Professional Documents
Culture Documents
ملخص المحاضرة الخامسة
ملخص المحاضرة الخامسة
التعريف بابن جرير :هو أبو جعفر محمد بن جرير بن زيد الطبري ولد سنة ٢٢٤هـ أربع
وعشرين ومائتين وتوفي 310هـ عشر و ثالثمائة كان فريد عصره ووحيـد دهـره علـا وحفظا
لكتاب هللا وخبرة بمعانيه وإحاطة باآليات ناسخها ومنسوخها وبطرق الرواية صحيحها وسقيمها
وبأحوال الصحابة والتابعين وهو من أهل آمل طبرستان ورحل منها في طلب العلم وهو ابن
اثني عشرة سنة ،سنة ست وثالثين ومائتين وطوف في األقاليم فسمع بمصر والشام والعراق ثم
ألقي عصاه واستقر ببغداد وبقي بها إلى أن مات ( . ) 1
مكانته العلمية :كان ابن جرير أحد األئمة األعالم يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله
وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيها أحد من أهل عصره فكان حافظا لكتاب هللا
بصيرا بالقرآن عارفا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها وعارفا بأيام الناس
وأخبارهم ومتقنا لمسائل الحالل والحرام هـذا هـو ابن جرير الطبري في نظر الخطيب البغدادي
وهي شهادة عالم خبير بأحوال الرجال .
وذكر أن أبا العباس بن سريج كان يقول :محمد بن جرير فقيه عالم .وهذه الشهادة جد
صادقة ،فإن الرجل برع في علوم كثيرة منها :علم القراءات والتفسير والحديث والفقه
والتاريخ .
وقد صنف في علوم كثيرة وأبدع التأليف وأجاد فيها صنف فمن مصنفاته :كتاب التفسير الذي
نحن بصدده وكتاب التاريخ المعروف بتاريخ األمم والملوك وهـو مـن أمهات المراجع وكتاب
القراءات والعدد والتنزيل وكتاب اختالف العلماء وكتاب الرجال من الصحابة والتابعين وكتاب
أحكام شرائع اإلسالم أله عى ما أداه إليه اجتهاده .وكتاب التبصر في أصول الدين ...وغير
هذا كثير من التصانيف التي تدل على سعة علمه
وغزارة فضله .
ولكن هذه الكتب قد اختفي معظمها من زمن بعيد ولم يحفظ منها بالبقاء إلى يومنا هذا وبالشهرة
الواسعة سوى كتاب التفسير وكتاب التاريخ .
وقد اعتبر الطبري أبا للتفسير كما اعتبر أبا للتاريخ اإلسالمي وذلك بالنظر لما في هذين
الكتابين من الناحية العلمية العالية .
ويظهر أن ابن جرير كان قبل أن يبلغ هذه الدرجة من االجتهاد متمذهبا بمذهب الشافعي .
التعريف بتفسيره :يعتبر تفسير ابن جرير مـن أقـوم التفاسير وأشهرها كما يعتبر المرجع األول
عند المفسرين الذين عنوا بالتفسير بالمأثور وإن كان في الوقت نفسه يعتبر مرجعا غير قليل
األهمية من مراجع التفسير العقلي نظرا لما فيه من االستنباط وتوجيه األقوال
وترجيح بعضها على بعض ترجيحا يعتمد على النظر العقلي والبحث الحر الدقيق .ويقع تفسير
بان جرير في ثالثين جزءا من الحجم الكبير وقد كان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يعتبر
مفقودا ال وجود له ثم قدر هللا له الظهور والتدوال فكانت مفاجأة سارة لألوساط العلمية في
الشرق والغرب أن وجدت في حيازة أمير حائل األمير حمـود بـن األمير عبد الرشيد من أمراء
نجد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب طبع عليها
الكتاب من زمن قريب فأصبحت في يدنا دائرة معارف غنية في التفسير بالمأثور ( . ) ٢
والمتتبع لمقوالت الباحثين شرقا وغربا في هذا الكتاب لوجدهم قد أجمعوا في حكمهم على عظيم
قيمته واتفقوا على أنه مرجع ال غنى عنه لطالب التفسير .
قال الحافظ السيوطي :وكتابه -يعني تفسير -محمد بن جرير -أجل التفاسير وأعظمها فإنه
يعرض لتوجيه األقوال وترجيح بعضها على بعض واإلعراب واالستنباط فهو يفوق بذلك على
تفاسير األقدمين ( . ) 3
طريقته في التفسير
تتضمن اتجاهات عدة .االتجاه األول :أنه يقدم التفسير بالنقل على التفسير بالعقل فتراه يقـول
عندما يعرض لتفسير آية من القرآن أن القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا ...ثم يفسر ـ
باآليـة مستشهدا على ما يقوله فيها من تأويل بالمروي والمنقول عن الصحابة أو التابعين من
التفسير بالمأثور ...وإذا كان في اآلية قوالن أو أكثر يذكر ذلك ويستشهد على كل قـول قيل فيها
بما يرويه في ذلك عن الصحابة والتابعين .والمتتبع لتفسيره يراه عليه الرحمة غير مقتصر
على مجرد النقل والرواية بل يتعرض في كثير من األحيان لتوجيه األقوال وترجيح بعضها
على بعض ...مع ذكر أدلة الترجيح لما يراه
راجحا .االتجاه الثاني :إنكاره الشديد على من يفسر بمجرد الرأي .
ترى اإلمام ابن جرير ينبري مخاصا بقـوة ومحاجها بشدة أصحاب الرأي المستقلين في التفكير
مع رؤيته الثاقبة وموقفه الحـازم بضرورة الرجوع إلى أهل العلم من الصحابة والتابعين
والمنقول عنهم في ذلك نقال مستفيضا ويرى أن ذلك وحده هو الميزان لقبـول التفسير والعالمة
البارزة لصحته وإليك أمثلة من كالمه تدل على ذلك .أوال :عند تفسير قوله تعالى « :ثم يأتي
من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون » [ يوسف . ] 49 :نجده يذكر أقوال السلف
فيها مع توجيهه لهذه األقوال وتعرضه للقراءات بقدر ما يحتاج إليه تفسير اآلية ثم يعرض بعد
ذلك على قول من فسر اآلية برأيه وبدون اعتماد منه على كل شيء إال على مجرد اللغة فيفند
قوله ويبطل رأيه فيقول ما نصه " :وكان بعض من ال علم له بأقوال السلف من أهل التأويل ،
ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كالم العرب ،يوجه معنى قوله « :وفيه يعصرون » إلى :
وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث ،ويزعم أنه من " العصر " و " الغصرة " التي بمعنى
المنجاة ،من قول أبي زبيد الطائي :صاديا يستغيث غير مغاث ...ولقد كان غضرة المنجود
قبات وأسرى القوم آخر ليلهم ...وماكان وقافا بغير معصر
أي المقهور .ومن قول لبيد :
وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خالفه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين ( ۱
).
االتجاه الثالث موقفه من األسانيد .
ومع كون الرجل محدثا له باع طويل في علم الحديث رواية ودراية إال أنه لم يلتزم في تفسيره
ذكر الروايات بأسانيدها ألنه كان يرى -كما هو مقرر في علم أصول الحديث -أن من أسند لك
فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة والتجريح فهو بعمله هذا قد خرج
من العهدة لكنه .ذلك نجده أحيانا يقف من السند موقف الناقد البصير فيعدل من يعدل من رجال
اإلسناد ويجرح من يجرح منهم ويرد الرواية التي ال يثق بصحتها ويصرخ برأيه فيها بما
يناسبها .فمثال تجده عند تفسيره لقوله تعالى « :فهل تجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا
وبينهم شدا ﴾ [ الكهف . ] ٩٤ :
يقول ما نصه :وروي عن عكرمة في ذلك :يعني في ضم سين سدا وفتحها -ما حدثنا به ،
أحمد بن يوسف ،قال :ثنا القاسم ،قال :ثنا حجاج ،عن هارون ،عن أيوب ،عن عكرمة ،
قال :ماكان من صنعة بني آدم فهو السد ،يعني بالفتح ،وماكان من صنع هللا فهو السـد
( ) ۱تفسیر ابن جریر ( ) ۲ ( . ) ۲۳۸/۱۲تفسیر ابن جریر ( . ) ۲۸۹/۲
( ) ۲۱۸
-يعني بضمها -ثم يعقب على هذا السند بقوله :وأما ما ذكر عن عكرمة في ذلك فإن الذي نقل
ذلك عن أيوب هارون وفي نقله نظر وال نعرف ذلك عـن أيـوب مـن رواية ثقات أصحابه .اهـ
(.)۱
االتجاه الرابع :من طريقة ابن جرير الطبري في تفسيره أنه يقدر اإلجماع حق قدره ويعطيه
سلطانا كبيرا في اختيار ما يذهب إليه من التفسير فمثال عند تفسيره لقوله تعالى « :فإن طلقها
فال تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيرة ﴾ [ البقرة . ] ٢٣٠ :يقـول مـا نصه :فإن قال قائل :
فأي النكاحين عنى هللا بقوله ( :فال تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » [ البقرة ] ٢٣٠ :
النكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج ؟ قيل :كالهـا ،وذلك أن المرأة إذا نكحت
رجال نكاح تزويج لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل لألول ،
وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح لم تحل لألول بإجماع األمة جميعا .فإذ كان ذلك كذلك ،
فمعلوم أن تأويـل قـوله « :فال تحل له مـن بعـد حـتى تنكح زوجا غيره ﴾ [ البقرة ] ٢٣٠ :
نكاحا صحيحا ،ثم يجامعها فيه ،ثم يطلقها .فإن قال :فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب
هللا تعالى ذكره ،فما الداللة على أن معناه ما قلت ؟ قيل :الداللة على ذلك إجماع األمة جميعا
على أن ذلك معناه ( . ) ٢االتجاه الخامس :موقفه من القراءات .
كذلك القارئ لكتاب ابن جرير الطبري في التفسير يرى أنه قد عنى بذكر القراءات وتنزيلها
على المعاني المختلفة ،وكثيرا ما يرد القراءات التي ال تعتمد على األئمة الذين يعتبرون عنده
وعند العلماء بالقراءات حجة ،والتي تقوم على أصـول مضطربة مما يكون فيه تغيير وتبديل
لكتاب هللا ثم يتبع ذلك برأيه في آخر األمر مع توجيه رأيه باألسباب .فمثال عند قوله تعالى « :
ولسليمان الريح عاصفة ﴾ [ األنبياء . ] 81 :يذكر أن عامـة قـراء األمصار قرؤا " الريح "
بالنصب على أنها مفعول لسخرنا المحذوف وأن عبد الرحمن األعرج قرأ " الريح " بالرفع
على أنها مبتدأ ( ) 3ثم يقول :والقراءة التي ال أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء
األمصار إلجماع الحجة من القراء عليه .
االتجاه السادس :موقفه من اإلسرائليات .
قد وفيت هذا االتجاه حقه بالدراسة في دراسة لي فرغت منها قبل هذه الدراسة بعنوان :فتح
الخبير في بيان الدخيل من التفسير .حيث ذكرت فيها منهج ابن جرير في رواية اإلسرائيليات
وأشبعت القول في ذلك فال داعي إلطالة القول هنا فارجع إليها إن شئت .االتجاه السابع :
انصرافه عما ال فائدة فيه .مما يجب التنبه له أن ابن جرير الطبري في تفسيره ال يبالي وال
يعطي االهتمام في األمور التي ليس من وراء الخوض فيها طائـل وال تفيـد الخائضين فيها
شروى نقير فتراه عليه الرحمة عند تفسيره لقوله تعالى « :إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم
هل يستطيع ربك أن ينزل علينـا مـائـدة مـن الشـماء ﴾ [ المائدة ] ١١٢ :إلى قوله « وارزقنا
وأنت خير الرازقين ﴾ [ المائدة . ] ١١٤ :يعرض لذكر ما ورد من الروايات في نوع الطعام
الذي نزلت به مائدة السماء ثم يعقب على هذا بقوله :وأما الصواب من القول فيما كان على
المائدة ،فأن يقال :كان عليها مأكول ،وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا ،وجائز أن يكون ثمـا
مـن ثمر الجنة ،وغير نافع العلم به وال ضار الجهـل به ،إذا أقر تالي اآلية بظاهر ما احتمله
التنزيل .اهـ ( . ) 3
االتجاه الثامن :احتكامه إلى المعروف من كالم العرب .
وإذا كان ابن جرير الطبري في اتجاهه األول سلك مسلك االعتماد أوال على المنقـول مـن
التفسير بالمأثور عن الصحابة أو التابعين فإنه بجانب ذلك اعتبر االستعماالت اللغوية
وعدها مصدرا من مصادر التفسير ومرجعا موثوقا به عند تفسيره للعبارات المشكوك فيها
وعدها مرجحا لبعض األقوال على بعض .فمثال عند تفيسره لقوله تعالى " حتى إذا جاء أمرنا
وفار التنور قلنا الحمل فيها من كل زوجين اثنين » [ هود . ] 40 :تراه يعرض لذكر أقوال
السلف في معنى لفظ التنور فيروي لنا قول من قال إن التنور عبارة عن وجه األرض وقـول
من قال إنه عبارة عن تنوير الصبح وقول من قال إنه عبارة عن أعلى األرض وأشرفها وقول
من قال إنه عبارة عـا يختبز فيـه ...ثم يقـول بعـد أن يفرغ مـن هـذا كـلـه :وأولى هذه األقوال
عنـدنا بتأويـل قوله " التنور " قول من قال " التنور الذي يختبز فيه ألن ذلك هو المعروف من
كالم العرب ،وكالم هللا ال يوجه إال إلى األغلب األشهر من معانيه عند العرب إال أن تقوم حجة
على شيء منه بخالف ذلك فيسلم لها وذلك ألنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به إلفهامهم
معنى ما خاطبهم به ...اهـ ( ) ۱االتجاه التاسع :توسعه في االستشهاد بالشعر القديم .
إن ابن جرير في تفسيره يرجع إلى شواهد من الشعر القديم وذلك بشكل واسع متبعا في هذا
الطريق وسالكا سنن ابن عباس رضي هللا عنها .
فمثال عند تفسيره لقوله تعالى « :فال تجعلوا هلل أندادا ﴾ [ البقرة . ] ٢٢ :يقول ما نصه :قال
أبو جعفر األنداد جمع ند والند :العدل والمثل ،كما قال حسان بن ثابت :أتهجوه ولست له
بند ...فشركهما لخيركما الفداء
يعني بقوله :ولست له بند :لست له بمثل وال عدل .وكل شيء كان نظير الشيء وشبيها فهو
له ند ( . ) ٢ثم يسوق الروايات عمن قال ذلك من السلف ( ) ۳رضوان هللا عليهم أجمعين .
االتجاه العاشر :اهتمامه بمذاهب أهل النحو .كثيرا ما يعرض ابن جرير الطبري لمذاهب
النحويين من البصريين والكوفيين ويوجه األقوال تارة على المذهب البصري وأخرى على
المذهب الكوفي .فمثال عند تفسيره لقوله تعالى « :ومثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد
اشتدت به الريح في يوم عاصف ﴾ [ إبراهيم ] ١٨ :يقول ما نصه " :اختلف أهل العربية في
رافع " مثل " فقال
بعض نحويي البصرة :إنما هو كأنه قال :ومما نقض عليكم مثل الذين كفروا ،ثم أقبـل يفسّره
كما قال :مثل الجنة ..وهذا كثير .وقال بعض نحويي الكوفيين :إنما المثل لألعمال ،ولكن
العرب تقدم األسماء ألنها أعرف ،ثم تأتى بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه ،ومعنى الكالم :
مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد ..إلخ " (االتجاه الحادي عشر :اهتمامه باألحكام الفقهية
المتعلقة باآلية :من منهج ابن جرير الطبري ج في تفسيره أنه يهتم اهتماما بالغا ببيان األحكام
الفقهية التي يمكن أن تؤخذ من اآلية المراد تفسيرها فيذكر في ذلك ما يحضره من أقوال العلماء
في الحكم الفقهي ثم يختار لنفسه رأيا قد يوافق به البعض منهم وقد يخالف مع تدعيمه لهذا الرأي
المختار باألدلة التي تجعله مختارا وراحجا .
فمثال عند تفسير قوله تعالى « :والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما ال تعلمون ﴾
[ النحل . ] 8 :
نجده يعرض ألقوال العلماء في بيان حكم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ويذكر قول كل
قائل بسنده .. ....وأخيرا يختار قول من يقول :إن اآلية ال تدل على حرمة شيء من ذلك .
ووجه اختياره هذا فقال ما نصه :والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهـل القـول الثاني
-وهو أن اآلية ال تدل على الخرمة -وذلك أنه لو كان في قوله تعالى ذكره -لتركبوها داللة
على أنها ال تصلح إذا كانت للركوب لألكل ،لكان في قوله { :فيها دفة ومنافع ومنها تأكلون }
داللة على أنها ال تصلح إذ كانت لألكل والدفء للركوب .وفى إجماع الجميع على أن ركوب
ما قال تعالى ذكره { :ومنها تأكلون } جائز حالل غير حرام ،دليل واضح على أن أكل ما قال
{ :لتركبوها } جائز حالل غير حرام ،إال بما نص على تحريمه ،أو وضع على تحريمه داللة
من كتاب أو وحى إلى رسول ہللا ﷺﷺ ،فأما بهذه اآلية فال يحرم أكل شئ .وقد وضع الداللة
على تحريم لحوم الحمر األهلية بوحيه إلى رسول ہللا ﷺ ،وعلى البغال بما قد بينا في كتابنا "
كتاب األطعمة " بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ،إذ لم يكـن هـذا الموضع من مواضع
البيان عن تحريم ذلك ،وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدل على أن ال وجه لقـول من استدل بهذه اآلية
على تحريم لحم الفرس ( " ) ۱
االتجاه الثاني عشر :اهتمامه بالقضايا العقائدية مع نصرته لمذهب أهل السنة والجماعة ورده
على مخالفيهم :في هذا االتجاه ترى اإلمام ابن جرير الطبري يصول ويجول عند تفسيره آليات
تتعلق بشأن العقيدة مطبقا ألصولها ومناقشا آلراء خصومه المخالفين لمذهبه السني مما يدل
على طول باعه وبراعته الفائقة في هذا الميدان الذي ال يمكن أن يقتحمه إال من أتقن أصوله
وكانت لديه القدرة الجدلية والمنطقية .
فمثال عند تفسيره لقوله تعالى ( :غير المغضوب عليهم وال الضالين ) [ الفاتحة . ] 7 :تراه
يقول ما نصه " :وقد ظن بعض أهل الغباء من القدرية أن في وصف هللا جل ثناؤه النصارى
بالضالل بقوله { :وال الضالين } وإضافة الضالل إليهم دون إضافة إضاللهم إلى نفسه ،وتركه
وصفهم بأنهم المضللون كالذي وصـف بـه اليهود أنه مغضوب عليهم ،داللة على صحة ما قاله
إخوانه من جملة القدرية ،جمالً منه بسعة كالم العرب وتصاريف وجوهه ،ولو كان األمر
على ما ظنه الغبي الذي وصفنا شأنه ،لوجب أن يكون كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل
ال يجوز أن يكون فيه سبب لغيره ،وأن يكون كل ماكان فيه من ذلك من فعله ،ولوجب أن
يكون خطأ قول القائل :تحركت الشجرة إذا
حركتها الرياح ،واضطربت األرض إذا حركتها الزلزلة ،وما أشبه ذلك من الكالم الذي يطول
بإحصائه الكتاب ،وفي قوله جل ثناؤه { :حتى إذا كنتم في الفلك وجزين بهم } [ يونس ] ٢٢ :
وإن كان جريها بإجراء غيرها إياها ،ما يدل على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في
قوله { :وال الضالين } ..وادعائه أن في نسبة هللا جل ثناؤه الضاللة إلى من نسبها إليه من
النصارى تصحيحا ً لما ادعى المنكرون أن يكون هللا جل ثناؤه في أفعال خلقه بسبب من أجلها
وجدت أفعالهم ،مع إبانة هللا عز ذكره نصا ً في أي كثيرة من تنزيله :أنه المضل الهادى ،فمن
ذلك قوله جل ثناؤه { :أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله هللا على علم وختم على سمعه وقلبه
وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد هللا أفالً تذكرون } [ الجاثية .. ] ٢٣ :فأنبأ جل
ذكره أنه المضل الهادي دون غيره ،ولكن القرآن نزل بلسان العرب على ما قدمنا البيان عنه
في أول الكتاب ،ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وجد منه وإن كان مشيئة غير الذي
وجد منه الفعل غيره ،فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبا ً ،ويوجده هللا جل ثناؤه عينا منشأة ،
بل ذلك أحرى أن يضاف إلى مكتسبه كسبأ له بالقوة منه عليه ،واالختيار منه له ،وإلى هللا جل
ثناؤه بإيجاد عينه وإنشائها تدبيراً .اهـ ( . ) 1
وبعد فهذه أهم االتجاهات التي سلكها شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره والحق إن
هذا التفسير من أجل التفاسير المؤلفة في التفسير بالمأثور كما أن طريقته التي -بعد ذلك في
النواحي اإلعرابية واالستنباطية والمناقشات الجدلية لمخالف مذهب أهـل السنة والجماعة جعلت
هذا التفسير الضخم يعد لبنة في صرح التفسير بالرأي فيمكنك القول أن الرجل في تفسيره جمع
بين المنقول والمعقول والرواية والدراية فهو بحـق عمـدة
المطلب الثالث :اإلمام ابن كثير ومنهجه في التفسير .
التعريف بصاحبه :
مؤلف هذا التفسير علم من األعالم التي ال تخفى على أحد في األوساط العلمية بل أوساط
المثقفين عامة فهو اإلمام الجليلي الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمرو بن كثير بن
ضوء بن كثير بن زرع البصري ثم الدمشقي الفقيه الشافعي قدم دمشـق وله سبع سنين مع أخيه
بعد موت أبيه سمع من ابن الشحنة واآلمدي وابن عساكر وغيرهم كما الزم المزى وقرأ عليه
تهذيب الكمال ،وصاهره على ابنته .
وقال الداودي في طبقات المفسّرين " :كان قدوة العلماء والحفاظ ،وعمـدة أهـل المعـانى
واأللفاظ ،ولى مشيخة أم الصالح بعـد مـوت الذهبي وبعـد مـوت السبكى مشيخة الحديث
األشرفية مدة يسيرة ،ثم أخذت منه " ( . ) 1
هـ
آخر عمره .رحمه هللا رحمة واسعة ( . ) ٢
مكانته العلمية وثناء العلماء عليه :كان ابن كثير على مبلغ عظيم من العلم ،وقد شهد له العلماء
بسعة علمه ،وغزارة مادته ،خصوصا ً في التفسير والحديث والتاريخ .قال الحافظ ابن حجر :
" اشتغل بالحديث مطالعة في متونه ورجاله ،وجمع التفسير ،وشرع في كتـاب كبير في
األحكام لم يكمل ،وجمع التاريخ الذي سماه البداية والنهاية ،وعمل طبقات الشافعية ،وشرع
في شرح البخارى ..وكان كثير االستحضار ،حسـن المفاكهة ،وصارت تصانيفه في البالد في
حياته ،وانتفع بها الناس بعد وفاته ،ولم يكن على طريق المحدثين في تحصيل العوالي ،
وتمييز العالي من النازل ،ونحو ذلك من فنونهم ،وإنما هو من محدثى الفقهاء ،وقد اختصر
مع ذلك كتاب ابن الصالح ،وله فيه فوائد " .
وقال الذهبي عنه في المعجم المختص " :اإلمام المفتى ،المحدث البارع ،فقيه متفنن ،محدث
متقن ،مفسر نقال ،وله تصانيف مفيدة وكان مولده سن ٧٠٠هـ ( سبعمائة ) أو بعدها بقليل
وتوفى في شعبان سنة ( . 774أربع وسبعين وسعبائة من الهجرة ) ،ودفن بمقبرة الصوفية ،
وكان قد كف بصره في