Professional Documents
Culture Documents
وطن اسمه فيروز
وطن اسمه فيروز
وﻃﻦ اﺳﻤﻪ
ٌ
ّ
ﺧﺎص إﺻﺪار
ﺧﺎص
ّ إﺻﺪار
ِ
وأﻧﻤﺎط وﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﻘﺎﻻﺗِﻬﻢ
ِ ﺒﺮ ُز ﻫﺬا اﻹﺻﺪار ،ﻋﻠﻰ ﺗﻌﺪ ِ د ﻣﺆ ﻟﻔﻴﻪ ،وﺗﻨﻮ ِّع ﺑﻠﺪاﻧِﻬﻢ واﺧﺘﺼﺎﺻﺎﺗِﻬﻢ ﻳُ ِ
اﻻﻋﺘﺮاف ﺑﻌﺒﻘﺮﻳ ّ ِﺔ اﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ ،ﻧﺼﻮﺻﺎً وأﻟﺤﺎﻧﺎً وﻣﻮﺳﻴﻘﺎ ،وﺑﻔﺮاد ِة ﻓﻴﺮوز ،ﺻﻮﺗﺎًِ ﻣﻘﺎرﺑﺎﺗِﻬﻢ ،إﺟﻤﺎﻋﺎً ﻋﻠﻰ
أدق اﻟﻤﻌﺎﻳﻴﺮ" ،رﻣﺰاً" ﻟﺒﻨﺎﻧﻴّﺎً ،و"أﻳﻘﻮﻧﺔً" ﻋﺮﺑﻴّﺔً ،و"ﻧﺠﻤﺔً"
وﻓﻖ
َ إﺟﻤﺎﻋﻬﻢ ﻋﻠﻰ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ،َ ﺒﺮ ُز
وأداءً ،ﻛﻤﺎ ﻳ ُ ِ
ﻋﺎ َﻟﻤﻴ ّﺔ ،و"رﺳﻮﻟﺔً" إﻧﺴﺎﻧﻴ ّﺔ.
ٌ
وﻃﻦ اﺳﻤﻪ
ٌ
َﺖ ْ ُ ّ
واﻟﻮﻃﻦ اﻟﻤﻘﺼﻮد ُ ﻫﻨﺎ ﻣﺘﻌﺪّد ُ اﻟﻬﻮﻳ ّ ِﺔ واﻷﺑﻌﺎد .إﻧﻪ ﻟﺒﻨﺎن ،اﻷرض اﻟﺘﻲ أﻧ َﺒﺘ ْ
ُ وﺣﻲ ﻫﺬه اﻟﺮؤى.
اﻟﺰﻣﺎن ﺑﻤﺜﻠﻬﺎ ،وﻫﻮ اﻟﺒﻠﺪ ُ اﻟﺬي ﻏﻨّﻮ ُه وأﻏﻨَﻮ ُه
ُ َﺖ ﻓﻴﺮوز واﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ ،ﻫﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﺘﻲ ﻗﻠّﻤﺎ َﻳﺠﻮد ُواﺣﺘ ََﻀﻨ ْ
ﺑﺈﺑﺪاﻋﺎﺗِﻬﻢ اﻟﺜﺮﻳ ّﺔ.
ﻫﻤﻮم
َ وإﻧﺠﺎزات ﺣﻀﺎرﺗﻬﺎ ،وﺣﻤﻠﻮا
ِ وﻣﺂﺛﺮ ﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ
ِ ﺣﻮاﺿﺮﻫﺎ
ِ وﻫﻮ أﻳﻀﺎً دﻧﻴﺎ اﻟﻌﺮب اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻨّﻮا ﺑﺄﻣﺠﺎ ِد
اﻟﻤﺜﺎﻟﻲ اﻟﻤﺘﺨﻴ ¦ﻞ
اﻟﻮﻃﻦ اﻟﺒﺪﻳﻞ ،اﻟﻌﺎ َﻟ ُ
ﻢ ُ ﻧﻀﺎﻻت ﺷﻌﻮﺑﻬﺎ وﻋﺪاﻟ ِﺔ ﻗﻀﺎﻳﺎﻫﺎ .وﻫﻮ ِ ﺣﺎﺿﺮﻫﺎ ،وﺗﻀﺎﻣﻨﻮا ﻣﻊ
واﻷﻋﺪل ،وﺳﻌﻴﺎً إﻟﻰ
ِ اﻷﺟﻤﻞ
ِ ِ
وﺑﻬﺪف ﺗﻐﻴﻴﺮه إﻟﻰ اﻟﻮاﻗﻊ وﺗﺮد ّﻳﻪ،
ِ ِ
ﻟﺒﺆس اﻟﺬي رﺳﻤ ُﻪ اﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ ،رﻓﻀﺎً
اﻻرﺗﻘﺎءِ ﺑﻪ إﻟﻰ اﻷﻋﻠﻰ واﻷﺳﻤﻰ.
ُ ّ
ي جزء منـه أو تخزينه في نطاق
الخـاص مـن «أفق» أو أ ّ ال ي ُسـمح بإعـادة نشـر هـذا اإلصـدار
ل من األشـكال من دون اإلشـارة إلى المصدر.
ي شـك ٍ
اسـتعادة المعلومات أو نقله بأ ّ
الطبعة األولى
2022م – 1444هـ
النصوص المنشورة في هذا اإلصدار تعب ّر عن وجهات نظر كتّابها ،وال تعكس بالضرورة رأي
العربي»
ّ «مؤسّ سة الفكر
العويط
إشراف :أ .د .هنري َ
ّ
الخاص من إعداد سامية الحمصي داغر ،وهي مستوحاة من صور *رسومات هذا اإلصدار
ّ
منصات إلكتروني ّة متداولة ومنشورة على عد ّة
ُ ُ
ِ
تسلسلة ،وأثبتت هذه الحواشي في آخر هذا اإلصدار *أعطيت حواشي المقاالت أرقاماً ُم
على الصفحات .351 – 347
مـدخـــــل
ٍ ُ
تكريم للســي ّدة فيروز فــي عيد ميالدها الخــاص من «أفق» أردنــاه بادر َة
ُّ هــذا اإلصــدا ُر
ّ
انفكت وعربون شكر ٍ على ما
َ الثامن والثمانين ،احتفاءً بصوتها اآلسر وأدائها المتمي ّز،
عمق المشاعر والذكريات واألحالم .وهو ومفجر ٍ ل ُ ض ّ
خاّلبٍ اآلالف منّا بفي ٍ
َ أغانيها تغم ُر
ِّ
يوجه ،من خاللها ،تحي ّ َة تقدير ٍ إلى جميع الذين أســهموا في اكتشــاف موهبتها الفريدة ِّ
وتوفير دواعــي تألّقها
ِ إطالق مســيرتها الفنيّــة االســتثنائي ّة
ِ ورعايتهــا وصقلهــا ،وفــي
نصوص أغانيها ومؤ ِّلفي موسيقاها وألحانها، ِ وتَسنّمها ذرى النجاح الباهر ،مِ ن واضعي
ثالثي الرحابنة الفذّ :منصور وعاصي وزياد.
ُّ وفي طليعتهم
ُ
يمتاز اإلصــدار ن هذا الكتــب التي تناولــت هذه الظاهرة كثيــرة .غير أ َّ ن ُ
نعــرف أ ّ نحــن
َ َ
ع عربي بعينــه ،وال يقتص ُر على نو ٍ نســب إلــى مؤ ِّل ٍ
ف واحد ،وال ينحصــ ُر في بلد ٍ بأنّــه ال ي ُ َ
ٍّ
الدول ِ
مختلف جماعي ،ينتمي المشــاركون في تأليفه إلــى ٌ
عمــل كتابــي معيّــن .فهو
ِ ٌّ ٍّ
5
ومقاالت تت ّ ُ
سم ٍ ٍ
دراســات ســياقات مؤتلفة ٍ ومتكاملة،
ٍ العربي ّة ،ويضمُّ بين دفّتيه ،في
ُ
يغلــب عليها ٍ
وشــهادات األكاديمــي ومضامينها الفكري ّة،
ّ البحثــي ومنحاهــا
ّ بطا َبعهــا
التوثيق
ِ الذاتــي والخواطــ ُر التأملي ّة ،وتتجاو ُر علــى امتدا ِد صفحاتِه «مناهــ ُ
ج» ّ الطا َب ُ
ــع
والتحليل والتقييم.
ِ
ِ
وأنماط وموضوعــات مقاالتِهم
ِ وعلــى تعــد ّ ِد مؤ ِّلفيه ،وتنــو ِّع بلدانِهم واختصاصاتِهــم
االعتراف بعبقري ّ ِة الرحابنة ،نصوصاً وألحاناً
ِ مقارباتِهمَ ،ي ُ
برز في هذا اإلصدار إجما ُعهم على
أدق
ِّ وفق
َ ُ
يبرز فيه إجما ُعهم على اعتبارها، وموســيقا ،وبفراد ِة فيروز ،صوتاً وأداءً ،كما
المعايير« ،رمزاً» لبنانيّاً ،و«أيقونةً» عربيّةً ،و«نجمةً» عالمي ّة ،و«رسولةً» إنساني ّة.
وإنجازات حضارتها،
ِ ومآثر تاريخهــا
ِ حواضرها
ِ وهــو أيضــاً دنيا العرب التي تغنّوا بأمجــا ِد
نضاالت شعوبها وعدال ِة قضاياها.
ِ هموم حاضرها ،وتضامنوا مع
َ وحملوا
الواقع
ِ ِ
لبؤس المثالي المتخي َّل الذي رسم ُه الرحابنة ،رفضاً
ُّ مالوطن البديل ،العا َل ُ
ُ وهو
واألعدل واألهنى ،وسعياً إلى االرتقاءِ به إلى األعلى
ِ األجمل
ِ ِ
وبهدف تغييره إلى وترد ّيه،
واألسمى والمطلق.
العربي
ّ مؤسّ سة الفكر
بيروت في 2022 / 11 / 20
6
المحتــويــــات
ُ
فيـروز التي في المكـان والزّمان ُ
فيـروز التي في الوجدان..
د .عبد اإلله بلقزيز 11.....................................................................................................................
ُ
لتكن هذه األيقونة /الملكة تريدون خالص لبنان؟
نبيه البرجي 18...............................................................................................................................
الرحباني
ّ فيروز :سماء الكوكب
هنري زغيب 28.............................................................................................................................
ُ
والمستقبل فيروز ُمطربة الماضي والحاضر
د .رفيف رضا صيداوي 36.............................................................................................................
فيروز الكلمات
د .سعد البازعي 47.......................................................................................................................
7
الفلسطيني
ّ السي ّدة فيروز والولد
د .فيصل در ّاج 142.........................................................................................................................
ُ
باب َمدينتِنا لن يُقْفَ ل
د .جوني منصور 146......................................................................................................................
الدرامي
ّ الغنائي
ّ لفيروز أيضاً «ثنائي ّتها» في تعبيرها
د .فيكتور سحّاب 156....................................................................................................................
العربي
ّ فيروز في الخليج
د .حسن مدن 207........................................................................................................................
بين وقار الوقْفة وجالل النَّظرة :فيروز ..وجهة نَظر ٍ جزائري ّة
سعيد هادف 238.........................................................................................................................
8
ُ
فيروز في الذاكرةِ العميق ِة أل ّ
م كلثوم الهند
أحمد فرحات 246.........................................................................................................................
ُ
المتعاقِبة :فيروز وما فوق الجمال نجمة األجيال
د .إلهام نصر تابت 269.................................................................................................................
صوتك فيروز و َل ْ
ن أتبارى في دراستِه مع أحد ِ أرا ُه
العويط 292.....................................................................................................................
د .عقل َ
الرحباني
ّ فيروز في وسط المثلّث
عمّار مروّة 336............................................................................................................................
الحواشي 347.............................................................................................................................
9
د .عبد اإللـه بلـقـزيز*
ي الثّقافــ َة العربي ّة بواحــد ٍ من أخصب مــوار ِد الحداثة فيها ،وقــد ّم للذّائق ِة ّحبانــي -الفيــروز ّ
ُّ الر
ُ
حيث تَقْوى ُ
ق قدرتُها إلى الجمالي ّة العربي ّة من الماد ّةِ اإلبداعي ّة ما به ترتقي وتَـــن ْ َصقِ ُل وتَسْ ُ
ــم ُ
در أن وُجِ َ
د له في العالم ن ََظائر. فيروزي ساحِ ر ٍ َن َ
ٍّ ٍ
صوت -على
ّحباني -الفيــروزيّ؛ الكيمياءُ ُ
المشــروع الر كيميــاءٌ سحري ّ ٌ
ـــة هــي تلك الكيمياء التــي تكوَّن منها
ُّ
َ
وأرف ِع أداءٍ (فيروزيَّـي ْن)، وت التي ج َم َعـــت بين أغنى لغة ٍ موسيقـــي ّة ٍ (رحباني ّة) وأعمق َ
وأد ْ َفـــ ِأ َص ٍ ِ َ
11
ُ
والمضاهاة في السّ ــياق ضارع ِة ي على ُ
الم َ والع ِص ُّ
َ الم َرك َّ ُ
ب المذهِـــل، فتكــوَّن مــن مزيجهما ذلك ُ
ي هذه اإلمبراطوري ّة الموســيقي ّة- َ
شــريك ْ العربي ،منذ خمســيني ّات القــرن الماضي .كأ ّ
ن ّ الفن ّ ّ
ــي
ّ
مبكـــراً ،أن ال قيام َة لمثل الغنائيّــة (عاصــي ومنصــور مــن جهة ،وفيروز من جهــة أخــرى) أد ْ َركا،
ريكـــي ْن ضالّته في اآلخر
الش َّ كـــل من ٌّ هذه اإلمبراطوري ّ ِة من دون لقاءٍ وشراكة بينهما .لقد َو َج َ
د
الموســيقي للغناء لن
ّ مشــروعهما الجديد في التّأليف َ فتمسَّ ــك به :الرّحباني ّان اللّذان َأدْركا أ ّ
ن
بشري ،مثل صوت فيروز ،يملك ٍّ فوق-
ِ بشري ،أو ،باألحرى،
ٍّ ٍ
صوت َيـــجِ د حامِ َل ُه إلى العا َلم إال ّ في
ٌ
صوت آخر؛ ثمّ فيروز من طاقات التّعبير عن الحساســي ّة الجمالي ّة الرّحباني ّة الرّفيعة ما ال يملكه
ّحباني لصوتها آفاقاً ال ت ُ َحد ّ أمام ِإفراجِ ه عن طاقاته ودفائِـنِه من
ُّ الموسيقي الر
ُّ
التي فتح الت ّ ُ
أليف
ٍ
نمط عرفت كيف تستخرجها في ْ واالقتدار بحيث
ِ طن ِة والذّكاءِ ُ
الكبيرة من الفِ ْ كانت السّ ـي ُ
ّدة ِ كـنوز ٍ
ن الموســيقا والغناء ،فيدا ،حينَها ،كما لو أ ّ والبهاءِ أداءٌ .و َبـــ َ الجمال
ِ ْ
من األداء ال ي ُشــ ِبه ُه في
َ
ّ
الشراكة الرّحباني ّة -الفيروزي ّة كي َيشهد معها ْ
ينتظران اللّحظ َة التي تَـأزَ ف بميالد ِ العربي، الوطن
ّ
ّ
والعربي انعطافتَه التّاريخي ّة الثانية بعد انعطافته األولى ،في بنانيّ الغنائي الل الموسيقي- النتا ُ
ج
ّ ُّ ّ ّ
مطلع القرن الـ ،20مع سي ّد درويش.
ُ
ن تأسيســاً ثانيــاً متجــد ّداً للموســيقا والغناء ش ِ
ــر َع فيه ،في ســنوات َيصــحّ ،تمامــاً ،أن يقــال إ ّ
صوت السّ يّـدة فيروز .يعود
َ متوس َلـــي ْن -في ذلك -
ِّ الكبيري ْن
َ ِـــبل الرّحباني ّين
الخمسيني ّات ،من ق َ
التّأسيس األوّل إلى مطالع القرن على يد سي ّد درويش .ولك ّ
ن هذا ليس يعني أ ّ
ن ما بين سي ّد
ّ
الشيخ زكري ّا ّحباني كان ِصفْراً على اليسار؛ إذ ْ ال أحد يملك أن َيجحد إسهامات درويش وعاصي الر
ّ
ــنباطي ،وأصواتاً
ّ أحمــد ،ومحمّــد القصبجي ،ومحمّد عبد الوه ّــاب ،وفريد األطرش ،ورياض السّ
ن لِلّحظ ِة الرّحبانيّــة -الفيروزي ّة فرا َدتَها التي رفيعــ ًة مثــل صوت ّ
أم كلثوم وأســمهان ...إلخ .لك ّ
ُ ّ
ال تُشبهها فيها إال ّ اللحظة الد ّرويشي ّة؛ وهي َفرادة تَـــ ُرد ّ ،في المقام األوّل ،إلى ُمن ْ َج ِ
ـــزها الذي
ق؛ فِ ع ُْل الخروج َصنَعهــا ومي َّزهــا ومايزها عن غيرها :فِ ع ُْل التّأســيس بما هو فِ ع ُ
ْـــل ابتكار ٍ وخلــ ٍ َ َ
ُ ُ ّ
ت هذه اللحظة التّأسيســي ّة الجديدة وكأنّها د ْ ٍ
عبير إلى بنية جديدة أخرى .لِذلك َبـــ َ من بنية ٍ في الت ّ
ِ
االنفجار العظيم في التّعبير واللّغة ِ ُ
نفسها كلحظة :لحظة س ضوءَها من وه ْـجٍ َأن ْ َج َبـت ْ ُه هي
تَـقْ ِب ُ
ُ
شأة البـــدْءُ والن ّ
ق ي ُسْ تَـــأنَف به َ سمة مائزة في ّ
كل عملي ّة خل ٍ ٌ الموسيقـيَّـــي ْن؛ وهذه ،استطراداً،
خلدوني شهير. ٍّ و ٍ
ل على قـ ْ
وبمسْ َرحـ ِة
َ (الم َغـنَّى) ،وباألوركسترا (اآلالت والتّوزيع)،
ُ ي ّ
ص الشعر ّي ُشبه اعتناءُ الرّحبانيَّـــي ْن بالن َّ ّ
الغنائي) ...اعتناءَ ســي ّد درويش بهذه األبعاد والمســتوياتَ .ب َح َ
ث الرّحابنة عن ّ العمل (المســرح
ونسي وبديع خيري ،التي توسّ لها سي ّد
ّ لغة ٍ شعري ّة بسيطة -ولكن جميلة -بساط َة لغة بيرم الت ّ
12
الشعبي ّة في عشرات القصائد التي ألّفاهاُ ،م َمرَّخ ًة
ّ ّ
الشعري ّة َجحا في اجتراح هذه اللّغة
درويش ،ون َ
ّ ُ
اوزا باألوركســترا الحديثة ن رومانســي ّة ُع ِرفــت بها اللغة الرّحباني ّة :موســيقاً وشــعراًَ .
وج َ بأدهــا ٍ
َـبا رقيَ ،
فكـت َ ّ
الش نظير مجاوز ِة األوركسترا الد ّرويشي ّة الت ّ َ
خت َ طرائق األداء التي كانت في عهدهم
ّ
الم َركَّب في
ُمل الموســيقي ّة ُ
نظام الج َ
َ الهارموني -
ّ آلالتهــا كتابــ ًة حديث ًة ت َ
َرج َمت بها -في أدائها
أوركســترالي في منتهى
ّ ّحبانــي؛ حيــث بات معهما -فقـــط -ي ُمكن اإلصغاء إلى أداءٍ
ّ التّأليــف الر
اآللي للجمل الموســيقي ّة ،وتحقيــق التّناعم بين
ّ البهــاء واإلنســيابي ّة نتيجــة النّجاح فــي اإلخراج
وتحرير التّعبير من سطوته ّ
الضاربة ف كبير ٍ في اإليقاع ّ
تقش ٍ الوتري ّات وآالت النّفخ النّحاسي ّة ،مع
ِ
دشنه سي ّد درويش -وذَهبا به إلى األبعد: ّ الغنائي -الذي في الغناء .وأخيراً ،استأنَفا المسرح
ّ
الموسيقي
ّ والملحمي ،والتّخلُّـل
ّ ياسي ،والنَّـــفَ س الد ّرامي
ّ االجتماعي والسّ
ّ في الحبكة ،والنّقد
متجاوزَ يْـن به أسلوب األوپريت -عند عبد الوه ّاب
ِ الكوريغرافي الرّاقص...إلخ،
ّ للحوارات ،والتّعبير
الغنائي وحده
ّ ّرويشــي .ولقد كان المسرح
ّ ده على أساسه الد خاص ًة ُ -معي َ
ديْـــن تشــيي َ ّ واألطرش
العربي؛ اإلبداعي ــموق صنيع درويش والرّحابنــة وارتفاع مكانته في ّ
كل النِّتــاج س ُ القرينــ َة على ُ
ّ ّ ِ
مســرحي ،موســيقا ،غناء، (نص شــعريّّ ،
نص ّ فني مركَّـــب تركيباً إمبراطوريّاً ٌ
عمل فهو ،ابتداءً،
ّ ّ
أضعــاف ما يحتاجه عملٌ َ
ِ أضعاف وارد الفني ّة تمثيلــي ،رقــص)...؛ وهــو ،ثانياً ،يحتاج مــن َ
الم ِ ّ أداء
مســرحي لوحده .ويكفي دليال ً على تمي ُّز ســي ّد درويش والرّحبانيَّـــي ْن أ ّ
ن ّ غنائي أو
ّ موســيقي أو
ّ
ّ
غنائي فــي الثقافة العربي ّة ،وأنّه - ْ
دهم كانوا َيق َووْن على إنتاج مســرحٍ ّ
هــؤالء الثالثــة الكبار وح َ
ّ
بعـد رحيلهم -لم ي ُقَ ـي َّض لهذا المسرح بقاء.
ٌ
وكـثيرة دديْـن الكبيري ْن؛ المؤسس األوّل وتراث ُ
المج ِّ ِّ ُ
والجوامع بين تراث ُ
كـات ٌ
كثيرة هي المشت ََر
لعل الفارق الوحـيد -بعـد فارق الثّالثين عاماً الفاصلة
ّ الش َبـه بين صنيع ٍّ
كل منهما. ِ
ّ اطنـو ِ
هي َم َ
ُ
يتأت لسي ّد درويش :صوت السّ يـدة َّ -أنّه تَأتّـى للرّحباني ّيْـن ذلك الرّأسمال الفن ّ ُّ
ـي الرّفيع الذي لم
العربي الكبير، ٍ
بيت في الوطن ـوت الذي حمل المشروع الموسيقي الرّحباني إلى ّ
كل الص ُ
فيروز؛ ّ
ّ ّ ّ
ُ
الحياة، العربي إلى الرّحاب الكونيّـة .حتّى تراث سي ّد درويش نفسه دب ْ
َّت إليه بل الذي حمل الغناء
ّ
ثانيــةً ،بصوتهــا الــذي حمله إلى اآلفــاق« :زوروني»« ،طلعت يــا َمح ْال نورها»« ،الحلــوة دي»« ،أنا
هويت»« ،يا شادي األلحان» ...إلخ ،فكانت تلك أج ْزل تحيّـة ٍ من سي ّدة الغناء إلى سي ّد الموسيقا...
-1-
غنّـت السّ ـي ّدة فيروز مئات األعمال التي َوضعها َ
األخَـوان عاصي ومنصور ،بين أوائل الخمسيني ّات
ونهايــات السّ ــبعيني ّات ،والتي وضعها لها ابنُـــها زياد الرّحباني بين العــام 1970والفترة الرّاهنة
(ناهيــك بأعمــا ٍ
ل أخرى َوضعها لها زكي ناصيف ،وفيلمون وهبــي ،ومحمّد عبد الوه ّاب ،ومحمّد
13
قوالب موسيقـــي ّة -غـــنائي ّة متعــد ّدة ُ
ومتباينــة تراوحت َ صيـــغ ْ
ت في َ محســن .)...وهــي أعمــال
واري،
ِّ شــيدي ،والحِ
ِّ بيــن الرّومانســي ،والملحمــي ،واألوپرالــي ،والكالســيكي ،واالبتهالــي ،والن ّ
ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ
َت أداء هذه القوالــب جميعِ ها إتقاناً ال والفولكلــوري ،والتّواشــيح ،والموّال...إلــخ؛ وهي أتقَ ـــن ْ
ِّ
غنائي منها. موسيقي- ّ
متخصصة في أداء كل قالبٍ ّ ُّ
د عليه ،وبمقدار ٍ من التّألـق يوحي وكأنّها مزيـ َ
ّ ّ
جميعها
َ الغنائي كافّـــة ،فيعب ُرها
ّ ن نجــاح صوت فيروز في أن يتكـــي ّف مع أنــواع األداء ُّ
والحـــق أ ّ
عبوراً أفقـيّـــاً ،وفي أن يتن ّ
قـــل -بسالسة -بين السّ وپـرانو والباس (الخفيض) Basseإنّما مرد ُّ ُه
استعدادات صوتي ّة ،ودُر ْ َبـــة ٍ
ٍ ْ
اجتمعت في السّ ــي ّدة الكبيرة :من إلى جملة ٍ من العوامل متضافرة ٍ
14
الصوتي ّة من طريق التّمرين؛ للطاقة ّ العلمي المستمرّ ّ ـلالصـقْ ُ
الصوت؛ ّ لم َل َكة ّ ّ
ّ اإللهي َ
ّ بيعي-
ُّ الط
ن مختلفــة من الغناء؛ الــذّكاءُ الحــاد ّ والوقّاد (ومنه ُ
الخبــرة الخصيبــة المتراكمــة مــن أداءِ ألوا ٍ
ُ ن الذي يبلغ ،عند السّ ـــي ّدة ،درجة التّـــقديس؛ ثمّ الث ّ
ـــقافة الصــارم للف ّ ُ
االحتــرام ّ ذكاء ّ
الصــوت)؛
ن في العا َلم الموســيقي ّة العاليــة التــي كانت خبــزاً يوميّاً في عائلة ٍ مــن أرفع َ
أع ِ
اظم رجال الفــ ّ
والبهاء الذي تَـــفَ رَّد الجـــال ّ ُ ُ
الم ِ
َ صوت السّ ي ّدة فيروز بكل ذلك َ عاصر .ال غرابة ،إذن ،في أن يتفرّد
العربي بين منتصف القرن العشرين وسبعيـــني ّاته:
ّ به حتّى في دائرة األصوات الكبيرة في الغناء
ن وذوق :قبل ميالد زمن التّفاهة ٌ
أصوات جليلة؛ وحين كان لدى العرب غناءٌ وفـــ ٌّ حين كان هناك
في األربعين عاماً األخيرة.
-2-
ّحباني بذلك نائي الر ّ ُ
وانفراط عقــد الث ّحباني ،في منتصــف الثّمانيني ّات، ُ
رحيل عاصي الر لــم َي ُ
كــن
ّ ّ ّ
الظاهر َة الكاريزمي ّ َة الفيروزيّـــة، ّ
مســتقاّل ً ...لي ُنْهي ّ الرّحيل الفاجع ،وبانصراف منصور إلى العمل
َ
ْ َ
التي بدأت صعو َدها معهما في مطالع الخمســيني ّات ،بل ســرعان ما تَأقـــ َلمت مع هذا التّغيُّـــر
شــك فــي أ ّ
ن رحيل ٍّ ـــي في صورة جديدة .وما من نفســها وســلطانَها الفن ّ ّ
َ ْ
واســتأنفت الفاجــئ
ّ
ّحبانــي ليس تفصيال ً عادياً في تاريخ الموســيقا وفي تاريــخ الثقافة العربي ّة؛ ألنّه رحيل عاصــي الر
ّ
رئيس في إنتاج ّ
الصيغة ٍ ل ُ
رحيل فاع ٍ عربي في القرن العشرين ،و ،بالتّالي، موسيقي ل
أعظم عق ٍ
ِ
ّ ّ
القلب
ِ الرّحباني ّة -الفيروزيّـــة المتفرّدة التي نزلت من تاريخ الموســيقا والغناء العربي ّين منزل َة
َشأ من مزيجٍ ي في الغناء تَـــن َّ
ن األسلوب الفيروز ّ ّ
شك في أ ّ والمثال الرّفيع .وما من
ِ ّ
والصدارة
ٍ
طبقات وساللِم وطرائق استخدامه في األداء على
ِ وت وخصائ ِِصه العضوي ّة من جهة، فـذ ّ بين ّ
الص ِ
َ
وأب ْنيــة ٍ مــن الكتابة الموســيقي ّة مختلفة من جهة ٍ ثانية .وهذا يعني أ ّ
ن أســلوب عاصي ومنصور
ٌ
شــريك للسّ ـــي ّدة بعينها منه هو ،أيضاً،
مناطق َ
َ ي وتوظيفِ ه وتنمي ِة ّ
الصوت الفيروز ّ في توسُّ ــل
ن صوتها في حقبة ما بعد عاصي لن يكون فيــروز فــي فرادة صوتها وتمي ُِّزه .وقد يوحي ذلك بــأ ّ
ن بحتمي ّ ِة نشوءِ مثل ما قد يذهب إليه ّ
الظـ ُّ َ ُ
والحال إ ّ
ن األمر ليس عينَه في حقبة عاصي -منصور،
الفارق بين اللّحظتَي ْن.
ِ
ِـري ُ
ج مدرسة عاصي والرّحابنة ُ
حقبة ابنهما الكبير زياد ،وزياد خ ِّ حقبة ما بعد عاصي الفيروزي ّة هي
ن به ،فما َج ُر َؤ على إدارة س َ
ــك َ ان الذي َر ِب َي على صوت والدته وان ْ َ
والخــارج عليهمــا فــي آن ،والفن ّ ُ
صمة الرّحباني ّة ،وفي عزّ اندفاعته والب ْ
َ ـي عن ّ
الصيغة الرّحباني ّة ّ
الظهر له في عزّ استقالل عمله الفن ّ ّ
نائي فيروز -زياد أصوات أخرى تح ْمل مشروعه (جوزف صقر ،سامي حوّاط .)...ومع الث ّ ٍ للبحث عن
ّ
ي طوراً من التّكـــي ُّف الص ُ
وت الفيروز ّ ّ ُ
ستشــهد الرّحبانيّــة علــى مرحلتها الثانية ،ومعها ســيدخل ّ
15
الطاق ِة والقـــ ّ
و ِة والجمال فيــه؛ تلك التي صنعت جديــداً ،مــن غيــر أن َيفْتَـــاق إلى ٍّ
أي من موار ِد ّ
احر في النّفوس لردْحٍ من الزّ ِ
من طويل. لصوت فيروزَ سلطانَه السّ َ
و«حب ّو
َ ّ
مبكـــر من رحيل عاصي :منذ «ســألوني النّاس» ٍ
وقت ولقــد بــدأ عمــل فيروز وزياد منذ
ـــع ح أنّه تعاو ٌ
ُن شجَّ َ ّ
الشــباب بعــد .واألرج ُ ن ُ
بعضــن» وســواها فــي فترة ٍ لم يبلغ فيها ابنُها ســ ّ
مهما باختالف لغة زياد الموســيقي ّة عــن لغتهما (التي ال نعثر على عليــه عاصــي ومنصور على عِل ْ ِ
بصمتهــا فــي عمل زياد ســوى في أغنيات مســرحي ّته األولى «ســهري ّة» .)-1973-ت ُ ِّ
ـــوج التّعاوُن
بإصدار المجموعة الغنائي ّة «وحْدُن» ،ولكنّه استمرّ في سنوات الثّمانيني ّات ،وخصوصاً بعد وفاة
ُم َعت في: ح التّجربة الجديدة في التّـــبي ّن في عشرات األعمال؛ من تلك التي ج ِ
عاصيِ ،لتَب ْدأ مالم ُ
ُ
دمت«خلّيــك بالبيــت» ،و«كيفك إنت» ،و«مش كاين هيك تكون» ،و«إيه فيه أمل» ،أو التي قـــ ِّ
وإصــدار ُه في« :إلى
َ توزيعه
َ فــي حفــات مهرجانــات بيت الد ّيــن وبعلبك ،أو بعض ما أعــاد زياد
عاصي» ...إلخ.
ـــأت لــه منهما معاً :من قدرة ْ حظاً كبيراً من النُّج ِْح ألســبابٍ تهي ّ ُ
أصــاب العمــل بين فيروز وزياد ّ
الغنائي ،وعلى الموســيقي- كل قوالــب التّعبير ي المذهلــة على التّأقلُــم مع ّ الصــوت الفيــروز ّ ّ
ّ ّ
الموســيقي لزياد
ّ ُمــل والنّصــوص المؤلَّفــة على تلك القوالب؛ ومن حاجة المشــروع أداء الج َ
الطاقات الهائلة ْ
فمأتاها من ّ ُ
قدرة ّ ٍ
صــوت يح ْمله إلى العا َلم .فأمّا إلى َأ َج ِّ
ي َ الصوت الفيــروز ّ ـــل
ي األكبر لتلــك القدرة علــى التّكي ُّف يعب ّر م ُرهــا صوتُهــا ...وينفــرد بها .وقــد أتى التَّبـــ ِّ
د ُّ ض ِ التــي ي ُ ْ
16
الطبقـــي ّة ال إلى هدْأ ِة
وعنف عالقاتها ّ
ِ باليومــي :واقعي ّة تنتمي إلــى فوضى المدينة
ّ ومســكونة
ّ
الضيعة وجماعوي ّة روابطها األهلـي ّة.
-3-
ـن
ـو أم مِ َ ه َ ن األرض ُ المحاتِـد :أمِ َ أي َمحْتِـد ٍ هو من َ َي َحا ُر المرءُ في َأمْر صوت السّ ي ّدة فيروز؛ من ِّ
يائي؟ ي أم من روحٍ َعـل ْ غ بشر ّ ـو من نُسْ ٍ السّ ماء؟ َأ ُ
ّ ه َ
المالئكي؛ ألنّه يخاطب في دواخلنا ما يعلو ،كثيراً ،على بشريّـتنا ّ بالصوت ّ ق َبه ،يوماً،ما َأخْطأ َمن ل َّ
البشــري فينا .صوتُها ِّ فوق-
َ اإلنســاني فينا اســماً آخر ل َ
ِما َّ الطبيعي ّة؛ ما يجعل ونوازعها ّ ِ المادي ّة
كل واحد ٍ منّا َف َيـفْت َّ ُ
يالبشــري الغرائز ّ ِّ ــار
إس ِ َـــك ُه افتكاكاً من َ العميق في ِّ ِ وحد ُه يعْـثـــر على ذلك
ددـي وي ُب ِّ
س َّ ن صوتَها ي َُح ِّرر الرّوح من َقيد البدن؛ ي َُج ِّ
ـرد ُ الحِ ِّ ك َبحُه بما ي ُلْقيه عليه من قي ْد .كأ ّ الذي َي ْ
ِمداواة ْب ل ُ صوت فيروز وه ٌ ُ األرضي ،ويسافر بها في المعارج. ّ فس عن معدَّلِها سـيَّـ َت ُه؛ يرفع الن َّ َ حِ ِّ
الظل ْ َماء؛ نداءُ السّ ــماءِ الظلْم ِة َّ منار ٌة لالِهتداء في َّ َ وإد ْ َمال جراحاتها؛ أســقام بشــري ّ ِة هذا َ
الع ْ
ص ِر ِ ِ
ت َب ْ
ــرها ولســانِها ومرمي ّ ًة في ك َماءَ مجرَّد ًة من ِ
س ِّ اني ت ُ ِ
ـــر َك ْ
ِم َب َ
األرضي؛ وهو المعاني ل َ ّ إلى َتح ْتها
صوت هو ما َيب ْقى بعد أن َيـد ْ ُمر فينا هذا الفضاء.ٌ العراء؛
ِـــيض به اعتياضاً
مثالي اعْت َ
ٌّ ٌ
وطن ي وامتنَع؛ ُ
الوطن الماد ُّ ي للّبناني ّين بعدما عـــزَّ ُ
الوطن الرّمز ّ هي
ّ ُ ْ ُ
ٌ
حين من الد ّهر صيب بالجنون ،و ُعـــ ِّلقت قيامته على خشبة؛ فحين أتى على اللبناني ّين َ نأعن وط ٍ
ُ
أركان والجوامع بينهم ،وان ْ َهد ْ
َّت ُ ــط َمـــزَّ ِ
قت الرّوا ِب ُ إلفناء المتبا َدل ،ت َ
أقامــوا فيه كرنڤال الد ِّم وا ٍ
جيش ،وال ُعم ٌ ٌ ٌ ت أساساتُها فلم َ ـش ْ الد ّولة وت َّ
َهش َ
ْلة ،وال دولة ،وال ْسك به :ال يبق منها ما ي ُسْ َتم َ
ٍ
قسم ُ
وحياة و للجميع،
حرب على الجميع ،والجميع عد ٌٌّ ُ
الجميع ـق ...وال َيح ْزَ نون؛ ُ
تواف ٌ ٌ
سيادة ،وال
قســم ثان .في هــذه الكربالء الجماعي ّة المعمَّمة ،لم ُ
يكن قد ٍ ف على إفناء حيا ِة مــن النّاس وق ْ ٌ
ع واحد ٍ بين اللّبناني ّين يعتصمون بحب ْله ويستمسكون سوى السّ ـــي ّدة فيروز ،ومن بقي من جام ٍ َ
لهمّات.ْ د ُ
والم ّات
م ِـ
ل ُ
الم عند جؤون ْ ل ي إليه ً ال بدي ً ا وطن لهم بنى الذي ُّ؛ ر ـ
َ ّ الث ّحباني ر ال راث ّ الت خلفها
ِ َ ّ
ُ ٌ
بغيرك رابـط هو صوتها.َ ُ
َم إلى فيروزَ الوطن ،إذن :أنت لبناني َيجمعك أنت منت ٍ َ
الجماعي ()1989-1975؛ وهكذا تجد ّدت في ســنوات ّ األهلي
ّ هكذا كانت الحال في حقبة الجنون
الجامع بيــن اللّبناني ّين ِ
بم َللِهم ون َ
ِحـــلِهم وتَفَ رُّق ُ التّيــه العِ جـــاف ( :)2022-2005فيــروز وحدها
أهوائهم؛ وهكذا هي أيضاً عند العرب جميعاً :من الماء إلى الماء؛ الذين انتقشــت في وعيهم
هال ً :وهل تكون ُ
فيروزَ .مـــ ْ ُ
ولبنان ُ
لبنان ُ
فيروز ُ
ماهاة بينها ووطنِها: ْعي ُ
الم الجم ّ
وال شــعورهم َ
ُ
ّفيعة... ُ
والقيم الر ُ
والجمال، ُ
والكرامة ،والتّحرُّ ُر ،والحبُّ ، وفلسطين ،والقدس ،والحري ُّة،
ُ ُ
العروبة،
صوت فيروز؟ِ غير
ِ شيئاً من
تحي ٌّة إلى المرأةِ/األمّـة...
17
نبيه البرجي*
ُ
رحت أبحث في إحدى األمسيات ،أنا اآلتي في أثناء انعقاد مؤتمر مدريد في خريف العام ،1991
مقهى يشــبه المقهى الذي
ً من ذلك البكاء العتيق (لكأنّه بكاء أمرئ القيس على األطالل) عن
ُ
عثرت على المقهى كان يرتاده شاعر إسبانيا العظيم فريدريكو غارسيا لوركا .بالمصادفة الفذّة
إاّل أنــا وذاك الكهل كل األجنــاس واأللوانٌّ .
كل مــع امرأتهّ ، مكتظــاً بالســي ّاح مــن ّ
ّ الــذي كان
اإلسباني األنيق بمالمحه العربي ّة .جلسنا معاً إلى طاولة واحدة ورحنا نتحادث.
ّ
فوجئت بقوله إنّه من أصل عربي .أطلعني على بطاقة هوي ّته واســم عائلته MEDINE :أي محي
الد ّيــن ..وقــال لي إنّه كان كولونيال ً في جيش الجنرال فرنشيســكو فرانكو إبّــان الحرب األهلي ّة
اإلسباني ّة ،وكيف كان هذا األخير يجثو باكياً في ّ
كل ليلة أمام صورة للسي ّدة العذراء ..
المثيــر إنّــه من ّ
عشــاق فيــروز .ثمّة صديــق عربي البنه الطبيب أهداه شــريطاً مســجّال ً لها وهي ُ
ّ
الموشــحات األندلســي ّة .قال «صوتها الذي يصل إلى أقاصي القلب ،يجعلني أشــعر كما لو تؤد ّي
ن مناديــل المرمــر في غرناطة ،والتي تتألأل بين يديها ،إنّمــا تتألأل أيضاً بين يديّ» .وكانت ليالي
أ ّ
الوصل في األندلس..
ي اآلتــي من تغريبة بنــي هالل ،كيف تأث ّ ُ
ــرت إلى ذلك الحــد ّ بالثقافة لــم أكُــن أعلــم ،وأنا القرو ّ
ق ترك في صدرها جرحاً قالت إنّه َّ
المحطم لعاش ٍ الفرنسي ّة .هزّتني إديث بياف ،وهي تغنّي بقلبها
يشبه زهرة األقحوان ،وارتحل .وأيضاً بشارل أزنافور وهو يضرم الحرائق في عيون الباحثين عن
18
امرأة مستحيلة ،إذا كنتم قد تعرّفتم على شاعر قال لها «أنت امرأة كثيرة ،وطوال هذا العمر،
طوال هذا االنتظار ،لم أكتشف منك سوى القليل».
الــذي جعلنــي أفتن بفيروز أســتاذي في مدينة زحلة ســعيد عقل .كان حديثــه عنها صالة .قصيدة
تتراقص بين ليل العتابا والميجانا وليل الخزامى .وجهه المهيب الذي كأنّه وجه جبل صنين كان
يتحوّل إلى وجه طفل (وينسانا الزمان َع سطح الجيران) .
حاولوا أن تبحثوا
ِ هما تُراقصان حيناً الهواء ،وحيناً اللّغة ،كانتا تغرورقان في فرحٍ إغريقي.
يداه و ُ
عن الوجه اآلخر للتراجيديا اإلغريقي ّة.
َــب عن يارا «الجدايلها شــقر اللّي فيهــن بيتمرجح عمر» عن اللّعبة الفلســفي ّة في ّ
حدثنــا َمــن َكت َ
ي آخر ،صاحب الكلمات .هنا
األخوي ْن رحباني أم جوزف حرب ،أم أ ّ
َ أغنيات فيروز ،سواء كان هو أم
«يا زماناً ضاع في الزمن» .أليست اللّعبة الفلسفي ّة ،اللّعبة الوجودي ّة في أقصى تجلّياتها؟ «تعا تا
نتخب ّى من درب األعمار /إذا هنّي كبروا /ونحنا بقينا صغار /وســألونا وين كنتو /ليش ما كبرتو
إنتو /منقلُّن نسينا /واللّي نادى الناس /تا يكبروا الناس /راح ونسي ينادينا» .
أكثر بكثير من أن تكون اللّعبة الكالسيكي ّة .لنتذكّر الفيلسوف الفرنسي جان جينيه ،وهو يتحد ّث
عــن تلــك «اآللة المجنونة» التــي تُدعى الزمن ،وقــد ّ
دق على بابه حامال ً إليه «حقيبة النســيان»،
ي مقايضة عدمي ّة تلك بين الموت والنسيان؟!
ولكن أ ّ
ٍ
كالم عن الهزيع األخير من العمر، مع فيروز ،كناطقة أبدي ّة باســم البحيرات ،ال مجال البتّة أل ّ
ي
ّ
تمكنت مــن االختباء ،وبق َيت هكذا في ريعان أو عــن الهزيــع األخير من الحياة .أخذنا علماً بأنّها
19
بقولها إنّها خجولة ألنّها تغنّي في بلد فيروز .وحين سألتها :لماذا؟ ..أجابت «أل ّ
ن هذه الديفا تمأل
ي صوت آخر ،ولو من كوكب آخر».
المكان ،عبقري ّة المكان .ال مكان أل ّ
وقالت إنّها ترى ،أجل ترى ،صوتها في الشوارع ،وفي أوراق اللّيلك ،كما في وجوه الناس ،سواء
علي أن أبحث برؤوس
ّ المتعبين منهم أم الذين يتسلّقون بخ ّ
فة جدران الحياة« .في هذه الحال ُ
ن عاصي الرحباني قال لي إ ّ
ن فيروز تحبّ صوتها« ..ظهرت البهجة أصابعي عن مكان لي» .أخبرتها أ ّ
في عينَي ْها ،وعلّقت «اذاً لن أتســلّل إلى قلوبكم مثل لحظات الغســق ،بل ســأدخل مثلما يدخل
الهواء العليل اآلن إلى حيث نجلس» .
هكذا ترعرعت أحاسيســنا ،أحزاننا ،أفراحنا ،أحالمنا ،أزمنتنا (أزمنتنا برقصة التانغو مع الصنوبر)
على أغنيات فيروز التي أثارت دهشــة موريس جار ،مؤ ِّلف الموســيقى التصويري ّة الشــهير ،حين
ُ
غنّت في األوليمبيا في باريس «فايق يا هوى» وأضيئت لها الشموع (والدموع).
مجلّــة «الفيغــارو» َكتبــت عن «امرأة آتية من الشــرق أيقظت القلوب التي دخلــت عنو ًة في ...
َليــل الرخــام» .وقالت ما من مطربة في التاريخ بذلك التنوُّع في الصوت حتّى َلتحتار ،هل يتناهى
إليــك صــوت الحقــول ،وصوت الغابات ،أم صوت عاشــقة تمأل دقّ ُ
ات قلبها العا َل َ
ــم؟» .تلك التي
غنّت «إلى راعية» ،وحيث الحنين إلى العشب الذي ي ُضاجع أزهار اللّؤلؤ على أنغام الناي أو على
ايقــاع الريــح» ،هي التي غنّت «كيفك إنت؟» بصيغة ٍ تبدو ال فيروزيّــة للوهلة األولى .في الوهلة
الثانية تمتلئ بها.
محمّــد الماغــوط في تلك اللّيلة الدمشــقي ّة التي تخلّلتها تشــكيلة من أغنيــات فيروز ،إذ وصف
أغنياتها بسمفوني ّة المطر الذي يقتل الضجر في عا َلم ّ
كل ما فيه يوحي بالكآبة ،قال «حين يأتيني
صوتها أغدو ذلك اآلخر الذي ي ُراقِص بردى بدالً من هوايتي القاتلة في ُم َ
راقصة العدم»!
هو أيضاً لفتته اللّعبة الفلسفي ّة في ما وراء الصوت «الذي يترك لد ّ
ي عالمات استفهام ال تحصى.
تدق على صدري؛ أتذكّر الفيس بريسلي وهو يالعب بالروك أن رول
ّ مثلما أشعر بأ ّ
ن عصا أرسطو
ذلك الصخب الذي بات يستوطن حتّى جدران منازلنا».
كنت في الجنّة أم
َ عقب زيارته بيروت ،قال الروائي األميركي دوغالس كنيدي «هنا ال تدري ما إذا
20
لعلمت أين أنت،
َ زرت فيروز
َ في جهنّم»! رد َّ عليه صالح ســتيتي ّة ،الشــاعر اللّبناني بالفرنسي ّة« :لو
ليس في بيروت فحسب ،بل وفي ّ
كل ُمدن الدنيا».
شــيء من هذا القبيل قاله اإلعالمي التلفزيوني الفرنســي فريدريك ميتران ،ابن شقيق الرئيس
فرنســوا ميتــران الذي أصبــح وزيراً للثقافة؛ وقد وضع شــريطاً وثائقيّاً عنهــا بعدما أجرى معها
حديثاً تلفزيونيّاً وصفها خالله بـ«السي ّدة التي تسكن العا َلم».
قف بارز قلَّدها وســام اآلداب في حف ٍ
ل أ َلم ُ
يقل وزي ٌر فرنســي آخر للثقافة ..جاك النغ ،وهو مث ّ
21
كيــف يأتــي بفيروز أخرى .هذا الصوت يفتح أبواب التاريخ حين يفتح أبواب القلب .أين نحن اآلن،
والمغنّون والمغنّيات يتناسلون على الشاشات مثلما تتناسل األرانب...
َ
وصــف أبا الطي ّب بــل أيــن ثقافتنا؟ لــوي آراغون ،صاحب «مجنون إلســا» على خلفي ّة أندلســي ّة،
األلماني غونتــر غراس حين تحــد ّث عن «ثقافة
ّ ٌ
رائــع المتنبّــي بأنّــه «أعظــم شــاعر في التاريخ».
د سعيد عقل في زاويته الصحافي ّة «أجراس الياسمين» األجهز َة األمني ّة
التفاهة» .من زمان ناش َ
ّ
«كل َمن يلحق األذى بأحاسيسنا»! والقضائي ّة ُ
بمالحقة
البعض يخشى أن يضيع صوت فيروز بين ذلك الركام من األصوات التي الكثير منها يشبه هدير
الجــرّارات الزراعيّــة أو صهاريــج المازوت .ذاك الصــوت الذي يتفاعل مع جدليّــة األزمنة .من هنا
الدعوة إلى حماية التراث الفيروزي من «قراصنة القرن».
صقيع الثقافات
رب ّمــا كانت المشــكلة عا َلمي ّة .التدنّي الدراماتيكي في ّ
كل أشــكال اإلبــداع .تحت عنوان «صقيع
المخرج الهوليوودي ديفيد لين (لورنس العرب ،الدكتور جيفاغو ،جسر على نهر َب ُالثقافات»َ ،كت َ
كواي) عن الزلزال الذي َأحدثته الشبكة العنكبوتي ّة في الثقافات .
الحظ أ ّ
ن التكنولوجيا أو السوبرتكنولوجيا التي أوشكت أن تنقلنا من حقبة الزمن إلى حقبة ما
بعد الزمن قد تنقلنا من اإلنسان إلى ما بعد اإلنسان ،ورب ّما إلى ما قبل اإلنسان ،ليسأل ما إذا
كان فرنســيس فوكوياما الذي َأطلق نظري ّة «نهاية التاريخ واإلنســان األخير» يقصد نهاية اإلبداع
محل إيــا فيتزجيرالد (اللّيدي
ّ نحــل اللّيدي غاغا
ّ البشــري ...تاليــاً ،نهاية الثقافــات .وقال «لكأنّنا
إيال)» ،ليسأل «هل هو الصعود أم الهبوط إلى قعر ّ
الاّلمعقول..؟».
ّ
والاّل حين ننتقل إلى الخشبة اللّبناني ّة ،نسأل ما إذا كانت األصوات االستثنائي ّة أمام أزمة البقاء
غطي الشاشــات .كثيرات بالصوت الذي ي ُشــبه ّ
(الاّل وجوه) التي ت ُ ّ بقاء .ذاك الطوفان من الوجوه
ْن يعتمد ْ َن على اإلثارة ،وأحياناً إلى حدود االبتذال.
تن من األسماء البرّاقة ،ما دم َ
ثغاء الماعزِ ،ب َ
ٍ
بحركات بهلواني ّة المشــكلة فــي هذا الطراز من المغنّيــات أو المغنّين الذين يزرعون المســرح
لكأنّهــم فــي حلبــة لمصارعة الثيران ،ال فــي المكان الذي ي ُفترض أن يتواصــل مع القلب ،ال مع
الغرائز وال مع األقدام .هؤالء الذين يشــبهون األلواح الخشــبي ّة الناطقة (أو الرسوم المتحرّكة
إن شــئتم) يســتقطبون المالييــن في أرجاء العا َلــم العربي .هل ترانا وصلنا الــى هذا الحد ّ من
الضحالة والخواء...؟
22
بأمس الحاجة إلى استعادة لغة الروح إذا
ّ أشياء كثيرة وجميلة انكسرت .ترانا نُبالغ ونحن الذين
قلنا «من هنا مرّ البرابرة» ،ولك ْ
ن بمالبس زاهية وبموســيقى صاخبة يضيع فيها الصوت وتضيع
فيها األحاسيس.
انكسار الرؤيا
صوت فيروز ينكسر ،لكأنّه «انكسار الرؤيا» ،كما كان يقول جورج جرداق .مثلما تحمون
َ ال تَدعوا
غابــة األرز مــن العواصــف العاتية ،ومــن اآلفات ،احمــوا عبقري ّة فيــروز من األوبئــة التي تغزو
الشاشــات واإلذاعات وحتّى الشــوارع وغرف النوم .تلك األوبئة التي تُقفل ما تب ّ
قى من أبواب
القمر...
يوم لفيروز ،تلك القد ّيســة المتنسّ ــكة داخل محرابها (أو داخل صوتها) .نعلم أ ّ
ن صوفيا لورين
ن َمن قال إ ّ
ن الروح تشــيخ، قالــت «لــم أكُــن أعلم أ ّ
ن الزمن يشــبه ،أحياناً ،عربــة الموتى» .ولك ْ
الصــوت يشــيخ ،حين تكون الروح مشــرَّعة على الباحثيــن عن لحظة الروح ،وحيــن يكون الصوت
مشرَّعاً على الباحثين عن لحظة الجمر؟
مــن الطبيعي أن نتســاءل :ماذا حين تتأمّل فيروز مــن وراء الزجاج (وال نقول زجاج القلب) ،وال
ترى سوى الحطام؟ خائفون ،خائفون فعال ً أن تتحوّل عيونُها ،مثلما تحوّلت عيونُنا ،إلى حطام ..
كُتــب وأفــام عن إديث بياف وعن داليدا وعن بريتني ســبيرز وعن ســيلين ديون التي ذهبت بنا
إلــى حــدود الهذيــان بأغنيتها «قلبي يمضي قدماً» (في فيلم تايتانــك) .ال كُتب عن فيروز .لكأنّها
عابرة سبيل .وق ْ ُ
ع أقدامها على الرمال .سألنا .قيل لنا إنّها هي َمن اختارت المسافة .في الغرب
تنتفي المســافة بين الكاتب والفنّان أو الفنّانة .إذاً تركتنا نقرأها ،نقرأ حياتها وما وراء حيلتها،
في ّ
كل أغنياتها.
23
لن نتوقّف عند ذلك السؤال الكالسيكيَ :من َصن ََع القبيلة الرحباني ّة؟ القبيلة الجميلة التي نصبت
خيامها في ّ
كل ديار العرب .كما لو أ ّ
ن أحدهم يسأل عن الفارق بين الفراشة والوردة ،بين رقصة
اللّقالق ورقصة الفالس .هي رزمة من أشعّة الشمس ،وكفى...
ّ
ككل .هنا كعــرب ،وال يــزال طيــف زرياب يتن ّ
قل في خيالنــا ،معني ّون بفيروز ،وبالقبيلــة الرحباني ّة
ّ
ُشــكل شــخصي ّتنا الحضاري ّة التي بحاجة فصول فذّة من تراثنا الفنّي والثقافي والفولكلوري ،ما ي
اقترح
َ دائمــة إلــى ديناميكي ّة اإلبداع التي رافقت الحقب الزاهية مــن تاريخنا ،حتّى أ ّ
ن هناك َمن
إدخال ماد ّة على منهاج كلي ّة الفنون الجميلة بعنوان« :فيروز» التي وصفتها الصحافة الفرنسي ّة،
إثر زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون لها بـ «المرأة الظاهرة».
الن ّ
قاد الفني ّون الحظوا أنّها ليست كغيرها من المطربات الشهيرات َبقين داخل «الخزانة الواحدة».
إمراة متعد ّدة األصوات ومتعد ّدة األبعاد .من أصابع عاصي ومنصور الرحباني ،إلى أصابع فيلمون
وهبي وزياد الرحباني (وحتّى محمّد عبد الوه ّاب) .المســألة ليســت في تعد ُّد أو تنوُّع ُ
الملحّنين،
قدة والصدى لدى المتل ّ
قي. المذهل بين األلحان ،بما في ذلك األلحان المع ّ
وإنّما في التكي ُّف ُ
وحتّى بالنسبة إلى المدارس الموسيقي ّة والغنائي ّة ،من سي ّد درويش (طلعت يا ما حلى نورها)
األخويْــن رحباني َأدخال إلى بعض أعمالهما
َ إلــى زياد الرحباني (اشــتقتلّك) ،وإن كان معلوماً أ ّ
ن
ٍ
لمســات مــن يوهــان شــتراوس وبيتــر تشايكوفســكي ،إضافــة إلى جــوزف هايدن الفيروزيّــة
ُ
التقاطع السحري بين الترانيم وفريدريك شــوبان وحتّى لويس أرمســترونغ (الجاز) .لن ننســى
ّ
والموشحات األندلسي ّة. الكنسي ّة
أكثــر مــن 800أغنيــة .تنــو ٌُّع عبقري فــي األداء ،وفي التفا ُعــل .من األغنيات التــي تعكس بهجة
الطبيعــة ،إلــى األغنيــات الوطني ّة البعيدة عــن الرتابة .هنــا نضيع بين لهيب األحاســيس ولهيب
األقدام (خبطة قدمكم) ،ومن األغنيات الرومانسي ّة ،حيث سوناتا القمر تحت شبابيك العاشقة،
إلى األغنيات التراثي ّة التي تأخذنا إلى ليالينا العتيقة ،وذكرياتنا العتيقة التي قد تكون زادنا األخير
في هذه األي ّام.
ُ
قرأت ذات يوم مــا مِ ــن لحظــة ،ما مِ ن كلمة ،في غير مكانها .هل ندمــت على أغنية ما؟ ال أدري.
(الحظوا مدى الشفافي ّة) أنّها خائفة من أن تكون بعض األغنيات التي أد ّتها هي التي ندمت!!
رجــاء ،ال تدقّــوا على بابها .أتركــوا فيروز لفيروز .هكذا فهمنا كصحافي ّيــن يفترض أن نكون على
تماس مع النجوم .هذا ال يمنعنا من التســاؤل ،ولو همســاً ،ألســنا كلّنا ضحايا الزمن ،ويجرّنا
ٍّ
الزمن إلى حيث يشاء؟
24
االحتياط االســتراتيجي للبنان .هي الذهب ،وهي الجوهــرة ،أهمّ بكثير من احتياط
َ صوتهــا يبقى
ي أقبية أخرى .سفير عربي في بيروت قال لنا في بدايات
الذهب في أقبية البنك المركزي ،أو في أ ّ
األزمة« :كيف للهيكل أن يتداعى وعندكم حارسة الهيكل؟» .ماذا ي ُمكن لـ»ناطورة المفاتيح» أن
تفعل أمام األبواب الصدئة والرؤوس الصدئة؟
هنا وفي هذه األيقونة ،ثنائي ّة الصوت والقلب .ذات الصوت المالئكي أيضاً ذات القلب المالئكي.
ّ
كل َمــن عمــل معها على مــدى زهاء نصف قرن ،تحــد َّث عن الرهافة في التعاطــي .وجهها الذي
يوحي أحياناً بالكثير من الجدي ّة أو الجفاء (والجفاف) ،ال يعكس قطعاً ما في داخلها.
بمنتهى الرقّة تتعامل مع سائر أفراد الفريق وصوالً إلى ّ
كل العاملين في المكان .تَطرب للحن
ّ
الظل .هكذا قال ســفير أوروبي زارها مع ٍ
بصوت عا ٍ
ل للنكتة الخفيفة الجميل وتُدنْدِن وتضحك
زوجته اللّبناني ّة« :تريدون خالص لبنان؟ لتكن هذه األيقونة ...الملكة».
«بــت أخــاف عليكم من فائض الكراهي ّة الذي يستشــري في ّ
كل مــكان .أنتم الذين كنتم ّ وقــال
توزّعــون الهــواء والشــعر على ضيوفكــم .ال تنتهوا هكذا ،أرجوكم .اغتســلوا ليل نهــار بأغنيات
فيروز ،ولسوف ترون كيف تعودون قبلة العا َلم وقلب العا َلم» .
بالحــرف الواحــد قال زائــر عربي كبير «ابقوا مكانكم ،وال تقلّدوا الطيــور المهاجرة .هذا المكان
من األرض ال يليق ّ
إاّل بكم» .
لــن نُهاجــر ونتــرك فيروز وحيــدة تنظر مــن وراء الزجاج لترى بقايــا الزجاج البشــري على أرصفة
المرافئ .هي المرفأ الذي ترسو عنده األشرعة من أي ّام األرجوان.
وقلنا إنّها اللّغة التي يتكلّم بها القمر .مثلما هي أيقونة لبنان ،هي أيقونة العرب.
25
هنري زغيب*
ٌ
شــمس ل طويلَ ،أشــرقت د َح صوتُها ،قبــل ث ُ َ
لثي قرن ( )1957على َأدراج بعلبك بعد لي ٍ منــذ صــ َ
األعمدة والهياكل. لبناني ّة من سكون َ
كل مكان حتّى يح ِّيرك كيف استقبالُك ِإي ّاه... صوتُها الذي يأْتيك من ّ
-1-
منذ إطاللتها األُولى ،قبل ثالثة َأرباع القرن (َ ،)1947
بدأت ُ
«م َتو ََّج ًة بالمجد» كما قال لي منصور ِ
األخوين رحباني»َ . لوضع كتابي «في رحاب َ
ْ ُ
«إضاف ًة ِإلى
كملِ :
وأ َ الرحباني في أولى جلساتي ِإليه
ُ
طالقة صوتها ممـيَّـــزة، ظاهرة ال تـــتكرَّر :صوتُها ممي َّزِ ،إ
ٌ جمــال صوتهــا وموهبتِها الخارقة ،هي
ِ
ل وتجارب -جعل ْ ْ
خوارق وممّا خل َف هذا الصوت مــن َصق ٍ َ ُّ
وكل مــا جــاء فــي هذا الصوت -مــن
تأثَّر به الناس ،حتّى الشــعراءُ في لبنــان والعا َلم العربيَ ،
ألنّه منــه رمــزاً مــن رموز هذا العصرَ .
ٍ
صوت وحسب». لم ُ
يكن مجرَّد
الـــمطالع هتَف ســعيد عقل« :هذه سفيرتُـــنا ِإلــى النجوم» ،وقال نــزار قب ّاني« :قصيدتي
َ منــذ
َّ ً ُ
اكتســت حُلة أخرى من الشعر».
َ بصوتها
*شاعر لبناني
28
ٍ
يوم ذات اإلذاعة اللّبناني ّة واستدعاها ٍ ُ
َ يوم في ِ سمعها حليم الرومي ذاتَ الخجول التي الصبي ّة
َّ
يتقطر في ســمعك. دِ :إنّه الصوت الذي تَشــربه روحُك قبل َأن
د بعد ُ َأبع َ بلىَ ...
وأبع َ
-2-
29
ُ
فتلفظ الذال والثاء والقاف بالصيغة الســليمة. ضبطت َمخارج الحروف
َ
د َ
وألحان ،بل حمل صوتُها ،غناءً ومسرحاً ،ق َيماً .4المضمون :لم يقتصر صوتُها على غناء قصائ َ
فكريّــة وحضاريّــة وجمالي ّة ووطنيّــة َج َع َل منها َأوســم ًة خالد ًة في الوجدان الشــعبي والذاكرة
الجماعي ّة.
ِ
(«اآلســر» ،بتعبير اإلحســاس في َأداء َأغانيها ِإلى حضورها المســرحي َ
.5األداء :هنا نعب ُر من ِ
دوارها المســرحي ّة فــي ِإدهاش َأكثر المم ِّثالت احترافاً على
َ منصــور الرحباني) ما جع َلها ت ُ َؤ ِّدي َأ
ور «الملكــة زنّوبيا» و«ملكة پترا» ببراع ِة ما َأد َّت بي َّاع َة
المســرح َأو َأمــام الكاميرا .فهي َأد َّت َد َ
البنــدورة في «الشــخص»َ ،أو «غربــة» ابنة مدلج الثائرة في «جبال الصــوَّان»َ ،أو «هالة» البنت
ج التاني» في «هالة والملك»َ ،أو الصبي ّة «عطر اللّيل» رسولة َ
األمير البريئة اآلتية ِإلى «عيد الو ّ
ِإلى شــعب لبنان في مسرحي ّة «فخر الد ّين».
-3-
اإلرث الرحبانــي وتوصلُه ِإلى آخر
هــذه الفــرادة في الصــوت والحضور ،هي التي جعلتْهــا تحمل ِ
ُ الدنيا ،وهو ما لم ُ
يكن ُممكناً َأن ي ُعطى ســواها بتلك المســؤولي ّة َ
الرسولي ّة العليا.
يوم هي الصبي ّة
َ د َرهــا كان ،منذ مطالعها ،يرســم لها هذه المســيرة ،منذ ســنة ،1947 ّ
ولعــل ق َ
هتْها مديرة «مدرسة حوض الوالية للبنات» السي ّدة سلمى قربان لتلتقي الخجول نُهاد حد ّاد َن َ
د َ
شعرمحمّد فليفل الذي كان يبحث عن َأصوات للكورس تمهيداً ِإلطالق «نشــيد الشــجرة» من ِ
ُ
محمّد يوســف حمّود الفائز بالجائزة األولى في مســابقة ٍ َأطلقَ تْهــا الحكومة ت ََوازياً مع ِإعالنها
األوّل من كانون َ
األوّل /ديسمبر. «عيد الشــجرة» سنويّاً في َ
كرَّس خلوده.
دب الرحباني ،واثقاً من جذعه المتينَ ،أقلع برحلة فني ّة مكثَّفة ٍ نجحت ،بما ســوى ثالثة هكذا َ
األ ُ
30
َ َ
«األدب» الرحبانــي ،قلــت؟ وهــل ي ُمكن الحديث عــن «أدب رحباني»؟ طبعــاً ي ُمكن .وهل ِ
اإلرث
َ
خالف ذلك، رث َ
«أدبي»؟ كيــف ِإذاً ي ُمكــن، الكتابــي ،قصائــد وحــوارات ومســرحي ّاتَ ،أ ُّ
قل مــن ِإ ٍ
َ
«األدب» الشكســپيري ،وهو كان كذلك قصائد وحوارات ومسرحي ّات؟ ُ
تعريف
«األدب» ،قلت؟ هل هي مجرَّد «مرآة» إليصال ذاك َ
األدب؟ طبعاً ال .هي َأكثر َ ُ
نجمــة ذاك فيــروز
ِ
مــن مجرَّد صوت يوصل لحناً وكالماً.
وأبتعد«األدب»َ ، َ األدبي َ
األكاديمي في ُمقاربتي هذا وإنّني ،في هذا المقالَ ،أبتعد ُ عن التحليل َ
ِ
عني ِإعجابــاً بعبقري ّة ْ
جمعتني بعاصي ومنصــور ،وترف ُ
َ ُّ َ
توازيــاً عــن التأثر بعاطفــة الصداقة التــي
ُ َ
اإلرث الرحباني من أفق االنطباع غير الشخصي. ددة العطايا ،ألدخل ِإلى ِ الفرادة الفيروزي ّة المتع ِّ
-4-
ُ َأبدأ ُ بالوحدة ُ
الصغرى :األغنية.
ُ ُ
اإلذاعة اللّبناني ّة من َألحان َ
حصــر لألغنيــات األولى التي أد َّتْها فيروز ِإب َّان ســنواتها الباكرة في ِ
َ ال
ُ
ن األغنية التي َأطلقَ ْ
ت شــهرتَها حليــم الرومــي وجورج فــرح وجورج ضاهر وســواهم .ســوى َأ ّ
ن انتشــارها َ
األوســع كان اإلذاعة اللّبناني ّة نحو ســنة 1951لك ّ
صدرت من ِ
َ الرحباني ّة هي “عتاب”.
َ
المؤ ِّرخ بصدورها مسجَّ َلة من ِإذاعة دمشق (في 12تشرين الثاني /نوفمبر 1952على ما يذكر
ي سعد اللّه آغا القلعة) ..فماذا عنها شعراً ،لحناًَ ،
وأداءً؟ الموســيقي الســور ّ
أ .شــعراً :هــذه القصيــدة لألَخوين رحبانــي هي من الشــعر العمودي غير المكتــوب على طراز
األغاني المأْلوف (الزمة ومذهب)َ ،
وأنّها بعيدة عن بكائي ّة ٍ انســحاقي ّة كانت ســائد ًة فترتئذٍ .فيها َ
األنوف ذات الكرامة .وهذا نمط ســاد في جميع َ
األعمــال الرحباني ّة المــرأة َ
َ عتــاب ،لكنّــه عتاب
المرأة ُمنحنية الشــخصي ّة َأو ذليلتَها َأمام الرجل.
َ التالية ،فلم تظهر فيها
المختزنَين علْماً وثقاف ًة من الموســيقى الغربي ّة وموهب ًة
ِ خوين رحبانــي، ب .لحنــاً :فــي لحن َ
األ َ
ُ
ٍ
غنيات شــائعة ال عمق شــخصيهماَ ،أنّها من ركائز الطرب غير الخفيف ،كما صدر فترتئذ ٍ في أ
َ في
ن شــرقي خالصَ ،أضاء َأفقاً جديــداً للتلحين اللّبناني في ُ
ذات لح ٍ فيهــا للطــرب َ
األصيــلِ .إنّها ِإذاً
األخَوان رحباني الحقاً مســاحات تلك الفترة التأْسيســي ّة من تاريخ األُغنية اللّبناني ّة التي غزا بها َ
العا َلــم العربــي .هكــذا ،بالتوزيع الشــرقي لهــذا اللّحن الشــرقي ،المضبــوط إيقاعيّــاً َ
وأدائيّاً، ِ
ُ
الموجزَ ة على غِ نى ،كانت
َ نمطاً في أســلوب الكتابــة الرحباني ّة المقت ََضبة على جمــال،
والســريع َ
ُ
أغنية «عتاب» جديد ًة مغايِ َر ًة بتكثيفها الطربي (عكس المطوَّالت الرائجة في عصرها) ،ما جعلها
ت ُروج في الذائقة الشــعبي ّة ،وتالقي نضار ًة ما زالت حي ّة فيها حتّى اليوم.
31
ُ
جَ .أداءً :فــي هــذه األغنية ،وبما يختزن صوت فيروز من صقْ ٍ
ل صعــب َب َل َغت ْ ُه بت َ
َمي ُّز ٍ بديع ،وقبلها
انضبط صوتُهــا َأكثر في َأداء هذه القصيدة،
َ كان الصــوت باحثــاً عن هوي ّتــه لبلوغ التركيز الثابت،
ٍ
مســافات شــب ََّك ًة صعب ًة َأجا َدتْها بقدرة ٍ عالية ،بارع ِة المدى المســكوب فيفأطلقَ ت فيها ُع َرباً ُم َ َ
وأطلقها ْ
لؤ َ
لؤ ًة نادر ًة في تركيز ُ
المصقول زخماً ورخامــ ًة معاًَ ، جمعها صوتُها ٍ
ــدات صوتيّــة وتبا ُع
َ
فلوات الشــرق والغرب ،لتتكرّس ِ األُغنيــة اللّبنانيّــة فجع َلتْها فيروز تَعب ُر العا َلم العربي ،والحقاً
-5-
من وحدة األُغنية َأنتقل إلى الوحدة األُخرى في َ
األدب الرحباني :المســرح. ِ
المطالع .فحتّى العام ُّ
بالتمكن في الحضور ،على الرّغم من صعوبــة َ هنــا تجلَّــت موهبة فيــروز
اإلذاعة اللّبناني ّة َّ ُ
،1956لــم يكــن الجمهور يعرف من فيروز ِإاَّل صوتَها يصدح فائــق العذوبة من ِ
تكن في األدنى .وحتّى صورتُها في الصحافة لم ُ وإذاعة دمشــق وإذاعة القاهرة وإذاعة الشــرق َ
ِ ِ ِ
ّ ٌ ُ ّ َّ
صدرت لها صورة أولى في مجلة «الصي ّاد».
َ التداوُل ِإاَّل نادراً؛ فما ِإاّل ســنة 1953حتّى
ومواج ُ
هــة جمهــور ٍ عريض تغنّي لــه في وقفة لــذا كان مــن الصعوبــة صعودُهــا على المســرح ُ َ
اإلذاعة ،حتّى تمَّ ذلك ،ال مــن دون تردُّد ٍ َ
ل
وخج ٍ
َ ُمختلفــة تمامــاً عــن وقفتها أمــام مايكروفون ِ
ُ
وارتباك ،ليلتَي 31آب /أغسطس وَ 1أيلول /سپتمبر 1957على مدرج جوپيتر في هياكل بعلبك
األوّل رحبانيّاً كامال ً بعنواناألثري ّة .كان افتتاح الســهرة بأُغنية «لبنان يا َأخضر حلو» في الفصل َ
َ
المخرج صبري الشريف لهذه األُغنية االفتتاحي ّة َموضعاً عالياً ت ُ ّ
طل ُ خصص«أي ّام الحصاد» .يومها َّ َ
32
منه فيروز وسْ ط ضوءٍ ينهمل عليها من بعيد ،فبانت َ
كأنّها تطير في عتمة الفراغ القاتم حولها.
وما زال المشــهد في ذاكرة َمن حضروا تَينك َ
األمســيتَين (نحو 5000مشــاهد ّ
كل ليلة) ،وما
صدرت قبل 65ســنة.
َ زالت هذه األُغنية حتّى اليوم تترد َّد نضر ًة عذب ًة ال َ
كأنها
بدأت فيــروزِ ،بطاقتها الموثوقــة ،تعتاد علــى مواجهة الجمهــور ،فتوثَّقت وقْفتها
مــن يومهــا َ
َأكثــر فــي اللّيلة اللّبناني ّة من مهرجان بعلبك بعــد صيفَ ين ( )1959إذ تولَّى الفصل َ
األوّل محمّد ِ
محســن ،زكــي ناصيــف ،توفيق الباشــا ،فيلمون وهبه ،وتولَّــى َ
األخوان رحبانــي الفصل الثاني،
ُ
فقد َّمــا مشــهداً بعنــوان «محاكمة»َ ،أد َّت فيه فيروز أغنيات ما زالت شــائعة حتّى اليوم ،منها:
«يــا قمــر َأنا واي ّاك»« ،ما فيه حدا»« ،يا تالل صنوبر ضيعتنا».
ن موهبــة فيــروز المفــردة لــم تتوقَّــف عنــد الوقوف غنــاءً خلــف مايكروفون المســرح
غيــر َأ ّ
َأمــام الجمهــور في هياكل بعلبك ،بل ارتقــت عليه من َ
األغاني المســتقلّة والحوارات الغنائي ّة
(«البعلبكي ّة» 1961و«جسر القمر» ِ )1962إلى مطالع التمثيل («اللّيل والقنديل» -كازينو لبنان
َ ُّ َ
« ،1963بيَّــاع الخواتــم» -األرز )1964بلوغاً ِإلى تألقها في قمم المواقف التمثيلي ّة ِ
(«إي ّام فخر
الد ّيــن» -بعلبــك « ،1966جبال الصوّان» -بعلبك ،1969و«ناطورة المفاتيح» -بعلبك .)1972
(معظمه على مســرح «الپيكا ِد ِّلــي» -بيروت)،
ُ وحيــن انتقــل المســرح الرحباني ِإلــى المدينة
ســطعت فيــه فيــروز ممثّلــ ًة ُمبدعــة بمســتوى ما هــي مغنِّي ّة ُمبدعــة ،منذ «هالــة والملك»
َ
( )1967حتّى «بترا» ( )1977طيلة عشــر ســنوات مثْمرة ٍ َأعماالً مسرحي ّة َأد َّتها فيروز في بيروت
مســجل ًة فيها اإلبداع
ِّ ُ
والمــدن العربي ّة والغربيّــة ودمشــق وعمَّــان وســواها من العواصــم
اللّبنانــي رحبانيّاً وفيروزيّاً.
-6-
بعد المايكروفون فالمســرحَ ،أختم بالوســيطة الثالثة :فيروز في السينما.
نصاً وغناءً ،سطعت فيروز ٍ
وحوارات غنائي ّة وتمثيال ً مسرحيّاً ّ هنا َأيضاً ،بنجاح َأدائها غناءً ِإفراديّاً
ممثّل ًة جديرة َأمام الكاميرا في َأدوار ٍ مركَّبة وصعبة« :ريما» في «بي ّاع الخواتم» (ِ - 1965إخراج
«عدلى» في «ســفَ ر برلك» (ِ - 1967إخراج هنري بركات) و«نجمة» في «بنت
يوســف شــاهين)َ ،
الحارس» (ِ - 1968إخراج هنري بركات).
طر انفعــاالً جديرة َ
بأدائه وتجلّــت موهبتهــا التمثيلي ّة ســينمائيّاً فــي لحظات من المشــاهد تقْ ُ
خطيبها
َ المؤ ِّثر
َ لقاؤهــا راجح وذهولُها َأمامه في «بي ّاع الخواتــم»َ ،و َدا ُعها
ُ ُممثّالت مكرّســات:
33
عبدو المب ْحر في جبيل مع الثوَّار في ختام «سفر برلك»« :محروسين بالبحر ،ومهما بعَّدوكُن،
عرســين :شــال َأزرق (يوم الــزواج) ،وبيرق عبيلوح»
َ وإنتو راجعين .ويومها العرس َ
أنــا ناطــره ِ
(يــوم انتصــار لبنــان)َ ،أو لــدى ِإصابتها بجرح في زندها مــن رصاصة ٍ َأطلقَ ها عليهــا والدها ولم
ألنّها كانت م َلثَّمة في «بنت الحارس».
يعرفهــا َ
وفي الثالثة َ
األفالم كان حضور فيروز الئقاً باســمها غناءً وبتمثيلها وغنائها مســرحاً ،حتّى لهو
ٌ
/ممثلة في العا َلم العربي. وج َها مغني ٌّة َ مشــر ٌف لمســيرة ٍ فني ّة ٍ َّ
قل َأن َ تتوي ٌ
بلغت أ َ ِّ ج
-7-
ُ الســؤال َ
النص :هل كانت فيــروز معا ِد َل ًة جدي َ
د األغنية ّ األوّل في منطلق هذا َ ختامــاًَ ،أعــود ِإلى
الرحباني ّة و َثراءَ َ
األدب الرحباني في جميع مفاصله؟ وهل كان ي ُمكن ســواها َأن تنجح في جمْع
ما جمعتْه هي في شــخصها وشخصي َّتها وموهبتها الفريدة؟
الشــعر الرحباني ،وزا َد
ِ شــعراً على ال يُمكن الجزْم بذلك ،بل يُمكن الجزم َأ ّ
ن صوت فيروز زاد ِ
عذوب ًة على اللّحن الرحباني ،وزاد قيم ًة فني ّة عالية على العمل الرحباني مســرحيّاً وســينمائيّاً.
ن َأعمالها َ
األخيرة بعد ن العمــل الرحبانــي من دونها لم يكــن ج ِّيداً ،وال يعنــي َأ ّ
هــذا ال يعنــي َأ ّ
المرحلــة الرحباني ّة لم ُ
تكن ناجحة (مع فيلمون وهبه وزكي ناصيف ومحمّد محســن ،وخصوصاً
الوســط
َ يبرر ،منذ ســنوات ،انســحابها من َّ
ولعل هذا ما ِّ ْ
تغني ذاكرتَنا بحضورها غير الرحباني.
ـــهي َْبتِها الم َلكي ّة ،الـ«ديڤا»
واإلعالمي لتبقــىِ ،ب َ
ِ الفنّــي والحيــاة االجتماعي ّة والظهــور الصحافي
التــي تعيش خلو َدها الرائع وتعاينُه َّ
كل يوم.
قارنة بين
الم َ قارنة بين فيروز مع َ
األخوين وفيــروز بعدهما ،كما ال تجوز ُ الم َ ُ
تجوز ُ مــن هنــا ،ال
ٌ
ظاهرة فريدة في الشرق َ
األعمال الرحباني ّة مع فيروز وتلك التي من دونها .فالثالوث الرحباني
ال تتكــرَّر ،بنصــوص َ
األخويــن َ
وألحانهمــا وخصوصاً -خصوصــاً -بصوت فيــروز المفرد وحضورها
34
ُ
اإلبداعي -طيلة ثالثة عقود فيروزي ّة رحباني ّة متتالية خصيبة ٍ أعجوبي ّة
المفــرد .وهــذا الزاد الفنّي ِ
العطاء -سجَّل حضوره العميق في الذاكرة الشعبي ّة الجماعي ّة ،وفي ذاكرة التاريخ لبنانيّاً وعربيّاً
وعا َلميّــاً ،حتّــى مــا عاد ُممكنــاً تأْريخُ مرحلــة 1977 - 1947في لبنان مــن دون الحضور الرحباني
ُ
الـــمضيء ،والحضور الخالد ُ
لسطوع السي ّدة فيروز.
35
د .رفيف رضا صيداوي*
ي فنّــي بفيروز ،فهــذا األمر ،عدا عــن كونه ليس من ُ
لســت فــي هــذه المقالــة في صدد إبــداء رأ ٍ
ّ
يخص صوت ّ
يمــت بصلة إلى مــا نروم البحث فيه في مقالتنا .يكفي القــول في ما اختصاصــي ،ال
فيروز إنّه أه ّلها لصعودها كنجمة ٍ في السماء منذ اكتشافها في كورال مدرستها أواسط أربعيني ّات
الملحن محمّد فليفل وتشجيعها مع أخيه على االلتحاق بمعهد الموسيقى
ِّ القرن الفائت من قِبل
اللّبنانــي ،ثــمّ بكورال اإلذاعــة برعاية الموســيقار اللّبناني حليم الرومي ،ثمّ مــع األخوين عاصي
ومنصور الرحباني في مطلع خمسيني ّات القرن الفائت ،لتُصبح «صاحبة الصوت المالئكي» بشهادة
َّب الموســيقار محمّد عبد الوه ّاب اســم فيروز في أثناء كِ بار ُ
الملحّنين والموســيقي ّين .ولمّا غي َ
تعــداده األصــوات العربيّــة الخارقة فــي لقاءٍ إذاعي معه في ســبعيني ّات القرن ُ
المنصرم« ،ســأله
36
دم البرنامج ُمستغرباً وماذا عن فيروز؟ فرد ّ عبد الوه ّاب بلهجته المصري ّة الممي ّزة ‹يا ابني إحنة
مق ِّ
بنتكلّم عن اللّي في األرض مش على اللّي في السما ،ده صوت مالئكي مش صوت بشر عادي ّين›
« ( فراس مصطفى« ،نحن جميعاً بحاجة إلى فيروز» ،العا َلم الجديد ،أيلول /سبتمبر .)2020
ّ
شكال مع فيروز ثمّ إنّنا إذ نحصر كالمنا بفيروز ،فهذا ال يعني تغييبنا َدور األخوين رحباني اللّذَي ْن
والملحّنين العرب واألجانب ،مدرســ ًة فنّي ّة
ُ وســائر الرحابنــة ،وغير الرحابنة مــن كبراء الشــعراء
المغنّاة أم على صعيد الموسيقى.
العربي ،سواء على صعيد الكلمة ُ
ّ إبداعي ّة طاولت لبنان والعا َلم
ل عن التأثيرات االجتماعي ّة كافّة ،أي
ل غير معزو ٍ كالمنا على فيروز سينطلق من عا َلم الف ّ
ن كمجا ٍ
كمــا َّ
نظــر بيار بورديو في أنّه عا َل ٌ
م غير معزول عن الحقــول االجتماعي ّة الخارجة عن حقل اإلنتاج
الخاصة التي يشــتغل عا َلم الف ّ
ن ّ الفنّــي ،وإ ْ
ن كانــت هذه التأثيرات غير مباشــرة ،وتخضع لآللي ّات
وفقهــا .فقد ح َّ
ققــت فيروز مع الرحابنة اســتقاللي ّ ًة فنّي ّة أتاحت لهم إطــاق طاقاتهم اإلبداعي ّة
ٍ
كلمات وألحاناً الخاصة بهم .وبالتالي فيروز هي جزء من الرحابنة الذين ألّفوا واخترعوا وأبدعوا
ّ
جعلتنــا نتعــرّف إلى مجتمعنــا من خالل فنّهم ،ال بل ســلطتهم الفني ّة التي أسَّ ســوا من خاللها
ثقافة ومحد َّدات شملت األذواق والميول واألهداف والتصوّرات.
ّ
والمتلقي فيروز
احترامها
َ منذ انطالقتها في خمسيني ّات القرن الفائتَ ،فرضت فيروز ،من خالل َمسيرتها الحياتي ّة،
فصفاتها كفتاة ٍ خجولــة ورزينة ومهذّبة ،وال تهوى كثــرة الكالم ،وهو ما علــى جماهيــر المتل ّ
قينِ .
يفســر إلــى اآلن عــدم إطالالتها اإلعالميّــة الكثيرة ،والتــي تضافرت مع منبتهــا االجتماعي ،كفتاة
ِّ
ْ
بلغت من نجاح بفضل كفاحها وعملها الجاد ّ ،هي من متحد ّرة من أسرة متواضعة الحال ،بلغت ما
والعربي.
ّ العوامل التي رفعت من مناسيب التقدير واالحترام التي أبداها تجاهها الجمهور اللّبناني
فقد تضمَّن إعالن زواج عاصي وفيروز في العام 1955أنّه في الســاعة الفالني ّة من اليوم الفالني
دد األســتاذ عاصي الرحباني على اآلنســة الهادئــة المهذّبة والمطربة ي ُحتفــل «بقــران الفنّان ُ
المج ِّ
المهنّئين في منزلهما في انطلياس
صاحبة الصوت الذهبي نهاد حد ّاد (فيروز) و َيستقبل العروسان ُ
أي ّام( »....راجع صورة اإلعالن في كتاب بول األشقر Fairouz: La voisine de la lune, La légende
الصادر في العام ،2021عن معهد العا َلم العربي في باريس وجائزة الملك فيصل) .وحين يستذكر
أحمد عسّ ــة مدير إذاعة دمشــق في الخمســيني ّات فيروز يقول « :ما زا َلت الصورة أمامي .عاصي
اشــتهر به ،وفيروز الفتاة الخجولة التي كانت تتمسّ ــك بارتداء التنّورة والبلوزة،
َ يحمل البزق الذي
37
تمامــاً كتلميذات المدارس»(هاشــم قاســم ،الظاهرة الرحباني ّة ،نقال ً عــن هنري زغيب ونبيل أبو
التعاطف اإلنساني معها بسبب ما ألمّ بها من أحزان ،لخّصها د.غـازي
ُ مراد) .هذا من دون أن نغفل
انـعـيـم (في «فـيروز سفيرة لبنان والشرق إلى النجوم» ،الجسرة الثقافي ّة اإللكتروني ّة/04 /2021 ،
األم
ّ يشع كاللّقيا في ضمير الناس والفنّ ،كانت خطوات «فيروز»
ّ )15بالقول« :وفيما كان صوتها
ٍ
وعذابات ال يعرف طعمها والزوجــة تكتشــف يومــاً بعد يوم ما ي ُخب ّئه لها القدر من أفراحٍ وأحــزا ٍ
ن
ّ
إاّل صمت المرأة المؤمنة» ،والسي ّما مشوارها مع ابنها «هلي» (المولود عام )1958الذي أقعده
المرض ،وموت ابنتها ليال (المولودة عام .)1960
ن هذه الصفات الشــخصي ّة التي رافقت انطباع الناس عن فيروز ،والتي ي ُمكن تلخيصها ّ
شــك أ ّ ال
ُ
والتواضــع والحنــان (راجع كتاب زياد حد ّاد ،فيروز ســفيرة المحب ّة) ،فضال ً عن َمســارها بالوقــار
الحياتيَ ،أسهما في إضفاء هالة من القداسة عليها وعلى صوتها «المالئكي» «الدافئ ُ
المخملي»
وج َعال منها ظاهرة «اجتماعي ّة» (الفيروزي ّة) ،من دون أن
(زياد حد ّاد)« ،المائي» (نزار قب ّاني)..إلخَ ،
دي ْن لهذه
د َدين الوحي َ هما ُ
المح ِّ يكونا بطبيعة الحال -أي الصفات الشــخصي ّة والمســار الحياتيُ -
ّ
يخص نظري ّة قي في علم اجتماع الفنّ ،والسي ّما في ما ُ
تنقض بعض نظري ّات التل ّ الظاهرة ،التي
دوائــر االعتراف األربع التي تُســهم في إنتاج قيمة العمل الفنّــي العائدة لباونز ()A. Bowness؛
ن الدائرة األولــى ،أي دائرة معارف الفنّان ،والثالثــة ،أي دائرة أهل
وهــي النظريّــة التي تقــول إ ّ
هما الدائرتان اللّتان تعطيان للفنّان اعترافاً قيميّاً ،في حين تعطيه الدائرة
االختصاص والخبراءُ ،
الثانيــة ،أي دائــرة هواة جمْع األعمــال والتجّار ،والرّابعــة ،أي الجمهور ،اعترافــاً مرتبطاً بالمال
والشهرة (حول هذه الدوائر راجع ناتالي إينيك ،سوسيولوجيا الفنّ ،ترجمة حسين جواد قبيسي،
القيمي بفيــروز ،على أهمي ّة
ّ مركــز دراســات الوحــدة العربي ّة ،بيــروت .)2011 ،ذلك أ ّ
ن االعتــراف
اجتماع الدوائر األربع كافّة ،جاء أساساً من الدائرتَي ْن الثالثة والرّابعة.
ٍ
بمرتكزات االســتئناس اللّبنانــي والعربــي بفيــروز ،كظاهرة فنّي ّة فــي إطارهــا الرحباني ،تدع َ
َّــم
نفســاني ّة ووجوديّــة وفكري ّة وقومي ّة أسَّ ســت لهــذا االجتماع اللّبناني والعربــي حولها؛ إذ ليس
ن (ديفيــد إنغليز وجون ٌ
«جماعة مــا» أنّه ف ّ الفــ ّ
ن فــي عِلم االجتماع ســوى «شــيء مــا اعتبرته
هغســون ،سوســيولوجيا الفنُّ .طرق للرؤية ،ترجمة ليلى الموسويُ ،مراجعة محمّد الجوهري،
صوت فيروز َّ
كل التحوّالت ُ سلسلة «عا َلم المعرفة» ،الكويت ،341يوليو /تمّوز .)2007فقد َ
راف َق
38
عبر عن تالوين الحياة القومــي ُ
الم ِّ َّ الصوت
َ السياســي ّة واالجتماعيّــة المحلّيّــة والعربي ّة ،حتّى َ
بات
اللّبناني ّة والعربي ّة بوجوهها كافّة .غنَّت الفرح والحُزن في آن .الخراب واألمل .غنَّت للحبّ والمحب ّة
والقريــة والمدينــة واألرض والوطــن ...غنّت لألمومــة ،غنّت للبنان ،كما غنَّت ُ
لمــدن عربي ّة مثل
ّ
ومكة واإلســكندري ّة وبغداد وعمّان ..في حين بقيت فلسطين األثيرة في غنائها لكونها القدس
حكاية أرض ووطن وشعب عربي مسلوب.
ّ
الخــط الوطني والقومي الــذي يحتاج إلى مســرحيّاً ،لــم تخــرج فيروز فــي أدوارها أيضاً عن هذا
التحلّي بأخالقي ّات جسّ دتها هي في أدوارها كاألمانة والطيبة والوداعة والعطاء واإلخالص...إلخ.
فيروز هي الصبي ّة «البعلبكي ّة» التي آثرت أرضها وشــعبها على اآللهة ووعودهم لها برغد الحياة
(في مسرحي ّة «البعلبكي ّة»:)1961 ،
أنــا شمعة على دراجـــــك بــــعــــلـــــــــبـــــــــــــــــــــــــــــك
أنــا نقطة زيــت بسراجك وردة علــــى سياجــــك
نــــســــعـــــــــد ونــــشــــقــــى هـــــــون رح نــبــقــــــــى
وحــــــــــــــــد َّا الــــغــــنــــيّــــة
َ نـــــــــــزرع الــــســــجـــــــــرة
حــــــكــــــايــــــة إلـــــهـــــيّـــــة ولــــــلــــــد ّنــــــي نــحــكــي
وهي «صبي ّة الجســر» التي تســعى أيضاً إلى ّ
حل النزاع بين القريتَين ُ
المتخاصمتَين (في مسرحي ّة
«جسر القمر» ،)1962-وهي «عطر اللّيل» التي كرَّست نفسها للغناء لتحمل إلى الناس من خالله
رســال ًة وطني ّ ًة جامِ عة عنوانها محب ّة لبنان (في مســرحي ّة «أي ّام فخر الد ّين» ، )1966،وهي «هالة»
ّ
والغش (في مســرحي ّة الفتاة الفقيرة الصادقة التي ترفض الزواج من الملك ،النّها تأبى الكذب
المؤتمنة علــى األرض ،الزّارعة بذور الثــورة ضد ّ الظلم
َ «هالــة والملــك»)1967 ،؛ وهــي «غربة»
واالستبداد ،الطامحة إلى الحري ّة (في مسرحي ّة «جبال الصوّان»)1969،؛ وهي «زاد الخير» الفقيرة
البسيطة التي تُواجِ ه بعنفوا ٍ
ن التمادي في استعباد الناس فتتصد ّى للشرّ وتنتصر لق َيم العدالة
والمواطنــة (فــي مســرحي ّة «ناطــورة المفاتيح»)1972،؛ وهــي «زي ّون» ذات النوايــا الطي ّبة التي
حبيبي ْن وتطلب من
َ المصا َلحة وتعلو عن نزاعات األهالي وانقساماتهم للتقريب بين
تسعى إلى ُ
سكان ميس الريم أن يتذكّروها ،كلّما وقع اثنان في الحبّ (في مسرحي ّة «ميس الريم»،)1975،
ّ
ّ
«المحطــة» ،)1973 ،وهي «لولو» التي تَفضح وهــي «وردة» التي لم تترك األرض (في مســرحي ّة
فســاد الحُكم والنفاق والجُبن (في مســرحي ّة «لولو» ،)1974 ،وهي الملكة «شكيال» التي تُضحّي
بابنتها للحؤول دون انكسار شعبها وهزيمته (في مسرحي ّة «بترا».)1977 ،
39
ُ
حارسة الق َيم في مسرحي ّات الرحابنة أو «ناطورة الق َيم» كما وصفتها خالدة السعيد في فيروز
الزمة
الم ِ ّ
المثقفة»( ،)2013تلــك البطلة الرحباني ّة «المنذورة لــأرضُ ، كتابهــا «يوتوبيا المدينــة
للـ«ناس الناطرين» ،حارسة الكنز ،ناطورة األحالم»( ،فوّاز طرابلسي ،فيروز والرحابنة) لم تخرج
عن هذا اإلطار في أدوارها الســينمائي ّة الثالثة« :ريما» في «بي ّاع الخواتم» ( )1965و«عدال» في
فيلم «سفربلك» ( ،)1967و«نجمة» /أبو الك ّ
في ّة في «بنت الحارس» ()1968؛ فكانت في أدوارها
الثالثة الفتاة القروي ّة البسيطة ُ
المدافعة عن األرض والوطن ضد ّ االحتالل األجنبي (العثماني في
المنحازَ ة دوماً لق َيم العدالة والرّحمة ضد ّ الجور والنّفاق والشرّ عموماً.
ُ سفربلك)،
أمّا في الغناء فكانت فيروز ،بصوتها وحضورها وأدائها ،جزءاً تأسيســيّاً في الســيرورة التحديثي ّة
ّ
تشــق بدايــات طريقها اإلبداعــي التجديدي في خمســيني ّات القرن لألغنيــة الرحبانيّــة ،التي كانت
ّ
تحكمه الفائــت .وهــي الحقبــة التي كان نمــط اإلنتاج الرأســمالي التّابع فيها يتكرَّس ُم ِ
مارســاً
بالتشــكيلة االقتصاديّــة االجتماعيّــة اللّبنانيّــة وبأنماط اإلنتاج الســابقة على الرأســمالي ّة ،دافعاً
ســة ظواهر مثــل النــزوح الريفي والهجــرة والتفــاوُت الطبقي والمناطقــي ،وغيرها
مأس َ
َ إلــى
مــن االختــاالت البنيويّــة التي أفضت الحقاً إلى الحــرب األهلي ّة ،فضال ً عــن ّ
كل األحداث العاصفة
التــي شــهدها العا َلم العربي والتي مهّد لها احتالل فلســطين عام (1948ثــمّ ثورة يوليو ،1952
والعدوان الثالثي على مصر ،1956فهزيمة حزيران /يونيو 1967المفصلي ّة ،)...بحيث عب َّرت فيروز
مــع األخويــن عاصي ومنصور الرحباني عن هذه االختالالت وعــن الق َيم الروحي ّة والثقافي ّة للريف
خاص ونتمسّ ك به ونحبّ أن ال يندثر .هذا العا َلم
ّ م اللّبناني في عا َل ٍ
م يتغي َّر« :نحن ننتمي إلى عا َل ٍ
تتناوشــه ريــاح التغييــر ،ألنّنا نحن نتغي ّر ،وألنّــه هو – هذا العا َلم -يتغي َّر أيضــاً» (عاصي الرحباني،
«تجربة األخوين رحباني في المسرح اللّبناني» ،مجلّة الطريق ،العددان 3و ،4آذار نيسان .)1966
اندمجت فيروز في تجربة األخوين رحباني ،كتجربة كانت قد بدأت تســتمد ّ قيمتها التحديثي ّة من
والً «مغامرة نقل لغة الشــارع وألقابه والحقل والشــاطئ إلى َمدارات
عناصــر عــد ّة ،من بينها أ ّ
الشــعر الجميــل التي كانــت قبلهما مقفلة بوجههــا ومرصودة على لغة األعيــان وعلي ّة القوم»
(علــي ســعد ،في الثقافة العربيّــة تي ّارات وأعالم من لبنان والوطــن العربي ،ج)2004 ،2؛ ومن
ٍ
نظام قيمي مختلــف عن النظام القيمي الســائد وتقاليــده .فإذا كانت الســعي ثانيــاً إلــى بنــاء
عناصــر النصــوص الغنائي ّة المكوَّنة من الطبيعة والحبّ والحنيــن والرجاء ،هي من العناصر التي
ّ
النص الشعري لألغنية الوجداني ّة ،فإ ّ
ن عاد ًة ما كانت تتضمّنها النصوص الرومانسي ّة الحالِمة في
ٍ
مدلوالت تنأى عن هذه العناصر اكتست في النصوص الشعري ّة العامي ّة ألغاني األخوين الرحباني
40
فيزيقي ملموس مليء بأنفاس
ٍّ الرومانســي ّة لتصبّ في مواقف وجداني ّة ملموســة ،وفي إطار ٍ
الناس ولغتهم اليومي ّة؛ بحيث لم يسْ َع الرحابنة مثال ً إلى تخليد هذا الحبّ في قلب الطبيعة أو
َّ
شكلت إلى جانب الحبّ والزمن أقانيم الوجود على طريقة الرومانسي ّين ،وإن كانت الطبيعة قد
ثالثة للحياة لديهم؛ إذ ثمّة استحضار للحبّ في سياق حكائي قصصي ينقله إلى مدارات المعيش
بكل ما يتخلَّل ذلك من مشاعر القنوط والحنين واألمل والرجاء ،أو الهجران واللّقاء ...إنّه الحبّ
ّ
الذي يردم الهوّة بين الواقع والخيال ،ألنّه مشــروط بزمان الناس ومكانهم وبتغي ّراتهما (كما
علي» ،و«أنا عندي حنين»...،إلخ) ُمســتندين
ّ «حب ّو بعضن» ،و«فايــق
هــو الحــال في أغنيــات مثل َ
ٍ
شــريط حكائي ســريع يســتعير بعض تقني ّات الســرد القصصي كالمونولــوغ ُ
ومناجاة أحيانــاً إلى
النَّفس ،فيما الكلمات الرشيقة الطريفة تتراقص في بعض األغاني عاكس ًة َوجهاً بشوشاً للحبّ
ُ
العشــق في أغاني («شــالك رفرف»« ،شــتّي يا دنيي» ،و«بقتفلك بس»...إلخ) .في اختصار ،بات
فيروز /الرحابنة حكاية يتكلّم عليها العاشق/ة بوصفه عاشقاً ي ِّ
ُفكر .وينسحب ذلك على الطبيعة
ُّ
تحكم الزمن بمصائر عد مالذاً يسكن إليه الشاعر ،وإن بدت أحياناً مالذاً للشكوى من
التي لم ت ُ
للنص الغنائيِ ،
وصل َة ّ الحكائي
ّ البشر وعجز هؤالء أمامه ،بل بدت كشخصي ّة من شخصي ّات العا َلم
ل بين الناس ،حمَّلها الرحابنة رسائل الحبّ بقدر ما حمّلوها اآلمال (في «نسَّ م علينا الهوا»،
وص ٍ
«نطرونا»« ،يا جبل اللّي بعيد»..إلخ) .والطبيعة أيضاً شاهد على حياة
ّ «يا طير»« ،يا حجل صنّين»،
ُ
تكافال ً يؤمّن خصبها الذي يعني القروي ّين ونمط عيشهم الزراعي حيث يتكافل الفرد مع األرض
ن (تُخاطب أغنية «شــتّي يا دنيا» الطبيعة الغنّاء ّ
بكل ما تحمله الكلمة من معا ٍ خصبه اإلنســاني
ُ
تالزم العمل في األرض مع أمن النــاس والتصاقهم بمكانهم المو ِّلد باحتفاليّــة غنائيّــة تختصر
لحظــات وأزمنة ٍ مضت ولن تعــود (أغنية «نحنا
ٍ لالســتمراري ّة والوعــود) .وهــي أيضاً شــاهد على
والقمر جيران» مثاالً) .لقد َأثْرت عناصر الطبيعة إذن ،كالشــتاء واللّيل والنهار والنســيم والريح
والح َجر والشجر واألرض والجبل
َ والهواء والزهور والبالبل والتالل والحقل والطير والشــمس
الحقل الداللي لألغنية جاعل ًة الطبيعــة وكأنّها هي الحياة
َ والنبــع والبريّــة والقمر والبيادر...إلــخ،
أو العكس في وحدة عضوي ّة حميمة متجذّرة في سياقها االجتماعي عموماً والقروي خصوصاً.
أمّا الزّمن لدى الرحابنة فبدا كعنصر ٍ من عناصر القالب الحكائيَ ،يعبر كومضة كاشفاً عن التحوّالت
ل مكثَّف ،لتكمن شــعري ّته في التعبير اللّمــاح عن تبد ّالته من خالل
الفيزيقيّــة واالجتماعي ّة بشــك ٍ
ّ
وكل تالوين الحياة. الزمــن الذاتي اإلنســاني ،وبما يُعزِّ ز الرؤية الواقعي ّة لل ُ
عمــر والحبّ والحنين
والحي والدار والسياج والمواقد والحيطان والقناديل
ّ فاألمكنة ،كالعلّي ّة والقناطر والطريق العتيق
41
والقرميــد وغيرهــا من األمكنة واألشــياء الشــاهدة على تغي ّرات الزمن ،غــدت في تقاطعها مع
الذات وعناصر الطبيعة تعبيراً عن واقعي ّة الحياة وواقعي ّة العالقات القائمة بين ناسها.
المواكِ ب لموســيقى تجديدي ّة إبداعيّــة ُمحتضناً
انصهــر في صوت فيــروز ُ
َ هــذا اإلبــداع الرحبانــي
والم ِرح ،وبه قد َّم الرحباني ّان مــا أراداه ،خصوصاً تمرُّد الناس
َ «الحــزن الرصين والتعبيــر العميق
شــكال ً أيضاً «ســلطتَين فنّي ّة وإنســاني ّة في آن واحد،
ِّ وثورتهم وقضاياهم وقلقهم وفرحهم» ُم
إضافة إلى ميزة أساســي ّة فيه قاربت الســراب الذي كلّما اقترب ُ
المســتمع لإلمســاك به لرسْ ِ
م
وذهب إلى مفازات ال يعرف تحديدها»( هاشم
َ حدوده وتعابيره ومصادر انطالقه الجوّاني ّة َأ َ
فلت
قاسم ،الظاهرة الرحباني ّة).
ّ
بكل ما كانت تنطوي عليه هذه الظاهرة من عناصر غيــر أ ّ
ن اندمــاج فيــروز في الظاهرة الرحباني ّة
الذاتي (تمثيــا ً وغناءً وأداءً
ّ الفني
ّ التجديــد واإلبــداع ،لــم يؤ ِّد إلى طمس شــخصي ّتها وحضورها
وحسّ ــاً موســيقيّاً...إلخ) الذي ح ّ
ق َق لها رصيداً فنّيّاً واجتماعيّاً ،والسي ّما من خالل أغانيها العائدة
للرحابنة وغير الرحابنة ،المكتوبة بالعامي ّة أو بالفصحى ،شعراً عموديّاً أو حرّاً ،وحتّى في تجربتها
ّ
خاصة .لكن تكفي هنا اإلشــارة إلى ّ
تســتحق دراســة الفني ّة المختلفة جدّاً مع زياد الرحباني ،التي
أبــرز معالِــم هــذه التجربة المتمثّلــة مثال ً بالنصوص الغنائيّــة التي كتبها زيــاد وغنّتها هي ،لجهة
ن على صعيد اللّغة ،أو علــى صعيد غياب الصورة
افتراقهــا الكلّــي عن نصوص األخويــن رحباني ،إ ْ
الشعري ّة ،أو عناصر الطبيعة ،أو تجسّ دات الحُبّ والمرأة (من ذلك :كبيرة المزحة هاي؛ انشااللّه
ما بو شــي؟!؛ ال واللّه؛ تلفن عي ّاش ،شــوبخاف ،بيذكر بالخريف؛ أنا فزعانة ،البوســطة ،معرفتي
فيك ،عندي ثقة فيك ،كيفك إنت.)...
علــى مــدى أكثــر مــن 60عاماً صارت فيــروز صــوت اللّبناني ّين والعــرب وضميرهم فــي مختلف
الخاصــة والعامّــة؛ إذ غنّــت للحــبّ والفــراق والطفولة والقريــة والغياب
ّ ظروفهــم وأحوالهــم
قاومة الظلم، ُ
ولم َ والفقــدان والزّمــن الذي لن يعود ،بقــدر ما غنّت لألرض والوطن والســام
ُمناجيــة اللّــه أو الجمال اإللهي المتمثّل في الطبيعة وســائر الموجودات ،لترتقي بالمتل ّ
قي إلى
مرتبــة الصوفيّــة بب ُعدهــا اإليمانــي تار ًة والتــي قاربت على حد ّ تعبير هاشــم قاســم« ،نوعاً من
الصوفيّــة الغنائيّــة الحديثة» ،أو عبر الصالة واالبتهاالت الديني ّة المباشــرة تار ًة أخرى في أســبوع
اآلالم والجمعة العظيمة وغيرهما من المناسبات الديني ّة.
42
على مدى أكثر من 60عاماً بقيت فيروز هي فيروز .الســي ّدة فيروز .الشــامخة المترفّعة عن أ ّ
ي
انقســامات سياســي ّة أو حزبيّــة أو طائفي ّة أو مذهبي ّة حتّى في أفظع حــرب وأقذرها كحرب لبنان
والعين الحزينة الســاهرة على وط ٍ
ن احتضنته بوجدانها َ األم الوقورة
ّ ( .)1990 -1975بقيت فيروز
قبــل أن تحتضنه بصوتها .تُغنّي للســام واألمل والرجاء .تُداوي الجــزءَ األكثر حاجة إلى ُ
المداواة
العربي الكبير ريثما ينجلــي داؤه .لذا غنّت كثيراً للبنان
ّ مــن الوطــن الصغير لبنــان أو من الوطن
الهمم .وبقيت ُمخلصة لقضي ّة فلسطين وأهلها مذ ّ
بقدر غنائها لفلســطين لتبث األمل وتشــحذ ِ
غنّت «بيسان» (كلمات وألحان األخوين رحباني ،)1956 ،و«سنرجع يوماً» (كلمات وألحان األخوين
رحبانــي ،)1956 ،و«جســر العــودة» التــي تُحي ّي فيها أهــل األرض المحتلّة «ســامي لكم يا أهل
األرض المحتلّــة» (كلمــات وألحان األخوين رحبانــي ،)1957 ،و«راجعون» (كلمات وألحان األخوين
و«ســيف فلْي ُشــهر»
ٌ رحباني ،)1957،و«القدس العتيقة» (كلمات وألحان األخوين رحباني،)1965 ،
(كلمات ســعيد عقل ،ألحــان األخوين رحباني )1966،التي تنطق فيروز فيهــا بفخر وكرامة «اآلن..
اللّه ،وتشكو إليه ُمعاناة أهل فلسطين وما يجري في القدس من تهويد ٍ واستيطان ،تحت عنوان
«إلــى متــى يا ربّ » ،نشــرتها ابنتها ريما في قناتها على يوتيوب .وظهــرت فيروز وهي تؤد ّي هذه
الترنيمة من داخل كنيسة أرثوذكسي ّة ،بثوب أسود ،واضعة غطاء على رأسها وخلفها صورة للسي ّد
قصة النضال الفلسطيني ُ
ومعاناة أهل األرض» المســيح ،فيما ظهرت في الكليب مشاهد تروي ّ
(.)https://arabic.rt.com/culture
أمّــا عــن وطنهــا لبنان ،فــإ ّ
ن أغنية «وطنــي» (كلمات وألحــان األخوين رحبانــي )1969 ،التي تبدأ
بـ«وطنــي يا جبل الغيــم األزرق /وطني يا قمر الندي والزنبق» وتنتهي بـ«أنت القوي أنت الغني
43
وأنــت الدنــي يا وطني»؛ وأغنية «ع اســمك غنّيت» (كلمات وألحان األخويــن رحباني )1970،التي
تبدأ بـ«اســمك غنّيت ع اســمك رح غنّي /ركعت وصلّيت والســما تســمع منّي /عتاللك عجبالك
ركعت وصلّيت /هون السما قريبي تسمعنا يا حبيبي» وتنتهي بـ «واحمل بإيدي كاسك المليان/
أرفعو لفوق لمطرح البيوقف الزمان /وأســكر بأســمك مجد يا لبنــان»؛ وأغنية «لبنان األخضر»
(كلمــات وألحــان األخويــن رحباني« :)1974 ،لبنــان األخضر ،لبنــان /حليانة الدنيــا /حليانة ،بلبنان
د ْ
ت أناشــيد وطني ّة ُ
المشــبعة بحبّ الوطن واألرض ،فقد َغ َ األخضر»...إلخ ،وســواها من األغاني
لبناني ّة .أمّا أغا ٍ
ن مثل «رجعت العصفورة» (كلمات وألحان األخوين رحباني )1974 ،التي حدســت
بســنوات الخــراب الطويلــة ُ
المقبلة« :قالــوا كتير وكتبوا كتيــر /ومراكب دمــع وعواطف حرير/
وصلِــت القصايــد آلخر الد ّنــي /القصايد المجروحة آلخــر الد ّني /قالوا تهد ّم وطــن الهدير /وطن
الزّمــان اللّــي علّم و ِبني /والتي تُنادي فيروز فيها :لبنان الحقيقي جايي ،لبنان البســاطة جايي/
ت يشــيل الوجــوه المصبوغة /الوعود المدموغــة» ،والتي تنتهي بـ «يا وطني العظيم يا وطني/
َ
الطالع /تتوه ّج الحياة» ،فلم تُفقِ د فيروز عزيمتها في الغناء الحقاً
و الفجر ّ
نهر الفرح َوالِع وبض ّ
ن ينهــار .فغنّت الكثير مثل «بحب ّك يا لبنان» (كلمات وألحان األخوين رحباني« )1976 ،بحب ّك
لوطــ ٍ
يا لبنان يا وطني بحب ّك بشمالك بجنوبك بسهلك بحب ّك» ،وبثّت األمل والرجاء حين كانت تصدح:
«ســألوني شــو صاير ببلد العيد /مزروعة عالداير نار وبواريد /قلتلن بلدنا عم يخلق جديد /لبنان
الكرامي والشعب العنيد /كيف ما كنت بحب ّك بجنونك بحب ّك /وإذا نحنا اتفرّقنا بيجمعنا حب ّك/
وحبّــة مــن ترابــك بكنوز الدنيي /وبحب ّك يا لبنــان يا وطني» ،فيتماوج علــى وقْع تصديحها آالف
اللّبناني ّين في الخارج الهاربين من نيران الحرب ُمكفكفين دموعهم صنو لبناني ّي الداخل .وتوالت
بعدهــا أغــا ٍ
ن مثــل «بيقولوا زغير بلــدي» (كلمات وألحان األخويــن رحبانــي« :)1977،بقولو زغي ّر
بلــدي /بالغضب مســوَّر بلدي /الكرامة غضب والمحب ّة غضب والغضــب األحلى بلدي» /وبيقولوا
قالل ونكون قالل بلدنا خير وجمال /وتنتهي بـ«يا زغي ّر وبالحق كبير وما بيعتدي يا بلدي»؛ وظلّت
تغنّــي للوطن المحــروق ،فكانت أغنية «لبيروت» (كلمات جوزيف حــرب -ألحان يواخين رودريغو
قديم» .وهي
ِ ســام لِبيــروتُ /
وق َب ٌل ل
ِلبحر والبيوت /لِصخرة ٍ كأنّهــا وج ُه بحّار ٍ ٌ « ،)1983مــن قلبي
ِ
خصصت للجنوب أغني ًة هي «إســوارة العروس» (كلمات جوزيف حرب وألحان فيلمون وهبي
إذ ّ
« :)1989إسوارة العروس مشغولي بالدهب /وإنت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب /ويا شعب
ن الجنوب كان ُم ّ
حتاّل ً من الشعوب األقوى من الحروب /بتبقى اذا بيبقى يا شعب الجنوب» ،فأل ّ
ق َِبل إسرائيل ،بعد اجتياحها لبنان في العام .1982
44
ّ
وكل لبناني ُ
صــوت فيــروز وحضورها مالذاً يســكن إليه العاشــق والمظلوم والمجــروح أضحــى
وعربــي لفَ َظــ ُه وطنُــ ُه وألقى به في صقيع ُ
الغربــة والحنين إلــى األرض ،أو ّ
كل َمن يريد أن يلوذ
مال ً تموّجات الزّمن وســيرورته .غدت فيروز البلسم الذي يسري
بذكريات الماضي والطفولة متأ ّ
البلســم الن َّ َ
فس وال ُ مفعوله على النَّفس كمثل ســريان إيقاع أغنيتها «تعا وال تجي» :ي ِ
ُفرح هذا
يسعدها ،ي ُحرّك أحزانها الدفينة وال ي ُغرقها في الحزن ،وذلك في توليفة الكلمة واللّحن والصوت
ن فيه شــيئاً مميَّــزاً جدّاً بطريقة أداء صاحبته للجملة الموســيقي ّة،
الــذي وصفــه زياد الرحباني بأ ّ
كقدرتهــا مثــا ً «على أن تُبطىء الجملة اللّحني ّة عند نقطة معي ّنة حسّ اســة Robatoومن دون أن
يكون robatoهذا حرّاً لدرجة الفلتان ،Ad. Libitumوفي الوقت الزمني ُ
المناسب تعود السرعة
اإليقاعي ّة األولي ّة ،بكثير ٍ من الســهولة والرشــاقة» (نزار مروّة محمّد دكروب« ،حوار غير منشــور
ُ
أجراه نزار مروّة مع زياد الرحباني :عاصي أعجب بموســيقاي وفيروز أفادتني بحسّ ــها الســليم»،
جريدة الحياة.)1998/12/12 ،
ُ
تضافر يأت من صوتها وأغانيها بأبعادهما الروحي ّة والجمالي ّة فحســب ،بل من
تميُّــز فيــروز لم ِ
وجع َلتْها جزءاً مــن «نمط َعيش اللّبناني ّين والعرب»؛ عوامــل مادي ّة َأســبغت عليها هذا َ
الموقعَ ،
بحيث ي ُمكن القول إ ّ
ن ما يشبه «الد َّين الجماعي» (التعبير لناتالي إينيك في كتابها سوسيولوجيا
ن وللُبنان ،حتّى أضحت مكوّناً ورمزاً أساسيّاً
الفنّ) تكو ََّن تجاه هذه الفنّانة التي كرَّست حياتها للف ّ
ُفرج الهمَّ ،وصوتاً يخلّي «الغني ّة تصير ...
من مكوّناته ورموزه الفني ّة والثقافي ّة ،ومالذاً وبلسماً ي ِ
عواصــف وهديــر» (من أغنية «القدس العتيقة») في لبنان والعا َلم ،ولدى العرب ُ
المقيمين أو
ُ
المنتشرين فيه على اختالف انتماءاتهم القطري ّة.
45
د .سعد البازعي*
لم نعتد الوقوف عند كلمات األغاني .نسمع الكلمات ،لكنّنا ال نصغي إلى الشعر الكامن فيها،
إلــى مــا تقوله ،مــا تهمس به .يطغى اللّحن وصــوت المطرب وتتوارى الكلمــات .رب ّما ألنّها ال
ن َب َه َرتْنا ٍ
حاالت قليلة أو نادرة .معظم األغاني ألحــان وأصوات إ ْ تســتفزّنا أو تؤثّــر فينــاّ ،
إاّل في
فإنّما تبهرنا بتطريبها وتبقى الكلمات مثل زجاجات العطر تحمل الروائح ُ
المبهرة فننسى الورد
فــس العطر أو ما في تصميم الزجاجات من إتقان ،ألنّنا ببســاطة لم نَعتد أن نرى في
الــذي تن َّ
ّ
يستحق االلتفات. هذه ما
ندوخ مع العشق والسهر والعيون الجميلة والجفاء واللّقاء ،وغير ذلك من كليشيهات تكاد ال
تنجو منها أغنية عربي ّة .حتّى أغاني الكبارّ ،
أم كلثوم وعبد الوه ّاب وفريد األطرش ووديع الصافي
وطــال مــد ّاح وعبد الحليم حافظ وغيرهم .تتكرّر اللّوعات ويســود الحنين إلى الحبيب ويســهر
ّ
تظل ُمتعالية بجمالها . العاشق األبدي لمعشوقة ال تستجيب أو تستجيب ،لكنّها
ّ
بكل تأكيد أغاني اســتطاعت كلماتها أن تبهرنا بقدر ما َبهرتنا ألحانها العام يســتثني
ّ هذا الحُكم
ن أكثرها كان في القصائد التي نُظمت
أو أصوات ُمطربيها .لكنّي حين أعود إلى تلك األغاني أجد أ ّ
أو كُتبــت بالفصحــى ،مــا اختارته ّ
أم كلثــوم أو عبد الوه ّاب أو الســنباطي أو فريــد األطرش أو
أنت»« ،مضناك جفاه مرقده»« ،جبل التوباد»
َ عصي الد ّمع»« ،عِش
ّ غيرهــم« :األطــال»« ،أراك
وغيرها ممّا أثرى الغناء العربي .الكلمات العامي ّة فيها أيضاً قد ٌر ال بأس به من ّ
الاّلفِ ت الممي َّز،
ّ
أقل ،والمشــكلة تكمن ،في المقام األوّل ،في النزعة الشــعبوي ّة ،كون األغنية لكنّه في تقديري
فنّاً جماهيريّاً يسعى لالنتشار والوصول إلى أكبر عدد ٍ من المتل ّ
قين .ينخفض سقف الشعري ّة أل ّ
ن
47
الشعر ليس هو األهمّ :اللّحن والصوت يصنعان األغنية والناس تُدندن اللّحن وتنسى ما تقوله
المرهفة وما يصل األغاني بعضها ببعض ،والســي ّما تلك التي َكت ََبها شــاع ٌر َ
بعي ْنه .كأ ّ
ن الشعر إذا
د أهمي ّته بوصفه شعراً وصار «مجرّد غناء» .صار ي ُتغنّى به لكي ي ُستغنى عنه. دخل األغنيةَ ،فقَ َ
حقيقــة األمــر هــي أنّنا لو نظرنا إلى األغانــي المنظومة باللّهجــة اللّبناني ّة مثل تلــك التي َكت ََبها
الرحابنة وجوزيف حرب تحديداً ألدهشــتْنا الشعري ّة العالية فيها ،ولطالما استوقفتني نواظم أو
ٍ
عالمات على الشعري ّة الكامنة .ذلك موتيفات في بعض تلك األغاني تحيل على شاعرها وأعد ُّها
ن النواظــم بحد ّ ذاتها ليســت َمكمن الشــعري ّة ،لكــ ّ
ن توظيفها هو األهمّ .مــن تلك النواظم: أ ّ
األســماء واألبواب والشــبابيك والجســور والطيــور .مجموعة مــن أغاني فيــروز تتمحور حول
هــذه النواظــم .فــي مجموعة األســماء ،مثــا ً ،تُطالعنا روائع مثل« :بكتب اســمك يــا حبيبي»
و«أسامينا» ،و«ال تسألوني ما اسمه حبيبي» ،و«يا دارة دوري فينا» (حيث «تينسو أساميهُن»)،
وفــي مجموعــة األبواب تطالعنا روائع أخرى« :أبواب» ،و«لمّا ع الباب يا حبيبي» ،و«نيســان ّ
دق
لمن كتبها ،على
الباب» وغيرها .كلمات تلك األغاني تحيل بطبيعة الحال على المدوّنة الشــعري ّة َ
الرحابنة أو جوزيف حرب أو سعيد عقل أو بشارة الخوري؛ لكنّها أيضاً تحيل على ذائقة ورؤية َمن
ومن اختارها للغناء.
اختارها للتلحين َ
ّ
ومســتقاّل ً عن غيره ،جنســاً ّ
ولعــل هــذا ي ُذكّرنــا باألغنية بوصفها جنســاً إبداعيّاً متكامل العناصر
48
عابــراً لألجنــاس .إنّنا في األغنية لســنا أمام قصائد وشــعراء فقط ،وإنّما أمــام أغانٍ ،أي جنس
ن ُ
ومغنٍّ ،وهؤالء قد جماعي لشــاعر ٍ ُ
وملحّ ٍ ٌ
عمل متنوع ُ
المبدعين .األغنية فنّــي متعــد ّد األصول،
ٌّ ِّ
ن تلك حاالت نادرة .األصل هو تعد ُّد مؤ ِّلفي األغنية ،أو صانعيها. ص واحدّ ،
إاّل أ ّ يجتمعون في شخ ٍ
الموسيقي يترك بصمته وإن لم تتّضح
ّ وال ننسى الموسيقي ّين بطبيعة الحال ،فأداؤهم للعمل
لمن تتّصل األغنية باســمه ّ
تظل الكلمة األخيرة َ ن على الرّغم من ذلك كلّه
المختصيــن .لكــ ْ
ّ َ
لغيــر
وهي هنا فيروز .
مجموع الســمات التي صارت عالمة على أغاني فيروز تمنحها أولوي ّة في تقدير القيمة النهائي ّة
حتّــى صــارت فيروز نفســها ،في تاريخ األغنية العربي ّة ،عالمة على َلو ٍ
ن مــن الغناء ي ُعرف بها .وإ ْ
ن
شــك ،األخوان واالبن ،بما َملكوا من عبقري ّة ٍ
ّ ٍ
شــريك في القيمة فهو الرحابنة من دون كان من
في اللّحن والكتابة والتوليف النهائي لسيمفوني ّة الغناء الفيروزي وما فيه من شعري ّةَ .
وأجدني
مضطــرّاً الســتحضار فيلمــون وهبي أيضــاً ،فهــو عبقري ّة أخرىَ ،أســهمت في صناعة األســطورة
ْ
ــر ْ
ت لألغنيــة الفيروزي ّة ُعمقاً في رحــاب الغناء الشــرقي أو الطرب ن خالــدة َحفَ َ
الفيروزيّــة بألحــا ٍ
الشــرقي الذي أراد الرحابنة في بعض إســهاماتهم تخفيفه بالمزيج الشــرقي الغربي ،بالتحديث
الغنائي الذي لم يلتفت إليه وهبي فأصلها في عراقة السلْطنة الشرقي ّة.
هذه القدرات الكبيرة تنتظمها كلمات لم يألفها الغناء العربي بركونه غالباً إلى كليشيهات َ
الغزَ ل
والهجر .لم تسلم أغاني
َ المثقَ ل بالعواذل والسهر والتوسُّ ل َ
وألم الفراق واالستحضار األنثوي ُ
فيروز من هذي بطبيعة الحال ،كما ســبق أن ذكرت ،فهي ابنة البيئة في نهاية المطاف وللتل ّ
قي
ن ذلك العنصر التقليدي لم ُ
يكن السمة التي الجماهيري مطالبه المشروعة وغير المشروعة؛ لك ّ
ميَّــزت كلمــات األغنية الفيروزي ّة .ما مي َّزها ،إلى جانب اللّحن والموســيقى ،هو الخروج عن ذلك
العنصر الطاغي عربيّاً .ولنأخذ «أسامينا» مثال ً.
ُ
التفلســف من دون أن تفقد تســاميها إلى مخي ّلة أين في الغناء العربي تجد تســاؤالت تُالمِ س
الشعر كما في هذا الكالم :
األسامي كالم ،شو ّ
خص الكالم
عينينا هنّي أسامينا .
يتنصل من هوي ّته ويؤكّد تدنّيه قياساً إلى
َّ المفارقة بطبيعة الحال هي أ ّ
ن األغنية هنا كالم ،كالم
ما يبدو متجاوزاً للكالم« .األسامي» هي العيون وليست الحروف التي ننطقها ُمجتمعةً .وواضح
دد كينونتنا وانتماءناَ ،من نحن. أ ّ
ن المقصود باألسامي (أو األسماء) ليس سوى الهوي ّة ،ما ي ُح ِّ
49
دد الهوي ّة شــيء أكثر جذري ّة من تلك التي تَعب أهلنا في البحث عنها .لنَســتعِ د كلمات
الــذي ي ُحــ ِّ
األغنية كاملة ،لنَستعِ د «الكالم» ،بتعبير آخر:
أسامينا
50
ن تلك األحرف قــادرة على اختزال الهوي ّة ،وكأ ّ
ن األهل قد نســوا أو غفلوا إلــى هويّــات قــارّة .كأ ّ
ن الهويّــة تلمع في األعين البرّاقة بالحياة ،بألوان الحياة من األخضر إلى اللّوزي إلى األزرق
عــن أ ّ
ن خمّاراً يدور ما بينها وبين الناظرين إليها ،تلك ِ
ســكر حين تنظر وكأ ّإلى غير ذلك .األعي ُن التي ت ُ
األعْي ُن هي َمن يختزن الهوي ّة وي ُعلن األسماء .أمّا تلك األسماء التي تُقال فليست سوى حروف
ّ
بالعشــاق ،بجميل وبثينة وقيس وليلى وغيرهم ممَّن في الهواء أو على ورق ،حتّى حين تتّصل
هم أعينهم وتجســدهم ،حيوي ّتهم المتدفّقة
هم غير تلك األســماءُ .
ج بأســمائهم القصائدُ .
تض ّ
وعاطفتهم المتّقدة.
ن فيروز التي تغنَّت بكلمات جوزيف حرب حول األسماء غنَّت أيضاً كالماً ّ
ولعل من الطريف هنا أ ّ
ّ
العشاق ،جميل بثينة ،حين تحد َّث عن األسماء أيضاً: ألحد أولئك
أحبّ من األسماء ما شابه اسمها ووافقه أو كان منه دانيا
تعارف عليه حين يلوح في
َ لكن ما أبعد الشــأو بين هذه الداللة القريبة ،ذلك التعلُّق باالســم ُ
الم
األذن تشــاب ٌه بين األســماء ،وبين ما يقوله حرب حين يرتفع باألسماء إلى المستحيل ،مستحيل
األعين ،حين ي ُماهي بين االسم والجسد المتعي َّن بحسي ّته وصوره وألوانه .
ّ
يقل نظيره في الغنــاء العربي إ ْ
ن كان له ن الغنــاء الفيروزي يبتعد شــعريّاً في مســار ٍ آخــر
غيــر أ ّ
نظير فعال ً .تلك هي األغاني التي تتوغّل كلماتها في اليومي وتَجترح شعري ّتها من البسيط ومن
تعارف عليه ،أي من غير «الشــعري» في تقاليد التأليف الغنائي،
َ التفاصيل المألوفة والكالم ُ
الم
من دون أن تتخلّى عن المسحة الرومانسي ّة .أغنية اليومي والتفاصيل الحياتي ّة الصغيرة معروفة
طبعاً ،كما عند ســي ّد درويش وبيرم التونســي وفي الفولكلور ،لكن ما أشير إليه يختلف في أنّه
المتعالي وإن جاء مخ َّ
ففاً .فإذا كانت «أسامينا» تكسر يمزج ذلك اليومي والبسيط بالرومانسي ُ
ــح أبواب الداللة على الهوي ّة وعالقة الحسّ ــي بالمجرّد ،اللّغة بالجســد ،فإ ّ
ن األغاني المألــوف بفت ْ ِ
ُ
التي أشــير إليها تكســر ذلك المألوف بفتْح الدكاكين وتصوير الجدران لتَرسم حاالت عشق متأبّ
ّ
ولعل األغنية التي أو متعــالٍ ،عشــق يتماثل عبر معجم الحياة اليومي ّة بأســواقها وتجمُّعاتهــا.
المفرق تُنطر ناس» وهي
أشير إليها قد بدأت تتّضح للقارئ ،فأنا أقصد «أد ّيش كان فيه ناس ع َ
لألخوين رحباني ومن ألحان ابن فيروز زياد رحباني .لنقرأ:
َ
أد ّيش كان في ناس ع المفرق تُنطر ناس
وتشتّي الدني ،ويحملوا شمسي ّة
وأنا بإي ّام الصحو ما حدا نَطرني.
51
أد ّيش كان في ناس ع المفرق تُنطر ناس
وتشتّي الدني ،ويحملوا شمسي ّة
وأنا بإي ّام الصحو ما حدا نَطرني.
52
ع الحال والحال ع الطرقات /غنّي له غنّيات وهو بحاله مشغول» .في هذه الصورة تقفز إلى الذهن
ّ
تظل تجسُّ ــداً المتعالية ،فعلى الرّغم من عدم تحديد تلك المعشــوقة ،فإنّها
صورة المعشــوقة ُ
أفالطونيّاً تقريباً للحســن المتأب ّي على اآلخرين ،المشــغول بنفســهُ ،
المكتفي بما لديه ،بطريقة
ّ
تظل لغة األغنية أرضي ّ ًة مشغولة بالبسيط والقريب ،بمعنى قدسي ّة أو إلهي ّة .عدا عن تلك الصورة،
ن كلمات األغنية تتّصل باألغنية العربي ّة التقليدي ّة ،أغنية العشق والمعشوق ُ
المتمنِّع ،فقط من أ ّ
لبس فيه. َ هذه النافذة الصغيرة .لو تَركنا ذلك جانباً لرأينا األغنية تفترق عن غيرها افتراقاً ال
َ ّ
بترجع يا ليل».
َ أغنية ال تقل إدهاشــاً في قدرتها على أسْ ِ
ــر الخيال عبر لغتها وأجوائها هي «ليلي ّه
ي نقيض من َ
طرف ْ لألخوي ْن رحباني ومن ألحان فيلمون وهبي ،تقف على َ هذه األغنية ،وهي أيضاً
«أد ّيش كان في ناس» .هنا تفيض اللّغة برومانسي ّة ٍ عذبة ،أجواء عشق يل ّ
فه الغموض .البساطة
والوضــوح فــي «إد ّيش كان فيه ناس» بل وحتّى في «أســامينا» ،يتراجعان لتطغى أجواءٌ يمتزج
فيها الحالِم بالقاسي ،والقسوة هنا غير مألوفة بحسب علمي في ما َكت ََب ُه األخوان رحباني .لنقرأ:
ليلي ّة بترجع يا ليل وبتسْ أل ع النّاس
وبتسقيهُن يا ها اللّيل ّ
كل واحد من كاس
غِب ْ َلك شي ليلة يا َليل وانسانا يا َليل ،يا َليل.
ّ
يبكوني ليلي ّة العينَي ْن السود بيطلّوا
غزلوني على صوت العود غني ّة وغنّوني
قلتلّي خب ّيني بقلبك وانسيني
يا زهر القناطر فتح هالميل وهالميل
غِب ْ َلك شي ليلة يا ليل وانسانا يا ليل ،يا ليل.
53
عودة اللّيل ّ
كل ليلة افتتاح ســوريالي ،شــطحة مجازي ّة تفضي إلى رومانســي ّة ٍ عذبة ومعذّبة في
اآلن نفســه .اللّيــل هنا ،على عكس الحال في أغنية «أد ّيــش كان في ناس» ،يهمّه الجميع ،فهو
هم دائماً في األغنية ّ
العشاق الســهرانين ،كما ُ يســأل عنهم ،و ُ
هم بطبيعة الحال ليســوا سوى
العربيّــة .تســتعيد األغنيــة تلك الداللة المألوفــة بعد أن تكون قد مهَّدت للخــروج عنها بالمعنى
فارقة ٍ تقتضي االبتسام والدهشة معاً .لك ّ
ن استعادة السوريالي للّيل الذي يعود ّ
كل ليلة في ُم َ
الداللــة المألوفــة تقترح ُم َ
قارن ًة بإحدى روائــع الغناء العربي ،أغنية ّ
أم كلثوم «أهل الهوى» .في
تلــك الرائعــة الكلثومي ّة التي َكتبها الشــاعر بيرم التونســي ولحَّنها زكريا أحمــد يتجلّى اللّيل في
هم أهل الهوى الذين يشبهون الناس ،أولئك المتجمّعون لكي يسقيهم ّ
للعشاق ُ ع صور ِة تج ُّ
م ٍ
اللّيل من كأسه في رائعة فيروز .يقول مطلع «أهل الهوى»:
أهل الهوى يا ليل فاتوا مضاجعهم،
وتجمّعوا يا ليل صحبة وأنا معهم،
ّ
ويقصروك يا ليل يطوّلوك يا ليل
يطوّلوك يا ليل من اللّي بيهم
وانت يا ليل بس اللّي عالِم بيهم
فيهم كسير القلب والمتأ ِّلم
واللّي َكتَم شكواه ولم يتكلّم...
العام الحقاً من الحــزن إلى الفرح بتغي ُّر
ّ أم كلثوم على هذا النســق ليتغيَّــر المزاج
تســير أغنيــة ّ
قارنة تتوقّف عند هذا الحد ّ ،حيث يتّصل العشق باللّيل في أغنية ّ
العشاقُ .
الم َ الوضع الذي يعيشه
ُواصل اللّيل َدوره التقليدي في تغذية الهموم واألحالم .أغنية فيروز تخرج عن هذا
أم كلثوم وي ِ
ّ
النســق بطر ِْح صور ٍ تخرج فيها المتحد ّثة عن بقي ّة العشــاق لتتحوَّل الحكاية إلى حكايتها هي بدالً
ق جماعي ّة كما في قصيدة بيرم التونســي« :هو يقول يا ليل يا ليل من اســتمرارها حكاية ُع ْ
شــ ٍ
واحنــا نقــول للي للي للــي ليل» .حتّى اللّيل هنا ليــس اللّيل ذاته .عند هــذه النقطة تخرج أغنية
فيروز والرحابنة خروجاً حادّاً عن المألوف من أغاني العشق:
أنا مش سودا بس اللّيل سوَّدني بجناحه
مرقوا الخي ّالة ع الخيل تركوني وراحوا
ندهتلّون راحوا ال وقفوا وال ارتاحوا
معهُن حبيبي ما سمعني بعدوا بعدوا الخيل
54
هيمن صــورة العاشــقة التي ســوَّدها اللّيل صورة غريبــة ،ويبدو أنّها تقصد إلى تعميــق الد َّور ُ
الم ِ
ن ّ
الاّلفت أيضاً أكثر من الصورة األولى والقاسي الذي ي ُمارسه اللّيل على الساهرين ليس أكثر .لك ّ
ُ
والمتجاهلين لنداء العاشــقة .هذه الصورة األخيــرة تنطوي على هــي صــورة الخي ّالة ُ
المســرعين
المتجاهِل لعاشقه ،الحال المشغول بحاله ،لكنّها تختلف عنها بقسوة
الصورة التقليدي ّة للمعشوق ُ
المــرور واإليحــاء الضمنــي بمعركة ٍ ما كان أولئك الخي ّالة يخوضونها َجعلتهم غير آبهين بعاشــقة
فها اللّيل .وقد يتذكّر بعض القرّاء هنا صورة في أغنية «زهر البيلسان» يضيع فيها النداء أيضاً:
يل ّ
55
استحضا ُر تلك القصائد ،والسي ّما تلك التي تتغنّى بالشام -الشام بمعناه الواسع الذي يشمل،
إلــى جانب ســوريا ،لبنــان وفلســطين واألردن ،ي ُذ ِّكر القــارئ بالنّزعة القومي ّة في أعمــا ٍ
ل غنائي ّة
تمحورت حول البالد العربي ّة سواء كانت بالداً بأكملها مثل لبنان ومصر والكويت ،أم ُمدناً مثل
َ
ن وصف الحضور ّ
القدس ومكة ودمشق وبغداد وعمّان ،فضال ً عن بيروت الحاضرة بكثافة .غير أ ّ
العربــي فــي أغاني فيروز بالقومي يجب ّ
أاّل ي ُنســينا الب ُعد الديني الماثل في األغاني التي تحتفي
ن التغنّي باألوطان بصفة ٍ عامّة ســواء كانت ّ
ومكة ،هذا مع أ ّ بمدينتَي ْن مقد ّســتَي ْن ُ
هما القدس
بــاداً أم ُمدنــاً ترمز إلــى البالد يُالمِ س المقد َّس عبر الصور المثالي ّة التــي ت ُ َهي ِْمن على القصائد،
ُ
بعضها من فهــي ُمــدن متعالية بقيمتهــا التاريخي ّة ومكانتهــا العاطفي ّة في النفوس ومــا ي ُثيره
حل بها ،هي ُمدن تتجلّى في أجمل صورها ،وهي غالباً صورة المعشوقة
ع تتّصل بحالها وما ّ
أوجا ٍ
م ســعيد عقــل ،فإ ّ
ن ممّا ن مجمــل هذه القصائد كان من ن ْ
َظ ِ ُ
المتعاليــة والباذخــة الجمــال .وأل ّ
يســترعي انتباه الســامع أو القارئ هو اللّغة في تلك القصائد التي تخرج باألغنية الفيروزي ّة عن
ق صعبة بل َوعرة أحياناً مثلما أنّها مدهشة في أخيلتها وإيحاءاتها .في
بساطتها وألفتها إلى مرا ٍ
قصيــدة «قــرأت مجدك» ،وهي واحدة من قصائد عد ّة لعقل غنَّتها فيروز ولحَّنها األخوان رحباني،
نقرأ أبياتاً مثل قوله:
56
ّ
مكة»: أو قوله في «غنَّيت
لشجوها عودا»
ِ ُ
لكنت بمبدعها شجواً ْ
تفت ُه«لو رملةٌ َ
يجمع الصورتَي ْن هو تحوُّل الشــاعر إلى أداة ٍ في يد الســفر أو الشــجو ،فهو جناح في األولى
ما َ
وعود في الثانية ،وليست هاتان الصورتان ممّا يسهل التقاطه أثناء األداء الغنائي ،والسي ّما أ ّ
ن
ل في الكالم ،ف َيستأثرا بمخي ّلة المتل ّ
قي صوت فيروز وجمال اللّحن أحرى بأن يطغيا على أ ّ
ي جما ٍ
ليكون نشوة في طرب األغنية ال صورة في خيال القصيدة .
َ
رتســمة فــي األذهان لألغنية الفيروزيّــة ال تتح ّ
قق في هــذه القصائد على ما ن الصــورة ُ
الم ِ غيــر أ ّ
فيهــا مــن روعــة وفي تلحينها من تميُّــز .األغنية الفيروزي ّة ،من حيث الكلمــات تحديداً ،هي تلك
القادمة من خصوصي ّة اللّهجة اللّبناني ّة ،ذلك أ ّ
ن خروج األغنية إلى رحابة القصيدة العربي ّة الفصحى
يعنــي أيضــاً خروجاً إلى منطقة التماهي مع الثقافة واللّغة بصفة ٍ عامّة وفقدان أو ضعف الصلة
والخــاص ،ومــع أن هــذا مطلوب َ
وأنتــج تراثاً غنائيّاً عظيماً ،ســواء عند فيــروز أم ّ
أم ّ بالمحلّــي
دد األوّل للهوي ّة ،ومن كلثوم أم عبد الوه ّاب أم غيرهم ،فلقد ظلَّت الكلمات المحلي ّة هي ُ
المح ِّ
هنــا كان قيــاس االختــاف بين األغنية الفيروزي ّة وغيرها يتّكئ إلــى حدٍّ كبير على ما كتب باللّهجة
المحلي ّة واســتطاع في الوقت نفســه أن يكســر كليشــيهاتها بصور ٍ شعري ّة تَســحب القارئ إلى
متفوق.
ِّ ن ٍ
فضاءات من المتعة االستثنائي ّة ،والسي ّما إذا ترافقت مع لح ٍ
قي ،أو هكذا ينبغي لها ،واحدة من أشهر ما غنَّت فيروز .إنّها المتل ّ
من تلك الكلمات التي تستفزّ ُ
ُ
«حب َّيتك تنســيت النوم» ،وسأشــير إلى الخارج منها عن مألوف الكتابة الشــعري ّة الغنائي ّة .يقول
ُ
المقطع الذي أشير إليه:
حب ّيتك تنسيت النوم يا خوفي تنساني
حابسني برّاة النوم وتاركني سهرانة
أنا حب ّيتك حب ّيتك أنا حب ّيتك حب ّيتك
57
ن الحبس خارج النوم لم َي ِرد ْ بحســب علمي لدى أحد ٍ من َق ِبل،
ي ُمكــن تصويــره مــن خاللها .لك ّ
يضف الشــاعر «تاركني سهرانة» ألنّها تزيل ُ
وددت لو لم ِ ال شــاعر فصحى وال عامي ّة .ومع أنّني
الغمــوض الجميل الخفيف عن الحبس خارج أســوار النــوم ،أي توضح ما غمض ،فإ ّ
ن الصورة
ّ
تظل آسرة.
الصورة الثانية المدهشــة هنا هي النداء «خلف الطرقات وخلف الشــبابيك» .ال غرابة في النداء
األخيــر ،فكــم من فتاة نا َدت حبيبها من خلف الشــبابيك ،لك ْ
ن خلــف الطرقات؟ هنا تنفتح الداللة
ويصعــب إغالقها ،فأيــن هي تلك األماكن الواقعة خَلف الطرقات؟ قــد تكون البيوت وقد تكون
ن الداللة تمضي أبعد من ذلك ،إنّها خلف المعتاد من أماكن الســير ،ومن المطروق
غيرهــا ،لكــ ّ
من دروب ُ
المشاة ،أماكن تبدو متوارية عن الشوارع التي يسلكها الناس ليصلوا مسالك يصعب
تحديدها ،هي هناك في بعيد ٍ ما .
وفــي بعيــد ٍ مــا أيضاً عــن المألوف كلمات أغنيــة أود ّ أن أختم بها .إنّها كلمــات «فايق يا هوى».
ٍ
بكلمات غير في تلك الرائعة الرحباني ّة/الفيلموني ّة يجتمع الفريق مرّ ًة أخرى ليطرز الغناء العربي
ٌ
لحن مدهش كالعادة من فيلمون وهبي .لنقرأ: عادي ّة من الرحابنة ليحملها
فايق يا هوى لِم كنّا سوى
والدمع سهّرني وصفولي دوا
حب ّك وفتّش عالدوا
تاري الدوا ُ
58
فايق َع سهرة وكان في ليل وندي
والنار َعم تغفا بحضن الموقدة
والعتوبة مسافرة وما في كالم
هدِي قلبك وال قلبي ِ
هدِي وال ِ
ونام الحكي والناس وانْهد ّ السراج
ت خصور الورد َع كتف السياج وتكْ ِي ْ
ّ
تشع من هذه الكلمات الغارقة في محلي ّتها اللّبناني ّة وفي أجوائها الريفي ّة تتفتّح دالالت طفولة
في أغا ٍ
ن أخرى (أغنية «شادي» و«يا دارة دوري فينا» مثال ً) .الكلمات المكتوبة من تلك الزاوية
المخاطب.
َ ٍ
صوت أنثوي ينضح من ضمير تأتي هنا محمولة على
ســتهل بكلمــة التذكير «فايق» (أتذْكُــر؟) وهي ذكريات
ّ أمّــا مــدار الكلمات فهي الذكريات التي ت ُ
ســهرة غفــل فيها العا َلم ،األهل واألشــياء ،عن الولد والبنت «الزغــار» :األهل الذين ذهبوا من
صغيريْــن ،والنار التي تغفــو وكأنّها تتغافل
َ ن حبّــاً ي ُمكــن أن ينمو بين
دون أن يخطــر ببالهــم أ ّ
عمّــا يجــري حولهــا؛ حتّى الورد أدركــه التعب فاتّكأت خصوره على كتف الســياج لينــام هو اآلخر.
َ
اســتوقفت كثيرين ،تبدو غارقة هي األخرى في تلك الصورة ،التي طالما اســتوقفتني وأحســبها
العشق سواء في مالمحها األنثوي ّة (الخصور) أم تعبها (االتّكاء) أم غفوتها (النار) .لك ّ
ن المالمح
تمتــد ّ أيضــاً إلى عناصر أخرى في الصورة« :ونام الحكي والناس وانهد ّ الســراج» .الناس ينامون
ن هناك َمن لم َينَم :ليس العاشقان وحدهما ُ
هما ن نَوم «الحكي» يعني أ ّ
والسراج ينطفئ لك ّ
الســاهرين وإنّمــا الشــعر أيضاً إذ يصــرّ على الحضور ،كما العاشــق الذي ي ُطالِــب حبيبته بالبقاء:
بكير وتقلّي اقعدي».
«وقلَّك بقاش ّ
ٍ
كلمات فيروزيّــة أخرى كثيرة كان ي ُمكن االســتمرار في يصــرّ الشــعر علــى البقاء ُمســتيقظاً في
ّ
فلعل فــي ما أمكن الوصول إليه ما استشــكاف مكامــن شــعري ّتها لوال أنّها َمهم ٌ
ّة ال نهاية لها،
يوحي بما لم ي ُمكن.
59
مؤي ّد الشيباني*
60
ما ألغنية من َقبل فيروز أو بعدهاَ ،فتحت شبابيك الحياة على حدائق الشعراء ،من ابن الدمينة
إلــى ســعيد عقل ،ومن َقيس بن ذريح إلى طالل حيــدر ،ومن أبي نوّاس إلى جوزيف حرب ،ومن
إيليــا أبــي ماضي إلــى جبران خليل جبران ..من الصعب أن نعد ّدهــم ،أولئك الذين نعرفهم أو ال
نعرفهم ،المنســي ّون في ثنايا الزمن ،زمننا المغب ّر ،نَقَ َلتْهم فيروز بصوتها إلى ُم َ
مارســ ِة الذائقة
العاليــة ،فــي المعنى والصورة .ولم يتوقّف صوتها لحظ ًة واحــدة عن النبض في ضمير المتل ّ
قي
كل الظروف ،والتحوّالت المتوقَّعة وغير المتوقَّعة..
العربي على كامل الخريطة ،على الرّغم من ّ
هكذا ،كان ذلك الشابّ يفزّ مثل َطير ٍ مذبوح حين يسمع صوت فيروز قادِماً من بعيد ،يفزّ اليوم
ّ
محطة قطار بعيدة أو في مطار غريب ،وهو يعبر المنافي. بعد نحو نصف قرن ،حين يسمعها في
حنجرة المكان
األغنية حنجرة المكان ،تأخذنا إلى رائحة البيت األوّل وســنوات األلفة العائلي ّة ودفْئها ُ
المفتقَ د،
تجســد تمامــاً ،توقظ الحنين واالنتماء والذاكرة ،وتُبقي شــبابيك
ِّ وفيــروز هي ذلك المعنى ُ
الم
العمــر مفتوحــة فــي ّ
كل آن .معها نتذكّر الطريق إلى المدرســة صباحاً ،ولحظــة الوداع في قرار
وأدق اللّحظات التي
ّ حبيبيْــن،
َ الهجــرة إلــى المنافي ،ورائحة الحنين لورق الرســائل الســري ّة بين
نعتقد أنّها َمنســي ّة ،لكنّها ظاهرة بوضوح شــفيف في أغنية فيروز ..هي ليست أغنية عابرة ،بقدر
مــا هــي مكان ومعنــى ،هوي ّة وروح نابضة ،عالمة شــاخصة يعرفها القادِم مــن بعيد ،نأخذ منها
األرض ،تراب بالدي
ِ ورؤوس حديثِنــا وحكمــة اليوم فــي صباحاتنا «ال أبيع أرضي بذهــب
َ أمثلتَنــا
تراب الجنان ،وفيه ينام األمان».
ِ
المؤسف ٌ
دالالت ورموز ومضامين وتشبيهات ،وأذكر في أثناء الحدث م شتّى،
في أغنية فيروز ق َي ٌ
الــذي قرَّره صد ّام حســين في الدخول العســكري إلى الكويت ،وأودى بالعــراق إلى اليومَ ،كت َ
َب
العام األسبق لمجلس التعاون لدول الخليج العربي ّة مقاالً في
ّ الشــيخ فاهم القاســمي ،األمين
جريــدة «الخليــج» اإلماراتيّــة عنوانــه «لماذا يا عمّي يا بيّــاع الورد؟» وهو عنــوان أغنية المطرب
العراقي الراحل الرائد «حضيري أبو عزيز» ومن خالل هذا العنوان يتّضح معنى وأهمي ّة مضامين
ّ
بخاصة تلك التي تحترم اإلنســان وتبتعد عن االســتهالكي ّة ،فقد أخذ الكاتب عام،
ّ ل
األغنية بشــك ٍ
ُفترض به الترفّع عن االعتداء على أبنائه الصغار ،ثمّ «بي ّاع
مفردة «عمّي» ويعني بها الكبير الذي ي َ
فترض أنّه يفوح عطراً ،فكيف ُ
والم َ ّ
والخاّلق الورد» ويعني أنّك القومي الذي يبيع الفكر الجميل
ينزل إلى الحضيض ويبيع الموت والد ّمار؟
61
ومن
األخوي ْن رحبانيَ ،
َ هــذه الخطــورة في أهمي ّة مضامين األغنية ،كانت العنوان الرئيس لتجربة
ــاو َن معهم ،من شــعراءٍ ُ
وملحّنين رفدوا التجربــة ،قصائد ومواويل وأهازيج على امتداد نحو ت ََع َ
ســبعة عقــود من صوت فيروز ،وخصوصــاً في مرحلة حياة عاصي ،بين الخمســيني ّات وحتّى قبيل
رحيله سنة ،1986وسواء كانت أغنيتها شعبي ّة عاطفي ّة تنتمي إلى بيئة الحبّ األوّل «يا ريت إنت
وأنا في بيت »...أو تلك التي تصدح بمجد الوطن والحياة والبناء ،فإ ّ
ن مضامين األغنية الفيروزي ّة
كلّها ذات دالالت عالية المعنى ،تأخذنا إلى التأمّل والقلق الجمالي البهيج .وقد يظ ّ
ن البعض أ ّ
ن
ن بسيط ،مجرّد كلمات وموسيقى ،هدفها التسلية والترفيه ،لك ّ
ن الحقيقة أبعد بكثير، األغنية ف ٌّ
إنها موضوع الحياة بكامل منظومتها الوجودي ّة ،وحين ال تكون كذلك ،فإنّها ســوف تنتمي إلى
أغاني هذه األي ّام االستهالكي ّة «طي ّح اللّه ّ
حظها وحظوظ صنّاعها»..
ُ
المدن العربي ّة ذاكرة
في العام 2000التقيت الفنّان الراحل منصور الرحباني في أثناء العمل على مسرحي ّة «المتنب ّي»
يلحن أكثر مــن اآلخر ،هو أم عاصي؟
ومن كان ِّ
فــي دبــي ،وســألته حول َمن كان يكتب القصائــد َ
أجــاب «نحــن نكتب ونحن نلحّن ،وال ي ُمكن الفصل بيننا فــي جميع األعمال التي قد ّمناها معاً».
شــك فيه أنّهم انصهروا
ّ ونعلم جميعاً أ ّ
ن تلك اإلجابة فيها الكثير من المشــكالت ،لكن ممّا ال
فــي بوتقة واحــدة لفترة ٍ طويلة من الزمــن ،وكانت الكلمات واألفكار واالقتراحات والجلســات
الطويلة تُنتِج الكثير من التفا ُعل الفنّي والشعري بينهم ،وفي النهاية يصبّ ذلك في غنى التجربة
التي وصلت إلينا ُ
بمنجزها الذي نعرف.
ّ
بخاصة في زمن التوجّــه نحو التنمية مــن أبــرز مراحــل تلك التجربة ،الغنــاء للعواصم العربيّــة،
والبنــاء ،وهــي فتــرة الســبعيني ّات الذهبي ّة فــي ّ
كل شــيء .وكان منصور الرحبانــي في حواراته
للمدن العربيّــة ،وتجربة الغناء لها ُ
كمــد ٍ
ن وحياة وحضارات ُ لإلعــام فــي دبي ،يؤكّد علــى حب ّهم
وتجارب ي ُرتجى منها التقد ّم واالزدهار ،بعيداً من األشــخاص والرؤســاء والسياســي ّين ،ودائماً
بصوت فيروز:
الزمــــان وضو ُع ُه العط ُر
ِ ُ
ذهب بغداد ُ والشـــــــــعراءُ والصـو ُر
أعراس يغســــل وجهك القم ُر َ
ألــــــــف ليلة َ يا مكملة الــ يا
ما كان منك إليهما ســــــــــف ُر ورائـــــــــــــعةٌ
بغداد هل مجد ٌ
يحط جناحــــــه المطــــــــــ ُر
ّ أنّــا أيــــّـام أنت الفتــح ملعبــــــــ ُ
ه
62
يتذكّــر المخــرج مــروان الرحباني ،فــي حواراتي معه ،أ ّ
ن قاعــة «الخُلد» في بغــداد كانت المكان
المقرَّر الســتضافة حفل فيروز ســنة « ،1975طبعاً هي القاعة التي ستشــهد بعد سنوات مجزرة
ُ
الرفاق وبعدها الحروب وقتل األغنية العراقي ّة إلى اليوم» ،وقبل الحفل كان ال بد ّ من التدريبات
الح َظ عاصي ومنصور أ ّ
ن بعض الصور تتصد ّر والً بأوّل ،وقد َ
ومعرفة المسرح والمكان وتفاصيله أ ّ
فطلبوا رفْع هذه الصور ،وأكّدوا
المســرح ،وهي لرموز ٍ سياســي ّة عراقي ّة تمثّل الرئيس والنائبَ ،
ــت بصلة ٍ لشــخص ،وظلّت المدينة
َم ُّ ن فيــروز لــن تغنّي تحت أ ّ
ي شــعار أو صورة ت ُ للم ّ
نظميــن أ ّ ُ
َ
خاض مثل هذه التجربة ،حيث دمشــق وبغداد وأبو ظبي وعمّان وتونس لم يســبق الرحابنة أحد ٌ
وصنعــاء ومختلــف العواصم العربي ّة األخرى .ومن منطلق الوعي السياســي الثقافي اإلنســاني
واألخويْــن رحبانــي ،فإ ّ
ن إبداعهــم َينبع من إعجابهــم بالتجارب العربيّــة الجديدة، َ لتجربــة فيــروز
والواعــدة برؤيــة ٍ مســتقبلي ّة .ففي العام 1985كانــت أبو ظبي على موعد ٍ مع فيــروز والرحابنة
ُ
ل أقيم بمناســبة عيد االتّحاد الرّابع عشــرَ ،يومها غنّت فيــروز من كلمات وألحان عاصي فــي حف ٍ
ٌ
استشراف ومنصور الرحباني قصيدة اإلمارات ،وكانت بعنوان «عادت الرايات تجتاح المدى» وهي
لمــا ســتؤول إليه هذه التجربة االتّحاديّــة في العا َلم العربي بقيادة المغفور له الشــيخ زايد بن
والمســتقبلي ّة ،وحيث تمجيــد االتّحاد بما
ُ ســلطان آل نهيــان ،حيــث الصورة الشــعري ّة التاريخي ّة
قه من إنجاز ،تح َّ
ققت معه الحياة. يستح ّ
63
األخوي ْن دائماً تتصد ّر ذاكرة األغنية الرحباني ّة في مجال ُ
المدن العربي ّة، َ الشام ،فإ ّ
ن رائعة ّ أمّا في
الشام ،وموسم األغنية
ّ فالقصائد شاهدة على األجنحة الطائرة في اتّجاه الصيف والجمال حيث
الفيروزي ّة السنويّ:
يا شام عــــاد الصيف ُمتَّئِداً وعـاد ِبي الجنا ُ
ح َ
ع ونادتني الرياحُبـــي أقل ْ
ْ ُ
الحنين إليك صر َ
خ
أصوات أصحابي وعينـــــاها ووعد ُ غد ٍ ي ُتاح
ُ ّ
قادي واستراحوا َ كل الذين أحب ّهــــم نهبـــوا ُر
فأنا هنا جُرح الهوى وهناك في وطني جراح
وعليك عيني يا دمشق فمنك ينهمـــر الصباح
وحيــن لــم ُ
يكن ثمّة مطار ،وال قاعة ،وال مســرح يســتقبل فيروز في مدينــة القدس ،فقد صدح
األخوي ْن رحبانــي الخالدة «أجراس
َ صوتهــا مــن بعيد بأجمــل القصائد وأر ْوعها حين غنّــت قصيدة
العودة فلْتقرع» .تلك األغاني التي ال تزال عامرة بالحضور الجميل في ّ
كل رك ٍ
ن من أركان الرجوع
إلى الحياة ،وتنهّداتها الحلوة والمرّة.
64
ميخائيل نعيمة ،يونس القاضي ،فيلمون وهبه «شاعراً» ،سّ يد درويش ،محمّد السباع ،علي بدر
الد ّين ،هارون هاشــم رشــيد ،فوزي العمري ،ســليم حيدر ،صالح الد ّين اللّبابيدي ،أبو العتاهي ّة،
فتحــي قــوره ،عمر الحلبــي ،مارون نصر» ،باإلضافة إلى عاصي ومنصــور الرحباني اللّذي ْن َكتَبا نحو
ثمانمئة أغنية» ،وغيرهم.
يؤســس تراكُماً الفتاً لدى األجيال ،بحيث ســيكون من الضرور ّ
ي ِّ هذا التنوُّع في َمســيرة الغناء،
جمْعــه وتوثيقــه وتبويبــه بالشــكل العِ لمــي ،وليس في مواقع الشــبكة فقــط ،وال عند الهواة
ّ
ومحال التســجيالت وغيرها .إنّنا أمام ســبعين عاماً من العطاء بحيث ال بد ّ من العودة والباعة
شعراً و َلحناً وترتيباً زمنيّاً ومضموناً وهكذا.. ُ
المبوَّبة ِ العِ لمي ّة
َ
الحصــول على مواد ّ ّ
المنظمــات الدولي ّة المعني َّة، اعتبــر المهتمّون بالموســيقى ،وكذلك
َ مثــا ً،
مؤتمــر الموســيقى العربي ّة األوّل الذي ُعقد في القاهرة ســنة َ 1932فتحــاً تاريخيّاً مه ّ
ماً .يقول
والمهتمّ بدراســات ثقافات العا َلم «ي ُ َعد ّ مؤتمر الموســيقى العربي ّة
ُ د .شــريف خازندار الباحث
األوّل فــي القاهــرة الذي ُعقد في العام َ 1932حدثاً أســطوريّاً بالنســبة إلى جميع باحثي وهواة
ّ
بخاصة الموســيقى العربي ّة .لقد استطاع قليلون فقط الوصول إلى تسجيالت هذا الموســيقى،
واالطــاع عليها .وبعد مرور عقود ومحاوالت واتّفاقي ّات ،أصبحت إبداعات وفنون كِ بار
ّ المؤتمــر
الموســيقي ّين فــي العا َلم العربي فــي ذلك الوقت ُمتاحة للجميع ،من خالل انضمام تســجيالت
المؤتمر المذكور إلى مجموعة تسجيالت متحف الصوت والحركة في المكتبة الوطني ّة الفرنسي ّة،
وهــو مــا اعتبره المعني ّون أحــد أعظم األحداث التي شــهدها تاريخ الموســيقى العا َلمي ّة» .هنا
نؤكّد اإلشــارة إلى أ ّ
ن الكثير من التجربة الفيروزي ّة في الخمســيني ّات والســتّيني ّات ورب ّما بعض
الســبعيني ّات بقــي مجهــوالً لــدى المتل ّ
قيــن ،من ناحية الشــعر والشــعراء ،ومن ناحيــة الفنون َ
الشــعبي ّة القديمــة مثــل الميجنا والعتابا والمــوّال والمخمّس مــردود والصوتي ّات األخرى في
ّ
الموشحات والتراث العربي المتّصل باأللوان الغنائي ّة القديمة، الساحل والجبل والريف ،وكذلك
والتــي اســتخدمها األخوان رحبانــي في تجربة َّ
قل نظيرها فــي البلدان العربي ّة ،هــذه بحاجة إلى
حقيقي وضروريّ.
ّ ق
توثي ٍ
في المســرح والغناء ،في الشــعر وفنــون األداء ،في الحركة والنغمــة ،ال توجد قوالب فني ّة في
أغنيــة فيــروز ،بقدر ما هي فضاءات فني ّة واســعة ،مفتوحة على ُممكنــات الحداثة ُ
وطرق التأمُّل
65
قــي اإليجابــي ،بحيث يســتخدم األخوان رحباني َلونــاً فنيّاً تراثيّاً بطريقــة ٍ مفتوحة ،يضيفون
والتل ّ
لألصل الكثير من الشــغل واإلبداع والتوظيف الفنّي ،ليتحوّل الجزءَ الجامد إلى مشــهدي ّة حركي ّة
ُ
لبناني محدود،
ّ يي فن ّ ّ ٌ
لون شعر ّ العين واألذن وخشــبة المســرح .مثال «المخمّس مردود» تمأل َ
ُ
ق حركي درامي موسيقي مطوّل ومفتوح على عشرات العناصر من حوَّله األخوان رحباني إلى أف ٍ
ديكور وموسيقى وحركة وإيقاعات إضافي ّة.
ُ
الحظت من ضمــن ُمتابعاتي البحثي ّة مــن األمثلــة على التنــوّع الفنّي التراثــي في تجربة فيــروز،
المتّصلــة بالشــأن الفنّــي اإلماراتــي ،أ ّ
ن هنــاك أغنية لفيــروز تنتمي لفنٍّ معروف فــي اإلمارات
و ُعمان ،وهو «التغرودة» وذلك من خالل أغنية «قعدت الحلوة تغزل بمغزالها» وهي من كلمات
األخوي ْن رحباني ،تماماً هي على وزن وإيقاع وشكل التغرودة اإلماراتي ّة التي تعتمد على
َ وألحان
الوزن الواحد والشــطر الواحد ،مثل «خِب ّي بنا يا آم المشــد الوافي» وهي من تغرودات الشاعر
سعيد بن عتيج الهاملي ،الذي توفّي سنة ،1919وهنا يتّضح كم أ ّ
ن عاصي ومنصور ّ
مطلعان على
ن لبنان في ُعمقه الفنّي التراثــي ،يكتنز ّ
كل تلك الفنــون العربيّــة مــن ُ
المحيط إلى الخليــج ،أو أ ّ
ّ
بخاصة أ ّ
ن التغرودة ترجع إلى التراث الشعري العربي من ٍ
اشتراك عربي فنّي قديم، الفنون في
ن ُمسْ ــتَفْعِ ل ُ ْ
ن «مسْ ــتَفْعِ ل ُ ْ
ن األرجوزة أو مشــطور الرجز ،ويكون ُ
ناحية الشــكل واإليقاع ،وهو ف ّ
ُ
ْ
فاضت أدمعي».. حين
َ ُ
«قلت لنفسي ُمسْ تَفْعِ لنْ» ..يقول الشاعر ذو ِّ
الرمَّة
ٌ
مطابق في أغاني فيروز أمّا الموّال ،أو ما ي ُعرف بـ»الزهيري» العراقي ،فله أيضاً شــبيه شــعري
ي المســمّى موّال، مــن خــال موّال «يا مركب الريح خلّي البحر وانزل عبر» ،هذا الفضاء الشــعر ّ
ومختلفــة في المعنى، يتألّــف من ســبعة أشــطر ،الثالثــة األُول ُمتطابقة في القافيــة والكلمة ُ
ُ
والثالثــة الثانيــة كذلك في تَطاب ُ ٍ
ق آخر ،ثمّ الشــطر الســابع يعود إلى التطاب ُق مــع الثالثة األول
بمعنى ُمختلف ويقفل الموّال.
ً
ّ
يا مركب الريح خلي البحر وانزل عا برّ «أي انزل على البرّ»
من طول فرقاه دمعي فوق خد ّي ِع َبر «أي الدمع يعبر فوق الخدود»
حب ّيت والدهر علَّمني بحب ّه ِع َبر «أي العبرة والموعظة والدروس»
شرّع شراع السفر ع الهجر قلبه نوى «أي من الني ّة حيث نوى يهجرنا»
معنى وال فائدة» عهد الهوى يا قلب ما عاد منّه نوى «لم ي ُ
عد لعهد الهوى
ً
نحن قضينا العمر صد ّ وحنين ونوى «صد ّ وحنين وهجران وبعاد»
وع َبر «ولّى العمر وفات»
ولمّا التقينا لقينا العمر ولّى َ
66
بهذا اللّعب نفســه في المعاني ،وتقليب المفردة على أوجه ٍ ُمتعد ّدة حســبما تتيح اللّهجة ذلك،
ق واسع في البلدان العربي ّة ،وهو ذاته مثال ً في العراق:
هو الموّال المعروف على نطا ٍ
يوم غدا خِلّها «كيف صبرت الروح حين غادر خلّها»
ٍ ْ
برت الروح كيف ْ
اص
المضن بالويل يا خلّها «تذكَّر األي ّام الخوالي وتتألّم»
ُ تذكر ليلي
العين بجعود الرمد خلّها « َد ْ
ع عيوني تُصاب بالرمد وال أرى الفراق» شدعي على َ
علي»
ّ ما هو المقد ّر ولكن جابته إيدي «هذا ما جنيته بيدي ولم يكن ُمقد َّراً
ّ
«يحق لي أن أقطع البيداء هائماً» ّ
يحق لي عاد أهيم واقطع البيدي
تجس النبض موش األلم بيدي «أي ّها الطبيب ليس األلم بيدي»
ّ ياللّي
ع كفوفي من اللّمس».. قلبي مولّع كفوفي من اللّمس خلّها «قلبي متألّم ف َ
د ْ
األخوي ْن رحباني
َ مثــل هــذا النموذج األدائي فــي أغاني فيروز ثمّة الكثير ،وهو ما يؤكّد علــى أ ّ
ن
خرجي ْن ،وبالتأكيد
وم َ شاعري ْن أيضاًُ ،
وملحّنَي ْن ،وإداري َّي ْنُ ، َ كانا باحثين بدرجة ُمتساوية من كونهما
كان ذلك أساس التجربة الرحباني ّة.
َمدارات وأسماء
في حياة فيروز َمدارات وأسماء عديدة مؤ ِّثرة ،لها ثقل فنّي وثقافي موزون ،نزعم أنّه كان أحد
َب ،ومنهم من لحَّن ،ومنهــم َمن قيل إنّه كان ّ
أكثــر المؤثــرات فــي غنى التجربة ..منهم َمــن َكت َ
ّ
تشكلت الشرارة األولى لهذا الحريق الفنّي اإلبداعي الهائل حاضراً من دون أن يذكر اسمه! لقد
بلقاء فيروز وعاصي في بدايات الخمســينب ّات ،واســتمرّ برفقة منصور حتّى منتصف الثمانيني ّات
شاركت
َ من القرن الماضي ،لك ْ
ن طيلة تلك السنوات ،كانت ثمّة أسماء كثيرة في الساحة الفني ّة
المتابعين يخلطون في ذك ْ ِر حقوق الملكي ّة في عمق التجربة ،وكثير من الباحثين والن ّ
قاد وبعض ُ
األخوي ْن رحبانــي ،ما لم يتمّ
َ لمن هــذه النصوص وتلك األلحــان ،فيرجعونها إلى
الفكريّــة حــول َ
التصحيح الحقاً.
وحين نُعيد اسم الشاعر جوزيف حرب إلى الذاكرة ،فإنّنا نعني ذلك النَّزف المتفرّد وجعاً و َلطاف ًة
وقــوّة ،إنّه شــاعر «أنا عندي حنيــن ،وطلعلي البكي ،وزعلي طوّل أنا ويّــاك »...الهادىء الصامت
ُ
والمتعد ّد اإلبــداع بامتياز بين لهجته المتأمّــل الغاضــب الجالس وحيداً في مقهــى أمام البحر،
ُ
والكتاب ،قضى عمره «توفّــي عام »2014
ِ وفصحــاه ،وبيــن اإلذاعة والتلفزيــون ،وبين المســرح
ُمبدعاً من دون أن يتوقّف يوماً واحداً ،حتّى أوقفه الموت عنوة .جوزيف حرب قد َّم لفيروز أجمل
67
النصوص التي ال نُسمّيها شعراً ألنّها أكثر من الشعر!!
ٌ
سالم لبيروت لبيروت ..من قلبي
ُ
وق ٌ
بل للبحر والبيوت
لصخرة ٍ كأنّها وج ُه بحّار ٍ قديم..
مع الشــاعر جوزيف حرب ،يشــترك الموســيقار فيلمون وهبي في تجربة َأنتجت عشرات األغاني
الفيروزيّــة ،حيــث «ورقو األصفر شــهر أيلــول» وحيث «طلع لــي البكي نحنــا وقاعدين» وغيرها
مــن األلحــان الخالدة .فيلمون وهبي ،الطود العمالق الســاخر الطفل ،والبســيط حــد ّ التلقائي ّة
ترصد .إنّه أحد رموز تلك الســتيني ّات والسبعيني ّات
ّ ُ
والمبدع هكذا من دون ســابقة أو ُ
المفرطة،
ق آخر.. اشترك مع الرحابنة في رف ْ ِد التجربة الفيروزي ّة ب ُ
عم ٍ َ الفني ّة اللّبناني ّة والعربي ّة عموماً،
ّ
شكلت ما يشبه الهارموني في عالقاتها ضمن هذه التجربة ،وهو أحد أبرز عوامل أسماء وأسماء
التفرُّد والنجاح ،ومن بينها يبرز بامتياز الفنّان الراحل نصري شمس الد ّين ،ذلك الصوت العالي،
بناني النبرة في تمثيله لطبيعة المكان ،ظهر منذ بدايات الخمسيني ّات في أوّل انطالقة له معالل ّ
ّ
عاصي ومنصور ،ثمّ كان اختياره في أعمالهم المســرحي ّة الغنائي ّة حتّى رحيله على الخشــبة ســنة
ومخلص يعشــق فنّه ،ويبذل أقصى ما عنده من أداء ،وبجهد ٍ ال
1983في دمشــق .فنّان بســيط ُ
مثيل له ،وهو في عمله إلى جوار فيروز كأنّه متعب ّد في محرابه.
عشرات األسماء ،تلك التي رافقت فيروز في حفالتها في البلدان العربي ّة وخارجها ،بينهم الفنّان
وديــع الصافــي ،الفنّان جوزيف صقر ،الفنّانة هدى حداد ،الموســيقار زيــاد الرحباني ،خصوصاً في
تجربته التي رافقه فيها الشــاعر جوزيف حرب ،من خالل اســتمراري ّة النصوص الشعري ّة المفاجئة
«حبيتك تانسيت النوم ،زعلي طوّل ،رح نبقى سوا» وغيرها..
ما ألغنية ٍ قبلها وبعدها ،كانت وال تزال بمثابة ســيرتنا الذاتي ّة ..في ســنة ١٩٧٠تعرّفت إلى صوت
فيروز ،كانت من حولنا عشرات األصوات التي تتصاعد من المقاهي والبيوت المفتوحة وأماكن
غنائي من مصر أو العراق أو
ّ ٍ
صوت الترفيه واالســتراحات الثقافي ّة والســياحي ّة ،وقد نتوقّف مع
ن ذلك لم ُ
يكن يستمرّ طويال ً ،وسرعان ما نكتشف عدم وجود من الخليج أو حتّى من لبنان ،لك ّ
تلك العالقة التي نشعر بها كما نحن مع أغاني فيروز..
ي شيء آخر شبيه أو قريب ،حتّى لو كان من
في البيت ،كنّا ممنوعين من التلفزيون والراديو وأ ّ
68
ُ
واقتنيت جهازَ راديو صغيراً جدّاً ،ال يكاد يأخذ حي ّزاً في جيبي ،خَوفاً من أن الورق!! ذات يوم تجر ُ
ّأت
اكتشف األمر الحقاً إنّه لألخبار والبرامج الثقافي ّة؛
َ ُ
قلت له حين يراه أبي في ُصادره باسم الممنوع!
ُ
كنت أتعرّف إلى ســحر المفردة ونغمــة األداء وطبيعة الصوت ُ
أكملت «وفيــروز».. وفــي ســرّي
تكــن متوفّرة في عالقتنا
والعالقــة بوصفهــا ثقافيّــة فكري ّة ممزوجة بالعاطفيّــة ،في خاصي ّة لم ُ
ٍ
صوت غنائي آخر على اإلطالق .هذا األمر كان ينتقل إلى حديثنا في الندوات واألمســيات ي
مع أ ّ
ُ
والمهتمّين. الشعري ّة واللّقاءات مع ُمختلف األجيال من المث ّ
قفين
اليوم ،ومع كتابة هذه الســطور ،ثمّة اثنتان وخمســون ســنة ،ال صباح أو مســاء بال فيروز ،وال
المتهادي كأنّه آخر قطرة زيت،
ساعة هانئة وآمنة بال أغانيها القديمة ،وال كتابة إبداعي ّة بال صوتها ُ
ي ُغذّي شعلة المصباح:
إنت وأنا بالبيت
َ يا ريت
شي بيت أبعد بيت
ممحي ورا حدود العتم والريح
والثلج نازل بالدني تجريح
ّ
تفل يض ِّيع طريقك ما تعود
ّ
تضل ّ
وتضل حد ّي
ويزهر ويدبل ألف موسم ّ
فل
ّ
يضل بالقنديل نقطة زيت وما
69
د .نادية هناوي*
للــكالم عــن الظاهرة الفيروزي ّة عــد ّة اعتبارات وتفســيرات تنهض أمامنا ،منهــا طرازها الفن ّ ّ
ي
ّ
الخاص الذي يجعل أمداء تذوق األغنية الفيروزي ّة واسعة ،ومنها جيلي ّتها التي تجعلها مستمرّة
وتفاوتت
ِ ال يؤثّــر فيهــا تبد ُّل األزمنــة وال تغاي ُر األمكنة ،تُواكِ ب األجيال مهمــا اختلفت األذواق
الفئات واألعمار.
ُ
التنافر الخفي أو فكرة أ ّ
ن البساطة ومن التفسيرات أيضاً قيامها على فكرة التواؤم الفنّي مع
والوضــوح والرقّــة والتلقائيّــة هي التي تصنع الفــنّ ،وقد يكون اإليحاء المتعمّــق في الظواهر
ّ
وتظل والتعاطــي الواقعــي مع القضايا المصيري ّة هو التفســير المناســب للظاهــرة الفيروزي ّة.
هنــاك تفســيرات أخــرى تحتملها هذه الظاهــرة أيضاً ،منهــا جمْعها الباهر بين التراث الشــعري
بنوعيْــه الفصيــح والشــعبي وبين الموســيقى التراثي ّة العربيّــة والغربي ّة الكالســيكي ّة والعصري ّة
َ
كالجاز والكونشرتو والبوسنوفا .Bossa Nova
ٍ
مناخات ققت للظاهرة الفيروزي ّة وهذه ّ
الاّلمألوفي ّة في الجمْع بين الشعر والموسيقى هي التي ح َّ
72
ما زالت إلى اليوم تُخالِف السائد في األغنية العربي ّة الرّاهنة بوسائل معي ّنة ،ضامنة لنفسها أن
تكون حداثي ّة في تقليدي ّتها وتقليدي ّة في حداثي ّتها.
ن يــزداد عظمــة كلّما اقتصد في وســائله»(((َ ،أدركنا أ ّ
ن ســبب نجــاح األغنية ن الفــ ّ
وإذا علمنــا «أ ّ
فة ،تُضاهيها في المقدار وفي االستمرار
تشكل ك ّ
ِّ الفيروزي ّة هو اعتدال نهْجها؛ فعاطفتها اإلنساني ّة
فة اإلحساس بالمسؤولي ّة الفني ّة سواء على مستوى األغراض أم على مستوى التطلُّعات.
ك ّ
73
َّ
الفيروزي هي في انفتاحه الثقافي الذي تمثل في ُم َ
زاوجة األغنية الفيروزي ّة بين التراث الشعري
والموســيقي العربــي واألجنبــي وبين حداثة الموســيقى والقصيدة العصريّــة على عكس بعض
الحداثات العربي ّة في الشعر التي انغلقت على نفسها بتقليدها موضات غربي ّة.
ماً مــن مقوّمات هــذا التقليد ،فإ ّ
ن من مقوماً مه ّ
ِّ وإذا كانــت األغانــي ذات النَّفــس األندلســي
المهمّ أن نعرف كيف أمكن لألندلس شعراً وغناءً أن تَمنح األغنية الفيروزي ّة خاصي ّة هذا الجمْع
دمة من حواضن غير عربي ّة بين التراث بفصاحته وكالسيكي ّة رسوخه األصيل وبين الحداثة ُ
المستق َ
ُ
والمستجد ّة في نشوئها الطارئ والسريع؟
تُحتّــم اإلجابــة عن هذا التســاؤل أن نقــف عند أهمّ المؤثّرات األندلســي ّة التي َأكســبت األغنية
ســهما في رســوخ تقليد مــزْج القديم
َ الفيروزيّــة هــذا التقليــد ،وفيمــا يأتــي مؤ ِّثران مهمّان َأ
بالحديث ،والكالسيكي بالرومانسي ،والشعري بالموسيقي:
والً :الغناء
أ ّ
سهمت في ّالت فني ّة عديدة طرأت على مسار القصيدة العربي ّة َ
وأ َ أشار مؤرّخو األدب إلى وجود تحو ٍ
توطيد عمودي ّتها تارة وغي ّرت رســوخي ّة هذا العمود تارة أخرى .وســبب هذه التحوّالت هو الغناء
لِمــا لــه من أثر مهمّ في بناء القصيدة .ونظرة فاحصة في كتــاب «األغاني» ألبي فرج األصفهاني
ناســب احتياجات األغنية. ن أغراض الشــعر العربي في ّ
كل عصر تكي ّفت بالطريقة التي ت ُ ِ ســتؤكّد أ ّ
ذالً وهامشيّاً.
الهي َْمنة على الشعر الشعبي الذي ينبغي أن يبقى ُمبت َ ّ
تظل له َ كي
ُ
للمفردة أهمي ّتها في توجيه الذائقة نحو الشــعر الفصيح ،فال تكون المســافة ن ّ
شــك في أ ّ وال
بعيــدة بينه وبين الشــعر الشــعبي وبومضات حي ّة تصمــد بوجه الزمن .ولقد أكَّد الشــاعر الكبير
74
ن في النطق بما هو شعبي صموداً للشعر الفصيح يضمن له المستقبلي ّة الوثّابة في
الجواهري أ ّ
حمْل التراث كمواقد للفكر وتجريب الحياة وبهذا يكون «سحر الكلمة نفاذاً في النفوس فعّاالً
المجتمعات فإذا هي ُمنتفضة على نفسها قبل أن تنتفض على أنظمة في الضمائر أخّاذاً بتالبيب ُ
ٍ ُ
ســس جديدة وأنظمــة حديثة ومفاهيم وكيانــات الحُكــم فيها ثمّ إذا هي وقد اســتقرَّت على أ
ّ
الوضاءة ّ
الخــاق ولكلمته ن ورخاءٍ وضما ٍ
ن لفكرة األديب راســخة ..فــي ّ
كل ما تتمتّع به من أمــ ٍ
الهزّازة ولفكرته الخالدة خلود الحياة نفسها»(((.
دورها على الشعر فيتطوَّر بدءاً من وما من عصر ٍ يشهد رخاءً ّ
إاّل كانت للغناء فيه نهضة تنعكس ب َ
العصــر الجاهلي ومروراً بالعصر العب ّاســي ووصوالً إلى عصــر الدول واإلمارات في األندلس التي
شــاع الغناء ال في األعياد والمواســم فحســب ،بل على مدار اللّيالي واألي ّام ومعه طرأت
َ فيها
دار غناء الغزَ ل وغير َ
الغزَ ل تحوّالت فني ّة(((؛ يقول شوقي ضيف« :كانت األندلس العربي ّة َ على شعر َ
وشــاع الغزل وصار ي ُغنّى ال في ُ
المدن العربي ّة بل المســيحي ّة أيضاً وبالحالتَي ْن كان فصيحاً، َ كبيرة
كان الشــعر يدور على لســان الرجال والنساء وكثرت الشاعرات مثل ّ
واّلدة وكانت الجواري ي ُتقِ ّ
ن
ن ْ
َظ َم الشعر ..كان باألندلس كما كان بالعراق شعراء جوّالون من أهل الكدي ّة والشحاذة األدبي ّة
يدل على تعلُّق العامّة بالشعر الفصيح وأصحابه»(((.
ّ ّ
يتكسبون بأشعارهم ممّا يطوفون بالبلدان
تقريب المســافة بين الفصيح والشعبي من جهة
ِ وهذا الدور الذي لعبه الشــعراء الجوّالون في
َّ
الموشــح والشــعري والموســيقي من جهة أخرى لعبه أيضاً شــعراء التروبادور الذين أشــاعوا
األندلسي في أوروبا في العصور الوسطى .ولقد تطوَّر الشعر األوروبي الحديث مع تطوُّر األغنية
على يد الرومانسي ّين اإلنكليز واأللمان الذين َّ
فضلوا النثر لوضوحه على الشعر لصرامة ايقاعي ّته.
ــم الذين يتعاطفون فكريّاً مع الشــعر أل ّ
ن وهاج َ
َ وأصــرّ غوتــه على ضرورة أن َيكتب الشــعر نثراً
75
ورقّتها من ناحية أخرى،
أشــعاراً تتّســم بطوابع شــعبي ّة من ناحية ووضوح األلفاظ وي ُسر الصور ِ
ّ
مفصحة. دم ًة للجمهور قصيدة
مق ِّ
ٍ
كأســاس َّ
دشــنته َت األغنية الفيروزي ّة عليه توجيه الذائقة إلى تقليد ٍ فنّي قائم بذاته
وممّا راهن ِ
َت عليه شــتّى األلوان النغمي ّة والموســيقي ّة ببراعة صوت فيــروز وجاذبي ّته .فقصيدة
ثقافــي و َبن ْ
76
عاصــر قــد نَجحت في توجيه الذائقة نحو الشــعر األوروبي ،فإ ّ
ن األغنيــة الفيروزي ّة نَجحت في ُ
الم ِ
َّ
الموشح ثانياً:
َّ
الموشح في األغنية الفيروزي ّة عزَّز فيها ممازجة التراث بالحداثة ووجّه موهبتها وجهة استلهام
فعالة خلصتها من الذاتي ّة واالنغالقي ّة ،وأفادتها في أن تبني على تراكمات الجهد اإلنساني نظاماً
والموشح ما ابتُكر يومذاك ّ
إاّل من أجل األغنية ،يقول َّ له معنى وقيمة ي ُالئم الظواهر والظروف.
َّ
الموشــح وهو الذي ن النتشــار الغناء أثراً كبيراً في ظهور
الدكتور جودة الركابي« :ال مري ّة في أ ّ
َّ
الموشــح َدو ٌر مهمّ حد َّد له وزنه وحرَّره من قيود الشــعر العربي»((( .وكان إللمام الرحبانة بف ّ
ن
في تعزيز هذه ُ
الممازَ جة بين الفصيح الكالسيكي والشعبي الرومانسي داخل األغنية الفيروزي ّة.
َّ
الموشح لوجدنا أ َّ
ن دوره ولو ُعدنا إلى القرنَي ْن الثالث والرابع الهجري َّي ْن اللّذَي ْن فيهما َظ َه َر ف ّ
ن
ســتهجن وال ممجــوج في آذان الجمهــور الذي قابل
َ كان كبيــراً فــي جع ِ
ْل الشــعر الفصيح غير ُم
كجو
ٍّ َّ
الموشــح باالحترام كما تقب ّل التعد ُّد في القوافي اســتعمال (الخرجة) التي بها يختم قالب
عام وثقافي غابت فيه نخبوي ّة القصيدة الفصيحة وصالدتها.
ّ
َّ
الموشح األندلسي صوت فيروز الخالب والصد ّاح وما فيه من إمكاني ّات ن ََغمي ّة وساعد في إحياء
َّ
الموشــح وأعادت الحياة له .ولقد اســتنهضت هذه األغنية ف ّ
ن َ تبلغ من القلوب ّ
كل َمبلغ .هكذا
َّ
الموشــحات عماد الغناء العربي األصيل فهي كنزنا الموســيقي الخالد والمرجع عد ّ فؤاد رجائي
دم إلى األندلس في َّ
الموشحات بزرياب الذي َق َ والمما َثلة .وعلَّل سبب اختراع
ُ األوّل لالقتباس
عهد عبد الرّحمن األوسط هارباً من بغداد وأسَّ س فيها أوّل معهد موسيقي.
والً في تطوير الموســيقى العربي ّة ،وثانياً في َّ
للموشــح أ ّ واليوم تتّضح القيمة التاريخي ّة والفني ّة
ً
مفصــا ،ومن ثمّ تقب ّلت الذائقة الشــعري ّة التالعــب باألوزان أو ً
موصاًل ال جعْــل الشــعر العربــي
77
تحميل األغنية الفيروزي ّة أبعاداً وطني ّة وقومي ّة توقِظ في النَّفس الحنين إلى زما ٍ
ن ومكا ٍ
ن ضاعا
فجأة ،وتُحذِّر من مغب ّة الغفلة كي ال ي ُســتلب منا المزيد من أراضينا في إشــارة ٍ إلى فلســطين
واحتــال الصهاينــة ألراضيها .وجدير بالذكر أ ّ
ن القضي ّة الفلســطيني ّة حاضــرة في كثير من األغاني
الفيروزيّــة التــي فيهــا تتكرّر مفردة «العودة» كأغنية «ســنرجع يوماً إلى حي ّنا» ،و«جســر العودة
الدار» ،ثمّ توَّجت فيروز ذلك كلّه بأغنيتَي ْها
َ الدار
ِ يا جســر األحزان» ،و«ســيف فليشــهر ..نعيد إلى
ْ
الشهيرتَي ْن بعد نكسة حزيران « :1967أجراس العودة فلتقرع» و«زهرة المدائن».
ُ
والمعاصرين الذيــن اهتمّوا باألندلس لم غنّت فيروز ِ
لكبار الشــعراء القدمــاء مــن هنــا نفهم َ
ْ
خشــيتها من أن تكون كحاضــرة فقــدت َأ َلقَ هــا وكأر ٍ
ض ضاعت حضارتها اإلســامي ّة .وندرك مدى
َّ
الموشــحة بين نســتولوجيا فلســطين أندلســاً ثانية نبكي عليها إلى األبد .ولقد توزَّعت أغانيها
َّ
موشــح «جا َدك الغيث إذا الغيـــث همـــى» للسان الحنين ورومانســي ّة الوج ْد الشــفيف كما في
ن ولّى كانت فيه األندلس عامرة ولها الســيادة .أمّا
الد ّيــن بــن الخطيب ،وفيه تتغنّى فيروز بزما ٍ
ققهما مع فعل التشــتُّت ُ
وظلم الدهــر ،وقد تحوَّل الحُلــم بالوصــل ولــذّة االجتماع فيتعــذَّر تح ُّ
78
َّ
الموشــح في األغنيــة الفيروزي ّة اليــوم هو كــذاك األثر الذي تركــه باألمس واألثــر الــذي تركــه
َّ
للموشــح فــي األغاني اإلســباني ّة التي ألَّفها شــعراءُ التروبــادور .ولقد أعطت األغنية الفيروزي ّة
ٍ
بإلماحات وجداني ّة تندب الواقع من جانب وتو ِّثق األندلسي حيوي ّ ًة وأشاعته بين الجمهور العربي
ِصلتــه بالتــراث العربي من جانب آخر .ومن ثمّ يغدو وصف المدرســة الفيروزيّــة بأنّها مثالي ّة أو
ّ
دال؛ فلقد وا َكبت هذه المدرســة الواقع وجسَّ ــدت مخاضات الشعب رومانســي ّة غير ُمنصف وال
وشــاركته تحد ّياته المصيري ّة ،والســي ّما قضي ّة فلسطين.
َ العربي ووقفَ ت بقوّة إلى جانب قضاياه
ع رحباني أو زيادي ،فال ي ُظهر الحقيق َة كلّها أل ّ
ن هذه المدرســة أمّا رب ُْط هذه المدرســة بمشــرو ٍ
ٍ
أســاس واحد ال ثاني له هو َّ
تشــكلت أو ب ُنيت على هي بمجموع عناصرها تنوَّعت تقاليدها التي
فرادة صوت فيروز وكاريزما شخصي ّتها ودرامي ّة حياتها بدءاً من اكتشافها من ق َِب ِ
ل الملحّن حليم
ضرورات مرحليّــة تاريخي ّة كانت قد وفَّرت لفيروز
ٍ الرومــي .هذا االكتشــاف الذي جاء ُمتزامِ ناً مع
االنتشار على المستويات االجتماعي ّة والسياسي ّة والفني ّة.
ن ّ
الاّلمألوفي ّة في األغنية الفيروزي ّة هي التي َج َع َلتْها تبســط ســيادتها مؤد ّى القول ممّا تقد َّم إ ّ
و ما هو تراثي ورفعة ما هو
نقطع النظير نحو التجديد بســم ّ وتؤ ِّكد تمي ُّزَ ها وأيضاً طموحها ُ
الم ِ
والً ،وبعمومي ّة ما هو شــعبي وبســاطته آخراً .وها هي تســتمرّ مؤ ِّثــرة تاريخيّاً ومتأ ِّثرة
فصيــح أ ّ
ُّ ٍ
إبداعيّــاً بجديّــة ليس فيها تصنُّــع ،وبتلقائي ّة ال تكلف فيها .ومهما تغيَّــرت ُصو ُر التحديث الن َّ َغ ّ
مي
تظل قائمة بما عندها من تقاليد وفي مقد ّمتها تقليد المزْج ّ ن هذه األغنية وتنوَّعت أشكاله ،فإ ّ
بين التراث والحداثة.
79
د .زياد جمال حد ّاد*
متنوع
ِّ وعبادة ،وتقديرٌ ،فالمتعةُ هي وليدة البحث في كنز ٍ
ٌ فن السي ّدة فيروز ،متعةٌ،
الكتابة عن ِّ
بصوت
ِ ُّ
الشعراء واألدباء األنقياء والملحّنين وانصهرت ُ
قلوب من األحجار الكريمة التي َصقَ َلتْها
قصر المســافة بين ٌ
عبادة ،ألنَّها بصوتها ت ُ ِّ فيــروز ،بعــد أ ْ
ن تركــوا بها أجزاءً من أرواحهــم ،وهي
ّ
يستحقون المستمع إليها وبين اللّه ،وهي تقديرٌ ،ألنَّ فيروز والعدد الكبير الذين عملوا معها
الكتابة عنهم.
ومعــا ٍ
ن مهمَّة فــي مجمل كلمــات أغانيها ،وهي ٍ
نقاط َ العــام هــو تســليط َّ
الضوء علــى ّ اإلطــار
ــعادة تتولَّد من خالل االســتماع إلى صوتها ،ذاك الصوت القريب
ُ ٌ
مختفية بين ثنايا صوتها .فالسَّ
من َّ
الضوء ،الذي يحمل في طي ّاته مخزوناً كبيراً من المفردات ،والحِ َكم ،والب ُعد الفلسفي حاض ٌر
ســتمع إليها بقواعد االســتماع كافّ ًة «الصوت واللّحن
ُ في ثنايا كلماتها وصوتها .فإذا التزم ُ
الم
والكلمة» ،عندئذ ٍ تحدث إذابة لصوتها في روحه ،وتعمل على فت ْ ِح شقو ٍ
ق وقنوات باتّجاه العقل
فيتمكن ُ
المستمع من إدراكها ،بجانب َّ بعطر صوتها،
ِ تمرُّ من خاللها الكلمات العريقة الممزوجة
الفرحة بسماع صوتها الجميل ُمصاحِ باً للّحن ،وهذا يعمل على تضخيم حالة السرور والفرح عند
االســتماع إليها ،وتمنح المســتمع فرص َة تكرار التعايش معها من خالل مراجعة معاني كلمات
األغنية بعد االنتهاء من سماعها.
والتركيز سيكون على الكلمة التي غنَّتها السي ّدة فيروز بعامّة ،لكن بسبب العدد الكبير ألغانيها،
وكثــرة الذيــن كتبوا لهــا ،واعتماداً على قانــون الكمّ ،ي ُمكــن تحديد أربعة مصــادر َأخذت منهم
ِّ
والمفكر َّ
والشاعر الكبير سعيد عقل، السي ّدة فيروز الكثير من الكلمات ،و ُ
هم :األخوان رحباني،
والفنان زياد الرحباني وأخيراً الشاعر جوزيف حرب.
*كاتب من األردن
80
ِّ
شــكل هوي َّتها الفني َّة على مســتوىن الســي ّدة فيروز كانت ت ُ
تكمن إشــكالي َّة هذه المقالة في أ َّ
والهيبة ،واللّحن ،وتجسَّ ــدت بمرحلة التأســيس الرَّصيــن ،والتأصيل
َ الكلمــة والحضــور بالصــوت
َّ
تشكلت هوي َّة السي ّدة األصيل حتَّى وصلت إلى مرحلة التمي ُّز واإلبداع اللَّذَين َّ
قل نظيرهما ،حيث
ن ال ي ُمكن المختبر الحقيقي الذي ح َّ
قق هذا اإلنجاز ،لك ْ ُ َّ
شــك أ َّ
ن صوتها كان فيروز النهائي َّة؛ وال
إصدار هوي َّة الســي ّدة
ِ التقليــل مــن أهمي َّة َدور الكلمة واللّحن في هذا اإلنجاز .لقد كانت عملي َُّة
األخوين رحباني .وســيتمُّ التركيز على دراســة الكلمة في
َ بأدب
ِ ُّ
وتشــكلها محصور ًة فيروز الفني َّة
أغاني الســي ّدة فيروز ،والســي َّما على ما قد َّمه الشــاعر جوزيف حرب لها ،ألنَّه ح ّ
قاً واحد ٌ من أكبر
شــعراء العصر الحديث .لذلك فقد َو َق َع االختيار على شــعر الشــاعر جوزيف حرب ليكون أســاس
تشكل بيئ ًة مناسب ًة لهذه المقالة .ويتمنَّى الكاتب
ِّ فمجمل أعماله ُ
المقد َّمة لفيروز هذا المقالُ ،
شعر جوزيف حرب هنا ،هو تقليل من شأن الشعراء اآلخرين
ن التركيز على ِ أ ْ
ن ال يفهم البعض أ َّ
الذين قد َّموا أدبهم للسي ّدة العظيمة فيروز أو من حضورهم .وسأحاول الكشف عن المساحة
التي أثَّر فيها ِ
شعر جوزيف حرب بتشكيل الهوي َّة الفني َّة لها.
منهجين ُ
هما: َ يعتمد المقال على
-1المنهج التاريخي القائم على تتب ُّع أهمّ فترات التعاون بين السي ّدة فيروز والشاعر جوزيف حرب.
عتمد على تحليل شــكل النصوص الشــعري َّة ُ
المقد َّمة للســي ّدة -2المنهج الوصفي التحليلي ُ
الم ِ
ْ
ووصفها ،فضال ً عمّا أضافته هذه النصوص من جديد إلى الهوي ّة الفني ّة للسي ّدة فيروز. فيروز
مختص منفرد ٍ تطــرَّق لهذا الموضوع
ٍّ بحث واحد ٍ
ٍ لــم يعثــر الكاتــب ،في حدود بحثه وعلمه ،علــى
ّ
ومحطــات التلفزة ،وبعض المواقــع اإللكتروني ّة ّ
وكل مــا وجــده ،مقاالت متنوَّعة فــي ُّ
الصحف،
معظمها تطرَّق إلى أهمي َّة الشاعر جوزيف حرب ،وكان ي ُشار إلى أنَّه قد قد َّم للسي ّدة فيروز بعض
األعمال فقط .لك ّ
ن هناك بعض الدراســات الســابقة التي تطرَّقت إلى موضوع البحث من جانبٍ
سب ِْر أعماقه ،منها:
ما من دون َ
ور َح َل عن عا َل ِ
منا»: ّ
فــل› َ مجلّــة «ســي ّدتي» كتبــت تحت عنوان« :جوزيف حربَ ..كت َ
َب ‹طالع ع بالي
ن جوزيــف حــرب ،شــاعر األغنية التــي امتزجت بأروحنا مــع أغاني فيروز اتَّخــذ فعال ً قرار
«يبــدو أ َّ
ــل عن عا َل ِ
منا ،تاركاً لنا إرثاً من الكلمات الراقية والمشــاعر الســامية في قصائده ور َح َ
المغــادرة َ
التــي تحمــل كثيراً من القصص التي كبرت معنا وأصبحت جزءاً من طفولتنا» ( 11شــباط /فبراير
شــعر جوزيف حرب ُ
المقد َّم .)2014ولم يجد الباحث َّ
إاَّل إشــار ًة جزئي َّ ًة بســيط ًة تُشــير إلى أهمي ّة ِ
شترك.
َ ُ
الم أي تحليل لهذا العمل
للسي ّدة فيروز ،من دون ِّ
81
دوريّــة «نجومــي» المهتمَّة بأخبــار الفنّانين ،التي تطرَّقت إلى بداية التعاوُن بين الشــاعر جوزف
ن تعرَّف الشــاعر جوزيف على زياد الرحباني فــي عام َ ،1976فت ََح له
حــرب والســي ّدة فيروز« :بعد أ ْ
األخير الباب ليتعرَّف على والدته السي ّدة فيروز التي غنَّت من قصائد حرب أكثر من عشرين أغنية
عشــقها مالييــن األشــخاص» (جوزيف حربّ :
قصــة حياة الشــاعر الكبير» ،نجومــي 16 ،أي ّار /مايو
ُ
وجدت ضرور ًة للتركيز على القصائد التي غنَّتها السي ّدة فيروز للشاعر جوزيف حرب، .)2021ولهذا
تركه شعر جوزيف حرب في تشكيل هوي َّة السي ّدة فيروز.
ومحاولة تبيان األثر الذي َ
تكلَّم الكاتب يزن الحاج في مقالته «أغنّي العشــب :فيروز جوزف حرب» على األقطاب الرئيســة
الثالثــة التي قد َّمت للســي ّدة فيروز إنتاجها األدبي ،و ُ
هم ،ســعيد عقــل ،وزياد الرحباني ،وجوزيف
ُ
المطلق ،مع اإللهي .قد يبدو حرب ،خارج األخوين رحباني ،حيث َكت َ
َب« :يتماهى ســعيد عقل مع
التوصيف عجيباً حين نتذكَّر دنيا ســعيد عقل خارج القصائد ،إذ ْ نعجز عن الحديث عن ســعيد عقل
ن التوصيــف صحيح بالرغم من دنياه ّ
تحفظات أو اســتطرادات تفســيري َّة ،وتبريري َّة رب ّما .ولك َّ بــا
82
ــام واقعي ،وســوريالي أحياناً ،مرَّة يلتقطأمَّا بالنســبة إلى زياد الرحباني فقد قد َّم نفســه كرسّ ٍ
ن يتوقَّع عن
متتبع له أ ْ
ِّ الكلمات المعرَّضة لالنقراض وي ُدخلها في أدبه ،ومن الصعب جدّاً على ِّ
أي
بكل سهولة ألنَّه -حقيقةً -هو واحد ٌ منها.
ِّ قل بين النجومماذا سيكتب ،فهو يتن َّ
وي ُمكــن صياغــة إشــكالي ّة المقالة بالتســاؤل التالي :هل كان لشــعر جوزيف حــرب أث ٌر في إعادة
تشكيل هوي َّة السي ّدة فيروز الفني َّة في المرحلة التي قد َّم لها ِّ
شعره؟
فالشــاعر جوزيــف مــارون حرب أبصر النور في 30تشــرين الثاني /نوفمبر مــن العام 1944في
س ومار َ
َ س األدب والحقوق في الجامعة اللّبناني ّةقريــة المعمريّــة من قضاء الزهراني ،حيــث َد َر َ
وهاج َر إلى الســماء في 9شــباط /فبراير من العام 2014 َ وعمل في اإلذاعة اللّبناني ّة،
َ التعليم،
الشعري َّة ،والمقصود «المحبرة» الذي احتوى على 1725صفحة. ِّ ترك لنا أضخم الدواوينَ بعد أ ْ
ن
تكلَّــم جوزيــف حرب في الخامس عشــر من شــهر حزيــران /يونيــو 1995عبر صحيفــة «الثورة»
الســوري ّة عن افتخاره بالتعامل مع الرحابنة ،حيث كتبت على لســانه « :إذا كان هناك هجرة إلى
دم طلباً للهجرة إلى هذا الوطن»(«ما تمنَّاه جوزيف حرب».)1995 ،
وطن الرحابنة فأنا أوّل َمن يق ِّ
وهذه شــهادة من الشــاعر جوزيــف حرب تُم ِّثل رضــاه الكامل عن التعاون مــع الرحابنة .ويعود
التعارف األوّل بين زياد الرحباني وجوزيف حرب إلى العام .1979
وفــي مقابلــة تلفزيوني ّة مع التلفزيون المصريَ :ذ َك َر الفنان زياد الرحباني أ َّ
ن أكثر لحن يحب ّه من
أعماله ،هي أغنية «حب ّيتك تنسيت النوم» .هنا نلفت إلى أ َّ
ن الفنان زياد الرحباني كان ي ُشير إلى
أفضل لحن له قد َّمه للســي ّدة فيروز ،ومع ذلك ال ي ُمكن التقليل من أهمي َّة الكلمات ،ومن هنا
ن اصطالح «الرحابنة» يُشــار
كانــت بدايــة التعامل بين الرحابنة وبين جوزيف حرب ،مع التوضيح أ َّ
إليه هنا إلى زياد والسي ّدة فيروز.
فيروز مع جوزيف حرب انحصر تركُّزها على اإلنسان ،وتحديداً على أعماقه ،وما يعانيه من جفاف،
وقســوة وقهر ،بعكس حال فيروز مع غيره ،فكان تركيزهم على الطبيعة ،واألشــخاص والزمن،
بــل وتطرّقــوا إلى الفضاء ،والشــمس والقمــر والنجوم .كانت هوي ّتها غيــر واضحة المالمح ،إذ
ُ
ن من ضمن هذا الفضاء الواســع كانت روح اإلنسان كانت شــاملة وواســعة؛ وأشــير هنا إلى أ َّ
بمعا َلجة شقوق الروح وانكسارها.
تخصص ُ
َّ حاضرة ،بعكس الحال مع جوزيف حرب الذي
األخوين رحباني ،كانت تقطن العالي ،النجوم،
َ قال الكاتب والفنّان خلدون غرايبة« :إ َّ
ن فيروز مع
وعمل على نقْلها من حالة الرومانسي َّة الساذجة ،إلى الواقعي َّة
َ بعيدة عنَّا ،جوزيف حرب َج َل َبها إلينا،
ســتمع
ِ ن ُ
الم َّ
الشــفافي ّة ،لدرجة أ َّ السَّ ــاخرة» ،فجوزيف حرب حاكى واقعة المحب َّة بدرجة ٍ كبيرة من
شعره يجعله يتعايش مع هذه الواقعة .ومع جوزيف حرب صارت فيروز منَّا.
إلى ِ
83
كانت البداية مع جوزيف حرب في أغنية «حب ّيتك تنســيت النوم» وهي من ألحان زياد الرحباني،
غنَّتها فيروز في العام ،1979من خالل أسطوانة «وحدن».
ألعماق فتاة تبحث
ِ طرف واحد ،يأخذنا من خاللها جوزيف حرب في زيارة ٍ نادرة
ٍ ُب من
هذه أغنية ح ٍّ
تضحي بنعمة النوم مقابل الحصول على الحبّ ،لك ّ
ن ِّ ويصور لنا حج َْم ُمعاناتها ،فهي
ِّ عــن الحــبّ ،
الحبيب بعيد ّ
كل الب ُعد عنها ،هذه واحدة من األغاني الخالدة.
وقد أصدرت فيروز في العام 1987ألبوم «معرفتي فيك» ،وتضمَّن األغاني التالية:
- 1خليك بالبيت.
- 2رح نبقى سوى.
- 3ما قدرت نسيت.
- 4لبيروت.
ن أغنيــة «خ ِّليــك بالبيــت» ،تحتــوي على شــحنة كبيرة من الحنــان ،تفنَّن جوزيف حــرب في نقْله
إ َّ
إلينا عبر أحرفه السَّ لســة ،أمَّا أغنية «رح نبقى ســوى» فهي أغنية وطني َّة ،حيث وصف حب َّه للبنان
بالمستحيل ،ولم أجد أعمق من هذا الوصف لوطنه الغالي ،حيث َكتَب ما غنَّته فيروز:
«تاجك من القمح مملكتك السالم
وشعبك بيحب ّك لتبرد الشمس وتوقف اإلّيام»
ِّ
الشــعري ،والكالم أمَّا أغنية «ما قدرت نســيت» ،فهي تجســيد واســتمراري َّة لنهج جوزيف حرب
صادر من فتاة ،تحاول فيه نسج ثوب النِّسيان الناتج عن الخصام ،لكنَّها تعجز عن ذلك ،في هذه
األغنيــة درجــة كبيرة مــن الحزن ال يتجاوب معــه َّ
إاَّل أصحاب القلوب ُ
المنكســرة ،وما أكثرها في
عا َلمنا العربي.
دس وقصيدة «لبيروت» ،هي أكثر من قصيدة ،فهي ترتقي أل ْ
ن تكون ترنيمة وطنية مقد َّســة ،تق ِّ
الخاص نفســه في ن ْ
َظم ِّ
الشــعر ،فكان حوا ٌر بين فيروز ّ إطاره
َ بيروت ،هنا يســتخدم جوزيف حرب
عتَد ْ عليه منها. ومعشوقتها بيروت ،وبهذه األغنية يصبغ جوزيف حرب فيروز ب َلو ٍ
ن لم َن ْ
ــم
س َ ُ
وفيكن تنســوا .وقد َر َ قد َّم جوزيف حرب بعد ذلك للســي ّدة فيروز أغنيتَي ْن ُ
هما :عيد الدني،
لنــا جوزيــف حــرب في ثنايــا أغنية «عيــد الدني» ،ميالد الســي ّد المســيح بطريقة تختلــف عن ِّ
كل
دث الرئيســي ،وبذلك الذيــن كتبــوا للســي ّدة فيروز ،فقد ركَّز علــى البيئة أكثر من تركيزه على َ
الح َ
أضاف شيئاً جديداً لهوي َّتها ،وأغنية «فيكن تنسوا» هي وطني ّة بامتياز ،والطريقة التي لحَّنها زياد
وأسلوب غنائها فتح أفقاً جديداً في عا َلم فيروز.
84
أمَّــا ألبــوم «بليل وشــتي» فكان في العــام ،1989وقد احتوى على أربع أغــا ٍ
ن جميعها لجوزيف
حرب ،لحَّنها كلّها الموسيقار فليمون وهبي ،وهذ األغاني هي:
- 1لمّا على الباب.
- 2زهرة الجنوب (إسوارة العروس).
- 3بليل وشتي.
- 4أسامينا.
ل كبير ،من خالل إعادة تشــكيل هذا األلبوم َأحدث إعاد َة تكوي ٍ
ن لشــخصي َّة فيروز الفني َّة بشــك ٍ
َّ
شــك َّ
الخاصــة بهوي َّتها ،وأعاد تشــكيل النور المنبثق من وجهها بصورة أجمل ،وال التضاريــس
ن في هذا األلبــوم وصلت إلى أعمق نقطــة ُممكن أ ْ
ن يصل ن فيــروز كانــت تغنِّــي بدفء ،لك ْ
أ َّ
إليها مطرب.
تصف لنا أغنية «لمّا على الباب» اللّحظات األخيرة قبل الوداع ،تبدأ األغنية بمق ِّ
دمة موسيقي َّة
من العمالق فيلمون وهبي ،وإبداع جوزيف حرب ،في صياغة ٍ وثيقة لوداع األحب ّة .جمال هذه
األغنيــة ،مــن لحــن وكلمــات وغناءَ ،نتَج عنــه إعادة تقديم فيروز بشــك ٍ
ل مختلــف عمَّا هو في
ن فيروز غنَّت
المســتمع العربــي؛ َظهرت فيــروز هنا كأنَّها تغنِّــي ترنيمة المحب َّة .ومــع أ َّ
ُ قلــب
ٌ
مصنوع من اختلف كثيراً ،فهو
َ «البــاب» فــي كثير ٍ من أغانيهاّ ،
إاّل أ ّ
ن «الباب» مــع جوزيف حرب
در ،وأمامه تقف الفتاة وهي فاقدة والحذَر من القَ َ
َ خوف الفراق ،و َلوعة االشــتياق ،والوه ْم،
القدرة على الكالم ،وتصف ُمعاناتها من عذاب الفراق ،ويصف لنا اليأس بحرفي ّة لُغوي َّة كبيرة.
والبــاب هــو المنطقة الفاصلة بين البيت وما يم ِّثله من أمان ،وبين العا َلم الخارجي وما فيه
من عدم الطمأنينة.
األغنية الثانية «إسوارة العروس» لجوزيف حرب هي عبارة عن نظري َّة في الوطني َّة؛ فعندما كتب
جوزيف حرب هذه القصيدة كانت ُروحه ذائب ًة في تراب الجنوب اللّبناني .وتحتوي هذه األغنية على
أكبــر َقدْر من القدســي َّة للوطــن ،عاد الجنوب إلى حضن الوطن ،وبقيت األغنية تح ِّلق في ســماء
لبنان وقلوب شعبه.
األغنيــة الثالثــة فــي األلبــوم هــي «بليل وشــتي» ،حيث يســتمرّ فيلمــون وهبي بتعبيــد طريق
الموسيقى بالورود لتسير عليها فيروز ،فيما يصف جوزيف حرب أكثر نقطة يصل إليها األحب ّة في
دمها لنا جوزيف حرب في
ــر المحب َّة .جمال هذه األغنية الخالدة يفصل فيروز عن ماضيها ،ويق ِّ
س ِِّ
إطار جديد لم نعتد ْ عليه .وبأغنية «أسامينا» األخيرة في هذا األلبوم يصف لنا ُمعاناة األهل في
اختيار أسامينا.
85
المخفي للمرء ،والســي َّما في حالة انكســار شــعره ُ
بقدرة كبيرة على وصف الشــعور فقد امتاز ِ
ّ
الروح ،حيث وصل إلى منطقة في النفس البشري َّة َعجز الرَّحابنة عن الوصول إليها ،وهذا التحليل
ليــس تجريحــاً بالرحابنة ،وإنَّما هو عبــارة عن وصف لحالة التطوُّر التي حدثت لفيروز نتيج َة غنائها
لشعر جوزيف حرب.
ِ
العواصف العنيفة التي َضربت َصرح فيروز اإلنساني والفنّي ،وعملت على س ِّ
د جزءٍ من الفراغ الذي
ن ديني َّة ،هي« :هلّلو هلّلويا»« ،كنَّا نزي ّن شجرة صغيرة»،
خمس أغا ٍ
َ خلَّفته تلك العواصف .وقد َّم لها
«عيد الدني»« ،ملوك المجوس»« ،روح زورهن ببيتهن» ،وهذا األغاني تُحاكي فرح الوالدة.
شــعره كان صغيراً جدّاً ،وأغلبه حوار مع َّ
ولعل الح ِّيز المكاني الذي اســتخدمه جوزيف حرب في ِ
ن في غرفة صغيرة ،لكن على الرّغم من صغر هذا المكان َّ
إاَّل أنَّه َص َه َر فيه جباالً الذات ،أو حوار ثا ٍ
من المشــاعر اإلنســانية وقد َّمها لنا عبر صوت فيروز بحفنة من األحرف؛ فقد كان يرسم األنين،
بأحرف مبلَّلة بعطر الياسمين تمرُّ
ٍ والشــوق ،واالنكســار ،والرحيل ،والغياب ،والنسيان ،واللّقاء،
سماوي هو صوت فيروز.
ٍّ لنا عبر أثير ٍ
لقــد تحــوَّل جوزيف حرب فــي مرحلة من المراحل إلى مايكل أنجلو ،فقــام بتعديل صورة فيروز
دمها لنا كفتاة بريئة وطاهرة تبحث
المتكررة لها ،ليق ِّ
ِّ المرسومة في دفاتر أراوحنا ،تلك الصورة
عن الطمأنينة والســام الداخلي .لقد قد َّم لنا فيروز اإلنســانة ،تلك اإلنســانة التي لها المقدرة
المخلَّدين.
ُ على أن تكون من
ــر
س َ ــك َب ُه في روحها ،و َك َ
س َ ومجد َ
وجوزيف حرب لم يعبث بصوت فيروز ،بل ما يمتلكه من عظمة َ
الحاجب الزجاجي الذي كان يفصلها عنها ،فأصبحت فيروز مع جوزيف حرب تختلف كثيراً عمَّا كانت
ن جوزيف حرب أعاد صقْل هوي َّة فيروز بصورة ٍ أكثر وضوحاً،
عليه في السابق ،لهذا ي ُمكن القول إ َّ
وأكثر نقاءً ،وحرَّرها من قيود الماضي؛ بكلمة بسيطة أعاد لها إنساني ّتها وتألُّقَ ها وسما بروحها
ل يضيء الحبّ
للحب والحنان واألمل بمســتقب ٍ
ِّ نحــو فضــاء المعاني والمشــاعر الرَّفيعة التَّواقة
طريقه ،وي ُشعل َجذوته العشق.
ن مجمــل مــا قد َّمه جوزيــف حرب لفيروز َأحدث انشــقاقاً في حجــاب الهيكل ،ذلك
وأستشــعر أ َّ
الحجاب الذي كان يفصل الناس عن قدس األقداس ،وهذه العملي َّة حدثت نتيج ًة لجمالي ّة شــعر
يوحد بين ذاتَي ْن
ِّ جوزيف حرب وتمي ّزه ،فأصبحنا نعيش مع فيروز وبها ومعها ،كأنّنا في حال ِة َوجْد ٍ
86
اسم فيروز ،وهذا ٌّ
حق َ ُالز َم
ني ِ كل هذا التعاون نقول إنّه ال بد ّ السم الشاعر جوزيف حرب أ ْ
بعد ِّ
مشروع للشاعر ،كأ ْ
ن نقول فيروز تغنِّي جوزيف حرب.
مهما كُتِب عن جمال ِ
شــعر جوزيف حرب الذي قد َّمه للســي ّدة فيروز ،فلن نوفيه ح َّ
قه ،فما قد َّمه
لها ي َُعد ُّ وثيق َة تمي ُّز ٍ لهذا الشاعر العظيم الحسّ اس.
87
د .سعد اللّه آغا القلعة*
ٍ
محاوالت خجولــة للتعبير عن المعاني العربي
ّ شــهدت المســرحي ّات الغنائي ّة األولــى في العا َلم
الئمي ْن،
َ ُ
الم الموســيقي واإليقاع
ّ المقام
الواردة في نصوص أغانيها ،من خالل محاولة اختيار َ
التونســي ،في أعماله
ّ ّ
وبخاصة مع بيرم ن تطوُّر تلك النصوص، أو االهتمام بلهجة األداء؛ ولك ّ
ّ
خاصة. مع سي ّد درويش ،بدأت تتطلَّب صياغ ًة لحني ّة
َأدرك ســي ّد درويش ضرورة أن تُع ِّبر ألحانه عن نصوص األغاني في مســرحي ّاته ،فراح يطلب من
الاّلزمة في األداء للتعبير الممثّلين القديرين أن يقرأ له ّ
نص األغنية مع التموّجات الصوتي ّة ّ أحد ُ
عن المعنى ،من تصاعد أو تخافض أو امتداد أو تخافت أو حزم أو ليونة ،ثمّ َي َضع اللّحن.
حملت السينما ،التي َأنهت المسرح الغنائي ،نصوصاً ذات أبعاد ٍ درامي ّة أوضح ،نظراً إلدماجها في
ِ
ُعبر اللّحن واألداء الغنائي والموسيقي عن المعاني،
نسيج أحداث الفيلم ،حيث برزت ضرورة أن ي ِّ
ِ
وهو ما تجسّ ده عشرات األفالم السينمائي ّة الغنائي ّة ،التي لحَّن الكبار أغانيها ،بين ثالثيني ّات القرن
الماضي إلى ستّيني ّاته .ومع ذلك ،فقد بقيت النصوص تدور في َف َل ِ
ك معا ٍ
ن محد َّدة ،من دون أن
نص األغنية الواحدة مواقف متناقضة متزامنة ،تو ِّلد أبعاداً درامي ّةّ ،
إاّل في ما ندر. يحمل ّ
األخوان رحباني
90
نســيج نصوصهما ،مــا تطلَّب تطوُّراً مقابال ً في أســلوب
ِ د مكانها في
متناقضــة ومتشــابكة ،لتجــ َ
التعبير عن تلك الصورة الجديدة للمعاني ،موسيقيّاً وتلحينيّاً.
لــم ُ
يكــن األخــوان رحبانــي بحاجة ٍ إلــى ُمم ِّثل لكــي يدلّهما على َمواطــن التعبير فــي األداء عن
ْع الن َّ ِ
ظم والتلحين ،بحُســن إلقائهما كشــاعري ْن ،وهي حالة اســتثنائي ّة في جم ِ
َ المعاني ،إذ ُعرفا،
للشعر ،وبالتالي قدرتهما على تمثُّل التموّجات اللّحني ّة ّ
الاّلزمة للتعبير.
ُ
دم هنــا ،وفــي هذا الســياق ،قراءتــي ،وفق ما يســمح به المجال ،ألســاليب التعبيــر اللّحني أقــ ِّ
عــن المعانــي ،التي اتَّبعهــا األخوان رحباني ،عبر تموُّجات اللّحن ،وهي نموذج عن قراءة ٍ شــاملة
األخوي ْن رحباني ،وعند كبار الموسيقى العربي ّة اآلخرين،
َ ألساليب التعبير اللّحني عن المعاني عند
تؤطــر ذلك ،لتكون
ِّ أعمــل عليهــا منــذ أكثر مــن ثالثين عاماً ،علــى طريق تطوير نظريّــة ُمتكاملة
ل معارفهم في ميدان التلحين. بمتناول الملحّنين الباحثين عن صقْ ِ
ُ
اخترت من أجل هذه القراءة التحليلي ّة ثالثة أعمال غنائي ّة وهي:
•مشهد راجح في بي ّاع الخواتم /ويتضمَّن حواراً بين شخصيّتَي ْن.
ّ
طــل الورد ع الشــب ّاك /وتتضمّن حــواراً بين الحبيب والــورد يؤد ّيه •أغنيــة دقَّيــت
ٌ
صوت واحد.
•مشهد َوي ْنُن في ناطورة المفاتيح /ويتضمّن بوحاً جماعيّاً وفرديّاً
ن أخرى (في قهوة ع المفرق – ليالي الشمال الحزينة -رجعت الشتوي ّة ُ
أعطيت أمثل ًة من أغا ٍ كما
– حب ّيتك بالصيف) لمزيد ٍ من اإليضاح.
الموجة اللّحني ّة َ
شكل َ معنى من المعاني الواردة في تلك األغاني،
ً
ّ
لكل والً بقائمة ،تُعطيأبدأ أ ّ
المختارة ،وهذا ُمهمّ ،ولكنّه ليس
ُ ُ
المقابلة ،وتب ِّين كيف تكرَّر هذا الشكل في مجموعة األغاني
درامي واضح ،فيمــا تتولَّد األبعاد ُ الدرامي ّة ،وهو
ٍّ
ي ب ُعد ٍ
ن المعنــى الواحــد ال يو ِّلد أ ّ ّ
كل شــيء ،أل ّ
َــرد ُ تالياً ،من خالل تضــاد ّ المعاني ُ
المتالحق، مــا توضحــه جداول تحليــل األغاني ُ
المختارة ،التي ت ِ
الموجات اللّحني ّة المقابلة ،ومع تموُّج صوت فيروز ُ
المضمّخ بالتعبير ،الذي ُ
المتزامِ ن مع تالحُق َ
واألخوي ْن رحباني،
َ ُبــرز تلــك األبعاد الدرامي ّة ،ما يكشــف أخيراً ،فــرادة نِتاج هذا الثالثي ،فيــروز
ي ِ
وأسباب استقراره في عقول الناس وأفئدتهم!
معنــى مختلفــاً َو َر َد في األغاني ُ
المختارة ،و 27شــكال ً لتمــوُّج الجُمل ً تُب ِّيــن القائمــة التاليــة 28
ُ
المقا ِبلة لتلك المعاني: اللّحني ّة
1.اإلحســاس بالوحــدة :ي ُعبَّــر عنه بصدى الصوت ُ
المتالشــي ،ونجده في صــدى صوت ريما في
91
مشــهد راجح ،وهي تهرع إلعالم خالها بقدوم راجح ،وفي صدى صوت زاد الخير وهي تصيح
«وي ْنُــن» فــي تعبير ٍ عن افتقادها للناس وإحساســها بالوحدة ،وكذلك تُعيــد نقرات البيانو
َ
نتشر باختفاء الناس في «وينُن» زاد الخير إلى أرض الواقع ،وتذكرها ،من خالل صداها ُ
الم ِ
وإحساســها بالوحــدة ،كما نجده في تخفيض الطبقة الموســيقي ّة قبل بــدء زاد الخير بطر ِْح
صيحتها« :وي ْنُن» ،في إيحاءٍ بأنّها أصبحت وحيدة.
حني ،نجده في راجح ،في األســئلة التي تطرحها ريما على راجح
ّ 2.االســتنكار :ي ُعب َّر عنه بتصاعد ٍ َل
3.االستنكار الشديد :صيحة نجدها عندما تُطلِق زاد الخير صيحتها االستنكاري ّةَ :
«وي ْنُن» ،و«في
قهوة ع المفرق» في صيحة مع قفزة لحني ّة تعبيراً عن االســتنكار عند «يا ورق األصفر عم
نكبر» ،مع التكرار للتأكيد على المعنى ،وكذلك في صيحة رجعت الشتوي ّة عند البداية أيضاً.
4.اإلعجاب بالنَّفس :نجده في حيوي ّة اللّحن مع بداية ظهور المختار ُ
المعجب بنفسه الذي ي ُعِ د ّ
نفسه لكذبة ٍ جديدة عن راجح.
درامي إلى جوٍّ ُمختلف:
ّ 5.االنتقال من جوٍّ
رســل إلى الموقَّــع ،ونجده في راجح •التعبيــر بتغيُّــر اإليقــاع أو باالنتقال من الغناء ُ
الم َ
عندمــا يبدأ اإليقاع عند تغي ُّر األجواء من األجواء الدرامي ّة إلى األجواء الفولكلوري ّة التي
فيها المختار ،وتغي ُّره عند إعجاب ريما الخفي براجح ،وفي دقّيت ّ
طل الورد ع الشب ّاك في ّ
بدئه عند تغي ُّر األجواء من المشهد الدرامي األوّل إلى الذكريات الجميلة.
•التعبيــر بتغيُّــر المقام الموســيقي :ونجده في االنتقال من مقــام النهاوند إلى مقام
الحجاز كار عندما تنطلق ريما إلعالم خالها المختار بقدوم راجح ،ثمّ في سيطرة األجواء
اللّحنيّــة للضيعة مــع ظهور المختار بعد أجواء ْ
اضطراب ريمــا الدرامي ّة ،مع الدخول في
مقام العجم الذي يعكس ثقة المختار بنفســه ،ثمّ العودة إلى الحجاز كار عند تأكيدها
آني عــن تذكُّر حيرتها في ذلــك الوقت ،وفي متابعــة خالها على
قــدوم راجــح فــي تعبير ٍ ّ
92
المقام ذاته في تأكيد على بدء اســتيعابه لألمر ،ثمّ في انتقال الخال إلى مقام البي ّات
ن لوهلة أنّه يحلم ،ثمّ في متابعة ريما على المقام ذاته (الحلم) وهي تتحد ّث عن
إذ يظ ّ
الخفي براجح ،ثمّ في االنتقال إلى مقام الهزام الذي تقع
ّ ّ
النص بإعجابها راجح إذ يشي
درجة اســتقراره على درجة ٍ صوتي ّة تعتمد أرباع األصوات (مي نصف بيمول) وهي ليست
ّ
الحل وتأجيل ُعبر عن عدم وضوح
من األصوات األساســي ّة ،بما يضعف وضوحها ،وهذا ي ِّ
مقام النهاوند إلى
ّ ُمعا َلجــة الموضــوع .كما نجده في دقّيت ّ
طل الــورد في التحوُّل من
البيات العاطفي عند تذكُّر الذكريات الجميلة ،وفي «وي ْنُن» عند االنتقال من لحن النساء
الذي جاء في انتقاالت صوتي ّة من دون وضوح المقام إلى لحن الرجال على مقام الكرد
ُ
التماســك ،فالدخول في مقام الحجاز كار للمشــهد الدرامي لزاد الواضح الذي يعكس
الخير الحافل باالستنكار واأللم المكبوت.
•التعبير موســيقيّاً :تخفيض الطبقة الموســيقي ّة نجده في «وينُن» لالنتقال من مشــهد
األهالي إلى مشهد زاد الخير وإلبراز هبوط معنوي ّاتها وقد أضحت وحيدة.
معنى ُمحد َّد :من خالل تأكيد إيقــاع اللّفظ في األداء الصوتي ونجده في راجح
ً 6.التأكيــد علــى
عنــد :راجــح ناطر وما تال ذلــك للتأكيد على ضرورة عقد اللّقاء ،وعند المختار في تأكيد إيقاع
مة زَ ل ْ ِ
مة ،لتأكيد معنى الحيرة واالرتباك، الكل ْ ِ ِك َبر هال ْ ِكذبة ْ
و ِبتْصير ِ اللّفظ عندْ :
م ِنز ْ َرع كِ ذ ِبة بْت ْ
وفي و»ي ْنُن» لتأكيد معنى السؤال ،كما نجده في تكرار «وي ْن صواتن وين وجوهن َوينن»،
وفي تكرار «عم نكبر عم نكبر» في ليالي الشمال الحزينة.
ّ
طل الورد ع الشب ّاك»، حني عند «وحدنا َرحْ نبكي» ،في «دقّيت ض َل ُ
بتخاف ٍ 7.التحسُّ ر :ي ُعب َّر عنه
ّ
و كذلــك فــي «وينن» ،عندما تُطلِــق زاد الخير صوتها المكتوم ُ
المتخافض في حســرة ٍ على
ّ
طل الورد ع الشــب ّاك» عند ســرقوا منّا ُ
تخافض اللّحن في أغنية «دقَّيت غياب األهالي ،ثمّ
المشــوار في تحسُّ ــر ٍ واضح ،وفي تخافضه عند« :صاروا دهب النســيان» في تحسُّ ــر ٍ واضح،
كررها في ختام المقطع ليتخافض اللّحن في
وكذلك في «ليالي الشــتاء الحزينة» ،عندما ت ُ ِّ
تحسُّ ــر ،وكذلك عندما تُكرّر عبارة «رجعت الشــتوي ّة» في تحسُّ ــر واضح ،وفي تخافض اللّحن
كسقوط أوراق الشجر اليابسة عند «وتدبل بالشتي» في «حب َّيْتَك بالصيف».
لحني نجده في راجح عند ترد ُّد ريما في قبول المعلومات التي يعطيها راجح، ــض ُ
تخاف ٌ 8.التــرد ُّد:
ّ
طل الورد». ُ
تخافض اللّحن للتعبير عن الترد ُّد عند «تلب َّك ما عاد يحكي» في «دقّيت ّ وكذلك في
93
9.الضياع :ونجد التعبير عنه في توظيف الموسيقى لحساس مقام الحجاز كار ليزيد من عنصر
ن األهالي غــادروا المدينة ،وفي توقُّف ريما الصوتي
الضيــاع عند زاد الخير وهي تكتشــف أ ّ
تداول على مستوى الكلمة الواحدة عند ندائها خالها في مشهد راجح (يا -خا -لي)؛
َ غير ُ
الم
بنــي علــى صوتَي ْن موســيقي َّي ْن ُمتتال َييْــن باتّجاه الهبوط مع توقُّــف عند الصوت
ّ فنداؤهــا َم
األخفض وهو حساس مقام الحجاز كار ،عند (لي) للتعبير عن الضياع.
10.النداء :قفزة لحني ّة متصاعدة نجدها في بداية «ليالي الشمال الحزينة».
عد شــخصاً
ن راجح لم ي ُ ٍ
ّهات ُمتصاعدة بعد أن يدرك أ ّ 11.النــدم :ونجــده في إطالق ُ
المختار تأو
افتراضيّاً اختلقه هو.
12.اختــاف مســتوى األهميّــة :نجده عندمــا ينهي المختــار لحنه على الدرجة الخامســة لمقام
الهــزام ،التــي تتّخذ في المقامــات األهمي ّة الثانية بعد أهمي ّة درجة االســتقرار ،فيما تُنهي
«األخوي ْن رحباني» لختام المختار األهمي ّة الثانية ،أل ّ
ن َ ريما لحنَها على استقراره ،وقد اختار
المختار استجاب لرأي فيروز ولم ُ
يكن الرأي بالتأجيل له أصال ً.
ٍ
بانتقاالت 13.اقتنــاع :نجــده في تحوُّل النســاء ،في مشــه ِد «وينُن» من أداء لحنه ّ
ن الــذي أتى
المعبر عن
ِّ ْ
االضطــراب ،إلــى االنضمام إلــى الرجال ،في تكــرار لحنهــم صوتيّــة معبّــرة عــن
ُ
بالمغا َدرة. التماسك سوي ّة ،للداللة على اقتناعهم بمقولة الرجال القاضية
المتزامِ ن :نَجده في عام َلي ْن ُمتزامنَي ْنَ :كتْم صوت زاد الخير في «وينن» ،
ُ 14.تضا ُرب العواطف
عندما تكتم صوتها ُ
المتخافِ ض للتعبير عن التضاد ّ بين حسرتها على غياب األهالي و قرارها
ن مع ضربات البيانــو القوي ّة! كما نجده فــي راجح في توقُّف ُ
تزام ٍ البقــاء فــي المدينة ،فــي
الموســيقى دائماً باتّجاه ٍ تصاعدي ،فيما ريما تتوقّف باتّجاه ٍ تخافضي بشــك ٍ
ل ُمتزامِ ٍ
ن أثناء
ندائها لخالها ،وهذا التضاد ّ يزيد من أجواء الحيرة والخوف.
حني ،إلكمال تالشي َصوت زاد الخير المكتوم ُ
التخافض الل ّ ُ
تخافت الموسيقى باتّجاه 15.تالشي:
ّ
المعبر عن حسرتها العميقة.
ِّ ُ
المتخافِ ض في «وينن»،
تعبر عن توتّر ريما في ُمواجهة راجح.
ِّ 16.توتُّر :ضربات موسيقي ّة خاطفة
ّ
طل يطل من الشب ّاك في «دقَّي ْت
ّ حني للتعبير عن انحناء الورد وهو
ّ
ٌ
تخافض َل 17.حركة انحناء:
وتخافض ُمماث ٌِل في أغنية «في قهوة ع المفرق» عند« :على مقاعدنا»
ٌ الورد ع الشــب ّاك»،
للتعبير عن حركة الجلوس إلى األسفل.
94
ل صوتــي غير منســجم ونجده ْ
واالضطــراب والتوجُّــس واالرتبــاك :ي ُعبَّــر عنــه بتتا ٍ 18.الحيــرة
موســيقيّاً في راجح تعبيراً عن حيرة ريما وهي تتّجه إلعالم خالها بقدوم راجح ،وكذلك في
«وي ْنُــن» ،موســيقيّاً ،للتعبير عن ْ
اضطراب األهالي وتوجُّســهم و ُ
هــم مجبرون على مغادرة
ٍ
درجات موســيقي ّة مختارة ،ال تندرج ٍ
انتقاالت ،على مدينتهــم ،وكذلــك في غناء النســاء ،في
ْ
واالضطراب بسبب موســيقي ُمحد َّد واضح ،ت ُ ِّ
عبر فيها النســوة عن الحيرة ٍّ ٍ
مقام في ســياق
مغــادرة مدينتهــنّ ،وفي تغي ُّر ضغط اإليقاع اللّفظي في أداء ريما ،الذي نجده في راجح عند
19.الخشية :ارتعاد الصوت ،ونجده في أغنية «وي ْنُن» عند كلمة المفاتيح للتعبير عن خشية زاد
ْل مسؤولي ّة المفاتيح.
الخير من حم ِ
20.الخــوف :نجــد التعبير عن الخوف في رجفة صوت ريما ،عندما ي ُعلمها راجح بأ ّ
ن الموعد قبل
موسم الخطبة ،وفي اهتزاز اللّحن عند هربت بهاللّيل في «وي ْنُن».
21.الريح :اهتزاز الصوت ونجده في أغنية «وي ْنُن» ،عند كلمة الريح تعبيراً عنها.
حني نجده في راجح في األســئلة التي تَطرحها ريما على راجح وقد فاجأها
ّ 22.الســؤال :تصا ُعد ٌ َل
ّ
طل الورد ع الشب ّاك». ن اسمه راجح ،وكذلك في :وينها؟ ،وماتت؟ ،في «دقَّي ْت
أ ّ
23.الســيطرة :نجدها في تغي ُّر المســتوى الصوتي في األداء في راجح بين المســتوى الصوتي
ألداء راجح في طبقة ٍ موســيقي ّة أعلى ،وأداء ريما في طبقة ٍ موســيقي ّة َأخفض ،للداللة على
25.قوّة الشخصي ّة :نجدها في اللّهجة القوي ّة عند راجح عندما يقول :قولي للمختار وما تال ذلك،
اآلني في
ّ آني في اللّحن ،ونجده موسيقيّاً في تموُّج لحن المقد ّمة
ّ و ٌ
ج 26.كثافة العواطف :تم ُّ
95
ّ
طل الورد ع الشــب ّاك» ،للتعبير عن كثافة العواطف في ذهن الحبيب ،وهو يقترب «دقَّي ْت
أمام جمال الحبيبة ،وفي تكرار عبارة حلوة الحلوين للتعبير عن مدى ارتباط الورد بالحبيبة.
ّ ّ ّ
27.اللهفــة :ضربــات البيانــو فــي مقد ّمة «دقيت طل الورد ع الشــب ّاك» ت ُ ِّ
عبر عــن نبضات قلب
ن هذا ُ
وتخافض اللّحن في مشــهد راجح أثنــاء محاولة ريما اســتيعاب أ ّ 28.المفاجــأة :تصا ُعــد
الشــخص الغريب اســمه راجــح ،ثمّ انهيار اللحــن للتعبير عن المفاجأة ،عندما تكتشــف أ ّ
ن
ُ
المقا ِبلة لتوليد األبعاد الدرامي ّة.
ُبرر
راجح شــخصي ّة وهمي ّة شــرّيرة اخترعها المختار «نصري شمس الد ّين» خال «ريما» (فيروز) لي ِّ
ســلطته علــى األهالــي ،نظراً ألنّه يحميهــم منه .ي ُب ِّين مشــهد لقاء ريما (فيروز) بشــخص يد ّعي
أنّــه «راجح» (جوزيــف عازار) وارتياعها ،ثمّ إبالغها خالها «المختار» (نصري شــمس الد ّين) بذلك،
المستوى الرفيع الذي ارتقى إليه التعبير الدرامي في المسرح الرحباني ،في تعبيره عن تناقض
المواقــف وتضاد ّهــا ،ســواء من خــال االنتقال من الحداثة الموســيقي ّة إلــى الفولكلور ،ومن
المرســلة إلــى اإليقاعي ّة ،أم عبر توظيف تباي ُنات األصــوات والمقامات وحتّى اإليقاعات
األلحان ُ
ُ
التناقضات. اللّفظي ّة والموسيقي ّة ،إلبراز تلك
ُ
المختلفة ٍّ
لكل منها أجواؤه التعبيري ّة أتى المشهد في سبعة مشاهد تفصيلي ّة،
96
المشهد األوّل:
تنطلــق الموســيقى في لح ٍ
ن يوحــي بأجواء الغريبَ :مسا الخَــيْـر يا َص ِبــي ّة
الترقُّــب ،ثــمّ يبدأ حوار بيــن راجح وريما في
مســتو َيي ْن صوتي َّيْــن علــى مقــام النهاوند. ريماَ :مسا الْخَـيْـر ..شــو بتْـريْـد؟
راجــح ي ُعلــم ريمــا برغبتــه بلقــاء المختــار،
ٍ متحد ّثــاً قاصد المِ خْتار
ِ الغريب:
بصــوت واثق في طبقة موســيقي ّة
أعلــى مــن طبقــة ريمــا ،بمــا يوحــي بأنّهــا
ريما :وْشو َبــد َّك مِ نُّـو؟
ســتكون فــي موقف ضعيــف أمامــه ،فيما
ّ
لــكل ســؤال أو جــواب ت ُ ِّ
مهــد الموســيقى ع َعنُّو خْبار
الغريب :سامِ ْ
بضربات خاطفة ت ُ ِّ
عبر عن توتُّر ريما ،مع تطوُّر ٍ
إدراكها لصعوبة الموقف. ك ت قِلُّو؟
ريما :وشو إسْ َم ْ
ثمّ تأتي المفاجأة عندما ي ُعلن راجح اســمه، الغريب :إسْ مي راجِ حْ
وتأتــي عنــد ريمــا جملة من االستفســارات
ُ
والمحاكمــات العقليّــة ،تتصاعــد فيهــا ريما :شو؟؟
ّ
الجمــل اللحنيّــة في جميع مواقع الســؤال
ٍ الغريب :إسْ مي راجِ حْ
معلومات غير منطقي ّة واالســتنكار ،بســبب
ّ
بالنسبة إليها ،فيما تأتي تلك الجمل اللحني ّة
ْق ْ
ول!! ريماُ :م ْ
ش َمع ُ
ُمتخافضة خــال محاكمتها العقلي ّة وترد ّدها
في قبول المعلومات نحو استقرار المقام،
ول ي ُْكون الْواحِ د ْ إسْ مو راجِ حْ؟
ْق ْ الغريبُ :م ْ
ش َمع ُ
ّ
بخاصة عند كأنّها تبحث عن اســتقرار ٍ ي ُريحها،
قولها :راجح مش موجود!
ريما :إسمك راجِ حْ؟؟
ن راجِ حْ مِ ْ
ش َموْجود ْ َل ِك ْ
َّ
هالضي َْعة َعجِ ي ْ ِبة راجح :واللّه
المشهد الثاني
ثــمّ تأتي المفاجــأة إذ ي ُثبت راجح شــخصي ّته ِت راجِ حْ؟!
إن َ ريما :راجِ حْ؟
ليتخافض اللّحن بشــك ٍ
ل انهيــاري عند ريما،
وينتهي بتصا ُعد ٍ استنكاري.
97
المشهد الثالث
اللّهجــة القويّــة عنــد راجــح تؤ ِّكــد شــخصي ّة راجحُ :قولي للْمخْتار
المجــرم التــي اخترعها المختــار ،مع تمهيد ٍ ُ
ِط ِبة َّ
الشغلِة َق ِبل َمو ِ
ْسم الخ ْ م ُ
شوفو وْإنْهي الز ْ
موســيقي لــه ُمالئــم وضاغِ ــط ،فيمــا َيبــرز
ّ ِ
الخــوف عند ريما في رجفة ٍ عابرة في الصوت
ريماَ :ق ِبل َمو ِ
ْسم الخ ْ
ِط ِبة؟
عند جملة :قبل موسم الخطبة؟
ودائمــاً لحن كلمة ناطر فــي إيقاعي ّة اللّفظ م ُ
شوفو الز ْ
راجح :إيهِ ..
واضحة للتأكيد على اللّقاء.
ساعة و َْوين؟
َ ريما :أي ّا
راجح :ساعِة ْ
ال ِبيري ْدَ ..وين ما ِبي ْريد..
ْ
احات ِ
ناطر ْ.. ناطر ْ بالسَّ با ِلح ْ
ْراش ِ ِ
ناطر ْ
ِ ناطر ْ راجِ حْ
ِ راجِ حْ
المشهد الرّابع
هنا يأتي دور الموسيقى للتعبير عن الحيرة، ريما :خالِي ...يا خالِي...
ٍ
أصوات موســيقي ّة من أصل ٍ
قفزات على في
المقام حيث تتحوَّل الموســيقى إلى مقام
يعبر
ِّ ل غير ُمنسجم الحجاز كار ولكن في تتا ٍ
عــن الحيــرة ،وحتّى عندما تُنــادي ريما خالها
بنــي علــى صوتَيْــن موســيقي َّي ْن
ّ فنداؤهــا َم
متتال َييْــن باتّجــاه الهبــوط مــع توقُّــف عند
الصوت األخفض وهو حساس مقام الحجاز
ع غير ُمتداول الســتقرار الغناء
كار في موق ٍ
وتوقّفــه ،مع اختالف جوهري ..الموســيقى
تتوقّــف دائمــاً باتّجــاه ٍ تصاعــدي ،فيما ريما
ُ
تخافضي ،وهــذا التضاد ّ يزيد تتوقّف باتّجــاه ٍ
من أجواء الحيرة والخوف .أؤكّد على الصدى
التعبيــري الــذي يحيــط بنــداء ريمــا لخالها،
ُعبر عن إحساسها بالوحدة والخوف ،وكأ ّ
ن في ِّ
الضيعة اختفت من حولها.
98
المشهد الخامس
تتحــوّل األلحــان هنــا إلــى أجــواء شــرقي ّة إنُّو ال ْ َلي ْلة ب ْهالسَّ ه َْرة المختار :يا ريما عِنْدي فِ كْ َره
إيقاعي ّة بســبب دخول شــخصي ّة المختار في
المشــهد .يلجــأ األخــوان رحبانــي هنــا إلــى ن راجِ حْ
شي َع ْ َخ ِّبر ْ ُ
ه ْ
ن ِ
أســلوب جديــد للتعبيــر الدرامــي ،من خالل
إجا راجح ريما :يا خالِي
توظيف المقامات الموسيقي ّة ..البداية مع
ن حيوي ،إذ المختــار ومقام العجم في لحــ ٍ
ْسهْال)
المختار( :أه ْال و َ
إنّه ال يزال معجباً بنفســه في استمراره في
الكــذب .تُبلِغــه ريما بقدوم راجــح أ ّ
والً ،على (شو عم تحكي؟؟)
مقــام العجــم ذاته ،ثــمّ يتحــوّل اللّحن إلى
مقــام الحجــاز كار ،الذي كان ســيطر عندما ريما :إجا راجِ ح!
هرعــت إلبــاغ خالها ،في تذكيــر مبدع بذلك
الموقــف ،يأتــي ذلك عندما تؤكّــد له قدوم المختار :ما أنا مْأ ِّل ْ
ف راجح!!
راجــح ،ثــمّ يتابع هو فــي المقــام ذاته عند
و المفاجأة فــي داللة على بدء دخولــه في ج ّ
إجا وْس ْ
أل َعن َّ ْ
ك َ دقْني ياخالي
ريماَ :ص ِّ
ّ
اســتيعابه لألمــر ،ونالحــظ تغيُّــر اللحن إلى
و َْفر َْجاني تِذكِ ر ْتُو
لمحات صدامي ّة عند بدء استيعابه لألمر.
ريماُ :ص ِ
ورة راجِ ح!
وواحِ د مان ُّ ْ
وش ح ْكاي ّة َق ْ
ولِك أنا ا ِلح ْكاي ّة
هوي مان ُّ ْ
وش الح ْكاي ّة؟! و ُ ِّ
ْ
99
المشهد السادس
100
المشهد السابع
اســتجاب لرأي
َ ن المختاراألهميّــة الثانية ،أل ّ
ريما ولم ُ و َبال ما ن ْ َكفي الرَّواي ّة
سه َْرة ْ المختار :فِ كْري نام ْ
و َبال َ
يكن الرأي بالتأجيل له أصال ً..
ريما :ال..
ن ّ
جل الجهد التعبيــري كان على عاتق الســي ّدة فيروز ،إذ إنّها جسَّ ــدت ،بتعبيري ّة ٍ يجــدر التنويــه بــأ ّ
الفِ تة على مستوى التموُّج الصوتي والتمثيلي أيضاً ،أغلب التحوُّالت التي طرأت على طول َمسار
المشهد ،وقد كان هذا كلّه جديداً ّ
كل الجد ّة في الغناء العربي!
ّ
طل الورد ع الشب ّاك ثانياً :دقَّيت
فــي العــام ،1972قد َّمت الســي ّدة فيروز ،وضمن مســرحي ّة «ناس مــن ورق» ،أغنية «دقّيت ّ
طل
األخوي ْن رحباني وكلمات ســعيد عقل ،عن رواية «ماريا» للروائي
َ الورد ع الشــب ّاك» ،من ألحان
101
الكولومبي جورج إيساك ،حيث َأبرزت فيروز في أدائها للحوار بين الحبيب والورد ،وفي االنتقال
ٍ
قدرات تعبيري ّة فريدة! ُ
المختلفة، اللّحظي بين األجواء اللّحني ّة
ّ
طل الورد ع الشب ّاك دقّيت
أتــت علــى مقــام النهاونــد الرومنســي.عب َّرت ضربات مقد ّمة موسيقي ّة
البيانــو عــن دقّــات القلب وهــو يتلهّف للقــاء الحبيبة
ورب ّمــا عن الدقّــات القادمة على البــاب .التموُّج اآلني
فــي لحن المقد ّمة جاء للتعبير عن كثافة العواطف في
ذهن الحبيب وهو يقترب من َبيت الحبيبة الجميلة
المشهد األوّل
ّ
طل الورد ع الشب ّاك وكأنّما ينحني إليه إذ ُ
تخافض عند ّ
طل الورد عالشب ّاك
إنّه ي ُخاطبه كشخص
«وينها» للســؤال واســتنكار أنّها لم تفتح تصا ُعــد عند َ وينها؟ ..تلب َّك ما عاد يحكي
ُ
وتخافض اللّحن عند تلب َّك مــا عاد يحكي معب ّراً البــاب،
عن ترد ُّد الورد
تصا ُعد أعلى عند ماتت المفاجأة واستنكار الخبر ماتت؟ لشو تخب ّر؟
ُ
تخافض للتحسُّ ر عند وحدنا رح نبكي أنا واي ّاك ..أنا واي ّاك وحدنا يا ورد رح نبكي
يبــدأ اإليقــاع بعــد المشــهد األوّل القاتــم الــذي كان إنت وأنا يا ورد وحدنا بهونيك ليلة برد
ُمرســا ً مــن دون إيقاع ،وذلــك للتعبير عــن الذكريات
الجميلة في المشهد الثاني
تموُّج اللّحن عند الحلواية للتعبير عن جمال الحبيبة حكيت لنا حكاية الحلوايه
والدخول في مقام البيات العاطفي عند فايق وشو طالت فايق وشو طالت ..حكاية الحلواية
ّ
النص لــم يمتد ّ اللّحن عند طالت كما هو متوقّع ،إذ إ ّ
ن قالت :حلوة أنا
ن الحكاية لم تأخذ وقتاً :قالت حلوة أنا وخلصت
يوحي بأ ّ خلصت الحكايه
الحكاية!
102
المشهد األخير
تصا ُعد اللّحن للسؤال واالستغراب :بعدك هون شفته انفتح كيف شكل؟ بعدك هون؟
تكــرار أداء حلــوة الحلويــن لمــرّات للتأكيــد على مدى قال علّمتني حلوة الحلوين
ارتباط الورد بها وعلى أهمي ّة وصي ّتها
وي ْنُن
ٍ
درجات موسيقي ّة يتمّ غناء النســاء في انتقاالت ،على تغنّي النساء
ٍ
مقام موســيقي محد َّد ســياق
ِ مختــارة ،ال تنــدرج في زاد الخيــر * انطــري البيــوت * وانطــري
ْ
االضطراب ،بســبب واضــح ،ت ُ ِّ
عبــر فيهــا النســوة عــن المفاتيح * للزمان التاني
ُ
المغادرة ُمغادرة بيوتهنّ ،وتر ْك مفاتيحها قبل زاد الخيــر * إنتــي صرتــي * وحــدك صرتي *
ناطورة البيوت * ناطورة المفاتيح
َّ
المخصص للرجــال مختلف ،إذ ن اللّحــن
فيمــا نجــد أ ّ لمّــا بيرســي مركــب اللّيــل * على ســطوح
موســيقي واضح ،هــو مقام الكرد
ٍّ ٍ
مقام يأتــي على المدينة *
ُ
التماســك الممزوجة على درجة الســي ،حامال ً مالمح وبياخدني ســفر اللّيل * انطريني انطريني *
باأللم والحنين ع باب المسافة انطريني ..أنا رايح انطريني
103
كررين المقطع ليجتمــع الرجال مع النســاء أخيــراًُ ،م ِّ لمّــا بيرســي مركــب اللّيــل * على ســطوح
الثانــي ،واضح المالمح ،في داللة علــى اقتناع الجميع المدينة *
بضرورة الرحيل .أســلوب لحني ُمبدع فعال ً ،في التعبير وبياخدني ســفر اللّيل * انطريني انطريني *
عن التباي ُن في المشاعر ،بين النساء والرجال في لحظة ع باب المسافة انطريني ..أنا رايح انطريني
ومغادرة المدينة ،ثمّ االتّفاق على الرحيل
الفراق ُ
104
اللّحن األوّل :المذهب
ب ُنيت هذه الكلمة إيقاعيّاً في نبضتي ْن قويّتَي ْن( ،إيقاع فيروزَ :وي ْنُن؟
ســتنكراً
ِ اللّفــظ) كمن يطرق باب الفضاء الســاكنُ ،م ُ
هن َوي ْنن وين صواتن وين وجو ُ
لمغــادرةهــذا الواقــع الجديــد ،إذ اضطــرّ األهالــي ُ ُ
صار في وادي بيني و َبي ْنن
معبراً عن شعورها بأنّهاِّ المدينة ،ليترد َّد صدى صوتها َوي ْنُن
أصبحــت وحيدة ،لتتكرَّر النبضــات القوي ّة التي أصبحت
ُمتالحقة ،في تطوير ٍ الفت لصدامي ّة الدخول عند :وي ْن
ن الوديان صواتُــن ويْــن وجو ُ
هــن َوي ْنُــن* لتســتنتج أ ّ
أصبحــت تفصلهــم عنها :صــار في وادي َبينــي و َبي ْنُن،
ألــم غامــ ٌر ،تكتمــه فــي حناياهــا ،فتقي ّده،
ٌ ليجتاحهــا
مثلمــا قيَّــدت نفســها بقرارهــا البقاء فــي المدينة،
ُ
ض ت ُ ِّ
عبر من خالله تخافــ ٍ فتُطلــق صوتَها المكتوم في
عــن التضاد ّ بين ألمها من جهــة ،وقرارها بالبقاء في
المدينة حبيســة ،تنطر مفاتيــح البيوت ،ملخّصة بذلك
ومنه َية لها ،مع رد ّ فعل من الفرقةالجملــة اللّحني ّةُ ،
ٍ
صوت هو حساس مقام الحجاز الموســيقي ّة ،بإطالق
كار ،وليــس درجــة اســتقراره ،ليزيــد هذا مــن عنصر
الضياع ،في مشاعر زاد الخير ،حبيسة المدينة الخالية؛
يا له من تعبير!
ُ
يســتفيد األخوان رحباني من هذا األســلوب المبدع،
ُ
ــت للّحن ،ي ِّ
ُمهــد لعود ِة ضربات تخاف ٍ توفير
ِ أيضــاً ،في
البيانو الصادمة ،التي تسمح لزاد الخير ،بإطالق آهات
ُ
تخافــض اللّحن ،في تعبير ٍ ن معل ُمتزام ٍاأللم ،بشــك ٍ
واضح عن تضا ُرب العواطف!
105
اللّحن الثاني الذي سيتكرّر الحقاً
تُتا ِبــع خاليــا اللّحن اســتنادها إلى مقــام الحجاز كار، ركبوا عربي ّات الوقت * وهربوا بالنسيان
َي المفاتيح، ّ
ونلحظ ببســاطة اهتزاز اللحن عنــد كلمت ْ تركوا ضحكات والدن * َمنسي ّة ع الحيطان
عبر عن خشيتها من هذه ُ
التي أصبحت في عهدتها ،وت ِّ تركولــي المفاتيــح * تركــوا صــوت الريــح *
العهدة ،والريح ،تعبيراً عن مدلوالتها.
وراحوا ما تركوا عنوان!
َــي األلــم
تختتــم زاد الخيــر (فيــروز) بإطــاق نبضت ْ
واالستنكار :وي ْنُنْ! تكرار المذهب
يبــدأ اللّحــن بالتصا ُعــد عند كلمــة «جيــت» للتعبير عن في قهوة ع المفرق في موقدة وفي نار
ّ ّ
عشاق اتنَين زغار جيت لقيت فيها
«عشــاق اتنَي ْن زغار» الصدمــة ،ويتصاعد أكثر عند كلمة
(هنــاك إلماح إلى شــيء من الغيرة فــي تصا ُعد اللّحن قعدوا على مقاعدنا سرقوا منّا المشوار
ن أداء فيروز ّ
العشــاق الصغار ،علــى الرّغم مــن أ ّ مــن
ي ُبدي تعاطفاً معهم) ،وصوالً إلى ذروة ٍ َلحني ّة استنكاري ّة
عنــد« :قعــدوا على» ،ثــمّ تخافض لحني مباشــرة عند:
ُ
تخافض «مقاعدنــا» ،للتعبيــر عــن حركة الجلوس ،ثــمّ
اللّحن عند «سرقوا منّا المشوار» في تحسُّ ر ٍ واضح
106
صيحــة اللّحــن تأتي مع قفزة ٍ لحني ّة صاعــدة تعبيراً عن يا ورق األصفر عم نكبر عم نكبر
االســتنكار عند «يا ورق األصفر َعم نكبر» ،مع التكرار الطرقات البيوت عم تكبر عم تكبر
للتأكيد على المعنى.
«كل صحابي كبروا وتغي َّر اللّي كان» ،فيّ يتصاعد اللّحن عند كل صحابي كبروا واتغي َّر اللّي كان
ّ
ّ َ
ليتخافض اللحن في تحسُّ ر ٍ ذروة ٍ لحني ّة تحمل االســتنكار، صاروا العمر الماضي صاروا دهب النسيان
عند “صاروا العمر الماضي صاروا دهب النسيان” .ونالحظ
المتكرر ،اســتطاع
ِّ النــص الرحباني الجديد لهذا اللّحن
ّ أ ّ
ن
توافق المعاني الجديدة فيه ،مع موجات
َ مجد ّداً أن ِّ
يؤمن
اللّحن ،التي سبق أن َوردت في لحن مدخل األغنية!
ليالي الشــمال الحزينة األولــى :صيحة مع قفزة لحني ّة ليالــي الشــمال الحزينــة ضلّلــي اذكرينــي
صاعــدة للنداء ،ثمّ تخافض اللّحن في الثانية للتحسُّ ــر، اذكريني
ُ
تخافض! ن العبارة ذاتها فيها تصا ُعد ثمّ
أي أ ّ
ليالي الشمال الحزينة علي حبيبي
ّ ويسأل
البــدء فــي األصــوات الحاد ّة فــي صيحة وقفــزة لحني ّة ّ
ضل افتكر في ّي رجعت الشتوي ّة
م ّل ،والحبيب وم ِ ٌ
طويل ُ ن الشتاء صاعدة لالستنكار ،أل ّ رجعت الشتوي ّة
بعيد ،وهكذا أتت هذه اآله طويلة في اللّحن /امتداد
الم ّ
مل. /لي ُعب ّر عبرها الرحابنة عن طول فصل الشتاء ُ
ُ
تخافــض اللّحن للعبارة نفســها ،للتحسُّ ــر عند نُالحــظ
تكرارها ،مثلما َو َر َد في ليالي الشمال الحزينة.
تصا ُعد استنكاري ألنّه لن يعود ،ثمّ ويقلها انطريني وتنطر عالطريق
ُ
تخافض اللّحن للتحسُّ ر على ذبول أوراق الشجر اليابسة وتدبل بالشتي ويروح وينساها
107
د .عصام الجودر*
ّ
تخصص في التأليف الموسيقي من البحرين *مُ
108
ٍ
بلفيف من الغيوم ،لكنّه ال يتركنا فهو وكما يغيــب عن حياتنــا حتّى يبزغ بنضارة ٍ ولمعا ٍ
ن وأحياناً
ّ
«كل شي بلبنان منحب ّو وغنّيناه ووصفناه، قيل «فالعم ُر قمر»( .((1يقول عاصي في أحد اللّقاءات
شــوفي هالتــال قد ّامنــا ،هيدي بيطلــع من وراها القمــر وبيبقى قريب كتير علينــا وهيك نحنا
والقمر جيران»(.((1
تقلّبات القمر
أوجه القمر
وتختلف األغاني في طابعها ومزاجها وأســلوبها عند ســرد الرحباني َّين أللحانهما كما نعهده من
ّ
لتشع اختالفات في أطوار القمر التي عوَّدنا عليها ،فألحان الرحباني َّين تنعكس على صوت فيروز،
شــرقي تعزّزه المقامات الشــرقي ّة واآلالت
ّ ع ن تتألأل بالتنوُّع ،فهناك أغا ٍ
ن للقمر ذات طاب ٍ لنا أغا ٍ
ّ
األقــل في أغاني الشــرقي ّة كالقانــون والنــاي والعــود ،وإن كانــت ُفرص صولوهــات العود هي
غربــي تُدغْدغها آالت غربي ّة كالبيانو واألكورديــون والكالرنيت أو في
ّ ع الرحابنــة ،وأغــا ٍ
ن ذات طاب ٍ
بعض الحاالت الساكسفون.
الشرقي
ّ أوجه القمر
ٍ
تنويعات مقامي ّة ،وأداءً ُمذهال ً مــن هذه األغاني «موطن القمر» ففي هــذ األغنية الطويلة نجد
المنادى بطريقة ٍ تموّجي ّة هابطة وباحترافي ّة ،بينما تقتصر مصاحبة
لفيروز ،فعند غنائها حرف «يا» ُ
نغمات خفيفة بطريقة النبر pizzicatoإلبراز هذه اللّفتة األدائي ّة من فيروز ،ومع
ٍ الوتري ّات بأداءِ
إعادتهــا لمقطــع «في مالعبنا» ،نُالحظ إنهاءها كلمة «مالعبنا» مع اســتخدام الفيبراتو vibrato
وســلِس ،ثمّ تؤد ّي مرّة غربي – وتكمل على النَّهج نفســه بشــك ٍ
ل جميل َ ّ أوبرالي
ّ – وهو تكنيك
109
أخرى «يا» باالحترافي ّة نفسها .والحقاً كلمة «غرامها» بالطريقة األوبرالي ّة بأسلوب فيروز الممي َّز.
بحس إيقاعي
ٍّ ي مهمّ في هذه األغنية ،إذ تبدأ األغنية ٌ
جانــب تعبير ٌّ «علــى مهلنــا َع القمر» ،هناك
َي «إيــه» « ...يا اللّه» ..علــى طريقة غناء
حيــوي ،وأداء مــن الكــورس وكأنّــه يدفع للغنــاء بكلمت ْ
ومهل متعمّد عند غنائها مقطع «على
البحّارة على ظهر الســفينة ،حتى تبدأ فيروز بالغناء ببطء َ
تعبر عن مقطع «على
ِّ مهلنــا» وكأنّها تحاول أن تخفِّ ف من ســرعة َ
الكورس ،وهي فــي الحقيقة
مهلنا» على نحو ٍ أمثل ال أكثر.
علــي» حيث يدور القمر وأيضاً اللّحن ،ولك ْ
ن هنا حول نغمة (دو) وهي أســاس مقام ّ «ال تعتــب
َّ
الموشــح وإيقاعه الممي َّز الذي قالب
ِ الحجاز كار .أمّا « َب ِّلغ ُه يا قمر» فشــرقي ّتها ترجع إلى أصال ِة
أخرج الرحباني ّين من الميزان التقليدي والمكرّر .4/4
«قمره يا َقمره» :المقام في هذه األغنية عجم من نغمة راست (دو) وإيقاع شرقي ُممثَّال ً في
َ
المصمودي الكبير .تحوم العبارة اللّحني ّة األولى للمقد ّمة حول الدرجة الخامسة (صول) ،وتقفل
الجملــة فــي العبــارة الثانية على نغمة األســاس دو .يصاحــب فيروز الكورس فــي هذه األغنية
ن مــا ي ُمي ّز أداءهم – هنا -هو القفلــة ،ففي مقطع «يا» وهي ت ُ َمد ّ من
بترديــده المذهــب ،إال ّ أ َّ
ل أصوات النســاء والرجال ،نالحظ توقُّف أصوات النســاء بينما تســتمرّ أصوات الرجال ،وقبل
ق َِب ِ
ختام الجملة تعود أصوات النساء لالنضمام إلى الرجال وإنهاء المذهب ،وهي لفتة فني ّة جميلة
الكورس ،الذي عاد ًة ما يقوم إمّا بالغناء معاً (الرجال والنســاء) أو
ونادرة في مجال اســتخدام َ
ٍ
بســحابات بالتناوُب ،ولكن ليس بهذه الطريقة النادرة في موســيقانا العربي ّة .هي صورة أشــبه
تُحيط القمر وتَحجب بعضه ،فتعود لتنحسر ف َيظهر مرّة أخرى متألألً .أمّا أداء القمر فيروز فيتمي ّز
هنا بإضفاء أسلوب التقطيع staccatoفي بعض المقاطع مثل «ما بتطالها اإليد» ،لتُضفي خ ّ
ف ًة
ورشاق ًة في حوارها ،أي في غنائها مع الطفلة «القمرة».
في مقام البي ّاتي على نغمة الحســيني (ال) وبأداءِ فرقة ٍ موســيقي ّة و«عابالي القيك يا قمر»
(((1
110
الغربي
ّ وجه القمر
األغاني ذوات الطابع الغربي والتي ترتبط بالقمر:
يرجــع طابــع أغنيــة «نحن والقمر جيران» الغربــي إلى مقامها الماجير وآالتها الموســيقي ّة ،أمّا
استخدم اآلالت الغربي ّة في هذه األغنية
َ التوزيع األوركسترالي المتم ِّيز فهو لزياد الرحباني ،الذي
ٌ
بروز جميــل آلالت النَّفخ مــن دون أن يســتغني عــن اآلالت الوتريّــة« .ولقد» كان لهــذه الواقعة
وبخاصة النحاسي ّة ،كذلك فإنّه عاد ًة ما يطيب لزياد أن ي ّ
ُطل علينا بآلة البيانو في صولو تُنثر فيها ّ
َم فيه عر ْض اآلالت
شكل ارتجال .ويرجع تمي ُّز توزيع زياد إلى أسلوب قد ت ًّ
ِ النغمات السريعة على
الموســيقي ّة باقتضابٍ واقعي من دون إســراف ،تظهر فيه وتختفي بسرعة ،لذا فإنّه يود ّ أن ي ُبرز
هذه اآلالت سواء في مقطع في األوّل «تطلع قبالنا وتسمعنا األلحان» ومقطع في اآلخر وما
بينهما «تاركاً لنا أجمل األلوان الصوتي ّة».
ن هذه األغنية قــد احتوت على آلة العود ومن عزف الفنّان
«القمــر الــوردي» :وعلى الرّغم من أ ّ
الطاغي ،بسبب المقام واإليقاع، ّ
يظل هو ّ ن ّ
الطابع الغربي العراقي المحترف ُمنير بشير( ،((1غير أ ّ
وبطبيعة الحال اآلالت الغربي ّة التي قامت بأداء الكثير من الصولوهات مثل الجيتار واألكورديون
شــاركة مغني ّة اســمها حنان ،ثمّ أعادت
َ والبيانــو .أغنيــة «غيب يا قمر» ولها نســختان األولى ُ
بم
فيروز األغنية في مرحلة ٍ الحقة مع َ
الكورس .أغنية «قمر السماء» ،تبدأ بصولو بيانو ثمّ تتوالى
الصولوهات لآلالت الغربي ّة تتقاســمها األكورديون والبيانو ،باإلضافة إلى طابع الغناء األوبرالي
الذي يتّسم بالفيبراتو .vibrato
استخدم الرحابنة ميزاناً ثالثيّاً بسيطاً،
َ «من روابينا القمر»( ((1تتّسم هذه األغنية بطاب ٍ
ع غربي ،كما
وهو ميزان موســيقي قليل االســتخدام لدى الرحبانة ،وقد يكون ذلك تجاوُباً مع إيقاع قصيدة
ليســت من إبداعهم ،فهي من إبداع ســعيد عقل .تفوح من هذه األغنية رو ٌ
ح رومانســي ّة جميلة
ومنفرد لفيروز ،حيث تمّ االســتغناء عن َ
الكورس .لقد اعتنى األخوان بهذه القصيدة ِ بأداءٍ ممي َّز
تعبر – بإيجاز – عن روح القصيدة ،وتترك للمتل ّ
قي فرص َة أن يســبح ِّ كثيراً من خالل تقديم ألحان
فــي خيالــه وأفكاره عند االســتماع لهذه األغنية المميَّــزة .واأللحان هنا تتنــوَّع وتتجاوب ورب ّما
النص فهو «يا تُرى ..العمر قمر»..؟
ّ تتواضع وتنحني للكلمات أو القصيدة الجميلة والفريدة .أمّا
فضحه صوت فيروز ،والمعروف أنّه
ن فيه ســؤاالً مخفيّاً؛ َ ن اســتَعمل نداءَ التعجُّب ّ
إاّل أ ّ وهو وإ ْ
في الشعر لم َيستعمل الشعراء االستفهام الحقيقي ،بل السؤال الذي يتضمَّن الجواب ..فهل
عمر أم الحبيب ،أم كليهما؟ رب ّما كليهمــا ،وإن كان واحد ٌ منهما ي ْ
ُغنِي عن كان يقصــد بالقمــر ال ُ
111
اآلخــر ،وإن كان كذلك فنحن أمام جســد ٍ متمث ّ ٍ
ل بالقمــر وروح متم ِّثلة بالعمر .وهذا ي ُعيدنا إلى
الجملة السابقة «جاءه أم ال خبر» فهل َأرسل الشاعر خبراً ولم يصل الحبيب؟
(((1
مثلما يتغي ّر مقام القمر في السماء ،يتغي ّر أيضاً مكان أو مقرّ القمر في ألحان الرحباني ّين ،فهو
ساطع في األعالي نُخاطبه عن بعد ،مثل لحن أغنية «يا قمر أنا وي ّاك» ،إذ يبدأ اللّحن عبر
ٌ أحياناً
فيروز «يا قمر» من األعلى ،لينزل اللّحن مع تكملة القصيدة ُ
«صحبة من زَ َغر ْنا ..حب َّينا قمرنا .»...
علي أخَّرني القمر» .فهنا «القمر» وكأنّه تخلّى عن مقامه العالي ،ليقترب
ّ بعكس أغنية «ال تعتب
من الحبيبة وي ُشاغبها وُيشاكسها ،ما يجعلها تتأخَّر عن موعدها مع حبيبها .فالعبارة اللّحني ّة هنا
ُ
والمــام هنا يقع على القمر «لومك مش المنخفضة من اللّحن وليســت العليا،
فــي المنطقة ُ
علي لومك عالقمر».
112
أغنية طلع القمر – نموذج (أ)
النســائي فيروز في أغنية «يا حلو يا قمر» ،ويبدأ األغنية بـ «يا حلو يا قمر» في
ُّ ُ
الكورس يســبق
المنخفضة (نموذج األغنية أ)ّ ،
إاّل أ ّ
ن القمر يذهب مع فيروز للمنطقة الصوتي ّة المنطقة الصوتي ّة ُ
األعلــى أي الحــاد ّة في مقطع «وقمار غير قمارنا» (نمــوذج األغنية ب) ،أمّا القفلة فكانت بأداء
ّ
والاّلفت هو عندما قامت فيروز َ
الكورس النسائي للمذهب ،وترد ّ عليهم فيروز بكلمة «يا قمر»،
بغنــاء «يــا قمر» في ختام األغنية فقط ومن درجة غريبة تبتعد عن نغمة األســاس ،على شــكل
ُّ
تهكم أو سحابة تغشي وجه القمر الصريح. عالمة تعجُّب ،أو رب ّما
113
ن «القمرة» و»الشــجرة» فــي منزلتَي ْن ُمتكافئتيْــن في العل ّ
و وفــي «أغنيــة قمرة يا قمــرة» ،فإ ّ
مــن الناحيــة اللّحني ّة كما تشــير النغمات ،فالقمرة هنا الطفلة على األرض قرب الشــجرة ،لكنّها
أقرب إلى السماء والقمر في جمالها (نموذج األغنية أ) .ومن الناحية التعبيري ّة في هذه األغنية
ــم األخوان لحنيّاً العبارة «ما بتاطالها اإليــد» ،إذ إ َّ
ن القفزة من نغمة صول إلى س َ نالحــظ كيف َر َ
الدو األعلى وكأنّها تشير إلى المسافة ما بين اإليد والشجرة (نموذج األغنية ب) .وتنهي فيروز
األغنية بـ «يا قمره» هبوطاً إلى درجة األساس (دو) (نموذج األغنية ج).
114
في المنطقة الحاد ّة .القصد هنا أ ّ
ن التعبير عن القمر ال يقتصر على المفردة فقط ،ولكن -وفي
العام للجملة الشعري ّة وعالقتها بالجملة اللّحني ّة.
ّ أحيا ٍ
ن كثيرة – على المعنى
يــدور الحــوار في أغنية «حبيبي بد ّو القمر» وهي في مقام ســيكاه بيــن فيروز وبراءة الطفولة
فــي طلبهــا للقمر ،فهنا القمر يقترب من األرض لي ُالمــس تمنّيات األطفال وأحالمهم ،فيصيغه
ليقترب من األرض بدالً من اعتالئه
َ الرحباني َّان في المنطقة الســفلى من الســلّم الموســيقي،
الســماء .بينمــا كلمــة «عاليه» هي األعلى – نســبيّاً – في هذه الجملة الموســيقي ّة ،وتصل حتّى
نغمــة (صــول) .وفــي مقطع «مــا بتطالها اإليــد» هنا التعبير مــن خالل القفزة مــن نغمة (ف)
115
يغيب القمر في أغنية «نحنا والقمر جيران» ،عن مكانه في السماء ،ويصبح جاراً ،وله بيت خلف
التــال ،وعلــى معرفــة باأللحان والمواعيد واأللــوان .فقد تكون جيرة القمر هــي التي أودت به
همسهم
َ المحب ّين وتسمع إلى األرض لي ُصبح جاراً جميال ً ُمضيئاً ومثاليّاً ،حيث كلمة القمر ت ُ ِ
جاور ُ
َ
وأشواقهم .القمر في هذه األغنية يبرز في المنطقة الغليظة من صوت فيروز ،فهو وتنهّداتِهم
ّ
يبث الحبيب ليــس ببعيــد عن مريديه ..بل قريب إلى حد ّ الجوار« .والقمر هو الصدر الرحب الذي
فيه شكواه ،فهو في هذه الصورة ذات الطابع االستعاري قد تجاوز مدلوله القريب ليتحوَّل إلى
ّ
لكل ما ينير النَّفس ويشرع أبواب األمل»(.((1 رمز ٍ
ق وحنان، ّ
يطل علينــا برف ٍ القمــر فــي تجربة فيــروز ومنصور وعاصي ودود ووديــع وذوقه رفيع،
وبحب َيســمعنا ثمّ
ٍّ ي ُطالعنا وال يتعالى علينا على الرّغم من أنّه في الســماء ،ي ُرافقنا وي ُســامرنا
األخوي ْن في
َ ي ُغادرنا بعد وعد ٍ بلقاءٍ هو قريب .ولم ت َِرد كلمة «القمر» في أغاني فيروز من تأليف
األعمال التي تعنْونت بالقمر كـ«القمر الوردي» و«قمر السهرات» و«نحن والقمر جيران» و»يا
َط ّل مفردة «القمر» طوال رحلتهم اإلبداعي ّة في مختلف
قمر على دارتنا» وغيرها من أغانٍ ،بل ت ُ
أغانيهم ،ولكن ليس في العنوان وإنّما في َمتن القصيدة.
116
وأغــا ٍ
ن أخــرى كثيرة تلمع بكلمــة «القمر» في َمتن القصائد مثل «تبقــى مي ّل» و«يا دارة دوري
ّ
و«لشو الحكي» و«بعدك على بالي»( ((1وغيرها من األغاني فينا» و«مرجوحة»( ((1و«ال إنت حبيبي»
التي وإن اختفى «القمر» من عنوانها ،تسلَّل إلى َمتن دارها.
المسا
-بكتب اسمك يا حبيبي « /لمّا بدور السهر تحت قناديل المسا.»..
اللّيل
-يا حنينة « /أهل الهوى بليل الغزل شهدوا لنا».
نرجع لياليها». -الروزانا « /بد ّنا أماني الهوى
هاك اللّيالي». -كرمالك « /وع البال تع ّ
ن
-يا دارة دوري فينا « /حبيبي واللّيل ..راحوا ببحر اللّيل ..ونسيوني عالمينا».
(((2
و
الض ّ
-يا ناطور القمري ّة « /دخلك خلّي الضو شحيح ...خللي صوت الناي يع ّ
ن
خلّيك مضوّي علي ّي ....ومتل اللّي بقلبك منسي ّة».
و شوي ّة». ّ
«وكل ليلي عشي ّة قنديلك ضوي ّه ...قوّي الض ّ -جايبلي سالم /
117
-األوضة المنسي ّة « /مضوي ّة في بيوت تنوس فانوس يسهر فانوس».
-يدور وتدور « /بعيد وتضوّي ناطرنا وناطرنا عيد».
ضويللي ..القاني اللّيل وط َّ
فى قناديلي ِّ «طل من اللّيل ق ِّلي
ّ -سألوني الناس /
النجوم
-هيك مشق الزعرورة « /بالضيعة يللّي عاشقة النجمات».
السهر
-هيك مشق الزعرورة « /نحنا بعلي ّة خضرا عملنا سهرا».
-يا ناطور القمري ّة « /خلّي السمره تساوي شعرا وتلحقنا َع السهري ّة».
ّ
بتطل .».. -يا ناطور القمري ّة « /ولمَّن َع السهرة
-يا ناطور القمري ّة « /وبطيب السهرة وبتح ّ
ن .»...
-بكتب اسمك يا حبيبي « /لمّا بدور السهر تحت قناديل المسا .»..
علي « /ضيعتنا هني ّة وطالعال السهر».
ّ -ال تعتب
قو عشر ليالي عشر ليالي سهر». -حبيبي بد ّو القمر « /ح ّ
نعسانه
-حبيبي بد ّو القمر « /وحاسّ ه بحالي تعبانة ونعسانة».
النوم
-إيدي وإيدك عالوادي « /محبوبي من طول حب ّو ناطر ما تنام َعينو».
-حبيبي بد ّو القمر « /خايفة النام وينزل القمر».
118
-األوضة المنسي ّة « /وهاألوضة وحدا بتسهر وبيوت األرض تنام».
-يا اللّه تنام ريما « /يا اللّه تنام ريما ..يا اللّه يجيها النوم».
-جايبلي سالم « /بيعرفها عالمي ..وبيصلّي تتنامي».
هكذا نرى أ ّ
ن عالقة فيروز والرحباني ّين بالقمر وثيقة ،ومكانه ساطع في قصائدهم وقريب من
ــب َق عــرض أغنية «نحنا والقمر
س َ وشــجي في غنائهم وألحانهم .يقول عاصي في لقاءٍ َ
ّ قلوبهــم
جيــران» «مــن ســنة اللّي طلعت هالغنيّــة لليوم ،تغي َّر القمــر ،طلعوا لعنده ،مشــيوا عليه ،صار
تــراب وحجــار ،لكن بالنســبة لنا بعدو قنديل الســهر ،ورفيق المشــاوير ،مــازال التقينا رح نفتح
شــبابيك الماضي ونســمّعكن غناني بتعرفوها ،فيكن تذكروا مين األشخاص ،اللّي كانوا معكن
لمّــا ســمعتوها ألوّل مــرّة؟ كتار منّا بد ّلوا أصحابــن ،وياني ّالو اللّي بعدو من هــاك األي ّام حبيبو
ّ
وكل الذكريات»( .((2فهُم مع القمر في صحبة قديمة منذ الصغر معوَ ،رح يسمع وترجع اللّحظة،
..أحب ّوه وأحب ّهم وعاشوا معه ..
يا قمر أنا وي ّاك
صحبة من زَ َغر ْنا
حب ّينا قمرنا
وعشنا أنا وي ّاك
والقمــر لــدى الرحابنة حمّال أوجه ويتقمّص صوراً مختلفة تتنوّع وتتغي ّر بحســب مناخ القصيدة
ُ
«حيث ي ُصبح «القمر جارك» بل تجد ُه «على دارك» وهو حيناً يصبح «قمر الحلوين» واللّحن واألداء،
ٍ
اختالفات وأخرى «أكبر»( .((2تقلَّب القمر في أغاني فيروز والرحباني ّين في صور وأطوار عديدة بين
الطابع الموسيقي ُمتمرجِ حاً بين الروح الشرقي ّة واألخرى
ع في ّ
و ٍ
في الطول الزمني لألغنية ،أو تن ُّ
الغربيّــة ،فتنــوُّع المقامــات فــي أغانــي القمر بين الشــرقي ّة كمقــام العجم والحجــاز والبي ّاتي
والســيكاه والهزام والراست وغيره من مقامات شــرقي ّة ،وكذلك الغربي ّة كالماجير والمانير له
ّ
لكل الناس وجميــع األجناس ،أمّا موقعه في داللــة الحضن والجمع والشــراكة؛ فالقمر يتّســع
والمتحــور ،فتار ًة ينزل
ِّ المتحرك
ِّ الســياق اللّحنــي ،فهو أيضاً متق ِّلب وغير مســتقرّ ،فهــو القمر
في المنطقة الغليظة من الطبقة الصوتي ّة لفيروز ،ومرّ ًة يتوسّ ــط المســاحة ،وأخرى يسطع في
الجانب الحاد ّ من لحن األغنية ليذ ِّكرنا بأنّه القمر ،الذي ال بد ّ له من أن يعود إلى السماء ليضيء
ُزخرف حكاياتنا.
لنا ليالينا ،ويز ِّين أحالمنا وي ِ
119
د .نادر سراج*
ّ
«كل ضيعة بينها وبين الد ّني جسر القمر»
سعيد عقل
ــر الرّحابنة ذُكِ رت فيروز ،ومتى ذُكِ رت فيروز ذُكِ ــر الرّحابنة .فهُمُ ،مجتمعين ،رو ُ
ح كلمة ٍ ُ
متــى ذكِ ِ
كل تســح ُر وتَأســر؛ األســ ُر عندهم صوت مؤنِس ،وقو ُ
ّة ٍّ ٍ ن رشــيقة ،ونغمةُ ُ
ونبــض معا ٍ حلــوة،
والسح ُر أجمل. ٌ
جميل،
ِّ
ي الســاحر؟
أســر المخيال الفيروز ّ َّ
لنفك ّحبانــي ُ
المبتَدع العالم الر ُ
والقــارئ ُ
ندخل فمــن أيــن
َ َّ َ
َ
جــدل األمكنة في األغنية وســحر عوالِمه؟ كيف نعي
ِ كيــف نكشــف النقاب عن بالغ ِة مخبوءاته
ُ
والمتخي ّل الضد ّي ّة بناصية الرحباني؟ وهل تأخذ ثنائي ّة الواقع
ّ المتن
الفيروزي ّة وما موقعها في َ
المرتجــاة لألمكنة أهي الجمهــور إلــى حيث ينتمــي أم تحلّق به إلى حيــث يتمنّى؟ ما الوظيفة ُ
وملحقات أم مالذات افتراضي ّة لسكينة ٍ «خلدوني ّة» ُمفتقَ دة ومنشودة؟
هوامش ُ
معيــن الطبيعة
ِ ٌ
مجــازات منحوتة من فــي هــدأة اللّيــل ومع انبالج الفجــر تتهادى إلــى أذهاننا
ّ
ودااّلتُها في المســاحة الصوتي ّة لفيروز. تتدافــع كلماتُها بل دوالُهــا
ُ ُ
ســبكة ّ
الصنــع، اللّبنانيّــةُ ،م
الريــح ..بْدِنْيــه عناقيدها تالويح»« ،ضحكت على الحيطان صورنا من زمان»« ،يا تراب عينطورة ..يا
121
ٍ
شيفرات اجتماعي ّة ن أنّنا في محضر «عم تســقي جنينتها» .فنتي ّ
ق ُ َملفى الغيم وســطوح العيد»َ ،
ُ
تقرع ُ
األســماع عادة. واضــع رحباني ّة ُمصطفاة بعناية ٍ فائقة وال تتســ ّ
قطها وم ِ ٍ
ّنــات مكانيّــة َ أو عي
األســماع فنتخي ُّل صوراً ُمشــا ِبهة ومتأنّقة للدور والحيطان واألبواب
ِ ســبحتُها في
اآلذان وتكرُّ ُ
َ
والحــارات والجنائــن والحقول« :الزمان إللّي بياكل كلس الحيطان» ،و«دارك متل دار جني ْنتها َع
َ
األرض مواعيد» ،و«بعدا الشمس بتبكي...ع الباب وما تحكي»(.((2 تالل الشمس» ،و«يزرع
المبدِع.ُ ِالرحباني
ّ ي المتألّق شدواً وسحراً في المتن الفيروز ّ
لكلمــات موحية تتجلّى ألحانــاً بديعة وتتنزّ ُل صوتاً محلّقاً بالسّ ــامع
ٍ ّ
تفكراً وإصغاءً كلّمــا أمعنّــا
وســامعها
َ ِ
بشــغاف القلب ال بحروف األبجدي ّة؛ كلمات األغنية الفيروزي ّة تُشــ َّ
ف ُر ِ بعيداً ،أدركنا أ ّ
ن
العالم
َ باألذن.عرّفت
َ الذي تدرّبت حواسّ ــه على اإلنصات لصوتها الرقراق يتل ّ
قى رســائ َلها بالرّوح ال
بنبل نغماته،
ِ األحاســيس
َ على الزجل اللّبناني ُ
المغنّى وعلى فنٍّ ُمرهف أوقظ منذ الخمســيني ّات
ُ
والمتقنة السّ بك. القلوب بلغته المجازية السي ّالة االستعارات
َ وأس َر
َ
122
ُ
ومرتكزها «صبيّــة الجســر»( ((2الّتــي تاقت يوماً للقاء عاشــ ٍ
ق َولِه « ِبفي ّة الضفاير ُعم ُره انتســى».
ُ
للرائي/المتخ ِّيل افتراضي يبدو
ٌّ ٌ
المكان قق الوجود ي ُدعى إليه هذا المتل ّ
قي ،ويضاهيه مــكان متح ّ
ٌ
ي،
د أل ٍ
المرتجــاة في رحابه .بع َ ُ
ويحــول دون تح ّ
قق فعل المواعدة ُ ُ
يعيق التماســه، أ ّ
ن ثمّــة حائال ً
ــامع ،متجاوزاً كال غائي ّتها القوليّــة البالغي ّة وتكثّفها الداللي الرمــزيُ ،
ومتغافال ً عن ُ شــ ّ
فرها السّ
جع صداها عند متل ّ
قيها. مرام صانعها حينما تأك ّ َ
د له َر ُ َ لتبسي ْن .فبلغت
َ ُ
الم ضد ّي ّة مع َن َيي ْها
الط ُ
لب طلبي ْن اثنَي ْن بينهما رابطّ .
َ جملة غنائي ٌّة مركّبة من
ٌ والصيغة َعينها هي في العرف اللّغويُ
وجناحي ْها
َ ّحباني وابنة زقاق البالط تُفرد له صوتَها المشروع الر
َ ُ
جارة بيروت تحتضن
ّ
ّ
شــكلت رعــت انطليــاس الضاحية الســاحلي ّة الوادعة -وفوّارهــا -تفت ّ َح براعِم أبناء حنّا الرّحباني.
ومســرحاً ُ
لمنادماتهــم الصاخبــة ُ
ومبارياتهم في قول َّ
مفضــا ً الجتمــاع قبضايات بيروت َ مراحــاً
123
بكر َكرة أراكيلهم العجمي ّة .وهي ما تأخَّرت عن
المصاحبة َ
المــوّال البغدادي والعــزف على البزقُ ،
قولي ملفوظ ،يتّصف بالمرونة والسالســة ،اتّكأ على تراكيب معيوشــة مازجت
ّ رفْدهم بنســيجٍ
سمّيعة المدينة« .أصحاب الشوارب»
ألمعي بين روح الريف الشادي وذائقة التطريب عند َ
ّ بذكاءٍ
لإلبحار نحو مطارح بعيدة .مطارح بل قرى وحواري ُم َتخَي َّلة ،ال تشــبه البتّة تلك التي شــب ّوا فيها
عوالم غير
َ ي الرخيم ليشــي ّدا بخامته مســعى ،فأبدعا في صقْ ِ
ل الصوت الفيروز ّ ً بمثابرتهما أفلحا
والســمات ،وريفيّــة ُ
المرتكزات، ِّ مألوفــة أشــبه مــا تكون بـ»جنّة عــدنٍ» موعودة ،لبناني ّة النشــأة
دا ضالّتهما في جمالي ّات صوت إبنة زقاق البالط .نُخمّن أنّهما لم ي ُعيرا ُ
ومبتكرة االســتعاراتَ .و َج َ
اهتمامــاً لمــا ي ُنادي به اللّســاني ّون أمثالنا من أ ّ
ن مفهوم الصوت هــو الجوهر الفيزيائي للكالم.
زماني،
ّ مكاني
ّ ل
نسج متخي ّ ٍ
ِ لكنّهم عملوا بمقتضاه؛ ففَ َ
عل فِ عله وأقدرهما -وأقدرها في آنٍ -على
ٍ
لحم ودم»، قفه جمهو ٌر ذو ٌ
ّاقة «من بـــتصورات «ناس من ورق» وبكالمهم .وســرعان ما تل ّ
ِ ُ
يليق
ّاق ألمكنة ٍ متخي َّلة ي ُسافر إليها في غفلة من زمانه بعيداً عن هموم الحياة اليومي ّة ومواجعها.
تو ٌ
بصاحبــة الصــوت المالئكــي .تجوّلوا طويال ً في شــعابه التي باتوا يعرفونهــا كظاهر يدهم :زاوية
َ
وتالل صنوبر، ومحط ًة وقهو ًة وكركون ،ودرجاً
ّ ومطرحاً ضي ّقاً «ما بيساع»،
بزاوية ،وجنينة وكروماً َ
ُ
لســان حالهم َمقاطع شــطاً وبحراً .بات
ّ دني» ،وغديراً ومينا ،وبرّاً ُمعانِقاً ّ
مطل ال ِّ و»شــجرة على
ال تخرج عن تصوّراتهم لالســتقرار والسُّ ــكنى« :يا مركب الرّيح ...خلّي البحر وانزل َع َبرّ» ،و»أنا ال
عيناك ُ
هما سكني». ِ ٌ
سكن...أنا ٌ
أرض ..وال
124
ٍ
نغمات جذلىُ ،مســتنيرين َ
والمعزوف المنســوج كالماً طي َ
ّب العصارة، َ رافقــوا افتراضيّــاً در َبها
ْــج صوتهــا العــذب ذي البصمــة التي ال تتكــرّر مرّتَين .فشــدا بـ»عصفــورة النّهرين» ،وغنّى
بوه ِ
ّ
وحــط الرّحــال عنــد «دراج بعلبــك» بانتظــار ظهــور «الصبيّــة المســحورة». «زهــرة الجنــوب»
وهداهــم إلــى طريق «بلد الحبايــب» التي تقطعها «ميس الريم» ،مستأنســ ًة بصوت «راجح».
ُ
«جبال ُ
المفضي إلى «نبــع الصفصاف». قصــدوا «رمحــاال» ،ومن ثــمّ عرّجوا على «درج الــورد»
الصوّان» و»كرم اللّولو» و»مروج السندس» ما عتبت عليهم؛ فمرّوا بها وتابعوا مشوارهم
ق ترابي ّة تنتهي بـ»مينا الحبايب» ،فســلكوها آمنين على هدي تغريدة «عصفور الجناين».
بطريــ ٍ
َــي «اغتراب البحر
العين «البحر شــو كبير» ،و َيعوا صورت ْ وتســنّى لهــم حينها أن يشــوفوا ِّ
بأم َ
فن» و»المينا الغجري ّة».
بالسّ ِ
َ
«كفاف ٌ
شــتهاة بقدر ما هي صعبة اإلدراك والبلوغ ،ومنها نهلوا ٌ
مرســومة بعنايةُ ،م هي طبيعة
قومهــم ،مثلما إلى مخزون بيئتهم الشــعبي ّة الســاحلي ّة التي غرفوا من فضائهــا ألفباء النَّظم
لغــ ًة حالمــة تنقل تصوّراتهم المبتَكرة لضيعة ٍ متوه ّمة ،هاربــة من قدرها ومن فظاظة العيش
واألوضــاع المريــرة التــي صارت إليهــا العالقات .والجتــذاب جمهورهم ما ّ
قصروا في اســتيالد
ُ
والمتخي ّل. َــي الواقع
فت ْ لوص ِف مطارح تتأرجح مكانــاً وزماناً بين ض ّ
ْ ٍ
كنايــات ٍ
اســتعارات وابتــداع
جمهورهم على استعادة وجوه أناسها وتفاصيل مرافقها :طرقات وكروم وروابٍ وتالل
َ عوَّدوا
ومروج وجســور وطواحين .فاســتظهرها هــؤالء ،وما رغبوا يوماً فــي التح ّ
قق من وجودها وال
معانقة جدرانها!
125
العربي ،فصيحاً كان أم َمحكيّاً ومعيوشاً أم ُملبْنَناً.
ّ القولي
ّ اصطفوا مفرداتِهم من عيون النَّظم
ومطارح ي الش ّ
فاف بعيداً إلى فضاءات َ فرا َكموا مفرداتي ّة «رحباني ّة» ثري ّة حملها ِ
المخيال الفيروز ّ
ٌ
نصوص ُ
فقوامها ِم ال مســتح ّ
قة الد ّرس ســيميائيّاً .وســرعان ما عرفت طريقها نحو القلوب؛ ول َ
غماري ْها اللّفظي والمفهومي. َ
َ سهلة ُممتنعة استساغها الجمهور وأقبل على َخو ِ
ْض
ســبكت بنَفَ ٍ
س شــاعري ّ
موشــاة ُ
بصور ٍ بالغي ّة ُ كان عمادُهــا مفاتيــح كالمي ّة دارجة على األلســن،
ُ
رجع ّ
الصدى بعبارات سلســة ،ذات نكهة ٍ لبناني ّة جبلي ّة ،بل ُق ْل مديني ّة ومتمد ّنة.
ٍ مرهف ،وصيغت
ْ
شــاكلت إلى حدٍّ معقول كالم ْ
قعت َموقعاً حســناً عند أهل الســاحل،ما خالف التوقُّعات .فهي َو
المتقلّبي المزاج
المدن .وتنزّلت برداً وســاماً على أســماع البيارتة ُ أهل الجبل ،ولم تن ّ
فر أهل ُ
والشير والمعدور وعنزة أبو طنّوس( .((2وما لبثوا أن استبدلوها بصبي ّة الجسر ومختار القاطع
ن ََغمــاً ُمتقنــاً وصوتاً مالئكيّاً .صوت ما فتئ يشــدو حكايا الناس والوجــود ببالغة عفوي ّة ،موحية
تخوم الجغرافيا العربي ّة؛ فاستحسنها ُ
المقيمون َ العامَ .عبرت
ّ رشقةّ ،
قل مثيلها في الوجدان وم ّ
ُ
ٌ
حنين لزيارة أماكــن اندرجت في أغا ٍ
ن بعض الســي ّاح العرب تملّكه
ُ ُ
والمغتربــون على حد ّ ســواء.
فلت شــفتا فيروز وحنجرتُها الصد ّاحة أن تلقى العبارات الرّحباني ّة ببالغتها المأنوســة
النفس .وتك ّ
المتراسلة والمتأه ّبة للتل ّ
قي والتذوُّق واالستزادة. إنصاتاً جي ّداً من جمهور ٍ عريض قاب ٍ
ل بحواسّ ــه ُ
المدارك أحالماً معلّقة ولوَّح بمســر ٍ
ّات بعيدة المرتجى َف َع َل فِ ع َله؛ َ
فأيقــظ في َ التواصــل الفنّــي ُ
ُ
126
ي يستقط ُر من ضروب بالغة الناس عصار ًة روحي ّ ًة طي ّبة
المِ خيال الفيروز ّ
المرصعة ج َ
ُمل أغانيه ِّ أساسي في العمل الفنّي ،لذا فالصور البالغي ّة
ّ المكون اللّغوي
ِّ ن ّ
شك أ ّ ال
الفنيّــة وبكينونتهم التعبيري ّة المســتقلّة ،طوَّعــوا بحِ َرفي ّة ٍ «لغةً» مجازي ّة ُمكثّفــ ِة الصور البالغي ّة
ي
الثقافي الحضار ّ
ّ بالمخرجات اللّغوي ّة االجتماعي ّة لمكوّنهم
ُ وم ِرنة التراكيب .كما استعانوا بذكاءٍ
َ
ٍ
لجماعات ناطقة بالعربي ّة. ُ
المتغي ّر أنماط العيش
َ فتَرجمت بمهارة
إلى ذائقته الفني ّة العطشى بحنجرة ٍ ال تُضاهى نقاو َة صوت .وما ُعد َّ من الملتقطات والمروي ّات
أو من «توافه» الكالم أضحى يستقط ُر «عصار ًة طي ّية» وفق مقولة ميخائيل نعيمة(.((3
ٍ
بإضافات من اإلبداعات البالغي ّة والبيانيّــة بغية اإلبانة عن مقاصدهم، زيَّــن الرّحبانيّــان عباراتهم
المضمر بأحســن وجــوه األداء .وكما تُنبــئ عناوين ُمنتقاة مــن «ريبرتوار» أغاني
وعــن المعنى ُ
فيــروز( ((3فالتشــبيه األغلــب الذي لجآ إليه أتــى بمعظمه مدحــاً ،وأقدر المتل ّ
قيــن على الهروب
«الناعم» من فظاظة الواقع والتحليق في عوالم ُمشــتهاة .وبما أنّهما تي َّقنا من أ ّ
ن السّ ــرّ في
ُ
تصل إلى العقل الباطن بســرعة، يكمــن في أنّها صو ٌر ذهنيّــة
ُ شــيوع اســتخدام الصــور البالغي ّة
ي
ــر للصــوت الفيروز ّ
رســخَت بيســر ٍ في َمدارك الجمهور .ممّا يسّ َ
الختــاق صور ٍ بليغة َ
ِ َّ
وظفاهــا
الساطع إشهار تصوّراتهم عن اإلنسان والوجود ،وعن الحبّ والوفاء واالنتماء بأفكار ٍ واضحة.
فضاءت المؤانسة
ِ ي المتفرّد أنّه يحمل سامِ َعه إلى حسب ُنا القول إ ّ
ن من حسنات الصوت الفيروز ّ
هم الجهة المتل ّ
قية ناسها ُ
ُ «الناس في السّ كينة سواء».
َ كاشفة .وفضيلته أنّه يجعل
والم َ
ُ والبوح
َ
مسرحة.
َ والمفسرة منطويات رسائل الحنين التي تتناثر في نصوص أغانيها الفردي ّة أو تلك ُ
الم ِّ
127
التخييلي
ّ مفــردة السّ ــكينة السّ ــديدة تُظ ِّلــل االجتماع البشــري عموماً ،كمــا ينبض بها المــكان
ائتالف الصوت والكلمة واللّحن.
َ ح بها األداءُ الفيروزيّ ،وتك ِّل ُل
ّحباني ،وينض ُ
ّ الر
قي وفي القدرة على تشفير ٌ
تمايز في التل ّ ساني هو في اعتبارنا التباين الخلدوني بالمفهوم الل ّ
ُ
ّ ّ
المالئكي إلى أســماع جمهورها وهو في
ّ انســاب صوتُهــا
َ المضاميــن وتفســير المجازات .فإذا
و«أســكرتْهم» مجازاً .فتباينوا في رج ِْع ّ
الصدى الذي ينجم َ تجلَ ،أطربتْهم بالغتُه حقيق ًة
ٍّ لحظات
ِ
بالمضمر وتأه ّبهم لتقبُّــل ذاك ُ
المتخيّــل وغير المألوف ُ ُّ
قيهــم وكيفي ّات تأثرهــم عــن آليّــات تل ّ
الــذي لمّــا يتناهى إلى ذائقتهم الطربي ّة .ويســتوي الحــال أكان المكان مدينــة أو بلدة أو قرية
ٌ
استنتاجات عامّة
ّحباني،
ّ ي األثير ال ي ُغادران روح المســرح الر الحقيقي وذاك ُ
المتخي َّل بالصوت الفيروز ّ ّ -المكان
بــل يتماهيــان ويتآلفان معه لكأنّهما بحد ّ ذاتهما ي ُمثّالن البلد .صاغا بأوتارصوتها جمالي ّات ُمدن
هما في حســبان متل ّ
قيهما مجرّدان بما يحويانه من وض َيع تتنائر على خارطة الوطن .و ُ
وبلدات ِ
ُ
وطرائق تمثيله أمكن ًة إسمنتي ّة حقيقي ّة موسومة كل منهما ُ
تناقض رمزي ّة ٍّ ٍ
إيحاءات ودالالت ،لذا
المغرد لــم ُ
يكن أدا ًة ناقلة فحســب بل ِّ فــي وعيــه ببرودتهــا وجفائهــا وحيادي ّتها .لــذا فالصوت
ُ
المرتجى األدائي. واسط َة عبور ٍ ُمستحبّ إلى حيث يبلغ بالسّ امع
ُ
أيقونــة لبنان وســفيرتُه إلى النجوم بحنجــرة ٍ عذبة تتمايز أداءً وإيصاالً .انســابت إلى -تألّقــت
المغنّاة منظومة رموز
للمستمع أنساً ُمبتدعاً توسّ ل في نصوصه ُ
ُ األفئدة حال ًة وجداني ّة ،وتجلّت
ٍ
شــيفرات مألوفة ومعروفة ُمسبقاً لديه .فال غراب َة أن وعالمات ســيميائي ّة اســتحضرها بوصفها
حال أبداً دون
ن ذلك ما َ المبتدعات توقّعات المتل ّ
قي والمتأه ّب للسّ ماع واالستمتاع .لك ّ تفوق ُ
َ
وصول الرسائل العاطفي ّة والوجداني ّة والوطني ّة إلى األفئدة واألذهان.
ن اللّغ َة ال تُسعفهما يحوّالن بمهارة المرسل والمتل ّ
قي -أ ّ ِ َ
طرفا عملي ّة التواصل – -حينما يعي
ُ
الواقع بهما يخلقان لغ ًة ُموازية أو بديلة ،ويصطنعان ُ
يضيق دالالتها لتت ّ َ
سع ألغراضهما ،وعندما
128
الوسيط بذاته ولذاته.
َ أسلوباً أكثر استرخاءًُ ،محمّلين بمعا ٍ
ن ودالالت جديدة ،في ُصبحان
الذين يستســيغون جمالي ّاته ،ويســهل عليهم تشــفير دالالتــه .ما توانوا عن االســتعانة الذكي ّة
بضروبه الجمالي ّة المأنوسة والمفهومة ،فبلغوا بواسطتها ّ
جل مرامهم.
الثقافي.
ّ من بيئتهم ،تخي ّلوا بعضها ،واستلهموا تراكيبها من موروثهم
الفنــي المتألّــق مكاناً وزمانــاً والمتوه ّــج موضوعاً أنّه د ُ ِّون ونُشــرت
ّ -فضيلــة هــذا الخطاب
ّ
تبصــرا فتدب ّرا الســمات واألوصاف.
ِّ ّحباني
ّ ســمات مناطقيّــة لبنانيّــة دامغــة ،اللّهم ريفهمــا الر
ٍ
129
دك
مالئكي وخفيض وســهل االنســياب مع « َبع َ دم ُ
ْكــن َع األرض هد ّارة» ،بقدر ما هو «خبطــة ق َ
ّ
على بالي يا قمر الحلوين».
خاتمة
ّق إبداعاتِها.
تذو ِ
ّحباني الفيــروزيّ» المجاور والمحاور
ّ ن عــد ّة معا ٍ
ن ودالالت اجتمعت فــي المكان «الر الحظنــا أ ّ
ّ
ومؤشــراً لالســتقرار وحاضن ًة للّغة .قاربناه في حقيقته مثلما في ُمتَخي ّله ،فتنزّ َل صنواً للسّ ــكينة
الريفي ُ
المشعِ َران بالعمران ّ والمع َل ُ
م َ لالجتماع الثقافي .وكما أظهرت المعطيات فالحي ُّز الحضري
ّ
سكاني ّة أو ملحقات ٍ وبالعراقة في الحضارة حاضران في الواقع والوجدان ،وليسا مجرّ َد تجم
ّعات
وهوامش أو مالذات مؤقتة معرّضة للزوال .والصو ُر الحقيقي ّة والمجازي ّة المرســومة لهما في
أغرمت فيروز بالوصف المكاني بل بالمكان -بكلي ّاته وجزئي ّاته -فصار الواحد ُ يسرح في «المكان
صاحبة «القلب المشب َّك بحجارة بعلبك» استغرقت في هذا المكان الذي احتضن التاريخ ،فصدحت
في ظالل قلعته الســرمدي ّة ولســان حالها« :أنا شمعة على دراجِ ك» .أحالت سامعها إلى «طبيعة
دور ٍ أساسي في التشييد االجتماعي للواقع ،كما فهي ليســت وســيل َة تواص ٍ
ل حيادي ّة ،بل تقوم ب َ
رحباني الختم والتوقيع. السيميائي للمكان ،أكان فيروزيّاً حالماً أم ُ
التحليل ي ُبي ّن
َّ ّ
ح الفيروزي ّة استنطاق سحر المكان وأن ْ َ
سنَة دفق الكلمات ،تعالقت الرو ُ ِ بخام ِة صوتها ُ
المبدع في
الجمهور في تشــكيل
َ المتوثّبة مع الوجود ُمحيطاً وكينونةً ،وبقدرتها التخي ّلي ّة الفائقة َأشــركت
130
فارقة لواقعــه .أمّا الرحبانيّــان فخَرجا إلى كنف الناس بأســلوبٍ
وم ِصــورة ٍ ُمشــتهاة عن نفســه ُ
في «توافه» قولهم اليومي السائر .فتجلّيا بريشتهما وقيثارتهما فنّاً راقياً ارتقى بسامعيه نحو
131
نبيل سليمان*
مــا كادت نهــاد وديع حد ّاد تحمل اســم فيــروز باقتراحٍ من حليم الرومي ،حتّى َو َ
قع َفي ســحر
صوتها األمير يحيى الشهابي الذي كان مدير البرامج وكبير ُمذيعي اإلذاعة السوري ّة ،فدعاها مع
عاصي ومنصور إلى دمشــق ،حيث صاروا يحضرون ّ
كل يوم أحد ،ويســجّلون لإلذاعة ما سيكون
القومي.
ّ ي في السيرة الفيروزي ّة ،بطابعه
الفصل السور ّ
ّ
أقل من خمس ســنوات على هزيمة العرب الكبرى تلــك البدايــة كانــت في العام ،1953أي بعد
التــي اشــتهرت بنكبة فلســطين في العام .1948وتلــك البداية كانت أيضاً فــي ذروة االنقالبات
كصدى للهزيمة /النكبة ،وأوّلها انقالب حسني الزعيم ( ،)1949/3/31فانقالب
ً العســكري ّة الكبرى
ســامي الحنّــاوي ( 3آب ،)1949فانقــاب أديب الشيشــكلي فــي ،1949/12/19فاالنقالب الرّابع
للشيشــكلي نفســه في ،1951/11/29وســيلي االنقالب الخامس فــي ،1954/2/25من دون أن
ننسى ثورة 1952/7/23في مصر.
مــن ارتــدادات الزلزال الفلســطيني عــام 1948كانــت االنقالبات .ومــن َقبل كانت قد أنتَشــت
المتمثّلــة في التي ّار القومــي العربي ،والتي ّار الســوري القومي،
التيّــارات السياســي ّة /الثقافيّــة ُ
والتي ّار الشــيوعي ،والتي ّار اإلســامي .وســوف يغــدو التي ّار القومــي العربي (البعــث ،الناصري ّة،
بخاصة الهواءَ الذي َت َن َّ
فســته مرحلة الخمســيني ّات، ّ القوميّــون العرب) والتي ّار الســوري القومي
دي ْن تال َيي ْن ،من دون أن ننسى االنقالبات العسكري ّة والصراع العربي اإلسرائيلي.
ولعق َ
132
الشامي ّات
إنّــه – إذن – الهــواء القومي المتعلّق ببالد الشــام ،والذي تن َّ
فســته الظاهــرة اإلبداعي ّة الكبرى:
الظاهرة الفيروزي ّة .ومن البدايات الغريرة األغنية الرحباني ّة «ســوريا» وفيها« :ســوريا ..ســوريا/
مواكب تسير في مطالع الضياء /سوريا ..سوريا /فاخفضي الجباه يا جبال لإلباء».
ن صوت فيروز ينوء أحياناً تحت ضغط ما َط َب َع األغاني بعامّة من
وي ُلحظ بقوّة في تلك البدايات أ ّ
التحريضي ّة والحماسة وصراع النثري ّة مع الشعري ّة.
كان أوّل ظهور لفيروز في دمشــق ،كما َيذكر جان ألكســان في كِ تابه «الرحباني ّون وفيروز» ،على
مسرح سينما دمشق في شباط /فبراير ،1952حيث شاركت مع سعاد محمّد وحنان في الحفل
مؤازرة لتســليح الجيش الســوري .وقــد غنَّت فيروز فــي هذا الحفل
ِ ٌ
لجنة الفنّــي الــذي أقامتــه
األخوي ْن الرحباني ،ومن األغنية/
َ «ذكرى بردى» من شعر بشارة الخوري (األخطل الصغير) وألحان
القصيدة« :أنا مذ ْ أتيت النهر آخر ليلةٍ /كانت لنا ذكّرته إنشادي /وسألته عن ض َّ
فتيه ألم يزل /لي
فيهما أرجوحتي ووســادي /بردى هل الخلد الذي وُعدوا به /إالّك بين شــواد ٍ
ن وشوادي /قالوا:
َب األخوان فليفل اللّذان ُ
وقلت :فــؤادي» .وقد َكت َ ٌ
مقصوصة فيها، ُ
قلت جوانحي/ تحــبّ الشــام؟
لحَّنا النشــيد الوطني الســوري «حماة الديار» عام ،1936نشــيد «ميســلون» الذي لحَّنه األخوان
الرحباني وغنَّته فيروز ،وهو بمثابة تحي ّة ليوسف العظمة شهيد ميسلون في العام ،1952الذي
ّ
واحتل الفرنسي ّون دمشق إثر استشهاده. كان وزيراً للحربي ّة،
إذا كان القول بـ «الشــام» يعني «دمشــق» قديماً وحديثاً ،فقد عنى أيضاً «ســوريا الكبرى» قبل
أن يجري تقسيمها إلى لبنان واألردن وفلسطين بعد الحرب العا َلمي ّة األولى ،وهذا ما هو ركيزة
ن للظاهــرة الفيروزي ّة – الرحبانيّــة صل ًة ما به.
للحــزب الســوري القومي االجتماعــي الذي ترد َّد أ ّ
وبالد الشام في «لغة» هذا الحزب هي سوريا الكبرى .وال ينبغي إغفال ذلك في َدر ِ
ْس الظاهرة
الفيروزي ّة وفهْمها ،حيث يتعلّق شــط ٌر من ب ُعدها القومي المكين ،كما يتعلّق شــط ٌر آخر مكين
أيضاً وأيضاً ،هو الشطر القومي العربي.
واألمر كذلك ،لنا أن نتذكَّر أ ّ
ن غناء فيروز في حفلٍ ،نصر ًة للجيش السوري ،أو أن ألبومها «سوريا»،
مؤسس الحزب السوري القومي االجتماعي أنطون
ِّ يأتيان بعد ثالث أو أربع سنوات من إعدام
سعادة ،في 1949/7/8بعد ما سلَّمه الرئيس السوري حسني الزعيم للحكومة اللّبناني ّة .كما أ ّ
ن
ســيلي من الغناء الفيروزي في خمســيني ّات القرن الماضي ،جاءَ علــى إيقاع الحملة العنيفة
مــا َ
133
على هذا الحزب في سوريا ،مقابل الهدير القومي العربي الذي فجَّرته حرب 1956في مصر وتتوَّج
بالوحدة السوري ّة المصري ّة في الجمهوري ّة العربي ّة المتّحدة (.)1961 – 1958
134
فــي أواخــر العام 1955وصل الصحافي اللّبناني هشــام أبو ظهر ومدير معرض دمشــق الدولي
فيصــل الداالتــي مع فيــروز والرحباني ّين ،فقد َّمت فيــروز في صيف 1956على مســرح المعرض
حفالت منوَّعة إلــى أن يبدأ اللّقاء
ٍ ّ
والموشــحات ،وهذا ما ســيتوالى فــي مجموعــ ًة من األغاني
كالســيف والمجد والهوى ...و َيســتبطن الشــع ُر الغزلــي والوجداني الب ُعــ َ
د القومي .وفي أغاني
ْ
«قل للّذين بأرض الس َيري ّة كما في أغنية /قصيدة «موّال دمشقي» ومنها:
ِّ فيروز النزاري ّة تنضاف
الشــام قد نزلوا /قتيلكم في الهوى ما زال مقتوال /يا شــام يا شــامة الدنيا ووردتها /يا من
فيــك مئذنة /أو علّقوني علــى األبواب قنديال /يا
ِ ُ
وددت لو زرعوني وجعــت األزاميــا/
ِ بحســنك َأ
ِ
135
ُ
يسكنني/ بلدة السبعة األنهار يا بلدي /ويا قميصاً بزهر الخوخ مشغوالً /هواك يا بردى كالسيف
ْم القبلة األولى».
ومــا ملكــت ألمر الحبّ تبديال /ما للدمشــقي ّة كانت حبيبتنا /ال تذكــر اآلن طع َ
ننس في هذا السياق غناء فيروز لقصيدة معروف الرصافي «إلى دمشق» عام ،1954وكانت
َ وال
فيروز في تلك السنة قد َأحيت حفل ًة في نادي الضب ّاط في دمشقَ ،
وقفت فيها وحدها ألوّل مرّة
أمام جمهورها المولّه.
إذا كانت فيروز تبدو في ما تقد ََّم ســوري ّ ًة بامتياز ،فما غنَّته لفلســطين ي ِّ
ُكرسها فلسطيني ّة أيضاً
ّ
مبكراً ت ََعن ْ َو َن ن ما غنَّته اقترن ظهورها بنكبة /هزيمة فلسطين .ومن ّ
الاّلفت أ ّ َ بامتياز ،وهي التي
األخويْــن رحباني .وهذا َ بعــودة ّ
الاّلجــئ الفلســطيني إلى بالده ،كمــا في «راجعون» مــن كلمات
النشــيد جرى تســجيله في إذاعة صوت العرب أثناء زيارة فيروز والرحباني ّين األولى إلى القاهرة،
د يحط عليهــا الحمام ،أ َب ْ
ع َ ّ ومنــه« :كيــف حال بيتنا؟ هل تقول أم هجرت مثلنا؟ وتلك الســطوح
النــزوح تُراهــا تذوق الســام؟» .وفي العام 1956غنَّت فيروز« :ســنرجع يومــاً إلى حي ّنا /ونغرق
فــي دافئــات المنى /ســنرجع مهما يمرّ الزمان /وتنأى المســافات ما بيننــا /فيا قلب مهال ً وال
ْهنَا /يعــزّ علينا غداً أن تعود /رفوف الســنونو ونحــن هنا» .وقد
ترتمــي /علــى درب عودتنــا ُمو َ
ُ
نسبة هذه القصيدة إلى الرحباني ّين كما يؤ ِّكد فارس يواكيم في كِ تابه «حكايات األغاني» التبست
وبين هارون هاشم رشيد كما هو شائع .وفي السنة نفسها غنَّت «خذوني إلى بيسان» ،وفيها
بخاصة ،تصــدح الذكريات الطازجة والحنين ُ
وصور ّ كمــا في فيروزي ّات فلســطين قبل هزيمة 1967
ّ
وكل شــيءٍ كان/ الطبيعة وحُلم العودة« :أذكر يا بيســان /يا ملعب الطفولة /أفياءك الخجولة/
باب وشب ّاكان /بيتنا في بيسان».
لألخوي ْن رحباني األغنية الشــهيرة «جســر العودة» ومنها« :يا جســر
َ في العام 1957غنَّت فيروز
األحزان أنا ســمّيتك جســر العودة ( )...تقفون كشجر الزيتون /كجزوع الزمن تقيمون /كالزهرة
المحتلَّة /يا ُمنزرعين بمنازلكم
ُ أرض الدار تقيمون /وســامي لكم يا أهل األرض
ِ كالصخرة في
قلبــي معكم وســامي لكــم» وتتقابل /تتضاد ّ الغربة والعودة في أغنيــة «غاب نهار آخر /غربتنا
زادت نهار /واقتربت عودتنا نهار ( )...ود َّعني َطي ٌر وقال /إلى بالدي أمضي /ذكَّرني بطردي» .وفي
بانثيال الذكريات عن ميناء
ِ واحــد ٍ من ذرى الفيروزي ّات الفلســطيني ّة تأتي أغنية «يافا» التي تبــدأ
ن الصي ّادين انتصروا وعادوا في الغداة، ُ
العاصفــة َلي ْ َله ،لك ّ يافــا وعــن َي ٍ
وم من أي ّام الصيد َض ِ
ربت
136
وأنشــدوا بما يرمّز النكبة والعودة بالعاصفة« :جئنا من الريح /كما يجي المارد /و َدخَلْناها مينا
َ
فة أصدافا /يا أحلى األي ّام بيافا /كنّا والريح تهبّ تصيح
يافا /يا طيب العود إلى يافا /ومألنا الض ّ
واالنهيارات المادي ّة والروحي ّة .وإذا كانت العودة والســام والوحدة اإلســامي ّة المســيحي ّة هي
مــا تصدح به «زهــرة المدائن» فالبؤرة هي القدس مثلما كانت فيروزي ّات عديدة .وفي الرد ّ على
الهزيمــة غنَّــت فيــروز عام 1979للفدائي الفلســطيني من شــعر طــال حيدر وألحــان ابنها زياد
الرحباني أغنية «وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان /وحدهن بيقطفو وراق الزمان».
137
أو مثل «احكي لي عن بلدي» والتي تندغم فيها الذاتي ّة بالطبيعة .أمّا الغالب األعمّ فهو «لبنان»
أو «بيــروت» عنوانــاً وجوهــراً ،حيث تكون المدينــة والطبيعة والذاتي ّة هي جبلّــة الب ُعد القومي،
مثل أغنية «بحب ّك يا لبنان» التي تومئ إلى الحرب األهلي ّة ،ي ُغالِبها الحُبّ إلى أن يغلبها «سألوني
شــو صــار ببلد العيد /مزروعــة ع الداير نار وبواريد /قلتلّن بلدنا َعم يخلــق جديد /لبنان الكرامة
ق الفردي في القومي أغنية «ع اســمك غنَّيت وع اســمك رح غنّي/ َ
والشــعب العنيد» .ومن أ َل ِ
لمطرح اللّي بيوقف الزمان /واســكر باســمك يا
وإحمل بإيدي كاســك المليان /ارفعوا لفوق َ
مجد لبنان» .وكذلك هي أغنية «يا مينا الحبايب يا بيروت» وأغنية «وطني يا جبل َ
الغيم األزرق»
عمر وطني» من كلمات وألحان منصــور الرحباني التي جاءت في العام 1994بعد
وأغنيــة «بــد ّي ِّ
دام خمس عشرة سنة.
َ ع
انقطا ٍ
َّــن الرحباني ّان «قصيدة لبنــان» التي تمور بالفخر كالعهــد بـ (قومي ّات)
شــعر ســعيد عقل لح َ
من ِ
تب قالت تلك لبنان/ الشــاعر ممّا غنَّته فيروز « :لي صخرة ُع ِّلقت بالنَّجم أســكنها /طارت بها ُ
الك ُ
أهلــي ويغلــون يغدو الموت لعبتهم /إذا تطلع صوب الســفح عدوان» .وكثيراً ما يتبأَّر لبنان أو
ّ
ترشفها فؤادي عيونك دمعةّ /
إاّل ِ الوطن ببيروت ،مثل قصيدة بشارة الخوري «بيروت هل ذرفت
غرم» .ومن شعر جوزيف حرب وألحان يواخين رودريغو غنَّت فيروز« :لبيروت من قلبي سالم ُ
الم َ
وقب ٌ
ــل للبحر والبيوت» .ومع بيروت جاء الجنوب اللّبنانــي أحياناً عالمة للب ُعد القومي، لبيــروتُ /
َ
مثل أغنية «أســوارة العروس /مشــغولي بالدهب /وانت مشــغول بقلوب /يا تراب الجنوب»،
وأغنية الرحباني ّين« :يا زهرة الجنوب /يا عصفورة البكي».
وبالطبع ،ال يكتمل القول ببالد الشام من دون األردن ،وهذا أيضاً ما تؤكّده األغنية الفيروزي ّة.
فمن الجسر السابح فوق نهر األردن ،وغنَّت له فيروز« :يا جسراً خشبيّاً /يسبح فوق النهر /ضحك
لألخوين الرحباني «أنا والمســاء
َ الفجــر وحيّــا /وصحت قمم الزهر» إلى ما غنَّته في العام 1957
واألردن» ،أو مــا غنَّتــه لســعيد عقل وألحان محمّــد عبد الوه ّــاب «أردن أرد ّ
ن أرض العزم أغنية
الظبا /بيت الســيوف وحد ُّ ســيفك ما نبا» .أو ما غنَّت في نهاية الســبعيني ّات لســعيد عقل أيضاً
ومــن ألحــان الرحباني ّيــن «عمّان في القلــب أنت الجمر والجــاه /ببالي عودي مــرّي مثلما اآل ُه/
إلي من عطش الصحراء أموا ُه».
ّ سكنت عينَيك يا عمّان فالتفتت/
ل في الجزائر فــي العام 1968أغنية «ســافرت وبعــدُ ،مــن المعلــوم أ ّ
ن فيــروز قد َّمت في حفــ ٍ
القضيّــة» ،فهل يكفي تعبيراً عن مفاعيــل الب ُعد القومي لإلبداع الفيروزي ودالالته ،أ ّ
ن هذا الرد ّ
(سافرت القضي ّة) على هزيمة ،1967سرعان ما اختفىُ /منع وألكثر من نصف قرن؟
138
ّ
المثقفة» تعد ّ خالدة ســعيد ما تســمّيه التجمُّع الفيروزي الرحباني في كِ تابها «يوتوبيا المدينة
واحداً من مؤسّ سات االنبعاث الثقافي لبيروت من الخمسيني ّات حتّى السبعيني ّات .وعلى الرّغم
من االنهيارات المروّعة التالية حتّى اليوم ،ال زالت للب ُعد القومي وقدته في الغالب من األغنيات
الفيروزي ّة المتعلّقة به.
ّ
النص وليس الموســيقى ،فباإلضافة إلــى ما انتثر فيه من ّ
بخاصة وإذا كان مــا تقــد َّم قــد أضاءَ
أنوه بما كتب أحمد بوبس في كتابه «فلســطين في األغنية العربي ّة» عن
الــدالالت والمفاعيــلِّ ،
ُمراوحة فلســطيني ّات األغنية الفيروزي ّة بين الرمزي ّة والمباشــرة .ومن المعلوم أنّه طالما ترد َّد
أ ْ
ن ليــس لفيــروز َموقــف سياســي ،ال قومي وال غير قومــي ،مثلما ترد ّد أ ّ
ن للظاهــرة الرحباني ّة
الفيروزيّــة َميلها إلى الحزب الســوري القومي االجتماعــي .لكنّني أرى أ ّ
ن هذه الظاهرة التاريخي ّة
المجيــدة قد توسَّ ــلت ما أســمّيه فــي النقد األدبي «اســتراتيجي ّة ّ
الاّل تعيين» ،ليــس تعالياً على
آلفــاق التخييــل والتل ّ
قي ،وتعبيراً عمّــا هو أعمق ِ هربــاً مــن المســؤولي ّة ،بل فتْحاً
الواقــع ،وال َ
وأثــرى مــن المعانــي والق َيم اإلنســاني ّة والحضاري ّة .ولذلك كانت – مثــا ً – أغنية «لبيروت» هي
المزَ ل ْ ِزل ( ،)2020على جميع القنوات ،أو كانت – مثال ً – ّ
الاّلزمــة أثنــاء عرض صور انفجار بيــروت ُ
ْكن على األرض هد ّاره /إنتو األحب ّة وإل ْ ُ
كن الصدارة» هي ّ
الاّلزمة أثناء الحروب دم ُ
أغنيــة «خبطــة َق َ
الوطني ّة واألهلي ّة.
فل ْ ُ
يكن ذلك وسواه ،ليبقى المهمّ واألهمّ :خلود الفنّ ،ومنه الف ّ
ن الفيروزي.
139
د .فيصل درّاج*
صبي في المدرسة االبتدائي ّة محمّد عبد الوه ّاب« ،مطرب األمراء والملوك» ،كما كان ّ أذك ُر وأنا
جاوزَ الظالمون ى باألســى ي ُر ِّدد« :أخي ّ ٍ
َ مغط ً بصوت مهيب «دعاء الشــرق» ،وأذكره ي ُقال ،ينشــد
العربي اإلباء والشــرفُ ،معلِناً« :فلسطين تفديك منّا الصدور
ّ اإلنســان
ِ ســتنهضاً في
ِ المدى»ُ ،م
َّب إليه الغبار فإمّــا الحيــاة وإمّا الــردى» .قال عبد الوه ّاب ما عنده َ
وأودعه في «أرشــيف» تســر َ
َ
وأعطبه النسيان .كان ألغنية فيروز عن العودة والرحيل مصي ٌر آخر .استقرَّت أغنية فيروز «سنرجع
يومــاً إلــى ح ِّينا» في كيانيَ ،غدت جزءاً من منظوري إلى الحياة ،وب ُعداً في ثقافتي الفلســطيني ّة،
ذ َلهُم األمل ،واالنتظار النشــيط الذي يحتاجه ُ
المســتضعفون. حيــث األمــل الذي يحتاجه الذين َخ َ
أقنعتني بما لم يقنعني به أصحاب النظري ّات ،وال ذلك الكالم ُ
الممتَد ّ من« :معركة ذي قار» ،قبل
َ
آفاقه أحدٌ. اإلسالم ،إلى مجهول ال يعرف
142
ســألت أمّيَ :مــن التي تُغنّي؟ أجابت :الســي ّدة
ُ بعــد أن عانقتْنــي األغنيــة الفيروزيّــة ،أو عانقتُها،
اللّبنانيّــة فيــروز .كنــت أعرف لبنان وجبــران خليل جبران ،وقــرى لبناني ّة كريمة َمــرر ُ
ْت بها طفال ً،
وأنا خارج من فلســطين ،وأعرف ضجيجاً ي ُرســله المذياع يقول« :يا فلســطين جينا لك» .بيد أ ّ
ن
ُ
والتواصل الروحي بين المتمثّلــة بطريق ِة غناء فيــروز علّمتني معنى الغنــاء
«الحقيقــة الفنيّــة» ُ
ستمع وصوت المغنّي ،والفَ رق بين الزائف والصادق.
ِ ُ
الم
ن أغنيــة فيروز موجَّهة لــيَ ،أنطقتني بما ال أســتطيع التعبير عنه .فهي عن ُ
شــعرت ،وال أزال ،بــأ ّ
ل طليق ،وتَحتضن ّ
الاّلجئ في ذل اللّجوء بتفــاؤ ٍ الاّلجئيــن وإلــى ّ
الاّلجئيــن ،تُداعِب الذاكرة وتمحو َّ ّ
ّ
كل مكان .أغنية عن الغرباء ،وإلى الغرباء وعن هؤالء الذين يواسي الغناءُ غر َبتهم ،من دون أن
يســأل عن جنســي ّة ٍ أو طائفة .ي ُساوي بين البشر ،وال ي ُؤبْلِس البعض وي ُلقي بهم في النار .لكأ ّ
ن
ن الحقيقي المجسَّ د في فيروز ،كالماً وغناءَ ،ينْشد إنساناً نقيّاً ،ال يعترف بالحسبان المريض،
الف ّ
واطن، ُ
والم ِ واإلنســان معاً .ومع أ ّ
ن في وقائــع الحياة ما يُم ِّيز بين اإلنســان َ الــذي َينحــر الف َّ
ن
اإلنســان َقبل
َ واطن دائماً ،فإ ّ
ن في األغنية الرحباني ّة ما َيســتدعي الــذي ال يكــون له حقــوق ُ
الم ِ
واطــن وما ي ُغنّى لإلنســان بصيغة الجمْع« :ســنَرجع» ،كما لو كانت فيــروز غريباً بين الغرباء، ُ
الم ِ
أغنية «الســي ّدة فيروز» ،بلُغ ِة أمّي بين الف ّ
ن والقِ َيم، ُ تُواســيهم وتنتظر معهم الرجوعَ .جمعت
ن الحقيقة أســمى َمراتِب َ
الجمال من الحقيقــة ،وتَهمس لســامِ عها بأ ّ ّ
تشــتق توحــي وتُـــل ْ ِهم،
ج من الضوء وعناق األلوانَ ،في ٌْض الجمال .يتراءى ذلك في نشــيدها« :وطني» حيث الوطن نســي ٌ
من النور يتجاوز «الجغرافيا الفقيرة» و َيســخر من بالغة ٍ متكسّ ــرة ت ُ ِّ
مجد تاريخاً ال تَعرفه ،تَخترقه
وتَنفيه وتَهدمه.
انتظرت فيروز
َ ُ
صورة الحقيقة والجمــال ،أكان ي ُدعى :لبنان ،الذي الوطــن في اإلنشــا ِد الفيروز ّ
ي
«بع َثــه» بعــد الحرب األهلي ّة ،أو كان وطناً ُمصا َدراً اســمه :فلســطين .ال تولد مالمِ ح الوطن ،في
المغنّي ،كما لو كان الصوت في
المغنّاة بل من طريقة الغناء والصــوت ُ
الحا َليْــن مــن الكلمــات ُ
فرادته نَثراً و َلحناً وســرّاً غامضاً وواضحاً في آن .إذا كان «الغناء ســرّ الوجود» ،فإ ّ
ن غناء فيروز
«ســرّ الســرّ» ،بلغة ٍ ُمتلعثمة ،يســتوحي اإلنســان مداه قبل أن يســأل «عمّا ي ُغنّي» .ال ي ُقلَّد وال
ِ
الحاضر األســيان
َ ُ
الكلمة الغنائي ّة الفيروزي ّة في «ســنرجع يوماً» تروض ّ
ويظــل متفرّداًِّ . ي ُحاكــى،
غترب وتَمســح عنه الكآبة، وتفتحــه علــى أزمنة ٍ «ســري ّة» تُعيد خل ْ َق العا َلم الداخلي لإلنســان ُ
الم ِ
رغب
َ ُ
اإلنسان في أرجائه ،أو سار
َ أطياف الوطن الجميل ،ال َفرق إ ْ
ن َ ن في أغنية «وطني» مثلما أ ّ
بالمشــي وحُــرم منه .وفيروز في غنائها ال تُحقِّ ق وظيفــ ًة تطهيري ّة تبدأ بالوه ْم وتنتهي إليه ،بل
143
ُ
والمتخي ّل وتومِ ئ إلى ُ
سبل الحياة الكريمة. تقوم بوظيفة ٍ جمالي ّة -أخالقي ّة ،ت ُ ِّ
وحد بين اإلحساس
إنّها قريبة من القول الشعري« :في جمال القمر ما ي ُثير في الكسيح شهو َة َ
المسير» ،الذي إن
صاغته التجربة الفلسطيني ّة غدا« :إ ّ
ن جمال فلسطين في الغناء الفيروزي يهيب بالفلسطيني أن
يسير إليه حتّى لو كان كسيحاً».
َ
ُ
«الطبيعــة تُحاكي الفــنّ ،بعيداً عن َ
قول الشــاعر اإلنكليزي أوســكار وايلد: حــاو َر إنشــاد ُ فيــروز
َ
فــنٍّ ي ُحاكــي الطبيعة» .يخلق اإلنشــاد الفيروزي ،بهذا المعنىَ ،مالمِ ح القدس وفلســطين وروح
المتط ِّلع إليهما ،ويتطلّعان إليه في آن .ال غرابة أن ي ُقرأ األدب الوطني الفلسطيني
الفلسطيني ُ
على ضوء أغنية «وطني» ،بإنشــاد فيروز ،وأن ي ُقرأ «الوطن الفيروزي» على ضوء نصوص األدباء
الفلســطيني ّين ،إذ جبــرا ابراهيم جبرا يوغل في توصيف ألــوان القدس ،وإميل حبيبي يكتب عن
المنقضية و َيجعلها ثماراً من ذهب ومذا ٍ
ق ســعيد ،وإذ كلمات محمود درويش ثمار فلســطين ُ
تُ ِ
خاطب «شوارع القدس العتيقة»...
ن معلّم» .ينطبق قول غرامشــي،
ن ال مــن حيث هو فــ ّ
اإلنســان مــن حيث هو ف ّ
َ ُ
الفــن «ي ُع ِّلــم
ّ
المفكــر اإليطالــي ،علــى أغنية فيروز قبل أن َيجــد َمجاالً ُمالئماً في األدب الفلســطيني .فاألدب
صــوت فيروز بالكلمة واللّحن والنبرة واإليقاع و»بســرٍّ» ال ي ُمكن
ُ ي ُع ِّلــم بالكلمــة بينما «ي ِ
ُلهم»
النّفاذ إليه.
المرعِبة .لكنّه لو عان ََق حاصرت ْ ُه «متاحف الكوابيس» ُ
بصورهــا ُ َ الفلســطيني على متخي ّله َل
ُّ لــو اتَّكأ
َ
ألضــاف إلــى ُمتخي ّله الكئيــب ُمتخيَّال ً آخر أكثــر رحمة ومواءمة للحيــاة ،وأكثر ُ
المتخيَّــل الغنائــي
144
ْ
بفضــل اإليقاع الرهيف الــذي يتوجّه إلى جمهــور ٍ ي ُؤثِر االســتماع على التصفيق. فيــروز ُمختلــف
الســي ّدة اللّبنانيّــة ال تتوجّــه إلى «نخبة» .تَر َكــت غناءً َيبني «نُخبتــه» وحيداً ُملب ّياً ،بشــك ٍ
ل عفوي،
القاعدة البســيطة القائلة :على الذي يتأمَّل لوح ًة فني ّة أن ي ُع ِّلم ذاتَه مبادئ القراءة الفني ّة .وقد
ن أغنية فيروز تُملي على ســامِ عها أن يعود إليها ذاتي ،ولك ْ
ن أل ّ ّ ع
أكون من هؤالء ،ال بفضل نزو ٍ
دركاً أنّه بعيداً عن أغنية جماهيري ّة تســتدعي التصفيــق ،وأنّه أمام «أغنية فني ّة»
أكثــر مــن مرّةُ ،م ِ
ِ
حفيف مطر ٍ سترســا ً كما لو كان يتأمّل َغيم ًة بديع َة التشــكيل ،أو ي ُنصت إلى
ِ ُ
ــامع ُم َيتبعها السّ
َ
األرض و َيطرد الجفاف. ي ُداعِب
زلــت مــن زمن« :ســنَرجع يوماً إلى ح ِّينا» أنتظــر نهاية أغنية فيروز التي ال تنتهــيَ ،أ ُ
ضع ِصف َة ُ مــا
حلت أمي وتَر َك ْ
ت لي تعبيراً أليفاً ،يتسرَّب ْ سمعْتها من أمّي من عقودَ .ر
السي ّدة قبل االسم ،كما َ
لصبي فلسطين
ّ حفظت التعبير ،كرمى ألمّي الراحلة ،أو إخالصاًُ هادئاً من دون أن يستدعيه أحد.
َ
حافظت على صفة: وجعتْــ ُه صفــةّ :
الاّلجئ وآ َلمته صفة :الغريب ،واحتراماً لســي ّدة لبنانيّــة َ الــذي َأ
العمــل الفنّــي ،الذي يرتقي بالروح ،وقد «ال ي ُطرب» وأصبحت بعد عقود ٍ من اإلبداع «عمال ً فنيّاً»
بذاتها ،تُصفِّ ق لها الروح الحالِمة ،قبل أن تُصفِّ ق لها اليدان.
145
جوني منصور*
عربي في هذا العا َلــم ،وكذلك َفعلت أصابــت النكبــة الفلســطيني ّة في العام 1948جــوارح ّ
كل
ّ
تنهض مــن جديدٍ ،على الرّغم من
َ النَّكســة فــي العام .1967ومن طبيعة الشــعوب العنيدة أ ْ
ن
الفلســطيني ومعه الشــعوب العربي ّة
ّ ُ
الشــعب َ
فعــل ُ
والمتكــرّرة .وهكــذا كبواتهــا ُ
المتعــد ّدة
كافّــة .أحيانــاً َّ
حققوا نصراً وأحياناً كثيرة لحقتهم هزيمة أخرى؛ ّ
إاّل أنّ الحروب غير ُمقتصرة على
ي وتكديس الســاح بكمي ٍ
ّات كبيرة ،إنـّــما في كيفي ّة مواجهتها فكريّاً وثقافيّاً التفوّق العســكر ّ
146
و ٌر عنها .فشوارع القدس تحمل في جنباتها قدسي ّ ًة كبيرة بالنسبة إلى الفلسطيني ّين والعرب
تط ّ
عموماً ومحب ّي هذه المدينة من بين سائر شعوب العا َلم.
ُ
ُمعانَقــة القــدس فــي أغنيــة «زهــرة المدائن» فيهــا داللــة قوي ّة للمــكان المقد َّس بكنائســه
ومســاجده من خالل حد َثي ْن ُمهمَّي ْن تاريخيّاً ،و ُ
هما َمولد ُ الســي ّد المســيح في َبيت لحم القريبة
ن «القدس لنا» و»البيت لنا» ،وأ ّ
ن هذا والمعراج .وتَعتبر فيروز أ ّ د ُ
ث اإلســراء وح َ
ِ من القدسَ ،
َل سيرجع إلى أصحابه ببهائه وسالمه. والمحت ّ
ُ المكان المفقود
فــي «زهــرة المدائــن» تســتحضر فيــروز المدينة المقد َّســة عبر امتدادهــا وعالقتهــا الجوهري ّة
ذكر اســم بيت لحم ،إنّما مغارتها التي وُلد فيها الطفل يســوع،
ِ ببيت لحم من دون
والمعنوي ّة َ
كمــا َو َر َد فــي التقاليــد الديني ّة والتاريخي ّة المســيحي ّة ،وهــي كافية ألن تُد ِّلل علــى هذه العالقة
الوطيدة .هذا االمتداد ال يتوقّف عند هذَي ْن المكانَي ْن ُ
المهمَّي ْن بالنســبة إلى ظهور المســيحي ّة
ونموّهــا وتطوّرهــا ،إنـّــما تربطهمــا مع نهــر األردن ذي القدســي ّة المعروفة من خــال اعتماد
المسيح فيه ك ّ
فارة عن خطايا العا َلم.
الدمج الواسع بين الفكر الديني واإليمان من جهة وبين واقع المكان وعالقته بالحدث التاريخي
استحضار المدينة وما تـُم ِّثل ُ ُه من انتماءٍ عميق في
َ الذي شتَّت الفلسطيني ّين من جهة أخرى ،عزَّز
الموروث الحياتي للفلسطيني ّين من ُمسلمين ومسيحي ّين.
ٌ
قائم في ذاهبة لتُصلّي في القــدس ،فيه روح التأكيد علــى أ ّ
ن المكان ٌ التشــديد علــى أ ّ
ن فيــروز
بكل مكوّناته الديني ّة وشوارعه وأزقّته وبيوته وناسه،
ّ الحاضر ،وليس شأناً ماضويّاً البتّة ..المكان
ي فيروز .وإنّها تؤ ِّكد ذهابها لتصلّي في هذا المكان الذي يشهد
ناظر ْ
َ ما زال قائماً وحاضراً أمام
ٍ
حاوالت إســرائيلي ّة ُمســتمرّة لتفريغه من محتواه الد ّيني اإلســامي والمســيحي، منذ احتالله ُم
وتحويله إلى مكا ٍ
ن يهودي .وهذا هو جوهر الصراع اإلسرائيلي – الفلسطيني في اآلونة األخيرة.
منطلق استحواذه فعليّاً بعد
ِ إنّه يدور حول المكان ،ليس من منطل ٍ
ق ديني فحسب ،وإنـّما من
تطهيره من أصحابه الصامدين هناك.
و«زهرة المدائن» أغنية سياسي ّة بامتياز عب َّر من خاللها الرحابنة وفيروز كمؤد ّية لها ،أ ّ
ن القدس
ٌ
مــكان يحمــل األمل في محو الغــدر والخيانة والهزيمة .أبواب المدينة لن تكون ُمقفَ لة ما دام
المحت ّ
ِ
الغاصب. َل ُ قه في الصالة في مساجدها وكنائسها حتّى ت ُ َ
نجز هزيمة هناك َمن ي ُِصرُّ على ح ّ
مخزون ذاكرة ٍ َ
ومشــاعر وأحاســيس ِ ق بناســه وتاريخــه وتُراثه وما يحمله من
المــكان ،فهــو با ٍ
147
تتعلّــق بتلك العالقة التي تربط إنســان المــكان بالمكان .والحركة الصهيوني ّة وأداتها إســرائيل
عملت ،وال تزال ،من أجل تجريد هذه العالقة بين اإلنســان الفلســطيني والمكان الفلســطيني،
فهــذه األداة تنكــر الوجود الفلســطيني ،وتنكر َكون المكان فلســطينيّاً؛ إنّما تعتبره يهوديّاً منذ
الكــون .وطبعاً ،هذا اإلنكار ينســاق مع رزمة أخرى من إنكارات إســرائيل لوجود الشــعب
خلــق َ
حضور المدينة
َ الفلســطيني حقيقة ،وح ّ
قه في هذا المكان .هنا ،تأتي كلمات أغاني فيروز لتؤ ِّكد
ومحتواه المكاني في حياة ناسها ومحب ّيها ومشرّديها والجئيها التوّاقين إلى العودة إليها مهما
طال الزمن.
و«اللّجــوء» هــو ليس حالة ناجمة عن الحرب والعدوان وعملي ّة الطرد والتشــريد فقط ،بل حالة
الاّلجئ حياة مؤقّتــة ،آمِ ال ً في العودة إلى مكانــه الحقيقي والطبيعي
مــكان مؤقَّــت يعيش فيه ّ
بعدمــا َفقَ ــده .وأمكنــة اللّجوء غير معرَّفة تحديــداً بالمرّة؛ في ُمكن أ ْ
ن تكون حُرشــاً ،أو وعراً ،أو
ساحة أو طريقاً ،أو مؤسّ س َة إيواءٍ وسواها .واألبرز في أمكنة اللّجوء ،كما حد َّدته المؤسّ سات
ُ
دمتها األمم المتّحدة هو «الخيام»؛ فالرحابنة في أغنية «راجعون» من العام الدوليّــة ،وفــي مق ِّ
الاّلجئون والنازحون من فلســطين ،لكنّهم ال يتوقّفون 1957يصفــون طريــق اآلالم التي مرّ بها ّ
ن ّ
الاّلجئيــن لن يناموا فيها عنــد هــذا الوصف ،إنـّــما يؤكّدون الحالة المؤقّتة لمــكان اللّجوء ،وأ ّ
أسى وظالم.
ً وبيوتهم يسكنها الغريب« .ونحن الجئون في الخيام ،هل ننام؟ لن ننام .والكون
ْث األمل بــأ ّ
ن هذا الوضع الهمم وتنشــيطها وبع ِ
لــن ننــام ،ســيعمّ األرض الســام» .ولتحريك ِ
المكانــي هــو مؤقّت ،تدعو األغنية ّ
الاّلجئين» إلى الصفــوف مع الدجى نطوف على الخيام نوقظ
ّ
الحق ظالم». النيام ...لن ننام وشراع الخير حطام .لن ننام ودروب
لكونه ليس المكان الحقيقيَ ،أدركه الرحابنــة وتماهوا مع فكرة الرجوع أو
حالــة رفض اللّجــوء َ
العودة؛ فالرجوع الى المكان الذي منه تمّ َطرْد ُ صاحبه الفلســطيني ،هو أم ٌر حتّمي مهما كانت
وكل مظاهر الطبيعــة الصعبةّ ،
إاّل أ ّ
ن اإلصرار ّ َ
وعواصف أعاصير ورياحاً
َ الظــروف؛ حتَّــى ولو كانــت
ّ
بكل ثقة وايمان. على الرجوع هو مبدأ رئيس يتمسّ ك به ّ
الاّلجئون ُ
ومناصروهم
جسر العودة
ُ ّ ُ
تنازل الحق الذي ال إصرار الفلسطيني والعرب بعامّة على هذا
َ وتأتي أغنية «جسر العودة» لتؤ ِّكد
عنه ،وال تســري عليه شــرعة التقادُم .فـ»الجســر» هو عملي ّة انتقال من مكا ٍ
ن إلى آخر عبر طريق
148
فمن ســيعود ِ
لوصف العودة عبره؛ َ أنّه جســ ٌر فوق نهر األردن مثال ً .وقد يكون أيضاً جســراً مجازيا ًّ
149
امتصاص الغضب
َ ن العرب تعرّضوا إلى صدمة (تراوما) «النكبة» ،وحاولت قياداتهم الرجعي ّةوأل ّ
المواطنين بأ ّ
ن الغضب للم َ
حافظة على ُمكتســباتهم الضي ّقة ،وإقنــاع ُ ُ ّ
بكل الطــرق الجماهيــري
والثــورة يجب توجيهها نحو فلســطين ،وهذا صحيــحّ ،
إاّل أ ّ
ن األخطاء التي حصلت في العام 1948
يجــب تصحيحهــا .فتَنتشــر أفكار الثــورة في ّ
كل بقعة من بقــاع األرض العربي ّة مع انتشــار المد ّ
القومــي -العروبي .ويزداد الشــغف لتحرير فلســطين وإعادة كرامة العــرب بتحرير هذا المكان
خاصاً بالنســبة إلى ّ
كل عربي ُ
ومســلم ومســيحي .حينها َو َض َع ســعيد عقل ّ معنى الــذي يحمــل
ً
ٌ
«سيف فلي ُشهر». قصيدته
ن هذه ّ
الحق إلى أصحابه الشــرعي ّين؛ وأ ّ الســيف هنا هو دعوة إلى الثورة في وجه الظلم إلعادة
ٌ
فعل الثورة تنطوي على غاية ٍ مركزي ّة وهي «العودة» .والعودة هنا ليست كلمة تُقال ،وإنّما هي
وتتزامن فكرة العودة ُ
المتكرّرة في أغاني فيروز عن فلســطين وأمكنتها البارزة َ يجــب تحقيقــه.
مع التشــديد على عدم نســيان فلسطين؛ ففلســطين غير محصورة في الخيام التي تمّ إعدادُها
دد القصيدة ّ
والاّلجئين ،إنـّما هي قضي ّة إنساني ّة وأخالقي ّة من الدرجة األولى .وتُش ِّ إليواء النّازحين
ن القوّة ال تُواجه ّ
إاّل ن العودة إلى ذاك المكان «فلســطين» لن يكون ّ
إاّل بالنار ،أي أ ّ أعاله على أ ّ
َ
وكل ما يتعلّق بالكفاح من
ّ بالقــوّة .وهذا ما اثبتته األي ّام بالنســبة إلى تطوُّر الصــراع وصيرورته
أجل القضي ّة الفلسطيني ّة.
إذن ،نُالحــظ تلــك العالقــة القويّــة التــي يجمعها المــكان الواحد مــن خالل اســتخدام الرحابنة
ــي «العودة» و«الرجوع» .فالرجوع هو عملي ّة العودة ،أي الرجوع إلى الماضي ،إلى حيث
لمفهوم ْ
َ
الاّلجئون ..ومكان ّ
الاّلجئين هو فلسطين ،وأداة الرجوع هي «العودة» إليها. كان ّ
و َيرتبــط فعــل الرجــوع بالمــكان والزمــان؛ ففــي قصيدة «ســنرجع يومــاً» تأكيد ٌ للعــودة مهما
ّ
فالاّلجئون والنازحون الفلســطيني ّون عاشــوا وما زالوا مــرَّ الزمــان ،ومهما َبعدت المســافات؛
ن إلى آخر مع ّ
كل عاصفة سياســي ّة هوجاء تضرب بالمكان َ
واالنتقال من مكا ٍ د
يعيشــون التشــري َ
نغرســين في أرضهم»، ُ
«الم ِ المقا ِبلة من ٌ
منوط بانتظار الجهة ُ الــذي حلّــوا فيه؛ وإ ّ
ن هذا الرجوع
أي الفلســطيني ّين الباقيــن فــي وطنهم ،والذين ُ
هم على أتمّ االســتعداد الســتقبال العائدين؛
فالذاكــرة ال تــزال علــى حماوتها في أجواء فلســطين؛ وهــي ذاكرة ُمرتبطة باإلنســان والمكان
ومنفصلــة عنهما أيضاً؛ فالمرء يحمل معه ذاكرته الفردي ّة والجماعي ّة أينما َّ
حل في األرض، معــاًُ ،
ومشــاعِر؛ ٍ
ذكريات وأفكار ٍ َ والذاكرة المكاني ّة هي على عالقة بما يرشــح من المكان نفســه من
والح َج ُر في عالقة ٍ تفاعلي ّة مفتوحة يبلْورها المكان عبر الزمان .ومهما «شــرَّدتنا الرياح،
َ فالب َ
شــ ُر َ
150
م
لله َم ِ ٌ بأمــل الرجوع الفعلي فــي ّ
تحفيــز ِ كل حالة .وهنا ّ ِ ســنرجع» ..هكــذا تنتهــي األغنية أعاله
ٌ
وتحريك لقوافل العائدين.
ن أمكن ًة ن َبرزت في القدس «زهرة المدائن» و«القدس العتيقة»ّ ،
إاّل أ ّ والعــودة الفيروزيّــة ،وإ ْ
ّ
بكل تأكيد شغلت حي ّزاً واسعاً من أغاني فيروز ،ومنها «بيسان» و«يافا» .ووفق ما نعرفه أخرى َ
ُ
ن مطربتنــا الكبيــرة لم ت َُزر ْ هاتَيْــن المدينتَي ْن الفلســطينيّتَي ْن َقب َْل إطالقهــا أغنيتَي ْها عنهما؛ فـ
أ ّ
«بيســان» مدينة فلســطيني ّة تاريخي ّة تعود جذورها إلى آالف الســنين ،وفيها من اآلثار ما يشهد
علــى حيويّــة هذا المــكان وفعالي ّته في تشــكيل الحياة اإلنســاني ّة عبر األزمنة .تقع بيســان في
ق يربط بين غربي فلســطين وشــرقها .وهي حــارّة جدّاً في
منطقــة األغوار الشــمالي ّة وعلى طري ٍ
الصيــف؛ ومعتدلــة الحرارة ،مع دفءٍ ُممي َّز ،في الشــتاء .لذا ،اتَّخذها كثيــرون َموقعاً لالصطياف
ُ ّ
والمنغصة لحياة اإلنســان في بعض األحوال .فتصف أغنيتها الشــتوي بعيداً عن األجواء الباردة
بأنواع الفواكه والثمار الطي ّبة.
ِ «بيسان» بأنـّــها «ضيعة شتائي ّة» ،حيث التالل والبساتين الزاخرة
وبخاصة أنّها مدينة
ّ هناك في بيسان ستَعبر الطريق التي فيها «رفوف من العائدين على حنين»،
ٍ
موجات من النزوح في العام شرقي األردن وعلى مقربة من نهر األردن حصريّاً ،وقد َ
شهدت ّ تقع
،1948ولكنّها ستَشهد عود ًة أيضاً لهؤالء النّازحين.
أمّــا فــي أغنية «يافا» ،فحكاية أخرى ،فيها تشــابه واختالف عمّا رأيناه في بيســان .فيافا المدينة
ّ
شــكلت نقط َة عبور ٍ وانتقال من القادمين من الخارج من أوروبا الميناء ذات الشــهرة التاريخي ّة
وشــمالي إفريقيــا إلى ســائر أنحاء فلســطين ،وخصوصاً إلى القدس ،وهنا إشــارة إلــى الحُجاّج
القادمين من أوروبا لزيارة القدس وبيت َلحم والناصرة وطبري ّا.
المكان قبل العدوان عليــه؛ فالمكان هو مدينة وميناء؛ وعالقة اإلنســان بهذَين
َ ُ
األغنيــة ت َِص ُ
ــف
ّ
شــكال جوهر حياته ،ففيهما نشــأ أصحابه وترعرعوا وأســهموا في عمرانه حتّى المكانَي ْن اللّذَي ْن
151
البحــر ويومــا صحــو فهيأناه المجذافا .نلمــح في الخاطر أطيافاُ ،عدنا بالشــوق إلــى يافا» .لك ّ
ن
بــق على ما هــو عليه ،إذ
هــذه الحيــاة التــي بناهــا أبنــاءُ المكان الــذي نحن بصــدده «يافا» لم َي َ
صلت ماءً بســماء .عاصفــة المطر اللّيلي ّة قطعان ذئاب
ْ «جاءتنــا الريح في اللّيل .عاصفة هوجاء َو
البحري ّة» ،هو االحتالل اإلســرائيلي الــذي لو كان قد أتى في وضح النهار لكان
َبحريّــة» .و»الذئاب َ
ّ ْ ٌ ُ
بكل الطرق ب المــكان واجهــه أهــل المدينة ببأس ،لكنّه محتال يهدف إلى ســرق ِة ونه ِ
ْب وســل ِ
ُ
الهالك أصحــاب المكان على ُم َ
واجهــة هذه العاصفة الهوجــاء فوقع ُ يقو
َ التــي توفَّــرت لــه .ولم
يبق من المكان إال ّ ذاكرة تتآكل ســنة بعد أخرى مع التره ُّل السياســي
والدمــار والضيــاع .ولم َ
كل شــبر ٍ من األرض السليبة .إال ّ أ ّ
ن هذه ّ
الحق الفلســطيني في العودة وتحرير ِّ في التعاطي مع
ستمعها خائباً ُمتشائماً وفاقداً لألمل،
َ األغنية التي تُعزِّ ز العالقة مع المكان المفقود ال تترك ُم
إنـّما تؤ ِّكد له في نهايتها أنّه مهما هب ّت الريح ،ومهما صاحت وتصيح ،فإ ّ
ن الرجوع والعودة إلى
كل أجزاء فلســطين .والرجوع هنا بصيغة «ســنَرجع» أي كلّنا،
يافا مؤكَّد؛ وهي رمزي ّة للعودة إلى ّ
وليس «بعضنا» .هنا العودة «جماعي ّة» إلى المكان الذي يرتبط ارتباطاً عضويّاً وإنسانيّاً وأخالقيّاً
َقلت
ِ لمن تشــرَّد عبر هــذا الميناء بقوارب وســفن وبواخر ن
بأصحابــه .والعــودة مــن ميناء يافا َ
اليافاوي ّين إلى المجهول .وترتبط العودة هنا مع «جسر العودة» عبر نهر األردن .ن ُ ِ
درك من هنا
الربــط بيــن ميناء البحر عند ميناء يافا ،وبين جســر العودة فوق نهــر األردن .وعملي ّة الربط هذه
هما مكانان ي ُحد ّدان فلسطين التاريخي ّة عرضاً .وهذا
ي فلسطين «البحر والنهر» ،و ُ َ
طرف ْ قوي ّة بين
موقف لوحدة المكان الفلسطيني.
تاريخيّــاً ،الرّافض لما حصل ووقع للعرب عموماً ولفلســطين وشــعبها خصوصــاً .وهذا المكان
ٍ
بكلمات واضحة أساســها الــذي غنَّــت له فيــروز قصائد رائعة ،فيــه حالة من الغضب عبّــرت عنها
ّ
تظــل أغانيها في زاوية ّ
والذل والفقر والفاقة والتســوُّل ،من دون أن الثوريّــة ورفْــض اللّجــوء
شــك َل «المكان» فــي أغاني فيروز فلســطين الجريحة المتألّمة ،ولكن فــي الوقت ذاته،
َّ عمليّــاً
شــك َل هذا المكان أيضاً فلســطين الثائرة والعائدة إلى حيث يجب أن تكون لتُعيد البهاء والبناء
َّ
ُ
ومتابعة َمسيرة البناء التي بدأها وأسّ سها الفلسطيني ّون والعرب على طول مساحة فلسطين
152
المتعلّق
دين «الوطني والقومــي» .الوطني ُ ونالحــظ جليّــاً أ ّ
ن «المكان» في أغانيها يحمــل الب ُع َ
المتعلّــق بالعا َلم العربــي .فالقدس ويافا وبيســان وغيرهــا من مدائن
بفلســطين والقومــي ُ
ُ
بمفهومي ْها
َ فلســطين ،ليســت محصورة بفلسطين وشــعب فلســطين ،إنّها قلب األمّة العربي ّة
الوطني والقومي.
والقدس أكثر من مجرّد «مكان» َح َجريّ .إنـّــها القدس البشــري ّة الحضاريّــة والثقافي ّة والروحي ّة.
ُفرقها .وهذا المكان يعيش في هذه اآلونة جراحاً مفتوحة
فهذا المكان َيجمع كلمة العرب وال ي ِّ
بســبب سياسات االحتالل القمعي ّة والقهري ّة والعنصري ّةّ ،
إاّل أ ّ
ن أبناءه وبناته سيعيدون بأيديهم
وسالم القدس.
َ ِ
القدس بهاءَ
153
د .فكتور سحّاب*
156
ن أحد أهمّ عناصر القيمة التاريخي ّة في الغناء الفيروزي ،هو أنّه استأ َثر بالقسم األكبر من نِتاج
إ ّ
األخوي ْن رحباني ،والسي ّما اإلذاعي والمسرحي ،منذ بدايتهما في الخمسيني ّات ،حتّى رحيل عاصي.
َ
بعض أهمّ ألحان فليمون وهبي،
ِ وإلــى جانب هــذا الرصيد الكبير ،احتوت الخزانة الفيروزي ّة على
الــذي امتــازَ بتفوّقه في األغنية الشــعبي ّة .كذلــك حازت فيروز على ثالث من أجمــل أغنياتها ُ
(مرَّ
ن اللّيل ،وسْ هار) التي لحَّنها كبير الموسيقي ّين والمغنّين العرب في القرن العشرين،
وس َك َ
َ بي،
محمّد عبد الوه ّاب .وفي أواخر مشــوارها الفنّي المديد (أطال اللّه عمرها) َأصدرت ثماني من
روائــع زكــي ناصيــف ،الذي كان يجــدر أن تغنّي له المزيــد لوال بعض الحساســي ّات في ُ
المجتمع
ُفصح عنها .غير أ ّ
ن ما اكتسبته من ألحان الكبار ،إضافة إلى ألحان الفنّي ،التي يُت َ
َهامس بها وال ي َ
بصوت كبيرَ ،أك ْ َم َل حلقة الكمال في العمل الفنّي ،ال
ٍ ابنها ّ
الاّلمع المواهِب ،زياد رحباني ،كافأته
بقماشة صوتها فقط ،بل أيضاً بوجدانها وإحساسها الذي عب ََّر خَير تعبير وتمثيل عن تلك األلحان.
قال المخرج الســينمائي يوســف شــاهين (مخرج فيلم بي ّاع الخواتم)« :لقد فوجئت بالموهبة
التمثيلي ّة الكبيرة التي تتمتّع بها المطربة فيروز فأنا أعرف أنّها مطربة كبيرة ،ولكنّها َأثبتت أنّها
ممثّلــة كبيــرة» .كذلك قال فوّاز طرابلســي فــي كتابه« :فيروز والرحابنة مســرح الغريب والكنز
ي
الدرامــي والتعبير ّ
ّ مثــل فيــروز ،هــو التمثيل بالصــوت ،وهو ما ي ُصط َلــح على َوسْ ــمه ،بالغناء
حضور ٍ ذي وزن في الكثير من األعمال ،حتّى تلك األعمال غير المسرحي ّة.
األخوي ْن رحبانــي من قرية َعين الســنديانة الريفي ّة في قضاء المتــن اللّبناني ،أمّا
َ كان حنّــا والــد
جد ّتهمــا فكانــت من عينطــورة ،وهي قرية َمتْني ّة أيضاً ،وكانت تغنّي لهمــا ،و ُ
هما طف َلين ،الكثير
157
عاشــرة والدهما لمحيي الد ّين بعيون وأحمد الجاك وغيرهما من فنّاني بيروت والمهتمّين
َ ُ
وم
بالغناء المدني ،واســتماعهما إلى إســطوانات الشــيخ أبي العال محمّد والشــيخ أمين حســنين
والشــيخ ســي ّد درويــش ،ثمّ محمّد عبــد الوه ّابّ ،
كل هذه أمــد ّت ثقافتهما األولــى بمنابع من
دنيّــة .وكان هــذا المزيــج الريفي -المدنــي واضحاً في تركيبــة فنّهما ،الذي
الم َ
الفنــون العربيّــة َ
أسبغاه على معظم ما غنَّت فيروز.
ْ
دثــت حركتــا هجــرة داخلي ّة فــي لبنان ،منــذ والدة عاصــي ومنصــور ،لعبتا َدوراً فــي تاريخ لقــد َح
البالد السياســي واالقتصادي والديموغرافي والثقافي والموســيقي ،أوالهما هجرة أبناء قرى
بناني إلى المدينة ،والســي ّما بيروت ،والثانية هي ما ي ُمكن أن نســمّيه :هجرة المدينةالريف الل ّ
ّ
إلــى الريــف اللّبنانــي ،مع تمــد ُّد النمط األناســي الم َ
دني نحو القــرى ،التي «تمد ّنــت» بالمعنى
األنتروبولوجــي والثقافي ،وحتّى االقتصادي .وهذه الحركة الثانية واضحة في بيروت ،التي صارت
جاورة. ُ
الم ِ نسبيّاً ،وتوسّ عت في سفوح الجبال واألرياف
ومــع تنــوُّع التركيبــة الثقافي ّة المزدوجــة في الوجدان الرحبانــي ،لم ُ
يكن ممكنــاً َأ َّاَّل تظهر تلك
الثنائي ّة المدني ّة -الريفي ّة في فنّهما ،وبالتالي في الخزانة الفيروزي ّة الغنائي ّة .فغنّت فيروز األغنية
فقــد ســمعته وهي طفلة من جد ّتها ألمّها (من آل البســتاني في ال ِد ِّبيّــة ،على ما فهمت) .وقد
الح َ
ــظ ذلــك نبيل أبو مراد فــي كتابه :األخوان رحباني حياة ومســرح خصائــص الكتابة الدرامي ّة. َ
ست مسرحي ّات ،سمّاها« :فولكلوري ّة تراثي ّة» ،ونُسمّيها :ريفي ّة ،وهي موسم العزّ
ّ فأحصى لهما
( ،)1960البعلبكيّــة ( ،)1961جســر القمر ( ،)1962اللّيل والقنديــل ( ،)1963بي ّاع الخواتم (،)1964
ودواليــب الهــوا ( .)1965ثمّ صن َّ َف مجموعة مســرحي ّات تاريخي ّة ،ومجموعة «مســرحي ّات فكري ّة
الخمسيني ّات ،في عشرات اإلسكتشات اإلذاعي ّة ،مثل« :برّاد الجمعي ّة» ،و«روكز خطب» ،و«بارود
158
الغنائي مدني ّة ،إذ ال تبدو فيه كثيراً
ّ وحيــن غنّــت فيروز في هذه األعمال (وفيروز في نمــط فنّها
مالمــح الغنــاء الريفــي اللّبناني ،مثلمــا تبدو بوضوحٍ شــديد عند وديع الصافــي وصباح) أضافت
الموسيقي.
ّ التعبير
أكثر َميال ً إلى المناطق الوسطى في َطيف الصوت الفيروزي (بحسب التصنيف األوروبي لألصوات
العالية في الصوت الفيروزي؛ فيما كان منصور مياالً إلى القفزات األوبرالي ّة في مناطق الصوت
العليا ،وكان األخوان يختلفان في هذا الشأن اختالفاً حادّاً في بعض األحيان.
كذلــك َو َص َل أم ُر تمسُّ ــك عاصي بصلته المتينة مع الموســيقى العربي ّة ،المدنيّــة والريفي ّة معاً،
إلــى حد ّ محاولة إكســاب ابنه الفنّان الناشــئ آنــذاك زيادَ ،موطئ قدم في الغنــاء الريفي .فقد
روى لــي المرحــوم المغنّي مروان محفوظ ،الذي كانت نشــأته ريفي ّة تــكاد أن تكون خالصة ،أنّه
كان ُمســافراً مــع وديع الصافي وفيروز والرحابنة في رحلــة ٍ فني ّة إلى المغرب .وكان يجلس في
من صخر ،وجرير يغرف من بحر» [قاله مالك بن األخطل الشاعر ،كما جاء في «البيان والتبيين»
على نزوع عاصي أكثر إلى الموســيقى العربي ّة ،فيما كان منصور يميل إلى القفزات الموســيقي ّة
ُ
«لملمت ذكرى لقــاء األمس» التي لحّنها عاصي، الطابع ،اســتناداً إلى قصيدة
الواســعة الغربيّــة ّ
159
وقصيــدة «أحبّــك فــي صمتي الــوارف» التي يرجّح أنّها مــن تلحين منصــور ،وكال القصيدتَي ْن من
الح َظ فــي كتابه :الموســيقى العربي ّة في خمســيني ّات القــرن العشــرينّ .
إاّل أ ّ
ن إلياس ســحّابَ ،
ن منصور «تحد ّث ذات يوم بصراحة ٍ نادرة أنّه كان ّ
ومحطات ووجوه ،أ ّ القرن العشــرينَ -مشــاهد
أشــد ّ َميــا ً من عاصي إلى أجواء الموســيقى الكالســيكي ّة األوروبي ّة ...وأ ّ
ن عاصــي كان أكثر َميال ً
ن فيــروز ،التي أجادت الدراما والتعبيــر والتمثيل في غنائها ،حملت مع هذه الدرامي ّ ِة،
المهــمّ ،أ ّ
األخويْــن رحباني بنســبة ٍ كبيــرة ممّا غنّــت فيــروز ،أكان ذلك في المســرحي ّات ،أم
َ مــع اســتئثار
األخوي ْن،
َ االسكتشــات اإلذاعي ّة ،أم األغنيات الفردي ّة ،كان ال بد ّ لثنائي ّة المدينة والريف في نشــأة
وفي ت ََكوُّن ثقافتهما الموســيقي ّة ،وفي نتاجهما الشــعري والموســيقي والغنائي ،أن تطبع ما
غنَّته فيروز في مجموع تراثها الغني ،فاتَّخذت أغنياتها طابعاً قرويّاً «فولكلوريّاً» في جانبٍ منها،
بالطابع المدني «الكالســيكي» .ولكنّها في الحالتَي ْن َأبدت تفوُّقاً
ّ ٌ
جانب آخر هو الغالب، واتَّســم
العي ّنة األولى «المدني ّة» من األمثلة التي سنضربها هنا ،تقتصر على األغنيات الفيروزي ّة في قضي ّة
ي في هذا االختيار ســببان أساســي ّان :األوّل هو أ ّ
ن موضوع النكبة الفلســطيني ّة د ّ
فلســطين .ول َ
ٍ
بمقياس َملحمي كامل .ولذا فهو موضوع ال في حد ّ ذاته دراماتيكي ،بل هو مأســوي تراجيدي
ّ
لكل فنٍّ صادق من أن يكون تعبيريّاً عن هذه الســمة ،بدرجات يرســمها مســتوى الشعر بد ّ فيه
المغنّــى ومدى احتماله للتعبيــر الدرامي ،وتظهّرها قدرة الفنّان ،الملحّن ثمّ المغنّي ،على إبراز
هــذا التعبيــرَ ،لحناً ثمّ غناءً .أمّا الســبب الثاني لهذا االختيار ،فهــو أ ّ
ن الرحابنة وفيروز يتفوّقون
فــي المخزون الفلســطيني من أغنياتهــم ،ال بالجودة والصدق التعبيري فقــط ،بل حتّى بالوفرة
انتباه
َ ن صدقها في التمثيل والغناء قد َلفَ َ
ت في إنتاجهم «الفلســطيني» هذا .أمّا عن فيروز فإ ّ
160
فــوّاز طرابلســي حين تســاء ََل« :فمن الــذي يتكلّم هنا؟ فيروز اإلنســانة الحقيقيّــة؟ أم الفنّانة
والممثّلــة؟» ويزداد تســاؤل طرابلســي في قوّتــه المنطقي ّة ،حين نذكــر أ ّ
ن والدها وديع حد ّاد،
في بعض الروايات ،جاء أصال ً من ماردين ،وفي روايات أخرى من صفد في فلســطين .فهل كان
ُ
التعاطف مع غناؤها الصادق لفلســطين يرتكز على هذا األصل المكتوم غير المحســوم ،أم إ ّ
ن
فلسطيني األصل؟
ّ ِ
تعاطف ُ
الم القضي ّة الفلسطيني ّة ال يحتاج بالضرورة إلى أن يكون المرء
أمّــا األمثلــة األخــرى« ،القروي ّة» ،فهــي تقتصر هنا على مغنّاة «ســهرة حبّ» التــي تركَّز فيها ّ
كل
شبع من قروي ّته و»فولكلوري ّته» .ويميل التعبير الغنائي أضافها المطرب الكبير وديع الصافيُ ،
الم َ
ي الدرامي.
ي التمثيلي ،أكثر ممّا يميل إلى الطابع التعبير ّ
في هذا النموذج إلى الطابع التعبير ّ
ني
د ّالم َ
الدرامي َ
ّ التعبير
ولنبدأ بالتعبير الدرامي المدني في غناء فيروز ،باستعراض بعض المواضع في «فلسطيني ّاتها».
ّ
الخاصة للغاية مع المخرج األخوي ْن رحباني
َ ُطرق هذا الموضوع ،ال مفرّ من مالحظة عالقة
وحين ي َ
صبري الشريف ،المهاجر لتوّه من فلسطين؛ فيما كانت فيروز في الجانب اآلخر ،على عالقة فني ّة
متينة في بدايتها ،مع ُمهاجر آخر من فلسطين ،هو حليم الرومي ،الذي سمّاها باسمها الفنّي:
األخوي ْن فليفل ،اللّذَين تولّيا تربية فيروز (نهاد حد ّاد آنذاك) موســيقيّاً؛ كانا أيضاً
َ فيــروز .بــل إ ّ
ن
يكتبان ويلحّنان األناشــيد القومي ّة التي تحوّلت أناشــيد للمناخ الفلسطيني الوطني ،مثل نشيد
في ذلك الوقت ،واحتمال تأثُّر عاصي ومنصور آنذاك بهذا الحزب ،الذي كاد في الخمسيني ّات من
القرن العشرين ،أن ينفرد عن بقي ّة أحزاب لبنان اهتماماً بالقضي ّة الفلسطيني ّة.
وقد أشارت فاينريخ إلى هذا االهتمام الرحباني الفيروزي بالغناء لفلسطينّ ،
إاّل أنّها رأت في هذا
ُ
تناقضاً مع صداقتهم للشــاعر ســعيد عقل ،الذي لم ُ
يكن ُمناهِضاً بشراسة للحضور الفلسطيني
ألصقَ ت علــى الجدران في بيروت ،في الحرب اللّبناني ّة ،ملصقات نُســبت إليه،
المســلّح فقــط ،بل ِ
ُ
التعاطف ن تلك الصداقة ال تنفي أبداً صدق جاء فيها «على ّ
كل لبناني أن يقتل فلسطينيّاً» .غير أ ّ
الفيروزي مع القضي ّة الفلسطيني ّة ،وإن كان هنا يهمّنا أكثر ما يهمّنا ،صدْقها في التعبير الغنائي
161
شــك ،وفي ّ
كل األحوال مؤ ِّثراً للغاية في الكثير من المواقع في ّ الدرامي ،الذي كان صادقاً وال
المكتوبة لألوركسترا والصوت الفردي والكورال تتألّف من ثالثة أقسام .القسم األوّل يسيطر
ُ
ألجلك يا مدينــة الصالة أصلّي ،مع ُموا َكبة آهــات الكورال وكأنّك
ِ عليــه الخشــوع ورهبة الحدث:
تستمع إلى ترانيم بيزنطي ّة أو سرياني ّة كنسي ّة .هذا القسم مليء بالعواطف السامية إلى جانب
أمّا في القسم الثاني من «زهرة المدائن» ،كما يقول سليم سحّاب ،فهو حيث تقول فيروز« :
في المغارة ،يبدو اللّحن «ســاذجاً» ،وهذه «السذاجة» مقصودة ،للتعبير عن براءة الطفولة التي
يصوّرهــا اللّحــن والغناء .لكــ ْ
ن بعد هذه الجملــة «البريئة» ،ينقلب الموقــف الدرامي فجأة ،من
َمقــام العجــم ،إلى مقــام الحجاز كار كورد الشــديد التعبير :يبكيان! ،وهي الكلمــة التي تُغنّيها
فيروز بقمّة ٍ من االنفعال واالســتنكار والدهشــة ،يليها ســؤال اســتهجا ٍ
ن واضح التعبير :ألجل
هذا القسم يصل إلى ذروة في التعبير الدرامي ،يبلغ قمّته في غناء فيروز الصادق.
نعود إلى تحليل المايســترو ســحّاب ،الذي يقول« :القسم الثالث ،تحريضي استنهاضي :الغضب
آت ...ثــمّ :القدس لنا والبيت لنــا ،وتتطوّر الدراما هنا حتّى ذروتهــا عند عبارة «بإيدينا
السّ ــاطع ٍ
162
ســنُعيد بهــاء القــدس» ،حيث تتداخــل الخطوط الغنائيّــة الثالثة :صــوت بنات الكــورال ورجالها
اآلتي للقدس.
الريفي
ّ التمثيلي
ّ التعبير
مــع وديــع الصافــي ،ملك الغناء الريفي المتوَّج« :ســهرة حبّ » .وتمتاز «ســهرة حــبّ » في أنّها
حفلــت بعــدد ٍ كبير من األشــكال الغنائي ّة الريفي ّة ،مثــل القرّادي والشــروقي وغيرهما ،ورفعت
كما أثبتت دراســة إلياس وســليم ســحّاب في الموســوعة الفلســطيني ّة :الموســيقى والغناء
في فلســطين ،هو المقام األساســي في الغناء الريفي الشــامي ،كالدلعونا والميجانا والعتابا
أمّا في التعبير التمثيلي في غناء فيروز ،فأجلى ما َظ َه َر في هذا المشهد التمثيلي ،الذي أبدعت
فيه ،مع وديع الصافي ،في صورة مسرحي ّة كاملة ،تنطوي على التعبير التمثيلي الكامل ،بالصوت
وحده ،ولو من دون الصورة .وســننقل هذا المشــهد ،كما جاء وصفه في كِ تابنا :وديع الصافي،
الكبيري ْن:
َ إلظهار تلك السمة التمثيلي ّة في التعبير الدرامي ،لدى المطر َبي ْن
فيروز :وليش الرد ّة عا وردة
163
فيروز :هالحكي من قلبك؟
يقول وديع «إيه من قلبي» بعاطفة مشبوبة تُكذِّب قوله ،ثمّ ي ُتا ِبع بالزخم العاطفي ذاته الذي
دك مزاعِلها؟
فيروز :بع َ
وديع :عاطول مزاعِلها عال ُ
عمر مزاعِلها
عا شباك السهر وتبقى وردة تنام مضي وقت السهر فيروز :يا أسف اللّيل
عصفورة أيلول زهرة البرد وردة الورد أنت اللّي كنت تقول
ِ
ن وديــع الصافي ي ُصبح ها هنا على وشــك الدخول مع فيروز فــي مرحلة من هذه المغنّاة
غيــر أ ّ
وخصوصــاً بغنائــه [بغنائهما] ،من أقصى الحزن والتحسُّ ــر على الحبّ الــذي مضى ،إلى ج ّ
و المرح
ّ
والتفكه على القصص الظريفة التي واكبت هذا الحبّ في ما مضى ،فيســخر [وديع] من نفســه
بال مرارة .يبدأ هذا المشهد المتطوّر من الحزن إلى المرح بسؤال:
هجم عا عبدو؟
مين َ فيروز :ولمّا عبدو تطلَّع بوردة
فيرد ّ وديع :أنا ،بعمق تعبيري حزين وتأمُّل وعاطفة ،فيزيد من عظمة غنائه أ ّ
ن الكلمة الصغيرة
هــذه :أنــا ،وهي ملحّنة على الدرجة الموســيقي ّة ذاتهــا ،تحمل كثيراً من الزخــم االنفعالي الذي
يصعب وضعه في هذا المجال الضي ّق ،لو لم ُ
يكن هذا المطرب اســتثنائيّاً في جمال صوته وفي
164
ُعاود السؤال:
ثرائه الوجداني .ثمّ ي َ
فيروز :ولمّا َب َرد ْ
ِت مين شلح الكنزة ولب ّسها لوردة؟
وديع :أنا
إلــى هنــا جرى اللّحن على مقام النهاوند ذي األعماق الدراماتيكي ّة الواضحة .لك ّ
ن مقام البي ّاتي،
مع ما يحمله من عنصر الطرب ،يدخل في هذه المرحلة لينهي التوتُّر الدرامي ويشحن الموقف
ّ
التفكه حيال الحادثة: ببعض المرح ،أل ّ
ن فيروز لم تتمالك نفسها من الرغبة في
عا سطح البلدي ّة لو ما كب ّر عقالتي ونِس ِيتني من عشي ّة كانت ِب ْ
ك ِيت شوي ّة
و على نحو ٍ نهائي إلى مزاجٍ مرحٍ ي ُخالطه الحنين ،فتُر ِّدد فيروز اللّحن ذاته:
عندئذ يتطوّر الج ّ
عا سطح البلدية بعدِك ّ
قصة مكتوبة المنسي ّة ومش منسي ّة ويا هاك القمري ّة
أمّا الحنين فيبلغ أوضح تعبير له ،إذ يدعو الجوق وديع إلى التذكّر:
وقد َأثبت األركان الثالثة في هذه المغنّاة الفولكلوري ّة الممتازة :األخوان رحباني تلحيناً ،وفيروز
ووديع الصافي غناءً ،أنّهم أسياد في هذا النمط الريفي من الغناء ،بل إ ّ
ن مغناتهم هذه بلغت
بهذا النمط الريفي واحدة من أعلى المراتب التي ســمعناها في القرن العشــرين ،وال تُضاهيها
ســوى «راجعون» ،لألخوي ْن رحباني ،و«دبكات» لزكي ناصيف ،منها :يا بالدنا مهما نســينا ،وليلتنا
وبعــد ،لهذه األســباب ولغيرها كثيــر ،أحبَّ اللّبناني ّون والعــرب فيروز وغناءهــا :اللّبناني ّون ألنّها
غنَّــت لهــم من مخزونهم الشــعبي أغنية المدينة والقرية في لبنــان ،والعرب ألنّها أضافت (هي
165
للمزيد راجع:
أسعد ّ
قطان ،عن جبال في الغيم ،الدار العربي ّة للعلوم ناشرون ،بيروت.2018 ،
األخوي ْن رحباني» ،كتاب أطياف الســنوي ،2020المنامة ،البحرين (ص
َ إلياس ســحّاب« ،ظاهــرة
.)26-13
ريما فضل نجم ،فيروز ..وعلى األرض السالم ،بيروت.2004 ،
ســليم ســحّاب ،أعالم موســيقي ّة ،الهيئة العامّة لدار ُ
الكتب والوثائق القوميّــة ،القاهرة2014 ،
(ص .)105-93
ســليم ســحّاب« ،فلســطين في األغنيــة العربي ّة» ،مجلّة شــؤون عربي ّة ،العــدد ،142صيف 2010
(ص.)198-188
عادل حسنين ،فريد األطرش أسمهان ونسمات من فيروز ،أمادو ،مدينة نصر.1996 ،
فكتور سحّاب ،وديع الصافي ،دار كلمات ،بيروت( 1997 ،ص .)202-189
ٌ
ووطن آخر» ،جريدة السفير.2006/6/16 ، فكتور سحّاب« ،عاصي الرحباني ثنائيات ُمغفَ لة
فــوّاز طرابلســي ،فيــروز والرحابنة ،مســرح الغريــب والكنــز واألعجوبة ،ريــاض الري ّس للكتب
والنشر.2006 ،
األخوي ْن رحباني» ،األخوان رحباني -إبداع فكري
َ محمود الزيباوي« ،سوريا وفلسطين في ميراث
وفنّي ،بيروت :دائرة المنشورات -الجامعة اللّبناني ّة.2015 ،
نبيل أبو مراد ،األخوان رحباني ،بيروت :دار أمجاد للنشر والتوزيع.1990 ،
Asmar, Sami. «Fairouz: A Voice, a Star, a Mystery» al-Jadid 5 (1999).
[«فيروز :صوت ،ونجمة ،ولغز ».الجديد .])1999( 5
Boullata, Kamal, and Sargon Boulus, eds. Fayrouz, Legend and Legacy. San Francisco:
Forum for International Art and Culture, 1981.
[ فيروز ،األسطورة والتراث .سان فرانسسكو :منتدى الف ّ
ن والثقافة الدولي َّين.]1981،
Ines Weinrich, Fayrūz und die Brüder Raḥbānī – Musik, Moderne und Nation im
Libanon, Würzburg 2006.
[فيــروز واألخوان رحباني :الموســيقى والحداثــة واألمّة في لبنان ،ألمانيــا :دار إرغون-2006 ،
عنوان الكتاب بالعربي ّة كما جاء في كتاب أسعد ّ
قطان]
166
Racy, Ali Jihad. «Overview of Music in the Mashriq.» In The Garland Encyclopedia of
World Music, Vol. 6, The Middle East. New York: Routledge, 2002.
الشرق،6 ج، في موسوعة غارالند لموســيقى العا َلم،»[«نظرة على الموســيقى في المشــرق
.]2002 ، راوتلدج: نيويورك.األوسط
167
محمّد علي فرحات*
أكتب عن فيروز في أيلول (ســبتمبر) من العام ٢٠٢٢ووطنها لبنان في حرب سياســي ّة وثقافي ّة
شخصي ْن أو مجموعتَي ْن ّ
إاّل وتتحوّل إلى َ أخطر من حرب المسلّحين ،فما من ُمجا َدلة ٍ حامية بين
ٍ
صراعات داخلي ّة صغيرة ٍ
تجديف بلبنان نفســه وصوالً إلى طر ِْح مبدأ وجوده ،في ســياق تأليه ٍ أو
ٍ
صراعات إقليمي ّة ودولي ّة. تخفي وراءها
كان لبنــان دائمــاً ملتقى األفكار ومكان حوارها أو صراعها ،وال بد ّ من تحوُّل هذا ُ
الملتقى بين
ونالحظ في مناطق لبناني ّة عد ّة جهوداً يومي ّة لمحو الذاكرة الجماعي ّة واحتقار احتفاالت العمل
ُحاول الحــدود ،علــى عالقتهم الطبيعي ّة مع اللّبناني ّين مــن الطوائف األخرى ُ
المختلفة .وهكذا ي ِ
ق أهلي .ويتعزّز هذا الوضع االجتماعي المأسوي ٍ
بدايات النشــقا ٍ المتشــد ّدون هؤالء تأســيس
قوى
ً مــع االنهيــار االقتصــادي والمالي النّاتج عن فســاد ٍ لدى الفئــات الحاكمة وعــن دف ْ ِع من
168
ما عالقة ّ
كل هذا بفيروز؟
169
ّ
الحق الجرحيْــن اللّبناني والفلســطيني .هنا الف ّ
ن الغنائي والموســيقي في صــورة ُ
المدافِ ع عن
دي ْن العربي َّي ْن المنكو َبي ْن.
اإلنساني وفي البل َ
يتراجــع الفولكلــور األصيل في بالدنا ،وتتعرّض الفنون الشــعبي ّة العفوي ّة ،وفي مقد ّمها الغناء،
و َل َمة ٍ ديني ّة تلغي خصوصي ّات الشــعوب ،ولعدمي ّة ٍ ثقافي ّة تهدف إلى ضياع الشــخصي ّة الوطني ّة
لع ْ
َ
المســار تمهيــداً إلخضاعهــا لنفــوذ ٍ أجنبــي أو أكثر؛ لك ّ
ن لبنــان والعــرب ال يزالون يرفضون هذا َ
المختلف وليســوا مجموعــ َة جنود ٍ يلب ّون أوامــر خارجي ّة،
الخاطــىء ،فهُــم منفتحــون على اآلخر ُ
أحياء أو شهداء .وقد َأدرك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قوّة لبنان الناعمة التي ت ُ ِّ
شكل
د إلــى زيارتها في َبيتها تحي ّ ًة منه وتقديراً لما تُم ِّثل ،فيما اكتفى
فيــروز أحــد رموزها الحي ّة ،فعم َ
باســتقبال القادة السياســي ّين اللّبناني ّين في سفارة بالده للتباحُث معهم في رؤية ٍ لخروج لبنان
المتالحِ قة ،وخصوصاً بعد التفجير المروّع لمرفأ بيروت.
ُ من أزماته
استقبل الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة الفنّانة اللّبناني ّة لدى زيارتها بلده وإحياء حفلة
َ وكذلك
170
مارسة الخبرات في آ ٍ
ن واحد؛ ففيروز الموهوبة بصوتها تدرَّبت منذ اكتشفها األخوان محمّد وم َُ
وأحمــد فليفــل ،حين كانت تلميــذة موهوبة في المرحلة المتوسّ ــطة في العــام .١٩٤٨واعتنى
بها موســيقي ّون ومغنّون أســاتذة في المجال ،مثل حليم الرومي ،وأكمل عاصي الرحباني هذا
َّن لها قبل أن تصبح زوجته في العام ١٩٥٥ورفيقة عمره ،حيا ًة وفنّاً.
التدريب حين التقاها ولح َ
يقــول منصــور الرحبانــي« :منذ أن انضمّت إلينا فيــروز بدأت متوّج ًة بالمجــد ،فإضاف ًة إلى جمال
ّ
وكل ما جاء في صوتها من خوارق، وموهبتها الخارقة ،هي ظاهرة ال تتكرّر :صوتها ممي َّز،
صوتها َ
ل وتجاربَ ،ج َع َل منها رمزاً من رموز عصرنا .تأثّر بها الناس ،حتّى الشعراء،
وما برعت به من صق ٍ
ســطعت بحضورها اآلســر ،وراح تكن مجرّد صوت فحســب ،بل َ فــي لبنــان والعا َلــم العربي .لم ُ
صوتها يخترق الحواجز العاطفي ّة ويُرسّ ب في الوعي سامعه األفكار التي يحملها».
وصوت فيروز في رأيي واحد ٌ من أربعة أصوات نسائي ّة عربي ّة ممي ّزة في السنوات المئة األخيرة،
علت األلحان في
ِ وج وأم كلثوم وأســمهان وليلى مراد ،ففيما ركَّزت ّ
أم كلثوم على صوتها َ ّ هي
خدمته مختار ًة ملحّنين يتناســبون مع تطوّرات ذوق الجمهور الناتجة عن تطوّر أســاليب العيش
ّ
محطات فــي مصــر ،رأينا أســمهان نتيجة ظروفهــا العائلي ّة تعيــش الصوت كفترة اســتراحة بين
أزماتها وإحساســها شــبه الدائم بالغربة والعزلة؛ كما رأينا ليلى مراد تكتفي باالحتفاء بصوتها
أساسي من
ّ وتجويده حتّى حين يتقاذفه الملحّنون بحسب أهوائهم .أمّا صوت فيروز ،فهو جزء
باألخوي ْن رحباني الذي حين
َ ن واسع يتطوّر بوعي واثق الخطوات .إنّه التكوين الذي يجمعها
تكوي ٍ
كان يقبــل كلمــات أو ألحانــاً من آخرين ،فهو يدفع بالضرورة إلى اندماجها في ســياقه ،فال تبدو
مستقلّة عنه أو طارئة عليه.
فيدفعك إلى االلتفاف على نفســك والتأمُّل .وبعضها اآلخر
َ وحدك،
َ بعض أغاني فيروز تســمعه
تســمعه مــع آخرين ،أفراداً أو حشــوداً ،حيث العاطفــة الجمعي ّة ذات ّ
الطابــع االحتفالي تنفعل
شتركة ،بضرورة تكوينها.
َ بإيقاعات ُم
ن المعنــى ال يزال قائماً .نَســترجع أعمالها
صــوت فيروز مــع اختناق لبنــان الوطن؛ لك ّ
َ ونفتقــد
ونربطهــا بواقعنــا اليومي .هي والرحباني ّان لم يبيعوا أحالماً ،كمــا يتّهمهم كثيرون؛ ففي ذروة
الخســارة تتراجع الفنون الكبرى ولكن ال تزول .ثمّة قاعدة اجتماعي ّة وثقافي ّة وسياســي ّة لألغنية
الفيروزي ّة ،وهي قاعدة متعد ّدة وقد تبدو ُمتناقضة أحياناً ،تُعب ّر عن عزلة لبنان ،كما عن انفتاحه،
العربي األوسع ،وهي حين تنحاز إلى المظلوم ،تبدو أقرب
ّ ونراها تُعب ّر عن بالد الشام والمدى
ٌ
حنين إلى السالم واالستقرار والوضوح. إلى نشيد ٍ يصبغه
171
األب بديع الحاجّ*
تكن غير موجودة المغنّية التي يأبه لها المصلّي .لكنّك هنا ،واعجباه! أمام مغنّية
«نادرة إن لم ُ
غدت همَّ هموم المصلّين .وفي روائع فيروز التي على حياد – وهذه هي أيضاً غير باردة – يأبى
المتذوّقون ّ
إاّل أن يجدوا صالة»( .((3بهذه الكلمات اختصر الشاعر سعيد عقل سرَّ فيروز المغنّية
والمصلّية في آن.
الصالة
ال تقتصر الصالة على تمتمة شفاه بكلمات يلفظها اإلنسان موجّهاً إي ّاها إلى خالقه .إنّما الصالة
هــي حالة يعيشــها اإلنســان بكلي ّته ،جســديّاً في حضوره ووقفتــه وحركته وانســجامه مع ذاته،
وعقليّاً عبر تركيز أفكاره وتوجيهها إلى َمن يدعو ويناجي ،وروحيّاً في انشــداده إلى ما هو خارج
ذاته .حتّى تُحقِّ ق الصالة غايتها ،أال وهي مخاطبة اللّه ،من المفروض تأمين اإلطار الصحيح الذي
173
واالحتشــام
َ االحترام
َ ُ
الصالة قي (اللّه) .لذلك ،تتطلّب
يضمن وصول الرســالة (الصالة) الى المتل ّ
والورع والحضور.
َ والتركيز
الترتيل
قــة فــي العبــادة إلى جانــب الدقّة فــي األداء .الترتيــل كالم ولحــن وأداء وصوت،
شــارك ًة ح ّ
َ ُ
وم
عام ُمرافِ ق وإطا ٌر ُمالئم .هذا هو تعليم الكنيســة الذي قام األخوان رحباني وفيروز
ّ و
يلزمه ج ّ
ن فيروز غنّت كالماً وقصائد
باحترامه بدءاً من الكتابة مروراً بالتلحين وصوالً إلى األداء .صحيح أ ّ
واً مص ِّلياً ،فــكان صوتها المصلّي موازياً
ن صوتهــا وأداءها َخ َلقا ج ّ
فيهــا القدســي ّة والصالة ،ولك ّ
تخطاهما ،كما قــال منصور رحباني« :كنّا أنا وعاصي نتهي ّب لدى
ّ للــكالم واللّحــن إن لم ُ
يكن قد
ســجَّل األخوان رحباني مع فيروز نحو ما ي ُقارب إحدى وثالثين ترنيم ًة ديني ّة :ســبع مأخوذة من
ّ
وســت من التــراث الغربي وبعض التــراث الســرياني المارونــي ،وخمــس من التراث البيزنطي،
الروحــي والتي ألّفاهــا ولحّناها وأد ّتها
ّ الموســيقي ّين؛ ويبلــغ عدد الترانيم التــي تحمل الطابع
فيروز ثالث عشرة ترنيمة.
174
الديني
ّ ّ
الطابع جدول بالتراتيل واألغاني ذات
للميالد
تراث سرياني ماروني تراث سرياني ماروني شوبحُا لهو ُق ُاُل (سرياني)
ُ
لآلالم والقيامة
بيرغوليزي
(((3
تراث ماروني واحبيبي
175
تراث سرياني ماروني تراث سرياني ماروني األم الحزينة
ّ أنا
لمريم العذراء
أغا ٍ
ن
176
بنانيققاه في العا َلم العربــي بعامّة ،والل ّ
وخصوصــاً في الموســيقى .وقد يكــون النجاح الذي ح ّ
ّ ّ
خصوصــاً ،عائــداً فــي جزءٍ كبير ٍ منه إلى تصوّرهما الفلســفي للوجود ولإلنســان وللهَ .
فج َم َعا في
ِ
انخطاف الصوفي ّين ،وبحث الفالســفة عــن الحقيقة ومعنى الوجــود ،وإيحاءات أعمالهمــا بيــن
الفنّانين وأحالمهم الجمالي ّة.
إلــى جانــب الترانيم الديني ّة مــن الترا َثي ْن الســرياني-الماروني والبيزنطي ،لم يتــرد ّد الرحباني ّان
في تأليف ترانيم أخرى كالماً ولحناً أدخالها في مســرحي ّاتهما« .مهما تأخّر جايي» من مســرحي ّة
177
«المحطــة» ،تُظهــر اإليمــان الكبير الذي ال يتكسّ ــر وال يتعب («ما بيتكسّ ــر إيمانــي وما بيتعب
ّ
إيمانــي») .ويتوجّهــان إلى اللّه ُمطلقَ ين عليه أســماء ترفع الســامع إلى علّــة وجوده مهما كان
دينــه وإيمانه ،فهما يناديانه «نبع الينابيع» و«ســي ّد العطايا» و«ســاكن العالــي» و«بحر اللّيل»
و«إنت اللّي ما بتنساني» و«شمس المساكين» .ولشهرة هذه األلحان راح النّاس يرد ّدونها في
الكنائس والمناسبات الديني ّة.
فيروز الصوت
الحضور
في حفالتها الموسيقي ّة ،تَظهر فيروز شخصي ّة رصينة وصلبة على خشبة المسرح ،والبعض يصفها
و
ظهر جد ّيّتَها وســم َُّ
ذراعيها ،ثياب ت ِ
َ بالحزينــة .تحــرص على ارتــداء ثياب تصل الى األرض وتغطية
أخالقهــا واحترامهــا لما تؤد ّيه .تقف بال حراك أمــام الميكروفون ،قد ترفع يدها قليال ً أو تقوم
178
بتحريــك كتفَ يهــا إذا َ
لزم األمــر .في مقابلة مع الصحيفــة األميركي ّة «نيويــورك تايمز» في أي ّار/
ن ُمعجبيها يجدونهــا دوماً جدي ّة .تعترف بأنّهــا خجولة ،ولك ّ
ن مايــو ،1999تضحــك فيروز لفكــرة أ ّ
األهــمّ هــو أنّهــا تميل إلى التركيز على الغناء أكثر من تحريك أ ّ
ي جزء من جســدها .قالت فيروز
بعــد حفلــة َأحيتها في مدينة الس فيغاس األميركي ّة ردّاً على ســؤال حول جد ّيتها ُ
المفرطة على
المسرح« :إذا نظرتم إلى وجهي عندما أغنّي ،سترون وكأنّني غير موجودة» .وتا َب َعت« :أرى الف ّ
ن
على أنّه صالة .لســت موجودة في كنيســة ،لكنّني أشــعر كما لو أنّني فيها ،وفي هذه األجواء ال
ي ُمكنني الضحك»(.((4
ُ
المجاهِرة بإيمانها فيروز
فــي أغنيــة «أومن» ،تُعلن فيروز عن إيمانها بحزم وإصرار وثقة ،صفات تعكســها فيروز بصوتها
الحــازم «الثابــت علــى اإليمــان» .في «إيماني ســاطع» ،ليس الــكالم وحده يحمــل اإليمان بل
الصوت أيضاً ،يعب ّر مثله مثل الكالم إن لم ُ
يكن أكثر .في «إنت اللّي ما بتنساني» ،صوتها يحمل
بمن «لن ينساها».
الحني ّة ،حني ّة طفلة ثقتها كبيرة َ
في مسرحي ّة «جبال الصوّان» ،تُناجي فيروز الربَّ «نبع الينابيع وسي ّد العطايا» باسمها كإنسانة
وباســم ّ
كل عناصــر الطبيعــة .من «نبع الينابيع» إلى «ســاكن العالي» ،الــربّ حاضر دوماً بصوت
ّ
بذل وانكســار .فهي المؤمنة البريئة التي ٍّ
مصــل وصوت راجٍ ،بإيمان ودالي ّة وليس فيــروز ،أداء
تطلــب مــن اللّه وكأنّها تطلــب من أبيها ،ال تطلب من أجلها بل من أجــل الجماعة .وفي «غنّيت
179
مكــة» تطلــب من قــارئ القرآن بأن يصلّي معهــا .فيروز الفنّانة تعكس فيروز اإلنســانة ،وعا َلم
ّ
أعماق ّ
كل إنســان َ الروحي .فبصوتِها وشــخصيّتِها وأعمالِها دخلت فيــروز الفنّانــة ي ُكمل عا َل َمها
ّ
ووعّت جانباً من الروحاني ّة فيه ،ولهذا الســبب كثيرون يقولون عند ســماعهم أغاني فيروز إنّهم
و من التأمّل والخشوع.
ينتقلون إلى ج ّ
مــع فيروز ،أصبح الكون بأســره هيــكال ً لصالتها ،هي التي َجمعت بين محبّــة المعابد والكنائس
والهياكل المبني ّة من َحجر ،وبين الهيكل الكبير الذي هو ّ
كل مكان في الكون ،ال بل هو الكون َ
بأســره .هيــكل فيروز هو البيــت والتالل والســهول والجبال والتالل .فمــكان الصالة هو أينما
ّ
والحق ليســت كل مكان في الكون .مع فيروز ،عبادة اللّه بالروح
اجتمع اثنان باســم الربّ ،إنّه ّ
َ
كل مكان ي ُناجى فيه اسم اللّه ،فاللّه هو محور الصالة وغايتها.
ن معي ّن بل في ّ
محدودة في مكا ٍ
أحببت ال تقل اللّه في قلبي ..لكن
َ أنت إذا
َ وفي المحب ّة لجبران ي ُصبح اإلنسان في قلب اللّه« :أمّا
كل تفكر أبداً في نفسها ،إنّها تصلّي َ
للغير وباسم ّ ّ ُق ْل :أنا في قلب اللّه» .إ ّ
ن فيروز في صالتها ال
شــرك معها المخلوقات والطبيعة .ال يهمّها العرق وال اللّون ،فقراء كانوا أم أغنياء،
ِ إنســان وت ُ
العام
ّ و
الزمان واإلخراج والج ّ
180
ُ
حسن أداء الترتيل
هــي فنّهــا ،تتنسّ ــك له أكثر مــن الرهبان وتتحمّل في ســبيله أكثر ممّا يتحمّل القد ّيســون .لقد
خَطفهــا صوتُهــا إليه قبــل أن َيخطفنا صوتُهــا»( .((4حفظت فيــروز مئات القصائــد وأد ّتها ببراعة.
فجمعت في عبقري ّتها بين الحُبّ والحزن ،الحكمة والوطني ّة، ْ
تذوّقــت الكلمات ،وطربــت لوقعهاَ ،
األلم والتّســبيح .بغنائها ،ال تســتعرض فيروز قدراتهـــا الصوتي ّة ،فصوتها يدعــــو للتأمُّل .موهبة
و الكلمة
تنقلك إلى ج ّ
َ ه َبها اللّه صوتاً رقيقاً وقوّة تعبير هائلة تستطيع أن ُ
وصوت عذبَ ،و َ نادرة
العربي إلخالصها لفنّها
ّ خاصاً فى العا َلم
ّ واللّحن في لحظات .وشخصي ّة اكتسبت احتراماً كبيراً وحبّاً
في الختام
يقول الشاعر ورفيق الرحابنة وفيروز سعيد عقل« :في هذه الهنيهة ،وأنا أكتب عمّا غنّت فيروز،
ّ
وضربــت علــى دف ،وقالت من زجل وهي تترنّح أو تتشــيطن ،يخي ّل ّ
إلي أ ّ
ن فيروز كانت، و َلعبــتَ ،
كل هذا ،المقرّبة المقرّبة من اللّه .تُصلّي دوماً؟ لرب ّما ال بالضبط .ولك ْ
ن نعم بمعنى أن حتّى في ّ
ٍ
كالم ولح ٍ
ن جميل ،إلى أداء تدعــوك دوماً إلى الصالة»(« .((4فأنت تســتمع مع صوت فيــروز إلى
ٍ
لفظ انصقل جي ّداً بمخارج الحروف»( .((4هذا القول لمنصور رحباني لديهــا تبلــور مع األي ّام ،وإلى
يلخّــص مضمــون هــذا المقــال .إنّك مع صوت فيروز في صــاة وابتهال .إنّك مع شــفافي ّة هذا
المالئكي في اتّصا ٍ
ل مباشــر مع الكون وأســراره ،في لقاءٍ مقد َّس مع الخالق .السرّ في ّ الصوت
يدفعك إلى التصفيق بل إلى الصمت والتأمُّل والخشوع والوقار.
َ صوتها ،أنّه ال
181
د .حنان ّ
قصاب حسن*
تلوَّنــت الشــخصي ّات التــي أد َّتها الســي ّدة فيروز فــي مســيرتها الطويلة وتنوّعت بحســب تطوُّر
شخصي ّتها كإنسانة وكامرأة ،وبحسب تبل ْ ُ
ور إمكاني ّاتها كمؤد ّية وكفنّانة .وقد كانت في الحياة،
ُ
المحب ّة والراعية لزوجها عاصي ووراء ميكروفون اإلذاعة ،وعلى خشــبة المســرح ،رهناً باإلرادة
درب الذي وا َك َ
ب َمسيرتها منذ ُ
والم ِّ المع ِّلم
لحن وكاتب الكلمات ،وأيضاً ُ الرحباني الذي كان ُ
الم ِّ
ّ
احتل غي ُرها مثيال ً لها في الســاحة وحفَ َر لهــا مكانتها التي نادراً ما
ــم لهــا صورتها َ
س َ ور َ
البدايــة َ
الفني ّة العربي ّة.
كمغنّية ،كانت فيروز طفل ًة ناعمة خجول ،تهرب من اإلذاعة بعد انتهاء َدورها
في بداية انطالقتها ُ
ومتلونــةُ ،مضافــاً إليها مزايا أخــرى يذكرها عاصي الرحباني حين يقــول« :صوتها كان يعجبني،
ِّ
المرهف ،وذكاؤها المتوقّد ،والســرعة العجيبة التي كانــت تحفظ بها أ ّ
ي لح ٍ
ن ُ وكذلــك حسّ ــها
185
ُســبب َقلقاً و َبلْبلة؛ يلي خارجي ي ٌ
حدث ٌ
وهادئ في البدايــةَ ،يخرقه وض ٌ
ع ُمســتقرٌّ يتغيّــر ّ
إاّل قليــا ًْ :
ِّ ّ
ْ واج ٌ
كشــف الحقيقة ،فيخمد الصراع وتكون النهاية ســعيدة هــة أو صراع؛ وبعد ذلك يتمّ ذلــك ُم َ
(عدا بعض االستثناءات).
ويعتقدونه شرّيراً جاء ليؤذيهم ،لكنّه غالباً ما يظهر إنساناً طي ّباً في نهاية المسرحي ّة ،أو يتحوَّل
وهنــاك طبعــاً الصبي ّة التــي تُمثّلها فيروز وتتنوّع شــخصي ّاتها بتغي ُّر الحبكة ،لكنّها دائماً رســول
َ
عمل الشرّ. السالم والمحب ّة ،وصاحبة الصوت الذي يسحر وي ِ
ُبطل
ُمقابــل الصبيّــة ،نجــد دائماً ممث ّ َل الســلطة (الملــك ،أو الوالــي ،أو المتصــرّف ،أو المختار ،أو
الشــخص) ،باإلضافة إلى شــخصي ّة الشــاويش أو القائد أو رئيس الحرس الذي يقف إلى جانب
ّ
الشــكاك الذي َينشر اإلشاعات أو الســلطة وين ّ
فذ أوامرها .وهناك أيضاً شــخصي ّات ثانوي ّة مثل
الحذَر من مؤامرة ،والعاشــقان البريئان ،باإلضافة إلى بعض الشــخصي ّات ّ
الســكان على َ ُحرض
ي ِّ
و وتُثير َ
الم َرح. الفكاهي ّة التي ت ُ ِّ
رطب الج ّ
وفــي مســرحي ّات الرحباني ،تَقع األحداث دائماً في الســاحة ،مكان اللّقــاء والنقاش ،كما في
العام المفتوح
ّ المســرح اليوناني القديم والمسرح الكالسيكي الفرنسي .ضمن هذا المكان
واجهــة بين عا َلم الســلطة وعا َلم الشــعب (ص ّ
ح النــوم ،ناطورة للجميــع ،ترتســم أبعــاد ُ ُ
الم َ
وقطاع الطرق (اللّيل والقنديل) ،بين َمن يريدون البقاء
ّ ُ
المسالمين ّ
السكان المفاتيح) ،بين
و ُّ
التنكر والحقيقــة (هالة والملك) ،بيــن البلد والعد ّ ّ
(المحطة) ،بيــن ومــن يرغبــون بالرحيل
َ
الخارجي (بترا ،جبال الصوّان) .وفي وسط هذه الثنائي ّة البنيوي ّة تقف الشخصي ّة الدرامي ّة التي
َ
النقيضي ْن :فهي الفتاة المرصودة تُمثّلهــا فيروز في المكان الفاصل الــذي َيقع على الحد ّ بين
ِ
الواصــل بيــن قريتَي ْن؛ وهــي البعلبكيّــة علــى أدراج المعبد مكان بالســحر علــى جســر القمر
ّ
تتعطل ســي ّارتها على المفــرق بين قريتَي ْن؛ وهي بائعة لقــاء اآللهة بالبشــر؛ وهي الزائرة التي
القناديل في الخَيمة التي تَرســم الحدود بين نور القرية وبين عتمة الجرد؛ وهي «المســمّرة
ُ
المفاجئ كزوجة مســتقبلي ّة علــى خشــبة الشــب ّاك» بين حياتهــا الماضية البســيطة ومصيرهــا
للملك؛ وهي الملكة التي تقف على األســوار لتُجا ِبه روما؛ وهي البطلة المنذورة للبوّابة في
186
جبــال الصــوّان .هــذه األماكن الحدوديّــة الفاصلة بيــن كيانَي ْن هي بمثابــة العتبة في طقوس
دد مراحل حياة اإلنســان ،وقد ســلّم األخوان رحباني مقاليدها إلى الشخصي ّات
العبور التي تُح ِّ
التي تُمثّلها فيروز(.((4
مكان الفصل بين عا َل َمي ْن فقط ،بل إنّها تُصبح هي نفسها تجسيداً
َ وال تشــغل هذه الشــخصي ّات
المبهمــة التي ال تنجلي ّ
إاّل في نهاية المســرحي ّة :فهل ي ُمكن المتأرجحة ُ
للمتناقضــات بهوي ّاتهــا ُ
ُ
فتحول حقل
ِّ هي ســبب ســرقتها (اللّيل والقنديل)؟ َ
ومن هي وردة التي تمسك بمقاليد الحلم
ّ
محطة؟ وكيف تســتطيع قرنفــل العفريتة أن تجتازَ عتبة قصــر النوم لتنقل الختم البطاطــا إلــى
ل دائم ،نراها على الخشــبة فــي جميــع األعمال .فالشــخصي ّات التي تُمثّلها فيــروز في حركة تن ُّ
ق ٍ
عائدة من ســفر ،أو ُمنطلقة إلى ســفر .نســمعها تتغنّى باألرض واالنتماء ،لكنّها تبدو وكأنّها ال
أرض لها إذ ي ُكتب عليها الرحيل الدائم ،ولذلك تُناســبها تماماً صفة الحارس :حارســة المفاتيح،
حارسة الغلّة ،حارسة الختم ،حارسة الكنز ،حارسة أموال القوافل ،حارسة النذر ..تماماً كما هو
ومثــل جميع األبطال في الحكاية ،تبدو الشــخصي ّات التــي تؤد ّيها فيروز في كثير ٍ من األعمال
نجمــة في الســماء ،زهرة ُمســتحية ،عصفــورة وحيدة ،صوت الشــوارعَ ،طيــر القرميد ،قنديل
الحــزن الوحيــد ،الطفلــة اللّي ِربيــت بالهرب ،زهرة الضعــف ...وغير ذلك من الصفــات الجميلة
المرتكــزة علــى فكرة الهشاشــة .وهذه الصفات تتشــابه مع الشــكل الفيزيائــي لفيروز ومع
وتدعوها اآللهة للســفر من بعلبك ،ويحملها النذر للعودة إلى جبال الصوّان .هي صبي ّة بعيدة
187
عــن الواقــع الملمــوس على الرّغم مــن انتمائهــا االجتماعي الذي يتكرَّس بحســب الد َّور(،((4
وت ََر َكهــا صغيــرة (بنــت الزغيرة اللّي كانت بــدالل بي ّا ،كبرت بال بي ّا) ،أو أنّــه ينكرها لينقذها من
وفي مســرح الرحباني دائماً قوّتان تتصارعان ،تم ِّثل األولى منهما الشــخصي ّة التي تلعبها فيروز،
ولئن كان َط َر ُف الصراع في المسرحي ّات األولى قوّة ميتافيزيقي ّة أسطوري ّة (السحر الذي ي ُمارسه
القمر في جسر القمر ،واآللهة في البعلبلكي ّة) ،فإنّه ال يلبث أن يصبح منظومة ملموسة أرضي ّة
بنهاية سعيدة(.((5
وحتّــى فــي الحــاالت التــي يكــون فيها الصــراع مع الحاكــم أو الملــك أو الوالــي ،وهو قوّة
ُممانعــة تُم ِّثل الســلطة ،وعلى الرّغم من ظلم الحاكِ م واســتبداده ضمن المســرحي ّات ،فإنّه
هشــاً للغاية تتبد َّد ســلطته بســهولة أو يتخلّــى عنها لمصلحة الشــخصي ّة
ّ فــي خواتيمهــا يبدو
نتصرة. ُ
الم ِ اإليجابي ّة
تسرق قرنفل الختم وتُنجز معامالت الناس فيتنحّى الوالي عن العرش و َيترك لقرنفل أن ت ُ َ
تابع
َ
تصريف أمور الناس.
وفي مســرحي ّة «الشــخص» ،ال يعلم الحاكِ م ما يحصل بين الناس ،وبالتالي تتمّ تبرئته في حين
188
تُدان الطبقة التي تُحيط به والتي ت ُ ِ
مارس الظلم على الشعب البسيط وتَسحقه ( َبيع عربة بي ّاعة
الملكَ ،يرحل أهل البلد تاركين لزاد الخير مفاتيح بيوتهم ،فيقوم الملك بتوسُّ ــل عودة الناس
حرض غربة أهل البلد على المقاومة وعدم االستسالم ،لكنّها تُقتل على
وفي «جبال الصوّان» ت ُ ِّ
البوّابة التي ُقتل عليها أبوها ،فيتراجع العد ّ
و وحده أمام قوّة إيمانها.
العام لجميع المسرحي ّات تقريباً ال تتغي َّر الغاية من العمل ومقولته التي
ّ ضمن هذا المخطط
تدعــو دائماً إلــى المحب ّة ونب ْذ الخالفات وتغليب التصالُح علــى القتال والصدام ،وي ُبرَّر ذلك في
بلــد ٍ كان دائماً يتأرجح على شــفا حروبٍ أهلي ّة وخارجي ّة ليســقط فيهــا تارة ويخرج منها مجروحاً
تارة أخرى.
الممثّلة
ُ فيروز
هــذا التطــوُّر في الكتابة المســرحي ّة الــذي َج َع َل عنصر الشــرّ والظلم أقوى وأكثــر فتكاً ،أد ّى
شــكل أداء فيروز؛ حيث أصبحت الشــخصي ّات التــي تلعبها أكثر دهاءً
ِ بالضــرورة إلــى تغيير ٍ في
و»مل ْ َعنَــة» ،واألدوار التــي تؤد ّيها مع ّ
قــدة فيها فكاهة وتتطلَّب مهــارة .يعود ذلك إلى تطوُّر َ
كمم ِّثلة .صحيح أنّها فــي مقابالتها النادرة، ّ
وتمكنها من األداء المســرحي ُ شــخصي ّتها كامــرأة
وفي إطاللتها على الجمهور للتحي ّة في المســرح ظلَّت دائماً قليلة االبتســام مرفوعة الرأس
دق في الفراغّ ،
إاّل أ ّ
ن أوّل دخول لها إلى الخشــبة ال تنظــر إلــى جمهورهــا وهو يصفِّ ق ،بــل تُح ِّ
كان فــي معظم المســرحي ّات يتــمّ بطريقة ٍ غير متوقَّعــة تُثير عاصفة التصفيــق لدى الجمهور
المبهــور بأدنــى حركة تقوم بها فيروز ،فما بالك حين تدخل شــخصي ّة زاد الخير للمرّة األولى
189
علــى الخشــبة فــي مســرحي ّة «ناطــورة المفاتيح» وهــي تصرخ مــن الكواليــس موجوعة من
المســرح مــن الكواليس وهي تصــرخ «تركيـــــــــــــبة!!!» ُمعلنــ ًة بذلك عن شــخصي ّتها الرافضة
الغنــج «فــي معنا بنــدورة» ،فيتناقــض تماماً مع الحــوار المنمّق لســي ّدات المجتمع اللّواتي
ٍ
لسنوات بعد ّ
ظل هذا النداء يترد ّد على شــفاه الناس حضر ْن لترتيب اســتقبال الشــخص .وقد
كذلــك تلــوَّن أداءُ فيروز كلّه بشــيء من الفكاهــة التي يتطلّبها الد َّور كما هــو الحال في حديث
ّ
اســماّل قد ّيش بي ّاعــة البندورة مع الشــخص الــذي يهابه الجميع (لمّا عرفتك جاية نوَّرت العياد،
ن معظم مســرحي ّات الرحباني كانت مســجَّلة ،ي ُعيد الناس االستماع إليها مراراً وتكراراً بعد
وأل ّ
ّ
أدق ممّا يحصل في المســرح ،حيث ل انتهــاء عرضهــا ،وأل ّ
ن األذن تلتقــط تلوّنــات الصوت بشــك ٍ
الب َصر ،فإ ّ
ن األداء الصوتي لفيروز يبدو في هذه التسجيالت في قمّة بهائه تكون السيادة لحاسّ ة َ
الجذْب إلى ســماع المســرحي ّات مراراً وتكراراً هو صوتها
ن ســرّ َ ّ
شــك في أ ّ واكتمال نبراته .وال
الذي يتغي ّر ويختلف بدرجاته ونب ْرته ولهْجته بين الخوف الهامِ س والبريء في حوارها مع الوالي
ح النوم ،إلى إطالقها (من خالل شــخصي ّة زاد الخير) الجُمل بســرعة ٍ خارقة في الحديث مع
في ص ّ
هنــاك باإلضافــة إلى ذلك طبعاً طراوة وعذوبة الحزن فــي «يا جيراني بخاطركم» ،والنبرة اآلمرة
لغربــة العائــدة لتخليــص البلــد بعد غيابٍ فــي جبال الصوّان ،وصــوالً إلى هدهــدة الوالي بأغاني
تقــول للوالــي «نــااااام» تحمل فــي طياتها رجــاءً وتهديداً ونفا َذ صبــر ٍ وخوفاً فــي آن معاً ،وال
ٍ
وصوت بجمال يستطيع أن يرسم ّ
كل هذه التدرُّجات في كلمة واحدة سوى مغني ّة ٍ ببراعة فيروز
190
وشــغلت الناس .صوت ال مثيل له يســحر ويأخذ باللّب وي ِّ
ُعبر تلــك هــي فيروز التي َمألت الدنيا َ
ّ
وســيظل ويتلــوَّن ل َيحمــل في طي ّاته جميــع المواقف األدائي ّة والقدرة على َل ِ
عب جميع األدوار.
صوتها في المسرحي ّات ،باإلضافة إلى صوتها في األغنيات رفيقنا في صباحاتنا وفي أسفارنا ،نحن
الذين واكبنا َّ
كل أعمالها ،ويملؤنا َفخراً أنّنا كنّا من جيل فيروز ،وأنّنا رأيناها وسمعنا صوتها في
191
غسّ ان الشهابي*
*كاتب من البحرين
192
ّ
ومكة، و«شــط اســكندري ّة» ،وللشام «يا شام عاد الصيف» .كما غنَّت لبغداد ،وعمّان،
ّ الذهب»،
صــدور تلك الدول والعواصــم التي تبقى بينمــا زعماؤها يرحلون،
َ والقــدس ،األمــر الذي َّ
رص َع
وأحزابها تتغي َّر ،والموازين تنقلب ،وتبقى أغنية فيروز حي ّ ًة خارج حدود الزمان.
وضع دستور ٍ صارم ّ
بأاّل تغنّي فيروز وأمامها طاوالت للطعام والشراب ،إذ الغناء لديها، ْ كما تمّ
ْ
ونجحت فيروز والمؤسّ سة ليس ممّا «ي ُتن َّ
قل» به كما تقول العرب ،أو ما يسمّى اليوم «مازة»؛
في ف ْ ِرض هذا القانون الذي تمّ احترامه وبشــك ٍ
ل بالِغ الصرامة ،ولنا أن نتخي َّل كم من المرّات
ــط َر» ــر هذه القيود للذّة كَسْ ــر القيود رب ّما ،ولم تســتطع ،وهذا ما َ
«أسْ َ ٌ
جهات كسْ َ التي حاولت
ِ
وأطال ُعمر األيقونة حتّى اليوم.
َ البهي،
ّ حضور فيروز
َ
َ
الدخول في عــد األغنية وحدها تســتوعبه ،فأرادا تَجاوزهــا ،فجرّبا ُ
اإلبــداع الرحباني ولم َت ُ َ
فــاض
المغنيَّــات واالسكتشــات والمســرحي ّات ،وهذا يتطلَّــب أن تكون فيروز جزءاً مــن التفا ُعل على
اختيار الشــخصي ّة األكثر مثالي ّة لفيروز ،حتّى
ِ ترســم شــخصيَّتَها ،فلم يترد ّدوا في
َ المســرح ،وأن
تبقــى فــي عيون جمهورهــا :محبوبةُ ،مها َبة ،عزيزة ،رفيعة ،ســامية ،ال تَقع فــي براثن الحبّ ،بل
حتّــى أنّهــا ال تتــزوّج في ٍّ
أي من مســرحي ّاتها ،ما عدا في آخر مســرحي ّاتها «بتــرا» التي يظهر فيها
د هذا المســرح لكي تكون زوجها الملك لِماماً ،ويختفي من على الخشــبة وكأنّه لم ُ
يكن .واجته َ
شــخصي ّة فيــروز أقرب مــا تكون إلى شــخصي ّة البطل التراجيــدي التي هي شــخصي ّة محوري ّة في
النص المسرحي ،تُم ِّثل الق َي َم اإلنساني ّة في عا َلمي ّتها ،وتتمي َّز بالقيام بالفعل الدرامي عن طريق
ّ
األحداث بإرادة ٍ صلبة واختيار ٍ حرّ ،كما يجري تعريفها أكاديميّاً.
دد أرسطو أربعاً من مالمح الشخصي ّة التراجيدي ّة ،منها :بناء الشخصي ّة في كِ تاب «ف ّ
ن الشعر» ي ُح ِّ
على الق َيم االنساني ّة التي تُفصح عنها األفعال ،وأن تكون شبيهة بالواقع .أي أ ْ
ن تكون الشخصي ّة
خاصة بها كالغضب مثال ً ،فإنّه يجب
ّ معبرة عن طبيعة اإلنســان الواقعي ّة ،حتّى وإن كانت له صفة
ِّ
ٍ
ألناس أفاضل ٌ
حــاكاة أن يتّفــق مــع صفــة هــذا البطل كما في «أوديــب» ،وبمــا أ ّ
ن التراجيديا ُم
ن كانوا ص علــى قدر ٍ كبير ٍ مــن األهمي ّة ،فينبغي تصويرهم أحســن ممّا ُ
هم عليــه ،وإ ْ أو ألشــخا ٍ
ُمشابهين للحياة الواقعي ّة.
ّ
خاصة تعلو على اآلخريــن ،بما يمتلكون من ٍ
بصفــات ن أبطــال التراجيديــا ُ
هــم الذين يتفرّدون إ ّ
وشجاعة في اتّخاذ القرارات ،ومن ثمّ تحمُّل مصيرهم الحتميّ .
إاّل أ ّ
ن الهفوات التي إرادة ٍ قوي ّةَ ،
يقعون فيها ،وهو خطأ مأساوي غير مقصود ،أو زلّة ما ،هي التي تُح ِّ
دد مصيرهم.
والمحــور الذي ال يكاد يغيب
َ والقص َة
ّ ْ
بقيت فيروز الشــخصي ّ َة التراجيدي ّة فــي المســرح الرحباني،
193
عن الظهور والحضورَ ،أتت في شخصي ٍ
ّات عديدة ،منها التاريخي ،والسياسي ،واالجتماعي؛ فكانت
والمتســلّطين وأكثرهم شراسة
ُ ناضلة ضد ّ الظلم ،المســتعد ّة للوقوف أمام أعتى األباطرة ُ
الم ِ
كالملك في مسرحي ّة «ناطورة
َ وعنفاً ودموي ّة ،كما في «جبال الصوّان» ،أو أكثرهم جنوناً ورعون ًة
المفاتيح» ،و«ص ّ
ح النوم».
نستعرض عدداً من المسرحي ّات التي مثَّلتها فيروز لنتعر ََّف إلى األدوار التي أد َّتها فيها ،وطبيعتها:
ِ
فل ْ
جســر القمر (« :)1962الفتاة المسحورة» التي تَستخدم ذكاءها وصوتَها الغنائي الساحر البديع
للصلح بين قريتَي ْن طال الصراع بينهماُ ،مستخدِم ًة حيال ً طريفة لذلك.
اللّيــل والقنديــل (« :)1963منتورة» ،التي تَحرس خيم ًة تُباع فيها قناديل يصنعها أهالي الضيعة،
كيس أبيض يعلَّــق في زاوية الخَيمة
ٍ جاورة .وكانت تَضــع (الغلّة) في الضيــع ُ
الم ِ ِ ويبيعونهــا إلــى
يمس الكيس لفرط األمان حيث يُقسَّ ــم المال بين أهالي الضيعة ّ حتّى نهاية َ
الموســم ،وال أحد
ل «هولــو» الذي كان قد غنائــي وراقِص ُقبيــل العيد ،ولك ّ
ن الغلّة تُســرق من ق َِب ِ ّ ضمــن احتفــا ٍ
ل
ســبق لـ «منتورة» أن ســاعدته على االختباء،
َ وقطع الطرق ،وألنّه
ْ تعــرَّض للظلــم واضطرَّ للهرب
يعود لي ُرجِ ع إليها الكيس بعدما شــعر بمقدار األلم الذي تُعانيه من نظرة األهالي إليها بســبب
تفريطها باألمانة.
ُ أيّــام فخــر الد ّين (« :)1966عطر اللّيل» ُ
المغنّية التي ت ِ
لهب الجمهور بصوتها العذب ،والتي كانت
تُسانِد فخر الد ّين في وقوفه ضد ّ رغبة السلطة العثماني ّة في الحد ّ من صالحي ّاته.
هالة والملك (« :)1967هالة» وأبوها يبيعان أقنعة عيد «الوجه الثاني» ،لك ّ
ن الملك ي ُلغي العيد،
ن أمير ًة ســتأتي هذا العيد وســيتزوّجها ،ويصرّ على أنّها هالة (فيروز) ،ولكنّها
ن نبوءة قالت إ ّ
أل ّ
ن ُ
المحيطين بالملك كانوا عبارة تنكر في زي شحّاذ – وأ ّ ترفض ذلك وتُخبره َّ
قصتها – بينما هو ُم ِّ
ُعجب بها الملك ويقوم باإلصالحات ،ولكنّها ت ُ ِّ
فضل العودة عن بطانة ٍ فاسدة َعزَ َلت ْ ُه عن الشعب ،ي َ
إلى قريتها مع أبيها فقير ًة ُمع َ
دمة.
ٌ
مســؤول ل غير رســمي من «الشــخص» – وهو
الشــخص ( :)1968الفتــاة البي ّاعــة تطلب بشــك ٍ
رفيع كان األهالي قد رتَّبوا له برنامجاً ُمحكماً لالســتقبال بحســب البروتوكول -أن يشتري منها
منظمو احتفال استقبال الشخص أنّها مدسوسة من
ِّ طماطم (بندورة) إلطعام إخوتها ف َيعتبر
جهــات خارجيّــة ،وتُحا َكم ،ولكنّها تلتقيه تالياً لتَكتشــف َكم هو إنســان اعتيادي ،ولك ّ
ن ُمقتضيات ٍ
194
ّ
وبث الحماســة فيهم وإيقاظ روح االنتماء ْع الناس من حولها
تعود من جديد وتعمل على جم ِ
لتحرير بالدهم ،وتُطلِق صيحتها التي اشــتهرت في هذه المســرحي ّة« :ما تخافوا ..ما في حبوس
كل الناس ..بيعتقلوا كتير ،وبيبقوا كتير ..وباللّي بيبقوا رح بنكمل».
تساع ّ
يعيــش يعيــش (« :)1970هيفاء» التي تعيش مع جد ّها على الحدود في هدوء وتُراقِب األوضاع
ــر
س َ ب زوجته و َك َ َّ
تنكر واختَبأ لديهم على أنّه َض َر َ التــي تغيَّــرت بعد انقالبٍ َأطاح باإلمبراطور الذي
ب من الشرطة ،ولكنّه يتعرَّف إلى مجموعة من الخارجين على القانون الذين هار ٌ
ِ يد حماته وأنّه
د ُ
شهوة السلطة ليج َ يســتعينون به لكتابة بيا ٍ
ن لالنقالب على ســلطة االنقالب ،فتنمو في داخله
عد إمبراطوراً ،بل غدا ثائراً
بزي آخر إذ لم َي ُ
ٍّ صار زعيماً لالنقالبي ّين ويعود إلى الحُكم
َ نفسه وقد
َ
يبدأ بيانه األوّل بـ«بعد االتّكال على اللّه والشعب».
إصالح ســقف َبيتها قبل أن يأتي الشــتاء
ِ قها فيح النوم (« :)1971قرنفل» ،التي تبحث عن ح ّ ص ّ
ليختم ثالث ُمعامالت فقط قبل أن
َ بينما الوالي ينام طيلة الشهر وال يصحو ّ
إاّل ليلة اكتمال البدر
وتختم
َ َ
لتسرقه يعود إلى النوم من جديد .فتقتنص «قرنفل» فرص َة وجود الختم في تلك اللّيلة
به ُمعاملتها ُ
ومعامالت أهالي الضيعة.
ناطورة المفاتيح (« :)1972زاد الخير» ،الفتاة التي يأتمنها الناس على مفاتيح بيوتهم ألنّهم ي ُغادرون
نفسها وحيد ًة في ُم َ
واجهة الملك الوحيد. َ َمملكتهم بعدما أرهقهم الملك بالضرائب ،فتَجِ د ُ
ناس من ورق (« :)1972ماريا» تقود فرقة فني ّة في جولة ٍ اســتعراضي ّة ،ولك ْ
ن لســوء ّ
حظها أنّها
الناس في مهرجا ٍ
ن َ ليجمع
َ خط َط الم َّ
رشــح األقوى قــد َّ تنــزل في بلدة تجري فيها انتخابات ،حيث ُ
َّ
المرشــح بماريا وتجري خطابــي ،بينمــا الفرقة لم ُ
تكــن تريد إلغاء برنامجهــا الغنائي ،فيصطدم
ساجالت.
َ بينهما ُم
وصل القطار ،ولم ُ
يكن هناك َ ّ
المحطة (« :)1973وردة» الفتاة الغريبة التي تَطرح سؤاالً عمّا إذا
ّ
محطة ،فاشــترى الناس وقيام
ِ ٍ
أحالم بوصول قطار ُ
الســؤال إلى قطار ،ولكن ســرعان ما تحو ََّل
على أساس هذه األحالم وباعوا وسافروا بأحالمهم ،وبقيت «وردة» على باب االنتظار كما أتت.
لولو ( :)1974تأتي قضي ّة العدالة ،حيث تُتَّهم «لولو» بقضي ّة قتل لم ترتكبها ،وتخرج بعد سنوات
كل َمن َظ َل َمها ،وتُثير بذلك المخاوف.
صممة على االنتقام من ِّ
الحُكم وهي ُم ِّ
إصالح ذات البين بين عائلتي ْن ،وتَنجح في نهاية
َ َميس الرّيم (« :)1975زي ّون» الغريبة التي ت ُ ِ
حاول
«ميس الرّيم» وهي في طريقها إلى قرية «كحلون» إليصال َّ
المطاف بعد أن توقفت سي ّارتها في َ
فستان عرس ابنة خالتها.
195
بترا ( :)1977شــخصي ّة الملكة «شــاكيال» التي تحمي كرامة بالدها وال ترضخ للرومان ،على الرّغم
من اختطافهم ابنتها وتصمد إلى حين عودة زوجها من فتوحاته التي انتصر فيها عليهم.
ح الرحباني على إظهار فيــروز قريب ًة من الناس ،إذ تأتــي غالباً من طبقاتهم،
حــرص المســر ُ
َ لقــد
جزءاً منهم ،فقيرة ،صانعة ،صاحبة دكّان ،بائعة...إلخ .ولم تظهر في َدور ملكة ّ
إاّل في مسرحي ّتها
األخيرة (بترا).
تعاطف الجمهور الذي كان في تلك الفترة يشــهد تغي ٍ
ّرات سياســي ّة واجتماعي ّة، ُ فكانت تكســب
وســط سلســلة حروبٍ وهزائم وانقالبات وتغي ُّر أنظمة الحُكم في أكثر من دولة عربي ّة ُمحيطة
كمصر والعراق وسوريا.
في هذه المســرحي ّات ،ال تَرتكب فيروز بشــخصي ّاتها المســرحي ّة األخطــاءَ أو الخطايا ّ
إاّل «الروبن
ح النّوم» ،التي
هودي ّة» منها ،التي تَخدم من خاللها غيرها ،كما في شــخصي ّتها في مســرحي ّة «ص ّ
أد َّت فيها َدوراً كوميديّاً في معظمه -وذلك بعدما قد َّمت سلســل ًة من الشــخصي ّات التراجيدي ّة
فــي أكثر من ســبع مســرحي ٍ
ّات معروفة ،وكانــت حينذاك قد تجاوزت منتصــف العقد الثالث من
كتشــف أنّها
َ العمــر -فهــي هنا «تســرق» خِتــم الحُكم من أجل إصالح ســقف منزلها ،وحتّى ال ت ُ
في هذه المســرحي ّة تدور حواري ّة ســاخنة بين قرنفل (فيروز) ،وشــاكر الكندرجي (إيلي شويري)،
ْل «قرنفل» تمشــي حافيةً ،ألنّه صانع األحذية الوحيد في الضيعة،
دد «شــاكر» بجع ِ
وتنتهي بأن ي ُه ِّ
فتــرد ّ عليــه« :روح يا بال مربى» .هذه العبارة العابرة وشــبه اليومي ّة رب ّمــا في حياة الناس الذين
تر أنّه
ال يريــدون االنــزالق إلى الســوقي من األلفاظ ،لق َيت انتقاداً مــن الصحافة آنذاك التي لم َ
الاّلئق صدور مثل هذه العبارة على لســان األيقونة التي ال يتوجَّب أن ي ُســمع منها ّ
إاّل أرقى من ّ
ِ
المناسبة أللفاظ الطبقة البرجوازي ّة. العبارات
وكذلك يرتبك المشهد بالنسبة إلى األيقونة في مسرحي ّة «لولو» ،التي تُتَّهم زوراً بقت ْ ِ
ل يونس،
ولكنّها تخرج قبل نهاية مد ّة الحبس ( 15عاماً) بشــهر ٍ واحد بعد أن يكتشــف القاضي أنّها بريئة،
ثمن
َ فتعود لتنتقم من أهالي ضيعتها الذين شــهدوا عليها زوراً ،وهي تر ِّدد أنّها دفعت ســلفاً
ل لم ترتكب ْها ،وبالتالي فإنّها ستقوم بقتل أحد األهالي ،ويأتي هذا في إطار ٍ يراوح بين
جريمة قت ٍ
ي والتراجيديّ .ومع ذلك ،فإ ّ
ن مجرّد تلويح فيروز بالقتل ينطوي على تغيير وانزياح عن الكوميد ّ
دي ْن من الزمان غناءً وتمثيال ً ،مســرحاً وسينما،
الشــخصي ّة التي تمَّ العمل على ســب ْكها طيلة عق َ
196
فضــا ً عــن عدد ٍ من المشــاهد التمثيلي ّة األخــرىّ .
إاّل أ ّ
ن هذه «الفلتات» رب ّما المدروســة أو غير
المدروســة ،مــا كانت لتخدش الصورة الكبرى لفنّانة ٍ في حج ِ
ْــم فيروز جرى ّ
رص مكوّناتها بعناية
فائقــة .وهــذا ما «أزعج» الكثيرين من ُمحب ّي فيروز الرحابنة عندما أخذها ابنها زياد إلى الشــارع
شتركة بعد االنفصال عن عاصي ،والمؤسّ سة الرحباني ّة بعامّة.
َ ُ
الم في أعمالهما
البناء الغنائي والمسرحي ُ
المحكم والمدروس لشخصي ّة فيروز ،منذ الخمسيني ّات إلى السبعيني ّات
مــن القــرن الماضي ،هو ما َج َعلها تنتقل من مجرَّد فنّانة ،إلى فنّانة كبيرة ،ومن فنّانة كبيرة في
وسط كثرة من الفنّانين اآلخرين العمالقة في بالدها ،إلى «رمز» وطني في لبنان ُملكاً للجميع،
أو كما يقول محمود درويش «وصوت فيروز الموزّع بالتســاوي بين طائفتي ْن ،ي ُرشــدنا إلى ما
يجعــل األعداء عائلة» (قصيــدة «بيروت») ،إذ اعتُبرت ُمم ِّثل ًة للطبقة الوســطى ،ورفيق َة ُ
المث ّ
قف
المنتقاة بعناية ،واللّحن المتفرّد ل َيفعال في
إن أراد االســتماع إلى غناءٍ راق ،فينحاز إلى الكلمة ُ
وجدانه فعل الموسى الذي ال ألم لمروره بالوجدان ،ولكنّه يحفِّ ز النزف وحده.
197
د .سليمان الحقيوي*
ي ُعتبــر فيلــم «بيّــاع الخواتم» ( )1965إخراج يوســف شــاهين ،العمــل األوّل الــذي وقفت فيه
فيــروز أمــام الكاميــرا ،بعدمــا َ
وق َع عاصي ومنصــور في إغراء الشاشــة الكبيــرة ،والحقيقة أ ّ
ن
ّ
الشــكل الذي شــاهدناه ،فمســرحي ّة صادفات كثيرة َأســهمت في أن يكون إخراج الفيلم وفق
ٍ ُم
«بي ّاع الخواتم» التي ُعرضت في العام 1964ح ّ
ققت نجاحاً كبيراً وملحوظاً ،واالســم األوّل الذي
المخرج الفرنسي «برنار فاريل» ،فيتحوّل االقتراح بصدفة ٍ
تمّ اقتراحه لتحويلها إلى السينما ،كان ُ
أخرى إلى االسم األشهر في العا َلم العربي آنداك «يوسف شاهين» وقد كانت مالمح أسلوبه
قــد ترسَّ ــخت واتَّضحــت ،وخصوصاً في أفالمه مثــل «صراع في الــوادي» ( )1954و«باب الحديد»
( ،)1958و«الناصر صالح الد ّين» ( )1963الذي سبق «بي ّاع الخواتم» بقليل ،كما يستدعي السياق
هنــا ذكــر تجربته المهمّة في الفيلــم الغنائي تحديداً؛ «ســي ّدة القطــار» (« ،)1952ود ّعت حب ّك»
(« ،)1956إنت حبيبي» (.)1957
200
ّ
بقصتها األصيلة وصوت فيروز القادم من السّ ــماء بتعبير أمّــا المســرحي ّة فح ّ
ققت نجاحاً باهــراً
الم َ
حكم .هذا النجاح المتوازي لشاهين والمسرحي ّة األخوي ْن رحباني ُ
َ محمّد عبد الوه ّاب ،وإخراج
ّ
«مظاّلت شربورغ» ترك أثراً على إخراج الفيلم ،فشاهين الذي كان ُمنجذباً لفيلم
َ على حد ّ سواء،
للمخرج الفرنسي «جاك ديمي» ( )1990-1963الذي خلق الحدث في «مهرجان كان» العام ،1964
ٍ
ألفالم جديدة بفوزه بالسعفة الذهبي ّة عبر تقديمه هوي ّة جديدة للفيلم الغنائي (ال زالت مصدراً
حتّى اآلن كفيلم «الالالند» مثال ً) .في «بي ّاع الخواتم» تظهر عناصر هذا التأثُّر في إصرار شــاهين
وتناسب اللّون مع طبيعة الحوارات وإيقاعها،
ُ ع بالكامل ،واإلضاءة الخافتة
على استوديو مصنو ٍ
ن رؤية شــاهين اصطدمت كثيراً برؤية عاصي ومنصــور المعروف عنهما االهتمام بالتفاصيل
لكــ ّ
كافّة وباإلشراف عليها ،وقد تحد ّث شاهين عن الخالف بقوله «أنا متأكّد إنّي ما أعرفش موسيقى
زي ّهم ،لكنّي كمان متأكّد إنّهم ما يعرفوش سينما زي ّي( .»((5في النهاية ُعرض الفيلم في قاعات
المهمّ في هذه التجربة أنّها دفعت
تكن ُمرضيةُ . ن المداخيل لم ُ الســينما وأُعجب به الن ّ
قاد ،لك ّ
األخويْــن رحبانــي إلى الســينما في تجربتَي ْن الحقتَي ْن .لم تختلف ّ
قصــة فيلم «بي ّاع الخواتم» عن َ
ق ْ ُّ المسرحي ّة ،التي تستشرف أحداثاً سياسي ّة ،عن سعي السّ لطة الدائم
للتحكم باألهالي عبر خل ِ
ن هناك ُمجرماً اســمه راجح َ
أهل القرية بأ ّ خطر ٍ يهد ّدهم؛ هكذا كانت شــخصي ّة «المختار» توهم
المختار ،التي لم تصد ّق يومــاً هذه الكذبة،
دد أمنهــم ،وتــؤد ّي فيــروز َدور «ريما» ابنة أخــت ُ
ي ُهــ ِّ
رتكب جرائم وت ُ َ
نسب قصة راجح من أجل السّ يطرة على الناس .وت ُ َ
فيعترف لها المختار بأنّه اخترع ّ
ن راجح هو بي ّاع الخواتم وأنّه بريء من ّ
كل التّهم. إلى راجح ليتّضح في األخير أ ّ
201
وي ُعيدنا فيلم «سفر برلك» إلى ماضي لبنان ،إلى العام ،1914إب ّان االحتالل العثماني ،حيث يتمّ
اقتياد الجميع للعمل في قطع الخشب ،واستيالء القوّات العثماني ّة على محاصيل القمح ،ومن
ضمن من ُقبض عليهم خطيب عدال مثل عشــرات األســرى ،فتنطلق عدلة للبحث عنه وتكتشــف
ن أفــراداً من المقاومة
ن (عمّتهــا) تنتمــي إلــى المقاومة ،وعندما يعلم العســكر العثماني أ ّ
أ ّ
ُمجتمعــون فــي بيت عمّتها ،تُشــارك عدال فــي تهريب ُ
المقاوميــن المطلوبين للســلطة .وبعد
المضي في مهمّة ُ
المقاومة، ٌ
مجموعة من ُ
المقاومين ،بينهم خطيبها، الكثير من األحداث ،ت ُ ِّ
قرر
ّ
المحت ّ
َل عن بلدهم. ُ فتؤجل عدال الحبّ إلى حين جالء
ِّ
ّ
غــض النظــر عــن موقــع فيلم «بنــت الحــارس» ( )1968إخراج هنــري بركات ،من ضمــن ثالثي ّة ِب
ّ
الخاص باعتباره أحبّ خاصاً ،ال ي ُعزى ذلك إلى رأي فيــروز
ّ الرحابنــة ،فقــد قد َّمــت فيه فيــروز َدوراً
أفالمها إلى قلبها ،بل هو فيلم اكتملت فيه مالمح صورة فيروز بنت الضيعة التي تهتمّ بأحوال
الفيلمي ْن الســابقَ ي ْن
َ ن هذه الصورة لم تُغادر الناس وتُق ِّ
دم تضحيات من أجل األهالي .صحيح أ ّ
ٌ
أســلوب تطا َب َق مع خاصاً بها .وهو
ّ وتناســبت مع بلوغ فيروز أســلوباً
َ قط ،لكنّها ترسَّ ــخت هنا،
ّ
شــخصي ّة نجمة التي قد ّمتها .وتدور أحداث الفيلم في قرية كفر غار ،حيث يعمل حارســان ليلي ّان
في حراسة األهالي ُ
وممتلكاتهم ،أحدهما والد نجمة .ومع استقرار أوضاع القرية ي ُقرّر مجلس
ن القرية تعيش سالماً وطمأنينة ال تحتاج معه إلى حرّاس ،األمر
البلدي ّة فصلهما من مهامّها ،أل ّ
الحارسي ْن للبحث عن رزقهما في مكا ٍ
ن آخر؛ وقد توجَّه أبو نجمة للعمل في الميناء، َ الذي يضطرّ
َّ
فتتنكر افتعال حوادث متواليــة تُعيد الرعب إلى القرية،
َ وتوجَّــه رفيقه إلى دمشــق ،وت ُ ِّ
قرر نجمة
لص أسموه «أبو الكفي ّة» ،وتكتشف في ُمغامراتها فساد أعضاء مجلس القرية الذي اضطرَّ
ي ّ
بز ّ
ص المجهول يجدانالحارســي ْن إلى العمل لكي يســتتبّ األمن .وعندما يقبضان على الل ّ ّ
َ إلعادة
ن مجلس البلدي ّة ال يستطيع ُمعاقبتها ألنّها اكتشفت أسرارهم وفسادهم.
أنّه «نجمة» ،غير أ ّ
202
المقاومة .التغيير أيضاً يبدو في سعي شخصي ّات منفردة
ُ أنّه لم ُ
يكن أمامهم من فرصة سوى
إلــى إحــال العدالة مكان الظلم ،وهو ما فعلته نجمة في فيلم «بنت الحارس» ،كي تغي ّر مصير
نحى عكســيّاً؛ حيث إ ّ
ن َّ
أبيهــا ومعــه رفيقه صالــح .أمّا «بي ّاع الخواتــم» ،فقد اتخذ فيــه التغيير َم ً
الكشــف عن كذبة المختار والتماهي معها لزمن ،لم ي ُ
عد يفرق عن االســتمرار فيها ،وهو درس َ
ُ
المختار. جول ضرورة تغي ُّر َمنطق األهالي في تصديق روايات كتلك التي ابتدعها
المشــاهد
علــى مفهــوم االســتعراض ،الذي يبدأ مــع وجود النجــم ،وتتواصل بثبات الوصالتَ /
الكثيــرة لــه ،والتي قــد تُخطئ هدفها فــي الكثير من األحيــان ،فيصير العرض مجرّ َد اســتعرا ٍ
ض
ٍ
ســمات كثيرة عن يشــكل نوعاً فيلميّــاً على حدة -قد يختلف في
ِّ صوتــي وموســيقي – وهذا ما
خاصاً؛ فهي أغنية تُســاير
ّ الفيلــم الغنائــي .أمّا األغنية في ســينما الرحباني فقد اكتســبت طابعاً
السّ رد وذات حكاية مكتملة األركان ،غير منحازة للصوت على حساب الصورة ،وال تقد ّم الشخصي ّة
203
ن يســتمد ّ حضوره من صوته أو نجومي ّته فقط ،بل هي شخصي ّة
كمكو ٍ
ِّ الرئيســة ،التي هي فيروز،
محوريّــة تحضر بأدائها ،وركيزة ســرد تــدور حولها األحداث ،وتــؤد ّي َدوراً يتماهى فيه الغناء مع
الحــوار واإلســهام في بناء الحدث .وفي ثالثي ّتنا تحضر فيروز بطلــ ًة ُمطلقة ،في «بي ّاع الخواتم»
(ريمــا) وفي «ســفر برلك» (عــدال) وفي «بنت الحارس» (نجمة) .فيــروز هي محور هذه األفالم
(أم كلثوم ،عبد
ّ كمــا هــي عادة الفيلم الغنائي الــذي اعتمد منذ ظهوره على فنّانيــن معروفين
الوه ّــاب ،عبــد الحليــم حافظ) .وباإلضافة إلى تحقيق فيروز هذه الغايــة ،فإ ّ
ن حضورها – بتفاوت
في األداء -لم يســمتد ّ قوته من صوتها فقط .فهي بطلة تفزع للظلم وتنهض لتغييره كما هو
الحــال فــي «بنت الحارس» .إنّها رمز للتغيير ،وهذا التغيير يبدأ من المرأة التي هي في أســفل
الهرم بفعل أعراف وتقاليد قديمة ،وهي أيضاً بطلة تبحث عمّا تبحث عنه أي ّة أنثى ،حبّ في غمرة
الحيــاة ،هي بطلة مرهفة المشــاعر ،تتأثّر لتأثُّــر الناس وتفرح بفرحهم ،لذلك تراها دائمة الغناء
وسط الجموع ،كثيرة االهتمام لما يصيب األهالي.
ّ
تتشــكل مع توالي االحداث وتتماشــى مع ســياق الفعل والحركة، فهناك إذن ،ســردي ّة غنائي ّة،
قلّمــا تخــرج عنــه ،لفائدة الغناء أو كغاي ّة لذاتــه ،هذه الحالة البديعة تختلف عــن كثير من اإلنتاج
السينمائي الغنائي ،وقد بلغت ذروتها في فيلم «بي ّاع الخواتم» وهو الفيلم الذي حمل فائضاً
204
ولــم ُ
تكــن لــه فرصة كبيرة للتصــرُّف على عادته وهو القادم من ســينما المؤ ِّلــف ،فانصرف إلى
الجوانب الفني ّة ،فأبدع في الديكور واأللوان ،غاية اإلبداع ،على الرّغم من أنّه لم يوفّق كثيراً في
القصة التي تدين بالكثير للغناء ومنه تستمد ّ وهجها وسردي ّتها.
ّ عكس ذلك على
«فــي بنت الحارس ،مثال ً تناســب أغنية البداية «غيبي وال تغيبــي» تقديم الفضاء الذي تدور فيه
الحاجبين» في مشــهد احتفال
َ األحــداث كإطــار موســيقي ،ثمّ سنســمع بعدها أغنية «يا عاقــد
البلديّــة وهــي أغنية تتــرد ّد كلماتها في القاعة ،قد تنطبق على الجميع بما فيهم والد نجمة .أمّا
أغنيــة «تــك تك يمّ ســليمان» التي أصبحت من أهمّ أغاني األطفال ،فجاءت في ســياق تدريس
نجمة للموسيقى في المدرسة ،...أمّا «بي ّاع الخواتم» في ُمكننا أن نعتبر األغنية هي قناة الحوار،
فقد اســتحوذت تقريباً على تواصلي ّة الفيلم ،حتّى وإن تعلَّق األمر بالتشــنُّج والتوتّر ،إنّها ْ
تضطلع
دور ٍ ســردي وليس فواصل اســتعراض فقــط»( .((5كلمات األغاني ترتبط في ســياق القول مع
بــ َ
الحوار قبلها وبعدها في أحيان كثيرة ،ويزيدها اللّحن مناســبته لحال المشــهد ودرجة االنفعال
ّ
خاصة ّ
شــك من انفتاح عالمهما الســينمائي على عوالهما األخرى فيه ،إ ّ
ن هذه الميزة تأتي وال
ّ
تقل ّ
النص أهمي ّة ال إيقاعي ّة الشــعر ووســائل إيصال المعنى فيه لذلك فقد «أعطيا الكلمة أو
عن الموســيقى ،فعاصي ومنصور شــاعران بقدر ما ُ
هما موسيقي ّان ،ال أسبقي ّة عندهما للكلمة
النص صياغة اللّحن ،أي أ ّ
ن هناك عالقة ّ ق الترابط ،حتّى لو ســبقت كتابة ْ
على الموســيقى في خل ِ
جدلي ّة بين اللّغة والموسيقى في عملي ّة اإلبداع لديهما»(.((5
خاتمة
205
د .حسن مدن*
ي
العربي المصر ّ
ّ «لوال الموسيقى لكانت الحياة غلطة» ،هكذا قال نيتشه ذات مرّة .أمّا الشاعر
المثقفين العرب« :فيروز هي عد ّة شغلكم» .يومها ّ
عقب ّ خاطباً
مرسي جميل عزيز فقد قال ُم ِ
المثقفين مؤي ّداً ما ذهب إليه عزيز« :إنّ في قلب ّ
كل َمن قرأ جملتَي ْن ،مساحة ضوء ّ أحد هؤالء
لفيروز وأغانيها».
الت أوقاتنا إلى مشاوير من عربي مساح َة ضوءٍ لفيروز التي َأ َح ْ كل مواطنن أنّ في قلب ّ ونظ ّ
ّ
وأســهمت في َصو ِْغ أحالمنا عــن الحبّ والوطن والفرح والحزن ،وبموســيقى وكلمات الهنــاء َ
ُ
صوت فيروز األخويْــن رحباني ،وســواهما من كبــار الملحّنين في لبنان والعا َلم العربــيَ ،صن ََع
َ
َمجــداً غنائيّــاً ،انطلق من لبنان وطاف في ديار العــرب ،ال بل وطاف العا َلم كلّه ،وأخذت بأيدينا
ل بــاردة تُدفئها نيران
بعيــداً إلــى بيــوت «ممحي ّة» وراء حــدود العتمة والثلــج والريح ،وإلى ليا ٍ
ع» تلقي برأســها على أكتاف جبال شــمّاء ،ومجّــدت الحبّ في لحظات
مواقــد ناعســة في «ضي ٍ
العربي على امتداد رقعة
ّ الوجدان
َ غطت تجلّيه ،بأغا ٍ
ن باتت لنا ذاكرة فني ّة وموسيقي ّة مشتركة ّ
ي يبقى خالداً بعد أن يفنى الوجود ،كما في جاء
هذا الوطن الكبير ،بغناءٍ هو للوجود سرّ ،وبنا ٍ
قصيدة جبران الشهيرة التي غنَّتها.
207
الملحّنين الذين َأطلقوا ما في حنجرة فيروز من طاقات ،ابنها زياد الرحبانيُ ،
المتماثل ومن بين ُ
ُ
والمتباين في آن مع المدرسة الرحباني ّة ،الواصل لها والخارج على صرامة بعض قواعدها ،الذي
الكلمة لدى زياد كاتب الكلمات أيضاً ،مأخوذة من الحياة :بســيطة وعفوي ّة وحارّة ،ولكنّها تقد ّم
ُحول المحكي واليومي إلى جملة شــعري ّة وموســيقي ّة تنفذ إلى األعماق، ّ
الخاص الذي ي ِّ وهجها
َ
قداً ومركّباً في نســيجٍ يؤكّد موهبته ،وأســعفه في ذلك صوت
جعل من البســيط مع ّ
َ هــو الــذي
ٍ
طاقات مجهولة. فيروز الذي يبدو كأنّه يكتشف فيه
لكنّنــا َأحببنــا فيروز في الحا َليْــن ،فيروز المعتّقة وفيروز الجديدة ،فيــروز الحُلم ،وفيروز الحياة،
المحاطة بهالة األســطورة ،وفيروز التي كســر عنها زياد قيد األســطورة ،فإذا بها هنا أيضاً
فيروز ُ
المشــغولة بعنايــة وأناقة ودقّة ،أم إلــى فيروز القادمة من الحياة ،فيروز الكلمة المغموســة
باليومــي والعــادي والمألوف ،من الحكي الذي ي ُقال آالف المرّات ،ولك ّ
ن موهبة زياد تصنع منه
شــعراً وموســيقى ،فيهما «شــعبي ّة» الحياة ،على طريقة أغاني ســي ّد درويش مثال ً ،لنعرف ولو
ن انحيازنا ،األســاس ،هو إلى فيروز ،إلى الدهشــة التي تأتينا في ّ
كل مرّة نسمع فيها بعد حين أ ّ
ُ
المدن العربي ّة مغنّية
ُ
والمــدن العربي ّة كما فعلت فيروز ،وبعض هذه األغاني مــا مــن مطربة غنَّت عن وإلى العواصم
للمدن التي تزورها إلحياء حفالتها فيها ،واســتمرّت على هذا التقليد لعقود ٍ عد ّة؛
ُ ّ
تخصهــا كانــت
«ســيف فليشــهر» ،من كلمات ســعيد عقل ،والتي اشــتهر منها المقطع القائل« :اآلن ..اآلن
208
ولســعيد عقل أيضاً غنّت «يا شــام عاد الصيف» التي كانت ت ُ ِّ
دشــن بها حف َلها السنوي في افتتاح
معرض دمشــق الدولي ،وعن دمشــق أيضاً غنّت« :سائليني حين ّ
عطرت السالم /كيف غار الورد
ّ
واعتل الخزام /أنا لو رحت أسترضي الشذا /النثنى لبنان عطراً يا شآم».
ن ُ
ومــد ٍ
ن عربي ّة باإلضافــة إلــى فلســطين وعاصمتهــا القــدس ،وإلى دمشــق ،غنّت فيــروز لبلدا ٍ
ُمختلفــة ،فعــن بغداد غنّت في أثنــاء حفلها في العاصمة العراقي ّة« :بغداد والشــعراء والصو ُر/
ب الزمان وضو ُع ُه َ
العط ُر /يا ألف ليل َة يا ُم َكمّلة األعراس /يغسل وجهك القم ُر» .وباإلضافة َذ َ
ه ُ
شمســك الذهــب» ،وأهدت األردن األغنية التي تقول« :عمّان فــي القلب /أنت الجمر والجاه/
أغنيتها عن تونس التي قد ّمتها في أوّل حفل لها هناك في ستيني ّات القرن الماضي ،والتي جاء
في مطلعها« :إليك من لبنان أغنية صديقة /يا تونس الشقيقة يا وردة البلدان /إليك يا سليلة
وفــي العــام 1962أهدت فيروز ،من كلمــات األخوي ْن رحباني ،المناضلة الجزائري ّة جميلة بوحيرد
ومناضليها في تلك الحقبة التي شهدت المد ّ الكفاحي والوطني .وبالمثل حي ّت فيروز المغرب،
في أغنية جاء في كلماتها« :من وطني تحي ّة الرجولة /إلى شواطئ المغرب األبي ّة /إنّهم الميالد
ُ
التســامح مكة المكرّمة ،والتي نُظر إليها كعالمة ٍ من عالمات
األغنية الشــهيرة لفيروز عن مدينة ّ
ّ
والتعصب الدينــي ،وتآخــي األديــان ،وتعاي ُش أهلها في ُمجتمعاتنا ،قبل أن تعــمّ َموجة التطرّف
209
والكراهيّــة بصورهــا كافّــة في العا َلم العربي ،وخصوصاً أ ّ
ن كاتب الكلمات هو ســعيد عقل ،وأ ّ
ن
ُ
المسلمين ،فجاءت هذه الكلمات: في أن ي ُقد ّموا أغني ًة لقبلة
وحيــن النظر إلى الغناء والموســيقى فــي بلدان الخليج والجزيرة العربي ّة ،ســنالحظ أنّهما تأثَّرا،
بطبيعــة الحــال ،بالقــادم مــن األغاني والموســيقى مــن الحواضر العربيّــة وغير العربيّــة أيضاً،
ّ
الخاصــة بالمنطقة ونابعة منها، ن هناك فنونــاً هي ابنة البيئة
وخصوصــاً مــن فارس والهند ،لك ّ
الجزيــرة العربيّــة ،فــي نجد مثــا ً ،ولها تجلّيات في شــرقي الجزيــرة وفي المناطق السّ ــاحلي ّة ،ال
نعثــر علــى نظيــر ٍ أو تجل ّ ٍ
يات لها في الحجاز والعــراق و ُعمان واليمن ،ومنها رقصتا «السّ ــامري»
الكويتي عبد
ُّ الموســيقي
ُّ اســتنبت
َ ّ
الصــوت في منطقــة الخليج ،حيث ومــن األمثلــة أيضاً ف ّ
ن
اللّــه الفــرج تقليــد مصاحبة العود والمرواس ،فــي مصاحبة غناء الصــوت ،وأصول المرواس
ّ
الصــوت عن نطاق منشــئه في موســيقي ،وقد خــرج غناء
ّ ع ِ
كضابــط إيقــا ٍ هنديّــة ،وي ُســتخدم
واألحساء ،بل تجاوز ذلك إلى مناطق أبعد ،ليصل إلى بالد اليمن والحجاز ،وحتّى العراق التي
210
الكويتي اللّذيْــن ارتحال إلى العراق في أواخر
ّ الكويتي وداود
ّ وصلهــا ّ
الصــوت عن طريــق صالح
بلدان
ِ مع تطوُّر األغنية العربي ّة في العصر الحديث ،وشيوع الراديو والتلفزيون ،صار المتل ّ
قون في
الخليج والجزيرة العربي ّة ،يستمعون إلى ما تبثّه تلك الوسائط من أغانٍ ،وي ُعجبون ويتأثّرون بها،
ورب ّمــا يكــون دخول األغنية الفيروزي ّة في ُمجتمعات الخليج العربي تالياً لدخول وشــيوع الطرب
أم كلثوم ومحمّد عبــد الوه ّاب وعبد الحليم حافظ وشــادية ونجاة الصغيرة
بأصــوات ّ
ِ المصــري
باإلضافــة إلــى األغانــي المصري ّة ،كان للغنــاء العراقي ذيوع فــي بلدان الخليــج ،بالنظر إلى قرب
العراق الجغرافي ،وأوجه التشــابه الكثيرة في التكوين المجتمعي والثقافي بينه وبعض بلدان
المنطقة ،بما في ذلك في الكثير من مفردات اللّهجة اليومي ّة ،بخاصة في الكويت والبحرين ،ما
خلق تشابهاً في ذائقة التل ّ
قي أيضاً.
نرجّــح ،وهــذا أمر بنيناه على شــيء من الذاكرة وأيضاً من بعض شــهادات أبنــاء وبنات األجيال
المصري والعراقي.
ُ
حضرت محاضرة عن األغنية العربي ّة ،في مطالع ســبعيني ّات القرن وفي هذا الســياق أذكر أنّني
الماضي ّ
نظمتها أسرة األدباء والكتّاب في البحرين ،وكنت يومها لمّا أزل تلميذاً في المرحلة
أم د ُم َ
قارن ًة بين غناء الســي ّدتَي ْن ّ ٌ
صديق شــابّ يكبرنــي قليال ًَ ،عقَ َ الثانويّــة ،كان المتحــد ّث فيها
خف فيها انحيازه لغناء فيروزَ ،صوتاً و َلحناً وكلمات ،حتّى أنّه بدا ُمتحامال ً
كلثــوم وفيــروز ،لم َي ِ
211
أم كلثــوم ،حيــث رأى فــي أغانيهــا «تخديــراً» للجماهيــر وإلهاءً لها عــن االهتمام
علــى غنــاء ّ
العام ،فبدل أن تنصــرف الجماهير إلى قضاياهــا الكبرى ،تغرق
ّ بالشــأنَي ْن الوطنــي والقومــي
وعي جديد
ٍ ســهم في تشــكيلن األغنية الفيروزي ّة ت ُ
في مطوّالت «كوكب الشــرق» ،فيما رأى أ ّ
ِ
ُمختلف لدى المتل ّ
قين.
ن أدباء ومث ّ
قفين كباراً حاضر كيف يفسّ ــر أ ّ
َ ُ
الم َ
ســأل وأذكر أ ّ
ن أحد الحاضرين في تلك الندوة
الذين لحَّنوها.
ن لتنامي نفوذ االتّجاهات والميول القومي ّة واليســاري ّة في ولو َأخذنا البحرين كمثا ٍ
ل فســنَجد أ ّ
المجتمع ،بين ســتّيني ّات وســبعيني ّات القرن الماضي ،ورب ّما يص ّ
ح هذا على الكويت أيضاًَ ،دوراً ال ُ
ي ُمكن تجاهله في الترويج ألغاني فيروز والرحابنة ،انطالقاً من قناعة سادت في صفوف ُمنتسبي
هــذه التيّــارات ُ
ومناصريها ،بأ ّ
ن هــذه األغاني أقرب إلى الوعي الجديد الذي ينشــدونه للمجتمع،
قارنة مع األغنيات العاطفي ّة الرائجة ،وال نســتبعد أن يكــون ألغاني فيروز ُ
بالم َ مــن جهــة أخــرى،
عن القدس وفلسطين ،بالذات ،أثره الكبير في تكوّن هذا االنطباع وشيوعه ،فضال ً عن مضامين
مسرحي ّاتها الغنائي ّة وما تنطوي عليه من معا ٍ
ن ودالالت.
وأصبحت الكثي ُر من المدارس االبتدائي ّة واإلعدادي ّة والثانوي ّة ،للبنين والبنات على حدٍّ سواء ،في
تلك الفترة ،تحرص على ّ
بث أغاني فيروز في الفسح بين الحِ صص الدراسي ّة لتقريبها إلى َمسامِ ع
التلميــذات والتالميــذ ،ويعــود الفضل في ذلك إلى المعلّمين والمعلّمــات الذين يرون في ف ّ
ن
فيروز أنموذجاً للف ّ
ن الراقي الذي يجب أن يتعوَّد التالميذ على تذوُّقه.
212
ٍ
طقس والعامليــن إلى أماكن عملهم بســي ّاراتهمَ ،
فأصبح االســتماع إلى أغانــي فيروز بمثابة
بخاصة في فصل الصيف ،الذي كثيراً ما تُقام فيه حفالت ومهرجانات كانت فيروز تشارك
ّ عافيته،
فتح ،هو اآلخر ،نافذ ًة أخرى ألولئك السوّاح على وجه لبنان الثقافي والفنّي
َ فيها ،فإ ّ
ن هذا األمر
وإنّما صاروا يشــاهدونها عبر الشاشــة وهي تغنّي ،ما َأســهم بالتأكيد في تقريبها أكثر فأكثر
مــن المتل ّ
قيــن .وفي الفترة َعي ْنهــا كان يتمّ تداوُل أغنيات فيروز ،وحتّى مســرحي ّاتها ،خصوصاً
زمن
َ بيــن المأخوذيــن بفنّها ،عبر األســطوانات أ ّ
والً ،ثمّ عبر أشــرطة الكاســيت ،قبــل أن َنل َِج
ُ
المدمجة. األقراص
ٍ
حفالت غنائيّــة فيها ،وكانت ٌ
وقــت طويل حتّى زارت فيــروز بعض دول الخليــج إلحياء يمــض
ِ لــم
َ
تنــال باقي إمارات َ
وحدث هذا قبل أن البدايــة مــن الكويت أيضاً في ســتيني ّات العقــد الماضي،
213
«العيد يروي ويروي سناها يلثم منها المحي ّا /غنّي الكويت وغنّي عالها ويومها الوطني ّا
مد ّ شراع وشط يموج عليه تبنى البروج /يا وردة طاب منها األريج يا عطرها العربي ّا
بين الكويت وأرض بالدي يا طيبه من وداد /نحن وإي ّاكم في الجهاد نبني المصير األبي ّا
عن الدماء تهدى إلى تراب يفدى /عن انتشاق المجد والرجولة».
لــم ُ
تكــن تلك زيارة فيروز الوحيدة للكويت ،ففي مطالع الثمانيني ّات من القرن الماضي زارتها
الشــيء ،وعلــى الرّغم ممّا ُع ِرف عن فيروز مــن عدم َميلها للتصريحــات اإلعالمي ّة ،لكنّها عب ّرت
ٍ
حديث لها مع التلفزيون الكويتي عن شــكرها للكويت لوقوفها مع لبنان وشــعبه يومهــا فــي
فــي مِ حنتــه ،ودعمها له ،آملة في أن يعود لبنان لالســتقرار واألمن ،ليســتعيد مكانته كوجهة
فــي الثمانينيّــات من القرن الماضي أيضاً ،وبالتحديد في العــام ،1984غنّت فيروز ،في زيارة لها
لدولة اإلمارات العربي ّة المتّحدة كلمات قصيدة نقتطف منها األبيات التالية:
وجعلْـنـــــا موعِــ َ
د المـــــجد َغــدا َ عــادت الــرّايات تجتـــا ُ
ح المدى
الــبــحــر ويــنـــــــــــــــــهــد ُّ الــصــدى ٍ
إمــــارات على أبوابها يص ُرخ يـــا
ُ
وأيــــــــام الـــــــــحِ ــدا َّ
الصـــــــيــد ُ
زمــن ج رمــلــ ُه يــت ـ َلـ ّ
ـقــانــي خــلــي ـ ٌ
غربــة اإلبحــار فـي اللّيــل يـــــدا ســـاهـــم َمــــــد ْ
َّت له ٌ ٌ
ــــــراعوش
ِ
ض َموعِـــــدا َّ
كـــل حـسنـــاءَ بــأر ٍ ت حــبَّــاتُــهــا
د ْ
واعــــــــ َ
َ وآللـــــــي..
ــمس كّعِ قْد ٍ ن ُ ِّ
ـــــضدا ِ ّ
الش ط َلع
َم ْ إمـــــــارات فـــــــــــتــيَّـ ٍ
ـات على ٍ يـــا
214
صدى أوســع لدى األجيــال الجديدة ،لك ْ
ن تبقى كبيــرة في القلوب ً أغانيهــا مــن ألحــان ابنها زياد
215
كريم جمال*
ُّ
تفــكك ثالوث الرحابنة فــي مطلــع عقــد الثمانيني ّات من القرن الماضي وبعد أشــهر قليلة من
برمــوزه الثالثة :عاصــي ومنصور وفيروزَ ،أجرت مجلّة «الموعــد» اللّبناني ّة حواراً صحافيّاً مط ّ
والً
ٍ
حديث مكتوب للموعد» ،وذلك مع السي ّدة فيروز نُشر تحت عنوان« :فيروز تقول ّ
كل شيء في
في عدد المجلّة الصادر يوم 10أبريل /نيســان ،1980تحد ّثت فيه ســفيرتنا إلى النجوم السي ّدة
فيــروز عــن توابع زلزال خروجهــا من دائرةِ مؤسَّ ســة الرحابنة ،وعن بعض مشــروعاتها الفنّي ّة
ُ
المقبلة.. ُ
المكتملة وتلك القديمة غير
مــن ضمــن حوارهــا ،تحد َّثــت فيــروز رب ّما ألوّل مــرّة بشــيءٍ من التفصيــل عن ُعمــق عالقتها
ّ
المجاّلت دها المصوّرون وأكَّدهــا ُم ِّ
حررو رص َ
أم كلثــوم ،تلك العالقــة القديمة التي َ بالســي ّدة ّ
افتتحــت األخيرة مهرجان
َ ألم كلثــوم للبنان ،وخصوصــاً منذ أن
ّ الفنيّــة مــع ّ
كل زيــارة تاريخي ّة
بعلبــك الدولــي للمرّة األولــى في تمّوز /يوليــو .1966تقول فيروز لمجلّــة «الموعد»« :نعم
أم كلثوم ،التقينــا للمرّة األولى عندما
كان هنــاك صداقــة طي ّبــة بيني وبين المطربــة الكبيرة ّ
زرت مصر ،وكان لهــا خارج صوتهــا العظيم حضو ٌر أخّــاذ ،لعلّه ال
ُ غنَّــت فــي بعلبــك ،ثمّ عندمــا
يقــل قــدرة عــن صوتها في حب ّها واإلعجــاب بها ،أمّا بالنســبة إلى معنى الفنّ ،فقــد كان ل ُ
ِك ٍّل ّ
216
ســتمع الــذي يتمنّى أن يكون له مــا لها ،إنّني أبحث
ِ ُ
الم عجب ،ال حبّ ُ
الم َ ســتمع
ِ ُ
الم هــو حبّ
عمّا ي ُناســبني وهكذا هي كانت!”
قاربة المنهجي ّة ــكل الجزء األخير من إجابة الســي ّدة فيروز مفتاحاً َمع ِْرفيّاً لفهْم تلك ُ
الم َ رب ّما ي َ
ُش ِّ
مشروعي ْن نسائي َّي ْن كانا لهُما أعمق األثر في رفْع مستوى األغنية العربي ّة أداءً وتعبيراً
َ بين أكبر
أم فاضلة؛ فعلى الرّغم مــن أ ّ
ن ميراث ّ قاربة ال تعني بالضــرورة ُ
الم َ الم َ وجمــاالً .وأؤ ِّكــد هنــا أ ّ
ن ُ
ّ
يشكالن الظاهرتَي ْن النسائيّتَي ْن األعمق في الذاكرة العربي ّة ،واألكثر كلثوم وحصيلة ما غنَّته فيروز
المشــروعي ْن ،ال ُ
التوافق في أهمي ّة ْش الغناء العربي إلى اليومّ ،
إاّل أ ّ
ن ذلك اسْ ــتَحواذاً على َعر ِ
َ
قاربة بين الظاهرتَي ْن. قارنة ،وي ُذكي ُ
الم َ التام ،وذلك ما ينفي إمكاني ّة ُ
الم َ ّ يعني بالضرورة التطاب ُق
فطنت إليه فيروز في رد ّها على سؤال مجلّة «الموعد»؛ إذ أكَّدت أ ّ
ن ما يصلح لها ْ وهو األمر الذي
عجب ،ال ستمع ُ
الم َ ِ اإلعجاب بينهما كان قائماً على منطق ُ
الم َ ألم كلثوم ،وأ ّ
ن ال يصلح بالضرورة ّ
أم كلثوم وفيروز مختلف ،وطبيعة اللّغة
الفنّان الذي يســعى إلى التقليد؛ فمفهوم الغناء بين ّ
المشــروعي ْن تكاد تكون ُمتنافِ رة ،باإلضافة إلى أ ّ
ن هوي ّة َ الشــعري ّة والمضامين الموسيقي ّة بين
ٍ
دالالت مجتمعي ّة وتاريخي ّة وسياسّ ــي ّة ُمختلفة .ففي الوقت الذي َ
ســيطرت فيه ٍّ
كل منهما تحمل
الهوي ّة الغنائي ّة المصري ّة على امتداد األرض العربي ّة ،قادت فيروز بتجربتها المركزي ّة مع الرحابنة
ّ
مســتقاّل ً له مالمح لبناني ّة واضحة ،ويقوم في األســاس على ترســيخ االستقالل تي ّاراً ُموســيقيّاً
ْــف اللّهجة المصري ّة ،وذلك بعدمــا َف َر َض رياض الصلح، ّ ّ
وتدعيــم اللهجــة اللبناني ّة في ُم َ
واجهة زح ِ
بصفتــه رئيســاً للوزراء ومســؤوالً عن اإلذاعــة اللّبناني ّة قــراره التاريخي في العــام 1943بفر ْض
اللّهجــة اللّبنانيّــة علــى كُتّاب األغاني بدالً من اللّهجــة المصري ّة .كانت ّ
أم كلثــوم في تلك الفترة
دم نفسها إلى الجماهير العربي ّة باعتبارها صورة محدثة من طرب المشايخ القديم ،إذ يقوم
تق ِّ
غناؤها على قدرة الصوت وإمكاني ّاته الهائلة ،فضال ً عن نِظام الوصالت والتكرار الغنائي َّ
الطربي،
فتوثَّقــت الصلــة بيــن ّ
أم كلثوم وبين أنمــاط الغناء التراثي ّة التي كانت علــى دراية كبيرة بها ،أي
تلك األشكال التي استَقَ تْها من المشايخ في صباها ،واستغلَّت فنون التجويد واإلنشاد الديني
خاص بها ،وهــو ما خا َلفته فيروز التي َقطعت كلّيّاً،
ّ وتــاوة القــرآن في إنتاج نموذج غنائي جديد
منــذ أن غنَّــت «راجعة» و»عتاب» في العــام ّ ،1953
كل الصالت بذلك النَّوع من الغناء ،واعتم َ
دت
علــى األغنية القصيرة كنَهــجٍ غنائي ،بعيداً من التكرار والتطريب المفتــوح ،وبطريقة ٍ تكاد ت ُ ِ
قارب
217
ُّ
التقشــف في اســتغالل القــدرات الصوتي ّةُ ،مســتدعي ًة في أدائهــا بعضاً مِ ن مخزون الكالســيك
المسيحي.
ّ الديني
حاو َل األخوان الرحباني المز ْ َج بين الغناء
َ وفي سياق التطوُّر الهائل الذي شهدته مسيرة فيروز،
ن على أساس الكلمة اللّبناني ّة العربي بصورته المحدثة والبسيطة وبين الموسيقى الغربي ّة ،ولك ْ
الواضحــة ،وفــي إطار توليفة ٍ رحباني ّة مســتقلّة عــن النموذج المصري الذي كانت تتزعّمه ســي ّدة
أم كلثوم؛ وهو ما نالحظه في «نحــن والقمر جيران» ،و«يا مايلة على الغصن»،
الغنــاء العربــي ّ
و«البنت الشلبي ّة» والعديد من األغاني الفيروزي ّة.
ي الغناء النســائي هو قالب القصيدة الغنائي ّة؛ فالقصيدة عند ّ
وجه ْ
َ ولعل أبرز مالمح الخالف بين
أم كلثوم ذات ضوابط كالسيكي ّة واضحة ،وذلك من حيث اللّحن والكلمات وطريقة األداء ،فضال ً ّ
أم كلثوم َّ
تتخل ّ عــن الزمــن ومــد ّة الغناء .وحتّى نهاية عقد الســتّيني ّات من القرن الماضي ،لــم
ــر َض ذلك التحو ُّل الكبير في َمســيرتها بدءاً من أغنية «حبّ
عــن صرامــة تلك المعايير ،إلى أن َف َ
متحررة َلحناً وكلم ًة
ِّ إيــه» 1960 -ضرور َة تقب ُّل األنماط الجديــدة من الغناء العربي ،فغنَّت قصائد
مــن ألحــان محمّد عبد الوه ّاب مثل «هذه َليلتي» ،1968 -ثمّ قصيدتها الرائعة «أصبح عندي اآلن
بندقيّــة» ،1969 -والتــي َيعتقد البعض أنّهــا من توزيع الرحابنة (من توزيــع آندريه رايدر) ،وذلك
الموســيقي للمقامات الشرقي ّة ،والذي كان ي ُخرجها من منطق التخت
ّ بســبب تفرّدهم بالتوزيع
أم كلثوم ذاتها تقول لعاصــي الرحباني خالل
الشــرقي ،تلــك المقدرة فــي التوزيع التي َجعلــت ّ
ّ
«أنت في التوزيع إعجاز ،دي الحقيقة ،ما حصلش في الشرق
َ زيارتها لبنان في تمّوز /يوليو :1966
توزيــع علــى عِلم وأصول ّ
إاّل على يديك!»ـ وذلك كلّه طبعاً بخــاف الزمن القصير للقصيدة ،الذي
ميَّــز القصيدة الفيروزي ّة عــن نظيرتها الكلثومي ّة .فالقصيدة عند فيروز ال يتطلَّب أداؤها أكثر من
ّ
الموشــحات عشــر دقائق مثل «لملمت ذكرى األمس» و«ســنرجع يوماً إلى حي ّنا» ،أو في نمط
َي فلسطين اللّتَي ْن َمألتا األندلسي ّة التي تُعتبر جزءاً ُمه ّ
ماً في مسيرة فيروز والرحابنة ،أو كقصيدت ْ
الدنيــا َ
وشــغلتا المنطقة العربي ّة قبل هزيمــة حزيران /يونيو 1967وبعدهــا« ،أجراس العودة»
ْ
افتتحت بها َ
«ســافرت القضي ّة» التــي و«زهــرة المدائــن» ،باإلضافــة إلى القصيــدة النثري ّة الفذّة
السي ّدة فيروز مسرحي ّة «الشخص» في دمشق في العام .1968
َيطرح كتاب إينيس فاينريش «فيروز واألخوان رحباني :الموســيقى والحداثة واألمّة في لبنان»
دداً عناصر واضحة مي َّزت (ألمانيــا :دار إرغــون )2006 ،تصوُّراً ُمه ّ
ماً عن ظاهرة فيروز الغنائي ّة ،مح ِّ
218
أم كلثوم الســاطعة؛ فاألغنية عنــد الرحبانة وفيــروز ليس هدفها مشــروعها فــي ّ
ظل شــمس ّ
الطرب واإلحســاس بجمالي ّات الن َّ َغم الشرقي بقدر ترسيخ التعبيري ّة ومنْح األغنية ب ُعداً اجتماعيّاً
واألخوي ْن رحباني
َ ُمجتمعيّــة فريــدة أحاطت بصورتها المصري ّة والعربي ّة ،فإ ّ
ن المســرح عند فيروز
ْ ن للواقــع اللّبناني ،وت
َرجمت تطوّراتِــه االجتماعي ّة كان المرآة الواســعة التي َعكســت رؤيــ َة الف ّ
ن مســرح فيروز والرحابنة كان َمسرحاً أصيال ً وظاهرة فريدة في
والسياســي ّة .لذا ي ُمكن القول إ ّ
ن الشــعبي والتقاليــد اللّبناني ّة .لك ْ
ن بالطبع تاريــخ الغناء العربي ،بعدما اســتقى أفكاره من الف ّ
ي ُمكن تفســير أهدافه بلغة ٍ إنســاني ّة واسعة ،ألنّه في جوهره كان دعو ًة للخير والجمال والتحرُّر،
وهو ما نالحظه في مســيرة فيروز المســرحي ّة بدءاً من «البلعلبكي ّة» في العام 1961وحتّى آخر
تعاون بينها وبين الرحابنة في مسرحي ّة «بترا» في العام .1978
وصن ََع ّ
مســتقاّل ً عــن أغنية ّ
أم كلثــوم الفردي ّةَ ، المســرحي نموذجاً مــن هنــا َف َر َض غناءُ فيروز
ّ
عتمد باألســاس ُ
الم ِ خاصة بها تتناســب مع شــخصي ّة فيــروز الغنائي ّة ،و َبل ْ َو َر جوهر صوتها ّ لغــ ًة
علــى الميكروفون ،والقادر على التن ُّ
قل السَّ ــلِس بين الغنــاء الدرامي بالصوت الصدري وغناء
الــرأس (المســتعار) ،وذلــك من خالل صياغــة صوتي ّة ُمحكمة وقــادرة على الغنــاء المنضبط،
219
وعلى اســتعمال ّ
كل تلك التلوينات الغنائي ّة .فالمســرح الغنائــي ال يحتمل التطريب المفتوح
وال يســعى إلــى التكــرار الغنائــي وحالة التَّســل ْ ُ
طن ،بل يهــدف إلى تكثيــف مظاهــر التعبيري ّة
ولنذكر هنا أغنية «بعلبك أنا شمعة على دراجك» في العام 1961وغيرها .وال بد ّ من اإلشارة
ــل إلى كمالــه الذهبي في مســرح الرحابنــة تحديــداً ،وإن كان ذلك
وص َ إلــى أ ّ
ن صــوت فيــروز َ
لــم َيمنــع ُملحّنين آخرين من اســتغالل قدراتهــا الصوتي ّة الكبيــرة ،وبالطبع على رأس هؤالء
الموسيقار محمّد عبد الوه ّاب في روائعه الثالث معها «سهار»« ،1961 -سكن اللّيل»،1967 -
«مــرّ بــي» ،1967 -باإلضافة إلى فيلمــون وهبي رائد األغنية الطربي ّة ذات النكهة الشــعبي ّة في
َمسيرة فيروز.
نجاح ٍّ
كل منهما َ أم كلثوم وفيروز
ي السي ّدتَي ْن ّ
مشروع ْ
َ رب ّما ت ُ ِّ
فسر تلك االختالفات العميقة بين
واستمراري ّة ظاهرتهما الغنائي ّة حتّى بعد مرور عقود ٍ طويلة على نقطة بدايتهما .لذا ظلَّت فيروز
طوال ســنوات الخمســيني ّات والستّيني ّات من القرن الماضي تَحصد المزيد من النجاح والشهرة
ُالحظ ذلــك جليّاً في الزيارة
أم كلثوم ودولتها الغنائيّــة الكبرى؛ ورب ّما ي َ ّ
ظــل عصر ّ فــي مصــر في
لألخوي ْن رحباني وفيروز القاهرة في تشــرين األوّل /أكتوبر .1966فقد احتفَ ت بقدومهم
َ الثانية
ّ
كل الهيئات الفني ّة الرسمي ّة وغير الرسمي ّة في مصر ،وأفردت صحف الجمهوري ّة العربي ّة المتّحدة
صفحــات كاملــة في مــدْح ذلك اللّــون الغنائي الممي َّزَ ،
وأجــرت فيروز واألخــوان رحباني مقابل ًة ٍ
ِ
تلفزيوني ّة مهمّة في التلفزيون العربي أدارتها اإلعالمي ّة سلوى حجازي ،وفي الوقت ذاته واص َلت
أم كلثوم تأســيس مجدها الموســيقي وتحقيق نجاحات هائلة في مســيرتها الطربي ّة حتّى مع
ّ
ظهــور ألــوا ٍ
ن عصري ّة مــن ف ّ
ن الغناء العربــي ،وتمد ُّد المشــروع الرحباني -الفيروزي وتوسّ ــعه،
وخصوصــاً مــع شــيوع األيديولوجي ّات اليســاري ّة في المنطقــة العربي ّة ،وتبنّــي المث ّ
قفين العرب
ن وجمالي ّاته ،وهو ما يؤكّد أنّه على الرّغم من الخالف الجذري بين صورت ْ
َي النظر َة االشتراكي ّة للف ّ
ن عوامل االئتالف -وإن كانت قليلة -ال تزال متوافرة .ففرادة موهبة ٍّ
كل الغناء النســائيّ ،
إاّل أ ّ
المشروعي ْن
َ شتر َكي ْن البارزَ ي ْن في بقاء
َ منهما ،والقدرة على التجد ُّد واالنبعاث ،كانا العام َلي ْن ُ
الم
واستمراري ّتهما.
ُ
صوت اإلنسان في اإلجمال وتنخفض فيه بالتدريج قدراته الصوتي ّة، ففي الوقت الذي ينحدر فيه
أم كلثوم تكتسب مزيداً من الجماهيري ّة العريضة مع ملحّنيها الجُدد :محمّد عبد الوه ّاب،
كانت ّ
بليــغ حمــدي ،محمّد الموجي وغيرهم .وعلى الض ّ
فة األخرى ،كان خرو ُ
ج فيروز من دائرة الرحابنة
في نهاية السبعيني ّات من القرن الماضي أمراً حتميّاً ِلت ْ
َشكيل مرحلة جديدة ُ
ومهمّة في َمسيرتها
220
مع ابنها الموســيقار زياد رحباني .ورب ّما هي المصادفة وحدها التي َجعلت مرحلة االنبعاث تلك
في حياة فيروز ُمطا ِبقة لتلك المرحلة التجديدي ّة األخيرة في حياة ّ
أم كلثوم؛ إذ كانت المرحلتان
221
عمرو ماهر*
كانــون الثانــي /يناير ،1955وهو تاريخ زفــاف فيروز من عاصي ..بمعنى أنّ اإلذاعة المصري ّة
للثالثي ،مــا َد َف َع بعاصي إلى التعجيل بالزواج -وهو ما كان ســيحدث عاجال ً
ّ وجَّهــت الدعــوة
ُ
المحافِ ظة أو آجــا ً -إذ إنّــه لــم ُ
يكــن مــن المعقول أو المقبول لآلنســة الشــاب ّة الخجــول
ّ
وتظــل هناك لمد ّة طويلة مــن دون أن يكون هناك فيــروز أن تَقبــل الســفر إلى القاهرة،
رسمي بعاصي.
ّ ٌ
رباط
يحــبّ الجمهــور المصري َمن يســعى إليه ويتقرَّب منــه ،ي ُغنّي بلهجته ولســانِه ويمدحه ويمدح
مكثــت فيــروز -العروس الجديدة -في مصر مع زوجها عاصي الرحباني ما يقارب الســتّة أشــهر،
َ
وهي أطول مد ّة تترك فيها فيروز واألخوان رحباني لبنان على َمدار تاريخهم الفنّي والمعيشي..
فــي تلك الفترة ســجَّلت فيروز ألحانــاً إلذاعة «صوت العرب» إمّــا بلهجتها اللّبنانيّــة أو بالعربي ّة
األخوي ْن رحباني فقط ،لدرجة ٍ أثارت حفيظة ُ
الملحّنين المصري ّين َ ُ
األلحان على واقتصرت
ِ الفصحى،
األخوي ْن ..وفــي فترة وجودهم في مصر أيضاً مرَّت عليهم ذكرى ثورة يوليو،
َ فبــدأ الهجــوم على
األخوي ْن اعتذرا
َ ن ّ
لكل َمن يحبّ التقرُّب من الشعب المصري والسلطة بالطبع ،ولك ّ وهي فرصة
224
متفرداً ،ي ُحب ّها ويعشق
ِّ فظ َّ
ظل َموقع فيروز من الجمهور المصري شاركة ..إزاء هذا التح ُّ
َ عن ُ
الم
أم كلثوم هــي وراء عدم انتشــار فيروز فــي أرض الكنانة،
ن ّفيــروز فــي مصــر؟ يــرى البعــض أ ّ
أم كلثوم معروفة وحقيقي ّة ،ولكنّها بالعقل والمنطق ال يد لها في ذلك.. والحقيقة أ ّ
ن سطوة ّ
تعالوا لنتبي ََّن ذلك.
الحكاية ال تنتهي عند هذ الحد ّ؛ ثمّة تتمّة لها من الجانب اللّبناني ،إذ لم يمرّ ما قاله عبد الصبور
عن فيروز بسالم ،وفي األسبوع التالي رد َّت جريدة «األخبار» اللّبناني ّة بقوّة على صفحتها األولى
ّ
يعض فيروز» (أي أنّه من قوّات مباحث عبد الناصر) وفيه اســتنكرت ما قاله بعنــوان «مباحثــي
225
،1966حيــن ضــ ّ
ج عاصي الرحباني وصرَّح للكاتب المصري د .محمود أمين العالِم أ ّ
ن أغاني فيروز
ممنوعــة في الجمهوريّــة العربي ّة المتّحدة ..تناقلت الصحافة المصري ّة هذا التصريح واســتنكرته
ّ
بكل ثقة وقوّة. ونَفته
ّ
بحق .فبعد تصريح عاصي الرحباني َصدرت من ُ
عام فيروز بالنسبة إلى مصر ،فإ ّ
ن العام 1966هو
واألخوي ْن اعتذروا
َ ثانيــة لحضــور افتتــاح العرض التجاري لفيلمهــا «بي ّاع الخواتم» ،لك ّ
ن فيــروز
ن كلمات األخوي ْن ليست لبناني ّة فحسب ،بل هي ُمغرقة في َلهجتها المحلّي ّة اللّبناني ّة..
والحقيقة أ ّ
وتعمّقــت العالقــة أكثر وأكثر مع الجمهــور المصريَ ،
وظهرت فيروز علــى صفحات «الكواكب»
ف ِة دم وسالســة ٍ وذه ٍ
ن حاضر. المعجبين من مصر واألقطار العربي ّة ،بخ ّ
ترد ّ على رســائل القرّاء ُ
ّ
محطات اإلذاعة بعد وفاة جمال عبد النّاصر في خريف العام ،1970وأثناء فترة الحداد ،لم تَجِ د
المصري ّة على اختالفها سوى أغاني فيروز لتذيعها ،لِما فيها من صدق وبساطة وجمال شفيف.
َكت َ
َب الناقد الموســيقى كمال النجمي في «الكواكب» بتاريخ 20تشــرين األوّل /أكتوبر :1970
«األغانــي اختفــت تمامــاً عد ّة أي ّام مــن اإلذاعــات المصري ّة والعربي ّة بســبب الحداد الشــامل..
وانفــردت مطربــة لبنــان فيروز بكثرة أغانيها الصالحة للســماع في هــذه الظروف ،من دون أن
226
ُ
تكــون أناشــيد وطني ّة أو أدعية دينيّــة ..فأغاني فيروز التي أذيعت في األســابيع الثالثة األخيرة،
الوجــدان اإلنســاني فــي حاالت حزنه وألمه وراحته على الســواء ..والحزن عند فيــروز والرّحابنة
ســتمع إلى
ِ ولحنــاً وأداءً وصوتــاً ..وال توجــد فــي أغاني فيروز أغنية واحــدة ينقلب بها حُزن ُ
الم
ل ويأس ،أو ينقلب بها َفرحه إلى صخبٍ وقلّة عقل ..لهذا فكان صوت فيروز يغنّي في جميع
عوي ٍ
اإلذاعات طوال األسابيع الماضية».
قد َّمــت فيــروز أوّل حفــل غنائي لها في مصر في العام ..1976وقام األديب يوســف الســباعي،
الرئيــس الفخــري لجمعيّــة كتّــاب ون ّ
قاد الســينما ورئيس مجلــس إدارة «مؤسّ ســة األهرام»
ورئيس التحرير فيها ،بتكريم فيروز باســم جمعي ّة كتّاب ون ّ
قاد الســينما في قاعة البانوراما في
جريدة «األهرام» ،حيث ســلَّمها جائزة التقدير الذهبي ّة وتمثال لإللهة المصري ّة إيزيس..
ي
زياد الرّحباني والجمهور المصر ّ
عــرف الجمهور المصري موســيقى زياد ،قبل أن يعرف زياد نفســه ..فــي العام َ 1973أطلق زياد
َلحْنَيْــن لســي ّد درويش ..تمّ اســتخدام تلــك المقطوعات كثيراً كموســيقى تصويري ّة في العديد
المرحة ِل َلحْن ْ
َي ّ
بخاصة التوزيعات َ من األفالم المصري ّة في فترة السبعيني ّات من القرن الماضي،
سي ّد درويش.
كمــا تمَّ اســتخدام موســيقى مقد ّمة «نــزل الســرور»( )1974لبرنامــجٍ بعنوان «كانــت أي ّام»،
تحمّســت الصحافــة المصري ّة لزياد الرحبانــي ،منذ أن كان صبيّاً بعد ،وهو الــذي تكوَّن جنيناً في
ُ
الصحافــة المصري ّة بطــن أمّــه ،وهــي مــا زالت في رحلة مصــر ( .)1955فــي العــام 1971احتفت
بنبوغ الرحباني الصغير ونَشرت جريدة «الجمهوري ّة» بتاريخ 27آب /أغسطس 1971مقاالً بعنوان
227
مقاطــع مــن شــعر زياد من ديــوان «صديقــي اللّه» .ومــع إصابة عاصــي الرحباني فــي أيلول/
افتتحت فيــروز الحفالت بأغنية «أهــو دة اللّي صار» لســي ّد درويش من
َ بفيــروز وأعمــال زيــاد.
توزيــع زيــاد الرحباني ،واســتمع الجمهور لجديــد فيروز وزياد مثل «رح نبقى ســوى» و«عودك
عاصــي» عــام 1995بات زيــاد الرحباني هو المدخل الرئيس لعا َلم فيروز بالنســبة إلى الشــباب
المصري ،وهذا القول ي ُمكن تعميمه على الشــباب العربي أيضاً .ومن دون ُمبا َلغة ،إنّه ما من
شــاب فــي الوطن العربي أو فــي أي بلد ٍ من العا َلم يزعم أنّه يحبّ فيروز أو ي ُطلق على نفســه
ٍّ
اسماً فيروزيّاً ّ
إاّل وقد استُدرج في البداية عن طريق زياد .إنّه األبّ األوّل الذي يندهك فيروزيّاً،
األخوي ْن رحباني.
َ طريقك فتتعرَّف إلى
َ أنت أن تكمل
َ ثــمّ ال تلبث
ينبغــي ّ
أاّل ننســى أيضــاً ألحــان فيلمــون وهبــي لفيروز ،وهي لســببٍ مــا معروفــة ومحبوبة
ستمع المصري.
ِ ُ
الم
فــي األلفيّــة الثالثــة ،ومع انتشــار اإلنترنــت ،وبعد ظهور «يوتيــوب» وغيره ،أصبح من الســهل
228
والمتاح أن يصل الشباب المصري والعربي في ّ
كل مكان ألعمال فيروز ،ويتعرَّفوا على الجانب ُ
هــي هيفــا التي ترتِّــب الدكّان ،بينما تكاد تتجمّد من البرد نتيجة ســوء األحوال المعيشــي ّة في
229
محبّ جميل*
منــذ أن بــدأت َمســيرتها الغنائيّــة ،باتــت فيــروز واحد ًة مــن أبرز األســماء الحاضــرة بقوّة في
الشخصي أيضاً. السمعي فقط ،بل الذاكرة المصري ّة .فلم ُ
يكن هذا الحضور قاصراً على النِّطاق
ّ ّ
األخوي ْن رحباني أن تَحجزَ لنفســها مقعداً
َ شــاركة
َ الممتد ّة ُ
بم ُ واســتطاعت عبر رحلتها الغنائي ّة
َجحت فيــروز مع مرور الزَّمــن في أن تُصبــح ُمعا ِدالً
ْ ّ
الصــف األوّل .لقــد ن متم ِّيــزاً بيــن نجمــات
متنوع.
ِّ ي ٍ
وإرث حضار ّ ثقافي ّ
بكل ما فيه من طبيعة جغرافي ّة ساحرة ومزيجٍ موضوعيّاً للبنان
ّ
ّ
المحطات التي وإن كنّــا هنــا نتحد ّث عن فيروز في الذاكرة المصري ّة ،فال بد ّ من التوقُّف عند أبرز
األخوي ْن رحباني ثالث مرّات :األولى في
َ زارت خاللها مصر وغنَّت لشــعبها .فقد زارت مصر برفقة
العام ،1955والثانية في العام ،1966والثالثة في العام 1976قبل أن تزورها ُ
بمفردها – عقب
انفصالها فنيّاً عنهما – في العام .1989
«صوت العرب»
دعوة من َ
األخوي ْن رحباني التي تبثّها «إذاعة الشــرق األدنى» وأســطوانة (يابا ال
َ كانــت أغنيــات فيروز مــع
ال) قــد َجذبت أســماع العديــد من الشــخصي ّات الفني ّة واإلذاعيّــة في القاهرة إلى هــذه التجربة
*كاتب من مصر
230
المختلفــة وعلــى رأســهم جميعاً :محمّد عبد الوه ّاب ومدحت عاصم ومحمّد حســن الشــجاعي
ُ
وأحمــد ســعيد ،الذي با َد َر بإرســال دعــوة لهم من «إذاعة صــوت العرب» للحضــور إلى القاهرة
وتســجيل مجموعة من األغنيات واألعمال اإلذاعي ّة .القت هذه الدعوة ترحيباً كبيراً من َطرفهم،
المخرج صبري الشــريف .ودخلوا جميعاً مبنــى اإلذاعة المصري ّة
بمرافقة ُ
فحضــروا إلــى القاهرة ُ
للمــرّة األولــى فــي 14شــباط /فبراير .1955كانت هذه فرصة ســانحة لفيروز الســتكمال شــهر
ّ
المجاّلت الفني ّة العســل ،وخصوصــاً أ ّ
ن زواجهــا من عاصي كان قد مرَّ عليه ثالثة أســابيع .وبدأت
ّ
مجاّلت «أهل ٍ
قابالت عد ّة في في مصر تستقبلهم بترحابٍ شديد وتُقد ّمهم للجمهور من خالل ُم
الفنّ» و«اإلذاعة المصري ّة» و«الجيل».
األخويْــن رحباني حوالى 48عمال ً غنائيّاً لصالــح إذاعة صوت العرب؛ من
َ وقــد ســجَّلت فيروز مع
بينها قصيدة «مرحباً» للشــاعر محمود حســن إســماعيل و«ســوف أحيا» للشاعر مرسي جميل
عزيز و«ليالي القمر» للشاعر أمين شوقي إلى جانب ثالث صور غنائي ّة هي «راجعون» و«حكايات
ُ
إذاعة الربيــع» و«زريــاب» مع المطرب كارم محمود .وخالل إقامتهم في مصر ،اســتأجرت لهم
ّ
المطل على النيل .فجاءت بعــض األغنيات ،لتعكس تأثير صــوت العــرب منزالً في ّ
حي الزمالــك
َجريان النيل على مخي ّلتهم مثل« :بيتنا في الجزيرة» التي تقول كلماتها« :بيتنا في الجزيرة على
بالفل ُ ِ
ك المطلّة /مقبل ًة من معبر ٍ ُ ضفاف النيل /أفياؤه الوثيرة ينسجها النخيل /شباكه ُمولّه/
ٌ
أجنحة في َموكبٍ ســعيد» .وكذلك «أرضنا أنشــودة بعيــد /تمــرّ من أمامــي /بيضاء كالغمام /
الزمان» التي جاء في عدد ٍ من أبياتها« :وضفاف النيل جنّة العذارى المرحاتُ /منشدات لألماني
البيض أحلى النغمات /للهوى يزهر في أفياء تلك الشــجرات /لشــراع األســمر الصي ّاد باألحالم
العين تلــوح /تلك مدينتنا أبنيــة وصروح /صــوت َمصانعنا يا ن ََغم ٍ
آت [ ]...تلــك مدينتنــا مــلء َ
طــوع الحديد/
ِّ ُييت يا ســواعد الشــباب /بعزْمها ت ُ
العمــران /نســجك يســمعنا أغنية البنيان /ح ِ
ُييــت يــا رافعة القباب /مدلّــة على الفضا البعيد /لضجّة المصانــع لحني وللقباب /فيض دخا ٍ
ن ِ ح
ن هــذه الرحلة كانــت بمثابة البوّابة التي أطلَّت من خاللها علــى الحياة المصري ّة عن
وخصوصــاً أ ّ
ُقــرب .فالزيــارة لم تقتصر على زيارة معا َلم القاهرة والجيــزة مثل األهرامات والنيل ،بل ُرتِّبت
ّ
«شط إسكندري ّة» في لهم زيارة إلى شــاطئ اإلســكندري ّة ولعلّها هي التي َأل ْ َهمتْهم فكرة أغنية
231
ما بعد (من مقالة «أســرار رحالتها واألخوان رحباني إلى مصر» لمحمّد دياب ،مجلّة الكواكب،
ّ
خاص عن فيروز ،رقم العدد .)2017 / 11 / 21 ،3457 عــدد
يا محال نورها» و«الحلوة دي» في العام .1957كما أنّها تعاونت للمرّة األولى مع الموســيقار
محمّــد عبــد الوه ّــاب في العام ،1961حيث قام األخوان رحباني بإعــادة توزيع «خايف أقول اللّي
ي القرن العشــرين في الموســيقى العربيّــة محمّد عبد الوه ّاب ،فإنّنــا نحمد اللّه أنّها
مــع عبقر ّ
اقتنصتْها مــن عبقري ّة عبد الوه ّاب في عزّ تألُّقِ ها في عقد الســتّيني ّات ،عندما
َ َبلغــت ثالثــة ألحان،
َ
اعتزل الغناء ،وتفرَّغ لتوزيع نِتاج عبقري ّته الموسيقي ّة على أهمّ وأجمل الحناجر العربي ّة النسائي ّة
فصاغ لها َلحناً يتجاور فيه األســلوب الرحباني ،مع األســلوب الوه ّابي ،اســتناداً إلى تجربة اللّحن
َ
الرحبانــي الشــهير «نحنا والقمر جيران» .لكنّه بعد ذلك ،زوَّد فيــروز بلحنَي ْن خال َ
دي ْن من أروع ما
ن اللّيل» وقصيدة لســعيد عقل «مرّ «س َ
ــك َ َأنشــدت في حياتها ،على قصيدة لجبران خليل جبران َ
ّ ُ
ســجل فيــروز إلى قصائدهــا الغنائي ّة التي كانت تُحيي فيها دمشــق الشــام» بــي» ،أضيفــت في
232
شــاهدة عروض المســارح وزيارة بعض الشعراء الكبار
َ إســتوديوهات الســينما في القاهرة ُ
وم
مثل صالح عبد الصبور وصالح جاهين وآخرين (دياب ،المصدر السابق).
أم كلثوم ٍّ
بــكل من الســي ّدة ّ وعلــى هامــش برنامــج الزيــارة الرســمي ،كانت فيــروز قد التقَ ْ
ت
واألســتاذ محمّــد عبــد الوه ّاب كما أنّها ســجَّلت ســهر ًة تلفزيوني ّة مع اإلعالمي ّة الراحلة ســلوى
األخوي ْن رحباني
َ األخوي ْن رحباني وشقيقتها هدى حد ّاد ،كما سجّلت مع
َ حجازي ،وذلك في حضور
لقاءً إذاعيّاً لمد ّة ساعتَي ْن مع اإلذاعي ّة آمال فهمي إلذاعة الشرق األوسط.
لعــل أبــرز ما في هذه الزيارة ،الندوة التــي أعد َّتها مجلّة «الكواكب» العريقة بعنوان «ماذا قد َّم
ّ
وقفــت فيــروز للمــرّة األولى لتُغنّي على مســرح حديقــة األندلس ،حيث َأحيــت أربع حفالت على
األخوي ْن رحباني
َ رافقهــا خالل هذه الرحلة ٌّ
كل من ضفــاف النيل في تشــرين األوّل /أكتوبر َ .1976
233
ِ
شمســك الذهب» التي والفرقة الشــعبي ّة اللّبناني ّة .افتتحت هذه الحفالت بقصيدة «مصر عادت
ُ
بالتزامن مع االحتفال بانتصارات أكتوبر المجيدة ،حيث جاء في بعض كانت بمثابة تحي ّة إلى مصر
شــطهِ /قصصاً
ِّ بَ /كتَب الن ُ
ِّيل على َغتــر ُ َ
األرض وت َحمل ُ
الذهب /ت ِ ُ
شمســك ْ
عادت أبياتهــا« :مصــ ُر
َ ِ
ولــك الحاض ُر في عزِّ هِ /ق َِب ٌ
ب ِ ُ
وينتســب/ َّ
الحق حم ُل
ن تذكُرينَ /ي ِ
ض مص ُر إ ْ ُ
تلتهــبِ /
لك ما ٍ بالحــب
ِّ
ت ْ
َغ َوى بها ق َِب ُ
ب».
وغنّــت فيــروز في إحدى هذه الحفــات «خايف أقول اللّي في قلبي» و»بحبَّــك يا لبنان» َ
فألهبت
حماســة الجمهور ،وخصوصاً أ ّ
ن األحداث في لبنان كانت ُمســتعرة كما شه َ
د مبنى جامعة الدول
الجمهــور في مصر بأغنية
َ العربيّــة إحــدى القِ مم لبحــث األوضاع المتأزّمة هنــاك ،قبل أن تو ِّدع
«زوروني ّ
كل ســنة مرّة» للشــيخ ســي ّد درويش .وخالل هذه الزيارة قام األديب يوسف السباعي
ٍ
تكريم لها داخل حفل
ِ (رئيــس الجمعي ّة المصري ّة لكتّاب ون ّ
قاد الســينما آنــذاك) بدع ْوتها لحضور
مؤسّ ســة «األهرام» .وخالله أهداها جائزة التقديــر الذهبي ّة وتمثال إيزيس المصري ّة رب َّة الوفاء
والسحر والجمال (دياب ،المصدر السابق).
إلحيــاء ثــاث حفالت فــي أي ّام 15و16و 18تمّــوز /يوليو 1989عند ســفح األهرامــات في الجيزة.
َأصبحت فيروز مع الوقت جزءاً ال يتجزّأ من النســيج اليومي ألغلب األفراد ،فهناك مجموعة من
الذين يبدأ يومهم باالستماع إليها مع فنجان القهوة الصباحي .كما أ ّ
ن سائقي التاكسي يديرون
مؤشــر الراديــو نحو إذاعــة األغاني في ّ
كل صبــاح اللتقاط فقرتها الثابتة «جــارة القمر» للهروب ّ
234
من ضغوط اللّيلة الســابقة والتحليق مع صوتها نحو آفا ٍ
ق أخرى من الطبيعة الســاحرة واألحالم
المؤجَّلة .فقبل عصر اإلنترنت وشبكات التواصل االجتماعي ،دأب التلفزيون المصري في فقراته
ٍ
قتطفات من حفالتها على أكبر المســارح العا َلمي ّة وخصوصاً وهي تشــدو ْض ُم
الصباحي ّة على عر ِ
بأغنيــات «حب َّيتــك بالصيــف» و»طير الوروار» و»شــهرزاد» .كمــا أ ّ
ن المقاهــي والكافيهات التي
يرتادهــا جمهــور الشــباب ال تنقطع فيهــا أغنيات فيروز عن الحبّ واألشــواق والحيــاة اليومي ّة،
ّ
ولعل أجمل ما نَختتم بــه مقالتنا ما َكتبه عن صوتها وخصوصــاً مــع ألحان نجلها زيــاد الرحباني.
الشــاعر المصــري الراحل ســي ّد حجاب في ديوانــه «صي ّاد وجنّي ّة» الصادر فــي العام 1964بقوله:
«كما عروســة البحر تغســل شــعرها في الضي /وتنطوره في الريح وتتبسَّ م /كما عروسة البحر
أحالمنــا /لمّا بنســمع صوتــك الطي ّب بيتنسّ ــم /صوتك يا بنــت الناس.. /ضفيــرة حرير /يفرش
ساللم فوق حيطان البير /والبير قرار أسود وأنا طالع /طالع على سلّم حرير طالِع».
235
سعيد هادف*
238
-1-
ّ
منصة انطباعي من
ّ ما معنى أن نكتب ،نحن الجزائري ّين ،عن فيروز؟ األمر ال يتعلّق بتحرير مقا ٍ
ل
ل ســاهر؛ أتحد ّث هنا عن الكتابة بوصفها اســتعاد ًة للزمنبمناســب ِة حفْ ٍ
إعالمي ّة أو تدبيج ورقة ُ
الثاوي خَل ْ َف ُ
حجُبٍ من األحداث ،وبوصفها اســترجاعاً للذاكرة :الذاكرة الفردي ّة والذاكرة القومي ّة
علــى حد ّ ســواء ،في عالقة ٍ جدلي ّة ،ليــس بين الذّات الفرداني ّة والذّات الجماعي ّة فحســب ،بل في
عالقــة ٍ جدليّــة بين الذاكرة القومي ّة الجزائري ّة في ب ُعدها العربــي والتاريخ بوصفه نَهراً تتمازج في
ُ مجراه ّ
كل ذاكرات األمم.
واً ،من جهة ،إلى ْ
رصد أكتــب عــن فيروز من هذه البراديغما ( ،)Paradigmeأجد ُ نفســي مدع ّ
َ وأن
ســتّة عقود ٍ من حياتي في عالقتها بالزّمن السياســي-الثقافي للجزائر المستقلّة التي خرج ُ
ْت من
صلبهــا؛ ومــن جهة ٍ ثانية ،إلى ْ
وض ِع هذا «الزمن السياســي -الثقافي» تحــت مجهر التأمُّل ،ومن
جهــة ٍ ثالثــة ،إلى إعاد ِة بناءٍ تمثّلي لفيروز (ومن خَلفها المشــرق) من داخــل الجزائر كح ِّيز ٍ ثقافي
ق سياسي/أيديولوجي.
(بالمعنى األنثروبولوجي) وكنس ٍ
هني لألحداث التي عاشتها الجزائر في عالقتها بنجوم الطرب المشرقي،
ّ قي ومِ
َس ّ
قن َ
في غياب توثي ٍ
المشرقي، ِّ
ُشــكل ذاكرة الجزائري ّين في عالقتهم بروّاد الغناء َ تبقى الســردي ّات الســي ّارة هي ما ي
وهي سردي ّات تمتزج فيها الحقائق بالخيال ،وغالباً ما تكون ذات َمظهر ٍ استعراضي .هذه العالقة
ُ
وبمحيطها اإلقليمي واألممي ،ظلّت تفتقد
ُ بالمشــرق) وعلى غرار عالقتها بذاتها
َ (عالقة الجزائر
إلى «الرسْ َملة» (.)Capitalisation
بالمشــرق كانت تختلف عن عالقــة المغرب وتونس به ،منَ ن عالقة الجزائر تُفيــد ُ
المعطيــات أ ّ
المشــارقة ظلّوا على صلة ٍ شــبه ُمنتظمة وحميمي ّة مــع المغرب وتونس،
المطربين َ ُ حيــث إ ّ
ن
ّ
يقل عن ن شــغف الجزائري ّين بالطرب الشــرقي ال ُ
حبــل وصالهم بالجزائــر .غير أ ّ انقطــع
َ بينمــا
َ
ش َغ ِف باقي المغاربي ّين.
المشــرقي إلى خمســيني ّات القرن الماضي قبيل حرب التحرير،
ترجع عالقة الجزائر بروّاد الطرب َ
حفالت عد ّة في وهران والعاصمة وقســنطينة وعنّابة.
ٍ حيث أحيا فريد األطرش في العام 1952
وقــد تعــرَّض فريد إلى الرشــق بالطماطــم في عنّابة وقســنطينة فغادرها محموالً على بســاط
ٌ
عالقــة مع الراقصة ــل الجزائــر في رائعته «بســاط الريح» .فريــد األطرش َج َم َعت ْ ُه
وتجاه َ
َ الخَيبــة،
شــاركته في ثالثة أفالم بعدما اســتقدمها مــن باريس إلى القاهرة،
َ الجزائريّــة ليلى حكيم التي
ي دعوة رسمي ّة لزيارة الجزائر المستقلّة. َ
يحظ بأ ّ ولم
239
أمّــا عبــد الحليم حافظ فزار الجزائر في ذكرى االســتقالل األولى في تمّوز /يوليو ،1963وعاد
ٍ
بذكريــات ســي ّئة ،حيــث عانى فــي ملعب بن عبــد المالك في قســنطينة من انقطــاع الكهرباء
وكان قــد عــاش أيضــاً مأســا ًة فــي ملعب العناصــر فــي العاصمة ،حيث َ
ســقَ َط جــدا ٌر فأصاب
الكثيرين بكسور .
نفســها َر َف َض عبد الحليم حافظ الغناء في مدينة ســطيف في تمّوز /يوليو 1963
ِ وفي الجول ِة
ن حليماً غنّى لثورة الجزائر «فجر ٌ
رجل بإهانته وفق بعض الروايات .وعلى الرّغم من أ ّ قام بعدما
َ
الجزائر» (لحن بليغ حمدي) ّ
إاّل أنّه لم َيزر ْها سوى مرّتَي ْن وزار تونس والمغرب عشرات المرّات.
أم كلثــوم التــي زارت تونس والمغــرب ،فلم يحدث أن زارت الجزائر .في ذكرى االســتقالل
أمّــا ّ
ن ُمستشاره محي الد ّين
أم كلثوم ،لك ّ
اقترح بومدين أسماءً عد ّة ومن ضمنها َّ في العام ،1972
عميمور َر َف َض دعوتها بحجّة أنّها لم تُغ ّ
ن للثورة.
مع بداية الثمانيني ّات من القرن الماضي ،وفي عهد الرئيس الشاذلي بن جديد ،استحدثت الجزائر
مهرجان األغنية العربي ّة الذي دام ثالث طبعات ،واستضاف هذا المهرجان أصواتاً عد ّة من ضمنها
ُ
صوت مارسيل نجاة الصغيرة ،ومي ّادة الحنّاوي ،وهاني شاكر ،وصباح فخري ،وانطلق من الجزائر
خليفــة ،كمــا عــادت وردة بقوّة في العــام 1982بأغانيها القومي ّة والعاطفيّــة .لكن مع منتصف
ي ذكْــر ٍ للمهرجانات المســارح ،ولــم ي ُ
عد هناك أ ُّ ُ
الصمــت ُمجــد ّداً على ُمختلف َ ران
الثمانينيّــات َ
ٍ
طقس ع ســوءاً بعد االنفالت األمني في التســعيني ّات ودخول الجزائر في ْ
الوض ُ الغنائي ّة ،وازداد
مــن الرعــب مع تصا ُعد العمليّــات اإلرهابي ّة التي طالت مغنّين جزائري ّيــن .كان الخطاب ُ
المعادي
معجم العنف ومقاومة العنف وتقلُّص معجم
ُ ُ
تعاظماً ومعه طغى على يومي ّاتنا للحيــاة يــزداد
الجمال والفنّ.
المتاح على اللّقاءات الشعري ّة واألدبي ّة
قاوم ،وأن نُحافِ ظ بحســب ُ ُ
لم يكن لدينا خَيار ســوى أن ن ُ ِ
ــر جدار
س َ دثاً تاريخيّاً َك َ
والموســيقي ّة .وكانت دعوة ماجدة الرومي إلى الجزائر في العام َ 1997ح َ
الصمت والخوف والحصار الذي َعزَ َل الجزائرَ .أحيت ثالث حفالت في قسنطينة والعاصمة ووهران،
وعرفــت حفالتُها إقباالً جماهيريّاً كبيراً .وعادت المطربة في مناســبات وحظ َيــت باســتقبا ٍ
ل باذخ َ
والط َلبــة .وتوالت زيارة
َّ أخــرى أهمّهــا في صائفة 2001بمناســبة المهرجــان العا َلمي للشــباب
فنّانين َمشارقة آخرين مثل كاظم الساهر.
ن حبل الود ّ لم يمتد ّ بين الجزائر وفنّاني الخليج العربي ،وكانت ُ
المطربة اإلماراتي ّة أحالم ويبدو أ ّ
قد زارت الجزائر في بداية القرن الحالي ولكنّها ،وفق ما تناقلته وسائل اإلعالم ،ود ّعتها ساخطة
240
على ظروف اإلقامة وســوء التنظيمَ ،
وأقســمت أنّها لن تعود ،وأنّها ستنصح ّ
كل الفنّانين بعدم
زيارة الجزائر.
-2-
قبل نهاية العقد األوّل من االستقالل (ستّيني ّات القرن الماضي) ،بدأ أبناء جيلي يعون أنّهم في
بلد ٍ حديث االستقالل ،لكن لم ُ
يكن بمقدورهم أن يعرفوا أ ّ
ن دولتهم الناشئة كانت تعاني ،من
ضمن ما تعانيه ،صراعاً هوي ّاتيّاً غير َمرئي بالنسبة إلى عموم الشعب .مع لحظة االستقالل كان
يشكلون أكثر من تسعين في المئة من ساكنة الجزائر ،وبعد مرور حوالى ّ ّ
سكان القرى واألرياف
ُ
األزمة عشــوائي نحو ُ
المدن التي غادرها األوروبي ّون ،بدأت ســياق نزوحٍ دي ْن من الزمن ،وفي
عق َ
ّ ِ
ّ
بكل أعراضها السوســيولوجي ّة واألنثروبولوجي ّة والسياســي ّة .لم ينجــح الوافدون الجُدد تتجلّــى
فــي بنــاء عالقة طبيعي ّة مع المدينة ذات الطراز األوروبي؛ المدينة بأحيائها الســكني ّة وفضاءاتها
ٍ
انفصام لدى أغلب الجزائري ّين لنمط َعي ٍ
ْش أوروبي تســب َّب في ِ العمومي ّة التي صمَّمتها فرنســا
ّ
الفاّلحي والبدوي ،فكانت الثغرة التي تسرَّب عبرها الخطاب األصولي، الذين نَزحوا من فضائهم
نمط َع ٍ
يش َ و َبــدأ دُعاة اإلســام السياســي يقترحون على الشــباب الــذي يعيش حال َة اســتالب،
ُمستوحى من حياة «السلف الصالح» ،فأخرجوه من حالة استالب فردي ّة وعفوي ّة إلى حالة استالب
ٍ
ألهداف معلومة. َّ
ومنظمة جماعي ّة
ه َر ِم الدولة ،كما لم ُ
يكن لم ُ
يكن الشــعب على عِلم باألزمة السياســي ّة/الهوي ّاتي ّة على مستوى َ
كل جهة من جهات الجزائر ذات المســاحة الشاســعة ّ
إاّل يحيط وعياً بالخصوصي ّات الهوي ّاتي ّة لدى ّ
ُ
المتسامِ حة. في حدود ثقافته الشعبي ّة بروحها
ال أتحــد ّث عــن الهويّــة هنا كمجرّد َمظهر ثقافي أو لِســاني يختلف من هــذه الجهة عن تلك ،بل
شترك،
َ السلمي ُ
الم ّ العيش كنمط َع ٍ
يش شــعبي يحتاج إلى دولة تحميه وتحمي شــروط َ ِ الهوي ّة
منــأى عــن االحتقان األيديولوجي الــذي غالباً ما يكون َمدخــا ً أيديولوجيّاً إلــى زع ْزَ َعة األمن
ً فــي
النفسي واالجتماعي في سياق الصراع حول السلطة والثروة.
مع بداية عهد االســتقالل بدأ الشــعب الجزائري ينفتح ،بوتيرة ٍ بطيئة ومتعرّجة ،على ذاته وعلى
ُ
ُمحيطه األممي .ومع انتشار أجهزة الراديو في البيوت ثمّ التلفاز وأجهزة األسطوانات واألشرطة،
المشــرق العربي .في هذا الســياق بدأنا نسمع بأســماء نجوم الطرب والسينما
بدأنا نكتشــف َ
وأم كلثوم وفريد األطرش وعبد الحليم وهيام يونــس ،...وبدأت الذائقة الفني ّة
ّ أمثــال فيــروز
ّ
ولعل المشــرق العربي.
شــترك بينهم وبين َ
َ الم ّ
تتشــكل لــدى الجزائري ّين من منطلــق االنتماء ُ
241
شترك ،حاجة فئات شعبي ّة
َ ســهمت في تعزيز حالة الشــعور باالنتماء ُ
الم َ من أبرز العوامل التي َأ
نمط حياة ٍ يتناغم مع فضائها المديني الجديد الذي فشــلت في التأقلُم معه إيجابيّاً،
ِ عريضة إلى
يزودها بثقاف ِة المدينة بديال ً قد َيســمح لها باالندماج العمراني في
دت في المشــرق ما ِّ
وقد َو َج َ
حرب ســاكِ نيه الجدد .وقد عزَّز من هذا
ِ ل من األشــكال ،غنيم َة
فضاءٍ معماري أوروبي كان ،بشــك ٍ
المشــرقي للثورة الجزائري ّة وتجلّيات ذلك الشــعور باالنتماء ،أو اســتعادة هذا االنتماء ،الد ُ
َّعم َ
الد ّعم عبر الفنّ ،وكذلك القضي ّة الفلســطيني ّة التي َأصبحت جزءاً من كينونة السياســة الجزائري ّة
وهي القضي ّة التي مثَّلتها فيروز أحسن تمثيل.
في بلد ٍ كالجزائر ُمترامي األطراف وشــديد التنوُّع على صعيد التعابير الموســيقي ّة ،وعلى الرّغم
المجتمعات على ســماع األغاني ذائعة الصيت ،والســي ّما األغاني ُ ّ
ككل انفتح
َ من ثرائه الغنائي،
يتشــكل الوعي القومــي لجيلي ،ولم ُ
تكــن ِص َلتُنا َّ المغاربيّــة والمشــرقي ّة .في هذا الســياق بدأ
ّ
المشــرقي لمجرّد االســتمتاع وإشــباع رغبة غامضة ،بل كان ي ُترجِ م انتماءنا القومي في
بالغناء َ
ب ُعــده الثقافــي والروحــي ،وفي عالقتنا بــرأس مالنا الرمــزي العربي ،في عالقة ٍ جدليّــة بانتمائنا
ُ
والتناقض حيناً آخر. ُ
التناغم حيناً المحلّي يطبعها
ُ
اإلذاعة الجزائريّــة (واإلذاعات المغاربي ّة) في ســهمت المشــرقيَ ،أ ّ
َ عبر بثها ألغاني نجوم الطرب َ
ســهمت المهرجانات التي كانت تســتضيف
َ الترويــج للطــرب الشــرقي في الوســط المغاربيَ ،
وأ
المعلّمين واألســاتذة
ومطربيــن َمشــارقة في هذا الترويج أيضاً ،من دون أن ننســى ُ
ُمطربــات ُ
المشرق.
المشارقة و َدورهم في التعريف بثقافة َ
َ
يكــن بمقدورنا ،نحن اكتشــف جيلُنــا أ ّ
ن العالقــة المغاربيّــة المشــرقي ّة كانــت أكثر ُعمقــاً .ولم ُ َ
المراهقيــن ،أن نعــرف كيف َأصبحت وردة الجزائري ّة تغنّي مثل المشــارقة؛ كان الفضول يدفعنا
ُ
ن وردة الجزائري ّة ،مثال ً ،لبناني ّة ُ
والمطربين ،ومع الوقت اكتشــفنا أ ّ إلــى معرفة حيــاة المطربات
ن فيروز فلســطيني ّة ،كما لم ُ
نكن المولد ومصري ّة الهوى والنشــأة .وكنّا نظ ّ
نأ ّ األم ،وفرنســي ّة َ
ّ
ُل الجزائري كانت تترك
حقل التداو ِ
ِ نعرف أنّها مســيحي ّة .تلك المعلومات التي كانت تتحرّك في
آثــاراً ُمتباينة في وســط الشــباب آنذاك ،وكانت تؤ ِّثر بشــك ٍ
ل أو بآخر في َصــوغ الوعي ،وتصحيح
التمثُّالت للذات ولآلخر.
مــع بدايــة الثمانينيّــات من القــرن الماضي ،وفــي غمار الصــراع الهوي ّاتي الذي بــدأ يطفو على
المظاهرَ . ُ
بدأ خطاب الســطح ،بــدأ جيلنا ،وتحت ضغط أســئلة ٍ جديــدة ،يعيش حال َة توتُّر ٍ متعــد ّدة َ
ّ
ويحط من قيمة الفنّ، ُحرم الغناءَ ُ
المجتمع والدولة وي ِّ قناعات
ِ ِّ
ُشــكك في اإلســام اإلخواني ي
242
ُ
وبالموازاة يش جديد في الوســط االجتماعي الجزائري؛ نســقي بدأ يبرز نمط َع ٍ
ّ ل
ومن خالل عم ٍ
ك في عروبة االنتماء القومي للدولــة الجزائري ّة ويرفع خطاباًُشــك ُ
ِّ ٌ
خطــاب هوي ّاتي أمازيغي ي بــرزَ
َ
تجاهل مزوغة الجزائر .كان ل على الخطاب العروبي الــذي عنصريّــاً ضد ّ الغناء َ
المشــرقي كر ِّد فع ٍ
شــترك بين الخطا َبي ْن (اإلسالموي والمزوغي) ُمعاداة العروبة ُ
ومعاداة الرأسمال َ القاســم ُ
الم ُ
الرمزي العربي في الجزائر.
ن الجزائر المســتقلّة لم ُ
تكــن تتوافر على الع َلن ،اتَّضــح أ ّ ُ
األزمــة الهوي ّاتيّــة إلــى َ بعدمــا خرجــت
المهارة المعرفي ّة في تدبير قضايا عديدة من ضمنها قضي ّة الثقافة والهوي ّة والذاكرة؛ المشكلة
ُ لم ُ
تكن مقصورة على الجزائر فحسب ،بل كانت عربي ّة وأممي ّة ،وكان االختالف في كيفي ّة التدبير
ملف الهوي ّة ،بســبب تبنّي القومي ّة األيديولوجي ّة
ّ والمعا َلجة .لقد أســاءت النُّخبة الجزائري ّة تدبير
ُ
فــي إطــار دولــة ٍ َطغت عليها ُ
المحاصصة والفســاد بدل تبنّــي القومي ّة المدني ّة فــي إطار الدولة
الديمقراطي ّة العلماني ّة (ما يعيشه لبنان حاليّاً ي ُترجِ م سوء تدبير النّخبة اللّبناني ّة لمسألة الهوي ّة).
243
ُ
وشبكات التواصل االجتماعي ُ
اإلعالم تداول
َ ّ
القصة الثانية حدثت في العام الماضي ،2021حين
خبر إقالة مدير إذاعة قسنطينة «سيرتا» ،األديب مراد بوكرزازة ،وثالثة عاملين آخرين بسبب ّ
بث َ
َّ ّ
أغنيــة لفيــروز هي «عي ّد الليــل» من ضمن برنامج «أغاني الزمن الجميــل» .وقد خلف هذا الخبر
سخطاً واسعاً في الوسط الثقافي الجزائري.
ّ
مبكراً ،على غرار أبناء جيلي ،بقراءة األدب المشرقي، ُ
شغفت إلي ،وبسبب ميولي األدبي ّة
بالنسبة ّ
وعشقت أكثر نصوص جبران وإيليا أبو ماضي .في مجال الموسيقى لم أكُن ُمدمناً على مطرب
ُ
244
اإلعالمي المصري مفيد فوزي َ
وأفقده عقله لدرجة أنّه نهض ،من دون وعي منه ،ي ِّ
ُعبر عن إعجابه
ُّ ٍ
ــر الشــاعر أنســي
أس َل َح َم َل الســي ّدة فيروز على التوقف ،وهو الصوت الذي َ بصوت عا ٍ
ل وبشــك ٍ
تصوف أو العاشــق الولهان أن
ِّ الم الحــاج حتّــى كاد يلمســهَ ،
وود َّ لو يصير هو الصــوت ،كما يود ّ ُ
َ
يعيش مقام الفناء والحلول في معشوقه.
ّ
لعل أشهرها األلحان السيمفوني ّة ،وهي تجربة ٍ
ثقافات ُمختلفة، استلهمت فيروز ألحاناً عد ّة من
َ
األخوي ْن رحباني وعبقريّــة فيروز تمثّال ً وأداء .وعندما َأســتمع إلى أغاني فيروز
َ تَرجمــت عبقريّــ َة
يمتص النغمات الصادرة عن الجوق ويضفي عليها طقساً
ّ ن صوتها المنساب صافياً يكاد
أشعر أ ّ
آســراً وســاحراً يتّســم بالفخامة والنعومة والبســاطة وال ُ
عمق ،يقوّي من مشــاعري اإلنساني ّة
ٌ
نابع وي ُثيــر خيالــي وأفكاري .وي ُمكن القول إ ّ
ن التفرُّد الجمالي لصــوت فيروز ومعجمها الغنائي
عــن عبقريّــة المكان ب ُ
عمقــه األنثروبولوجي ،ويكاد صوتهــا أثناء الغناء يختــزل ثقاف ًة ضاربة في
العراقة وال ُ
عمق بالمعنى األنثروبولوجي لكلمة ثقافة.
ّ
المثقفة»، حول اللّقاء الرحباني الفيروزي ،تقول خالدة سعيد في مقد ّمة كِ تابها «يوتوبيا المدينة
المعرفة «انطلق بال زاد غير اإليمان بلبنان واإلنسان وبالفنّ ،وغير الموهبة ُ
المدهشة واكتساب َ َ
المبدعة ،وغذّاها بالروح
ع ُممكن ،وبال ثروة غير ثروة صوت فيروز الذي جنَّح األلحان ُ من ّ
كل َمنب ٍ
وح َم َل معها اســم لبنان وحبّ لبنان إلى ّ
كل مكان»؛ وحملها َ
والخيال ونبيل المشــاعر والق َيمَ ،
ور رؤية ٍ تتالقــى فيها الفنون ُمجتمعة :الموســيقىْ
فهــذا الثالثــي تضيف الكاتبة «ســار نحــو تبل ِ
والغناء والمسرح والرقص واألزياء وفنون الحياة اليومي ّة ،بحيث تتحوّل حياة القرية إلى أفعا ٍ
ل
245
أحمد فرحات*
الشــخصي وســائر
ّ ن الغنــاء والموســيقى االســتثنائي ّة يخترق ،وبقوّة ،طقســي وحــده ،إذاً ،فــ ّ
طقــوس المهووســين بــه من أمثالي ..ومــا أكثرنا نحن في هــذا العا َلم ،علــى الرّغم من أنّنا
افيدك بأنّني
َ ي هذا .وأحــبّ أن
ح والضرور ّ ٍ
نشــاط يعكس جنونَنا الملــ ّ ي
ال نظهــر ،وال نقــوم بأ ّ
النقي والحسّ ــاس للغاية من
ّ ُ
ابتعــت هذه األســطوانات واألشــرطة الفيروزي ّة ذات التســجيل
246
بعينهــا في لنــدن وباريس ولوس أنجلــوس ،وحتّى هنا فــي بومباي عاصمة ّ
متخصصــة َ أماكــن
الف ّ
ن والثقافة قي الهند.
ي وقت؟ وفي ّ
ظل أي ّة أجواء؟ وهل تَفهم شيئاً من كلمات وكيف تستمع لفيروز يا كومار ..في أ ّ
األغاني العربي ّة التي تشدو بها؟
صــوت فيــروز عنــدي ،يا صديقــي ،هو فوق الكلمــات ،وفوق األلحــان وضروب الموســيقى على
اختالفهــا .إنّه بمخزون طاقته ،و ُع َر ِب ِه القوي ّة الواســعة ،وآليّــات أنغامه الطبيعي ّة بذاتها ،ومرونة
تن ّ
قله بين المقامات ،أب ْلغ منها جميعاً وأكثر ســحراً وذوباناً في النَّفس وخاليا الدماغ وشــبكة
األعصاب وأبخرة الذاكرة.
ي للغاية بين ُمختلــف الطبقات الصوتي ّة المؤ ِّلفة له ،والد ّافعة ٍ
بمراس عفو ّ صــوت فيروز يؤالِف
بخاصة لدى المغنّيات قبل المغنّين :السبرانو ،وهو الصوت
ّ بالتالي إلتمام شروط الغناء النّاجح،
الرفيــع ،والميتزوســبرانو ،وهو الصوت المتوسّ ــط ،واأللتــو ،وهو الصوت الداخلــي العميق أو
المكثّف؛ وفيروز قادرة على التن ّ
قل بين هذه الطبقات الصوتي ّة بيسر وسالسة ،صعوداً وهبوطاً،
ات زمني ّة طويلة تعجز عنها حتّى غالبي ّة األصوات الغنائي ّة الطليعي ّة األخرى
د َي ٍ
صخباً وهدوءاً وعبر َم َ
فــي العا َلــمَ .
ومــن يمتلك مثل هــذه الميزة الطبيعيّــة ،المعطوفة بالتأكيد علــى جمال الصوت
وروعة األداء ،يســمّيه ُعلماء الموســيقى واأللحان في الهند« :المغنّــي /الملك» أو «المغنّية/
الملكة» ،وفيروز في بالدنا طبقاً لهذا التصنيف ،هي المغنّية /الملكة.
ُشــكل لوحده مؤسّ س ًة إبداعي ّة سيادي ّة مستقلّة،
ّ الذهبي الســاحر وكلّي المالءة ،ي
ّ فصوتُها
هكذا َ
الحضور التشريفي المسب ّق للكلمة المغنّاة واللّحن ُ
المصاحب.. َ من شأنها أن تَمنح ،وباستمرار،
ال العكس.
ع هندي ال
كمســتم ٍ ي المغنّى بالنســبة ّ
إلي ُ من جانبٍ آخر ،إ ّ
ن عدم فهمي لمعنى الكالم الفيروز ّ
ُعمق من اندغامي بصوتها أكثر ،ويزيد من استقبال حواسي كلّها له .هكذا فصوت
يجيد العربي ّة ،ي ِّ
ي ظهير معه كي يتنزّل إبداعاً خالصاً داخل فضاءات عوالمي،
مغني ّتنا /الملكة ال يحتاج عندي إلى أ ّ
المقبلة بينها والمؤجّل ًة أيضاً.
ُ الدفينة منها وال َيقِ َظة..
ٌ
شــأن متــروك لمزاجي، الم َّ
فضلة :فيروز ،فهذا أمّــا متــى أســتمع إلى صــوت مغنّيتي العا َلميّــة ُ
ٍ
حسابات وقتي ّة ،ليال ً نهاراً. ومزاجي ُمندلع دوماً عليها ،وبال
ن صوت فيروز هو أشبه بقصيدة ٍ ُمستدامة أو هو الشعري ّة مستوى آخر يا كومار ،أال ترى أ ّ
ً على
بعي ْنها ،وحتّى آخر حدود اإلبداع اإلنساني متحقِّ قاً؟
247
ّات ّ
تتوضع تلكم الشــعري ّة المتصوّرة في تجلي ٍ ّ
بخاصة عندما ..وأكثــر من الشــعري ّة يــا صديقي،
تعبيريّــة يختارهــا لهــا أصحابها ،وتكتفي أو يكتفون ُ
هم بها .أمّا صوت فيروز ،والذي ال يشــيخ
ّ
األقل بالنســبة إلى تجاوز لنفســه باســتمرار ،علــى
ِ ُ
الم مــع الزمــن ،فهــو اإلضمــار الشــعري
أســرار
ِ كنه
َ شــريحة ٍ من «الســمّيعة» الكبار (وأنا أد ّعي االنتماء إلى صفوفهم) ممَّن يعرفون
المعــادن النفيســة األخرى، ٍ
نفيس ال تشــبهه َ هــذا الصــوت ،وقــد تحــوَّل عندهم إلى معــد ٍ
ن
ي النفيس مجهوالً بالنســبة إليهم ،وإلى ســائر ّ
يظل هــذا المعدن الفيروز ّ ومــن األفضــل أن
«السمّيعة» االعتيادي ّين.
أنسي الحا ّ
ج ويفتوشنكو
ُ
..واحــدة مــن الصفــات التي أطلقت على فيــروز في لبنان يا كومار هي أنّها «شــاعرة الصوت»..
خ صديقي الشاعر الهندي ُمقاطعاً:
أكم َل تفاصيل كالمي التساؤلي ،صر َ
ِ وقبل أن
كفــى ..كفــى هذا بحاله أعظم توصيف أســمعه أو ي ُمكن لي أن أســمعه عــن فيروز وظاهرتها:
ن َمــن َأطلق عليها هذا
«شــاعرة الصــوت»؟!! نعــم ،إنّهــا كذلك بالتمام والكمــال .وفي يقيني أ ّ
التوصيف عندكم ،هو شاعر بالتأكيد .نعم ،ال ي ُمكن أن ي ُطلِق مثل هذا الكالم االمكثّف المسد ّد
ّ
خاص. ل سوى الشعراء ..والشعراء ِ
الكبار بشك ٍ
ابتســمت للحظات ،ثمّ عل ّ ُ
قت على كالمه :نعم هو شــاعر ..وشــاعر كبير أيضاً يا صديقي اســمه ُ
أنســي الحــاج؛ وهــو األوّل بيــن الشــعراء اللّبناني ّين والعرب الذيــن أدمنوا الكتابــة على فيروز،
بمناسبة ٍ ومن دون مناسبة ،نظراً لشغفه ،بل النخطافه المتواصل بصوتها األسطوري الفريد.
شاع ٌر آخر ،كبير ومهمّ للغاية في بالده روسيا (االتّحاد السوفياتي سابقاً) وعلى مستوى العا َلم
أيضاً ،هو يفغيني يفتوشــنكو (َ )2017 – 1932و َص َف صوت فيروز «بالشــعر الســائل الذي يؤلّف
سماعك له ،ويرد ّك إلى أنأى المسافات التي تشعر معها وكأنّك لم تو َلد بعد ،ثمّ
َ جوهرك فور
دي ْن ،ال تجــرؤ معهما أي ّة رتابة على النَّيل ٍ
بكشــف وحضور ٍ جدي َ يحــدث أن تولــد ،ولك ْ
ن هذه المرّة
روحي
ّ د ٍ
ث منــك .صــوت فيروزكم ،بل فيروزنا جميعاً ،نعم هو صوت الشــعر الذي يتحــوّل إلى َح َ
ُســهم فــي إنقاذ العا َلم عن طريــق إنقاذ روحك كفرد ٍ قلــق في جوف هذا
ِ ّ
خــاص من شــأنه أن ي
العا َلم .إنّه ماد ّة األثير الملموس إذن ،وهي تُحرّضك بواقعي ّة على استيعاب معاني ما تنطق به
وتولّده وتستكنه المزيد من خباياه ولطائفه».
248
واسترســل الشاعر يفتوشــنكو بالكالم على شعري ّة صوت فيروز مبي ّناً هذه المرّة «أ ّ
ن له ثوابته َ
النغميّــة الذاتي ّة وشــفافي ّة تداخله محض الطبيعي في المألــوف من حوا َليه ليحوّله إلى أمر ٍ غير
ي الشاعر يتحد ّانا ،ظاهراً وباطناً ،الستيالد سطوة ُ
الصوت الفيروز ّ ّ
يظل مألوف .وانطالقاً من هذا
تمكننا من استيعاب سحره المتدفّق بمرونة عجيبة وغامضة».
ّ معايير ذوقي ّة جديدة ّ
كل الجد ّة،
جاء كالم الشــاعر يفغيني يفتوشــنكو أعاله في ســياق حوار أجريت ُه معه في شــهر آذار /مارس
شاركة في المؤتمر الثالث
َ ُ
الم من العام ،1967وذلك على هامش زيارته اليتيمة لبيروت بهدف
عام اتّحاد الكتّاب اللّبناني ّين
ّ ُ
تواصلت معه وقتها من خالل أمين التّحاد كتّاب آسيا وإفريقيا .وقد
والمحتفين ،طبعاً،
ُ الروائــي د .ســهيل إدريس الــذي كان على رأس ُ
المشــاركين في المؤتمــر،
بالشاعر الروسي الكبير.
ُ
انفردت بيفتوشــنكو في ما بعد ،بناءً على رغبته ،حيث أبلغني أنّه ال يحبّ الرســمي ّات َ
وحدث أن
وطلــب منّي أن «نهــرب معاً» من أجــواء الفندق (فنــدق «بيروت
َ واألجــواء المفروضــة فرضــاً،
ُ
وذهبت ي مكا ٍ
ن خارجه .وهكذا كان.. إنترناشــيونال» آنذاك ،القريب من منطقة الروشــة) إلى أ ّ
شعبي واسع األرجاء في ساحة رياض الصلح في العاصمة اللّبناني ّة؛
ّ مقهى
ً الروسي إلى
ّ بالشاعر
ُ
واكتشــفت في تلك الجلســة التاريخي ّة معه ،والتي دامت ســاع ًة ونصف الســاعة ،كم كان َيعرف
أشــياء ،وبالتفاصيل ،عن الوضعي ّة الثقافي ّة اللّبناني ّة برموزها الشــعري ّة واألدبي ّة والفكري ّة ،وحتّى
السياسي ّة واالقتصادي ّة ،وسمّى بيروت آنذاك بـ»عاصمة الثقافة والحري ّات الحقيقي ّة الملموسة،
العربي فقط ،وإنّمــا في عموم آســيا ُ
المكتهلة» على حد ّ تعبيــره ،ما َج َع َلني ّ ليــس فــي العا َلــم
في ّة اتّصاله بإبداعات المثلّث الرحباني :فيروز ،عاصي ومنصور، أُحجم بعدها عن سؤالي له حول كي ّ
249
ّ
وتخص الشاعر الروسي يفتوشنكو، وهناك معلومة مهمّة ســاقها لي صديقي الشــاعر الهندي،
ن أمّه كانت مغنّية راقية ونَشطة جدّاً في مدينة زيما جنوبي سيبيريا حيث وُلد ،وأنّه حمل
وهي أ ّ
اســم عائلة أمّه بعد طالقها من أبيه ،حبّاً بها وتكريماً لها .وعليه ،وتبعاً لذلك ،فإ ّ
ن يفتوشــنكو
يعــرف فــي الصميم معنى أن تكون المرأة مغنّية .كما يــدرك أولوي ّة عذوبة صوت األنثى عندما
كتمــا ً بذروة شــدْوه اآلســر ،األمر الــذي َج َع َل ُه ،علــى األغلب األعمّ ،يغــوص عميقاً في
يكــون ُم ِ
ي وتأثيراته المباشرة عليه.
قراءاته التحليلي ّة المتعد ّدة ،بل والمتكرّرة ،للصوت الفيروز ّ
د الصديق الهندي أنّه مــن المفيد أن يخبرني بأ ّ
ن ثمة قصائد عديدة للشــاعر مــن جانــبٍ آخــرَ ،و َج َ
يفتوشــنكو كان بإمكان فيروز أن تغنّيها وبنجاحٍ أكيد ،وذلك في ما لو كان حصل أ ُّ
ي تعاو ٍ
ن أو
ُ
أثنيت شــخصيّاً على فكرته /االكتشــاف هذه بعــد قراءتي لكثير َ
الطرفي ْن .وقد ــي بيــن اتّصــا ٍ
ل فن ّ ّ
مــن قصائد يفتوشــنكو باإلنكليزيّــة والعربي ّة ،والســي ّما منها تلك المتّســمة بالطابع العاطفي
الرومانسي أو قصائد الحبّ الذاتي ّة ..وما أكثرها في نِتاجه.
ي ّ
المفضلة لدى الشاعر الهند ّ الفيروزي ّات
وفــي غمــرة الــكالم الرحب علــى العا َلم الفنّــي لفيروز والرحابنة مع الشــاعر الهنــدي الصديق
ٍ
أغنيات لفيروز اســتوقفته أكثر من غيرها.. كومار ســينغ كوجرال ،كان ال بد ّ من أن أســأله عن
ولماذا؟...أجاب:
ّ
بخاصة أ ّ
ن الصوت.. ي عملي ّة ُم َ
فاضلة بين أغاني فيروز الجميلة، علــي في الحقيقة إجراء أ ّ
ّ يصعــب
ن ّ
الغاّلب عندي على الكلمات والموســيقى فيها .على أ ّ لك قبل قليل ،هو صوتهــا ،وكمــا أك ّ ُ
دت َ
ّ
تظل عالقة في سقف ذاكرتي وشبكة مشاعري األمر ال يخلو أحياناً من أ ّ
ن ثمّة أغنيات فيروزي ّة
أكثــر مــن غيرها ،مثل أغنية «بعلبك» التي تبــدأ نجمتُنا فيها ،وعلى نحو ٍ مفاجىء ،بإطالق صوتها
حني مباشــرة ،وتنتصر عليه ،هكذا حتّــى أخر عبارة فيالمســار النغمي الل ّ ّ
فتغطــي بدء َ المعجــز
ّ ّ
القصيدة المغنّاة؛ وفي النتيجة ينتصر الصوت الطبيعي على صوت النغم اآللي ،خالِقاً لنفسه بيئ ًة
ُ
وبالمتعامل معها. مسحورة تنتشي بنفسها
ّ
يظــل الصوت الفيروزي عندي فــي هذه األغنية ،كمــا في غيرها، بوجيــز العبــارة يــا صديقي،
بعي ْنه ،وكذلك هو خالصة ســرّ»الثيمة» الفني ّة من أوّلها
بعي ْنها ،وهو الشــعر َ
هو الموســيقى َ
إلى آخرها.
250
األخوان رحباني نقتطف:
َ من أغنية «بعلبك» التي كتب كلماتها ولحّنها
«بعلبك /أنا شــمعة على دراجك /وردة على ســياجك /أنا نقطة زيت بسراجك /بعلبك /يا ّ
قصة
عــزّ عليانــة /بالبال حليانة /يا معمّرة بقلــوب وغناني/هون نحنا هون /لوين بدنا نروح /يا قلب
يا مشب ّك /بحجارة بعلبك /عالدهرَ /ع سنين العمر.»...
َّ
المفضلة لديه ،ف َيذكر أغنية «لبيروت» وي ُتابع الشاعر الهندي الصديق كالمه على األغاني الفيروزي ّة
التي َكتبها الشاعر اللّبناني جوزيف حرب؛ ويعتبرها من األغاني الدرامي ّة عميقة التأثير ،وقد خلبت
لب ّه واستبد ّت بمشاعره منذ اللّحظات األولى لسماعه إي ّاها ،وظلّت تعتريه منها -كما أخبرني -
وطلب منّي ترجم َة كلماتها إلى اإلنكليزي ّة
َ دهشة مفتوحة ومشدودة حتّى أقاصي المجهول فيه،
ن اللّحن فيها مأخوذ بأكمله من الحركة ليسهل عليه ْ
فكفَ َكة معانيها ،وشر ْح أبعادها ،وخصوصاً أ ّ
الثانية لكونشيرتو «دي أرانخويت» للموسيقار اإلسباني -العا َلمي خواكين رودريغو فيدري.
ُ
تدافع أمواج موســيقى ن تداخُــل صوت فيروز مع
واســتطر َد صديقــي الشــاعر الهندي يقول إ ّ
ّ
شــكل بذاته قيم ًة إبداعي ّة ُمضافة ،ليس للنتاج الموســيقي الكالســيكي الكونشــيرتو المذكور،
الخاص بهذا العبقري اإلسباني الكفيف فقط ،وإنّما للكثير من النِّتاجات الموسيقي ّة الكالسيكي ّة
ّ
ْ
واألش َهر في القرن العشرين؛ وإنّنا نلمس ذلك بمجرّد اإلسباني ّة األخرى التي توصف بأنّها األهمّ
بصوت فيروز حيناً ،ثمّ سماعنا له من دون صوتها حيناً آخر...
ِ سماعنا للكونشيرتو مصحوباً
ُ
ســألت صديقي المســحور ٌ
غــة ما يا كومار ،ومن العيار الثقيل أيضاً.. أليــس فــي األمر هنا ُمبا َل
َ
بفيروز وظاهرتها الفني ّة ...فأجاب؟
ُ
لســت أبالغ هنا ،وال أتجاوز حقائق األمور يا صاحبي ،وخصوصاً أنّني أتحد ّث عن الكونشــيرتو.. ال
تخطى َمداره إسبانيا وأوروبا بعامّة ليصير َمداراً موسيقيّاً عا َلميّاً
ّ كونشرتو دي أرانخويت ،الذي
ُ ّ
ي أن أعلِم القاصي والداني ويحق لي بالتالي عندما أسمعه ُمندغِ ماً بصوت فيروز العبقر ّ بامتياز،
ي بلد ٍ آخر. ّ
األقل في بلدي الهند أو في أ ّ بكيمياء هذا الحدث الفنّي الجلل ..على
ّ
نــص أغنية «لبيــروت» إلى اإلنكليزي ّة ،ســألني في ما ُ
ترجمــت لصديقي الشــاعر الهندي وبعدمــا
ٌ
ضلع في اختيار الكونشــيرتو ُ
كنت أعرف شــخصيّاً كاتبها الشــاعر جوزيف حرب ،وإذا ما كان له إذا
اإلسباني في عملي ّة التلحين ،وكان جوابي له إ ّ
ن العائلة الرحباني ّة بكلي ّتها منفتحة على الموسيقات
251
ٌ
صديق حميم لي وجا ٌر عزيز أيضاً ،في بيروت نفسها، أمّا بخصوص الشاعر جوزيف حرب فأبلغته بأنّه
كما في ريف مدينة صيدا عاصمة لبنان الجنوبي ،فبلدته «المعمري ّة» ُم ِ
جاورة لبلدتي «عنقون».
ُ
سألت صديقي الشاعر الهندي كومار سينغ كوجرال عن دواعي سؤاله بخصوص المعرفة وعندما
الشــخصي ّة لي بالشــاعر حرب ،أجاب بأ ّ
ن لديه رغبة ذاتي ّة بالتواصل معه ،كونه يعكس في شــعره
ساً ملحميّاً معي ّناً بتنا نفتقده لدى شعراء العا َلم كافّة هذه األي ّام.
نَفَ َ
ُ
بالتواصل مع الشاعر جوزيف طلب صديقي الشاعر الهندي في ما بعد ،وقام فعال ً
َ وكان أن لب ُ
َّيت
الملحمي َعي ْنه ،وأعجبه منه جوابه (أي جواب الشاعر حرب) بأ ّ
ن الملحمة هي ّ حرب في الموضوع
ن هذه السلطة لن تخبو مع األي ّام مطلقاُ.. ُ
المعادِل الموضوعي لســلطة الشــعر عبر التاريخ ،وأ ّ
نفســها بعض الوقــت ،حتّى تنفجر من جديد مع هذا الشــاعر الحقيقي أو
َ وهــي مــا تكاد تحجب
ذاك في غير مكان من العا َلم.
ساً هوميريّاً صاخباً وبالغ الفخامة ،كلم ًة ولحناً ،نقطتف: من قصيدة «لبيروت» الحاملة نَفَ َ
ســام لبيروتُ /
وق َب ٌل للبحر والبيــوت /لصخرة ٍ كأنّها وج ُه بحّار ٍ قديم /هي ٌ «لبيــروت /من قلبي
ُ
طعمها طع َْم نار ٍ ودخان/ ٌ
خبز وياسمين /فكيف صار من ...روح الشعب خمر /هي منَ ....ع َر ِق ِه
دم لولد ٍ ُ
حمل فوق يدها /أطفأت مدينتي قنديلها /أغلقت لبيروت /مجد ٌ من رماد لبيروت /من ٍ
252
بهذه الطريقة الدينامي ّة والفريدة على واحدة من أشــهر مؤلّفاته الموســيقي ّة ،لكان سيكون له
ٌ
موقف أكثر اندهاشاً وأكثر امتناناً بالتأكيد.
َج َح الرحابنة في مزج األلحان الشرقي ّة باأللحان الغربي ّة ،واإلتيان ،عبر صوت فيروز ،بتجربة هكذا ن َ
ســتمعاً عا َلميّاً جديداً ،ســواء في الهند
ِ غنائي ّة وموســيقي ّة ثالثة َأوجدت ،وبكثير ٍ من الواقعي ّةُ ،م
ي بلد ٍ آخر في هذا العا َلم.
أم في أوروبا أم في أ ّ
في المقابل ،رأينا في الغرب َمن «يرد ّ» على هذه التجربة اللّحني ّة الرحباني ّة الفيروزي ّة الشــرقي ّة/
ُ
المطرب الغربيّــة النّاجحــة ،بتجربــة ٍ لحنيّــة غربي ّة /شــرقي ّة أكثــر نجاحاً على مــا يبدو ،فقد َأقــدم
الفرنسي الشهير جان فرنسوا ميكاييل في العام 1973على اقتباس لحن أغنية فيروز والرحابنة:
ُّ
ٍ
بكلمات فرنسي ّة مغايرة ،وبصوته الحاد ّ ،العالي «حب َّيْتَك بالصيف ..حب َّيْتَك بالشتي» ،وغنّاها طبعاً
واآلســر ،مــا َج َع َلها تُحقِّ ق رواجاً كاســحاً ،فرنســيّاً وعربيّــاً وعا َلميّاً ،وهو األمر الــذي أكّد ترجم َة
َ
الطرفي ْن ،الشــرقي والغربي على حد ّ ســواء ،بخالف الكمّ طبعاً.. ُمعا َدل ِة التأثير الموســيقي من
ع ُم َ
ضاعف لشــاعرنا الهندي الذي قال َّ
شــكلت متع َة ســما ٍ ومثل هذه التوليفة اللّحني ّة الناجحة،
في خالصتها إ ّ
ن فيروز والرحابنة أسّ ســوا فعال ً لشــخصي ّة موســيقي ّة مشــرقي ّة جديدة اســتفادت
وتســتفيد طبعاً من اآلالت الموســيقي ّة الغربي ّة كاألوكارديون والكمنجا والكونترباص والغيتار
والبيانو والساكســفون ...إلخ ،ودائماً على قاعدة حفْظ الهوي ّة الموســيقي ّة اللّبناني ّة أو العربي ّة
ع واحد ٍ بتعد ّدي ّته وآالتهــا الموروثة ،ما أثّروا في اآلخرين وتأثّروا بهم ،واتّجهوا لإلتيان ُ
بمســتم ٍ
فعل التذوُّق واالختيار ،وحتّــى االندغام بما ي ُحيط به من
َ فــي هــذا العا َلم ،وجعْله هو َمن ي ِّ
ُقــرر
253
وأم كلثوم الهند
ّ فيروز
ثمّة مفاجأة كبرى للغاية كان قد أعد ّها لي الشاعر الهندي الصديق كومار سينغ كوجرال ،تمثَّلت
ّ
خاص بي للقاء نجمة نجوم الغناء والموســيقى الكالســيكي ّة بإقدامه مســب ّقاً على تعيين موعد ٍ
فــي الهنــد :التــا مانغيشــكار ( ،)2022 – 1929والتي ي ُطلــق عليها بعض العرب ممَّن يشــغلهم
«أم كلثوم الهند» .وقد
ّ وازنة من ُمســلمي تلك البالد لقب:ِ الشــأن الهندي ،ومعهم شــريحة
الصديــق الشــاعر بمفرده على ترتيــب هذا اللّقــاء ،وذلك قبل أســابيع قليلة فقط من
ُ اشــتغل
ُ ُ
مسعى
ً كنت أقيم وأعمل .ونجاح مجيئي إلى بومباي من دولة اإلمارات العربي ّة المتّحدة ،حيث
ّ
يســتحق التنويه واإلشــادة، ٍ
وقت قصير للغاية ،أم ٌر ثقافي من هذا القبيل ،وفي غضون
ّ إعالمي
ّ
إذ التصويــب علــى لقاء شــخصي ّة فني ّة محوري ّة من طراز التا مانغيشــكار ،تَعتبرها الهند ،رســميّاً
254
منبر ٍ إعالمي في بلدي :لبنان .هنا تدخَّل ثانية صديقي الهندي قائال ً بالهندوســي ّة ما ترجمته :هو
أخبرتك قبل لحظات من بالد فيروز ســي ّدتي ،المغنّية اللّبناني ّة والعربي ّة األشــهر ..طبعاً إلى
ِ كما
جانب المغنّية المصري ّة العمالقة الراحلة ّ
أم كلثوم وهي األخرى كاسحة بشهرتِها ،عربيّاً وعا َلميّاً.
ابتسمت الفنّانة الهندي ّة ابتسام ًة أكبر وأع َْرض هذه المرّة وخاطبتني بإنكليزي ّة ٍ فخمة :فيروز ،آه،
ِ
إنّهــا ليســت مغنّية لبناني ّة أو عربي ّة فقط ،بل هي نجمة غنــاء عا َلمي ّة بجدارة ..صوتها في الواقع
ُ
سمعت المدهش بين المقامات والجمل الموسيقي ّة .وقد قل ُ الطاقة والمرونة والتن ُّ
ُمكتمل ّ
ُ ُ
خذت بصوتها الســاحر ،الدافىء الــذي يؤد ّي األلحان ل متكــرّر ،الكثير من األغاني ،وأ
لهــا ،وبشــك ٍ
الشرقي ّة كما الغربي ّة على أكمل وجه ٍ فنّي ُمذهل.
ي إجهاد ٍ لذاكرتك ،أي ّة أغا ٍ
ن لفيروز َجذبت وهل لي أن أعرف ســي ّدتي ،لو تفضل ّ ِ
ت طبعاً ،ودونما أ ّ
ِ
سمعك الخبير والحسّ اس أكثر من غيرها..؟
ل وموحّد ٍ بين الكلمة واللّحن ّ
الموشحات األندلسي ّة التي غنَّتها ،وبأداءٍ عا ٍ أجابتني من َفورهاّ :
كل
فنستســلم لها بالضربة الجمالي ّة القاضية ،أذكر منها« :شــتّي يا دنيي شــتّي» ،و«يا كرم
ُ واحدة،
العاللي عنقودك لِنا ،»..و«دبكة لبنان» ،و«حنّا السكران» ،و«آخر إي ّام الصيفي ّة» و«بتتلج الدني،
بتصي ّف الدني» ...إلخ.
وحفظت حتّى عناوينها ،وخصوصاً
ِ عرفت بهذه األغنيات سي ّدتي وعاينتها كما يبدو لي بدقّة،
ِ وكيف
ن أغلبها هو بالعامي ّة اللّبناني ّة ،ويجيء ثقيال ً ،ولو بعض الشيء ،على لسانِك؟
أ ّ
الحقة آخر
وم َوالموســيقيُ ، الغنائــي ُ
مطربــة الهند وآســيا األولى :إنّه شــغفي بعملــي أجابــت
ّ ّ
ّ
المختصين الجزئيّــات المتعلّقة به ،وخصوصاً خارج الهند؛ فأنا أســتعين ،وعلى طريقتي ،باآلخرين
255
قفين َمعني ّيــن ،وبينهم عرب في المناســبة على درايــة ٍ نافذة في
قــاد ٍ وموســيقي ّين ومث ّ
مــن ن ّ
الشــأن الفيروزي ،كي يعلّمونّني ويرشدونني وآخذ ،بالتالي ،بنصائحهم وإرشاداتهم ،وبعد ذلك
أدلي بآرائي وأحكامي على األمور ذات العالقة ..العا َلم ضي ّق جدّاً كما تعلم أي ّها الصديق الجديد،
وعلى الفنّان النّاجح ،ســواء أكان في بلده أم خارجه ،أن يتحوّل إلى مؤسّ ســة ٍ فني ّة بذاتها ،حتّى
د من تجارب والً ،عوامــل حفْ ِ
ــظ نجاح فنّه وتطوّر هــذا الفنّ؛ وثانياً كي يســتفي َ يضمــن لنفســه ،أ ّ
التحوّالت المستمرّة لدى الفنّانين الكبار اآلخرين وقوّة ما يقد ّمونه.
وقــت مضى ،إلى لغة ٍ
ٍ ي نف ّ
ن الغناء تحــوَّل في زمننا هذا ،وأكثر من أ ّ ّ
شــك ،تــدرك أ ّ وأنــت ،وال
َ
ُ
المعني ّة بأســرع ما ي ُمكن .ومن هنا تراني أتابع وبجد ّية
شــتركة تســتوعبها األوســاط َ
َ عا َلمي ّة ُم
حراك التجارب الغنائي ّة والموسيقي ّة الفريدة والمتفوّقة ،ليس المتعلّقة ببلدكم لبنان
َ مستمرّة
والعا َلم العربي فقط ،وإنّما بسائر بلدان العا َلم ،شرقاً وغرباً.
256
يغيــب» ،البرازيليّــة إلــزا ســواريس ( .)2022 – 1930وأهمي ّة هــذه الفنّانة التي وُلدت وعاشــت
ْ
اختزلت تســور مدينة ريو دي جانيرو ،أنّها
ِّ طفول ًة معذّبة في واحدة من أحياء ُمدن الصفيح التي
ّ
يظل على ن الغناء ابتالء أكثر منه نُعمى» ،لك ّ
ن هذا االبتالء حياتَها الفني ّة بجملة ٍ واحدة تقول «إ ّ
ي حال امتيازها األوّل الذي ال بد ّ منه لصنْع الهوي ّة التلقائي ّة للحياة الحقيقي ّة المنشودة.
أ ّ
ذرى صوتي ّة إبداعي ّة وإلــزا العظيمــة هذه ،وفي ّ
كل مرّة كانــت تغنّي فيها ،وترتفع في غنائها إلى
ً
أخالها دوماً جديدة ومتجد ّدة ،كانت تُدرك ســلفاً أ ّ
ن غربتها ال شــطآن لها ،وبالتالي فإ ّ
ن عليها أن
تدامجِ ها االغترابي الذي يتأرجح باستمرار بين الحضور والغياب ،غريز ًة ثانية تُقيم فيها،
ُ تبلْور من
وخارجها ،في آن معاً.
ُ
نجمة نجوم الغناء في الهند أن تحد ّثني عن الروســي ّة غالينا فينشنفســكايا (– 1926 تنس
َ و َلم
)2012مغنّية األوبرا الشهيرة التي تستمد ّ قوّتها الفني ّة من نفسها ومن إرادتها ُ
الممعِ نة َغوصاً
اآلدمي،
ّ الموســيقي الخصب .وف ّ
ن اإلوبرا بالنســبة إليها يكشــف ذكاء الصوت ّ فــي تراث بالدها
حني المتنوّع فقط. وليس قوّته أو مرونته وخبرته في األداء الل ّ
ّ
ن ثمة خصوبة موســيقي ّة حارّة في الذّات البشــري ّة ،ليس من الصعــب على المغنّيإنّهــا تــرى أ ّ
وراً بذلك ْ الم َ
بتكرة ألجلهــا وي ُنافســهاُ ،مبل ِ يطــوع اآللة الموســيقي ّة الخارجيّــة أو ُ
ِّ الحقيقــي أن
دماً في ما بعد «ملحمته الصوتي ّة» هذا االنســجام أو االتّســاق الجمالي ُ
المتبا َدل بينهما ،ومق ِّ
الفردي ّة الخالصة.
ي خالِص ،على الرّغم من ّ
كل ملحمي فرد ّ ن األوبرا بحســب غالينا فينشنفســكايا ،هو ف ٌّ
ن نعم ،ف ّ
ّ
لحقة به .والصوت في األوبرا ينفجر ،يكمن ويتخ ّ
فى المصاحبات واإلكسسوارات الموسيقي ّة ُ
الم َ ُ
ّ
الكل. فعل
ِ ّ
يظل ينمّ عن دفع ًة واحدة ،والجزء فيه
بعــد ذلــك حد َّ َثتْنــي التــا مانغيشــكار عن مغنّيــة ٍ ياباني ّة شــاب ّة توسّ ــمت فيها «نهضــة» إبداعي ّة
موســيقي ّة اســتثنائي ّة في بالدها والعا َلم ،اســمها أيومي هاماســاكي .وكان توقّعها في محلّه
ٍ
نجاحات كبيرة ،شــعبيّاً وتجاريّاً في علــى مــا يبدو ،إذ بدأت هذه المطربة ،ومنذ ســنوات ،تحصد
اليابــان وروســيا وأوروبــا وأميركا؛ ّ
إاّل أنّها في الوقت نفســه ،كانت ،وال تــزال ،حريصة على أن
منحى ّ
يظــل نِتاجهــا الفنّــي مســؤوالً وجديّاً ،وخصوصاً فــي ألبوماتهــا الغنائي ّة التي تنحــو فيها
ً
سمع الجمهور
َ ن هذا المنحى الشبابي الغنائيَ ،بدأ يجذب هو اآلخر شبابيّاً خالِصاً ،ومع ذلك ،فإ ّ
وذاكرته من ُمختلف األعمار.
257
والمختزلة في فضاء المغنّيــات العا َلمي ّات االســتثنائي ّات،
ُ بعــد تقديمهــا هذه الجولــة ُ
المضيئــة
اســتدر َكت محد ّثتــي الفنّانــة الهنديّــة واســعة الثقافة التا مانغيشــكار لتقول ،ولو على ســبيل
ن جميعاً ،وإ ْ
ن ّ
ويظل في مركز الصدارة عليه ّ ن جميعــاً
ن صــوت فيروز يتحد ّى أصواته ّ
المقارنــة ،إ ّ
بيئات ُمغايرة تماماً لبيئة فيروز اللّبناني ّة
ٍ ن طبعاً انطلقْ َ
ن من تجارب فني ّة ُمختلفة ،ومــن ن هــ ّ
كــ ّ
ٍ
محــاوالت غنائي ّة ناجحة جــدّاً باإلنكليزي ّة والفرنســي ّة ،فضال ً عن والعربيّــة ،مــع العِ لــم أ ّ
ن لفيروز
تراتيل ديني ّة مسيحي ّة باللّغة اليوناني ّة ،سمعتْها فنّانتُنا الهندي ّة الكبيرة ،وقالت مع ِّلق ًة بعد ذلك:
ّ
يطل منها أو يعكس تجلي ّات أحاسيسه عبرها. ي لغة إ ّ
ن صوت فيروز هو ..هو في أ ّ
لــك وقابلتها
َ ثــمّ فجــأة ســألتني نجمة الهنــد الكبرى :هل تعرف فيروز شــخصيّاً؟ ..وهل ســبق
صحافيّاً؟..
أي حوار ٍ صحافــي أو إذاعيّ .
كل ما جرى أنّني أجبتُهــا :ال ..ال لــم أعرفها شــخصيّاً ،ولم أقابلها في ِّ
ّ ّ
ل جي ّد حفالت غنائي ّة عد ّة :في بيروت ودبي وباريس؛ لكنّني في المقابل تعر ُ
ّفت وبشك ٍ ٍ ُ
حضرت لها
شترك في
َ إلى األخوي ْن رحباني :زوجها عاصي وشقيقه منصور وقابلتهما مراراً في مكتبهما ُ
الم
شارع بدارو في بيروت ،وكانا يرحّبان بي أشد ّ الترحيب ،وخصوصاً بعدما َعرفا أنّني ابن صديقهما
بالمسار
َ كل شــيء يتعلّق
وكنت أناقشــهما بأريحي ّة في ّ
ُ الســابق في ســلك الشــرطة اللّبناني ّة..
فظ .وأتذكّر
ي تح ّ
الفنّي الرحباني ودرّة تاجه فيروز .وكانا يقبالن النقد الجد ّي والمسؤول دونما أ ّ
ن في ذاكرتي حتّى اليــوم« :إنّنا لوال النقد لمــا تقد ّمنا بوصة
كالمــاً ســاقه لــي عاصي ال يزال يــر ّ
تداولــي حرّ ..من داخل ل فنّي جماعي واحــدة فــي مشــروعنا الفنّي ..نحن أصــا ً ال نعمل ّ
إاّل بعق ٍ
ّ
الدائرة الرحباني ّة نفســها وخارجها .إنّنا يا ســي ّدي ُمختب ٌر فنّي وموســيقي قائم بذاته :في الشعر
ّ
والنص المســرحي والرؤية العامّة للتحديث الموســيقي واحترام التراث والعمل والموســيقى
على بعْثه والنهوض به من جديد».
ْ
فابتسمت وقالت: ُ
كنت أعرف فيروز شخصيّاً أم ال؟.... ُ
سألت ُمحد ّثتي عن هدف سؤالها حول ما إذا ثمّ
ّلي ،أنّها جدي ّة للغاية وشاحبة
الذاتي األو ّّ خط االنطباع ألسألك عن شخصي ّتها ،فهي تبدو لي ،وعلى ّ َ
للغاية .وشحوب ُها هذا زادني تعلّقاً بها وانحيازاً لفنّها .إنّني فعال ً أُك ْ ِب ُر هذه المرأة ُ
المغنّية الراقية
والتي أتصوّر أنّها ال تنتمي إلى َمعشــر المغنّين االعتيادي ّين ،واحتفظ لها في قلبي وعقلي ،وإ ْ
ن
صدق إبداعها و ُعمقه.
َ ق وعميق ،آمل أن ي ُشبه
عن ب ُعد ،بودٍّ صاد ٍ
قالت ذلك التا مانغيشكار ثمّ َأطرقت بعض الشيء ،وكأنّها انتظرت منّي تعليقاً ما على كالمها،
فكان هذا التعليق منّي:
258
حدســك في محلّه ،ففيروز إمرأة جد ّي ّة في
ِ ي ُمحاباة ،يبدو لي ســي ّدتي أ ّ
ن من دون مجاملة وال أ ّ
كل شيء ،في فنّها ،في سلوكها االجتماعي ،في عالقتها باآلخرينّ ..
كل اآلخرين من فنّانين وغير ّ
ّ
تظل تنطوي وصمت عميق وحاد ّ ،لكنّها في ّ
كل األحوال ٍ فنّانين ،وهي تتّسم أيضاً بهدوءٍ صارم،
على قلبٍ طي ّب وروحٍ سامية ونفْ ٍ
س هني ّة ودودة.
مستوى آخر ،وفي ذروة عملي ّة الغناء ،نرى فيروز ،نحن معشر محب ّيها ،تبحر في أقصى ذاتها،
ً على
بوعي ومن دون وعي ،ثمّ بعد ذلك تُح ِّلق في فضاء اإلنسان ،أنّى كان وأينما كان.
ٍ
تداولة عــن فيروز في األوســاط المحلي ّة
َ ُ
والم باختصــار ،هــذه هــي الخطــوط العامّة المعروفــة
اللّبنانيّــة والعربيّــة ذات الصلــة ،نخبويّاً وشــعبيّاً .وال غرو ،فهــي ،ومنذ انطالقتهــا الفني ّة ،تُعتبر
مغنّية مختلف الطبقات االجتماعي ّة والفئات العمري ّة في الدنيا العربي ّة .كما أ ّ
ن أغنياتها تناولت،
ّ
خاصة باألوطان والشعوب المقهورة باإلضافة إلى الشؤون العاطفي ّة ،قضايا أساسي ّة وجوهري ّة
تشكل واجه ًة لنهضة ٍ
ِّ والحري ّات المسؤولة؛ وي ُنظر إليها دوماً (وخصوصاً من النُّخب هنا) على أنّها
غنائي ّة وموسيقي ّة عربي ّة بديلة وجديدة.
ي
الصوفي الهند ّ
ّ فيروز والغناء
ِ
عليك وأنت مغنّية شبه القارّة الهندي ّة وحتّى آسيا برمّتهاَ :من أطلق
ِ ِ
أسألك سي ّدتي واآلن دعيني
استقبلت مثل هذا اللّقب؟
ِ «أم كلثوم الهند»؟ وكيف ّ لقب
َ
ّ
علي هذا اللقب ،وروَّج له ،وأظنّه جهة عربي ّة تعرف السوسيولوجيا ال أدري في الحقيقة َمن أطلق
ّ
كل األحوال ،ال يضيرني في شــيء هذا اللّقب ،بل على العكس هو الثقافيّــة الهنديّــة جي ّداً .وفي ّ
ٍ
باحترام كبير يفيدني ويشرّفني ،ألنّه ينسبني إلى سي ّدة عربي ّة شاهقة في فنّها الغنائي ،وتحظى
على مستوى بلدها مصر ،والعا َلم العربي والعا َلم برمّته.
ٍ
مناخات شــعوري ّة ووجدانيّــة ذات أغوار، ي ُ
وســألت :أ ّ ُ
قلت لها عــد إلــى أجــواء فيروز ُمجد ّداً،
ِل َن ُ
ع من الصرامة: ُ
المعجز؟ ...أجابتني بنو ٍ ِ
فيك صوت فيروز ّ
وسيظل يضعها َ
وضعها،
ن صوت فيروز يصلح لموســيقانا وعا َلمنا الغنائي الهندي، ُ
والمنتهى ،إ ّ أخاطبك ،في البدء
َ دع ْني
صوت لمغنّية هندي ّة محوري ّة فائقة التمي ُّز في بالدنا ،فكيف بمغنّية أخرى
ٍ ي
رب ّما أكثر بكثير من أ ّ
غيرها من خارج البالد الهندي ّة؟!
والموســيقي الهنــدي يعود في حقيقة
ّ الغنائي
ّ ن عا َلمنا
ن تعرف أ ّ ن أنّــه من المهــمّ َ
لك أ ّ وأظــ ّ
ن طويلــة ُمزمِ نة خلت ،تقــد َّر بما يفوق الـ 7000ســنة قبل الميــاد؛ ويربطها
وجــوده إلــى قــرو ٍ
259
المؤرّخــون الموســيقي ّون ببدايــات ظهور الديانة الهندوســي ّة ،األقدم بين ديانــات األرض كلّها،
ُ
المصاحبة. وتعاليم هذه الديانة تُناط إجماالً بالتراتيل والترانيم الموسيقي ّة
ٍ
عام في ُ
الكهنة الهندوس منذ ثالثة آالف وكانــت النصوص الديني ّة الهندوســي ّة قبــل أن يجمعها
ل أو تحوير ٍ
ي تعدي ٍ كتابهم المقد ّس« :الفيدا» ،تُتناقل جميعها شفويّاً من جي ٍ
ل إلى جيل ،وبال أ ّ
فــي مضمون التعاليم؛ لك ْ
ن على مســتوى التراتيل الديني ّة والترانيم الموســيقي ّة الهندوســي ّة،
كنّــا نشــهد ،بيــن فترة زمنيّــة وأخرى ،تطــو ٍ
ّرات شــبه انقالبي ّة فــي األداء وطبيعــة األلحان التي
ســفر «الفيدا» بمصنّفاتهــا األربعة :الرامايانا والمانوســمرتي
تتنــاول النصــوص المأخوذة عن ِ
والمهابهاراتا واألوبانيشاد.
ٍ
كنظام اعتمدت الموســيقى الهندي ّة الكالســيكي ّة الموروثة على اللّحن
ِ ومنذ األلف الثاني ق .م.
ي ُحاكــي الطبيعــة ومظاهــر «موســيقاها الفطريّــة» المتجلّيــة في كثيــر ٍ من العناصــر ُ
المحيطة،
وفــي الوقت نفســه اعتمد هــذا النظام النغمي الطبيعــي على الحنجرة البشــري ّة بوصفها اآللة
الموســيقي ّة اآلدمي ّة األكثر كماالً وتعبيراً عن هوى قلوب المؤمنة ومشــاعرها الديني ّة المستلّة
من كتاب «الفيدا».
وصوفــي للنصــوص الديني ّة
ّ روحي
ّ كصدى
ً ومــن هنــا جــاءت موســيقانا الهنديّــة الكالســيكي ّة
المعتقد الهندوســي ورفْــده باألتباع
ُ الفيديّــة ،مــا َأســهم فــي النتيجة فــي تخصيب تعاليــم
وج َع َل مــن الهندوســي ّة أقدم ديانــة حيّــة متواصلة على
الجُــدد علــى مــرّ األيّــام والســنين؛ َ
وجــه األرض ،إذ تجــاوز تعــداد ُمعتنقيهــا المليار إنســان ..والحبل على الجــرّار كما يقولون؛
ّ
شــكل ،وبالترتيــب ،الديان َة الثالثة في العا َلــم بعد الديانتَي ْنوتبعــاً لذلك ،باتت الهندوســي ّة ت ُ
المسيحي ّة واإلسالم.
وتا َبعت محد ّثتي التا مانغيشــكار تقول إنّه ،وعلى الرّغم من ّ
كل ما قيل ويقال في الهندوســي ّة
ّ
تظل من وجهة نظري ،ديان ًة تؤمن بالتوحيد وخاصة متناقضة ،فإنّها،
ّ ٍ
وتوصيفات عامّة ٍ
أحكام من
والتوجُّه العبادي لإلله الواحد ..وكتابها المقد َّس «الفيدا» ،ليس هو بالتالي من صناعة اإلنسان،
ّ
فكل ما تفرَّع عن الهندوسي ّة من تعد ّديات المط َلق .وهكذا،
موحى به من اإلله الواحد ُ وإنّما هو
ً
«ديني ّة» وعبادي ّة آللهة ٍ شتّى ،بحسب تعبيرها ،كان يعود في النتيجة إلى منطلقه االعتقادي األوّل
والقائم على أســاس التوحيد وفلســفته المقد ّســة التي تنطق بها «الفيدا» ..ومعنى مصطلح
ّ
«القصة المقد ّســة» التي تنطق بمجموعة عقائد وســنَن ورياضات «الفيدا» في المناســبة هو:
260
ّ
تشكلت عبر مسار ٍ طويل من الزمن ،يمتد ّ من القرن الخامس عشر قبل الميالد روحي ّة موروثة
إلى يومنا هذا.
ٌ
واجب فلسفي ي ِ
ُمكنك تصنيفها هنا ..أهي ّ روحي أو
ّ ق
ي نِطا ٍ
وماذا عن «اليوغا» سي ّدتي ..ضمن أ ّ
ديني مثال ً ،أم ن ٌ
َوع من أنواع الرياضات الروحي ّة التأمّلي ّة الصامتة؟ ٌّ
اليوغا عند الهندوســي ،نعم ،هي نَوع من أنواع الرياضات الروحي ّة والجســدي ّة ُ
المسد ّدة ،هدفها
منســوب التوتّــر والقلق
ِ مــن خــال التركيز الشــاخص ،ومــدى التأمُّــل القوي الصامــت ،خفْ َض
الطاقة الحيويّــة المولّدة لعوامل الحيــاة الجديدة فيه،
النفســاني لديــه ،وبالتالــي زيادة عناصــر ّ
المحصلــة ي ُقبــل بوعيــه أو الوعيه على اســتمرار الحيــاة بمزيد ٍ من الفرح الحسّ ــي
ّ وجعْلــه فــي
والسعادة الحسي ّة.
وممارســتها يوميّاً من َط َر ِف الهندوســي هذا التوكيد على شــعيرة تعب ّدية فردي ّة
ثمّة في اليوغا ُ
والمحايثة ،وذلــك كمقد ّمة ٍ
ُ بــروح الكون الســامية خالصــة من شــأنها مســاعدته على االندغام
ِ
ضروري ّة لالتّحاد بجوهر الوجود وأصله.
261
ث َّ
ــر َ ٌ الجماليّــة علــى مــا عداه .إنّه
كل ألــوان الحنانات والبوحي ّات والقداســات صــوت جدي ٌر بأن َي ِ
الطافحة في تراثنا الهندي.
ّ
محل ســائر َّ
وحل ن صــوت فيروز لو َ
راف َق موســيقانا الهندوســي ّة، لك إ ّ ُ
قلــت َ وصد ّقنــي إذا مــا
ٌ
شأن األصوات الهندي ّة وغير الهندي ّة في هذا المجال (ومن بينهم أنا بالطبع) ،فسيكون هنالك
العام للكلمة.
ّ ُ
المعتقدي ّة أو الديني ّة الهندي ّة بالمعنى الحضاري آخر ومناخٌ آخر لثقافتنا
ي جازم وقاطع ،بأنّنــي خارج دائرة أ ّ
ي عمل تبشــير ّ ٍ علــي أن أشــد ّد ،وعلى نحــو ٍ
ّ وهنــا أرى لزامــاً
ع من أنواع الحساســي ّات الديني ّة أو خارجــة عــن إرادتكمــا ،وبالتأكيد ليس لها عالقة البتّة بأ ّ
ي نَو ٍ
المعتقدي ّة التي تكلَّمنا عليها.
ُ
262
ن مســعاي الفنّي أو اإلبداعي البحت ســيخيب هنــا ،وخصوصاً إذا ما
ال ي ُداخلنــي أدنــى شــعور بأ ّ
ّ
لمكة المكرّمة إســاميّاً ،وغنّت ن فيروز التي غنَّت
لك ثانياً ،إ ّ
والً ،ثمّ َ ُ
ســارعت للقول ،لنفســي أ ّ
لمريــم وطفــل المغــارة و»أســبوع اآلالم» و»الجمعــة الحزينة» ،ســوف َلن تُحجِ م عــن الغناء
ّ
الخاصة بين المخلوق ُ
بالتسامح الديني والعالقة ذات النظرات التأمّلي ّة الصوفي الهندي المتّصل
ّ
تتحطم بين البشــر ..وبالتأكيد ســتأخذ تراتيل والخالق ،فضال ً عن تشــييد جســور المحب ّة التي ال
مثيل الئتالقه من َقبل.
َ خملي الساحر مجداً آخر ال
ّ ُ
الم إيقاعات صوتها
ِ «الفيدا» على
ّ
تفضلين سي ّدتي أن تشدو فيروز تراتيل «الفيدا» يا ترى؟ ي لغةوبأ ّ
باللّغــة الهندوســي ّة أ ّ
والً ،ثــمّ بالعربيّــة أو األردي ّة إذا تعذَّر ذلك .وأنا ُمســتعد ّة للتعاون الثقافي
ّ
مختص بالشــعر ل هندي وعربي ودولي
فريــق عم ٍ
ِ والتقنــي والمــاد ّي علــى إنجاح هذا األمر مع
الصوفي والموســيقى وتاريخ الحضارات الشــرقي ّة .أمّا لماذا؟ فأل ّ
ن الهندوسي ّة واألردي ّة ،لديهما
تنسى
َ مشتركات تاريخي ّة وحضاري ّة مع شعوب المنطقة بأسرها ،والعرب في الطليعة بينهم .وال
ن الحضــارة العربي ّة -اإلســامي ّة امتزجــت بالحضارة الهندي ّة وبالفارســية قروناً طويلة ،وأنتجت
أ ّ
تراثاً مشرقيّاً غنيّاً بمتونه العلمي ّة واألدبي ّة والروحي ّة والفلسفي ّة وحتّى اللّغوي ّة أيضاً ...وعليه ال
ُ ُ
ي هو جزء ال يتجزّأ من التراث العربي - قلت إ ّ
ن التراث الهند ّ أخطىء هنا ،عِلميّاً وموضوعيّاً ،إذا ما
ط أو حتّى قلْبٍ في مفاهيم األشياء ُ
ومعادالتها ي خل ْ ٍ
اإلسالمي الحضاري الشامل ..ومن دون أ ّ
ُ
المتداخلة بعضها ببعض. المعرفي ّة
ن وتراتيل معي ّنة ،فإنّما
وعليه ،فعندما تشدو فيروز من قلب فضاء التصوّف الهندي القديم بأغا ٍ
المشرقي البعيد ..قبل المسيحي ّة واإلسالم وبعدهما. ستفعل ذلك من قلب تراثها الحضاري َ
ٍ
عالقات تجاري ّة وثقافي ّة َدوري ّة ومراجع تاريخي ّة شــتّى تحد ّثت عن وجود
ب َمن جانبٍ آخر ،ثمّة كُت ُ ٌ
بين مصر واليمن ومنطقة الخليج العربي من جهة ،وشــبه القارّة الهندي ّة بشــمالها وجنوبها من
جهة أخرى.
أمّا بعد اإلســام وانتشــاره الواســع في الهند وأجزاءٍ كبيرة من آســيا ،فقد تكرّســت أكثر هذه
العالقــات التجاري ّة والثقافي ّةُ ،منتِجةً ،وفي ال ُ
عمق ،عالقات اجتماعي ّة وعائلي ّة بين العرب والهنود
الجانبي ْن ،وتطوَّر األمر إلى
َ واختالط ٍ
دم بين ُ على اختالف أديانهم وعقائدهم ..وصار هناك زوا ٌ
ج
صــار العــرب يعتزّون ببالد الهند نفســها ،ويتكنّــون بها وبأهلها؛ ومن هنا جاءت تســميتهم َ أن
ُ
نفســها بألقابٍ ومســم ٍ
ّيات عائلي ّة ناتجة َ ســ ٌر عربي ّة عريقة ْ
لحقت أ َلبناتهــم بـ»هنــد» مثــا ً .كما َأ
263
ٍ
تأثيرات مباشــرة للسوســيولوجيا الهندي ّة عليها ،فصرنا نقرأ مثال ً عــن :فالن الهندي وعلتان عــن
السندي أو الدهلوي أو الكشميري أو الكيرالي أو اآلسامي ..إلخ.
وإنســاني عريــق تحتضنه بالدُنا
ّ ي
وثقافــي حضار ّ
ّ تاريخي
ّ نفســها في حضــ ٍ
ن َ هكــذا ســتَجد فيروز
ٌ
تجربة فنيّــة عربي ّة -هنديّــة تنهض للمرّة األولــى في العصر الهنديّــة ،وســتكون هنــاك بالتأكيــد
ُ
صوت فيروز الذي قالت فيه مغنّية األوبرا المجري ّة آنا الحديث (والقديم على الســواء) ي ُعمّرها
غورسك «إنّه أجمل صوت سمعته في حياتي ،وهو نسيج الوحدة بين الشرق والغرب».
التا مانغيشــكار مغنّية ،بل قارّة غناء بحالها ،ترب ّت في وســط عائلة فني ّة غنائي ّة ومسرحي ّة عريقة
فــي عالقتهــا بالفنــون ،فوالدها ديناناس مانغيشــكار كان نجــم الهند الغنائي والمســرحي في
الثالثينيّــات مــن القــرن الماضــي؛ وهو الــذي علّمها الغنــاء وف ّ
ن التمثيــل وضمّها إلــى فرقته
ي النــادر لترجمة ذلك المســرحي ّة وهــي في ســ ّ
ن الخامســة بعدما اكتشــف اســتعدادها الفطر ّ
بالصوت والحركة واألداء.
ّ
المبكر من وإذا كانــت فنّانتنــا الكبيرة لم تُكمل تحصيلها العلمي التقليدي ،خصوصاً بعد طردها
المدرســة بداعــي ضبطها أكثر من مرّة ،وهــي تع ِّلم زميالتها داخل الفصل الدراســي ف ّ
ن الغناء
ن هذا الطــرد جاء لمصلحتهــا كما قالت لي ،ألنــه جعلها تتولّى مســؤولي ّة تعليم
والتمثيــل ،فــإ ّ
نفسها بنفسها ،وتوسّ ع الحقاً من مداركها وفضاء معارفها النقدي ّة والثقافي ّة ،ليس في ما ّ
خص
ن الغناء والمسرح فقط ،وإنّما أيضاً مجاالت الشعر واألدب والنقد والفلسفة ،فضال ً عن عِلم
ف ّ
التاريخ واألديان والحضارات .ومن هنا تحوّلت فنّانتنا إلى موســوعة ٍ ثقافي ّة حي ّة متحرّكة تســطع
ع ُمتالحقة .وال غرو ،فالصعود
بمخايل الذكاء والفطنة وروح التقاط األشياء وجعْلها شرارات إبدا ٍ
المتكامل ّ
إاّل في تأكيد ذاته وطبيعته المبهــر لفنّانة ٍ من هذا الطراز ،كان ال َيجــد معناه ُ
الفــردي ُ
المستويات كافّة.
ِ ُ
المفارقة باستمرار ،وعلى اإلبداعي ّة
ّ
المبكر من المدرسة، ن حادثة طرد الفنّانة التا مانغشكار
إذن ،وبإمكاننا االستنتاج أيضاً ..وأيضاً أ ّ
ُّن شــخصي ّتها وظاهرتها كما هي؛ إذ لم تَستسلم لألمر
نطلق األســاس لتكو ِ
َ الم ّ
شــكلت بدورها ُ
الواقــع المفــروض عليها ،بل َجعلت منه ُمنطلقاً لبلْور ِة فلســفة ٍ حياتي ّة فردي ّة جديدة تقوم على
المتواصل والدؤوب إلثبات الذّات وانتصارها على نفســها
ُ ُمعادلة ٍ بســيطة للغاية وهي :العمل
وعلــى اآلخريــن في الوقت نفســه .وهكذا ..فكلّما كانــت تنتهي فنّانتنا العتيــدة من مرحل ِة تحدٍّ
ل أو َم َلل..
ي َك َل ٍ ْ
انتقلت إلى مرحل ِة تحدٍّ أخرى دونما أ ّ معي ّنة ُقبالتها ،كانت ترى نفسها آليّاً وقد
وعلى قاعدة إبقاء روح الطفولة الواعية ُمشتعلة فيها إلى آخر العمر ،عمرها كلّه.
264
«أم كلثوم الهند» بعدم فقدان الحماســة للعمل
ّ وفلســفة روح الطفولة الواعية هذه تلخّصها
أبــداً ،حتّــى من قلــب حالة االكتهال والعجز التي ستســتبد ّ بها ذات يوم ،فمبدأ العمل ي ُســاوي
ّ
تظل له أولوي ّة األولوي ّات. عندها إذاً مبدأ النجاح ،ولذلك
ومن أجمل ما قالته لي التا مانغيشــكار ،وشــيء من المكر اإليجابي يدور في عينَي ْها ،إنّها يجب
ّ
مبكراً من المدرسة ،ألنّهم دفعوها في اتّجاه االعتماد على نفسها، أن تشكر ّ
كل الذين طردوها
وحشــي ال راد ّ له. وفي ّ
كل شــيء تقريباً .يكفي ،مثال ً ،أنّهم جعلوها تعبّ العِ لم عبّاً ،وعلى نحو ٍ
ّ
كنت اآلن مثلي مثل األعمّ ُ ّ
المبكر لي من المدرســة ،فلرب ّما َ
وأردفت« :لو لم يحدث هذا الطرد
المتخرّجات في الجامعــات الهندي ّة وغير الهندي ّة ،أقوم بعملي ّ
الاّلحق األغلــب من طالبات الهند ُ
روتيني باهت ،ومن ضمن الحدود المرســومة لي ولغيري ..و«كفى اللّه شــرّ المؤمنين
ٍّ ل
بشــك ٍ
القتال» حسبما تقولون أنتم العرب».
وبالعودة إلى فيروز والعالقة معها ،أكّدت لي التا مانغيشــكار أ ّ
ن صوت فيروز يمنحها ســعاد ًة
ٍ
ســاعات محــدودات .وهذه الســعادة التي هي مــا تشــعر معها وكأنّهــا اختزنَت الزمان كلّه في
أشــبه برياضــة ٍ روحي ّة ال ي ُمكن شــراؤها قطعاً ،بل اكتســابها وتطويرها بعقْــ ِد صفقة روحي ّة مع
شــتركة ،ليســت ملــكاً لوطن وشــعب ،بل ألوطا ٍ
ن وشــعوبٍ أخرى على َ صاحبتــه ،لتأكيد هوي ّة ُم
امتداد جغرافيا العا َلم.
ونســتدرك فنقول إنّه ليس من األمور العادي ّة أن تتحد ّث فنّانة عمالقة مثل آنا مانغيشــكار عن
فنّانة ٍ عمالقة أخرى مثل فيروز ،وتشيد بصوتها ومزايا إبداع هذا الصوت وتأثيره العميق عليها.
إنســاني
ّ إبداعي
ّ ٍ
حلف «قيام
ِ ن للذات ودعو ًة إلــى ن فــي ذلــك نوعاً من نبالة ٍ وســماحة ٍ ونكــرا ٍ
إ ّ
ن معرفةمحتوى جديد لمفهوم الثقافة العا َلمي ّة ،يتأسّ ــس على ُمعا َدلة أ ّ
ً حقيقي» يتّجه إلدخال
ّ
قة في النتيجة ،هي التي تؤكّد اآلخر هي جزءٌ ال يتجزّأ من معرفة الذّات .وأ ّ
ن الثقافة العا َلمي ّة الح ّ
فنّها الغنائي الرفيع وشــخصي ّتها النبيلة المتواضعة والجاذبة للجميعَ ،
بمن فيهم خصومها ،وما
أقلّهم في المناسبة كما هو شائع في بالدها.
المحاورين) إلى ٍّ
ظل ألنوارها ،وأسير ٍ وأكثر من مرّة يستحيل َمن ي ُحاورها (وأنا من بين أولئك ُ
265
قفين ّ
والمفكرين والمث ّ ثمّة كاريزما هائلة تتمتّع بها التا مانغيشكار ،وخصوصاً إزاء السياسي ّين
والً ،احترام الذّات العالي لديها وفر ْضه ،عفواً الكبار قي بلدها .و»كاريزماها» هنا هي من ش َّ
قي ْن :أ ّ
ن عنصر التأثير الوجداني في اآلخرين ،هو ديدنها الطبيعي َمنهجاً
وطوعــاً ،على اآلخرين ،وثانيــاً ،إ ّ
َ
حصل لها ،على سبيل المثال ال الحصر ،مع زعيم بلدها األسبق وسلوكاً ومجرّد حضور ،تماماً كما
جواهر الل نهرو ( )1964 – 1889الذي بكى أمامها عندما غنَّت لشهداء الهند في الحرب الهندي ّة
دي ْن في العام 1962وانتهت بانتصار الصين بعد شهور من
-الصيني ّة التي نشبت على حدود البل َ
قيامهــا ...قال لها نهرو حســبما أخبرتني هي بعظمة لســانهاَ :
«أبكيتنــي يا التا بالمعنى الوطني
العظيــم الستشــهاد البعض من جنودنا المكرّميــن إلى األبد؛ وبالمعنى الشــخصي واإلضماري
ل في شبكة مشاعري ولبّ ألباب وجداني». صوتك على التغل ْ ُ
غ ِ ِ الدفين لقدرة
ٍ
فتوحات التا مانغيشكار فنّانة علوقة بوطنها وإنسانها ،وكذلك اإلنسان في ّ
كل مكان .لقد َفتحت
بغير نشيد ،أي بلغة ٍ َم ِرنة،
غير مسبوقة في الغناء الهندي ،وخصوصاً عندما غنَّت أسلوب النشيد َ
ِّ
يؤشــر لي ّنــة ،أخّــاذة تتماوج في أعطافها الموســيقى ،ال عليها ،انبســاطاً وصفاء .وفنّها الغنائي
ن حياة وحقيقة وخيال خصوصي في إطار َمت ْ ٍ
ن ل ال حاضر فقط ..ف ّ باســتمرار إلى أنّه ف ُّ
ن مســتقب ٍ
واحد ٍ ُمبتهج برؤية عا َلم يتحوّل ويتجد ّد من حولها ّ
كل يوم. ِ
وينبغي التنويه بعد ،وعلى المســتوى الشــخصي هنا ،أ ّ
ن التا مانغيشــكار إنســانة ســهلة ،عذبة،
ُ
المناقشات. ّ
تظل تُعب ّر بشجاعة وصراحة عمّا ترمي إليه في فافة ،لكنّها ،في المقابل،
ناعمة ،ش ّ
266
مثلهــا لديهــا مشــاغل والتزامات ال تحصى ،فضال ً عن أ ّ
ن عملي ّة الحوار والمناقشــات معها كانت
تشوبها حماسة ُمتواصلة من ق َِبلِها ،بما يؤكّد أنّها كانت مرتاحة على وقتها وتَرغب بالمزيد من
267
د .إلهام نصر تابت*
غيرها من الكتابات.
269
ل أساســي إلى نتائج الدراســة الميداني ّة التي أجريناها في ســياق
نســتند في هذا المقال بشــك ٍ
أطروحة الدكتوراه التي ناقشناها في صيف العام الماضي وكانت بعنوان« :الظاهرة الفيروزي ّة:
ُ
المشــار إليها عي ّن ًة من المنضوين في مجموعات مكوّناتها وتأثيراتها» .وقد شــملت الدراســة
فيروزي ّة على موقع فيســبوك بلغ عددهم 576شــخصاً 560 ،منهم أجابوا عن أســئلة استمارة
البحث ،و 16أجرينا معهم مقابالت .وهؤالء لبناني ّون وعرب من مختلف البلدان العربي ّة ،معظمهم
ُ
المختلفة. ُمقيم وبعضهم مغترب أو ُمهاجِ ر ،ويتوزّعون على الفئات العمري ّة
الم ّ
تلقين ُ تأثير صوت فيروز وأداؤها في
ســتجوبون بمعظمهــم صوت فيروز بأنّه يفوق الوصف وفريــد ٌ من نَوعه .ويرى هؤالء
َ َي ِص ُ
ــف ُ
الم
ن الــدور التقريــري فــي أعمال فيــروز هو لصوتها ،ويعد ّونــه العامل األكثر تأثيــراً فيهم عندما
أ ّ
يســتمعون إليهــا؛ وإذ ي ُقــد ّم البعــض منهــم إجابات تتراوح بيــن عدم القدرة علــى الفصل بين
مكوّنات الحالة الفيروزي ّة واعتبار صوت فيروز جزءاً من الموســيقى ،يوضح اآلخرون أولوي ّة هذا
الصــوت وقدرته على التأثير العميق فيهم وتوليد المشــاعر واالنفعــاالت لديهم ،إذ ي ُثير صوتها
لدى أكثر من ثل َثي العي ّنة مزيجاً من المشاعر المتنوّعة التي تصل إلى حد ّ التناقض.
تتطابــق هــذه النتيجــة مع وصــف النّخــب الثقافي ّة لصــوت فيروز وقدرتــه على توليد المشــاعر
األخوي ْن
َ والً (أعمالها مع
ســتجوبين عن األعمال التي من خاللها أحب ّوا فيروز أ ّ
َ ُ
الم لدى ســؤالنا
رحباني أو زياد رحباني) ،تركَّزت إجابات الغالبي ّة على الفئتَي ْن معاً ،ما يعني أ ّ
ن حب ّهم لها ال يرتبط
ع معيّــن مــن أغانيها ،بل يرتبط بكونها هي تُغنّي .وهنــا يمكن القول إ ّ
ن صوت فيروز يؤد ّي بنَــو ٍ
المثيــر الــذي يوّلــد االســتجاب َة الفوريّــة وفق علم النَّفس الســلوكي .إنّه ُمثيــر جميل يولّد
ور َُد َ
استجاب ًة انفعالي ّة إيجابي ّة ومشاعر مؤ ِّثرة ،فيو ِّلد االرتياح والفرح والمتعة ،بل إنّه ي ُثير مزيجاً من
المشاعر التي قد تتنوَّع بتنوُّع حاالت المتل ّ
قين.
.Rالذي شــد َّد على وقــد يكــون مــن المفيــد أن نعود هنا إلــى نظري ّة روبــرت زاجونك Zajonc
أولويّــة العاطفــة أو االنفعال ،أو أســبقي ّتهما على اإلدراك المعرفي ،فهــو يؤ ِّكد أ ّ
ن االنفعاالت
المعرفي ّ
إاّل بالقدر اليســير الكافي تحصــل مباشــر ًة مــع ظهور ُ
المثير مــن دون المرور بالب ُعــد َ
270
تلقائي
ّ ن الصوت الجميل يولّد االنفعال اإليجابي بشــك ٍ
ل لمعرفة هذا المثير .وبهذا المعنى ،فإ َّ
إاّل بالقدر اليســير .وصوت فيروز يمثّل حال ًة جمالي ّة قادرة
المعرفي ّ وعفويّ ،دونما مرور بالب ُعد َ
قين أيّاً كان اللَّون الغنائي الذي تؤد ّيه ،وهذا ما تؤكّده نتائج ســؤا ٍ
ل على التأثير بعمق في المتل ّ
ّ
األقل معظم) ع ُمختلفة ،إذ ثمّة إجمــاع تقريباً على أدائها ،في ّ
كل (أو على يتعلّــق بغنائهــا ألنوا ٍ
ما قد َّمته من أعمالٍ ،بجمالي ّة ٍ استثنائي ّة.
أيضاً ،ي ُشار في هذا السياق إلى الشعبي ّة التي تحظى بها التراتيل الديني ّة التي قد َّمتها فيروز في
أوســاط غير مســيحي ّة .إذ ذُكرت التراتيل من بين األعمال األكثر تأثيراً في المتل ّ
قين ،وصوالً إلى
المسلم السنّي،
ُ ستجو ٌ
ب مصريّ« :أنا َ شعورهم بالجالل والرّهبة عند االستماع إليها .ويقول ُم
ستجوبين ُ
هم بمعظمهم من المسلمين ،ي ُمكننا أن َ ن ُ
الم فيروز َأخذتني إلى الكنيسة» .وبما أ ّ
ن التراتيل التي أد َّتها فيروز ح َّ
ققت استقاللي ّتها عن وظيفتها الديني ّة ،وباتت أعماالً ن ُ ِّ
قرر بوضوح أ ّ
مســتجوبون وتحد َّثقد ال ي ُمكن فصل القدرة التعبيري ّة الهائلة لصوت فيروز التي أشــار إليها ال ُ
َ
عنها كثيرون من الشعراء والكتّاب ،عن َدور الموسيقى في إثارة االنفعاالت ،وهو أمر معروف
ٌ
دراسات عديدة .غير أنّه ينبغي التنب ُّه إلى تشديد المتل ّ
قين على إعطاء منذ أي ّام أرسطوَ ،
وأثبتته
صوت فيروز وأدائها األولوي ّة في التأثير فيهم وإثارة انفعاالتهم .وهذا ما ي ُحيلنا إلى الدراسات
ُّ
والتحكــم بــاألداء الصوتي التــي يمتلكهــا المغنّون، التــي تناولــت أثــر اســتراتيجي ّات التال ُعــب
271
ّ
والتحكم بإثارتها .والصوت الغنائي باعتباره يجمع وتساعدهم في استجالب انفعاالت الجمهور
ّ
يشكل قناة انفعالي ّة إلى حدٍّ بعيد. َي االتّصال الموسيقي والكالمي،قنات ْ
كل من الصوت والموســيقى واألداء في المتل ّ
قين ليســت عملي ّة ن ُمحاولة التمييز بين رصيد ٍّإ ّ
ســهلة .ومــن جهتنــا ،لســنا بوارد الحُكم في هــذه النقطة .لكن مــا تنبغي اإلشــارة إليه هو أ ّ
ن
قيــن ال ي ّ
ُحكمــون النظري ّات في ما يحب ّون أو يكرهون وفق ما يقول نزار مروّة .وعند كانط المتل ّ
ُ
دد للحُكــم الجمالي؛ وعلــى الرّغم من كون هــذا الحُكم غير أ ّ
ن اإلحســاس هــو األســاس المح ِّ
منطقي ،فهو يشبه الحُكم المنطقي ،إذ يمكن افتراضه صادقاً بالنسبة إلى الجميع.
ّ
التلقي ووضعي ّاته فضاءات
ســتجوبين،
َ الم ّ
يشــكل المنزل العائلي الفضاء األوّل لالســتماع إلى فيروز بالنســبة إلى معظم ُ
و المنزل الذي نشــؤوا وترعرعوا ٌ
نســبة كبيرة منهم كيف كانت فيروز جزءاً من ج ّ وقد َ
شــرحت
ٍ
بذكريات طفوليّــة ،وبالتالي بصور ٍ مشــحونة بالعاطفة بالمعنى فيــه؛ مــا يعنــي أ ّ
ن صوتَها يقترن
ٍ
ثيرات انفعالي ّة أخرى ،كالصور كمثير ٍ يرتبط ُ
بم ُ
الصوت ُ الذي أشــارت إليه ســوزان فيسك .هنا َيبرز
ناظم في ٍ
كسلك ِ والحوادث التي تعود إلى الماضي وفق جاسلين وفاستجفال .لقد بدا الحنين
واألخوي ْن رحباني وفق العديد من الدراسات (محمّد أبي سمرا ،كريستوفر ستون،
َ أعمال فيروز
حركاً أساســيّاً إلعجاب الفيروزي ّين بأعمال فيروز.
كمال ديب وســواهم) .وهذا الحنين ما زال ُم ِّ
ٍ
قســم كبير ٍ من جمهورها ،فهو يســتدعي، ٍ
ذكريات عن الماضي لدى وكما يســتدعي ذكر اســمها
لدى آخرين ،صورة معي ّنة للبنان ،حتّى وإن كانوا من غير اللّبناني ّين .وبموجب هذه اإلوالي ّة ،تُصبح
فيروز رمزاً وطنيّاً ،ويصبح اســمها مرادفاً للوطن بالنســبة للّبناني ّينُ ،
ومرادفاً «للبنا ٍ
ن ما» لدى
غير اللّبناني ّين ،حتّى أنّها تُصبح هي الوطن بالنسبة إلى البعض.
َ
حصول هذا التعرُّف في اســتتب َع
َ واقــع أ ّ
ن المنــزل العائلي هو الفضاء األوّل للتعرُّف إلى فيروز،
ســتجوبين فــي المقابلة بما َقبل العاشــرة،
َ الم ّ
مبكــرة مــن العمر ،وقد حد ّدها معظم ُ مرحلــة
وهــي كانــت لدى البعض اعتباراً مــن الثالثة أو الرّابعة .ووجود فيروز فــي الج ّ
و المنزلي لغالبي ّة
ّ
المبكــر إليهــا كو ََّن لديهم ما يســمّيه بيــار بورديــو Pierre Bourdieu ســتجوبين وتعرُّفهــم
َ ُ
الم
«الهابيتــوس» ،أو نظام االســتعدادات الــذي من خالله تفاعلوا مع أعمالهــا وأحب ّوها .مع ذلك
ن األعمال التي قد َّمتها فيروز أسهمت في تشكيل الذَّوق الفنّي لدى الجمهور، ينبغي ّ
أاّل نغفل أ ّ
إذ كانت عند انطالقها ُمغايِرة لما هو سائد ،لكنّها استطاعت اكتساب إعجاب الجماهير بسرعة.
272
ّ
مبكرة من أمــران آخران ينبغي أن نُشــير إليهما في ســياق حصــول اإلعجاب بفيروز فــي مرحلة
البصري ّة (تعابير الوجه عند المغنّي مثال ً) ترتبط باالنفعال أكثر من األشكال السمعي ّة.
قي ،ثمّة ما ي ُشــبه اإلجماع على ســماع فيــروز في الوضعي ّات كافّة،
فــي ما يتعلّق بوضعي ّات التل ّ
ٍ
وعــادات محد َّدة في ن للبعض طقوســاً خاصة بها للتل ّ
قي .غير أ ّ ّ ّ
لــكل وضعي ّة وســائل وعلــى أ ّ
ن
االســتماع الــذي يرقى إلى درجــة اإلصغاء الكامل ،وإعادة األغنية أو األســطوانة نفســها مر ٍ
ّات
ومــرّات ،إلــى أن تكتمــل المعرفة بالعمل من ُمختلف جوانبه .وهــؤالء إجماالً يمتلكون معرف ًة
ومقاماتها ،وباآلالت الموســيقي ّة ،والطبقات الصوتي ّة ،وســوى ذلك من
بالموســيقى وأنواعها َ
أمور ٍ ال يعرفها بالضرورة عامّة الناس.
ي ِ
ُفصح البعض عن تفضيلهم االستماع إلى فيروز عندما يكونون بمفردهم .وهذا التفضيل ي ُشير
ُشــكل اختالءً بالنَّفــس ،وابتعاداً عن العا َلم لفتــرة .ولك ْ
ن يجدر القول ِّ إلــى أ ّ
ن االســتماع إليها ي
ن فيــروز بقدر مــا تُم ِّثل حال ًة جماهيري ّة عامّة ،تُم ِّثل خصوصي ّة حميمة ،إذ يشــعر المتل ّ
قي أيضــاً إ ّ
ّ
يخص ّ
والخاص الذي العام الذي يتشــاركه كُث ُ ٌر،
ّ الخاصة .وبذلك هي تُم ِّثل
ّ تعبر عن مشــاعره
ِّ أنّها
فرداً َ
بعينه.
ّ
للمتلقين ما تمثّله فيروز
ٌ
رمز للبنان، ٌ
رمز فنّي ،وبدرجة ثانية ستجوبين ،وهي بدرجة أولى
َ ثمّة رمزي ّة قوي ّة لفيروز لدى ُ
الم
تؤشر إلى استمراري ّة صورتها كأيقونة ٍ كما عكستها كتابات النُّخب الثقافي ّة واإلعالمي ّة على مدى
ِّ
عقــود ٍ ماضيــة ،وهي صورة ال تنفصل عن تلك التي تظهَّرت من خالل أدوارها المســرحي ّة .ويبدو
273
ل إلى جيل ،فوصف فيروز كرمز ٍ جاء من ُمختلف الفئات أ ّ
ن الصورة ترسَّ خت وباتت تنتقل من جي ٍ
العمري ّة ،وإن كانت الفئة األصغر قد رأتها بدرجة أولى رمزاً فنيّاً.
ُ
تنســجم الصفات التي أعطيت لفيروز مع الصورة األيقوني ّة التي ُرســمت لها ،ففي طليعة هذه
الصفات نجد النقاء ،ومن ثمّ الوطني ّة ،فالبساطة والقداسة والحُلم والوفاء والترفُّع والصالبة،
ٍ
ســام ،وصوالً إلى القداســة في نظــر البعض .هنا نعــود إلى ناتالي أي أنّهــا تختــزن ّ
كل مــا هو
وضعي ْن:
َ ن أنواع الفــرادة الفنّي ّة أو أســاليبها تنفصل عن
إينيــك Nathalie Heinichالتــي تــرى أ ّ
األوّل يتجلّى أحياناً في القداســة (أخالقي ّات العذاب) ،وأحياناً في البيوغرافيا .أمّا الوضع الثاني،
فيتأرجــح ،مــن جهته ،بين جمالي ّة العمل الفنّي وصوفي ّة اإلبــداع .وتتح ّ
قق مقولة إينيك هذه في
مســيرة فيــروز ،إذ فــي ما يعود إلى وضعها الشــخصاني ،أحاطها جمهو ُرها بهالة ٍ من القداســة،
وخصها بمكانة ٍ ممي َّزة كرمز ٍ وطني وفنّي ،وقد َّر مســلكي ّتها الفني ّة والشــخصي ّة ،فضال ً عن صبرها
َّ
آالم كثيــرة ،وابتعادهــا عن صخب الحياة التي يعيشــها عــاد ًة الفنّانون والمشــاهير .وفي
ٍ علــى
مــا يتعلّق بمــا اعتبرته إينيك الوضع األوبرالي ،فال مجال ُ
لمناقشــة جمالي ّة أعمال فيروز الفني ّة
تخطت العا َلم العربــي .أمّا على صعيد صوفيّــة اإلبداع ،ففضال ً
َّ التــي ح َّ
ققــت جماهيري ّة واســعة،
قســم كبير مــن أغانيها ،نجد إخالص الســي ّدة فيــروز لفنّها
ٌ عــن األبعــاد الصوفيّــة التي َيحملها
وعملها على تجسيد رسائله في حياتها ،وانقطاعها له حتّى الزهد بأمور الدنيا .وهي بذلك تُحقِّ ق
مقولــة ( Georges Didi Hubermanفــي كِ تابــه )La Survivance Des Lucioles :حــول العمــل
المضــيء ( )Œuvre Illuminanteوالعمــل الفنّــي ُ
المضــاء ( .)Œuvre Illuminéeفبينمــا الفنّــي ُ
يمتلــك األوّل هالــ ًة مشــعّة تنبثق منه ،يبدو الثاني مجرَّداً من الروح أو الهالة ،ويكتســب بريقه
مــن األضواء االصطناعي ّة التي تُســلَّط عليه .في هذا الســياق ي ُمكن القــول إ ّ
ن فيروز بما قد َّمته
ل فنيّــة ،وبما التزمته في مســلكي ّتها وحياتها ،تبدو في عصر صناعــة النجوم ،نموذجاً
مــن أعمــا ٍ
لمشاعر الحيرة واالرتباك وصوالً إلى العجز عن تحديد المشاعر عند الجمهور إ ّ
ن توليد غناء فيروز َ
يتالقى ،من جهة أولى ،مع أبحاث رومان إنغاردن وولفغانغ آيرز حول الفجوات ومناطق ّ
الاّلتحديد
274
قين ،من خالل حثّهم على التأويل .كما يتالقى من جهة ٍ ثانية
المتل ّ ومــا تُثيــره من دينامي ٍ
ّات عند ُ
مــع جانــب من جوانــب الجالل عند كانــط في تأكيده على مشــاعر الحيرة واالرتبــاك والعجز عن
أمام مشهد ٍ جميل أو أغنية تُثير فيه مشاعر ُمتناقضة كاللذّة واأللم ،أو الفرح والحزن وسواها،
فــي آن معــاً ،نكون أمام تجربة الجليــل أو الجالل .وهي تجربة ي ُمكن نعْتها أيضاً بتجربة ما فوق
ب ُعد ٌ آخر من أبعاد الجليل في أغاني الســي ّدة فيروز وصوتها ،وهو مشــاعر الرّهبة أو العظمة أو
االنبهار ،وقد بي ّنت إجابات أفراد العي ّنة بما ي ُشبه اإلجماع هذا األمر.
ي من جوانب
وما نســتخلصه من هذه اإلفادات هو اقتران صوت فيروز في أغانيها بجانبٍ مركز ّ
الجــال الــذي ي ُمكن أن نســمّيه ما فوق الجمــال .وهنا يكمن في نظرنا ســرّ الصوت الفيروزي
أمر
َ المتحــان القبــول فــي اإلذاعــة اللّبناني ّة على يد الموســيقار حليم الرومي الــذي كان يتولّى
االمتحــان ،فمــا أن َبــدأت الغنــاء حتّى رمى العــود من يده ووقــف يصغي إليها مذهــوالً .وهذا
ٍ
قســم كبير منه مشــاعر ُمارس تأثيره العميق في جمهورها اليومُ ،مخ ِّلفاً لدى
الصوت ما زال ي ِ
الذهول واالنبهار التي شــعر بها الرومي ،قبل ســبعين عاماً .وها هي َمي الريحاني تق ِّ
دم وصفاً
نموذجيّاً لهذه االنفعاالت في تغطيتها حفلة فيروز في الكيندي سنتر (واشنطن )1981 ،فتقول:
ٌ
ســلك « ...ويصيــب الجمهــور َط َر ٌف من هســتيريا ،تصفيق ،صفير ،صراخ ،بكاء ،فرح ...كأ ّ
ن صوتها
الممثّليــن والرّاقصين،
ل واضــح ،وخصوصاً مع تعزيــز الديكور وحشــد ُ
الغنائــي الرحبانــي بشــك ٍ
لعناصــر الجمالي ّة .لكــ ْ
ن في حالة حفالت فيروز ،نحن في كثير ٍ مــن األحيان أمام مغني ّة َ واألزيــاء،
قق حالة االنفعال القصوى في فورا ٍ
ن ٌ
وفرقة من العازفين فقط ،ومع ذلك تتح ّ ٌ
ــورس يرافقهــا َك
275
ن صوتها وحضورها يختصران الجمالي ّة التي تو ِّلد مشاعر تسري في الجمهور «كسلك
جماعي .وكأ ّ
فــي ُمــوازاة مواهب فيــروز ،ثمّة مســيرة طويلة من االحتــراف واإلخالص وااللتــزام والصالبة،
اتَّحــدت فيهــا الق َيم التي غنَّتها واألدوار التي أد َّتها في المســرح وفي الحيــاة ،ما َج َع َلها بمنزلة
َ
حافظت على هذه المنزلة في مختلف مراحل َمســيرتها على الرّغم من قســاوة األيقونــة .وقــد
ن قدرتها على التأثير العميق في ثقافات وبيئات وفئات أعمار ُمختلفة،
الضوابط التي تفرضها .وإ ّ
نابعــة بدرجــة أولــى من الحالة الجمالي ّة االســتثنائي ّة التي تُم ِّثلها ومن مســيرة مجلّلة بهالة ٍ من
النقاء والقدسي ّة.
المظهر المــزدوج في الطبيعة لقــد عاد نيتشــه إلى الميتولوجيــا اليوناني ّة ليرد ّ أصــل الف ّ
ن إلى َ
اإلنســاني ّة ،والمتمثّــل في األب ّولوني ّة (أبولون إله الحكمة الــذي مثّل الحُلم والنبوءة والمعرفة
276
والتع ّ
قل واالتّزان) والديونيزوسي ّة (ديونيزوس إله الخمرة والفرح والمتعة والخصب والقوّة)،
ن يرتبط بالفرح واللّذة والمتعة ،وبإرادة القوّة .فــي حالة فيروز تتمثّل الجمالي ّة ُمعتبــراً أ ّ
ن الفــ ّ
ليــس في الفرح واللّذة والمتعة فحســب ،وإنّما أيضاً في الحِ كمــة والحُلم والمعرفة واالتّزان،
ّ
ولتشــكل رافعة فني ّة لجميع لتم ِّثــل بذلــك حال ًة اســتثنائي ّة ،تتخطّى الجمــال وصوالً إلى الجالل،
المؤلّفين والملحّنين الذين َعملت معهم.
277
د .شوقي عبد األمير*
والمحيطات ستكون الصوت.. ُ األرضي إذا كانت اللّغات هي القارّات ،فإنّ البحار
ّ في َ
الكوكب
صــوت ُمحيطــي نعرفه عندما يبدأ لكنّه ســرعان مــا يمتد ّ ..يتناهــى فينا فال نُدرك إذ ّ
ٌ هنــاك
ّ
ّ
لنظــل نبحث عنها في أعماقنا ..هكــذا نصغي لها ،فهي عندما تبدأ الغناء تكون ذاك حــدوده
ولِدا ّ
ليظاّل معاً في شــرنقة اإلصغاء جنينَي ْن ُ ُ
المســتمِ ع مجرى ســرّيّاً بينها وبين كمن يحفر
َ
ً
ي..
لحظــة انــدالع األغنية ،ال زمان وال مكان لهذا الوليد الذي ال ي ُرى منه ســوى حبله الســرّ ّ
صوت فيروز.
واألصوات مثل األنهار ،بعضها ينبع في الجبال ،وآخر من البحيرات ،وثالث في الغابات والبراري،
ُ
ينبــع بالتأكيد مــن الجبال ..ولهذا فهــو يقودنا إلى األعالــي ويرتقي بنا فوق ٌ
صوت لكــ ْ
ن هنــاك
ٌ
صوت ال يعرف االنكسار وال الهدم السطوح الخفيضة..ال تليق به السراديب والخَنادق والمخابئ..
ُرمم ..ي َُبل ْ ِ
سمَ ،يمسح عرق الجباه وي ُجفِّ ف الدموع. ٌ
صوت ي ِّ وال اإلحباط،
صوت فيروز
يسحبك
َ ْك ،يســتجوبك في حوار ٍ عامودي يخترق ســطح الحاضر،
َ دي ٌ
صوت من ي َ بك ُ
ُمســك َ أحياناً ي
بعيــداً عن انشــغاالتك اليومي ّة وعن مطب ّات العمل والهمــوم التي تتراكم على غفلة ،من دون
ُ
تنفض عنك غباراً ترا َك َم طويال ً من دون أنتختض بصيحة ٍ
َّ أن تشــعر بحج ْمها وثقْلها ّ
إاّل بعد أن
*شاعر عراقي
278
تشــعر به ..هكذا ي ُمكن أن تســتحمَّ نهاراتنا بالصوت ،صوت فيروز ..أمام بعض األصوات نُغمض
ل أفضل ..لماذا؟
أعي ُننا لنصغي لها بشك ٍ
ُ
الصوت مثل كوكبٍ يعوم في َمدار الكائن ،ولهذا عندما تكون أعي ُننا مفتوحة ذلــك عندمــا يأتل ُ
ِق
اختالط ،تداخ ُ ٌل،
ٌ َ
أطراف الكوكب الذي نعيش على ســطحه ،وهنا قد يحصــل فإنّنــا نشــهد أمامنا
أاّل نرى ّ
إاّل الصوت الذي تجلّى ككوكــبٍ ..ليكون هو المكان نفضل ّ
ِّ ٌ
ارتطام .لــذا تشــاب ٌ
ُك وأحيانــاً
في االرتعاشة نفسها لســت ذلك الفتى العشــريني وأنا ابن الســبعين؛ ّ
إاّل أ ّ ُ إنّني
ن صوتها َيبعث َّ
ُ
خترق جسدي بالقشعرير ِة ذاتها... و َي
تــرى مــاذا يحــدث؟ هل هــو الصــوت العا ِبر للزمــن ،الصــوت الذي يعــود بالكائن الــى ذاكرته
الجنينيّــة ويمســك بهــا ال ي ُفارقها ،أم إنّه القادر على تلب ُّس الروح كــرداءٍ ميتافيزيقي في ّ
كل
ّ
وكل زمان.. مكان
279
أجل هو صوت فيروز
280
عام كانت األغاني مقد َّســة بدرجة أنّها أعظم مــن آل َِهتِها التي
ٍ منــذ مــا يقرب على خمســة آالف
ْ
ملت ألجلها. ُع
ّ
بــكل أنواع الغناء نحــن اليــوم لو َأردنــا أن نَنظر عبر هذه الرؤيــة البابلي ّة إلى حاضرنا الذي يض ّ
ج
مثل هذه القداســة فإنّنا ســنَجد ُ بالتأكيد صوت فيروز..
ِ لنبحث عن َص ٍ
وت َيرقى إلى َ والموســيقى
ٌ
صوت
النهار المعروق
ِ ح ُز َ
جاج يمس ُ
بل ُ ِ
هاث األرواح
وحنين األجسا ِد المطرودةِ
ِ
من الكون
ٌ
جيرة صوتُ ..
ش ٌ
تحت رما ٍ
ل ِ ُ
تطلع من
تتحق ُ
ق بالكاد، ّ أُمنيةٌ
بعد فوات
ٌ
صوت َيتردّد ُ في األرجاء
الشاغر
َ المكان
َ ليمأل َ
لألوان
ٌ
صوت
ّ
«قال لي أشياءَ ال أعرفها
كالعصافير»..
ٌ
صوت
ُ
أعرف ّم ،لكنّي ال
ي ُرم ُ
ي شرخ؟
أ َّ
صوتُها
وحد ُه قاد ٌر على بع َْثرةِ المكان
281
د .محمّد المعزوز*
ّ
لعل لقب «السفيرة إلى النجوم» و»جارة القمر» ،الذي يرتبط بالمغنّية فيروز ،ي ُحيل إلى داللة ٍ
ّ
للطبيعة. ُ
المستنفذة
بصوت
ِ بالصوت المتعد ّد لتعب ّر عن هــذه اآلدمي ّة ،فغنَّت
ّ ومواربــة اللّغة .لذلك ،تمسّ ــكت
بالحيلــة ُ
* مُ دير مركز َ
شمال إفريقيا للسياسات -المغرب
284
غنائي يقوم بمهمّة ُم َ
واجهة البؤس والقهر والخيانة .وإذا ّ صوتي
ّ المعنى الكلّي لألنثوي ّة كخطابٍ
الفلســفي
ّ كانت النســوي ّة هنا تعني الذّات المغنّية (فيروز) ،فإ ّ
ن المقصود باألنثوي ّة ذلك المعنى
قاومة. ُ
والم َ يؤسس رؤي ًة للعا َلم ُمفعمة باإلصرار على الكشف
ِّ الذي به أصبح الغناء النّسوي
ل
األخوي ْن رحباني وإحاطة نفســها بســياجٍ فاص ٍ
َ ّ
ولعل تركيزها على البقاء في دائرة زمن بروزها.
األخوي ْن والوسط الفنّي ،قد َج َع َلها تأمن من التأثيرات ُ
المتشا ِبكة ومن اختالط َ بين عا َلم هذَي ْن
ّ
الخاص إبــداع َلونها الغنائي
ِ ْ
نجحت في ْ االتّجاهات الموســيقي ّة التي ن
َشــطت فــي عهدها .لذلك،
ٍ
لصوت أدائي ُمنفرد يحمل ســلط ًة أبدي ّة منذ الخمســيني ّات من القرن الماضي .من والتّأســيس
ُ
لعمق الفكــرة الموســيقي ّة وللموضوعات الزاخرة العربيّــة ،واختيــار التعابير البســيطة الحاملة
سها مع االستثناء َج َع َل منها تقف في مبعدة ُ باإلنســان من أحاســيس وأحالم ونكبات .إ ّ
ن تناف َ
مــن ُمخالطة اآلخرين ،فضربت من حولها ســياجاً غير شــ ّ
فاف يحجب حضورهــا الماد ّي وتفاصيل
حياتها ،حتّى كاد أن يتصوّرها اآلخر المأســور بجوهرها كالكائن السّ ــماوي الذي ال ي َ
ُدرك منه إال ّ
والمبعثرة بطاق ِة الكينونة المح ّ
فزة على البقاء على ُ صوته العجائبي ،يلحم األحاسيس المنهارة
الرّغم من االنهيارات المريعة التي يعيشها الداّخل العربي فرداً وجماعات .ال ي ُعتبر هذا السّ ياج
المتعالية ،وإنّما
هالة شــكلي ّة تضفي على ذات فيروز نوعاً من القدســي ّة أو نوعاً من «الد ّينونة» ُ
شــكال ً من التّباعد أو العزلة بحثاً عن السّ ــكينة الســتكناه الجوهر الفنّي الخفي ،الذي ال يتأتّى ّ
إاّل ّ
ّ
وتقصي المعاني ستنزفة للتأمُّل الضروري ّة إزاء مظاهر اليومي وشــكلي ّاته ُ
الم ق المســافات ّ ْ
ِ بخل ِ
ُ
المتمنّعــة .رب ّمــا هــذا التّباعــد هو مــا َج َع َل من صوتهــا منفرداً في األســماع ال تُخطئــه األذن،ُ
ْ
علت من نبراته اســتثنائي ّة مائزة لم تشــب ْها ضوضاء األصوات المكرورة،ألنّه وليد العزلة التي َج
ن ارتباطها بالثّنائي
عــام .إ ّ
ّ ُ
التخاطب اليومــي التي صارت نبراته مجــرّد صخبٍ الغارقــة فــي رتابــة
عاصي ومنصور الرحباني وعيشــها بينهما أكثر الوقت في اإلســتديو ،كو ََّن أمامها معنى الوجود
285
ينفك عن الزّمن الفنّي الــذي بات قدرها ،وهو
ّ فاعتبرت حضورها الوجــودي ال
َ الــذي ينبغــي لها،
حضور في نظرها مقد َّس ُ
ومرتبط باإليمان ،يمنعها من الوقوع في خطيئة مباشــرة؛ أي محيط
ّ
بكل ما ّ
الشــخصي ّة جاهدة النّفس بالتعب ُّد للغناء وبه ،كوَّن هذه
َ غير فنّي وغنائي .إ ّ
ن اختيارها ُ
لم
ق ذاتي .وإذا كان ابنها زيــاد ي ُرجِ ع بعضاً من هذا الغموض إلى
ض وانغال ٍ
تنطــوي عليــه من غمو ٍ
المستعصية مع والده عاصي ،وقد أثّرت هذه الخالفات
ُ وضعها النّفسي المتأزِّ م نتيجة خالفاتها
ن ذلك في اعتقادي لم ُ
يكن ســبباً مباشــراً فــي تحديد عالقاتها فــي رأيــه على األبنــاء كذلك ،فإ ّ
ومكوناً أصليّاً لشــخصي ّتها الذاتي ّة والفنّي ّة ،وإنّما حساســي ّتها الفني ّة واإلنساني ّة
ِّ بالعا َلم الخارجي
التي تكوّنت من داخل الفكرة الفني ّة وسط الثّنائي عاصي ومنصور ،وهي تُباشر مختلف تفاصيل
والعالئقي ّة باآلخرين.
خالل هذه التّفاصيل لم ُ
تكن ترى عاصي ذلك الزّوج الذي يناوشها وي ُغايرها ،وإنّما ذلك اإلنسان
الــذي يبنــي معها الفكرة والفنّ ،أو الرّديف المعنوي والماد ّي الــذي ي ُحقِّ ق لها متعتها الغنائي ّة
وده ْشــتها الجمالي ّة .وهذا ما عب َّرت عنه بنفســها وهي تغنّي «ســألوني النّاس» التي لحّنها زياد
«سألوني عنّك يا حبيبي ...كتبوا المكاتيب وأخذْها الهوا ...بيعزّ علي ّي غنّي يا حبيبي ...وألوّل مرّة
جاملة ،وإنّما كان انفتاحاً لتعزيز الخبرة الموســيقي ّة وتنويع األداء بما ُ
للم َ انفتاحــا اجتماعيّــاً أو
تنبني الرّؤية العابرة للكينونة بإعادة تشكيلها عبر قوّة التّأويل .فالغناء الذي يمرّ عبر الوجدان ال
286
يعتمد على حســابات العقل في إدراك الحقيقة و َتجْلِيتها ،وإنّما ُ
بمســاءلة األحاسيس العميقة
ّ
الشاعر أو المغنّي وتأمُّلها .تكون هذه األحاسيس التي ال يقدر على إدراكها وإعادة صياغتها ّ
إاّل
الفــذّ ،رديفــة للعقــل الباطن أو العقــل المحض في مختلف عمليّــات إدراكــه وتأويالته للتعد ّد
المغلقة ،فإنّــه يخلق مقابال ً لما يصير به العقــل عقال ً فقط ،هذا
ويكشــف عــن غموض األشــياء ُ
المقابــل هــو مــا يصير به الوجــدان أصليّاً كجزءٍ أساســي من اآلدميّــة .إ ّ
ن قــوة أداء فيروز عبر ُ
ْ
بوضعها وسطاً للتفا ُعل الصعبة التي قليال ً ما تتح ّ
قق ،وذلك صوتها المتفرّد َخ َل َق تلك «البي ْنونة» ّ
ددة لعتمــة األنفاق المتعد ّدة التي تســيطر على حركة العا َلم تؤد ّيــه فيروز ،دور االســتنارة ُ
المب ِّ
المتّسم بالسّ قم والقرف.
ّ
للصوت وال إلى ن العمق األصلي الذي تؤسّ ســه أغاني فيروز ،ال ينتســب إلى التّناهي الحسّ ــي
إ ّ
الشــك والتّساؤل
ّ ْ
بوضعه الوجود الحسّ ــي والمعنوي َموضع َشــي ّؤ المعنوي للكلمات ،وإنّما
الت َ
واســتفزازه لرتابة اإلدراك والتل ّ
قي ،ومن ثمّ تغيير اإلحســاس بما يتالءم مع العقل والحكمة
ُ
المشار إليها أعاله. «البي ْنونة»
َ وبلوغ الوعي الباطن من جهة
287
لمّــا نُن ْ ِصــت إلى فيروز وهي تُغنّي «أغني ّة شــادي» نلحظها في المقطع الموالي -الذي يقول« :
ومن َيوْمِ تْها ما عِدت شــفته ضاع شــادي ،والثّلج إجا وراح الثّلج عشــرين مرّة إجا وراح الثّلج وأنا
ل مكثّــف ي ِّ
ُحرر نوازع الفرد صــرت أكبر وشــادي بعدو صغي َّر َعم يلعــب عالثّلج» -بصدد إنتاج تخيي ٍ
قي) للتحرُّر من االنغالق الذاتي الذي فرضه النظام اليومي القهري ،ويحثّه على اكتشــاف
(المتل ّ
ُ
«المعقول» المغلوط الذي ترسّ خ لديهم بتسليط األضواء على جوانبه األكثر إعتاماً.
نفســها كبرهة نجاة من تناهي المعيش ،ومن تســلُّط الذات القابلة للتشــي ّؤ
َ تُقد ّم أغاني فيروز
الخفي،
ّ الصوت الغنائي ُمفعماً بحمولة الواقع
رتكنة إلى الخمول الوجداني .وهاهنا يكون ّ ُ
والم ِ
ُ
مصراعيه ،وهو األفق الذي لم يشوّهه
َ يتحسّ س األلم الفردي والجماعي فاتحاً باب الحُلم على
فساد اليومي وال مكان فيه للتسلّط والقهر.
ّ
وحث ارتباط من أجــل التّجاوُز
ٌ ن ارتبــاط فيــروز بالواقع العربي النّفســي الممــزّق واألليم هو
إ ّ
الكينونة الخامدة على التحرُّك والتحوُّل انســجاماً مع حتمي ّة تغيير العا َلم ،ومنطق قوّة الوجود
السّ ــاعية إلــى السّ ــعادة ّ
الاّلنهائي ّة .من هنــا يتقاطع غناء فيروز مع العقل ،ألنّــه ينحو إلى محب ّة
ُ
العقل ي ُدرك الحكمة بســيطرته على الحكمة ،وهذا ما تبديه أغانيها الكثيرة عن الحبّ .فإذا كان
َ
دليل ُؤول المعطى العقلي للوجود ويمنحه الحواس ويجعل ّ
كل ما هو واقعي عقليّاً ،فالغناء ي ِّ ّ
الحــواس وتمتلئ بها الذّائقــة المقوّي ّة للكينونــة وإدراك العا َلم بما
ّ الحكمــة التــي تتقوَّم بها
العقلي ليس أساساً وحيداً
ّ يجعل مكوّناته متجانســة ومنسجمة البناء .وهذا يعني أ ّ
ن اإلمكان
المط َلــق لماهي ّته الموضوعي ّة .ليس العقــل إذن ّ
إاّل متاحاً منطقيّاً إلدراك المكــون ُ
ِّ للوجــود ،أو
الحواس في عالقة ٍ
ّ جهة ما ،فقط ،من الكينونة .فإمكاني ّة اإلدراك الكلّي ال تُتاح إال ّ بحضور تجربة
مزدوجــة بالعقــل .وهذا ما تُحدثه فينا األغاني الخالدة ،ومنها أغاني فيروز لمّا تجعلنا ن ُ ّ
حس أنّنا
نخوض تجربة الوحدة بين الحد َّين؛ العقلي والعاطفي.
ــأو ،نظراً إلى التعالُق الهرمنوطيقي ما بين األداء
الش َّ إذن ،اســتطاعت أغاني فيروز أن تصل هذا
الاّلمتوقَّع ،ألنّها تُحاول
والكلمة والموســيقى .فأصبحت أغنيتها انكشــافاً لتجربة االنفتاح على ّ
كل ما هو ُمتناه ،سواء أكان عقليّاً أم حسّ يّاً ،وتحثّها على خَوض مغامرة االشتباك
تحرير األنا من ّ
بالوجود ّ
الاّلمتناهي.
إنّهــا تختبــ ُر قدرتَنا على التفا ُعل مع احتماالتها ومدى رغبتنا في إزاحة العوائق الكامنة في وعينا
الباطني الذي َج َع َلنا نُدرك خطأً أ ّ
ن العا َلم المعيش هو العا َلم الواقعي .الهدف من حفزها لهذه
288
الرّغبة هو إحداث توتّر حيوي في داخلنا يجعلنا نلعب َدور الكائن الوظيفي في اقتحام ُمنغلقات
الواقع بدءاً من تفجير المكنون العاطفي عبر لغة ٍ بسيطة واضحة وعميقة وإتاحة فرصة االنفتاح
ُ
الصوت وصوت المعنى. ق أوسع عبر صورة ّ على أف ٍ
ن فيــروز ال تعتــرف بالوجــود بمــا هو موجــود إال ّ عبر الغنــاء «أعطني النّاي وغنّي فالغنا ســرّ
كأ ّ
الوجــود ،».....بــل الوجــود عابر ألنّه فانٍ ،بينما الموســيقى أبدي ّة النهائي ّة .مــن ثمّة ،فهي تُمثّل
اليقين والوثوقي ّة على خالف الوجود الذي هو ظنّي ألنّه متقلّب وال يستقيم تناغمه وانسجامه
ٌ
وأصل مــن أصوله .إنّه الد ّاخلــي ّ
إاّل بمــا يتقــوَّم بــه الغناء .لذلك ،فالغناء ســابق علــى الموجود
ي تتقاطع فيه الــذوات والموضوعات وال تجد لها نهاية .فعندما تغنّي
الغنــاء لــدى فيروز امتداد ٌّ
ّ
والرجل مثال ،فهو حبّ ممتد ٌّ ليســت لــه بداية ونهاية نهائيّتَان ،تغنّي عن حــبّ المرأة
ً عــن الحــبّ
ضابط الحسّ ي ّة الخارجي ّة وال ي ُقي ّدها الوعي الباطني .إذن ،يبقى هذا المعنى الغنائي صيروريّاً غير
ّ
المصادرات التي تجعل من بالمحاكاة المكرورة والرّتيبة ،لينتج مؤثــرات انفعالي ّة ت ُ ِّ
ذوب ُ ُ مرتبــط
الغناء ال ي ُعيد إنتاج الصور واألصوات باعتبارها إحساسات ،وإنّما بوصفها خطاباً للكينونة وإضاء ًة
289
ّ ق قوّة ٍ ُمضاد ّة لِما ْ ْ
ظل وعليه ،تتّجه أغاني فيروز إلى ُمعا َلجة األحاسيس بتشذيبها وحشدها لخل ِ
ّ
والاّلمعنى .لذلك، ب باطن األفكار والمشــاعر ويجعل الموجود ســلبيّاً يتكوّم في التشــي ّؤي َُغ ِّر ُ
نــأت أغانيهــا عن األشــياء التي قيلت واألصوات التي ترد ّدت ،فانفلتت مــن رقابة اليومي لتُصبح
بقنــوات ذهنيّــة ،وليــس العكس كمــا هو حاصل مــع الخطاب الفكري .إنّنا نشــعر
ٍ أداءً حسّ ــيّاً
ونحــن نُتابــع أغنية فيــروز أنّها تُخاطب الوجود اإلنســاني ،ال بما هو ماهيّــة ،لك ْ
ن من حيث هو
َ
السؤال عن اإلنسان كما هو موجود بالسّ ؤال عن كينونة وصيرورة .لذلك فإ ّ
ن صوتها َيستبدل
حقيقة وجوده .صوت ال ي ُخاطب العقل لكي يحشــره في البحث عن منطق الوجود وعِلله ،وإنّما
الحــس باعتبار اإلنســان كائناً لغويّاً وصوتيّــاً يحتاج دوماً إلــى إدراك كينونته باعتبارها
ّ ي ُخاطــب
حقيقــة موجــودة في الكون .وهنا يكمن تمي ُّز فيروز ،والســي ّما بهوي ّة صوتهــا ونبراته ُ
المزلزلة
التي تدفعنا عبر الحلم إلى االنتقال من لحظة الحجب واإلخفاء إلى لحظة اإلبانة والكشــف .إ ّ
ن
انجذابنــا إليــه زمن حدوثه يجعلنا نبتكر خالله الرموز والتوقّعات ونســأل عبــر تفا ُعلنا العاطفي
ّ
والصوت في دت اللّغة
معــه عن الحقيقة وعن الجرح الذي نحسّ ــه وال نعلــم َموضعه .كلّما اجته َ
تحويــل ُ
المدركات إلى محسوســات ،تحوَّل الغناء نداءً إلضــاءة الكينونة .وبه ي ُصبح إصغاؤنا إلى
ّ
الشــعر واألغنيــة ،بالكمون األغنيــة إصغــاءً إلــى الوجود .وهذا يعنــي أ ّ
ن الحقيقة موجودة في
والتح ّ
قق ،ألنّهما األكثر قدرة على ْ
رص ِد تجربة الوجود .وهذا ال يعني كما تكشفه لنا أغاني فيروز
ن األغنية جميلة في حد ّ ذاتها ،وإنّما ألنّها تنتج الجمال والبهاء وتســعى إلى اكتشــاف الحقيقة
أ ّ
بوصفها جماالً َ
بعينه ولذاته.
بتتب ُّعنــا لتفاصيل أغاني فيروز ،نكتشــف أنّها بصوتها تُعــرّي اللّغة والرّموز التي تطمس الوجود،
تلقاء نفسه من دون أن يتدخّل العقل .بذلك ،يحدث التّنبيه إلى معضلة االستالب أو االستسالم
ّ
وتمكن من إخراج العاطفة من ٍ
كنظام يومي أصبحت له لغته وصوته، إلى نظام الحياة الروتيني ّة
من هذه الجهة فقط ،ال يســتقيم التفكير العقلي واإلدراك الماد ّي لألشــياء إال ّ بالرّجوع بحسب
ّ
الشعري ّة والصوت الغنائي ي األصيل .إ ّ
ن الصورة الفيلســوف األلماني هايدغر إلى المنبع الشــعر ّ
290
و ًة تخاطبي ّة عبر الوجدان الســترجاع األصل الوجودي الذي َ
تاه في صرامة ّ
يشــكالن ق ّ في تآلفهما
ّ
بالضبط ي ُمكن أن نقرأ أداء العقل ،فانطمســت الكينونة وغابت أشــياء كثيرة من الحقيقة .هنا
ُ
بالمحاوالت اإلبداعي ّة العربي ّة واإلنســاني ّة التي َجعلت من مهامّها القصوى تنوير فيروز ونُجاوره
ن َمن ل َّ
قبها « السّ ــفيرة إلــى النّجوم» أو «القمر» العا َلــم وإضــاءة الحقيقة .وبناءً عليه ،نَعتبر أ ّ
291
العويط*
د .عقل َ
ُ
أغمضت .وإنّي بعيني .وإنّــي أرا ُه إذا ٌ
صوت هو صوت .لكنّــي أرا ُه ٌ
صــوت هو ُ
أقــول مــا يأتي :هو
َّ
ُ
وفرغت، ُ
وامتألت، ُ
واغتبطت، ُ
وشــقيت، ُ
واســتطعمت، ُ
وشــممت، ُ
ســت، ف ُ
لمســت ،وتن ّ أرا ُه إذا
وحلمت .وإنّي أرا ُه في صعودي ونزولي ،في يســاري ويميني ،في ُ ُ
وأحببت، ُ
واجتهدت، ُ
وجاهدت،
أناي ُ
أسأل :أهو ُ
أكون أرا ُه؟ لذا ُ
أكون إي ّا ُه ،وكيف ال شرقي وغربي ،في تيهي وانتباهي .فكيف ال
َ
ٌ
حلم أم ٌ
أامرأة هو ،أم جســد ٌ أم ٌ
مرآة أم رؤيا؟ ٌ
كائن أم ٌ
صوت هو ،أم مــن فــرط مــا هو أنا ،أم
لمنطق السؤال؟
ِ العقل بل فقط
ِ لمنطق
ِ ُ
يخضع فلسفي ال
ٌّ ٌ
كيان
292
ُ
أعرف الجواب ،عندما يتعل ّ ُ
ق بفيروز .بصوت فيروز .إذ ال ُ ُ
الســؤال وكم ي ُعييني ُعجزني هذاُ وكم ي
ُ ْ ُ ْ ُ
ن أقن َِع نفسي بجواب .كما ال أريد أن أقن َِع نفسي بجواب. أ
جاهل .فكيف أســعى وراء جواب؟! وكيف أســعى إلى ٌ ن ألنّي ٌ
جاهل .وإنّي ممت ٌّ ُ
قلــت دائمــاً إنّي
معرفة ٍ هي تبقى دون المعرفة؟!
يشــرح
َ
ُ
يعرف أ ْ
ن ُالم ألنّه ال ُ
يعرف؟ هل ي ُ ٌ
امرؤ ألنّه ال ح المســأل َة على الوجه اآلتي :هل ي ُ
ُالم أُوض ُ
ٌ
نقصان يليه ن المعرفــة ٌ
عارف أ ّ ُــام ألنّه
ُ فلســفي كهذا اإلشــكال؟ هل ي كلّما و ِ
ُض َع في إشــكا ٍ
ل
ٍّ
ٌ
نقصان تلو نقصان؟!
لصوت فيروز الذي هــو تعبي ٌر عن عجزي
ِ أرجــو أ ْ
ن ي ُؤخَــذ كالمــي باعتباره مقارب ًة -بل مالمســ ًة -
وجهلي .بل هو عجزي وجهلي.
المطر وكيفي ّ ِة استيال ِئ ِه على روحي.
ِ تفسير
ِ كعجزي عن
الكلمات ومدى استبدادِها بي.
ِ ألسرار
ِ كجهلي
كصمتي حين ال أجد ُ معنًى ِّ
ألي كالم.
كصمتي حين ال أعث ُر على ِّ
أي كالم.
ُ
الكالم. كصمتي الذي هو
ُ
خادمها. ُ
أمتلئ بها ،وأنا كاللّغ ِة حين
كاللّغة التي تصي ُرني ،فأصي ُرها.
ل وذهول ،وهي ُ
مســألة انذهــا ٍ انفعالي .هي فقط عقالنــي أو ُ
المســألة مســأل َة جــوابٍ ليســت
ٍّ ٍّ
تحت عبءِ ّ
الاّلمفسَّ ر. َ صوفي لهما ،خشي َة الوقوع في تفسير ٍ ينوءُ بذا ِتهِ، ٌ
استسالم
ٌّ
يكون عاجزاً وممتلئاً
َ أكثر من أ ْ
ن َ ُ
يغبطني الشــعو ُر بالعجز .ي ُشــعِ ُرني باالمتالء .ماذا يريد شــاع ٌر
ِ
نفسهِ؟ اآلن
ِ في
العاجز عن التفسير؟
ِ الكلمات بامتالئِها
ِ شعور
َ والشع ُر ،ما هو الشع ُر؟ أليس
متَه ٌ
بالغ مه ّ إليك أنّــه
َ ُ
والعجــز عــن التفســير ،أليس هو ذروة التفســير ،وخصوصاً عندمــا يوحي
الاّلجدوى واالمتالء؟ صحن ّ
ِ الفلسفي في القصوى ،المتلخّص َة في ارتما ِئ ِه
ِّ
يالمس المعنى ،رأيت ُ ُه نافراً من القرب ،نائياً عن المعنى.
َ يقترب ،كلّما شاءَ أ ْ
ن َ ن ُ
الصوت أ ْ كلّما شاءَ
ُ
يلتفت إلى اتّكاءٍ ها هنا أو ها هناك؟ َ
داخل ذا ِتهِ ،ال أألنّه ُممعِ ٌ
ن في السَّ فَ ِر
أفهم صوت ِ
َك. ُ من سذاجتي ،أعتقد ُ أنّي
أفهم هذا الصوت.
َ من سذاجتي ،أعتقد ُ أنّي لن
ي امتالء.
ي نقصانٍ .وأ ّ ٌ
ممتلئ .وأ ّ ٌ
ناقص .في الحالتَي ْن ،أنا في الحالتَين ،أنا
293
ٍ
إحساس أسير االرتباك ،ورهينَه ،لك ْ
ن من دون َ َّ
يظل ن ٍ
الرتباك كهذا ،أ ْ َ
األمثل َّ
الحل يتراءى لي أ ّ
ن
بعبءٍ ،وال بعيبٍ أو بذنب.
ل لذّة ٍ تنتشــي بكينونتِها الخافي ِة على العقلُ ،
المضني ِة للعقل ،المانح ِة إي ّاه ســبباً ُ
مثل هذا ،كمث ٍ
يشعر بالهزيمة.
َ ّ
ولئاّل لئاّل يضطرَّ إلى الهرب،للحيادّ ،
294
ُ
يترك الحرائق القلبي ّ ِة التي ي ُشــعلُها وال
ِ صيف عن ٌ والصوت ال يكتفي ،ألنّه إذا اكتفى ،فسيســأل ُ ُه ُ
ُ
يؤلم بالصــداع الذي
ِ ُصاب
َ يبســط ظال َلــ ُه عليه ّ
لئاّل ي َ ن ٌ
قيظ أ ْ حبّــ َة مــاءٍ لتبري ِد الغليل .وسيســأل ُ ُه
الضوءَ والعتمة.
كرغيفٍ وشــهي ٌ
الفصول ،وما يســبقها وما يلي .وهي شــعو ُر المرء بأنّه هائل كحلم. ُ ُ وصوت ُ ِ
ك
ٌّ
ق ينتظ ُر. ٌ
وجميــل كمراه ٍ منتصف اللّيل.
ِ وشــهواني كشــرفة ٍ في ٌ
وامرأة كامرأة. ع من فرن. طالــ ٍ
ٌّ
ِك هو الصوت جميعه واألغاني إنصات إلى المطلق ،باعتبار صوت ِ ٌ ُ
يموت .ألنّه وهي شعو ُر ُه بأنّه ال
االفتراض والتخييل.
ِ كلّها ،وما ستنشدينه من أشعار ٍ في أزمن ِة
ُ
سيســأل ن عجباً عجاباً .إذ ك متصوّفاً .لك ْيكون صوت ُ ِ
ُ ّف ،فكيــف ال مــراس صوفي وتصو ٌ ٌ وصوت ُ ِ
ــك
ٌّ
ي االعتقا ِد أنّي سأجد ُ ُ ّ ك ،كيف أفسّ ُر التصو َّف بالتصو ِّف ،وقد ٌ
ســائل محن َّ ٌ ٌ
ســائل ساذ ٌ
كنت كل َّ ج أو
محض هلوســة ٍ ال تخفى على ســاذجٍ ،فكيف ُ التأويل الذي هو
ِ ق لهذا ف ُ
ن قلب ُ ُهَ ،من يص ّ
َمن يطمئ ُّ
على راشد؟!
يلمس ُه الحري ُر. ُ
ملمس ُه بالكاد يستحيل أ ْ
ن ك حين يشب ُه الجرو َد ،علماً أ ّ
ن وهو صوت ُ ِ
َ َ
وئام المتناقضات،
ِ ج في ن ذلك يندر ُ ُ
يدرك المرءُ أ ّ بالوعر والسنديان،
ِ ك مترفّقاً
وعندما ي ُذ َك ُر صوت ُ ِ
ُ
طيف النسيم.طف والل ّ ُ
السهل والحو ُر والل ّ ُ َك هو أيضاً
ن صوت ِ
أل ّ
نبع الينابيع. ُّ باعتبار ِه نَبعاًَ ، وعندما ي ُشا ُر إلى صوت ِ
فك َمن يدل على ِ ِ ِك
ثعالب األودي ِة
ِ السطوح القرميد ،إلى
ِ ك إلى القرى ،إلى غيومِ ها الهاربات ،إلى يهرع صوت ُ ِ
ُ وعندما
الصوت،
ِ ألراغن َ
هياكل المدن بأنّهم جعلوا مد َنهُم ُ
أهل د َي َكة ،يذك ّ ُر ُه
الحساسين وال ِّ والبراري ،إلى
ِ ِ ِ
بالرزق الحالل.
ِ لرسو زوار ِق ِه المألى
ِّ مرافئ
َ وجعلوا منارات ِِهم
عالم الفجيع ِة ما يذك ّ ُر صوت ِ
َك بأنّه ِ ِ
بصوتك ،كدواءٍ لألحزان ،يهبُّ من ُستنجد ُ
َ وعندما في األحزان ي
العرس والخم ُر وقانا الجليل.
ُ
بمصيــرهِ ،حريصاً على جدواه ،وعلى حاشــي ِتهِ،
ِ ينكفئ الشــع ُر ضنيناً
ُ ُ
يهلع الشــع ُر .عندما وعندمــا
الصلب بل إلى القيام ِة
ِ ظهرهِ ،كمســيحٍ يقــود ُ ُه صليب ُ ُه ليس إلى
ِ منكبيهِ ،على
َ ك على يحملُــ ُه صوت ِ
ُ
295
بمآثرهِ ،وناظ ٌر إلى أحوالي وأنا في ٌ
عارف قي ،فألنّه غرق المتل ّ احتمــال ح صوت ُ ِ
ك إلى وعندمــا ي ُ َل ِّم ُ
ِ ِ ِ
أحوال الغرقى الذين أحوالُهُم أحوالي. ِ القاع ،وناظ ٌر إلى
وليسهر على
َ ليســهر مع الســاهرين،
َ ُ
يهجع ُّ
يظل يعتقد ُ أنّه م َة َمن
لينام ،ث ّ
َ كيهجع صوت ُ ِ
ُ وعندما
الشياطين والكوابيس،
َ ّ
الممضةَ ،طارداً عنها هواجسهم ،ومنامات ِِهم
َ ليزور وحشات ِِهم،
َ النيام ،أو
ِ
بالعليل النسيم.
ِ وملوحاً لها
ِّ
ُ
شــجيرات الياســمين، ُ
تضحك له مزامير الصباح، عصفور النافــذة مع ــك مع ُ ُّ
وعندمــا يطــل صوت ِ
ِ ِ
ِ
وشــك ليمنع الهاوي َة من
َ د ُه ُ
الغصــن ي َ ح ،وســرعان ما يمد ُّ ُ
الحبــق وعطــ ُر الحبق ،ويفو ُ ويتلب ّ ُ
ــك
الوقوع في الهاوي ِة والقرار.
ِ ويمنعها من
َ الدوار،
القلوب،
ِ العقول ،من
ِ ن يطرد ُ صوت ِ
َــك من ُ
الموت من اســتراح ِت ِه من الغفل ِة ،ويظ ُّ وعندمــا يهبُّ
بســاط الغيوم.ِ األرض ،في أرجاءِ البالدِ ،على
ِ جوهــر
ِ ح ُه في ُ
ترتســم رو ُ كوالبيــوت ،آنــذاك صوت ُ ِ
ِ
ُ
ينزف زي َت ُه والقلب والدســتور ،وآنــذاك العقل كتاب ُســه َل قراء َة ــك زيت ََه لي ُ
ينــزف صوت ُ ِ وآنــذاك
ِ ِ ِ ِّ
جواب الكــر ِه والبغضاء ،فآنذاك َ ّ
ك إاّل ُ
يلق صوت ِ
ومبادئ الســام .وإذا لم َ َ َ
قناديــل الحبّ ليضــيءَ
ُ
الموت على ُ
يهبط ويهبط الل ّ ُ
يل ُ ّات، ُ
وتولول الجــد ُ ُ
ّهات،
ن األم ُ
األطفال في أســرّت ِِهم ،وت ُ َج ُّ ُ
يختنــق
ُ
الحروب ،وتهوي ُ
وتندلع ويسكت نداءُ الميناء، ُ ُ
ويحترق البح ُر، الناس في عزِّ الحيا ِة في عزِّ النهار،
ِ
الدوران ،عن الخفقان،
ِ األرض عنُ ف ويتســاقط القتلى ،وتتوقّ ُ
ُ ــم زجا ُ
ج النوافذِ، ّ
ويتهش ُ ُ
البيوت،
ُ
آهات نجوم .وآنذاك شــمس ،وال يعود ُ ث ّ
م َة قمــ ٌر وال ٌ ُ
تشــرق ُ
يطلــع الضوءُ ،وال تعود ُ وال يعــود ُ
ُ
القلوب ،وتأوي الطعام ،وتنتح ُر
ُ ح الفســاد ،ويفســد ُ ٍ
إثم يرتكبون ،فيعمُّ مل ُ ي يدرك الج َه ُ
لة أ َّ َ لن
َ
الحب والسماء.
ِّ ُ
زمن الشعر ،ومع ُه
ِ ُ
زمن مقابرها ،ويستحي حل ُ
و الكالم ،وينتهي ِ ُ
العيون إلى
ٌ
صوت هو صوت. ٌ
صوت هو ُ
أقول ما يأتي :هو أعود ُ
296
ُ
وسيذهب ُ
ستتساقط، ُ
المكتبات، ُ
سترتجف َ
أقول ليكون بديال ً من لذ ّ ِة الصباح ،ينبغي لي أ ْ
ن َ كهذا
لعنة هــي لعنــة .وباللّعن ِة هذه،
ٌ َ
أقــول :هي المخطوطــات إلــى التقاعــد .وينبغــي لي أ ْ
ن ِ ُ
ــاك نسّ
النسيم،
ِ ّ
سيهشمون اجتها َد ِك فحسب ،بل فكر َة الحيا ِة برمّتها ،مثلما ّ
سيهشمون ،ال فكر َة صوت ِ
خاطر األرض .وال يعود ُ
ِ نبع في ُ
ينبت ٌ خلف الرمال .فال يعود ُ
َ وستصي ُر السماءُ آنذاك رماالً تترامى
ُضر ُم ناراً في غابةَ ،ك َمن ُ للربيع ،ويصي ُر ُ
الربيع ضدّاً أم .ويصي ُر ٌ ي ُزهــ ُر
لبنان َك َمن ي ِ ِ خاطر ّ
ِ طفــل في
الصوت،
َ أقول إنّهم ســيكرهونُ خصر شــجر ِة حور .لذا ُ
يلعن جــذع أرزة ،و َك َمن ُعمــل فأســاً فيي ِ
َ ِ
ورؤوس الجبال.
َ َ
والتالل والوها َد َ
الجمال ح تكر ُه المعاني ،وسترو ُ
ح تكر ُه مثلما المعاني سترو ُ
ٍ
صوت بال عقاب .ففي أجل أ ْ
ن تمرَّ الجريمة بال ِ َك إلى الرده ِة المظلم ِة ،من وسيأخذ ُ السجّ ُ
ان صوت ِ
ك إلى لئاّل يتناهى صوت ُ ِبحركات األيدي ،بالشفاهِّ ،
ِ العيون،
ِ بإيماءات
ِ ُ
الناس الديكتاتوري ّات ،يتكلّم
وجع العراء. يجتمع الموجوعون في ُ َ
الرسائل إلى حيث ُ
وتنقل َك، ُ
الجدران صوت ِ ُ
فتسمع الجدران،
ِ
الرقاب هو الشــعور الوحيد الذي يعتري َ ين الذي يحزُّ ّ
الســك ُ يكون
َ ٌ
مفارقة أ ْ
ن فــي هــذه الحالَ ،ل
ّهات والعذارى ُ المدن من أجسادِها ،وال تعود ُ األمُ ُ
ستستقيل ل كهذه،حناجر الحساسين .وفي حا ٍ َ
ُ
يسكب القهو َة ال ُ
والنادل الذي َ
المواويل، ُنشــدن يعدن ي بحبق الشــبابيك ،وال النهارات
ِ يفتتحن
َ َ ِ َ
الصوت القتيل. ِ ّ
الفنجان إاّل استغاث َة
ِ يعود ُ يرى في
ُّ
سيظل كالمدن .صوت ُ ِ
بإعدام ُ
ِ المرافئ ،وال
ِ بحرق ميا ِه بموت األمكن ِة ،وال
ِ يموت
َ ن صوت ِ
َك لن لك ّ
ِ
ُ ُ ُ ُ
نظرات عينَي ِه ليسقي حبا َل ُه ،فال يختنق ،وال ينتح ُر ،وال يعتكف ،وال يذبل ،وال يشيخ ،بل يولدُ،
ِ ُ
يذرف
ٌ
وحقيقة ،من تلقائِها ،وتتجدّد ُ من تلقائِها. ٌ
حبقة، كما تولد ُ
297
هاشم قاسم*
ُ
بعمق شــفافي ّتها الفني .فمكانتها ارتبطت موقع فيروز
َ نَــد ُ َر أن احتلّــت مغنّيةٌ لبناني ّةٌ أو عربي ّةٌ
ّ
ع متعد ّدة من الغناء تجسّ دت في حوالى 1500أغنية.
وجوّاني ّة صوتها وجدارتها في أداء أنوا ٍ
منذ والدتها ســنة 1935في بيروت ،وطفولتها األولى في بلدة «الدبي ّة» (الشــوف-جبل لبنان)
د في تكوين بعض مالمحها
وتأثيرات حياة القرية عليها ،مّا ساع َ
ِ ّالت الطبيعة
عانقت فيروز تحو ِ
ْ
استكملت فيروز حي «البطركي ّة» في بيروت
األولى من بساطة وعفوي ّة ...وبانتقال عائلتها إلى ّ
(اســمها الحقيقــي نهــاد حد ّاد) التعــرُّف على بعض مالمــح العاصمة بيروت وطرائــق االجتماع
تواضع في بيئة ٍ شبه ُمغلقة سادها الضيق والفقر...
ِ ُ
الم والعيش فيها ،وتالياً عيشها
َ
ْ
تتلمذت على أيدي النصوص األدبي ّة لم تصل فيروز إلى مرحلة الدراســة الثانوي ّة والجامعي ّة ،لكنّها
التي غنَّتها ،وعلى أيدي كبار الموســيقي ّين والمث ّ
قفين والمســرحي ّين والســينمائي ّين الذين عملوا
ّ
بخاصة األخوين رحباني وإلياس الرحباني وفليمون وهبي ومحمّد عبد وتفاعلت فنيّاً معهم،
َ معها
الوه ّاب ،إضافة إلى الشعراء سعيد عقل وجوزف حرب وأنسي الحاج وجورج شحادة وغيرهم.
صوتُها «األعطية من اللّه والمعجزة» كما وصفه أحد كبار الكتّاب دفع ُمكتشفَ ها األوّل الموسيقار
محمّــد فليفل إلــى تعليمها «النوتة» والســولفاج « ،»solfegeوراعيها الثاني الموســيقار حليم
منصــور الرحبانــي في هذا المجــال ،وخصوصاً تمعُّنــه باالنتقاالت الذكي ّة والماهــرة بين تدرّجات
300
صــوت فيــروز القــادرة على التعبير عــن الدواخــل العميقة وإبــراز الطمأنينة والحبّ والســام
ٍ
لفردوس ضائع .وكأ ّ
ن صوتها «روح ٌ
رمز إطالالت درامي ّة أو تراجيدي ّة .كأنّها
ٍ والتمرّد والغبطة عبر
كامل» وفكرة بال ثوب ،إضافة إلى أنّه ،كما ظهر وتجسَّ د وتبلور في أغانيها الدرامي ّة ،ينتمي إلى
ّ
النص المكتوب وطبيعته... الموسيقي من حيث إنّه يتوافق ويتجانس مع
ّ دائرة الفكر
بعــد زواجهــا من عاصي الرحباني ســنة 1955غنّت فــي القاهرة أوبريت «راجعــون» (الرحباني ّان)
ع في حالة ٍ من
ي ُمســتم ٍ ي تقليد ..شــ ّ
فاف يجعل أ ّ «عصي على أ ّ
ّ ٍ
كصوت (منصور الرحباني) ،وأنّها
الروحي» (سليم سحّاب) ،وأنّها كما يقول الموسيقار محمّد عبد
ّ الغبطة والذهول واالنخطاف
الوه ّــاب« :أقــدر المطربــات في تأدية األغنية القصيرة ،وإنّني عندما أســمع صوت فيروز أشــعر
ي نغمة تغنّي» .ويضيف ٍ
لوقت طويل ألتبي ّن من أ ّ فــي لحظــات بالنغمة التي تغنّي بها ،وال أحتاج
وأنت في حضرته غائب» (جملة لرابعة العدوي ّة) ،وأنّه
َ الشــاعر أنســي الحاج« :كيف تَصف صوتها
َ
والتحريض والعذوبة .وهذا ما يفسّ ــر الحاجة إليه نب ُ
عمق الطمأنينةَ، يحتض ُ
ِ «ذلــك الصوت الذي
ٌ
كيان واحد ،تعرف والمحن» .وموســيقيّاً اعتَبر زيــاد الرحباني «كأنّها والموســيقى
ِ فــي األزمات
ومداخله وما يريد الوصول إليه».
َمخارجه َ
العربي والغرب ،يمكن الوصول إلى أ ّ
ن صوتها من ّ
كل هذه الشهادات وغيرها اآلالف من العا َلم
ّ
كان األكثــر قــدرة علــى اختزان تاريــخٍ وثقافة ،وعلى التفــرُّد والخصوصي ّة ،ألنّه ،كمــا تقول خالدة
سعيد ،يتدفّق من نوافذ الروح كلّها ،حيث تَهجم الذاكرات ويهجم تاريخ الصوت البشريّ.
301
ع عد ّة من األغاني التي اســتقرّت ب ُ
عمق في الوجدان ودائرة الغنائــي بين أنوا ٍ
ّ تن َّ
قــل أداء فيــروز
والمبهر؛ فهي غنّت للحبّ الذي لم يقتصر على العالقة التقليدي ّة بين
ُ ُ
والمختلف التــذوّق الجديــد
الرجــل والمرأة فحســب ،بــل ذهب هذا الغناء باتّجاه توســيع مروحته ليشــمل الناس واألرض
يلبس ،أحياناً ،لباســاً رومانســيّاً متطهّراً ،وأحياناً لباساً واقعيّاً .ومجمل هذا المنحى حرَّر األغنية
العربي ّة التي ســادت في خمســيني ّات وســتّيني ّات القرن الماضــي من َ
الغزَ ل ُ
المبتــذَل والوقائع
ن
هي َْم َ
الخارجي الذي َ
ّ اإلنســاني ّة التقليدي ّة .لهذا اتَّخذ غناؤها ســمات الثورة على الحزن أو الفرح
ِ
شــريط أغانيها للحُبّ نســتطيع تسجيل العشرات منها« :يمّي على األغنية العربي ّة .وإذا ُعدنا إلى
302
َّ
مرشــحة لالرتحال المطفأة ،والســهر والضحك والينابيع ..وكلّها عالمات على أشــياءٍ ُمرتحلة أو
ُ
واالنــزالق مــن بيــن األصابع .وفي هذه الدائرة تتألّف أغاني «شــو بيبقى مــن الرواية» و«ال تجي
ّ
و«نطرونا كتير» و«بعدك بتذكــر يا وطى الدوّار» ..هــذه األغنية التي كان اليــوم وال تجــي بكــرا»
د إلى م َلم ُ
ْت ذكرى» في إحدى حفالت معرض دمشق الدولي صع َ ريشة حينما استمع إلى أغنية « َل ْ
المسرح وتوجَّه إلى الرحباني ّين قائال ً« :خذوا ّ
كل شعري واعطوني هذه القصيدة».
كان المســرح الغنائي الرحباني في معظم مراحله مســرح االنتظار« ..مســرح أحبَّ أن يبقى ّ
كل
في هذا المسرح كان معظم مسيرة فيروز التي غنّت فيه األغاني الشعبي ّة والوطني ّة والزجلي ّات
والمواويــل البغداديّــة وغير البغدادي ّة والعتابا الشــرقي ّة بدوي ّة وغير بدويّــة واألغاني المرتبطة
ُ
للمدن العربيّــة وأبرزها ومنها« :لبيروت» و«يا قمر مشــغرة» و«عمّان برفــع القيمــة الحضاري ّة
ّ
«شط اسكندري ّة» (سي ّد درويش) و«يا جارة د ِ
ك» (دمشق) باإلضافة إلى هذا الضحى» و«قرأت مج َ
الوادي» (أحمد شــوقي وألحــان محمّد عبد الوه ّاب) و«خذوني إلى بيســان» و«زهرة المدائن»
ّ
ومكة ومصر... وأخرى لبغداد والمغرب
في مطلع الستّيني ّات غنّت فيروز قصائد ذات قيمة شعري ّة وموسيقي ّة أمثال «جبل الري ّان» لجرير
و«الهجرة» البن جبير (وهي في مدح الرســول ،ص) .وبالعودة إلى النصوص الشــعري ّة بالفصحى
اختــار الرحبانيّــان أجمل القصائد من العصور العربي ّة الجاهلي ّة واألموي ّة والعب ّاســي ّة أد ّتها فيروز
َ
ّ
ككل .واألمثلة الحديثة على ذلك كثيرة ومنها :قصائد لبدوي بناني َ
وأغْنَت بها الغناء العربي والل ّ
ّ ّ
الجبل وأبي خليل القب ّاني وعنترة بن شد ّاد وأبي نوّاس وعمر بن أبير ربيعة والحصري القيرواني
303
ْ
ووضع ّ
الموشحات عمل الرحباني ّان على إحيائها باستعادة القديم منها ونزار قب ّاني .وعلى صعيد
صيغــة لــه قائمة على التوزيع اآللي والتنــاوُب بين المؤد ّي والمجموعة .فــي هذا المجال ،أد ّت
فيــروز مــع وديع الصافــي «بروحي تلك األرض» ،ومــع الكورال «جادك الغيث» لـ«لســان الد ّين
الموشحات األخرى التي َكتبها الرحباني ّان ولحّناها «ارجعي يا ألف ليلة» و «بلّغه
ّ الخطيب» .ومن
نادرة المغني ّة اللّبناني ّة أو العربي ّة التي يأبه لها المصلّي .ففيروز كما يقول الشاعر سعيد عقل:
«أرغمــت األغنيــة علــى أن تُكتب -أو تتحــد ّث -بما يرفع الخليقة إلى الخالــق ..وما من ٍّ
بث جميل
شح ألن تُطلقه فيروز ّ
إاّل وتحتَّم عليه أن يرفع عينَي ْه إلى الخالِق» .في هذا المنحى كانت لفيروز ُر ِّ
«شمس المساكين» و «ساكن العالي» و «إيماني ساطع» ...وكلّها َدعت إلى السالم واإليمان
ّ
والاّلفت أنّه ْ
واضطرابه وحصار الحياة له. ســتمع في حاالت قلقــه
ِ والمحب ّة والرجاء وخاطبت ُ
الم
ي تفرقة
أهلها الصيد) وجميع أغانيها وتراتيلها في األعياد الديني ّة قامت واستقامت من دون أ ّ
بين اللّون والجنس...
الشــعري ّة الزجليّــة أو العامي ّة إرثــاً عريضاً ُموازياً فــي أداء الصوت وإضافة المميَّــز واألخّاذ إليه،
«فالموّالــي» و «المعنّــى» و «القــرّادي» ونظام القول والقوّالة (ســهرة الحب) أمثلة في هذا
المغنّى .ومن بين شعراء الزجل والعامي ّة اللّبناني ّة الذين غنّت لهم فيروز من ألحان الرحباني ّين
قبــان مكــرزل وأســعد ســابا وعبد اللّه غانم وميشــال طــراد واألخوين رحباني وعــدد آخر من
الشعراء المجهولين...
304
ن النصوص الشــعري ّة بالفصحى التي غنّتها فيروز َر َف َع ِ
ت القصيد َة العربي ّة الكالســيكي ّة من دائرة إ ّ
معت البارز
ِ الصــدد لــم ُ
تكن التجربــة الفني ّة الرحباني ّة مع فيــروز لبناني ّة أو عربي ّة خالصة .فهــي َج
العربي.
ّ ّ
والنص األدبي والجميل والفريد من االثنتَي ْن :صوت فيروز وموسيقى الرحباني ّين
األمر تَمظهر بوضوح في عدد ٍ واســع من األعمال المسرحي ّة الغنائي ّة الرحباني ّة ،والسي ّما «رحيل
والتطهُّر ،وألنّها ،بصوتها ،كانت تبحث عن األشياء الضائعة لتُعيد التذكير بها ودفْعها إلى الواجهة.
بعد انفصالها عن عاصي الرحباني سنة ،1980ووفاته سنة ،1986استكملت فيروز رحلتها الفني ّة
تمظهــرت رؤيــة زيــاد الرحباني بأن تكون أغنيــة فيروز قريبة مــن الناس وقضاياهم اإلنســاني ّة
ع جديد من األغنية
الرحباني إلى نَو ٍ
ّ الغنائي
ّ المباشــرة .وهو اســتطاع نقْلها من عباءة المســرح
أمثال «عودك رنّان» و «كيفك أنت» و «بعتّلك يا حبيب الروح» وعشرات غيرها .وقد خُي ّل للبعض
واإليماني إلى
ّ والرومانســي
ّ ي
الطهراني والرمز ّ
ّ وألواناً جديدة بتجربة ٍ غنائي ّة انتق َلت من الحلم
ٍ
التماس مع غوايــة الواقع بجملة موســيقي ّة وبمروحة لحني ّة الحــي والمباشــر ،وإلى
ّ الواقعــي
ّ
عنصري الموســيقى الشــرقي ّة وبعض األســاليب األدائي ّة الغنائي ّة الغربي ّة المضبوطة
َ أفادت من
بمهارة ودقّة.
الغنائي
ّ شرقي الهوي ّة الموسيقي ّة ،أد ّت فيروز إ ْ
ن في إطار المسرح ّ مع فليمون وهبي ،كملحّن
305
الرحباني قام الرحباني ّان عاصي
ّ الغنائي
ّ الموســيقي ّة العربي ّة المهذّبة والمصقولة .وفي المسرح
ومنصــور بصقْ ِ
ــل ألحانه وتقديمها موزَّعة موســيقيّاً بشــك ٍ
ل ُمتقن ،وهذا ما تجسّ ــد في حوالى
حني .ومــن ألحان فليمون وهبي في هــذه المرحلة« ،من 26أغنيــة تفــرّدت بالضبــط الفني والل ّ
ّ ّ
نقي حبايبنــا» ...أمّا بعد انفصالها عــن الرحباني ّين
ّ عــزّ النــوم» و«رجعــت ليالي زمان» و«لــو فينا
فغنَّت فيروز ألحاناً ذات شــخصي ّة شــرقي ّة عربي ّة-لبناني ّة ومنها« :يا ريت مِ نُن» و«طلعلي البكي»
و«ورقو األصفر» و«يا رايح» (شعر طالل حيدر) و«أسامينا» و«دهب أيلول» وغيرها .أمّا الملحّن
والموسيقي زكي ناصيف فلحَّن لها عمال ً غنائيّاً رائداً بعنوان «يا بني أمّي» (جبران خليل جبران)،
ّ
وهو من األعمال الموسيقي ّة اللّبناني ّة والعربي ّة الدرامي ّة الكبيرة.
هذه الفيروز..
طفولتهــا وصباهــا .وقــد تمثّلت صالبتهــا منذ البدايــة بطفولتها الصعبة .فهي لــم تعرف خاللها
اللّعــب ،ولــم تحتضن دمية ولم تتــذوّق حلوى ...وعندما عملت في بدايتها فــي اإلذاعة اللّبناني ّة
كل ٍ
بأكياس ُمحمَّلة من ِّ هرعت إلى السوق وعادت وقبضت مئة ليرة لبناني ّة َ
بدل راتبها الشهريَّ ،
صنف و َلون ،كما لو كانت تريد التعويض عن الحرمان الذي عاشته .إذ تقول« :لم ُ
يكن في بيتنا ٍ
األزواج .وفــي إحــدى ُمقابالتها األخيرة صرَّحــت« :الزواج صعب بين البســطاء والعادي ّين ،فكيف
306
ن ّ
كل شيء تغي َّر في اعتبرت أ ّ
َ ّ
محطة ككل اللّبناني ّين الذين اختبأوا ،وفي أكثر من
ّ الحرب .اختبأت
يبق من ذلك لبنــان .وهــذا مــا كان ي ُخيفها .لقد غنَّت للبنان الحلم والتطلّعــات العربي ّة .لك ْ
ن لم َ
كلّه الشيء الكثير.
الغ َر ُ
ق في العمل والزمته المواظبة زمني َحضر فيه َ ق
اســتثنائي في ســيا ٍ فنّانة اســتثنائي ّة و َدور
ّ ّ
الفني بموهبتها ونزاهتها وبذْلها ُ
المتواصل حصن وجو َدها واإللحاح .وهي لم ُ
تكن كذلك لو لم ت ُ ِّ
ّ
من دون حدود.
307
ّ
معاّل* طالل
عاشــت فيــروز (نهاد حد ّاد) في منطقة غير مســتقرّة من العا َلم تعاني مــن النّزاعات واختالف
اآلراء واالهتمامــات ،واســتطاعت علــى الرّغــم مــن ذلك ،وعلى مــدى عطاءاتهــا اإلبداعي ّة ،أن
تكــون حالــ ًة رمزي ّة يتّفق عليها ُمختلف األطرافُ ،م ِّ
مثل ًة حقيقة األحاســيس الوجداني ّة وتشــرُّب ِّ
االنفعــاالت وحقيقــة التوتُّر التي عبَّــرت عنها في أغانيها من خالل موســيقى الرحابنة التعبيري ّة
تشــكل على مســتوى الســماع والرؤية عا َلماً ُمتفرّداً في
ِّ البالغة التنوُّع أفقيّاً وعموديّاً ،والتي
الموسيقى العربي ّة ،كانت لها مساحتها األكيدة منذ خمسيني ّات القرن الماضي.
فقــد ح َّ
ققــت موســيقى الرحابنــة مجموعــ ًة كبيرة مــن المفاهيــم الجمالي ّة إلى جانــب قيمتها
التعبيري ّة المتأتّية من مز ْ ِج العوالِم الحســي ّة لطبيعة لبنان ومزاجه بعوالِم األســرار التي تتجاوز
ّ
وكل ما يدفع جمهورهم للبحث عن الجوهر الحقيقي للمتعة الواقــع ولوجاً فــي عوالِم األفكار
ُ
صوت وأداءُ فيروز باختالف مراحلها وتنوُّع ألحانها ومحاملها التعبيري ّة واســتقالل التي يحقِّ قها
البصري ّة التي نحن بصدد الكتابة عنها، ّ
وكل ما جهدت لتحقيقه عبر استكشــاف الجوانب َ تجربتها،
تمظهُرها الصوتي واللّوني حدود الصوفي ّة واالستمتاع بماورائي ّة المعاني.
ْ والتي تبلغ في
308
ّ
يتقصدون تلك األلوان أم صوتها عبر األلوان ُمتســائال ً في فترة ٍ الحقة :هل كانت هي والرحابنة
ن حدســي كفنّــان هو الذي كان يقودني إلى تلك التخيّــات؟ بالتأكيد لم أكُن على قدر ٍ ٍ
كاف من أ ّ
ن ذلك استمرّ في تسليط وعيي البصري على أشكا ٍ
ل من األلوان الوعي الموسيقي آنذاكّ ،
إاّل أ ّ
ّ
مبكراً ،والتــي تفوَّقت في حضورها الذهني على حضورهــا الواقعي والحقيقي من التــي وعيتهــا
كمساحات بعيدة عن َمراجعها الطبيعي ّة ،فصوتُها يسحب
ٍ خالل تنشيط صلتي بها ،ليس كزمنٍ ،بل
مشــكل ًة فصائــل لوني ّة ُمختلفة عبــر إعادة خلْقها
ِّ األلــوان نائيــاً بهــا إلى مرجعي ٍ
ّات فوق طبيعي ّة،
باعتبارهــا علــى صلــة بالثقافة والفكر والعواطــف ،وليس بحقيقة األصباغ التي نَســتخدمها في
َلوحاتنا َ
ومسارحنا وشوارعنا وباقي التعبيرات البصري ّة األخرى.
مز ْ ُ
ج األلوان التفاعلي ّة
ُّ
تمكنهــم من إبراز ن َمقــدرة الرحابنــة علــى مــزْج األلــوان التفاعلي ّة كانت ظاهِــرة في ّ
شــك أ ّ ال
قيمــة اللّــون (تغميق اللّــون أو تخفيفه وتدرُّجه) ومن ثمّ الجمْع بين درجــات اللّون الواحد عبر
ْــم ارتبــاط األلوان بعضها ببعــض ،وهي مهارات َمنحتْهم التفرُّد فــي فهْم خامة صوت فيروز
فه ِ
ت ُ
المتغ ِّيرات من ّ
محطات وانتقاالت جيلي ّة َو َع ِ ومــداه منــذ انطالقتهم ،مروراً بما ي ُمكن اعتباره
َ
َّ
وتمكنت في ما بعد من االنقالب على طبيعة األلوان األساســي ّة والثنائي ّة إلى ما ي ُمكن حولها،
309
اعتباره مكمّالت لوني ّة تخترق االنسجام ،باعتبارها تتناقض مع بعضها البعض لتعزيز كثافة الق َيم
بهجة جماليّاً .وهو ما َف َعله زياد بعد التعبيريّــة بصــورة ٍ جريئة عالية التباي ُن وبالِغة الحساســي ّة ُ
وم ِ
ٍ
تأثيرات َلوني ّة تعتمد على إدخال آالت موسيقي ّة كالكالرينيت واألكورديون والغيتار ذلك في إنتاج
وآالت النّفخ والبيانو واألوبوا -على سبيل المثال -باعتبارها جزءاً من التصميم الهيكلي ألغانيه
وموســيقاه التــي تكون ألوانها متســاوية الب ُعد عن بعضها البعض ،مع وعي مــا ي ُمكن اعتباره
التمثيــات البديلــة لأللــوان التي كان األخوان رحباني يركّزان عليها ،ســواء تلك التي أشــرت إلى
تفرُّدِهــا اللَّونــي أم تلــك التي اعتمــدت اللّونَين ،أم ما أنجزوه لفيروز عبــر المثلّث اللَّوني الذي
يضمّ األصفر واألحمر واألزرق ،أي األلوان األساسي ّة.
ّ
والموشــح والطرب والقــد ّ والد َّور فيــروز التــي غنَّــت األغاني الشــعبي ّة والقصيدة والطقطوقة
والزَّجــل والمــوّال والتراتيــل الدينيّــة وســواها من األلــوان ،فقد غنَّــت الســرياني والبيزنطي
المقطــع لحنيّاً
َّ والمارونــي واألندلســي وبعــض القطع للميــاد واألوبرا والريشــتاتيف الكالم
كالمقاطع الفاصلة في المسرحي ّات ..غنَّت لسي ّد درويش وجبران وسعيد عقل وعاصي ومنصور
َ
لمن غنَّت لهــم أو غنّوا
وبــدوي الجبــل وفيلمــون وهبة وطــال حيدر وزيــاد والقائمة تطــول َ
فتوضحت األلوان َ
وأشــرقت ،إذ بين اللّون والصوت ِصالت أساســي ّة ُمتبا َدلة ولهذا تُسمّى َّ معها
األصوات باأللوان في ُط َلق على الصوت المفتوح (األبيض) ،وتُســمّى األصوات العميقة (السوداء
أو الداكنة) ،وتدعى األصوات الرشيقة الحركة (الملوّنة) ،كما تدعى األصوات ُ
المحايدة (الرمادي ّة)،
الحدْس
أمثلة يمليها َ
علي حدْسي وال أميل
ّ لقد تعد ّدت األشكال واأللوان في أغاني فيروز وال بد ّ من أمثلة كان يمليها
ن تُشــبه النقوش كاألندلســي ّات ّ
مؤشــرات على ما قد ُ
َّمت .فهناك أغا ٍ إلى تعميمها ،لكنّها تُعطي
310
م اللّيل وخدني ياحبيبي (أســود)،
اللّولو (بنفســجي) ،يا راعي القصب (تُرابي) ،أنا خوفي من عت ْ ِ
ن اللّيل (نحاسي غريب). َ
سك َ بكتب إسمك ياحبيبي (بنّي)،
ن بعض األغاني كانت تبدو بلونَي ْن مثل :حب َّيْتَك تانســيت النوم (أصفر وأســود) ،أموي ّون
كما أ ّ
(أحمر وأســود) ،طيري يا طي ّارة (ســماوي وأبيض) ،في قهوة عالمفرق (أحمر وأصفر) ،يا جارة
ّ
عبكير (أصفر ن بألوا ٍ
ن ثالثي ّة :إمّي نامت الــوادي (أبيض مع تخطيــط بقلم الرصاص) .وهناك أغا ٍ
وأســود وأبيــض) ،وألوان طيفي ّة مثــل :عالطاحوني (من أطياف األبيض) ،شــتّي يا دنيا (أطياف
ملوَّنة مع األبيض) .فيما نرى جابتلي العصفورة بألوان (قوس قزح).
ّ
والخاصة اتّفاق العامّة
ٍ
مجموعات من األلوان الدافئة والرائعة تمتلك فيروز في ثنايا صوتها وأدائها وصدقها وإيمانها
المحايدة ،وهي مفاهيم أكثر ممّا هي صفات جمالي ّة .ولهذا فإنّها تُثير تأثيرات نفســي ّة
وأحياناً ُ
كارتباطات يقوم المتل ّ
قون بتعيينها بحســب درجات ٍ ُمختلفة عند ســماعها (رؤيتها) أو مالحظتها
وعيهــم لتلــك األلــوان وقدرتهــم على تحديد أنظمتهــا ،وهو أم ٌر نظــري ال ي ُمكــن إثباته لتعد ُّد
ّ
تمكنت ّ
يشــكل حقيق ًة قانونيّــة ي ُمكن إثباتها ،مــع ذلك مســتويات تل ّ
قيــه من جهــة ،ولكونه ال
والخاصة عبر الزّمن ،وذلك
ّ فيروز من تحقيق حضور ٍ اســتثنائي عربي ودولي اتّفقت عليه العامّة
لحج ْــم إنجازاتهــا ونوعي ّتهــا ،ولقدرة َمن وقفوا خلفها وإلى جانبها في َمســيرة اشــتقاق الضوء
المنعكس من صوتها على وعي جمهورها الواســع وعيونه وآذانه ،وما ي ُمكن أن ندعوه اللَّون
ُ
ّ
بــكل صفاته المحلي ّة القادرة المتجلّــي صوتيّاً بحيث ي ُمكن أن ي ُدركه الناس في الواقع
البصــري ُ
المشاعر واألمزجة واألفكار والمواقف ،ومحاولة البحث في ثنايا اللّون الصوتي
على التعبير عن َ
كمحاولة ٍ اللتقاط حقيقة تجربتها اإلنساني ّة عبر الغناء ،واإلشارة إلى اإلمكانات الكاملة
الفيروزي ُ
ٍ
إجابات عن العديد من التساؤالت عن المعاني ُ
المرتبطة بالمشاعر والسلوك التي ح َّ
ققت عبرها
دمها هذه التجربة عبر
والتطوُّر الذوقي واستكشــاف كيف ي ُمكن للمعرفة الموســيقي ّة التي تق ِّ
العيــن واألذن والفــؤاد لتكويــن نظــرة ثاقبة لطبيعــة اإلبداع الموســيقي والغنائــي ،باعتبارها
َ
لكل من الموسيقى واللَّون أسراره وخفاياه.
ٍّ التلويني مع تقدير أ ّ
ن
311
حسين جواد قبيسي*
ّ
والســكر من المســتمِ ع يأكل اللّوز
ُ ّ
والســكر» وكذلك «...وكانــت الزغلولــة تاكل عإيدي اللّوز
صوتهــا ،يتناوله صباحاً مع القهوة ومســاءً في ســهرة ٍ حالِمة ...صوت آخــر العمالقة الكبار في
ع لــم تُزَ ع ِْزع ْ ُه ُ
بتواض ٍ ن الغنــاء العربــي هــي فيروز ،وهي الصــرح الفن ّ ّ
ي الــذي ما زال شــامخاً فــ ّ
الفرنســي لها في منزلها المتواضع هو اآلخــر في بيروت ،قبل أن يزور أحداً من ُ
زيــارة الرئيس
ّ
أعالم الف ّ
ن والسياسة وغيرهم في لبنان .ولفيروز موقف سياسي واضح :ترفض الحديث في
السياسة ،لكنّها تحرص على تقديم األغنيات الوطني ّة .وفيروز هي األغنية «التي تنسى دائماً أن
تكبــر ،وهــي التي تجعل الصحراء أصغر وتجعل القمر أكبر »...هكذا قال فيها محمود درويش،
وهكــذا خاطبهــا بولس ســامة« :فيروز يا أســطورة الواقع وآية الروعة ،يــا غبطة األرواح في
ّ
لكل األلوان الغنائي ّة ٌ
صوت غير محدود بمقدرته الفائقة ووصفهــا حليم الرومي بقولــه« :فيروز
َ
وسيتمي ّز في المستقبل القريب بأنّه أقدر صوت على غناء األلحان الحديثة في العا َلم» .أمّا نزار
غنائي لفيروز
ٍّ ن اكتست حل ّ ًة أخرى من ِّ
الشعر» .وبعد مهرجا ٍ ْ قب ّاني فقال فيها« :قصيدتي ،بصوتها،
صحيفة برازيلي ّة« :لم تشهد ريو دي جانيرو صوتاً كصوت هذه اللّبناني ّة ،فصوت
ٌ في البرازيل َكتبت
جناحيه أربعة آالف ســنة من الحضارة» .وفي عشــق فيروز ،قال الشــاعر أنسي
َ فيروز يحمل على
الحاج« :ليس مجدي أنّني أعيش في عصر فيروز فحسْ ــب ،بل المجد كلّه أنّني من شــعبها» .أمّا
314
ســعيد عقــل فهــو الذي أطلقها «ســفيرة لبنان إلى النجــوم»! ويبقى أجمل مــا قيل في فيروز
يضع
َ ي عِل ْ ٍ
م هذا الذي لم يســتطع حتّى اآلن أن ما َكتبته األديبة الروائي ّة أحالم مســتغانمي« :أ ُّ
ص ،أو في قارور ِة دواء نتناوله ســرّاً ،عندما نُصــاب بوعكة ٍ عاطفي ّة،
أصــوات َمــن نُحِ ــبّ في أقــرا ٍ
َ
ْ
كتبت مســتغانمي في مكا ٍ
ن آخر« :فيروز مــن دون أن يــدري صاحب ُهــا كم نحن بحاجة ٍ إليه» .كما
صمتــت تركتنا للبــرد ،كأنّها تغنّي
ْ المطربــة التــي لــم ترتــ ِد منذ نصف قرن ســوى صوتها ،وكلّما
لتكسونا ،بينما يغنّي اآلخرون ليكتسوا بمالِنا».
ّ
المثقفة» فيروز ُ
الناقدة خالدة سعيد في كتابها «يوتوبيا المدينة ُ
األديبة في العام 2012وصفت
بـ «ظاهرة االنبعاث الثقافي لبيروت في خمســيني ّات وســتيني ّات وســبعيني ّات القرن العشرين»،
فهــي تراها صرحــاً ثقافيّاً قائماً بذاته ،وترى «اللّقاء الفيروزي -الرحباني» مؤسّ ســ ًة ثقافي ّ ًة من
بيــن خمس مؤسّ ســات طليعي ّة رائدة ،عرفتها بيروت في ذلك الوقــت ،مع «الندوة اللّبناني ّة»
(((5
و«دار الف ّ
ن واألدب»(.((5 ومجلّة «شعر» ومجلّة «مواقف»
(((5
لم تكتب خالدة ســعيد عن فيروز وعن تلك المؤسّ ســات الثقافي ّة الطليعي ّة التي عرفتها بيروت
إبّــان نهضتهــا الثقافيّــة حينما كانــت قبلة الثقافــة العربي ّة والمث ّ
قفيــن العرب ،كتابــ ًة نظري ّة أو
تنظيريّــة ،بــل كانت كتابتها مطبوعــ ًة بالتجربة الميداني ّة والشــخصي ّة؛ فخالدة كانت في قلب تلك
النهضة ،عايشــتها عبر َدورها النَّشــط في «خميس مجلّة شــعر» التي أسسَّ ها بمؤازرة أدونيس،
وصدر العدد ُ األوّل منها شــتاء 1957فــي بيروت ،ثمّ
َ الشــاع ُر يوســف الخــال ،وترأَّس تحريرهــا،
ن ألقاه فيدشن مشروع المجلّة ببيا ٍَّ توقّفت عن الصدور( ((5خريف العام .1970وكان الخال قد
«الندوة اللّبناني ّة» ( 31كانون الثاني /يناير .((6()1957وكان لخالدة ســعيد في هذه المجلّة الكثير
من المقاالت في النقد األدبي ،حتّى أن صحيفة «النهار» البيروتي ّة في ذلك الوقت َأطلقت عليها
قبتها صحيفة «الحياة» اللّندني ّة بـ«شــاعرة
لقــب «أيقونــة النقد العربي الحديث في بالدنا» ،كما ل ّ
النقــد العربــي» .بلى ،كان الجانب النظري في كتابتهــا النقدي ّة عد َّ ًة معرفي ّة وخلفي ّة ثقافي ّة غزيرة
أكســبت هــذه الكتابــات ُعمقــاً تحليليّاً وقدر ًة علــى إبراز الظاهــرات الثقافيّــة الخمس من بين
315
قد َّمــت معهمــا ،ومع أخيهما إلياس ،مئــات األغاني التي َأحدثت ثور ًة وتجديداً في الموســيقي
ٍ
أغنيات قصيرة ،خالفــاً للقاعدة التي كانت ســائدة في ذلــك الوقت وتمتاز العربيّــة ،علــى شــكل
بالطــول ،وتمي َّزت ببســاطة التعبير مع ُعمق المعاني وتنــوُّع الموضوعات .غنّت فيروز لألطفال،
صغــاراً وكبــاراً حين ترد ّهــم أطفاالً ي ُعيد إليهم صوتُها ســجي ّة األطفال وبراءتهــم ،وغنّت للحبّ
ّ
الحــكام ،ومجَّدت البطولة ولــأم والوطن ،وانتقدت
ّ كمــا غنَّــت للقدس وللقضي ّة الفلســطيني ّة
والمــروءة .غنّــت للعديد من الشــعراء من بينهــم ميخائيل نعيمة في قصيــدة «تناثري» ،وغنَّت
بحضور العديد من الرؤساء والملوك وفي أشهر المهرجانات الكبرى في العا َلم العربي ،وغنَّت
للعديــد مــن ُ
الملحّنيــن ،ومنهم محمّد عبــد الوه ّاب وفيلمون وهبي وزكــي ناصيف ،إضافة إلى
ّ
لكل ما قد َّمه ســابقاً ابنهــا الرحبانــي زياد الذي قــد َّم لها مجموع ًة كبير ًة مــن األغاني ُ
المغايرة
الرحباني ّان عاصي ومنصور.
كانت أغلب األغاني التي قد َّمتها فيروز في ذلك الوقت من إنتاج األخوي ْن رحباني (عاصي ومنصور)
وكان تعاونُهمــا مــع فيروز ي ُعتبر مرحل ًة جديدة وتطوُّراً جديداً في الموســيقي العربي ّة ،فقد تمَّ
ج بين األلوان الشرقي ّة والغربي ّة واللّبناني ّة سواء في الموسيقي أم الغناء ،وكانت لنعوم ِة
المز ْ ُ
ق جديدة ..ومنذ أواخر الســبعيني ّات، ٌ
قدرة على االرتقاء الدائم نحو آفا ٍ صوت فيروز وانســيابي ّته
كان زياد هو العنوان األهمّ في رحلة والدته الفني ّة إذ لحَّن لها منذ العام 1979ثمانية ألبومات
بمــا فيهــا ألبوم «إيه فــي أمل» الذي صدر نهايــة العام 2010وضمَّ 12أغنيــة .وقبلها «وحدن»
َّ
فشكلت أعمال زياد الرحباني ،بجرأتها التجريبي ّة ،قطيع ًة مع و»معرفتي فيك» ،و«عودك رنّان»...
التراث الرحباني األصيل في تجربة فيروز ،إذ استخدم زياد موسيقى الجاز والموسيقى الشعبي ّة
اللّبناني ّة ،والصورة الكاريكاتيري ّة ...وكأنّما فيروز ،مع ابنها زياد ،باتت َ
تغـنّينا من جديد وتح ِّلق مع
بالمغامرة وتعتمد المز ْ َج
ُ ق جديدة غير مألوفة في الموســيقى العربي ّة ،تمتاز
موســيقاه إلى آفا ٍ
بين القديم والحديث ،وبين موســيقى الشــرق وموسيقى الغرب ،وأغنية «إيه في أمل» َج َع َلها
ّ
يلف لبنان من ُ
ســحبٍ ســود زيــاد نموذجــاً للســباحة عكس التي ّار ،ليؤ ِّكد ،على الرّغم من ّ
كل ما
حي ال يموت.
ن األمل ٌّ منذرة ،بأ ّ
باستثناء ما كُتِب عن فيروز بالفرنسي ّة في موسوع ِة العلوم واآلداب والفنون «يونيفرساليس»
خصصــت لهــا ما يقارب الصفحتَي ْن فعرَّفت بهــا وبفنّها وببلدها لبنان ،ال نجد
( )Universalisالتــي َّ
باللّغة الفرنســي ّة ّ
إاّل النزر اليســير من الكتابات عن ســي ّدة الغناء اللّبناني والعربي .هذا النقص
تيمّناً بأغنية فيروز «نحنا في المكتبة الفرنســي ّة ،مأله ،ولو جزئيّاً ،كتاب« :فيروز جارة القمر»
(((6
316
والقمــر جيران» التي تقول كلماتهــا (بالعامي ّة اللّبناني ّة)« :نحنا والقمر جيران /بيتو خلف تاللنا/
بيطلــع مــن قبالنا /يســمع األلحان /عارف مواعيدنــا /وتارك بقرميدنا /أجمــل األلحان» ليجعل
منهــا عنوانــاً لكتابه« :فيــروز ،جارة القمر األســطورة» .وصدر الكتاب ،وقد صــادف صدوره يوم
ميــاد فيــروز الســادس والثمانيــن ،ضمن «مائة كتــاب وكتاب» عــن معهد العا َلــم العربي في
317
ن إيلي ي كتــاب ال ي ُمكن أن يفي ســيرة فيــروز الفني ّة والحياتي ّة ح َّ
قهــا ،فإ ّ علــى الرّغــم مــن أ ّ
نأ ّ
أشــقر اســتطاع أن يجمــع أطراف هذه الســيرة وأن ينبــش بضعة مقاالت كانــت بعض األقالم
ٍ
حفالت غنائي ّة وموسيقي ّة الصحافي ّة قد تناولت فيها سيرة فيروز الفني ّة ،عندما َأحيت في باريس
في مناســبات عد ّة .يتضمّن كتاب «فيروز جارة القمر» أربعة فصول خ ُ ِّصص أوّلها لســيرة فيروز
المالحظة تُشعِ َ
رك بأنّك الشخصي ّة والفني ّة االستثنائي ّة ،فهي شخصي ّة ساحرة حاضرة الذّهن قوي ّة ُ
أمــام إنســانة غيــر عادي ّة .لك ّ
ن الكالم على ســيرة فيــروز الفني ّة ال ينفصل عن الكالم عن ســيرة
منصور الرحباني وأخيه عاصي.
يــروي المؤ ِّلــف نادرتَيْــن تســتأثران بانتباه القارئ :األولــى أ ّ
ن الرحابنة تعرّفــوا على صباح قبل
أن يتعرّفــوا علــى فيروز لكنّهم لــم يجدوا فيها (على الرّغم من صوتهــا الرائع) ما وجدوه في
فيــروز :صوتهــا الوديع والصد ّاح في آن معاً ،ونبرة الحنان والرقّة والدفء التي تســكنه .ويرى
كأم كلثوم أو نجاة
ّ ي فنّانة عربي ّة ذات شهرة ٍ عا َلمي ّة
ن الرحابنة لو أنّهم أسندوا إلى أ ّ
المؤ ِّلف أ ّ
الصغيرة أو فايزة أحمد ..لما كانوا ح َّ
ققوا الغايات األساسي ّة التي كانوا يطمحون إلى تحقيقها
مــن خــال مواهبهــم الفني ّة في عا َلم الموســيقى .فقد وجدوا في فيروز الصوت والشــخصي ّة
ْل مشروعهم .فقد كانوا يستلهمونها في كتابة
والحساسي ّة والمزاج واألنوثة القادرة على حم ِ
مسرحي ّاتهم وأغانيهم.
األخويْــن أحمــد ومحمّد فليفــل ،و ُ
هما موســيقي ّان ولهما ألحــان وطني ّة َ والحكايــة الثانيــة أ ّ
ن
دمان برنامجاً موســيقيّاً فــي اإلذاعة اللّبناني ّة ،يســتضيفان فيه مواهب
وشــعبي ّة كثيــرة ،كانا يق ِّ
بث أصواتها الغنائي ّة من خالل هذا البرنامج .وكان من المواهب الشــاب ّة فتاة تُدعىشــاب ّة يجري ّ
318
المهنّئين فــي منزلهما فــي أنطلياس أي ّام
الصــوت الذهبــي نهاد حد ّاد ،ويســتقبل العروســان ُ
ن هذا الزواج َأثمر
الجمعة والسبت واألحد 28و 29و 30كانون الثاني .»1955وي ُضيف المؤ ِّلف أ ّ
فــي العــام التالــي مولوداً هو زياد ،ثمّ فــي العام 1958مولوداً هو هالــي ،ثمّ في العام 1960
ولِدت ليال (توفّيت في العام ،)1988وأخيراً ريما في العام .1965
ُ
ن اللّقاء الفنّي بين نهاد حد ّاد والرحباني يعود إلى ســنة 1952حين ســجّال أوّل أغنية وهي
غير أ ّ
«حاجــي تعاتبنــي» .وعلى الرّغم من أن فيروز لم ُ
تكن ضليعة المعرفة في عِلم الموســيقىّ ،
إاّل
أنّهــا كانــت تعرف جي ّداً اإليقاعات والمقامات التي تغنّيها ،وكان أداؤها على قدر ٍ كبير من الوعي
بمــا تريــد أن تصــل إليه من خالل صوتها .وهي تُشــبه فــي ذلك وديع الصافي ،الــذي لم َيدرس
ّ
المتخصصين فيها. ٌ
معرفة تبزّ الموسيقى لكن كانت له بها
ّ
يحفظ عشاق َّ
وشكلت إرثاً فنيّاً يربو على 800أغنية يشرح المؤ ِّلف كيف ولِدت األغنية الرحباني ّة
ٍ
إذاعات مصري ّة ،وأخرى في الغناء العرب الكثير منها ،عالو ًة على مئات األغنيات التي ُ
س ِّجلت في
دمشق ،بعضها لم تتمّ إعادة غنائه أو تسجيله في مكا ٍ
ن آخر ،ولم يحتفظ الرحباني ّان به ،فضال ً عن
والمسلسالت التلفزيوني ّة .هذا اإلرث يحتاج إلى جهة ٍ رسمي ّة
ُ مجموعة ٍ من المسرحي ّات الغنائي ّة،
كإرث فنّي وطني ال يهمّ لبنان وحده بل كامل الوطن العربي ،ذلك
ٍ للقيام بجمْعه والحفاظ عليه
تغن للبنان وحده بل غنّت لفلســطين «يا قدس» ،ولســوريا «شــآم ما المجد؟»،
ِّ أ ّ
ن فيــروز لــم
ّ
الموشــحات واألندلســي ّات؛ ففيروز مســيرة فني ّة يــت ّ
مكــةَ» وللعرب جميعاً .وغنّت ّ
ولمكــة «غن ّ ُ
ن ّ
كل عربي يشعر، كل الدول العربي ّة ،وفي وجدان الشعوب العربي ّة كافّة ،إذ إ ّ
ُمرهفة ،حاضرة في ّ
319
سليمان بختي*
فــي مقابلــة أجرتها نازك باســيال مــع فيروز لمجلّة «األســبوع العربي» في العــام 1975تُظهر
فيــروز محب ّتهــا لهــذا المنزل الذي كانت تحمل الزهور البري ّة إليه .وقــد َب َل َغ َو َل ُ
عها باألزهار حدّاً
كبيراً فقالت لها أمّها« :ولك نهاد شايفي إنّي بد ّي جو ِّزك جنيناتي».
ُ
وكنت أســترق الســمع إلى راديو اســتهواها الغنــاء منــذ طفولتهــا« ..لــم ُ
يكن لدينــا راديو،
الجيــران ،وكنــت أطيل المكــوث في المطبخ ليتســنّى لي اإلصغاء إلى األغانــي فأحفظها ،أل ّ
ن
ل أفضل».
الصوت كان يأتي إلى المطبخ بشــك ٍ
ّ
موظفــة ،وكانت هي نضــد األحــرف فــي جريدة «لوجــور» ،يريد البنتــه أن تُصبح
كان والدهــاُ ،م ّ
ترغب في أن تكون معلّمة .وكم كانت صورتها معلّمة مطابقة لحُلمها األوّل في فيلم «بنت
ّ
الخط الثاني من القدر؟ لكــن مــاذا كان يحدث على
عــام 1947أقرّت الحكومة اللّبناني ّة رســميّاً عيداً للشــجرة هو األحــد األوّل من كانون األوّل/
كل عــام .وقــرّرت اللّجنــة المولجــة باألمــر أن يكــون ليــوم الشــجرة نشــيده
ديســمبر مــن ّ
الخاص ،يتولّى إنشــاده تالميذ المدارس في الموعد المضروب لالحتفال .و َدعت
ّ المناســباتي
321
الشــعراء للمشــاركة في مســابقة إعداد النشــيد المطلوب ،والتقد ُّم بقصائدهم إلى اللّجنة
التي كان من أعضائها :بدر دمشــقي ّة والدكتور فؤاد غصن والكولونيل ســليمان نوفل .وفازت
جال محمّد فليفل على المدارس الرســمي ّة الختيار التالميذ الذين ســيغنّون
النشــيد وتلحينهَ .
النشــيد .وصــل إلــى مدرســة اإلنــاث األولى في منطقــة حوض الواليــة ،وقد ّمت لــه مديرتها
ســلمى قربان تلميذ ًة اســمها نهاد حد ّاد .ســألها« :هل تحبي ّن الموســيقى والغناء؟» أجابت
أردف فليفــل« :جرّبي إقناع والدك يــا ابنتي ..وأنا أتعهّدك حتّى النهاية».
ّ
القصة ،ولكــن هذه المرّة مــن مقابلة مع جان شــاهين يقول ويتابــع ســليم محمّــد فليفــل
فيهــا« :حتّــى العام 1951كانت نهاد حد ّاد كأحــد أفراد البيت ،وكانت صديقة أختنا الكبرى زكي ّة؛
وإذا تأخّر الوقت في التدريب تنام عندنا .ومع احتضان أســرتنا لنهاد ضمّتها أيضاً إلى فرقتها
ُ
صلت بوديع صبرا ،مديرتبنّــى محمّــد فليفل نهاد حد ّاد موســيقيّاً ،ويروي في هذا الصــدد« :ات ّ
ُ
«درســت صوتها، يفيــد محمّــد فليفل بحســب كتاب «اللّحن الثائر» لمحمّد كريم وجورج حرّو:
322
ُ
وجدت أنّه ال يزيــد في االرتفــاع واالنخفاض عن كان مــن نَــوع الصــوت الرنّــان .وبعد تحليلــه
ُ
استطعت أن أرفعه إلى عشر». التســع درجات ،وبالمران
جنّبها فليفل التفجُّر الصوتي ،وأبعدها عن الطبقات المرتفعة ون ََص َحها باالبتعاد عن الحوامض
والمكسّ ــرات والبهارات ودرّبها على تأدية األناشيد التربوي ّة والكالســيكي ّة المختلفة األنغام.
بعــد خمس ســنوات من التدريب في الكونســرفتوار ،وفــي منزل آل فليفــل ،باتت الموهبة
ّ
بمحطة «الشــرق األدنى» علــى أهبّــة االنطــاق والتحليق في عا َلم الفــنّ .اتّصل محمّد فليفل
لقبولها كمطربة .اســتمع رشــاد البيبي إليها ،وأثنى على صوتها ،وطلب إمهاله بعض الوقت
لتحقيــق ذلــك .قصد محمّــد فليفل مدير اإلذاعة اللّبناني ّة فايز مكارم وســأله الطلب إلى لجنة
امتحــان األصــوات المؤلّفة من حليم الرومي وخالد أبو النصر وتوفيق الباشــا ونقوال المني
االســتماع إلــى صوت نهاد حد ّاد وتقييمهُ .عي ّن يــوم االمتحان ،وقبل أن تدخل نهاد حد ّاد إلى
غرفــة االمتحــان ،انفرد محمّد فليفــل بتلميذته قائال ً لها« :ال تغنّي أيّاً من أناشــيدي في أثناء
ي لحن من ألحــان أعضاء اللّجنةّ ،
لئاّل تُثيري حساســي ّتهم ،وهناك تأديــة االمتحــان ،وال تؤد ّي أ ّ
َم َث ٌل شــعبي بيروتي يقول« :ما في شــحّاد بحبّ صاحب مخالية» .غنّت نهاد حد ّاد في االمتحان
أغنيتَيْــن ،األولــى «يــا ديرتــي ما لك علينــا لوم» ألســمهان ،ومقطعاً من أغنيــة «يا زهر ًة في
خيالي» لفريد األطرش .توقّف حليم الرومي الذي صاحبها على العود عن العزف مرّتَي ْن ،وراح
فليفــل التهنئــة مــن مدير اإلذاعــة واللّجنة علــى هذا النجاح الباهــر لتلميذته .كبــر قلبه ورد ّ
بالقــول« :هــذا الصــوت أقد ّمه هديّــ ًة لهذا الوطن الذي لــه علينــا جميعاً .إنّها أمانــة أتركها
بيــن أيديكــم فأرجو أن تصونوها» .ســأله فايز مكارم عن الشــروط التــي يريدها لعمل نهاد
ٍ
كصوت نــادر وتلميــذة أكملت دروســها الموســيقي ّة». فــي اإلذاعــة أجاب« :أرجــو تقييمهــا
واســتقرّ الــرأي ،بقبولهــا كمطربــة تغنّــي الصوت األ وّل منفــردة ،وال مانع مــن أن تصاحبها
ّ
وأاّل تخضــع لــدوام رســمي ،وأن يكون راتبهــا الشــهري مئة ليــرة لبناني ّة. فرقــة الكــورس،
323
اإلعالم اللّبناني رمزي جريج في العام 2016اســم «ســتوديو فيروز» .المهمّ ،عندما خرجت
نهــاد حــد ّاد من الغرفة ،جرت مناقشــة بيــن الملحّنين أفضت نتائجها إلى أ ّ
ن صوتها ســيكون
مجلّيــاً فــي األلحــان الشــعبي ّة .بينمــا كان رأي حليــم الرومــي أ ّ
ن صوتها يتمتّــع بقدرة أداء
يــا مــر وّح بلــدك» ،و«أحب ّك مهما أشــوف منّك» ،و«يا ورد يــا أحمر» ،وقصيــدة «ال تعزليه»،
ّ
و«حــق الهــوى يا قلبــي إلك» ،و«يســعد صباحــك» .ومــن المحاورات ونشــيد «يــا بــادي»،
الغنائيّــة التــي غنّتهــا مع حليم الرومي «عاشــق الورد» ،واســكتش «عنتــر وعبلة» ،و«أحالم
الشــرق» .وغنّــت لخالــد أبــو النصر من شــعر إيليا ابو ماضــي« :وطن النجوم أنــا هنا» .كما
غنّــت لحنَيْــن لنقــوال المني «يــا ويلك من رب ّك» ،و»يــا بايع قلبك» .وغنّت مــن ألحان جورج
فــرح «رومبــا عيوم» ،و«رومبا يــا قمر» ،و«رومبا الجمال» ،ثمّ «ســامبا الكروم» مع جورج
عــازار ،وتانغــو «أين حبيبي؟» بمشــاركة كلوفيس الحا جّ .وهي من ألحــان جورج ضاهر .غنّت
المهاجريــن» وشــاركها بالغنــاء .وغنّــت لــه أيضاً «يا قلــب حاج تنوح» ونشــيد «نحن
ُ «نشــيد
كورس مؤل ّ ٍ
ف من أربع آنســات بحســب مجلّة اإلذاعة« :ليلى ٍ البنــات اللّبنانيّــات»؛ وغنَّت مع
الــذي بــدأ ينتج لها منذ العام 1951األغاني واأللحان الشــعبي ّة .وفــي العام َ 1953أنتج أغنية
«عتاب» التي فتحت لها باب الشــهرة .وإضافة إلى أغنية «حب ّذا يا غروب» التي كتبها الشــاعر
قبــان مكــرزل .فــي اإلذاعــة اللّبناني ّة تــمّ التعــا ُر ف والتعاون بين فيــروز وعاصــي الرحباني
والــذي تكلّــل باالرتبــاط والزواج فــي 23كانــون الثاني /يناير مــن العام .1955فــي حديثه
ُ
«كنت أقوم بإعداد برامج موســيقي ّة إلــى مجلــة «أهل الفــ ّ
ن » في العام 1955يقول عاصي:
غنائيّــة لإلذاعــة ،وذات يــوم دعانــي حليم الرومي رئيس قســم الموســيقى لالســتماع إلى
ُ
فرأيــت فتــا ًة صغيــرة تحمل كتابــاً ومعهــا أبوها ،وســمعت صوتــاً ،وقلت «ال ٍ
صــوت جديــد،
ُ
آمنــت أنّهــا تصلــح للغنــاء .وقال أخــي منصــور إنّها ال تصلــح إطالقــاً للغناء بــأس»ّ ،
إاّل أنّــي
324
وبــدأت أعلّمهــا ،فكانت أحســن َمن غنّى هذا اللّــون .ومن هنا نعــرف مبلغ صدق
ُ الراقــص.
325
د .عبد اللّه إبراهيم*
هــل أغامــر بالحديث عن «جماعة الرحابنة» ودرّتها النفيســة ،شــجرة األرز« ،فيروز» من موقع
ســم ن وغناء وشــعر بال أن أخدش ذلك البلّور الشــ ّ
فاف الذي َر َ غير موقع النقد الفن ّ ّ
ي من ألحا ٍ
يوتوبيــا لبنــان فــي عهد اســتقراره وازدهاره ،ومــن دون أن أفضح قصوري فــي تقدير القيمة
الجماليّــة لتلــك الجماعــة التي ندر مثيلها في تاريخ الف ّ
ن الحديــث ،ومن غير أن أفصح عن ضآلة
عد ّتــي للغــوص في عا َلمهــا الفنّي الرفيع الذي اجتذب إليه عشــرات الماليين من الناس طوال
ل أحسبه ضرباً من أكثر من نصف قرن؟ قبل أن أتمحّل في إجابة ٍ سائلة َ
المعالِم ،أبادر إلى قو ٍ
ع لفيروز ،النّاطقة ّ
األقــل ،يرتقي إلى رتبة الصواب الكامل :ما من ُمســتم ٍ اليقيــن ،أو أنّــه ،في
بلســان الرحابنــة ،وهــي تُناجــي الطبيعة الزاهيــة من جبال ،وثلوج ،وأشــجار ،وأنهــار ،وأقمار،
ُ
المحب ّين ،وهج ْر العاشــقين، ومــروج ،وطيور ،وهي تروي حكايات الهوى الدفين ،وت ُ ِّ
صور لهفة
ٍ
عارف بالحضن الذي ترعرعت فيه تجربة فيروز، بالمشــاعر اإلنساني ّة ،وما من
َ َّ
واختض جســده ّ
إاّل
ّ
تخطت حدود األداء ّ
وتشكلت في إطاره هوي ّتها الغنائي ّة ،وانصهرت فيه شخصي ّتها الوازنة التي
س ٌ
ــن فيهــا ،وفي عموم ق باســم الحياة فــي تقلّبات أحوالهاّ ،
إاّل وله رأيٌ َح َ واإلنشــاد إلــى ناط ٍ
ظاهرة الرحابنة.
ي ال ي ُعب ّر عن
د على اســتخالص رأ ٍ
ه َ ســتم َع أو ُ
المشــا ِ ِ الم ُ
ظاهرة الرحابنة ُ في واقع الحال ،تُرغِ م
نفسه ،غالباً ،بالكالم ،إنّما باألحاسيس النابعة من شغاف القلب ،فهو يستحصل رأياً بالتماهي
ــوارد الشــعري ّة ،واللَّحني ّة ،واألدائي ّة ،في ســبيكة
ِ الم
الوجدانــي مــع تلك الظاهرة التــي صهرت َ
ــت مــن الضيعــة اللّبناني ّة خلفي ّة لهــا ،أي أنّها ابتكــرت عا َلماً يحتفــي بالحياة حتّى
وج َع َل ْ
واحــدةَ ،
ليتعــذَّر التعبيــر عــن الموقف برأ ٍ
ي مكتوب ،وال عجب أن يعجز المرء عــن التعبير عن حاله ،وهو
326
ّ
شــال التِبر الذي ينهمر من ســفوح الظاهرة الرحباني ّة ،فثمّة مشاعر من المحال وصفها، تحت
في ُكتفى بالشعور بها ،وهذا هو حالي حيث يعجزني اإلفصاح عمّا أشعر به ،وعمّا يخطر لي ،كلّما
صغيت لفيروز ،وهي تترنّم بعذب الكالم واللّحن ،فأراني أجهد في َصو ِْغ رأيي بظاهرة الرحابنة،
ُ َأ
يبقى على
َ علي ،فما أن أروم صوغها بــرأي حتّى تتوارى فال
ّ ولكــن تعوزنــي األلفــاظ التي تمتنع
لساني شيء منها.
وهــذه حال أغلب الشــاعرين بتجربة الرحابنــة ،ونجمتها فيروز ،فقد اســتولت تلك الجماعة على
ــر قلوبهم ،وأعــادت توجيه ّ
خاصتهم ،ونَجحت في أسْ ِ خيــال عامّــة الناس ،واســتأثرت باهتمــام
ّ
الغاّلب ،والحبّ المســتحيل، َمشــاعرهم صوب تقدير الف ّ
ن الجليل ،والكالم الجميل حيث الهوى
واالنتظار الطويل ،واألسى الذي يعقب ذلك ،بل اإلعجاب باإلنشاد ،واالنبهات باألداء ،واالنسحار
بالكلمات ،واالندهاش باللّحن ،فمجموع ذلك َخ َل َق يوتوبيا تخلب األلباب .ومن بين ما سمعت،
نال من قيمة تلك الظاهرة الفريدة ،فحيثما ي ُذكر الرحابنة ،حتّى
طرق سمعي رأيٌ َ
َ وما قرأت ،ما
وتنفك حبكة األحاســيس المحجوبــة ،وتُطوى صفحات األفكار
ُّ ّ
تنحــل عقدة المشــاعر المكبوتة،
خشــوع جمالي ينهل من زالل صوت فيــروز في صباح ّ
كل يوم ،كأ ّ
ن يوم الناس ٌ الخالفيّــة ،و َي ّ
حل
ٌ
صوت يحملهم إلى ال يبدأ ّ
إاّل بارتشــافه حتّى الثمالة .ومن حُســن ّ
حظ الناس أن يفعم صباحهم
النفسي ،فكيف سيكون حال أي ّامهم لو لم تفتتح فيروز
ّ رتبة ٍ عالية من السم ّ
و الروحي ،والبهاء
ّ
محل الكدر وسوء الحال؟ ّ
فيحل الصفاء والنقاء نهاراتهم بغناءٍ يصقل المشاعر،
هــل يحيــط هذا الوصــف بتجربة الرحابنة مــن ّ
كل جوانبها ،ويعترف لفيــروز بمقامها الرفيع في
بصوت َأشــاع الحبور في نفــوس ِ
الكبار قبل الصغار ،والنســاء قبل الرجال ،وأهل ٍ القلــب منها،
قلــوب الخارجين في طلــب أرزاقهم علــى وق ْ ِع األنغام
َ اجتذب
َ القــرى قبل ســاكني ُ
المــدن ،بل
ٍ
بكلمــات تحتفي بالحُبّ ، الجميلــة ،والقابعيــن في بيوتهــم بانتظار تغيير أحوالهــم ،وهي تترنّم
ُ
أصغيت إلى ما تأد ّى من ذلك التعاوُن وال تتهرَّب من الشــقاء ،ولكنّها تنتصر دائما للخير؟ كلّما
ن رومانسي ّة حتّى ترتسم في خيالي اليوتوبيا الّلبناني ّة
ثمر بين فيروز وعاصي ومنصور من أغا ٍ ُ
الم ِ
حيــث األلفــة ،والصحبة ،والعشــرة بين الناس تغلب علــى الخصومة ،والعــداوة ،والبغضاء .فقد
َ
نهل الرحابنة من عيون الطبيعة األلحان الصافية ،واألشــعار البسيطة ،وصاغوها بغناءٍ مثل رذاذ
ٍ
بألفاظ تجري مجرى النَّفس الهادئ ،وكانت فيروز تصوغ المشاعر المطر الخفيف ،فكأنّهم جاءوا
توصف .مــن الصحيــح أ ّ
ن الرحابنة قد نهلــوا من ينابيع َ كأنّهــا بأطيــاف ،فــا تــكاد تُــرى ،وال تكاد
الطبيعة ،وتشــرّبوا ما فيها من صفاء ،ولكنّهم ،فضال ً عن ذلك ،اســتقبلوا تأثيرات سي ّد درويش
327
ستمعه إلى رتبة ٍ عليا من
ِ في االنشغال بالحياة اليومي ّة ،وأفادوا من تراث موزارت الذي يحلّق ُ
بم
ن قدرتهم االبتكاري ّة أعادت َصو َْغ ذلك المزيج بهوي ّة ٍ لبناني ّة ممي ّزة ٍ ّ
حصتهم و الروحي ،ولك ّ
السم ّ
اإلبداعي ّة فيه أكثر بكثير من ّ
حصة سواهم.
المواقف ْ
وأشمل من َ وقد مضى الرحابنة وفيروز إلى ما هو أوْسع من ُمناجاة المرأة العاشقة،
العــذّال ،بمــا يخلع رؤيــة مثالي ّة على عا َلم الريف اللّبناني حيث تكــون فيروز حاملة الحبّ النقي،
تصور
ِّ المحتشمة عن حبكة ّ
تتكشف تلك الحكاية الريفي ّة ُ فتدعو لأللفة ،وتُش ِّ
دد عليها ،وسرعان ما
انقســاماً بيــن أهالــي الضيعة اللّبناني ّة ،بل الشــامي ّة ،يندمج فيها الحبّ العــذري بالجاه الطبقي،
ويجري تبادُل المواقف باإلنشاد الفردي ،ثمّ الثنائي ،وبين وقفة وأخرى تدعم المواقف بإنشاد ٍ
ٌ
جوقة مــن المؤد ّين تُذ ِّكــر بالجوقة في المآســي اإلغريقي ّة ،لكنّهــا ،في ُمحاورة ّ
تتــواّله جماعــي
الرحابنــة ،ال تقــرّ المصائــر الفاجعة ،وال تؤي ّد األحكام الجائرة ،كما فــي تراجيديا اليونان ،بل تُنب ّه
بصوت الحِ كمة إلى ما في الخير من فائدة ألهل الضيعة كلّهم ،وما ينبغي لتي ّار الحياة من تقويم
األخطــاء البشــري ّة كيال تنســد ّ اآلفاق أمام الناس ،والغاية من ذلك بلــوغ درجة صفاء تجمعهم،
وتسبك مصائرهم.
الدرامي تُختتم َ
المشــاهِد ،غالباً، ّ ل من تصا ُعــد المواقف الفردي ّة والجماعي ّة باإلنشــاد
وفــي حــا ٍ
ُ
األنفس شحنة الغضب ،وتستعيد عالقاتها بدبكة تخلط النساء بالرجال في حشد ٍ جماعي تُفرغ فيه
مكو ٌ
ن واضح ِّ ُ
فاالنقسام بين الخير والشرّ الطبيعي ّة التي انخدشت بسبب الغادرين أو الخائنين؛
المشــاهِد الدرامي ّة ،وفيه ينتصر األخيار وســط بهجة ٍ جماعي ّة ،ولكن ال يقع االنتقام من
في تلك َ
األشــرار الذيــن يتخلّــون عن شــرورهم ،وينصهرون فــي الجماعة الفرحة التي تنخــرط في رق ٍ
ص
ع صريح من الوئام ،فتبدو
توجهها فيروز صوب النهاية الختامي ّة التي تختم الخصام في نَو ٍ
ِّ وغناء
المشاهد التمثيلي ّة التي تجري أحداثها في الضيعة أشبه بكرنفا ٍ
ل جماعي تسوّى فيه الخصومات
ريفي يجمعهم بالرقص والغناء .ومع ّ ٍ
عرف الشــخصي ّة ،واألحقاد الجماعي ّة ،وينصهر األهالي في
ُ
غاية االنقســام مي في المجتمع الذي تُعرض أحواله تحت األنظار ،تكون وجود االنقســام الق َي ّ
ّ
تنحل في نهاية المســرحي ّة الغنائي ّة ،وليس بيــن ُ
المحب ّين تغذي َة الحبكة الســردي ّة بالتعقيد لكي
الغاية منه االنتقام.
328
ّ
محل البغضاء المؤانَسة
ترفّعت ُ
المحاورات الغنائي ّة التي قادتها فيروز عن الخصومات المذهبي ّة والديني ّة والعرقي ّة ،فقد
ّ
محل البغضاء ،فال مكان للنيل من هذا العرق أو ذلك ،وال الغمز من هذا الد ّين حلّت المؤانسة
المفعمــة بالثقــة ،ومحتــوى التعبير الشــعري ،واللّحن ُ
المنصهــر مع الطبيعة، أو ذاك؛ فالنبــرة ُ
تُسهم كلّها في َصوغ ألفة ُمجتمع ُمتعايش ،وغاية النّزاع استحداث ّ
قصة يتبادل فيها المؤد ّون
أدوارهــم إلشــاعة الفَ رح بيــن الناس .تخلّقت حكاية الغرام الفيروزي ّة علــى خلفي ّة حياة نقي ّة لم
و كرنفالي بهيج،
يطرأ عليها الغدر ،وفيها تتبوّأ فيروز مركز الحدث الدرامي والحواري ،فيرتسم ج ٌّ
كأنّه من أعياد الربيع ،وطقوس الخصب ،بما يضفي حيوي ّة بالغة الروعة على َ
المشاهد الدرامي ّة،
وخفت اإليقاع
َ المنشدين إلى الخلف، ُ
جماعة ُ ُ
تعاقب ُها مشهداً بعد آخر ،فكلّما انسحبت فيتوالى
329
ن روح لبنان ،ففــي ذروة عطائها اســتلهمت روح الضيعة اللّبناني ّة،
جماعــة قد َّمــت إلــى عا َلم الف ّ
المجتمع اللّبناني،
ُ وصاغت لها صورة عب ّرت عن انســجام أهلها في كناية ال تخفى عن انســجام
وتعود تلك الصورة المثالي ّة إلى حقبة ما قبل الحرب األهلي ّة ،وفيها صاغ الثالثي :فيروز ،وعاصي،
ومنصور ،هوي ّة الرحابنة التي اســتمد ّت مجمل أعمالها من الطبيعة برؤية ترفَّعت عن االبتذال،
وغاصت في الوجدان النقي.
والحال ،فيوتوبيا الرحابنة التي أوصلها صوت فيروز إلى الناس تطوي نقداً ُمضمراً لما ال ينبغي
التصريــح بــه ،فهي تبتكر عا َلمــاً متخيّال ً ّ
خاّلباً لتزيح إلــى الوراء عا َلماً واقعيّــاً بغيضاً ،وقد اقترنت
عبقري ّة الرحابنة في صوْغ تلك اليوتوبيا ما دام االســتقرار كان هو الســائد في بالدهم ،وكانت
ن اليوتوبيا تنبثق من عا َل ٍ
م ُمستقرّ يتعرّض األعراف الجماعي ّة هي النافذة في وقتهم .ومعلوم أ ّ
لالهتــزاز ،فتحــاول الفنــون واآلداب تثبيت قواعده ،بعرض صور جميلة عنــه ،أو بعْث مزاياه من
دون عيوبــه ،أو فــي اســتعارة نماذج مثالي ّة تتولّى تنبيه النــاس إلى ما ي ُحيط بهم من أخطار ٍ قد
تــؤد ّي إلــى انفراط عقْــد الجماعةَ .حلم الرحابنة بهوي ّة شــ ّ
فافة للبنان ،وما خطر لهم ما ســوف
تنتهي إليه أحالمهم.
ثــمّ وقــع ما ال تُحمــد عقباه :بــدأت الحرب األهليّــة في منتصف ســبعيني ّات القرن العشــرين،
وتناحــرت األطيــاف العرقيّــة والديني ّة ،فكشــفَ ت عــن تمد ُّ ٍ
ن زائف جــرى االنخداع بــه ،وتفرّقت
ومتناقضــة ،ما َخ َل َع عــن يوتوبيا
إراداتهــا ،وتضاربــت مصالحهــا ،وارتكســت في هويّــات ضي ّقة ُ
انزلق
َ المضي في اصطنــاع يوتوبيا ال داعم لهــا .فقد
ّ الرحابنــة شــرعي ّتها ،ومــا عاد مــن ُ
المتاح
ك عراهم حد ّ التقتيل ،ولم يقتصر ذلك َّ
وفك َ المجتمع إلى احترابٍ مسلَّح فرَّق أهله أيدي سبأ،
ُ
علــى ُ
المجتمــع الــذي احتضن فيــروز واألخوين رحباني فــي ذروة نزوعهم اليوتوبــي ،بل تفرَّق
الثالثــي فــي ما بينهــم ،وانفصلوا عن بعضهــم ،فكأنّهم مرآة تصد ّعت لِما َأمســت عليه أحوال
ُمجتمع تصد ّع بكامله.
المضي
ّ أركان اليوتوبيــا الّلبناني ّة بتفرُّق شــمل ُمجتمعها ،وشــم ِ
ْل الناطقين بها ،وصار ُ ْ
َزعزعــتت
ــل الذي ال فائدة تُرتجى منه ،فليس ثمّة أمل جماعــي يوجِ ب الحفاظ عليها ،أو فيهــا أشــبه بالخ ََب ِ
ّ
أزف وقته .وبتفــرُّق الحاضنة الجماعي ّة ،وتفــرُّق جماعة الرحابنة حتّــى حمايتهــا مــن االنهيار الذي
فظهر
َ أنفســهم ،تهــاوت أركان اليوتوبيا ،وتبع ذلك بأن تغيَّــرت األدوار ،واختلفت الموضوعات،
330
زيــاد الرحبانــي على أنقاض الجماعة الرائدة ليأخذ بفيروز إلى منطقة ٍ أخرى ُمختلفة عن المنطقة
التــي ترعرعت فيها ،منطقة تغي ّرت فيهــا الكلمات واأللحان ،واختلف اإليقاع ،والموضوع ،وذلك
331
وســوء حالــه ،فلم ي ُ
عــد ثمّة وطــن جامِ ع كالضيعــة القديمــة ،وال جماعة مــن القروي ّين الذين
ٌ
دبكة في نهاية مشــهد درامي ،بل جماعات ُمهاجِ ــرة ،ونازحة ،وهاربة ،وجماعات َ
خالفهم تَجمــع
ومتباغضة ،فال تدعم هذه الحال أيّــة يوتوبيا ،بل تُرغم الفنّان على اصطناع
تحاربــة ،وفاســدةُ ،
ِ ُم
دوســتوبيا بالكالم الهجائــي المنثور ،واللّحن المضطرب بغاية ٍ مقصــودة ،واألداء القاطع الذي
يستفزّ األسماع ال يخد ّرها.
ن األلحان تمرّدت ّ
يتهكم حتّى أ ّ وبتلك الطريقة الصادمة للذوق الذي رسَّ ــخه الرحابنة مضى زياد
على القوالب المعهودة ،والقصائد خرجت على الص َيغ الشائعة ،وأضحى األداء حديثاً بين األفراد،
ٍ
تهالك بمنظور ٍ سوداويُ ،مجتمع تفانى في النَّي ِْل من تقاليده ،ومنع ُم ُ
تمثيل ُمجتم ٍ فقد جرى
المضيُ ،مجتمع
ّ أعرافــه ،ومــن تاريخه .وكأنّه ينكر هوي ّته ،وينكر ماضيه ،فــا يعرف إلى أين يريد
فض َل َجل ْ َ
د نفســه صباحاً ومســاء على االعتراف رحيق بهجتــه ،فلعلّه َّ
َ َّ
وامتصــت َنخ ََرتْــ ُه تناقضاتُــه،
وج َع َل نفســه موضوعاً لذلك الهوس الشــنيع ،ذلك
بأخطائهُ .مجتمع َص َه َر الســادي ّة بالمازوخي ّةَ ،
هو جوهر دوستوبيا زياد الرحباني.
مــن الصحيح أ ّ
ن زياد الرحباني اصطنع تلك الدســتوبيا بحُكــم وعيه النقدي ،وأفكاره الراديكالي ّة،
ُ
المجتمع الذي ينتمي وتمرُّده الذي َج َه َر به في ألحانه ،وفي قصائده .فقد عب َّر عن اســتيائه من
م الحياة
ن تلك الدســتوبيا انبثقت من َر َح ِ ّ
يســتحق االزدراء ،غير أ ّ عف ّ
ج وراح يســخر من واق ٍ
َ إليه،
ُ
التغافل عــن الحقيقة التي قام زيــاد بتمثيلها بأغا ٍ
ن الّلبنانيّــة ،فليــس يجــوز التزوير ،وال ينبغي
وتناوب التعبير عنها بصوته مرّة ،وبصوت فيروز مرّةَ .و َق َع تحو ٌُّل
َ اعتمدت على الفكاهة الناقدة،
ي فــي هوي ّة فيروز ،وفي نب ْرتهــا الغنائي ّة ،وفي حضورها أمام ُ
المشــاهدين ،فبعد أن كانت جــذر ٌّ
لهمة في اليوتوبيا القديمة َأمســت ســي ّد ًة حزينة تندب بالدها في الدســتوبيا الجديدة،
صبيّــة ُم ِ
وراحــت تُنــذِر قومهــا بصوت رخيم ال يخفــي عتباً ،وال ينكر ألماً .ومن الواضــح أ ّ
ن َموتاً و َبعثاً قد
ٌ
جيل بفعــل الزمن ،وتــوارت رؤيته للعا َلم ،وتــوارى موضوعه وقعــا فــي تجربة الرحابنــة ،توارى
ع مختلف ،له رؤية ُمغايرة ،وله موضوع ُمختلف ،وبقيت فيروز ٌ
جيل آخر ،من واق ٍ َ
وانبعث المثالي
ْ
جهرت بهذا. ْ
باحت بذاك، واسطة العقد بين الرؤيتَي ْن ،فكما
تبصراً أعمق بوظيفة الف ّ
ن الذي غايته ّ مثّلت الحقبة الجديدة ،الحقبة الدوســتوبي ّة ،في تقديري،
اســتخالص العبــرة ،والتنبيــه إلى الغفلة ،وصهْــر التجربة الجمعيّــة ،فما عاد التخييــل اليوتوبي
تخييل دوستوبي أعاد ترتيب النظرة إلى ٌ فحل محلّه
ّ انهار العا َلم الد ّاعم له،
َ ُمناسباً ما دام قد
العا َلــم اللّبناني برؤية ٍ تُوافق أحواله المترد ّيــة ،ومن ناحية موضوعي ّة ،ال ت ُ ِ
فاضل بين التجربتَين،
332
الخاصة بها ،غير أنّني أحسب أ ّ
ن صوت فيروز اكتسب ّ ٍّ
فلكل منها مزاياها التي عب ّرت عن المرحلة
ج في األداء وما اســتبطنه من مشــاعر ّ
تكشــف النض ُ كمالــه النهائــي فــي المرحلة الثانية ،فقد
إطار حقبة انقضــى عهدها ،بل
ِ عميقــة بأفضــل أحوالــه ،فلم تحتجب فيروز ،وتأســر نفســها في
ورمت بنفســها في خ َِض ِّم تجربة ٍ أخــرى ،وكما برعت هناك في تمثيل يوتوبيا
َ خَطــت إلى األمام،
ع ُم ْ
عتِم؛ داعبــت خيــال الماليين فقد نجحــت هنا في تمثيل أحوالهم ،و ُ
هم يرتكســون في قــا ٍ َ
ففيروز عابرة للتخوم.
333
عمّار مروّه*
ّ
لعــل الظواهر الفني ّة االســتثنائي ّة العا َلمي ّة الكبرى ذات األبعــاد الفكري ّة والثقافي ّة التي َأنتجت
فنــا ًّ «موســيقيّاً -غنائيّــاً وطنيّاً» جديداً غير مســبوق بمعالِمه الواضحة الجــذور وموصوالً بف ّ
ن
الغنائــي ،لعلّها نجحت بذلك لســب َبي ْن أو ثالثــة ،أهمّها أ ّ
والً ،أنّها اســتطاعت أن تربط ّ المســرح
ومنابعها الداخلي ّة ُمتصالِحــ ًة مع دعوة أصوات عصرها
ثقل محلي ّتهــا ومصادرها َ
ِ بشــفافي ّة بيــن
الجديد لتَبتكر نفسها بهذا الربطُ ،منتج ًة تراثاً فنيّاً جديداً ذا معالِم صلبة ،واضحة االرتباط بآفاق
عصرها الجديد عبر جذورها تلك بالذّات .
مأسســ ًة
َ لعل ســبب نجاحها الثاني (على قلّة هذه الظواهر وندرتها ،محليّاً وعا َلميّاً) أنّها جاءت ُم
ّ
336
الذين َأحدثوا تح ّ
والً نوعيّاً وطنيّاً جديداً في عا َلم التأليف الموســيقي الروســي الصافي َ
المعالم،
أو مجموعة روّاد المرحلة الخصبة التي مهّدت لوالدة األغنية الفرنسي ّة الجديدة من كِ بار ُ
الكتّاب
والمغنّين الفرنسي ّي الهوي ّة والهوى).
ُ ُ
والملحّنين والشعراء
موضوع هذه المقالة بينهم جميعاً اآلن ،هي درّة التاج الرحباني المتمثّلة بالسي ّدة «نهاد حد ّاد»
التي كُتب عليها أن تذوب ،وهي تتحوّل (شــاءت هذا أم أبت) إلى ما ي ُمكن تســميته بالســي ّدة
اللّبناني ّة العربي ّة األولى أو األيقونة التي لمعت عا َلميّاً في سماء األغنية كظاهرة لبناني ّة وعربي ّة
وعا َلمي ّة مبتَكرة غير مسبوقة ،وكأحد أضالع المثلَّث الرحباني الذي أرساه وأغلق ُه عليها الضلعان
لألخوي ْن كأيقونة
َ األساســي ّان :عاصــي ومنصــور لتخرج الشــاب ّة نهاد حد ّاد من العبــاءة الرحبانيّــة
وطني ّة فني ّة رحباني ّة جديدة ُمتفرّدة تتحرّك داخل أجمل ظاهرة فني ّة َجماعي ّة لبناني ّة وأرقاها ،هي
مها الفنّي الخصب لتضمّها الى أخوي ّتها
رح ِ
األخوي ْن رحباني؛ إذ أبدعت األيقونة فيروز من َ
َ ظاهرة
ّ
أدق تفاصيل نموّها وتحويلها من الفتاة الشــاب ّة العضو في كورس اإلذاعة بعدما ســهرت على
اللّبناني ّة (نهاد حد ّاد وقتها) إلى األسطورة فيروز .
األخوي ْن رحباني،
َ ّ
لعــل ســرّ هذه العملي ّة الفنيّــة االندماجي ّة طويلــة النَفَ س لنهاد حد ّاد بظاهــرة
ٍ
وســط فنّي لبناني فكــري ثقافي مشــتَّت وغير واضح المعالِــم والد َّور ،قد الناشــئة وقتهــا في
ن أصوات الماضيأسهم في أسْ َطرتها فنيّاً بعدما كانت بداية هذا الثالثي قاسية وصعبة؛ ذلك أ ّ
ي تفصيل لالنقضــاض اإلعالمي ِّ
توفــر أ ّ كانــت قــد دأبــت الهجوم علــى الرّحابنة بت ُ َه ٍ
ــم باطلة ،لم
المسرحي الذي كان قد
ّ الغنائي أم
ّ الموسيقي منه أم
ّ عليهم وعلى مشروعهم الناشئ ،سواء
بــدأ يومهــا من تلك المرحلة االنتقالي ّة .وكان علــى الرّحابنة خالل تلك المرحلة تقديم التضحيات
الجِ سام لتثبيت أولى إنجازات رؤيتهم ومؤسّ ستهم ونجومهم الجُدد وما أكثرهم ،أولئِك الذين
وقفت السي ّدة فيروز على رأسهم كنجمة رحباني ّة لم يخفت شعاعها مع الوقت مثل غيرها.
ِ
337
ي عاصي ومنصور غالباً لتتكرَّس من ن األغنية والموسيقى اللّبناني ّة نَجحت على ي َ
د ْ ي ُمكن القول إ ّ
َ ٍ
د كأغنيــة لبناني ّة رحباني ّة أهدت إنجازاتها م َ
بتكر وصلب ،قبل أن تتع َّثمّــة بتوجُّه ٍ وأســلوبٍ جديد ُم َ
ُ
الراقية المتطوّرة الحقاً إلى أختها المصري ّة فتُنْعِ م بذلك على أمّهما الموسيقى واألغنية العربي ّة
دي ْن.
بخصب هذا الغنى والتنوُّع الجدي َ
ِ
ّ ّ ُ
بخصــب ُعمقها اللبناني العربي ذي النكهــة والهواء الرحباني الجديد
ِ م لتتألق اغتنَــت إذن تلــك األ ّ
الممتــد ّ مــن األغنية (مجال فيروز الرحباني ّة) إلى الموســيقى التي كانــت وقتها تبحث عن مالمح
بحثي
ّ ق المســرح الغنائــي الرحباني الصاعــد ب ُ
عم ٍ َ لبنانيّــة متوسّ ــطي ّة شــرق عربيّــة َطبعت بآفاقها
العربي من جهة ٍ أخرى ،وإكمال رسالتها
ّ ل َمعالمه بالمنطقة المتوسّ طي ّة من جهة ،والشرق ْ
لوص ِ
المؤس ُ
س األوّل للمسرح ِّ الموســيقي ّة الغنائي ّة ورسالة المسرح الغنائي الذي بدأه قبلهما بكثير
الغنائي المصري والعربي سي ّد درويش .لكن لرب ّما كانت مسرحي ّات الشيخ سي ّد الغنائي ّة وقتها قد
عد يتداوله ،بل لعلّه يتجاهله لمصلح ِة حاصرة ومعروفة وسط عا َل ٍ
م إعالمي عربي لم ي ُ غدت شبه ُم َ
غناءٍ محصور ٍ بهوي ّة الطرب والتطريب والتطويل ذات االمتدادات التركي ّة ،سواء في وسائل اإلعالم
غطى على إنجازات درويش التي جاء عاصي ومنصور لي ُعيدا إنعاشها ل ّ المصري ّة أم العربي ّة ،وبشك ٍ
ُ ٍ
سهم بعيْنِها ،قاما بها معاً لت ِ
بإنجازات موسيقي ّة َ ن المسرحي المهمّ بعدما ربطاه وتطوير هذا الف ّ
ومزدهراً ،وموســوماً بآفاقــه وامتداداته الرحباني ّةن المســرح الغنائي خَصبــاً واعِداً ُ فــي عودة ف ّ
تشع في قلبه كنجمة ٍ وبطلة فني ّة. ّ ّ
المرتبطة بمشروع الحداثة اللبناني الذي كانت السي ّدة فيروز
أو عصبــة الموســيقي ّين الخمســة الــروس الكبار أو ظاهــرة األغنية الفرنســي ّة…إلخ ،فإ ّ
ن عملي ّة
ي هذه األخوي ّة،
ضلع ْ
َ األخوي ْن رحباني؛ إذ إ ّ
ن َ ّ
يخص ظاهــرة هــذا الفصــل ال ي ُمكن تحقيقها في ما
والملحّنَيْــن والموزّ َعي ْن عاصي ومنصور قد ارتضيــا َعمداً وطوعاً بهذا
ُ المؤ ِّلفَ يْــن الموســيقي َّي ْن
ن ورضا.حب وتفا ٍ
ٍّ ّ
بكل سابق تصوُّر ٍ وتصميم ،و َختَماه المتشا ِبك عنُ التالحُم العضوي األخوي
ِ
338
ّ
لعــل الحاقديــن أو الجاهلين الذين عادوا اليوم ،ألســبابٍ أناني ّة وذاتي ّة ورب ّما مادي ّة ،للتفريق بين
األخوي ْن وتفكيك عالقتهما لتطال فصال ً آخر بين عاصي وفيروز ،لعلّهم فشلوا بسبب فراغ الي َ
دين َ
ي مقــدرة أو أر ْشــفة أو تصنيــف أو شــهود أو تحليــل لعملي ّة الفصل بينهم خالل َمســيرة مــن أ ّ
َّب بني ّة ٍ طي ّبة من
رشــح أو تســر َ
َ والمتنوع؛ فالقليل جدّاً جدّاً ممّا كان قد
ِّ نتاجهم الكبير والواســع
عاصــي ومنصور نفســهما أو من أوســاط مقرَّبة منهما من دون قصد لتبيــان أ ّ
ن هذه األغنية أو
تلــك ،أو هــذا اللّحــن أو ذاك ،أو هذه القصيدة أو تلك ،هي لعاصي وليســت لمنصور أو العكس،
ّ
بكل ما تنطوي عليه من عبقري ّة في التأليف والتلحين لألخوي ْن رحباني
َ ٍ
كاف إلثبات الوحدة الرّاسخة
والتوزيــع؛ بحيــث ن ََض َح غناءُ الثنائي والثالثي ،بالجملة وبالمفرّق ،بالعبقري ّة والخصب .وعلى الرّغم
ٍ
كالم منقول عن أحدهما األخوي ْن ،اســتناداً إلى
َ ن أعماالً َ
بعينها تعود إلى أحد من الترشــيحات بأ ّ
ن هذه األعمال تبقى قليلة ومعدودة قياساً إلى التراث الضخم الذي ّ
صدر عنه من دون قصد ،إاّل أ َّ
خلّفاه ،والذي ال تســتطيع حتّى الســي ّدة فيروز نفســها الفصل فيه .فقد كانت شــاهدة فعال ً على
األخوي ْن وغزارة نتاجهما الذي تالزَ م مع عدم اد ّعاء أحدهما أنّه أًبدع أكثر من اآلخر.
َ تالحُم
سطع صوتها
َ ن السي ّدة فيروز دخلت األخوي ّة من باب أداء األغنية تحديداً ،حيث
ال بد ّ من االعتراف بأ ّ
الم َ
بتكرة. وتربّــى وترع َْرع ونما واشــتد ّ عوده ليصبــح درّة تاج هذه الظاهرة الرحباني ّة االســتثنائي ّة ُ
ولعل ارتباطها الحقاً بالفنّان الكبير زياد الرحباني بعد غياب عاصي الفنّي والجسدي مهَّد النتقال ّ
ّ
خاصة إنتاج المؤسّ ســة الرحباني ّة إلى ضلعها الثاني منصور بأعما ٍ
ل مســرحي ّة وغنائي ّة وموســيقي ّة
األخوي ْن
َ ن ظاهرة فيروز األيقونة ال ي ُمكن لها أن تخرج من عباءة ّ
لعل هذا ي ُثبت أ ّ بعيدة عن فيروز.
عاصــي ومنصور أو األوكســيجين الرحباني الخارج من عباءتهما التــي َأثمرت الحقاً أخاهم األصغر
إليــاس ،ثــمّ ابنهما الفنّي زياد؛ ما يعني أيضاً أنّه لن يتســنّى حتّى لليــاس وزياد انتزاع فيروز من
ٍ
كالم عن عقدة فرويد في ي
وأسطرتها ،شئنا هذا أم أبينا .وأ ّ جذور األخوي ّة التي َأنجبتها وطوَّرتها َ
قتل األبّ ،ال ي ُمكن ان ينطبق على ظاهرة الياس أو زياد أو أبناء منصور وأحفاده.
ُّ
تفكك المؤسّ ســة الرحباني ّة ،أ ّ
ن ّ
وحظ الذين عملــت معهم فيروز الحقاً مــن بعد ِلحُســن ّ
حظنــا
ن زياداً تحديداً كان قد غدا
كتملة النضوج والمالمح ،وأ ّ وم ِفيروز كانت قد غدت ُمشــعّة ،مبهرة ُ
ناضــج الموهبة وباذخ العبقري ّة ..عندها قاربهــا زياد كنجمة ٍ وأيقونة جاهزة للرفد ب َلونه الرحباني
قفها زياد بذكاءٍ موســيقي متحــوالً بذلك من ابنها البيولوجي إلى أبيها الفنّي ،بحيث تل َّ
ِّ الجديــد،
عاصرة ُمنفتحة على الهوي ّات الغنائي ّة والموسيقي ّة العا َلمي ّة كتسبة ُ
وم ِ َ ٍ
فطري وبعبقري ّة رحباني ّة ُم
األخرى كالجاز والبوســانوفا والبامبا وخالفه ،بعدما أعاد ربطها بمشــروعه الغنائي فقط ،وليس
جنس فنّي آخر كان األخوان قد ابتكراه وأسَّ ســاه وأرســيا معال َ
ِمه ألجلها في ٍ ي
المســرحي أو أ ّ
ن اللّبناني العربي الجديد.
تاريخ الف ّ
339
ّ
ولعل األخوي ْن التي َخ َلقَ تْها وأسْ َ
ــط َرتَها. َ إشــعاع هذه األيقونة الخالدة ســيبقى ُمرتبطاً بظاهرة
الدليــل الجديــد على مــا اقول يكمن في أ ّ
ن األغنيات األربع التي اشــترت الســي ّدة امتيازها من
الفنّــان المصــري الكبير رياض الســنباطي منــذ عقود طويلة ،لــم يتمّ اإلفراج عنهــا إلى اليوم.
ن هذه األغنيات المصري ّة ّ
يدل على أنّها ال ترى أ ّ والكالم الكثير الذي تسرَّب من مجالس السي ّدة
ّ
المحطات الفني ّة التي ينساها تعبر عن لون صوتها الرحباني .وبالعودة إلى بعض
ِّ الهوي ّة والهوى،
أسهمت بصمت وجرأة في تثبيت صوت فيروز وأسطرتها،
َ ّ
تخصصون ،التي الناس ،بمن فيهم ُ
الم
ُ
والمضيئة في تاريــخ تثبيت معالِم انفصال األغنية المنســي ّة ّ
المحطة َ ال بــد ّ من العودة إلى تلك
ي مناللّبنانيّــة الشــرق عربي ّة عن أختها العربي ّة المصري ّة؛ حيث تــمّ هذا بفضل صوت فيروز القو ّ
جهة ،وعبقري ّة عاصي ومنصور الموسيقي ّة من جهة أخرى التي سمحت ببناء معالِم لبناني ّة خالصة
ومختلفة مي َّزت األغنية اللّبناني ّة عن اللّون المصري الغنائي تحديداً .ولعلّني هنا أغمز إلى ألحان
ُ
خصيصاً الفنّان المصــري العظيم محمّد عبد الوه ّاب ،وتحديداً
األغانــي الخمــس التي أنجزها لها ّ
ٍ
وبصوت لحــن أغنيــة «يا جارة الــوادي» المصري ّة الهوى والهوي ّة والتي غنَّتها الســي ّدة بنجاحٍ كبير
ّ
خاص بها .كيف؟ لبناني
ّ أي من المطربات العظيمات المعروفات ،وب َلو ٍ
ن ي ُضاهي صوت ٍّ
مختصون) يجهلون مــا ابتكره األخوان عاصي ّ ّ
لعــل معظــم الناس وقتها واليــوم ايضاً (وبينهم
ومنصور لدى إعادة التصرُّف في صياغة توزيع بوليفوني متطوّر وغير مسبوق وقتها للحن أغنية
«يا جارة الوادي» الذي جاء من الموسيقار عبد الوه ّاب مونوديّاً .لقد أعا َد األخوان تسجيل لحن
هــذه األغنيــة موزَّع ًة على ســجي ّة عبقري ّتهم الموســيقي ّة ليتمّ لفيروز تأديتها بطريقة ٍ وأســلوبٍ
مســبوقي ْن وقتها .كانا مفاجأة للجميع في مصر قبل لبنان وولَّدا يومها مشــاعرَ ُم َ
بتك َري ْن وغير
اإلبهار والدهشة! وفي تفاصيل هذا اإلنجاز أنّهما عا َلجا النسيج اللّحني لألغنية بوليفونيّاً ،وبروح
موسيقي تمّ فيه
ّ ع
هارموني ّة ربطت الثالثة أرباع الصوتي ّة في مقام البي ّات على درجة سي بتوزي ٍ
والباص والعود والقانون واألكورديون والناي ،خارج أجواء التخت الشرقي ّ اســتعمال الوتري ّات
الرق وببعض ّ
الاّلزمات والخلفي ّات ّ التقليدي ،وتمّ رب ْطها كلّها بعالقة ُم َ
بتكرة بآلة البيانو وإيقاعات
الموســيقي ّة أيضــاً ،وذلك على شــكل ُم َ
رافقــة هارموني ّة تمي َّز بها الرحابنة فــي الرؤية التوزيعي ّة
الخاصة بهما؛ فجاءت األغنية أكثر ُعمقاً لناحية المقام الشرقي وعلى إيقاع الوحدة
ّ البوليفوني ّة
الكبيرة المرب َّع على نبض 4/4على طول مســار ُ
المبتكر ،البعيد عن مســتوى التعقيد اإليقاعي
والزخرفة الذي كان ُمناسباً أيضاً لهذه األغنية المتطوّرة.
ُ
والمتماثل مع الاّلفــت فــي التوزيــع الرحباني هو دقّة العمــل الجماعي المكتوب والمــدروس
ّ
ّ
وبخاصة الوتري ّات ،بما يؤد ّي إلى كتابة جمل موســيقي ّة فوق الحركة والعزف بين الموســيقي ّين،
أصوات كونترفوا (أصوات ثانية ُمرافِ قة) أو هارموني ّة أو كونتربونطي ّة.
340
ففــي آخــر الدقيقة األولــى مثال ً ،وفي ما يليها تقريباً ،نســمع اآلالت الوتري ّة تُرافِ ــق الغناء ،تار ًة
بشكل لوازم وطوراً عبر جملة موسيقي ّة ُمختلفة عن الغناء ،ولكن متجانسة لحنيّاً بذلك التوزيع
ِ
ٍ
إحساس مرهف ٍ
إلضافات جمالي ّة بابتكار ّ
الموسيقي إلبعاده عن الملل والتطويل اللحني ،وأيضاً
ل مع مرافقة اللّحن والمقام الشــرقي .نســمع ذلك أيضاً فــي الدقيقتَي ْن ونصف ،والدقيقة
عــا ٍ
الثالثة والدقيقة الثالثة والنصف وغيرها من استتباعات مسار األغنية على هذا األسلوب الرحباني
وعرفت فيه فيروز كيف تضخ ّ موهبتها وجرأتها لت ُ َ
فرج عن مكنونات هذه نفسه الذي فاجأ الجميع َ
العبقري ّة الموسيقي ّة بمرافقة األلحان بصوتها المبهر بميزات كثيرة جديدة مفتوحة على الطرب
ح التعبير) وغير متوافرة لدى غيرها.(المعقْ َلن إذا ص ّ
ُ
بهذا المســتوى ،وخصوصاً عندما ينتقل المقام فــي الدقيقة الثالثة والثلث إلى مقام «فرحفزا»
من عائلة النهوند على درجة مي ،وما بعدها قليال ً ليتمّ االنتقال إلى راست على درجة مي بشك ٍ
ل
انسيابي متوقَّع من مقام «الفرحفزا» السابق ،وكذلك في الدقيقة الرّابعة والنصف لدى االنتقال
ي إحساس بصعوبة االنتقال. إلى بيات على درجة «فادييز» بشكل رائع ومريح ،من دون أ ّ
يلفتنا كذلك غنى اللّوازم الموسيقي ّة السريعة في الدقيقة 5و 36ثانية والدقيقة 5و 58ثانية.
َّ
منظم ومدروس في وهذا ما يثبت ما تمّ ذكره حول ثراء الكتابة الموســيقي ّة ُ
المبتكرة بشــكل
ّ
الخلفي ّات الموسيقي ّة من الكمنجات تحت الغناء بشكل إيقاعي إلثراء التوزيع واللحن.
أخيــراً ،أطلــب مِ ــن جميع الذين يعتبرون أ ّ
ن عنصر الطرب والتطريب ال يناســب صوت فيروز ،أن
يعودوا إلى سماع هذه األغنية تحديداً ،ومن ثمّ العودة إلى سماع صوتها في أداء أغنيات عبد
الوه ّاب األخرى ،وأغنيات فيلمون وهبة ،لعلّهم ،ولعلّنا معاً ،نستطيع إقناع السي ّدة باإلفراج عن
أغنيات رياض السنباطي المحفوظة في أدراج النسيان.
وتراني هنا انتهز فرصة تهنئة السي ّدة في عيد ميالدها ،لكي أروي ،بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي
قصة أوّل وســام عا َلمــي كان يجري التحضير إيمانويــل ماكــرون لها في بيتها لتكريمها بوســامّ ،
ّ
لتقديمــه لهــا ،وهو الوســام األهمّ وقتها ،والذي لم تحصل عليه إاّل شــخصي ّات عربي ّة اســتثنائي ّة
أو عالمي ّة تُعد ّ على أصابع اليد الواحدة ،وهو وســام لينين الذي عمل الناقد الموســيقي والفنّي
الراحل نزار مروّة ،صديق عاصي ومنصور وفيروز وزياد ،لإلشراف على ّ
كل خطوات التحضير إلنجازه
أعد َّ رسالة التعريف بالسي ّدة فيروزمع الجهات السوفياتي ّة الثقافي ّة المانحة .وكان هو تحديداً َمن َ
المختصــة فــي وزارة الخارجي ّة الســوفياتي ّة وقتها ،بوصفها أهمّ فنّانة وســي ّدة عربي ّة كانت
ّ للّجنــة
ستنال هذا الوسام الذي لم ينلْه من العرب على حد ّ علمي ّ
إاّل الرئيس المصري جمال عبد الناصر
والزعيم اللّبناني كمال جنبالط والشاعر محمود درويش ،ولكن لسوء ّ
حظنا جميعاً حالت األحداث
حقبة عالمي ٌّة
ٌ السياســي ّة العا َلمي ّة الكبرى دون ذلك ،إذ جرى تفكيك االتّحاد الســوفياتي ،وظهرت
دولتي حتّى اللّحظة.
ّ جديدة لم تستقرّ على تواز ٍ
ن سياسي
341
فادي العبد اللّه*
ٍ
محاوالت ســابقة، غ طبعاً ،بل من من أين َأتت ظاهرة فيروز والرحابنة؟ لم ُ
يكن ذلك من فرا ٍ
أشــار إليهــا فــي أماكن متفرّقة زكــي ناصيف وتوفيق الباشــا ،لصناعة هويّــة لبناني ّة في مجال
الموســيقى .فلْننظر ما كان هنالك قبل االســتقالل ..غناء جبلي مثل ما ســجّله فرج اللّه بيضا
ويوســف تــاج ثــمّ إيليا بيضا ،غناء ســاحلي متــوزّع بين التأثيــرات المصري ّة والتأثيــرات الحلبي ّة
والمواويــل المســمّاة بالبغداديّــة ،عازفــون مصريّــون كأحمد البــدوي نزيل طرابلــس ،مغنّو
ٍ
ــحات وأدوار وقصائد كمحيي الد ّين بعيــون الطنبوري العازف على البزق ،وبولس صلبان ّ
موش
وصليبــا القطريــب المطــرب والعــوّاد وغيرهــم ممّن اســتعاد إصــدار «روّاد الطــرب في بالد
الشــام» عن مؤسّ ســة التوثيق والبحث في الموسيقى العربي ّة ـ أمار ،بعض تسجيالتهم ،تراث
دينــي متنوّع بين الســرياني والبيزنطي واإلســامي ،عازفات عود فــي مجالس العائالت ،ولكن
أيضاً مدرّســو بيانو وهارموني ،بدايات اإلذاعة ،مونولوجيســت مثل عمر الزعنّي المتأثّر بالغناء
االنتقادي الفرنسي الساخر ...إلخ.
ولئــن كانــت البدايــات األولى أقرب إلى لهجــة ٍ بدوي ّة ما (مثل ِّ
حول يا غنّــام ،أو يا جارحة قلبي)
ن التوجّه السياســي واالجتماعي الحداثي للبلد ونُخبه وحضور الجاليــات األجنبي ّة المؤ ِّثر فيه،
فــإ ّ
ن أيضاً األرمــن والروس ،والد َّور الذي كان مطلوباً من هذا البلد
بمــا في ذلك الفرنســي ّين؛ ولك ْ
342
كجســر ٍ بين الغرب والشــرق ،كوجه ٍ ُمشــرق للعــرب أمام الغرب ،وكأنمــوذجٍ للتغريب الناجح في
أعين العرب ،كان بحاجة إلى ما هو أع ْقد موسيقيّاً وغنائيّاً؛ فكان المشروع الغنائي والمسرحي
الرحبانــي هــو الجامع النّاظم لمجمــوع المؤثّرات ُ
المختلفة هذه ،وكان المســرح والمهرجانات
المالءَمة للتنــوُّع المطلوب هذا ،والذي كانت لُحمته
بالتنــوّع الــذي ي ُمكن عر ْضه فيهما في غاية ُ
األخوي ْن رحباني.
َ هي نظري ّة تحديثي ّة ،أقصد التوزيع الموسيقي بوصفه «العِ لم» كما في أحاديث
ّ
الموشــحات إلى الغنــاء الجبلي والزجلي إلى هكــذا كان بإمكانهمــا أن ينتقــا بين الملحمي ّة إلى
شترك
َ ّ
يظل هنالك طابع ُم األغنيات األشــبه بالمنوّعات الغربي ّة التي بدآ مســيرتهما بتعريبها ،وأن
يســم واحد ٍ هذا اإلنتاج الغزير والمتنوّع ،وهو ســرّ الصنعة الحقيقي لديهما ،أي التوزيع
ٍ بم س ُ
ــم َ َي ِ
األوركسترالي الذي تعلّماه من األب بولس األشقر ،ثمّ من أستاذهما برتران روبيار واشتغال عليه.
األخوين
َ هنالــك أيضــاً مؤثّرات إضافي ّة ال ي ُمكن تصوّر غناء فيروز من دونها ،وال الكثير من ألحان
رحباني ،وهو ،إضاف ًة إلى المســرح الغنائي المصري الذي بدأ بأشــكا ٍ
ل موســيقي ّة أقدم مع أبي
ّات أكثر ُم َ
عاصرة ّ
(الموشحات) ثمّ سالمة حجازي (القصائد) ،لكنّه أخذ شكال ً وجمالي ٍ خليل القب ّاني
مع سي ّد درويش (من دون إغفال ُمعاصريه مثل كامل الخلعي وداود حسني) ،التأثير «الوه ّابي»
على تعد ُّد طبقاته ،من تكوين الجملة الموسيقي ّة و َدور المتتاليات أو السالسل المتكرّرة داخلها
ّ
بخاصة بعد تغي ُّر صوت عبد الوه ّاب بعد فترة شــبابه ،والمشــهد ،sequencesو َدور الميكروفون،
الســينمائي الــذي رسّ ــخه عبــد الوه ّــاب ثمّ تابعه فيــه محمّد فــوزي وفريد األطــرش وغيرهما،
واالقتصاد الشــديد في ال ُ
ع َرب الصوتي ّة وترســيخ سيطرة العقل على الحنجرة ،والتلحين ُ
المنفتح
على تراكيب وآالت غربي ّة تُغ ِّير من نسيج صوت الفِ رق الموسيقي ّة ُ
المصاحِ بة ُ
للمطربين ،واهتمام
ألم ّ
المبكر بمسألة التوزيع الموسيقي ،و َدوره في تشجيع مواهب نسائي ّة ُمغايرة ّ عبد الوه ّاب
كلثــوم أداءً وحضــوراً كليلــى مــراد ونور الهدى ،بالتوازي مــع صعود صباح أيضــاً ،إذ لم ُ
يكن في
اإلمكان تصوُّر بروز صوت برقّة الصوت الفيروزي وطبيعته وطريقة اســتخدامها له في عصر ٍ كان
فيه طرب العالِمات القديرات مثال ً من دون المرور بهذه المرحلة الوسيطة سينمائيّاً وإذاعيّاً.
وهنالك أخيراً مؤث ّ ٌر ُمهمٌّ ،بدأ أ ّ
والً في مصر مع شــعراء مثل أحمد شــوقي وأحمد رامي ،وهو
إعادة منْح صدارة االهتمام إلى الكالم المغنّى ومحاوالت «ترقيته» عن ســوي ّة الزجل والشــعر
شعر الطقاطيق وكثي ٌر منه ماجن. ُ
والمتكرّر المعاني ،وكذلك عن ِ العامّي البسيط التراكيب
343
هكذا بعد قصائد وعامي ّات شــوقي ورامي ،غنّى عبد الوه ّاب أيضاً لشــعراء مثل األخطل الصغير
ّ
الخاصة والمتطوّرة (بشــارة الخوري) .وقد عمد األخوان رحباني أيضاً إلى مدرســة الشعر اللّبناني
كمصدر ٍ أساســي لماد ّة أغانيهما في القصائد ،وفي الزجل ،ومن ثمّ في الشــعر الحديث الفصيح،
وتعاونا أو اقتربا كتاب ًة من كِ بار ٍ مثل سعيد عقل وميشال طراد ثمّ أسعد السبعلي َ
ومن تبعهم.
المجتمع اللّبناني وطموحه السياســي، ٍ
تغييرات جذري ّة في ُ صــوت فيــروز أتى محمــوالً إذن على
ل الدولة اللّبناني ّة نفســها ،بدءاً من عهد كميل شــمعون ،على الرّغم
ســمح باحتضانها من ق َِب ِ
َ ما
األخوين رحباني للّطشــات السياســي ّة في مســرحهما (وقــد َكتب عنه فوّاز طرابلســي
َ مــن حبّ
كتابــاً وافياً بعنوان «فيروز والرحابنة :مســرح الغريــب والكنز واألعجوبة) ،والحقاً أيضاً من ق َِب ِ
ل
تكوين مشــروع
ِ المتعاقبــة التي َعزفت جميعاً باســم العروبة عن
الجهــات الرســمي ّة الســوري ّة ُ
هوي ّة موسيقي ّة سوري ّة حديثة ،فانحصرت بين تقديس التراث الحلبي ،وبين االنفتاح على الجديد
اللّبناني واحتضان نسائمه ومن ثمّ تقليده.
ٍ
ومشــروعات أخرى ،صباح مثــا ً في حيوي ّتها ٍ
أصوات نافســة ٍ مع
ن مشــروعهما اســتمرَّ في ُم َ
لك ّ
ّ
الموشــحات ،ســميرة توفيق ومالمحها األوركســترالي مع ومســرحها ،توفيق الباشــا وتعامله
ّ
البدويّــة ،نجاح ســام البيروتي ّة ،وغير هذه األصوات والموســيقات ،وإن كان تعد ُّد أوجه اإلنتاج
الرحبانــي واكتمــال حضــوره في المشــهد (شــعراً وتلحينــاً وتوزيعاً ومســرحاً وإذاع ًة وســينما
ــم َح للعائلــة بأفضلي ّة ٍ مريحة؛ لكــ ّ
ن اندالع الحرب س َ ٍ
وعالقــات عامّــة وحضوراً عربيّاً) َ ٍ
ومهرجانــات
عام َيعتبر المشــروع الرحباني
ــم هذه األفضليّــة لمصلحة تقدير ٍ ّ
س َ األهليّــة اللّبنانيّــة في رأييَ ،ح َ
ّ
باألخص ،مع حضور فيروز وتعاملها اإلعالمي، مشــروعاً أوحداً غير مســبوق وال ملحوق ،متمي ّزاً
ٍ
طلقات كمــا علّمهــا إي ّاه عاصــي ،بالتعالي على األحداث المباشــرة والتســامي عنها في اتّجــاه ُم
ُ
«المتناحِ رة»؛ ومن ثمّ ، شتركة للجماعات اللّبناني ّة
َ ّ
تشكل جوامع وقواسم ُم بعيدة ي ُمكن لها أن
ــطرة ذلك الزمن الســابق عليها ،زمن اإلنتاج الفنّي ،ولك ْ
ن أيضاً زمن األ َلق بعد الحرب ،تمّت أسْ َ
ع جد ّي االجتماعي والسياســي والبحبوحة المادي ّة؛ وحيث إنّه لم يصدر عن اللّبنانيين أ ّ
ي مشــرو ٍ
آخر سوى المشروع الرحباني ،فكراً وفنّاً ،ومشروع ميشال شيحا وتصوّره لدور البلد نفسه.
ّ
يتفكك عندما بدأ المشروع
ّ
يتفكك ،بين انفصال فيروز حتّى قبيل الحرب األهلي ّة المشؤومة ،كان المشروع الرحباني قد بدأ
عنهما ومحاوالتها األخرى (ســواء ما صدر منها كتعاونها مع ابنها زياد ُ
المشــاغِ ب حول مشروع
344
عائلته ،أم الحقاً زكي ناصيف ثمّ محمّد محســن ،أو مع فيلمون وهبي ،الجناح الشــرقي األخّاذ
مــن المشــروع الرحبانــي ،بدليل اختالف ألحانــه لفيروز عن أعماله األخــرى ،أو ما لم يصدر منها
كاأللحان التي يتكرّر الحديث عنها دوريّاً التي ّ
حضرها لها السنباطي) ،وانتشار األلوان التي كانت
ُمنض ِبطة في إطار المشــروع الرحباني ،مع شــهرة ســميرة توفيق ،أو موضة الفرانكو أراب ،أو
غناء مغنّين لبناني ّين أغنيات مصري ّة ،أو عودة الزجل إلى الزجّالين وأصحاب الهوّارة.
هل ي ُمكن بعد ذلك البناء على ما ي ُمكن اعتباره متبقيّاً من المشروع الرحباني هذا؟
ن أحداً لم َيرث فعال ً المشروع الرحباني بمعنى القدرة على البناء عليه .كما ي ُمكن
يجوز القول إ ّ
الاّلحقين لم يتأثّروا بغناء فيروز (عدا برامج المواهب)،
ن اللّبناني ّين واللّبناني ّات ّ
القول بوضوح إ ّ
ُ
(كمعين شــريف مثال ً). ّ
ظــل نمط الغنــاء الجبلي بصوت وديع الصافي حاضراً في المغنّين بينمــا
ن شــيئاً من ذلك
أمّا في مضمون األغاني وجهدها الموســيقي والتلحيني والتوزيعي ،فال يبدو أ ّ
ن مؤسّ ســي الهوي ّة الوطني ّة اللّبناني ّة (ومعهم فيلمون
ل مباشــر للرحابنة ،بمعنى أ ّ ٌ
دين بشــك ٍ َم
وهبي وغيره القليل) لم ي ُعقبا ،وهذه الهوي ّة ال تزال في الواقع ،إمّا أســيرة إنتاجهما مباشــرة،
أو ينبغي عليها أن تتقب ّل أنّها انفتحت على أغاني سامي كالرك وملحم بركات ونوال الزغبي ...
ع َلحني لبناني إلى حدٍّ ماّ ،
إاّل أ ّ
ن غياب المشروع إلخ ُ
وملحّنيهم؛ ففي حين ي ُمكن تمييز وجود طاب ٍ
ّ ّ
يظل ذلك كلّه أسير االستهالك التجاري.
ّ يؤد ّي إلى أن
ع ُمتكامِ ل ،هو حصراً في إنتاجها نفســه ،وهو إنتاج بالتالي ،فإ ّ
ن إرث فيروز ،كعالمة على مشــرو ٍ
المختلفة في إطــار ٍ واحدّ ،
إاّل أنّه واســع ،لكنّــه إنتاج َظرفــي ،بمعنى أنّه رب ٌْط لعدد ٍ مــن العناصر ُ
ق عناصر فني ّة جديــدة قابلة للبناء عليها ،فلم ي ُنتِج غنــاءُ فيروز تقني ٍ
ّات ي ُمكن ْ ّ
يتوصــل إلى خل ِ لــم
ٍ
أداءات أصعب وأغنى أســبق عليه، ٌ
تبســيط وانتقاءٌ من اســتخدامها وإغناؤها ،ألنّه في نفســه
ن انتهاء المدرســة الشــعري ّة اللّبناني ّة في صيغتها تلك ،يجعل استنساخها كيتشاً بحتاً.
وكذلك فإ ّ
كمــا تــمَّ تجــاوُز أســلوب التوزيع الرحباني .فعلــى الرّغم من الفقــر الحالي في التوزيــعّ ،
إاّل أ ّ
ن
ســتمع بإمكانــه أن ي ُالحِ ــظ أ ّ
ن تطوّر التقني ّات الحديثة في التســجيل ،وفــي إنتاج األصوات ِ ي ُم
أ ّ
(وهو ما ي ُمكن االســتماع إليه في األغنيات األجنبي ّة وفي موســيقات األفالم العربي ّة واألجنبي ّة)
المستقاة من التوزيع األوركسترالي ٍ
مجاالت فائقة للتوزيع تتجاوز االستعماالت القديمة ُ يفتح
الغربي والروسي.
األقل ،يتطلّــب العودة إلى مصــادر أصلي ّة
ّ ن إنتاجــاً جديّــاً ،على مســتوى اللّحــن على
يبــدو إذن أ ّ
ّ
الموشــحات) ال تزال فيها إمكانات غير (المحاوالت اللّبناني ّة ما قبل الرحابنة ،الطرب الشــامي،
345
المعاصرة من أجل استنطاقها وتحويلها َ
كتشفة ،ومساءلتها باالعتماد على التقني ّات واألفكار ُ ُم
إلــى مــوارد ي ُمكــن البناء عليها .ويبدو لي هنا أ ّ
ن أعماالً مثل شــغل ليال شــاكر (مخمّس ،وقد
كتبــت عنــه فــي مجلّة معازف) ،أو شــغل ربيــع مروّة وريما خشــيش تحديداً فــي «دقيقة تأخير
ُ
حتمل
الم َ ْ
نشــره تجاريّــاً حتّــى اآلن ،هي عالمات علــى هذا الطريــق ُ عــن الواقــع» الــذي لم يتمّ
فص ُل المشهد الموسيقي عن االنهيارات
ن هل ي ُمكن ْ
موسيقي جديد وجاد ّ في لبنان .لك ْ
ّ إلنتاجٍ
ُ
المتتابعة في المجتمع والمعرفة والدولة واالقتصاد في لبنان؟
346
الحواشي
((( مايــكل ه .لينفســن ،أصــول أدب الحداثة ،ترجمة يوســف عبد المســيح ثروة ،ط ،1بغداد ،دار الشــؤون
الثقافي ّة العامّة ،1992 ،ص.152
ّ
المثقفة ،ط 1،بيروت ،دار الساقي ،2012 ،ص.76 ((( خالدة سعيد ،يوتوبيا المدينة
((( شوقي ضيف ،الشعر وطوابعه على مرّ العصور ،ط ،2مصر ،دار المعارف ،د.ت ،ص.133
((( محمّــد مهدي الجواهري« ،المفردة حياة حافلة وليســت حروفــاً» ،مجلّة األديب العراقي ،العدد األوّل،
،1961ص.16
((( شوقي ضيف ،الشعر وطوابعه الشعبي ّة على مرّ العصور ،م س ،ص.189
َّ
الموشــحات األندلســي ّة ،الحلقة األولى ،جمْع وكتابة نديم علي الدرويش ،د .ت، ((( فؤاد رجائي ،من كنوزنا،
ص.2
وفؤاد رجائي مؤ ِّلف موسيقي وفنّان سوري أنشا معهداً لتعليم الموسيقى.
((( كمــال ديــب ،بيــروت والحداثة الثقافــة والهوي ّة من جبران إلى فيــروز ،ط ،1بيــروت ،دار النهار،2010 ،
ص.139
( ((1مأخوذ عن أغنية «من روابينا القمر» غناء فيروز وكلمات سعيد عقل وألحان الراحبنة.
( ((1محمّد الشــيخ ،فيروز وسيســيولوجية اإلبداع عند الرحباني ّة – ،1980 – 1960القاهرة ،الهيئة المصري ّة
العامّة للكتاب ،2018 ،ص.731
( ((1منيــر بشــير ( :)1997-1930عــازف عود عراقي بارز ،وصاحب مدرســة متفرّدة فــي العزف على آلة العود
الشرقي ّة.
347
( ((1شــوقي المعــرّي« ،مــن روابينــا القمــر – فيروز والرحابنة وســعيد عقــل» ،موقع فينكــس اإلخباري
اإللكتروني 29 ،شباط /فبراير .2020
( ((1محمّد الشيخ ،فيروز وسيسيولوجية اإلبداع عند الرحباني ّة – ،1980 – 1960م س ،ص .266
( ((1األغانــي التــي تمّت اإلشــارة إليها بدءاً من أغنية «تبقى مي ّل» وحتّــى «بعدك على بالي» ت َ
َناولها جمال
ن أخرى َدخ ََل القمر في متن القصيدة دون العنوان .ففي كتابه فيروز
ل جميل ،وإشارة ألغا ٍ
زياد حد ّاد بتفصي ٍ
ً
كامال عن القمر. ً
فصال سفيرة المحب ّة (ط ،2بيروت ،دار المصوّر العربيَّ )2019 ،
خصص الكاتب
( ((2زياد جمال حد ّاد ،فيروز سفيرة المحب ّة ،م س ،ص .265
ٌ
بداع ( ((2عصــام الجــودر« ،ترجمة البســاطة فــي تجربة الرحابنة -التشــابه الــذي يختلف» ،في الرحابنــةِ :إ
يستعصي على الزمن ،البحرين ،كتاب أطياف ،العدد العاشر ،هيئة البحرين للثقافة واآلثار ،2020 ،ص .76
بكتاب الصديق والشــاعر هنري زغيــب األخوين رحباني طريــق النحل ،جوزيف
ِ ( ((2اســتعنّا بشــك ٍ
ل رئيــس
الرعيدي للطباعة.2001 ،
وشــاركها البطولة
َ (َ ((2دور أد ّتــه فيــروز في األوبريت اللّبناني ّة الشــعبي ّة «جســر القمر» لألخوي ْن رحباني،
الفنّــان نصــري شــمس الد ّين في َدور «شــيخ المشــايخ» .معلومــات ُمدرجة في المنهاج الصــادر عن لجنة
مهرجانات بعلبك الدولي ّة ،المطبعة الكاثوليكي ّة ،بيروت ،1962/7/15ص .184-181
نقاش ثريٍّ مع الباحث واألستاذ الجامعي سلطان ناصر الد ّين .فله ّ
كل الشكر. ٍ ( ((2فكرة تمخّضت بعد
( ((2وردت الكلمتان في أغنية «يا دارة دوري فينا»« :دوّرة دوّرتيني سهل وجبل».
ٍ
بحث ألقي قيها عند جمهور الســمّيعة في المدينة في ( ((2توسّ ــعنا في الكالم على التجربة الرحباني ّة وتل ّ
ّ
في المؤتمر األوّل للثقافة الشعبي ّة في لبنان ،تنظيم «حلقة اللقاء الثقافي» ،بيروت (لبنان).1993/12/11 ،
البحث الموســوم «المدينة واألغنية» نُشــر في مجلّة تاريخ العرب والعا َلم ،العدد ،149بيروت ،أي ّار/مايو
ُ
-حزيران/يونيو 1994ص ص .143-136وأعيد نشــره في المجلّة عينها في العدد ،226نيســان/أبريل ،2004
ص ص .63-56
( ((2إبراهيم العريس ،أوراق من ذاكرة بيروت خالل القرن العشــرين ،منشــورات بيروت عاصمة الثقافة،
،1999ص 36و.39
( ((2ي ُعزى هذا الرأي إلى الشيخ طه الولي ،ونقله عنه الباحث محمّد أبي سمرا.
348
( ((3عبارة تقريظي ّة لميخائيل نعيمة َو َر َدت في «الغربال الجديد»َ ،
وأدرجها في رســالة إلى توفيق يوســف
«الصبي األعرج» ،في .1936/11/15
ّ عوّاد على أثر ظهور كتاب
ت فــي أطروحــة دبلوم غير مطبوعة بعنوان ظاهرة األخويــن رحباني /فيروز ،الجامعة ( ((3معلومــات َو َر َد ْ
اللّبناني ّة – معهد العلوم االجتماعي ّة ،الفرع األوّل ،من إعداد الباحث محمّد أبي سمرا ،وبإشراف األستاذَي ْن
ّ
القش وأحمد بيضون.1985 ، سهيل
( ((3جوزيف عبيد ،الصالة في أغاني فيروز ،ط ،2لبنان ،جامعة الروح القدس الكسليك ،1987 ،ص .5
ّ
(ملــف ،»)5/موقــع «الناقــد العراقي»، ( ((3أنســي الحــاجّ« ،جماليّــات ( | )2لــــــن تَجديـــــه يـــــا فيـــــروز
.alnaked-aliraqi.net ،2017/11/27
( ((3فرانس إكزافير غروبر :)1863-1787( Franz Xaver Gruberموسيقي ومؤلّف كنسي نمساوي.
( ((3جيمس لورد بيربون :)1893-1822( James Lord Pierpontوموسيقي وعازف أورغن ومؤلّف أميركي.
( ((4قيصر الزغبي ( :)1937-1877طبيب وموسيقي من قرنة شهوان .ألّف ولحّن عدداً من التراتيل ،أشهرها
«يا مريم البكر ُف ِ
قت» ،التي تعود إلى سنة .1904
( ((4أنظــرMac Farquhar, “This Pop Diva Wows ‘Em In Arabic”, The New York Times, May 18, :
.1999, Section E, Page 1
( ((4أنســي الحــاجّ« ،جماليّــات ( | )2لــــــن تَجديـــــه يـــــا فيـــــروز (ملــف ،»)5/موقــع «الناقــد العراقي»،
.alnaked-aliraqi.net ،2017/11/27
( ((4من حديث نُشر في مجلّة «الشعلة» في نيسان /أبريل ،1956وذكره محمود الزيباوي في مقا ٍ
ل نُشر
ُ
«المدن» اإللكتروني ّة يوم الخميس في .2022/6/23 له في جريدة
349
( ((4تأتي هذه الفكرة عن طقوس العبور ورب ْطها باألبطال المؤسّ ســين في كِ تاب فوّاز طرابلســي :فيروز
والرحابنة ،مسرح الغريب والكنز واألعجوبة ،ط ،1بيروت ،رياض الري ّس للكتب والنشر.2006 ،
( ((4فــي بعــض األعمال تمثّــل فيروز امرأ ًة من عامّة الشــعب تنتمي إلى الحيــاة اليومي ّة وتعمل كبائعة
محل بيع صحــون) ،أو هي راعيةّ (بي ّاعــة البنــدورة ،بي ّاعــة الخواتــم ،بائعة القناديــل ،بائعة الزينة ،وصاحبــة
لديهــا عنــزة وخمس دجاجات (وصفة الراعية كانت لصيقة بها في كثير من األعمال اإلذاعي ّة واالسكتشــات
مثل هيفا والديب ،إلى راعية) ،أو أنّها امرأة ثري ّة عانت في ماضيها من الســجن ظلماً ،أو َملكة .في واحد
لتصل إلى مرتبة المخلّص
َ مــن أكثــر األعمال اكتماالً من الجانب الفنّي هو «جبال الصوّان» ،نجدها تســمو
ّ
خاصة ،فهي ح النوم» حال ًة
شكل قرنفل في مسرحي ّة «ص ّفتحمل بذلك صف ًة ديني ّة وسياسي ّة في آن معاً .ت ُ ِّ
علــى طرافتهــا غير واقعي ّة :مشــرَّدة تهد َّم ســقف َبيتها وصــارت تعيش تحت المظلّــة ،وال مانع لديها من
النزول إلى البئر للبحث عن الختم.
ن منتورة هي التي سرقته لتساعد هولو قاطع الطريق ،يتوجَّه( ((5أمام سرقة كيس الغلّة والتلميحات بأ ّ
ي غضب :يا منتورة جاية عياد،
ن عذب يوحي بالعتــاب ومن دون أ ّ ّ
ســكان الضيعــة إلى منتورة قائلين في لح ٍ
وعنّا والد ،وعدناهن بتياب جداد .شو منقلن شو منعملّن ،منقلّن ضاعت غلّتنا ومنتورة هي الـ خانتنا؟
وسرعان ما يزول اللّوم مع قيام قاطع الطرق هولو بإعادة الغلّة التي سرقها وتعليق القنديل الذي كان
عدوّه ،تاركاً لمنتورة رسالة حبّ لصوتها :يا منتورة غنّي ،هون وضلّي غنّي ،بيجوز بشي ليلة يمرق خيال من
بعيد يسمعله غنّية ويكمل دربه لبعيد ع األرض المنسي ّة..
(« ((5أفالم خالدة ‹بي ّاع الخواتم› ،خالفات في الكواليس ونجاح مبهر على الشاشة»t.ly/x91g ،
( ((5محمّد منصور ،الخارطة الشــعري ّة في األغنية الرحباني ّة ،ط ،1دمشــق ،ممدوح عدوان للنشر والتوزيع،
،2009ص.196
( ((5ســليمان الحقيــوي« ،تشــكيل المعنى وبناء السّ ــرد -بحث فــي خصوصي ّات اإلبداع فــي ثالثي ّة اإلخوة
رحباني السينمائي ّة» ،ضمن كتاب أطياف .الرحابنة إبداع يستعصي على الزّمن ،ط ،1البحرين ،منشورات هيئة
البحرين للثقافة واألثار.52 ،2020 ،
( ((5ميسون علي« ،المسرح الغنائي الرحباني والبحث عن اليوتوبيا المفقودة» ،مجلّة الحياة المسرحي ّة،
الهيئة العامّة السوري ّة للكتاب ،العدد ،79-78ص.120
350
ونظمت 598محاضرة ،ونَشرت أكثر من ّ حاضراً من لبنان ومن دو ٍ
ل عربي ّة وإفريقي ّة وأوروبي ّة وأميركي ّة، ُم ِ
ّ ّ
ستّين كتاباً في «منشورات الندوة اللبناني ّة» باللغات العربي ّة والفرنسي ّة واإلنكليزي ّة.
(« ((5مواقف» مجلّة فصلي ّة ثقافي ّة فكري ّة صدرت في بيروت في العام 1968تحت شعار« :للحري ّة واإلبداع
قفينوالتغيير» ،وتوقّفت عن الصدور في العام .1993أصدرها الشاعر أدونيس بالتعاون مع عدد ٍ من المث ّ
والكتّاب والفنّانين ،بعد أن غادر مجلّة «شعر» التي أسهم في تأسيسها مع الشاعر اللّبناني يوسف الخال
في العام .1957
ّ
والمفكرين وليس نوعاً ن واألدب تَجمع جميع أنــواع المث ّ
قفين ( ((5فــي أواخر الســتّيني ّات كانت دار الف ّ
ِّ
المفكر الفيلســوف واحــداً ،فــكان يلتقي فيهــا جميع ُ
المبدعين فــي ميادين إبداعهــم ُ
المختلفة ،فيلتقي
خليط من النّاجحين ُ
المتمي ّزين في أعمالهم، ٌ بالمعماري والشاعر بالنحّات واألديب بالرسّ ام ،وكان يرتادها
ن واألدب في تلك الفترة نموذجاً فريداً كظاهرة ثقافي ّة ال مثيل لها في المشرق العربي. فكانت دار الف ّ
ٍّ
لكل من :ســعدي يوســف ،بدوي الجبل ،بشر فارس ،ألبير أديب، ( ((5ضمّ العدد ُ األخير (رقم ،)44نصوصاً
نازك المالئكة ،فدوى طوقان ،إبراهيم شكر اللّه ،نذير العظمة ،رفيق المعلوف ،موسى النقدي ،أدونيس،
فؤاد رفقة ،ميشــال طراد ،يوســف الخال ،إميلي ديكنســون ،عزرا باوند ،جيمينيز ،رينه حبشي ،أنطون كرم،
بيار روبان.
( ((6في أواخر خمســيني ّات القرن العشــرين ،تـــوثّقت صالت الشــاعر العراقي بدر شــاكر السي ّاب بالشاعر
أدونيــس ويوســف الخــال وبالمجلّة وعدد من الشــعراء المتّصلـــين بها .وكان في صلــب اهتمام المجلّة
والمتّصلين بها من الشعراء ،عـلى الرّغم ممـّا قيل عنها وعنهم ،نقل أمثلة من الشعر األوروبي واألميركي
دراسات نقدي ّة عن ذلك الشعر ،إلى اللّغة العربي ّة.
ٍ وما يتيسّ ر من
( ((6صدر بالفرنسي ّة بعنوان ،Fairouz La voisine de la luneمن تأليف إيلي األشقر.
351
Fairouz Final Cover new 2.pdf 1 12/28/2022 11:32:31 AM
وﻃﻦ اﺳﻤﻪ
ٌ
ّ
ﺧﺎص إﺻﺪار
ﺧﺎص
ّ إﺻﺪار
ِ
وأﻧﻤﺎط وﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﻘﺎﻻﺗِﻬﻢ
ِ ﺒﺮ ُز ﻫﺬا اﻹﺻﺪار ،ﻋﻠﻰ ﺗﻌﺪ ِ د ﻣﺆ ﻟﻔﻴﻪ ،وﺗﻨﻮ ِّع ﺑﻠﺪاﻧِﻬﻢ واﺧﺘﺼﺎﺻﺎﺗِﻬﻢ ﻳُ ِ
اﻻﻋﺘﺮاف ﺑﻌﺒﻘﺮﻳ ّ ِﺔ اﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ ،ﻧﺼﻮﺻﺎً وأﻟﺤﺎﻧﺎً وﻣﻮﺳﻴﻘﺎ ،وﺑﻔﺮاد ِة ﻓﻴﺮوز ،ﺻﻮﺗﺎًِ ﻣﻘﺎرﺑﺎﺗِﻬﻢ ،إﺟﻤﺎﻋﺎً ﻋﻠﻰ
أدق اﻟﻤﻌﺎﻳﻴﺮ" ،رﻣﺰاً" ﻟﺒﻨﺎﻧﻴّﺎً ،و"أﻳﻘﻮﻧﺔً" ﻋﺮﺑﻴّﺔً ،و"ﻧﺠﻤﺔً"
وﻓﻖ
َ إﺟﻤﺎﻋﻬﻢ ﻋﻠﻰ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ،َ ﺒﺮ ُز
وأداءً ،ﻛﻤﺎ ﻳ ُ ِ
ﻋﺎ َﻟﻤﻴ ّﺔ ،و"رﺳﻮﻟﺔً" إﻧﺴﺎﻧﻴ ّﺔ.
ٌ
وﻃﻦ اﺳﻤﻪ
ٌ
َﺖ ْ ُ ّ
واﻟﻮﻃﻦ اﻟﻤﻘﺼﻮد ُ ﻫﻨﺎ ﻣﺘﻌﺪّد ُ اﻟﻬﻮﻳ ّ ِﺔ واﻷﺑﻌﺎد .إﻧﻪ ﻟﺒﻨﺎن ،اﻷرض اﻟﺘﻲ أﻧ َﺒﺘ ْ
ُ وﺣﻲ ﻫﺬه اﻟﺮؤى.
اﻟﺰﻣﺎن ﺑﻤﺜﻠﻬﺎ ،وﻫﻮ اﻟﺒﻠﺪ ُ اﻟﺬي ﻏﻨّﻮ ُه وأﻏﻨَﻮ ُه
ُ َﺖ ﻓﻴﺮوز واﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ ،ﻫﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﺘﻲ ﻗﻠّﻤﺎ َﻳﺠﻮد ُواﺣﺘ ََﻀﻨ ْ
ﺑﺈﺑﺪاﻋﺎﺗِﻬﻢ اﻟﺜﺮﻳ ّﺔ.
ﻫﻤﻮم
َ وإﻧﺠﺎزات ﺣﻀﺎرﺗﻬﺎ ،وﺣﻤﻠﻮا
ِ وﻣﺂﺛﺮ ﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ
ِ ﺣﻮاﺿﺮﻫﺎ
ِ وﻫﻮ أﻳﻀﺎً دﻧﻴﺎ اﻟﻌﺮب اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻨّﻮا ﺑﺄﻣﺠﺎ ِد
اﻟﻤﺜﺎﻟﻲ اﻟﻤﺘﺨﻴ ¦ﻞ
اﻟﻮﻃﻦ اﻟﺒﺪﻳﻞ ،اﻟﻌﺎ َﻟ ُ
ﻢ ُ ﻧﻀﺎﻻت ﺷﻌﻮﺑﻬﺎ وﻋﺪاﻟ ِﺔ ﻗﻀﺎﻳﺎﻫﺎ .وﻫﻮ ِ ﺣﺎﺿﺮﻫﺎ ،وﺗﻀﺎﻣﻨﻮا ﻣﻊ
واﻷﻋﺪل ،وﺳﻌﻴﺎً إﻟﻰ
ِ اﻷﺟﻤﻞ
ِ ِ
وﺑﻬﺪف ﺗﻐﻴﻴﺮه إﻟﻰ اﻟﻮاﻗﻊ وﺗﺮد ّﻳﻪ،
ِ ِ
ﻟﺒﺆس اﻟﺬي رﺳﻤ ُﻪ اﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ ،رﻓﻀﺎً
اﻻرﺗﻘﺎءِ ﺑﻪ إﻟﻰ اﻷﻋﻠﻰ واﻷﺳﻤﻰ.