ،فَ َكا َن يـُ معجبُـنَا أَ من َجييءَ َّ
الَ ،و َج َع َل ف َيهااجلبَ َ
ب َهذه م صَ ال :فَ َم من نَ َ
ال« :هللاُ» ،قَ َ ض؟ قَ َ ال :فَ َم من َخلَ َق ماأل مَر َ ال« :هللاُ» ،قَ َ الس َماءَ؟ قَ َ ال :فَ َم من َخلَ َق َّ ص َد َق» ،قَ َ
الَ « : لَنَا أَنَّ َ تَـ مز ُع ُم أ َّ
َن هللاَ أ مَر َسلَ َ ،قَ َ
ال« :نـَ َع مم»...احلديث. آَّللُ أ مَر َسلَ َ ؟ قَ َ
الَّ ، اجلبَ َ
ب َهذه م صَ ضَ ،ونَ َ ال :فَبالَّذي َخلَ َق َّ
الس َماءََ ،و َخلَ َق ماأل مَر َ ال« :هللاُ» ،قَ َ َما َج َع َل؟ قَ َ
([ )2سورة آل عمران]191 :
80
شرح اسم الحكيم
خمدوما يصل إليك ما يزيد إميانك ،وكل الذي علي أن تتصفَّح وتقرأ؛ فتسبح هللا،
ً فهذه نعمة ال يقابلها نعمة! أن تكون
إمياان أبنه-
مثال-زدت ً وتكربه ،وهتلله؛ فيثبت يف قلب اإلميان حبكمته وعظمته-سبحانه وتعاىل ،-فكلما نظرت إىل اجلبالً -
سبحانه وتعاىل-حكيم يف فعله.
وجعل فيها
حاصال لشراب الناس إىل حني نفاذهُ ،
ً مث قال" :فمن منافعها :أن الثلج يسقط عليها ،فيبقى يف قُـلَلِها
والراب ضروب
فأوال ،فتجيء منه السيول الغزيرة ،وتسيل منه األهنار ،واألودية ،فينبت يف املروج والوهاد ُّ
أوال ً
ليذوب ً
النبات ،والفواكه ،واألدوية اليت ال يكون مثلها يف السهل والرمل".
تصبح اجلبال مثل اإلانء الكبري الذي حيفظ املاء ،الذي ينزل بصورة الثلج .وأنت تصوري األرض من القطب الشمايل إىل
وتصوريها كلها مع بعض ،وكيف أن الثلج يكون هناك ،مث يذوب
وسط الكرة األرضية ،ومن اجلنوب إىل وسط الكرة األرضيةَّ ،
فينزل على أطرافها.
فاحنل مجلة ،وساح دفعة ،فعُدم وقت احلاجة إليه ،وكان يف احنالله
قال" :فلوال اجلبال لسقط الثلج على وجه األرض ّ
ضررا ال ميكن تالفيه ،وال دفعة ألذيته".
فيضر ابلناس ً
مرت عليهّ ،
مجلةً :السيول اليت هتُلك ما َّ
81
شرح اسم الحكيم
لو مل يكن هناك جبال ،لنزلت الثلوج على األرض ،مث ذابت .وماذا حيصل لو ذابت الثلوج مرًة واحدةً؟ لغرق الناس ،لكن
مر معنا.
اجلبال تكون حاميةً لألرض من الثلوج ،فإن الثلوج تسقط على أعلى نقطة تقابلها ،فتحفظها اجلبال ،مث متيل مثلما َّ
ضا "ومن منافعها :ما يكون يف حصوهنا ،وقُـلَلِها من املغارات ،والكهوف ،واملعاقِل اليت مبنزلة احلصون ِ
والقالع ،وهي أي ً
أكنان للناس واحليوان".
من فوائد اجلبال :أن فيها مغارات وكهوف تكون مبثابة احلصون والقالع ،وهي أكنان للناس واحليوان ،يستظلون فيها،
ويستفيدون منها.
"ومن منافعها :ما ينحت من أحجارها لألبنية على اختالف أصنافها ،واأل ِ
َرحيَة وغريها". ُ َ
مر علينا ساب ًقا أن الرخام املوجود يف املطاف هو عبارة عن قطع من اجلبال ،ومن صفته :أنه إذا تسلَّطت عليه الشمس أصبح
ابردا.
ً
وكل الرخام عبارة عن قطع أُخذت كما هي من اجلبال ،فتجد يف اجلبال من أنواع احلجارة اليت تكون أقوى وأشد يف البناء،
أيضا لتجميل بيوت الناس.
وتُستخدم ً
" ومن منافعها :ما يوجد فيها من املعادن على اختالف أصنافها من الذهب ،والفضة ،والنحاس ،واحلديد ،والرصاص،
والزمرد ،وأضعاف ذلك من أنواع املعادن الذي يعجز البشر عن معرفتها".
ّ والزبرجد،
أنتم تعرفون أن األملا س عبارة عن أحجار من جبل ،وأن الذهب عبارة عن استخالص من كهوف يف جبال ،والفضة كذل ،
وكل املعادن اليت يستخدمها اخللق بدون استثناء أصل وجودها يف اجلبال ،وللناس يف التعامل مع اجلبال طريقني:
82
شرح اسم الحكيم
أمر معلوم .فقد أخرب هللا-سبحانه وتعاىل-يف كتابه أن هذه اجلبال عبارة عن رواسي يف األرض ،أي :عبارة عن مثبتات
وهذا ٌ
هلا.
أتملت ِخلقتها العجيبة البديعة على هذا الوضع وجدهتا يف غاية املطابقة للحكمة؛ فإهنا لو طالت واستدقَّت
"هذا وإذا ّ
كاحلائط َّ
لتعذر الصعود عليها واالنتفاع هبا ،وسرتت عن الناس الشمس واَلواء ،فلم يتمكنوا من االنتفاع هبا".
اآلن الكالم عن احلكمة يف شكلها :هي ليست كاحلائط ،ولو كانت طويلة واستدقَّت حلصل أمران:
oلَ َما استطاع أحد أن يرقاها ،لكن بشكلها احلايل يستطيع اخللق أن يصعدوا عليها ،فيجدوا منافعهم منها.
صعودا،
ً oلو كانت مثل احلائط لَ َس َرتت الشمس واهلواء ،وحجزهتما عن اخللق ،ومل ينتفعوا منها ،لكنها هبذا الشكل
ونزوسا ،أصبح اسانتفاع ابهلواء والشمس مكنًا.
تفاعاً ،
وهبوطًا ،وار ً
بدسا من ارتفاعها-مبعىن :لو أصبحت بنفس احلجم ،لكن مبسوطة على األرض مثل
لو بُسطَت اجلبال على األرض ً
صل أمران:
اهلضباتَ -حلَ َ
oلَضيَّقت األرض املبسوطة على اخللق ،و َخلَسر الناس مساحات للزراعة وللمساكن.
قليال عن أرض
oولَ َما استفادوا منها يف رد السيل عنهم ،ولَ َما استفادوا منها يف احلصانة؛ ألهنا ستصبح جمرد أرض مرتفعة ً
السهل ،سا فائدة فيها.
83
شرح اسم الحكيم
"ولو ُج ِعلَت مستديرةٌ شكل الكرة مل يتمكنوا من صعودها ،وملا حصل َلم هبا االنتفاع التام ،فكان أوىل األشكال
واألوضاع هبا ،وأليقها ،وأوقعها على وفق املصلحة هذا الشكل الذي نُصبت عليه".
أنت تؤمن حبكمته-سبحانه وتعاىل-يف الفوائد اليت أتت من وراء اجلبال ،ويف شكلها هذا .وكل هذا التأمل والتخيل"-لو ما
وجل.-
عز َّ
تفكري فيه إميان حبكمة هللاَّ -
كانت كذا ...ولو ما كانت كذا"ٌ -
ف ُخ ِل َق ْ
ت * َوإِ َىل اإلبِ ِل َك ْي َ
"ولقد دعاان هللا سبحانه يف كتابه إىل النظر فيها ،ويف كيفية خلقها ،فقال{ :أَفَ َال يَـ ْنظُُرو َن إِ َىل ِْ
ت}(.")1 ف نُ ِ
صبَ ْ ت * وإِ َىل ا ْجلِبَ ِ
ال َك ْي َ السم ِاء َكي َ ِ
ف ُرف َع ْ َ َّ َ ْ
مث أنك ستنتفع من النظر يف َشغْل قلبك يف احلق ،ومن املؤكد أن مصلحة َشغْل القلب ابحلق تورثك مصلحة أخرى
وهيَ :ش ْغله عن الباطل؛ فإن كل َمن انشغل قلبه ابحلق ،انشغل عن الباطل؛ ألن وسواس الشيطان ال أييت إال لشخص
سبيال!
انشغل عن احلق ،فيشغله ابلباطل ،ولذلك اشغل نفسك ابحلق ما استطعت إليه ً
أريد أن أُشري إشارة لئال يقع خلل هنا :أول ما تبدأ يف التفكر وأنت سا متل َملَ َكتَه القوية سابد أن يدخل علي من األسئلة
واساستفهامات ما ُخيشى أن يكون معه وسواس ،لكن اعلم أن هذا إشارة اإلميان؛ ألن املؤمن َّ
يتفكر يف الكون ،ويتدبَّر القرآن،
فإذا وجد الشيطان منه نشاطًا أَشغَلَه ابلباطل ،وأَشغَلَه ابلوسواس ،فإذا دافع اإلنسان ذلك ،وبغضه ،وك ِرههَّ ،
ومتىن أن لو
سقط من السماء ومل يتكلم هبذا الكالم ،فإن هذا إشارة اإلميان .وسا أقصد أن الوسواس بنفسه إشارة إىل اإلميان ،وإمنا
بُغض له هو الذي يشري إىل اإلميان.
هذا الفعل ،وهذا من عداوته املستدمية ،ومن اإلميان :أن تدافعه ،وتبغضه ،وتبغض أفكاره، سابد أن يفعل الشيطان في
وتراغمه ابلتدبر والتفكر ،دون أن تستسلم!
مثال :تفتح القرآن ودجد أن بدأت تتدبر ،فيأيت ل الشيطان بوساوس ،فترتك التدبر ،وتقول :عندما كنت أقرأ-أي :بدون
ً
تدبر-كان حايل أحسن ،ما كان مير على خاطري مثل هذه الوساوس!
*وأان أتكلم هنا عن الوسواس الطارئ الذي يدخل على اإلنسان ،أما الوسواس القهري فله طريق آخر يف العالج.
" فخلقها ومنافعها من أكرب الشواهد على قدرة ابريها ،وفاطرها ،وعلمه ،وحكمته ،ووحدانيته ،هذا مع أهنا تسبح
حبمده ،وَتشع له ،وتسجد ،وتش ّقق ،وهتبط من خشيته".
انظر إىل هذا كله يف اجلبال سرتى احلكمة ،مث ستعجب من أمر آخر :وهو أن هذه اجلبال َلا عمل يف العبادة يفوق
َّ
وتتشقق ،وهتبط حجارهتا من خشية هللا ،وأنت سا تستطيع َتويل هذا عملك ،فهي تسبح حبمد هللا ،وَتشع هلل ،وتسجد له،
جليداي وقع! هذا الذي يقوله اخللق! وسا يعلمون أهنا تسقط من خشيته-سبحانه وتعاىل-
ًّ اهنيارا
حجرا وقع! أن ً
إسا بقول :أن ً
مسارين يف ُّ
التفكر: إ ًذا :هناك َ
املسار األول :استحضار ما ُميزت به املخلوقات يف خلقتها ،واملصاحل العائدة منها.
مثال-فتقول :سبحان َمن َخلَقها هبذه اخللقة ،فانتفع اخلَلق منها يف كذا وكذا!...
تنظر إىل اجلبالً -
كل يوم يقال لنا :أن اجلبال فيها كذا ،والسحاب فيه كذا ...،لكن هذا يقال على لسان امللحدين والكافرين! فكن مؤمنًا
أبن هللا خيلق اخللق حبكمة ،ويسوق ل اخلري َسوقًا.
85
شرح اسم الحكيم
املسار الثاين :أن تستظهر اآلايت اليت تتكلَّم عن عبادة هذه اجلمادات.
فحينما تراها تنظر هلا من جهة حكمة هللا يف خلقها ،مث من جهة عظمة هللا يف كون هذه األشياء العظيمة-اليت حجم
صدعةً من خشية هللا.
ومتَ َ
وتنشق من خشيته ،ولو نزل عليها القرآن ،لرأيتها خاشعةً ُ
َّ ابلنسبة هلا سا شيء-تعظم هللا ،وتسبحه،
فتأمل
فهذا وجه آخر للنظر ملخلوقاته-سبحانه وتعاىل ،-فكما أن احلكمة دجري يف خلقتها ،كذل العجب يكون يف عبادهتاَّ ،
وَتمل هذا.
هذا َّ
شف َقةٌ من هول ذلك وعظمه ،فهي م ِ "هذا وأهنا لَتعلم أن َلا موع ًدا ويوما تُنسف فيها نس ًفا ،وتصري كالعهن من هولهِ ،
ُ ً َ َ
املوعد ،منتظرةّ له ،وكانت أم الدرداء-رضي هللا عنها-إذا سافرت فصعدت على جبل تقول لِ َمن معها :أمسعت اجلبال ما
ص ًفا * َال تَـ َرى
ص ْف َ ال فَـ ُق ْل يَـ ْن ِس ُف َها َرِّّب نَ ْس ًفا * فَـيَ َذ ُرَها قَ ً
اعا َ ك َع ِن ا ْجلِبَ ِ
وعدها رهبا؟ فيقال :ما أمسعها؟ فتقولَ { :ويَ ْسأَلُونَ َ
فِ َيها ِع َو ًجا َوَال أ َْمتًا}(".)1
ماذا سيحصل للجبال يوم القيامة مع أهنا عظيمة كل هذه العظمة؟ {يـَمنس ُف َها َرب} العظيم الذي خلقها ،فال تستعظم عليه،
مستواي ،سا بروز فيه
ً ص ًفا * َسا تَـَرى ف َيها ع َو ًجا َوَسا أ مَمتًا} مبعىن:
ص مف َ
مساواي لألرض .ما صفة هذا القاع؟ { َ
ً قاعا
{نَ مس ًفا} فيرتكها ً
أبدا.
ً
"فهذا حال اجلبال وهي احلجارة الصلبة ،وهذه رقَّتها ،وخشيتها ،وتَ َد ْك ُدكها من جالل رهبا وعظمته ،وقد أخرب عنها
ولتصدعت من خشية هللا ،فَـيَا عجبًا ِمن ُمضغَة حلم أقسى من هذه َّ فاطرها وابريها أنه لو أَنزل عليها كالمه خلشعت،
اجلبال! تسمع آَّيت هللا تتلى عليها ،ويُذ َكر الرب تبارك وتعاىل فال تَلني ،وال َتشع ،وال تُنيب! فليس ِمبُستَن َكر على هللا-
انرا تذيبها إذ مل تَِلن بكالمه ،وذكره ،وزواجره ،ومواعظه".
وجل-وال خيالف حكمته أن خيلق َلا ً عز ََّّ
87
شرح اسم الحكيم
اللقاء السابع
88
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على سيدان حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
)4ويف جزائه.
وجل-للنيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-اختيار حكيم ،فهو سبحانه خيلق ما يشاء وخيتار ،فجعل َّ
النيب- عز َّ
إذًا :اختيار هللاَّ -
على الكمال البشري ،اختاره من خري اخلَلق وأفضل األجناس ،وهذه الكلمة حينما تسمعينها سا صلَّى هللا عليه وسلَّم-عالمةً
وجل-ملا َخلَق
عز َّ
جيدا ،ويفهم أن هللاَّ -
األمر ً
فهم هذا َ
يدرس ما يسمونه ب"اجلغرافيا البشرية" يَ ُ
ُ تظين أن فيها حتيـًزا ،إمنا َمن
89
شرح اسم الحكيم
اخللق َج َعل هلم طبائع متلفة ،كما ورد يف احلديث" :إن هللا قَ َّس َم بينكم أخالقكم كما قَ َّس َم بينكم أرزاقكم"( ،)1واملقصد
قسم بينكم أرزاقكم.
قسم بينكم طباعكم كما َّ ابألخالق هنا يف احلديث :األخالق الطَّمبعيَّة ،يعينَّ :
قليل ماؤها ،كثريةٌ جباهلا ،رماهلا أعظم وأكثر رمال يف العامل ،إذا كانت هذه صفاهتا
فإذا كانت جزيرة العرب صحراء قاحلةٌ ،
صفاات تناسب هذه اجلغرافيا ،فهم أكثر الناس شجاعةً ،وأكثر الناس حتم ًال ،وأكثر الناس
اجلغرافية سنجد يف املقابل أن ألهلها ً
كرما ،وأكثرهم َمحيَّة من بني اخلليقة ،فإذا محلوا احلق دافعوا عنه ،ومحَوه ،وبذلوا أمواهلم وأرواحهم
دفاعا عما يقتنعون به ،وأكثرهم ً
ً
ابطال أو حقًّا ،-ومن
دوان عن اخلليقة-سواء كان اعتقادهم هذا ً
من أجله ،فهم كرماء يف بذل أرواحهم وأمواهلم دجاه ما يعتقدون ً
مثال حرب "داحس والغرباء" سرتى أهنم يتقاتلون أربعني
أيضا قد تصبح هذه الصفة عيبًا :ألن لو أردت أن تفسر ً
هذه النقطة ً
أيضا من األمور التافهة ،لكن ملاذا فعلوا هذا كله من
ً عاما ،ويفىن الناس ،من أجل ماذا؟! من أجل انقة!! ويتقاتلون لغري ذل
ً
أجل هذه األمور التافهة؟ ألن فيهم ما يسمى ابحلَميَّة ،وألن فيهم ما يسمى ابلشجاعة ،فهم سا يقبلون الدون ،وسا أن يُداس هلم
ابطال.
طََرف على أي شيء حقًّا كان أو ً
النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-من هؤساء العرب اختاره وهو كامل الصفات ،واختار أمته وأهله من
وجلَّ -
عز َّ
فلما اختار هللاَُّ -
العرب وفيهم هذه الصفات ،إذا محلوا احلق بذلوا كل جهد من أجله ،وإذا خابوا فرتكوه بقيت فيهم الصفات لكن على الباطل.
فهو احلكيم-سبحانه وتعاىل-اختارهم من دون اخللق .وتأيت بعدهم الروم والفرس يف صفاهتم.
وجل-يف اختيار النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-وصفاته ،وكيف أن هللاَّ -
عز عز َّ
لكن املقصد :هو أن ننظر إىل حكمة هللاَّ -
منوذجا
كمل له صفاته ،وكان نسبه من أشرف األنساب ،ملاذا هذا كله؟ من أجل أن يكون ً وجل-اختاره من بني اخلليقة ،و َّ َّ
يستطيع أح ٌد أن يتَّهم النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-يف صفة من صفاته ،فهذا من حكمته-سبحانه وتعاىل-يف شرعه،
ُ عالَميًا ،سا
مادحا وصفهَ { :وإنَّ َ لَ َعلَ َٰى ُخلُق َعظيم}( ،)2وم مدح هللا-
كمله؛ وهلذا قال-سبحانه وتعاىلً - أن الذي بلَّغ َ
شرعه عب ٌد من عباده َّ
عظيما!
وجل-له أبنه على خلق عظيم معناه أنه سيكون حقًّا ًعز ََّّ
فما أتى َمن يستطيع أن يتهم النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-يف صفاته؛ ولذلك ن ْشر صفات النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-بني
سبب إلميان أشخاص كثريين؛ فهم حينما يَعرفون َمن هو النيب؟ وما صفاته؟ وما حاله؟ وكيف هو اخلليقة اليت حتارب اإلسالم ٌ
مع أهله ،وكيف أنه-صلَّى هللا عليه وسلَّم-ما ضرب ً
أحدا سا صبيًّا وسا امرأ ًة إسا أن جياهد يف سبيل هللا ،وكيف كرمه وجوده
) (1أخرجه أمحد يف املسند ( ،)387 /1وأخرجه البخاري يف األدب املفرد ( ،)275وأبو داود يف الزهد ( ،)157واحلاكم يف املستدرك ( ،)33 /1أخرجه
اإلمساعيلي يف معجم الشيوخ (.)727_726 /3
)[ )2سورة القلم]4 :
90
شرح اسم الحكيم
وتعامله مع الصغري والكبري ،...كل صفات النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-هذه حتتاج إىل نشر؛ ليع ِرف الناس كيف أن هللا
كمله من اخللق.
حكيم ،ما اختار لرسالته إال َمن َّ
إمياان به-صلَّى هللا عليه وسلَّم ،-وسيزيد كلمة "الصالة عليه" حيا ًة يف قلوبنا .أمل تسمعوا قول النيب-صلَّى
ومثل هذا سيزيدان ً
هللا عليه وسلَّم-للرجل يوصيه ملا سأله :كم أجعل ل من صاليت؟ -مبعىن :كم أجعل ل من دعائي وقت ما أكون متوج ًها أريد
أن أدعو؟ مبعىن :كم أصلي علي ؟-انقشها وانقشها إىل أن قال له-صلى هللا عليه وسلم" :-اجعل يل صالت كلها ،تُكفى
مه "(.)1
من املؤكد أن هناك سؤال استفهام وهو :كيف أُك َفى مهي ويُغ َفر يل ذنيب حينما أصلي على النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-يف
دليل على إميان أن هللا حكيم ،وأنه ما اختار إلبالغ دينه َّ َّ
دعائي؟ سيحصل ل ذل ألن الصالة عليه-صلى هللا عليه وسلمٌ -
وإمياان ابلرسالة اليت جاء هبا الرسول-صلَّى هللا
إمياان حبكمة هللاً ،
كامل من اخلليقة .فكانت الصالة على الرسول ً
إسا َم من هو ٌ
وجل-؛ وهلذا َمن َعلم مكانة
عز َّ
سيصب يف إميانك ابهللَّ -
ّ عليه وسلَّمً ،-
وإمياان بكل األخبار اليت أتى هبا الرسول ،وهذا كله
أبدا أن يعيب فيه.
رسوسا سا يستطيع أح ٌد ً
رسوسا هذا اترخيهً ، النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-وجد يف نفسه ً
رضا عن هللا أنه أرسل له ً
كلكم تعلمون أن كل عظماء الدنيا سا بد أن ختفى من حياهتم خفااي ،وسابد أن تكون فيهم نقاط سوداء تُطوى ،أما حياته-
نشرا ،فال دجد فيها ما يعيب ،سا دجد فيها إسا الكمال ،وهذا سيجعل تُثين على النيب-صلَّى َّ َّ
صلى هللا عليه وسلم-فقد نُشرت ً
ب ذكره وحفظ سنته ،وجعل اخللق َّ َّ َّ
هللا عليه وسلم ،-وتُثين على مرسله احلكيم ،الذي طيَّب النيب-صلى هللا عليه وسلم ،-وطيَّ َ
يتناقلون ُخلُقه-صلَّى هللا عليه وسلَّم-؛ ولذل يُثىن عليه-صلَّى هللا عليه وسلَّم-ابلصالة ،ويف ثنااي ثنائ على النيب ثناء على
هللا العظيم ،الرب الكرمي احلكيم ،الذي جعل خامت املرسلني على هذه الصفة من األخالق.
إ ًذا :أول ما يتعلق إبميان أن هللا حكيم يف شرعه :إميان أن النيب الذي أرسله هللا إلينا خاصة ،وإىل اخلليقة عامة ،كمله
وجل-تظهر يف اختياره للنيب-صلى هللا عليه وسلم.-
عز َّ
وجل ،-وأن آاثر حكمة هللاَّ -
عز َّ
هللاَّ -
نج ّر على األنبياء كلهم ،فمن ضعف اإلميان أن ال جتد يف قلبك حبًّا وشوقًا إىل مجيع األنبياء ،من ضعف اإلميان أن ال
ومثل هذا اإلميان جيب أن يَ َ
جتد يف قلبك مكانةً إلبراهيم-عليه السالم-وهو خليل الرمحن! من ضعف اإلميان أن ال جتد يف نفسك مكانة ملوسى-عليه السالم-وهو كليم
مجيعا؟! كل اسم من أمساء هؤالء العظماء جيب أن يكون له رنني خاص يف قلبك ،وجيب عليك
الرمحن! كيف ال جتد يف نفسك مكانة لألنبياء ً
جيرك ذلك لإلميان والتقوى.
عندما تسمع عنهم أن ّ
) )1رواه الرتمذي يف السنن /صفة القيامة والرقائق والورع )2457( /وقال حديث حسن صحيح ،ورواه أمحد يف مسند األنصار رضي هللا عنهم ( ،)136/5واحلاكم
وصححه ،وحسنه الشيخ األلباين رمحه هللا يف الصحيحة (.)954
91
شرح اسم الحكيم
وح َٰى}( ،)1اختاره هللا وهو احلكيم ،فمن استَم مع ل َما يُ َ اختَـ مرتُ َ فَ م
وجل-موسى-عليه السالم ،-فيقول لهَ { :وأ ََان م
عز َّ
يكلم هللاَّ -
ب إ َ َٰىل ف مر َع مو َن إنَّهُ طَغَ َٰى}( ،)2فيقول مباشرًةَ { :رب
اإلميان أن تؤمن به ،وتتلمس صفات كماله ،وترى إميانه .يقال له{ :ا مذ َه م
احلُ مل ُع مق َد ًة م من ل َساين}( ،)3مباشرًة :ما له إسا هللا!
ص مدري * َويَس مر يل أ مَمري * َو م
ا مشَر مح يل َ
من إميانك حبكمته-سبحانه وتعاىل-أن تُقلِّب يف ذهنك ِس َري هؤالء األنبياء العظماء الذين اصطفاهم هللا ،من إميان
حكيم ،أرسل شعيبًا إىل قومه.
حكيم ،أرسل موسى-عليه السالم-إىل قومه .هللا ٌ ٌ ابحلكمة أن ما تراهم يف موطن إسا وتقول :هللا
حكيم ،أرسل إبراهيم إىل قومه ،وهكذا.
هللا ٌ
وجل:-
عز َّ
تبني لنا إىل هنا أن هللاَّ -
-1حكيم يف خلقه( .وانقشنا ذل األسبوع املاضي)
-2حكيم يف شرعه .ورأس الشرع :أن نتكلم عن:
oالنيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-الذي أرسله هللا.
oوعن الكتاب الذي أنزله هللا.
فمن اإلميان حبكمة هللا يف شرعه :أن تؤمن هبذا الكتاب العظيم الذي حفظه هللا من كل حتريف ،وأظهر فيه اآلايت
العظيمة.
سنرى هذا يف مواطن متعددة ،وسنبذل جهودان-إن شاء هللا-يف اسانتفاع بوقفات مع القرآن ،وسأُطيل يف هذا املوضوع
لسبب :وهو أن شهر رمضان ُمقبِل علينا ،وهذا الشهر العظيم يستلزم منا العناية ابلقرآن .فأهل العلم يقولون" :ما فُ ِرض
()4
وجل-يف سورة البقرة ملا أخربان عن شهر رمضان
عز َّ الصيام يف رمضان إال ألن الكتب نزلت فيه" ،وأعظمها القرآن ،وهللاَّ -
ضا َن الَّ ِذي أُن ِز َل فِ ِيه الْ ُق ْرآ ُن}( ،)5دسالةً على أن هذه هي ميزة الشهر ،والنيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-يقول:
قال لناَ { :ش ْه ُر َرَم َ
َّم م من َذنمبه"(.)6
احت َس ًااب ُغفَر لَهُ َما تَـ َقد َ
اان َو م
ضا َن إميَ ً
ص َام َرَم َ
" َم من َ
فأنت تريدين أن تُقبلي على شهر القرآن ابلقرآن ،وتريدين أن تُقبلي على شهر رمضان ابإلميان ،وإن بذلت اآلن جهدك يف
معا عندما نقضي هذه األايم:
تدبر القرآن ،سيظهر ل أمران ً
ستظهر حكمة هللا العظيمة يف كتابه.
ولن تظهر حكمة هللا يف كتابه إسا ابلتدبر.
معا يف نفس الوقت ،وسنجعل مناذج تفصيلية لذل -إن شاء هللا.-
فسنخدم هاتني الفكرتني ً
سنبدأ أبهم مسألة:
وجل-يف إنزاله؟
عز َّ
مىت ستُدرك عظمة القرآن ،وحكمة هللاَّ -
ستُدرك ذلك عندما يكون لك نصيب يف اللغة؛ ألن ضعف اللغة سبب عظيم لضعف التدبر ،وسبب عظيم لعدم
اإلحساس بعظمة القرآن ،وكلما مرنت نفس على أن تفهم ما تستطيعه من مفاهيم اللغة كلما زدت ً
فهما للقرآن ،وسا أعين
بذل أن تصبح "سيبويه" يف اللغة! سا! ولكن اعط نفس قواعد يف اللغة ،وليس املطلوب هو أن حتفظ القواعد وتسمعها،
وتضرب هلا أمثلة يف األخري ،سا! ليس هبذه الصورة ،بل قواعد تستطيع من خالهلا أن تفهم القرآن.
فأول أداة جيب أن تكون مع -بعد اليقني أبن القرآن كتاب هللا ،وأنه كالم هللا :-هي أداة اللغة.
كلما صار مع نـَ َهم للغة كلما بدأت تشعر بعظمة القرآن؛ ألنه ليس كأي كتاب ،وسا ميكن ملثل هذا أن يقوله البشر!
مستحيل! إسا أن ضعف اللغة يسبب عدم الشعور هبذه املسألة.
سنضرب اليوم بعض األمثلة املتفرقة:
أوسا :سورة الكافرون:
ً
كثريا ما ُخيطئ الناس عند قراءهتا وحفظها ،وحلل املشكلة يقولون ل َمن يريد حفظها :عد بيدك عدد آايهتا!
هي السورة اليت ً
صرها! والسبب هو شيء مهم وهو عدم فهمنا هلا! حنن نشعر يف داخلنا أن السورة فيها تكرار،
يقع اخلطأ يف السورة ابلرغم من ق َ
لكننا نستحي من ذل ،داخلنا هذه املشاعر ،لكننا ساكتون عنها.
لن تفهم مسألة هذه السورة إسا حينما تفهم اجلملة يف اللغة العربية .سنذهب اآلن إىل اللغة ،وسنفهم فقط شيئًا بسيطًا جدًّا:
الفرق بني اجلملة اسامسية واجلملة الفعلية-مبعىن :الفرق بني اساسم والفعل.-
وهذا ليس صعبًا! فالقاعدة تقول:
كل اسم يدل على الثبوت ،وكل فعل يدل على احلدوث واالستمرار.
93
شرح اسم الحكيم
وجل-يقول{ :قُ مل َاي أَيـ َها الم َكاف ُرو َن (َ )1سا أ مَعبُ ُد َما تَـ معبُ ُدو َن (َ )2وَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد ( })3هذا كالم
عز َّ
هللاَّ -
النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-وهو يتربأ من الكافرين.
مث يصف النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-حاله مرة أخرىَ { :وَسا أ ََان َعاب ٌد َما َعبَ مد ُممت (.})4
ويصف حاهلم مرة أخرىَ { :وَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (.})5
ما الفرق بني وصف النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-حلاله ،وبني وصفه حلال الكافرين؟
وصف النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-حلال الكافرين وصف النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-حلاله
مجلتان متطابقتان: مجلتان متلفتان:
{ َوَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (})3 {َسا أ مَعبُ ُد َما تَـ معبُ ُدو َن (})2
{ َوَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (})5 { َوَسا أ ََان َعاب ٌد َما َعبَ مد ُممت (})4
اآلن السؤال :ملاذا تغري وصف النيب-صلى هللا عليه وسلم-؟ وملاذا ثبت وصفهم؟ وماذا يريد أن خيربان بذل ؟
النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-نفى عن نفسه عبادة األصنام يف احلالتني ،ولكن بصيغتني متلفتني:
فقولهَ{ :سا أ مَعبُ ُد} فعل منفي ،أي :أنه-صلَّى هللا عليه وسلَّم-نفى استمرار ذل الفعل.
وقولهَ { :عاب ٌد} اسم ،ونفى الثبوت بقولهَ { :وَسا أ ََان َعاب ٌد}.
مبعىن :أنه-صلَّى هللا عليه وسلَّم-نفى عن نفسه عبادة األصنام يف احلالتني :الثابتة واملتجددة ،إذًا :هو نفى عن نفسه
عبادة األصنام يف مجيع األزمنة.
حادث وسيزول ،فالفعل فيه احلدوث فقط ،فكأنه يقال :لو قالَ{ :سا
ٌ ولو اقتُصر على الفعل :ميكن أن يُقال هذا ٌ
أمر
أ مَعبُ ُد} األصنام اآلن ،إ ًذا ميكن أن يقال له :ستعبدها يف املستقبل.
94
شرح اسم الحكيم
ولو اقتُصر على اساسم لقيل :صحيح أن هذه صفةٌ اثبتة ،لكن قد حيدث غريها ،فليس ثبوت هذه الصفة معناه
استمرارها على هذا الوصف؛ ألن اإلنسان قد يفارق وص َفهُ.
إذًا :ماذا أراد النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-أن يعلن هلم؟ أراد أن يعلن براءته ابلصيغتني :الفعلية واالمسية.
قال هلم ابلصيغة الفعلية :لن حيدث مِن مثل هذا .وابسامسية قال :وأان اثبت على ذلك .وهذا هو تفسري اآليتني يف وصف
حاله-صلى هللا عليه وسلم.-
تأيت السؤال الثاين :ملاذا ثبت وصف حاهلم؟
نفى هللا عنهم عبادته بصيغة اجلملة اسامسية فقطَ { :وَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد} مرتني ،ومل يذكر اجلملة الفعلية .على أي
شيء يدل هذا؟ يدل على ثبوهتم على حاهلم يف العبادة.
وهذا يناسب بداية السورة{ :قُ مل َاي أَيـ َها الم َكاف ُرو َن} ،ومل يقل" :يكفرون" ،ف"الكافرون" اسم يدل على الثبوت ،أي:
ب أن
فناس َ
ف الك مفر اثبت هلمَ ،
وص ُ
الثابتون على كفرهم ،وألن "الكافرون" اسم دال على ثبوت الوصف كان معىن اآلية :اي َم من م
َتيت اجلملتني امسيتني { َوَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (َ { })3وَسا أَنمـتُ مم َعاب ُدو َن َما أ مَعبُ ُد (.})5
نبدأ اآلن من أول السورة ،وكأننا نفسرها:
{ -1قُ مل َاي أَيـ َها الم َكاف ُرو َن} أي :اي َمن ثبت يف حقهم وصف الكفر.
-2أان بريء من أن أعبد وأن حيدث مين العبادة لغري هللا.
-3وأنتم اثبتون على كفركم على عبادة غري هللا.
-4وأان سأستمر على أن سا أعبد إسا هللا.
-5وأنتم اثبتون على عبادة غري هللا.
إ ًذا :تربأ النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-من الدخول يف الشرك ،ومن جمرد حدوث هذا ،وتربأ من أن يفعل أو يدخل يف ذل
مستقبال.
ً
سابد أن ترددوا هذا الكالم على عقولكم حىت سا ختطئوا! هذه السورة وسورة اإلخالص تسميان ب"سوريت اإلخالص"،
وسورة الكافرون من أعظم السور اليت فيها الرباءة من الشرك ،إذًا :سابد وأن هلا منزلة عظيمة يف الدين ،فكيف ختطئ يف قراءهتا؟!
95
شرح اسم الحكيم
96
شرح اسم الحكيم
املعىن اللطيف ،الذي يدل على أن احلج فيه الزحام. ت إسا ابمسها
منها ،فلما أُشري إىل فتحها ما ُمسيَ م
املشهور (مكة).
األصل هو :أن تأيت (اإلنفاق) يف القرآن بصورة فعل ،وتأيت (اإلميان) بصورة اسم؛ ألن اإلميان :ثبات .واإلنفاق :استمرار
أيضا على ثباهتم عليه .وسنرى من هذا َع َجبًا!
ودجدد .وحينما آتى وص ًفا للمؤمنني دل ً
سنكتفي هبذه األمثلة ،ونبدأ اآلن ابساتفاق على ما سنفعله يف سورة (ص):
غدا قراءة صحيحة؟
ما هو املطلوب منكم لتقرؤوا السورة ً
أوال :ستقرئني السورة يف جلسة واحدة من أوهلا إىل آخرها دون أن تقطعي القراءة.
ً
اثنيًا :سنحدد (موضوع السورة) عن طريق تقسيمها إىل موضوعات.
.2سورة آل عمران.
بداية السورة:
ني يَ َديمه} أي :لِما
صدقًا ل َما بـَ م َ وم * نَـ َّز َل َعلَمي َ المكتَ َ
اب اب محلَق ُم َ اَّللُ َال إِلَهَ إَِّال ُه َو ا ْحلَ ُّي الْ َقيُّ ُ
{ امل * َّ
()1
يل} سبَقه { َوأ َ
َنزَل التـ مَّوَرا َة َو ماإلجن َ
خامتة السورة:
{ َوإ َّن م من أ مَهل المكتَاب لَ َمن يـُ مؤم ُن اب ََّّلل َوَما أُنزَل إلَمي ُك مم َوَما أُنزَل إلَميه مم َخاشع َ
ني ََّّلل َسا يَ مشتَـ ُرو َن آب َايت ا ََّّلل
()2
َمثَنًا قَل ًيال}
سورة آل عمران نزلت يف َوفمد جنران الذين أنكروا على النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-عندما قال هلم :أسلموا .قالوا :أسلمنا من
()1
اَّلل ماإل مس َال ُم} ،وقد تكررت كلمة (اإلسالم) يف السورة ،وعندما جتدين أن كلمةً
ند َّين ع َ قبلَ .فرد هللا عليهمَّ { :
إن الد َ
تكررت يف سورة ستفهمني أن هذا هو املوضوع الرئيسي َلا.
مث ُختمت سورة آل عمران أبن غالب هؤساء موقفهم هو اإلنكار ،ولكن منهم َمن يؤمن ابهلل ،ويؤمن مبا أُنزل إلي .
سادسا :ساحظي العالقة بني خواتيم السورة ومطلع السورة اليت بعدها.
ً
فهذه العالقة بني السور تدل على أن هذا القرآن ال يكون إال من حكيم عليم ،وكما تعلمون أن ترتيب املصحف
توقيفي-أي :ال ميكن تغيري ترتيب ُس َوره .-انظري إىل هذا التوقيف العجيب! َُتتَم هذه السورة مبفهوم ،فتبدأ السورة اليت
تليها مبفهوم يُؤيّده!
ضرب!-ستجدين أن
مثاسا لتتضح هذه اخلطوة :ساحظي العالقة بني سوريت (هود) و(يوسف)-وهذا أغرب مثال يُ َ
سنضرب ً
خامتة سورة هود هي مقدمة لسورة يوسف ،وهكذا يف كل القرآن.
فلو كنت شديد التنبه سرتى عجبًا يف كتاب هللا! سا ميكن أن يكون كالم بشر! فمع طول سورة البقرة تأيت أوهلا موافق
وختتتَم مبفاهيم
آلخرها ،ومع طول آل عمران تأيت أوهلا مؤيد آلخرها ،ومثله يف األعراف واألنفال ،ويف كل السور ،تُفتَتح السور ُ
حني نتدارس متقاربة تكاد تكون كاآلية الواحدة ،هل ميكن أن يكون هذا كالم بشر؟! مستحيل! وسنرى أعجب من ذل
سورة (ص)-إن شاء هللا.-
أسأل هللا أن ينفعنا هبذه الدراسة ،وأن تكون سببًا لزايدة إمياننا به ،وزايدة انتفاعنا ابلقرآن ،اللهم آمني.
101
شرح اسم الحكيم
اللقاء الثامن
102
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على سيدان حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
سا زلنا بفضل هللا ومنته نتدارس هذا اساسم العظيم اسم هللا (احلكيم).
فحكمه كله حكمة ،واحلكمة معناها :وضع وجل-وصف احلكمة واحلُكمُ ،
عز َّوقد مر معنا أن هذا اساسم معناه :أن هللَّ -
أبدا .وهو حكيم-سبحانه وتعاىل-يف كل أمره وهنيه ،وشرعه ،ويف خلقه ،وتصريفه
األمور يف مواضعها ،فال يُعاب على واضعها ً
لألمور ،وتدبريه.
فإذا َتمل عبد انضج ختلى عن هواه سيجد احلكمة يف كل هذا ،لكن اهلوى هو الذي جيعل اخللق سا يرون حكمة هللا يف
ملوقاته أو يف شرعه وأمره وجزائه ،فما أن يوافق الشرع هوى اإلنسان إسا ويعرتف أن كله حكمة ،أو يكون من العقالء الذين
وجل-وأمره كله حكمة.
عز َّ
دجردوا من هواهم ،فرأوا شرع هللاَّ -
اتفقنا على أننا سنناقش حكمته-سبحانه وتعاىل-يف شرعه ،واتفقنا أن احلكمة يف الشرع تتجلّى يف أمرين:
فالكتاب يتضمن احلكمة العظيمة ،وسرتى حكمته تتجلى يف األخبار واألوامر والنواهي-كما ذكر الشيخ السعدي يف
النقاش األول ،-وقبل هذا كله تتجلى يف أن هذا القرآن حتدى هللا أن تأيت أحد مبثله .ما املطلوب من من أجل أن تفهم هذا
التحدي؟ أن يظهر ل شيء من عظمته وبالغته ،وهذا سا يكون إسا بتدبرك آلايته.
منوذجا على ذل :سورة الكافرون ،وكيف أن َمن يُهمل سورة الكافرون سا يتبني له
واتفقنا أننا سنتدبر سورة (ص) ،وأخذان ً
أن فيها معان عظيمة اجتمعت يف كلمات متصرة ،وكيف أن النيب-صلى هللا عليه وسلم-أظهر براءته من الشرك يف تل
اللحظة ،ويف كل حلظة ،وأن كل عبد عليه أن يُظهر براءته من الشرك يف هذه اللحظة ،ويف حياته كلها ،وأن هذا املعىن إذا مل
شاهدا به ،إذا مل تفهم سورة الكافرون ستعرتف أبي شيء؟ وستتربأ من أي شيء؟ ستكون السورة ابلنسبة
يتجلى ل لن تكون ً
103
شرح اسم الحكيم
سورة (ص)
أي سورة تبتدئ حبروف مقطعة سا بد أن يكون فيها إشارة للحديث عن الكتاب وعظمته-إما إشارة مباشرة أو غري مباشرة-
،وسنرى اآلن يف سورة (ص) ما سيظهر من عظمة القرآن.
ما السبب يف كون هذه احلروف َتيت لإلشارة للقرآن؟ ليقال ل :القرآن متكون من احلروف ،وهذه احلروف أنت تُدركها،
كالما بليغًا مثل القرآن!
وتستطيع أن تُركب منها كلمات ،وهللا يتحداك أن َتيت مبثله :فتعال إىل هذا الذي تتكلم به ،وأنشئ به ً
وإذا َتملتم وحصرمت احلروف اليت ورد فيها التحدي ستجدون أهنا نصف احلروف اهلجائية ،أتى من كل نوع من احلروف
مثال :احلاء ،واجليم ،واخلاء ،ماذا أتى منها؟ احلاء .الصاد ،والضاد :أتى منهما :الصاد ،وأتى من احلروف احللقية
منوذج عليهً .
حرف ،ومن حروف اهلمس حرف ،وهكذا .فرتى عجبًا يف كون حىت هذه األحرف أتت كالنموذج لباقي احلروف ،فيقال ل :
تكلَّم هبذا الكالم ،وائت مبثل هذا اإلعجاز!
()1
وجل-يقسم ابلقرآن؛ ألن الواو هذه تسمى :واو القسم.
عز َّ
يقول سبحانه وتعاىلَ { :والم ُق مرآن ذي الذ مكر} .هللاَّ -
و{الذ مكر} معروف .لكن ما معىن {ذي}؟ هو اسم إشارة ،لكن {ذي} هنا ليست مبعىن صاحب ،إ ًذا على ماذا تدل؟ ما
املشاعر اليت تقع يف قلب عندما متر علي مثل هذه الكلمات الغريبة؟ لن توقع أي مشاعر ألهنا غري مفهومة! فكل ما أفهمه
من قوله تعاىل{ :ص * َوالم ُق مرآن ذي الذ مكر} أن {ص} :حرف ،وبعد ذل كالم عن القرآن ،وأنه ذكر .أما {ذي} فليس هلا
مكان عندي! سا حمل هلا من اإلعراب عندي! وسا حمل هلا من الشعور! مع أن هذه الكلمة تُضاف إىل األشياء الرفيعة ،ويُشار
هبا إىل األشياء ذات املنزلة العالية.
{والم ُق مرآن
املفرتض أن يقع يف قلب وأنت تقرأ هذه الكلمة أهنا إشارة لشيء عظيم ،وها هي هنا تشري إىل القرآن ابلعظمةَ :
ِذي الذ مكر} ،أي :والقرآن الذي له مكانة عظيمة يف الذكر .ف{ذي} عبارة عن حرفني! لكن السامع الذي يفهم سيعلم أن
الذي سيأيت الكالم عنه هو شيء عظيم.
وجل-خلق يف قلبك مساحة فارغة للمعرفة ،وخلق فيه املشاعر .مساحة املعرفة هذه امألها معرفة قوية صلبة
عز َّ
هللاَّ -
جتر بدنك للعمل ج ًّرا.
ذات ثقل ،وهذه املعرفة ستؤثر على مشاعرك ،وإذا أثّرت على مشاعرك ستعمل سر ًيعا ،لن ّ
ودائما نقول :كلما قرأت القرآن زاد إميان ،كلما قرأته زادت املساحة املعرفية ،وامتأل قلب به ،فزاد شعورك وَتثرك آبايته،
ً
فتصبح مبجرد أن تسمع هذه الكلمات تُثار دجاهها .لكن املشكلة هي أننا ينقصنا قراءة ُمجَل القرآن ابعتبار أهنا منظومة متصلة.
َّ
لو أردت أن تفهم قوله تعاىل{ :بَ ِل الذ َ
ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق} ابملعىن الظاهر {بَل} يف اللغة لإلضراب ،مبعىن أن
ستقول :لكن الذين كفروا يف عزة وشقاق.
ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق} أي :يُقسم هللا ابلقرآن؛ ألنه عظيم ،وله مكانة عظيمة، َّ
{ص * َوالم ُق مرآن ذي الذ مكر * بَل الذ َ
ومدائح عظيمة ،وله أثر على القلوب؛ ألن فيه الذكر الذي يُصلحها ،وهو يرفع صاحبه ،وجيعله من املذكورين عند هللا( ،لكن)
سبب عدم انتفاع الذين كفروا من القرآن :أن هلم صفتان:
ولذل مل يكن للقرآن أثر عليهم ،ليس لعيب يف القرآن! بل ألن يف قلوهبم عزة وشقاق.
متصال .عندما تريدين عندما َتيت هذه املعاين اجلزئية سابد أن تُرَّكب على املعىن العام ،حبيث يصري لكال اجلملتني معىن و ً
احدا ً
ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق} وأنت سا تعلمني أن (بل) معناها (لكن) ،لن تظهر ل عالقة اآلية َّ
أن تفهمي قوله تعاىل{ :بَل الذ َ
الثانية ابألوىل.
مثال( :ذي) عندي مشكلة فيها( ،بل) عندي مشكلة فيها ،ومثل هذا سا جيعلين أرى
حنن نريد أن نضع أيدينا على الثغرات! ً
احدا يوصلين إىل املراد.
القرآن سياقًا و ً
وجلَ { :ك مم أ مَهلَكمنَا من قَـمبلهم من قَـ مرن} يعين هم يف عزة وشقاق ،وعليهم أن يعتربوا مبن قبلهم{ ،فَـنَ َادوا
عز َّ
مث يقول هللا َّ
ني َمنَاص}( )1احبثوا عن معناها يف لسان العرب. تح َ َّوَسا َ
ابلع َجبَ { .و َعجبُوا} أي :وقع هلم العجب من حال النيب-صلى هللا عليه
ملاذا هم يف {عَّزة} و{ش َقاق}؟ ألهنم أُصيبوا َ
وسلم .-عجبوا من ماذا؟ {أَن َجاءَ ُهم منذٌر ممنـ ُه مم} ،سبحان هللا! يعجبون أن تأتيهم منذر منهم ،ماذا يريدون إ ًذا؟ من أين
يريدون املنذر؟!
وأنت تقرئني ال الم َكاف ُرو َن} عن الرسول-صلى هللا عليه وسلم-وصفنيََٰ { :ه َذا َساحٌر َك َّذاب}( ،)2وسيظهر ل
{ َوقَ َ
اآلايت :على ماذا قالوا ساحر ،وعلى ماذا قالوا كذاب.
ما األمر الذي يناسبه رميهم للرسول-صلَّى هللا عليه وسلَّم-ابلسحر؟ وما األمر الذي يناسبه رميهم له ابلكذب؟
معهودا عندهم.
ً َج َع َل ماآلهلَةَ إ ََٰهلًا َواح ًدا}؟ يناسبه السحر؛ ألنه أاتهم مبا مل يكن
قوهلم{ :أ َ
وقوهلم{ :أَأُنزَل َعلَميه الذ مك ُر من بـَميننَا}؟ يناسبه الكذب؛ ألنه-يف نظرهم-ادعى شيئًا دعوًة لشرفه ،وأنه يكذب يف ادعائه لريفع
نفسه.
عندما تقرأ القرآن ودجد شيئًا من األوصاف ،أو من الدعاوى ،سابد أن تبحث من أين أتى هذا الوصف؟ ما أصله؟ ما سبب
قوهلم هذا؟ هل وقع يف عقولكم أثناء قراءتكم للسورة سؤال استفهام :ألي شيء قالوا عنه ساحر كذاب؟ إذا ما وقع السؤال
سابد أن دجد يف السورة ما جييب ،فال تعتمد يف اإلجابة على تفكريك ،بل اجلواب فهذا يدل على نقص يف القراءة؛ ألن
موجود يف السياق .واملشكلة أننا عندما نقرأ سا نربط اآلايت ببعضها! حبيث يكون هنا السؤال وهنا اإلجابة ،هنا اخلرب وهنا
بيانه ،سا نتصور أن املسألة هكذا! سا ننظر لآلايت على أهنا مسبوكة على معىن واحد ،وهلذا سا نشعر إبعجاز القرآن.
وأنتم قارنتم بني ورودها هنا يف سورة (ص) ،وبني ورودها يف ابقي السور .هل القصة متشاهبة يف كل املواطن؟ سا .قصة
داود-عليه السالم-يف سورة (ص) :ورد فيها ذكر "اخلصم" و"خيتصمان" ،فانظري للتوافق بني "ص" و"خصم" ،وتكرر حرف
الصاد يف قصة داود-عليه السالم-يف سورة (ص) ،مع العلم أنه مل يَرد ذكر اخلصم يف قصته إسا يف هذه السورة.
تكرر ذكر داود-عليه السالم-يف القرآن ،ويف كل موطن تُذكر قصته مناسبة للسورة ،ففي سورة (ص) وجدان أن النيب-صلى
َّ
هللا عليه وسلم-يُؤمر ابلصرب ،وأن يَذكر ابتالء داود عليه السالم ،وصربه على هذا اسابتالء ،وأن هللا رفع مكانه .وبالء داود-عليه
صم}(.)1 وجل-له يف اخلصم ،فأتى ذكرَ { :وَه مل أ ََات َك نـَبَأُ م
اخلَ م عز َّ
السالم-كله كان يف اختبار هللاَّ -
ما اشتهر يف وصف أيوب-عليه السالم-أنه صابر .وردت قصته يف موضعني من القرآن:
يف األنبياء وردت قصته من جهة وقوع البالء عليه ،ومن جهة دعائه ،واستغاثته بربه ،لكن مل يُوصف فيها أبنه "صابر" ،وإمنا
ُوصف بذل يف (ص).
هل التوافق اللفظي هذا متبني؟! أتى يف سورة (ص) من أوصاف لألنبياء وألحواهلم فيها حرف "الصاد" ،ومع موافقة القصة
عجز عن اإلتيان مبثله ،تعجز أن تستشهد
للحال ،لكن ملا ذُكرت مالبساهتا وأوصافها أتى وبرز فيها حرف "الصاد" ،ومثل هذا تَ َ
بقصة مناسبة يف املكان املناسب مث تكون هبذه الصورة.
صار}( ، (2مع العلم أهنم مل ُمي َدحوا هبذا الوصف إسا يف (ص).
ُمدح األنبياء يف هذه السورة أبهنم {أُويل ماألَيمدي َو ماألَبم َ
وجل-عندما يُقسم
عز َّ
بياان ولتتصوروا هذه املسألة ،كيف أن هللاَّ -
املسألة حتتاج إىل شيء من الرتكيز! وحىت نزيد األمر ً
احلب ويف
ابلقرآن ،فإنه يقسم على شرف القرآن ومكانته ،ويبدأ حبروف يُظهر ل هبا أن لو تريد أن َتيت مبثل هذا القرآن يف م
إنزال األشياء منازهلا ،ولو قضيت عمرك كله يف ذل ،واجتمعت مع َمن اجتمعت فإن لن تستطيع!
سورة (ق)
أوصاف اآلخرة واملوقف كله مناسب ملشهد القيامة ،وقد سا تلحظ حرف "القاف" ،وتسري مع املعىن ،لكن َتيت ألفاظ فيها
سيوصف املشهد كله بغاية من اإلتقان واإلظهار،
َ ما أقسم هللا عليه ،ليقال ل :أليس هذا حرفًا من احلروف؟ انظر كيف
وستأيت الكلمات فيها هذا احلرف الذي أنت تتقنه.
سورة القلم
َنت بن مع َمة َرب َ ظاهرا جدًّا يف سورة القلم :سنجد يف السورة هذه األلفاظ{ :ن َوالم َقلَم َوَما يَ مسطُُرو َن * َما أ َ مثل هذا سيكون ً
َجًرا َغميـَر مَمنُون * َوإنَّ َ لَ َعلَ َٰى ُخلُق َعظيم * فَ َستُـمبص ُر َويـُمبص ُرو َن * أبَيي ُك ُم الم َم مفتُو ُن * إ َّن َربَّ َ ُه َو أ مَعلَ ُم مبَن
مبَ مجنُون * َوإ َّن لَ َ َأل م
ين )1(}...إىل آخر السورة.
ض َّل َعن َسبيله َوُه َو أ مَعلَ ُم ابلم ُم مهتَد َ
َ
أيضا-غري مسألة ال َق َسم واحلروف :-البداايت واخلواتيم .وهذا ما جيب علي أن تالحظه ،ودجعله أمام
يالحظ يف القرآن ً
ما َ
عيني .
اجأ-
معىن مسبوًكا ،وقصص أتى شاه ُدها مناسب حلال النيب صلى هللا عليم وسلم ،لكن ستُـ َف َ
لو مل تالحظ احلرف ستجد ً
مثال-أبن أيوب-عليه السالم-ما ُوصف أبنه "صابر" إسا يف سورة (ص) ،وما أتى ذكر "اخلصمان" إسا يف (ص) .وأنت عندما
ً
تراجعني سورة (ص) هبذه النظرة ستتبني ل غري هذه املواطن اليت يربز فيها هذا احلرف.
وهذا يظهر خاصة يف هذه الثالث السور اليت بدأت حبرف واحد .ويف سور احلروف املقطعة األخرى-مثل( :طه) (طسم)-
معا.
سيظهر ابلطبع نوع آخر من عظمة القرآن ،لكن هذا حيتاج إىل أن تتقدموا يف علم البيان والبالغة؛ لتتصوروا املسألتني ً
من أدلة ِ
صدق هذا القرآن :ورود أخبار األولني فيه .وعندما تنظرين يف سورة (ص) ستجدين الشاهد على ذل ،
فاألخبار اليت أتت عن داود وعن سليمان وعن أيوب عليهم السالم ،هل هي أخبار خاصة بنا؟ أم أهنا موجودة يف كتب اليهود
مثال يف قصة داود عليه
والنصارى؟ اجلواب :أهنا موجودة يف كتب اليهود والنصارى .يبقى اآلن موقفي وأان أنظر إىل حكمة هللا ً
السالم:1
ال لََق مد ظَلَ َم َ ب ُس َؤال نـَ مع َجت َ إ َ َٰىل ن َعاجه َوإ َّن َكث ًريا م َن م
اخلُلَطَاء عندما تقرئني قوله-سبحانه وتعاىل-على لسان داود{ :قَ َ
ود أََّمنَا فَـتَـنَّاهُ}( ،)2ماذا تفهم
يل َّما ُه مم َوظَ َّن}-أي :تيقنَ {-د ُاو ُ َّ َّ
الصاحلَات َوقَل ٌ
ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ
ض ُه مم َعلَ َٰى بـَ معض إسا الذ َ
لَيَـمبغي بـَ مع ُ
من هذه اجلملة األخرية؟ تفهم أن داود-عليه السالم-فُنت .لكن ما حال هذه الفتنة؟ مل يُذكر ل يف القرآن تفاصيلها.
تصوروا كيف تكلم اليهود عن فتنة نبيهم! أليس داود من أنبياء بين إسرائيل املعظَّمني عندهم؟ وهم حياربون يف فلسطني-أزاهلم
هللا-يبحثون عن هيكل سليمان؟! ويرونه من ملوكهم العظماء .ومع ذل قالوا يف حق نبيهم :أنه رأى امرأة فأُعجب هبا ،مث َعلم
خرج فيه هذا اجلندي ،فيُقتَل فيه ،لكنه مل يُقتل ،فأرسله مرة أخرى ،فلم يُقتل ،فأرسله
جيشا؛ ليَ ُ
أهنا زوجة ألحد جنوده ،فجيش ً
مرة أخرى إىل أن قُتل!! يعين داود-عليه السالم-يضحي بكل هؤساء من أجل هذا!! هكذا يتكلمون عن األنبياء! مث بعد أن
حيصل هذا كله ويتزوجها ،تأتيانه امللَكان فيتسوران حمرابه-على أهنا ملَكان ،سا على أهنما خصمان-فيختصمان ،فيَفهم داود-
الوقت أنه أخطأ ملا أخذ زوجة الرجل! وهللا هذا الكالم يستحي الواحد أن يقوله على عامة الناس! عليه السالم -يف ذل
فكيف يُقال على نيب؟! كيف يُقال على نيب أنه يفعل هذا كله من أجل أن يَصل إىل شهوته؟! كيف ميكن أن يـُتَّهم األنبياء
احملرفة.
هبذا؟! وهذا اخلرب مسجل عندهم حبروفه يف التوراة َّ
وجل-فنت داود عليه السالم ،إما تكون فتنته :أنه مسع من طرف واحد ،وإما
عز َّ
أما يف القرآن فيقال ل :انظر للخرب :هللاَّ -
أن تكون غري ذل ،هللا أعلم هبا! لكن سا تستطيع أن تستقبح من داود-عليه السالم-أي فعل ،فأنت عندما تقرأ هذه القصة
هل يقع يف قلب دجاه داود-عليه السالم-أي شعور غري أنه نيب ،وأن هللا ُخيرب أبنه فُنت ،مث األهم من ذل أنه استغفر ،وخر
اكعا ،وأانب؟ وأن تسجد يف موطن سجوده ،وأنه من بني الذكر الذي يقال يف سجود التالوة" :اللهم تقبلها مين كما تقبلتها
ر ً
وجل-مل خيربان حىت عن تفاصيل الفتنة اليت
عز َّ
من داود" ،هل تَفهم شيئًا من القصة غري شرف األنبياء؟ انظر هلذا اإلعجاز! هللاَّ -
فُنت هبا؛ ليبقى هؤساء العظماء عظماء يف نفس ،ومل تُكلَّف أن تبحث عن الفتنة ،وإمنا أخربك القرآن عن النتيجة املطلوبة من .
) )1قصة داود والفتنة اليت حصلت له من القصص اليت انقسم الناس أمامها إىل أقسام.
)[ )2سورة ص]24 :
111
شرح اسم الحكيم
ما هي تل النتيجة املطلوبة من ؟ مطلوب من عندما َتتي الفنت أن تَستبصر؛ فقد ُوصف األنبياء يف هناية القصص أبهنم
صار} ،أي :هلم بصرية يف قلوهبم يالحظون هبا احلال .فقيل ل :ماذا تفعل عندما تُفنت وتقع يف أي خطأ؟
{أُويل ماألَيمدي َو ماألَبم َ
وجل ،-واستسلم له ،وُكن مثل هؤساء العظماء الذين
عز َّ
ب إىل هللاَّ -
اكعا ،وأن م
وخر ر ً
أسرع إىل هللا ،استغفر كما يستغفر األنبياءُ ،
مدحهم هللا .وم ثل هذه األخبار سا َتيت إسا من عند هللا ،وانظر ماذا فعل اخللق يف وصفها وَتويلها وتفسريها ملا أتت من
عندهم!
استفدان أشياء كثرية ما أخربان هللا به عن داود-عليه السالم-يف سورة (ص) ،منها :قاعدة يف الفقه{ :إ َّن َكث ًريا م َن م
اخلُلَطَاء
ض ُه مم َعلَ َٰى بـَ معض} .ومعىن ذل :أن اخلُلطة يف األموال حتتاج إىل قوانني.
لَيَـمبغي بـَ مع ُ
وأنتم سا تتصورون كم من األحكام سنخرج هبا من قصة داود عليه السالم ،لكن أن ترتك األحكام ،وترتك النتائج ،وترتك
تشوه صورة هذا النيب ،تكون بذل قد
اساعتقاد ،وتبحث عن حال فتنة داود عليه السالم ،مث دجد إسرائيليات فتدخل إىل قلب ف َّ
خسرت قيمة القرآن يف قلب ؛ ألن من دسائل عظمة القرآن وحكمة هللا فيه :أن يبقى هؤساء العظماء يف مكاهنم عظماء ،وحىت
عندما َتيت أخبار عن بعض ما حصل معهم ،فإن حاهلم سا يتحرك ،وتبقى هلم نفس املكانة.
من اخلطأ وحنن نقرأ القصص القرآين أسا نتلمس حكمة هللا؛ وذل بسبب حرصنا على أن نفهم تفاصيل يف القصة سا تعنينا،
تفاصيل ما ذكرها هللا لنا ،أو نكون قد تلوثنا يف بداية أعماران بقراءة شيء من هذه القصص واإلسرائيليات ،أو مبشاهدة ومتابعة
شيء من األفالم اليت يصفون فيها مثل هذا القصص ،وأنيت بفكران امللوث هذا على القرآن ،فينتفي عنا ظهور حكمة هللا يف
ذكر مثل هذه القصص والفوائد اليت تتبع ذل .
لذل حنتاج أن نعمل دجربة على قصة من القصص-سواء قصة داود ،أو قصة سليمان عليهما السالم-ومنر على كل كلمة
من القصة ،ونذكر منها فائدة ،وخنرج منها بنتيجة .فمن حكمة هللا أن تُروى لك قصة يف أقل من عشرة آَّيت ،مث تكون
منهجا حلياتك .سبحان هللا!
ً
112
شرح اسم الحكيم
إذًا مرران ب :ثالث وقفات تُظ ِهر حكمة هللا يف هذا القرآن:
مثال :سا بد أن تسأل عند قراءت لسورة (ص) هذه األسئلة :ملاذا أخرب هللا يف سورة (ص) أهنم قالوا عن الرسول-صلى هللا
ً
عليه وسلم : -أنه ساحر كذاب؟ ما الذي جعلهم يعتقدون أنه ساحر؟ وما الذي جعلهم يعتقدون أنه كذاب؟ ما دسالة ذكر
قصة داود وسليمان وأيوب عليهم السالم هنا؟
الصاحلَات}(،)1
ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ َّ َّ وهذا مثل ما مر معنا يف قوله تعاىل{ :أ مَم َحس َّ
السيئَات أَن مجن َعلَ ُه مم َكالذ َ
اجتَـَر ُحوا َّ
ين م
ب الذ َ
َ
()2
تض اب محلَق} ،مث أتت آية{ :أَفَـَرأَيم َ
اَّللُ ال َّس َم َاوات َو ماأل مَر َ
وأتت اآلية اليت بعدها تذكر خلق السماوات واألرض ابحلقَ { :و َخلَ َق َّ
َمن َّاختَ َذ إ ََٰهلَهُ َه َواهُ}( .)3فأنت لو مل تسأل عن الرابط بني اآلايت الثالثة لن تفهم املعىن!! ستظن أن هذا مقطوع عن هذا ،وهذا
أعظم عيب جيعل سا ترى حكمة هللا يف القرآن.
أنت ستقابل الفنت ،وستقابل املصائب ،وسيقابل املال...،واخل ،فكن يف سريت مع الفتنة كداود ،ولتكن سريت مع
املال كسليمان ،ولتكن سريت مع البالء كأيوب ،وهكذا.
114
شرح اسم الحكيم
اللقاء التاسع
115
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على سيدان حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
وجل-تظهر يف:
عز َّ
مر معنا يف النقاش :أن آاثر حكمة هللاَّ -
وقد َّ
أمره.
وشرعه.
وخلقه.
وجزائه.
وما زلنا نناقش حكمته-سبحانه وتعاىل-يف شرعه ،وشرع هللا يتمثَّل يف:
oإرساله الرسول.
وقفنا بني يدي الكتاب ،وظهر لنا أن هذا القرآن نزل من لَ ُدن حكيم عليم سبحانه وتعاىل ،وأن آاثر حكمته يف القرآن
تظهر يف:
oمواضيعه.
oويف ألفاظه.
منزل من عند هللا. كتاب متشابه سا يتناقض ،يظهر تشاهبه يف حسنه وكمالهَّ ،
ويدل من َّأوله إىل آخره على أنه كتاب َّ فهو ٌ
116
شرح اسم الحكيم
نتأمل فيها ،وظهر لنا شيء من ُحسنها ،وكنا قد اتَّفقنا على أن تقسموها؛ ليظهر لكم موضوعها،
وقفنا أمام سورة (ص) َّ
منوذجا على
ً واتصاهلا ببعضها ،ولنرى كيف يظهر فيها احلُسن ،والكمال ،والتشابه-الذي هو ضد التناقض-؛ ومن مث نرى
حكمة هللا يف هذا الكتاب.
بدأان من اآلية األوىل إىل اآلية احلادية عشر ،وهذا هو اجلزء األول من ص مدر السورة :قال تعاىل{ :ص َوالم ُق مرآن ذي الذ مكر *
ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق}( ،)1وفيه: َّ
بَل الذ َ
oالكالم عن القرآن ومكانته.
وأنه{ :ذي الذ مكر} أي :ذو املكانة والشرف العظيم ،ومن {الذ مكر} :تذكري الناس مبا يغفلون عنه.
ما جزاؤهم بسبب أهنم عاملوا القرآن هبذه املعاملة؟ اجلوابَ { :ك مم أ مَهلَكمنَا من قَـمبلهم من قَـ مرن} ،فماذا فعلوا؟ {فَـنَ َادوا}،
ني َمنَاص}(.)2
تح َوماذا قالوا؟ { َوَسا َ
َ { وَسا َ
ت} مكونة من:
.2و"سات" من أخوات "ليس" ،اليت هي "سا النافية" ،وزيد عليها التاء ،لكنها خاصة بنفي الزمن.
{ ح َ
ني} ظرف زمان .أي :فنادوا واحلال ليس وقت مناص.
من املؤكد أننا نُالم على حالنا يف التعامل مع مثل هذه الكلمات املهمة اليت وردت يف القرآن ،اليت يرد يف ذهين سؤال
جممال! هبذه الطريقة لن تصل لظهور حكمة القرآن ومجاله ،لن تصل إسا إذا كان عندك قوة يف
استفهام عنها ،مث أجعلها معىن ً
وضع السؤال املناسب يف املكان املناسب .وقد سا دجد إجابة ،سا أبس ،هذه ليست مشكلة ،لكن املشكلة هي أسا تظهر ل
أسئلة!
وجل-أقسم ابلقرآن ،وأنه {ذي الذ مكر} ،أي :يذكر الناس مبا هم عنه غافلون ،مث
عز َّ
ما الرابط بني اآلية األوىل والثانية؟ هللاَّ -
َتيت اآلية الثانية تبني :أن سبب كفر الكافرين ،وعدم انتفاعهم ابلتذكري ابلقرآن :أهنم {يف عَّزة َوش َقاق} ،مث ماذا سيحصل هلم؟
سيحصل هلم كما حصل ل َمن قبلهمَ { ،ك مم أ مَهلَكمنَا من قَـمبلهم من قَـ مرن فَـنَ َادوا} واحلال أنه ليس وقتًا لل َف موت والنجاة.
ما سبب كون الكافرين {يف عَّزة َوش َقاق}؟ قال تعاىلَ { :و َعجبُوا}-أي :وقع هلم العجب{ -أَ من َجاءَ ُه مم ُممنذٌر ممنـ ُه مم َوقَ َ
ال
اب}(.)1
الم َكاف ُرو َن ََٰه َذا َساحٌر َك َّذ ٌ
ملاذا وصفوه-صلَّى هللا عليه وسلَّم-بساحر؟ ألنه أتى هلم بكالم ما سبق هلم أن مسعوه ،ومل تألفوه .وبتعبري آخر :أتى هلم ب-
"ه مرطََقة" .ماهي هذه "اهلرطقة" يف نظرهم؟ أنه جعل { ماآلهلََة إ ََٰهلًا َواح ًدا}(.)2
َ
()1
اصربُوا َعلَ َٰى آهلَت ُك مم إ َّن ََٰه َذا لَ َش ميءٌ يـَُر ُاد}
ماذا فعلوا دجاه هذا املعتقد؟ جيَّشوا جيوشهمَ { :وانطَلَ َق الم َم َألُ ممنـ ُه مم أَن مام ُشوا َو م
أي :أنه يريد تشويه عقيدتكم.
اخت َال ٌق}( :)2هذا كالمهم دجاه دعوة الرسول-صلى هللا عليه وسلم :-أنه جعل
{ َما َمس معنَا هبََٰ َذا يف المملَّة ماآلخَرة إ من ََٰه َذا إَّسا م
{ ماآلهلَةَ إ ََٰهلًا َواح ًدا}.
وصفوه أبنه ساحر ألنه جعل { ماآلهلَةَ إ ََٰهلًا َواح ًدا}.
فرد هللا عليهم{ ،بَ مل ُه مم يف َش من ذ مكري بَل لَّ َّما يَ ُذوقُوا َع َذاب} .إذًا هذا َّأول َّ
()3
الرد :أن الذي جعلهم يشككون يف أمر َّ
النيب صلى هللا عليه وسلم :أهنم يف ش من ذكر هللا ،بل احلقيقة :أن هذا حاهلم بسبب أن هللا عاملهم حبلمه.
()4
وجل-من أجل أن
عز َّ
ند ُه مم َخَزائ ُن َر ممحَة َرب َ الم َعزيز الم َوَّهاب} ؟! أي :هل عندهم خزائن رمحة هللاَّ -
مث قال تعاىل{ :أ مَم ع َ
مينعوا عن النيب-صلى هللا عليه وسلم الن َّبوة؟!
()1
وجل-يقول لنبيه :هؤساء اجلند
عز َّ َحَزاب} .هللاَّ -
وم م َن ماأل م
مث يقول هلم-سبحانه وتعاىلُ { :-جن ٌد َّما ُهنَال َ َم مه ُز ٌ
هزمون .وسورة (ص) مكية ،أي :أن هذا اخلرب أتى يف مكة ،مث حتقَّق يف سيجتمعون يف مكان ما ،وسيصبحون أحز ًااب ،مث سيُ َ
املدينة-سواء كما قال قتادة :يف بدر .أو كما قال غريه :يف غزوة اخلندق يف األحزاب.-
أين تظهر حكمة هللا ،وما يدل على صدق هذا القرآن؟ أن هللا خيرب ابجتماعهم أحز ًااب ،وهبزميتهم اليت ستقع ،ابلرغم من أن
النيب-صلى هللا عليه وسلم-يف مكة ،ويف حالة ضعف! وهذا دليل على أن هذا القرآن أتى من لَ ُدن حكيم عليم ،وأنه-سبحانه
وبعيدا عن النصرة.
وتعاىل-جيعل يف قلب نبيه الثقة اليقينيَّة ابنتصار هذا الدين ،مهما كان يف الظاهر ضعي ًفاً ،
إذًا :رأينا كيف أن آايت الصفحة األوىل-من أول آية إىل آخرها-متتابعة ،ومرتبطة ببعضها متام اسارتباط .وعندما تقرأ ودجد
أن عندك فجوة يف القراءة فإن لن تصل-بسبب هذه الفجوة-إىل ما يريده هللا .البد أن حترص على فهم َّ
الرتابط بني اآلَّيت؛
وفهما ستجد أن القرآن من سورة الفاحتة أبدا ،وإمنا هو وصلة واحدة ،لدرجة أن كلَّما زدت ً
علما ً ألن القرآن ما أتى متقط ًعا ً
إىل سورة الناس عبارة عن قطعة واحدة.
لو قرأت التفسري دون أن تضع أسئلة ،فإن صاحب التفسري سيجيب ،لكن لن تفهم كالمه ،لن تفهم أن هذا هو املعىن
مثال يف "تفسري السعدي"-وهو ما ننصح ابقتنائه خاصة يف
كثريا من سا يستعمل هذه الطريقة دجده يقرأ ً
ً الذي ينقص .ولذل
للقرآن، أسئلة عند قراءت أصال مل تظهر ل
ًبداية التدبر ،-مث يقول :مل أفهم منه شيئًا! ابلطبع لن تفهم منه شيئًا؛ ألن
بدسا من ،التفسري جياوب على تفكريك فقط.
وابلتايل تبحث عن إجابتها يف التفسري .التفسري لن يفكر ً
اب
َص َح ُ
ود َوقَـ موُم لُوط َوأ م
اد َوف مر َع مو ُن} مباذا ُوصف فرعون؟ {ذُو ماأل مَو َاتد * َوَمثُ ُ { َك َّذبَ م
ت قَـمبـلَ ُه مم} أي :قبل قريش {قَـ موُم نُوح َو َع ٌ
اب} .يعين :كل مجاعة من هؤساء كانت حزًاب ،وكلهم َّ َٰ
كذبوا رسلهم ،فماذا فعل هللا هبم؟ أوقع هبم العذاب. ماألَيم َكة أُولَئ َ ماأل م
َحَز ُ
وهذا كان قبل مشركي العرب.
هنا عندي شاهد مهم على صحة القرآن :وهو أن فرعون ُوصف أبنه {ذُو ماأل مَو َاتد} ،والوتد :هو شيء من خشب أو
ثباات يف األرض .وأنت اآلن ترى هذه األواتد .انظروا إىل األهرام،
بقوة ،حبيث أن الذي يراه يرى ً
حجارةُ ،وضع وثُبت يف األرض َّ
تُرى كأهنا اثبتةً يف األرض ،كأهنا وتد.
ُوصف فرعون يف القرآن أبنه {ذُو ماأل مَو َاتد} ،وغالب العرب ما رأوا أواتده؛ ألهنم كانوا ذوي رحلة إىل الشام واليمن ،وليس
أيضا للدسالة على عظمة ُملكه ،وسلطانه يف األرض ،وكثرة بناايته الثابتة اليت سا حتركها الرايح .فهل
ً ووصف بذل
إىل مصرُ .
وجل-؟! إذًا {ذُو
عز َّ
ميكن أن يعرف الرسول-صلى هللا عليه وسلم-أو َمن كان معه هذا اخلرب إسا أن تأيت من عند هللاَّ -
ماأل مَو َاتد} خرب من السماء ،من عند هللا.
ما معىن {فَـ َواق}؟ هو اسم للزمن الذي يفصل ما بني َحلبيت الناقة .فالناقة عندما تلد تأيت حليبها يف الضرع ،لكنه سا ينزل
إسا إذا أتى مولودها؛ فإذا أتى رضع منها ،ويرتكونه يرضع ،مث يدفعونه ويضعون آنيتهم فيحلبوها ،مث يبدأ نتاجها يقل ،فيعيدوا هلا
مرًة أخرى فيحلبوها.
وليدها فرتة من الزمن ،مث يعودون َّ
حنن اآلن نقوم بتجربة :ننظر نظرات إىل كمال القرآن ،فنرى أن القرآن أتى بكل م ِ
عجز ،وال يفهم إعجازه وحالوته ُ
وطالوته إال الذي يعرف اللغة العربية ،فضعفك يف اللغة جعلك حمدود اإلاثرة.
زدت علما ِ
زدت ُعم ًقا يف فَهم النصوص .فمن أجل أن تفهمي أهنم يستهزؤون ،مل حتتاجي إسا لفهم كلمة {قطَّنَا}، كلما ِ
ً
والبالغ ة تظهر يف كوننا فهمنا من هذه الكلمة الواحدة أن كالمهم فيه تكذيب واستهزاء ابلنيب-صلى هللا عليه وسلم.-
مفهوم جديد ،وعندما يضعف فهمك للَّفظ سيضعف ٍ واملقصود :أن اللفظ الواحد من األلفاظ القرآنية ينقل مشاعرك إىل
حتريك النص ملشاعرك.
شا استقبلت النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-ابالستهزاء به .فأنت لو كنت يف جمال دعوة عائلت ،وقلت
رأينا اآلن أن قري ً
املوت"( .)2فقالوا ل :حنن خنتلط ببعضنا من عشر سنوات ومل
مثال :-سا ختتلطوا ،سا تستعجلوا يف إفساد بيوتكم" ،ا محلَ ُمو ُ
هلمً -
يُصبنا شيء!...إىل آخر هذا الكالم .سا تظين أن هذا األمر حصل ل وحدك ،سا تظين أن الوحيدة اليت اُستُهزئ هبا! اقرئي يف
وجلَ {-عجل لَّنَا قطَّنَا} ،فإذا اُستُهزئ بك،
عز َّ
سورة (ص) ،وسرتين أن العرب كانوا يكذبون ويستهزؤون ،ويقولون هللَّ -
يشا استهزأت ابلنيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-يف كذا وكذا!!فاعلمي أن لك سلف سابق قد اُستُهزئ به ،أسا ترين أن قر ً
ِ
فلنقض هذين اليومني يف فَهم آية من كتاب هللا ،ويل العلم يبدأ خبطوة .افرتضي أنه بقي يل يومان فقط يف هذه احلياة،
مهاجرا ،حىت لو مل يبلغ
ً مهاجرا يف سبيل هللا ،ف ُقبض يف طريقهُ ،كتب عند هللا
ً الشرف أن أُقبض على فهم الكتاب ،فمن خرج
هجره .واملراد :أن األجر يقع ابلنية والشروع يف العمل ،سا أن دجلسي أمام القرآن ،وتنوي أن تفهميه! سا يكفي هذا!
َم َ
نعود مرًة أخرى إىل التقسيم :مرران يف مطلع السورة على نوعني من إعجاز القرآن:
-1إعجاز يف ألفاظه.
-2وإعجاز يف أخباره.
ورأينا خربين:
اخلرب األول :أن األحزاب ستُغلَب .وهم يف مكة يسمعون هذا اخلرب.
اخلرب الثاين :أن يقال عن فرعون-الذي سا يعرفونه ،وإمنا هم يسمعون خربه فقط :-أنه {ذُو ماأل مَو َاتد} ،فيخربهم هللا عن حاله
يف بلده ،وهم بعيدون عنها.
وكل هذا دال على عظمة القرآن ،وصدقه ،وعلى حكمة هللا يف األخبار.
وهتديدهم.
اب
ود َذا ماألَيمد إنَّهُ أ ََّو ٌ
{اص مرب َعلَ َٰى َما يـَ ُقولُو َن َواذم ُك مر َعمب َد َان َد ُاو َ
بعدها سيأيت املقطع من آية ( )17إىل آية ( :)26قال تعاىل :م
ص َل
مم َة َوفَ م احلك َاب * َو َش َد مد َان ُم مل َكهُ َوآتَـميـنَاهُ م ورًة ُكل لَّهُ أ ََّو ٌ ال َم َعهُ يُ َسب مح َن ابلم َعشي َو ماإل مشَراق * َوالطَّميـَر َمحم ُش َ * إ َّان َس َّخ مرَان م
اجلبَ َ
ضنَا َعلَ َٰى
ص َمان بَـغَ َٰى بـَ مع ُ
ف َخ م
ع ممنـ ُه مم قَالُوا َسا َختَ م
ود فَـ َفز َ
اب * إ مذ َد َخلُوا َعلَ َٰى َد ُاو َ
صم إ مذ تَ َس َّوُروا المم محَر َ اخلطَاب * َوَه مل أ ََات َك نـَبَأُ م
اخلَ م م
ال اح ُكم بـَميـنَـنَا اب محلَق َوَسا تُ مشط مط َو ماهد َان إ َ َٰىل َس َواء الصَراط * إ َّن ََٰه َذا أَخي لَهُ ت مس ٌع َوت مسعُو َن نَـ مع َج ًة َو َ
يل نـَ مع َجةٌ َواح َدةٌ فَـ َق َ بـَ معض فَ م
ض ُه مم َعلَ َٰى بـَ معض إَّسا
اخلُلَطَاء لَيَـمبغي بَـ مع ُال لََق مد ظَلَ َم َ ب ُس َؤال نـَ مع َجت َ إ َ َٰىل ن َعاجه َوإ َّن َكث ًريا م َن م اخلطَاب * قَ َأَ مكف ملن َيها َو َعَّزين يف م
ب * فَـغَ َف مرَان لَهُ َٰذَل َ َوإ َّن لَهُ ع َ
ند َان ود أََّمنَا فَـتَـنَّاهُ فَ م
استَـ مغ َفَر َربَّهُ َو َخَّر َراك ًعا َوأ ََان َ يل َّما ُه مم َوظَ َّن َد ُاو ُ
الصاحلَات َوقَل ٌ
ين َآمنُوا َو َعملُوا َّ
الذ َ
َّ
ني النَّاس اب محلَق َوَسا تَـتَّبع ا مهلََو َٰى فَـيُضلَّ َ َعن َسبيل َّ
اَّلل إ َّن اح ُكم بـَ م َ
اك َخلي َفةً يف ماأل مَرض فَ م ود إ َّان َج َع ملنَ َ
لَُزلم َف َٰى َو ُح مس َن َمآب * َاي َد ُاو ُ
احل َساب}.اب َشدي ٌد مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م اَّلل َهلُمم َع َذ ٌ
ين يَضلو َن َعن َسبيل َّ َّ
الذ َ
سنقف وقفات عند قصة:
123
شرح اسم الحكيم
ممةَ
احلك َ
{و َش َد مد َان ُم مل َكهُ َوآتَـميـنَاهُ م
اب} إىل أن أصل إىل قولهَ :
ُوصف داوود-عليه السالم-يف سورة (ص) أنهَ { :ذا ماألَيمد إنَّهُ أ ََّو ٌ
اخلطَاب} .سنالحظ:ص َل م
َوفَ م
الروابط بني اآلايت؛ ألننا إذا فقدان الروابط فقدان التسلسل املنطقي للنص يف عقولنا .فلو
اآلن سنرى التقسيمات ،ونعرف َّ
سألنا:
َّ
احل َساب}.
اب َشدي ٌد مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م
اَّلل َهلُمم َع َذ ٌ أتى اجلواب يف هذا التقرير{ :إ َّن الذ َ
ين يَضلو َن َعن َسبيل َّ
ما الرابط بني قصة داوود-عليه السالم ،)26-17(-وبني اآلايت ()29-27؟
124
شرح اسم الحكيم
َّ
اب
اَّلل} ما جزاؤهم؟ { َهلُمم َع َذ ٌ ظاهرا ،وذل ابلنظر آلخر آية ({ :)26إ َّن الذ َ
ين يَضلو َن َعن َسبيل َّ املفرتض أن يكون الرابط ً
احل َساب} .فكأنه يقال :كيف تنسى يوم احلساب؟! جيب علي أسا تنساه .إذًا ما الذي سيذكرك َشدي ٌد} ملاذا؟ {مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م
ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما َابط ًال}(.)1
الس َماءَ َو ماأل مَر َ
به؟ اجلوابَ { :وَما َخلَ مقنَا َّ
خريا،
جيب علي أن تذكر يوم احلساب؛ ألن هللا حكيم ،سا ميكن أن خيلق هللا اخللق ،فيعمل هذا العبد سوءًا ،ويعمل هذا ً
ابطال!
مث ميوتون وسا ُجي َازون! هذا مستحيل! ومستحيل أسا يكون هناك يوم قيامة؛ ألن هذا معناه أن السماوات واألرض ُخلقتا ً
ابطال.
وجل-ما خلقهما ً
عز َّ
وهللاَّ -
إذا رأيت أن السماء واألرض ُوضعتا يف مكاهنما ،وكل شيء ُوضع يف مكانه ،فاعلم أن هللا سيضع أهل احلق يف مكاهنم،
وأهل الباطل يف مكاهنم ،لكن مىت؟ يوم احلساب .فكيف تنسى يوم احلساب؟! سابد أن يبقى هذا اليوم على ابل ( .سنجد أن
هذا السياق يشبه سياق سورة اجلاثية)
إ ًذا معىن ذل :أن اآلايت من آية ( )17يف قصة داوود إىل آية ( )28كلها سياق واحد؛ ألن هللا يف آخر قصة داوود يقول:
الس َماءَ
احل َساب} ،فكيف ينُسى يوم احلساب والسماوات واألرض كلها تدل على حكمة هللا؟! { َوَما َخلَ مقنَا َّ{مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م
ض َوَما بـَميـنَـ ُه َما َابط ًال} .سابد أن تأيت يوم احلساب ،فكما جعل هللا السماوات واألرض يف مكاهنما؛ سيجعل املتَّقني يف
َو ماأل مَر َ
الفجار يف مكاهنم.
مكاهنم ،و َّ
سنالحظ هناَ { :وَهمبـنَا} ،ويف بداية السورة{ :الم َوَّهاب} .سليمان هبة لداوود-عليهم السالم-من جهتني:
النبوة.
وجل-مجع لداوود يف سليمان نوعني من اهلبات :هبة البُ َّنوة ،وهبة َّ
عز َّ
فاهللَّ -
عندما حتفظ مثل هذه السورة ،وتبدأ تقارن بني مواطن ذكر سليمان-عليه السالم ،-سرتى من اإلعجاز يف األلفاظ :أن
أوصافه َتيت يف كل سورة مبا يناسب السورة ،ويف نفس الوقت مبا يناسب يف املعىن ،مث ُختتار له األلفاظ اليت تُناسب السورة ،حىت
أيضا! وهذا كله دليل على أنه سا ميكن أن يكون هذا القرآن من عند اخللق ،سابد أن
تصل لدرجة أن احلروف مناسبة للسورة ً
جرب عرف!
يكون من لَ ُدن حكيم خبري .مهما كان عند اخللق من قدرة وبالغة ،فإهنم ال ميكنهم أن أيتوا مبثل هذا ،ومن َّ
مثال :أريد أن أكتب قطعة لطالب يف الصف الثاين اسابتدائي ،وأريد أن أُبرز هلم حرفًا ،ويف نفس الوقت أطبق قاعدة حنوية،
ً
شهرا حىت آيت هبا ،مث بعد ذل أجد أن أول َمن سرياجعها بعدي سيقول :ما هذا
وأقول هلم معلومات صحيحة .قد أفكر فيها ً
جرب إنشاء ُمجل من أجل إيصال شيء ،سيفهم أنه يعجز عن ذل عند أول دجربة.
فمن َّ
كالم غري مرتَّبَ .
الكالم! هذا ٌ
مثال :يوجد مفهوم يف التعليم امسه" :التَّكامل التعليمي" ،حيتاج إىل عشرين جلنة من أجل أن يتم ،وتُبذل ألجله اجلهود
ً
واملراجعات ،ويف النهاية يستحيل أن تأتوا هبذا التكامل كما ينبغي .بعكس كالم احلكيم اخلبري سبحانه وتعاىل.
واملقصود :أن مثل هذا النظر يف القرآن نوع من أنواع التعبد .من العبادة أن تكرر القراءة ،مث خترج فتقول :سبحان هللا! لكن
وَتمل ،وفهم.
مجال هذا الكالم لن يظهر إسا لَ -من تعبَّدَّ ،
صار}(.)3
وب أُويل ماألَيمدي َو ماألَبم َ
اق َويـَ مع ُق َ
مث قال تعاىلَ { :واذم ُك مر عبَ َاد َان إبمـَراه َيم َوإ مس َح َ
يوصفون بصفات متقاربة ،وأنت حتتاج أن دجمع :مباذا ُوصف داوود-عليه السالم-؟ مباذا ُوصف سليمان-عليه
سا زالوا َ
السالم-؟ مباذا ُوصف أيوب-عليه السالم-؟ مباذا ُوصف-إبراهيم وإسحاق ويعقوب-عليهم السالم-؟
صة} أي :إان خصصناهم بصفة{ :ذ مكَرى الدَّار} .يعينُ :خصوا خبصيصة أهنم يذكرون الدار اآلخرة اهم خبَال َ
صنَ ُ {إ َّان أ م
َخلَ م
أيضا هلا عالقة بقصة كل من
دائما أمام أعينهم ،سا يغفلون عنها .ومن املؤكد أن هذه الصفة العظيمة هلا عالقة أبول السورة ،و ً ً
داوود ،وسليمان ،وأيوب-عليهم السالم .-فالبد أن تع ريف أن الكالم عن الدار اآلخرة من عند املشركني إىل هنا هو كالم
متَّصل ،بينه عالقة حتتاجني أن تتنبَّهي هلا.
ماذا كان موقف املشركني؟ {قَالُوا َربـَّنَا َعجل لَّنَا قطَّنَا قَـمب َل يَـ موم م
احل َساب} .يعين :يوم احلساب عندهم من َكر ،وهم يستهزؤون
به.
ني النَّاس اب محلَق َوَسا تَـتَّبع ا مهلََو َٰى} ماذا يفعل ب اهلوى؟ {فَـيُضلَّ َ
اح ُكم بـَ م َ
وجل{ :-فَ م عز َّوداوود-عليه السالم-تأمره هللاَّ -
َّ
احل َساب} أي :كل َمن ينسى يوم احلساب له اب َشدي ٌد مبَا نَ ُسوا يـَ موَم م اَّلل َهلُمم َع َذ ٌ اَّلل إ َّن الذ َ
ين يَضلو َن َعن َسبيل َّ َعن َسبيل َّ
عذاب شديد.
ٌ
ند َان لَُزلم َف َٰى َو ُح مس َن َمآب}( ،)2سازال ذكر اآلخرة؛ فسليمان-عليه السالم-
وسليمان-عليه السالم-ما حاله؟ { َوإ َّن لَهُ ع َ
سيكون له زلفى وقُرَّب ،وسيكون مآله إىل خري.
وجل-
عز َّ
اب} ،أي :كثري الرجوع إىل هللاَّ - ماذا دجدون يف وصف أيوب-عليه السالم-؟ {إ َّان َو َج مد َانهُ َ
صابًرا ن مع َم الم َعمب ُد إنَّهُ أ ََّو ٌ
من استذكاره لليوم اآلخر.
واعلم أن هؤساء األنبياء الذين أُمرت أن تذكرهم ،كلهم عندهم صفة واحدة مهمة ،وهي :أن ذكرى الدار أمام أعينهم ،سا
تنف عنهم.
يل م من ع ملم ابلم َم َإل ماأل مَعلَ َٰى إ مذ َخيمتَص ُمو َن}()2؟
ماذا ستقولني عن آية { َما َكا َن َ
املقصود {ابلم َم َإل ماأل مَعلَ َٰى} :املالئكة ،ومعىن { َخيمتَص ُمو َن} سيبقى سؤال استفهام.
ابلعزة والشقاق؟ قوهلم :ملاذا يـُ َفضَّل علينا ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق} ،ما الذي أصاهبم َّ َّ
وقال تعاىل عن الكافرين{ :بَل الذ َ
استَ مكبَـَر َوَكا َن م َن الم َكافرين}(.)1
ابلنبوة؟ وملاذا يدعوان إىل إله واحد؟ وكل هذا الذي قالوه إمنا هو من وحي الشيطان الذي { م
أيضا شيئًا عجيبًا يف قصة آدم يف سورة (ص) :ستالحظني أن كل القصة دائرة حول الشيطان.
مث إن ستالحظني ً
ين
ت فيه من روحي فَـ َقعُوا لَهُ َساجد َ ال َرب َ ل مل َم َالئ َكة إين َخال ٌق بَ َشًرا من طني ( )71فَإ َذا َس َّويمـتُهُ َونـَ َف مخ ُ قال تعاىل{ :إ مذ قَ َ
يس َما َمنَـ َع َ أَن تَ مس ُج َد ل َما َّ
ال َاي إبمل ُ
ين ( )74قَ َ استَ مكبَـَر َوَكا َن م َن الم َكافر َ
يس م
َمجَعُو َن ( )73إسا إبمل َ
( )72فَ َس َج َد الم َم َالئ َكةُ ُكل ُه مم أ م
اخ ُر مج ممنـ َها
ال فَ م
ال أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين من انَّر َو َخلَ مقتَهُ من طني ( )76قَ َ
ني ( )75قَ َ
نت م َن الم َعال َ
ت أ مَم ُك َ
َستَ مكبَـ مر َ
يأمت بيَ َد َّ
َخلَ مق ُ
ال فَإنَّ َ م َن الم ُمنظَر َ
ين يم (َ )77وإ َّن َعلَمي َ لَ معنَيت إ َ َٰىل يـَ موم الدين ( )78قَ َ
ال َرب فَأَنظ مرين إ َ َٰىل يـَ موم يـُمبـ َعثُو َن ( )79قَ َ فَإنَّ َ َرج ٌ
ني (.})83 ني ( )82إَّسا عبَ َاد َك ممنـ ُه ُم الم ُم مخلَص َ َمجَع َ
َّه مم أ م
ال فَبعَّزت َ َألُ مغويـَنـ ُ
( )80إ َ َٰىل يـَ موم الم َوقمت الم َم معلُوم ( )81قَ َ
مل يُذكر آدم-عليه السالم-يف اآلايت إسا عن طريق اإلشارة إليه فقط يف قوله تعاىل{ :إين َخال ٌق بَ َشًرا من طني} ،وكل
الوصف الذي ذكر إمنا هو للشيطان.
قصة آدم يف سورة (ص) سا ميكن أن متاثلها قصة يف موطن آخر ،فما أتت قصة آدم هبذه الطريقة إسا يف سورة ولذل
(ص) ،وما أتت هبذه الطريقة إسا لتناسب أوهلا.
اللقاء العاشر
131
شرح اسم الحكيم
وجل-تظهر يف:
عز َّ
وجدان أن الشيخ-حفظه هللا-أشار إىل أن أهل السنة يعتقدون أن حكمة هللاَّ -
أمره.
وشرعه.
وخلقه.
وجزائه.
مث بدأ يشرح كل نقطة ،وذكر عن حكمة هللا يف خلقه :أن هللا خلق مجيع املخلوقات ابحلق ،مشتملة على احلق.
وقلنا إن الشيخ-حفظه هللا-مل يقل هذا الكالم إسا بسند من الكتاب والسنة؛ ألننا نعلم أن أهل السنة حىت تعبريهم عن
احلقائق يكون ابستدساهلم ابلنصوص.
فذهبنا إىل القرآن ،وحبثنا عن كل دساسات "احلق" ،ورأينا عجبًا من هذا الكالم! فهمنا أنه-سبحانه وتعاىل-حكيم ،ومن
دساسات حكمته :أنه خيربان يف القرآن أنه خلق السماوات واألرض ابحلق ،وخلق املخلوقات كلها ابحلق ،وأن هذه الكلمة-
"ابحلق"-عندما تتصل خبلق هللا فإهنا تدل على أنه هو احلكيم سبحانه وتعاىل ،رغم أن نفس لفظة "حكيم" غري موجودة.
وعلمنا أن املخلوقات ُخل َقت مشتملةً على احلق ،وهذا تفهمه حينما تقرأ يف كتاب هللا عن آايته ،فإن ستجد يف آايت
على أن ملوقاته مشتملة على الشهادة له أبنه كامل الصفات ،ستجد أن ملوقاته تقول ل :الذي وجل-ما يدل
عز َّ
هللاَّ -
خلقين كامل الصفات ،كامل احلكمة ،يضع كل شيء يف موضعه.
وكان من املمكن أن نتبع يف ذل أحد الطريقتني:
132
شرح اسم الحكيم
آايته أَ من
مثال :نذهب لسورة الروم-السورة اليت أجرينا عليها دجربتنا-وجند أن هللا أخربان فيها عن آايته ،فقال تعاىلَ { :وم من َ
ً
ف أَلمسنَت ُك مم َوأَلم َوان ُك مم...)1(}...إىل آخر اآلايت
اخت َال ُ
الس َم َاوات َو ماأل مَرض َو م
آايته َخ مل ُق َّ
اجاَ { }...وم من َ
َخلَ َق لَ ُكم م من أَن ُفس ُك مم أ مَزَو ً
اليت ذكرها هللا يف هذه السورة .فنبحث عن األلوان ،ودرجاهتا ،واساختالف بني الناس ،فنرى كيف أن كل شيء يشهد أبن هللا
حكيم.
وحنن أخذان هذا الطريق-الثاين .-وجدان من علماء أهل السنة َمن كتب يف ذل ،مثل :ابن القيم-رمحه هللا ،-وقرأان جزءًا
مثال-عن موضع عيين اإلنسان ،وعن موضع الفم ،وعن من كالمه .لكن الشيخ-رمحه هللا-تكلم عن تفاصيل أخرى .تكلمً -
موضع اللسان ،وعن موضع األذن ،وعن موضع األصابع اخلمس .فتقرئي كالمه هذا ،وتتأملي فيه ،وتري حكمة هللا ،وأن
ملوقاته مشتملة على احلكمة ،وأنه ما من شيء إسا وقد ُوضع يف موضعه.
أتينا بعد ذل حلكمة هللا يف شرعه .الشرع هو:
إرسال الرسل.
وإنزال الكتب.
وانقشنا بكلمات متصرة :حكمته يف إرسال الرسول-صلَّى هللا عليه وسلَّم ،-أما احلكمة يف القرآن فهذا ابب واسع.
سنبحث عن اإلعجاز يف القرآن من عدة جهات:
من جهة ألفاظه.
ومن جهة أخباره.
ومن جهة تشاهبه.
ت َرب َ ص مدقًا َو َع مدًسا َّسا ُمبَد َل ل َكل َماته القرآن متشابه .أي :ليس بشاذ ،وسا دجد فيه أخبار كاذبة .قال تعاىلَ { :وَمتَّ م
ت َكل َم ُ
يم}( ،)1فهو من جهة األحكام عدل ،ومن جهة األخبار صدق ،ومن جهة األلفاظ متشابه يف احلُسن يع الم َعل ُ
السم ُ
َوُه َو َّ
والكمال ،وكذل جند يف جهة اختيار األلفاظ ودساساهتا أعلى أنواع البالغة اليت سا يستطيعها اخللق.
وقمنا ببعض التطبيقات على ذل ،كالتطبيق على سورة الكافرون ،ورأينا فيها الدسالة البالغية العالية ،مث انقشنا سر ًيعا بعض
األمثلة على العالقات بني بداايت السور وخواتيمها ،مث مجعنا قوتنا على أن نتدارس سورة يظهر فيها صدق أخبار القرآن،
وعدل أحكامه ،وأن ألفاظه غاية يف التشابه واإلحكام واإلتقان ،فاخرتان سورة (ص).
كان إبمكاننا أن منر سر ًيعا على النماذج فقط ،لكن هناك مصلحة أخرى جعلتنا نقف أمام سورة ،وننُاقشها ،وهي أننا
ومن ُوفق لدخول رمضان ومعه إميان فقد حقق شرط حصوله على املغفرة ،فعن أب
ُمقبلون على رمضان الذي هو شهر القرآنَ ،
َّم م من ذَنمبه"(.)2
احت َس ًااب غُفَر لَهُ َما تَـ َقد َ
اان َو م
ضا َن إميَ ً
ص َام َرَم َ
هريرة رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلمَ " :م من َ
وأهم العلم :تدبر القرآن .ولذل نسمع عجبًا من كالم السلف يف الدسالة على ِ
و(العلم) من أهم أسباب زَّيدة اإلميانّ ،
يصب اإلميان يف القلب صبًّا هو القرآن ،وقد ورد عن بعض الصحابة ما يدل على ذل ،مثل قول أحدهم :لو أعلم أن الذي ّ
دينارا ،وحيمل على خيله ،فيجاهد يف سبيل هللا ،وأعلم أنه أصبح ُمتقب ًال منه ،وأابت أقرأ القرآن ،سا
دينارا ً
رجال ينفق يف ليلة ً
ً
متقبال
اضا ،فيقول :لو أنه يقرأ القرآن ،وشخص جياهد وينفق ،وكالمها أصبحا ً أحب أن يكون يل ما فعل .مبعىن :هو يفرتض افرت ً
أحب
منهما-ألن شرط اسانتفاع ابلعمل :أن يقبله هللا ،-فلو هذه كفتان :كفة إنفاق وجهاد ،وكفة تالوة وفهم للقرآن ،يقول :سا ُ
أن يكون يل عمله؛ ألن قراءة القرآن من أعظم أسباب زايدة اإلميان.
وليس املراد أن جمرد قراءة اآلايت هي من أعظم أسباب زايدة اإلميان ،وإمنا التالوة اليت صاحبها يفهم ما يقرأ ،وهذا هو
التدبر .الذي يتدبر تأيت ابلكالم من أوله إىل آخره ،ومن آخره إىل أوله ،ويعيد ذل مر ًارا إىل أن يتبني له شيء جديد ،إىل أن
طبعا حيتاج إىل مراحل من التمرين.
يقرأ السورة كأهنا مجلة واحدة .وهذا ً
أول وأهم مرحلة لتمرين النفس على تدبر القرآن :أن تقرأ برتكيز.
ومن اخلطأ أن تفتح كتاب التفسري قبل أن حتدد ما أشكل علي فهمه! ألن من سا يفهم ما يقرأ فإنه لن يستفيد من كالم
املفسرين.
إذًا ماذا سنفعل؟ حنتاج إىل تغيري نفس طريقة التالوة؛ لكي حيصل لنا أمرين:
ت َرب َ ص مدقًا وجل-يف هذا القرآن العظيم ،ويظهر لنا كيف {َمتَّ م
ت َكل َم ُ عز َّ
األمر األول :لكي تظهر لنا حكمة هللاَّ -
َو َع مدًسا}.
وتفكريك يف القرآن :قائم صائم .وأنت لو جبلوس األمر الثاين :أن هذا التدبر والتقليب سبب لزايدة اإلميان ،فكأن
تستغل قوتك يف التفكري يف القرآن وتقليبه سيستقيم القلب ،واخلواطر ،واإلرادات.
ّ
بدأت ب{-ص} .وحروف التهجي عندما َتيت يف بداايت السور فإنه يُقصد هبا التحدي.
ني}(.)3 ()2
ما وصف القرآن؟ {ذي الذ مكر} .وقلنا إن هذا يقابل قوله تعاىل يف هناية السورة{ :إ من ُه َو إَّسا ذ مكٌر ل مل َعالَم َ
( )
ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق} ، 1لكن هللا يقول هلم يف ختام السورة: َّ
ما الذي منع الكافرين من التذكر ابلقرآن؟ أن {الذ َ
ستعلمون نبأ هذا القرآن بعد حني { َولَتَـ معلَ ُم َّن نـَبَأَهُ بـَ مع َد حني}(.)2
ني َمنَاص}(.)3
تح َ
وجل-أنه أهل أقو ًاما قبلهمَ { :ك مم أ مَهلَكمنَا من قَـمبلهم من قَـ مرن فَـنَ َادوا َّوَسا َ
عز َّ
مث خيربهم هللاَّ -
أن قصة آدم ذُكرت يف مواطن متعددة من كتاب هللا ،وقد ذُكر اسم آدم صرحيًا يف مخسة مواطن ،ومل يُذكر صرحيًا يف
موطنني :يف سورة (ص) ،ويف سورة احلجر.
ملاذا مل يُذكر اسم آدم-عليه السالم-يف سورة (ص)؟ ألن املقصود إبيراد القصة هو إبليس.
متاما:
سنالحظ عدة مالحظات يف القصة تنطبق على حال الكافرين ً
يل م من ع ملم ابلم َم َإل ماأل مَعلَ َٰى إ مذ َخيمتَص ُمو َن}( .)5ألهل العلم قوسان يف اآلية :األول :أن
سنبدأ من أول آية يف السياقَ { :ما َكا َن َ
املراد هو ختاصم أهل النار .والثاين :أن املراد بذل قصة آدم.
و"املأل األعلى" هم املالئكة ،وهذا جيعلنا منيل إىل أن القصة تبدأ من هذه اآلية.
سنالحظ أن كلمة "خيتصمون" و"اخلصم" تكررت يف السورة ،وسا يوجد موطن من مواطن قصة آدم وردت فيه كلمة
طويال حول اساختصام:
نقاشا ً
"خيتصمون" إسا هنا يف سورة (ص)؛ والسبب أننا سنجد يف سورة (ص) ً
ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق}؛ ألن "الشقاق" معناه :العناد َّ
املوطن األول :ورد اساختصام يف أول السورة ،يف قوله تعاىل{ :بَل الذ َ
واخلصومة.
املوطن الثاين :يف قصة داود عليه السالم ،ملا ذُكر "اخلصم" و"خصمان".
املوطن الثالث :يف قصة أيوب عليه السالم :يف اخلصومة اليت حصلت بينه وبني زوجته .سا توجد كلمة "خصومة" هنا ،ولكن
ث}( .)1حلف أيوب يف هذه اضرب به َوَسا َمحتنَ م
وجلَ { :-و ُخ مذ بيَد َك ض مغثًا فَ م
عز َّيوجد ما يدل على معناها ،ولذل أمره هللاَّ -
جل-هبا إهناءً للخصومة. عز و َّ اخلصومة على زوجته ،فخرج من هذا احللف هبذه الطريقة اليت أخربه هللاَّ -
ال أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين من انَّر َو َخلَ مقتَهُ من طني}(.)3
ويف اآلايت شاهد على ذل من قول إبليس{ :قَ َ
يشاهبون إبليس يف استكباره .فالسورة ذكرت أخيارا ،ويرون غريهم من األشرار فإهنم بذل
وكون الكافرين يرون أنفسهم ً
أشخاصا منعتهم عزهتم وشقاقهم واستكبارهم وعنادهم وخصومتهم أن يؤمنوا ،وإبليس استكرب ،فصار خياصم ويدافع عن حق
ً
خريا من آدم.
استكبارا؛ فهو يرى نفسه ً
ً ليس من حقه ،وإمنا فعل ذل
إلبليس هذه احلقيقة ،فيسجد كما أمره هللا ،لكنه خدع نفسه أبنه أحسن من آدم ،وقال{ :أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين من انَّر َو َخلَ مقتَهُ
من طني}!
الصفة املشرتكة:
إبليس يف استكبار
الدعوى الباطلة
الكافرون يدعون:
إبليس يدعي:
{أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين من انَّر َو َخلَ مقتَهُ من طني}
مشاعرهم
وإبليس له نفس املشاعر دجاه آدم عليه السالم :كيف يُعظَّم آدمُ ،
ويؤَمر ابلسجود له؟!
إذا كان حال اإلنسان االستكبار عن احلق ،فالبد أنه سيستشهد على استكباره بدعوى ابطلة ،يشعر َمن أمامه أهنا
صحيحة .فدعوى إبليس{-أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين من انَّر َو َخلَ مقتَهُ من طني}-ما ادعاها إسا جملرد أنه قرر أن النار خري من الطني!
لكن أنت حينما تسمع مثل هذه الدعاوى علي أن تبحث عن اخلريية فيها؛ ألنه قد يقع يف قلب تصديقها .والكافرون كذل
انطلقوا وآتمروا أن يصربوا على آهلتهم ،وقالوا{ :إ َّن ََٰه َذا لَ َش ميءٌ يـَُر ُاد}( ،)1وهذا جعل الناس يغرتون بدعواهم .وهكذا الباطل،
يرفع صوته بدعوى ،فيصدقها َمن يصدقها ،ولو مل حيقق نفس الدعوى ،ولو مل يعلم صحتها من بطالهنا.
وجل-ملا أخربان يف آخر سورة (ص) عن قصة إبليس بني لنا :أن هناك َمن سار على هذا املنهج: عز َّواملقصود :أن هللاَّ -
استكرب عن احلق ،وكان يف شقاق وخصومة للحق ،وادعى ادعاءات ابطلة ،واقتنع هبا َمن اقتنع .وأن هذا لن خيرجه عن اجلُرم؛
ففي هناية األمر سنجد أن الشيطان هو الذي لقاه هذه الدعوة .فكل َمن تأيت له احلق ،فال يقبله ،بل وخياصمه ،ويرد احلق
هلواه ،لكن يرده بدعوى يصدقها الناس ،ستفهمني أن الذي لقنه هذه الدعوى الباطلة هو إبليس.
إذًا :يظهر من أول السورة وآخرها :منهج الناس الذي يسريون فيه إذا وقعوا يف اهلوى.
ومن مسعه انكشفت عنه الغُمة ،لكن ملاذا مل ينتفع الكافرون به؟! ومثله ابلضبط :حال إبليس :ملاذا مل
فهذا القرآن فيه الذكرَ ،
ينتفع مبجاورته للمالئكة؟! السبب هو :اساستكبار ،والعزة ،والشقاق ،واخلصومة .وهذه هي صفات أهل الباطل.
اإلنسان سا يريد أن يشاركه غريه يف اخلري ،ولكنه حيُب أن يشاركه غريه يف الباطل والفسق والشر؛ ألنه سا يريد أن يكون هو
وحده من أهل الباطل .وهذه طبيعة سابد من معاجلتها؛ ألن إبليس يف املقابل يزكي وحيسن لإلنسان كل الطبائع الباطلة يف
نفسه ،وهو الذي جيُري على لسان الناس دعواهم .فهذا الصوت العايل ،والقوة يف الباطل ،واجلري وراءه ،والنداء يف كل مكان،
جئت سا أعلم من أين ،ولكين أتيت *** ولقد أبصرت أمامي طري ًقا فمشيت
تصور أن هذه القصيدة أصبحت أغنية يرددها الشباب! تقرأ قصة آدم يف أول املصحف ،وسا تعرف من أين أتيت! هذا سا
صوات عاليًا.
يكون إسا من فعل الشيطان ،هو الذي يُلقي على ألسنة اخللق الش ،وجيعل له ً
ملاذا للباطل صوت عال يدخل يف القلوب هبذه الصورة اإلبليسية؟! هذا كله بسبب اساستكبار.
اساستكبار جيعل اإلنسان يركب كل صعب من أجل أن يظهر فقط ،ولذل جند املستكربين يلوون عنق النصوص ،وخيرجون
بكالم من حتت األرض ،ليظهروا ويرتفع شأهنم.
فقريش رفضت بقوة النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-ألهنم ليسوا هم الذين أُنزل عليهم الوحي ،وإبليس رفض السجود آلدم ألنه
املقرب الذي ُسجد له .فقد يدعي اإلنسان حب احلق ،وامليل إليه ،والدفاع عنه ،لكن ما أن تأيت احمل ،ويظهر عليه
مل يكن هو َّ
غريه ،إسا وتظهر حقيقة أنه ليس متَّب ًعا للحق ،وإمنا أحب احلق ألنه أظهره ،فلما ظهر عليه غريه رفض احلق ،واستكرب .فهذا
اخلُبث النفسي شيء خطري جدًّا ،يدل على أن اساستكبار قد يكون مبوءً يف النفس ،وسا يظهر إسا ابساختبار.
141
شرح اسم الحكيم
مير الناس ابختبارات تُظهر هلم هل هم حيبون احلق؟ أم حيبون أنفسهم؟ كل واحد فينا تأتيه هذا اساختبار :هل أنت تتكلم عن
ملصا تريد وجه هللا ،سينزل
احلق وتدافع عنه ألنه احلق؟ أو لكي تُظهر نفس ؟ سيأتي بالء يكشف هذه احلقيقة ،وإن كنت ً
علي البالء ،ويوفق هللا.
هؤساء الكفار الذين هم يف عزة وشقاق ،واستكربوا عن احلق ،وتواصوا ،وادعوا اسادعاءات ،وصورهتم هي الصورة اإلبليسية،
كانوا يُظهرون حب احلق ،ويُظهرون الشرف ؛ فقد كانوا هم املأل الذين إذا نظر إليهم الشخص امتألت عينه هبيبتهم ،وطموحهم،
استكبارا! وهكذا فعل إبليس ملا مل يكن هو املسجود له عصى ،ورد أمر هللا.
ً ومكانتهم ،لكنهم ملا جاءهم احلق رفضوه
املطلوب منكم اآلن :ضبط الكلمات املتكررة يف السورة( .مثل :واذكر -ذكر)...
142
شرح اسم الحكيم
143
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على نبينا حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
سا زلنا مبنة هللا ورمحته نناقش هذا اساسم العظيم :اسم (احلكيم).
كثريا
وقد مر معنا أن هذا اساسم من األمساء اليت حتتوي على معان عظيمة ،وأن اإلنسان حيتاج أن يتأمل فيه ،ويتدبره ،ويقلبه ً
يف حياته ،فاإلميان أبن هللا-سبحانه وتعاىل -حكيم يف شرعه وأمره وتدبريه ويف كل شأنه من األسباب اليت تورثك اليقني
هبذا الدين.
فمن مل يشغل فؤاده آباثر حكمة هللا فإن فؤاده سيُشغَل بَرد
علي أن تشغل فؤادك ابلتفكر يف آاثر حكمته سبحانه وتعاىلَ ،
أمر هللا!
نفس لن تطيع إن مل متألها ابحلق ،ولذا جيب علي أن تستعمل القدرة العقلية اليت وهب هللا إايها ابلتأمل يف آاثر أمسائه
وصفاته ،ومن أعظم األمساء اليت حنتاج أن نتأمل فيها :اسم احلكيم ،وقد مر معنا أنه تكرر يف كتاب هللا مائة مرة بلفظه ،غري أنه
كثريا من جهة املعىن ،فكل مرة دجد ذكر خلق السماوات واألرض ابحلق ،أو دجد نفي أن ُختلق السماوات واألرض تكرر ً
آايته{ ،}...أَفَ َال تَـتَـ َف َّك ُرون{ ،}...أَفَ َال تَـ معقلُون}...
ابلباطل ،فاعلم أن املقصود بذل هو احلكمة ،وكل مرة يقال ل َ { :وم من َ
فإنه يُراد من أن تتأمل احلكمة يف ذل .
وسا يُقصد بذل أن تعرف احلكمة من األشياء ،وإمنا املقصود هو أن تعلم أن هللا حكيم يف كل فعله .وقد بقي لنا جزءًا يف
مناقشة سورة (ص) يقرر هذا املعىن بوضوح.
144
شرح اسم الحكيم
وجل-تتجلى يف:
عز َّ
مر معنا أن حكمة هللاَّ -
خلقه.
سا زلنا نتناقش يف النقطة الثانية وهي :عظمة القرآن .وكيف يشهد القرآن على أنه كالم من لَ ُدن حكيم عليم ،وليس من
كالم اخللق ،وتبني لنا هذا األمر من جهة ألفاظ القرآن ومعانيه ،وكيف أن له احلكمة الكاملة ،والبالغة التامة ،وكيف أن دجد
السورة الواحدة كأهنا مجلة واحدة ،ختربك عن معىن واضح ،وتتنقل مع طول آايهتا حول حمور واحد .وأنت تستطيع فهم ذل
بشيء من التدبر.
145
شرح اسم الحكيم
وهذا سيظهر ل أكثر وأنت تنظر لآلايت وتقسيمها ،وتالحظ بداية السورة وخامتتها ،وتالحظ املواضيع اليت يف داخلها.
مر معنا تقسيم السورة من أوهلا إىل آخرها ،وبقي لنا جزء يف وسط السورة علينا فهمه؛ حىت نعرف أبي شيء سنلحقه.
لكن قبل أن أذهب هلذا اجلزء :ما العالقة بني أول السورة وآخرها؟
ين َك َف ُروا يف عَّزة َوش َقاق}( .)1تبني لنا أن الكافرين {يف عَّزة َوش َقاق} ،وأن َّ
أول السورة{ :ص َوالم ُق مرآن ذي الذ مكر * بَل الذ َ
هذا جعلهم ينكرون ثالثة أمور( :كلها ظهرت يف الصفحة األوىل)
.3أنكروا البعث.
اب}( .)3ساحر يف أي شيء؟ أنه جعل { ماآلهلََة إ َهلًا َواح ًدا}( .)4كذاب
قالوا عن النيب-صلى هللا عليه وسلمَ { :-ساحٌر َك َّذ ٌ
يف أي شيء؟ يف أنه أُنزل عليه الذكر من بينهم.
مث أتوا إىل ما يدعو إليه من أن احلساب سيقوم ،وعاملوا النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّم-ابستهزاء ،وقالوا أمامه وأمام املؤمنني
الذين يعظمون هللا ،ويعلمون حقًّا صدق هذه الرسالةَ { :ربـَّنَا َعج مل لَنَا قطَّنَا قَـمب َل يـَ موم م
احل َساب} .ما أتت لفظة السخرية ،وإمنا
أتى لفظ يدل عليها؛ فنحن ملا فهمنا {قطَّنَا} عرفنا أن هذه الكلمة سا تقال إسا فيما يُكتب من الشيء احلسن.
وعندما نذهب ألوصاف أهل النار يف نفس السورة-وهذه من األشياء اليت سنالحظها :-جند أهنم يسألونَ { :ما لَنَا َسا نـََرى
ر َج ًاسا ُكنَّا نَـعُد ُه مم م َن ماألَ مشَرار}()1؟ ماذا حصل؟ {أ ََّختَ مذ َان ُه مم س مخرًّاي}؟ ومعناه :أهنم كانوا على حق ،وحنن سخران هبم؟ {أ مَم
2
احدا من هذين السببني جعل
ص ُار} ؟ أم أهنم حقًّا أهل شر ،ولكن زاغت عنهم األبصار؟! فهم يرون أن و ً
ت َعمنـ ُه ُم ماألَبم َ
َزا َغ م
أيضا إىل أن وصف أهل النار هؤساء أهنم أصحاب سخرية.
هؤساء غري موجودين .ويف هذا إشارة ً
تصوروا أهنم حىت بعد دخوهلم النار يبحثون عمن كانوا يستهزؤون هبم! وهذا معناه أن أهل النار من أهل الكفر صفتهم مع
هتز الناس ،فمن مل
دائما :االستهزاء ،هذه صفة ال تنفك عنهم ،واالستهزاء نوع من أنواع احلرب النفسية اليت ّ
أهل اإلميان ً
يكن إميانه اثبتًا ستهزه مثل هذه األمور.
(سلَف الكفار)
الشيطان َ الكفار
ال أ ََان َخميـٌر ممنهُ َخلَ مقتَين م من َانر َو َخلَ مقتَهُ م من طني}(.)4
{قَ َ قالوا{ :أَأُنمزَل َعلَميه الذ مك ُر م من بـَميننَا}(.)3
إذًا :فهمنا من أول السورة وآخرها أن داء االستكبار لو أصاب أح ًدا منعه من قبول احلق.
(القصص القرآين)
فإهنا ما وردت فيها إسا لإلشارة إىل َسلَف هؤساء الكفار ،ولذل مل يُذكر آدم ابمسه ،ومل يُذكر تفاصيل خلقه ،وإمنا كان كل
الرتكيز يف تل اآلايت على إبليس ،وقصته ،واستكباره ،وعدم قبوله ،فما أتى من قصة آدم إسا اجلزء الذي يوافق أول السورة،
السلَف.
ف هلذا َ
فكأنه يقال :هؤساء املشركون َخلَ ٌ
وإذا أردت أن تتتبع كل السور ستجد أن القصة سا َتيت إسا مناسبة للسورة.
وجل-عن قصة موسى عليه السالم ،وأخرب عن السامري ،وكيف أنه نسي ملا صنع
عز َّ
مثال آخر :يف سورة طه :ملا أخرب هللاَّ -
آد َم م من قَـمب ُل فَـنَس َي َوَملم َجن مد لَهُ َع مزًما}( ،)1فجاء
العجلُ ،ختمت السورة بقصة آدم عليه السالم ،قال تعاىلَ { :ولََق مد َعه مد َان إ َىل َ
اخلرب يف طه عن قصة آدم مواف ًقا لقصة السامري.
ويف وسطها :ذُكر أهل اإلميان (داود وسليمان وأيوب ،مث إبراهيم ،وغريهم من األنبياء عليهم السالم)-وهذه هي اآلايت اليت
صة ذ مكَرى الدَّار}( .)2وهذه اخلالصة اليت ُوصفوا
اه مم خبَال َ
صنَ ُ تركنا شرحها ،-مث ذُكر يف وصفهم شيء مهم :قال تعاىل{ :إ َّان أ م
َخلَ م
هبا هي اخلالصة اليت افتقدها أهل الشرك.
ال َرب فَأَنمظ مرين إ َىل يـَ موم يـُمبـ َعثُو َن}( .)1إذًا هو
وكذل إبليس ،ما منزلة الدار اآلخرة عنده؟ ماذا يعرف عنها؟ ماذا قال؟ {قَ َ
وسيحاسبون ،لكن استكباره منعه من االنتفاع مبا يعلم ،فأصبح مبنزلة
َ مؤمن ابلدار اآلخرة؛ ألنه يعرف أن اخللق سيجتمعون،
َمن ال يعلم! وهذه املعلومة مهمة جدًّا.
oما هي مشكلة أهل الشرك؟ اساستهتار بيوم القيامة .قالواَ { :ربـَّنَا َعج مل لَنَا قطَّنَا قَـمب َل يـَ موم م
احل َساب}.
oوإبليس قالَ { :رب فَأَنمظ مرين إ َىل يـَ موم يـُمبـ َعثُو َن}.
oوذُكر يف وسط السورة صفة األنبياء واملرسلني :أن هللا أخلصهم خبالصة ،وهي ذكرى الدار.
ذاكرا
ذاكرا ملن بقي ً
ابق ًذاكرا داود وأيوب وإبراهيم عليهم السالمَ .
ابق ًفيصبح اخلطاب للنيب-صلى هللا عليه وسلم :-أن َ
للدار اآلخرة.
أيضا.
وسنرى يف الوسط كيف أتت آايت من قصة داود وقصة سليمان-عليهما السالم-تشري إىل هذا املعىن ً
كثريا إىل يوم احلساب يف السورة؛ إشارة إىل أن صالح املرء يدور حول ذكراه ليوم القيامة.
أُشري ً
سنقرأ اآلن من آخر آية يف قصة داود-عليه السالم-مع ثالث آايت بعدها:
كان الكالم عن داود ،مث أتى بعده مباشرة :أن هللا وهب لداود سليمان-عليهما السالم.-
إ ًذا :املنهي عنه يف اآلَّيت هو نسيان يوم احلساب ،وليس الكفر به.
سيحاسب.
َ ذاكرا له ،ال يتعامل مع األشياء على أنه
ما معىن أن اإلنسان ينسى يوم احلساب؟ أي :يغفل عنه ،ال يبقى ً
كل شيء يف الدنيا يسري على حكمة هللا ،وكل شيء يف موضعه يشهد حبكمة هللا ،إسا اإلنسان فإنه يسري ضمن اساختبار،
مبعىن أن اإلنسان إما أن يكون من األخيار أو من ال ُفجار ،فهو الذي خيتار.
مىت سيشهد اإلنسان حبكمة هللا؟ عندما تأيت املصري ،عندما يضع هللا املتقني يف مكاهنم ،والفجار يف مكاهنم.
ابطال!
ين َك َف ُروا} .ما هو ظن الذين كفروا؟ ظنوا أن هللا خلق السماوات واألرض ً َّ
وجل{ :ذَل َ ظَن الذ َ
عز َّ
ولذل يقول هللا َّ
هم سا يقولون ذل ،ولكنهم إن اعتقدوا أنه سا يوجد يوم قيامة وحساب ،وإن اعتقدوا أن هللا سيجعل املتقني كالفجار ،فإهنم
ين َك َف ُروا م َن النَّار} .سيكون َّ
ابطال ،ولذل قال هللا يف حقهم{ :فَـ َويم ٌل للذ َ
بذل قد اعتقدوا أن هللا خلق السماوات واألرض ً
جزاؤهم النار؛ ألهنم ظنوا يف حكمة احلكيم أنه سيجعل املتقني كالفجار!
ابطال؟
بصورة أخرى :هل أنت من يعتقد أن هللا خلق السماوات واألرض ً
وشخصا غري مستقيم ،وترى أن هذا غري املستقيم متمتع يف الدنيا ،واملستقيم
ً مستقيما،
ً شخصا
ً بصورة أخرى :عندما ترى
حرم نفسه من أمور الدنيا ،هل تستحسن حال غري املستقيم؟
150
شرح اسم الحكيم
اعتقدت
َ إذا استحسنت حال غري املستقيم ،ورأيت أنه يف حال أخري من املستقيم الذي حرم نفسه شيئًا من الدنيا ،فإن قد
ابطال.
وظننت أن هللا خلق السماوات واألرض ً
مثال :صيادلَة يشتغلون يف صيدلية ،واحد منهم يستفيد من عروض الشركات ،مبعىن أن الشركة تقول لهُ :خذ هذا املنتج،
وبعه ،وحنن نعطي عمولة أو هدية...اخل ،والثاين يقول :أان سا آخذ ،املال هذا يف نظري حرام ،واساثنان زميالن يف صيدلية
واحدة ،ويسكنون يف عمارة واحدة هلذه الشركة ،فاألول أدخل أوساده يف مدارس ودفع هلم ،واآلخر تراكم عليه إجيار البيت.
اندرا ما نقول ألنفسنا إن هذا مال حرام ،بل سابد أن حنتال على هذا الكالم ،ونقول :سا هذا تشدد! لكن ليُعلم أن أي
حنن ً
بدن نـَبَت من ُس محت فالنار أوىل به .واملشكلة اآلن يف ظن ،لو كنت تظن أن هذا الذي يتمتع ابلدنيا ،أو يف رغد من عيشه،
وميشي يف حياته ،وليس له ديون بسبب أخذه للمال احلرام ،لو كنت تظن أن هذا خري من الذي اتقى فدخل يف أزمة ،فمعناه
ابطال .أو كنت سا تؤمن أبن األمر سيعتدل ،وأن املتقي سريتفع ،وأن الفاجر سيحل
أن تظن أن هللا خلق السماوات واألرض ً
مكانه ،مبعىن أن سا تؤمن أن هذا زمن وسيمر ،مث يضع هللا كل شخص يف مكانه املناسب ،فمعناه أن تظن أن هللا خلق
ابطال.
السماوات واألرض ً
تكمن يف أفكاران!
وهذا يؤيد الكالم الذي ذكرانه يف اللقاء املاضي :أن مشكلتنا ُ
رضا عن صاحب احلرام،ً أنت ترين منظر هذا الذي اختار احلالل ،واآلخر الذي اختار احلرام ،لو وجدت يف قلب
واعتقدت أنه أحسن يف حياته ،ويف معيشة أبنائه ،وأنه خري من هذا الذي ضيق على نفسه ،فإن ذل معناه أن تعتقدين أن
ابطال!
السماوات واألرض ُخلقتا ً
151
شرح اسم الحكيم
وهذا الذي حيصل إمنا هو اختبار ،وسابد من اساختبار ،فالدنيا بُنيت على اساختبار والبالء .كل شيء يف الدنيا ميشي يف
ويوضع كل شخص يف مكانه صراطه املستقيم ،واإلنسان هو الوحيد الذي عنده اختيارات ،لكن هذا اساختبار سينتهيَ ،
املناسب.
ني َكالم ُف َّجار}؟! هل تتصور أن يوم القيامة سيأيت ويكون هذا املتقي مثل هذا الفاجر؟! اجلواب :سا! سابد أن
{أ مَم َمجن َع ُل الم ُمتَّق َ
حترر هذا املعىن يف كل موقف ،فتقول :هذا التقي الذي خاف هللا ،ومنع نفسه من احلرام ،مهما ظهرت عليه عالمات النقص
هنا ،فهو يوم القيامة يف مكانه املناسب لو كان صادقًا ،وهذا الذي فَ َجر سيأيت يوم القيامة َ
ويوضع يف مكانه املناسب ما دام
مات على ذل .
مبعىن :أن َمن مل يتدبر الظاهر فيصل به إىل الباطن فقد فسد فكره.
أن هللا يضع كل شيء يف موطنه .وهذا سريشدك إىل و(الظاهر) هو :أن السماوات واألرض وكل ما فيهما يشهد ل
(الباطن) وهو :أن يوم القيامة سيأيت ،وسيضع هللا الذين آمنوا يف مكاهنم ،والذين كفروا يف مكاهنم.
أسا ترين أن هللا وضع النجوم يف السماء؛ لرياها كل أحد ،ويهتدي هبا الطريق ،وسا يستطيع أحد أن حيجبها عن أحد؟ أسا
وجل-وضع اجلبال يف موضعها ليسد
عز َّ
ترين أنه وضع األهنار على األرض لئال حيجب أحد عن أحد املاء؟ أسا ترين أن هللاَّ -
عن الناس الريح والسيل؟ أسا ترين أن هللا جعل الثمار مدودة يف األرض؟
هذا كله ُوضع يف مكانه! اجلبال يف األرض يف مكاهنا املناسب ،واألهنار يف األرض يف مكاهنا املناسب ،والسهول يف األرض
يف مكاهنا املناسب ،والنجوم يف السماء يف مكاهنا املناسب ،والرايح َتيت يف وقتها املناسب.
أبدا!
ابطال؟ سا ً
إ ًذا :هل تشهدين هلل أنه وضع كل شيء يف موضعه؟ نعم .هل يوجد شيء ُوضع ً
152
شرح اسم الحكيم
وَتملي يف كل األمور حول ! فمن متام رمحته ابخللق أن هذا اهلواء الذي حيتاجه كل اخللق ما جعله هللا ُمل ًكا ألحد .من متام
رمحته أن املاء-الذي تأيت بعد اهلواء أمهية-سيله هللا يف األرض ،وجعل كل أحد يستطيع أن يتحسسه ،فيحفر يف األرض
وخيمرجه ،وسا يصري ُمل ًكا للخلق.
ُ
اهلواء األعلى أمهية سا ميكن لكل اخللق أن يتحكموا فيه ،مث املاء أقل منه ،مث األكل أقل منه ،وهكذا.
انظري ألمر هللا العظيم :تصوري لو (زمزم) غري موجودة يف احلرم ،ماذا سيحصل؟ ماذا كانت الدولة ستفعل؟ أرض صحراء،
واد حوله جبال ،إذا مل يوجد به ماء لن تأتيه اخللق! ولن يـَتَو َاردوا على احلرم .مث أن هذا املاء ليس أي ماء ،وإمنا ماء لو شربه
طعم وتُس َقى من ماء زمزم ،مث سا حتتاج ألي أمر آخر .لو ما
اإلنسان بنية اإلشباع يُشبع حىت من الطعام! َتيت وتسكن احلرم ،تُ َ
وجد ماء زمزم ماذا سيحصل؟! مهما كانت الدول غنية من أين ستشرب هذه املاليني اليت َتيت؟! ومن سريحتل هلم ابملاء؟ إذًا
هذا دليل على أن هللا يضع األمور يف موضعها ،وحنن نشهد هلل بذل .
سيوضعون يف املكان املناسب؟ فتستنبط من هذا أنه سابد أن هناك يوم القيامة ،فمن تدبَّر ظاهر السماوات
َ تأيت سؤال :مىت
واألرضَّ ،
تيقن بباطن األمر ،وهو يوم القيامة.
ومن كان له عقل واجتهد يف فَهم هذاُ :رق َي من هذا النوع من التدبر يف الظاهر،
كل واحد عنده عقل ويستطيع أن يفهمَ ،
ووصل إىل الباطن.
ض
أعر َ
وجلَ -
عز َّ آايته َوليَـتَ َذ َّكَر أُولُو ماألَلمبَاب} .كأنه يقال ل :هللاَّ -
اب أَنمـَزلمنَاهُ إلَمي َ ُمبَ َارٌك ليَ َّدبـَُّروا َ
وجل{ :-كتَ ٌ
عز َّ
يقولَّ -
ابطال ،وصار اخلطاب ألويل األلباب-الرسول-صلَّى هللا عليه وسلَّم- عن الكافرين الذين ظنوا أن السماوات واألرض ُخلقتا ً
واملؤمنني-الذين تدبروا يف ظاهر السماوات واألرض ،فتبني هلم أن هذا الظاهر يدل على الباطن وهو يوم القيامة ،وأن يوم القيامة
لن يكون املتقني فيه كالفجار.
153
شرح اسم الحكيم
فهذا الكتاب أُنزل إليكم ،ووصفه :أنه مبارك ،كثري اخلريات ،فتدبروه وتذكروه ،واعلموا أن التدبر والتذكر ص َفتَا أويل األلباب
ابطال.
الذين رأوا أن السماوات واألرض ما ُخلقتا ً
نقطة البداية يف اإلميان هي أن تؤمن أن هللا حكيم له كمال احلكمة ،ولذل قلنا يف بداية اللقاء أن هذا االسم وهذه
الصفة من أعظم األمساء والصفات اليت تسبّب اليقني يف القلب ،وهلذا يقول األعراب :البَـ معرة تدل على البعري ،واألثَر يدل
على املسري ،مث مساء ذات أبراج ،وأرض ذات فجاج ،أسا تدل أن هلا مل كامل الصفات؟! فهؤساء رأوا أن السماوات واألرض
ابطال ،وهذا التفكري دهلم أنه سابد من يوم حساب .مث أن هؤساء الذين أقبَلوا هبذه النفوس ُربوا ،وأُعطوا نعمة ،وهبهم
ما ُخلقتا ً
كتااب ،وصفه أنه مبارك .فهم مع نظرهم إىل السماء واألرض ،أنزل عليهم الكتاب ،فأخربهم عن األوائل وعن األواخر ،وعن
هللا ً
القصص احلق ،وأخربهم عن اجلنة وما فيها ،فعقوهلم بعد أن وصلت إىل املعىن العام ،جاء القرآن املبارك فأعطاهم التفاصيل اليت
هبا يثبت اليقني يف قلوهبم.
ولذل سابد أن تشعر أن اإلميان حبكمة هللا يورث اإلنسان اليقني .اإلميان حبكمة هللا جيعل تقول :مستحيل أن يكون كل
أبدا! وإمنا هذه
خريا من املسلمني؟! سا ً
شيء يف موضعه ،مث سا يعتدل موضع الناس! هل ميكن أن يبقى الكفار طوال العمر ً
الدنيا دول ،فعندما يرتاجع الناس عن دينهم يكون اجلزاء أن الكفار سريتفعون عليهم ،وعندما ترتفع بدين سيكون اجلزاء أن
هذه األمة سرتتفع ،مث يف يوم القيامة سا ميكن أن جيعل هللا املتقني كالفجار.
اآلن بعدما فهمت هذا الفاصل بني قصة داود وقصة سليمان-عليهما السالم ،-كيف ستحفظ اآلايت؟ كيف ستنظر
لتتابعها؟
عندما تسأل عن العالقة سابد أن يرزق هللا اإلجابة ،ومبا أن تفهم أن هذا الكالم أتى من حكيم عليم إ ًذا سابد أن يكون
أبدا ،وعدم اليقني هبذا هو الذي أضعف يف النفوس
متتابعا ،سا ميكن أن تكون هناك فجوة أو انتقالة مفاجئة بني اآلايت ً
الكالم ً
قوة التدبر ،وجعلنا نقرأ القرآن دون أن نسأل عن العالقة بني اآلايت!
للمعرض
هذا العلم رزق ،وقلب إانء هذا الرزق ،وهللا سيسخر ل العلم أينما كان ،لكنه سيسخره ملن يبحث عنه ،وليس ُ
عنه .سا تكتف ابإلميان اإلمجايل ،وأن هذا القرآن كله حكمة ،بل سابد من اإلميان التفصيلي ،واإلميان التفصيلي معناه أن تُشغل
154
شرح اسم الحكيم
كلكم تؤمنون أن هللا قالَ { :ولََق مد يَ َّس مرَان الم ُق مرآ َن للذ مكر فَـ َه مل م من ُم َّدكر}( .)1أنت ستُقبل على رب ،وتقول :اي رب أعطيتين
كتااب ميسًرا للذكر .هل ينكر أحد أن هللا يسر القرآن للذكر؟ سا .مادام أن تعتقد ذل إذًا أين عنايت ابلذكر؟ أين اساشتغال
ً
به؟! احلمد هلل أن عرب لست أبعجمي ،تفهم اخلطاب ،وترد اجلواب ،ول قدرة على القراءة ،وعندك أمن وأمان ،هذا كله
خري كثري!-نسأل هللا أن يزيده ،ويثبته ،ويدفع عن البالد والعباد كل شر ،ويدفع عن بالد املسلمني .-أنت تتمتّع ابلنعم اليت ال
ووفرة أهل العلم ،لكن أين طلبك وانكسارك بني يدي هللا من أجل أن تُرزق ِ
ووفرتهَ ،
يتمتّع هبا غريك من وجود العلمَ ،
علما؟!
ً
"اخلصومة". o
"مآب". o
من إنزال م من ذ مكري} ،وهذا هو الذي جعلهم يُنكرون ،فهم يف ش وجل-هنا عن الناس أهنم {يف َش
عز َّ
يقول هللاَّ -
القرآن على الرسول-صلى هللا عليه وسلم.-
م من ذ مكري}؟! واملقصود :أهنم يشكون يف ذكر هللا ،أي :يف هم يقولون{ :أَأُنمزَل َعلَميه الذ مك ُر م من بـَميننَا بَ مل ُه مم يف َش
استحقاقه-سبحانه وتعاىل-لالنفراد ابأللوهية.
ود َذا ماألَيمد يف آية ( :)17خطاب للنيب-صلى هللا عليه وسلم .-يقول هللا له { :م
اص مرب َعلَى َما يـَ ُقولُو َن َواذم ُك مر َعمب َد َان َد ُاو َ
اب}.
إنَّهُ أ ََّو ٌ
صب َو َع َذاب}.
ين الشمَّيطَا ُن بنُ م
وب إ مذ َان َدى َربَّهُ أَين َم َّس َ
يف املوطن التايل مباشرةَ { :واذم ُك مر َعمب َد َان أَي َ
إذًا :القرآن ذي الذكر ،وهم أنكروا الذكر ،وهللا تأمر نبيه-صلَّى هللا عليه وسلَّم-أن يصرب ،ويذكر األنبياء.
مث يقول تعاىل يف هناية السورة يف آية (َ { :)49ه َذا ذ مكٌر َوإ َّن ل مل ُمتَّق َ
ني َحلُ مس َن َمآب}.
خيرب هللا رسوله يف أول السورة أن هذا القرآن ذو الذكر ،أي :ذو املكانة العالية ،الذي إذا ذكره صاحبه يرتفع إىل املكانة
أن تذكره، العظيمة من جهة ،وتنكشف عنه غُمة الغفلة من جهة أخرى .فاملطلوب من أجل أن يبقى هذا القرآن يف قلب
وتذكر الصاحلني الذين انتفعوا به عرب العصور ،ومنهم :داود وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإمساعيل ...اخل األنبياء املذكورين
عليهم السالم.
156
شرح اسم الحكيم
واعلم أن العبد من أجل أن يبقى على ِذكر من اخلري البد أن يذكر أهل اخلري ،ويتمثّلهم ،ويتمثّل قصصهم ،وير ّدها
ني}( ،)1فإن تقوى العبد ابتباعه الذكر سا تكون إسا اَّلل وُكونُوا مع َّ ِ ِ
الصادق َ ََ وجل{ :اتَّـ ُقوا ََّ َ
عز َّ
على نفسه ،ولذلك يقول هللا َّ
بذكر َمن صدق ،فمن دعائم الدين :أن تذكر األنبياء واملرسلني وأصحاب الدين ،سواء كانوا معاصرين أو سابقني؛ ألن هللا
ني} ،فال تكفي جمرد تقوى هللا ،وإمنا سابد أن تكون مع الصادقني.
الصادق َ يقول{ :اتـَّ ُقوا َّ
اَّللَ َوُكونُوا َم َع َّ
أن يكون معه َمن يرشده لكي ينفذ ،ويُصلح له َخطأه ،ويـُمرشده .وهلذا أخرب هللا نبيه-صلَّى هللا عليه وسلَّم-أن م
اصرب ،واذكر هذا
وهذا من الصاحلني ال ُك َّمل من اخللق؛ لرتى منهجهم فتسري عليه.
مع الصادقني ،فماذا تفعل؟ ترى أيوب-عليه الغفلة ،وجيعل وابلنسبة لنا حنن :هذا القرآن ذو الذكر ،يكش ف عن
السالم-وحاله يف الصرب ،ترى داود-عليه السالم-وحاله يف الفتنة ،ترى إبراهيم وإمساعيل وإسحاق ويعقوب ،وترى كل األنبياء
وحاهلم فيما كانوا فيه ،فتجد نفس يف حال تشبه أيوب عليه السالم ،ويف حال تشبه سليمان عليه السالم ،ويف حال تشبه
ني}.
الصادق َ داود عليه السالم ،ويف حال تشبه إبراهيم-عليه السالم{ .-اتـَّ ُقوا َّ
اَّللَ َوُكونُوا َم َع َّ
هجر القرآن أن ال تذكر ال ُك َّمل الذين وصفهم هللا يف كتابه؛ ألن النيب-صلَّى هللا عليه وسلَّمُ -كرر عليه أن اذكر
فمن ْ ِ
ابق على ذكراهم ،فهم الصادقون الذين أُمرت أن تتقي هللا وتكون معهم. واذكر واذكر ،مبعىنَ :
واملقصود :أن التأمل يف كتاب هللا يُظهر لك أن هللا حكيم ،خاطب اخللق ابلكمال ،فاحملروم هو َمن َح َرم نفسه من
التأمل يف كتاب هللا.
158
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على سيدان حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
سا زلنا بفضل هللا ومنته نتدارس هذا اساسم العظيم :اسم هللا (احلكيم).
أايما أكثر يف مناقشته وتتبع معناه ،ويف احلقيقة لو بذل اإلنسان جهده وهو يتلو
وهذا اساسم العظيم يستحق منا أن نعيش ً
تدبرا
كتاب هللا من أوله إىل آخره للبحث يف آاثر حكمة هللا يف كل شيء فإنه سيجد أن هذا املوضوع سا ينفض ،بل كلما زاد ً
فهما حلكمة هللا.
للقرآن كلما زاد ً
حكيم:
وقد مر معنا أن معىن هذا اساسم العظيم :أنه-سبحانه وتعاىلٌ -
أما حكمته-سبحانه وتعاىل-يف خلقه فقد تبينت لنا من خالل النقاش يف ذل .
oمن جهة حكمته يف إرسال الرسل ،وابلذات يف إرسال النيب-صلى هللا عليه وسلم.-
oومن جهة أن هللا حكيم يف شرعه ،وأن هذا الشرع يتمثّل يف القرآن.
وجل ،-ورأينا كيف أن هذا الكتاب عظيم يدل على حكمة هللا ،وكيف أنه حيمل اإلعجاز
عز َّ
فتوقفنا وقفة مع كتاب هللاَّ -
وجل-حكيم ،فلم تَرد هنا صفة إسا حلكمة ،ومل تَرد هنا قصة إسا ملغزى ومقصد،
عز َّ
من كل معانيه ،وأن َمن قرأه سيجد أن هللاَّ -
وهكذا .وتدارسنا يف ذل سورة ص.
159
شرح اسم الحكيم
من حكمته-سبحانه وتعاىل-يف أمره! فاهلل حكيم يف أمره مبعىن أنه *تنبيه :سا ختلطوا بني هذا وبني ما سيأتينا بعد ذل
حكيم يف تدبريه لشؤون اخللق ،وكأن املقصود هو أمره الكوين ،مبعىن القضاء والقدر.
يُناقَش موضوع (حكمة هللا يف أمره وهنيه) بعنوان آخر هو( :حماسن الشريعة) أو (حماسن الدين اإلسالمي) ،مبعىن أن تنظر
حملاسن الدين ،وتتأمل فيها ،وتقلبها ،وتفهمها ،فتتعبد هللا بعبادة اإلميان أبنه حكيم ،وأنه ما شرع شيئًا إسا وفيه احلُسن التام ،فلو
أتى َمن يزخرف ل القول فأنت متل يف عقيدت أن هذا الدين كله حماسن.
كل شرع هللا فيه حكمة وأنت تتعبد هللا ابليقني أبن الشرع كله حماسن
وسيقدم الشيخ السعدي-رمحه هللا-يف كتابه "الدرة املختصرة يف حماسن الدين" مقدمة تُظهر لنا كيف أن دراسة حماسن
الدين قُربة إىل هللا.
160
شرح اسم الحكيم
"احلمد هلل ،حنمده ،ونستعينه ،ونستغفره ،ونتوب إليه ،ونعوذ ابهلل من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من يَهده هللا فال
مِ
ضل له ،ومن يُضلل فال هادي له .وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،وأن حمم ًدا عبده ورسوله-صلَّى هللا عليه ُ
ريا. وسلَّمً -
تسليما كث ً
أما بعد:
أكمل األدَّين وأفضلها ،وأعالها وأجلّها ،وقد َح َوى من َّ َّ
فإن دين اإلسالم الذي جاء به حممد-صلى هللا عليه وسلمُ -
احملاسن والكمال والصالح والرمحة والعدل واحلكمة ما يَشهد هلل تعاىل ابلكمال املطلَق ،وسعة العلم واحلكمة ،ويشهد
حقا ،وأنه الصادق املصدوق ،الذي ال ينطق عن اَلوى {إِ ْن ُه َو إَِّال َو ْح ٌي
لنبيه-صلَّى هللا عليه وسلَّم-أنه رسول هللا ًّ
وحى}(.")1
يُ َ
فنحن نتدارس اسم هللا احلكيم ،ونريد أن تظهر لنا حكمة هللا ،وما يدل على حكمة هللا ما سندرسه من حماسن الشريعة.
وأجل شاهد هلل ابلتفرد ابلكمال املطلق كله ،ولنبيه-صلَّى هللا عليه وسلَّم-
ّ "فهذا الدين اإلسالمي أعظم برهان،
ابلرسالة والصدق.
وغرضي من هذا التعليق إبداء ما وصل إليه علمي من بيان أصول حماسن هذا الدين العظيم؛ فإين وإن كان علمي
قصر كل القصور عن إبداء بعض ما احتوى عليه هذا الدين من اجلالل واجلمال والكمال ،وعباريت تضعف عن
ومعرفيت تَ ُ
)[ )1سورة النجم]4 :
161
شرح اسم الحكيم
-1منها :أن االشتغال يف هذا املوضوع الذي هو أشرف املوضوعات وأجلّها من أفضل األعمال الصاحلة .فمعرفته
والبحث عنه والتفكري فيه وسلوك كل طريق حيصل إىل معرفته خري ما شغل العبد به نفسه ،والوقت الذي تُنفقه يف ذلك
هو الوقت الذي لك ال عليك".
وجل-عن النقص، تفكريك يف حماسن الشرع عبادة وقرىب ،كأن تسبح وتكرب وهتلل؛ ألن اندجها أن تعتقد تنزيه هللاَّ -
عز َّ
وأن له الكمال املطلق ،وأن له احلكمة املطلقة ،فمن َمث كان الوقت الذي تقضيه فيه ل سا علي .
"-2ومنها :أن معرفة النعم والتح ّدث هبا قد أمر هللا هبا ورسوله؛ وهو من أكرب األعمال الصاحلة؛ وال شك أن البحث
أجل نعمه سبحانه على عباده .وهو الدين اإلسالمي الذي ال يقبل هللا من أحد دينًا
يف هذا اعرتاف وحت ّدث وتف ّكر يف ّ
عاء للمزيد من هذه النعمة.
شكرا هلل ،واستد ً
سواه ،فيكون هذا التحدث ً
تعظيما له
ً عظيما ،وكلما كان العبد أعرف هبذا الدين وأشد
ً تفاوات
-3ومنها :أن الناس يتفاوتون يف اإلميان وكماله ً
وأصح يقينًا ،فإنه برهان على مجيع أصول اإلميان وقواعده".
ّ إمياان
وابتهاجا كان أكمل ً
ً وسرورا به
ً
"-4ومنها :أن من أكرب الدعوة إىل دين اإلسالم شرح ما احتوى عليه من احملاسن اليت يقبلها ويتقبّلها كل صاحب
عقل وفطرة سليمة.
فلو تص ّدى للدعوة إىل هذا الدين رجال يشرحون حقائقه ويبينون للخلق مصاحله ،لكان ذلك كافيًا كفايةً اتمةً يف
جذب اخللق إليه".
هذا الكالم موجه ألهل الدعوة ،سواء الدعوة املباشرة أو الدعوة عن طريق الوسائل ،فلو عرف الناس احملاسن ،مث بذلوا
جهدهم يف شرحها لغريهم ،جلذبوا بذل القلوب لالستقامة.
سننتقل إىل بعض األمثلة اليت ضرهبا الشيخ-رمحه هللا-ليظهر فيها حماسن الدين:
قال" :املثال السابع :ما جاءت به الشريعة من إابحة البيوع ،واإلجارات ،والشركات ،وأنواع املعامالت اليت تتبادل
فيها املعاوضات بني الناس يف األعيان ،والديون ،واملنافع ،وغريها.
فقد جاءت الشريعة الكاملة ِحب ّل هذا النوع وإطالقه للعباد؛ الشتماله على املصاحل يف الضرورَّيت واحلاجيات
والكماليات ،وفَ َس َحت للعباد فَ ْس ًحا صلحت به أمورهم وأحواَلم ،واستقامت معايشهم.
و َش َرطَت الشريعة يف ِح ّل هذه األشياء :الرضا من الطرفني ،واشتمال العقود على العلم ،ومعرفة املعقود عليه ،وموضوع
العقد ،ومعرفة ما يرتتب عليه من الشروط.
ومنعت من كل ما فيه ضرر وظلم من أقسام امليسر ،والراب ،واجلهالة.
أتمل املعامالت الشرعية رأى ارتباطها بصالح الدين والدنيا ،وشهد هلل بسعة الرمحة ،ومتام احلكمة ،حيث أابح
فمن ّ
َ
سبحانه لعباده مجيع الطيبات ،من مكاسب ومطاعم ومشارب ،وطرق املنافع املنظمة احملكمة".
من احملاسن اليت تظهر يف الشريعة :ما جات به الشريعة من إابحة البيوع ،واإلجارات ،والشركات ،وأنواع املبيعات اليت فيها
معاوضات.
تعلم أن هللا خلق اإلنسان ساما احلُ مسن يف هذا؟ احلُ مسن يظهر يف كون اإلنسان حباجة إىل املعاوضة ،ويظهر يف كون
يستطيع اساكتفاء ،فال بد أن حتصل حالة من املعاوضة ،وحاسات املعاوضة هذه إذا مل تكن مضبوطة فإن مصاحل الناس ستذهب،
فالشيوعية منعت املعاوضة ،ومنعت البيع ،والرأمسالية جعلت بدل املعاوضة الراب ،فريبو هذا على هذا ،أما الدين اإلسالمي فقد
أابح البيع وحرم الراب ،أابح املعاوضات لتستقيم حياة الناس ،مث أن هذه املعاوضات غالبًا ستسبب إشكاسات يف العالقات ،فقد
مترا برب ،فيظهر هنا من حماسن الشريعة
مثال ً
أرضا ب َدار ،ويتعاوض ً
يشعر اإلنسان أنه مظلوم ،أو قد يُعتدى عليه ،فيتعاوض هذا ً
احدا.
نظاما و ً
أهنا مسحت ابملعاوضات ولكن حكمت فيها ،حبيث يكون للمعاوضات ً
163
شرح اسم الحكيم
فمثالُ :مينع أن يعاوض بني متر رديء كثري ومتر جيد قليل؛ ألن اإلنسان سيغرت يف أول هذه املعاوضة أبن هذا انفع؛ ألن هذا
ً
جيد وهذا قدمي ،لكن سابد أن مير يف خواطر اخللق بعد هذه املعاوضة أن هذا ظُلم ،فمن الظلم أن يعطي الكثري مقابل القليل،
وإن كان القليل أجود من الكثري ،فال حتصل معاوضة من نفس النوع بني رديء وجيد.
مثال آخر :سا حتصل معاوضة يف بيع الذهب ابلذهب إسا بعد أن يكون ل متام احلرية يف البيع واملقابضة ،مث تشرتي ما
جديدا ،فتعطيه الذهب
ً تريد .مبعىن أنه سا يصلح أن َتخذ ذهب القدمي ،وتذهب إىل احملل الذي تريد أن تشرتي منه ذهبًا
القدمي ،ويعطي مقابله الذهب اجلديد ،بل جيب أن تبيع وتقبض وَتخذ مال يف يدك ،مث تشرتي مبال الذي بيدك ما تريد
حرا متام احلرية يف شرائ للذهب اجلديد ،وسا حيصل ل غش .فأنت لو بعت الذهب
منه ،من أجل فض النزاعات ،فتكون ًّ
ابلذهب ،فإن ستندم على القدمي بعدما تنتهي لذة اجلديد ،وستقول :ذاك كان أثقل ،وأجود ،وأفضل .ولذا نقول :بع ،واقبض
مثنه ،مث اشرت ما تريد.
املعاوضات ابب خطري من أبواب اخلالف ،وساحظ هذا عندما يتعاوض اإلخوان يف البيت الواحد ،فهم يتعاوضون إىل أن
تشتعل بينهم احلرب ،فيقول األخ ألخيه :أنت أخذت حقي! فريد اآلخر عليه :لكن أنت من ينتهي مرادهم ،مث بعد ذل
أعطيتين إايه! وهكذا.
علي أن أتقابض ،مث أرجع مرة أخرى وأشرتي منه؟! سا داعي هلذا ،وإمنا أعطيه ويعطيين ،وينتهي
لو قال أحدهم :ملاذا َّ
املوضوع! نقول :سا! أنت سابد أن متتثل أمر الشريعة؛ ل-ما يف ذل من ُحسن ،فأنت بنفس سا تعرف نفس ،وهذه الشريعة
شرعها ل احلكيم العليم الذي يعلم َمن أنت ،ويعلم أن لو قبضت املال ستذهب من قلب حرارة الفقد ،مث َتيت بعد ذل
حالوة اساقتناع .جرب هذا وستفهم ،فإن للفقد حرارة ولالقتناء حالوة سا تعوض.
أنت عندما َتخذ الفلوس ستذهب حرارة الفقد ،وعندما تشرتي أنت بنفس بكامل حريت ستأتي حالوة اساقتناع ،مث
حرا ،ل أن تبيع هنا وتشرتي هناك .هذا ابإلضافة إىل ما حيدث يف معاوضات الذهب ابلذهب من الغش
أن هكذا ستصبح ًّ
يف ذل .
164
شرح اسم الحكيم
وجل-يعلم حباجة الناس إىل املعاوضات ،وشرع هلم يف دينهم ما حيملهم على
عز َّ
واملقصود أن من حماسن الشريعة أن هللاَّ -
املعاوضة أبقل مشاكل مكنة ،حبيث يستفيدون وسا يتضررون من حصول املعاوضات املـُفسدة ملاهلم.
مثاسا آخر ،وهو" :ما جاءت به الشريعة من إابحة الطيبات من املطاعم واملشارب واملالبس واملناكح
مث ضرب الشيخ ً
وغريها.
فكل طيب انفع فقد أابحه الشارع من أصناف احلبوب والثمار ،وحلوم احليواانت البحرية مطل ًقا ،واحليواانت الربية ،ومل
مينع من هذا إال كل ٍ
خبيث ٍّ
ضار على الدين أو العقل أو البدن أو املال.
من حماسن الدين :ما جات به الشريعة من إابحة الطيبات من املطاعم واملشارب واملالبس واملناكح ،ويقابل ذل أهنا مل حترم
إسا اخلبيث-أي :ما يضر.-
فأنت دجد أن ابب اإلابحة واسع ،وابب التحرمي ضيق ،فلم حيرم إسا كل ما يضر الدين أو العقل أو البدن أو املال ،وهذا
األمر معلوم مفهوم ،مبعىن أن الشرع حرم يف املال :الراب؛ ملا فيه من ضرر ،وحرم يف العالقات اجلنسية ما فيه ضرر ،وحرم يف
األكل والشرب ما فيه ضرر على العقل وعلى البدن ،فكل ما أس َكَر أصبح حر ًاما؛ ألن العقل حمفوظ ،وكل ما أهل البدن مثل
السموم وما يقرتب منها أصبح حر ًاما؛ ألن هذا يؤدي إىل هالك البدن الذي هو أمانة عندك.
أقل اخلبيث!
إ ًذا من حماسن الشريعة أهنا ما حرمت إال اخلبيث ،وأحلّت كل طيب .واحلمد هلل ما أكثر الطيب ،وما ّ
وهلذا عندما يتفلسف أحدهم فيقول :ملاذا إذا ذحبنا الذبيحة أبنفسنا ،ومسينا عليها ،أصبحت طيبة؟ وإذا تردت ووقعت
فماتت أصبحت خبيثة؟ سنقول :حىت لو مل نعلم الكالم املعاصر-الذي يدل على أن هنا جيتمع الدم اخلبيث...واخل ،-وتركنا
ومسي عليه فأُهنر دمه فإن هذا هو احلالل الطيب ،وخالفه خبيث ،وإن مل أطلع على
هذا كله ،فإننا نعتقد حكمة هللا ،فما ذُبح ُ
خبثه ،فكل ما مل يُسم عليه-أي :مل يقال عليه عند الذبح :بسم هللا-فهو خبيث ،سواء تبني ل خبثه أو مل يتبني.
165
شرح اسم الحكيم
الشريعة بينت ل أن ما ُمسي عليه فهو طيب ،وما مل يُسم عليه فهو خبيث ،مث َتيت اساكتشافات املعاصرة فتقول :أن هذا
الذي مل يُ َنهر دمه ومل يُسم عليه يكون فيه من اخلُبث يف دمه ما هللا به عليم ،لكن هل أنت ستنتظر أن يقول ل هؤساء :هذا
خبيث وهذا طيب؟ أم أن مؤمن ابلغيب؟!
مث قال" :وكذلك ما أابحه من األنكحة ،وأن للعبد أن ينكح ما طاب له من النساء مثىن وثالث ورابع؛ ملا يف ذلك من
مصلحة الطرفني ،ودفع ضرر اجلانبني.
ومل يبح للعبد اجلمع بني أكثر من أربع حرائر؛ ملا يرتتب على ذلك من الظلم وترك العدل.
حرصا على
مع أنه حثّه عند خوف الظلم ،وعدم القدرة على إقامة حدود هللا يف الزوجية على االقتصار على واحدة؛ ً
نيل هذا املقصود.
وكما أن الزواج من أكرب النعم ومن الضرورَّيت ،فإابحة الطالق كذلك؛ خشية عيشة اإلنسان مع َمن ال تالئمه وال
س َعتِ ِه} "
()1 ِ توافقه ،واضطراره للبقاء يف ضنك احلال وشدة العسر{ :إِن يَـتَـ َف َّرقَا يـُغْ ِن ّ
اَّللُ ُكالًّ ّمن َ
أيضا" :ما شرعه هللا ورسوله بني اخللق من احلقوق اليت هي صالح وخري وإحسان وعدل وقسط وترك
ً ومن ذل
للظلم.
وذلك كاحلقوق اليت أوجبها وشرعها للوالدين ،واألوالد ،واألقارب ،واجلريان ،واألصحاب ،واملعاملني ،ولكل واحد من
الزوجني على اآلخر.
وكلها حقوق ضرورَّيت وكماليات ،تستحسنها الفطر والعقول الزاكية ،وتتم هبا املخالطة ،وتتبادل فيها املصاحل
واملنافع ،حبسب حال صاحب احلق ومرتبته.
وكلما تف ّكرت فيها رأيت فيها من اخلري وزوال الشر ،ووجدت فيها من املنافع العامة واخلاصة ،واإللفة ومتام العشرة:
ما يشهدك أن هذه الشريعة كفيلة بسعادة الدارين.
حاصال فيها التعاون التام
ً ترى فيها هذه احلقوق جتري مع الزمان واملكان واألحوال والعُرف ،وتراها ُحم ِّ
صلة للمصاحل،
على أمور الدين والدنيا ،جالِبة للخواطر ،مزيلة للبغضاء والشحناء.
وهذه اجلمل تعرف ابالستقراء والتتبّع َلا يف مصادرها ومواردها".
أيضا :ما شرعه هللا ورسوله بني اخللق من احلقوق اليت فيها صالح وخري وإحسان وعدل وقسط .واحلقوق
من حماسن الشريعة ً
معلومة ،رتب الشرع احلقوق ترتيبًا منطقيًّا ،فبدأ حبق هللا سبحانه وتعاىل ،مث حبق الوالدين ،وهكذا ،فهذا الرتتيب املنطقي جيعل
احلياة يف حالة من التوازن ،حبيث أنه سا يُقدم صاحب حق أدىن على صاحب حق أعلى.
وقد رأينا من ضعف الشريعة يف قلوب اخللق أهنم سا يتوازنون يف مسألة احلقوق ،فهم يسريون يف إعطاء احلقوق على هواهم،
ويطالبون اخللق يف إعطاء احلقوق على هواهم!
أحياان زمالء أو صحبة فيها خري وصالح ،لكنها تكون سببًا يف تقصريك يف حقوق الوالدين ،وإذا قصرت يف حق
ً يكون ل
هؤساء الزمالء هامجوك! واملؤسف أهنم مستقيمون ،فاملفرتض أن املستقيم إذا اجتمع مع مستقيم فإنه يعينه على أداء احلقوق ،سا
أن يسبب له أزمة يف احلقوق!! وهكذا الزميالت جيتمعن على العلم والطلب ،وتكون الزميلة سبب لتقصري األوىل مع زوجها ،أو
أيضا يف األعمال ،فتكون املوظفة ملتزمة بوظيفتها ،لكن هلا زميلة تضغط عليها حىت ومها يف الدوام ،مع
مع والديها! ويظهر هذا ً
أحياان تقول هلا :نتدارس .لكن كل شيء له حقوقه ،فأان اآلن عندي وظيفة سابد أن
أهنما مستقيمتان! فتكلمها يف اهلاتف ،و ً
أقوم هبا ،أان اآلن عندي بر لوالدي ،وجيب أن أقوم هبما ،عندي حق للزوج جيب أن أقوم به ،فتقول هلا :أتؤنسني زوج ،أم
167
شرح اسم الحكيم
تتدارسني معي؟! نعم ،إيناس الزوج رغم أنه ليس طلب للعلم لكنه واجب وحق من حقوقه ،فاختلط األمر على الناس ،واملشكلة
األكرب عندما خيتلط األمر على املستقيمني! فلو اختلط األمر على عامة الناس لكان األمر أهون ،أما عندما خيتلط على
املستقيمني فهذا دليل على أهنم مل يروا حماسن الشريعة ،ومل يتدارسوها.
فمن حماسن الشريعة أن يُق ّدم صاحب احلق األعلى على صاحب احلق األدىن ،وإذا تزامحت احلقوق فإنه يبدأ ابألعلى
على األدىن ،وأنت معذور يف إسقاط األدىن إذا تزاحم مع األعلى ،معذور أن سا ترد على هاتف إذا كنت اآلن تقوم بعمل،
حىت إذا حصل لألدىن نوع ضرر يف مقابل أن األعلى حمفوظ حقه.
إىل أن نصل إىل تَ َدن غري مستوعب يف احلقوق عند الناس الذين ليس هلم دين ،وهذا مثل ما تسمع يف اهلندوسية ،أو داينة
السيخ الذين يعظمون البقرة ،فإن هؤساء الذين يعظمون البقرة هلم مقالة ،أوهلا يبدأ أبن يقال :أمنا البقرة!! مث يعدد املصاحل،
فيقول :أمنا احلقيقية ترضعنا سنتني ،وبعد ذل تكلفنا من األشغال ما يقضي عمران كله ،لكن أمنا البقرة ترضعنا ابللنب عمرها
كله ،وسا تطلب منا شيئًا ،أمنا احلقيقية إذا ماتت ستحتاج جنازة ،وأن نعمل هلا كذا وكذا ،أما أمنا البقرة عندما متوت فإننا
سنستفيد منها كلها! وبعد هذا اساستنتاج العقلي الفاسد يقال :إذًا َمن ستكون حقوقه أعلى؟
كالمهم هذا موجود ابلضبط ابلرتمجة احلرفية ،وهو يُعد عندهم أكرب رأس يف اإلصالح اساجتماعي.
انظروا هلذا اسانقالب يف احلقوق الذي هو دليل على عدم استقامة الدين! لكن عندما ترتتب احلقوق واألولوايت فإن هذا
دليل على حماسن الدين.
مثاسا آخر تظهر فيه حماسن الدين وهو" :ما جاءت به الشريعة من انتقال املال والرتكات بعد
مث ضرب الشيخ-رمحه هللاً -
املوت ،وكيفية توزيع املال على الورثة.
ب لَ ُك ْم نَـ ْفعاً}( ،)1فوضعها هللا بنفسه حبسب ما يعلمه من
وقد أشار تعاىل إىل حكمة ذلك بقوله{ :الَ تَ ْد ُرو َن أَيـُّ ُه ْم أَقـ َْر ُ
بربه وفضله ،مرتِّبًا ذلك ترتيبًا تشهد العقول الصحيحة
قرب النفع ،وما حيب العبد عادة أن يصل إليه ماله ،وما هو أوىل ّ
حبُسنه ،وأنه لو وكل األمر إىل آراء الناس وأهوائهم وإراداهتم حلصل بسبب ذلك من اخللل واالختالل وزوال االنتظام
وسوء االختيار ما يشبه الفوضى.
وجعل الشارع للعبد أن يوصي يف جهات الرب والتقوى بشيء من ماله فيما ينفعه آلخرته ،وقيَّد ذلك ابلثلث فأقل لغري
قياما للناس ملعبةً يتالعب هبا قاصرو العقول والدَّينة عند انتقاَلم من الدنيا .أما
وارث؛ لئال تصري األمور اليت جعلها هللا ً
مانع َلم من صرفه فيما يضرهم غالبًا".
حاَلم يف حالة صحة األجسام والعقول ،فيما خيشونه من الفقر واإلفالس ٌ
ووزعت بصورة توافق ما تقبله النفسأيضا مسألة انتقال األموال والرتكات ،فإن األموال قُسمت ُ
من حماسن الشريعة ً
اإلنسانية ،فيكون األقرب فاألقرب له نصيب من هذا املال ،وإمنا ُشرع هذا لفض النزاعات ،أما إذا قُسم املال على اهلوى
شبيها ابلفوضى!
فسيكون األمر ً
وجل-لصاحب املال أن يوصي يف جهات الرب والتقوى بشيء من ماله مبا ينفعه يف آخرته وقيَّده
عز َّ
جعل هللاَّ - ولذل
ابلثلث؛ لكيال حيكم عليه هواه حلظة املوت ،فيَحرم من له حقوق .وإذا قال قائل :لكن صاحب املال يف الدنيا وهو على قيد
احلياة يكتب كذا وكذا ملن شاء؟! سنقول :نعم ،لكن ُش َّحه سيمنعه من دفع كل املال وهو يف متام صحته ،وحينما يوش على
وجل-هو مال املل
عز َّ
املوت ،ويرى أن نفسه ستذهب ،ويكون له هوى يتخطفه ،فإنه سيمنع هؤساء الورثة حقوقهم ،وهللاَّ -
وهو الذي يؤيت املل من يشاء.
فعدم تصور املال على أنه عارية ،وأن فيه متَـ َرب ُمبتلى ،تُرى كيف ستفعل فيه ،جيعل اإلنسان يظن أنه مال له ،فيتصرف
فيه كما يشاء ،وهلذا أتت الشريعة حتجزه عن ذل ،فال يقول أحد :هذا مايل! أان حر فيه! نقول :سا أنت جمرد خازن على
وجل.-
عز َّ
املال ،حارس له ،وال ُـمل ُمل هللاَّ -
قاوم
وكلها فيها من املنافع واملصاحل اخلاصة والعامة ما يعرف به العاقل ُحسن الشريعة ،وأن الشرور ال ميكن أن تُ َ
دفعا كامالً إال ابحلدود الشرعية اليت رتّبها الشارع حبسب اجلرائم قلةً وكثرًة ،وشدةً وضع ًفا".
وتُدفَع ً
أبدا.
سنرى هذا احلُسن العظيم يف الشريعة ،الذي هو نوع من احلُسن سا ُجياريه شرع يف األرض ً
لو نظران إىل مسألة احلدود والعقوابت وما أتى يف الشريعة منها ،سنجد أهنا أتت يف موطنها الصحيح ،ولن منثل عليها ،وإمنا
سنمثل على ما يسمونه أبحكام الدميقراطية ،أو الدميقراطية يف التحكيم.
ما معىن "الدميقراطية"؟ معناها :شعب حيكم نفسه مبمثلني له ،لكن املقصود يف األصل هو أن حيكم الشعب نفسه.
فمثال :هذه جرمية سرقة حصلت يف هذه العمارة من هذا احلي ،لو ُسئل أصحاب املال نفسهم-الذين حصلت هلم جرمية ً
السرقةِ :-بَ حتكمون على السارق لو وجدانه؟ سيتمنون لو أهنم قتلوه؛ ألهنم ُهم الذين أُخذ ماهلم ،ووقع هلم الرعب ،وحصل هلم
اخلوف ،فحاهلم سيكون على أشده من جهة املشاعر .وحىت جرياهنم القريبون سيكون عندهم أثر خوف من هذه السرقة ،ألن
هذا معناه أن اللص يدور يف احلي ،وهلذا سيقولون :لو وجدانه سنقطع يده ،سنسجنه ،سنفعل كذا وكذا .لكن مجاعة احلي
اآلخر البعيد الذين مسعوا عن هذا اخلرب ،لو ُسئلوا :ماذا نفعل ابلسارق؟ أصحاب املال املسروق يريدون أن يقطعوا يده ،ومجاعة
حمتاجا! فَـ ُهم أشخاص يف
أبدا ،ما رأيكم؟ سيجيبون :حرام! هذا كالم َمن سا قلب له! قد يكون اللص ً يريدون أن يسجنوه ً
خربا طفي ًفا.
طرف املدينة البعيد ،مل يشعروا أبي مشاعر ،وسا حصل هلم أي َتثر من وقوع السرقة ،وإمنا مسعوه ً
سنأيت هبذه األقوال كلها ،ونقول :ماذا سنفعل اآلن؟ بعقل َمن سنحكم؟ هل سنحكم بعقل َمن َتثر وتضرر؟ أم بعقل الذي
قليال؟ أم بعقل الذي مل يصله شيء من الضرر؟ من املؤكد أن هذه العقول كلها ستختلف
جاوره؟ أم بعقل الذي بـَ ُعد عنه ً
عارض ورفض القصاص-هو الذي وقعت له السرقة فإن الدائرة
حبسب هواها ،فنحن لو أ ََد مران الدائرة ،وجعلنا البعيد-الذي َ
ستتحول ،وسيصبح هو َمن يُطالب ابلقتل.
واملقصود :أن مسألة احلدود هذه ال ميكن أن تكون حتت تفكري اخللق؛ ألهنم البد أن يتأثروا هبواهم ،فاألحكام اليت
وح ْبس للناس عن اإلمث واملنكر ال تستطيعها النفوس؛ ألهنا تضع نفسها مكان مرتكب اجلرمية ،أو
فيها منع ،وفيها نوع َز ْجر َ
أبدا ملثل هذا.
متاما ضده ،فالنفس سا تستوي ً
يعصف هبا اهلوى فيجعلها ً
170
شرح اسم الحكيم
وجل-هي أحسن أحكام ُوض َعت للخلق ،بل كما مر معنا أن يف القصاص حياة ،فأنت ترى
عز َّ
ولذل كانت أحكام هللاَّ -
وجل-من حكمة يف هذا ،فهو العليم اخلبري الذي يعلم
عز َّ شخصا قد ذهب ،لكن يف املقابلُ :حفظَت حياة اخللق لما هللَّ -
ً
ومن أَمن العقوبة أساء األدب ،وهذا كله يف نفسيات الناس ،فال يُطالَب
نفوس اخللق ،فاحلد إذا وقع على اإلنسان خافَ ،
الناس ابملثالية! الناس لو ما ُوض َعت هلم احلدود متادوا ،وإذا ما خافوا فإهنم لن يبتعدوا عن اخلطأ ،ولن يتوقفوا عن فعله.
شرعا ألطف
وأتت اآلية اليت بعدها مباشرة تدعوان إىل العفو ،وعدم معاملة اخللق إسا مبا حنب أن يعاملنا هللا به ،فهل ترى ً
وجل-سا حيب اجلهر ابلسوء ،سا حيب أن تتكلم عن الناس ،لكن إن كنت سا تقدر على العفو،
عز َّ
من هذا راعى النفوس؟! هللاَّ -
وسا تستطيع السكوت عما أصاب من ظلم فتكلَّم؛ لكيال تتحول َمجرة الظلم هذه إىل اعتداء أعلى .فانظر إىل لطافة احلكم،
أيضا من سا يستطيع ضبط نفسه ،ذكر األعلى ،وذكر األدىن ،حبيث يستطيع
وكيف أنه راعى َمن يستطيع ضبط نفسه ،وراعى ً
فمن َرَّوض نفسه واستطاع أن يعفو سيعامله هللا ابلعفوَ ،ومن سا يستطيع ذل ف مليتكلَّم عند َمن
كل الناس الدخول حتت هذاَ ،
ينفعه الكالم معه ،حبيث خترج هذه اجلمرة وتنطفئ .وأنتم تعرفون أن بعض املظلومني يرون أن الكالم ينفس عنهم ،وبعضهم يرى
أن الكالم سا جيدي شيئًا.
واملقصود هو أن ننظر لسماحة الشريعة وحماسنها ،وكيف أهنا راعت كل اخللق ،وأن األحكام كلها أتت يف مواطنها.
ومن األمثلة على ُحسن الشريعة" :ما جاءت به الشريعة من األمر ابحلَ ْجر على اإلنسان عن التصرف يف ماله إذا كان
ضرا به أو بغريه.
تصرفه ُم ًّ
وذلك كاحلَ ْجر على اجملنون والصغري والسفيه وحنوهم ،واحلَ ْجر على الغرمي ملصلحة غُرمائه.
وكل هذا من حماسن الشريعة ،حيث منعت اإلنسان من التصرف يف ماله الذي كان يف األصل مطلق التصرف فيه،
ولكن ملا كان تصرفه ضرره أكثر من نفعه وشره أكرب من خريه َح َج َر عليه الشارع َح ْج ًرا للتصرفات يف ميدان املصاحل،
وإرشادا للعباد أن يسعوا يف كل تصرف انفع غري ضار".
ً
ماسا ،إذا أُطلقت يده يف املال استطاع كل أحد أن ميكر به ،وتأخذ ماله ،أو ضيعه هو يف َس َفه،
مثال :هذا طفل صغري َورث ً
ً
وعندما يكرب يلوم الناس الذين حوله ،ويقول :ملاذا مل متنعوين؟! ملاذا مل تُرشدوين للصواب؟!
ماسا ،كمديرة مدرسة وعندها معلمات ،وهذه املديرة مل حتصل على أموال من
أو من وجه آخر :يكون اإلنسان قد غرم ً
الطالب من أجل أن تعطي املعلمات رواتبهم ،وبقي احلال على هذا يف الشهر األول والثاين والثالث ،وأتوا قبل اساختبارات أو
وبدسا من أن
أثناءها وقالوا للطالب :لن نعطيكم شهاداتكم إسا إذا أعطيتموان أقساط املدرسة ،فأخذت املديرة أقساط املدرسةً ،
تعطي املعلمات رواتبهم ،أخذت األقساط وسافرت هبا!!
وحجر
فدعيت هذه املديرة إىل احملكمةُ ،
حكما من احملكمة ابحلجر على أموال املديرةُ ،
فذهب أصحاب الرواتب واستصدروا ً
عليها يف التعامل مع ماهلا ،ابلرغم من أن هذا ماهلا ،وهو موضوع يف البن ابمسها ،لكن هل ُيع َقل أن حتجز هي للسفر،
وتؤجل رواتب هؤساء املعلمات للعام القادم؟!! هل فعل املعلمات صحيح؟ ابلطبع صحيح ،سا بد
وتصرف املال يف عشرة أايمَّ ،
أن حيجروا عليها ولو كان هذا ماهلا؛ ألجل أن تأخذ هؤساء الغرماء حقهم ،وما يتبقى من املال فهو هلا ،تذهب به مكان ما
تريد!
موقف الناس من مثل هذه األحداث خيتلف على حسب موضعهم من الدائرة ،فإن الناس البعيدون عن هذا هامجوا احملاكم،
وقالوا :كيف ُحي َجر على ماهلا؟ ماهلا هذا ملكها! واملعلمات أصحاب َديمن ،وعندما ترجع هي من سفرها تتصرف معهم!!!
172
شرح اسم الحكيم
واملقصد من هذا هو أن ننظر حلفاظ الشريعة على احلدود ،وعلى استقرار الناس ،وعدم تالعب الناس ببعضهم ،فاحلَجر من
املصاحل الشرعية ،اليت سا دجعل السفيه يتصرف يف املال ،وسا دجعل اجملنون يتصرف يف املال ،وإن كان بعض الناس استعملوا احلجر
أصال من املصاحل الشرعية.
فيما سا يليق ،لكن احلجر ً
ومن صور حماسن الشريعة" :ما جاءت به الشريعة من مشروعية الواثئق اليت يتوثّق هبا أهل احلقوق.
وذلك كالشهادة اليت تُستوىف هبا احلقوق ،ومتنع التجاحد ،ويزول هبا االرتياب.
وكالرهن ،والضمان ،والكفالة ،اليت إذا تعذر االستيفاء َّن عليه احلق رجع صاحب احلق إىل الوثيقة اليت يُستوىف منها.
وال خيفى ما يف ذلك من املنافع املتنوعة ،وحفظ احلقوق ،وتوسيع املعامالت ،ور ّدها إىل القسط والعدل ،وصالح
األحوال ،واستقامة املعامالت.
فلوال الواثئق لتعطّل القسم األكرب من املعامالت ،فإهنا انفعة للمتوثِّق ،انفعة ملن عليه احلق من وجوه متعددة معروفة".
ب عليه احلق-إذا اعتمد على ذاكرته سينسى ،ويدخل الناس يف وج َ
أان أتذكر ما يل عند فالن ،لكن نفس احملقوق-الذي َ
إشكاسات سا هناية له ،فال يُعتمد على الذاكرة حىت يف العالقات احلسنة ،وإمنا من الواجبات علينا أن تُسجل احلقوق( ،)1سواء
كانت الديون أو التبادسات النفعية ،مثل :القروض...وإخل.
*سأطلب منكم للقاء القادم أن ُحتضروا معكم جدول مواطن ورود اسم هللا (احلكيم) ،فنحن عند بداية كالمنا عن اسم هللا (احلكيم) ذكران أن
هذا اساسم ورد يف القرآن أكثر من مائة مرة ،واتفقنا أنكم ستستخرجون هذه املواطن من املعجم املفهرس أللفاظ القرآن ،وتكتبوهنا يف جدول.
) (1كما أوجبت ذل بعض املذاهب ،وبعضها يرى أن العبد تأمث إذا ما وثق وكتب ،وهناك َمن يرى أن هذا للنَّدب.
173
شرح اسم الحكيم
174
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على سيدان حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
ُ
سازلنا بفضل هللا ومنته نتدارس هذا اساسم العظيم ،اسم هللا (احلكيم) ،ونسأله-سبحانه وتعاىل-إبذنه وأبمره وبفضله أن
تستقر يف قلوبنا معاين هذا اساسم العظيم؛ فنتمتع به يف حياتنا ،وخنرج ابلنتائج من دراسته ،اليت من أمهها :الرضا عن هللا ،فإن
الرضا عن هللا إذا وقع يف القلب كانت تل هي النفس املطمئنة اليت يُقال هلا { :مارجعي إ َ َٰىل َرب َراضيَةً َّم مرضيَّةً}( ،)1فمن عاش
حياتَه راضيًا عن هللا يف أفعاله ،وأحكامه ،وشرعه ،وتصنيفه ،وأوامره فإنه سيتمتع هبذه النفس املطمئنة.
النفس املطمئنة هي النفس املتي ّقنة بكمال هللا ،وابستحقاقه لأللوهية ،وبكمال شرعه ،ودينه ،وأمره ،وقضائه ،وقدره.
سنناقش اليوم جزءًا آخر من الكالم حول (حماسن الدين) اليت تظهر فيها حكمة هللا يف شرعه .سنأخذ ما تيسر ،مث ننتقل
وغدا إن شاء هللا سيكون كالمنا عن مجَمع اسم هللا
إىل (حكمة هللا يف أمره وقضائه) ،وهذا سيكون آخر جزء ابلنسبة لناً .
[احلكيم] من القرآن ،وبعد غد سنمر من جديد على اساسم كامالً ابلتقريرات اليت خرجنا هبا-إن شاء هللا.-
حنن نتكلم عن شيء من حماسن الدين؛ ألن هذا يُربز لنا حكمة هللا يف شرعه .وحنن نتبع هذه الطريقة يف دراسة األمساء؛
وجل-واسعة يف فهمها ،مبعىن أنه حىت تتمكن من فهم اسم واحد فإن حتتاج أن تقضي جزءًا ً
كبريا عز َّلنفهم أن أمساء هللاَّ -
من حيات يف البحث إىل أن تتبني ل معاين اساسم .وها حنن قد تنقلنا من مكان إىل مكان وحنن نناقش اسم هللا [احلكيم].
وجل:
عز َّ
فتحنا يف أول يوم كتاب "فقه األمساء احلسىن" ،وقرأان معىن اساسم من أوله آلخره ،وخرجنا أبننا فهمنا أن هللا َّ
-له احلُكمم.
ممة.
-وله احلك َ
ممة ألن احلُكمم سيأيت من ورائها ،واتفقنا على أن هللا [احلكيم] هو الذي له احلكمة البالغة:
وكان تركيزان على احلك َ
-يف خلقه.
-ويف أمره.
-ويف شرعه.
بدأان أوساً حبكمته يف خلقه ،وأتينا جبملة من كالم املؤلف ،اليت قال فيها" :أما احلكمة يف اخللق :فإنه سبحانه خلق اخللق
ومشتمال على احلق" .أخذان هاتني اجلملتني ،وخرجنا للقرآن ،وبدأان نبحث عن ورود كلمة (احلق) يف خلق السماوات
ً ابحلق،
واألرض ،ويف غري ذل ،وتبني لنا معىن (ابحلق) ،وتبني لنا عكسها :معىن (ابلباطل) ،وقضينا يف هذا يومني.
مشتمال على احلق" ،وقلنا إن هذا معناه أن َتيت إىل ملوقات هللا وترى فيها احلق ،وظهور
ً مث أردان أن نعرف ما معىن "
ح مك َمة هللا فيها ،وأن هللا قد وضع كل شيء يف موضعه .واتفقنا كيف تُدرس مثل هذه األمور ،وانتهينا إىل أن قرأان جزءًا من
كالم ابن القيم-رمحه هللا-يف كتابه" :مفتاح دار السعادة".
مث تكلمنا بعد ذل عن حكمة هللا يف شرعه ،ودخل حتت هذا ثالثة أمور:
وجل-احلكيم أرسل الرسول ،وأيده ابملعجزات األمر األول :حكمته يف إرسال الرسول-صلى هللا عليه وسلم .-فاهللَّ -
عز َّ
اليت تدل على صدق نبوته.
176
شرح اسم الحكيم
ت َرب َ ص مدقًا َو َع مدًسا}(.)1 األمر الثاين :حكمته يف إنزال القرآن الذي فيه الشرع ،وترى فيه كمال احلكمةَ { ،وَمتَّ م
ت َكل َم ُ
وجل-يف القرآن.
عز َّمنوذجا لبيان حكممة هللاَّ -
وطبقنا على سورة (ص) ،فكانت ً
وجل-يف شرعه من جهة األحكام ،ويظهر ذل عند البحث عن حماسن الدين. األمر الثالث :حكمة هللاَّ -
عز َّ
سنكمل قراءتنا يف رسالة الشيخ السعدي-رمحه هللا"-الدرة املختصرة يف حماسن الدين اإلسالمي".
ك ِم َن اخلَ ْري
ومج ًيالَ ،م ْع َما ي ْتبع َذلِ َ
س ًاان َ ذر عن َد أخيِه ْ
إح َ أجرا جزيالً ،وبَ َ
احبه يـرجع إِليه ماله ،وقد اس ِ
تفاد م ْن َربِه ً
ْ َ َ َْ
وص ِ
َ
الصدر ،وحصول األُل َف ِة واملو ّدة. والربَكة ،وانْ ِش َر ِ
اح َّ َ
مت ا ِإل َش َارةُ إِ َىل ِح ْك َمتِه ِيف الزَكاة َوالصدقة ". َ َ ُ
وأما ا ِإلحسا ُن احملض الّذي ي ِ
عطيه صاحبه جمَّ ًاان وال يرجع إِلَ ِيه ،فقد تَـ َق ّد ِ
ُ ُ َّ ْ َ
وجل-حيث الناس على القرض .والقرض والعارية متلفان عن الصدقة ،فقد ورد يف احلديث أن
عز َّ
من حماسن الدين :أن هللاَّ -
()2
مثاسا :يكون ل
ضاعف إىل مثانية عشر ضع ًفا ،ولنفهم سبب ذل سنضرب ً
ضاعف بعشرة أمثاهلا ،أما القرض فيُ َ
الصدقة تُ َ
مائة ألف رايل ،وتريد أن ُخترج منها صدقة ،ستحسب أهنا إذا خرجت لن تعود ل يف الدنيا ،وبناءً على ذل ستتصدق بعشرة
آساف فقط ،لكن يُقال ل يف القرض :اعطه ولو تسعني أل ًفا-مثالً ،-وستُؤجر على هذا مثانية عشر ضع ًفا ،مع اعتقادك أن
املقرتض سريدها إلي ،فتكون مبثابة املغامرة.
هناك فرق بني أن تعطي وأنت تعرفني أن هذا املال لن يرجع ل ،وبني أن تعطي وأنت على انتظار الرد ،وسا زالت ملكية
أحدا؛
األمر موجودة يف نفس ،فهذا فيه نوع مشاحة حتتاج إىل عالج ،وهلذا يقول كثري من الناس" :أان أتصدق ،وسا أُقرض ً
ألن القرض سيلزم مين السعي وراء املقرتض ملطالبته مبايل" .مع أن أجر القرض يف املضاعفة أعلى من أجر الصدقة؛ ألن يف
القرض ستعطي أكثر ،فأنت قد تُقرض مببلغ تسعني أل ًفا؛ ألن مطمئن أبهنا ستعود ،لكن يف الصدقة لن ُخترج إسا عشرة آساف،
مع أن الناس حول حمتاجون أن تقرضهم تسعني ،سا أن تتصدق عليهم بعشرة!
ولو انتشر مثل هذا األمر حلصل من اخلري للبالد والعباد ما يكفينا شر البنوك الربوية ،وشر السجون اليت تقف وراءها الديون!
النفوس عندما تشح ابملال حيصل يف اجملتمع مثل هذه املشاكل.
حينما ترى أن هللا حض الناس على القرض والعارية ،ستجد أن النفوس اليت تنتظر األجر من هللا يهون عليها األمر .مث سا
تظنوا أن األمر يتوقف عند "عشرة" و"مثانني" و"تسعني" ألف! بل تصل املسألة إىل حد أن تعريي جارت آنيت ،أسا تسمعني
يف القرآن قوله تعالَ { :وميَمنَـعُو َن الم َماعُو َن}( ،)1عندما تقرضني جارت املاعون؛ من أجل أن تستضيف ضيوفها ،تكونني من ُوعد
بثمانية عشر ضع ًفا ،فال يشرتط أن يكون اإلقراض يف األموال العظيمة ،وإمنا حىت األمور اليسرية تدخل فيه.
دائما ،والقرض ماذا يفعل يف القلب؟ يهون هذا الشح؛ فاملل ُملك ولكنه يف يد غريك يتمتع به ،مث يعود
املل فيه شح ً
ل ،وأنت مأجور بال كلفة على ذل .سا دجعلي الشيطان يُبخل عن أمر وراءه أجر عظيم ،أو يُنسي األجر العظيم من وراء
هذا األمر!
-إما أن تعطي جريان صحون ،وتقويل :إن شاء هللا تسلم وسا تنكسر .وختبئي اجليدة ،وتُظهري الرديئة.
أجر -وإما أن متدي هلم يدك دون أن حتتسيب األجر على هللا من وراء هذه العملية ،فتعطيهم من ابب اجملاملة ،فيفوت
املضاعفة.
واملقصود :هو أن تنظري إىل الشريعة ،وكيف أهنا حثت على أعمال تنالني أجرها .فهذا املاعون اآلن مغلق عليه سا تنتفعني
به ،هو ماعون ملَّك هللا إايه ،مث متدين يدك به لتجري علي األجورَّ .
َتمل ُحسن اإلسالم يف ذل ،أرأيت كرمي مثله سبحانه
وتعاىل؟! ميلك ،مث يفتح ل ابب العارية ،مث يعيدها إلي ،وجيري علي األجر.
مثال-حتتاج يف زفافها إىل ملبس ،ساعة...أي شيء ،فتستعري من ،وهكذا ،كل شيء سأُدخله
ومثله يف كل شيء :امرأةً -
ابب القرض والعارية ،وأنت مأجورة على هذا ابملضاعفة.
أما (الفرق بني القرض والعارية) :فالقرض مثل العارية ،لكن هناك فروق سنذكرها بوجه العموم :يف القرض والعارية تبقى
مثال-سا يدخل يف العارية ،فأنت
العني كما هي مث تسرتدها ،لكن القرض يكون ابملال ،والعارية ابألشياء احملسوسة ،فالطعامً -
عندما تعطني جارت بصلة أو بيضة حتتسبينها على هللا صدقة ،فما يُن َف مق وسا يعود يسمى صدقة ،وما يُن َفق ويعود يسمى قرض
أو عارية.
ماذا يفعل ب الشيطان حينما تُقرضني؟ يقول ل :لن ُحيسن هذا املقرتض استعمال القرض ،كيف تقرضينه؟! من املؤكد أنه
وجل-هو الذي حيفظ ل مال ،فهذه ابتالءات
عز َّ
سيعيد إلي العارية اتلفة .لكن علي أن تقاومي هذا ،واعلمي أن هللاَّ -
خيترب هللا فيها صدق .واعلمي أن هذه العارية حينما تنكسر فإن هذا هو الوقت الذي انقضى فيه اسانتفاع هبا ،سواء كانت
عندك أو عند مستعريها! فأنت تتعامل يف هذا كله مع هللا!
واملقصود :أننا سننظر حملاسن هذا الدين ،وكيف أنه حيث على القرض والعارية ،وعلى نفع إخوان ،مع أن مال هذا سا
زال ل ،مل حيصل فيه شيء ،وسيعود ل مرة أخرى.
وحل املشكالت،
صوماتّ ،
لفصل اخلُ ُ
سا ُْس ً جعلها َّ
الشارع أ ُ "األصول وال َقواعد الّيت َ
ُ أيضا:
ومن صور حماسن الدين ً
اآلخر.
أحد املتَداعيني َعلى َ
رجيح َ
وتَ ِ
وافقة ِ
ول مبنية علَى العدل والربهان ،واطّراد العرف ،وم ِ
الفطَر ،فَإنّه َج َع َل البيّنة َعلى ُكل َمن ا ّد َعى َشيئًا أَو ُ ُْ ُ َ أص ٌ َ ّفإَهنا ُ
مبجرد ال ّد ْع َوى: ِ ِ ِ
ت لَهُ احلَق الّذي ا ّدعى بهَ ،وَمىت ملَ أيت إال ّ حقا ِمن احلُقوق ،فَإذا أتَى ابِلبينة الّيت تُـ َرِّج ُح جانبه َوتُـ َق ِّويه :ثَـبَ َ
ًّ
لمد َعى َعلَ ِيه احلَق. الد ْع َوى ،وملَ يَ َتو َّجه لِ َّ
املد َعى َعليه َعلى نفي َّف َّ َحلَ َ
ِ ِ
فالبَـيِّنةُْ :
اس ٌم َجام ٌع ل ُك ّل ماَ يبُـ َِّ
ني احلَق وي ُد ّل َعلَْيه.
ش ِ
اكل واملنَ َاز َعات. حل امل َ سا ِوي ِ ِ ِ
اخلصم ْني طريق الصلح العادل املناسب لكل قضية طري ًقا إىل ّ
َ وج َع َل عند االشتبَاه وتَ َ
َ
العباد يف مع ِ ِ فيه وال ي ِ
فكل طريق ال ظُلم ِ
انفع َلم ،-فقد حث عليه إذا كا َن وسيلَة إِىل ْ
فصل صيَة هللا-وهو ٌ َ َْ دخلُ َ ُّ
اجرات.
ش َ صوماَت وقطْ ِع امل َ
اخلُ ُ
وساوى ِيف َهذا بني ال َقوي واَل ّ ِ
ؤوس ِيف مجي ِع احلُقوق. ضعيف ،وا ّلرئيِس ْ
واملر ُ ّ ََ َ
مثال :شخصان كاان يف سفر ،ومل يتواثقا ،أو كاان يف حال من الصحبة واألخوة والعالقة اجليدة ،فتبادسا أو أخذ هذا مال هذا
ً
على هذا العهد ،مث افرتقا ،فجحده .كل هذه أشياء ميكن أن حتصل ،وهي سا ختلوا من حالتني:
أ-إن كان له بينة-والبينة هي :ما يُثبت أن هذا األمر له :-فإنه سيدعي وتأيت ابلبينة ،ولن يكون للثاين ما يرد به على
األول.
ب-أما إذا مل تتوفر البينة :ما احلل يف مثل هذا؟ هل سيذهب ماله؟ سا! وإمنا سيأيت ابليمني (حيلف).
فمن حماسن الشريعة أهنا جعلت مسألة اخلصومات وفض النزاعات واضحة:
أوسا.
-فإنه سا يوجد قبول لدعوى من غري بينة ،هذا ً
-مث إن املدعي إذا أتى ابلبينة اليت تقوي حجته :ثبت له احلق.
-ومىت مل تأت إسا مبجرد الدعوى :فإن املدعى عليه سيحلف بنفي هذا األمر.
180
شرح اسم الحكيم
والناس يقول ون يف مثل هذا :أنه سيحلف ،ويفوز .نقول :نعم ،هذا شيء يلزمه .مث أتظن وأنت تؤمن ابلغيب أنه حيلف ابهلل
كاذاب ويرتكه هللا؟! لن يرتكه هللا! وهذا اإلميان من سيجعل هذا احلكم من حماسن الشريعة؛ ألنه لو
يف جملس ُحكم حل ًفا ابطالً ً
أُعطي كل ُمدعي بدعوته سافرتى الناس على بعضهم.
فهذا مدع وليس معه بينة ،واآلخر يُكذبه! هل سنبقى على هذا احلال دون الفصل بينهما؟! ابلطبع سا! وهلذا سا يوجد حل
يفصل بينهما إسا ال َق َسم ،مع التحذير من الكذب يف القسم.
هل البينة هي الكتابة أم العُرف؟ هل هناك أشياء عرفية تقوم مقام البينة؟ نعم ،العُرف يدخل ضمن البينات.
مثال-سا يوجد إرغام فيها؛ ألن الشريعة ملـا شرعت الصلح مل دجعله سببًا ألن ترتك أنت حق جماملةً ،وإمنا
فمسألة الصلحً -
صح ل أن تدخل هذا الطريق.
إذا اقتنعت ابلصلح بطرق سا يوجد فيها ضغط علي َّ ،
مثال قتل خطأ ،وأتوا أهل القاتل إىل أهل املقتول وأرادوا منهم أن يتنازلوا بدفع مبلغ معني من الدية ،سا يصح أن
فلو حدث ً
تأيت أحد ذو شرف ومنصب ويضغط عليهم مع عدم قبوهلم! فنقول لصاحب الشرف واملنصب هذا :أن تنازهلم إذا مل يكن
ابختيا رهم ورضاهم ،بل كان بسبب ضغط عليهم ،فأنت يف ذل آمث .سا بد أن يكون التنازل برضاهم ،وإبقناعهم ،وبتطييب
خواطرهم ،أو جبربهم مبال ،أو أبي صورة ،لكن ليس ابلضغط عليهم فهذا حقهم.
وهذا كأن تأيت شيخ قبيلة ألهل املقتول الذين يريدون القصاص لولدهم ،فيقول هلم :عليكم أن تقبلوا! فال يقبلوا ،فيغضب
عليهم هذا الشيخ ،وخيرجهم من القبيلة! هذا سا يصح! كل حل ملشكلة سابد فيه من تراضي األطراف ،وسا حيق ل أن تستعمل
جاه يف الضغط على اخللق.
أو تأيت أحد فيضغط على أصحاب الدية ،ويقول هلم :هذا فقري ،حرام أن َتخذوا منه دية .سا! غري صحيح! هذه الدية من
الشرع ،وسا يصح ألحد أن ُحيرم ما شرع هللا ،حلول املشاكل جيب أال تكون مبعصية ،فال تراض على معصية.
181
شرح اسم الحكيم
مثاسا آخر تظهر فيه حماسن الشريعة ،وهو" :ما جاءت به الشريعة من األمر ابلشورى ،والثناء على املؤمنني
ذكر الشيخ ً
أبن مجيع أمورهم الدينية والدنيوية الداخلية واخلارجية شورى بينهم.
وهذا األصل الكبري قد أمجع العقالء على استحسانه ،وعلى أنه هو السبب الوحيد يف سلوك أصلح األحوال ،وأحسن
الوسائل حلصول املقاصد وإصابة الصواب ،وسلوك طرق العدل.
وأنه أرقى لألمم العاملة عليه يف حتصيل كل خري وصالح ،وكلما ازدادت معارف الناس ،واتّسعت أفكارهم عرفوا شدة
احلاجة َلذا ومقداره.
وملـَّا كان املسلمون قد طبّقوا هذا األصل يف صدر اإلسالم على أمورهم الدينية والدنيوية كانت األمور مستقيمة،
واألحوال يف رقي وازدَّيد ،فلما احنرفوا عن هذا األصل ما زالوا يف احنطاط يف دينهم ودنياهم ،حىت وصلت هبم احلال إىل
ما ترى ،فلو راجعوا دينهم يف هذا األصل وغريه ألفلحوا وَنحوا".
األصل الشرعي الذي يدل على حماسن الشريعة هنا هو :الشورى.
يتقرب هبا إىل هللا ،فالقوم الذين جيتمعون للتشاور عبدوا هللا بذل .
الشورى نوع من أنواع العبادة اليت ّ
ما هو الدليل على أن الشورى عبادة؟ أ مَم ُره-سبحانه وتعاىل-هبا( ،)1فاهلل يقول لنبيه-صلى هللا عليه وسلمَ { :-و َشاومرُه مم يف
األ مَمر} ( ،)2فعُلم من ذل أهنا عبادة.
) (1فمن طرق اساستدسال على أن هذا الفعل عبادة :أن تأيت يف القرآن بصيغة األمر ،ويف هذا احلال :إما أن ُحيمل هذا األمر على الوجوب ،أو على النَّ مدب.
)[ )2سورة آل عمرن]159 :
182
شرح اسم الحكيم
مثالً :دخلت يف مشكلة اقتصادية ،أو اجتماعية ،مع الزوج...إخل ،فأتصل على َمن له خربة ،وأكلمه وأحكي له القصة،
وآخذ منه الكالم الذي أشعر أنه ينفعين ،وأقوم هبذه العملية كلها على وجه العادة ،مع أهنا يف احلقيقة عبادة وقربة إىل هللا! حنن
خنسر هبذا :نية القربة إىل هللا بطلب الشورى.
-فأنت مىت ما تقربت إىل هللا بطلب الشورى جاءك التوفيق للرأي السديد.
موجودا يف القلب.
ً -بعبادة الشورى تكسر الكرب الذي قد يكون
سفيها ،أو ذا هوى ،أو قرانءه الذين هم ذوو هوى مثله ،فيخرج
-2أو يستشري َمن ال يصلُح لالستشارة ،كأن يشاور ً
بذلك من العبادة إىل املعصية.
مثال :تأيت أحدهم لشخص مستشار يف هذه املسألة ،له علم وخربة ،فيستشريه وهو خارج من مكان ،أو وهو داخل إليه ،أو
ً
جامعا لفكره ،فمن َمث تكون اإلجاابت مقتضبة (موجزة) ،أو انقصة .فنقول للمستشري يف هذه احلالة :قد
وهو مستعجل مل يكن ً
ارتكبت مالفة؛ ألن املشاورة عبادة ،جيب أن تتهيأ هلا ظروفُها ،فلو أشار علي مبا يُفسد دين نتيجة عجلت وإحلاح تكون
بذل قد أفسدت أنت دين .
فتتعب نفس ،وتذهب ،وتستشري ،وتقف ،وتنتظر ،وتناقش الذي تستشريه ،مث بعد أن يشري علي ،حتاول أن تقنعه مبا يف
رأس ،وهو يقنع أن هذا غري صحيح ،ويف آخر هذا كله :خترج من عنده ومل تعجب مشورته ،فرتميها وراءك ومتشي ،وتفعل
الذي يف رأس !! أنت هبذا ما عبدت هللا بل خالفت أمره!
183
شرح اسم الحكيم
االستشارة مسؤولية ،ال تستهينوا هبا! ليس كل من دجده يف طريق تستشريه على أن هذا شيء من العادات ،مث بعد أن
لن تقبل إسا ما يدور يف قبلتها! ملاذا استشرت إذًا ما دام أن يشريك :ترمي استشارته إن مل توافق رأي ،وإن وافقت رأي
رأس ؟!
مثالً :أنت اآلن ستقدم على شراء بيت يف مكان معني ،وتريد أن تعرف هل يف هذه العملية ربح ل أم سا؟ فتذهب وتشاور
ماسا على جهدهم الذي يقدمونه.
أانسا عندهم معلومات ،وهم مقابل مشورهتم وحبثهم ودراستهم تأخذون ً
ً
لكن إذا حصل وأخذوا على هذا أمو ًاسا ،فإهنم تأخذوهنا مقابل ما يقدمونه من خدمات ،فمكاتب اساستشارات التعليمية،
ومكاتب اساستشارات اساقتصادية ،ومكاتب اساستشارات اهلندسية ،ومكاتب اساستشارات الرتبوية ،كل هؤساء سا يقدمون ل
أجرا مقابل هذه الدراسة اليت سيدرسوهنا.
املشورة إسا بعد شيء من الدراسة ،وهلذا هم تأخذون ً
ما هي األمور اليت جيب أن يتحلّى هبا املستشار؟
ني عبَاد َك يف َما َكانُوا فيه األمر األول :التقرب إىل هللا ابلشورى ،ومن َمث سيتعبّد هللا بعبادة االستهداء {أ َ
َنت َمحت ُك ُم بـَ م َ
َخيمتَل ُفو َن}( ،)1فيدعو :اللهم اهدين ملا اختُلف فيه من احلق إبذن ( .)2فيكون من عادة هذا املستشار أن يستهدي هللا ،فإذا
استهدى هللا سينتفي من قلبه أي شيء يدور حول الكرب والثقة ابلرأي.
مرت حباسات ومواقف سيئة مع زوجها ،فتأيت أنت وتستشريينها يف مسألة الطالق ،ماذا ستقول ل ؟
أو تكون املستشارة قد َّ
ستقول :اطليب الطالق! بدون تفكري! ألهنا َتثرت حبالتها النفسية ،وهذه اساستشارة ابلطبع اتبعة للهوى فتأمث عليها؛ ألن
املستشار مؤمتن .وأنت علي أسا تستشريي شخصية معقدة نفسيًّا!
أحياان يكون لدى املستشار هدف بعيد املدى ،كمن يريد أن تنتشر يف اجملتمع بعض األفكار الفاسدة ،فيشري على هذا
أو ً
بكذا ،ويشري على هذا بكذا ،حبيث تنتظم منظومة من الفساد بسبب مشورته للخلق.
األمر الثالث :أن يسأل املستشار أسئلة ال عالقة َلا مبوضوع االستشارة.
أحياان من بعيد قد تشعرين أن هذه األسئلة ليس هلا عالقة ابلقضية ،مع أهنا
طبعا سا حيكمه إسا املستشار ،فأنت ً
هذا األمر ً
يف احلقيقة متعلقة هبا.
مثاسا على ذل :هذه امرأة أتت تستشري يف قضية تعليمية ،فتسأهلا املستشارة :كم عمرك؟ هل أنت متزوجة أم سا؟
نضرب ً
كم طفل عندك؟ ما عالقة هذه األسئلة مبوضوع اساستشارة؟!
لكن أنت تريدين أن َتخذي قر ًارا :هل ترتكني وظيفت أو سا؟ فأسأل :كم لدي من أطفال؟ هل أطفال صغار؟ فرمبا
بسبب ضغط األطفال لن تقدري على النجاح يف عمل ،إ ًذا األفضل أن تقدمي إجازة أمومة.
فاألسئلة قد يكون بعضها متعل ًقا مبوضوع اساستشارة ،وبعضها يكون جمرد تدخل وتطفل ،فتستغل املستشارة املوقف ،وَتخذ
معلومات بعيدة.
185
شرح اسم الحكيم
حذرا ،فإن كنت تشري الناس :سا تسأل إسا فيما خيص األمر أو حوله ،فاألمر أمانة ،وحىت
وهلذا سابد أن يكون اإلنسان ً
أسئلت أنت مؤمتَن عليها.
بعيدا ،واستشارت سا تعين حبال أن هللا سرت علي وأنت فضحت نفس ،فكثري
شخصا ً
ً نقول هلذه اآلن :اخرجي استشريي
من الناس يرتكون اساستشارة بسبب عدم فهمهم ملعىن "فضح النفس" ،فضح النفس هو :أن يتكلم اإلنسان عن أخطائه لغري
أيضا فيه نوع تفاخر ،أما أن تذهب عند أحد فتستشريه لكي َترج من
فائدة ،مع َمن ال يستفيد من الكالم معه ،والفضح ً
أزمة ،فهذا أمر شرعي مندوب تتعبّد هللا به.
أانسا ميوتون حتت ضغط أمور كهذه .هم ادجهوا إىل اخلطأ بسبب عدم وجود َمن
وهذه الثقافة جيب أن تنتشر ،حىت سا جند ً
يرشدهم إىل الصواب ،وقد سا جيدون ًّ
حال إسا قتل أنفسهم ،فيهلكوا بدون مشورة!
) (1رواه أبو داود يف سننه /كتاب األدب /ابب يف نقل احلديث )4868( /حكم األلباين :حسن.
186
شرح اسم الحكيم
مثاسا آخر ،وهو" :أن هذه الشريعة جاءت إبصالح الدين ،وإصالح الدنيا ،واجلمع بني مصلحة الروح
مث ذكر الشيخ ً
واجلسد.
حيث هللا ورسوله على القيام ابألمرين ،وأن كل واحد منهما َُِ ٌّد لخآخر،
وهذا األصل يف الكتاب والسنة منه شيء كثريّ ،
ومعني عليه.
وهللا تعاىل خلق اخللق لعبادته ،والقيام حبقوقه ،وأ ََد ّر عليهم األرزاق ،ونَـ َّوع َلم أسباب الرزق ،وطرق املعيشة؛ ليستعينوا
قياما لداخليّتهم وخارجيّتهم.
بذلك على عبادته ،وليكون ذلك ً
كما أنه هنى عن االشتغال ابللذات والشهوات ،و(أمر) بتقوية مصاحل القلب والروح .ويتضح هذا يف أصل آخر .وهو
هذا:
والوالَّيت كلها مقيدة ابلعلم والدين الذي هو احلكمة ،وهو الصراط املستقيم ،وهو الصالح والفالح والنجاح.
فحيث كان الدين والسلطة مقرتنني متساعدين فإن األمور تصلح ،كما أن األحوال تستقيم.
اختل النظام ،وفقد الصالح واإلصالح ،ووقعت الفرقة ،وتباعدت القلوب ،وأخذ أمر
وحيث فصل أحدمها عن اآلخر ّ
الناس يف االحنطاط.
فالشرع ال أييت مبا حتيله العقول ،وإمنا أييت مبا تشهد العقول الصحيحة حبُسنه ،أو مبا ال يهتدي العقل إىل معرفته مجلة
مثاال آخر .وهو:
تفصيال .وهذا ينبغي أن يكون ً
ً أو
187
شرح اسم الحكيم
أن الشرع ال أييت مبا حتيله العقول ،وال مبا ينقضه العلم الصحيح.
وهذا من أكرب األدلة على أن ما عند هللا حمكم اثبت ،صاحل لكل زمان ومكان.
وهذه اجلمل املختصرة تُعرف على وجه التفصيل ابلتتبّع واالستقراء جلميع احلوادث الكونية ،وحوادث علوم االجتماع،
وتطبيق ذلك إذا كان من احلقائق الصحيحة على ما جاء به الشرع ،فبذلك يُعرف أنه تبيان لكل شيء ،وأنه ال يغادر
صغرية وال كبرية إال أحصاها".
هذا األ صل له درجات ،لكن املهم أن تفهمه على وجه العموم :فمن حماسن هذا الدين أنه سا يفصل بني الدين والدنيا،
أدر عليهم األرزاق ،وسبَّب هلم أسباب الرزق؛ لتأيت
مبعىن :أن هللا تعاىل خلق اخللق لعبادته والقيام حبقوقه ،ويف نفس الوقت َّ
العبادات من وراء هذه األسباب.
وجل-جعل للخلق طُرقًا ينتقلون هبا من مكان إىل مكان ،من أول اخلليقة واخللق ينتقلون ،مث
عز َّ
سأضرب لكم مثاساً :هللاَّ -
أتى التطور ،فأصبحوا ينتقلون ابلطائرات والسفن...وإخل .هل الدين مينع من ركوب طائرة؟ سا ،ملاذا؟ ألن الدين أتى ُمصل ًحا
لدين ودنياك ،فكل ما ينفع يف الدنيا وال ِ
خيدش الدين فإن الشرع ال مينعه ،بل تأمرك أن دجعل هذا سببًا لطاعته.
عندما يركب طيار مسلم الطائرة ،يقول وهو يستعملها" :بسم هللا ،توكلنا على هللا ،وسا حول وسا قوة إسا ابهلل" ،وأنت تركبينها
فتقولني" :سبحان الذي سخر لنا هذا" وغريها من األذكار ،أصبحت بذل الدنيا سببًا للطاعة وليس العكس ،فهذا من حماسن
الشريعة :أن الدنيا يف ديننا سبب لطاعة هللا ،وليست سببًا لرتك الطاعة عند َمن استقام.
مثال آخر :أنت عندك وسائل اتصال كثرية ،ماذا تفعل هبا؟ قد تكون وسائل اساتصال هذه سببًا لطاعة هللا ،وقد تكون سببًا
ملعصيته ،فالشريعة سا ُحترم علي استخدام أي أداة حديثة ما دام أهنا سا تناقض الدين ،لكن استعملها يف طاعة هللا .وهذا من
وجل-جعل الدنيا بني يدي أهل الدين ينتفعون هبا يف طاعته ،فأصبحت الدنيا سببًا للوصول إىل
عز َّ
حماسن الدين :أن هللاَّ -
انتفاعا هبا لدينك.
ً الدين ،وكلما تطورت الدنيا كلما قيل لكِ :زد
الناس يف كل مكان يف العامل حيفظون القرآن مع اهليئة العاملية حلفظ القرآن يف اململكة ،عن طريق برانمج ( )Skypeالذي
اخرتعه أهل الكفر ،فأنت سا ُمتنع من استعمال الدنيا ،بل اجعلها سببًا يف زايدة طاعة هللا ،وهذا من حماسن الدين.
188
شرح اسم الحكيم
تتطور الدنيا أميا تطور ،ويقال ل :تَسلَّم هذا التطور ،وانتفع به ،فهو يزيدك طاعة هلل .وسا يقال ل ً
أبدا :الدنيا منوعة،
حمرمة علي ،كما يفعل "السيخ" ،فمن دينهم أن حيرموا أنفسهم من الدنيا .أما ديننا فيقولُ :خذ من الدنيا ،وزد طاعة هلل ،فكل
طيعا هللا أكثر :أنت مدوح عليها.
زايدة يف الدنيا دجعل م ً
وجل-يف أمره.
عز َّ
اللقاء القادم إن شاء هللا سنتكلم عن حكمة هللاَّ -
خريا.
جزاكم هللا ً
والسالم عليكم ورمحة هللا وبركاته.
189
شرح اسم الحكيم
190
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على نبينا حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
سا زلنا بفضل هللا ومنَّته نناقش هذا اساسم العظيم من أمساء هللا ،وهو اسم( :احلكيم).
وإمياننا هبذا االسم َا يطيّب لنا احلياة؛ فإن اإلنسان إذا آمن أن ربه حكيم ُرِزق عبادة من أعظم العبادات ،وهي
عبادة :حسن الظن ،اليت إذا عبد اإلنسان ربه هبا كان ً
أهال ألن يكون من أهل اجلنة؛ فالنيب-صلى هللا عليه وسلم-أوصاان
مجيعا :أسا منوت إسا وحنن حنسن الظن ابهلل ،فعن جابر رضي هللا عنه قال :مسعت رسول هللا-صلى هللا عليه وسلم-قبل موته ً
َح ُد ُك مم إَّسا َوُه َو ُمحيس ُن ابهلل الظَّ َّن"(.)1
بثالثة أايم يقول"َ :سا َميُوتَ َّن أ َ
من أين سيأيت إحسان الظن؟ وما عالقته ابسم هللا احلكيم؟
مر معنا أن اسم هللا (احلكيم) معناه :أن هللا يضع األمور يف موضعها ،يف خلقه وشرعه وأمره .وسنبدأ اليوم نقاشنا يف
َّ
حكمته-سبحانه وتعاىل-يف أمره ،واملقصود ب"أمره" :أي قضائه وقدره.
فإن َمن آمن حبكمة هللا يف القضاء والقدر ،سابد أن يصل إىل عبادة حسن الظن.
وحلسن الظن مكانة عظيمة يف الشريعة ،بل أن أهل النار ما أدخلهم النار إسا سوء ظنهم ابهلل ،كما قال تعاىلَ { :و َذل ُك مم
ظَن ُك ُم الَّذي ظَنَـمنـتُ مم بَرب ُك مم أ مَرَدا ُك مم}( ،)2فسوء الظن يُردي صاحبه.
يسرا ،وأنه
عليم وخبري ،وأنه على كل شيء قدير ،وأنه حيب عباده ،وما يريد هبم إسا ً
ٌ نقول وابهلل التوفيق :أبن تعلم أن رب
يعاملهم بربه ،فهو البَـر ،وأنه يعاملهم بكرمه ،فهو الكرمي ،وأنه يعاملهم جبوده ،فهو اجلواد سبحانه وتعاىل ،وتعلم أن رب عز ٌيز
أمرا فال راد ألمره ،وسا غالب له.
إذا قضى ً
ثالثة فروض دجتمع مع بعضها ،فرتى بعد ذل معىن (احلكيم) فيها:
) (1رواه مسلم يف صحيحه /كتاب اجلنة وصفة نعيمها وأهلها /ابب األمر حبسن الظن ابهلل تعاىل عند املوت.)2877( /
)[ (2سورة فصلت]23 :
191
شرح اسم الحكيم
أنت موجود يف الدنيا لتُخترب ،ومادة اساختبار هي :ما ُكتب علي من األقدار.
يناسب كل أوضاع ،وجيعل أقرب ما تكون إىل النجاح ،فالذي بين وبني النجاح هو الستار فقط،
ٌ اختبارك الذي أاتك
خريا يل. َّ َّ
الستار بني الشهادة والغيب ،وكلما آمنت ابلغيب ،كلما تكشَّف ل األمر ،فتقول :هنا أان أُختَرب ،ولو صربت سيكون ً
أحدا ليس من أهل العلم ،فتقولني له :زوجي أخذ مايل .فيعطي -هذا املستشار-حماضرة! وخيربك أبن هذا
مثال :تستشريين ً
ً
دائرا حول مال
وجل-جعل اختبارك كله ً عز َّ ليس من حقه ،وأن من حق أن تفعلي كذا وكذا ،...وهو سا يفهم أن هللاَّ -
أصال ،وليس حول أي شيء آخر ،وأن بين وبني النجاح هذه اخلطوة :أن تؤمين أبن هللا هو الرزاق ،وأنه هو َمن سيعوض ،
ً
سحاء الليل والنهار ،وخزائنه مألى؟ أتدري ماذا أنفق منذ
وأن إذا أنفقت بيمين سيعطي -سبحانه وتعاىل ،-أليست يده َّ
أن خلق األرض حىت تقوم الساعة؟ مثل ما يدخل أحدكم اإلبرة يف البحر ،ماذا َتخذ من البحر؟ سا شيء!
وبني النجاح إسا هذا اساختبارات اليت تناسب ،وسا يوجد بين
إذا علمت من هو :ستكون متنب ًها ألنه حكيم ،أدخل
دوان عن اخلليقة سأدخل هذا اساختبار ،أان ابلذات
الستار الذي هو :اإلميان ابلغيب ،وإذا آمنت ابلغيب ستنجح ،وتقول :أان ً
تأتيين هذا الشخص ويفعل ب كذا؛ ألن ب من الطباع النفسية ،واألوضاع اساجتماعية ،واخلربات ،والتَّجارب ما جيعلين أجنح.
األرض وحبها فتبقى وترسب!
نفس و ُ
ُ فإما أن يدفع إميان ابلغيب فتنجح ،أو تعيق
ومع ذل فإن اللطيف اخلبري سا خيتربك مرًة واحدة ،ويرتك إن رسبت ،وإمنا يعيد علي اساختبار ،تعاد علي املسألة نفسها
وختترب فتنجح.
من أجل أن ترقى ُ
سا يتكلم اإلنسان مع ربه هبذه الصورة!! فهذا الذي تتكلَّم عنه هو اللطيف اخلبري ،العليم احلكيم ،العزيز احلكيم ،وأنت لو
فهمت احلياة ستفهم أن هذه األقدار مناسبة لالختبار.
193
شرح اسم الحكيم
أنت اآلن يف قاعة اختبار كب رية ،هل ستجد يف قاعة اساختبار ما يطيب للنفوس ،وتنشرح له الصدور؟ هل ستجلس يف هذه
القاعة على أفضل حال؟! أم أن الناس كلهم مشدودون فيها ،وكل شيء على احلد؟
مشدودا
ً الناس يعرفون ماذا تعين قاعة اساختبار .يعرفون معىن أن يكون اإلنسان متَـبَـًرا ،وكيف هو حاله أثناء اساختبار :يكون
حامال للهم ،سا يريد أن يتمتَّع ،دجده يشرب كأس ماء فقط من أجل أن يعيش ،سا أن يقضي الساعات يف قضاء بعض
ً
احلاجات البسيطة! بل هو يشعر أن ليس لديه وقت.
ب
َحس َ
فالذي نظر إىل حياته هبذه النظرة ،ستكون هذه أول ورقة تنكشف له ،يفهم منها حكمة هللا ،قال تعاىل{ :امل * أ َ
َّاس أَ من يـُمتـَرُكوا أَ من يَـ ُقولُوا آَ َمنَّا َوُه مم َسا يـُ مفتَـنُو َن}( )1هذا مستحيل!
الن ُ
واعلم أنك لست الوحيد الذي قال :آمنت ،ف ُفَِت ،بل العامل كله جيب أن يعرف أن األرض ُخلقت للبالء؛ كما قال
س ُن َع َم ًال}( ،)2فلو ِ ْك َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير * الَّ ِذي َخلَ َق املَْو َ
ت َواحلَيَا َة ليَـ ْبـلُ َوُك ْم أَيُّ ُك ْم أ ْ
َح َ تعاىل{ :تَـبَ َار َك الَّ ِذي بِيَ ِد ِه املُل ُ
فهمت حقيقة احلياة ستفهم ما هي احلكمة ،لكن لو كنت تظن أن احلياة طيب وسعادة وهناء وسا يوجد فيها منغصات،
انقصا؟ أين احلكمة أبن سا يطيب يل نوم؟ أين احلكمة
ستكون غري راض أبقدار هللا ،وتتساءل :أين احلكمة يف أن يكون هذا ً
مستمتعا بنومي مث أفزع من سا شيء؟ أين احلكمة يف أن األبناء ما تأتون إسا ابملشاق؟ سا خيرجون إسا مبشقة من
ً يف أن أكون
أمهاهتم ،مث يُعيشون آابءهم وأمهاهتم يف مشقة تربيتهم وإطعامهم ،مث دجد أن هذه املشقة حمبوبة ،فأنت حتب أبناءكَّ ،
وتتلذذ
بوجودهم ،مع كوهنم مشقة علي ،فكيف جيتمع يف الدنيا كل هذا؟
سابد أن تفهم هذه القاعدة :أنت ما أتيت للدنيا لتطيب أو لتستمتع ،بل أنت هنا يف رحلة سريعة.
ومن
أبدا بيتًا يكون الرجل واملرأة فيه متطاب َقني ،بل سابد أن يكوان كأسنان املشط ،يتداخل بعضها يف بعضَ .
ولذل سا دجد ً
تصور املسألة دخل هذا اساختبار هبدوء ،ومن مل يتصورها خرج منها بدون توازن.
ث سا
َمجي َع مل لَهُ مَمَر ًجا * َويـَ مرُزقمهُ م من َحمي ُ جالسا يف مكان تقرأ القرآن ،مث مررت بقوله تعاىلَ { :وَم من يـَتَّق ا ََّّللَ
ً لو كنت
مثال ،-مث تأتي من ميد يده( .وقت ً - ب}( ،)1وبغريها من آايت اإلنفاق ،فاعلم أن اساختبار سيأتي ،فتذهب لعمل َمحيتَس ُ
قراءة القرآن كان هو وقت الدرس ،واآلن أتى اساختبار)
وهلذا خيرب-سبحانه وتعاىل-يف قصة آدم-عليه السالم-يف سورة طه :أبنه عندما أنزل آدم إىل األرض قال { :ماهبطَا ممنـ َها
اي فَ َال يَضل َوَسا يَ مش َقى}( .)2فأنت اآلن يف األرض يف اختبار،
ض ُك مم لبَـ معض َع ُدو فَإ َّما َتأمتيَـنَّ ُك مم مين ُه ًدى فَ َمن اتـَّبَ َع ُه َد َ
َمج ًيعا بـَ مع ُ
واملادة اليت ستخترب فيها :هو ما ينزل عليك من السماء ،وحلظة االختبار هي :األقدار اليت جتري عليك.
هناك حكمة عظيمة؛ فأنت ال تُبتلى بشخص ،وال بوضع ،وال أبي نوع بَلِيَّة ،إال ويف طباعك وأوضاعك ويف ما علمته
ما يعينك على النجاح ،وما بين وبني النجاح إسا الستار بني الدنيا والغيب ،أي :بين وبني اإلميان ابليوم اآلخر.
ولو مسعت األوىل شكوى الثانية لقالت هلا :ابلعكس! األفضل ل أن جيلس خارج املنزل.
وأنت تقولني :سبحان هللا! ملاذا مل يكن هذا زوج الثانية ،واألخرى زوجها ذاك؟ ملاذا سا يكون هذا ابلتبادل؟
أصال مبنيَّة على اسابتالء واساختبار ،فهذه حاجتها النفسية :أن سا يكون ابقيًا ،فيختربها هللا-
سنقول :كيف ذل ؟! القصة ً
وجل-ببقائه ،وإن جنحت خفَّف عنها اساختبار ،وتَ َك َّون هلا يف طبيعتها ما يعينها على حتمله ،واألخرى ابلعكس ،لو جنحت
عز َّ
َّ
وجل-عليها زوجها ،ويبقى عندها ،وهكذا.
عز َّ
يف الصرب :سريد هللاَّ -
واملقصود :أن هذه كلها اختبارات مبنيّة على قاعدة الصرب واحلَْبس ،وعدم االنفعال السريع والردود اليت ال تكون الئقةً
أبقدار هللا.
هل تعرف من مع وأنت حابس نفس يف فرتة اساختبار وإىل أن تنجح؟ هل تعرف من مع يؤيدك وينصرك ،وبه تُبصر،
ين}( ،)1هذه هي الوساية.
الصابر َ وبه تَسمع ،وبه تَبطش ،وبه متشي؟ أتدري من؟ {إ َّن َّ
اَّللَ َم َع َّ
فانظر إىل احلكمة العظيمة :كيف يُبتلى الناس ببالءات ،وتكون هذه األقدار عليهم مبثابة اساختبارات ،فيمرون بذل كله من
يد ب ُك ُم المعُ مسَر}(.)2
اَّللُ ب ُك ُم الميُ مسَر َوَسا يُر ُ
يد َّأبدا ،بل {يُر ُ
أجل أن يفوزوا وينجحوا ،وليس من أجل أن يَبلوا ً
عن ني}( ،)1فرمبا سا تستطيع أن تنجح وحدك ،فاحبث ل منهجا تدرسه ،وقال ل { :اتـَّ ُقوا هللاَ َوُكونُوا َم َع َّ
الصادق َ وأعطاك ً
وجل-هبم.
عز َّصحبة صاحلة ،ولو كنت صادقًا سيهيئ هللا ل صحبةً صاحلة ،تسمع منهم اخلري ،فتنتفع هبم ،ويرشدك هللاَّ -
وجل-لإلنسان كل الظروف اليت هبا ينجح يف اساختبار ،وهبا ينجح يف اساستعانة به ،واللجوء إليه.
عز َّ
إذًا :هيأ هللاَّ -
وجل يهيئ اإلنسان ألن ينجح ،ويلجأ إليه يف وقت الشدة ،وسا جيزع:
عز َّ
سأحكي هذه القصة احلقيقية؛ ألبني كيف أن هللاَّ -
مل يكن أ مام األم اآلن إسا الكالم الذي مسعته يف النهار ،الكالم الذي كانت تقوله هلا زميلتها ابلتفصيل :عندما نضع العسل
نقول :بسم هللا ،ونستعني ابهلل ،ونؤمن أنه أمر هللا...
تقول األم :أصبحت مثل الذي ميشي على خط واحد ،أخذت العسل ووضعته ومسَّيت واستعنت ،ومجعت قليب أسا أجزع من
وجل--فهي قد شعرت أن طفلتها ماتت .-تقول :وهللا ،وهللا يشهد يف السماء أن أابها ما أتى من الصالة إسا
عز َّ
أمر هللاَّ -
والبنت يقظة ،وسا أثر لشيء.
وجل-ال خيتربك إال بعدما يهيِّئك لالختبار ،ويُسمعك كيف جتيب ،سا خيتربك إسا بعدما
عز َّ
الشاهد من القصة :أن هللاَّ -
يقول ل :هذا طريق الصواب ،لكن كن ذا مسع ،وذا بصر ،وانتفع من اخللق.
كم من امرأة خرجت من بيتها للعمل وهي تقول :أان لن أرجع بييت ،سأتطلَّق من زوجي! مث تذهب إىل الدوام فتجد
صديقتها تشتكي من مصائب زوجها ،فيقع يف قلبها أن زوجها أفضل ،وأهون .كم مير علي مثل هذه املواقف اليت تقول ل :
تتعجل؟! الكثري!
ترسب ،سا َّ
اجنح ،سا ُ
األم تركب معها زميلتها ،وحتكي هلا هذا الكالم ابلتفصيل ،وهي تسمع أبذنيها ،ودجمع قلبها ،كيف تأيت مثل هذا فتل
كثريا ،وتسمع
التوفيق؟! هذا سا تأيت إسا من احلكيم سبحانه .صحيح أن هذا املوقف يعترب مبثابة الكرامة ،لكن مير علي أمثاله ً
وجل-يُشهدك على نعمه.
عز َّ
مثل هذا ،لكن سا تفتح أذني وعيني لرتى كيف أن هللاَّ -
كم مرة أسأان الظن يف الناس ،مث مرت علينا مواقف جعلتنا نقول :وهللا مسكني! فتعود أنت وتتوب عن سوء الظن الذي
تتصور أن هذا تأيت مبثابة الصدفة؟ سا! بل يقدر هللا ل هذه األقدار ليدفع إىل
مررت به؟ أليس هذا كله فعل احلكيم؟! هل َّ
اببه فتنجح.
أنت لو فهمت :ملاذا ُو ِجد اخللق؟ وإىل ماذا يدفعهم رهبم؟ لَ َما شككت يف احلكمة من أي موقف ،لكننا غيَّبنا هاتني
احلقيقتني ،وأصبحنا نقول :ما احلكمة أن يكون هلذه معاق؟ ما احلكمة أن زوج هذه يفعل هبا كذا؟ هذه امرأة سا يوجد فيها أي
ملتفت عنها ،ملاذا حيصل مثل هذا؟ وجند أن الناس يتناقلون قاعدة أن
ٌ شيء انقص ،وهي شديدة التعلق بزوجها ،لكن قلبه
"الرجال سا خري فيهم" ،ويقولون عن هذا الزوج :من املؤكد أنه مرتبط أبخرى ،أو من املؤكد أنه مسحور...،وإخل.
وجل-حكيم ،قدَّر هذا اسالتفات القليب لئال حيصل يف قلب الزوجة تعلق بغري هللا ،وأن هذا
عز َّ
وسا جند َمن يقول :أن هللاَّ -
سيدفعها للجوء إىل هللا.
الدنيا كلها؟! مىت سرتحل لآلخرة لو أن كل ما أردته كان عندك؟! مىت ستقول :اي كيف سرتحل لآلخرة لو طابت ل
رب؟! مىت ستضطر إليه؟!
198
شرح اسم الحكيم
وجل-قدر هذه األقدار مبا يالئم من طباع ،ومبا يالئم من حال ،وأن كل هذه أن املطلوب منك لو تيقَّنت أن هللاَّ -
عز َّ
مرت معنا
األقدار قُدرت ل لتدفع للنجاح يف اساختبار :هو أن تتعبَّد الرب بعبادة حسن الظن؛ فإن قاعدة املعرفة-اليت َّ
يف النقاش-تُل ِزمنا ّأال ننظر لشيء من أقدار هللا إال وحنن نعتقد أن فيه احلكمة ،فإذا طابت نفسك َلذا األمرُ ،رزقت أن
وثباات.
ينكشف لك يف كل موطن ما يزيدك يقينًا ً
.1أن سا تستطيع أن تفهم حكمة هللا يف أقداره إسا إذا فهمت سبب وجودك يف الدنيا.
وجل-عندما ابتالك واختربك إمنا يريد ب اليسر ،ويريد أن ينجي ،ويريد أن يرشدك إىل طريق
عز َّ
.3أن تعلم أن هللاَّ -
اهلداية ،فأقداره كلها تدفع إىل جنَّاته.
مىت ستدفعك هذه األقدار للجنة؟ لو آمنت ابلغيب ،ولذا سابد أن تعرف :ما هو موضع ؟ افهم أنت موجود هنا ألي
شيء؟ وهذه األقدار تدفع ألي شيء؟ أنت موجود هنا لالختبار ،وعندك أدلة كثرية على تدل على ذل .
حنن اآلن نقرر أن كل األقدار عبارة عن اختبار ،ولذل عندما يسأل أحد :ملاذا يغيب عنا القدر؟ سنقول :اساختبار سابد أن
يكون غائبًا ابلطبع! أنت عليك أن أتخذ مادة االختبار ،وتدرسها ،مث بعد ذلك أتتيك االختبارات يف حلظات احلياة ،فأنت
إ ًذا هذا هو املـُعطى األول :أن سرتى حكمة هللا يف أقداره عندما تعلم سبب وجود اخللق يف الدنيا ،وكيف أن هذه األقدار
متاما ،وكلما أقبلت على هللا واستعنت به :وفق ،وأرشدك،
هي اختبارات هلم ،وكيف أن هذه اساختبارات َتيت مالئمة هلم ً
وأوصل إىل الطريق املستقيم.
اه ْم}( .)3البد أن تكون متي ّقنًا أبن هللا ال خيذلك ،وال يرتكك ،وكل َّ ِ
اد ُه ْم ُه ًدى َوآ ََات ُه ْم تَـ ْق َو ُ
ين ْاهتَ َد ْوا َز َ
قال تعاىلَ { :والذ َ
ما عليك هو أن جتمع قلبك على إرادة اَلدى فيهديك.
إذا فهمت هذا ،وفهمت أن كل أقداره أتت يف موطنها على احلكمة ،وأن النوع الذي جاءك هو الذي يناسب :وجب
علي أن حتسن الظن به إطالقًا ،وتقول :كل الذي تأيت من هللا يناسبين ،كل الذي تأيت من هللا إمنا هو يف طريق اساختبار الذي
أنت يف بداية األمر فهمت احلياة ،فهمت أن تُعطى هذا اسابن عارية ُمستَـَرَّدة ،مث تأخذه هللا ،تُعطى هذا املال عارية مث
تأخذه هللا ،تُعطى هذا البيت عارية مث تأخذه هللا ،وخيتربك هبذا األخذ.
أخذ منك...فصربت...أ ِ
ُجرت
أنت تؤمن أن هللا حكيم فتُحسن به الظن ،تؤمن أنه من حكمته قدَّر علي هذا القدر لكي تنجح ،وترتفع منزلة يف اجلنة سا
تدركها بعمل .
هللا ينظر إىل اعتقاد قلبك يف حلظة املصاب والبالء ،وأول ما يتخطَّفك الشيطان يف هذه اللحظة ،لذا علي أن ُحتسن
أحسنت التعامل
ُ الظن ابهلل ،وتقول :أن هذا القدر فيه من اخلري ،والرفعة ،والدفع إىل النجاح ،والدفع إىل املنازل العُلى ،وأنين لو
أتصوره.
معه :فإن هللا سيعطيين شيئًا فوق الذي َّ
ولذل تأيت الناس يوم القيامة فريون ما ألهل البالء من منزلة عالية ،فيتمنوا لو أهنم نُشروا يف الدنيا ابملناشري.
وتتصورها بعني صحيحة ،هذا هو التوفيق الذي سينقلك إىل اإلميان حبكمة هللا ،أما إذا أردت
َّ تتحرر من الدنيا،
فكونك َّ
أن أقول ل حكمة هللا اليت توافق هواك فلن أستطيع أن أجيب ؛ ألن حكمة هللا مرَّكبة على إميان أبن هذه الدنيا دار اختبار،
إمياان وتقوى فإن قلبك سيقوى على احتمال
إمياان وتقوى ،وإذا ازددت ً
وجل-كلما َنحت وارتفعت زادك ً
عز َّ
وأن هللاَّ -
االختبار األصعب ،فيأتيك هذا االختبار ،فتثبت فرتتفع أكثر ،وهكذا.
كثري من الناس يقولون :إذا كانت زَّيدة اإلميان ستأيت يل بزَّيدة املصائب فإننا ال نريده!
واجلواب :أن هذا كالم ال يصدر إال ِمن َس ِفيه ،ال يفهم عن ربه شيئًا ،فإن زايدة اإلميان يف قلب لو مثَّلناها ً
متثيال ماد ًّاي
سنقول :لو وضعنا اآلن على جزء من أرض هذا املسرح مدة كبرية متلئة ابهلواء ،وجعلنا اجلزء الثاين بدون مدة هوائية ،وافرتضنا
أننا ألقينا من مكان عال كرة معدنية ،هل ستسمع هلذه الكرة املعدنية صواتً عندما تسقط على املخدة اهلوائية؟ سا .ملاذا؟ ألن
امتصت الثقل ،ودفعته.
املخدة َّ
إمياان فكأنه هذه املخدة اهلوائية ،إذا سقطت عليه املصيبة فإن إميانه سيدفع أثرها ،فال دجد من هذا
أما القلب الذي امتأل ً
القلب املمتلئ نفس أثر القلب اخلاوي.
شخصا خيسر شيئًا من ماله أو ولده وسا يبكي ذاك البكاء الشديد الذي قد يصدر من انكسر له كأس يف بيته،
ً ولذل ترى
وَتَزَّم! هذه التصرفات ُمؤذنة مبا يف القلب من إميان.
فاهنار َ
حسن ظن املطلق ابهلل يستلزم أن لن تناقش يف قَ َدره ،وإمنا ستكون على يقني أنه حصل حلكمة ،واحلكمة دائرة حول رفع
وحسن حال العبد يف الدنيا واآلخرة.
املنزلةُ ،
202
شرح اسم الحكيم
وجلِّ -
يقدر عليك عز َّ
مثال-يف جمتمع مع َّني من أجل أن تنتقل بعد ذل إىل جمتمع يناسب هذا اجملتمع ،فتجد أن هللاَّ -
فتعيشً -
أمورا إذا نظرت إليها جي ًدا سرتى كيف أنه-سبحانه وتعاىل-نقلك من طَور النقص إىل طَور الكمال يف شأن دينك
ً
ودنياك ،وليس يف شأن دينك فقط!
ما هو أثر حسن الظن ابهلل؟ ال ِّرضا عن هللا .وهذه هي الغاية اليت نرجوها:
رضا عن هللا.
دوما ً
أن يبقى يف قلوبنا ً
شكر هلل.
أن يبقى يف قلوبنا ٌ
حيصل من زايدة اليقني بسبب الرضا عن هللا ما سا حيصل بسبب غريه ،فأنت إذا أحسنت الظن يف هللا كما ينبغي سابد أن
رضيت طابت نفسك بكل شيء ،وإذا ِ
رضيت كشف هللا لك بعض األمور تنتقل من حسن الظن إىل الرضا عن هللا ،فإذا ِ
وجل.-
عز َّ
-1قوة التعلق ابهللَّ -
سائرا يف حياته ليس له صمد وسا ملجأ وسا ُمتَّ َكأ وسا ُمغيث إسا هللا؛ ألنه يعلم أن هللا وحده هو الذي
ومعناها :أن يبقى العبد ً
خريا للعبد ،فحسن ظن ابهلل جيعل متعل ًقا به ،سا تطرق ابب غريه ،ورضاك عن هللا جيعل
يُقدر األقدار ،وأنه يريد أبقداره ً
دائما.
تطرق اببه ً
-2كثرة الدعاء.
فيكون هذا العبد ما أن يصيبه أمر إسا ولسانه يلهج بدعاء هللا.
203
شرح اسم الحكيم
وجل-ابلطاعات.
عز َّ
-3االجتهاد يف شكر هللاَّ -
وجل.-
عز َّ
جمتهدا يف الطاعات ،يسارع إىل رضا هللاَّ -
فمن آمن حبكمة هللا ،وأحسن الظن به ،ورضي عنه ،دجده ً
-4أن يكون هذا العبد َن ِّ
يرضي اخللق عن هللا.
وجل.-
عز َّ
يسخط وسا يُسخط الناس على هللاَّ -
فال َ
-5أن يكون هذا العبد قوًَّّي يف إخالصه.
سا يلتفت قلبه مينةً وسا يسرة لغري هللا ،فال يالحظ رضا اخللق ،بل يالحظ رضاه سبحانه وتعاىل؛ ألنه هو العظيم يف نظره.
-6كثرة التوبة.
فإن العبد سا يطيق إسا اإلانبة إىل هللا.
ِ
وينجيه يف الضيق.
-7اليقني أبن هللا ينصره ّ
(.)1
وان}
وهذا عكس ما يظنه املنافقون الذين قيل فيهمَ { :وتَظُنو َن ابهلل الظنُ َ
فإن أول آاثر ضعف اإلميان حبكمة هللا يف األقدار :أن يسيء العبد الظن ابهلل ،فييأس من َروح هللا.
يتغري فيك طبع،
َّيئسا أن َّ
فرج لك همً ، َّيئسا أن يُ َ
َّيئسا من رمحتهً ،
َّيئسا من َروح هللاً ،
وهلذا كلما الحظت نفسك ً
يتحول حالك ،اعلم أنك أسأت الظن ابهلل ،وإذا أسأت الظن ابهلل ،فإن هذا يُرَّكب عليه أن سا تؤمن بكمال
َّيئسا أن َّ
ً
حكمته ،وأنه على كل شيء قدير ،وأنه يضع األمور يف موضعها ،وأنه ابتالك هبذا األمر من أجل أن تلهج ،وتقول :اي رب،
وتسأله ،وتدعوه.
ومن هنا سأقول كلمة متصرة يف (مسألة :تكرار وقوع اإلنسان يف الذنب):
يف الذنب سا تسمح وجل-حكيم حىت يف مثل هذه األمور ،مبعىن :أنه عندما يتكرر وقوع
عز َّ
سابد أن تعلم أن هللاَّ -
للشيطان أن تأخذك إىل اليأس ،بل فليأخذك اإلميان حبكمة هللا إىل شدَّة اللجوء واإلانبة إليه ،وتكرارها ،وعدم التوقف عنها
مهما أخذت نفس إىل الذنب.
عندما جيد بعض الناس أهنم يكررون املعصية فإهنم ييأسون من َروح هللا ،فيقال هلم :سا! بل أكثروا من اإلانبة ،فإن نفس
العود والرجوع سا يكون إسا من
العود والرجوع ،وهذا َ
التوبة املتكررة عبادة جديدة ،وهذا هو معىن اإلانبة ،فاإلانبة مأخوذة من َ
إنسان يدخل للذنب ،وخيرج منه.
منكسرا بني يديه ،سا تُقدم على الذنب وأنت مستهني ابهلل .لكن إذا وقعت
ً متصال به،
ابق ًأبدا ،بل َ
سا تيأس من َروح هللا ً
وجرت قدماك إىل الذنب ،فعلي بقوة اإلانبة ،وحسن الظن يف هللا أبنه سا يرد َمن أقبل عليه ،وأن هناك حكمة وراء إصابت
َّ
للذنب.
205
شرح اسم الحكيم
206
شرح اسم الحكيم
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على سيدان حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
سا زلنا-بفضل هللا وبرمحته-نناقش هذا اساسم العظيم :اسم هللا احلكيم .وهذا هو لقاؤان األخري ملناقشته.
سنعاجل يف لقائنا اليوم :املسألة األخرية اليت اتَّفقنا عليها ،وهي :اجلداول اليت خرجتم هبا من قراءتكم وإحصائكم ساسم احلكيم
يف القرآن.
أيضا ب(اخلبري).
واقرتن ً
اسع) حكيم.
وأتى يف النساء يف آية ( )130أنه-سبحانه وتعاىل(-و ٌ
أيضا ب(احلميد).
واقرتن ً
كيف تستدل ابسم احلكيم؟ وعلى ماذا ستستدل؟ سنرى بعض املواطن لنجيب عن ذل :
هذا مشروع للمستقبل :جيب عليك دراسة كل هذه املواطن بسؤال يقول :ملاذا ُختمت هذه اآلية هبذين االمسني؟
207
شرح اسم الحكيم
فأنت قد فهمت معىن (احلكيم) ،بقي أن تضيف عليه معىن (العزيز ،العليم ،التواب ،العلي) ،وترى ما دسالة خمتم اآلايت
هبذه األمساء.
ث
قائالَ { :ربـَّنَا َوابمـ َع م
حنن هنا يف سياق الكالم حول النبوات ،واإلرشاد إىل الدين ،مث جند أن إبراهيم-عليه السالم-يدعو ربنا ً
يم}.
احلَك ُ ممةَ َويـَُزكيه مم إنَّ َ أَنم َ
ت الم َعز ُيز م احلك َ
اب َو م
آايت َ َويـُ َعل ُم ُه ُم المكتَ َ
فيه مم َر ُس ًوسا ممنـ ُه مم يـَمتـلُو َعلَميه مم َ
(العزيز) مبعىن :أن أمرك انف ٌذ يف إرسال رسول ،ورسول الذي سرتسله سيكون عز ًيزا بعزك.
(احلكيم) يف اصطفاء هذا الرسول واختياره ،ويف الشرع الذي ستشرعه هلم ،ويف الوقت الذي سرتسله هلم ،ويف احلال الذي
سرتسله هلم .ستظهر على رسول كل آاثر حكمت .
من أين أتى العلماء واملؤلفني أبن هللا حكيم يف شرعه؟ كيف خرجوا هبذه النتيجة؟
أتوا لآلايت ،ورأوا خواتيمها ،فخرجوا هبذه النتيجة :أن اسم احلكيم يف سياق الكالم حول الدين والرسول يدل على
حكمته-سبحانه وتعاىل-يف شرعه.
ف يَ َشاءُ َسا إلَ َه إَّسا ُه َو الم َعز ُيز .2نرى آية ( )6يف سورة آل عمران ،قال تعاىلُ { :ه َو الَّذي يُ َ
صوُرُك مم يف ماأل مَر َحام َكمي َ
يم}.
احلَك ُ
م
يم}.
احلَك ُ اد َك َوإ من تَـ مغف مر َهلُمم فَإنَّ َ أَنم َ
ت الم َعز ُيز م .3أنيت إىل آية ( )118يف سورة املائدة ،قال تعاىل{ :إ من تـُ َعذبمـ ُه مم فَإنـ َُّه مم عبَ ُ
وجل-يف جزائه ،فالسياق عن يوم القيامة ،وهذا من كالم عيسى-عليه السالم ،-فهو يقول :اي رب
عز َّ
تظهر هنا حكمتهَّ -
يم} ،أي( :حكيم) سا تغفر إسا ل َمن أتى أبسباب
احلَك ُ إن إن أخذهتم فعذبتهم فهم عبادكَ { ،وإ من تَـ مغف مر َهلُمم فَإنَّ َ أَنم َ
ت الم َعز ُيز م
املغفرة.
208
شرح اسم الحكيم
فأنت سا تغفر هلم من ذلة؛ ألن العزيز ،وسا من وضع الشيء يف غري موضعه؛ فأنت حكيم ،ومن املؤكد أن ستغفر ملن أتى
أبسباب املغفرة.
وهذه اآلية رد على كل َمن قال :قد يغفر هللا ملشرك! قد يغفر هللا ملن مات على الكفر! سا ُحتَجروا رمحة هللا!
فاجرا طيلة حياته ،وميوت على هذا الفجور-وأهم الفجور هو عدم عبادة هللا ابلتوحيد-مث ُجيعل
يستحيل أن يكون الشخص ً
هذا كاملتقني؟ هذا َتابه حكمة هللا؛ فاهلل يضع األمور يف مواضعها ،وهو سبحانه وتعاىل-حكيم يف جزائه.
مقصدي من هذه التجربة :أن تعودوا لكل مواطن اسم احلكيم ،وتسألوا :ماذا ظهر لنا هنا من حكمة هللا يف أمره ،أو شرعه،
أو خلقه ،أو جزائه؟
علم وحكمة ،فستُحسن الظن ،فإذا أحسنت الظن ستتمتع ابلصرب اجلميل، كما اتفقنا :أنت إذا آمنت أن أمره كله فيه ٌ
يل}.
صمبـٌر َمج ٌ
وليس الصرب القبيح! سا يكن لسان متدًّا على هللا! سا تكن متأفـ ًفا طوال الوقت! بل {فَ َ
سا بد أن نعلم أن كتاابت أهل السنة اليت يكتبوهنا عن هللا إمنا هي اندجة عن حبثهم ودراستهم هلذا اساسم يف كتاب هللا ،ويف
دساساته.
أوال :ستأيت لكل املواطن اليت ورد فيها هذا اساسم ،وكل املواطن اليت يظهر فيها أن هللا خياطبنا فيها حبكمته.
ً
عليم حكيم.
صبَـَر ألنه ُحيسن الظن ابهلل؛ لعلمه أن هللا ٌ
ستقرأ اآلية من أوهلا آلخرها ،مث تقولَ :
عليم حكيم ،وأنه يضع األمور يف مواضعها ،وأن حكمته مبنيَّة على علمه ،بل على لطيف علمه
آمنت أن هللا ٌ
َ لو
مجيال ،وتقول :ستتدبر األمور.
صربا ً
سبحانه وتعاىل ،فإن هذا سيسبّب لك حسن الظن ،وحسن الظن سيجعلك تصرب ً
مثال :لو أن بنتًا تزوجت ،ومرت أبزمة مع زوجها ،وهي ضعيفة يف تعلقها ابهلل-،وأنتم تعلمون كيف هي أماين البنات!-
ً
وعندما دخلت احلياة الزوجية ،وبدأت حياة اجلد ،بدأ يضيق األمر بينها وبني زوجها ،وبدأت مالمح اخلوف من الطالق تظهر،
عليم حكيم؟
طبعا يشق قلب األم ،لكن أسا تعلم أن هللا ٌ
ومثل هذا ً
210
شرح اسم الحكيم
عليم حكيم ،وأنه ما أراد ببنتها إسا أن تعود لرهبا ،فهذا سيسبب هلا
سا بد أن يكون موقف األم هناُ :حسن الظن ابهلل ،وأنه ٌ
مجيال.
صربا ً
أن تصرب ً
هذه خطة احلياة:
ستخرج هذه العلَّة ابلبلوى هذه ،مث متر-إن شاء هللا ،-وخيرج اخللق منها كما ِعلّة ِ
كوان للخلق ،فتُ َ
العلل :أن جتد يف قلبك ُر ً
يريد سبحانه وتعاىل ،لن خيرجوا إسا وهم منتفعون بقضائه وقدره.
اَّللُ َم من يَ َشاءُ .5نرى آية ( )4يف سورة إبراهيم ،قال تعاىلَ { :وَما أ مَر َس ملنَا م من َر ُسول إَّسا بل َسان قَـ مومه ليُـبَـ َ
ني َهلُمم فَـيُضل َّ
يم}احلَك ُ
َويـَ مهدي َم من يَ َشاءُ َوُه َو الم َعز ُيز م
جيدا.
سيصبح اآلن يف اآلايت ُم َكَّررات ،لكننا سنحاول أن نَستظهر املعىن ً
أيضا يف أمره-أي :يف قضائه وقدره ،-فاهلل يُضل من يشاء ،ويهدي من يشاء.
وحكمته ً
211
شرح اسم الحكيم
ثباات وهدايةً.
أقدارا تزيده ً
وجل-حكيمَ ،من أقبل بقلبه على ربه صادقًا ق ّدر هللا له ً
عز َّ
هللاَّ -
من الذي ي ِ
ضل؟ َ َ
()2
أوسا ،فيكون جزاؤهم أن تزيغ قلوهبم ،وهذا من حكمة هللا .وقال
اَّللُ قـُلُوبـَ ُه مم} فهم يزيغون ً غ َّ قال تعاىل{ :فَـلَ َّما َزاغُوا أ ََزا َ
الر ممحَ ُن َمدًّا}( )3هو الذي سعى بقدميه للضاللة.
تعاىل{ :قُ مل َم من َكا َن يف الض ََّاللَة فَـ مليَ مم ُد مد لَهُ َّ
جيدا ،سنفهم حديث النيب-صلى هللا عليه وسلم-الذي وصف فيه الثالثة نفر الذين دخلوا على
لتتصوروا هذه القاعدة ً
و َّ
جملسه:
عن أب واقد الليثي ،أن رسول هللا-صلَّى هللا عليه وسلَّم-بينما هو جالس يف املسجد والناس معه إذ أقبل ثالثة نفر ،فأقبل
اثنان إىل رسول هللا-صلَّى هللا عليه وسلَّم-وذهب واحد ،قال :فوقفا على رسول هللا-صلَّى هللا عليه وسلَّم ،-فأما أحدمها :فرأى
فُرجة يف احللقة فجلس فيها ،وأما اآلخر :فجلس خلفهم ،وأما الثالث :فأدبر ذاهبًا ،فلما فرغ رسول هللا-صلَّى هللا عليه وسلَّم-
اآلخ ُر
اَّللُ ممنهَُ ،وأ ََّما َ
استَ محيَا َّ
استَ محيَا فَ م
اآلخ ُر فَ م
اَّللَُ ،وأ ََّما َ
آواهُ َّ
اَّلل فَ َ ُخ ُربُك مم َعن النَّـ َفر الثَّالَثَة؟ أ ََّما أ َ
َح ُد ُه مم فَأ ََوى إ َىل َّ قال" :أَساَ أ م
اَّللُ َعمنهُ"(.)4
ض َّ ض فَأ مَعَر َفَأ مَعَر َ
األولُ :مقبل ،أتى حىت وجد فُرجة يف األمام فجلس فيها.
بعيدا عن
متأخراً ،
ً أما الثاين فحماسه أضعف ،مل يكن كاألول يف محاسه وإقباله ،لكنه سا زال متمس ًكا ابخلري ،فيأيت
اَّللُ ممنهُ" أي :استحيا هللا أن يطرده(.)1
استَ محيَا َّ
استَ محيَا فَ م
اآلخ ُر فَ م
اساقرتاب من اخلري .قال عنه النيب-صلى هللا عليه وسلمَ " :-وأ ََّما َ
ض هللا عنه.
فأعر َ
أعرضَ ،
الثالثَ :
حكيم ،يهدي من يشاء ،ويضل من يشاء .إن أقبلت بقلبك ،أقبل هللا عليك،
وجلٌ -عز َّ وكذل حالنا يف الدنيا ،فاهللَّ -
وإن أعرضت ،أعرض هللا عنك ولو بعد حني.
يف حديث سهل بن سعد الساعدي-رضي هللا عنه ،-أن رسول هللا-صلَّى هللا عليه وسلَّم-قال" :إ َّن َّ
الر ُج َل لَيَـ مع َم ُل َع َم َل
يما يـَمب ُدو للنَّاسَ ،وُه َو م من أ مَهل ا مجلَنَّة"(.)2 يما يـَمب ُدو للنَّاسَ ،وُه َو م من أ مَهل النَّارَ ،وإ َّن َّ
الر ُج َل لَيَـ مع َم ُل َع َم َل أ مَهل النَّار ف َ اجلَنَّة ف َ
أ مَهل م
سا تريد إسا هللا :لن تطرب نفس يف كل زمن من الشوائب ،وَتكدت من كون
لو كنت ُمقب ًال بصدق ،ونقَّيت قلب
عندما تسمعهم يقولون" :أن طالب علم ،وتتكلم ابآلايت "...فتزيد حفظًا لآلايت ألجل هذا الطرب! بل سرتاجع نفس ،
وتقول :أان سا أريد إسا وجهه.
العليم احلكيم عن ذل !
هل تظن أن هللا سيخذل عندما تنقي نفس ،وتقرتب من النهاية؟! تعاىل هللا ٌ
لكن أن يكون يف نفس ما يضرها ،فتسكت عنها ،مث متر علي اخلواطر الرديئة ،إىل أن تصبح إرادات مستقرة ،وتصبح سا
تريد بعمل إسا اخللق ،ومتثل أن تريد وجه هللا ،ومن قوة هذه اإلرادة املستقرة :تدخل ابب اخلري وأنت سا تفكر َمن تريد!!
عليم حكيم.
َمن كان هذا حاله سابد أن ُخيذل يف خامتته؛ ألنه ما أعطى قلبه حقَّه يف التفتيش ،وهللا ٌ
ولذل أي نوع من الشرك منوع ،حىت لفتة الرايء-لفتة رضا الناس-تعترب شرًكا؛ ففي احلديث القدسي :عن أَنَ ُ
س بم ُن َمال
ت لَ َآد َم إنَّ َ َما َد َع موتَين َوَر َج موتَين َغ َف مر ُ
اَّللُ تَـبَ َارَك َوتَـ َع َاىلَ :اي ابم َن َ
ال َّ اَّلل-صلَّى هللا عليه وسلَّم-يـَ ُق ُ
ول" :قَ َ ول َّت َر ُس َ
الَ :مس مع ُ
قَ َ
آد َم إنَّ َ لَ مو
ت لَ َ َوَسا أ َُابيلَ ،اي ابم َن َ استَـ مغ َف مرتَين َغ َف مر ُ
الس َماء ُمثَّ م
ت ذُنُوبُ َ َعنَا َن َّآد َم لَ مو بـَلَغَ م
َعلَى َما َكا َن في َ َوَسا أ َُابيلَ ،اي ابم َن َ
أَتَـميـتَين ب ُقَراب ماأل مَرض َخطَ َااي ُمثَّ لَقيتَين َسا تُ مشرُك ب َشميـئًا َألَتَـميـتُ َ ب ُقَراهبَا َم مغفَرة" (.)1
آد َم إنَّ َ لَ مو أَتَـميـتَين ب ُقَراب ماأل مَرض َخطَ َااي ُمثَّ لَقيتَين َسا تُ مشرُك ب َشميـئًا" أي :سا أكرب وسا أصغر َ"ألَتَـميـتُ َ ب ُقَراهبَا َم مغفَرة".
"اي ابم َن َ
َ
يم}.
احلَك ُ
اَّللُ الم َعز ُيز م
وسى إنَّهُ أ ََان َّ
.6أنيت ملوطن أخري يف سورة النمل آية ( ،)9قال تعاىلَ { :اي ُم َ
وجل-ملوسى-عليه السالم-يف موقف الوحي ،أي :أن هللا يـُ معلم موسى ابلرسالة ،ويعرف عز َّ هذا يف سياق خطاب هللاَّ -
يم}.
احلَك ُ
اَّللُ الم َعز ُيز م
وسى إنَّهُ أ ََان َّ
وجل-ملوسى-عليه السالم-فيقول لهَ { :اي ُم َ
عز َّ
نفسهَّ -
إذا سأل أحدهم :ما ابلكم مهتمون ابسم (احلكيم)؟ ترد فتقول :أسا ترى أن هللا ملـا أراد أن يعرف نفسه ملوسى قال لهَ { :اي
يم}؟!
احلَك ُ
اَّللُ الم َعز ُيز م
وسى إنَّهُ أ ََان َّ
ُم َ
إذًا هذا من أهم األمساء اليت جيب أن تعرفها عن هللا؛ لكي حيصل ل َتليهه سبحانه وتعاىل.
يح.
صح ٌ
يث َح َس ٌن َ
الَ :حد ٌ
الرتمذي يف سننه /أبواب الدعواتَ )3540( /وقَ َ
)َ )1رَو ُاه م
)[ (2سورة الكهف]49 :
214
شرح اسم الحكيم
ما معىن أن يكون هللا هو العزيز احلكيم؟ وملاذا يعرف نفسه-سبحانه وتعاىل-ملوسى هبذين اسامسني؟ ألنه من املؤكد أهنما إذا
ُوجدا اتمان يف القلب حصل التأليه الذي هو املقصود من التعريف .فإذا عرف اخللق هللا أبمسائه وصفاته فإهنم سيؤهلونه-أي:
حيبونه ويعظمونه ،مث يعبدونه ،-وهلذا امسي (العزيز احلكيم) من األمساء الضرورية للوصول للتأليه.
تتبصر ما مسّى هللا به نفسه يف كتابه ،وتُبصر ابلذات اسم (احلكيم) ،فتصبح بينك وبني هذا االسم
جيب أن تبدأ أعيننا َّ
العظيم نوع عالقة ،حبيث أن ما دجده يف موطن-سواء أتى نفس اسم (احلكيم) ،أو أتى الكالم عن احلُكم ،وأنه وحده الذي
حيكم اخللق ،ويشرع هلم الشرائع-إسا وتسأل نفس :ما دسالة هذا اساسم هنا؟ يف أي شيء تتجلى حكمته-سبحانه وتعاىل-
هنا؟ وقد تتعدد يف اآلية الواحدة أنواع من احل َكم.
َ ك مون أن هذا اساسم يتكرر يف القرآن قرابة املائة َّ
مرة :يدل على أمهيته.
وكون أن هللا يُعرف نفسه ملوسى-عليه السالم-هبذا اساسم :يدل على أمهيته.
وكون أنه من شروط اإلميان الذي سا يصح اإلميان إسا به ،فتؤمن أن هللا له احلُكم التام يف الدنيا واآلخرة :دليل على أن
درس.
اسم (احلكيم) من أعظم األمساء اليت جيب أن تُ َ
وجل-علينا بنعمة عظيمة يف هذه البلد املباركة ،أبن جنتمع يف أمن وأمان ،وأن تبقى مثل هذه اجملالس
عز َّ
وحنن قد أنعم هللاَّ -
يوما" اليت كنا
عامرة بفضله-سبحانه وتعاىل-ومنته وحده سا شري له ،فأسأله-سبحانه وتعاىل-كما يسر هذه "اخلمسة عشر ً
نرتع فيها يف رايض اجلنة ،أن يقبلها منا-سبحانه وتعاىل ،-وأن جيعلها يف موازين احلسنات.
خريا.
جزاكم هللا ً
السالم عليكم ورمحة هللا وبركاته.
215
شرح اسم الحكيم
216