Professional Documents
Culture Documents
حديثنا اليوم عن إمام جليل ،وحافظ عليم ،ومفسر قدوة ،طار صيته في اآلفاق ،ونال القبول في الحياة قبل
الممات ،إنه إسماعيل بن عمرو بن كثير الدمشقي ،الفقيه .الشافعي .
تلقى العلم عن أكابر علماء عصره ،ومن بينهم ابن تيمية الذي الزمه فترة ،وامتحن بسببه ،وكان مياال ً إلى كثير من
آرائه واجتهاداته .
كان رحمه هللا على مبلغ من العلم عظيم ،وعلى مكان من العقل وفير ،شهد له أهل العلم بذلك؛ فهذا ابن حجر
يصفه بأنه " كان كثير االستحضار ،حسن المفاكهة ،وطارت تصانيفه في البالد في حياته ،وانتفع بها الناس بعد
وفاته " ،أما اإلمام الذهبي فيقول في وصفه " :اإلمام المفتي ،المحدث البارع ،فقيه متفنن .،محدث متقن .،مفسر
نقَّال ،له تصانيف مفيدة " .ومهما قال القائلون فيه ،فإن شخصية ابن كثير العلمية تتجلى بوضوح لمن يقرأ
"تفسيره" أو "تاريخه" وهما من خير ما أل َّف ،وأجود ما َأخرج للناس ،فقد أجاد فيهما وأفاد .
فتفسيره -وهو موضوع حديثنا -المسمى " تفسير القرآن العظيم" ُيع ُّد من أشهر ما ُد ِوّن في موضوع التفسير
بالمأثور ،وهو بهذا االعتبار يأتي بعد تفسير الطبري .
ومما امتاز به هذا التفسير سهولة عبارته ،وإيجاز صياغته؛ فقارئه ال يحتاج إلى كثير عناء لتحصيل المعنى المراد،
ل ،بل كان طري ًقا وسطًا ،بين بين .
خ َّ وهو أي ً
ضا ليس بالطويل الممل ،وال بالوجيز الم ِ
منها كثي ًرا من األمور ذات الصلة بالقرآن الكريم وتفسيره ،واعتمد في
وقد ص َّدر ابن كثير "تفسيره" بمقدمة هامة ض َّ
ذلك على كالم شيخه ابن تيمية -رحمه هللا -في مقدمته التفسيرية .
األولى :اعتماده تفسير القرآن الكريم على المأثور؛ فهو أوال ً يفسر اآلية بآية أخرى ،وهو في هذا شديد العناية،
وبارع إلى أقصى غاية في سرد اآليات المتناسبة في المعنى الواحد .ثم بعد ذلك يشرع في سرد األحاديث
المتعلقة باآلية المراد تفسيرها ،ويبين ما ُيقبل من تلك األحاديث وما ال ُيقبل .ثم يشفع هذا وذاك بذكر أقوال
وي ْع ِرض عن كل نقل لم يصح ثبوته ،وعن كل
جِح ما يراه األرجحُ ،الصحابة والتابعين ،و َمن بعدهم من أهل العلم ،وير ّ
رأي لم ينهض به دليل .
ينب ّه إلى ما في التفاسير من منكرات المرويات اإلسرائيلية؛ فهو مثال ً الثانية :ومن منهجه -وهو مما امتاز به -أن ِ
عند تفسيره لقصة البقرة ،وبعد أن يسرد الروايات الواردة في ذلك نجده يقول..." :والظاهر أنها مأخوذة من كتب
بني إسرائيل ،وهي مما يجوز نقلها ،ولكن ال تصدق وال تكذب ،فلهذا ال يعتمد عليها إال ما وافق الحق عندنا "...وقد
حدد موقفه من الروايات اإلسرائيلية ،فقال " :وإنما أباح الشارع الرواية عنهم ،في قوله صلى هللا عليه وسلم...( :
وحدثوا عن بني إسرائيل وال حرج )...فيما قد ُيج ِوّزه العقل ،فأما فيما تحيله العقول .،ويحكم فيه بالبطالن ،ويغلب
على الظنون كذبه فليس من هذا القبيل".
أما الخطوة الثالثة من منهجه ،فتظهر من خالل التعرف على موقفه .من آيات األحكام ،إذ نجده ينقل أقوال أهل
جِح من أقوالهم ما يرى أن الدليل يدعمه ،أو أن السياق
العلم في مسائل األحكام ،مشفوعة .بأدلة كل منهم ،ثم ُير ّ
يؤيده؛ وهو في كل ذلك مقتصد غير مسرف ،ومعتدل غير مفرط .
ك بهذا قبول الناس له وعلى الجملة...فإن تفسير ابن كثير من أخير التفاسير بالمأثور وأنفعها ،وأقومها سبيالًُ ،ي ْنبُِئ َ
ما وحدي ًثا ،ويكفيك في هذا ما قاله اإلمام السيوطي -رحمه هللا -في حق هذا التفسير " :بأنه لم يؤلَّف على قدي ً
نمطه مثله " .
وبعد...يشار أخي ًرا إلى أن هذا التفسير قد طُبع أكثر من طبعة .،وقام على تحقيقه وتخريج أحاديثه عدد من العلماء،
المشهود لهم بالخير والصالح ،وطول الباع في هذا الشأن ،وقد قدموا بعملهم هذا خدمة جليلة لهذا التفسير،
الذي ال يزال يحظى برضى الجميع من الخاصة والعامة .