Professional Documents
Culture Documents
FFAIACA
Fédération Française des Associations Islamiques
D’Afrique, des Comores et des Antilles
Al-Houjourat
أهداف البحث وأسئلته :يهدف البحث إلى إبراز اآلداب الواجبة للمسلم تجاه هللا ورسوله وتجاه أفراد
ألمجتمع والمذكورة في سورة ألحجرات وبيان أثر تطبيق $هذه اآلداب في المجتمع المسلم .فهو يسعى
لإلجابة على هذه األسئلة:
ما هي اآلداب الواجبة تجاه هللا ورسوله الواردة في سورة الحجرات؟ .1
ما هي اآلداب الواجبة تجاه أفراد المجتمع الواردة في سورة الحجرات؟ .2
ما أثر تطبيق $هذه اآلداب على المجتمع؟ .3
حدود البحث :حدود البحث هي الحديث عن اآلداب اإلسالمية في سورة ألحجرات وبيان أثرها على
المجتمع.
مقدمة : وفيها $أهمية الموضوع وأسباب اختياره وحدود البحث وخطته
تمهيد: فيه بيان معنى اآلداب لغة واصطالحا ، $والحديث عن السورة اسمها وعدد
آياتها ومقصدها و أغراضها$
المتن :تقسيم البحث لخمسة فصول ،و مباحث ،و مطالب و هي كما يلي:
1
التمهيد
وقفة مع مصطلح اآلداب الشرعية .1
ولآلداب تعريفات ع َّدة في اللغة واالصطالح ،نذ ُكر منها ما يهمُّنا في هذا المقال ،وهي كال َّتالي:
الفعل المستح َسن:
قال صاحب "آداب الصحبة"" :الهمزة وال َّدال والباء أصل واح$د تتف$رَّ ع مس$ائله وترج$ع إليْ$ه ،ف$األدب أن
َتجمع الناس على طعامك ،وهي المأ ُدوبة والمأدَب$$ة ،والم$$آدب جم$$ع مأدب$$ة ،ومن ه$$ذا القي$$اس األدَ ب؛ أل َّنه
مُجْ َمع على استحسانه".
الحس $ن :ف$$األدب الَّذي يت$$أ َّدب ب$$ه األديب من ال َّناسُ ،س $مِّي أد ًب$$ا أل َّنه ي$$أدب الن$$اس الَّذين
َ التعلُّم والس$$لوك$
يتعلَّمون على المحامد ،وينهاهم $عن المقابح ،ويأدبهم؛ $أي :يدعوهم ،وأصل األدب :الدعاء ،وأ َّدبه فت$$أ َّدب:
علَّمه؛ لذلك يُقال :هذا ما أ َّدب هللا تعالى به نبيَّه صلَّى هللا عليْه وسلَّم ،ولكل وجهة أدب[.]1
$ول هللا ص$لَّى هللا عليْ$ه وس$لَّم(( :أ َّدب$$ني ربِّي فأحْ َس$ن تْ$أديبي)) ،فيق$$ول: ويشرح $العاَّل مة المناوي $قول رسِ $
المكتسبة[.]2
َ األخالق الح َسنة ،والعلوم األدب هو ما يحصُل لل َّنفس من ْ
الفعل يليق بال َّشخص:
ومِن معانيها $أ َّنها ُتطلَق على ما يليق بال َّشيء أو ال َّشخص ،فيُقال :آداب ال َّشخص ،وآداب القاضي[.]3
المحامد؛ ففي شرح ال َّنوابغ :هو ما يؤ ِّدي بال َّناس المحامد ،وك ّل اآلداب متل َّقي$$ات عن رس$$ول هللا ص $لَّى هللا
عليْه وسلَّم؛ فإ َّنه مجمعها ظاهرً ا أو باط ًنا ،ث َّم قال :واألدب استعمال ما يُحمد قواًل وفعاًل [.]4
وفي" $فتح القدير" :األدب :الخِصال الحميدة ،والمراد $باألدب في قول الفُقهاء :كتاب أدب القاضي؛ أي :ما
ينبغي للقاضي أن يفعله ،ال ما عليه[.]5
اآلداب في مصطلح الفقهاء:
المستحبَّات ال يُسيء تاركها:
ُ ُ ً
يقسم الفقهاء على ما وراء الفرائض والواجبات :سُننا تاركها مسيء ،وآدابًا تاركها غي ُر مسيء[.]6
المستحبَّات يُسيء تار ُكها:
فقد يطلقونه على ال ُّس َّنة في جامع الرموز $في بيان العمرة ،وما سوى ذلك سُنن وآداب تار ُكها مسيء[.]7
وحُكي أنَّ حاتمًا األص َّم ق َّدم رجْ له اليسرى عند دخولِه المسجد ،فتغ َّير $لونه ،وخرج م$$ذعورً ا ،وقَّ $دم رجل$$ه
خفت أن يسْ لبني $هللا َجميع ما أعطاني. ُ ُ
تركت أدبًا مِن آداب الدين، اليُمنى ،فقيل :ما ذلك؟ فقال :لو
[ ]1أدب الصحبة البن عبدالرحمن السلمي ،تحقيق وتعليق /يوسف علي بديوي ( ،)15وانظر "لسان العرب" البن منظور.43/ 1 :
[ ]2فيض القدير :شرح الجامع الصغير للمناوي ،)225 ،224/ 1( :مطبعة مصطفى مح َّمدَّ ،
الطبعة األولى سنة .1356
[ ]3لسان العرب ،البن منظور.43/ 1 :
للزاوي.282/ 1 :[ ]4ترتيب القاموس المحيطَّ ،
[ ]5البحر الرائق :ج ،6ص ،277وقواعد الفقه :ج ،1ص .166
[ ]6مجمع األنهر في شرح ملتقى األبحر :ج ،1ص .390
[ ]7كتب ورسائل وفتاوى :ابن تيمية في الفقه :ج ،24ص .205
2
ما يفعلُه ال َّشارع مرَّ ة ويتركه مرَّ ة:
والسَّ $نة
ُّ وتر َك$$ه ُأخ$$رى، ففي البزازية في كتاب الصَّالة ،في الفصْ ل الثاني أنَّ :األدب ما َف َعله ال َّشارع مرَّ ة َ
والسَّ $نة إلكم$ال ال$واجب ،واألدب إلكم$ال ُّ شِ $رع إلكم$ال الف$رض، ما واظب عليه ال َّشارع ،وال$واجب م$ا ُ
ال ُّس َّنة[.]8
الورع:
فاألدبُ عند بعض أهْ ل ال َّشرع :الورع ،وعند أهل الحكمة :صيانة ال َّنفس.
الصدق ومطابقة الحقائق. ْ الخلق على بساط كما قال حكي ٌم :األدَب مُجالسة ْ
ما يقِي من الخطأ:
كما قال أهل ال َّتحقيق :األدب :الخروج مِن صدق االختِيار والتفرُّ غ على َيسار االفتقار ،وكذا في "خالصة
السلوك" في تعريفات الجرجانى أنَّ :األدب عبارة عن معرفة ما يُح َترز به عن جميع أنواع الخطأ ،وأدب
القاضي وهو التِزامه لما َندَب إليْه ال َّشرع مِن بسْ ط العدل ،ور ْفع $الظلم ،وترْ ك الميل[.]9
المستحبُّ عند ذوي األلباب:
َ الفعل
ِّ ُ
قال المرصفي :اعلم أنَّ األدب معرفة األحْ وال التي يكون اإلنسان المتخلق بها محبوبًا عند أولي األلب$$اب،
يخص$ه، ُّ الَّذين هُم ُأمناء هللا على أهل أرضِ ه ،مِن القول في موضعِه المناسب له ،ف$$إنَّ لك$$ل ق$$ول موضً $عا$
الش$اعر المش$$هور $بالحُطيئ$$ة :ف$$إنَّ لك$$ل بحيث ي ُكون وضْ ع غيره فيه خروجً ا $عن األدب ،كما ق$$ال ج$$رْ َول َّ
للص$مت موض$عً ا ،يك$ون الق$ول في$ه َّ مقام مقااًل ،ومِن الصَّمت وهو السكوت المقص$ود في موض$عه ،ف$إنَّ
خالف األدب ،يرشد على ذل$$ك قول$$ه ص$لَّى هللا عليْ$ه وس$لَّم(( :رحِم هللاُ ام$$رءًا ق$$ال خ$$يرً ا فغنم ،أو س$$كت
فسلِم))[.]10
والكالم المنبِّه على مواضع األقوال ،وعلى مواضع الصَّمت كث$$ير ،ومن األحْ $وال الَّتي يك$$ون التخلُّق به$$ا
ص$لَ َح َفَ$أجْ ُرهُ أدبًا :وضْ ع األفعال في مواضعها؛ $كما قال هللا تعالىَ ﴿ :و َج َزا ُء َس ِّيَئ ٍة َس ِّيَئ ٌة م ِّْثلُ َه$ا َف َمنْ َع َف$ا َوَأ ْ
َعلَى هَّللا ِ[ ﴾ الشورى.]40 :
فنبَّه سبحانه على أنَّ المطلوب الع ْفو المصْ لِح دون المفسد.
مراتب األدب:
أنبيائ$$ه ،وليس األدَ ب م$$ع تتفاوت م$$راتِبُ األدَب بحس$$ب المت$$أ َّدب مع$$ه ،فليس األدَب م$$ع هللا ك$$األدب م$$ع ِ َ
رسول هللا كاألدَب مع ساِئر ال َّناس ،وليس لل َّتعامل مع الناس أدبٌ واح ٌد ،بل للوالدَين أدبٌ خاصٌّ ،وللعلماء
والكبار $أدبٌ خاصٌّ ،وهكذا.
وكذلك لل َّتعامُل مع ال َّنفس آداب ،فمراتب األدَب أربعة ،هي :األدب مع هللا -األدب مع رس$$ول هللا
-األدب مع ال َّناس -.األدب مع ال َّنفس.
[ ]8أنيس الفقهاء :في تعريفات األلفاظ :المتداولة بين الفقهاء ::ج ،1ص .106
شاف اصطالحات الفنون لل َّ
شيخ األجل ِّ المولوي محمد أعلى بن علي النهانوي.54 ،53/ 1 : [ ]9ك َّ
َّ
[ ]10أخرجه ابن المبارك في الزهد ،128/ 1( :رقم ،)380وهناد ،535/ 2( :رقم .)1106
3
ً
أوال :األدب مع هللا:
فهو رْأس األمر وعموده ،وأه ُّم ما يقدمه العبد في دنياه ،قال ابن القيِّم" :األدب مع هللا ثالثة أنواع:
ُ ِّ
أح ُدها :صيان ُة معا َملتِه أن َيشو َبها بنقيصةٍ.
قلبه أن َيل َتفت إلى غيره.الثاني :صيانة ِ َّ
الثالث :صيانة إرادتِه أن تتعلَّق بما يمق ُتك عليْه". َّ
البصر إلى السَّماء في الصَّالة؛ لل َّنهي عن ذلك ،ومن األدب مع هللا: َ ث َّم قال" :ومِن األدب مع هللا عد ُم ر ْفع
يستدبره عند قضاء الحاج$$ة في الفض$$اء والبُني$$ان ،ومن األدَ ب م$$ع هللا :الس$$كون في ْ أن ال َيستق َبل ب ْي َته وال
الصَّالة ،وعدم االلتفات فيها ،واالستِماع $للقراءة في الصَّالة ،والمقص$$ود $أنَّ األدب م$$ع هللا تب$$ارك وتع$$الى
قط األدبُ مع هللا إاَّل بثالثة أشياء :معرفت$$ه هو القيا ُم بدينِه ،والتأ ُّدب بآدابه ظاهرً ا وباط ًنا ،وال يستقيم ألح ٍد ُّ
$قبأسمائه وصفاته ،ومعرفته بدينه وشرعه وما يُحبُّ وم$$ا يك$$ره ،ونفسٌ مس$$تع َّدة قابل$$ة متهيِّئ$$ة لقب$$ول الحِّ $
علمًا وعماًل "[.]11
ثانيًا :األدب مع رسول هللا صلَّى هللا عليْه وسلَّم:
قال ابن القيم" :وأمَّا األدب مع الرَّ سول صلَّى هللا عليْه وسلَّم فالقرآن مملو ٌء ب$$ه ،ف$$رْأسُ األدب مع$$ه كم$$ال
ال َّتسليم له ،واالنقِياد ألمره ،وتل ِّقي خبره بالقبول والتص$$ديق $دون معارض$$ته بالعق$$ل أو الش$$ك ،أو أن يقِّ $دم
هللا تع$$الى بالعب$$ادة والخض$$وع$ عليه آراء الرجال ،فيوحده بالتحكيم والتسليم $واالنقي$$اد $واإلذع$$ان كم$$ا وحَّ د َ
ُّ
والذ ِّل واإلنابة والتو ُّكل$.
إذن وال تص$$رُّ ف، ومن األدب مع الرَّ سول صلَّى هللا عليْه وسلَّم :أن ال يتق َّدم بين يدي$$ه ب$$أمْ ر وال نهي ،وال ٍ
حتى َي$أمُر ه$$و و َين َهى و َي$$أ َذن؛ كم$$ا ق$$ال تع$$الىَ ﴿ :ي$ا َأ ُّي َه$ا الَّذ َ
ِين آ َم ُن$$وا اَل ُت َقِّ $دمُوا َبي َْن َي$دَيِ هَّللا ِ َو َر ُس$ولِ ِه﴾
[الحجرات.]1 :
الظنُّ برف$ع اآلراء على ُسَّ $نته؟! ومن األدب أن ال األصوات فوق صوتِه ،فما َّ ُ ومن األدب معه أن ال ُترفع
ف َقبو ُل ما ج$$اء ب$$ه على موافق$$ة أح$$د ،فكُّ $ل يُعارض نصُّه بقياس ،وال يُحرف $كالمه عن حقيقته ،وال يُو َق َ$
هذا من قلَّة األدب معه صلَّى هللا عليْه وسلَّم ،وهو عين الجرْ أة…"[.]12
ثالثا :األدب مع الخلق: ً
هللا المالئكُ $ة ،وعلى المس$لِم أن يت$$أ َّدب معهم ،ومن خل$$ق ِ فال ب َّد من أن يُعامل ك َّل واحد بما يلي$$ق ب$ه ،ومِن ْ
ُّ
األدَب مع المالئكة مح َّب ُتهم ومواال ُتهم ،ومن األدَب مع المالئكة :البُع$$د عن ال$$ذنوب والمعاص$ي $وال$$رَّ وائح
يتأذى منه ابن آدم ،ومن األدب معهم االمتِناع عن ك ِّل ما َيمنع قُرب المالئك$$ة أو تتأذى ممَّا َّ الكريهة؛ أل َّنها َّ
والكلب والجرس ،وك$ذلك $ال تق$$رب المالئك$$ة ْ حضورهم مجال َسنا ،مثل الصورة وال ِّتمثال َ دخولهم $بيو َتنا أو
سكران أو ج ُنبًا إاَّل أن يتوضَّأ ،ومتش ِّبهًا بالنساء وغيرهم. َ
كذلك ال ب َّد أن يعامل ال َّناس كل واحد بما يليق به ،فهناك آدابُ ال َّتعامل مع الوال$$دَين ،وآدابٌ م$$ع األرْ ح$$ام،
الض $يف ،وآداب م$$ع وآدابٌ م$$ع الج$$ار المس $لِم ،وآدابٌ م$$ع العلم$$اء ،وآداب م$$ع وُ الة األم$$ر ،وآداب م$$ع َّ
الزوجين ،وآداب مع عامَّة المسلمين ،وآداب مع المخالِفين مِن أهل الب$$دع والفاس$$قين، األوالد ،وآداب بين َّ ْ
وكذلك آداب مع غير المسلمين.
4
الخلق ،فهو معامل ُتهم ِبما يليق بهم على اختِالف مراتبهم $،فلكِّ $ل مرتبٍ $ة أدبٌ ، قال ابن القيِّم" :أمَّا األدب مع ْ
صة ،فمع الوالدين أدبٌ خاصٌّ ،ولألب منهما أدب هو أخصُّ ب$ه ،وم$ع الع$الم أدب والمراتب فيها آداب خا َّ
$ال أدب :فلألك$$ل أدب$$ه م$$ع أهل$$ه ،ولكِّ $ل حٍ $
الض$يف أدب غ$$ير ِ َ
آخ $ر ،وم$$ع الس$$لطان أدب يلي$$ق ب$$ه ،وم$$ع َّ
آداب ،"...ث َّم قال" :وأدب المرء عنوان س$$عادته وفال ِح$$ه ،وقلَّة أدب$ه عن$وان ش$$قاوتِه و َب$$واره ،"...ث َّم ق$$ال:
الخلق أن ال يفرِّ ط في القيام بحقوقهم ،وال َيستغرق فيها بحيث َيش$$تغِل به$$ا عن حق$$وق هللا أو "ومن حقوق ْ
عن ت ْكميلها ،أو عن مصلحة دينه ْ
وقلبه.]13["...
رابعً ا :األدب مع النفس:
ْ َّ
وأدب اإلنسان مع نفسه متنوِّ ع متفاوت كذلك ،فمن األدب مع النفس السَّعْ ي إلى تزكيتها وإصالحِها$
حثها على ال َّتوبة واإلنابة والخشية الطاعات واألخالق ،ومن األدب مع ال َّنفس ُّ ومحاسبتها ،وتدريبها $على َّ
وغيرها ،وكذلك من األدَب مع النفس تدريبها $وإلزامها على اآلداب ال َّشرعيَّة.
.2اسم السورة
ت ،" ...يقLLول ْ َّ
سLLميت سLLورة الحجLLرات ،لقولLLه تعLLالى فيهLLا ِ " :إنَّ ال ِذينَ يُنَادُونَــكَ ِمن َو َراء ال ُح ُجـ َرا ِ
القاسمي " :وسميت بها لدالله آيتها على سلب إنسانية من ال يعظم رسول هللا غايLLة التعظيم ،وال يحترمLLه
غاية االحLترام ،وهLLو من أعظم مقاصLد القLرآن" ، وهLذا فهم دقيLLق وتعليLLل شLLفاف من القاسLLمي ،وكأنLLه
يقول :إن َم ْن يعاملون رسول هللا بهذه الغلظة والجفLLاء فقLLد تحجLLرت عقLLولهم وقلLLوبهم ،فهي كLLالحجرات
المغلقة المحجورة على َم ْن فيها ،أو هي كالحجارة التي تبنى منها الحجرات ،مصداقاً LلقولLLه تعLLالى " :ثُ َّم
ت قُلُوبُ ُكمِّ Lمن بَ ْع ِد َذلِكَ فَ ِه َي َك ْال ِح َجا َر ِة َأوْ َأ َش ُّد قَ ْس َوةً ...
قَ َس ْ
ومن كان هذا حاله فقد سُلب إنسانيته ،ويصبح ذلك سمة عامة لكل َم ْن لم يتخلLLق بLLأخالق السLLورة كاملLLة ،
وبهذا يظهر Lلنا وجه تسمية السورة بهذا االسم.
ثانيا ً :زمن نزولها اجمع المفسرون على مدنية هذه السورة) ،فهي مما نزل بعد الهجرة ،أما قوله
شعُو ًباَ $و َقبَاِئ َل )" ...فإنها نزلت بمكة يوم تعالى َ " :يا َأ ُّي َها ال َّناسُ ِإ َّنا َخلَ ْق َنا ُكم مِّن َذ َك ٍر َوُأن َثى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ
فتحها ،لكن حكمها مدني ،ألنها نزلت في سورة مدنية ،وقد نزلت اآلية نفسها بعد الهجرة ،فهي من
اآليات التي نزلت بمكة وحكمها $مدني
في سورة الحجرات ،عدة آيات نزلت ألسباب مختلفة ،وإليك بيانها:
فأما أول السورة الكريمة ،قال هللا تعالى( :يَا َأيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل تُقَ ِّد ُموا بَ ْينَ يَد ِ
َي هَّللا ِ َو َرسُولِ ِه َواتَّقُوا
ت النَّبِ ِّي َواَل تَجْ هَرُوا Lلَهُ صوْ ِ ق َ هَّللا َ ِإ َّن هَّللا َ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم * يَا َأيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل تَرْ فَعُوا َأصْ َواتَ ُك ْLم فَوْ َ
ُون * ِإ َّن الَّ ِذينَ يَ ُغضُّ ونَ َأصْ َواتَهُْLم ِع ْن َد ْض َأ ْن تَحْ بَطَ َأ ْع َمالُ ُك ْم َوَأ ْنتُ ْم اَل تَ ْش ُعر َL
ض ُك ْم لِبَع ٍ بِ ْالقَوْ ِل َك َجه ِْر بَ ْع ِ
ك ِم ْن ُول هَّللا ِ ُأولَِئكَ الَّ ِذينَ ا ْمتَ َحنَ هَّللا ُ قُلُوبَهُ ْم لِلتَّ ْق َوى لَهُ ْم َم ْغفِ َرةٌ َوَأجْ ٌر ع ِ
َظي ٌم * ِإ َّن الَّ ِذينَ يُنَادُونَ َ َرس ِ
ُ هَّللا
ُج ِإلَ ْي ِه ْم لَ َكانَ خَ ْيرًا لَهُ ْم َو ُ َغفو ٌر صبَرُوا َحتَّى ت َْخر َ َأ ُ
ت كثَ ُرهُ ْم اَل يَ ْعقِلونَ * َولَوْ نَّهُ ْم َ ْ َأ ْ
َو َرا ِء ال ُح ُج َرا ِ
َر ِحي ٌم ) .الحجرات5-1/
5
فنزل في قصة أبي بكر وعمر .
ي هَّللا ُ َع ْنهُ َماَ ،رفَ َعا َأصْ َواتَهُ َما ِع ْن َدض َLان َأ ْن يَ ْهلِ َكا َأبُو بَ ْك ٍر َو ُع َم ُر َر ِ
ف َع ِن اب ِْن َأبِي ُملَ ْي َكةَ ،قَا َلَ " :كا َد الخَ يِّ َر ِ
س َأ ِخي بَنِي ع Lب ِْن َحابِ ٍار َأ َح ُدهُ َما بِاَأل ْق َر ِ
صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم ِحينَ قَ ِد َم َعلَ ْي ِه َر ْكبُ بَنِي تَ ِم ٍيم ،فََأ َش َL
النَّبِ ِّي َ
ال َأبُو بَ ْك ٍر لِ ُع َم َرَ :ما َأ َردْتَ ِإاَّل ِخالَفِي ،قَ َ
ال: ُم َجا ِش ٍعَ ،وَأ َشا َر اآل َخ ُر بِ َرج ٍُل آ َخ َر -قَا َل نَافِ ٌع الَ َأحْ فَظُ ا ْس َمهُ -فَقَ َ
ك ،فََأ ْنزَ َل هَّللا ُ( :يَا َأيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا الَ تَرْ فَعُواَ Lأصْ َواتَ ُك ْم)
ت َأصْ َواتُهُ َما Lفِي َذلِ َ ت ِخالَفَكَ فَارْ تَفَ َع ْ َما َأ َر ْد ُ
[الحجرات " ]2 :اآليَةَ .
عن البراء بن عازب ،في قوله تعالى( :إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم ال يعقلون)
[الحجرات ]4 :قال :قام رجل فقال :يا رسول Lهللا إن حمدي زين وإن ذمي شين ،فقال النبي صلى هللا عليه
وسلم :ذاك هللا عز وجل ،رواه الترمذي ،)387 /5( :وقال :هذا حديث حسن غريب.
ت َأ ْكثَ ُرهُ ْم اَل
َك ِم ْن َو َرا ِء ْال ُحج َُرا ِ
وفي Lمسند الروياني ( ( : )307فََأ ْن َز َل هَّللا ُ تَ َعالَى (ِإ َّن الَّ ِذينَ يُنَادُون َL
يَ ْعقِلُونَ ) ) .فصرح بأنها سبب النزول .
ث لِيَ ْقبِ َ
ض َما َكانَ ِع ْن َدهُ ِم َّما َج َم َع ِمنَ صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم ْال َولِي َد ْبنَ ُع ْقبَةَ ِإلَى ْال َح ِ
ار ِ ث َرسُو ُل هللاِ َ َوبَ َع َ
صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم، ُول هللاِ َيق ،فَ ِرقَ ،فَ َر َج َع ،فََأتَى َرس َL ْض الطَّ ِر ِ ال َّز َكا ِة ،فَلَ َّما َأ ْن َسا َر ْال َولِي ُد َحتَّى بَلَ َغ بَع َ
ث َمنَ َعنِي ال َّز َكاةََ ،وَأ َرا َد قَ ْتلِي !! ار َ َوقَا َل :يَا َرسُو َل هللاِِ ،إ َّن ْال َح ِ
6
ث بَِأصْ َحابِ ِه ِ ،إ ْذ ا ْستَ ْقبَ َل ْالبَع َ
ْث ، ث ،فََأ ْقبَ َل ْال َح ِ
ار ُ ْث ِإلَى ْال َح ِ
ار ِ صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم ْالبَع َ ب َرسُو ُل هللاِ َ ض َر َLفَ َ
ث !! ث ،فَقَالُوا :هَ َذا ْال َح ِ
ار ُ ار ُ ص َLل ِمنَ ْال َم ِدينَ ِة ،لَقِيَهُ ُم ْال َح َِوفَ َ
ال لَهُ ْمِ :إلَى َم ْن بُ ِع ْثتُ ْم؟ قَالُواِ :إلَ ْيكَ ،قَ َ
الَ :ولِ َم؟ فَلَ َّما َغ ِشيَهُ ْم ،قَ َ
ك ْال َولِي َد ْبنَ ُع ْقبَةَ ،فَزَ َع َم َأنَّكَ َمنَ ْعتَهُ ال َّز َكاةََ ،وَأ َردْتَ صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم َكانَ بَ َع َ
ث ِإلَ ْي َ ُول هللاِ َ قَالُواِ :إ َّن َرس َ
ث ُم َح َّمدًا بِ ْال َحقَِّ ،ما َرَأ ْيتُهُ بَتَّةًَ ،واَل َأتَانِي . قَ ْتلَهُ !! قَا َل :اَل َ ،والَّ ِذي بَ َع َ
صلَّى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم ،قَا َلَ " :منَعْتَ ال َّز َكاةََ ،وَأ َردْتَ قَ ْت َل َرسُولِي؟ " قَا َل:ث َعلَى َرسُو ِل هللاِ َ ار ُفَلَ َّما َد َخ َل ْال َح ِ
صلَّى هللاُ
ُول هللاِ َ
ي َرسُو ُل َرس ِ س َعلَ َّ ت ِإاَّل ِحينَ احْ تَبَ َق َما َرَأ ْيتُهَُ ،واَل َأتَانِيَ ،و َما َأ ْقبَ ْل ُ
اَل َ ،والَّ ِذي بَ َعثَكَ بِ ْال َح ِّ
َت َس ْخطَةً ِمنَ هللاِ َع َّز َو َجلََّ ،و َرسُولِ ِه. يت َأ ْن تَ ُكونَ َكان َْش ُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم ،خ ِ
صيبُوا قَوْ ًما بِ َجهَالَ ٍة ،فَتُصْ بِحُوا َعلَى َما فَ َع ْلتُ ْم
ق بِنَبٍَأ فَتَبَيَّنُوا َأ ْن تُ ِ ات (يَا َأيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ِإ ْن َجا َء ُك ْم فَ ِ
اس ٌ ت ْال ُح ُج َر ُ
ال :فَنَ َزلَ ِ
قَ َ
نَا ِد ِمينَ ) [الحجراتِ ]6 :إلَى هَ َذا ْال َم َكا ِن( :فَضْ اًل ِمنَ هللاِ َونِ ْع َمةً َوهللاُ َعلِي ٌم َح ِكي ٌم) [الحجرات. ]8 :
والحديث المذكور Lوإن كان في إسناده مقال ،إال أنه مشهور سائر بين أهل العلم .
قال محققو المسند ( " : )30/405حسن بشواهده ،دون قصة إسالم الحارث" .
َت ِإحْ دَاهُ َما َعلَى اُأْل ْخ َرىL (وِإ ْن طَاِئفَتَا ِن ِمنَ ْال ُمْؤ ِمنِينَ ا ْقتَتَلُوا Lفََأصْ لِحُوا بَ ْينَهُ َما فَِإ ْن بَغ ْ قال هللا تعالىَ :
ت فََأصْ لِحُوا Lبَ ْينَهُ َما بِ ْال َع ْد ِل َوَأ ْق ِسطُواِ Lإ َّن هَّللا َ ي ُِحبُّ
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَ ْب ِغي َحتَّى تَفِي َء ِإلَى َأ ْم ِر هَّللا ِ فَِإ ْن فَا َء ْ
ْال ُم ْق ِس ِطينَ (.))9
عن أنس رضي هللا عنه ،قال :قيل للنبي صلى هللا عليه وسلم :لو أتيت عبد هللا بن أبي ،فانطلق إليه النبي
صلى هللا عليه وسلم وركب حمارا ،فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة ،فلما أتاه النبي
صلى هللا عليه وسلم ،فقال :إليك عني ،وهللا لقد آذاني نتن حمارك ،فقال رجل من األنصار منهم :وهللا
لحمار رسول هللا صلى هللا عليه وسلم Lأطيب ريحا منك ،فغضب لعبد هللا رجل من قومه ،فشتمه ،فغضب
لكل واحد منهما أصحابه ،فكان بينهما ضرب بالجريد Lواأليدي والنعال ،فبلغنا أنها أنزلت( :وإن طائفتان
من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا Lبينهما) [الحجرات ،]9 :رواه البخاري.(183 /3( L:
قول هَّللا تعالى( :يَا َأيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل يَ ْسخَرْ قَوْ ٌLم ِم ْن قَوْ ٍم َع َسى َأ ْن يَ ُكونُوا خَ ْيرًا ِم ْنهُ ْم َواَل نِ َسا ٌء ِم ْن
س ااِل ْس ُم ْالفُسُو ُL
ق بَ ْع َد نِ َسا ٍء َع َسى َأ ْن يَ ُك َّن خَ ْيرًا ِم ْنه َُّن َواَل ت َْل ِم ُزوا َأ ْنفُ َس ُك ْم َواَل تَنَابَ ُزوا بِاَأْل ْلقَا ِ
ب بِْئ َ
ك هُ ُم الظَّالِ ُمونَ [الحجرات.]11 : اِإْل ي َما ِن َو َم ْن لَ ْم يَتُبْ فَُأولَِئ َL
ال :قَ ِد َم ب) [الحجرات ]11 :قَ َ (واَل تَنَابَ ُزوا بِاَأْل ْلقَا ِ
ت فِي بَنِي َسلِ َمةَ َ ال :فِينَا نَزَ لَ ْ
ك قَ َضحَّا ِ يرةَ بْنُ ال َّ عن أبي َجبِ َ
َأ ٌ َأ
ْس ِمنَّا َر ُج ٌل ِإاَّل َولَهُ ا ْس َما ِن وْ ثَاَل ثَة ،فَ َكانَ ِإ َذا َدعَا َحدًا ِم ْنهُ ْم ْ َّ
صلى هللاُ َعلَ ْي ِه َو َسل َم ال َم ِدينَةََ ،ولَي َ َّ َرسُو ُل هللاِ َ
ب) رواه ْ َأْل
تَ ( :واَل تَنَابَ ُزوا Lبِا لقَا ِ ضبُ ِم ْن هَ َذا :قَا َل :فَنَزَ لَ ْ ُ
ك ا ْس َما ِء ،قَالوا :يَا َرسُو َل هللاِ ِإنَّهُ يَ ْغ َ َأْل بِاس ٍْم ِم ْن تِ ْل َ
أحمد ،)18288( :وأبو داود ، )4962( :وصححه األلباني .
7
حديثه :فأنزل Lهللا جل وعز (يمنون عليك أن أسلموا) [الحجرات ]17 :اآلية ،رواه النسائي في الكبرى( :
.)11455
.4فضل السورة
هLLذه الســورة محكمLLة ،ليس فيهLLا ناسLLخ وال منسLLوخ ،آياتهLLا ثمLLان عشLLرة ،وكلماتهLLا LثالثمائLLة وثالث
وأربعون ،وحروفها Lألف وأربعمائة وأربع وسبعون حرفا ً . يقول القاسLLمي " :وقLد LانفLLردت هLLذه السLLورة
بآداب جليلة ،أدب هللا بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيه
هي مجموعة اآلداب والقيم والمبادئ $السامية التي يعتقدها اإلنسان ،ويتربى $عليه$$ا ،ويمارس$$ها م$$ع ذات$$ه
ومع اآلخرين حتى تصبح سمة لصاحبها ،يتسامى بها إلى األعالي" .
الفصل األول
المبحث األول :األدب مع هللا جل جالله ومع رسوله:
8
المطلب األول : تحلي الفرد المسلم بِاألدب مع هللا جل جالله
قال ابن سعدي" :هذا متضمن لألدب مع هللا تعالى ،ومع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،
والتعظيم له ،واحترامه ،وإكرامه ،فأمر هللا عباده المؤمنين ،بما يقتضيه اإليمان ،باهلل وبرسوله،
من امتثال أوامر $هللا ،واجتناب نواهيه ،وأن يكونوا ماشين خلف أوامر هللا ،متبعين لسنة رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،في جميع أمورهم ،وأن ال يتقدموا بين يدي هللا ورسوله ،وال يقولوا
حتى يقول ،وال يأمروا $حتى يأمر ،فإن هذا حقيقة األدب الواجب مع هللا ورسوله ،وهو عنوان
سعادة العبد وفالحه ،وبفواته ،تفوته السعادة األبدية ،والنعيم السرمدي ،وفي هذا النهي الشديد
عن تقديم قول غير الرسول صلى هللا عليه وسلم على قوله ،فإنه متى استبانت سنة رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم ،وجب اتباعها ،وتقديمها $على غيرها ،كائنا ما كان"([)]1
سولِهِ} .قال ابن القيم رحمه هللا" :والقول قال تعالى{ :يَا َأيُّ َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل تُقَ ِّد ُموا بَيْنَ يَد ِ
َي هَّللا ِ َو َر ُ
الجامع في معنى اآلية :ال تعجلوا بقول وال فعل قبل أن يقول رسول Lهللا -صلى هللا عليه وسلم -أو
يفعل")]2[( .
وقال ابن سعدي عند تفسيره لهذه اآلية" :وهذا أدب مع رسول Lهللا صلى هللا عليه وسلم ،في خطابLLه ،أي :ال
يرفع المخاطب له ،صوته معه ،فوق LصLLوته ،وال يجهLLر لLLه بLLالقول ،بLLل يغض الصLLوت ،ويخاطبLLه بLLأدب
ولين ،وتعظيم Lوتكريم ،وإجالل وإعظام ،وال يكون الرسول كأحدهم ،بل يميزوه في خطابهم ،كما تميز عن
غيره ،في وجوب حقه على األمة ،ووجوب Lاإليمان بLLه ،والحب الLLذي ال يتم اإليمLLان إال بLLه ،فLLإن في عLLدم
القيام بذلك ،محذورًا ،وخشية أن يحبط عمل العبد وهو ال يشعر ،كمLLا أن األدب معLLه ،من أسLLباب حصLLول
الثواب وقبLLول LاألعمLLال .ثم مLLدح من غض صLLوته عنLLد رسLLول هللا صLLلى هللا عليLLه وسLLلم ،بLLأن هللا امتحن
قلوبهم Lللتقوى ،أي :ابتالها واختبرها ،فظهرت Lنتيجة ذلك ،بأن صلحت قلوبهم للتقوى ،ثم وعLLدهم المغفLLرة
لذنوبهم L،المتضمنة لزوال الشر والمكروه ،واألجر العظيم ،الذي ال يعلم وصLLفه إال هللا تعLLالى ،وفي األجLLر
العظيم وجود LالمحبLLوب وفي هLLذا دليLLل على أن هللا يمتحن القلLLوب بLLاألمر والنهي Lوالمحن ،فمن الزم أمLLر
هللا ،واتبع رضاه ،وسارع Lإلى ذلك ،وقدمه على هواه ،تمحض وتمحص للتقLLوى ،وصLLار LقلبLLه صLLالحًا لهLLا
ومن لم يكن كذلك ،علم أنLه ال يصLلح للتقLوى"([ .)]3واألدب مLع الرسLول صLلى هللا عليLه وسLلم يقتضLي
محبته ،وطاعته ،وتوقيره ،وعدم التقديم بين يديه ،وخفض الصLLوت عنLLده ،والتمسLLك بسLLنته ،واإلكثLLار Lمن
الصالة عليه ،وإكرام Lأهل بيته ،ومحبة أصحابه ،وما إلى ذلك مما يجب تجاهه عليه الصالة والسالم.
قال ابن القيم :ومن األدب معه :أن ال ترفع األصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط األعمال فما الظن برفع
اآلراء ونتائج األفكار Lعلى سنته وما جاء به أترى ذلك موجبا لقبول األعمLLال ورفLع LالصLLوت فLLوق صLLوته
موجبا لحبوطها)]4[(.
وقال في كتاب آخر" :فإذا كان رفع أصواتهم Lفوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقLLولهم
وأذواقهم Lوسياستهم Lومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه أليس هذا أولى أن يكون محبطا ألعمالهم"
ول بَ ْينَ ُك ْم َكُ Lدعَا ِء ومن األدب معه :أن ال يجعLLل دعLLاءه كLLدعاء غLLيره؛ قLLال تعLLالى{ :اَل تَجْ َعلُLLوا ُد َعLLا َء الر ُ
َّسِ L
ض ُك ْLم بَ ْعضًا}[النور .]63 :وفيه قوالن للمفسرين أحدهما :أنكم ال تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا بَ ْع ِ
بل قولوا L:يا رسول هللا ،يا نبي هللا ،فعلى هذا :المصدر مضاف إلى المفعول ،أي دعاءكم الرسولL.
9
الثاني :أن المعنى ال تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا ،إن شLLاء أجLLاب وإن شLLاء تLLرك ،بLLل إذا
دعاكم لم يكن لكم بد من أجابته ،ولم يسعكم Lالتخلف عنها البتة ،فعلى هذا :المصدر مضLLاف Lإلى الفاعLLل أي
دعاؤه إياكم.
ومن األدب معه :أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو ربLLاط لم يLLذهب أحLLد منهم مLLذهبا
في حاجته حتى يستأذنه؛ كما قال تعالىِ{ :إنَّ َما ْال ُمْؤ ِمنُونَ الَّ ِذينَ آ َمنُوا بِاهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َوِإ َذا َكانُوا َم َعهُ َعلَى َأ ْم ٍ
LLر
َجا ِم ٍع لَ ْم يَ ْذهَبُوا َحتَّى يَ ْستَْأ ِذنُوهُ}[النور .]62 :فإذا كان هذا مذهبا مقيدا بحاجة عارضة لم يوسLLع لهم فيLLه إال
بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين :أصوله وفروعه دقيقه وجليله هLLل يشLLرع الLLذهاب إليLLه بLLدون
استئذانه{ :فَا ْسَألُوا َأ ْه َل ال ِّذ ْك ِر ِإ ْن ُك ْنتُ ْم اَل تَ ْعلَ ُمونَ }[النحل.]43 :
ومن األدب معه :أن ال يستشكل قوله بل تستشكل اآلراء لقوله وال يعارض نصه بقيLLاس بLLل تهLLدر األقيسLLة
وتلقى لنصوصLLه وال يحLLرف كالمLLه عن حقيقتLLه لخيLLال يسLLميه أصLLحابه معقLLوال ،نعم هLLو مجهLLول وعن
الصواب معزول ،وال يوقف قبول مLا جLاء بLه على موافقLة أحLد ،فكLل هLذا من قلLة األدب معLه وهLو عين
الجرأة"[]5
10
قبل الدخول في أثراآليات في المحافضة على المجتمع سأذكر $سبب نزولها الذي يعين على فهمها،
وسوف أقتصرعلى الصحيح من أسباب النزول ،تناولت اآليات ثالثة قضايا $و هي كما يلي:
المطلب الثاني :تحريم رفع الصوت واألمر بغضِّه بين يدي النبي صلى هللا عليه وسلم
عن ابن أبي مليكة قال" :كاد الخيِّران أن يهلكا أبو بكر وعمر – رضي هللا عنهما – رفعا أصواتهما $عند
النبي صلى هللا عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما باألقرع بن حابس رضي هللا
عنه ،وأشار اآلخر برجل آخر ،فقال أبو بكر لعمر – رضي هللا عنهما :-ما أردت إال خالفي ،قال :ما
ِين آ َم ُنوا ال َترْ َفعُوا َأصْ َوا َت ُك ْم
أردت خالفك ،فارتفعت أصواتهما $في ذلك فأنـزل هللا – تعالى َ ( :-يا َأ ُّي َها الَّذ َ
ت ال َّن ِبيِّ ) (الحجرات :من اآلية ”)2البخاري$ َف ْو َ$ق َ
ص ْو ِ
التفسير :
بقول أو بفعل.
ٍ والمراد $:ال تسبقوا هللا ورسوله
ومعنى }$واتقوا هللا{ أي اتخذوا وقاية من عذاب هللا – عز وجل – وهذا ال يتحقق إال إذا قام اإلنسان بفعل
األوامر $وترك $النواهي.
}إن هللا سميع عليم{ هذه الجملة تحذير لنا أن نقع فيما نهانا عنه من التق ُّدم بين يدي هللا ورسوله ،أو أن
نخالف ما أمر به من تقواه .
} عليم { أي عليم بما تقولون وما تفعلون؛ ألن العلم أشمل وأعم ،إذ إن السمع يتعلق بالمسموعات ،والعلم
يتعلق بالمعلومات ،وهللا تعالى محيط بكل شيء علماً ،ال يخفى عليه شيء في األرض وال في السماء
والمعنى : $ال تتقدموا بهذه اآلراء التي تختلفون فيهاَ ﴿ بي َْن َيدَيِ هَّللا ِ َو َرسُولِه﴾ قبل أن يرى النبي صلى هللا
عليه وسلم رأيه.
11
النص (أي كالم هللا وكالم رسوله)ال لرد النص ،وإذا لم تستوعب عقولنا الفهم الصحيح للنص نتهم
عقولنا وال نتهم النص .
وكذلك أيضا ال تقدموا حكمكم وال رأيكم قبل أن تعرضوا األمر على شرع هللا تعالى .
وإذا تأملنا قول هللا تعالى( :الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع
البصرهل ترى من فطور*ثم $ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر $خاسئا وهو حسير)
إذا تأملناها نجد من الجالل والمهابة ما يبهرنا ،وكما يخسأ البصر أن يجد خلال في صنع هللا ،يخسأ العقل
أن يجد خلال في شرع هللا تعالى وفعله
فمن يدعي مخالفة شيء من الشرع للعقل فإما أن يكون ليس من الشرع ،أو يكون العقل فاسدا{ $ويرى
الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} وقال تعالى {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق
كمن هو أعمى}فمن زين له عقله أن في الشرع خلال ونقصا فهو أعمى فاسد العقل وإن ظن أنه مفكر .
ت ال َّن ِبيِّ ) الحجرات :من اآلية2 ِين آ َم ُنوا ال َترْ َفعُوا َأصْ َوا َت ُك ْ$م َف ْو َق َ
ص ْو ِ قوله – تعالى َ ( :-يا َأ ُّي َها الَّذ َ
أي ال تخاطبوه :يا محمد ،يا محمد ،ولكن يا نبي هللا ،ويا رسول هللا ،توقيرا له وتعظيما $وما ذكره
العلماء هو في حياة الرسول صلى هللا عليه وسلم $أما بعد وفاته فاألدب عند الكالم عنه فال يقال قال
محمد ؛ حيث إن ذلك من الجفاء وسوء األدب وإنما قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهكذا .
ومعنى $اآلية :ال تجهروا $بالكالم الذي فيه شيء من الجفاء أو نحو ذلك؛ كما يجهر بعضكم $لبعض ،بل
غضوا أصواتكم عنده ،وال ترفعوا $صوتكم؛ فإن في ذلك شيًئ ا من الجفاء ،وشيًئ ا من غلظ الطبع
فكانوا $إذا تكلم أحدهم ال يكاد يُسمع النبي صلى هللا عليه وسلم حرصا منهم على التأدب ،وخوفا $من حبوط
األعمال.
)تحبط ( يعني :تبطل أعمالكم؛ بسبب رفعكم $أصواتكم عند النبي صلى هللا عليه وسلم $مما يدل على عدم
االحترام $له ،وعدم اإلصغاء إلى كالمه .
قال ابن عباس – رضي هللا عنهما :-لما نـزل قوله) :ال َترْ َفعُوا َأصْ َوا َت ُك ْ$م ( تألّي( حلف يمينا )أبو
بكر أال يكلم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إال كأخي السرار (كصاحب السرار َأي يكلمه بصوت
ُّون َأصْ َوا َت ُه ْ$م …).. منخفض )،فأنـزل هللا في أبي بكرِ( :إنَّ الَّذ َ
ِين َي ُغض َ
﴿ امْ َت َح َن هَّللا ُ قُلُو َب ُه ْم ﴾االمتحان :االختبارأو بمعنىخلّص ،فكما أن امتحان الذهب بالنار يخلصه من شوائب
أي معدن آخر.
إذاً :قلوبهم أصبحت أوعية للتقوى ،وليس في قلوبهم $شي ٌء آخر قط غيرها ،فطهرت ونقت ،وتعطرت$
واستقبلت التقوى في تربة خصبة خالصة ال تشوبها $شوائب أخرى.
12
﴿ لِل َّت ْق َوى ﴾ أي :لتقوى هللا تعالى؛ فلما امتحنها ظهر أنها ممتلئة بالتقوى ،ودل على ذلك غضهم أصواتهم
عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وعدهم هللا في هذه اآليات بقوله:
﴿لَ ُه ْم َم ْغف َِرةٌ َوَأجْ ٌر عَظِ ي ٌم ﴾المغفرة :ستر الذنوب ،وإزالة أثرها.
عمل عمله.
ٍ واألجر :الثواب الذي يحصل عليه المؤمن مقابل
سبب نـزولها:
قال ابن كثير :ذكر أنها نـزلت في األقرع بن حابس التميمي رضي هللا عنه فيما أورده غير واحد ،فقد
روى $اإلمام أحمد بسنده عن األقرع بن حابس "أنه نادى رسول $هللا صلى هللا عليه وسلم فقال :يا محمد يا
محمد ،فلم يجبه ،فقال :يا رسول $هللا صلى هللا عليه وسلم إن حمدي لزين وإن ذمي لشين ،فقال ذاك هللا
عز وجل .
والحجرات جمع حجرة ،وهي الرقعة من األرض المحجورة بحائط يحوط $عليها ،فأصل كلمة الحجرة من
الحجر والحجر المنع ،وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه.
والمراد $حجرات نساء رسول $هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،وكان لكل واحدة منهن حجرة .ومناداتهم $من
ورائها $يحتمل أنهم قد تفرقوا $على الحجرات منادين عليه.
}أكثرهم ال يعقلون { يعني ليس عندهم عقل ،والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ ألن العقل عقالن :عقل
رشد ،وعقل تكليف ،فأما عقل الرشد فضده السفه ،وأما عقل التكليف فضده الجنون،
في الحديث « :إذا استأذن أحدكم ثالث مرات فلم يؤذن له؛ فلينصرف » فيمكن أن هؤالء كرروا$
االستئذان :يا محمد يا محمد ،وهم يستأذنونه ويقولون :اخرج إلينا؛ فلذلك ما صبروا.
﴿ َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َرحِي ٌ$م ﴾ وعدهم بالمغفرة مع ما حصل منهم من هذا الجفاء ،وذلك دليل على أن هللا تعالى
تسبق رحمته غضبه ؛ كتب على نفسه » :إن رحمتي غلبت غضبي«
13
لقد كثر المتعالمون في عصرنا ،وأصبحت تجد شابا حدثا يتصدر لنقد العلماء وتجريحهم $والتطاول عليهم
،وهذا أمر خطير ،ألن جرح العالم ليس جرحا شخصيا ،كأي رجل ،ولكنه جرح بليغ األثر ،يتعدى
الحدود الشخصية ،إلى رد ما يحمله العالم من الحق.
ولذلك استغل المشركون من قريش هذا األمر ،فلم يطعنوا في اإلسالم أوال ،بل طعنوا في شخص
الرسول ،صلى هللا عليه وسلم ألنهم يعلمون – يقينا – أنهم إن استطاعوا أن يشوهوا صورة الرسول
صلى هللا عليه وسلم في أذهان الناس ،فلن يقبلوا ما يقوله من الحق.
ومن جرح هذا العلم ،فقد جرح إرث النبي ،صلى هللا عليه وسلم وعلى ذلك فهو يطعن في اإلسالم من
حيث ال يشعر.
فيجب علينا أن نحفظ للعلماء مكانتهم ،وفاعليتهم في قيادة األمة ،وأن نتأدب معهم .
ونحن نعلم أنه ال معصوم $إال من عصم هللا وهم األنبياء والمالئكة ؛ وعلى ذلك فيجب أن ندرك أن العالم
معرض للخطأ ،فنعذره حين يجتهد فيخطئ ،وال نذهب نتلمس أخطاء العلماء ونحصيها عليهم.
وندرك $أن الخالف موجود ؛لذلك يجب أن تتسع صدورنا للخالف بين العلماء فلكل واحد منهم فهمه،
ولكل واحد إطالعه على األدلة ،ولكل واحد نظرته في مالبسات األمور ،فمن الطبيعي أن يوجد $الخالف
بينهم
وينبغي $أن نعرف أن عدم األخذ بقول العالم ،وأن مناقشته ،والصدع $ببيان الحق ،يختلف تماما عن الطعن
في العلماء
فالفرق $بين األمرين عَظِ ي ٌم جدا ،يجوز لنا أال نأخذ بالفتوى ،إذا لم توافق $الدليل ،لكن ال يجوز لنا الطعن
في العلماء
في هذه اآليات تربية من هللا عز و جل للفرد المسلم أن يتحلى باألدب معه و مع نبيه صلى هللا عليه
وسلم و ورثته صلى هللا عليه وسلم ،و بدأت بالنداء المحبب إلى النفوس والذي يلهب المشاعرو يوقظ
الظمائر و يبعث العبد إلى اإلنقياد و التنفيذ ،و ذلك لما تشثمل عليه اآليات من بناء للفرد و المجتمع ،و
تربية للفرد على مكارم األخالق و معالي اآلداب.
الفصل الثاني
المبحث األول :وجوب التثبت من األخبار
ويمثل عصرنا الحاضر $عصراً ذهبيا ً لرواج الشائعات المغرضة، ّ تتطوّ ر الشائعات بتطور $العصور،
ّ
وما ذاك إال لتطوّ ر التقنيات ،وكثرة وسائل االتصاالت ،التي مثلت العالم قرية كونية واحدة ،فآالف$
الوسائل اإلعالمية ،والقنوات الفضائية ،والشبكات المعلوماتية( االنترنت ) َ تتولّى نشر الشائعات
المغرضة ،والحمالت اإلعالمية.
.عن المغيرة بن شعبة رضي هللا عنه عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ” :إنَّ هللا حرم عليكم عقوق األمهات،
ووأ َد البنات ،ومنعا ً وهات ،وكره لكم قيل وقال ،وكثرة السؤال ،وإضاعة المال ” متفق عليه .
14
وإن من أولى الخطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الخوف من هللا ،والتثبت في األمور ،فالمسلم ال
ينبغي أن يكون أذنا لكل ناعق ،بل عليه التحقق والتب ّين ،وطلب البراهين الواقعية ،واألدلّة الموضوعية ،والشواهد
العملية ،وبذلك ُيسدّ الطريق أمام األدعياء ،الذين يعملون خلف الستور ،ويلوكون بألسنتهم كل قول وزور.
(إذ تلقونه بألسنتكم ) ومن البديهي أن اإلنسان يتلقى األخبار بسمعه ال بلسانه ،و لكن أولئك النفر من
الصحابة الذين وقعوا في اإلفك لم يستعملوا التفكير ،لم يمروا ذلك الخبر على عقولهم ليتدبرا فيه ،بل
قال هللا عنهم أنهم يتلقون حادثة اإلفك بألسنتهم ثم يتكلمون بها بأفواههم من شدة سرعتهم في نقل
الخبر و عدم التفكر فيه.
15
.والعاقل يعلم أنه ليس كل ما يسمع يقال
.و ال كل ما يعلم يصلح لإلشاعة و النشر
.وصح عنه – عليه الصالة والسالم – أنه قال“ :بئس مطية الرجل :زعموا” رواه أبو داود وغيره
وأما إن كانت الشائعة صحيحة واقعة ،لكن في إذاعتها مفسدة وأذى ،فإن ذلك محرم أيضاً ،خاصة إذا كان فيها أذية
.لمسلم وإضرار به ،وتتبع لعوراته
عن أبي برزة األسلمي – رضي هللا عنه – قال :قال رسول هللا – صلى هللا عليه وسلم “ :-يا معشر من آمن بلسانه،
ولم يدخل اإليمان قلبه ال تغتابوا المسلمين ،وال تعيروهم ،وال تتبعوا عوراتهم ،فإنه من اتبع عوراتهم يتبع هللا عورته،
.ومن يتبع هللا عورته يفضحه ولو في جوف بيته” حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وأحمد
ب-التفكر في عواقب اإلشاعة:
و عودة مرة ثالثة لآلية السابقة في سورة الحجرات يقول هللا تعالى ( :أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم
نادمين)
هال تفكرت في نتائج اإلشاعة؟ هال تدبرت في عواقبها؟
فاعلم أخي :إن كل خسارة ،كل هم و غم أصاب أخاك المسلم ،كل أموال أهدرت بسبب إشاعتك التي نشرتها أو ساعدت
في نشرها فلك نصيب من اإلثم فيها .حادثة اإلفك :
ولعل من أشهره اإلشاعات قصة اإلفك ،تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات ،وهي تتناول بيت النبوة ،
وتتعرض لعرض أكرم الخلق على هللا – صلى هللا عليه وسلم ،-وعرض الص ّديق والصدّ يقة وصفوان بن المعطل – ّ
رضي هللا عنهم أجمعين -وشغلت هذه الشائعة المسلمين بالمدينة شهراً كامالً ،والمجتمع اإلسالمي يصطلي بنار تلك
الفرية ،وتعصره الشائعة الهوجاء عصراً ،حتى نزل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة ،ويرسم المنهج للمسلمين عبر
سم ِْع ُت ُموهُ َظنَّ ا ْل ُمْؤ ِم ُنونَ َوا ْل ُمْؤ ِم َناتُ ِبَأنفُسِ ِه ْم َخ ْي ًرا َو َقالُوا
العصور للواجب اتخاذه عند حلول الشائعات المغرضة {لَ ْواَل ِإ ْذ َ
ه ََذا ِإ ْف ٌك ُّمبِينٌ } 12النــور
س ْب َحا َن َك َه َذا ُب ْه َتانٌ َعظِ ي ٌم * َي ِع ُظ ُك ُم هَّللا ُ َأن َت ُعودُوا
سم ِْع ُت ُموهُ قُ ْل ُتم َّما َي ُكونُ لَ َنا َأن َّن َت َكلَّ َم ِب َه َذا ُ
{ولَ ْواَل ِإ ْذ َ
إلى قوله سبحانهَ :
لِ ِم ْثلِ ِه َأ َب ًدا ِإن ُكن ُتم ُّمْؤ ِمنِينَ } 17 – 16النــور
وقد ورد أن أبا أيوب األنصاري قالت له امرأته أم أيوب :يا أبا أيوب ،أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ،رضي هللا
عنها؟
ت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت :ال وهللا ما كنتُ ألفعله.
قال :نعم ،وذلك الكذب .أكن ِ
قال :فعائشة وهللا خير منك.
تقول عائشة – رضي هللا عنها“ :-فمكثت شهراً ال يرقأ لي دم ٌع وال أكتحل بنوم” ،حتى ّ
برأها هللا من فوق سبع
سماوات – ،رضي هللا عنها وأرضاها.-
أ-أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم ،قال هللا تعالى ( :لوال إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم
خيراً)النور12
ب -أن يطلب المسلم الدليل على أية إشاعة يسمعها يقصد بها الخوض في عرض مسلم أو مسلمة قال هللا تعالى:
( لوال جاءوا عليه بأربعة شهداء)النور13
16
ج -أن ال يتحدث بما سمعه وال ينشره ،فإن المسلمين لو لم يتكلموا بأية إشاعة ،لماتت في مهدها قال هللا تعالى( :ولوال
إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا)النور 16
ح -أن يرد األمر إلى أولى األمر ،وال يشيعه بين الناس أبداً ،وهذه قاعدة عامة في كل األخبار المهمة ،والتي لها أثرها
الواقعي:قال هللا تعالى:
)وإذا جاءهم أمر من األمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي األمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ،ولوال
فضل هللا عليكم ورحمته التبعتم الشيطان إال قليال)النساء 83
إن هذا المقطع يمثLLل جLLزءاً من أخالقيLLات المجتمLLع الفاضLLل الLLذي اسLLتقرت أركانLLه ،ومLLا عLLاد للمLLرجفين
والمشLLككين الLLذين يفLLترون الكLLذب مجLLال في قبLLول LأخبLLارهم وإشLLاعاتهم ،إنLLه مجتمLLع قLLائم على القواعLLد
األخالقية والمبادئ التي تضمن سالمته وأمنه ،وأي تفريط في هذه المبLLادئ واألخالق سLLيعرض المجتمLLع
المسلم إلى الصراعات والفتن ،مع تجاهل القيادة العامة لهLLذا المجتمLLع ،وهLLذا يLLؤدي إلى الكفLLر والفسLLوقL
والعصيان ،فالراشدون هم الذين يهتLLدون بهLLذه األخالق إلى فضLLل هللا ونعمLLه ،ألنLLه هLLو الهLLادي لمLLا فيLLه
مصلحة العباد والبالد ،والحكيم في أحكامه وأوامLLره ونواهيLLه الLLتي تمثLLل بمجموعهLLا " التربيLLة األخالقيLLة
لألمة اإلسالمية ".
وال شك أن هذه التربية األخالقية الفاضلة هي التي ال تنساق وراء كل دعاية وإشاعة وتقوّل ،فكم من كالم
يُقال ،ويترتب عليLه أفعLLال وتصLLرفات ،فLLإن بُحث عن أصLLل الكالم ال تجLLد لLLه حقيقLة ،وإنمLLا هLLو كLLذب
واختالق ، Lولذا فإن ما بُني على الكذب فهو Lباطل يُالم صاحبه ويُذم ، Lوما بُني على الحقيقLLة والصLLدق LفهLLو
حق ال يُذم صاحبه ،بل هو محمود ممدوح بأخالقه وتصرفاته الحميدة ،وهذا أمLر بLديهي Lال يختلLف عليLه
اثنان ،وبهذا تظهر العالقة بين التربية األخالقية وبين اإلرشاد إلى التثبيت من مصدر األخبار
لتحقيق التعارف السليم بين الناس بعضهم البعض ،وبين الشعوب المتقاربة أو المتباعدة ،ال ُب َّد من البناء
السليم القائم على المعلومة السليمة ،فال يقوم تعارف قويٌّ بين البشر حتى يكون ك ٌّل منهما قد عرف
صاحبه وخبره ،واطمأنَّ إليه ،وهو ما يكون بالمعلومة الصحيحة ،وهذا ما ُترشدنا $إليه اآلية الكريمة في
ِين آ َم ُنوا ِإنْ َجا َء ُك ْم َفاسِ ٌق ِب َن َبٍإ َف َت َب َّي ُنوا َأنْ ُتصِ يبُوا َق ْو ًماِ $ب َج َهالَ ٍة َف ُتصْ ِبحُوا$
قول هللا سبحانه وتعالىَ { $:ياَأ ُّي َها الَّذ َ
ِين} [الحجرات .]6 :وفي قراءة حمزة والكسائيِّ " $:فتثبَّتوا" من التثبُّت ،وقرأ الباقون: َعلَى َما َف َع ْل ُت ْ$م َنا ِدم َ
" َف َت َب َّي ُنوا" من التبيين" .وك ٌّل من التبيُّن والتثبُّت معناهما واحد؛ فاآلية الكريمة ُترشدنا إلى أهميَّة المعلومة
ب سماته وصفاته الخاصَّة، الصحيحة لتحقيق التعارف $بين الناس ،وقد $تبيَّن من خالل النظريَّة أنَّ لك ِّل شع ٍ
ب من الشعوب فالُ ب َّد من معرفة الصفات المميِّزة له؛ لتحقيق التعارف السليم فمن أراد التعرُّ ف على شع ٍ
والقوي.
ُ َأ َّ ُ
أمَّا إن لم يتثبَّت قو ٌم من معلوم ٍة أو خبر فإ َّنه يُحْ دِث ما حذرتنا منه اآلية الكريمة { :نْ تصِ يبُواَ $ق ْومًا ِب َج َهالَ ٍة
ِين} ،وهذا يُوضِّح أن تناقل األخبار والمعلومات آفة المجتمعات والشعوب، َف ُتصْ ِبحُوا َعلَى َما َف َع ْل ُت ْم َنا ِدم َ
إشاعة أو كذبًا ،وقد $يكون هناك كثي ٌر من المبالغة ،وغالبًا ما يكون نقل المعلومة أو ً فقد يكون بعضها
الخبر بحاج ٍة ما َّس ٍة إلى الد َّقة في النقل ،وضبط اللفظ ،وفهم المراد ،وتأويل المسموع ،وقد يكون الخبر
كلُّه مل َّف ًقا أو موضو ًعا لدوافع $سياسيَّة أو مناصرة اتجاه معيَّن أو لبذر بذور $الفرقة ،وتأجيج نار الخالف
بين الناس (األقارب أو األباعد)؛ لذا أوجب القرآن التثبُّت من األخبار والمعلومات؛ تحقي ًقا للمصلحة
العامَّة أو الخاصَّة ،ومن ًعا من إيقاع الفتنة وزرع الفُرقة.
إ َّنها دعوةٌ قرآني ٌَّة لمن يُريد التعارف الب َّناء :أن تثبَّتوا من المعلومات واألخبار ،وتبيَّنوا صحَّ تها أو فسادها$،
فك ُّل ذلك ُيَؤ ِّثر في قوَّ ة التعارف $أو ضعفه.
17
ربط اآليات بالواقع :إن كثيراً من األحداث المؤسفة الLLتي تقLLع في واقعنLLا المعاصLLر من قتLLل وسLLفك دمLLاء
وصراعات وفتن إنما هي بسبب اإلشاعات واألكاذيب الLتي يروجهLا LالمنLافقون والمندسLLون في هLLذه األمLLة
لهدم بنائها وتقويض أركانها ، Lفما أحوجنا إذن لمزيد من اليقظة واالنتباه والحذر الشديد من أخبار الفسقة ،
خاصة أننا نعيش زمانا ً ،اختلطت فيه الموازين والمقاييس ،فقد تنخدع بظاهر إنسان فتأخذ Lبكالمه ،وتبنيL
عليه أحكاما ً وأفعاالً ، Lثم يتبين لك الخلل الكبLLير الLLذي وقعت فيLLه بسLLبب هLLذا اإلنسLLان الوديLLع في ظLLاهرة ،
الثعلب في روغانه ،العقرب في لدغاتها.وما Lأحوجنا كذلك إلى القيادة الحكيمة الراشدة الLLتي تحLLرص على
راحة األمة وسعادتها ،والتي يؤلمها عنت األمة وشقاؤها Lبإتباع أخبLار ّ
الفسLاق والمLLرجفين ،قيLLادة ربانيLLة
تدعو األمة إلى العزة والكرامة بالسير على منهاج هللا تعالى قرآناً Lوسنة ،وتأخذ بيد األمة بعيLLداً عن الكفLLر
والفسوق Lوالعصيان ،مهتدية بهدي هللا الذي يعلم ما يصLLلح األمLLة ،ويLLرتقي بهLLا وبأخالقهLLا وقيمهLا ، LإنهLLا
التربية األخالقية في ضوء هذه اآليات من سورة الحجرات.
ت ِإحْ دَا ُه َما َعلَى األخرىَ ف َقا ِتلُوا ِين ا ْق َت َتلُوا َفَأصْ لِحُوا َب ْي َن ُه َما َفِإنْ َب َغ ْ ان م َِن ْالمُْؤ ِمن َ قال تعالىَ ﴿ :وِإنْ َطاِئ َف َت ِ
ت َفَأصْ لِحُواَ $ب ْي َن ُه َما ِب ْال َع ْد ِل َوَأ ْقسِ ُ
طوا ِإنَّ هَّللا َ ُيحِبُّ ْال ُم ْقسِ طِ َ مْر هَّللا ِ َفِإنْ َفا َء ْ َأ
ين *ِإ َّن َما الَّتِي َت ْبغِي َح َّتى َتفِي َء ِإلَى ِ
ُون ﴾ سورة الحجرات 9 :ـ .10 ون ِإ ْخ َوةٌ َفَأصْ لِحُوا َبي َْن َأ َخ َو ْي ُك ْم َوا َّتقُوا هَّللا َ لَ َعلَّ ُك ْم ُترْ َحم َ
ْالمُْؤ ِم ُن َ
سبب النـزول:
روى $البخاري $ومسلم عن أنس بن مالك رضي هللا عنه قال“ :قيل لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم لو
أتيت عبد هللا بن أبي ،فركب حمارا وانطلق معه المسلمون يمشون ،فلما أتاه النبي صلى هللا عليه
وسلم قال :إليك عني،فو هللا لقد آذاني نتن حمارك ،فقال رجل من األنصار :وهللا ،لحمار رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم $أطيب ريحا منك ،فغضب لعبد هللا رجل من قومه ،وغضب لكل واحد منهما أصحابه،
فكان بينهم ضرب بالجريد $واأليدي $والنعال ،فبلغنا أنها نـزلت فيهم( :وإن طائفتان… .)..الحجرات9
مناسبة اآلية لما قبلها :
لما نبه سبحانه وتعالى على وجوب التبين من نبأ الفاسق ،فقد يأتي الفاسق إلى قوم بنبأ كاذب على قوم
آخرين ،فإذا سارعوا بتصديق $نبأه سيقع القتال والفتنة ،ولذا جاءت اآلية الكريمة كأنها بيان لما عساه أن
يقع بالمخالفة وعدم التبين والمسارعة بأخذ خبر الفاسق ،فيقع مضرة على هؤالء الناس ،ويقع القتال بين
الفريقين.
ان م َِن ْالمُْؤ ِمن َ
ِين ا ْق َت َتلُوا } ، فكأنه يقول :وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فيكون هذا العالجَ { :وِإنْ َطاِئ َف َت ِ
بسبب نبأ فاسق $جاءهم فتداركوا $األمر ،وأصلحوا $بينهم ،وال تتركوهم $على ما هم عليه ،وإن كانوا فرطوا
في عدم التثبت ال تفرطوا $أنتم في عدم اإلصالح ،وهذا ترتيب في غاية اإلعجاز.
التفسير التحليلي
﴿ َوِإنْ َطاِئ َف َت ِ
ان ﴾ يعني :فرقتان من المؤمنين.
﴿ ا ْق َت َتلُوا ﴾ أي :حصل بينهم ما يسبب القتال ،أواالختالف المؤدي إلى االقتتال.
وهذا في أي خالف خيف أنه يقع منه غير القتال؛ كالمقاطعة والفجور بالخصومة والتباغض والسباب
ونحو $ذلك؛ فعلى البقية أن يسعوا $في اإلصالح بينهم.
19
ولهذا قالَ ( :فَأصْ لِحُوا َب ْي َن ُه َما) والصلح هو السعي في المؤاخاة ،وإزالة ما بينهما من العداوة ،والحرص
على تأليف القلوب فيما بينهم ،وجمعها ،وإزالة العداوة والشحناء والقطيعة.
األخ َرى َف َقا ِتلُوا الَّتِي َت ْبغِي َح َّتى َتفِي َء ِإلَى َأم ِْر هَّللا ِ ﴾ إذا قدر أن إحداهما امتنعت
ت ِإحْ دَا ُه َما َعلَى ْ
﴿ َفِإنْ َب َغ ْ
من الصلح ،قالت :ال نقبل ،وال بد أننا نقاتلهم ؛ فإنهم $اعتدوا علينا وظلمونا $؛ فال نرضى بل ال بد أن
نقاتلهم ،أو ما أشبه ذلك.
قولهَ ﴿ :ف َقا ِتلُوا الَّتِي َت ْبغِي ﴾ البغي هو التعدي ،ومجاوزة الحد
فهؤالء هم الذين يقاتلون؛ يقاتلهم بقية المؤمنين حتى يرجعواَ ﴿ ح َّتى َتفِي َء ِإلَى َأم ِْر هَّللا ِ ﴾ يعني حتى ترجع
هذه الطائفة الممتنعة
ت ﴾ ورجعت فعند ذلك أصلحوا بينهما ، والفيئة الرجوعُ ،أخذت من الفيء وهو الظل في آخر ﴿ َفِإنْ َفا َء ْ
النهار؛ ألن الظل في أول النهار يكون إلى جهة الغرب لمجيء الشمس من الشرق ،فإذا جاءت إلى كبد
السماء وتحولت إلى المغرب تحول الظل إلى الشرق.
وهذا هو الفيء.
فكذلك من كان على طريق فرجع عنه إلى عكسه فقد فاء.
فإن فاءت عن الغي وفاءت عن االعتداء حينئذٍ:
{ َفَأصْ لِحُواَ $ب ْي َن ُه َما ِب ْال َع ْد ِل } ؛ ال تميلوا إلى هؤالء وال إلى هؤالء
طوا ﴾ والقسط أيضا :هو المساواة ﴿ َوَأ ْقسِ ُ
﴿ ِإ َّن َما ْالمُْؤ ِم ُن َ
ون ِإ ْخ َوةٌ ﴾ ولو تقاتلوا فال يخرجهم $تقاتلهم عن كونهم $مؤمنين؛ فهم إخوة لكم جميعا؛ واألخوة
هاهنا األخوة اإليمانية.
ونالحظ $هنا كلمة (إنما) في اآلية الكريمة ،فهي (أداة حصر) أي أنّ هللا عز وجل يخبرنا $بأنه :ال أخوّ ة
حقيقية إال أخوّ ة اإليمان واإلسالم ،وعالقة األخوّ ة بين المؤمنين أقوى من عالقة النسب ،تضعف $بضعف$
إيمانهم ،و َتقوى بقوّ ة هذا اإليمان! ..ويقوى اإليمان بقوّ تها ،ويضعف $بضعفها!
﴿َ فَأصْ لِحُواَ $بي َْن َأ َخ َو ْي ُك ْ$م ﴾ جعل هؤالء إخوانكم ،وهؤالء إخوانكم؛ مع أنهم يتقاتلون فيما بينهم؛ فلم
تخرجهم $هذه المقاتلة عن كونهم إخوة؛ فهم إخوتكم يعني هؤالء وهؤالء ،وكذلك بعضهم إخوة بعض.
(أخويكم } مثنى أخ ولم يقل بين إخوانكم؛ ألن هذه الطائفة كالجسد الواحد كأنها إنسانٌ واحد وهذه الطائفة
المعادية التي تقاتلها كذلك كاإلنسان الواحد فأنت كأنك تصلح بين أخوين
{ َوا َّتقُوا هَّللا َ لَ َعلَّ ُك ْم ُترْ َحم َ
ُون } فرحمة هللا عز وجل إنما تنال باالتفاق وباأللفة وباألخوة وباالجتماع$.
التفسير الموضوعي
الموضوع الذي تعالجه اآليات الصلح بين المسلمين
حتمية الخالف
تقع الخالفات بين الناس ويحدث الخصام بين جميع فئات المجتمع بين الرجل وزوجته وبين القريب
وقريبه وبين الجار وجاره وبين الشريك $وشريكه ،وهذا أمر طبيعي وحتمي $ومشاهد ال يمكن إنكاره
وأسبابه كثيرة ال حصر $لها .
النار من مستصغر الشرر
20
وغالبا ما تكون هذه الخالفات في بداياتها $اختالف بسيط يمكن تالفيه لو أحسن الناس التصرف $ولكن
الشيطان الذي قال هللا عنه (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم )اإلسراء52
و كما أخبر بذلك الرسول صلى هللا عليه وسلم(إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب
ولكن في التحريش بينهم ) رواه مسلم
هذا الشيطان لن يدع هذه الفرصة تفوت عليه ولن يتوانى هو وأعوانه – النفس األمارة بالسوء والهوى
المتبع وأهل اإلفساد والشر $والنميمة – في التحريش بينهم و إذكاء نار العداوة والبغضاء حتى تتحول هذه
الشرارة إلى فتنة عظيمة وشر مستطير $لها عواقبها الوخيمة ؛ فيساء الظن ويقع اإلثم وتحل القطيعة
ويفرق $الشمل وتهتك األعراض وتسفك الدماء وتنتهك الحرمات.
أصدقاء األمس أعداء اليوم
ويتحول $الحال ؛ فبعد المحبة والصفاء تحل العداوة والبغضاء $وبعد القرب والوصال تكون القطيعة
والهجران ويصبح أصدقاء األمس أعداء اليوم ،ويفسد ذات بينهم وتقع الحالقة التي ال تحلق الشعر
ولكنها تحلق الدين كما اخبر بذلك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم. $
أهمية إصالح ذات البين:
وحيث حرص اإلسالم على وحدة المسلمين وأكد على أخوتهم وأمر بكل ما فيه تأليف لقلوبهم $ونهى عن
كل أسباب العداوة والبغضاء فقد أمر بالسعي وإصالح ذات البين وحث عليه وجعل درجته أفضل من
درجة الصيام والصدقة والصالة ،وقد ورد في ذلك عدة آيات وأحاديث منها :
قال تعالى ( :إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا هللا لعلكم ترحمون ) الحجرات . 10
وقال تعالى ( : ال خير في كثير من نجواهم إال من أمر بصدقة أو معروف أو إصالح بين الناس ومن
يفعل ذلك ابتغاء مرضاة هللا فسوف نؤتيه أجراً عظيماً) .النساء114 :
وقال الرسول صلى هللا عليه وسلم ( أال أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصالة والصدقة ؟ قالوا
بلى ،قال :إصالح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة ) رواه أبو داود ،وللترمذي ( ال أقول
تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ) .
ويقول صلى هللا عليه وسلم ( :كل سُالمى من الناس عليه صدقة ك َّل يوم تطلع فيه الشمس ،تعدل بين
االثنين صدقة ) أي تصلح بينهما بالعدل · أخرجه البخاري ومسلم. $
ويقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ( :أفضل الصدقة إصالح ذات البين) صححه األلباني .
هو السعي والتوسط بين المتخاصمين ألجل رفع الخصومة واالختالف عن طريق $التراضي والمسالمة
تجنبا لحدوث البغضاء والتشاحن وإيراث الضغائن .
أن ال يشترط $في الصلح شرطا مخالفا لحكم هللا فان كان مخالفا لحكم هللا فانه ال يجوز لقوله
صلى هللا عليه وسلم ( :أيما شرط ليس في كتاب هللا فهو باطل ،وإن كان مائة شرط ) رواه
البخاري
وال يتضمن شيئا محرما كأن يكون تحليل ما حرم هللا أو تحريم ما أحل هللا كما قال رسول هللا صلى هللا
عليه وسلم ( : $الصلح جائز بين المسلمين إال صلحا حرم حالال أو أحل حراما ) حديث حسن صحيح
رواه أبو داود والترمذي. $
21
أن يكون الصلح بتراض من الجانبين المتخاصمين لقوله صلى هللا عليه وسلم ( :ال يحل مال
امرئ مسلم إال بطيب نفس منه ).
طلب األجر والثواب من هللا تعالى قال تعالى ( :ال خير في كثير من نجواهم إال من أمر
بصدقة أو معروف أو إصالح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة هللا فسوف نؤتيه أجراً
عظيما ً ) النساء.114 :
تحقيق مفهوم األخوة قال تعالى ( :واعتصموا بحبل هللا جميعا ً وال تفرقوا ) .… $آل عمران:
. 103
الحرص على تماسك المجتمع ،وبث األلفة ،والرحمة ،و التسامح بين أفراد المجتمع المسلم ·
الدعاء الجميل ،والثناء الكبير ،حيث ارتفعت أيدي الناس بالدعاء ،والسيما $من ُحلّت له قضية ،أو
نفست عنه كربة ،أو قدمت له مساعدة ،فما أحسن أن ينام اإلنسان ملء عينيه واألكف ترتفع في
جنح الليل تدعو له ،وتترضى $عنه ،وتثني $عليه ·
أن يستشعر $أنها عبادة يقوم بها استجابة ألمر هللا
· أن يكون ذا خلق ودين متصفا ً باألخالق $الكريمة مبتعدا عن األخالق السيئة ال يغتاب وال ينم ألن
الغيبة والنميمة إفساد واإلفساد $واإلصالح ال يجتمعان .
أن يتصف $بروح المبادرة والحرص على نشر الخير من تلقاء نفسه
أن يتحلى بالحلم وسعة البال والصبر $والتأني وعدم العجلة.
أن يكون ذا علم شرعي عالم بما يحل ويحرم $والشروط $واألحكام خاصة في مجال الخصومة.
أن يكون خبيرا في مجال النزاع عالما بالوقائع محيطا بالقضية ومالبساتها باحثا عن مسبباتها$
عارفا بطرق معالجة المشكالت ووضع الحلول والتسويات $العادلة المقترحة سواء كانت في
مجال المشاكل الزوجية أو العقار أو الديون .
أن يكون لطيفا ً مع الناس وأن يحرص على استعمال األسلوب الحسن والحكمة والبصيرة .والبعد
عن العبارات الجارحة.
أن يكون محايدا فيحرص على أن ينظر إليه الطرفان بوصفه شخص محايد ال يميل مع أيهما .
أن يتحرى العدل قال تعالى ( :فأصلحوا $بينهما بالعدل واقسطوا إن هللا يحب
المقسطين ) الحجرات9 :
قال اإلمام ابن تيمية رحمه هللا في رسالة صغيرة اسمها :رسالة المظالم:
)الملك يدوم مع العدل ولو لكافر ،وال يدوم $مع الظلم ولو لمسلم (
ألن الظلم كما نعلم يولد حقداً في المجتمعات واألفراد $إذا كانوا يتظالمون في حقوقهم وأعراضهم؛ فكل
ينصب للثاني العداء ،أما إذا كانت األمانة والعدالة ،وكان الناس آمنون على الدين والنفس والعقل والنسب
والعرض والمال ،حينها األمة تكون في خير وعلى خير.
المحافظة على أسرار $المتخاصمين يقول الفضيل بن عياض في أهمية الستر « :المؤمن يستر
وينصح والفاجر يهتك ويفضح.
22
الثاني :جواز الكذب ألجل اإلصالح -الخصم المتعنت -بعد االتفاق والتصالح : المبحث
المطلب األول : جواز الكذب ألجل اإلصالح :
أذن الشارع للمصلح بنوع من الكذب في العبارات وفي $األمور التي توفق $وتقرب وتخفف من شدة
العداوة وتحببهم إلى بعض قال صلى هللا عليه وسلم ( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي $خيرا أو
يقول خيرا ) رواه البخاري .
ومن أمثلة ذلك أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقوالهما $بما يحقق التقارب ،
ويزيل أسباب الشقاق والخالف ، $وأحيانا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما ،وينسب إلى كل منهما
من األقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله مثل أن يقول :فالن يسلم عليك ويحبك ،وما يقول فيك
إال خيرا ونحو ذلك .
في كل الخطوات على المصلح دائما بالوعظ والنصيحة وتذكير $الخصوم بالعاقبة :
فيذكرهم بعاقبة الخصومة ,وما تجلبه من الشقاق ,وتوارث العداوات ,واشتغال القلوب ,وغفلتها عن
مصالحها . $ويذكرهم كذلك بالعاقبة الحميدة للصلح في الدنيا واآلخرة ,ويسوق لهم اآلثار الواردة في ذلك
كقوله تعالى – َ ( :وَأنْ َتعْ فُوا َأ ْق َربُ لِل َّت ْق َوى )[ البقرة]237 :وكقوله َ ( :و ْال َعاف َ
ِين َعنْ ال َّن ِ
اس )[ آل
عمران ]134 :وكقوله َ ( :ف َمنْ َع َفا َوَأصْ لَ َح َفَأجْ ُرهُ َعلَى هَّللا ِ )[ الشورى[40 $:
· وعلي المصلح أن يحسن االستماع :ألن ك َّل طرف من األطراف $يزعم أنه على حق ،وأن صاحبه
على باطل ؛ فيحتاج ك ُّل واحد منهما إلى َمنْ َيستمع إليه ،ويرفق $به ،ويأخذ ويعطي معه .
بل إن بعض الخصوم يكفيه أن يفرغ ما في نفسه من غيظ ،أو كالم ؛ فيشعر $بعد ذلك بالراحة ،ويكون
مستعداً لما يُراد منه .
ضرورة معرفة األسباب الحقيقية للخصام: $
فان استطاع $أن يعرفها $ويعالجها بشكل يرضي الطرفين كان ما بقي سهل وتضمن بذلك أن يدوم $الصلح
بينهما .
ومما يجدر التنبيه إليه أن أطراف $النزاع قد يجدون صعوبة في تقديم المعلومات أو إيضاح األسباب
الحقيقية التي ليست في صالحهم.
فعلى المصلح اكتشافها بنفسه واختبار المعلومات المقدمة له بطريقته.
االستعانة بمن يفيد ويرغب في إنهاء النزاع :
سواء من أقارب األطراف ،أو من أصدقائهم ،أو معارفهم ،أو من له تأثير عليهم .ويُراعى في ذلك أن
يكون أولئك من ذوي الرأي والبصيرة والحكمة خاصة من عرف حرصه ورغبته في اإلصالح وحسنت
نيتهم وصدق $حالهم.
ينبغي استقبال الخصوم بالبشاشة واللين :
ومحاولة التخفيف من حدة غضبهم ،والتغاضي عن اإلساءات التي قد تحصل من بعضهم وإتباع الطرق$
الصحيحة في مناقشتهم وذلك باختيار $اآليات واألحاديث المناسبة ،والكلمات التوجيهية .
23
من أساليب مفاوضة الخصوم المتعنتين ومساومتهم للتخفيف من حدة مواقفهم $أو التوسط في مطالبهم$
وشروطهم: $
االعتماد والتوكل على هللا والصبر والتحمل .
الوعظ والنصيحة وتذكيره بفضيلة العفو والتسامح والصلح وبيان أجره عند هللا عز وجل وذكر$
اآليات واألحاديث التي تحث على ذلك .
الجلسات االنفرادية مع الخصم المتعنت والتدرج $في عرض الصلح عليه.
االستعانة باألقارب ممن يرغبون في اإلصالح وخاصة ممن لهم مكانة عند هذا الخصم.
الرفع من قيمة الخصم ،أنت من عائلة كريمة وما نسمع عنكم إال كل خير …أنت رجل تحفظ
القرآن ،أنت رجل حججت بيت هللا ….الخ
أيضا كذلك مناقشة الطلبات والشروط $والمطالبة بترتيبها من حيث األهمية
ومناقشة صحة وقوة ما يستند إليه ومدى $قوة موقفه وهل من صالحه التعنت أم الصلح وبيان
مزايا الصلح على القضاء وبيان موقفه لو رفع األمر من القضاء
مطالبته بطرح االقتراحات والحلول وعروض التسوية .
إن واقعنا اليوم مليء بالخالفات والصراعات والنزاعات التي تؤدي في الغالب إلى االقتتLLال وسLLفك الLLدماء
خLوف وال وجLLل ،إنهLا جLرأة على هللا في سLLفك دمLاء المسLلمين ،وزهLLق أرواحهم LبسLبب أو بLLدون ٍ بدون
سبب ،إن دل ذلك فإنما Lيدل على ضعف في اإليمLLان والخلLLق الحسLLن ،حيث تLLأثر النLLاس بعLLادات الغLLرب
وتقاليدهم Lوأعرافهم ،مما أضعف صلتهم Lباهلل تعالى ،فجهلLوا دينLه ،وتجLرأوا على أحكامLه ،وسLعوا Lإلى
انتهLLاك حرماتLLه ،وتحزبLLوا بLLذلك مLLع الشLLيطان ،وسLLعوا Lفي األرض بالفسLLاد وإهالك الحLLرث والنسLLل ،
واستبدلوا طاعة الشيطان بطاعة الرحمن ،وأصبح الناس يأتمرون بأمر سفهائهم فأضلوهم Lعن سLLبيل هللا ،
واشتروا الضاللة بالهدى فانحرفوا Lعن دين هللا ،كل يوم نسمع أن اقتتاال وقع في مكان كLLذا ،بين أخLLوة أو
جيران أو أقرباء بسبب أطفال أو نساء أو هما معا ،فيقع فيها الكبار ،ويطمع األعداء في إشعال نار الفتنLLة
ودعمها ،وقد يوفر Lلألطراف المتنازعة كل مLLا يحتLLاجون من سLLالح وغLLيره حLLتى يقتLLل بعضLLهم LبعضLLا ،
ويخرج كل منهم عن دينه كافرا مرتداً ،وال يعالج ذلك الخطر الكبير ،إال أخالق إيمانية تتعالى بأصLLحابهاL
عن سفاسف األمور Lوصغائرها Lإلى السمو والعلو والفضيلة وحسن الخلق ،ورجال يهرعون ،حيث يوجLدL
الخالف ليصرفوا أسبابه ويطفئوا Lناره ،ويستبدلوا Lاالقتتال محبة ووئاماً Lوسالما ً ،لLLترتقي األمLLة بLLذلك إلى
التربية األخالقية في ضوء هذه اآليات من
24
-المبادي االجتماعية المستفادة من االية
-1إصــالح ذات الــبين :ورد في القLLرآن الكLLريم العديLLد من اآليLLات الLLتي تLLدعو المسLLلمين وتLLأمرهم LباإلجمLLاع
والتآلف ،وتنهى Lعن التفرُّ ق واالختالف Lالمؤ ّديين إلى التنازع والفشل
فض النزاع) :االنتصار Lللمظلوم حتى ينال حقّه وهLLذا خلLLق إذا نمLLا فى ق ال ّ -2االنتصار للمظلوم( إحقاق الح ّ
األمة علّمها الع ّزة ورفع Lعنها الذلة وزادها ارتباطا ً وحبا ً وأخوّة وقرباًL.
إن الحفاظ على وحدة المجتمLLع اإلسLLالمي وتماسLLكه هي من أه ّم الوظLLائف الLLتي -3وجوب التصدّي للعدوانّ :
دعت إليها السورة المباركة
إن هذا السلوك االجتماعي الشائن يعكر على أفراد المجتمع المسلم صفو عالقتهم ويكدر صفاء مبادئهم؛ فال يسلم االعتقاد
بأفضلية المسلم وتساويه في الحقوق مع أخيه المسلم مع االستهزاء به والسخرية منه ،فكان ال بد من توجيه قرآني يلفت
االنتباه إلى أصل الرابطة اإليمانية المشتركة بقوله تعالى":يأيها الذين آمنوا " ثم يأتي النهي بلون تعبيري مميز ":ال
يسخر قوم من قوم " " ،وال نساء من نساء " ألن السخرية تغلب فيها المشاركة ،فناسب أن يأتي النهي بهذا اللون[
،] 47كما ناسب إفراد النساء عن الرجال في النهي ألمرين؛ أحدهما كثرة وقوع ذلك منهن فكان عطفهن على القوم –
وإن كن داخالت فيهم أصالً – من باب عطف الخاص على العام لبيان شدة االهتمام بنهيهن عن هذا السلوك ،والثاني –
أشار إليه صاحب قواعد التدبر األمثل – أن فيه إشارة إلى أن النساء ال يخالطن الرجال في المجالس االجتماعية فناسب
تذكير ونهي ك ٍل على حدة.
والسخرية منافية لخلق المسلم ألن فيها استعال ًء بغير الحق ،ولذلك نبهت اآلية الكريمة على ذلك ":عسى أن يكونوا خيراً
منهم" ،أي الخيرية الشرعية ،فذلك الذي تسخر منه ألمر دنيوي قد يكون خيراً منك في المعيار الشرعي فيكون استعالؤك
عليه تقديم ألمر الدنيا على أمر اآلخرة ،وتقديم لهوى النفس على معيار الشرع والعياذ باهلل ،هذا باإلضافة إلى ما تحدثه
هذه السخرية من غ ٍل في النفوس وش ٍر بين الناس حتى إن هللا علم نبيه صلى هللا عليه وسلم والمسلمين أن يستعيذوا به
من هذا الشر ؛
26
قال سبحانه ":ومن شر حاس ٍد إذا حسد"[]49
واللمز في اللغة العيب واإلشارة بالعين ونحوها [ ،]50والمعنى في قوله تعالى ":وال تلمزوا أنفسكم"[ ]51أي ال يلمز
بعضكم بعضاً ،وذلك كقوله تعالى":وال تقتلوا أنفسكم"[ ]52أي ال يقتل بعضكم بعضاً[ .]53وفي هذا األسلوب التعبيري ما
مرغوب عنه ،فوجب ترفُّع المرء عنه تماما ً
ٌ يشير إلى أن من لمز وعاب أخاه المسلم فكأنما لمز وعاب نفسه ،وهذا قبيح
كما يترفع عن كشف مساويه وعيوبه للناس وإن كانت فيه في نفس األمر .ولقد ورد الوعيد الشديد لمن قارف هذه
موضع آخر من القرآن الكريم حيث قال تعالى":وي ٌل لكل هُمزة لُمزة"[ ،]54وع َّد هذه الخصلة من جملة
ٍ القبيحة في
الخصال الذميمة حيث قال ":هماز مشاء بنميم"[]55
أما النبز لغةً اللمز ،ونبّزه ينبّزه :يلقبه ،والتنابز :التعاير والتداعي باأللقاب[ .]56و "تنابز" على وزن تفاعل ،وهو
يشير إلى تبادل الفعل بين جانبين ،فهو فعل تغلب فيه المشاركة ألن من نبز غيره بلقب رد عليه المنبز بلقب آخر غالباً،
ولهذا جاء التعبير في النهي بصيغة ":وال تنابزوا باأللقاب" ألنه أقرب إلى حكاية الواقع.
ولقد نفَّرت السورة الكريمة من هاتين الخصلتين القبيحتين بوصف من تلبس بهما بالفسوق ،وبينت أنه ال يليق بمن منَّ
هللا عليه بوصف اإليمان أن يعدل عنه إلى وصف الفسوق فقال تعالى ":بئس االسم الفسوق بعد اإليمان"[]57
49سورة الفلق – آية -]50 [ 5 :القاموس المحيط – الفيروزآبادي ]52 -سورة النساء – آية -]53[ 29 :الجامع ألحكام القرآن – القرطبي – 278/16
[ ]54سورة الهمزة – آية ]55[ -1سورة القلم – آية 11
[]56القاموس المحيط – الفيروزآبادي
[ ]57سورة الحجرات – آية ]58[11سورة الحجرات – آية [ ]59[ 12صحيح البخاري – كتاب األدب 5606 -
قال الحافظ ابن كثير :والتجسس غالبا ً يطلق على الشر ،ومنه الجاسوس ،وأما التحسس فيكون غالبا ً في
27
الخير ،وقد يستعمل كل منهما في الشر ،]60[.والشاهد أن النهي قد جاء في اآلية باللفظ الذي يغلب
استعماله في الشر فقال تعالى ":وال تجسسوا" .وهنا نكتة لطيفة وهي أن المرء ال يقوم بالتجسس على
غيره عادةً إال عندما يتهمه ويسيء الظن به ،فناسب والحال كذلك أن يكون الترتيب في النهي في هذه اآلية
عن سوء الظن أوالً ثم عن التجسس ،وما هذا التناسب إال دليل من األدلة الكثيرة على موافقة التوجيهات
الشرعية للطبائع البشرية ،قال تعالى ":أال يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"[]61
ذكر الحافظ ابن كثير اإلجماع على تحريم $الغيبة ،ولقد بين الشارع الحكيم ضابط الغيبة حيث جاء في
الحديث عن أبي هريرة رضي هللا عنه قال :قيل يا رسو ل هللا ،ما الغيبة؟ قال ":ذكرك أخاك بما يكره".
قيل :أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال ":إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ،وإن لم يكن فيه ما تقول
فقد به َّته" [ ،]62ولقد جاءت السورة بصورة شديدة التنفير من هذه الرذيلة والقبيحة االجتماعية؛ فشبهت
غيبة الرجل أخاه بأكل لحمه ميتا ً حيث قال تعالى ":أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ً فكرهتموه"[،]63
وهذا التشبيه التمثيلي من أروع األساليب القرآنية وأشدها $تأثيراً $في نفس المكلف ،ولهذا التشبيه أوج ٌه عدة
بين المشبه والمشبه به؛ أولها أن الذي يُغتاب ال يعلم أن أخاه يغتابه تماما ً كما أن الميت ال يعلم من يأكل
لحمه ،وثانيها أن الذي َيغتاب أخاه الحي قد هتك حرمة أخيه تماما ً كما أن آكل لحم أخيه ميتا ً قد هتك
حرمته ،وثالثها $أن الغيبة أمر مستقذ ٌ$ر في الطبائع السليمة تماما ً كما أن أكل لحم الميت أمر مستقذ ٌر
طبعا ً ،وكل هذه المعاني دائرة حول تنفير المكلف من هذه الخصلة المرذولة وتبشيعها $في نفسه كما هي
بشعة في نفس األمر.
وبهذا تكتمل جملة القبائح االجتماعية التي نهت عنها السورة ،وإن المتدبر ليدرك أن المجتمع الذي
يستطيع $تخليص نفسه وأفراده من هذه الرذائل مجتم ٌع قمنٌ بارتقاء أسمى مراتب الرقي االجتماعي
واإلنساني بل والتعبدي $عندما يؤطر ك َّفه عن هذه المنهيات في إطار االنقياد ألمر هللا عز وجل.
َسLى َأن يَ ُك َّن َسLى َأن يَ ُكونُLوا خَ يْLرًا ِّم ْنهُ ْم َواَل نِ َسLاء ِّمن نِّ َسLاء ع َ " يَا َأيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل يَسْخَرْ قَو ٌLم ِّمن قَLوْ ٍLم ع َ
ك هُ ُم Lان َو َمن لَّ ْم يَتُبْ فَُأوْ لَِئ َL س ا ِال ْس ُم ْالفُسُو ُ
ق بَ ْعَ Lد اِإْل ي َمِ L َخ ْيرًا ِّم ْنه َُّن َواَل ت َْل ِم ُزوا َأنفُ َس ُك ْم َواَل تَنَابَ ُزوا بِاَأْل ْلقَا ِ
ب بِْئ َ
28
ْضُ Lكم َّسLواَ Lواَل يَ ْغتَب بَّع ُ ْض الظَّنِّ ِإ ْث ٌم َواَل ت ََجس ُ الظَّالِ ُمونَ * يَا َأيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اجْ تَنِبُLLوا َكثِLLيرًا ِّمنَ الظَّنِّ ِإ َّن بَع َ
ْضLا َأي ُِحبُّ َأ َحُ Lد ُك ْم َأن يَْأ ُكَ Lل لَحْ َم َأ ِخيِ Lه َم ْيتًLLا فَ َك ِر ْهتُ ُمLLوهُ َواتَّقُLLوا هَّللا َ ِإ َّن هَّللا َ تََّ Lوابٌ َّر ِحي ٌم * يَLLا َأيُّهَLLا النَّاسُ ِإنَّا
بَع ً
َ هَّللا َّ َ َأ هَّللا َأ
َخلَ ْقنَاكم ِّمن ذك ٍر َو نثى َو َج َعلنَاك ْم شعُوبًاَ Lوقبَاِئ َل لِت َعا َرفوا ِإن ك َر َمك ْم ِعن َد ِ تقاك ْم ِإن َ َعلِي ٌم خبِي ٌر "42(
ُ ْ ُ ْ َّ ُ َ َ ُ ُ ْ َ ُأ َ َ ُ
هذا المقطع يتضمن المنهيات الLتي ال تتناسLب مLع أخالق المجتمLع المسLلم ،ولLذلك يجب تركهLا واالبتعLاد
عنها ،لLLترتقي أخالقيLLات األمLة المسLLلمة في المجتمLع المسLلم ،لLذلك جLاء النهي عن سLLخرية الرجLLال من
الرجال ،والنساء من النساء ،وبين العلة في هذا النهي ،ونهي عن اللمز وهو ذكر عيوب الناس وإشاعتها
،ونهي عن التنابز باأللقاب ،وسجّل الظلم على غLLير التLLائبين من هLLذه األخالق الجاهليLLة ،ونهي Lعن ظن
السوء بأهل الخير ،ألن ذلك إثم وحرام ، Lونهي عن التجسس والغيبة ،وشبه من يفعل ذلLLك بمن يأكLLل لحم
أخيه ميتا ،وهذا مدعاة إلى الكراهية ،ثم دعا إلى تقوى هللا والتوبة من هذه األخالق الذميمLLة البغيضLLة إلى
هللا تعالى ،ثم بين تعالى األصل الواحد لكل البشر ،فهم جميعا ً من أب واحLLد وأم واحLLدة ،فال فضLLل ألحٍ Lد
على أح ٍد إال بالتقوى والبعد عن المنهيات ،وااللتزام باألخالق الفاضلة ،وترك غيرهLLا ممLLا يتعLLارض مLLع
أخالق المجتمع اإلسالمي ،وهكذا تكون " التربية األخالقية لألمة اإلسالمية "]9[.
إن واقع المسلمين اليوم على مستوى Lاألفراد والجماعات في أمس الحاجة لهذه اآلداب واألخالق ،ألنهم إال
من رحم هللا واقعون في هذه المنهيات ،يمارسونها على أنها أمر طبيعي Lومألوف ،فالسخرية واالسLLتهزاء
واللمز والتنابز ، Lكل ذلك لLه رصLيد في واقعنLا اليLوم ،وال يجLد النLاس من يLذ ّكرهم Lباهلل تعLالى ويشLعرهمL
بخطئهم Lفي مخالفة أوامر هللا والوقLLوع Lفي حرمLLات المسLLلمين ،أضLLف لLLذلك سLLوء الظن بLLدون تميLLيز بين
صالح وطالح ،بين مؤمن ومنLLافق LفاسLق ، LوكLLذا التجسLس على عيLLوب النLLاس والغيبLLة ،كLل ذلLLك أصLLبح
مرضLا ً مزمنLا ً يحتLLاج إلى عالج مكثLLف ومتواصLLل وفاعLLل ،إضLLافة إلى التفLLاخر باألحسLLاب واألنسLLاب ،
والتعالى Lبالغنى والثراء دون اعتبار لميزان هللا الذي جعله مقياس التمايز والتفاضLLل بين النLLاس ،هLLذا هLLو
حLLال أغلب المجتمعLLات المعاصLLرة ،تعLLاني انحرافLLات أخالقيLLة سLLلوكية تLLؤدي بLLالمجتمع إلى االنحطLLاطL
والتمزق Lوالفرقة والضعف والهوان ،وال خالص من ذلك إال بالعود إلى كتLاب هللا لنLأتمر بLأمره ،وننتهي
بنهيه ،ونتخلق Lبأخالقه لنرتقي بذلك إلى التربية األخالقية في ضوء هذه اآليات من سورة الحجرات.
إذا تأملنا مجموع اآليات التي ضمت اآلداب والضوابط المتقدمة ظهرت لنا مجموعة من إشارات الترهيب والترغيب التي
تذيل تلك اآليات بحيث تعمل مجتمعةً على تحقيق منظومة متزنة من الدوافع والموانع التي تدفع الفرد المسلم والمجتمع
نحو السلوك المرغوب فيه وتحجزه عن السلوك المرغوب عنه.
فعلى صعيد الترهيب تجد قوله تعالى " أن تحبط أعمالكم وأنتم ال تشعرون"[ ]64تحذير وترهيب من عواقب االفتئات
على هللا ورسوله ،وفي مقابل ذلك قوله تعالى ترغيبا ً في حال الملتزمين بأدب التوقف بين يدي الرسول صلى هللا عليه
وسلم ":لهم مغفرة وأجر عظيم"[ .]65وكذلك تجد وصف " أكثرهم ال يعقلون"[ ]66يقابله فتح باب التوبة والمغفرة "
وهللا غفور رحيم"[.]67وبهذا يتحقق التوازن بين الترغيب والترهيب توافقا ً مع االستعداد المزدوج في النفس البشرية
لتحصيل ما فيه خيرها ودرء ما فيه شرها ومفسدتها ،وما هذا إال شاه ٌد من الشواهد الكثيرة على فطرية هذا الدين
ومصدريته من لدن حكيم عليم ،أال يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
وهذا التذكير بالفضل مدعاة االلتزام بالهدي اإللهي والوقوف عند توجيهاته ،تأمل على سبيل المثال قوله
تعالى " :ولكن هللا حبب إليكم اإليمان وزينه في قلوبكم $وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم
الراشدون" فجعل العصيان والفسوق $والكفر في مقابل نعمة اإليمان بحيث يرغب من استقر اإليمان في
قلبه عن أن يجمع إليه من النقائض ما يكون كفرا ُ بنعمة هللا عز وجل.
ولعل من أصرح العبارات القرآنية في هذا السياق قوله تعالى ":يمنون عليك أن أسلموا قل ال تم ُّنوا عليَّ
إسالمكم بل هللا يمن عليكم أن هداكم لإليمان إن كنتم صادقين"[ ،]68وهنا نكتة دقيقة وهي أنه لما ذكر
امتنان األعراب باالستجابة لدعوة الرسول صلى هللا عليه وسلم جاء بلفظ اإلسالم ليدل على عدم بلوغهم
مراتب الكمال في حين أنه لما ذكر امتنان هللا عليهم بهذا الدين جاء بلفظ اإليمان الدال على تمام نعمة
الهداية[ ]69فتم فضل هللا وظهر $قصور $عباده عن أداء حق الشكر كما زعموا ،وهللا أعلم.
لقد جاءت اآليات في هذه السورة بجملة من التنبيهات على خطورة العواقب المترتبة على ترك التزام
منظومة األخالق القرآنية المعروضة ،ففي سياق األمر بالتثبت في األخبار جاء التحذير من عاقبة الندم
المترتبة على التصرف بغير علم وتثبُّت وتبيُّن ،فقال تعالى ":فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"[ ،]70وفي$
30
سياق النهي عن القبائح االجتماعية – كالسخرية والتنابز $واللمز – جاء التحذير من وقوع $الظلم بين أفراد$
المجتمع نتيجة االستهزاء بالغير واالفتراء عليه ومبالغة الغير في الرد على تلك السخرية واالفتراءات،
فقال تعالى ":ومن لم يتب فأولئك $هم الظالمون"[ ]71وهكذا
إن أحداً ال يستطيع أن يفرض التزام مبدأ من المبادئ أو خلقا ً من األخالق بقو ٍة
خارجية أو سلطة قانون ،فها هي الدول اليوم تعيش تحت سلطة قوانين وضعية
التزام
ٍ ونظم قضائية وشرطة وقوات عسكرية لكنها لم تستطع أبداً أن تحقق أي
حقيقي باألخالق – إن صح أن يسمى ما عندهم أخالقا ً – ولهذا كان ال بد من حل
هذه اإلشكالية في منظومة األخالق اإلسالمية ،وليس أقدر على ذلك من قوله
تعالى في ختام هذه السورة ":إن هللا يعلم غيب السماوات واألرض وهللا بصير
بما تعملون" إذ أن استشعار هذه الرقابة الدائمة من هللا عز وجل كفي ٌل بتنمية
الوازع النفسي في كل فر ٍد بما يحقق التزامه بهذه األخالق واآلداب ولو كان في
خلوة من الناس أو معزل عن بطش السلطان وقهر السلطة والقانون،ـ وبهذا فقط
تنضبط منظومة األخالق في المجتمع .وبهذا يتبين لنا اكتمال عنصر آخر من
عناصر اإلعجاز في هذه السورة المباركة.
لقد قررت سورة الحجرات بعض المبادئ $التي يعين فهمها على التزام منظومة األخالق الواردة
في السورة ،وبعض هذه المبادئ يؤصل المساواة بين الناس بحسب القدر المشترك من طبيعة
الخلق البشري ،وبعضها اآلخر يؤصل للقدر المشترك األدنى من مسمى اإلسالم بين من
ينتسبون لهذا ا لدين ويُفصِّل في مقدمات الترقي $في درجات اإليمان األعلى تاركا ً تقرير تحقيق
ذلك على الحقيقة إلى هللا عز وجل ،فلنتأمل هذه اآليات ":يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم $شعوبا ً وقبائل $لتعارفوا إن أكرمكم عند هللا أتقاكم إن هللا عليم خبير .قالت األعراب آمنا
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا $أسلمنا ولما يدخل اإليمان في قلوبكم وإن تطيعوا $هللا ورسوله ال يلتكم
من أعمالكم شيئا ً إن هللا غفور رحيم .إنما المؤمنون الذين آمنوا باهلل ورسوله ثم لم يرتابوا$
وجاهدوا $بأموالهم وأنفسهم في سبيل هللا أولئك هم الصادقون"[ ]73ويمكن تعداد المبادئ
المستخلصة من هذه اآليات فيما يلي:
31
فكلنا آلدم وآدم من تراب ،وال يرفع إنسانا ً فوق إنسان شيئ مما له عالقة بطبيعة الخلق البشري كاللون
والعرق $والجنس؛ فاألب واحد واألم واحدة كما قال ":إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" وهذا نظير قوله
نفس واحدة وخلق منها زوجها $وبث منهما رجاالً كثيراً
تعالى ":يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من ٍ
ً
ونسا ًء واتقوا هللا الذي تساءلون به واألرحام إن هللا كان عليكم رقيبا"[ ]74قال الحافظ ابن كثير في تفسير
هذه اآلية ":فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء ،وإنما يتفاضلون باألمور$
الدينية وهي طاعة هللا تعالى
داع من
ومتابعة رسوله صلى هللا عليه وسلم ]75[" $قلت :وبتقرير هذا المبدأ ينتفي في ذهن المكلف أي ٍ
دواعي االستعالء على الغير من حيث صورة خلقه ونسبته البشرية ،فينهدم ركن من أركان التفاضل
الموهوم $الذي قد يسوغ للبعض استحالل عرض أخيه بغيبة أو نميمة أو تجسس أو سخرية أو تنابز ولمز
ونحوه.
بعد تقرير التساوي في النسبة الطينية ونقض التفاضل على أساسها كان من الطبيعي أن تنبه اآلية على
معيار التفاضل المعتبر شرعا ً فقال تعالى ":إن أكرمكم عند هللا أتقاكم" وقد $جاء في الحديث الصحيح عن
أبي هريرة رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ":إن هللا ال ينظر إلى صوركم
وأموالكم $ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وهنا أمر مهم جداً وهو أنه لما كان معيار التفاضل المعتبر
شرعا ً هو التقوى ختمت اآلية بقوله تعالى":إن هللا عليم خبير" لتنبه إلى أن هللا تعالى هو الذي يعلم
المتقين من غيرهم ،فقطعت بذلك الطريق على أي فرد يريد أن يتفاضل على غيره ولو في هذا المعيار،
إذ ليس المقصود $من تحديد التقوى معياراً للتفاضل أن يهزأ الناس بعضهم ببعض أو يستبيحوا غيبتهم أو
لمزهم أو نحو ذلك ألنهم دونهم $في التقوى ،وإنما المقصود كف الناس عن بعضهم البعض وردهم في
التفاضل إلى علم هللا تعالى ألنه هو سبحانه وحده الذي يعلم المتقي على الحقيقة من غيره ،ولقد جاء ذلك
بوضوح $تام في سورة النجم حيث قال تعالى ":فال تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"
لما ردت اآلية الناس إلى معيار التقوى وكان من المشاهد ادعاء بعض الناس ألنفسهم مراتب ليست لهم
على الحقيقة كان من الالزم بيان مراتب اإليمان والتنبيه على الفرق بين اإلسالم واإليمان وأن تحقيق هذه
األسماء ال يكون بالتمني والدعوى وإنما باستكمال $المقدمات واألعمال ،تأمل معي قوله تعالى":قالت
األعراب آمنا قل لم تؤمنوا $ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل اإليمان في قلوبكم" قال الحافظ ابن
كثير ":والصحيح أنهم قوم ادعوا ألنفسهم مقام اإليمان ولم يحصل لهم بعد فُأدبوا $وُأعلموا أن ذلك لم
يصلوا إليه بعد" ،قلت :ثم بينت السورة ما يلزم لتحقيق مرتبة اإليمان فقال تعالى":إنما المؤمنون الذين
آمنوا باهلل ورسوله ثم لم يرتابوا $وجاهدوا بأموالهم $وأنفسهم في سبيل هللا أولئك هم الصادقون" فبدأت اآلية
بلفظ "إنما" وهو من أساليب الحصر لتحدد من هم المؤمنون ال ُكمَّل وليقف كل فرد عند حده فال يدعي
لنفسه مرتبة ليست له .وعالقة كل ذلك بمسألة األخالق تجريد أفراد $المجتمع من أي حجة أو ذريعة
وهمية لالستعالء على إخوانهم المسلمين ،فيعود $كل فرد إلى مالحظة عيوبه وأخطائه وقصوره فينشغل
بذلك عن تتبع عيوب وأخطاء اآلخرين وهتك سترهم $بألفاظ السخرية والنميمة والغيبة واللمز ونحوه،
32
وهذا البيان الشمولي في السورة ثمرة من ثمار اإلعجاز القرآني الفريد.
الخاتمة:
وختامًا..
الحمد هلل الذي بنعمه وعزته و جالله تتم الصالحات ،و الصالة و السالم على من أرسله رحمة للعالمين
و صالة و سالما متالزمين إلى يوم الدين ،أما بعد:
33
إنَّ هذه اإلشارات التي جاءت في كتاب هللا عز وجل لِ َت ْش َرح للمسلمين كيف يُمكن أن يتعاملوا مع بعضهم$
دستور أخالقيٍّ فري ٍد
ٍ البعض ،هي ليست في واقع األمر خاصَّة بالمسلمين وحدهم ،بل هي تتح َّدث عن
يصلح للتطبيق $على ك ِّل أمم األرض ،وهي قواعد واضحة ب ِّي َنة ،وعالق ُتها بالتعارف والتعايش وثيقة
ظاهرة؛ ولذلك فهي دعوةٌ عالمي ٌَّة من القرآن الكريم لك ِّل البشر أن ي َُح ِّققوا إحدى الغايات الكبرى من خلقهم
مختلفين ،وهي غاية "التعارف" ،ولم يكتفِ القرآن باإلشارات $المجرَّ دة إلى الغاية ،بل وضع آليَّات.
بهذا أكون قد انتهيت من استعراض موجز $لمنظومة األخالق واآلداب االجتماعية في هذه
السورة العظيمة التي يصح أن يقال إنها سورة األخالق ،ولقد تبين معنا استيفاء محاور التعامل
األخالقي $وآدابه على شتى المحاور $التي تؤلف أركان التفاعل في المجتمع المسلم ؛ المشرع
والقيادة وأفراد المجتمع .واستطردنا بعض الشيء في تفصيل هذه اآلداب ودورها في ضبط
مسيرة المجتمع المسلم بما يرضي هللا عز وجل ثم تطرقنا في مبحث مستقل إلى بعض األدوات
التي عززت السورة من خاللها االلتزام بهذه اآلداب.
ويمكن اإلشارة إلى أهم نتائج هذا البحث في النقاط التالية:
األخالق في اإلسالم منبثقة من عقيدة اإلسالم تنضبط $بها من جهة وتصب في بوتقة حراسة .1
العقيدة من جهة أخرى ،وليست األخالق في اإلسالم نظريات وفلسفات يتيه فيها أصحابها كما
تتيه فيها المجتمعات التي تقع فريسة االفتتان بها.
شمولية المنظومة األخالقية اإلسالمية :بل إن هذه السورة على قصرها $وإيجازها قد جمعت .2
مقومات الفالح والثبات في ضبط المجتمع اإلسالمي $بما ال يمكن تحقيقه البتة بشتى النظم
الوضعية مجتمعة ،فما بال المرء لو أنه استقرأ القرآن الكريم كله سبراً لباقي التوجيهات
األخالقية.
ً
وحرمة، ثبات منظومة األخالق اإلسالمية :فاألخالق $اإلسالمية تدور مع حدود $الشرع ِحالً .3
بخالف األخالق الوضعية المصلحية التي تتبدل وتدور $مع المصالح فأخالق اليوم مثالب الغد
والعكس بالعكس.
تميُّز منظومة األخالق اإلسالمية برقابة ذاتية شرعية تضمن لها درجة من االلتزام الفردي ال .4
يمكن تحقيقها بغير هذا الوازع اإليماني وال بأي سلطة بشرية قهرية.
واخيراً ،فإني أسأل هللا تعالى أن يوفقني للعمل بما علمت وأن يتقبل ما وافق $الصواب منه ويغفر
34
عما زل به قلمي ،إنه خير مأمول وأكرم مسؤول ،وصلى هللا على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
فأحمد $هللا تعالى على كرامه و امتنانه بأن أعاننا في إتمام هذه المذكرة و أسأله تعالى أن يرزقنا $الثواب و
الجزاء الحسن به ،و أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم .هذا وأسأل هللا الكريم ،رب العرش العظيم ،أن
يوفقني $و جميع المسلمين لما يحب و يرضى .و صلى هللا و سلم و بارك على سيدنا و نبينا محمد و على
آله و صحبه أجمعي
المراجع
آداب وضوابط المجتمع اإلسالمي من خالل سورة الحجرات د .وسيم فتح هللا
األخالق االجتماعية البانية في سورة الحجرات رضوان بن شقرون
35
القرآن الكريم
الجامع ألحكام القرآن -ألبي عبد هللا محمد القرطبي
المجتمع المسلم في ضوء سورة الحجرات ـ د .محمد سعيد محمد
لتربية األخالقية في ضوء سورة الحجرات .التربية األخالقية .في ... عبدالسالم حمدان
عودة اللوح
لتربية األخالقية في ضوء سورة الحجرات .التربية األخالقية .في ... عبدالسالم حمدان
عودة اللوح
في ظالل القرآن – سيد قطب عرام
قواعد اإلستقراراإلجتماعي للمجتمع المسلم في ضوء سورة الحجرات
د .عبد الرحمان السايد عبد الفتاح
الفهرس
1.................................................................................................................................. المقدمة
36
2................................................................................................................................... التمهيد
9......................................................................................................................... الفصل األول
رسوله9................................................................ : المبحث األول :األدب مع هللا جل جالله ومع
المطلب األول : تحلي الفرد المسلم ِباألدب مع هللا جل جالله 9......................................................................
المطلب الثاني :األدب مع الرسول صلى هللا عليه وسلم؛ 9............................................................................
والتصالح 23..............: المبحث الثاني :جواز الكذب ألجل اإلصالح -الخصم المتعنت -بعد االتفاق
المطلب األول : جواز الكذب ألجل اإلصالح 23.................................................................................... :
المطلب الثاني :الخصم المتعنت 24................................................................................................. :
المطلب الثالث :عد االتفاق والتصالح 24............................................................................................ :
ربط اآليات بالواقع 24................................................................................................................ :
37
30........................ الفصل الخامس: منهج السورة في تقرير آداب وضوابط المجتمع
واألخالقية 30..................................................... المبحث األول :وسائل تعزيز التوجيهات التربوية
المطلب األول :الترغيب والترهيب30................................................................................................ :
المطلب الثاني :التذكير بنعمة هللا وفضله30.......................................................................................... :
المطلب الثالث :بيان عواقب عدم التزام هذه اآلداب31............................................................................ :
المطلب الرابع :تنمية الوازع النفسي لاللتزام بهذه األخالق31...................................................................... :
38