You are on page 1of 2

‫شبكة األلوكة ‪ /‬آفاق الشريعة ‪ /‬مقاالت شرعية ‪ /‬فقه وأصوله‬

‫مقاصد الشريعة في المحافظة على البيئة‬


‫أ‪ .‬د‪ .‬محمد جبر األلفي‬

‫مقاالت متعلقة‬

‫تاريخ اإلضافة‪ 30/6/2014 :‬ميالدي ‪ 2/9/1435 -‬هجري‬

‫الزيارات‪87045 :‬‬

‫مقاصد الشريعة في المحافظة على البيئة‬

‫من العبارات المتداولة على ألسنة العلماء في كتب األصول والفروع ما نقل عن الغزالي في المستصفى‪" :‬ومقصود الشرع من الخلق خمسة‪ :‬وهو أن يحفظ عليهم دينهم‪ ،‬ونفسهم‪ ،‬وعقلهم‪،‬‬
‫ونسلهم‪ ،‬ومالهم‪ .‬فكل ما يتضمن حفظ هذه األصول الخمسة فهو مصلحة‪ ،‬وكل ما يفوت هذه األصول فهو مفسدة‪ ،‬ودفعها مصلحة" [‪.]1‬‬

‫‪ ‬‬

‫هذه هي الثوابت اإلسالمية التي ينبغي على المسلم أن يراعيها في نفسه وأن يتعهدها فيمن يرعاه ويسأل عنه‪ .‬وهذه المقاصد تمتاز بأنها مقاصد إلهية ربانية تتصف باإلتقان واإلحكام والكمال‪،‬‬
‫وتراعي حاجات اإلنسان وغرائزه التي جبل عليها‪ِ ﴿ :‬ف ْط َر َة اِهَّلل اَّلِت ي َف َط َر الَّناَس َع َلْي َه ا اَل َت ْب ِد يَل ِل َخ ْلِق اِهَّلل َذ ِلَك الِّد يُن اْلَق ِّي ُم ﴾[‪ .]2‬ولذلك وصفها الشاطبي بقوله‪" :‬البد منها في قيام مصالح الدين‬
‫والدنيا‪ ،‬بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة‪ ،‬بل على فساد وتهارج وفوت حياة‪ ،‬وفي األخرى فوت النجاة والنعيم‪ ،‬والرجوع بالخسران المبين" [‪.]3‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -1‬وأهم هذه المقاصد‪ :‬حفظ الدين بإقامة أركانه المجمع عليها‪ ،‬وترك المحرمات المتفق على حرمتها [‪ .]4‬وحفظ الدين على هذا الوجه يرتبط ارتباطًا وثيقًا برعاية عناصر البيئة التي خلقها اهلل‬
‫وسخرها لنفع عباده وأراد لها االستمرار‪ ،‬وحذر من االعتداء عليها أو محاولة إفنائها‪َ ﴿ :‬و َم ا ِم ْن َد اَّبٍة ِف ي اَأْلْر ِض َو اَل َط اِئ ٍر َي ِط يُر ِب َج َناَح ْي ِه ِإ اَّل ُأ َم ٌم َأ ْم َث اُلُكْم ﴾[‪ .]5‬فإذا قام اإلنسان بشكر اهلل على ما‬
‫أنعم زاده اهلل من الخير في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وإذا طغى وبغى وأفسد محق اهلل بركات عمله‪َ ﴿ :‬و ِإ ْذ َتَأَّذ َن َرُّب ُكْم َلِئْن َش َكْر ُت ْم َأَلِزيَد َّنُكْم َو َلِئْن َكَف ْر ُت ْم ِإَّن َع َذ اِب ي َلَش ِد يٌد ﴾[‪ .]6‬وشكر النعمة هو استخدامها‬
‫فيما خلقت له‪ ،‬والحفاظ على توازنها‪ ،‬والحذر من إفسادها أو تغيير طبيعتها‪َ ﴿ :‬ظ َه َر اْلَف َس اُد ِف ي اْلَب ِّر َو اْلَبْح ِر ِب َم ا َكَس َب ْت َأ ْي ِد ي الَّناِس ِلُي ِذ يَق ُه ْم َبْع َض اَّلِذ ي َع ِم ُلوا َلَع َّلُه ْم َي ْر ِج ُع وَن ﴾[‪.]7‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -2‬وقد عنيت الشريعة بحفظ األنفس المعصومة‪ ،‬وذلك بتحريم االعتداء عليها مباشرة أو تسببًا‪ ،‬وتجنب كل ما من شأنه إيقاع الضرر بها‪ ،‬ذلك أن حق الحياة ‪ -‬في اإلسالم ‪ -‬هبة من اهلل تعالى‪ ،‬وال‬
‫يجوز المساس به‪ ،‬ويجب على األمة ككل‪ ،‬وعلى والة األمور خاصة رعاية األنفس وصيانتها وتوفير البيئة الصحية المالئمة لها‪ِ ﴿ :‬م ْن َأ ْج ِل َذ ِلَك َكَت ْب َنا َع َلى َبِني ِإْس َر اِئيَل َأ َّنُه َم ْن َق َت َل َنْف ًس ا ِب َغ ْي ِر َنْف ٍس‬
‫َأ ْو َف َس اٍد ِف ي اَأْلْر ِض َف َكَأَّن َم ا َق َت َل الَّناَس َج ِم يًع ا َو َم ْن َأ ْح َي اَها َف َكَأَّن َم ا َأ ْح َي ا الَّناَس َج ِم يًع ا ﴾[‪.]8‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد كثرت ‪ -‬في عصرنا الراهن ‪ -‬الكوارث البيئية التي ترتب عليها إزهاق األنفس باآلالف أو بالماليين‪ ،‬مثل استخدام األسلحة الكيميائية والبيولوجية وأسلحة الدمار الشامل‪ ،‬ومثل انفجار المفاعل‬
‫النووي في تشيرنوبل (‪1986‬م)‪ ،‬وانفجار صمام األمان في مصنع بهوبال (‪1984‬م)‪ ،‬وانفجار منصة إنتاج النفط في بحر الشمال (‪1988‬م)‪ ،‬والتجارب النووية التي تجري في البر والبحر والجو‪.‬‬
‫وهذا يؤكد ما ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ظ َه َر اْلَف َس اُد ِف ي اْلَب ِّر َو اْلَبْح ِر ِب َم ا َكَس َب ْت َأ ْي ِد ي الَّناِس ﴾[‪.]9‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -3‬أما حفظ العقل‪ ،‬فألنه مناط التكليف‪ ،‬ويحرم كل ما من شأنه إدخال الخلل عليه‪ ،‬وهذا يرتبط ارتباطًا وثيقًا برعاية البيئة والحفاظ على نقائها؛ فقد ثبت ‪ -‬علميًا ‪ -‬أن التلوث اإلشعاعي والتلوث‬
‫الصوتي لهما أثر خطير ومباشر على خاليا المخ‪ ،‬وقد يبكر في اإلصابة بمرض الزهايمر‪" .‬فمن حفظ البيئة أن نحافظ على التفكير السوي في اإلنسان الذي يوازن بين اليوم والغد‪ ،‬وبين المصالح‬
‫والمفاسد‪ ،‬وبين المتعة والواجب‪ ،‬وبين القوة والحق‪ ،‬وال يتعامل مع البيئة تعامل المخمور السكران‪ ،‬أو المخدر التائه‪ ،‬الذي ألغى عقله باختياره‪ ،‬فلم يعد يعرف ما ينفعه مما يضره" [‪.]10‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -4‬وحفظ النسل يتضمن المحافظة على الفروج واألعراض وصحة األنساب‪ ،‬ويواجه هذا المقصد الضروري تحديًا سافرًا من المفسدين في األرض وملوثي البيئة التي فطر اهلل الناس عليها؛‬
‫فالعبث بالجينات الوراثية‪ ،‬وتجارب االستنساخ البشري‪ ،‬وإباحة الزواج المثلي ونحو ذلك يعد تحديًا خطيرًا للتوازن البيئي‪ .‬وقد اعتبر القرآن الكريم قوم لوط من المفسدين في األرض لتغييرهم‬
‫فطرة اهلل في الخلق‪َ ﴿ :‬و ُلوًط ا ِإ ْذ َق اَل ِل َق ْو ِم ِه ِإ َّنُكْم َلَت ْأُت وَن اْلَف اِح َش َة َم ا َس َب َق ُكْم ِب َه ا ِم ْن َأ َح ٍد ِم َن اْلَع اَلِم يَن * َأ ِئَّن ُكْم َلَت ْأُت وَن الِّر َج اَل َو َتْق َط ُع وَن الَّس ِب يَل َو َتْأُت وَن ِف ي َن اِد يُكُم اْلُم ْنَكَر َف َم ا َكاَن َج َو اَب َق ْو ِم ِه ِإ اَّل َأ ْن‬
‫َق اُلوا اْئ ِت َنا ِب َع َذ اِب اِهَّلل ِإْن ُكْنَت ِم َن الَّص اِد ِق يَن * َق اَل َرِّب اْن ُص ْر ِني َع َلى اْلَق ْو ِم اْلُم ْف ِس ِد يَن ﴾[‪.]11‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -5‬وحفظ المال مقصد يحتاج إلى وقفة متأنية لعالقته الوطيدة برعاية البيئة والحفاظ على مقدراتها؛ فالمسلم مكلف شرعًا بالسعي لكسب المال الحالل من طرقه المشروعة‪ ،‬وإنفاقه على نفسه‬
‫وأهله دون سرف أو إقتار‪ ،‬وأداء حقه الشرعي في مصارفه المقررة‪ ،‬وال يجوز له أن يأكل مال غيره إال بوجه مشروع ورضا من صاحبه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ولفظ "المال" يطلق على كل ماله قيمة‪ :‬كاألرض والمتاع والحيوان والشجر والنقد ونحو ذلك‪ ،‬كما يطلق على ما يمكن أن يصير منتفعًا به [‪ ،]12‬كالسمك في الماء‪ ،‬والطير في الهواء‪ ،‬والحيوان‬
‫غير المستأنس‪ ،‬وما يمكن حيازته وتعبئته وضغطه من الماء والهواء والضوء وغير ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقد وجه اإلسالم إلى استعمال ما خلقه اهلل في الكون استعماًال متوازنًا بدون تقتير وال إسراف؛ حتى ال يكون هناك اعتداء على حقوق األجيال المستقبلة‪ ،‬واستنزاف لبعض الموارد الطبيعية‬
‫المكونة للبيئة‪َ ﴿ :‬ي ا َبِني َآ َد َم ُخ ُذ وا ِزيَنَت ُكْم ِع ْنَد ُكِّل َم ْس ِج ٍد َو ُكُلوا َو اْش َر ُبوا َو اَل ُت ْس ِر ُف وا ِإ َّنُه اَل ُي ِح ُّب اْلُم ْس ِر ِف يَن ﴾ [‪َ ﴿ ،]13‬و اَل َت ْج َع ْل َي َد َك َم ْغ ُلوَلًة ِإ َلى ُع ُنِق َك َو اَل َت ْبُس ْط َه ا ُكَّل اْلَبْس ِط َف َت ْق ُع َد َم ُلوًم ا‬
‫َم ْح ُس وًرا ﴾[‪" .]14‬وحفظ البيئة يوجب علينا أن نحافظ على المال بكل أجناسه وأنواعه‪ :‬نحافظ على موارده فال نتلفها بالسفه‪ ،‬ونستنزفها بال ضرورة وال حاجة معتبرة‪ ،‬وال نحسن تنميتها وال‬
‫صيانتها‪ ،‬فنتعرض للهالك والضياع‪ ،‬وال نسرف في استخدامها‪ ،‬فنضيعها قبل األوان" [‪.]15‬‬

‫‪ ‬‬

‫نخلص مما تقدم إلى أن مقاصد الشريعة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحماية البيئة والحفاظ عليها من االستنزاف أو التلف أو الفساد‪ ،‬وهذا ما تنبه إليه علماؤنا األوائل؛ فقد جاء في تفسير قوله تعالى‪﴿ :‬‬
‫َو اَل ُتْف ِس ُد وا ِف ي اَأْلْر ِض َبْع َد ِإْص اَل ِح َه ا ﴾ [‪ ]16‬ما يأتي‪" :‬هذا نهي عن إيقاع الفساد في األرض‪ ،‬وإدخال ماهيته في الوجود‪ ،‬فيتعلق بجميع أنواعه من إيقاع الفساد في األرض‪ :‬إفساد النفوس‬
‫واألنساب واألموال والعقول واألديان" [‪.]17‬‬

‫[‪ ]1‬الغزالي‪ ،‬المستصفى‪ ،‬طبعة الجندي‪ ،‬ص‪.251‬‬

‫[‪ ]2‬سورة الروم‪ :‬من اآلية ‪.30‬‬

‫[‪ ]3‬الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪.2/8 :‬‬

‫[‪ ]4‬ابن تيمية‪ ،‬مجموع الفتاوى‪.28/186 :‬‬

‫[‪ ]5‬سورة األنعام‪ :‬من اآلية ‪.38‬‬

‫[‪ ]6‬سورة إبراهيم‪.7 :‬‬

‫[‪]7‬سورة الروم‪.41 :‬‬

‫[‪ ]8‬سورة المائدة‪ :‬من اآلية ‪.32‬‬

‫[‪ ]9‬سورة الروم‪ :‬من اآلية ‪.41‬‬

‫[‪ ]10‬يوسف القرضاوي‪ ،‬رعاية البيئة في شريعة اإلسالم‪ ،‬ص‪.51‬‬

‫[‪ ]11‬سورة العنكبوت‪.30-28 :‬‬

‫[‪ ]12‬محمد يوسف موسى‪ ،‬األموال ونظرية العقد في الفقه اإلسالمي‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،1987 ،‬ص‪ 162‬وما أشار إليه من مراجع‪.‬‬

‫[‪ ]13‬سورة األعراف‪.31 :‬‬

‫[‪ ]14‬سورة اإلسراء‪.29 :‬‬

‫[‪ ]15‬يوسف القرضاوي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.51‬‬

‫[‪ ]16‬سورة األعراف‪ :‬من اآلية ‪.56‬‬

‫[‪ ]17‬أبو حيان‪ ،‬البحر المحيط‪.312-4/311 :‬‬

‫حقوق النشر محفوظة © ‪1444‬هـ ‪2023 /‬م لموقع األلوكة‬


‫آخر تحديث للشبكة بتاريخ ‪27/10/1444 :‬هـ ‪ -‬الساعة‪10:41 :‬‬

You might also like