You are on page 1of 353

‫‪Fairouz Final Cover new 2.

pdf 1 12/28/2022 11:32:31 AM‬‬

‫وﻃﻦ اﺳﻤﻪ‬
‫ٌ‬
‫ّ‬
‫ﺧﺎص‬ ‫إﺻﺪار‬

‫ﺧﺎص‬
‫ّ‬ ‫إﺻﺪار‬
‫ِ‬
‫وأﻧﻤﺎط‬ ‫وﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﻘﺎﻻﺗِﻬﻢ‬
‫ِ‬ ‫ﺒﺮ ُز ﻫﺬا اﻹﺻﺪار‪ ،‬ﻋﻠﻰ ﺗﻌﺪ ‪ِ  ‬د ﻣﺆ ﻟﻔﻴﻪ‪ ،‬وﺗﻨﻮ ِّع ﺑﻠﺪاﻧِﻬﻢ واﺧﺘﺼﺎﺻﺎﺗِﻬﻢ‬ ‫ﻳُ ِ‬
‫اﻻﻋﺘﺮاف ﺑﻌﺒﻘﺮﻳ ّ ِﺔ اﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ‪ ،‬ﻧﺼﻮﺻﺎً وأﻟﺤﺎﻧﺎً وﻣﻮﺳﻴﻘﺎ‪ ،‬وﺑﻔﺮاد ِة ﻓﻴﺮوز‪ ،‬ﺻﻮﺗﺎً‬‫ِ‬ ‫ﻣﻘﺎرﺑﺎﺗِﻬﻢ‪ ،‬إﺟﻤﺎﻋﺎً ﻋﻠﻰ‬
‫أدق اﻟﻤﻌﺎﻳﻴﺮ‪" ،‬رﻣﺰاً" ﻟﺒﻨﺎﻧﻴّﺎً‪ ،‬و"أﻳﻘﻮﻧﺔً" ﻋﺮﺑﻴّﺔً‪ ،‬و"ﻧﺠﻤﺔً"‬
‫‬ ‫وﻓﻖ‬
‫َ‬ ‫إﺟﻤﺎﻋﻬﻢ ﻋﻠﻰ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ‪،‬‬‫َ‬ ‫ﺒﺮ ُز‬
‫وأداءً‪ ،‬ﻛﻤﺎ ﻳ ُ ِ‬
‫ﻋﺎ َﻟﻤﻴ ّﺔ‪ ،‬و"رﺳﻮﻟﺔً" إﻧﺴﺎﻧﻴ ّﺔ‪.‬‬

‫وﻃﻦ اﺳﻤﻪ ﻓﻴﺮوز‬


‫ﻘﻴﻢ ُﻣﻌﺎ َدﻟ ًﺔ ﺑﻴﻦ اﻟﻮﻃﻦ وﻓﻴﺮوز‪ ،‬ﻓﻘﺪ ﺗﻢ¦ اﺧﺘﻴﺎ ُره ﻣﻦ‬ ‫ﻋﻨﻮان ﻫﺬه اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻤﻘﺎﻻت اﻟﺬي ﻳ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫أﻣّﺎ‬

‫ٌ‬
‫وﻃﻦ اﺳﻤﻪ‬
‫ٌ‬
‫َﺖ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫واﻟﻮﻃﻦ اﻟﻤﻘﺼﻮد ُ ﻫﻨﺎ ﻣﺘﻌﺪّد ُ اﻟﻬﻮﻳ ّ ِﺔ واﻷﺑﻌﺎد‪ .‬إﻧﻪ ﻟﺒﻨﺎن‪ ،‬اﻷرض اﻟﺘﻲ أﻧ َﺒﺘ ْ‬
‫ُ‬ ‫وﺣﻲ ﻫﺬه اﻟﺮؤى‪.‬‬
‫اﻟﺰﻣﺎن ﺑﻤﺜﻠﻬﺎ‪ ،‬وﻫﻮ اﻟﺒﻠﺪ ُ اﻟﺬي ﻏﻨّﻮ ُه وأﻏﻨَﻮ ُه‬
‫ُ‬ ‫َﺖ ﻓﻴﺮوز واﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ‪ ،‬ﻫﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﺘﻲ ﻗﻠّﻤﺎ َﻳﺠﻮد ُ‬‫واﺣﺘ ََﻀﻨ ْ‬
‫ﺑﺈﺑﺪاﻋﺎﺗِﻬﻢ اﻟﺜﺮﻳ ّﺔ‪.‬‬

‫ﻫﻤﻮم‬
‫َ‬ ‫وإﻧﺠﺎزات ﺣﻀﺎرﺗﻬﺎ‪ ،‬وﺣﻤﻠﻮا‬
‫ِ‬ ‫وﻣﺂﺛﺮ ﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ‬
‫ِ‬ ‫ﺣﻮاﺿﺮﻫﺎ‬
‫ِ‬ ‫وﻫﻮ أﻳﻀﺎً دﻧﻴﺎ اﻟﻌﺮب اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻨّﻮا ﺑﺄﻣﺠﺎ ِد‬
‫اﻟﻤﺜﺎﻟﻲ اﻟﻤﺘﺨﻴ ¦ﻞ‬
‫‪ ‬‬ ‫اﻟﻮﻃﻦ اﻟﺒﺪﻳﻞ‪ ،‬اﻟﻌﺎ َﻟ ُ‬
‫ﻢ‬ ‫ُ‬ ‫ﻧﻀﺎﻻت ﺷﻌﻮﺑﻬﺎ وﻋﺪاﻟ ِﺔ ﻗﻀﺎﻳﺎﻫﺎ‪ .‬وﻫﻮ‬ ‫ِ‬ ‫ﺣﺎﺿﺮﻫﺎ‪ ،‬وﺗﻀﺎﻣﻨﻮا ﻣﻊ‬
‫واﻷﻋﺪل‪ ،‬وﺳﻌﻴﺎً إﻟﻰ‬
‫ِ‬ ‫اﻷﺟﻤﻞ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وﺑﻬﺪف ﺗﻐﻴﻴﺮه إﻟﻰ‬ ‫اﻟﻮاﻗﻊ وﺗﺮد ّﻳﻪ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ﻟﺒﺆس‬ ‫اﻟﺬي رﺳﻤ ُﻪ اﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ‪ ،‬رﻓﻀﺎً‬
‫اﻻرﺗﻘﺎءِ ﺑﻪ إﻟﻰ اﻷﻋﻠﻰ واﻷﺳﻤﻰ‪.‬‬

‫اﻟﻮﻃﻦ اﻟﺬي ﺗﻮﻟّﺖ ﻓﻴﺮوز‪ ،‬وﻣﺎ زاﻟﺖ ﺗﺘﻮﻟّﻰ ّ‬


‫ﻛﻞ ﻳﻮم‪ ،‬ﻧَﻘْ َﻠﻨﺎ إﻟﻰ ﺳﺎﺣﺎﺗِﻪ وﻓﻀﺎءاﺗﻪ‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫إﻧّﻪ‬

‫ﻣﺆﺳّ ﺴﺔ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻌﺮﺑﻲ‬


‫ﺷﺎرع اﻟﺠﺎﻣﻊ اﻟﻌﻤﺮي‪ ،‬اﻟﻮﺳﻂ اﻟﺘﺠﺎري‪ ،‬ﺑﻴﺮوت‬
‫ص‪.‬ب‪ 11-524 :.‬ﺑﻴﺮوت ‪ -‬ﻟﺒﻨﺎن‬ ‫ّ‬
‫ﻣﺨﺼﺺ ﻟﻠﺒﻴﻊ‬ ‫ﻏﻴﺮ‬
‫ﻫﺎﺗﻒ‪ +961 1 99 71 00 :‬ﻓﺎﻛﺲ‪+961 1 99 71 01 :‬‬
‫‪www.arabthought.org - info@arabthought.org‬‬
‫العربي‬
‫ّ‬ ‫لمؤسسة الفكر‬
‫ّ‬ ‫حقوق الطبع محفوظة‬

‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ي جزء منـه أو تخزينه في نطاق‬
‫الخـاص مـن «أفق» أو أ ّ‬ ‫ال ي ُسـمح بإعـادة نشـر هـذا اإلصـدار‬
‫ل من األشـكال من دون اإلشـارة إلى المصدر‪.‬‬
‫ي شـك ٍ‬
‫اسـتعادة المعلومات أو نقله بأ ّ‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪2022‬م – ‪1444‬هـ‬

‫النصوص المنشورة في هذا اإلصدار تعب ّر عن وجهات نظر كتّابها‪ ،‬وال تعكس بالضرورة رأي‬
‫العربي»‬
‫ّ‬ ‫«مؤسّ سة الفكر‬
‫العويط‬
‫إشراف‪ :‬أ‪ .‬د‪ .‬هنري َ‬

‫هيئة التحرير‪ :‬أ‪ .‬أحمد فرحات ‪ -‬د‪ .‬رفيف رضا صيداوي‬

‫ّ‬
‫الخاص من إعداد سامية الحمصي داغر‪ ،‬وهي مستوحاة من صور‬ ‫*رسومات هذا اإلصدار‬
‫ّ‬
‫منصات إلكتروني ّة‬ ‫متداولة ومنشورة على عد ّة‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫تسلسلة‪ ،‬وأثبتت هذه الحواشي في آخر هذا اإلصدار‬ ‫*أعطيت حواشي المقاالت أرقاماً ُم‬
‫على الصفحات ‪.351 – 347‬‬
‫مـدخـــــل‬

‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫تكريم للســي ّدة فيروز فــي عيد ميالدها‬ ‫الخــاص من «أفق» أردنــاه بادر َة‬
‫ُّ‬ ‫هــذا اإلصــدا ُر‬
‫ّ‬
‫انفكت‬ ‫وعربون شكر ٍ على ما‬
‫َ‬ ‫الثامن والثمانين‪ ،‬احتفاءً بصوتها اآلسر وأدائها المتمي ّز‪،‬‬
‫عمق المشاعر والذكريات واألحالم‪ .‬وهو‬ ‫ومفجر ٍ ل ُ‬ ‫ض ّ‬
‫خاّلبٍ‬ ‫اآلالف منّا بفي ٍ‬
‫َ‬ ‫أغانيها تغم ُر‬
‫ِّ‬
‫يوجه‪ ،‬من خاللها‪ ،‬تحي ّ َة تقدير ٍ إلى جميع الذين أســهموا في اكتشــاف موهبتها الفريدة‬ ‫ِّ‬
‫وتوفير دواعــي تألّقها‬
‫ِ‬ ‫إطالق مســيرتها الفنيّــة االســتثنائي ّة‬
‫ِ‬ ‫ورعايتهــا وصقلهــا‪ ،‬وفــي‬
‫نصوص أغانيها ومؤ ِّلفي موسيقاها وألحانها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وتَسنّمها ذرى النجاح الباهر‪ ،‬مِ ن واضعي‬
‫ثالثي الرحابنة الفذّ‪ :‬منصور وعاصي وزياد‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وفي طليعتهم‬

‫الفن بصورة ٍ عامّة‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫وفي هذا اإلطار‪ ،‬تتجلّى في هذه المجموعة من المقاالت نظرتُنا إلى‬
‫ّ‬
‫الخاّلق التي تتجسّ ــد ُ‬ ‫اإلبداع‬ ‫طاقات‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫اإلنســان من‬ ‫للتعبير عمّا يختزنه‬ ‫بوصفه أدا ًة ُمثلى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫خاصة‬ ‫عاديــات الزمان وتعصــى على النســيان‪ ،‬وتتجلّى فيها بصــورة ٍ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫تقاوم‬ ‫روائــع‬
‫َ‬ ‫فــي‬
‫نظرتُنا إلى الموسيقى‪ ،‬بوصفها لغ ًة مشترك ًة وجامعة‪ ،‬عابر ًة للحدو ِد الجغرافي ّ ِة الفاصلة‪،‬‬
‫الحوار والتفاعل‪ .‬وما‬ ‫عط ُ‬
‫ــل‬ ‫التواصل وت ُ ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تمنع‬ ‫الحواجز التي‬ ‫ســائر‬ ‫اختراق‬ ‫وقــادر ًة على‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اختيا ُرنا ظاهر َة فيروز والرحابنة بالذّات موضوعاً إلصدارنا هذا ّ‬
‫إاّل ألنّهم‪ ،‬فضال ً عمّا يتحلّى‬
‫تخصيص ظاهرتهم‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫مات تسوّغ بذاتها‬ ‫س‬ ‫ع وأصالة ٍ وتجديد‪ ،‬وهي ِ‬
‫رقي وإبدا ٍ‬
‫ٍّ‬ ‫به فنُّهم من‬
‫المشــتركات‬
‫َ‬ ‫ألمع وأجلى وجــو ِه منظوم ِة‬
‫ِ‬ ‫بأكثــر مــن كتــاب‪ ،‬خي ُر َمــن يمثّل وجهاً مــن‬
‫إبرازها والبناءِ عليها‬
‫ِ‬ ‫الثقافي ّ ِة العربي ّة التي ال تني مؤسّ ســتُنا تدعو‪ ،‬وبإلحاحٍ شــديد‪ ،‬إلى‬
‫العربي المنشود‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التكامل‬
‫ِ‬ ‫تحقيق‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الهادف إلى‬ ‫المشروع‬
‫ِ‬ ‫في‬

‫ُ‬
‫يمتاز‬ ‫اإلصــدار‬ ‫ن هذا‬ ‫الكتــب التي تناولــت هذه الظاهرة كثيــرة‪ .‬غير أ َّ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫نعــرف أ ّ‬ ‫نحــن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ع‬ ‫عربي بعينــه‪ ،‬وال يقتص ُر على نو ٍ‬ ‫نســب إلــى مؤ ِّل ٍ‬
‫ف واحد‪ ،‬وال ينحصــ ُر في بلد ٍ‬ ‫بأنّــه ال ي ُ َ‬
‫ٍّ‬
‫الدول‬ ‫ِ‬
‫مختلف‬ ‫جماعي‪ ،‬ينتمي المشــاركون في تأليفه إلــى‬ ‫ٌ‬
‫عمــل‬ ‫كتابــي معيّــن‪ .‬فهو‬
‫ِ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٍّ‬

‫‪5‬‬
‫ومقاالت تت ّ ُ‬
‫سم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫دراســات‬ ‫ســياقات مؤتلفة ٍ ومتكاملة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫العربي ّة‪ ،‬ويضمُّ بين دفّتيه‪ ،‬في‬
‫ُ‬
‫يغلــب عليها‬ ‫ٍ‬
‫وشــهادات‬ ‫األكاديمــي ومضامينها الفكري ّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫البحثــي ومنحاهــا‬
‫ّ‬ ‫بطا َبعهــا‬
‫التوثيق‬
‫ِ‬ ‫الذاتــي والخواطــ ُر التأملي ّة‪ ،‬وتتجاو ُر علــى امتدا ِد صفحاتِه «مناهــ ُ‬
‫ج»‬ ‫ّ‬ ‫الطا َب ُ‬
‫ــع‬
‫والتحليل والتقييم‪.‬‬
‫ِ‬

‫ِ‬
‫وأنماط‬ ‫وموضوعــات مقاالتِهم‬
‫ِ‬ ‫وعلــى تعــد ّ ِد مؤ ِّلفيه‪ ،‬وتنــو ِّع بلدانِهم واختصاصاتِهــم‬
‫االعتراف بعبقري ّ ِة الرحابنة‪ ،‬نصوصاً وألحاناً‬
‫ِ‬ ‫مقارباتِهم‪َ ،‬ي ُ‬
‫برز في هذا اإلصدار إجما ُعهم على‬
‫أدق‬
‫ِّ‬ ‫وفق‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫يبرز فيه إجما ُعهم على اعتبارها‪،‬‬ ‫وموســيقا‪ ،‬وبفراد ِة فيروز‪ ،‬صوتاً وأداءً‪ ،‬كما‬
‫المعايير‪« ،‬رمزاً» لبنانيّاً‪ ،‬و«أيقونةً» عربيّةً‪ ،‬و«نجمةً» عالمي ّة‪ ،‬و«رسولةً» إنساني ّة‪.‬‬

‫قيم معادل ًة بين الوطن وفيروز‪ ،‬فقد‬ ‫ُ‬


‫عنوان هذه المجموعة من المقاالت الذي ي ُ ُ‬ ‫وأمّا‬
‫والوطن المقصود ُ هنا متعدّد ُ الهوي ّ ِة واألبعاد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تمّ اختيا ُره من وحي هذه الرؤى‪.‬‬

‫َت فيروز والرحابنة‪ ،‬هذه الظاهرة التي قلّما َيجود ُ‬ ‫ُ‬


‫األرض التي أن ْ َبت ْ‬
‫َت واحت ََضن ْ‬ ‫إنّــه لبنــان‪،‬‬
‫الزمان بمثلها‪ ،‬وهو البلد ُ الذي غنّو ُه وأغنَو ُه بإبداعاتِهم الثري ّة‪.‬‬
‫ُ‬

‫وإنجازات حضارتها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ومآثر تاريخهــا‬
‫ِ‬ ‫حواضرها‬
‫ِ‬ ‫وهــو أيضــاً دنيا العرب التي تغنّوا بأمجــا ِد‬
‫نضاالت شعوبها وعدال ِة قضاياها‪.‬‬
‫ِ‬ ‫هموم حاضرها‪ ،‬وتضامنوا مع‬
‫َ‬ ‫وحملوا‬

‫الواقع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لبؤس‬ ‫المثالي المتخي َّل الذي رسم ُه الرحابنة‪ ،‬رفضاً‬
‫ُّ‬ ‫م‬‫الوطن البديل‪ ،‬العا َل ُ‬
‫ُ‬ ‫وهو‬
‫واألعدل واألهنى‪ ،‬وسعياً إلى االرتقاءِ به إلى األعلى‬
‫ِ‬ ‫األجمل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وبهدف تغييره إلى‬ ‫وترد ّيه‪،‬‬
‫واألسمى والمطلق‪.‬‬

‫الوطن الذي تولّت فيروز‪ ،‬وما زالت تتولّى ّ‬


‫كل يوم‪ ،‬نَقْ َلنا إلى ساحاتِه وفضاءاته‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫إنّه‬

‫العربي‬
‫ّ‬ ‫مؤسّ سة الفكر‬
‫بيروت في ‪2022 / 11 / 20‬‬

‫‪6‬‬
‫المحتــويــــات‬
‫ُ‬
‫فيـروز التي في المكـان والزّمان‬ ‫ُ‬
‫فيـروز التي في الوجدان‪..‬‬
‫د‪ .‬عبد اإلله بلقزيز ‪11.....................................................................................................................‬‬
‫ُ‬
‫لتكن هذه األيقونة‪ /‬الملكة‬ ‫تريدون خالص لبنان؟‬
‫نبيه البرجي ‪18...............................................................................................................................‬‬

‫الرحباني‬
‫ّ‬ ‫فيروز‪ :‬سماء الكوكب‬
‫هنري زغيب ‪28.............................................................................................................................‬‬

‫ُ‬
‫والمستقبل‬ ‫فيروز ُمطربة الماضي والحاضر‬
‫د‪ .‬رفيف رضا صيداوي ‪36.............................................................................................................‬‬

‫فيروز الكلمات‬
‫د‪ .‬سعد البازعي ‪47.......................................................................................................................‬‬

‫سيرتُنا الذاتي ّة‬


‫َ‬ ‫فيروز‪..‬‬
‫مؤي ّد الشيباني ‪60........................................................................................................................‬‬

‫الظاهرة الفيروزي ّة‪ :‬فرادة الهوي ّة و ُعمق المضامين‬


‫د‪ .‬نادية هناوي ‪72........................................................................................................................‬‬

‫السي ّدة فيروز وكلمات جوزيف حرب‬


‫د‪ .‬زياد جمال حد ّاد ‪80..................................................................................................................‬‬

‫التعبير عن المعاني في أغاني فيروز‪ :‬قراءة تحليلي ّة‬


‫د‪ .‬سعد اللّه آغا القلعة ‪90...........................................................................................................‬‬

‫مقرّ القمر في أغاني السهر عند الرحابنة وفيروز‬


‫د‪ .‬عصام الجودر ‪108....................................................................................................................‬‬

‫ي السّ احر‬ ‫ُ‬


‫خيال الفيروز ّ‬ ‫دع والمِ‬ ‫ُ‬
‫المب َت َ‬ ‫ّحباني‬ ‫ُ‬
‫العالم الر‬
‫ّ‬
‫د‪ .‬نادر سراج ‪121...........................................................................................................................‬‬

‫الدالالت والمفاعيل القومي ّة ألغاني فيروز في بالد الشام‬


‫د‪ .‬نبيل سليمان ‪132.....................................................................................................................‬‬

‫‪7‬‬
‫الفلسطيني‬
‫ّ‬ ‫السي ّدة فيروز والولد‬
‫د‪ .‬فيصل در ّاج ‪142.........................................................................................................................‬‬

‫ُ‬
‫باب َمدينتِنا‬ ‫لن يُقْفَ ل‬
‫د‪ .‬جوني منصور ‪146......................................................................................................................‬‬

‫الدرامي‬
‫ّ‬ ‫الغنائي‬
‫ّ‬ ‫لفيروز أيضاً «ثنائي ّتها» في تعبيرها‬
‫د‪ .‬فيكتور سحّاب ‪156....................................................................................................................‬‬

‫فيروز‪ ..‬قوّة لبنان النّاعمة‬


‫محمّد فرحات ‪168.........................................................................................................................‬‬
‫ٌ‬
‫صوت يدعو إلى الصالة‬ ‫فيروز‪،‬‬
‫األب بديع الحا ّ‬
‫ج ‪173.....................................................................................................................‬‬

‫فيروز على خشبة المسرح‬


‫د‪ .‬حنان ّ‬
‫قصاب حسن ‪185.............................................................................................................‬‬

‫بناء األيقونة‪ ..‬فيروز في شخصي ّاتها المسرحي ّة‬


‫غسّ ان الشهابي ‪192......................................................................................................................‬‬

‫ثالثي ّة فيروز السينمائي ّة‬


‫د‪ .‬سليمان الحقيوي ‪200.............................................................................................................‬‬

‫العربي‬
‫ّ‬ ‫فيروز في الخليج‬
‫د‪ .‬حسن مدن ‪207........................................................................................................................‬‬

‫وأم كلثوم‪ ..‬االئتالف واالختالف‬


‫ّ‬ ‫فيروز‬
‫كريم جمال ‪216............................................................................................................................‬‬

‫عن فيروز والرحابنة في مصر‬


‫عمرو ماهر ‪224...........................................................................................................................‬‬

‫فيروز‪ ...‬زهرة ُمتَفَ ت َ‬


‫ِّحة في حديقة الذاكرة المصري ّة‬
‫محبّ جميل ‪230..........................................................................................................................‬‬

‫بين وقار الوقْفة وجالل النَّظرة‪ :‬فيروز‪ ..‬وجهة نَظر ٍ جزائري ّة‬
‫سعيد هادف ‪238.........................................................................................................................‬‬

‫‪8‬‬
‫ُ‬
‫فيروز في الذاكرةِ العميق ِة أل ّ‬
‫م كلثوم الهند‬
‫أحمد فرحات ‪246.........................................................................................................................‬‬

‫ُ‬
‫المتعاقِبة‪ :‬فيروز وما فوق الجمال‬ ‫نجمة األجيال‬
‫د‪ .‬إلهام نصر تابت ‪269.................................................................................................................‬‬

‫لكل اللّغات وال يحتاج للترجمة والشرح‬


‫ّ‬ ‫صوت فيروز‪ :‬عابر‬
‫د‪ .‬شوقي عبد األمير ‪278.............................................................................................................‬‬

‫أغاني فيروز وإضاءة الكينونة‬


‫د‪ .‬محمّد المعزوز ‪284................................................................................................................‬‬

‫صوتك فيروز و َل ْ‬
‫ن أتبارى في دراستِه مع أحد‬ ‫ِ‬ ‫أرا ُه‬
‫العويط ‪292.....................................................................................................................‬‬
‫د‪ .‬عقل َ‬

‫فيروز‪ ..‬ظاهرة صوتي ّة قد ال تتكرّر‬


‫هاشم قاسم ‪300.......................................................................................................................‬‬

‫فيروز‪ ..‬تصويت اللّون‬


‫ّ‬
‫معاّل ‪308.............................................................................................................................‬‬ ‫طالل‬
‫ّ‬
‫والسكر‬ ‫فيروز من صوتها نأكل اللّوز‬
‫حسين قبيسي ‪314.......................................................................................................................‬‬

‫فيروز‪ ..‬من حديث البدايات‬


‫سليمان بختي ‪321........................................................................................................................‬‬

‫فيروز من اليوتوبيا إلى الدوستوبيا‬


‫د‪ .‬عبد اللّه إبراهيم ‪326...............................................................................................................‬‬

‫الرحباني‬
‫ّ‬ ‫فيروز في وسط المثلّث‬
‫عمّار مروّة ‪336............................................................................................................................‬‬

‫الرحباني مبدأً ومآالً وإرثاً‬


‫ّ‬ ‫المشروع‬
‫فادي العبد اللّه ‪342.....................................................................................................................‬‬

‫الحواشي ‪347.............................................................................................................................‬‬

‫‪9‬‬
‫د‪ .‬عبد اإللـه بلـقـزيز*‬

‫ـــدة فيــروز تجســيداً لظاهرة ٍ موســيقي ّة ‪ -‬غنائي ّة مألوفة فــي الثّقافة‬


‫ُ‬ ‫مــا كان الرّحابنــةُ والسّ ي ّ‬
‫ْ‬
‫خرجت‬ ‫ٌ‬
‫ظاهرة‬ ‫ّ‬
‫الشبيهِ‪ ،‬بل هي‬ ‫ُ‬
‫شأن‬ ‫ن َع ُ‬
‫ظ َم‬ ‫ٍ‬
‫سابقات لها ُ‬
‫ومجا ِيالت وإ ْ‬ ‫العربي ّة المعاصرة‪ ،‬ت ُ ْ‬
‫ـش ِب ُه‬
‫َ‬
‫المنعطف‬ ‫ْ‬ ‫الشــعريّ‪ ،‬ومث ّ‬
‫ـــلت‬ ‫ّ‬ ‫عبير‬ ‫ّ‬
‫والشــائع في الموســيقا والغناء والت ّ‬ ‫ّارج‬
‫ِ‬ ‫المألوف والد ِ‬
‫ِ‬ ‫عن‬
‫غير مبالغة ٍ أو تَـزَ يُّـــد‬
‫ِ‬ ‫األضخــم فــي تاريخ الموســيقا والغناء العربي ّين الحديثيْـــن‪ ،‬بل هي ‪ -‬من‬
‫َ‬
‫ـــت مــن ذلــك التّاريــخ منزل َة اللّحظــ ِة األعلى واألغنى فيــه‪ :‬اللّحظةُ التــي زوَّد فيها اإلنتا ُ‬
‫ج‬ ‫‪ -‬تنزّ َل ْ‬

‫ي الثّقافــ َة العربي ّة بواحــد ٍ من أخصب مــوار ِد الحداثة فيها‪ ،‬وقــد ّم للذّائق ِة‬ ‫ّحبانــي‪ -‬الفيــروز ّ‬
‫ُّ‬ ‫الر‬
‫ُ‬
‫حيث تَقْوى‬ ‫ُ‬
‫ق قدرتُها إلى‬ ‫الجمالي ّة العربي ّة من الماد ّةِ اإلبداعي ّة ما به ترتقي وتَـــن ْ َصقِ ُل وتَسْ ُ‬
‫ــم ُ‬

‫وطرائق في األداء جديد ًة‪.‬‬


‫َ‬ ‫على أن تَـأ ْ َل َف لغ ًة موسيقي ّ ًة جديد ًة‬

‫أبواب العا َلمي ّة‪ ،‬بل هو‬


‫َ‬ ‫العربي‬
‫ّ‬ ‫ي َط َر َق الغناءُ‬
‫ّحباني‪ -‬الفيروز ّ‬
‫ّ‬ ‫وال مِ ر ْي َة عندي في أنّه مع العمل الر‬
‫ّ‬
‫الشــرقي ّة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫محتـــا ً مكانَه بوصفه عمال ً َيج ْمع بين أصالة التّعبير عن غنى موســيقا ُه‬ ‫َ‬
‫آفاقها‬ ‫اقتَحم‬
‫ذات‬
‫ِ‬ ‫المحلي‪ ،‬ومقاما ِت ِه العريقة‪ ،‬و(بين) لغـة ٍ موسيقي ّة أوركسترالي ّة حديثة‬ ‫عبي‬ ‫ّ‬
‫الش‬ ‫وفولكلور ِه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ومتفاعلة ٍ مع معطياتها أشد َّ التّفاعل‪ ،‬ومحمولة ٍ ‪ -‬في الوقت َعينِه‬‫كوني عابرة ٍ للتّراثات‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫س‬‫نَـفَ ٍ‬

‫در أن وُجِ َ‬
‫د له في العالم ن ََظائر‪.‬‬ ‫فيروزي ساحِ ر ٍ َن َ‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫صوت‬ ‫‪ -‬على‬
‫ّحباني‪ -‬الفيــروزيّ؛ الكيمياءُ‬ ‫ُ‬
‫المشــروع الر‬ ‫كيميــاءٌ سحري ّ ٌ‬
‫ـــة هــي تلك الكيمياء التــي تكوَّن منها‬
‫ُّ‬
‫َ‬
‫وأرف ِع أداءٍ (فيروزيَّـي ْن)‪،‬‬ ‫وت‬ ‫التي ج َم َعـــت بين أغنى لغة ٍ موسيقـــي ّة ٍ (رحباني ّة) وأعمق َ‬
‫وأد ْ َفـــ ِأ َص ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬

‫*أستاذ الفلسفة ‪ -‬جامعة الحسن الثّاني ‪ -‬المغرب‬

‫‪11‬‬
‫ُ‬
‫والمضاهاة في السّ ــياق‬ ‫ضارع ِة‬ ‫ي على ُ‬
‫الم َ‬ ‫والع ِص ُّ‬
‫َ‬ ‫الم َرك َّ ُ‬
‫ب المذهِـــل‪،‬‬ ‫فتكــوَّن مــن مزيجهما ذلك ُ‬
‫ي هذه اإلمبراطوري ّة الموســيقي ّة‪-‬‬ ‫َ‬
‫شــريك ْ‬ ‫العربي‪ ،‬منذ خمســيني ّات القــرن الماضي‪ .‬كأ ّ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫الفن ّ ّ‬
‫ــي‬
‫ّ‬
‫مبكـــراً‪ ،‬أن ال قيام َة لمثل‬ ‫الغنائيّــة (عاصــي ومنصــور مــن جهة‪ ،‬وفيروز من جهــة أخــرى) أد ْ َركا‪،‬‬
‫ريكـــي ْن ضالّته في اآلخر‬
‫الش َ‬‫ّ‬ ‫كـــل من‬ ‫ٌّ‬ ‫هذه اإلمبراطوري ّ ِة من دون لقاءٍ وشراكة بينهما‪ .‬لقد َو َج َ‬
‫د‬
‫الموســيقي للغناء لن‬
‫ّ‬ ‫مشــروعهما الجديد في التّأليف‬ ‫َ‬ ‫فتمسَّ ــك به‪ :‬الرّحباني ّان اللّذان َأدْركا أ ّ‬
‫ن‬
‫بشري‪ ،‬مثل صوت فيروز‪ ،‬يملك‬ ‫ٍّ‬ ‫فوق‪-‬‬
‫ِ‬ ‫بشري‪ ،‬أو‪ ،‬باألحرى‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫صوت‬ ‫َيـــجِ د حامِ َل ُه إلى العا َلم إال ّ في‬
‫ٌ‬
‫صوت آخر؛ ثمّ فيروز‬ ‫من طاقات التّعبير عن الحساســي ّة الجمالي ّة الرّحباني ّة الرّفيعة ما ال يملكه‬
‫ّحباني لصوتها آفاقاً ال ت ُ َحد ّ أمام ِإفراجِ ه عن طاقاته ودفائِـنِه من‬
‫ُّ‬ ‫الموسيقي الر‬
‫ُّ‬
‫التي فتح الت ّ ُ‬
‫أليف‬
‫ٍ‬
‫نمط‬ ‫عرفت كيف تستخرجها في‬ ‫ْ‬ ‫واالقتدار بحيث‬
‫ِ‬ ‫طن ِة والذّكاءِ‬ ‫ُ‬
‫الكبيرة من الفِ ْ‬ ‫كانت السّ ـي ُ‬
‫ّدة‬ ‫ِ‬ ‫كـنوز ٍ‬
‫ن الموســيقا والغناء‪ ،‬في‬‫دا‪ ،‬حينَها‪ ،‬كما لو أ ّ‬ ‫والبهاءِ أداءٌ‪ .‬و َبـــ َ‬ ‫الجمال‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫من األداء ال ي ُشــ ِبه ُه في‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫الشراكة الرّحباني ّة‪ -‬الفيروزي ّة كي َيشهد معها‬ ‫ْ‬
‫ينتظران اللّحظ َة التي تَـأزَ ف بميالد‬ ‫ِ‬ ‫العربي‪،‬‬ ‫الوطن‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫والعربي انعطافتَه التّاريخي ّة الثانية بعد انعطافته األولى‪ ،‬في‬ ‫بناني‬‫ّ‬ ‫الغنائي الل‬ ‫الموسيقي‪-‬‬ ‫النتا ُ‬
‫ج‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مطلع القرن الـ ‪ ،20‬مع سي ّد درويش‪.‬‬
‫ُ‬
‫ن تأسيســاً ثانيــاً متجــد ّداً للموســيقا والغناء ش ِ‬
‫ــر َع فيه‪ ،‬في ســنوات‬ ‫َيصــحّ‪ ،‬تمامــاً‪ ،‬أن يقــال إ ّ‬
‫صوت السّ يّـدة فيروز‪ .‬يعود‬
‫َ‬ ‫متوس َلـــي ْن ‪ -‬في ذلك ‪-‬‬
‫ِّ‬ ‫الكبيري ْن‬
‫َ‬ ‫ِـــبل الرّحباني ّين‬
‫الخمسيني ّات‪ ،‬من ق َ‬
‫التّأسيس األوّل إلى مطالع القرن على يد سي ّد درويش‪ .‬ولك ّ‬
‫ن هذا ليس يعني أ ّ‬
‫ن ما بين سي ّد‬
‫ّ‬
‫الشيخ زكري ّا‬ ‫ّحباني كان ِصفْراً على اليسار؛ إذ ْ ال أحد يملك أن َيجحد إسهامات‬ ‫درويش وعاصي الر‬
‫ّ‬
‫ــنباطي‪ ،‬وأصواتاً‬
‫ّ‬ ‫أحمــد‪ ،‬ومحمّــد القصبجي‪ ،‬ومحمّد عبد الوه ّــاب‪ ،‬وفريد األطرش‪ ،‬ورياض السّ‬
‫ن لِلّحظ ِة الرّحبانيّــة ‪ -‬الفيروزي ّة فرا َدتَها التي‬ ‫رفيعــ ًة مثــل صوت ّ‬
‫أم كلثوم وأســمهان‪ ...‬إلخ‪ .‬لك ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ال تُشبهها فيها إال ّ اللحظة الد ّرويشي ّة؛ وهي َفرادة تَـــ ُرد ّ‪ ،‬في المقام األوّل‪ ،‬إلى ُمن ْ َج ِ‬
‫ـــزها الذي‬
‫ق؛ فِ ع ُْل الخروج‬ ‫َصنَعهــا ومي َّزهــا ومايزها عن غيرها‪ :‬فِ ع ُْل التّأســيس بما هو فِ ع ُ‬
‫ْـــل ابتكار ٍ وخلــ ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ت هذه اللحظة التّأسيســي ّة الجديدة وكأنّها‬ ‫د ْ‬ ‫ٍ‬
‫عبير إلى بنية جديدة أخرى‪ .‬لِذلك َبـــ َ‬ ‫من بنية ٍ في الت ّ‬
‫ِ‬
‫االنفجار العظيم في التّعبير واللّغة‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫نفسها كلحظة‪ :‬لحظة‬ ‫س ضوءَها من وه ْـجٍ َأن ْ َج َبـت ْ ُه هي‬
‫تَـقْ ِب ُ‬
‫ُ‬
‫شأة‬ ‫البـــدْءُ والن ّ‬
‫ق ي ُسْ تَـــأنَف به َ‬ ‫سمة مائزة في ّ‬
‫كل عملي ّة خل ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫الموسيقـيَّـــي ْن؛ وهذه‪ ،‬استطراداً‪،‬‬
‫خلدوني شهير‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫و ٍ‬
‫ل‬ ‫على قـ ْ‬
‫وبمسْ َرحـ ِة‬
‫َ‬ ‫(الم َغـنَّى)‪ ،‬وباألوركسترا (اآلالت والتّوزيع)‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ّ‬
‫ص الشعر ّ‬‫ي ُشبه اعتناءُ الرّحبانيَّـــي ْن بالن َّ ّ‬
‫الغنائي)‪ ...‬اعتناءَ ســي ّد درويش بهذه األبعاد والمســتويات‪َ .‬ب َح َ‬
‫ث الرّحابنة عن‬ ‫ّ‬ ‫العمل (المســرح‬
‫ونسي وبديع خيري‪ ،‬التي توسّ لها سي ّد‬
‫ّ‬ ‫لغة ٍ شعري ّة بسيطة ‪ -‬ولكن جميلة ‪ -‬بساط َة لغة بيرم الت ّ‬

‫‪12‬‬
‫الشعبي ّة في عشرات القصائد التي ألّفاها‪ُ ،‬م َمرَّخ ًة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشعري ّة‬ ‫َجحا في اجتراح هذه اللّغة‬
‫درويش‪ ،‬ون َ‬
‫ّ ُ‬
‫اوزا باألوركســترا الحديثة‬ ‫ن رومانســي ّة ُع ِرفــت بها اللغة الرّحباني ّة‪ :‬موســيقاً وشــعراً‪َ .‬‬
‫وج َ‬ ‫بأدهــا ٍ‬
‫َـبا‬ ‫رقي‪َ ،‬‬
‫فكـت َ‬ ‫ّ‬
‫الش‬ ‫نظير مجاوز ِة األوركسترا الد ّرويشي ّة الت ّ َ‬
‫خت‬ ‫َ‬ ‫طرائق األداء التي كانت في عهدهم‬
‫ّ‬
‫الم َركَّب في‬
‫ُمل الموســيقي ّة ُ‬
‫نظام الج َ‬
‫َ‬ ‫الهارموني ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫آلالتهــا كتابــ ًة حديث ًة ت َ‬
‫َرج َمت بها ‪ -‬في أدائها‬
‫أوركســترالي في منتهى‬
‫ّ‬ ‫ّحبانــي؛ حيــث بات معهما ‪ -‬فقـــط ‪ -‬ي ُمكن اإلصغاء إلى أداءٍ‬
‫ّ‬ ‫التّأليــف الر‬
‫اآللي للجمل الموســيقي ّة‪ ،‬وتحقيــق التّناعم بين‬
‫ّ‬ ‫البهــاء واإلنســيابي ّة نتيجــة النّجاح فــي اإلخراج‬
‫وتحرير التّعبير من سطوته ّ‬
‫الضاربة‬ ‫ف كبير ٍ في اإليقاع‬ ‫ّ‬
‫تقش ٍ‬ ‫الوتري ّات وآالت النّفخ النّحاسي ّة‪ ،‬مع‬
‫ِ‬
‫دشنه سي ّد درويش ‪ -‬وذَهبا به إلى األبعد‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الغنائي ‪ -‬الذي‬ ‫في الغناء‪ .‬وأخيراً‪ ،‬استأنَفا المسرح‬
‫ّ‬
‫الموسيقي‬
‫ّ‬ ‫والملحمي‪ ،‬والتّخلُّـل‬
‫ّ‬ ‫ياسي‪ ،‬والنَّـــفَ س الد ّرامي‬
‫ّ‬ ‫االجتماعي والسّ‬
‫ّ‬ ‫في الحبكة‪ ،‬والنّقد‬
‫متجاوزَ يْـن به أسلوب األوپريت ‪ -‬عند عبد الوه ّاب‬
‫ِ‬ ‫الكوريغرافي الرّاقص‪...‬إلخ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫للحوارات‪ ،‬والتّعبير‬
‫الغنائي وحده‬
‫ّ‬ ‫ّرويشــي‪ .‬ولقد كان المسرح‬
‫ّ‬ ‫ده على أساسه الد‬ ‫خاص ًة ‪ُ -‬معي َ‬
‫ديْـــن تشــيي َ‬ ‫ّ‬ ‫واألطرش‬
‫العربي؛‬ ‫اإلبداعي‬ ‫ــموق صنيع درويش والرّحابنــة وارتفاع مكانته في ّ‬
‫كل النِّتــاج‬ ‫س ُ‬ ‫القرينــ َة على ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫مســرحي‪ ،‬موســيقا‪ ،‬غناء‪،‬‬ ‫(نص شــعريّ‪ّ ،‬‬
‫نص‬ ‫ّ‬ ‫فني مركَّـــب تركيباً إمبراطوريّاً‬ ‫ٌ‬
‫عمل‬ ‫فهو‪ ،‬ابتداءً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أضعــاف ما يحتاجه عملٌ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫أضعاف‬ ‫وارد الفني ّة‬ ‫تمثيلــي‪ ،‬رقــص‪)...‬؛ وهــو‪ ،‬ثانياً‪ ،‬يحتاج مــن َ‬
‫الم ِ‬ ‫ّ‬ ‫أداء‬
‫مســرحي لوحده‪ .‬ويكفي دليال ً على تمي ُّز ســي ّد درويش والرّحبانيَّـــي ْن أ ّ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫غنائي أو‬
‫ّ‬ ‫موســيقي أو‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫غنائي فــي الثقافة العربي ّة‪ ،‬وأنّه ‪-‬‬ ‫ْ‬
‫دهم كانوا َيق َووْن على إنتاج مســرحٍ‬ ‫ّ‬
‫هــؤالء الثالثــة الكبار وح َ‬
‫ّ‬
‫بعـد رحيلهم ‪ -‬لم ي ُقَ ـي َّض لهذا المسرح بقاء‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وكـثيرة‬ ‫دديْـن الكبيري ْن؛‬ ‫المؤسس األوّل وتراث ُ‬
‫المج ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫والجوامع بين تراث‬ ‫ُ‬
‫كـات‬ ‫ٌ‬
‫كثيرة هي المشت ََر‬
‫لعل الفارق الوحـيد ‪ -‬بعـد فارق الثّالثين عاماً الفاصلة‬
‫ّ‬ ‫الش َبـه بين صنيع ٍّ‬
‫كل منهما‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫اطن‬‫ـو ِ‬
‫هي َم َ‬
‫ُ‬
‫يتأت لسي ّد درويش‪ :‬صوت السّ يـدة‬ ‫َّ‬ ‫‪ -‬أنّه تَأتّـى للرّحباني ّيْـن ذلك الرّأسمال الفن ّ ُّ‬
‫ـي الرّفيع الذي لم‬
‫العربي الكبير‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بيت في الوطن‬ ‫ـوت الذي حمل المشروع الموسيقي الرّحباني إلى ّ‬
‫كل‬ ‫الص ُ‬
‫فيروز؛ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫الحياة‪،‬‬ ‫العربي إلى الرّحاب الكونيّـة‪ .‬حتّى تراث سي ّد درويش نفسه دب ْ‬
‫َّت إليه‬ ‫بل الذي حمل الغناء‬
‫ّ‬
‫ثانيــةً‪ ،‬بصوتهــا الــذي حمله إلى اآلفــاق‪« :‬زوروني»‪« ،‬طلعت يــا َمح ْال نورها»‪« ،‬الحلــوة دي»‪« ،‬أنا‬
‫هويت»‪« ،‬يا شادي األلحان» ‪...‬إلخ‪ ،‬فكانت تلك أج ْزل تحيّـة ٍ من سي ّدة الغناء إلى سي ّد الموسيقا‪...‬‬
‫‪-1-‬‬
‫غنّـت السّ ـي ّدة فيروز مئات األعمال التي َوضعها َ‬
‫األخَـوان عاصي ومنصور‪ ،‬بين أوائل الخمسيني ّات‬
‫ونهايــات السّ ــبعيني ّات‪ ،‬والتي وضعها لها ابنُـــها زياد الرّحباني بين العــام ‪ 1970‬والفترة الرّاهنة‬
‫(ناهيــك بأعمــا ٍ‬
‫ل أخرى َوضعها لها زكي ناصيف‪ ،‬وفيلمون وهبــي‪ ،‬ومحمّد عبد الوه ّاب‪ ،‬ومحمّد‬

‫‪13‬‬
‫قوالب موسيقـــي ّة‪ -‬غـــنائي ّة متعــد ّدة ُ‬
‫ومتباينــة تراوحت‬ ‫َ‬ ‫صيـــغ ْ‬
‫ت في‬ ‫َ‬ ‫محســن‪ .)...‬وهــي أعمــال‬
‫واري‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫شــيدي‪ ،‬والحِ‬
‫ِّ‬ ‫بيــن الرّومانســي‪ ،‬والملحمــي‪ ،‬واألوپرالــي‪ ،‬والكالســيكي‪ ،‬واالبتهالــي‪ ،‬والن ّ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫َت أداء هذه القوالــب جميعِ ها إتقاناً ال‬ ‫والفولكلــوري‪ ،‬والتّواشــيح‪ ،‬والموّال‪...‬إلــخ؛ وهي أتقَ ـــن ْ‬
‫ِّ‬
‫غنائي منها‪.‬‬ ‫موسيقي‪-‬‬ ‫ّ‬
‫متخصصة في أداء كل قالبٍ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫د عليه‪ ،‬وبمقدار ٍ من التّألـق يوحي وكأنّها‬ ‫مزيـ َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جميعها‬
‫َ‬ ‫الغنائي كافّـــة‪ ،‬فيعب ُرها‬
‫ّ‬ ‫ن نجــاح صوت فيروز في أن يتكـــي ّف مع أنــواع األداء‬ ‫ُّ‬
‫والحـــق أ ّ‬
‫عبوراً أفقـيّـــاً‪ ،‬وفي أن يتن ّ‬
‫قـــل ‪ -‬بسالسة ‪ -‬بين السّ وپـرانو والباس (الخفيض) ‪ Basse‬إنّما مرد ُّ ُه‬
‫استعدادات صوتي ّة‪ ،‬ودُر ْ َبـــة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫اجتمعت في السّ ــي ّدة الكبيرة‪ :‬من‬ ‫إلى جملة ٍ من العوامل متضافرة ٍ‬

‫ق للعمل‪ ،‬وثقافة ٍ موسيقي ّة ٍ رفيعة‪...‬إلخ‪ ،‬وليس‬ ‫ٍ‬


‫واحترام دقيـــ ٍ‬ ‫ـــرانٍ‪ ،‬وخبرة ٍ متراكمة‪ ،‬وذكاءٍ‪،‬‬
‫ومِ َ‬
‫ل واحد ٍ وحيد ٍ من هـذه العوامل‪.‬‬
‫إلى عام ٍ‬
‫ٌ‬
‫سمات تَـ ُرد ُّ‪،‬‬ ‫ي و ُعمْـقِ ه ورخامتِه وفراد ِة خصائصه‪ .‬وهي‬ ‫ال مِ ـر ْ َيـ َة عند أحد ٍ في قوّة ّ‬
‫الصوت الفيروز ّ‬
‫تؤهله‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫اســتعدادات صوتي ّة ذاتي ّة طبيعي ّة (= خامة ّ‬
‫الصوت)‬ ‫في المقام األوّل‪ ،‬إلى ما َيحْت ُ‬
‫َاز ُه من‬
‫ن االستعدادات البيولوجي ّة هذه‪ ،‬وعلى أوّليَّـــتها‬ ‫ُمل غنائي ّة‪ .‬لك ّ‬ ‫إلحسان أداءِ ما ي ُقَ ـــد َّم إليه من ج َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫ارج‪ .‬ال بـــد َّ من تمري ٍ‬
‫ن‬ ‫وقيمتها ‪ -‬ال تكفي وحدها صوتاً كي يتفـــت َّ َق ويتألّق و َيبْـــل َغ في األداءِ َ‬
‫الم َع ِ‬
‫قدة‬‫مستويات متعد ّدة ٍ ودقيقة ٍ ومع َّ‬
‫ٍ‬ ‫ب فيه على أداءِ‬ ‫وت حتّى َيـــد ْ َر َ‬ ‫الص ِ‬ ‫ّ‬
‫وشاق لهذا ّ‬ ‫علمي مديـــد ٍ‬
‫ٍّ‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫أي َملكة أو مهارة في اإلنسان ‪ -‬مـعْـتَاز إلى التنمية الد ّائبة‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شأن ِّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وتي؛ إ ِذ الصوْت ‪-‬‬ ‫ّ‬
‫من األداء الص‬
‫ّ‬
‫ران هـذي ْن‬
‫والم َ‬
‫ِ‬ ‫ن الد ُّربة‬ ‫ٍّ‬
‫شك في أ ّ‬ ‫الطاقة‪ .‬وما من‬ ‫والرّياض ِة المستمرّة على تفعيل ُم ْ‬
‫ض َم ِر ِه من ّ‬
‫يبلغان بصاحبهما ‪ -‬عند عتبة ٍ من تراكمهما ‪ -‬درج َة حياز ِة الخبرة التي ســرعان ما تصير‪ ،‬بالنّســبة‬
‫وتــي الرّفيع قد يمتنع حتّى عــن صاحب الخبرة إن‬ ‫ّ‬ ‫ن األداء ّ‬
‫الص‬ ‫الصــوت‪ ،‬طبيعــ ًة ثانية‪ .‬على أ ّ‬‫إلــى ّ‬
‫لم يتوافق مع حِ ـــد ّة ٍ في الذّكاء عنده؛ إذ بالذّكاء يكون األداء؛ فهو الذي َيـــد ُ ّل الفنّان على أقْـوم‬
‫س بحسابٍ ‪ ،‬واالحتفاظ به‪ ،‬وأخْـذ ِه في الوقت المناسب‪ ...‬إلخ؛ وهذه وإ ْ‬
‫ن‬ ‫ل إلى إخراج النَّـفَ ِ‬‫سبي ٍ‬
‫ن حصو َلها من طريق الذّكاء َأب ْقَ ى لها َ‬
‫وأ َقـــرّ‪ .‬وإلى ذلك‪،‬‬ ‫الصوتي‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬ ‫كانت تُـ َلـــ َّ‬
‫قن في التّـــكوين ّ‬
‫ّ‬
‫نفيل واإلفاضة في َأداءٍ‬
‫ِ‬ ‫ن الت ّ‬ ‫ٍ‬
‫مقام إلى مقام‪ ،‬وحُسْ ِ‬ ‫ـر االنتقال في األداء من‬ ‫يسمح الذّكاء بي ُسْ ِ‬
‫ل بالمقام‪ :‬على طريقة االرتجال في العزف‪ ،‬مثال ً‪،‬‬ ‫تلقائي ‪ -‬من خارج النُّوتة ‪ -‬من غير إخال ٍ‬
‫ّ‬ ‫عفوي‬
‫ٍّ‬
‫خ في األداء ال َيقْـــوى‬ ‫ن هذا َ‬
‫األ َل َق والتَّبـــذ ُّ َ‬ ‫وغني عن البيان أ ّ‬ ‫ٍ‬
‫نظام في ذلك االرتجال‪.‬‬ ‫مع التزام‬
‫ّ‬
‫عليــه األذكيــاءُ مــن الفنّانين فقط‪ ،‬بل َمن َدرجوا منهم ‪ -‬تحديداً ‪ -‬على َمناقِبي ّة ٍ فـنّـــي ّة مميَّـــزة‪:‬‬
‫االحتــرام الحــازم للعمل الذي يقومون به؛ االحتــرام المقرون بحياز ِة ثقافة ٍ موســيقي ّة رفيعة‪،‬‬
‫والتّشـب ُّع بها إلى حـ ِّ‬
‫د ِإرهاف الحساسي ّة الجمالي ّة عندهم‪.‬‬
‫عها؛ الوه ُ‬
‫ْب‬ ‫ُ‬
‫مـات جمي ُ‬ ‫شك في أنّـه اجتمعت في صوت السّ ـي ّدة فيروز هذه الخ ُ‬
‫ِالل والسّ‬ ‫ّ‬ ‫وما من‬

‫‪14‬‬
‫الصوتي ّة من طريق التّمرين؛‬ ‫للطاقة ّ‬ ‫العلمي المستمرّ ّ‬ ‫ـل‬‫الصـقْ ُ‬
‫الصوت؛ ّ‬ ‫لم َل َكة ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫اإللهي َ‬
‫ّ‬ ‫بيعي‪-‬‬
‫ُّ‬ ‫الط‬
‫ن مختلفــة من الغناء؛ الــذّكاءُ الحــاد ّ والوقّاد (ومنه‬ ‫ُ‬
‫الخبــرة الخصيبــة المتراكمــة مــن أداءِ ألوا ٍ‬
‫ُ‬ ‫ن الذي يبلغ‪ ،‬عند السّ ـــي ّدة‪ ،‬درجة التّـــقديس؛ ثمّ الث ّ‬
‫ـــقافة‬ ‫الصــارم للف ّ‬ ‫ُ‬
‫االحتــرام ّ‬ ‫ذكاء ّ‬
‫الصــوت)؛‬
‫ن في العا َلم‬ ‫الموســيقي ّة العاليــة التــي كانت خبــزاً يوميّاً في عائلة ٍ مــن أرفع َ‬
‫أع ِ‬
‫اظم رجال الفــ ّ‬
‫والبهاء الذي تَـــفَ رَّد‬ ‫الجـــال‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الم ِ‬
‫َ‬ ‫صوت السّ ي ّدة فيروز بكل ذلك َ‬ ‫عاصر‪ .‬ال غرابة‪ ،‬إذن‪ ،‬في أن يتفرّد‬
‫العربي بين منتصف القرن العشرين وسبعيـــني ّاته‪:‬‬
‫ّ‬ ‫به حتّى في دائرة األصوات الكبيرة في الغناء‬
‫ن وذوق‪ :‬قبل ميالد زمن التّفاهة‬ ‫ٌ‬
‫أصوات جليلة؛ وحين كان لدى العرب غناءٌ وفـــ ٌّ‬ ‫حين كان هناك‬
‫في األربعين عاماً األخيرة‪.‬‬
‫‪-2-‬‬
‫ّحباني بذلك‬ ‫نائي الر‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وانفراط عقــد الث‬ ‫ّحباني‪ ،‬في منتصــف الثّمانيني ّات‪،‬‬ ‫ُ‬
‫رحيل عاصي الر‬ ‫لــم َي ُ‬
‫كــن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الظاهر َة الكاريزمي ّ َة الفيروزيّـــة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مســتقاّل ً‪ ...‬لي ُنْهي ّ‬ ‫الرّحيل الفاجع‪ ،‬وبانصراف منصور إلى العمل‬
‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫التي بدأت صعو َدها معهما في مطالع الخمســيني ّات‪ ،‬بل ســرعان ما تَأقـــ َلمت مع هذا التّغيُّـــر‬
‫شــك فــي أ ّ‬
‫ن رحيل‬ ‫ٍّ‬ ‫ـــي في صورة جديدة‪ .‬وما من‬ ‫نفســها وســلطانَها الفن ّ ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫واســتأنفت‬ ‫الفاجــئ‬
‫ّ‬
‫ّحبانــي ليس تفصيال ً عادياً في تاريخ الموســيقا وفي تاريــخ الثقافة العربي ّة؛ ألنّه رحيل‬ ‫عاصــي الر‬
‫ّ‬
‫رئيس في إنتاج ّ‬
‫الصيغة‬ ‫ٍ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬
‫رحيل فاع ٍ‬ ‫عربي في القرن العشرين‪ ،‬و‪ ،‬بالتّالي‪،‬‬ ‫موسيقي‬ ‫ل‬
‫أعظم عق ٍ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫القلب‬
‫ِ‬ ‫الرّحباني ّة‪ -‬الفيروزيّـــة المتفرّدة التي نزلت من تاريخ الموســيقا والغناء العربي ّين منزل َة‬
‫َشأ من مزيجٍ‬ ‫ي في الغناء تَـــن َّ‬
‫ن األسلوب الفيروز ّ‬ ‫ّ‬
‫شك في أ ّ‬ ‫والمثال الرّفيع‪ .‬وما من‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫والصدارة‬
‫ٍ‬
‫طبقات وساللِم‬ ‫وطرائق استخدامه في األداء على‬
‫ِ‬ ‫وت وخصائ ِِصه العضوي ّة من جهة‪،‬‬ ‫فـذ ّ بين ّ‬
‫الص ِ‬
‫َ‬
‫وأب ْنيــة ٍ مــن الكتابة الموســيقي ّة مختلفة من جهة ٍ ثانية‪ .‬وهذا يعني أ ّ‬
‫ن أســلوب عاصي ومنصور‬
‫ٌ‬
‫شــريك للسّ ـــي ّدة‬ ‫بعينها منه هو‪ ،‬أيضاً‪،‬‬
‫مناطق َ‬
‫َ‬ ‫ي وتوظيفِ ه وتنمي ِة‬ ‫ّ‬
‫الصوت الفيروز ّ‬ ‫في توسُّ ــل‬
‫ن صوتها في حقبة ما بعد عاصي لن يكون‬ ‫فيــروز فــي فرادة صوتها وتمي ُِّزه‪ .‬وقد يوحي ذلك بــأ ّ‬
‫ن بحتمي ّ ِة نشوءِ‬ ‫مثل ما قد يذهب إليه ّ‬
‫الظـ ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫والحال إ ّ‬
‫ن األمر ليس‬ ‫عينَه في حقبة عاصي‪ -‬منصور‪،‬‬
‫الفارق بين اللّحظتَي ْن‪.‬‬
‫ِ‬
‫ِـري ُ‬
‫ج مدرسة عاصي والرّحابنة‬ ‫ُ‬
‫حقبة ابنهما الكبير زياد‪ ،‬وزياد خ ِّ‬ ‫حقبة ما بعد عاصي الفيروزي ّة هي‬
‫ن به‪ ،‬فما َج ُر َؤ على إدارة‬ ‫س َ‬
‫ــك َ‬ ‫ان الذي َر ِب َي على صوت والدته وان ْ َ‬
‫والخــارج عليهمــا فــي آن‪ ،‬والفن ّ ُ‬
‫صمة الرّحباني ّة‪ ،‬وفي عزّ اندفاعته‬ ‫والب ْ‬
‫َ‬ ‫ـي عن ّ‬
‫الصيغة الرّحباني ّة‬ ‫ّ‬
‫الظهر له في عزّ استقالل عمله الفن ّ ّ‬
‫نائي فيروز‪ -‬زياد‬ ‫أصوات أخرى تح ْمل مشروعه (جوزف صقر‪ ،‬سامي حوّاط‪ .)...‬ومع الث ّ‬ ‫ٍ‬ ‫للبحث عن‬
‫ّ‬
‫ي طوراً من التّكـــي ُّف‬ ‫الص ُ‬
‫وت الفيروز ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ستشــهد الرّحبانيّــة علــى مرحلتها الثانية‪ ،‬ومعها ســيدخل ّ‬

‫‪15‬‬
‫الطاق ِة والقـــ ّ‬
‫و ِة والجمال فيــه؛ تلك التي صنعت‬ ‫جديــداً‪ ،‬مــن غيــر أن َيفْتَـــاق إلى ٍّ‬
‫أي من موار ِد ّ‬
‫احر في النّفوس لردْحٍ من الزّ ِ‬
‫من طويل‪.‬‬ ‫لصوت فيروزَ سلطانَه السّ َ‬
‫و«حب ّو‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫مبكـــر من رحيل عاصي‪ :‬منذ «ســألوني النّاس»‬ ‫ٍ‬
‫وقت‬ ‫ولقــد بــدأ عمــل فيروز وزياد منذ‬
‫ـــع‬ ‫ح أنّه تعاو ٌ‬
‫ُن شجَّ َ‬ ‫ّ‬
‫الشــباب بعــد‪ .‬واألرج ُ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫بعضــن» وســواها فــي فترة ٍ لم يبلغ فيها ابنُها ســ ّ‬
‫مهما باختالف لغة زياد الموســيقي ّة عــن لغتهما (التي ال نعثر على‬ ‫عليــه عاصــي ومنصور على عِل ْ ِ‬
‫بصمتهــا فــي عمل زياد ســوى في أغنيات مســرحي ّته األولى «ســهري ّة» ‪ .)-1973-‬ت ُ ِّ‬
‫ـــوج التّعاوُن‬
‫بإصدار المجموعة الغنائي ّة «وحْدُن»‪ ،‬ولكنّه استمرّ في سنوات الثّمانيني ّات‪ ،‬وخصوصاً بعد وفاة‬
‫ُم َعت في‪:‬‬ ‫ح التّجربة الجديدة في التّـــبي ّن في عشرات األعمال؛ من تلك التي ج ِ‬
‫عاصي‪ِ ،‬لتَب ْدأ مالم ُ‬
‫ُ‬
‫دمت‬‫«خلّيــك بالبيــت»‪ ،‬و«كيفك إنت»‪ ،‬و«مش كاين هيك تكون»‪ ،‬و«إيه فيه أمل»‪ ،‬أو التي قـــ ِّ‬
‫وإصــدار ُه في‪« :‬إلى‬
‫َ‬ ‫توزيعه‬
‫َ‬ ‫فــي حفــات مهرجانــات بيت الد ّيــن وبعلبك‪ ،‬أو بعض ما أعــاد زياد‬
‫عاصي»‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫ـــأت لــه منهما معاً‪ :‬من قدرة‬ ‫ْ‬ ‫حظاً كبيراً من النُّج ِْح ألســبابٍ تهي ّ‬ ‫ُ‬
‫أصــاب العمــل بين فيروز وزياد ّ‬
‫الغنائي‪ ،‬وعلى‬ ‫الموســيقي‪-‬‬ ‫كل قوالــب التّعبير‬ ‫ي المذهلــة على التّأقلُــم مع ّ‬ ‫الصــوت الفيــروز ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الموســيقي لزياد‬
‫ّ‬ ‫ُمــل والنّصــوص المؤلَّفــة على تلك القوالب؛ ومن حاجة المشــروع‬ ‫أداء الج َ‬
‫الطاقات الهائلة‬ ‫ْ‬
‫فمأتاها من ّ‬ ‫ُ‬
‫قدرة ّ‬ ‫ٍ‬
‫صــوت يح ْمله إلى العا َلم‪ .‬فأمّا‬ ‫إلى َأ َج ِّ‬
‫ي َ‬ ‫الصوت الفيــروز ّ‬ ‫ـــل‬
‫ي األكبر لتلــك القدرة علــى التّكي ُّف يعب ّر‬ ‫م ُرهــا صوتُهــا‪ ...‬وينفــرد بها‪ .‬وقــد أتى التَّبـــ ِّ‬
‫د ُّ‬ ‫ض ِ‬ ‫التــي ي ُ ْ‬

‫الموســيقي مختلف يمزج فيــه زياد بين‬


‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫لنمط مــن التّأليف‬ ‫ســلِس‬
‫غنائي َ‬
‫ّ‬ ‫عــن نفســه في أداءٍ‬
‫ٍ‬
‫قائم على الميلودي وآخر‬ ‫ٍ‬
‫تأليف‬ ‫ّ‬
‫الشــرقي ّة والموســيقا الغربي ّة (والجاز أحياناً)‪ ،‬بين‬ ‫الموســيقا‬
‫قائم على تعدُّد ٍ في النّغمات؛ بين ميلودي ُمفْ َ‬
‫ـرد ّ‬
‫الصوت ‪ Monophonic‬وثا ٍ‬
‫ن مزدوج ‪،Biphonic‬‬ ‫ٍ‬
‫ص مب ْناها على النّغمة وأخرى على اإليقاع‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫وثالث متعد ّد األصوات ‪Polyphonic‬؛ بين نصو ٍ‬
‫يتخطى واحدي ّة اللّحن والتّنميط‬
‫ّ‬ ‫تركيبي‬
‫ّ‬ ‫وأسلوب زياد‪ ،‬وعلى ما يبدو عليه من بساطة‪ ،‬أسلوب‬
‫ي نشــاز‪ .‬وليس يســيراً على‬ ‫فيه‪ ،‬ويميل إلى كَسْ ِ‬
‫ــر امتدا ِد الجملة الموســيقي ّة من غير إحداث أ ّ‬
‫مطي‪ ،‬ويؤد ّيــه غنائيّاً على‬
‫ّ‬ ‫وغيــر الن ّ‬
‫ِ‬ ‫صــوت فيروز أن يســتوعب مثل هذا التّأليف المركَّـــب‪،‬‬
‫ِ‬ ‫غيــر‬
‫ِ‬
‫يكشف عن دفائن الغنى في ّ‬
‫الصوت الفيروزيّ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫النّحو األمثل‪ .‬أمّا من جهة زياد‪ ،‬فقد نجح في أن‬
‫الصوت الذي ال مســتحيل لديه يمنعه من‬ ‫وأن ي َُجلّيهــا فــي أعمالــه ُمقيماً دليال ً جديــداً على أنّه ّ‬
‫ّ‬
‫شــك فــي أ ّ‬
‫ن تجربة فيروز‪ -‬زياد‬ ‫نمطي‪ .‬ما من‬‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫صوت غي ُر‬ ‫بكل بســاطة ‪-‬‬‫ّ‬ ‫األداء المتألّــق‪ ،‬ألنّــه ‪-‬‬
‫ن كان َ‬
‫األخَوان‬ ‫أقل رومانســي ّ ًة من تجربة فيروز‪-‬عاصي‪/‬منصور‪ ،‬لكنّها أكث ُر واقعي ّ ًة منها حتّى وإ ْ‬ ‫ُّ‬

‫ن واقعي ّة زياد فاقعة وصارخــة‪ ،‬أحياناً‪...،‬‬


‫ّحبانــي ســ ِّيدا الواقعي ّة (بعد ســي ّد درويش)؛ ذلــك أ ّ‬
‫ّ‬ ‫الر‬

‫‪16‬‬
‫الطبقـــي ّة ال إلى هدْأ ِة‬
‫وعنف عالقاتها ّ‬
‫ِ‬ ‫باليومــي‪ :‬واقعي ّة تنتمي إلــى فوضى المدينة‬
‫ّ‬ ‫ومســكونة‬
‫ّ‬
‫الضيعة وجماعوي ّة روابطها األهلـي ّة‪.‬‬
‫‪-3-‬‬
‫ـن‬
‫ـو أم مِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن األرض ُ‬ ‫المحاتِـد‪ :‬أمِ َ‬ ‫أي َمحْتِـد ٍ هو من َ‬ ‫َي َحا ُر المرءُ في َأمْر صوت السّ ي ّدة فيروز؛ من ِّ‬
‫يائي؟‬ ‫ي أم من روحٍ َعـل ْ‬ ‫غ بشر ّ‬ ‫ـو من نُسْ ٍ‬ ‫السّ ماء؟ َأ ُ‬
‫ّ‬ ‫ه َ‬
‫المالئكي؛ ألنّه يخاطب في دواخلنا ما يعلو‪ ،‬كثيراً‪ ،‬على بشريّـتنا‬ ‫ّ‬ ‫بالصوت‬ ‫ّ‬ ‫ق َبه‪ ،‬يوماً‪،‬‬‫ما َأخْطأ َمن ل َّ‬
‫البشــري فينا‪ .‬صوتُها‬ ‫ِّ‬ ‫فوق‪-‬‬
‫َ‬ ‫اإلنســاني فينا اســماً آخر ل َ‬
‫ِما‬ ‫َّ‬ ‫الطبيعي ّة؛ ما يجعل‬ ‫ونوازعها ّ‬ ‫ِ‬ ‫المادي ّة‬
‫كل واحد ٍ منّا َف َيـفْت َّ‬ ‫ُ‬
‫ي‬‫البشــري الغرائز ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ــار‬
‫إس ِ‬ ‫َـــك ُه افتكاكاً من َ‬ ‫العميق في ِّ‬ ‫ِ‬ ‫وحد ُه يعْـثـــر على ذلك‬
‫دد‬‫ـي وي ُب ِّ‬
‫س َّ‬ ‫ن صوتَها ي َُح ِّرر الرّوح من َقيد البدن؛ ي َُج ِّ‬
‫ـرد ُ الحِ ِّ‬ ‫ك َبحُه بما ي ُلْقيه عليه من قي ْد‪ .‬كأ ّ‬ ‫الذي َي ْ‬

‫ِمداواة‬ ‫ْب ل ُ‬ ‫صوت فيروز وه ٌ‬ ‫ُ‬ ‫األرضي‪ ،‬ويسافر بها في المعارج‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فس عن معدَّلِها‬ ‫سـيَّـ َت ُه؛ يرفع الن َّ َ‬ ‫حِ ِّ‬
‫الظل ْ َماء؛ نداءُ السّ ــماءِ‬ ‫الظلْم ِة َّ‬ ‫منار ٌة لالِهتداء في َّ‬ ‫َ‬ ‫وإد ْ َمال جراحاتها؛‬ ‫أســقام بشــري ّ ِة هذا َ‬
‫الع ْ‬
‫ص ِر ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َب ْ‬
‫ــرها ولســانِها ومرمي ّ ًة في‬ ‫ك َماءَ مجرَّد ًة من ِ‬
‫س ِّ‬ ‫اني ت ُ ِ‬
‫ـــر َك ْ‬
‫ِم َب َ‬
‫األرضي؛ وهو المعاني ل َ‬ ‫ّ‬ ‫إلى َتح ْتها‬
‫صوت هو ما َيب ْقى بعد أن َيـد ْ ُمر فينا هذا الفضاء‪.‬‬‫ٌ‬ ‫العراء؛‬
‫ِـــيض به اعتياضاً‬
‫مثالي اعْت َ‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫وطن‬ ‫ي وامتنَع؛‬ ‫ُ‬
‫الوطن الماد ُّ‬ ‫ي للّبناني ّين بعدما عـــزَّ‬ ‫ُ‬
‫الوطن الرّمز ّ‬ ‫هي‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ٌ‬
‫حين من الد ّهر‬ ‫صيب بالجنون‪ ،‬و ُعـــ ِّلقت قيامته على خشبة؛ فحين أتى على اللبناني ّين‬ ‫َ‬ ‫نأ‬‫عن وط ٍ‬
‫ُ‬
‫أركان‬ ‫والجوامع بينهم‪ ،‬وان ْ َهد ْ‬
‫َّت‬ ‫ُ‬ ‫ــط‬ ‫َمـــزَّ ِ‬
‫قت الرّوا ِب ُ‬ ‫إلفناء المتبا َدل‪ ،‬ت َ‬
‫أقامــوا فيه كرنڤال الد ِّم وا ٍ‬
‫جيش‪ ،‬وال ُعم ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ت أساساتُها فلم َ‬ ‫ـش ْ‬ ‫الد ّولة وت َّ‬
‫َهش َ‬
‫ْلة‪ ،‬وال‬ ‫دولة‪ ،‬وال‬ ‫ْسك به‪ :‬ال‬ ‫يبق منها ما ي ُسْ َتم َ‬
‫ٍ‬
‫قسم‬ ‫ُ‬
‫وحياة‬ ‫و للجميع‪،‬‬
‫حرب على الجميع‪ ،‬والجميع عد ٌّ‬‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫الجميع‬ ‫ـق‪ ...‬وال َيح ْزَ نون؛‬ ‫ُ‬
‫تواف ٌ‬ ‫ٌ‬
‫سيادة‪ ،‬وال‬
‫قســم ثان‪ .‬في هــذه الكربالء الجماعي ّة المعمَّمة‪ ،‬لم ُ‬
‫يكن قد‬ ‫ٍ‬ ‫ف على إفناء حيا ِة‬ ‫مــن النّاس وق ْ ٌ‬
‫ع واحد ٍ بين اللّبناني ّين يعتصمون بحب ْله ويستمسكون سوى السّ ـــي ّدة فيروز‪ ،‬ومن‬ ‫بقي من جام ٍ‬ ‫َ‬
‫لهمّات‪.‬‬‫ْ‬ ‫د‬ ‫ُ‬
‫والم‬ ‫ّات‬
‫م‬ ‫ِـ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫عند‬ ‫جؤون‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫إليه‬ ‫ً‬ ‫ال‬ ‫بدي‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫وطن‬ ‫لهم‬ ‫بنى‬ ‫الذي‬ ‫ُّ؛‬ ‫ر‬ ‫ـ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الث‬ ‫ّحباني‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫راث‬ ‫ّ‬ ‫الت‬ ‫خلفها‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫بغيرك رابـط هو صوتها‪.‬‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫َم إلى فيروزَ الوطن‪ ،‬إذن‪ :‬أنت لبناني َيجمعك‬ ‫أنت منت ٍ‬ ‫َ‬
‫الجماعي (‪)1989-1975‬؛ وهكذا تجد ّدت في ســنوات‬ ‫ّ‬ ‫األهلي‬
‫ّ‬ ‫هكذا كانت الحال في حقبة الجنون‬
‫الجامع بيــن اللّبناني ّين ِ‬
‫بم َللِهم ون َ‬
‫ِحـــلِهم وتَفَ رُّق‬ ‫ُ‬ ‫التّيــه العِ جـــاف (‪ :)2022-2005‬فيــروز وحدها‬
‫أهوائهم؛ وهكذا هي أيضاً عند العرب جميعاً‪ :‬من الماء إلى الماء؛ الذين انتقشــت في وعيهم‬
‫هال ً‪ :‬وهل تكون‬ ‫ُ‬
‫فيروز‪َ .‬مـــ ْ‬ ‫ُ‬
‫ولبنان‬ ‫ُ‬
‫لبنان‬ ‫ُ‬
‫فيروز‬ ‫ُ‬
‫ماهاة بينها ووطنِها‪:‬‬ ‫ْعي ُ‬
‫الم‬ ‫الجم ّ‬
‫وال شــعورهم َ‬
‫ُ‬
‫ّفيعة‪...‬‬ ‫ُ‬
‫والقيم الر‬ ‫ُ‬
‫والجمال‪،‬‬ ‫ُ‬
‫والكرامة‪ ،‬والتّحرُّ ُر‪ ،‬والحبُّ ‪،‬‬ ‫وفلسطين‪ ،‬والقدس‪ ،‬والحري ُّة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العروبة‪،‬‬
‫صوت فيروز؟‬‫ِ‬ ‫غير‬
‫ِ‬ ‫شيئاً من‬
‫تحي ٌّة إلى المرأةِ‪/‬األمّـة‪...‬‬

‫‪17‬‬
‫نبيه البرجي*‬

‫ُ‬
‫رحت أبحث في إحدى األمسيات‪ ،‬أنا اآلتي‬ ‫في أثناء انعقاد مؤتمر مدريد في خريف العام ‪،1991‬‬
‫مقهى يشــبه المقهى الذي‬
‫ً‬ ‫من ذلك البكاء العتيق (لكأنّه بكاء أمرئ القيس على األطالل) عن‬
‫ُ‬
‫عثرت على المقهى‬ ‫كان يرتاده شاعر إسبانيا العظيم فريدريكو غارسيا لوركا‪ .‬بالمصادفة الفذّة‬
‫إاّل أنــا وذاك الكهل‬ ‫كل األجنــاس واأللوان‪ٌّ .‬‬
‫كل مــع امرأته‪ّ ،‬‬ ‫مكتظــاً بالســي ّاح مــن ّ‬
‫ّ‬ ‫الــذي كان‬
‫اإلسباني األنيق بمالمحه العربي ّة‪ .‬جلسنا معاً إلى طاولة واحدة ورحنا نتحادث‪.‬‬
‫ّ‬

‫فوجئت بقوله إنّه من أصل عربي‪ .‬أطلعني على بطاقة هوي ّته واســم عائلته‪ MEDINE :‬أي محي‬
‫الد ّيــن‪ ..‬وقــال لي إنّه كان كولونيال ً في جيش الجنرال فرنشيســكو فرانكو إبّــان الحرب األهلي ّة‬
‫اإلسباني ّة‪ ،‬وكيف كان هذا األخير يجثو باكياً في ّ‬
‫كل ليلة أمام صورة للسي ّدة العذراء‪ ..‬‬
‫المثيــر إنّــه من ّ‬
‫عشــاق فيــروز‪ .‬ثمّة صديــق عربي البنه الطبيب أهداه شــريطاً مســجّال ً لها وهي‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫الموشــحات األندلســي ّة‪ .‬قال «صوتها الذي يصل إلى أقاصي القلب‪ ،‬يجعلني أشــعر كما لو‬ ‫تؤد ّي‬
‫ن مناديــل المرمــر في غرناطة‪ ،‬والتي تتألأل بين يديها‪ ،‬إنّمــا تتألأل أيضاً بين يديّ»‪ .‬وكانت ليالي‬
‫أ ّ‬
‫الوصل في األندلس‪..‬‬
‫ي اآلتــي من تغريبة بنــي هالل‪ ،‬كيف تأث ّ ُ‬
‫ــرت إلى ذلك الحــد ّ بالثقافة‬ ‫لــم أكُــن أعلــم‪ ،‬وأنا القرو ّ‬
‫ق ترك في صدرها جرحاً قالت إنّه‬ ‫َّ‬
‫المحطم لعاش ٍ‬ ‫الفرنسي ّة‪ .‬هزّتني إديث بياف‪ ،‬وهي تغنّي بقلبها‬
‫يشبه زهرة األقحوان‪ ،‬وارتحل‪ .‬وأيضاً بشارل أزنافور وهو يضرم الحرائق في عيون الباحثين عن‬

‫*كاتب وإعالمي من لبنان‬

‫‪18‬‬
‫امرأة مستحيلة‪ ،‬إذا كنتم قد تعرّفتم على شاعر قال لها «أنت امرأة كثيرة‪ ،‬وطوال هذا العمر‪،‬‬
‫طوال هذا االنتظار‪ ،‬لم أكتشف منك سوى القليل»‪.‬‬
‫الــذي جعلنــي أفتن بفيروز أســتاذي في مدينة زحلة ســعيد عقل‪ .‬كان حديثــه عنها صالة‪ .‬قصيدة‬
‫تتراقص بين ليل العتابا والميجانا وليل الخزامى‪ .‬وجهه المهيب الذي كأنّه وجه جبل صنين كان‬
‫يتحوّل إلى وجه طفل (وينسانا الزمان َع سطح الجيران)‪ .‬‬
‫حاولوا أن تبحثوا‬
‫ِ‬ ‫هما تُراقصان حيناً الهواء‪ ،‬وحيناً اللّغة‪ ،‬كانتا تغرورقان في فرحٍ إغريقي‪.‬‬
‫يداه و ُ‬
‫عن الوجه اآلخر للتراجيديا اإلغريقي ّة‪.‬‬

‫اللّعبة الفلسفي ّة‬

‫َــب عن يارا «الجدايلها شــقر اللّي فيهــن بيتمرجح عمر» عن اللّعبة الفلســفي ّة في‬ ‫ّ‬
‫حدثنــا َمــن َكت َ‬
‫ي آخر‪ ،‬صاحب الكلمات‪ .‬هنا‬
‫األخوي ْن رحباني أم جوزف حرب‪ ،‬أم أ ّ‬
‫َ‬ ‫أغنيات فيروز‪ ،‬سواء كان هو أم‬
‫«يا زماناً ضاع في الزمن»‪ .‬أليست اللّعبة الفلسفي ّة‪ ،‬اللّعبة الوجودي ّة في أقصى تجلّياتها؟ «تعا تا‬
‫نتخب ّى من درب األعمار‪ /‬إذا هنّي كبروا‪ /‬ونحنا بقينا صغار‪ /‬وســألونا وين كنتو‪ /‬ليش ما كبرتو‬
‫إنتو‪ /‬منقلُّن نسينا‪ /‬واللّي نادى الناس‪ /‬تا يكبروا الناس‪ /‬راح ونسي ينادينا»‪ .‬‬
‫أكثر بكثير من أن تكون اللّعبة الكالسيكي ّة‪ .‬لنتذكّر الفيلسوف الفرنسي جان جينيه‪ ،‬وهو يتحد ّث‬
‫عــن تلــك «اآللة المجنونة» التــي تُدعى الزمن‪ ،‬وقــد ّ‬
‫دق على بابه حامال ً إليه «حقيبة النســيان»‪،‬‬
‫ي مقايضة عدمي ّة تلك بين الموت والنسيان؟!‬
‫ولكن أ ّ‬
‫ٍ‬
‫كالم عن الهزيع األخير من العمر‪،‬‬ ‫مع فيروز‪ ،‬كناطقة أبدي ّة باســم البحيرات‪ ،‬ال مجال البتّة أل ّ‬
‫ي‬
‫ّ‬
‫تمكنت مــن االختباء‪ ،‬وبق َيت هكذا في ريعان‬ ‫أو عــن الهزيــع األخير من الحياة‪ .‬أخذنا علماً بأنّها‬

‫الصبا‪ .‬حتّى ولو َكت َ‬


‫َب شارل بودلير عن «أحزان السنونو حين تشيخ» على أشجار األكاسيا كعاشقة‬
‫للضفــاف‪ .‬هــل هــذه حال فيروز ح ّ‬
‫قــاً؟ حين أتماهــى مع «الســي ّدة» وأصرخ في هــذا العراء «يا‬
‫إلهي»!! المشهد هكذا في طفولتي التي هي قريتي‪ .‬وكنّا الضفاف البشري ّة ُ‬
‫المبع َثرة بين ثقافة‬
‫السنونو وثقافة األكاسيا!!‬
‫ْ‬
‫أقفلت‬ ‫يا سي ّدتي‪ ،‬حين أصغي إليك أعود بدويّاً قديماً يحمل الجمر على باب خيمة‪ .‬ال أدري لماذا‬
‫ليلى باب الخيمة بالشموع؟‪..‬‬
‫ألرســم لهــا بكلماتي لوح ًة حول ما‬
‫َ‬ ‫حيــن زارت داليــدا لبنــان‪ ،‬وكان لبنان ال يزال لبنان‪ ،‬التقيتها‬
‫القدمي ْن على أرصفة شــارع الحمراء‪َ .‬أدهشــتني‬
‫َ‬ ‫في داخلها؛ إذ قالت إنّها تتمنّى لو تُغنّي حافية‬

‫‪19‬‬
‫بقولها إنّها خجولة ألنّها تغنّي في بلد فيروز‪ .‬وحين سألتها‪ :‬لماذا؟‪ ..‬أجابت «أل ّ‬
‫ن هذه الديفا تمأل‬
‫ي صوت آخر‪ ،‬ولو من كوكب آخر»‪.‬‬
‫المكان‪ ،‬عبقري ّة المكان‪ .‬ال مكان أل ّ‬
‫وقالت إنّها ترى‪ ،‬أجل ترى‪ ،‬صوتها في الشوارع‪ ،‬وفي أوراق اللّيلك‪ ،‬كما في وجوه الناس‪ ،‬سواء‬
‫علي أن أبحث برؤوس‬
‫ّ‬ ‫المتعبين منهم أم الذين يتسلّقون بخ ّ‬
‫فة جدران الحياة‪« .‬في هذه الحال‬ ‫ُ‬
‫ن عاصي الرحباني قال لي إ ّ‬
‫ن فيروز تحبّ صوتها‪« ..‬ظهرت البهجة‬ ‫أصابعي عن مكان لي»‪ .‬أخبرتها أ ّ‬
‫في عينَي ْها‪ ،‬وعلّقت «اذاً لن أتســلّل إلى قلوبكم مثل لحظات الغســق‪ ،‬بل ســأدخل مثلما يدخل‬
‫الهواء العليل اآلن إلى حيث نجلس»‪ .‬‬

‫أرسطو وألفيس بريسلي‬

‫هكذا ترعرعت أحاسيســنا‪ ،‬أحزاننا‪ ،‬أفراحنا‪ ،‬أحالمنا‪ ،‬أزمنتنا (أزمنتنا برقصة التانغو مع الصنوبر)‬
‫على أغنيات فيروز التي أثارت دهشــة موريس جار‪ ،‬مؤ ِّلف الموســيقى التصويري ّة الشــهير‪ ،‬حين‬
‫ُ‬
‫غنّت في األوليمبيا في باريس «فايق يا هوى» وأضيئت لها الشموع (والدموع)‪.‬‬
‫مجلّــة «الفيغــارو» َكتبــت عن «امرأة آتية من الشــرق أيقظت القلوب التي دخلــت عنو ًة في ‪...‬‬
‫َليــل الرخــام»‪ .‬وقالت ما من مطربة في التاريخ بذلك التنوُّع في الصوت حتّى َلتحتار‪ ،‬هل يتناهى‬
‫إليــك صــوت الحقــول‪ ،‬وصوت الغابات‪ ،‬أم صوت عاشــقة تمأل دقّ ُ‬
‫ات قلبها العا َل َ‬
‫ــم؟»‪ .‬تلك التي‬
‫غنّت «إلى راعية»‪ ،‬وحيث الحنين إلى العشب الذي ي ُضاجع أزهار اللّؤلؤ على أنغام الناي أو على‬
‫ايقــاع الريــح»‪ ،‬هي التي غنّت «كيفك إنت؟» بصيغة ٍ تبدو ال فيروزيّــة للوهلة األولى‪ .‬في الوهلة‬
‫الثانية تمتلئ بها‪.‬‬

‫في تلك اللّيلة الدمشقي ّة‬

‫محمّــد الماغــوط في تلك اللّيلة الدمشــقي ّة التي تخلّلتها تشــكيلة من أغنيــات فيروز‪ ،‬إذ وصف‬
‫أغنياتها بسمفوني ّة المطر الذي يقتل الضجر في عا َلم ّ‬
‫كل ما فيه يوحي بالكآبة‪ ،‬قال «حين يأتيني‬
‫صوتها أغدو ذلك اآلخر الذي ي ُراقِص بردى بدالً من هوايتي القاتلة في ُم َ‬
‫راقصة العدم»!‬
‫هو أيضاً لفتته اللّعبة الفلسفي ّة في ما وراء الصوت «الذي يترك لد ّ‬
‫ي عالمات استفهام ال تحصى‪.‬‬
‫تدق على صدري؛ أتذكّر الفيس بريسلي وهو يالعب بالروك أن رول‬
‫ّ‬ ‫مثلما أشعر بأ ّ‬
‫ن عصا أرسطو‬
‫ذلك الصخب الذي بات يستوطن حتّى جدران منازلنا»‪.‬‬
‫كنت في الجنّة أم‬
‫َ‬ ‫عقب زيارته بيروت‪ ،‬قال الروائي األميركي دوغالس كنيدي «هنا ال تدري ما إذا‬

‫‪20‬‬
‫لعلمت أين أنت‪،‬‬
‫َ‬ ‫زرت فيروز‬
‫َ‬ ‫في جهنّم»! رد َّ عليه صالح ســتيتي ّة‪ ،‬الشــاعر اللّبناني بالفرنسي ّة‪« :‬لو‬
‫ليس في بيروت فحسب‪ ،‬بل وفي ّ‬
‫كل ُمدن الدنيا»‪.‬‬
‫شــيء من هذا القبيل قاله اإلعالمي التلفزيوني الفرنســي فريدريك ميتران‪ ،‬ابن شقيق الرئيس‬
‫فرنســوا ميتــران الذي أصبــح وزيراً للثقافة؛ وقد وضع شــريطاً وثائقيّاً عنهــا بعدما أجرى معها‬
‫حديثاً تلفزيونيّاً وصفها خالله بـ«السي ّدة التي تسكن العا َلم»‪.‬‬
‫قف بارز قلَّدها وســام اآلداب في حف ٍ‬
‫ل‬ ‫أ َلم ُ‬
‫يقل وزي ٌر فرنســي آخر للثقافة‪ ..‬جاك النغ‪ ،‬وهو مث ّ‬

‫الملكــي‪ )LE PALAIS ROYAL(:‬يجعله يشــعر أنّه في الجنّة‪،‬‬


‫ّ‬ ‫مهيــب فــي القصــر إ ّ‬
‫ن صوت فيروز‬
‫ولحق بها إلى بعلبك ليعيش ليل ًة‬
‫َ‬ ‫بعدما كان قد تعرّف إليها حين كان في العشــرين من العمر‪،‬‬
‫سحري ّة في معبد باخوس؟‬
‫فــي ذروة األزمــة (أو األزمات) اللّبناني ّة‪ ،‬وفي الذكــرى المئوي ّة إلعالن قيام «دولة لبنان الكبير»‪،‬‬
‫زارهــا الرئيــس إيمانويل ماكرون ليتحد ّث بعد ذلك عن «ذلك اللّبنان الذي ي ُفترض أن يبقى من‬
‫فرنسي آنذاك‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫تلفزيوني‬
‫ٌّ‬ ‫راس ٌل‬
‫كمقاتلين من أجل األمل»‪ ،‬كما نَقَ َل ُم ِ‬‫أجل بقائنا ُ‬
‫إلق بأوراق‬ ‫ّ‬
‫دمنت الظــل‪ِ ،‬‬
‫ِ‬ ‫عمرك يا ســي ّدتي‪ ،‬وقد َأ‬
‫ِ‬ ‫تجــاوزت منتصــف الثمانيني ّات من‬
‫ِ‬ ‫اآلن‪ ،‬وقــد‬
‫أنت الطفلة التي‬
‫ِ‬ ‫الروزنامــة جانباً‪ .‬حتماً‪ ،‬هذه ليســت أوراق العمر التي تُشعشــع في أغنياتــك‪.‬‬
‫نســيها الزمــان َع ســطح الجيران‪ .‬هنــاك نراك‪ .‬هناك فقط ألنّك آخر ما تب ّ‬
‫قــى لنا من وط ٍ‬
‫ن كان‬
‫ٍ‬
‫لسنوات َخ َل ْ‬
‫ت (وسيكون) أريكة القمر‪ .‬‬
‫وأم كلثوم»‪ .‬كيف‬
‫ّ‬ ‫فــي القاهــرة قال لنا أمل دنقل‪« :‬الثالوث المقد ّس عندنا النيل واألهرامات‬
‫تتحد ّث في لبنان عن أعمدة جوبيتر في بعلبك‪ ،‬وال تقول إنّها هناك‪ .‬أ َلم يقل الفنّان التشكيلي‬
‫البعلبكــي رفيــق شــرف‪ ،‬المأخوذ بصورة عنترة بن شــد ّاد عــن األباطرة الرومــان‪« ،‬لقد رأيناهم‬
‫ّ‬
‫العشــاق‪ ،‬وبلوعــة القياصرة‪َ ،‬بني ْنا‬ ‫واحــداً واحــداً يهتفون لها‪ ..‬من أجل صوتك الذي امتأل بلوعة‬
‫هذه القلعة»؟‬
‫ّ‬
‫لكل العــرب‪ .‬ال جدار بين القلب‬ ‫ّ‬
‫لمكة وللقدس‪ ،‬وغنّت لدمشــق؛ غنّت‬ ‫التــي غنّــت لبيــروت‪ ،‬غنّت‬
‫والقلب‪ .‬هكذا يقول صوتها‪ .‬من أقاصي المشرق إلى اقاصي المغرب يرد ّدون «نعشق هواءكم‬
‫ونعشــق فيروز»‪ .‬في األوليمبيا كان هناك الخليجي‪ ،‬والمصري والســوري والمغربي والجزائري‬
‫والتونسي والفلسطيني‪ .‬كلّهم ص ّ‬
‫فقوا لها‪ ،‬وقفوا لها‪ .‬هذه المرأة تختزل أحزان العرب‪ ،‬وأفراح‬
‫العرب‪ ،‬وجراح العرب‪ ،‬وأي ّام العرب‪.‬‬
‫ن التاريخ سيبقى حائراً‪ ،‬رب ّما لقرون‪،‬‬ ‫ح ّ‬
‫قاً‪ ،‬عبقري ّة التنوّع‪ .‬هذا ما جعل محمّد عبد الوه ّاب يقول إ ّ‬

‫‪21‬‬
‫كيــف يأتــي بفيروز أخرى‪ .‬هذا الصوت يفتح أبواب التاريخ حين يفتح أبواب القلب‪ .‬أين نحن اآلن‪،‬‬
‫والمغنّون والمغنّيات يتناسلون على الشاشات مثلما تتناسل األرانب‪...‬‬
‫َ‬
‫وصــف أبا الطي ّب‬ ‫بــل أيــن ثقافتنا؟ لــوي آراغون‪ ،‬صاحب «مجنون إلســا» على خلفي ّة أندلســي ّة‪،‬‬
‫األلماني غونتــر غراس حين تحــد ّث عن «ثقافة‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫رائــع‬ ‫المتنبّــي بأنّــه «أعظــم شــاعر في التاريخ»‪.‬‬
‫د سعيد عقل في زاويته الصحافي ّة «أجراس الياسمين» األجهز َة األمني ّة‬
‫التفاهة»‪ .‬من زمان ناش َ‬
‫ّ‬
‫«كل َمن يلحق األذى بأحاسيسنا»!‬ ‫والقضائي ّة ُ‬
‫بمالحقة‬
‫البعض يخشى أن يضيع صوت فيروز بين ذلك الركام من األصوات التي الكثير منها يشبه هدير‬
‫الجــرّارات الزراعيّــة أو صهاريــج المازوت‪ .‬ذاك الصــوت الذي يتفاعل مع جدليّــة األزمنة‪ .‬من هنا‬
‫الدعوة إلى حماية التراث الفيروزي من «قراصنة القرن»‪.‬‬

‫صقيع الثقافات‬
‫رب ّمــا كانت المشــكلة عا َلمي ّة‪ .‬التدنّي الدراماتيكي في ّ‬
‫كل أشــكال اإلبــداع‪ .‬تحت عنوان «صقيع‬
‫المخرج الهوليوودي ديفيد لين (لورنس العرب‪ ،‬الدكتور جيفاغو‪ ،‬جسر على نهر‬ ‫َب ُ‬‫الثقافات»‪َ ،‬كت َ‬
‫كواي) عن الزلزال الذي َأحدثته الشبكة العنكبوتي ّة في الثقافات‪ .‬‬
‫الحظ أ ّ‬
‫ن التكنولوجيا أو السوبرتكنولوجيا التي أوشكت أن تنقلنا من حقبة الزمن إلى حقبة ما‬
‫بعد الزمن قد تنقلنا من اإلنسان إلى ما بعد اإلنسان‪ ،‬ورب ّما إلى ما قبل اإلنسان‪ ،‬ليسأل ما إذا‬
‫كان فرنســيس فوكوياما الذي َأطلق نظري ّة «نهاية التاريخ واإلنســان األخير» يقصد نهاية اإلبداع‬
‫محل إيــا فيتزجيرالد (اللّيدي‬
‫ّ‬ ‫نحــل اللّيدي غاغا‬
‫ّ‬ ‫البشــري‪ ...‬تاليــاً‪ ،‬نهاية الثقافــات‪ .‬وقال «لكأنّنا‬
‫إيال)»‪ ،‬ليسأل «هل هو الصعود أم الهبوط إلى قعر ّ‬
‫الاّلمعقول‪..‬؟»‪.‬‬
‫ّ‬
‫والاّل‬ ‫حين ننتقل إلى الخشبة اللّبناني ّة‪ ،‬نسأل ما إذا كانت األصوات االستثنائي ّة أمام أزمة البقاء‬
‫غطي الشاشــات‪ .‬كثيرات بالصوت الذي ي ُشــبه‬ ‫ّ‬
‫(الاّل وجوه) التي ت ُ ّ‬ ‫بقاء‪ .‬ذاك الطوفان من الوجوه‬
‫ْن يعتمد ْ َن على اإلثارة‪ ،‬وأحياناً إلى حدود االبتذال‪.‬‬
‫تن من األسماء البرّاقة‪ ،‬ما دم َ‬
‫ثغاء الماعز‪ِ ،‬ب َ‬
‫ٍ‬
‫بحركات بهلواني ّة‬ ‫المشــكلة فــي هذا الطراز من المغنّيــات أو المغنّين الذين يزرعون المســرح‬
‫لكأنّهــم فــي حلبــة لمصارعة الثيران‪ ،‬ال فــي المكان الذي ي ُفترض أن يتواصــل مع القلب‪ ،‬ال مع‬
‫الغرائز وال مع األقدام‪ .‬هؤالء الذين يشــبهون األلواح الخشــبي ّة الناطقة (أو الرسوم المتحرّكة‬
‫إن شــئتم) يســتقطبون المالييــن في أرجاء العا َلــم العربي‪ .‬هل ترانا وصلنا الــى هذا الحد ّ من‬
‫الضحالة والخواء‪...‬؟‬

‫‪22‬‬
‫بأمس الحاجة إلى استعادة لغة الروح إذا‬
‫ّ‬ ‫أشياء كثيرة وجميلة انكسرت‪ .‬ترانا نُبالغ ونحن الذين‬
‫قلنا «من هنا مرّ البرابرة»‪ ،‬ولك ْ‬
‫ن بمالبس زاهية وبموســيقى صاخبة يضيع فيها الصوت وتضيع‬
‫فيها األحاسيس‪.‬‬

‫إعادة تأهيل القلب‬


‫ٌ‬
‫مركز لإلشــعاع‪ ،‬وحيــث كان عمالقان مثل‬ ‫فاخــر بأنّه‬
‫َ‬ ‫‪ ‬داخــل هــذا الــركام ولبنان الــذي طالما‬
‫ن قضاء ليلة من ليالي الصيف في «جارة الوادي»‬ ‫محمّد عبد الوه ّاب وأحمد شــوقي َيعتبران أ ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫االغتســال بالســحر وإعادة «تأهيــل القلب»‪ ،‬ثمّة َمن‬ ‫(زحلــة)؛ وحيث أقيم تمثاالن لهما‪ ،‬يعني‬
‫ي ذاك اللّبنان الذي عشــقه العرب‪،‬‬ ‫يدعــو إلى تشــكيل «جبهة للدفاع عــن ّ‬
‫خط الدفاع األخير»‪ ،‬أ ّ‬
‫بل وعشقه العا َلم‪.‬‬

‫انكسار الرؤيا‬

‫صوت فيروز ينكسر‪ ،‬لكأنّه «انكسار الرؤيا»‪ ،‬كما كان يقول جورج جرداق‪ .‬مثلما تحمون‬
‫َ‬ ‫ال تَدعوا‬
‫غابــة األرز مــن العواصــف العاتية‪ ،‬ومــن اآلفات‪ ،‬احمــوا عبقري ّة فيــروز من‪ ‬األوبئــة التي تغزو‬
‫الشاشــات واإلذاعات وحتّى الشــوارع وغرف النوم‪ .‬تلك األوبئة التي تُقفل ما تب ّ‬
‫قى من أبواب‬
‫القمر‪...‬‬
‫يوم لفيروز‪ ،‬تلك القد ّيســة المتنسّ ــكة داخل محرابها (أو داخل صوتها)‪ .‬نعلم أ ّ‬
‫ن صوفيا لورين‬
‫ن َمن قال إ ّ‬
‫ن الروح تشــيخ‪،‬‬ ‫قالــت «لــم أكُــن أعلم أ ّ‬
‫ن الزمن يشــبه‪ ،‬أحياناً‪ ،‬عربــة الموتى»‪ .‬ولك ْ‬
‫الصــوت يشــيخ‪ ،‬حين تكون الروح مشــرَّعة على الباحثيــن عن لحظة الروح‪ ،‬وحيــن يكون الصوت‬
‫مشرَّعاً على الباحثين عن لحظة الجمر؟‬
‫مــن الطبيعي أن نتســاءل‪ :‬ماذا حين تتأمّل فيروز مــن وراء الزجاج (وال نقول زجاج القلب)‪ ،‬وال‬
‫ترى سوى الحطام؟ خائفون‪ ،‬خائفون فعال ً أن تتحوّل عيونُها‪ ،‬مثلما تحوّلت عيونُنا‪ ،‬إلى حطام‪  ..‬‬
‫كُتــب وأفــام عن إديث بياف وعن داليدا وعن‪ ‬بريتني ســبيرز وعن ســيلين ديون التي ذهبت بنا‬
‫إلــى حــدود الهذيــان بأغنيتها «قلبي يمضي قدماً» (في فيلم تايتانــك)‪ .‬ال كُتب عن فيروز‪ .‬لكأنّها‬
‫عابرة سبيل‪ .‬وق ْ ُ‬
‫ع أقدامها على الرمال‪ .‬سألنا‪ .‬قيل لنا إنّها هي َمن اختارت المسافة‪ .‬في الغرب‬
‫تنتفي المســافة بين الكاتب والفنّان أو الفنّانة‪ .‬إذاً تركتنا نقرأها‪ ،‬نقرأ حياتها وما وراء حيلتها‪،‬‬
‫في ّ‬
‫كل أغنياتها‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫لن نتوقّف عند ذلك السؤال الكالسيكي‪َ :‬من َصن ََع القبيلة الرحباني ّة؟ القبيلة الجميلة التي نصبت‬
‫خيامها في ّ‬
‫كل ديار العرب‪ .‬كما لو أ ّ‬
‫ن أحدهم يسأل عن الفارق بين الفراشة والوردة‪ ،‬بين رقصة‬
‫اللّقالق ورقصة الفالس‪ .‬هي رزمة من أشعّة الشمس‪ ،‬وكفى‪...‬‬
‫ّ‬
‫ككل‪ .‬هنا‬ ‫كعــرب‪ ،‬وال يــزال طيــف زرياب يتن ّ‬
‫قل في خيالنــا‪ ،‬معني ّون بفيروز‪ ،‬وبالقبيلــة الرحباني ّة‬
‫ّ‬
‫ُشــكل شــخصي ّتنا الحضاري ّة التي بحاجة‬ ‫فصول فذّة من تراثنا الفنّي والثقافي والفولكلوري‪ ،‬ما ي‬
‫اقترح‬
‫َ‬ ‫دائمــة إلــى ديناميكي ّة اإلبداع التي رافقت الحقب الزاهية مــن تاريخنا‪ ،‬حتّى أ ّ‬
‫ن هناك َمن‬
‫إدخال ماد ّة على منهاج كلي ّة الفنون الجميلة بعنوان‪« :‬فيروز» التي وصفتها الصحافة الفرنسي ّة‪،‬‬
‫إثر زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون لها بـ «المرأة الظاهرة»‪.‬‬
‫الن ّ‬
‫قاد الفني ّون الحظوا أنّها ليست كغيرها من المطربات الشهيرات َبقين داخل «الخزانة الواحدة»‪.‬‬
‫إمراة متعد ّدة األصوات ومتعد ّدة األبعاد‪ .‬من أصابع عاصي ومنصور الرحباني‪ ،‬إلى أصابع فيلمون‬
‫وهبي وزياد الرحباني (وحتّى محمّد عبد الوه ّاب)‪ .‬المســألة ليســت في تعد ُّد أو تنوُّع ُ‬
‫الملحّنين‪،‬‬
‫قدة والصدى لدى المتل ّ‬
‫قي‪.‬‬ ‫المذهل بين األلحان‪ ،‬بما في ذلك األلحان المع ّ‬
‫وإنّما في التكي ُّف ُ‬
‫وحتّى بالنسبة إلى المدارس الموسيقي ّة والغنائي ّة‪ ،‬من سي ّد درويش (طلعت يا ما حلى نورها)‬
‫األخويْــن رحباني َأدخال إلى بعض أعمالهما‬
‫َ‬ ‫إلــى زياد الرحباني (اشــتقتلّك)‪ ،‬وإن كان معلوماً أ ّ‬
‫ن‬
‫ٍ‬
‫لمســات مــن يوهــان شــتراوس وبيتــر تشايكوفســكي‪ ،‬إضافــة إلى جــوزف هايدن‬ ‫الفيروزيّــة‬
‫ُ‬
‫التقاطع السحري بين الترانيم‬ ‫وفريدريك شــوبان وحتّى لويس أرمســترونغ (الجاز)‪ .‬لن ننســى‬
‫ّ‬
‫والموشحات األندلسي ّة‪.‬‬ ‫الكنسي ّة‬
‫أكثــر مــن ‪ 800‬أغنيــة‪ .‬تنــو ٌُّع عبقري فــي األداء‪ ،‬وفي التفا ُعــل‪ .‬من األغنيات التــي تعكس بهجة‬
‫الطبيعــة‪ ،‬إلــى األغنيــات الوطني ّة البعيدة عــن الرتابة‪ .‬هنــا نضيع بين لهيب األحاســيس ولهيب‬
‫األقدام (خبطة قدمكم)‪ ،‬ومن األغنيات الرومانسي ّة‪ ،‬حيث سوناتا القمر تحت شبابيك العاشقة‪،‬‬
‫إلى األغنيات التراثي ّة التي تأخذنا إلى ليالينا العتيقة‪ ،‬وذكرياتنا العتيقة التي قد تكون زادنا األخير‬
‫في هذه األي ّام‪.‬‬
‫ُ‬
‫قرأت ذات يوم‬ ‫مــا مِ ــن لحظــة‪ ،‬ما مِ ن كلمة‪ ،‬في غير مكانها‪ .‬هل ندمــت على أغنية ما؟ ال أدري‪.‬‬
‫(الحظوا مدى الشفافي ّة) أنّها خائفة من أن تكون بعض األغنيات التي أد ّتها هي التي ندمت!!‬
‫رجــاء‪ ،‬ال تدقّــوا على بابها‪ .‬أتركــوا فيروز لفيروز‪ .‬هكذا فهمنا كصحافي ّيــن يفترض أن نكون على‬
‫تماس مع النجوم‪ .‬هذا ال يمنعنا من التســاؤل‪ ،‬ولو همســاً‪ ،‬ألســنا كلّنا ضحايا الزمن‪ ،‬ويجرّنا‬
‫ٍّ‬
‫الزمن إلى حيث يشاء؟‬

‫‪24‬‬
‫االحتياط االســتراتيجي للبنان‪ .‬هي الذهب‪ ،‬وهي الجوهــرة‪ ،‬أهمّ بكثير من احتياط‬
‫َ‬ ‫صوتهــا يبقى‬
‫ي أقبية أخرى‪ .‬سفير عربي في بيروت قال لنا في بدايات‬
‫الذهب في أقبية البنك المركزي‪ ،‬أو في أ ّ‬
‫األزمة‪« :‬كيف للهيكل أن يتداعى وعندكم حارسة الهيكل؟»‪ .‬ماذا ي ُمكن لـ»ناطورة المفاتيح» أن‬
‫تفعل أمام األبواب الصدئة والرؤوس الصدئة؟‪ ‬‬
‫هنا وفي هذه األيقونة‪ ،‬ثنائي ّة الصوت والقلب‪ .‬ذات الصوت المالئكي أيضاً ذات القلب المالئكي‪.‬‬
‫ّ‬
‫كل َمــن عمــل معها على مــدى زهاء نصف قرن‪ ،‬تحــد َّث عن الرهافة في التعاطــي‪ .‬وجهها الذي‬
‫يوحي أحياناً بالكثير من الجدي ّة أو الجفاء (والجفاف)‪ ،‬ال يعكس قطعاً ما في داخلها‪.‬‬
‫بمنتهى الرقّة تتعامل مع سائر أفراد الفريق وصوالً إلى ّ‬
‫كل العاملين في المكان‪ .‬تَطرب للحن‬
‫ّ‬
‫الظل‪ .‬هكذا قال ســفير أوروبي زارها مع‬ ‫ٍ‬
‫بصوت عا ٍ‬
‫ل للنكتة الخفيفة‬ ‫الجميل وتُدنْدِن وتضحك‬
‫زوجته اللّبناني ّة‪« :‬تريدون خالص لبنان؟ لتكن هذه األيقونة‪ ...‬الملكة»‪.‬‬
‫«بــت أخــاف عليكم من فائض الكراهي ّة الذي يستشــري في ّ‬
‫كل مــكان‪ .‬أنتم الذين كنتم‬ ‫ّ‬ ‫وقــال‬
‫توزّعــون الهــواء والشــعر على ضيوفكــم‪ .‬ال تنتهوا هكذا‪ ،‬أرجوكم‪ .‬اغتســلوا ليل نهــار بأغنيات‬
‫فيروز‪ ،‬ولسوف ترون كيف تعودون قبلة العا َلم وقلب العا َلم»‪  .‬‬
‫بالحــرف الواحــد قال زائــر عربي كبير «ابقوا مكانكم‪ ،‬وال تقلّدوا الطيــور المهاجرة‪ .‬هذا المكان‬
‫من األرض ال يليق ّ‬
‫إاّل بكم»‪ .‬‬
‫لــن نُهاجــر ونتــرك فيروز وحيــدة تنظر مــن وراء الزجاج لترى بقايــا الزجاج البشــري على أرصفة‬
‫المرافئ‪ .‬هي المرفأ الذي ترسو عنده األشرعة من أي ّام األرجوان‪.‬‬
‫وقلنا إنّها اللّغة التي يتكلّم بها القمر‪ .‬مثلما هي أيقونة لبنان‪ ،‬هي أيقونة العرب‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫هنري زغيب*‬

‫ٌ‬
‫شــمس‬ ‫ل طويل‪َ ،‬أشــرقت‬ ‫د َح صوتُها‪ ،‬قبــل ث ُ َ‬
‫لثي قرن (‪ )1957‬على َأدراج بعلبك بعد لي ٍ‬ ‫منــذ صــ َ‬
‫األعمدة والهياكل‪.‬‬ ‫لبناني ّة من سكون َ‬

‫كل مكان حتّى يح ِّيرك كيف استقبالُك ِإي ّاه‪...‬‬ ‫صوتُها الذي يأْتيك من ّ‬

‫ك أنت‪ ،‬كي ال تفوتك لحظة من انسكابه‪...‬‬ ‫ُ‬


‫الصوت الذي ي ُنسيك معه أن َّ َ‬
‫ح شعراً حتّى باتت سي ّدتُه «شاعر َة الصوت»‪...‬‬ ‫َّ‬
‫ظل ينض ُ‬ ‫ُ‬
‫الصوت الذي‬
‫ٌ‬
‫عنوان آخر للوطن‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الصوت‪ ،‬في عصرنا‪،‬‬ ‫هذا‬
‫م واحدٍ‪َ ،‬أو رب ّما َ‬
‫بأكثر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تعريفها ِباسْ ٍ‬ ‫من َ‬
‫األوطان َما ي ُمكن‬
‫نحن؟ نختصر‪ .‬نقول‪« :‬لبنان» فيجيب السامع‪« :‬يعني وطن فيروز»!‬

‫‪-1-‬‬
‫منذ إطاللتها األُولى‪ ،‬قبل ثالثة َأرباع القرن (‪َ ،)1947‬‬
‫بدأت ُ‬
‫«م َتو ََّج ًة بالمجد» كما قال لي منصور‬ ‫ِ‬
‫األخوين رحباني»‪َ .‬‬ ‫لوضع كتابي «في رحاب َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫«إضاف ًة ِإلى‬
‫كمل‪ِ :‬‬
‫وأ َ‬ ‫الرحباني في أولى جلساتي ِإليه‬
‫ُ‬
‫طالقة صوتها ممـيَّـــزة‪،‬‬ ‫ظاهرة ال تـــتكرَّر‪ :‬صوتُها ممي َّز‪ِ ،‬إ‬
‫ٌ‬ ‫جمــال صوتهــا وموهبتِها الخارقة‪ ،‬هي‬
‫ِ‬
‫ل وتجارب ‪ -‬جعل‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫خوارق وممّا خل َف هذا الصوت مــن َصق ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫وكل مــا جــاء فــي هذا الصوت ‪ -‬مــن‬
‫تأثَّر به الناس‪ ،‬حتّى الشــعراءُ في لبنــان والعا َلم العربي‪َ ،‬‬
‫ألنّه‬ ‫منــه رمــزاً مــن رموز هذا العصر‪َ .‬‬

‫ٍ‬
‫صوت وحسب»‪.‬‬ ‫لم ُ‬
‫يكن مجرَّد‬
‫الـــمطالع هتَف ســعيد عقل‪« :‬هذه سفيرتُـــنا ِإلــى النجوم»‪ ،‬وقال نــزار قب ّاني‪« :‬قصيدتي‬
‫َ‬ ‫منــذ‬
‫َّ ً ُ‬
‫اكتســت حُلة أخرى من الشعر»‪.‬‬
‫َ‬ ‫بصوتها‬

‫*شاعر لبناني‬

‫‪28‬‬
‫ٍ‬
‫يوم‬ ‫ذات‬ ‫اإلذاعة اللّبناني ّة واستدعاها‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫يوم في ِ‬ ‫سمعها حليم الرومي ذات‬‫َ‬ ‫الخجول التي‬ ‫الصبي ّة‬

‫عر ُف ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬


‫ك بالعازف‬ ‫ســاهم العينيْــن‪ ،‬ليقول لها‪« :‬يا بنتــي‪ ،‬أ ِّ‬ ‫ناحل‬ ‫آخــر ِإلى مكتبه‪ ،‬وكان فيه شــابٌّ‬
‫َ‬
‫س ِإلى َأين هذا‬‫وســيعطيك من َألحانه»‪ ،‬هل كانت تَحد ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫والملحــن عاصــي الرحباني‪ ،‬تدرَّبي معه‬
‫ِّ‬
‫ســيوصل صوتها الفذ َّ وموهبتها الخارقة؟‬
‫ِ‬ ‫ي الفذ ُّ‬
‫العبقر ُّ‬

‫ويكتمــل ســعد ُ الق َ‬


‫در‪ ،‬فتتزوَّج نهاد حد ّاد (فيروز) من عاصي الرحبانــي (‪ 23‬كانون الثاني‪ /‬يناير‬

‫ذات الحضور اآلسر والصوت المفرد‪ ،‬فانضمَّت ِإلينا‪َ .‬أصبحنا‬


‫ُ‬ ‫‪ .)1955‬يقول منصور‪« :‬جاءَت فيروز‬

‫األفكار التي يحملُها»‪.‬‬


‫سب في الوعي سامعه َ‬ ‫ثالثة‪ .‬وراح صوتُها يخترق الحواجز العاطفي ّة‪ ،‬وي َُر ِّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫«بعــض َ‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بعضها منارة‪.‬‬ ‫بعضها شــاطئ‪.‬‬ ‫األصوات ســفينة‪.‬‬ ‫مــن هنا يقول الشــاعر أنســي الحاج‪:‬‬
‫َ‬
‫و‪«...‬األكثر»‬ ‫ُ‬
‫والشاطئ والمنارة‪ .‬هو الشعر والموسيقى والصوت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫السفينة‬ ‫وصوت فيروز هو‬

‫من الشعر والموسيقى والصوت»‪.‬‬

‫َّ‬
‫يتقطر في ســمعك‪.‬‬ ‫د‪ِ :‬إنّه الصوت الذي تَشــربه روحُك قبل َأن‬
‫د بعد ُ َأبع َ‬ ‫بلى‪َ ...‬‬
‫وأبع َ‬

‫يســجله التاريخُ عنواناً َ‬


‫آخر للوطن‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫لذا هو الصوت الذي‬

‫‪-2-‬‬

‫ِم هذه المقد ّمة عن الصوت؟‬


‫ل َ‬
‫ن ســ ِّيدته ليســت مجرّد «صوت»‪َ .‬‬
‫ألنّنا‪ ،‬حين نقول «فيروز»‪ ،‬ال نقتصر على الصوت‪.‬‬ ‫َ‬
‫أل ّ‬

‫نقول «فيروز» لنعني خمســاً من الصفات نادراً ما تنْجمع في َموهبة‪.‬‬

‫كبار شعراء العصر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫‪ .1‬الصوت‪ :‬ويكفي َأنّه َألهم شــعراً‬

‫تؤ ِّدي أُغني ًة َأو َمشــهداً مســرحيّاً‪ُ .‬‬


‫ومشاهدو مسرحي ّة‬ ‫ٌ‬
‫ســاطع لديها حين َ‬ ‫اإلحســاس‪ :‬وهو‬‫‪ِ .2‬‬
‫ِمت‬ ‫ْ‬
‫المؤتمرات ‪ -‬صيف ‪ )1977‬يذكرون كيف َأنّها‪ ،‬كملِكة «پترا»‪ ،‬حين عل َ‬ ‫«پترا» في عمَّان (قصر‬
‫خطفوا ابنتها الصغيرة َ‬
‫األميرة پترا‪،‬‬ ‫بــأ ّ‬
‫ن الجنود الرومان َ‬
‫انهمرت دمعتُهــا‪ ،‬وكانت تعتمر‬
‫َ‬ ‫زغيــره‪ ،‬اغفريلي»‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وراحــت تغنّــي لها‪« :‬يا عصفــورة الجنوب‪ ،‬يا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ن على وجهها ْ‬
‫لؤ َ‬ ‫منديــا ً ذا حبّــة ْ‬
‫لؤلؤ‪ ،‬فبــدا َ‬
‫دها‪.‬‬
‫لؤتَين‪ :‬أولى على جبينها‪ ،‬واألخرى على خ ِّ‬ ‫كأ ّ‬

‫الفصحى‪ ،‬وهي َأتقن ِ‬


‫َــت الل ّ َ‬
‫فظ منذ مطالعها‪،‬‬ ‫‪ .3‬اللّفــظ الســليم َ‬
‫ومخــارج الحروف‪ :‬خصوصاً في ُ‬

‫ظها في غناء‬ ‫(مكتشــفها َ‬


‫األوّل) على التجويد القرآني‪َ ،‬‬
‫فأجا َدتْه وبات لفْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِإذ درَّبها محمّد فليفل‬

‫ماً ممتازاً فال تَل ْ َحن‪ .‬ومن ِإتقانها الل ّ َ‬


‫فظ الســليم‪،‬‬ ‫القصائد تا ّ‬

‫‪29‬‬
‫ُ‬
‫فتلفظ الذال والثاء والقاف بالصيغة الســليمة‪.‬‬ ‫ضبطت َمخارج الحروف‬
‫َ‬
‫د َ‬
‫وألحان‪ ،‬بل حمل صوتُها‪ ،‬غناءً ومسرحاً‪ ،‬ق َيماً‬ ‫‪ .4‬المضمون‪ :‬لم يقتصر صوتُها على غناء قصائ َ‬
‫فكريّــة وحضاريّــة وجمالي ّة ووطنيّــة َج َع َل منها َأوســم ًة خالد ًة في الوجدان الشــعبي والذاكرة‬
‫الجماعي ّة‪.‬‬
‫ِ‬
‫(«اآلســر»‪ ،‬بتعبير‬ ‫اإلحســاس في َأداء َأغانيها ِإلى حضورها المســرحي‬ ‫َ‬
‫‪ .5‬األداء‪ :‬هنا نعب ُر من ِ‬
‫دوارها المســرحي ّة فــي ِإدهاش َأكثر المم ِّثالت احترافاً على‬
‫َ‬ ‫منصــور الرحباني) ما جع َلها ت ُ َؤ ِّدي َأ‬
‫ور «الملكــة زنّوبيا» و«ملكة پترا» ببراع ِة ما َأد َّت بي َّاع َة‬
‫المســرح َأو َأمــام الكاميرا‪ .‬فهي َأد َّت َد َ‬
‫البنــدورة في «الشــخص»‪َ ،‬أو «غربــة» ابنة مدلج الثائرة في «جبال الصــوَّان»‪َ ،‬أو «هالة» البنت‬
‫ج التاني» في «هالة والملك»‪َ ،‬أو الصبي ّة «عطر اللّيل» رسولة َ‬
‫األمير‬ ‫البريئة اآلتية ِإلى «عيد الو ّ‬
‫ِإلى شــعب لبنان في مسرحي ّة «فخر الد ّين»‪.‬‬
‫‪-3-‬‬
‫اإلرث الرحبانــي وتوصلُه ِإلى آخر‬
‫هــذه الفــرادة في الصــوت والحضور‪ ،‬هي التي جعلتْهــا تحمل ِ‬
‫ُ‬ ‫الدنيا‪ ،‬وهو ما لم ُ‬
‫يكن ُممكناً َأن ي ُعطى ســواها بتلك المســؤولي ّة َ‬
‫الرسولي ّة العليا‪.‬‬
‫يوم هي الصبي ّة‬
‫َ‬ ‫د َرهــا كان‪ ،‬منذ مطالعها‪ ،‬يرســم لها هذه المســيرة‪ ،‬منذ ســنة ‪،1947‬‬ ‫ّ‬
‫ولعــل ق َ‬
‫هتْها مديرة «مدرسة حوض الوالية للبنات» السي ّدة سلمى قربان لتلتقي‬ ‫الخجول نُهاد حد ّاد َن َ‬
‫د َ‬
‫شعر‬‫محمّد فليفل الذي كان يبحث عن َأصوات للكورس تمهيداً ِإلطالق «نشــيد الشــجرة» من ِ‬
‫ُ‬
‫محمّد يوســف حمّود الفائز بالجائزة األولى في مســابقة ٍ َأطلقَ تْهــا الحكومة ت ََوازياً مع ِإعالنها‬
‫األوّل من كانون َ‬
‫األوّل‪ /‬ديسمبر‪.‬‬ ‫«عيد الشــجرة» سنويّاً في َ‬

‫الاّلحقــة‪ ،‬مــن ُعهــدة فليفــل الــذي َأوص َلهــا ِإلى‬


‫در يواكب ُهــا فــي الخطــوات ّ‬ ‫َّ‬
‫وظــل هــذا القــ َ‬
‫اإلذاعة‬ ‫رئيســه وديع صبرا َأربع سنوات‪ ،‬ثمّ َ‬
‫نص َح بانضمامها ِإلى ِ‬ ‫ُ‬ ‫الكونســرڤاتوار‪ ،‬تع ََّهدها فيه‬
‫والملحن الشــاب‬
‫ِّ‬ ‫فجم َعهــا بالعازف‬
‫َ‬ ‫اللّبنانيّــة‪ ،‬وفيهــا تعهَّدهــا حليــم الرومي لفــرادة صوتها‬
‫األضالع‪َ :‬‬
‫األخَوان‬ ‫ع رائد ٍ مثلَّث َ‬ ‫ُ‬
‫عاصي الرحباني‪ ،‬ومن لحظتها كان انطالقها التاريخي ِإلى مشرو ٍ‬
‫عاصــي ومنصور الرحباني كتابــ ًة وتلحيناً‪ ،‬وفيروز نجمته الفريدة تعهَّدته َأداءً غنائيّاً ومســرحيّاً‬

‫كرَّس خلوده‪.‬‬
‫دب الرحباني‪ ،‬واثقاً من جذعه المتين‪َ ،‬أقلع برحلة فني ّة مكثَّفة ٍ نجحت‪ ،‬بما ســوى ثالثة‬ ‫هكذا َ‬
‫األ ُ‬

‫عقود‪ ،‬في َأن غي َّرت وجه الشرق‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫«األدب» الرحبانــي‪ ،‬قلــت؟ وهــل ي ُمكن الحديث عــن «أدب رحباني»؟ طبعــاً ي ُمكن‪ .‬وهل ِ‬
‫اإلرث‬
‫َ‬
‫خالف ذلك‪،‬‬ ‫رث َ‬
‫«أدبي»؟ كيــف ِإذاً ي ُمكــن‪،‬‬ ‫الكتابــي‪ ،‬قصائــد وحــوارات ومســرحي ّات‪َ ،‬أ ُّ‬
‫قل مــن ِإ ٍ‬
‫َ‬
‫«األدب» الشكســپيري‪ ،‬وهو كان كذلك قصائد وحوارات ومسرحي ّات؟‬ ‫ُ‬
‫تعريف‬
‫«األدب»‪ ،‬قلت؟ هل هي مجرَّد «مرآة» إليصال ذاك َ‬
‫األدب؟ طبعاً ال‪ .‬هي َأكثر‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫نجمــة ذاك‬ ‫فيــروز‬
‫ِ‬
‫مــن مجرَّد صوت يوصل لحناً وكالماً‪.‬‬
‫وأبتعد‬‫«األدب»‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫األدبي َ‬
‫األكاديمي في ُمقاربتي هذا‬ ‫وإنّني‪ ،‬في هذا المقال‪َ ،‬أبتعد ُ عن التحليل َ‬
‫ِ‬
‫عني ِإعجابــاً بعبقري ّة‬ ‫ْ‬
‫جمعتني بعاصي ومنصــور‪ ،‬وترف ُ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫توازيــاً عــن التأثر بعاطفــة الصداقة التــي‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اإلرث الرحباني من أفق االنطباع غير الشخصي‪.‬‬ ‫ددة العطايا‪ ،‬ألدخل ِإلى ِ‬ ‫الفرادة الفيروزي ّة المتع ِّ‬
‫‪-4-‬‬
‫ُ‬ ‫َأبدأ ُ بالوحدة ُ‬
‫الصغرى‪ :‬األغنية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اإلذاعة اللّبناني ّة من َألحان‬ ‫َ‬
‫حصــر لألغنيــات األولى التي أد َّتْها فيروز ِإب َّان ســنواتها الباكرة في ِ‬
‫َ‬ ‫ال‬
‫ُ‬
‫ن األغنية التي َأطلقَ ْ‬
‫ت شــهرتَها‬ ‫حليــم الرومــي وجورج فــرح وجورج ضاهر وســواهم‪ .‬ســوى َأ ّ‬
‫ن انتشــارها َ‬
‫األوســع كان‬ ‫اإلذاعة اللّبناني ّة نحو ســنة ‪ 1951‬لك ّ‬
‫صدرت من ِ‬
‫َ‬ ‫الرحباني ّة هي “عتاب”‪.‬‬
‫َ‬
‫المؤ ِّرخ‬ ‫بصدورها مسجَّ َلة من ِإذاعة دمشق (في ‪ 12‬تشرين الثاني‪ /‬نوفمبر ‪ 1952‬على ما يذكر‬
‫ي سعد اللّه آغا القلعة)‪ ..‬فماذا عنها شعراً‪ ،‬لحناً‪َ ،‬‬
‫وأداءً؟‬ ‫الموســيقي الســور ّ‬
‫أ‪ .‬شــعراً‪ :‬هــذه القصيــدة لألَخوين رحبانــي هي من الشــعر العمودي غير المكتــوب على طراز‬
‫األغاني المأْلوف (الزمة ومذهب)‪َ ،‬‬
‫وأنّها بعيدة عن بكائي ّة ٍ انســحاقي ّة كانت ســائد ًة فترتئذٍ‪ .‬فيها‬ ‫َ‬
‫األنوف ذات الكرامة‪ .‬وهذا نمط ســاد في جميع َ‬
‫األعمــال الرحباني ّة‬ ‫المــرأة َ‬
‫َ‬ ‫عتــاب‪ ،‬لكنّــه عتاب‬
‫المرأة ُمنحنية الشــخصي ّة َأو ذليلتَها َأمام الرجل‪.‬‬
‫َ‬ ‫التالية‪ ،‬فلم تظهر فيها‬
‫المختزنَين علْماً وثقاف ًة من الموســيقى الغربي ّة وموهب ًة‬
‫ِ‬ ‫خوين رحبانــي‪،‬‬ ‫ب‪ .‬لحنــاً‪ :‬فــي لحن َ‬
‫األ َ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫غنيات شــائعة ال عمق‬ ‫شــخصيهما‪َ ،‬أنّها من ركائز الطرب غير الخفيف‪ ،‬كما صدر فترتئذ ٍ في أ‬
‫َ‬ ‫في‬
‫ن شــرقي خالص‪َ ،‬أضاء َأفقاً جديــداً للتلحين اللّبناني في‬ ‫ُ‬
‫ذات لح ٍ‬ ‫فيهــا للطــرب َ‬
‫األصيــل‪ِ .‬إنّها ِإذاً‬

‫األخَوان رحباني الحقاً مســاحات‬ ‫تلك الفترة التأْسيســي ّة من تاريخ األُغنية اللّبناني ّة التي غزا بها َ‬
‫العا َلــم العربــي‪ .‬هكــذا‪ ،‬بالتوزيع الشــرقي لهــذا اللّحن الشــرقي‪ ،‬المضبــوط إيقاعيّــاً َ‬
‫وأدائيّاً‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫الموجزَ ة على غِ نى‪ ،‬كانت‬
‫َ‬ ‫نمطاً في أســلوب الكتابــة الرحباني ّة المقت ََضبة على جمــال‪،‬‬
‫والســريع َ‬
‫ُ‬
‫أغنية «عتاب» جديد ًة مغايِ َر ًة بتكثيفها الطربي (عكس المطوَّالت الرائجة في عصرها)‪ ،‬ما جعلها‬
‫ت ُروج في الذائقة الشــعبي ّة‪ ،‬وتالقي نضار ًة ما زالت حي ّة فيها حتّى اليوم‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ُ‬
‫ج‪َ .‬أداءً‪ :‬فــي هــذه األغنية‪ ،‬وبما يختزن صوت فيروز من صقْ ٍ‬
‫ل صعــب َب َل َغت ْ ُه بت َ‬
‫َمي ُّز ٍ بديع‪ ،‬وقبلها‬
‫انضبط صوتُهــا َأكثر في َأداء هذه القصيدة‪،‬‬
‫َ‬ ‫كان الصــوت باحثــاً عن هوي ّتــه لبلوغ التركيز الثابت‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مســافات‬ ‫شــب ََّك ًة صعب ًة َأجا َدتْها بقدرة ٍ عالية‪ ،‬بارع ِة المدى المســكوب في‬‫فأطلقَ ت فيها ُع َرباً ُم َ‬ ‫َ‬
‫وأطلقها ْ‬
‫لؤ َ‬
‫لؤ ًة نادر ًة في تركيز‬ ‫ُ‬
‫المصقول زخماً ورخامــ ًة معاً‪َ ،‬‬ ‫جمعها صوتُها‬ ‫ٍ‬
‫ــدات صوتيّــة‬ ‫وتبا ُع‬
‫َ‬
‫فلوات الشــرق والغرب‪ ،‬لتتكرّس‬ ‫ِ‬ ‫األُغنيــة اللّبنانيّــة فجع َلتْها فيروز تَعب ُر العا َلم العربي‪ ،‬والحقاً‬

‫ل مقْبل‪.‬‬ ‫المفردة لزم ٍ‬


‫ن طوي ٍ‬ ‫َ‬ ‫بهــا فيروز َأيقون َة هذا العصر‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بخيوط شــخصي ّة في عالقة حبّ ومالبســاتها بين عاصي «األستاذ»‬ ‫ن لهذه القصيدة عالق ًة‬
‫ي ُقال ِإ ّ‬
‫ونهاد «تلميذته» في تلك الفترة العاطفي ّة الباكرة التي ســبقَ ت زواجهما الحقاً؛ لكنّني ال َأتبنَّى‬
‫شــخصي بينهما وال ِإسناد له‪.‬‬ ‫األمر وال َأنفيه‪ ،‬فهو‬ ‫هذا َ‬
‫ٌّ‬
‫األخوان رحباني تباعاً من‬ ‫وكل ما جاء بعدها من أُغنيات‪َ ،‬‬
‫يؤ ِّكد ما جاء به َ‬ ‫ِّ‬ ‫مــا ي ُقــال عن «عتــاب»‬
‫المنغمس في َ‬
‫األلحــان المصري ّة‬ ‫«جديــد» نَقــل األُغنيــة اللّبناني ّة‪ ،‬كــ«وحــدة فني ّة» من عهدهــا ُ‬
‫الطابع والبدوي ّة الهوى والتطويل التطريبي العربي‪َ ،‬‬
‫وأعطاها هوي ّ ًة لبناني ّ ًة مســتقل ّ ًة ســطعت‬
‫ســطع بها‪ ،‬لِما تختزنه من مواهب جمّة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بها فيروز‪ ،‬كما ال ي ُمكن َأن يكون ســواها‬
‫ُ‬
‫ومــا قلتُــه عن األغنية المســتقلّة كـ«وحدة ُصغــرى»‪َ ،‬أقولُه عن الحــوارات الغنائي ّة التي ال تَخرج‬
‫بأبهى حاالتها َ‬
‫األدائي ّة («ســهرة حب»‪ ،‬أنموذجاً)‪.‬‬ ‫عن هذه المعايير َأعاله‪ ،‬وتتجلَّى فيها فيروز َ‬

‫‪-5-‬‬
‫من وحدة األُغنية َأنتقل إلى الوحدة األُخرى في َ‬
‫األدب الرحباني‪ :‬المســرح‪.‬‬ ‫ِ‬
‫المطالع‪ .‬فحتّى العام‬ ‫ُّ‬
‫بالتمكن في الحضور‪ ،‬على الرّغم من صعوبــة َ‬ ‫هنــا تجلَّــت موهبة فيــروز‬
‫اإلذاعة اللّبناني ّة‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫‪ ،1956‬لــم يكــن الجمهور يعرف من فيروز ِإاَّل صوتَها يصدح فائــق العذوبة من ِ‬
‫تكن في‬ ‫األدنى‪ .‬وحتّى صورتُها في الصحافة لم ُ‬ ‫وإذاعة دمشــق وإذاعة القاهرة وإذاعة الشــرق َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ٌ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫صدرت لها صورة أولى في مجلة «الصي ّاد»‪.‬‬
‫َ‬ ‫التداوُل ِإاَّل نادراً؛ فما ِإاّل ســنة ‪ 1953‬حتّى‬
‫ومواج ُ‬
‫هــة جمهــور ٍ عريض تغنّي لــه في وقفة‬ ‫لــذا كان مــن الصعوبــة صعودُهــا على المســرح ُ َ‬
‫اإلذاعة‪ ،‬حتّى تمَّ ذلك‪ ،‬ال مــن دون تردُّد ٍ‬ ‫َ‬
‫ل‬
‫وخج ٍ‬
‫َ‬ ‫ُمختلفــة تمامــاً عــن وقفتها أمــام مايكروفون ِ‬
‫ُ‬
‫وارتباك‪ ،‬ليلتَي ‪ 31‬آب‪ /‬أغسطس و‪َ 1‬أيلول‪ /‬سپتمبر ‪ 1957‬على مدرج جوپيتر في هياكل بعلبك‬
‫األوّل رحبانيّاً كامال ً بعنوان‬‫األثري ّة‪ .‬كان افتتاح الســهرة بأُغنية «لبنان يا َأخضر حلو» في الفصل َ‬
‫َ‬
‫المخرج صبري الشريف لهذه األُغنية االفتتاحي ّة َموضعاً عالياً ت ُ ّ‬
‫طل‬ ‫ُ‬ ‫خصص‬‫«أي ّام الحصاد»‪ .‬يومها َّ‬ ‫َ‬

‫‪32‬‬
‫منه فيروز وسْ ط ضوءٍ ينهمل عليها من بعيد‪ ،‬فبانت َ‬
‫كأنّها تطير في عتمة الفراغ القاتم حولها‪.‬‬
‫وما زال المشــهد في ذاكرة َمن حضروا تَينك َ‬
‫األمســيتَين (نحو ‪ 5000‬مشــاهد ّ‬
‫كل ليلة)‪ ،‬وما‬
‫صدرت قبل ‪ 65‬ســنة‪.‬‬
‫َ‬ ‫زالت هذه األُغنية حتّى اليوم تترد َّد نضر ًة عذب ًة ال َ‬
‫كأنها‬
‫بدأت فيــروز‪ِ ،‬بطاقتها الموثوقــة‪ ،‬تعتاد علــى مواجهة الجمهــور‪ ،‬فتوثَّقت وقْفتها‬
‫مــن يومهــا َ‬
‫َأكثــر فــي اللّيلة اللّبناني ّة من مهرجان بعلبك بعــد صيفَ ين (‪ )1959‬إذ تولَّى الفصل َ‬
‫األوّل محمّد‬ ‫ِ‬
‫محســن‪ ،‬زكــي ناصيــف‪ ،‬توفيق الباشــا‪ ،‬فيلمون وهبه‪ ،‬وتولَّــى َ‬
‫األخوان رحبانــي الفصل الثاني‪،‬‬
‫ُ‬
‫فقد َّمــا مشــهداً بعنــوان «محاكمة»‪َ ،‬أد َّت فيه فيروز أغنيات ما زالت شــائعة حتّى اليوم‪ ،‬منها‪:‬‬
‫«يــا قمــر َأنا واي ّاك»‪« ،‬ما فيه حدا»‪« ،‬يا تالل صنوبر ضيعتنا»‪.‬‬
‫ن موهبــة فيــروز المفــردة لــم تتوقَّــف عنــد الوقوف غنــاءً خلــف مايكروفون المســرح‬
‫غيــر َأ ّ‬
‫َأمــام الجمهــور في هياكل بعلبك‪ ،‬بل ارتقــت عليه من َ‬
‫األغاني المســتقلّة والحوارات الغنائي ّة‬
‫(«البعلبكي ّة» ‪ 1961‬و«جسر القمر» ‪ِ )1962‬إلى مطالع التمثيل («اللّيل والقنديل» ‪ -‬كازينو لبنان‬
‫َ ُّ‬ ‫َ‬
‫‪« ،1963‬بيَّــاع الخواتــم» ‪ -‬األرز ‪ )1964‬بلوغاً ِإلى تألقها في قمم المواقف التمثيلي ّة ِ‬
‫(«إي ّام فخر‬
‫الد ّيــن» ‪ -‬بعلبــك ‪« ،1966‬جبال الصوّان» ‪ -‬بعلبك ‪ ،1969‬و«ناطورة المفاتيح» ‪ -‬بعلبك ‪.)1972‬‬
‫(معظمه على مســرح «الپيكا ِد ِّلــي» ‪ -‬بيروت)‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وحيــن انتقــل المســرح الرحباني ِإلــى المدينة‬
‫ســطعت فيــه فيــروز ممثّلــ ًة ُمبدعــة بمســتوى ما هــي مغنِّي ّة ُمبدعــة‪ ،‬منذ «هالــة والملك»‬
‫َ‬
‫(‪ )1967‬حتّى «بترا» (‪ )1977‬طيلة عشــر ســنوات مثْمرة ٍ َأعماالً مسرحي ّة َأد َّتها فيروز في بيروت‬
‫مســجل ًة فيها اإلبداع‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫والمــدن العربي ّة والغربيّــة‬ ‫ودمشــق وعمَّــان وســواها من العواصــم‬
‫اللّبنانــي رحبانيّاً وفيروزيّاً‪.‬‬
‫‪-6-‬‬
‫بعد المايكروفون فالمســرح‪َ ،‬أختم بالوســيطة الثالثة‪ :‬فيروز في السينما‪.‬‬
‫نصاً وغناءً‪ ،‬سطعت فيروز‬ ‫ٍ‬
‫وحوارات غنائي ّة وتمثيال ً مسرحيّاً ّ‬ ‫هنا َأيضاً‪ ،‬بنجاح َأدائها غناءً ِإفراديّاً‬

‫ممثّل ًة جديرة َأمام الكاميرا في َأدوار ٍ مركَّبة وصعبة‪« :‬ريما» في «بي ّاع الخواتم» (‪ِ - 1965‬إخراج‬
‫«عدلى» في «ســفَ ر برلك» (‪ِ - 1967‬إخراج هنري بركات) و«نجمة» في «بنت‬
‫يوســف شــاهين)‪َ ،‬‬
‫الحارس» (‪ِ - 1968‬إخراج هنري بركات)‪.‬‬
‫طر انفعــاالً جديرة َ‬
‫بأدائه‬ ‫وتجلّــت موهبتهــا التمثيلي ّة ســينمائيّاً فــي لحظات من المشــاهد تقْ ُ‬

‫خطيبها‬
‫َ‬ ‫المؤ ِّثر‬
‫َ‬ ‫لقاؤهــا راجح وذهولُها َأمامه في «بي ّاع الخواتــم»‪َ ،‬و َدا ُعها‬
‫ُ‬ ‫ُممثّالت مكرّســات‪:‬‬

‫‪33‬‬
‫عبدو المب ْحر في جبيل مع الثوَّار في ختام «سفر برلك»‪« :‬محروسين بالبحر‪ ،‬ومهما بعَّدوكُن‪،‬‬
‫عرســين‪ :‬شــال َأزرق (يوم الــزواج)‪ ،‬وبيرق عبيلوح»‬
‫َ‬ ‫وإنتو راجعين‪ .‬ويومها العرس‬ ‫َ‬
‫أنــا ناطــره ِ‬
‫(يــوم انتصــار لبنــان)‪َ ،‬أو لــدى ِإصابتها بجرح في زندها مــن رصاصة ٍ َأطلقَ ها عليهــا والدها ولم‬
‫ألنّها كانت م َلثَّمة في «بنت الحارس»‪.‬‬
‫يعرفهــا َ‬
‫وفي الثالثة َ‬
‫األفالم كان حضور فيروز الئقاً باســمها غناءً وبتمثيلها وغنائها مســرحاً‪ ،‬حتّى لهو‬
‫ٌ‬
‫‪/‬ممثلة في العا َلم العربي‪.‬‬ ‫وج َها مغني ٌّة‬ ‫َ‬ ‫مشــر ٌف لمســيرة ٍ فني ّة ٍ َّ‬
‫قل َأن َ‬ ‫تتوي ٌ‬
‫بلغت أ َ‬ ‫ِّ‬ ‫ج‬
‫‪-7-‬‬
‫ُ‬ ‫الســؤال َ‬
‫النص‪ :‬هل كانت فيــروز معا ِد َل ًة جدي َ‬
‫د األغنية‬ ‫ّ‬ ‫األوّل في منطلق هذا‬ ‫َ‬ ‫ختامــاً‪َ ،‬أعــود ِإلى‬
‫الرحباني ّة و َثراءَ َ‬
‫األدب الرحباني في جميع مفاصله؟ وهل كان ي ُمكن ســواها َأن تنجح في جمْع‬
‫ما جمعتْه هي في شــخصها وشخصي َّتها وموهبتها الفريدة؟‬
‫الشــعر الرحباني‪ ،‬وزا َد‬
‫ِ‬ ‫شــعراً على‬ ‫ال يُمكن الجزْم بذلك‪ ،‬بل يُمكن الجزم َأ ّ‬
‫ن صوت فيروز زاد ِ‬
‫عذوب ًة على اللّحن الرحباني‪ ،‬وزاد قيم ًة فني ّة عالية على العمل الرحباني مســرحيّاً وســينمائيّاً‪.‬‬
‫ن َأعمالها َ‬
‫األخيرة بعد‬ ‫ن العمــل الرحبانــي من دونها لم يكــن ج ِّيداً‪ ،‬وال يعنــي َأ ّ‬
‫هــذا ال يعنــي َأ ّ‬
‫المرحلــة الرحباني ّة لم ُ‬
‫تكن ناجحة (مع فيلمون وهبه وزكي ناصيف ومحمّد محســن‪ ،‬وخصوصاً‬

‫مع زياد الرحباني)‪.‬‬


‫حصتها من النجــاح من دون‬‫َأعمــال منصــور الرحبانــي (‪ 12‬مســرحي ّة بعد غيــاب عاصي) َأخــذَت ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫النجوميّــة األولــى المفــردة‪ ،‬وفــي المقابــل‪ :‬أغنيــات فيــروز مــع اآلخريــن َأخــذَت ّ‬
‫حصتها من‬
‫جمهورهــا (خصوصــاً مــن الجيل الجديد) فــي اتّجاه آخر جع َلهــا ْ‬
‫تغنم له من صوتهــا الفريد في‬
‫َ‬
‫األداء المفــرد‪ ،‬ولــو أنّنــا لم نُشــاهد لها عمال ً مســرحيّاً َأو ســينمائيّاً َ‬
‫غير رحبانــي لنعرف مدى‬
‫نص مســرحي َأو ســيناريو فيلم مقْنِع يجعلها‬ ‫تألُّقهــا فيــه تمثيال ً وغناءً‪َ .‬‬
‫وأكيداً لم يتقد َّم لها ٌّ‬ ‫َ‬

‫الوســط‬
‫َ‬ ‫يبرر‪ ،‬منذ ســنوات‪ ،‬انســحابها من‬ ‫َّ‬
‫ولعل هذا ما ِّ‬ ‫ْ‬
‫تغني ذاكرتَنا بحضورها غير الرحباني‪.‬‬
‫ـــهي َْبتِها الم َلكي ّة‪ ،‬الـ«ديڤا»‬
‫واإلعالمي لتبقــى‪ِ ،‬ب َ‬
‫ِ‬ ‫الفنّــي والحيــاة االجتماعي ّة والظهــور الصحافي‬
‫التــي تعيش خلو َدها الرائع وتعاينُه َّ‬
‫كل يوم‪.‬‬
‫قارنة بين‬
‫الم َ‬ ‫قارنة بين فيروز مع َ‬
‫األخوين وفيــروز بعدهما‪ ،‬كما ال تجوز ُ‬ ‫الم َ‬ ‫ُ‬
‫تجوز ُ‬ ‫مــن هنــا‪ ،‬ال‬
‫ٌ‬
‫ظاهرة فريدة في الشرق‬ ‫َ‬
‫األعمال الرحباني ّة مع فيروز وتلك التي من دونها‪ .‬فالثالوث الرحباني‬
‫ال تتكــرَّر‪ ،‬بنصــوص َ‬
‫األخويــن َ‬
‫وألحانهمــا وخصوصاً ‪ -‬خصوصــاً ‪ -‬بصوت فيــروز المفرد وحضورها‬

‫‪34‬‬
‫ُ‬
‫اإلبداعي ‪ -‬طيلة ثالثة عقود فيروزي ّة رحباني ّة متتالية خصيبة ٍ أعجوبي ّة‬
‫المفــرد‪ .‬وهــذا الزاد الفنّي ِ‬
‫العطاء ‪ -‬سجَّل حضوره العميق في الذاكرة الشعبي ّة الجماعي ّة‪ ،‬وفي ذاكرة التاريخ لبنانيّاً وعربيّاً‬

‫وعا َلميّــاً‪ ،‬حتّــى مــا عاد ُممكنــاً تأْريخُ مرحلــة ‪ 1977 - 1947‬في لبنان مــن دون الحضور الرحباني‬
‫ُ‬
‫الـــمضيء‪ ،‬والحضور الخالد ُ‬
‫لسطوع السي ّدة فيروز‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫د‪ .‬رفيف رضا صيداوي*‬

‫لكأنّنــي وصــوت فيــروز أحيــا في ّ‬


‫الاّلزمــن‪ ،‬إلى ما قبــل الوجود‪ ،‬إلــى ما قبــل الوعي‪...‬يحملني‬
‫صوتهــا إلــى البعيد البعيد‪ ،‬أبعد من الســماء واألرض‪ ،‬إلى صور ٍ غيــر مكتملة وغير واضحة من‬
‫ّ‬
‫المبكرة التي استوطنت قلبي ووجداني قبل أن ي ُدركها عقلي‪« .‬ألجلك يا مدينة الصالة‬ ‫طفولتي‬
‫أصلّي‪« /»...‬الطفل في المغارة وأمّه مريم وجهان يبكيان‪« / »...‬البيت لنا والقدس لنا‪ »..‬إلخ ّ‬
‫كلمات حملها صوت فيروز َ‬
‫وأسكنها هي والقدس في أعماقي إلى‬ ‫ٌ‬ ‫(من أغنية زهرة المدائن)‪..‬‬
‫وعربي يمتد ّ إلى خاليا النَّفس والروح في‬ ‫لبناني‬ ‫اليوم‪ ...‬وبقي صوت فيروز رفيقي ورفيق ّ‬
‫كل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الخاصة والعامّة‪ ...‬فما هو ســرّ هذه الســي ّدة التي أصبحت ظاهرة‬ ‫ّ‬
‫المحطــات الحياتي ّة‬ ‫مختلــف‬
‫ُ‬
‫الممارســات والعادات‬ ‫فني ّة ثقافي ّة في حياتنا اليومي ّة؟ كيف دخلت فيروز‪ ،‬سوســيولوجيّاً‪ ،‬في‬
‫لتشكل جزءاً من الثقافة العربي ّة؟‬
‫ِّ‬ ‫االجتماعي ّة‬

‫ي فنّــي بفيروز‪ ،‬فهــذا األمر‪ ،‬عدا عــن كونه ليس من‬ ‫ُ‬
‫لســت فــي هــذه المقالــة في صدد إبــداء رأ ٍ‬
‫ّ‬
‫يخص صوت‬ ‫ّ‬
‫يمــت بصلة إلى مــا نروم البحث فيه في مقالتنا‪ .‬يكفي القــول في ما‬ ‫اختصاصــي‪ ،‬ال‬
‫فيروز إنّه أه ّلها لصعودها كنجمة ٍ في السماء منذ اكتشافها في كورال مدرستها أواسط أربعيني ّات‬
‫الملحن محمّد فليفل وتشجيعها مع أخيه على االلتحاق بمعهد الموسيقى‬
‫ِّ‬ ‫القرن الفائت من قِبل‬
‫اللّبنانــي‪ ،‬ثــمّ بكورال اإلذاعــة برعاية الموســيقار اللّبناني حليم الرومي‪ ،‬ثمّ مــع األخوين عاصي‬
‫ومنصور الرحباني في مطلع خمسيني ّات القرن الفائت‪ ،‬لتُصبح «صاحبة الصوت المالئكي» بشهادة‬
‫َّب الموســيقار محمّد عبد الوه ّاب اســم فيروز في أثناء‬ ‫كِ بار ُ‬
‫الملحّنين والموســيقي ّين‪ .‬ولمّا غي َ‬
‫تعــداده األصــوات العربيّــة الخارقة فــي لقاءٍ إذاعي معه في ســبعيني ّات القرن ُ‬
‫المنصرم‪« ،‬ســأله‬

‫*مؤسّ سة الفكر العربي‬

‫‪36‬‬
‫دم البرنامج ُمستغرباً وماذا عن فيروز؟ فرد ّ عبد الوه ّاب بلهجته المصري ّة الممي ّزة ‹يا ابني إحنة‬
‫مق ِّ‬
‫بنتكلّم عن اللّي في األرض مش على اللّي في السما‪ ،‬ده صوت مالئكي مش صوت بشر عادي ّين›‬
‫« ( فراس مصطفى‪« ،‬نحن جميعاً بحاجة إلى فيروز»‪ ،‬العا َلم الجديد‪ ،‬أيلول‪ /‬سبتمبر ‪.)2020‬‬
‫ّ‬
‫شكال مع فيروز‬ ‫ثمّ إنّنا إذ نحصر كالمنا بفيروز‪ ،‬فهذا ال يعني تغييبنا َدور األخوين رحباني اللّذَي ْن‬
‫والملحّنين العرب واألجانب‪ ،‬مدرســ ًة فنّي ّة‬
‫ُ‬ ‫وســائر الرحابنــة‪ ،‬وغير الرحابنة مــن كبراء الشــعراء‬
‫المغنّاة أم على صعيد الموسيقى‪.‬‬
‫العربي‪ ،‬سواء على صعيد الكلمة ُ‬
‫ّ‬ ‫إبداعي ّة طاولت لبنان والعا َلم‬
‫ل عن التأثيرات االجتماعي ّة كافّة‪ ،‬أي‬
‫ل غير معزو ٍ‬ ‫كالمنا على فيروز سينطلق من عا َلم الف ّ‬
‫ن كمجا ٍ‬
‫كمــا َّ‬
‫نظــر بيار بورديو في أنّه عا َل ٌ‬
‫م غير معزول عن الحقــول االجتماعي ّة الخارجة عن حقل اإلنتاج‬
‫الخاصة التي يشــتغل عا َلم الف ّ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫الفنّــي‪ ،‬وإ ْ‬
‫ن كانــت هذه التأثيرات غير مباشــرة‪ ،‬وتخضع لآللي ّات‬
‫وفقهــا‪ .‬فقد ح َّ‬
‫ققــت فيروز مع الرحابنة اســتقاللي ّ ًة فنّي ّة أتاحت لهم إطــاق طاقاتهم اإلبداعي ّة‬
‫ٍ‬
‫كلمات وألحاناً‬ ‫الخاصة بهم‪ .‬وبالتالي فيروز هي جزء من الرحابنة الذين ألّفوا واخترعوا وأبدعوا‬
‫ّ‬
‫جعلتنــا نتعــرّف إلى مجتمعنــا من خالل فنّهم‪ ،‬ال بل ســلطتهم الفني ّة التي أسَّ ســوا من خاللها‬
‫ثقافة ومحد َّدات شملت األذواق والميول واألهداف والتصوّرات‪.‬‬

‫ّ‬
‫والمتلقي‬ ‫فيروز‬

‫احترامها‬
‫َ‬ ‫منذ انطالقتها في خمسيني ّات القرن الفائت‪َ ،‬فرضت فيروز‪ ،‬من خالل َمسيرتها الحياتي ّة‪،‬‬
‫فصفاتها كفتاة ٍ خجولــة ورزينة ومهذّبة‪ ،‬وال تهوى كثــرة الكالم‪ ،‬وهو ما‬ ‫علــى جماهيــر المتل ّ‬
‫قين‪ِ .‬‬
‫يفســر إلــى اآلن عــدم إطالالتها اإلعالميّــة الكثيرة‪ ،‬والتــي تضافرت مع منبتهــا االجتماعي‪ ،‬كفتاة‬
‫ِّ‬
‫ْ‬
‫بلغت من نجاح بفضل كفاحها وعملها الجاد ّ‪ ،‬هي من‬ ‫متحد ّرة من أسرة متواضعة الحال‪ ،‬بلغت ما‬
‫والعربي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العوامل التي رفعت من مناسيب التقدير واالحترام التي أبداها تجاهها الجمهور اللّبناني‬
‫فقد تضمَّن إعالن زواج عاصي وفيروز في العام ‪ 1955‬أنّه في الســاعة الفالني ّة من اليوم الفالني‬
‫دد األســتاذ عاصي الرحباني على اآلنســة الهادئــة المهذّبة والمطربة‬ ‫ي ُحتفــل «بقــران الفنّان ُ‬
‫المج ِّ‬
‫المهنّئين في منزلهما في انطلياس‬
‫صاحبة الصوت الذهبي نهاد حد ّاد (فيروز) و َيستقبل العروسان ُ‬
‫أي ّام‪( »....‬راجع صورة اإلعالن في كتاب بول األشقر ‪Fairouz: La voisine de la lune, La légende‬‬
‫الصادر في العام ‪ ،2021‬عن معهد العا َلم العربي في باريس وجائزة الملك فيصل)‪ .‬وحين يستذكر‬
‫أحمد عسّ ــة مدير إذاعة دمشــق في الخمســيني ّات فيروز يقول‪ « :‬ما زا َلت الصورة أمامي‪ .‬عاصي‬
‫اشــتهر به‪ ،‬وفيروز الفتاة الخجولة التي كانت تتمسّ ــك بارتداء التنّورة والبلوزة‪،‬‬
‫َ‬ ‫يحمل البزق الذي‬

‫‪37‬‬
‫تمامــاً كتلميذات المدارس»(هاشــم قاســم‪ ،‬الظاهرة الرحباني ّة‪ ،‬نقال ً عــن هنري زغيب ونبيل أبو‬
‫التعاطف اإلنساني معها بسبب ما ألمّ بها من أحزان‪ ،‬لخّصها د‪.‬غـازي‬
‫ُ‬ ‫مراد)‪ .‬هذا من دون أن نغفل‬
‫انـعـيـم (في «فـيروز سفيرة لبنان والشرق إلى النجوم»‪ ،‬الجسرة الثقافي ّة اإللكتروني ّة‪/04 /2021 ،‬‬
‫األم‬
‫ّ‬ ‫يشع كاللّقيا في ضمير الناس والفنّ‪ ،‬كانت خطوات «فيروز»‬
‫ّ‬ ‫‪ )15‬بالقول‪« :‬وفيما كان صوتها‬
‫ٍ‬
‫وعذابات ال يعرف طعمها‬ ‫والزوجــة تكتشــف يومــاً بعد يوم ما ي ُخب ّئه لها القدر من أفراحٍ وأحــزا ٍ‬
‫ن‬
‫ّ‬
‫إاّل صمت المرأة المؤمنة»‪ ،‬والسي ّما مشوارها مع ابنها «هلي» (المولود عام ‪ )1958‬الذي أقعده‬
‫المرض‪ ،‬وموت ابنتها ليال (المولودة عام ‪.)1960‬‬
‫ن هذه الصفات الشــخصي ّة التي رافقت انطباع الناس عن فيروز‪ ،‬والتي ي ُمكن تلخيصها‬ ‫ّ‬
‫شــك أ ّ‬ ‫ال‬
‫ُ‬
‫والتواضــع والحنــان (راجع كتاب زياد حد ّاد‪ ،‬فيروز ســفيرة المحب ّة)‪ ،‬فضال ً عن َمســارها‬ ‫بالوقــار‬
‫الحياتي‪َ ،‬أسهما في إضفاء هالة من القداسة عليها وعلى صوتها «المالئكي» «الدافئ ُ‬
‫المخملي»‬
‫وج َعال منها ظاهرة «اجتماعي ّة» (الفيروزي ّة)‪ ،‬من دون أن‬
‫(زياد حد ّاد)‪« ،‬المائي» (نزار قب ّاني)‪..‬إلخ‪َ ،‬‬
‫دي ْن لهذه‬
‫د َدين الوحي َ‬ ‫هما ُ‬
‫المح ِّ‬ ‫يكونا بطبيعة الحال ‪ -‬أي الصفات الشــخصي ّة والمســار الحياتي‪ُ -‬‬
‫ّ‬
‫يخص نظري ّة‬ ‫قي في علم اجتماع الفنّ‪ ،‬والسي ّما في ما‬ ‫ُ‬
‫تنقض بعض نظري ّات التل ّ‬ ‫الظاهرة‪ ،‬التي‬
‫دوائــر االعتراف األربع التي تُســهم في إنتاج قيمة العمل الفنّــي العائدة لباونز (‪)A. Bowness‬؛‬
‫ن الدائرة األولــى‪ ،‬أي دائرة معارف الفنّان‪ ،‬والثالثــة‪ ،‬أي دائرة أهل‬
‫وهــي النظريّــة التي تقــول إ ّ‬
‫هما الدائرتان اللّتان تعطيان للفنّان اعترافاً قيميّاً‪ ،‬في حين تعطيه الدائرة‬
‫االختصاص والخبراء‪ُ ،‬‬
‫الثانيــة‪ ،‬أي دائــرة هواة جمْع األعمــال والتجّار‪ ،‬والرّابعــة‪ ،‬أي الجمهور‪ ،‬اعترافــاً مرتبطاً بالمال‬
‫والشهرة (حول هذه الدوائر راجع ناتالي إينيك‪ ،‬سوسيولوجيا الفنّ‪ ،‬ترجمة حسين جواد قبيسي‪،‬‬
‫القيمي بفيــروز‪ ،‬على أهمي ّة‬
‫ّ‬ ‫مركــز دراســات الوحــدة العربي ّة‪ ،‬بيــروت‪ .)2011 ،‬ذلك أ ّ‬
‫ن االعتــراف‬
‫اجتماع الدوائر األربع كافّة‪ ،‬جاء أساساً من الدائرتَي ْن الثالثة والرّابعة‪.‬‬

‫والعربي حول فيروز‬ ‫بناني‬‫االجتماع الل ّ‬


‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬
‫بمرتكزات‬ ‫االســتئناس اللّبنانــي والعربــي بفيــروز‪ ،‬كظاهرة فنّي ّة فــي إطارهــا الرحباني‪ ،‬تدع َ‬
‫َّــم‬
‫نفســاني ّة ووجوديّــة وفكري ّة وقومي ّة أسَّ ســت لهــذا االجتماع اللّبناني والعربــي حولها؛ إذ ليس‬
‫ن (ديفيــد إنغليز وجون‬ ‫ٌ‬
‫«جماعة مــا» أنّه ف ّ‬ ‫الفــ ّ‬
‫ن فــي عِلم االجتماع ســوى «شــيء مــا اعتبرته‬
‫هغســون‪ ،‬سوســيولوجيا الفنّ‪ُ .‬طرق للرؤية‪ ،‬ترجمة ليلى الموسوي‪ُ ،‬مراجعة محمّد الجوهري‪،‬‬
‫صوت فيروز َّ‬
‫كل التحوّالت‬ ‫ُ‬ ‫سلسلة «عا َلم المعرفة»‪ ،‬الكويت ‪ ،341‬يوليو‪ /‬تمّوز ‪ .)2007‬فقد َ‬
‫راف َق‬

‫‪38‬‬
‫عبر عن تالوين الحياة‬ ‫القومــي ُ‬
‫الم ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الصوت‬
‫َ‬ ‫السياســي ّة واالجتماعيّــة المحلّيّــة والعربي ّة‪ ،‬حتّى َ‬
‫بات‬
‫اللّبناني ّة والعربي ّة بوجوهها كافّة‪ .‬غنَّت الفرح والحُزن في آن‪ .‬الخراب واألمل‪ .‬غنَّت للحبّ والمحب ّة‬
‫والقريــة والمدينــة واألرض والوطــن‪ ...‬غنّت لألمومــة‪ ،‬غنّت للبنان‪ ،‬كما غنَّت ُ‬
‫لمــدن عربي ّة مثل‬
‫ّ‬
‫ومكة واإلســكندري ّة وبغداد وعمّان‪ ..‬في حين بقيت فلسطين األثيرة في غنائها لكونها‬ ‫القدس‬
‫حكاية أرض ووطن وشعب عربي مسلوب‪.‬‬
‫ّ‬
‫الخــط الوطني والقومي الــذي يحتاج إلى‬ ‫مســرحيّاً‪ ،‬لــم تخــرج فيروز فــي أدوارها أيضاً عن هذا‬
‫التحلّي بأخالقي ّات جسّ دتها هي في أدوارها كاألمانة والطيبة والوداعة والعطاء واإلخالص‪...‬إلخ‪.‬‬
‫فيروز هي الصبي ّة «البعلبكي ّة» التي آثرت أرضها وشــعبها على اآللهة ووعودهم لها برغد الحياة‬
‫(في مسرحي ّة «البعلبكي ّة»‪:)1961 ،‬‬
‫أنــا شمعة على دراجـــــك‬ ‫بــــعــــلـــــــــبـــــــــــــــــــــــــــــك‬
‫أنــا نقطة زيــت بسراجك‬ ‫وردة علــــى سياجــــك‬
‫نــــســــعـــــــــد ونــــشــــقــــى‬ ‫هـــــــون رح نــبــقــــــــى‬
‫وحــــــــــــــــد َّا الــــغــــنــــيّــــة‬
‫َ‬ ‫نـــــــــــزرع الــــســــجـــــــــرة‬
‫حــــــكــــــايــــــة إلـــــهـــــيّـــــة‬ ‫ولــــــلــــــد ّنــــــي نــحــكــي‬
‫وهي «صبي ّة الجســر» التي تســعى أيضاً إلى ّ‬
‫حل النزاع بين القريتَين ُ‬
‫المتخاصمتَين (في مسرحي ّة‬
‫«جسر القمر»‪ ،)1962-‬وهي «عطر اللّيل» التي كرَّست نفسها للغناء لتحمل إلى الناس من خالله‬
‫رســال ًة وطني ّ ًة جامِ عة عنوانها محب ّة لبنان (في مســرحي ّة «أي ّام فخر الد ّين»‪ ، )1966،‬وهي «هالة»‬
‫ّ‬
‫والغش (في مســرحي ّة‬ ‫الفتاة الفقيرة الصادقة التي ترفض الزواج من الملك‪ ،‬النّها تأبى الكذب‬
‫المؤتمنة علــى األرض‪ ،‬الزّارعة بذور الثــورة ضد ّ الظلم‬
‫َ‬ ‫«هالــة والملــك»‪)1967 ،‬؛ وهــي «غربة»‬
‫واالستبداد‪ ،‬الطامحة إلى الحري ّة (في مسرحي ّة «جبال الصوّان»‪)1969،‬؛ وهي «زاد الخير» الفقيرة‬
‫البسيطة التي تُواجِ ه بعنفوا ٍ‬
‫ن التمادي في استعباد الناس فتتصد ّى للشرّ وتنتصر لق َيم العدالة‬
‫والمواطنــة (فــي مســرحي ّة «ناطــورة المفاتيح»‪)1972،‬؛ وهــي «زي ّون» ذات النوايــا الطي ّبة التي‬
‫حبيبي ْن وتطلب من‬
‫َ‬ ‫المصا َلحة وتعلو عن نزاعات األهالي وانقساماتهم للتقريب بين‬
‫تسعى إلى ُ‬
‫سكان ميس الريم أن يتذكّروها‪ ،‬كلّما وقع اثنان في الحبّ (في مسرحي ّة «ميس الريم»‪،)1975،‬‬
‫ّ‬

‫ّ‬
‫«المحطــة»‪ ،)1973 ،‬وهي «لولو» التي تَفضح‬ ‫وهــي «وردة» التي لم تترك األرض (في مســرحي ّة‬
‫فســاد الحُكم والنفاق والجُبن (في مســرحي ّة «لولو»‪ ،)1974 ،‬وهي الملكة «شكيال» التي تُضحّي‬
‫بابنتها للحؤول دون انكسار شعبها وهزيمته (في مسرحي ّة «بترا»‪.)1977 ،‬‬

‫‪39‬‬
‫ُ‬
‫حارسة الق َيم في مسرحي ّات الرحابنة أو «ناطورة الق َيم» كما وصفتها خالدة السعيد في‬ ‫فيروز‬
‫الزمة‬
‫الم ِ‬ ‫ّ‬
‫المثقفة»(‪ ،)2013‬تلــك البطلة الرحباني ّة «المنذورة لــأرض‪ُ ،‬‬ ‫كتابهــا «يوتوبيا المدينــة‬
‫للـ«ناس الناطرين»‪ ،‬حارسة الكنز‪ ،‬ناطورة األحالم»‪( ،‬فوّاز طرابلسي‪ ،‬فيروز والرحابنة) لم تخرج‬
‫عن هذا اإلطار في أدوارها الســينمائي ّة الثالثة‪« :‬ريما» في «بي ّاع الخواتم» (‪ )1965‬و«عدال» في‬
‫فيلم «سفربلك» (‪ ،)1967‬و«نجمة»‪ /‬أبو الك ّ‬
‫في ّة في «بنت الحارس» (‪)1968‬؛ فكانت في أدوارها‬
‫الثالثة الفتاة القروي ّة البسيطة ُ‬
‫المدافعة عن األرض والوطن ضد ّ االحتالل األجنبي (العثماني في‬
‫المنحازَ ة دوماً لق َيم العدالة والرّحمة ضد ّ الجور والنّفاق والشرّ عموماً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫سفربلك)‪،‬‬
‫أمّا في الغناء فكانت فيروز‪ ،‬بصوتها وحضورها وأدائها‪ ،‬جزءاً تأسيســيّاً في الســيرورة التحديثي ّة‬
‫ّ‬
‫تشــق بدايــات طريقها اإلبداعــي التجديدي في خمســيني ّات القرن‬ ‫لألغنيــة الرحبانيّــة‪ ،‬التي كانت‬
‫ّ‬
‫تحكمه‬ ‫الفائــت‪ .‬وهــي الحقبــة التي كان نمــط اإلنتاج الرأســمالي التّابع فيها يتكرَّس ُم ِ‬
‫مارســاً‬
‫بالتشــكيلة االقتصاديّــة االجتماعيّــة اللّبنانيّــة وبأنماط اإلنتاج الســابقة على الرأســمالي ّة‪ ،‬دافعاً‬

‫ســة ظواهر مثــل النــزوح الريفي والهجــرة والتفــاوُت الطبقي والمناطقــي‪ ،‬وغيرها‬
‫مأس َ‬
‫َ‬ ‫إلــى‬
‫مــن االختــاالت البنيويّــة التي أفضت الحقاً إلى الحــرب األهلي ّة‪ ،‬فضال ً عــن ّ‬
‫كل األحداث العاصفة‬
‫التــي شــهدها العا َلم العربي والتي مهّد لها احتالل فلســطين عام ‪(1948‬ثــمّ ثورة يوليو ‪،1952‬‬
‫والعدوان الثالثي على مصر ‪ ،1956‬فهزيمة حزيران‪ /‬يونيو ‪ 1967‬المفصلي ّة‪ ،)...‬بحيث عب َّرت فيروز‬
‫مــع األخويــن عاصي ومنصور الرحباني عن هذه االختالالت وعــن الق َيم الروحي ّة والثقافي ّة للريف‬
‫خاص ونتمسّ ك به ونحبّ أن ال يندثر‪ .‬هذا العا َلم‬
‫ّ‬ ‫م‬ ‫اللّبناني في عا َل ٍ‬
‫م يتغي َّر‪« :‬نحن ننتمي إلى عا َل ٍ‬

‫تتناوشــه ريــاح التغييــر‪ ،‬ألنّنا نحن نتغي ّر‪ ،‬وألنّــه هو – هذا العا َلم‪ -‬يتغي َّر أيضــاً» (عاصي الرحباني‪،‬‬
‫«تجربة األخوين رحباني في المسرح اللّبناني»‪ ،‬مجلّة الطريق‪ ،‬العددان ‪ 3‬و‪ ،4‬آذار نيسان ‪.)1966‬‬
‫اندمجت فيروز في تجربة األخوين رحباني‪ ،‬كتجربة كانت قد بدأت تســتمد ّ قيمتها التحديثي ّة من‬
‫والً «مغامرة نقل لغة الشــارع وألقابه والحقل والشــاطئ إلى َمدارات‬
‫عناصــر عــد ّة‪ ،‬من بينها أ ّ‬
‫الشــعر الجميــل التي كانــت قبلهما مقفلة بوجههــا ومرصودة على لغة األعيــان وعلي ّة القوم»‬
‫(علــي ســعد‪ ،‬في الثقافة العربيّــة تي ّارات وأعالم من لبنان والوطــن العربي‪ ،‬ج‪)2004 ،2‬؛ ومن‬
‫ٍ‬
‫نظام قيمي مختلــف عن النظام القيمي الســائد وتقاليــده‪ .‬فإذا كانت‬ ‫الســعي ثانيــاً إلــى بنــاء‬
‫عناصــر النصــوص الغنائي ّة المكوَّنة من الطبيعة والحبّ والحنيــن والرجاء‪ ،‬هي من العناصر التي‬
‫ّ‬
‫النص الشعري لألغنية الوجداني ّة‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن‬ ‫عاد ًة ما كانت تتضمّنها النصوص الرومانسي ّة الحالِمة في‬
‫ٍ‬
‫مدلوالت تنأى عن‬ ‫هذه العناصر اكتست في النصوص الشعري ّة العامي ّة ألغاني األخوين الرحباني‬

‫‪40‬‬
‫فيزيقي ملموس مليء بأنفاس‬
‫ٍّ‬ ‫الرومانســي ّة لتصبّ في مواقف وجداني ّة ملموســة‪ ،‬وفي إطار ٍ‬
‫الناس ولغتهم اليومي ّة؛ بحيث لم يسْ َع الرحابنة مثال ً إلى تخليد هذا الحبّ في قلب الطبيعة أو‬
‫َّ‬
‫شكلت إلى جانب الحبّ والزمن أقانيم‬ ‫الوجود على طريقة الرومانسي ّين‪ ،‬وإن كانت الطبيعة قد‬
‫ثالثة للحياة لديهم؛ إذ ثمّة استحضار للحبّ في سياق حكائي قصصي ينقله إلى مدارات المعيش‬
‫بكل ما يتخلَّل ذلك من مشاعر القنوط والحنين واألمل والرجاء‪ ،‬أو الهجران واللّقاء‪ ...‬إنّه الحبّ‬
‫ّ‬

‫الذي يردم الهوّة بين الواقع والخيال‪ ،‬ألنّه مشــروط بزمان الناس ومكانهم وبتغي ّراتهما (كما‬
‫علي»‪ ،‬و«أنا عندي حنين»‪...،‬إلخ) ُمســتندين‬
‫ّ‬ ‫«حب ّو بعضن»‪ ،‬و«فايــق‬
‫هــو الحــال في أغنيــات مثل َ‬
‫ٍ‬
‫شــريط حكائي ســريع يســتعير بعض تقني ّات الســرد القصصي كالمونولــوغ ُ‬
‫ومناجاة‬ ‫أحيانــاً إلى‬
‫النَّفس‪ ،‬فيما الكلمات الرشيقة الطريفة تتراقص في بعض األغاني عاكس ًة َوجهاً بشوشاً للحبّ‬
‫ُ‬
‫العشــق في أغاني‬ ‫(«شــالك رفرف»‪« ،‬شــتّي يا دنيي»‪ ،‬و«بقتفلك بس»‪...‬إلخ)‪ .‬في اختصار‪ ،‬بات‬
‫فيروز‪ /‬الرحابنة حكاية يتكلّم عليها العاشق‪/‬ة بوصفه عاشقاً ي ِّ‬
‫ُفكر‪ .‬وينسحب ذلك على الطبيعة‬
‫ُّ‬
‫تحكم الزمن بمصائر‬ ‫عد مالذاً يسكن إليه الشاعر‪ ،‬وإن بدت أحياناً مالذاً للشكوى من‬
‫التي لم ت ُ‬
‫للنص الغنائي‪ِ ،‬‬
‫وصل َة‬ ‫ّ‬ ‫الحكائي‬
‫ّ‬ ‫البشر وعجز هؤالء أمامه‪ ،‬بل بدت كشخصي ّة من شخصي ّات العا َلم‬
‫ل بين الناس‪ ،‬حمَّلها الرحابنة رسائل الحبّ بقدر ما حمّلوها اآلمال (في «نسَّ م علينا الهوا»‪،‬‬
‫وص ٍ‬
‫«نطرونا»‪« ،‬يا جبل اللّي بعيد»‪..‬إلخ)‪ .‬والطبيعة أيضاً شاهد على حياة‬
‫ّ‬ ‫«يا طير»‪« ،‬يا حجل صنّين»‪،‬‬
‫ُ‬
‫تكافال ً يؤمّن خصبها الذي يعني‬ ‫القروي ّين ونمط عيشهم الزراعي حيث يتكافل الفرد مع األرض‬
‫ن (تُخاطب أغنية «شــتّي يا دنيا» الطبيعة الغنّاء‬ ‫ّ‬
‫بكل ما تحمله الكلمة من معا ٍ‬ ‫خصبه اإلنســاني‬
‫ُ‬
‫تالزم العمل في األرض مع أمن النــاس والتصاقهم بمكانهم المو ِّلد‬ ‫باحتفاليّــة غنائيّــة تختصر‬
‫لحظــات وأزمنة ٍ مضت ولن تعــود (أغنية «نحنا‬
‫ٍ‬ ‫لالســتمراري ّة والوعــود)‪ .‬وهــي أيضاً شــاهد على‬
‫والقمر جيران» مثاالً)‪ .‬لقد َأثْرت عناصر الطبيعة إذن‪ ،‬كالشــتاء واللّيل والنهار والنســيم والريح‬
‫والح َجر والشجر واألرض والجبل‬
‫َ‬ ‫والهواء والزهور والبالبل والتالل والحقل والطير والشــمس‬
‫الحقل الداللي لألغنية جاعل ًة الطبيعــة وكأنّها هي الحياة‬
‫َ‬ ‫والنبــع والبريّــة والقمر والبيادر‪...‬إلــخ‪،‬‬
‫أو العكس في وحدة عضوي ّة حميمة متجذّرة في سياقها االجتماعي عموماً والقروي خصوصاً‪.‬‬
‫أمّا الزّمن لدى الرحابنة فبدا كعنصر ٍ من عناصر القالب الحكائي‪َ ،‬يعبر كومضة كاشفاً عن التحوّالت‬
‫ل مكثَّف‪ ،‬لتكمن شــعري ّته في التعبير اللّمــاح عن تبد ّالته من خالل‬
‫الفيزيقيّــة واالجتماعي ّة بشــك ٍ‬
‫ّ‬
‫وكل تالوين الحياة‪.‬‬ ‫الزمــن الذاتي اإلنســاني‪ ،‬وبما يُعزِّ ز الرؤية الواقعي ّة لل ُ‬
‫عمــر والحبّ والحنين‬
‫والحي والدار والسياج والمواقد والحيطان والقناديل‬
‫ّ‬ ‫فاألمكنة‪ ،‬كالعلّي ّة والقناطر والطريق العتيق‬

‫‪41‬‬
‫والقرميــد وغيرهــا من األمكنة واألشــياء الشــاهدة على تغي ّرات الزمن‪ ،‬غــدت في تقاطعها مع‬
‫الذات وعناصر الطبيعة تعبيراً عن واقعي ّة الحياة وواقعي ّة العالقات القائمة بين ناسها‪.‬‬
‫المواكِ ب لموســيقى تجديدي ّة إبداعيّــة ُمحتضناً‬
‫انصهــر في صوت فيــروز ُ‬
‫َ‬ ‫هــذا اإلبــداع الرحبانــي‬
‫والم ِرح‪ ،‬وبه قد َّم الرحباني ّان مــا أراداه‪ ،‬خصوصاً تمرُّد الناس‬
‫َ‬ ‫«الحــزن الرصين والتعبيــر العميق‬
‫شــكال ً أيضاً «ســلطتَين فنّي ّة وإنســاني ّة في آن واحد‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وثورتهم وقضاياهم وقلقهم وفرحهم» ُم‬
‫إضافة إلى ميزة أساســي ّة فيه قاربت الســراب الذي كلّما اقترب ُ‬
‫المســتمع لإلمســاك به لرسْ ِ‬
‫م‬
‫وذهب إلى مفازات ال يعرف تحديدها»( هاشم‬
‫َ‬ ‫حدوده وتعابيره ومصادر انطالقه الجوّاني ّة َأ َ‬
‫فلت‬
‫قاسم‪ ،‬الظاهرة الرحباني ّة)‪.‬‬
‫ّ‬
‫بكل ما كانت تنطوي عليه هذه الظاهرة من عناصر‬ ‫غيــر أ ّ‬
‫ن اندمــاج فيــروز في الظاهرة الرحباني ّة‬
‫الذاتي (تمثيــا ً وغناءً وأداءً‬
‫ّ‬ ‫الفني‬
‫ّ‬ ‫التجديــد واإلبــداع‪ ،‬لــم يؤ ِّد إلى طمس شــخصي ّتها وحضورها‬
‫وحسّ ــاً موســيقيّاً‪...‬إلخ) الذي ح ّ‬
‫ق َق لها رصيداً فنّيّاً واجتماعيّاً‪ ،‬والسي ّما من خالل أغانيها العائدة‬
‫للرحابنة وغير الرحابنة‪ ،‬المكتوبة بالعامي ّة أو بالفصحى‪ ،‬شعراً عموديّاً أو حرّاً‪ ،‬وحتّى في تجربتها‬
‫ّ‬
‫خاصة‪ .‬لكن تكفي هنا اإلشــارة إلى‬ ‫ّ‬
‫تســتحق دراســة‬ ‫الفني ّة المختلفة جدّاً مع زياد الرحباني‪ ،‬التي‬
‫أبــرز معالِــم هــذه التجربة المتمثّلــة مثال ً بالنصوص الغنائيّــة التي كتبها زيــاد وغنّتها هي‪ ،‬لجهة‬
‫ن على صعيد اللّغة‪ ،‬أو علــى صعيد غياب الصورة‬
‫افتراقهــا الكلّــي عن نصوص األخويــن رحباني‪ ،‬إ ْ‬
‫الشعري ّة‪ ،‬أو عناصر الطبيعة‪ ،‬أو تجسّ دات الحُبّ والمرأة (من ذلك‪ :‬كبيرة المزحة هاي؛ انشااللّه‬
‫ما بو شــي؟!؛ ال واللّه؛ تلفن عي ّاش‪ ،‬شــوبخاف‪ ،‬بيذكر بالخريف؛ أنا فزعانة‪ ،‬البوســطة‪ ،‬معرفتي‬
‫فيك‪ ،‬عندي ثقة فيك‪ ،‬كيفك إنت‪.)...‬‬

‫فيروز ‪ ..‬السي ّدة فيروز‬

‫علــى مــدى أكثــر مــن ‪ 60‬عاماً صارت فيــروز صــوت اللّبناني ّين والعــرب وضميرهم فــي مختلف‬
‫الخاصــة والعامّــة؛ إذ غنّــت للحــبّ والفــراق والطفولة والقريــة والغياب‬
‫ّ‬ ‫ظروفهــم وأحوالهــم‬
‫قاومة الظلم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ولم َ‬ ‫والفقــدان والزّمــن الذي لن يعود‪ ،‬بقــدر ما غنّت لألرض والوطن والســام‬
‫ُمناجيــة اللّــه أو الجمال اإللهي المتمثّل في الطبيعة وســائر الموجودات‪ ،‬لترتقي بالمتل ّ‬
‫قي إلى‬
‫مرتبــة الصوفيّــة بب ُعدهــا اإليمانــي تار ًة والتــي قاربت على حد ّ تعبير هاشــم قاســم‪« ،‬نوعاً من‬
‫الصوفيّــة الغنائيّــة الحديثة»‪ ،‬أو عبر الصالة واالبتهاالت الديني ّة المباشــرة تار ًة أخرى في أســبوع‬
‫اآلالم والجمعة العظيمة وغيرهما من المناسبات الديني ّة‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫على مدى أكثر من ‪ 60‬عاماً بقيت فيروز هي فيروز‪ .‬الســي ّدة فيروز‪ .‬الشــامخة المترفّعة عن أ ّ‬
‫ي‬
‫انقســامات سياســي ّة أو حزبيّــة أو طائفي ّة أو مذهبي ّة حتّى في أفظع حــرب وأقذرها كحرب لبنان‬
‫والعين الحزينة الســاهرة على وط ٍ‬
‫ن احتضنته بوجدانها‬ ‫َ‬ ‫األم الوقورة‬
‫ّ‬ ‫(‪ .)1990 -1975‬بقيت فيروز‬
‫قبــل أن تحتضنه بصوتها‪ .‬تُغنّي للســام واألمل والرجاء‪ .‬تُداوي الجــزءَ األكثر حاجة إلى ُ‬
‫المداواة‬
‫العربي الكبير ريثما ينجلــي داؤه‪ .‬لذا غنّت كثيراً للبنان‬
‫ّ‬ ‫مــن الوطــن الصغير لبنــان أو من الوطن‬
‫الهمم‪ .‬وبقيت ُمخلصة لقضي ّة فلسطين وأهلها مذ‬ ‫ّ‬
‫بقدر غنائها لفلســطين لتبث األمل وتشــحذ ِ‬
‫غنّت «بيسان» (كلمات وألحان األخوين رحباني‪ ،)1956 ،‬و«سنرجع يوماً» (كلمات وألحان األخوين‬
‫رحبانــي‪ ،)1956 ،‬و«جســر العــودة» التــي تُحي ّي فيها أهــل األرض المحتلّة «ســامي لكم يا أهل‬
‫األرض المحتلّــة» (كلمــات وألحان األخوين رحبانــي‪ ،)1957 ،‬و«راجعون» (كلمات وألحان األخوين‬
‫و«ســيف فلْي ُشــهر»‬
‫ٌ‬ ‫رحباني‪ ،)1957،‬و«القدس العتيقة» (كلمات وألحان األخوين رحباني‪،)1965 ،‬‬
‫(كلمات ســعيد عقل‪ ،‬ألحــان األخوين رحباني‪ )1966،‬التي تنطق فيروز فيهــا بفخر وكرامة «اآلن‪..‬‬

‫اآلن وليس غداً» ولتُطلِق بصوتها الحنون الدافئ وع َ‬


‫دها «أنا ال أنســاك فلســطين»‪...‬؛ وي ُذكر أنّه‬
‫حين غنَّت فيروز «زهرة المدائن» (كلمات وألحان األخوين رحباني‪ )1967 ،‬وب ُثّت‪ ،‬كما ي ُطلعنا على‬
‫ذلك الناقد اللّبناني محمود الزيباوي‪ ،‬مصوَّر ًة على شاشات السينما في وصلة ٍ مستقلّة من إخراج‬
‫ّ‬
‫«كل الذين‬ ‫هنري بركات عند عرض فيلم «سفر برلك» آنذاك‪ ،‬قال الناقد المصري رجاء الن ّ‬
‫قاش‪:‬‬
‫وبكيت معهم‪ ،‬متأثّرين بما فيه من فنٍّ‬
‫ُ‬ ‫شاهدوا هذا الفيلم بلحنه وكلماته بكوا بدموع حقيقي ّة‪،‬‬
‫هو أقرب إلى صالة ُ‬
‫المناضلين والشهداء‪ ،‬وهو خير غذاء للوجدان العربي في هذه المرحلة التي‬
‫ٌ‬
‫لون من الخبز المقد َّس الذي يجب أن نأكله في هــذه األي ّام‪( »..‬محمود الزيباوي‪،‬‬ ‫نمــرّ بهــا‪ ،‬إنّــه‬

‫«حكاية زهرة المدائن»‪ ،‬موقع أقالم ُم ِ‬


‫قاومة‪ ،‬االثنين‪ .)2020/10/05 ،‬ولغاية اليوم بقيت فيروز‬
‫ّ‬
‫خاصة «إلى‬ ‫صادقة في غنائها وإدائها لفلسطين‪ ،‬حتّى أنّها في العام ‪ 2017‬رأيناها تتضرَّع بترنيمة ٍ‬

‫اللّه‪ ،‬وتشكو إليه ُمعاناة أهل فلسطين وما يجري في القدس من تهويد ٍ واستيطان‪ ،‬تحت عنوان‬
‫«إلــى متــى يا ربّ »‪ ،‬نشــرتها ابنتها ريما في قناتها على يوتيوب‪ .‬وظهــرت فيروز وهي تؤد ّي هذه‬
‫الترنيمة من داخل كنيسة أرثوذكسي ّة‪ ،‬بثوب أسود‪ ،‬واضعة غطاء على رأسها وخلفها صورة للسي ّد‬
‫قصة النضال الفلسطيني ُ‬
‫ومعاناة أهل األرض»‬ ‫المســيح‪ ،‬فيما ظهرت في الكليب مشاهد تروي ّ‬
‫(‪.)https://arabic.rt.com/culture‬‬
‫أمّــا عــن وطنهــا لبنان‪ ،‬فــإ ّ‬
‫ن أغنية «وطنــي» (كلمات وألحــان األخوين رحبانــي‪ )1969 ،‬التي تبدأ‬
‫بـ«وطنــي يا جبل الغيــم األزرق‪ /‬وطني يا قمر الندي والزنبق» وتنتهي بـ«أنت القوي أنت الغني‬

‫‪43‬‬
‫وأنــت الدنــي يا وطني»؛ وأغنية «ع اســمك غنّيت» (كلمات وألحان األخويــن رحباني‪ )1970،‬التي‬
‫تبدأ بـ«اســمك غنّيت ع اســمك رح غنّي‪ /‬ركعت وصلّيت والســما تســمع منّي‪ /‬عتاللك عجبالك‬
‫ركعت وصلّيت‪ /‬هون السما قريبي تسمعنا يا حبيبي» وتنتهي بـ «واحمل بإيدي كاسك المليان‪/‬‬
‫أرفعو لفوق لمطرح البيوقف الزمان‪ /‬وأســكر بأســمك مجد يا لبنــان»؛ وأغنية «لبنان األخضر»‬
‫(كلمــات وألحــان األخويــن رحباني‪« :)1974 ،‬لبنــان األخضر‪ ،‬لبنــان‪ /‬حليانة الدنيــا‪ /‬حليانة‪ ،‬بلبنان‬
‫د ْ‬
‫ت أناشــيد وطني ّة‬ ‫ُ‬
‫المشــبعة بحبّ الوطن واألرض‪ ،‬فقد َغ َ‬ ‫األخضر»‪...‬إلخ‪ ،‬وســواها من األغاني‬
‫لبناني ّة‪ .‬أمّا أغا ٍ‬
‫ن مثل «رجعت العصفورة» (كلمات وألحان األخوين رحباني‪ )1974 ،‬التي حدســت‬
‫بســنوات الخــراب الطويلــة ُ‬
‫المقبلة‪« :‬قالــوا كتير وكتبوا كتيــر‪ /‬ومراكب دمــع وعواطف حرير‪/‬‬
‫وصلِــت القصايــد آلخر الد ّنــي‪ /‬القصايد المجروحة آلخــر الد ّني‪ /‬قالوا تهد ّم وطــن الهدير‪ /‬وطن‬
‫الزّمــان اللّــي علّم و ِبني‪ /‬والتي تُنادي فيروز فيها‪ :‬لبنان الحقيقي جايي‪ ،‬لبنان البســاطة جايي‪/‬‬
‫ت يشــيل الوجــوه المصبوغة‪ /‬الوعود المدموغــة»‪ ،‬والتي تنتهي بـ «يا وطني العظيم يا وطني‪/‬‬
‫َ‬
‫الطالع‪ /‬تتوه ّج الحياة»‪ ،‬فلم تُفقِ د فيروز عزيمتها في الغناء الحقاً‬
‫و الفجر ّ‬
‫نهر الفرح َوالِع وبض ّ‬
‫ن ينهــار‪ .‬فغنّت الكثير مثل «بحب ّك يا لبنان» (كلمات وألحان األخوين رحباني‪« )1976 ،‬بحب ّك‬
‫لوطــ ٍ‬
‫يا لبنان يا وطني بحب ّك بشمالك بجنوبك بسهلك بحب ّك»‪ ،‬وبثّت األمل والرجاء حين كانت تصدح‪:‬‬
‫«ســألوني شــو صاير ببلد العيد‪ /‬مزروعة عالداير نار وبواريد‪ /‬قلتلن بلدنا عم يخلق جديد‪ /‬لبنان‬
‫الكرامي والشعب العنيد‪ /‬كيف ما كنت بحب ّك بجنونك بحب ّك‪ /‬وإذا نحنا اتفرّقنا بيجمعنا حب ّك‪/‬‬
‫وحبّــة مــن ترابــك بكنوز الدنيي‪ /‬وبحب ّك يا لبنــان يا وطني»‪ ،‬فيتماوج علــى وقْع تصديحها آالف‬
‫اللّبناني ّين في الخارج الهاربين من نيران الحرب ُمكفكفين دموعهم صنو لبناني ّي الداخل‪ .‬وتوالت‬
‫بعدهــا أغــا ٍ‬
‫ن مثــل «بيقولوا زغير بلــدي» (كلمات وألحان األخويــن رحبانــي‪« :)1977،‬بقولو زغي ّر‬
‫بلــدي‪ /‬بالغضب مســوَّر بلدي‪ /‬الكرامة غضب والمحب ّة غضب والغضــب األحلى بلدي»‪ /‬وبيقولوا‬
‫قالل ونكون قالل بلدنا خير وجمال‪ /‬وتنتهي بـ«يا زغي ّر وبالحق كبير وما بيعتدي يا بلدي»؛ وظلّت‬
‫تغنّــي للوطن المحــروق‪ ،‬فكانت أغنية «لبيروت» (كلمات جوزيف حــرب‪ -‬ألحان يواخين رودريغو‬
‫قديم»‪ .‬وهي‬
‫ِ‬ ‫ســام لِبيــروت‪ُ /‬‬
‫وق َب ٌل ل‬
‫ِلبحر والبيوت‪ /‬لِصخرة ٍ كأنّهــا وج ُه بحّار ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫‪« ،)1983‬مــن قلبي‬
‫ِ‬
‫خصصت للجنوب أغني ًة هي «إســوارة العروس» (كلمات جوزيف حرب وألحان فيلمون وهبي‬
‫إذ ّ‬
‫‪« :)1989‬إسوارة العروس مشغولي بالدهب‪ /‬وإنت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب‪ /‬ويا شعب‬
‫ن الجنوب كان ُم ّ‬
‫حتاّل ً من‬ ‫الشعوب األقوى من الحروب‪ /‬بتبقى اذا بيبقى يا شعب الجنوب»‪ ،‬فأل ّ‬
‫ق َِبل إسرائيل‪ ،‬بعد اجتياحها لبنان في العام ‪.1982‬‬

‫‪44‬‬
‫ّ‬
‫وكل لبناني‬ ‫ُ‬
‫صــوت فيــروز وحضورها مالذاً يســكن إليه العاشــق والمظلوم والمجــروح‬ ‫أضحــى‬
‫وعربــي لفَ َظــ ُه وطنُــ ُه وألقى به في صقيع ُ‬
‫الغربــة والحنين إلــى األرض‪ ،‬أو ّ‬
‫كل َمن يريد أن يلوذ‬
‫مال ً تموّجات الزّمن وســيرورته‪ .‬غدت فيروز البلسم الذي يسري‬
‫بذكريات الماضي والطفولة متأ ّ‬

‫البلســم الن َّ َ‬
‫فس وال‬ ‫ُ‬ ‫مفعوله على النَّفس كمثل ســريان إيقاع أغنيتها «تعا وال تجي»‪ :‬ي ِ‬
‫ُفرح هذا‬
‫يسعدها‪ ،‬ي ُحرّك أحزانها الدفينة وال ي ُغرقها في الحزن‪ ،‬وذلك في توليفة الكلمة واللّحن والصوت‬
‫ن فيه شــيئاً مميَّــزاً جدّاً بطريقة أداء صاحبته للجملة الموســيقي ّة‪،‬‬
‫الــذي وصفــه زياد الرحباني بأ ّ‬
‫كقدرتهــا مثــا ً «على أن تُبطىء الجملة اللّحني ّة عند نقطة معي ّنة حسّ اســة ‪ Robato‬ومن دون أن‬
‫يكون ‪ robato‬هذا حرّاً لدرجة الفلتان ‪ ،Ad. Libitum‬وفي الوقت الزمني ُ‬
‫المناسب تعود السرعة‬
‫اإليقاعي ّة األولي ّة‪ ،‬بكثير ٍ من الســهولة والرشــاقة» (نزار مروّة محمّد دكروب‪« ،‬حوار غير منشــور‬
‫ُ‬
‫أجراه نزار مروّة مع زياد الرحباني‪ :‬عاصي أعجب بموســيقاي وفيروز أفادتني بحسّ ــها الســليم»‪،‬‬
‫جريدة الحياة‪.)1998/12/12 ،‬‬
‫ُ‬
‫تضافر‬ ‫يأت من صوتها وأغانيها بأبعادهما الروحي ّة والجمالي ّة فحســب‪ ،‬بل من‬
‫تميُّــز فيــروز لم ِ‬
‫وجع َلتْها جزءاً مــن «نمط َعيش اللّبناني ّين والعرب»؛‬ ‫عوامــل مادي ّة َأســبغت عليها هذا َ‬
‫الموقع‪َ ،‬‬
‫بحيث ي ُمكن القول إ ّ‬
‫ن ما يشبه «الد َّين الجماعي» (التعبير لناتالي إينيك في كتابها سوسيولوجيا‬
‫ن وللُبنان‪ ،‬حتّى أضحت مكوّناً ورمزاً أساسيّاً‬
‫الفنّ) تكو ََّن تجاه هذه الفنّانة التي كرَّست حياتها للف ّ‬
‫ُفرج الهمَّ ‪ ،‬وصوتاً يخلّي «الغني ّة تصير ‪...‬‬
‫من مكوّناته ورموزه الفني ّة والثقافي ّة‪ ،‬ومالذاً وبلسماً ي ِ‬
‫عواصــف وهديــر» (من أغنية «القدس العتيقة») في لبنان والعا َلم‪ ،‬ولدى العرب ُ‬
‫المقيمين أو‬
‫ُ‬
‫المنتشرين فيه على اختالف انتماءاتهم القطري ّة‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫د‪ .‬سعد البازعي*‬

‫لم نعتد الوقوف عند كلمات األغاني‪ .‬نسمع الكلمات‪ ،‬لكنّنا ال نصغي إلى الشعر الكامن فيها‪،‬‬
‫إلــى مــا تقوله‪ ،‬مــا تهمس به‪ .‬يطغى اللّحن وصــوت المطرب وتتوارى الكلمــات‪ .‬رب ّما ألنّها ال‬
‫ن َب َه َرتْنا‬ ‫ٍ‬
‫حاالت قليلة أو نادرة‪ .‬معظم األغاني ألحــان وأصوات إ ْ‬ ‫تســتفزّنا أو تؤثّــر فينــا‪ّ ،‬‬
‫إاّل في‬
‫فإنّما تبهرنا بتطريبها وتبقى الكلمات مثل زجاجات العطر تحمل الروائح ُ‬
‫المبهرة فننسى الورد‬
‫فــس العطر أو ما في تصميم الزجاجات من إتقان‪ ،‬ألنّنا ببســاطة لم نَعتد أن نرى في‬
‫الــذي تن َّ‬
‫ّ‬
‫يستحق االلتفات‪.‬‬ ‫هذه ما‬

‫ندوخ مع العشق والسهر والعيون الجميلة والجفاء واللّقاء‪ ،‬وغير ذلك من كليشيهات تكاد ال‬
‫تنجو منها أغنية عربي ّة‪ .‬حتّى أغاني الكبار‪ّ ،‬‬
‫أم كلثوم وعبد الوه ّاب وفريد األطرش ووديع الصافي‬
‫وطــال مــد ّاح وعبد الحليم حافظ وغيرهم‪ .‬تتكرّر اللّوعات ويســود الحنين إلى الحبيب ويســهر‬
‫ّ‬
‫تظل ُمتعالية بجمالها‪ .‬‬ ‫العاشق األبدي لمعشوقة ال تستجيب أو تستجيب‪ ،‬لكنّها‬
‫ّ‬
‫بكل تأكيد أغاني اســتطاعت كلماتها أن تبهرنا بقدر ما َبهرتنا ألحانها‬ ‫العام يســتثني‬
‫ّ‬ ‫هذا الحُكم‬
‫ن أكثرها كان في القصائد التي نُظمت‬
‫أو أصوات ُمطربيها‪ .‬لكنّي حين أعود إلى تلك األغاني أجد أ ّ‬
‫أو كُتبــت بالفصحــى‪ ،‬مــا اختارته ّ‬
‫أم كلثــوم أو عبد الوه ّاب أو الســنباطي أو فريــد األطرش أو‬
‫أنت»‪« ،‬مضناك جفاه مرقده»‪« ،‬جبل التوباد»‬
‫َ‬ ‫عصي الد ّمع»‪« ،‬عِش‬
‫ّ‬ ‫غيرهــم‪« :‬األطــال»‪« ،‬أراك‬
‫وغيرها ممّا أثرى الغناء العربي‪ .‬الكلمات العامي ّة فيها أيضاً قد ٌر ال بأس به من ّ‬
‫الاّلفِ ت الممي َّز‪،‬‬
‫ّ‬
‫أقل‪ ،‬والمشــكلة تكمن‪ ،‬في المقام األوّل‪ ،‬في النزعة الشــعبوي ّة‪ ،‬كون األغنية‬ ‫لكنّه في تقديري‬
‫فنّاً جماهيريّاً يسعى لالنتشار والوصول إلى أكبر عدد ٍ من المتل ّ‬
‫قين‪ .‬ينخفض سقف الشعري ّة أل ّ‬
‫ن‬

‫*ناقد من السعودي ّة‬

‫‪47‬‬
‫الشعر ليس هو األهمّ ‪ :‬اللّحن والصوت يصنعان األغنية والناس تُدندن اللّحن وتنسى ما تقوله‬

‫ن الكلمات ببساطة ت ُ ِّ‬


‫كرر غالباً ما سبق أن قالته آالف األغاني األخرى‪.‬‬ ‫الكلمات‪ ،‬أل ّ‬
‫ن كلمات أغاني فيروز أفضل‪ ،‬ســواء ألَّفها الرحابنة‬
‫هنــا يأتــي التفرُّد الفيروزي‪/‬الرحباني؛ ليس أل ّ‬
‫أم جوزيف حرب أم ســعيد عقل أم غيرهم‪ ،‬وإنّما أل ّ‬
‫ن األفضل من أغانيها من حيث الشــعر أكثر‬
‫ونســبته أعلــى‪ .‬وميزة أخرى‪ :‬مســتوى التجديد أعلــى‪ ،‬والتجديد يعني الخروج من َأســر التقليد‬
‫والتكــرار وإرضــاء الجماهيــر‪ .‬نعم هناك أغا ٍ‬
‫ن كثيــرة لفيروز منها ما هو مــن كلمات بعض َمن‬
‫ن ليس فيها ما يســترعي االهتمام‪ ،‬غير أنّني‬
‫ذكــرت وبعضهــا لغيرهم أو هي من الفولكلور‪ ،‬لك ْ‬
‫ن نسبة ما يكسر نمطي ّة الشعر الغنائي في تلك األغاني قياساً إلى العاد ّ‬
‫ي أكبر ممّا هي‬ ‫أزعم أ ّ‬
‫ي حد ّ تســترعي تلك الكلمات ّ‬
‫الاّلفتة والشــعري ّة العالية‬ ‫لدى الغالبي ّة من ُ‬
‫المطربين‪ .‬ولك ْ‬
‫ن إلى أ ّ‬
‫ٌ‬
‫سؤال مفتوح في غياب النَّظر النقدي والتحليل لهذه الجوانب‪،‬‬ ‫ذائقة ُ‬
‫المستمعين ومخي ّالتهم؟‬
‫أو رب ّما ما أعرفه منها‪ .‬أزعم أنّها ال تحظى باهتمام يقارب االهتمام بصوت فيروز واأللحان التي‬
‫المغنّى‬
‫ُ‬ ‫حملت تلك الكلمات‪ .‬وهي بالتأكيد ال ت ُ َ‬
‫قارن من حيث التحليل بما َيحظى به الشعر غير‬
‫من اهتمام‪ .‬ترديد األغنية ال يعني أبداً تذو َّقها‪ ،‬ناهيك بالتوقُّف عند الصياغة والعالقات الشعري ّة‬

‫المرهفة وما يصل األغاني بعضها ببعض‪ ،‬والســي ّما تلك التي َكت ََبها شــاع ٌر َ‬
‫بعي ْنه‪ .‬كأ ّ‬
‫ن الشعر إذا‬
‫د أهمي ّته بوصفه شعراً وصار «مجرّد غناء»‪ .‬صار ي ُتغنّى به لكي ي ُستغنى عنه‪.‬‬ ‫دخل األغنية‪َ ،‬فقَ َ‬
‫حقيقــة األمــر هــي أنّنا لو نظرنا إلى األغانــي المنظومة باللّهجــة اللّبناني ّة مثل تلــك التي َكت ََبها‬
‫الرحابنة وجوزيف حرب تحديداً ألدهشــتْنا الشعري ّة العالية فيها‪ ،‬ولطالما استوقفتني نواظم أو‬
‫ٍ‬
‫عالمات على الشعري ّة الكامنة‪ .‬ذلك‬ ‫موتيفات في بعض تلك األغاني تحيل على شاعرها وأعد ُّها‬
‫ن النواظــم بحد ّ ذاتها ليســت َمكمن الشــعري ّة‪ ،‬لكــ ّ‬
‫ن توظيفها هو األهمّ ‪ .‬مــن تلك النواظم‪:‬‬ ‫أ ّ‬
‫األســماء واألبواب والشــبابيك والجســور والطيــور‪ .‬مجموعة مــن أغاني فيــروز تتمحور حول‬
‫هــذه النواظــم‪ .‬فــي مجموعة األســماء‪ ،‬مثــا ً‪ ،‬تُطالعنا روائع مثل‪« :‬بكتب اســمك يــا حبيبي»‬
‫و«أسامينا»‪ ،‬و«ال تسألوني ما اسمه حبيبي»‪ ،‬و«يا دارة دوري فينا» (حيث «تينسو أساميهُن»)‪،‬‬
‫وفــي مجموعــة األبواب تطالعنا روائع أخرى‪« :‬أبواب»‪ ،‬و«لمّا ع الباب يا حبيبي»‪ ،‬و«نيســان ّ‬
‫دق‬
‫لمن كتبها‪ ،‬على‬
‫الباب» وغيرها‪ .‬كلمات تلك األغاني تحيل بطبيعة الحال على المدوّنة الشــعري ّة َ‬
‫الرحابنة أو جوزيف حرب أو سعيد عقل أو بشارة الخوري؛ لكنّها أيضاً تحيل على ذائقة ورؤية َمن‬
‫ومن اختارها للغناء‪.‬‬
‫اختارها للتلحين َ‬
‫ّ‬
‫ومســتقاّل ً عن غيره‪ ،‬جنســاً‬ ‫ّ‬
‫ولعــل هــذا ي ُذكّرنــا باألغنية بوصفها جنســاً إبداعيّاً متكامل العناصر‬

‫‪48‬‬
‫عابــراً لألجنــاس‪ .‬إنّنا في األغنية لســنا أمام قصائد وشــعراء فقط‪ ،‬وإنّما أمــام أغانٍ‪ ،‬أي جنس‬
‫ن ُ‬
‫ومغنٍّ ‪ ،‬وهؤالء قد‬ ‫جماعي لشــاعر ٍ ُ‬
‫وملحّ ٍ‬ ‫ٌ‬
‫عمل‬ ‫متنوع ُ‬
‫المبدعين‪ .‬األغنية‬ ‫فنّــي متعــد ّد األصول‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫ِّ‬
‫ن تلك حاالت نادرة‪ .‬األصل هو تعد ُّد مؤ ِّلفي األغنية‪ ،‬أو صانعيها‪.‬‬ ‫ص واحد‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬ ‫يجتمعون في شخ ٍ‬
‫الموسيقي يترك بصمته وإن لم تتّضح‬
‫ّ‬ ‫وال ننسى الموسيقي ّين بطبيعة الحال‪ ،‬فأداؤهم للعمل‬
‫لمن تتّصل األغنية‪ ‬باســمه‬ ‫ّ‬
‫تظل الكلمة األخيرة َ‬ ‫ن على الرّغم من ذلك كلّه‬
‫المختصيــن‪ .‬لكــ ْ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫لغيــر‬
‫وهي هنا فيروز‪ .‬‬
‫مجموع الســمات التي صارت عالمة على أغاني فيروز تمنحها أولوي ّة في تقدير القيمة النهائي ّة‬
‫حتّــى صــارت فيروز نفســها‪ ،‬في تاريخ األغنية العربي ّة‪ ،‬عالمة على َلو ٍ‬
‫ن مــن الغناء ي ُعرف بها‪ .‬وإ ْ‬
‫ن‬
‫شــك‪ ،‬األخوان واالبن‪ ،‬بما َملكوا من عبقري ّة ٍ‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫شــريك في القيمة فهو الرحابنة من دون‬ ‫كان من‬
‫في اللّحن والكتابة والتوليف النهائي لسيمفوني ّة الغناء الفيروزي وما فيه من شعري ّة‪َ .‬‬
‫وأجدني‬
‫مضطــرّاً الســتحضار فيلمــون وهبي أيضــاً‪ ،‬فهــو عبقري ّة أخرى‪َ ،‬أســهمت في صناعة األســطورة‬
‫ْ‬
‫ــر ْ‬
‫ت لألغنيــة الفيروزي ّة ُعمقاً في رحــاب الغناء الشــرقي أو الطرب‬ ‫ن خالــدة َحفَ َ‬
‫الفيروزيّــة بألحــا ٍ‬
‫الشــرقي الذي أراد الرحابنة في بعض إســهاماتهم تخفيفه بالمزيج الشــرقي الغربي‪ ،‬بالتحديث‬
‫الغنائي الذي لم يلتفت إليه وهبي فأصلها في عراقة السلْطنة الشرقي ّة‪.‬‬
‫هذه القدرات الكبيرة تنتظمها كلمات لم يألفها الغناء العربي بركونه غالباً إلى كليشيهات َ‬
‫الغزَ ل‬
‫والهجر‪ .‬لم تسلم أغاني‬
‫َ‬ ‫المثقَ ل بالعواذل والسهر والتوسُّ ل َ‬
‫وألم الفراق‬ ‫واالستحضار األنثوي ُ‬
‫فيروز من هذي بطبيعة الحال‪ ،‬كما ســبق أن ذكرت‪ ،‬فهي ابنة البيئة في نهاية المطاف وللتل ّ‬
‫قي‬
‫ن ذلك العنصر التقليدي لم ُ‬
‫يكن السمة التي‬ ‫الجماهيري مطالبه المشروعة وغير المشروعة؛ لك ّ‬
‫ميَّــزت كلمــات األغنية الفيروزي ّة‪ .‬ما مي َّزها‪ ،‬إلى جانب اللّحن والموســيقى‪ ،‬هو الخروج عن ذلك‬
‫العنصر الطاغي عربيّاً‪ .‬ولنأخذ «أسامينا» مثال ً‪.‬‬
‫ُ‬
‫التفلســف من دون أن تفقد تســاميها إلى مخي ّلة‬ ‫أين في الغناء العربي تجد تســاؤالت تُالمِ س‬
‫الشعر كما في هذا الكالم‪ :‬‬
‫األسامي كالم‪ ،‬شو ّ‬
‫خص الكالم‬
‫عينينا هنّي أسامينا‪ .‬‬
‫يتنصل من هوي ّته ويؤكّد تدنّيه قياساً إلى‬
‫َّ‬ ‫المفارقة بطبيعة الحال هي أ ّ‬
‫ن األغنية هنا كالم‪ ،‬كالم‬
‫ما يبدو متجاوزاً للكالم‪« .‬األسامي» هي العيون وليست الحروف التي ننطقها ُمجتمعةً‪ .‬وواضح‬
‫دد كينونتنا وانتماءنا‪َ ،‬من نحن‪.‬‬ ‫أ ّ‬
‫ن المقصود باألسامي (أو األسماء) ليس سوى الهوي ّة‪ ،‬ما ي ُح ِّ‬

‫‪49‬‬
‫دد الهوي ّة شــيء أكثر جذري ّة من تلك التي تَعب أهلنا في البحث عنها‪ .‬لنَســتعِ د كلمات‬
‫الــذي ي ُحــ ِّ‬
‫األغنية كاملة‪ ،‬لنَستعِ د «الكالم»‪ ،‬بتعبير آخر‪:‬‬
‫أسامينا‬

‫أسامينا‪ ..‬شو تعبو أهالينا تـ لقوها‪ ..‬وشو افتكرو فينا‬


‫األسامي كالم‪ ..‬شو ّ‬
‫خص الكالم‪َ ..‬عينينا هني أسامينا‬
‫ال خضر األسامي وال لوزي ّات‬
‫ال كحلي بحري وال شتوي ّات‬
‫وال َلونن أزرق قديم ما بيعتق‬
‫وال سود وساع وال عسلي ّات‬
‫وال فيهن دار‪ ،‬دار الخمار‬
‫علينا وبلّش يسقينا‪..‬‬
‫األسامي كالم‪ ..‬‬
‫شو ّ‬
‫خص الكالم‪ ..‬‬
‫َعيْنَي ْنا هنّي أسامينا‬

‫تلْج وورق طاير والمسا حزين‬


‫وضباب وقناطر نحنا بردانين‬
‫ّ‬
‫عشاق‬ ‫َلم َلمْنا أسامي أسامي‬
‫مِ ن كُتب مِ نسي ّي وقصايد عتاق‬
‫وصرنا نجمع أسامي ونولع‬
‫تـ صارو رماد وما دفينا‪..‬‬
‫األسامي كالم‪ ..‬‬
‫شو ّ‬
‫خص الكالم‪ ..‬‬
‫َعيْنَي ْنا هنّي أسامينا‬
‫تؤصل األســماء في العينَي ْن‪ ،‬في الجســد‬
‫ِّ‬ ‫تحــاول هــذه الكلمــات أن تتســامى على نفســها‪ ،‬أن‬
‫الجميل‪ ،‬بعيداً عن الكلمات نفسها وعن التقاليد التي تحكم اللّغة ابتداءً بتعب األهل في العثور‬
‫على أسماء ُمالئمة لألبناء تنتظمهم في حياة ُ‬
‫المجتمع‪ ،‬تقاليده وأعرافه وانتهاءً بتحوُّل األسماء‬

‫‪50‬‬
‫ن تلك األحرف قــادرة على اختزال الهوي ّة‪ ،‬وكأ ّ‬
‫ن األهل قد نســوا أو غفلوا‬ ‫إلــى هويّــات قــارّة‪ .‬كأ ّ‬
‫ن الهويّــة تلمع في األعين البرّاقة بالحياة‪ ،‬بألوان الحياة من األخضر إلى اللّوزي إلى األزرق‬
‫عــن أ ّ‬
‫ن خمّاراً يدور ما بينها وبين الناظرين إليها‪ ،‬تلك‬ ‫ِ‬
‫ســكر حين تنظر وكأ ّ‬‫إلى غير ذلك‪ .‬األعي ُن التي ت ُ‬

‫األعْي ُن هي َمن يختزن الهوي ّة وي ُعلن األسماء‪ .‬أمّا تلك األسماء التي تُقال فليست سوى حروف‬
‫ّ‬
‫بالعشــاق‪ ،‬بجميل وبثينة وقيس وليلى وغيرهم ممَّن‬ ‫في الهواء أو على ورق‪ ،‬حتّى حين تتّصل‬
‫هم أعينهم وتجســدهم‪ ،‬حيوي ّتهم المتدفّقة‬
‫هم غير تلك األســماء‪ُ .‬‬
‫ج بأســمائهم القصائد‪ُ .‬‬
‫تض ّ‬
‫وعاطفتهم المتّقدة‪.‬‬
‫ن فيروز التي تغنَّت بكلمات جوزيف حرب حول األسماء غنَّت أيضاً كالماً‬ ‫ّ‬
‫ولعل من الطريف هنا أ ّ‬
‫ّ‬
‫العشاق‪ ،‬جميل بثينة‪ ،‬حين تحد َّث عن األسماء أيضاً‪:‬‬ ‫ألحد أولئك‬
‫أحبّ من األسماء ما شابه اسمها ووافقه أو كان منه دانيا‬
‫تعارف عليه حين يلوح في‬
‫َ‬ ‫لكن ما أبعد الشــأو بين هذه الداللة القريبة‪ ،‬ذلك التعلُّق باالســم ُ‬
‫الم‬
‫األذن تشــاب ٌه بين األســماء‪ ،‬وبين ما يقوله حرب حين يرتفع باألسماء إلى المستحيل‪ ،‬مستحيل‬
‫األعين‪ ،‬حين ي ُماهي بين االسم والجسد المتعي َّن بحسي ّته وصوره وألوانه‪ .‬‬
‫ّ‬
‫يقل نظيره في الغنــاء العربي إ ْ‬
‫ن كان له‬ ‫ن الغنــاء الفيروزي يبتعد شــعريّاً في مســار ٍ آخــر‬
‫غيــر أ ّ‬
‫نظير فعال ً‪ .‬تلك هي األغاني التي تتوغّل كلماتها في اليومي وتَجترح شعري ّتها من البسيط ومن‬
‫تعارف عليه‪ ،‬أي من غير «الشــعري» في تقاليد التأليف الغنائي‪،‬‬
‫َ‬ ‫التفاصيل المألوفة والكالم ُ‬
‫الم‬
‫من دون أن تتخلّى عن المسحة الرومانسي ّة‪ .‬أغنية اليومي والتفاصيل الحياتي ّة الصغيرة معروفة‬
‫طبعاً‪ ،‬كما عند ســي ّد درويش وبيرم التونســي وفي الفولكلور‪ ،‬لكن ما أشير إليه يختلف في أنّه‬
‫المتعالي وإن جاء مخ َّ‬
‫ففاً‪ .‬فإذا كانت «أسامينا» تكسر‬ ‫يمزج ذلك اليومي والبسيط بالرومانسي ُ‬
‫ــح أبواب الداللة على الهوي ّة وعالقة الحسّ ــي بالمجرّد‪ ،‬اللّغة بالجســد‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن األغاني‬ ‫المألــوف بفت ْ ِ‬
‫ُ‬
‫التي أشــير إليها تكســر ذلك المألوف بفتْح الدكاكين وتصوير الجدران لتَرسم حاالت عشق متأبّ‬
‫ّ‬
‫ولعل األغنية التي‬ ‫أو متعــالٍ‪ ،‬عشــق يتماثل عبر معجم الحياة اليومي ّة بأســواقها وتجمُّعاتهــا‪.‬‬
‫المفرق تُنطر ناس» وهي‬
‫أشير إليها قد بدأت تتّضح للقارئ‪ ،‬فأنا أقصد «أد ّيش كان فيه ناس ع َ‬
‫لألخوين رحباني ومن ألحان ابن فيروز زياد رحباني‪ .‬لنقرأ‪:‬‬
‫َ‬
‫أد ّيش كان في ناس ع المفرق تُنطر ناس‬
‫وتشتّي الدني‪ ،‬ويحملوا شمسي ّة‬
‫وأنا بإي ّام الصحو ما حدا نَطرني‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫أد ّيش كان في ناس ع المفرق تُنطر ناس‬
‫وتشتّي الدني‪ ،‬ويحملوا شمسي ّة‬
‫وأنا بإي ّام الصحو ما حدا نَطرني‪.‬‬

‫سني مشلوح بهالدكّان‬


‫صارلي شي مي ّة ِ‬
‫ضجرت منّي الحيطان‪ ،‬ومن صبحي ّه بقوم‬
‫وأنا َعيني ع الحلى‪ ،‬والحلى ع الطرقات‬
‫بغنّيلو غنّيات وهو بحالو مشغول‪.‬‬
‫نطرت مواعيد األرض‪ ،‬وما حدا نَطرني‪.‬‬

‫سني َعم أ ِّلف عناوين‪ ‬‬


‫صارلي شي مي ّة ِ‬
‫مش معروفه َلمين‬
‫وود ّيلن أخبار‪ ،‬‬
‫بكره ال بد ّ السما لتشتيلي ع الباب‬
‫شمسي ّات وأحباب‪ ،‬بياخدوني بشي نهار‬
‫والّلي تذكر ّ‬
‫كل الناس باآلخر ذكرني‬
‫أد ّيش كان في ناس ع المفرق تُنطر ناس‬
‫وتشتّي الدني‪ ،‬ويحملوا شمسي ّة‬
‫وأنا بإي ّام الصحو ما حدا نَطرني‪.‬‬
‫قرأت صور َة الســماء التي تُمطر شمســي ٍ‬
‫ّات وأحباباً‪ ،‬خطرت ببالي لوحة الفنّان الســوريالي‬ ‫ُ‬ ‫كلّما‬
‫ّ‬
‫المظاّلت أو الشمســي ّات‬ ‫ن اقتران‬ ‫ّ‬
‫للمظاّلت الهابطة من الســماء‪ ،‬لك ّ‬ ‫البلجيكــي رينيــه ماغريــت‬
‫يصوران هذا اإلنسان األشبه‬
‫ِّ‬ ‫باألحباب في األغنية ي ُضعِ ف الصلة أل ّ‬
‫ن الرحابنة‪ ،‬على نقيض ماغريت‪،‬‬
‫بالســجين في دكّانه‪« ،‬المشــلوح بها الدكّان»‪ ،‬عاشــقاً‪ ،‬مهموماً بالحُســن أو بالحال الذي يراه وال‬
‫يطولــه‪ .‬هذا اإلنســان المهمــوم بالحبّ والجمال يعيــش عزل ًة وحرماناً‪ ،‬لكنّه ال يشــكو من أحد‬
‫ن إلى إنســان باســمه‪ ،‬ليس إلى امرأة جميلة واضحة القســمات‪ ،‬وإنّما هو مهموم‬
‫بعينه أو يح ّ‬
‫َ‬
‫بحرمانــه مــن ّ‬
‫كل جميل‪ :‬يؤ ِّلــف عناوين ال يعرف أحد أصحابها‪ ،‬عناوين ليســت ألحد‪ ،‬كأنّه ي ُر ِّدد ما‬
‫تقوله الشاعرة األميركي ّة إيميلي ديكنسون‪« :‬هذه رسالتي إلى العا َلم الذي لم َيكتب لي يوماً»‪.‬‬
‫أناس يملكون الجمال لكنّهم ال يأبهون له وال لغيره‪« :‬وأنا عيني‬
‫ٌ‬ ‫إنّه يتمنّى أن ي ُبادله االهتمام‬

‫‪52‬‬
‫ع الحال والحال ع الطرقات‪ /‬غنّي له غنّيات وهو بحاله مشغول»‪ .‬في هذه الصورة تقفز إلى الذهن‬
‫ّ‬
‫تظل تجسُّ ــداً‬ ‫المتعالية‪ ،‬فعلى الرّغم من عدم تحديد تلك المعشــوقة‪ ،‬فإنّها‬
‫صورة المعشــوقة ُ‬
‫أفالطونيّاً تقريباً للحســن المتأب ّي على اآلخرين‪ ،‬المشــغول بنفســه‪ُ ،‬‬
‫المكتفي بما لديه‪ ،‬بطريقة‬
‫ّ‬
‫تظل لغة األغنية أرضي ّ ًة مشغولة بالبسيط والقريب‪ ،‬بمعنى‬ ‫قدسي ّة أو إلهي ّة‪ .‬عدا عن تلك الصورة‪،‬‬
‫ن كلمات األغنية تتّصل باألغنية العربي ّة التقليدي ّة‪ ،‬أغنية العشق والمعشوق ُ‬
‫المتمنِّع‪ ،‬فقط من‬ ‫أ ّ‬
‫لبس فيه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫هذه النافذة الصغيرة‪ .‬لو تَركنا ذلك جانباً لرأينا األغنية تفترق عن غيرها افتراقاً ال‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫بترجع يا ليل»‪.‬‬
‫َ‬ ‫أغنية ال تقل إدهاشــاً في قدرتها على أسْ ِ‬
‫ــر الخيال عبر لغتها وأجوائها هي «ليلي ّه‬
‫ي نقيض من‬ ‫َ‬
‫طرف ْ‬ ‫لألخوي ْن رحباني ومن ألحان فيلمون وهبي‪ ،‬تقف على‬ ‫َ‬ ‫هذه األغنية‪ ،‬وهي أيضاً‬
‫«أد ّيش كان في ناس»‪ .‬هنا تفيض اللّغة برومانسي ّة ٍ عذبة‪ ،‬أجواء عشق يل ّ‬
‫فه الغموض‪ .‬البساطة‬
‫والوضــوح فــي «إد ّيش كان فيه ناس» بل وحتّى في «أســامينا»‪ ،‬يتراجعان لتطغى أجواءٌ يمتزج‬
‫فيها الحالِم بالقاسي‪ ،‬والقسوة هنا غير مألوفة بحسب علمي في ما َكت ََب ُه األخوان رحباني‪ .‬لنقرأ‪:‬‬
‫ليلي ّة بترجع يا ليل وبتسْ أل ع النّاس‬
‫وبتسقيهُن يا ها اللّيل ّ‬
‫كل واحد من كاس‬
‫غِب ْ َلك شي ليلة يا َليل وانسانا يا َليل‪ ،‬يا َليل‪.‬‬

‫ّ‬
‫يبكوني‬ ‫ليلي ّة العينَي ْن السود بيطلّوا‬
‫غزلوني على صوت العود غني ّة وغنّوني‬
‫قلتلّي خب ّيني‪ ‬بقلبك وانسيني‬
‫يا زهر القناطر فتح‪ ‬هالميل وهالميل‬
‫غِب ْ َلك شي ليلة يا ليل وانسانا يا ليل‪ ،‬يا ليل‪.‬‬

‫أنا مش سودا بس اللّيل سوَّدني بجناحه‬


‫مرقوا الخي ّاله ع الخَيل تركوني وراحوا‬
‫ندهتلّون راحوا ال وقْفوا وال ارتاحوا‬
‫معهُن حبيبي ما سمعني بعدوا بعدوا الخيل‬
‫غب ْ َلك شي ليلة يا ليل وانسانا يا ليل‪ ،‬يا ليل‪.‬‬

‫ليلي ّة بترجع يا ليل وبتسأل ع الناس‬


‫وبتسقيهُن يا ها اللّيل ّ‬
‫كل واحد من كاس‬
‫غِب ْ َلك شي ليلة يا ليل وانسانا يا ليل‪ ،‬يا ليل‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫عودة اللّيل ّ‬
‫كل ليلة افتتاح ســوريالي‪ ،‬شــطحة مجازي ّة تفضي إلى رومانســي ّة ٍ عذبة ومعذّبة في‬
‫اآلن نفســه‪ .‬اللّيــل هنا‪ ،‬على عكس الحال في أغنية «أد ّيــش كان في ناس»‪ ،‬يهمّه الجميع‪ ،‬فهو‬
‫هم دائماً في األغنية‬ ‫ّ‬
‫العشاق الســهرانين‪ ،‬كما ُ‬ ‫يســأل عنهم‪ ،‬و ُ‬
‫هم بطبيعة الحال ليســوا سوى‬
‫العربيّــة‪ .‬تســتعيد األغنيــة تلك الداللة المألوفــة بعد أن تكون قد مهَّدت للخــروج عنها بالمعنى‬
‫فارقة ٍ تقتضي االبتسام والدهشة معاً‪ .‬لك ّ‬
‫ن استعادة‬ ‫السوريالي للّيل الذي يعود ّ‬
‫كل ليلة في ُم َ‬
‫الداللــة المألوفــة تقترح ُم َ‬
‫قارن ًة بإحدى روائــع الغناء العربي‪ ،‬أغنية ّ‬
‫أم كلثوم «أهل الهوى»‪ .‬في‬
‫تلــك الرائعــة الكلثومي ّة التي َكتبها الشــاعر بيرم التونســي ولحَّنها زكريا أحمــد يتجلّى اللّيل في‬
‫هم أهل الهوى الذين يشبهون الناس‪ ،‬أولئك المتجمّعون لكي يسقيهم‬ ‫ّ‬
‫للعشاق ُ‬ ‫ع‬ ‫صور ِة تج ُّ‬
‫م ٍ‬
‫اللّيل من كأسه في رائعة فيروز‪ .‬يقول مطلع «أهل الهوى»‪:‬‬
‫أهل الهوى يا ليل فاتوا مضاجعهم‪،‬‬
‫وتجمّعوا يا ليل صحبة وأنا معهم‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويقصروك يا ليل‬ ‫يطوّلوك يا ليل‬
‫يطوّلوك يا ليل من اللّي بيهم‬
‫وانت يا ليل بس اللّي عالِم بيهم‬
‫فيهم كسير القلب والمتأ ِّلم‬
‫واللّي َكتَم شكواه ولم يتكلّم‪...‬‬
‫العام الحقاً من الحــزن إلى الفرح بتغي ُّر‬
‫ّ‬ ‫أم كلثوم على هذا النســق ليتغيَّــر المزاج‬
‫تســير أغنيــة ّ‬
‫قارنة تتوقّف عند هذا الحد ّ‪ ،‬حيث يتّصل العشق باللّيل في أغنية‬ ‫ّ‬
‫العشاق‪ُ .‬‬
‫الم َ‬ ‫الوضع الذي يعيشه‬
‫ُواصل اللّيل َدوره التقليدي في تغذية الهموم واألحالم‪ .‬أغنية فيروز تخرج عن هذا‬
‫أم كلثوم وي ِ‬
‫ّ‬
‫النســق بطر ِْح صور ٍ تخرج فيها المتحد ّثة عن بقي ّة العشــاق لتتحوَّل الحكاية إلى حكايتها هي بدالً‬
‫ق جماعي ّة كما في قصيدة بيرم التونســي‪« :‬هو يقول يا ليل يا ليل‬ ‫من اســتمرارها حكاية ُع ْ‬
‫شــ ٍ‬
‫واحنــا نقــول للي للي للــي ليل»‪ .‬حتّى اللّيل هنا ليــس اللّيل ذاته‪ .‬عند هــذه النقطة تخرج أغنية‬
‫فيروز والرحابنة خروجاً حادّاً عن المألوف من أغاني العشق‪:‬‬
‫أنا مش سودا بس اللّيل سوَّدني بجناحه‬
‫مرقوا الخي ّالة ع الخيل تركوني وراحوا‬
‫ندهتلّون راحوا ال وقفوا وال ارتاحوا‬
‫معهُن حبيبي ما سمعني بعدوا بعدوا الخيل‬

‫‪54‬‬
‫هيمن‬ ‫صــورة العاشــقة التي ســوَّدها اللّيل صورة غريبــة‪ ،‬ويبدو أنّها تقصد إلى تعميــق الد َّور ُ‬
‫الم ِ‬
‫ن ّ‬
‫الاّلفت أيضاً أكثر من الصورة األولى‬ ‫والقاسي الذي ي ُمارسه اللّيل على الساهرين ليس أكثر‪ .‬لك ّ‬
‫ُ‬
‫والمتجاهلين لنداء العاشــقة‪ .‬هذه الصورة األخيــرة تنطوي على‬ ‫هــي صــورة الخي ّالة ُ‬
‫المســرعين‬
‫المتجاهِل لعاشقه‪ ،‬الحال المشغول بحاله‪ ،‬لكنّها تختلف عنها بقسوة‬
‫الصورة التقليدي ّة للمعشوق ُ‬
‫المــرور واإليحــاء الضمنــي بمعركة ٍ ما كان أولئك الخي ّالة يخوضونها َجعلتهم غير آبهين بعاشــقة‬
‫فها اللّيل‪ .‬وقد يتذكّر بعض القرّاء هنا صورة في أغنية «زهر البيلسان» يضيع فيها النداء أيضاً‪:‬‬
‫يل ّ‬

‫صرخ عليهُن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا‬


‫ِّ‬
‫َ‬
‫هالغيم العتيق‬ ‫وحدن بيبقوا متل‬
‫وعتْم الطريق‬ ‫هن وجو ُ‬
‫هن َ‬ ‫وحد ُ‬
‫ن األغنيتَيْــن تختلفان‪ ،‬ومن وجوه االختالف الواضحة أجواء العشــق وتحــوُّل اللّيل في «ليلي ّة‬
‫لكــ ّ‬
‫العشــاق (وبتسقيهُن يا هاللّيل ّ‬
‫كل واحد من كاس)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ق يدور بكأســه على‬
‫بترجع يا ليل» إلى ســا ٍ‬
‫تحملنــا تلــك الصــورة إلى صورة العيون التــي «دار فيها الخمّار علينا وبلَّش يســقينا» في أغنية‬
‫«أســامينا»‪ ،‬كمــا أنّهــا تلفت االنتباه‪ ،‬حين نقارنهــا بأغنية ّ‬
‫أم كلثوم «أهل الهــوى» إلى أ ّ‬
‫ن تلك‬
‫األغنية الكلثومي ّة القديمة تخلو من الخمر‪ .‬هناك عود رنّان لكن ال يوجد سا ٍ‬
‫ق وخَمر‪ .‬هل يعود‬
‫أم كلثوم‬
‫ن ّ‬‫ن المعروف أ ّ‬ ‫الم َ‬
‫حافظة لدى المصري ّين في تلك الفترة؟ رب ّما‪ ،‬لك ّ‬ ‫ُ‬ ‫ذلك إلى قدر ٍ من‬
‫خ َّ‬
‫ففت من بعض الدالالت في قصيدة مثل «رباعي ّات الخي ّام» بالتعاون مع ُمترجِ ِ‬
‫مها أحمد رامي‬
‫حين اســتبد َلت «نادى من ألحان غفاة البشــر» كما في األصل بـ «نادى من َ‬
‫الغيب غفاة البشــر»‬
‫في مطلع القصيدة‪ .‬‬
‫المتن‬
‫قارنــة برباعي ّات الخي ّام تلــك القصائد الكثيرة المتعــد ّدة في َ‬ ‫تخطــر بالبــال في ســياق ُ‬
‫الم َ‬
‫الفيروزي‪/‬الرحبانــي والتــي مي َّزت أغاني فيروز َ‬
‫وألحقتها بنهضــة األغنية العربي ّة في مصر على يد‬
‫وأم كلثوم والسنباطي وفريد األطرش وغيرهم‪ .‬اإلسهام الكبير لألغنية الفيروزي ّة‬
‫ّ‬ ‫عبد الوه ّاب‬
‫في هذا الســياق يســتحوذ على اإلعجاب‪ ،‬ســواء كانت القصائد لشــعراءٍ ُمعاصرين مثل بشــارة‬
‫ّ‬
‫الموشــحات والعذري ّين‪ .‬من‬ ‫الخوري وســعيد عقل وجوزيف حرب أم لشــعراء قدامى كشــعراء‬
‫تلــك القصائد «مرّ بي» و «يا شــام عاد الصيــف» و»خذني بعينَيك واهرب أي ّها القمر»‪ .‬في هذه‬
‫القصيدة األخيرة َي ِرد ُ قول الشاعر‪:‬‬
‫عت ََصر‬ ‫آن َ‬
‫الكر ُْم ي ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫الصيف َ‬ ‫وك أحبابي وموعدُنا أوا ِخ ُر‬‫«شآم أهل ُ ِ‬
‫س َه ُر»‪.‬‬ ‫ُ‬
‫نرش ُ‬ ‫َ‬ ‫نُعت ُ‬
‫يوم األماسي ال خم ٌر وال َ‬ ‫َ‬ ‫فها‬ ‫َ‬
‫البيض‬ ‫مات‬
‫ِ‬ ‫النغ‬ ‫ِّق‬

‫‪55‬‬
‫استحضا ُر تلك القصائد‪ ،‬والسي ّما تلك التي تتغنّى بالشام ‪ -‬الشام بمعناه الواسع الذي يشمل‪،‬‬
‫إلــى جانب ســوريا‪ ،‬لبنــان وفلســطين واألردن‪ ،‬ي ُذ ِّكر القــارئ بالنّزعة القومي ّة في أعمــا ٍ‬
‫ل غنائي ّة‬
‫تمحورت حول البالد العربي ّة سواء كانت بالداً بأكملها مثل لبنان ومصر والكويت‪ ،‬أم ُمدناً مثل‬
‫َ‬
‫ن وصف الحضور‬ ‫ّ‬
‫القدس ومكة ودمشق وبغداد وعمّان‪ ،‬فضال ً عن بيروت الحاضرة بكثافة‪ .‬غير أ ّ‬
‫العربــي فــي أغاني فيروز بالقومي يجب ّ‬
‫أاّل ي ُنســينا الب ُعد الديني الماثل في األغاني التي تحتفي‬
‫ن التغنّي باألوطان بصفة ٍ عامّة ســواء كانت‬ ‫ّ‬
‫ومكة‪ ،‬هذا مع أ ّ‬ ‫بمدينتَي ْن مقد ّســتَي ْن ُ‬
‫هما القدس‬
‫بــاداً أم ُمدنــاً ترمز إلــى البالد يُالمِ س المقد َّس عبر الصور المثالي ّة التــي ت ُ َهي ِْمن على القصائد‪،‬‬
‫ُ‬
‫بعضها من‬ ‫فهــي ُمــدن متعالية بقيمتهــا التاريخي ّة ومكانتهــا العاطفي ّة في النفوس ومــا ي ُثيره‬
‫حل بها‪ ،‬هي ُمدن تتجلّى في أجمل صورها‪ ،‬وهي غالباً صورة المعشوقة‬
‫ع تتّصل بحالها وما ّ‬
‫أوجا ٍ‬
‫م ســعيد عقــل‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن ممّا‬ ‫ن مجمــل هذه القصائد كان من ن ْ‬
‫َظ ِ‬ ‫ُ‬
‫المتعاليــة والباذخــة الجمــال‪ .‬وأل ّ‬
‫يســترعي انتباه الســامع أو القارئ هو اللّغة في تلك القصائد التي تخرج باألغنية الفيروزي ّة عن‬
‫ق صعبة بل َوعرة أحياناً مثلما أنّها مدهشة في أخيلتها وإيحاءاتها‪ .‬في‬
‫بساطتها وألفتها إلى مرا ٍ‬
‫قصيــدة «قــرأت مجدك»‪ ،‬وهي واحدة من قصائد عد ّة لعقل غنَّتها فيروز ولحَّنها األخوان رحباني‪،‬‬
‫نقرأ أبياتاً مثل قوله‪:‬‬

‫َي أمويٍّ َعزمة الحِ قَ ِ‬


‫ب‬ ‫«أي ّام عاصمة الدنيا هنا ربطت بعزمت ْ‬
‫ب»‬ ‫والق ُ‬
‫ض ِ‬ ‫ُ‬ ‫وأندلس كغوطة ٍ من شبا المرّان‬
‫ٍ‬ ‫نادت فهبَّ إلى هند ٍ‬

‫فمفــردات مثل «شــبان المــرّان والقضب» تذكّرنا بأبي تمّام (واألرجــح أ ّ‬


‫ن بائي ّة أبي تمّام كانت‬
‫حاضــرة فــي ذهن عقل) أكثر ممّــا تُذ ِّكرنا بما اعتادت فيروز أن تتغنّى بــه‪ .‬وكذلك مفردات مثل‬
‫«الصيد» (الملوك أو األشراف) في قصيدة «غنَّيت ّ‬
‫مكة»‪:‬‬
‫ّ‬
‫مكة أهلها الصيدا والعيد يمأل أضلعي عيدا»‬ ‫«غن َّ ُ‬
‫يت‬
‫مفردات كهذه تكاد تخفي غرابتها جمال الصور ومعها عذوبة الصوت الفيروزي واللّحن المصاحب‬
‫ن في األغاني ما ينتصر في النهاية على تلك العوائق اللّفظي ّة لتبقى من‬
‫للكلمات‪ .‬أقول تكاد أل ّ‬
‫روائــع الغنــاء العربــي‪ ،‬مثلما أنّها تؤ ِّكــد الب ُعد العربــي وال ُ‬
‫عمق الروحي ألغاني فيــروز على نحو ٍ‬
‫ّ‬
‫يقل نظيره وتصعب مجاراته‪ .‬هذا بالطبع إلى جانب الشعري ّة العالية التي قد ال يلتقطها متل ّ‬
‫قي‬
‫ســتمع‪ .‬واألمثلة هنا كثيرة لك ْ‬
‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ب ُ‬
‫الم‬ ‫األغنيــة مباشــرةً‪ ،‬ألنّها تتطلّب تأم َُّل القــارئ أكثر من َط َر ِ‬
‫ّ‬
‫شك قول عقل في إشارة إلى أهل الشام‪ :‬‬ ‫منها دون‬
‫«قد غبت عنهم وما لي في الغياب يد أنا الجناح الذي يلهو به السفر»‬

‫‪56‬‬
‫ّ‬
‫مكة»‪:‬‬ ‫أو قوله في «غنَّيت‬

‫لشجوها عودا»‪ ‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫لكنت‬ ‫بمبدعها شجواً‬ ‫ْ‬
‫تفت ُ‬‫ه‬‫«لو رملةٌ َ‬
‫يجمع الصورتَي ْن هو تحوُّل الشــاعر إلى أداة ٍ في يد الســفر أو الشــجو‪ ،‬فهو جناح في األولى‬
‫ما َ‬
‫وعود في الثانية‪ ،‬وليست هاتان الصورتان ممّا يسهل التقاطه أثناء األداء الغنائي‪ ،‬والسي ّما أ ّ‬
‫ن‬
‫ل في الكالم‪ ،‬ف َيستأثرا بمخي ّلة المتل ّ‬
‫قي‬ ‫صوت فيروز وجمال اللّحن أحرى بأن يطغيا على أ ّ‬
‫ي جما ٍ‬
‫ليكون نشوة في طرب األغنية ال صورة في خيال القصيدة‪  .‬‬
‫َ‬
‫رتســمة فــي األذهان لألغنية الفيروزيّــة ال تتح ّ‬
‫قق في هــذه القصائد على ما‬ ‫ن الصــورة ُ‬
‫الم ِ‬ ‫غيــر أ ّ‬
‫فيهــا مــن روعــة وفي تلحينها من تميُّــز‪ .‬األغنية الفيروزي ّة‪ ،‬من حيث الكلمــات تحديداً‪ ،‬هي تلك‬
‫القادمة من خصوصي ّة اللّهجة اللّبناني ّة‪ ،‬ذلك أ ّ‬
‫ن خروج األغنية إلى رحابة القصيدة العربي ّة الفصحى‬
‫يعنــي أيضــاً خروجاً إلى منطقة التماهي مع الثقافة واللّغة بصفة ٍ عامّة وفقدان أو ضعف الصلة‬
‫والخــاص‪ ،‬ومــع أن هــذا مطلوب َ‬
‫وأنتــج تراثاً غنائيّاً عظيماً‪ ،‬ســواء عند فيــروز أم ّ‬
‫أم‬ ‫ّ‬ ‫بالمحلّــي‬
‫دد األوّل للهوي ّة‪ ،‬ومن‬ ‫كلثوم أم عبد الوه ّاب أم غيرهم‪ ،‬فلقد ظلَّت الكلمات المحلي ّة هي ُ‬
‫المح ِّ‬
‫هنــا كان قيــاس االختــاف بين األغنية الفيروزي ّة وغيرها يتّكئ إلــى حدٍّ كبير على ما كتب باللّهجة‬
‫المحلي ّة واســتطاع في الوقت نفســه أن يكســر كليشــيهاتها بصور ٍ شعري ّة تَســحب القارئ إلى‬
‫متفوق‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ن‬ ‫ٍ‬
‫فضاءات من المتعة االستثنائي ّة‪ ،‬والسي ّما إذا ترافقت مع لح ٍ‬
‫قي‪ ،‬أو هكذا ينبغي لها‪ ،‬واحدة من أشهر ما غنَّت فيروز‪ .‬إنّها‬ ‫المتل ّ‬
‫من تلك الكلمات التي تستفزّ ُ‬
‫ُ‬
‫«حب َّيتك تنســيت النوم»‪ ،‬وسأشــير إلى الخارج منها عن مألوف الكتابة الشــعري ّة الغنائي ّة‪ .‬يقول‬
‫ُ‬
‫المقطع الذي أشير إليه‪:‬‬
‫حب ّيتك تنسيت النوم يا خوفي تنساني‬
‫حابسني برّاة النوم وتاركني سهرانة‬
‫أنا حب ّيتك حب ّيتك أنا حب ّيتك حب ّيتك‬

‫بشتقلك ال بقدر شوفك وال بقدر احكيك‬


‫بندهلك خلف الطرقات وخلف الشبابيك‬
‫لرب ّمــا مــرَّ الكثيــرون بهذا المقطع فأنســاهم اللّحن الرائــع روع َة الكلمــات واختالفها‪ .‬تأمَّل‬
‫فقــط «حابســني بــرّاة النوم»‪ :‬لكم عب َّر الشــعراء عن الســهر وتباروا في إبــداع الوجوه التي‬

‫‪57‬‬
‫ن الحبس خارج النوم لم َي ِرد ْ بحســب علمي لدى أحد ٍ من َق ِبل‪،‬‬
‫ي ُمكــن تصويــره مــن خاللها‪ .‬لك ّ‬
‫يضف الشــاعر «تاركني سهرانة» ألنّها تزيل‬ ‫ُ‬
‫وددت لو لم ِ‬ ‫ال شــاعر فصحى وال عامي ّة‪ .‬ومع أنّني‬
‫الغمــوض الجميل الخفيف عن الحبس خارج أســوار النــوم‪ ،‬أي توضح ما غمض‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن الصورة‬
‫ّ‬
‫تظل آسرة‪.‬‬
‫الصورة الثانية المدهشــة هنا هي النداء «خلف الطرقات وخلف الشــبابيك»‪ .‬ال غرابة في النداء‬
‫األخيــر‪ ،‬فكــم من فتاة نا َدت حبيبها من خلف الشــبابيك‪ ،‬لك ْ‬
‫ن خلــف الطرقات؟ هنا تنفتح الداللة‬
‫ويصعــب إغالقها‪ ،‬فأيــن هي تلك األماكن الواقعة خَلف الطرقات؟ قــد تكون البيوت وقد تكون‬
‫ن الداللة تمضي أبعد من ذلك‪ ،‬إنّها خلف المعتاد من أماكن الســير‪ ،‬ومن المطروق‬
‫غيرهــا‪ ،‬لكــ ّ‬
‫من دروب ُ‬
‫المشاة‪ ،‬أماكن تبدو متوارية عن الشوارع التي يسلكها الناس ليصلوا مسالك يصعب‬
‫تحديدها‪ ،‬هي هناك في بعيد ٍ ما‪ .‬‬
‫وفــي بعيــد ٍ مــا أيضاً عــن المألوف كلمات أغنيــة أود ّ أن أختم بها‪ .‬إنّها كلمــات «فايق يا هوى»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بكلمات غير‬ ‫في تلك الرائعة الرحباني ّة‪/‬الفيلموني ّة يجتمع الفريق مرّ ًة أخرى ليطرز الغناء العربي‬
‫ٌ‬
‫لحن مدهش كالعادة من فيلمون وهبي‪ .‬لنقرأ‪:‬‬ ‫عادي ّة من الرحابنة ليحملها‬
‫فايق يا هوى لِم كنّا سوى‬
‫والدمع سهّرني وصفولي دوا‬
‫حب ّك وفتّش عالدوا‬
‫تاري الدوا ُ‬

‫فايق لمّا راحوا أهالينا مشوار‬


‫تركونا وراحوا قالوا والد زغار‬
‫ودارت فينا الدار‬
‫ونحنا والد زغار‬
‫والهوى َجمَّعنا وفرّقنا الهوى‬

‫طير المسا جايي من سفر طويل‬


‫وعلى باب السهرة تبكي المواويل‬
‫نطفي القناديل‬
‫وتبكي المواويل‬
‫ونسهر على العتمة تنيْنِتنا سوى‬

‫‪58‬‬
‫فايق َع سهرة وكان في ليل وندي‬
‫والنار َعم تغفا بحضن الموقدة‬
‫والعتوبة مسافرة وما في كالم‬
‫هدِي قلبك وال قلبي ِ‬
‫هدِي‬ ‫وال ِ‬
‫ونام الحكي والناس وانْهد ّ السراج‬
‫ت خصور الورد َع كتف السياج‬ ‫وتكْ ِي ْ‬

‫وفل القمر َع ضيعتو وفلّوا الدراج‬‫ّ‬

‫بكير وتقلّي اقعدي‬


‫وقلّك بقاش ّ‬

‫ّ‬
‫تشع‬ ‫من هذه الكلمات الغارقة في محلي ّتها اللّبناني ّة وفي أجوائها الريفي ّة تتفتّح دالالت طفولة‬
‫في أغا ٍ‬
‫ن أخرى (أغنية «شادي» و«يا دارة دوري فينا» مثال ً)‪ .‬الكلمات المكتوبة من تلك الزاوية‬
‫المخاطب‪.‬‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫صوت أنثوي ينضح من ضمير‬ ‫تأتي هنا محمولة على‬
‫ســتهل بكلمــة التذكير «فايق» (أتذْكُــر؟) وهي ذكريات‬
‫ّ‬ ‫أمّــا مــدار الكلمات فهي الذكريات التي ت ُ‬

‫ســهرة غفــل فيها العا َلم‪ ،‬األهل واألشــياء‪ ،‬عن الولد والبنت «الزغــار»‪ :‬األهل الذين ذهبوا من‬
‫صغيريْــن‪ ،‬والنار التي تغفــو وكأنّها تتغافل‬
‫َ‬ ‫ن حبّــاً ي ُمكــن أن ينمو بين‬
‫دون أن يخطــر ببالهــم أ ّ‬
‫عمّــا يجــري حولهــا؛ حتّى الورد أدركــه التعب فاتّكأت خصوره على كتف الســياج لينــام هو اآلخر‪.‬‬
‫َ‬
‫اســتوقفت كثيرين‪ ،‬تبدو غارقة هي األخرى في‬ ‫تلك الصورة‪ ،‬التي طالما اســتوقفتني وأحســبها‬
‫العشق سواء في مالمحها األنثوي ّة (الخصور) أم تعبها (االتّكاء) أم غفوتها (النار)‪ .‬لك ّ‬
‫ن المالمح‬
‫تمتــد ّ أيضــاً إلى عناصر أخرى في الصورة‪« :‬ونام الحكي والناس وانهد ّ الســراج»‪ .‬الناس ينامون‬
‫ن هناك َمن لم َينَم‪ :‬ليس العاشقان وحدهما ُ‬
‫هما‬ ‫ن نَوم «الحكي» يعني أ ّ‬
‫والسراج ينطفئ لك ّ‬
‫الســاهرين وإنّمــا الشــعر أيضاً إذ يصــرّ على الحضور‪ ،‬كما العاشــق الذي ي ُطالِــب حبيبته بالبقاء‪:‬‬
‫بكير وتقلّي اقعدي»‪.‬‬
‫«وقلَّك بقاش ّ‬
‫ٍ‬
‫كلمات فيروزيّــة أخرى كثيرة كان ي ُمكن االســتمرار في‬ ‫يصــرّ الشــعر علــى البقاء ُمســتيقظاً في‬
‫ّ‬
‫فلعل فــي ما أمكن الوصول إليه‪ ‬ما‬ ‫استشــكاف مكامــن شــعري ّتها لوال أنّها َمهم ٌ‬
‫ّة ال نهاية لها‪،‬‬
‫يوحي بما لم ي ُمكن‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫مؤي ّد الشيباني*‬

‫ي الرّاسخ‪ ،‬والمتَّقد في ذاكرة‬ ‫ما ألغنية من َقبل فيروز أو بعدها‪ّ ،‬‬


‫الثقافي الفن ّ ّ‬
‫ّ‬ ‫كل هذا االمتداد‬
‫العربي على امتداد مراحل ِه التاريخي ّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والمــدن والناس‪ ،‬يطلع صوتُها من ديوان الشــعر‬
‫ُ‬ ‫الحــبّ‬
‫ســيرتنا الذاتي ّة‪ ،‬في الصبا والشــباب‪ ،‬وحتّى زمن حيرة األســئلة‬
‫َ‬ ‫لهج ًة وفصحى‪ ،‬ويتشــارك معنا‬
‫عمر‪ .‬تلك نبرتُها شاخصةٌ في سماوات بيروت وبحرها‪ ،‬بل وجميع قرى لبنان وبلداته‪ ،‬وتلك‬
‫وال ُ‬
‫هي في دمشــق الشــام والشآم‪ ،‬وفي بغداد وشعرائها والصور‪ ،‬وفي مصر وشمسها الذهب‪،‬‬
‫وتلــك هــي مــن تونس إلى أبو ظبي‪ ،‬ومــن األردنّ إلى زهرة المدائن‪ ،‬وإلى ّ‬
‫كل شــجرة ٍ عتيقة‬
‫تُظ ِّلل بئر الحبّ المتفجّر بالمياه العذبة‪ ،‬تروي قوافل األجيال‪..‬‬

‫مــا ألغنيــة من َقبل فيروز أو بعدهــا‪ ،‬حملت وأعطت ّ‬


‫كل هذا التفاعل االســتثنائي مع األوقات‪،‬‬
‫في صباحات األمل والرزق‪ ،‬وفي مســاءات المحب ّة والســام‪ ،‬وفي نكبات البالد ومســرّاتها على‬
‫الســواء‪ ،‬في الحرب والعرس‪ ،‬في الســفر والحزن‪ ،‬في الثورة والمدرســة والبريد والعائلة‪ ،‬إنّها‬
‫ليســت مجــرّد رحلة «مطربة» بــدأت وانتهت إلى العزلة‪ ،‬بل هي إقامة عامــرة بين لحظة ٍ تاريخي ّة‬
‫ّ‬
‫بــكل زواياها وامتدادتهــا الخالدة‪.‬‬ ‫َجمعــت فيــروز وعاصــي‪ ،‬وامتد ّت إلى الجهــات األربع كاملة‪،‬‬
‫تجربــة ارتكــزت على عوامل زمنيّــة ومكاني ّة كبيرة ومهمّة‪ ،‬أوّلها لبنان الريــادة الفني ّة والثقافي ّة‬
‫ُ‬
‫بعض زمنها‪ ،‬وخصوصي ّة التجربة التي أنتجها مرور عاصي‬ ‫بجمالي ّاتها التي لن تنتهي مهما التبس‬
‫االستثنائي على مرابع حياتنا‪ ،‬برفقة فيروز االستثنائي ّة أصال ً‪ ،‬وكذلك العمل الرحباني على ثنائي ّات‬
‫مهمّة وأساســي ّة في تجربتهم‪ ،‬بين التراث والحداثة‪ ،‬وبين الشــرق والغرب‪ ،‬وبين لبنان المحلّي‬
‫ُ‬
‫العين‪.‬‬
‫العام‪ ،‬وبين الكلمة والنغمة‪ ،‬وهكذا بين مشهدي ّة األذن ومشهدي ّة َ‬ ‫ّ‬ ‫والعربي‬

‫*شاعر وكاتب من العراق مُ قيم في اإلمارات‬

‫‪60‬‬
‫ما ألغنية من َقبل فيروز أو بعدها‪َ ،‬فتحت شبابيك الحياة على حدائق الشعراء‪ ،‬من ابن الدمينة‬
‫إلــى ســعيد عقل‪ ،‬ومن َقيس بن ذريح إلى طالل حيــدر‪ ،‬ومن أبي نوّاس إلى جوزيف حرب‪ ،‬ومن‬
‫إيليــا أبــي ماضي إلــى جبران خليل جبران‪ ..‬من الصعب أن نعد ّدهــم‪ ،‬أولئك الذين نعرفهم أو ال‬

‫نعرفهم‪ ،‬المنســي ّون في ثنايا الزمن‪ ،‬زمننا المغب ّر‪ ،‬نَقَ َلتْهم فيروز بصوتها إلى ُم َ‬
‫مارســ ِة الذائقة‬
‫العاليــة‪ ،‬فــي المعنى والصورة‪ .‬ولم يتوقّف صوتها لحظ ًة واحــدة عن النبض في ضمير المتل ّ‬
‫قي‬
‫كل الظروف‪ ،‬والتحوّالت المتوقَّعة وغير المتوقَّعة‪..‬‬
‫العربي على كامل الخريطة‪ ،‬على الرّغم من ّ‬

‫هكذا‪ ،‬كان ذلك الشابّ يفزّ مثل َطير ٍ مذبوح حين يسمع صوت فيروز قادِماً من بعيد‪ ،‬يفزّ اليوم‬
‫ّ‬
‫محطة قطار بعيدة أو في مطار غريب‪ ،‬وهو يعبر المنافي‪.‬‬ ‫بعد نحو نصف قرن‪ ،‬حين يسمعها في‬

‫حنجرة المكان‬

‫األغنية حنجرة المكان‪ ،‬تأخذنا إلى رائحة البيت األوّل وســنوات األلفة العائلي ّة ودفْئها ُ‬
‫المفتقَ د‪،‬‬
‫تجســد تمامــاً‪ ،‬توقظ الحنين واالنتماء والذاكرة‪ ،‬وتُبقي شــبابيك‬
‫ِّ‬ ‫وفيــروز هي ذلك المعنى ُ‬
‫الم‬
‫العمــر مفتوحــة فــي ّ‬
‫كل آن‪ .‬معها نتذكّر الطريق إلى المدرســة صباحاً‪ ،‬ولحظــة الوداع في قرار‬
‫وأدق اللّحظات التي‬
‫ّ‬ ‫حبيبيْــن‪،‬‬
‫َ‬ ‫الهجــرة إلــى المنافي‪ ،‬ورائحة الحنين لورق الرســائل الســري ّة بين‬
‫نعتقد أنّها َمنســي ّة‪ ،‬لكنّها ظاهرة بوضوح شــفيف في أغنية فيروز‪ ..‬هي ليست أغنية عابرة‪ ،‬بقدر‬
‫مــا هــي مكان ومعنــى‪ ،‬هوي ّة وروح نابضة‪ ،‬عالمة شــاخصة يعرفها القادِم مــن بعيد‪ ،‬نأخذ منها‬
‫األرض‪ ،‬تراب بالدي‬
‫ِ‬ ‫ورؤوس حديثِنــا وحكمــة اليوم فــي صباحاتنا «ال أبيع أرضي بذهــب‬
‫َ‬ ‫أمثلتَنــا‬
‫تراب الجنان‪ ،‬وفيه ينام األمان»‪.‬‬
‫ِ‬
‫المؤسف‬ ‫ٌ‬
‫دالالت ورموز ومضامين وتشبيهات‪ ،‬وأذكر في أثناء الحدث‬ ‫م شتّى‪،‬‬
‫في أغنية فيروز ق َي ٌ‬

‫الــذي قرَّره صد ّام حســين في الدخول العســكري إلى الكويت‪ ،‬وأودى بالعــراق إلى اليوم‪َ ،‬كت َ‬
‫َب‬
‫العام األسبق لمجلس التعاون لدول الخليج العربي ّة مقاالً في‬
‫ّ‬ ‫الشــيخ فاهم القاســمي‪ ،‬األمين‬
‫جريــدة «الخليــج» اإلماراتيّــة عنوانــه «لماذا يا عمّي يا بيّــاع الورد؟» وهو عنــوان أغنية المطرب‬
‫العراقي الراحل الرائد «حضيري أبو عزيز» ومن خالل هذا العنوان يتّضح معنى وأهمي ّة مضامين‬
‫ّ‬
‫بخاصة تلك التي تحترم اإلنســان وتبتعد عن االســتهالكي ّة‪ ،‬فقد أخذ الكاتب‬ ‫عام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ل‬
‫األغنية بشــك ٍ‬
‫ُفترض به الترفّع عن االعتداء على أبنائه الصغار‪ ،‬ثمّ «بي ّاع‬
‫مفردة «عمّي» ويعني بها الكبير الذي ي َ‬
‫فترض أنّه يفوح عطراً‪ ،‬فكيف‬ ‫ُ‬
‫والم َ‬ ‫ّ‬
‫والخاّلق‬ ‫الورد» ويعني أنّك القومي الذي يبيع الفكر الجميل‬
‫ينزل إلى الحضيض ويبيع الموت والد ّمار؟‬

‫‪61‬‬
‫ومن‬
‫األخوي ْن رحباني‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫هــذه الخطــورة في أهمي ّة مضامين األغنية‪ ،‬كانت العنوان الرئيس لتجربة‬
‫ــاو َن معهم‪ ،‬من شــعراءٍ ُ‬
‫وملحّنين رفدوا التجربــة‪ ،‬قصائد ومواويل وأهازيج على امتداد نحو‬ ‫ت ََع َ‬
‫ســبعة عقــود من صوت فيروز‪ ،‬وخصوصــاً في مرحلة حياة عاصي‪ ،‬بين الخمســيني ّات وحتّى قبيل‬
‫رحيله سنة ‪ ،1986‬وسواء كانت أغنيتها شعبي ّة عاطفي ّة تنتمي إلى بيئة الحبّ األوّل «يا ريت إنت‬
‫وأنا في بيت‪ »...‬أو تلك التي تصدح بمجد الوطن والحياة والبناء‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن مضامين األغنية الفيروزي ّة‬
‫كلّها ذات دالالت عالية المعنى‪ ،‬تأخذنا إلى التأمّل والقلق الجمالي البهيج‪ .‬وقد يظ ّ‬
‫ن البعض أ ّ‬
‫ن‬
‫ن بسيط‪ ،‬مجرّد كلمات وموسيقى‪ ،‬هدفها التسلية والترفيه‪ ،‬لك ّ‬
‫ن الحقيقة أبعد بكثير‪،‬‬ ‫األغنية ف ٌّ‬
‫إنها موضوع الحياة بكامل منظومتها الوجودي ّة‪ ،‬وحين ال تكون كذلك‪ ،‬فإنّها ســوف تنتمي إلى‬
‫أغاني هذه األي ّام االستهالكي ّة «طي ّح اللّه ّ‬
‫حظها وحظوظ صنّاعها»‪..‬‬

‫ُ‬
‫المدن العربي ّة‬ ‫ذاكرة‬

‫في العام ‪ 2000‬التقيت الفنّان الراحل منصور الرحباني في أثناء العمل على مسرحي ّة «المتنب ّي»‬
‫يلحن أكثر مــن اآلخر‪ ،‬هو أم عاصي؟‬
‫ومن كان ِّ‬
‫فــي دبــي‪ ،‬وســألته حول َمن كان يكتب القصائــد َ‬
‫أجــاب «نحــن نكتب ونحن نلحّن‪ ،‬وال ي ُمكن الفصل بيننا فــي جميع األعمال التي قد ّمناها معاً»‪.‬‬
‫شــك فيه أنّهم انصهروا‬
‫ّ‬ ‫ونعلم جميعاً أ ّ‬
‫ن تلك اإلجابة فيها الكثير من المشــكالت‪ ،‬لكن ممّا ال‬
‫فــي بوتقة واحــدة لفترة ٍ طويلة من الزمــن‪ ،‬وكانت الكلمات واألفكار واالقتراحات والجلســات‬
‫الطويلة تُنتِج الكثير من التفا ُعل الفنّي والشعري بينهم‪ ،‬وفي النهاية يصبّ ذلك في غنى التجربة‬
‫التي وصلت إلينا ُ‬
‫بمنجزها الذي نعرف‪.‬‬
‫ّ‬
‫بخاصة في زمن التوجّــه نحو التنمية‬ ‫مــن أبــرز مراحــل تلك التجربة‪ ،‬الغنــاء للعواصم العربيّــة‪،‬‬
‫والبنــاء‪ ،‬وهــي فتــرة الســبعيني ّات الذهبي ّة فــي ّ‬
‫كل شــيء‪ .‬وكان منصور الرحبانــي في حواراته‬
‫للمدن العربيّــة‪ ،‬وتجربة الغناء لها ُ‬
‫كمــد ٍ‬
‫ن وحياة وحضارات‬ ‫ُ‬ ‫لإلعــام فــي دبي‪ ،‬يؤكّد علــى حب ّهم‬
‫وتجارب ي ُرتجى منها التقد ّم واالزدهار‪ ،‬بعيداً من األشــخاص والرؤســاء والسياســي ّين‪ ،‬ودائماً‬

‫بصوت فيروز‪:‬‬
‫الزمــــان وضو ُع ُه العط ُر‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ذهب‬ ‫بغداد ُ والشـــــــــعراءُ والصـو ُر ‬
‫أعراس يغســــل وجهك القم ُر‬ ‫َ‬
‫ألــــــــف ليلة َ يا مكملة الــ ‬ ‫يا‬
‫ما كان منك إليهما ســــــــــف ُر‬ ‫ورائـــــــــــــعةٌ‬
‫ ‬ ‫بغداد هل مجد ٌ‬
‫يحط جناحــــــه المطــــــــــ ُر‬
‫ّ‬ ‫أنّــا‬ ‫أيــــّـام أنت الفتــح ملعبــــــــ ُ ‬
‫ه‬

‫‪62‬‬
‫يتذكّــر المخــرج مــروان الرحباني‪ ،‬فــي حواراتي معه‪ ،‬أ ّ‬
‫ن قاعــة «الخُلد» في بغــداد كانت المكان‬
‫المقرَّر الســتضافة حفل فيروز ســنة ‪« ،1975‬طبعاً هي القاعة التي ستشــهد بعد سنوات مجزرة‬
‫ُ‬

‫الرفاق وبعدها الحروب وقتل األغنية العراقي ّة إلى اليوم»‪ ،‬وقبل الحفل كان ال بد ّ من التدريبات‬
‫الح َظ عاصي ومنصور أ ّ‬
‫ن بعض الصور تتصد ّر‬ ‫والً بأوّل‪ ،‬وقد َ‬
‫ومعرفة المسرح والمكان وتفاصيله أ ّ‬
‫فطلبوا رفْع هذه الصور‪ ،‬وأكّدوا‬
‫المســرح‪ ،‬وهي لرموز ٍ سياســي ّة عراقي ّة تمثّل الرئيس والنائب‪َ ،‬‬
‫ــت بصلة ٍ لشــخص‪ ،‬وظلّت المدينة‬
‫َم ُّ‬ ‫ن فيــروز لــن تغنّي تحت أ ّ‬
‫ي شــعار أو صورة ت ُ‬ ‫للم ّ‬
‫نظميــن أ ّ‬ ‫ُ‬

‫ن تلك اللّحظة لو مرَّت بوجود‬ ‫ّ‬


‫والحق أ ّ‬ ‫العربيّــة وتاريخهــا وأهلها هي المعنى الوحيد في األغنية‪.‬‬
‫الصور معلَّقة خلف فيروز ألضرّت كثيراً بذاكرة األغنية وفيروز‪..‬‬
‫ث في مصر ســنة ‪ 1976‬حين غنّت «مص ُر عادت‬
‫د َ‬ ‫هكذا في ّ‬
‫كل مكان‪ ،‬وهو المشــهد ذاته الذي َح َ‬
‫ُ‬
‫الذهب»‪ ،‬كانت موســيقى تلك األغاني تتناســب مع روح المكان‪ ،‬حيث تنهمر األلحان‬ ‫ِ‬
‫شمســك‬
‫َّ‬
‫الموشح أو حكايات شهرزاد‬ ‫الجميلة المتّكئة على تراث تلك ُ‬
‫المدن‪ ،‬ما يشبه رقصة السماح أو‬
‫والمعبر بامتياز في نحو عشــرة أبيات‪ ،‬هي‬
‫ِّ‬ ‫ختصر‬ ‫فــي «ألــف ليلة وليلة»‪ ،‬ليبدأ معها الــكالم ُ‬
‫الم َ‬
‫تلخيص لتاريخ المدينة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وتغتـــــرب‬ ‫َ‬
‫األرض‬ ‫تحمـل‬ ‫ُ‬
‫شمسك الذهبُ ‬ ‫مص ُر عادت‬
‫ُ‬
‫تلتهــــــب‬ ‫بالحب‬ ‫قصصــــاً‬ ‫شـــــــــــط ِه ‬ ‫ُ‬
‫النيـل على‬ ‫كتب‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬
‫ـــــــب‬ ‫تع‬
‫ـوى َ‬ ‫ت ََع ٌ‬
‫ب‪ ،‬إنَّ َ‬
‫اله َ‬ ‫ِجئ ْ ُ‬
‫ت يــا مص ُر وجــاءَ معــــي ‬
‫هــــر ُ‬
‫ب‬ ‫َ‬ ‫هــارباً مِ نِّـــــي وال‬ ‫موجــــع قلتُــــــ ُ ‬
‫ه‬ ‫ٌ‬ ‫وسهــــــاد ٌ‬

‫َ‬
‫خاض مثل هذه التجربة‪ ،‬حيث دمشــق وبغداد وأبو ظبي وعمّان وتونس‬ ‫لم يســبق الرحابنة أحد ٌ‬

‫وصنعــاء ومختلــف العواصم العربي ّة األخرى‪ .‬ومن منطلق الوعي السياســي الثقافي اإلنســاني‬
‫واألخويْــن رحبانــي‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن إبداعهــم َينبع من إعجابهــم بالتجارب العربيّــة الجديدة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لتجربــة فيــروز‬
‫والواعــدة برؤيــة ٍ مســتقبلي ّة‪ .‬ففي العام ‪ 1985‬كانــت أبو ظبي على موعد ٍ مع فيــروز والرحابنة‬
‫ُ‬
‫ل أقيم بمناســبة عيد االتّحاد الرّابع عشــر‪َ ،‬يومها غنّت فيــروز من كلمات وألحان عاصي‬ ‫فــي حف ٍ‬
‫ٌ‬
‫استشراف‬ ‫ومنصور الرحباني قصيدة اإلمارات‪ ،‬وكانت بعنوان «عادت الرايات تجتاح المدى» وهي‬
‫لمــا ســتؤول إليه هذه التجربة االتّحاديّــة في العا َلم العربي بقيادة المغفور له الشــيخ زايد بن‬
‫والمســتقبلي ّة‪ ،‬وحيث تمجيــد االتّحاد بما‬
‫ُ‬ ‫ســلطان آل نهيــان‪ ،‬حيــث الصورة الشــعري ّة التاريخي ّة‬
‫قه من إنجاز‪ ،‬تح َّ‬
‫ققت معه الحياة‪.‬‬ ‫يستح ّ‬

‫‪63‬‬
‫األخوي ْن دائماً تتصد ّر ذاكرة األغنية الرحباني ّة في مجال ُ‬
‫المدن العربي ّة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الشام‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن رائعة‬ ‫ّ‬ ‫أمّا في‬
‫الشام‪ ،‬وموسم األغنية‬
‫ّ‬ ‫فالقصائد شاهدة على األجنحة الطائرة في اتّجاه الصيف والجمال حيث‬
‫الفيروزي ّة السنويّ‪:‬‬
‫يا شام عــــاد الصيف ُمتَّئِداً وعـاد ِبي الجنا ُ‬
‫ح‬ ‫َ‬
‫ع ونادتني الرياحُ‬‫بـــي أقل ْ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫الحنين إليك‬ ‫صر َ‬
‫خ‬
‫أصوات أصحابي وعينـــــاها ووعد ُ غد ٍ ي ُتاح‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫قادي واستراحوا‬ ‫َ‬ ‫كل الذين أحب ّهــــم نهبـــوا ُر‬
‫فأنا هنا جُرح الهوى وهناك في وطني جراح‬
‫وعليك عيني يا دمشق فمنك ينهمـــر الصباح‬
‫وحيــن لــم ُ‬
‫يكن ثمّة مطار‪ ،‬وال قاعة‪ ،‬وال مســرح يســتقبل فيروز في مدينــة القدس‪ ،‬فقد صدح‬
‫األخوي ْن رحبانــي الخالدة «أجراس‬
‫َ‬ ‫صوتهــا مــن بعيد بأجمــل القصائد وأر ْوعها حين غنّــت قصيدة‬
‫العودة فلْتقرع»‪ .‬تلك األغاني التي ال تزال عامرة بالحضور الجميل في ّ‬
‫كل رك ٍ‬
‫ن من أركان الرجوع‬
‫إلى الحياة‪ ،‬وتنهّداتها الحلوة والمرّة‪.‬‬

‫ديوان الشعر المغنّى‬


‫حصر الشعراء الذين غنّت لهم فيروز في هذه السطور‪ .‬إنّه امتداد ٌ‬ ‫من غير ُ‬
‫الممكن على اإلطالق ْ‬
‫األخويْــن رحباني من‬
‫َ‬ ‫زمني واســع‪َ ،‬‬
‫شــغلته التجربة بمئــات النصوص الشــعري ّة‪ ،‬ضمن اختيارات‬ ‫ّ‬
‫عاصرين في لبنان والبلدان العربي ّة‪ .‬وإذا َألقينا نظر ًة ســريعة‬
‫التــراث أو التعــاوُن مع شــعراء ُم ِ‬
‫ّ‬
‫والاّلفت في االختيارات‪ ،‬منهم مثال ً‬ ‫علــى عدد ٍ منهم‪ ،‬فإنّنا ســنلْحظ ذلك التنوّع الزمنــي العجيب‬
‫نحو ســبعين شــاعراً‪ُ ،‬‬
‫هم «لســان الد ّين بن الخطيب‪ ،‬أبو خليل القب ّاني‪ ،‬أبو علي بن عبد الغني‬
‫الحصري‪ ،‬ابن جبير‪ ،‬رفيق خوري‪ ،‬عنترة بن شــد ّاد‪ ،‬أبو نوّاس‪ ،‬جميل بثينة‪ ،‬الصمّة القشــيري‪ ،‬صدر‬
‫الد ّين ابن الوكيل‪ ،‬ابن زيدون‪ ،‬عمر بن أبي ربيعة‪ ،‬ابن ســماء الملك‪ ،‬قبالن مكرزل‪ ،‬إلياس أبو‬
‫شــبكة‪ ،‬بشــارة الخوري‪ ،‬ســعيد عقل‪ ،‬إيليا أبو ماضي‪ ،‬رشــيد نخلة‪ ،‬ميشــال طراد‪ ،‬أســعد سابا‪،‬‬
‫عبداللّــه غانم‪ ،‬رشــدي المعلوف‪ ،‬بولس ســامة‪ ،‬إلياس بــركات‪ ،‬رياض المعلوف‪ ،‬رفيق شــاال‪،‬‬
‫بدوي الجبل‪ ،‬نزار قب ّاني‪ ،‬عمر أبو ريشه‪ ،‬عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)‪ ،‬أحمد شوقي‪ ،‬مرسي‬
‫جميــل عزيــز‪ ،‬جوزيف حرب‪ ،‬طالل حيدر‪ ،‬أنســي الحاج‪ ،‬أبو بكر بن زهر‪ ،‬جريــر‪ ،‬جبران خليل جبران‪،‬‬
‫قيس بن الملوّح‪ ،‬زكي ناصيف‪ ،‬بديع خيري‪ ،‬ريما الرحباني‪ ،‬زياد الرحباني «شاعراً»‪ ،‬شفيق جدايل‪،‬‬

‫‪64‬‬
‫ميخائيل نعيمة‪ ،‬يونس القاضي‪ ،‬فيلمون وهبه «شاعراً»‪ ،‬سّ يد درويش‪ ،‬محمّد السباع‪ ،‬علي بدر‬
‫الد ّين‪ ،‬هارون هاشــم رشــيد‪ ،‬فوزي العمري‪ ،‬ســليم حيدر‪ ،‬صالح الد ّين اللّبابيدي‪ ،‬أبو العتاهي ّة‪،‬‬
‫فتحــي قــوره‪ ،‬عمر الحلبــي‪ ،‬مارون نصر»‪ ،‬باإلضافة إلى عاصي ومنصــور الرحباني اللّذي ْن َكتَبا نحو‬
‫ثمانمئة أغنية»‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫يؤســس تراكُماً الفتاً لدى األجيال‪ ،‬بحيث ســيكون من الضرور ّ‬
‫ي‬ ‫ِّ‬ ‫هذا التنوُّع في َمســيرة الغناء‪،‬‬
‫جمْعــه وتوثيقــه وتبويبــه بالشــكل العِ لمــي‪ ،‬وليس في مواقع الشــبكة فقــط‪ ،‬وال عند الهواة‬
‫ّ‬
‫ومحال التســجيالت وغيرها‪ .‬إنّنا أمام ســبعين عاماً من العطاء بحيث ال بد ّ من العودة‬ ‫والباعة‬
‫شعراً و َلحناً وترتيباً زمنيّاً ومضموناً وهكذا‪..‬‬ ‫ُ‬
‫المبوَّبة ِ‬ ‫العِ لمي ّة‬
‫َ‬
‫الحصــول على مواد ّ‬ ‫ّ‬
‫المنظمــات الدولي ّة المعني َّة‪،‬‬ ‫اعتبــر المهتمّون بالموســيقى‪ ،‬وكذلك‬
‫َ‬ ‫مثــا ً‪،‬‬
‫مؤتمــر الموســيقى العربي ّة األوّل الذي ُعقد في القاهرة ســنة ‪َ 1932‬فتحــاً تاريخيّاً مه ّ‬
‫ماً‪ .‬يقول‬
‫والمهتمّ بدراســات ثقافات العا َلم «ي ُ َعد ّ مؤتمر الموســيقى العربي ّة‬
‫ُ‬ ‫د‪ .‬شــريف خازندار الباحث‬
‫األوّل فــي القاهــرة الذي ُعقد في العام ‪َ 1932‬حدثاً أســطوريّاً بالنســبة إلى جميع باحثي وهواة‬
‫ّ‬
‫بخاصة الموســيقى العربي ّة‪ .‬لقد استطاع قليلون فقط الوصول إلى تسجيالت هذا‬ ‫الموســيقى‪،‬‬
‫واالطــاع عليها‪ .‬وبعد مرور عقود ومحاوالت واتّفاقي ّات‪ ،‬أصبحت إبداعات وفنون كِ بار‬
‫ّ‬ ‫المؤتمــر‬
‫الموســيقي ّين فــي العا َلم العربي فــي ذلك الوقت ُمتاحة للجميع‪ ،‬من خالل انضمام تســجيالت‬
‫المؤتمر المذكور إلى مجموعة تسجيالت متحف الصوت والحركة في المكتبة الوطني ّة الفرنسي ّة‪،‬‬
‫وهــو مــا اعتبره المعني ّون أحــد أعظم األحداث التي شــهدها تاريخ الموســيقى العا َلمي ّة»‪ .‬هنا‬
‫نؤكّد اإلشــارة إلى أ ّ‬
‫ن الكثير من التجربة الفيروزي ّة في الخمســيني ّات والســتّيني ّات ورب ّما بعض‬
‫الســبعيني ّات بقــي مجهــوالً لــدى المتل ّ‬
‫قيــن‪ ،‬من ناحية الشــعر والشــعراء‪ ،‬ومن ناحيــة الفنون‬ ‫َ‬
‫الشــعبي ّة القديمــة مثــل الميجنا والعتابا والمــوّال والمخمّس مــردود والصوتي ّات األخرى في‬
‫ّ‬
‫الموشحات والتراث العربي المتّصل باأللوان الغنائي ّة القديمة‪،‬‬ ‫الساحل والجبل والريف‪ ،‬وكذلك‬
‫والتــي اســتخدمها األخوان رحبانــي في تجربة َّ‬
‫قل نظيرها فــي البلدان العربي ّة‪ ،‬هــذه بحاجة إلى‬
‫حقيقي وضروريّ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ق‬
‫توثي ٍ‬

‫فضاءات فني ّة‬

‫في المســرح والغناء‪ ،‬في الشــعر وفنــون األداء‪ ،‬في الحركة والنغمــة‪ ،‬ال توجد قوالب فني ّة في‬
‫أغنيــة فيــروز‪ ،‬بقدر ما هي فضاءات فني ّة واســعة‪ ،‬مفتوحة على ُممكنــات الحداثة ُ‬
‫وطرق التأمُّل‬

‫‪65‬‬
‫قــي اإليجابــي‪ ،‬بحيث يســتخدم األخوان رحباني َلونــاً فنيّاً تراثيّاً بطريقــة ٍ مفتوحة‪ ،‬يضيفون‬
‫والتل ّ‬

‫لألصل الكثير من الشــغل واإلبداع والتوظيف الفنّي‪ ،‬ليتحوّل الجزءَ الجامد إلى مشــهدي ّة حركي ّة‬
‫ُ‬
‫لبناني محدود‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ي‬‫ي فن ّ ّ‬ ‫ٌ‬
‫لون شعر ّ‬ ‫العين واألذن وخشــبة المســرح‪ .‬مثال «المخمّس مردود»‬ ‫تمأل َ‬
‫ُ‬
‫ق حركي درامي موسيقي مطوّل ومفتوح على عشرات العناصر من‬ ‫حوَّله األخوان رحباني إلى أف ٍ‬
‫ديكور وموسيقى وحركة وإيقاعات إضافي ّة‪.‬‬
‫ُ‬
‫الحظت من ضمــن ُمتابعاتي البحثي ّة‬ ‫مــن األمثلــة على التنــوّع الفنّي التراثــي في تجربة فيــروز‪،‬‬
‫المتّصلــة بالشــأن الفنّــي اإلماراتــي‪ ،‬أ ّ‬
‫ن هنــاك أغنية لفيــروز تنتمي لفنٍّ معروف فــي اإلمارات‬
‫و ُعمان‪ ،‬وهو «التغرودة» وذلك من خالل أغنية «قعدت الحلوة تغزل بمغزالها» وهي من كلمات‬
‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬تماماً هي على وزن وإيقاع وشكل التغرودة اإلماراتي ّة التي تعتمد على‬
‫َ‬ ‫وألحان‬
‫الوزن الواحد والشــطر الواحد‪ ،‬مثل «خِب ّي بنا يا آم المشــد الوافي» وهي من تغرودات الشاعر‬
‫سعيد بن عتيج الهاملي‪ ،‬الذي توفّي سنة ‪ ،1919‬وهنا يتّضح كم أ ّ‬
‫ن عاصي ومنصور ّ‬
‫مطلعان على‬
‫ن لبنان في ُعمقه الفنّي التراثــي‪ ،‬يكتنز ّ‬
‫كل تلك‬ ‫الفنــون العربيّــة مــن ُ‬
‫المحيط إلى الخليــج‪ ،‬أو أ ّ‬
‫ّ‬
‫بخاصة أ ّ‬
‫ن التغرودة ترجع إلى التراث الشعري العربي من‬ ‫ٍ‬
‫اشتراك عربي فنّي قديم‪،‬‬ ‫الفنون في‬
‫ن ُمسْ ــتَفْعِ ل ُ ْ‬
‫ن‬ ‫«مسْ ــتَفْعِ ل ُ ْ‬
‫ن األرجوزة أو مشــطور الرجز‪ ،‬ويكون ُ‬
‫ناحية الشــكل واإليقاع‪ ،‬وهو ف ّ‬
‫ُ‬
‫ْ‬
‫فاضت أدمعي»‪..‬‬ ‫حين‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫«قلت لنفسي‬ ‫ُمسْ تَفْعِ لنْ»‪ ..‬يقول الشاعر ذو ِّ‬
‫الرمَّة‬
‫ٌ‬
‫مطابق في أغاني فيروز‬ ‫أمّا الموّال‪ ،‬أو ما ي ُعرف بـ»الزهيري» العراقي‪ ،‬فله أيضاً شــبيه شــعري‬
‫ي المســمّى موّال‪،‬‬ ‫مــن خــال موّال «يا مركب الريح خلّي البحر وانزل عبر»‪ ،‬هذا الفضاء الشــعر ّ‬
‫ومختلفــة في المعنى‪،‬‬ ‫يتألّــف من ســبعة أشــطر‪ ،‬الثالثــة األُول ُمتطابقة في القافيــة والكلمة ُ‬
‫ُ‬
‫والثالثــة الثانيــة كذلك في تَطاب ُ ٍ‬
‫ق آخر‪ ،‬ثمّ الشــطر الســابع يعود إلى التطاب ُق مــع الثالثة األول‬
‫بمعنى ُمختلف ويقفل الموّال‪.‬‬
‫ً‬
‫ّ‬
‫يا مركب الريح خلي البحر وانزل عا برّ «أي انزل على البرّ»‬
‫من طول فرقاه دمعي فوق خد ّي ِع َبر «أي الدمع يعبر فوق الخدود»‬
‫حب ّيت والدهر علَّمني بحب ّه ِع َبر «أي العبرة والموعظة والدروس»‬
‫شرّع شراع السفر ع الهجر قلبه نوى «أي من الني ّة حيث نوى يهجرنا»‬
‫معنى وال فائدة»‬ ‫عهد الهوى يا قلب ما عاد منّه نوى «لم ي ُ‬
‫عد لعهد الهوى‬
‫ً‬
‫نحن قضينا العمر صد ّ وحنين ونوى «صد ّ وحنين وهجران وبعاد»‬
‫وع َبر «ولّى العمر وفات»‬
‫ولمّا التقينا لقينا العمر ولّى َ‬

‫‪66‬‬
‫بهذا اللّعب نفســه في المعاني‪ ،‬وتقليب المفردة على أوجه ٍ ُمتعد ّدة حســبما تتيح اللّهجة ذلك‪،‬‬
‫ق واسع في البلدان العربي ّة‪ ،‬وهو ذاته مثال ً في العراق‪:‬‬
‫هو الموّال المعروف على نطا ٍ‬
‫يوم غدا خِلّها «كيف صبرت الروح حين غادر خلّها»‬
‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫برت‬ ‫الروح كيف ْ‬
‫اص‬
‫المضن بالويل يا خلّها «تذكَّر األي ّام الخوالي وتتألّم»‬
‫ُ‬ ‫تذكر ليلي‬
‫العين بجعود الرمد خلّها « َد ْ‬
‫ع عيوني تُصاب بالرمد وال أرى الفراق»‬ ‫شدعي على َ‬
‫علي»‬
‫ّ‬ ‫ما هو المقد ّر ولكن جابته إيدي «هذا ما جنيته بيدي ولم يكن ُمقد َّراً‬
‫ّ‬
‫«يحق لي أن أقطع البيداء هائماً»‬ ‫ّ‬
‫يحق لي عاد أهيم واقطع البيدي‬
‫تجس النبض موش األلم بيدي «أي ّها الطبيب ليس األلم بيدي»‬
‫ّ‬ ‫ياللّي‬
‫ع كفوفي من اللّمس»‪..‬‬ ‫قلبي مولّع كفوفي من اللّمس خلّها «قلبي متألّم ف َ‬
‫د ْ‬

‫األخوي ْن رحباني‬
‫َ‬ ‫مثــل هــذا النموذج األدائي فــي أغاني فيروز ثمّة الكثير‪ ،‬وهو ما يؤكّد علــى أ ّ‬
‫ن‬
‫خرجي ْن‪ ،‬وبالتأكيد‬
‫وم َ‬ ‫شاعري ْن أيضاً‪ُ ،‬‬
‫وملحّنَي ْن‪ ،‬وإداري َّي ْن‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫كانا باحثين بدرجة ُمتساوية من كونهما‬
‫كان ذلك أساس التجربة الرحباني ّة‪.‬‬

‫َمدارات وأسماء‬

‫في حياة فيروز َمدارات وأسماء عديدة مؤ ِّثرة‪ ،‬لها ثقل فنّي وثقافي موزون‪ ،‬نزعم أنّه كان أحد‬
‫َب‪ ،‬ومنهم من لحَّن‪ ،‬ومنهــم َمن قيل إنّه كان‬ ‫ّ‬
‫أكثــر المؤثــرات فــي غنى التجربة‪ ..‬منهم َمــن َكت َ‬
‫ّ‬
‫تشكلت الشرارة األولى لهذا الحريق الفنّي اإلبداعي الهائل‬ ‫حاضراً من دون أن يذكر اسمه! لقد‬
‫بلقاء فيروز وعاصي في بدايات الخمســينب ّات‪ ،‬واســتمرّ برفقة منصور حتّى منتصف الثمانيني ّات‬
‫شاركت‬
‫َ‬ ‫من القرن الماضي‪ ،‬لك ْ‬
‫ن طيلة تلك السنوات‪ ،‬كانت ثمّة أسماء كثيرة في الساحة الفني ّة‬
‫المتابعين يخلطون في ذك ْ ِر حقوق الملكي ّة‬ ‫في عمق التجربة‪ ،‬وكثير من الباحثين والن ّ‬
‫قاد وبعض ُ‬
‫األخوي ْن رحبانــي‪ ،‬ما لم يتمّ‬
‫َ‬ ‫لمن هــذه النصوص وتلك األلحــان‪ ،‬فيرجعونها إلى‬
‫الفكريّــة حــول َ‬
‫التصحيح الحقاً‪.‬‬
‫وحين نُعيد اسم الشاعر جوزيف حرب إلى الذاكرة‪ ،‬فإنّنا نعني ذلك النَّزف المتفرّد وجعاً و َلطاف ًة‬
‫وقــوّة‪ ،‬إنّه شــاعر «أنا عندي حنيــن‪ ،‬وطلعلي البكي‪ ،‬وزعلي طوّل أنا ويّــاك‪ »...‬الهادىء الصامت‬
‫ُ‬
‫والمتعد ّد اإلبــداع بامتياز بين لهجته‬ ‫المتأمّــل الغاضــب الجالس وحيداً في مقهــى أمام البحر‪،‬‬
‫ُ‬
‫والكتاب‪ ،‬قضى عمره «توفّــي عام ‪»2014‬‬
‫ِ‬ ‫وفصحــاه‪ ،‬وبيــن اإلذاعة والتلفزيــون‪ ،‬وبين المســرح‬
‫ُمبدعاً من دون أن يتوقّف يوماً واحداً‪ ،‬حتّى أوقفه الموت عنوة‪ .‬جوزيف حرب قد َّم لفيروز أجمل‬

‫‪67‬‬
‫النصوص التي ال نُسمّيها شعراً ألنّها أكثر من الشعر!!‬
‫ٌ‬
‫سالم لبيروت‬ ‫لبيروت‪ ..‬من قلبي‬
‫ُ‬
‫وق ٌ‬
‫بل للبحر والبيوت‬
‫لصخرة ٍ كأنّها وج ُه بحّار ٍ قديم‪..‬‬
‫مع الشــاعر جوزيف حرب‪ ،‬يشــترك الموســيقار فيلمون وهبي في تجربة َأنتجت عشرات األغاني‬
‫الفيروزيّــة‪ ،‬حيــث «ورقو األصفر شــهر أيلــول» وحيث «طلع لــي البكي نحنــا وقاعدين» وغيرها‬
‫مــن األلحــان الخالدة‪ .‬فيلمون وهبي‪ ،‬الطود العمالق الســاخر الطفل‪ ،‬والبســيط حــد ّ التلقائي ّة‬
‫ترصد‪ .‬إنّه أحد رموز تلك الســتيني ّات والسبعيني ّات‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫والمبدع هكذا من دون ســابقة أو‬ ‫ُ‬
‫المفرطة‪،‬‬
‫ق آخر‪..‬‬ ‫اشترك مع الرحابنة في رف ْ ِد التجربة الفيروزي ّة ب ُ‬
‫عم ٍ‬ ‫َ‬ ‫الفني ّة اللّبناني ّة والعربي ّة عموماً‪،‬‬
‫ّ‬
‫شكلت ما يشبه الهارموني في عالقاتها ضمن هذه التجربة‪ ،‬وهو أحد أبرز عوامل‬ ‫أسماء وأسماء‬
‫التفرُّد والنجاح‪ ،‬ومن بينها يبرز بامتياز الفنّان الراحل نصري شمس الد ّين‪ ،‬ذلك الصوت العالي‪،‬‬
‫بناني النبرة في تمثيله لطبيعة المكان‪ ،‬ظهر منذ بدايات الخمسيني ّات في أوّل انطالقة له مع‬‫الل ّ‬
‫ّ‬
‫عاصي ومنصور‪ ،‬ثمّ كان اختياره في أعمالهم المســرحي ّة الغنائي ّة حتّى رحيله على الخشــبة ســنة‬
‫ومخلص يعشــق فنّه‪ ،‬ويبذل أقصى ما عنده من أداء‪ ،‬وبجهد ٍ ال‬
‫‪ 1983‬في دمشــق‪ .‬فنّان بســيط ُ‬
‫مثيل له‪ ،‬وهو في عمله إلى جوار فيروز كأنّه متعب ّد في محرابه‪.‬‬
‫عشرات األسماء‪ ،‬تلك التي رافقت فيروز في حفالتها في البلدان العربي ّة وخارجها‪ ،‬بينهم الفنّان‬
‫وديــع الصافــي‪ ،‬الفنّان جوزيف صقر‪ ،‬الفنّانة هدى حداد‪ ،‬الموســيقار زيــاد الرحباني‪ ،‬خصوصاً في‬
‫تجربته التي رافقه فيها الشــاعر جوزيف حرب‪ ،‬من خالل اســتمراري ّة النصوص الشعري ّة المفاجئة‬
‫«حبيتك تانسيت النوم‪ ،‬زعلي طوّل‪ ،‬رح نبقى سوا» وغيرها‪..‬‬

‫آخر قطرة زيت‬

‫ما ألغنية ٍ قبلها وبعدها‪ ،‬كانت وال تزال بمثابة ســيرتنا الذاتي ّة‪ ..‬في ســنة ‪ ١٩٧٠‬تعرّفت إلى صوت‬
‫فيروز‪ ،‬كانت من حولنا عشرات األصوات التي تتصاعد من المقاهي والبيوت المفتوحة وأماكن‬
‫غنائي من مصر أو العراق أو‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫صوت‬ ‫الترفيه واالســتراحات الثقافي ّة والســياحي ّة‪ ،‬وقد نتوقّف مع‬
‫ن ذلك لم ُ‬
‫يكن يستمرّ طويال ً‪ ،‬وسرعان ما نكتشف عدم وجود‬ ‫من الخليج أو حتّى من لبنان‪ ،‬لك ّ‬
‫تلك العالقة التي نشعر بها كما نحن مع أغاني فيروز‪..‬‬
‫ي شيء آخر شبيه أو قريب‪ ،‬حتّى لو كان من‬
‫في البيت‪ ،‬كنّا ممنوعين من التلفزيون والراديو وأ ّ‬

‫‪68‬‬
‫ُ‬
‫واقتنيت جهازَ راديو صغيراً جدّاً‪ ،‬ال يكاد يأخذ حي ّزاً في جيبي‪ ،‬خَوفاً من أن‬ ‫الورق!! ذات يوم تجر ُ‬
‫ّأت‬
‫اكتشف األمر الحقاً إنّه لألخبار والبرامج الثقافي ّة؛‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫قلت له حين‬ ‫يراه أبي في ُصادره باسم الممنوع!‬
‫ُ‬
‫كنت أتعرّف إلى ســحر المفردة ونغمــة األداء وطبيعة الصوت‬ ‫ُ‬
‫أكملت «وفيــروز»‪..‬‬ ‫وفــي ســرّي‬
‫تكــن متوفّرة في عالقتنا‬
‫والعالقــة بوصفهــا ثقافيّــة فكري ّة ممزوجة بالعاطفيّــة‪ ،‬في خاصي ّة لم ُ‬

‫ٍ‬
‫صوت غنائي آخر على اإلطالق‪ .‬هذا األمر كان ينتقل إلى حديثنا في الندوات واألمســيات‬ ‫ي‬
‫مع أ ّ‬
‫ُ‬
‫والمهتمّين‪.‬‬ ‫الشعري ّة واللّقاءات مع ُمختلف األجيال من المث ّ‬
‫قفين‬
‫اليوم‪ ،‬ومع كتابة هذه الســطور‪ ،‬ثمّة اثنتان وخمســون ســنة‪ ،‬ال صباح أو مســاء بال فيروز‪ ،‬وال‬
‫المتهادي كأنّه آخر قطرة زيت‪،‬‬
‫ساعة هانئة وآمنة بال أغانيها القديمة‪ ،‬وال كتابة إبداعي ّة بال صوتها ُ‬
‫ي ُغذّي شعلة المصباح‪:‬‬
‫إنت وأنا بالبيت‬
‫َ‬ ‫يا ريت‬
‫شي بيت أبعد بيت‬
‫ممحي ورا حدود العتم والريح‬
‫والثلج نازل بالدني تجريح‬

‫ّ‬
‫تفل‬ ‫يض ِّيع طريقك ما تعود‬
‫ّ‬
‫تضل‬ ‫ّ‬
‫وتضل حد ّي‬
‫ويزهر ويدبل ألف موسم ّ‬
‫فل‬
‫ّ‬
‫يضل بالقنديل نقطة زيت‬ ‫وما‬

‫‪69‬‬
‫د‪ .‬نادية هناوي*‬

‫للــكالم عــن الظاهرة الفيروزي ّة عــد ّة اعتبارات وتفســيرات تنهض أمامنا‪ ،‬منهــا طرازها الفن ّ ّ‬
‫ي‬
‫ّ‬
‫الخاص الذي يجعل أمداء تذوق األغنية الفيروزي ّة واسعة‪ ،‬ومنها جيلي ّتها التي تجعلها مستمرّة‬
‫وتفاوتت‬
‫ِ‬ ‫ال يؤثّــر فيهــا تبد ُّل األزمنــة وال تغاي ُر األمكنة‪ ،‬تُواكِ ب األجيال مهمــا اختلفت األذواق‬
‫الفئات واألعمار‪.‬‬

‫ُ‬
‫التنافر الخفي أو فكرة أ ّ‬
‫ن البساطة‬ ‫ومن التفسيرات أيضاً قيامها على فكرة التواؤم الفنّي مع‬
‫والوضــوح والرقّــة والتلقائيّــة هي التي تصنع الفــنّ‪ ،‬وقد يكون اإليحاء المتعمّــق في الظواهر‬
‫ّ‬
‫وتظل‬ ‫والتعاطــي الواقعــي مع القضايا المصيري ّة هو التفســير المناســب للظاهــرة الفيروزي ّة‪.‬‬
‫هنــاك تفســيرات أخــرى تحتملها هذه الظاهــرة أيضاً‪ ،‬منهــا جمْعها الباهر بين التراث الشــعري‬
‫بنوعيْــه الفصيــح والشــعبي وبين الموســيقى التراثي ّة العربيّــة والغربي ّة الكالســيكي ّة والعصري ّة‬
‫َ‬
‫كالجاز والكونشرتو والبوسنوفا ‪.Bossa Nova‬‬
‫ٍ‬
‫مناخات‬ ‫ققت للظاهرة الفيروزي ّة‬ ‫وهذه ّ‬
‫الاّلمألوفي ّة في الجمْع بين الشعر والموسيقى هي التي ح َّ‬

‫بــرؤى جمالي ّة بعيدة‬


‫ً‬ ‫عبر عن تطلّعات اإلنســان‬
‫وهيَّــأت لهــا أجواء‪َ ،‬ج َع َلتْها تواكب روح العصر وت ُ ِّ‬
‫عن التعقيد المفرط والبساطة المهلهلة‪ُ ،‬مخالِف ًة بذلك ما كان سائداً على الساحة الغنائي ّة في‬
‫األربعيني ّات والخمســيني ّات من هي َْمنة األغنية الكالســيكي ّة الطويلة والنخبوي ّة السلطوي ّة‪ .‬وهي‬

‫*باحثة وناقدة من العراق‬

‫‪72‬‬
‫ما زالت إلى اليوم تُخالِف السائد في األغنية العربي ّة الرّاهنة بوسائل معي ّنة‪ ،‬ضامنة لنفسها أن‬
‫تكون حداثي ّة في تقليدي ّتها وتقليدي ّة في حداثي ّتها‪.‬‬
‫ن يــزداد عظمــة كلّما اقتصد في وســائله»(((‪َ ،‬أدركنا أ ّ‬
‫ن ســبب نجــاح األغنية‬ ‫ن الفــ ّ‬
‫وإذا علمنــا «أ ّ‬
‫فة‪ ،‬تُضاهيها في المقدار وفي االستمرار‬
‫تشكل ك ّ‬
‫ِّ‬ ‫الفيروزي ّة هو اعتدال نهْجها؛ فعاطفتها اإلنساني ّة‬
‫فة اإلحساس بالمسؤولي ّة الفني ّة سواء على مستوى األغراض أم على مستوى التطلُّعات‪.‬‬
‫ك ّ‬

‫ن األغنية الفيروزي ّة استطاعت تحقيق عا َلمي ّتها؛ فلقد جابت البلدان َ‬


‫وطرقت‬ ‫ولن نغالي إذا قلنا إ ّ‬
‫َميادين إنســاني ّة رومانســي ّة وواقعي ّة وســيكولوجي ّة و َبعثت برســائلها الجمالي ّة إلى اإلنســاني ّة‬
‫جمعــاء بقــوّة وشــفافي ّة مــن دون أن تتحــد َّد قوّتها بعنصــر ٍ من عناصــر هذه األغنيــة‪ ،‬إنّما هو‬
‫مجموع عناصرها التي تتعاضد ف َتج َْعل مساحة التأثير عا َلمي ّة ت ُ ّ‬
‫غطي مختلف األصعدة االجتماعي ّة‬
‫والنفسي ّة إلى جانب السياقات الفني ّة التجريبي ّة‪.‬‬
‫متناصة مع التراث الغنائي للشــعوب األخــرى‪ ،‬فإنّها أيضاً‬
‫ّ‬ ‫وإذا كانــت األغنيــة الفيروزيّــة تتقارب‬
‫حافظة تتأكّد توازني ّة هذه‬
‫والم َ‬
‫ُ‬ ‫ُمحافِ ظة على اســتلهام التراث الغنائي العربي‪ .‬وما بين التقا ُرب‬
‫األغنية وعا َلمي ّتها كمدرسة ٍ فني ّة َأرست تقاليدها بصورة ٍ صلدة ي ُمكن البناء عليها وتوسيعها‪.‬‬
‫وقد تشترك هذه المدرسة وبقدر ٍ أو بآخر في بعض تقاليدها مع تقاليد المدارس الفني ّة األخرى‬
‫ّ‬
‫اختصت به المدرسة الفيروزي ّة فتما َيزت‬ ‫ن هناك تقليداً‬
‫التي عرفتها الساحة الغنائي ّة العربي ّة‪ ،‬بيد أ ّ‬
‫وبرؤى مستقبلي ّة فيها‬
‫ً‬ ‫شعراً وموسيقى‬
‫ل واضح‪ ،‬وهو تقليد َمزَ َج التراث بالحداثة ِ‬
‫أغانيها بشك ٍ‬
‫يغدو للف ّ‬
‫ن الغنائي َدوره في تغيير الواقع وإصالحه‪.‬‬

‫ولقــد ظلّــت األغنيــة الفيروزي ّة ُم ِ‬


‫داومة بقــوّة ومركزي ّة على هذا التقليد حتّــى غدا أس التقاليد‬
‫كلّهــا‪ .‬وعــاد ًة مــا نَجد تطبيقاته بارزة ومتجسّ ــدة ب ُ‬
‫عمق فــي األغاني التي فيهــا األندلس حاضرة‬
‫ّ‬
‫كموشحات شعري ّة وموسيقي ّة‬ ‫ن كان ذات يوم زاهياً واختفى في َطرفة َعين أو تستلهمها‬
‫كوط ٍ‬
‫ل‬ ‫يومي بأزياءٍ ُ‬
‫وممارسات تتمّ َمسرحتها في شك ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ع‬
‫مشــهورة وخالدة أو تســتنهض تاريخها كواق ٍ‬
‫وكرنفاالت ميلودرامي ّة‪ ،‬والسي ّما في مهرجانات بعلبك منتصف الستّيني ّات التي‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وصالت احتفالي ّة‬
‫فيها شــهدت األغنية الفيروزي ّة انعطافاً فنيّاً وإبداعيّاً نحو التراث األندلســي كما ٍ‬
‫ض جميل ال بد ّ‬
‫من تذكّره وعدم نسيانه‪.‬‬

‫ن الفيــروزي الرحباني يوتوبيا ُمجتمــ ٍ‬


‫ع فاضل ورؤية‬ ‫ن في الف ّ‬
‫وقــد رأت الناقــدة خالدة ســعيد أ ّ‬
‫ّ‬
‫«ســجل الموضوعــات الغنائي ّة العربي ّة‪ ..‬من حصري ّة شــكوى‬ ‫مثاليّــة خرجــت فيه هذه األغنية من‬
‫البعاد وشوق الوصال وتداخَلت بالمدرسة الشعري ّة الرومنطيقي ّة»((( ؛ بيد أنّنا نرى أ ّ‬
‫ن ميزة الف ّ‬
‫ن‬

‫‪73‬‬
‫َّ‬
‫الفيروزي هي في انفتاحه الثقافي الذي تمثل في ُم َ‬
‫زاوجة األغنية الفيروزي ّة بين التراث الشعري‬
‫والموســيقي العربــي واألجنبــي وبين حداثة الموســيقى والقصيدة العصريّــة على عكس بعض‬
‫الحداثات العربي ّة في الشعر التي انغلقت على نفسها بتقليدها موضات غربي ّة‪.‬‬
‫ماً مــن مقوّمات هــذا التقليد‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن من‬ ‫مقوماً مه ّ‬
‫ِّ‬ ‫وإذا كانــت األغانــي ذات النَّفــس األندلســي‬
‫المهمّ أن نعرف كيف أمكن لألندلس شعراً وغناءً أن تَمنح األغنية الفيروزي ّة خاصي ّة هذا الجمْع‬
‫دمة من حواضن غير عربي ّة‬ ‫بين التراث بفصاحته وكالسيكي ّة رسوخه األصيل وبين الحداثة ُ‬
‫المستق َ‬
‫ُ‬
‫والمستجد ّة في نشوئها الطارئ والسريع؟‬
‫تُحتّــم اإلجابــة عن هذا التســاؤل أن نقــف عند أهمّ المؤثّرات األندلســي ّة التي َأكســبت األغنية‬
‫ســهما في رســوخ تقليد مــزْج القديم‬
‫َ‬ ‫الفيروزيّــة هــذا التقليــد‪ ،‬وفيمــا يأتــي مؤ ِّثران مهمّان َأ‬
‫بالحديث‪ ،‬والكالسيكي بالرومانسي‪ ،‬والشعري بالموسيقي‪:‬‬

‫والً‪ :‬الغناء‬
‫أ ّ‬

‫سهمت في‬ ‫ّالت فني ّة عديدة طرأت على مسار القصيدة العربي ّة َ‬
‫وأ َ‬ ‫أشار مؤرّخو األدب إلى وجود تحو ٍ‬

‫توطيد عمودي ّتها تارة وغي ّرت رســوخي ّة هذا العمود تارة أخرى‪ .‬وســبب هذه التحوّالت هو الغناء‬
‫لِمــا لــه من أثر مهمّ في بناء القصيدة‪ .‬ونظرة فاحصة في كتــاب «األغاني» ألبي فرج األصفهاني‬
‫ناســب احتياجات األغنية‪.‬‬ ‫ن أغراض الشــعر العربي في ّ‬
‫كل عصر تكي ّفت بالطريقة التي ت ُ ِ‬ ‫ســتؤكّد أ ّ‬

‫ليس ذلك فحسب‪ ،‬بل َأ َ‬


‫سهم الغناء إب ّان عصر ازدهار الحضارة العربي ّة في ظهور طائفة الشعراء‬
‫هم يرحلون في البلدان شرقاً وغرباً عارضين بضاعتهم الشعري ّة على المغنّين ببراعة‬
‫الجوّالين و ُ‬
‫العوام يتعلّقون بالشعر الفصيح‪ ،‬ومن ثمّ‬
‫ّ‬ ‫وجعلت‬ ‫ّ‬
‫الخواص يستذوقون الشعر الشعبي َ‬ ‫جعلت‬
‫«لم ُ‬
‫تكن الفصحى وال أشعارها ترتفع عن مستوى الشعب بل كانت تقترب منه قرباً شديداً(((‪.‬‬
‫ووجداني فحســب‪ ،‬بل لتبعي ّة موســيقاه‬
‫ّ‬ ‫ذاتي‬
‫ّ‬ ‫وما كان للشــعر العربي أن يوصف بالغنائي ّة ألنّه‬
‫ل‬ ‫يظل لها فعلها في بناء القصيدة الفصيحة وتوجيه الذائقة الشعري ّة‪ .‬وما كان َ‬
‫للغزَ ِ‬ ‫ّ‬ ‫لألغنية التي‬
‫ن القصيدة ما ما َلت إلى القصر والقصصي ّة وتوظيف السوقي‬
‫أن يشيع في الشعر العربي كما أ ّ‬
‫إاّل تأث ّ ٌر بما تقتضيه األغنية من متطل ّ ٍ‬
‫بات ســعى الشــعر الفصيح الكالســيكي إلى تلبيتها‬ ‫والهزلي ّ‬

‫ذالً وهامشيّاً‪.‬‬
‫الهي َْمنة على الشعر الشعبي الذي ينبغي أن يبقى ُمبت َ‬ ‫ّ‬
‫تظل له َ‬ ‫كي‬
‫ُ‬
‫للمفردة أهمي ّتها في توجيه الذائقة نحو الشــعر الفصيح‪ ،‬فال تكون المســافة‬ ‫ن‬ ‫ّ‬
‫شــك في أ ّ‬ ‫وال‬
‫بعيــدة بينه وبين الشــعر الشــعبي وبومضات حي ّة تصمــد بوجه الزمن‪ .‬ولقد أكَّد الشــاعر الكبير‬

‫‪74‬‬
‫ن في النطق بما هو شعبي صموداً للشعر الفصيح يضمن له المستقبلي ّة الوثّابة في‬
‫الجواهري أ ّ‬
‫حمْل التراث كمواقد للفكر وتجريب الحياة وبهذا يكون «سحر الكلمة نفاذاً في النفوس فعّاالً‬
‫المجتمعات فإذا هي ُمنتفضة على نفسها قبل أن تنتفض على أنظمة‬ ‫في الضمائر أخّاذاً بتالبيب ُ‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫ســس جديدة وأنظمــة حديثة ومفاهيم‬ ‫وكيانــات الحُكــم فيها ثمّ إذا هي وقد اســتقرَّت على أ‬
‫ّ‬
‫الوضاءة‬ ‫ّ‬
‫الخــاق ولكلمته‬ ‫ن ورخاءٍ وضما ٍ‬
‫ن لفكرة األديب‬ ‫راســخة‪ ..‬فــي ّ‬
‫كل ما تتمتّع به من أمــ ٍ‬
‫الهزّازة ولفكرته الخالدة خلود الحياة نفسها»(((‪.‬‬
‫دورها على الشعر فيتطوَّر بدءاً من‬ ‫وما من عصر ٍ يشهد رخاءً ّ‬
‫إاّل كانت للغناء فيه نهضة تنعكس ب َ‬
‫العصــر الجاهلي ومروراً بالعصر العب ّاســي ووصوالً إلى عصــر الدول واإلمارات في األندلس التي‬
‫شــاع الغناء ال في األعياد والمواســم فحســب‪ ،‬بل على مدار اللّيالي واألي ّام ومعه طرأت‬
‫َ‬ ‫فيها‬
‫دار غناء‬ ‫الغزَ ل وغير َ‬
‫الغزَ ل تحوّالت فني ّة(((؛ يقول شوقي ضيف‪« :‬كانت األندلس العربي ّة َ‬ ‫على شعر َ‬
‫وشــاع الغزل وصار ي ُغنّى ال في ُ‬
‫المدن العربي ّة بل المســيحي ّة أيضاً وبالحالتَي ْن كان فصيحاً‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كبيرة‬
‫كان الشــعر يدور على لســان الرجال والنساء وكثرت الشاعرات مثل ّ‬
‫واّلدة وكانت الجواري ي ُتقِ ّ‬
‫ن‬
‫ن ْ‬
‫َظ َم الشعر‪ ..‬كان باألندلس كما كان بالعراق شعراء جوّالون من أهل الكدي ّة والشحاذة األدبي ّة‬
‫يدل على تعلُّق العامّة بالشعر الفصيح وأصحابه»(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتكسبون بأشعارهم ممّا‬ ‫يطوفون بالبلدان‬
‫تقريب المســافة بين الفصيح والشعبي من جهة‬
‫ِ‬ ‫وهذا الدور الذي لعبه الشــعراء الجوّالون في‬
‫َّ‬
‫الموشــح‬ ‫والشــعري والموســيقي من جهة أخرى لعبه أيضاً شــعراء التروبادور الذين أشــاعوا‬
‫األندلسي في أوروبا في العصور الوسطى‪ .‬ولقد تطوَّر الشعر األوروبي الحديث مع تطوُّر األغنية‬
‫على يد الرومانسي ّين اإلنكليز واأللمان الذين َّ‬
‫فضلوا النثر لوضوحه على الشعر لصرامة ايقاعي ّته‪.‬‬
‫ــم الذين يتعاطفون فكريّاً مع الشــعر أل ّ‬
‫ن‬ ‫وهاج َ‬
‫َ‬ ‫وأصــرّ غوتــه على ضرورة أن َيكتب الشــعر نثراً‬

‫تراجعت نخبوي ّة القصيدة الكالسيكي ّة‬


‫َ‬ ‫التصق بالعهود البدائي ّة وهكذا‬
‫َ‬ ‫الشعر برأيه نموذ ٌ‬
‫ج طفولي‬
‫تجاوزت األغنية األوروبي ّة رومانســي ّتها وصارت تبحث‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫المقطعات الغنائي ّة‪ .‬وحين‬ ‫وصعدت بدلها‬
‫عن نخبوي ّتها اســتعاد الشــعر ايقاعي ّته َففَ َر َض ت‪ .‬س‪ .‬إليوت التقاليد النثري ّة في مقالته «حدود‬
‫نتقصــاً القصيدة النثري ّة بوصفها‬
‫ِ‬ ‫اإليقاعي ْن الشــعري والنثري ُم‬
‫َ‬ ‫النثــر» وحــد َّد الفروق الحاد ّة بين‬
‫مزْجاً بين صيغتَي ْن مؤ ِّكداً أ ّ‬
‫ن التمييز بين الشعر والنثر ينبغي أن يكون تمييزاً تقنيّاً(((‪.‬‬
‫وبتحرُّر الشــعر من النثر عادت اإليقاعي ّة إلى الشــعر األوروبي وتأكَّدت جذوره التاريخي ّة الغنائي ّة‬
‫والعاطفيّــة التروبادوري ّة‪ .‬ولقد جسَّ ــدت األغنيــة الفيروزي ّة هذه الحقيقة الفنيّــة والتاريخي ّة من‬
‫خالل ُمداومتها على مز ْ ِج الشــعر األندلســي بالواقع المعيش فاقترضت من القصائد األندلسي ّة‬

‫‪75‬‬
‫ورقّتها من ناحية أخرى‪،‬‬
‫أشــعاراً تتّســم بطوابع شــعبي ّة من ناحية ووضوح األلفاظ وي ُسر الصور ِ‬
‫ّ‬
‫مفصحة‪.‬‬ ‫دم ًة للجمهور قصيدة‬
‫مق ِّ‬
‫ٍ‬
‫كأســاس‬ ‫َّ‬
‫دشــنته‬ ‫َت األغنية الفيروزي ّة عليه توجيه الذائقة إلى تقليد ٍ فنّي قائم بذاته‬
‫وممّا راهن ِ‬
‫َت عليه شــتّى األلوان النغمي ّة والموســيقي ّة ببراعة صوت فيــروز وجاذبي ّته‪ .‬فقصيدة‬
‫ثقافــي و َبن ْ‬

‫شكل رحلة ٍ تبدأ من‬


‫ِ‬ ‫ومغربه في‬ ‫ابن جبير أقول وآنست باللّيل ناراً» توصل بين َ‬
‫المشرق العربي َ‬
‫ُ‬
‫صوت فيروز القصيد َة طابعاً جماليّاً ورمزيّاً حب َ‬
‫َّب‬ ‫ج الكعبة وقد َأكسب‬ ‫ّ‬
‫بمكة وح ّ‬ ‫األندلس وتنتهي‬
‫الشــعر الفصيح للناس من جهة‪ ،‬وأكَّد من جهة أخرى أ ّ‬
‫ن البالد العربي ّة واحدة مهما باعدت بينها‬
‫ُ‬
‫المصطنَعة‪.‬‬ ‫الحدود‬
‫ومــا نجــاح األغنيــة الفيروزيّــة في تفصيــح أو باألحــرى تصحيح الذائقــة الفني ّة للجمهــور العربي‬
‫ســوى تأكيــد لفرضي ّة أثــر الغناء في التحوّالت الشــعري ّة في القصيدة الفصيحة والشــعبي ّة‪ .‬ولم‬
‫ُ‬
‫يكن اســتلهام األغنية الفيروزي ّة للتراث الموســيقي األندلســي بمنعزل عن الحداثة في األغنية‬
‫األوروبيّــة الحديثــة وإنّما كانــا ُمتزامنَي ْن في صورة ٍ دوامي ّة أثّرت في الذائقة الشــعري ّة للجمهور‬
‫العربي ووجّهت األغنية نحو مضمار ٍ جمالي جديد‪ ،‬فيه يكون التباري على األوزان وتعد ُّد القوافي‬
‫ُ‬
‫تهافت وجداني مع‬ ‫مع تجريب قوالب موسيقي ّة قديمة وبطريقة ليس فيها تصنُّع رومانسي وال‬
‫راوغ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َحذَر ٍ من االنزالق باتّجاه التجريب الرخو أو الفائض وضبابي ّات التعبير‬
‫والم ِ‬ ‫الجاف‬
‫ن األغنية العربي ّة اســتَلهمت التراث الشــعري وأفادت من الشعر الحديث‪ ،‬فغنّت‬
‫وال خالف في أ ّ‬
‫ن األغنية الفيروزي ّة تميزّت‬
‫أم كلثوم مطوّالت كالسيكي ّة وكذلك َف َع َل محمّد عبد الوه ّاب‪ ،‬بيد أ ّ‬
‫في أنّها اســتلهمت من الشــعر األندلســي أغانيها‪ ،‬نظراً لما ينماز به هذا الشــعر من البســاطة‬
‫وتعد ُّد األوزان كما غنّت لشعراء ُمعاصرين استلهموا قصائدهم من التراث األندلسي أو بنوها‬
‫َّ‬
‫الموشــح كبشــارة الخوري الذي غنّت له فيروز قصيدة «قد أتاك يعتذر»‪ ،‬وغنَّت لرفيق‬ ‫على قالب‬
‫خوري قصيدته «ارجعي يا ألف ليلة»‪ ،‬وغنَّت لسعيد عقل قصيدته «اذكريني»‪ ،‬التي َكت ََبها على غرار‬
‫كأشعار جميل بثينة وابن سناء‬ ‫المشرقي‬ ‫ّ‬
‫موشح ابن زهر هذا‪ ،‬فضال ً عن توظيف التراث الشعري َ‬
‫ِ‬
‫الملك وشعراء آخرين مغمورين قدماء ُ‬
‫ومحدثين‪.‬‬
‫وكثيــ ٌر مــن المغنّين اليــوم ينقادون إلى ركب العولمــة فيتبعون الموســيقى الغربي ّة‪ ،‬جاهلين‬
‫ُ‬
‫عرب‬ ‫وابتكر‬
‫َ‬ ‫تراثنا الموســيقي في عصره الذهبي وفيه ألَّف الفارابي كِ تابه «الموســيقى الكبير»‪،‬‬
‫ُعب َر عن أحاسيسهم‪ .‬وإذا كانت الحركة الحداثي ّة في شعرنا العربي‬ ‫َّ‬
‫الموشح كي ي ِّ‬ ‫قالب‬
‫َ‬ ‫األندلس‬

‫‪76‬‬
‫عاصــر قــد نَجحت في توجيه الذائقة نحو الشــعر األوروبي‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن األغنيــة الفيروزي ّة نَجحت في‬ ‫ُ‬
‫الم ِ‬

‫والمشرقي معزِّ ز ًة الحداثة بالتراث بشك ٍ‬


‫ل أو بآخر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫توجيه هذه الذائقة نحو الشعر األندلسي‬

‫َّ‬
‫الموشح‬ ‫ثانياً‪:‬‬
‫َّ‬
‫الموشح في األغنية الفيروزي ّة عزَّز فيها ممازجة التراث بالحداثة ووجّه موهبتها وجهة‬ ‫استلهام‬
‫فعالة خلصتها من الذاتي ّة واالنغالقي ّة‪ ،‬وأفادتها في أن تبني على تراكمات الجهد اإلنساني نظاماً‬
‫والموشح ما ابتُكر يومذاك ّ‬
‫إاّل من أجل األغنية‪ ،‬يقول‬ ‫َّ‬ ‫له معنى وقيمة ي ُالئم الظواهر والظروف‪.‬‬
‫َّ‬
‫الموشــح وهو الذي‬ ‫ن النتشــار الغناء أثراً كبيراً في ظهور‬
‫الدكتور جودة الركابي‪« :‬ال مري ّة في أ ّ‬
‫َّ‬
‫الموشــح َدو ٌر مهمّ‬ ‫حد َّد له وزنه وحرَّره من قيود الشــعر العربي»(((‪ .‬وكان إللمام الرحبانة بف ّ‬
‫ن‬
‫في تعزيز هذه ُ‬
‫الممازَ جة بين الفصيح الكالسيكي والشعبي الرومانسي داخل األغنية الفيروزي ّة‪.‬‬
‫َّ‬
‫الموشح لوجدنا أ َّ‬
‫ن دوره‬ ‫ولو ُعدنا إلى القرنَي ْن الثالث والرابع الهجري َّي ْن اللّذَي ْن فيهما َظ َه َر ف ّ‬
‫ن‬
‫ســتهجن وال ممجــوج في آذان الجمهــور الذي قابل‬
‫َ‬ ‫كان كبيــراً فــي جع ِ‬
‫ْل الشــعر الفصيح غير ُم‬
‫كجو‬
‫ٍّ‬ ‫َّ‬
‫الموشــح باالحترام كما تقب ّل التعد ُّد في القوافي‬ ‫اســتعمال (الخرجة) التي بها يختم قالب‬
‫عام وثقافي غابت فيه نخبوي ّة القصيدة الفصيحة وصالدتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫َّ‬
‫الموشح األندلسي صوت فيروز الخالب والصد ّاح وما فيه من إمكاني ّات ن ََغمي ّة‬ ‫وساعد في إحياء‬
‫َّ‬
‫الموشــح وأعادت الحياة له‪ .‬ولقد‬ ‫اســتنهضت هذه األغنية ف ّ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫تبلغ من القلوب ّ‬
‫كل َمبلغ‪ .‬هكذا‬
‫َّ‬
‫الموشــحات عماد الغناء العربي األصيل فهي كنزنا الموســيقي الخالد والمرجع‬ ‫عد ّ فؤاد رجائي‬
‫دم إلى األندلس في‬ ‫َّ‬
‫الموشحات بزرياب الذي َق َ‬ ‫والمما َثلة‪ .‬وعلَّل سبب اختراع‬
‫ُ‬ ‫األوّل لالقتباس‬
‫عهد عبد الرّحمن األوسط هارباً من بغداد وأسَّ س فيها أوّل معهد موسيقي‪.‬‬
‫والً في تطوير الموســيقى العربي ّة‪ ،‬وثانياً في‬ ‫َّ‬
‫للموشــح أ ّ‬ ‫واليوم تتّضح القيمة التاريخي ّة والفني ّة‬
‫ً‬
‫مفصــا‪ ،‬ومن ثمّ تقب ّلت الذائقة الشــعري ّة التالعــب باألوزان أو‬ ‫ً‬
‫موصاًل ال‬ ‫جعْــل الشــعر العربــي‬

‫همــل منها‪ .‬وكان لثقافة الرحابنة َدو ٌر ُمهمّ فــي جع ِ‬


‫ْل الغناء الفيروزي‬ ‫شــطرها واســتعمال ُ‬
‫الم َ‬
‫متزجاً بالشعر َ‬
‫المشرقي القديم والحديث؛ ما قرَّب‬ ‫مســتلهماً التراث األندلسي ُ‬ ‫ّ‬
‫وم ِ‬ ‫ِ‬ ‫للموشــحات‬
‫للموشح صورة حداثي ّة تتمثّل في هارموني ّة‬
‫َّ‬ ‫عوام الناس‪ ،‬وصارت‬
‫ّ‬ ‫الشعر الكالسيكي من أذهان‬
‫هذا االنسجام بين الفصيح الرسمي والعامّي الشعبي‪.‬‬
‫َّ‬
‫الموشح متقد ّمة ومتّسعة على حساب األغاني التي استَلهمت‬ ‫وصارت األغاني التي تَستلهم ف ّ‬
‫ن‬
‫الفلكلــور أو اللّهجــة البدويّــة أو األعمال التي تــدور ّ‬
‫قصتها في المدينة أو فــي الضيعة(((‪ .‬وتمَّ‬

‫‪77‬‬
‫تحميل األغنية الفيروزي ّة أبعاداً وطني ّة وقومي ّة توقِظ في النَّفس الحنين إلى زما ٍ‬
‫ن ومكا ٍ‬
‫ن ضاعا‬
‫فجأة‪ ،‬وتُحذِّر من مغب ّة الغفلة كي ال ي ُســتلب منا المزيد من أراضينا في إشــارة ٍ إلى فلســطين‬
‫واحتــال الصهاينــة ألراضيها‪ .‬وجدير بالذكر أ ّ‬
‫ن القضي ّة الفلســطيني ّة حاضــرة في كثير من األغاني‬
‫الفيروزيّــة التــي فيهــا تتكرّر مفردة «العودة» كأغنية «ســنرجع يوماً إلى حي ّنا»‪ ،‬و«جســر العودة‬
‫الدار»‪ ،‬ثمّ توَّجت فيروز ذلك كلّه بأغنيتَي ْها‬
‫َ‬ ‫الدار‬
‫ِ‬ ‫يا جســر األحزان»‪ ،‬و«ســيف فليشــهر‪ ..‬نعيد إلى‬
‫ْ‬
‫الشهيرتَي ْن بعد نكسة حزيران ‪« :1967‬أجراس العودة فلتقرع» و«زهرة المدائن»‪.‬‬
‫ُ‬
‫والمعاصرين الذيــن اهتمّوا باألندلس‬ ‫لم غنّت فيروز ِ‬
‫لكبار الشــعراء القدمــاء‬ ‫مــن هنــا نفهم َ‬
‫ْ‬
‫خشــيتها من أن تكون‬ ‫كحاضــرة فقــدت َأ َلقَ هــا وكأر ٍ‬
‫ض ضاعت حضارتها اإلســامي ّة‪ .‬وندرك مدى‬
‫َّ‬
‫الموشــحة بين نســتولوجيا‬ ‫فلســطين أندلســاً ثانية نبكي عليها إلى األبد‪ .‬ولقد توزَّعت أغانيها‬
‫َّ‬
‫موشــح «جا َدك الغيث إذا الغيـــث همـــى» للسان‬ ‫الحنين ورومانســي ّة الوج ْد الشــفيف كما في‬
‫ن ولّى كانت فيه األندلس عامرة ولها الســيادة‪ .‬أمّا‬
‫الد ّيــن بــن الخطيب‪ ،‬وفيه تتغنّى فيروز بزما ٍ‬
‫ققهما مع فعل التشــتُّت ُ‬
‫وظلم الدهــر‪ ،‬وقد تحوَّل‬ ‫الحُلــم بالوصــل ولــذّة االجتماع فيتعــذَّر تح ُّ‬

‫واالجتماع إلى تبا ُعد ٍ وشتات‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫واالحتراق‬ ‫ق‪،‬‬ ‫والفراق والل ّ ُ‬
‫ذة إلى شو ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الوصل إلى هج ْر ٍ‪،‬‬
‫عبر عن مشــاعر استشرافي ّة تشي بأ ّ‬
‫ن‬ ‫ّ‬
‫ولعل لســان الد ّين بن الخطيب في قصيدته هذه أراد أن ي ُ ِّ‬
‫مصوراً األندلس امرأة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫تنبئاً بهذا المآل التراجيدي‬
‫األندلس على وشــك أن تضيع لألبد‪ ،‬فبكى ُم ِّ‬
‫ن هذا العهد كأنّه يتالشى ولم ُ‬
‫يكن‪.‬‬ ‫وعلى الرّغم من طول عهده بها‪ ،‬فإنّه يشعر أ ّ‬
‫عبر عن الوج ْد‬ ‫َّ‬
‫الموشــحات ذات دالالت رومانسي ّة وأنّها تُكتب لت ُ ِّ‬ ‫وقد يعتقد بعض الدارســين أ ّ‬
‫ن‬
‫دالالت واقعي ّة ُمحمَّلة بأبعاد ٍ‬
‫ٍ‬ ‫والهيــام‪ ،‬لكــ ّ‬
‫ن هذا الوج ْد والهيام مجرّد داللة أولى تخفــي خلفها‬
‫موشحه «ما للمولّه»‪ ،‬وغنَّت‬
‫ّ‬ ‫ن يوشك أن يضيع لألبد‪ ،‬وهو ما عب َّر عنه ابن زهر في‬ ‫انتمائي ّة لوط ٍ‬
‫كرراً االستفهام بـ (هل) كتأكيد ٍ‬ ‫ن ومكا ٍ ُ‬‫فيروز مقطعاً فيه يتساءل الشاعر عن زما ٍ‬
‫ن فقِ دا لألبد ُم ِّ‬
‫ومطعماً‬
‫ِّ‬ ‫لصعوبة أو استحالة العودة أو الرجوع‪ُ ،‬متّخِذاً من الطبيعة ُمعا ِدالً موضوعيّاً لألندلس‬
‫بالغزَ ل‪ .‬وصورة الغزال هي أكثر الصور الغزلي ّة تكراراً عند الشــعراء األندلســي ّين‪ .‬والقصد‬
‫َ‬ ‫الحنين‬
‫منها ليس ذاتيّاً وجدانيّاً وإنّما هو رمزي‪.‬‬
‫يك ُ‬
‫المشتَكى»‪ ،‬وفيه ي ُنادي على الزمان الذي‬ ‫َّ‬
‫موشح ابن زهر «أي ُّها الساقي ِإ َل َ‬ ‫وهو ما نجده في‬

‫ولّــى وانقضى‪ ،‬شــاكياً ب َلوعة ٍ من طول الفراق‪ُ ،‬م ِّ‬


‫تبرماً من َلوعــة الغربة وهو ي ُكابد الصبر عليها‪،‬‬

‫ل رقيق ي ُخاطب فيه محبوبته بضمير المذكَّر‪ُ ،‬م ِ‬


‫حاوالً التجمُّل بالصبر على البعاد الذي‬ ‫ُمبتدِئــاً َ‬
‫بغــزَ ٍ‬
‫هــو ضيــاع‪ ،‬ولذلك أكثر الشــاعر من مفردات (البين والعشــى والعمى والب ُعــد والبكى والصبر‬
‫والشكوى واليأس)‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫َّ‬
‫الموشــح في األغنيــة الفيروزي ّة اليــوم هو كــذاك األثر الذي تركــه باألمس‬ ‫واألثــر الــذي تركــه‬
‫َّ‬
‫للموشــح‬ ‫فــي األغاني اإلســباني ّة التي ألَّفها شــعراءُ التروبــادور‪ .‬ولقد أعطت األغنية الفيروزي ّة‬
‫ٍ‬
‫بإلماحات وجداني ّة تندب الواقع من جانب وتو ِّثق‬ ‫األندلسي حيوي ّ ًة وأشاعته بين الجمهور العربي‬
‫ِصلتــه بالتــراث العربي من جانب آخر‪ .‬ومن ثمّ يغدو وصف المدرســة الفيروزيّــة بأنّها مثالي ّة أو‬
‫ّ‬
‫دال؛ فلقد وا َكبت هذه المدرســة الواقع وجسَّ ــدت مخاضات الشعب‬ ‫رومانســي ّة غير ُمنصف وال‬
‫وشــاركته تحد ّياته المصيري ّة‪ ،‬والســي ّما قضي ّة فلسطين‪.‬‬
‫َ‬ ‫العربي ووقفَ ت بقوّة إلى جانب قضاياه‬
‫ع رحباني أو زيادي‪ ،‬فال ي ُظهر الحقيق َة كلّها أل ّ‬
‫ن هذه المدرســة‬ ‫أمّا رب ُْط هذه المدرســة بمشــرو ٍ‬
‫ٍ‬
‫أســاس واحد ال ثاني له هو‬ ‫َّ‬
‫تشــكلت أو ب ُنيت على‬ ‫هي بمجموع عناصرها تنوَّعت تقاليدها التي‬

‫فرادة صوت فيروز وكاريزما شخصي ّتها ودرامي ّة حياتها بدءاً من اكتشافها من ق َِب ِ‬
‫ل الملحّن حليم‬
‫ضرورات مرحليّــة تاريخي ّة كانت قد وفَّرت لفيروز‬
‫ٍ‬ ‫الرومــي‪ .‬هذا االكتشــاف الذي جاء ُمتزامِ ناً مع‬
‫االنتشار على المستويات االجتماعي ّة والسياسي ّة والفني ّة‪.‬‬
‫ن ّ‬
‫الاّلمألوفي ّة في األغنية الفيروزي ّة هي التي َج َع َلتْها تبســط ســيادتها‬ ‫مؤد ّى القول ممّا تقد َّم إ ّ‬
‫و ما هو تراثي ورفعة ما هو‬
‫نقطع النظير نحو التجديد بســم ّ‬ ‫وتؤ ِّكد تمي ُّزَ ها وأيضاً طموحها ُ‬
‫الم ِ‬
‫والً‪ ،‬وبعمومي ّة ما هو شــعبي وبســاطته آخراً‪ .‬وها هي تســتمرّ مؤ ِّثــرة تاريخيّاً ومتأ ِّثرة‬
‫فصيــح أ ّ‬
‫ُّ‬ ‫ٍ‬
‫إبداعيّــاً بجديّــة ليس فيها تصنُّــع‪ ،‬وبتلقائي ّة ال تكلف فيها‪ .‬ومهما تغيَّــرت ُصو ُر التحديث الن َّ َغ ّ‬
‫مي‬
‫تظل قائمة بما عندها من تقاليد وفي مقد ّمتها تقليد المزْج‬ ‫ّ‬ ‫ن هذه األغنية‬ ‫وتنوَّعت أشكاله‪ ،‬فإ ّ‬
‫بين التراث والحداثة‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫د‪ .‬زياد جمال حد ّاد*‬

‫متنوع‬
‫ِّ‬ ‫وعبادة‪ ،‬وتقديرٌ‪ ،‬فالمتعةُ هي وليدة البحث في كنز ٍ‬
‫ٌ‬ ‫فن السي ّدة فيروز‪ ،‬متعةٌ‪،‬‬
‫الكتابة عن ِّ‬
‫بصوت‬
‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫الشعراء واألدباء األنقياء والملحّنين وانصهرت‬ ‫ُ‬
‫قلوب‬ ‫من األحجار الكريمة التي َصقَ َلتْها‬
‫قصر المســافة بين‬ ‫ٌ‬
‫عبادة‪ ،‬ألنَّها بصوتها ت ُ ِّ‬ ‫فيــروز‪ ،‬بعــد أ ْ‬
‫ن تركــوا بها أجزاءً من أرواحهــم‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬
‫يستحقون‬ ‫المستمع إليها وبين اللّه‪ ،‬وهي تقديرٌ‪ ،‬ألنَّ فيروز والعدد الكبير الذين عملوا معها‬
‫الكتابة عنهم‪.‬‬

‫ومعــا ٍ‬
‫ن مهمَّة فــي مجمل كلمــات أغانيها‪ ،‬وهي‬ ‫ٍ‬
‫نقاط َ‬ ‫العــام هــو تســليط َّ‬
‫الضوء علــى‬ ‫ّ‬ ‫اإلطــار‬
‫ــعادة تتولَّد من خالل االســتماع إلى صوتها‪ ،‬ذاك الصوت القريب‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫مختفية بين ثنايا صوتها‪ .‬فالسَّ‬
‫من َّ‬
‫الضوء‪ ،‬الذي يحمل في طي ّاته مخزوناً كبيراً من المفردات‪ ،‬والحِ َكم‪ ،‬والب ُعد الفلسفي حاض ٌر‬
‫ســتمع إليها بقواعد االســتماع كافّ ًة «الصوت واللّحن‬
‫ُ‬ ‫في ثنايا كلماتها وصوتها‪ .‬فإذا التزم ُ‬
‫الم‬
‫والكلمة»‪ ،‬عندئذ ٍ تحدث إذابة لصوتها في روحه‪ ،‬وتعمل على فت ْ ِح شقو ٍ‬
‫ق وقنوات باتّجاه العقل‬
‫فيتمكن ُ‬
‫المستمع من إدراكها‪ ،‬بجانب‬ ‫َّ‬ ‫بعطر صوتها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫تمرُّ من خاللها الكلمات العريقة الممزوجة‬
‫الفرحة بسماع صوتها الجميل ُمصاحِ باً للّحن‪ ،‬وهذا يعمل على تضخيم حالة السرور والفرح عند‬
‫االســتماع إليها‪ ،‬وتمنح المســتمع فرص َة تكرار التعايش معها من خالل مراجعة معاني كلمات‬
‫األغنية بعد االنتهاء من سماعها‪.‬‬
‫والتركيز سيكون على الكلمة التي غنَّتها السي ّدة فيروز بعامّة‪ ،‬لكن بسبب العدد الكبير ألغانيها‪،‬‬
‫وكثــرة الذيــن كتبوا لهــا‪ ،‬واعتماداً على قانــون الكمّ ‪ ،‬ي ُمكــن تحديد أربعة مصــادر َأخذت منهم‬
‫ِّ‬
‫والمفكر‬ ‫َّ‬
‫والشاعر الكبير سعيد عقل‪،‬‬ ‫السي ّدة فيروز الكثير من الكلمات‪ ،‬و ُ‬
‫هم‪ :‬األخوان رحباني‪،‬‬
‫والفنان زياد الرحباني وأخيراً الشاعر جوزيف حرب‪.‬‬

‫*كاتب من األردن‬

‫‪80‬‬
‫ِّ‬
‫شــكل هوي َّتها الفني َّة على مســتوى‬‫ن الســي ّدة فيروز كانت ت ُ‬
‫تكمن إشــكالي َّة هذه المقالة في أ َّ‬
‫والهيبة‪ ،‬واللّحن‪ ،‬وتجسَّ ــدت بمرحلة التأســيس الرَّصيــن‪ ،‬والتأصيل‬
‫َ‬ ‫الكلمــة والحضــور بالصــوت‬
‫َّ‬
‫تشكلت هوي َّة السي ّدة‬ ‫األصيل حتَّى وصلت إلى مرحلة التمي ُّز واإلبداع اللَّذَين َّ‬
‫قل نظيرهما‪ ،‬حيث‬
‫ن ال ي ُمكن‬ ‫المختبر الحقيقي الذي ح َّ‬
‫قق هذا اإلنجاز‪ ،‬لك ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫شــك أ َّ‬
‫ن صوتها كان‬ ‫فيروز النهائي َّة؛ وال‬
‫إصدار هوي َّة الســي ّدة‬
‫ِ‬ ‫التقليــل مــن أهمي َّة َدور الكلمة واللّحن في هذا اإلنجاز‪ .‬لقد كانت عملي َُّة‬
‫األخوين رحباني‪ .‬وســيتمُّ التركيز على دراســة الكلمة في‬
‫َ‬ ‫بأدب‬
‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫وتشــكلها محصور ًة‬ ‫فيروز الفني َّة‬
‫أغاني الســي ّدة فيروز‪ ،‬والســي َّما على ما قد َّمه الشــاعر جوزيف حرب لها‪ ،‬ألنَّه ح ّ‬
‫قاً واحد ٌ من أكبر‬
‫شــعراء العصر الحديث‪ .‬لذلك فقد َو َق َع االختيار على شــعر الشــاعر جوزيف حرب ليكون أســاس‬
‫تشكل بيئ ًة مناسب ًة لهذه المقالة‪ .‬ويتمنَّى الكاتب‬
‫ِّ‬ ‫فمجمل أعماله ُ‬
‫المقد َّمة لفيروز‬ ‫هذا المقال‪ُ ،‬‬
‫شعر جوزيف حرب هنا‪ ،‬هو تقليل من شأن الشعراء اآلخرين‬
‫ن التركيز على ِ‬ ‫أ ْ‬
‫ن ال يفهم البعض أ َّ‬
‫الذين قد َّموا أدبهم للسي ّدة العظيمة فيروز أو من حضورهم‪ .‬وسأحاول الكشف عن المساحة‬
‫التي أثَّر فيها ِ‬
‫شعر جوزيف حرب بتشكيل الهوي َّة الفني َّة لها‪.‬‬
‫منهجين ُ‬
‫هما‪:‬‬ ‫َ‬ ‫يعتمد المقال على‬
‫‪ -1‬المنهج التاريخي القائم على تتب ُّع أهمّ فترات التعاون بين السي ّدة فيروز والشاعر جوزيف حرب‪.‬‬
‫عتمد على تحليل شــكل النصوص الشــعري َّة ُ‬
‫المقد َّمة للســي ّدة‬ ‫‪ -2‬المنهج الوصفي التحليلي ُ‬
‫الم ِ‬
‫ْ‬
‫ووصفها‪ ،‬فضال ً عمّا أضافته هذه النصوص من جديد إلى الهوي ّة الفني ّة للسي ّدة فيروز‪.‬‬ ‫فيروز‬
‫مختص منفرد ٍ تطــرَّق لهذا الموضوع‬
‫ٍّ‬ ‫بحث واحد ٍ‬
‫ٍ‬ ‫لــم يعثــر الكاتــب‪ ،‬في حدود بحثه وعلمه‪ ،‬علــى‬
‫ّ‬
‫ومحطــات التلفزة‪ ،‬وبعض المواقــع اإللكتروني ّة‬ ‫ّ‬
‫وكل مــا وجــده‪ ،‬مقاالت متنوَّعة فــي ُّ‬
‫الصحف‪،‬‬
‫معظمها تطرَّق إلى أهمي َّة الشاعر جوزيف حرب‪ ،‬وكان ي ُشار إلى أنَّه قد قد َّم للسي ّدة فيروز بعض‬
‫األعمال فقط‪ .‬لك ّ‬
‫ن هناك بعض الدراســات الســابقة التي تطرَّقت إلى موضوع البحث من جانبٍ‬
‫سب ِْر أعماقه‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ما من دون َ‬
‫ور َح َل عن عا َل ِ‬
‫منا»‪:‬‬ ‫ّ‬
‫فــل› َ‬ ‫مجلّــة «ســي ّدتي» كتبــت تحت عنوان‪« :‬جوزيف حرب‪َ ..‬كت َ‬
‫َب ‹طالع ع بالي‬
‫ن جوزيــف حــرب‪ ،‬شــاعر األغنية التــي امتزجت بأروحنا مــع أغاني فيروز اتَّخــذ فعال ً قرار‬
‫«يبــدو أ َّ‬
‫ــل عن عا َل ِ‬
‫منا‪ ،‬تاركاً لنا إرثاً من الكلمات الراقية والمشــاعر الســامية في قصائده‬ ‫ور َح َ‬
‫المغــادرة َ‬
‫التــي تحمــل كثيراً من القصص التي كبرت معنا وأصبحت جزءاً من طفولتنا» (‪ 11‬شــباط‪ /‬فبراير‬
‫شــعر جوزيف حرب ُ‬
‫المقد َّم‬ ‫‪ .)2014‬ولم يجد الباحث َّ‬
‫إاَّل إشــار ًة جزئي َّ ًة بســيط ًة تُشــير إلى أهمي ّة ِ‬
‫شترك‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫أي تحليل لهذا العمل‬
‫للسي ّدة فيروز‪ ،‬من دون ِّ‬

‫‪81‬‬
‫دوريّــة «نجومــي» المهتمَّة بأخبــار الفنّانين‪ ،‬التي تطرَّقت إلى بداية التعاوُن بين الشــاعر جوزف‬
‫ن تعرَّف الشــاعر جوزيف على زياد الرحباني فــي عام ‪َ ،1976‬فت ََح له‬
‫حــرب والســي ّدة فيروز‪« :‬بعد أ ْ‬
‫األخير الباب ليتعرَّف على والدته السي ّدة فيروز التي غنَّت من قصائد حرب أكثر من عشرين أغنية‬
‫عشــقها مالييــن األشــخاص» (جوزيف حرب‪ّ :‬‬
‫قصــة حياة الشــاعر الكبير»‪ ،‬نجومــي‪ 16 ،‬أي ّار‪ /‬مايو‬
‫ُ‬
‫وجدت ضرور ًة للتركيز على القصائد التي غنَّتها السي ّدة فيروز للشاعر جوزيف حرب‪،‬‬ ‫‪ .)2021‬ولهذا‬
‫تركه شعر جوزيف حرب في تشكيل هوي َّة السي ّدة فيروز‪.‬‬
‫ومحاولة تبيان األثر الذي َ‬
‫تكلَّم الكاتب يزن الحاج في مقالته «أغنّي العشــب‪ :‬فيروز جوزف حرب» على األقطاب الرئيســة‬
‫الثالثــة التي قد َّمت للســي ّدة فيروز إنتاجها األدبي‪ ،‬و ُ‬
‫هم‪ ،‬ســعيد عقــل‪ ،‬وزياد الرحباني‪ ،‬وجوزيف‬
‫ُ‬
‫المطلق‪ ،‬مع اإللهي‪ .‬قد يبدو‬ ‫حرب‪ ،‬خارج األخوين رحباني‪ ،‬حيث َكت َ‬
‫َب‪« :‬يتماهى ســعيد عقل مع‬
‫التوصيف عجيباً حين نتذكَّر دنيا ســعيد عقل خارج القصائد‪ ،‬إذ ْ نعجز عن الحديث عن ســعيد عقل‬
‫ن التوصيــف صحيح بالرغم من دنياه‬ ‫ّ‬
‫تحفظات أو اســتطرادات تفســيري َّة‪ ،‬وتبريري َّة رب ّما‪ .‬ولك َّ‬ ‫بــا‬

‫الشخصي ّة النّابذة‪ .‬التوصيف صحيح َ‬


‫آلن دنياه نابذة‪ ،‬إقصائي ّة‪ُ ،‬مرعبة من فرط الكبرياء‪ .‬سعيد عقل‬
‫ي ُشــبه إلهاً توراتيّاً ال يعرف َّ‬
‫إاَّل الغضب وإقصاء ما ال يشــبهه‪ ،‬وال أحد يشــبه ذلك اإلله وتجسّ داته‬
‫الشــعري ال متنــاه ٍ وعا َلمه الدنيوي يســعى أل ْ‬
‫ن يكون‪ ،‬أو يبدو‬ ‫النــادرة فــي واقــع الحال‪ .‬عا َلمه ِّ‬
‫ُ‬
‫التناقض‬ ‫عبثي‪ .‬وألنَّه عبثي‪ ،‬بات عقل محكوماً على الدوام بهذا‬ ‫ّ‬
‫األقل‪ ،‬ال متناهياً‪ .‬السّ ــعي‬ ‫على‬
‫ّ‬
‫المفجــع‪ .‬جوزيــف حرب‪ ،‬في المقابل‪ ،‬ي ُشــبهنا بفضائلنــا وخطايانا‪ .‬هو ابن الحاضــر‪ ،‬ابن اللّوعة‬
‫ابن متجذ ّ ٌر في الحاضر ال بد َّ من أ ْ‬
‫ن يســعى‬ ‫ٌ‬ ‫والعفَ ن‪ .‬وألنَّه‬
‫َ‬ ‫والضحكة‪ ،‬والحِ داد والبهجة‪ ،‬والنقاء‬
‫ي أنَّه ليس إلهاً‪ ،‬وليس مالكاً ُمكرَّماً في السماء‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬
‫التناقضات‪ .‬ي ُدرك البشر ّ‬ ‫إلى االنزالق في ف ِّ‬
‫خ‬
‫ملعوناً في األرض‪ ،‬غير أنَّه ي ُدرك ‪-‬في الوقت ذاته‪ -‬أنَّه وُجِ د على صور ِة قوَّة ٍ فوق ‪ -‬بشــري ّة‪ ،‬قوّة‬
‫ال دنيوي َّة‪ ،‬ال ترضى وال تقتنع‪ ،‬بل تســعى (تتوق) دوماً إلى الكمال كخالقها‪ ،‬لترى ‪-‬مثل خالقها‪-‬‬
‫حســن كلَّما أبدعت أمراً جديداً‪ .‬جوزيف حرب ابن الـــ (يا ريت) التي تُلخِّص تراجيديا‬
‫ٌ‬ ‫أ َّ‬
‫ن مــا تفعلــه‬
‫إاَّل باســتعادة ٍ عبثي َّة‬ ‫إاَّل بالتمنِّي‪َّ ،‬‬
‫إاَّل بالخيال‪َّ ،‬‬ ‫ن أوحد ٍ خانق‪ ،‬ال فرار منه َّ‬
‫ن تكون مســجوناً في زم ٍ‬
‫أ ْ‬
‫ن مضى ال بالحاضر‪ .‬الحاضر القادم أجمل‪ .‬الماضي في دنيا جوزيف حرب‪ ،‬وفي دنيانا‪ُ ،‬مرتبط‬
‫لزم ٍ‬
‫ُ‬
‫زمن التمنِّي والتحسُّ ــر والتفجُّع فقط‪ ،‬تمنِّي تكرار الماضي في‬ ‫بالمســتقبل ال بالحاضر‪ .‬الحاضر‬
‫ل أجمل ألنَّنا ‪-‬بالتحديد– نود ُّ لو يشبه الماضي‪ ،‬لو يكون على صورته‪ ،‬بالرّغم من إدراكنا‬
‫مستقب ٍ‬
‫الواعي أنَّه ال يكون‪ ،‬ولن يكون» (‪ 26‬شباط‪ /‬فبراير ‪.)2021‬‬

‫‪82‬‬
‫ــام واقعي‪ ،‬وســوريالي أحياناً‪ ،‬مرَّة يلتقط‬‫أمَّا بالنســبة إلى زياد الرحباني فقد قد َّم نفســه كرسّ ٍ‬
‫ن يتوقَّع عن‬
‫متتبع له أ ْ‬
‫ِّ‬ ‫الكلمات المعرَّضة لالنقراض وي ُدخلها في أدبه‪ ،‬ومن الصعب جدّاً على ِّ‬
‫أي‬
‫بكل سهولة ألنَّه ‪-‬حقيقةً‪ -‬هو واحد ٌ منها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫قل بين النجوم‬‫ماذا سيكتب‪ ،‬فهو يتن َّ‬
‫وي ُمكــن صياغــة إشــكالي ّة المقالة بالتســاؤل التالي‪ :‬هل كان لشــعر جوزيف حــرب أث ٌر في إعادة‬
‫تشكيل هوي َّة السي ّدة فيروز الفني َّة في المرحلة التي قد َّم لها ِّ‬
‫شعره؟‬
‫فالشــاعر جوزيــف مــارون حرب أبصر النور في ‪ 30‬تشــرين الثاني‪ /‬نوفمبر مــن العام ‪ 1944‬في‬
‫س‬ ‫ومار َ‬
‫َ‬ ‫س األدب والحقوق في الجامعة اللّبناني ّة‬‫قريــة المعمريّــة من قضاء الزهراني‪ ،‬حيــث َد َر َ‬
‫وهاج َر إلى الســماء في ‪ 9‬شــباط ‪ /‬فبراير من العام ‪2014‬‬ ‫َ‬ ‫وعمل في اإلذاعة اللّبناني ّة‪،‬‬
‫َ‬ ‫التعليم‪،‬‬
‫الشعري َّة‪ ،‬والمقصود «المحبرة» الذي احتوى على ‪ 1725‬صفحة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ترك لنا أضخم الدواوين‬‫َ‬ ‫بعد أ ْ‬
‫ن‬
‫تكلَّــم جوزيــف حرب في الخامس عشــر من شــهر حزيــران‪ /‬يونيــو ‪ 1995‬عبر صحيفــة «الثورة»‬
‫الســوري ّة عن افتخاره بالتعامل مع الرحابنة‪ ،‬حيث كتبت على لســانه‪ « :‬إذا كان هناك هجرة إلى‬
‫دم طلباً للهجرة إلى هذا الوطن»(«ما تمنَّاه جوزيف حرب»‪.)1995 ،‬‬
‫وطن الرحابنة فأنا أوّل َمن يق ِّ‬
‫وهذه شــهادة من الشــاعر جوزيــف حرب تُم ِّثل رضــاه الكامل عن التعاون مــع الرحابنة‪ .‬ويعود‬
‫التعارف األوّل بين زياد الرحباني وجوزيف حرب إلى العام ‪.1979‬‬
‫وفــي مقابلــة تلفزيوني ّة مع التلفزيون المصري‪َ :‬ذ َك َر الفنان زياد الرحباني أ َّ‬
‫ن أكثر لحن يحب ّه من‬
‫أعماله‪ ،‬هي أغنية «حب ّيتك تنسيت النوم»‪ .‬هنا نلفت إلى أ َّ‬
‫ن الفنان زياد الرحباني كان ي ُشير إلى‬
‫أفضل لحن له قد َّمه للســي ّدة فيروز‪ ،‬ومع ذلك ال ي ُمكن التقليل من أهمي َّة الكلمات‪ ،‬ومن هنا‬
‫ن اصطالح «الرحابنة» يُشــار‬
‫كانــت بدايــة التعامل بين الرحابنة وبين جوزيف حرب‪ ،‬مع التوضيح أ َّ‬
‫إليه هنا إلى زياد والسي ّدة فيروز‪.‬‬
‫فيروز مع جوزيف حرب انحصر تركُّزها على اإلنسان‪ ،‬وتحديداً على أعماقه‪ ،‬وما يعانيه من جفاف‪،‬‬
‫وقســوة وقهر‪ ،‬بعكس حال فيروز مع غيره‪ ،‬فكان تركيزهم على الطبيعة‪ ،‬واألشــخاص والزمن‪،‬‬
‫بــل وتطرّقــوا إلى الفضاء‪ ،‬والشــمس والقمــر والنجوم‪ .‬كانت هوي ّتها غيــر واضحة المالمح‪ ،‬إذ‬
‫ُ‬
‫ن من ضمن هذا الفضاء الواســع كانت روح اإلنسان‬ ‫كانت شــاملة وواســعة؛ وأشــير هنا إلى أ َّ‬
‫بمعا َلجة شقوق الروح وانكسارها‪.‬‬
‫تخصص ُ‬
‫َّ‬ ‫حاضرة‪ ،‬بعكس الحال مع جوزيف حرب الذي‬
‫األخوين رحباني‪ ،‬كانت تقطن العالي‪ ،‬النجوم‪،‬‬
‫َ‬ ‫قال الكاتب والفنّان خلدون غرايبة‪« :‬إ َّ‬
‫ن فيروز مع‬
‫وعمل على نقْلها من حالة الرومانسي َّة الساذجة‪ ،‬إلى الواقعي َّة‬
‫َ‬ ‫بعيدة عنَّا‪ ،‬جوزيف حرب َج َل َبها إلينا‪،‬‬
‫ســتمع‬
‫ِ‬ ‫ن ُ‬
‫الم‬ ‫َّ‬
‫الشــفافي ّة‪ ،‬لدرجة أ َّ‬ ‫السَّ ــاخرة»‪ ،‬فجوزيف حرب حاكى واقعة المحب َّة بدرجة ٍ كبيرة من‬
‫شعره يجعله يتعايش مع هذه الواقعة‪ .‬ومع جوزيف حرب صارت فيروز منَّا‪.‬‬
‫إلى ِ‬

‫‪83‬‬
‫كانت البداية مع جوزيف حرب في أغنية «حب ّيتك تنســيت النوم» وهي من ألحان زياد الرحباني‪،‬‬
‫غنَّتها فيروز في العام ‪ ،1979‬من خالل أسطوانة «وحدن»‪.‬‬
‫ألعماق فتاة تبحث‬
‫ِ‬ ‫طرف واحد‪ ،‬يأخذنا من خاللها جوزيف حرب في زيارة ٍ نادرة‬
‫ٍ‬ ‫ُب من‬
‫هذه أغنية ح ٍّ‬
‫تضحي بنعمة النوم مقابل الحصول على الحبّ ‪ ،‬لك ّ‬
‫ن‬ ‫ِّ‬ ‫ويصور لنا حج َْم ُمعاناتها‪ ،‬فهي‬
‫ِّ‬ ‫عــن الحــبّ ‪،‬‬
‫الحبيب بعيد ّ‬
‫كل الب ُعد عنها‪ ،‬هذه واحدة من األغاني الخالدة‪.‬‬
‫وقد أصدرت فيروز في العام ‪ 1987‬ألبوم «معرفتي فيك»‪ ،‬وتضمَّن األغاني التالية‪:‬‬
‫ ‪- 1‬خليك بالبيت‪.‬‬
‫ ‪- 2‬رح نبقى سوى‪.‬‬
‫ ‪- 3‬ما قدرت نسيت‪.‬‬
‫ ‪- 4‬لبيروت‪.‬‬
‫ن أغنيــة «خ ِّليــك بالبيــت»‪ ،‬تحتــوي على شــحنة كبيرة من الحنــان‪ ،‬تفنَّن جوزيف حــرب في نقْله‬
‫إ َّ‬
‫إلينا عبر أحرفه السَّ لســة‪ ،‬أمَّا أغنية «رح نبقى ســوى» فهي أغنية وطني َّة‪ ،‬حيث وصف حب َّه للبنان‬
‫بالمستحيل‪ ،‬ولم أجد أعمق من هذا الوصف لوطنه الغالي‪ ،‬حيث َكتَب ما غنَّته فيروز‪:‬‬
‫«تاجك من القمح مملكتك السالم‬
‫وشعبك بيحب ّك لتبرد الشمس وتوقف اإلّيام»‬
‫ِّ‬
‫الشــعري‪ ،‬والكالم‬ ‫أمَّا أغنية «ما قدرت نســيت»‪ ،‬فهي تجســيد واســتمراري َّة لنهج جوزيف حرب‬
‫صادر من فتاة‪ ،‬تحاول فيه نسج ثوب النِّسيان الناتج عن الخصام‪ ،‬لكنَّها تعجز عن ذلك‪ ،‬في هذه‬
‫األغنيــة درجــة كبيرة مــن الحزن ال يتجاوب معــه َّ‬
‫إاَّل أصحاب القلوب ُ‬
‫المنكســرة‪ ،‬وما أكثرها في‬
‫عا َلمنا العربي‪.‬‬
‫دس‬ ‫وقصيدة «لبيروت»‪ ،‬هي أكثر من قصيدة‪ ،‬فهي ترتقي أل ْ‬
‫ن تكون ترنيمة وطنية مقد َّســة‪ ،‬تق ِّ‬
‫الخاص نفســه في ن ْ‬
‫َظم ِّ‬
‫الشــعر‪ ،‬فكان حوا ٌر بين فيروز‬ ‫ّ‬ ‫إطاره‬
‫َ‬ ‫بيروت‪ ،‬هنا يســتخدم جوزيف حرب‬
‫عتَد ْ عليه منها‪.‬‬ ‫ومعشوقتها بيروت‪ ،‬وبهذه األغنية يصبغ جوزيف حرب فيروز ب َلو ٍ‬
‫ن لم َن ْ‬
‫ــم‬
‫س َ‬ ‫ُ‬
‫وفيكن تنســوا‪ .‬وقد َر َ‬ ‫قد َّم جوزيف حرب بعد ذلك للســي ّدة فيروز أغنيتَي ْن ُ‬
‫هما‪ :‬عيد الدني‪،‬‬
‫لنــا جوزيــف حــرب في ثنايــا أغنية «عيــد الدني»‪ ،‬ميالد الســي ّد المســيح بطريقة تختلــف عن ِّ‬
‫كل‬
‫دث الرئيســي‪ ،‬وبذلك‬ ‫الذيــن كتبــوا للســي ّدة فيروز‪ ،‬فقد ركَّز علــى البيئة أكثر من تركيزه على َ‬
‫الح َ‬
‫أضاف شيئاً جديداً لهوي َّتها‪ ،‬وأغنية «فيكن تنسوا» هي وطني ّة بامتياز‪ ،‬والطريقة التي لحَّنها زياد‬
‫وأسلوب غنائها فتح أفقاً جديداً في عا َلم فيروز‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫أمَّــا ألبــوم «بليل وشــتي» فكان في العــام ‪ ،1989‬وقد احتوى على أربع أغــا ٍ‬
‫ن جميعها لجوزيف‬
‫حرب‪ ،‬لحَّنها كلّها الموسيقار فليمون وهبي‪ ،‬وهذ األغاني هي‪:‬‬
‫ ‪- 1‬لمّا على الباب‪.‬‬
‫ ‪- 2‬زهرة الجنوب (إسوارة العروس)‪.‬‬
‫ ‪- 3‬بليل وشتي‪.‬‬
‫ ‪- 4‬أسامينا‪.‬‬
‫ل كبير‪ ،‬من خالل إعادة تشــكيل‬ ‫هذا األلبوم َأحدث إعاد َة تكوي ٍ‬
‫ن لشــخصي َّة فيروز الفني َّة بشــك ٍ‬
‫َّ‬
‫شــك‬ ‫َّ‬
‫الخاصــة بهوي َّتها‪ ،‬وأعاد تشــكيل النور المنبثق من وجهها بصورة أجمل‪ ،‬وال‬ ‫التضاريــس‬
‫ن في هذا األلبــوم وصلت إلى أعمق نقطــة ُممكن أ ْ‬
‫ن يصل‬ ‫ن فيــروز كانــت تغنِّــي بدفء‪ ،‬لك ْ‬
‫أ َّ‬
‫إليها مطرب‪.‬‬
‫تصف لنا أغنية «لمّا على الباب» اللّحظات األخيرة قبل الوداع‪ ،‬تبدأ األغنية بمق ِّ‬
‫دمة موسيقي َّة‬
‫من العمالق فيلمون وهبي‪ ،‬وإبداع جوزيف حرب‪ ،‬في صياغة ٍ وثيقة لوداع األحب ّة‪ .‬جمال هذه‬
‫األغنيــة‪ ،‬مــن لحــن وكلمــات وغناء‪َ ،‬نتَج عنــه إعادة تقديم فيروز بشــك ٍ‬
‫ل مختلــف عمَّا هو في‬
‫ن فيروز غنَّت‬
‫المســتمع العربــي؛ َظهرت فيــروز هنا كأنَّها تغنِّــي ترنيمة المحب َّة‪ .‬ومــع أ َّ‬
‫ُ‬ ‫قلــب‬
‫ٌ‬
‫مصنوع من‬ ‫اختلف كثيراً‪ ،‬فهو‬
‫َ‬ ‫«البــاب» فــي كثير ٍ من أغانيها‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن «الباب» مــع جوزيف حرب‬
‫در‪ ،‬وأمامه تقف الفتاة وهي فاقدة‬ ‫والحذَر من القَ َ‬
‫َ‬ ‫خوف الفراق‪ ،‬و َلوعة االشــتياق‪ ،‬والوه ْم‪،‬‬
‫القدرة على الكالم‪ ،‬وتصف ُمعاناتها من عذاب الفراق‪ ،‬ويصف لنا اليأس بحرفي ّة لُغوي َّة كبيرة‪.‬‬
‫والبــاب هــو المنطقة الفاصلة بين البيت وما يم ِّثله من أمان‪ ،‬وبين العا َلم الخارجي وما فيه‬
‫من عدم الطمأنينة‪.‬‬
‫األغنية الثانية «إسوارة العروس» لجوزيف حرب هي عبارة عن نظري َّة في الوطني َّة؛ فعندما كتب‬
‫جوزيف حرب هذه القصيدة كانت ُروحه ذائب ًة في تراب الجنوب اللّبناني‪ .‬وتحتوي هذه األغنية على‬
‫أكبــر َقدْر من القدســي َّة للوطــن‪ ،‬عاد الجنوب إلى حضن الوطن‪ ،‬وبقيت األغنية تح ِّلق في ســماء‬
‫لبنان وقلوب شعبه‪.‬‬
‫األغنيــة الثالثــة فــي األلبــوم هــي «بليل وشــتي»‪ ،‬حيث يســتمرّ فيلمــون وهبي بتعبيــد طريق‬
‫الموسيقى بالورود لتسير عليها فيروز‪ ،‬فيما يصف جوزيف حرب أكثر نقطة يصل إليها األحب ّة في‬
‫دمها لنا جوزيف حرب في‬
‫ــر المحب َّة‪ .‬جمال هذه األغنية الخالدة يفصل فيروز عن ماضيها‪ ،‬ويق ِّ‬
‫س ِّ‬‫ِ‬
‫إطار جديد لم نعتد ْ عليه‪ .‬وبأغنية «أسامينا» األخيرة في هذا األلبوم يصف لنا ُمعاناة األهل في‬
‫اختيار أسامينا‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫المخفي للمرء‪ ،‬والســي َّما في حالة انكســار‬ ‫شــعره ُ‬
‫بقدرة كبيرة على وصف الشــعور‬ ‫فقد امتاز ِ‬
‫ّ‬
‫الروح‪ ،‬حيث وصل إلى منطقة في النفس البشري َّة َعجز الرَّحابنة عن الوصول إليها‪ ،‬وهذا التحليل‬
‫ليــس تجريحــاً بالرحابنة‪ ،‬وإنَّما هو عبــارة عن وصف لحالة التطوُّر التي حدثت لفيروز نتيج َة غنائها‬
‫لشعر جوزيف حرب‪.‬‬
‫ِ‬

‫وتُعد ُّ أغنية « ِب َلي ْل وشــتي»‪ ،‬انحرافاً كبيراً في ِّ‬


‫فن الســي ّدة الخالدة فيروز‪ ،‬والسي َّما أنَّها جاءت بعد‬

‫العواصف العنيفة التي َضربت َصرح فيروز اإلنساني والفنّي‪ ،‬وعملت على س ِّ‬
‫د جزءٍ من الفراغ الذي‬
‫ن ديني َّة‪ ،‬هي‪« :‬هلّلو هلّلويا»‪« ،‬كنَّا نزي ّن شجرة صغيرة»‪،‬‬
‫خمس أغا ٍ‬
‫َ‬ ‫خلَّفته تلك العواصف‪ .‬وقد َّم لها‬
‫«عيد الدني»‪« ،‬ملوك المجوس»‪« ،‬روح زورهن ببيتهن»‪ ،‬وهذا األغاني تُحاكي فرح الوالدة‪.‬‬
‫شــعره كان صغيراً جدّاً‪ ،‬وأغلبه حوار مع‬ ‫َّ‬
‫ولعل الح ِّيز المكاني الذي اســتخدمه جوزيف حرب في ِ‬
‫ن في غرفة صغيرة‪ ،‬لكن على الرّغم من صغر هذا المكان َّ‬
‫إاَّل أنَّه َص َه َر فيه جباالً‬ ‫الذات‪ ،‬أو حوار ثا ٍ‬
‫من المشــاعر اإلنســانية وقد َّمها لنا عبر صوت فيروز بحفنة من األحرف؛ فقد كان يرسم األنين‪،‬‬
‫بأحرف مبلَّلة بعطر الياسمين تمرُّ‬
‫ٍ‬ ‫والشــوق‪ ،‬واالنكســار‪ ،‬والرحيل‪ ،‬والغياب‪ ،‬والنسيان‪ ،‬واللّقاء‪،‬‬
‫سماوي هو صوت فيروز‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫لنا عبر أثير ٍ‬
‫لقــد تحــوَّل جوزيف حرب فــي مرحلة من المراحل إلى مايكل أنجلو‪ ،‬فقــام بتعديل صورة فيروز‬
‫دمها لنا كفتاة بريئة وطاهرة تبحث‬
‫المتكررة لها‪ ،‬ليق ِّ‬
‫ِّ‬ ‫المرسومة في دفاتر أراوحنا‪ ،‬تلك الصورة‬
‫عن الطمأنينة والســام الداخلي‪ .‬لقد قد َّم لنا فيروز اإلنســانة‪ ،‬تلك اإلنســانة التي لها المقدرة‬
‫المخلَّدين‪.‬‬
‫ُ‬ ‫على أن تكون من‬
‫ــر‬
‫س َ‬ ‫ــك َب ُه في روحها‪ ،‬و َك َ‬
‫س َ‬ ‫ومجد َ‬
‫وجوزيف حرب لم يعبث بصوت فيروز‪ ،‬بل ما يمتلكه من عظمة َ‬
‫الحاجب الزجاجي الذي كان يفصلها عنها‪ ،‬فأصبحت فيروز مع جوزيف حرب تختلف كثيراً عمَّا كانت‬
‫ن جوزيف حرب أعاد صقْل هوي َّة فيروز بصورة ٍ أكثر وضوحاً‪،‬‬
‫عليه في السابق‪ ،‬لهذا ي ُمكن القول إ َّ‬
‫وأكثر نقاءً‪ ،‬وحرَّرها من قيود الماضي؛ بكلمة بسيطة أعاد لها إنساني ّتها وتألُّقَ ها وسما بروحها‬
‫ل يضيء الحبّ‬
‫للحب والحنان واألمل بمســتقب ٍ‬
‫ِّ‬ ‫نحــو فضــاء المعاني والمشــاعر الرَّفيعة التَّواقة‬
‫طريقه‪ ،‬وي ُشعل َجذوته العشق‪.‬‬
‫ن مجمــل مــا قد َّمه جوزيــف حرب لفيروز َأحدث انشــقاقاً في حجــاب الهيكل‪ ،‬ذلك‬
‫وأستشــعر أ َّ‬
‫الحجاب الذي كان يفصل الناس عن قدس األقداس‪ ،‬وهذه العملي َّة حدثت نتيج ًة لجمالي ّة شــعر‬
‫يوحد بين ذاتَي ْن‬
‫ِّ‬ ‫جوزيف حرب وتمي ّزه‪ ،‬فأصبحنا نعيش مع فيروز وبها ومعها‪ ،‬كأنّنا في حال ِة َوجْد ٍ‬

‫ومتَّحِ دتَي ْن ُروحاً‪ ،‬فكان عهداً جديداً‪.‬‬


‫سداً ُ‬
‫ُمنفصلتَي ْن َج َ‬

‫‪86‬‬
‫اسم فيروز‪ ،‬وهذا ٌّ‬
‫حق‬ ‫َ‬ ‫ُالز َم‬
‫ني ِ‬ ‫كل هذا التعاون نقول إنّه ال بد ّ السم الشاعر جوزيف حرب أ ْ‬
‫بعد ِّ‬
‫مشروع للشاعر‪ ،‬كأ ْ‬
‫ن نقول فيروز تغنِّي جوزيف حرب‪.‬‬
‫مهما كُتِب عن جمال ِ‬
‫شــعر جوزيف حرب الذي قد َّمه للســي ّدة فيروز‪ ،‬فلن نوفيه ح َّ‬
‫قه‪ ،‬فما قد َّمه‬
‫لها ي َُعد ُّ وثيق َة تمي ُّز ٍ لهذا الشاعر العظيم الحسّ اس‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫د‪ .‬سعد اللّه آغا القلعة*‬

‫ٍ‬
‫محاوالت خجولــة للتعبير عن المعاني‬ ‫العربي‬
‫ّ‬ ‫شــهدت المســرحي ّات الغنائي ّة األولــى في العا َلم‬
‫الئمي ْن‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫الموســيقي واإليقاع‬
‫ّ‬ ‫المقام‬
‫الواردة في نصوص أغانيها‪ ،‬من خالل محاولة اختيار َ‬
‫التونســي‪ ،‬في أعماله‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وبخاصة مع بيرم‬ ‫ن تطوُّر تلك النصوص‪،‬‬ ‫أو االهتمام بلهجة األداء؛ ولك ّ‬
‫ّ‬
‫خاصة‪.‬‬ ‫مع سي ّد درويش‪ ،‬بدأت تتطلَّب صياغ ًة لحني ّة‬
‫َأدرك ســي ّد درويش ضرورة أن تُع ِّبر ألحانه عن نصوص األغاني في مســرحي ّاته‪ ،‬فراح يطلب من‬
‫الاّلزمة في األداء للتعبير‬ ‫الممثّلين القديرين أن يقرأ له ّ‬
‫نص األغنية مع التموّجات الصوتي ّة ّ‬ ‫أحد ُ‬
‫عن المعنى‪ ،‬من تصاعد أو تخافض أو امتداد أو تخافت أو حزم أو ليونة‪ ،‬ثمّ َي َضع اللّحن‪.‬‬

‫حملت السينما‪ ،‬التي َأنهت المسرح الغنائي‪ ،‬نصوصاً ذات أبعاد ٍ درامي ّة أوضح‪ ،‬نظراً إلدماجها في‬
‫ِ‬
‫ُعبر اللّحن واألداء الغنائي والموسيقي عن المعاني‪،‬‬
‫نسيج أحداث الفيلم‪ ،‬حيث برزت ضرورة أن ي ِّ‬
‫ِ‬
‫وهو ما تجسّ ده عشرات األفالم السينمائي ّة الغنائي ّة‪ ،‬التي لحَّن الكبار أغانيها‪ ،‬بين ثالثيني ّات القرن‬
‫الماضي إلى ستّيني ّاته‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد بقيت النصوص تدور في َف َل ِ‬
‫ك معا ٍ‬
‫ن محد َّدة‪ ،‬من دون أن‬
‫نص األغنية الواحدة مواقف متناقضة متزامنة‪ ،‬تو ِّلد أبعاداً درامي ّة‪ّ ،‬‬
‫إاّل في ما ندر‪.‬‬ ‫يحمل ّ‬

‫األخوان رحباني‬

‫األخوي ْن رحباني نقل ًة نوعي ّة على مســتوى تشــاب ُك المعاني في األغاني‬


‫َ‬ ‫ُ‬
‫ومفــردات‬ ‫ُ‬
‫لغــة‬ ‫ح َّ‬
‫ققــت‬
‫وبخاصة في مســرحهما الغنائي؛ إذ َأفســحت في المجال لعواطف مع ّ‬
‫قدة‪ ،‬ولمواقف‬ ‫ّ‬ ‫وتنوُّعها‪،‬‬

‫*ناقد موسيقي من سوريا‬

‫‪90‬‬
‫نســيج نصوصهما‪ ،‬مــا تطلَّب تطوُّراً مقابال ً في أســلوب‬
‫ِ‬ ‫د مكانها في‬
‫متناقضــة ومتشــابكة‪ ،‬لتجــ َ‬
‫التعبير عن تلك الصورة الجديدة للمعاني‪ ،‬موسيقيّاً وتلحينيّاً‪.‬‬
‫لــم ُ‬
‫يكــن األخــوان رحبانــي بحاجة ٍ إلــى ُمم ِّثل لكــي يدلّهما على َمواطــن التعبير فــي األداء عن‬
‫ْع الن َّ ِ‬
‫ظم والتلحين‪ ،‬بحُســن إلقائهما‬ ‫كشــاعري ْن‪ ،‬وهي حالة اســتثنائي ّة في جم ِ‬
‫َ‬ ‫المعاني‪ ،‬إذ ُعرفا‪،‬‬
‫للشعر‪ ،‬وبالتالي قدرتهما على تمثُّل التموّجات اللّحني ّة ّ‬
‫الاّلزمة للتعبير‪.‬‬
‫ُ‬
‫دم هنــا‪ ،‬وفــي هذا الســياق‪ ،‬قراءتــي‪ ،‬وفق ما يســمح به المجال‪ ،‬ألســاليب التعبيــر اللّحني‬ ‫أقــ ِّ‬
‫عــن المعانــي‪ ،‬التي اتَّبعهــا األخوان رحباني‪ ،‬عبر تموُّجات اللّحن‪ ،‬وهي نموذج عن قراءة ٍ شــاملة‬
‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬وعند كبار الموسيقى العربي ّة اآلخرين‪،‬‬
‫َ‬ ‫ألساليب التعبير اللّحني عن المعاني عند‬
‫تؤطــر ذلك‪ ،‬لتكون‬
‫ِّ‬ ‫أعمــل عليهــا منــذ أكثر مــن ثالثين عاماً‪ ،‬علــى طريق تطوير نظريّــة ُمتكاملة‬
‫ل معارفهم في ميدان التلحين‪.‬‬ ‫بمتناول الملحّنين الباحثين عن صقْ ِ‬
‫ُ‬
‫اخترت من أجل هذه القراءة التحليلي ّة ثالثة أعمال غنائي ّة وهي‪:‬‬
‫ •مشهد راجح في بي ّاع الخواتم ‪ /‬ويتضمَّن حواراً بين شخصيّتَي ْن‪.‬‬
‫ّ‬
‫طــل الورد ع الشــب ّاك ‪ /‬وتتضمّن حــواراً بين الحبيب والــورد يؤد ّيه‬ ‫ •أغنيــة دقَّيــت‬
‫ٌ‬
‫صوت واحد‪.‬‬
‫ •مشهد َوي ْنُن في ناطورة المفاتيح ‪ /‬ويتضمّن بوحاً جماعيّاً وفرديّاً‬

‫ن أخرى (في قهوة ع المفرق – ليالي الشمال الحزينة ‪ -‬رجعت الشتوي ّة‬ ‫ُ‬
‫أعطيت أمثل ًة من أغا ٍ‬ ‫كما‬
‫– حب ّيتك بالصيف) لمزيد ٍ من اإليضاح‪.‬‬
‫الموجة اللّحني ّة‬ ‫َ‬
‫شكل َ‬ ‫معنى من المعاني الواردة في تلك األغاني‪،‬‬
‫ً‬
‫ّ‬
‫لكل‬ ‫والً بقائمة‪ ،‬تُعطي‬‫أبدأ أ ّ‬
‫المختارة‪ ،‬وهذا ُمهمّ ‪ ،‬ولكنّه ليس‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المقابلة‪ ،‬وتب ِّين كيف تكرَّر هذا الشكل في مجموعة األغاني‬
‫درامي واضح‪ ،‬فيمــا تتولَّد األبعاد ُ الدرامي ّة‪ ،‬وهو‬
‫ٍّ‬
‫ي ب ُعد ٍ‬
‫ن المعنــى الواحــد ال يو ِّلد أ ّ‬ ‫ّ‬
‫كل شــيء‪ ،‬أل ّ‬
‫َــرد ُ تالياً‪ ،‬من خالل تضــاد ّ المعاني ُ‬
‫المتالحق‪،‬‬ ‫مــا توضحــه جداول تحليــل األغاني ُ‬
‫المختارة‪ ،‬التي ت ِ‬
‫الموجات اللّحني ّة المقابلة‪ ،‬ومع تموُّج صوت فيروز ُ‬
‫المضمّخ بالتعبير‪ ،‬الذي‬ ‫ُ‬
‫المتزامِ ن مع تالحُق َ‬
‫واألخوي ْن رحباني‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُبــرز تلــك األبعاد الدرامي ّة‪ ،‬ما يكشــف أخيراً‪ ،‬فــرادة نِتاج هذا الثالثي‪ ،‬فيــروز‬
‫ي ِ‬
‫وأسباب استقراره في عقول الناس وأفئدتهم!‬
‫معنــى مختلفــاً َو َر َد في األغاني ُ‬
‫المختارة‪ ،‬و‪ 27‬شــكال ً لتمــوُّج الجُمل‬ ‫ً‬ ‫تُب ِّيــن القائمــة التاليــة ‪28‬‬
‫ُ‬
‫المقا ِبلة لتلك المعاني‪:‬‬ ‫اللّحني ّة‬
‫ ‪1.‬اإلحســاس بالوحــدة‪ :‬ي ُعبَّــر عنه بصدى الصوت ُ‬
‫المتالشــي‪ ،‬ونجده في صــدى صوت ريما في‬

‫‪91‬‬
‫مشــهد راجح‪ ،‬وهي تهرع إلعالم خالها بقدوم راجح‪ ،‬وفي صدى صوت زاد الخير وهي تصيح‬
‫«وي ْنُــن» فــي تعبير ٍ عن افتقادها للناس وإحساســها بالوحدة‪ ،‬وكذلك تُعيــد نقرات البيانو‬
‫َ‬
‫نتشر باختفاء الناس‬ ‫في «وينُن» زاد الخير إلى أرض الواقع‪ ،‬وتذكرها‪ ،‬من خالل صداها ُ‬
‫الم ِ‬
‫وإحساســها بالوحــدة‪ ،‬كما نجده في تخفيض الطبقة الموســيقي ّة قبل بــدء زاد الخير بطر ِْح‬
‫صيحتها‪« :‬وي ْنُن»‪ ،‬في إيحاءٍ بأنّها أصبحت وحيدة‪.‬‬
‫حني‪ ،‬نجده في راجح‪ ،‬في األســئلة التي تطرحها ريما على راجح‬
‫ّ‬ ‫ ‪2.‬االســتنكار‪ :‬ي ُعب َّر عنه بتصاعد ٍ َل‬

‫ن اســمه راجح ونجده في تصا ُعد اللّحن في أغنية «في قهوة ع َ‬


‫المفرق» عند‬ ‫وقد فاجأها أ ّ‬
‫ّ‬
‫عشــاق اتنَين زغار (هناك إلماح إلى شــيءٍ من‬ ‫كلمــة جيــت لقيــت‪ ،‬ويتصاعد أكثر عند كلمة‬
‫ّ‬
‫العشــاق الصغار)‬ ‫الغيــرة فــي تصا ُعد اللّحن على الرّغــم من أ ّ‬
‫ن أداء فيروز فيه تعاطف مع‬
‫وصوالً إلى ذروة ٍ لحني ّة اســتنكاري ّة عند‪ :‬قعدوا على‪ ،‬وفي حب َّيتك بالصيف‪ :‬تصا ُعد اســتنكاري‬
‫عند وتنطر ع الطريق‪ ،‬ألنّه لن يعود!‬

‫ ‪3.‬االستنكار الشديد‪ :‬صيحة نجدها عندما تُطلِق زاد الخير صيحتها االستنكاري ّة‪َ :‬‬
‫«وي ْنُن»‪ ،‬و«في‬
‫قهوة ع المفرق» في صيحة مع قفزة لحني ّة تعبيراً عن االســتنكار عند «يا ورق األصفر عم‬
‫نكبر»‪ ،‬مع التكرار للتأكيد على المعنى‪ ،‬وكذلك في صيحة رجعت الشتوي ّة عند البداية أيضاً‪.‬‬
‫ ‪4.‬اإلعجاب بالنَّفس‪ :‬نجده في حيوي ّة اللّحن مع بداية ظهور المختار ُ‬
‫المعجب بنفسه الذي ي ُعِ د ّ‬
‫نفسه لكذبة ٍ جديدة عن راجح‪.‬‬
‫درامي إلى جوٍّ ُمختلف‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ ‪5.‬االنتقال من جوٍّ‬
‫رســل إلى الموقَّــع‪ ،‬ونجده في راجح‬ ‫ •التعبيــر بتغيُّــر اإليقــاع أو باالنتقال من الغناء ُ‬
‫الم َ‬
‫عندمــا يبدأ اإليقاع عند تغي ُّر األجواء من األجواء الدرامي ّة إلى األجواء الفولكلوري ّة التي‬
‫فيها المختار‪ ،‬وتغي ُّره عند إعجاب ريما الخفي براجح‪ ،‬وفي دقّيت ّ‬
‫طل الورد ع الشب ّاك في‬ ‫ّ‬
‫بدئه عند تغي ُّر األجواء من المشهد الدرامي األوّل إلى الذكريات الجميلة‪.‬‬
‫ •التعبيــر بتغيُّــر المقام الموســيقي‪ :‬ونجده في االنتقال من مقــام النهاوند إلى مقام‬
‫الحجاز كار عندما تنطلق ريما إلعالم خالها المختار بقدوم راجح ‪ ،‬ثمّ في سيطرة األجواء‬
‫اللّحنيّــة للضيعة مــع ظهور المختار بعد أجواء ْ‬
‫اضطراب ريمــا الدرامي ّة‪ ،‬مع الدخول في‬
‫مقام العجم الذي يعكس ثقة المختار بنفســه‪ ،‬ثمّ العودة إلى الحجاز كار عند تأكيدها‬
‫آني عــن تذكُّر حيرتها في ذلــك الوقت‪ ،‬وفي متابعــة خالها على‬
‫قــدوم راجــح فــي تعبير ٍ ّ‬

‫‪92‬‬
‫المقام ذاته في تأكيد على بدء اســتيعابه لألمر‪ ،‬ثمّ في انتقال الخال إلى مقام البي ّات‬
‫ن لوهلة أنّه يحلم‪ ،‬ثمّ في متابعة ريما على المقام ذاته (الحلم) وهي تتحد ّث عن‬
‫إذ يظ ّ‬
‫الخفي براجح‪ ،‬ثمّ في االنتقال إلى مقام الهزام الذي تقع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النص بإعجابها‬ ‫راجح إذ يشي‬
‫درجة اســتقراره على درجة ٍ صوتي ّة تعتمد أرباع األصوات (مي نصف بيمول) وهي ليست‬
‫ّ‬
‫الحل وتأجيل‬ ‫ُعبر عن عدم وضوح‬
‫من األصوات األساســي ّة‪ ،‬بما يضعف وضوحها‪ ،‬وهذا ي ِّ‬
‫مقام النهاوند إلى‬
‫ّ‬ ‫ُمعا َلجــة الموضــوع‪ .‬كما نجده في دقّيت ّ‬
‫طل الــورد في التحوُّل من‬
‫البيات العاطفي عند تذكُّر الذكريات الجميلة‪ ،‬وفي «وي ْنُن» عند االنتقال من لحن النساء‬
‫الذي جاء في انتقاالت صوتي ّة من دون وضوح المقام إلى لحن الرجال على مقام الكرد‬
‫ُ‬
‫التماســك‪ ،‬فالدخول في مقام الحجاز كار للمشــهد الدرامي لزاد‬ ‫الواضح الذي يعكس‬
‫الخير الحافل باالستنكار واأللم المكبوت‪.‬‬
‫ •التعبير موســيقيّاً‪ :‬تخفيض الطبقة الموســيقي ّة نجده في «وينُن» لالنتقال من مشــهد‬
‫األهالي إلى مشهد زاد الخير وإلبراز هبوط معنوي ّاتها وقد أضحت وحيدة‪.‬‬
‫معنى ُمحد َّد‪ :‬من خالل تأكيد إيقــاع اللّفظ في األداء الصوتي ونجده في راجح‬
‫ً‬ ‫ ‪6.‬التأكيــد علــى‬
‫عنــد‪ :‬راجــح ناطر وما تال ذلــك للتأكيد على ضرورة عقد اللّقاء‪ ،‬وعند المختار في تأكيد إيقاع‬
‫مة زَ ل ْ ِ‬
‫مة‪ ،‬لتأكيد معنى الحيرة واالرتباك‪،‬‬ ‫الكل ْ ِ‬ ‫ِك َبر هال ْ ِكذبة ْ‬
‫و ِبتْصير ِ‬ ‫اللّفظ عند‪ْ :‬‬
‫م ِنز ْ َرع كِ ذ ِبة بْت ْ‬

‫وفي و»ي ْنُن» لتأكيد معنى السؤال‪ ،‬كما نجده في تكرار «وي ْن صواتن وين وجوهن َوينن»‪،‬‬
‫وفي تكرار «عم نكبر عم نكبر» في ليالي الشمال الحزينة‪.‬‬
‫ّ‬
‫طل الورد ع الشب ّاك»‪،‬‬ ‫حني عند «وحدنا َرحْ نبكي»‪ ،‬في «دقّيت‬ ‫ض َل‬ ‫ُ‬
‫بتخاف ٍ‬ ‫ ‪7.‬التحسُّ ر‪ :‬ي ُعب َّر عنه‬
‫ّ‬
‫و كذلــك فــي «وينن»‪ ،‬عندما تُطلِــق زاد الخير صوتها المكتوم ُ‬
‫المتخافض في حســرة ٍ على‬
‫ّ‬
‫طل الورد ع الشــب ّاك» عند ســرقوا منّا‬ ‫ُ‬
‫تخافض اللّحن في أغنية «دقَّيت‬ ‫غياب األهالي‪ ،‬ثمّ‬
‫المشــوار في تحسُّ ــر ٍ واضح‪ ،‬وفي تخافضه عند‪« :‬صاروا دهب النســيان» في تحسُّ ــر ٍ واضح‪،‬‬
‫كررها في ختام المقطع ليتخافض اللّحن في‬
‫وكذلك في «ليالي الشــتاء الحزينة»‪ ،‬عندما ت ُ ِّ‬
‫تحسُّ ــر‪ ،‬وكذلك عندما تُكرّر عبارة «رجعت الشــتوي ّة» في تحسُّ ــر واضح‪ ،‬وفي تخافض اللّحن‬
‫كسقوط أوراق الشجر اليابسة عند «وتدبل بالشتي» في «حب َّيْتَك بالصيف»‪.‬‬
‫لحني نجده في راجح عند ترد ُّد ريما في قبول المعلومات التي يعطيها راجح‪،‬‬ ‫ــض‬ ‫ُ‬
‫تخاف ٌ‬ ‫ ‪8.‬التــرد ُّد‪:‬‬
‫ّ‬
‫طل الورد»‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تخافض اللّحن للتعبير عن الترد ُّد عند «تلب َّك ما عاد يحكي» في «دقّيت ّ‬ ‫وكذلك في‬

‫‪93‬‬
‫ ‪9.‬الضياع‪ :‬ونجد التعبير عنه في توظيف الموسيقى لحساس مقام الحجاز كار ليزيد من عنصر‬
‫ن األهالي غــادروا المدينة‪ ،‬وفي توقُّف ريما الصوتي‬
‫الضيــاع عند زاد الخير وهي تكتشــف أ ّ‬
‫تداول على مستوى الكلمة الواحدة عند ندائها خالها في مشهد راجح (يا ‪ -‬خا ‪ -‬لي)؛‬
‫َ‬ ‫غير ُ‬
‫الم‬
‫بنــي علــى صوتَي ْن موســيقي َّي ْن ُمتتال َييْــن باتّجاه الهبوط مع توقُّــف عند الصوت‬
‫ّ‬ ‫فنداؤهــا َم‬
‫األخفض وهو حساس مقام الحجاز كار‪ ،‬عند (لي) للتعبير عن الضياع‪.‬‬
‫ ‪10.‬النداء‪ :‬قفزة لحني ّة متصاعدة نجدها في بداية «ليالي الشمال الحزينة»‪.‬‬
‫عد شــخصاً‬
‫ن راجح لم ي ُ‬ ‫ٍ‬
‫ّهات ُمتصاعدة بعد أن يدرك أ ّ‬ ‫ ‪11.‬النــدم‪ :‬ونجــده في إطالق ُ‬
‫المختار تأو‬
‫افتراضيّاً اختلقه هو‪.‬‬
‫ ‪12.‬اختــاف مســتوى األهميّــة‪ :‬نجده عندمــا ينهي المختــار لحنه على الدرجة الخامســة لمقام‬
‫الهــزام‪ ،‬التــي تتّخذ في المقامــات األهمي ّة الثانية بعد أهمي ّة درجة االســتقرار‪ ،‬فيما تُنهي‬
‫«األخوي ْن رحباني» لختام المختار األهمي ّة الثانية‪ ،‬أل ّ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ريما لحنَها على استقراره‪ ،‬وقد اختار‬
‫المختار استجاب لرأي فيروز ولم ُ‬
‫يكن الرأي بالتأجيل له أصال ً‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بانتقاالت‬ ‫ ‪13.‬اقتنــاع‪ :‬نجــده في تحوُّل النســاء‪ ،‬في مشــه ِد «وينُن» من أداء لحنه ّ‬
‫ن الــذي أتى‬
‫المعبر عن‬
‫ِّ‬ ‫ْ‬
‫االضطــراب‪ ،‬إلــى االنضمام إلــى الرجال‪ ،‬في تكــرار لحنهــم‬ ‫صوتيّــة معبّــرة عــن‬
‫ُ‬
‫بالمغا َدرة‪.‬‬ ‫التماسك سوي ّة‪ ،‬للداللة على اقتناعهم بمقولة الرجال القاضية‬
‫المتزامِ ن‪ :‬نَجده في عام َلي ْن ُمتزامنَي ْن‪َ :‬كتْم صوت زاد الخير في «وينن» ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ ‪14.‬تضا ُرب العواطف‬
‫عندما تكتم صوتها ُ‬
‫المتخافِ ض للتعبير عن التضاد ّ بين حسرتها على غياب األهالي و قرارها‬
‫ن مع ضربات البيانــو القوي ّة! كما نجده فــي راجح في توقُّف‬ ‫ُ‬
‫تزام ٍ‬ ‫البقــاء فــي المدينة‪ ،‬فــي‬
‫الموســيقى دائماً باتّجاه ٍ تصاعدي‪ ،‬فيما ريما تتوقّف باتّجاه ٍ تخافضي بشــك ٍ‬
‫ل ُمتزامِ ٍ‬
‫ن أثناء‬
‫ندائها لخالها‪ ،‬وهذا التضاد ّ يزيد من أجواء الحيرة والخوف‪.‬‬
‫حني‪ ،‬إلكمال تالشي َصوت زاد الخير المكتوم‬ ‫ُ‬
‫التخافض الل ّ‬ ‫ُ‬
‫تخافت الموسيقى باتّجاه‬ ‫ ‪15.‬تالشي‪:‬‬
‫ّ‬
‫المعبر عن حسرتها العميقة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫المتخافِ ض في «وينن»‪،‬‬
‫تعبر عن توتّر ريما في ُمواجهة راجح‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ ‪16.‬توتُّر‪ :‬ضربات موسيقي ّة خاطفة‬
‫ّ‬
‫طل‬ ‫يطل من الشب ّاك في «دقَّي ْت‬
‫ّ‬ ‫حني للتعبير عن انحناء الورد وهو‬
‫ّ‬
‫ٌ‬
‫تخافض َل‬ ‫ ‪17.‬حركة انحناء‪:‬‬
‫وتخافض ُمماث ٌِل في أغنية «في قهوة ع المفرق» عند‪« :‬على مقاعدنا»‬
‫ٌ‬ ‫الورد ع الشــب ّاك»‪،‬‬
‫للتعبير عن حركة الجلوس إلى األسفل‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫ل صوتــي غير منســجم ونجده‬ ‫ْ‬
‫واالضطــراب والتوجُّــس واالرتبــاك‪ :‬ي ُعبَّــر عنــه بتتا ٍ‬ ‫ ‪18.‬الحيــرة‬

‫موســيقيّاً في راجح تعبيراً عن حيرة ريما وهي تتّجه إلعالم خالها بقدوم راجح‪ ،‬وكذلك في‬
‫«وي ْنُــن»‪ ،‬موســيقيّاً‪ ،‬للتعبير عن ْ‬
‫اضطراب األهالي وتوجُّســهم و ُ‬
‫هــم مجبرون على مغادرة‬
‫ٍ‬
‫درجات موســيقي ّة مختارة‪ ،‬ال تندرج‬ ‫ٍ‬
‫انتقاالت‪ ،‬على‬ ‫مدينتهــم‪ ،‬وكذلــك في غناء النســاء‪ ،‬في‬
‫ْ‬
‫واالضطراب بسبب‬ ‫موســيقي ُمحد َّد واضح‪ ،‬ت ُ ِّ‬
‫عبر فيها النســوة عن الحيرة‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫مقام‬ ‫في ســياق‬

‫مغــادرة مدينتهــنّ‪ ،‬وفي تغي ُّر ضغط اإليقاع اللّفظي في أداء ريما‪ ،‬الذي نجده في راجح عند‬

‫التعبير عن حيرة ريما إيقاعيّاً‪ ،‬بين إعجابها براجح وخوفها منه‪.‬‬

‫ ‪19.‬الخشية‪ :‬ارتعاد الصوت‪ ،‬ونجده في أغنية «وي ْنُن» عند كلمة المفاتيح للتعبير عن خشية زاد‬
‫ْل مسؤولي ّة المفاتيح‪.‬‬
‫الخير من حم ِ‬
‫ ‪20.‬الخــوف‪ :‬نجــد التعبير عن الخوف في رجفة صوت ريما‪ ،‬عندما ي ُعلمها راجح بأ ّ‬
‫ن الموعد قبل‬
‫موسم الخطبة‪ ،‬وفي اهتزاز اللّحن عند هربت بهاللّيل في «وي ْنُن»‪.‬‬

‫ ‪21.‬الريح‪ :‬اهتزاز الصوت ونجده في أغنية «وي ْنُن»‪ ،‬عند كلمة الريح تعبيراً عنها‪.‬‬

‫حني نجده في راجح في األســئلة التي تَطرحها ريما على راجح وقد فاجأها‬
‫ّ‬ ‫ ‪22.‬الســؤال‪ :‬تصا ُعد ٌ َل‬
‫ّ‬
‫طل الورد ع الشب ّاك»‪.‬‬ ‫ن اسمه راجح‪ ،‬وكذلك في‪ :‬وينها؟‪ ،‬وماتت؟‪ ،‬في «دقَّي ْت‬
‫أ ّ‬

‫ ‪23.‬الســيطرة‪ :‬نجدها في تغي ُّر المســتوى الصوتي في األداء في راجح بين المســتوى الصوتي‬
‫ألداء راجح في طبقة ٍ موســيقي ّة أعلى‪ ،‬وأداء ريما في طبقة ٍ موســيقي ّة َأخفض‪ ،‬للداللة على‬

‫سيطرته على المشهد‪.‬‬


‫ّ‬
‫طل الورد ع الشــب ّاك»‪ ،‬للتعبير عن طول‬ ‫ ‪24.‬طول المد ّة‪ :‬نجده في امتداد الصوت في «دقَّي ْت‬

‫«رجعت الشــتوي ّة» لت ُ ِّ‬


‫عبر عن طول فصل‬ ‫االنتظــار حتّــى يفتح البــاب‪ ،‬وفي اآله ُ‬
‫الممتد َّة في ِ‬
‫الم ّ‬
‫مل‪ ،‬وفي تكرار كلمة سنين للداللة على عدد السنين الذي مرّ‪ ،‬وفي المقابل ال‬ ‫الشتاء ُ‬

‫طل الورد ع الشب ّاك»‪ ،‬كما هو متوقَّع؛ إذ‬


‫ّ‬ ‫يمتد ّ اللّحن عند «فايق وشو طالت» في «دقَّي ْت‬

‫ن الحكاية لم تأخذ وقتاً‪ :‬قالت حلوة أنا وخلصت الحكاية!‬ ‫ّ‬


‫النص يوحي بأ ّ‬ ‫إ ّ‬
‫ن‬

‫ ‪25.‬قوّة الشخصي ّة‪ :‬نجدها في اللّهجة القوي ّة عند راجح عندما يقول‪ :‬قولي للمختار وما تال ذلك‪،‬‬

‫جرم التي اخترعها المختار‪.‬‬ ‫ُ‬


‫الم ِ‬ ‫ما يؤ ِّكد لريما قوّة شخصي ّة‬

‫اآلني في‬
‫ّ‬ ‫آني في اللّحن‪ ،‬ونجده موسيقيّاً في تموُّج لحن المقد ّمة‬
‫ّ‬ ‫و ٌ‬
‫ج‬ ‫ ‪26.‬كثافة العواطف‪ :‬تم ُّ‬

‫‪95‬‬
‫ّ‬
‫طل الورد ع الشــب ّاك»‪ ،‬للتعبير عن كثافة العواطف في ذهن الحبيب‪ ،‬وهو يقترب‬ ‫«دقَّي ْت‬

‫اآلني للتعبير عن كثافة العواطف‬


‫ّ‬ ‫من بيت الحبيبة الجميلة‪ ،‬وفي تموُّج لحن كلمة الحلواية‬

‫أمام جمال الحبيبة‪ ،‬وفي تكرار عبارة حلوة الحلوين للتعبير عن مدى ارتباط الورد بالحبيبة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ ‪27.‬اللهفــة‪ :‬ضربــات البيانــو فــي مقد ّمة «دقيت طل الورد ع الشــب ّاك» ت ُ ِّ‬
‫عبر عــن نبضات قلب‬

‫الحبيب وهو يتلهَّف للقاء الحبيبة‪.‬‬

‫ن هذا‬ ‫ُ‬
‫وتخافض اللّحن في مشــهد راجح أثنــاء محاولة ريما اســتيعاب أ ّ‬ ‫ ‪28.‬المفاجــأة‪ :‬تصا ُعــد‬
‫الشــخص الغريب اســمه راجــح‪ ،‬ثمّ انهيار اللحــن للتعبير عن المفاجأة‪ ،‬عندما تكتشــف أ ّ‬
‫ن‬

‫جو استنكاري‪ ،‬وكذلك‬


‫هناك دالئل على صدقه‪ ،‬ثمّ قفزة لحني ّة صاعدة للتعبير عن سؤال في ٍّ‬
‫ّ‬
‫طل الورد ع الشب ّاك» في قفزة ٍ لحني ّة صاعدة عند السؤال‪ :‬ماتت؟!‬ ‫في «دقّيت‬

‫المختارة‪ ،‬الذي ي ُب ِّين تشاب ُك المعاني والموجات اللّحني ّة‬


‫لنَعرض اآلن للتحليل التفصيلي لألغاني ُ‬

‫ُ‬
‫المقا ِبلة لتوليد األبعاد الدرامي ّة‪.‬‬

‫متكرر فــي أغنية «في قهوة ع‬


‫ِّ‬ ‫النص الرحباني للّحن‬
‫ّ‬ ‫َــرد ُ فــي التحليــل حالتان ُمعاكســتان‪ ،‬إذ إ ّ‬
‫ن‬ ‫ت ِ‬
‫يؤمن توافق المعاني فيه مع َموجات اللَّحن التي سبق أن وُضع لمدخل‬
‫ِّ‬ ‫المفرق»‪ ،‬استطاع أن‬

‫«وي ْنُن»‪ ،‬عندما يتكرّر اللّحن على ٍّ‬


‫نص جديد!‬ ‫األغنية‪ ،‬وكذلك في َ‬
‫ُ‬
‫المتزامِ ن لأللحان‪.‬‬ ‫ي َّ‬
‫ُفضل أن تتمّ القراءة مع االستماع‬

‫والً‪ :‬مشهد راجح في بي ّاعة الخواتم‬


‫أ ّ‬

‫ُبرر‬
‫راجح شــخصي ّة وهمي ّة شــرّيرة اخترعها المختار «نصري شمس الد ّين» خال «ريما» (فيروز) لي ِّ‬
‫ســلطته علــى األهالــي‪ ،‬نظراً ألنّه يحميهــم منه‪ .‬ي ُب ِّين مشــهد لقاء ريما (فيروز) بشــخص يد ّعي‬

‫أنّــه «راجح» (جوزيــف عازار) وارتياعها‪ ،‬ثمّ إبالغها خالها «المختار» (نصري شــمس الد ّين) بذلك‪،‬‬

‫المستوى الرفيع الذي ارتقى إليه التعبير الدرامي في المسرح الرحباني‪ ،‬في تعبيره عن تناقض‬

‫المواقــف وتضاد ّهــا‪ ،‬ســواء من خــال االنتقال من الحداثة الموســيقي ّة إلــى الفولكلور‪ ،‬ومن‬

‫المرســلة إلــى اإليقاعي ّة‪ ،‬أم عبر توظيف تباي ُنات األصــوات والمقامات وحتّى اإليقاعات‬
‫األلحان ُ‬
‫ُ‬
‫التناقضات‪.‬‬ ‫اللّفظي ّة والموسيقي ّة‪ ،‬إلبراز تلك‬
‫ُ‬
‫المختلفة‬ ‫ٍّ‬
‫لكل منها أجواؤه التعبيري ّة‬ ‫أتى المشهد في سبعة مشاهد تفصيلي ّة‪،‬‬

‫‪96‬‬
‫المشهد األوّل‪:‬‬

‫تنطلــق الموســيقى في لح ٍ‬
‫ن يوحــي بأجواء‬ ‫الغريب‪َ :‬مسا الخَــيْـر يا َص ِبــي ّة‬
‫الترقُّــب‪ ،‬ثــمّ يبدأ حوار بيــن راجح وريما في‬
‫مســتو َيي ْن صوتي َّيْــن علــى مقــام النهاوند‪.‬‬ ‫ريما‪َ :‬مسا الْخَـيْـر‪ ..‬شــو بتْـريْـد؟‬
‫راجــح ي ُعلــم ريمــا برغبتــه بلقــاء المختــار‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫متحد ّثــاً‬ ‫قاصد المِ خْتار‬
‫ِ‬ ‫الغريب‪:‬‬
‫بصــوت واثق في طبقة موســيقي ّة‬
‫أعلــى مــن طبقــة ريمــا‪ ،‬بمــا يوحــي بأنّهــا‬
‫ريما‪ :‬وْشو َبــد َّك مِ نُّـو؟‬
‫ســتكون فــي موقف ضعيــف أمامــه‪ ،‬فيما‬
‫ّ‬
‫لــكل ســؤال أو جــواب‬ ‫ت ُ ِّ‬
‫مهــد الموســيقى‬ ‫ع َعنُّو خْبار‬
‫الغريب‪ :‬سامِ ْ‬
‫بضربات خاطفة ت ُ ِّ‬
‫عبر عن توتُّر ريما‪ ،‬مع تطوُّر‬ ‫ٍ‬
‫إدراكها لصعوبة الموقف‪.‬‬ ‫ك ت قِلُّو؟‬
‫ريما‪ :‬وشو إسْ َم ْ‬

‫ثمّ تأتي المفاجأة عندما ي ُعلن راجح اســمه‪،‬‬ ‫الغريب‪ :‬إسْ مي راجِ حْ‬
‫وتأتــي عنــد ريمــا جملة من االستفســارات‬
‫ُ‬
‫والمحاكمــات العقليّــة‪ ،‬تتصاعــد فيهــا‬ ‫ريما‪ :‬شو؟؟‬
‫ّ‬
‫الجمــل اللحنيّــة في جميع مواقع الســؤال‬
‫ٍ‬ ‫الغريب‪ :‬إسْ مي راجِ حْ‬
‫معلومات غير منطقي ّة‬ ‫واالســتنكار‪ ،‬بســبب‬
‫ّ‬
‫بالنسبة إليها‪ ،‬فيما تأتي تلك الجمل اللحني ّة‬
‫ْق ْ‬
‫ول!!‬ ‫ريما‪ُ :‬م ْ‬
‫ش َمع ُ‬
‫ُمتخافضة خــال محاكمتها العقلي ّة وترد ّدها‬
‫في قبول المعلومات نحو استقرار المقام‪،‬‬
‫ول ي ُْكون الْواحِ د ْ إسْ مو راجِ حْ؟‬
‫ْق ْ‬ ‫الغريب‪ُ :‬م ْ‬
‫ش َمع ُ‬
‫ّ‬
‫بخاصة عند‬ ‫كأنّها تبحث عن اســتقرار ٍ ي ُريحها‪،‬‬
‫قولها‪ :‬راجح مش موجود!‬
‫ريما‪ :‬إسمك راجِ حْ؟؟‬

‫ن راجِ حْ مِ ْ‬
‫ش َموْجود ْ‬ ‫َل ِك ْ‬

‫َّ‬
‫هالضي َْعة َعجِ ي ْ ِبة‬ ‫راجح‪ :‬واللّه‬

‫هاي تَذكِ رتي ‪ ..‬إسْ مي راجِ حْ‬

‫المشهد الثاني‬

‫ثــمّ تأتي المفاجــأة إذ ي ُثبت راجح شــخصي ّته‬ ‫ِت راجِ حْ؟!‬
‫إن َ‬ ‫ريما‪ :‬راجِ حْ؟‬
‫ليتخافض اللّحن بشــك ٍ‬
‫ل انهيــاري عند ريما‪،‬‬
‫وينتهي بتصا ُعد ٍ استنكاري‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫المشهد الثالث‬

‫اللّهجــة القويّــة عنــد راجــح تؤ ِّكــد شــخصي ّة‬ ‫راجح‪ُ :‬قولي للْمخْتار‬
‫المجــرم التــي اخترعها المختــار‪ ،‬مع تمهيد ٍ‬ ‫ُ‬
‫ِط ِبة‬ ‫َّ‬
‫الشغلِة َق ِبل َمو ِ‬
‫ْسم الخ ْ‬ ‫م ُ‬
‫شوفو وْإنْهي‬ ‫الز ْ‬
‫موســيقي لــه ُمالئــم وضاغِ ــط‪ ،‬فيمــا َيبــرز‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫الخــوف عند ريما في رجفة ٍ عابرة في الصوت‬
‫ريما‪َ :‬ق ِبل َمو ِ‬
‫ْسم الخ ْ‬
‫ِط ِبة؟‬
‫عند جملة‪ :‬قبل موسم الخطبة؟‬
‫ودائمــاً لحن كلمة ناطر فــي إيقاعي ّة اللّفظ‬ ‫م ُ‬
‫شوفو‬ ‫الز ْ‬
‫راجح‪ :‬إيه‪ِ ..‬‬
‫واضحة للتأكيد على اللّقاء‪.‬‬
‫ساعة و َْوين؟‬
‫َ‬ ‫ريما‪ :‬أي ّا‬

‫راجح‪ :‬ساعِة ْ‬
‫ال ِبيري ْد‪َ ..‬وين ما ِبي ْريد‪..‬‬

‫ْ‬
‫احات ِ‬
‫ناطر ْ‪..‬‬ ‫ناطر ْ بالسَّ‬ ‫با ِلح ْ‬
‫ْراش ِ‬ ‫ِ‬

‫بالْلَّي ْل‪ ..‬بالنّهار‪ُ ..‬قولي للمختار‬

‫ناطر ْ‬
‫ِ‬ ‫ناطر ْ راجِ حْ‬
‫ِ‬ ‫راجِ حْ‬

‫المشهد الرّابع‬

‫هنا يأتي دور الموسيقى للتعبير عن الحيرة‪،‬‬ ‫ريما‪ :‬خالِي‪ ...‬يا خالِي‪...‬‬
‫ٍ‬
‫أصوات موســيقي ّة من أصل‬ ‫ٍ‬
‫قفزات على‬ ‫في‬
‫المقام حيث تتحوَّل الموســيقى إلى مقام‬
‫يعبر‬
‫ِّ‬ ‫ل غير ُمنسجم‬ ‫الحجاز كار ولكن في تتا ٍ‬
‫عــن الحيــرة‪ ،‬وحتّى عندما تُنــادي ريما خالها‬
‫بنــي علــى صوتَيْــن موســيقي َّي ْن‬
‫ّ‬ ‫فنداؤهــا َم‬
‫متتال َييْــن باتّجــاه الهبــوط مــع توقُّــف عند‬
‫الصوت األخفض وهو حساس مقام الحجاز‬
‫ع غير ُمتداول الســتقرار الغناء‬
‫كار في موق ٍ‬
‫وتوقّفــه‪ ،‬مع اختالف جوهري‪ ..‬الموســيقى‬
‫تتوقّــف دائمــاً باتّجــاه ٍ تصاعــدي‪ ،‬فيما ريما‬
‫ُ‬
‫تخافضي‪ ،‬وهــذا التضاد ّ يزيد‬ ‫تتوقّف باتّجــاه ٍ‬
‫من أجواء الحيرة والخوف‪ .‬أؤكّد على الصدى‬
‫التعبيــري الــذي يحيــط بنــداء ريمــا لخالها‪،‬‬
‫ُعبر عن إحساسها بالوحدة والخوف‪ ،‬وكأ ّ‬
‫ن‬ ‫في ِّ‬
‫الضيعة اختفت من حولها‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫المشهد الخامس‬

‫تتحــوّل األلحــان هنــا إلــى أجــواء شــرقي ّة‬ ‫إنُّو ال ْ َلي ْلة ب ْهالسَّ ه َْرة‬ ‫المختار‪ :‬يا ريما عِنْدي فِ كْ َره‬
‫إيقاعي ّة بســبب دخول شــخصي ّة المختار في‬
‫المشــهد‪ .‬يلجــأ األخــوان رحبانــي هنــا إلــى‬ ‫ن راجِ حْ‬
‫شي َع ْ‬ ‫َخ ِّبر ْ ُ‬
‫ه ْ‬
‫ن ِ‬
‫أســلوب جديــد للتعبيــر الدرامــي‪ ،‬من خالل‬
‫إجا راجح‬ ‫ريما‪ :‬يا خالِي‬
‫توظيف المقامات الموسيقي ّة‪ ..‬البداية مع‬
‫ن حيوي‪ ،‬إذ‬ ‫المختــار ومقام العجم في لحــ ٍ‬
‫ْسهْال)‬
‫المختار‪( :‬أه ْال و َ‬
‫إنّه ال يزال معجباً بنفســه في استمراره في‬
‫الكــذب‪ .‬تُبلِغــه ريما بقدوم راجــح أ ّ‬
‫والً‪ ،‬على‬ ‫(شو عم تحكي؟؟)‬
‫مقــام العجــم ذاته‪ ،‬ثــمّ يتحــوّل اللّحن إلى‬
‫مقــام الحجــاز كار‪ ،‬الذي كان ســيطر عندما‬ ‫ريما‪ :‬إجا راجِ ح!‬
‫هرعــت إلبــاغ خالها‪ ،‬في تذكيــر مبدع بذلك‬
‫الموقــف‪ ،‬يأتــي ذلك عندما تؤكّــد له قدوم‬ ‫المختار‪ :‬ما أنا مْأ ِّل ْ‬
‫ف راجح!!‬
‫راجــح‪ ،‬ثــمّ يتابع هو فــي المقــام ذاته عند‬
‫و المفاجأة فــي داللة على بدء‬ ‫دخولــه في ج ّ‬
‫إجا وْس ْ‬
‫أل َعن َّ ْ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫دقْني ياخالي‬
‫ريما‪َ :‬ص ِّ‬
‫ّ‬
‫اســتيعابه لألمــر‪ ،‬ونالحــظ تغيُّــر اللحن إلى‬
‫و َْفر َْجاني تِذكِ ر ْتُو‬
‫لمحات صدامي ّة عند بدء استيعابه لألمر‪.‬‬

‫المختار‪ :‬وقْري ْتي ْلُو إسْ مو؟؟‬

‫ريما‪ :‬إسْ مو راجِ ح!‬

‫ورة َع تِذكِ ر ْتُو؟‬ ‫ُّ‬


‫والص َ‬ ‫المختار‪:‬‬

‫ريما‪ُ :‬ص ِ‬
‫ورة راجِ ح!‬

‫المختار‪َ :‬دخِيْلِي ْك ياخالي ُقوليلي ُم ْ‬


‫ش َمضبوط‬

‫في واحِ د ْ مِ نَّا ح ْكاي ّة‬

‫وواحِ د مان ُّ ْ‬
‫وش ح ْكاي ّة َق ْ‬
‫ولِك أنا ا ِلح ْكاي ّة‬

‫هوي مان ُّ ْ‬
‫وش الح ْكاي ّة؟!‬ ‫و ُ ِّ‬
‫ْ‬

‫ريما‪ :‬ما َبعْرف ياخالي‬

‫‪99‬‬
‫المشهد السادس‬

‫في ُمتابعة ٍ لتوظيف المقامات الموســيقي ّة‬ ‫المختار‪َ :‬ق ْ‬


‫ولِك َعمْ إح ْ َلمْ ِب َنوْمِ ي‬
‫في التعبير‪ ،‬يتحوَّل اللّحن إلى مقام البي ّات‪،‬‬
‫ن أنّه يحلم‪ ،‬مع‬
‫إذ يستعيد نفسه عندما يظ ّ‬ ‫ِش َلحْ كِ لْمِ ة‬
‫من ْ‬
‫َوال َّ كيف ْ‬
‫إكســاب أدائــه إيقاعيّــة لفظيّــة واضحة‪ ،‬قد‬
‫منِز ْ َرع كِ ذ ِبة بْتِكْ َبر هال ْ ِكذبة‬
‫ْ‬
‫نتســاءل عن أسبابها‪ .‬الجواب سيأتي الحقاً‪،‬‬
‫تُتابــع ريمــا على المقام ذاته‪ ،‬عند‪« :‬شــفته‬
‫الكلْمِ ة زَ لْمِ ة!‬
‫و ِبتْصير ِ‬
‫ْ‬
‫متــل الجايي مــن غني ّي بحريّــة»‪ ،‬حيث يوحي‬
‫ٌ‬
‫إبداع‬ ‫ّ‬
‫النص بـ إعجابها بشــخصي ّة راجح‪ ،‬وهذا‬ ‫ريما‪ :‬ما َبعْرف يا خالي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النص واللحن‪ ،‬لِما ســتؤول إليه‬ ‫ي في‬ ‫رؤيو ّ‬
‫األمــور‪ ،‬إذ إ ّ‬
‫ن راجــح ســيخطب ريمــا البنــه‬ ‫شفْتُو مِ تْل الجايي مِ ْ‬
‫ن غِ نِّي ّة َبح ْري ّة‬ ‫ريما‪ِ :‬‬
‫الحقاً في ســياق المســرحي ّة وستقبل‪ .‬ثمّ ‪،‬‬
‫وللتعبيــر عــن حيرة ريما بيــن إعجابها براجح‬ ‫شي كِ ذ ِبة‬ ‫مِ ْ‬
‫ن ِ‬
‫ّ‬
‫النص يتغي ّر عند‪:‬‬ ‫و‬
‫نج ّ‬ ‫ّ‬
‫بخاصة أ ّ‬ ‫وخوفها منه‪،‬‬
‫«من شــي كذبة ربيت بالغربة»‪ ،‬يتغي ّر ضغط‬ ‫شي خَب ْري ّة‬ ‫ِرب ْ ِيت بالْغِ ر ْ ِبة مِ ْ‬
‫ن ِ‬
‫إيقــاع اللّفظ في اللّحن الذي تؤد ّيه‪ ،‬ليتحوَّل‬
‫مجد ّداً بشك ٍ‬
‫ل ُمخالِف للسابق عند‪ :‬من شي‬
‫خبريّــة‪ ،‬وهنــا نفهم لمــاذا كانــت الضغوط‬
‫اإليقاعي ّة واضحة عند المختار‪ ،‬لقد كان ذلك‬
‫األخوي ْن على إعطاء‬
‫َ‬ ‫لإلثبات المســبق لقدرة‬
‫ل دقيــق‪ ،‬أمّــا عندمــا يتّصل‬
‫الضغــوط بشــك ٍ‬
‫األمر بالتعبير باإليقاع عن الحيرة‪ ،‬فال بد ّ من‬
‫تغييــر الضغــوط اإليقاعي ّة للتعبيــر عنها‪ ،‬في‬
‫أسلوبٍ مشــابه تماماً للتعبير الذي وجدناه‬
‫دي ْن الثاني والثالث‪،‬‬‫قبــل قليل‪ ،‬في المشــه َ‬
‫ولكنّه كان باألصوات الموســيقي ّة وتغي ّراتها‬
‫تلك المرّة‪..‬‬

‫‪100‬‬
‫المشهد السابع‬

‫يتحوّل اللّحن أخيراً إلى مقام الهزام ‪ ،‬الذي‬ ‫ولِك َفزّ م ِ‬


‫ْن الخَب ْري ّة؟‬ ‫المختار‪َ :‬ق ْ‬
‫تقع درجة استقراره على درجة صوتي ّة تعتمد‬
‫أربــاع األصوات ( مــي نصف بيمول ) ‪ ،‬وهي‬ ‫ريما‪ :‬ما َبعْرف يا خالي‬
‫ليســت من األصوات األساسي ّة‪ ،‬بما يضعف‬
‫ّ‬ ‫المختار‪ :‬كِ ي ْف‬
‫الحل‪ ،‬حيث‬ ‫وضوحها‪ ،‬ويعكس عــدم وضوح‬
‫ســيتوافقان على تأجيــل ُمعا َلجة الموضوع‪،‬‬
‫صارت ال ْ ِكذبة ِتح ِْكي‬
‫ِ‬ ‫ريما‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ّهــات متصاعدة من‬ ‫وهنــا ي ُصــدِر المختار تأو‬
‫عبراً عن‬
‫دون كلمــات‪ ،‬بينما ريمــا تتحد ّث‪ُ ،‬م ِّ‬ ‫المختار‪ :‬كِ ي ْف‬
‫النــدم على ما فعل‪ .‬تختم ريمــا اللّحن عند‬
‫درجة اســتقرار مقــام الهــزام‪ ،‬ألنّها صاحبة‬ ‫الكلْمِ ة زَ لْمِ ة‬
‫صارت ِ‬
‫ِ‬ ‫ريما‪:‬‬
‫الــرأي في التأجيل‪ ،‬وي ُنهي المختار لحنه على‬
‫الدرجة الخامســة‪ ،‬التــي تتّخذ في المقامات‬ ‫المختار‪ :‬كِ ي ْف‬
‫األهمي ّة الثانية بعد أهمي ّة درجة االســتقرار‪.‬‬
‫وقــد اختار األخــوان رحباني لختــام المختار‬ ‫ص هالرَّواي ّة‬ ‫ريما‪َ :‬بدْنا ن ْ َ‬
‫خ ِّل ْ‬

‫اســتجاب لرأي‬
‫َ‬ ‫ن المختار‬‫األهميّــة الثانية‪ ،‬أل ّ‬
‫ريما ولم ُ‬ ‫و َبال ما ن ْ َكفي الرَّواي ّة‬
‫سه َْرة ْ‬ ‫المختار‪ :‬فِ كْري نام ْ‬
‫و َبال َ‬
‫يكن الرأي بالتأجيل له أصال ً‪..‬‬

‫ريما‪ :‬ال‪..‬‬

‫م ِنح ْكي َلح َ‬


‫دا‬ ‫منِسْ َهر ما ْ‬
‫ْ‬ ‫ال ياخالي‪...‬‬

‫َبلْكي ب ُكْرا بْتِد َّبَّر ْ َلحاال َع ال ْ َهدا‬

‫المختار‪َ :‬ع ال ْ َهدا‪..‬‬

‫ريما‪َ :‬ع ال ْ َهدا‪..‬‬

‫ن ّ‬
‫جل الجهد التعبيــري كان على عاتق الســي ّدة فيروز‪ ،‬إذ إنّها جسَّ ــدت‪ ،‬بتعبيري ّة ٍ‬ ‫يجــدر التنويــه بــأ ّ‬
‫الفِ تة على مستوى التموُّج الصوتي والتمثيلي أيضاً‪ ،‬أغلب التحوُّالت التي طرأت على طول َمسار‬
‫المشهد‪ ،‬وقد كان هذا كلّه جديداً ّ‬
‫كل الجد ّة في الغناء العربي!‬

‫ّ‬
‫طل الورد ع الشب ّاك‬ ‫ثانياً‪ :‬دقَّيت‬
‫فــي العــام ‪ ،1972‬قد َّمت الســي ّدة فيروز‪ ،‬وضمن مســرحي ّة «ناس مــن ورق»‪ ،‬أغنية «دقّيت ّ‬
‫طل‬
‫األخوي ْن رحباني وكلمات ســعيد عقل‪ ،‬عن رواية «ماريا» للروائي‬
‫َ‬ ‫الورد ع الشــب ّاك»‪ ،‬من ألحان‬

‫‪101‬‬
‫الكولومبي جورج إيساك‪ ،‬حيث َأبرزت فيروز في أدائها للحوار بين الحبيب والورد‪ ،‬وفي االنتقال‬
‫ٍ‬
‫قدرات تعبيري ّة فريدة!‬ ‫ُ‬
‫المختلفة‪،‬‬ ‫اللّحظي بين األجواء اللّحني ّة‬

‫ّ‬
‫طل الورد ع الشب ّاك‬ ‫دقّيت‬

‫أتــت علــى مقــام النهاونــد الرومنســي‪.‬عب َّرت ضربات‬ ‫مقد ّمة موسيقي ّة‬
‫البيانــو عــن دقّــات القلب وهــو يتلهّف للقــاء الحبيبة‬
‫ورب ّمــا عن الدقّــات القادمة على البــاب‪ .‬التموُّج اآلني‬
‫فــي لحن المقد ّمة جاء للتعبير عن كثافة العواطف في‬
‫ذهن الحبيب وهو يقترب من َبيت الحبيبة الجميلة‬

‫المشهد األوّل‬

‫امتــداد اللّحن عند دقّيت للتعبيــر عن طول انتظار َمن‬ ‫دقّيت‪..‬‬


‫يفتح الباب‬

‫ّ‬
‫طل الورد ع الشب ّاك وكأنّما ينحني إليه إذ‬ ‫ُ‬
‫تخافض عند‬ ‫ّ‬
‫طل الورد عالشب ّاك‬
‫إنّه ي ُخاطبه كشخص‬

‫«وينها» للســؤال واســتنكار أنّها لم تفتح‬ ‫تصا ُعــد عند َ‬ ‫وينها؟‪ ..‬تلب َّك ما عاد يحكي‬
‫ُ‬
‫وتخافض اللّحن عند تلب َّك مــا عاد يحكي معب ّراً‬ ‫البــاب‪،‬‬
‫عن ترد ُّد الورد‬

‫تصا ُعد أعلى عند ماتت المفاجأة واستنكار الخبر‬ ‫ماتت؟ لشو تخب ّر؟‬

‫ُ‬
‫تخافض للتحسُّ ر عند وحدنا رح نبكي‬ ‫أنا واي ّاك‪ ..‬أنا واي ّاك وحدنا يا ورد رح نبكي‬

‫الذكريات الجميلة‬ ‫المشهد الثاني‬

‫يبــدأ اإليقــاع بعــد المشــهد األوّل القاتــم الــذي كان‬ ‫إنت وأنا يا ورد وحدنا بهونيك ليلة برد‬
‫ُمرســا ً مــن دون إيقاع‪ ،‬وذلــك للتعبير عــن الذكريات‬
‫الجميلة في المشهد الثاني‬

‫تموُّج اللّحن عند الحلواية للتعبير عن جمال الحبيبة‬ ‫حكيت لنا حكاية الحلوايه‬
‫والدخول في مقام البيات العاطفي عند فايق وشو طالت‬ ‫فايق وشو طالت‪ ..‬حكاية الحلواية‬
‫ّ‬
‫النص‬ ‫لــم يمتد ّ اللّحن عند طالت كما هو متوقّع‪ ،‬إذ إ ّ‬
‫ن‬ ‫قالت‪ :‬حلوة أنا‬
‫ن الحكاية لم تأخذ وقتاً‪ :‬قالت حلوة أنا وخلصت‬
‫يوحي بأ ّ‬ ‫خلصت الحكايه‬
‫الحكاية!‬

‫‪102‬‬
‫المشهد األخير‬

‫تكــرار كلمة ســنين مع تصا ُعد اللّحــن في ّ‬


‫كل مرّة‪ ،‬جاء‬ ‫ودقّيت عالشب ّاك بعد سنين‪ ..‬سنين‬
‫للتعبير عن توالي السنين وزيادة المسافة الزمني ّة‪ ،‬أمّا‬
‫كلمة ســنين األخيرة فســيمتد ّ لحنها للتعبير عن طول‬
‫المد ّة‪ ،‬والعدد الكبير للسنين‬

‫تصا ُعد اللّحن للسؤال واالستغراب‪ :‬بعدك هون‬ ‫شفته انفتح كيف شكل؟ بعدك هون؟‬

‫تكــرار أداء حلــوة الحلويــن لمــرّات للتأكيــد على مدى‬ ‫قال علّمتني حلوة الحلوين‬
‫ارتباط الورد بها وعلى أهمي ّة وصي ّتها‬

‫تصا ُعد اللحن عند الكون للتعبير عن ب ُعد َ‬


‫الكون واتساعه‬ ‫ن فلَّيت اترك عطر بهالكون‬
‫إ ْ‬

‫ثالثاً‪ :‬وي ْنُن‬

‫ُشارك من خاللها الرعي ّة‬


‫ِ‬ ‫في مسرحي ّة ناطورة المفاتيح (عام ‪ ،)1972‬يفرض الملك ضريب ًة جديدة‪ ،‬ي‬
‫والً على مشــهد ٍ وداعي حزين ومهيب‪ ،‬يســ ِّلم‬ ‫ُ‬
‫للمغا َدرة‪ .‬ندخل أ ّ‬ ‫في أمالكهم‪ ،‬ما يدفع الجميع‬
‫فيه أهالي المدينة مفاتيحهم لزاد الخير (فيروز) ثمّ ننتقل إلى صرختها‪ :‬وي ْنُن؟‬

‫وي ْنُن‬

‫ٍ‬
‫درجات موسيقي ّة‬ ‫يتمّ غناء النســاء في انتقاالت‪ ،‬على‬ ‫تغنّي النساء‬
‫ٍ‬
‫مقام موســيقي محد َّد‬ ‫ســياق‬
‫ِ‬ ‫مختــارة‪ ،‬ال تنــدرج في‬ ‫زاد الخيــر * انطــري البيــوت * وانطــري‬
‫ْ‬
‫االضطراب‪ ،‬بســبب‬ ‫واضــح‪ ،‬ت ُ ِّ‬
‫عبــر فيهــا النســوة عــن‬ ‫المفاتيح * للزمان التاني‬
‫ُ‬
‫المغادرة‬ ‫ُمغادرة بيوتهنّ‪ ،‬وتر ْك مفاتيحها قبل‬ ‫زاد الخيــر * إنتــي صرتــي * وحــدك صرتي *‬
‫ناطورة البيوت * ناطورة المفاتيح‬

‫َّ‬
‫المخصص للرجــال مختلف‪ ،‬إذ‬ ‫ن اللّحــن‬
‫فيمــا نجــد أ ّ‬ ‫لمّــا بيرســي مركــب اللّيــل * على ســطوح‬
‫موســيقي واضح‪ ،‬هــو مقام الكرد‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫مقام‬ ‫يأتــي على‬ ‫المدينة *‬
‫ُ‬
‫التماســك الممزوجة‬ ‫على درجة الســي‪ ،‬حامال ً مالمح‬ ‫وبياخدني ســفر اللّيل * انطريني انطريني *‬
‫باأللم والحنين‬ ‫ع باب المسافة انطريني‪ ..‬أنا رايح انطريني‬

‫‪103‬‬
‫كررين المقطع‬ ‫ليجتمــع الرجال مع النســاء أخيــراً‪ُ ،‬م ِّ‬ ‫لمّــا بيرســي مركــب اللّيــل * على ســطوح‬
‫الثانــي‪ ،‬واضح المالمح‪ ،‬في داللة علــى اقتناع الجميع‬ ‫المدينة *‬
‫بضرورة الرحيل‪ .‬أســلوب لحني ُمبدع فعال ً‪ ،‬في التعبير‬ ‫وبياخدني ســفر اللّيل * انطريني انطريني *‬
‫عن التباي ُن في المشاعر‪ ،‬بين النساء والرجال في لحظة‬ ‫ع باب المسافة انطريني‪ ..‬أنا رايح انطريني‬
‫ومغادرة المدينة‪ ،‬ثمّ االتّفاق على الرحيل‬
‫الفراق ُ‬

‫صدى من البيانو‪ ،‬على مقام الحجاز‬


‫ً‬ ‫ٌ‬
‫ضربات صادمة ذات‬ ‫بعد انتهاء هذا المشهد الرتيب الحزين‪ ،‬تأتي‬
‫كار على درجة الال‪ ،‬تُعلِن االنتقال إلى مشهد ٍ جديد‪ ،‬مع تخفيض الطبقة الموسيقي ّة بدرجة موسيقي ّة‬
‫ي تمهيد‪.‬‬‫كاملة‪ ،‬عن المشهد السابق‪ ،‬من دون أ ّ‬
‫ّ‬
‫لحن األهالي على درجة الاّل مــن البداية ‪ ،‬فال بد ّ إذاً من أنّه تخفيض مدروس‬
‫َ‬ ‫ولمّــا لــم َيضــع األخوان‬
‫للتعبير عن هبوط معنويات زاد الخير ‪ ،‬وقد أصبحت وحيدة حبيسة في المدينة الخالية!‬
‫تُعيــد ضربــات البيانــو زاد الخير إلى أرض الواقــع‪ ،‬وتُذ ِّكرها‪ ،‬من خالل صداها ُ‬
‫المنتشــر‪ ،‬بأنّها أصبحت‬
‫ن ‪ ،‬في صدامي ّة ٍ الفتة‪ ،‬على مقام الحجاز كار‪.‬‬
‫وحيدة‪ ،‬فتبدأ بالغناء في كلمة واحدة‪ :‬وين ْ‬

‫‪104‬‬
‫اللّحن األوّل‪ :‬المذهب‬

‫ب ُنيت هذه الكلمة إيقاعيّاً في نبضتي ْن قويّتَي ْن‪( ،‬إيقاع‬ ‫فيروز‪َ :‬وي ْنُن؟‬
‫ســتنكراً‬
‫ِ‬ ‫اللّفــظ) كمن يطرق باب الفضاء الســاكن‪ُ ،‬م‬ ‫ُ‬
‫هن َوي ْنن‬ ‫وين صواتن وين وجو ُ‬
‫لمغــادرة‬‫هــذا الواقــع الجديــد‪ ،‬إذ اضطــرّ األهالــي ُ‬ ‫ُ‬
‫صار في وادي بيني و َبي ْنن‬
‫معبراً عن شعورها بأنّها‬‫ِّ‬ ‫المدينة‪ ،‬ليترد َّد صدى صوتها‬ ‫َوي ْنُن‬
‫أصبحــت وحيدة‪ ،‬لتتكرَّر النبضــات القوي ّة التي أصبحت‬
‫ُمتالحقة‪ ،‬في تطوير ٍ الفت لصدامي ّة الدخول عند‪ :‬وي ْن‬
‫ن الوديان‬ ‫صواتُــن ويْــن وجو ُ‬
‫هــن َوي ْنُــن* لتســتنتج أ ّ‬
‫أصبحــت تفصلهــم عنها‪ :‬صــار في وادي َبينــي و َبي ْنُن‪،‬‬
‫ألــم غامــ ٌر‪ ،‬تكتمــه فــي حناياهــا‪ ،‬فتقي ّده‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ليجتاحهــا‬
‫مثلمــا قيَّــدت نفســها بقرارهــا البقاء فــي المدينة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ض ت ُ ِّ‬
‫عبر من خالله‬ ‫تخافــ ٍ‬ ‫فتُطلــق صوتَها المكتوم في‬
‫عــن التضاد ّ بين ألمها من جهــة‪ ،‬وقرارها بالبقاء في‬
‫المدينة حبيســة‪ ،‬تنطر مفاتيــح البيوت‪ ،‬ملخّصة بذلك‬
‫ومنه َية لها‪ ،‬مع رد ّ فعل من الفرقة‬‫الجملــة اللّحني ّة‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬
‫صوت هو حساس مقام الحجاز‬ ‫الموســيقي ّة‪ ،‬بإطالق‬
‫كار‪ ،‬وليــس درجــة اســتقراره‪ ،‬ليزيــد هذا مــن عنصر‬
‫الضياع‪ ،‬في مشاعر زاد الخير‪ ،‬حبيسة المدينة الخالية؛‬
‫يا له من تعبير!‬
‫ُ‬
‫يســتفيد األخوان رحباني من هذا األســلوب المبدع‪،‬‬
‫ُ‬
‫ــت للّحن‪ ،‬ي ِّ‬
‫ُمهــد لعود ِة ضربات‬ ‫تخاف ٍ‬ ‫توفير‬
‫ِ‬ ‫أيضــاً‪ ،‬في‬
‫البيانو الصادمة‪ ،‬التي تسمح لزاد الخير‪ ،‬بإطالق آهات‬
‫ُ‬
‫تخافــض اللّحن‪ ،‬في تعبير ٍ‬ ‫ن مع‬‫ل ُمتزام ٍ‬‫األلم‪ ،‬بشــك ٍ‬
‫واضح عن تضا ُرب العواطف!‬

‫‪105‬‬
‫اللّحن الثاني الذي سيتكرّر الحقاً‬

‫تُتا ِبــع خاليــا اللّحن اســتنادها إلى مقــام الحجاز كار‪،‬‬ ‫ركبوا عربي ّات الوقت * وهربوا بالنسيان‬
‫َي المفاتيح‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ونلحظ ببســاطة اهتزاز اللحن عنــد كلمت ْ‬ ‫تركوا ضحكات والدن * َمنسي ّة ع الحيطان‬
‫عبر عن خشيتها من هذه‬ ‫ُ‬
‫التي أصبحت في عهدتها‪ ،‬وت ِّ‬ ‫تركولــي المفاتيــح * تركــوا صــوت الريــح *‬
‫العهدة‪ ،‬والريح‪ ،‬تعبيراً عن مدلوالتها‪.‬‬
‫وراحوا ما تركوا عنوان!‬
‫َــي األلــم‬
‫تختتــم زاد الخيــر (فيــروز) بإطــاق نبضت ْ‬
‫واالستنكار‪ :‬وي ْنُنْ!‬ ‫تكرار المذهب‬

‫َوي ْنُن َوي ْنُن‬

‫هن َوي ْنُن‬


‫َوين صواتن وين وجو ُ‬

‫صار في وادي َبيني و َبي ْنُن‪..‬‬

‫آه َوي ْنُن‬

‫تكرار اللّحن الثاني‬


‫ّ‬
‫عشاق الطرقات افترقوا * ال حكي ال مواعيد‬
‫تكرر في‬ ‫النص الجديد يتالءم مع اللّحن ُ‬
‫الم ِّ‬ ‫ّ‬ ‫نُالحــظ أ ّ‬
‫ن‬
‫ّ‬
‫النــص األوّل (عند المفاتيــح‪ ،‬الريح)‪،‬‬ ‫اهتــزازه كما في‬
‫أنا وحدي صوت الشوارع * أنا طير القرميد‬
‫وذلــك عنــد اللّيــل والخَيل فــي «هربت بهــا الليل من‬
‫ّ‬
‫مربط هالخَيل» تعبيراً عن الخوف‪ ،‬كما تلفتني هنا أيضاً‬ ‫هربت بهاللّيل * من مربط هالخَيل *‬
‫عبارة‪ :‬طير القرميد‪ ،‬الذي يختصر في تصوير ٍ بديع معاني‬ ‫وأنا قلبي للحزن الوحيد‬
‫الوحدة‪ ،‬إذ إنّه الطير الذي ال يستطيع أن يبني ّ‬
‫عشه على‬
‫غصون األشــجار‪ ،‬فيبنيها على ألواح القرميد ُ‬
‫المقفرة!‬
‫ّ‬
‫الموشحات!‬ ‫النص وفق أسلوب‬‫ّ‬ ‫كما يلفتني بناء‬

‫رابعاً‪ :‬أمثلة من أغا ٍ‬


‫ن أخرى‬
‫في قهوة ع المفرق‬

‫يبــدأ اللّحــن بالتصا ُعــد عند كلمــة «جيــت» للتعبير عن‬ ‫في قهوة ع المفرق في موقدة وفي نار‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عشاق اتنَين زغار‬ ‫جيت لقيت فيها‬
‫«عشــاق اتنَي ْن زغار»‬ ‫الصدمــة‪ ،‬ويتصاعد أكثر عند كلمة‬
‫(هنــاك إلماح إلى شــيء من الغيرة فــي تصا ُعد اللّحن‬ ‫قعدوا على مقاعدنا سرقوا منّا المشوار‬
‫ن أداء فيروز‬ ‫ّ‬
‫العشــاق الصغار‪ ،‬علــى الرّغم مــن أ ّ‬ ‫مــن‬
‫ي ُبدي تعاطفاً معهم)‪ ،‬وصوالً إلى ذروة ٍ َلحني ّة استنكاري ّة‬
‫عنــد‪« :‬قعــدوا على»‪ ،‬ثــمّ تخافض لحني مباشــرة عند‪:‬‬
‫ُ‬
‫تخافض‬ ‫«مقاعدنــا»‪ ،‬للتعبيــر عــن حركة الجلوس‪ ،‬ثــمّ‬
‫اللّحن عند «سرقوا منّا المشوار» في تحسُّ ر ٍ واضح‬

‫‪106‬‬
‫صيحــة اللّحــن تأتي مع قفزة ٍ لحني ّة صاعــدة تعبيراً عن‬ ‫يا ورق األصفر عم نكبر عم نكبر‬
‫االســتنكار عند «يا ورق األصفر َعم نكبر»‪ ،‬مع التكرار‬ ‫الطرقات البيوت عم تكبر عم تكبر‬
‫للتأكيد على المعنى‪.‬‬

‫«كل صحابي كبروا وتغي َّر اللّي كان»‪ ،‬في‬‫ّ‬ ‫يتصاعد اللّحن عند‬ ‫كل صحابي كبروا واتغي َّر اللّي كان‬
‫ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ليتخافض اللحن في تحسُّ ر ٍ‬ ‫ذروة ٍ لحني ّة تحمل االســتنكار‪،‬‬ ‫صاروا العمر الماضي صاروا دهب النسيان‬
‫عند “صاروا العمر الماضي صاروا دهب النسيان”‪ .‬ونالحظ‬
‫المتكرر‪ ،‬اســتطاع‬
‫ِّ‬ ‫النــص الرحباني الجديد لهذا اللّحن‬
‫ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ن‬
‫توافق المعاني الجديدة فيه‪ ،‬مع موجات‬
‫َ‬ ‫مجد ّداً أن ِّ‬
‫يؤمن‬
‫اللّحن‪ ،‬التي سبق أن َوردت في لحن مدخل األغنية!‬

‫ليالي الشمال الحزينة‬

‫ليالي الشــمال الحزينة األولــى‪ :‬صيحة مع قفزة لحني ّة‬ ‫ليالــي الشــمال الحزينــة ضلّلــي اذكرينــي‬
‫صاعــدة للنداء‪ ،‬ثمّ تخافض اللّحن في الثانية للتحسُّ ــر‪،‬‬ ‫اذكريني‬
‫ُ‬
‫تخافض!‬ ‫ن العبارة ذاتها فيها تصا ُعد ثمّ‬
‫أي أ ّ‬
‫ليالي الشمال الحزينة‬ ‫علي حبيبي‬
‫ّ‬ ‫ويسأل‬

‫رجعت الشتوي ّة‬

‫البــدء فــي األصــوات الحاد ّة فــي صيحة وقفــزة لحني ّة‬ ‫ّ‬
‫ضل افتكر في ّي‬ ‫رجعت الشتوي ّة‬
‫م ّل‪ ،‬والحبيب‬ ‫وم ِ‬ ‫ٌ‬
‫طويل ُ‬ ‫ن الشتاء‬ ‫صاعدة لالستنكار‪ ،‬أل ّ‬ ‫رجعت الشتوي ّة‬
‫بعيد‪ ،‬وهكذا أتت هذه اآله طويلة في اللّحن ‪ /‬امتداد‬
‫الم ّ‬
‫مل‪.‬‬ ‫‪ /‬لي ُعب ّر عبرها الرحابنة عن طول فصل الشتاء ُ‬
‫ُ‬
‫تخافــض اللّحن للعبارة نفســها‪ ،‬للتحسُّ ــر عند‬ ‫نُالحــظ‬
‫تكرارها‪ ،‬مثلما َو َر َد في ليالي الشمال الحزينة‪.‬‬

‫حب َّيتك بالصيف‬

‫تصا ُعد استنكاري ألنّه لن يعود‪ ،‬ثمّ‬ ‫ويقلها انطريني وتنطر عالطريق‬
‫ُ‬
‫تخافض اللّحن للتحسُّ ر على ذبول أوراق الشجر اليابسة‬ ‫وتدبل بالشتي‬ ‫ويروح وينساها‬

‫يطورا أسلوباً متفرّداً في تشكيل َموجات األلحان ُ‬


‫المتالحِ قة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫نعم‪ ،‬لقد استطاع األخوان رحباني أن‬
‫ُ‬
‫والمتناقِضة في أغاني‬ ‫عبر بدقّة وأمانة عن المعاني ُ‬
‫المتشا ِبكة‬ ‫المو ِّلدة لألبعاد الدرامي ّة‪ ،‬بحيث ت ُ ِّ‬
‫جسد ذلك التمو َُّج المكثَّف في صورة ٍ آسرة‪.‬‬
‫السي ّدة فيروز‪ ،‬التي استطاعت بأدائها االستثنائي‪ ،‬أن ت ُ ِّ‬

‫‪107‬‬
‫د‪ .‬عصام الجودر*‬

‫عاصي وفيروز ومنصور‪ ..‬قمر ال يتكرّر‬


‫واألخوي ْن الرحباني َّي ْن باقية وراســخة‪ ،‬تتألَّق زهراً وحبّاً وقبوالً لدى جماهير‬
‫َ‬ ‫ال تزال تجربة فيروز‬
‫ِّ‬
‫ويؤثر فيه وي ُشــعل‬ ‫ن حملت كُ َّل ما يحيط باإلنســان‬
‫العربــي وأبعد‪ .‬أغا ٍ‬
‫ّ‬ ‫عريضــة مــن ُ‬
‫المجتمــع‬
‫مشــاعره‪ ،‬مــن مطر وريح وبرد وثلج وشــمس وصيف وصباح وقمر وليــل ونوم‪ ،‬عوامل بيئي ّة‬
‫حب وت ََعبٍ‬
‫ٍّ‬ ‫وأودعت في قلوبهم الكثير من المشــاعر الفي ّاضة من‬ ‫أثَّرت فيهم َ‬
‫وأثرت أغانيهم‪َ ،‬‬

‫ل واشــتياق‪ ،‬وأمكنــة يغمرها – أحيانــاً أو أكثر – الحســرة واالنتظــار مثل ُ‬


‫المدن‬ ‫وعتَــبٍ وزَ َعــ ٍ‬
‫َ‬
‫والض َيع والبحار وأيضاً ُ‬
‫الغرف أو «األوضة المنســي َّة»‬ ‫ِّ‬ ‫والجبــال – وإن كانــت بعيــدة – واألودية‬
‫التي لن تُنسى أو تغيب عن قصائدهم وألحانهم‪ ،‬حالما تسنّى لهم الكتابة وتأليف األلحان‪.‬‬

‫وأغاني الرحباني َّي ْن وفيروز قد برهنت صمودها في وجه نتاج الهواة من ُ‬


‫المشــتغلين في الغناء‬
‫وواســتنا في هزائمنا وانكســاراتنا‪ ،‬حفظاً لهوي ّة حضارتنا العربي ّة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫والمتاجرين فيه‪ ،‬وصبرت معنا‬
‫رافقتنا «بأي ّام الصيف وأي ّام الشــتي»‪ ،‬وفي اللّيل ومع‬ ‫وما تب ّ‬
‫قى من كرامتنا‪ .‬فهي – األغاني – َ‬

‫طلوع القمر‪ ،‬وفي الذاكرة والقلب والروح‪.‬‬


‫عاصــي ومنصــور وفيــروز ُ‬
‫هم حروف القمــر الثالثة‪ ،‬الــذي رافقهم في كثير مــن أغانيهم‪ ،‬وأنار‬
‫ّ‬
‫ينفك‬ ‫ٍ‬
‫وكلمات وجماالً‪َ .‬ظ َه َر في كثير ٍ من أغانيهم‪ ،‬وهو قمر قريب من روحنا‪ ،‬ال‬ ‫لياليهــم ألحانــاً‬

‫ّ‬
‫تخصص في التأليف الموسيقي من البحرين‬ ‫*مُ‬

‫‪108‬‬
‫ٍ‬
‫بلفيف من الغيوم‪ ،‬لكنّه ال يتركنا فهو وكما‬ ‫يغيــب عن حياتنــا حتّى يبزغ بنضارة ٍ ولمعا ٍ‬
‫ن وأحياناً‬
‫ّ‬
‫«كل شي بلبنان منحب ّو وغنّيناه ووصفناه‪،‬‬ ‫قيل «فالعم ُر قمر»(‪ .((1‬يقول عاصي في أحد اللّقاءات‬
‫شــوفي هالتــال قد ّامنــا‪ ،‬هيدي بيطلــع من وراها القمــر وبيبقى قريب كتير علينــا وهيك نحنا‬
‫والقمر جيران»(‪.((1‬‬

‫تقلّبات القمر‬

‫بدالل غيابه‪ ،‬كذلك كانت أغاني‬


‫ِ‬ ‫ومثلما يتقلّب القمر في شكله ومدى ضوءه وتمنّعه عن حضوره‬
‫َق ْل‬
‫ل ثابــت أو لن ُ‬
‫األخويــن رحبانــي وفيــروز‪ ،‬فاألطوال الزمنيّــة لهذه األغاني ال تســتقرّ على طو ٍ‬
‫َ‬
‫تقارب‪ ،‬بل تتغي ّر كما هي أطوار القمر‪ ،‬فمنها الطويل زمنيّاً مثل «موطن القمر» التي تقترب‬
‫ِ‬ ‫ُم‬
‫من تسع دقائق وكأنّها في شكل القمر وهو «بدر»‪ ،‬ومنها القصير التي ال تزيد على الثالث دقائق‬
‫كأغنية «على مهلنا ع القمر» بما يقترب من «الهالل»‪ ،‬وما بينهما من أطوار ٍ ُمختلفة‪ ،‬التي قلنا‬
‫عنها أطوال األغاني الزمني ّة‪.‬‬

‫أوجه القمر‬

‫وتختلف األغاني في طابعها ومزاجها وأســلوبها عند ســرد الرحباني َّين أللحانهما كما نعهده من‬
‫ّ‬
‫لتشع‬ ‫اختالفات في أطوار القمر التي عوَّدنا عليها‪ ،‬فألحان الرحباني َّين تنعكس على صوت فيروز‪،‬‬
‫شــرقي تعزّزه المقامات الشــرقي ّة واآلالت‬
‫ّ‬ ‫ع‬ ‫ن تتألأل بالتنوُّع‪ ،‬فهناك أغا ٍ‬
‫ن للقمر ذات طاب ٍ‬ ‫لنا أغا ٍ‬
‫ّ‬
‫األقــل في أغاني‬ ‫الشــرقي ّة كالقانــون والنــاي والعــود‪ ،‬وإن كانــت ُفرص صولوهــات العود هي‬
‫غربــي تُدغْدغها آالت غربي ّة كالبيانو واألكورديــون والكالرنيت أو في‬
‫ّ‬ ‫ع‬ ‫الرحابنــة‪ ،‬وأغــا ٍ‬
‫ن ذات طاب ٍ‬
‫بعض الحاالت الساكسفون‪.‬‬

‫الشرقي‬
‫ّ‬ ‫أوجه القمر‬
‫ٍ‬
‫تنويعات مقامي ّة‪ ،‬وأداءً ُمذهال ً‬ ‫مــن هذه األغاني «موطن القمر» ففي هــذ األغنية الطويلة نجد‬
‫المنادى بطريقة ٍ تموّجي ّة هابطة وباحترافي ّة‪ ،‬بينما تقتصر مصاحبة‬
‫لفيروز‪ ،‬فعند غنائها حرف «يا» ُ‬
‫نغمات خفيفة بطريقة النبر ‪ pizzicato‬إلبراز هذه اللّفتة األدائي ّة من فيروز‪ ،‬ومع‬
‫ٍ‬ ‫الوتري ّات بأداءِ‬
‫إعادتهــا لمقطــع «في مالعبنا»‪ ،‬نُالحظ إنهاءها كلمة «مالعبنا» مع اســتخدام الفيبراتو ‪vibrato‬‬
‫وســلِس‪ ،‬ثمّ تؤد ّي مرّة‬ ‫غربي – وتكمل على النَّهج نفســه بشــك ٍ‬
‫ل جميل َ‬ ‫ّ‬ ‫أوبرالي‬
‫ّ‬ ‫– وهو تكنيك‬

‫‪109‬‬
‫أخرى «يا» باالحترافي ّة نفسها‪ .‬والحقاً كلمة «غرامها» بالطريقة األوبرالي ّة بأسلوب فيروز الممي َّز‪.‬‬
‫بحس إيقاعي‬
‫ٍّ‬ ‫ي مهمّ في هذه األغنية‪ ،‬إذ تبدأ األغنية‬ ‫ٌ‬
‫جانــب تعبير ٌّ‬ ‫«علــى مهلنــا َع القمر»‪ ،‬هناك‬
‫َي «إيــه» ‪« ...‬يا اللّه»‪ ..‬علــى طريقة غناء‬
‫حيــوي‪ ،‬وأداء مــن الكــورس وكأنّــه يدفع للغنــاء بكلمت ْ‬
‫ومهل متعمّد عند غنائها مقطع «على‬
‫البحّارة على ظهر الســفينة‪ ،‬حتى تبدأ فيروز بالغناء ببطء َ‬
‫تعبر عن مقطع «على‬
‫ِّ‬ ‫مهلنــا» وكأنّها تحاول أن تخفِّ ف من ســرعة َ‬
‫الكورس‪ ،‬وهي فــي الحقيقة‬
‫مهلنا» على نحو ٍ أمثل ال أكثر‪.‬‬
‫علــي» حيث يدور القمر وأيضاً اللّحن‪ ،‬ولك ْ‬
‫ن هنا حول نغمة (دو) وهي أســاس مقام‬ ‫ّ‬ ‫«ال تعتــب‬
‫َّ‬
‫الموشــح وإيقاعه الممي َّز الذي‬ ‫قالب‬
‫ِ‬ ‫الحجاز كار‪ .‬أمّا « َب ِّلغ ُه يا قمر» فشــرقي ّتها ترجع إلى أصال ِة‬
‫أخرج الرحباني ّين من الميزان التقليدي والمكرّر ‪.4/4‬‬
‫«قمره يا َقمره»‪ :‬المقام في هذه األغنية عجم من نغمة راست (دو) وإيقاع شرقي ُممثَّال ً في‬
‫َ‬

‫المصمودي الكبير‪ .‬تحوم العبارة اللّحني ّة األولى للمقد ّمة حول الدرجة الخامسة (صول)‪ ،‬وتقفل‬
‫الجملــة فــي العبــارة الثانية على نغمة األســاس دو‪ .‬يصاحــب فيروز الكورس فــي هذه األغنية‬
‫ن مــا ي ُمي ّز أداءهم – هنا ‪ -‬هو القفلــة‪ ،‬ففي مقطع «يا» وهي ت ُ َمد ّ من‬
‫بترديــده المذهــب‪ ،‬إال ّ أ َّ‬
‫ل أصوات النســاء والرجال‪ ،‬نالحظ توقُّف أصوات النســاء بينما تســتمرّ أصوات الرجال‪ ،‬وقبل‬
‫ق َِب ِ‬
‫ختام الجملة تعود أصوات النساء لالنضمام إلى الرجال وإنهاء المذهب‪ ،‬وهي لفتة فني ّة جميلة‬
‫الكورس‪ ،‬الذي عاد ًة ما يقوم إمّا بالغناء معاً (الرجال والنســاء) أو‬
‫ونادرة في مجال اســتخدام َ‬
‫ٍ‬
‫بســحابات‬ ‫بالتناوُب‪ ،‬ولكن ليس بهذه الطريقة النادرة في موســيقانا العربي ّة‪ .‬هي صورة أشــبه‬
‫تُحيط القمر وتَحجب بعضه‪ ،‬فتعود لتنحسر ف َيظهر مرّة أخرى متألألً‪ .‬أمّا أداء القمر فيروز فيتمي ّز‬
‫هنا بإضفاء أسلوب التقطيع ‪ staccato‬في بعض المقاطع مثل «ما بتطالها اإليد»‪ ،‬لتُضفي خ ّ‬
‫ف ًة‬
‫ورشاق ًة في حوارها‪ ،‬أي في غنائها مع الطفلة «القمرة»‪.‬‬
‫في مقام البي ّاتي على نغمة الحســيني (ال) وبأداءِ فرقة ٍ موســيقي ّة‬ ‫و«عابالي القيك يا قمر»‬
‫(‪((1‬‬

‫الكورس األغنية ثمّ تدخل فيروز بغنائها‪ ،‬وت ُ ِ‬


‫مارس فيروز هوايتها هنا عند إعادتها‬ ‫شــرقي ّة‪ .‬يبدأ َ‬
‫لمقطع غنائي بأن تتقاسمه مع الفرقة الموسيقي ّة بأن تغنّي جزءاً وتسكت عن جزءٍ آخر لتغنّيه‬
‫الفرقة َلحناً موسيقيّاً من دون الكلمات‪.‬‬
‫ُ‬
‫و«طلع القمر» في مقام بي ّاتي‪ ،‬و«يا حلو يا قمر» في‬ ‫و«حبيبي بد ّو القمر» في مقام ســيكاه‪،‬‬
‫مقــام هــزام‪ ،‬و«القمر تحت المشمشــة»(‪ ((1‬وتكمن شــرقي ّة هذه األغنية األخيــرة في مقامها‬
‫الراست وإيقاع الدبكة من التراث اللّبناني‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫الغربي‬
‫ّ‬ ‫وجه القمر‬
‫األغاني ذوات الطابع الغربي والتي ترتبط بالقمر‪:‬‬
‫يرجــع طابــع أغنيــة «نحن والقمر جيران» الغربــي إلى مقامها الماجير وآالتها الموســيقي ّة‪ ،‬أمّا‬
‫استخدم اآلالت الغربي ّة في هذه األغنية‬
‫َ‬ ‫التوزيع األوركسترالي المتم ِّيز فهو لزياد الرحباني‪ ،‬الذي‬
‫ٌ‬
‫بروز جميــل آلالت النَّفخ‬ ‫مــن دون أن يســتغني عــن اآلالت الوتريّــة‪« .‬ولقد» كان لهــذه الواقعة‬
‫وبخاصة النحاسي ّة‪ ،‬كذلك فإنّه عاد ًة ما يطيب لزياد أن ي ّ‬
‫ُطل علينا بآلة البيانو في صولو تُنثر فيها‬ ‫ّ‬
‫َم فيه عر ْض اآلالت‬
‫شكل ارتجال‪ .‬ويرجع تمي ُّز توزيع زياد إلى أسلوب قد ت ًّ‬
‫ِ‬ ‫النغمات السريعة على‬
‫الموســيقي ّة باقتضابٍ واقعي من دون إســراف‪ ،‬تظهر فيه وتختفي بسرعة‪ ،‬لذا فإنّه يود ّ أن ي ُبرز‬
‫هذه اآلالت سواء في مقطع في األوّل «تطلع قبالنا وتسمعنا األلحان» ومقطع في اآلخر وما‬
‫بينهما «تاركاً لنا أجمل األلوان الصوتي ّة»‪.‬‬
‫ن هذه األغنية قــد احتوت على آلة العود ومن عزف الفنّان‬
‫«القمــر الــوردي»‪ :‬وعلى الرّغم من أ ّ‬
‫الطاغي‪ ،‬بسبب المقام واإليقاع‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يظل هو ّ‬ ‫ن ّ‬
‫الطابع الغربي‬ ‫العراقي المحترف ُمنير بشير(‪ ،((1‬غير أ ّ‬
‫وبطبيعة الحال اآلالت الغربي ّة التي قامت بأداء الكثير من الصولوهات مثل الجيتار واألكورديون‬
‫شــاركة مغني ّة اســمها حنان‪ ،‬ثمّ أعادت‬
‫َ‬ ‫والبيانــو‪ .‬أغنيــة «غيب يا قمر» ولها نســختان األولى ُ‬
‫بم‬
‫فيروز األغنية في مرحلة ٍ الحقة مع َ‬
‫الكورس‪ .‬أغنية «قمر السماء»‪ ،‬تبدأ بصولو بيانو ثمّ تتوالى‬
‫الصولوهات لآلالت الغربي ّة تتقاســمها األكورديون والبيانو‪ ،‬باإلضافة إلى طابع الغناء األوبرالي‬
‫الذي يتّسم بالفيبراتو ‪.vibrato‬‬
‫استخدم الرحابنة ميزاناً ثالثيّاً بسيطاً‪،‬‬
‫َ‬ ‫«من روابينا القمر»(‪ ((1‬تتّسم هذه األغنية بطاب ٍ‬
‫ع غربي‪ ،‬كما‬
‫وهو ميزان موســيقي قليل االســتخدام لدى الرحبانة‪ ،‬وقد يكون ذلك تجاوُباً مع إيقاع قصيدة‬
‫ليســت من إبداعهم‪ ،‬فهي من إبداع ســعيد عقل‪ .‬تفوح من هذه األغنية رو ٌ‬
‫ح رومانســي ّة جميلة‬
‫ومنفرد لفيروز‪ ،‬حيث تمّ االســتغناء عن َ‬
‫الكورس‪ .‬لقد اعتنى األخوان بهذه القصيدة‬ ‫ِ‬ ‫بأداءٍ ممي َّز‬
‫تعبر – بإيجاز – عن روح القصيدة‪ ،‬وتترك للمتل ّ‬
‫قي فرص َة أن يســبح‬ ‫ِّ‬ ‫كثيراً من خالل تقديم ألحان‬
‫فــي خيالــه وأفكاره عند االســتماع لهذه األغنية المميَّــزة‪ .‬واأللحان هنا تتنــوَّع وتتجاوب ورب ّما‬
‫النص فهو «يا تُرى‪ ..‬العمر قمر‪»..‬؟‬
‫ّ‬ ‫تتواضع وتنحني للكلمات أو القصيدة الجميلة والفريدة‪ .‬أمّا‬
‫فضحه صوت فيروز‪ ،‬والمعروف أنّه‬
‫ن فيه ســؤاالً مخفيّاً؛ َ‬ ‫ن اســتَعمل نداءَ التعجُّب ّ‬
‫إاّل أ ّ‬ ‫وهو وإ ْ‬
‫في الشعر لم َيستعمل الشعراء االستفهام الحقيقي‪ ،‬بل السؤال الذي يتضمَّن الجواب‪ ..‬فهل‬
‫عمر أم الحبيب‪ ،‬أم كليهما؟ رب ّما كليهمــا‪ ،‬وإن كان واحد ٌ منهما ي ْ‬
‫ُغنِي عن‬ ‫كان يقصــد بالقمــر ال ُ‬

‫‪111‬‬
‫اآلخــر‪ ،‬وإن كان كذلك فنحن أمام جســد ٍ متمث ّ ٍ‬
‫ل بالقمــر وروح متم ِّثلة بالعمر‪ .‬وهذا ي ُعيدنا إلى‬
‫الجملة السابقة «جاءه أم ال خبر» فهل َأرسل الشاعر خبراً ولم يصل الحبيب؟‬
‫(‪((1‬‬

‫ن ذوات طابع غربي ُ‬


‫ومرتبطة بالقمر مثل «قمر السهرات» و«يا قمر على دارتنا»‪.‬‬ ‫وغيرها من أغا ٍ‬

‫مقرّ القمر في أغاني السهر للرحباني ّين وفيروز‬

‫مثلما يتغي ّر مقام القمر في السماء‪ ،‬يتغي ّر أيضاً مكان أو مقرّ القمر في ألحان الرحباني ّين‪ ،‬فهو‬
‫ساطع في األعالي نُخاطبه عن بعد‪ ،‬مثل لحن أغنية «يا قمر أنا وي ّاك»‪ ،‬إذ يبدأ اللّحن عبر‬
‫ٌ‬ ‫أحياناً‬
‫فيروز «يا قمر» من األعلى‪ ،‬لينزل اللّحن مع تكملة القصيدة ُ‬
‫«صحبة من زَ َغر ْنا ‪ ..‬حب َّينا قمرنا ‪.»...‬‬
‫علي أخَّرني القمر»‪ .‬فهنا «القمر» وكأنّه تخلّى عن مقامه العالي‪ ،‬ليقترب‬
‫ّ‬ ‫بعكس أغنية «ال تعتب‬
‫من الحبيبة وي ُشاغبها وُيشاكسها‪ ،‬ما يجعلها تتأخَّر عن موعدها مع حبيبها‪ .‬فالعبارة اللّحني ّة هنا‬
‫ُ‬
‫والمــام هنا يقع على القمر «لومك مش‬ ‫المنخفضة من اللّحن وليســت العليا‪،‬‬
‫فــي المنطقة ُ‬
‫علي لومك عالقمر»‪.‬‬

‫علي أخَّرني القمر‬


‫ّ‬ ‫مطلع أغنية ال تعتب‬

‫ويبــدأ اللّحــن في أغنية «طلع القمر» بغناء فيروز مــن المنطقة ُ‬


‫المنخفضة‪ ،‬غير أنّنا نالحظ‪ ،‬من‬
‫يعبر عن‬
‫ِّ‬ ‫ن القمر يصعــد نغمة رابعة وهي (صول) عند كلمة «طلــع»‪ ،‬وكأنّه‬
‫الناحيــة التعبيريّــة‪ ،‬أ ّ‬
‫ن القمر يبقى ثابتاً عند هذه النغمة‪ ،‬كما في النموذج (أ) أي‬
‫الطلــوع نحــو األعلى‪ ،‬ومع ذلك فــإ ّ‬

‫في منتصف الســلّم الموســيقي‪ ،‬وحتّى نهاية األغنية وكأنّه قد َ‬


‫تحي ََّن الفرصة ل َيعلق في السماء‪،‬‬
‫من خالل ختمة فيروز لألغنية بكلمة «القمر» وهي في أعلى منطقة من اللّحن الموســيقي في‬
‫مقطــع «يــا اللّه يغيــب القمر»‪ ،‬وكأنّه – القمر – قد هرب منها أو زَ وَّغ من األرض إلى الســماء‬
‫(النموذج ب)‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫أغنية طلع القمر – نموذج (أ)‬

‫أغنية طلع القمر – نموذج (ب)‬

‫النســائي فيروز في أغنية «يا حلو يا قمر»‪ ،‬ويبدأ األغنية بـ «يا حلو يا قمر» في‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫الكورس‬ ‫يســبق‬
‫المنخفضة (نموذج األغنية أ)‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن القمر يذهب مع فيروز للمنطقة الصوتي ّة‬ ‫المنطقة الصوتي ّة ُ‬
‫األعلــى أي الحــاد ّة في مقطع «وقمار غير قمارنا» (نمــوذج األغنية ب)‪ ،‬أمّا القفلة فكانت بأداء‬
‫ّ‬
‫والاّلفت هو عندما قامت فيروز‬ ‫َ‬
‫الكورس النسائي للمذهب‪ ،‬وترد ّ عليهم فيروز بكلمة «يا قمر»‪،‬‬
‫بغنــاء «يــا قمر» في ختام األغنية فقط ومن درجة غريبة تبتعد عن نغمة األســاس‪ ،‬على شــكل‬
‫ُّ‬
‫تهكم أو سحابة تغشي وجه القمر الصريح‪.‬‬ ‫عالمة تعجُّب‪ ،‬أو رب ّما‬

‫أغنية «يا حلو يا قمر» نموذج (أ)‬

‫أغنية «يا حلو يا قمر» نموذج (ب)‬

‫‪113‬‬
‫ن «القمرة» و»الشــجرة» فــي منزلتَي ْن ُمتكافئتيْــن في العل ّ‬
‫و‬ ‫وفــي «أغنيــة قمرة يا قمــرة»‪ ،‬فإ ّ‬
‫مــن الناحيــة اللّحني ّة كما تشــير النغمات‪ ،‬فالقمرة هنا الطفلة على األرض قرب الشــجرة‪ ،‬لكنّها‬
‫أقرب إلى السماء والقمر في جمالها (نموذج األغنية أ)‪ .‬ومن الناحية التعبيري ّة في هذه األغنية‬
‫ــم األخوان لحنيّاً العبارة «ما بتاطالها اإليــد»‪ ،‬إذ إ َّ‬
‫ن القفزة من نغمة صول إلى‬ ‫س َ‬ ‫نالحــظ كيف َر َ‬
‫الدو األعلى وكأنّها تشير إلى المسافة ما بين اإليد والشجرة (نموذج األغنية ب)‪ .‬وتنهي فيروز‬
‫األغنية بـ «يا قمره» هبوطاً إلى درجة األساس (دو) (نموذج األغنية ج)‪.‬‬

‫قمره يا قمره – نموذج (أ)‬

‫قمره يا قمره – نموذج (ب)‬

‫قمره يا قمره – نموذج (ج)‬

‫ن نغمة القمر هي صول خامسة سلّم دو الصغير‪ ،‬أي في‬


‫نالحظ في أغنية «يا قمر على دارتنا» أ ّ‬
‫ل مجازي‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن الرحباني َّي ْن صوَّرا القمر «على دارتنا»‬ ‫المنطقة الوســطى من لحن األغنية‪ ،‬وبشــك ٍ‬
‫ن القمر موجود‬ ‫ّ‬
‫شك أ ّ‬ ‫حيث الدار تلمس نغمة سي بيمول وهي األعلى في اللّحن‪ ،‬وبالتالي فبال‬ ‫ُ‬

‫‪114‬‬
‫في المنطقة الحاد ّة‪ .‬القصد هنا أ ّ‬
‫ن التعبير عن القمر ال يقتصر على المفردة فقط‪ ،‬ولكن ‪ -‬وفي‬
‫العام للجملة الشعري ّة وعالقتها بالجملة اللّحني ّة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أحيا ٍ‬
‫ن كثيرة – على المعنى‬
‫يــدور الحــوار في أغنية «حبيبي بد ّو القمر» وهي في مقام ســيكاه بيــن فيروز وبراءة الطفولة‬
‫فــي طلبهــا للقمر‪ ،‬فهنا القمر يقترب من األرض لي ُالمــس تمنّيات األطفال وأحالمهم‪ ،‬فيصيغه‬
‫ليقترب من األرض بدالً من اعتالئه‬
‫َ‬ ‫الرحباني َّان في المنطقة الســفلى من الســلّم الموســيقي‪،‬‬
‫الســماء‪ .‬بينمــا كلمــة «عاليه» هي األعلى – نســبيّاً – في هذه الجملة الموســيقي ّة‪ ،‬وتصل حتّى‬
‫نغمــة (صــول)‪ .‬وفــي مقطع «مــا بتطالها اإليــد» هنا التعبير مــن خالل القفزة مــن نغمة (ف)‬

‫إلى نغمة (ال) وكأنّها ت ُ ِّ‬


‫صور صعوبة أن تطال الطفلة الســماء‪ .‬وهو أســلوب تعبيري في الكتابة‬
‫الموسيقي ّة قد استخدمه الرحباني ّان في أغنية «قمره يا قمره»‪.‬‬

‫أغنية «حبيبي بد ّو القمر»‬

‫دي ْن لحنيّاً فالنموذج األوّل والثالث يحوم‬ ‫َ‬


‫يتموضع القمر في مكانَي ْن متباع َ‬ ‫موشح «بلّغ ُه يا قمر»‬
‫ّ‬ ‫وفي‬
‫حول نغمة (دو) العليا‪ ،‬أمّا النموذج الثاني – األوسط – فهو يستقرّ على نغمة دو السفلى ‪.‬‬

‫موشح بلّغه يا قمر – النموذج األوّل‬


‫ّ‬

‫موشح بلّغه يا قمر – النموذج الثاني والثالث‬


‫ّ‬

‫‪115‬‬
‫يغيب القمر في أغنية «نحنا والقمر جيران»‪ ،‬عن مكانه في السماء‪ ،‬ويصبح جاراً‪ ،‬وله بيت خلف‬
‫التــال‪ ،‬وعلــى معرفــة باأللحان والمواعيد واأللــوان‪ .‬فقد تكون جيرة القمر هــي التي أودت به‬
‫همسهم‬
‫َ‬ ‫المحب ّين وتسمع‬ ‫إلى األرض لي ُصبح جاراً جميال ً ُمضيئاً ومثاليّاً‪ ،‬حيث كلمة القمر ت ُ ِ‬
‫جاور ُ‬
‫َ‬
‫وأشواقهم‪ .‬القمر في هذه األغنية يبرز في المنطقة الغليظة من صوت فيروز‪ ،‬فهو‬ ‫وتنهّداتِهم‬
‫ّ‬
‫يبث الحبيب‬ ‫ليــس ببعيــد عن مريديه ‪ ..‬بل قريب إلى حد ّ الجوار‪« .‬والقمر هو الصدر الرحب الذي‬
‫فيه شكواه‪ ،‬فهو في هذه الصورة ذات الطابع االستعاري قد تجاوز مدلوله القريب ليتحوَّل إلى‬
‫ّ‬
‫لكل ما ينير النَّفس ويشرع أبواب األمل»(‪.((1‬‬ ‫رمز ٍ‬

‫نحن والقمر جيران‬

‫ق وحنان‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يطل علينــا برف ٍ‬ ‫القمــر فــي تجربة فيــروز ومنصور وعاصي ودود ووديــع وذوقه رفيع‪،‬‬
‫وبحب َيســمعنا ثمّ‬
‫ٍّ‬ ‫ي ُطالعنا وال يتعالى علينا على الرّغم من أنّه في الســماء‪ ،‬ي ُرافقنا وي ُســامرنا‬
‫األخوي ْن في‬
‫َ‬ ‫ي ُغادرنا بعد وعد ٍ بلقاءٍ هو قريب‪ .‬ولم ت َِرد كلمة «القمر» في أغاني فيروز من تأليف‬
‫األعمال التي تعنْونت بالقمر كـ«القمر الوردي» و«قمر السهرات» و«نحن والقمر جيران» و»يا‬
‫َط ّل مفردة «القمر» طوال رحلتهم اإلبداعي ّة في مختلف‬
‫قمر على دارتنا» وغيرها من أغانٍ‪ ،‬بل ت ُ‬
‫أغانيهم‪ ،‬ولكن ليس في العنوان وإنّما في َمتن القصيدة‪.‬‬

‫نثر القمر في َمتن القصيدة والنَّغم‬


‫ ‪-‬تك تك تك يام سليمان ‪ /‬البيت الثالث «شوفي القمر كيف بيدور»‬
‫«وفل القمر َع ضيعتو وفلّوا الدراج»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬فايق يا هوى ‪ /‬البيت ما قبل األخير‬
‫ ‪-‬هيك مشق الزعرورة ‪« /‬هيك بتمشي القمّورة يا يمّا هيك»‬
‫واللّيل ليل والقمر ح ّ‬
‫ن ون ََطر»‪.‬‬ ‫ ‪-‬حي ّدوا الحلوين ‪« /‬حي ّدوا الحلوين َع ض ّ‬
‫و القمر‬
‫ ‪-‬حي ّدوا الحلوين ‪« /‬وما عاد في غيري وغيرك يا قمر»‪.‬‬
‫ ‪-‬بتشوف بكره بتشوف ‪« /‬بحياة َعينيك يا قمر نيسان»‪.‬‬
‫علي أخَّرني القمر»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬ال تعتب علي ّي ‪« /‬ال تعتب‬
‫لومك َع القمر»‪.‬‬
‫َ‬ ‫علي‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬ال تعتب علي ّي ‪« /‬لومك مش‬

‫‪116‬‬
‫وأغــا ٍ‬
‫ن أخــرى كثيرة تلمع بكلمــة «القمر» في َمتن القصائد مثل «تبقــى مي ّل» و«يا دارة دوري‬
‫ّ‬
‫و«لشو الحكي» و«بعدك على بالي»(‪ ((1‬وغيرها من األغاني‬ ‫فينا» و«مرجوحة»(‪ ((1‬و«ال إنت حبيبي»‬
‫التي وإن اختفى «القمر» من عنوانها‪ ،‬تسلَّل إلى َمتن دارها‪.‬‬

‫يغيب القمر وتبقى الدالالت في األغاني‬


‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تطل علينا عوضاً عنها مفردات أخرى‬ ‫وفــي غيــاب «القمر» المفردة من بعض قصائد الرحباني ّين‪،‬‬
‫تذكّرنــا به‪ ،‬مثل «المســا» و«اللّيل» و«الضوّ» و«النجوم»‪ ،‬و«الســهر» و«النعــاس» و«النوم»‪.‬‬
‫كلمات تَستحضر مكانة القمر وإن غاب عنّا عند استدارته أو رب ّما دالله وتمنُّعه المشاغب‪.‬‬

‫المسا‬
‫ ‪-‬بكتب اسمك يا حبيبي ‪« /‬لمّا بدور السهر تحت قناديل المسا‪.»..‬‬

‫اللّيل‬
‫ ‪-‬يا حنينة ‪« /‬أهل الهوى بليل الغزل شهدوا لنا»‪.‬‬
‫نرجع لياليها»‪.‬‬ ‫ ‪-‬الروزانا ‪« /‬بد ّنا أماني الهوى‬
‫هاك اللّيالي»‪.‬‬ ‫ ‪-‬كرمالك ‪« /‬وع البال تع ّ‬
‫ن‬
‫ ‪-‬يا دارة دوري فينا ‪« /‬حبيبي واللّيل ‪ ..‬راحوا ببحر اللّيل ‪ ..‬ونسيوني عالمينا»‪.‬‬
‫(‪((2‬‬

‫و القمر واللّيل ليل والقمر َح ّ‬


‫ن ونَطر»‪.‬‬ ‫ ‪-‬حيدو الحلوين ‪« /‬حيدو الحلوين َع ض ّ‬
‫قو عشر ليالي عشر ليالي سهر»‪.‬‬ ‫ ‪-‬حبيبي بد ّو القمر ‪« /‬ح ّ‬

‫ ‪-‬حبيبي بد ّو القمر ‪« /‬والي عشر ليالي عالسطح سهرانة»‪.‬‬


‫ ‪-‬األوضة المنسي ّة ‪« /‬ونقلني عشبابيك اللّيل وعسطوح الدار»‪.‬‬
‫ ‪-‬كتبنا وما كتبنا ‪« /‬عودوا قبل الجفا ما يغمر ليالي العمر»‪.‬‬
‫ضويلي ‪ ..‬القاني اللّيل وط َّ‬
‫فى قناديلي»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫«طل من اللّيل ق ِّلي‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬سألوني الناس ‪/‬‬

‫و‬
‫الض ّ‬
‫ ‪-‬يا ناطور القمري ّة ‪« /‬دخلك خلّي الضو شحيح ‪ ...‬خللي صوت الناي يع ّ‬
‫ن‬
‫خلّيك مضوّي علي ّي ‪ ....‬ومتل اللّي بقلبك منسي ّة»‪.‬‬
‫و شوي ّة»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫«وكل ليلي عشي ّة قنديلك ضوي ّه ‪ ...‬قوّي الض ّ‬ ‫ ‪-‬جايبلي سالم ‪/‬‬

‫‪117‬‬
‫ ‪-‬األوضة المنسي ّة ‪« /‬مضوي ّة في بيوت تنوس فانوس يسهر فانوس»‪.‬‬
‫ ‪-‬يدور وتدور ‪« /‬بعيد وتضوّي ناطرنا وناطرنا عيد»‪.‬‬
‫ضويللي ‪ ..‬القاني اللّيل وط َّ‬
‫فى قناديلي‬ ‫ِّ‬ ‫«طل من اللّيل ق ِّلي‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬سألوني الناس ‪/‬‬

‫النجوم‬
‫ ‪-‬هيك مشق الزعرورة ‪« /‬بالضيعة يللّي عاشقة النجمات»‪.‬‬

‫السهر‬
‫ ‪-‬هيك مشق الزعرورة ‪« /‬نحنا بعلي ّة خضرا عملنا سهرا»‪.‬‬
‫ ‪-‬يا ناطور القمري ّة ‪« /‬خلّي السمره تساوي شعرا وتلحقنا َع السهري ّة»‪.‬‬
‫ّ‬
‫بتطل ‪.»..‬‬ ‫ ‪-‬يا ناطور القمري ّة ‪« /‬ولمَّن َع السهرة‬
‫ ‪-‬يا ناطور القمري ّة ‪« /‬وبطيب السهرة وبتح ّ‬
‫ن ‪.»...‬‬
‫ ‪-‬بكتب اسمك يا حبيبي ‪« /‬لمّا بدور السهر تحت قناديل المسا ‪.»..‬‬
‫علي ‪« /‬ضيعتنا هني ّة وطالعال السهر»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬ال تعتب‬
‫قو عشر ليالي عشر ليالي سهر»‪.‬‬ ‫ ‪-‬حبيبي بد ّو القمر ‪« /‬ح ّ‬

‫ ‪-‬حبيبي بد ّو القمر ‪« /‬والي عشر ليالي عالسطح سهرانة»‪.‬‬


‫ ‪-‬جبلي ّة النسمة ‪« /‬كتبوا كتبوا سهروا كتبوا‬
‫واللّي عشقوا سهروا كتبوا»‬
‫ ‪-‬األوضة المنسي ّة ‪« /‬عليت فينا العلي ّة ودارت بالسهرة بالدار»‪.‬‬
‫ ‪-‬األوضة المنسي ّة ‪« /‬مضوي ّة في بيوت تنوس فانوس يسهر فانوس»‪.‬‬
‫ ‪-‬األوضة المنسي ّة ‪« /‬وهاألوضة وحدا بتسهر وبيوت األرض تنام»‪.‬‬

‫نعسانه‬
‫ ‪-‬حبيبي بد ّو القمر ‪« /‬وحاسّ ه بحالي تعبانة ونعسانة»‪.‬‬

‫النوم‬
‫ ‪-‬إيدي وإيدك عالوادي ‪« /‬محبوبي من طول حب ّو ناطر ما تنام َعينو»‪.‬‬
‫ ‪-‬حبيبي بد ّو القمر ‪« /‬خايفة النام وينزل القمر»‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫ ‪-‬األوضة المنسي ّة ‪« /‬وهاألوضة وحدا بتسهر وبيوت األرض تنام»‪.‬‬
‫ ‪-‬يا اللّه تنام ريما ‪« /‬يا اللّه تنام ريما ‪ ..‬يا اللّه يجيها النوم»‪.‬‬
‫ ‪-‬جايبلي سالم ‪« /‬بيعرفها عالمي ‪ ..‬وبيصلّي تتنامي»‪.‬‬
‫هكذا نرى أ ّ‬
‫ن عالقة فيروز والرحباني ّين بالقمر وثيقة‪ ،‬ومكانه ساطع في قصائدهم وقريب من‬
‫ــب َق عــرض أغنية «نحنا والقمر‬
‫س َ‬ ‫وشــجي في غنائهم وألحانهم‪ .‬يقول عاصي في لقاءٍ َ‬
‫ّ‬ ‫قلوبهــم‬
‫جيــران» «مــن ســنة اللّي طلعت هالغنيّــة لليوم‪ ،‬تغي َّر القمــر‪ ،‬طلعوا لعنده‪ ،‬مشــيوا عليه‪ ،‬صار‬
‫تــراب وحجــار‪ ،‬لكن بالنســبة لنا بعدو قنديل الســهر‪ ،‬ورفيق المشــاوير‪ ،‬مــازال التقينا رح نفتح‬
‫شــبابيك الماضي ونســمّعكن غناني بتعرفوها‪ ،‬فيكن تذكروا مين األشخاص‪ ،‬اللّي كانوا معكن‬
‫لمّــا ســمعتوها ألوّل مــرّة؟ كتار منّا بد ّلوا أصحابــن‪ ،‬وياني ّالو اللّي بعدو من هــاك األي ّام حبيبو‬
‫ّ‬
‫وكل الذكريات»(‪ .((2‬فهُم مع القمر في صحبة قديمة منذ الصغر‬ ‫معو‪َ ،‬رح يسمع وترجع اللّحظة‪،‬‬
‫‪ ..‬أحب ّوه وأحب ّهم وعاشوا معه ‪..‬‬
‫يا قمر أنا وي ّاك‬
‫صحبة من زَ َغر ْنا‬
‫حب ّينا قمرنا‬
‫وعشنا أنا وي ّاك‬
‫والقمــر لــدى الرحابنة حمّال أوجه ويتقمّص صوراً مختلفة تتنوّع وتتغي ّر بحســب مناخ القصيدة‬
‫ُ‬
‫«حيث ي ُصبح «القمر جارك» بل تجد ُه «على دارك» وهو حيناً يصبح «قمر الحلوين»‬ ‫واللّحن واألداء‪،‬‬
‫ٍ‬
‫اختالفات‬ ‫وأخرى «أكبر»(‪ .((2‬تقلَّب القمر في أغاني فيروز والرحباني ّين في صور وأطوار عديدة بين‬
‫الطابع الموسيقي ُمتمرجِ حاً بين الروح الشرقي ّة واألخرى‬
‫ع في ّ‬
‫و ٍ‬
‫في الطول الزمني لألغنية‪ ،‬أو تن ُّ‬
‫الغربيّــة‪ ،‬فتنــوُّع المقامــات فــي أغانــي القمر بين الشــرقي ّة كمقــام العجم والحجــاز والبي ّاتي‬
‫والســيكاه والهزام والراست وغيره من مقامات شــرقي ّة‪ ،‬وكذلك الغربي ّة كالماجير والمانير له‬
‫ّ‬
‫لكل الناس وجميــع األجناس‪ ،‬أمّا موقعه في‬ ‫داللــة الحضن والجمع والشــراكة؛ فالقمر يتّســع‬
‫والمتحــور‪ ،‬فتار ًة ينزل‬
‫ِّ‬ ‫المتحرك‬
‫ِّ‬ ‫الســياق اللّحنــي‪ ،‬فهو أيضاً متق ِّلب وغير مســتقرّ‪ ،‬فهــو القمر‬
‫في المنطقة الغليظة من الطبقة الصوتي ّة لفيروز‪ ،‬ومرّ ًة يتوسّ ــط المســاحة‪ ،‬وأخرى يسطع في‬
‫الجانب الحاد ّ من لحن األغنية ليذ ِّكرنا بأنّه القمر‪ ،‬الذي ال بد ّ له من أن يعود إلى السماء ليضيء‬
‫ُزخرف حكاياتنا‪.‬‬
‫لنا ليالينا‪ ،‬ويز ِّين أحالمنا وي ِ‬

‫‪119‬‬
‫د‪ .‬نادر سراج*‬

‫ّ‬
‫«كل ضيعة بينها وبين الد ّني جسر القمر»‬
‫سعيد عقل‬

‫ــر الرّحابنة ذُكِ رت فيروز‪ ،‬ومتى ذُكِ رت فيروز ذُكِ ــر الرّحابنة‪ .‬فهُم‪ُ ،‬مجتمعين‪ ،‬رو ُ‬
‫ح كلمة ٍ‬ ‫ُ‬
‫متــى ذكِ ِ‬
‫كل تســح ُر وتَأســر؛ األســ ُر عندهم‬ ‫صوت مؤنِس‪ ،‬وقو ُ‬
‫ّة ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫ن رشــيقة‪ ،‬ونغمةُ‬ ‫ُ‬
‫ونبــض معا ٍ‬ ‫حلــوة‪،‬‬
‫والسح ُر أجمل‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫جميل‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ي الســاحر؟‬
‫أســر المخيال الفيروز ّ‬ ‫َّ‬
‫لنفك‬ ‫ّحبانــي ُ‬
‫المبتَدع‬ ‫العالم الر‬ ‫ُ‬
‫والقــارئ‬ ‫ُ‬
‫ندخل‬ ‫فمــن أيــن‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫جــدل األمكنة في األغنية‬ ‫وســحر عوالِمه؟ كيف نعي‬
‫ِ‬ ‫كيــف نكشــف النقاب عن بالغ ِة مخبوءاته‬
‫ُ‬
‫والمتخي ّل الضد ّي ّة بناصية‬ ‫الرحباني؟ وهل تأخذ ثنائي ّة الواقع‬
‫ّ‬ ‫المتن‬
‫الفيروزي ّة وما موقعها في َ‬
‫المرتجــاة لألمكنة أهي‬ ‫الجمهــور إلــى حيث ينتمــي أم تحلّق به إلى حيــث يتمنّى؟ ما الوظيفة ُ‬
‫وملحقات أم مالذات افتراضي ّة لسكينة ٍ «خلدوني ّة» ُمفتقَ دة ومنشودة؟‬
‫هوامش ُ‬

‫معيــن الطبيعة‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫مجــازات منحوتة من‬ ‫فــي هــدأة اللّيــل ومع انبالج الفجــر تتهادى إلــى أذهاننا‬
‫ّ‬
‫ودااّلتُها في المســاحة الصوتي ّة لفيروز‪.‬‬ ‫تتدافــع كلماتُها بل دوالُهــا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ســبكة ّ‬
‫الصنــع‪،‬‬ ‫اللّبنانيّــة‪ُ ،‬م‬

‫«وع ســطح العريشــة َقمري ّة وبــرود»‪« ،‬وانطرني بحقول‬


‫َ‬ ‫نتمث ّ ُ‬
‫ــل بنماذج منها‪« :‬حدائق ّ‬
‫الصحو»‪،‬‬

‫الريــح‪ ..‬بْدِنْيــه عناقيدها تالويح»‪« ،‬ضحكت على الحيطان صورنا من زمان»‪« ،‬يا تراب عينطورة‪ ..‬يا‬

‫*باحث وأكاديمي من لبنان‬

‫‪121‬‬
‫ٍ‬
‫شيفرات اجتماعي ّة‬ ‫ن أنّنا في محضر‬ ‫«عم تســقي جنينتها»‪ .‬فنتي ّ‬
‫ق ُ‬ ‫َملفى الغيم وســطوح العيد»‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫تقرع‬ ‫ُ‬
‫األســماع عادة‪.‬‬ ‫واضــع رحباني ّة ُمصطفاة بعناية ٍ فائقة وال تتســ ّ‬
‫قطها‬ ‫وم ِ‬ ‫ٍ‬
‫ّنــات مكانيّــة َ‬ ‫أو عي‬

‫األســماع فنتخي ُّل صوراً ُمشــا ِبهة ومتأنّقة للدور والحيطان واألبواب‬
‫ِ‬ ‫ســبحتُها في‬
‫اآلذان وتكرُّ ُ‬
‫َ‬
‫والحــارات والجنائــن والحقول‪« :‬الزمان إللّي بياكل كلس الحيطان»‪ ،‬و«دارك متل دار جني ْنتها َع‬
‫َ‬
‫األرض مواعيد»‪ ،‬و«بعدا الشمس بتبكي‪...‬ع الباب وما تحكي»(‪.((2‬‬ ‫تالل الشمس»‪ ،‬و«يزرع‬

‫وظفها األخوان بعبقري ّتهما‬ ‫ٌ‬


‫مجــازات لمواضع وأمكنة حميمة بقدر ما هي ظريفــة وأليفة‪ّ .‬‬ ‫هــي‬
‫س َكناً‬
‫ي الذي ارتضى َ‬ ‫ّ‬
‫الشــدو الفيروز ّ‬ ‫ورفدها بعصارة أفكارهم شــعراءُ كبار وجدوا في‬
‫النظمي ّة‪َ ،‬‬
‫ــر إشعاعهم الجميل‪ ،‬فأضحيا‬ ‫ْ‬ ‫ــجن» خام ًة صوتي ّة ذهبي ّة وحنجر ًة ُم‬ ‫ّ‬
‫شــرعة لنش ِ‬
‫َ‬ ‫الش َ‬ ‫«عينا عصفورة‬

‫ّات الخرز‬ ‫ُ‬


‫تنتظم حب ِ‬ ‫ُ‬
‫ــبحة التي‬ ‫التيمات المكاني ُّة هذه هي السُّ‬
‫ُ‬ ‫وخبره ُ‬
‫المبين‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫َ‬
‫مبتــدأ فنٍّ را ٍ‬ ‫معــاً‬

‫المبدِع‪.‬‬‫ُ‬ ‫ِالرحباني‬
‫ّ‬ ‫ي المتألّق شدواً وسحراً في المتن‬ ‫الفيروز ّ‬
‫لكلمــات موحية تتجلّى ألحانــاً بديعة وتتنزّ ُل صوتاً محلّقاً بالسّ ــامع‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫تفكراً وإصغاءً‬ ‫كلّمــا أمعنّــا‬

‫وســامعها‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫بشــغاف القلب ال بحروف األبجدي ّة؛‬ ‫كلمات األغنية الفيروزي ّة تُشــ َّ‬
‫ف ُر‬ ‫ِ‬ ‫بعيداً‪ ،‬أدركنا أ ّ‬
‫ن‬

‫العالم‬
‫َ‬ ‫باألذن‪.‬عرّفت‬
‫َ‬ ‫الذي تدرّبت حواسّ ــه على اإلنصات لصوتها الرقراق يتل ّ‬
‫قى رســائ َلها بالرّوح ال‬

‫بنبل نغماته‪،‬‬
‫ِ‬ ‫األحاســيس‬
‫َ‬ ‫على الزجل اللّبناني ُ‬
‫المغنّى وعلى فنٍّ ُمرهف أوقظ منذ الخمســيني ّات‬
‫ُ‬
‫والمتقنة السّ بك‪.‬‬ ‫القلوب بلغته المجازية السي ّالة االستعارات‬
‫َ‬ ‫وأس َر‬
‫َ‬

‫مكاني تستثيره األغنية الفيروزي ّة‬ ‫ٌ‬


‫جدل‬ ‫ُ‬
‫والمتخي ّل‪:‬‬ ‫بين الحقيقة‬
‫ّ‬
‫والمتخي َّل التي تبسّ ــطت أمكنــ ًة «فيروزي ّة» ُمغنّاة َجمعت‬
‫ُ‬ ‫البدهــي القول إ ّ‬
‫ن ثنائي ّة الواقع‬ ‫ّ‬ ‫مــن‬

‫قيه؛ لكنّها‬ ‫ٌ‬


‫حقيق أنّها اسثارت جدالً في مدارك السّ امع و َلبساً في طرائق تل ّ‬ ‫دي ْن‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ضد َّي ْن وقرّبت ب ُع َ‬
‫ل ُمثلى‪ .‬أقدرت الجمهور على عيش المعنى ُ‬
‫المضمر‬ ‫كانت بحنجرة سفيرتنا إلى النجوم أدا َة تراس ٍ‬
‫مســعى في تعويد ســامعهما على‬
‫ً‬ ‫ووصــل قطيعــة الماد ّة بالرّوح‪ .‬نحســب أ ّ‬
‫ن الرّحبانيين أفلحا‬ ‫ِ‬
‫المغنّاة‬
‫والمتخي َّل‪ ،‬المتناو َبي الحضور والوظيفة‪ ،‬فــي منظومة األمكنة ُ‬
‫ُ‬ ‫الحقيقــي‬
‫ّ‬ ‫عيــش ثنائي ّة‬
‫ِ‬
‫تنمــاز بأفكار ٍ متألّقة عــن الوجود والطبيعة‬
‫ُ‬ ‫زجال ً ســهل التشــفير‪ .‬توسَّ ــا «لغة» مزخّمة ّ‬
‫الصور‪،‬‬

‫واإلنسان ونوازع نفسه‪.‬‬


‫ٌ‬
‫مثــال على وجوه‬ ‫فمــن ينظــر مثــا ً فــي الجملة الغنائي ّة «تعــا وال تجي» ال يفوتــه أن ي ُدرك أنّها‬
‫َ‬
‫الم ّ‬
‫لغزة رد ّدتها‬ ‫ُ‬
‫فالعبارة ُ‬ ‫المتخي َّلة التي ّ‬
‫بشر بها الرّحباني ّان وزرعاها في مداركنا‪.‬‬ ‫الثقافة المكاني ّة ُ‬

‫‪122‬‬
‫ُ‬
‫ومرتكزها‬ ‫«صبيّــة الجســر»(‪ ((2‬الّتــي تاقت يوماً للقاء عاشــ ٍ‬
‫ق َولِه « ِبفي ّة الضفاير ُعم ُره انتســى»‪.‬‬
‫ُ‬
‫للرائي‪/‬المتخ ِّيل‬ ‫افتراضي يبدو‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫المكان‬ ‫قق الوجود ي ُدعى إليه هذا المتل ّ‬
‫قي‪ ،‬ويضاهيه‬ ‫مــكان متح ّ‬
‫ٌ‬
‫ي‪،‬‬
‫د أل ٍ‬
‫المرتجــاة في رحابه‪ .‬بع َ‬ ‫ُ‬
‫ويحــول دون تح ّ‬
‫قق فعل المواعدة ُ‬ ‫ُ‬
‫يعيق التماســه‪،‬‬ ‫أ ّ‬
‫ن ثمّــة حائال ً‬
‫ــامع‪ ،‬متجاوزاً كال غائي ّتها القوليّــة البالغي ّة وتكثّفها الداللي الرمــزي‪ُ ،‬‬
‫ومتغافال ً عن‬ ‫ُ‬ ‫شــ ّ‬
‫فرها السّ‬
‫جع صداها عند متل ّ‬
‫قيها‪.‬‬ ‫مرام صانعها حينما تأك ّ َ‬
‫د له َر ُ‬ ‫َ‬ ‫لتبسي ْن‪ .‬فبلغت‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫ضد ّي ّة مع َن َيي ْها‬
‫الط ُ‬
‫لب‬ ‫طلبي ْن اثنَي ْن بينهما رابط‪ّ .‬‬
‫َ‬ ‫جملة غنائي ٌّة مركّبة من‬
‫ٌ‬ ‫والصيغة َعينها هي في العرف اللّغوي‬‫ُ‬

‫نهــي‪« :‬ال تجي»‪ ،‬والرّابــط الواو‪ .‬الطلــب األوّل َضديد ُ الثاني‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫والط ُ‬
‫لــب الثاني‬ ‫ّ‬ ‫األوّل أمــ ٌر‪« :‬تعــا»‪،‬‬
‫شاركة بين المعطوف والمعطوف عليه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫والم‬ ‫ّ‬
‫يدل على الجمع‬ ‫والثاني ضديد ُ األوّل‪ .‬والرّابط الواو‬
‫ن في ُ‬
‫المتخَي ّل الفيروزي‪ ،‬يبدو أ ّ‬
‫ن «تعا وال‬ ‫لبي ْن‪ ،‬لك ْ‬ ‫في الحقيقة‪ ،‬ال ي ُمكن الجمع بين هذَي ْن ّ‬
‫الط َ‬
‫ومتن َّ‬
‫فساً للتعبير عن صراع المشاعر الضد ّي ّة أو الجمع بين تلكم المشاعر‪.‬‬ ‫تجي» أضحت وساط ًة ُ‬
‫وتوازن لســد ّ حاجة ٍ‬
‫ٌ‬ ‫الصــراع تصويــ ٌر لِجوّاني عبــر برّاني‪ ،‬وفي حــال الجمــع َر ٌّ‬
‫ي لجوهر ٍ‬ ‫ففــي حــال ّ‬
‫ُ‬
‫«العالم األكبر»‪.‬‬ ‫تخاطبي حسبناه «جرماً صغيراً» فانطوى فيه‬ ‫ٌ‬
‫هامش‬ ‫تواصلي ّة عبر ُ‬
‫المتخَي ّل(‪.((2‬‬
‫ٌّ‬
‫ّ‬
‫بكل‬ ‫َ‬
‫ويعيش‬ ‫زحام الد ّنيا‬
‫َ‬ ‫ُغادر‬
‫َ‬ ‫السامع لي‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫استحث‬ ‫َ‬
‫مخيال «بنت الحارس» الذي‬ ‫ن‬ ‫ومن المح ّ‬
‫قق أ ّ‬
‫هم افتراضي ّ َين‪ ،‬ويتغنّى في آ ٍ‬
‫ن بحواضر عربي ّة‬ ‫ٍ‬
‫بأناس ودودين بقدر ما ُ‬ ‫جوارحه ريفاً ســاحراً يزخر‬
‫وعمّان وإسكندري ّة)‪ ،‬مفتو ٌ‬
‫ح‬ ‫ّ‬
‫ومكة وتدمر والكويت َ‬ ‫(بيروت والشام ودمشق والقدس العتيقة‬
‫المتوه َّمة‬ ‫ّ‬
‫والضيع ُ‬ ‫الجمهور مع األمكنة المحب َّبــة‬
‫ِ‬ ‫لتفســيرات شــخصي ّة وتصو ٍ‬
‫ّرات عامّة‪ .‬تماهي‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫واســتغراقه في إبداءِ التضامــن مع بعضها (زهرة المدائن‪ ،‬يافا‪ ،‬بيســان‪،‬‬ ‫ووقو ُعــه في أســرها‪،‬‬
‫حيفا) لها تفسيرها ومسوّغاتها عند أهل «الكار»‪.‬‬
‫يسر‬ ‫ّ‬
‫والشيفرات السيميائي ّة ت ُ ِّ‬ ‫الصوغي ّة الخالّقة ُمستعينين باألداة اللّسانية‬
‫ن ُمقاربة اإلبداعات ّ‬
‫إ ّ‬
‫ٍ‬
‫كلمات ليست‬ ‫بنبض‬
‫ِ‬ ‫ونحس‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نفك الرّموزَ ونقرأ اإلشارات‬ ‫لنا أن َنل َِج بتؤدة هذا العا َلم ُ‬
‫المتخي َّل‪:‬‬
‫كســائر الكلمــات‪ .‬وللتذكير فقد غنَّت فيروز بلدنا «ســهل وجبل»(‪ ((2‬وحملــت أغانيها الر َ‬
‫ّيف إلى‬
‫المدن ورمزي ّتها في ثنايا شدْوها‪ ،‬فتبر َْم َجت آذانُنا على‬
‫قلب المدينة‪ ،‬وما نأت عن استحضار روح ُ‬
‫سماعها مع انبالج فجرنا وعلى وقع رشفة قهوتنا وأنّى ارتحلنا‪.‬‬
‫َ‬

‫وجناحي ْها‬
‫َ‬ ‫ّحباني وابنة زقاق البالط تُفرد له صوتَها‬ ‫المشروع الر‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫جارة بيروت تحتضن‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫شــكلت‬ ‫رعــت انطليــاس الضاحية الســاحلي ّة الوادعة ‪ -‬وفوّارهــا‪ -‬تفت ّ َح براعِم أبناء حنّا الرّحباني‪.‬‬
‫ومســرحاً ُ‬
‫لمنادماتهــم الصاخبــة ُ‬
‫ومبارياتهم في قول‬ ‫َّ‬
‫مفضــا ً الجتمــاع قبضايات بيروت َ‬ ‫مراحــاً‬

‫‪123‬‬
‫بكر َكرة أراكيلهم العجمي ّة‪ .‬وهي ما تأخَّرت عن‬
‫المصاحبة َ‬
‫المــوّال البغدادي والعــزف على البزق‪ُ ،‬‬

‫قولي ملفوظ‪ ،‬يتّصف بالمرونة والسالســة‪ ،‬اتّكأ على تراكيب معيوشــة مازجت‬
‫ّ‬ ‫رفْدهم بنســيجٍ‬
‫سمّيعة المدينة‪« .‬أصحاب الشوارب»‬
‫ألمعي بين روح الريف الشادي وذائقة التطريب عند َ‬
‫ّ‬ ‫بذكاءٍ‬

‫المواظبــون علــى ارتداء القنبــاز العربي(‪ .((2‬كانــوا متًطلّبين َ‬


‫وصعبي اإلرضــاء‪ ،‬فأضحوا بعد حي ٍ‬
‫ن‬ ‫ُ‬

‫ي وصوت «شــيخ المينا» محمّد مرعي الذي «مثّل تراث‬


‫خير مثمّنين بل مر ِّددين الصوت الفيروز ّ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫المستعاد في األعمال الرحباني ّة»(‪.((2‬‬ ‫الغناء البيروتي العريق‬

‫فني مســتجّد‪ ،‬كلم ًة‬ ‫َّ‬


‫تفكر الرّحباني ّان في اســتيالد ضربٍ‬ ‫ومع تفتّح مواهبهما في «جارة بيروت»‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫تبصرا في‬ ‫روحي منشــود‪ .‬لذا‬
‫ّ‬ ‫ســامعه في حين تحيله عباراتُه إلى مالذ ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫يطرب‬ ‫و َلحناً وصوتاً عذباً‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بشــغف ظاهر‬ ‫ن تســتحضر عند متل ّ‬
‫قيها حنيناً وتســتولد ُ دهشــ َة متآلفَ ين ومقرونَين‬ ‫ابتــداع أغا ٍ‬

‫لإلبحار نحو مطارح بعيدة‪ .‬مطارح بل قرى وحواري ُم َتخَي َّلة‪ ،‬ال تشــبه البتّة تلك التي شــب ّوا فيها‬

‫سني عمرهم في ربوعها‪ ،‬وما تسنّى لهم مغادرتها‪.‬‬


‫ّ‬ ‫وعاشوا‬

‫عوالم غير‬
‫َ‬ ‫ي الرخيم ليشــي ّدا بخامته‬ ‫مســعى‪ ،‬فأبدعا في صقْ ِ‬
‫ل الصوت الفيروز ّ‬ ‫ً‬ ‫بمثابرتهما أفلحا‬
‫والســمات‪ ،‬وريفيّــة ُ‬
‫المرتكزات‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫مألوفــة أشــبه مــا تكون بـ»جنّة عــدنٍ» موعودة‪ ،‬لبناني ّة النشــأة‬

‫دا ضالّتهما في جمالي ّات صوت إبنة زقاق البالط‪ .‬نُخمّن أنّهما لم ي ُعيرا‬ ‫ُ‬
‫ومبتكرة االســتعارات‪َ .‬و َج َ‬
‫اهتمامــاً لمــا ي ُنادي به اللّســاني ّون أمثالنا من أ ّ‬
‫ن مفهوم الصوت هــو الجوهر الفيزيائي للكالم‪.‬‬

‫زماني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مكاني‬
‫ّ‬ ‫ل‬
‫نسج متخي ّ ٍ‬
‫ِ‬ ‫لكنّهم عملوا بمقتضاه؛ ففَ َ‬
‫عل فِ عله وأقدرهما ‪ -‬وأقدرها في آنٍ‪ -‬على‬
‫ٍ‬
‫لحم ودم»‪،‬‬ ‫قفه جمهو ٌر ذو ٌ‬
‫ّاقة «من‬ ‫بـــتصورات «ناس من ورق» وبكالمهم‪ .‬وســرعان ما تل ّ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يليق‬

‫ّاق ألمكنة ٍ متخي َّلة ي ُسافر إليها في غفلة من زمانه بعيداً عن هموم الحياة اليومي ّة ومواجعها‪.‬‬
‫تو ٌ‬

‫وصور ٍ ذهني ّة ُمستلَّة من شيفرةِ المكان‬


‫ق بياني ّة ُ‬ ‫اإلبانةُ عن المعنى ُ‬
‫بط ُر ٍ‬

‫تفاصيــل هذا العا َلم ُ‬


‫المتخي َّل الذي اصطنعــه لقاء الرّحباني ّين‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫لســنوات‬ ‫عاش جمهو ُر السَّ ــمّيعة‬

‫بصاحبــة الصــوت المالئكــي‪ .‬تجوّلوا طويال ً في شــعابه التي باتوا يعرفونهــا كظاهر يدهم‪ :‬زاوية‬
‫َ‬
‫وتالل صنوبر‪،‬‬ ‫ومحط ًة وقهو ًة وكركون‪ ،‬ودرجاً‬
‫ّ‬ ‫ومطرحاً ضي ّقاً «ما بيساع»‪،‬‬
‫بزاوية‪ ،‬وجنينة وكروماً َ‬
‫ُ‬
‫لســان حالهم َمقاطع‬ ‫شــطاً وبحراً‪ .‬بات‬
‫ّ‬ ‫دني»‪ ،‬وغديراً ومينا‪ ،‬وبرّاً ُمعانِقاً‬ ‫ّ‬
‫مطل ال ِّ‬ ‫و»شــجرة على‬

‫ال تخرج عن تصوّراتهم لالســتقرار والسُّ ــكنى‪« :‬يا مركب الرّيح ‪ ...‬خلّي البحر وانزل َع َبرّ»‪ ،‬و»أنا ال‬
‫عيناك ُ‬
‫هما سكني»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫سكن‪...‬أنا‬ ‫ٌ‬
‫أرض‪ ..‬وال‬

‫‪124‬‬
‫ٍ‬
‫نغمات جذلى‪ُ ،‬مســتنيرين‬ ‫َ‬
‫والمعزوف‬ ‫المنســوج كالماً طي َ‬
‫ّب العصارة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رافقــوا افتراضيّــاً در َبها‬

‫ْــج صوتهــا العــذب ذي البصمــة التي ال تتكــرّر مرّتَين‪ .‬فشــدا بـ»عصفــورة النّهرين»‪ ،‬وغنّى‬
‫بوه ِ‬
‫ّ‬
‫وحــط الرّحــال عنــد «دراج بعلبــك» بانتظــار ظهــور «الصبيّــة المســحورة»‪.‬‬ ‫«زهــرة الجنــوب»‬

‫وهداهــم إلــى طريق «بلد الحبايــب» التي تقطعها «ميس الريم»‪ ،‬مستأنســ ًة بصوت «راجح»‪.‬‬
‫ُ‬
‫«جبال‬ ‫ُ‬
‫المفضي إلى «نبــع الصفصاف»‪.‬‬ ‫قصــدوا «رمحــاال»‪ ،‬ومن ثــمّ عرّجوا على «درج الــورد»‬

‫الصوّان» و»كرم اللّولو» و»مروج السندس» ما عتبت عليهم؛ فمرّوا بها وتابعوا مشوارهم‬

‫العيــن» بعدما «هجروا األحبّــة الحارة»‪ .‬ومن‬


‫«عين الرمّان» حيث ســكن «كاســر مزراب َ‬
‫نحــو َ‬
‫ُ‬
‫المحاذي لـ «جســر القمــر»‪ .‬وحدها «ضيعة األغانــي» تفرّدت‬ ‫هنــاك قصــدوا «جســر اللّوزيّــة»‬

‫ق ترابي ّة تنتهي بـ»مينا الحبايب»‪ ،‬فســلكوها آمنين على هدي تغريدة «عصفور الجناين»‪.‬‬
‫بطريــ ٍ‬
‫َــي «اغتراب البحر‬
‫العين «البحر شــو كبير»‪ ،‬و َيعوا صورت ْ‬ ‫وتســنّى لهــم حينها أن يشــوفوا ِّ‬
‫بأم َ‬
‫فن» و»المينا الغجري ّة»‪.‬‬
‫بالسّ ِ‬
‫َ‬
‫«كفاف‬ ‫ٌ‬
‫شــتهاة بقدر ما هي صعبة اإلدراك والبلوغ‪ ،‬ومنها نهلوا‬ ‫ٌ‬
‫مرســومة بعناية‪ُ ،‬م‬ ‫هي طبيعة‬

‫أحالماً معلّقة آنست جمهورهم أينما ارتحل‪.‬‬


‫َ‬ ‫يومهم»‬

‫ي يستولد شغفاً ويجتني دهشة‬


‫الصوتي الفيروز ّ‬
‫ّ‬ ‫الوسيط‬

‫مــا تــرد َّد صن ّ ُ‬


‫اع الفرح المدينيّــو الهوي ّة والهوى في اختيــار الحنجرة الفيروزي ّة وســيطاً تواصليّاً‬

‫لســماع جديدهم صفو َة إبداعاتهم الفني ّة‪ .‬استيقنوا‬


‫العربي المتأه ّب َ‬
‫ّ‬ ‫الجمهور‬
‫َ‬ ‫ُمالئماً ليودعوا‬

‫فارقاً وتَرســم واقعــاً يوتيوبيّــاً‪ .‬فعادوا إلى تــراث بني‬


‫ِ‬ ‫ن بغيتَهــم مدا ُرهــا لغــة فنيّــة تصنــع‬
‫أ ّ‬

‫قومهــم‪ ،‬مثلما إلى مخزون بيئتهم الشــعبي ّة الســاحلي ّة التي غرفوا من فضائهــا ألفباء النَّظم‬

‫إيقاع عــز ْ ِف البزق‪ .‬اصطنعوا‬


‫ِ‬ ‫ســرحة وارتجــال الرد ّي ّات والمواويــل على‬
‫َ‬ ‫والم‬
‫َ‬ ‫والغنــاء والرقص‬

‫لغــ ًة حالمــة تنقل تصوّراتهم المبتَكرة لضيعة ٍ متوه ّمة‪ ،‬هاربــة من قدرها ومن فظاظة العيش‬
‫واألوضــاع المريــرة التــي صارت إليهــا العالقات‪ .‬والجتــذاب جمهورهم ما ّ‬
‫قصروا في اســتيالد‬
‫ُ‬
‫والمتخي ّل‪.‬‬ ‫َــي الواقع‬
‫فت ْ‬ ‫لوص ِف مطارح تتأرجح مكانــاً وزماناً بين ض ّ‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫كنايــات‬ ‫ٍ‬
‫اســتعارات وابتــداع‬

‫جمهورهم على استعادة وجوه أناسها وتفاصيل مرافقها‪ :‬طرقات وكروم وروابٍ وتالل‬
‫َ‬ ‫عوَّدوا‬
‫ومروج وجســور وطواحين‪ .‬فاســتظهرها هــؤالء‪ ،‬وما رغبوا يوماً فــي التح ّ‬
‫قق من وجودها وال‬

‫معانقة جدرانها!‬

‫‪125‬‬
‫العربي‪ ،‬فصيحاً كان أم َمحكيّاً ومعيوشاً أم ُملبْنَناً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫القولي‬
‫ّ‬ ‫اصطفوا مفرداتِهم من عيون النَّظم‬

‫ومطارح‬ ‫ي الش ّ‬
‫فاف بعيداً إلى فضاءات َ‬ ‫فرا َكموا مفرداتي ّة «رحباني ّة» ثري ّة حملها ِ‬
‫المخيال الفيروز ّ‬
‫ٌ‬
‫نصوص‬ ‫ُ‬
‫فقوامها‬ ‫ِم ال‬ ‫مســتح ّ‬
‫قة الد ّرس ســيميائيّاً‪ .‬وســرعان ما عرفت طريقها نحو القلوب؛ ول َ‬
‫غماري ْها اللّفظي والمفهومي‪.‬‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫سهلة ُممتنعة استساغها الجمهور وأقبل على َخو ِ‬
‫ْض‬
‫ســبكت بنَفَ ٍ‬
‫س شــاعري‬ ‫ّ‬
‫موشــاة ُ‬
‫بصور ٍ بالغي ّة ُ‬ ‫كان عمادُهــا مفاتيــح كالمي ّة دارجة على األلســن‪،‬‬
‫ُ‬
‫رجع ّ‬
‫الصدى‬ ‫بعبارات سلســة‪ ،‬ذات نكهة ٍ لبناني ّة جبلي ّة‪ ،‬بل ُق ْل مديني ّة ومتمد ّنة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫مرهف‪ ،‬وصيغت‬
‫ْ‬
‫شــاكلت إلى حدٍّ معقول كالم‬ ‫ْ‬
‫قعت َموقعاً حســناً عند أهل الســاحل‪،‬‬‫ما خالف التوقُّعات‪ .‬فهي َو‬

‫المتقلّبي المزاج‬
‫المدن‪ .‬وتنزّلت برداً وســاماً على أســماع البيارتة ُ‬ ‫أهل الجبل‪ ،‬ولم تن ّ‬
‫فر أهل ُ‬

‫الجبلي الطابــع مثل‪ :‬النبعــة والصفصافة والبيدر‬


‫ّ‬ ‫الزجلي‬
‫ّ‬ ‫والذيــن مــا َعنــت لهم مفاتيح الــكالم‬

‫والشير والمعدور وعنزة أبو طنّوس(‪ .((2‬وما لبثوا أن استبدلوها بصبي ّة الجسر ومختار القاطع‬

‫وضرّيب المندل وكرم اللّولو وطريق النحل‪.‬‬


‫والعربي عن تل ّ‬
‫قي مثــل هذه الصور المجازي ّة‪ .‬استســاغا تراكيبها‬ ‫بناني‬‫مــا تأخّــر الجمهــوران الل ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصــدى أنّها أثّرت‬ ‫ُ‬
‫رجع ّ‬ ‫صعوبات رافقت تشــفير دالالتها‪َ .‬‬
‫وأثبــت‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫وأنســا إليهــا علــى الرّغم مــن‬
‫ُ‬
‫مختلف شــرائح ُ‬
‫المجتمع «الســمّيع» بمنطوياتها‪،‬‬ ‫العــام‪ ،‬بقدر ما تأثّــرت‬
‫ّ‬ ‫الطربي‬
‫ّ‬ ‫فــي المــزاج‬

‫ن ََغمــاً ُمتقنــاً وصوتاً مالئكيّاً‪ .‬صوت ما فتئ يشــدو حكايا الناس والوجــود ببالغة عفوي ّة‪ ،‬موحية‬
‫تخوم الجغرافيا العربي ّة؛ فاستحسنها ُ‬
‫المقيمون‬ ‫َ‬ ‫العام‪َ .‬عبرت‬
‫ّ‬ ‫رشقة‪ّ ،‬‬
‫قل مثيلها في الوجدان‬ ‫وم ّ‬
‫ُ‬
‫ٌ‬
‫حنين لزيارة أماكــن اندرجت في أغا ٍ‬
‫ن‬ ‫بعض الســي ّاح العرب تملّكه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والمغتربــون على حد ّ ســواء‪.‬‬

‫فيروزي ّة رد ّدها و َدن ْ َ‬


‫د َن كلماتها(‪.((3‬‬
‫ّ‬
‫ومحطات التلفزة وفي الحفــات والمهرجانات‪ .‬فكان‬ ‫تخاطــب الرّحابنة مــع جمهورهم عبر األثير‬
‫َ‬
‫تقصدوا أن يكون مسموعاً من النفس إلى‬
‫ّ‬ ‫حس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حديثاً صاخباً ومهموساً‪ ،‬ومسبوكاً بذكاء ورهافة‬

‫فلت شــفتا فيروز وحنجرتُها الصد ّاحة أن تلقى العبارات الرّحباني ّة ببالغتها المأنوســة‬
‫النفس‪ .‬وتك ّ‬
‫المتراسلة والمتأه ّبة للتل ّ‬
‫قي والتذوُّق واالستزادة‪.‬‬ ‫إنصاتاً جي ّداً من جمهور ٍ عريض قاب ٍ‬
‫ل بحواسّ ــه ُ‬
‫المدارك أحالماً معلّقة ولوَّح بمســر ٍ‬
‫ّات بعيدة‬ ‫المرتجى َف َع َل فِ ع َله؛ َ‬
‫فأيقــظ في َ‬ ‫التواصــل الفنّــي ُ‬
‫ُ‬

‫المنال‪ .‬فعوّضت مباه ُ‬


‫ج كلماته األفرا َد ُ‬
‫المنصتين عن اســترجاع أثقال الحياة اليومي ّة ومواجعها‪،‬‬
‫وتسلَّلت مجازاتُه بخفر ٍ ودعة ٍ إلى َمدارك جمهور ٍ شغف ي ُحسن التل ّ‬
‫قي بقدر ما ي ُتقِ ن اإلصغاء‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫ي يستقط ُر من ضروب بالغة الناس عصار ًة روحي ّ ًة طي ّبة‬
‫المِ خيال الفيروز ّ‬

‫المرصعة ج َ‬
‫ُمل أغانيه‬ ‫ِّ‬ ‫أساسي في العمل الفنّي‪ ،‬لذا فالصور البالغي ّة‬
‫ّ‬ ‫المكون اللّغوي‬
‫ِّ‬ ‫ن‬ ‫ّ‬
‫شك أ ّ‬ ‫ال‬

‫امتلك عاصي ومنصور‪-‬‬


‫َ‬ ‫حوارات مســرحي ّاته لم تَغِ ب عن صنّاع اإلرث الرّحباني‪ .‬فبعدما‬
‫ِ‬ ‫والمك ِّللة‬
‫ُ‬

‫والخاص‪ ،‬وانتزعوا اعترافاً عربيّاً بمدرستهم‬


‫ّ‬ ‫ُ‬
‫المبتكر‬ ‫وزياد في مرحلة الحقة‪ -‬فضاءَهم اإلبداعي‬

‫الفنيّــة وبكينونتهم التعبيري ّة المســتقلّة‪ ،‬طوَّعــوا بحِ َرفي ّة ٍ «لغةً» مجازي ّة ُمكثّفــ ِة الصور البالغي ّة‬

‫ي‬
‫الثقافي الحضار ّ‬
‫ّ‬ ‫بالمخرجات اللّغوي ّة االجتماعي ّة لمكوّنهم‬
‫ُ‬ ‫وم ِرنة التراكيب‪ .‬كما استعانوا بذكاءٍ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫لجماعات ناطقة بالعربي ّة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫المتغي ّر‬ ‫أنماط العيش‬
‫َ‬ ‫فتَرجمت بمهارة‬

‫َأحســنوا االتّــكاء على بالغة النــاس‪ ،‬ابتكروا من َل َ‬


‫دنهــا جديدهم‪ ،‬فحملتهــم ‪-‬وجمهورهم‪ -‬من‬

‫ومدهش‬ ‫المستثيرة في النفس البشري ّة َّ‬


‫كل ما هو جميل وساحر ُ‬ ‫أرض الواقع إلى ديار األحالم ُ‬
‫ٍ‬
‫فضاءات متخي ّلة مفردات‬ ‫ومبتكر‪ .‬لغة «كسرت حدود الثواني»‪ ،‬وفق تعبير نزار قب ّاني‪ ،‬وحلّقت في‬
‫ُ‬
‫وتراكيب ومجازات ُمبتدعة‪ .‬بانبهار تل ّ‬
‫قاها الجمهور ألنّها «غير ِ‬
‫شــكل»‪ ،‬غايرت مألوفه وانســابت‬

‫إلى ذائقته الفني ّة العطشى بحنجرة ٍ ال تُضاهى نقاو َة صوت‪ .‬وما ُعد َّ من الملتقطات والمروي ّات‬

‫أو من «توافه» الكالم أضحى يستقط ُر «عصار ًة طي ّية» وفق مقولة ميخائيل نعيمة(‪.((3‬‬
‫ٍ‬
‫بإضافات من اإلبداعات البالغي ّة والبيانيّــة بغية اإلبانة عن مقاصدهم‪،‬‬ ‫زيَّــن الرّحبانيّــان عباراتهم‬

‫المضمر بأحســن وجــوه األداء‪ .‬وكما تُنبــئ عناوين ُمنتقاة مــن «ريبرتوار» أغاني‬
‫وعــن المعنى ُ‬
‫فيــروز(‪ ((3‬فالتشــبيه األغلــب الذي لجآ إليه أتــى بمعظمه مدحــاً‪ ،‬وأقدر المتل ّ‬
‫قيــن على الهروب‬
‫«الناعم» من فظاظة الواقع والتحليق في عوالم ُمشــتهاة‪ .‬وبما أنّهما تي َّقنا من أ ّ‬
‫ن السّ ــرّ في‬
‫ُ‬
‫تصل إلى العقل الباطن بســرعة‪،‬‬ ‫يكمــن في أنّها صو ٌر ذهنيّــة‬
‫ُ‬ ‫شــيوع اســتخدام الصــور البالغي ّة‬

‫ي‬
‫ــر للصــوت الفيروز ّ‬
‫رســخَت بيســر ٍ في َمدارك الجمهور‪ .‬ممّا يسّ َ‬
‫الختــاق صور ٍ بليغة َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫وظفاهــا‬

‫الساطع إشهار تصوّراتهم عن اإلنسان والوجود‪ ،‬وعن الحبّ والوفاء واالنتماء بأفكار ٍ واضحة‪.‬‬

‫بين السَّ كينة والتبايُن الخلدوني َّي ْن‬

‫فضاءت المؤانسة‬
‫ِ‬ ‫ي المتفرّد أنّه يحمل سامِ َعه إلى‬ ‫حسب ُنا القول إ ّ‬
‫ن من حسنات الصوت الفيروز ّ‬
‫هم الجهة المتل ّ‬
‫قية‬ ‫ناسها ُ‬
‫ُ‬ ‫«الناس في السّ كينة سواء»‪.‬‬
‫َ‬ ‫كاشفة‪ .‬وفضيلته أنّه يجعل‬
‫والم َ‬
‫ُ‬ ‫والبوح‬
‫َ‬
‫مسرحة‪.‬‬
‫َ‬ ‫والمفسرة منطويات رسائل الحنين التي تتناثر في نصوص أغانيها الفردي ّة أو تلك ُ‬
‫الم‬ ‫ِّ‬

‫‪127‬‬
‫التخييلي‬
‫ّ‬ ‫مفــردة السّ ــكينة السّ ــديدة تُظ ِّلــل االجتماع البشــري عموماً‪ ،‬كمــا ينبض بها المــكان‬
‫ائتالف الصوت والكلمة واللّحن‪.‬‬
‫َ‬ ‫ح بها األداءُ الفيروزيّ‪ ،‬وتك ِّل ُل‬
‫ّحباني‪ ،‬وينض ُ‬
‫ّ‬ ‫الر‬
‫قي وفي القدرة على تشفير‬ ‫ٌ‬
‫تمايز في التل ّ‬ ‫ساني هو في اعتبارنا‬ ‫التباين الخلدوني بالمفهوم الل ّ‬
‫ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المالئكي إلى أســماع جمهورها وهو في‬
‫ّ‬ ‫انســاب صوتُهــا‬
‫َ‬ ‫المضاميــن وتفســير المجازات‪ .‬فإذا‬
‫و«أســكرتْهم» مجازاً‪ .‬فتباينوا في رج ِْع ّ‬
‫الصدى الذي ينجم‬ ‫َ‬ ‫تجل‪َ ،‬أطربتْهم بالغتُه حقيق ًة‬
‫ٍّ‬ ‫لحظات‬
‫ِ‬
‫بالمضمر وتأه ّبهم لتقبُّــل ذاك ُ‬
‫المتخيّــل وغير المألوف‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫قيهــم وكيفي ّات تأثرهــم‬ ‫عــن آليّــات تل ّ‬

‫الــذي لمّــا يتناهى إلى ذائقتهم الطربي ّة‪ .‬ويســتوي الحــال أكان المكان مدينــة أو بلدة أو قرية‬

‫معروفيــن (بيــروت وحماليا وتنّوريــن وميفوق والزّوق والقلمون)‪ ،‬أو َ‬


‫ســكناً مأهوالً في لبنان‬
‫المنسي ّة‪ ،‬كوخنا‪ ،‬دار بتلوح‪ ،‬بيت زغير بكندا‪ ،‬بيتنا بالجزيرة)‪،‬‬
‫وديار االغتراب (بيت الحبيب‪ ،‬األوضة َ‬
‫فترضاً‪ ،‬على شاكلة «جبال الصوّان» و«طريق النحل» و«كرم اللّولو» و«كرم‬
‫أو َمطرحاً رومنسيّاً ُم َ‬
‫العاللــي» و«الطريــق اللّيلكــي»‪ ،‬أو «جســر اللّوزي ّة» و«مينــا الحبايب»‪ ،‬أو حتّــى «ضيعة األغاني»‬
‫«عين الرمّان»‪.‬‬
‫أكانت «كفرحاال» أم َ‬

‫ٌ‬
‫استنتاجات عامّة‬

‫ّحباني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ي األثير ال ي ُغادران روح المســرح الر‬ ‫الحقيقي وذاك ُ‬
‫المتخي َّل بالصوت الفيروز ّ‬ ‫ّ‬ ‫ ‪-‬المكان‬
‫بــل يتماهيــان ويتآلفان معه لكأنّهما بحد ّ ذاتهما ي ُمثّالن البلد‪ .‬صاغا بأوتارصوتها جمالي ّات ُمدن‬
‫هما في حســبان متل ّ‬
‫قيهما مجرّدان بما يحويانه من‬ ‫وض َيع تتنائر على خارطة الوطن‪ .‬و ُ‬
‫وبلدات ِ‬
‫ُ‬
‫وطرائق تمثيله أمكن ًة إسمنتي ّة حقيقي ّة موسومة‬ ‫كل منهما‬ ‫ُ‬
‫تناقض رمزي ّة ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫إيحاءات ودالالت‪ ،‬لذا‬
‫المغرد لــم ُ‬
‫يكن أدا ًة ناقلة فحســب بل‬ ‫ِّ‬ ‫فــي وعيــه ببرودتهــا وجفائهــا وحيادي ّتها‪ .‬لــذا فالصوت‬
‫ُ‬
‫المرتجى األدائي‪.‬‬ ‫واسط َة عبور ٍ ُمستحبّ إلى حيث يبلغ بالسّ امع‬
‫ُ‬
‫أيقونــة لبنان وســفيرتُه إلى النجوم بحنجــرة ٍ عذبة تتمايز أداءً وإيصاالً‪ .‬انســابت إلى‬ ‫ ‪-‬تألّقــت‬
‫المغنّاة منظومة رموز‬
‫للمستمع أنساً ُمبتدعاً توسّ ل في نصوصه ُ‬
‫ُ‬ ‫األفئدة حال ًة وجداني ّة‪ ،‬وتجلّت‬
‫ٍ‬
‫شــيفرات مألوفة ومعروفة ُمسبقاً لديه‪ .‬فال غراب َة أن‬ ‫وعالمات ســيميائي ّة اســتحضرها بوصفها‬
‫حال أبداً دون‬
‫ن ذلك ما َ‬ ‫المبتدعات توقّعات المتل ّ‬
‫قي والمتأه ّب للسّ ماع واالستمتاع‪ .‬لك ّ‬ ‫تفوق ُ‬
‫َ‬
‫وصول الرسائل العاطفي ّة والوجداني ّة والوطني ّة إلى األفئدة واألذهان‪.‬‬
‫ن اللّغ َة ال تُسعفهما يحوّالن بمهارة‬ ‫المرسل والمتل ّ‬
‫قي‪ -‬أ ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫طرفا عملي ّة التواصل –‬ ‫ ‪-‬حينما يعي‬
‫ُ‬
‫الواقع بهما يخلقان لغ ًة ُموازية أو بديلة‪ ،‬ويصطنعان‬ ‫ُ‬
‫يضيق‬ ‫دالالتها لتت ّ َ‬
‫سع ألغراضهما‪ ،‬وعندما‬

‫‪128‬‬
‫الوسيط بذاته ولذاته‪.‬‬
‫َ‬ ‫أسلوباً أكثر استرخاءً‪ُ ،‬محمّلين بمعا ٍ‬
‫ن ودالالت جديدة‪ ،‬في ُصبحان‬

‫عبــره حيثيّتَهم الكياني ّة كان‬


‫َ‬ ‫ّس اللّبناني ّون ‪ -‬والعرب ‪-‬‬
‫ي الــذي تلم َ‬
‫الصــوت الفيروز ّ‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫نزعــم أ ّ‬‫ ‪-‬‬
‫ُ‬
‫وباقة الصور المجازي ّة التي أرساها في المدارك‬ ‫خير وسيط ُمبتدع إلشاعة الّسكينة في قلوبهم‪.‬‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫لبث َمشــاعر فرح وأمان‬ ‫دغدغــدت المشــاعر وداعبت النفــوس التّعبة‪ .‬بات هــذا ُ‬
‫المتاح مؤهّال ً‬

‫ّحباني عند جمهور السمّيعة‪.‬‬


‫ّ‬ ‫وبهجة استولدها اإلبداع الر‬
‫ٍ‬
‫استعارات وتشابيه حمّالة أوجه ورحبة‬ ‫ ‪-‬اصطاد صن ّ ُ‬
‫اع الحالة الفني ّة الرّحباني ّة الصاعدة منظوم َة‬
‫ٍ‬
‫كدرس من دروس البالغيي ّن‪ .‬رأوا فيه جديداً؛‬ ‫الدالالت‪ .‬لم يتعاطوا مع التّشبيه الذي ي ُستند إليه‬

‫ِس على ألســنة النّاس‬ ‫والصور الذّهني ّة‪َ ،‬م ِر ٌ‬


‫ن مِ طواع‪ ،‬وســل ٌ‬ ‫ّ‬ ‫فهو كغيره من أنواع ُّ‬
‫الطرق البياني ّة‬

‫الذين يستســيغون جمالي ّاته‪ ،‬ويســهل عليهم تشــفير دالالتــه‪ .‬ما توانوا عن االســتعانة الذكي ّة‬
‫بضروبه الجمالي ّة المأنوسة والمفهومة‪ ،‬فبلغوا بواسطتها ّ‬
‫جل مرامهم‪.‬‬

‫ســتلهم قضايا الناس‬ ‫ِ‬ ‫ي ُ‬


‫الم‬ ‫ي اللّغو ّ‬ ‫ي المتجد ّد لحناً وإيقاعاً وحركةً‪ ،‬وذاك التعبير ّ‬‫ ‪-‬األداء الفن ّ ّ‬
‫ّحباني‪ .‬تدثّرا لبوســاً غنائيّاً إفراديّاً‬
‫ّ‬ ‫المســبوكة عباراتها بلســانهم‪ ،‬تحــاورا وتجاورا في النّتــاج الر‬

‫نسج صنّاعه حكايتهم‬ ‫ٌ‬


‫َ‬ ‫إبداعي ُم َمسْ َ‬
‫ــرح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قولي مرهف البالغة والشــاعري ّة‪ ،‬وتشــكيل‬
‫ّ‬ ‫صوغ‬ ‫قوامه‬
‫ّ‬
‫وسكني ّة ومكاني ّة‪ .‬استدعوها بدراية‬ ‫ومبتدعة‪ ،‬تمثلوها بباق ِة رموز ٍ عمراني ّة َ‬
‫ل موجزة‪ ،‬بليغة ُ‬ ‫بأقوا ٍ‬

‫الثقافي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من بيئتهم‪ ،‬تخي ّلوا بعضها‪ ،‬واستلهموا تراكيبها من موروثهم‬

‫الفنــي المتألّــق مكاناً وزمانــاً والمتوه ّــج موضوعاً أنّه د ُ ِّون ونُشــرت‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬فضيلــة هــذا الخطاب‬

‫وســائط ثابتة ومتحرّكة (المســرح‪ ،‬اإلعالم المرئي والمسموع‪،‬‬


‫َ‬ ‫ُمضمراته ُ‬
‫‪-‬مضمرات الناس‪ -‬عبر‬
‫األسطوانة‪ ،‬الكاسيت والسي دي‪ .)..،‬الرسائل المدمجة صوتاً ولحناً ولغة تل ّ‬
‫قاها جمهو ٌر ذوّاقة‪،‬‬
‫فآنست مشاعره وتَرجمت أحواله واستش ّ‬
‫فت ارتقاباته‪.‬‬

‫المغنّــاة‪ ،‬فصيحها ودارجها‪.‬‬ ‫ّ‬


‫ســجل الكلمــة العربي ّة ُ‬ ‫ ‪-‬أفلــح الرّحبانيّــان فــي ترك بصمتهما في‬
‫ي المشــرق والمغرب‪ ،‬وعوّضا ُ‬
‫المنتشرين‬ ‫فالمســا مشــاعر َع َر َب ْ‬
‫َ‬ ‫فازا بمبتغاهما وبرضا الجمهور‬

‫د َر لهما أن ي ُغايرا في مألوفي ّات العوالم الطربي ّة المعهودة‪،‬‬ ‫ُ‬


‫«نوستالجيا» الب ُعد عن المواطن‪ .‬ق ِّ‬
‫طغيان‬
‫ِ‬ ‫المتحلّلة من‬ ‫ن بالنغمــة المتفــرّدة لحنــاً وإيقاعاً‪ ،‬أو بمفاتيح الكالم َ‬
‫الم ِرن والتراكيــب ُ‬ ‫إ ْ‬

‫ّ‬
‫تبصــرا فتدب ّرا‬ ‫الســمات واألوصاف‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ّحباني‬
‫ّ‬ ‫ســمات مناطقيّــة لبنانيّــة دامغــة‪ ،‬اللّهم ريفهمــا الر‬
‫ٍ‬

‫ي النبرة على وقْع‬


‫ي ســاطع وقــو ّ‬ ‫ٍ‬
‫بصوت فيروز ّ‬ ‫أمرهمــا‪ ،‬وشــهد لبنان والعرب تفتُّح مواهبهما‬

‫‪129‬‬
‫دك‬
‫مالئكي وخفيض وســهل االنســياب مع « َبع َ‬ ‫دم ُ‬
‫ْكــن َع األرض هد ّارة»‪ ،‬بقدر ما هو‬ ‫«خبطــة ق َ‬
‫ّ‬
‫على بالي يا قمر الحلوين»‪.‬‬

‫خاتمة‬

‫ّحباني متمثّال ً بخامته‬


‫ّ‬ ‫مخرجات اإلرث الر‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫يتقصد تناوُل‬ ‫فتبصرنا واجت ََهدْنــا َ‬
‫فكتَب ْنا‪ .‬مقالنا لم‬ ‫ّ‬ ‫قرأنــا‬
‫َ‬
‫تقصــى بعضاً من بناه‬
‫ّ‬ ‫الصوتيّــة الفيروزيّــة‪ ،‬وبتراكيبــه ورمــوزه وأيقوناته المكاني ّة فحســب‪ ،‬بل‬
‫ّ‬
‫وتشكل جزءاً أساسيّاً من نظري ّة اإلبالغ‪ .‬شققناها‬ ‫البالغي ّة التي ت ُ ِّ‬
‫رصع عالمه المتخي ّل والمشوّق‪،‬‬

‫ّب على‬ ‫رجع صداها وجمالي ّات تل ّ‬


‫قيها عند جمهور تهي ّأ وتدر َ‬ ‫َ‬ ‫وحلّلناها وتمثّلنا ببعضها كما اقتفينا‬

‫ّق إبداعاتِها‪.‬‬
‫تذو ِ‬
‫ّحباني الفيــروزيّ» المجاور والمحاور‬
‫ّ‬ ‫ن عــد ّة معا ٍ‬
‫ن ودالالت اجتمعت فــي المكان «الر‬ ‫الحظنــا أ ّ‬
‫ّ‬
‫ومؤشــراً لالســتقرار وحاضن ًة‬ ‫للّغة‪ .‬قاربناه في حقيقته مثلما في ُمتَخي ّله‪ ،‬فتنزّ َل صنواً للسّ ــكينة‬
‫الريفي ُ‬
‫المشعِ َران بالعمران‬ ‫ّ‬ ‫والمع َل ُ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫لالجتماع الثقافي‪ .‬وكما أظهرت المعطيات فالحي ُّز الحضري‬
‫ّ‬
‫سكاني ّة أو ملحقات‬ ‫ٍ‬ ‫وبالعراقة في الحضارة حاضران في الواقع والوجدان‪ ،‬وليسا مجرّ َد تجم‬
‫ّعات‬

‫وهوامش أو مالذات مؤقتة معرّضة للزوال‪ .‬والصو ُر الحقيقي ّة والمجازي ّة المرســومة لهما في‬

‫المدروس أو تناقضه كلّيّاً‪.‬‬


‫َ‬ ‫الواقع‬
‫َ‬ ‫األذهان ال تغاي ُر‬

‫أغرمت فيروز بالوصف المكاني بل بالمكان ‪ -‬بكلي ّاته وجزئي ّاته‪ -‬فصار الواحد ُ يسرح في «المكان‬

‫الفيروزي»‪ ،‬كما استنتج الباحث محمّد أبي سمرا(‪.((3‬‬

‫صاحبة «القلب المشب َّك بحجارة بعلبك» استغرقت في هذا المكان الذي احتضن التاريخ‪ ،‬فصدحت‬

‫في ظالل قلعته الســرمدي ّة ولســان حالها‪« :‬أنا شمعة على دراجِ ك»‪ .‬أحالت سامعها إلى «طبيعة‬

‫المبتدع‬ ‫ن األغنية الفيروزي ّة هي بحد ّ ذاتها المكان‪ ،‬بل هي رحلة إلى ّ‬


‫الاّلمكان ُ‬ ‫إلى مناخ‪ ،‬ونحسب أ ّ‬
‫سكين َة النّفس بعدما استيقنوا أنّها تجعلهم سواء‪ ،‬تل ّ‬
‫قياً‬ ‫ّ‬ ‫لمتل ّ‬
‫قين يأنسون االرتحال إليه‪ .‬تدثروا َ‬
‫وتأثّــراً وتذوّقاً‪ .‬أمّا الل ّ ُ‬
‫غــة ‪-‬ومجازاتُها ‪ -‬التي يعتصمون بتراكيبها لبلوغ أمانهم الداخلي المرجوّ‪،‬‬

‫دور ٍ أساسي في التشييد االجتماعي للواقع‪ ،‬كما‬ ‫فهي ليســت وســيل َة تواص ٍ‬
‫ل حيادي ّة‪ ،‬بل تقوم ب َ‬
‫رحباني الختم والتوقيع‪.‬‬ ‫السيميائي للمكان‪ ،‬أكان فيروزيّاً حالماً أم‬ ‫ُ‬
‫التحليل‬ ‫ي ُبي ّن‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫ح الفيروزي ّة‬ ‫استنطاق سحر المكان وأن ْ َ‬
‫سنَة دفق الكلمات‪ ،‬تعالقت الرو ُ‬ ‫ِ‬ ‫بخام ِة صوتها ُ‬
‫المبدع في‬

‫الجمهور في تشــكيل‬
‫َ‬ ‫المتوثّبة مع الوجود ُمحيطاً وكينونةً‪ ،‬وبقدرتها التخي ّلي ّة الفائقة َأشــركت‬

‫‪130‬‬
‫فارقة لواقعــه‪ .‬أمّا الرحبانيّــان فخَرجا إلى كنف الناس بأســلوبٍ‬
‫وم ِ‬‫صــورة ٍ ُمشــتهاة عن نفســه ُ‬

‫تقصي دقائق الشــخصي ّات واســتكناه أطباعها المتقلّبة األمزجة‪ .‬فســلَّطا‬


‫ّ‬ ‫حكائي ُمبتدع أفلح في‬
‫ّ‬
‫ح زماناً ومكاناً‪ .‬كما بثّا حيا ًة‬
‫الضوءَ على هوامش َعيشــهم المتغي ّر في معارج الوجود الذي يندا ُ‬

‫في «توافه» قولهم اليومي السائر‪ .‬فتجلّيا بريشتهما وقيثارتهما فنّاً راقياً ارتقى بسامعيه نحو‬

‫قل مثيلُها في دنيا العرب‪.‬‬


‫نضح بالغ َة البالغات بأوتار حنجرة ٍ مالئكي ّة َّ‬
‫َ‬ ‫السموّ‪ ،‬ومتْناً‬

‫‪131‬‬
‫نبيل سليمان*‬

‫مــا كادت نهــاد وديع حد ّاد تحمل اســم فيــروز باقتراحٍ من حليم الرومي‪ ،‬حتّى َو َ‬
‫قع َفي ســحر‬
‫صوتها األمير يحيى الشهابي الذي كان مدير البرامج وكبير ُمذيعي اإلذاعة السوري ّة‪ ،‬فدعاها مع‬
‫عاصي ومنصور إلى دمشــق‪ ،‬حيث صاروا يحضرون ّ‬
‫كل يوم أحد‪ ،‬ويســجّلون لإلذاعة ما سيكون‬
‫القومي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ي في السيرة الفيروزي ّة‪ ،‬بطابعه‬
‫الفصل السور ّ‬

‫ّ‬
‫أقل من خمس ســنوات على هزيمة العرب الكبرى‬ ‫تلــك البدايــة كانــت في العام ‪ ،1953‬أي بعد‬
‫التــي اشــتهرت بنكبة فلســطين في العام ‪ .1948‬وتلــك البداية كانت أيضاً فــي ذروة االنقالبات‬
‫كصدى للهزيمة‪ /‬النكبة‪ ،‬وأوّلها انقالب حسني الزعيم (‪ ،)1949/3/31‬فانقالب‬
‫ً‬ ‫العســكري ّة الكبرى‬
‫ســامي الحنّــاوي (‪ 3‬آب ‪ ،)1949‬فانقــاب أديب الشيشــكلي فــي ‪ ،1949/12/19‬فاالنقالب الرّابع‬
‫للشيشــكلي نفســه في ‪ ،1951/11/29‬وســيلي االنقالب الخامس فــي ‪ ،1954/2/25‬من دون أن‬
‫ننسى ثورة ‪ 1952/7/23‬في مصر‪.‬‬
‫مــن ارتــدادات الزلزال الفلســطيني عــام ‪ 1948‬كانــت االنقالبات‪ .‬ومــن َقبل كانت قد أنتَشــت‬
‫المتمثّلــة في التي ّار القومــي العربي‪ ،‬والتي ّار الســوري القومي‪،‬‬
‫التيّــارات السياســي ّة‪ /‬الثقافيّــة ُ‬
‫والتي ّار الشــيوعي‪ ،‬والتي ّار اإلســامي‪ .‬وســوف يغــدو التي ّار القومــي العربي (البعــث‪ ،‬الناصري ّة‪،‬‬
‫بخاصة الهواءَ الذي َت َن َّ‬
‫فســته مرحلة الخمســيني ّات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫القوميّــون العرب) والتي ّار الســوري القومي‬
‫دي ْن تال َيي ْن‪ ،‬من دون أن ننسى االنقالبات العسكري ّة والصراع العربي اإلسرائيلي‪.‬‬
‫ولعق َ‬

‫*روائي وناقد من سورية‬

‫‪132‬‬
‫الشامي ّات‬
‫إنّــه – إذن – الهــواء القومي المتعلّق ببالد الشــام‪ ،‬والذي تن َّ‬
‫فســته الظاهــرة اإلبداعي ّة الكبرى‪:‬‬
‫الظاهرة الفيروزي ّة‪ .‬ومن البدايات الغريرة األغنية الرحباني ّة «ســوريا» وفيها‪« :‬ســوريا‪ ..‬ســوريا‪/‬‬
‫مواكب تسير في مطالع الضياء‪ /‬سوريا‪ ..‬سوريا‪ /‬فاخفضي الجباه يا جبال لإلباء»‪.‬‬
‫ن صوت فيروز ينوء أحياناً تحت ضغط ما َط َب َع األغاني بعامّة من‬
‫وي ُلحظ بقوّة في تلك البدايات أ ّ‬
‫التحريضي ّة والحماسة وصراع النثري ّة مع الشعري ّة‪.‬‬
‫كان أوّل ظهور لفيروز في دمشــق‪ ،‬كما َيذكر جان ألكســان في كِ تابه «الرحباني ّون وفيروز»‪ ،‬على‬
‫مسرح سينما دمشق في شباط‪ /‬فبراير ‪ ،1952‬حيث شاركت مع سعاد محمّد وحنان في الحفل‬
‫مؤازرة لتســليح الجيش الســوري‪ .‬وقــد غنَّت فيروز فــي هذا الحفل‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫لجنة‬ ‫الفنّــي الــذي أقامتــه‬
‫األخوي ْن الرحباني‪ ،‬ومن األغنية‪/‬‬
‫َ‬ ‫«ذكرى بردى» من شعر بشارة الخوري (األخطل الصغير) وألحان‬
‫القصيدة‪« :‬أنا مذ ْ أتيت النهر آخر ليلةٍ‪ /‬كانت لنا ذكّرته إنشادي‪ /‬وسألته عن ض َّ‬
‫فتيه ألم يزل‪ /‬لي‬
‫فيهما أرجوحتي ووســادي‪ /‬بردى هل الخلد الذي وُعدوا به‪ /‬إالّك بين شــواد ٍ‬
‫ن وشوادي‪ /‬قالوا‪:‬‬
‫َب األخوان فليفل اللّذان‬ ‫ُ‬
‫وقلت‪ :‬فــؤادي»‪ .‬وقد َكت َ‬ ‫ٌ‬
‫مقصوصة فيها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫قلت جوانحي‪/‬‬ ‫تحــبّ الشــام؟‬
‫لحَّنا النشــيد الوطني الســوري «حماة الديار» عام ‪ ،1936‬نشــيد «ميســلون» الذي لحَّنه األخوان‬
‫الرحباني وغنَّته فيروز‪ ،‬وهو بمثابة تحي ّة ليوسف العظمة شهيد ميسلون في العام ‪ ،1952‬الذي‬
‫ّ‬
‫واحتل الفرنسي ّون دمشق إثر استشهاده‪.‬‬ ‫كان وزيراً للحربي ّة‪،‬‬
‫إذا كان القول بـ «الشــام» يعني «دمشــق» قديماً وحديثاً‪ ،‬فقد عنى أيضاً «ســوريا الكبرى» قبل‬
‫أن يجري تقسيمها إلى لبنان واألردن وفلسطين بعد الحرب العا َلمي ّة األولى‪ ،‬وهذا ما هو ركيزة‬
‫ن للظاهــرة الفيروزي ّة – الرحبانيّــة صل ًة ما به‪.‬‬
‫للحــزب الســوري القومي االجتماعــي الذي ترد َّد أ ّ‬
‫وبالد الشام في «لغة» هذا الحزب هي سوريا الكبرى‪ .‬وال ينبغي إغفال ذلك في َدر ِ‬
‫ْس الظاهرة‬
‫الفيروزي ّة وفهْمها‪ ،‬حيث يتعلّق شــط ٌر من ب ُعدها القومي المكين‪ ،‬كما يتعلّق شــط ٌر آخر مكين‬
‫أيضاً وأيضاً‪ ،‬هو الشطر القومي العربي‪.‬‬
‫واألمر كذلك‪ ،‬لنا أن نتذكَّر أ ّ‬
‫ن غناء فيروز في حفلٍ‪ ،‬نصر ًة للجيش السوري‪ ،‬أو أن ألبومها «سوريا»‪،‬‬
‫مؤسس الحزب السوري القومي االجتماعي أنطون‬
‫ِّ‬ ‫يأتيان بعد ثالث أو أربع سنوات من إعدام‬
‫سعادة‪ ،‬في ‪ 1949/7/8‬بعد ما سلَّمه الرئيس السوري حسني الزعيم للحكومة اللّبناني ّة‪ .‬كما أ ّ‬
‫ن‬
‫ســيلي من الغناء الفيروزي في خمســيني ّات القرن الماضي‪ ،‬جاءَ علــى إيقاع الحملة العنيفة‬
‫مــا َ‬

‫‪133‬‬
‫على هذا الحزب في سوريا‪ ،‬مقابل الهدير القومي العربي الذي فجَّرته حرب ‪ 1956‬في مصر وتتوَّج‬
‫بالوحدة السوري ّة المصري ّة في الجمهوري ّة العربي ّة المتّحدة (‪.)1961 – 1958‬‬

‫أغنية‪ /‬قصيدة االنقالبات والحروب‬

‫ن سعيد عقل حد َّثه أنّه ألقى قصيدته «سائليني‬ ‫َكت َ‬


‫َب شربل قنطار (الشرق األوسط ‪ )2018/8/15‬أ ّ‬
‫يا شــآم» أوّل مرّة من اإلذاعة الســوري ّة – وهكذا كان اســمها قبل أن ي ُصبح‪« :‬إذاعة دمشــق»‬
‫دد ‪ .1953‬وي ُع ِّلل ذلــك بأ ّ‬
‫ن تلك اإلذاعة كانت تدفع‬ ‫فــي أربعينيّــات القــرن الماضي ‪ -‬وثمّة َمن ي ُح ِّ‬
‫ب من‬‫ن جمال عبد النّاصر خ ََط َ‬
‫ويتابع قنطار عن سعيد عقل أ ّ‬
‫ِ‬ ‫للشعراء أكثر من اإلذاعة اللّبناني ّة‪.‬‬
‫المهاجرين في دمشق‪ ،‬وممّا قاله إنّه سي ُدخل دمشق في التاريخ‪ ،‬فغضب الشاعر‬ ‫على شرفة قصر ُ‬
‫باألخوي ْن رحباني اللّذَي ْن اختارا أربعة عشــر بيتاً من ســبعين بيتاً هي قصيدة «ســائليني»‬
‫َ‬ ‫واتّصل‬
‫ولحَّناها سريعاً‪ .‬وقد شاعت األغنية التي بثَّتها اإلذاعات العربي ّة‪ ،‬وخصوصاً‪ :‬اإلذاعة السوري ّة وإذاعة‬
‫ن الرسالة التي توخّاها من األغنية‪ /‬القصيدة لم تصل‬
‫صوت العرب القاهري ّة‪ ،‬فرأى سعيد عقل أ ّ‬

‫إلــى جمال عبد النّاصر‪ ،‬وهي الرســالة التــي يحملها هذان َ‬


‫البيتان‪« :‬أهلــك التاريخ من فضلتهم‪/‬‬
‫ببستان هشام»‪ ،‬فحمَّل‬
‫ِ‬ ‫ضقت بهم‪ /‬ألحقوا الدنيا‬
‫َ‬ ‫ذكرهم في عروة الدهر وسام‪ /‬أموي ّون فإن‬
‫دث عبد النّاصر عن ظروف األغنية ورســالتها‪ ،‬فكان أن ُمنعت في‬
‫صديقــه إميل البســتاني أن ي ُحــ ِّ‬
‫سوريا ومصر حتّى وقع االنقالب العسكري الذي أنهى الوحدة السوري ّة المصري ّة في ‪،1961/9/28‬‬
‫ّ‬
‫البث اإلذاعي لبالغات االنقالب بـ «سائليني يا شآم» مع األغاني الوطني ّة‪ .‬ومنذ ذلك الحين‬ ‫فبدأ‬
‫بث األغنية في‬ ‫دأب ّ‬
‫كل انقالب على هذا النهج (انقالبات البعث ‪ ،)1970 – 1966 – 1963‬كما توالى ّ‬ ‫َ‬
‫حروب ‪ .1982 – 1973 – 1967‬وقد غنَّت فيروز «سائليني» على مسرح معرض دمشق الدولي صيف‬
‫ّ‬
‫واعتل الخــزام‪ /‬وأنا لو رحت‬ ‫عــام ‪ ، 1961‬ومنهــا‪« :‬ســائليني حين عطَّرت الســام‪ /‬كيف غار الورد‬
‫أســترضي الشــذا‪ /‬النثنى لبنان عطراً يا شآم»‪ .‬وســوف تتجد ّد وتتّقد في شامي ّات فيروز‪ /‬سعيد‬
‫عقل عناصر «ســائليني» من الطبيعة إلى التاريخ إلى الوحدة الســوري ّة اللّبناني ّة – باألحرى الوحدة‬
‫الشامي ّة – إلى َ‬
‫األلق الكالسيكي في المفردات والعِ بارات والصور والموسيقى‪.‬‬
‫في العام ‪ 1956‬بدأت حكايات فيروز مع معرض دمشق الدولي‪ ،‬أي مع الموسم السنوي للّقاء‬
‫بالجمهــور الســوري والتفا ُعــل الحــارّ المتجد ّد والمتوقّد بيــن اإلبداع الفيــروزي الرحباني وبين‬
‫قي السوري الذي َأدمن الفيروزي ّات منذ سبعين سنة حتّى اليوم‪ ،‬كيفما تقلَّبت به األحوال‪،‬‬
‫المتل ّ‬

‫حتّى في سنوات الزلْزَ لة المتفجّرة منذ ‪.2011‬‬

‫‪134‬‬
‫فــي أواخــر العام ‪ 1955‬وصل الصحافي اللّبناني هشــام أبو ظهر ومدير معرض دمشــق الدولي‬
‫فيصــل الداالتــي مع فيــروز والرحباني ّين‪ ،‬فقد َّمت فيــروز في صيف ‪ 1956‬على مســرح المعرض‬
‫حفالت منوَّعة إلــى أن يبدأ اللّقاء‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫والموشــحات‪ ،‬وهذا ما ســيتوالى فــي‬ ‫مجموعــ ًة من األغاني‬

‫الســنوي الموعود يشــهد مســرحي ّة فمســرحي ّة بعد أن تُق ِّ‬


‫دم فيروز واحدة من غرر شعر سعيد‬
‫عقــل‪ .‬ففــي َدورة العــام ‪ ،1965‬قد َّمت في افتتاح مســرحي ّة «جســر القمر»‪« :‬قــرأت مجدك في‬
‫قلبي وفي الكتب‪ /‬شــآم ما المجد أنت المجد لم َيغِ ب»‪ .‬أمّا دورة العام ‪ ،1963‬فقد جاءت بعد‬
‫شهور من االنقالب (‪ )1963/3/8‬الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة حتّى هذا اليوم‪ .‬كما جاءت‬
‫تلك الدورة بعد أســابيع من ُ‬
‫المحاولة الفاشــلة لالنقالب العســكري (الناصري) في ‪.1963/7/18‬‬
‫ّ‬
‫مســتهل حفل تلك الســنة شامي ّ ًة فاتنة أخرى من شامي ّات سعيد عقل‪:‬‬ ‫وقد َأنشــدت فيروز في‬
‫«شــام يا ذا الســيف لم َيغب‪ /‬يا كالم المجد في ُ‬
‫الكتب» وقبل مســرحي ّة «بي ّاع الخواتم» في‬
‫ُ‬
‫الجنوب‪ /‬قلت هل‬ ‫صيف ‪َ ،1964‬أنشــدت فيروز قصيدة ســعيد عقل‪« :‬نسّ ــمت من صوب ســوريا‬
‫المشتهي وافى الحبيب»‪.‬‬
‫دت‪،‬‬ ‫غابت فيروز عن جمهورها في َدورة العام ‪ 1962‬لمعرض دمشق الدولي‪ .‬وفي دورة ‪َ 1966‬‬
‫ش َ‬
‫ولك ْ‬
‫ن من شعر الرحباني ّين هذه المرّة‪« :‬طالت نوى وبكى من شوقه الوتر‪ /‬خذني بعينَي ْك واهرب‬
‫أي ّها القمر‪ /‬لي فيك يا بردى عهد ٌ أعيش به‪ /‬عمري‪ ،‬ويســرقني من حب ّه العمر»‪ .‬أمّا في الســنة‬
‫ّ‬
‫«المحطة»‬ ‫َ‬
‫عرض مســرحي ّة‬ ‫ْ‬
‫افتتحت فيروز‬ ‫التاليــة‪ ،‬وبعــد الهزيمة الكبرى (‪ )1967‬بأســابيع‪ ،‬فقد‬
‫على مسرح معرض دمشق الدولي بقصيدة «أحبّ دمشقا» ومنها‪« :‬أحبّ دمشقا‪ /‬هواي األرقّا‪/‬‬
‫ٌ‬
‫وقامة كحيلة‪ /‬أحبّ أحبّ دمشقا»‪.‬‬ ‫أحبّ جوار بالدي‪ /‬ثرى من صباً ووداد‪َ /‬رعت ْ ُه العيون الجميلة‪/‬‬
‫توالــت عــروض المســرحي ّات الرحباني ّة الفيروزي ّة في معرض دمشــق الدولي حتّــى العام ‪.1976‬‬
‫وعبــر ذلــك‪ ،‬وبعد ذلك‪ ،‬كان للب ُعد القومي في األغنية الفيروزي ّة تجلّيات كبرى أخرى‪ .‬فبعد‪ ،‬ومع‬
‫التجلّــي الشــامي جــاء التجلّي الفلســطيني واللّبناني‪ ،‬وما أكثر ما اندغمــت التجلّيات الثالثة في‬
‫إهابٍ سنَجِ ده يتوالى في ما غنّت فيروز من شعر نزار قب ّاني أيضاً‪ ،‬حيث تتزوّق الطبيعة (الغوطة‬
‫بعينها‬ ‫ٌ‬
‫فردات َ‬‫– بــردى – حرمــون – التراب – العصافيــر – النباتات والزهور‪ ،)...‬وحيث تتصــادى ُم‬

‫كالســيف والمجد والهوى‪ ...‬و َيســتبطن الشــع ُر الغزلــي والوجداني الب ُعــ َ‬
‫د القومي‪ .‬وفي أغاني‬
‫ْ‬
‫«قل للّذين بأرض‬ ‫الس َيري ّة كما في أغنية‪ /‬قصيدة «موّال دمشقي» ومنها‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫فيروز النزاري ّة تنضاف‬
‫الشــام قد نزلوا‪ /‬قتيلكم في الهوى ما زال مقتوال‪ /‬يا شــام يا شــامة الدنيا ووردتها‪ /‬يا من‬
‫فيــك مئذنة‪ /‬أو علّقوني علــى األبواب قنديال‪ /‬يا‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫وددت لو زرعوني‬ ‫وجعــت األزاميــا‪/‬‬
‫ِ‬ ‫بحســنك َأ‬
‫ِ‬

‫‪135‬‬
‫ُ‬
‫يسكنني‪/‬‬ ‫بلدة السبعة األنهار يا بلدي‪ /‬ويا قميصاً بزهر الخوخ مشغوالً‪ /‬هواك يا بردى كالسيف‬
‫ْم القبلة األولى»‪.‬‬
‫ومــا ملكــت ألمر الحبّ تبديال‪ /‬ما للدمشــقي ّة كانت حبيبتنا‪ /‬ال تذكــر اآلن طع َ‬
‫ننس في هذا السياق غناء فيروز لقصيدة معروف الرصافي «إلى دمشق» عام ‪ ،1954‬وكانت‬
‫َ‬ ‫وال‬
‫فيروز في تلك السنة قد َأحيت حفل ًة في نادي الضب ّاط في دمشق‪َ ،‬‬
‫وقفت فيها وحدها ألوّل مرّة‬
‫أمام جمهورها المولّه‪.‬‬

‫الفيروزي ّات الفلسطيني ّة‬

‫إذا كانت فيروز تبدو في ما تقد ََّم ســوري ّ ًة بامتياز‪ ،‬فما غنَّته لفلســطين ي ِّ‬
‫ُكرسها فلسطيني ّة أيضاً‬
‫ّ‬
‫مبكراً ت ََعن ْ َو َن‬ ‫ن ما غنَّته‬ ‫اقترن ظهورها بنكبة‪ /‬هزيمة فلسطين‪ .‬ومن ّ‬
‫الاّلفت أ ّ‬ ‫َ‬ ‫بامتياز‪ ،‬وهي التي‬
‫األخويْــن رحباني‪ .‬وهذا‬ ‫َ‬ ‫بعــودة ّ‬
‫الاّلجــئ الفلســطيني إلى بالده‪ ،‬كمــا في «راجعون» مــن كلمات‬
‫النشــيد جرى تســجيله في إذاعة صوت العرب أثناء زيارة فيروز والرحباني ّين األولى إلى القاهرة‪،‬‬
‫د‬ ‫يحط عليهــا الحمام‪ ،‬أ َب ْ‬
‫ع َ‬ ‫ّ‬ ‫ومنــه‪« :‬كيــف حال بيتنا؟ هل تقول أم هجرت مثلنا؟ وتلك الســطوح‬
‫النــزوح تُراهــا تذوق الســام؟»‪ .‬وفي العام ‪ 1956‬غنَّت فيروز‪« :‬ســنرجع يومــاً إلى حي ّنا‪ /‬ونغرق‬
‫فــي دافئــات المنى‪ /‬ســنرجع مهما يمرّ الزمان‪ /‬وتنأى المســافات ما بيننــا‪ /‬فيا قلب مهال ً وال‬
‫ْهنَا‪ /‬يعــزّ علينا غداً أن تعود‪ /‬رفوف الســنونو ونحــن هنا»‪ .‬وقد‬
‫ترتمــي‪ /‬علــى درب عودتنــا ُمو َ‬
‫ُ‬
‫نسبة هذه القصيدة إلى الرحباني ّين كما يؤ ِّكد فارس يواكيم في كِ تابه «حكايات األغاني»‬ ‫التبست‬
‫وبين هارون هاشم رشيد كما هو شائع‪ .‬وفي السنة نفسها غنَّت «خذوني إلى بيسان»‪ ،‬وفيها‬
‫بخاصة‪ ،‬تصــدح الذكريات الطازجة والحنين ُ‬
‫وصور‬ ‫ّ‬ ‫كمــا في فيروزي ّات فلســطين قبل هزيمة ‪1967‬‬
‫ّ‬
‫وكل شــيءٍ كان‪/‬‬ ‫الطبيعة وحُلم العودة‪« :‬أذكر يا بيســان‪ /‬يا ملعب الطفولة‪ /‬أفياءك الخجولة‪/‬‬
‫باب وشب ّاكان‪ /‬بيتنا في بيسان»‪.‬‬
‫لألخوي ْن رحباني األغنية الشــهيرة «جســر العودة» ومنها‪« :‬يا جســر‬
‫َ‬ ‫في العام ‪ 1957‬غنَّت فيروز‬
‫األحزان أنا ســمّيتك جســر العودة (‪ )...‬تقفون كشجر الزيتون‪ /‬كجزوع الزمن تقيمون‪ /‬كالزهرة‬
‫المحتلَّة‪ /‬يا ُمنزرعين بمنازلكم‬
‫ُ‬ ‫أرض الدار تقيمون‪ /‬وســامي لكم يا أهل األرض‬
‫ِ‬ ‫كالصخرة في‬
‫قلبــي معكم وســامي لكــم» وتتقابل‪ /‬تتضاد ّ الغربة والعودة في أغنيــة «غاب نهار آخر‪ /‬غربتنا‬
‫زادت نهار‪ /‬واقتربت عودتنا نهار (‪ )...‬ود َّعني َطي ٌر وقال‪ /‬إلى بالدي أمضي‪ /‬ذكَّرني بطردي»‪ .‬وفي‬
‫بانثيال الذكريات عن ميناء‬
‫ِ‬ ‫واحــد ٍ من ذرى الفيروزي ّات الفلســطيني ّة تأتي أغنية «يافا» التي تبــدأ‬
‫ن الصي ّادين انتصروا وعادوا في الغداة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫العاصفــة َلي ْ َله‪ ،‬لك ّ‬ ‫يافــا وعــن َي ٍ‬
‫وم من أي ّام الصيد َض ِ‬
‫ربت‬

‫‪136‬‬
‫وأنشــدوا بما يرمّز النكبة والعودة بالعاصفة‪« :‬جئنا من الريح‪ /‬كما يجي المارد‪ /‬و َدخَلْناها مينا‬
‫َ‬

‫فة أصدافا‪ /‬يا أحلى األي ّام بيافا‪ /‬كنّا والريح تهبّ تصيح‬
‫يافا‪ /‬يا طيب العود إلى يافا‪ /‬ومألنا الض ّ‬

‫نقول‪ :‬سنَرجع يا يافا‪ /‬وسنرجع نرجع يا يافا»‪.‬‬


‫ثمّة فيروزي ّات فلسطيني ّة أخرى طواها النسيان َ‬
‫فغدت مجهول ًة مثل قصيدة «داري» للشاعر عبد‬
‫ّ‬
‫الصف الثالث اإلعدادي في ســورية‪ ،‬ومثل‬ ‫الكريــم الكرمي (أبو ســلمى) التي كانــت تُدرَّس في‬
‫«بي ّارتنــا زرعناهــا» و»ال تنســني» و»بالدي أغنية العصافيــر» و»عي ّد عي ّد»‪ ..‬لك ْ‬
‫ن بيــن الفيروزي ّات‬
‫صار عــرو َة الزمان مثل «القدس العتيقة» التي غنَّتهــا فيروز بعد زيارة القدس‬
‫َ‬ ‫الفلســطيني ّة مــا‬
‫بمن َأهدتها مزهري ّة‪:‬‬
‫مع الرحباني ّين في العام ‪ ،1964‬وحيث التقَ ت في شوارع المدينة القديمة َ‬
‫«مرَّيت بالشــوارع‪ /‬شــوارع القدس العتيقة‪ /‬قد ّام الدكاكين‪ /‬لْبقيت من فلسطين‪ /‬حكينا سوا‬
‫الخبريّــة‪ /‬عطيونــي مزهريّــة‪ /‬قالــوا لي هيدي هديّــة‪ /‬من النــاس الناطرين»‪ .‬وغنَّــت فيروز في‬
‫ّ‬
‫بخاصة بعد‬ ‫«ســيف فلْيشــهر»‪ ،‬وذاع صيتها‬
‫ٌ‬ ‫معرض دمشــق الدولي ‪1966‬من شــعر ســعيد عقل‬
‫هزيمة ‪ ،1967‬ولعلّها األنموذج الباهر للتفا ُعل بين المتل ّ‬
‫قي واألغنية‪ ،‬بما يحمل الداللة الساطعة‬
‫على التعبير الفيروزي عن النبض القومي‪« :‬اآلن اآلن وليس غداً‪ /‬أجراس العودة فلْتقر ْ‬
‫ع‪ /‬أنا ال‬
‫ندك األسوار‪ /‬نستلهم ذاك الغار‪ /‬ونُعيد إلى الدار الدار»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫سندك‬ ‫أنساك فلسطين (‪)...‬‬
‫مغرد ًة وجميــع الناس لها‬
‫ِّ‬ ‫عــارض نــزار قب ّاني هذه األغنيــة‪ /‬القصيدة بقوله‪« :‬غنَّــت فيروز‬
‫َ‬ ‫وقــد‬
‫تســمع‪ /‬اآلن اآلن وليس غداً أجراس العودة فلْتقرع‪ /‬عفواً فيروز ومقدر ًة أجراس العودة لن‬
‫تُقرع»‪ .‬غير أ ّ‬
‫ن واســطة العقد في الفيروزي ّات الفلســطيني ّة هي «زهرة المدائن» التي كانت الرد ّ‬
‫ٍ‬
‫خمس وخمسين سنة‬ ‫اإلبداعي العبقري على هزيمة ‪ .1967‬وها هي «زهرة المدائن» ال زالت بعد‬
‫كل ما زَ لْزَ َل األركان من الهزائــم والحروب الداخلي ّة والتهجير‬
‫كأنّهــا ابنــة اليــوم‪ ،‬على الرّغم من ّ‬

‫واالنهيارات المادي ّة والروحي ّة‪ .‬وإذا كانت العودة والســام والوحدة اإلســامي ّة المســيحي ّة هي‬
‫مــا تصدح به «زهــرة المدائن» فالبؤرة هي القدس مثلما كانت فيروزي ّات عديدة‪ .‬وفي الرد ّ على‬
‫الهزيمــة غنَّــت فيــروز عام ‪ 1979‬للفدائي الفلســطيني من شــعر طــال حيدر وألحــان ابنها زياد‬
‫الرحباني أغنية «وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان‪ /‬وحدهن بيقطفو وراق الزمان»‪.‬‬

‫لبناني ّات فيروز‬


‫أيّــاً ُ‬
‫يكــن أمــر الب ُعــد القومي لألغنيــة الفيروزي ّة‪ ،‬فلبنان هو «ســرّة» هذا الب ُعد‪ .‬ومــن النادر أن‬

‫تتعن ْ َون مثل هذه األغنية‪ ،‬باألحرى‪ :‬تتجو َ‬


‫ْهر‪ ،‬بـ (البالد) مثل « ُرد َّني إلى بالدي مع نسيم الفؤاد»‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫أو مثل «احكي لي عن بلدي» والتي تندغم فيها الذاتي ّة بالطبيعة‪ .‬أمّا الغالب األعمّ فهو «لبنان»‬
‫أو «بيــروت» عنوانــاً وجوهــراً‪ ،‬حيث تكون المدينــة والطبيعة والذاتي ّة هي جبلّــة الب ُعد القومي‪،‬‬
‫مثل أغنية «بحب ّك يا لبنان» التي تومئ إلى الحرب األهلي ّة‪ ،‬ي ُغالِبها الحُبّ إلى أن يغلبها «سألوني‬
‫شــو صــار ببلد العيد‪ /‬مزروعــة ع الداير نار وبواريد‪ /‬قلتلّن بلدنا َعم يخلــق جديد‪ /‬لبنان الكرامة‬
‫ق الفردي في القومي أغنية «ع اســمك غنَّيت وع اســمك رح غنّي‪/‬‬ ‫َ‬
‫والشــعب العنيد»‪ .‬ومن أ َل ِ‬
‫لمطرح اللّي بيوقف الزمان‪ /‬واســكر باســمك يا‬
‫وإحمل بإيدي كاســك المليان‪ /‬ارفعوا لفوق َ‬
‫مجد لبنان»‪ .‬وكذلك هي أغنية «يا مينا الحبايب يا بيروت» وأغنية «وطني يا جبل َ‬
‫الغيم األزرق»‬
‫عمر وطني» من كلمات وألحان منصــور الرحباني التي جاءت في العام ‪ 1994‬بعد‬
‫وأغنيــة «بــد ّي ِّ‬
‫دام خمس عشرة سنة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫انقطا ٍ‬
‫َّــن الرحباني ّان «قصيدة لبنــان» التي تمور بالفخر كالعهــد بـ (قومي ّات)‬
‫شــعر ســعيد عقل لح َ‬
‫من ِ‬
‫تب قالت تلك لبنان‪/‬‬ ‫الشــاعر ممّا غنَّته فيروز‪ « :‬لي صخرة ُع ِّلقت بالنَّجم أســكنها‪ /‬طارت بها ُ‬
‫الك ُ‬
‫أهلــي ويغلــون يغدو الموت لعبتهم‪ /‬إذا تطلع صوب الســفح عدوان»‪ .‬وكثيراً ما يتبأَّر لبنان أو‬
‫ّ‬
‫ترشفها فؤادي‬ ‫عيونك دمعة‪ّ /‬‬
‫إاّل‬ ‫ِ‬ ‫الوطن ببيروت‪ ،‬مثل قصيدة بشارة الخوري «بيروت هل ذرفت‬
‫غرم»‪ .‬ومن شعر جوزيف حرب وألحان يواخين رودريغو غنَّت فيروز‪« :‬لبيروت من قلبي سالم‬ ‫ُ‬
‫الم َ‬
‫وقب ٌ‬
‫ــل للبحر والبيوت»‪ .‬ومع بيروت جاء الجنوب اللّبنانــي أحياناً عالمة للب ُعد القومي‪،‬‬ ‫لبيــروت‪ُ /‬‬
‫َ‬
‫مثل أغنية «أســوارة العروس‪ /‬مشــغولي بالدهب‪ /‬وانت مشــغول بقلوب‪ /‬يا تراب الجنوب»‪،‬‬
‫وأغنية الرحباني ّين‪« :‬يا زهرة الجنوب‪ /‬يا عصفورة البكي»‪.‬‬
‫وبالطبع‪ ،‬ال يكتمل القول ببالد الشام من دون األردن‪ ،‬وهذا أيضاً ما تؤكّده األغنية الفيروزي ّة‪.‬‬
‫فمن الجسر السابح فوق نهر األردن‪ ،‬وغنَّت له فيروز‪« :‬يا جسراً خشبيّاً‪ /‬يسبح فوق النهر‪ /‬ضحك‬
‫لألخوين الرحباني «أنا والمســاء‬
‫َ‬ ‫الفجــر وحيّــا‪ /‬وصحت قمم الزهر» إلى ما غنَّته في العام ‪1957‬‬
‫واألردن»‪ ،‬أو مــا غنَّتــه لســعيد عقل وألحان محمّــد عبد الوه ّــاب «أردن أرد ّ‬
‫ن أرض العزم أغنية‬
‫الظبا‪ /‬بيت الســيوف وحد ُّ ســيفك ما نبا»‪ .‬أو ما غنَّت في نهاية الســبعيني ّات لســعيد عقل أيضاً‬

‫ومــن ألحــان الرحباني ّيــن «عمّان في القلــب أنت الجمر والجــاه‪ /‬ببالي عودي مــرّي مثلما اآل ُه‪/‬‬
‫إلي من عطش الصحراء أموا ُه»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سكنت عينَيك يا عمّان فالتفتت‪/‬‬
‫ل في الجزائر فــي العام ‪ 1968‬أغنية «ســافرت‬ ‫وبعــدُ‪ ،‬مــن المعلــوم أ ّ‬
‫ن فيــروز قد َّمت في حفــ ٍ‬
‫القضيّــة»‪ ،‬فهل يكفي تعبيراً عن مفاعيــل الب ُعد القومي لإلبداع الفيروزي ودالالته‪ ،‬أ ّ‬
‫ن هذا الرد ّ‬
‫(سافرت القضي ّة) على هزيمة ‪ ،1967‬سرعان ما اختفى‪ُ /‬منع وألكثر من نصف قرن؟‬

‫‪138‬‬
‫ّ‬
‫المثقفة»‬ ‫تعد ّ خالدة ســعيد ما تســمّيه التجمُّع الفيروزي الرحباني في كِ تابها «يوتوبيا المدينة‬
‫واحداً من مؤسّ سات االنبعاث الثقافي لبيروت من الخمسيني ّات حتّى السبعيني ّات‪ .‬وعلى الرّغم‬
‫من االنهيارات المروّعة التالية حتّى اليوم‪ ،‬ال زالت للب ُعد القومي وقدته في الغالب من األغنيات‬
‫الفيروزي ّة المتعلّقة به‪.‬‬
‫ّ‬
‫النص وليس الموســيقى‪ ،‬فباإلضافة إلــى ما انتثر فيه من‬ ‫ّ‬
‫بخاصة‬ ‫وإذا كان مــا تقــد َّم قــد أضاءَ‬
‫أنوه بما كتب أحمد بوبس في كتابه «فلســطين في األغنية العربي ّة» عن‬
‫الــدالالت والمفاعيــل‪ِّ ،‬‬
‫ُمراوحة فلســطيني ّات األغنية الفيروزي ّة بين الرمزي ّة والمباشــرة‪ .‬ومن المعلوم أنّه طالما ترد َّد‬
‫أ ْ‬
‫ن ليــس لفيــروز َموقــف سياســي‪ ،‬ال قومي وال غير قومــي‪ ،‬مثلما ترد ّد أ ّ‬
‫ن للظاهــرة الرحباني ّة‬
‫الفيروزيّــة َميلها إلى الحزب الســوري القومي االجتماعــي‪ .‬لكنّني أرى أ ّ‬
‫ن هذه الظاهرة التاريخي ّة‬
‫المجيــدة قد توسَّ ــلت ما أســمّيه فــي النقد األدبي «اســتراتيجي ّة ّ‬
‫الاّل تعيين»‪ ،‬ليــس تعالياً على‬
‫آلفــاق التخييــل والتل ّ‬
‫قي‪ ،‬وتعبيراً عمّــا هو أعمق‬ ‫ِ‬ ‫هربــاً مــن المســؤولي ّة‪ ،‬بل فتْحاً‬
‫الواقــع‪ ،‬وال َ‬
‫وأثــرى مــن المعانــي والق َيم اإلنســاني ّة والحضاري ّة‪ .‬ولذلك كانت – مثــا ً – أغنية «لبيروت» هي‬
‫المزَ ل ْ ِزل (‪ ،)2020‬على جميع القنوات‪ ،‬أو كانت – مثال ً –‬ ‫ّ‬
‫الاّلزمــة أثنــاء عرض صور انفجار بيــروت ُ‬
‫ْكن على األرض هد ّاره‪ /‬إنتو األحب ّة وإل ْ ُ‬
‫كن الصدارة» هي ّ‬
‫الاّلزمة أثناء الحروب‬ ‫دم ُ‬
‫أغنيــة «خبطــة َق َ‬
‫الوطني ّة واألهلي ّة‪.‬‬
‫فل ْ ُ‬
‫يكن ذلك وسواه‪ ،‬ليبقى المهمّ واألهمّ ‪ :‬خلود الفنّ‪ ،‬ومنه الف ّ‬
‫ن الفيروزي‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫د‪ .‬فيصل درّاج*‬

‫شــخصي أُن ْ ِص ُّ‬


‫ت‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫أمس‬ ‫عربي َأعقــب «النكبة»‪ ،‬وإلى‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫أمــس‬ ‫طريقــي إلــى أغنيــة فيروز يعود إلى‬
‫فيه إلى‪ :‬ســنرجع يوماً إلى ح ِّينا‪ .‬تداخل «األمســان» فتر ًة ثمّ انفصال‪ ،‬وترسَّ ــب منهما ذكريات‬
‫ٍ‬
‫انقالبات عســكري ّة‬ ‫ُ‬
‫بعضها‬ ‫المصادر‪ ،‬برّر‬ ‫ٍ‬
‫خطابات متعــد ّدة َ‬ ‫حفظــت من األمــس األوّل‬‫ُ‬ ‫ُمختلفــة‪.‬‬
‫َ‬
‫ورفع‬ ‫ٌ‬
‫بعض آخر من أحزابٍ قومي ّة قالت باستعادة الوطن السليب‪،‬‬ ‫د ْ‬
‫ت بتحرير فلسطين‪ ،‬جاء‬ ‫َو َع َ‬
‫توجهاً إلى القدس واألرض المقد َّســة‪ .‬كانت الوعود صادقة‪ ،‬لم تَختبرها األي ُ‬
‫ّام‬ ‫ٌ‬
‫بعــض صوتَــه ُم ِّ‬
‫أنس أغنية فيروز المنســوجة من الن َّ ِ‬
‫غم وال ُ‬
‫حلم‬ ‫َ‬ ‫بعــد‪ ...‬دارت حــول ذاتها طويال ً‪ ،‬ونُســيت‪ .‬لم‬
‫ُ‬
‫كنت صبيّاً الجئاً إلى أن‬ ‫ُ‬
‫المختلفة‪ ،‬منذ‬ ‫واألمل‪ ،‬اســتقرَّت في الروح والزَ َمتني في أطوار العمر‬
‫ْت شيخاً‪ ،‬لم ي ُغادره اللّجوء‪.‬‬
‫غدو ُ‬

‫صبي في المدرسة االبتدائي ّة محمّد عبد الوه ّاب‪« ،‬مطرب األمراء والملوك»‪ ،‬كما كان‬ ‫ّ‬ ‫أذك ُر وأنا‬
‫جاوزَ الظالمون‬ ‫ى باألســى ي ُر ِّدد‪« :‬أخي‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫مغط ً‬ ‫بصوت مهيب «دعاء الشــرق»‪ ،‬وأذكره‬ ‫ي ُقال‪ ،‬ينشــد‬
‫العربي اإلباء والشــرف‪ُ ،‬معلِناً‪« :‬فلسطين تفديك منّا الصدور‬
‫ّ‬ ‫اإلنســان‬
‫ِ‬ ‫ســتنهضاً في‬
‫ِ‬ ‫المدى»‪ُ ،‬م‬
‫َّب إليه الغبار‬ ‫فإمّــا الحيــاة وإمّا الــردى»‪ .‬قال عبد الوه ّاب ما عنده َ‬
‫وأودعه في «أرشــيف» تســر َ‬
‫َ‬
‫وأعطبه النسيان‪ .‬كان ألغنية فيروز عن العودة والرحيل مصي ٌر آخر‪ .‬استقرَّت أغنية فيروز «سنرجع‬
‫يومــاً إلــى ح ِّينا» في كياني‪َ ،‬غدت جزءاً من منظوري إلى الحياة‪ ،‬وب ُعداً في ثقافتي الفلســطيني ّة‪،‬‬
‫ذ َلهُم األمل‪ ،‬واالنتظار النشــيط الذي يحتاجه ُ‬
‫المســتضعفون‪.‬‬ ‫حيــث األمــل الذي يحتاجه الذين َخ َ‬
‫أقنعتني بما لم يقنعني به أصحاب النظري ّات‪ ،‬وال ذلك الكالم ُ‬
‫الممتَد ّ من‪« :‬معركة ذي قار»‪ ،‬قبل‬
‫َ‬
‫آفاقه أحدٌ‪.‬‬ ‫اإلسالم‪ ،‬إلى مجهول ال يعرف‬

‫*ناقد وباحث من فلسطين‬

‫‪142‬‬
‫ســألت أمّي‪َ :‬مــن التي تُغنّي؟ أجابت‪ :‬الســي ّدة‬
‫ُ‬ ‫بعــد أن عانقتْنــي األغنيــة الفيروزيّــة‪ ،‬أو عانقتُها‪،‬‬
‫اللّبنانيّــة فيــروز‪ .‬كنــت أعرف لبنان وجبــران خليل جبران‪ ،‬وقــرى لبناني ّة كريمة َمــرر ُ‬
‫ْت بها طفال ً‪،‬‬
‫وأنا خارج من فلســطين‪ ،‬وأعرف ضجيجاً ي ُرســله المذياع يقول‪« :‬يا فلســطين جينا لك»‪ .‬بيد أ ّ‬
‫ن‬
‫ُ‬
‫والتواصل الروحي بين‬ ‫المتمثّلــة بطريق ِة غناء فيــروز علّمتني معنى الغنــاء‬
‫«الحقيقــة الفنيّــة» ُ‬
‫ستمع وصوت المغنّي‪ ،‬والفَ رق بين الزائف والصادق‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الم‬
‫ن أغنيــة فيروز موجَّهة لــي‪َ ،‬أنطقتني بما ال أســتطيع التعبير عنه‪ .‬فهي عن‬ ‫ُ‬
‫شــعرت‪ ،‬وال أزال‪ ،‬بــأ ّ‬
‫ل طليق‪ ،‬وتَحتضن ّ‬
‫الاّلجئ في‬ ‫ذل اللّجوء بتفــاؤ ٍ‬ ‫الاّلجئيــن وإلــى ّ‬
‫الاّلجئيــن‪ ،‬تُداعِب الذاكرة وتمحو َّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫كل مكان‪ .‬أغنية عن الغرباء‪ ،‬وإلى الغرباء وعن هؤالء الذين يواسي الغناءُ غر َبتهم‪ ،‬من دون أن‬
‫يســأل عن جنســي ّة ٍ أو طائفة‪ .‬ي ُساوي بين البشر‪ ،‬وال ي ُؤبْلِس البعض وي ُلقي بهم في النار‪ .‬لكأ ّ‬
‫ن‬
‫ن الحقيقي المجسَّ د في فيروز‪ ،‬كالماً وغناء‪َ ،‬ينْشد إنساناً نقيّاً‪ ،‬ال يعترف بالحسبان المريض‪،‬‬
‫الف ّ‬
‫واطن‪،‬‬ ‫ُ‬
‫والم ِ‬ ‫واإلنســان معاً‪ .‬ومع أ ّ‬
‫ن في وقائــع الحياة ما يُم ِّيز بين اإلنســان‬ ‫َ‬ ‫الــذي َينحــر الف َّ‬
‫ن‬
‫اإلنســان َقبل‬
‫َ‬ ‫واطن دائماً‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن في األغنية الرحباني ّة ما َيســتدعي‬ ‫الــذي ال يكــون له حقــوق ُ‬
‫الم ِ‬
‫واطــن وما ي ُغنّى لإلنســان بصيغة الجمْع‪« :‬ســنَرجع»‪ ،‬كما لو كانت فيــروز غريباً بين الغرباء‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الم ِ‬
‫أغنية «الســي ّدة فيروز»‪ ،‬بلُغ ِة أمّي بين الف ّ‬
‫ن والقِ َيم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تُواســيهم وتنتظر معهم الرجوع‪َ .‬جمعت‬
‫ن الحقيقة أســمى َمراتِب‬ ‫َ‬
‫الجمال من الحقيقــة‪ ،‬وتَهمس لســامِ عها بأ ّ‬ ‫ّ‬
‫تشــتق‬ ‫توحــي وتُـــل ْ ِهم‪،‬‬
‫ج من الضوء وعناق األلوان‪َ ،‬في ٌْض‬ ‫الجمال‪ .‬يتراءى ذلك في نشــيدها‪« :‬وطني» حيث الوطن نســي ٌ‬

‫من النور يتجاوز «الجغرافيا الفقيرة» و َيســخر من بالغة ٍ متكسّ ــرة ت ُ ِّ‬
‫مجد تاريخاً ال تَعرفه‪ ،‬تَخترقه‬
‫وتَنفيه وتَهدمه‪.‬‬
‫انتظرت فيروز‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫صورة الحقيقة والجمــال‪ ،‬أكان ي ُدعى‪ :‬لبنان‪ ،‬الذي‬ ‫الوطــن في اإلنشــا ِد الفيروز ّ‬
‫ي‬
‫«بع َثــه» بعــد الحرب األهلي ّة‪ ،‬أو كان وطناً ُمصا َدراً اســمه‪ :‬فلســطين‪ .‬ال تولد مالمِ ح الوطن‪ ،‬في‬
‫المغنّي‪ ،‬كما لو كان الصوت في‬
‫المغنّاة بل من طريقة الغناء والصــوت ُ‬
‫الحا َليْــن مــن الكلمــات ُ‬
‫فرادته نَثراً و َلحناً وســرّاً غامضاً وواضحاً في آن‪ .‬إذا كان «الغناء ســرّ الوجود»‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن غناء فيروز‬
‫«ســرّ الســرّ»‪ ،‬بلغة ٍ ُمتلعثمة‪ ،‬يســتوحي اإلنســان مداه قبل أن يســأل «عمّا ي ُغنّي»‪ .‬ال ي ُقلَّد وال‬
‫ِ‬
‫الحاضر األســيان‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الكلمة الغنائي ّة الفيروزي ّة في «ســنرجع يوماً»‬ ‫تروض‬ ‫ّ‬
‫ويظــل متفرّداً‪ِّ .‬‬ ‫ي ُحاكــى‪،‬‬
‫غترب وتَمســح عنه الكآبة‪،‬‬ ‫وتفتحــه علــى أزمنة ٍ «ســري ّة» تُعيد خل ْ َق العا َلم الداخلي لإلنســان ُ‬
‫الم ِ‬
‫رغب‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان في أرجائه‪ ،‬أو‬ ‫سار‬
‫َ‬ ‫أطياف الوطن الجميل‪ ،‬ال َفرق إ ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ن في أغنية «وطني»‬ ‫مثلما أ ّ‬
‫بالمشــي وحُــرم منه‪ .‬وفيروز في غنائها ال تُحقِّ ق وظيفــ ًة تطهيري ّة تبدأ بالوه ْم وتنتهي إليه‪ ،‬بل‬

‫‪143‬‬
‫ُ‬
‫والمتخي ّل وتومِ ئ إلى ُ‬
‫سبل الحياة الكريمة‪.‬‬ ‫تقوم بوظيفة ٍ جمالي ّة ‪-‬أخالقي ّة‪ ،‬ت ُ ِّ‬
‫وحد بين اإلحساس‬

‫إنّها قريبة من القول الشعري‪« :‬في جمال القمر ما ي ُثير في الكسيح شهو َة َ‬
‫المسير»‪ ،‬الذي إن‬
‫صاغته التجربة الفلسطيني ّة غدا‪« :‬إ ّ‬
‫ن جمال فلسطين في الغناء الفيروزي يهيب بالفلسطيني أن‬
‫يسير إليه حتّى لو كان كسيحاً»‪.‬‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫«الطبيعــة تُحاكي الفــنّ‪ ،‬بعيداً عن‬ ‫َ‬
‫قول الشــاعر اإلنكليزي أوســكار وايلد‪:‬‬ ‫حــاو َر إنشــاد ُ فيــروز‬
‫َ‬
‫فــنٍّ ي ُحاكــي الطبيعة»‪ .‬يخلق اإلنشــاد الفيروزي‪ ،‬بهذا المعنى‪َ ،‬مالمِ ح القدس وفلســطين وروح‬
‫المتط ِّلع إليهما‪ ،‬ويتطلّعان إليه في آن‪ .‬ال غرابة أن ي ُقرأ األدب الوطني الفلسطيني‬
‫الفلسطيني ُ‬
‫على ضوء أغنية «وطني»‪ ،‬بإنشــاد فيروز‪ ،‬وأن ي ُقرأ «الوطن الفيروزي» على ضوء نصوص األدباء‬
‫الفلســطيني ّين‪ ،‬إذ جبــرا ابراهيم جبرا يوغل في توصيف ألــوان القدس‪ ،‬وإميل حبيبي يكتب عن‬
‫المنقضية و َيجعلها ثماراً من ذهب ومذا ٍ‬
‫ق ســعيد‪ ،‬وإذ كلمات محمود درويش‬ ‫ثمار فلســطين ُ‬
‫تُ ِ‬
‫خاطب «شوارع القدس العتيقة»‪...‬‬
‫ن معلّم»‪ .‬ينطبق قول غرامشــي‪،‬‬
‫ن ال مــن حيث هو فــ ّ‬
‫اإلنســان مــن حيث هو ف ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الفــن‬ ‫«ي ُع ِّلــم‬
‫ّ‬
‫المفكــر اإليطالــي‪ ،‬علــى أغنية فيروز قبل أن َيجــد َمجاالً ُمالئماً في األدب الفلســطيني‪ .‬فاألدب‬
‫صــوت فيروز بالكلمة واللّحن والنبرة واإليقاع و»بســرٍّ» ال ي ُمكن‬
‫ُ‬ ‫ي ُع ِّلــم بالكلمــة بينما «ي ِ‬
‫ُلهم»‬
‫النّفاذ إليه‪.‬‬
‫المرعِبة‪ .‬لكنّه لو عان ََق‬ ‫حاصرت ْ ُه «متاحف الكوابيس» ُ‬
‫بصورهــا ُ‬ ‫َ‬ ‫الفلســطيني على متخي ّله َل‬
‫ُّ‬ ‫لــو اتَّكأ‬
‫َ‬
‫ألضــاف إلــى ُمتخي ّله الكئيــب ُمتخيَّال ً آخر أكثــر رحمة ومواءمة للحيــاة‪ ،‬وأكثر‬ ‫ُ‬
‫المتخيَّــل الغنائــي‬

‫مؤانَســة‪ .‬في مقابل الشــعور بالي ُتم َيحضر األمل‪ ،‬وفي ُم َ‬


‫واجهة ضيق الزمن‪ ،‬يأتي فضاءُ األلحان‬
‫ٌ‬
‫كلمات ُمغنّاة تتجاوز الكلمات‪ ،‬ذلك أ ّ‬
‫ن في السرد‬ ‫الذي ي ُذكّر بالحياة‪ ،‬وأمام اختناق الروح تَقف‬
‫ٍ‬
‫دالالت جديدة‪.‬‬ ‫الغنائي للكلمات ما ي ُعطيها‬
‫ور َح َل وحيــداً في بغداد‪،‬‬
‫المقدســي جبــرا إبراهيــم جبرا‪ ،‬الذي وُلــد في َبيت لحــم َ‬ ‫ُ‬
‫األديــب َ‬ ‫كان‬
‫ُ‬
‫المتعد ّدة‪.‬‬ ‫عشق ما في داخلها وما في خارجها والمطر فوق بوّاباتها‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫بأطياف القدس‪،‬‬ ‫مسكوناً‬
‫َــب عــن مدينته األثيرة َ‬
‫وأصبح َع َلماً في ما َكتَب‪ .‬لكأنّه الفلســطيني الوحيد الذي ســجَّ َل صورة‬ ‫َكت َ‬
‫وتواســت بالغناء‬
‫َ‬ ‫واســتْها‬
‫َ‬ ‫القدس كتابةً‪ .‬وغنّت فيروز للقدس غير مرّة‪« :‬صلَّت لمدينة الصالة»‪،‬‬
‫ســت وهي تُصلّي للقدس غناءَ ما‬
‫ْ‬ ‫مار‬
‫ارتبط بالقدس‪َ .‬‬
‫َ‬ ‫الغنائي ُ‬
‫المتفرّد‪ ،‬الذي‬ ‫َّ‬ ‫الصوت‬
‫َ‬ ‫دت‬ ‫لها‪َ ،‬‬
‫وغ َ‬
‫ُ‬
‫والصالة «لعروس المدائن»‬ ‫ٌ‬
‫صالة‬ ‫المدائن»‬
‫ي ُمكــن أن ي ُدعــى‪ :‬التهجّد الغنائي‪ ،‬إذ الغناءُ «ألجمل َ‬
‫ن غناء الســي ّدة‬ ‫ٌ‬
‫صالة وغناءٌ معاً‪ .‬غنّت فيروز للقدس وغنّى غيرها لها‪ ،‬لك ّ‬ ‫غنــاءٌ‪ ،‬وإذ تهجُّــد ُ فيروز‬

‫‪144‬‬
‫ْ‬
‫بفضــل اإليقاع الرهيف الــذي يتوجّه إلى جمهــور ٍ ي ُؤثِر االســتماع على التصفيق‪.‬‬ ‫فيــروز ُمختلــف‬
‫الســي ّدة اللّبنانيّــة ال تتوجّــه إلى «نخبة»‪ .‬تَر َكــت غناءً َيبني «نُخبتــه» وحيداً ُملب ّياً‪ ،‬بشــك ٍ‬
‫ل عفوي‪،‬‬
‫القاعدة البســيطة القائلة‪ :‬على الذي يتأمَّل لوح ًة فني ّة أن ي ُع ِّلم ذاتَه مبادئ القراءة الفني ّة‪ .‬وقد‬
‫ن أغنية فيروز تُملي على ســامِ عها أن يعود إليها‬ ‫ذاتي‪ ،‬ولك ْ‬
‫ن أل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ع‬
‫أكون من هؤالء‪ ،‬ال بفضل نزو ٍ‬
‫دركاً أنّه بعيداً عن أغنية جماهيري ّة تســتدعي التصفيــق‪ ،‬وأنّه أمام «أغنية فني ّة»‬
‫أكثــر مــن مرّة‪ُ ،‬م ِ‬
‫ِ‬
‫حفيف مطر ٍ‬ ‫سترســا ً كما لو كان يتأمّل َغيم ًة بديع َة التشــكيل‪ ،‬أو ي ُنصت إلى‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ــامع ُم‬ ‫َيتبعها السّ‬
‫َ‬
‫األرض و َيطرد الجفاف‪.‬‬ ‫ي ُداعِب‬
‫زلــت مــن زمن‪« :‬ســنَرجع يوماً إلى ح ِّينا» أنتظــر نهاية أغنية فيروز التي ال تنتهــي‪َ ،‬أ ُ‬
‫ضع ِصف َة‬ ‫ُ‬ ‫مــا‬
‫حلت أمي وتَر َك ْ‬
‫ت لي تعبيراً أليفاً‪ ،‬يتسرَّب‬ ‫ْ‬ ‫سمعْتها من أمّي من عقود‪َ .‬ر‬
‫السي ّدة قبل االسم‪ ،‬كما َ‬
‫لصبي فلسطين‬
‫ّ‬ ‫حفظت التعبير‪ ،‬كرمى ألمّي الراحلة‪ ،‬أو إخالصاً‬‫ُ‬ ‫هادئاً من دون أن يستدعيه أحد‪.‬‬
‫َ‬
‫حافظت على صفة‪:‬‬ ‫وجعتْــ ُه صفــة‪ّ :‬‬
‫الاّلجئ وآ َلمته صفة‪ :‬الغريب‪ ،‬واحتراماً لســي ّدة لبنانيّــة‬ ‫َ‬ ‫الــذي َأ‬
‫العمــل الفنّــي‪ ،‬الذي يرتقي بالروح‪ ،‬وقد «ال ي ُطرب» وأصبحت بعد عقود ٍ من اإلبداع «عمال ً فنيّاً»‬
‫بذاتها‪ ،‬تُصفِّ ق لها الروح الحالِمة‪ ،‬قبل أن تُصفِّ ق لها اليدان‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫جوني منصور*‬

‫عربي في هذا العا َلــم‪ ،‬وكذلك َفعلت‬ ‫أصابــت النكبــة الفلســطيني ّة في العام ‪ 1948‬جــوارح ّ‬
‫كل‬
‫ّ‬
‫تنهض مــن جديدٍ‪ ،‬على الرّغم من‬
‫َ‬ ‫النَّكســة فــي العام ‪ .1967‬ومن طبيعة الشــعوب العنيدة أ ْ‬
‫ن‬
‫الفلســطيني ومعه الشــعوب العربي ّة‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الشــعب‬ ‫َ‬
‫فعــل‬ ‫ُ‬
‫والمتكــرّرة‪ .‬وهكــذا‬ ‫كبواتهــا ُ‬
‫المتعــد ّدة‬
‫كافّــة‪ .‬أحيانــاً َّ‬
‫حققوا نصراً وأحياناً كثيرة لحقتهم هزيمة أخرى؛ ّ‬
‫إاّل أنّ الحروب غير ُمقتصرة على‬
‫ي وتكديس الســاح بكمي ٍ‬
‫ّات كبيرة‪ ،‬إنـّــما في كيفي ّة مواجهتها فكريّاً وثقافيّاً‬ ‫التفوّق العســكر ّ‬

‫وفنيّــاً ورياضيّــاً‪ .‬وهنا َب َرزَ َدور فيــروز الفن ّ ّ‬


‫ي من خالل مجموعة كبيرة من األغاني التي َّ‬
‫خصصتها‬
‫معظــم كلماتِها وألحانَهــا األخوان رحباني منصــور وعاصي؛‬
‫َ‬ ‫وضع‬
‫َ‬ ‫للقضيّــة الفلســطيني ّة‪ .‬وقــد‬
‫د ْ‬
‫ي الخمسيني ّات‬ ‫العربي في عق َ‬
‫ّ‬ ‫العروبي الذي انتشــر سريعاً في العا َلم‬
‫ّ‬ ‫وكانا مســكونَي ْن بالمد ّ‬
‫والستّيني ّات من القرن العشرين‪.‬‬

‫ن المكان الفلســطيني المفقود من خالل االحتالل اإلســرائيلي هو المركزيّ‪ ،‬فإنّنا ســنُرافِ ق‬


‫وأل ّ‬
‫ض من أغانيها لنُشــير بإصبع اليد إلى أهمي ّة حضور المكان الفلســطيني‬
‫القديــرة فيــروز في بع ٍ‬
‫مكوناً حضاريّاً‬
‫ِّ‬ ‫لكونــه (أي المكان)‬ ‫ّ‬
‫الحق الفلســطيني َ‬ ‫فيهــا (أي في األغاني)‪ ،‬و َدورها في تثبيت‬
‫وعربي‪.‬‬ ‫فلسطيني‬ ‫وجغرافيّاً وتاريخيّاً وإنسانيّاً عميق الجذور الزمني ّة بالنسبة إلى ّ‬
‫كل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المدن في فلسطين‪ ،‬وعلى رأسها «زهرة المدائن»؛‬ ‫ومرنِّماً بأســماء ُ‬
‫صوت فيروز صادحاً ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويأتي‬
‫فالفلســطيني ّون يرفضــون اقتســام المدينة المقد َّســة‪« :‬القــدس» بينهم وبين اإلســرائيلي ّين؛‬
‫ن القدس موحَّدة وواحدة وال تقبل القســمة على اثنَي ْن‪ .‬وهذا يعني أ ّ‬
‫ن‬ ‫بينما تَعتبر إســرائيل أ ّ‬
‫الفلســطيني ّين ال يعترفون بالقدس الجديدة المزعومة على يد إســرائيل بأنـّــها هي القدس أو‬

‫*مؤرخ وكاتِب من فلسطين‬


‫ِّ‬

‫‪146‬‬
‫و ٌر عنها‪ .‬فشوارع القدس تحمل في جنباتها قدسي ّ ًة كبيرة بالنسبة إلى الفلسطيني ّين والعرب‬
‫تط ّ‬
‫عموماً ومحب ّي هذه المدينة من بين سائر شعوب العا َلم‪.‬‬
‫ُ‬
‫ُمعانَقــة القــدس فــي أغنيــة «زهــرة المدائن» فيهــا داللــة قوي ّة للمــكان المقد َّس بكنائســه‬
‫ومســاجده من خالل حد َثي ْن ُمهمَّي ْن تاريخيّاً‪ ،‬و ُ‬
‫هما َمولد ُ الســي ّد المســيح في َبيت لحم القريبة‬
‫ن «القدس لنا» و»البيت لنا»‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن هذا‬ ‫والمعراج‪ .‬وتَعتبر فيروز أ ّ‬ ‫د ُ‬
‫ث اإلســراء‬ ‫وح َ‬
‫ِ‬ ‫من القدس‪َ ،‬‬
‫َل سيرجع إلى أصحابه ببهائه وسالمه‪.‬‬ ‫والمحت ّ‬
‫ُ‬ ‫المكان المفقود‬
‫فــي «زهــرة المدائــن» تســتحضر فيــروز المدينة المقد َّســة عبر امتدادهــا وعالقتهــا الجوهري ّة‬
‫ذكر اســم بيت لحم‪ ،‬إنّما مغارتها التي وُلد فيها الطفل يســوع‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ببيت لحم من دون‬
‫والمعنوي ّة َ‬
‫كمــا َو َر َد فــي التقاليــد الديني ّة والتاريخي ّة المســيحي ّة‪ ،‬وهــي كافية ألن تُد ِّلل علــى هذه العالقة‬
‫الوطيدة‪ .‬هذا االمتداد ال يتوقّف عند هذَي ْن المكانَي ْن ُ‬
‫المهمَّي ْن بالنســبة إلى ظهور المســيحي ّة‬
‫ونموّهــا وتطوّرهــا‪ ،‬إنـّــما تربطهمــا مع نهــر األردن ذي القدســي ّة المعروفة من خــال اعتماد‬
‫المسيح فيه ك ّ‬
‫فارة عن خطايا العا َلم‪.‬‬
‫الدمج الواسع بين الفكر الديني واإليمان من جهة وبين واقع المكان وعالقته بالحدث التاريخي‬
‫استحضار المدينة وما تـُم ِّثل ُ ُه من انتماءٍ عميق في‬
‫َ‬ ‫الذي شتَّت الفلسطيني ّين من جهة أخرى‪ ،‬عزَّز‬
‫الموروث الحياتي للفلسطيني ّين من ُمسلمين ومسيحي ّين‪.‬‬
‫ٌ‬
‫قائم في‬ ‫ذاهبة لتُصلّي في القــدس‪ ،‬فيه روح التأكيد علــى أ ّ‬
‫ن المكان‬ ‫ٌ‬ ‫التشــديد علــى أ ّ‬
‫ن فيــروز‬
‫بكل مكوّناته الديني ّة وشوارعه وأزقّته وبيوته وناسه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الحاضر‪ ،‬وليس شأناً ماضويّاً البتّة‪ ..‬المكان‬
‫ي فيروز‪ .‬وإنّها تؤ ِّكد ذهابها لتصلّي في هذا المكان الذي يشهد‬
‫ناظر ْ‬
‫َ‬ ‫ما زال قائماً وحاضراً أمام‬
‫ٍ‬
‫حاوالت إســرائيلي ّة ُمســتمرّة لتفريغه من محتواه الد ّيني اإلســامي والمســيحي‪،‬‬ ‫منذ احتالله ُم‬
‫وتحويله إلى مكا ٍ‬
‫ن يهودي‪ .‬وهذا هو جوهر الصراع اإلسرائيلي – الفلسطيني في اآلونة األخيرة‪.‬‬
‫منطلق استحواذه فعليّاً بعد‬
‫ِ‬ ‫إنّه يدور حول المكان‪ ،‬ليس من منطل ٍ‬
‫ق ديني فحسب‪ ،‬وإنـّما من‬
‫تطهيره من أصحابه الصامدين هناك‪.‬‬
‫و«زهرة المدائن» أغنية سياسي ّة بامتياز عب َّر من خاللها الرحابنة وفيروز كمؤد ّية لها‪ ،‬أ ّ‬
‫ن القدس‬
‫ٌ‬
‫مــكان يحمــل األمل في محو الغــدر والخيانة والهزيمة‪ .‬أبواب المدينة لن تكون ُمقفَ لة ما دام‬
‫المحت ّ‬
‫ِ‬
‫الغاصب‪.‬‬ ‫َل‬ ‫ُ‬ ‫قه في الصالة في مساجدها وكنائسها حتّى ت ُ َ‬
‫نجز هزيمة‬ ‫هناك َمن ي ُِصرُّ على ح ّ‬

‫تغن لرؤســاء وزعماء أبداً‪ ،‬فهؤالء حالــة عابرة‪ .‬أمّا‬


‫ِّ‬ ‫وفيــروز غنّــت ُ‬
‫لمــد ٍ‬
‫ن وطبيعة وشــعب‪ ،‬ولم‬

‫مخزون ذاكرة ٍ َ‬
‫ومشــاعر وأحاســيس‬ ‫ِ‬ ‫ق بناســه وتاريخــه وتُراثه وما يحمله من‬
‫المــكان‪ ،‬فهــو با ٍ‬

‫‪147‬‬
‫تتعلّــق بتلك العالقة التي تربط إنســان المــكان بالمكان‪ .‬والحركة الصهيوني ّة وأداتها إســرائيل‬
‫عملت‪ ،‬وال تزال‪ ،‬من أجل تجريد هذه العالقة بين اإلنســان الفلســطيني والمكان الفلســطيني‪،‬‬
‫فهــذه األداة تنكــر الوجود الفلســطيني‪ ،‬وتنكر َكون المكان فلســطينيّاً؛ إنّما تعتبره يهوديّاً منذ‬
‫الكــون‪ .‬وطبعاً‪ ،‬هذا اإلنكار ينســاق مع رزمة أخرى من إنكارات إســرائيل لوجود الشــعب‬
‫خلــق َ‬
‫حضور المدينة‬
‫َ‬ ‫الفلســطيني حقيقة‪ ،‬وح ّ‬
‫قه في هذا المكان‪ .‬هنا‪ ،‬تأتي كلمات أغاني فيروز لتؤ ِّكد‬
‫ومحتواه المكاني في حياة ناسها ومحب ّيها ومشرّديها والجئيها التوّاقين إلى العودة إليها مهما‬
‫طال الزمن‪.‬‬
‫و«اللّجــوء» هــو ليس حالة ناجمة عن الحرب والعدوان وعملي ّة الطرد والتشــريد فقط‪ ،‬بل حالة‬
‫الاّلجئ حياة مؤقّتــة‪ ،‬آمِ ال ً في العودة إلى مكانــه الحقيقي والطبيعي‬
‫مــكان مؤقَّــت يعيش فيه ّ‬

‫بعدمــا َفقَ ــده‪ .‬وأمكنــة اللّجوء غير معرَّفة تحديــداً بالمرّة؛ في ُمكن أ ْ‬
‫ن تكون حُرشــاً‪ ،‬أو وعراً‪ ،‬أو‬
‫ساحة أو طريقاً‪ ،‬أو مؤسّ س َة إيواءٍ وسواها‪ .‬واألبرز في أمكنة اللّجوء‪ ،‬كما حد َّدته المؤسّ سات‬
‫ُ‬
‫دمتها األمم المتّحدة هو «الخيام»؛ فالرحابنة في أغنية «راجعون» من العام‬ ‫الدوليّــة‪ ،‬وفــي مق ِّ‬
‫الاّلجئون والنازحون من فلســطين‪ ،‬لكنّهم ال يتوقّفون‬ ‫‪ 1957‬يصفــون طريــق اآلالم التي مرّ بها ّ‬
‫ن ّ‬
‫الاّلجئيــن لن يناموا فيها‬ ‫عنــد هــذا الوصف‪ ،‬إنـّــما يؤكّدون الحالة المؤقّتة لمــكان اللّجوء‪ ،‬وأ ّ‬
‫أسى وظالم‪.‬‬
‫ً‬ ‫وبيوتهم يسكنها الغريب‪« .‬ونحن الجئون في الخيام‪ ،‬هل ننام؟ لن ننام‪ .‬والكون‬
‫ْث األمل بــأ ّ‬
‫ن هذا الوضع‬ ‫الهمم وتنشــيطها وبع ِ‬
‫لــن ننــام‪ ،‬ســيعمّ األرض الســام»‪ .‬ولتحريك ِ‬
‫المكانــي هــو مؤقّت‪ ،‬تدعو األغنية ّ‬
‫الاّلجئين» إلى الصفــوف مع الدجى نطوف على الخيام نوقظ‬
‫ّ‬
‫الحق ظالم»‪.‬‬ ‫النيام‪ ...‬لن ننام وشراع الخير حطام‪ .‬لن ننام ودروب‬
‫لكونه ليس المكان الحقيقي‪َ ،‬أدركه الرحابنــة وتماهوا مع فكرة الرجوع أو‬
‫حالــة رفض اللّجــوء َ‬
‫العودة؛ فالرجوع الى المكان الذي منه تمّ َطرْد ُ صاحبه الفلســطيني‪ ،‬هو أم ٌر حتّمي مهما كانت‬
‫وكل مظاهر الطبيعــة الصعبة‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن اإلصرار‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫وعواصف‬ ‫أعاصير ورياحاً‬
‫َ‬ ‫الظــروف؛ حتَّــى ولو كانــت‬
‫ّ‬
‫بكل ثقة وايمان‪.‬‬ ‫على الرجوع هو مبدأ رئيس يتمسّ ك به ّ‬
‫الاّلجئون ُ‬
‫ومناصروهم‬

‫جسر العودة‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫تنازل‬ ‫الحق الذي ال‬ ‫إصرار الفلسطيني والعرب بعامّة على هذا‬
‫َ‬ ‫وتأتي أغنية «جسر العودة» لتؤ ِّكد‬
‫عنه‪ ،‬وال تســري عليه شــرعة التقادُم‪ .‬فـ»الجســر» هو عملي ّة انتقال من مكا ٍ‬
‫ن إلى آخر عبر طريق‬

‫وهيئته‪ .‬ولكنّنا نأخذ َ‬


‫بعي ْن االعتبار‬ ‫هي «العودة»‪ .‬والجســر هو مكان‪ ،‬وإن كان غير محد َّد شــكله َ‬

‫‪148‬‬
‫فمن ســيعود‬ ‫ِ‬
‫لوصف العودة عبره؛ َ‬ ‫أنّه جســ ٌر فوق نهر األردن مثال ً‪ .‬وقد يكون أيضاً جســراً مجازيا ًّ‬

‫نتظر‪ .‬والعائدون على استعداد ٍ ألن يعودوا باللّيل‬ ‫ُ‬


‫والم ِ‬ ‫عبر هذا الجســر؟ العاثِر‪ ،‬والن ّ ِ‬
‫ازح والشريد‬
‫ّ‬
‫وبكل طريقة توصلهم إلى جسر العودة‪ .‬وفي الوقت نفسه تحي ّي فيروز‬ ‫والنهار‪ ،‬بالعتمة الحالكة‬
‫في أغنية «جسر العودة» الفلسطيني ّين الباقين في أرضهم ووطنهم‪ ،‬باعتبارهم ُ‬
‫«منزرعين» في‬
‫متمسكون به كشجر الزيتون ذي الجذور الضاربة في تاريخ المكان‬
‫ِّ‬ ‫مكانهم‪ ،‬ولم يغادروه‪ ،‬بل ُ‬
‫هم‬
‫منذ آالف السنين‪ .‬ولم يغِ بْ عن هذه األغنية المكان األبرز واألهمّ أال وهو «القدس»‪ .‬فالقدس‪،‬‬
‫ّ‬
‫لكل فلسطيني ُمشرّد وهائِم على وجهه‪.‬‬ ‫كما أشرنا‪ ،‬هي ساحة النَّصر‪ ،‬وهي جسر العودة‬
‫قصة ٍ‬
‫وهنا‪ ،‬في هذه الجزئي ّة تحديداً‪ ،‬ال ب ُد َّ من توضيح هذا التمسُّ ــك الرحباني بـ «القدس»‪ .‬ففي ّ‬
‫مشــهورة عــن زيارة فيــروز والرحابنة إلى القدس في العــام ‪ 1964‬تمهيداً لزيارة قداســة البابا‬
‫بولس الســادس إليها‪ ،‬أ ّ‬
‫ن ســي ّدة َمقدســي ّة قد َّمت لفيروز مزهري ّة فيها ورد من جنائن القدس؛‬
‫وفي أعقابها َأنشدت فيروز أغنية «القدس العتيقة»‪ .‬واألغنية تُب ِّين مدى تمسُّ ك الفلسطيني ّين‬
‫بالمــكان‪ ،‬وهــو في هــذه الحال القــدس‪ ،‬وأيضاً أنـّــهم ينتظرون العــودة إلى هــذا المكان؛ إذ‬
‫ن آالف الفلســطيني ّين لجــأوا إلــى القدس الشــرقي ّة في العــام ‪ 1948‬ومن مناطــق يافا واللّد‬
‫إ ّ‬
‫ّ‬
‫ســكانها على يد آلة الحرب والجريمة اإلســرائيلي ّة بهدف تطهير المنطقة بين‬ ‫والرملة بعد طر ْ ِد‬
‫القــدس والســاحل عند يافــا من الفلســطيني ّين؛ هؤالء الذين تشــرّدوا ولجأوا إلــى القدس ال‬
‫يزالون ينتظرون العودة إلى ديارهم التي منها ُطردوا‪ .‬واألغنية تَصف الحياة التي عاشها هؤالء‬
‫وبمدنهم من طرْد ٍ ونهْبٍ «وبلَّي ْل كلّو لي ســال الحقد بفي ّة البيوت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قبل التشــريد‪ ،‬وما ّ‬
‫حل بهم‬
‫واإليديــن الســودا خلّعت البــواب وصارت البيوت بال أصحــاب‪ ،‬بينُن وبين بيوتُن فاصل الشــوك‬
‫والنار واإليدين السودا»‪.‬‬
‫َ‬
‫الحال‬ ‫ورأت فيروز كغيرها من الذين كانوا يزورون القدس في الفترة الواقعة بين ‪ 1948‬و‪1967‬‬
‫المشــرّدون والنازحون‪ ،‬وخصوصاً على صعيد ش ّ‬
‫ح المؤن الغذائي ّة‪ ،‬وسكنى‬ ‫المريرة التي عاشــها ُ‬
‫ســتأجرة التي كانت ال‬
‫َ‬ ‫الخيام المفتقِ دة للحد ّ األدنى من اتّقاء البرد والمطر‪ ،‬وكذلك البيوت ُ‬
‫الم‬
‫المكابدات الحياتي ّة بمركّباتها ومتطلّباتها‬
‫تُناسب الفرد الطبيعي العادي‪ ..‬إلى قائمة ٍ طويلة من ُ‬
‫كافّة‪ .‬والفلسطيني ّون وإ ْ‬
‫ن كانوا نزحوا الى هذا المكان الذي يتمتّع برمزي ّة ٍ عالية لهم ولغيرهم‪:‬‬
‫مدينــة القــدس‪ ،‬غير أنّه وعلى الرّغم من ّ‬
‫كل ما تعنيه لهم هــذه المدينة دينيّاً وروحيّاً وتاريخيّاً‪،‬‬
‫ّ‬
‫سيظل هو اآلخر مسكوناً فيه‬ ‫ومرا ِبع الطفولة األولى‪،‬‬ ‫ّ‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن حنين اإلنســان إلى مســقط رأسه َ‬
‫ّ‬
‫يتمكن من العودة إليه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بشغف مفتوح إلى أن‬ ‫ويل ّ‬
‫ح عليه‬

‫‪149‬‬
‫امتصاص الغضب‬
‫َ‬ ‫ن العرب تعرّضوا إلى صدمة (تراوما) «النكبة»‪ ،‬وحاولت قياداتهم الرجعي ّة‬‫وأل ّ‬
‫المواطنين بأ ّ‬
‫ن الغضب‬ ‫للم َ‬
‫حافظة على ُمكتســباتهم الضي ّقة‪ ،‬وإقنــاع ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بكل الطــرق‬ ‫الجماهيــري‬
‫والثــورة يجب توجيهها نحو فلســطين‪ ،‬وهذا صحيــح‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن األخطاء التي حصلت في العام ‪1948‬‬
‫يجــب تصحيحهــا‪ .‬فتَنتشــر أفكار الثــورة في ّ‬
‫كل بقعة من بقــاع األرض العربي ّة مع انتشــار المد ّ‬
‫القومــي‪ -‬العروبي‪ .‬ويزداد الشــغف لتحرير فلســطين وإعادة كرامة العــرب بتحرير هذا المكان‬
‫خاصاً بالنســبة إلى ّ‬
‫كل عربي ُ‬
‫ومســلم ومســيحي‪ .‬حينها َو َض َع ســعيد عقل‬ ‫ّ‬ ‫معنى‬ ‫الــذي يحمــل‬
‫ً‬
‫ٌ‬
‫«سيف فلي ُشهر»‪.‬‬ ‫قصيدته‬
‫ن هذه‬ ‫ّ‬
‫الحق إلى أصحابه الشــرعي ّين؛ وأ ّ‬ ‫الســيف هنا هو دعوة إلى الثورة في وجه الظلم إلعادة‬
‫ٌ‬
‫فعل‬ ‫الثورة تنطوي على غاية ٍ مركزي ّة وهي «العودة»‪ .‬والعودة هنا ليست كلمة تُقال‪ ،‬وإنّما هي‬
‫وتتزامن فكرة العودة ُ‬
‫المتكرّرة في أغاني فيروز عن فلســطين وأمكنتها البارزة‬ ‫َ‬ ‫يجــب تحقيقــه‪.‬‬
‫مع التشــديد على عدم نســيان فلسطين؛ ففلســطين غير محصورة في الخيام التي تمّ إعدادُها‬
‫دد القصيدة‬ ‫ّ‬
‫والاّلجئين‪ ،‬إنـّما هي قضي ّة إنساني ّة وأخالقي ّة من الدرجة األولى‪ .‬وتُش ِّ‬ ‫إليواء النّازحين‬
‫ن القوّة ال تُواجه ّ‬
‫إاّل‬ ‫ن العودة إلى ذاك المكان «فلســطين» لن يكون ّ‬
‫إاّل بالنار‪ ،‬أي أ ّ‬ ‫أعاله على أ ّ‬
‫َ‬
‫وكل ما يتعلّق بالكفاح من‬
‫ّ‬ ‫بالقــوّة‪ .‬وهذا ما اثبتته األي ّام بالنســبة إلى تطوُّر الصــراع وصيرورته‬
‫أجل القضي ّة الفلسطيني ّة‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬نُالحــظ تلــك العالقــة القويّــة التــي يجمعها المــكان الواحد مــن خالل اســتخدام الرحابنة‬
‫ــي «العودة» و«الرجوع»‪ .‬فالرجوع هو عملي ّة العودة‪ ،‬أي الرجوع إلى الماضي‪ ،‬إلى حيث‬
‫لمفهوم ْ‬
‫َ‬
‫الاّلجئون‪ ..‬ومكان ّ‬
‫الاّلجئين هو فلسطين‪ ،‬وأداة الرجوع هي «العودة» إليها‪.‬‬ ‫كان ّ‬

‫و َيرتبــط فعــل الرجــوع بالمــكان والزمــان؛ ففــي قصيدة «ســنرجع يومــاً» تأكيد ٌ للعــودة مهما‬
‫ّ‬
‫فالاّلجئون والنازحون الفلســطيني ّون عاشــوا وما زالوا‬ ‫مــرَّ الزمــان‪ ،‬ومهما َبعدت المســافات؛‬
‫ن إلى آخر مع ّ‬
‫كل عاصفة سياســي ّة هوجاء تضرب بالمكان‬ ‫َ‬
‫واالنتقال من مكا ٍ‬ ‫د‬
‫يعيشــون التشــري َ‬
‫نغرســين في أرضهم»‪،‬‬ ‫ُ‬
‫«الم ِ‬ ‫المقا ِبلة من‬ ‫ٌ‬
‫منوط بانتظار الجهة ُ‬ ‫الــذي حلّــوا فيه؛ وإ ّ‬
‫ن هذا الرجوع‬
‫أي الفلســطيني ّين الباقيــن فــي وطنهم‪ ،‬والذين ُ‬
‫هم على أتمّ االســتعداد الســتقبال العائدين؛‬
‫فالذاكــرة ال تــزال علــى حماوتها في أجواء فلســطين؛ وهــي ذاكرة ُمرتبطة باإلنســان والمكان‬
‫ومنفصلــة عنهما أيضاً؛ فالمرء يحمل معه ذاكرته الفردي ّة والجماعي ّة أينما َّ‬
‫حل في األرض‪،‬‬ ‫معــاً‪ُ ،‬‬
‫ومشــاعِر؛‬ ‫ٍ‬
‫ذكريات وأفكار ٍ َ‬ ‫والذاكرة المكاني ّة هي على عالقة بما يرشــح من المكان نفســه من‬
‫والح َج ُر في عالقة ٍ تفاعلي ّة مفتوحة يبلْورها المكان عبر الزمان‪ .‬ومهما «شــرَّدتنا الرياح‪،‬‬
‫َ‬ ‫فالب َ‬
‫شــ ُر‬ ‫َ‬

‫‪150‬‬
‫م‬
‫لله َم ِ‬ ‫ٌ‬ ‫بأمــل الرجوع الفعلي فــي ّ‬
‫تحفيــز ِ‬ ‫كل حالة‪ .‬وهنا‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ســنرجع»‪ ..‬هكــذا تنتهــي األغنية أعاله‬
‫ٌ‬
‫وتحريك لقوافل العائدين‪.‬‬
‫ن أمكن ًة‬ ‫ن َبرزت في القدس «زهرة المدائن» و«القدس العتيقة»‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬ ‫والعــودة الفيروزيّــة‪ ،‬وإ ْ‬
‫ّ‬
‫بكل تأكيد‬ ‫شغلت حي ّزاً واسعاً من أغاني فيروز‪ ،‬ومنها «بيسان» و«يافا»‪ .‬ووفق ما نعرفه‬ ‫أخرى َ‬
‫ُ‬
‫ن مطربتنــا الكبيــرة لم ت َُزر ْ هاتَيْــن المدينتَي ْن الفلســطينيّتَي ْن َقب َْل إطالقهــا أغنيتَي ْها عنهما؛ فـ‬
‫أ ّ‬
‫«بيســان» مدينة فلســطيني ّة تاريخي ّة تعود جذورها إلى آالف الســنين‪ ،‬وفيها من اآلثار ما يشهد‬
‫علــى حيويّــة هذا المــكان وفعالي ّته في تشــكيل الحياة اإلنســاني ّة عبر األزمنة‪ .‬تقع بيســان في‬
‫ق يربط بين غربي فلســطين وشــرقها‪ .‬وهي حــارّة جدّاً في‬
‫منطقــة األغوار الشــمالي ّة وعلى طري ٍ‬
‫الصيــف؛ ومعتدلــة الحرارة‪ ،‬مع دفءٍ ُممي َّز‪ ،‬في الشــتاء‪ .‬لذا‪ ،‬اتَّخذها كثيــرون َموقعاً لالصطياف‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫والمنغصة لحياة اإلنســان في بعض األحوال‪ .‬فتصف أغنيتها‬ ‫الشــتوي بعيداً عن األجواء الباردة‬
‫بأنواع الفواكه والثمار الطي ّبة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫«بيسان» بأنـّــها «ضيعة شتائي ّة»‪ ،‬حيث التالل والبساتين الزاخرة‬
‫وبخاصة أنّها مدينة‬
‫ّ‬ ‫هناك في بيسان ستَعبر الطريق التي فيها «رفوف من العائدين على حنين»‪،‬‬
‫ٍ‬
‫موجات من النزوح في العام‬ ‫شرقي األردن وعلى مقربة من نهر األردن حصريّاً‪ ،‬وقد َ‬
‫شهدت‬ ‫ّ‬ ‫تقع‬
‫‪ ،1948‬ولكنّها ستَشهد عود ًة أيضاً لهؤالء النّازحين‪.‬‬
‫أمّــا فــي أغنية «يافا»‪ ،‬فحكاية أخرى‪ ،‬فيها تشــابه واختالف عمّا رأيناه في بيســان‪ .‬فيافا المدينة‬
‫ّ‬
‫شــكلت نقط َة عبور ٍ وانتقال من القادمين من الخارج من أوروبا‬ ‫الميناء ذات الشــهرة التاريخي ّة‬
‫وشــمالي إفريقيــا إلى ســائر أنحاء فلســطين‪ ،‬وخصوصاً إلى القدس‪ ،‬وهنا إشــارة إلــى الحُجاّج‬
‫القادمين من أوروبا لزيارة القدس وبيت َلحم والناصرة وطبري ّا‪.‬‬
‫المكان قبل العدوان عليــه؛ فالمكان هو مدينة وميناء؛ وعالقة اإلنســان بهذَين‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫األغنيــة‬ ‫ت َِص ُ‬
‫ــف‬
‫ّ‬
‫شــكال جوهر حياته‪ ،‬ففيهما نشــأ أصحابه وترعرعوا وأســهموا في عمرانه حتّى‬ ‫المكانَي ْن اللّذَي ْن‬

‫َغدت يافا َمكاناً مشــهوداً له َ‬


‫بموقعه االستراتيجي والتجاري والثقافي واالجتماعي والسياسي‪.‬‬
‫ّ‬
‫شكلت العاصمة التجاري ّة‪ ،‬بل االقتصادي ّة لفلسطين في نهاية الفترة العثماني ّة وكذا‬ ‫فمدينة يافا‬
‫في فترة االحتالل البريطاني (وي ُسمّيه كثيرون بـ «االنتداب البريطاني»)؛ حيث َأمَّها تجّا ٌر ورؤوس‬
‫أموال من لبنان وســوريا ومصر وأوروبا‪ .‬وأسَّ ســوا لهم قواعد اقتصادي ّة زاهرة‪ .‬كذلك شــهدت‬
‫والمطابع والصحف‬
‫َ‬ ‫ومعاهد التعليم‬ ‫هذه المدينة انتعاشــاً ثقافيّاً من حيث انتشــار َ‬
‫المدارس َ‬
‫والمسارح وصاالت السينما والمقاهي وغيرها من مظاهر الحياة‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫والكشفي ّة‬ ‫واألندية الرياضي ّة‬
‫االجتماعي ّة الثقافي ّة والترفيهي ّة‪ .‬وكانت الحياة تَســير بطيئ ًة وهادئة كالموج الهادئ‪ ،‬حيث «نادانا‬

‫‪151‬‬
‫البحــر ويومــا صحــو فهيأناه المجذافا‪ .‬نلمــح في الخاطر أطيافا‪ُ ،‬عدنا بالشــوق إلــى يافا»‪ .‬لك ّ‬
‫ن‬
‫بــق على ما هــو عليه‪ ،‬إذ‬
‫هــذه الحيــاة التــي بناهــا أبنــاءُ المكان الــذي نحن بصــدده «يافا» لم َي َ‬
‫صلت ماءً بســماء‪ .‬عاصفــة المطر اللّيلي ّة قطعان ذئاب‬
‫ْ‬ ‫«جاءتنــا الريح في اللّيل‪ .‬عاصفة هوجاء َو‬
‫البحري ّة»‪ ،‬هو االحتالل اإلســرائيلي الــذي لو كان قد أتى في وضح النهار لكان‬
‫َبحريّــة»‪ .‬و»الذئاب َ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫بكل الطرق‬ ‫ب المــكان‬ ‫واجهــه أهــل المدينة ببأس‪ ،‬لكنّه محتال يهدف إلى ســرق ِة ونه ِ‬
‫ْب وســل ِ‬
‫ُ‬
‫الهالك‬ ‫أصحــاب المكان على ُم َ‬
‫واجهــة هذه العاصفة الهوجــاء فوقع‬ ‫ُ‬ ‫يقو‬
‫َ‬ ‫التــي توفَّــرت لــه‪ .‬ولم‬
‫يبق من المكان إال ّ ذاكرة تتآكل ســنة بعد أخرى مع التره ُّل السياســي‬
‫والدمــار والضيــاع‪ .‬ولم َ‬
‫كل شــبر ٍ من األرض السليبة‪ .‬إال ّ أ ّ‬
‫ن هذه‬ ‫ّ‬
‫الحق الفلســطيني في العودة وتحرير ِّ‬ ‫في التعاطي مع‬
‫ستمعها خائباً ُمتشائماً وفاقداً لألمل‪،‬‬
‫َ‬ ‫األغنية التي تُعزِّ ز العالقة مع المكان المفقود ال تترك ُم‬
‫إنـّما تؤ ِّكد له في نهايتها أنّه مهما هب ّت الريح‪ ،‬ومهما صاحت وتصيح‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن الرجوع والعودة إلى‬
‫كل أجزاء فلســطين‪ .‬والرجوع هنا بصيغة «ســنَرجع» أي كلّنا‪،‬‬
‫يافا مؤكَّد؛ وهي رمزي ّة للعودة إلى ّ‬

‫وليس «بعضنا»‪ .‬هنا العودة «جماعي ّة» إلى المكان الذي يرتبط ارتباطاً عضويّاً وإنسانيّاً وأخالقيّاً‬

‫َقلت‬
‫ِ‬ ‫لمن تشــرَّد عبر هــذا الميناء بقوارب وســفن وبواخر ن‬
‫بأصحابــه‪ .‬والعــودة مــن ميناء يافا َ‬
‫اليافاوي ّين إلى المجهول‪ .‬وترتبط العودة هنا مع «جسر العودة» عبر نهر األردن‪ .‬ن ُ ِ‬
‫درك من هنا‬
‫الربــط بيــن ميناء البحر عند ميناء يافا‪ ،‬وبين جســر العودة فوق نهــر األردن‪ .‬وعملي ّة الربط هذه‬
‫هما مكانان ي ُحد ّدان فلسطين التاريخي ّة عرضاً‪ .‬وهذا‬
‫ي فلسطين «البحر والنهر»‪ ،‬و ُ‬ ‫َ‬
‫طرف ْ‬ ‫قوي ّة بين‬
‫موقف لوحدة المكان الفلسطيني‪.‬‬

‫المخصصة لفلســطين محشود ٌ بالتحد ّي للوضع الحاصل‬


‫َّ‬ ‫«المكان» الذي أبرزته فيروز في أغانيها‬

‫تاريخيّــاً‪ ،‬الرّافض لما حصل ووقع للعرب عموماً ولفلســطين وشــعبها خصوصــاً‪ .‬وهذا المكان‬
‫ٍ‬
‫بكلمات واضحة أساســها‬ ‫الــذي غنَّــت له فيــروز قصائد رائعة‪ ،‬فيــه حالة من الغضب عبّــرت عنها‬
‫ّ‬
‫تظــل أغانيها في زاوية‬ ‫ّ‬
‫والذل والفقر والفاقة والتســوُّل‪ ،‬من دون أن‬ ‫الثوريّــة ورفْــض اللّجــوء‬

‫فقدان األمل‪ ،‬فاألمل ُمرافِ ق قو ّ‬


‫ي لإلنسان في مكانه وزمانه‪.‬‬

‫شــك َل «المكان» فــي أغاني فيروز فلســطين الجريحة المتألّمة‪ ،‬ولكن فــي الوقت ذاته‪،‬‬
‫َّ‬ ‫عمليّــاً‬

‫شــك َل هذا المكان أيضاً فلســطين الثائرة والعائدة إلى حيث يجب أن تكون لتُعيد البهاء والبناء‬
‫َّ‬

‫ُ‬
‫ومتابعة َمسيرة البناء التي بدأها وأسّ سها الفلسطيني ّون والعرب على طول مساحة فلسطين‬

‫والوطن العربي عموماً‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫المتعلّق‬
‫دين «الوطني والقومــي»‪ .‬الوطني ُ‬ ‫ونالحــظ جليّــاً أ ّ‬
‫ن «المكان» في أغانيها يحمــل الب ُع َ‬
‫المتعلّــق بالعا َلم العربــي‪ .‬فالقدس ويافا وبيســان وغيرهــا من مدائن‬
‫بفلســطين والقومــي ُ‬
‫ُ‬
‫بمفهومي ْها‬
‫َ‬ ‫فلســطين‪ ،‬ليســت محصورة بفلسطين وشــعب فلســطين‪ ،‬إنّها قلب األمّة العربي ّة‬
‫الوطني والقومي‪.‬‬
‫والقدس أكثر من مجرّد «مكان» َح َجريّ‪ .‬إنـّــها القدس البشــري ّة الحضاريّــة والثقافي ّة والروحي ّة‪.‬‬
‫ُفرقها‪ .‬وهذا المكان يعيش في هذه اآلونة جراحاً مفتوحة‬
‫فهذا المكان َيجمع كلمة العرب وال ي ِّ‬
‫بســبب سياسات االحتالل القمعي ّة والقهري ّة والعنصري ّة‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن أبناءه وبناته سيعيدون بأيديهم‬
‫وسالم القدس‪.‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫القدس‬ ‫بهاءَ‬

‫‪153‬‬
‫د‪ .‬فكتور سحّاب*‬

‫ل َيست فيروز مغنّية عادي ّة‪ .‬هذا ما يعرفه الجميع‪.‬‬


‫ّ‬
‫مطاّلت‬ ‫ومع أنّ كثراً كتبوا عنها‪ ،‬لكن‪ ،‬كما جاء في كتاب أســعد ّ‬
‫قطان‪« :‬عن جبال في الغيم‪-‬‬
‫األخوي ْن رحباني وفيروز»‪ ،‬قليل من هذه الكتابات تجنَّبت مدائح التبجيل‪ ،‬التي‬
‫َ‬ ‫دراسي ّة على إرث‬
‫ســتعربة األلماني ّة الدكتوره إينيس فاينريخ‪ ،‬في كِ تابها‪ :‬فيروز واألخوان‬
‫ِ‬ ‫اشــتكت منها أيضاً ُ‬
‫الم‬
‫رحباني‪ :‬الموســيقى والحداثــة واألمّة في لبنان‪ .‬فالقليل من الدراســات والمقاالت واألبحاث‬
‫تناولت األمور من الناحية العلمي ّة‪ ،‬الموســيقي ّة واالجتماعي ّة والثقافي ّة واألنتروبولوجي ّة‪ ،‬ألجل‬
‫علمي ال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المســتحقة‪ ،‬مــن بابٍ‬ ‫وضــع هــذه المطربة العظيمة فــي مكانتها التاريخي ّة الصحيحة‬
‫يقبل جداالً‪.‬‬

‫المعيارين‪ ،‬فســمّاها ســعيد عقل‪« :‬ســفيرتنا إلــى النجوم»‪،‬‬


‫َ‬ ‫وقــد تفاوتــت الكتابة بين هذَين‬
‫ٌ‬
‫«وطن اســمه فيــروز»‪ ،‬وقال حســن داود إ ّ‬
‫ن «فيروز تنشــد الوطن»‪،‬‬ ‫وقــال طــال حيــدر إنّها‬
‫كل تلك مجرّد ألقاب أو عناوين‬‫ن «مجد لبنان أُعطي لها»‪ .‬وإن كانت ّ‬
‫وقال محمّد أبي سمرا إ ّ‬
‫مقاالت‪ ،‬يشفع بها ضرورة التركيز واإليجاز في العنوان‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن هذا ال ي ُغني عن الحاجة مع ذلك‬
‫ن قيمة فيروز تبدو أكثر ســطوعاً‪ ،‬من الناحية التاريخي ّة حين تُســلَّط‬
‫إلى الغوص العِ لمي‪ .‬بل إ ّ‬
‫عليها األضواء العلمي ّة‪.‬‬

‫*مؤرخ وناقد موسيقي من لبنان‬


‫ِّ‬

‫‪156‬‬
‫ن أحد أهمّ عناصر القيمة التاريخي ّة في الغناء الفيروزي‪ ،‬هو أنّه استأ َثر بالقسم األكبر من نِتاج‬
‫إ ّ‬

‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬والسي ّما اإلذاعي والمسرحي‪ ،‬منذ بدايتهما في الخمسيني ّات‪ ،‬حتّى رحيل عاصي‪.‬‬
‫َ‬
‫بعض أهمّ ألحان فليمون وهبي‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وإلــى جانب هــذا الرصيد الكبير‪ ،‬احتوت الخزانة الفيروزي ّة على‬
‫الــذي امتــازَ بتفوّقه في األغنية الشــعبي ّة‪ .‬كذلــك حازت فيروز على ثالث من أجمــل أغنياتها ُ‬
‫(مرَّ‬
‫ن اللّيل‪ ،‬وسْ هار) التي لحَّنها كبير الموسيقي ّين والمغنّين العرب في القرن العشرين‪،‬‬
‫وس َك َ‬
‫َ‬ ‫بي‪،‬‬

‫محمّد عبد الوه ّاب‪ .‬وفي أواخر مشــوارها الفنّي المديد (أطال اللّه عمرها) َأصدرت ثماني من‬
‫روائــع زكــي ناصيــف‪ ،‬الذي كان يجــدر أن تغنّي له المزيــد لوال بعض الحساســي ّات في ُ‬
‫المجتمع‬
‫ُفصح عنها‪ .‬غير أ ّ‬
‫ن ما اكتسبته من ألحان الكبار‪ ،‬إضافة إلى ألحان‬ ‫الفنّي‪ ،‬التي يُت َ‬
‫َهامس بها وال ي َ‬
‫بصوت كبير‪َ ،‬أك ْ َم َل حلقة الكمال في العمل الفنّي‪ ،‬ال‬
‫ٍ‬ ‫ابنها ّ‬
‫الاّلمع المواهِب‪ ،‬زياد رحباني‪ ،‬كافأته‬

‫بقماشة صوتها فقط‪ ،‬بل أيضاً بوجدانها وإحساسها الذي عب ََّر خَير تعبير وتمثيل عن تلك األلحان‪.‬‬

‫قال المخرج الســينمائي يوســف شــاهين (مخرج فيلم بي ّاع الخواتم)‪« :‬لقد فوجئت بالموهبة‬

‫التمثيلي ّة الكبيرة التي تتمتّع بها المطربة فيروز فأنا أعرف أنّها مطربة كبيرة‪ ،‬ولكنّها َأثبتت أنّها‬

‫ممثّلــة كبيــرة»‪ .‬كذلك قال فوّاز طرابلســي فــي كتابه‪« :‬فيروز والرحابنة مســرح الغريب والكنز‬

‫المشــاهِد ما ال ي ُنســى»‪ .‬وإذا كان األمر‬ ‫واألعجوبة»‪« ،‬إ ّ‬


‫ن فيروز تركت في أذهاننا وأفئدتنا من َ‬
‫الذي يهمّ ُمخرجاً سينمائيّاً هو التمثيل بالصورة‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن ما يهمّنا أكثر في هذه المقالة‪ ،‬في مطربة‬

‫ي‬
‫الدرامــي والتعبير ّ‬
‫ّ‬ ‫مثــل فيــروز‪ ،‬هــو التمثيل بالصــوت‪ ،‬وهو ما ي ُصط َلــح على َوسْ ــمه‪ ،‬بالغناء‬

‫ظهر َبراعتها في‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫فالحصة الكبيرة التي تحتلها األعمال المسرحي ّة في خزانة فيروز لم ت ِ‬ ‫والتمثيلي‪.‬‬
‫ّ‬
‫صاحب‬
‫َ‬ ‫التمثيل بالصورة فقط‪ ،‬بل تضمّنت ما ي ُثبت أ ّ‬
‫ن الجانب الدرامي في الصوت الفيروزي كان‬

‫حضور ٍ ذي وزن في الكثير من األعمال‪ ،‬حتّى تلك األعمال غير المسرحي ّة‪.‬‬

‫ثنائي ّة القرية والمدينة‬

‫األخوي ْن رحبانــي من قرية َعين الســنديانة الريفي ّة في قضاء المتــن اللّبناني‪ ،‬أمّا‬
‫َ‬ ‫كان حنّــا والــد‬
‫جد ّتهمــا فكانــت من عينطــورة‪ ،‬وهي قرية َمتْني ّة أيضاً‪ ،‬وكانت تغنّي لهمــا‪ ،‬و ُ‬
‫هما طف َلين‪ ،‬الكثير‬

‫عمري ْهمــا في قريــة «المنيبيع» في‬


‫َ‬ ‫مــن التــراث الغنائــي الريفــي‪ .‬وقضى األخوان ســنوات من‬

‫الربعيْــن األوّل والثاني من‬


‫َ‬ ‫المنطقــة الريفيّــة ذاتهــا (أقول «ريفي ّة»‪ ،‬ألنّها كانــت ريفي ّة ح ّ‬
‫قاً في‬
‫القرن العشــرين)‪ .‬لك ّ‬
‫ن اســتقرار آل رحباني في أنطلياس‪ ،‬وهي في مرتبة ما بين ريف ومدينة‪،‬‬

‫‪157‬‬
‫عاشــرة والدهما لمحيي الد ّين بعيون وأحمد الجاك وغيرهما من فنّاني بيروت والمهتمّين‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وم‬

‫بالغناء المدني‪ ،‬واســتماعهما إلى إســطوانات الشــيخ أبي العال محمّد والشــيخ أمين حســنين‬
‫والشــيخ ســي ّد درويــش‪ ،‬ثمّ محمّد عبــد الوه ّاب‪ّ ،‬‬
‫كل هذه أمــد ّت ثقافتهما األولــى بمنابع من‬

‫دنيّــة‪ .‬وكان هــذا المزيــج الريفي‪ -‬المدنــي واضحاً في تركيبــة فنّهما‪ ،‬الذي‬
‫الم َ‬
‫الفنــون العربيّــة َ‬
‫أسبغاه على معظم ما غنَّت فيروز‪.‬‬
‫ْ‬
‫دثــت حركتــا هجــرة داخلي ّة فــي لبنان‪ ،‬منــذ والدة عاصــي ومنصــور‪ ،‬لعبتا َدوراً فــي تاريخ‬ ‫لقــد َح‬

‫البالد السياســي واالقتصادي والديموغرافي والثقافي والموســيقي‪ ،‬أوالهما هجرة أبناء قرى‬

‫بناني إلى المدينة‪ ،‬والســي ّما بيروت‪ ،‬والثانية هي ما ي ُمكن أن نســمّيه‪ :‬هجرة المدينة‬‫الريف الل ّ‬
‫ّ‬
‫إلــى الريــف اللّبنانــي‪ ،‬مع تمــد ُّد النمط األناســي الم َ‬
‫دني نحو القــرى‪ ،‬التي «تمد ّنــت» بالمعنى‬

‫األنتروبولوجــي والثقافي‪ ،‬وحتّى االقتصادي‪ .‬وهذه الحركة الثانية واضحة في بيروت‪ ،‬التي صارت‬

‫األخص‪ ،‬وهي ُمدن كانت صغيرة‬


‫ّ‬ ‫«بيــروت الكبــرى»‪ ،‬وعلى نحو أضيق طرابلس وزحلة وصيدا على‬

‫جاورة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الم ِ‬ ‫نسبيّاً‪ ،‬وتوسّ عت في سفوح الجبال واألرياف‬
‫ومــع تنــوُّع التركيبــة الثقافي ّة المزدوجــة في الوجدان الرحبانــي‪ ،‬لم ُ‬
‫يكن ممكنــاً َأ َّاَّل تظهر تلك‬

‫الثنائي ّة المدني ّة‪ -‬الريفي ّة في فنّهما‪ ،‬وبالتالي في الخزانة الفيروزي ّة الغنائي ّة‪ .‬فغنّت فيروز األغنية‬

‫المعاصرة‪ ،‬وأطلّت إطالالت تُذ ِّكر‬


‫المدني ّة بأوضح معالِمها التلحيني ّة والتوزيعي ّة وحتّى االجتماعي ّة ُ‬
‫ي حال لم ُ‬
‫يكن الغناء الريفي غريباً عن أسماعها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫«الم َمد َّن»‪ .‬وهي في أ ّ‬ ‫بتمي ُِّزها في الغناء الريفي‬

‫فقــد ســمعته وهي طفلة من جد ّتها ألمّها (من آل البســتاني في ال ِد ِّبيّــة‪ ،‬على ما فهمت)‪ .‬وقد‬
‫الح َ‬
‫ــظ ذلــك نبيل أبو مراد فــي كتابه‪ :‬األخوان رحباني حياة ومســرح خصائــص الكتابة الدرامي ّة‪.‬‬ ‫َ‬
‫ست مسرحي ّات‪ ،‬سمّاها‪« :‬فولكلوري ّة تراثي ّة»‪ ،‬ونُسمّيها‪ :‬ريفي ّة‪ ،‬وهي موسم العزّ‬
‫ّ‬ ‫فأحصى لهما‬

‫(‪ ،)1960‬البعلبكيّــة (‪ ،)1961‬جســر القمر (‪ ،)1962‬اللّيل والقنديــل (‪ ،)1963‬بي ّاع الخواتم (‪،)1964‬‬

‫ودواليــب الهــوا (‪ .)1965‬ثمّ صن َّ َف مجموعة مســرحي ّات تاريخي ّة‪ ،‬ومجموعة «مســرحي ّات فكري ّة‬

‫ي كان قد َظ َه َر قبل ذلك‪ ،‬في‬


‫الرحباني الفيروز ّ‬
‫ّ‬ ‫الدرامي‬
‫ّ‬ ‫ن الجانب الريفي في الف ّ‬
‫ن‬ ‫سياسي ّة»‪ .‬لك ّ‬

‫الخمسيني ّات‪ ،‬في عشرات اإلسكتشات اإلذاعي ّة‪ ،‬مثل‪« :‬برّاد الجمعي ّة»‪ ،‬و«روكز خطب»‪ ،‬و«بارود‬

‫عاو َد الظهور علــى الخصوص في‬


‫َ‬ ‫اهربــوا»‪ ،‬و«رابــوق»‪ ،‬و«حلوة وفيــا وأتنوبيل»‪ ،‬وغيرها‪ ،‬ثــمّ‬
‫«سهرة حبّ » عام ‪ ،1973‬مع وديع الصافي‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫الغنائي مدني ّة‪ ،‬إذ ال تبدو فيه كثيراً‬
‫ّ‬ ‫وحيــن غنّــت فيروز في هذه األعمال (وفيروز في نمــط فنّها‬

‫مالمــح الغنــاء الريفــي اللّبناني‪ ،‬مثلمــا تبدو بوضوحٍ شــديد عند وديع الصافــي وصباح) أضافت‬

‫األخوي ْن رحباني على هذا‬


‫َ‬ ‫قدرتهــا علــى التمثيل بالصــوت‪ ،‬أي التعبير الغنائي الدرامي‪ ،‬إلى قــدرة‬

‫الموسيقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التعبير‬

‫الع َلن‪ ،‬رغبة في عدم إتاحة الترويج النفكاك‬


‫ُهمس في األروقة الخلفي ّة‪ ،‬بعض ما ال ي ُقال في َ‬
‫وي َ‬
‫المســاس بها‪ ،‬داخل المخي ّلة الشــعبي ّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َحرُّجاً من‬
‫الرمزية الثنائي ّة في تالحُم عاصي ومنصور‪ ،‬وت َ‬
‫ن «العِ لم ليس هدفه‬ ‫قطان إنّهــا «توحي بذوبا ٍ‬
‫ن غير تاريخي»‪ ،‬ذلــك أ ّ‬ ‫وهــي ثنائي ّة يقول أســعد ّ‬

‫ن عاصي كان‬ ‫ُ‬


‫المغاالة»‪ .‬فالهامســون يقولون إ ّ‬ ‫تقديس المنظومات‪ ،‬والســي ّما إذا افرطت في‬

‫أكثر َميال ً إلى المناطق الوسطى في َطيف الصوت الفيروزي (بحسب التصنيف األوروبي لألصوات‬

‫ن هــذه المنطقــة تؤد ّي تعبيراً دراميّاً أشــد ّ أثــراً‪ ،‬من المناطق‬


‫النســائي ّة‪« :‬متسوســوبرانو») أل ّ‬

‫العالية في الصوت الفيروزي؛ فيما كان منصور مياالً إلى القفزات األوبرالي ّة في مناطق الصوت‬

‫العليا‪ ،‬وكان األخوان يختلفان في هذا الشأن اختالفاً حادّاً في بعض األحيان‪.‬‬

‫كذلــك َو َص َل أم ُر تمسُّ ــك عاصي بصلته المتينة مع الموســيقى العربي ّة‪ ،‬المدنيّــة والريفي ّة معاً‪،‬‬

‫إلــى حد ّ محاولة إكســاب ابنه الفنّان الناشــئ آنــذاك زياد‪َ ،‬موطئ قدم في الغنــاء الريفي‪ .‬فقد‬

‫روى لــي المرحــوم المغنّي مروان محفوظ‪ ،‬الذي كانت نشــأته ريفي ّة تــكاد أن تكون خالصة‪ ،‬أنّه‬

‫كان ُمســافراً مــع وديع الصافي وفيروز والرحابنة في رحلــة ٍ فني ّة إلى المغرب‪ .‬وكان يجلس في‬

‫ديهمــا‪ ،‬وقال لمروان إنّه يريــده أن ينزال هو‬


‫الطائــرة بجانــب وديع‪ ،‬فجــاء عاصي من خلف مقع َ‬
‫وزيــاد فــي غرفة ٍ واحدة في الفندق‪ ،‬فلمّا ســأله مروان عن الســبب‪ ،‬قال لــه عاصي إنّه يريد منه‬

‫و الغناء الريفي اللّبناني‪.‬‬


‫إدخال زياد في ج ّ‬
‫وفيمــا فــرَّق أســعد ّ‬
‫قطان بين عاصي ومنصــور بقوله إ ّ‬
‫ن «منصور ينحت مــن صخر» فيما عاصي‬

‫الكبيري ْن‪ « :‬الفرزدق ينحت‬


‫َ‬ ‫الشــاعري ْن األموي َّي ْن‬
‫َ‬ ‫«يغرف من بحر»‪ُ ،‬مســتعيراً القول الشــهير عن‬

‫من صخر‪ ،‬وجرير يغرف من بحر» [قاله مالك بن األخطل الشاعر‪ ،‬كما جاء في «البيان والتبيين»‬

‫قطان مثاالً واضحاً من حيث التأليف الموســيقي‪،‬‬


‫للجاحــظ‪ ،‬وفــي «األغاني» لألصفهاني]؛ ضــرب ّ‬

‫على نزوع عاصي أكثر إلى الموســيقى العربي ّة‪ ،‬فيما كان منصور يميل إلى القفزات الموســيقي ّة‬
‫ُ‬
‫«لملمت ذكرى لقــاء األمس» التي لحّنها عاصي‪،‬‬ ‫الطابع‪ ،‬اســتناداً إلى قصيدة‬
‫الواســعة الغربيّــة ّ‬

‫‪159‬‬
‫وقصيــدة «أحبّــك فــي صمتي الــوارف» التي يرجّح أنّها مــن تلحين منصــور‪ ،‬وكال القصيدتَي ْن من‬

‫الح َظ فــي كتابه‪ :‬الموســيقى العربي ّة في‬ ‫خمســيني ّات القــرن العشــرين‪ّ .‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن إلياس ســحّاب‪َ ،‬‬
‫ن منصور «تحد ّث ذات يوم بصراحة ٍ نادرة أنّه كان‬ ‫ّ‬
‫ومحطات ووجوه‪ ،‬أ ّ‬ ‫القرن العشــرين‪َ -‬مشــاهد‬
‫أشــد ّ َميــا ً من عاصي إلى أجواء الموســيقى الكالســيكي ّة األوروبي ّة‪ ...‬وأ ّ‬
‫ن عاصــي كان أكثر َميال ً‬

‫ي‬ ‫لطبيعة الموســيقى العربي ّة»‪ .‬وهذا تفســير معقول ُ‬


‫لمحاولة منصور النزوع بالصوت الفيروز ّ‬
‫إلى المناطق األوبرالي ّة العليا‪ ،‬مع أ ّ‬
‫ن صوتها ليس من فئة «السوبرانو» الخالص‪.‬‬

‫ن فيــروز‪ ،‬التي أجادت الدراما والتعبيــر والتمثيل في غنائها‪ ،‬حملت مع هذه الدرامي ّ ِة‪،‬‬
‫المهــمّ ‪ ،‬أ ّ‬

‫الثنائي ّ َة المدني ّ َة – الريفيّةَ‪ ،‬في العديد من أغنياتها ذات َ‬


‫المرتبة الفني ّة العالية‪.‬‬

‫فيروز والدراما الغنائي ّة‬

‫األخويْــن رحباني بنســبة ٍ كبيــرة ممّا غنّــت فيــروز‪ ،‬أكان ذلك في المســرحي ّات‪ ،‬أم‬
‫َ‬ ‫مــع اســتئثار‬

‫األخوي ْن‪،‬‬
‫َ‬ ‫االسكتشــات اإلذاعي ّة‪ ،‬أم األغنيات الفردي ّة‪ ،‬كان ال بد ّ لثنائي ّة المدينة والريف في نشــأة‬

‫وفي ت ََكوُّن ثقافتهما الموســيقي ّة‪ ،‬وفي نتاجهما الشــعري والموســيقي والغنائي‪ ،‬أن تطبع ما‬

‫غنَّته فيروز في مجموع تراثها الغني‪ ،‬فاتَّخذت أغنياتها طابعاً قرويّاً «فولكلوريّاً» في جانبٍ منها‪،‬‬
‫بالطابع المدني «الكالســيكي»‪ .‬ولكنّها في الحالتَي ْن َأبدت تفوُّقاً‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫جانب آخر هو الغالب‪،‬‬ ‫واتَّســم‬

‫التمثيلي‪ ،‬أغنَّت في سيناريو قروي أم في الج ّ‬


‫و المدني البحت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الدرامي أو‬
‫ّ‬ ‫ي‬
‫في أدائها التعبير ّ‬
‫التمثيلي‪ ،‬و ُ‬
‫هما فرعان ي ُطابقان‬ ‫ّ‬ ‫الدرامي‬
‫ّ‬ ‫ي‬
‫ي فرعان أساسي ّان من الغناء التعبير ّ‬
‫فللغناء الفيروز ّ‬
‫كثيراً ثنائي ّة المدينة والقرية‪ .‬وال بد ّ من األمثلة الواضحة لتفسير هذه المسألة‪.‬‬

‫العي ّنة األولى «المدني ّة» من األمثلة التي سنضربها هنا‪ ،‬تقتصر على األغنيات الفيروزي ّة في قضي ّة‬
‫ي في هذا االختيار ســببان أساســي ّان‪ :‬األوّل هو أ ّ‬
‫ن موضوع النكبة الفلســطيني ّة‬ ‫د ّ‬
‫فلســطين‪ .‬ول َ‬
‫ٍ‬
‫بمقياس َملحمي كامل‪ .‬ولذا فهو موضوع ال‬ ‫في حد ّ ذاته دراماتيكي‪ ،‬بل هو مأســوي تراجيدي‬
‫ّ‬
‫لكل فنٍّ صادق من أن يكون تعبيريّاً عن هذه الســمة‪ ،‬بدرجات يرســمها مســتوى الشعر‬ ‫بد ّ فيه‬

‫المغنّــى ومدى احتماله للتعبيــر الدرامي‪ ،‬وتظهّرها قدرة الفنّان‪ ،‬الملحّن ثمّ المغنّي‪ ،‬على إبراز‬
‫هــذا التعبيــر‪َ ،‬لحناً ثمّ غناءً‪ .‬أمّا الســبب الثاني لهذا االختيار‪ ،‬فهــو أ ّ‬
‫ن الرحابنة وفيروز يتفوّقون‬

‫فــي المخزون الفلســطيني من أغنياتهــم‪ ،‬ال بالجودة والصدق التعبيري فقــط‪ ،‬بل حتّى بالوفرة‬

‫انتباه‬
‫َ‬ ‫ن صدقها في التمثيل والغناء قد َلفَ َ‬
‫ت‬ ‫في إنتاجهم «الفلســطيني» هذا‪ .‬أمّا عن فيروز فإ ّ‬

‫‪160‬‬
‫فــوّاز طرابلســي حين تســاء ََل‪« :‬فمن الــذي يتكلّم هنا؟ فيروز اإلنســانة الحقيقيّــة؟ أم الفنّانة‬
‫والممثّلــة؟» ويزداد تســاؤل طرابلســي في قوّتــه المنطقي ّة‪ ،‬حين نذكــر أ ّ‬
‫ن والدها وديع حد ّاد‪،‬‬

‫في بعض الروايات‪ ،‬جاء أصال ً من ماردين‪ ،‬وفي روايات أخرى من صفد في فلســطين‪ .‬فهل كان‬
‫ُ‬
‫التعاطف مع‬ ‫غناؤها الصادق لفلســطين يرتكز على هذا األصل المكتوم غير المحســوم‪ ،‬أم إ ّ‬
‫ن‬

‫فلسطيني األصل؟‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫تعاطف‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫القضي ّة الفلسطيني ّة ال يحتاج بالضرورة إلى أن يكون المرء‬
‫أمّــا األمثلــة األخــرى‪« ،‬القروي ّة»‪ ،‬فهــي تقتصر هنا على مغنّاة «ســهرة حبّ» التــي تركَّز فيها ّ‬
‫كل‬

‫شاركة ٍ تاريخي ّة في هذا المضمار‪،‬‬


‫َ‬ ‫األخوي ْن رحباني وفيروز‪ُ ،‬‬
‫بم‬ ‫َ‬ ‫الموروث القروي الفولكلوري لدى‬

‫شبع من قروي ّته و»فولكلوري ّته»‪ .‬ويميل التعبير الغنائي‬ ‫أضافها المطرب الكبير وديع الصافي‪ُ ،‬‬
‫الم َ‬
‫ي الدرامي‪.‬‬
‫ي التمثيلي‪ ،‬أكثر ممّا يميل إلى الطابع التعبير ّ‬
‫في هذا النموذج إلى الطابع التعبير ّ‬

‫ني‬
‫د ّ‬‫الم َ‬
‫الدرامي َ‬
‫ّ‬ ‫التعبير‬

‫ولنبدأ بالتعبير الدرامي المدني في غناء فيروز‪ ،‬باستعراض بعض المواضع في «فلسطيني ّاتها»‪.‬‬
‫ّ‬
‫الخاصة للغاية مع المخرج‬ ‫األخوي ْن رحباني‬
‫َ‬ ‫ُطرق هذا الموضوع‪ ،‬ال مفرّ من مالحظة عالقة‬
‫وحين ي َ‬
‫صبري الشريف‪ ،‬المهاجر لتوّه من فلسطين؛ فيما كانت فيروز في الجانب اآلخر‪ ،‬على عالقة فني ّة‬

‫متينة في بدايتها‪ ،‬مع ُمهاجر آخر من فلسطين‪ ،‬هو حليم الرومي‪ ،‬الذي سمّاها باسمها الفنّي‪:‬‬
‫األخوي ْن فليفل‪ ،‬اللّذَين تولّيا تربية فيروز (نهاد حد ّاد آنذاك) موســيقيّاً؛ كانا أيضاً‬
‫َ‬ ‫فيــروز‪ .‬بــل إ ّ‬
‫ن‬

‫يكتبان ويلحّنان األناشــيد القومي ّة التي تحوّلت أناشــيد للمناخ الفلسطيني الوطني‪ ،‬مثل نشيد‬

‫األخويْــن رحباني وفيروز‪ ،‬جميعــاً‪ ،‬غير بعيد عن‬


‫َ‬ ‫و لدى‬
‫«موطنــي موطنــي» وغيره‪ .‬ولــذا كان الج ّ‬
‫القضي ّة الفلسطيني ّة‪ ،‬والسي ّما ما ي ُقال عن أجواء إنطلياس الحزبي ّة القومي ّة السوري ّة االجتماعي ّة‬

‫في ذلك الوقت‪ ،‬واحتمال تأثُّر عاصي ومنصور آنذاك بهذا الحزب‪ ،‬الذي كاد في الخمسيني ّات من‬

‫القرن العشرين‪ ،‬أن ينفرد عن بقي ّة أحزاب لبنان اهتماماً بالقضي ّة الفلسطيني ّة‪.‬‬
‫وقد أشارت فاينريخ إلى هذا االهتمام الرحباني الفيروزي بالغناء لفلسطين‪ّ ،‬‬
‫إاّل أنّها رأت في هذا‬
‫ُ‬
‫تناقضاً مع صداقتهم للشــاعر ســعيد عقل‪ ،‬الذي لم ُ‬
‫يكن ُمناهِضاً بشراسة للحضور الفلسطيني‬

‫ألصقَ ت علــى الجدران في بيروت‪ ،‬في الحرب اللّبناني ّة‪ ،‬ملصقات نُســبت إليه‪،‬‬
‫المســلّح فقــط‪ ،‬بل ِ‬
‫ُ‬
‫التعاطف‬ ‫ن تلك الصداقة ال تنفي أبداً صدق‬ ‫جاء فيها «على ّ‬
‫كل لبناني أن يقتل فلسطينيّاً»‪ .‬غير أ ّ‬

‫الفيروزي مع القضي ّة الفلسطيني ّة‪ ،‬وإن كان هنا يهمّنا أكثر ما يهمّنا‪ ،‬صدْقها في التعبير الغنائي‬

‫‪161‬‬
‫شــك‪ ،‬وفي ّ‬
‫كل األحوال مؤ ِّثراً للغاية في الكثير من المواقع في‬ ‫ّ‬ ‫الدرامي‪ ،‬الذي كان صادقاً وال‬

‫أغنياتها الفلسطيني ّة‪.‬‬

‫األخوي ْن رحباني اللّذَين يبدعان باق ًة‬


‫َ‬ ‫كذلك يقول سليم سحّاب‪ ،‬إ ّ‬
‫ن «مأساة ‪[ 1967‬فجّرت] عبقري ّة‬
‫من أعظم ما ألّفوا ولحّنوا وغنَّت فيروز من أعما ٍ‬
‫ل درامي ّة إنســاني ّة عميقة «القدس العتيقة»‬

‫شعر‬ ‫ُشــهر» (اآلن اآلن وليس غداً‪ ...‬أجراس العودة فلت ُ َ‬


‫قرع) من ِ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫«سيف فلي‬ ‫(مرّيت بالشــوارع)‪،‬‬
‫ســعيد عقل‪ ،‬وهي تحفة من الف ّ‬
‫ن التحريضي الســامي‪ ،‬وتحفتهم «زهرة المدائن»‪ ،‬األغنية التي‬
‫أعطت اسمها للقدس فأصبحت [المدينة] ال تُذ َكر ّ‬
‫إاّل مقرونة بهذه الصفة‪ .‬هذه المغنّاة (الكانتاتا)‬

‫المكتوبة لألوركسترا والصوت الفردي والكورال تتألّف من ثالثة أقسام‪ .‬القسم األوّل يسيطر‬
‫ُ‬
‫ألجلك يا مدينــة الصالة أصلّي‪ ،‬مع ُموا َكبة آهــات الكورال وكأنّك‬
‫ِ‬ ‫عليــه الخشــوع ورهبة الحدث‪:‬‬

‫تستمع إلى ترانيم بيزنطي ّة أو سرياني ّة كنسي ّة‪ .‬هذا القسم مليء بالعواطف السامية إلى جانب‬

‫واً وقدسي ّة»(ســليم‬


‫الجُمل الموســيقي ّة الرائعة الجمال‪ ،‬يزيدها أداء فيروز هي ْب ًة وجماالً وســم ّ‬
‫سحّاب‪ ،‬أعالم موسيقي ّة‪ ،‬الهيئة العامّة لدار ُ‬
‫الكتب والوثائق القومي ّة‪ ،‬القاهرة‪.)2014 ،‬‬

‫أمّا في القسم الثاني من «زهرة المدائن»‪ ،‬كما يقول سليم سحّاب‪ ،‬فهو حيث تقول فيروز‪« :‬‬

‫و هذا القسم مليء بالمزاج اإلنساني الهادئ‪،‬‬


‫الطفل في المغارة وأمّه مريم وجهان يبكيان‪ .‬ج ّ‬
‫وقد كُتب بأسلوب الترتيل َ‬
‫الكنَسي»‪ .‬وثمّة جزء بالغ التعبير َلحناً وغناءً‪ ،‬هنا‪ ،‬فعند قولها‪ :‬الطفل‬

‫في المغارة‪ ،‬يبدو اللّحن «ســاذجاً»‪ ،‬وهذه «السذاجة» مقصودة‪ ،‬للتعبير عن براءة الطفولة التي‬
‫يصوّرهــا اللّحــن والغناء‪ .‬لكــ ْ‬
‫ن بعد هذه الجملــة «البريئة»‪ ،‬ينقلب الموقــف الدرامي فجأة‪ ،‬من‬

‫َمقــام العجــم‪ ،‬إلى مقــام الحجاز كار كورد الشــديد التعبير‪ :‬يبكيان!‪ ،‬وهي الكلمــة التي تُغنّيها‬
‫فيروز بقمّة ٍ من االنفعال واالســتنكار والدهشــة‪ ،‬يليها ســؤال اســتهجا ٍ‬
‫ن واضح التعبير‪ :‬ألجل‬

‫ي البالغ التأثير عند هذا الحد ّ‪ ،‬إذ ي ُواصل الشــعر‪ :‬واستُشهد‬


‫َمن تشــرّدوا؟ وال يقف األمر التعبير ّ‬
‫الســام‪ ،‬بلهجة ٍ تأبيني ّة‪ ،‬إلى أن تصل فيروز غناءً عند جملة‪ :‬وســقط العدل‪ ،‬بلهجة ٍ قاطعة‪ ،‬فيرد ّ‬

‫ســتنكراً‪ :‬ســقط العدل‪ .‬إ ّ‬


‫ن‬ ‫ِ‬ ‫عليها الجوق‪ ،‬وكأنّه جمهور اســتمع إلى قولها هذا‪ ،‬فرد ّده بغضبٍ ُم‬

‫هذا القسم يصل إلى ذروة في التعبير الدرامي‪ ،‬يبلغ قمّته في غناء فيروز الصادق‪.‬‬

‫نعود إلى تحليل المايســترو ســحّاب‪ ،‬الذي يقول‪« :‬القسم الثالث‪ ،‬تحريضي استنهاضي‪ :‬الغضب‬

‫آت‪ ...‬ثــمّ ‪ :‬القدس لنا والبيت لنــا‪ ،‬وتتطوّر الدراما هنا حتّى ذروتهــا عند عبارة «بإيدينا‬
‫السّ ــاطع ٍ‬

‫‪162‬‬
‫ســنُعيد بهــاء القــدس»‪ ،‬حيث تتداخــل الخطوط الغنائيّــة الثالثة‪ :‬صــوت بنات الكــورال ورجالها‬

‫الموســيقي ليوصلــه إلى نهاية‬


‫ّ‬ ‫بوليفوني ي ُك ِّثف النســيج‬
‫ّ‬ ‫والصــوت الفــردي [فيــروز] في نســيجٍ‬
‫آت ٍ‬
‫آت‪ ،‬إعراباً عن حتمي ّة الســام‬ ‫آت ٍ‬
‫آت»‪ ،‬وهنا ي ُكرّر الجوق‪ٍ :‬‬
‫ســام ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫للقدس‬ ‫األغنيــة‪ -‬المغنّــاة‪:‬‬

‫اآلتي للقدس‪.‬‬

‫الريفي‬
‫ّ‬ ‫التمثيلي‬
‫ّ‬ ‫التعبير‬

‫مــن أهــمّ ما غنّت فيروز فــي الغناء القروي (الفولكلوري)‪ُ ،‬‬


‫الم َمــد َّن‪ ،‬تلك التحفة التي جمعتها‬

‫مــع وديــع الصافــي‪ ،‬ملك الغناء الريفي المتوَّج‪« :‬ســهرة حبّ »‪ .‬وتمتاز «ســهرة حــبّ » في أنّها‬

‫حفلــت بعــدد ٍ كبير من األشــكال الغنائي ّة الريفي ّة‪ ،‬مثــل القرّادي والشــروقي وغيرهما‪ ،‬ورفعت‬

‫ع جدّاً‪َ ،‬أدخل هذا البرنامج الفولكلوري‬


‫مســتوى رفي ٍ‬
‫ً‬ ‫اإلتقان فيها‪ ،‬شــعراً وموســيقى وغناءً‪ ،‬إلى‬

‫المعالِم والنماذج فــي ُمنجزات الحركة‬


‫َ‬ ‫وج َع َلــ ُه أحد أهــمّ‬
‫فــي كالســيكي ّة الموســيقى المدني ّة‪َ ،‬‬
‫الموسيقي ّة اللّبناني ّة التاريخي ّة في النصف الثاني من القرن العشرين‪.‬‬
‫ّ‬
‫الدربكة‪،‬‬ ‫بالزمة ٍ موسيقي ّة ٍ بسيطة تُرافِ قها‬
‫ِ‬ ‫تبدأ «ســهرة حب» مثلما تبدأ حفالت الزجل الشــعبي‪،‬‬

‫بالحمام مســي ّجة‪ .‬والبي ّاتي‪،‬‬


‫َ‬ ‫تمهيداً للزجّال‪ ،‬وهو هنا فيروز نفســها‪ ،‬بمقام البي ّاتي‪ :‬تبقى بلدنا‬

‫كما أثبتت دراســة إلياس وســليم ســحّاب في الموســوعة الفلســطيني ّة‪ :‬الموســيقى والغناء‬

‫في فلســطين‪ ،‬هو المقام األساســي في الغناء الريفي الشــامي‪ ،‬كالدلعونا والميجانا والعتابا‬

‫والقرّادي‪ ،‬الذي ينتشر بأنواع ِه وأشكاله في لبنان وفلسطين وسورية واألردن‪.‬‬

‫أمّا في التعبير التمثيلي في غناء فيروز‪ ،‬فأجلى ما َظ َه َر في هذا المشهد التمثيلي‪ ،‬الذي أبدعت‬

‫فيه‪ ،‬مع وديع الصافي‪ ،‬في صورة مسرحي ّة كاملة‪ ،‬تنطوي على التعبير التمثيلي الكامل‪ ،‬بالصوت‬
‫وحده‪ ،‬ولو من دون الصورة‪ .‬وســننقل هذا المشــهد‪ ،‬كما جاء وصفه في كِ تابنا‪ :‬وديع الصافي‪،‬‬

‫الكبيري ْن‪:‬‬
‫َ‬ ‫إلظهار تلك السمة التمثيلي ّة في التعبير الدرامي‪ ،‬لدى المطر َبي ْن‬
‫فيروز‪ :‬وليش الرد ّة عا وردة‬

‫وديع‪ :‬بالصدفة قلنا وردة‬

‫ت توصل وردة!‬ ‫الجوق‪ :‬قِر ِب ْ‬

‫ن ُقرب وصولها سي ُفسد سهرته‪:‬‬


‫فتظاه َر وديع طبعاً بأ ّ‬
‫َ‬
‫وديع‪ :‬انْتزعِت السهرة‬

‫‪163‬‬
‫فيروز‪ :‬هالحكي من قلبك؟‬

‫وديع‪ :‬إيه من قلبي‪ :‬وردة بتوصل من هون أنا بفْركها من هون‬

‫يقول وديع «إيه من قلبي» بعاطفة مشبوبة تُكذِّب قوله‪ ،‬ثمّ ي ُتا ِبع بالزخم العاطفي ذاته الذي‬

‫ينفي نسيانه حب ّه لوردة‪ ،‬إذ تسأله فيروز‪:‬‬

‫دك مزاعِلها؟‬
‫فيروز‪ :‬بع َ‬
‫وديع‪ :‬عاطول مزاعِلها عال ُ‬
‫عمر مزاعِلها‬

‫ومطرح ما بتكون أنا ما بكون‬ ‫ ‬


‫هنا يصل المشهد الغنائي إلى ذروة تعبيري ّة قلّما بلغها الغناء اللّبناني ُ‬
‫الم ِ‬
‫عاصر‪ ،‬حين تأخذ فيروز في‬
‫التأسُّ ف على الحبّ الذي مضى فت ََبر َّأ منه وديع‪ ،‬وذلك في كتابة ٍ شعري ّة جميلة وألحا ٍ‬
‫ن مؤ ِّثرة وغناءٍ‬
‫جو من الحزن الصادق حيال مصير ّ‬
‫قصة الحبّ [المأسوف عليها]‪:‬‬ ‫متفوّق‪ ،‬على مقام النهاوند‪ ،‬في ٍّ‬
‫بتخ َلص بال أمل‬ ‫بتُهرب األي ّام ‬ ‫يا خجلة األمل ‬ ‫فيروز‪ :‬يا خسارة الحبّ‬
‫ ‬

‫وغِ نِّي ّة الحسّ ون‬ ‫ونجمة التلج ‬ ‫راية البرج ‬ ‫ّ‬


‫وتبطل وردة تكون ‬ ‫ ‬
‫ن وتأثُّر‪ ،‬ثمّ ت ُ ِ‬
‫واصل فيروز‬ ‫فيرد ّ وديع‪ :‬هيدا كان من زمان‪ ،‬فينعطف صوته بقوله‪« :‬هيدا» في حز ٍ‬
‫ٍ‬
‫قواف ُموازية‪:‬‬ ‫تحسُّ َرها على‬

‫عا شباك السهر‬ ‫وتبقى وردة تنام‬ ‫مضي وقت السهر‬ ‫فيروز‪ :‬يا أسف اللّيل‬

‫عصفورة أيلول‬ ‫زهرة البرد‬ ‫وردة الورد‬ ‫أنت اللّي كنت تقول‬
‫ِ‬ ‫ ‬

‫ن وديــع الصافي ي ُصبح ها هنا على وشــك الدخول مع فيروز فــي مرحلة من هذه المغنّاة‬
‫غيــر أ ّ‬

‫و متدرّج ينتقل فيه بالكالم واللّحن‪،‬‬


‫الخالدة‪ ،‬تتجلّى فيها قدرته [قدرتهما] التعبيري ّة على تطوير ج ّ‬

‫وخصوصــاً بغنائــه [بغنائهما]‪ ،‬من أقصى الحزن والتحسُّ ــر على الحبّ الــذي مضى‪ ،‬إلى ج ّ‬
‫و المرح‬
‫ّ‬
‫والتفكه على القصص الظريفة التي واكبت هذا الحبّ في ما مضى‪ ،‬فيســخر [وديع] من نفســه‬

‫بال مرارة‪ .‬يبدأ هذا المشهد المتطوّر من الحزن إلى المرح بسؤال‪:‬‬

‫هجم عا عبدو؟‬
‫مين َ‬ ‫فيروز‪ :‬ولمّا عبدو تطلَّع بوردة ‬
‫فيرد ّ وديع‪ :‬أنا‪ ،‬بعمق تعبيري حزين وتأمُّل وعاطفة‪ ،‬فيزيد من عظمة غنائه أ ّ‬
‫ن الكلمة الصغيرة‬

‫هــذه‪ :‬أنــا‪ ،‬وهي ملحّنة على الدرجة الموســيقي ّة ذاتهــا‪ ،‬تحمل كثيراً من الزخــم االنفعالي الذي‬
‫يصعب وضعه في هذا المجال الضي ّق‪ ،‬لو لم ُ‬
‫يكن هذا المطرب اســتثنائيّاً في جمال صوته وفي‬

‫‪164‬‬
‫ُعاود السؤال‪:‬‬
‫ثرائه الوجداني‪ .‬ثمّ ي َ‬
‫فيروز‪ :‬ولمّا َب َرد ْ‬
‫ِت مين شلح الكنزة ولب ّسها لوردة؟‬

‫وديع‪ :‬أنا‬
‫إلــى هنــا جرى اللّحن على مقام النهاوند ذي األعماق الدراماتيكي ّة الواضحة‪ .‬لك ّ‬
‫ن مقام البي ّاتي‪،‬‬

‫مع ما يحمله من عنصر الطرب‪ ،‬يدخل في هذه المرحلة لينهي التوتُّر الدرامي ويشحن الموقف‬
‫ّ‬
‫التفكه حيال الحادثة‪:‬‬ ‫ببعض المرح‪ ،‬أل ّ‬
‫ن فيروز لم تتمالك نفسها من الرغبة في‬

‫كرمال وردة الجوري ّة؟‬


‫عن سطح البلدي ّة‬ ‫يرمي حالو‬ ‫فيروز‪ :‬ومين كان بد ّو‬
‫ذ بلعبة الذكريات‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫فيرد ّ وديع‪ :‬أنا أنا‪ ،‬مرّتَي ْن بطرب ال بحزن‪ ،‬وكأنّه أ ِخ َ‬
‫ونسي جفاءه حيال‬
‫َ‬ ‫فأسرته‬

‫وأخذ يروي بشيء من المرح ليهزأ من نفسه‪:‬‬ ‫وردة‪َ ،‬‬

‫عا سطح البلدي ّة‬ ‫علي‬


‫ّ‬ ‫كانت راحت‬ ‫يتهد ّوا في ّي‬
‫لو ما َ‬ ‫عا سطح البلدي ّة‬

‫عا سطح البلدي ّة‬ ‫لو ما كب ّر عقالتي‬ ‫ونِس ِيتني من عشي ّة‬ ‫كانت ِب ْ‬
‫ك ِيت شوي ّة‬

‫و على نحو ٍ نهائي إلى مزاجٍ مرحٍ ي ُخالطه الحنين‪ ،‬فتُر ِّدد فيروز اللّحن ذاته‪:‬‬
‫عندئذ يتطوّر الج ّ‬
‫عا سطح البلدية‬ ‫بعدِك ّ‬
‫قصة مكتوبة‬ ‫المنسي ّة ومش منسي ّة‬ ‫ويا هاك القمري ّة‬

‫أمّا الحنين فيبلغ أوضح تعبير له‪ ،‬إذ يدعو الجوق وديع إلى التذكّر‪:‬‬

‫‪ -‬أوه‬ ‫‪ -‬تذكّر‬ ‫‪ -‬أوه‬ ‫‪ -‬تذكّر‬

‫وقد َأثبت األركان الثالثة في هذه المغنّاة الفولكلوري ّة الممتازة‪ :‬األخوان رحباني تلحيناً‪ ،‬وفيروز‬
‫ووديع الصافي غناءً‪ ،‬أنّهم أسياد في هذا النمط الريفي من الغناء‪ ،‬بل إ ّ‬
‫ن مغناتهم هذه بلغت‬

‫بهذا النمط الريفي واحدة من أعلى المراتب التي ســمعناها في القرن العشــرين‪ ،‬وال تُضاهيها‬

‫ســوى «راجعون»‪ ،‬لألخوي ْن رحباني‪ ،‬و«دبكات» لزكي ناصيف‪ ،‬منها‪ :‬يا بالدنا مهما نســينا‪ ،‬وليلتنا‬

‫من ليالي العمر‪ ،‬ومغنّاة «يا بني أمّي»‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫وبعــد‪ ،‬لهذه األســباب ولغيرها كثيــر‪ ،‬أحبَّ اللّبناني ّون والعــرب فيروز وغناءهــا‪ :‬اللّبناني ّون ألنّها‬

‫غنَّــت لهــم من مخزونهم الشــعبي أغنية المدينة والقرية في لبنــان‪ ،‬والعرب ألنّها أضافت (هي‬

‫والمغنّين التاريخي ّين اآلخرين) اإلضافة اللّبناني ّة التاريخي ّة‪ ،‬إلى‬


‫ُ‬ ‫والمغنّيــات‬
‫ُ‬ ‫ومجموعــة الملحّنين‬
‫ٍ‬
‫بصــوت متفوّق‪ ،‬نكهة جديدة‬ ‫الغنــاء المدني العربــي والغناء الريفي ُ‬
‫الممد َّن الذي حمل إليهم‪،‬‬

‫أغنت الخزانة الفني ّة العربي ّة بنفائس تاريخي ّة‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫للمزيد راجع‪:‬‬

‫أسعد ّ‬
‫قطان‪ ،‬عن جبال في الغيم‪ ،‬الدار العربي ّة للعلوم ناشرون‪ ،‬بيروت‪.2018 ،‬‬
‫األخوي ْن رحباني»‪ ،‬كتاب أطياف الســنوي ‪ ،2020‬المنامة‪ ،‬البحرين (ص‬
‫َ‬ ‫إلياس ســحّاب‪« ،‬ظاهــرة‬
‫‪.)26-13‬‬
‫ريما فضل نجم‪ ،‬فيروز‪ ..‬وعلى األرض السالم‪ ،‬بيروت‪.2004 ،‬‬
‫ســليم ســحّاب‪ ،‬أعالم موســيقي ّة‪ ،‬الهيئة العامّة لدار ُ‬
‫الكتب والوثائق القوميّــة‪ ،‬القاهرة‪2014 ،‬‬
‫(ص ‪.)105-93‬‬
‫ســليم ســحّاب‪« ،‬فلســطين في األغنيــة العربي ّة»‪ ،‬مجلّة شــؤون عربي ّة‪ ،‬العــدد ‪ ،142‬صيف ‪2010‬‬
‫(ص‪.)198-188‬‬
‫عادل حسنين‪ ،‬فريد األطرش أسمهان ونسمات من فيروز‪ ،‬أمادو‪ ،‬مدينة نصر‪.1996 ،‬‬
‫فكتور سحّاب‪ ،‬وديع الصافي‪ ،‬دار كلمات‪ ،‬بيروت‪( 1997 ،‬ص ‪.)202-189‬‬
‫ٌ‬
‫ووطن آخر»‪ ،‬جريدة السفير‪.2006/6/16 ،‬‬ ‫فكتور سحّاب‪« ،‬عاصي الرحباني ثنائيات ُمغفَ لة‬
‫فــوّاز طرابلســي‪ ،‬فيــروز والرحابنة‪ ،‬مســرح الغريــب والكنــز واألعجوبة‪ ،‬ريــاض الري ّس للكتب‬
‫والنشر‪.2006 ،‬‬
‫األخوي ْن رحباني»‪ ،‬األخوان رحباني ‪ -‬إبداع فكري‬
‫َ‬ ‫محمود الزيباوي‪« ،‬سوريا وفلسطين في ميراث‬
‫وفنّي‪ ،‬بيروت‪ :‬دائرة المنشورات‪ -‬الجامعة اللّبناني ّة‪.2015 ،‬‬
‫نبيل أبو مراد‪ ،‬األخوان رحباني‪ ،‬بيروت‪ :‬دار أمجاد للنشر والتوزيع‪.1990 ،‬‬
‫‪Asmar, Sami. «Fairouz: A Voice, a Star, a Mystery» al-Jadid 5 (1999).‬‬
‫[«فيروز‪ :‬صوت‪ ،‬ونجمة‪ ،‬ولغز‪ ».‬الجديد ‪.])1999( 5‬‬
‫‪Boullata, Kamal, and Sargon Boulus, eds. Fayrouz, Legend and Legacy. San Francisco:‬‬
‫‪Forum for International Art and Culture, 1981.‬‬
‫[ فيروز‪ ،‬األسطورة والتراث‪ .‬سان فرانسسكو‪ :‬منتدى الف ّ‬
‫ن والثقافة الدولي َّين‪.]1981،‬‬
‫‪Ines Weinrich, Fayrūz und die Brüder Raḥbānī – Musik, Moderne und Nation im‬‬
‫‪Libanon, Würzburg 2006.‬‬
‫[فيــروز واألخوان رحباني‪ :‬الموســيقى والحداثــة واألمّة في لبنان‪ ،‬ألمانيــا‪ :‬دار إرغون‪-2006 ،‬‬
‫عنوان الكتاب بالعربي ّة كما جاء في كتاب أسعد ّ‬
‫قطان]‬

‫‪166‬‬
Racy, Ali Jihad. «Overview of Music in the Mashriq.» In The Garland Encyclopedia of
World Music, Vol. 6, The Middle East. New York: Routledge, 2002.
‫ الشرق‬،6 ‫ ج‬،‫ في موسوعة غارالند لموســيقى العا َلم‬،»‫[«نظرة على الموســيقى في المشــرق‬
.]2002 ،‫ راوتلدج‬:‫ نيويورك‬.‫األوسط‬

167
‫محمّد علي فرحات*‬

‫أكتب عن فيروز في أيلول (ســبتمبر) من العام ‪ ٢٠٢٢‬ووطنها لبنان في حرب سياســي ّة وثقافي ّة‬
‫شخصي ْن أو مجموعتَي ْن ّ‬
‫إاّل وتتحوّل إلى‬ ‫َ‬ ‫أخطر من حرب المسلّحين‪ ،‬فما من ُمجا َدلة ٍ حامية بين‬
‫ٍ‬
‫صراعات داخلي ّة صغيرة‬ ‫ٍ‬
‫تجديف بلبنان نفســه وصوالً إلى طر ِْح مبدأ وجوده‪ ،‬في ســياق‬ ‫تأليه ٍ أو‬
‫ٍ‬
‫صراعات إقليمي ّة ودولي ّة‪.‬‬ ‫تخفي وراءها‬
‫كان لبنــان دائمــاً ملتقى األفكار ومكان حوارها أو صراعها‪ ،‬وال بد ّ من تحوُّل هذا ُ‬
‫الملتقى بين‬

‫الحس الوطني وفاقدو اإليمان‬


‫ّ‬ ‫فترة ٍ وفترة ٍ إلى ميدان حروبٍ شــبه أهلي ّة‪ ،‬ينخرط فيها ضعفاء‬

‫السلمي بين اإلنسان واإلنسان‪.‬‬


‫ّ‬ ‫بحتمي ّة اللّقاء‬

‫ونالحظ في مناطق لبناني ّة عد ّة جهوداً يومي ّة لمحو الذاكرة الجماعي ّة واحتقار احتفاالت العمل‬

‫المنتِجين‪ ،‬أيّاً كانت أصولهم‬


‫ُ‬ ‫شــترك للمواطنين‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫واإلنتاج في الريف والمدينة‪ ،‬حيث اإليقاع‬
‫ٍ‬
‫وبمســاعدات‬ ‫أو ُمعتقداتهــم الدينيّــة‪ .‬كأ ّ‬
‫ن المتشــد ّدين الذيــن يتمّ شــحنهم بأفكار ٍ متطرّفة‬

‫معطى خارجــي ال عالقة لــه بالمكان الواحــد الجامِ ع‪.‬‬


‫ً‬ ‫ماليّــة يعتبــرون حياتهــم اليوميّــة مجــرّد‬

‫يفضلون عالقتهم مع الطوائف التي تُشــبههم خارج‬


‫ّ‬ ‫وهنــا نــرى الطائفي ّين الجُدد ُ‬
‫المتشــد ّدين‬

‫ُحاول‬ ‫الحــدود‪ ،‬علــى عالقتهم الطبيعي ّة مع اللّبناني ّين مــن الطوائف األخرى ُ‬
‫المختلفة‪ .‬وهكذا ي ِ‬
‫ق أهلي‪ .‬ويتعزّز هذا الوضع االجتماعي المأسوي‬ ‫ٍ‬
‫بدايات النشــقا ٍ‬ ‫المتشــد ّدون هؤالء تأســيس‬

‫قوى‬
‫ً‬ ‫مــع االنهيــار االقتصــادي والمالي النّاتج عن فســاد ٍ لدى الفئــات الحاكمة وعــن دف ْ ِع من‬

‫خارجي ّة ذات أطماع‪.‬‬

‫*شاعر وكاتب من لبنان‬

‫‪168‬‬
‫ما عالقة ّ‬
‫كل هذا بفيروز؟‬

‫هذه العالقة موجودة باالســتناد إلى أ ّ‬


‫ن األفراد والمؤسّ ســات الفني ّة الكبرى تكتسب شخصي ّتها‬
‫مــن التعبيــر عن وجــدان ُمجتمعها لتُصبح جزءاً مــن االنتماء الوطني العابــر لألفراد والجماعات‬
‫األخوي ْن رحباني ومع اســتعادات‬
‫َ‬ ‫واإلبداعــات الفنيّــة‪ .‬ففيروز في صورتهــا ُ‬
‫المتكاملة مع إبداع‬
‫التــراث الغنائــي الباقــي فــي لبنان والعا َلم العربي‪ ،‬ليســت مجــرّد مغنّية تَظهر فــي الصورة ثمّ‬
‫شكل‬‫حي وموهبة ممي ّزة‪ ،‬ت ُ ِّ‬ ‫تنطوي‪ ،‬إنّها بتكوين عملها الفنّي القائم على جماعة ُمبدِعة وت ُ ٍ‬
‫راث ّ‬
‫ل الحقة في منطقتنا‬ ‫ّ‬
‫األقل‪ ،‬ويمتــد ّ حضوره إلى أجيا ٍ‬ ‫َمعلمــاً قــادراً على البقاء‪ ،‬في معظمه على‬
‫العربي ّة ولدى أفراد ٍ في العا َلم يهتمّون بفنون الشرق‪.‬‬
‫العام وبروز طبقة ال عالقة لها‬
‫ّ‬ ‫اليومي النحدار الذوق‬
‫ّ‬ ‫هــذه الصــورة ُ‬
‫المتفائلة ال يحجبهــا الواقع‬
‫المع َلن‪ :‬إيقاعات مستعارة وموسيقى هجينة وكالم ف ّ‬
‫ج وأصوات‬ ‫بالفنون ســوى عالقة االســم ُ‬
‫تصنعها التكنولوجيا‪ .‬نحن هذه األي ّام نشهد تراجعاً في الفنون كلّها‪ ،‬يترافق مع التراجُع الحضار ّ‬
‫ي‬
‫والعجز عن استنهاض حيوي ّة ُ‬
‫المجتمع وقدراته الدفينة على العطاء‪ .‬صورة متفائلة لفيروز‪ ،‬على‬
‫ّ‬
‫األقل‪ ،‬وهو نِتاج‬ ‫الرّغــم مــن تجاوزها الثمانين من العمر‪ .‬فهي الحارســة الرئيســة لتراثها علــى‬
‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬زوجها عاصي وشقيقه منصور‪ ،‬إضاف ًة إلى‬
‫َ‬ ‫تكامل صوتها مع موسيقى وكلمات‬
‫ُ‬
‫التكامل واندمجوا فيه‪ .‬فعلى صعيد الشعراء‪،‬‬ ‫كوكب ِة شعراءٍ وموسيقي ّين جرى ضمّهم إلى هذا‬
‫هناك ســعيد عقل وجبران خليل جبران وإلياس ابو شــبكة وجوزف حرب وميشــال طراد وطالل‬
‫حيدر وعبد اللّه غانم واألخطل الصغير (بشارة الخوري) وهارون هاشم رشيد ونزار قب ّاني وإيليا‬
‫أبو ماضي وأبو سلمى‪.‬‬
‫وعلى صعيد الموسيقي ّين‪ :‬محمّد عبد الوه ّاب‪ ،‬زكي ناصيف‪ ،‬توفيق الباشا‪ ،‬فيلمون وهبي‪ ،‬زياد‬
‫ّ‬
‫وموشــحات أندلســي ّة‬ ‫الرحباني‪ ،‬نجيب حنكش‪ ،‬محمّد محســن‪ ،‬فضال ً عن أعمال لســي ّد درويش‬
‫حــي‪ ،‬لبناني ومشــرقي‪ .‬وقد َظهرت أعمــال فيروز في‬
‫ّ‬ ‫وقــدود حلبيّــة وتراتيــل ديني ّة وفولكلور‬
‫صورة أغا ٍ‬
‫ن فردي ّة أو اسكتشات‪ ،‬أو مسرحي ّات غنائي ّة مثل «جبال الصوّان» و«ناطورة المفاتيح»‬
‫و«ميس الريم» و«بترا»‪ ،‬أو أفالم مثل «ســفر برلك» و«بنت الحارس»‪ .‬وقد ّمت فيروز معظم‬
‫أعمالهــا في لبنان وســورية (معرض دمشــق الدولــي)؛ كما أقامت حفالت فــي معظم البلدان‬
‫العربيّــة‪ ،‬وفي عواصم أوروبي ّة‪ ،‬وفي الواليات المتّحدة األميركي ّة‪ُ ،‬‬
‫وقد ّرت مبيعات ألبوماتها بما‬
‫يزيد على ‪١٥٠‬مليون نســخة‪ .‬وتكفي نظرة شــاملة على أعمالها لنالحظ أ ّ‬
‫ن التركيز األكبر كان على‬

‫‪169‬‬
‫ّ‬
‫الحق‬ ‫الجرحيْــن اللّبناني والفلســطيني‪ .‬هنا الف ّ‬
‫ن الغنائي والموســيقي في صــورة ُ‬
‫المدافِ ع عن‬
‫دي ْن العربي َّي ْن المنكو َبي ْن‪.‬‬
‫اإلنساني وفي البل َ‬
‫يتراجــع الفولكلــور األصيل في بالدنا‪ ،‬وتتعرّض الفنون الشــعبي ّة العفوي ّة‪ ،‬وفي مقد ّمها الغناء‪،‬‬
‫و َل َمة ٍ ديني ّة تلغي خصوصي ّات الشــعوب‪ ،‬ولعدمي ّة ٍ ثقافي ّة تهدف إلى ضياع الشــخصي ّة الوطني ّة‬
‫لع ْ‬
‫َ‬
‫المســار‬ ‫تمهيــداً إلخضاعهــا لنفــوذ ٍ أجنبــي أو أكثر؛ لك ّ‬
‫ن لبنــان والعــرب ال يزالون يرفضون هذا َ‬
‫المختلف وليســوا مجموعــ َة جنود ٍ يلب ّون أوامــر خارجي ّة‪،‬‬
‫الخاطــىء‪ ،‬فهُــم منفتحــون على اآلخر ُ‬
‫أحياء أو شهداء‪ .‬وقد َأدرك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قوّة لبنان الناعمة التي ت ُ ِّ‬
‫شكل‬
‫د إلــى زيارتها في َبيتها تحي ّ ًة منه وتقديراً لما تُم ِّثل‪ ،‬فيما اكتفى‬
‫فيــروز أحــد رموزها الحي ّة‪ ،‬فعم َ‬
‫باســتقبال القادة السياســي ّين اللّبناني ّين في سفارة بالده للتباحُث معهم في رؤية ٍ لخروج لبنان‬
‫المتالحِ قة‪ ،‬وخصوصاً بعد التفجير المروّع لمرفأ بيروت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫من أزماته‬
‫استقبل الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة الفنّانة اللّبناني ّة لدى زيارتها بلده وإحياء حفلة‬
‫َ‬ ‫وكذلك‬

‫هناك‪ ،‬وكان االستقبال تقديراً لها وتفهُّماً َ‬


‫لموقفها باالمتناع عن الغناء محتجّ ًة على تغيير موعد‬
‫الحفلة التي كان ســيحضرها الرئيس التونســي عام ‪ ١٩٧٥‬حين كان يزور بيروت‪ ،‬ورافضة «اللّعب‬
‫الحكومة اللّبناني ّة في حينه بمنْع ّ‬
‫بث أغانيها في اإلذاعة لمد ّة سبعة أشهر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قاص َصتْها‬
‫بوقتها»‪ .‬وقد َ‬
‫ِ‬

‫الجمع بين الهواية واالحتراف‬

‫فيروز قوّة لبنان النّاعمة‪ ،‬لكنّها أيضاً قوّة الف ّ‬


‫ن حين يجهد لي ُصبح قابال ً لالستمرار وديمومة الحضور‪،‬‬
‫ن الفيروزي ‪ -‬الرحباني هو في األســاس تعبي ٌر عــن وجدان االنتماء الوطني واحترام التاريخ‬
‫والفــ ّ‬
‫موسيقي متدفّق من بيئة األدب والثقافة‬
‫ّ‬ ‫صوتي‬
‫ّ‬ ‫والسالم بين الجماعات المتنوّعة‪ .‬كما أنّه ٌّ‬
‫نص‬
‫المتواضع‪ ،‬يتجلّى في لغة ٍ عامي ّة‬
‫المنفتحة على اإلنســاني ّة كلّها‪ .‬هو حبّ األرض والشــجر والنبات ُ‬
‫الم ّ‬
‫مل حتّى الثرثرة‪.‬‬ ‫ُمبدعة ومشذّبة وراقية‪ ،‬وفي لغة عربي ّة فصحى محرَّرة من التعقيد والتكرار ُ‬
‫ٌ‬
‫إيقــاع قريب من الســامعين‪َ ،‬يحفظ الــذات وال ي ُغرقها في بحور‬ ‫أمّــا العمــق الموســيقي‪ ،‬فهو‬
‫اآلخرين‪ .‬وفي لفتة ٍ ُمبدعة إلى الصمت كمنتهى للصوت وكخلفي ّة حافظة له‪ ،‬قالت فيروز في لقاءٍ‬
‫صحافي في القاهرة‪« :‬أنا من أصدقاء الصمت‪ .‬سألوني عن شعوري حين غنَّيت أمام أبو الهول‬
‫فقلت‪ :‬أبو الهول صاحبي من زمان‪ ،‬وأنا من أقربائه‪ .‬أحب ّه ألنّه صامت»‪.‬‬
‫والف ّ‬
‫ن الفيروزي ‪ -‬الرحباني َيجمع بين الهواية واالحتراف‪ .‬الهواية هنا تعني الشغف في حرارته‬
‫ّ‬
‫التمكــن والمهني ّة وامتــاك المعارف‬ ‫األولــى والبــراءة والصفــاء‪ ،‬فــي حين أ ّ‬
‫ن االحتــراف يعني‬

‫‪170‬‬
‫مارسة الخبرات في آ ٍ‬
‫ن واحد؛ ففيروز الموهوبة بصوتها تدرَّبت منذ اكتشفها األخوان محمّد‬ ‫وم َ‬‫ُ‬
‫وأحمــد فليفــل‪ ،‬حين كانت تلميــذة موهوبة في المرحلة المتوسّ ــطة في العــام ‪ .١٩٤٨‬واعتنى‬
‫بها موســيقي ّون ومغنّون أســاتذة في المجال‪ ،‬مثل حليم الرومي‪ ،‬وأكمل عاصي الرحباني هذا‬
‫َّن لها قبل أن تصبح زوجته في العام ‪ ١٩٥٥‬ورفيقة عمره‪ ،‬حيا ًة وفنّاً‪.‬‬
‫التدريب حين التقاها ولح َ‬
‫يقــول منصــور الرحبانــي‪« :‬منذ أن انضمّت إلينا فيــروز بدأت متوّج ًة بالمجــد‪ ،‬فإضاف ًة إلى جمال‬
‫ّ‬
‫وكل ما جاء في صوتها من خوارق‪،‬‬ ‫وموهبتها الخارقة‪ ،‬هي ظاهرة ال تتكرّر‪ :‬صوتها ممي َّز‪،‬‬
‫صوتها َ‬
‫ل وتجارب‪َ ،‬ج َع َل منها رمزاً من رموز عصرنا‪ .‬تأثّر بها الناس‪ ،‬حتّى الشعراء‪،‬‬
‫وما برعت به من صق ٍ‬
‫ســطعت بحضورها اآلســر‪ ،‬وراح‬ ‫تكن مجرّد صوت فحســب‪ ،‬بل َ‬ ‫فــي لبنــان والعا َلــم العربي‪ .‬لم ُ‬

‫صوتها يخترق الحواجز العاطفي ّة ويُرسّ ب في الوعي سامعه األفكار التي يحملها»‪.‬‬
‫وصوت فيروز في رأيي واحد ٌ من أربعة أصوات نسائي ّة عربي ّة ممي ّزة في السنوات المئة األخيرة‪،‬‬
‫علت األلحان في‬
‫ِ‬ ‫وج‬ ‫وأم كلثوم وأســمهان وليلى مراد‪ ،‬ففيما ركَّزت ّ‬
‫أم كلثوم على صوتها َ‬ ‫ّ‬ ‫هي‬
‫خدمته مختار ًة ملحّنين يتناســبون مع تطوّرات ذوق الجمهور الناتجة عن تطوّر أســاليب العيش‬
‫ّ‬
‫محطات‬ ‫فــي مصــر‪ ،‬رأينا أســمهان نتيجة ظروفهــا العائلي ّة تعيــش الصوت كفترة اســتراحة بين‬
‫أزماتها وإحساســها شــبه الدائم بالغربة والعزلة؛ كما رأينا ليلى مراد تكتفي باالحتفاء بصوتها‬
‫أساسي من‬
‫ّ‬ ‫وتجويده حتّى حين يتقاذفه الملحّنون بحسب أهوائهم‪ .‬أمّا صوت فيروز‪ ،‬فهو جزء‬
‫باألخوي ْن رحباني الذي حين‬
‫َ‬ ‫ن واسع يتطوّر بوعي واثق الخطوات‪ .‬إنّه التكوين الذي يجمعها‬
‫تكوي ٍ‬
‫كان يقبــل كلمــات أو ألحانــاً من آخرين‪ ،‬فهو يدفع بالضرورة إلى اندماجها في ســياقه‪ ،‬فال تبدو‬
‫مستقلّة عنه أو طارئة عليه‪.‬‬
‫فيدفعك إلى االلتفاف على نفســك والتأمُّل‪ .‬وبعضها اآلخر‬
‫َ‬ ‫وحدك‪،‬‬
‫َ‬ ‫بعض أغاني فيروز تســمعه‬
‫تســمعه مــع آخرين‪ ،‬أفراداً أو حشــوداً‪ ،‬حيث العاطفــة الجمعي ّة ذات ّ‬
‫الطابــع االحتفالي تنفعل‬
‫شتركة‪ ،‬بضرورة تكوينها‪.‬‬
‫َ‬ ‫بإيقاعات ُم‬
‫ن المعنــى ال يزال قائماً‪ .‬نَســترجع أعمالها‬
‫صــوت فيروز مــع اختناق لبنــان الوطن؛ لك ّ‬
‫َ‬ ‫ونفتقــد‬
‫ونربطهــا بواقعنــا اليومي‪ .‬هي والرحباني ّان لم يبيعوا أحالماً‪ ،‬كمــا يتّهمهم كثيرون؛ ففي ذروة‬
‫الخســارة تتراجع الفنون الكبرى ولكن ال تزول‪ .‬ثمّة قاعدة اجتماعي ّة وثقافي ّة وسياســي ّة لألغنية‬
‫الفيروزي ّة‪ ،‬وهي قاعدة متعد ّدة وقد تبدو ُمتناقضة أحياناً‪ ،‬تُعب ّر عن عزلة لبنان‪ ،‬كما عن انفتاحه‪،‬‬
‫العربي األوسع‪ ،‬وهي حين تنحاز إلى المظلوم‪ ،‬تبدو أقرب‬
‫ّ‬ ‫ونراها تُعب ّر عن بالد الشام والمدى‬
‫ٌ‬
‫حنين إلى السالم واالستقرار والوضوح‪.‬‬ ‫إلى نشيد ٍ يصبغه‬

‫‪171‬‬
‫األب بديع الحاجّ*‬

‫تكن غير موجودة المغنّية التي يأبه لها المصلّي‪ .‬لكنّك هنا‪ ،‬واعجباه! أمام مغنّية‬
‫«نادرة إن لم ُ‬

‫غدت همَّ هموم المصلّين‪ .‬وفي روائع فيروز التي على حياد – وهذه هي أيضاً غير باردة – يأبى‬
‫المتذوّقون ّ‬
‫إاّل أن يجدوا صالة»(‪ .((3‬بهذه الكلمات اختصر الشاعر سعيد عقل سرَّ فيروز المغنّية‬
‫والمصلّية في آن‪.‬‬

‫معظم أغاني فيروز‪ ،‬حتّى ولو لم ُ‬


‫تكن ترتيل ًة أو صالة‪ ،‬تدعو للخشوع والصالة‪ .‬يقول الكثيرون‪:‬‬
‫و صــاة يكتنفنا ويحملنا‬
‫قدســي ي ُحيط بنا‪ ،‬نشــعر بج ّ‬
‫ّ‬ ‫نحس بمناخٍ‬
‫ّ‬ ‫عندمــا نســمع فيــروز تغنّي‬
‫ن األغنية الفيروزي ّة هي بحد ّ ذاتها صالة‪ .‬إ ّ‬
‫ن الغناء الذي هو رســالة فيروز‪،‬‬ ‫على الصالة‪ ،‬ذلك أل ّ‬
‫والمثل العليا‪ ،‬فيغدو ُمرادفاً للصالة كمــا عب ّر جبران خليل جبران في‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تبشــر مــن خاللــه بالق َيم‬
‫ُ‬
‫وأنين النــاي يبقى‪ ..‬بعد أن تفنى‬ ‫وغــن‪ ..‬فالغنا خي ُر الصالة‬
‫ِّ‬ ‫قصيدتــه المواكــب‪« :‬أعطني الناي‬
‫خاصاً تفتقر إليه الصالة‬
‫ّ‬ ‫الحيــاةْ»‪ .‬مــن هنا نرى أهمي ّة الصالة المرتَّلة‪ ،‬فهي تحمل توه ّجاً روحيّاً‬

‫التي تُتلى عدّاً‪.‬‬

‫الصالة‬

‫ال تقتصر الصالة على تمتمة شفاه بكلمات يلفظها اإلنسان موجّهاً إي ّاها إلى خالقه‪ .‬إنّما الصالة‬
‫هــي حالة يعيشــها اإلنســان بكلي ّته‪ ،‬جســديّاً في حضوره ووقفتــه وحركته وانســجامه مع ذاته‪،‬‬
‫وعقليّاً عبر تركيز أفكاره وتوجيهها إلى َمن يدعو ويناجي‪ ،‬وروحيّاً في انشــداده إلى ما هو خارج‬
‫ذاته‪ .‬حتّى تُحقِّ ق الصالة غايتها‪ ،‬أال وهي مخاطبة اللّه‪ ،‬من المفروض تأمين اإلطار الصحيح الذي‬

‫*عميد كلي ّة الموسيقى في جامعة الروح القدس – الكسليك‪ /‬لبنان‬

‫‪173‬‬
‫واالحتشــام‬
‫َ‬ ‫االحترام‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الصالة‬ ‫قي (اللّه)‪ .‬لذلك‪ ،‬تتطلّب‬
‫يضمن وصول الرســالة (الصالة) الى المتل ّ‬

‫والورع والحضور‪.‬‬
‫َ‬ ‫والتركيز‬

‫الترتيل‬

‫يكون على مســتوى‬


‫َ‬ ‫ن الترتيل صالة‪ ،‬والصالة لقاء مع اللّه‪ ،‬لذا على ُ‬
‫المرتِّل أن‬ ‫تُع ِّلم الكنيســة أ ّ‬
‫َ‬
‫يعيش‬ ‫ُ‬
‫المرتِّل أن‬ ‫هذا اللّقاء‪ .‬الترتيل ليس فنّاً‪ ،‬ليس اســتعراضاً أو غناء‪ ،‬إنّه فعل إيمان‪ .‬على‬
‫تماماً كلمات الصالة التي يرتّلها‪ ،‬فيشعر بها من داخله حتّى تحمله إلى عا َلم السموات‪ .‬عليه أن‬
‫ُ‬
‫والتواضع‪ .‬إ ّ‬
‫ن الترتيل ليس بأمر ٍ سهل‪،‬‬ ‫يكون مؤمناً‪ ،‬ذلك المؤمن المتّصف بالتقوى والوداعة‬
‫فمــن شــروطه إتقان مخــارج الحروف ومعرفة أساســي ّة لعِ لم اللّفظ وكيفيّــة األداء من ناحية‪،‬‬
‫المكمّلة هي معرفة أساسي ّة بالموسيقى واللّحن األصيل لكي يتمّ ّ‬
‫كل شيء‬ ‫المتممة ُ‬
‫ِّ‬ ‫والناحية‬
‫ّ‬
‫يحضرون للترتيل في دُور العبادة‪ ،‬أن ال يســتعملوا أصواتاً غير‬ ‫بلياقــة وترتيــب‪ .‬لذا‪ ،‬على الذيــن‬

‫ببيت اللّه‪ ،‬بل أن ي ُق ِّ‬


‫دموا التراتيل بانتباه وخشوع‪.‬‬ ‫منتظمة وأن ال يضيفوا شيئاً ممّا ليس الئقاً َ‬
‫ويتوقّــف حُســن أداء الترتيــل على مــدى روحاني ّة ُ‬
‫المرتِّل وتشــب ُّعه بروح الموســيقى وتفهُّمه‬
‫وتواضعــاً ولطفاً ورقّ ًة وحِ كمة‬
‫ُ‬ ‫واحترامــه لهــذا التراث العظيم‪ .‬إنّهــا تتطلّب من المرتّل إيماناً‬

‫قــة فــي العبــادة إلى جانــب الدقّة فــي األداء‪ .‬الترتيــل كالم ولحــن وأداء وصوت‪،‬‬
‫شــارك ًة ح ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وم‬
‫عام ُمرافِ ق وإطا ٌر ُمالئم‪ .‬هذا هو تعليم الكنيســة الذي قام األخوان رحباني وفيروز‬
‫ّ‬ ‫و‬
‫يلزمه ج ّ‬
‫ن فيروز غنّت كالماً وقصائد‬
‫باحترامه بدءاً من الكتابة مروراً بالتلحين وصوالً إلى األداء‪ .‬صحيح أ ّ‬
‫واً مص ِّلياً‪ ،‬فــكان صوتها المصلّي موازياً‬
‫ن صوتهــا وأداءها َخ َلقا ج ّ‬
‫فيهــا القدســي ّة والصالة‪ ،‬ولك ّ‬
‫تخطاهما‪ ،‬كما قــال منصور رحباني‪« :‬كنّا أنا وعاصي نتهي ّب لدى‬
‫ّ‬ ‫للــكالم واللّحــن إن لم ُ‬
‫يكن قد‬

‫كتابتنــا لصوت فيروز» ‪ .‬وكما َكت َ‬


‫َب أنســي الحاجّ‪« :‬تخرج األغنيــة من صوت فيروز وقد تحوَّلت‬ ‫(‪((3‬‬

‫إلى صياغة ٍ فيروزي ّة»(‪.((3‬‬

‫فيروز واأللحان الكنسي ّة‬

‫ســجَّل األخوان رحباني مع فيروز نحو ما ي ُقارب إحدى وثالثين ترنيم ًة ديني ّة‪ :‬ســبع مأخوذة من‬
‫ّ‬
‫وســت من التــراث الغربي وبعض‬ ‫التــراث الســرياني المارونــي‪ ،‬وخمــس من التراث البيزنطي‪،‬‬
‫الروحــي والتي ألّفاهــا ولحّناها وأد ّتها‬
‫ّ‬ ‫الموســيقي ّين؛ ويبلــغ عدد الترانيم التــي تحمل الطابع‬
‫فيروز ثالث عشرة ترنيمة‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫الديني‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الطابع‬ ‫جدول بالتراتيل واألغاني ذات‬

‫للميالد‬

‫ألحان‬ ‫كلمات‬ ‫عنوان‬

‫تراث سرياني ماروني‬ ‫تراث سرياني ماروني‬ ‫شوبحُا لهو ُق ُاُل (سرياني)‬
‫ُ‬

‫تراث سرياني ماروني‬ ‫تراث سرياني ماروني‬ ‫سبحان الكلمة‬

‫تراث سرياني ماروني‬ ‫تراث سرياني ماروني‬ ‫أرسل اللّه‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫الثلج يترامى‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫تلج تلج‬

‫‪Joseph Gruber‬‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫عي َّد اللّيل‬

‫‪James Pierpont‬‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫ليلة عيد‬

‫تراث فرنسي‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫ضوّي بليالي سعيدة‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫بين أحضان القطيع‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫من وحي الميالد‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫في تلك اللّيلة‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫شيخ الميالد‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫رح خب ّركم ّ‬


‫قصة زغيرة‬

‫لآلالم والقيامة‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫طريق الخالص‬

‫تراث سرياني ماروني‬ ‫تراث سرياني ماروني‬ ‫قامت مريم‬

‫تراث سرياني ماروني‬ ‫تراث سرياني ماروني‬ ‫يا شعبي وصحبي‬

‫بيرغوليزي‬
‫(‪((3‬‬
‫تراث ماروني‬ ‫واحبيبي‬

‫‪175‬‬
‫تراث سرياني ماروني‬ ‫تراث سرياني ماروني‬ ‫األم الحزينة‬
‫ّ‬ ‫أنا‬

‫تراث بيزنطي‬ ‫تراث بيزنطي‬ ‫اليوم علّق‬

‫تراث بيزنطي‬ ‫تراث بيزنطي‬ ‫طرق أورشليم‬

‫تراث بيزنطي‬ ‫تراث بيزنطي‬ ‫يا يسوع الحياة‬

‫تراث بيزنطي‬ ‫تراث بيزنطي‬ ‫كامل األجيال‬

‫تراث بيزنطي‬ ‫تراث بيزنطي‬ ‫المسيح قام من بين األموات‬

‫لمريم العذراء‬

‫تراث سرياني ماروني‬ ‫تراث سرياني ماروني‬ ‫أم اللّه‬


‫يا ّ‬

‫قيصر الزغبي‬ ‫قيصر الزغبي‬ ‫يا مريم البك ُر ُفقْ ِ‬


‫ت‬

‫أغا ٍ‬
‫ن‬

‫لحن فرنسي‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫أومن‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫يا ساكن العالي‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫ساعدني‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫عا إسمك غنّيت‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫بيتي أنا بيتك‬

‫األخوان رحباني‬ ‫األخوان رحباني‬ ‫إيماني ساطع‬

‫األخوي ْن رحباني بالموسيقى الديني ّة‬


‫َ‬ ‫تأثُّر‬
‫تُ ّ‬
‫شكل الموسيقى الديني ّة أهمّ المصادر التي استقى منها األخوان رحباني‪ .‬إضافة إلى الموسيقى‬
‫الكنســي ّة‪ ،‬تأثَّر الرحباني ّان أيضــاً بالتجويد القرآني‪ ،‬وباأللحان الديني ّة اإلســامي ّة‪َ .‬أظهر الرحباني ّان‬
‫ْع في موســيقاهما بيــن الديني والدنيوي‪ .‬وقد يكــون ذلك متأتّياً من‬
‫مهــار ًة وإبداعــاً في الجم ِ‬
‫زاوجة بين الد ّين والعرق واالنتماء هي ُمحاكاة لروح اإلنسان‪،‬‬ ‫ن ُ‬
‫الم َ‬ ‫قناعتهما العميقة والثابتة بأ ّ‬

‫‪176‬‬
‫بناني‬‫ققاه في العا َلم العربــي بعامّة‪ ،‬والل ّ‬
‫وخصوصــاً في الموســيقى‪ .‬وقد يكــون النجاح الذي ح ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خصوصــاً‪ ،‬عائــداً فــي جزءٍ كبير ٍ منه إلى تصوّرهما الفلســفي للوجود ولإلنســان ولله‪َ .‬‬
‫فج َم َعا في‬
‫ِ‬
‫انخطاف الصوفي ّين‪ ،‬وبحث الفالســفة عــن الحقيقة ومعنى الوجــود‪ ،‬وإيحاءات‬ ‫أعمالهمــا بيــن‬
‫الفنّانين وأحالمهم الجمالي ّة‪.‬‬

‫أداء األلحان الديني ّة بصوت فيروز‬

‫انخرط األخوان رحباني وفيروز في‬


‫َ‬ ‫بخالف معظم الفنّانين والمؤلّفين الموسيقي ّين والمغنّين‪،‬‬
‫بيئتهــم الديني ّة المســيحي ّة‪ ،‬فكان لفيروز إطــاالت فنّية دوري ّة في المناســبات واألعياد الديني ّة‬
‫د عاصي ومنصور إلى اختيار األلحان الديني ّة األكثر شــهر ًة وشــعبي ّ ًة وانتشاراً وتأثيراً‬
‫الكبرى‪ .‬فعم َ‬
‫في الناس‪ ،‬وبا َدرا إلى توزيعها موسيقيّاً‪ ،‬وإخراجها‪ ،‬لتقوم فيروز بتأديتها‪.‬‬
‫فوقع‬
‫َ‬ ‫ ‪-‬الميــاد‪ :‬اقتصــرت الترانيــم الميالدي ّة علــى التراث الموســيقي الســرياني الماروني‪.‬‬
‫االختيار على لحنَي ْن حفظهما الناس وأحب ّوهما حبّاً كبيراً لِما كانا يجسّ دان من أجواءٍ ميالدي ّة‬
‫روحيّــة دافئة‪ .‬إضافة إلى الترانيم الســرياني ّة المارونيّــة‪ ،‬أد ّت فيروز ثالث ترانيم من التقليد‬
‫الغربي وهي‪« :‬عي ّد اللّيل» (‪ )Stille nacht‬لفرانس إكزافر غروبر(‪« ،((3‬ليلة عيد» (‪)Jingle bells‬‬
‫لجيمس بيربون(‪« ،((3‬ضوّي بليالي سعيدة» (‪ )Les anges‬من التراث الشعبي الفرنسي‪.‬‬
‫ّ‬
‫خاصة بأســبوع اآلالم مــن التراثي ْن الســرياني والبيزنطي‪.‬‬ ‫ ‪-‬اآلالم‪ :‬أد ّت فيــروز ترانيــم دينيّــة‬
‫والترانيــم اآلالميّــة الماروني ّة التي أد ّتها‪« :‬قامت مريم»‪« ،‬يا شــعبي وصحبي»‪« ،‬وا حبيبي»‪،‬‬
‫األم الحزينــة»‪ .‬والترانيــم البيزنطي ّة‪« :‬اليوم ُعلّق على خشــبة»‪ُ ،‬‬
‫«طرق أورشــليم»‪« ،‬يا‬ ‫ّ‬ ‫«أنــا‬
‫يسوع الحياة»‪.‬‬
‫ ‪-‬القيامة‪ :‬اكتفت فيروز بإداء ترنيمة ٍ واحدة قيامي ّة وباللّغتَي ْن العربي ّة واليوناني ّة هي «المسيح‬
‫قام من بين األموات»‪.‬‬
‫ ‪-‬لمريم العذراء‪ :‬من أروع ما رتّلته فيروز‪ ،‬زي ّاح العذراء مريم بحســب الطقس الماروني‪« ،‬يا‬
‫أم اللّه يا حنونة»‪ ،‬وترتيلة «يا مريم البكر ُفقْ ِ‬
‫ت» من تأليف وتلحين قيصر الزغبي(‪.((4‬‬ ‫ّ‬

‫تأليف األلحان الديني ّة‬

‫إلــى جانــب الترانيم الديني ّة مــن الترا َثي ْن الســرياني‪-‬الماروني والبيزنطي‪ ،‬لم يتــرد ّد الرحباني ّان‬
‫في تأليف ترانيم أخرى كالماً ولحناً أدخالها في مســرحي ّاتهما‪« .‬مهما تأخّر جايي» من مســرحي ّة‬

‫‪177‬‬
‫«المحطــة»‪ ،‬تُظهــر اإليمــان الكبير الذي ال يتكسّ ــر وال يتعب («ما بيتكسّ ــر إيمانــي وما بيتعب‬
‫ّ‬
‫إيمانــي»)‪ .‬ويتوجّهــان إلى اللّه ُمطلقَ ين عليه أســماء ترفع الســامع إلى علّــة وجوده مهما كان‬
‫دينــه وإيمانه‪ ،‬فهما يناديانه «نبع الينابيع» و«ســي ّد العطايا» و«ســاكن العالــي» و«بحر اللّيل»‬
‫و«إنت اللّي ما بتنساني» و«شمس المساكين»‪ .‬ولشهرة هذه األلحان راح النّاس يرد ّدونها في‬
‫الكنائس والمناسبات الديني ّة‪.‬‬

‫فيروز الصوت‬

‫أدرك األخوان رحباني منذ البداية أ ّ‬


‫ن صوت فيروز المـُــمي ّز هو الذي ســي ُضفي على الموســيقى‬
‫ــعيا إلى اإلفادة من خصائص هذا الصوت‪ ،‬صوت اتّســم بالنقاء واتّســاع‬
‫فس َ‬‫والشــعر جمالهما‪َ ،‬‬
‫المســاحة الصوتي ّة‪ .‬يقــول منصور رحباني‪« :‬عدا جمال صوتها وموهبتهــا الخارقة‪ ،‬هي ظاهرة ال‬
‫ّ‬
‫وكل ما جاء في هذا الصوت من خوارق‪ ،‬وما خلف‬ ‫ُ‬
‫وإطالقة صوتها ممي ّزة‪،‬‬ ‫تتكرّر؛ فصوتها ممي ّز‪،‬‬
‫جع َل منه رمزاً من رموز هذا العصر»(‪« .((4‬جاءت فيروز‬ ‫هذا الصوت من صقل وتجارب خضع لها‪َ ،‬‬
‫ذات الحضــور اآلســر والصوت المفرد‪ ،‬فانضمّت إلينا‪ .‬أصبحنا ثالثــة‪ .‬وراح صوتُها يخترق الحواجز‬
‫ّ‬
‫شــكل‬ ‫األفكار التــي يحملُها»(‪ .((4‬هذا الثالوث الرحباني‬
‫َ‬ ‫ويرســب في الوعي ســامعه‬
‫ِّ‬ ‫العاطفيّــة‪،‬‬
‫سه َم في اكتمال رسالة فيروز الداعية للسالم والصالة والق َيم واألخالق الحميدة‪.‬‬ ‫عقداً فريداً َأ َ‬
‫كل من الثالثة أن تفقد الكثير من بريقها لو لم يتمّ مثل هذا اللّقاء‪.‬‬
‫فقــد كان يمكــن لعبقريّــة ّ‬
‫ّ‬
‫بكل عناية‬ ‫لألخوي ْن رحباني ولفيروز‪ ،‬رســالة تل ّ‬
‫قفها الثالثة‬ ‫َ‬ ‫هــي عنايــة إلهي ّة‪ ،‬بل دعوة حباها اللّه‬
‫األخوي ْن رحباني لفيروز‪ ،‬وظهورها لهما‪ ،‬أجمــل وأغرب «صدفة» فنّي ّة على‬
‫َ‬ ‫ومســؤولي ّة‪ .‬فظهــور‬
‫ّ‬
‫بأدق‬ ‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬كانــوا يهتمّون‬
‫َ‬ ‫اإلطــاق‪ .‬لكنّــي أســتضعف نظري ّة الصدفة‪ ،‬أل ّ‬
‫ن فيــروز كما‬
‫التفاصيل‪ :‬أحاديث فيروز الصحفي ّة‪ ،‬وقفتها‪ ،‬طريقة مشــيتها‪ ،‬مظهرها‪ ،‬اللّباس ّ‬
‫الاّلئق‪ ،‬الحشمة‪،‬‬
‫الســجود في الكنيســة عند أدائها الترانيم الديني ّة والتراتيل‪ْ ،‬‬
‫وضع المنديل األســود على رأسها‬
‫ّ‬
‫الخاصة بأسبوع اآلالم‪.‬‬ ‫لدى أدائها التراتيل‬

‫الحضور‬

‫في حفالتها الموسيقي ّة‪ ،‬تَظهر فيروز شخصي ّة رصينة وصلبة على خشبة المسرح‪ ،‬والبعض يصفها‬
‫و‬
‫ظهر جد ّيّتَها وســم َّ‬‫ُ‬
‫ذراعيها‪ ،‬ثياب ت ِ‬
‫َ‬ ‫بالحزينــة‪ .‬تحــرص على ارتــداء ثياب تصل الى األرض وتغطية‬
‫أخالقهــا واحترامهــا لما تؤد ّيه‪ .‬تقف بال حراك أمــام الميكروفون‪ ،‬قد ترفع يدها قليال ً أو تقوم‬

‫‪178‬‬
‫بتحريــك كتفَ يهــا إذا َ‬
‫لزم األمــر‪ .‬في مقابلة مع الصحيفــة األميركي ّة «نيويــورك تايمز» في أي ّار‪/‬‬
‫ن ُمعجبيها يجدونهــا دوماً جدي ّة‪ .‬تعترف بأنّهــا خجولة‪ ،‬ولك ّ‬
‫ن‬ ‫مايــو‪ ،1999‬تضحــك فيروز لفكــرة أ ّ‬
‫األهــمّ هــو أنّهــا تميل إلى التركيز على الغناء أكثر من تحريك أ ّ‬
‫ي جزء من جســدها‪ .‬قالت فيروز‬
‫بعــد حفلــة َأحيتها في مدينة الس فيغاس األميركي ّة ردّاً على ســؤال حول جد ّيتها ُ‬
‫المفرطة على‬
‫المسرح‪« :‬إذا نظرتم إلى وجهي عندما أغنّي‪ ،‬سترون وكأنّني غير موجودة»‪ .‬وتا َب َعت‪« :‬أرى الف ّ‬
‫ن‬
‫على أنّه صالة‪ .‬لســت موجودة في كنيســة‪ ،‬لكنّني أشــعر كما لو أنّني فيها‪ ،‬وفي هذه األجواء ال‬
‫ي ُمكنني الضحك»(‪.((4‬‬

‫كيف تصلّي فيروز؟‬

‫في «زهرة المدائن» ت ُ ِّ‬


‫قبل فيروز بلطف «حيطان الكنائس القديمة» في القدس‪ ،‬وتقبيل حيطان‬
‫ٌ‬
‫عادة ُمنتشــرة في جبال لبنان وبعض ُمدنه‪ .‬في أغنيتها «يا ســاكن العالي» ال‬ ‫الكنائس والمعابد‬
‫ّ‬
‫وبكل جسمها وكيانها إذ‬ ‫تصلّي فيروز بفَ مها فحسب‪ ،‬بل وبي َ‬
‫دي ْها أيضاً‪« :‬أيدينا مرفوعة صوبك»‪،‬‬
‫تجثو على األرض «ركعت وصلّيت والسما تسمع منّي»‪ .‬إنّها ال تجثو على األرض فقط‪ ،‬بل تطلب‬
‫مــن هــذه األخيــرة أيضاً أن تُشــاركها الصالة‪ ،‬تطلب منها أن تركع‪ ،‬والســجود تعبيــر عن العبادة‪:‬‬

‫شــرك فيروز إذاً الجسد كلّه في الصالة‪ ،‬تصلّي بي َ‬


‫دي ْها‪ ،‬كما‬ ‫ِ‬ ‫ْســعي يا مطارح ويا أرض اركعي»‪ .‬ت ُ‬
‫«و َ‬
‫للعي ْن كي تصلّي معها‬
‫تصلّي بعينَي ْها حتّى أصبحت عيناها صالة‪ .‬إذ إنّها استعارت الصوت وأعطته َ‬
‫«عينينا تصرخ عبابك»‪ .‬إنّها تصلّي بالدموع‪ ،‬حتّى أصبحت والدموع كياناً واحداً «صرنا دمع اللّيالي»‪.‬‬

‫ُ‬
‫المجاهِرة بإيمانها‬ ‫فيروز‬

‫فــي أغنيــة «أومن»‪ ،‬تُعلن فيروز عن إيمانها بحزم وإصرار وثقة‪ ،‬صفات تعكســها فيروز بصوتها‬
‫الحــازم «الثابــت علــى اإليمــان»‪ .‬في «إيماني ســاطع»‪ ،‬ليس الــكالم وحده يحمــل اإليمان بل‬
‫الصوت أيضاً‪ ،‬يعب ّر مثله مثل الكالم إن لم ُ‬
‫يكن أكثر‪ .‬في «إنت اللّي ما بتنساني»‪ ،‬صوتها يحمل‬
‫بمن «لن ينساها»‪.‬‬
‫الحني ّة‪ ،‬حني ّة طفلة ثقتها كبيرة َ‬
‫في مسرحي ّة «جبال الصوّان»‪ ،‬تُناجي فيروز الربَّ «نبع الينابيع وسي ّد العطايا» باسمها كإنسانة‬
‫وباســم ّ‬
‫كل عناصــر الطبيعــة‪ .‬من «نبع الينابيع» إلى «ســاكن العالي»‪ ،‬الــربّ حاضر دوماً بصوت‬
‫ّ‬
‫بذل وانكســار‪ .‬فهي المؤمنة البريئة التي‬ ‫ٍّ‬
‫مصــل وصوت راجٍ‪ ،‬بإيمان ودالي ّة وليس‬ ‫فيــروز‪ ،‬أداء‬
‫تطلــب مــن اللّه وكأنّها تطلــب من أبيها‪ ،‬ال تطلب من أجلها بل من أجــل الجماعة‪ .‬وفي «غنّيت‬

‫‪179‬‬
‫مكــة» تطلــب من قــارئ القرآن بأن يصلّي معهــا‪ .‬فيروز الفنّانة تعكس فيروز اإلنســانة‪ ،‬وعا َلم‬
‫ّ‬
‫أعماق ّ‬
‫كل إنســان‬ ‫َ‬ ‫الروحي‪ .‬فبصوتِها وشــخصيّتِها وأعمالِها دخلت‬ ‫فيــروز الفنّانــة ي ُكمل عا َل َمها‬
‫ّ‬
‫ووعّت جانباً من الروحاني ّة فيه‪ ،‬ولهذا الســبب كثيرون يقولون عند ســماعهم أغاني فيروز إنّهم‬
‫و من التأمّل والخشوع‪.‬‬
‫ينتقلون إلى ج ّ‬

‫ولمن تصلّي فيروز ولماذا؟‬


‫َ‬ ‫أين‬

‫مــع فيروز‪ ،‬أصبح الكون بأســره هيــكال ً لصالتها‪ ،‬هي التي َجمعت بين محبّــة المعابد والكنائس‬
‫والهياكل المبني ّة من َحجر‪ ،‬وبين الهيكل الكبير الذي هو ّ‬
‫كل مكان في الكون‪ ،‬ال بل هو الكون‬ ‫َ‬
‫بأســره‪ .‬هيــكل فيروز هو البيــت والتالل والســهول والجبال والتالل‪ .‬فمــكان الصالة هو أينما‬
‫ّ‬
‫والحق ليســت‬ ‫كل مكان في الكون‪ .‬مع فيروز‪ ،‬عبادة اللّه بالروح‬
‫اجتمع اثنان باســم الربّ ‪ ،‬إنّه ّ‬
‫َ‬
‫كل مكان ي ُناجى فيه اسم اللّه‪ ،‬فاللّه هو محور الصالة وغايتها‪.‬‬
‫ن معي ّن بل في ّ‬
‫محدودة في مكا ٍ‬
‫أحببت ال تقل اللّه في قلبي‪ ..‬لكن‬
‫َ‬ ‫أنت إذا‬
‫َ‬ ‫وفي المحب ّة لجبران ي ُصبح اإلنسان في قلب اللّه‪« :‬أمّا‬
‫كل‬ ‫تفكر أبداً في نفسها‪ ،‬إنّها تصلّي َ‬
‫للغير وباسم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُق ْل‪ :‬أنا في قلب اللّه»‪ .‬إ ّ‬
‫ن فيروز في صالتها ال‬
‫شــرك معها المخلوقات والطبيعة‪ .‬ال يهمّها العرق وال اللّون‪ ،‬فقراء كانوا أم أغنياء‪،‬‬
‫ِ‬ ‫إنســان وت ُ‬

‫تصلّي ليرأف اللّه بجميع البشر‪.‬‬

‫العام‬
‫ّ‬ ‫و‬
‫الزمان واإلخراج والج ّ‬

‫القدس لنصرة فلســطين‪ ،‬صلّت في زمن‬


‫َ‬ ‫الموازي للمضمون‪ ،‬فكما غنّت فيروز‬
‫للتوقيــت الــدور ُ‬
‫المســيحي على مشــارف‬
‫ّ‬ ‫الضيــق لبنانيّــاً وعا َلميّــاً‪ ،‬في زمن جائحــة كورونا‪ .‬اختارت زمن الصوم‬
‫نهــار جُمعــة الــذي هــو يــوم الصــوم واآلالم لدى‬
‫ِ‬ ‫أســبوعي اآلالم (الغربــي والشــرقي) وفــي‬
‫َ‬
‫المكاني حامال ً في بساط ِت ِه‬
‫ّ‬ ‫المسيحي ّين كما هو يوم الصالة لدى ُ‬
‫المسلمين‪ .‬فيما ظهر اإلخراج‬
‫منازلِهــم بتحويلِها‬
‫ِ‬ ‫رســال ًة عميقــة‪ .‬فمنذ انتشــار الوباء‪ ،‬أوصت الكنيســة مؤمِ نيهــا بالصالة في‬
‫كنائــس صغيــرة‪ ،‬وفيروز ِبصوتِها صارت كذلك ســفير ًة للصالة‪ .‬خرجت الكلمــات من حُنجرتِها من‬
‫َ‬
‫خلف جدران َبيتها لتطوف العا َلم وتحمل معها آهات البشري ّة إلى «الذي َعلّق األرض على المياه»‬
‫المشــتاقين َلحناً‪،‬‬ ‫ع»‪ .‬صحيح أنّها َألقــت اآليات من غير لحنٍ‪ِ ،‬‬
‫لكنّها داعبت آذان ُ‬ ‫ِبـــ «إيما ٍ‬
‫ن ســاط ٍ‬
‫«المتّفق على عباد ِت ِه من ّ‬
‫كل المؤمنين» من دون‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫جامع‪ ،‬فهو ينادي الرب‬ ‫ُ‬
‫النص‬ ‫ّدات ُمرنّمة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بتنه‬
‫ُ‬
‫المختلفة‪.‬‬ ‫الدخول في جدلي ّات العقائد‬

‫‪180‬‬
‫ُ‬
‫حسن أداء الترتيل‬

‫أدق التفاصيل من دون تكلّف‪ ،‬تطويع النبرات الصوتي ّة للتعبير‬


‫ّ‬ ‫الطبيعي ّة فى األداء‪ ،‬القدرة على أداء‬
‫ُحاول أن يعطي‬ ‫ٌ‬
‫وصف ي ِ‬ ‫تام‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫تجانس ّ‬ ‫اللّغوي‪ ،‬المزْج بين الصوت الطبيعي والصوت ُ‬
‫المستعار في‬
‫والحذَر والطفولة‪،‬‬
‫َ‬ ‫مقصراً‪« .‬بعض سرّها التقاء الطموح والقناعة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫صوت فيروز ح ّ‬
‫قه ولكنّه يبقى‬
‫كل الفنّانين يعيشون حياتهم إلى جانب عملهم الفنّي ّ‬
‫إاّل فيروز‪ ،‬حياتها‬ ‫والغموض والشفافي ّة‪ّ .‬‬

‫هــي فنّهــا‪ ،‬تتنسّ ــك له أكثر مــن الرهبان وتتحمّل في ســبيله أكثر ممّا يتحمّل القد ّيســون‪ .‬لقد‬
‫خَطفهــا صوتُهــا إليه قبــل أن َيخطفنا صوتُهــا»(‪ .((4‬حفظت فيــروز مئات القصائــد وأد ّتها ببراعة‪.‬‬
‫فجمعت في عبقري ّتها بين الحُبّ والحزن‪ ،‬الحكمة والوطني ّة‪،‬‬ ‫ْ‬
‫تذوّقــت الكلمات‪ ،‬وطربــت لوقعها‪َ ،‬‬
‫األلم والتّســبيح‪ .‬بغنائها‪ ،‬ال تســتعرض فيروز قدراتهـــا الصوتي ّة‪ ،‬فصوتها يدعــــو للتأمُّل‪ .‬موهبة‬
‫و الكلمة‬
‫تنقلك إلى ج ّ‬
‫َ‬ ‫ه َبها اللّه صوتاً رقيقاً وقوّة تعبير هائلة تستطيع أن‬ ‫ُ‬
‫وصوت عذب‪َ ،‬و َ‬ ‫نادرة‬
‫العربي إلخالصها لفنّها‬
‫ّ‬ ‫خاصاً فى العا َلم‬
‫ّ‬ ‫واللّحن في لحظات‪ .‬وشخصي ّة اكتسبت احتراماً كبيراً وحبّاً‬

‫حترم‪.‬‬ ‫ن الجاد ّ والفنّان ُ‬


‫الم َ‬ ‫ولوطنها ولقومي ّتها العربي ّة‪ ،‬وأيضاً لتقديمها نموذجاً للف ّ‬
‫مي على اللّحن‬ ‫الديني االبتعاد عن ترجيف الصوت منعاً لتســلّل الجــ ّ‬
‫و العا َل ّ‬ ‫ّ‬ ‫مــن مميّــزات الغنــاء‬
‫المقد َّس‪ .‬تقني ّة صوتي ّة اعتمدتها فيروز في التراتيل وفي األغاني ذات الطابع الديني‪ .‬هذا األسلوب‬
‫ٍ‬
‫كالم مقد َّس‪.‬‬ ‫من الغناء يتطلّب نفَ ساً أطول وتركيزاً في األداء‪ ،‬لكنّه يعكس الجدي ّة في أداء‬

‫في الختام‬

‫يقول الشاعر ورفيق الرحابنة وفيروز سعيد عقل‪« :‬في هذه الهنيهة‪ ،‬وأنا أكتب عمّا غنّت فيروز‪،‬‬
‫ّ‬
‫وضربــت علــى دف‪ ،‬وقالت من زجل وهي تترنّح أو تتشــيطن‪ ،‬يخي ّل ّ‬
‫إلي أ ّ‬
‫ن فيروز كانت‪،‬‬ ‫و َلعبــت‪َ ،‬‬
‫كل هذا‪ ،‬المقرّبة المقرّبة من اللّه‪ .‬تُصلّي دوماً؟ لرب ّما ال بالضبط‪ .‬ولك ْ‬
‫ن نعم بمعنى أن‬ ‫حتّى في ّ‬

‫ٍ‬
‫كالم ولح ٍ‬
‫ن جميل‪ ،‬إلى أداء‬ ‫تدعــوك دوماً إلى الصالة»(‪« .((4‬فأنت تســتمع مع صوت فيــروز إلى‬
‫ٍ‬
‫لفظ انصقل جي ّداً بمخارج الحروف»(‪ .((4‬هذا القول لمنصور رحباني‬ ‫لديهــا تبلــور مع األي ّام‪ ،‬وإلى‬
‫يلخّــص مضمــون هــذا المقــال‪ .‬إنّك مع صوت فيروز في صــاة وابتهال‪ .‬إنّك مع شــفافي ّة هذا‬
‫المالئكي في اتّصا ٍ‬
‫ل مباشــر مع الكون وأســراره‪ ،‬في لقاءٍ مقد َّس مع الخالق‪ .‬السرّ في‬ ‫ّ‬ ‫الصوت‬
‫يدفعك إلى التصفيق بل إلى الصمت والتأمُّل والخشوع والوقار‪.‬‬
‫َ‬ ‫صوتها‪ ،‬أنّه ال‬

‫‪181‬‬
‫د‪ .‬حنان ّ‬
‫قصاب حسن*‬

‫تلوَّنــت الشــخصي ّات التــي أد َّتها الســي ّدة فيروز فــي مســيرتها الطويلة وتنوّعت بحســب تطوُّر‬
‫شخصي ّتها كإنسانة وكامرأة‪ ،‬وبحسب تبل ْ ُ‬
‫ور إمكاني ّاتها كمؤد ّية وكفنّانة‪ .‬وقد كانت في الحياة‪،‬‬
‫ُ‬
‫المحب ّة والراعية لزوجها عاصي‬ ‫ووراء ميكروفون اإلذاعة‪ ،‬وعلى خشــبة المســرح‪ ،‬رهناً باإلرادة‬

‫درب الذي وا َك َ‬
‫ب َمسيرتها منذ‬ ‫ُ‬
‫والم ِّ‬ ‫المع ِّلم‬
‫لحن وكاتب الكلمات‪ ،‬وأيضاً ُ‬ ‫الرحباني الذي كان ُ‬
‫الم ِّ‬
‫ّ‬
‫احتل غي ُرها مثيال ً لها في الســاحة‬ ‫وحفَ َر لهــا مكانتها التي نادراً ما‬
‫ــم لهــا صورتها َ‬
‫س َ‬ ‫ور َ‬
‫البدايــة َ‬
‫الفني ّة العربي ّة‪.‬‬

‫كمغنّية‪ ،‬كانت فيروز طفل ًة ناعمة خجول‪ ،‬تهرب من اإلذاعة بعد انتهاء َدورها‬
‫في بداية انطالقتها ُ‬

‫في الغناء وتعود أدراجها إلى البيت‪.‬‬


‫ٍ‬
‫طبقــات رخيمة‬ ‫فاف‬ ‫ُ‬
‫خامــة صوتها الشــ ّ‬ ‫واكتســبت‬
‫َ‬ ‫مــع األيّــام نضجــت شــخصي ّتها وتبلْــورت‪،‬‬

‫ومتلونــة‪ُ ،‬مضافــاً إليها مزايا أخــرى يذكرها عاصي الرحباني حين يقــول‪« :‬صوتها كان يعجبني‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المرهف‪ ،‬وذكاؤها المتوقّد‪ ،‬والســرعة العجيبة التي كانــت تحفظ بها أ ّ‬
‫ي لح ٍ‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫وكذلــك حسّ ــها‬

‫وتؤد ّيه بدون غلط»(‪.((4‬‬


‫ٍ‬
‫اسكتشــات إذاعي ّة أم‬ ‫أمّــا الشــخصي ّات التــي أد ّتها فيــروز في األعمــال الدرامي ّة ســواء كانــت‬
‫مسرحي ٍ‬
‫ّات غنائي ّة فقد تنوّعت على مدى األعمال المسرحي ّة الرحباني ّة التي َعرفت تطوُّراً ملحوظاً‬

‫عام نمطي ّة‬


‫ّ‬ ‫ل‬
‫عبر الســنوات‪ .‬ففي األعمال األولى كانت جميع الشخصي ّات في المسرحي ّات بشك ٍ‬
‫عام ال‬
‫ّ‬ ‫مخط ٍ‬
‫ط‬ ‫ّ‬ ‫أحاديّــة األبعــاد‪ ،‬ثمّ صارت بالتدريج أكثر كثاف ًة وتنوُّعاً من ضمن حبكة تســير وفق‬

‫*أكاديمي ّة وناقدة مسرحي ّة من سوريا‬

‫‪185‬‬
‫ُســبب َقلقاً و َبلْبلة؛ يلي‬ ‫خارجي ي‬ ‫ٌ‬
‫حدث‬ ‫ٌ‬
‫وهادئ في البدايــة‪َ ،‬يخرقه‬ ‫وض ٌ‬
‫ع ُمســتقرٌّ‬ ‫يتغيّــر ّ‬
‫إاّل قليــا ً‪ْ :‬‬
‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫ْ‬ ‫واج ٌ‬
‫كشــف الحقيقة‪ ،‬فيخمد الصراع وتكون النهاية ســعيدة‬ ‫هــة أو صراع؛ وبعد ذلك يتمّ‬ ‫ذلــك ُم َ‬
‫(عدا بعض االستثناءات)‪.‬‬

‫وغالبــاً مــا تنطلق شــرارة الصراع مع قدوم شــخ ٍ‬


‫ص من بعيد‪ ،‬هو الغريب الذي يخشــاه الناس‬

‫ويعتقدونه شرّيراً جاء ليؤذيهم‪ ،‬لكنّه غالباً ما يظهر إنساناً طي ّباً في نهاية المسرحي ّة‪ ،‬أو يتحوَّل‬

‫من الشرّ إلى الطيبة‪.‬‬

‫وهنــاك طبعــاً الصبي ّة التــي تُمثّلها فيروز وتتنوّع شــخصي ّاتها بتغي ُّر الحبكة‪ ،‬لكنّها دائماً رســول‬
‫َ‬
‫عمل الشرّ‪.‬‬ ‫السالم والمحب ّة‪ ،‬وصاحبة الصوت الذي يسحر وي ِ‬
‫ُبطل‬

‫ُمقابــل الصبيّــة‪ ،‬نجــد دائماً ممث ّ َل الســلطة (الملــك‪ ،‬أو الوالــي‪ ،‬أو المتصــرّف‪ ،‬أو المختار‪ ،‬أو‬

‫الشــخص)‪ ،‬باإلضافة إلى شــخصي ّة الشــاويش أو القائد أو رئيس الحرس الذي يقف إلى جانب‬
‫ّ‬
‫الشــكاك الذي َينشر اإلشاعات أو‬ ‫الســلطة وين ّ‬
‫فذ أوامرها‪ .‬وهناك أيضاً شــخصي ّات ثانوي ّة مثل‬

‫الحذَر من مؤامرة‪ ،‬والعاشــقان البريئان‪ ،‬باإلضافة إلى بعض الشــخصي ّات‬ ‫ّ‬
‫الســكان على َ‬ ‫ُحرض‬
‫ي ِّ‬

‫و وتُثير َ‬
‫الم َرح‪.‬‬ ‫الفكاهي ّة التي ت ُ ِّ‬
‫رطب الج ّ‬
‫وفــي مســرحي ّات الرحباني‪ ،‬تَقع األحداث دائماً في الســاحة‪ ،‬مكان اللّقــاء والنقاش‪ ،‬كما في‬

‫العام المفتوح‬
‫ّ‬ ‫المســرح اليوناني القديم والمسرح الكالسيكي الفرنسي‪ .‬ضمن هذا المكان‬
‫واجهــة بين عا َلم الســلطة وعا َلم الشــعب (ص ّ‬
‫ح النــوم‪ ،‬ناطورة‬ ‫للجميــع‪ ،‬ترتســم أبعــاد ُ ُ‬
‫الم َ‬
‫وقطاع الطرق (اللّيل والقنديل)‪ ،‬بين َمن يريدون البقاء‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫المسالمين‬ ‫ّ‬
‫السكان‬ ‫المفاتيح)‪ ،‬بين‬

‫و‬ ‫ُّ‬
‫التنكر والحقيقــة (هالة والملك)‪ ،‬بيــن البلد والعد ّ‬ ‫ّ‬
‫(المحطة)‪ ،‬بيــن‬ ‫ومــن يرغبــون بالرحيل‬
‫َ‬
‫الخارجي (بترا‪ ،‬جبال الصوّان)‪ .‬وفي وسط هذه الثنائي ّة البنيوي ّة تقف الشخصي ّة الدرامي ّة التي‬
‫َ‬
‫النقيضي ْن‪ :‬فهي الفتاة المرصودة‬ ‫تُمثّلهــا فيروز في المكان الفاصل الــذي َيقع على الحد ّ بين‬
‫ِ‬
‫الواصــل بيــن قريتَي ْن؛ وهــي البعلبكيّــة علــى أدراج المعبد مكان‬ ‫بالســحر علــى جســر القمر‬
‫ّ‬
‫تتعطل ســي ّارتها على المفــرق بين قريتَي ْن؛ وهي بائعة‬ ‫لقــاء اآللهة بالبشــر؛ وهي الزائرة التي‬

‫القناديل في الخَيمة التي تَرســم الحدود بين نور القرية وبين عتمة الجرد؛ وهي «المســمّرة‬
‫ُ‬
‫المفاجئ كزوجة مســتقبلي ّة‬ ‫علــى خشــبة الشــب ّاك» بين حياتهــا الماضية البســيطة ومصيرهــا‬

‫للملك؛ وهي الملكة التي تقف على األســوار لتُجا ِبه روما؛ وهي البطلة المنذورة للبوّابة في‬

‫‪186‬‬
‫جبــال الصــوّان‪ .‬هــذه األماكن الحدوديّــة الفاصلة بيــن كيانَي ْن هي بمثابــة العتبة في طقوس‬

‫دد مراحل حياة اإلنســان‪ ،‬وقد ســلّم األخوان رحباني مقاليدها إلى الشخصي ّات‬
‫العبور التي تُح ِّ‬
‫التي تُمثّلها فيروز(‪.((4‬‬
‫مكان الفصل بين عا َل َمي ْن فقط‪ ،‬بل إنّها تُصبح هي نفسها تجسيداً‬
‫َ‬ ‫وال تشــغل هذه الشــخصي ّات‬
‫المبهمــة التي ال تنجلي ّ‬
‫إاّل في نهاية المســرحي ّة‪ :‬فهل ي ُمكن‬ ‫المتأرجحة ُ‬
‫للمتناقضــات بهوي ّاتهــا ُ‬
‫ُ‬

‫ن حارســة الغلّة‬ ‫أن تكــون بائعــة األقنعــة هي الملكــة ُ‬


‫الم َ‬
‫نتظرة (هالــة والملك)؟ وهل صحيح أ ّ‬

‫فتحول حقل‬
‫ِّ‬ ‫هي ســبب ســرقتها (اللّيل والقنديل)؟ َ‬
‫ومن هي وردة التي تمسك بمقاليد الحلم‬
‫ّ‬
‫محطة؟ وكيف تســتطيع قرنفــل العفريتة أن تجتازَ عتبة قصــر النوم لتنقل الختم‬ ‫البطاطــا إلــى‬

‫ومن وراء جرأة بائعة البندورة التي تخترق ســاحة االستقبال‬


‫من يد الوالي إلى أوراق الشــعب؟ َ‬
‫ومن هي لولو؟ ُمتَّهمة أم بريئة‪ ،‬عاقلة أم مجنونة؟ وهل غربة هي ابنة مدلج‬
‫بعر َبتِها؟ َ‬
‫َ‬ ‫الرسمي‬
‫فعال ً أم إنّها وه ٌ‬
‫ْم وكذبة؟‬
‫ُ‬
‫مســألة الرحيل أو البقاء في األرض اإلشــكالي ّ َة األهمّ‬ ‫ّ‬
‫تظل‬ ‫أمــام ّ‬
‫كل هــذه الهوي ّات غير األكيدة‬

‫ل دائم‪ ،‬نراها على الخشــبة‬ ‫فــي جميــع األعمال‪ .‬فالشــخصي ّات التي تُمثّلها فيــروز في حركة تن ُّ‬
‫ق ٍ‬
‫عائدة من ســفر‪ ،‬أو ُمنطلقة إلى ســفر‪ .‬نســمعها تتغنّى باألرض واالنتماء‪ ،‬لكنّها تبدو وكأنّها ال‬

‫أرض لها إذ ي ُكتب عليها الرحيل الدائم‪ ،‬ولذلك تُناســبها تماماً صفة الحارس‪ :‬حارســة المفاتيح‪،‬‬

‫حارسة الغلّة‪ ،‬حارسة الختم‪ ،‬حارسة الكنز‪ ،‬حارسة أموال القوافل‪ ،‬حارسة النذر‪ ..‬تماماً كما هو‬

‫حال األبطال في الحكاية‪.‬‬

‫ومثــل جميع األبطال في الحكاية‪ ،‬تبدو الشــخصي ّات التــي تؤد ّيها فيروز في كثير ٍ من األعمال‬

‫نفســها أو يصفها من حولها في مواقع عديدة بأنّها‬


‫َ‬ ‫وكأنّها محض خيال‪ .‬نســتمع إليها تَصف‬

‫نجمــة في الســماء‪ ،‬زهرة ُمســتحية‪ ،‬عصفــورة وحيدة‪ ،‬صوت الشــوارع‪َ ،‬طيــر القرميد‪ ،‬قنديل‬

‫الحــزن الوحيــد‪ ،‬الطفلــة اللّي ِربيــت بالهرب‪ ،‬زهرة الضعــف‪ ...‬وغير ذلك من الصفــات الجميلة‬

‫المرتكــزة علــى فكرة الهشاشــة‪ .‬وهذه الصفات تتشــابه مع الشــكل الفيزيائــي لفيروز ومع‬

‫حيائهــا وخَفرهــا؛ كمــا أنّهــا تُخرجها مــن النطاق البشــري لت ُ ِّ‬


‫كرســها ككائ ٍ‬
‫ن أثيــري ينتمي إلى‬
‫ٍ‬
‫إقنيم مختلف وال يشــبه أحداً‪ ،‬فتاة ُملت ِبســة مسحورة يأخذها القمر ب َليلة قمر ع جسر القمر‪،‬‬

‫وتدعوها اآللهة للســفر من بعلبك‪ ،‬ويحملها النذر للعودة إلى جبال الصوّان‪ .‬هي صبي ّة بعيدة‬

‫‪187‬‬
‫عــن الواقــع الملمــوس على الرّغم مــن انتمائهــا االجتماعي الذي يتكرَّس بحســب الد َّور(‪،((4‬‬

‫لكنّهــا فــي كثيــر ٍ من األحيان تولد من فــراغ‪ .‬ال ّ‬


‫أم لها وال ابن‪ ،‬وإن كان لها أبّ ‪ ،‬فهو قد مات‬

‫وت ََر َكهــا صغيــرة (بنــت الزغيرة اللّي كانت بــدالل بي ّا‪ ،‬كبرت بال بي ّا)‪ ،‬أو أنّــه ينكرها لينقذها من‬

‫دهِك الهنا‪ ،‬هنّي أقوى منّي‪ ،‬ســرقوكي‬


‫دهِك الغنى َن َ‬
‫الفقــر والفاقــة (ال يــا بنتي‪ ،‬ال يا هالــة‪َ ،‬ن َ‬
‫إنت بنتي)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫منّــي‪ ،‬ال أنا ب ِّيك وال‬

‫وفي مســرح الرحباني دائماً قوّتان تتصارعان‪ ،‬تم ِّثل األولى منهما الشــخصي ّة التي تلعبها فيروز‪،‬‬

‫وهي شخصي ّة إيجابي ّة مضحّية تدعو إلى الحبّ وت ُ ِ‬


‫مارس التأثير على اآلخرين بجمال صوتها‪.‬‬

‫المعاكســة فمتنوّعة ومختلفة التجلّيات ومتطوّرة بحســب تطوُّر المســرحي ّات‪.‬‬


‫أمّا القوّة الثانية ُ‬

‫ولئن كان َط َر ُف الصراع في المسرحي ّات األولى قوّة ميتافيزيقي ّة أسطوري ّة (السحر الذي ي ُمارسه‬

‫القمر في جسر القمر‪ ،‬واآللهة في البعلبلكي ّة)‪ ،‬فإنّه ال يلبث أن يصبح منظومة ملموسة أرضي ّة‬

‫بالمجتمع وأحياناً بالسلطة الحاكمة‪.‬‬


‫ُ‬ ‫تتمثّل أحياناً‬

‫ُمارس ضغطاً حقيقيّاً على الشــخصي ّة‪ ،‬فهو ال ينبذ وال‬ ‫ن ُ‬


‫المجتمع في المســرحي ّات األولى ال ي ِ‬ ‫لك ّ‬

‫وبلطف كمــا هو الحال في «اللّيــل والقنديل» لينتهي األمر‬


‫ٍ‬ ‫يلغــي وإنّمــا يكتفــي بالعتاب بحز ٍ‬
‫ن‬

‫بنهاية سعيدة(‪.((5‬‬

‫المجتمع تبدو أيضاً في مسرحي ّة «ميس الريم»‪ ،‬حيث تتّهم زي ّون‬


‫للمجا َبهة مع ُ‬
‫النهاية السعيدة ُ‬

‫بتصعيد األمور بين العاشــقَ ي ْن اللّذَي ْن َ‬


‫ســعت لجعْلهما يتصالحان‪ ،‬وينتهي العمل بتبديد االتّهام‬

‫وزواج العاشقَ ين لتُتا ِبع زي ّون طريقها بعيداً عن القرية‪.‬‬

‫وحتّــى فــي الحــاالت التــي يكــون فيها الصــراع مع الحاكــم أو الملــك أو الوالــي‪ ،‬وهو قوّة‬

‫ُممانعــة تُم ِّثل الســلطة‪ ،‬وعلى الرّغم من ظلم الحاكِ م واســتبداده ضمن المســرحي ّات‪ ،‬فإنّه‬

‫هشــاً للغاية تتبد َّد ســلطته بســهولة أو يتخلّــى عنها لمصلحة الشــخصي ّة‬
‫ّ‬ ‫فــي خواتيمهــا يبدو‬

‫نتصرة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الم ِ‬ ‫اإليجابي ّة‬

‫ــم وقتَه فيها نائمــاً ال يختم معامالت النــاس الضروري ّة‪،‬‬


‫ح النــوم» التي ي ُمضي الحاكِ ُ‬
‫ففــي «صــ ّ‬

‫تسرق قرنفل الختم وتُنجز معامالت الناس فيتنحّى الوالي عن العرش و َيترك لقرنفل أن ت ُ َ‬
‫تابع‬
‫َ‬
‫تصريف أمور الناس‪.‬‬

‫وفي مســرحي ّة «الشــخص»‪ ،‬ال يعلم الحاكِ م ما يحصل بين الناس‪ ،‬وبالتالي تتمّ تبرئته في حين‬

‫‪188‬‬
‫تُدان الطبقة التي تُحيط به والتي ت ُ ِ‬
‫مارس الظلم على الشعب البسيط وتَسحقه ( َبيع عربة بي ّاعة‬

‫البندورة وإحالتها إلى المحكمة)‪.‬‬


‫ٍ‬
‫قرارات تعسّ في ّة من‬ ‫وحتّى في «ناطورة المفاتيح»‪ ،‬حيث يتمثّل ُ‬
‫ظلم الحاكِ م بنهْب الشعب في‬

‫الملك‪َ ،‬يرحل أهل البلد تاركين لزاد الخير مفاتيح بيوتهم‪ ،‬فيقوم الملك بتوسُّ ــل عودة الناس‬

‫ألنّه انتهى ملكاً بال شعب‪.‬‬

‫األخوي ْن رحباني أو رب ّمــا بتأثير ٍ من‬


‫َ‬ ‫ل أخرى‪ ،‬رب ّما بســبب ْ‬
‫نضج الرؤية السياســي ّة لــدى‬ ‫فــي أعمــا ٍ‬
‫األوضــاع اإلقليميّــة المتفجّرة فــي المنطقة‪ ،‬صارت الحبكــة أكثر تعقيداً والقــوّة ُ‬
‫الممانِعة في‬
‫دد كيان البلد‪ ،‬وال يتمّ الخالص ّ‬
‫إاّل على حســاب تضحية كبيرة‪ .‬ففي‬ ‫واً خارجيّــاً ي ُه ِّ‬
‫المســرحي ّات عــد ّ‬
‫مســرحي ّة «بتــرا» تقــف الملكة شــكيال في وجــه روما وترفض الخضــوع البتزاز ٍ يطال التمسُّ ــك‬

‫باألرض فتفقد ابنتها بيترا لكنّها تربح الحرب‪.‬‬

‫حرض غربة أهل البلد على المقاومة وعدم االستسالم‪ ،‬لكنّها تُقتل على‬
‫وفي «جبال الصوّان» ت ُ ِّ‬
‫البوّابة التي ُقتل عليها أبوها‪ ،‬فيتراجع العد ّ‬
‫و وحده أمام قوّة إيمانها‪.‬‬

‫العام لجميع المسرحي ّات تقريباً ال تتغي َّر الغاية من العمل ومقولته التي‬
‫ّ‬ ‫ضمن هذا المخطط‬

‫تدعــو دائماً إلــى المحب ّة ونب ْذ الخالفات وتغليب التصالُح علــى القتال والصدام‪ ،‬وي ُبرَّر ذلك في‬
‫بلــد ٍ كان دائماً يتأرجح على شــفا حروبٍ أهلي ّة وخارجي ّة ليســقط فيهــا تارة ويخرج منها مجروحاً‬

‫تارة أخرى‪.‬‬

‫الممثّلة‬
‫ُ‬ ‫فيروز‬

‫هــذا التطــوُّر في الكتابة المســرحي ّة الــذي َج َع َل عنصر الشــرّ والظلم أقوى وأكثــر فتكاً‪ ،‬أد ّى‬

‫شــكل أداء فيروز؛ حيث أصبحت الشــخصي ّات التــي تلعبها أكثر دهاءً‬
‫ِ‬ ‫بالضــرورة إلــى تغيير ٍ في‬
‫و»مل ْ َعنَــة»‪ ،‬واألدوار التــي تؤد ّيها مع ّ‬
‫قــدة فيها فكاهة وتتطلَّب مهــارة‪ .‬يعود ذلك إلى تطوُّر‬ ‫َ‬
‫كمم ِّثلة‪ .‬صحيح أنّها فــي مقابالتها النادرة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وتمكنها من األداء المســرحي ُ‬ ‫شــخصي ّتها كامــرأة‬

‫وفي إطاللتها على الجمهور للتحي ّة في المســرح ظلَّت دائماً قليلة االبتســام مرفوعة الرأس‬
‫دق في الفراغ‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن أوّل دخول لها إلى الخشــبة‬ ‫ال تنظــر إلــى جمهورهــا وهو يصفِّ ق‪ ،‬بــل تُح ِّ‬
‫كان فــي معظم المســرحي ّات يتــمّ بطريقة ٍ غير متوقَّعــة تُثير عاصفة التصفيــق لدى الجمهور‬

‫المبهــور بأدنــى حركة تقوم بها فيروز‪ ،‬فما بالك حين تدخل شــخصي ّة زاد الخير للمرّة األولى‬

‫‪189‬‬
‫علــى الخشــبة فــي مســرحي ّة «ناطــورة المفاتيح» وهــي تصرخ مــن الكواليــس موجوعة من‬

‫عتِلّي إيدي»؛ أو حين تقطع‬


‫القبضة القوي ّة التي تمســك بها‪« :‬إيدي إيدي يا حضرة القايد وجَّ ْ‬

‫قرنفــل الحــوار الــذي يفيــد بــأ ّ‬


‫ن الوالي يختــم ثالث معامــات فقط فــي الشــهر فتدخل إلى‬

‫المســرح مــن الكواليس وهي تصــرخ «تركيـــــــــــــبة!!!» ُمعلنــ ًة بذلك عن شــخصي ّتها الرافضة‬

‫والناقــدة والمتمــرّدة‪ُ ،‬م ِ‬


‫عترض ًة على ما يقبله الجميع‪ .‬أمّا دخول بي ّاعة البندورة بالنداء الطري‬

‫الغنــج «فــي معنا بنــدورة»‪ ،‬فيتناقــض تماماً مع الحــوار المنمّق لســي ّدات المجتمع اللّواتي‬
‫ٍ‬
‫لسنوات بعد‬ ‫ّ‬
‫ظل هذا النداء يترد ّد على شــفاه الناس‬ ‫حضر ْن لترتيب اســتقبال الشــخص‪ .‬وقد‬

‫انتهاء المسرحي ّة‪.‬‬

‫كذلــك تلــوَّن أداءُ فيروز كلّه بشــيء من الفكاهــة التي يتطلّبها الد َّور كما هــو الحال في حديث‬
‫ّ‬
‫اســماّل قد ّيش‬ ‫بي ّاعــة البندورة مع الشــخص الــذي يهابه الجميع (لمّا عرفتك جاية نوَّرت العياد‪،‬‬

‫صاير في عندك والد؟)‪.‬‬

‫ن معظم مســرحي ّات الرحباني كانت مســجَّلة‪ ،‬ي ُعيد الناس االستماع إليها مراراً وتكراراً بعد‬
‫وأل ّ‬
‫ّ‬
‫أدق ممّا يحصل في المســرح‪ ،‬حيث‬ ‫ل‬ ‫انتهــاء عرضهــا‪ ،‬وأل ّ‬
‫ن األذن تلتقــط تلوّنــات الصوت بشــك ٍ‬
‫الب َصر‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن األداء الصوتي لفيروز يبدو في هذه التسجيالت في قمّة بهائه‬ ‫تكون السيادة لحاسّ ة َ‬
‫الجذْب إلى ســماع المســرحي ّات مراراً وتكراراً هو صوتها‬
‫ن ســرّ َ‬ ‫ّ‬
‫شــك في أ ّ‬ ‫واكتمال نبراته‪ .‬وال‬

‫الذي يتغي ّر ويختلف بدرجاته ونب ْرته ولهْجته بين الخوف الهامِ س والبريء في حوارها مع الوالي‬

‫ح النوم‪ ،‬إلى إطالقها (من خالل شــخصي ّة زاد الخير) الجُمل بســرعة ٍ خارقة في الحديث مع‬
‫في ص ّ‬

‫الممثّلين التراجيدي ّين (بر ْقص بغنّي‬


‫ُ‬ ‫قائد العسكر في ناطورة المفاتيح‪ ،‬وتقليدها الساخر ألداء‬

‫وأنت يا بحّار الصحراء البعيدة‪.»....‬‬


‫َ‬ ‫بمثّل‪ :‬أي ّتها الشمس‪ ،‬أي ّها اللّيل‪،‬‬

‫هنــاك باإلضافــة إلى ذلك طبعاً طراوة وعذوبة الحزن فــي «يا جيراني بخاطركم»‪ ،‬والنبرة اآلمرة‬

‫لغربــة العائــدة لتخليــص البلــد بعد غيابٍ فــي جبال الصوّان‪ ،‬وصــوالً إلى هدهــدة الوالي بأغاني‬

‫ن آخر كلمــة في التهليلة حين‬ ‫ْ‬


‫والتشتَشــة»‪ ...‬ال بل إ ّ‬ ‫ْ‬
‫والتشتَشــة‬ ‫األطفــال «نــام يا والينا نام‪....‬‬

‫تقــول للوالــي «نــااااام» تحمل فــي طياتها رجــاءً وتهديداً ونفا َذ صبــر ٍ وخوفاً فــي آن معاً‪ ،‬وال‬
‫ٍ‬
‫وصوت بجمال‬ ‫يستطيع أن يرسم ّ‬
‫كل هذه التدرُّجات في كلمة واحدة سوى مغني ّة ٍ ببراعة فيروز‬

‫صوتها‪ .‬اسمعوها واحكموا بأنفسكم‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫وشــغلت الناس‪ .‬صوت ال مثيل له يســحر ويأخذ باللّب وي ِّ‬
‫ُعبر‬ ‫تلــك هــي فيروز التي َمألت الدنيا َ‬
‫ّ‬
‫وســيظل‬ ‫ويتلــوَّن ل َيحمــل في طي ّاته جميــع المواقف األدائي ّة والقدرة على َل ِ‬
‫عب جميع األدوار‪.‬‬

‫صوتها في المسرحي ّات‪ ،‬باإلضافة إلى صوتها في األغنيات رفيقنا في صباحاتنا وفي أسفارنا‪ ،‬نحن‬
‫الذين واكبنا َّ‬
‫كل أعمالها‪ ،‬ويملؤنا َفخراً أنّنا كنّا من جيل فيروز‪ ،‬وأنّنا رأيناها وسمعنا صوتها في‬

‫المسارح التي ازدانت بحضورها‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫غسّ ان الشهابي*‬

‫ديْــن مــن الزمان‪ ،‬ركّــب الرحابنة أيقونــة فيروز الغنائيّــة‪َ ،‬‬


‫وصنعا منها شــخصي ّ ًة‬ ‫علــى مــدى عق َ‬
‫اســتطاعا أن ي ُســ ِبغا عليها هال ًة من السحر والغموض‪ ،‬ســواء في حياتها الفني ّة أو الشخصي ّة‪،‬‬
‫لــوال بعض ُ‬
‫المشــاغبين مــن الصحافي ّين الفني ّين الذيــن كانوا يحومون حــول الحمى الرحباني‬
‫مــن جهــة‪ ،‬وثقل األســرار على خزائن بعــض الناس من جهــة أخرى‪ ،‬إذ تفلَّتــت بعض القصص‬
‫الصحف الســير َة الذاتي ّة لألسرة المؤلَّفة‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫لتتلقف‬ ‫واإلشــاعات واألكاذيب والحقائق في آن معاً‪،‬‬
‫مــن عاصــي وفيروز واألبناء‪ ،‬فيما صــارت القصص أكثر انفتاحاً في الخَــوض في خالفات الجيل‬
‫الثاني من هذه المؤسّ سة الفني ّة التي تتنازع اإلرث الرحباني العريض‪.‬‬

‫الكثير من النجاح على الصعيد الفنّي‪ ،‬إذ عملت‬


‫َ‬ ‫لقي‬
‫َ‬ ‫النجاح على الصعيد الشــخصي‪،‬‬
‫َ‬ ‫يلق‬
‫وما لم َ‬
‫ل من تلمُّس مواطئ األقدام ومعرفة ما ستؤول إليه األمور‪ ،‬فجرى‬ ‫بحس عا ٍ‬
‫ٍّ‬ ‫ُ‬
‫سة الفني ّة‬ ‫المؤسّ‬
‫ّ‬
‫أقل من رمز ٍ نعم‪ ،‬ليس على الصعيد الغنائي فقط‪،‬‬ ‫م الشخصي ّة الفني ّة لفيروز لتكون رمزاً‪ ،‬ال‬
‫رسْ ُ‬
‫ألي من ُ‬
‫المغريات في الجانب‬ ‫ٍّ‬ ‫ككل‪ .‬ولكي تُصبح رمزاً‪ ،‬عليها ّ‬
‫أاّل تنزاح‬ ‫ّ‬ ‫وإنّما في الوجدان العربي‬
‫األخوي ْن رحباني‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫زعيم عربي‪ ،‬مع تصريحــات‬ ‫ٍ‬
‫رئيــس أو‬ ‫ي‬ ‫ً‬
‫مثال‪ ،‬أل ّ‬ ‫تغــن فيروز‬
‫ِّ‬ ‫المؤسّ ســاتي‪ ،‬فلــم‬
‫نظام سياسي‪ ،‬ولكنّهما ‪ -‬ومعهما نهاد حد ّاد – قرَّروا تجنيب «فيروز»‬
‫ٍ‬ ‫بأنّهما ليسا مع أو ضد ّ أ ّ‬
‫ي‬
‫لزعيم أو حزبٍ أو أي ّة طائفة محد َّدة‪ ،‬األمر الذي لم يستنكفه الكثي ُر من الفنّانين في ذلك‬
‫ٍ‬ ‫الغناء‬
‫انغمــس فيه أكثرهم في هذا الزمان‪ .‬غنَّت فيروز لمصر «مصر عادت شمســك‬
‫َ‬ ‫الزمــان‪ ،‬والــذي‬

‫*كاتب من البحرين‬

‫‪192‬‬
‫ّ‬
‫ومكة‪،‬‬ ‫و«شــط اســكندري ّة»‪ ،‬وللشام «يا شام‪ ‬عاد الصيف»‪ .‬كما غنَّت لبغداد‪ ،‬وعمّان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الذهب»‪،‬‬
‫صــدور تلك الدول والعواصــم التي تبقى بينمــا زعماؤها يرحلون‪،‬‬
‫َ‬ ‫والقــدس‪ ،‬األمــر الذي َّ‬
‫رص َع‬
‫وأحزابها تتغي َّر‪ ،‬والموازين تنقلب‪ ،‬وتبقى أغنية فيروز حي ّ ًة خارج حدود الزمان‪.‬‬
‫وضع دستور ٍ صارم ّ‬
‫بأاّل تغنّي فيروز وأمامها طاوالت للطعام والشراب‪ ،‬إذ الغناء لديها‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫كما تمّ‬
‫ْ‬
‫ونجحت فيروز والمؤسّ سة‬ ‫ليس ممّا «ي ُتن َّ‬
‫قل» به كما تقول العرب‪ ،‬أو ما يسمّى اليوم «مازة»؛‬
‫في ف ْ ِرض هذا القانون الذي تمّ احترامه وبشــك ٍ‬
‫ل بالِغ الصرامة‪ ،‬ولنا أن نتخي َّل كم من المرّات‬
‫ــط َر»‬ ‫ــر هذه القيود للذّة كَسْ ــر القيود رب ّما‪ ،‬ولم تســتطع‪ ،‬وهذا ما َ‬
‫«أسْ َ‬ ‫ٌ‬
‫جهات كسْ َ‬ ‫التي حاولت‬
‫ِ‬
‫وأطال ُعمر األيقونة حتّى اليوم‪.‬‬
‫َ‬ ‫البهي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حضور فيروز‬
‫َ‬
‫َ‬
‫الدخول في‬ ‫عــد األغنية وحدها تســتوعبه‪ ،‬فأرادا تَجاوزهــا‪ ،‬فجرّبا‬ ‫ُ‬
‫اإلبــداع الرحباني ولم َت ُ‬ ‫َ‬
‫فــاض‬
‫المغنيَّــات واالسكتشــات والمســرحي ّات‪ ،‬وهذا يتطلَّــب أن تكون فيروز جزءاً مــن التفا ُعل على‬
‫اختيار الشــخصي ّة األكثر مثالي ّة لفيروز‪ ،‬حتّى‬
‫ِ‬ ‫ترســم شــخصيَّتَها‪ ،‬فلم يترد ّدوا في‬
‫َ‬ ‫المســرح‪ ،‬وأن‬
‫تبقــى فــي عيون جمهورهــا‪ :‬محبوبة‪ُ ،‬مها َبة‪ ،‬عزيزة‪ ،‬رفيعة‪ ،‬ســامية‪ ،‬ال تَقع فــي براثن الحبّ ‪ ،‬بل‬
‫حتّــى أنّهــا ال تتــزوّج في ٍّ‬
‫أي من مســرحي ّاتها‪ ،‬ما عدا في آخر مســرحي ّاتها «بتــرا» التي يظهر فيها‬
‫د هذا المســرح لكي تكون‬ ‫زوجها الملك لِماماً‪ ،‬ويختفي من على الخشــبة وكأنّه لم ُ‬
‫يكن‪ .‬واجته َ‬
‫شــخصي ّة فيــروز أقرب مــا تكون إلى شــخصي ّة البطل التراجيــدي التي هي شــخصي ّة محوري ّة في‬
‫النص المسرحي‪ ،‬تُم ِّثل الق َي َم اإلنساني ّة في عا َلمي ّتها‪ ،‬وتتمي َّز بالقيام بالفعل الدرامي عن طريق‬
‫ّ‬
‫األحداث بإرادة ٍ صلبة واختيار ٍ حرّ‪ ،‬كما يجري تعريفها أكاديميّاً‪.‬‬
‫دد أرسطو أربعاً من مالمح الشخصي ّة التراجيدي ّة‪ ،‬منها‪ :‬بناء الشخصي ّة‬ ‫في كِ تاب «ف ّ‬
‫ن الشعر» ي ُح ِّ‬
‫على الق َيم االنساني ّة التي تُفصح عنها األفعال‪ ،‬وأن تكون شبيهة بالواقع‪ .‬أي أ ْ‬
‫ن تكون الشخصي ّة‬
‫خاصة بها كالغضب مثال ً‪ ،‬فإنّه يجب‬
‫ّ‬ ‫معبرة عن طبيعة اإلنســان الواقعي ّة‪ ،‬حتّى وإن كانت له صفة‬
‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫ألناس أفاضل‬ ‫ٌ‬
‫حــاكاة‬ ‫أن يتّفــق مــع صفــة هــذا البطل كما في «أوديــب»‪ ،‬وبمــا أ ّ‬
‫ن التراجيديا ُم‬
‫ن كانوا‬ ‫ص علــى قدر ٍ كبير ٍ مــن األهمي ّة‪ ،‬فينبغي تصويرهم أحســن ممّا ُ‬
‫هم عليــه‪ ،‬وإ ْ‬ ‫أو ألشــخا ٍ‬
‫ُمشابهين للحياة الواقعي ّة‪.‬‬
‫ّ‬
‫خاصة تعلو على اآلخريــن‪ ،‬بما يمتلكون من‬ ‫ٍ‬
‫بصفــات‬ ‫ن أبطــال التراجيديــا ُ‬
‫هــم الذين يتفرّدون‬ ‫إ ّ‬
‫وشجاعة في اتّخاذ القرارات‪ ،‬ومن ثمّ تحمُّل مصيرهم الحتمي‪ّ .‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن الهفوات التي‬ ‫إرادة ٍ قوي ّة‪َ ،‬‬

‫يقعون فيها‪ ،‬وهو خطأ مأساوي غير مقصود‪ ،‬أو زلّة ما‪ ،‬هي التي تُح ِّ‬
‫دد مصيرهم‪.‬‬
‫والمحــور الذي ال يكاد يغيب‬
‫َ‬ ‫والقص َة‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫بقيت فيروز الشــخصي ّ َة التراجيدي ّة‬ ‫فــي المســرح الرحباني‪،‬‬

‫‪193‬‬
‫عن الظهور والحضور‪َ ،‬أتت في شخصي ٍ‬
‫ّات عديدة‪ ،‬منها التاريخي‪ ،‬والسياسي‪ ،‬واالجتماعي؛ فكانت‬
‫والمتســلّطين وأكثرهم شراسة‬
‫ُ‬ ‫ناضلة ضد ّ الظلم‪ ،‬المســتعد ّة للوقوف أمام أعتى األباطرة‬ ‫ُ‬
‫الم ِ‬
‫كالملك في مسرحي ّة «ناطورة‬
‫َ‬ ‫وعنفاً ودموي ّة‪ ،‬كما في «جبال الصوّان»‪ ،‬أو أكثرهم جنوناً ورعون ًة‬
‫المفاتيح»‪ ،‬و«ص ّ‬
‫ح النوم»‪.‬‬
‫نستعرض عدداً من المسرحي ّات التي مثَّلتها فيروز لنتعر ََّف إلى األدوار التي أد َّتها فيها‪ ،‬وطبيعتها‪:‬‬
‫ِ‬
‫فل ْ‬

‫جســر القمر (‪« :)1962‬الفتاة المسحورة» التي تَستخدم ذكاءها وصوتَها الغنائي الساحر البديع‬
‫للصلح بين قريتَي ْن طال الصراع بينهما‪ُ ،‬مستخدِم ًة حيال ً طريفة لذلك‪.‬‬
‫اللّيــل والقنديــل (‪« :)1963‬منتورة»‪ ،‬التي تَحرس خيم ًة تُباع فيها قناديل يصنعها أهالي الضيعة‪،‬‬
‫كيس أبيض يعلَّــق في زاوية الخَيمة‬
‫ٍ‬ ‫جاورة‪ .‬وكانت تَضــع (الغلّة) في‬ ‫الضيــع ُ‬
‫الم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ويبيعونهــا إلــى‬
‫يمس الكيس لفرط األمان حيث يُقسَّ ــم المال بين أهالي الضيعة‬ ‫ّ‬ ‫حتّى نهاية َ‬
‫الموســم‪ ،‬وال أحد‬
‫ل «هولــو» الذي كان قد‬ ‫غنائــي وراقِص ُقبيــل العيد‪ ،‬ولك ّ‬
‫ن الغلّة تُســرق من ق َِب ِ‬ ‫ّ‬ ‫ضمــن احتفــا ٍ‬
‫ل‬
‫ســبق لـ «منتورة» أن ســاعدته على االختباء‪،‬‬
‫َ‬ ‫وقطع الطرق‪ ،‬وألنّه‬
‫ْ‬ ‫تعــرَّض للظلــم واضطرَّ للهرب‬
‫يعود لي ُرجِ ع إليها الكيس بعدما شــعر بمقدار األلم الذي تُعانيه من نظرة األهالي إليها بســبب‬
‫تفريطها باألمانة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أيّــام فخــر الد ّين (‪« :)1966‬عطر اللّيل» ُ‬
‫المغنّية التي ت ِ‬
‫لهب الجمهور بصوتها العذب‪ ،‬والتي كانت‬
‫تُسانِد فخر الد ّين في وقوفه ضد ّ رغبة السلطة العثماني ّة في الحد ّ من صالحي ّاته‪.‬‬
‫هالة والملك (‪« :)1967‬هالة» وأبوها يبيعان أقنعة عيد «الوجه الثاني»‪ ،‬لك ّ‬
‫ن الملك ي ُلغي العيد‪،‬‬
‫ن أمير ًة ســتأتي هذا العيد وســيتزوّجها‪ ،‬ويصرّ على أنّها هالة (فيروز)‪ ،‬ولكنّها‬
‫ن نبوءة قالت إ ّ‬
‫أل ّ‬
‫ن ُ‬
‫المحيطين بالملك كانوا عبارة‬ ‫تنكر في زي شحّاذ – وأ ّ‬ ‫ترفض ذلك وتُخبره َّ‬
‫قصتها – بينما هو ُم ِّ‬
‫ُعجب بها الملك ويقوم باإلصالحات‪ ،‬ولكنّها ت ُ ِّ‬
‫فضل العودة‬ ‫عن بطانة ٍ فاسدة َعزَ َلت ْ ُه عن الشعب‪ ،‬ي َ‬
‫إلى قريتها مع أبيها فقير ًة ُمع َ‬
‫دمة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مســؤول‬ ‫ل غير رســمي من «الشــخص» – وهو‬
‫الشــخص (‪ :)1968‬الفتــاة البي ّاعــة تطلب بشــك ٍ‬
‫رفيع كان األهالي قد رتَّبوا له برنامجاً ُمحكماً لالســتقبال بحســب البروتوكول ‪ -‬أن يشتري منها‬
‫منظمو احتفال استقبال الشخص أنّها مدسوسة من‬
‫ِّ‬ ‫طماطم (بندورة) إلطعام إخوتها ف َيعتبر‬
‫جهــات خارجيّــة‪ ،‬وتُحا َكم‪ ،‬ولكنّها تلتقيه تالياً لتَكتشــف َكم هو إنســان اعتيادي‪ ،‬ولك ّ‬
‫ن ُمقتضيات‬ ‫ٍ‬

‫الوظيفة َوضعت بينه وبين الناس حواجز‪.‬‬


‫الصــوّان (‪« :)1969‬غربــة» ابنة مِ دلج زعيم جبال الصوّان الذي قتلــ ُه عد ّ‬
‫و ُه الغاصب للجبال‪،‬‬ ‫جبــال ّ‬

‫‪194‬‬
‫ّ‬
‫وبث الحماســة فيهم وإيقاظ روح االنتماء‬ ‫ْع الناس من حولها‬
‫تعود من جديد وتعمل على جم ِ‬
‫لتحرير بالدهم‪ ،‬وتُطلِق صيحتها التي اشــتهرت في هذه المســرحي ّة‪« :‬ما تخافوا‪ ..‬ما في حبوس‬
‫كل الناس‪ ..‬بيعتقلوا كتير‪ ،‬وبيبقوا كتير‪ ..‬وباللّي بيبقوا رح بنكمل»‪.‬‬
‫تساع ّ‬

‫يعيــش يعيــش (‪« :)1970‬هيفاء» التي تعيش مع جد ّها على الحدود في هدوء وتُراقِب األوضاع‬
‫ــر‬
‫س َ‬ ‫ب زوجته و َك َ‬ ‫َّ‬
‫تنكر واختَبأ لديهم على أنّه َض َر َ‬ ‫التــي تغيَّــرت بعد انقالبٍ َأطاح باإلمبراطور الذي‬
‫ب من الشرطة‪ ،‬ولكنّه يتعرَّف إلى مجموعة من الخارجين على القانون الذين‬ ‫هار ٌ‬
‫ِ‬ ‫يد حماته وأنّه‬
‫د‬ ‫ُ‬
‫شهوة السلطة ليج َ‬ ‫يســتعينون به لكتابة بيا ٍ‬
‫ن لالنقالب على ســلطة االنقالب‪ ،‬فتنمو في داخله‬
‫عد إمبراطوراً‪ ،‬بل غدا ثائراً‬
‫بزي آخر إذ لم َي ُ‬
‫ٍّ‬ ‫صار زعيماً لالنقالبي ّين ويعود إلى الحُكم‬
‫َ‬ ‫نفسه وقد‬
‫َ‬
‫يبدأ بيانه األوّل بـ«بعد االتّكال على اللّه والشعب»‪.‬‬
‫إصالح ســقف َبيتها قبل أن يأتي الشــتاء‬
‫ِ‬ ‫قها في‬‫ح النوم (‪« :)1971‬قرنفل»‪ ،‬التي تبحث عن ح ّ‬ ‫ص ّ‬
‫ليختم ثالث ُمعامالت فقط قبل أن‬
‫َ‬ ‫بينما الوالي ينام طيلة الشهر وال يصحو ّ‬
‫إاّل ليلة اكتمال البدر‬
‫وتختم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫لتسرقه‬ ‫يعود إلى النوم من جديد‪ .‬فتقتنص «قرنفل» فرص َة وجود الختم في تلك اللّيلة‬
‫به ُمعاملتها ُ‬
‫ومعامالت أهالي الضيعة‪.‬‬
‫ناطورة المفاتيح (‪« :)1972‬زاد الخير»‪ ،‬الفتاة التي يأتمنها الناس على مفاتيح بيوتهم ألنّهم ي ُغادرون‬

‫نفسها وحيد ًة في ُم َ‬
‫واجهة الملك الوحيد‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َمملكتهم بعدما أرهقهم الملك بالضرائب‪ ،‬فتَجِ د ُ‬
‫ناس من ورق (‪« :)1972‬ماريا» تقود فرقة فني ّة في جولة ٍ اســتعراضي ّة‪ ،‬ولك ْ‬
‫ن لســوء ّ‬
‫حظها أنّها‬
‫الناس في مهرجا ٍ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ليجمع‬
‫َ‬ ‫خط َط‬ ‫الم َّ‬
‫رشــح األقوى قــد َّ‬ ‫تنــزل في بلدة تجري فيها انتخابات‪ ،‬حيث ُ‬
‫َّ‬
‫المرشــح بماريا وتجري‬ ‫خطابــي‪ ،‬بينمــا الفرقة لم ُ‬
‫تكــن تريد إلغاء برنامجهــا الغنائي‪ ،‬فيصطدم‬
‫ساجالت‪.‬‬
‫َ‬ ‫بينهما ُم‬
‫وصل القطار‪ ،‬ولم ُ‬
‫يكن هناك‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫المحطة (‪« :)1973‬وردة» الفتاة الغريبة التي تَطرح سؤاالً عمّا إذا‬
‫ّ‬
‫محطة‪ ،‬فاشــترى الناس‬ ‫وقيام‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫أحالم بوصول قطار‬ ‫ُ‬
‫الســؤال إلى‬ ‫قطار‪ ،‬ولكن ســرعان ما تحو ََّل‬
‫على أساس هذه األحالم وباعوا وسافروا بأحالمهم‪ ،‬وبقيت «وردة» على باب االنتظار كما أتت‪.‬‬
‫لولو (‪ :)1974‬تأتي قضي ّة العدالة‪ ،‬حيث تُتَّهم «لولو» بقضي ّة قتل لم ترتكبها‪ ،‬وتخرج بعد سنوات‬
‫كل َمن َظ َل َمها‪ ،‬وتُثير بذلك المخاوف‪.‬‬
‫صممة على االنتقام من ِّ‬
‫الحُكم وهي ُم ِّ‬
‫إصالح ذات البين بين عائلتي ْن‪ ،‬وتَنجح في نهاية‬
‫َ‬ ‫َميس الرّيم (‪« :)1975‬زي ّون» الغريبة التي ت ُ ِ‬
‫حاول‬
‫«ميس الرّيم» وهي في طريقها إلى قرية «كحلون» إليصال‬ ‫َّ‬
‫المطاف بعد أن توقفت سي ّارتها في َ‬
‫فستان عرس ابنة خالتها‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫بترا (‪ :)1977‬شــخصي ّة‪ ‬الملكة «شــاكيال» التي تحمي كرامة بالدها وال ترضخ للرومان‪ ،‬على الرّغم‬
‫من اختطافهم ابنتها وتصمد إلى حين عودة زوجها من فتوحاته التي انتصر فيها عليهم‪.‬‬
‫ح الرحباني على إظهار فيــروز قريب ًة من الناس‪ ،‬إذ تأتــي غالباً من طبقاتهم‪،‬‬
‫حــرص المســر ُ‬
‫َ‬ ‫لقــد‬
‫جزءاً منهم‪ ،‬فقيرة‪ ،‬صانعة‪ ،‬صاحبة دكّان‪ ،‬بائعة‪...‬إلخ‪ .‬ولم تظهر في َدور ملكة ّ‬
‫إاّل في مسرحي ّتها‬
‫األخيرة (بترا)‪.‬‬
‫تعاطف الجمهور الذي كان في تلك الفترة يشــهد تغي ٍ‬
‫ّرات سياســي ّة واجتماعي ّة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فكانت تكســب‬
‫وســط سلســلة حروبٍ وهزائم وانقالبات وتغي ُّر أنظمة الحُكم في أكثر من دولة عربي ّة ُمحيطة‬
‫كمصر والعراق وسوريا‪.‬‬
‫في هذه المســرحي ّات‪ ،‬ال تَرتكب فيروز بشــخصي ّاتها المســرحي ّة األخطــاءَ أو الخطايا ّ‬
‫إاّل «الروبن‬
‫ح النّوم»‪ ،‬التي‬
‫هودي ّة» منها‪ ،‬التي تَخدم من خاللها غيرها‪ ،‬كما في شــخصي ّتها في مســرحي ّة «ص ّ‬
‫أد َّت فيها َدوراً كوميديّاً في معظمه ‪ -‬وذلك بعدما قد َّمت سلســل ًة من الشــخصي ّات التراجيدي ّة‬
‫فــي أكثر من ســبع مســرحي ٍ‬
‫ّات معروفة‪ ،‬وكانــت حينذاك قد تجاوزت منتصــف العقد الثالث من‬
‫كتشــف أنّها‬
‫َ‬ ‫العمــر ‪ -‬فهــي هنا «تســرق» خِتــم الحُكم من أجل إصالح ســقف منزلها‪ ،‬وحتّى ال ت ُ‬

‫صاحبــة الخِتم الرّابع‪ ،‬قامــت بخَت ْ ِ‬


‫م جميع المعامالت األخرى‪ ،‬فانتعشــت الضيعة وتعمَّرت‪ ،‬وتمَّ‬
‫شق الجداول وبناء القناطر وغيرها‪ ،‬قبل أن تُكتشف أنّها صاحبة هذه الفعلة وتجري ُمحاكمتها‪.‬‬
‫ّ‬

‫في هذه المســرحي ّة تدور حواري ّة ســاخنة بين قرنفل (فيروز)‪ ،‬وشــاكر الكندرجي (إيلي شويري)‪،‬‬
‫ْل «قرنفل» تمشــي حافيةً‪ ،‬ألنّه صانع األحذية الوحيد في الضيعة‪،‬‬
‫دد «شــاكر» بجع ِ‬
‫وتنتهي بأن ي ُه ِّ‬
‫فتــرد ّ عليــه‪« :‬روح يا بال مربى»‪ .‬هذه العبارة العابرة وشــبه اليومي ّة رب ّمــا في حياة الناس الذين‬
‫تر أنّه‬
‫ال يريــدون االنــزالق إلى الســوقي من األلفاظ‪ ،‬لق َيت انتقاداً مــن الصحافة آنذاك التي لم َ‬
‫الاّلئق صدور مثل هذه العبارة على لســان األيقونة التي ال يتوجَّب أن ي ُســمع منها ّ‬
‫إاّل أرقى‬ ‫من ّ‬

‫ِ‬
‫المناسبة أللفاظ الطبقة البرجوازي ّة‪.‬‬ ‫العبارات‬

‫وكذلك يرتبك المشهد بالنسبة إلى األيقونة في مسرحي ّة «لولو»‪ ،‬التي تُتَّهم زوراً بقت ْ ِ‬
‫ل يونس‪،‬‬
‫ولكنّها تخرج قبل نهاية مد ّة الحبس (‪ 15‬عاماً) بشــهر ٍ واحد بعد أن يكتشــف القاضي أنّها بريئة‪،‬‬
‫ثمن‬
‫َ‬ ‫فتعود لتنتقم من أهالي ضيعتها الذين شــهدوا عليها زوراً‪ ،‬وهي تر ِّدد أنّها دفعت ســلفاً‬

‫ل لم ترتكب ْها‪ ،‬وبالتالي فإنّها ستقوم بقتل أحد األهالي‪ ،‬ويأتي هذا في إطار ٍ يراوح بين‬
‫جريمة قت ٍ‬
‫ي والتراجيديّ‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن مجرّد تلويح فيروز بالقتل ينطوي على تغيير وانزياح عن‬ ‫الكوميد ّ‬
‫دي ْن من الزمان غناءً وتمثيال ً‪ ،‬مســرحاً وسينما‪،‬‬
‫الشــخصي ّة التي تمَّ العمل على ســب ْكها طيلة عق َ‬

‫‪196‬‬
‫فضــا ً عــن عدد ٍ من المشــاهد التمثيلي ّة األخــرى‪ّ .‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن هذه «الفلتات» رب ّما المدروســة أو غير‬
‫المدروســة‪ ،‬مــا كانت لتخدش الصورة الكبرى لفنّانة ٍ في حج ِ‬
‫ْــم فيروز جرى ّ‬
‫رص مكوّناتها بعناية‬
‫فائقــة‪ .‬وهــذا ما «أزعج» الكثيرين من ُمحب ّي فيروز الرحابنة عندما أخذها ابنها زياد إلى الشــارع‬
‫شتركة بعد االنفصال عن عاصي‪ ،‬والمؤسّ سة الرحباني ّة بعامّة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫في أعمالهما‬
‫البناء الغنائي والمسرحي ُ‬
‫المحكم والمدروس لشخصي ّة فيروز‪ ،‬منذ الخمسيني ّات إلى السبعيني ّات‬
‫مــن القــرن الماضي‪ ،‬هو ما َج َعلها تنتقل من مجرَّد فنّانة‪ ،‬إلى فنّانة كبيرة‪ ،‬ومن فنّانة كبيرة في‬
‫وسط كثرة من الفنّانين اآلخرين العمالقة في بالدها‪ ،‬إلى «رمز» وطني في لبنان ُملكاً للجميع‪،‬‬
‫أو كما يقول محمود درويش «وصوت فيروز الموزّع بالتســاوي بين طائفتي ْن‪ ،‬ي ُرشــدنا إلى ما‬
‫يجعــل األعداء عائلة» (قصيــدة «بيروت»)‪ ،‬إذ اعتُبرت ُمم ِّثل ًة للطبقة الوســطى‪ ،‬ورفيق َة ُ‬
‫المث ّ‬
‫قف‬
‫المنتقاة بعناية‪ ،‬واللّحن المتفرّد ل َيفعال في‬
‫إن أراد االســتماع إلى غناءٍ راق‪ ،‬فينحاز إلى الكلمة ُ‬
‫وجدانه فعل الموسى الذي ال ألم لمروره بالوجدان‪ ،‬ولكنّه يحفِّ ز النزف وحده‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫د‪ .‬سليمان الحقيوي*‬

‫في الفترة التي اختارها األخوان رحباني (عاصي ومنصور) لنقْ ِ‬


‫ل هواجسهم المسرحي ّة إلى السينما‪،‬‬
‫ســينمائي كان‬
‫ّ‬ ‫كان الفيلم الغنائي يعيش آخر فترات نجاحه‪ ،‬فهي إذن تلبية دعوة متأخّرة لنَو ٍ‬
‫ع‬
‫على مشــارف الزوال‪ ،‬فبعدما انجذب إليه الجمهور منذ فيلم «أنشــودة الفؤاد» (‪ )1932‬لماريو‬
‫فولبي‪ ،‬وصوالً إلى فيلم «أبي فوق الشــجرة» (‪ )1969‬لحســين كمال‪ ،‬وهو الفيلم األخير لعبد‬
‫الحليم حافظ الذي كان اهتمام الجمهور به يخفت‪ ،‬وحتّى فترة السبعيني ّات من القرن الماضي‬
‫ِّ‬
‫شــكل ما ي ُشــبه بداية خاتمة ســينمائي ّة جميلة‬‫األخوي ْن رحباني؛ كانت ت ُ‬
‫َ‬ ‫التي شــهدت إنجاز ثالثي ّة‬
‫ّ‬
‫الخاص إلى‬ ‫لمرحلة ٍ ثري ّة باألفالم الغنائي ّة الرومانسي ّة‪ .‬لك ّ‬
‫ن ثالثي ّتهما استطاعت أن تجد طريقها‬
‫ٍ‬
‫كصوت وكأداءٍ ثانياً‪.‬‬ ‫والً‪ ،‬ثمّ بسبب وجود فيروز‬
‫النجاح‪ ،‬بسبب خصوصي ّة قصصها أ ّ‬

‫ي ُعتبــر فيلــم «بيّــاع الخواتم» (‪ )1965‬إخراج يوســف شــاهين‪ ،‬العمــل األوّل الــذي وقفت فيه‬
‫فيــروز أمــام الكاميــرا‪ ،‬بعدمــا َ‬
‫وق َع عاصي ومنصــور في إغراء الشاشــة الكبيــرة‪ ،‬والحقيقة أ ّ‬
‫ن‬
‫ّ‬
‫الشــكل الذي شــاهدناه‪ ،‬فمســرحي ّة‬ ‫صادفات كثيرة َأســهمت في أن يكون إخراج الفيلم وفق‬
‫ٍ‬ ‫ُم‬
‫«بي ّاع الخواتم» التي ُعرضت في العام ‪ 1964‬ح ّ‬
‫ققت نجاحاً كبيراً وملحوظاً‪ ،‬واالســم األوّل الذي‬
‫المخرج الفرنسي «برنار فاريل»‪ ،‬فيتحوّل االقتراح بصدفة ٍ‬
‫تمّ اقتراحه لتحويلها إلى السينما‪ ،‬كان ُ‬
‫أخرى إلى االسم األشهر في العا َلم العربي آنداك «يوسف شاهين» وقد كانت مالمح أسلوبه‬
‫قــد ترسَّ ــخت واتَّضحــت‪ ،‬وخصوصاً في أفالمه مثــل «صراع في الــوادي» (‪ )1954‬و«باب الحديد»‬
‫(‪ ،)1958‬و«الناصر صالح الد ّين» (‪ )1963‬الذي سبق «بي ّاع الخواتم» بقليل‪ ،‬كما يستدعي السياق‬
‫هنــا ذكــر تجربته المهمّة في الفيلــم الغنائي تحديداً؛ «ســي ّدة القطــار» (‪« ،)1952‬ود ّعت حب ّك»‬
‫(‪« ،)1956‬إنت حبيبي» (‪.)1957‬‬

‫*كاتب وناقد سينمائي من المغرب‬

‫‪200‬‬
‫ّ‬
‫بقصتها األصيلة وصوت فيروز القادم من السّ ــماء بتعبير‬ ‫أمّــا المســرحي ّة فح ّ‬
‫ققت نجاحاً باهــراً‬
‫الم َ‬
‫حكم‪ .‬هذا النجاح المتوازي لشاهين والمسرحي ّة‬ ‫األخوي ْن رحباني ُ‬
‫َ‬ ‫محمّد عبد الوه ّاب‪ ،‬وإخراج‬
‫ّ‬
‫«مظاّلت شربورغ»‬ ‫ترك أثراً على إخراج الفيلم‪ ،‬فشاهين الذي كان ُمنجذباً لفيلم‬
‫َ‬ ‫على حد ّ سواء‪،‬‬
‫للمخرج الفرنسي «جاك ديمي» (‪ )1990-1963‬الذي خلق الحدث في «مهرجان كان» العام ‪،1964‬‬
‫ٍ‬
‫ألفالم جديدة‬ ‫بفوزه بالسعفة الذهبي ّة عبر تقديمه هوي ّة جديدة للفيلم الغنائي (ال زالت مصدراً‬
‫حتّى اآلن كفيلم «الالالند» مثال ً)‪ .‬في «بي ّاع الخواتم» تظهر عناصر هذا التأثُّر في إصرار شــاهين‬
‫وتناسب اللّون مع طبيعة الحوارات وإيقاعها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ع بالكامل‪ ،‬واإلضاءة الخافتة‬
‫على استوديو مصنو ٍ‬
‫ن رؤية شــاهين اصطدمت كثيراً برؤية عاصي ومنصــور المعروف عنهما االهتمام بالتفاصيل‬
‫لكــ ّ‬
‫كافّة وباإلشراف عليها‪ ،‬وقد تحد ّث شاهين عن الخالف بقوله «أنا متأكّد إنّي ما أعرفش موسيقى‬
‫زي ّهم‪ ،‬لكنّي كمان متأكّد إنّهم ما يعرفوش سينما زي ّي(‪ .»((5‬في النهاية ُعرض الفيلم في قاعات‬
‫المهمّ في هذه التجربة أنّها دفعت‬
‫تكن ُمرضية‪ُ .‬‬ ‫ن المداخيل لم ُ‬ ‫الســينما وأُعجب به الن ّ‬
‫قاد‪ ،‬لك ّ‬
‫األخويْــن رحبانــي إلى الســينما في تجربتَي ْن الحقتَي ْن‪ .‬لم تختلف ّ‬
‫قصــة فيلم «بي ّاع الخواتم» عن‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫المسرحي ّة‪ ،‬التي تستشرف أحداثاً سياسي ّة‪ ،‬عن سعي السّ لطة الدائم‬
‫للتحكم باألهالي عبر خل ِ‬
‫ن هناك ُمجرماً اســمه راجح‬ ‫َ‬
‫أهل القرية بأ ّ‬ ‫خطر ٍ يهد ّدهم؛ هكذا كانت شــخصي ّة «المختار» توهم‬
‫المختار‪ ،‬التي لم تصد ّق يومــاً هذه الكذبة‪،‬‬
‫دد أمنهــم‪ ،‬وتــؤد ّي فيــروز َدور «ريما» ابنة أخــت ُ‬
‫ي ُهــ ِّ‬
‫رتكب جرائم وت ُ َ‬
‫نسب‬ ‫قصة راجح من أجل السّ يطرة على الناس‪ .‬وت ُ َ‬
‫فيعترف لها المختار بأنّه اخترع ّ‬
‫ن راجح هو بي ّاع الخواتم وأنّه بريء من ّ‬
‫كل التّهم‪.‬‬ ‫إلى راجح ليتّضح في األخير أ ّ‬

‫فيلم «سفر برلك»‬


‫التجربــة الثانية «ســفر برلــك» إخراج هنري بركات (‪ )1967‬كانت مٌ ختلفــة‪ ،‬فالنّص مكتوب ّ‬
‫خصيصاً‬
‫للســينما‪ ،‬األمــر الــذي َو َض َع فيروز كممثّلة أمــام تحدٍّ ُمختلف عن «بي ّاع الخواتم» الذي آنســت‬
‫نصــه المســرحي من قبــل ورد ّدت أغانيه فوق الخشــبة‪ .‬كان عليها أن تؤكّــد الحُكم الذي أطلقه‬ ‫ّ‬
‫يوسف شاهين على موهبتها فور وقوفها أمام الكاميرا‪ ،‬قال عنها «فوجئت بالموهبة التمثيلي ّة‬
‫المتفرّد‪ ،‬لكنّهــا أثبتت أنّها أيضاً واحدة‬ ‫ُ‬
‫كنت أعــرف أنّها ّ‬
‫الصوت الوحيد ُ‬ ‫التــي تتمتّــع بها فيروز‪...‬‬
‫من كبيرات ممثّالت الشــرق… تتمتّع بالبســاطة والبســاطة منبع الجمال»‪ .‬كان عليها أن تُالئم‬
‫بين جمال أغانيها «يا طير»‪« ،‬يا أهل الدار»‪« ،‬علّموني»‪...‬وبين متطلّبات َدور «عدال» المرســوم‬
‫بتفاصيــل دقيقــة‪ ،‬والمكتوب بتصا ُعد ٍ وتطوّر ٍ درامي َّي ْن‪ .‬فيــروز في النهاية التقطت هذه الصعوبة‬
‫بتوجيهات المخرج هنري بركات وعاصي رحباني أيضاً‪ ،‬وقد ّمت َدوراً يليق بالفيلم‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫وي ُعيدنا فيلم «سفر برلك» إلى ماضي لبنان‪ ،‬إلى العام ‪ ،1914‬إب ّان االحتالل العثماني‪ ،‬حيث يتمّ‬
‫اقتياد الجميع للعمل في قطع الخشب‪ ،‬واستيالء القوّات العثماني ّة على محاصيل القمح‪ ،‬ومن‬
‫ضمن من ُقبض عليهم خطيب عدال مثل عشــرات األســرى‪ ،‬فتنطلق عدلة للبحث عنه وتكتشــف‬
‫ن أفــراداً من المقاومة‬
‫ن (عمّتهــا) تنتمــي إلــى المقاومة‪ ،‬وعندما يعلم العســكر العثماني أ ّ‬
‫أ ّ‬
‫ُمجتمعــون فــي بيت عمّتها‪ ،‬تُشــارك عدال فــي تهريب ُ‬
‫المقاوميــن المطلوبين للســلطة‪ .‬وبعد‬
‫المضي في مهمّة ُ‬
‫المقاومة‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫مجموعة من ُ‬
‫المقاومين‪ ،‬بينهم خطيبها‪،‬‬ ‫الكثير من األحداث‪ ،‬ت ُ ِّ‬
‫قرر‬
‫ّ‬
‫المحت ّ‬
‫َل عن بلدهم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فتؤجل عدال الحبّ إلى حين جالء‬
‫ِّ‬

‫أسلوب أداءٍ ُممي ّز‬


‫ِ‬ ‫«بنت الحارس» ترسيخُ‬

‫ّ‬
‫غــض النظــر عــن موقــع فيلم «بنــت الحــارس» (‪ )1968‬إخراج هنــري بركات‪ ،‬من ضمــن ثالثي ّة‬ ‫ِب‬
‫ّ‬
‫الخاص باعتباره أحبّ‬ ‫خاصاً‪ ،‬ال ي ُعزى ذلك إلى رأي فيــروز‬
‫ّ‬ ‫الرحابنــة‪ ،‬فقــد قد َّمــت فيه فيــروز َدوراً‬

‫أفالمها إلى قلبها‪ ،‬بل هو فيلم اكتملت فيه مالمح صورة فيروز بنت الضيعة التي تهتمّ بأحوال‬
‫الفيلمي ْن الســابقَ ي ْن‬
‫َ‬ ‫ن هذه الصورة لم تُغادر‬ ‫الناس وتُق ِّ‬
‫دم تضحيات من أجل األهالي‪ .‬صحيح أ ّ‬
‫ٌ‬
‫أســلوب تطا َب َق مع‬ ‫خاصاً بها‪ .‬وهو‬
‫ّ‬ ‫وتناســبت مع بلوغ فيروز أســلوباً‬
‫َ‬ ‫قط‪ ،‬لكنّها ترسَّ ــخت هنا‪،‬‬
‫ّ‬
‫شــخصي ّة نجمة التي قد ّمتها‪ .‬وتدور أحداث الفيلم في قرية كفر غار‪ ،‬حيث يعمل حارســان ليلي ّان‬
‫في حراسة األهالي ُ‬
‫وممتلكاتهم‪ ،‬أحدهما والد نجمة‪ .‬ومع استقرار أوضاع القرية ي ُقرّر مجلس‬
‫ن القرية تعيش سالماً وطمأنينة ال تحتاج معه إلى حرّاس‪ ،‬األمر‬
‫البلدي ّة فصلهما من مهامّها‪ ،‬أل ّ‬
‫الحارسي ْن للبحث عن رزقهما في مكا ٍ‬
‫ن آخر؛ وقد توجَّه أبو نجمة للعمل في الميناء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الذي يضطرّ‬
‫َّ‬
‫فتتنكر‬ ‫افتعال حوادث متواليــة تُعيد الرعب إلى القرية‪،‬‬
‫َ‬ ‫وتوجَّــه رفيقه إلى دمشــق‪ ،‬وت ُ ِّ‬
‫قرر نجمة‬
‫لص أسموه «أبو الكفي ّة»‪ ،‬وتكتشف في ُمغامراتها فساد أعضاء مجلس القرية الذي اضطرَّ‬
‫ي ّ‬
‫بز ّ‬
‫ص المجهول يجدان‬‫الحارســي ْن إلى العمل لكي يســتتبّ األمن‪ .‬وعندما يقبضان على الل ّ ّ‬
‫َ‬ ‫إلعادة‬
‫ن مجلس البلدي ّة ال يستطيع ُمعاقبتها ألنّها اكتشفت أسرارهم وفسادهم‪.‬‬
‫أنّه «نجمة»‪ ،‬غير أ ّ‬

‫انطالقاً من قرية صغيرة‪ ،‬ن َ‬


‫َج َح الفيلم في ْ‬
‫رصد التحوّالت االجتماعي ّة التي واكبت االزدهار والتغي ّر‬
‫رافق ذلك من تغي ُّر ٍ في الق َيم والمبادئ‪ ،‬احتاجت معه الضيعة إلى تدخُّل نجمة‪.‬‬
‫َ‬ ‫االقتصادي َّي ْن‪ ،‬وما‬
‫قاومة الشــرّ‪ ،‬واإليمــان بالتغيير؛ هذا المعنى‬
‫وم َ‬‫فــي األفــام كلّها‪ ،‬نَلحظ السّ ــعي إلى الخالص ُ‬
‫ســتعمر ُ‬
‫المســتبد ّ الذي ن ََه َ‬
‫ــب الناس وجوَّعهم‬ ‫ِ‬ ‫قاومة ُ‬
‫الم‬ ‫يتبــد ّى في «ســفر برلــك»‪ ،‬كحتمي ّة ُم َ‬
‫تواضع ُفرص أهل القرية‪ّ ،‬‬
‫إاّل‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تخصهم‪ .‬وعلى الرّغم من‬ ‫َ‬
‫وأرغمهــم علــى الحرب من أجل قضايا ال‬

‫‪202‬‬
‫المقاومة‪ .‬التغيير أيضاً يبدو في سعي شخصي ّات منفردة‬
‫ُ‬ ‫أنّه لم ُ‬
‫يكن أمامهم من فرصة سوى‬
‫إلــى إحــال العدالة مكان الظلم‪ ،‬وهو ما فعلته نجمة في فيلم «بنت الحارس»‪ ،‬كي تغي ّر مصير‬
‫نحى عكســيّاً؛ حيث إ ّ‬
‫ن‬ ‫َّ‬
‫أبيهــا ومعــه رفيقه صالــح‪ .‬أمّا «بي ّاع الخواتــم»‪ ،‬فقد اتخذ فيــه التغيير َم ً‬
‫الكشــف عن كذبة المختار والتماهي معها لزمن‪ ،‬لم ي ُ‬
‫عد يفرق عن االســتمرار فيها‪ ،‬وهو درس‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫المختار‪.‬‬ ‫جول ضرورة تغي ُّر َمنطق األهالي في تصديق روايات كتلك التي ابتدعها‬

‫خصوصي ّة الثالثي ّة و َدور فيروز في نجاحها‬

‫ســهم في نجــاح التجربــة الســينمائي ّة الرحباني ّة عموماً‪ ،‬وهــو انتماؤها‬


‫َ‬ ‫ثمّــة عامــل موضوعي َأ‬
‫الخالص إلى الفيلم الغنائي‪ ،‬باعتباره «بناءً دراميّاً ي ُعالِج الموضوعات الجاد ّة بأسلوبٍ َمرحٍ خفيف‪،‬‬
‫المســلّية إلى جانب‬
‫المرحة والمواقف ُ‬ ‫تلتقــي فيــه الرقّة مع ال ُ‬
‫عمق‪ ،‬وال يخلو من الشــخصي ّات َ‬
‫المحكمة‪ ،‬واألزمات ُ‬
‫المثيرة والمفاجآت المرحة‪ ،‬والنهايات السعيدة في معظم‬ ‫العقدة الروائي ّة ُ‬
‫األحيــان»(‪ .((5‬األفــام الثالثة تقــد ّم قصصاً محلي ّة بأبعاد عربي ّة («بنت الحارس» و«ســفر برلك»)‬
‫وكونيّــة كمــا فــي «بي ّاع الخواتم»‪ ،‬وهذه األفــام التي تختلف في ُعمــق معالجتها للموضوعات‬
‫ٍ‬
‫كــدروس في التاريخ والسّ ياســة من خالل خطابٍ مباشــر‪ ،‬بل بما تمليه‬ ‫قد ّمــت قصصهــا‪ -‬ليس‬
‫ص بلمحة ٍ مرحة تخفي جد ّيتها فــي أحيان وتبديها في‬
‫ســمات النــوَّع الذي تنتســب إليه‪ ،‬عبر قصــ ٍ‬
‫أحيــان أخــرى‪ .‬كما نجد فــي الثالثي ّة أيضاً ســردي ّة متوازنــة تنتهي إلى نهاية ســعيدة تُالئم هوى‬
‫الجمهور؛ فهي أفالم تخرج من ناحية ٍ أخرى عن تقاليد الفيلم الغنائي‪ -‬التجربة المصري ّة تحديداً‪-‬‬
‫ّ‬
‫خاصة‪:‬‬ ‫باعتبارها األكمل واألكثر انتشاراً‪ .‬تحضر فيروز في قصص الثالثي ّة‪ ،‬كشخصي ّة تُمي ّزها سمات‬
‫شاب ّة تنتمي إلى الضيعة اللّبناني ّة تهمّها مشكالت أهلها‪ ،‬وترتبط بهم أشد ّ ارتباط‪ ،‬حضورها ي ُعيد‬
‫التوازن إلى هذا المجتمع الصغير‪ ،‬كما في «بنت الحارس»‪ ،‬حيث تتدخّل لتُعيد التوازن عبر إعادة‬
‫المحت ّ‬
‫َل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الحارسي ْن إلى عملهما‪ ،‬أو في «سفر برلك» حيث تنخرط في ُم َ‬
‫قاومة‬ ‫َ‬
‫هذه الثالثي ّة الســينمائي ّة تختلف عن الفيلم الغنائي أو السّ ــينما الغنائي ّة التي اعتمدت أساســاً‬

‫المشــاهد‬
‫علــى مفهــوم االســتعراض‪ ،‬الذي يبدأ مــع وجود النجــم‪ ،‬وتتواصل بثبات الوصالت‪َ /‬‬
‫الكثيــرة لــه‪ ،‬والتي قــد تُخطئ هدفها فــي الكثير من األحيــان‪ ،‬فيصير العرض مجرّ َد اســتعرا ٍ‬
‫ض‬
‫ٍ‬
‫ســمات كثيرة عن‬ ‫يشــكل نوعاً فيلميّــاً على حدة‪ -‬قد يختلف في‬
‫ِّ‬ ‫صوتــي وموســيقي – وهذا ما‬
‫خاصاً؛ فهي أغنية تُســاير‬
‫ّ‬ ‫الفيلــم الغنائــي‪ .‬أمّا األغنية في ســينما الرحباني فقد اكتســبت طابعاً‬

‫السّ رد وذات حكاية مكتملة األركان‪ ،‬غير منحازة للصوت على حساب الصورة‪ ،‬وال تقد ّم الشخصي ّة‬

‫‪203‬‬
‫ن يســتمد ّ حضوره من صوته أو نجومي ّته فقط‪ ،‬بل هي شخصي ّة‬
‫كمكو ٍ‬
‫ِّ‬ ‫الرئيســة‪ ،‬التي هي فيروز‪،‬‬
‫محوريّــة تحضر بأدائها‪ ،‬وركيزة ســرد تــدور حولها األحداث‪ ،‬وتــؤد ّي َدوراً يتماهى فيه الغناء مع‬
‫الحــوار واإلســهام في بناء الحدث‪ .‬وفي ثالثي ّتنا تحضر فيروز بطلــ ًة ُمطلقة‪ ،‬في «بي ّاع الخواتم»‬
‫(ريمــا) وفي «ســفر برلك» (عــدال) وفي «بنت الحارس» (نجمة)‪ .‬فيــروز هي محور هذه األفالم‬
‫(أم كلثوم‪ ،‬عبد‬
‫ّ‬ ‫كمــا هــي عادة الفيلم الغنائي الــذي اعتمد منذ ظهوره على فنّانيــن معروفين‬
‫الوه ّــاب‪ ،‬عبــد الحليــم حافظ)‪ .‬وباإلضافة إلى تحقيق فيروز هذه الغايــة‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن حضورها – بتفاوت‬
‫في األداء‪ -‬لم يســمتد ّ قوته من صوتها فقط‪ .‬فهي بطلة تفزع للظلم وتنهض لتغييره كما هو‬
‫الحــال فــي «بنت الحارس»‪ .‬إنّها رمز للتغيير‪ ،‬وهذا التغيير يبدأ من المرأة التي هي في أســفل‬
‫الهرم بفعل أعراف وتقاليد قديمة‪ ،‬وهي أيضاً بطلة تبحث عمّا تبحث عنه أي ّة أنثى‪ ،‬حبّ في غمرة‬
‫الحيــاة‪ ،‬هي بطلة مرهفة المشــاعر‪ ،‬تتأثّر لتأثُّــر الناس وتفرح بفرحهم‪ ،‬لذلك تراها دائمة الغناء‬
‫وسط الجموع‪ ،‬كثيرة االهتمام لما يصيب األهالي‪.‬‬

‫صوت فيروز وسرد الحكاية‬


‫من ّ‬
‫الاّلفت في مشــاركة فيروز في األفالم الثالثة‪ ،‬أ ّ‬
‫ن الشــخصيات التي أد ّتها مكتوبة بمنح َيي ْن‪،‬‬
‫األوّل يركّــز علــى صــوت فيروز في تقديــم أغاني األفالم‪ ،‬والثاني يســتخرج منهــا أداءً باعتبارها‬
‫معنى قد يتجاوز لغة الحوار‬
‫ً‬
‫ُ‬
‫األغنية في األفالم الثالثة سرداً يبني‬ ‫ممثّلة أ ّ‬
‫والً وأخيراً‪ ،‬لذلك تصير‬
‫نفســها‪ ،‬وي ُعبّــر بالتالــي عن قضايا كلي ّة تتعلّــق بالفيلم‪ ،‬وقضايا جزئي ّة تتعلّــق ُ‬
‫بمتوالي ِة الحكاية‪/‬‬
‫المشهد‪ ،‬وهي ظاهرة نالحظها أيضاً في عالمهما المسرحي‪« .‬فاإلطار المصنوع من الموسيقى‬
‫يؤطر ّ‬
‫كل مسرحي ّة‪ ،‬يضمّ في إهابه قضي ّة مركزي ّة‪ ،‬أو قضايا‬ ‫ِّ‬ ‫المتنوع جدّاً الذي‬
‫ِّ‬ ‫والغناء والرقص‪،‬‬
‫مهمّــة عــد ّة‪ ،‬تجــري معالجتهــا من خالل رؤية ٍ فني ّة شــاملة تُشــرك تلك العناصــر كلّها‪ ،‬من أجل‬
‫توصيل الرسالة الرحباني ّة إلى الناس‪ ،‬ملوَّنة بتدرُّجات صوت (فيروز) الذي ال يشبهه صوت‪ ،‬ليصبح‬
‫عالج المســر ُ‬
‫ح‬ ‫َ‬ ‫المتطور باســتمرار‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫اإلصغــاء أو المشــاهدة‪ ،‬متعــ ًة فني ّة فعليّــة‪ .‬في هذا اإلطار‬
‫الرحباني قضايا متنوّعة ذات أهمي ّة كبرى»‪.‬‬
‫(‪((5‬‬

‫ّ‬
‫تتشــكل مع توالي االحداث وتتماشــى مع ســياق الفعل والحركة‪،‬‬ ‫فهناك إذن‪ ،‬ســردي ّة غنائي ّة‪،‬‬
‫قلّمــا تخــرج عنــه‪ ،‬لفائدة الغناء أو كغاي ّة لذاتــه‪ ،‬هذه الحالة البديعة تختلف عــن كثير من اإلنتاج‬
‫السينمائي الغنائي‪ ،‬وقد بلغت ذروتها في فيلم «بي ّاع الخواتم» وهو الفيلم الذي حمل فائضاً‬

‫ولألخوي ْن رحباني‪ ،‬فشــاهين الذي وجد المشــروع كامال ً‬


‫َ‬ ‫ٍّ‬
‫لكل من المخرج يوســف شــاهين‬ ‫فنيّاً‬

‫‪204‬‬
‫ولــم ُ‬
‫تكــن لــه فرصة كبيرة للتصــرُّف على عادته وهو القادم من ســينما المؤ ِّلــف‪ ،‬فانصرف إلى‬
‫الجوانب الفني ّة‪ ،‬فأبدع في الديكور واأللوان‪ ،‬غاية اإلبداع‪ ،‬على الرّغم من أنّه لم يوفّق كثيراً في‬
‫القصة التي تدين بالكثير للغناء ومنه تستمد ّ وهجها وسردي ّتها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عكس ذلك على‬
‫«فــي بنت الحارس‪ ،‬مثال ً تناســب أغنية البداية «غيبي وال تغيبــي» تقديم الفضاء الذي تدور فيه‬
‫الحاجبين» في مشــهد احتفال‬
‫َ‬ ‫األحــداث كإطــار موســيقي‪ ،‬ثمّ سنســمع بعدها أغنية «يا عاقــد‬
‫البلديّــة وهــي أغنية تتــرد ّد كلماتها في القاعة‪ ،‬قد تنطبق على الجميع بما فيهم والد نجمة‪ .‬أمّا‬
‫أغنيــة «تــك تك يمّ ســليمان» التي أصبحت من أهمّ أغاني األطفال‪ ،‬فجاءت في ســياق تدريس‬
‫نجمة للموسيقى في المدرسة‪ ،...‬أمّا «بي ّاع الخواتم» في ُمكننا أن نعتبر األغنية هي قناة الحوار‪،‬‬
‫فقد اســتحوذت تقريباً على تواصلي ّة الفيلم‪ ،‬حتّى وإن تعلَّق األمر بالتشــنُّج والتوتّر‪ ،‬إنّها ْ‬
‫تضطلع‬
‫دور ٍ ســردي وليس فواصل اســتعراض فقــط»(‪ .((5‬كلمات األغاني ترتبط في ســياق القول مع‬
‫بــ َ‬
‫الحوار قبلها وبعدها في أحيان كثيرة‪ ،‬ويزيدها اللّحن مناســبته لحال المشــهد ودرجة االنفعال‬
‫ّ‬
‫خاصة‬ ‫ّ‬
‫شــك من انفتاح عالمهما الســينمائي على عوالهما األخرى‬ ‫فيه‪ ،‬إ ّ‬
‫ن هذه الميزة تأتي وال‬
‫ّ‬
‫تقل‬ ‫ّ‬
‫النص أهمي ّة ال‬ ‫إيقاعي ّة الشــعر ووســائل إيصال المعنى فيه لذلك فقد «أعطيا الكلمة أو‬
‫عن الموســيقى‪ ،‬فعاصي ومنصور شــاعران بقدر ما ُ‬
‫هما موسيقي ّان‪ ،‬ال أسبقي ّة عندهما للكلمة‬
‫النص صياغة اللّحن‪ ،‬أي أ ّ‬
‫ن هناك عالقة‬ ‫ّ‬ ‫ق الترابط‪ ،‬حتّى لو ســبقت كتابة‬ ‫ْ‬
‫على الموســيقى في خل ِ‬
‫جدلي ّة بين اللّغة والموسيقى في عملي ّة اإلبداع لديهما»(‪.((5‬‬

‫خاتمة‬

‫ل كبيرة‪ ،‬لكنّها من‬ ‫ّ‬


‫مؤشرات عن موهب ِة تمثي ٍ‬ ‫صحيح أ ّ‬
‫ن الثالثي ّة التي شاركت فيها فيروز‪ ،‬قد ّمت‬

‫جهة أخرى‪ ،‬احتكرت فيروز ســينمائيّاً‪ ،‬فهي لم تُق ِّ‬


‫دم بعدها عمال ً آخر‪ ،‬حيث تفرّغت للغناء وحده‪.‬‬
‫كل ُفرصه ومساحاته‪ ،‬وهو أمر لم يشجّع على تقديم‬ ‫ن الفيلم الغنائي كان قد استنفذ ّ‬ ‫صحيح أ ّ‬
‫ع سينمائي آخر؟ وخصوصاً أ ّ‬
‫ن الفرصة كانت‬ ‫المزيد من خالله‪ ،‬لكن‪ ،‬ألم ُ‬
‫يكن األمر ُممكناً عبر نَو ٍ‬
‫مواتية لدى وقوفها أمام كاميرا هنري بركات الذي قد ّم فاتن حمامة إلى العا َلم‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫د‪ .‬حسن مدن*‬

‫ي‬
‫العربي المصر ّ‬
‫ّ‬ ‫«لوال الموسيقى لكانت الحياة غلطة»‪ ،‬هكذا قال نيتشه ذات مرّة‪ .‬أمّا الشاعر‬
‫المثقفين العرب‪« :‬فيروز هي عد ّة شغلكم»‪ .‬يومها ّ‬
‫عقب‬ ‫ّ‬ ‫خاطباً‬
‫مرسي جميل عزيز فقد قال ُم ِ‬
‫المثقفين مؤي ّداً ما ذهب إليه عزيز‪« :‬إنّ في قلب ّ‬
‫كل َمن قرأ جملتَي ْن‪ ،‬مساحة ضوء‬ ‫ّ‬ ‫أحد هؤالء‬
‫لفيروز وأغانيها»‪.‬‬
‫الت أوقاتنا إلى مشاوير من‬ ‫عربي مساح َة ضوءٍ لفيروز التي َأ َح ْ‬ ‫كل مواطن‬‫ن أنّ في قلب ّ‬ ‫ونظ ّ‬
‫ّ‬
‫وأســهمت في َصو ِْغ أحالمنا عــن الحبّ والوطن والفرح والحزن‪ ،‬وبموســيقى وكلمات‬ ‫الهنــاء َ‬
‫ُ‬
‫صوت فيروز‬ ‫األخويْــن رحباني‪ ،‬وســواهما من كبــار الملحّنين في لبنان والعا َلم العربــي‪َ ،‬صن ََع‬
‫َ‬
‫َمجــداً غنائيّــاً‪ ،‬انطلق من لبنان وطاف في ديار العــرب‪ ،‬ال بل وطاف العا َلم كلّه‪ ،‬وأخذت بأيدينا‬
‫ل بــاردة تُدفئها نيران‬
‫بعيــداً إلــى بيــوت «ممحي ّة» وراء حــدود العتمة والثلــج والريح‪ ،‬وإلى ليا ٍ‬
‫ع» تلقي برأســها على أكتاف جبال شــمّاء‪ ،‬ومجّــدت الحبّ في لحظات‬
‫مواقــد ناعســة في «ضي ٍ‬
‫العربي على امتداد رقعة‬
‫ّ‬ ‫الوجدان‬
‫َ‬ ‫غطت‬ ‫تجلّيه‪ ،‬بأغا ٍ‬
‫ن باتت لنا ذاكرة فني ّة وموسيقي ّة مشتركة ّ‬
‫ي يبقى خالداً بعد أن يفنى الوجود‪ ،‬كما في جاء‬
‫هذا الوطن الكبير‪ ،‬بغناءٍ هو للوجود سرّ‪ ،‬وبنا ٍ‬
‫قصيدة جبران الشهيرة التي غنَّتها‪.‬‬

‫ج عافيته‬ ‫ن الزمــن الرحبانــي ‪ -‬الفيــروزي وُلــد ونما في زم ٍ‬


‫ن آخــر كان فيه لبنان فــي أو ّ‬ ‫صحيــح أ ّ‬
‫لتفتح زمناً أســود توالت‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫بكل عبثي ّتها وجنونها‪،‬‬ ‫الثقافيّــة والفنيّــة‪ ،‬قبل أن تندلع الحرب األهلي ّة‬
‫المحن‪ ،‬التي ما زالت مســتمرّة حتّى اليوم‪ ،‬ولكــ ّ‬
‫ن فنّاً كذاك الذي قد ّمته فيروز‬ ‫فيــه علــى لبنان ِ‬
‫ُ‬
‫عابر للزمن‪ ،‬كأنّه أبدع البارحة‪.‬‬

‫*كاتب وإعالمي من البحرين‬

‫‪207‬‬
‫الملحّنين الذين َأطلقوا ما في حنجرة فيروز من طاقات‪ ،‬ابنها زياد الرحباني‪ُ ،‬‬
‫المتماثل‬ ‫ومن بين ُ‬

‫ُ‬
‫والمتباين في آن مع المدرسة الرحباني ّة‪ ،‬الواصل لها والخارج على صرامة بعض قواعدها‪ ،‬الذي‬

‫غامرات جديدة في الكلمة وفي اللّحن‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫أخذ بأداء فيروز إلى مناطق جديدة‪ ،‬دافعاً بها بجرأة إلى ُم‬
‫وعلى خالف المعجم الرحباني المعروف بتراكيبه اللّغوي ّة المشــحونة بالشفافي ّة والعذوبة‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن‬

‫الكلمة لدى زياد كاتب الكلمات أيضاً‪ ،‬مأخوذة من الحياة‪ :‬بســيطة وعفوي ّة وحارّة‪ ،‬ولكنّها تقد ّم‬

‫ُحول المحكي واليومي إلى جملة شــعري ّة وموســيقي ّة تنفذ إلى األعماق‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الخاص الذي ي ِّ‬ ‫وهجها‬
‫َ‬
‫قداً ومركّباً في نســيجٍ يؤكّد موهبته‪ ،‬وأســعفه في ذلك صوت‬
‫جعل من البســيط مع ّ‬
‫َ‬ ‫هــو الــذي‬
‫ٍ‬
‫طاقات مجهولة‪.‬‬ ‫فيروز الذي يبدو كأنّه يكتشف فيه‬

‫لكنّنــا َأحببنــا فيروز في الحا َليْــن‪ ،‬فيروز المعتّقة وفيروز الجديدة‪ ،‬فيــروز الحُلم‪ ،‬وفيروز الحياة‪،‬‬
‫المحاطة بهالة األســطورة‪ ،‬وفيروز التي كســر عنها زياد قيد األســطورة‪ ،‬فإذا بها هنا أيضاً‬
‫فيروز ُ‬

‫تُدهشــنا‪ ،‬تُفرحنــا‪ .‬ونَحــار إلى ٍّ‬


‫أي منهما نحن أقرب‪ ،‬إلى فيــروز المعتّقة أم فيروز الجديدة‪ ،‬إلى‬
‫ّ‬
‫يلف قمم‬ ‫الصبيّــة الحالمــة‪ ،‬الخارجــة من أشــعار األخوي ْن رحباني‪ ،‬والقادمة من ســديم ضبــاب‬

‫«صنّين» أو جبل الشيخ‪ ،‬الفتاة الضائعة في الطريق إلى َ‬


‫«ميس الريم»‪ ..‬فيروز المفردة الرحباني ّة‬

‫المشــغولة بعنايــة وأناقة ودقّة‪ ،‬أم إلــى فيروز القادمة من الحياة‪ ،‬فيروز الكلمة المغموســة‬
‫باليومــي والعــادي والمألوف‪ ،‬من الحكي الذي ي ُقال آالف المرّات‪ ،‬ولك ّ‬
‫ن موهبة زياد تصنع منه‬

‫شــعراً وموســيقى‪ ،‬فيهما «شــعبي ّة» الحياة‪ ،‬على طريقة أغاني ســي ّد درويش مثال ً‪ ،‬لنعرف ولو‬
‫ن انحيازنا‪ ،‬األســاس‪ ،‬هو إلى فيروز‪ ،‬إلى الدهشــة التي تأتينا في ّ‬
‫كل مرّة نسمع فيها‬ ‫بعد حين أ ّ‬

‫صوتها وهي تغنّي‪.‬‬

‫ُ‬
‫المدن العربي ّة‬ ‫مغنّية‬

‫ُ‬
‫والمــدن العربي ّة كما فعلت فيروز‪ ،‬وبعض هذه األغاني‬ ‫مــا مــن مطربة غنَّت عن وإلى العواصم‬

‫للمدن التي تزورها إلحياء حفالتها فيها‪ ،‬واســتمرّت على هذا التقليد لعقود ٍ عد ّة؛‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تخصهــا‬ ‫كانــت‬

‫فمن منّا ال يعرف أغنية‬


‫وطبيعي أنّه كان لفلســطين موقع القلب في هذا الصنف من األغاني‪َ ،‬‬
‫«زهــرة المدائــن»‪ ،‬التي غنّتها عــن القدس المحتلّة بعــد احتاللها عام ‪ ،1967‬إضافــ ًة إلى أغنيتها‬

‫«ســيف فليشــهر»‪ ،‬من كلمات ســعيد عقل‪ ،‬والتي اشــتهر منها المقطع القائل‪« :‬اآلن ‪ ..‬اآلن‬

‫وليس غداً‪ ..‬أجراس العودة فلْتُقرع»‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫ولســعيد عقل أيضاً غنّت «يا شــام عاد الصيف» التي كانت ت ُ ِّ‬
‫دشــن بها حف َلها السنوي في افتتاح‬
‫معرض دمشــق الدولي‪ ،‬وعن دمشــق أيضاً غنّت‪« :‬سائليني حين ّ‬
‫عطرت السالم‪ /‬كيف غار الورد‬
‫ّ‬
‫واعتل الخزام‪ /‬أنا لو رحت أسترضي الشذا‪ /‬النثنى لبنان عطراً يا شآم»‪.‬‬
‫ن ُ‬
‫ومــد ٍ‬
‫ن عربي ّة‬ ‫باإلضافــة إلــى فلســطين وعاصمتهــا القــدس‪ ،‬وإلى دمشــق‪ ،‬غنّت فيــروز لبلدا ٍ‬

‫ُمختلفــة‪ ،‬فعــن بغداد غنّت في أثنــاء حفلها في العاصمة العراقي ّة‪« :‬بغداد والشــعراء والصو ُر‪/‬‬

‫ب الزمان وضو ُع ُه َ‬
‫العط ُر‪ /‬يا ألف ليل َة يا ُم َكمّلة األعراس‪ /‬يغسل وجهك القم ُر»‪ .‬وباإلضافة‬ ‫َذ َ‬
‫ه ُ‬

‫لألخوي ْن الرحباني‪ ،‬مثل أغنية‬


‫َ‬ ‫ع جديد‬ ‫إلى ما أعادت فيروز تقديمه من أغا ٍ‬
‫ن مصري ّة شهيرة بتوزي ٍ‬
‫خصت مصر بأغنية‪« :‬مصر عادت‬ ‫«شــط اســكندري ّة»‪ّ ،‬‬
‫إاّل أنّها ّ‬ ‫ّ‬ ‫ســي ّد درويش «الحلوة دي»‪ ،‬وأغنية‬

‫شمســك الذهــب»‪ ،‬وأهدت األردن األغنية التي تقول‪« :‬عمّان فــي القلب‪ /‬أنت الجمر والجاه‪/‬‬

‫ببالي عودي‪ /‬مرّي مثلما اآله»‪.‬‬

‫دن المغرب العربي‪ ،‬ومن ذلك‬ ‫نفسه ُ‬


‫لم ِ‬ ‫َ‬ ‫فعلت الشيءَ‬
‫ِ‬ ‫وكما غنّت فيروز ُ‬
‫لمدن المشرق العربي‪،‬‬

‫أغنيتها عن تونس التي قد ّمتها في أوّل حفل لها هناك في ستيني ّات القرن الماضي‪ ،‬والتي جاء‬

‫في مطلعها‪« :‬إليك من لبنان أغنية صديقة‪ /‬يا تونس الشقيقة يا وردة البلدان‪ /‬إليك يا سليلة‬

‫المالحم‪ /‬يا نجمة القصائد القديمة‪ /‬إليك يا قرطاجة العظيمة»‪.‬‬

‫وفــي العــام ‪ 1962‬أهدت فيروز‪ ،‬من كلمــات األخوي ْن رحباني‪ ،‬المناضلة الجزائري ّة جميلة بوحيرد‬

‫ســتعمرين الفرنسي ّين‪ ،‬وحي َّت ثورة الشعب‬


‫ِ‬ ‫أغنية «صديقتي جميلة»‪ ،‬التي كانت في ســجون ُ‬
‫الم‬

‫صدى كبي ٌر فــي الجزائر‬


‫ً‬ ‫الجزائــري وتضحياتــه مــن أجــل الحري ّة واالســتقالل‪ ،‬وكان لتلك األغنيــة‬

‫ومناضليها في تلك الحقبة التي شهدت المد ّ الكفاحي والوطني‪ .‬وبالمثل حي ّت فيروز المغرب‪،‬‬

‫في أغنية جاء في كلماتها‪« :‬من وطني تحي ّة الرجولة‪ /‬إلى شواطئ المغرب األبي ّة‪ /‬إنّهم الميالد‬

‫والبطولة‪ /‬تكاد أن تكون مغربي ّة»‪.‬‬

‫فيروز في بلدان الخليج‬


‫وألنّنــا ســنتناول‪ ،‬تالياً‪ ،‬تل ّ‬
‫قــي الف ّ‬
‫ن الفيروزي‪ ،‬منذ بداياتــه الرحباني ّة‪ ،‬في بلــدان الخليج العربي‪،‬‬

‫المدن العربي ّة في األغنية الفيروزي ّة‪ ،‬سنُشــير هنا إلى‬


‫ومواصل ًة لما أتينا عليه أعاله حول مكانة ُ‬

‫ُ‬
‫التســامح‬ ‫مكة المكرّمة‪ ،‬والتي نُظر إليها كعالمة ٍ من عالمات‬
‫األغنية الشــهيرة لفيروز عن مدينة ّ‬

‫ّ‬
‫والتعصب‬ ‫الدينــي‪ ،‬وتآخــي األديــان‪ ،‬وتعاي ُش أهلها في ُمجتمعاتنا‪ ،‬قبل أن تعــمّ َموجة التطرّف‬

‫‪209‬‬
‫والكراهيّــة بصورهــا كافّــة في العا َلم العربي‪ ،‬وخصوصاً أ ّ‬
‫ن كاتب الكلمات هو ســعيد عقل‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن‬

‫ي غضاضة‬ ‫ومغنّيتها فيروز‪ُ ،‬‬


‫هم جميعاً مســيحي ّون‪ ،‬ولم يجدوا أ ّ‬ ‫ُملحّنَي ْهــا همــا األخوان رحباني‪ُ ،‬‬

‫ُ‬
‫المسلمين‪ ،‬فجاءت هذه الكلمات‪:‬‬ ‫في أن ي ُقد ّموا أغني ًة لقبلة‬

‫والــعــيــد يــمــأ أضــلــعــي عــيــدا‬ ‫ّ‬


‫مــكــة أهــلــهــا الــصــيــدا‬ ‫غــنّــيــت‬
‫بــيــت عــلــى بــيــت الــهــدى زيــدا‬ ‫ّ‬
‫كــل سما‬ ‫فــرحــوا‪ ،‬فــأأل تحت‬
‫عال بنيانهم كالشهب ممدودا‬ ‫وعــلــى اســـــم ربّ العا َلميــن‬
‫أهــلــي هــنــاك وطــيــب الــبــيــدا‬ ‫ِّ‬
‫صـــل لهم‬ ‫يـــا قــــارئ الـــقـــرآن‬
‫أن ليس يبقى الباب موصودا‬ ‫ع ويـــــــداه آنــســتــا‬
‫مــــن راكـــــــ ٍ‬
‫عيني الــســمــاء تفتَّحت جــودا‬ ‫أنـــا أيــنــمــا صــلّــى األنــــام رأت‬
‫ُ‬
‫لـــكـــنـــت لـــشـــجـــوهـــا عـــــودا‬ ‫لو رملة هتفت ُ‬
‫بمبدعها شجوا‬

‫وحيــن النظر إلى الغناء والموســيقى فــي بلدان الخليج والجزيرة العربي ّة‪ ،‬ســنالحظ أنّهما تأثَّرا‪،‬‬

‫بطبيعــة الحــال‪ ،‬بالقــادم مــن األغاني والموســيقى مــن الحواضر العربيّــة وغير العربيّــة أيضاً‪،‬‬
‫ّ‬
‫الخاصــة بالمنطقة ونابعة منها‪،‬‬ ‫ن هناك فنونــاً هي ابنة البيئة‬
‫وخصوصــاً مــن فارس والهند‪ ،‬لك ّ‬

‫بعينها ارتبطــت بالمنطقة‪ ،‬كتلك التــي نبعت من قلب‬ ‫ٌ‬


‫أنماط مــن الفنون َ‬ ‫وهــذا مــا تشــير إليه‬

‫الجزيــرة العربيّــة‪ ،‬فــي نجد مثــا ً‪ ،‬ولها تجلّيات في شــرقي الجزيــرة وفي المناطق السّ ــاحلي ّة‪ ،‬ال‬
‫نعثــر علــى نظيــر ٍ أو تجل ّ ٍ‬
‫يات لها في الحجاز والعــراق و ُعمان واليمن‪ ،‬ومنها رقصتا «السّ ــامري»‬

‫بطي‪ ،‬وينظــر بعض الباحثين‬ ‫ّ‬


‫الشــعر الن ّ‬ ‫و»الخمــاري»‪ ،‬فإيقاعهمــا ووزنهما مســتمد ّان م ْ‬
‫ن روح‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الشــام‪ ،‬ولكنّه‬ ‫الجماعي الذي يذ ِّكر بالد ّبكة في بالد‬ ‫إلــى رقصــة «العرضة» كصورة محلي ّة للرّقص‬
‫ّ‬
‫المحيطة التي َفرضت إيقاعها البطــيء بالنّظر إلى طبيعة اآلالت‬ ‫رقــص متأثّــ ٌر بالبيئة ّ‬
‫الصحراويّــة ُ‬ ‫ٌ‬

‫دمة‪ ،‬والتي تكاد تنحصر في ّ‬


‫الطبول والد ّفوف‪.‬‬ ‫ُ‬
‫المستخ َ‬ ‫الموسيقي ّة‬

‫الكويتي عبد‬
‫ُّ‬ ‫الموســيقي‬
‫ُّ‬ ‫اســتنبت‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫الصــوت في منطقــة الخليج‪ ،‬حيث‬ ‫ومــن األمثلــة أيضاً ف ّ‬
‫ن‬

‫اللّــه الفــرج تقليــد مصاحبة العود والمرواس‪ ،‬فــي مصاحبة غناء الصــوت‪ ،‬وأصول المرواس‬
‫ّ‬
‫الصــوت عن نطاق منشــئه في‬ ‫موســيقي‪ ،‬وقد خــرج غناء‬
‫ّ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬
‫كضابــط إيقــا ٍ‬ ‫هنديّــة‪ ،‬وي ُســتخدم‬

‫العربــي‪ ،‬مثل البحرين وقطر‬


‫ّ‬ ‫ُ‬
‫المتاخمة لها على ســواحل الخليج‬ ‫الكويــت‪ ،‬ليصــل إلى المناطق‬

‫واألحساء‪ ،‬بل تجاوز ذلك إلى مناطق أبعد‪ ،‬ليصل إلى بالد اليمن والحجاز‪ ،‬وحتّى العراق التي‬

‫‪210‬‬
‫الكويتي اللّذيْــن ارتحال إلى العراق في أواخر‬
‫ّ‬ ‫الكويتي وداود‬
‫ّ‬ ‫وصلهــا ّ‬
‫الصــوت عن طريــق صالح‬

‫عشريني ّات القرن العشرين‪.‬‬

‫بلدان‬
‫ِ‬ ‫مع تطوُّر األغنية العربي ّة في العصر الحديث‪ ،‬وشيوع الراديو والتلفزيون‪ ،‬صار المتل ّ‬
‫قون في‬

‫الخليج والجزيرة العربي ّة‪ ،‬يستمعون إلى ما تبثّه تلك الوسائط من أغانٍ‪ ،‬وي ُعجبون ويتأثّرون بها‪،‬‬

‫ورب ّمــا يكــون دخول األغنية الفيروزي ّة في ُمجتمعات الخليج العربي تالياً لدخول وشــيوع الطرب‬

‫أم كلثوم ومحمّد عبــد الوه ّاب وعبد الحليم حافظ وشــادية ونجاة الصغيرة‬
‫بأصــوات ّ‬
‫ِ‬ ‫المصــري‬

‫بمــن فيهم الفنّانين غيــر المصري ّين ممَّن‬


‫وســواهم مــن عمالقة الغناء في القرن العشــرين‪َ ،‬‬
‫احتضنتهم القاهرة‪ ،‬كفريد األطرش وأســمهان وســواهما‪ ،‬والمؤكّد أنّه كان للسينما المصري ّة‬

‫ن كثيــراً من هذه األفالم تضمَّنت عــدداً من األغنيات‬


‫َدو ٌر كبيــر في انتشــار هــذه األغاني‪ ،‬حيث أ ّ‬

‫ن هذه األفالم ســاعدت فــي تقريب اللّهجة المصري ّة‬


‫التــي ذاع صيتُهــا في تلك المرحلة‪ ،‬وأيضاً أل ّ‬
‫إلــى آذان المتل ّ‬
‫قيــن في بلدان المنطقة‪ ،‬كما هو الحال في البلدان العربي ّة األخرى‪ ،‬كون معظم‬

‫األغنيات المصري ّة كانت تُغنّى بالعامي ّة الدارجة في مصر‪.‬‬

‫باإلضافــة إلــى األغانــي المصري ّة‪ ،‬كان للغنــاء العراقي ذيوع فــي بلدان الخليــج‪ ،‬بالنظر إلى قرب‬

‫العراق الجغرافي‪ ،‬وأوجه التشــابه الكثيرة في التكوين المجتمعي والثقافي بينه وبعض بلدان‬

‫المنطقة‪ ،‬بما في ذلك في الكثير من مفردات اللّهجة اليومي ّة‪ ،‬بخاصة في الكويت والبحرين‪ ،‬ما‬
‫خلق تشابهاً في ذائقة التل ّ‬
‫قي أيضاً‪.‬‬

‫نرجّــح‪ ،‬وهــذا أمر بنيناه على شــيء من الذاكرة وأيضاً من بعض شــهادات أبنــاء وبنات األجيال‬

‫و الوعي الثقافــي‪ ،‬وظهور أجيال‬ ‫ن تل ّ‬


‫قــي أغانــي فيروز والرحابنة اتَّســع وتطوَّر مع نم ّ‬ ‫األكبــر‪ ،‬أ ّ‬
‫َّ‬
‫شــكل لديهم ذائقة أخرى‪،‬‬ ‫مــن خرّيجــي الجامعات العربي ّة ومــن ُ‬
‫المهتمّين بالثقافة والفنّ‪ ،‬ما‬

‫ن فيروز نمطاً له فرادته وخصوصي ّته‪ ،‬ومدرســة ُمختلفة‪ ،‬عن مدرســت ْ‬


‫َي الطر َبي ْن‬ ‫حيث رأوا في ف ّ‬

‫المصري والعراقي‪.‬‬
‫ُ‬
‫حضرت محاضرة عن األغنية العربي ّة‪ ،‬في مطالع ســبعيني ّات القرن‬ ‫وفي هذا الســياق أذكر أنّني‬
‫الماضي ّ‬
‫نظمتها أسرة األدباء والكتّاب في البحرين‪ ،‬وكنت يومها لمّا أزل تلميذاً في المرحلة‬

‫أم‬ ‫د ُم َ‬
‫قارن ًة بين غناء الســي ّدتَي ْن ّ‬ ‫ٌ‬
‫صديق شــابّ يكبرنــي قليال ً‪َ ،‬عقَ َ‬ ‫الثانويّــة‪ ،‬كان المتحــد ّث فيها‬
‫خف فيها انحيازه لغناء فيروز‪َ ،‬صوتاً و َلحناً وكلمات‪ ،‬حتّى أنّه بدا ُمتحامال ً‬
‫كلثــوم وفيــروز‪ ،‬لم َي ِ‬

‫‪211‬‬
‫أم كلثــوم‪ ،‬حيــث رأى فــي أغانيهــا «تخديــراً» للجماهيــر وإلهاءً لها عــن االهتمام‬
‫علــى غنــاء ّ‬
‫العام‪ ،‬فبدل أن تنصــرف الجماهير إلى قضاياهــا الكبرى‪ ،‬تغرق‬
‫ّ‬ ‫بالشــأنَي ْن الوطنــي والقومــي‬

‫وعي جديد‬
‫ٍ‬ ‫ســهم في تشــكيل‬‫ن األغنية الفيروزي ّة ت ُ‬
‫في مطوّالت «كوكب الشــرق»‪ ،‬فيما رأى أ ّ‬
‫ِ‬
‫ُمختلف لدى المتل ّ‬
‫قين‪.‬‬
‫ن أدباء ومث ّ‬
‫قفين كباراً‬ ‫حاضر كيف يفسّ ــر أ ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫َ‬
‫ســأل‬ ‫وأذكر أ ّ‬
‫ن أحد الحاضرين في تلك الندوة‬

‫ألم كلثوم ويعد ّونها‬ ‫بــوزن عب ّاس محمود الع ّ‬


‫قاد ونجيب محفوظ وســواهما كانــوا يطربون ّ‬
‫ُ‬
‫الملحّنين‬ ‫ظاهــرة فنيّــة اســتثنائي ّة‪ ،‬هــذا فضال ً عن كبار الشــعراء الذين غنّــت كلماتهم وكبــار‬

‫الذين لحَّنوها‪.‬‬

‫ن لتنامي نفوذ االتّجاهات والميول القومي ّة واليســاري ّة في‬ ‫ولو َأخذنا البحرين كمثا ٍ‬
‫ل فســنَجد أ ّ‬
‫المجتمع‪ ،‬بين ســتّيني ّات وســبعيني ّات القرن الماضي‪ ،‬ورب ّما يص ّ‬
‫ح هذا على الكويت أيضاً‪َ ،‬دوراً ال‬ ‫ُ‬

‫ي ُمكن تجاهله في الترويج ألغاني فيروز والرحابنة‪ ،‬انطالقاً من قناعة سادت في صفوف ُمنتسبي‬
‫هــذه التيّــارات ُ‬
‫ومناصريها‪ ،‬بأ ّ‬
‫ن هــذه األغاني أقرب إلى الوعي الجديد الذي ينشــدونه للمجتمع‪،‬‬

‫ن يجمع بين الرقّة والعذوبة من جهــة وقوّة المعنى والداللة‬


‫ن كلماتهــا تحتــوي علــى مضمو ٍ‬
‫وأ ّ‬

‫قارنة مع األغنيات العاطفي ّة الرائجة‪ ،‬وال نســتبعد أن يكــون ألغاني فيروز‬ ‫ُ‬
‫بالم َ‬ ‫مــن جهــة أخــرى‪،‬‬

‫عن القدس وفلسطين‪ ،‬بالذات‪ ،‬أثره الكبير في تكوّن هذا االنطباع وشيوعه‪ ،‬فضال ً عن مضامين‬
‫مسرحي ّاتها الغنائي ّة وما تنطوي عليه من معا ٍ‬
‫ن ودالالت‪.‬‬

‫وأصبحت الكثي ُر من المدارس االبتدائي ّة واإلعدادي ّة والثانوي ّة‪ ،‬للبنين والبنات على حدٍّ سواء‪ ،‬في‬
‫تلك الفترة‪ ،‬تحرص على ّ‬
‫بث أغاني فيروز في الفسح بين الحِ صص الدراسي ّة لتقريبها إلى َمسامِ ع‬
‫التلميــذات والتالميــذ‪ ،‬ويعــود الفضل في ذلك إلى المعلّمين والمعلّمــات الذين يرون في ف ّ‬
‫ن‬
‫فيروز أنموذجاً للف ّ‬
‫ن الراقي الذي يجب أن يتعوَّد التالميذ على تذوُّقه‪.‬‬

‫ــر األغاني المصريّــة والعراقي ّة‪ ،‬فإنّها فع َل ِ‬


‫ت الشــيءَ‬ ‫ْ‬
‫وكمــا كان لإلذاعــة َدورهــا الكبير في نش ِ‬
‫الشــام الكبــار‪ ،‬وبعدما‬
‫ّ‬ ‫نفســه بالنســبة إلــى أغانــي فيروز وســواها من ُمطربــي لبنان وبالد‬
‫ل ُمنتظم‪ ،‬بل إ ّ‬
‫ن بعض‬ ‫افتتحت إذاعات في بلدان المنطقة‪ ،‬صارت أغاني فيروز ت ُ ّ‬
‫بث عليها بشك ٍ‬
‫ّ‬
‫يقل عن ســاعة‬ ‫هــذه اإلذاعــات وحتّــى اليوم‪ ،‬في بلــدان ُمختلفة مــن المنطقة‪ ،‬ت ُ ِّ‬
‫خصص ما ال‬
‫ّ‬
‫الموظفين‬ ‫ّ‬
‫لبــث أغاني فيروز‪ ،‬ويتزامــن ذلك مع مواعيد توجُّــه‬ ‫متواصلــة فــي صبــاح ّ‬
‫كل يوم‬

‫‪212‬‬
‫ٍ‬
‫طقس‬ ‫والعامليــن إلى أماكن عملهم بســي ّاراتهم‪َ ،‬‬
‫فأصبح االســتماع إلى أغانــي فيروز بمثابة‬

‫صباحي للكثير من هؤالء‪.‬‬


‫ّ‬
‫ّ‬
‫ببث‬ ‫خصصاً ألغاني فيروز‪ ،‬ال يكتفي‬ ‫ّ‬
‫تبث برنامجاً يوميّاً‪ُ ،‬م َّ‬ ‫وفــي تلــك الفترة أيضاً كانت إذاعة دبي‬

‫أغانيها فقط‪ ،‬وإنّما يتولّى ُمق ِّ‬


‫دما البرنامج اختيار واحدة من أغنياتها ّ‬
‫كل يوم‪ ،‬ثمّ يشــرعان في‬
‫ّ‬
‫الحصة‬ ‫لألخوي ْن الرحباني‬
‫َ‬ ‫َب كلماتها؛ وبطبيعة الحال فإنّه كان‬
‫التعريف بكلماتها وبالشاعر الذي َكت َ‬
‫د هذا البرنامج ليس على‬ ‫ّ‬
‫ببث األغنية ُ‬
‫المختارة‪ .‬وســاع َ‬ ‫الكبــرى فــي ذلك‪ ،‬وتُختم حلقــة البرنامج‬
‫ن كان فيه لإلذاعة تأثيرها الكبير‪ ،‬ولم ُ‬
‫يكن التلفزيون قد‬ ‫تقريب صوت فيروز ُ‬
‫للمستمعين في زم ٍ‬
‫ّ‬
‫احتل المساح َة التي آلت له الحقاً‪ ،‬وإنّما أيضاً في التعريف بكلمات أغانيها وكتّابها‪ ،‬بمن فيهم‪،‬‬

‫لألخوي ْن رحباني‪ ،‬جبران خليل جبران وسعيد عقل وسواهما‪.‬‬


‫َ‬ ‫باإلضافة‬
‫ولمّا كان لبنان وجه ًة سياحي ّة محب َّبة للشرائح ُ‬
‫المقتدِرة من مواطني الخليج‪ ،‬يوم كان لبنان في‬

‫بخاصة في فصل الصيف‪ ،‬الذي كثيراً ما تُقام فيه حفالت ومهرجانات كانت فيروز تشارك‬
‫ّ‬ ‫عافيته‪،‬‬

‫فتح‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬نافذ ًة أخرى ألولئك السوّاح على وجه لبنان الثقافي والفنّي‬
‫َ‬ ‫فيها‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن هذا األمر‬

‫الذي كانت فيروز والرحابنة من أبرز عناوينه‪.‬‬


‫ّ‬
‫محطــة تلفزيوني ّة في بلدان المنطقــة‪ ،‬التي باإلضافة‬ ‫كانــت دولة الكويت ســب ّاقة فــي افتتاح‬
‫ُ‬
‫المختلفة‪ ،‬وكانت ألغاني‬ ‫ّ‬
‫ببث األغانــي‬ ‫إلــى مــا باتت تُقد ّمه من أخبــار وبرامج منوّعة‪ ،‬اهتمّت‬
‫ُ‬
‫المشــاهدون يســتمعون إلى صوت فيــروز عبر اإلذاعة‪،‬‬ ‫عد‬ ‫ّ‬
‫البث‪ ،‬فلم ي ُ‬ ‫فيــروز ّ‬
‫حصــة من هذا‬

‫وإنّما صاروا يشــاهدونها عبر الشاشــة وهي تغنّي‪ ،‬ما َأســهم بالتأكيد في تقريبها أكثر فأكثر‬
‫مــن المتل ّ‬
‫قيــن‪ .‬وفي الفترة َعي ْنهــا كان يتمّ تداوُل أغنيات فيروز‪ ،‬وحتّى مســرحي ّاتها‪ ،‬خصوصاً‬

‫زمن‬
‫َ‬ ‫بيــن المأخوذيــن بفنّها‪ ،‬عبر األســطوانات أ ّ‬
‫والً‪ ،‬ثمّ عبر أشــرطة الكاســيت‪ ،‬قبــل أن َنل َِج‬
‫ُ‬
‫المدمجة‪.‬‬ ‫األقراص‬
‫ٍ‬
‫حفالت غنائيّــة فيها‪ ،‬وكانت‬ ‫ٌ‬
‫وقــت طويل حتّى زارت فيــروز بعض دول الخليــج إلحياء‬ ‫يمــض‬
‫ِ‬ ‫لــم‬
‫َ‬
‫تنــال باقي إمارات‬ ‫َ‬
‫وحدث هذا قبل أن‬ ‫البدايــة مــن الكويت أيضاً في ســتيني ّات العقــد الماضي‪،‬‬

‫دثاً فنيّاً كبيراً‪ ،‬وكما هي عادة‬


‫الخليج اســتقاللها عن «الحماية» البريطاني ّة‪ ،‬وكانت هذه الزيارة َح َ‬
‫الرحابنــة فــي الحفالت التــي تقد ّمها فيروز في البلــدان العربي ّة‪ ،‬فإنّهما َكتبا كلمــات أغنية تحي ّة‬

‫للكويت غنّتها فيروز في حفلتها هناك‪ ،‬ومن بين كلمات األغنية‪:‬‬

‫‪213‬‬
‫«العيد يروي ويروي سناها يلثم منها المحي ّا‪ /‬غنّي الكويت وغنّي عالها ويومها الوطني ّا‬

‫مد ّ شراع وشط يموج عليه تبنى البروج‪ /‬يا وردة طاب منها األريج يا عطرها العربي ّا‬

‫بين الكويت وأرض بالدي يا طيبه من وداد‪ /‬نحن وإي ّاكم في الجهاد نبني المصير األبي ّا‬

‫وفي ربى الجهراء لو تنطق األشياء‪ /‬ألنشدت قصيدة طويلة‬

‫عن الدماء تهدى إلى تراب يفدى‪ /‬عن انتشاق المجد والرجولة»‪.‬‬
‫لــم ُ‬
‫تكــن تلك زيارة فيروز الوحيدة للكويت‪ ،‬ففي مطالع الثمانيني ّات من القرن الماضي زارتها‬

‫عامــي ‪ ،1976 – 1975‬قــد هدأت بعض‬


‫َ‬ ‫مــرّة أخــرى‪ ،‬حيــث كانــت الحــرب األهلي ّة في لبنــان بين‬

‫الشــيء‪ ،‬وعلــى الرّغم ممّا ُع ِرف عن فيروز مــن عدم َميلها للتصريحــات اإلعالمي ّة‪ ،‬لكنّها عب ّرت‬
‫ٍ‬
‫حديث لها مع التلفزيون الكويتي عن شــكرها للكويت لوقوفها مع لبنان وشــعبه‬ ‫يومهــا فــي‬

‫فــي مِ حنتــه‪ ،‬ودعمها له‪ ،‬آملة في أن يعود لبنان لالســتقرار واألمن‪ ،‬ليســتعيد مكانته كوجهة‬

‫محب ّبة لألشقاء العرب‪.‬‬

‫فــي الثمانينيّــات من القرن الماضي أيضاً‪ ،‬وبالتحديد في العــام ‪ ،1984‬غنّت فيروز‪ ،‬في زيارة لها‬

‫لدولة اإلمارات العربي ّة المتّحدة كلمات قصيدة نقتطف منها األبيات التالية‪:‬‬

‫وجعلْـنـــــا موعِــ َ‬
‫د المـــــجد َغــدا‬ ‫َ‬ ‫عــادت الــرّايات تجتـــا ُ‬
‫ح المدى‬
‫الــبــحــر ويــنـــــــــــــــــهــد ُّ الــصــدى‬ ‫ٍ‬
‫إمــــارات على أبوابها يص ُرخ‬ ‫يـــا‬

‫ُ‬
‫وأيــــــــام الـــــــــحِ ــدا‬ ‫َّ‬
‫الصـــــــيــد‬ ‫ُ‬
‫زمــن‬ ‫ج رمــلــ ُه‬ ‫يــت ـ َلـ ّ‬
‫ـقــانــي خــلــي ـ ٌ‬
‫غربــة اإلبحــار فـي اللّيــل يـــــدا‬ ‫ســـاهـــم َمــــــد ْ‬
‫َّت له‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ــــــراع‬‫وش‬
‫ِ‬

‫ض َموعِـــــدا‬ ‫َّ‬
‫كـــل حـسنـــاءَ بــأر ٍ‬ ‫ت حــبَّــاتُــهــا‬
‫د ْ‬
‫واعــــــــ َ‬
‫َ‬ ‫وآللـــــــي‪..‬‬
‫ــمس كّعِ قْد ٍ ن ُ ِّ‬
‫ـــــضدا‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬
‫الش‬ ‫ط َلع‬
‫َم ْ‬ ‫إمـــــــارات فـــــــــــتــيَّـ ٍ‬
‫ـات على‬ ‫ٍ‬ ‫يـــا‬

‫وتتالت حفالت فيروز في اإلمارات والبحرين في الســنوات التالية‪ ،‬وكما في ّ‬


‫كل البلدان العربي ّة‬

‫تكتظ القاعــات ومدرجات المســارح التي تُغنّي عليها بالحضــور المتنوّع‪،‬‬


‫ّ‬ ‫التــي غنّــت فيهــا فيروز‬
‫ُظهر أ ّ‬
‫ن تأثير‬ ‫ســواء مــن مواطني بلدان المنطقة أم مــن الجاليات العربي ّة ُ‬
‫المقيمة فيهــا‪ ،‬ما ي ِ‬
‫هما عليه في بقي ّة البلدان العربي ّة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫يقاّلن عمّا ُ‬ ‫وحضورها الفنّي في بلدان الخليج العربي ال‬
‫َ‬ ‫فيروز‬
‫ن فيروز يتذوّق أغاني المراحل ُ‬
‫المختلفة لغنائها‪ ،‬ورب ّما تلقى‬ ‫ن الجمهور المهتمّ بف ّ‬
‫الحظ أ ّ‬ ‫ُ‬
‫والم َ‬

‫‪214‬‬
‫صدى أوســع لدى األجيــال الجديدة‪ ،‬لك ْ‬
‫ن تبقى كبيــرة في القلوب‬ ‫ً‬ ‫أغانيهــا مــن ألحــان ابنها زياد‬

‫وطني من رموز لبنــان‪ ،‬على الرّغم ممّا هو عليه من صعوبات‬


‫ّ‬ ‫مكانــة فيــروز كقامة ٍ فني ّة وكرمز ٍ‬
‫ومِ حــن اليــوم‪ ،‬ويبقــى فنّها فصال ً ُمضيئاً في التراث الغنائي والموســيقي العربــي عابراً للزمن‪،‬‬

‫تتوارثه الذاكرة الفني ّة والثقافي ّة العربي ّة‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫كريم جمال*‬

‫ُّ‬
‫تفــكك ثالوث الرحابنة‬ ‫فــي مطلــع عقــد الثمانيني ّات من القرن الماضي وبعد أشــهر قليلة من‬
‫برمــوزه الثالثة‪ :‬عاصــي ومنصور وفيروز‪َ ،‬أجرت مجلّة «الموعــد» اللّبناني ّة حواراً صحافيّاً مط ّ‬
‫والً‬
‫ٍ‬
‫حديث مكتوب للموعد»‪ ،‬وذلك‬ ‫مع السي ّدة فيروز نُشر تحت عنوان‪« :‬فيروز تقول ّ‬
‫كل شيء في‬
‫في عدد المجلّة الصادر يوم ‪ 10‬أبريل‪ /‬نيســان ‪ ،1980‬تحد ّثت فيه ســفيرتنا إلى النجوم السي ّدة‬
‫فيــروز عــن توابع زلزال خروجهــا من دائرةِ مؤسَّ ســة الرحابنة‪ ،‬وعن بعض مشــروعاتها الفنّي ّة‬
‫ُ‬
‫المقبلة‪..‬‬ ‫ُ‬
‫المكتملة وتلك‬ ‫القديمة غير‬

‫مــن ضمــن حوارهــا‪ ،‬تحد َّثــت فيــروز رب ّما ألوّل مــرّة بشــيءٍ من التفصيــل عن ُعمــق عالقتها‬
‫ّ‬
‫المجاّلت‬ ‫دها المصوّرون وأكَّدهــا ُم ِّ‬
‫حررو‬ ‫رص َ‬
‫أم كلثــوم‪ ،‬تلك العالقــة القديمة التي َ‬ ‫بالســي ّدة ّ‬
‫افتتحــت األخيرة مهرجان‬
‫َ‬ ‫ألم كلثــوم للبنان‪ ،‬وخصوصــاً منذ أن‬
‫ّ‬ ‫الفنيّــة مــع ّ‬
‫كل زيــارة تاريخي ّة‬
‫بعلبــك الدولــي للمرّة األولــى في تمّوز‪ /‬يوليــو ‪ .1966‬تقول فيروز لمجلّــة «الموعد»‪« :‬نعم‬
‫أم كلثوم‪ ،‬التقينــا للمرّة األولى عندما‬
‫كان هنــاك صداقــة طي ّبــة بيني وبين المطربــة الكبيرة ّ‬
‫زرت مصر‪ ،‬وكان لهــا خارج صوتهــا العظيم حضو ٌر أخّــاذ‪ ،‬لعلّه ال‬
‫ُ‬ ‫غنَّــت فــي بعلبــك‪ ،‬ثمّ عندمــا‬
‫يقــل قــدرة عــن صوتها في حب ّها واإلعجــاب بها‪ ،‬أمّا بالنســبة إلى معنى الفنّ‪ ،‬فقــد كان ل ُ‬
‫ِك ٍّل‬ ‫ّ‬

‫أم‬ ‫كل منّا أصــدق تعبير»‪ ،‬ثمّ تــردف قائلةً‪ّ « :‬‬


‫كل أغاني الســي ّدة ّ‬ ‫ن ّ‬ ‫منّــا رأي‪ ،‬ن ُ ِّ‬
‫عبــر عنــه فــي ف ّ‬
‫كلثــوم جميلــة‪ ،‬وتتميّــز بمقاطع تبلغ َحدّاً رائعاً من جمــال األداء‪ ،‬ولك ّ‬
‫ن ذلك ال يعني أ ّ‬
‫ن ما‬
‫ن ما ي ُناســبني ي ُناســبها‪ .‬هناك اختالف في النظرة إلى الف ّ‬
‫ن‬ ‫أم كلثوم ي ُناســبني أو أ ّ‬
‫ي ُناســب ّ‬
‫أم كلثوم‬ ‫مــن حيــث ما هو لحن وكالم وزمن‪ ،‬أقول هــذا وأعني األغنية‪ ،‬لذا فإ ّ‬
‫ن حب ّي ألغاني ّ‬

‫*كاتب وباحث في الموسيقى العربي ّة من مصر‬

‫‪216‬‬
‫ســتمع الــذي يتمنّى أن يكون له مــا لها‪ ،‬إنّني أبحث‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫عجب‪ ،‬ال حبّ‬ ‫ُ‬
‫الم َ‬ ‫ســتمع‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫هــو حبّ‬
‫عمّا ي ُناســبني وهكذا هي كانت!”‬

‫مشروعي ْن نسائي َّي ْن‬


‫َ‬ ‫أكبر‬

‫قاربة المنهجي ّة‬ ‫ــكل الجزء األخير من إجابة الســي ّدة فيروز مفتاحاً َمع ِْرفيّاً لفهْم تلك ُ‬
‫الم َ‬ ‫رب ّما ي َ‬
‫ُش ِّ‬
‫مشروعي ْن نسائي َّي ْن كانا لهُما أعمق األثر في رفْع مستوى األغنية العربي ّة أداءً وتعبيراً‬
‫َ‬ ‫بين أكبر‬
‫أم‬ ‫فاضلة؛ فعلى الرّغم مــن أ ّ‬
‫ن ميراث ّ‬ ‫قاربة ال تعني بالضــرورة ُ‬
‫الم َ‬ ‫الم َ‬ ‫وجمــاالً‪ .‬وأؤ ِّكــد هنــا أ ّ‬
‫ن ُ‬
‫ّ‬
‫يشكالن الظاهرتَي ْن النسائيّتَي ْن األعمق في الذاكرة العربي ّة‪ ،‬واألكثر‬ ‫كلثوم وحصيلة ما غنَّته فيروز‬
‫المشــروعي ْن‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬
‫التوافق في أهمي ّة‬ ‫ْش الغناء العربي إلى اليوم‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن ذلك‬ ‫اسْ ــتَحواذاً على َعر ِ‬
‫َ‬
‫قاربة بين الظاهرتَي ْن‪.‬‬ ‫قارنة‪ ،‬وي ُذكي ُ‬
‫الم َ‬ ‫التام‪ ،‬وذلك ما ينفي إمكاني ّة ُ‬
‫الم َ‬ ‫ّ‬ ‫يعني بالضرورة التطاب ُق‬
‫فطنت إليه فيروز في رد ّها على سؤال مجلّة «الموعد»؛ إذ أكَّدت أ ّ‬
‫ن ما يصلح لها‬ ‫ْ‬ ‫وهو األمر الذي‬
‫عجب‪ ،‬ال‬ ‫ستمع ُ‬
‫الم َ‬ ‫ِ‬ ‫اإلعجاب بينهما كان قائماً على منطق ُ‬
‫الم‬ ‫َ‬ ‫ألم كلثوم‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن‬ ‫ال يصلح بالضرورة ّ‬
‫أم كلثوم وفيروز مختلف‪ ،‬وطبيعة اللّغة‬
‫الفنّان الذي يســعى إلى التقليد؛ فمفهوم الغناء بين ّ‬
‫المشــروعي ْن تكاد تكون ُمتنافِ رة‪ ،‬باإلضافة إلى أ ّ‬
‫ن هوي ّة‬ ‫َ‬ ‫الشــعري ّة والمضامين الموسيقي ّة بين‬
‫ٍ‬
‫دالالت مجتمعي ّة وتاريخي ّة وسياسّ ــي ّة ُمختلفة‪ .‬ففي الوقت الذي َ‬
‫ســيطرت فيه‬ ‫ٍّ‬
‫كل منهما تحمل‬
‫الهوي ّة الغنائي ّة المصري ّة على امتداد األرض العربي ّة‪ ،‬قادت فيروز بتجربتها المركزي ّة مع الرحابنة‬
‫ّ‬
‫مســتقاّل ً له مالمح لبناني ّة واضحة‪ ،‬ويقوم في األســاس على ترســيخ االستقالل‬ ‫تي ّاراً ُموســيقيّاً‬

‫ْــف اللّهجة المصري ّة‪ ،‬وذلك بعدمــا َف َر َض رياض الصلح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتدعيــم اللهجــة اللبناني ّة في ُم َ‬
‫واجهة زح ِ‬
‫بصفتــه رئيســاً للوزراء ومســؤوالً عن اإلذاعــة اللّبناني ّة قــراره التاريخي في العــام ‪ 1943‬بفر ْض‬
‫اللّهجــة اللّبنانيّــة علــى كُتّاب األغاني بدالً من اللّهجــة المصري ّة‪ .‬كانت ّ‬
‫أم كلثــوم في تلك الفترة‬
‫دم نفسها إلى الجماهير العربي ّة باعتبارها صورة محدثة من طرب المشايخ القديم‪ ،‬إذ يقوم‬
‫تق ِّ‬
‫غناؤها على قدرة الصوت وإمكاني ّاته الهائلة‪ ،‬فضال ً عن نِظام الوصالت والتكرار الغنائي َّ‬
‫الطربي‪،‬‬
‫فتوثَّقــت الصلــة بيــن ّ‬
‫أم كلثوم وبين أنمــاط الغناء التراثي ّة التي كانت علــى دراية كبيرة بها‪ ،‬أي‬
‫تلك األشكال التي استَقَ تْها من المشايخ في صباها‪ ،‬واستغلَّت فنون التجويد واإلنشاد الديني‬
‫خاص بها‪ ،‬وهــو ما خا َلفته فيروز التي َقطعت كلّيّاً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتــاوة القــرآن في إنتاج نموذج غنائي جديد‬
‫منــذ أن غنَّــت «راجعة» و»عتاب» في العــام ‪ّ ،1953‬‬
‫كل الصالت بذلك النَّوع من الغناء‪ ،‬واعتم َ‬
‫دت‬

‫علــى األغنية القصيرة كنَهــجٍ غنائي‪ ،‬بعيداً من التكرار والتطريب المفتــوح‪ ،‬وبطريقة ٍ تكاد ت ُ ِ‬
‫قارب‬

‫‪217‬‬
‫ُّ‬
‫التقشــف في اســتغالل القــدرات الصوتي ّة‪ُ ،‬مســتدعي ًة في أدائهــا بعضاً مِ ن مخزون الكالســيك‬
‫المسيحي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الديني‬
‫حاو َل األخوان الرحباني المز ْ َج بين الغناء‬
‫َ‬ ‫وفي سياق التطوُّر الهائل الذي شهدته مسيرة فيروز‪،‬‬
‫ن على أساس الكلمة اللّبناني ّة‬ ‫العربي بصورته المحدثة والبسيطة وبين الموسيقى الغربي ّة‪ ،‬ولك ْ‬
‫الواضحــة‪ ،‬وفــي إطار توليفة ٍ رحباني ّة مســتقلّة عــن النموذج المصري الذي كانت تتزعّمه ســي ّدة‬
‫أم كلثوم؛ وهو ما نالحظه في «نحــن والقمر جيران»‪ ،‬و«يا مايلة على الغصن»‪،‬‬
‫الغنــاء العربــي ّ‬
‫و«البنت الشلبي ّة» والعديد من األغاني الفيروزي ّة‪.‬‬
‫ي الغناء النســائي هو قالب القصيدة الغنائي ّة؛ فالقصيدة عند‬ ‫ّ‬
‫وجه ْ‬
‫َ‬ ‫ولعل أبرز مالمح الخالف بين‬
‫أم كلثوم ذات ضوابط كالسيكي ّة واضحة‪ ،‬وذلك من حيث اللّحن والكلمات وطريقة األداء‪ ،‬فضال ً‬ ‫ّ‬
‫أم كلثوم‬ ‫َّ‬
‫تتخل ّ‬ ‫عــن الزمــن ومــد ّة الغناء‪ .‬وحتّى نهاية عقد الســتّيني ّات من القرن الماضي‪ ،‬لــم‬
‫ــر َض ذلك التحو ُّل الكبير في َمســيرتها بدءاً من أغنية «حبّ‬
‫عــن صرامــة تلك المعايير‪ ،‬إلى أن َف َ‬
‫متحررة َلحناً وكلم ًة‬
‫ِّ‬ ‫إيــه»‪ 1960 -‬ضرور َة تقب ُّل األنماط الجديــدة من الغناء العربي‪ ،‬فغنَّت قصائد‬
‫مــن ألحــان محمّد عبد الوه ّاب مثل «هذه َليلتي»‪ ،1968 -‬ثمّ قصيدتها الرائعة «أصبح عندي اآلن‬
‫بندقيّــة»‪ ،1969 -‬والتــي َيعتقد البعض أنّهــا من توزيع الرحابنة (من توزيــع آندريه رايدر)‪ ،‬وذلك‬
‫الموســيقي للمقامات الشرقي ّة‪ ،‬والذي كان ي ُخرجها من منطق التخت‬
‫ّ‬ ‫بســبب تفرّدهم بالتوزيع‬
‫أم كلثوم ذاتها تقول لعاصــي الرحباني خالل‬
‫الشــرقي‪ ،‬تلــك المقدرة فــي التوزيع التي َجعلــت ّ‬
‫ّ‬
‫«أنت في التوزيع إعجاز‪ ،‬دي الحقيقة‪ ،‬ما حصلش في الشرق‬
‫َ‬ ‫زيارتها لبنان في تمّوز‪ /‬يوليو ‪:1966‬‬
‫توزيــع علــى عِلم وأصول ّ‬
‫إاّل على يديك!»ـ وذلك كلّه طبعاً بخــاف الزمن القصير للقصيدة‪ ،‬الذي‬
‫ميَّــز القصيدة الفيروزي ّة عــن نظيرتها الكلثومي ّة‪ .‬فالقصيدة عند فيروز ال يتطلَّب أداؤها أكثر من‬
‫ّ‬
‫الموشــحات‬ ‫عشــر دقائق مثل «لملمت ذكرى األمس» و«ســنرجع يوماً إلى حي ّنا»‪ ،‬أو في نمط‬
‫َي فلسطين اللّتَي ْن َمألتا‬ ‫األندلسي ّة التي تُعتبر جزءاً ُمه ّ‬
‫ماً في مسيرة فيروز والرحابنة‪ ،‬أو كقصيدت ْ‬
‫الدنيــا َ‬
‫وشــغلتا المنطقة العربي ّة قبل هزيمــة حزيران‪ /‬يونيو ‪ 1967‬وبعدهــا‪« ،‬أجراس العودة»‬
‫ْ‬
‫افتتحت بها‬ ‫َ‬
‫«ســافرت القضي ّة» التــي‬ ‫و«زهــرة المدائــن»‪ ،‬باإلضافــة إلى القصيــدة النثري ّة الفذّة‬
‫السي ّدة فيروز مسرحي ّة «الشخص» في دمشق في العام ‪.1968‬‬

‫عناصر االئتالف واالختالف‬

‫َيطرح كتاب إينيس فاينريش «فيروز واألخوان رحباني‪ :‬الموســيقى والحداثة واألمّة في لبنان»‬
‫دداً عناصر واضحة مي َّزت‬ ‫(ألمانيــا‪ :‬دار إرغــون‪ )2006 ،‬تصوُّراً ُمه ّ‬
‫ماً عن ظاهرة فيروز الغنائي ّة‪ ،‬مح ِّ‬

‫‪218‬‬
‫أم كلثوم الســاطعة؛ فاألغنية عنــد الرحبانة وفيــروز ليس هدفها‬ ‫مشــروعها فــي ّ‬
‫ظل شــمس ّ‬
‫الطرب واإلحســاس بجمالي ّات الن َّ َغم الشرقي بقدر ترسيخ التعبيري ّة ومنْح األغنية ب ُعداً اجتماعيّاً‬

‫النص الرحباني وصوت فيروز‪ ،‬وذلك تعبيراً عن الحراك النهضوي واالستقاللي‬


‫ّ‬ ‫وسياسيّاً من خالل‬
‫الذي تولَّد في لبنان منذ عقد األربعيني ّات من القرن الماضي؛ فأغاني الســي ّدة فيروز قادرة على‬
‫الموســيقي بعيداً من أجواء الطرب المصري الذي كانت الســي ّدة ّ‬
‫أم كلثوم‬ ‫ّ‬ ‫إشــباع رغبة الذوق‬
‫ن الغناء المصري كان غنــاءً راكداً أو أنّه كان ال يخلو‬
‫ن هذا ال يعني بالضرورة أ ّ‬
‫علــى قمّتــه‪ ،‬بيــد أ ّ‬
‫المجتمع المصري‪ُ ،‬‬
‫ومتوافِ ق مع الوعي القومي‬ ‫ل كامل بتطــوُّر ُ‬ ‫ٍ‬
‫حراك تقد ُّمي مرتبط بشــك ٍ‬ ‫مــن‬
‫الذي نشــأ في أعقاب ثورة آذار‪ /‬مارس ‪1919‬؛ لك ّ‬
‫ن الخالف االجتماعي والسياســي بين المناخَي ْن‬
‫المشــروعي ْن‪ .‬فعلى َمدار خمســة عقود ُمتوالية َطبعت‬
‫َ‬ ‫المصري واللّبناني َول َّ َ‬
‫د ذلك التبا ُعد بين‬
‫أم كلثوم نَمطاً محد َّداً وواضحاً لمفهوم الغناء العربي الحديث‪ ،‬يقوم على األغنية الفردي ّة غير‬
‫ّ‬
‫عتمــدة علــى الميكروفون؛ إذ ظلَّت حتّى عام توقّفها عــن الغناء (‪ُ )1973‬م ِ‬
‫عتمد ًة على الغناء‬ ‫ُ‬
‫الم ِ‬
‫المباشر بالضغط على الحنجرة‪ ،‬مستغل َّ ًة إمكاناتها الصوتي ّة المديدة‪ُ ،‬‬
‫وم َطو َّع ًة نبرات صوتها في‬
‫تخطيها السبعين عاماً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مقدرة ٍ ُمذهلة حتّى مع‬
‫أم كلثوم ُ‬
‫المترجِ َم األهمّ‬ ‫وإذا كانــت األغنية الفردي ّة ُ‬
‫بصورهــا العاطفي ّة والديني ّة والوطني ّة عند ّ‬
‫المجتمع المصري‪ ،‬وخصوصاً عقب ثورة‬
‫للتحوّالت االجتماعي ّة والسياســي ّة الجذري ّة التي شــهدها ُ‬
‫تمّوز‪ /‬يوليو ‪ ،1952‬حتّى أنّها كانت أحياناً تدعو إلى تلك التحوّالت وتَدفع بها قدماً وسط قداسة ٍ‬

‫واألخوي ْن رحباني‬
‫َ‬ ‫ُمجتمعيّــة فريــدة أحاطت بصورتها المصري ّة والعربي ّة‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن المســرح عند فيروز‬
‫ْ‬ ‫ن للواقــع اللّبناني‪ ،‬وت‬
‫َرجمت تطوّراتِــه االجتماعي ّة‬ ‫كان المرآة الواســعة التي َعكســت رؤيــ َة الف ّ‬
‫ن مســرح فيروز والرحابنة كان َمسرحاً أصيال ً وظاهرة فريدة في‬
‫والسياســي ّة‪ .‬لذا ي ُمكن القول إ ّ‬
‫ن الشــعبي والتقاليــد اللّبناني ّة‪ .‬لك ْ‬
‫ن بالطبع‬ ‫تاريــخ الغناء العربي‪ ،‬بعدما اســتقى أفكاره من الف ّ‬
‫ي ُمكن تفســير أهدافه بلغة ٍ إنســاني ّة واسعة‪ ،‬ألنّه في جوهره كان دعو ًة للخير والجمال والتحرُّر‪،‬‬
‫وهو ما نالحظه في مســيرة فيروز المســرحي ّة بدءاً من «البلعلبكي ّة» في العام ‪ 1961‬وحتّى آخر‬
‫تعاون بينها وبين الرحابنة في مسرحي ّة «بترا» في العام ‪.1978‬‬
‫وصن ََع‬ ‫ّ‬
‫مســتقاّل ً عــن أغنية ّ‬
‫أم كلثــوم الفردي ّة‪َ ،‬‬ ‫المســرحي نموذجاً‬ ‫مــن هنــا َف َر َض غناءُ فيروز‬
‫ّ‬
‫عتمد باألســاس‬ ‫ُ‬
‫الم ِ‬ ‫خاصة بها تتناســب مع شــخصي ّة فيــروز الغنائي ّة‪ ،‬و َبل ْ َو َر جوهر صوتها‬ ‫ّ‬ ‫لغــ ًة‬
‫علــى الميكروفون‪ ،‬والقادر على التن ُّ‬
‫قل السَّ ــلِس بين الغنــاء الدرامي بالصوت الصدري وغناء‬
‫الــرأس (المســتعار)‪ ،‬وذلــك من خالل صياغــة صوتي ّة ُمحكمة وقــادرة على الغنــاء المنضبط‪،‬‬

‫‪219‬‬
‫وعلى اســتعمال ّ‬
‫كل تلك التلوينات الغنائي ّة‪ .‬فالمســرح الغنائــي ال يحتمل التطريب المفتوح‬
‫وال يســعى إلــى التكــرار الغنائــي وحالة التَّســل ْ ُ‬
‫طن‪ ،‬بل يهــدف إلى تكثيــف مظاهــر التعبيري ّة‬
‫ولنذكر هنا أغنية «بعلبك أنا شمعة على دراجك» في العام ‪ 1961‬وغيرها‪ .‬وال بد ّ من اإلشارة‬
‫ــل إلى كمالــه الذهبي في مســرح الرحابنــة تحديــداً‪ ،‬وإن كان ذلك‬
‫وص َ‬ ‫إلــى أ ّ‬
‫ن صــوت فيــروز َ‬
‫لــم َيمنــع ُملحّنين آخرين من اســتغالل قدراتهــا الصوتي ّة الكبيــرة‪ ،‬وبالطبع على رأس هؤالء‬
‫الموسيقار محمّد عبد الوه ّاب في روائعه الثالث معها «سهار»‪« ،1961 -‬سكن اللّيل»‪،1967 -‬‬
‫«مــرّ بــي»‪ ،1967 -‬باإلضافة إلى فيلمــون وهبي رائد األغنية الطربي ّة ذات النكهة الشــعبي ّة في‬
‫َمسيرة فيروز‪.‬‬
‫نجاح ٍّ‬
‫كل منهما‬ ‫َ‬ ‫أم كلثوم وفيروز‬
‫ي السي ّدتَي ْن ّ‬
‫مشروع ْ‬
‫َ‬ ‫رب ّما ت ُ ِّ‬
‫فسر تلك االختالفات العميقة بين‬
‫واستمراري ّة ظاهرتهما الغنائي ّة حتّى بعد مرور عقود ٍ طويلة على نقطة بدايتهما‪ .‬لذا ظلَّت فيروز‬
‫طوال ســنوات الخمســيني ّات والستّيني ّات من القرن الماضي تَحصد المزيد من النجاح والشهرة‬
‫ُالحظ ذلــك جليّاً في الزيارة‬
‫أم كلثوم ودولتها الغنائيّــة الكبرى؛ ورب ّما ي َ‬ ‫ّ‬
‫ظــل عصر ّ‬ ‫فــي مصــر في‬
‫لألخوي ْن رحباني وفيروز القاهرة في تشــرين األوّل‪ /‬أكتوبر‪ .1966‬فقد احتفَ ت بقدومهم‬
‫َ‬ ‫الثانية‬
‫ّ‬
‫كل الهيئات الفني ّة الرسمي ّة وغير الرسمي ّة في مصر‪ ،‬وأفردت صحف الجمهوري ّة العربي ّة المتّحدة‬
‫صفحــات كاملــة في مــدْح ذلك اللّــون الغنائي الممي َّز‪َ ،‬‬
‫وأجــرت فيروز واألخــوان رحباني مقابل ًة‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫تلفزيوني ّة مهمّة في التلفزيون العربي أدارتها اإلعالمي ّة سلوى حجازي‪ ،‬وفي الوقت ذاته واص َلت‬
‫أم كلثوم تأســيس مجدها الموســيقي وتحقيق نجاحات هائلة في مســيرتها الطربي ّة حتّى مع‬
‫ّ‬
‫ظهــور ألــوا ٍ‬
‫ن عصري ّة مــن ف ّ‬
‫ن الغناء العربــي‪ ،‬وتمد ُّد المشــروع الرحباني‪ -‬الفيروزي وتوسّ ــعه‪،‬‬
‫وخصوصــاً مــع شــيوع األيديولوجي ّات اليســاري ّة في المنطقــة العربي ّة‪ ،‬وتبنّــي المث ّ‬
‫قفين العرب‬

‫ن وجمالي ّاته‪ ،‬وهو ما يؤكّد أنّه على الرّغم من الخالف الجذري بين صورت ْ‬
‫َي‬ ‫النظر َة االشتراكي ّة للف ّ‬
‫ن عوامل االئتالف ‪ -‬وإن كانت قليلة‪ -‬ال تزال متوافرة‪ .‬ففرادة موهبة ٍّ‬
‫كل‬ ‫الغناء النســائي‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫المشروعي ْن‬
‫َ‬ ‫شتر َكي ْن البارزَ ي ْن في بقاء‬
‫َ‬ ‫منهما‪ ،‬والقدرة على التجد ُّد واالنبعاث‪ ،‬كانا العام َلي ْن ُ‬
‫الم‬
‫واستمراري ّتهما‪.‬‬
‫ُ‬
‫صوت اإلنسان في اإلجمال وتنخفض فيه بالتدريج قدراته الصوتي ّة‪،‬‬ ‫ففي الوقت الذي ينحدر فيه‬
‫أم كلثوم تكتسب مزيداً من الجماهيري ّة العريضة مع ملحّنيها الجُدد‪ :‬محمّد عبد الوه ّاب‪،‬‬
‫كانت ّ‬
‫بليــغ حمــدي‪ ،‬محمّد الموجي وغيرهم‪ .‬وعلى الض ّ‬
‫فة األخرى‪ ،‬كان خرو ُ‬
‫ج فيروز من دائرة الرحابنة‬
‫في نهاية السبعيني ّات من القرن الماضي أمراً حتميّاً ِلت ْ‬
‫َشكيل مرحلة جديدة ُ‬
‫ومهمّة في َمسيرتها‬

‫‪220‬‬
‫مع ابنها الموســيقار زياد رحباني‪ .‬ورب ّما هي المصادفة وحدها التي َجعلت مرحلة االنبعاث تلك‬
‫في حياة فيروز ُمطا ِبقة لتلك المرحلة التجديدي ّة األخيرة في حياة ّ‬
‫أم كلثوم؛ إذ كانت المرحلتان‬

‫شك أنّهما َمن َ‬


‫َحتا لصاحبتي ْهما مزيداً من‬ ‫ّ‬ ‫تضاربة بين القبول والرفض‪ .‬لكن ال‬
‫ِ‬ ‫ل وآراء ُم‬
‫وضع جد ٍ‬
‫َ‬ ‫َم‬
‫أم كلثوم‪ ،‬وال عصر فيروز الذهبي‪،‬‬ ‫ل لم ت ُ ِ‬
‫عاصر وه ْــج غناء ّ‬ ‫النجــاح والرصيــد الجماهيري بين أجيا ٍ‬
‫ن العربي‪ ،‬و ُعمق مشــروعهما واتّصالهما بالحضارة العربي ّة‬
‫الم َك ِّو ِ‬
‫وهو ما يؤ ِّكد صلة الســي ّدتَي ْن ِب ُ‬
‫بمفهومها الواسع والشامل‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫عمرو ماهر*‬

‫األخوي ْن رحباني في شــباط‪ /‬فبرايــر من العام‬


‫َ‬ ‫ــر ْ‬
‫ت فيــروز إلــى مصر للمــرّة األولى مــع‬ ‫َح َض َ‬
‫‪ ،1955‬وبالتحديــد بعــد ثالثة أســابيع من زواج فيــروز وعاصي الرحبانــي‪ ..‬كانت هذه الزيارة‬
‫بدعوة ٍ من إذاعة «صوت العرب»‪ ،‬ليقوم الثالثي بتســجيل عدد ٍ من األعمال‪ ...‬والحقيقة أنّ‬

‫واألخوي ْن رحباني يســبق تاريخ ‪23‬‬


‫َ‬ ‫تاريــخ الدعــوة التي وجَّهتهــا إذاعةُ «صوت العرب» لفيروز‬

‫كانــون الثانــي‪ /‬يناير ‪ ،1955‬وهو تاريخ زفــاف فيروز من عاصي‪ ..‬بمعنى أنّ اإلذاعة المصري ّة‬
‫للثالثي‪ ،‬مــا َد َف َع بعاصي إلى التعجيل بالزواج ‪ -‬وهو ما كان ســيحدث عاجال ً‬
‫ّ‬ ‫وجَّهــت الدعــوة‬
‫ُ‬
‫المحافِ ظة‬ ‫أو آجــا ً ‪ -‬إذ إنّــه لــم ُ‬
‫يكــن مــن المعقول أو المقبول لآلنســة الشــاب ّة الخجــول‬
‫ّ‬
‫وتظــل هناك لمد ّة طويلة مــن دون أن يكون هناك‬ ‫فيــروز أن تَقبــل الســفر إلى القاهرة‪،‬‬

‫رسمي بعاصي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫رباط‬

‫يحــبّ الجمهــور المصري َمن يســعى إليه ويتقرَّب منــه‪ ،‬ي ُغنّي بلهجته ولســانِه ويمدحه ويمدح‬

‫األخوي ْن رحباني طوال تاريخهم الفن ّ ّ‬


‫ي‪.‬‬ ‫َ‬ ‫زعمــاءه‪ ،‬وهــو ما لم تفعله فيروز مع‬

‫مكثــت فيــروز‪ -‬العروس الجديدة‪ -‬في مصر مع زوجها عاصي الرحباني ما يقارب الســتّة أشــهر‪،‬‬
‫َ‬

‫وهي أطول مد ّة تترك فيها فيروز واألخوان رحباني لبنان على َمدار تاريخهم الفنّي والمعيشي‪..‬‬

‫فــي تلك الفترة ســجَّلت فيروز ألحانــاً إلذاعة «صوت العرب» إمّــا بلهجتها اللّبنانيّــة أو بالعربي ّة‬
‫األخوي ْن رحباني فقط‪ ،‬لدرجة ٍ أثارت حفيظة ُ‬
‫الملحّنين المصري ّين‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫األلحان على‬ ‫واقتصرت‬
‫ِ‬ ‫الفصحى‪،‬‬

‫األخوي ْن‪ ..‬وفــي فترة وجودهم في مصر أيضاً مرَّت عليهم ذكرى ثورة يوليو‪،‬‬
‫َ‬ ‫فبــدأ الهجــوم على‬

‫األخوي ْن اعتذرا‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫ّ‬
‫لكل َمن يحبّ التقرُّب من الشعب المصري والسلطة بالطبع‪ ،‬ولك ّ‬ ‫وهي فرصة‬

‫األخوين رحباني وفيروز‬


‫َ‬ ‫ن‬ ‫ّ‬
‫مختص بف ّ‬ ‫*باحث مصري‬

‫‪224‬‬
‫متفرداً‪ ،‬ي ُحب ّها ويعشق‬
‫ِّ‬ ‫فظ َّ‬
‫ظل َموقع فيروز من الجمهور المصري‬ ‫شاركة‪ ..‬إزاء هذا التح ُّ‬
‫َ‬ ‫عن ُ‬
‫الم‬

‫صوتهــا على الرّغم من عائق اللّهجة اللّبناني ّة‪...‬‬

‫األخوي ْن رحباني فكرة إعادة توزيع بعض ألحان الشــيخ‬


‫َ‬ ‫بعــد الزيارة األولى لمصر ترسّ ــخت لــدى‬

‫كل ســنة مرّة» و»طلْعت يا َمحــا نورها» و»الحلوة‬


‫ســي ّد درويــش‪ ،‬فقد َّما مع فيروز «زوروني ّ‬

‫ن يا ترى هل مشــكلة اللّهجــة وحدها هي ما كان يحد ّ من انتشــار‬


‫دي» فــي العــام ‪ ..١٩٥٧‬ولكــ ْ‬

‫أم كلثوم هــي وراء عدم انتشــار فيروز فــي أرض الكنانة‪،‬‬
‫ن ّ‬‫فيــروز فــي مصــر؟ يــرى البعــض أ ّ‬

‫أم كلثوم معروفة وحقيقي ّة‪ ،‬ولكنّها بالعقل والمنطق ال يد لها في ذلك‪..‬‬ ‫والحقيقة أ ّ‬
‫ن سطوة ّ‬
‫تعالوا لنتبي ََّن ذلك‪.‬‬

‫ت الوحدة بين مصر وســوريا‪ ،‬وفي أيلول‪ /‬ســبتمبر‪ 1961‬انفسخت‬


‫قام ِ‬
‫َ‬ ‫في شــباط‪ /‬فبراير ‪1958‬‬
‫وأعادت ْ‬
‫نشــر قصيدة‬ ‫الوحدة‪ ..‬هلَّلت جريدة «األخبار» اللّبناني ّة (يســاري ّة التوجُّه) لذلك االنفصال‪َ ،‬‬

‫ع من الفرح والمباركة‪ ،‬تلك القصيدة التي غنَّتها فيروز‬


‫سائليني لسعيد عقل على صفحاتها كنَو ٍ‬
‫ّ‬
‫الكل يعرف طبعاً أهمي ّة فيروز لدى الســوري ّين‪ ،‬وهكذا‬ ‫في دمشــق في العام الســابق ‪..1960‬‬

‫رســمي‪ ،‬بدأت أغاني فيروز تنحســر من اإلذاعة المصري ّة‪..‬‬


‫ّ‬ ‫ع من النكاية‪ ،‬ومن دون أمر ٍ‬
‫وكنَو ٍ‬
‫ِكر ســيرة فيروز‪ ،‬ذلــك أنّه في نهاية العام‬
‫ثمّــة حكاية تســتعيدها الصحافة المصري ّة مراراً مع ذ ِ‬
‫زار صــاح جاهيــن وصــاح عبد الصبــور منزل عاصي وفيروز‪ ،‬ويروي عبــد الصبور كيف َبدت‬
‫‪َ 1960‬‬
‫شــارك في الحديــث الثقافي الدائر‬
‫ِ‬ ‫ســت البيت فقط‪ ،‬من دون أن ت ُ‬
‫ّ‬ ‫دور‬
‫فيــروز صامتــة تقــوم ب َ‬
‫ن األمر ال يعنيها‪ ،‬أو كأنّهــا ال تعرف كيف‬
‫األخوي ْن رحبانــي‪ ،‬وكأ ّ‬
‫َ‬ ‫الكبيريْــن وبيــن‬
‫َ‬ ‫الشــاعري ْن‬
‫َ‬ ‫بيــن‬

‫ــر عبد الصبور الحكاية في مجلّة «روز‬


‫َش َ‬‫ُلمح‪ ،‬ون َ‬
‫شــارك في الحديث‪ ،‬كما أحبَّ عبد الصبور أن ي ِّ‬
‫ِ‬ ‫تُ‬

‫اليوســف»‪ ..‬مــن وقتهــا وهذه الواقعــة دائماً ما توردهــا الصحافة كنَو ٍ‬


‫ع مــن الطرافة‪ ،‬غير أ ّ‬
‫ن‬

‫الحكاية ال تنتهي عند هذ الحد ّ؛ ثمّة تتمّة لها من الجانب اللّبناني‪ ،‬إذ لم يمرّ ما قاله عبد الصبور‬

‫عن فيروز بسالم‪ ،‬وفي األسبوع التالي رد َّت جريدة «األخبار» اللّبناني ّة بقوّة على صفحتها األولى‬
‫ّ‬
‫يعض فيروز» (أي أنّه من قوّات مباحث عبد الناصر) وفيه اســتنكرت ما قاله‬ ‫بعنــوان «مباحثــي‬

‫عبد الصبور عن أهل البيت الذي فتح له أبوابه واســتضافه‪.‬‬

‫األخوي ْن رحباني فيه‪ ،‬اختفت أغاني فيروز‬


‫َ‬ ‫و المشــحون والذي ال ذنب لفيروز أو‬
‫وســط هذا الج ّ‬
‫ّ‬
‫ظل األمر على هذا الحــال الغريب حتّى العام‬ ‫عــن اإلذاعــة المصري ّة بأمر غير مرئي أو رســمي‪..‬‬

‫‪225‬‬
‫‪ ،1966‬حيــن ضــ ّ‬
‫ج عاصي الرحباني وصرَّح للكاتب المصري د‪ .‬محمود أمين العالِم أ ّ‬
‫ن أغاني فيروز‬

‫ممنوعــة في الجمهوريّــة العربي ّة المتّحدة‪ ..‬تناقلت الصحافة المصري ّة هذا التصريح واســتنكرته‬
‫ّ‬
‫بكل ثقة وقوّة‪.‬‬ ‫ونَفته‬
‫ّ‬
‫بحق‪ .‬فبعد تصريح عاصي الرحباني َصدرت من‬ ‫ُ‬
‫عام فيروز‬ ‫بالنسبة إلى مصر‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن العام ‪ 1966‬هو‬

‫واألخوي ْن رحباني لزيارة الجمهوري ّة العربي ّة المتّحدة‪ .‬عادت‬


‫َ‬ ‫ٌ‬
‫دعوة لفيروز‬ ‫وزارة اإلرشاد المصري ّة‬

‫ث من اإلذاعة المصري ّة‪.‬‬ ‫ّ‬


‫والمجاّلت المصري ّة‪ ،‬وعادت أغانيهــا ت ُ َب ّ‬ ‫فيــروز وأخبارها تتصــد َّر الجرائد‬

‫أســبوعي ْن‪َ ،‬أجرت‬


‫َ‬ ‫األخوي ْن في القاهرة لمد ّة‬
‫َ‬ ‫ومكثت مع‬ ‫ــر ْ‬
‫ت فيــروز إلى مصر للمرّة الثانية َ‬ ‫َح َض َ‬
‫خاللهمــا العديــد من اللّقاءات الصحافيّــة وتعرَّف عليها الجمهور المصــري أكثر وأكثر‪َ ،‬‬
‫وظهرت‬
‫علــى شاشــة التلفزيــون المصــري‪ ..‬واألمر المجهول الــذي ال يعرفه أحد‪ ،‬أ ّ‬
‫ن الدعوة الرســمي ّة‬
‫ُ‬
‫وزارة الثقافة مرّة‬ ‫شــهري ْن من عودتهــا إلى لبنــان‪َ ،‬دعتهــا‬
‫َ‬ ‫لفيــروز تكــرَّرت للمــرّة الثانيــة بعد‬

‫واألخوي ْن اعتذروا‬
‫َ‬ ‫ثانيــة لحضــور افتتــاح العرض التجاري لفيلمهــا «بي ّاع الخواتم»‪ ،‬لك ّ‬
‫ن فيــروز‬

‫لمشاغلهم الفني ّة‪.‬‬


‫َ‬
‫َي‬
‫بعد العام ‪ 1966‬اقتربت فيروز أكثر وأكثر من الجمهور المصري‪ ،‬الذي شــاهدها على شاشــت ْ‬
‫أم كلثوم وفيروز‪ ،‬وخصوصاً بعد‬
‫ي خالف أو صراع بين ّ‬
‫التلفزة والسينما وعرف أن ليس هناك أ ّ‬
‫أن زارتها فيروز في َبيتها مرّتَي ْن‪.‬‬

‫ظهرت من جديد مشــكلة اللّهجة‬


‫ْ‬ ‫ْض فيلم «بي ّاع الخواتم» فــي دُور العرض المصري ّة‪،‬‬
‫ومــع عــر ِ‬
‫ن شــركة التوزيع المصريّــة َوضعت ترجم ًة باللّغة العربي ّة على شــريط الفيلم‪،‬‬
‫اللّبنانيّــة‪ ،‬لدرجة أ ّ‬

‫ن كلمات األخوي ْن ليست لبناني ّة فحسب‪ ،‬بل هي ُمغرقة في َلهجتها المحلّي ّة اللّبناني ّة‪..‬‬
‫والحقيقة أ ّ‬
‫وتعمّقــت العالقــة أكثر وأكثر مع الجمهــور المصري‪َ ،‬‬
‫وظهرت فيروز علــى صفحات «الكواكب»‬
‫ف ِة دم وسالســة ٍ وذه ٍ‬
‫ن حاضر‪.‬‬ ‫المعجبين من مصر واألقطار العربي ّة‪ ،‬بخ ّ‬
‫ترد ّ على رســائل القرّاء ُ‬

‫ّ‬
‫محطات اإلذاعة‬ ‫بعد وفاة جمال عبد النّاصر في خريف العام ‪ ،1970‬وأثناء فترة الحداد‪ ،‬لم تَجِ د‬

‫المصري ّة على اختالفها سوى أغاني فيروز لتذيعها‪ ،‬لِما فيها من صدق وبساطة وجمال شفيف‪.‬‬

‫َكت َ‬
‫َب الناقد الموســيقى كمال النجمي في «الكواكب» بتاريخ ‪ 20‬تشــرين األوّل‪ /‬أكتوبر ‪:1970‬‬

‫«األغانــي اختفــت تمامــاً عد ّة أي ّام مــن اإلذاعــات المصري ّة والعربي ّة بســبب الحداد الشــامل‪..‬‬

‫وانفــردت مطربــة لبنــان فيروز بكثرة أغانيها الصالحة للســماع في هــذه الظروف‪ ،‬من دون أن‬

‫‪226‬‬
‫ُ‬
‫تكــون أناشــيد وطني ّة أو أدعية دينيّــة‪ ..‬فأغاني فيروز التي أذيعت في األســابيع الثالثة األخيرة‪،‬‬

‫المســتمع في جميع حاالته النفســي ّة‪ ،‬ألنّها تُخاطب‬


‫ُ‬ ‫ظروف الحداد‪ ،‬ت ُ ِ‬
‫خاطب‬ ‫ِ‬ ‫وما زالت تُذاع في‬

‫الوجــدان اإلنســاني فــي حاالت حزنه وألمه وراحته على الســواء‪ ..‬والحزن عند فيــروز والرّحابنة‬

‫ليــس نابعــاً مــن نغمة ٍ حزينــة يتمّ تركيبها علــى أ ّ‬


‫ي كالم‪ ،‬وإنّما هو نابع من بنــاء األغنية كالماً‬

‫ســتمع إلى‬
‫ِ‬ ‫ولحنــاً وأداءً وصوتــاً‪ ..‬وال توجــد فــي أغاني فيروز أغنية واحــدة ينقلب بها حُزن ُ‬
‫الم‬

‫ل ويأس‪ ،‬أو ينقلب بها َفرحه إلى صخبٍ وقلّة عقل‪ ..‬لهذا فكان صوت فيروز يغنّي في جميع‬
‫عوي ٍ‬
‫اإلذاعات طوال األسابيع الماضية»‪.‬‬

‫قد َّمــت فيــروز أوّل حفــل غنائي لها في مصر في العام ‪ ..1976‬وقام األديب يوســف الســباعي‪،‬‬
‫الرئيــس الفخــري لجمعيّــة كتّــاب ون ّ‬
‫قاد الســينما ورئيس مجلــس إدارة «مؤسّ ســة األهرام»‬
‫ورئيس التحرير فيها‪ ،‬بتكريم فيروز باســم جمعي ّة كتّاب ون ّ‬
‫قاد الســينما في قاعة البانوراما في‬

‫جريدة «األهرام»‪ ،‬حيث ســلَّمها جائزة التقدير الذهبي ّة وتمثال لإللهة المصري ّة إيزيس‪..‬‬

‫ي‬
‫زياد الرّحباني والجمهور المصر ّ‬

‫عــرف الجمهور المصري موســيقى زياد‪ ،‬قبل أن يعرف زياد نفســه‪ ..‬فــي العام ‪َ 1973‬أطلق زياد‬

‫األخوي ْن رحباني باإلضافة إلى‬


‫َ‬ ‫أوّل أســطواناته الموســيقي ّة‪ ،‬وفيها إعادة توزيع لعدد ٍ من ألحان‬

‫َلحْنَيْــن لســي ّد درويش‪ ..‬تمّ اســتخدام تلــك المقطوعات كثيراً كموســيقى تصويري ّة في العديد‬

‫المرحة ِل َلحْن ْ‬
‫َي‬ ‫ّ‬
‫بخاصة التوزيعات َ‬ ‫من األفالم المصري ّة في فترة السبعيني ّات من القرن الماضي‪،‬‬

‫سي ّد درويش‪.‬‬

‫كمــا تمَّ اســتخدام موســيقى مقد ّمة «نــزل الســرور»(‪ )1974‬لبرنامــجٍ بعنوان «كانــت أي ّام»‪،‬‬

‫«ميس الرّيم» (‪ )1975‬لبرنامجٍ تليفزيوني بعنوان «سلوكي ّات»‪ ..‬وموسيقى‬


‫وموسيقى مقد ّمة َ‬
‫«أبو علي» (‪ )1979‬لمسلســل اســمه «الوليمة»‪ ..‬شاعت ّ‬
‫كل تلك األلحان في مصر من دون أن‬
‫يعرف الجمهور المصري أنّها من ْ‬
‫وضع الشــابّ زياد الرحباني‪.‬‬

‫تحمّســت الصحافــة المصري ّة لزياد الرحبانــي‪ ،‬منذ أن كان صبيّاً بعد‪ ،‬وهو الــذي تكوَّن جنيناً في‬
‫ُ‬
‫الصحافــة المصري ّة‬ ‫بطــن أمّــه‪ ،‬وهــي مــا زالت في رحلة مصــر (‪ .)1955‬فــي العــام ‪ 1971‬احتفت‬

‫بنبوغ الرحباني الصغير ونَشرت جريدة «الجمهوري ّة» بتاريخ ‪ 27‬آب‪ /‬أغسطس‪ 1971‬مقاالً بعنوان‬

‫ــر‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫«النابغــة يكتب الشــعر في ســ ّ‬


‫الخبر مع نش ِ‬
‫َ‬ ‫المجــات المصري ّة‬ ‫ن العاشــرة»‪ ،‬بعدهــا تناقلت‬

‫‪227‬‬
‫مقاطــع مــن شــعر زياد من ديــوان «صديقــي اللّه»‪ .‬ومــع إصابة عاصــي الرحباني فــي أيلول‪/‬‬

‫الصحافة المصريّــة اهتماماً أكبر وأكبر بفيروز وأخبارهــا‪ ،‬وهلَّلت لمعجزة‬


‫ُ‬ ‫ســبتمبر ‪َ 1972‬أبــدت‬
‫تعجبــة ُ‬
‫ومعجبة‬ ‫وباركــت تعــاون زيــاد األوّل مع فيروز فــي أغنية «ســألوني الناس»‪ُ ،‬م ِّ‬
‫َ‬ ‫نجاتــه‪،‬‬

‫ُلحن لوالدته الفنّانة الكبيرة‪ .‬كما تنب َّه يوســف شــاهين َ‬


‫لموهبة‬ ‫بالفنّان الشــابّ الصغير الذي ي ِّ‬
‫ْ‬
‫وض ِع الموسيقى التصويري ّة‬ ‫عرض مسرحي ّته الثانية «نزل السرور» واتَّفق معه على‬
‫َ‬ ‫وح َض َر‬
‫زياد‪َ ،‬‬
‫لفيلم «عودة االبن الضال»‪ ،‬لك ّ‬
‫ن المشــروع لم يتمّ ‪.‬‬
‫ــر ْ‬
‫ت فيــروز إلى مصر للمــرّة الرّابعــة‪ ،‬وتالقت مع جمهورهــا العريض من‬ ‫فــي العــام ‪َ 1989‬ح َض َ‬
‫ْ‬
‫وصلت فيروز في توقيــت عودة العالقات‬ ‫حفل ســفح األهرامات الشــهير‪.‬‬
‫ِ‬ ‫مصري ّيــن وعــرب في‬

‫م اللّبناني على سفارة لبنان في القاهرة‪ ،‬وأقاموا لها‬


‫الع َل ُ‬
‫الدبلوماسي ّة بين مصر ولبنان‪ ،‬و ُرفع َ‬
‫حفل َة اســتقبا ٍ‬
‫ل في الســفارة‪ .‬كان حفل الصوت والضوء فرص ًة عظيمة لتوطيد عالقة المصري ّين‬

‫افتتحت فيــروز الحفالت بأغنية «أهــو دة اللّي صار» لســي ّد درويش من‬
‫َ‬ ‫بفيــروز وأعمــال زيــاد‪.‬‬

‫توزيــع زيــاد الرحباني‪ ،‬واســتمع الجمهور لجديــد فيروز وزياد مثل «رح نبقى ســوى» و«عودك‬

‫دد بتوزيعات زياد‪.‬‬


‫اســتمع لقديم فيروز المتج ِّ‬
‫َ‬ ‫رنّان» و«أغنية الوداع»‪ ..‬كما‬
‫فــي التســعيني ّات مــن القرن الماضي وبعد صــدور ألبوم «كيفك إنت» عــام ‪ 1991‬وألبوم «إلى‬

‫عاصــي» عــام ‪ 1995‬بات زيــاد الرحباني هو المدخل الرئيس لعا َلم فيروز بالنســبة إلى الشــباب‬

‫المصري‪ ،‬وهذا القول ي ُمكن تعميمه على الشــباب العربي أيضاً‪ .‬ومن دون ُمبا َلغة‪ ،‬إنّه ما من‬

‫شــاب فــي الوطن العربي أو فــي أي بلد ٍ من العا َلم يزعم أنّه يحبّ فيروز أو ي ُطلق على نفســه‬
‫ٍّ‬
‫اسماً فيروزيّاً ّ‬
‫إاّل وقد استُدرج في البداية عن طريق زياد‪ .‬إنّه األبّ األوّل الذي يندهك فيروزيّاً‪،‬‬

‫األخوي ْن رحباني‪.‬‬
‫َ‬ ‫طريقك فتتعرَّف إلى‬
‫َ‬ ‫أنت أن تكمل‬
‫َ‬ ‫ثــمّ ال تلبث‬
‫ينبغــي ّ‬
‫أاّل ننســى أيضــاً ألحــان فيلمــون وهبــي لفيروز‪ ،‬وهي لســببٍ مــا معروفــة ومحبوبة‬

‫األخويْــن رحباني‪ -‬أو الجديدة‬


‫َ‬ ‫للشــعب المصري‪ ،‬ســواء القديمــة منها‪ -‬أي التي كانــت بمعي ّة‬
‫التــي َصــدرت في الثمانيني ّات‪ ..‬رب ّما الســبب الظاهــر أ ّ‬
‫ن معظمها ألحان شــرقي ّة َط َربي ّة هادئة‬
‫ْمهــا وتل ّ‬
‫قيها من‬ ‫ُســهل َفه َ‬
‫ِّ‬ ‫تتخلّلهــا «ســل ْ َطنة» مــا‪ ،‬ورب ّمــا أيضاً لوضــوح الكلمات فيهــا‪ ،‬ما ي‬

‫ستمع المصري‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الم‬

‫فــي األلفيّــة الثالثــة‪ ،‬ومع انتشــار اإلنترنــت‪ ،‬وبعد ظهور «يوتيــوب» وغيره‪ ،‬أصبح من الســهل‬

‫‪228‬‬
‫والمتاح أن يصل الشباب المصري والعربي في ّ‬
‫كل مكان ألعمال فيروز‪ ،‬ويتعرَّفوا على الجانب‬ ‫ُ‬

‫ن َمن تغنّي األغنية األيقوني ّة «حب َّيْتَك بالصيف»‬ ‫المسرحي ُ‬


‫المهمّ من فنِّها‪ ،‬وأن يعرفوا‪ -‬مثال ً‪ -‬أ ّ‬

‫هــي هيفــا التي ترتِّــب الدكّان‪ ،‬بينما تكاد تتجمّد من البرد نتيجة ســوء األحوال المعيشــي ّة في‬

‫مســرحي ّة سياسي ّة انتقادي ّة هي مسرحي ّة «يعيش يعيش» (‪.)1970‬‬

‫‪229‬‬
‫محبّ جميل*‬

‫منــذ أن بــدأت َمســيرتها الغنائيّــة‪ ،‬باتــت فيــروز واحد ًة مــن أبرز األســماء الحاضــرة بقوّة في‬
‫الشخصي أيضاً‪.‬‬ ‫السمعي فقط‪ ،‬بل‬ ‫الذاكرة المصري ّة‪ .‬فلم ُ‬
‫يكن هذا الحضور قاصراً على النِّطاق‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األخوي ْن رحباني أن تَحجزَ لنفســها مقعداً‬
‫َ‬ ‫شــاركة‬
‫َ‬ ‫الممتد ّة ُ‬
‫بم‬ ‫ُ‬ ‫واســتطاعت عبر رحلتها الغنائي ّة‬
‫َجحت فيــروز مع مرور الزَّمــن في أن تُصبــح ُمعا ِدالً‬
‫ْ‬ ‫ّ‬
‫الصــف األوّل‪ .‬لقــد ن‬ ‫متم ِّيــزاً بيــن نجمــات‬
‫متنوع‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ي‬ ‫ٍ‬
‫وإرث حضار ّ‬ ‫ثقافي‬ ‫ّ‬
‫بكل ما فيه من طبيعة جغرافي ّة ساحرة ومزيجٍ‬ ‫موضوعيّاً للبنان‬
‫ّ‬

‫ّ‬
‫المحطات التي‬ ‫وإن كنّــا هنــا نتحد ّث عن فيروز في الذاكرة المصري ّة‪ ،‬فال بد ّ من التوقُّف عند أبرز‬
‫األخوي ْن رحباني ثالث مرّات‪ :‬األولى في‬
‫َ‬ ‫زارت خاللها مصر وغنَّت لشــعبها‪ .‬فقد زارت مصر برفقة‬
‫العام ‪ ،1955‬والثانية في العام ‪ ،1966‬والثالثة في العام ‪ 1976‬قبل أن تزورها ُ‬
‫بمفردها – عقب‬
‫انفصالها فنيّاً عنهما – في العام ‪.1989‬‬

‫«صوت العرب»‬
‫دعوة من َ‬
‫األخوي ْن رحباني التي تبثّها «إذاعة الشــرق األدنى» وأســطوانة (يابا ال‬
‫َ‬ ‫كانــت أغنيــات فيروز مــع‬
‫ال) قــد َجذبت أســماع العديــد من الشــخصي ّات الفني ّة واإلذاعيّــة في القاهرة إلى هــذه التجربة‬

‫*كاتب من مصر‬

‫‪230‬‬
‫المختلفــة وعلــى رأســهم جميعاً‪ :‬محمّد عبد الوه ّاب ومدحت عاصم ومحمّد حســن الشــجاعي‬
‫ُ‬
‫وأحمــد ســعيد‪ ،‬الذي با َد َر بإرســال دعــوة لهم من «إذاعة صــوت العرب» للحضــور إلى القاهرة‬
‫وتســجيل مجموعة من األغنيات واألعمال اإلذاعي ّة‪ .‬القت هذه الدعوة ترحيباً كبيراً من َطرفهم‪،‬‬
‫المخرج صبري الشــريف‪ .‬ودخلوا جميعاً مبنــى اإلذاعة المصري ّة‬
‫بمرافقة ُ‬
‫فحضــروا إلــى القاهرة ُ‬
‫للمــرّة األولــى فــي ‪ 14‬شــباط‪ /‬فبراير ‪ .1955‬كانت هذه فرصة ســانحة لفيروز الســتكمال شــهر‬
‫ّ‬
‫المجاّلت الفني ّة‬ ‫العســل‪ ،‬وخصوصــاً أ ّ‬
‫ن زواجهــا من عاصي كان قد مرَّ عليه ثالثة أســابيع‪ .‬وبدأت‬
‫ّ‬
‫مجاّلت «أهل‬ ‫ٍ‬
‫قابالت عد ّة في‬ ‫في مصر تستقبلهم بترحابٍ شديد وتُقد ّمهم للجمهور من خالل ُم‬
‫الفنّ» و«اإلذاعة المصري ّة» و«الجيل»‪.‬‬

‫األخويْــن رحباني حوالى ‪ 48‬عمال ً غنائيّاً لصالــح إذاعة صوت العرب؛ من‬
‫َ‬ ‫وقــد ســجَّلت فيروز مع‬

‫بينها قصيدة «مرحباً» للشــاعر محمود حســن إســماعيل و«ســوف أحيا» للشاعر مرسي جميل‬

‫عزيز و«ليالي القمر» للشاعر أمين شوقي إلى جانب ثالث صور غنائي ّة هي «راجعون» و«حكايات‬
‫ُ‬
‫إذاعة‬ ‫الربيــع» و«زريــاب» مع المطرب كارم محمود‪ .‬وخالل إقامتهم في مصر‪ ،‬اســتأجرت لهم‬
‫ّ‬
‫المطل على النيل‪ .‬فجاءت بعــض األغنيات‪ ،‬لتعكس تأثير‬ ‫صــوت العــرب منزالً في ّ‬
‫حي الزمالــك‬

‫َجريان النيل على مخي ّلتهم مثل‪« :‬بيتنا في الجزيرة» التي تقول كلماتها‪« :‬بيتنا في الجزيرة على‬
‫بالفل ُ ِ‬
‫ك المطلّة ‪ /‬مقبل ًة من معبر ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ضفاف النيل‪ /‬أفياؤه الوثيرة ينسجها النخيل‪ /‬شباكه ُمولّه‪/‬‬
‫ٌ‬
‫أجنحة في َموكبٍ ســعيد»‪ .‬وكذلك «أرضنا أنشــودة‬ ‫بعيــد‪ /‬تمــرّ من أمامــي‪ /‬بيضاء كالغمام ‪/‬‬

‫الزمان» التي جاء في عدد ٍ من أبياتها‪« :‬وضفاف النيل جنّة العذارى المرحات‪ُ /‬منشدات لألماني‬

‫البيض أحلى النغمات‪ /‬للهوى يزهر في أفياء تلك الشــجرات‪ /‬لشــراع األســمر الصي ّاد باألحالم‬

‫العين تلــوح‪ /‬تلك مدينتنا أبنيــة وصروح‪ /‬صــوت َمصانعنا يا ن ََغم‬ ‫ٍ‬
‫آت [‪ ]...‬تلــك مدينتنــا مــلء َ‬
‫طــوع الحديد‪/‬‬
‫ِّ‬ ‫ُييت يا ســواعد الشــباب‪ /‬بعزْمها ت ُ‬
‫العمــران‪ /‬نســجك يســمعنا أغنية البنيان‪ /‬ح ِ‬
‫ُييــت يــا رافعة القباب‪ /‬مدلّــة على الفضا البعيد‪ /‬لضجّة المصانــع لحني وللقباب‪ /‬فيض دخا ٍ‬
‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ح‬

‫ع يقودك الشــباب»‪ .‬وعادت‬ ‫ّ‬


‫لكل ُممت ٍ‬ ‫طالع ي ُعانق الســحاب‪ /‬بالدي اســمعي وبالمنى ارتعي‪/‬‬
‫ٍ‬
‫ذكريات عطرة‪،‬‬ ‫األخوي ْن رحباني إلــى لبنان في آب‪ /‬أغســطس حاملة معهــا‬
‫َ‬ ‫فيــروز بعدهــا مــع‬

‫ن هــذه الرحلة كانــت بمثابة البوّابة التي أطلَّت من خاللها علــى الحياة المصري ّة عن‬
‫وخصوصــاً أ ّ‬

‫ُقــرب‪ .‬فالزيــارة لم تقتصر على زيارة معا َلم القاهرة والجيــزة مثل األهرامات والنيل‪ ،‬بل ُرتِّبت‬
‫ّ‬
‫«شط إسكندري ّة» في‬ ‫لهم زيارة إلى شــاطئ اإلســكندري ّة ولعلّها هي التي َأل ْ َهمتْهم فكرة أغنية‬

‫‪231‬‬
‫ما بعد (من مقالة «أســرار رحالتها واألخوان رحباني إلى مصر» لمحمّد دياب‪ ،‬مجلّة الكواكب‪،‬‬
‫ّ‬
‫خاص عن فيروز‪ ،‬رقم العدد ‪.)2017 / 11 / 21 ،3457‬‬ ‫عــدد‬

‫بين أروقة «دار الهالل»‬

‫األخويْــن رحباني مصــر للمرّة الثانيــة‪ ،‬كانت قد ســجَّلت معهما بعض‬


‫َ‬ ‫قبــل أن تــزور فيــروز مع‬

‫كل ســنة مرّة» و«طلْعِ ت‬


‫أغنيات الشــيخ ســي ّد درويش التي قاما بإعادة توزيعها مثل‪« :‬زوروني ّ‬

‫يا محال نورها» و«الحلوة دي» في العام ‪ .1957‬كما أنّها تعاونت للمرّة األولى مع الموســيقار‬

‫محمّــد عبــد الوه ّــاب في العام ‪ ،1961‬حيث قام األخوان رحباني بإعــادة توزيع «خايف أقول اللّي‬

‫في قلبي» و«يا جارة الوادي» لتغنّيهما فيروز‪ ،‬قبل أن ي ِّ‬


‫ُلحن لها عبد الوه ّاب «سهار بعد سهار»‬
‫ُ‬
‫و«مرّ بي» في العام ‪ .1967‬وعن‬ ‫ن اللّيل»‬ ‫«س َ‬
‫ــك َ‬ ‫من توزيعهم‪ .‬وفي فترة ٍ الحقة غنّت من ألحانه َ‬
‫هذا التعاوُن يقول الناقد الموســيقي إلياس ســحّاب‪« :‬فإذا وصلنا أخيراً إلى تجربة صوت فيروز‬

‫ي القرن العشــرين في الموســيقى العربيّــة محمّد عبد الوه ّاب‪ ،‬فإنّنــا نحمد اللّه أنّها‬
‫مــع عبقر ّ‬
‫اقتنصتْها مــن عبقري ّة عبد الوه ّاب في عزّ تألُّقِ ها في عقد الســتّيني ّات‪ ،‬عندما‬
‫َ‬ ‫َبلغــت ثالثــة ألحان‪،‬‬
‫َ‬
‫اعتزل الغناء‪ ،‬وتفرَّغ لتوزيع نِتاج عبقري ّته الموسيقي ّة على أهمّ وأجمل الحناجر العربي ّة النسائي ّة‬

‫س عبد الوه ّاب تجرب ًة فريدة معها‪،‬‬‫مار َ‬


‫َ‬ ‫والرجالي ّة‪ .‬في لحنه األوّل لفيروز «اســهار بعد اســهار»‪،‬‬

‫فصاغ لها َلحناً يتجاور فيه األســلوب الرحباني‪ ،‬مع األســلوب الوه ّابي‪ ،‬اســتناداً إلى تجربة اللّحن‬
‫َ‬

‫الرحبانــي الشــهير «نحنا والقمر جيران»‪ .‬لكنّه بعد ذلك‪ ،‬زوَّد فيــروز بلحنَي ْن خال َ‬
‫دي ْن من أروع ما‬
‫ن اللّيل» وقصيدة لســعيد عقل «مرّ‬ ‫«س َ‬
‫ــك َ‬ ‫َأنشــدت في حياتها‪ ،‬على قصيدة لجبران خليل جبران َ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ســجل فيــروز إلى قصائدهــا الغنائي ّة التي كانت تُحيي فيها دمشــق الشــام»‬ ‫بــي»‪ ،‬أضيفــت في‬

‫(إلياس سحّاب‪ ،‬الموسيقى العربي ّة في القرن العشرين‪.)2009 ،‬‬


‫األخوي ْن رحباني مصــر للمرّة الثانية في منتصف تشــرين األوّل‪ /‬أكتوبر ‪1966‬‬
‫َ‬ ‫وصلــت فيــروز مع‬
‫بعد أن َوجَّهت لهم الدعوة وزارة الثقافة واإلرشــاد القومي‪ .‬كان برنامج الزيارة الرســمي هذه‬
‫ُ‬
‫والصلــب في حلوان‬ ‫المــرّة ثريّــاً ومليئــاً بالجوالت واللّقــاءات الفني ّة مثل‪ :‬زيــارة مصنع الحديد‬
‫ومدينــة الفنــون في الهــرم والتي تضمّ معاهــد الباليه والســينما والتمثيل والكونســرفاتوار‬
‫والفنون الشــعبي ّة ومدينة الســينما ومشــاهدة عروض فرقة رضا للفنون الشعبي ّة على مسرح‬
‫البالون ومشاهدة عرض الصوت والضوء عند سفْ ِح األهرامات وقلعة صالح الد ّين األي ّوبي وزيارة‬

‫‪232‬‬
‫شــاهدة عروض المســارح وزيارة بعض الشعراء الكبار‬
‫َ‬ ‫إســتوديوهات الســينما في القاهرة ُ‬
‫وم‬
‫مثل صالح عبد الصبور وصالح جاهين وآخرين (دياب‪ ،‬المصدر السابق)‪.‬‬
‫أم كلثوم‬ ‫ٍّ‬
‫بــكل من الســي ّدة ّ‬ ‫وعلــى هامــش برنامــج الزيــارة الرســمي‪ ،‬كانت فيــروز قد التقَ ْ‬
‫ت‬
‫واألســتاذ محمّــد عبــد الوه ّاب كما أنّها ســجَّلت ســهر ًة تلفزيوني ّة مع اإلعالمي ّة الراحلة ســلوى‬
‫األخوي ْن رحباني‬
‫َ‬ ‫األخوي ْن رحباني وشقيقتها هدى حد ّاد‪ ،‬كما سجّلت مع‬
‫َ‬ ‫حجازي‪ ،‬وذلك في حضور‬
‫لقاءً إذاعيّاً لمد ّة ساعتَي ْن مع اإلذاعي ّة آمال فهمي إلذاعة الشرق األوسط‪.‬‬
‫لعــل أبــرز ما في هذه الزيارة‪ ،‬الندوة التــي أعد َّتها مجلّة «الكواكب» العريقة بعنوان «ماذا قد َّم‬
‫ّ‬

‫ن هدى سلطان‬ ‫ٌ‬


‫كوكبة من الفنّانات من بينه ّ‬ ‫فيروز والرحباني إلى الف ّ‬
‫ن العربي؟»)‪ .‬وقد حضرها‬
‫وحوري ّة حسن إلى جانب الموسيقار محمّد الموجي والكاتب د‪ .‬مصطفى محمود والشاعر صالح‬
‫ُ‬
‫والمخــرج عبــد الرّحمن الخميســي والكاتبة الصحفيّــة صافي ناز كاظم والرسّ ــام جمال‬ ‫جــودت‬
‫كامــل‪ ،‬وكذلــك حلمي التوني وفؤاد شــبل وأحمد شــفيق أبو عوف وســليمان جميل والكاتب‬
‫الســاخر محمّــد عفيفي وآخــرون‪ .‬وقد َأدار الندوة الناقد رجاء الن ّ‬
‫قاش فــي مقرّ المجلّة في دار‬
‫ٍ‬
‫نقاط عد ّة‪ ،‬لكنّها في المجمل كانت مرتكزة حول‬ ‫الهالل الصحفي ّة‪ .‬لقد تشعَّبت َمحاور الندوة إلى‬
‫فحاول عاصي أن َيختزل مســيرتهم الفني ّة في صورتَي ْن‬
‫َ‬ ‫المســرح الغنائــي عند الرحابنة وفيــروز‪.‬‬
‫جميلتَي ْن‪ ،‬حيث َو َص َف اتّجاههم في البداية نحو األغنيات القصيرة بالفراشة الجميلة الملوّنة التي‬
‫تحتوي في تكوينها الجسدي على العديد من األلوان الزاهية والنقوش البديعة على الرّغم من‬
‫ن عمرها في النهاية قصير وهذا بطبيعة الحال ي ُشــبه األغنية الخفيفة المكثّفة‬
‫ضآلة حج ْمها‪ ،‬لك ّ‬
‫ل موسيقي ّة ٍ رشيقة ٍ تحتاج إلى درجة ٍ عالية ٍ من التكثيف واالختزال وهذا أصعب‬
‫بما فيها من جُم ٍ‬
‫ما في األمر‪ .‬ولذلك مع الوقت اتَّجهوا نحو األعمال الكبرى التي يســتطيع المســرح الغنائي أن‬
‫َيســتوعبها‪ .‬فالمســرح الغنائي هو القادر على تضفير عناصر اإلبداع كافّة إلى بعضها البعض بما‬
‫فيها الشــعر والدراما والموســيقى والديكور والرقص واإلضاءة قبــل أن يجيء الصوت لي ُكمل‬
‫ّ‬
‫منصة مدينة ضمن‬ ‫َش َرتْها‬
‫هذا البناء الشاهق (من مقالة «فيروز في دار الهالل» لعمرو ماهر‪ ،‬ن َ‬

‫سلسلة فيروز في مصر‪ ،‬بتاريخ ‪ 20‬تمّوز‪ /‬يوليو ‪.)2019‬‬

‫نجمة على «مسرح حديقة األندلس»‬

‫وقفــت فيــروز للمــرّة األولى لتُغنّي على مســرح حديقــة األندلس‪ ،‬حيث َأحيــت أربع حفالت على‬
‫األخوي ْن رحباني‬
‫َ‬ ‫رافقهــا خالل هذه الرحلة ٌّ‬
‫كل من‬ ‫ضفــاف النيل في تشــرين األوّل‪ /‬أكتوبر ‪َ .1976‬‬

‫‪233‬‬
‫ِ‬
‫شمســك الذهب» التي‬ ‫والفرقة الشــعبي ّة اللّبناني ّة‪ .‬افتتحت هذه الحفالت بقصيدة «مصر عادت‬
‫ُ‬
‫بالتزامن مع االحتفال بانتصارات أكتوبر المجيدة‪ ،‬حيث جاء في بعض‬ ‫كانت بمثابة تحي ّة إلى مصر‬
‫شــطهِ‪ /‬قصصاً‬
‫ِّ‬ ‫ب‪َ /‬كتَب الن ُ‬
‫ِّيل على‬ ‫َغتــر ُ‬ ‫َ‬
‫األرض وت‬ ‫َحمل‬ ‫ُ‬
‫الذهب‪ /‬ت ِ‬ ‫ُ‬
‫شمســك‬ ‫ْ‬
‫عادت‬ ‫أبياتهــا‪« :‬مصــ ُر‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ولــك الحاض ُر في عزِّ هِ‪ /‬ق َِب ٌ‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫وينتســب‪/‬‬ ‫َّ‬
‫الحق‬ ‫حم ُل‬
‫ن تذكُرين‪َ /‬ي ِ‬
‫ض مص ُر إ ْ‬ ‫ُ‬
‫تلتهــب‪ِ /‬‬
‫لك ما ٍ‬ ‫بالحــب‬
‫ِّ‬
‫ت ْ‬
‫َغ َوى بها ق َِب ُ‬
‫ب»‪.‬‬
‫وغنّــت فيــروز في إحدى هذه الحفــات «خايف أقول اللّي في قلبي» و»بحبَّــك يا لبنان» َ‬
‫فألهبت‬
‫حماســة الجمهور‪ ،‬وخصوصاً أ ّ‬
‫ن األحداث في لبنان كانت ُمســتعرة كما شه َ‬
‫د مبنى جامعة الدول‬
‫الجمهــور في مصر بأغنية‬
‫َ‬ ‫العربيّــة إحــدى القِ مم لبحــث األوضاع المتأزّمة هنــاك‪ ،‬قبل أن تو ِّدع‬
‫«زوروني ّ‬
‫كل ســنة مرّة» للشــيخ ســي ّد درويش‪ .‬وخالل هذه الزيارة قام األديب يوسف السباعي‬
‫ٍ‬
‫تكريم لها داخل‬ ‫حفل‬
‫ِ‬ ‫(رئيــس الجمعي ّة المصري ّة لكتّاب ون ّ‬
‫قاد الســينما آنــذاك) بدع ْوتها لحضور‬
‫مؤسّ ســة «األهرام»‪ .‬وخالله أهداها جائزة التقديــر الذهبي ّة وتمثال إيزيس المصري ّة رب َّة الوفاء‬
‫والسحر والجمال (دياب‪ ،‬المصدر السابق)‪.‬‬

‫تشدو عند سفح األهرامات‬


‫غابت فيروز عن مصر ثالثة عشــر عاماً منذ زيارتها الســابقة في الســبعيني ّات‪ ،‬لتعود إليها مجد ّداً‬

‫إلحيــاء ثــاث حفالت فــي أي ّام ‪15‬و‪16‬و‪ 18‬تمّــوز‪ /‬يوليو ‪ 1989‬عند ســفح األهرامــات في الجيزة‪.‬‬

‫فقامت خالل رحلتها بزيارة ٍ لدار األوبرا المصري ّة كما َعقَ َ‬


‫د لها وزي ُر الثقافة المصري حينها فاروق‬
‫حســني مؤتمراً صحفيّاً في مقرّ الوزارة لإلجابة عن أســئلة الصحفي ّين والن ّ‬
‫قاد‪ .‬فكانت تَظهر إلى‬
‫جوارها في اللّقاءات المســجَّلة نجلتها ريما‪ .‬خالل هذه الحفالت غنَّت مقاطع من قصيدة «مصر‬
‫و«شــط إســكندري ّة» وكذلك «أهو ده اللّي صار» للشــيخ سي ّد درويش‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫شمســك الذهب»‬ ‫عادت‬
‫ّ‬
‫الحاّلق قبل أن تُغادِر‪ ،‬لتبقى أصــداء هذه الزيارة حاضر ًة‬ ‫حينهــا َأجــرت لقاءً تلفزيونيّاً مع توفيــق‬
‫إلى يومنا هذا‪.‬‬

‫صوتها مع القهوة الصباحي ّة‬

‫َأصبحت فيروز مع الوقت جزءاً ال يتجزّأ من النســيج اليومي ألغلب األفراد‪ ،‬فهناك مجموعة من‬
‫الذين يبدأ يومهم باالستماع إليها مع فنجان القهوة الصباحي‪ .‬كما أ ّ‬
‫ن سائقي التاكسي يديرون‬
‫مؤشــر الراديــو نحو إذاعــة األغاني في ّ‬
‫كل صبــاح اللتقاط فقرتها الثابتة «جــارة القمر» للهروب‬ ‫ّ‬

‫‪234‬‬
‫من ضغوط اللّيلة الســابقة والتحليق مع صوتها نحو آفا ٍ‬
‫ق أخرى من الطبيعة الســاحرة واألحالم‬
‫المؤجَّلة‪ .‬فقبل عصر اإلنترنت وشبكات التواصل االجتماعي‪ ،‬دأب التلفزيون المصري في فقراته‬
‫ٍ‬
‫قتطفات من حفالتها على أكبر المســارح العا َلمي ّة وخصوصاً وهي تشــدو‬ ‫ْض ُم‬
‫الصباحي ّة على عر ِ‬
‫بأغنيــات «حب َّيتــك بالصيــف» و»طير الوروار» و»شــهرزاد»‪ .‬كمــا أ ّ‬
‫ن المقاهــي والكافيهات التي‬
‫يرتادهــا جمهــور الشــباب ال تنقطع فيهــا أغنيات فيروز عن الحبّ واألشــواق والحيــاة اليومي ّة‪،‬‬
‫ّ‬
‫ولعل أجمل ما نَختتم بــه مقالتنا ما َكتبه عن صوتها‬ ‫وخصوصــاً مــع ألحان نجلها زيــاد الرحباني‪.‬‬
‫الشــاعر المصــري الراحل ســي ّد حجاب في ديوانــه «صي ّاد وجنّي ّة» الصادر فــي العام ‪ 1964‬بقوله‪:‬‬
‫«كما عروســة البحر تغســل شــعرها في الضي‪ /‬وتنطوره في الريح وتتبسَّ م‪ /‬كما عروسة البحر‬
‫أحالمنــا‪ /‬لمّا بنســمع صوتــك الطي ّب بيتنسّ ــم‪ /‬صوتك يا بنــت الناس‪.. /‬ضفيــرة حرير‪ /‬يفرش‬
‫ساللم فوق حيطان البير‪ /‬والبير قرار أسود وأنا طالع‪ /‬طالع على سلّم حرير طالِع»‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫سعيد هادف*‬

‫أي ّها التاريخ تكلّمْ ألراك‪،‬‬


‫بُحْ بأحزانك ومسرّاتك‪،‬‬
‫بُحْ بحماقاتك وأهوائك‪،‬‬
‫تحرَّر من لعثماتك وتنهّداتك‪،‬‬
‫د ْ‬
‫ع دموعك تنهمر على جراحاتك حتى تتطهّر وتشفى‪،‬‬
‫ضحكتك تدوّي في اآلفاق‪،‬‬
‫َ‬ ‫د ْ‬
‫ع‬
‫انخرط في رقصتك الكوني ّة‬
‫على إيقاع جالل الد ّين الرومي‪،‬‬
‫على إيقاع سهى‪،‬‬
‫أو إيقاع الروك أو السامبا أو كناوة‪،‬‬
‫على إيقاع التّندي‪،‬‬
‫الحيدوس أو الد ّبكة‪ ...‬ال فرق‬
‫فالرقصة واحدة‪،‬‬
‫رقصتنا األولى‪،‬‬
‫رقصتنا الزنجي ّة الباذخة األسرار‪.‬‬
‫(ديوان‪ :‬تخوم – ‪)2014‬‬

‫* باحث وشاعر من الجزائر‬

‫‪238‬‬
‫‪-1-‬‬
‫ّ‬
‫منصة‬ ‫انطباعي من‬
‫ّ‬ ‫ما معنى أن نكتب‪ ،‬نحن الجزائري ّين‪ ،‬عن فيروز؟ األمر ال يتعلّق بتحرير مقا ٍ‬
‫ل‬
‫ل ســاهر؛ أتحد ّث هنا عن الكتابة بوصفها اســتعاد ًة للزمن‬‫بمناســب ِة حفْ ٍ‬
‫إعالمي ّة أو تدبيج ورقة ُ‬
‫الثاوي خَل ْ َف ُ‬
‫حجُبٍ من األحداث‪ ،‬وبوصفها اســترجاعاً للذاكرة‪ :‬الذاكرة الفردي ّة والذاكرة القومي ّة‬
‫علــى حد ّ ســواء‪ ،‬في عالقة ٍ جدلي ّة‪ ،‬ليــس بين الذّات الفرداني ّة والذّات الجماعي ّة فحســب‪ ،‬بل في‬
‫عالقــة ٍ جدليّــة بين الذاكرة القومي ّة الجزائري ّة في ب ُعدها العربــي والتاريخ بوصفه نَهراً تتمازج في‬
‫ُ‬ ‫مجراه ّ‬
‫كل ذاكرات األمم‪.‬‬
‫واً‪ ،‬من جهة‪ ،‬إلى ْ‬
‫رصد‬ ‫أكتــب عــن فيروز من هذه البراديغما (‪ ،)Paradigme‬أجد ُ نفســي مدع ّ‬
‫َ‬ ‫وأن‬
‫ســتّة عقود ٍ من حياتي في عالقتها بالزّمن السياســي‪-‬الثقافي للجزائر المستقلّة التي خرج ُ‬
‫ْت من‬
‫صلبهــا؛ ومــن جهة ٍ ثانية‪ ،‬إلى ْ‬
‫وض ِع هذا «الزمن السياســي‪ -‬الثقافي» تحــت مجهر التأمُّل‪ ،‬ومن‬
‫جهــة ٍ ثالثــة‪ ،‬إلى إعاد ِة بناءٍ تمثّلي لفيروز (ومن خَلفها المشــرق) من داخــل الجزائر كح ِّيز ٍ ثقافي‬
‫ق سياسي‪/‬أيديولوجي‪.‬‬
‫(بالمعنى األنثروبولوجي) وكنس ٍ‬
‫هني لألحداث التي عاشتها الجزائر في عالقتها بنجوم الطرب المشرقي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قي ومِ‬
‫َس ّ‬
‫قن َ‬
‫في غياب توثي ٍ‬
‫المشرقي‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ُشــكل ذاكرة الجزائري ّين في عالقتهم بروّاد الغناء َ‬ ‫تبقى الســردي ّات الســي ّارة هي ما ي‬
‫وهي سردي ّات تمتزج فيها الحقائق بالخيال‪ ،‬وغالباً ما تكون ذات َمظهر ٍ استعراضي‪ .‬هذه العالقة‬
‫ُ‬
‫وبمحيطها اإلقليمي واألممي‪ ،‬ظلّت تفتقد‬
‫ُ‬ ‫بالمشــرق) وعلى غرار عالقتها بذاتها‬
‫َ‬ ‫(عالقة الجزائر‬
‫إلى «الرسْ َملة» (‪.)Capitalisation‬‬
‫بالمشــرق كانت تختلف عن عالقــة المغرب وتونس به‪ ،‬من‬‫َ‬ ‫ن عالقة الجزائر‬ ‫تُفيــد ُ‬
‫المعطيــات أ ّ‬
‫المشــارقة ظلّوا على صلة ٍ شــبه ُمنتظمة وحميمي ّة مــع المغرب وتونس‪،‬‬
‫المطربين َ‬ ‫ُ‬ ‫حيــث إ ّ‬
‫ن‬
‫ّ‬
‫يقل عن‬ ‫ن شــغف الجزائري ّين بالطرب الشــرقي ال‬ ‫ُ‬
‫حبــل وصالهم بالجزائــر‪ .‬غير أ ّ‬ ‫انقطــع‬
‫َ‬ ‫بينمــا‬
‫َ‬
‫ش َغ ِف باقي المغاربي ّين‪.‬‬
‫المشــرقي إلى خمســيني ّات القرن الماضي قبيل حرب التحرير‪،‬‬
‫ترجع عالقة الجزائر بروّاد الطرب َ‬
‫حفالت عد ّة في وهران والعاصمة وقســنطينة وعنّابة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫حيث أحيا فريد األطرش في العام ‪1952‬‬
‫وقــد تعــرَّض فريد إلى الرشــق بالطماطــم في عنّابة وقســنطينة فغادرها محموالً على بســاط‬
‫ٌ‬
‫عالقــة مع الراقصة‬ ‫ــل الجزائــر في رائعته «بســاط الريح»‪ .‬فريــد األطرش َج َم َعت ْ ُه‬
‫وتجاه َ‬
‫َ‬ ‫الخَيبــة‪،‬‬
‫شــاركته في ثالثة أفالم بعدما اســتقدمها مــن باريس إلى القاهرة‪،‬‬
‫َ‬ ‫الجزائريّــة ليلى حكيم التي‬
‫ي دعوة رسمي ّة لزيارة الجزائر المستقلّة‪.‬‬ ‫َ‬
‫يحظ بأ ّ‬ ‫ولم‬

‫‪239‬‬
‫أمّــا عبــد الحليم حافظ فزار الجزائر في ذكرى االســتقالل األولى في تمّوز‪ /‬يوليو ‪ ،1963‬وعاد‬
‫ٍ‬
‫بذكريــات ســي ّئة‪ ،‬حيــث عانى فــي ملعب بن عبــد المالك في قســنطينة من انقطــاع الكهرباء‬

‫وكان قــد عــاش أيضــاً مأســا ًة فــي ملعب العناصــر فــي العاصمة‪ ،‬حيث َ‬
‫ســقَ َط جــدا ٌر فأصاب‬
‫الكثيرين بكسور ‪.‬‬
‫نفســها َر َف َض عبد الحليم حافظ الغناء في مدينة ســطيف في تمّوز ‪ /‬يوليو ‪1963‬‬
‫ِ‬ ‫وفي الجول ِة‬
‫ن حليماً غنّى لثورة الجزائر «فجر‬ ‫ٌ‬
‫رجل بإهانته وفق بعض الروايات‪ .‬وعلى الرّغم من أ ّ‬ ‫قام‬ ‫بعدما‬
‫َ‬
‫الجزائر» (لحن بليغ حمدي) ّ‬
‫إاّل أنّه لم َيزر ْها سوى مرّتَي ْن وزار تونس والمغرب عشرات المرّات‪.‬‬
‫أم كلثــوم التــي زارت تونس والمغــرب‪ ،‬فلم يحدث أن زارت الجزائر‪ .‬في ذكرى االســتقالل‬
‫أمّــا ّ‬
‫ن ُمستشاره محي الد ّين‬
‫أم كلثوم‪ ،‬لك ّ‬
‫اقترح بومدين أسماءً عد ّة ومن ضمنها ّ‬‫َ‬ ‫في العام ‪،1972‬‬
‫عميمور َر َف َض دعوتها بحجّة أنّها لم تُغ ّ‬
‫ن للثورة‪.‬‬
‫مع بداية الثمانيني ّات من القرن الماضي‪ ،‬وفي عهد الرئيس الشاذلي بن جديد‪ ،‬استحدثت الجزائر‬
‫مهرجان األغنية العربي ّة الذي دام ثالث طبعات‪ ،‬واستضاف هذا المهرجان أصواتاً عد ّة من ضمنها‬
‫ُ‬
‫صوت مارسيل‬ ‫نجاة الصغيرة‪ ،‬ومي ّادة الحنّاوي‪ ،‬وهاني شاكر‪ ،‬وصباح فخري‪ ،‬وانطلق من الجزائر‬
‫خليفــة‪ ،‬كمــا عــادت وردة بقوّة في العــام ‪ 1982‬بأغانيها القومي ّة والعاطفيّــة‪ .‬لكن مع منتصف‬
‫ي ذكْــر ٍ للمهرجانات‬ ‫المســارح‪ ،‬ولــم ي ُ‬
‫عد هناك أ ُّ‬ ‫ُ‬
‫الصمــت ُمجــد ّداً على ُمختلف َ‬ ‫ران‬
‫الثمانينيّــات َ‬
‫ٍ‬
‫طقس‬ ‫ع ســوءاً بعد االنفالت األمني في التســعيني ّات ودخول الجزائر في‬ ‫ْ‬
‫الوض ُ‬ ‫الغنائي ّة‪ ،‬وازداد‬
‫مــن الرعــب مع تصا ُعد العمليّــات اإلرهابي ّة التي طالت مغنّين جزائري ّيــن‪ .‬كان الخطاب ُ‬
‫المعادي‬
‫معجم العنف ومقاومة العنف وتقلُّص معجم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تعاظماً ومعه طغى على يومي ّاتنا‬ ‫للحيــاة يــزداد‬
‫الجمال والفنّ‪.‬‬
‫المتاح على اللّقاءات الشعري ّة واألدبي ّة‬
‫قاوم‪ ،‬وأن نُحافِ ظ بحســب ُ‬ ‫ُ‬
‫لم يكن لدينا خَيار ســوى أن ن ُ ِ‬
‫ــر جدار‬
‫س َ‬ ‫دثاً تاريخيّاً َك َ‬
‫والموســيقي ّة‪ .‬وكانت دعوة ماجدة الرومي إلى الجزائر في العام ‪َ 1997‬ح َ‬
‫الصمت والخوف والحصار الذي َعزَ َل الجزائر‪َ .‬أحيت ثالث حفالت في قسنطينة والعاصمة ووهران‪،‬‬
‫وعرفــت حفالتُها إقباالً جماهيريّاً كبيراً‪ .‬وعادت المطربة في مناســبات‬ ‫وحظ َيــت باســتقبا ٍ‬
‫ل باذخ َ‬
‫والط َلبــة‪ .‬وتوالت زيارة‬
‫َّ‬ ‫أخــرى أهمّهــا في صائفة ‪ 2001‬بمناســبة المهرجــان العا َلمي للشــباب‬
‫فنّانين َمشارقة آخرين مثل كاظم الساهر‪.‬‬
‫ن حبل الود ّ لم يمتد ّ بين الجزائر وفنّاني الخليج العربي‪ ،‬وكانت ُ‬
‫المطربة اإلماراتي ّة أحالم‬ ‫ويبدو أ ّ‬
‫قد زارت الجزائر في بداية القرن الحالي ولكنّها‪ ،‬وفق ما تناقلته وسائل اإلعالم‪ ،‬ود ّعتها ساخطة‬

‫‪240‬‬
‫على ظروف اإلقامة وســوء التنظيم‪َ ،‬‬
‫وأقســمت أنّها لن تعود‪ ،‬وأنّها ستنصح ّ‬
‫كل الفنّانين بعدم‬
‫زيارة الجزائر‪.‬‬
‫‪-2-‬‬
‫قبل نهاية العقد األوّل من االستقالل (ستّيني ّات القرن الماضي)‪ ،‬بدأ أبناء جيلي يعون أنّهم في‬
‫بلد ٍ حديث االستقالل‪ ،‬لكن لم ُ‬
‫يكن بمقدورهم أن يعرفوا أ ّ‬
‫ن دولتهم الناشئة كانت تعاني‪ ،‬من‬
‫ضمن ما تعانيه‪ ،‬صراعاً هوي ّاتيّاً غير َمرئي بالنسبة إلى عموم الشعب‪ .‬مع لحظة االستقالل كان‬
‫يشكلون أكثر من تسعين في المئة من ساكنة الجزائر‪ ،‬وبعد مرور حوالى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫سكان القرى واألرياف‬
‫ُ‬
‫األزمة‬ ‫عشــوائي نحو ُ‬
‫المدن التي غادرها األوروبي ّون‪ ،‬بدأت‬ ‫ســياق نزوحٍ‬ ‫دي ْن من الزمن‪ ،‬وفي‬
‫عق َ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫بكل أعراضها السوســيولوجي ّة واألنثروبولوجي ّة والسياســي ّة‪ .‬لم ينجــح الوافدون الجُدد‬ ‫تتجلّــى‬
‫فــي بنــاء عالقة طبيعي ّة مع المدينة ذات الطراز األوروبي؛ المدينة بأحيائها الســكني ّة وفضاءاتها‬
‫ٍ‬
‫انفصام لدى أغلب الجزائري ّين‬ ‫لنمط َعي ٍ‬
‫ْش أوروبي تســب َّب في‬ ‫ِ‬ ‫العمومي ّة التي صمَّمتها فرنســا‬
‫ّ‬
‫الفاّلحي والبدوي‪ ،‬فكانت الثغرة التي تسرَّب عبرها الخطاب األصولي‪،‬‬ ‫الذين نَزحوا من فضائهم‬
‫نمط َع ٍ‬
‫يش‬ ‫َ‬ ‫و َبــدأ دُعاة اإلســام السياســي يقترحون على الشــباب الــذي يعيش حال َة اســتالب‪،‬‬
‫ُمستوحى من حياة «السلف الصالح»‪ ،‬فأخرجوه من حالة استالب فردي ّة وعفوي ّة إلى حالة استالب‬
‫ٍ‬
‫ألهداف معلومة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ومنظمة‬ ‫جماعي ّة‬
‫ه َر ِم الدولة‪ ،‬كما لم ُ‬
‫يكن‬ ‫لم ُ‬
‫يكن الشــعب على عِلم باألزمة السياســي ّة‪/‬الهوي ّاتي ّة على مستوى َ‬
‫كل جهة من جهات الجزائر ذات المســاحة الشاســعة ّ‬
‫إاّل‬ ‫يحيط وعياً بالخصوصي ّات الهوي ّاتي ّة لدى ّ‬

‫ُ‬
‫المتسامِ حة‪.‬‬ ‫في حدود ثقافته الشعبي ّة بروحها‬
‫ال أتحــد ّث عــن الهويّــة هنا كمجرّد َمظهر ثقافي أو لِســاني يختلف من هــذه الجهة عن تلك‪ ،‬بل‬
‫شترك‪،‬‬
‫َ‬ ‫السلمي ُ‬
‫الم‬ ‫ّ‬ ‫العيش‬ ‫كنمط َع ٍ‬
‫يش شــعبي يحتاج إلى دولة تحميه وتحمي شــروط َ‬ ‫ِ‬ ‫الهوي ّة‬
‫منــأى عــن االحتقان األيديولوجي الــذي غالباً ما يكون َمدخــا ً أيديولوجيّاً إلــى زع ْزَ َعة األمن‬
‫ً‬ ‫فــي‬
‫النفسي واالجتماعي في سياق الصراع حول السلطة والثروة‪.‬‬
‫مع بداية عهد االســتقالل بدأ الشــعب الجزائري ينفتح‪ ،‬بوتيرة ٍ بطيئة ومتعرّجة‪ ،‬على ذاته وعلى‬
‫ُ‬
‫ُمحيطه األممي‪ .‬ومع انتشار أجهزة الراديو في البيوت ثمّ التلفاز وأجهزة األسطوانات واألشرطة‪،‬‬
‫المشــرق العربي‪ .‬في هذا الســياق بدأنا نسمع بأســماء نجوم الطرب والسينما‬
‫بدأنا نكتشــف َ‬
‫وأم كلثوم وفريد األطرش وعبد الحليم وهيام يونــس‪ ،...‬وبدأت الذائقة الفني ّة‬
‫ّ‬ ‫أمثــال فيــروز‬
‫ّ‬
‫ولعل‬ ‫المشــرق العربي‪.‬‬
‫شــترك بينهم وبين َ‬
‫َ‬ ‫الم‬ ‫ّ‬
‫تتشــكل لــدى الجزائري ّين من منطلــق االنتماء ُ‬

‫‪241‬‬
‫شترك‪ ،‬حاجة فئات شعبي ّة‬
‫َ‬ ‫ســهمت في تعزيز حالة الشــعور باالنتماء ُ‬
‫الم‬ ‫َ‬ ‫من أبرز العوامل التي َأ‬
‫نمط حياة ٍ يتناغم مع فضائها المديني الجديد الذي فشــلت في التأقلُم معه إيجابيّاً‪،‬‬
‫ِ‬ ‫عريضة إلى‬
‫يزودها بثقاف ِة المدينة بديال ً قد َيســمح لها باالندماج العمراني في‬
‫دت في المشــرق ما ِّ‬
‫وقد َو َج َ‬
‫حرب ســاكِ نيه الجدد‪ .‬وقد عزَّز من هذا‬
‫ِ‬ ‫ل من األشــكال‪ ،‬غنيم َة‬
‫فضاءٍ معماري أوروبي كان‪ ،‬بشــك ٍ‬
‫المشــرقي للثورة الجزائري ّة وتجلّيات ذلك‬ ‫الشــعور باالنتماء‪ ،‬أو اســتعادة هذا االنتماء‪ ،‬الد ُ‬
‫َّعم َ‬
‫الد ّعم عبر الفنّ‪ ،‬وكذلك القضي ّة الفلســطيني ّة التي َأصبحت جزءاً من كينونة السياســة الجزائري ّة‬
‫وهي القضي ّة التي مثَّلتها فيروز أحسن تمثيل‪.‬‬
‫في بلد ٍ كالجزائر ُمترامي األطراف وشــديد التنوُّع على صعيد التعابير الموســيقي ّة‪ ،‬وعلى الرّغم‬
‫المجتمعات على ســماع األغاني ذائعة الصيت‪ ،‬والســي ّما األغاني‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ككل‬ ‫انفتح‬
‫َ‬ ‫من ثرائه الغنائي‪،‬‬
‫يتشــكل الوعي القومــي لجيلي‪ ،‬ولم ُ‬
‫تكــن ِص َلتُنا‬ ‫َّ‬ ‫المغاربيّــة والمشــرقي ّة‪ .‬في هذا الســياق بدأ‬
‫ّ‬
‫المشــرقي لمجرّد االســتمتاع وإشــباع رغبة غامضة‪ ،‬بل كان ي ُترجِ م انتماءنا القومي في‬
‫بالغناء َ‬
‫ب ُعــده الثقافــي والروحــي‪ ،‬وفي عالقتنا بــرأس مالنا الرمــزي العربي‪ ،‬في عالقة ٍ جدليّــة بانتمائنا‬
‫ُ‬
‫والتناقض حيناً آخر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫التناغم حيناً‬ ‫المحلّي يطبعها‬
‫ُ‬
‫اإلذاعة الجزائريّــة (واإلذاعات المغاربي ّة) في‬ ‫ســهمت‬ ‫المشــرقي‪َ ،‬أ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫عبر بثها ألغاني نجوم الطرب َ‬
‫ســهمت المهرجانات التي كانت تســتضيف‬
‫َ‬ ‫الترويــج للطــرب الشــرقي في الوســط المغاربي‪َ ،‬‬
‫وأ‬
‫المعلّمين واألســاتذة‬
‫ومطربيــن َمشــارقة في هذا الترويج أيضاً‪ ،‬من دون أن ننســى ُ‬
‫ُمطربــات ُ‬
‫المشرق‪.‬‬
‫المشارقة و َدورهم في التعريف بثقافة َ‬
‫َ‬
‫يكــن بمقدورنا‪ ،‬نحن‬ ‫اكتشــف جيلُنــا أ ّ‬
‫ن العالقــة المغاربيّــة المشــرقي ّة كانــت أكثر ُعمقــاً‪ .‬ولم ُ‬ ‫َ‬
‫المراهقيــن‪ ،‬أن نعــرف كيف َأصبحت وردة الجزائري ّة تغنّي مثل المشــارقة؛ كان الفضول يدفعنا‬
‫ُ‬
‫ن وردة الجزائري ّة‪ ،‬مثال ً‪ ،‬لبناني ّة‬ ‫ُ‬
‫والمطربين‪ ،‬ومع الوقت اكتشــفنا أ ّ‬ ‫إلــى معرفة حيــاة المطربات‬
‫ن فيروز فلســطيني ّة‪ ،‬كما لم ُ‬
‫نكن‬ ‫المولد ومصري ّة الهوى والنشــأة‪ .‬وكنّا نظ ّ‬
‫نأ ّ‬ ‫األم‪ ،‬وفرنســي ّة َ‬
‫ّ‬
‫ُل الجزائري كانت تترك‬
‫حقل التداو ِ‬
‫ِ‬ ‫نعرف أنّها مســيحي ّة‪ .‬تلك المعلومات التي كانت تتحرّك في‬
‫آثــاراً ُمتباينة في وســط الشــباب آنذاك‪ ،‬وكانت تؤ ِّثر بشــك ٍ‬
‫ل أو بآخر في َصــوغ الوعي‪ ،‬وتصحيح‬
‫التمثُّالت للذات ولآلخر‪.‬‬
‫مــع بدايــة الثمانينيّــات من القــرن الماضي‪ ،‬وفــي غمار الصــراع الهوي ّاتي الذي بــدأ يطفو على‬
‫المظاهر‪َ .‬‬ ‫ُ‬
‫بدأ خطاب‬ ‫الســطح‪ ،‬بــدأ جيلنا‪ ،‬وتحت ضغط أســئلة ٍ جديــدة‪ ،‬يعيش حال َة توتُّر ٍ متعــد ّدة َ‬
‫ّ‬
‫ويحط من قيمة الفنّ‪،‬‬ ‫ُحرم الغناءَ‬ ‫ُ‬
‫المجتمع والدولة وي ِّ‬ ‫قناعات‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫ُشــكك في‬ ‫اإلســام اإلخواني ي‬

‫‪242‬‬
‫ُ‬
‫وبالموازاة‬ ‫يش جديد في الوســط االجتماعي الجزائري؛‬ ‫نســقي بدأ يبرز نمط َع ٍ‬
‫ّ‬ ‫ل‬
‫ومن خالل عم ٍ‬
‫ك في عروبة االنتماء القومي للدولــة الجزائري ّة ويرفع خطاباً‬‫ُشــك ُ‬
‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫خطــاب هوي ّاتي أمازيغي ي‬ ‫بــرزَ‬
‫َ‬
‫تجاهل مزوغة الجزائر‪ .‬كان‬ ‫ل على الخطاب العروبي الــذي‬ ‫عنصريّــاً ضد ّ الغناء َ‬
‫المشــرقي كر ِّد فع ٍ‬
‫شــترك بين الخطا َبي ْن (اإلسالموي والمزوغي) ُمعاداة العروبة ُ‬
‫ومعاداة الرأسمال‬ ‫َ‬ ‫القاســم ُ‬
‫الم‬ ‫ُ‬
‫الرمزي العربي في الجزائر‪.‬‬
‫ن الجزائر المســتقلّة لم ُ‬
‫تكــن تتوافر على‬ ‫الع َلن‪ ،‬اتَّضــح أ ّ‬ ‫ُ‬
‫األزمــة الهوي ّاتيّــة إلــى َ‬ ‫بعدمــا خرجــت‬
‫المهارة المعرفي ّة في تدبير قضايا عديدة من ضمنها قضي ّة الثقافة والهوي ّة والذاكرة؛ المشكلة‬
‫ُ‬ ‫لم ُ‬
‫تكن مقصورة على الجزائر فحسب‪ ،‬بل كانت عربي ّة وأممي ّة‪ ،‬وكان االختالف في كيفي ّة التدبير‬
‫ملف الهوي ّة‪ ،‬بســبب تبنّي القومي ّة األيديولوجي ّة‬
‫ّ‬ ‫والمعا َلجة‪ .‬لقد أســاءت النُّخبة الجزائري ّة تدبير‬
‫ُ‬
‫فــي إطــار دولــة ٍ َطغت عليها ُ‬
‫المحاصصة والفســاد بدل تبنّــي القومي ّة المدني ّة فــي إطار الدولة‬
‫الديمقراطي ّة العلماني ّة (ما يعيشه لبنان حاليّاً ي ُترجِ م سوء تدبير النّخبة اللّبناني ّة لمسألة الهوي ّة)‪.‬‬

‫ليســت وردة الجزائريّــة وحدهــا َمن َأسْ َ‬


‫ــهمت في تطبيع عالقــة الجزائري بالطرب الشــرقي‪ ،‬بل‬
‫مطربون مغاربي ّون آخرون تالقحت في أغانيهم روح المغرب بروح المشــرق على غرار الجزائري‬
‫ُ‬
‫التواشج‬ ‫أحمد وهبي والمغربي َّي ْن عبد الوه ّاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط وآخرين‪ .‬وازداد هذا‬
‫وثوقاً ورسوخاً بين المشرق والمغرب في مجال األغنية مع األجيال التي تلت‪.‬‬
‫‪-3-‬‬
‫من القصص التي شــاعت حول فيروز والجزائر‪ ،‬هناك ّ‬
‫قصة تعود إلى ســتيني ّات القرن العشرين‪،‬‬
‫أغنيــة «ســافرت القضي ّة»‪ .‬وي ُقال إنّها غنَّتها في الحفل الجماهيــري الذي َأح ْ َيته في العام ‪،1968‬‬
‫َ‬
‫«ســافرت‬ ‫بعــد هزيمــة حزيــران‪ /‬يونيو؛ في ذلك الحفــل غنَّت‪ ،‬للمرّة األولــى والوحيدة‪ ،‬أغنيتها‬
‫القضي ّة»‪ .‬شاءت األقدار أن تكون الجزائر هي البلد الوحيد الذي غنَّت فيه فيروز هذه األغنية التي‬
‫الع َلن مع عصر‬ ‫ْ‬
‫الحظر منذ ذلك الحين‪ ،‬وأن يكون التســجيل الوحيد الذي خرج إلى َ‬ ‫تعرَّضــت إلــى‬
‫اإلنترنت هو تسجيل ذلك الحفل‪.‬‬
‫ل ذكي وســاخر حال َة االنســداد‬
‫األغنيــة بأســلوبها النقــدي ومعجمها السياســي تَرجمت بشــك ٍ‬
‫ن األغنية كانت تريد لفْ َ‬
‫ت االنتباه إلى فداحة‬ ‫التاريخي والمأزق السياسي للوضع العربي‪ ،‬كما لو أ ّ‬
‫ن األغنية كانت تحمل رؤي ًة استشرافي ّة مفادها أ ّ‬
‫ن‬ ‫الجهل العربي بميكانزمات السياسة‪ .‬ويبدو أ ّ‬
‫سفرها وال أحد‬ ‫العرب يجهلون وجهتهم ويسيرون من دون خارطة طريق‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن القضي ّة سيطول َ‬
‫ّ‬
‫تحط رحالها‪.‬‬ ‫يعرف متى وكيف وأين‬

‫‪243‬‬
‫ُ‬
‫وشبكات التواصل االجتماعي‬ ‫ُ‬
‫اإلعالم‬ ‫تداول‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫القصة الثانية حدثت في العام الماضي ‪ ،2021‬حين‬
‫خبر إقالة مدير إذاعة قسنطينة «سيرتا»‪ ،‬األديب مراد بوكرزازة‪ ،‬وثالثة عاملين آخرين بسبب ّ‬
‫بث‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫أغنيــة لفيــروز هي «عي ّد الليــل» من ضمن برنامج «أغاني الزمن الجميــل»‪ .‬وقد خلف هذا الخبر‬
‫سخطاً واسعاً في الوسط الثقافي الجزائري‪.‬‬
‫ّ‬
‫مبكراً‪ ،‬على غرار أبناء جيلي‪ ،‬بقراءة األدب المشرقي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫شغفت‬ ‫إلي‪ ،‬وبسبب ميولي األدبي ّة‬
‫بالنسبة ّ‬
‫وعشقت أكثر نصوص جبران وإيليا أبو ماضي‪ .‬في مجال الموسيقى لم أكُن ُمدمناً على مطرب‬
‫ُ‬

‫أســتمتع بســماع ضروبٍ شــتّى من الغناء التي ت ُ ِّ‬


‫عبر عن مشــاعر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كنت‬ ‫ٍ‬
‫صنف من الغناء‪،‬‬ ‫أو على‬
‫وقضايا إنساني ّة‪ .‬كانت فيروز من ضمن األصوات التي تروق لي وتَمنحني امتالءً بالطاقة اإليجابي ّة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وحفظت َمقاطع منها‪،‬‬ ‫«المواكب» لجبران كانت من النصوص الشــعري ّة التي عشــقتها‬
‫َ‬ ‫وقصيدة‬
‫بصوت فيروز كما لو أنّي أسمعها للمرّة األولى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫زلت أستمتع بسماعها‬ ‫وما‬
‫ن الحياة من دون موسيقى تبقى مجرّد غلطة ومنفى على حد ّ تعبير الفيلسوف نيتشه‪،‬‬
‫صحيح أ ّ‬
‫ن الموســيقى تمــد ّ قلوبنــا بالروح وفكرنــا باألجنحة على حد ّ تعبير أفالطــون‪ ،‬وهي تلك التي‬
‫وأ ّ‬
‫ن الموســيقى الجي ّدة ال‬ ‫ّ‬
‫الخاّلقة وتَجعلنا أكثر قــوّة وحُبّاً للحياة وللناس‪ .‬ذلك أ ّ‬ ‫تمنحنــا ّ‬
‫الطاقــة‬
‫تُخطئ‪ ،‬يقول ســتندال‪ ،‬وتَذهب مباشــر ًة إلى أعماق الروح بحثاً عن الحزن الذي َينهشــنا‪ ،‬بل هي‬
‫المصباح‪ ،‬في مذهب جبران‪ ،‬المصباح الذي يطرد ظلمة النَّفس‪ ،‬وينير القلب‪.‬‬

‫كنت َأضع ميولــي َ‬


‫ومواقفي وحتّى قناعاتي‬ ‫ُ‬ ‫المعرفــي‪ ،‬غالباً ما‬ ‫وبفضــل حِ ِّ‬
‫ســي النقدي ونزوعي َ‬
‫دد ســامة‬
‫ن الغناء «خطاب» ينطوي على خطر ٍ غير مرئي ي ُه ِّ‬ ‫ُ‬
‫دركــت أ ّ‬ ‫ومســاءلة‪َ ،‬‬
‫وأ‬ ‫ص ُ‬‫َموضــع فح ْ ٍ‬
‫ح ُمعاقة سيكولوجيّاً أو أيديولوجيّاً‪ ،‬وينعكس هذا النَّوع من‬ ‫والمشاعر كلّما َ‬
‫س َكنَت ْ ُه رو ٌ‬ ‫َ‬ ‫العقول‬
‫ّ‬
‫فتتعطل‬ ‫قي‪ ،‬والسي ّما المتل ّ‬
‫قي الذي يتوافر على قابلي ّة االختراق‬ ‫الغناء ســلباً على نفســي ّة المتل ّ‬

‫قدراته الفكري ّة وتسوء تمثُّالته لذاته وللعا َلم‪.‬‬


‫ُ‬
‫صورة‬ ‫ّ‬
‫واطالعي على فلســفة الجمــال والفنّ‪ ،‬ازدادت‬ ‫والمعرفي ّة‬
‫َ‬ ‫فــي ضــوء اهتماماتي النقدي ّة‬
‫فيــروز فــي ذهني َلمعاناً‪ ،‬هي التي غنَّــت القدس‪ .‬ظلَّت أغانيها في ب ُعدها الثوري رمزاً للســام‬
‫ْ‬
‫عرفــت كيف تنتخب‬ ‫والمحبّــة‪ ،‬ال شــيء فــي أغانيها يدعو إلــى الكراهي ّة والعنــف أو إلى الحزن‪.‬‬
‫الشــوق والحبّ و َلوعة الفــراق ولهفة‬
‫َ‬ ‫نصوصهــا ذات المعجــم الرومانســي والطبيعــي‪ ،‬فغنَّت‬
‫َ‬
‫وطير الوروار والبحر والصيف والشتاء‪ ،...‬وغنَّت أماكن وقصصاً‬
‫االنتظار‪ ..‬كما غنَّت زهرة الرمّان َ‬
‫ُ‬
‫تناسق بين الصوت والهيئة والكلمات واإليقاع‪ ،‬بين وقار الوقفة‬ ‫خلَّدها الفولكلور اللّبناني‪ .‬ثمّة‬
‫بقلب‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫عصف‬ ‫وجالل النّظرة‪ ،‬بين استســرار المحلّي وتجلّي َ‬
‫الكوني اإلنســاني‪ .‬ذلك الصوت الذي‬

‫‪244‬‬
‫اإلعالمي المصري مفيد فوزي َ‬
‫وأفقده عقله لدرجة أنّه نهض‪ ،‬من دون وعي منه‪ ،‬ي ِّ‬
‫ُعبر عن إعجابه‬
‫ُّ‬ ‫ٍ‬
‫ــر الشــاعر أنســي‬
‫أس َ‬‫ل َح َم َل الســي ّدة فيروز على التوقف‪ ،‬وهو الصوت الذي َ‬ ‫بصوت عا ٍ‬
‫ل وبشــك ٍ‬
‫تصوف أو العاشــق الولهان أن‬
‫ِّ‬ ‫الم‬ ‫الحــاج حتّــى كاد يلمســه‪َ ،‬‬
‫وود َّ لو يصير هو الصــوت‪ ،‬كما يود ّ ُ‬
‫َ‬
‫يعيش مقام الفناء والحلول في معشوقه‪.‬‬
‫ّ‬
‫لعل أشهرها األلحان السيمفوني ّة‪ ،‬وهي تجربة‬ ‫ٍ‬
‫ثقافات ُمختلفة‪،‬‬ ‫استلهمت فيروز ألحاناً عد ّة من‬
‫َ‬
‫األخوي ْن رحباني وعبقريّــة فيروز تمثّال ً وأداء‪ .‬وعندما َأســتمع إلى أغاني فيروز‬
‫َ‬ ‫تَرجمــت عبقريّــ َة‬
‫يمتص النغمات الصادرة عن الجوق ويضفي عليها طقساً‬
‫ّ‬ ‫ن صوتها المنساب صافياً يكاد‬
‫أشعر أ ّ‬
‫آســراً وســاحراً يتّســم بالفخامة والنعومة والبســاطة وال ُ‬
‫عمق‪ ،‬يقوّي من مشــاعري اإلنساني ّة‬
‫ٌ‬
‫نابع‬ ‫وي ُثيــر خيالــي وأفكاري‪ .‬وي ُمكن القول إ ّ‬
‫ن التفرُّد الجمالي لصــوت فيروز ومعجمها الغنائي‬
‫عــن عبقريّــة المكان ب ُ‬
‫عمقــه األنثروبولوجي‪ ،‬ويكاد صوتهــا أثناء الغناء يختــزل ثقاف ًة ضاربة في‬
‫العراقة وال ُ‬
‫عمق بالمعنى األنثروبولوجي لكلمة ثقافة‪.‬‬
‫ّ‬
‫المثقفة»‪،‬‬ ‫حول اللّقاء الرحباني الفيروزي‪ ،‬تقول خالدة سعيد في مقد ّمة كِ تابها «يوتوبيا المدينة‬
‫المعرفة‬ ‫«انطلق بال زاد غير اإليمان بلبنان واإلنسان وبالفنّ‪ ،‬وغير الموهبة ُ‬
‫المدهشة واكتساب َ‬ ‫َ‬
‫المبدعة‪ ،‬وغذّاها بالروح‬
‫ع ُممكن‪ ،‬وبال ثروة غير ثروة صوت فيروز الذي جنَّح األلحان ُ‬ ‫من ّ‬
‫كل َمنب ٍ‬
‫وح َم َل معها اســم لبنان وحبّ لبنان إلى ّ‬
‫كل مكان»؛‬ ‫وحملها َ‬
‫والخيال ونبيل المشــاعر والق َيم‪َ ،‬‬
‫ور رؤية ٍ تتالقــى فيها الفنون ُمجتمعة‪ :‬الموســيقى‬‫ْ‬
‫فهــذا الثالثــي تضيف الكاتبة «ســار نحــو تبل ِ‬
‫والغناء والمسرح والرقص واألزياء وفنون الحياة اليومي ّة‪ ،‬بحيث تتحوّل حياة القرية إلى أفعا ٍ‬
‫ل‬

‫وتشــكل ذلك في رؤيــة ٍ مثالي ّة لقرية ٍ فاضلة أو ُمجتم ٍ‬


‫ع فاضــل‪ ،‬حيث الف ّ‬
‫ن عامل وعي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إبداعيّــة؛‬
‫ٍ‬
‫وتسام‪ ،‬ونسيج حياة»‪.‬‬ ‫ومنارة عدْل‪ ،‬ووحدة‬
‫َ‬
‫مــن ُعمــق ارتباطها بزمنها البيروتــي تبدو فيروز متحرّرة من َقيد الزمــن َ‬
‫وقيد المكان‪ ،‬كما لو‬
‫أنّهــا الوجــه اليوتوبــي (‪ )Utopique‬للزمن البيروتي‪ ،‬ورب ّمــا هذا ما َح َم َل الكاتبة خالدة ســعيد‪،‬‬
‫ّ‬
‫المثقفة»‪،‬‬ ‫فــي تناولِهــا للعصــر الثقافي الذهبــي لبيروت أن تُســمّي كِ تابهــا «يوتوبيا المدينــة‬
‫ورب ّما كانت فيروز هي أر َْوع ما جا َدت به بيروت‪ ،‬بيروت ب ُ‬
‫عمقها الفينيقي الســرياني الهلنســتي‬
‫والعربي ‪ -‬الغربي‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫أحمد فرحات*‬

‫ي الصديق كومار سينغ كوجرال إلى منزله في بومباي في ربيع العام‬


‫عندما دعاني الشاعر الهند ّ‬
‫ّ‬
‫خاصة بأغاني‬ ‫ل‬ ‫ٍ‬
‫بأســطوانات وأشــرط ِة تســجي ٍ‬ ‫ّ‬
‫مكتظة‬ ‫ُ‬
‫فوجئــت بــأنّ مكتبته الموســيقي ّة‬ ‫‪،1987‬‬
‫المتنوّعة‪ .‬وســألتُه من فوري بدهشــة ٍ ُمتمادية‪ :‬ما‬
‫فيروز‪ُ ،‬منفردة أو عبر مســرحي ّاتها الغنائي ّة ُ‬
‫دفعك إلى هذا‬
‫َ‬ ‫ي عتيق وال عِلم لي بذلك؟!‪ ..‬ما الذي‬ ‫هــذا يــا كومار‪ ..‬أإلى هذا الحد ّ َ‬
‫أنت فيروز ّ‬
‫عربي‬
‫ّ‬ ‫لبناني أو‬
‫ّ‬ ‫محب‬
‫ٍّ‬ ‫ي‬
‫ي الذي يعجز عن ترجمته على هذه الشاكلة أ ُّ‬ ‫الشغف الفن ّ ّ‬
‫ي غير االعتياد ّ‬
‫لهذه الفنّانة الكبيرة االستثنائي ّة؟!‪..‬‬
‫ابتســم الشــاعر الصديق بعض الشــيء‪ ،‬ثمّ أجاب ببســاطة واثقة‪ :‬حب ّي لصوتها وجمالي ّات هذا‬
‫َ‬
‫الصــوت الــذي ال مثيــل لــه في عا َلــم الغناء حتّــى اآلن‪ .‬تعرفني أنا رجل يعشــق غناء الشــعوب‬
‫وموسيقاها‪ ،‬تراني َألحق بظواهرها األثيرة علي منذ سنوات طويلة؛ وعلى مستوى ّ‬
‫كل البلدان‬ ‫ّ‬
‫التي تسطع فيها‪ ،‬فارض ًة نفسها على ثقافاتها المحلي ّة أ ّ‬
‫والً‪ ،‬ومن ثمّ على سائر الثقافات الحي ّة‬
‫النّابضة في الشرق والغرب‪.‬‬

‫الشــخصي وســائر‬
‫ّ‬ ‫ن الغنــاء والموســيقى االســتثنائي ّة يخترق‪ ،‬وبقوّة‪ ،‬طقســي‬ ‫وحــده‪ ،‬إذاً‪ ،‬فــ ّ‬
‫طقــوس المهووســين بــه من أمثالي‪ ..‬ومــا أكثرنا نحن في هــذا العا َلم‪ ،‬علــى الرّغم من أنّنا‬
‫افيدك بأنّني‬
‫َ‬ ‫ي هذا‪ .‬وأحــبّ أن‬
‫ح والضرور ّ‬ ‫ٍ‬
‫نشــاط يعكس جنونَنا الملــ ّ‬ ‫ي‬
‫ال نظهــر‪ ،‬وال نقــوم بأ ّ‬
‫النقي والحسّ ــاس للغاية من‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ابتعــت هذه األســطوانات واألشــرطة الفيروزي ّة ذات التســجيل‬

‫*مؤسّ سة الفكر العربي‬

‫‪246‬‬
‫بعينهــا في لنــدن وباريس ولوس أنجلــوس‪ ،‬وحتّى هنا فــي بومباي عاصمة‬ ‫ّ‬
‫متخصصــة َ‬ ‫أماكــن‬
‫الف ّ‬
‫ن والثقافة قي الهند‪.‬‬
‫ي وقت؟ وفي ّ‬
‫ظل أي ّة أجواء؟ وهل تَفهم شيئاً من كلمات‬ ‫وكيف تستمع لفيروز يا كومار‪ ..‬في أ ّ‬
‫األغاني العربي ّة التي تشدو بها؟‬
‫صــوت فيــروز عنــدي‪ ،‬يا صديقــي‪ ،‬هو فوق الكلمــات‪ ،‬وفوق األلحــان وضروب الموســيقى على‬
‫اختالفهــا‪ .‬إنّه بمخزون طاقته‪ ،‬و ُع َر ِب ِه القوي ّة الواســعة‪ ،‬وآليّــات أنغامه الطبيعي ّة بذاتها‪ ،‬ومرونة‬
‫تن ّ‬
‫قله بين المقامات‪ ،‬أب ْلغ منها جميعاً وأكثر ســحراً وذوباناً في النَّفس وخاليا الدماغ وشــبكة‬
‫األعصاب وأبخرة الذاكرة‪.‬‬
‫ي للغاية بين ُمختلــف الطبقات الصوتي ّة المؤ ِّلفة له‪ ،‬والد ّافعة‬ ‫ٍ‬
‫بمراس عفو ّ‬ ‫صــوت فيروز يؤالِف‬
‫بخاصة لدى المغنّيات قبل المغنّين‪ :‬السبرانو‪ ،‬وهو الصوت‬
‫ّ‬ ‫بالتالي إلتمام شروط الغناء النّاجح‪،‬‬
‫الرفيــع‪ ،‬والميتزوســبرانو‪ ،‬وهو الصوت المتوسّ ــط‪ ،‬واأللتــو‪ ،‬وهو الصوت الداخلــي العميق أو‬
‫المكثّف؛ وفيروز قادرة على التن ّ‬
‫قل بين هذه الطبقات الصوتي ّة بيسر وسالسة‪ ،‬صعوداً وهبوطاً‪،‬‬
‫ات زمني ّة طويلة تعجز عنها حتّى غالبي ّة األصوات الغنائي ّة الطليعي ّة األخرى‬
‫د َي ٍ‬
‫صخباً وهدوءاً وعبر َم َ‬
‫فــي العا َلــم‪َ .‬‬
‫ومــن يمتلك مثل هــذه الميزة الطبيعيّــة‪ ،‬المعطوفة بالتأكيد علــى جمال الصوت‬
‫وروعة األداء‪ ،‬يســمّيه ُعلماء الموســيقى واأللحان في الهند‪« :‬المغنّــي‪ /‬الملك» أو «المغنّية‪/‬‬
‫الملكة»‪ ،‬وفيروز في بالدنا طبقاً لهذا التصنيف‪ ،‬هي المغنّية‪ /‬الملكة‪.‬‬
‫ُشــكل لوحده مؤسّ س ًة إبداعي ّة سيادي ّة مستقلّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الذهبي الســاحر وكلّي المالءة‪ ،‬ي‬
‫ّ‬ ‫فصوتُها‬
‫هكذا َ‬
‫الحضور التشريفي المسب ّق للكلمة المغنّاة واللّحن ُ‬
‫المصاحب‪..‬‬ ‫َ‬ ‫من شأنها أن تَمنح‪ ،‬وباستمرار‪،‬‬
‫ال العكس‪.‬‬
‫ع هندي ال‬
‫كمســتم ٍ‬ ‫ي المغنّى بالنســبة ّ‬
‫إلي ُ‬ ‫من جانبٍ آخر‪ ،‬إ ّ‬
‫ن عدم فهمي لمعنى الكالم الفيروز ّ‬
‫ُعمق من اندغامي بصوتها أكثر‪ ،‬ويزيد من استقبال حواسي كلّها له‪ .‬هكذا فصوت‬
‫يجيد العربي ّة‪ ،‬ي ِّ‬
‫ي ظهير معه كي يتنزّل إبداعاً خالصاً داخل فضاءات عوالمي‪،‬‬
‫مغني ّتنا‪ /‬الملكة ال يحتاج عندي إلى أ ّ‬
‫المقبلة بينها والمؤجّل ًة أيضاً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الدفينة منها وال َيقِ َظة‪..‬‬
‫ٌ‬
‫شــأن متــروك لمزاجي‪،‬‬ ‫الم َّ‬
‫فضلة‪ :‬فيروز‪ ،‬فهذا‬ ‫أمّــا متــى أســتمع إلى صــوت مغنّيتي العا َلميّــة ُ‬
‫ٍ‬
‫حسابات وقتي ّة‪ ،‬ليال ً نهاراً‪.‬‬ ‫ومزاجي ُمندلع دوماً عليها‪ ،‬وبال‬
‫ن صوت فيروز هو أشبه بقصيدة ٍ ُمستدامة أو هو الشعري ّة‬ ‫مستوى آخر يا كومار‪ ،‬أال ترى أ ّ‬
‫ً‬ ‫على‬
‫بعي ْنها‪ ،‬وحتّى آخر حدود اإلبداع اإلنساني متحقِّ قاً؟‬

‫‪247‬‬
‫ّات‬ ‫ّ‬
‫تتوضع تلكم الشــعري ّة المتصوّرة في تجلي ٍ‬ ‫ّ‬
‫بخاصة عندما‬ ‫‪ ..‬وأكثــر من الشــعري ّة يــا صديقي‪،‬‬
‫تعبيريّــة يختارهــا لهــا أصحابها‪ ،‬وتكتفي أو يكتفون ُ‬
‫هم بها‪ .‬أمّا صوت فيروز‪ ،‬والذي ال يشــيخ‬
‫ّ‬
‫األقل بالنســبة إلى‬ ‫تجاوز لنفســه باســتمرار‪ ،‬علــى‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫مــع الزمــن‪ ،‬فهــو اإلضمــار الشــعري‬
‫أســرار‬
‫ِ‬ ‫كنه‬
‫َ‬ ‫شــريحة ٍ من «الســمّيعة» الكبار (وأنا أد ّعي االنتماء إلى صفوفهم) ممَّن يعرفون‬
‫المعــادن النفيســة األخرى‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫نفيس ال تشــبهه َ‬ ‫هــذا الصــوت‪ ،‬وقــد تحــوَّل عندهم إلى معــد ٍ‬
‫ن‬
‫ي النفيس مجهوالً بالنســبة إليهم‪ ،‬وإلى ســائر‬ ‫ّ‬
‫يظل هــذا المعدن الفيروز ّ‬ ‫ومــن األفضــل أن‬
‫«السمّيعة» االعتيادي ّين‪.‬‬

‫أنسي الحا ّ‬
‫ج ويفتوشنكو‬
‫ُ‬
‫‪ ..‬واحــدة مــن الصفــات التي أطلقت على فيــروز في لبنان يا كومار هي أنّها «شــاعرة الصوت»‪..‬‬
‫خ صديقي الشاعر الهندي ُمقاطعاً‪:‬‬
‫أكم َل تفاصيل كالمي التساؤلي‪ ،‬صر َ‬
‫ِ‬ ‫وقبل أن‬
‫كفــى‪ ..‬كفــى هذا بحاله أعظم توصيف أســمعه أو ي ُمكن لي أن أســمعه عــن فيروز وظاهرتها‪:‬‬
‫ن َمــن َأطلق عليها هذا‬
‫«شــاعرة الصــوت»؟!! نعــم‪ ،‬إنّهــا كذلك بالتمام والكمــال‪ .‬وفي يقيني أ ّ‬
‫التوصيف عندكم‪ ،‬هو شاعر بالتأكيد‪ .‬نعم‪ ،‬ال ي ُمكن أن ي ُطلِق مثل هذا الكالم االمكثّف المسد ّد‬
‫ّ‬
‫خاص‪.‬‬ ‫ل‬ ‫سوى الشعراء‪ ..‬والشعراء ِ‬
‫الكبار بشك ٍ‬
‫ابتســمت للحظات‪ ،‬ثمّ عل ّ ُ‬
‫قت على كالمه‪ :‬نعم هو شــاعر‪ ..‬وشــاعر كبير أيضاً يا صديقي اســمه‬ ‫ُ‬

‫أنســي الحــاج؛ وهــو األوّل بيــن الشــعراء اللّبناني ّين والعرب الذيــن أدمنوا الكتابــة على فيروز‪،‬‬
‫بمناسبة ٍ ومن دون مناسبة‪ ،‬نظراً لشغفه‪ ،‬بل النخطافه المتواصل بصوتها األسطوري الفريد‪.‬‬
‫شاع ٌر آخر‪ ،‬كبير ومهمّ للغاية في بالده روسيا (االتّحاد السوفياتي سابقاً) وعلى مستوى العا َلم‬
‫أيضاً‪ ،‬هو يفغيني يفتوشــنكو (‪َ )2017 – 1932‬و َص َف صوت فيروز «بالشــعر الســائل الذي يؤلّف‬
‫سماعك له‪ ،‬ويرد ّك إلى أنأى المسافات التي تشعر معها وكأنّك لم تو َلد بعد‪ ،‬ثمّ‬
‫َ‬ ‫جوهرك فور‬
‫دي ْن‪ ،‬ال تجــرؤ معهما أي ّة رتابة على النَّيل‬ ‫ٍ‬
‫بكشــف وحضور ٍ جدي َ‬ ‫يحــدث أن تولــد‪ ،‬ولك ْ‬
‫ن هذه المرّة‬
‫روحي‬
‫ّ‬ ‫د ٍ‬
‫ث‬ ‫منــك‪ .‬صــوت فيروزكم‪ ،‬بل فيروزنا جميعاً‪ ،‬نعم هو صوت الشــعر الذي يتحــوّل إلى َح َ‬
‫ُســهم فــي إنقاذ العا َلم عن طريــق إنقاذ روحك كفرد ٍ قلــق في جوف هذا‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫خــاص من شــأنه أن ي‬
‫العا َلم‪ .‬إنّه ماد ّة األثير الملموس إذن‪ ،‬وهي تُحرّضك بواقعي ّة على استيعاب معاني ما تنطق به‬
‫وتولّده وتستكنه المزيد من خباياه ولطائفه»‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫واسترســل الشاعر يفتوشــنكو بالكالم على شعري ّة صوت فيروز مبي ّناً هذه المرّة «أ ّ‬
‫ن له ثوابته‬ ‫َ‬

‫النغميّــة الذاتي ّة وشــفافي ّة تداخله محض الطبيعي في المألــوف من حوا َليه ليحوّله إلى أمر ٍ غير‬
‫ي الشاعر يتحد ّانا‪ ،‬ظاهراً وباطناً‪ ،‬الستيالد سطوة‬ ‫ُ‬
‫الصوت الفيروز ّ‬ ‫ّ‬
‫يظل‬ ‫مألوف‪ .‬وانطالقاً من هذا‬
‫تمكننا من استيعاب سحره المتدفّق بمرونة عجيبة وغامضة»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫معايير ذوقي ّة جديدة ّ‬
‫كل الجد ّة‪،‬‬
‫جاء كالم الشــاعر يفغيني يفتوشــنكو أعاله في ســياق حوار أجريت ُه معه في شــهر آذار‪ /‬مارس‬
‫شاركة في المؤتمر الثالث‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫من العام ‪ ،1967‬وذلك على هامش زيارته اليتيمة لبيروت بهدف‬
‫عام اتّحاد الكتّاب اللّبناني ّين‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫تواصلت معه وقتها من خالل أمين‬ ‫التّحاد كتّاب آسيا وإفريقيا‪ .‬وقد‬
‫والمحتفين‪ ،‬طبعاً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الروائــي د‪ .‬ســهيل إدريس الــذي كان على رأس ُ‬
‫المشــاركين في المؤتمــر‪،‬‬
‫بالشاعر الروسي الكبير‪.‬‬
‫ُ‬
‫انفردت بيفتوشــنكو في ما بعد‪ ،‬بناءً على رغبته‪ ،‬حيث أبلغني أنّه ال يحبّ الرســمي ّات‬ ‫َ‬
‫وحدث أن‬
‫وطلــب منّي أن «نهــرب معاً» من أجــواء الفندق (فنــدق «بيروت‬
‫َ‬ ‫واألجــواء المفروضــة فرضــاً‪،‬‬
‫ُ‬
‫وذهبت‬ ‫ي مكا ٍ‬
‫ن خارجه‪ .‬وهكذا كان‪..‬‬ ‫إنترناشــيونال» آنذاك‪ ،‬القريب من منطقة الروشــة) إلى أ ّ‬
‫شعبي واسع األرجاء في ساحة رياض الصلح في العاصمة اللّبناني ّة؛‬
‫ّ‬ ‫مقهى‬
‫ً‬ ‫الروسي إلى‬
‫ّ‬ ‫بالشاعر‬
‫ُ‬
‫واكتشــفت في تلك الجلســة التاريخي ّة معه‪ ،‬والتي دامت ســاع ًة ونصف الســاعة‪ ،‬كم كان َيعرف‬
‫أشــياء‪ ،‬وبالتفاصيل‪ ،‬عن الوضعي ّة الثقافي ّة اللّبناني ّة برموزها الشــعري ّة واألدبي ّة والفكري ّة‪ ،‬وحتّى‬
‫السياسي ّة واالقتصادي ّة‪ ،‬وسمّى بيروت آنذاك بـ»عاصمة الثقافة والحري ّات الحقيقي ّة الملموسة‪،‬‬
‫العربي فقط‪ ،‬وإنّمــا في عموم آســيا ُ‬
‫المكتهلة» على حد ّ تعبيــره‪ ،‬ما َج َع َلني‬ ‫ّ‬ ‫ليــس فــي العا َلــم‬
‫في ّة اتّصاله بإبداعات المثلّث الرحباني‪ :‬فيروز‪ ،‬عاصي ومنصور‪،‬‬ ‫أُحجم بعدها عن سؤالي له حول كي ّ‬

‫تناولت ظاهرته الغنائي ّة والموسيقي ّة‬


‫َ‬ ‫وتكوين ما كوَّنه حول هذا المثلّث من آراءٍ جمالي ّة جريئة‬
‫التي يصعب تكرارها‪.‬‬
‫الشــاعري ْن‬
‫َ‬ ‫وبعدمــا أبــدى صديقي الشــاعر الهندي كومار ســينغ كوجرال إعجابه الشــديد بكالم‬
‫أنســي الحاج ويفغيني يفتوشنكو حول شعري ّة الصوت الفيروزيّ‪َ ،‬أردف يقول أنّه يحتاج للتعرُّف‬
‫أكثر إلى شــعر أنســي الحاج وشــخصي ّته النقدي ّة والثقافي ّة عموماً؛ في حين أ ّ‬
‫ن معرفته بالشاعر‬
‫ج به كشاعر ٍ‬ ‫ّ‬
‫انفك يض ّ‬ ‫ن اإلعالم العا َل ّ‬
‫مي آنذاك‪ ،‬وبعيده‪ ،‬ما‬ ‫يفتوشــنكو كانت أوســع وأشمل‪ ،‬أل ّ‬
‫الســتاليني ُ‬
‫المتواصل في بــاده‪ ،‬ودعا بقوّة وإرادة مصمّمة‬ ‫ّ‬ ‫ن كبير ومؤ ِّثر‪ ،‬تصد ّى للنهج‬
‫مــن وز ٍ‬
‫إلصالح النظام السوفياتي الحاكم من الجذور‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫ّ‬
‫وتخص الشاعر الروسي يفتوشنكو‪،‬‬ ‫وهناك معلومة مهمّة ســاقها لي صديقي الشــاعر الهندي‪،‬‬
‫ن أمّه كانت مغنّية راقية ونَشطة جدّاً في مدينة زيما جنوبي سيبيريا حيث وُلد‪ ،‬وأنّه حمل‬
‫وهي أ ّ‬
‫اســم عائلة أمّه بعد طالقها من أبيه‪ ،‬حبّاً بها وتكريماً لها‪ .‬وعليه‪ ،‬وتبعاً لذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن يفتوشــنكو‬
‫يعــرف فــي الصميم معنى أن تكون المرأة مغنّية‪ .‬كما يــدرك أولوي ّة عذوبة صوت األنثى عندما‬
‫كتمــا ً بذروة شــدْوه اآلســر‪ ،‬األمر الــذي َج َع َل ُه‪ ،‬علــى األغلب األعمّ ‪ ،‬يغــوص عميقاً في‬
‫يكــون ُم ِ‬
‫ي وتأثيراته المباشرة عليه‪.‬‬
‫قراءاته التحليلي ّة المتعد ّدة‪ ،‬بل والمتكرّرة‪ ،‬للصوت الفيروز ّ‬
‫د الصديق الهندي أنّه مــن المفيد أن يخبرني بأ ّ‬
‫ن ثمة قصائد عديدة للشــاعر‬ ‫مــن جانــبٍ آخــر‪َ ،‬و َج َ‬
‫يفتوشــنكو كان بإمكان فيروز أن تغنّيها وبنجاحٍ أكيد‪ ،‬وذلك في ما لو كان حصل أ ُّ‬
‫ي تعاو ٍ‬
‫ن أو‬
‫ُ‬
‫أثنيت شــخصيّاً على فكرته‪ /‬االكتشــاف هذه بعــد قراءتي لكثير‬ ‫َ‬
‫الطرفي ْن‪ .‬وقد‬ ‫ــي بيــن‬ ‫اتّصــا ٍ‬
‫ل فن ّ ّ‬
‫مــن قصائد يفتوشــنكو باإلنكليزيّــة والعربي ّة‪ ،‬والســي ّما منها تلك المتّســمة بالطابع العاطفي‬
‫الرومانسي أو قصائد الحبّ الذاتي ّة‪ ..‬وما أكثرها في نِتاجه‪.‬‬

‫ي‬ ‫ّ‬
‫المفضلة لدى الشاعر الهند ّ‬ ‫الفيروزي ّات‬

‫وفــي غمــرة الــكالم الرحب علــى العا َلم الفنّــي لفيروز والرحابنة مع الشــاعر الهنــدي الصديق‬
‫ٍ‬
‫أغنيات لفيروز اســتوقفته أكثر من غيرها‪..‬‬ ‫كومار ســينغ كوجرال‪ ،‬كان ال بد ّ من أن أســأله عن‬
‫ولماذا؟‪...‬أجاب‪:‬‬
‫ّ‬
‫بخاصة أ ّ‬
‫ن الصوت‪..‬‬ ‫ي عملي ّة ُم َ‬
‫فاضلة بين أغاني فيروز الجميلة‪،‬‬ ‫علــي في الحقيقة إجراء أ ّ‬
‫ّ‬ ‫يصعــب‬
‫ن‬ ‫ّ‬
‫الغاّلب عندي على الكلمات والموســيقى فيها‪ .‬على أ ّ‬ ‫لك قبل قليل‪ ،‬هو‬ ‫صوتهــا‪ ،‬وكمــا أك ّ ُ‬
‫دت َ‬
‫ّ‬
‫تظل عالقة في سقف ذاكرتي وشبكة مشاعري‬ ‫األمر ال يخلو أحياناً من أ ّ‬
‫ن ثمّة أغنيات فيروزي ّة‬
‫أكثــر مــن غيرها‪ ،‬مثل أغنية «بعلبك» التي تبــدأ نجمتُنا فيها‪ ،‬وعلى نحو ٍ مفاجىء‪ ،‬بإطالق صوتها‬
‫حني مباشــرة‪ ،‬وتنتصر عليه‪ ،‬هكذا حتّــى أخر عبارة في‬‫المســار النغمي الل ّ‬ ‫ّ‬
‫فتغطــي بدء َ‬ ‫المعجــز‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫القصيدة المغنّاة؛ وفي النتيجة ينتصر الصوت الطبيعي على صوت النغم اآللي‪ ،‬خالِقاً لنفسه بيئ ًة‬
‫ُ‬
‫وبالمتعامل معها‪.‬‬ ‫مسحورة تنتشي بنفسها‬
‫ّ‬
‫يظــل الصوت الفيروزي عندي فــي هذه األغنية‪ ،‬كمــا في غيرها‪،‬‬ ‫بوجيــز العبــارة يــا صديقي‪،‬‬
‫بعي ْنه‪ ،‬وكذلك هو خالصة ســرّ»الثيمة» الفني ّة من أوّلها‬
‫بعي ْنها‪ ،‬وهو الشــعر َ‬
‫هو الموســيقى َ‬
‫إلى آخرها‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫األخوان رحباني نقتطف‪:‬‬
‫َ‬ ‫من أغنية «بعلبك» التي كتب كلماتها ولحّنها‬
‫«بعلبك‪ /‬أنا شــمعة على دراجك‪ /‬وردة على ســياجك‪ /‬أنا نقطة زيت بسراجك‪ /‬بعلبك‪ /‬يا ّ‬
‫قصة‬
‫عــزّ عليانــة‪ /‬بالبال حليانة‪ /‬يا معمّرة بقلــوب وغناني‪/‬هون نحنا هون‪ /‬لوين بدنا نروح‪ /‬يا قلب‬
‫يا مشب ّك‪ /‬بحجارة بعلبك‪ /‬عالدهر‪َ /‬ع سنين العمر‪.»...‬‬
‫َّ‬
‫المفضلة لديه‪ ،‬ف َيذكر أغنية «لبيروت»‬ ‫وي ُتابع الشاعر الهندي الصديق كالمه على األغاني الفيروزي ّة‬
‫التي َكتبها الشاعر اللّبناني جوزيف حرب؛ ويعتبرها من األغاني الدرامي ّة عميقة التأثير‪ ،‬وقد خلبت‬
‫لب ّه واستبد ّت بمشاعره منذ اللّحظات األولى لسماعه إي ّاها‪ ،‬وظلّت تعتريه منها ‪ -‬كما أخبرني ‪-‬‬
‫وطلب منّي ترجم َة كلماتها إلى اإلنكليزي ّة‬
‫َ‬ ‫دهشة مفتوحة ومشدودة حتّى أقاصي المجهول فيه‪،‬‬
‫ن اللّحن فيها مأخوذ بأكمله من الحركة‬ ‫ليسهل عليه ْ‬
‫فكفَ َكة معانيها‪ ،‬وشر ْح أبعادها‪ ،‬وخصوصاً أ ّ‬
‫الثانية لكونشيرتو «دي أرانخويت» للموسيقار اإلسباني ‪ -‬العا َلمي خواكين رودريغو فيدري‪.‬‬
‫ُ‬
‫تدافع أمواج موســيقى‬ ‫ن تداخُــل صوت فيروز مع‬
‫واســتطر َد صديقــي الشــاعر الهندي يقول إ ّ‬
‫ّ‬
‫شــكل بذاته قيم ًة إبداعي ّة ُمضافة‪ ،‬ليس للنتاج الموســيقي الكالســيكي‬ ‫الكونشــيرتو المذكور‪،‬‬
‫الخاص بهذا العبقري اإلسباني الكفيف فقط‪ ،‬وإنّما للكثير من النِّتاجات الموسيقي ّة الكالسيكي ّة‬
‫ّ‬
‫ْ‬
‫واألش َهر في القرن العشرين؛ وإنّنا نلمس ذلك بمجرّد‬ ‫اإلسباني ّة األخرى التي توصف بأنّها األهمّ‬
‫بصوت فيروز حيناً‪ ،‬ثمّ سماعنا له من دون صوتها حيناً آخر‪...‬‬
‫ِ‬ ‫سماعنا للكونشيرتو مصحوباً‬
‫ُ‬
‫ســألت صديقي المســحور‬ ‫ٌ‬
‫غــة ما يا كومار‪ ،‬ومن العيار الثقيل أيضاً‪..‬‬ ‫أليــس فــي األمر هنا ُمبا َل‬
‫َ‬
‫بفيروز وظاهرتها الفني ّة‪ ...‬فأجاب؟‬
‫ُ‬
‫لســت أبالغ هنا‪ ،‬وال أتجاوز حقائق األمور يا صاحبي‪ ،‬وخصوصاً أنّني أتحد ّث عن الكونشــيرتو‪..‬‬ ‫ال‬
‫تخطى َمداره إسبانيا وأوروبا بعامّة ليصير َمداراً موسيقيّاً عا َلميّاً‬
‫ّ‬ ‫كونشرتو دي أرانخويت‪ ،‬الذي‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ي أن أعلِم القاصي والداني‬ ‫ويحق لي بالتالي عندما أسمعه ُمندغِ ماً بصوت فيروز العبقر ّ‬ ‫بامتياز‪،‬‬
‫ي بلد ٍ آخر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫األقل في بلدي الهند أو في أ ّ‬ ‫بكيمياء هذا الحدث الفنّي الجلل‪ ..‬على‬
‫ّ‬
‫نــص أغنية «لبيــروت» إلى اإلنكليزي ّة‪ ،‬ســألني في ما‬ ‫ُ‬
‫ترجمــت لصديقي الشــاعر الهندي‬ ‫وبعدمــا‬
‫ٌ‬
‫ضلع في اختيار الكونشــيرتو‬ ‫ُ‬
‫كنت أعرف شــخصيّاً كاتبها الشــاعر جوزيف حرب‪ ،‬وإذا ما كان له‬ ‫إذا‬
‫اإلسباني في عملي ّة التلحين‪ ،‬وكان جوابي له إ ّ‬
‫ن العائلة الرحباني ّة بكلي ّتها منفتحة على الموسيقات‬

‫دوره َأسهم هذا االنفتاح الكبير في جع ِ‬


‫ْل‬ ‫العارف النّافذ والكبير‪ ،‬غرباً وشرقاً‪ .‬وب َ‬
‫ِ‬ ‫انفتاح‬
‫َ‬ ‫العا َلمي ّة‬
‫مــي الحديث الذي‬
‫ّ‬ ‫والموســيقي العا َل‬
‫ّ‬ ‫الغنائي‬
‫ّ‬ ‫مد الثقاة في المشــهد‬ ‫فيــروز والرحابنــة أحد ال ُ‬
‫ع ُ‬
‫يتنامى يوميّاً بهذا الشكل أو ذاك‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫ٌ‬
‫صديق حميم لي وجا ٌر عزيز أيضاً‪ ،‬في بيروت نفسها‪،‬‬ ‫أمّا بخصوص الشاعر جوزيف حرب فأبلغته بأنّه‬

‫كما في ريف مدينة صيدا عاصمة لبنان الجنوبي‪ ،‬فبلدته «المعمري ّة» ُم ِ‬
‫جاورة لبلدتي «عنقون»‪.‬‬
‫ُ‬
‫سألت صديقي الشاعر الهندي كومار سينغ كوجرال عن دواعي سؤاله بخصوص المعرفة‬ ‫وعندما‬
‫الشــخصي ّة لي بالشــاعر حرب‪ ،‬أجاب بأ ّ‬
‫ن لديه رغبة ذاتي ّة بالتواصل معه‪ ،‬كونه يعكس في شــعره‬
‫ساً ملحميّاً معي ّناً بتنا نفتقده لدى شعراء العا َلم كافّة هذه األي ّام‪.‬‬
‫نَفَ َ‬
‫ُ‬
‫بالتواصل مع الشاعر جوزيف‬ ‫طلب صديقي الشاعر الهندي في ما بعد‪ ،‬وقام فعال ً‬
‫َ‬ ‫وكان أن لب ُ‬
‫َّيت‬
‫الملحمي َعي ْنه‪ ،‬وأعجبه منه جوابه (أي جواب الشاعر حرب) بأ ّ‬
‫ن الملحمة هي‬ ‫ّ‬ ‫حرب في الموضوع‬
‫ن هذه السلطة لن تخبو مع األي ّام مطلقاُ‪..‬‬ ‫ُ‬
‫المعادِل الموضوعي لســلطة الشــعر عبر التاريخ‪ ،‬وأ ّ‬
‫نفســها بعض الوقــت‪ ،‬حتّى تنفجر من جديد مع هذا الشــاعر الحقيقي أو‬
‫َ‬ ‫وهــي مــا تكاد تحجب‬
‫ذاك في غير مكان من العا َلم‪.‬‬
‫ساً هوميريّاً صاخباً وبالغ الفخامة‪ ،‬كلم ًة ولحناً‪ ،‬نقطتف‪:‬‬ ‫من قصيدة «لبيروت» الحاملة نَفَ َ‬
‫ســام لبيروت‪ُ /‬‬
‫وق َب ٌل للبحر والبيــوت‪ /‬لصخرة ٍ كأنّها وج ُه بحّار ٍ قديم‪ /‬هي‬ ‫ٌ‬ ‫«لبيــروت‪ /‬من قلبي‬
‫ُ‬
‫طعمها طع َْم نار ٍ ودخان‪/‬‬ ‫ٌ‬
‫خبز وياسمين‪ /‬فكيف صار‬ ‫من‪ ...‬روح الشعب خمر‪ /‬هي من‪َ ....‬ع َر ِق ِه‬
‫دم لولد ٍ ُ‬
‫حمل فوق يدها‪ /‬أطفأت مدينتي قنديلها‪ /‬أغلقت‬ ‫لبيروت‪ /‬مجد ٌ من رماد لبيروت‪ /‬من ٍ‬

‫بابها‪ /‬أصبحت في المسا وحدها‪ /‬وحدها وليل»‪...‬‬


‫والغرب يختار لحناً عربيّاً أيضاً‬
‫ُ‬
‫جدي ٌر بالذكر أ ّ‬
‫ن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان قد صرَّح‪ ،‬وبعد نهاية زيارته الثانية للبنان‬
‫ق فرنســي) بأ ّ‬
‫ن أغنية «لبيروت» هي األحبّ إليه‬ ‫وســام استحقا ٍ‬
‫ِ‬ ‫(قلّد خاللها الســي ّدة فيروز أرفع‬
‫استمع إليها أكثر من مرّة‪.‬‬
‫َ‬ ‫بين أغاني أيقونتنا العظيمة‪ ،‬وقد‬
‫ٍ‬
‫موســيقات كالســيكي ّة غربي ّة أخرى‪،‬‬ ‫قتبســة ألحانها عن‬ ‫ومن قلب األجواء الغنائي ّة الفيروزي ّة ُ‬
‫الم َ‬
‫ُ‬
‫صديقنــا الشــاعر الهنــدي أيضــاً عند أغنية‪« :‬يا أنــا يا أنا‪ ..‬أنــا وي ّاك» التي َكت َ‬
‫َــب كلماتها‬ ‫يتوقّــف‬
‫األخــوان رحباني واقتبســا لحنهــا بالكامل عن مقاطع من «الســيمفوني ّة األربعيــن» لموزارت‪،‬‬
‫والتــي تعود في الزمن إلى القرن الثامن عشــر‪ ،‬وتحديداً للعــام ‪ .1788‬حيث يرى كومار أنّنا هنا‬
‫بصوت فيروز وتوقيعاته هــذه المرّة‪ ،‬األمر‬
‫ِ‬ ‫أمــام ترجمــة ٍ أخرى للعمارة الموســيقي ّة الموزاريّــة‬
‫الذي من شــأنه أن يزيد «الموقف الفنّي الســيمفوني» إبداعاً على إبداع‪ .‬ولو ُق ِّيض للموسيقار‬
‫ترجماً‬
‫النمســاوي العبقري فولفغانــغ أماديوس موزارت أن يكون حيّاً و َيســمع صوت فيروز ُم َ‬

‫‪252‬‬
‫بهذه الطريقة الدينامي ّة والفريدة على واحدة من أشــهر مؤلّفاته الموســيقي ّة‪ ،‬لكان سيكون له‬
‫ٌ‬
‫موقف أكثر اندهاشاً وأكثر امتناناً بالتأكيد‪.‬‬
‫َج َح الرحابنة في مزج األلحان الشرقي ّة باأللحان الغربي ّة‪ ،‬واإلتيان‪ ،‬عبر صوت فيروز‪ ،‬بتجربة‬ ‫هكذا ن َ‬
‫ســتمعاً عا َلميّاً جديداً‪ ،‬ســواء في الهند‬
‫ِ‬ ‫غنائي ّة وموســيقي ّة ثالثة َأوجدت‪ ،‬وبكثير ٍ من الواقعي ّة‪ُ ،‬م‬
‫ي بلد ٍ آخر في هذا العا َلم‪.‬‬
‫أم في أوروبا أم في أ ّ‬
‫في المقابل‪ ،‬رأينا في الغرب َمن «يرد ّ» على هذه التجربة اللّحني ّة الرحباني ّة الفيروزي ّة الشــرقي ّة‪/‬‬
‫ُ‬
‫المطرب‬ ‫الغربيّــة النّاجحــة‪ ،‬بتجربــة ٍ لحنيّــة غربي ّة‪ /‬شــرقي ّة أكثــر نجاحاً على مــا يبدو‪ ،‬فقد َأقــدم‬
‫الفرنسي الشهير جان فرنسوا ميكاييل في العام ‪ 1973‬على اقتباس لحن أغنية فيروز والرحابنة‪:‬‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫بكلمات فرنسي ّة مغايرة‪ ،‬وبصوته الحاد ّ‪ ،‬العالي‬ ‫«حب َّيْتَك بالصيف‪ ..‬حب َّيْتَك بالشتي»‪ ،‬وغنّاها طبعاً‬

‫واآلســر‪ ،‬مــا َج َع َلها تُحقِّ ق رواجاً كاســحاً‪ ،‬فرنســيّاً وعربيّــاً وعا َلميّاً‪ ،‬وهو األمر الــذي أكّد ترجم َة‬
‫َ‬
‫الطرفي ْن‪ ،‬الشــرقي والغربي على حد ّ ســواء‪ ،‬بخالف الكمّ طبعاً‪..‬‬ ‫ُمعا َدل ِة التأثير الموســيقي من‬

‫ع ُم َ‬
‫ضاعف لشــاعرنا الهندي الذي قال‬ ‫َّ‬
‫شــكلت متع َة ســما ٍ‬ ‫ومثل هذه التوليفة اللّحني ّة الناجحة‪،‬‬
‫في خالصتها إ ّ‬
‫ن فيروز والرحابنة أسّ ســوا فعال ً لشــخصي ّة موســيقي ّة مشــرقي ّة جديدة اســتفادت‬
‫وتســتفيد طبعاً من اآلالت الموســيقي ّة الغربي ّة كاألوكارديون والكمنجا والكونترباص والغيتار‬
‫والبيانو والساكســفون‪ ...‬إلخ‪ ،‬ودائماً على قاعدة حفْظ الهوي ّة الموســيقي ّة اللّبناني ّة أو العربي ّة‬
‫ع واحد ٍ بتعد ّدي ّته‬ ‫وآالتهــا الموروثة‪ ،‬ما أثّروا في اآلخرين وتأثّروا بهم‪ ،‬واتّجهوا لإلتيان ُ‬
‫بمســتم ٍ‬
‫فعل التذوُّق واالختيار‪ ،‬وحتّــى االندغام بما ي ُحيط به من‬
‫َ‬ ‫فــي هــذا العا َلم‪ ،‬وجعْله هو َمن ي ِّ‬
‫ُقــرر‬

‫فنون غناء وموســيقات شــتّى‪ ،‬تســتطيع هي ب َ‬


‫دورها أن تكون ُمختلفة في آن‪ ،‬ومؤتلِفة في آن‬
‫أخر‪ ،‬ودائماً بحسب نوايا ُمبدعيها وإراداتهم‪.‬‬
‫ْس اإلدراك الموسيقي لدى العديد من‬ ‫بعض خبراء «عِلم موسيقى الشعوب» بدر ِ‬ ‫ُ‬ ‫قام‬
‫َ‬ ‫وعندما‬
‫المتبايِنة‪ ،‬أكّدوا على مسلّمة قدرة الموسيقى على ْ‬
‫وض ِع اإلنسان‪ ،‬إ ْ‬
‫ن في‬ ‫الجماعات والثقافات ُ‬
‫مناخ السلب والتوتُّر والعنف من جهة‪ ،‬أو في مناخ اإليجاب والهدوء والطمأنينة من جهة ٍ أخرى؛‬
‫وفي النتيجة رأوا أنّه ال ي ُمكن فهْم الموســيقى أو اســتيعابها‪ّ ،‬‬
‫إاّل من خالل إدراك آلي ّات العقل‬
‫الباطــن لمتونها‪ ،‬ورب ْط هذه المتون بالذاكرة النشــطة لإلنســان‪ ،‬وتحفيز خاليا حواسّ ــه الكامنة‬
‫والمختلِجــة فــي آن‪ ..‬واإلنســان هو اإلنســان أينما كان على هذه األرض‪ ،‬شــرقاً وغرباً‪ ،‬شــماالً‬
‫ُ‬
‫وجنوباً‪ :‬يفرح‪ ،‬يحزن‪ ،‬يتعب‪ ،‬يرتاح‪ ،‬يمرض‪ ،‬يشفى‪ ،‬يموت‪ ،‬يحيا‪ ....‬إلخ‪ .‬والموسيقى كلغة ٍ عا َلمي ّة‬
‫يغطي ّ‬
‫كل شيء على هذا الكوكب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ظل الكون الذي‬ ‫شتركة ليست سوى‬
‫َ‬ ‫ُم‬

‫‪253‬‬
‫وأم كلثوم الهند‬
‫ّ‬ ‫فيروز‬

‫ثمّة مفاجأة كبرى للغاية كان قد أعد ّها لي الشاعر الهندي الصديق كومار سينغ كوجرال‪ ،‬تمثَّلت‬
‫ّ‬
‫خاص بي للقاء نجمة نجوم الغناء والموســيقى الكالســيكي ّة‬ ‫بإقدامه مســب ّقاً على تعيين موعد ٍ‬

‫فــي الهنــد‪ :‬التــا مانغيشــكار (‪ ،)2022 – 1929‬والتي ي ُطلــق عليها بعض العرب ممَّن يشــغلهم‬
‫«أم كلثوم الهند»‪ .‬وقد‬
‫ّ‬ ‫وازنة من ُمســلمي تلك البالد لقب‪:‬‬‫ِ‬ ‫الشــأن الهندي‪ ،‬ومعهم شــريحة‬
‫الصديــق الشــاعر بمفرده على ترتيــب هذا اللّقــاء‪ ،‬وذلك قبل أســابيع قليلة فقط من‬
‫ُ‬ ‫اشــتغل‬
‫ُ ُ‬
‫مسعى‬
‫ً‬ ‫كنت أقيم وأعمل‪ .‬ونجاح‬ ‫مجيئي إلى بومباي من دولة اإلمارات العربي ّة المتّحدة‪ ،‬حيث‬
‫ّ‬
‫يســتحق التنويه واإلشــادة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وقت قصير للغاية‪ ،‬أم ٌر‬ ‫ثقافي من هذا القبيل‪ ،‬وفي غضون‬
‫ّ‬ ‫إعالمي‬
‫ّ‬
‫إذ التصويــب علــى لقاء شــخصي ّة فني ّة محوري ّة من طراز التا مانغيشــكار‪ ،‬تَعتبرها الهند‪ ،‬رســميّاً‬

‫ث الصحافي الســهل أو العا ِبــر‪ ،‬أقلّه لجهة‬


‫د ِ‬
‫بالح َ‬
‫َ‬ ‫وشــعبيّاً‪ ،‬رمــزاً وطنيّــاً وثقافيّــاً كبيراً لها‪ ،‬ليس‬
‫جدول أعمالها الذي سيكون ُمزدحماً باالرتباطات وااللتزامات العملي ّة والشخصي ّة على اختالفها‪.‬‬
‫ققه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫شــكرت صديقي الشــاعر الهندي على هــذا اإلنجاز الذي ح َّ‬ ‫وحتّــى ال أطيــل في هذا المجال‪،‬‬
‫س َم ُه هو بمفرده‪َ ،‬‬
‫وأعلن عنه الحقاً‬ ‫والذي لم َيكشف النِّقاب عنه ّ‬
‫إاّل في التوقيت ُ‬
‫المالئم الذي َر َ‬
‫ّ‬
‫بكل ثقة واقتدار‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬وبعد حب ِْس األنفاس ‪ -‬من َطرفي أنا طبعاً ‪ -‬كان اللّقاء العتيد ُ‬
‫الم َ‬
‫نتظر مع سي ّدة الغناء‬
‫والموســيقى الكالســيكي ّة في شــبه القارّة الهندي ّة‪ :‬التا مانغيشــكار‪ ،‬في بيتها الواســع األنيق‪،‬‬
‫والكائــن في أحد أفخم أحيــاء بومباي‪ ،‬المدينة األكبر في الهند‪ ،‬وعاصمة الفنون بتنويعاتها في‬
‫هذا البلد‪.‬‬
‫‪ ...‬وباللّغة الهندوســي ّة قد ّمني الشــاعر كومار ســينغ كوجرال إلى نجم ِة نجوم الهند ذات الوقار‬
‫إليك وجهاً‬
‫ِ‬ ‫العالــي والكاريزما اآلســرة‪ ،‬قائال ً‪ :‬هوذا صديقي قادم من بــاد األرز وفيروز‪ ،‬ليتعرَّف‬
‫ِ‬
‫تجربتك الغنائي ّة الحافلة والعريقة‪ .‬ويأمل هو‪ ،‬وأنا‬ ‫لوجه‪ ،‬وي ُدردش معك للصحافة العربي ّة حول‬
‫ِ‬
‫وقتك الثمين ما يسمح بإنجاح مهمّتنا هذه‪.‬‬ ‫خائبي ْن‪ ،‬وتعطينا من‬
‫َ‬ ‫معه أيضاً‪ّ ،‬‬
‫أاّل ترد ّينا‬
‫بــك في الهند‪ ..‬أهو‬
‫َ‬ ‫موجه ًة الكالم لي‪ :‬أهال ً‬
‫ِّ‬ ‫ْ‬
‫ابتســمت التا مانغيشــكار ابتســام ًة عفوي ّة وقالــت‬
‫ّ‬
‫عشاق بالدكم‬ ‫مشوارك األوّل إلى بالدنا؟ أجب ْتُها ال‪ ..‬ال‪ ..‬سي ّدتي‪ ،‬إنّه مشواري السادس‪ ،‬فأنا من‬
‫الجميلــة الغني ّة بتراكُم الحضارات والثقافات‪ ،‬ي ُســاعدني على ذلــك مهنتي كصحافي في المجال‬
‫ُ‬
‫كنت أعمل في أكثر من‬ ‫الثقافــي‪ ..‬وحاليّــاً أنا أعمل لدى إحدى الصحف اإلماراتي ّة الكبرى؛ وقبلها‬

‫‪254‬‬
‫منبر ٍ إعالمي في بلدي‪ :‬لبنان‪ .‬هنا تدخَّل ثانية صديقي الهندي قائال ً بالهندوســي ّة ما ترجمته‪ :‬هو‬
‫أخبرتك قبل لحظات من بالد فيروز ســي ّدتي‪ ،‬المغنّية اللّبناني ّة والعربي ّة األشــهر‪ ..‬طبعاً إلى‬
‫ِ‬ ‫كما‬
‫جانب المغنّية المصري ّة العمالقة الراحلة ّ‬
‫أم كلثوم وهي األخرى كاسحة بشهرتِها‪ ،‬عربيّاً وعا َلميّاً‪.‬‬
‫ابتسمت الفنّانة الهندي ّة ابتسام ًة أكبر وأع َْرض هذه المرّة وخاطبتني بإنكليزي ّة ٍ فخمة‪ :‬فيروز‪ ،‬آه‪،‬‬
‫ِ‬
‫إنّهــا ليســت مغنّية لبناني ّة أو عربي ّة فقط‪ ،‬بل هي نجمة غنــاء عا َلمي ّة بجدارة‪ ..‬صوتها في الواقع‬
‫ُ‬
‫سمعت‬ ‫المدهش بين المقامات والجمل الموسيقي ّة‪ .‬وقد‬ ‫قل ُ‬ ‫الطاقة والمرونة والتن ُّ‬
‫ُمكتمل ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫خذت بصوتها الســاحر‪ ،‬الدافىء الــذي يؤد ّي األلحان‬ ‫ل متكــرّر‪ ،‬الكثير من األغاني‪ ،‬وأ‬
‫لهــا‪ ،‬وبشــك ٍ‬
‫الشرقي ّة كما الغربي ّة على أكمل وجه ٍ فنّي ُمذهل‪.‬‬
‫ي إجهاد ٍ لذاكرتك‪ ،‬أي ّة أغا ٍ‬
‫ن لفيروز َجذبت‬ ‫وهل لي أن أعرف ســي ّدتي‪ ،‬لو تفضل ّ ِ‬
‫ت طبعاً‪ ،‬ودونما أ ّ‬
‫ِ‬
‫سمعك الخبير والحسّ اس أكثر من غيرها‪..‬؟‬
‫ل وموحّد ٍ بين الكلمة واللّحن‬ ‫ّ‬
‫الموشحات األندلسي ّة التي غنَّتها‪ ،‬وبأداءٍ عا ٍ‬ ‫أجابتني من َفورها‪ّ :‬‬
‫كل‬

‫المبهرة التي تُجيد فيروز‪َ ،‬‬


‫ومن معها‪،‬‬ ‫والصوت‪ ..‬ودائماً عبر هذه المشهدي ّة الفني ّة الكريستالي ّة ُ‬

‫نسْ جها وإعمارها على المسرح‪.‬‬


‫د من خبراء ف ّ‬
‫ن الغناء والموسيقى‬ ‫ّ‬
‫للموشحات‪ ،‬من جانبٍ آخر‪ ،‬العدي َ‬ ‫ي‬
‫َب األداءُ الفيروز ّ‬
‫كما َجذ َ‬
‫في الهند ووسط آسيا‪ ،‬وكذلك األصدقاء الخبراء أيضاً في الواليات المتّحدة وبريطانيا وإسبانيا‬
‫ممَّــن أعرفهم شــخصيّاً‪ ،‬وتحد ُ‬
‫ّثــت إليهم أكثر من مرّة فــي الظاهرة الفيروزي ّة‪ ،‬وظاهرة ســي ّدة‬
‫أم كلثوم‪.‬‬
‫الغناء العربي الراحلة الكبيرة‪ّ :‬‬
‫وعــادت نجمتُنــا الهنديّــة التا مانغيشــكار إلى أجــواءِ فيروز لتقــول‪َ :‬أعجبني أيضاً ذلــك التنغيم‬
‫ن لها تضرب في «مخي ّلة حواسّ ــنا» دفع ًة‬
‫المتناوبة من أغا ٍ‬ ‫ُ‬
‫والتناغم وتصا ُعد اإليقاعات الحســي ّة ُ‬

‫فنستســلم لها بالضربة الجمالي ّة القاضية‪ ،‬أذكر منها‪« :‬شــتّي يا دنيي شــتّي»‪ ،‬و«يا كرم‬
‫ُ‬ ‫واحدة‪،‬‬
‫العاللي عنقودك لِنا‪ ،»..‬و«دبكة لبنان»‪ ،‬و«حنّا السكران»‪ ،‬و«آخر إي ّام الصيفي ّة» و«بتتلج الدني‪،‬‬
‫بتصي ّف الدني»‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫وحفظت حتّى عناوينها‪ ،‬وخصوصاً‬
‫ِ‬ ‫عرفت بهذه األغنيات سي ّدتي وعاينتها كما يبدو لي بدقّة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وكيف‬
‫ن أغلبها هو بالعامي ّة اللّبناني ّة‪ ،‬ويجيء ثقيال ً‪ ،‬ولو بعض الشيء‪ ،‬على لسانِك؟‬
‫أ ّ‬
‫الحقة آخر‬
‫وم َ‬‫والموســيقي‪ُ ،‬‬ ‫الغنائــي‬ ‫ُ‬
‫مطربــة الهند وآســيا األولى‪ :‬إنّه شــغفي بعملــي‬ ‫أجابــت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫المختصين‬ ‫الجزئيّــات المتعلّقة به‪ ،‬وخصوصاً خارج الهند؛ فأنا أســتعين‪ ،‬وعلى طريقتي‪ ،‬باآلخرين‬

‫‪255‬‬
‫قفين َمعني ّيــن‪ ،‬وبينهم عرب في المناســبة على درايــة ٍ نافذة في‬
‫قــاد ٍ وموســيقي ّين ومث ّ‬
‫مــن ن ّ‬

‫الشــأن الفيروزي‪ ،‬كي يعلّمونّني ويرشدونني وآخذ‪ ،‬بالتالي‪ ،‬بنصائحهم وإرشاداتهم‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫أدلي بآرائي وأحكامي على األمور ذات العالقة‪ ..‬العا َلم ضي ّق جدّاً كما تعلم أي ّها الصديق الجديد‪،‬‬
‫وعلى الفنّان النّاجح‪ ،‬ســواء أكان في بلده أم خارجه‪ ،‬أن يتحوّل إلى مؤسّ ســة ٍ فني ّة بذاتها‪ ،‬حتّى‬
‫د من تجارب‬ ‫والً‪ ،‬عوامــل حفْ ِ‬
‫ــظ نجاح فنّه وتطوّر هــذا الفنّ؛ وثانياً كي يســتفي َ‬ ‫يضمــن لنفســه‪ ،‬أ ّ‬
‫التحوّالت المستمرّة لدى الفنّانين الكبار اآلخرين وقوّة ما يقد ّمونه‪.‬‬
‫وقــت مضى‪ ،‬إلى لغة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫نف ّ‬
‫ن الغناء تحــوَّل في زمننا هذا‪ ،‬وأكثر من أ ّ‬ ‫ّ‬
‫شــك‪ ،‬تــدرك أ ّ‬ ‫وأنــت‪ ،‬وال‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫المعني ّة بأســرع ما ي ُمكن‪ .‬ومن هنا تراني أتابع وبجد ّية‬
‫شــتركة تســتوعبها األوســاط َ‬
‫َ‬ ‫عا َلمي ّة ُم‬
‫حراك التجارب الغنائي ّة والموسيقي ّة الفريدة والمتفوّقة‪ ،‬ليس المتعلّقة ببلدكم لبنان‬
‫َ‬ ‫مستمرّة‬
‫والعا َلم العربي فقط‪ ،‬وإنّما بسائر بلدان العا َلم‪ ،‬شرقاً وغرباً‪.‬‬

‫م غنائي ّة نسائي ّة عا َلمي ّة‬


‫ِم ٌ‬
‫ق َ‬
‫يلفتك ســي ّدتي من القِ َمم الغنائي ّة والموســيقي ّة النســائي ّة على مستوى العا َلم؟ سألتها‬
‫ِ‬ ‫ومن‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫فأجابت‪:‬‬
‫ُ‬
‫وعاصرت عمالقــة األوبرا العا َلمي ّة اليونانيّــة‪ /‬األميركي ّة ماريا كاالس‬ ‫ُ‬
‫عرفت‬ ‫أنــا محظوظــة ألنّني‬
‫ســتمعين مــن ّ‬
‫كل األجناس‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫للم‬ ‫درامي أخّاذ وجاذبٍ‬ ‫ٍ‬
‫بصــوت‬ ‫(‪ ،)1977 - 1923‬فقــد كانــت تتمتّــع‬
‫ّ‬
‫واألعراق‪ .‬وقد َأطلق الشاع ُر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس على صوتها‪ ،‬الذي ي ُصنّف من طبقة‬
‫الحي للحضارة اليوناني ّة»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لقب‪« :‬باعثة المجد‬
‫َ‬ ‫السوبرانو األعلى بين مغنّيات العا َلم‪،‬‬
‫وهنــاك الفرنســي ّة إديث بياف‪ ،‬ســفيرة الغناء الفرنســي إلى العا َلــم (‪ )1963 – 1915‬والتي كان‬
‫فكاك بينها‪ .‬وفد أثّرت هذه المغنّية‬
‫ٍ‬ ‫ي‬
‫صوتهــا «يــؤ ِّدب» العقول والقلوب و َيمنعها من حصول أ ّ‬
‫الحسّ اســة والجارحة عميقاً في نياط قلوب ســامعيها‪ ،‬وأنا منهم‪ ،‬لدرجة أنّها َدفعت بمشــاعري‬
‫ٍ‬
‫ضفاف أخرى من شأنها أنّها خوّلتنا اإليغال في طبيعة الوجود‬ ‫أو باألحرى بمشاعرنا جميعاً‪ ،‬نحو‬
‫ٍ‬
‫عذابات مريرة‬ ‫وإعطائــه صيغــة المعنــى الذي ينتصر على الغموض‪ .‬صحيح أ ّ‬
‫ن إديث بياف عاشــت‬
‫دم نفسها‬
‫كل شــيء‪ ،‬وال تق ِّ‬ ‫يوم من حياتها‪ّ ،‬‬
‫إاّل أنّها ظلّت قوي ّة على ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وشــبه ُمســتدامة حتّى آخر‬
‫شكل سلطة جمالي ّة رفيعة‪.‬‬‫ِ‬ ‫ّ‬
‫إاّل على‬
‫علي طغياناً صوتيّاً وموســيقيّاً مــا أحببته يوماً أن‬ ‫ومــن المغنّيــات العا َلمي ّات ّ‬
‫الاّلئي «مارسْ َ‬
‫ــن‬
‫َّ‬

‫‪256‬‬
‫يغيــب»‪ ،‬البرازيليّــة إلــزا ســواريس (‪ .)2022 – 1930‬وأهمي ّة هــذه الفنّانة التي وُلدت وعاشــت‬
‫ْ‬
‫اختزلت‬ ‫تســور مدينة ريو دي جانيرو‪ ،‬أنّها‬
‫ِّ‬ ‫طفول ًة معذّبة في واحدة من أحياء ُمدن الصفيح التي‬
‫ّ‬
‫يظل على‬ ‫ن الغناء ابتالء أكثر منه نُعمى»‪ ،‬لك ّ‬
‫ن هذا االبتالء‬ ‫حياتَها الفني ّة بجملة ٍ واحدة تقول «إ ّ‬
‫ي حال امتيازها األوّل الذي ال بد ّ منه لصنْع الهوي ّة التلقائي ّة للحياة الحقيقي ّة المنشودة‪.‬‬
‫أ ّ‬
‫ذرى صوتي ّة إبداعي ّة‬ ‫وإلــزا العظيمــة هذه‪ ،‬وفي ّ‬
‫كل مرّة كانــت تغنّي فيها‪ ،‬وترتفع في غنائها إلى‬
‫ً‬
‫أخالها دوماً جديدة ومتجد ّدة‪ ،‬كانت تُدرك ســلفاً أ ّ‬
‫ن غربتها ال شــطآن لها‪ ،‬وبالتالي فإ ّ‬
‫ن عليها أن‬
‫تدامجِ ها االغترابي الذي يتأرجح باستمرار بين الحضور والغياب‪ ،‬غريز ًة ثانية تُقيم فيها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تبلْور من‬
‫وخارجها‪ ،‬في آن معاً‪.‬‬
‫ُ‬
‫نجمة نجوم الغناء في الهند أن تحد ّثني عن الروســي ّة غالينا فينشنفســكايا (‪– 1926‬‬ ‫تنس‬
‫َ‬ ‫و َلم‬
‫‪ )2012‬مغنّية األوبرا الشهيرة التي تستمد ّ قوّتها الفني ّة من نفسها ومن إرادتها ُ‬
‫الممعِ نة َغوصاً‬

‫اآلدمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الموســيقي الخصب‪ .‬وف ّ‬
‫ن اإلوبرا بالنســبة إليها يكشــف ذكاء الصوت‬ ‫ّ‬ ‫فــي تراث بالدها‬
‫حني المتنوّع فقط‪.‬‬ ‫وليس قوّته أو مرونته وخبرته في األداء الل ّ‬
‫ّ‬
‫ن ثمة خصوبة موســيقي ّة حارّة في الذّات البشــري ّة‪ ،‬ليس من الصعــب على المغنّي‬‫إنّهــا تــرى أ ّ‬
‫وراً بذلك‬ ‫ْ‬ ‫الم َ‬
‫بتكرة ألجلهــا وي ُنافســها‪ُ ،‬مبل ِ‬ ‫يطــوع اآللة الموســيقي ّة الخارجيّــة أو ُ‬
‫ِّ‬ ‫الحقيقــي أن‬
‫دماً في ما بعد «ملحمته الصوتي ّة»‬ ‫هذا االنســجام أو االتّســاق الجمالي ُ‬
‫المتبا َدل بينهما‪ ،‬ومق ِّ‬
‫الفردي ّة الخالصة‪.‬‬
‫ي خالِص‪ ،‬على الرّغم من ّ‬
‫كل‬ ‫ملحمي فرد ّ‬ ‫ن األوبرا بحســب غالينا فينشنفســكايا‪ ،‬هو ف ٌّ‬
‫ن‬ ‫نعم‪ ،‬ف ّ‬
‫ّ‬
‫لحقة به‪ .‬والصوت في األوبرا ينفجر‪ ،‬يكمن ويتخ ّ‬
‫فى‬ ‫المصاحبات واإلكسسوارات الموسيقي ّة ُ‬
‫الم َ‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫الكل‪.‬‬ ‫فعل‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫يظل ينمّ عن‬ ‫دفع ًة واحدة‪ ،‬والجزء فيه‬
‫بعــد ذلــك حد َّ َثتْنــي التــا مانغيشــكار عن مغنّيــة ٍ ياباني ّة شــاب ّة توسّ ــمت فيها «نهضــة» إبداعي ّة‬
‫موســيقي ّة اســتثنائي ّة في بالدها والعا َلم‪ ،‬اســمها أيومي هاماســاكي‪ .‬وكان توقّعها في محلّه‬
‫ٍ‬
‫نجاحات كبيرة‪ ،‬شــعبيّاً وتجاريّاً في‬ ‫علــى مــا يبدو‪ ،‬إذ بدأت هذه المطربة‪ ،‬ومنذ ســنوات‪ ،‬تحصد‬
‫اليابــان وروســيا وأوروبــا وأميركا؛ ّ‬
‫إاّل أنّها في الوقت نفســه‪ ،‬كانت‪ ،‬وال تــزال‪ ،‬حريصة على أن‬
‫منحى‬ ‫ّ‬
‫يظــل نِتاجهــا الفنّــي مســؤوالً وجديّاً‪ ،‬وخصوصاً فــي ألبوماتهــا الغنائي ّة التي تنحــو فيها‬
‫ً‬
‫سمع الجمهور‬
‫َ‬ ‫ن هذا المنحى الشبابي الغنائي‪َ ،‬بدأ يجذب هو اآلخر‬ ‫شبابيّاً خالِصاً‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫وذاكرته من ُمختلف األعمار‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫والمختزلة في فضاء المغنّيــات العا َلمي ّات االســتثنائي ّات‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بعــد تقديمهــا هذه الجولــة ُ‬
‫المضيئــة‬
‫اســتدر َكت محد ّثتــي الفنّانــة الهنديّــة واســعة الثقافة التا مانغيشــكار لتقول‪ ،‬ولو على ســبيل‬
‫ن جميعاً‪ ،‬وإ ْ‬
‫ن‬ ‫ّ‬
‫ويظل في مركز الصدارة عليه ّ‬ ‫ن جميعــاً‬
‫ن صــوت فيروز يتحد ّى أصواته ّ‬
‫المقارنــة‪ ،‬إ ّ‬
‫بيئات ُمغايرة تماماً لبيئة فيروز اللّبناني ّة‬
‫ٍ‬ ‫ن طبعاً انطلقْ َ‬
‫ن من تجارب فني ّة ُمختلفة‪ ،‬ومــن‬ ‫ن هــ ّ‬
‫كــ ّ‬
‫ٍ‬
‫محــاوالت غنائي ّة ناجحة جــدّاً باإلنكليزي ّة والفرنســي ّة‪ ،‬فضال ً عن‬ ‫والعربيّــة‪ ،‬مــع العِ لــم أ ّ‬
‫ن لفيروز‬
‫تراتيل ديني ّة مسيحي ّة باللّغة اليوناني ّة‪ ،‬سمعتْها فنّانتُنا الهندي ّة الكبيرة‪ ،‬وقالت مع ِّلق ًة بعد ذلك‪:‬‬
‫ّ‬
‫يطل منها أو يعكس تجلي ّات أحاسيسه عبرها‪.‬‬ ‫ي لغة‬ ‫إ ّ‬
‫ن صوت فيروز هو‪ ..‬هو في أ ّ‬
‫لــك وقابلتها‬
‫َ‬ ‫ثــمّ فجــأة ســألتني نجمة الهنــد الكبرى‪ :‬هل تعرف فيروز شــخصيّاً؟‪ ..‬وهل ســبق‬
‫صحافيّاً؟‪..‬‬
‫أي حوار ٍ صحافــي أو إذاعي‪ّ .‬‬
‫كل ما جرى أنّني‬ ‫أجبتُهــا‪ :‬ال‪ ..‬ال لــم أعرفها شــخصيّاً‪ ،‬ولم أقابلها في ِّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ل جي ّد‬ ‫حفالت غنائي ّة عد ّة‪ :‬في بيروت ودبي وباريس؛ لكنّني في المقابل تعر ُ‬
‫ّفت وبشك ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫حضرت لها‬
‫شترك في‬
‫َ‬ ‫إلى األخوي ْن رحباني‪ :‬زوجها عاصي وشقيقه منصور وقابلتهما مراراً في مكتبهما ُ‬
‫الم‬
‫شارع بدارو في بيروت‪ ،‬وكانا يرحّبان بي أشد ّ الترحيب‪ ،‬وخصوصاً بعدما َعرفا أنّني ابن صديقهما‬
‫بالمسار‬
‫َ‬ ‫كل شــيء يتعلّق‬
‫وكنت أناقشــهما بأريحي ّة في ّ‬
‫ُ‬ ‫الســابق في ســلك الشــرطة اللّبناني ّة‪..‬‬
‫فظ‪ .‬وأتذكّر‬
‫ي تح ّ‬
‫الفنّي الرحباني ودرّة تاجه فيروز‪ .‬وكانا يقبالن النقد الجد ّي والمسؤول دونما أ ّ‬
‫ن في ذاكرتي حتّى اليــوم‪« :‬إنّنا لوال النقد لمــا تقد ّمنا بوصة‬
‫كالمــاً ســاقه لــي عاصي ال يزال يــر ّ‬
‫تداولــي حرّ‪ ..‬من داخل‬ ‫ل فنّي جماعي‬ ‫واحــدة فــي مشــروعنا الفنّي‪ ..‬نحن أصــا ً ال نعمل ّ‬
‫إاّل بعق ٍ‬
‫ّ‬
‫الدائرة الرحباني ّة نفســها وخارجها‪ .‬إنّنا يا ســي ّدي ُمختب ٌر فنّي وموســيقي قائم بذاته‪ :‬في الشعر‬
‫ّ‬
‫والنص المســرحي والرؤية العامّة للتحديث الموســيقي واحترام التراث والعمل‬ ‫والموســيقى‬
‫على بعْثه والنهوض به من جديد»‪.‬‬
‫ْ‬
‫فابتسمت وقالت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫كنت أعرف فيروز شخصيّاً أم ال؟‪....‬‬ ‫ُ‬
‫سألت ُمحد ّثتي عن هدف سؤالها حول ما إذا‬ ‫ثمّ‬
‫ّلي‪ ،‬أنّها جدي ّة للغاية وشاحبة‬
‫الذاتي األو ّ‬‫ّ‬ ‫خط االنطباع‬ ‫ألسألك عن شخصي ّتها‪ ،‬فهي تبدو لي‪ ،‬وعلى ّ‬ ‫َ‬
‫للغاية‪ .‬وشحوب ُها هذا زادني تعلّقاً بها وانحيازاً لفنّها‪ .‬إنّني فعال ً أُك ْ ِب ُر هذه المرأة ُ‬
‫المغنّية الراقية‬
‫والتي أتصوّر أنّها ال تنتمي إلى َمعشــر المغنّين االعتيادي ّين‪ ،‬واحتفظ لها في قلبي وعقلي‪ ،‬وإ ْ‬
‫ن‬
‫صدق إبداعها و ُعمقه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ق وعميق‪ ،‬آمل أن ي ُشبه‬
‫عن ب ُعد‪ ،‬بودٍّ صاد ٍ‬
‫قالت ذلك التا مانغيشكار ثمّ َأطرقت بعض الشيء‪ ،‬وكأنّها انتظرت منّي تعليقاً ما على كالمها‪،‬‬
‫فكان هذا التعليق منّي‪:‬‬

‫‪258‬‬
‫حدســك في محلّه‪ ،‬ففيروز إمرأة جد ّي ّة في‬
‫ِ‬ ‫ي ُمحاباة‪ ،‬يبدو لي ســي ّدتي أ ّ‬
‫ن‬ ‫من دون مجاملة وال أ ّ‬
‫كل شيء‪ ،‬في فنّها‪ ،‬في سلوكها االجتماعي‪ ،‬في عالقتها باآلخرين‪ّ ..‬‬
‫كل اآلخرين من فنّانين وغير‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫تظل تنطوي‬ ‫وصمت عميق وحاد ّ‪ ،‬لكنّها في ّ‬
‫كل األحوال‬ ‫ٍ‬ ‫فنّانين‪ ،‬وهي تتّسم أيضاً بهدوءٍ صارم‪،‬‬
‫على قلبٍ طي ّب وروحٍ سامية ونفْ ٍ‬
‫س هني ّة ودودة‪.‬‬
‫مستوى آخر‪ ،‬وفي ذروة عملي ّة الغناء‪ ،‬نرى فيروز‪ ،‬نحن معشر محب ّيها‪ ،‬تبحر في أقصى ذاتها‪،‬‬
‫ً‬ ‫على‬
‫بوعي ومن دون وعي‪ ،‬ثمّ بعد ذلك تُح ِّلق في فضاء اإلنسان‪ ،‬أنّى كان وأينما كان‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تداولة عــن فيروز في األوســاط المحلي ّة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫والم‬ ‫باختصــار‪ ،‬هــذه هــي الخطــوط العامّة المعروفــة‬
‫اللّبنانيّــة والعربيّــة ذات الصلــة‪ ،‬نخبويّاً وشــعبيّاً‪ .‬وال غرو‪ ،‬فهــي‪ ،‬ومنذ انطالقتهــا الفني ّة‪ ،‬تُعتبر‬
‫مغنّية مختلف الطبقات االجتماعي ّة والفئات العمري ّة في الدنيا العربي ّة‪ .‬كما أ ّ‬
‫ن أغنياتها تناولت‪،‬‬
‫ّ‬
‫خاصة باألوطان والشعوب المقهورة‬ ‫باإلضافة إلى الشؤون العاطفي ّة‪ ،‬قضايا أساسي ّة وجوهري ّة‬
‫تشكل واجه ًة لنهضة ٍ‬
‫ِّ‬ ‫والحري ّات المسؤولة؛ وي ُنظر إليها دوماً (وخصوصاً من النُّخب هنا) على أنّها‬
‫غنائي ّة وموسيقي ّة عربي ّة بديلة وجديدة‪.‬‬

‫ي‬
‫الصوفي الهند ّ‬
‫ّ‬ ‫فيروز والغناء‬

‫ِ‬
‫عليك‬ ‫وأنت مغنّية شبه القارّة الهندي ّة وحتّى آسيا برمّتها‪َ :‬من أطلق‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أسألك سي ّدتي‬ ‫واآلن دعيني‬
‫استقبلت مثل هذا اللّقب؟‬
‫ِ‬ ‫«أم كلثوم الهند»؟ وكيف‬ ‫ّ‬ ‫لقب‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫علي هذا اللقب‪ ،‬وروَّج له‪ ،‬وأظنّه جهة عربي ّة تعرف السوسيولوجيا‬ ‫ال أدري في الحقيقة َمن أطلق‬
‫ّ‬
‫كل األحوال‪ ،‬ال يضيرني في شــيء هذا اللّقب‪ ،‬بل على العكس هو‬ ‫الثقافيّــة الهنديّــة جي ّداً‪ .‬وفي ّ‬

‫ٍ‬
‫باحترام كبير‬ ‫يفيدني ويشرّفني‪ ،‬ألنّه ينسبني إلى سي ّدة عربي ّة شاهقة في فنّها الغنائي‪ ،‬وتحظى‬
‫على مستوى بلدها مصر‪ ،‬والعا َلم العربي والعا َلم برمّته‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مناخات شــعوري ّة ووجدانيّــة ذات أغوار‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ُ‬
‫وســألت‪ :‬أ ّ‬ ‫ُ‬
‫قلت لها‬ ‫عــد إلــى أجــواء فيروز ُمجد ّداً‪،‬‬
‫ِل َن ُ‬
‫ع من الصرامة‪:‬‬ ‫ُ‬
‫المعجز؟‪ ...‬أجابتني بنو ٍ‬ ‫ِ‬
‫فيك صوت فيروز‬ ‫ّ‬
‫وسيظل يضعها‬ ‫َ‬
‫وضعها‪،‬‬
‫ن صوت فيروز يصلح لموســيقانا وعا َلمنا الغنائي الهندي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫والمنتهى‪ ،‬إ ّ‬ ‫أخاطبك‪ ،‬في البدء‬
‫َ‬ ‫دع ْني‬
‫صوت لمغنّية هندي ّة محوري ّة فائقة التمي ُّز في بالدنا‪ ،‬فكيف بمغنّية أخرى‬
‫ٍ‬ ‫ي‬
‫رب ّما أكثر بكثير من أ ّ‬
‫غيرها من خارج البالد الهندي ّة؟!‬
‫والموســيقي الهنــدي يعود في حقيقة‬
‫ّ‬ ‫الغنائي‬
‫ّ‬ ‫ن عا َلمنا‬
‫ن تعرف أ ّ‬ ‫ن أنّــه من المهــمّ َ‬
‫لك أ ّ‬ ‫وأظــ ّ‬
‫ن طويلــة ُمزمِ نة خلت‪ ،‬تقــد َّر بما يفوق الـ ‪ 7000‬ســنة قبل الميــاد؛ ويربطها‬
‫وجــوده إلــى قــرو ٍ‬

‫‪259‬‬
‫المؤرّخــون الموســيقي ّون ببدايــات ظهور الديانة الهندوســي ّة‪ ،‬األقدم بين ديانــات األرض كلّها‪،‬‬
‫ُ‬
‫المصاحبة‪.‬‬ ‫وتعاليم هذه الديانة تُناط إجماالً بالتراتيل والترانيم الموسيقي ّة‬
‫ٍ‬
‫عام في‬ ‫ُ‬
‫الكهنة الهندوس منذ ثالثة آالف‬ ‫وكانــت النصوص الديني ّة الهندوســي ّة قبــل أن يجمعها‬
‫ل أو تحوير ٍ‬
‫ي تعدي ٍ‬ ‫كتابهم المقد ّس‪« :‬الفيدا»‪ ،‬تُتناقل جميعها شفويّاً من جي ٍ‬
‫ل إلى جيل‪ ،‬وبال أ ّ‬
‫فــي مضمون التعاليم؛ لك ْ‬
‫ن على مســتوى التراتيل الديني ّة والترانيم الموســيقي ّة الهندوســي ّة‪،‬‬
‫كنّــا نشــهد‪ ،‬بيــن فترة زمنيّــة وأخرى‪ ،‬تطــو ٍ‬
‫ّرات شــبه انقالبي ّة فــي األداء وطبيعــة األلحان التي‬
‫ســفر «الفيدا» بمصنّفاتهــا األربعة‪ :‬الرامايانا والمانوســمرتي‬
‫تتنــاول النصــوص المأخوذة عن ِ‬
‫والمهابهاراتا واألوبانيشاد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كنظام‬ ‫اعتمدت الموســيقى الهندي ّة الكالســيكي ّة الموروثة على اللّحن‬
‫ِ‬ ‫ومنذ األلف الثاني ق‪ .‬م‪.‬‬
‫ي ُحاكــي الطبيعــة ومظاهــر «موســيقاها الفطريّــة» المتجلّيــة في كثيــر ٍ من العناصــر ُ‬
‫المحيطة‪،‬‬
‫وفــي الوقت نفســه اعتمد هــذا النظام النغمي الطبيعــي على الحنجرة البشــري ّة بوصفها اآللة‬
‫الموســيقي ّة اآلدمي ّة األكثر كماالً وتعبيراً عن هوى قلوب المؤمنة ومشــاعرها الديني ّة المستلّة‬
‫من كتاب «الفيدا»‪.‬‬
‫وصوفــي للنصــوص الديني ّة‬
‫ّ‬ ‫روحي‬
‫ّ‬ ‫كصدى‬
‫ً‬ ‫ومــن هنــا جــاءت موســيقانا الهنديّــة الكالســيكي ّة‬
‫المعتقد الهندوســي ورفْــده باألتباع‬
‫ُ‬ ‫الفيديّــة‪ ،‬مــا َأســهم فــي النتيجة فــي تخصيب تعاليــم‬
‫وج َع َل مــن الهندوســي ّة أقدم ديانــة حيّــة متواصلة على‬
‫الجُــدد علــى مــرّ األيّــام والســنين؛ َ‬
‫وجــه األرض‪ ،‬إذ تجــاوز تعــداد ُمعتنقيهــا المليار إنســان‪ ..‬والحبل على الجــرّار كما يقولون؛‬
‫ّ‬
‫شــكل‪ ،‬وبالترتيــب‪ ،‬الديان َة الثالثة في العا َلــم بعد الديانتَي ْن‬‫وتبعــاً لذلك‪ ،‬باتت الهندوســي ّة ت ُ‬

‫المسيحي ّة واإلسالم‪.‬‬
‫وتا َبعت محد ّثتي التا مانغيشــكار تقول إنّه‪ ،‬وعلى الرّغم من ّ‬
‫كل ما قيل ويقال في الهندوســي ّة‬
‫ّ‬
‫تظل من وجهة نظري‪ ،‬ديان ًة تؤمن بالتوحيد‬ ‫وخاصة متناقضة‪ ،‬فإنّها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫وتوصيفات عامّة‬ ‫ٍ‬
‫أحكام‬ ‫من‬
‫والتوجُّه العبادي لإلله الواحد‪ ..‬وكتابها المقد َّس «الفيدا»‪ ،‬ليس هو بالتالي من صناعة اإلنسان‪،‬‬
‫ّ‬
‫فكل ما تفرَّع عن الهندوسي ّة من تعد ّديات‬ ‫المط َلق‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫موحى به من اإلله الواحد ُ‬ ‫وإنّما هو‬
‫ً‬
‫«ديني ّة» وعبادي ّة آللهة ٍ شتّى‪ ،‬بحسب تعبيرها‪ ،‬كان يعود في النتيجة إلى منطلقه االعتقادي األوّل‬
‫والقائم على أســاس التوحيد وفلســفته المقد ّســة التي تنطق بها «الفيدا»‪ ..‬ومعنى مصطلح‬
‫ّ‬
‫«القصة المقد ّســة» التي تنطق بمجموعة عقائد وســنَن ورياضات‬ ‫«الفيدا» في المناســبة هو‪:‬‬

‫‪260‬‬
‫ّ‬
‫تشكلت عبر مسار ٍ طويل من الزمن‪ ،‬يمتد ّ من القرن الخامس عشر قبل الميالد‬ ‫روحي ّة موروثة‬
‫إلى يومنا هذا‪.‬‬

‫«اليوغا» بين العبادة والطقس الحرّ‬

‫ٌ‬
‫واجب‬ ‫فلسفي ي ِ‬
‫ُمكنك تصنيفها هنا‪ ..‬أهي‬ ‫ّ‬ ‫روحي أو‬
‫ّ‬ ‫ق‬
‫ي نِطا ٍ‬
‫وماذا عن «اليوغا» سي ّدتي‪ ..‬ضمن أ ّ‬
‫ديني مثال ً‪ ،‬أم ن ٌ‬
‫َوع من أنواع الرياضات الروحي ّة التأمّلي ّة الصامتة؟‬ ‫ٌّ‬
‫اليوغا عند الهندوســي‪ ،‬نعم‪ ،‬هي نَوع من أنواع الرياضات الروحي ّة والجســدي ّة ُ‬
‫المسد ّدة‪ ،‬هدفها‬
‫منســوب التوتّــر والقلق‬
‫ِ‬ ‫مــن خــال التركيز الشــاخص‪ ،‬ومــدى التأمُّــل القوي الصامــت‪ ،‬خفْ َض‬
‫الطاقة الحيويّــة المولّدة لعوامل الحيــاة الجديدة فيه‪،‬‬
‫النفســاني لديــه‪ ،‬وبالتالــي زيادة عناصــر ّ‬
‫المحصلــة ي ُقبــل بوعيــه أو الوعيه على اســتمرار الحيــاة بمزيد ٍ من الفرح الحسّ ــي‬
‫ّ‬ ‫وجعْلــه فــي‬
‫والسعادة الحسي ّة‪.‬‬
‫وممارســتها يوميّاً من َط َر ِف الهندوســي هذا التوكيد على شــعيرة تعب ّدية فردي ّة‬
‫ثمّة في اليوغا ُ‬
‫والمحايثة‪ ،‬وذلــك كمقد ّمة ٍ‬
‫ُ‬ ‫بــروح الكون الســامية‬ ‫خالصــة من شــأنها مســاعدته على االندغام‬
‫ِ‬
‫ضروري ّة لالتّحاد بجوهر الوجود وأصله‪.‬‬

‫ن اليوغا تحوّلت في ما بعد إلى مجرّد ُم َ‬


‫مارســة رياضي ّة ترويحي ّة ونفســاني ّة عالجي ّة عامّة‪،‬‬ ‫على أ ّ‬
‫ي خلفي ّة تُذكّر بفلســفتها ذات البعد الديني‬
‫ي ُقبــل عليهــا كثيرون في العا َلم‪ ،‬ولكن مــن دون أ ّ‬
‫أو التصوّفي‪.‬‬
‫ل‬ ‫فارقة الكبرى هنا‪ ،‬إلى أكبر دُعاة ٍ ُ‬
‫لممارســة اليوغا بشــك ٍ‬ ‫وتحوّل العلماني ّون‪ ،‬في ما يشــبه ُ‬
‫الم َ‬
‫المتدي ّنين الهندوس عن ُممارستها بشك ٍ‬
‫ل ملحوظ‪..‬‬ ‫َراج َع ُمريدوها من ُ‬
‫ي ُمنتظم‪ ،‬في حين ت َ‬
‫َدور ّ‬
‫والتراجُع مستمرّ بوتيرة ٍ عالية‪ ،‬نظراً ألنّها ليست واجباً دينيّاً جذريّاً وأصوليّاً يعوَّل عليه‪ ،‬وخصوصاً‬

‫في هذه األي ّام‪.‬‬


‫ُ‬
‫تناسل هذه المناخات‪ ..‬أليس كذلك سي ّدتي؟‪.‬‬ ‫طقس التصوّف ومناخاته‪ ،‬وبدايات‬
‫َ‬ ‫يبدو أنّنا دخلنا‬
‫ْ‬
‫أجابت وعلى محي ّاها عالمات فرح يتأرجح قلب ُها فيها‪:‬‬
‫تقص ُ‬
‫دت مثل هذا األمر من‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫مناخات صوفي ّة‪ ،‬وأنا في الواقع رب ّما أكون قد‬ ‫تخوم‬
‫ِ‬ ‫أجل‪ ،‬إنّنا على‬
‫فة ٍ اســمها‪ :‬الغناء الصوفــي‪ ،‬وهو الغناء الذي ال أراه‬
‫معك إلى ض ّ‬
‫َ‬ ‫وعــي ُم َمن ْ َهجٍ به للوصول‬
‫ٍ‬ ‫غيــر‬
‫أي من مطربات الهند والعا َلم بأســره اليوم‪ّ ،‬‬
‫إاّل بصوت فيروز وأهلي ّته وســيادي ّته‬ ‫بصــوت ٍّ‬
‫ِ‬ ‫يليــق‬

‫‪261‬‬
‫ث َّ‬
‫ــر َ‬ ‫ٌ‬ ‫الجماليّــة علــى مــا عداه‪ .‬إنّه‬
‫كل ألــوان الحنانات والبوحي ّات والقداســات‬ ‫صــوت جدي ٌر بأن َي ِ‬
‫الطافحة في تراثنا الهندي‪.‬‬
‫ّ‬
‫محل ســائر‬ ‫َّ‬
‫وحل‬ ‫ن صــوت فيروز لو َ‬
‫راف َق موســيقانا الهندوســي ّة‪،‬‬ ‫لك إ ّ‬ ‫ُ‬
‫قلــت َ‬ ‫وصد ّقنــي إذا مــا‬
‫ٌ‬
‫شأن‬ ‫األصوات الهندي ّة وغير الهندي ّة في هذا المجال (ومن بينهم أنا بالطبع)‪ ،‬فسيكون هنالك‬
‫العام للكلمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫المعتقدي ّة أو الديني ّة الهندي ّة بالمعنى الحضاري‬ ‫آخر ومناخٌ آخر لثقافتنا‬
‫ي‬ ‫جازم وقاطع‪ ،‬بأنّنــي خارج دائرة أ ّ‬
‫ي عمل تبشــير ّ‬ ‫ٍ‬ ‫علــي أن أشــد ّد‪ ،‬وعلى نحــو ٍ‬
‫ّ‬ ‫وهنــا أرى لزامــاً‬

‫روحي‪ ،‬وخصوصاً هنا في الهند التي تســمّى‬


‫ّ‬ ‫ي تتعلّــق بأ ّ‬
‫ي دين أو ُمعتقد‬ ‫أو نوايــا بعمل تبشــير ّ‬
‫ُّ‬
‫والطرق الصوفي ّة على اختالف أنماطها وسياقاتها‪.‬‬ ‫بمتحف األديان والمذاهب والعقائد‬
‫نعــم‪ ،‬ليــس غرضــي من التركيز علــى انخراط صوت فيروز فــي الفضاء الغنائــي الصوفي الهندي‬
‫ي ديانة‬
‫العام‪ ،‬الدعوة المباشــرة أو غير المباشــرة النخراطها في الديانة الهندوســي ّة‪ ،‬وال في أ ّ‬
‫ّ‬
‫أخرى بالطبع؛ وأنا رب ّما أكون المغنّية الوحيدة غير العربي ّة وغير ُ‬
‫المسلمة في الهند‪ ،‬وغير الهند‪،‬‬
‫التــي تَعــرف مدى انتماء فيروز إليمانها المســيحي الصرف وتجلّيات هذا اإليمان الذي تعكســه‬
‫د ْ‬
‫ي رأس‬ ‫في التراتيل والترانيم المسيحي ّة ذات العالقة بيسوع المسيح‪ ،‬والسي ّما في أجواء عي َ‬
‫ُ‬
‫تخلب‬ ‫ّ‬
‫الخاصة بالسي ّدة العذراء مريم‪ ،‬والتي‬ ‫السنة الميالدي ّة والفصح المجيد‪ ،‬فضال ً عن الترانيم‬
‫لبَّ المؤمنين المسيحي ّين على اختالف مذاهبهم وكنائسهم في العا َلم‪.‬‬
‫مقطع القول‪ :‬فيروز المســيحي ّة المؤمنة بمســيحي ّتها أعمق اإليمان وأخلصه‪ ،‬هي وحدها التي‬
‫تســتوعب ســرّ كالمي المتعلّق بدعوتهــا للغناء الصوفي الهنــدي‪ ،‬وبالتأكيد أكثر بكثير‬
‫َ‬ ‫يُمكن أن‬
‫ي اختراق‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫طرف عربي ُمسلم أو مسيحي يد ّعي حرصاً على دينه وحماية ُمعتقداته من أ ّ‬ ‫ي‬
‫من أ ّ‬
‫ّ‬
‫ســيظل صوت فيــروز عندي هو صوت ســلطة بيضــاء بريئة ومتعاليــة للغاية‪،‬‬ ‫فــي ّ‬
‫كل األحــوال‪،‬‬
‫متعالية بالتأكيد‪ ،‬ولكن بال كبرياء وال ُمصا َدرة وال تجب ُّر‪ .‬واألهمّ عندي في الصوت الفيروز ّ‬
‫ي بعد‪،‬‬
‫سيظل يشي باستحالة العالقة المتفوّقة ّ‬
‫إاّل مع نفسه وأسرار هذه النَّفس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أنّه‬
‫كالمك ســي ّدتي مؤ ِّثر ويكاد يذيب نفســه من شــد ّة التأثير‪ ،‬رب ّما ليس على‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫قلت لها مقاطعاً‪،‬‬ ‫‪...‬‬
‫ّ‬
‫ســأظل‬ ‫فترض قيامها‪ ..‬لكنّني‬ ‫والمعني ّيــن في الدائرة ُ‬
‫الم َ‬ ‫َ‬ ‫فيــروز وحدهــا‪ ،‬بل علــى ّ‬
‫كل المحب ّين‬
‫ن فنّي بينكما‪ ،‬وألســبابٍ‬
‫ي تعاو ٍ‬
‫قيــام أ ّ‬
‫َ‬ ‫أنظــر لألمــور مــن زاوية ٍ موضوعي ّة قد ال تضمن ســلفاً‬

‫ع من أنواع الحساســي ّات الديني ّة أو‬ ‫خارجــة عــن إرادتكمــا‪ ،‬وبالتأكيد ليس لها عالقة البتّة بأ ّ‬
‫ي نَو ٍ‬
‫المعتقدي ّة التي تكلَّمنا عليها‪.‬‬
‫ُ‬

‫عمالقة الغناء والموسيقى الهندي ّة برهات هنا‪ ،‬ثمّ علَّقت بثقة‪:‬‬


‫ُ‬ ‫َأطرقت‬

‫‪262‬‬
‫ن مســعاي الفنّي أو اإلبداعي البحت ســيخيب هنــا‪ ،‬وخصوصاً إذا ما‬
‫ال ي ُداخلنــي أدنــى شــعور بأ ّ‬
‫ّ‬
‫لمكة المكرّمة إســاميّاً‪ ،‬وغنّت‬ ‫ن فيروز التي غنَّت‬
‫لك ثانياً‪ ،‬إ ّ‬
‫والً‪ ،‬ثمّ َ‬ ‫ُ‬
‫ســارعت للقول‪ ،‬لنفســي أ ّ‬
‫لمريــم وطفــل المغــارة و»أســبوع اآلالم» و»الجمعــة الحزينة»‪ ،‬ســوف َلن تُحجِ م عــن الغناء‬
‫ّ‬
‫الخاصة بين المخلوق‬ ‫ُ‬
‫بالتسامح الديني والعالقة ذات النظرات التأمّلي ّة‬ ‫الصوفي الهندي المتّصل‬
‫ّ‬
‫تتحطم بين البشــر‪ ..‬وبالتأكيد ســتأخذ تراتيل‬ ‫والخالق‪ ،‬فضال ً عن تشــييد جســور المحب ّة التي ال‬
‫مثيل الئتالقه من َقبل‪.‬‬
‫َ‬ ‫خملي الساحر مجداً آخر ال‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫إيقاعات صوتها‬
‫ِ‬ ‫«الفيدا» على‬
‫ّ‬
‫تفضلين سي ّدتي أن تشدو فيروز تراتيل «الفيدا» يا ترى؟‬ ‫ي لغة‬‫وبأ ّ‬
‫باللّغــة الهندوســي ّة أ ّ‬
‫والً‪ ،‬ثــمّ بالعربيّــة أو األردي ّة إذا تعذَّر ذلك‪ .‬وأنا ُمســتعد ّة للتعاون الثقافي‬
‫ّ‬
‫مختص بالشــعر‬ ‫ل هندي وعربي ودولي‬
‫فريــق عم ٍ‬
‫ِ‬ ‫والتقنــي والمــاد ّي علــى إنجاح هذا األمر مع‬
‫الصوفي والموســيقى وتاريخ الحضارات الشــرقي ّة‪ .‬أمّا لماذا؟ فأل ّ‬
‫ن الهندوسي ّة واألردي ّة‪ ،‬لديهما‬
‫تنسى‬
‫َ‬ ‫مشتركات تاريخي ّة وحضاري ّة مع شعوب المنطقة بأسرها‪ ،‬والعرب في الطليعة بينهم‪ .‬وال‬
‫ن الحضــارة العربي ّة ‪ -‬اإلســامي ّة امتزجــت بالحضارة الهندي ّة وبالفارســية قروناً طويلة‪ ،‬وأنتجت‬
‫أ ّ‬
‫تراثاً مشرقيّاً غنيّاً بمتونه العلمي ّة واألدبي ّة والروحي ّة والفلسفي ّة وحتّى اللّغوي ّة أيضاً‪ ...‬وعليه ال‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ي هو جزء ال يتجزّأ من التراث العربي ‪-‬‬ ‫قلت إ ّ‬
‫ن التراث الهند ّ‬ ‫أخطىء هنا‪ ،‬عِلميّاً وموضوعيّاً‪ ،‬إذا ما‬
‫ط أو حتّى قلْبٍ في مفاهيم األشياء ُ‬
‫ومعادالتها‬ ‫ي خل ْ ٍ‬
‫اإلسالمي الحضاري الشامل ‪ ..‬ومن دون أ ّ‬
‫ُ‬
‫المتداخلة بعضها ببعض‪.‬‬ ‫المعرفي ّة‬
‫ن وتراتيل معي ّنة‪ ،‬فإنّما‬
‫وعليه‪ ،‬فعندما تشدو فيروز من قلب فضاء التصوّف الهندي القديم بأغا ٍ‬
‫المشرقي البعيد‪ ..‬قبل المسيحي ّة واإلسالم وبعدهما‪.‬‬ ‫ستفعل ذلك من قلب تراثها الحضاري َ‬
‫ٍ‬
‫عالقات تجاري ّة وثقافي ّة َدوري ّة‬ ‫ومراجع تاريخي ّة شــتّى تحد ّثت عن وجود‬
‫ب َ‬‫من جانبٍ آخر‪ ،‬ثمّة كُت ُ ٌ‬
‫بين مصر واليمن ومنطقة الخليج العربي من جهة‪ ،‬وشــبه القارّة الهندي ّة بشــمالها وجنوبها من‬
‫جهة أخرى‪.‬‬
‫أمّا بعد اإلســام وانتشــاره الواســع في الهند وأجزاءٍ كبيرة من آســيا‪ ،‬فقد تكرّســت أكثر هذه‬
‫العالقــات التجاري ّة والثقافي ّة‪ُ ،‬منتِجةً‪ ،‬وفي ال ُ‬
‫عمق‪ ،‬عالقات اجتماعي ّة وعائلي ّة بين العرب والهنود‬
‫الجانبي ْن‪ ،‬وتطوَّر األمر إلى‬
‫َ‬ ‫واختالط ٍ‬
‫دم بين‬ ‫ُ‬ ‫على اختالف أديانهم وعقائدهم‪ ..‬وصار هناك زوا ٌ‬
‫ج‬
‫صــار العــرب يعتزّون ببالد الهند نفســها‪ ،‬ويتكنّــون بها وبأهلها؛ ومن هنا جاءت تســميتهم‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫ُ‬
‫نفســها بألقابٍ ومســم ٍ‬
‫ّيات عائلي ّة ناتجة‬ ‫َ‬ ‫ســ ٌر عربي ّة عريقة‬ ‫ْ‬
‫لحقت أ َ‬‫لبناتهــم بـ»هنــد» مثــا ً‪ .‬كما َأ‬

‫‪263‬‬
‫ٍ‬
‫تأثيرات مباشــرة للسوســيولوجيا الهندي ّة عليها‪ ،‬فصرنا نقرأ مثال ً عــن‪ :‬فالن الهندي وعلتان‬ ‫عــن‬
‫السندي أو الدهلوي أو الكشميري أو الكيرالي أو اآلسامي‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وإنســاني عريــق تحتضنه بالدُنا‬
‫ّ‬ ‫ي‬
‫وثقافــي حضار ّ‬
‫ّ‬ ‫تاريخي‬
‫ّ‬ ‫نفســها في حضــ ٍ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫هكــذا ســتَجد فيروز‬
‫ٌ‬
‫تجربة فنيّــة عربي ّة ‪ -‬هنديّــة تنهض للمرّة األولــى في العصر‬ ‫الهنديّــة‪ ،‬وســتكون هنــاك بالتأكيــد‬
‫ُ‬
‫صوت فيروز الذي قالت فيه مغنّية األوبرا المجري ّة آنا‬ ‫الحديث (والقديم على الســواء) ي ُعمّرها‬
‫غورسك «إنّه أجمل صوت سمعته في حياتي‪ ،‬وهو نسيج الوحدة بين الشرق والغرب»‪.‬‬
‫التا مانغيشــكار مغنّية‪ ،‬بل قارّة غناء بحالها‪ ،‬ترب ّت في وســط عائلة فني ّة غنائي ّة ومسرحي ّة عريقة‬
‫فــي عالقتهــا بالفنــون‪ ،‬فوالدها ديناناس مانغيشــكار كان نجــم الهند الغنائي والمســرحي في‬
‫الثالثينيّــات مــن القــرن الماضــي؛ وهو الــذي علّمها الغنــاء وف ّ‬
‫ن التمثيــل وضمّها إلــى فرقته‬
‫ي النــادر لترجمة ذلك‬ ‫المســرحي ّة وهــي في ســ ّ‬
‫ن الخامســة بعدما اكتشــف اســتعدادها الفطر ّ‬
‫بالصوت والحركة واألداء‪.‬‬
‫ّ‬
‫المبكر من‬ ‫وإذا كانــت فنّانتنــا الكبيرة لم تُكمل تحصيلها العلمي التقليدي‪ ،‬خصوصاً بعد طردها‬
‫المدرســة بداعــي ضبطها أكثر من مرّة‪ ،‬وهــي تع ِّلم زميالتها داخل الفصل الدراســي ف ّ‬
‫ن الغناء‬
‫ن هذا الطــرد جاء لمصلحتهــا كما قالت لي‪ ،‬ألنــه جعلها تتولّى مســؤولي ّة تعليم‬
‫والتمثيــل‪ ،‬فــإ ّ‬
‫نفسها بنفسها‪ ،‬وتوسّ ع الحقاً من مداركها وفضاء معارفها النقدي ّة والثقافي ّة‪ ،‬ليس في ما ّ‬
‫خص‬
‫ن الغناء والمسرح فقط‪ ،‬وإنّما أيضاً مجاالت الشعر واألدب والنقد والفلسفة‪ ،‬فضال ً عن عِلم‬
‫ف ّ‬
‫التاريخ واألديان والحضارات‪ .‬ومن هنا تحوّلت فنّانتنا إلى موســوعة ٍ ثقافي ّة حي ّة متحرّكة تســطع‬
‫ع ُمتالحقة‪ .‬وال غرو‪ ،‬فالصعود‬
‫بمخايل الذكاء والفطنة وروح التقاط األشياء وجعْلها شرارات إبدا ٍ‬
‫المتكامل ّ‬
‫إاّل في تأكيد ذاته وطبيعته‬ ‫المبهــر لفنّانة ٍ من هذا الطراز‪ ،‬كان ال َيجــد معناه ُ‬
‫الفــردي ُ‬
‫المستويات كافّة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫المفارقة باستمرار‪ ،‬وعلى‬ ‫اإلبداعي ّة‬
‫ّ‬
‫المبكر من المدرسة‪،‬‬ ‫ن حادثة طرد الفنّانة التا مانغشكار‬
‫إذن‪ ،‬وبإمكاننا االستنتاج أيضاً‪ ..‬وأيضاً أ ّ‬
‫ُّن شــخصي ّتها وظاهرتها كما هي؛ إذ لم تَستسلم لألمر‬
‫نطلق األســاس لتكو ِ‬
‫َ‬ ‫الم‬ ‫ّ‬
‫شــكلت بدورها ُ‬
‫الواقــع المفــروض عليها‪ ،‬بل َجعلت منه ُمنطلقاً لبلْور ِة فلســفة ٍ حياتي ّة فردي ّة جديدة تقوم على‬
‫المتواصل والدؤوب إلثبات الذّات وانتصارها على نفســها‬
‫ُ‬ ‫ُمعادلة ٍ بســيطة للغاية وهي‪ :‬العمل‬
‫وعلــى اآلخريــن في الوقت نفســه‪ .‬وهكذا‪ ..‬فكلّما كانــت تنتهي فنّانتنا العتيــدة من مرحل ِة تحدٍّ‬
‫ل أو َم َلل‪..‬‬
‫ي َك َل ٍ‬ ‫ْ‬
‫انتقلت إلى مرحل ِة تحدٍّ أخرى دونما أ ّ‬ ‫معي ّنة ُقبالتها‪ ،‬كانت ترى نفسها آليّاً وقد‬
‫وعلى قاعدة إبقاء روح الطفولة الواعية ُمشتعلة فيها إلى آخر العمر‪ ،‬عمرها كلّه‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫«أم كلثوم الهند» بعدم فقدان الحماســة للعمل‬
‫ّ‬ ‫وفلســفة روح الطفولة الواعية هذه تلخّصها‬
‫أبــداً‪ ،‬حتّــى من قلــب حالة االكتهال والعجز التي ستســتبد ّ بها ذات يوم‪ ،‬فمبدأ العمل ي ُســاوي‬
‫ّ‬
‫تظل له أولوي ّة األولوي ّات‪.‬‬ ‫عندها إذاً مبدأ النجاح‪ ،‬ولذلك‬
‫ومن أجمل ما قالته لي التا مانغيشــكار‪ ،‬وشــيء من المكر اإليجابي يدور في عينَي ْها‪ ،‬إنّها يجب‬
‫ّ‬
‫مبكراً من المدرسة‪ ،‬ألنّهم دفعوها في اتّجاه االعتماد على نفسها‪،‬‬ ‫أن تشكر ّ‬
‫كل الذين طردوها‬
‫وحشــي ال راد ّ له‪.‬‬ ‫وفي ّ‬
‫كل شــيء تقريباً‪ .‬يكفي‪ ،‬مثال ً‪ ،‬أنّهم جعلوها تعبّ العِ لم عبّاً‪ ،‬وعلى نحو ٍ‬
‫ّ‬
‫كنت اآلن مثلي مثل األعمّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫المبكر لي من المدرســة‪ ،‬فلرب ّما‬ ‫َ‬
‫وأردفت‪« :‬لو لم يحدث هذا الطرد‬
‫المتخرّجات في الجامعــات الهندي ّة وغير الهندي ّة‪ ،‬أقوم بعملي ّ‬
‫الاّلحق‬ ‫األغلــب من طالبات الهند ُ‬
‫روتيني باهت‪ ،‬ومن ضمن الحدود المرســومة لي ولغيري‪ ..‬و«كفى اللّه شــرّ المؤمنين‬
‫ٍّ‬ ‫ل‬
‫بشــك ٍ‬
‫القتال» حسبما تقولون أنتم العرب»‪.‬‬
‫وبالعودة إلى فيروز والعالقة معها‪ ،‬أكّدت لي التا مانغيشــكار أ ّ‬
‫ن صوت فيروز يمنحها ســعاد ًة‬
‫ٍ‬
‫ســاعات محــدودات‪ .‬وهذه الســعادة التي هي‬ ‫مــا تشــعر معها وكأنّهــا اختزنَت الزمان كلّه في‬
‫أشــبه برياضــة ٍ روحي ّة ال ي ُمكن شــراؤها قطعاً‪ ،‬بل اكتســابها وتطويرها بعقْــ ِد صفقة روحي ّة مع‬
‫شــتركة‪ ،‬ليســت ملــكاً لوطن وشــعب‪ ،‬بل ألوطا ٍ‬
‫ن وشــعوبٍ أخرى على‬ ‫َ‬ ‫صاحبتــه‪ ،‬لتأكيد هوي ّة ُم‬
‫امتداد جغرافيا العا َلم‪.‬‬
‫ونســتدرك فنقول إنّه ليس من األمور العادي ّة أن تتحد ّث فنّانة عمالقة مثل آنا مانغيشــكار عن‬
‫فنّانة ٍ عمالقة أخرى مثل فيروز‪ ،‬وتشيد بصوتها ومزايا إبداع هذا الصوت وتأثيره العميق عليها‪.‬‬
‫إنســاني‬
‫ّ‬ ‫إبداعي‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫حلف‬ ‫«قيام‬
‫ِ‬ ‫ن للذات ودعو ًة إلــى‬ ‫ن فــي ذلــك نوعاً من نبالة ٍ وســماحة ٍ ونكــرا ٍ‬
‫إ ّ‬
‫ن معرفة‬‫محتوى جديد لمفهوم الثقافة العا َلمي ّة‪ ،‬يتأسّ ــس على ُمعا َدلة أ ّ‬
‫ً‬ ‫حقيقي» يتّجه إلدخال‬
‫ّ‬
‫قة في النتيجة‪ ،‬هي التي تؤكّد‬ ‫اآلخر هي جزءٌ ال يتجزّأ من معرفة الذّات‪ .‬وأ ّ‬
‫ن الثقافة العا َلمي ّة الح ّ‬

‫لنا‪ ،‬ويوميّاً‪ ،‬أ ّ‬


‫ن اإلنسان ال يزال أعظم معجزة على األرض‪.‬‬
‫التا مانغيشــكار امرأة تمأل العقل والقلب إعجاباً‪ .‬إنّها اســتثنائي ّة في ّ‬
‫كل شــيء‪ ،‬وخصوصاً لجهة‬
‫مشــاركتها فــي صنْع العناصر الرمزي ّة الضروري ّة للحياة فــي َبلدها وخارج َبلدها‪ ،‬ودائماً من خالل‬

‫فنّها الغنائي الرفيع وشــخصي ّتها النبيلة المتواضعة والجاذبة للجميع‪َ ،‬‬
‫بمن فيهم خصومها‪ ،‬وما‬
‫أقلّهم في المناسبة كما هو شائع في بالدها‪.‬‬
‫المحاورين) إلى ٍّ‬
‫ظل ألنوارها‪ ،‬وأسير ٍ‬ ‫وأكثر من مرّة يستحيل َمن ي ُحاورها (وأنا من بين أولئك ُ‬

‫لكلماتها‪ ،‬وحتّى حركات ي َ‬


‫دي ْها‪ ،‬فكيف بصوتها الساحر المعجز؟!!‬

‫‪265‬‬
‫قفين‬ ‫ّ‬
‫والمفكرين والمث ّ‬ ‫ثمّة كاريزما هائلة تتمتّع بها التا مانغيشكار‪ ،‬وخصوصاً إزاء السياسي ّين‬
‫والً‪ ،‬احترام الذّات العالي لديها وفر ْضه‪ ،‬عفواً‬ ‫الكبار قي بلدها‪ .‬و»كاريزماها» هنا هي من ش َّ‬
‫قي ْن‪ :‬أ ّ‬
‫ن عنصر التأثير الوجداني في اآلخرين‪ ،‬هو ديدنها الطبيعي َمنهجاً‬
‫وطوعــاً‪ ،‬على اآلخرين‪ ،‬وثانيــاً‪ ،‬إ ّ‬
‫َ‬
‫حصل لها‪ ،‬على سبيل المثال ال الحصر‪ ،‬مع زعيم بلدها األسبق‬ ‫وسلوكاً ومجرّد حضور‪ ،‬تماماً كما‬
‫جواهر الل نهرو (‪ )1964 – 1889‬الذي بكى أمامها عندما غنَّت لشهداء الهند في الحرب الهندي ّة‬
‫دي ْن في العام ‪ 1962‬وانتهت بانتصار الصين بعد شهور من‬
‫‪ -‬الصيني ّة التي نشبت على حدود البل َ‬
‫قيامهــا‪ ...‬قال لها نهرو حســبما أخبرتني هي بعظمة لســانها‪َ :‬‬
‫«أبكيتنــي يا التا بالمعنى الوطني‬
‫العظيــم الستشــهاد البعض من جنودنا المكرّميــن إلى األبد؛ وبالمعنى الشــخصي واإلضماري‬
‫ل في شبكة مشاعري ولبّ ألباب وجداني»‪.‬‬ ‫صوتك على التغل ْ ُ‬
‫غ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الدفين لقدرة‬
‫ٍ‬
‫فتوحات‬ ‫التا مانغيشكار فنّانة علوقة بوطنها وإنسانها‪ ،‬وكذلك اإلنسان في ّ‬
‫كل مكان‪ .‬لقد َفتحت‬
‫بغير نشيد‪ ،‬أي بلغة ٍ َم ِرنة‪،‬‬
‫غير مسبوقة في الغناء الهندي‪ ،‬وخصوصاً عندما غنَّت أسلوب النشيد َ‬
‫ِّ‬
‫يؤشــر‬ ‫لي ّنــة‪ ،‬أخّــاذة تتماوج في أعطافها الموســيقى‪ ،‬ال عليها‪ ،‬انبســاطاً وصفاء‪ .‬وفنّها الغنائي‬
‫ن حياة وحقيقة وخيال خصوصي في إطار َمت ْ ٍ‬
‫ن‬ ‫ل ال حاضر فقط‪ ..‬ف ّ‬ ‫باســتمرار إلى أنّه ف ُّ‬
‫ن مســتقب ٍ‬
‫واحد ٍ ُمبتهج برؤية عا َلم يتحوّل ويتجد ّد من حولها ّ‬
‫كل يوم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وينبغي التنويه بعد‪ ،‬وعلى المســتوى الشــخصي هنا‪ ،‬أ ّ‬
‫ن التا مانغيشــكار إنســانة ســهلة‪ ،‬عذبة‪،‬‬
‫ُ‬
‫المناقشات‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تظل تُعب ّر بشجاعة وصراحة عمّا ترمي إليه في‬ ‫فافة‪ ،‬لكنّها‪ ،‬في المقابل‪،‬‬
‫ناعمة‪ ،‬ش ّ‬

‫حاورها وتســأله عن مصــادر معلوماته‪ ،‬وخصوصاً فــي الموضوعات التي‬


‫َ‬ ‫وغالبــاً ما تَســتوقف ُم‬
‫ُ‬
‫كنت أتطرّق إلى‬ ‫تتعلّــق ببلدهــا‪ .‬وأكثر من مرّة اســتوقفتْني في حــواري معها‪ ،‬وخصوصاً عندمــا‬
‫ضمرة بين المهاتما‬
‫الم َ‬ ‫ٍ‬
‫موضوعات ســيو‪ /‬ثقافي ّة هندي ّة‪ ،‬من مثل العالقة السياســي ّة والفكري ّة ُ‬

‫ن غاندي كان يدعو بالســرّ إلى ترشــيح نهرو لرئاســة‬ ‫ُ‬


‫ذكرت أمامها أ ّ‬ ‫غاندي وجواهر الل نهرو‪ ،‬إذ‬
‫اســتقيت‬
‫َ‬ ‫ومريديه بذلــك‪ ،‬فقاطعتْني ُمتســائلة‪ :‬ومن أين‬
‫ُلمح ألعوانــه ُ‬
‫الــوزراء فــي الهنــد‪ ،‬وي ِّ‬
‫ّ‬
‫المختصة بتاريخ‬ ‫المؤرخة األســترالي ّة «أنجيال ووالكوت»‬
‫ِّ‬ ‫معلومتك هذه؟ أجبتُها على الفور‪ :‬من‬
‫َ‬
‫الهنــد الحديــث‪ ،‬وبالمهاتمــا غاندي الذي أقام ســنوات طويلة في دولة جنــوب إفريقيا متزعّماً‬
‫ُ‬
‫دليت لها بها‪.‬‬ ‫مفكرة صغيرة ودوَّنت المعلومة التي َأ‬
‫ّ‬ ‫الجالية الهندي ّة فيها؛ فسحبت من حقيبتها‬
‫أحس‬
‫ّ‬ ‫طــال لقائــي بفنّانــة الهند الكبرى التا مانغيشــكار‪ ،‬وعلى مدى أكثر من أربع ســاعات‪ ،‬لم‬
‫خاللهــا وال للحظــة واحــدة أنّها كانت «متبرّمة» من هذا االســتغراق الوقتي‪ ،‬وخصوصاً إلنســانة‬

‫‪266‬‬
‫مثلهــا لديهــا مشــاغل والتزامات ال تحصى‪ ،‬فضال ً عن أ ّ‬
‫ن عملي ّة الحوار والمناقشــات معها كانت‬
‫تشوبها حماسة ُمتواصلة من ق َِبلِها‪ ،‬بما يؤكّد أنّها كانت مرتاحة على وقتها وتَرغب بالمزيد من‬

‫وعي ُمختلف حول تجربتها عا َلميّاً‪ ،‬ومع ُم ِ‬


‫حاور ٍ غير هندي‪ .‬وشكرتني‬ ‫ٍ‬ ‫دل لتأســيس‬
‫والج َ‬
‫َ‬ ‫األســئلة‬
‫ن هــذا اللّقاء كان غنيّــاً وتاريخيّــاً ُ‬
‫ومتمي ّزاً بالجديّــة المعرفي ّة‬ ‫علــى ذلــك‪ ،‬وأصرّت علــى القول إ ّ‬
‫والفنيّــة والثقافيّــة‪ ،‬فضال ً عن روح االتّســاق المفهومــي ُ‬
‫المتبا َدل بيني وبينهــا في طر ِْح األمور‬
‫ومحاوالت الوصول إلى المعنى الذي يجلو ّ‬
‫كل معنى‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫د‪ .‬إلهام نصر تابت*‬

‫األخوي ْن رحبانــي‪ ،‬امتد ّت جماهيريّــة فيروز من لبنان إلــى مختلف أنحاء‬


‫َ‬ ‫خــال َمســيرتها مــع‬
‫والعربي‪ .‬ولم تقتصر شــهرتها هناك على اللّبناني ّين‬
‫ّ‬ ‫بناني‬
‫ّ‬
‫العا َلم العربي وبلدان االغتراب الل ّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫والعــرب‪ ،‬بل شــمل ســحرها أجانــب من جنســي ّات ُمختلفة‪ ،‬من دون أن يفهمــوا كلمة ممّا‬
‫األخويْــن رحباني‪ ،‬واص َل ْ‬
‫ــت فيروز‬ ‫َ‬ ‫تقولــه أغانيهــا‪ .‬وفــي مســيرتها الثانية بعــد انفصالهــا عن‬
‫ٌ‬
‫أجيال أخرى‪.‬‬ ‫صعو َدها وانضمّــت إلى الجيل الذي رافقها‬

‫ي ُعالــج هــذا المقــال عالقة فيــروز بجمهورها راهناً‪ُ ،‬م ِ‬


‫حاوالً استكشــاف أســباب اســتمراري ّة‬
‫نجومي ّتهــا علــى مدى ســبعة عقــود متتالية‪ .‬فبين منتصــف القرن الماضي الذي شــهد بداية‬
‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬ويومنا هذا‪ ،‬مســاحة متفجّرة بأزمات وصراعات‪،‬‬
‫َ‬ ‫انطالق فيروز وعملها مع‬
‫شــهدت تحــوّالت محليّــة وإقليميّــة ودولي ّة ُمتالحقــة على الصعــد كافّة‪ ،‬سياســيّاً واقتصاديّاً‬

‫المذهل أنّ فيروز وســط التحــوّالت كلّها بقيت محافظة‬


‫ُ‬ ‫واجتماعيّــاً وثقافيّاً وفنيّاً‪ ،‬لك ْ‬
‫ن من‬
‫ثبات في أزمنــة التحوّل‪ ،‬أو كأنّها‬
‫ٍ‬ ‫علــى حضــور ٍ متوّهــج لبنانيّــاً وعربيّاً وعا َلميّاً‪ ،‬وكأنّهــا عالمةُ‬

‫ن أنّ مكانــ َة فنّا ٍ‬


‫ن ما تتغي ّر‬ ‫ُ‬
‫المتعاقِبة‪ .‬فمن المعــروف وفق عِلم اجتماع الف ّ‬ ‫نجمــة األجيــال‬
‫مشــكل ًة ظاهرة تُغري بالبحث فيها‬
‫ِّ‬ ‫مع الزمن صعوداً أو هبوطاً‪ ،‬لك ّ‬
‫ن نجومي ّة فيروز تســتمرّ‬
‫كل ما كُتب عنها حتّى اليوم‪ ،‬ســواء على مســتوى األبحــاث األكاديمي ّة أم‬
‫علــى الرّغــم مــن ّ‬

‫غيرها من الكتابات‪.‬‬

‫*كاتبة وباحثة من لبنان‬

‫‪269‬‬
‫ل أساســي إلى نتائج الدراســة الميداني ّة التي أجريناها في ســياق‬
‫نســتند في هذا المقال بشــك ٍ‬
‫أطروحة الدكتوراه التي ناقشناها في صيف العام الماضي وكانت بعنوان‪« :‬الظاهرة الفيروزي ّة‪:‬‬
‫ُ‬
‫المشــار إليها عي ّن ًة من المنضوين في مجموعات‬ ‫مكوّناتها وتأثيراتها»‪ .‬وقد شــملت الدراســة‬

‫فيروزي ّة على موقع فيســبوك بلغ عددهم ‪ 576‬شــخصاً‪ 560 ،‬منهم أجابوا عن أســئلة استمارة‬

‫البحث‪ ،‬و‪ 16‬أجرينا معهم مقابالت‪ .‬وهؤالء لبناني ّون وعرب من مختلف البلدان العربي ّة‪ ،‬معظمهم‬
‫ُ‬
‫المختلفة‪.‬‬ ‫ُمقيم وبعضهم مغترب أو ُمهاجِ ر‪ ،‬ويتوزّعون على الفئات العمري ّة‬

‫الم ّ‬
‫تلقين‬ ‫ُ‬ ‫تأثير صوت فيروز وأداؤها في‬

‫ســتجوبون بمعظمهــم صوت فيروز بأنّه يفوق الوصف وفريــد ٌ من نَوعه‪ .‬ويرى هؤالء‬
‫َ‬ ‫َي ِص ُ‬
‫ــف ُ‬
‫الم‬

‫ن الــدور التقريــري فــي أعمال فيــروز هو لصوتها‪ ،‬ويعد ّونــه العامل األكثر تأثيــراً فيهم عندما‬
‫أ ّ‬

‫يســتمعون إليهــا؛ وإذ ي ُقــد ّم البعــض منهــم إجابات تتراوح بيــن عدم القدرة علــى الفصل بين‬

‫مكوّنات الحالة الفيروزي ّة واعتبار صوت فيروز جزءاً من الموســيقى‪ ،‬يوضح اآلخرون أولوي ّة هذا‬

‫الصــوت وقدرته على التأثير العميق فيهم وتوليد المشــاعر واالنفعــاالت لديهم‪ ،‬إذ ي ُثير صوتها‬

‫لدى أكثر من ثل َثي العي ّنة مزيجاً من المشاعر المتنوّعة التي تصل إلى حد ّ التناقض‪.‬‬

‫تتطابــق هــذه النتيجــة مع وصــف النّخــب الثقافي ّة لصــوت فيروز وقدرتــه على توليد المشــاعر‬

‫قي في حالة العجز عن وصفه‪ ،‬وبالتالي في حالة ٍ من الدهشة‬ ‫ْ‬


‫ووضعه المتل ّ‬ ‫واالنفعاالت بكثافة‪،‬‬

‫والحيرة‪ ،‬وخصوصاً من خالل إثارته مشاعر ُمتناقضة‪.‬‬

‫األخوي ْن‬
‫َ‬ ‫والً (أعمالها مع‬
‫ســتجوبين عن األعمال التي من خاللها أحب ّوا فيروز أ ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫لدى ســؤالنا‬
‫رحباني أو زياد رحباني)‪ ،‬تركَّزت إجابات الغالبي ّة على الفئتَي ْن معاً‪ ،‬ما يعني أ ّ‬
‫ن حب ّهم لها ال يرتبط‬
‫ع معيّــن مــن أغانيها‪ ،‬بل يرتبط بكونها هي تُغنّي‪ .‬وهنــا يمكن القول إ ّ‬
‫ن صوت فيروز يؤد ّي‬ ‫بنَــو ٍ‬
‫المثيــر الــذي يوّلــد االســتجاب َة الفوريّــة وفق علم النَّفس الســلوكي‪ .‬إنّه ُمثيــر جميل يولّد‬
‫ور ُ‬‫َد َ‬
‫استجاب ًة انفعالي ّة إيجابي ّة ومشاعر مؤ ِّثرة‪ ،‬فيو ِّلد االرتياح والفرح والمتعة‪ ،‬بل إنّه ي ُثير مزيجاً من‬
‫المشاعر التي قد تتنوَّع بتنوُّع حاالت المتل ّ‬
‫قين‪.‬‬

‫‪.R‬الذي شــد َّد على‬ ‫وقــد يكــون مــن المفيــد أن نعود هنا إلــى نظري ّة روبــرت زاجونك ‪Zajonc‬‬
‫أولويّــة العاطفــة أو االنفعال‪ ،‬أو أســبقي ّتهما على اإلدراك المعرفي‪ ،‬فهــو يؤ ِّكد أ ّ‬
‫ن االنفعاالت‬
‫المعرفي ّ‬
‫إاّل بالقدر اليســير الكافي‬ ‫تحصــل مباشــر ًة مــع ظهور ُ‬
‫المثير مــن دون المرور بالب ُعــد َ‬

‫‪270‬‬
‫تلقائي‬
‫ّ‬ ‫ن الصوت الجميل يولّد االنفعال اإليجابي بشــك ٍ‬
‫ل‬ ‫لمعرفة هذا المثير‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬فإ ّ‬‫َ‬
‫إاّل بالقدر اليســير‪ .‬وصوت فيروز يمثّل حال ًة جمالي ّة قادرة‬
‫المعرفي ّ‬ ‫وعفويّ‪ ،‬دونما مرور بالب ُعد َ‬
‫قين أيّاً كان اللَّون الغنائي الذي تؤد ّيه‪ ،‬وهذا ما تؤكّده نتائج ســؤا ٍ‬
‫ل‬ ‫على التأثير بعمق في المتل ّ‬
‫ّ‬
‫األقل معظم)‬ ‫ع ُمختلفة‪ ،‬إذ ثمّة إجمــاع تقريباً على أدائها‪ ،‬في ّ‬
‫كل (أو على‬ ‫يتعلّــق بغنائهــا ألنوا ٍ‬
‫ما قد َّمته من أعمالٍ‪ ،‬بجمالي ّة ٍ استثنائي ّة‪.‬‬

‫أيضاً‪ ،‬ي ُشار في هذا السياق إلى الشعبي ّة التي تحظى بها التراتيل الديني ّة التي قد َّمتها فيروز في‬
‫أوســاط غير مســيحي ّة‪ .‬إذ ذُكرت التراتيل من بين األعمال األكثر تأثيراً في المتل ّ‬
‫قين‪ ،‬وصوالً إلى‬

‫المسلم السنّي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ستجو ٌ‬
‫ب مصريّ‪« :‬أنا‬ ‫َ‬ ‫شعورهم بالجالل والرّهبة عند االستماع إليها‪ .‬ويقول ُم‬
‫ستجوبين ُ‬
‫هم بمعظمهم من المسلمين‪ ،‬ي ُمكننا أن‬ ‫َ‬ ‫ن ُ‬
‫الم‬ ‫فيروز َأخذتني إلى الكنيسة»‪ .‬وبما أ ّ‬
‫ن التراتيل التي أد َّتها فيروز ح َّ‬
‫ققت استقاللي ّتها عن وظيفتها الديني ّة‪ ،‬وباتت أعماالً‬ ‫ن ُ ِّ‬
‫قرر بوضوح أ ّ‬

‫فني ّة خالصة في نَظر جمهورها‪.‬‬


‫المتل ّ‬
‫قين يجعل االســتماع إليها حاج ًة يومي ّة بالنســبة‬ ‫ُ‬
‫صوت فيروز على ُ‬ ‫إ ّ‬
‫ن التأثير الذي ي ُمارســه‬
‫طابع الســلوك القصدي ألنّه يمنحهم شــعوراً‬
‫َ‬ ‫إليهم‪ ،‬وهذا االســتماع ال ي ُترك للصدفة‪ ،‬بل يتّخذ‬
‫ســتجوبات‪.‬‬
‫َ‬ ‫جي ّداً‪« .‬ســماعها في الصباح يمحو الرواســب العالقة في النَّفس»‪ ،‬تقول إحدى ُ‬
‫الم‬
‫االســتماع إلى فيروز االســتعدا َد لنهار ٍ جديــد‪ ،‬وهذا ما يتّفق‬
‫ُ‬ ‫ســتجوبين ي ُرافق‬
‫َ‬ ‫ووفق غالبي ّة ُ‬
‫الم‬
‫مــع مــا هو معــروف عن ارتباط الصبــاح بصوت فيروز منــذ منتصف الخمســيني ّات‪ .‬واألمر ليس‬
‫المســتمعين‪ ،‬وكأنّه يشــحنهم بطاقة ٍ‬
‫وليد صدفة‪ ،‬بل نتيجة معرفة التأثير اإليجابي لصوتها على ُ‬
‫تســاعدهم على ُمواجهة أعباء الحياة‪ .‬هنا‪ ،‬نُشــير إلى تحلي ٍ‬
‫ل للطبيب النفســي شــوقي عازوري‪،‬‬
‫بالصباح‪ ،‬إذ َيعتبر صوتَها صوت ّ‬
‫كل األمّهات قبل أن‬ ‫َّ‬ ‫ي ُمكن من خالله تفســير ارتباط صوت فيروز‬
‫يتعلّــم أطفالهــ ّ‬
‫ن معنى الكلمات‪ ،‬الصوت الذي ي ُدغدِغ األحشــاء بمعزل عــن الكلمات ‪(Azouri,‬‬
‫)‪.L’Orient le jour, 9/3/2017‬‬

‫مســتجوبون وتحد َّث‬‫قد ال ي ُمكن فصل القدرة التعبيري ّة الهائلة لصوت فيروز التي أشــار إليها ال ُ‬
‫َ‬
‫عنها كثيرون من الشعراء والكتّاب‪ ،‬عن َدور الموسيقى في إثارة االنفعاالت‪ ،‬وهو أمر معروف‬
‫ٌ‬
‫دراسات عديدة‪ .‬غير أنّه ينبغي التنب ُّه إلى تشديد المتل ّ‬
‫قين على إعطاء‬ ‫منذ أي ّام أرسطو‪َ ،‬‬
‫وأثبتته‬

‫صوت فيروز وأدائها األولوي ّة في التأثير فيهم وإثارة انفعاالتهم‪ .‬وهذا ما ي ُحيلنا إلى الدراسات‬
‫ُّ‬
‫والتحكــم بــاألداء الصوتي التــي يمتلكهــا المغنّون‪،‬‬ ‫التــي تناولــت أثــر اســتراتيجي ّات التال ُعــب‬

‫‪271‬‬
‫ّ‬
‫والتحكم بإثارتها‪ .‬والصوت الغنائي باعتباره يجمع‬ ‫وتساعدهم في استجالب انفعاالت الجمهور‬
‫ّ‬
‫يشكل قناة انفعالي ّة إلى حدٍّ بعيد‪.‬‬ ‫َي االتّصال الموسيقي والكالمي‪،‬‬‫قنات ْ‬
‫كل من الصوت والموســيقى واألداء في المتل ّ‬
‫قين ليســت عملي ّة‬ ‫ن ُمحاولة التمييز بين رصيد ٍّ‬‫إ ّ‬
‫ســهلة‪ .‬ومــن جهتنــا‪ ،‬لســنا بوارد الحُكم في هــذه النقطة‪ .‬لكن مــا تنبغي اإلشــارة إليه هو أ ّ‬
‫ن‬
‫قيــن ال ي ّ‬
‫ُحكمــون النظري ّات في ما يحب ّون أو يكرهون وفق ما يقول نزار مروّة‪ .‬وعند كانط‬ ‫المتل ّ‬
‫ُ‬
‫دد للحُكــم الجمالي؛ وعلــى الرّغم من كون هــذا الحُكم غير‬ ‫أ ّ‬
‫ن اإلحســاس هــو األســاس المح ِّ‬
‫منطقي‪ ،‬فهو يشبه الحُكم المنطقي‪ ،‬إذ يمكن افتراضه صادقاً بالنسبة إلى الجميع‪.‬‬

‫ّ‬
‫التلقي ووضعي ّاته‬ ‫فضاءات‬

‫ســتجوبين‪،‬‬
‫َ‬ ‫الم‬ ‫ّ‬
‫يشــكل المنزل العائلي الفضاء األوّل لالســتماع إلى فيروز بالنســبة إلى معظم ُ‬
‫و المنزل الذي نشــؤوا وترعرعوا‬ ‫ٌ‬
‫نســبة كبيرة منهم كيف كانت فيروز جزءاً من ج ّ‬ ‫وقد َ‬
‫شــرحت‬
‫ٍ‬
‫بذكريات طفوليّــة‪ ،‬وبالتالي بصور ٍ مشــحونة بالعاطفة بالمعنى‬ ‫فيــه؛ مــا يعنــي أ ّ‬
‫ن صوتَها يقترن‬
‫ٍ‬
‫ثيرات انفعالي ّة أخرى‪ ،‬كالصور‬ ‫كمثير ٍ يرتبط ُ‬
‫بم‬ ‫ُ‬
‫الصوت ُ‬ ‫الذي أشــارت إليه ســوزان فيسك‪ .‬هنا َيبرز‬
‫ناظم في‬ ‫ٍ‬
‫كسلك ِ‬ ‫والحوادث التي تعود إلى الماضي وفق جاسلين وفاستجفال‪ .‬لقد بدا الحنين‬
‫واألخوي ْن رحباني وفق العديد من الدراسات (محمّد أبي سمرا‪ ،‬كريستوفر ستون‪،‬‬
‫َ‬ ‫أعمال فيروز‬
‫حركاً أساســيّاً إلعجاب الفيروزي ّين بأعمال فيروز‪.‬‬
‫كمال ديب وســواهم)‪ .‬وهذا الحنين ما زال ُم ِّ‬
‫ٍ‬
‫قســم كبير ٍ من جمهورها‪ ،‬فهو يســتدعي‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ذكريات عن الماضي لدى‬ ‫وكما يســتدعي ذكر اســمها‬
‫لدى آخرين‪ ،‬صورة معي ّنة للبنان‪ ،‬حتّى وإن كانوا من غير اللّبناني ّين‪ .‬وبموجب هذه اإلوالي ّة‪ ،‬تُصبح‬
‫فيروز رمزاً وطنيّاً‪ ،‬ويصبح اســمها مرادفاً للوطن بالنســبة للّبناني ّين‪ُ ،‬‬
‫ومرادفاً «للبنا ٍ‬
‫ن ما» لدى‬
‫غير اللّبناني ّين‪ ،‬حتّى أنّها تُصبح هي الوطن بالنسبة إلى البعض‪.‬‬
‫َ‬
‫حصول هذا التعرُّف في‬ ‫اســتتب َع‬
‫َ‬ ‫واقــع أ ّ‬
‫ن المنــزل العائلي هو الفضاء األوّل للتعرُّف إلى فيروز‪،‬‬
‫ســتجوبين فــي المقابلة بما َقبل العاشــرة‪،‬‬
‫َ‬ ‫الم‬ ‫ّ‬
‫مبكــرة مــن العمر‪ ،‬وقد حد ّدها معظم ُ‬ ‫مرحلــة‬
‫وهــي كانــت لدى البعض اعتباراً مــن الثالثة أو الرّابعة‪ .‬ووجود فيروز فــي الج ّ‬
‫و المنزلي لغالبي ّة‬
‫ّ‬
‫المبكــر إليهــا كو ََّن لديهم ما يســمّيه بيــار بورديــو ‪Pierre Bourdieu‬‬ ‫ســتجوبين وتعرُّفهــم‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الم‬
‫«الهابيتــوس»‪ ،‬أو نظام االســتعدادات الــذي من خالله تفاعلوا مع أعمالهــا وأحب ّوها‪ .‬مع ذلك‬
‫ن األعمال التي قد َّمتها فيروز أسهمت في تشكيل الذَّوق الفنّي لدى الجمهور‪،‬‬ ‫ينبغي ّ‬
‫أاّل نغفل أ ّ‬
‫إذ كانت عند انطالقها ُمغايِرة لما هو سائد‪ ،‬لكنّها استطاعت اكتساب إعجاب الجماهير بسرعة‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫ّ‬
‫مبكرة من‬ ‫أمــران آخران ينبغي أن نُشــير إليهما في ســياق حصــول اإلعجاب بفيروز فــي مرحلة‬

‫ل أساســي لم َيمنع حصول‬


‫و منزل الطفولة بشــك ٍ‬ ‫الطفولــة‪ .‬األوّل أ ّ‬
‫ن عــدم وجود فيروز في ج ّ‬
‫ســتجوبين‪ .‬أمّا األمــر الثاني‪ ،‬فيتعلّق‬
‫َ‬ ‫اإلعجــاب بهــا وتطــوّره الحقاً لدى نســبة غير قليلة من ُ‬
‫الم‬
‫بمشاهدة المتل ّ‬
‫قين لفيروز عبر التلفزيون أو على المسرح في أثناء طفولتهم‪ ،‬أي أ ّ‬
‫ن االستماع‬

‫وج َع َلهُم يتعلّقــون بها‪ .‬ونَجد‬ ‫َ‬


‫شــاهدة‪ ،‬وهــذا ما كان لــه أ َث ٌر عميق فــي نفوســهم‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫بالم‬ ‫اقتــرن‬
‫َ‬
‫أثر األشــكال‬
‫ن َ‬ ‫تفســيراً لهــذا األثــر العميــق الذي تتركه ُ‬
‫المشــاهدة في الدراســات التي بي َّنت أ ّ‬

‫البصري ّة (تعابير الوجه عند المغنّي مثال ً) ترتبط باالنفعال أكثر من األشكال السمعي ّة‪.‬‬

‫قي‪ ،‬ثمّة ما ي ُشــبه اإلجماع على ســماع فيــروز في الوضعي ّات كافّة‪،‬‬
‫فــي ما يتعلّق بوضعي ّات التل ّ‬

‫ٍ‬
‫وعــادات محد َّدة في‬ ‫ن للبعض طقوســاً‬ ‫خاصة بها للتل ّ‬
‫قي‪ .‬غير أ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لــكل وضعي ّة وســائل‬ ‫وعلــى أ ّ‬
‫ن‬
‫االســتماع الــذي يرقى إلى درجــة اإلصغاء الكامل‪ ،‬وإعادة األغنية أو األســطوانة نفســها مر ٍ‬
‫ّات‬

‫ومــرّات‪ ،‬إلــى أن تكتمــل المعرفة بالعمل من ُمختلف جوانبه‪ .‬وهــؤالء إجماالً يمتلكون معرف ًة‬

‫ومقاماتها‪ ،‬وباآلالت الموســيقي ّة‪ ،‬والطبقات الصوتي ّة‪ ،‬وســوى ذلك من‬
‫بالموســيقى وأنواعها َ‬
‫أمور ٍ ال يعرفها بالضرورة عامّة الناس‪.‬‬
‫ي ِ‬
‫ُفصح البعض عن تفضيلهم االستماع إلى فيروز عندما يكونون بمفردهم‪ .‬وهذا التفضيل ي ُشير‬
‫ُشــكل اختالءً بالنَّفــس‪ ،‬وابتعاداً عن العا َلم لفتــرة‪ .‬ولك ْ‬
‫ن يجدر القول‬ ‫ِّ‬ ‫إلــى أ ّ‬
‫ن االســتماع إليها ي‬
‫ن فيــروز بقدر مــا تُم ِّثل حال ًة جماهيري ّة عامّة‪ ،‬تُم ِّثل خصوصي ّة حميمة‪ ،‬إذ يشــعر المتل ّ‬
‫قي‬ ‫أيضــاً إ ّ‬
‫ّ‬
‫يخص‬ ‫ّ‬
‫والخاص الذي‬ ‫العام الذي يتشــاركه كُث ُ ٌر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الخاصة‪ .‬وبذلك هي تُم ِّثل‬
‫ّ‬ ‫تعبر عن مشــاعره‬
‫ِّ‬ ‫أنّها‬

‫فرداً َ‬
‫بعينه‪.‬‬

‫ّ‬
‫للمتلقين‬ ‫ما تمثّله فيروز‬
‫ٌ‬
‫رمز للبنان‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫رمز فنّي‪ ،‬وبدرجة ثانية‬ ‫ستجوبين‪ ،‬وهي بدرجة أولى‬
‫َ‬ ‫ثمّة رمزي ّة قوي ّة لفيروز لدى ُ‬
‫الم‬

‫ن التراب ُط‬ ‫ٌ‬


‫رمز للجمال‪ ،‬لتأتي بعد ذلك صورتها كرمز ٍ للق َيم اإلنســاني ّة واألخالقي ّة‪ .‬غير أ ّ‬ ‫ومن ثمّ‬
‫األخيري ْن يسمح بجمْعهما معاً‪ ،‬وبذلك ترتفع النسبة وي ُمكن القول‬
‫َ‬ ‫ي الق َيم‬
‫َوع ْ‬ ‫ُ‬
‫والتقاطع بين ن َ‬
‫إ ّ‬
‫ن الصــورة األيقونيّــة لفيــروز كرمز ٍ للق َيم تتقــد َّم على ما عداها‪ .‬وهذه الرمزيّــة القوي ّة لفيروز‬

‫تؤشر إلى استمراري ّة صورتها كأيقونة ٍ كما عكستها كتابات النُّخب الثقافي ّة واإلعالمي ّة على مدى‬
‫ِّ‬

‫عقــود ٍ ماضيــة‪ ،‬وهي صورة ال تنفصل عن تلك التي تظهَّرت من خالل أدوارها المســرحي ّة‪ .‬ويبدو‬

‫‪273‬‬
‫ل إلى جيل‪ ،‬فوصف فيروز كرمز ٍ جاء من ُمختلف الفئات‬ ‫أ ّ‬
‫ن الصورة ترسَّ خت وباتت تنتقل من جي ٍ‬
‫العمري ّة‪ ،‬وإن كانت الفئة األصغر قد رأتها بدرجة أولى رمزاً فنيّاً‪.‬‬
‫ُ‬
‫تنســجم الصفات التي أعطيت لفيروز مع الصورة األيقوني ّة التي ُرســمت لها‪ ،‬ففي طليعة هذه‬

‫الصفات نجد النقاء‪ ،‬ومن ثمّ الوطني ّة‪ ،‬فالبساطة والقداسة والحُلم والوفاء والترفُّع والصالبة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ســام‪ ،‬وصوالً إلى القداســة في نظــر البعض‪ .‬هنا نعــود إلى ناتالي‬ ‫أي أنّهــا تختــزن ّ‬
‫كل مــا هو‬

‫وضعي ْن‪:‬‬
‫َ‬ ‫ن أنواع الفــرادة الفنّي ّة أو أســاليبها تنفصل عن‬
‫إينيــك ‪ Nathalie Heinich‬التــي تــرى أ ّ‬

‫الوضع الشخصاني (‪ )Posture Personnaliste‬والوضع األوبرالي (‪ .)La Posture Opéraliste‬الوضع‬

‫األوّل يتجلّى أحياناً في القداســة (أخالقي ّات العذاب)‪ ،‬وأحياناً في البيوغرافيا‪ .‬أمّا الوضع الثاني‪،‬‬
‫فيتأرجــح‪ ،‬مــن جهته‪ ،‬بين جمالي ّة العمل الفنّي وصوفي ّة اإلبــداع‪ .‬وتتح ّ‬
‫قق مقولة إينيك هذه في‬

‫مســيرة فيــروز‪ ،‬إذ فــي ما يعود إلى وضعها الشــخصاني‪ ،‬أحاطها جمهو ُرها بهالة ٍ من القداســة‪،‬‬

‫وخصها بمكانة ٍ ممي َّزة كرمز ٍ وطني وفنّي‪ ،‬وقد َّر مســلكي ّتها الفني ّة والشــخصي ّة‪ ،‬فضال ً عن صبرها‬
‫َّ‬

‫آالم كثيــرة‪ ،‬وابتعادهــا عن صخب الحياة التي يعيشــها عــاد ًة الفنّانون والمشــاهير‪ .‬وفي‬
‫ٍ‬ ‫علــى‬
‫مــا يتعلّق بمــا اعتبرته إينيك الوضع األوبرالي‪ ،‬فال مجال ُ‬
‫لمناقشــة جمالي ّة أعمال فيروز الفني ّة‬
‫تخطت العا َلم العربــي‪ .‬أمّا على صعيد صوفيّــة اإلبداع‪ ،‬ففضال ً‬
‫َّ‬ ‫التــي ح َّ‬
‫ققــت جماهيري ّة واســعة‪،‬‬

‫قســم كبير مــن أغانيها‪ ،‬نجد إخالص الســي ّدة فيــروز لفنّها‬
‫ٌ‬ ‫عــن األبعــاد الصوفيّــة التي َيحملها‬

‫وعملها على تجسيد رسائله في حياتها‪ ،‬وانقطاعها له حتّى الزهد بأمور الدنيا‪ .‬وهي بذلك تُحقِّ ق‬

‫مقولــة ‪( Georges Didi Huberman‬فــي كِ تابــه‪ )La Survivance Des Lucioles :‬حــول العمــل‬
‫المضــيء (‪ )Œuvre Illuminante‬والعمــل الفنّــي ُ‬
‫المضــاء (‪ .)Œuvre Illuminée‬فبينمــا‬ ‫الفنّــي ُ‬

‫يمتلــك األوّل هالــ ًة مشــعّة تنبثق منه‪ ،‬يبدو الثاني مجرَّداً من الروح أو الهالة‪ ،‬ويكتســب بريقه‬
‫مــن األضواء االصطناعي ّة التي تُســلَّط عليه‪ .‬في هذا الســياق ي ُمكن القــول إ ّ‬
‫ن فيروز بما قد َّمته‬
‫ل فنيّــة‪ ،‬وبما التزمته في مســلكي ّتها وحياتها‪ ،‬تبدو في عصر صناعــة النجوم‪ ،‬نموذجاً‬
‫مــن أعمــا ٍ‬

‫للشخصي ّة المشعّة بذاتها‪.‬‬

‫من الجمال إلى الجالل‬

‫لمشاعر الحيرة واالرتباك وصوالً إلى العجز عن تحديد المشاعر عند الجمهور‬ ‫إ ّ‬
‫ن توليد غناء فيروز َ‬
‫يتالقى‪ ،‬من جهة أولى‪ ،‬مع أبحاث رومان إنغاردن وولفغانغ آيرز حول الفجوات ومناطق ّ‬
‫الاّلتحديد‬

‫‪274‬‬
‫قين‪ ،‬من خالل حثّهم على التأويل‪ .‬كما يتالقى من جهة ٍ ثانية‬
‫المتل ّ‬ ‫ومــا تُثيــره من دينامي ٍ‬
‫ّات عند ُ‬

‫مــع جانــب من جوانــب الجالل عند كانــط في تأكيده على مشــاعر الحيرة واالرتبــاك والعجز عن‬

‫ستجوبون الذين قابلناهم جميعاً عن مشاعر متناقضة ي ُثيرها فيهم غناء‬


‫َ‬ ‫التحديد‪ .‬وقد َأفصح ُ‬
‫الم‬

‫يشــكل ب ُعداً إضافيّاً من أبعاد‬


‫ِّ‬ ‫تناقض المشــاعر واالنفعاالت‬
‫ِ‬ ‫فيروز‪ .‬وما يعيشــه المتل ّ‬
‫قون من‬
‫الجليل أو الجالل ما بعد الحداثي الذي شــد َّد عليه جان فرانســوا ليوتار‪ .‬فعندما يكون المتل ّ‬
‫قي‬

‫أمام مشهد ٍ جميل أو أغنية تُثير فيه مشاعر ُمتناقضة كاللذّة واأللم‪ ،‬أو الفرح والحزن وسواها‪،‬‬

‫فــي آن معــاً‪ ،‬نكون أمام تجربة الجليــل أو الجالل‪ .‬وهي تجربة ي ُمكن نعْتها أيضاً بتجربة ما فوق‬

‫ي أو المألوف وفق كانط‪.‬‬ ‫ّ‬


‫تتخطى الجمال العاد ّ‬ ‫الجمال التي‬

‫ب ُعد ٌ آخر من أبعاد الجليل في أغاني الســي ّدة فيروز وصوتها‪ ،‬وهو مشــاعر الرّهبة أو العظمة أو‬

‫االنبهار‪ ،‬وقد بي ّنت إجابات أفراد العي ّنة بما ي ُشبه اإلجماع هذا األمر‪.‬‬

‫ي من جوانب‬
‫وما نســتخلصه من هذه اإلفادات هو اقتران صوت فيروز في أغانيها بجانبٍ مركز ّ‬
‫الجــال الــذي ي ُمكن أن نســمّيه ما فوق الجمــال‪ .‬وهنا يكمن في نظرنا ســرّ الصوت الفيروزي‬

‫س هذا الصــوت تأثيره منذ خضوع فيروز‬‫مار َ‬ ‫ّ‬


‫الخاصة وســرّ تأثيره فــي الجمهور‪ .‬وقد َ‬ ‫أو َب ْ‬
‫صمتــه‬

‫أمر‬
‫َ‬ ‫المتحــان القبــول فــي اإلذاعــة اللّبناني ّة على يد الموســيقار حليم الرومي الــذي كان يتولّى‬

‫االمتحــان‪ ،‬فمــا أن َبــدأت الغنــاء حتّى رمى العــود من يده ووقــف يصغي إليها مذهــوالً‪ .‬وهذا‬
‫ٍ‬
‫قســم كبير منه مشــاعر‬ ‫ُمارس تأثيره العميق في جمهورها اليوم‪ُ ،‬مخ ِّلفاً لدى‬
‫الصوت ما زال ي ِ‬
‫الذهول واالنبهار التي شــعر بها الرومي‪ ،‬قبل ســبعين عاماً‪ .‬وها هي َمي الريحاني تق ِّ‬
‫دم وصفاً‬

‫نموذجيّاً لهذه االنفعاالت في تغطيتها حفلة فيروز في الكيندي سنتر (واشنطن‪ )1981 ،‬فتقول‪:‬‬
‫ٌ‬
‫ســلك‬ ‫‪« ...‬ويصيــب الجمهــور َط َر ٌف من هســتيريا‪ ،‬تصفيق‪ ،‬صفير‪ ،‬صراخ‪ ،‬بكاء‪ ،‬فرح‪ ...‬كأ ّ‬
‫ن صوتها‬

‫كهربائي عندما يلمسهم يتجاوبون» (النهار‪ 17 ،‬تشرين الثاني‪ /‬نوفمبر‪.)1981 ،‬‬


‫ّ‬
‫لقد ربط نيتشــه بين تحقيق حالة االنفعال القصوى على المســرح ووجود َ‬
‫الكورس الذي يندمج‬
‫فــي النشــوة عن طريق الغنــاء والرقص والموســيقى‪ .‬تتح َّ‬
‫قق هذه المقولة في حالة المســرح‬

‫الممثّليــن والرّاقصين‪،‬‬
‫ل واضــح‪ ،‬وخصوصاً مع تعزيــز الديكور وحشــد ُ‬
‫الغنائــي الرحبانــي بشــك ٍ‬
‫لعناصــر الجمالي ّة‪ .‬لكــ ْ‬
‫ن في حالة حفالت فيروز‪ ،‬نحن في كثير ٍ مــن األحيان أمام مغني ّة‬ ‫َ‬ ‫واألزيــاء‪،‬‬
‫قق حالة االنفعال القصوى في فورا ٍ‬
‫ن‬ ‫ٌ‬
‫وفرقة من العازفين فقط‪ ،‬ومع ذلك تتح ّ‬ ‫ٌ‬
‫ــورس‬ ‫يرافقهــا َك‬

‫‪275‬‬
‫ن صوتها وحضورها يختصران الجمالي ّة التي تو ِّلد مشاعر تسري في الجمهور «كسلك‬
‫جماعي‪ .‬وكأ ّ‬

‫كهربائي» وفق ما عب َّرت عنه الكاتبة َمي الريحاني‪.‬‬


‫صــوت مطربتهم وأداءها‬
‫َ‬ ‫هــل كان لجماليّــة الحالــة الفيروزي ّة التــي أعطى معظــم الفيروزي ّين‬
‫تغن في‬
‫ِّ‬ ‫وشــخصي ّتها َموقــع األولويّــة فيها‪ ،‬أن تتمتّع بما هي عليه من قوّة َجــذْب وتأثير لو لم‬
‫ّ‬
‫ومكة وبغداد‪...‬إلخ‪ ،‬ولو لم تحمل‬ ‫أروع األشعار واأللحان‪ ،‬الفولكلور ولبنان والقدس ودمشق‬
‫والحق والعدل والحبّ والحري ّة‪ ،‬وبالتالي لو لم ُ‬
‫تكن أعمالها‬ ‫ّ‬ ‫أعمالها قضايا اإلنسان وق َيم الخير‬
‫ذات أبعــاد تتّصل باإلنســان في ّ‬
‫كل زمان ومكان؟ لســنا في وارد ُ‬
‫المناقشــة فــي هذا المجال‪،‬‬
‫لكنّنا نطرح ســؤاالً معاكســاً‪ :‬هل كان لما كُتب لفيروز من شــعر ٍ وموســيقى أن ي ُكتب على هذا‬
‫ســمو بصوتها وشــخصي ّتها؟ إ ّ‬
‫ن ما‬ ‫ٍّ‬ ‫المســتوى مــن الجماليّــة لــو لم ُ‬
‫تكن على مــا هي عليه من‬
‫ّ‬
‫الســجل الجمالي الرائع الذي‬ ‫كُتب لفيروز كُتب لها تحديداً‪ ،‬ما يعني أنّها شــريكة في والدة هذا‬
‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬وزياد رحباني‪ ،‬وفليمون وهبي‪ ،‬ومحمّد عبد الوه ّاب‪ ،‬وزكي‬
‫َ‬ ‫تمثّلــه أعمالها مــع‬
‫إبداع‬
‫َ‬ ‫لهمة التي ت ُ ِّ‬
‫حرك‬ ‫ُ‬
‫الم ِ‬ ‫ناصيف‪ ،‬وسعيد عقل‪ ،‬وميشال طراد‪ ،‬وجوزف حرب‪ ،‬وسواهم‪ .‬فهي‬
‫«األخوي ْن رحباني يســأالن إذا كانت القصيدة األعجوبة التي صرفا ليالي طويلة‬
‫َ‬ ‫المؤ ِّلفين وتَجعل‬
‫و الصوت أو تستطيع احتماله» وفق سعيد عقل الذي َيعتبر أيضاً أ ّ‬
‫ن فيروز‬ ‫في تأليفها تليق بسم ّ‬
‫َأرغمــت األغنيــة أن تُكتــب بما يرفع الخليقــة إلى الخالق (جوزيف عبيد‪ ،‬الصــاة في أغاني فيروز‪،‬‬
‫ّ‬
‫الكل شــي وجودها» (ريما‬ ‫ّ‬
‫الكل شــي صوتها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫«الكل شــي هي‪،‬‬ ‫‪ .)1987‬وفي نظر عاصي رحباني‬
‫رحباني‪ ،‬كانت حكاية‪ -‬فيلم وثائقي‪.)2015 ،‬‬

‫الحالة الجمالي ّة االستثنائي ّة‬

‫فــي ُمــوازاة مواهب فيــروز‪ ،‬ثمّة مســيرة طويلة من االحتــراف واإلخالص وااللتــزام والصالبة‪،‬‬
‫اتَّحــدت فيهــا الق َيم التي غنَّتها واألدوار التي أد َّتها في المســرح وفي الحيــاة‪ ،‬ما َج َع َلها بمنزلة‬
‫َ‬
‫حافظت على هذه المنزلة في مختلف مراحل َمســيرتها على الرّغم من قســاوة‬ ‫األيقونــة‪ .‬وقــد‬
‫ن قدرتها على التأثير العميق في ثقافات وبيئات وفئات أعمار ُمختلفة‪،‬‬
‫الضوابط التي تفرضها‪ .‬وإ ّ‬
‫نابعــة بدرجــة أولــى من الحالة الجمالي ّة االســتثنائي ّة التي تُم ِّثلها ومن مســيرة مجلّلة بهالة ٍ من‬
‫النقاء والقدسي ّة‪.‬‬
‫المظهر المــزدوج في الطبيعة‬ ‫لقــد عاد نيتشــه إلى الميتولوجيــا اليوناني ّة ليرد ّ أصــل الف ّ‬
‫ن إلى َ‬
‫اإلنســاني ّة‪ ،‬والمتمثّــل في األب ّولوني ّة (أبولون إله الحكمة الــذي مثّل الحُلم والنبوءة والمعرفة‬

‫‪276‬‬
‫والتع ّ‬
‫قل واالتّزان) والديونيزوسي ّة (ديونيزوس إله الخمرة والفرح والمتعة والخصب والقوّة)‪،‬‬
‫ن يرتبط بالفرح واللّذة والمتعة‪ ،‬وبإرادة القوّة‪ .‬فــي حالة فيروز تتمثّل الجمالي ّة‬ ‫ُمعتبــراً أ ّ‬
‫ن الفــ ّ‬
‫ليــس في الفرح واللّذة والمتعة فحســب‪ ،‬وإنّما أيضاً في الحِ كمــة والحُلم والمعرفة واالتّزان‪،‬‬
‫ّ‬
‫ولتشــكل رافعة فني ّة لجميع‬ ‫لتم ِّثــل بذلــك حال ًة اســتثنائي ّة‪ ،‬تتخطّى الجمــال وصوالً إلى الجالل‪،‬‬
‫المؤلّفين والملحّنين الذين َعملت معهم‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫د‪ .‬شوقي عبد األمير*‬

‫والمحيطات ستكون الصوت‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫األرضي إذا كانت اللّغات هي القارّات‪ ،‬فإنّ البحار‬
‫ّ‬ ‫في َ‬
‫الكوكب‬
‫صــوت ُمحيطــي نعرفه عندما يبدأ لكنّه ســرعان مــا يمتد ّ‪ ..‬يتناهــى فينا فال نُدرك إذ ّ‬
‫ٌ‬ ‫هنــاك‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫لنظــل نبحث عنها في أعماقنا‪ ..‬هكــذا نصغي لها‪ ،‬فهي عندما تبدأ الغناء تكون‬ ‫ذاك حــدوده‬
‫ولِدا‬ ‫ّ‬
‫ليظاّل معاً في شــرنقة اإلصغاء جنينَي ْن ُ‬ ‫ُ‬
‫المســتمِ ع‬ ‫مجرى ســرّيّاً بينها وبين‬ ‫كمن يحفر‬
‫َ‬
‫ً‬
‫ي‪..‬‬
‫لحظــة انــدالع األغنية‪ ،‬ال زمان وال مكان لهذا الوليد الذي ال ي ُرى منه ســوى حبله الســرّ ّ‬
‫صوت فيروز‪.‬‬

‫واألصوات مثل األنهار‪ ،‬بعضها ينبع في الجبال‪ ،‬وآخر من البحيرات‪ ،‬وثالث في الغابات والبراري‪،‬‬
‫ُ‬
‫ينبــع بالتأكيد مــن الجبال‪ ..‬ولهذا فهــو يقودنا إلى األعالــي ويرتقي بنا فوق‬ ‫ٌ‬
‫صوت‬ ‫لكــ ْ‬
‫ن هنــاك‬
‫ٌ‬
‫صوت ال يعرف االنكسار وال الهدم‬ ‫السطوح الخفيضة‪..‬ال تليق به السراديب والخَنادق والمخابئ‪..‬‬
‫ُرمم‪ ..‬ي َُبل ْ ِ‬
‫سم‪َ ،‬يمسح عرق الجباه وي ُجفِّ ف الدموع‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫صوت ي ِّ‬ ‫وال اإلحباط‪،‬‬

‫صوت فيروز‬

‫يسحبك‬
‫َ‬ ‫ْك‪ ،‬يســتجوبك في حوار ٍ عامودي يخترق ســطح الحاضر‪،‬‬
‫َ‬ ‫دي‬ ‫ٌ‬
‫صوت من ي َ‬ ‫بك‬ ‫ُ‬
‫ُمســك َ‬ ‫أحياناً ي‬
‫بعيــداً عن انشــغاالتك اليومي ّة وعن مطب ّات العمل والهمــوم التي تتراكم على غفلة‪ ،‬من دون‬
‫ُ‬
‫‪ ‬تنفض عنك غباراً ترا َك َم طويال ً من دون أن‬‫تختض بصيحة ٍ‬
‫َّ‬ ‫أن تشــعر بحج ْمها وثقْلها ّ‬
‫إاّل بعد أن‬

‫*شاعر عراقي‬

‫‪278‬‬
‫تشــعر به‪ ..‬هكذا ي ُمكن أن تســتحمَّ نهاراتنا بالصوت‪ ،‬صوت فيروز‪ ..‬أمام بعض األصوات نُغمض‬
‫ل أفضل‪ ..‬لماذا؟‬
‫أعي ُننا لنصغي لها بشك ٍ‬
‫ُ‬
‫الصوت مثل كوكبٍ يعوم في َمدار الكائن‪ ،‬ولهذا عندما تكون أعي ُننا مفتوحة‬ ‫ذلــك عندمــا يأتل ُ‬
‫ِق‬
‫اختالط‪ ،‬تداخ ُ ٌل‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫أطراف الكوكب الذي نعيش على ســطحه‪ ،‬وهنا قد يحصــل‬ ‫فإنّنــا نشــهد أمامنا‬
‫أاّل نرى ّ‬
‫إاّل الصوت الذي تجلّى ككوكــبٍ ‪ ..‬ليكون هو المكان‬ ‫نفضل ّ‬
‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫ارتطام‪ .‬لــذا‬ ‫تشــاب ٌ‬
‫ُك وأحيانــاً‬

‫الذي نعيش فيه و َلو لدقائق‪ ..‬هكذا يتجسّ د صوت فيروز‪..‬‬


‫لشــكل الحضور‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫وكمؤشــر ٍ‬ ‫في فيزياء الصوت يقع االمتداد في األنا‪ ،‬وفي الزمن كعالمة ٍ فارقة‪،‬‬
‫و ُعمقــه‪ ..‬فــي األنــا‪ ،‬نحن نَعلم كما يظهر جليّــاً عند مغنّي األوبرا أ ّ‬
‫ن للصــوت امتداداً إلى أعمق‬
‫َفي الذي نتعلّق به في فضاء الروح‪ ،‬ولهذا فإ ّ‬
‫ن امتدادات‬ ‫ن الكائن وكأنّه الحبل الخ ّ‬
‫ُ‬
‫تواز ِ‬ ‫نقطة في‬
‫ديات أعماق األرواح بين النــاس‪ ..‬لك ْ‬
‫ن ثمّة صوت‬ ‫ِ‬ ‫وم‬
‫درجــات َ‬
‫ِ‬ ‫األصــوات بيــن األفراد تتفاوت مع‬
‫ق يصعب سب ْرها وبهذا فهو يعكس خبايا روح عظيم‪ ..‬صوت فيروز‪.‬‬
‫ينبع من أعما ٍ‬
‫ٌ‬
‫ضارعة‬ ‫ٌ‬
‫أصوات ُم‬ ‫ن هناك أصواتاً تأتي من الحاضر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فارق امتداد الصوت‪ ،‬حيث إ ّ‬ ‫وفي الزَّمن أيضاً يظهر‬
‫ٌ ُ‬
‫أصوات أفقي ّة في الغالب تركض وراء حركة الديمومة‪..‬‬ ‫لصوره وتقلّباته فيها‪ ..‬هي‬
‫ال ظالل للزمن وال ُ‬
‫ن أصواتاً أخرى تأتي من أعماق الزَّمن تجرّ بحبالها الماضي كعربة ٍ‬
‫إاّل أ ّ‬ ‫ُ‬
‫األحداث ال العكس‪ّ ..‬‬ ‫تجرُّها‬
‫الموازين‪ ،‬تُريك‬
‫مو ُه أشــكال حضورها واإلحســاس بها‪ ..‬تقلب َ‬ ‫قديمة‪ ..‬أصواتاً تخلط األزمنة وت ُ ِّ‬
‫كصوت فيروز‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الماضــي حاضــراً والحاضر ماضيا؛ً كما ي ُمكنها أن تلعب باألبعاد وتُربك الجغرافية‪..‬‬
‫يقولون أيضاً عن َصوتها إنّه صباحي ال ليلي‪ ..‬ال أدري أنا الذي أصغي إليها في ّ‬
‫كل وقت‪ ،‬لك ْ‬
‫ن رب ّما ثمّة شيء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ن هناك أصواتاً‪ ‬أقرب إلى االستيقاظ‪ ،‬إلى االنبعاث وإلى الوالدة ‪..‬‬
‫ُمهمّ في مثل هذا القول‪ ..‬وهو أ ّ‬
‫ّ‬
‫تجف بعدُ‪ ،‬تتردَّد ُ أصداؤها على شــفتَي ْها‪ ،‬وهي بهذا المعنى تو َلد‬ ‫ُ‬
‫صيحــة والدة ٍ لم‬ ‫تُــرى هــل هي‬
‫أصغيت إلى صوت فيروز‪.‬‬‫َ‬ ‫كل أغنية… نعم سأصد ُّق هذا كلّما‬ ‫من جديد في ّ‬
‫ُ‬ ‫سمعتُها للمرّة األولى في ُمراهقتي َ‬
‫ُ‬
‫زلت أعشق‬ ‫وأح َْبب ْتُها‪ ،‬وأصغي إليها اآلن بعد نصف قر ٍ‬
‫ن وال‬
‫ّ‬
‫أقــل أو أكثر مــن الماضي‪ ،‬لكنّني أســتطيع أن اقول اليوم‬ ‫صوتهــا ال أدري إن كان ذلــك بدرجــة ٍ‬

‫في االرتعاشة نفسها‬ ‫لســت ذلك الفتى العشــريني وأنا ابن الســبعين؛ ّ‬
‫إاّل أ ّ‬ ‫ُ‬ ‫إنّني‬
‫ن صوتها َيبعث َّ‬
‫ُ‬
‫خترق جسدي بالقشعرير ِة ذاتها‪...‬‬ ‫و َي‬
‫تــرى مــاذا يحــدث؟ هل هــو الصــوت العا ِبر للزمــن‪ ،‬الصــوت الذي يعــود بالكائن الــى ذاكرته‬
‫الجنينيّــة ويمســك بهــا ال ي ُفارقها‪ ،‬أم إنّه القادر على تلب ُّس الروح كــرداءٍ ميتافيزيقي في ّ‬
‫كل‬
‫ّ‬
‫وكل زمان‪..‬‬ ‫مكان‬

‫‪279‬‬
‫أجل هو صوت فيروز‬

‫لكل اللّغات‪ ،‬أي يكون الد ّال‬


‫ّ‬ ‫الصوت َّ‬
‫كل المعنى أو جذره‪ .‬وهنا يكون عابراً‬ ‫ُ‬ ‫يحدث أيضاً أن يقول‬
‫والمدلــول‪ ،‬فــا حاجة للترجمة وال للشــروح أو اإلشــارات والقرائن اللّغوي ّة‪ ....‬أعرف فرنســي ّين‬
‫وأميركي ّيــن وأوروبي ّيــن وأفارقــة ال يعرفــون كلمة في اللّغــة العربي ّة‪ ،‬لكنّهم عندما يســمعون‬
‫أغانيها يقولون نكاد نَفهم المعنى ولسنا بحاجة إلى ترجمات… هكذا هو صوت فيروز‪.‬‬
‫نجزاً‪ ..‬تَعرف حدوده ودالالته عندما تَســمعه‪ ،‬لك ْ‬
‫ن ثمّة آخر ي ُحاول‪ ،‬يقترح‬ ‫ن هنــاك صوتــاً ُم َ‬
‫كمــا أ ّ‬
‫أو يضيــف‪ ،‬لــذا مــن الصعــب أن تَضــع له خارطــة وال أن تُدرك أين يصل ســوى أن تستســلم له‬
‫عكازك وهو الطريق‪ ..‬هو صوت فيروز‪..‬‬ ‫عكاز‪ ..‬هو ّ‬ ‫يقودك‪ ‬أعمى من دون ّ‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫شــرقي بامتيــاز‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫صــوت‬ ‫ٌ‬
‫صــوت يتفجّــر مــن الجبــال العاليــة نفســها فــي روحهــا الشــرقي‪..‬‬
‫ال أعــرف مغنّيــة غربيّــة تحمــل مــن الحنيــن واألحــزان والظمــأ والنــار والشــروق كمــا‬
‫يحمــل صوتهــا‪ ..‬هــو الشــرق صادحــاً‪ ..‬نعــم هــي مغنّيــة شــرقي ّة فــي تونــة صوتهــا‪ ،‬وفــي‬
‫أحــس ببــرودة‬
‫ّ‬ ‫ويطوفنــا فيهــا‪ ..‬نعــم إنّنــي‬
‫ِّ‬ ‫ومــدارات الحنيــن التــي يطــوف‬
‫درجــة إشــراقه َ‬
‫لحظــات الفجــر األولــى والتهــاب شــمس النهــار وارتعاشــة َل ِ‬
‫يــل الوحــدة فــي صوت فيــروز‪..‬‬
‫الصوت‪ ،‬وال الحكايات أو القصائد‪ ،‬إنّما هي قدرته على خلْط جغرافي ّة الشرق‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اللغة هي التي تحد ّ‬ ‫ليست‬
‫بماضيه واللّهو بحاضره‪ ..‬ال أحد َيعلم كيف يتحوَّل الينبوع الدافئ إلى ح ٍ‬
‫ُمم بركاني ّة في صوت فيروز‪.‬‬
‫كل المعاني األخرى حتّى وإن لم ُ‬
‫يكن في ّ‬
‫نص األغنية‬ ‫لماذا يتفوَّق الحنين في أغاني فيروز على ّ‬

‫أي ّة داللة على الحنين‪..‬؟‬


‫ســيال ً من‬ ‫ُ‬
‫الصوت َ‬ ‫إنّه الماضي‪..‬الينبوع األعمق الذي يتفجّر منه الصوت‪ .‬وهنا بالضرورة س َيســحب‬
‫ّ‬
‫يظل ُمنتشراً في‬ ‫ِ‬
‫يختف‪ ،‬زمن‬ ‫ن انطوى‪ ،‬لكنّه لم‬
‫اإلشارات واالرتدادات والقرائن ذات العالقة بزم ٍ‬
‫ْ‬
‫الحشرجات والتأوّهات التي تَزدحم بها األغاني‪ ،‬ولهذا يصير الماضي عنقاء في صوت فيروز‪..‬‬ ‫ّ‬
‫ظل‬

‫فيروز والرؤية البابلي ّة‬


‫ٍ‬
‫رقيم غريب يعود تاريخه إلى ‪ 2500‬ق‪.‬م‬ ‫بين األغاني والتواشيح العشتاري ّة المقد َّسة َعثروا على‬
‫يتطرّق للمرّة األولى لألغاني وأهمي ّتها في الحياة في بابل يقول‪:‬‬
‫«إ ّ‬
‫ن أغاني اآللهة‬
‫أعظم من اآللهة»‬

‫‪280‬‬
‫عام كانت األغاني مقد َّســة بدرجة أنّها أعظم مــن آل َِهتِها التي‬
‫ٍ‬ ‫منــذ مــا يقرب على خمســة آالف‬
‫ْ‬
‫ملت ألجلها‪.‬‬ ‫ُع‬
‫ّ‬
‫بــكل أنواع الغناء‬ ‫نحــن اليــوم لو َأردنــا‪ ‬أن نَنظر عبر هذه الرؤيــة البابلي ّة إلى حاضرنا الذي يض ّ‬
‫ج‬
‫مثل هذه القداســة فإنّنا ســنَجد ُ بالتأكيد صوت فيروز‪..‬‬
‫ِ‬ ‫لنبحث عن َص ٍ‬
‫وت َيرقى إلى‬ ‫َ‬ ‫والموســيقى‬
‫ٌ‬
‫صوت‬
‫النهار المعروق‬
‫ِ‬ ‫ح ُز َ‬
‫جاج‬ ‫يمس ُ‬
‫بل ُ ِ‬
‫هاث األرواح‬
‫وحنين األجسا ِد المطرودةِ‬
‫ِ‬
‫من الكون‬
‫ٌ‬
‫جيرة‬ ‫صوت‪ُ ..‬‬
‫ش‬ ‫ٌ‬

‫تحت رما ٍ‬
‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫تطلع من‬
‫تتحق ُ‬
‫ق بالكاد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أُمنيةٌ‬

‫بعد فوات‬
‫ٌ‬
‫صوت َيتردّد ُ في األرجاء‬
‫الشاغر‬
‫َ‬ ‫المكان‬
‫َ‬ ‫ليمأل َ‬

‫لألوان‬

‫ٌ‬
‫صوت‬
‫ّ‬
‫«قال لي أشياءَ ال أعرفها‬
‫كالعصافير»‪..‬‬

‫ٌ‬
‫صوت‬
‫ُ‬
‫أعرف‬ ‫ّم‪ ،‬لكنّي ال‬
‫ي ُرم ُ‬
‫ي شرخ؟‬
‫أ َّ‬
‫صوتُها‬
‫وحد ُه قاد ٌر على بع َْثرةِ المكان‬

‫إقصا ِئ ِه ونفي ِه َّ‬


‫في‪..‬‬

‫‪281‬‬
‫د‪ .‬محمّد المعزوز*‬

‫ّ‬
‫لعل لقب «السفيرة إلى النجوم» و»جارة القمر»‪ ،‬الذي يرتبط بالمغنّية فيروز‪ ،‬ي ُحيل إلى داللة ٍ‬

‫الحواس‪ ،‬ومنها الرّؤية والسّ مع‪.‬‬


‫ّ‬ ‫س َك َ‬
‫ن‬ ‫األرضي الذي َ‬
‫ّ‬ ‫واحدة مركب ّة تعني االرتفاع عن المألوف‬
‫المكْرو ُر الذي اســتنفَ ذ اســتلهام‬
‫م َ‬ ‫الم َّ‬
‫نظ ُ‬ ‫الموســيقي ُ‬
‫ّ‬ ‫الغنائي‬
‫ّ‬ ‫ومــن هــذا المألوف‪ّ ،‬‬
‫الصــوت‬
‫صدى شائخ‪ ،‬تنزاح صفة «السّ فيرة إلى النّجوم» و«جارة القمر»‬ ‫ً‬ ‫رجع‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫الطبيعة وتحوَّل إلى مجرّد‬
‫األرضي المتمثّل في السّ ماء‪ ،‬بمعنى المضاد ّ‪ ،‬وتجاور الضوء كصيغة‬ ‫ّ‬ ‫إلى ما ي ُقابل المحسوس‬
‫ّاللي لدنس األرض ورتابتها‪.‬‬ ‫بكل ما يشتمل عليه الحقل الد‬ ‫ّ‬ ‫متعالية عن العتمة‬
‫ّ‬

‫كذات صوتي ّة تُخاطب الكينونة‬


‫ٍ‬ ‫من هذا االنتقال عبر األرضي إلى السّ ماوي‪ ،‬تح ّ‬
‫ققت فرادة فيروز‬
‫عد تســتجيب أو تنفعل مع الرّتابــة الغنائي ّة المقيتة النّاتجــة عن ُ‬
‫المحاكاة‬ ‫التــي خمــدت‪ ،‬ولــم َت ُ‬

‫ّ‬
‫للطبيعة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫المستنفذة‬

‫جدلي ّة التبا ُعد واالقتراب في إبداع األغنية لدى فيروز‬


‫تمكنت فيروز في ّ‬
‫كل أغنية لها من تحقيق امتداد ٍ ُمتواصل ألدائها‪ ،‬وكأنّها تصوغ زمناً غنائيّاً‬ ‫ّ‬ ‫لقد‬

‫العود على البدء‪ .‬األساس في هذا االنسياب هو بناء‬ ‫ُّ‬


‫بالتقطع أو َ‬ ‫يتمي ّز باالنسياب والتوا ُرد وليس‬
‫ّ‬
‫الشــاملة من خالل الوجدان‬ ‫عام من األحاســيس ّ‬
‫الصلبة والمتداخلة مهمّتها بلوغ اآلدمي ّة‬ ‫جســر ٍ ّ‬
‫المفضــي إلــى العقــل العاطفي وإلــى العا َلم المحجوب الــذي يتعذّر بلوغه بالعقــل المحض أو‬
‫ُ‬

‫بصوت‬
‫ِ‬ ‫بالصوت المتعد ّد لتعب ّر عن هــذه اآلدمي ّة‪ ،‬فغنَّت‬
‫ّ‬ ‫ومواربــة اللّغة‪ .‬لذلك‪ ،‬تمسّ ــكت‬
‫بالحيلــة ُ‬

‫والطفلة‪ ،‬والعاشقة‪ ،‬والكادحة‪...‬صوت تعد ّى المعنى المباشر للنّسوي ّة ليرتقي إلى‬


‫ّ‬ ‫األم‪ ،‬والزّوجة‪،‬‬
‫ّ‬

‫* مُ دير مركز َ‬
‫شمال إفريقيا للسياسات‪ -‬المغرب‬

‫‪284‬‬
‫غنائي يقوم بمهمّة ُم َ‬
‫واجهة البؤس والقهر والخيانة‪ .‬وإذا‬ ‫ّ‬ ‫صوتي‬
‫ّ‬ ‫المعنى الكلّي لألنثوي ّة كخطابٍ‬
‫الفلســفي‬
‫ّ‬ ‫كانت النســوي ّة هنا تعني الذّات المغنّية (فيروز)‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن المقصود باألنثوي ّة ذلك المعنى‬

‫قاومة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫والم َ‬ ‫يؤسس رؤي ًة للعا َلم ُمفعمة باإلصرار على الكشف‬
‫ِّ‬ ‫الذي به أصبح الغناء النّسوي‬

‫ق تبا ُعد ٍ معنوي وجمالي مع الســائد الموســيقي والغنائي في البالد‬ ‫ْ‬


‫قامت هذه الرؤية على خل ِ‬
‫العربي ّة‪ ،‬بحيث لم تجعل من أدائها امتداداً للمنوال اإليقاعي واللّحني الذي مأل السّ مع العربي‬

‫ل‬
‫األخوي ْن رحباني وإحاطة نفســها بســياجٍ فاص ٍ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ولعل تركيزها على البقاء في دائرة‬ ‫زمن بروزها‪.‬‬
‫األخوي ْن والوسط الفنّي‪ ،‬قد َج َع َلها تأمن من التأثيرات ُ‬
‫المتشا ِبكة ومن اختالط‬ ‫َ‬ ‫بين عا َلم هذَي ْن‬
‫ّ‬
‫الخاص‬ ‫إبــداع َلونها الغنائي‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫نجحت في‬ ‫ْ‬ ‫االتّجاهات الموســيقي ّة التي ن‬
‫َشــطت فــي عهدها‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫ٍ‬
‫لصوت أدائي ُمنفرد يحمل ســلط ًة أبدي ّة منذ الخمســيني ّات من القرن الماضي‪ .‬من‬ ‫والتّأســيس‬

‫المختلف‪ ،‬تميُّــز أغانيها بقصر المــد ّة خروجاً عن المعهــود الزمني في األغاني‬


‫مقوّمــات أدائهــا ُ‬

‫ُ‬
‫لعمق الفكــرة الموســيقي ّة وللموضوعات الزاخرة‬ ‫العربيّــة‪ ،‬واختيــار التعابير البســيطة الحاملة‬

‫كل ما يتعلّق بمكنون الموجود اإلنساني وجعْل‬


‫َقت بشاعري ّة ٍ ثرّة ّ‬
‫المتداخِلة والمؤ ِّثرة‪ ،‬بحيث عان ْ‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫وكل ما يتّصل‬ ‫الوجــود أصــل بنائها للفكرة وهي تُفلســف غنائيّاً الحبّ والوطن والقهــر والقلق‬

‫سها مع االستثناء َج َع َل منها تقف في مبعدة‬ ‫ُ‬ ‫باإلنســان من أحاســيس وأحالم ونكبات‪ .‬إ ّ‬
‫ن تناف َ‬
‫مــن ُمخالطة اآلخرين‪ ،‬فضربت من حولها ســياجاً غير شــ ّ‬
‫فاف يحجب حضورهــا الماد ّي وتفاصيل‬

‫حياتها‪ ،‬حتّى كاد أن يتصوّرها اآلخر المأســور بجوهرها كالكائن السّ ــماوي الذي ال ي َ‬
‫ُدرك منه إال ّ‬
‫والمبعثرة بطاق ِة الكينونة المح ّ‬
‫فزة على البقاء على‬ ‫ُ‬ ‫صوته العجائبي‪ ،‬يلحم األحاسيس المنهارة‬

‫الرّغم من االنهيارات المريعة التي يعيشها الداّخل العربي فرداً وجماعات‪ .‬ال ي ُعتبر هذا السّ ياج‬

‫المتعالية‪ ،‬وإنّما‬
‫هالة شــكلي ّة تضفي على ذات فيروز نوعاً من القدســي ّة أو نوعاً من «الد ّينونة» ُ‬
‫شــكال ً من التّباعد أو العزلة بحثاً عن السّ ــكينة الســتكناه الجوهر الفنّي الخفي‪ ،‬الذي ال يتأتّى ّ‬
‫إاّل‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫وتقصي المعاني‬ ‫ستنزفة للتأمُّل‬ ‫الضروري ّة إزاء مظاهر اليومي وشــكلي ّاته ُ‬
‫الم‬ ‫ق المســافات ّ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫بخل ِ‬
‫ُ‬
‫المتمنّعــة‪ .‬رب ّمــا هــذا التّباعــد هو مــا َج َع َل من صوتهــا منفرداً في األســماع ال تُخطئــه األذن‪،‬‬‫ُ‬
‫ْ‬
‫علت من نبراته اســتثنائي ّة مائزة لم تشــب ْها ضوضاء األصوات المكرورة‪،‬‬‫ألنّه وليد العزلة التي َج‬

‫ن ارتباطها بالثّنائي‬
‫عــام‪ .‬إ ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫التخاطب اليومــي التي صارت نبراته مجــرّد صخبٍ‬ ‫الغارقــة فــي رتابــة‬

‫عاصي ومنصور الرحباني وعيشــها بينهما أكثر الوقت في اإلســتديو‪ ،‬كو ََّن أمامها معنى الوجود‬

‫‪285‬‬
‫ينفك عن الزّمن الفنّي الــذي بات قدرها‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬ ‫فاعتبرت حضورها الوجــودي ال‬
‫َ‬ ‫الــذي ينبغــي لها‪،‬‬
‫حضور في نظرها مقد َّس ُ‬
‫ومرتبط باإليمان‪ ،‬يمنعها من الوقوع في خطيئة مباشــرة؛ أي محيط‬
‫ّ‬
‫بكل ما‬ ‫ّ‬
‫الشــخصي ّة‬ ‫جاهدة النّفس بالتعب ُّد للغناء وبه‪ ،‬كوَّن هذه‬
‫َ‬ ‫غير فنّي وغنائي‪ .‬إ ّ‬
‫ن اختيارها ُ‬
‫لم‬

‫ق ذاتي‪ .‬وإذا كان ابنها زيــاد ي ُرجِ ع بعضاً من هذا الغموض إلى‬
‫ض وانغال ٍ‬
‫تنطــوي عليــه من غمو ٍ‬
‫المستعصية مع والده عاصي‪ ،‬وقد أثّرت هذه الخالفات‬
‫ُ‬ ‫وضعها النّفسي المتأزِّ م نتيجة خالفاتها‬
‫ن ذلك في اعتقادي لم ُ‬
‫يكن ســبباً مباشــراً فــي تحديد عالقاتها‬ ‫فــي رأيــه على األبنــاء كذلك‪ ،‬فإ ّ‬

‫ومكوناً أصليّاً لشــخصي ّتها الذاتي ّة والفنّي ّة‪ ،‬وإنّما حساســي ّتها الفني ّة واإلنساني ّة‬
‫ِّ‬ ‫بالعا َلم الخارجي‬

‫التي تكوّنت من داخل الفكرة الفني ّة وسط الثّنائي عاصي ومنصور‪ ،‬وهي تُباشر مختلف تفاصيل‬

‫نعت عوالِــم فيروز وخياراتها النّفســي ّة‬


‫ْ‬ ‫الزّمــن الــذي قضتــه في االشــتغال واألداء‪ ،‬هي التــي َص‬

‫والعالئقي ّة باآلخرين‪.‬‬
‫خالل هذه التّفاصيل لم ُ‬
‫تكن ترى عاصي ذلك الزّوج الذي يناوشها وي ُغايرها‪ ،‬وإنّما ذلك اإلنسان‬

‫الــذي يبنــي معها الفكرة والفنّ‪ ،‬أو الرّديف المعنوي والماد ّي الــذي ي ُحقِّ ق لها متعتها الغنائي ّة‬

‫وده ْشــتها الجمالي ّة‪ .‬وهذا ما عب َّرت عنه بنفســها وهي تغنّي «ســألوني النّاس» التي لحّنها زياد‬

‫بنزيف في المخ ّ أثناء التّحضير لمسرحي ّة‬


‫ٍ‬ ‫للتعبير عن ألمها وفداحة خسارتها إلصابة عاصي زوجها‬
‫ٍ‬
‫لســنوات خَلــت‪ .‬تقول‪:‬‬ ‫بكــت بحرقــة توقّفــه عن االســتمرار في بناء ما شــرعا فيه‬
‫«المحطــة»‪َ .‬‬
‫ّ‬

‫«سألوني عنّك يا حبيبي ‪ ...‬كتبوا المكاتيب وأخذْها الهوا‪ ...‬بيعزّ علي ّي غنّي يا حبيبي ‪...‬وألوّل مرّة‬

‫ما منكون سوا»‪.‬‬


‫مــن جهــة أخــرى ال بد ّ أن نُبرز أ ّ‬
‫ن انفتاحها على ُملحّنين آخرين مثل محمّد عبد الوه ّاب وفيلمون‬
‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬لم ُ‬
‫يكن‬ ‫َ‬ ‫وهبة وإعادة أداء جملة من أغنيات سي ّد درويش في عزّ حضورها مع‬

‫جاملة‪ ،‬وإنّما كان انفتاحاً لتعزيز الخبرة الموســيقي ّة وتنويع األداء بما‬ ‫ُ‬
‫للم َ‬ ‫انفتاحــا اجتماعيّــاً أو‬

‫والً والمشــروع الفنّي ثانياً الذي أرادته أن يكون‬


‫يجعل غناءها غناءً عربيّاً شــامال ً‪ ،‬يفيد تجربتها أ ّ‬
‫عربي فقط‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عا َلميّاً وغير‬

‫الكينونة والغناء في التجربة الموسيقي ّة لفيروز‬


‫ُشــكل الغناء والوجود لحظ َة تشــاب ٍ‬
‫ُك بين مكوّنات التعد ُّد التي يزخر بها الموجود‪ .‬فبتقاطعهما‬ ‫ِّ‬ ‫ي‬

‫تنبني الرّؤية العابرة للكينونة بإعادة تشكيلها عبر قوّة التّأويل‪ .‬فالغناء الذي يمرّ عبر الوجدان ال‬

‫‪286‬‬
‫يعتمد على حســابات العقل في إدراك الحقيقة و َتجْلِيتها‪ ،‬وإنّما ُ‬
‫بمســاءلة األحاسيس العميقة‬
‫ّ‬
‫الشاعر أو المغنّي‬ ‫وتأمُّلها‪ .‬تكون هذه األحاسيس التي ال يقدر على إدراكها وإعادة صياغتها ّ‬
‫إاّل‬

‫الفــذّ‪ ،‬رديفــة للعقــل الباطن أو العقــل المحض في مختلف عمليّــات إدراكــه وتأويالته للتعد ّد‬

‫والغموض بحثاً عن الحقيقة ذاتها‪.‬‬

‫يؤصل لمشــروع إعادة‬


‫ِّ‬ ‫هر الوجــدان ُ‬
‫المحايِــث للعقل‪،‬‬ ‫مــن هنــا يكون غنــاء فيروز مدخــا ً لتجو ُ‬

‫ســها االســتعمار والقبح والبشــاعات‪ ،‬كما تعب ّر عنه أغنية « زهرة‬


‫بناء اآلدمي ّة العربي ّة التي َط َم َ‬
‫ن غناء فيروز بقدر ما يبعث دفقاً صوفيّاً جماليّاً ي ُحرّر النّداءات المغلولة في الدواخل‬
‫المدائن»‪ .‬إ ّ‬

‫المغلقة‪ ،‬فإنّــه يخلق مقابال ً لما يصير به العقــل عقال ً فقط‪ ،‬هذا‬
‫ويكشــف عــن غموض األشــياء ُ‬

‫المقابــل هــو مــا يصير به الوجــدان أصليّاً كجزءٍ أساســي من اآلدميّــة‪ .‬إ ّ‬
‫ن قــوة أداء فيروز عبر‬ ‫ُ‬
‫ْ‬
‫بوضعها وسطاً للتفا ُعل‬ ‫الصعبة التي قليال ً ما تتح ّ‬
‫قق‪ ،‬وذلك‬ ‫صوتها المتفرّد َخ َل َق تلك «البي ْنونة» ّ‬

‫و الوجــدان‪ .‬وهذا ما يقترب في أغنية «ســهر اللّيالي» كما‬


‫والتّعاي ُــش بين كبرياء العقل وســم ّ‬
‫المي‪ ،‬وجد ّي صار‬
‫ّ‬ ‫ي ســكت ّ‬
‫الطاحون ع كتف‬ ‫يمثّله المقطع التّالي‪ »:‬وراحت األي ّام وشــو ّ‬
‫ي شــو ّ‬
‫قــق التجلّي اإلبداعي متميّــزاً وتتجد ّد حركة‬
‫وفي ‪ .»...‬هنا يتح ّ‬
‫ّ‬ ‫طاحــون الذّكريــات يطحن شــمس‬
‫قي والتفا ُعل بين الصوت والكلمات وبين إرادة تأويل المتل ّ‬
‫قي لها وهو ينخرط في الطقس‬ ‫التل ّ‬

‫الغنائي بحثاً عن الحرّي ّة والحقيقة‪.‬‬


‫ّ‬
‫تنكشــف العوالِم التخييلي ّة‪ ،‬وينتقل الظ ّ‬
‫ن بالحدس إلى اليقين‬ ‫وفقاً لهذه الحيوي ّة ّ‬
‫الطقوســي ّة‬
‫بالحواس‪ ،‬وتُضاء من خاللها الكينونة‪ .‬أل ّ‬
‫ن ســحر األغنية هنا ي ُثير حيوي ّة أســئلة الوجود‪ ،‬و َيجعل‬ ‫ّ‬
‫معطلة بســبب ُمجاوزة السّ أم الذي فرضه اليومي المتكلّس وحضور التخييل الذي‬
‫ّ‬ ‫التوتّر لحظ ًة‬
‫ّ‬
‫بالطريقة التي‬ ‫يمنحه األداء الغنائي المائز المح ِّلق في عوالِم الجمال والبهاء‪ .‬هنا يلعب الغناء‪،‬‬

‫ددة لعتمــة األنفاق المتعد ّدة التي تســيطر على حركة العا َلم‬ ‫تؤد ّيــه فيروز‪ ،‬دور االســتنارة ُ‬
‫المب ِّ‬
‫المتّسم بالسّ قم والقرف‪.‬‬
‫ّ‬
‫للصوت وال إلى‬ ‫ن العمق األصلي الذي تؤسّ ســه أغاني فيروز‪ ،‬ال ينتســب إلى التّناهي الحسّ ــي‬
‫إ ّ‬

‫الشــك والتّساؤل‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫بوضعه الوجود الحسّ ــي والمعنوي َموضع‬ ‫َشــي ّؤ المعنوي للكلمات‪ ،‬وإنّما‬
‫الت َ‬
‫واســتفزازه لرتابة اإلدراك والتل ّ‬
‫قي‪ ،‬ومن ثمّ تغيير اإلحســاس بما يتالءم مع العقل والحكمة‬
‫ُ‬
‫المشار إليها أعاله‪.‬‬ ‫«البي ْنونة»‬
‫َ‬ ‫وبلوغ الوعي الباطن من جهة‬

‫‪287‬‬
‫لمّــا نُن ْ ِصــت إلى فيروز وهي تُغنّي «أغني ّة شــادي» نلحظها في المقطع الموالي ‪ -‬الذي يقول‪« :‬‬
‫ومن َيوْمِ تْها ما عِدت شــفته ضاع شــادي‪ ،‬والثّلج إجا وراح الثّلج عشــرين مرّة إجا وراح الثّلج وأنا‬

‫ل مكثّــف ي ِّ‬
‫ُحرر نوازع الفرد‬ ‫صــرت أكبر وشــادي بعدو صغي َّر َعم يلعــب عالثّلج»‪ -‬بصدد إنتاج تخيي ٍ‬
‫قي) للتحرُّر من االنغالق الذاتي الذي فرضه النظام اليومي القهري‪ ،‬ويحثّه على اكتشــاف‬
‫(المتل ّ‬
‫ُ‬

‫«المعقول» المغلوط الذي ترسّ خ لديهم بتسليط األضواء على جوانبه األكثر إعتاماً‪.‬‬
‫نفســها كبرهة نجاة من تناهي المعيش‪ ،‬ومن تســلُّط الذات القابلة للتشــي ّؤ‬
‫َ‬ ‫تُقد ّم أغاني فيروز‬
‫الخفي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الصوت الغنائي ُمفعماً بحمولة الواقع‬
‫رتكنة إلى الخمول الوجداني‪ .‬وهاهنا يكون ّ‬ ‫ُ‬
‫والم ِ‬
‫ُ‬
‫مصراعيه‪ ،‬وهو األفق الذي لم يشوّهه‬
‫َ‬ ‫يتحسّ س األلم الفردي والجماعي فاتحاً باب الحُلم على‬
‫فساد اليومي وال مكان فيه للتسلّط والقهر‪.‬‬
‫ّ‬
‫وحث‬ ‫ارتباط من أجــل التّجاوُز‬
‫ٌ‬ ‫ن ارتبــاط فيــروز بالواقع العربي النّفســي الممــزّق واألليم هو‬
‫إ ّ‬
‫الكينونة الخامدة على التحرُّك والتحوُّل انســجاماً مع حتمي ّة تغيير العا َلم‪ ،‬ومنطق قوّة الوجود‬
‫السّ ــاعية إلــى السّ ــعادة ّ‬
‫الاّلنهائي ّة‪ .‬من هنــا يتقاطع غناء فيروز مع العقل‪ ،‬ألنّــه ينحو إلى محب ّة‬
‫ُ‬
‫العقل ي ُدرك الحكمة بســيطرته على‬ ‫الحكمة‪ ،‬وهذا ما تبديه أغانيها الكثيرة عن الحبّ ‪ .‬فإذا كان‬
‫َ‬
‫دليل‬ ‫ُؤول المعطى العقلي للوجود ويمنحه‬ ‫الحواس ويجعل ّ‬
‫كل ما هو واقعي عقليّاً‪ ،‬فالغناء ي ِّ‬ ‫ّ‬
‫الحــواس وتمتلئ بها الذّائقــة المقوّي ّة للكينونــة وإدراك العا َلم بما‬
‫ّ‬ ‫الحكمــة التــي تتقوَّم بها‬
‫العقلي ليس أساساً وحيداً‬
‫ّ‬ ‫يجعل مكوّناته متجانســة ومنسجمة البناء‪ .‬وهذا يعني أ ّ‬
‫ن اإلمكان‬
‫المط َلــق لماهي ّته الموضوعي ّة‪ .‬ليس العقــل إذن ّ‬
‫إاّل متاحاً منطقيّاً إلدراك‬ ‫المكــون ُ‬
‫ِّ‬ ‫للوجــود‪ ،‬أو‬
‫الحواس في عالقة ٍ‬
‫ّ‬ ‫جهة ما‪ ،‬فقط‪ ،‬من الكينونة‪ .‬فإمكاني ّة اإلدراك الكلّي ال تُتاح إال ّ بحضور تجربة‬
‫مزدوجــة بالعقــل‪ .‬وهذا ما تُحدثه فينا األغاني الخالدة‪ ،‬ومنها أغاني فيروز لمّا تجعلنا ن ُ ّ‬
‫حس أنّنا‬
‫نخوض تجربة الوحدة بين الحد َّين؛ العقلي والعاطفي‪.‬‬
‫ــأو‪ ،‬نظراً إلى التعالُق الهرمنوطيقي ما بين األداء‬
‫الش َ‬‫ّ‬ ‫إذن‪ ،‬اســتطاعت أغاني فيروز أن تصل هذا‬
‫الاّلمتوقَّع‪ ،‬ألنّها تُحاول‬
‫والكلمة والموســيقى‪ .‬فأصبحت أغنيتها انكشــافاً لتجربة االنفتاح على ّ‬

‫كل ما هو ُمتناه‪ ،‬سواء أكان عقليّاً أم حسّ يّاً‪ ،‬وتحثّها على خَوض مغامرة االشتباك‬
‫تحرير األنا من ّ‬
‫بالوجود ّ‬
‫الاّلمتناهي‪.‬‬
‫إنّهــا تختبــ ُر قدرتَنا على التفا ُعل مع احتماالتها ومدى رغبتنا في إزاحة العوائق الكامنة في وعينا‬
‫الباطني الذي َج َع َلنا نُدرك خطأً أ ّ‬
‫ن العا َلم المعيش هو العا َلم الواقعي‪ .‬الهدف من حفزها لهذه‬

‫‪288‬‬
‫الرّغبة هو إحداث توتّر حيوي في داخلنا يجعلنا نلعب َدور الكائن الوظيفي في اقتحام ُمنغلقات‬

‫العا َلم وإتاحة السّ بيل إلضاءة الكينونة‪.‬‬

‫الحــواس وجوهري ّتها في أداء مهمّات اإلضاءة التي ال‬


‫ّ‬ ‫ْه َن ًة على قدرة‬
‫إذن‪ ،‬تبقــى أغانــي فيروز بر َ‬
‫يقــدر عليهــا العقل المحض‪ ،‬ألنّها نجحت في تحقيق ذلك التّواصــل ّ‬
‫الصعب عبر منظومة صوتي ّة‬
‫ْ‬
‫وفض ِح‬ ‫عد تكتفــي بتعرية هذا العا َلم‬
‫المبنــي في اإلدراك القبلي‪ .‬لم ت ُ‬
‫ّ‬ ‫خل ْ َ‬
‫خ َلــت العا َلــم الوضعي‬

‫الممكن الذي يتجاوز قدراتنا على‬ ‫ٍ‬


‫توازنات جمالي ّة بين ُ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫الهشــة‪ ،‬وإنّما َ‬ ‫ُمفارقاته‬
‫ســعت إلى خل ِ‬
‫المقاومــة وإمكاني ّاتنــا في بناء الفعل‪ ،‬وبين المســتحيل المرهون بقوّة إرادتنا في التمسُّ ــك‬

‫رؤى اســتبصاري ّة لتجاوُز‬


‫ً‬ ‫ن هــذه األغاني تتغي ّا بلْــور َة‬
‫بتجلّيــات الحقيقــة المحجوبــة‪ .‬هذا يعني أ ّ‬

‫الواقع بدءاً من تفجير المكنون العاطفي عبر لغة ٍ بسيطة واضحة وعميقة وإتاحة فرصة االنفتاح‬
‫ُ‬
‫الصوت وصوت المعنى‪.‬‬ ‫ق أوسع عبر صورة ّ‬ ‫على أف ٍ‬
‫ن فيــروز ال تعتــرف بالوجــود بمــا هو موجــود إال ّ عبر الغنــاء «أعطني النّاي وغنّي فالغنا ســرّ‬
‫كأ ّ‬

‫الوجــود‪ ،».....‬بــل الوجــود عابر ألنّه فانٍ‪ ،‬بينما الموســيقى أبدي ّة النهائي ّة‪ .‬مــن ثمّة‪ ،‬فهي تُمثّل‬

‫اليقين والوثوقي ّة على خالف الوجود الذي هو ظنّي ألنّه متقلّب وال يستقيم تناغمه وانسجامه‬
‫ٌ‬
‫وأصل مــن أصوله‪ .‬إنّه‬ ‫الد ّاخلــي ّ‬
‫إاّل بمــا يتقــوَّم بــه الغناء‪ .‬لذلك‪ ،‬فالغناء ســابق علــى الموجود‬

‫ن الذّات‬ ‫اللّغــة األولى التي يســكنها الموجود وليــس العكس‪ .‬أمّا أ ّ‬


‫ن الموجود ظنّــي‪ ،‬فذلك أل ّ‬
‫ّ‬
‫ويتخصص بكينونتهــا‪ ،‬على خالف الغناء الذي‬ ‫المرتبطة به ليســت مســتقلّة عنــه‪ ،‬فهو يتعي ّن بها‬
‫هــو عبــارة عــن فكرة وصــوت‪ ،‬ال يرتهن تح ّ‬
‫ققه بوجــود الموجــود وموضوعي ّته‪ .‬وهنــا نالحظ أ ّ‬
‫ن‬

‫ي تتقاطع فيه الــذوات والموضوعات وال تجد لها نهاية‪ .‬فعندما تغنّي‬
‫الغنــاء لــدى فيروز امتداد ٌّ‬
‫ّ‬
‫والرجل‬ ‫مثال‪ ،‬فهو حبّ ممتد ٌّ ليســت لــه بداية ونهاية نهائيّتَان‪ ،‬تغنّي عن حــبّ المرأة‬
‫ً‬ ‫عــن الحــبّ‬

‫وطوالني ال يتــمّ فيه التّمسُّ ــك بموضو ٍ‬


‫ع ثابت‬ ‫ٍّ‬ ‫عرضاني‬
‫ٍّ‬ ‫ّ‬
‫والطفــل واألرض والعقيــدة علــى نحــو ٍ‬
‫لمعنى غنائي ُمطلق للوجدان‪ ،‬تكون فيه داللة الحبّ ُمط َلقة ال يحد ّها‬
‫ً‬ ‫عن الحبّ ‪ .‬كأنّها تؤسّ ــس‬

‫ضابط الحسّ ي ّة الخارجي ّة وال ي ُقي ّدها الوعي الباطني‪ .‬إذن‪ ،‬يبقى هذا المعنى الغنائي صيروريّاً غير‬
‫ّ‬
‫المصادرات التي تجعل من‬ ‫بالمحاكاة المكرورة والرّتيبة‪ ،‬لينتج مؤثــرات انفعالي ّة ت ُ ِّ‬
‫ذوب ُ‬ ‫ُ‬ ‫مرتبــط‬

‫الغناء ال ي ُعيد إنتاج الصور واألصوات باعتبارها إحساسات‪ ،‬وإنّما بوصفها خطاباً للكينونة وإضاء ًة‬

‫للعتمات التي تحجب الحقيقة‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫ّ‬ ‫ق قوّة ٍ ُمضاد ّة لِما‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ظل‬ ‫وعليه‪ ،‬تتّجه أغاني فيروز إلى ُمعا َلجة األحاسيس بتشذيبها وحشدها لخل ِ‬
‫ّ‬
‫والاّلمعنى‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫ب باطن األفكار والمشــاعر ويجعل الموجود ســلبيّاً يتكوّم في التشــي ّؤ‬‫ي َُغ ِّر ُ‬

‫نــأت أغانيهــا عن األشــياء التي قيلت واألصوات التي ترد ّدت‪ ،‬فانفلتت مــن رقابة اليومي لتُصبح‬

‫بقنــوات ذهنيّــة‪ ،‬وليــس العكس كمــا هو حاصل مــع الخطاب الفكري‪ .‬إنّنا نشــعر‬
‫ٍ‬ ‫أداءً حسّ ــيّاً‬

‫ونحــن نُتابــع أغنية فيــروز أنّها تُخاطب الوجود اإلنســاني‪ ،‬ال بما هو ماهيّــة‪ ،‬لك ْ‬
‫ن من حيث هو‬
‫َ‬
‫السؤال عن اإلنسان كما هو موجود بالسّ ؤال عن‬ ‫كينونة وصيرورة‪ .‬لذلك فإ ّ‬
‫ن صوتها َيستبدل‬

‫حقيقة وجوده‪ .‬صوت ال ي ُخاطب العقل لكي يحشــره في البحث عن منطق الوجود وعِلله‪ ،‬وإنّما‬

‫الحــس باعتبار اإلنســان كائناً لغويّاً وصوتيّــاً يحتاج دوماً إلــى إدراك كينونته باعتبارها‬
‫ّ‬ ‫ي ُخاطــب‬
‫حقيقــة موجــودة في الكون‪ .‬وهنا يكمن تمي ُّز فيروز‪ ،‬والســي ّما بهوي ّة صوتهــا ونبراته ُ‬
‫المزلزلة‬
‫التي تدفعنا عبر الحلم إلى االنتقال من لحظة الحجب واإلخفاء إلى لحظة اإلبانة والكشــف‪ .‬إ ّ‬
‫ن‬

‫انجذابنــا إليــه زمن حدوثه يجعلنا نبتكر خالله الرموز والتوقّعات ونســأل عبــر تفا ُعلنا العاطفي‬
‫ّ‬
‫والصوت في‬ ‫دت اللّغة‬
‫معــه عن الحقيقة وعن الجرح الذي نحسّ ــه وال نعلــم َموضعه‪ .‬كلّما اجته َ‬
‫تحويــل ُ‬
‫المدركات إلى محسوســات‪ ،‬تحوَّل الغناء نداءً إلضــاءة الكينونة‪ .‬وبه ي ُصبح إصغاؤنا إلى‬
‫ّ‬
‫الشــعر واألغنيــة‪ ،‬بالكمون‬ ‫األغنيــة إصغــاءً إلــى الوجود‪ .‬وهذا يعنــي أ ّ‬
‫ن الحقيقة موجودة في‬
‫والتح ّ‬
‫قق‪ ،‬ألنّهما األكثر قدرة على ْ‬
‫رص ِد تجربة الوجود‪ .‬وهذا ال يعني كما تكشفه لنا أغاني فيروز‬

‫ن األغنية جميلة في حد ّ ذاتها‪ ،‬وإنّما ألنّها تنتج الجمال والبهاء وتســعى إلى اكتشــاف الحقيقة‬
‫أ ّ‬

‫بوصفها جماالً َ‬
‫بعينه ولذاته‪.‬‬

‫بتتب ُّعنــا لتفاصيل أغاني فيروز‪ ،‬نكتشــف أنّها بصوتها تُعــرّي اللّغة والرّموز التي تطمس الوجود‪،‬‬

‫دد أســماءه وتنقض اللّغة السّ ــائدة‬


‫المبتذَل والسّ ــائد الذي زوَّر الحقائق‪ ،‬وإنّما تُب ِّ‬
‫ُ‬ ‫فال تســمّي‬
‫ّ‬
‫ليتكشف الوعي من‬ ‫ٍ‬
‫وهيئات لماهي ّة الوجود‬ ‫انتصاراً لماهي ّة اللّغة المحجوبة‪ .‬إنّها تصوغ اشكاالً‬

‫تلقاء نفسه من دون أن يتدخّل العقل‪ .‬بذلك‪ ،‬يحدث التّنبيه إلى معضلة االستالب أو االستسالم‬
‫ّ‬
‫وتمكن من إخراج العاطفة من‬ ‫ٍ‬
‫كنظام يومي أصبحت له لغته وصوته‪،‬‬ ‫إلى نظام الحياة الروتيني ّة‬

‫أصولها لتسقط في التشتُّت والتشوُّه‪.‬‬

‫من هذه الجهة فقط‪ ،‬ال يســتقيم التفكير العقلي واإلدراك الماد ّي لألشــياء إال ّ بالرّجوع بحسب‬
‫ّ‬
‫الشعري ّة والصوت الغنائي‬ ‫ي األصيل‪ .‬إ ّ‬
‫ن الصورة‬ ‫الفيلســوف األلماني هايدغر إلى المنبع الشــعر ّ‬

‫‪290‬‬
‫و ًة تخاطبي ّة عبر الوجدان الســترجاع األصل الوجودي الذي َ‬
‫تاه في صرامة‬ ‫ّ‬
‫يشــكالن ق ّ‬ ‫في تآلفهما‬
‫ّ‬
‫بالضبط ي ُمكن أن نقرأ أداء‬ ‫العقل‪ ،‬فانطمســت الكينونة وغابت أشــياء كثيرة من الحقيقة‪ .‬هنا‬
‫ُ‬
‫بالمحاوالت اإلبداعي ّة العربي ّة واإلنســاني ّة التي َجعلت من مهامّها القصوى تنوير‬ ‫فيروز ونُجاوره‬
‫ن َمن ل َّ‬
‫قبها « السّ ــفيرة إلــى النّجوم» أو «القمر»‬ ‫العا َلــم وإضــاءة الحقيقة‪ .‬وبناءً عليه‪ ،‬نَعتبر أ ّ‬

‫المكون األرضي أو‬


‫ِّ‬ ‫ن االرتقاء إلى األجرام السّ ماوي ّة عبر اإلبداع ليس تشكيكاً في‬ ‫كان ُمح ّ‬
‫قاً‪ ،‬أل ّ‬

‫تنصال من َدنَسه‪ ،‬وإنّما للتّعبير مجازيّاً عن أ ّ‬


‫ن الحقيقة توجد هناك وليس هنا‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫‪291‬‬
‫العويط*‬
‫د‪ .‬عقل َ‬

‫المناطق التي ي ُغام ُر في‬


‫ِ‬ ‫واستنطاق‬
‫ِ‬ ‫صوت فيروز‪ ،‬طبقا ِتهِ‪ ،‬مرات ِبهِ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫لن أتبارى مع أحد ٍ في دراس ِة‬
‫كنه‬
‫َ‬ ‫وأسرارها‪ ،‬والمدركةُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫غوامضها‬ ‫الذهاب إليها؛ حيث بوصلت ُ ُه موهبت ُ ُه البالغةُ ذراها‪ ،‬والوالجةُ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫الصوت‪،‬‬ ‫الشعر الذي يغنّيه هذا‬
‫ِ‬ ‫تحليل‬
‫ِ‬ ‫المضني ِة للفؤاد والعقل‪ .‬لن أتبارى مع أحد ٍ في‬
‫فلسفتِها ُ‬
‫ُ‬
‫ويشــغف بها‪ .‬لن أتبارى مع أحدٍ‪،‬‬ ‫المواضيع والمعاني التي تشــغل ُ ُه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫النقاب عن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كشــف‬ ‫وال في‬
‫ُ‬
‫تعشق ُه‪ ،‬فيتعاشقان‬ ‫ُ‬
‫الصوت‪ ،‬والتي هي‬ ‫ُ‬
‫يعشقها هذا‬ ‫أيضاً وأيضاً‪ ،‬في ُمساءل ِة الموسيقى التي‬
‫جوهرهِ ُمعت ِبراً إي ّاه‪ ،‬في كينونتي الشعري ّة واإلنساني ّة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بتلقي‬ ‫ُ‬
‫تعاشــقاً وتعشــيقاً‪ ،‬بل ســأكتفي‬
‫ِ‬
‫بالحواس جميعها‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫َشــع ُر بالرؤيا‪ ،‬وصوتاً ي ُرى‬
‫َ‬ ‫األزل واألبد‪ ،‬وضرب َة نرد ٍ تُست‬
‫ِ‬ ‫نســائم‬
‫ِ‬ ‫رحيقاً بنكه ِة‬
‫ُ‬
‫يسبقها‪ ،‬ويلي‪.‬‬ ‫وبما‬

‫ُ‬
‫أغمضت‪ .‬وإنّي‬ ‫بعيني‪ .‬وإنّــي أرا ُه إذا‬ ‫ٌ‬
‫صوت هو صوت‪ .‬لكنّــي أرا ُه‬ ‫ٌ‬
‫صــوت هو‬ ‫ُ‬
‫أقــول مــا يأتي‪ :‬هو‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫وفرغت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وامتألت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واغتبطت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وشــقيت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واســتطعمت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وشــممت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ســت‪،‬‬ ‫ف‬ ‫ُ‬
‫لمســت‪ ،‬وتن ّ‬ ‫أرا ُه إذا‬
‫وحلمت‪ .‬وإنّي أرا ُه في صعودي ونزولي‪ ،‬في يســاري ويميني‪ ،‬في‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وأحببت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واجتهدت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وجاهدت‪،‬‬
‫أناي‬ ‫ُ‬
‫أسأل‪ :‬أهو‬ ‫ُ‬
‫أكون أرا ُه؟ لذا‬ ‫ُ‬
‫أكون إي ّا ُه‪ ،‬وكيف ال‬ ‫شرقي وغربي‪ ،‬في تيهي وانتباهي‪ .‬فكيف ال‬
‫َ‬
‫ٌ‬
‫حلم أم‬ ‫ٌ‬
‫أامرأة هو‪ ،‬أم جســد ٌ أم‬ ‫ٌ‬
‫مرآة أم رؤيا؟‬ ‫ٌ‬
‫كائن أم‬ ‫ٌ‬
‫صوت هو‪ ،‬أم‬ ‫مــن فــرط مــا هو أنا‪ ،‬أم‬
‫لمنطق السؤال؟‬
‫ِ‬ ‫العقل بل فقط‬
‫ِ‬ ‫لمنطق‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يخضع‬ ‫فلسفي ال‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫كيان‬

‫*شاعر وكاتب لبناني‬

‫‪292‬‬
‫ُ‬
‫أعرف‬ ‫الجواب‪ ،‬عندما يتعل ّ ُ‬
‫ق بفيروز‪ .‬بصوت فيروز‪ .‬إذ ال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الســؤال وكم ي ُعييني‬ ‫ُعجزني هذا‬‫ُ‬ ‫وكم ي‬
‫ُ ْ ُ‬ ‫ْ ُ‬
‫ن أقن َِع نفسي بجواب‪ .‬كما ال أريد أن أقن َِع نفسي بجواب‪.‬‬ ‫أ‬
‫جاهل‪ .‬فكيف أســعى وراء جواب؟! وكيف أســعى إلى‬ ‫ٌ‬ ‫ن ألنّي‬ ‫ٌ‬
‫جاهل‪ .‬وإنّي ممت ٌّ‬ ‫ُ‬
‫قلــت دائمــاً إنّي‬
‫معرفة ٍ هي تبقى دون المعرفة؟!‬
‫يشــرح‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫يعرف أ ْ‬
‫ن‬ ‫ُالم ألنّه ال‬ ‫ُ‬
‫يعرف؟ هل ي ُ‬ ‫ٌ‬
‫امرؤ ألنّه ال‬ ‫ح المســأل َة على الوجه اآلتي‪ :‬هل ي ُ‬
‫ُالم‬ ‫أُوض ُ‬
‫ٌ‬
‫نقصان يليه‬ ‫ن المعرفــة‬ ‫ٌ‬
‫عارف أ ّ‬ ‫ُــام ألنّه‬
‫ُ‬ ‫فلســفي كهذا اإلشــكال؟ هل ي‬ ‫كلّما و ِ‬
‫ُض َع في إشــكا ٍ‬
‫ل‬
‫ٍّ‬
‫ٌ‬
‫نقصان تلو نقصان؟!‬
‫لصوت فيروز الذي هــو تعبي ٌر عن عجزي‬
‫ِ‬ ‫أرجــو أ ْ‬
‫ن ي ُؤخَــذ كالمــي باعتباره مقارب ًة ‪ -‬بل مالمســ ًة ‪-‬‬
‫وجهلي‪ .‬بل هو عجزي وجهلي‪.‬‬
‫المطر وكيفي ّ ِة استيال ِئ ِه على روحي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫تفسير‬
‫ِ‬ ‫كعجزي عن‬
‫الكلمات ومدى استبدادِها بي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ألسرار‬
‫ِ‬ ‫كجهلي‬
‫كصمتي حين ال أجد ُ معنًى ِّ‬
‫ألي كالم‪.‬‬
‫كصمتي حين ال أعث ُر على ِّ‬
‫أي كالم‪.‬‬
‫ُ‬
‫الكالم‪.‬‬ ‫كصمتي الذي هو‬
‫ُ‬
‫خادمها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أمتلئ بها‪ ،‬وأنا‬ ‫كاللّغ ِة حين‬
‫كاللّغة التي تصي ُرني‪ ،‬فأصي ُرها‪.‬‬
‫ل وذهول‪ ،‬وهي‬ ‫ُ‬
‫مســألة انذهــا ٍ‬ ‫انفعالي‪ .‬هي فقط‬ ‫عقالنــي أو‬ ‫ُ‬
‫المســألة مســأل َة جــوابٍ‬ ‫ليســت‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫تحت عبءِ ّ‬
‫الاّلمفسَّ ر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫صوفي لهما‪ ،‬خشي َة الوقوع في تفسير ٍ ينوءُ بذا ِتهِ‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫استسالم‬
‫ٌّ‬
‫يكون عاجزاً وممتلئاً‬
‫َ‬ ‫أكثر من أ ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يغبطني الشــعو ُر بالعجز‪ .‬ي ُشــعِ ُرني باالمتالء‪ .‬ماذا يريد شــاع ٌر‬
‫ِ‬
‫نفسهِ؟‬ ‫اآلن‬
‫ِ‬ ‫في‬
‫العاجز عن التفسير؟‬
‫ِ‬ ‫الكلمات بامتالئِها‬
‫ِ‬ ‫شعور‬
‫َ‬ ‫والشع ُر‪ ،‬ما هو الشع ُر؟ أليس‬
‫متَه‬ ‫ٌ‬
‫بالغ مه ّ‬ ‫إليك أنّــه‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫والعجــز عــن التفســير‪ ،‬أليس هو ذروة التفســير‪ ،‬وخصوصاً عندمــا يوحي‬
‫الاّلجدوى واالمتالء؟‬ ‫صحن ّ‬
‫ِ‬ ‫الفلسفي في‬ ‫القصوى‪ ،‬المتلخّص َة في ارتما ِئ ِه‬
‫ِّ‬
‫يالمس المعنى‪ ،‬رأيت ُ ُه نافراً من القرب‪ ،‬نائياً عن المعنى‪.‬‬
‫َ‬ ‫يقترب‪ ،‬كلّما شاءَ أ ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫الصوت أ ْ‬ ‫كلّما شاءَ‬
‫ُ‬
‫يلتفت إلى اتّكاءٍ ها هنا أو ها هناك؟‬ ‫َ‬
‫داخل ذا ِتهِ‪ ،‬ال‬ ‫أألنّه ُممعِ ٌ‬
‫ن في السَّ فَ ِر‬
‫أفهم صوت ِ‬
‫َك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫من سذاجتي‪ ،‬أعتقد ُ أنّي‬
‫أفهم هذا الصوت‪.‬‬
‫َ‬ ‫من سذاجتي‪ ،‬أعتقد ُ أنّي لن‬
‫ي امتالء‪.‬‬
‫ي نقصانٍ‪ .‬وأ ّ‬ ‫ٌ‬
‫ممتلئ‪ .‬وأ ّ‬ ‫ٌ‬
‫ناقص‪ .‬في الحالتَي ْن‪ ،‬أنا‬ ‫في الحالتَين‪ ،‬أنا‬

‫‪293‬‬
‫ٍ‬
‫إحساس‬ ‫أسير االرتباك‪ ،‬ورهينَه‪ ،‬لك ْ‬
‫ن من دون‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫يظل‬ ‫ن‬ ‫ٍ‬
‫الرتباك كهذا‪ ،‬أ ْ‬ ‫َ‬
‫األمثل‬ ‫َّ‬
‫الحل‬ ‫يتراءى لي أ ّ‬
‫ن‬
‫بعبءٍ‪ ،‬وال بعيبٍ أو بذنب‪.‬‬
‫ل لذّة ٍ تنتشــي بكينونتِها الخافي ِة على العقل‪ُ ،‬‬
‫المضني ِة للعقل‪ ،‬المانح ِة إي ّاه ســبباً‬ ‫ُ‬
‫مثل هذا‪ ،‬كمث ٍ‬
‫يشعر بالهزيمة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ولئاّل‬ ‫لئاّل يضطرَّ إلى الهرب‪،‬‬‫للحياد‪ّ ،‬‬

‫أمام الصوت‪ ،‬أل ّ‬


‫ن‬ ‫العقل‬ ‫ُ‬
‫هزيمة‬ ‫ُ‬
‫والهزيمة هذه‪ ،‬أهي‬ ‫ٌ‬
‫اعتراف؟‬ ‫العقل ألنّه‬ ‫ُ‬
‫هرب‬ ‫ُ‬
‫والهرب هذا‪ ،‬أهو‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لينصت ويعقل؟‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ينكفئ‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫سعادة للعقل ألنّه‬ ‫ُ‬
‫والهزيمة هما‬ ‫ُ‬
‫الهرب‬ ‫ٌ‬
‫عقل أيضاً؟ أم‬ ‫األخير هو‬
‫َ‬ ‫هذا‬
‫ُ‬
‫تحت رماد‪.‬‬ ‫َ‬ ‫جمر الصوت‪ ،‬بإخفا ِئ ِه‬ ‫َ‬ ‫لط َف‬‫نأ ّ‬ ‫ال يعنيني أ ْ‬
‫المطر هو صوت ُ ِ‬ ‫ُ‬
‫ك أيضاً‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫درك أ ّ‬
‫تمطر‪ ،‬لكي أ َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫ال يعنيني أ ْ‬
‫ِك‪ ،‬فتصي ُر هذه األشع ُ‬
‫ّة‬ ‫هها أشع ُ‬
‫ّة صوت ِ‬ ‫الشمس تند ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أقول إ ّ‬
‫ن‬ ‫الشــمس ّ‬
‫لئاّل‬ ‫ُ‬ ‫تشــرق‬
‫َ‬ ‫ال يعنيني أ ْ‬
‫ن‬
‫بالعين‪.‬‬
‫َ‬ ‫الصوتي ُّة هي األشعّة المرئي ّة‬
‫الصوت الذي هو صوت ُ ِ‬
‫ك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الجبال قائال ً إنّه يرى‬
‫ِ‬ ‫ُطل قم ٌر من وراءِ‬ ‫تظلم‪ّ ،‬‬
‫لئاّل ي َّ‬ ‫َ‬ ‫ال يعنيني أ ْ‬
‫ن‬
‫ُ‬
‫التسمية بهتاناً‪.‬‬ ‫كلّما سم ُ‬
‫ّيت‪ ،‬ازدا َد المعنى غموضاً وابتعاداً‪ .‬وازدادت‬
‫عكسي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫برهان‬ ‫العي هو‬
‫َّ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫أدركت أ ّ‬ ‫ُ‬
‫عييت‪،‬‬ ‫كلّما‬
‫باب‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال يعنيني أ ْ‬
‫وكل ما زاد على ذلك هو من ِ‬ ‫األحوال‪،‬‬ ‫فاألحوال هي‬ ‫األحوال بأسمائِها‪.‬‬ ‫ن أسمّي‬
‫مخارج لإلقناع‪ .‬وهيهات!‬
‫َ‬ ‫العثور على‬
‫ِ‬
‫ع‪.‬‬‫سم ُ‬ ‫وصوت ُ ِ‬
‫ك يطي ُر ال ي ُ َ‬
‫ُدر ُ‬
‫ك‪.‬‬ ‫س‪ .‬وي َ‬ ‫وصوت ُ ِ‬
‫ك ي َُح ُّ‬
‫بالرنو‪ .‬واالبتعاد‪ .‬وتؤخَذ ُ باإلغماض‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ين مثال ً‪ .‬أي‬
‫بالع ِ‬
‫َ‬ ‫الحواس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بغيرها من‬
‫ِ‬
‫ة تؤخَذ ُ‬
‫فاألذن حاسّ ٌ‬
‫ُ‬
‫ح على أبوابٍ تلو أبواب‪ .‬ثمّ ينفت ُ‬
‫ح على‬ ‫الــروح ينفت ُ‬
‫ِ‬ ‫أبواب‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫باب من‬ ‫أو تؤخَــذ ُ بمــزاج القلب‪ .‬وهذا‬
‫باطن األرض‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ُحتم ُل من الينابيع‪ ،‬التي ليست فقط ماءً يتفجّ ُر من‬ ‫ما ال ي َ‬
‫ــب َه أنّه مــاءٌ بالقوّة الفلســفي ّة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وصوت ُ ِ‬
‫كالغيوم مثال ً‪ ،‬والســي ّما‬
‫ِ‬ ‫ــك ميــا ٌه كأنهــار ٍ وبحار ٍ‪ ،‬وما ش ِّ‬
‫بغير وشوشة ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َشع ُر استشعاراً‬ ‫تكون تأويال ً ي ُشا ُر إليه بالندى‪ ،‬وبما يماثل ُ ُه من تأ ّ‬
‫وه ٍ ي ُست َ‬ ‫ُ‬ ‫عندما‬
‫وبغير سماع‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الحب إلى‬ ‫ِك الصوتيّــة‪ ،‬ألنّها انتبا ُه‬ ‫ُ‬
‫األرض‪ ،‬عن الطبيعــ ِة‪ ،‬وهي صفوة خيارات ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وي ُقــال مــا ي ُقال عن‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫مرايا ُه‪ ،‬وانتبا ُه الهدايا إلى المحتاجين إليها‪ ،‬وانتبا ُه البوصل ِة إلى الطريق‪.‬‬
‫ك بألوا ِنهِ‪ ،‬وهي موسيقى‪.‬‬ ‫ربيع أيضاً‪ ،‬فآنذاك يهتدي صوت ُ ِ‬
‫ٌ‬ ‫وعندما يهبُّ الخريف الذي هو‬
‫بخريف وال بربيع‪ .‬ألنّه إذا اكتفى‪ ،‬فسيسأل ُ ُه مط ٌر ثال ٌ‬
‫ج لماذا تتركُني وحيداً‬ ‫ٍ‬ ‫الصوت ال يكتفي‬
‫َ‬ ‫لك ّ‬
‫ن‬
‫وهج أوراقِها‪.‬‬ ‫بدون‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ن تبقى شجرة عارية‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫في البرد‪ .‬وسيسأل ُه الشج ُر العاري هل يجوز أ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪294‬‬
‫ُ‬
‫يترك‬ ‫الحرائق القلبي ّ ِة التي ي ُشــعلُها وال‬
‫ِ‬ ‫صيف عن‬ ‫ٌ‬ ‫والصوت ال يكتفي‪ ،‬ألنّه إذا اكتفى‪ ،‬فسيســأل ُ ُه‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫يؤلم‬ ‫بالصــداع الذي‬
‫ِ‬ ‫ُصاب‬
‫َ‬ ‫يبســط ظال َلــ ُه عليه ّ‬
‫لئاّل ي‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ٌ‬
‫قيظ أ ْ‬ ‫حبّــ َة مــاءٍ لتبري ِد الغليل‪ .‬وسيســأل ُ ُه‬
‫الضوءَ والعتمة‪.‬‬
‫كرغيف‬‫ٍ‬ ‫وشــهي‬ ‫ٌ‬
‫الفصول‪ ،‬وما يســبقها وما يلي‪ .‬وهي شــعو ُر المرء بأنّه هائل كحلم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وصوت ُ ِ‬
‫ك‬
‫ٌّ‬
‫ق ينتظ ُر‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫وجميــل كمراه ٍ‬ ‫منتصف اللّيل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وشــهواني كشــرفة ٍ في‬ ‫ٌ‬
‫وامرأة كامرأة‪.‬‬ ‫ع من فرن‪.‬‬ ‫طالــ ٍ‬
‫ٌّ‬
‫ِك هو الصوت جميعه واألغاني‬ ‫إنصات إلى المطلق‪ ،‬باعتبار صوت ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫يموت‪ .‬ألنّه‬ ‫وهي شعو ُر ُه بأنّه ال‬
‫االفتراض والتخييل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كلّها‪ ،‬وما ستنشدينه من أشعار ٍ في أزمن ِة‬
‫ُ‬
‫سيســأل‬ ‫ن عجباً عجاباً‪ .‬إذ‬ ‫ك متصوّفاً‪ .‬لك ْ‬‫يكون صوت ُ ِ‬
‫ُ‬ ‫ّف‪ ،‬فكيــف ال‬ ‫مــراس صوفي وتصو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وصوت ُ ِ‬
‫ــك‬
‫ٌّ‬
‫ي االعتقا ِد أنّي سأجد ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ك‪ ،‬كيف أفسّ ُر التصو َّف بالتصو ِّف‪ ،‬وقد‬ ‫ٌ‬
‫ســائل محن َّ ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ســائل ساذ ٌ‬
‫كنت كل َّ‬ ‫ج أو‬
‫محض هلوســة ٍ ال تخفى على ســاذجٍ‪ ،‬فكيف‬ ‫ُ‬ ‫التأويل الذي هو‬
‫ِ‬ ‫ق لهذا‬ ‫ف ُ‬
‫ن قلب ُ ُه‪َ ،‬من يص ّ‬
‫َمن يطمئ ُّ‬
‫على راشد؟!‬
‫يلمس ُه الحري ُر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ملمس ُه بالكاد يستحيل أ ْ‬
‫ن‬ ‫ك حين يشب ُه الجرو َد‪ ،‬علماً أ ّ‬
‫ن‬ ‫وهو صوت ُ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وئام المتناقضات‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ج في‬ ‫ن ذلك يندر ُ‬ ‫ُ‬
‫يدرك المرءُ أ ّ‬ ‫بالوعر والسنديان‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ك مترفّقاً‬
‫وعندما ي ُذ َك ُر صوت ُ ِ‬
‫ُ‬
‫طيف النسيم‪.‬‬‫طف والل ّ‬ ‫ُ‬
‫السهل والحو ُر والل ّ ُ‬ ‫َك هو أيضاً‬
‫ن صوت ِ‬
‫أل ّ‬
‫نبع الينابيع‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫باعتبار ِه نَبعاً‪َ ،‬‬ ‫وعندما ي ُشا ُر إلى صوت ِ‬
‫فك َمن يدل على ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِك‬
‫ثعالب األودي ِة‬
‫ِ‬ ‫السطوح القرميد‪ ،‬إلى‬
‫ِ‬ ‫ك إلى القرى‪ ،‬إلى غيومِ ها الهاربات‪ ،‬إلى‬ ‫يهرع صوت ُ ِ‬
‫ُ‬ ‫وعندما‬
‫الصوت‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ألراغن‬ ‫َ‬
‫هياكل‬ ‫المدن بأنّهم جعلوا مد َنهُم‬ ‫ُ‬
‫أهل‬ ‫د َي َكة‪ ،‬يذك ّ ُر ُه‬
‫الحساسين وال ِّ‬ ‫والبراري‪ ،‬إلى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالرزق الحالل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لرسو زوار ِق ِه المألى‬
‫ِّ‬ ‫مرافئ‬
‫َ‬ ‫وجعلوا منارات ِِهم‬
‫عالم الفجيع ِة ما يذك ّ ُر صوت ِ‬
‫َك بأنّه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بصوتك‪ ،‬كدواءٍ لألحزان‪ ،‬يهبُّ من‬ ‫ُستنجد ُ‬
‫َ‬ ‫وعندما في األحزان ي‬
‫العرس والخم ُر وقانا الجليل‪.‬‬
‫ُ‬
‫بمصيــرهِ‪ ،‬حريصاً على جدواه‪ ،‬وعلى حاشــي ِتهِ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ينكفئ الشــع ُر ضنيناً‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يهلع الشــع ُر‪ .‬عندما‬ ‫وعندمــا‬
‫الصلب بل إلى القيام ِة‬
‫ِ‬ ‫ظهرهِ‪ ،‬كمســيحٍ يقــود ُ ُه صليب ُ ُه ليس إلى‬
‫ِ‬ ‫منكبيهِ‪ ،‬على‬
‫َ‬ ‫ك على‬ ‫يحملُــ ُه صوت ِ‬
‫ُ‬

‫موت ومن َصلب‪.‬‬‫ٍ‬ ‫من‬


‫ُ‬
‫يدرك‬ ‫ٌ‬
‫مائت ال محالة‪ ،‬آنذاك فقط‬ ‫ٌ‬
‫زائل‪ ،‬أنّه‬ ‫وعندما تعث ُر الموســيقى على ما يُنَسّ ــي مؤلّفَ ها أنّه‬
‫الصوت‪ ،‬بفؤا ِدهِ‪ ،‬وعابد ٌ‬
‫ِ‬ ‫بعقل‬
‫ِ‬ ‫بالصوت‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫هائم‬ ‫الموســيقار‬
‫َ‬ ‫والمفســرون أ ّ‬
‫ن‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫والمنصتون‬ ‫العلماءُ‬
‫البزق والكمان‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫والعزف على‬ ‫ومستمط ٌر إي ّاه األوركسترا والنوط َة والجمل َة‬
‫ِ‬ ‫له‪،‬‬
‫ُ‬
‫والزورق الذي في‬ ‫وبحرهِ‪ ،‬وألنّه النه ُر والبح ُر‪،‬‬
‫ِ‬ ‫نهــر ِه‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫غريق‬ ‫الغرق‪ ،‬فألنّه‬
‫ِ‬ ‫ح صوت ُ ِ‬
‫ك إلى‬ ‫وعندمــا ي ُ َل ِّمــ ُ‬
‫النهر والبحر‪.‬‬
‫ِ‬

‫‪295‬‬
‫بمآثرهِ‪ ،‬وناظ ٌر إلى أحوالي وأنا في‬ ‫ٌ‬
‫عارف‬ ‫قي‪ ،‬فألنّه‬ ‫غرق المتل ّ‬ ‫احتمــال‬ ‫ح صوت ُ ِ‬
‫ك إلى‬ ‫وعندمــا ي ُ َل ِّم ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أحوال الغرقى الذين أحوالُهُم أحوالي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫القاع‪ ،‬وناظ ٌر إلى‬
‫وليسهر على‬
‫َ‬ ‫ليســهر مع الســاهرين‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫يهجع‬ ‫ُّ‬
‫يظل يعتقد ُ أنّه‬ ‫م َة َمن‬
‫لينام‪ ،‬ث ّ‬
‫َ‬ ‫ك‬‫يهجع صوت ُ ِ‬
‫ُ‬ ‫وعندما‬
‫الشياطين والكوابيس‪،‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫الممضةَ‪ ،‬طارداً عنها‬ ‫هواجسهم‪ ،‬ومنامات ِِهم‬
‫َ‬ ‫ليزور وحشات ِِهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫النيام‪ ،‬أو‬
‫ِ‬
‫بالعليل النسيم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وملوحاً لها‬
‫ِّ‬
‫ُ‬
‫شــجيرات الياســمين‪،‬‬ ‫ُ‬
‫تضحك له‬ ‫مزامير الصباح‪،‬‬ ‫عصفور النافــذة مع‬ ‫ــك مع‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫وعندمــا يطــل صوت ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫وشــك‬ ‫ليمنع الهاوي َة من‬
‫َ‬ ‫د ُه‬ ‫ُ‬
‫الغصــن ي َ‬ ‫ح‪ ،‬وســرعان ما يمد ُّ‬ ‫ُ‬
‫الحبــق وعطــ ُر الحبق‪ ،‬ويفو ُ‬ ‫ويتلب ّ ُ‬
‫ــك‬
‫الوقوع في الهاوي ِة والقرار‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ويمنعها من‬
‫َ‬ ‫الدوار‪،‬‬
‫القلوب‪،‬‬
‫ِ‬ ‫العقول‪ ،‬من‬
‫ِ‬ ‫ن يطرد ُ صوت ِ‬
‫َــك من‬ ‫ُ‬
‫الموت من اســتراح ِت ِه من الغفل ِة‪ ،‬ويظ ُّ‬ ‫وعندمــا يهبُّ‬
‫بســاط الغيوم‪.‬‬‫ِ‬ ‫األرض‪ ،‬في أرجاءِ البالدِ‪ ،‬على‬
‫ِ‬ ‫جوهــر‬
‫ِ‬ ‫ح ُه في‬ ‫ُ‬
‫ترتســم رو ُ‬ ‫ك‬‫والبيــوت‪ ،‬آنــذاك صوت ُ ِ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫ينزف زي َت ُه‬ ‫والقلب والدســتور‪ ،‬وآنــذاك‬ ‫العقل‬ ‫كتاب‬ ‫ُســه َل قراء َة‬ ‫ــك زيت ََه لي‬ ‫ُ‬
‫ينــزف صوت ُ ِ‬ ‫وآنــذاك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫جواب الكــر ِه والبغضاء‪ ،‬فآنذاك‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ك إاّل‬ ‫ُ‬
‫يلق صوت ِ‬
‫ومبادئ الســام‪ .‬وإذا لم َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قناديــل الحبّ‬ ‫ليضــيءَ‬
‫ُ‬
‫الموت على‬ ‫ُ‬
‫يهبط‬ ‫ويهبط الل ّ ُ‬
‫يل‬ ‫ُ‬ ‫ّات‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وتولول الجــد ُ‬ ‫ُ‬
‫ّهات‪،‬‬
‫ن األم‬ ‫ُ‬
‫األطفال في أســرّت ِِهم‪ ،‬وت ُ َج ُّ‬ ‫ُ‬
‫يختنــق‬
‫ُ‬
‫الحروب‪ ،‬وتهوي‬ ‫ُ‬
‫وتندلع‬ ‫ويسكت نداءُ الميناء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ويحترق البح ُر‪،‬‬ ‫الناس في عزِّ الحيا ِة في عزِّ النهار‪،‬‬
‫ِ‬
‫الدوران‪ ،‬عن الخفقان‪،‬‬
‫ِ‬ ‫األرض عن‬‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ويتســاقط القتلى‪ ،‬وتتوقّ ُ‬
‫ُ‬ ‫ــم زجا ُ‬
‫ج النوافذِ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ويتهش ُ‬ ‫ُ‬
‫البيوت‪،‬‬
‫ُ‬
‫آهات نجوم‪ .‬وآنذاك‬ ‫شــمس‪ ،‬وال يعود ُ ث ّ‬
‫م َة قمــ ٌر وال‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫تشــرق‬ ‫ُ‬
‫يطلــع الضوءُ‪ ،‬وال تعود ُ‬ ‫وال يعــود ُ‬
‫ُ‬
‫القلوب‪ ،‬وتأوي‬ ‫الطعام‪ ،‬وتنتح ُر‬
‫ُ‬ ‫ح الفســاد‪ ،‬ويفســد ُ‬ ‫ٍ‬
‫إثم يرتكبون‪ ،‬فيعمُّ مل ُ‬ ‫ي‬ ‫يدرك الج َه ُ‬
‫لة أ َّ‬ ‫َ‬ ‫لن‬
‫َ‬
‫الحب والسماء‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫زمن‬ ‫الشعر‪ ،‬ومع ُه‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫زمن‬ ‫مقابرها‪ ،‬ويستحي حل ُ‬
‫و الكالم‪ ،‬وينتهي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫العيون إلى‬

‫ٌ‬
‫صوت هو صوت‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫صوت هو‬ ‫ُ‬
‫أقول ما يأتي‪ :‬هو‬ ‫أعود ُ‬

‫لبنان في سوريا في فلسطين‪،‬‬ ‫الركام‪ ،‬في‬


‫ِ‬ ‫فوق‬
‫َ‬ ‫الركام‬
‫ِ‬ ‫تحت‬
‫َ‬ ‫الصوت‪ ،‬عن صوت ِ‬
‫ِك‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫أبحث عن‬ ‫وإنّي‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫أســمع له‬ ‫ضميــر العا َلم‪ ،‬فال أجد ُ له أثراً‪ ،‬وال‬
‫ِ‬ ‫األمــم المتّحدة‪ ،‬في‬
‫ِ‬ ‫فــي بغــداد فــي باريس‪ ،‬في‬
‫ُ‬
‫نهرب‬ ‫َّب صوت ُ ِ‬
‫ك؟ ونحــن إلى أين نحن‬ ‫صوتــاً‪ .‬فإلــى أيــن يأخذون صوت ِ‬
‫َك‪ ،‬يا فيــروز؟ إلى أين ي ُهر ُ‬
‫منه‪ ،‬إلى أين؟‬
‫ُ‬
‫رأيت لبنان‬ ‫و ِة الفلســفي ّ ِة في صوت ِ‬
‫ِك‪،‬‬ ‫بدون الق ّ‬
‫ِ‬ ‫بدون صوت ِ‬
‫ِك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫مكن الوجو ِد‬
‫َ‬ ‫لبنــان ُم‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ظننت‬ ‫كلّمــا‬
‫وســائر‬
‫َ‬ ‫وخليج العرب‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫والنجف‪ ،‬والقاهرةَ‪،‬‬ ‫والشــام‪ ،‬وبغدا َد‪،‬‬
‫َ‬ ‫القدس‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫رأيت‬ ‫هذا‪ ،‬وبيرو َت ُه‪ ،‬ومع ُه‬
‫ٍ‬
‫ويالت وانكسار‪ .‬وعندما‪،‬‬ ‫َ‬
‫وأرض‬ ‫دم‬‫بأسر ِه ‪ -‬بقع َة ٍّ‬
‫ِ‬ ‫أضيف العا َل َم‬
‫َ‬ ‫أنطاكيا والمشرق‪ - ،‬وأجرؤ أ ْ‬
‫ن‬
‫العيون حقد ٌ‬
‫ِ‬ ‫ُشــر ُ‬
‫ق في‬ ‫ِ‬ ‫حبر الكتب‪ ،‬وعندما ي‬
‫ِ‬ ‫العقل في‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تالفيف‬ ‫ٌ‬
‫يبــاس كهذا في‬ ‫ُ‬
‫يلمع‬ ‫يــا فيــروز‪،‬‬

‫‪296‬‬
‫ُ‬
‫وسيذهب‬ ‫ُ‬
‫ستتساقط‪،‬‬ ‫ُ‬
‫المكتبات‪،‬‬ ‫ُ‬
‫سترتجف‬ ‫َ‬
‫أقول‬ ‫ليكون بديال ً من لذ ّ ِة الصباح‪ ،‬ينبغي لي أ ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫كهذا‬
‫لعنة هــي لعنــة‪ .‬وباللّعن ِة هذه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫أقــول‪ :‬هي‬ ‫المخطوطــات إلــى التقاعــد‪ .‬وينبغــي لي أ ْ‬
‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ــاك‬ ‫نسّ‬
‫النسيم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫سيهشمون اجتها َد‬ ‫ِك فحسب‪ ،‬بل فكر َة الحيا ِة برمّتها‪ ،‬مثلما‬ ‫ّ‬
‫سيهشمون‪ ،‬ال فكر َة صوت ِ‬
‫خاطر األرض‪ .‬وال يعود ُ‬
‫ِ‬ ‫نبع في‬ ‫ُ‬
‫ينبت ٌ‬ ‫خلف الرمال‪ .‬فال يعود ُ‬
‫َ‬ ‫وستصي ُر السماءُ آنذاك رماالً تترامى‬
‫ُضر ُم ناراً في غابة‪َ ،‬ك َمن‬ ‫ُ‬ ‫للربيع‪ ،‬ويصي ُر‬ ‫ُ‬
‫الربيع ضدّاً‬ ‫أم‪ .‬ويصي ُر‬ ‫ٌ‬ ‫ي ُزهــ ُر‬
‫لبنان َك َمن ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫خاطر ّ‬
‫ِ‬ ‫طفــل في‬
‫الصوت‪،‬‬
‫َ‬ ‫أقول إنّهم ســيكرهون‬‫ُ‬ ‫خصر شــجر ِة حور‪ .‬لذا‬ ‫ُ‬
‫يلعن‬ ‫جــذع أرزة‪ ،‬و َك َمن‬ ‫ُعمــل فأســاً في‬‫ي ِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ورؤوس الجبال‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫والتالل والوها َد‬ ‫َ‬
‫الجمال‬ ‫ح تكر ُه المعاني‪ ،‬وسترو ُ‬
‫ح تكر ُه‬ ‫مثلما المعاني سترو ُ‬
‫ٍ‬
‫صوت بال عقاب‪ .‬ففي‬ ‫أجل أ ْ‬
‫ن تمرَّ الجريمة بال‬ ‫ِ‬ ‫َك إلى الرده ِة المظلم ِة‪ ،‬من‬ ‫وسيأخذ ُ السجّ ُ‬
‫ان صوت ِ‬
‫ك إلى‬ ‫لئاّل يتناهى صوت ُ ِ‬‫بحركات األيدي‪ ،‬بالشفاهِ‪ّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫العيون‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بإيماءات‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الناس‬ ‫الديكتاتوري ّات‪ ،‬يتكلّم‬
‫وجع العراء‪.‬‬ ‫يجتمع الموجوعون في‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الرسائل إلى حيث‬ ‫ُ‬
‫وتنقل‬ ‫َك‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الجدران صوت ِ‬ ‫ُ‬
‫فتسمع‬ ‫الجدران‪،‬‬
‫ِ‬
‫الرقاب هو الشــعور الوحيد الذي يعتري‬ ‫َ‬ ‫ين الذي يحزُّ‬ ‫ّ‬
‫الســك ُ‬ ‫يكون‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫مفارقة أ ْ‬
‫ن‬ ‫فــي هــذه الحال‪َ ،‬ل‬
‫ّهات والعذارى‬ ‫ُ‬ ‫المدن من أجسادِها‪ ،‬وال تعود ُ األم‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ستستقيل‬ ‫ل كهذه‪،‬‬‫حناجر الحساسين‪ .‬وفي حا ٍ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫يسكب القهو َة ال‬ ‫ُ‬
‫والنادل الذي‬ ‫َ‬
‫المواويل‪،‬‬ ‫ُنشــدن‬ ‫يعدن ي‬ ‫بحبق الشــبابيك‪ ،‬وال‬ ‫النهارات‬
‫ِ‬ ‫يفتتحن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫الصوت القتيل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬
‫الفنجان إاّل استغاث َة‬
‫ِ‬ ‫يعود ُ يرى في‬
‫ُّ‬
‫سيظل‬ ‫ك‬‫المدن‪ .‬صوت ُ ِ‬
‫بإعدام ُ‬
‫ِ‬ ‫المرافئ‪ ،‬وال‬
‫ِ‬ ‫بحرق ميا ِه‬ ‫بموت األمكن ِة‪ ،‬وال‬
‫ِ‬ ‫يموت‬
‫َ‬ ‫ن صوت ِ‬
‫َك لن‬ ‫لك ّ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نظرات عينَي ِه ليسقي حبا َل ُه‪ ،‬فال يختنق‪ ،‬وال ينتح ُر‪ ،‬وال يعتكف‪ ،‬وال يذبل‪ ،‬وال يشيخ‪ ،‬بل يولدُ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يذرف‬
‫ٌ‬
‫وحقيقة‪ ،‬من تلقائِها‪ ،‬وتتجدّد ُ من تلقائِها‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫حبقة‪،‬‬ ‫كما تولد ُ‬

‫إلي من أحشــاءِ أمّي – وأنا فيها ‪ -‬يغنّي‪ ،‬ويوقظني‪ ،‬داعياً إي َ‬


‫ّاي إلى قهو ِة‬ ‫َّ‬ ‫وها صوت ُ ِ‬
‫ك ســيتناهى‬
‫الصــوت‪ ،‬في مرا ِت ِبهِ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫طبقات‬
‫ِ‬ ‫شــمس الحرّي ّة‪ .‬ثمّ يأتي شــرّا ٌ‬
‫ح غفيــرون‪ ،‬ليبحثوا في‬ ‫ِ‬ ‫الحيــاةِ‪ ،‬إلــى‬
‫الكون‪ ،‬فتُدب َّ ُ‬
‫ج‬ ‫ِ‬ ‫العالم‪ ،‬في‬
‫ِ‬ ‫بأثير مرايا ُه في‬
‫ِ‬ ‫الصــوت‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫يربط‬ ‫وفــي العالقــ ِة بين الكلم ِة والحب ِْل الذي‬
‫الشــكل‪ ،‬في دراس ِة المعنى‪ ،‬ولن يتوانوا‬ ‫المتخصصون في دراســ ِة‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ُمعن‬ ‫ُ‬
‫والصفحات‪ ،‬وي‬ ‫ُ‬
‫األبحاث‬
‫ِ‬
‫والتعاشق‪،‬‬
‫ِ‬ ‫التعشيق‬
‫ِ‬ ‫التعاشق الذي ال ينتهي من‬
‫ِ‬ ‫الشعر‪ ،‬عن دراس ِة الموسيقى‪ ،‬وعن‬
‫ِ‬ ‫عن دراس ِة‬
‫البحث والدرس‪.‬‬
‫ِ‬ ‫والدرس من مواصل ِة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫البحث‬ ‫ن ينتهي‬ ‫ن من دون أ ْ‬ ‫لك ْ‬
‫ُ‬
‫أغمضت‪.‬‬ ‫أدرس ُه بل أرا ُه‪ .‬وإنّي أرا ُه إذا‬ ‫ٌ‬
‫صوت‪ ،‬يا فيروز‪ .‬ولن‬ ‫ٌ‬
‫صوت هو‬ ‫ٌ‬
‫صوت هو‬ ‫ُ‬
‫أقول هو‬ ‫ُّ‬
‫وسأظل‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫وفرغت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وامتألت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واغتبطت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وشقيت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واستطعمت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وشممت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ست‪،‬‬ ‫ف‬ ‫ُ‬
‫لمست‪ ،‬وتن ّ‬ ‫وإنّي أرا ُه إذا‬
‫ُ‬
‫وحلمت‪ .‬وإنّي أرا ُه في صعودي ونزولي‪ ،‬في يســاري ويميني‪ ،‬في‬ ‫ُ‬
‫وأحببت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫واجتهدت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وجاهدت‪،‬‬
‫ُ‬
‫أكون أرا ُه؟!‬ ‫ُ‬
‫أكون إي ّا ُه‪ ،‬وكيف ال‬ ‫شرقي وغربي‪ ،‬في تيهي وانتباهي‪ .‬فكيف ال‬

‫‪297‬‬
‫هاشم قاسم*‬

‫ُ‬
‫بعمق شــفافي ّتها‬ ‫الفني‪ .‬فمكانتها ارتبطت‬ ‫موقع فيروز‬
‫َ‬ ‫نَــد ُ َر أن احتلّــت مغنّيةٌ لبناني ّةٌ أو عربي ّةٌ‬
‫ّ‬
‫ع متعد ّدة من الغناء تجسّ دت في حوالى ‪ 1500‬أغنية‪.‬‬
‫وجوّاني ّة صوتها وجدارتها في أداء أنوا ٍ‬
‫منذ والدتها ســنة ‪ 1935‬في بيروت‪ ،‬وطفولتها األولى في بلدة «الدبي ّة» (الشــوف‪-‬جبل لبنان)‬
‫د في تكوين بعض مالمحها‬
‫وتأثيرات حياة القرية عليها‪ ،‬مّا ساع َ‬
‫ِ‬ ‫ّالت الطبيعة‬
‫عانقت فيروز تحو ِ‬
‫ْ‬
‫استكملت فيروز‬ ‫حي «البطركي ّة» في بيروت‬
‫األولى من بساطة وعفوي ّة‪ ...‬وبانتقال عائلتها إلى ّ‬
‫(اســمها الحقيقــي نهــاد حد ّاد) التعــرُّف على بعض مالمــح العاصمة بيروت وطرائــق االجتماع‬
‫تواضع في بيئة ٍ شبه ُمغلقة سادها الضيق والفقر‪...‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫الم‬ ‫والعيش فيها‪ ،‬وتالياً عيشها‬
‫َ‬

‫ْ‬
‫تتلمذت على أيدي النصوص األدبي ّة‬ ‫لم تصل فيروز إلى مرحلة الدراســة الثانوي ّة والجامعي ّة‪ ،‬لكنّها‬
‫التي غنَّتها‪ ،‬وعلى أيدي كبار الموســيقي ّين والمث ّ‬
‫قفين والمســرحي ّين والســينمائي ّين الذين عملوا‬
‫ّ‬
‫بخاصة األخوين رحباني وإلياس الرحباني وفليمون وهبي ومحمّد عبد‬ ‫وتفاعلت فنيّاً معهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫معها‬

‫الوه ّاب‪ ،‬إضافة إلى الشعراء سعيد عقل وجوزف حرب وأنسي الحاج وجورج شحادة وغيرهم‪.‬‬

‫صوتُها «األعطية من اللّه والمعجزة» كما وصفه أحد كبار الكتّاب دفع ُمكتشفَ ها األوّل الموسيقار‬

‫محمّــد فليفل إلــى تعليمها «النوتة» والســولفاج «‪ ،»solfege‬وراعيها الثاني الموســيقار حليم‬

‫ن عاصي الرحباني بدقّة استشــرافه ألهمي ّة‬


‫الرومي إلى تبنّي إطالقها ومشــاركتها في الغناء‪ .‬لك ّ‬

‫واألساســي في توضيب معظم َمســيرتها الفني ّة‬


‫ّ‬ ‫صوتهــا وقدراتــه ونوعي ّتــه كان له الدور األكبر‬

‫الغنائي الرحباني‪ ،‬من دون أن ننســى َدور‬


‫ّ‬ ‫والتلحيــن والكتابــة لصوتهــا وألدوارها في المســرح‬

‫منصــور الرحبانــي في هذا المجــال‪ ،‬وخصوصاً تمعُّنــه باالنتقاالت الذكي ّة والماهــرة بين تدرّجات‬

‫*كاتب وناقد من لبنان‬

‫‪300‬‬
‫صــوت فيــروز القــادرة على التعبير عــن الدواخــل العميقة وإبــراز الطمأنينة والحبّ والســام‬
‫ٍ‬
‫لفردوس ضائع‪ .‬وكأ ّ‬
‫ن صوتها «روح‬ ‫ٌ‬
‫رمز‬ ‫إطالالت درامي ّة أو تراجيدي ّة‪ .‬كأنّها‬
‫ٍ‬ ‫والتمرّد والغبطة عبر‬

‫كامل» وفكرة بال ثوب‪ ،‬إضافة إلى أنّه‪ ،‬كما ظهر وتجسَّ د وتبلور في أغانيها الدرامي ّة‪ ،‬ينتمي إلى‬
‫ّ‬
‫النص المكتوب وطبيعته‪...‬‬ ‫الموسيقي من حيث إنّه يتوافق ويتجانس مع‬
‫ّ‬ ‫دائرة الفكر‬

‫بعــد زواجهــا من عاصي الرحباني ســنة ‪ 1955‬غنّت فــي القاهرة أوبريت «راجعــون» (الرحباني ّان)‬

‫والموســيقي الدرامي األوّل في الموســيقى‬


‫ّ‬ ‫الغنائي‬
‫ّ‬ ‫مع كارم محمود والكورال‪ ..‬وهي العمل‬
‫ٍ‬
‫بسنوات قليلة أد َّت بصوتها ُ‬
‫المالئِم لألداء باألسلوب الغربي‬ ‫اللّبناني ّة العربي ّة الحديثة‪ .‬وقبل ذلك‬

‫خفــي‪ ،‬ثمّ كرّت ســبحة من ُمحــاكاة غناء‬


‫ّ‬ ‫مجموعــ ًة مــن األغانــي‪ ،‬الجــزء األكبر منهــا ضائع أو َم‬

‫«السامبا» و«التانغو» و«الرومبا»‪...‬‬


‫في مهرجانات بعلبك الدولي ّة‪ ،‬كانت فيروز المغني ّة األولى سنة ‪ 1957‬في إطار «اللّيالي اللّبناني ّة»‬
‫والمغني ّة األولى أيضاً في أوّل مهرجان فنّي لمعرض دمشــق الدولي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫التي اســتُحدثت حينذاك‪،‬‬
‫ثمّ واصلت غناءها في حوالى عشــرين مســرحي ّة غنائي ّة رحباني ّة وخارجها في بيروت واألرز وعدد ٍ‬

‫الم ِرن كان قادراً‬ ‫ّ‬


‫والاّلفت في جميع ما أد ّت أ ّ‬
‫ن صوتها َ‬ ‫واســع من العواصم العربي ّة والعا َلمي ّة‪.‬‬
‫على الغناء على جميع الدرجات الصوتي ّة‪ ،‬وخصوصاً العليا منها‪ .‬ولهذا اعتَبر معظم الموسيقي ّين‬
‫قــاد اللّبناني ّيــن والعــرب واألجانب أنّها ظاهــرة صوتي ّة قد ال تتكرّر «ورمــز من رموز العصر»‬
‫والن ّ‬

‫ع في حالة ٍ من‬
‫ي ُمســتم ٍ‬ ‫ي تقليد‪ ..‬شــ ّ‬
‫فاف يجعل أ ّ‬ ‫«عصي على أ ّ‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫كصوت‬ ‫(منصور الرحباني)‪ ،‬وأنّها‬
‫الروحي» (سليم سحّاب)‪ ،‬وأنّها كما يقول الموسيقار محمّد عبد‬
‫ّ‬ ‫الغبطة والذهول واالنخطاف‬
‫الوه ّــاب‪« :‬أقــدر المطربــات في تأدية األغنية القصيرة‪ ،‬وإنّني عندما أســمع صوت فيروز أشــعر‬
‫ي نغمة تغنّي»‪ .‬ويضيف‬ ‫ٍ‬
‫لوقت طويل ألتبي ّن من أ ّ‬ ‫فــي لحظــات بالنغمة التي تغنّي بها‪ ،‬وال أحتاج‬
‫وأنت في حضرته غائب» (جملة لرابعة العدوي ّة)‪ ،‬وأنّه‬
‫َ‬ ‫الشــاعر أنســي الحاج‪« :‬كيف تَصف صوتها‬
‫َ‬
‫والتحريض والعذوبة‪ .‬وهذا ما يفسّ ــر الحاجة إليه‬ ‫نب ُ‬
‫عمق الطمأنينةَ‪،‬‬ ‫يحتض ُ‬
‫ِ‬ ‫«ذلــك الصوت الذي‬
‫ٌ‬
‫كيان واحد‪ ،‬تعرف‬ ‫والمحن»‪ .‬وموســيقيّاً اعتَبر زيــاد الرحباني «كأنّها والموســيقى‬
‫ِ‬ ‫فــي األزمات‬
‫ومداخله وما يريد الوصول إليه»‪.‬‬
‫َمخارجه َ‬
‫العربي والغرب‪ ،‬يمكن الوصول إلى أ ّ‬
‫ن صوتها‬ ‫من ّ‬
‫كل هذه الشهادات وغيرها اآلالف من العا َلم‬
‫ّ‬
‫كان األكثــر قــدرة علــى اختزان تاريــخٍ وثقافة‪ ،‬وعلى التفــرُّد والخصوصي ّة‪ ،‬ألنّه‪ ،‬كمــا تقول خالدة‬
‫سعيد‪ ،‬يتدفّق من نوافذ الروح كلّها‪ ،‬حيث تَهجم الذاكرات ويهجم تاريخ الصوت البشريّ‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫ع عد ّة من األغاني التي اســتقرّت ب ُ‬
‫عمق في الوجدان ودائرة‬ ‫الغنائــي بين أنوا ٍ‬
‫ّ‬ ‫تن َّ‬
‫قــل أداء فيــروز‬

‫والمبهر؛ فهي غنّت للحبّ الذي لم يقتصر على العالقة التقليدي ّة بين‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والمختلف‬ ‫التــذوّق الجديــد‬

‫الرجــل والمرأة فحســب‪ ،‬بــل ذهب هذا الغناء باتّجاه توســيع مروحته ليشــمل الناس واألرض‬

‫منبعي ْن‪ :‬واقع الحياة والقضايا وأقنوم الحبّ الصافي الذي‬


‫َ‬ ‫والوطن والقضايا العادلة‪ .‬كـأنّه من‬

‫يلبس‪ ،‬أحياناً‪ ،‬لباســاً رومانســيّاً متطهّراً‪ ،‬وأحياناً لباساً واقعيّاً‪ .‬ومجمل هذا المنحى حرَّر األغنية‬
‫العربي ّة التي ســادت في خمســيني ّات وســتّيني ّات القرن الماضــي من َ‬
‫الغزَ ل ُ‬
‫المبتــذَل والوقائع‬

‫ن‬
‫هي َْم َ‬
‫الخارجي الذي َ‬
‫ّ‬ ‫اإلنســاني ّة التقليدي ّة‪ .‬لهذا اتَّخذ غناؤها ســمات الثورة على الحزن أو الفرح‬
‫ِ‬
‫شــريط أغانيها للحُبّ نســتطيع تسجيل العشرات منها‪« :‬يمّي‬ ‫على األغنية العربي ّة‪ .‬وإذا ُعدنا إلى‬

‫هبّ الهوا» و«أنــت معي» و«هموم‬


‫مــا بعــرف كيف حاكانــي» (من أغانيها األولى) و«يــا حبيبي َ‬
‫الحــبّ » و«عِتــاب» وهي من أغانيها األولــى التي َجمعت بين العامي ّة الشــعبي ّة اللّبناني ّة واللّحن‬
‫ُ‬
‫والممتنِع‪.‬‬ ‫بناني البسيط‬‫الل ّ‬
‫ّ‬
‫ثوب التطهّر واإلفصاح الرصين وغير المباشــر عن‬
‫َ‬ ‫لبس الحبُّ‬
‫َ‬ ‫في هذه األغاني وعشــرات غيرها‬
‫الشــوق والتعبيــر المهذَّب والممســوك بق َيم التع ُّ‬
‫فف (عكس الغناء الــدارج اليوم)‪ .‬وقد اتَّخذ‬
‫هــذا الحبّ َمســاراً أوســع ُ‬
‫ومختلفاً وأكبر من الغــزل بمعناه الضي ّق (المصــري والعربي عموماً‬

‫ي ُمتتب ّع أو‬ ‫ّ‬


‫خاص‪ .‬وي ُالحــظ أ ّ‬ ‫ل‬
‫بناني بشــك ٍ‬‫فــي فترة الســتيني ّات)‪ .‬وهــو كان فريداً في الغناء الل ّ‬
‫ّ‬
‫مستوى من أغنيتها‬
‫ً‬ ‫والغزَ ل بالعامي ّة اللّبناني ّة كان أرفع‬
‫َ‬ ‫ُم ِّ‬
‫تذوق أ ّ‬
‫ن بعض األغنية الفيروزي ّة للحبّ‬
‫بالفصحى‪ ،‬كون العامي ّة أكثر ليونة وقدرة على االنفتاح على الجديد من الكالم‪ .‬ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫«فايق ّ‬
‫واّل ناسي»‪َ « ،‬كتَب ْنا وما َكتَب ْنا»‪« ،‬كنّا نتالقى من عشي ّة» و«سوى ربينا»‪...‬‬
‫ن الرحباني َّي ْن عاصي ومنصور جُبال بطينة ٍ‬ ‫َّ‬
‫احتــل الزمن في أغنية فيروز الرحباني ّة جزءاً الفتاً‪ ،‬كأ ّ‬ ‫لقــد‬
‫ّ‬
‫بكل مفاعيله‬ ‫من الوقت الذي هرب أو المعيش أو القادم‪ .‬إنّه الوقت الذي يمتد ّ من طفولتهما‬
‫ْ‬
‫االضطرابات السياسي ّة واالجتماعي ّة التي عاشها لبنان وبعض البلدان العربي ّة في مرحلة‬ ‫إلى وقت‬

‫ي التي عانى منها‬


‫الســتيني ّات والســبعيني ّات من القرن الماضي‪ ،‬إضافة إلى حاالت القلق الوجود ّ‬
‫عاصــي حتّــى آخــر أي ّامه‪ .‬كأ ّ‬
‫ن الرحباني َّيْــن أيضاً كانا في صــرا ٍ‬
‫ع مع الزمن‪ ،‬وفي محاولــ ِة احتواءٍ له‬

‫نصاً شــعريّاً عامّيّاً وفصيحاً‪ .‬وهناك في الذاكرة‬


‫نصاً مســرحيّاً غنائيّاً أو ّ‬
‫وتدجينه والســيطرة عليه ّ‬

‫ُؤرق ويوحي‪ :‬الغابات األولى التي ظل َّ َلتْها أو الشــوارع‬ ‫ّ‬


‫الفنّيّــة الرحبانيّــة الفيروزي ّة كل ما ي ُذ ِّكر وي ِ‬

‫‪302‬‬
‫َّ‬
‫مرشــحة لالرتحال‬ ‫المطفأة‪ ،‬والســهر والضحك والينابيع‪ ..‬وكلّها عالمات على أشــياءٍ ُمرتحلة أو‬
‫ُ‬

‫واالنــزالق مــن بيــن األصابع‪ .‬وفي هذه الدائرة تتألّف أغاني «شــو بيبقى مــن الرواية» و«ال تجي‬
‫ّ‬
‫و«نطرونا كتير» و«بعدك بتذكــر يا وطى الدوّار»‪ ..‬هــذه األغنية التي كان‬ ‫اليــوم وال تجــي بكــرا»‬

‫«حب ّو بعضن» (ألحان زياد الرحباني)‬ ‫ُطر ُ‬


‫ق حزناً حينما كان يستمع إليها‪ ،‬إضافة إلى َ‬ ‫عاصي الرحباني ي ِ‬
‫الحبيبين أو موته زواله‪ .‬وبالعربي ّة الفصحى‬
‫َ‬ ‫التي ربطت الحبّ والوقت‪ ،‬بمعنى األمل باللّقاء بين‬
‫أد َّت فيروز عشرات القصائد الكالسيكي ّة للرحباني ّين ومنها‪« :‬نجمة الكتب» و«حامل الهوى تَعِ ُ‬
‫ب»‬
‫م َلم ُ‬
‫ْت ذكرى لقاء األمس بالهرب» و«أمس انتهينا»‪ ..‬وتجدر اإلشارة إلى أ ّ‬
‫ن الشاعر عمر أبو‬ ‫و« َل ْ‬

‫د إلى‬ ‫م َلم ُ‬
‫ْت ذكرى» في إحدى حفالت معرض دمشق الدولي صع َ‬ ‫ريشة حينما استمع إلى أغنية « َل ْ‬
‫المسرح وتوجَّه إلى الرحباني ّين قائال ً‪« :‬خذوا ّ‬
‫كل شعري واعطوني هذه القصيدة»‪.‬‬
‫كان المســرح الغنائي الرحباني في معظم مراحله مســرح االنتظار‪« ..‬مســرح أحبَّ أن يبقى ّ‬
‫كل‬

‫تصادمي يطلــب الد ّعة‬


‫ّ‬ ‫النــاس أطفــاالً» كمــا يقول غــازي قهوجي‪ .‬مســرح نظيف وهارب وغيــر‬

‫واالجتماعي وتُشــير إلى‬


‫ّ‬ ‫السياســي‬
‫ّ‬ ‫واألمــان‪ .‬وكلّمــا كانــت الفكرة الرحبانيّــة تحضر في الواقع‬
‫ّ‬
‫النص المشــغول‬ ‫ع وتآل ُ ٍ‬
‫ف وتوحيد‪ .‬فهذه الفكرة قد ّمت نفســها عبر‬ ‫م ٍ‬ ‫َ‬
‫عامل ج ْ‬ ‫المســاوئ كانت‬
‫ُ‬
‫المعاني‪.‬‬ ‫والهادِف‪ .‬لذاك كانت على نقيض الواقع‬

‫في هذا المسرح كان معظم مسيرة فيروز التي غنّت فيه األغاني الشعبي ّة والوطني ّة والزجلي ّات‬

‫والمواويــل البغداديّــة وغير البغدادي ّة والعتابا الشــرقي ّة بدوي ّة وغير بدويّــة واألغاني المرتبطة‬
‫ُ‬
‫للمدن العربيّــة وأبرزها ومنها‪« :‬لبيروت» و«يا قمر مشــغرة» و«عمّان‬ ‫برفــع القيمــة الحضاري ّة‬
‫ّ‬
‫«شط اسكندري ّة» (سي ّد درويش) و«يا جارة‬ ‫د ِ‬
‫ك» (دمشق) باإلضافة إلى‬ ‫هذا الضحى» و«قرأت مج َ‬
‫الوادي» (أحمد شــوقي وألحــان محمّد عبد الوه ّاب) و«خذوني إلى بيســان» و«زهرة المدائن»‬
‫ّ‬
‫ومكة ومصر‪...‬‬ ‫وأخرى لبغداد والمغرب‬

‫في مطلع الستّيني ّات غنّت فيروز قصائد ذات قيمة شعري ّة وموسيقي ّة أمثال «جبل الري ّان» لجرير‬

‫و«الهجرة» البن جبير (وهي في مدح الرســول‪ ،‬ص)‪ .‬وبالعودة إلى النصوص الشــعري ّة بالفصحى‬

‫اختــار الرحبانيّــان أجمل القصائد من العصور العربي ّة الجاهلي ّة واألموي ّة والعب ّاســي ّة أد ّتها فيروز‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫ككل‪ .‬واألمثلة الحديثة على ذلك كثيرة ومنها‪ :‬قصائد لبدوي‬ ‫بناني‬ ‫َ‬
‫وأغْنَت بها الغناء العربي والل ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجبل وأبي خليل القب ّاني وعنترة بن شد ّاد وأبي نوّاس وعمر بن أبير ربيعة والحصري القيرواني‬

‫‪303‬‬
‫ْ‬
‫ووضع‬ ‫ّ‬
‫الموشحات عمل الرحباني ّان على إحيائها باستعادة القديم منها‬ ‫ونزار قب ّاني‪ .‬وعلى صعيد‬

‫صيغــة لــه قائمة على التوزيع اآللي والتنــاوُب بين المؤد ّي والمجموعة‪ .‬فــي هذا المجال‪ ،‬أد ّت‬

‫فيــروز مــع وديع الصافــي «بروحي تلك األرض»‪ ،‬ومــع الكورال «جادك الغيث» لـ«لســان الد ّين‬

‫الموشحات األخرى التي َكتبها الرحباني ّان ولحّناها «ارجعي يا ألف ليلة» و «بلّغه‬
‫ّ‬ ‫الخطيب»‪ .‬ومن‬

‫يا قمر»‪ ،‬إضافة إلى «يا شهرزاد» لرفيق خوري‪...‬‬

‫نادرة المغني ّة اللّبناني ّة أو العربي ّة التي يأبه لها المصلّي‪ .‬ففيروز كما يقول الشاعر سعيد عقل‪:‬‬
‫«أرغمــت األغنيــة علــى أن تُكتب‪ -‬أو تتحــد ّث‪ -‬بما يرفع الخليقة إلى الخالــق‪ ..‬وما من ٍّ‬
‫بث جميل‬
‫شح ألن تُطلقه فيروز ّ‬
‫إاّل وتحتَّم عليه أن يرفع عينَي ْه إلى الخالِق»‪ .‬في هذا المنحى كانت لفيروز‬ ‫ُر ِّ‬

‫«شمس المساكين» و «ساكن العالي» و «إيماني ساطع»‪ ...‬وكلّها َدعت إلى السالم واإليمان‬
‫ّ‬
‫والاّلفت أنّه‬ ‫ْ‬
‫واضطرابه وحصار الحياة له‪.‬‬ ‫ســتمع في حاالت قلقــه‬
‫ِ‬ ‫والمحب ّة والرجاء وخاطبت ُ‬
‫الم‬

‫ســتمع إلــى عويل ويأس‪ ،‬أو ينقلب‬


‫ِ‬ ‫ال توجــد فــي أغاني فيروز كلّها واحدة ينقلب فيها حزن ُ‬
‫الم‬
‫َف َرحُه إلى «صخب وخ ّ‬
‫فة»‪.‬‬
‫لقــد أخرجــت فيــروز الطقوس الديني ّة من أغنيتهــا‪ ،‬لكنّها ثب ّتت اإليمــان‪ .‬وكان ّ‬
‫نص هذه األغنية‬
‫ن روح الصالة تُرافِ ق أغنيتها من أوّلها إلى آخرها (غنَّيت ّ‬
‫مكة‬ ‫مجرّد صالة أو ما ي ُشبه الصالة‪ ،‬أو أ ّ‬

‫ي تفرقة‬
‫أهلها الصيد) وجميع أغانيها وتراتيلها في األعياد الديني ّة قامت واستقامت من دون أ ّ‬
‫بين اللّون والجنس‪...‬‬

‫والمعبر منه في صــوت فيروز‪ .‬وكانت الماد ّة‬


‫ِّ‬ ‫كمــا كان الشــعر بالفصحــى مصدراً إلحياء الجميل‬

‫الشــعري ّة الزجليّــة أو العامي ّة إرثــاً عريضاً ُموازياً فــي أداء الصوت وإضافة المميَّــز واألخّاذ إليه‪،‬‬

‫«فالموّالــي» و «المعنّــى» و «القــرّادي» ونظام القول والقوّالة (ســهرة الحب) أمثلة في هذا‬

‫بناني‬ ‫ــل الزجل الل ّ‬


‫األساســي في نقْ ِ‬ ‫ن صوت فيروز كان العامل‬‫المجــال‪ .‬وتُمكــن اإلشــارة إلى أ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫غ جديدة لب َّت‬ ‫دث مع الحفاظ على روحه وشــكله‪ ،‬وتالياً خلْقه من جديد في ص َي ٍ‬ ‫إلى غناءٍ ُمســتح َ‬
‫ّ‬
‫النص‬ ‫عاصرة‪ ،‬وما َفرضته اإليقاعي ّة الموســيقي ّة الرحباني ّة َ‬
‫وموقع‬ ‫ُ‬
‫والم ِ‬ ‫مــا تطلبــه األذن الحديثة‬

‫المغنّى‪ .‬ومن بين شعراء الزجل والعامي ّة اللّبناني ّة الذين غنّت لهم فيروز من ألحان الرحباني ّين‬

‫قبــان مكــرزل وأســعد ســابا وعبد اللّه غانم وميشــال طــراد واألخوين رحباني وعــدد آخر من‬

‫الشعراء المجهولين‪...‬‬

‫‪304‬‬
‫ن النصوص الشــعري ّة بالفصحى التي غنّتها فيروز َر َف َع ِ‬
‫ت القصيد َة العربي ّة الكالســيكي ّة من دائرة‬ ‫إ ّ‬

‫ماضوي ّتهــا باتّجاه إحيائها كنصو ٍ‬


‫ص حيّــة وموجودة جماليّاً وتعبيريّاً في الذائقة العامّة‪ .‬وفي هذا‬

‫معت البارز‬
‫ِ‬ ‫الصــدد لــم ُ‬
‫تكن التجربــة الفني ّة الرحباني ّة مع فيــروز لبناني ّة أو عربي ّة خالصة‪ .‬فهــي َج‬

‫العربي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والنص األدبي‬ ‫والجميل والفريد من االثنتَي ْن‪ :‬صوت فيروز وموسيقى الرحباني ّين‬

‫للنص المغنّى ســواء‬


‫ّ‬ ‫فاف بالعناصر المعزِّ زة‬ ‫ُ‬
‫اإلمســاك الشــ ّ‬ ‫فــي المؤد ّى الغنائي الفيروزي َب َرزَ‬
‫ّ‬
‫والنص‬ ‫فــي مــا كانــت تحتضنه على صعيــد قدرات صوتهــا‪ ،‬أم في ما كانــت تقد ّمه الموســيقى‬
‫ّ‬
‫للنص والصوت‪ .‬وهذا‬ ‫بخاصة في إطار فكرة الموسيقى الرحباني ّة ُ‬
‫الموائِمة‬ ‫ّ‬ ‫المكتوب المالئمان‪،‬‬

‫األمر تَمظهر بوضوح في عدد ٍ واســع من األعمال المسرحي ّة الغنائي ّة الرحباني ّة‪ ،‬والسي ّما «رحيل‬

‫اآللهة» و «جبال الصوّان» و «ناطورة المفاتيح» و «بترا»‪...‬‬


‫أكثــر مــن ألف أغنية اســتطاع صــوت فيروز فيهــا القبض على وجــع الناس وقلقهــم َ‬
‫وف َرحهم‬

‫العربي‪ ،‬ألنّها حملت لغــة الذُرى واإلفاقة‬


‫ّ‬
‫ّ‬
‫ككل‪ .‬كأنّهــا كانت ثورة في الغنــاء‬ ‫وأزمــات وجودهــم‬

‫والتطهُّر‪ ،‬وألنّها‪ ،‬بصوتها‪ ،‬كانت تبحث عن األشياء الضائعة لتُعيد التذكير بها ودفْعها إلى الواجهة‪.‬‬

‫بعد انفصالها عن عاصي الرحباني سنة ‪ ،1980‬ووفاته سنة ‪ ،1986‬استكملت فيروز رحلتها الفني ّة‬

‫نص جوزف حرب الشعري وألحان فليمون وهبي‬ ‫بمسيرة ٍ جديدة ُ‬


‫ومختلفة كان قوامها اإلبداعي ّ‬ ‫َ‬
‫وزياد الرحباني وزكي ناصيف‪.‬‬

‫تمظهــرت رؤيــة زيــاد الرحباني بأن تكون أغنيــة فيروز قريبة مــن الناس وقضاياهم اإلنســاني ّة‬

‫ع جديد من األغنية‬
‫الرحباني إلى نَو ٍ‬
‫ّ‬ ‫الغنائي‬
‫ّ‬ ‫المباشــرة‪ .‬وهو اســتطاع نقْلها من عباءة المســرح‬

‫أمثال «عودك رنّان» و «كيفك أنت» و «بعتّلك يا حبيب الروح» وعشرات غيرها‪ .‬وقد خُي ّل للبعض‬

‫األدق أنّه اســتَكمل إمكاناته‬


‫ّ‬ ‫نصاً وموســيقى‪َ ،‬‬
‫ســقَ َط من عليائه‪ ،‬لك ّ‬
‫ن‬ ‫ن هذا الصوت مع زياد‪ّ ،‬‬
‫أ ّ‬

‫واإليماني إلى‬
‫ّ‬ ‫والرومانســي‬
‫ّ‬ ‫ي‬
‫الطهراني والرمز ّ‬
‫ّ‬ ‫وألواناً جديدة بتجربة ٍ غنائي ّة انتق َلت من الحلم‬
‫ٍ‬
‫التماس مع غوايــة الواقع بجملة موســيقي ّة وبمروحة لحني ّة‬ ‫الحــي والمباشــر‪ ،‬وإلى‬
‫ّ‬ ‫الواقعــي‬
‫ّ‬
‫عنصري الموســيقى الشــرقي ّة وبعض األســاليب األدائي ّة الغنائي ّة الغربي ّة المضبوطة‬
‫َ‬ ‫أفادت من‬

‫بمهارة ودقّة‪.‬‬

‫الغنائي‬
‫ّ‬ ‫شرقي الهوي ّة الموسيقي ّة‪ ،‬أد ّت فيروز إ ْ‬
‫ن في إطار المسرح‬ ‫ّ‬ ‫مع فليمون وهبي‪ ،‬كملحّن‬

‫عتمد على المقامي ّة‬ ‫ُ‬


‫والم ِ‬ ‫ُ‬
‫والمنض ِبط‬ ‫ٍ‬
‫أغنيات تقع في دائرة الطرب الممسوك‬ ‫الرحباني‪ ،‬أو بعده‪،‬‬
‫ّ‬

‫‪305‬‬
‫الرحباني قام الرحباني ّان عاصي‬
‫ّ‬ ‫الغنائي‬
‫ّ‬ ‫الموســيقي ّة العربي ّة المهذّبة والمصقولة‪ .‬وفي المسرح‬

‫ومنصــور بصقْ ِ‬
‫ــل ألحانه وتقديمها موزَّعة موســيقيّاً بشــك ٍ‬
‫ل ُمتقن‪ ،‬وهذا ما تجسّ ــد في حوالى‬

‫حني‪ .‬ومــن ألحان فليمون وهبي في هــذه المرحلة‪« ،‬من‬‫‪ 26‬أغنيــة تفــرّدت بالضبــط الفني والل ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نقي حبايبنــا»‪ ...‬أمّا بعد انفصالها عــن الرحباني ّين‬
‫ّ‬ ‫عــزّ النــوم» و«رجعــت ليالي زمان» و«لــو فينا‬

‫فغنَّت فيروز ألحاناً ذات شــخصي ّة شــرقي ّة عربي ّة‪-‬لبناني ّة ومنها‪« :‬يا ريت مِ نُن» و«طلعلي البكي»‬

‫و«ورقو األصفر» و«يا رايح» (شعر طالل حيدر) و«أسامينا» و«دهب أيلول» وغيرها‪ .‬أمّا الملحّن‬

‫والموسيقي زكي ناصيف فلحَّن لها عمال ً غنائيّاً رائداً بعنوان «يا بني أمّي» (جبران خليل جبران)‪،‬‬
‫ّ‬
‫وهو من األعمال الموسيقي ّة اللّبناني ّة والعربي ّة الدرامي ّة الكبيرة‪.‬‬

‫هذه الفيروز‪..‬‬

‫ل صغير من منــازل بيروت العتيقة‪ .‬وهناك َأمضت‬


‫هــذا الفيــروز‪ ،‬أو هذه الفيروز وُلدت في منز ٍ‬

‫طفولتهــا وصباهــا‪ .‬وقــد تمثّلت صالبتهــا منذ البدايــة بطفولتها الصعبة‪ .‬فهي لــم تعرف خاللها‬

‫اللّعــب‪ ،‬ولــم تحتضن دمية ولم تتــذوّق حلوى‪ ...‬وعندما عملت في بدايتها فــي اإلذاعة اللّبناني ّة‬

‫كل‬ ‫ٍ‬
‫بأكياس ُمحمَّلة من ِّ‬ ‫هرعت إلى السوق وعادت‬ ‫وقبضت مئة ليرة لبناني ّة َ‬
‫بدل راتبها الشهريّ‪َ ،‬‬
‫صنف و َلون‪ ،‬كما لو كانت تريد التعويض عن الحرمان الذي عاشته‪ .‬إذ تقول‪« :‬لم ُ‬
‫يكن في بيتنا‬ ‫ٍ‬

‫ن ذلك لم يحزّ في نفسي‪ .‬وما زلت أح ّ‬


‫ن للحُصر»‪.‬‬ ‫سجّادة‪ .‬كان هناك حصير‪ .‬لك ّ‬
‫ُ‬
‫التعامل مــع األرقام ولم‬ ‫شــخصي ّة فريــدة فــي طفولتها وشــبابها لم تعرف جــدول الضرب وال‬

‫تَحسد أحداً‪ .‬وقد ظلّت طوال عمرها تعتقد بوجود الحسد‪.‬‬


‫بعــد زواج عاصي وفيروز ســنة ‪ ،1955‬بدأت تظهــر الخالفات والعالمات التي تُمي ّز ّ‬
‫كاّل ً منهما‪ .‬أل ّ‬
‫ن‬

‫فني‪ .‬واألخير اســتوعب األوّل ونما على حســابه‪.‬‬


‫ّ‬ ‫عائلي‪ ،‬وآخر‬
‫ّ‬ ‫منحى‬
‫ً‬ ‫هــذا الــزواج اتّخذ َمنح َيي ْن‪:‬‬

‫اليومي في مكتب الرحباني ّين والمســرح والتماريــن والعروض داخل‬


‫ّ‬ ‫اليومــي أو شــبه‬
‫ّ‬ ‫فالجهــد‬

‫ن والجمهور‪ .‬فمئات الحفالت‬ ‫ّ‬


‫الحصة األكبر فيه للف ّ‬ ‫لبنــان وخارجه دفع فيروز وعاصي إلى وضــع‬
‫الخــاص‪ .‬وقد عاش هــذان الزوجان ّ‬
‫كل ما يعيشــه‬ ‫ّ‬ ‫كانــت كافيــة بنســبة ٍ عاليــة ألن تــأكل الزمن‬

‫األزواج‪ .‬وفــي إحــدى ُمقابالتها األخيرة صرَّحــت‪« :‬الزواج صعب بين البســطاء والعادي ّين‪ ،‬فكيف‬

‫وقتي‪ .‬األساس فيها الحزن واأللم»‪.‬‬


‫ّ‬ ‫بيننا‪ .‬عائلتنا مثل التراجيديا اإلغريقي ّة‪ .‬الفرح فيها‬
‫ّ‬
‫وكل َدور لعبته كان يعكس شــيئاً فيها‪ .‬لــم تُغادر لبنان في‬ ‫هــذه الفيــروز صرفــت وقتها للفنّ‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫ن ّ‬
‫كل شيء تغي َّر في‬ ‫اعتبرت أ ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫محطة‬ ‫ككل اللّبناني ّين الذين اختبأوا‪ ،‬وفي أكثر من‬
‫ّ‬ ‫الحرب‪ .‬اختبأت‬

‫يبق من ذلك‬ ‫لبنــان‪ .‬وهــذا مــا كان ي ُخيفها‪ .‬لقد غنَّت للبنان الحلم والتطلّعــات العربي ّة‪ .‬لك ْ‬
‫ن لم َ‬
‫كلّه الشيء الكثير‪.‬‬
‫الغ َر ُ‬
‫ق في العمل والزمته المواظبة‬ ‫زمني َحضر فيه َ‬ ‫ق‬
‫اســتثنائي في ســيا ٍ‬ ‫فنّانة اســتثنائي ّة و َدور‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفني بموهبتها ونزاهتها وبذْلها ُ‬
‫المتواصل‬ ‫حصن وجو َدها‬ ‫واإللحاح‪ .‬وهي لم ُ‬
‫تكن كذلك لو لم ت ُ ِّ‬
‫ّ‬
‫من دون حدود‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫ّ‬
‫معاّل*‬ ‫طالل‬

‫عاشــت فيــروز (نهاد حد ّاد) في منطقة غير مســتقرّة من العا َلم تعاني مــن النّزاعات واختالف‬
‫اآلراء واالهتمامــات‪ ،‬واســتطاعت علــى الرّغــم مــن ذلك‪ ،‬وعلى مــدى عطاءاتهــا اإلبداعي ّة‪ ،‬أن‬
‫تكــون حالــ ًة رمزي ّة يتّفق عليها ُمختلف األطراف‪ُ ،‬م ِّ‬
‫مثل ًة حقيقة األحاســيس الوجداني ّة وتشــرُّب‬ ‫ِّ‬
‫االنفعــاالت وحقيقــة التوتُّر التي عبَّــرت عنها في أغانيها من خالل موســيقى الرحابنة التعبيري ّة‬
‫تشــكل على مســتوى الســماع والرؤية عا َلماً ُمتفرّداً في‬
‫ِّ‬ ‫البالغة التنوُّع أفقيّاً وعموديّاً‪ ،‬والتي‬
‫الموسيقى العربي ّة‪ ،‬كانت لها مساحتها األكيدة منذ خمسيني ّات القرن الماضي‪.‬‬

‫فقــد ح َّ‬
‫ققــت موســيقى الرحابنــة مجموعــ ًة كبيرة مــن المفاهيــم الجمالي ّة إلى جانــب قيمتها‬
‫التعبيري ّة المتأتّية من مز ْ ِج العوالِم الحســي ّة لطبيعة لبنان ومزاجه بعوالِم األســرار التي تتجاوز‬
‫ّ‬
‫وكل ما يدفع جمهورهم للبحث عن الجوهر الحقيقي للمتعة‬ ‫الواقــع ولوجاً فــي عوالِم األفكار‬
‫ُ‬
‫صوت وأداءُ فيروز باختالف مراحلها وتنوُّع ألحانها ومحاملها التعبيري ّة واســتقالل‬ ‫التي يحقِّ قها‬
‫البصري ّة التي نحن بصدد الكتابة عنها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وكل ما جهدت لتحقيقه عبر استكشــاف الجوانب َ‬ ‫تجربتها‪،‬‬
‫تمظهُرها الصوتي واللّوني حدود الصوفي ّة واالستمتاع بماورائي ّة المعاني‪.‬‬
‫ْ‬ ‫والتي تبلغ في‬

‫مرجعي ّات فوق طبيعي ّة‬


‫ٍ‬
‫أطياف وألوان‬ ‫ّ‬
‫بكل ما يو ِّلده من‬ ‫ّ‬
‫أفكر في طفولتي وأنا أستمع لصدى صوت فيروز‬ ‫طالما كنت‬
‫حيــن كانت المدرســة في أقاصي شــمال ســورية تَضــع منذ الصبــاح أغانيها متواليــة‪ ..‬كنّا نخرج‬
‫علي أن أتمثّل‬
‫ّ‬ ‫مــن بيوتنــا مع انطالق صوتها في مكب ّرات المدرســة‪ ،‬وكذلك عبر الراديــو‪ ،‬وكان‬

‫*فنّان وباحث في الجمالي ّات المُ ِ‬


‫عاصرة من سورية‬

‫‪308‬‬
‫ّ‬
‫يتقصدون تلك األلوان أم‬ ‫صوتها عبر األلوان ُمتســائال ً في فترة ٍ الحقة‪ :‬هل كانت هي والرحابنة‬
‫ن حدســي كفنّــان هو الذي كان يقودني إلى تلك التخيّــات؟ بالتأكيد لم أكُن على قدر ٍ ٍ‬
‫كاف من‬ ‫أ ّ‬
‫ن ذلك استمرّ في تسليط وعيي البصري على أشكا ٍ‬
‫ل من األلوان‬ ‫الوعي الموسيقي آنذاك‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ّ‬
‫مبكراً‪ ،‬والتــي تفوَّقت في حضورها الذهني على حضورهــا الواقعي والحقيقي من‬ ‫التــي وعيتهــا‬
‫كمساحات بعيدة عن َمراجعها الطبيعي ّة‪ ،‬فصوتُها يسحب‬
‫ٍ‬ ‫خالل تنشيط صلتي بها‪ ،‬ليس كزمنٍ‪ ،‬بل‬
‫مشــكل ًة فصائــل لوني ّة ُمختلفة عبــر إعادة خلْقها‬
‫ِّ‬ ‫األلــوان نائيــاً بهــا إلى مرجعي ٍ‬
‫ّات فوق طبيعي ّة‪،‬‬
‫باعتبارهــا علــى صلــة بالثقافة والفكر والعواطــف‪ ،‬وليس بحقيقة األصباغ التي نَســتخدمها في‬

‫َلوحاتنا َ‬
‫ومسارحنا وشوارعنا وباقي التعبيرات البصري ّة األخرى‪.‬‬

‫وعي جديد باألغنية العربي ّة‬


‫ٌ‬
‫التال ُعــب بالصــوت كان يتجاوز غالباً ما أعرفــه عن التال ُعب بالضوء‪ ،‬وما إذا كان ي ُمكن إطالق َلون‬
‫ّ‬
‫لــكل أغنية مــن أغانيها‪ ،‬فأي ّة واحدة منهــا‪ ،‬إضافة لذلك‪ ،‬كانت تتبد ّى بما يشــبه‬ ‫فيزيائــي محــد َّد‬
‫ِّ‬
‫شــكل وحد ًة‬ ‫َّ‬
‫المعشــق والملــوَّن في نوافــذ الكنائس والمعابــد‪ ،‬حيث تمتزج األلوان لت ُ‬ ‫الزجــاج‬
‫تأمل أنّها‬ ‫مفاهيمي ّة تستقطب الوعي عبر جزئي ّاتها التي تَمنحها التمي ُّز والتفرُّد بحيث َيعتقد ُ‬
‫الم ِّ‬
‫النســخة الوحيــدة التي ال ي ُمكــن تكرارها‪ ،‬أو إعادة إنتاجها بعيداً عن صوت فيروز الســاحر‪ ،‬الذي‬
‫وعي جديــد باألغنية العربي ّة‬
‫ٍ‬ ‫َيمنــح هــذه األلــوان صورتها المرئي ّة و َيجعل منها َحدثاً للكشــف عن‬
‫ُ‬
‫ن قصير وكثيف‬ ‫ن طويل إلى زم ٍ‬‫وطريقــة تفكيــر ُمختلفة تضغط ما اعتادت األذن ســماعه في زم ٍ‬
‫يمسح مساحات األلوان لتتح َّ‬
‫قق بشكلها النهائي‪ .‬فإذا كانت بعض األغاني خضراء‪ ،‬فاألخضر ليس‬
‫صف ًة ُمطلقة لمعنى األخضر‪ ،‬وإنّما ُ‬
‫لمختلف أشــكاله وتدرُّجاته وســطوعه أو قتامته وبما يتآلف‬
‫و َلون صوتها‪.‬‬

‫مز ْ ُ‬
‫ج األلوان التفاعلي ّة‬
‫ُّ‬
‫تمكنهــم من إبراز‬ ‫ن َمقــدرة الرحابنــة علــى مــزْج األلــوان التفاعلي ّة كانت ظاهِــرة في‬ ‫ّ‬
‫شــك أ ّ‬ ‫ال‬
‫قيمــة اللّــون (تغميق اللّــون أو تخفيفه وتدرُّجه) ومن ثمّ الجمْع بين درجــات اللّون الواحد عبر‬
‫ْــم ارتبــاط األلوان بعضها ببعــض‪ ،‬وهي مهارات َمنحتْهم التفرُّد فــي فهْم خامة صوت فيروز‬
‫فه ِ‬
‫ت ُ‬
‫المتغ ِّيرات من‬ ‫ّ‬
‫محطات وانتقاالت جيلي ّة َو َع ِ‬ ‫ومــداه منــذ انطالقتهم‪ ،‬مروراً بما ي ُمكن اعتباره‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫وتمكنت في ما بعد من االنقالب على طبيعة األلوان األساســي ّة والثنائي ّة إلى ما ي ُمكن‬ ‫حولها‪،‬‬

‫‪309‬‬
‫اعتباره مكمّالت لوني ّة تخترق االنسجام‪ ،‬باعتبارها تتناقض مع بعضها البعض لتعزيز كثافة الق َيم‬
‫بهجة جماليّاً‪ .‬وهو ما َف َعله زياد بعد‬ ‫التعبيريّــة بصــورة ٍ جريئة عالية التباي ُن وبالِغة الحساســي ّة ُ‬
‫وم ِ‬
‫ٍ‬
‫تأثيرات َلوني ّة تعتمد على إدخال آالت موسيقي ّة كالكالرينيت واألكورديون والغيتار‬ ‫ذلك في إنتاج‬
‫وآالت النّفخ والبيانو واألوبوا ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬باعتبارها جزءاً من التصميم الهيكلي ألغانيه‬
‫وموســيقاه التــي تكون ألوانها متســاوية الب ُعد عن بعضها البعض‪ ،‬مع وعي مــا ي ُمكن اعتباره‬
‫التمثيــات البديلــة لأللــوان التي كان األخوان رحباني يركّزان عليها‪ ،‬ســواء تلك التي أشــرت إلى‬
‫تفرُّدِهــا اللَّونــي أم تلــك التي اعتمــدت اللّونَين‪ ،‬أم ما أنجزوه لفيروز عبــر المثلّث اللَّوني الذي‬
‫يضمّ األصفر واألحمر واألزرق‪ ،‬أي األلوان األساسي ّة‪.‬‬
‫ّ‬
‫والموشــح والطرب والقــد ّ والد َّور‬ ‫فيــروز التــي غنَّــت األغاني الشــعبي ّة والقصيدة والطقطوقة‬
‫والزَّجــل والمــوّال والتراتيــل الدينيّــة وســواها من األلــوان‪ ،‬فقد غنَّــت الســرياني والبيزنطي‬
‫المقطــع لحنيّاً‬
‫َّ‬ ‫والمارونــي واألندلســي وبعــض القطع للميــاد واألوبرا والريشــتاتيف الكالم‬
‫كالمقاطع الفاصلة في المسرحي ّات‪ ..‬غنَّت لسي ّد درويش وجبران وسعيد عقل وعاصي ومنصور‬
‫َ‬
‫لمن غنَّت لهــم أو غنّوا‬
‫وبــدوي الجبــل وفيلمــون وهبة وطــال حيدر وزيــاد والقائمة تطــول َ‬
‫فتوضحت األلوان َ‬
‫وأشــرقت‪ ،‬إذ بين اللّون والصوت ِصالت أساســي ّة ُمتبا َدلة ولهذا تُسمّى‬ ‫َّ‬ ‫معها‬
‫األصوات باأللوان في ُط َلق على الصوت المفتوح (األبيض)‪ ،‬وتُســمّى األصوات العميقة (السوداء‬
‫أو الداكنة)‪ ،‬وتدعى األصوات الرشيقة الحركة (الملوّنة)‪ ،‬كما تدعى األصوات ُ‬
‫المحايدة (الرمادي ّة)‪،‬‬

‫المغنّي القيمــة االحترافي ّة العالية قدرته ولــوج عوالِم األلوان‪َ .‬‬


‫فصوت‬ ‫ّ‬
‫ولعــل ما يمنح ُ‬ ‫وهكــذا‪،‬‬
‫فيروز (التو) أي داكن عريض ودرامي لحج ْمه الكبير‪ ،‬وإن لم تستخدمه بطريقة أوبرالي ّة‪ّ ،‬‬
‫إاّل أنّها‬
‫تَستخدم غالباً أجزاءً منه ُمستعير ًة أصواتاً أخرى كحالة ٍ تعبيري ّة‪ ،‬وخصوصاً في أغانيها الشعبي ّة‪.‬‬

‫الحدْس‬
‫أمثلة يمليها َ‬
‫علي حدْسي وال أميل‬
‫ّ‬ ‫لقد تعد ّدت األشكال واأللوان في أغاني فيروز وال بد ّ من أمثلة كان يمليها‬
‫ن تُشــبه النقوش كاألندلســي ّات‬ ‫ّ‬
‫مؤشــرات على ما قد ُ‬
‫َّمت‪ .‬فهناك أغا ٍ‬ ‫إلى تعميمها‪ ،‬لكنّها تُعطي‬

‫(بروحي تلك األرض) فيما ما غنَّته للشــام ي ِ‬


‫ُقارب العجمي (شــآم ياذا السيف) وهكذا‪ .‬أمّا على‬
‫صعيــد اللَّــون‪ ،‬فلديهــا أغــا ٍ‬
‫ن ب َلو ٍ‬
‫ن واحد مثل ســائليني يا شــآم (أحمر)‪ ،‬هيال يا واســع (أزرق)‪،‬‬
‫ّ‬
‫وظــل المصطفى‬ ‫الحلــوة دي ودهــب أيلــول (أصفر)‪ ،‬شــتّي يا دنيا وســوقي القطيــع (أخضر)‪،‬‬
‫مكة (رمادي)‪ ،‬على جســر اللّوزيّــة (زهري)‪ ،‬بكرم‬
‫(أرجوانــي)‪ ،‬طلعــي يا عروســه (أبيــض)‪ ،‬غنّيت ّ‬

‫‪310‬‬
‫م اللّيل وخدني ياحبيبي (أســود)‪،‬‬
‫اللّولو (بنفســجي)‪ ،‬يا راعي القصب (تُرابي)‪ ،‬أنا خوفي من عت ْ ِ‬
‫ن اللّيل (نحاسي غريب)‪.‬‬ ‫َ‬
‫سك َ‬ ‫بكتب إسمك ياحبيبي (بنّي)‪،‬‬
‫ن بعض األغاني كانت تبدو بلونَي ْن مثل‪ :‬حب َّيْتَك تانســيت النوم (أصفر وأســود)‪ ،‬أموي ّون‬
‫كما أ ّ‬
‫(أحمر وأســود)‪ ،‬طيري يا طي ّارة (ســماوي وأبيض)‪ ،‬في قهوة عالمفرق (أحمر وأصفر)‪ ،‬يا جارة‬
‫ّ‬
‫عبكير (أصفر‬ ‫ن بألوا ٍ‬
‫ن ثالثي ّة‪ :‬إمّي نامت‬ ‫الــوادي (أبيض مع تخطيــط بقلم الرصاص)‪ .‬وهناك أغا ٍ‬
‫وأســود وأبيــض)‪ ،‬وألوان طيفي ّة مثــل‪ :‬عالطاحوني (من أطياف األبيض)‪ ،‬شــتّي يا دنيا (أطياف‬
‫ملوَّنة مع األبيض)‪ .‬فيما نرى جابتلي العصفورة بألوان (قوس قزح)‪.‬‬

‫ّ‬
‫والخاصة‬ ‫اتّفاق العامّة‬
‫ٍ‬
‫مجموعات من األلوان الدافئة والرائعة‬ ‫تمتلك فيروز في ثنايا صوتها وأدائها وصدقها وإيمانها‬
‫المحايدة‪ ،‬وهي مفاهيم أكثر ممّا هي صفات جمالي ّة‪ .‬ولهذا فإنّها تُثير تأثيرات نفســي ّة‬
‫وأحياناً ُ‬
‫كارتباطات يقوم المتل ّ‬
‫قون بتعيينها بحســب درجات‬ ‫ٍ‬ ‫ُمختلفة عند ســماعها (رؤيتها) أو مالحظتها‬
‫وعيهــم لتلــك األلــوان وقدرتهــم على تحديد أنظمتهــا‪ ،‬وهو أم ٌر نظــري ال ي ُمكــن إثباته لتعد ُّد‬
‫ّ‬
‫تمكنت‬ ‫ّ‬
‫يشــكل حقيق ًة قانونيّــة ي ُمكن إثباتها‪ ،‬مــع ذلك‬ ‫مســتويات تل ّ‬
‫قيــه من جهــة‪ ،‬ولكونه ال‬
‫والخاصة عبر الزّمن‪ ،‬وذلك‬
‫ّ‬ ‫فيروز من تحقيق حضور ٍ اســتثنائي عربي ودولي اتّفقت عليه العامّة‬
‫لحج ْــم إنجازاتهــا ونوعي ّتهــا‪ ،‬ولقدرة َمن وقفوا خلفها وإلى جانبها في َمســيرة اشــتقاق الضوء‬
‫المنعكس من صوتها على وعي جمهورها الواســع وعيونه وآذانه‪ ،‬وما ي ُمكن أن ندعوه اللَّون‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫بــكل صفاته المحلي ّة القادرة‬ ‫المتجلّــي صوتيّاً بحيث ي ُمكن أن ي ُدركه الناس في الواقع‬
‫البصــري ُ‬
‫المشاعر واألمزجة واألفكار والمواقف‪ ،‬ومحاولة البحث في ثنايا اللّون الصوتي‬
‫على التعبير عن َ‬
‫كمحاولة ٍ اللتقاط حقيقة تجربتها اإلنساني ّة عبر الغناء‪ ،‬واإلشارة إلى اإلمكانات الكاملة‬
‫الفيروزي ُ‬
‫ٍ‬
‫إجابات عن العديد من التساؤالت عن المعاني ُ‬
‫المرتبطة بالمشاعر والسلوك‬ ‫التي ح َّ‬
‫ققت عبرها‬
‫دمها هذه التجربة عبر‬
‫والتطوُّر الذوقي واستكشــاف كيف ي ُمكن للمعرفة الموســيقي ّة التي تق ِّ‬
‫العيــن واألذن والفــؤاد لتكويــن نظــرة ثاقبة لطبيعــة اإلبداع الموســيقي والغنائــي‪ ،‬باعتبارها‬
‫َ‬
‫لكل من الموسيقى واللَّون أسراره وخفاياه‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫التلويني مع تقدير أ ّ‬
‫ن‬

‫‪311‬‬
‫حسين جواد قبيسي*‬

‫ّ‬
‫والســكر من‬ ‫المســتمِ ع يأكل اللّوز‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫والســكر» وكذلك‬ ‫«‪...‬وكانــت الزغلولــة تاكل عإيدي اللّوز‬
‫صوتهــا‪ ،‬يتناوله صباحاً مع القهوة ومســاءً في ســهرة ٍ حالِمة‪ ...‬صوت آخــر العمالقة الكبار في‬
‫ع لــم تُزَ ع ِْزع ْ ُه‬ ‫ُ‬
‫بتواض ٍ‬ ‫ن الغنــاء العربــي هــي فيروز‪ ،‬وهي الصــرح الفن ّ ّ‬
‫ي الــذي ما زال شــامخاً‬ ‫فــ ّ‬
‫الفرنســي لها في منزلها المتواضع هو اآلخــر في بيروت‪ ،‬قبل أن يزور أحداً من‬ ‫ُ‬
‫زيــارة الرئيس‬
‫ّ‬
‫أعالم الف ّ‬
‫ن والسياسة وغيرهم في لبنان‪ .‬ولفيروز موقف سياسي واضح‪ :‬ترفض الحديث في‬
‫السياسة‪ ،‬لكنّها تحرص على تقديم األغنيات الوطني ّة‪ .‬وفيروز هي األغنية «التي تنسى دائماً أن‬
‫تكبــر‪ ،‬وهــي التي تجعل الصحراء أصغر وتجعل القمر أكبر‪ »...‬هكذا قال فيها محمود درويش‪،‬‬
‫وهكــذا خاطبهــا بولس ســامة‪« :‬فيروز يا أســطورة الواقع وآية الروعة‪ ،‬يــا غبطة األرواح في‬

‫م شاسع مجهولة اإليحاء مجهولة األصداء لم ت ُ َ‬


‫نسب إلى واقع»‪.‬‬ ‫سجعة تنزّلت من عا َل ٍ‬

‫ّ‬
‫لكل األلوان الغنائي ّة‬ ‫ٌ‬
‫صوت غير محدود بمقدرته الفائقة‬ ‫ووصفهــا حليم الرومي بقولــه‪« :‬فيروز‬
‫َ‬
‫وسيتمي ّز في المستقبل القريب بأنّه أقدر صوت على غناء األلحان الحديثة في العا َلم»‪ .‬أمّا نزار‬
‫غنائي لفيروز‬
‫ٍّ‬ ‫ن‬ ‫اكتست حل ّ ًة أخرى من ِّ‬
‫الشعر»‪ .‬وبعد مهرجا ٍ‬ ‫ْ‬ ‫قب ّاني فقال فيها‪« :‬قصيدتي‪ ،‬بصوتها‪،‬‬
‫صحيفة برازيلي ّة‪« :‬لم تشهد ريو دي جانيرو صوتاً كصوت هذه اللّبناني ّة‪ ،‬فصوت‬
‫ٌ‬ ‫في البرازيل َكتبت‬
‫جناحيه أربعة آالف ســنة من الحضارة»‪ .‬وفي عشــق فيروز‪ ،‬قال الشــاعر أنسي‬
‫َ‬ ‫فيروز يحمل على‬
‫الحاج‪« :‬ليس مجدي أنّني أعيش في عصر فيروز فحسْ ــب‪ ،‬بل المجد كلّه أنّني من شــعبها»‪ .‬أمّا‬

‫ترجم وباحث لبناني مُ قيم في فرنسا‬


‫*مُ ِ‬

‫‪314‬‬
‫ســعيد عقــل فهــو الذي أطلقها «ســفيرة لبنان إلى النجــوم»! ويبقى أجمل مــا قيل في فيروز‬
‫يضع‬
‫َ‬ ‫ي عِل ْ ٍ‬
‫م هذا الذي لم يســتطع حتّى اآلن أن‬ ‫ما َكتبته األديبة الروائي ّة أحالم مســتغانمي‪« :‬أ ُّ‬
‫ص‪ ،‬أو في قارور ِة دواء نتناوله ســرّاً‪ ،‬عندما نُصــاب بوعكة ٍ عاطفي ّة‪،‬‬
‫أصــوات َمــن نُحِ ــبّ في أقــرا ٍ‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫كتبت مســتغانمي في مكا ٍ‬
‫ن آخر‪« :‬فيروز‬ ‫مــن دون أن يــدري صاحب ُهــا كم نحن بحاجة ٍ إليه»‪ .‬كما‬
‫صمتــت تركتنا للبــرد‪ ،‬كأنّها تغنّي‬
‫ْ‬ ‫المطربــة التــي لــم ترتــ ِد منذ نصف قرن ســوى صوتها‪ ،‬وكلّما‬
‫لتكسونا‪ ،‬بينما يغنّي اآلخرون ليكتسوا بمالِنا»‪.‬‬
‫ّ‬
‫المثقفة» فيروز‬ ‫ُ‬
‫الناقدة خالدة سعيد في كتابها «يوتوبيا المدينة‬ ‫ُ‬
‫األديبة‬ ‫في العام ‪ 2012‬وصفت‬
‫بـ «ظاهرة االنبعاث الثقافي لبيروت في خمســيني ّات وســتيني ّات وســبعيني ّات القرن العشرين»‪،‬‬
‫فهــي تراها صرحــاً ثقافيّاً قائماً بذاته‪ ،‬وترى «اللّقاء الفيروزي ‪ -‬الرحباني» مؤسّ ســ ًة ثقافي ّ ًة من‬
‫بيــن خمس مؤسّ ســات طليعي ّة رائدة‪ ،‬عرفتها بيروت في ذلك الوقــت‪ ،‬مع «الندوة اللّبناني ّة»‬
‫(‪((5‬‬

‫و«دار الف ّ‬
‫ن واألدب»(‪.((5‬‬ ‫ومجلّة «شعر» ومجلّة «مواقف»‬
‫(‪((5‬‬

‫لم تكتب خالدة ســعيد عن فيروز وعن تلك المؤسّ ســات الثقافي ّة الطليعي ّة التي عرفتها بيروت‬
‫إبّــان نهضتهــا الثقافيّــة حينما كانــت قبلة الثقافــة العربي ّة والمث ّ‬
‫قفيــن العرب‪ ،‬كتابــ ًة نظري ّة أو‬
‫تنظيريّــة‪ ،‬بــل كانت كتابتها مطبوعــ ًة بالتجربة الميداني ّة والشــخصي ّة؛ فخالدة كانت في قلب تلك‬
‫النهضة‪ ،‬عايشــتها عبر َدورها النَّشــط في «خميس مجلّة شــعر» التي أسسَّ ها بمؤازرة أدونيس‪،‬‬
‫وصدر العدد ُ األوّل منها شــتاء ‪ 1957‬فــي بيروت‪ ،‬ثمّ‬
‫َ‬ ‫الشــاع ُر يوســف الخــال‪ ،‬وترأَّس تحريرهــا‪،‬‬
‫ن ألقاه في‬‫دشن مشروع المجلّة ببيا ٍ‬‫َّ‬ ‫توقّفت عن الصدور(‪ ((5‬خريف العام ‪ .1970‬وكان الخال قد‬
‫«الندوة اللّبناني ّة» (‪ 31‬كانون الثاني‪ /‬يناير ‪ .((6()1957‬وكان لخالدة ســعيد في هذه المجلّة الكثير‬
‫من المقاالت في النقد األدبي‪ ،‬حتّى أن صحيفة «النهار» البيروتي ّة في ذلك الوقت َأطلقت عليها‬
‫قبتها صحيفة «الحياة» اللّندني ّة بـ«شــاعرة‬
‫لقــب «أيقونــة النقد العربي الحديث في بالدنا»‪ ،‬كما ل ّ‬

‫النقــد العربــي»‪ .‬بلى‪ ،‬كان الجانب النظري في كتابتهــا النقدي ّة عد َّ ًة معرفي ّة وخلفي ّة ثقافي ّة غزيرة‬
‫أكســبت هــذه الكتابــات ُعمقــاً تحليليّاً وقدر ًة علــى إبراز الظاهــرات الثقافيّــة الخمس من بين‬

‫وجعلت عســيراً على َ‬


‫العين أن‬ ‫ّ‬
‫الضجيج اإلعالمي والزحمة الثقافي ّة التي خلطت الغث بالســمين َ‬
‫الواحات الثقافي ّة الحقيقي ّة وســط زحام الفوضى الثقافي ّة التي ســادت بيروت في‬
‫ِ‬ ‫تتبي ّن بصفاءٍ‬
‫شــكل ٌّ‬
‫كل‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫تســتل ظاهرات ثقافي ّة‬ ‫تلك الفترة من الزمن‪ ،‬فاســتطاعت َعين الناقدة النافذة أن‬
‫العين وتسرّ الروح وتغذّي العقل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫منها صرحاً وأن تق ِّ‬
‫بهج َ‬ ‫دمها لنا منحوت ًة في صور ناجزة ت ِ‬
‫ُ‬
‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬كما‬
‫َ‬ ‫قد َّمــت فيــروز أغاني أدرجت في مجموعة من المســرحي ّات كلّها من تأليف‬

‫‪315‬‬
‫قد َّمــت معهمــا‪ ،‬ومع أخيهما إلياس‪ ،‬مئــات األغاني التي َأحدثت ثور ًة وتجديداً في الموســيقي‬
‫ٍ‬
‫أغنيات قصيرة‪ ،‬خالفــاً للقاعدة التي كانت ســائدة في ذلــك الوقت وتمتاز‬ ‫العربيّــة‪ ،‬علــى شــكل‬
‫بالطــول‪ ،‬وتمي َّزت ببســاطة التعبير مع ُعمق المعاني وتنــوُّع الموضوعات‪ .‬غنّت فيروز لألطفال‪،‬‬
‫صغــاراً وكبــاراً حين ترد ّهــم أطفاالً ي ُعيد إليهم صوتُها ســجي ّة األطفال وبراءتهــم‪ ،‬وغنّت للحبّ‬
‫ّ‬
‫الحــكام‪ ،‬ومجَّدت البطولة‬ ‫ولــأم والوطن‪ ،‬وانتقدت‬
‫ّ‬ ‫كمــا غنَّــت للقدس وللقضي ّة الفلســطيني ّة‬
‫والمــروءة‪ .‬غنّــت للعديد من الشــعراء من بينهــم ميخائيل نعيمة في قصيــدة «تناثري»‪ ،‬وغنَّت‬
‫بحضور العديد من الرؤساء والملوك وفي أشهر المهرجانات الكبرى في العا َلم العربي‪ ،‬وغنَّت‬
‫للعديــد مــن ُ‬
‫الملحّنيــن‪ ،‬ومنهم محمّد عبــد الوه ّاب وفيلمون وهبي وزكــي ناصيف‪ ،‬إضافة إلى‬
‫ّ‬
‫لكل ما قد َّمه ســابقاً‬ ‫ابنهــا الرحبانــي زياد الذي قــد َّم لها‪ ‬مجموع ًة كبير ًة مــن األغاني ُ‬
‫المغايرة‬
‫الرحباني ّان عاصي ومنصور‪.‬‬
‫كانت أغلب األغاني التي قد َّمتها فيروز في ذلك الوقت من إنتاج األخوي ْن رحباني (عاصي ومنصور)‬
‫وكان تعاونُهمــا مــع فيروز ي ُعتبر مرحل ًة جديدة وتطوُّراً جديداً في الموســيقي العربي ّة‪ ،‬فقد تمَّ‬
‫ج بين األلوان الشرقي ّة والغربي ّة واللّبناني ّة سواء في الموسيقي أم الغناء‪ ،‬وكانت لنعوم ِة‬
‫المز ْ ُ‬
‫ق جديدة‪ ..‬ومنذ أواخر الســبعيني ّات‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫قدرة على االرتقاء الدائم نحو آفا ٍ‬ ‫صوت فيروز وانســيابي ّته‬
‫كان زياد هو العنوان األهمّ في رحلة والدته الفني ّة إذ لحَّن لها منذ العام ‪ 1979‬ثمانية ألبومات‬
‫بمــا فيهــا ألبوم «إيه فــي أمل» الذي صدر نهايــة العام ‪ 2010‬وضمَّ ‪ 12‬أغنيــة‪ .‬وقبلها «وحدن»‬
‫َّ‬
‫فشكلت أعمال زياد الرحباني‪ ،‬بجرأتها التجريبي ّة‪ ،‬قطيع ًة مع‬ ‫و»معرفتي فيك»‪ ،‬و«عودك رنّان»‪...‬‬
‫التراث الرحباني األصيل في تجربة فيروز‪ ،‬إذ استخدم زياد موسيقى الجاز والموسيقى الشعبي ّة‬
‫اللّبناني ّة‪ ،‬والصورة الكاريكاتيري ّة‪ ...‬وكأنّما فيروز‪ ،‬مع ابنها زياد‪ ،‬باتت َ‬
‫تغـنّينا من جديد وتح ِّلق مع‬
‫بالمغامرة وتعتمد المز ْ َج‬
‫ُ‬ ‫ق جديدة غير مألوفة في الموســيقى العربي ّة‪ ،‬تمتاز‬
‫موســيقاه إلى آفا ٍ‬
‫بين القديم والحديث‪ ،‬وبين موســيقى الشــرق وموسيقى الغرب‪ ،‬وأغنية «إيه في أمل» َج َع َلها‬
‫ّ‬
‫يلف لبنان من ُ‬
‫ســحبٍ ســود‬ ‫زيــاد نموذجــاً للســباحة عكس التي ّار‪ ،‬ليؤ ِّكد‪ ،‬على الرّغم من ّ‬
‫كل ما‬
‫حي ال يموت‪.‬‬
‫ن األمل ٌّ‬ ‫منذرة‪ ،‬بأ ّ‬
‫باستثناء ما كُتِب عن فيروز بالفرنسي ّة في موسوع ِة العلوم واآلداب والفنون «يونيفرساليس»‬
‫خصصــت لهــا ما يقارب الصفحتَي ْن فعرَّفت بهــا وبفنّها وببلدها لبنان‪ ،‬ال نجد‬
‫(‪ )Universalis‬التــي َّ‬
‫باللّغة الفرنســي ّة ّ‬
‫إاّل النزر اليســير من الكتابات عن ســي ّدة الغناء اللّبناني والعربي‪ .‬هذا النقص‬
‫تيمّناً بأغنية فيروز «نحنا‬ ‫في المكتبة الفرنســي ّة‪ ،‬مأله‪ ،‬ولو جزئيّاً‪ ،‬كتاب‪« :‬فيروز جارة القمر»‬
‫(‪((6‬‬

‫‪316‬‬
‫والقمــر جيران» التي تقول كلماتهــا (بالعامي ّة اللّبناني ّة)‪« :‬نحنا والقمر جيران‪ /‬بيتو خلف تاللنا‪/‬‬
‫بيطلــع مــن قبالنا‪ /‬يســمع األلحان‪ /‬عارف مواعيدنــا‪ /‬وتارك بقرميدنا‪ /‬أجمــل األلحان» ليجعل‬
‫منهــا عنوانــاً لكتابه‪« :‬فيــروز‪ ،‬جارة القمر األســطورة»‪ .‬وصدر الكتاب‪ ،‬وقد صــادف صدوره يوم‬
‫ميــاد فيــروز الســادس والثمانيــن‪ ،‬ضمن «مائة كتــاب وكتاب» عــن معهد العا َلــم العربي في‬

‫باريــس‪ ،‬الــذي أحســن باختيار الفنّان إيلي األشــقر لي ُســ ِن َ‬


‫د إليــه مهمّة تأليفه‪ .‬فهــو األقرب إلى‬
‫الفنّانة‪ ،‬ال من حيث قربه من فنّها الذي تَمثَّله وتشرَّبه ورافقه منذ البداية فحسب‪ ،‬بل من حيث‬
‫قربه أيضاً من األسرة الفني ّة الرحباني ّة؛ فهو صديق العائلة ورفيق دربها‪ ،‬إذ عمل في فرقة فيروز‬
‫ورافق فيروز عزْفاً على آلة القانون‬
‫َ‬ ‫والرحابنة الموسيقي ّة‪ ،‬طوال سنوات الحرب األهلي ّة اللّبناني ّة‪،‬‬
‫العامي ْن ‪ 1976‬و‪ 1979‬والسي ّما في حفل «األولمبيا» الذي َأحيته في العاصمة الفرنسي ّة‪.‬‬
‫َ‬ ‫بين‬
‫في الكتاب مقتطفات من آراء الن ّ‬
‫قاد واألدباء والكتّاب بف ّ‬
‫ن فيروز والرحابنة‪ .‬وقد اختار المؤ ِّلف‬
‫من الكمّ الهائل لهذه اآلراء نِتفاً ممّا َكتبه محمود درويش وجورج شــحادة وأنســي الحاج ونزار‬
‫قب ّاني وأندريه شــديد وطالل حيدر وأحالم مســتغانمي وجاك النغ وعبد اللّه النعمان وفاطمة‬
‫جوميا‪ .‬وفي هذا الفصل نقرأ أيضاً شهادات إدوارد كندي‪ ،‬إدوارد كينغ‪ .‬وما كتبه جاك جيراردون‬
‫(‪ )Girardon‬في مجلّة «لكســبرس» ســنة ‪ ،1995‬وما َكتبته فيرونيك مونتاني (‪ )Montaigne‬في‬
‫صحيفة «لوموند» ســنة ‪ ،2001‬وما َكتبته مارين دا ســيلفا في صحيفة «لومانيتيه» ســنة ‪،2002‬‬
‫وما نقلته صحيفة «لوباريزيان» عن زيارة الرئيس الفرنســي ماكرون للســي ّدة فيروز في منزلها‬
‫فــي بيــروت‪ ،‬وما َكتبته صحيفة «الكــروا» حول هذه الزيارة‪ .‬وكذلك ما قالــه محمّد عبد الوه ّاب‬
‫سنة ‪ 1950‬عندما سمع ألوّل مرّة صوت فيروز‪« :‬هذا صوت سماوي ال أرضي‪ ،‬إنّه صوت مالئكي»‪،‬‬
‫وإلياس سحّاب وغيرهم‪..‬‬
‫وال بــد ّ مــن اإلشــارة إلــى مقد ّمة الكتاب التــي كتبها األكاديمــي الرصين غالب بن شــيخ‪ ،‬رئيس‬
‫«يظــل صوتها البلّوري ‹الفيــروزي› (وهذا هو معنى‬
‫ّ‬ ‫مؤسّ ســة اإلســام في فرنســا‪ ،‬وجاء فيها‪:‬‬
‫اســمها الفنّي «فيــروز») الجميل يتجاوب في جنبات القلوب ويتــرد ّد صداه في عوالم العقول‪.‬‬
‫وفــي حفالتها الغنائي ّة والموســيقي ّة‪ ،‬يعيش جمهورها نشــو َة فرحٍ ال تنتهــي‪ ،‬وإنّما مزايا فيروز‬
‫اإلنســاني ّة هي التي تجعل من شــخصي ّتها الفني ّة أيقون َة األغنية الشرقي ّة‪ ،‬وهذه المزايا هي التي‬
‫فسر تعل ّ َق الجمهور بها والمكانة االستثنائي ّة التي تحتلّها في قلوبهم وفي صرح الغناء العربي‪،‬‬
‫ت ُ ِّ‬
‫(‪ )...‬كانــت فيــروز وال تــزال أحد الرموز النادرة فــي لبنان‪ ،‬رمزاً للوحدة الوطنيّــة في بلد تقوّضه‬
‫عوامل تجزئة شتّى»‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫ن إيلي‬ ‫ي كتــاب ال ي ُمكن أن يفي ســيرة فيــروز الفني ّة والحياتي ّة ح َّ‬
‫قهــا‪ ،‬فإ ّ‬ ‫علــى الرّغــم مــن أ ّ‬
‫نأ ّ‬
‫أشــقر اســتطاع أن يجمــع أطراف هذه الســيرة وأن ينبــش بضعة مقاالت كانــت بعض األقالم‬
‫ٍ‬
‫حفالت غنائي ّة وموسيقي ّة‬ ‫الصحافي ّة قد تناولت فيها سيرة فيروز الفني ّة‪ ،‬عندما َأحيت في باريس‬
‫في مناســبات عد ّة‪ .‬يتضمّن كتاب «فيروز جارة القمر» أربعة فصول خ ُ ِّصص أوّلها لســيرة فيروز‬
‫المالحظة تُشعِ َ‬
‫رك بأنّك‬ ‫الشخصي ّة والفني ّة االستثنائي ّة‪ ،‬فهي شخصي ّة ساحرة حاضرة الذّهن قوي ّة ُ‬
‫أمــام إنســانة غيــر عادي ّة‪ .‬لك ّ‬
‫ن الكالم على ســيرة فيــروز الفني ّة ال ينفصل عن الكالم عن ســيرة‬
‫منصور الرحباني وأخيه عاصي‪.‬‬
‫يــروي المؤ ِّلــف نادرتَيْــن تســتأثران بانتباه القارئ‪ :‬األولــى أ ّ‬
‫ن الرحابنة تعرّفــوا على صباح قبل‬
‫أن يتعرّفــوا علــى فيروز لكنّهم لــم يجدوا فيها (على الرّغم من صوتهــا الرائع) ما وجدوه في‬
‫فيــروز‪ :‬صوتهــا الوديع والصد ّاح في آن معاً‪ ،‬ونبرة الحنان والرقّة والدفء التي تســكنه‪ .‬ويرى‬
‫كأم كلثوم أو نجاة‬
‫ّ‬ ‫ي فنّانة عربي ّة ذات شهرة ٍ عا َلمي ّة‬
‫ن الرحابنة لو أنّهم أسندوا إلى أ ّ‬
‫المؤ ِّلف أ ّ‬
‫الصغيرة أو فايزة أحمد‪ ..‬لما كانوا ح َّ‬
‫ققوا الغايات األساسي ّة التي كانوا يطمحون إلى تحقيقها‬
‫مــن خــال مواهبهــم الفني ّة في عا َلم الموســيقى‪ .‬فقد وجدوا في فيروز الصوت والشــخصي ّة‬
‫ْل مشروعهم‪ .‬فقد كانوا يستلهمونها في كتابة‬
‫والحساسي ّة والمزاج واألنوثة القادرة على حم ِ‬
‫مسرحي ّاتهم وأغانيهم‪.‬‬
‫األخويْــن أحمــد ومحمّد فليفــل‪ ،‬و ُ‬
‫هما موســيقي ّان ولهما ألحــان وطني ّة‬ ‫َ‬ ‫والحكايــة الثانيــة أ ّ‬
‫ن‬
‫دمان برنامجاً موســيقيّاً فــي اإلذاعة اللّبناني ّة‪ ،‬يســتضيفان فيه مواهب‬
‫وشــعبي ّة كثيــرة‪ ،‬كانا يق ِّ‬
‫بث أصواتها الغنائي ّة من خالل هذا البرنامج‪ .‬وكان من المواهب الشــاب ّة فتاة تُدعى‬‫شــاب ّة يجري ّ‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬


‫انتقل إلى‬ ‫األخوين فليفل وأعجِ با بصوتها‪ ،‬ثمّ ما لبــث هذا اإلعجاب أن‬
‫َ‬ ‫لفتــت انتباه‬ ‫نهــاد حــد ّاد‬
‫ّ‬
‫«محطة‬ ‫عرف باســم‬ ‫حليــم الرومي الذي كان مدير قســم الموســيقى فــي اإلذاعة التي كانت ت ُ َ‬
‫الشرق األوسط»‪ ،‬فضمّها إلى «كورس» الغناء في اإلذاعة‪ ،‬وهو الذي َأطلق عليها لقب «فيروز»‪،‬‬
‫وغنّــى معهــا بعض األغنيــات التي َكتبها ولحَّنها بنفســه‪ ،‬ثمّ مــا لبث أن قد ّمها إلــى الرحباني َّي ْن‬
‫اللّذَي ْن كانا ُ‬
‫هما أيضاً يقد ّمان في ذلك الوقت برنامجاً موسيقيّاً في اإلذاعة نفسها‪ .‬وهكذا بدأ‬
‫مشوار فيروز وعاصي الطويل‪...‬‬
‫ٌ‬
‫مقالة منشــورة فــي العام ‪:1955‬‬ ‫مــن الوثائــق المهمّــة التي َعثــر عليها المؤ ِّلف وضمَّنها كتابه‬
‫«في الساعة الرّابعة من بعد ظهر غد األحد ي ُحتفَ ل في كنيسة سي ّدة البشارة للروم األرثوذكس‬
‫دد عاصي الرحباني على اآلنســة المهذّبة الهادئــة والمطربة صاحبة‬
‫‪ -‬بيــروت بقــران الفنّان المج ِّ‬

‫‪318‬‬
‫المهنّئين فــي منزلهما فــي أنطلياس أي ّام‬
‫الصــوت الذهبــي نهاد حد ّاد‪ ،‬ويســتقبل العروســان ُ‬
‫ن هذا الزواج َأثمر‬
‫الجمعة والسبت واألحد ‪ 28‬و‪ 29‬و‪ 30‬كانون الثاني ‪ .»1955‬وي ُضيف المؤ ِّلف أ ّ‬
‫فــي العــام التالــي مولوداً هو زياد‪ ،‬ثمّ فــي العام ‪ 1958‬مولوداً هو هالــي‪ ،‬ثمّ في العام ‪1960‬‬
‫ولِدت ليال (توفّيت في العام ‪ ،)1988‬وأخيراً ريما في العام ‪.1965‬‬
‫ُ‬
‫ن اللّقاء الفنّي بين نهاد حد ّاد والرحباني يعود إلى ســنة ‪ 1952‬حين ســجّال أوّل أغنية وهي‬
‫غير أ ّ‬
‫«حاجــي تعاتبنــي»‪ .‬وعلى الرّغم من أن فيروز لم ُ‬
‫تكن ضليعة المعرفة في عِلم الموســيقى‪ّ ،‬‬
‫إاّل‬
‫أنّهــا كانــت تعرف جي ّداً اإليقاعات والمقامات التي تغنّيها‪ ،‬وكان أداؤها على قدر ٍ كبير من الوعي‬
‫بمــا تريــد أن تصــل إليه من خالل صوتها‪ .‬وهي تُشــبه فــي ذلك وديع الصافي‪ ،‬الــذي لم َيدرس‬
‫ّ‬
‫المتخصصين فيها‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫معرفة تبزّ‬ ‫الموسيقى لكن كانت له بها‬
‫ّ‬
‫يحفظ‪ ‬عشاق‬ ‫َّ‬
‫وشكلت إرثاً فنيّاً يربو على ‪ 800‬أغنية‬ ‫يشرح المؤ ِّلف كيف ولِدت األغنية الرحباني ّة‬
‫ٍ‬
‫إذاعات مصري ّة‪ ،‬وأخرى في‬ ‫الغناء العرب الكثير منها‪ ،‬عالو ًة على مئات األغنيات التي ُ‬
‫س ِّجلت في‬
‫دمشق‪ ،‬بعضها لم تتمّ إعادة غنائه أو تسجيله في مكا ٍ‬
‫ن آخر‪ ،‬ولم يحتفظ الرحباني ّان به‪ ،‬فضال ً عن‬
‫والمسلسالت التلفزيوني ّة‪ .‬هذا اإلرث يحتاج إلى جهة ٍ رسمي ّة‬
‫ُ‬ ‫مجموعة ٍ من المسرحي ّات الغنائي ّة‪،‬‬
‫كإرث فنّي وطني ال يهمّ لبنان وحده بل كامل الوطن العربي‪ ،‬ذلك‬
‫ٍ‬ ‫للقيام بجمْعه والحفاظ عليه‬
‫تغن للبنان وحده بل غنّت لفلســطين «يا قدس»‪ ،‬ولســوريا «شــآم ما المجد؟»‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أ ّ‬
‫ن فيــروز لــم‬
‫ّ‬
‫الموشــحات واألندلســي ّات؛ ففيروز مســيرة فني ّة‬ ‫يــت ّ‬
‫مكــةَ» وللعرب جميعاً‪ .‬وغنّت‬ ‫ّ‬
‫ولمكــة «غن ّ ُ‬
‫ن ّ‬
‫كل عربي يشعر‪،‬‬ ‫كل الدول العربي ّة‪ ،‬وفي وجدان الشعوب العربي ّة كافّة‪ ،‬إذ إ ّ‬
‫ُمرهفة‪ ،‬حاضرة في ّ‬

‫عند ســماعه صوت فيروز‪ ،‬بأنّها تغنّي له‪ .‬بل إ ّ‬


‫ن أغانيها ومســرحي ّاتها هي الضمير اإلنساني الذي‬
‫ّ‬
‫الحق والمبادئ الكبيرة‪ .‬وفيروز صاحبة «الصوت المالئكي» (كما يصفه‬ ‫يجمع الناس حول قضايا‬
‫محمّد عبد الوه ّاب) هي أيضاً ممثّلة قديرة َأذهلت ُمحب ّي الســينما والمســرح من خالل أعمال‬
‫أبرزهــا في المســرح «جســر القمــر»‪« ،‬اللّيل والقنديل»‪« ،‬أيّــام فخر الد ّيــن»‪« ،‬هالة والملك»‪،‬‬
‫ّ‬
‫«المحطة»‪،‬‬ ‫«الشــخص»‪« ،‬يعيش يعيش»‪« ،‬ص ّ‬
‫ح النوم»‪« ،‬ناس من ورق»‪« ،‬ناطورة المفاتيح»‪،‬‬
‫«لولــو»‪« ،‬ميــس الريم»‪« ،‬بتــرا»‪ ....‬وقد نُقِ ل إلى الشاشــة عدد ٌ من المســرحي ّات وتحوَّلت إلى‬
‫ٍ‬
‫أفالم سينمائي ّة مثل «بي ّاع الخواتم»‪« ،‬سفر برلك»‪« ،‬بنت الحارس»‪..‬‬

‫‪319‬‬
‫سليمان بختي*‬

‫بيت متواضع في محلّة زقاق البالط في بيروت‪ ،‬وال‬


‫ٍ‬ ‫كانــت نهــاد وديع حد ّاد (فيــروز) تعيش في‬
‫ٍ‬
‫متحف تكريماً لها وتخليداً لذكراها‪.‬‬ ‫تــزال معالِم هذا البيــت قائمة بانتظار العمل لتحويله إلى‬

‫فــي مقابلــة أجرتها نازك باســيال مــع فيروز لمجلّة «األســبوع العربي» في العــام ‪ 1975‬تُظهر‬
‫فيــروز محب ّتهــا لهــذا المنزل الذي كانت تحمل الزهور البري ّة إليه‪ .‬وقــد َب َل َغ َو َل ُ‬
‫عها باألزهار حدّاً‬

‫كبيراً فقالت لها أمّها‪« :‬ولك نهاد شايفي إنّي بد ّي جو ِّزك جنيناتي»‪.‬‬

‫ُ‬
‫وكنت أســترق الســمع إلى راديو‬ ‫اســتهواها الغنــاء منــذ طفولتهــا‪« ..‬لــم ُ‬
‫يكن لدينــا راديو‪،‬‬

‫الجيــران‪ ،‬وكنــت أطيل المكــوث في المطبخ ليتســنّى لي اإلصغاء إلى األغانــي فأحفظها‪ ،‬أل ّ‬
‫ن‬

‫ل أفضل»‪.‬‬
‫الصوت كان يأتي إلى المطبخ بشــك ٍ‬
‫ّ‬
‫موظفــة‪ ،‬وكانت هي‬ ‫نضــد األحــرف فــي جريدة «لوجــور»‪ ،‬يريد البنتــه أن تُصبح‬
‫كان والدهــا‪ُ ،‬م ّ‬

‫ترغب في أن تكون معلّمة‪ .‬وكم كانت صورتها معلّمة مطابقة لحُلمها األوّل في فيلم «بنت‬

‫الصف «تك تك يا يم ســليمان»‪ ..‬فنرجع معها كلّنا أطفاالً‪.‬‬


‫ّ‬ ‫الحــارس»‪ ،‬تغنّــي لألطفال في‬

‫ّ‬
‫الخط الثاني من القدر؟‬ ‫لكــن مــاذا كان يحدث على‬

‫عــام ‪ 1947‬أقرّت الحكومة اللّبناني ّة رســميّاً عيداً للشــجرة هو األحــد األوّل من كانون األوّل‪/‬‬

‫كل عــام‪ .‬وقــرّرت اللّجنــة المولجــة باألمــر أن يكــون ليــوم الشــجرة نشــيده‬
‫ديســمبر مــن ّ‬

‫الخاص‪ ،‬يتولّى إنشــاده تالميذ المدارس في الموعد المضروب لالحتفال‪ .‬و َدعت‬
‫ّ‬ ‫المناســباتي‬

‫*كاتب وناشر من لبنان‬

‫‪321‬‬
‫الشــعراء للمشــاركة في مســابقة إعداد النشــيد المطلوب‪ ،‬والتقد ُّم بقصائدهم إلى اللّجنة‬

‫التي كان من أعضائها‪ :‬بدر دمشــقي ّة والدكتور فؤاد غصن والكولونيل ســليمان نوفل‪ .‬وفازت‬

‫األخوي ْن فليفــل بإعداد‬


‫َ‬ ‫قصيــدة الشــاعر محمّــد يوســف حمّود في المســابقة‪ ،‬وتــمّ تكليــف‬

‫جال محمّد فليفل على المدارس الرســمي ّة الختيار التالميذ الذين ســيغنّون‬
‫النشــيد وتلحينه‪َ .‬‬

‫النشــيد‪ .‬وصــل إلــى مدرســة اإلنــاث األولى في منطقــة حوض الواليــة‪ ،‬وقد ّمت لــه مديرتها‬

‫ســلمى قربان تلميذ ًة اســمها نهاد حد ّاد‪ .‬ســألها‪« :‬هل تحبي ّن الموســيقى والغناء؟» أجابت‬

‫ومــن ال يحبّ األغاني والموســيقى؟!»‪ .‬علّــق محمّد فليفــل‪« :‬أرى في صوتك‬


‫بخجــل‪« :‬طبعــاً َ‬
‫جمــاالً مميّــزاً‪ ،‬هل تود ّين متابعة الطريق عبر الكونســرفتوار؟» أجابت‪« :‬يا ليت‪ ..‬لكن يجب أن‬

‫أستشير والدي في األمر»‪.‬‬

‫أردف فليفــل‪« :‬جرّبي إقناع والدك يــا ابنتي‪ ..‬وأنا أتعهّدك حتّى النهاية»‪.‬‬

‫حي زقاق البالط في العاصمة اللّبناني ّة‪،‬‬ ‫في ما بعد َق َص َ‬


‫د محمّد فليفل نفسه بيت وديع حد ّاد في ّ‬
‫وافــق الوالد مقابل‬
‫َ‬ ‫شــاركة ابنته نهاد فــي الفرقة‪.‬‬
‫َ‬ ‫وقا َب َ‬
‫ــل الوالــد بهــدف نَيل موافقتــه على ُم‬
‫شرطي ْن اثني ْن‪ :‬األوّل ّ‬
‫أاّل تُغنّي في المقاهي والمالهي‪ ،‬والثاني أن ي ُرافقها شقيقها جوزف إلى‬ ‫َ‬
‫الكونسرفتوار‪ ،‬ذهاباً وإي ّاباً‪ .‬أجابه محمّد فليفل «إنّها ستُغنّي مع بناتي‪ ،‬ومع الفرقة»‪.‬‬

‫ّ‬
‫القصة‪ ،‬ولكــن هذه المرّة مــن مقابلة مع جان شــاهين يقول‬ ‫ويتابــع ســليم محمّــد فليفــل‬

‫فيهــا‪« :‬حتّــى العام ‪ 1951‬كانت نهاد حد ّاد كأحــد أفراد البيت‪ ،‬وكانت صديقة أختنا الكبرى زكي ّة؛‬

‫وإذا تأخّر الوقت في التدريب تنام عندنا‪ .‬ومع احتضان أســرتنا لنهاد ضمّتها أيضاً إلى فرقتها‬

‫دأب الوالد على تعليمها اإلنشــاد والســولفيج والتجويد القرآني»‪.‬‬


‫َ‬ ‫الغنائي ّة بعدما‬

‫عندما تبنّى فليفل فيروز موســيقيّاً‬

‫ُ‬
‫صلت بوديع صبرا‪ ،‬مدير‬‫تبنّــى محمّــد فليفل نهاد حد ّاد موســيقيّاً‪ ،‬ويروي في هذا الصــدد‪« :‬ات ّ‬

‫ن األســتاذ صبرا‪ ،‬رحمه اللّه‪ ،‬سجّلها من دون‬ ‫ُ‬


‫وطلبت تســجيلها على نفقتي‪ ،‬لك ّ‬ ‫الكونســرفتوار‬
‫مقابــل إكرامــاً للخدمــات التي أســديتها للمعهد‪ .‬وصارت نهــاد تحضر إلى الكونســرفتوار ّ‬
‫كل‬

‫كل أســبوع لتتعلّم أصول النوتة الموســيقي ّة»‪.‬‬


‫ثالثاء وخميس من ّ‬

‫ُ‬
‫«درســت صوتها‪،‬‬ ‫يفيــد محمّــد فليفل بحســب كتاب «اللّحن الثائر» لمحمّد كريم وجورج حرّو‪:‬‬

‫‪322‬‬
‫ُ‬
‫وجدت أنّه ال يزيــد في االرتفــاع واالنخفاض عن‬ ‫كان مــن نَــوع الصــوت الرنّــان‪ .‬وبعد تحليلــه‬
‫ُ‬
‫استطعت أن أرفعه إلى عشر»‪.‬‬ ‫التســع درجات‪ ،‬وبالمران‬

‫جنّبها فليفل التفجُّر الصوتي‪ ،‬وأبعدها عن الطبقات المرتفعة ون ََص َحها باالبتعاد عن الحوامض‬

‫والمكسّ ــرات والبهارات ودرّبها على تأدية األناشيد التربوي ّة والكالســيكي ّة المختلفة األنغام‪.‬‬

‫بعــد خمس ســنوات من التدريب في الكونســرفتوار‪ ،‬وفــي منزل آل فليفــل‪ ،‬باتت الموهبة‬

‫ّ‬
‫بمحطة «الشــرق األدنى»‬ ‫علــى أهبّــة االنطــاق والتحليق في عا َلم الفــنّ‪ .‬اتّصل محمّد فليفل‬

‫لقبولها كمطربة‪ .‬اســتمع رشــاد البيبي إليها‪ ،‬وأثنى على صوتها‪ ،‬وطلب إمهاله بعض الوقت‬

‫لتحقيــق ذلــك‪ .‬قصد محمّــد فليفل مدير اإلذاعة اللّبناني ّة فايز مكارم وســأله الطلب إلى لجنة‬

‫امتحــان األصــوات المؤلّفة من حليم الرومي وخالد أبو النصر وتوفيق الباشــا ونقوال المني‬

‫االســتماع إلــى صوت نهاد حد ّاد وتقييمه‪ُ .‬عي ّن يــوم االمتحان‪ ،‬وقبل أن تدخل نهاد حد ّاد إلى‬

‫غرفــة االمتحــان‪ ،‬انفرد محمّد فليفــل بتلميذته قائال ً لها‪« :‬ال تغنّي أيّاً من أناشــيدي في أثناء‬
‫ي لحن من ألحــان أعضاء اللّجنة‪ّ ،‬‬
‫لئاّل تُثيري حساســي ّتهم‪ ،‬وهناك‬ ‫تأديــة االمتحــان‪ ،‬وال تؤد ّي أ ّ‬

‫َم َث ٌل شــعبي بيروتي يقول‪« :‬ما في شــحّاد بحبّ صاحب مخالية»‪ .‬غنّت نهاد حد ّاد في االمتحان‬

‫أغنيتَيْــن‪ ،‬األولــى «يــا ديرتــي ما لك علينــا لوم» ألســمهان‪ ،‬ومقطعاً من أغنيــة «يا زهر ًة في‬

‫خيالي» لفريد األطرش‪ .‬توقّف حليم الرومي الذي صاحبها على العود عن العزف مرّتَي ْن‪ ،‬وراح‬

‫وهمس لمحمّد فليفل‪:‬‬


‫َ‬ ‫يُحد ّق فيها غير مصد ّق أن هذا الصوت هو صوت هذه الفتاة النحيلة‪.‬‬

‫«مطربة كاملة يا حاجّ»‪.‬‬


‫َأ دهشــت نهــاد حــد ّاد اللّجنــة‪ ،‬وأحسّ ــوا جميعاً أنّهم أمــام ثروة فنيّــة وطني ّة‪ .‬تل ّ‬
‫قــى محمّد‬

‫فليفــل التهنئــة مــن مدير اإلذاعــة واللّجنة علــى هذا النجاح الباهــر لتلميذته‪ .‬كبــر قلبه ورد ّ‬

‫بالقــول‪« :‬هــذا الصــوت أقد ّمه هديّــ ًة لهذا الوطن الذي لــه علينــا جميعاً‪ .‬إنّها أمانــة أتركها‬

‫بيــن أيديكــم فأرجو أن تصونوها»‪ .‬ســأله فايز مكارم عن الشــروط التــي يريدها لعمل نهاد‬
‫ٍ‬
‫كصوت نــادر وتلميــذة أكملت دروســها الموســيقي ّة»‪.‬‬ ‫فــي اإلذاعــة أجاب‪« :‬أرجــو تقييمهــا‬

‫واســتقرّ الــرأي‪ ،‬بقبولهــا كمطربــة تغنّــي الصوت األ وّل منفــردة‪ ،‬وال مانع مــن أن تصاحبها‬
‫ّ‬
‫وأاّل تخضــع لــدوام رســمي‪ ،‬وأن يكون راتبهــا الشــهري مئة ليــرة لبناني ّة‪.‬‬ ‫فرقــة الكــورس‪،‬‬

‫ن ســتديو رقم ‪ 6‬فــي اإلذاعة اللّبناني ّة ســي ُطلق عليه وزير‬


‫لــم يــد ر ْ بخلد نهاد حد ّاد (فيروز) أ ّ‬

‫‪323‬‬
‫اإلعالم اللّبناني رمزي جريج في العام ‪ 2016‬اســم «ســتوديو فيروز»‪ .‬المهمّ ‪ ،‬عندما خرجت‬

‫نهــاد حــد ّاد من الغرفة‪ ،‬جرت مناقشــة بيــن الملحّنين أفضت نتائجها إلى أ ّ‬
‫ن صوتها ســيكون‬

‫مجلّيــاً فــي األلحــان الشــعبي ّة‪ .‬بينمــا كان رأي حليــم الرومــي أ ّ‬
‫ن صوتها يتمتّــع بقدرة أداء‬

‫اســمي ْن فنّي َّي ْن‪ :‬شــهرزاد أو فيروز‪ ،‬فاختارت‬


‫َ‬ ‫جميع األلوان الغنائي ّة‪ .‬خي َّرها حليم الرومي بين‬
‫االســم األخيــر لوجــود مطربة في مصر تحمل اســم شــهرزاد‪ .‬لحَّن لها حليــم الرومي عدداً‬
‫َ‬
‫و ســح ٌر وجمال»‪ ،‬و«يا حمام‬ ‫ُ‬
‫وطاوعت حب ّ ِ‬
‫ــك »‪ ،‬و«في الج ّ‬ ‫مــن األغانــي ومنهــا‪« :‬تركت قلبي‬

‫يــا مــر وّح بلــدك»‪ ،‬و«أحب ّك مهما أشــوف منّك»‪ ،‬و«يا ورد يــا أحمر»‪ ،‬وقصيــدة «ال تعزليه»‪،‬‬
‫ّ‬
‫و«حــق الهــوى يا قلبــي إلك»‪ ،‬و«يســعد صباحــك»‪ .‬ومــن المحاورات‬ ‫ونشــيد «يــا بــادي»‪،‬‬

‫الغنائيّــة التــي غنّتهــا مع حليم الرومي «عاشــق الورد»‪ ،‬واســكتش «عنتــر وعبلة»‪ ،‬و«أحالم‬

‫الشــرق»‪ .‬وغنّــت لخالــد أبــو النصر من شــعر إيليا ابو ماضــي‪« :‬وطن النجوم أنــا هنا»‪ .‬كما‬

‫غنّــت لحنَيْــن لنقــوال المني «يــا ويلك من رب ّك»‪ ،‬و»يــا بايع قلبك»‪ .‬وغنّت مــن ألحان جورج‬

‫فــرح «رومبــا عيوم»‪ ،‬و«رومبا يــا قمر»‪ ،‬و«رومبا الجمال»‪ ،‬ثمّ «ســامبا الكروم» مع جورج‬

‫عــازار‪ ،‬وتانغــو «أين حبيبي؟» بمشــاركة كلوفيس الحا جّ‪ .‬وهي من ألحــان جورج ضاهر‪ .‬غنّت‬

‫المهاجريــن» وشــاركها بالغنــاء‪ .‬وغنّــت لــه أيضاً «يا قلــب حاج تنوح» ونشــيد «نحن‬
‫ُ‬ ‫«نشــيد‬
‫كورس مؤل ّ ٍ‬
‫ف من أربع آنســات بحســب مجلّة اإلذاعة‪« :‬ليلى‬ ‫ٍ‬ ‫البنــات اللّبنانيّــات»؛ وغنَّت مع‬

‫الصعيــدي‪ ،‬كروان‪ ،‬فيروز وآمال»‪.‬‬


‫ٍ‬
‫بتكليــف منه بالملحّن عاصــي الرحباني‬ ‫ويــورد حليــم الرومي فــي مذكّراته أ ّ‬
‫ن فيــروز التقت‬

‫الــذي بــدأ ينتج لها منذ العام ‪ 1951‬األغاني واأللحان الشــعبي ّة‪ .‬وفــي العام ‪َ 1953‬أنتج أغنية‬

‫«عتاب» التي فتحت لها باب الشــهرة‪ .‬وإضافة إلى أغنية «حب ّذا يا غروب» التي كتبها الشــاعر‬

‫قبــان مكــرزل‪ .‬فــي اإلذاعــة اللّبناني ّة تــمّ التعــا ُر ف والتعاون بين فيــروز وعاصــي الرحباني‬

‫والــذي تكلّــل باالرتبــاط والزواج فــي ‪ 23‬كانــون الثاني‪ /‬يناير مــن العام ‪ .1955‬فــي حديثه‬
‫ُ‬
‫«كنت أقوم بإعداد برامج موســيقي ّة‬ ‫إلــى مجلــة «أهل الفــ ّ‬
‫ن » في العام ‪ 1955‬يقول عاصي‪:‬‬

‫غنائيّــة لإلذاعــة‪ ،‬وذات يــوم دعانــي حليم الرومي رئيس قســم الموســيقى لالســتماع إلى‬
‫ُ‬
‫فرأيــت فتــا ًة صغيــرة تحمل كتابــاً ومعهــا أبوها‪ ،‬وســمعت صوتــاً‪ ،‬وقلت «ال‬ ‫ٍ‬
‫صــوت جديــد‪،‬‬
‫ُ‬
‫آمنــت أنّهــا تصلــح للغنــاء‪ .‬وقال أخــي منصــور إنّها ال تصلــح إطالقــاً للغناء‬ ‫بــأس»‪ّ ،‬‬
‫إاّل أنّــي‬

‫‪324‬‬
‫وبــدأت أعلّمهــا‪ ،‬فكانت أحســن َمن غنّى هذا اللّــون‪ .‬ومن هنا نعــرف مبلغ صدق‬
‫ُ‬ ‫الراقــص‪.‬‬

‫حكمنا على األشياء»‪.‬‬


‫جعل من إبداعــات األخوي ْن رحباني فضــاءً رحباً وملوَّناً‬
‫َ‬ ‫‪ ..‬هــذا اللّقــاء علــى ما يبدو هو الــذي‬
‫ّ‬
‫وخاّلباً في صوت فيــروز‪ ،‬وطريقاً ملكيّاً إلى النجوم‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫د‪ .‬عبد اللّه إبراهيم*‬

‫هــل أغامــر بالحديث عن «جماعة الرحابنة» ودرّتها النفيســة‪ ،‬شــجرة األرز‪« ،‬فيروز» من موقع‬
‫ســم‬ ‫ن وغناء وشــعر بال أن أخدش ذلك البلّور الشــ ّ‬
‫فاف الذي َر َ‬ ‫غير موقع النقد الفن ّ ّ‬
‫ي من ألحا ٍ‬
‫يوتوبيــا لبنــان فــي عهد اســتقراره وازدهاره‪ ،‬ومــن دون أن أفضح قصوري فــي تقدير القيمة‬
‫الجماليّــة لتلــك الجماعــة التي ندر مثيلها في تاريخ الف ّ‬
‫ن الحديــث‪ ،‬ومن غير أن أفصح عن ضآلة‬
‫عد ّتــي للغــوص في عا َلمهــا الفنّي الرفيع الذي اجتذب إليه عشــرات الماليين من الناس طوال‬
‫ل أحسبه ضرباً من‬ ‫أكثر من نصف قرن؟ قبل أن أتمحّل في إجابة ٍ سائلة َ‬
‫المعالِم‪ ،‬أبادر إلى قو ٍ‬
‫ع لفيروز‪ ،‬النّاطقة‬ ‫ّ‬
‫األقــل‪ ،‬يرتقي إلى رتبة الصواب الكامل‪ :‬ما من ُمســتم ٍ‬ ‫اليقيــن‪ ،‬أو أنّــه‪ ،‬في‬
‫بلســان الرحابنــة‪ ،‬وهــي تُناجــي الطبيعة الزاهيــة من جبال‪ ،‬وثلوج‪ ،‬وأشــجار‪ ،‬وأنهــار‪ ،‬وأقمار‪،‬‬
‫ُ‬
‫المحب ّين‪ ،‬وهج ْر العاشــقين‪،‬‬ ‫ومــروج‪ ،‬وطيور‪ ،‬وهي تروي حكايات الهوى الدفين‪ ،‬وت ُ ِّ‬
‫صور لهفة‬
‫ٍ‬
‫عارف بالحضن الذي ترعرعت فيه تجربة فيروز‪،‬‬ ‫بالمشــاعر اإلنساني ّة‪ ،‬وما من‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫واختض جســده‬ ‫ّ‬
‫إاّل‬
‫ّ‬
‫تخطت حدود األداء‬ ‫ّ‬
‫وتشكلت في إطاره هوي ّتها الغنائي ّة‪ ،‬وانصهرت فيه شخصي ّتها الوازنة التي‬
‫س ٌ‬
‫ــن فيهــا‪ ،‬وفي عموم‬ ‫ق باســم الحياة فــي تقلّبات أحوالها‪ّ ،‬‬
‫إاّل وله رأيٌ َح َ‬ ‫واإلنشــاد إلــى ناط ٍ‬
‫ظاهرة الرحابنة‪.‬‬

‫ي ال ي ُعب ّر عن‬
‫د على اســتخالص رأ ٍ‬
‫ه َ‬ ‫ســتم َع أو ُ‬
‫المشــا ِ‬ ‫ِ‬ ‫الم‬ ‫ُ‬
‫ظاهرة الرحابنة ُ‬ ‫في واقع الحال‪ ،‬تُرغِ م‬
‫نفسه‪ ،‬غالباً‪ ،‬بالكالم‪ ،‬إنّما باألحاسيس النابعة من شغاف القلب‪ ،‬فهو يستحصل رأياً بالتماهي‬
‫ــوارد الشــعري ّة‪ ،‬واللَّحني ّة‪ ،‬واألدائي ّة‪ ،‬في ســبيكة‬
‫ِ‬ ‫الم‬
‫الوجدانــي مــع تلك الظاهرة التــي صهرت َ‬
‫ــت مــن الضيعــة اللّبناني ّة خلفي ّة لهــا‪ ،‬أي أنّها ابتكــرت عا َلماً يحتفــي بالحياة حتّى‬
‫وج َع َل ْ‬
‫واحــدة‪َ ،‬‬
‫ليتعــذَّر التعبيــر عــن الموقف برأ ٍ‬
‫ي مكتوب‪ ،‬وال عجب أن يعجز المرء عــن التعبير عن حاله‪ ،‬وهو‬

‫*ناقد وباحث من العراق‬

‫‪326‬‬
‫ّ‬
‫شــال التِبر الذي ينهمر من ســفوح الظاهرة الرحباني ّة‪ ،‬فثمّة مشاعر من المحال وصفها‪،‬‬ ‫تحت‬
‫في ُكتفى بالشعور بها‪ ،‬وهذا هو حالي حيث يعجزني اإلفصاح عمّا أشعر به‪ ،‬وعمّا يخطر لي‪ ،‬كلّما‬
‫صغيت لفيروز‪ ،‬وهي تترنّم بعذب الكالم واللّحن‪ ،‬فأراني أجهد في َصو ِْغ رأيي بظاهرة الرحابنة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َأ‬
‫يبقى على‬
‫َ‬ ‫علي‪ ،‬فما أن أروم صوغها بــرأي حتّى تتوارى فال‬
‫ّ‬ ‫ولكــن تعوزنــي األلفــاظ التي تمتنع‬
‫لساني شيء منها‪.‬‬
‫وهــذه حال أغلب الشــاعرين بتجربة الرحابنــة‪ ،‬ونجمتها فيروز‪ ،‬فقد اســتولت تلك الجماعة على‬
‫ــر قلوبهم‪ ،‬وأعــادت توجيه‬ ‫ّ‬
‫خاصتهم‪ ،‬ونَجحت في أسْ ِ‬ ‫خيــال عامّــة الناس‪ ،‬واســتأثرت باهتمــام‬
‫ّ‬
‫الغاّلب‪ ،‬والحبّ المســتحيل‪،‬‬ ‫َمشــاعرهم صوب تقدير الف ّ‬
‫ن الجليل‪ ،‬والكالم الجميل حيث الهوى‬
‫واالنتظار الطويل‪ ،‬واألسى الذي يعقب ذلك‪ ،‬بل اإلعجاب باإلنشاد‪ ،‬واالنبهات باألداء‪ ،‬واالنسحار‬
‫بالكلمات‪ ،‬واالندهاش باللّحن‪ ،‬فمجموع ذلك َخ َل َق يوتوبيا تخلب األلباب‪ .‬ومن بين ما سمعت‪،‬‬
‫نال من قيمة تلك الظاهرة الفريدة‪ ،‬فحيثما ي ُذكر الرحابنة‪ ،‬حتّى‬
‫طرق سمعي رأيٌ َ‬
‫َ‬ ‫وما قرأت‪ ،‬ما‬
‫وتنفك حبكة األحاســيس المحجوبــة‪ ،‬وتُطوى صفحات األفكار‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫تنحــل عقدة المشــاعر المكبوتة‪،‬‬
‫خشــوع جمالي ينهل من زالل صوت فيــروز في صباح ّ‬
‫كل يوم‪ ،‬كأ ّ‬
‫ن يوم الناس‬ ‫ٌ‬ ‫الخالفيّــة‪ ،‬و َي ّ‬
‫حل‬
‫ٌ‬
‫صوت يحملهم إلى‬ ‫ال يبدأ ّ‬
‫إاّل بارتشــافه حتّى الثمالة‪ .‬ومن حُســن ّ‬
‫حظ الناس أن يفعم صباحهم‬
‫النفسي‪ ،‬فكيف سيكون حال أي ّامهم لو لم تفتتح فيروز‬
‫ّ‬ ‫رتبة ٍ عالية من السم ّ‬
‫و الروحي‪ ،‬والبهاء‬
‫ّ‬
‫محل الكدر وسوء الحال؟‬ ‫ّ‬
‫فيحل الصفاء والنقاء‬ ‫نهاراتهم بغناءٍ يصقل المشاعر‪،‬‬
‫هــل يحيــط هذا الوصــف بتجربة الرحابنة مــن ّ‬
‫كل جوانبها‪ ،‬ويعترف لفيــروز بمقامها الرفيع في‬
‫بصوت َأشــاع الحبور في نفــوس ِ‬
‫الكبار قبل الصغار‪ ،‬والنســاء قبل الرجال‪ ،‬وأهل‬ ‫ٍ‬ ‫القلــب منها‪،‬‬
‫قلــوب الخارجين في طلــب أرزاقهم علــى وق ْ ِع األنغام‬
‫َ‬ ‫اجتذب‬
‫َ‬ ‫القــرى قبل ســاكني ُ‬
‫المــدن‪ ،‬بل‬
‫ٍ‬
‫بكلمــات تحتفي بالحُبّ ‪،‬‬ ‫الجميلــة‪ ،‬والقابعيــن في بيوتهــم بانتظار تغيير أحوالهــم‪ ،‬وهي تترنّم‬
‫ُ‬
‫أصغيت إلى ما تأد ّى من ذلك التعاوُن‬ ‫وال تتهرَّب من الشــقاء‪ ،‬ولكنّها تنتصر دائما للخير؟ كلّما‬
‫ن رومانسي ّة حتّى ترتسم في خيالي اليوتوبيا الّلبناني ّة‬
‫ثمر بين فيروز وعاصي ومنصور من أغا ٍ‬ ‫ُ‬
‫الم ِ‬
‫حيــث األلفــة‪ ،‬والصحبة‪ ،‬والعشــرة بين الناس تغلب علــى الخصومة‪ ،‬والعــداوة‪ ،‬والبغضاء‪ .‬فقد‬
‫َ‬
‫نهل الرحابنة من عيون الطبيعة األلحان الصافية‪ ،‬واألشــعار البسيطة‪ ،‬وصاغوها بغناءٍ مثل رذاذ‬
‫ٍ‬
‫بألفاظ تجري مجرى النَّفس الهادئ‪ ،‬وكانت فيروز تصوغ المشاعر‬ ‫المطر الخفيف‪ ،‬فكأنّهم جاءوا‬
‫توصف‪ .‬مــن الصحيــح أ ّ‬
‫ن الرحابنة قد نهلــوا من ينابيع‬ ‫َ‬ ‫كأنّهــا بأطيــاف‪ ،‬فــا تــكاد تُــرى‪ ،‬وال تكاد‬
‫الطبيعة‪ ،‬وتشــرّبوا ما فيها من صفاء‪ ،‬ولكنّهم‪ ،‬فضال ً عن ذلك‪ ،‬اســتقبلوا تأثيرات سي ّد درويش‬

‫‪327‬‬
‫ستمعه إلى رتبة ٍ عليا من‬
‫ِ‬ ‫في االنشغال بالحياة اليومي ّة‪ ،‬وأفادوا من تراث موزارت الذي يحلّق ُ‬
‫بم‬
‫ن قدرتهم االبتكاري ّة أعادت َصو َْغ ذلك المزيج بهوي ّة ٍ لبناني ّة ممي ّزة ٍ ّ‬
‫حصتهم‬ ‫و الروحي‪ ،‬ولك ّ‬
‫السم ّ‬
‫اإلبداعي ّة فيه أكثر بكثير من ّ‬
‫حصة سواهم‪.‬‬

‫المواقف‬ ‫ْ‬
‫وأشمل من َ‬ ‫وقد مضى الرحابنة وفيروز إلى ما هو أوْسع من ُمناجاة المرأة العاشقة‪،‬‬

‫المحــاورات الغنائي ّة التي تتألّف من مشــاهد درامي ّة‪،‬‬ ‫ّ‬


‫للعشــاق الحائريــن‪ ،‬فقد ابتكروا ُ‬ ‫الفرديّــة‬
‫ّ‬
‫العشــاق يعترض طريقها‬ ‫تكــون فيــروز الناطقة األولى فيها‪ ،‬فترتســم مالمــح حكاية هوى بين‬

‫العــذّال‪ ،‬بمــا يخلع رؤيــة مثالي ّة على عا َلم الريف اللّبناني حيث تكــون فيروز حاملة الحبّ النقي‪،‬‬

‫تصور‬
‫ِّ‬ ‫المحتشمة عن حبكة‬ ‫ّ‬
‫تتكشف تلك الحكاية الريفي ّة ُ‬ ‫فتدعو لأللفة‪ ،‬وتُش ِّ‬
‫دد عليها‪ ،‬وسرعان ما‬

‫انقســاماً بيــن أهالــي الضيعة اللّبناني ّة‪ ،‬بل الشــامي ّة‪ ،‬يندمج فيها الحبّ العــذري بالجاه الطبقي‪،‬‬
‫ويجري تبادُل المواقف باإلنشاد الفردي‪ ،‬ثمّ الثنائي‪ ،‬وبين وقفة وأخرى تدعم المواقف بإنشاد ٍ‬
‫ٌ‬
‫جوقة مــن المؤد ّين تُذ ِّكــر بالجوقة في المآســي اإلغريقي ّة‪ ،‬لكنّهــا‪ ،‬في ُمحاورة‬ ‫ّ‬
‫تتــواّله‬ ‫جماعــي‬

‫الرحابنــة‪ ،‬ال تقــرّ المصائــر الفاجعة‪ ،‬وال تؤي ّد األحكام الجائرة‪ ،‬كما فــي تراجيديا اليونان‪ ،‬بل تُنب ّه‬

‫بصوت الحِ كمة إلى ما في الخير من فائدة ألهل الضيعة كلّهم‪ ،‬وما ينبغي لتي ّار الحياة من تقويم‬

‫األخطــاء البشــري ّة كيال تنســد ّ اآلفاق أمام الناس‪ ،‬والغاية من ذلك بلــوغ درجة صفاء تجمعهم‪،‬‬

‫وتسبك مصائرهم‪.‬‬

‫الدرامي تُختتم َ‬
‫المشــاهِد‪ ،‬غالباً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ل من تصا ُعــد المواقف الفردي ّة والجماعي ّة باإلنشــاد‬
‫وفــي حــا ٍ‬
‫ُ‬
‫األنفس شحنة الغضب‪ ،‬وتستعيد عالقاتها‬ ‫بدبكة تخلط النساء بالرجال في حشد ٍ جماعي تُفرغ فيه‬
‫مكو ٌ‬
‫ن واضح‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫فاالنقسام بين الخير والشرّ‬ ‫الطبيعي ّة التي انخدشت بسبب الغادرين أو الخائنين؛‬
‫المشــاهِد الدرامي ّة‪ ،‬وفيه ينتصر األخيار وســط بهجة ٍ جماعي ّة‪ ،‬ولكن ال يقع االنتقام من‬
‫في تلك َ‬
‫األشــرار الذيــن يتخلّــون عن شــرورهم‪ ،‬وينصهرون فــي الجماعة الفرحة التي تنخــرط في رق ٍ‬
‫ص‬
‫ع صريح من الوئام‪ ،‬فتبدو‬
‫توجهها فيروز صوب النهاية الختامي ّة التي تختم الخصام في نَو ٍ‬
‫ِّ‬ ‫وغناء‬
‫المشاهد التمثيلي ّة التي تجري أحداثها في الضيعة أشبه بكرنفا ٍ‬
‫ل جماعي تسوّى فيه الخصومات‬
‫ريفي يجمعهم بالرقص والغناء‪ .‬ومع‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫عرف‬ ‫الشــخصي ّة‪ ،‬واألحقاد الجماعي ّة‪ ،‬وينصهر األهالي في‬
‫ُ‬
‫غاية االنقســام‬ ‫مي في المجتمع الذي تُعرض أحواله تحت األنظار‪ ،‬تكون‬ ‫وجود االنقســام الق َي ّ‬
‫ّ‬
‫تنحل في نهاية المســرحي ّة الغنائي ّة‪ ،‬وليس‬ ‫بيــن ُ‬
‫المحب ّين تغذي َة الحبكة الســردي ّة بالتعقيد لكي‬
‫الغاية منه االنتقام‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫ّ‬
‫محل البغضاء‬ ‫المؤانَسة‬

‫ترفّعت ُ‬
‫المحاورات الغنائي ّة التي قادتها فيروز عن الخصومات المذهبي ّة والديني ّة والعرقي ّة‪ ،‬فقد‬
‫ّ‬
‫محل البغضاء‪ ،‬فال مكان للنيل من هذا العرق أو ذلك‪ ،‬وال الغمز من هذا الد ّين‬ ‫حلّت المؤانسة‬
‫المفعمــة بالثقــة‪ ،‬ومحتــوى التعبير الشــعري‪ ،‬واللّحن ُ‬
‫المنصهــر مع الطبيعة‪،‬‬ ‫أو ذاك؛ فالنبــرة ُ‬
‫تُسهم كلّها في َصوغ ألفة ُمجتمع ُمتعايش‪ ،‬وغاية النّزاع استحداث ّ‬
‫قصة يتبادل فيها المؤد ّون‬
‫أدوارهــم إلشــاعة الفَ رح بيــن الناس‪ .‬تخلّقت حكاية الغرام الفيروزي ّة علــى خلفي ّة حياة نقي ّة لم‬
‫و كرنفالي بهيج‪،‬‬
‫يطرأ عليها الغدر‪ ،‬وفيها تتبوّأ فيروز مركز الحدث الدرامي والحواري‪ ،‬فيرتسم ج ٌّ‬

‫كأنّه من أعياد الربيع‪ ،‬وطقوس الخصب‪ ،‬بما يضفي حيوي ّة بالغة الروعة على َ‬
‫المشاهد الدرامي ّة‪،‬‬
‫وخفت اإليقاع‬
‫َ‬ ‫المنشدين إلى الخلف‪،‬‬ ‫ُ‬
‫جماعة ُ‬ ‫ُ‬
‫تعاقب ُها مشهداً بعد آخر‪ ،‬فكلّما انسحبت‬ ‫فيتوالى‬

‫صوت فيــروز مترنّماً بالحــبّ ‪ ،‬فكأنّها تُعيد ُ صه َ‬


‫ْــر ما تفرَّق من األحــداث الجزئي ّة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫صــدح‬
‫َ‬ ‫الراقــص‪،‬‬
‫عب ٌر عن الحبّ الصادق يتلوّن بحسب‬ ‫ٌ‬
‫صوت مٌ ِّ‬ ‫فتجعل منه تي ّاراً واحداً يثري مجرى الخير الجماعي‪.‬‬
‫المشاعر‪ ،‬كاللّهفة‪ ،‬والعتب‪ ،‬واالنتظار‪ ،‬والهج ْر‪.‬‬
‫األحوال‪ ،‬فيعرض ضروباً ُمتداخِلة من َ‬
‫وفي معظم األعمال الدرامي ّة التي قد ّمها الرحابنة‪ ،‬وأســهموا في َصوْغها شــعراً ولحناً وأداء‪،‬‬

‫تنصهــر العبــرة بصوت فيــروز‪ ،‬وتتمثّــل ب َ‬


‫دورها المحوري فــي األحداث‪ ،‬والغاية مــن ذلك َصوْن‬
‫فة األخالق الريفيّــة‪ ،‬وتجنُّب االنغماس في األطماع الدنيوي ّة‬
‫البــراءة اإلنســاني ّة‪ ،‬والحفاظ على ع ّ‬
‫ّ‬
‫إاّل بمــا يلقــي ضــوءاً علــى ناكثــي عهود الحــبّ ‪ .‬ومع ما في ذلك مــن عر ٍ‬
‫ض لشــرائح من أحوال‬

‫المجتمع اللّبناني‪ ،‬فليســت غاية َ‬


‫المشــاهد خدْش حياء فردي‪ ،‬أو جر ْح مشاعر جماعي ّة‪ ،‬أو إشاعة‬ ‫ُ‬
‫بحر‬
‫ِ‬ ‫المشاهد تغوص فيروز في ذاتها األنثوي ّة‪ ،‬وتنغمس في‬ ‫فِ رقة بين الناس‪ ،‬وفي معظم تلك َ‬
‫َمشــاعرها‪ ،‬أكثر ما تُخاطب ُ‬
‫المحيطين حولها‪ ،‬فصوتها ينطق بألفة االعتراف‪ ،‬والجهْر بالحبّ الذي‬
‫يتوارى بين هموم الناس‪ ،‬فتُذ ِّكر به‪ ،‬وتُحاول استعادته‪.‬‬
‫وفــي كثيــر من األغانــي الفردي ّة تتــرد ّد الحكاية ذاتها بين إقبــال الحبيب‪ ،‬وبيــن هج ْره‪ ،‬فمنوال‬
‫الحكايــات امــرأة عاشــقة تتوقّع من الرجــل حبّاً أكثر ممّــا يخطر له‪ ،‬أو رب ّما أكثر ممّا يســتطيع‬

‫تتقطع أوصاله بين عاشــقة ت ُ ِّ‬


‫صرح بحب ّها‪ ،‬وتطلبــه‪ ،‬وحبيب صامت‪ ،‬انحبس‬ ‫ّ‬ ‫الوفــاء بــه‪ ،‬وهو حبٌّ‬
‫وتعطلت أفعاله‪ ،‬ويغلب أن تنطفئ جذوة الحبّ بمرور األي ّام‪ ،‬وتفتر الصلة بين ُ‬
‫المتحاب ّين‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫صوته‪،‬‬
‫الزمن إلى ما كان عليه في البداية حيث جذوة الحبّ تتّقد بلهفة‬
‫ُ‬ ‫وتتأسّ ى المرأة‪ ،‬وتتمنّى أن يعو َد‬
‫العــام‪ ،‬في تقديري‪ ،‬لتجربة الرحابنة في أوج انســجام أفرادها‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬ ‫الملمح‬
‫العشــق‪ .‬ذلــك هو َ‬

‫‪329‬‬
‫ن روح لبنان‪ ،‬ففــي ذروة عطائها اســتلهمت روح الضيعة اللّبناني ّة‪،‬‬
‫جماعــة قد َّمــت إلــى عا َلم الف ّ‬
‫المجتمع اللّبناني‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وصاغت لها صورة عب ّرت عن انســجام أهلها في كناية ال تخفى عن انســجام‬
‫وتعود تلك الصورة المثالي ّة إلى حقبة ما قبل الحرب األهلي ّة‪ ،‬وفيها صاغ الثالثي‪ :‬فيروز‪ ،‬وعاصي‪،‬‬
‫ومنصور‪ ،‬هوي ّة الرحابنة التي اســتمد ّت مجمل أعمالها من الطبيعة برؤية ترفَّعت عن االبتذال‪،‬‬
‫وغاصت في الوجدان النقي‪.‬‬
‫والحال‪ ،‬فيوتوبيا الرحابنة التي أوصلها صوت فيروز إلى الناس تطوي نقداً ُمضمراً لما ال ينبغي‬
‫التصريــح بــه‪ ،‬فهي تبتكر عا َلمــاً متخيّال ً ّ‬
‫خاّلباً لتزيح إلــى الوراء عا َلماً واقعيّــاً بغيضاً‪ ،‬وقد اقترنت‬
‫عبقري ّة الرحابنة في صوْغ تلك اليوتوبيا ما دام االســتقرار كان هو الســائد في بالدهم‪ ،‬وكانت‬
‫ن اليوتوبيا تنبثق من عا َل ٍ‬
‫م ُمستقرّ يتعرّض‬ ‫األعراف الجماعي ّة هي النافذة في وقتهم‪ .‬ومعلوم أ ّ‬
‫لالهتــزاز‪ ،‬فتحــاول الفنــون واآلداب تثبيت قواعده‪ ،‬بعرض صور جميلة عنــه‪ ،‬أو بعْث مزاياه من‬
‫دون عيوبــه‪ ،‬أو فــي اســتعارة نماذج مثالي ّة تتولّى تنبيه النــاس إلى ما ي ُحيط بهم من أخطار ٍ قد‬
‫تــؤد ّي إلــى انفراط عقْــد الجماعة‪َ .‬حلم الرحابنة بهوي ّة شــ ّ‬
‫فافة للبنان‪ ،‬وما خطر لهم ما ســوف‬
‫تنتهي إليه أحالمهم‪.‬‬
‫ثــمّ وقــع ما ال تُحمــد عقباه‪ :‬بــدأت الحرب األهليّــة في منتصف ســبعيني ّات القرن العشــرين‪،‬‬
‫وتناحــرت األطيــاف العرقيّــة والديني ّة‪ ،‬فكشــفَ ت عــن تمد ُّ ٍ‬
‫ن زائف جــرى االنخداع بــه‪ ،‬وتفرّقت‬
‫ومتناقضــة‪ ،‬ما َخ َل َع عــن يوتوبيا‬
‫إراداتهــا‪ ،‬وتضاربــت مصالحهــا‪ ،‬وارتكســت في هويّــات ضي ّقة ُ‬
‫انزلق‬
‫َ‬ ‫المضي في اصطنــاع يوتوبيا ال داعم لهــا‪ .‬فقد‬
‫ّ‬ ‫الرحابنــة شــرعي ّتها‪ ،‬ومــا عاد مــن ُ‬
‫المتاح‬
‫ك عراهم حد ّ التقتيل‪ ،‬ولم يقتصر ذلك‬ ‫َّ‬
‫وفك َ‬ ‫المجتمع إلى احترابٍ مسلَّح فرَّق أهله أيدي سبأ‪،‬‬
‫ُ‬
‫علــى ُ‬
‫المجتمــع الــذي احتضن فيــروز واألخوين رحباني فــي ذروة نزوعهم اليوتوبــي‪ ،‬بل تفرَّق‬
‫الثالثــي فــي ما بينهــم‪ ،‬وانفصلوا عن بعضهــم‪ ،‬فكأنّهم مرآة تصد ّعت لِما َأمســت عليه أحوال‬
‫ُمجتمع تصد ّع بكامله‪.‬‬

‫جوهر دستوبيا زياد‬

‫المضي‬
‫ّ‬ ‫أركان اليوتوبيــا الّلبناني ّة بتفرُّق شــمل ُمجتمعها‪ ،‬وشــم ِ‬
‫ْل الناطقين بها‪ ،‬وصار‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َزعزعــت‬‫ت‬
‫ــل الذي ال فائدة تُرتجى منه‪ ،‬فليس ثمّة أمل جماعــي يوجِ ب الحفاظ عليها‪ ،‬أو‬ ‫فيهــا أشــبه بالخ ََب ِ‬
‫ّ‬
‫أزف وقته‪ .‬وبتفــرُّق الحاضنة الجماعي ّة‪ ،‬وتفــرُّق جماعة الرحابنة‬ ‫حتّــى حمايتهــا مــن االنهيار الذي‬
‫فظهر‬
‫َ‬ ‫أنفســهم‪ ،‬تهــاوت أركان اليوتوبيا‪ ،‬وتبع ذلك بأن تغيَّــرت األدوار‪ ،‬واختلفت الموضوعات‪،‬‬

‫‪330‬‬
‫زيــاد الرحبانــي على أنقاض الجماعة الرائدة ليأخذ بفيروز إلى منطقة ٍ أخرى ُمختلفة عن المنطقة‬
‫التــي ترعرعت فيها‪ ،‬منطقة تغي ّرت فيهــا الكلمات واأللحان‪ ،‬واختلف اإليقاع‪ ،‬والموضوع‪ ،‬وذلك‬

‫استجاب ًة لما أمست عليه أحوال ُمجتمع ارتكس في مستنق ٍ‬


‫ع آسن‪ ،‬وراح يتخب ّط فيه‪ ،‬فال يعرف‬
‫طريق النجاة‪.‬‬
‫وتنبغــي اإلشــارة إلــى أ ّ‬
‫ن بدايات زياد اســتجابت لمضامين أعمــال الرحابنــة‪ ،‬ووافقت نمطهم‬
‫َ‬
‫واســتبدل بها‬ ‫الموســيقي‪ ،‬فتداخَلت أعماله األولى بأعمالهم‪ ،‬غير أنّه َ‬
‫ه َج َر المشــاهد الحواري ّة‪،‬‬
‫المناجاة الفردي ّة المباشرة‪ ،‬ولم ي ُراع معايير البراءة التي اتّصفت بها تلك اليوتوبيا‪ ،‬وما عاد َيث ُ‬
‫ِق‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫بها‪ ،‬وال بمصداقي ّتها‪ ،‬فعمل على نز ْ ِع المشروعي ّة عنها‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فقد اتّصل الرحابنة اتّصاالً‬
‫وافق منظوره األيديولوجي؛ فالفنّ‪ ،‬بحسب‬
‫َ‬ ‫مباشراً بالطبيعة‪ ،‬ولم َي ُر ْ‬
‫ق ذلك االتّصال لزياد‪ ،‬وما‬
‫رؤيتــه‪ ،‬ينبغــي أن ينخــرط في عالقة ٍ نقديّــة مع الحاضنــة االجتماعي ّة‪ ،‬ويكبح أخطارها‪ ،‬ويكشــف‬
‫قطع صلته بتراث الرحابنة الذي َأنتج صور ًة متخي َّلة‬
‫أخطاءها‪ ،‬ويفضح مسلّماتها‪ ،‬فكأنّه عزم على ْ‬
‫المضي في َمسار عواطف الحبّ التي تغذّت منها ظاهرة الرحابنة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وامتنع عن‬
‫َ‬ ‫للمجتمع اللّبناني‪،‬‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫فكل ذلك أمسى من تركة الماضي‪.‬‬
‫ه ُر بها في هذا الســياق‪ ،‬هي أ ّ‬
‫ن األحوال القديمــة انقلبت إلى نقيضها‪.‬‬ ‫والحــال التــي ينبغــي الج ْ‬
‫ــم الجماعة األولى بمعنى الفنّ‪ ،‬وبمعنى االنتســاب‪ ،‬فقد طو ََّر مع‬
‫انبثق من َر َح ِ‬
‫َ‬ ‫ن زيــاداً‬
‫ومــع أ ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫الزمــن دوســتوبيا عب ّرت عن واقــع لبنان في ظل الحرب األهلي ّة‪ ،‬وما أعقبها من تمزُّ ِ‬
‫ق النســيج‬
‫المجتمعــي‪ ،‬وتفــر ُِّق النــاس بين المذاهــب واألديان واألعــراق‪ ،‬وفيها من النظرة ُ‬
‫المتشــائمة‬ ‫ُ‬
‫للعا َلــم اللّبنانــي مــا يختلف عن تلك ُ‬
‫المتفائلــة له قبل الحرب األهلي ّة؛ واقع إعــادة إنتاجٍ للبنان‬
‫في دوستوبيا ساخرة فضحت األهواء‪ ،‬وكشفت تدهور األحوال‪ ،‬وأشارت بجرأة منقطعة النظير‬
‫إلــى ترد ّي العالقــات االجتماعي ّة‪ ،‬وانهيار الق َيم الجماعي ّة الكبــرى‪ .‬وعلى هذه الثيمة بنى تجربته‬
‫ُ‬
‫الفني ّة في اللّحن‪ ،‬واألداء‪ ،‬والشعر‪ .‬األمناء على يوتوبيا الرحابنة اتّهموا زياد الرحباني بأنّه قوَّض‬
‫يوتوبيــا األســاف‪ ،‬والحــال‪ ،‬فقد قلب وجهها‪ ،‬وأظهــر قفاها‪ ،‬بما ي ُوافق عصره ال عصر أســافه‪،‬‬
‫وي ُوافق رؤيته ال رؤيتهم‪.‬‬
‫في أوّل األمر كان نزوع زياد الرحباني مثاليّاً‪ ،‬ثمّ صار واقعيّاً‪ ،‬فأضحى نقديّاً‪ ،‬وانتهى هازئاً‪ ،‬وإلى‬
‫ّ‬ ‫َب فيروز‪ ،‬وفيها لم ت ُ‬
‫للعشــاق مــن الصبايا والفتيان‬ ‫عد جارة القمر ُم ِ‬
‫لهمة‬ ‫هــذه الدســتوبيا َجذ َ‬
‫هم يختلســون لقــاءت اللّيل الخاطفة‪ ،‬وال ِ‬
‫ناطقة باســم الحبّ الشــحيح‬ ‫فــي القــرى الجبلي ّة‪ ،‬و ُ‬
‫بفض ِح تقلّباته‪،‬‬
‫ْ‬ ‫جتمعــا‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫صوت رخيم يخزّ ُم‬ ‫عطــش األنثى‪ ،‬إنّما انقلبت نبرتُهــا إلى‬
‫َ‬ ‫الــذي ال يــروي‬

‫‪331‬‬
‫وســوء حالــه‪ ،‬فلم ي ُ‬
‫عــد ثمّة وطــن جامِ ع كالضيعــة القديمــة‪ ،‬وال جماعة مــن القروي ّين الذين‬
‫ٌ‬
‫دبكة في نهاية مشــهد درامي‪ ،‬بل جماعات ُمهاجِ ــرة‪ ،‬ونازحة‪ ،‬وهاربة‪ ،‬وجماعات‬ ‫َ‬
‫خالفهم‬ ‫تَجمــع‬
‫ومتباغضة‪ ،‬فال تدعم هذه الحال أيّــة يوتوبيا‪ ،‬بل تُرغم الفنّان على اصطناع‬
‫تحاربــة‪ ،‬وفاســدة‪ُ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ُم‬
‫دوســتوبيا بالكالم الهجائــي المنثور‪ ،‬واللّحن المضطرب بغاية ٍ مقصــودة‪ ،‬واألداء القاطع الذي‬
‫يستفزّ األسماع ال يخد ّرها‪.‬‬
‫ن األلحان تمرّدت‬ ‫ّ‬
‫يتهكم حتّى أ ّ‬ ‫وبتلك الطريقة الصادمة للذوق الذي رسَّ ــخه الرحابنة مضى زياد‬
‫على القوالب المعهودة‪ ،‬والقصائد خرجت على الص َيغ الشائعة‪ ،‬وأضحى األداء حديثاً بين األفراد‪،‬‬
‫ٍ‬
‫تهالك بمنظور ٍ سوداوي‪ُ ،‬مجتمع تفانى في النَّي ِْل من تقاليده‪ ،‬ومن‬‫ع ُم‬ ‫ُ‬
‫تمثيل ُمجتم ٍ‬ ‫فقد جرى‬
‫المضي‪ُ ،‬مجتمع‬
‫ّ‬ ‫أعرافــه‪ ،‬ومــن تاريخه‪ .‬وكأنّه ينكر هوي ّته‪ ،‬وينكر ماضيه‪ ،‬فــا يعرف إلى أين يريد‬

‫فض َل َجل ْ َ‬
‫د نفســه صباحاً ومســاء على االعتراف‬ ‫رحيق بهجتــه‪ ،‬فلعلّه َّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫وامتصــت‬ ‫َنخ ََرتْــ ُه تناقضاتُــه‪،‬‬
‫وج َع َل نفســه موضوعاً لذلك الهوس الشــنيع‪ ،‬ذلك‬
‫بأخطائه‪ُ .‬مجتمع َص َه َر الســادي ّة بالمازوخي ّة‪َ ،‬‬
‫هو جوهر دوستوبيا زياد الرحباني‪.‬‬
‫مــن الصحيح أ ّ‬
‫ن زياد الرحباني اصطنع تلك الدســتوبيا بحُكــم وعيه النقدي‪ ،‬وأفكاره الراديكالي ّة‪،‬‬
‫ُ‬
‫المجتمع الذي ينتمي‬ ‫وتمرُّده الذي َج َه َر به في ألحانه‪ ،‬وفي قصائده‪ .‬فقد عب َّر عن اســتيائه من‬
‫م الحياة‬
‫ن تلك الدســتوبيا انبثقت من َر َح ِ‬ ‫ّ‬
‫يســتحق االزدراء‪ ،‬غير أ ّ‬ ‫عف ّ‬
‫ج‬ ‫وراح يســخر من واق ٍ‬
‫َ‬ ‫إليه‪،‬‬
‫ُ‬
‫التغافل عــن الحقيقة التي قام زيــاد بتمثيلها بأغا ٍ‬
‫ن‬ ‫الّلبنانيّــة‪ ،‬فليــس يجــوز التزوير‪ ،‬وال ينبغي‬
‫وتناوب التعبير عنها بصوته مرّة‪ ،‬وبصوت فيروز مرّة‪َ .‬و َق َع تحو ٌُّل‬
‫َ‬ ‫اعتمدت على الفكاهة الناقدة‪،‬‬
‫ي فــي هوي ّة فيروز‪ ،‬وفي نب ْرتهــا الغنائي ّة‪ ،‬وفي حضورها أمام ُ‬
‫المشــاهدين‪ ،‬فبعد أن كانت‬ ‫جــذر ٌّ‬
‫لهمة في اليوتوبيا القديمة َأمســت ســي ّد ًة حزينة تندب بالدها في الدســتوبيا الجديدة‪،‬‬
‫صبيّــة ُم ِ‬
‫وراحــت تُنــذِر قومهــا بصوت رخيم ال يخفــي عتباً‪ ،‬وال ينكر ألماً‪ .‬ومن الواضــح أ ّ‬
‫ن َموتاً و َبعثاً قد‬
‫ٌ‬
‫جيل بفعــل الزمن‪ ،‬وتــوارت رؤيته للعا َلم‪ ،‬وتــوارى موضوعه‬ ‫وقعــا فــي تجربة الرحابنــة‪ ،‬توارى‬
‫ع مختلف‪ ،‬له رؤية ُمغايرة‪ ،‬وله موضوع ُمختلف‪ ،‬وبقيت فيروز‬ ‫ٌ‬
‫جيل آخر‪ ،‬من واق ٍ‬ ‫َ‬
‫وانبعث‬ ‫المثالي‬
‫ْ‬
‫جهرت بهذا‪.‬‬ ‫ْ‬
‫باحت بذاك‪،‬‬ ‫واسطة العقد بين الرؤيتَي ْن‪ ،‬فكما‬
‫تبصراً أعمق بوظيفة الف ّ‬
‫ن الذي غايته‬ ‫ّ‬ ‫مثّلت الحقبة الجديدة‪ ،‬الحقبة الدوســتوبي ّة‪ ،‬في تقديري‪،‬‬
‫اســتخالص العبــرة‪ ،‬والتنبيــه إلى الغفلة‪ ،‬وصهْــر التجربة الجمعيّــة‪ ،‬فما عاد التخييــل اليوتوبي‬
‫تخييل دوستوبي أعاد ترتيب النظرة إلى‬ ‫ٌ‬ ‫فحل محلّه‬
‫ّ‬ ‫انهار العا َلم الد ّاعم له‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُمناسباً ما دام قد‬
‫العا َلــم اللّبناني برؤية ٍ تُوافق أحواله المترد ّيــة‪ ،‬ومن ناحية موضوعي ّة‪ ،‬ال ت ُ ِ‬
‫فاضل بين التجربتَين‪،‬‬

‫‪332‬‬
‫الخاصة بها‪ ،‬غير أنّني أحسب أ ّ‬
‫ن صوت فيروز اكتسب‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫فلكل منها مزاياها التي عب ّرت عن المرحلة‬
‫ج في األداء وما اســتبطنه من مشــاعر‬ ‫ّ‬
‫تكشــف النض ُ‬ ‫كمالــه النهائــي فــي المرحلة الثانية‪ ،‬فقد‬
‫إطار حقبة انقضــى عهدها‪ ،‬بل‬
‫ِ‬ ‫عميقــة بأفضــل أحوالــه‪ ،‬فلم تحتجب فيروز‪ ،‬وتأســر نفســها في‬
‫ورمت بنفســها في خ َِض ِّم تجربة ٍ أخــرى‪ ،‬وكما برعت هناك في تمثيل يوتوبيا‬
‫َ‬ ‫خَطــت إلى األمام‪،‬‬
‫ع ُم ْ‬
‫عتِم؛‬ ‫داعبــت خيــال الماليين فقد نجحــت هنا في تمثيل أحوالهم‪ ،‬و ُ‬
‫هم يرتكســون في قــا ٍ‬ ‫َ‬
‫ففيروز عابرة للتخوم‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫عمّار مروّه*‬

‫ّ‬
‫لعــل الظواهر الفني ّة االســتثنائي ّة العا َلمي ّة الكبرى ذات األبعــاد الفكري ّة والثقافي ّة التي َأنتجت‬
‫فنــا ًّ «موســيقيّاً ‪ -‬غنائيّــاً وطنيّاً» جديداً غير مســبوق بمعالِمه الواضحة الجــذور وموصوالً بف ّ‬
‫ن‬
‫الغنائــي‪ ،‬لعلّها نجحت بذلك لســب َبي ْن أو ثالثــة‪ ،‬أهمّها أ ّ‬
‫والً‪ ،‬أنّها اســتطاعت أن تربط‬ ‫ّ‬ ‫المســرح‬
‫ومنابعها الداخلي ّة ُمتصالِحــ ًة مع دعوة أصوات عصرها‬
‫ثقل محلي ّتهــا ومصادرها َ‬
‫ِ‬ ‫بشــفافي ّة بيــن‬
‫الجديد لتَبتكر نفسها بهذا الربط‪ُ ،‬منتج ًة تراثاً فنيّاً جديداً ذا معالِم صلبة‪ ،‬واضحة االرتباط بآفاق‬
‫عصرها الجديد عبر جذورها تلك بالذّات ‪.‬‬

‫مأسســ ًة‬
‫َ‬ ‫لعل ســبب نجاحها الثاني (على قلّة هذه الظواهر وندرتها‪ ،‬محليّاً وعا َلميّاً) أنّها جاءت ُم‬
‫ّ‬

‫الطابع في ُعمقــه األكاديمي والفنّي والشــعبي‪ ،‬وفي إصراره على‬


‫بحثي ّ‬
‫ّ‬ ‫ل َجماعــي‬‫كثمــرة ٍ لعمــ ٍ‬
‫ســمح له بخلْق وتطوير‬
‫َ‬ ‫عاصرة في بناء مشــروع الحداثة‪ ،‬ما‬ ‫ُ‬
‫للم َ‬ ‫ارتباط أصالته بشــرعي ّة تطلّعاته‬
‫م مصادر تراث ماضيه وعناصره واســتنهاضه من فولكلور وتراث‬ ‫ْ‬
‫هض ِ‬ ‫وعي جمعي جديد نجح في‬
‫غناء ديني متنوّع (كنسي سرياني ماروني بيزنطي وإسالمي) ومدني مناطقي قومي جبلي ريفي‬
‫ومديني لتصلها كلّها بعضها ببعض عبر بوتقة مؤتلفة بشفافي ّة‪.‬‬
‫فع َب َرت بنجاح بمشروعها إلى‬
‫هكذا نجحت هذه الظواهر بخَوضها أمواج صراع االنتخاب والبقاء‪َ ،‬‬
‫عا َلم البقاء أو الخلود من بابه العريض‪ ،‬كإنجاز ٍ إنساني وطني ُم َ‬
‫بتكر وغير مسبوق‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كالم علمي أو عاطفــي يتناول تكريم ظاهرة‬ ‫ي‬ ‫ّ‬
‫لعــل هــذه المقد ّمة ضروري ّة‪ ،‬ويجب أن تســبق أ ّ‬
‫فنيّــة وطنيّــة اســتثنائي ّة مثل ظاهرة الســي ّدة فيــروز المرتبطة حتمــاً بالظاهــرة الرحباني ّة أو ما‬
‫ي ُشــبهها مــن ظواهــر عا َلميّــة أخرى؛ ذلك أ ّ‬
‫ن جوهر ســرّ مثل هــذه الظواهــر كان دائماً العمل‬
‫المؤسس‬
‫ِّ‬ ‫الجماعي (مثل ظاهرة البيتلز أو ظاهرة عائلة باخ وأوالده وأحفاده التي ابتدأها األبّ‬
‫جان سيباستيان وكرّت سبحتها بالعشرات؛ أو ظاهرة عصبة الموسيقي ّين الروس الخمسة الكبار‬

‫*كاتب من لبنان مُ قيم في بلجيكا‬

‫‪336‬‬
‫الذين َأحدثوا تح ّ‬
‫والً نوعيّاً وطنيّاً جديداً في عا َلم التأليف الموســيقي الروســي الصافي َ‬
‫المعالم‪،‬‬
‫أو مجموعة روّاد المرحلة الخصبة التي مهّدت لوالدة األغنية الفرنسي ّة الجديدة من كِ بار ُ‬
‫الكتّاب‬
‫والمغنّين الفرنسي ّي الهوي ّة والهوى)‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والملحّنين‬ ‫والشعراء‬
‫موضوع هذه المقالة بينهم جميعاً اآلن‪ ،‬هي درّة التاج الرحباني المتمثّلة بالسي ّدة «نهاد حد ّاد»‬
‫التي كُتب عليها أن تذوب‪ ،‬وهي تتحوّل (شــاءت هذا أم أبت) إلى ما ي ُمكن تســميته بالســي ّدة‬
‫اللّبناني ّة العربي ّة األولى أو األيقونة التي لمعت عا َلميّاً في سماء األغنية كظاهرة لبناني ّة وعربي ّة‬
‫وعا َلمي ّة مبتَكرة غير مسبوقة‪ ،‬وكأحد أضالع المثلَّث الرحباني الذي أرساه وأغلق ُه عليها الضلعان‬
‫لألخوي ْن كأيقونة‬
‫َ‬ ‫األساســي ّان‪ :‬عاصــي ومنصــور لتخرج الشــاب ّة نهاد حد ّاد من العبــاءة الرحبانيّــة‬
‫وطني ّة فني ّة رحباني ّة جديدة ُمتفرّدة تتحرّك داخل أجمل ظاهرة فني ّة َجماعي ّة لبناني ّة وأرقاها‪ ،‬هي‬
‫مها الفنّي الخصب لتضمّها الى أخوي ّتها‬
‫رح ِ‬
‫األخوي ْن رحباني؛ إذ أبدعت األيقونة فيروز من َ‬
‫َ‬ ‫ظاهرة‬
‫ّ‬
‫أدق تفاصيل نموّها وتحويلها من الفتاة الشــاب ّة العضو في كورس اإلذاعة‬ ‫بعدما ســهرت على‬
‫اللّبناني ّة (نهاد حد ّاد وقتها) إلى األسطورة فيروز ‪.‬‬
‫األخوي ْن رحباني‪،‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫لعــل ســرّ هذه العملي ّة الفنيّــة االندماجي ّة طويلــة النَفَ س لنهاد حد ّاد بظاهــرة‬
‫ٍ‬
‫وســط فنّي لبناني فكــري ثقافي مشــتَّت وغير واضح المعالِــم والد َّور‪ ،‬قد‬ ‫الناشــئة وقتهــا في‬
‫ن أصوات الماضي‬‫أسهم في أسْ َطرتها فنيّاً بعدما كانت بداية هذا الثالثي قاسية وصعبة؛ ذلك أ ّ‬
‫ي تفصيل لالنقضــاض اإلعالمي‬ ‫ِّ‬
‫توفــر أ ّ‬ ‫كانــت قــد دأبــت الهجوم علــى الرّحابنة بت ُ َه ٍ‬
‫ــم باطلة‪ ،‬لم‬
‫المسرحي الذي كان قد‬
‫ّ‬ ‫الغنائي أم‬
‫ّ‬ ‫الموسيقي منه أم‬
‫ّ‬ ‫عليهم وعلى مشروعهم الناشئ‪ ،‬سواء‬
‫بــدأ يومهــا من تلك المرحلة االنتقالي ّة‪ .‬وكان علــى الرّحابنة خالل تلك المرحلة تقديم التضحيات‬
‫الجِ سام لتثبيت أولى إنجازات رؤيتهم ومؤسّ ستهم ونجومهم الجُدد وما أكثرهم‪ ،‬أولئِك الذين‬
‫وقفت السي ّدة فيروز على رأسهم كنجمة رحباني ّة لم يخفت شعاعها مع الوقت مثل غيرها‪.‬‬
‫ِ‬

‫في استثنائي ّة «الفنّانة ‪ -‬األسطورة»‬


‫لقد ســطعت ســي ّدتنا منذ تلك البدايات برحباني ّتها على نحو ٍ دائم التألُّق في سماء الف ّ‬
‫ن الغنائي‬
‫ن الكالم على استثنائي ّة هذه «الفنّانة ‪ -‬األسطورة» ال ي ُمكن‬ ‫بتكر وغير المسبوق‪ .‬لك ّ‬ ‫الم َ‬‫الراقي ُ‬
‫فصلــه أبــداً عن تاريخ األغنية اللّبناني ّة وتطوّرها‪ ،‬المولودة مــن َر َح ِ‬
‫م أمّها الكبرى األغنية العربي ّة‬ ‫ْ‬
‫تمحورة حول مركــز ثقلها المصري‪ .‬جرى ذلك على الرّغم مــن وجود عوالِم غنائي ّة‬ ‫ِ‬ ‫التــي كانــت ُم‬
‫محليّــة ذات مالمــح شــامي ّة وحلبي ّة وجبليّــة لبناني ّة كانــت تُكابد وقتها لتثبيت نفســها في مصر‬
‫ّ‬
‫وتستقل رويداً‬ ‫والعا َلم العربي؛ إذ جاءت الظاهرة الفني ّة الرحباني ّة لتؤ ِّكد هذا الحضور أو اإلثبات‬
‫رويداً عن نظيرتها المصري ّة بكثير من الخصوصي ّات والمزايا واالعتبارات‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫ي عاصي ومنصور غالباً لتتكرَّس من‬ ‫ن األغنية والموسيقى اللّبناني ّة نَجحت على ي َ‬
‫د ْ‬ ‫ي ُمكن القول إ ّ‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫د كأغنيــة لبناني ّة رحباني ّة أهدت إنجازاتها‬ ‫م َ‬
‫بتكر وصلب‪ ،‬قبل أن تتع َّ‬‫ثمّــة بتوجُّه ٍ وأســلوبٍ جديد ُم َ‬
‫ُ‬
‫الراقية المتطوّرة الحقاً إلى أختها المصري ّة فتُنْعِ م بذلك على أمّهما الموسيقى واألغنية العربي ّة‬
‫دي ْن‪.‬‬
‫بخصب هذا الغنى والتنوُّع الجدي َ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫بخصــب ُعمقها اللبناني العربي ذي النكهــة والهواء الرحباني الجديد‬
‫ِ‬ ‫م لتتألق‬ ‫اغتنَــت إذن تلــك األ ّ‬
‫الممتــد ّ مــن األغنية (مجال فيروز الرحباني ّة) إلى الموســيقى التي كانــت وقتها تبحث عن مالمح‬
‫بحثي‬
‫ّ‬ ‫ق‬ ‫المســرح الغنائــي الرحباني الصاعــد ب ُ‬
‫عم ٍ‬ ‫َ‬ ‫لبنانيّــة متوسّ ــطي ّة شــرق عربيّــة َطبعت بآفاقها‬
‫العربي من جهة ٍ أخرى‪ ،‬وإكمال رسالتها‬
‫ّ‬ ‫ل َمعالمه بالمنطقة المتوسّ طي ّة من جهة‪ ،‬والشرق‬ ‫ْ‬
‫لوص ِ‬
‫المؤس ُ‬
‫س األوّل للمسرح‬ ‫ِّ‬ ‫الموســيقي ّة الغنائي ّة ورسالة المسرح الغنائي الذي بدأه قبلهما بكثير‬
‫الغنائي المصري والعربي سي ّد درويش‪ .‬لكن لرب ّما كانت مسرحي ّات الشيخ سي ّد الغنائي ّة وقتها قد‬
‫عد يتداوله‪ ،‬بل لعلّه يتجاهله لمصلح ِة‬ ‫حاصرة ومعروفة وسط عا َل ٍ‬
‫م إعالمي عربي لم ي ُ‬ ‫غدت شبه ُم َ‬
‫غناءٍ محصور ٍ بهوي ّة الطرب والتطريب والتطويل ذات االمتدادات التركي ّة‪ ،‬سواء في وسائل اإلعالم‬
‫غطى على إنجازات درويش التي جاء عاصي ومنصور لي ُعيدا إنعاشها‬ ‫ل ّ‬ ‫المصري ّة أم العربي ّة‪ ،‬وبشك ٍ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫سهم‬ ‫بعيْنِها‪ ،‬قاما بها معاً لت ِ‬
‫بإنجازات موسيقي ّة َ‬ ‫ن المسرحي المهمّ بعدما ربطاه‬ ‫وتطوير هذا الف ّ‬
‫ومزدهراً‪ ،‬وموســوماً بآفاقــه وامتداداته الرحباني ّة‬‫ن المســرح الغنائي خَصبــاً واعِداً ُ‬ ‫فــي عودة ف ّ‬
‫تشع في قلبه كنجمة ٍ وبطلة فني ّة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المرتبطة بمشروع الحداثة اللبناني الذي كانت السي ّدة فيروز‬

‫األخوي ْن رحباني الرّاسخة‬


‫َ‬ ‫وحدة‬
‫أســباب ســطوع األيقونة الرحباني ّة كثيرة ومتنوّعــة إذاً‪ ،‬وقد يختلف عليها‪ ،‬وعلــى تدرُّجِ ها الن ُ ّ‬
‫قاد ُ‬
‫المعني ّون الذين ال يعرفون دواخل تلك العالقة الفني ّة وأسرارها؛ تلك العالقة التي َربطت أضالع‬
‫ي ممسوك بدرجة ٍ عالية ٍ من‬
‫سمو فنّي‪ -‬أخو ّ‬
‫ٍّ‬ ‫تماسك‪ ،‬ضمن‬‫ِ‬ ‫فاف ُ‬
‫وم‬ ‫المثلّث الرحباني بشــك ٍ‬
‫ل شــ ّ‬
‫نكــران الــذّات‪ ،‬وإلى حد ّ ذوبان بعضهم ببعض في ســبيل التطويــر والحرفي ّة واإلبداع في الخلق‬
‫واالبتكار الفني َّي ْن‪.‬‬
‫ّ‬
‫إذا كان باإلمــكان َفــر ْز إنجازات ظاهرة البيتلز مثال ً‪ ،‬لجهة الــكالم واللحن والتوزيع‪ ،‬على مقاس‬
‫كل فنّــان منهــم‪ ،‬حتّــى على صعيد األغنية الواحدة‪ ،‬وكذلك األمر بالنســبة إلــى ظاهرة عائلة باخ‪،‬‬ ‫ّ‬

‫أو عصبــة الموســيقي ّين الخمســة الــروس الكبار أو ظاهــرة األغنية الفرنســي ّة…إلخ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن عملي ّة‬
‫ي هذه األخوي ّة‪،‬‬
‫ضلع ْ‬
‫َ‬ ‫األخوي ْن رحباني؛ إذ إ ّ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫يخص ظاهــرة‬ ‫هــذا الفصــل ال ي ُمكن تحقيقها في ما‬
‫والملحّنَيْــن والموزّ َعي ْن عاصي ومنصور قد ارتضيــا َعمداً وطوعاً بهذا‬
‫ُ‬ ‫المؤ ِّلفَ يْــن الموســيقي َّي ْن‬
‫ن ورضا‪.‬‬‫حب وتفا ٍ‬
‫ٍّ‬ ‫ّ‬
‫بكل‬ ‫سابق تصوُّر ٍ وتصميم‪ ،‬و َختَماه‬ ‫المتشا ِبك عن‬‫ُ‬ ‫التالحُم العضوي األخوي‬
‫ِ‬

‫‪338‬‬
‫ّ‬
‫لعــل الحاقديــن أو الجاهلين الذين عادوا اليوم‪ ،‬ألســبابٍ أناني ّة وذاتي ّة ورب ّما مادي ّة‪ ،‬للتفريق بين‬
‫األخوي ْن وتفكيك عالقتهما لتطال فصال ً آخر بين عاصي وفيروز‪ ،‬لعلّهم فشلوا بسبب فراغ الي َ‬
‫دين‬ ‫َ‬
‫ي مقــدرة أو أر ْشــفة أو تصنيــف أو شــهود أو تحليــل لعملي ّة الفصل بينهم خالل َمســيرة‬ ‫مــن أ ّ‬
‫َّب بني ّة ٍ طي ّبة من‬
‫رشــح أو تســر َ‬
‫َ‬ ‫والمتنوع؛ فالقليل جدّاً جدّاً ممّا كان قد‬
‫ِّ‬ ‫نتاجهم الكبير والواســع‬
‫عاصــي ومنصور نفســهما أو من أوســاط مقرَّبة منهما من دون قصد لتبيــان أ ّ‬
‫ن هذه األغنية أو‬
‫تلــك‪ ،‬أو هــذا اللّحــن أو ذاك‪ ،‬أو هذه القصيدة أو تلك‪ ،‬هي لعاصي وليســت لمنصور أو العكس‪،‬‬
‫ّ‬
‫بكل ما تنطوي عليه من عبقري ّة في التأليف والتلحين‬ ‫لألخوي ْن رحباني‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫كاف إلثبات الوحدة الرّاسخة‬
‫والتوزيــع؛ بحيــث ن ََض َح غناءُ الثنائي والثالثي‪ ،‬بالجملة وبالمفرّق‪ ،‬بالعبقري ّة والخصب‪ .‬وعلى الرّغم‬
‫ٍ‬
‫كالم منقول عن أحدهما‬ ‫األخوي ْن‪ ،‬اســتناداً إلى‬
‫َ‬ ‫ن أعماالً َ‬
‫بعينها تعود إلى أحد‬ ‫من الترشــيحات بأ ّ‬
‫ن هذه األعمال تبقى قليلة ومعدودة قياساً إلى التراث الضخم الذي‬ ‫ّ‬
‫صدر عنه من دون قصد‪ ،‬إاّل أ ّ‬‫َ‬
‫خلّفاه‪ ،‬والذي ال تســتطيع حتّى الســي ّدة فيروز نفســها الفصل فيه‪ .‬فقد كانت شــاهدة فعال ً على‬
‫األخوي ْن وغزارة نتاجهما الذي تالزَ م مع عدم اد ّعاء أحدهما أنّه أًبدع أكثر من اآلخر‪.‬‬
‫َ‬ ‫تالحُم‬
‫سطع صوتها‬
‫َ‬ ‫ن السي ّدة فيروز دخلت األخوي ّة من باب أداء األغنية تحديداً‪ ،‬حيث‬
‫ال بد ّ من االعتراف بأ ّ‬
‫الم َ‬
‫بتكرة‪.‬‬ ‫وتربّــى وترع َْرع ونما واشــتد ّ عوده ليصبــح درّة تاج هذه الظاهرة الرحباني ّة االســتثنائي ّة ُ‬
‫ولعل ارتباطها الحقاً بالفنّان الكبير زياد الرحباني بعد غياب عاصي الفنّي والجسدي مهَّد النتقال‬ ‫ّ‬

‫ّ‬
‫خاصة‬ ‫إنتاج المؤسّ ســة الرحباني ّة إلى ضلعها الثاني منصور بأعما ٍ‬
‫ل مســرحي ّة وغنائي ّة وموســيقي ّة‬
‫األخوي ْن‬
‫َ‬ ‫ن ظاهرة فيروز األيقونة ال ي ُمكن لها أن تخرج من عباءة‬ ‫ّ‬
‫لعل هذا ي ُثبت أ ّ‬ ‫بعيدة عن فيروز‪.‬‬
‫عاصــي ومنصور أو األوكســيجين الرحباني الخارج من عباءتهما التــي َأثمرت الحقاً أخاهم األصغر‬
‫إليــاس‪ ،‬ثــمّ ابنهما الفنّي زياد؛ ما يعني أيضاً أنّه لن يتســنّى حتّى لليــاس وزياد انتزاع فيروز من‬
‫ٍ‬
‫كالم عن عقدة فرويد في‬ ‫ي‬
‫وأسطرتها‪ ،‬شئنا هذا أم أبينا‪ .‬وأ ّ‬ ‫جذور األخوي ّة التي َأنجبتها وطوَّرتها َ‬

‫قتل األبّ ‪ ،‬ال ي ُمكن ان ينطبق على ظاهرة الياس أو زياد أو أبناء منصور وأحفاده‪.‬‬
‫ُّ‬
‫تفكك المؤسّ ســة الرحباني ّة‪ ،‬أ ّ‬
‫ن‬ ‫ّ‬
‫وحظ الذين عملــت معهم فيروز الحقاً مــن بعد‬ ‫ِلحُســن ّ‬
‫حظنــا‬
‫ن زياداً تحديداً كان قد غدا‬
‫كتملة النضوج والمالمح‪ ،‬وأ ّ‬ ‫وم ِ‬‫فيروز كانت قد غدت ُمشــعّة‪ ،‬مبهرة ُ‬
‫ناضــج الموهبة وباذخ العبقري ّة‪ ..‬عندها قاربهــا زياد كنجمة ٍ وأيقونة جاهزة للرفد ب َلونه الرحباني‬
‫قفها زياد بذكاءٍ موســيقي‬ ‫متحــوالً بذلك من ابنها البيولوجي إلى أبيها الفنّي‪ ،‬بحيث تل َّ‬
‫ِّ‬ ‫الجديــد‪،‬‬
‫عاصرة ُمنفتحة على الهوي ّات الغنائي ّة والموسيقي ّة العا َلمي ّة‬ ‫كتسبة ُ‬
‫وم ِ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫فطري وبعبقري ّة رحباني ّة ُم‬
‫األخرى كالجاز والبوســانوفا والبامبا وخالفه‪ ،‬بعدما أعاد ربطها بمشــروعه الغنائي فقط‪ ،‬وليس‬
‫جنس فنّي آخر كان األخوان قد ابتكراه وأسَّ ســاه وأرســيا معال َ‬
‫ِمه ألجلها في‬ ‫ٍ‬ ‫ي‬
‫المســرحي أو أ ّ‬
‫ن اللّبناني العربي الجديد‪.‬‬
‫تاريخ الف ّ‬

‫‪339‬‬
‫ّ‬
‫ولعل‬ ‫األخوي ْن التي َخ َلقَ تْها وأسْ َ‬
‫ــط َرتَها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫إشــعاع هذه األيقونة الخالدة ســيبقى ُمرتبطاً بظاهرة‬
‫الدليــل الجديــد على مــا اقول يكمن في أ ّ‬
‫ن األغنيات األربع التي اشــترت الســي ّدة امتيازها من‬
‫الفنّــان المصــري الكبير رياض الســنباطي منــذ عقود طويلة‪ ،‬لــم يتمّ اإلفراج عنهــا إلى اليوم‪.‬‬
‫ن هذه األغنيات المصري ّة‬ ‫ّ‬
‫يدل على أنّها ال ترى أ ّ‬ ‫والكالم الكثير الذي تسرَّب من مجالس السي ّدة‬
‫ّ‬
‫المحطات الفني ّة التي ينساها‬ ‫تعبر عن لون صوتها الرحباني‪ .‬وبالعودة إلى بعض‬
‫ِّ‬ ‫الهوي ّة والهوى‪،‬‬
‫أسهمت بصمت وجرأة في تثبيت صوت فيروز وأسطرتها‪،‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫تخصصون‪ ،‬التي‬ ‫الناس‪ ،‬بمن فيهم ُ‬
‫الم‬
‫ُ‬
‫والمضيئة في تاريــخ تثبيت معالِم انفصال األغنية‬ ‫المنســي ّة‬ ‫ّ‬
‫المحطة َ‬ ‫ال بــد ّ من العودة إلى تلك‬
‫ي من‬‫اللّبنانيّــة الشــرق عربي ّة عن أختها العربي ّة المصري ّة؛ حيث تــمّ هذا بفضل صوت فيروز القو ّ‬
‫جهة‪ ،‬وعبقري ّة عاصي ومنصور الموسيقي ّة من جهة أخرى التي سمحت ببناء معالِم لبناني ّة خالصة‬
‫ومختلفة مي َّزت األغنية اللّبناني ّة عن اللّون المصري الغنائي تحديداً‪ .‬ولعلّني هنا أغمز إلى ألحان‬
‫ُ‬
‫خصيصاً الفنّان المصــري العظيم محمّد عبد الوه ّاب‪ ،‬وتحديداً‬
‫األغانــي الخمــس التي أنجزها لها ّ‬
‫ٍ‬
‫وبصوت‬ ‫لحــن أغنيــة «يا جارة الــوادي» المصري ّة الهوى والهوي ّة والتي غنَّتها الســي ّدة بنجاحٍ كبير‬
‫ّ‬
‫خاص بها‪ .‬كيف؟‬ ‫لبناني‬
‫ّ‬ ‫أي من المطربات العظيمات المعروفات‪ ،‬وب َلو ٍ‬
‫ن‬ ‫ي ُضاهي صوت ٍّ‬
‫مختصون) يجهلون مــا ابتكره األخوان عاصي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لعــل معظــم الناس وقتها واليــوم ايضاً (وبينهم‬
‫ومنصور لدى إعادة التصرُّف في صياغة توزيع بوليفوني متطوّر وغير مسبوق وقتها للحن أغنية‬
‫«يا جارة الوادي» الذي جاء من الموسيقار عبد الوه ّاب مونوديّاً‪ .‬لقد أعا َد األخوان تسجيل لحن‬
‫هــذه األغنيــة موزَّع ًة على ســجي ّة عبقري ّتهم الموســيقي ّة ليتمّ لفيروز تأديتها بطريقة ٍ وأســلوبٍ‬
‫مســبوقي ْن وقتها‪ .‬كانا مفاجأة للجميع في مصر قبل لبنان وولَّدا يومها مشــاعر‬‫َ‬ ‫ُم َ‬
‫بتك َري ْن وغير‬
‫اإلبهار والدهشة! وفي تفاصيل هذا اإلنجاز أنّهما عا َلجا النسيج اللّحني لألغنية بوليفونيّاً‪ ،‬وبروح‬
‫موسيقي تمّ فيه‬
‫ّ‬ ‫ع‬
‫هارموني ّة ربطت الثالثة أرباع الصوتي ّة في مقام البي ّات على درجة سي بتوزي ٍ‬
‫والباص والعود والقانون واألكورديون والناي‪ ،‬خارج أجواء التخت الشرقي‬ ‫ّ‬ ‫اســتعمال الوتري ّات‬
‫الرق وببعض ّ‬
‫الاّلزمات والخلفي ّات‬ ‫ّ‬ ‫التقليدي‪ ،‬وتمّ رب ْطها كلّها بعالقة ُم َ‬
‫بتكرة بآلة البيانو وإيقاعات‬
‫الموســيقي ّة أيضــاً‪ ،‬وذلك على شــكل ُم َ‬
‫رافقــة هارموني ّة تمي َّز بها الرحابنة فــي الرؤية التوزيعي ّة‬
‫الخاصة بهما؛ فجاءت األغنية أكثر ُعمقاً لناحية المقام الشرقي وعلى إيقاع الوحدة‬
‫ّ‬ ‫البوليفوني ّة‬
‫الكبيرة المرب َّع على نبض ‪ 4/4‬على طول مســار ُ‬
‫المبتكر‪ ،‬البعيد عن مســتوى التعقيد اإليقاعي‬
‫والزخرفة الذي كان ُمناسباً أيضاً لهذه األغنية المتطوّرة‪.‬‬
‫ُ‬
‫والمتماثل مع‬ ‫الاّلفــت فــي التوزيــع الرحباني هو دقّة العمــل الجماعي المكتوب والمــدروس‬
‫ّ‬

‫ّ‬
‫وبخاصة الوتري ّات‪ ،‬بما يؤد ّي إلى كتابة جمل موســيقي ّة فوق‬ ‫الحركة والعزف بين الموســيقي ّين‪،‬‬
‫أصوات كونترفوا (أصوات ثانية ُمرافِ قة) أو هارموني ّة أو كونتربونطي ّة‪.‬‬

‫‪340‬‬
‫ففــي آخــر الدقيقة األولــى مثال ً‪ ،‬وفي ما يليها تقريباً‪ ،‬نســمع اآلالت الوتري ّة تُرافِ ــق الغناء‪ ،‬تار ًة‬
‫بشكل لوازم وطوراً عبر جملة موسيقي ّة ُمختلفة عن الغناء‪ ،‬ولكن متجانسة لحنيّاً بذلك التوزيع‬
‫ِ‬
‫ٍ‬
‫إحساس مرهف‬ ‫ٍ‬
‫إلضافات جمالي ّة بابتكار‬ ‫ّ‬
‫الموسيقي إلبعاده عن الملل والتطويل اللحني‪ ،‬وأيضاً‬
‫ل مع مرافقة اللّحن والمقام الشــرقي‪ .‬نســمع ذلك أيضاً فــي الدقيقتَي ْن ونصف‪ ،‬والدقيقة‬
‫عــا ٍ‬
‫الثالثة والدقيقة الثالثة والنصف وغيرها من استتباعات مسار األغنية على هذا األسلوب الرحباني‬
‫وعرفت فيه فيروز كيف تضخ ّ موهبتها وجرأتها لت ُ َ‬
‫فرج عن مكنونات هذه‬ ‫نفسه الذي فاجأ الجميع َ‬
‫العبقري ّة الموسيقي ّة بمرافقة األلحان بصوتها المبهر بميزات كثيرة جديدة مفتوحة على الطرب‬
‫ح التعبير) وغير متوافرة لدى غيرها‪.‬‬‫(المعقْ َلن إذا ص ّ‬
‫ُ‬
‫بهذا المســتوى‪ ،‬وخصوصاً عندما ينتقل المقام فــي الدقيقة الثالثة والثلث إلى مقام «فرحفزا»‬
‫من عائلة النهوند على درجة مي‪ ،‬وما بعدها قليال ً ليتمّ االنتقال إلى راست على درجة مي بشك ٍ‬
‫ل‬
‫انسيابي متوقَّع من مقام «الفرحفزا» السابق‪ ،‬وكذلك في الدقيقة الرّابعة والنصف لدى االنتقال‬
‫ي إحساس بصعوبة االنتقال‪.‬‬ ‫إلى بيات على درجة «فادييز» بشكل رائع ومريح‪ ،‬من دون أ ّ‬
‫يلفتنا كذلك غنى اللّوازم الموسيقي ّة السريعة في الدقيقة ‪ 5‬و ‪ 36‬ثانية والدقيقة ‪ 5‬و ‪ 58‬ثانية‪.‬‬
‫َّ‬
‫منظم ومدروس في‬ ‫وهذا ما يثبت ما تمّ ذكره حول ثراء الكتابة الموســيقي ّة ُ‬
‫المبتكرة بشــكل‬
‫ّ‬
‫الخلفي ّات الموسيقي ّة من الكمنجات تحت الغناء بشكل إيقاعي إلثراء التوزيع واللحن‪.‬‬
‫أخيــراً‪ ،‬أطلــب مِ ــن جميع الذين يعتبرون أ ّ‬
‫ن عنصر الطرب والتطريب ال يناســب صوت فيروز‪ ،‬أن‬
‫يعودوا إلى سماع هذه األغنية تحديداً‪ ،‬ومن ثمّ العودة إلى سماع صوتها في أداء أغنيات عبد‬
‫الوه ّاب األخرى‪ ،‬وأغنيات فيلمون وهبة‪ ،‬لعلّهم‪ ،‬ولعلّنا معاً‪ ،‬نستطيع إقناع السي ّدة باإلفراج عن‬
‫أغنيات رياض السنباطي المحفوظة في أدراج النسيان‪.‬‬
‫وتراني هنا انتهز فرصة تهنئة السي ّدة في عيد ميالدها‪ ،‬لكي أروي‪ ،‬بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي‬
‫قصة أوّل وســام عا َلمــي كان يجري التحضير‬ ‫إيمانويــل ماكــرون لها في بيتها لتكريمها بوســام‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫لتقديمــه لهــا‪ ،‬وهو الوســام األهمّ وقتها‪ ،‬والذي لم تحصل عليه إاّل شــخصي ّات عربي ّة اســتثنائي ّة‬
‫أو عالمي ّة تُعد ّ على أصابع اليد الواحدة‪ ،‬وهو وســام لينين الذي عمل الناقد الموســيقي والفنّي‬
‫الراحل نزار مروّة‪ ،‬صديق عاصي ومنصور وفيروز وزياد‪ ،‬لإلشراف على ّ‬
‫كل خطوات التحضير إلنجازه‬
‫أعد َّ رسالة التعريف بالسي ّدة فيروز‬‫مع الجهات السوفياتي ّة الثقافي ّة المانحة‪ .‬وكان هو تحديداً َمن َ‬
‫المختصــة فــي وزارة الخارجي ّة الســوفياتي ّة وقتها‪ ،‬بوصفها أهمّ فنّانة وســي ّدة عربي ّة كانت‬
‫ّ‬ ‫للّجنــة‬
‫ستنال هذا الوسام الذي لم ينلْه من العرب على حد ّ علمي ّ‬
‫إاّل الرئيس المصري جمال عبد الناصر‬
‫والزعيم اللّبناني كمال جنبالط والشاعر محمود درويش‪ ،‬ولكن لسوء ّ‬
‫حظنا جميعاً حالت األحداث‬
‫حقبة عالمي ٌّة‬
‫ٌ‬ ‫السياســي ّة العا َلمي ّة الكبرى دون ذلك‪ ،‬إذ جرى تفكيك االتّحاد الســوفياتي‪ ،‬وظهرت‬
‫دولتي حتّى اللّحظة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جديدة لم تستقرّ على تواز ٍ‬
‫ن سياسي‬

‫‪341‬‬
‫فادي العبد اللّه*‬

‫ٍ‬
‫محاوالت ســابقة‪،‬‬ ‫غ طبعاً‪ ،‬بل من‬ ‫من أين َأتت ظاهرة فيروز والرحابنة؟ لم ُ‬
‫يكن ذلك من فرا ٍ‬
‫أشــار إليهــا فــي أماكن متفرّقة زكــي ناصيف وتوفيق الباشــا‪ ،‬لصناعة هويّــة لبناني ّة في مجال‬
‫الموســيقى‪ .‬فلْننظر ما كان هنالك قبل االســتقالل‪ ..‬غناء جبلي مثل ما ســجّله فرج اللّه بيضا‬
‫ويوســف تــاج ثــمّ إيليا بيضا‪ ،‬غناء ســاحلي متــوزّع بين التأثيــرات المصري ّة والتأثيــرات الحلبي ّة‬
‫والمواويــل المســمّاة بالبغداديّــة‪ ،‬عازفــون مصريّــون كأحمد البــدوي نزيل طرابلــس‪ ،‬مغنّو‬
‫ٍ‬
‫ــحات وأدوار وقصائد كمحيي الد ّين بعيــون الطنبوري العازف على البزق‪ ،‬وبولس صلبان‬ ‫ّ‬
‫موش‬
‫وصليبــا القطريــب المطــرب والعــوّاد وغيرهــم ممّن اســتعاد إصــدار «روّاد الطــرب في بالد‬
‫الشــام» عن مؤسّ ســة التوثيق والبحث في الموسيقى العربي ّة ـ أمار‪ ،‬بعض تسجيالتهم‪ ،‬تراث‬
‫دينــي متنوّع بين الســرياني والبيزنطي واإلســامي‪ ،‬عازفات عود فــي مجالس العائالت‪ ،‬ولكن‬
‫أيضاً مدرّســو بيانو وهارموني‪ ،‬بدايات اإلذاعة‪ ،‬مونولوجيســت مثل عمر الزعنّي المتأثّر بالغناء‬
‫االنتقادي الفرنسي الساخر‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫موســيقي موائم لهــذا البلد الجديد‪:‬‬


‫ّ‬ ‫مــن هــذا بدأت قبيل االســتقالل‪ ،‬ومعــه‪ُ ،‬محاوالت إلنتاجٍ‬
‫لبنان‪ ،‬يسمح بتوكيد تمايزه عن جيرانه‪.‬‬

‫ولئــن كانــت البدايــات األولى أقرب إلى لهجــة ٍ بدوي ّة ما (مثل ِّ‬
‫حول يا غنّــام‪ ،‬أو يا جارحة قلبي)‬
‫ن التوجّه السياســي واالجتماعي الحداثي للبلد ونُخبه وحضور الجاليــات األجنبي ّة المؤ ِّثر فيه‪،‬‬
‫فــإ ّ‬
‫ن أيضاً األرمــن والروس‪ ،‬والد َّور الذي كان مطلوباً من هذا البلد‬
‫بمــا في ذلك الفرنســي ّين؛ ولك ْ‬

‫*حقوقي وناقد موسيقي لبناني‬

‫‪342‬‬
‫كجســر ٍ بين الغرب والشــرق‪ ،‬كوجه ٍ ُمشــرق للعــرب أمام الغرب‪ ،‬وكأنمــوذجٍ للتغريب الناجح في‬
‫أعين العرب‪ ،‬كان بحاجة إلى ما هو أع ْقد موسيقيّاً وغنائيّاً؛ فكان المشروع الغنائي والمسرحي‬
‫الرحبانــي هــو الجامع النّاظم لمجمــوع المؤثّرات ُ‬
‫المختلفة هذه‪ ،‬وكان المســرح والمهرجانات‬
‫المالءَمة للتنــوُّع المطلوب هذا‪ ،‬والذي كانت لُحمته‬
‫بالتنــوّع الــذي ي ُمكن عر ْضه فيهما في غاية ُ‬
‫األخوي ْن رحباني‪.‬‬
‫َ‬ ‫هي نظري ّة تحديثي ّة‪ ،‬أقصد التوزيع الموسيقي بوصفه «العِ لم» كما في أحاديث‬
‫ّ‬
‫الموشــحات إلى الغنــاء الجبلي والزجلي إلى‬ ‫هكــذا كان بإمكانهمــا أن ينتقــا بين الملحمي ّة إلى‬
‫شترك‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫يظل هنالك طابع ُم‬ ‫األغنيات األشــبه بالمنوّعات الغربي ّة التي بدآ مســيرتهما بتعريبها‪ ،‬وأن‬
‫يســم واحد ٍ هذا اإلنتاج الغزير والمتنوّع‪ ،‬وهو ســرّ الصنعة الحقيقي لديهما‪ ،‬أي التوزيع‬
‫ٍ‬ ‫بم‬ ‫س ُ‬
‫ــم َ‬ ‫َي ِ‬
‫األوركسترالي الذي تعلّماه من األب بولس األشقر‪ ،‬ثمّ من أستاذهما برتران روبيار واشتغال عليه‪.‬‬

‫مؤثّرات إضافي ّة‬

‫األخوين‬
‫َ‬ ‫هنالــك أيضــاً مؤثّرات إضافي ّة ال ي ُمكن تصوّر غناء فيروز من دونها‪ ،‬وال الكثير من ألحان‬
‫رحباني‪ ،‬وهو‪ ،‬إضاف ًة إلى المســرح الغنائي المصري الذي بدأ بأشــكا ٍ‬
‫ل موســيقي ّة أقدم مع أبي‬

‫ّات أكثر ُم َ‬
‫عاصرة‬ ‫ّ‬
‫(الموشحات) ثمّ سالمة حجازي (القصائد)‪ ،‬لكنّه أخذ شكال ً وجمالي ٍ‬ ‫خليل القب ّاني‬
‫مع سي ّد درويش (من دون إغفال ُمعاصريه مثل كامل الخلعي وداود حسني)‪ ،‬التأثير «الوه ّابي»‬
‫على تعد ُّد طبقاته‪ ،‬من تكوين الجملة الموسيقي ّة و َدور المتتاليات أو السالسل المتكرّرة داخلها‬
‫ّ‬
‫بخاصة بعد تغي ُّر صوت عبد الوه ّاب بعد فترة شــبابه‪ ،‬والمشــهد‬ ‫‪ ،sequences‬و َدور الميكروفون‪،‬‬
‫الســينمائي الــذي رسّ ــخه عبــد الوه ّــاب ثمّ تابعه فيــه محمّد فــوزي وفريد األطــرش وغيرهما‪،‬‬
‫واالقتصاد الشــديد في ال ُ‬
‫ع َرب الصوتي ّة وترســيخ سيطرة العقل على الحنجرة‪ ،‬والتلحين ُ‬
‫المنفتح‬
‫على تراكيب وآالت غربي ّة تُغ ِّير من نسيج صوت الفِ رق الموسيقي ّة ُ‬
‫المصاحِ بة ُ‬
‫للمطربين‪ ،‬واهتمام‬
‫ألم‬ ‫ّ‬
‫المبكر بمسألة التوزيع الموسيقي‪ ،‬و َدوره في تشجيع مواهب نسائي ّة ُمغايرة ّ‬ ‫عبد الوه ّاب‬
‫كلثــوم أداءً وحضــوراً كليلــى مــراد ونور الهدى‪ ،‬بالتوازي مــع صعود صباح أيضــاً‪ ،‬إذ لم ُ‬
‫يكن في‬
‫اإلمكان تصوُّر بروز صوت برقّة الصوت الفيروزي وطبيعته وطريقة اســتخدامها له في عصر ٍ كان‬
‫فيه طرب العالِمات القديرات مثال ً من دون المرور بهذه المرحلة الوسيطة سينمائيّاً وإذاعيّاً‪.‬‬
‫وهنالك أخيراً مؤث ّ ٌر ُمهمٌّ ‪ ،‬بدأ أ ّ‬
‫والً في مصر مع شــعراء مثل أحمد شــوقي وأحمد رامي‪ ،‬وهو‬
‫إعادة منْح صدارة االهتمام إلى الكالم المغنّى ومحاوالت «ترقيته» عن ســوي ّة الزجل والشــعر‬
‫شعر الطقاطيق وكثي ٌر منه ماجن‪.‬‬ ‫ُ‬
‫والمتكرّر المعاني‪ ،‬وكذلك عن ِ‬ ‫العامّي البسيط التراكيب‬

‫‪343‬‬
‫هكذا بعد قصائد وعامي ّات شــوقي ورامي‪ ،‬غنّى عبد الوه ّاب أيضاً لشــعراء مثل األخطل الصغير‬
‫ّ‬
‫الخاصة والمتطوّرة‬ ‫(بشــارة الخوري)‪ .‬وقد عمد األخوان رحباني أيضاً إلى مدرســة الشعر اللّبناني‬
‫كمصدر ٍ أساســي لماد ّة أغانيهما في القصائد‪ ،‬وفي الزجل‪ ،‬ومن ثمّ في الشــعر الحديث الفصيح‪،‬‬

‫وتعاونا أو اقتربا كتاب ًة من كِ بار ٍ مثل سعيد عقل وميشال طراد ثمّ أسعد السبعلي َ‬
‫ومن تبعهم‪.‬‬
‫المجتمع اللّبناني وطموحه السياســي‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫تغييرات جذري ّة في ُ‬ ‫صــوت فيــروز أتى محمــوالً إذن على‬
‫ل الدولة اللّبناني ّة نفســها‪ ،‬بدءاً من عهد كميل شــمعون‪ ،‬على الرّغم‬
‫ســمح باحتضانها من ق َِب ِ‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫األخوين رحباني للّطشــات السياســي ّة في مســرحهما (وقــد َكتب عنه فوّاز طرابلســي‬
‫َ‬ ‫مــن حبّ‬

‫كتابــاً وافياً بعنوان «فيروز والرحابنة‪ :‬مســرح الغريــب والكنز واألعجوبة)‪ ،‬والحقاً أيضاً من ق َِب ِ‬
‫ل‬
‫تكوين مشــروع‬
‫ِ‬ ‫المتعاقبــة التي َعزفت جميعاً باســم العروبة عن‬
‫الجهــات الرســمي ّة الســوري ّة ُ‬
‫هوي ّة موسيقي ّة سوري ّة حديثة‪ ،‬فانحصرت بين تقديس التراث الحلبي‪ ،‬وبين االنفتاح على الجديد‬
‫اللّبناني واحتضان نسائمه ومن ثمّ تقليده‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ومشــروعات أخرى‪ ،‬صباح مثــا ً في حيوي ّتها‬ ‫ٍ‬
‫أصوات‬ ‫نافســة ٍ مع‬
‫ن مشــروعهما اســتمرَّ في ُم َ‬
‫لك ّ‬
‫ّ‬
‫الموشــحات‪ ،‬ســميرة توفيق ومالمحها‬ ‫األوركســترالي مع‬ ‫ومســرحها‪ ،‬توفيق الباشــا وتعامله‬
‫ّ‬
‫البدويّــة‪ ،‬نجاح ســام البيروتي ّة‪ ،‬وغير هذه األصوات والموســيقات‪ ،‬وإن كان تعد ُّد أوجه اإلنتاج‬
‫الرحبانــي واكتمــال حضــوره في المشــهد (شــعراً وتلحينــاً وتوزيعاً ومســرحاً وإذاع ًة وســينما‬
‫ــم َح للعائلــة بأفضلي ّة ٍ مريحة؛ لكــ ّ‬
‫ن اندالع الحرب‬ ‫س َ‬ ‫ٍ‬
‫وعالقــات عامّــة وحضوراً عربيّاً) َ‬ ‫ٍ‬
‫ومهرجانــات‬
‫عام َيعتبر المشــروع الرحباني‬
‫ــم هذه األفضليّــة لمصلحة تقدير ٍ ّ‬
‫س َ‬ ‫األهليّــة اللّبنانيّــة في رأيي‪َ ،‬ح َ‬
‫ّ‬
‫باألخص‪ ،‬مع حضور فيروز وتعاملها اإلعالمي‪،‬‬ ‫مشــروعاً أوحداً غير مســبوق وال ملحوق‪ ،‬متمي ّزاً‬
‫ٍ‬
‫طلقات‬ ‫كمــا علّمهــا إي ّاه عاصــي‪ ،‬بالتعالي على األحداث المباشــرة والتســامي عنها في اتّجــاه ُم‬
‫ُ‬
‫«المتناحِ رة»؛ ومن ثمّ ‪،‬‬ ‫شتركة للجماعات اللّبناني ّة‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫تشكل جوامع وقواسم ُم‬ ‫بعيدة ي ُمكن لها أن‬
‫ــطرة ذلك الزمن الســابق عليها‪ ،‬زمن اإلنتاج الفنّي‪ ،‬ولك ْ‬
‫ن أيضاً زمن األ َلق‬ ‫بعد الحرب‪ ،‬تمّت أسْ َ‬
‫ع جد ّي‬ ‫االجتماعي والسياســي والبحبوحة المادي ّة؛ وحيث إنّه لم يصدر عن اللّبنانيين أ ّ‬
‫ي مشــرو ٍ‬
‫آخر سوى المشروع الرحباني‪ ،‬فكراً وفنّاً‪ ،‬ومشروع ميشال شيحا وتصوّره لدور البلد نفسه‪.‬‬

‫ّ‬
‫يتفكك‬ ‫عندما بدأ المشروع‬
‫ّ‬
‫يتفكك‪ ،‬بين انفصال فيروز‬ ‫حتّى قبيل الحرب األهلي ّة المشؤومة‪ ،‬كان المشروع الرحباني قد بدأ‬
‫عنهما ومحاوالتها األخرى (ســواء ما صدر منها كتعاونها مع ابنها زياد ُ‬
‫المشــاغِ ب حول مشروع‬

‫‪344‬‬
‫عائلته‪ ،‬أم الحقاً زكي ناصيف ثمّ محمّد محســن‪ ،‬أو مع فيلمون وهبي‪ ،‬الجناح الشــرقي األخّاذ‬
‫مــن المشــروع الرحبانــي‪ ،‬بدليل اختالف ألحانــه لفيروز عن أعماله األخــرى‪ ،‬أو ما لم يصدر منها‬
‫كاأللحان التي يتكرّر الحديث عنها دوريّاً التي ّ‬
‫حضرها لها السنباطي)‪ ،‬وانتشار األلوان التي كانت‬
‫ُمنض ِبطة في إطار المشــروع الرحباني‪ ،‬مع شــهرة ســميرة توفيق‪ ،‬أو موضة الفرانكو أراب‪ ،‬أو‬
‫غناء مغنّين لبناني ّين أغنيات مصري ّة‪ ،‬أو عودة الزجل إلى الزجّالين وأصحاب الهوّارة‪.‬‬
‫هل ي ُمكن بعد ذلك البناء على ما ي ُمكن اعتباره متبقيّاً من المشروع الرحباني هذا؟‬
‫ن أحداً لم َيرث فعال ً المشروع الرحباني بمعنى القدرة على البناء عليه‪ .‬كما ي ُمكن‬
‫يجوز القول إ ّ‬
‫الاّلحقين لم يتأثّروا بغناء فيروز (عدا برامج المواهب)‪،‬‬
‫ن اللّبناني ّين واللّبناني ّات ّ‬
‫القول بوضوح إ ّ‬
‫ُ‬
‫(كمعين شــريف مثال ً)‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ظــل نمط الغنــاء الجبلي بصوت وديع الصافي حاضراً في المغنّين‬ ‫بينمــا‬
‫ن شــيئاً من ذلك‬
‫أمّا في مضمون األغاني وجهدها الموســيقي والتلحيني والتوزيعي‪ ،‬فال يبدو أ ّ‬
‫ن مؤسّ ســي الهوي ّة الوطني ّة اللّبناني ّة (ومعهم فيلمون‬
‫ل مباشــر للرحابنة‪ ،‬بمعنى أ ّ‬ ‫ٌ‬
‫دين بشــك ٍ‬ ‫َم‬
‫وهبي وغيره القليل) لم ي ُعقبا‪ ،‬وهذه الهوي ّة ال تزال في الواقع‪ ،‬إمّا أســيرة إنتاجهما مباشــرة‪،‬‬
‫أو ينبغي عليها أن تتقب ّل أنّها انفتحت على أغاني سامي كالرك وملحم بركات ونوال الزغبي ‪...‬‬
‫ع َلحني لبناني إلى حدٍّ ما‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن غياب المشروع‬ ‫إلخ ُ‬
‫وملحّنيهم؛ ففي حين ي ُمكن تمييز وجود طاب ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يظل ذلك كلّه أسير االستهالك التجاري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يؤد ّي إلى أن‬
‫ع ُمتكامِ ل‪ ،‬هو حصراً في إنتاجها نفســه‪ ،‬وهو إنتاج‬ ‫بالتالي‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن إرث فيروز‪ ،‬كعالمة على مشــرو ٍ‬
‫المختلفة في إطــار ٍ واحد‪ّ ،‬‬
‫إاّل أنّه‬ ‫واســع‪ ،‬لكنّــه إنتاج َظرفــي‪ ،‬بمعنى أنّه رب ٌْط لعدد ٍ مــن العناصر ُ‬
‫ق عناصر فني ّة جديــدة قابلة للبناء عليها‪ ،‬فلم ي ُنتِج غنــاءُ فيروز تقني ٍ‬
‫ّات ي ُمكن‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫يتوصــل إلى خل ِ‬ ‫لــم‬
‫ٍ‬
‫أداءات أصعب وأغنى أســبق عليه‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫تبســيط وانتقاءٌ من‬ ‫اســتخدامها وإغناؤها‪ ،‬ألنّه في نفســه‬
‫ن انتهاء المدرســة الشــعري ّة اللّبناني ّة في صيغتها تلك‪ ،‬يجعل استنساخها كيتشاً بحتاً‪.‬‬
‫وكذلك فإ ّ‬
‫كمــا تــمَّ تجــاوُز أســلوب التوزيع الرحباني‪ .‬فعلــى الرّغم من الفقــر الحالي في التوزيــع‪ّ ،‬‬
‫إاّل أ ّ‬
‫ن‬
‫ســتمع بإمكانــه أن ي ُالحِ ــظ أ ّ‬
‫ن تطوّر التقني ّات الحديثة في التســجيل‪ ،‬وفــي إنتاج األصوات‬ ‫ِ‬ ‫ي ُم‬
‫أ ّ‬
‫(وهو ما ي ُمكن االســتماع إليه في األغنيات األجنبي ّة وفي موســيقات األفالم العربي ّة واألجنبي ّة)‬
‫المستقاة من التوزيع األوركسترالي‬ ‫ٍ‬
‫مجاالت فائقة للتوزيع تتجاوز االستعماالت القديمة ُ‬ ‫يفتح‬
‫الغربي والروسي‪.‬‬
‫األقل‪ ،‬يتطلّــب العودة إلى مصــادر أصلي ّة‬
‫ّ‬ ‫ن إنتاجــاً جديّــاً‪ ،‬على مســتوى اللّحــن على‬
‫يبــدو إذن أ ّ‬
‫ّ‬
‫الموشــحات) ال تزال فيها إمكانات غير‬ ‫(المحاوالت اللّبناني ّة ما قبل الرحابنة‪ ،‬الطرب الشــامي‪،‬‬

‫‪345‬‬
‫المعاصرة من أجل استنطاقها وتحويلها‬ ‫َ‬
‫كتشفة‪ ،‬ومساءلتها باالعتماد على التقني ّات واألفكار ُ‬ ‫ُم‬
‫إلــى مــوارد ي ُمكــن البناء عليها‪ .‬ويبدو لي هنا أ ّ‬
‫ن أعماالً مثل شــغل ليال شــاكر (مخمّس‪ ،‬وقد‬
‫كتبــت عنــه فــي مجلّة معازف)‪ ،‬أو شــغل ربيــع مروّة وريما خشــيش تحديداً فــي «دقيقة تأخير‬
‫ُ‬

‫حتمل‬
‫الم َ‬ ‫ْ‬
‫نشــره تجاريّــاً حتّــى اآلن‪ ،‬هي عالمات علــى هذا الطريــق ُ‬ ‫عــن الواقــع» الــذي لم يتمّ‬
‫فص ُل المشهد الموسيقي عن االنهيارات‬
‫ن هل ي ُمكن ْ‬
‫موسيقي جديد وجاد ّ في لبنان‪ .‬لك ْ‬
‫ّ‬ ‫إلنتاجٍ‬
‫ُ‬
‫المتتابعة في المجتمع والمعرفة والدولة واالقتصاد في لبنان؟‬

‫‪346‬‬
‫الحواشي‬

‫((( مايــكل ه‪ .‬لينفســن‪ ،‬أصــول أدب الحداثة‪ ،‬ترجمة يوســف عبد المســيح ثروة‪ ،‬ط‪ ،1‬بغداد‪ ،‬دار الشــؤون‬
‫الثقافي ّة العامّة‪ ،1992 ،‬ص‪.152‬‬

‫ّ‬
‫المثقفة‪ ،‬ط‪ 1،‬بيروت‪ ،‬دار الساقي‪ ،2012 ،‬ص‪.76‬‬ ‫((( خالدة سعيد‪ ،‬يوتوبيا المدينة‬

‫((( شوقي ضيف‪ ،‬الشعر وطوابعه على مرّ العصور‪ ،‬ط‪ ،2‬مصر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.133‬‬

‫((( محمّــد مهدي الجواهري‪« ،‬المفردة حياة حافلة وليســت حروفــاً»‪ ،‬مجلّة األديب العراقي‪ ،‬العدد األوّل‪،‬‬
‫‪ ،1961‬ص‪.16‬‬

‫((( شوقي ضيف‪ ،‬الشعر وطوابعه الشعبي ّة على مرّ العصور‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪.189‬‬

‫((( المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص‪.193 -192‬‬

‫((( ينظر‪ :‬أصول أدب الحداثة‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪.208 - 207‬‬

‫َّ‬
‫الموشــحات األندلســي ّة‪ ،‬الحلقة األولى‪ ،‬جمْع وكتابة نديم علي الدرويش‪ ،‬د‪ .‬ت‪،‬‬ ‫((( فؤاد رجائي‪ ،‬من كنوزنا‪،‬‬
‫ص‪.2‬‬

‫وفؤاد رجائي مؤ ِّلف موسيقي وفنّان سوري أنشا معهداً لتعليم الموسيقى‪.‬‬

‫((( كمــال ديــب‪ ،‬بيــروت والحداثة الثقافــة والهوي ّة من جبران إلى فيــروز‪ ،‬ط‪ ،1‬بيــروت‪ ،‬دار النهار‪،2010 ،‬‬
‫ص‪.139‬‬

‫(‪ ((1‬مأخوذ عن أغنية «من روابينا القمر» غناء فيروز وكلمات سعيد عقل وألحان الراحبنة‪.‬‬

‫(‪ ((1‬محمّد الشــيخ‪ ،‬فيروز وسيســيولوجية اإلبداع عند الرحباني ّة – ‪ ،1980 – 1960‬القاهرة‪ ،‬الهيئة المصري ّة‬
‫العامّة للكتاب‪ ،2018 ،‬ص‪.731‬‬

‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬وغناء فيروز مع َ‬


‫الكورس‪.‬‬ ‫َ‬ ‫(‪ ((1‬عابالي القيك يا قمر‪ :‬كلمات زكي ناصيف وألحان‬

‫األخوي ْن الرحباني‪ ،‬غناء رجا بدر مع َ‬


‫الكورس‪.‬‬ ‫َ‬ ‫(‪ ((1‬القمر تحت المشمشة‪ :‬كلمات وألحان‬

‫(‪ ((1‬منيــر بشــير (‪ :)1997-1930‬عــازف عود عراقي بارز‪ ،‬وصاحب مدرســة متفرّدة فــي العزف على آلة العود‬
‫الشرقي ّة‪.‬‬

‫األخوين رحباني وغناء فيروز‪.‬‬


‫َ‬ ‫(‪ ((1‬من روابينا القمر‪ :‬كلمات سعيد عقل وألحان‬

‫‪347‬‬
‫(‪ ((1‬شــوقي المعــرّي‪« ،‬مــن روابينــا القمــر – فيروز والرحابنة وســعيد عقــل»‪ ،‬موقع فينكــس اإلخباري‬
‫اإللكتروني‪ 29 ،‬شباط‪ /‬فبراير ‪.2020‬‬

‫(‪ ((1‬محمّد الشيخ‪ ،‬فيروز وسيسيولوجية اإلبداع عند الرحباني ّة – ‪ ،1980 – 1960‬م س‪ ،‬ص ‪.266‬‬

‫األخوي ْن الرحباني‪ ،‬وغناء فيروز‪.‬‬


‫َ‬ ‫(‪ ((1‬مرجوحة‪ :‬كلمات سعيد عقل‪ ،‬ألحان‬

‫(‪ ((1‬األغانــي التــي تمّت اإلشــارة إليها بدءاً من أغنية «تبقى مي ّل» وحتّــى «بعدك على بالي» ت َ‬
‫َناولها جمال‬
‫ن أخرى َدخ ََل القمر في متن القصيدة دون العنوان‪ .‬ففي كتابه فيروز‬
‫ل جميل‪ ،‬وإشارة ألغا ٍ‬
‫زياد حد ّاد بتفصي ٍ‬
‫ً‬
‫كامال عن القمر‪.‬‬ ‫ً‬
‫فصال‬ ‫سفيرة المحب ّة (ط‪ ،2‬بيروت‪ ،‬دار المصوّر العربي‪َّ )2019 ،‬‬
‫خصص الكاتب‬

‫األخوي ْن الرحباني‪ ،‬وألحان فيلمون وهبي‪ ،‬وغناء فيروز‪.‬‬


‫َ‬ ‫(‪ ((2‬يا دارة دوري فينا‪ :‬كلمات‬

‫(‪ ((2‬زياد جمال حد ّاد‪ ،‬فيروز سفيرة المحب ّة‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪.265‬‬

‫ٌ‬
‫بداع‬ ‫(‪ ((2‬عصــام الجــودر‪« ،‬ترجمة البســاطة فــي تجربة الرحابنة ‪ -‬التشــابه الــذي يختلف»‪ ،‬في الرحابنــة‪ِ :‬إ‬
‫يستعصي على الزمن‪ ،‬البحرين‪ ،‬كتاب أطياف‪ ،‬العدد العاشر‪ ،‬هيئة البحرين للثقافة واآلثار‪ ،2020 ،‬ص ‪.76‬‬

‫بكتاب الصديق والشــاعر هنري زغيــب األخوين رحباني طريــق النحل‪ ،‬جوزيف‬
‫ِ‬ ‫(‪ ((2‬اســتعنّا بشــك ٍ‬
‫ل رئيــس‬
‫الرعيدي للطباعة‪.2001 ،‬‬

‫وشــاركها البطولة‬
‫َ‬ ‫(‪َ ((2‬دور أد ّتــه فيــروز في األوبريت اللّبناني ّة الشــعبي ّة «جســر القمر» لألخوي ْن رحباني‪،‬‬
‫الفنّــان نصــري شــمس الد ّين في َدور «شــيخ المشــايخ»‪ .‬معلومــات ُمدرجة في المنهاج الصــادر عن لجنة‬
‫مهرجانات بعلبك الدولي ّة‪ ،‬المطبعة الكاثوليكي ّة‪ ،‬بيروت ‪ ،1962/7/15‬ص ‪.184-181‬‬

‫نقاش ثريٍّ مع الباحث واألستاذ الجامعي سلطان ناصر الد ّين‪ .‬فله ّ‬
‫كل الشكر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫(‪ ((2‬فكرة تمخّضت بعد‬

‫(‪ ((2‬وردت الكلمتان في أغنية «يا دارة دوري فينا»‪« :‬دوّرة دوّرتيني سهل وجبل»‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بحث ألقي‬ ‫قيها عند جمهور الســمّيعة في المدينة في‬ ‫(‪ ((2‬توسّ ــعنا في الكالم على التجربة الرحباني ّة وتل ّ‬
‫ّ‬
‫في المؤتمر األوّل للثقافة الشعبي ّة في لبنان‪ ،‬تنظيم «حلقة اللقاء الثقافي»‪ ،‬بيروت (لبنان)‪.1993/12/11 ،‬‬
‫البحث الموســوم «المدينة واألغنية» نُشــر في مجلّة تاريخ العرب والعا َلم‪ ،‬العدد ‪ ،149‬بيروت‪ ،‬أي ّار‪/‬مايو‬
‫ُ‬
‫‪ -‬حزيران‪/‬يونيو ‪ 1994‬ص ص‪ .143-136‬وأعيد نشــره في المجلّة عينها في العدد ‪ ،226‬نيســان‪/‬أبريل ‪،2004‬‬
‫ص ص ‪.63-56‬‬

‫(‪ ((2‬إبراهيم العريس‪ ،‬أوراق من ذاكرة بيروت خالل القرن العشــرين‪ ،‬منشــورات بيروت عاصمة الثقافة‪،‬‬
‫‪ ،1999‬ص ‪ 36‬و‪.39‬‬

‫(‪ ((2‬ي ُعزى هذا الرأي إلى الشيخ طه الولي‪ ،‬ونقله عنه الباحث محمّد أبي سمرا‪.‬‬

‫األردني عيسى عودة برهومة بتاريخ ‪.2022/5/5‬‬


‫ّ‬ ‫الجامعي‬
‫ّ‬ ‫(‪ ((3‬وجهة النّظر هذه أبداها الزميل واألستاذ‬

‫‪348‬‬
‫(‪ ((3‬عبارة تقريظي ّة لميخائيل نعيمة َو َر َدت في «الغربال الجديد»‪َ ،‬‬
‫وأدرجها في رســالة إلى توفيق يوســف‬
‫«الصبي األعرج»‪ ،‬في ‪.1936/11/15‬‬
‫ّ‬ ‫عوّاد على أثر ظهور كتاب‬

‫وبمعلومات قي ّمة عن َمســارها الفنّي‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫الصديق والباحث أكرم الري ّس بـ«ريبرتوار» أغاني فيروز‬ ‫(‪ ((3‬أمد َّنا‬
‫كل التقدير‪.‬‬ ‫فله ّ‬

‫ت فــي أطروحــة دبلوم غير مطبوعة بعنوان ظاهرة األخويــن رحباني‪ /‬فيروز‪ ،‬الجامعة‬ ‫(‪ ((3‬معلومــات َو َر َد ْ‬
‫اللّبناني ّة – معهد العلوم االجتماعي ّة‪ ،‬الفرع األوّل‪ ،‬من إعداد الباحث محمّد أبي سمرا‪ ،‬وبإشراف األستاذَي ْن‬
‫ّ‬
‫القش وأحمد بيضون‪.1985 ،‬‬ ‫سهيل‬

‫(‪ ((3‬جوزيف عبيد‪ ،‬الصالة في أغاني فيروز‪ ،‬ط‪ ،2‬لبنان‪ ،‬جامعة الروح القدس الكسليك‪ ،1987 ،‬ص ‪.5‬‬

‫محطة تلفزيون ‪ MTV‬اللّبناني ّة‪ ،‬تاريخ العرض ‪.2022/8/12‬‬


‫ّ‬ ‫(‪ ((3‬هنري زغيب‪ ،‬برنامج صاروا مي ّة‪،‬‬

‫ّ‬
‫(ملــف‪ ،»)5/‬موقــع «الناقــد العراقي»‪،‬‬ ‫(‪ ((3‬أنســي الحــاجّ‪« ،‬جماليّــات (‪ | )2‬لــــــن تَجديـــــه يـــــا فيـــــروز‬
‫‪.alnaked-aliraqi.net ،2017/11/27‬‬

‫(‪ ((3‬جيوفاني باتيستا بيرغوليزي ‪ :)1736-1710( Giovanni Battista Pergolesi‬ملحّن إيطالي‪.‬‬

‫(‪ ((3‬فرانس إكزافير غروبر ‪ :)1863-1787( Franz Xaver Gruber‬موسيقي ومؤلّف كنسي نمساوي‪.‬‬

‫(‪ ((3‬جيمس لورد بيربون ‪ :)1893-1822( James Lord Pierpont‬وموسيقي وعازف أورغن ومؤلّف أميركي‪.‬‬

‫(‪ ((4‬قيصر الزغبي (‪ :)1937-1877‬طبيب وموسيقي من قرنة شهوان‪ .‬ألّف ولحّن عدداً من التراتيل‪ ،‬أشهرها‬
‫«يا مريم البكر ُف ِ‬
‫قت»‪ ،‬التي تعود إلى سنة ‪.1904‬‬

‫األخوين رحباني‪ ،‬ط ‪ ،1‬بيروت‪ ،‬الفارابي‪ ،5102 ،‬ص ‪.22‬‬


‫َ‬ ‫(‪ ((4‬هنري زغيب‪ ،‬في رحاب‬

‫(‪ ((4‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.23‬‬

‫(‪ ((4‬أنظــر‪Mac Farquhar, “This Pop Diva Wows ‘Em In Arabic”, The New York Times, May 18, :‬‬
‫‪.1999, Section E, Page 1‬‬

‫(‪ ((4‬أنســي الحــاجّ‪« ،‬جماليّــات (‪ | )2‬لــــــن تَجديـــــه يـــــا فيـــــروز (ملــف‪ ،»)5/‬موقــع «الناقــد العراقي»‪،‬‬
‫‪.alnaked-aliraqi.net ،2017/11/27‬‬

‫(‪ ((4‬جوزيف عبيد‪ ،‬الصالة في أغاني فيروز‪ ،‬ص ‪.7‬‬

‫األخوي ْن رحباني‪ ،‬ص ‪.127-126‬‬


‫َ‬ ‫(‪ ((4‬هنري زغيب‪ ،‬في رحاب‬

‫(‪ ((4‬من حديث نُشر في مجلّة «الشعلة» في نيسان‪ /‬أبريل ‪ ،1956‬وذكره محمود الزيباوي في مقا ٍ‬
‫ل نُشر‬
‫ُ‬
‫«المدن» اإللكتروني ّة يوم الخميس في ‪.2022/6/23‬‬ ‫له في جريدة‬

‫‪349‬‬
‫(‪ ((4‬تأتي هذه الفكرة عن طقوس العبور ورب ْطها باألبطال المؤسّ ســين في كِ تاب فوّاز طرابلســي‪ :‬فيروز‬
‫والرحابنة‪ ،‬مسرح الغريب والكنز واألعجوبة‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪ ،‬رياض الري ّس للكتب والنشر‪.2006 ،‬‬

‫(‪ ((4‬فــي بعــض األعمال تمثّــل فيروز امرأ ًة من عامّة الشــعب تنتمي إلى الحيــاة اليومي ّة وتعمل كبائعة‬
‫محل بيع صحــون)‪ ،‬أو هي راعية‬‫ّ‬ ‫(بي ّاعــة البنــدورة‪ ،‬بي ّاعــة الخواتــم‪ ،‬بائعة القناديــل‪ ،‬بائعة الزينة‪ ،‬وصاحبــة‬
‫لديهــا عنــزة وخمس دجاجات (وصفة الراعية كانت لصيقة بها في كثير من األعمال اإلذاعي ّة واالسكتشــات‬
‫مثل هيفا والديب‪ ،‬إلى راعية)‪ ،‬أو أنّها امرأة ثري ّة عانت في ماضيها من الســجن ظلماً‪ ،‬أو َملكة‪ .‬في واحد‬
‫لتصل إلى مرتبة المخلّص‬
‫َ‬ ‫مــن أكثــر األعمال اكتماالً من الجانب الفنّي هو «جبال الصوّان»‪ ،‬نجدها تســمو‬
‫ّ‬
‫خاصة‪ ،‬فهي‬ ‫ح النوم» حال ًة‬
‫شكل قرنفل في مسرحي ّة «ص ّ‬‫فتحمل بذلك صف ًة ديني ّة وسياسي ّة في آن معاً‪ .‬ت ُ ِّ‬
‫علــى طرافتهــا غير واقعي ّة‪ :‬مشــرَّدة تهد َّم ســقف َبيتها وصــارت تعيش تحت المظلّــة‪ ،‬وال مانع لديها من‬
‫النزول إلى البئر للبحث عن الختم‪.‬‬

‫ن منتورة هي التي سرقته لتساعد هولو قاطع الطريق‪ ،‬يتوجَّه‬‫(‪ ((5‬أمام سرقة كيس الغلّة والتلميحات بأ ّ‬
‫ي غضب‪ :‬يا منتورة جاية عياد‪،‬‬
‫ن عذب يوحي بالعتــاب ومن دون أ ّ‬ ‫ّ‬
‫ســكان الضيعــة إلى منتورة قائلين في لح ٍ‬
‫وعنّا والد‪ ،‬وعدناهن بتياب جداد‪ .‬شو منقلن شو منعملّن‪ ،‬منقلّن ضاعت غلّتنا ومنتورة هي الـ خانتنا؟‬

‫وسرعان ما يزول اللّوم مع قيام قاطع الطرق هولو بإعادة الغلّة التي سرقها وتعليق القنديل الذي كان‬
‫عدوّه‪ ،‬تاركاً لمنتورة رسالة حبّ لصوتها‪ :‬يا منتورة غنّي‪ ،‬هون وضلّي غنّي‪ ،‬بيجوز بشي ليلة يمرق خيال من‬
‫بعيد يسمعله غنّية ويكمل دربه لبعيد ع األرض المنسي ّة‪..‬‬

‫(‪« ((5‬أفالم خالدة ‹بي ّاع الخواتم›‪ ،‬خالفات في الكواليس ونجاح مبهر على الشاشة»‪t.ly/x91g ،‬‬

‫(‪ ((5‬محمّد منصور‪ ،‬الخارطة الشــعري ّة في األغنية الرحباني ّة‪ ،‬ط‪ ،1‬دمشــق‪ ،‬ممدوح عدوان للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫‪ ،2009‬ص‪.196‬‬

‫(‪ ((5‬غــازي أبــو عقــل‪ ،‬المســرح الغنائــي الرحبانــي‪http://www.al-jazirah.com/culture/03072006/ :‬‬


‫‪speshal6.htm‬‬

‫(‪ ((5‬ســليمان الحقيــوي‪« ،‬تشــكيل المعنى وبناء السّ ــرد‪ -‬بحث فــي خصوصي ّات اإلبداع فــي ثالثي ّة اإلخوة‬
‫رحباني السينمائي ّة»‪ ،‬ضمن كتاب أطياف‪ .‬الرحابنة إبداع يستعصي على الزّمن‪ ،‬ط‪ ،1‬البحرين‪ ،‬منشورات هيئة‬
‫البحرين للثقافة واألثار‪.52 ،2020 ،‬‬

‫(‪ ((5‬ميسون علي‪« ،‬المسرح الغنائي الرحباني والبحث عن اليوتوبيا المفقودة»‪ ،‬مجلّة الحياة المسرحي ّة‪،‬‬
‫الهيئة العامّة السوري ّة للكتاب‪ ،‬العدد ‪ ،79-78‬ص‪.120‬‬

‫مضي ثالث ســنوات على اســتقالل‬


‫ّ‬ ‫(‪« ((5‬الندوة اللّبناني ّة» أسَّ ســها ميشــال أســمر في العام ‪ ،1946‬بعد‬
‫لبنــان‪ ،‬واســتمرّت حتّــى وفاته ســنة ‪ .1984‬كان هدف النــدوة اللّبناني ّة نقْــل نموذج التفكيــر والحوار بين‬
‫والمفكرين اللّبناني ّين والعرب الذين صنعوا‬
‫ّ‬ ‫بفكر كبــار الكتّاب‬
‫ِ‬ ‫المث ّ‬
‫قفين الفرنســي ّين إلى لبنان والتعريف‬
‫ّ‬
‫النهضــة العربيّــة في القرن التاســع عشــر‪ ،‬وصوالً إلى بدايات القرن العشــرين‪ ،‬واســتقبلت «الندوة» ‪413‬‬

‫‪350‬‬
‫ونظمت ‪ 598‬محاضرة‪ ،‬ونَشرت أكثر من‬ ‫ّ‬ ‫حاضراً من لبنان ومن دو ٍ‬
‫ل عربي ّة وإفريقي ّة وأوروبي ّة وأميركي ّة‪،‬‬ ‫ُم ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ستّين كتاباً في «منشورات الندوة اللبناني ّة» باللغات العربي ّة والفرنسي ّة واإلنكليزي ّة‪.‬‬

‫(‪« ((5‬مواقف» مجلّة فصلي ّة ثقافي ّة فكري ّة صدرت في بيروت في العام ‪ 1968‬تحت شعار‪« :‬للحري ّة واإلبداع‬
‫قفين‬‫والتغيير»‪ ،‬وتوقّفت عن الصدور في العام ‪ .1993‬أصدرها الشاعر أدونيس بالتعاون مع عدد ٍ من المث ّ‬
‫والكتّاب والفنّانين‪ ،‬بعد أن غادر مجلّة «شعر» التي أسهم في تأسيسها مع الشاعر اللّبناني يوسف الخال‬
‫في العام ‪.1957‬‬

‫ّ‬
‫والمفكرين وليس نوعاً‬ ‫ن واألدب تَجمع جميع أنــواع المث ّ‬
‫قفين‬ ‫(‪ ((5‬فــي أواخر الســتّيني ّات كانت دار الف ّ‬
‫ِّ‬
‫المفكر الفيلســوف‬ ‫واحــداً‪ ،‬فــكان يلتقي فيهــا جميع ُ‬
‫المبدعين فــي ميادين إبداعهــم ُ‬
‫المختلفة‪ ،‬فيلتقي‬
‫خليط من النّاجحين ُ‬
‫المتمي ّزين في أعمالهم‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫بالمعماري والشاعر بالنحّات واألديب بالرسّ ام‪ ،‬وكان يرتادها‬
‫ن واألدب في تلك الفترة نموذجاً فريداً كظاهرة ثقافي ّة ال مثيل لها في المشرق العربي‪.‬‬ ‫فكانت دار الف ّ‬

‫ٍّ‬
‫لكل من‪ :‬ســعدي يوســف‪ ،‬بدوي الجبل‪ ،‬بشر فارس‪ ،‬ألبير أديب‪،‬‬ ‫(‪ ((5‬ضمّ العدد ُ األخير (رقم ‪ ،)44‬نصوصاً‬
‫نازك المالئكة‪ ،‬فدوى طوقان‪ ،‬إبراهيم شكر اللّه‪ ،‬نذير العظمة‪ ،‬رفيق المعلوف‪ ،‬موسى النقدي‪ ،‬أدونيس‪،‬‬
‫فؤاد رفقة‪ ،‬ميشــال طراد‪ ،‬يوســف الخال‪ ،‬إميلي ديكنســون‪ ،‬عزرا باوند‪ ،‬جيمينيز‪ ،‬رينه حبشي‪ ،‬أنطون كرم‪،‬‬
‫بيار روبان‪.‬‬

‫(‪ ((6‬في أواخر خمســيني ّات القرن العشــرين‪ ،‬تـــوثّقت صالت الشــاعر العراقي بدر شــاكر السي ّاب بالشاعر‬
‫أدونيــس ويوســف الخــال وبالمجلّة وعدد من الشــعراء المتّصلـــين بها‪ .‬وكان في صلــب اهتمام المجلّة‬
‫والمتّصلين بها من الشعراء‪ ،‬عـلى الرّغم ممـّا قيل عنها وعنهم‪ ،‬نقل أمثلة من الشعر األوروبي واألميركي‬
‫دراسات نقدي ّة عن ذلك الشعر‪ ،‬إلى اللّغة العربي ّة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وما يتيسّ ر من‬

‫(‪ ((6‬صدر بالفرنسي ّة بعنوان ‪ ،Fairouz La voisine de la lune‬من تأليف إيلي األشقر‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫‪Fairouz Final Cover new 2.pdf 1 12/28/2022 11:32:31 AM‬‬

‫وﻃﻦ اﺳﻤﻪ‬
‫ٌ‬
‫ّ‬
‫ﺧﺎص‬ ‫إﺻﺪار‬

‫ﺧﺎص‬
‫ّ‬ ‫إﺻﺪار‬
‫ِ‬
‫وأﻧﻤﺎط‬ ‫وﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﻘﺎﻻﺗِﻬﻢ‬
‫ِ‬ ‫ﺒﺮ ُز ﻫﺬا اﻹﺻﺪار‪ ،‬ﻋﻠﻰ ﺗﻌﺪ ‪ِ  ‬د ﻣﺆ ﻟﻔﻴﻪ‪ ،‬وﺗﻨﻮ ِّع ﺑﻠﺪاﻧِﻬﻢ واﺧﺘﺼﺎﺻﺎﺗِﻬﻢ‬ ‫ﻳُ ِ‬
‫اﻻﻋﺘﺮاف ﺑﻌﺒﻘﺮﻳ ّ ِﺔ اﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ‪ ،‬ﻧﺼﻮﺻﺎً وأﻟﺤﺎﻧﺎً وﻣﻮﺳﻴﻘﺎ‪ ،‬وﺑﻔﺮاد ِة ﻓﻴﺮوز‪ ،‬ﺻﻮﺗﺎً‬‫ِ‬ ‫ﻣﻘﺎرﺑﺎﺗِﻬﻢ‪ ،‬إﺟﻤﺎﻋﺎً ﻋﻠﻰ‬
‫أدق اﻟﻤﻌﺎﻳﻴﺮ‪" ،‬رﻣﺰاً" ﻟﺒﻨﺎﻧﻴّﺎً‪ ،‬و"أﻳﻘﻮﻧﺔً" ﻋﺮﺑﻴّﺔً‪ ،‬و"ﻧﺠﻤﺔً"‬
‫‬ ‫وﻓﻖ‬
‫َ‬ ‫إﺟﻤﺎﻋﻬﻢ ﻋﻠﻰ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ‪،‬‬‫َ‬ ‫ﺒﺮ ُز‬
‫وأداءً‪ ،‬ﻛﻤﺎ ﻳ ُ ِ‬
‫ﻋﺎ َﻟﻤﻴ ّﺔ‪ ،‬و"رﺳﻮﻟﺔً" إﻧﺴﺎﻧﻴ ّﺔ‪.‬‬

‫وﻃﻦ اﺳﻤﻪ ﻓﻴﺮوز‬


‫ﻘﻴﻢ ُﻣﻌﺎ َدﻟ ًﺔ ﺑﻴﻦ اﻟﻮﻃﻦ وﻓﻴﺮوز‪ ،‬ﻓﻘﺪ ﺗﻢ¦ اﺧﺘﻴﺎ ُره ﻣﻦ‬ ‫ﻋﻨﻮان ﻫﺬه اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻤﻘﺎﻻت اﻟﺬي ﻳ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫أﻣّﺎ‬

‫ٌ‬
‫وﻃﻦ اﺳﻤﻪ‬
‫ٌ‬
‫َﺖ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫واﻟﻮﻃﻦ اﻟﻤﻘﺼﻮد ُ ﻫﻨﺎ ﻣﺘﻌﺪّد ُ اﻟﻬﻮﻳ ّ ِﺔ واﻷﺑﻌﺎد‪ .‬إﻧﻪ ﻟﺒﻨﺎن‪ ،‬اﻷرض اﻟﺘﻲ أﻧ َﺒﺘ ْ‬
‫ُ‬ ‫وﺣﻲ ﻫﺬه اﻟﺮؤى‪.‬‬
‫اﻟﺰﻣﺎن ﺑﻤﺜﻠﻬﺎ‪ ،‬وﻫﻮ اﻟﺒﻠﺪ ُ اﻟﺬي ﻏﻨّﻮ ُه وأﻏﻨَﻮ ُه‬
‫ُ‬ ‫َﺖ ﻓﻴﺮوز واﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ‪ ،‬ﻫﺬه اﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﺘﻲ ﻗﻠّﻤﺎ َﻳﺠﻮد ُ‬‫واﺣﺘ ََﻀﻨ ْ‬
‫ﺑﺈﺑﺪاﻋﺎﺗِﻬﻢ اﻟﺜﺮﻳ ّﺔ‪.‬‬

‫ﻫﻤﻮم‬
‫َ‬ ‫وإﻧﺠﺎزات ﺣﻀﺎرﺗﻬﺎ‪ ،‬وﺣﻤﻠﻮا‬
‫ِ‬ ‫وﻣﺂﺛﺮ ﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ‬
‫ِ‬ ‫ﺣﻮاﺿﺮﻫﺎ‬
‫ِ‬ ‫وﻫﻮ أﻳﻀﺎً دﻧﻴﺎ اﻟﻌﺮب اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻨّﻮا ﺑﺄﻣﺠﺎ ِد‬
‫اﻟﻤﺜﺎﻟﻲ اﻟﻤﺘﺨﻴ ¦ﻞ‬
‫‪ ‬‬ ‫اﻟﻮﻃﻦ اﻟﺒﺪﻳﻞ‪ ،‬اﻟﻌﺎ َﻟ ُ‬
‫ﻢ‬ ‫ُ‬ ‫ﻧﻀﺎﻻت ﺷﻌﻮﺑﻬﺎ وﻋﺪاﻟ ِﺔ ﻗﻀﺎﻳﺎﻫﺎ‪ .‬وﻫﻮ‬ ‫ِ‬ ‫ﺣﺎﺿﺮﻫﺎ‪ ،‬وﺗﻀﺎﻣﻨﻮا ﻣﻊ‬
‫واﻷﻋﺪل‪ ،‬وﺳﻌﻴﺎً إﻟﻰ‬
‫ِ‬ ‫اﻷﺟﻤﻞ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وﺑﻬﺪف ﺗﻐﻴﻴﺮه إﻟﻰ‬ ‫اﻟﻮاﻗﻊ وﺗﺮد ّﻳﻪ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ﻟﺒﺆس‬ ‫اﻟﺬي رﺳﻤ ُﻪ اﻟﺮﺣﺎﺑﻨﺔ‪ ،‬رﻓﻀﺎً‬
‫اﻻرﺗﻘﺎءِ ﺑﻪ إﻟﻰ اﻷﻋﻠﻰ واﻷﺳﻤﻰ‪.‬‬

‫اﻟﻮﻃﻦ اﻟﺬي ﺗﻮﻟّﺖ ﻓﻴﺮوز‪ ،‬وﻣﺎ زاﻟﺖ ﺗﺘﻮﻟّﻰ ّ‬


‫ﻛﻞ ﻳﻮم‪ ،‬ﻧَﻘْ َﻠﻨﺎ إﻟﻰ ﺳﺎﺣﺎﺗِﻪ وﻓﻀﺎءاﺗﻪ‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫إﻧّﻪ‬

‫ﻣﺆﺳّ ﺴﺔ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻌﺮﺑﻲ‬


‫ﺷﺎرع اﻟﺠﺎﻣﻊ اﻟﻌﻤﺮي‪ ،‬اﻟﻮﺳﻂ اﻟﺘﺠﺎري‪ ،‬ﺑﻴﺮوت‬
‫ص‪.‬ب‪ 11-524 :.‬ﺑﻴﺮوت ‪ -‬ﻟﺒﻨﺎن‬ ‫ّ‬
‫ﻣﺨﺼﺺ ﻟﻠﺒﻴﻊ‬ ‫ﻏﻴﺮ‬
‫ﻫﺎﺗﻒ‪ +961 1 99 71 00 :‬ﻓﺎﻛﺲ‪+961 1 99 71 01 :‬‬
‫‪www.arabthought.org - info@arabthought.org‬‬

You might also like