Professional Documents
Culture Documents
1 مقدمة الدراسة - 1
1 مقدمة الدراسة - 1
مقدمة
تعتبر الرأسمالية إحدى المكونات المركزية في الكيان الغربي الحديث،
بل لن يكون من قبيل المبالغة أن نقول أنها ربما تمثل المركز في بنية الكيان
الغربي الحديث ،تحركت ومازالت تتحرك ،فى فلكها منتجات هذا الغرب
الثقافية ،أو باالصطالح الماركسي مثّلت البنية التحتية للمنتج الفكري الغربي،
إال أنها منذ نشوئها كانت في حاجة دائمة أليديولوجية تمثل الغطاء ومسوغ
القبول ،فكانت الليبرالية هي الغطاء األيديولوجي للرأسمالية ،حيث لم يكن
بمقدور الرأسمالية أن تسعى لتحقيق مكاسبها بمعزل عن مبررات تمنحها
القبول لدى قوى المجتمع المختلفة ،فكان لزاما عليها وهي تطالب بحرية العمل
والتملك – وهي مطالبها باألساس -أن تدمجها في سياق حقوقي أكثر اتساعا
وأقدر على جذب اآلخرين ،فتستطيع من خالل هذا السياق أن تضمن تحقيق
مطالبها في حرية العمل والتحرك ،دون أن تثير رغباتها الجامحة ردود فعل
رافضة.
إال أنه بعد أن حقق الغرب كثيرا من مساعيه ،والتي بنيت على أساس
اإليمان بالعقل وقدراته الغير محدودة في تحقيق التقدم ،كانت هناك نتائج فى
الداخل األوروبي والخارج العالمي أصابت تلك الثقة في العقل وقدراته
باالهتزاز ،فعلى الصعيد الداخلي كانت الحربان العالميتان األولى والثانية من
بين أسباب أخرى حافزاً للتساؤل حول العقل ودوره ،ومدى إمكاناته في تحقيق
الطموحات التي علّقها عليه الغربيون .وفى الخارج العالمي ،كان جشع
الرأسمالية الغربية ونهبها لثروات الشعوب وفتكها وتجويعها للماليين مدعاة
أيضا لرفض منتج الغرب الحداثي بغثه وثمينه ،حيث لم يحقق لمنكوبي العالم
أية حداثة حقيقية ،فال أكثر من تغيرات شكلية أصابتهم ،هي أقرب للتشوهات
منها إلى التغيرات الحقيقية.
كان ذلك إيذانا بأن المقوالت األيديولوجية التي تحركت تحت غطائها
الرأسمالية قد أصبحت قيد التهديد ،وغير مقبولة على الصعيدين الداخلي
والخارجي ،حيث تلقت طعنات الداخل من قبل الكثيرين ،وعلى وجه
الخصوص الفكر الماركسي الذي قام بتعرية تناقضات الرأسمالية وتوحشها،
مؤكداً على ضرورة الثورة عليها وتجاوزها .وكانت حركات التحرر في العالم
الثالث تعلن هي أيضا رفضها لالستعمار ومقاومته بكافة الوسائل ،رافضين
الدور الذي تمارسه الرأسمالية العالمية آنذاك.
استشعرت الرأسمالية الخطر ،وكان البد لها من إيجاد بديل بعد أن
تهافتت مقوالت الحداثة التي غطتها لمدة عدة قرون ،فلم يعد بمكنة الحداثة أن
تقدم الغطاء الالزم أو األيديولوجية الداعمة للرأسمالية ،فليس أقل من إعالن
الثورة على الحداثة ومقوالتها المركزية ممثلة فى الذاتية والعقالنية والتقدم،
خاصة أن الشعوب غير الغربية – بعد طول رفض للحداثة – أخذت تسلك
المسار الحداثي أمالً منها في تحقيق إنجاز يمكنها من بلوغ ما وصل إليه
3
كان البديل األيديولوجي ،الذي يطرحه الغرب الرأسمالي كسفينة نجاة له
فى مواجهة المتغيرات الداخلية والخارجية ،هو ما أطلق عليه ما بعد الحداثة،
والذي يرتكز على نفي أسس الحداثة ،معلناً نهاية اإلنسان وفشل العقالنية
وانتهاءها ،وعدم اإليمان بالتقدم وما يترتب عليه من رؤية خطية للتاريخ ،حيث
تؤكد ما بعد الحداثة على القطيعة في مسيرة التاريخ .ويشير "فريدريك
جيمسون" إلى أن ما بعد الحداثة تعبر عن روح رأسمالية عصر الشركات
متعددة القوميات ،حيث قام رأس المال – هذا الشيء المجرد المتحرك الذي ال
يكترث بالحدود أو الزمان أو المكان – بإلغاء كل الخصوصيات X،كما ألغى
الذات المتماسكة التي يتحد فيها التاريخ والعمق والذاتية ،وحلت القيمة التبادلية
العامة محل القيمة األصيلة لألشياء.
4
تسعى هذه الدراسة إلى تحديد األبعاد األيديولوجية التي تقوم عليها
ظاهرة العولمة ،من خالل تقسيم الظاهرة إلى مكوناتها األساسية ،ثم عرض ما
يساهم به كل جانب فى تشكيل ما يمكن تسميته بأيديولوجية العولمة ،خاصة أن
المروجين للعولمة يطرحون مقوالتهم باعتبارها أطروحات محايدة ،فكان
الهدف المركزي لهذه الدراسة أن تؤكد على وجود بنية أيديولوجية تستند إليها
ظاهرة العولمة ،وأن مروجي العولمة والمستفيدين منها يحاولون إخفاءها،
طمعاً منهم فى الترويج لكون الظاهرة حتما تاريخيا اقتضته ظروف التطور
التكنولوجي ،ويترتب على ذلك أن يقبلها العالم دون تخوف من كونها
أيديولوجية تخدم مصالح فئة معينة.
وبالتالي اقتسامها بين الحقول المعرفية المتعددة ،قد أدى إلى تقطيع الظاهرة
إلى كيانات جزئية ،أدت إلى عدم إدراك الظاهرة فى كليتها ،فجاءت هذه
الدراسة لتحاول – قدر الطاقة – أن تلم شتات الظاهرة العولمية ،سعياً منها فى
تقديم بنية مترابطة ،تؤكد على ما بين هذه القطاعات المتعددة لظاهرة العولمة
من اتصال ،موضحة ما يمثل المركز فى الظاهرة ،وما يمثل الغطاء الترويجي
لها.
تسعى هذه الدراسة إلى اختبار عدة فروض من أجل التحقق من مدى
صحتها ،وهى كالتالي:
-1أن العولمة ليست ظاهرة محايدة كما يروج لها الخطاب الغربى،
لكن ثمة أيدلوجية كامنة وراء الحياد الظاهرى ،وما ذلك الحياد سوى أحد أبعاد
تلك األيديولوجية ،وعامل مركزى فى عملية الترويج لها.
فربما دعاها الصالح الرأسمالي إلى تعظيم دور الدولة من جديد ،والتاريخ
شاهد أساسي على ذلك.
تغطى هذه الدراسة فترة زمنية طويلة نسبية ،حيث تعرج على بدايات
ظاهرة العولمة من جذورها التى تفترض الدراسة أنها تتمثل فى بدايات العصر
الحديث فى أوروبا ،فتغطى الدراسة فترة زمنية تقرب من الخمسة قرون.
وأن البحث فى األيديولوجيا ال يمكن سلوكه دون التحصن بآلة نقدية توضح
الحقيقي والترويجي من األفكار ،وتزيد الحاجة لذلك حين يكون مجال البحث
هو التطرق لألبعاد األيديولوجية لظاهرة بشمولية والتباس العولمة.
أوالً -الحداثة.