You are on page 1of 289

‫ﺔ‬‫ـ‬

‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ﻴ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـﻤ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ﻨ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ﺘ‬‫ﻟ‬
‫ا‬
‫ﺔ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫اﻣ‬
‫ﺮ‬‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـﻜ‬
‫ﺑ‬
‫ﺮ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـﻘ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ﻟﻔ‬
‫ﺔا‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ﻳ‬
‫ﺎ‬‫ـ‬
‫ـﻬ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ﻧ‬‫‪،‬و‬
‫ـﻦ‬‫ـ‬
‫ﻴ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ﻮﻃ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ﺘ‬‫ﻟ‬‫ا‬
‫‪،‬و‬‫ﺮ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ﻴ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ـﺼ‬‫ﻟﻤ‬
‫ﺮا‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ﻳ‬‫ﺮ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ﺗﻘ‬

‫ﺮ‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ﻧ‬‫ر‬
‫ا‬‫ﺎتو‬
‫ـ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ﺮوﻣ‬
‫ـﻤ‬‫ـ‬
‫ـ‬
‫ﻟ‬‫ﺎ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫‪.‬ﺑ‬‫ﻮمﺟﻲ‬
‫ـ‬‫ـ‬
‫ﺗ‬
‫التنمية بكرامة‬
‫تقرير املصري‪ ،‬والتوطني‪ ،‬ونهاية الفقر‬

‫تأليف‬
‫توم جي‪ .‬باملر ومات وارنر‬

‫ترجمة‬
‫عبد املعني السباعي‬ ‫رزان حميدة‬ ‫حازم موس‬ ‫مريا جندي‬
‫رامي أبو زرد‬ ‫حبيب زريق‬ ‫حسام شبيل‬ ‫زينب أحمد‬

‫مراجعة‬
‫أحمد رضا‬
‫قامئة املحتويات‬

‫مقدمة ‪1........................................................................................................................‬‬

‫‪ 1‬الكرامة‪19...................................................................................................................‬‬

‫‪ 2‬الكرامة واالبتكار‪46......................................................................................................‬‬

‫‪ 3‬الكرامة واملشاريع‪56...................................................................... ...............................‬‬

‫‪ 4‬الكرامة والدميقراطية‪74................................................................................................‬‬

‫‪ 5‬إهانة االستبداد‪89..................................................................................... ....................‬‬

‫‪ 6‬إهانة الكرامة يف اإلغاثة التنموية‪112...............................................................................‬‬

‫‪ 7‬الكرامة واملؤسسات‪127.................................................................................................‬‬

‫‪ 8‬الكرامة واملعرفة‪147.....................................................................................................‬‬

‫‪ 9‬انتشار الكرامة واالبتكار‪167..........................................................................................‬‬

‫‪ 10‬التنمية بكرامة‪189.....................................................................................................‬‬

‫مالحظات‪213................................................................................................................‬‬
‫مقدمة‬

‫ملاذا تهم الكرامة‬

‫يف ‪ 16‬ديسمرب ‪ ،2010‬يف بلدة سيدي بوزيد يف املناطق الداخلية بتونس‪ ،‬نحو الساعة‬
‫‪ 10‬مسا ًء‪ ،‬استدان محمد البوعزيزي‪ ،‬وهو شاب كان املعيل الوحيد ألرسته الكبرية‪$200 ،‬‬
‫ليشرتي خضا ًرا بالجملة‪ .‬كانت خطته أن يبيع هذه الخضار يف اليوم التايل من عربته‬
‫حا‪ ،‬جاءته الرشطة يف السوق تبت ّزه‬
‫املتجولة‪ .‬يف اليوم التايل‪ ،‬نحو الساعة ‪ 10:30‬صبا ً‬
‫لتأخذ رشوة‪ .‬كان البوعزيزي قد م ّر باألمر من قبل عدة مرات‪ .‬كان الرجل يعمل هذا العمل‬
‫منذ مراهقته ليعيل أرسته‪.‬‬

‫طفال‪ ،‬كانوا‬
‫ً‬ ‫قال صديقه املق ّرب‪ ،‬حجالوي جعفر‪ ،‬بعد ذلك‪« :‬منذ كان محمد‬
‫يسيئون معاملته‪ .‬لقد اعتاد األمر»‪ .‬ل ّخص جعفر تجربة البوعزيزي يف اكتساب معيشته‬
‫بهذه العبارة‪« :‬لقد رأيته يُذ َُّل»‪ 1.‬بعد أن طولب البوعزيزي باملال الذي مل يكن معه‪ ،‬ق ّيدته‬
‫الرشطة وأخذوا يرضبونه ويسبونه ويبصقون عليه‪ .‬ألقت الرشطة بضائعه يف الشارع‬
‫وأخذت أغىل ما ميلك‪ ،‬املوازين التي كان يستعملها لوزن خرضاواته‪.‬‬

‫ج ّرد الرجل من موازينه ومن مبيعاته التي يحتاج إليها ليفي بديونه‪ ،‬ليواجه مصريه‬‫ُ‬
‫األسود‪ .‬األسوأ من ذلك أن مسؤويل الحكومة أمطروه باإلهانات عىل املأل‪ .‬لقد أُ ِذ ّل الرجل‬
‫عىل يد مسؤولني غري مسؤولني يف الحكومة – مرة أخرى‪ .‬جمع الرجل ما استطاع مام‬
‫أُلقي‪ ،‬وذهب إىل مكتب العمدة ليستعيد موازينه‪ .‬مل يساعده أحد‪ .‬مل يره أحد‪ .‬كان الرجل‬
‫خف ًّيا ألنه يف أعينهم كان بال كرامة‪ .‬قال البوعزيزي لهم‪« ،‬إن كنتم ال ترونني‪ ،‬فسأحرق‬
‫نفيس»‪ .‬لكنهم أرصوا عىل رفض املساعدة‪ .‬ترك الرجل املكان وعاد إليه بعد ذلك ومعه‬

‫‪1‬‬
‫عبوة من الغازولني‪ .‬وقف الرجل يف الشارع وسكب الوقود عىل نفسه‪ .‬قبل أن يشعل‬
‫ج ّرد من بضاعته ورأس ماله وكرامته – رصخ‬
‫البوعزيزي نفسه‪ ،‬هذا الرجل البائس الذي ُ‬
‫قائال‪« ،‬كيف تتوقعون مني أن أتع ّيش؟»‪ 2‬مات البوعزيزي يف ‪ 4‬يناير ‪.2011‬‬
‫ً‬

‫وفقًا ملا قالته أخت محمد البوعزيزي‪ ،‬ليىل‪« ،‬يف سيدي بوزيد‪ ،‬من مل يكن لهم‬
‫معارف ومال للرشوات يُ َذلّون ويس ُّبون وال يُسمح لهم أن يعيشوا»‪ 3.‬بعد عام من هذا‬
‫الحادث املر ّوع‪ ،‬تدبّرت أم البوعزيزي يف معنى وفاة ابنها‪ .‬وصفت األم ثالثة وعرشين‬
‫عا ًما من الذل والنهب واالعتداء والقمع من املسؤولني «الذين مل يرتكوا أمثالنا يعيشون»‪.‬‬
‫قالت بعد ذلك عن فعل ابنها محمد‪:‬‬

‫رسقت‪ .‬بل ألجل كرامته‪.‬‬ ‫عندما أشعل نفسه مل يفعل ذلك ألن موازينه ُ‬
‫‪4‬‬
‫الكرامة قبل الخبز‪ .‬كانت كرامته أول همومه‪ .‬الكرامة قبل الخبز‪.‬‬

‫ال يشك أحد يف أهمية الخبز‪ .‬يعمل املهندسون الزراعيون ليحسنوا قدرتنا عىل‬
‫قمام مل تكن‬
‫الحصول عىل الغذاء من الرتبة‪ ،‬وهو علم تسارع يف السنني األخرية وبلغ ً‬
‫متص َّورة من قبل‪ 5.‬كذلك يعمل علامء االقتصاد لفهم وتوفري أفضل الظروف إلنتاج‬
‫الطعام‪ 6.‬يركز املهندسون الزراعيون عىل النبات وكيمياء الرتبة وهكذا‪ ،‬أما االقتصاديون‬
‫قليال ما‬
‫ً‬ ‫فيهتمون باملعامالت اإلنسانية واملؤسسات والقواعد واإلجراءات التي تحكمها‪.‬‬
‫يُعالج أحد أهم عوامل االزدهار اإلنساين‪ :‬الكرامة‪ .‬الكرامة هي أساس الحرية الدميقراطية‬
‫والتنمية االقتصادية واالجتامعية‪ .‬من هنا جاء عنواننا‪ :‬التنمية بالكرامة‪ :‬تقرير املصري‬
‫واملحلية ونهاية الفقر‪ .‬الكرامة والتنمية وتقرير املصري أشياء مرتبطة فيام بينها يف كل‬
‫مكان يف العامل‪ ،‬يف الدول الغنية والفقرية‪ ،‬يف الرشق والشامل والغرب والجنوب‪ .‬يكون‬
‫هذا االرتباط وثيقًا مرة وضعيفًا مرة أخرى‪ ،‬لكنه دامئًا موجود‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫الكرامة أساس ال غنى عنه للحكم الدميقراطي‪ .‬إن كرامة كل مواطن‪ ،‬آمن يف جميع‬
‫حقوقه‪ ،‬التي تحرتمها السلطات واملواطنون اآلخرون‪ ،‬هي التي تحمي ازدهار هذا الشخص‬
‫الخاص‪ .‬اشتهر بنجامني كونستنت مبقارنته «الحرية القدمية» مع «الحرية الحديثة»‪.‬‬
‫كانت الحرية القدمية تتصف بتقرير املصري الجامعي‪ ،‬وكانت متوافقة مع «اإلخضاع‬
‫الكامل للفرد تحت سلطة املجتمع»‪ ،‬أما الحرية الحديثة فهي «حرية فردية»‪ .‬العرص‬
‫الحديث‪ ،‬عرص التحسني والتجارة والتنمية‪ ،‬هو عرص الحرية الفردية‪ ،‬لكن كونستنت‬
‫حذرنا ودعانا إىل عدم التخيل الكامل عن حق الجامعة يف تقرير املصري‪ ،‬أو حق االختيار‬
‫العام للمواطنني‪.‬‬

‫كان خطر الحرية القدمية أن الناس‪ ،‬الذين اقترص اهتاممهم عىل حامية‬
‫حصتهم من السلطة االجتامعية‪ ،‬قد ينسبون قيمة ضئيلة ج ًّدا إىل الحقوق‬
‫وامللذات الفردية‪.‬‬
‫خطر الحرية الحديثة هو أننا يف انغامسنا يف متعة االستقالل الخاص‪ ،‬ويف‬
‫سعينا إىل مصالحنا الشخصية‪ ،‬قد يسهل علينا أن نتخىل عن حقنا يف‬
‫املشاركة يف السلطة السياسية‪ .‬أصحاب السلطة حريصون عىل تشجيعنا‬
‫يف هذا االتجاه‪ .‬هم مستعدون أن يخلصونا من كل العقبات‪ ،‬إال الطاعة‬
‫والدفع! سيقولون لنا‪ :‬ما هو هدف كل جهودكم يف النهاية‪ ،‬والدافع وراء‬
‫كدحكم‪ ،‬ومحل آمالكم؟ أليس هو السعادة؟ دعوا أمر السعادة لنا وسنمنحكم‬
‫إياها‪ .‬ال‪ ،‬أيها السادة‪ ،‬علينا أال ندع األمر لهم‪ .‬مهام كان هذا االلتزام الحنون‬
‫مؤث ًرا‪ ،‬فلنطلب إىل السلطات أال تتجاوز حدودها‪ .‬فلتقيد السلطات أنفسها‬
‫بالعدل‪ .‬أما مسؤولية سعادتنا فلتكن مسؤوليتنا نحن‪.‬‬
‫هل ميكن إسعادنا باالنحرافات‪ ،‬إذا كانت هذه االنحرافات غري مضمونة؟‬
‫وأين نجد الضامنات دون الحرية السياسية؟ إن التنازل عن هذه الحرية‪ ،‬أيها‬

‫‪3‬‬
‫السادة‪ ،‬حامقة كحامقة رجل يعيش يف الطابق األول‪ ،‬فال يعنيه إن كان‬
‫‪7‬‬
‫البيت مبنيا عىل رمل‪.‬‬

‫إن من الحكمة‪ ،‬بل والكرامة‪ ،‬أن يأخذ املرء مكانه بوصفه مشاركًا مساويًا يف الحكم‬
‫مسؤوال منتخ ًبا‪ .‬إن الذين يتخلون متا ًما عن كرامة‬
‫ً‬ ‫الدميقراطي‪ ،‬بوصفه مناقشً ا‪ ،‬ناخ ًبا‪ ،‬أو‬
‫املواطن لقاء الحصول عىل حرية الشخص الخاص سيخرسون يف النهاية االثنني‪ .‬ال تقبل‬
‫الكرامة بالحكم املستبد بل تتطلب الحكم الذايت الدميقراطي بني املواطنني األحرار‬
‫املتساوين‪ .‬يستثني كونستنت أثينا الدميقراطية من وصفه العام للعرص القديم‪:‬‬

‫كان يف العصور القدمية جمهورية مل تكن فيها عبودية الوجود الفردي‬


‫للجسم الجمعي كاملة كام وصفتها‪ .‬هذه الجمهورية هي أشهر الجمهوريات‪:‬‬
‫نت أنني أتكلم عن أثينا‪.‬‬
‫لقد خ َّم َ‬

‫إن تحقيق الحكم الدميقراطي الذايت‪ ،‬الذي يشري إليه مثال أثينا مجرد إشارة‪،‬‬
‫يساعدنا عىل فهم التجربة الحديثة للتنمية بالكرامة‪.‬‬

‫استبداد األقليات واألكرثيات‬

‫يرفض الحكم الدميقراطي استبداد األقلية ألنه يتطلب إجامع األغلبية‪ ،‬الذي يُض َمن بطرق‬
‫متنوعة‪ ،‬يف صنع القرار‪ .‬يرفض الحكم الدميقراطي كذلك استبداد األغلبية‪ ،‬ألنه يتطلب‬
‫حكم القانون والحامية القانونية للحرية الشخصية‪ .‬املعنى أنه يتطلب قيو ًدا واضحة عىل‬
‫سلطات األقليات واألغلبيات‪ .‬إذا غابت القيود يف الدساتري والقوانني واألعراف‪ ،‬تتحول‬
‫الدميقراطيات إىل استبداد‪ .‬الشعبوية السلطوية‪ ،‬وإن كانت ترجع إىل حكم األغلبية‪ ،‬متلفة‬
‫رصحت أن أقل ّية ما هي «عدو الشعب» وكتمت صوت هذه األقلية‬
‫للدميقراطية‪ ،‬ألنها إذا ّ‬
‫بالقيود عىل حرية التعبري‪ ،‬مل يعد ممك ًنا معرفة ما تعتقده األغلبية أو تفضله‪ .‬يف األنظمة‬

‫‪4‬‬
‫الدميقراطية‪ ،‬قد تصبح األقليات أغلبيات بسبب تغري اآلراء‪ ،‬لكن عندما يخىش الناس‬
‫‪8‬‬
‫مقياسا للخوف‪ ،‬ال لرأي األغلبية الحقيقي‪.‬‬
‫ً‬ ‫التعبري عن حججهم‪ ،‬تصبح االنتخابات‬

‫ذكر سكوت غوردون يف حديثه عن «الدميقراطيات الدستورية الحديثة»‪،‬‬

‫هي «دميقراطية» مبعنى أن فيها مشاركة واسعة للمواطنني العوام يف‬


‫تشكيل السياسة العامة‪ ،‬لكنها يف الوقت نفسه «دستورية» مبعنى أنها‬
‫تحتوي عىل آليات مؤسسية للتحكم بالسلطة وحامية مصالح وحريات‬
‫‪9‬‬
‫املواطنني‪ ،‬حتى الذين قد ينتمون إىل األقلية‪.‬‬

‫من العنارص األساسية يف الحكومة الدميقراطية املعارضة املوالية‪ .‬عندما يحل حزب‬
‫حاكام هو‬
‫ً‬ ‫محل حزب آخر يف حكم الربملان أو الكونغرس‪ ،‬يصبح الحزب الذي كان من قبل‬
‫املعارضة املوالية‪ .‬ال يحتل هذا الحزب الشوارع وال يفجر محطات القطار ألنه خرس‬
‫االنتخابات‪ .‬لكن هذا الوالء مستحيل‪ ،‬أو عىل األقل بعيد ج ًّدا‪ ،‬إذا كان الخارسون الذين‬
‫أصبحوا هم املعارضة اآلن يخشون بعد خسارتهم يف االنتخابات أن يخرسوا كل يشء‪:‬‬
‫بضائعهم وأمالكهم وحقوقهم‪ ،‬ورمبا حياتهم‪ .‬إن القبول الكريم للهزمية رشط محوري‬
‫للدميقراطية‪ ،‬وهو غري ممكن إال عندما يعلم املهزوم أن كرامته أمام القانون مل تزل محل‬
‫احرتام‪ .‬ال ميكن للدميقراطية أن تقوم لوال املعارضة املوالية‪ .‬ال تعتمد السياسة‬
‫الدميقراطية عىل إذالل األعداء وتدمريهم‪ ،‬بل عىل التنافس عىل مناصب القوة بني‬
‫‪10‬‬
‫الخصوم‪ ،‬عىل أن يعلم جميع األطراف أنهم إذا خرسوا‪ ،‬فلن يصبحوا «ال شع ًبا»‪.‬‬

‫حتى أشد املستبدين سلطوية‪ ،‬ماو تيس–تونغ‪ ،‬اضطر أن يقر بالعواقب الوخيمة‬
‫للحكم غري الدميقراطي‪ .‬يف عام ‪ ،1962‬بعد أن قتلت املجاعة الكربى ماليني الناس‪ ،‬قال‬
‫أمام جمع من سبعة آالف شخصية‪،‬‬

‫‪5‬‬
‫لوال الدميقراطية‪ ،‬ملا فهمتم ما الذي يحدث للفقراء؛ ولكان الوضع غري‬
‫واضح؛ وملا استطعتم جمع ما يكفي من اآلراء من كل األطراف‪ ...‬والعتمدت‬
‫‪11‬‬
‫القيادات العليا عىل مواد خاطئة وأحادية الجانب يف اتخاذ القرارات‪.‬‬

‫مل يتعلم ماو هذا الدرس مطلقًا‪ ،‬لكن الفطائع التي ارتكبها ستذكّر إىل األبد بالقيود‬
‫الشديدة للتنمية السلطوية‪.‬‬

‫كام الحظ رجل الدولة واملؤرخ الفرنيس‪ ،‬إن التواضع –أي تذكّر احتامل أن نكون‬
‫عىل خطأ– هو الذي يدعو إىل الحريات الدميقراطية‪.‬‬

‫يف اللحظة نفسها التي تفرتض فيها أن األغلبية عىل حق‪ ،‬ال تنىس‬
‫الدميقراطية أنها قد تكون عىل خطأ‪ ،‬ويكون همها أن تعطي األقلية كل‬
‫فرصة لتثبت أنها يف الحقيقة عىل صواب‪ ،‬وأنها تستحق من ثم أن تكون‬
‫األغلبية‪ .‬إن اإلجراءات الوقائية‪ ،‬والنقاشات يف التجمعات التشاورية‪ ،‬ونرش‬
‫هذه النقاشات‪ ،‬وحرية الصحافة‪ ،‬ومسؤولية الوزراء‪ ،‬كل هذه الرتتيبات‬
‫تهدف إىل ضامن أال تصبح األغلبية أغلبية إال بعد أن تثبت نفسها‪ ،‬لتجربها‬
‫دامئًا عىل إثبات رشعية نفسها‪ ،‬حتى تحافظ عىل نفسها‪ ،‬ولتضع األقلية يف‬
‫‪12‬‬
‫مكان تستطيع فيه أن تنازع سلطة األغلبية وحقها‪.‬‬

‫ليست التنمية االقتصادية –أي االزدهار– مسألة مزيد من العمل وحسب‪ ،‬بل هي‬
‫مسألة تحسني‪ .‬ومثلام أثبت ديردر مكلوسيك‪« ،‬إن ثرواتنا ال تأيت من وضع حجر عىل‬
‫حجر‪ ،‬أو شهادة بكالوريوس عىل شهادة بكالوريوس‪ ،‬أو ميزانية بنك عىل ميزانية بنك‪ ،‬بل‬
‫من وضع فكرة فوق فكرة»‪ 13.‬إن تحسينات الرفاه اإلنساين ال تأيت من تكثري فرص العمل‬
‫أو زيادة العمل‪ ،‬بل من التغيريات املبتكرة‪ ،‬من استبدال عربات اليد بالسالل‪ ،‬والتلغراف‬
‫بالحامم الزاجل‪ .‬ال بد من االبتكار‪ ،‬ومن أن مير االبتكار بالتجربة والتحسني‪ ،‬وهو ما‬

‫‪6‬‬
‫يتطلب حرية أن يجرب املرء بعمله وماله وأصوله‪ ،‬حتى ينشئ قيمة إضافية‪ 14.‬تحدث‬
‫التنمية عندما يتمتع الناس بكرامة الحرية ليختاروا خياراتهم بأنفسهم‪ ،‬متا ًما ألن هذا يتيح‬
‫ملعرفتهم أن تستع َمل لحل مشكالت الفقر‪ .‬تحدث التنمية عندما يُعامل الناس بوصفهم‬
‫رتض فيه أنهم أحرار يف مخاطراتهم‪ ،‬دون‬‫أفرا ًدا ناضجني مع افرتاض الحرية‪ ،‬الذي يف َ‬
‫الحاجة إىل إذن من أعىل‪ .‬إن حريتهم مق ّيدة‪ ،‬ال من الكائنات األعىل (سواء أكانوا آباء أم‬
‫ملوكًا وملكات أم مفوضني ومسؤولني أم رؤساء)‪ ،‬بل بحكم القانون واألعراف‪ ،‬أو اإلجامع‬
‫األخالقي‪ ،‬الذي يقوم عليه حكم القانون‪.‬‬

‫يُضاف إىل هذا أن ضامن الحرية املتساوية يف حد نفسه عنرص من عنارص التنمية‪،‬‬
‫كام قال أمارتيا سن‪« :‬إن حرية دخول األسواق يف حد نفسها إسهام كبري يف التنمية‪،‬‬
‫عام إذا كانت آلية السوق تعزز النمو االقتصادي والصناعة أو ال تعززه»‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫برصف النظر ّ‬
‫ريا من األفراد واملجموعات املتنوعة من االعتامد عىل‬
‫إن ضامن الحرية املتساوية ميكّن كث ً‬
‫معارفها ومواهبها الفريدة يف التعاون املفيد لجميع األطراف‪ ،‬الذي يؤسس ازدها ًرا‬
‫مشرتكًا‪ .‬هذه هي العملية التي تتحقق بها أهداف التنمية‪ .‬إن «تقسيم املعرفة» الجوهري‬
‫يف هذه العملية يعتمد عىل اإلقرار بأن كل أحد يعرف شيئًا ال يعرفه اآلخرون‪ .‬هذا أحد أكرث‬
‫مغفوال عنه‬
‫ً‬ ‫املبادئ انتهاكًا يف خطط التنمية السائدة اليوم‪ ،‬وأقلها تقدي ًرا‪ ،‬إن مل يكن‬
‫متا ًما‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬نعتقد أنه هو املفتاح الذي سييضء لنا الطريق قُ ُد ًما‪.‬‬

‫ال تُقاس التنمية مبجرد إتاحة السلع املادية أو األد َويّة‪ ،‬ألن الناس يرون القيمة يف‬
‫بعض السلع من أجل نفسها‪ .‬نحن نرى يف الخبز قيمة ألنه يغذينا‪ .‬نرى يف الكرامة قيمة‬
‫ألجل نفسها‪ ،‬ال ألجل يشء آخر‪ .‬إن االرتباط بني الكرامة والدميقراطية والتنمية بالعموم‬
‫خل ومخ َرج يف الوقت نفسه‪ ،‬وهي أساس االزدهار‬
‫يد ّعمها جمي ًعا كام سرنى‪ .‬الكرامة مد َ‬
‫والحرية الدميقراطية‪ ،‬وهي يف الوقت نفسه نتيجة للدميقراطية والتنمية‪ ،‬يف هذه الدورة‬

‫‪7‬‬
‫ريا‪ ،‬لكن دور الكرامة مل يجذب اهتام ًما‬
‫الفاضلة‪ .‬لقد ُدرست الدميقراطية والتنمية كث ً‬
‫مساويًا‪ .‬يُستثنى من هذا منشور املؤرخ االقتصادي ديردري مكلوسيك الفرتة الربجوازية‪.‬‬

‫املذلّة واإلهانة‬

‫ككثري من املفاهيم‪ ،‬ميكن أن نفهم الكرامة بفهم نقيضها‪ ،‬بفهم املذلة ومعاناة اإلهانة‪ .‬هذه‬
‫املعاناة كانت هي الحياة اليومية ملحمد البوعزيزي وكثري غريه‪ .‬إن معاناة املذلة معروفة‬
‫ج ًّدا بني فقراء العامل – أغلبيات الدول الفقرية وأقليات الدول الغنية‪ .‬ليس عليك أن تب ِعد‬
‫النظر حتى تراها‪ ،‬حتى يف الدول الغنية‪ .‬إن إيقاف الرشطة للمواطنني السود أثناء القيادة‬
‫جا وحسب‪ ،‬بل هو فعل ُم ِذ ّل‪ .‬االعتقال لبيع السجائر‬
‫ملجرد «قيادتهم وهم سود»‪ ،‬ليس إزعا ً‬
‫مفردةً‪ ،‬بدل بيعها يف باكيتات‪ ،‬ليس مزع ًجا فحسب‪ ،‬بل هو إذالل‪ ،‬وقد كان يف حالة إرك‬
‫‪16‬‬
‫غارنر املناسبة ملوته البطيء عندما خنقته الرشطة‪.‬‬

‫إن معاملتك عىل أنك مجرد متس ّول ال حيلة لك عند مكتب الرتخيص الحكومي‪،‬‬
‫ورفض منحك اإلذن لفتح عمل أو تنفيذ تجارة ليس أم ًرا مكلفًا وحسب‪ ،‬بل هو إهانة‪.‬‬
‫ترتاكم العواقب االجتامعية لهذه اإلهانات‪ .‬يف كثري من الدول النامية‪ ،‬بلغ حجم االقتصاد‬
‫«املوازي» –املؤلف من الذين مل يكن أمامهم خيار سوى كسب معيشتهم خارج السوق‬
‫ربا‪ ،‬وهو واحد من أهم األسباب التي تبقي هذه الدول فقرية‪ .‬عندما‬
‫حجام معت ً‬
‫ً‬ ‫الرسمي–‬
‫تكون خارج القانون‪ ،‬يصعب فرض االلتزام بالعقود بطريقة سلمية‪ ،‬وجمع الديون‪،‬‬
‫والتأكيد عىل الحقوق القانونية‪ ،‬ونقل امللكية‪ ،‬والوصول إىل النظام املايل الرسمي‬
‫ومعدالت الفائدة املنخفضة التي يتيحها القانون‪ .‬إذا كنت تعمل يف االقتصاد «املوازي»‪،‬‬
‫فمن البعيد ج ًّدا أن ينمو عملك‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫يف بوروندي‪ ،‬إحدى أفقر املناطق يف العامل‪ ،‬ق ّيدت البريوقراطية حق دخول السوق‬
‫الرسمي والحاميات القانونية التي يقدمها العمل املرخص تقيي ًدا شدي ًدا‪ ،‬ملصلحة‬
‫البريوقراطيني وأصحاب الوسائط والتجار الكبار‪ .‬نتيجة ذلك‪ ،‬ال ينفع النظام إال الالعبني‬
‫الكبار أصحاب املعارف واالتصاالت‪ ،‬الذين يستطيعون التنقل يف هذه البيئة البيزنطية من‬
‫الرتاخيص والرشوات‪ .‬إذا كنت تعمل يف االقتصاد املوازي‪ ،‬لن متلك ما يكفي لدفع‬
‫حتام قضاء شهور وأنت تسافر البالد إىل‬
‫الرشوات ورسوم الحكومة العالية‪ .‬ولن تستطيع ً‬
‫املكاتب الحكومية املتعددة لتدفع لها أو توظف محام ًيا ليفعل ذلك‪ .‬بل ستهتم بعملك‪ ،‬الذي‬
‫تحتاج إليه لتعيش كل يوم‪ .‬لذلك ستبقى خارج السوق الرسمي وغارقًا يف بيئة قانونية لن‬
‫تحميك مام تعرض له محمد البوعزيزي‪.‬‬

‫هذا هو التضييق نفسه الذي عاناه الرجل الذي يُعرف باسم بابا كورياندر معظم‬
‫حياته يف بوروندي‪ .‬جاء لقب الرجل من عمله‪ .‬يتاجر الرجل مبنتجات من الكزبرة‪ .‬هذه‬
‫هي قصته بكلامته هو‪.‬‬

‫نشأت يف أرسة فيها ‪ 11‬طفالً ‪ ،‬أنا أكربهم‪ .‬تزوجت امرأة ويل منها طفالن‪.‬‬
‫يل أن أجد طريقة إلعالة أرسيت‪ .‬بدأت‬
‫يف بيتنا أربعة آخرون نعولهم‪ .‬كان ع ّ‬
‫بيع عصري الكزبرة يف ح ّي بوترييري‪ .‬منتج الكزبرة هذا نافع صحيًّا‬
‫ورخيص إذا قورن باملنتجات االستهالكية األخرى يف بوروندي‪.‬‬
‫يل أن‬
‫عندما بدأت عميل‪ ،‬مل أملك أي وثيقة رسمية لبيع منتجايت‪ .‬كان ع ّ‬
‫أراقب السلطات املحلية‪ ،‬كالرشطة والعمدة واالستخبارات وغريهم حتى ال‬
‫ميسكوا يب أو يخربوا عني الرشطة أو اإلدارة املحلية‪ .‬يف تلك الفرتة‪ ،‬مل‬
‫أستطع أن أمني عميل حقًّا‪.‬‬
‫عملت يف السوق املوازي ألن تكاليف تسجيل عمل كانت باهظة عندما‬ ‫ُ‬
‫أحسب التكاليف الرسمية وغريها من التكاليف‪ ،‬ألن التسجيل يستغرق وقتًا‬

‫‪9‬‬
‫طويالً يف دوائر حكومية مختلفة‪ .‬وكان بعض الوكالء يطلبون عموالت‬
‫أخرى غري رسمية مني‪.‬‬
‫حا‪ ،‬إذ ظهرت ست سيارات‬ ‫أتذكر عندما كانت الساعة قريبة من الخامسة صبا ً‬
‫رشطة وخدمات أمنية‪ .‬اعتقلتني الرشطة مع زوجتي‪ ،‬وأخذت كل منتجايت‪،‬‬
‫وأغلقت عميل ألنني كنت أعمل دون وثيقة تسجيل‪ .‬رموين يف السجن‪،‬‬
‫وقضيت عدة أيام هناك‪ .‬هنالك فكرت يف إيقاف عميل ألنني رأيت أن حيايت‬
‫مت يف بلدي مبعنًى من املعاين‪ ،‬وأنا أحاول أن أعيش‪.‬‬ ‫مل تعد معقولة‪ .‬لقد ّ‬
‫صدقًا‪ ،‬كان األمر مرهقًا ج ًّدا‪.‬‬
‫أعتقد أنني قررت اإلرصار بدافع األمل‪ .‬يف بوروندي‪ ،‬نحن نعيش عىل أمل‬
‫أن يكون الغد أفضل ونقوم يف الصباح وإن كنا ال نرى ذلك‪ .‬كان وراء‬
‫املخاطرة واالستمرار أسباب عديدة‪ .‬يف بوروندي‪ ،‬عندما تكون كبري األرسة‬
‫فواجب عليك ثقافيًّا أن تعول ماليًّا بقية أعضاء األرسة‪ ،‬لذلك كان أبواي‬
‫ٌ‬
‫يل أن أستمر يف املخاطرة‬
‫وأعاممي وغريهم كلهم معتمدين عىل عميل‪ .‬كان ع ّ‬
‫يف هذا البلد‪.‬‬
‫يف عام ‪ 2018‬أصبح تسجيل العمل أسهل وأرخص‪ .‬منا عميل عندما أصبح‬
‫قانونيًّا‪ .‬إن العمل يف بوروندي سهل وبسيط اليوم‪ .‬ال يكلف التسجيل إال‬
‫‪ 30,000‬فربو [كانت من قبل ‪ .]140,000‬تستغرق العملية اليوم أقل من‬
‫أربع ساعات بوثيقة واحدة وهوية شخصية‪.‬‬
‫منا عدد موظفينا من اثنني إىل ‪ 139‬موظفًا‪ .‬ومنا عدد زبائننا من ‪ 21‬إىل‬
‫‪ 2,710‬زبائن‪ .‬صنعنا منتجات جديدة‪ .‬ننتج اليوم صابون الكزبرة‪،‬‬
‫ومعقامت يدوية‪ ،‬والسمسم‪ ،‬وبصارة الكزبرة لألطفال والكبار‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫يف البداية‪ ،‬كنا نستعمل قدور الطبخ‪ .‬اليوم عندنا أدوات تتيح لنا تجفيف‬
‫املنتجات الزراعية يف أقل من ‪ 5‬ساعات‪ ،‬وزجاجات جديدة عليها عالمتنا‬
‫التجارية‪ ،‬وموقع جديد وأدوات أخرى تتيح لنا إنتاج منتجاتنا يف أقرص‬
‫وقت ممكن‪.‬‬
‫يف البداية‪ ،‬كان عندنا منفذ بيع واحد يف بوجومبورا (بوتريي)‪ .‬اليوم نحن‬
‫موجودون يف ‪ 11‬محافظة يف بوروندي‪ .‬نحن يف بوبانزا‪ ،‬وسيبيتويك‪،‬‬
‫وكايانزا‪ ،‬ونغوزي‪ ،‬ومورامفيا‪ ،‬وغيتيغا‪ ،‬وموارو‪ ،‬وماكامبا‪ ،‬ورومونج‪،‬‬
‫وريف بوجومبورا‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫لقد اكتسبت مهارات جديدة يف اإلدارة والتسويق والتواصل وغريها من‬
‫املعارف التي ساعدتني عىل اكتساب مهارات جديدة يف التحويالت الزراعية‬
‫التي نستعملها اليوم‪ .‬شعاري يف العمل هو الرسعة واالبتكار والثقة‬
‫والتواضع‪.‬‬
‫بالنسبة يل‪ ،‬أنا بابا كورياندر‪ ،‬هذا مبديئ وهذا هديف‪ .‬أدعو األجانب إىل‬
‫الزيارة لريوا كيف يغري عميل حياة الناس يف بلدي‪ ،‬هذا العمل الذي بدأته‬
‫بابتكار من نفيس‪ .‬يدرس طفالي الذكيان والحبيبان اليوم يف مدرسة من‬
‫أفضل مدارس بوروندي‪.‬‬
‫تسعة أعشار السكان هنا مزارعون‪ .‬عندما ينمي املزارعون محاصيلهم‪،‬‬
‫نشرتيها فريبحون‪ .‬بعد أن أعالج املنتجات الزراعية التي آخذها من املزراعني‪،‬‬
‫أبيعهم املنتجات التي يحتاجونها‪ ،‬يف الوقت الذي يعتمد فيه التجار اآلخرون‬
‫عىل رشكتي أو غريها لتستمر أعاملهم‪ .‬نحن نشارك املعرفة ونشكّل سلسلة‬
‫‪17‬‬
‫ضد الفقر والبطالة يف مجتمعنا‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫أدار الرجل عىل مدى أعوام طويلة عملية مراقبة دامئة‪ ،‬ومل يستطع النمو إال‬
‫بالوصول إىل النظام القانوين‪ ،‬ومن ثم إىل حامية أصوله‪ ،‬واإللزام بعقوده‪ ،‬وحتى‬
‫االعرتاض القانوين عىل إساءة الرشطة‪ .‬لقد حافظت املؤسسات التي حكمت بابا كورياندر‬
‫وعمله عىل فقره وفقر بلده‪ .‬تغري هذا عندما بدأت اإلصالحات املؤسسية وجعلت تراخيص‬
‫ج ّرد كثري من مسؤويل الحكومة من سلطاتهم‬
‫العمل أشمل‪ .‬أصبحت العملية سلسة (أي ُ‬
‫عىل الرتخيص) وأقل تكلفة‪ .‬يف السنوات السابقة لهذه التغيريات‪ ،‬شهدت بوروندي من ًّوا‬
‫بنسبة ‪ 5‬باملئة يف األعامل الجديدة‪ .‬بعد التغيريات‪ ،‬قفز الرقم إىل ‪ 49‬باملئة‪ ،‬تشمل رشكة‬
‫بابا كورياندر‪.‬‬

‫يف الفرتة القصرية بعد أن حصل عىل ترخيص‪ ،‬منا عمل بابا كورياندر إىل ‪139‬‬
‫شخصا» قانون ًّيا كام كان‬
‫ً‬ ‫موظفًا‪ .‬أصبح مرشوع بابا كورياندر كيانًا قانون ًّيا‪ .‬مل يعد «ال‬
‫عمال»‪ .‬إن إزالة القيود‪ ،‬وإضعاف النظام الذي حرمه الرتخيص‪ ،‬أتاح‬
‫عندما كان عمله «ال ً‬
‫لبابا كورياندر أن يشق طريقه من الفقر‪ .‬تأيت التنمية املستدامة من كرامة عدم الحاجة‬
‫إىل استجداء اإلذن من اآلخرين‪ ،‬وعدم الحاجة إىل االستجابة إىل مطالبهم املستمرة‬
‫للرشوات‪ ،‬وعدم الحاجة إىل التذلّل والخنوع من أجل تراخيص ينبغي أن يكون مفروغًا‬
‫منها‪.‬‬

‫مهام من عنارص الكرامة‪ ،‬هو تجربة الفعل‪ ،‬أن‬


‫رصا ًّ‬
‫تبني قصة بابا كورياندر عن ً‬ ‫ّ‬
‫متلق سلبي‪ .‬إن من أعظم‬
‫فاعال‪ ،‬أن يُعا َمل عىل أنه إنسان راشد‪ ،‬ال عىل أنه ٍّ‬
‫ً‬ ‫يكون املرء‬
‫اإلهانات للراشدين أن يُعاملوا كاألطفال‪ ،‬كام كان املل َّونون يعاملون م ّدة طويلة من الزمان‪،‬‬
‫بدال من أن ينا َدوا بالرجل واملرأة‪ .‬إن الحاجة إىل أن يطلب املرء‬
‫بالصبي والبنت‪ً ،‬‬
‫ّ‬ ‫إذ يُنا َدون‬
‫بانكسار إذنًا ليعيش حياته‪ ،‬ليعيش ما هو من حقه‪ ،‬وأن يحاول فينجح أو يخفق‪ ،‬هي‬
‫إقصاء له من كرامة اإلنسان الراشد‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫إن مقاربة «وكاالت التنمية» حول العامل‪ ،‬والوكاالت التي توزّع «الدعم األجنبي»‪ ،‬مل‬
‫تزل مقاربة يتكرر فيها حرمان «العمالء» من الفاعلية‪ .‬وضع االقتصادي جون كنث‬
‫غالربيث بوضوح وعدم استحياء هذه السياسة‪ .‬يف مقابلة مع االقتصادي جون نيوارك‪،‬‬
‫وصف غالربيث «بيئة الفقر» بأنها «تستديم نفسها» وأنها «يشء ال بد أن نقبله»‪ .‬سأل‬
‫جا منطق ًّيا من تركيزك عىل توازن الفقر‪،‬‬
‫نيوارك السؤال املحوري‪« :‬لنا أن نستنتج استنتا ً‬
‫هو أن التغيري املعترب لهذه الحالة ال بد أن يأيت من الخارج‪ .‬هل هذا صحيح؟»‪ .‬أجاب‬
‫‪18‬‬
‫غالربيث‪« :‬متا ًما»‪.‬‬

‫كانت هذه هي النظرة العامة التي شكلت «اقتصاد التنمية»‪ ،‬الذي مل يزل قصوره هو‬
‫الدافع وراء كثري من برامج التنمية والدعم اليوم‪ .‬نؤمن أن غالربيث وأجياالً من اقتصاديي‬
‫التنمية الذين سبقوه ولحقوا به كانوا مخطئني‪ ،‬بل وكانوا سب ًبا يف رضر كبري لحق بفقراء‬
‫العامل‪ .‬إن الحديث عن «فخ الفقر» الذي ال ميكن الخروج منه إال مبعونة الخرباء (وأموال‬
‫الرضائب) من األجانب حديث ُمهني‪ .‬وعندما يخفق هذا املنهج إخفاقًا بعد إخفاق‪ ،‬يأيت الرد‬
‫بالحاجة إىل مزيد من الخرباء ومزيد من السلطة ومزيد من املال‪ 19.‬لقد تأ ّمر الخرباء عىل‬
‫الفقراء‪ ،‬وأهانوهم‪ ،‬وأداموا فقرهم‪ ،‬عىل رغم نياتهم الحسنة‪ ،‬ألنهم تجاهلوا الدور الذي‬
‫تلعبه الكرامة يف استكشاف الحلول املستدامة‪ .‬مل يتحرك الخرباء إلزالة الناس من «بيئة‬
‫الفقر» املدعاة‪ ،‬بل عاملوهم عىل أنهم مرىض ال بد أن يُعالجوا من «الخارج» وعىل أنهم‬
‫فاقدون للسيطرة والفاعلية واملسؤولية عن تنمية اقتصاداتهم‪ ،‬وهو ما أ ّدى إىل عجز ُمت َعلّم‬
‫بينهم‪ 20.‬هذه الطريقة مهينة ومضللة وأقرب إىل أن تؤدي إىل السلطوية واستدامة الفقر‬
‫من أن تؤدي إىل الدميقراطية والتنمية‪.‬‬

‫إن عىل األجانب أصحاب النيات الحسنة أن يتعلموا التواضع‪ .‬يبدأ األمر بإدراك‬
‫«معضلة األجنبي» وهي أن أصحاب األصول القيمة أو املعارف التقنية يجب أن يحرتموا‬
‫املعرفة التي مل تُتَح إال للذين يعالجون فعل ًّيا مشكالتهم الخاصة‪ .‬كام تعلم كثري من الكبار‬

‫‪13‬‬
‫الراشدين‪ ،‬ال ميكن للمرء أن يغري اآلخرين بقدر ما ميكنه أن يغري نفسه‪ .‬أضف إىل ذلك أن‬
‫التغيريات التنموية إذا أُريد لها البقاء‪ ،‬فال بد أن تكون ناشئة من الناس الذين قُصد منها أن‬
‫تساعدهم‪ .‬يف دراسته عن التغيري املؤسيس‪ ،‬يؤكّد عامل االجتامع ويليام ريتشارد سكوت‬
‫عىل التعقيد الذي تنمو به بعض املؤسسات‪ 21.‬حتى لو كانت التنمية الدميقراطية هي‬
‫هدفنا املشرتك‪ ،‬فليس عند األجنبي قالب ميكن أن يستعمله لتثبيت مؤسسات دامئة يف‬
‫مجتمعات الشعوب األخرى‪ .‬قد تتشارك املؤسسات الناجحة يف بعض الخصال (وقد تقدم‬
‫دراسة املؤسسات الناجحة بعض اإللهامات هنا)‪ ،‬لكن كل مؤسسة تحافظ عىل مميزات‬
‫تعكس الشعب الذي نشأت فيه‪ ،‬وتاريخه الفريد‪ ،‬والسياقات املحددة التي تستطيع أن‬
‫تؤدي فيها أدا ًء حسنًا‪ 22.‬األمر ال يقترص عىل املؤسسات‪ ،‬التي نفهم منها القوانني املكتوبة‬
‫يف الدساتري أو األحكام أو القوانني اإلدارية‪ ،‬بل ويشمل األطر األخالقية واألعراف‬
‫ميكن نسخ‬
‫والتوقعات التي تصاحبها‪ .‬كل هذه األشياء تتيح عمل املؤسسات‪ ،‬وإن كان ُ‬
‫‪23‬‬
‫الدساتري واألحكام والترشيعات اإلدراية‪ ،‬فإن األعراف ال ميكن نسخها‪.‬‬

‫التنمية إنجاز يقوم عىل إنجازات‪ ،‬تتطلب هذه اإلنجازات بدورها املشاركة الفاعلة‬
‫من الذين –من منظور األجنبي– «يُنَ َّمون»‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬هم ال «يُنَ َّمون» بل ين ّمون أنفسهم‪.‬‬
‫هم فاعلون‪ ،‬وليسوا مرىض‪ .‬هم عندهم معارف غري موجودة عند «خرباء التنمية»‪ ،‬معارف‬
‫بالزمان واملكان تتطلب أن يكون صاحبها فيهام‪ ،‬و«معارف مضمرة» ال ميكن تسجيلها يف‬
‫الجداول وال كتابتها يف التقارير‪ 24.‬إن افرتاض أن املفقود بني الفقراء هو املعرفة وأن‬
‫الخرباء األجانب ميلكون هذه املعرفة أ ّدى إىل رضر كبري للفقراء‪ ،‬ال سيام عندما ُدعم‬
‫مبليارات الدوالرات املأخوذة من دافعي الرضائب األجانب‪ .‬من أوائل النقّاد القتصاد التنمية‪،‬‬
‫بويل ِه ّل‪ ،‬التي أكدت أن عىل األجانب أن يظهروا تواض ًعا ويطلبوا التعلّم من اآلخرين‪« :‬إن‬
‫علينا أن ندرس املزارع‪ ،‬ال أن نتأمر عليه‪ :‬يجب أن نفرتض أنه يعرف عمله أكرث منّا»‪ .‬ثم‬
‫أضافت أنها ال تقصد انعدام التفاوت املعريف‪« ،‬أؤكد عىل كلمة ‹عمله› ألنني ال أقصد أن‬

‫‪14‬‬
‫املزارع لن يشكر النصيحة التقنية املاهرة واملعونة»‪ 25.‬عندما ميلك األجانب نصيحة تقنية‬
‫ماهرة‪ ،‬قد يقدمونها‪ ،‬لكن عندما يدعون أن معرفتهم للحقائق االقتصادية واالجتامعية أرقى‬
‫من معارف الذين عاشت أرسهم يف البلد أو اإلقليم أجياالً كثرية‪ ،‬فهم مخطئون دامئًا‬
‫تقري ًبا‪ .‬املحزن هنا أنهم قلّام تعلّموا من أخطائهم‪ ،‬ألن التكاليف ال تقع عليهم‪ ،‬بل عىل الذي‬
‫يهينونهم ودافعي الرضائب يف أوطانهم‪ ،‬الذين يُكرهون عىل متويل اإلهانة‪.‬‬

‫إن تجارب الذل هذه‪ ،‬التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفقر والتخلف والتدخل األجنبي‬
‫حسن النية‪ ،‬والهيمنة واالستبداد‪ ،‬ليست حتمية‪ .‬لقد كُرست دائرة الذل والهيمنة والفقر‪،‬‬
‫ُكرس اآلن؛ يبدأ كرس هذه الدائرة بالتأكيد عىل الكرامة‪.‬‬
‫وميكن كرسها‪ ،‬وهي ت َ‬

‫بدال من الذل‬
‫الكرامة ً‬

‫مل تكن الرثوة املادية وحدها دافع مئات آالف التونسيني الذين ألهمهم استشهاد البوعزيزي‬
‫املر ّوع فتدفّقوا إىل الشوارع مطالبني بالدميقراطية‪ ،‬وإن كانت الرثوة املادية شيئًا ج ّي ًدا‬
‫ج ًّدا‪ .‬لقد تظاهر التونسيون من أجل إنهاء السبب الجذري للفقر‪ ،‬وهو اإلهانة التي عاشوها‬
‫حا أن‬
‫عىل يد سلطة غري مسؤولة‪ .‬طالب التونسيون بالكرامة‪ .‬نعم‪ ،‬يظهر التاريخ وضو ً‬
‫احرتام كرامة محمد البوعزيزي يعني مزي ًدا من االزدهار – مزي ًدا من الخبز‪ ،‬لكن الخرب‬
‫املنتَج بكرامة‪ ،‬ألن الناس عندما يخاطرون بحيواتهم‪ ،‬قلّام يكون دافعهم الوحيد الرغبة‬
‫باملزيد من الخبز؛ بل هو املطالبة بالكرامة‪ ،‬املطالبة مبا هو «فوق أي مثن‪ ،‬لذلك مل يكن له‬
‫نظري»‪ 26.‬إن اإلقرار بحامية الحقوق يف القانون يؤدي إىل االزدهار‪ ،‬لكن العوائد املادية‬
‫تستغرق وقتًا حتى تظهر‪ ،‬أما الكرامة فتظهر يف لحظة اإلقرار بالحقوق‪.‬‬

‫إذا زرتَ منطقة حرضية أو ريفية‪ ،‬وكان أهلها مل يتمتعوا من قبل بأي حق ملكية‬
‫قانوين‪ ،‬ثم صدرت لهم حقوق ملكية قانونية‪ ،‬سرتى عندها معنى هذا الحديث‪ .‬يف ‪ 7‬مايو‬

‫‪15‬‬
‫‪ ،2015‬تلقت السيدة ماريا موثويب‪ ،‬وهي امرأة عمرها تسعة وتسعون عا ًما‪ ،‬من سكان‬
‫بلدية نغواث يف جنوب إفريقيا‪ ،‬سن ًدا قانون ًّيا مبلكية بيتها‪ .‬كانت السيدة ابنة عامني عندما‬
‫منع قانون األرض الصادر عام ‪ 1913‬أن ميلك الزنوج من اإلفريقيني الجنوبيني أي أرض‪.‬‬
‫بعد ما أوشك أن يكون قرنًا من الزمان‪ ،‬أمسكت السيدة بيديها سن ًدا مبلكية بيتها‪ ،‬وقالت‬
‫ريا متتلك شيئًا تستطيع أن تورثه‬
‫إنها اآلن تستطيع «أن تنام قريرة العني» ألنها أخ ً‬
‫ألبنائها‪ 27.‬عندما تلقت أرسة توم باملر حق امللكية ملزرعة قريبة من نهر ميكونغ‪ ،‬تو ّردت‬
‫مستحيال طردهم من املزرعة قانون ًّيا‪ ،‬وصار يف إمكانهم أن يعيشوا‬
‫ً‬ ‫وجوههم‪ .‬اآلن صار‬
‫‪28‬‬
‫ويزرعوا دون خوف‪.‬‬

‫عندما متلك سن ًدا مبلكيتك الخاصة‪ ،‬ال يقترص معنى ذلك عىل حقك بقيمة رأس مال‬
‫األصل اململوك‪ ،‬الذي تحدده معادلة القيمة الحالية‪ ،‬التي تكون فيها القيمة مساوية‬
‫إلجاميل األجور املستقبلية التي يولدها األصل‪ ،‬يُنقَص منها معدل الفائدة‪ .‬هذا منظور‬
‫املث ّمنني واالقتصاديني‪ ،‬وهو منظور نافع بال شك‪ .‬لكن شعور اإلمساك بالسند ليس هذا‪.‬‬
‫رتف بشخصيتك‪ .‬عندما‬
‫عندما متسك بسند امللكية‪ ،‬تشعر أنك فاعل اقتصادي‪ ،‬أنك مع َ‬
‫متبادال بهذا‪ ،‬ألن «التعاقد يفرتض أن كل طرف فيه‬
‫ً‬ ‫تشرتي األمالك وتبيعها‪ ،‬يكون اإلقرار‬
‫ومالك»‪ 29.‬ما تشعر به هو الكرامة‪ .‬لقد أصبحت اآلن‬
‫يق ّر بأن جميع األطراف أشخاص ّ‬
‫‪30‬‬
‫شخصا صاحب حقوق ومسؤوليات‪.‬‬
‫ً‬ ‫مالكًا‪ ،‬أي‬

‫يُظهر لنا تاريخ االقتصاد ونظريته ما الذي يحدث عندما يتمتع الناس بحوق ملكية‬
‫واضحة وآمنة قانون ًّيا ميكن نقلها حسب اإلرادة يف نظام قانوين عادل وف ّعال إىل درجة‬
‫محتملة‪ .‬يزرع الناس املحاصيل ويعتنون بها‪ ،‬ويحصدونها ويبيعونها‪ .‬يبنون البيوت‬
‫والحظائر واملحالت يف السوق‪ ،‬وينشئون املشاريع وينمونها‪ ،‬ويبنون اآلالت ويركبونها‪،‬‬
‫ويستثمرون يف البحث‪ ،‬ويشحنون بالربيد‪ ،‬ويشرتون ويبيعون‪ ،‬ويفعلون كل يشء يرفع‬

‫‪16‬‬
‫مستويات املعيشة واألجور الحقيقية‪ .‬يتعلّمون ويتلقّحون ويعلّمون ويلقّحون أوالدهم‪.‬‬
‫أصح‪ .‬يزدهرون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫وحيوات‬ ‫يعيشون أعام ًرا أطول‬

‫رسا‪ .‬لقد الحظ آدم سميث أن‬


‫إن أصول االزدهار املؤسسية ليست ًّ‬
‫يكاد ال ينقل الدولة إىل أعىل مستويات الرثاء من أدىن مستويات الهمجية‬
‫يشء كالسالم والرضائب السهلة واإلدارة املقبولة للعدل؛ كل ما سوى ذلك‬
‫يأيت من السريورة الطبيعية لألشياء‪ .‬كل الحكومات التي تعيق هذه‬
‫السريورة‪ ،‬أو تجرب األشياء إىل قنوات مختلفة‪ ،‬أو تسلك مسلك حبس تقدم‬
‫املجتمع عند نقطة معينة‪ ،‬هي مجتمعات غري طبيعية‪ ،‬ال بد لها إذا أرادت أن‬
‫‪31‬‬
‫تحافظ عىل نفسها أن تكون قمعية واستبدادية‪.‬‬

‫إن نقل الدولة إىل أعىل درجات الرثاء يستغرق وق ًتا حتى يثمر مثا ًرا مستدامة‪ .‬لكن‬
‫احرتام كرامة اإلنسان ال يستغرق وق ًتا لتظهر مثاره‪ .‬النتيجة تظهر يف وقت الفعل نفسه‪.‬‬
‫ال يتطلب التمتع بها أي سلسلة من االستدالالت املجردة أو أي نظر يف األدلة التجريبية‬
‫الدالة عىل أنها ستؤدي إىل منافع‪ .‬هي مكافأة بذاتها‪ .‬هي جزء من الحياة الصالحة‪ .‬يسعى‬
‫الناس إىل الكرامة من أجل نفسها‪ .‬كام قالت السيدة بوعزيزي‪« ،‬الكرامة قبل الخبز»‪.‬‬

‫إن حقوق الكرامة والحرية العامة مفاهيم حديثة‪ .‬ال شك أن طول مدة الخضوع يف‬
‫مناطق كثرية من العامل بعد ابتكار الزراعة‪ ،‬أ ّدى إىل اعتياد الطاعة‪ ،‬وإىل أن تُعاش حيوات‬
‫من الخوف‪ ،‬ومن االرتجاف من خوف السوط – أو‪ ،‬يف العرص الحديثة‪ ،‬من خوف طرق‬
‫متأخر يف الليل عىل باب البيت‪ .‬بعد خمسمئة عام من العبودية املوروثة‪ ،‬قد يعتقد بعض‬
‫الناس أنها ببساطة وضعهم الطبيعي؛ يف موريتانيا‪ ،‬قالت فاطمة بنت ماماديو للصحفي‬
‫جمال»‪ 32.‬قد يرى بعض‬
‫إلينور بوركت‪« ،‬لقد خلقني الله ألكون أ َمةً‪ ،‬كام خلق الجمل ليكون ً‬
‫مكتسب‪.‬‬
‫َ‬ ‫الذين كربوا من دون الكرامة والحرية أحيانًا أنهام ذوق‬

‫‪17‬‬
‫من حسن الحظ‪ ،‬تناقصت هذه األوضاع املتطرفة برسعة يف آخر قرنني من الزمان‪،‬‬
‫وانترشت املطالبة بالكرامة والدميقراطية والتنمية‪ .‬قبل إنجاز الحرية الدميقراطية‪ ،‬ال بد‬
‫حا عامل ًّيا بني ليلة وضحاها‪ ،‬وإن كان‬
‫من تقدير الكرامة‪ .‬مل تصبح فكرة الكرامة طمو ً‬
‫تغري مفهوم الكرامة يف خالل‬
‫مذهال يف انتشار الفكرة‪ّ .‬‬
‫ً‬ ‫القرنان األخريان قد شهدا تسار ًعا‬
‫عمل ّية انتشاره‪ ،‬يف مداه ويف محتواه‪ ،‬كام سنذكر الحقًا‪.‬‬

‫إن اإلقرار بالكرامة هو مفتاح االنتقال من الفقر والذل إىل أعىل درجات الرثاء‬
‫املمكنة‪ ،‬بعبارة آدم سميث‪ ،‬أو عىل األقل إىل درجات أعىل من الرثاء‪ .‬الكرامة هي املفتاح‬
‫الذي يفتح باب الدميقراطية والتنمية والحرية واالزدهار‪ .‬تح ّدانا أمارتيا سن يف دعوته إىل‬
‫‪33‬‬
‫«تقدير متطلبات التنمية من حيث إزالة القيود عىل الحرية التي يعانيها أفراد املجتمع»‪.‬‬
‫هذا الكتاب مك َّرس لهذه املهمة‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫الكرامة‬ ‫‪1‬‬

‫رشع مؤلفو التنمية التابعون للتيار الرئييس يف استكشاف أهمية الكرامة يف تصميم الغاثة‬
‫وتوصيلها‪ .‬ويف العادة‪ ،‬تتعرض تفضيالت متلقي الغاثة للتجاهل وتخضع بدًلا من ذلك‬
‫لتفضيالت املتربعني املتأثرة يف كثري من األحيان مبصالح خاصة ساعية للربح‪ ،‬ويُصور‬
‫أشخاصا‬
‫ا‬ ‫الفقراء بانتظام عىل أنهم مواضع شفقة يف «إباحية من الفقر»‪ ،‬عوضا ا عن كونهم‬
‫يستحقون اًلحرتام‪ 1.‬ومثة صحوة متزايدة تجاه فكرة أن العالقة بني املتربع واملتلقي قد‬
‫تعرقل أحد أهم العنارص من رفاه النسان‪ :‬وهي كرامة الفرد‪ .‬ففي مارس ‪ ،2019‬نرش‬
‫الباحثون يف معهد تنمية فيام وراء البحار نتائج مترين بسيط‪ .‬فقد سألوا الالجئني عام إذا‬
‫كانوا يتلقون الغاثة وماذا تعني الكرامة لهم‪ .‬وخلصوا إىل أن معنى الكرامة يتغري باختالف‬
‫السياق والثقافة‪ ،‬ولكن برزت فكرتني محددتني عن الكرامة‪ :‬الكرامة يف صورة اًلحرتام‬
‫والكرامة يف صورة اًلعتامد عىل النفس‪ 2.‬وعىل حد تعبري أحد الالجئني‪« :‬إن العمل بجد‬
‫‪3‬‬
‫وكسب لقمة العيش الخاصة بك لهو جزء كبري من هوية الروهينجا وفكرتنا عن الكرامة»‪.‬‬
‫وينبغي عىل تلك األصناف املختلفة من اًلستكشاف أن تحفز توسيع نطاق الرتكيز لئال‬
‫يقترص عىل تصميم وتوصيل الغاثة ملن هم يف حاجة إليها فقط‪ ،‬بل عىل معالجة الدور‬
‫املحوري الذي تلعبه الكرامة أيضا ا‪ ،‬ولكيال يقترص عىل الغاثة فقط‪ ،‬بل عىل التنمية أيضا ا‪،‬‬
‫وهو يشء ًل ميكن إيصاله للناس‪ ،‬بل هو باألحرى إنجاز‪.‬‬

‫ما هي الكرامة؟ يتجادل الناس حول املعنى واًلستخدامات الصحيحة ملفاهيم ذات‬
‫أهمية حيوية طوال الوقت‪ .‬وبوسعنا أن نسأل ما هي الكرامة؟ بقدر سؤالنا عن‪ :‬ما هي‬
‫املساواة؟ ما هو العدل؟ ما هي الحرية؟ ما هو النصاف؟ تُعد العديد من املفاهيم املركزية‬

‫‪19‬‬
‫يف الحوار األخالقي والسيايس موضع «جدال جوهري»‪ ،‬ما يعني أنه رغم أن الناس يطبقون‬
‫تلك املفاهيم‪ ،‬فهم يتجادلون حول معناها أثناء قيامهم بذلك‪ 4.‬فقد يسفر السؤال «ما هي‬
‫املساواة؟» عن إجابات مختلفة جذرياا‪ ،‬حتى بني من يعلنون أنهم يعملون لصالح املساواة‪.‬‬
‫وبوسعنا أن منيز بني مفهوم‪ ،‬مثل «املساواة»‪ ،‬والتصورات املتنافسة عنه‪ ،‬مثل «ينبغي عىل‬
‫كل الناس أن يكونوا متساويني أمام القانون» أو «ينبغي أن يحظى كل األفراد بنفس القدر‬
‫‪5‬‬
‫من الرثوة»‪.‬‬

‫وبوسع املفاهيم أن تتطور أيضا ا‪ ،‬ما يجعل مهمة استخراج املعنى من اًلستخدام‬
‫تحدياا صعباا‪ ،‬وذلك ألن من املحتمل أن استخدام املفهوم تغري مبرور الزمن بتطبيقه عىل‬
‫مواقف أو سياقات جديدة‪ .‬ومن األمثلة ذات الصلة املثرية لالهتامم بالتحديد مفهوم «الرجل‬
‫الحر» يف وثيقة إنجلرتا العظمى لعام ‪ ،1215‬وهي العقد الشهري الذي منح فيها امللك «لنا‬
‫ولورثتنا من بعدنا إىل األبد‪ ،‬كل الحقوق املدونة باألسفل‪ ،‬وسيحظون بها ويحتفظون بها‬
‫هم وورثتهم‪ ،‬منا ومن ورثتنا إىل األبد»‪ ،‬ومن بني تلك الحقوق‪:‬‬

‫ولن يُقبض عىل أي رجل حر‪ ،‬أو يُسجن‪ ،‬أو يُجرد من ممتلكاته أو حقوقه‪،‬‬
‫أو يُنفى من موطنه‪ ،‬أو يُحرم من منزلته بأي شكل من األشكال‪ ،‬ولن نتخذ‬
‫‪6‬‬
‫إجراءات ضده أو نحاكمه إًل من خالل حكم أقرانه أو بقانون األرض‪.‬‬

‫من هو «الرجل الحر»؟ كل البرش؟ أم كل الذكور البالغني؟ أم كل مالك األرايض‬


‫البالغني؟ فكام ًلحظ أحد الباحثني‪ ،‬اتسع نطاق حقوق الرجل الحر‪ ،‬إىل جانب مفهوم الرجل‬
‫الحر ذات نفسه‪ ،‬مبرور الزمن‪« .‬كانت الحقوق املعلن عنها يف ‪ 1225/1215‬تنطبق عىل‬
‫‪7‬‬
‫نسبة أقل بدرجة كبرية من عرشة يف املائة من سكان إنجلرتا‪ ،‬واسكتلندا‪ ،‬وويلز‪ ،‬وأيرلندا»‪.‬‬
‫وانطبقت تلك الحقوق وتلك التسمية ًلحقاا يف القرن السابع عرش عىل كل الرعايا النجليز‪،‬‬

‫‪20‬‬
‫ومل ميض وقت طويل قبل أن تنطبق عىل كل الرعايا يف املستعمرات‪ .‬كان تاريخ الحرية‪،‬‬
‫إىل حد كبري‪ ،‬ينطوي عىل اتساع مفهوم الحرية ليشمل أصنافاا أكرث من البرش‪ ،‬حتى صار‬
‫يشمل البرشية بأكملها‪.‬‬

‫وللكرامة أيضا ا تاريخها‪ .‬ففي العامل الروماين‪ ،‬انطبق كل من املصطلح واملفهوم يو اما‬
‫ما عىل األغنياء واألقوياء – أعضاء مجلس الشيوخ‪ ،‬وراكبي الخيول‪ ،‬والقناصل‪ ،‬واألباطرة‪،‬‬
‫والشأن العام يف حد ذاته‪ .‬واآلن ينطبق هذا املفهوم عىل تجار الخرضاوات املغاربة الفقراء‬
‫واملتواضعني يف القرن الحادي والعرشين‪ .‬وتُشتق كلمة الكرامة (‪ )dignity‬النجليزية من‬
‫‪ dignitas‬الالتينية‪ ،‬وعىل غرار الحرية‪ ،‬اتسع نطاقها‪ ،‬واتسع ما تشمله الكلمة من معنى‬
‫بدوره‪ .‬ذلك أن املعنى األصل للكلمة كان يتصل بطبقة ومنزلة اجتامعية‪ ،‬يف حني أن املشتقة‬
‫الحديثة منها –الكرامة‪ ،‬إىل جانب املصطلحات املكافئة أو املشابهة لها يف اللغات العديدة‬
‫األخرى– صارت تضم العامل بأكمله‪ ،‬بثقافاته املختلفة وبالده‪ ،‬وصارت تنطبق عىل الكل‪.‬‬

‫ويف املجتمعات الهرمية‪ ،‬تستبعد كرامة البعض كرامة اآلخرين‪ .‬واملصطلح املناظر‬
‫لذلك هو «الرتبة»‪ .‬ويف العامل الحديث‪ ،‬حني يتعلق األمر بالكرامة‪ً ،‬ل يريد املعدمني تجريد‬
‫األغنياء مام يتمتعون به‪ ،‬بل يريدون أن يتمتعوا به مبقدار متساوٍ‪ .‬وتتحقق الكرامة الحديثة‬
‫ًل بالدهس عىل اآلخرين بل بتحقيق املساواة والتمتع بها‪ .‬فكام قالت الشخصية الحديثة‪،‬‬
‫التي متثل مصدر إلهام ملصلحي القرون الالحقة‪ ،‬ريتشارد رامبولد‪ ،‬يف خطابه األخري قبل‬
‫إعدامه بوحشية‪« :‬أنا متأكد من أنه ًل يوجد أي رجل ميزه الرب عند الوًلدة مبنزلة أعىل من‬
‫جا عىل ظهره‪ ،‬وًل أحد يأيت إىل هذا‬
‫غريه‪ ،‬ذلك أن ًل أحد يأيت إىل هذا العامل وهو يحمل رس ا‬
‫‪8‬‬
‫العامل وهو يرتدي حذا اء لريكبه»‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ويف أي مكان يتعرض فيه الناس لالعتقال أو السجن‪ ،‬أو التجريد من الحقوق أو‬
‫املمتلكات‪ ،‬أو النفي‪ ،‬أو الحرمان من املكانة بأي طريقة‪ ،‬أو اتخاذ إجراءات ضدهم‪ ،‬دون حكم‬
‫قانوين من أقرانهم أو دون حكم قانون األرض‪ ،‬يتوق الناس إىل الكرامة‪ ،‬ومعها الحرية‬
‫املتساوية واملساواة أمام القانون‪ .‬وتشمل أشكال الكرامة الحديثة التي يخضع لها مليارات‬
‫البرش اليوم العديد مام كان الناس معتادون عليه يف إنجلرتا يف عهد امللك جون‪ :‬أن يجربوا‬
‫عىل التوسل من أجل بدء نشاط تجاري‪ ،‬أو نقل حقوق امللكية‪ ،‬أو إبرام عقود تحت رشوط‬
‫مقبولة للطرفني‪ ،‬أو التجارة عرب الحدود‪ ،‬أو –ما يزيد الطني بلة– أن ينتظروا أليام‪ ،‬أو‬
‫شهور‪ ،‬أو سنني من أجل الحصول عىل أذونات ميكن رفضها يف نزوة (أو دون دفع رشوة)؛‬
‫أي أن يخضعوا لسلطة عشوائية أو عنف وحيش حتى؛ أن يتعرضوا للحرمان والعجز عن‬
‫الوصول للقانون الذي يقترص فقط عىل األغنياء‪ ،‬واألقوياء‪ ،‬وذوي الصالت‪.‬‬

‫وقد تساعدنا دراسة موجزة عن املسار التاريخي ملفهوم الكرامة أن نرى الكيفية التي‬
‫يتحول هذا املفهوم الذي نشأ يف سياق محدد‪ ،‬من كونه يشمل املنازل العليا (حيث كانت‬
‫الرتبة والكرامة وجهني لعملة واحدة)‪ ،‬إىل مفهوم ينطبق عىل مستوى عاملي‪ ،‬مع فصله عن‬
‫الرتبة واًلمتياز‪.‬‬

‫مرياث سيرسو‬

‫من أهم النصوص املسجلة يف تاريخ الفكر األخالقي والسيايس هو ما كتبه الخطيب‪،‬‬
‫واملحامي‪ ،‬ورجل الدولة الروماين ماركوس توليوس سيرسو‪ .‬ففي آخر سنوات عمره‪ ،‬بني‬
‫سيرسو‪ ،‬يف خطاب إىل ابنه‪ ،‬أفكاره الناضجة عن الحياة اًلجتامعية والسياسية وعن‬
‫واجبات الحياة‪« ،‬وذلك ألنه ًل يوجد جزء من الحياة‪ً ...‬ل ينطوي عىل واجبات‪ .‬إذ أن كل يشء‬

‫‪22‬‬
‫رشيف يف حياة املرء يعتمد عىل تنميتها‪ ،‬وكل يشء مشني يعتمد عىل إهاملها»‪ 9.‬ولعبت‬
‫طريقة معالجة سيرسو للكرامة وفكرة اللباقة «‪( »decorum‬أو املالمئة) املتعلقة بها دو ارا‬
‫ها اما يف صياغة وتعميم مفهوم الكرامة كام سنطبقه يف هذا الكتاب‪.‬‬

‫ورغم أن الكرامة مصطلح مقارنة‪ ،‬حول سيرسو بؤرة الرتكيز من مقارنة مكانات‬
‫جامعات األشخاص (أو الدولة) باألشخاص أو الدول األخرى‪ ،‬إىل مقارنة بني البرش‬
‫والكائنات غري العاقلة‪ .‬وبذلك قامت كرامة النسان عىل العقالنية‪ ،‬رغم أنها فُهمت بشكل‬
‫مختلف عام فهمه إميانويل كانط بعدها بـ ‪ 1,803‬عام‪ .‬فحني طبق مفهوم الكرامة عىل كل‬
‫الكائنات البرشية‪ ،‬اعرتف سيرسو يف ذات الوقت بأوجه التفرد العددية واملادية التي تجعل‬
‫كل فرد منا ممي ازا‪ .‬وترددت أصداء إعادة صياغة سيرسو للكرامة عرب العصور بصوت أعىل‬
‫من املعنى السابق للكرامة األشد تقيي ادا‪ ،‬وذلك بفضل قدرات سيرسو الفكرية وقدرته عىل‬
‫القناع‪ ،‬والتأثري الهائل الذي أحدثته كتاباته التي نُسخت يدوياا ونرشت أفكاره من العامل‬
‫‪10‬‬
‫الكالسييك مرو ارا بالعصور املظلمة والعصور الوسطى إىل عرصنا‪.‬‬

‫وتنطوي صياغة سيرسو عىل ثالثة عنارص رئيسية‪:‬‬

‫‪ .1‬الكرامة كونية ألن كل البرش لديهم طبيعة مشرتكة‪«( .‬عىل املرء أن يفهم أن الطبيعة‬
‫جهزتنا‪ ،‬إذ جاز التعبري‪ ،‬ألداء دورين‪ :‬األول دور شائع‪ ،‬وهو ناشئ عن حقيقة أن كل‬
‫فرد منا له نصيب يف العقل ويف السمو الذي نتفوق به عىل الكائنات املتوحشة»‪)11.‬‬
‫‪ .2‬الكرامة مكيفة حسب احتياجات كل فرد ألن كل فرد منا ميتلك «طبيعته الخاصة»‪.‬‬
‫(«أما الدور اآلخر فهو ُمسند عىل وجه الخصوص لكل فرد بعينه‪ .‬فعىل غرار‬
‫اًلختالفات الجسدية الهائلة بني كل فرد وآخر‪ ...‬مثة اختالفات أكرب يف أرواح البرش»‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫«علينا أن نترصف بطريقة ًل نحاول فيها أن نفعل يشء يناقض الطبيعة الكونية‪،‬‬
‫ومع ذلك‪ً ،‬ل بد أن تسمح لنا تلك الطريقة بأن نتبع طبيعتنا الخاصة»‪)12.‬‬
‫‪ .3‬الكرامة متأصلة يف طبيعتنا املشرتكة‪ ،‬ولكنها تضع أيضا ا لنا معايري وأهداف‪.‬‬
‫ويتطلب العيش بكرامة بذل الجهد‪ ،‬وقد نفشل يف الوفاء بكرامتنا إذا مل نترصف وفق‬
‫طبيعتينا‪ ،‬طبيعتنا الكونية (النسانية) وطبيعتنا الفردية‪«( .‬إ ذا أردنا أن نتأمل يف‬
‫تفوق وجدارة (كرامة) طبيعتنا‪ ،‬علينا أن ندرك مدى الخزي الذي يلحق بنا إذا غرقنا‬
‫يف الرفاهية وعشنا بنمط حياة أنثوي ناعم‪ ،‬ومدى الرشف الذي نحظى به إذا التزمنا‬
‫الزهد والحزم والوعي وضبط النفس»‪)13.‬‬

‫تحمل إعادة سيرسو لصياغة مفهوم الكرامة يف طياتها رشطاا ببذل الجهد‪ ،‬والسعي؛‬
‫أهال للكرامة‪ ،‬حتى نصون الكرامة‪.‬‬
‫علينا أن نترصف بطرق محددة وًل غريها‪ ،‬حتى نُعترب ا‬
‫وهذا أيضا ا مكون رضوري يف املواطنة التي متثل أساس الدميقراطية‪ ،‬ويف العمل‬
‫وريادة األعامل والتوجه املستقبل الذين ميثلون أساس التنمية‪.‬‬

‫أساسا لحقوق النسان استشهد به عىل نطاق واسع يف‬


‫ا‬ ‫وأرىس سيرسو أيضا ا‬
‫مهام يف صياغة عقائد حقوق النسان الحديثة‪:‬‬
‫العصور الالحقة‪ ،‬ولعب دو ارا ا‬

‫يجب عىل كل فرد أن يكون له هذا الهدف الوحيد‪ ،‬وهو أن تكون مصلحة‬
‫الفرد ومصلحة الجميع شيئاا واح ادا‪ .‬ذلك أنه لو احتكر فرد ما ذلك لنفسه‪،‬‬
‫لتفكك اًلتصال البرشي بأكمله‪ .‬وعالو اة عىل ذلك‪ ،‬إذا نصت الطبيعة عىل‬
‫رضورة أن يأخذ كل فرد مصالح اآلخر يف اًلعتبار‪ ،‬أياا يكن هذا اآلخر‪ ،‬ملجرد‬
‫أنه إنسان وحسب‪ ،‬فمن الرضوري‪ ،‬استنا ادا لنفس الطبيعة‪ ،‬أن ما يفيد‬
‫الجميع هو يشء مشرتك‪ .‬وإذا كان ذلك صحي احا‪ ،‬فنحن مقيدون بقانون‬

‫‪24‬‬
‫الطبيعة ذات نفسه‪ ،‬وإذا كان ذلك بدوره صحي احا‪ ،‬فمن املؤكد أن قانون‬
‫‪14‬‬
‫الطبيعة يحظر علينا أن نترصف بعنف تجاه شخص آخر‪.‬‬

‫وبوسعنا أن نقول الكثري عن الصياغات الفلسفية ملفهوم الكرامة الحديث‪ ،‬بالضافة‬


‫إىل التأثريات اًلجتامعية واًلقتصادية‪ ،‬ولكن قلة من املفكرين ذوي األهمية املركزية لهم‬
‫تأثري كبري يف قصتنا‪.‬‬

‫وبالنسبة إىل الفيلسوف ذي األثر البالغ توما األكويني‪ ،‬فالتشخص يف حد ذاته‬


‫متفرد حسب «الكرامة العليا» ومقرتن بها (بخالف فكرة املجتمع أو األشخاص‬
‫العضويني)‪« :‬يُعرف الشخص بالنسبة إىل البعض بأنه أقنوم مميز بحكم الكرامة‪ .‬وألن‬
‫الكفاف يف طبيعة عقالنية ينطوي عىل كرامة عليا‪ ،‬فإن كل فرد ذي طبيعة عقالنية‬
‫ي ُدعى شخص»‪ 15.‬وعىل غرار سيرسو‪ ،‬مل يركز توما األكويني فقط عىل الطبيعة‬
‫العقالنية وقدرة اًلختيار التي تحظى بها الكائنات العاقلة‪ ،‬بل عىل حقيقة أن التشخص‬
‫–والكرامة بالتبعية– مرتبط باألفراد‪:‬‬

‫تكمن الفردية والتميز يف املواد العقالنية التي تحظى بالسيادة عىل‬


‫أفعالها؛ وهي ًل تترصف ملحاكاة اآلخرين فحسب‪ ،‬بل بوسعها أن تترصف‬
‫من تلقاء نفسها؛ ذلك أن األفعال تخص األفراد‪ .‬ولذا يحظى األفراد ذوو‬
‫الطبيعة العقالنية أيضا ا باسم مميز من بني كل املواد األخرى؛ وهذا اًلسم‬
‫‪16‬‬
‫هو شخص‪.‬‬

‫إن الكرامة التي حولت العامل الحديث مل تكن مكافئة للكرامة املتعالية لفرد مجلس‬
‫الشيوخ الروماين أو رجل الجيش الروماين‪ ،‬بل هي كرامة متساوية يتحىل بها كل فرد‪ ،‬وهي‬
‫تشدد عىل التحكم يف النفس واحرتام حقوق اآلخرين‪ ،‬والسعي‪ ،‬واًلبتكار‪ ،‬وخلق القيمة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وعىل حد وصف الكاتب الحديث املبكر جوفاين بيكو‪ ،‬يف خطبة عن كرامة النسان التي‬
‫حظيت بنفوذ وشهرة واسعة‪ ،‬كل فرد هو كائن له القدرة عىل اًلختيار‪ ،‬قادر عىل اختيار‬
‫مسار الحياة‪ ،‬وذلك ألننا «ولدنا يف وضع نغدو فيه ما نختار أن نكون»‪ 17.‬واقتنع القليل‬
‫حا‬
‫بتلك المكانية‪ ،‬وإن كان بشكل خافت‪ ،‬ولكنها مل تحظ بتقدير واسع باعتبارها طمو ا‬
‫وأساسا لنظم اجتامعية قانونية عادلة ومستقرة قبل أواخر القرن الثامن عرش‪.‬‬
‫ا‬ ‫مرشو اعا‬

‫والكرامة بعيدة كل البعد عن الفكرة ضيقة األفق التي تنص عىل تعظيم املنفعة الكلية‪،‬‬
‫ألنها تشمل إمكانية أن نصبح ما نختار أن نكون‪ .‬وانتقد اًلقتصادي فرانك إتش‪ .‬نايت فكرة‬
‫أن ما تنجزه الحرية هو حل مسألة رياضية أو ميكانيكية تهدف إىل تعظيم مستوى تلبية‬
‫الحاجات‪ ،‬كام لو كان البرش مجرد مجاميع من جداول الطلبات‪ .‬وًلحظ نايت عن الحاجات‬
‫أنها «تتغري وتنمو بطبيعتها الجوهرية‪ ...‬فاليشء األسايس الذي يريده الفرد الذي يحظى‬
‫‪18‬‬
‫بحس مشرتك ليس تلبية الحاجات التي لديه‪ ،‬بل أن يلبي حاجات أكرث‪ ،‬وأفضل»‪.‬‬

‫رصا‪،‬‬
‫وبالطبع‪ً ،‬ل يقترص منشأ الكرامة من حيث املفهوم أو املامرسة عىل الغرب ح ا‬
‫ذلك أن بوسعنا أن نسمع أوتا ارا متشابهة يف موسيقى الثقافات والحضارات األخرى‪ ،‬ولكن‬
‫توافق املفاهيم الذي نشأ يف أوروبا هو الذي امتزج بأنغام وتوافقيات الحضارات األخرى‪.‬‬
‫وتلعب تصورات متنوعة عن الكرامة أدوا ارا مركزية يف حضارات عظيمة أخرى‪ ،‬ولكن من‬
‫املسجل تاريخ ايا أن الكرامة كأساس للحقوق املتساوية هي عنرص محوري يف صعود‬
‫الليربالية والدميقراطية واًلنتشار الواسع واملتشارك للرفاهية يف أوروبا أوًلا ‪ ،‬ويف األماكن‬
‫األخرى ًلحقاا‪.‬‬

‫وقد تطورت الراديكالية الناشئة ملفهوم سيرسو عن الكرامة يف العرص الحديث‬


‫املبكر‪ ،‬ويرجع الفضل يف ذلك جزئ ايا إىل جمهور قراء كتابه عن الواجبات املستشهد به‬

‫‪26‬‬
‫سالفاا‪ ،‬وإعادة نرشه عىل نطاق واسع‪ .‬ومن األعالم البارزة التي أعادت إحياء املصطلح‬
‫الالتيني ‪ dignitas‬حتى يصف الحقوق املتساوية ومنزلة كل البرش املحامي والفيلسوف‬
‫األملاين صامويل بوفندورف‪ ،‬الذي عرب‪ ،‬بلغة رسمية‪ ،‬عن رده عىل اضطهاد املستاء‬
‫وامل ُضطهد الذي سيتحقق من حقوقه‪:‬‬

‫يبدو أن هناك بعض الكرامة يف مسمى النسان‪ :‬ذلك أن آخر وأكرث حجة‬
‫ناجعة لكبح غطرسة األشخاص الذين يوجهون الهانة يف العادة تكون‪:‬‬
‫أنا لست كلباا‪ ،‬بل إنسان مثلك متا اما‪ .‬ومن هذا املنطلق فالطبيعة البرشية‬
‫واحدة فينا جمي اعا‪ ،‬وبالنظر إىل أنه ًل ميكن ألي رجل أن ينضم بابتهاج‬
‫إىل مجتمع ًل يعتربه إنساناا رشيكاا يف نفس الطبيعة املشرتكة‪ :‬يرتتب عىل‬
‫ذلك أن من بني الواجبات التي يدين بها البرش لبعضهم بعضا ا‪ ،‬تحظى تلك‬
‫باملرتبة الثانية‪ .‬وهو أن يقدر كل إنسان اآلخر ويعامله عىل قدم املساواة‬
‫‪19‬‬
‫مع ذاته شخصياا‪ ،‬أو باعتباره إنساناا مثله متا اما‪.‬‬

‫كلنا سمعنا يف املشاحنات كلامت مثل هذه متا اما‪« :‬أنا لست كل ابا‪ ،‬بل إنسان مثلك»‪.‬‬
‫وقد التقط بوفندورف برباعة الجاذبية املشرتكة للكرامة‪( .‬وبالنسبة إىل أولئك الذين‬
‫يعتربون الكالب أفراد عائلة‪ ،‬كام نفعل‪ ،‬للمرء أن يغري تلك العبارة إىل «أن لست مجرد‬
‫يشء»)‪.‬‬

‫وضع الراديكايل الثوري جون لوك كرامة النسان يف جوهر دفاعه عن الحرية‬
‫ورفض فلسفة الخضوع والهانة التي تؤيد تعزيز السلطة غري املحدودة‪ .‬إذ يتمتع البرش‬
‫بقوى العقل واًلختيار‪ ،‬وذلك عىل النقيض من الكائنات غري العاقلة‪ ،‬ولكنهم متساوون فيام‬
‫بينهم‪ .‬أكد لوك‪ ،‬يف رفضه للهرمية املطلقة‪ ،‬أنه «ًل ميكن فرض أي شكل من أشكال الخضوع‬

‫‪27‬‬
‫من شأنه أن يأذن لنا بتدمري بعضنا بعضا ا‪ ،‬كام لو كنا مخلوقني لخدمة مصالح بعضنا بعضا ا‬
‫كام نفعل بالرتب األدىن من املخلوقات»‪ 20.‬وقد ُعززت تلك املحاور من قبل املساواتيني‬
‫(قياسا عىل‬
‫ا‬ ‫(‪ )Levellers‬املتطرفني سياس ايا‪ ،‬الذين ربطوا «طبيعة الفرد الخاصة» مجد ادا‬
‫مصطلح سيرسو) بحق تحكم الفرد يف حياته الخاصة‪ .‬وعىل حد قول ريتشارد أوفرتون‪،‬‬
‫«يحظى كل فرد يف الطبيعة مبلكية فردية عىل ذاته ًل يحق آلخر أن يستويل عليها أو‬
‫يغتصبها‪ .‬ذلك أن لكل فرد ملكية عىل نفسه طاملا أنه يترصف عىل طبيعته‪ ،‬وإذا مل يكن‬
‫‪21‬‬
‫األمر كذلك‪ ،‬فهو ًل يترصف عىل طبيعته»‪.‬‬

‫وتحظى كتابات املفكر الالحق إميانويل كانط يف أحيان كثرية مبكانة مرموقة يف‬
‫النقاش حول الكرامة (وهو مل يستخدم املصطلح الالتيني ‪ ،dignitas‬بل استخدم املصلح‬
‫األملاين ‪ ،Würde‬الذي ميكن فهمه عىل أنه أقرب لكلمة «الجدارة»‪ ،‬كام يف ‪ würdig‬مبعنى‬
‫«جدير»)‪ .‬ورغم أن صوته كان مؤث ارا‪ ،‬فقد قامت حجته عىل أساس ميتافيزيقي قابل للنقض‪،‬‬
‫بدًل من أن تكون واقعة داخل سياق اًلجتامعية النسانية واملالحظة التجريبية‪ ،‬عىل غرار‬
‫ا‬
‫حجج سيرسو‪ ،‬وتوما األكويني‪ ،‬وبوفندورف‪ ،‬ولوك‪ ،‬وغريهم ممن استشهدنا بهم سالفاا‪.‬‬
‫فبالنسبة إىل كانط‪ ،‬كرامة النسان غري مرشوطة وخارج نطاق السبب والنتيجة‪ .‬ولهذا‬
‫السبب‪ ،‬نحن نعتقد أنه من األفضل أن نركز عىل التقليد املتجسد يف نشاط املساواتيني الذي‬
‫حظي مبشاركة اجتامعية واقتصادية وسياسية أكرب‪ ،‬حتى وإن مل يكن متطو ارا بنفس‬
‫الحرص الشديد الذي طور به كانط حججه‪.‬‬

‫ومن هنا نصل إىل تصور عن الكرامة يتسم بكونه راديكال ايا‪ ،‬ومؤي ادا للمساواة‪،‬‬
‫حا‪ .‬وهو تصور شق طريقه يف أنحاء العامل وارتبط‬ ‫رصا‪ ،‬ويف نفس الوقت‪ ،‬طمو ا‬
‫ومعا ا‬
‫بجذور عميقة يف ثقافات متعددة‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫توسيع الكرامة األرستقراطية‪ ،‬أم صعود الطبقات الدنيا؟‬

‫بديال‪ ،‬رغم تداخله‪ ،‬لنشوء الكرامة‪ ،‬وسعى يف‬


‫قدم املنظر القانوين جرميي والدرون رس ادا ا‬
‫ذلك إىل تتبع نشوء الكرامة يف املامرسة اًلجتامعية‪ ،‬عوضا ا عن استنباطها كام فعل كانط‬
‫من الفلسفة املتعالية‪ ،‬ولكنه جادل أيضا ا بأن الكرامة الكونية تأيت من القمة‪ ،‬إذا جاز التعبري‪،‬‬
‫كتعميم ملكانة أولئك الذين يحملون األسواط‪ً ،‬ل من القاع‪ ،‬من أولئك الذين كدحوا‪ ،‬وأصلحوا‪،‬‬
‫وحسنوا‪ ،‬وخلقوا القيمة‪ .‬ولذا فإن «فكرة كرامة النسان الحديثة تنطوي عىل مساواة‬
‫تصاعدية للرتبة‪ ،‬وبذلك نحن نحاول إيالء إىل كل إنسان نو اعا من الكرامة والرتبة ومعيار‬
‫‪22‬‬
‫اًلحرتام الذي كان يوىل سابقاا إىل النبالء فقط»‪.‬‬

‫ويستعني والدرون بشكل أسايس إىل الحدس حتى يجتذب ما يشكل سلوكاا‬
‫نبيال‪ ،‬ولكن توجد أدلة تاريخية تدعم أطروحته أيضا ا‪ .‬إذ يجادل سيدين بينرت‬
‫أرستقراط ايا أو ا‬
‫بأن اًلستقالل النسبي ألتباع القطاعيني‪ ،‬أو النبالء‪ ،‬هو الذي حدد معامل منوذج الحريات‬
‫التي طمحت إليه عنارص أخرى من املجتمع‪:‬‬

‫متتع الرجل النبيل يف القرون الوسطى بحرية كبرية للغاية للترصف‬


‫كفرد‪ .‬ومل تفرض عليه املؤسسة القطاعية التي كان ينتمي إليها قيو ادا‬
‫كثرية‪ .‬وكانت السلطة التي بإمكان الكنيسة أن تفرضها عليه أضعف بكثري‬
‫مام هو بإمكان غريه من الرجال‪ .‬وبطبيعة الحال كانت منزلة الرجل النبيل‬
‫موضع حسد كل الطبقات األخرى‪ .‬ففي األساس‪ ،‬كان نبالء العصور‬
‫الوسطة يتمتعون بالحقوق والحريات التي ناضلت من أجلها الطبقات‬
‫الدنيا واملتوسطة عىل مدار القرن السابع عرش والثامن عرش والتاسع‬

‫‪29‬‬
‫عرش‪ .‬وبالطبع‪ ،‬جاء تصور الحرية الفردية والرغبة يف التملك من مصادر‬
‫متعددة‪ ،‬ونشأ داخل بيئات قانونية مختلفة‪ ،‬ولكن األرستقراطية القطاعية‬
‫هي التي شكلت املؤسسات القانونية والسياسية التي ضمنت تلك الحرية‬
‫يف أوروبا الغربية وأمريكا‪ .‬ويف الفرتة التي كانت املؤسسات املنظمة فيها‬
‫تسيطر عىل معظم األفراد عن كثب‪ ،‬احتفظ النبالء مبفهوم الحرية الفردية‬
‫‪23‬‬
‫ورعوها‪.‬‬

‫ورغم أن رسد والدرون غني بالرؤى‪ ،‬فنحن نعتقد أنه يغفل عن جزء أكرث أهمية من‬
‫القصة‪ :‬وهو التحول اًلجتامعي من األسفل الذي أرىس قواعد العامل الحديث‪ .‬فلم يكن‬
‫املنظرون وحدهم من قادوا الطريق‪ ،‬بل اتبع منظرو الكرامة املامرسات التي كانت يف أكرث‬
‫األحيان تنبع‪ً ،‬ل من الدوائر الحاكمة‪ ،‬بل من هوامش النظام السيايس‪ .‬فكام ًلحظ والرت‬
‫أوملان‪:‬‬

‫كامال‬
‫ا‬ ‫إذا أراد أحد أن يفهم السبب الذي جعل الفرد يربز باعتباره مواطناا‬
‫بداية من أواخر القرن الثالث عرش‪ ،‬والكيفية التي حدث بها ذلك‪ ،‬فام يبدو‬
‫مثم ارا هو أن يلقي نظرة عىل جانبني عمليني من مجتمع القرون الوسطى‪:‬‬
‫والجانب األول هو الطريقة التي أدار بها أولئك الذين يف منأى عن نظر‬
‫الحكومات الرسمية شؤونهم‪ ،‬والجانب الثاين هو هيئة الحكومة القطاعية‬
‫‪24‬‬
‫التي كانت قيد املامرسة يف جميع أنحاء أوروبا‪.‬‬

‫ميحى متا اما؛ بل إن‬


‫ويف حني أن والدرون يجادل بأن «املفهوم األقدم (للكرامة) مل ُ‬
‫موارد املفهوم األقدم هي التي مهدت الطريق أمام املفهوم القديم»‪ ،25‬نبع مؤثر أقوى بكثري‬
‫من الشعوب املستبعدة سابقاا‪ ،‬الذين «جلبوا معهم»‪ ،‬أوضا اعا جديدة للتعامل مع اآلخرين‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫يف الواقع‪ ،‬محى ذلك املؤثر «املفهوم األقدم» الذي ينطوي عىل التفوق عىل اآلخرين ليستبدله‬
‫بكرامة كونية ومكيفة حسب احتياجات كل فرد‪.‬‬

‫وعىل ما يبدو أن والدرون يعكس رؤية أنجلو سكسونية بشكل واضح‪ ،‬وذلك نظ ارا‬
‫(خصيصا) تحظى بتاريخ من شعوب تكتسب الرثوات ثم تستعني بها يف‬
‫ا‬ ‫إىل أن إنجلرتا‬
‫دمج نفسها داخل الطبقة العليا‪ .‬إذ تتسم اًلختالفات الطبقية الربيطانية‪ ،‬التي ًل تزال صامدة‬
‫حتى يومنا هذا‪ ،‬بأنها مسامية بشكل ًلفت للنظر‪ ،‬ذلك أن بإمكان الكثريين أن ينضموا إىل‬
‫الطبقة العليا من خالل امتالك الرثوة‪ ،‬أو الشهرة‪ ،‬أو إتقان اللهجة الصحيحة حتى‪ .‬وتلك‬
‫التجربة ليست كونية عىل الطالق‪ ،‬وقد انطوت تلك العملية‪ ،‬حتى يف بريطانيا‪ ،‬عىل متايش‬
‫األرستقراطية مع «الطبقات الدنيا» التي أضحت متتلك الرثوات التي كانت تنشدها‬
‫األرستقراطية القدمية عىل نحو متزايد‪ .‬ولذا‪ ،‬رغم وجود أدلة تدعم فكرة أن «الصاعدين»‬
‫أضحوا يتبنون منزلة وتقاليد «الطبقة العليا» عىل نحو أوسع‪ ،‬مثة حجة أقوى تدعم فكرة‬
‫أن خصائص التحكم يف النفس التي نسبها والدرون إىل األرستقراطيني ظهرت يف أوساط‬
‫التجار‪ ،‬والحرفيني‪ ،‬وامليكانيكيني‪ ،‬وأصحاب املهن‪ ،‬والعامل «الحذرين» – أي «الطبقة‬
‫املتوسطة» املتنامية‪ ،‬التي استبدلت سامتها عىل نحو متصاعد السلوك العفوي‪ ،‬املتعايل‪،‬‬
‫املتغطرس‪ ،‬املاجن‪ ،‬العنيف الذي كان يتسم به «النبالء» الخاملون عىل نحو أكرث شيو اعا‪.‬‬

‫فعىل حد قوال والدرون‪« ،‬ضبط النفس» و«التحكم يف النفس» هي صفات‬


‫أرستقراطية يف األساس‪:‬‬

‫شكال من ضبط النفس يتميز عن سلوك الذين يف حاجة‬


‫ا‬ ‫للمرء أن يتخيل‬
‫إىل أن يقودهم التهديد أو السوط‪ ،‬أو عن أشكال التعود التي تعتمد عىل‬
‫التهديد والسوط‪ ،‬باعتباره فضيلة أرستقراطية بامتياز‪ .‬ولكن إن كانت تلك‬

‫‪31‬‬
‫فضيلة أرستقراطية‪ ،‬فهي فضيلة أضحى القانون اآلن يتوقع من جميع‬
‫‪26‬‬
‫فئات املجتمع أن يتحلوا بها‪.‬‬

‫إن ربط الطبقات األرستقراطية ربطاا وثيقاا بالتحكم يف النفس لهو أمر غري معقول‪،‬‬
‫يف ضوء أدلة علم اًلجتامع‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬كان لزا اما عىل اًلتحادات الثورية الحرضية من‬
‫الحرفيني والتجار أن تكبح سلوك النبالء العدواين‪ ،‬العفوي‪ ،‬العنيف‪ ،‬كام ًلحظ ماكس ويرب‬
‫قائال‪ :‬ا ُنتخب مسؤولون متخصصون يف مجتمعات إيطاليا «لحامية شعب املدينة‬
‫ا‬
‫(‪ ،)popolani‬ومالحقة النبالء وتنفيذ األحكام عليهم‪ ،‬والرشاف عىل اًلمتثال للمراسيم‬
‫(‪ 27.»)ordinamenti‬وكان املبدعون الحرضيون‪ ،‬أو «الربجوازيون»‪ ،‬من كان عىل عاتقهم‬
‫كبح جامح الضواري من األرستقراطيني غري املنضبطني‪ً ،‬ل العكس‪.‬‬

‫وعرب توماس بني بنربة ًلذعة عن توجه آخر ظهر بني «أصحاب الحرف»‪،‬‬
‫قائال‪:‬‬
‫وامليكانيكيني‪ ،‬والعامل‪ ،‬والتجار امل ُحتقرين ا‬

‫كلام برزت األرستقراطية تعرضت لالحتقار؛ إذ كانت األغلبية من‬


‫األرستقراطيني تتسم ببالهة وفقر فكري‪ ،‬أو حالة تعجز الكلامت عن‬
‫وصفها‪ ،‬لدرجة أن الفرد منهم‪ ،‬رغم كونه أعىل يف املرتبة من املواطن‪ ،‬فهو‬
‫أقل يف املنزلة من النسان‪ .‬وقد خرست األرستقراطية أرضها بسبب‬
‫بدًل من أن‬
‫اًلحتقار عوضا ا عن الحقد‪ ،‬وقد تعرضت لالستهزاء مثل الحامر ا‬
‫تثري الرهبة يف النفوس مثل األسد‪ .‬تلك هي الشخصية العامة‬
‫لألرستقراطية‪ ،‬أو ما ندعوهم النبالء‪ ،‬أو باألحرى عدميي القدرات‪ ،‬يف كل‬
‫‪28‬‬
‫البلدان‪.‬‬

‫ومل يكن عدميو القدرات هؤًلء مناذج للتعاون اًلجتامعي‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫إن كونك يف قمة نظام هرمي واستخاليص‪ ،‬وامتالكك «منزلة نبيلة»‪ ،‬كام يصفها‬
‫والدرون‪ ،‬ينطوي عىل إمكانية إمالء إرادتك عىل اآلخرين‪ ،‬وقدرتك عىل إظهار دوافع النهب‪،‬‬
‫متأصال‬
‫ا‬ ‫والقسوة‪ ،‬والسادية‪ ،‬واًلعتداء‪ ،‬دون محاسبة‪ .‬وتُعد القدرة عىل إهانة اآلخرين أم ارا‬
‫يف «املنزلة النبيلة» ملن كانوا يعرفون يو اما ما بـ«الخدم ذوي األلقاب»‪ .‬وحني نكون جميعنا‬
‫عىل قدم املساواة من حيث الرتبة‪ ،‬أي حني ًل تقيدنا الرتب أو الطبقات بعد اآلن‪ ،‬يفقد من‬
‫يف القمة مكانته الخاصة‪ ،‬وهي ليست مكانة تنطوي عىل تحكم يف النفس‪ ،‬بل عىل تحكم‬
‫يف اآلخرين دون محاسبة‪ .‬ويحاول والدرون‪ ،‬بكل غرابة‪ ،‬أن يربط األرستقراطية بالتحكم‬
‫يف النفس‪ ،‬ولكن التحكم يف النفس ليست صفة غالبة عىل الطبقات املتحاربة‪ ،‬وًل عىل‬
‫أحفادها أصحاب اًلمتيازات‪ ،‬بل هي صفة خاصة مبن يجتهد لتلبية حاجات اآلخرين من‬
‫قائال‪:‬‬
‫خالل التبادل الطوعي‪ .‬فكام ًلحظ بنجامني كونستانت ا‬

‫إن الرجل الذي اعتاد عىل أن يكون أقوى دامئاا من غريه لن يتصور أب ادا‬
‫فكرة التجارة‪ .‬ذلك أن الخربة‪ ،‬التي تثبت له أن الحرب‪ ،‬أو استخدام قوته‬
‫ضد قوة اآلخرين‪ ،‬تعرضه لعوائق وهزائم عديدة‪ ،‬هي التي تقوده إىل فكرة‬
‫اعتداًل وأكرث أماناا لجعل مصالح‬
‫ا‬ ‫التجارة التي تتمثل يف وسائل أكرث‬
‫اآلخرين تتوافق مع ما يتناسب مع مصالحه الخاصة‪ .‬فالحرب اندفاع‪،‬‬
‫‪29‬‬
‫والتجارة حسابات‪.‬‬

‫ولذا فإن التحكم يف النفس الذي نسبه والدرون إىل األرستقراطيني‪ ،‬وجادل بأنه‬
‫ترسب ًلحقاا لطبقات املجتمع األخرى‪ ،‬ينبع يف الواقع من األسفل‪ ،‬كام ًلحظ نوربريت إلياس‬
‫قائال‪:‬‬
‫ا‬

‫‪33‬‬
‫كلام زاد اعتامد الناس عىل بعضهم بعضا ا بسبب زيادة درجة تقسيم‬
‫العمل‪ ،‬أضحى كل فرد يعتمد عىل نحو متزايد عىل اآلخر‪ ،‬حتى أولئك من‬
‫ذوي الرتب اًلجتامعية العالية الذين يعتمدون عىل من أقل منهم يف املنزلة‬
‫اًلجتامعية وأضعف منهم‪ .‬ويغدو األخري مساوياا لألول بدرجة كبرية‬
‫لدرجة أن من يحظى مبكانة اجتامعية سامية ينتابه الشعور بالخزي حتى‬
‫يف حضور من أقل منه يف املنزلة اًلجتامعية‪ .‬ومن خالل هذا الرابط فقط‬
‫يثبت درع القيود هذا عىل النحو الذي يجعله أم ارا مفروغاا منه يف نظر‬
‫شعوب املجتمعات الصناعية الدميقراطية‪.‬‬

‫وقد كان األرستقراطيون‪« ،‬أصحاب الرتب اًلجتامعية العالية»‪ ،‬هم من تبنوا «درع‬
‫القيود» الذي نشأ لدى الكادحني وليس العكس‪ .‬وقد فهم والدرون تلك الظاهرة بشكل‬
‫معكوس‪.‬‬

‫ريا‪ً ،‬لحظ املدافعون عن الكرامة جي ادا فكرة تحصيل اليجارات‪ ،‬أو اًلستغالل‪،‬‬
‫وأخ ا‬
‫الذي يقوم به األرستقراطيني غري املنتجني‪ .‬ويف نقده للسياسة الخارجية الربيطانية‪،‬‬
‫باستعامرها وإمربياليتها‪ ،‬أخرب عضو الربملان الليربايل م‪ .‬ب‪ .‬جون برايت ناخبيه أن‬
‫المرباطورية هي ببساطة عبارة عن نظام من العانات اًلجتامعية املقدمة لألرستقراطية‬
‫الربيطانية التي بُعث أبناؤها ليكونوا وًلة إمرباطورية عاملية ومديريها وضباطها‪:‬‬

‫كلام أمعنت النظر يف تلك املسألة اقرتبت من التوصل إىل استنتاج توصلت‬
‫إليه أنا أيضا ا‪ ،‬وهو أن تلك السياسة الخارجية‪ ،‬هذا اًلعتبار املوجه إىل‬
‫«حريات أوروبا»‪ ،‬وتلك العناية باملصالح «الربوتستانتية»‪ ،‬وهذا الحب‬

‫‪34‬‬
‫املفرط «مليزان القوى»‪ ،‬ليس إًل نظا اما عمالقاا من الغاثات الخارجية‬
‫‪31‬‬
‫ألرستقراطية بريطانيا العظمى‪.‬‬

‫الكرامة الربجوازية‬

‫تدعو اًلقتصادية واملؤرخة ديدري مكلوسيك هذا التصور عن الكرامة الذي نشأ يف‬
‫املجتمعات الدميقراطية الحديثة «الكرامة الربجوازية»‪ ،‬وتجادل بأنه مسؤول عن «الثراء‬
‫العظيم» – أو اًلنتشار الواسع واملشرتك للرخاء‪ ،‬كام هو موضح (وكام حدث) يف الزيادات‬
‫املقاسة ملستوى الدخل‪ ،‬وطول األعامر‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والتغذية‪ ،‬والصحة‪ ،‬ومستويات املعيشة‬
‫العامة ملليارات األشخاص خالل القرنني األخريين‪ .‬وتنعكس تلك الزيادات يف اًلنخفاضات‬
‫املذهلة للنسب واألعداد املطلقة (خالل العقود األخرية‪ ،‬مع زيادة عدد سكان العامل) للبرش‬
‫الذين يعانون من الفقر‪ 32.‬ومل يكن ذلك التحول مجرد تحول نفيس يف التصور الذايت لرواد‬
‫مثال‪ ،‬بل يف اًلحرتام الذي يوليه األفراد لبعضهم بعضا ا عىل مستوى واسع يف‬
‫األعامل‪ ،‬ا‬
‫املجتمع‪ .‬ومبا أن الثراء العظيم مل يكن مسألة تراكم رأس املال‪ ،‬بل مسألة ابتكار‪ ،‬فام يحظى‬
‫بأهمية كبرية هو اًلحرتام الذي يوليه الناس ملن يصلح‪ ،‬وملن يجرب‪ ،‬وملن يعارض‪ ،‬وملن‬
‫يبتكر‪.‬‬

‫ومع املعرفة املنترشة التي أحدثها الثراء العظيم‪ ،‬والتي عجلها التليفون والنرتنت‪،‬‬
‫انترشت تلك الرغبة يف الكرامة التي جعلت هذا الثراء ممك انا حول العامل‪ .‬وتعرب الرغبة يف‬
‫الكرامة عن حاجة مشرتكة متأصلة بعمق يف الروح البرشية‪ .‬وهي تطلق العنان أيضا ا لحلقة‬
‫مفرغة تعزز الطارات السياسية الدميقراطية املحكومة بالقانون واًلقتصادات النامية‬
‫املزدهرة والدينامية التي تعزز بدورها الكرامة النسانية‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫دعام‬
‫وتحظى كل من الكرامة الواردة والكرامة املمنوحة بأهمية كبرية‪ ،‬إذ يقدم األول ا‬
‫للحرية الدميقراطية‪ ،‬ويحايك األخري الحرية التي تخلق القيمة وتحفز الثراء‪.‬‬

‫بدًل من الدميقراطية أو التنمية؟ تتسم الدوافع‬


‫ولكن مل علينا أن نبدأ بالكرامة ا‬
‫النسانية بكونها معقدة‪ ،‬عىل غرار تفسريات التحوًلت املعقدة‪ ،‬ولكن الكرامة تبدو أنها‬
‫تحظى مبكانة خاصة يف الثراء العظيم‪ .‬وتحظى الكرامة‪ ،‬أو الرغبة يف التقدير‪ ،‬بجاذبية‬
‫قوية تبدو أنها تظهر قوة تحولية أقوى من البحث عن الرخاء‪ ،‬الذي يعتربه العديد من كبار‬
‫املنظرين القوة املحركة للتغيري التاريخي‪ ،‬أو أي منافع سياسية‪/‬أخالقية محورية أخرى عىل‬
‫صلة بها‪ ،‬مثل العدالة‪ ،‬والحرية‪ ،‬واملساواة‪ ،‬والنصاف‪ 33.‬إذ تبدو الكرامة أقرب ما يكون إىل‬
‫قيمة كونية‪.‬‬

‫وتجادل مكلوسيك بأن الكرامة «عامل اجتامعي»‪ ،‬مبعنى أنها تكمن يف ك ٍل من‬
‫الكيفية التي يرى بها املرء نفسه والكيفية التي يراه بها اآلخرون‪ 34.‬وتدافع عن الدور‬
‫املحوري للكرامة يف تفسري الثراء العظيم املذهل للتقدم والرخاء الحديث‪ ،‬الذي مل يضاعف‬
‫مستوى الدخل خالل مائة عام فقط‪ ،‬بل رفعه إىل ثالثني‪ ،‬أو أربعني أمثاله أو أكرث خالل‬
‫املائتي عا اما املاضني‪ .‬وسنبني لكم مالمح الثراء العظيم يف الفصل التايل‪ ،‬وهنا سرنكز عىل‬
‫أساسه اًلجتامعي املتمثل يف الكرامة‪.‬‬

‫تجادل مكلوسيك بأن تعميم الكرامة‪ ،‬باعتباره ظاهرة يف الحقبة الحديثة وما بعدها‪،‬‬
‫مسؤول عن اًلنفجار غري املسبوق تاريخ ايا للتنمية‪ .‬فرغم أن مؤسسات الحرية السياسية‬
‫لهي بالتأكيد رشوط حسنة ورضورية للرخاء الحديث املشرتك‪ ،‬فهي ليست كافية‪ ،‬ألنه بدون‬
‫الكرامة –«العامل اًلجتامعي» لالحرتام– للمبتكر‪ ،‬وللمصلح‪ ،‬وللمخرتع‪ ،‬ولرائد األعامل لن‬

‫‪36‬‬
‫يشهد املرء اًلبتكار الذي يدفع هذا النمو اًلقتصادي املتسارع‪ .‬فام جعل العامل الحديث‬
‫مزده ارا بهذا الشكل املبهر باملقارنة بكل عصور النسانية املاضية هو ما تدعوه مكلوسيك‬

‫«الصالح املخترب من خالل التجارة» –أو إذا أردت التعبري عنه بكلمة واحدة‬
‫فهو «التحسني»‪ ،‬أو «الصالح»‪ ،‬أو حتى «اًلبتكارية» (‪ –)innovism‬الذي‬
‫ميكن فهمه عىل أنه الصالح املسعور لآلًلت والجراءات واملؤسسات بعد‬
‫‪ ،1800‬الذي حظي بدعم من تغري مفاجئ يف التقييم األخالقي‬
‫‪35‬‬
‫لإلصالحات‪.‬‬

‫ومن السامت املميزة يف الكرامة الربجوازية هي قدرة الفرد عىل تشكيل هويته أو‬
‫هويتها من خالل اًلختيارات‪ .‬فمن خالل «املهن املفتوحة للمهارات» واًلنضامم إىل‬
‫اًلتحادات الطوعية‪ ،‬مع منو املجتمعات والتجارة‪ ،‬حقق املرء هويته الخاصة‪ 36.‬وقارن الكاتب‬
‫املرسحي‪ ،‬وكاتب املقاًلت‪ ،‬واملصلح الطريف فولتري إنجلرتا رسيعة التطور عىل أيامه‬
‫بفرنسا‪ ،‬وًلحظ بنربة جافة أن‪:‬‬

‫مينح لقب املاركيز بال مقابل ألي شخص يوافق عليه‪ ،‬وبإمكان‬
‫يف فرنسا‪ُ ،‬‬
‫أي شخص قادم إىل باريس من أكرث األقاليم النائية مبال يف جيبه‪ ،‬واسم‬
‫ينتهي بـ ‪ ac‬أو ‪ ،ille‬أن مييش متبخ ا‬
‫رتا‪ ،‬وينادي بصوت عا ٍل‪ :‬ما أعظمني‬
‫من رجل! وما أعالين مرتب اة وأهمية! ثم ينظر إىل التاجر باحتقار األسياد‪.‬‬
‫يف حني أن التاجر عىل الجانب اآلخر‪ ،‬حني يدرك مدى اًلحتقار الذي‬
‫يتعامل به الناس مع مهنته‪ ،‬تنتابه الحامقة الكافية ليخجل من نفسه‪ .‬ورغم‬
‫ذلك‪ً ،‬ل يسعني أن أقول أي شخص يفيد األمة أكرث‪ :‬السيد املتأنق الذي‬
‫يعرف عىل وجه التحديد متى يقوم امللك من نومه ومتى يخلد إىل النوم‪،‬‬

‫‪37‬‬
‫والذي يتباهى بفخامته ومكانته يف نفس الوقت الذي يترصف فيه كالعبد‬
‫يف غرفة انتظار رئيس الوزراء؛ أم التاجر‪ ،‬الذي يزيد البلد ثرا اء‪ ،‬ويجهز‬
‫الطلبات من مكتب املحاسبة الخاص به لرسالها إىل سورت والقاهرة‬
‫‪37‬‬
‫الكربى‪ ،‬ويساهم يف زيادة السعادة يف هذا العامل‪.‬‬

‫سخر فولتري من ادعاءات كرامة األرستقراطيني‪ ،‬واحتفى بكرامة رواد األعامل‬


‫والتجار‪ .‬وكان هذا اًلحتفاء بكرامة خالقي القيمة‪ ،‬برصف النظر عن مدى «تواضع» أصلهم‪،‬‬
‫هو الذي شكل العامل ويستمر يف تشكيله‪ .‬ويُحرم مليارات الناس اآلن من تلك الكرامة بشكل‬
‫ممنهج من خالل أشكال أكرث حداثة من اًلمتياز‪ ،‬مثل ما يدعوه الفرنسيني « ‪le‬‬
‫‪ ،»capitalisme de copinage‬أو رأساملية املحاباة‪ .‬وتتخذ أشكاًلا مثل العانات‬
‫واًلحتكارات التي تُوزع عىل أصحاب اًلمتيازات ممن هم أصدقاء من يف السلطة‪ ،‬والقيود‬
‫املفروضة عىل الفقراء التي تعيقهم عن حيازة املمتلكات‪ ،‬أو الحصول عىل وظيفة‪ ،‬أو افتتاح‬
‫عمل تجاري‪ ،‬أو مبادلة يشء بيشء آخر؛ واملستندات الورقية املطلوبة والتصاريح املتأخرة‬
‫واملرفوضة‪.‬‬

‫واعتمد التحول للشخص الذي يريده املرء‪ً ،‬ل عىل إظهار الفضائل املنسوبة إىل‬
‫األرستقراطية أو مجرد إظهار دليل عىل اًلنتساب للنبالء‪ ،‬بل عىل رفض التمييز عىل أساس‬
‫طبقي وامتيازات الوًلدة‪ .‬ويقتيض استبدال املكانة باملعاهدة أيضا ا تحسني مدى تعقيد‬
‫األدوار‪ 38.‬فكام ًلحظ جورج سيمل ا‬
‫قائال‪:‬‬

‫تكون الجامعات التي ينتسب إليها الفرد نظا اما من الحداثيات‪ ،‬إذا جاز‬
‫التعبري‪ ،‬بحيث تحدد كل جامعة جديدة ينتسب إليها هوية الفرد بطريقة‬
‫أكرث دقة وأقل غموضا ا‪ .‬ويرتك اًلنتساب ألي من تلك الجامعات للفرد مجاًلا‬

‫‪38‬‬
‫أوسع بدرجة ملحوظة‪ .‬ولكن كلام ازداد عدد الجامعات التي ينتسب إليها‬
‫الفرد قل احتامل أن يظهر أشخاص آخرون بنفس الرتكيبة من اًلنتامء‬
‫‪39‬‬
‫الجامعي‪ ،‬وأن تلك الجامعات سوف «تتقاطع» مجد ادا (يف فرد آخر)‪.‬‬

‫إن حرية اًلنتساب واًلندماج مع اآلخرين والتجربة تسمح لألفراد بنقل املعرفة التي‬
‫ميتلكها كل إنسان بتفرد‪ ،‬وًل سيام «معرفة أحوال الزمان واملكان املحددة»‪ ،‬وهي معرفة‬
‫‪40‬‬
‫يتغافل عنها أو يتجاهلها «الخرباء» الخارجيني بطريقة ممنهجة‪.‬‬

‫والحساس بالكرامة الذي يتسم به العامل الحديث هو رفض الخجل من العمل والجهد‬
‫الذي نظرت إليه أرستقراطية والدرون باحتقار‪ .‬ولذا‪ ،‬كام ًلحظ رجل الدين الفنلندي أندرس‬
‫شيدينيوس يف عمله الكتايب املؤثر لعام ‪« 1765‬املكسب الوطني»‪ ،‬الذي دافع فيه عن كرامة‬
‫وحرية العامة من الناس‪:‬‬

‫يسعى الناس إىل تعلم الحرف اليدوية والنسيج يف فسرتيوتالند بجد‬


‫واجتهاد‪ :‬وًل يخجل الرجل العجوز هناك من أن يجلس أمام عجلة الغزل؛‬
‫وتتوفر السكاكني‪ ،‬واألطباق‪ ،‬واألرشطة‪ ،‬واألجراس‪ ،‬واملقصات وغريها من‬
‫السلع هناك بأسعار أكرث مالءمة من غريها من األماكن‪ .‬ما هو الرس يف كل‬
‫ذلك؟ يحق لسكان هذا القليم أن يسافروا إىل أي مكان يريدون أن يبيعوا‬
‫سلعهم فيه‪ .‬وقد ُسمح لبلدة بوروس منذ زمن طويل مبامرسة التجارة يف‬
‫جميع أرجاء اململكة‪ .‬وذلك يعني حرية التجول من مزرعة إىل مزرعة‬
‫‪41‬‬
‫أخرى‪ ،‬ورشاء البضائع وبيعها لآلخرين‪.‬‬

‫وتقتيض الكرامة أًل يخجل املرء من خلق قيمة من خالل العمل‪ ،‬أو اًلبتكار‪ ،‬أو البيع‬
‫والرشاء‪ ،‬وأًل يلحق أحد الخزي مبن يعمل‪ ،‬أو يبتكر‪ ،‬أو يشرتي ويبيع‪ .‬وهي عقلية تتعارض‬

‫‪39‬‬
‫مع التقاليد األرستقراطية‪ ،‬رغم أنها جذابة للغاية ألولئك األرستقراطيني الذين غريوا‬
‫توجهاتهم‪ ،‬وتخلوا عن «رتبتهم» األرستقراطية‪ ،‬ومتكنوا من اًلزدهار مع أولئك الذين كانوا‬
‫لنظروا إليهم بنظرة احتقار دون ذلك‪.‬‬

‫ونود أن نضيف أن الكرامة رضورية من أجل نشوء الدميقراطية والتنمية والحفاظ‬


‫عليهام‪ ،‬وهذا ألن وضع األشخاص الذين يحظون بالحرية‪ ،‬دون إدراك كرامتهم‪ ،‬هو وضع‬
‫هش للغاية‪ ،‬ألن الدفاع عن حقوق املرء يتطلب ما هو أكرب من الرغبة يف الحصول عىل‬
‫الخبز‪ .‬إن اًلحتقار –أو إنكار الكرامة– الذي يتعرض له الناس الذين اعتادوا تعرضهم‬
‫لالعتقال أو السجن‪ ،‬أو التجريد من حقوقهم أو ممتلكاتهم‪ ،‬أو النفي‪ ،‬أو الحرمان من منزلتهم‬
‫بأي طريقة كانت‪ ،‬أو اتخاذ إجراءات ضدهم‪ ،‬وكل ذلك دون اللجوء إىل حكم األقران أو قانون‬
‫األرض‪ ،‬لهو أمر أشد إيال اما من غريه‪ .‬إن أولئك الذين يكدحون؛ وأولئك الذين يتجارون‪،‬‬
‫ويقايضون شي ائا بآخر؛ وأولئك الذين يدخرون املال ثم يقرضونه؛ وأولئك الذين يصلحون‪،‬‬
‫ويبتكرون‪ ،‬ويضطلعون مبشاريع جديدة؛ وأولئك الذين يجمعون بني األشياء بطريقة مل‬
‫تكن تعرف من قبل؛ وأولئك الذين يبتعدون عن األدوار التقليدية‪ ،‬قد تعرضوا جمي اعا‪ ،‬عىل‬
‫مدار التاريخ –ومعظم فرتة الوجود النساين– لإلهانة‪ .‬وألحقت تلك الهانة‪ ،‬أو إنكار‬
‫الكرامة‪ ،‬رض ارا ذي عواقب جسيمة ًل متسهم فقط‪ ،‬بل متس مليارات األفراد الذين كان من‬
‫املمكن لهم أن يستفيدوا من الفوائض الضخمة التي ينتجها األفراد العاديون حني ًل‬
‫يتعرضون لإلهانة‪ .‬وقد وصف مؤرخ العصور الوسطى أ‪ .‬ر‪ .‬بريدبريي اًلحتقار الذي يوليه‬
‫الناس لتجار أوروبا يف العصور الوسطى‪ ،‬وتساءل عام إذا «أدى اًلستنكار اًلجتامعي دور‬
‫املكابح عىل املؤسسات التجارية وفرض قيو ادا فعالة عىل التجار الذين كان بوسعهم أن‬
‫ينغمسوا يف عملهم بدون قيود لوًل ذلك‪ ،‬مبا ينعكس عىل عواقب اقتصادية ًل تُحىص‬
‫‪42‬‬
‫لصالحات السوق وأساليب التسويق»‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫ًلحظت عاملة النسان اًلجتامعية بويل هيل‪ ،‬يف دراساتها عن العالقات اًلقتصادية‬
‫يف غرب أفريقيا‪ ،‬ثالث افرتاضات عن السلوك اًلقتصادي يف غرب أفريقيا لدى األجانب‬
‫الذين سعوا إىل دراستهم‪« :‬وهي أن التاجر املغرتب هو الذي علم سكان غرب أفريقيا حقائق‬
‫الحياة اًلقتصادية األولية عن طريق األمثلة»؛ «وأن نسيج الحياة اًلقتصادية األسايس كان‬
‫بسيطاا للدرجة الذي تجعله بال أي أهمية لالقتصاديني»؛ و‬

‫أنه‪ ،‬بالنظر إىل التعقيدات املرتبطة بـ«القبلية» (حيازة األرايض املحلية‪،‬‬


‫والقرابة والوراثة‪ ،‬ونظم العمل اًلجتامعي‪ ،‬وهلم ج ارا)‪ ،‬تعمل اًلقتصادات‬
‫األصلية عىل مقياس صغري للغاية‪ ،‬أو عىل مستوى محل للغاية‪ ،‬حتى‬
‫‪43‬‬
‫تكون محط اهتامم لالقتصاديني – وهي غري مفهومة يف جميع األحوال‪.‬‬

‫وتستمر تلك اًلفرتاضات املهينة يف تقديم «دراية» كبرية بخصوص التنمية‬


‫اًلقتصادية‪.‬‬

‫وتهدم هيل تلك اًلفرتاضات يف عملها‪ ،‬مشري اة إىل أنه‪ ،‬بالنسبة ملزارعي الكاكاو‬
‫الغانيني عىل سبيل مثال‪:‬‬

‫مل يكن املزارعون‪ ،‬باعتبارهم رجال أعامل‪ ،‬راضني عن الدارة اًلستعامرية‪،‬‬


‫واضطلعوا بنفقات تنميتهم الخاصة لتوفري مسارات أفضل بني غابات‬
‫الكاكاو وموطنهم‪ :‬ذلك أنه‪ ،‬قبل ‪ ،1914‬استأجر مزارعو بلدة أكوابيم‬
‫مقاولني لبناء ثالثة جسور فوق نهر دينسو (ولكونهم رجال أعامل‪ ،‬متكنوا‬
‫من اسرتداد النفقات من خالل فرض رسوم عىل العبور)‪ ،‬وبعدها بفرتة‬
‫وجيزة استثمروا ما ًل يقل عن ‪ 50,000‬جنيه يف بناء طرق لبلدة أكوابيم‬
‫‪44‬‬
‫ميكن للمركبات اآللية أن تعربها‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫وللعودة إىل الكرامة بوسائل اًلستنكار أو الهانة‪ً ،‬ل يسعى إًل القليل من الناس عم ادا‬
‫أن يتعرضوا لإلهانة من قبل اآلخرين‪ 45.‬بل يسعى الناس إىل الحصول عىل تقدير اآلخرين‬
‫باعتبارهم وكالء أخالقيني‪ .‬وجادل الفيلسوف ج‪ .‬دبليو‪ .‬ف‪ .‬هيجل‪ ،‬الذي يشتهر بعدم‬
‫وضوح أفكاره‪ ،‬بأن «الوعي الذايت موجود يف ذاته وألجل ذاته حني يوجد يف غريه؛ أي أنه‬
‫وجوده يف حد ذاته يكمن يف الحصول عىل التقدير»‪ 46.‬ومتثل أفعال الرسقة‪ ،‬والعنف‪،‬‬
‫واًلستعباد فس اخا لكرامة اآلخر‪ ،‬وإن انعدام الكرامة هذا هو الذي يؤمل بأكرب درجة ويحدث‬
‫رض ارا أكرب بكثري من الفقدان اللحظي للقيمة‪ .‬وإن رفض الهانة هو الذي يقلب األنظمة التي‬
‫تديم اًلضطهاد والفقر‪ .‬فكام قالت لنا السيدة بوعزيزي‪ ،‬إن الكرامة هي التي تدفع الحرية‬
‫‪47‬‬
‫الدميقراطية‪ ،‬أو «الكرامة قبل الخبز»‪.‬‬

‫وتجذب «الكرامة الربجوازية» انتباهنا بطريقة مفيدة إىل التحول التاريخي العظيم‬
‫خالل القرنني املاضيني‪ ،‬رغم اًلحتقار غري العادل الذي ينطوي عليه استخدام كلمة‬
‫«برجوازي»‪ 48.‬ومن املصطلحات األخرى التي تجسد البعد السيايس‪/‬الدميقراطي للكرامة‪،‬‬
‫والذي يتداخل يف اًلستخدام مع «الكرامة الربجوازية»‪ ،‬هو «الكرامة املدنية»‪( .‬ويستخدم‬
‫مصطلح املجتمع املدين بالنجليزية عاد اة ف ترجمة املصطلح األملاين « ‪bürgerliche‬‬
‫‪ .)»Gesellschaft‬وترسخ كلمة «مدنية» هذا املصطلح يف مامرسة الحوكمة التشاورية‪ ،‬وما‬
‫‪49‬‬
‫يعني بالتبعية أنه مرتسخ يف الحقوق القانونية واًلعرتاف املتبادل بالوكالة األخالقية‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫كرامة املنبوذين‬

‫إن تاريخ الكرامة الذي اعتمدنا عليه يتسم بكونه أوروب ايا يف املقام األول‪ ،‬ولكن له جذو ارا‬
‫يف ثقافات أخرى‪ .‬مثة دراسات متاحة عن دول الكرامة التاريخي والتنموي يف سياقات‬
‫‪50‬‬
‫هندية‪ ،‬وبوذية‪ ،‬ويهودية‪ ،‬ومسيحية‪ ،‬وإسالمية‪ ،‬وغريها كذلك‪.‬‬

‫وقد أيقظ النمو الحديث للتجارة حول العامل الرغبة يف الكرامة التي نوثقها يف هذا‬
‫الكتاب واستمدها يف أحيان كثرية من جذور أصلية‪ .‬ففي شبه القارة هندية يوجد ماليني‬
‫من األشخاص الذين يُطلق عليهم اسم «املنبوذون» (‪ .)Dalits‬وحني كنا صغا ارا‪ ،‬كان‬
‫املصطلح املعمول به –الذي يعد اآلن سا اما وكري اها– هو «من ًل ميكن ملسهم»‬
‫(‪ .)untouchable‬وكانت منزلتهم تنطوي عىل إهانة مستمرة واضطهاد وفقر مصاحبني‬
‫لذلك‪ .‬وبعد اًلستقالل‪ ،‬دشن رجال الدولة املتأثرين بأفكار املساواة برامج حكومية لرفع شأن‬
‫املنبوذين‪ ،‬ولكن مل يكن لها أي تأثري يذكر‪ ،‬وذلك عىل األقل ألنها مل تحرتم كرامة وأهلية‬
‫املنبوذين يف حد ذاتهم‪.‬‬

‫وعقب إصالحات جذرية يف عام ‪ 1991‬فتحت العديد من األسواق‪ ،‬وكبحت «نظام‬


‫الرتاخيص» الذي خنق النمو اًلقتصادي‪ 51،‬وحررت املنبوذين ليكون لهم الحق يف الدخول‬
‫إىل األعامل التجارية‪ ،‬تحسنت مكانة املنبوذين بقدر أكرب‪ً ،‬ل من نصف القرن املايض فقط‪،‬‬
‫بل من األلف سنة املاضية أو أكرث‪ .‬وتوجد اآلن غرف تجارة للمنبوذين وأضحى بعضهم من‬
‫املليونريات‪ 52.‬وتعني الجامعات‪ ،‬التي مل تكن تقبل دخولهم من األساس‪ ،‬أفرا ادا من املنبوذين‬
‫يف مجالس الدارة‪ ،‬وتلتمس منهم مصادر التمويل‪ .‬ملاذا حدث ذلك؟ ألنهم استوعبوا كرامتهم‬
‫وأدركوها‪ .‬ومن خالل مؤسساتهم التجارية‪ ،‬أصبحوا أثرياء‪ ،‬وتحولت قدرتهم عىل التربع‬

‫‪43‬‬
‫من محط احتقار إىل محط احرتام‪ ،‬مبا ًل يثري دهشة أي أحد يزوره مسؤولو التنمية من‬
‫مدرسته األم‪.‬‬

‫وعملت الكاتبة املنبوذة شاندرا بهان براساد بنجاح للدفاع عن كرامة املنبوذين يف‬
‫أنحاء الهند‪ .‬وشملت مهمتها معالجة أحد أكرث أنظمة الهانة ترس اخا يف العامل‪ .‬وقد أمثر‬
‫مجهودها عن نتائج بالفعل‪ .‬فإذا كان من شأنه أن يحرر املنبوذين للنهوض‪ ،‬والتعبري عن‬
‫آرائهم‪ ،‬وتحقيق رخائهم‪ ،‬فمن شأنه أن يعمل يف أي مكان آخر‪ .‬وهو كفاح ًل تزال أهدافه‬
‫بعيدة املنال‪ ،‬ذلك أن من يريدون أن يدافعوا عن امتيازهم يلجؤون‪ً ،‬ل إىل قدرتهم عىل العنف‬
‫فقط‪ ،‬بل عىل قدرة الحكومة عىل ذلك أيضا ا‪ .‬فقد تعرض آًلف املنبوذين للرضب‪ ،‬أو الرجم‪،‬‬
‫أو العدام دون محاكمة لدفاعهم عن نفسهم‪ ،‬لركوب الخيل‪ ،‬لدخول األسواق ومنافسة‬
‫«الطبقات العليا»‪ ،‬وًلرتدائهم ثياباا أنيقة‪ 53.‬ولذا‪ ،‬يف رحالت الطريان املنطلقة من دلهي يف‬
‫عام ‪ 2020‬خالل الجائحة‪ ،‬خصت السلطات املنبوذين باملالحقة والطرد‪ .‬ويف ‪ 17‬فرباير‬
‫‪ ،2020‬يف لقاء عىل راوند تيبل إنديا‪ ،‬ناقش بوشبيندرا جوهار وشاندرا بهان براساد معاملة‬
‫املنبوذين خالل فرتة الجائحة‪:‬‬

‫ريا حني قرأت ما كتبتيه عن أن الضحية األوىل‬


‫جوهار‪ :‬أتذكر أنني تأثرت كث ا‬
‫ألولئك الذين حاولوا الهروب من الحكومة يف دلهي هي كرامتهم‪ ،‬يف حني‬
‫أن بإمكانهم تخطي الصدمة الجسدية مع مرور الزمن‪ .‬إن الكرامة هي ما‬
‫تسلبه الحكومات من الشعوب‪.‬‬

‫براساد‪ :‬أجل‪ .‬إنها الكرامة‪ .‬وتلك هي النقطة التي يشيطن فيها العدو‬
‫خصومه‪ .‬إن إضعاف الكرامة هو أهم عامل يف الحرب‪ .‬بوسعي أن أقف‬
‫أمام البوابة وأرى مدى الخوف الذي كان يعرتي هؤًلء الناس‪ ،‬فقد كانوا‬

‫‪44‬‬
‫خائفني منا‪ ،‬وخائفني من أن يلتقطوا أي يشء من مجتمعنا‪ .‬لقد كانوا‬
‫يهربون من أي شخص يرتدي ثياباا جميلة بعض اليشء‪ .‬من الذي خلق‬
‫هذا الخوف؟ وملاذا ينبغي عىل املواطنني أن يعيشوا تحت وطأة الخوف‬
‫يف بلدهم دون ارتكاب أي جرمية؟ ولكن الحكومة ظنت أن هروبهم من‬
‫دلهي يُعد جرمية‪ .‬إن ذلك أمر ًل ميكن تصوره يف أي مجتمع متحرض‪.‬‬
‫‪54‬‬

‫يعكس كفاح املنبوذين من أجل الكرامة بالتفصيل كفاحات الشعوب يف بلدان أخرى‪،‬‬
‫ومنها أوروبا واألمريكيتني‪ ،‬وهي كفاحات ًل تزال مستمرة بدرجة أو بأخرى‪ .‬إن التحرير‬
‫الذايت للمنبوذين من اًلضطهاد والفقر عملية ًل تزال غري مكتملة‪ ،‬ولكنها تحدث‪ .‬وسيكون‬
‫تركيزنا يف الفصول القادمة عىل الكيفية التي ميكن بها اًلستمرار يف التقدم الذي حدث‬
‫بالفعل‪ ،‬ومدها لآلخرين الذين أُهملوا أو تعرضوا لإلقصاء‪ ،‬والسامح للجميع بأن يدركوا‬
‫كرامتهم ويعيشوا بحرية تحت مظلة الدميقراطية والتنمية‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫الكرامة واالبتكار‬ ‫‪2‬‬

‫ريا‪ ،‬بل ًدا العم ُر املتوقّع فيه هو أربعة وأربعون عا ًما‪ ،‬أقل بستة عرش عا ًما من‬
‫تخ َّيل بل ًدا فق ً‬
‫العمر املتوقع يف جمهورية الكونغو الدميقراطية‪ .‬إصالح متديدات املياه يف البيوت رفاهية‬
‫يف هذا البلد‪ .‬أكرث من ُربع األطفال (‪ 28‬باملئة منهم) ميوتون قبل بلوغ الخامسة‪ .‬ثالثة‬
‫املتكسبني من أبناء عرش سنني فم فوق»‪ ،‬يعملون يف إمناء الطعام‬
‫ّ‬ ‫«العمل‬
‫ّ‬ ‫وأربعون من‬
‫فقط‪ ،‬وال يشمل هذا الرقم عموم عملة األطفال الذين مل يبلغوا عرش سنوات يف املزارع‪،‬‬
‫التي تُع َرف باسم «األعمل الرتيبة»‪ُ .‬عرش العاملني تقري ًبا من أبناء عرش سنني فم فوق‬
‫يقدمون خدمات منزلية وشخصية لألثرياء – بحسب معايري ذلك املجتمع‪ .‬ال ميلك أحد يف‬
‫هذا البلد هاتفًا خلويًّا‪ ،‬وال حتى راديو أو تلفزيونًا‪.‬‬

‫كان هذا هو العامل الذي ُولد فيه ج َّدا توم‪ ،‬هكذا كان حينئذ‪ ،‬وهو اليوم من أغنى‬
‫ربا أبواهم أو‬
‫البلدان يف العامل‪ .‬حسب عمرك واملكان الذي تعيش فيه‪ُ ،‬ولد ج َّداك (أو ّ‬
‫‪1‬‬

‫أجدادهم) يف هذا العامل أيضً ا‪ .‬لقد عاش ج َّدا توم تجارب أفضل يف الحياة ومت ّتعا براحة‬
‫مادية أكرب من التي متتع بها أجدادهم‪ .‬كان العامل يتحسن لجميع الناس‪ .‬مت ّتع أبوا توم‬
‫مم متتع به آباؤهم‪ ،‬مع أن أباه أُصيب بشلل أطفال مؤقت يف‬‫برفاهية مادية وتعليم أكرب ّ‬
‫مراهقته‪ ،‬هذا املرض الذي لُقّح ضده توم يف طفولته‪ .‬طب ًعا‪ ،‬يف فرتات الحرب‪ ،‬واالستبداد‬
‫الوحيش الشديد‪ ،‬وغري ذلك من الشدائد‪ ،‬كانت الحياة تسوء‪ ،‬لكن عندما تنتهي هذه‬
‫غريت النتيجة‬
‫الفرتات‪ ،‬كان التقدم يعود ليبدأ من جديد (بني الذين نجوا من العنف)‪ .‬لقد ّ‬
‫العامل‪ .‬لقد شهدت العقود األخرية أكرب خروج من الفقر عرفه تاريخ نوعنا اإلنساين‪.‬‬

‫لقد أوقفت صدمة جائحة كوفيد–‪ 19‬العاملية‪ ،‬وما رافقها من هبوط يف التجارة‬
‫جزئ ًّيا‪ ،‬سنني من التقدم‪ .‬عاد مئات‬
‫والسياحة والسفر وغريها من الصناعات‪ ،‬بل وعكَست ُ‬

‫‪46‬‬
‫ماليني الناس مرة أخرى إىل الفقر‪ .‬مع هذا‪ ،‬مع انحسار الجائحة‪ ،‬ال بد أن يعود العامل إىل‬
‫التعايف وأن يبدأ النمو مرة أخرى‪ .‬تستجيب األنظمة االقتصادية املتينة استجاب ًة أرسع‬
‫وأفضل وأع َدل لهذه الصدمات‪ .‬مل يكن التقدم والتحسن الذي جرى متساويًا بني الجميع‪،‬‬
‫خرين‬
‫ريا ممن بدؤوا متأ ّ‬
‫إذ اغتنى البعض يف وقت أقرب أو رسعة أكرب من غريهم‪ ،‬لكن كث ً‬
‫تجاوزوا املجتمعات األغنى‪ .‬وعىل رغم كل هذا التفاوت‪ ،‬أصبح االغتناء العظيم –وهي‬
‫عبارة ديردري مكلوسيك لوصف الفرتة التي سبقتنا اليوم وامت ّدت أربعة أجيال أو‬
‫‪2‬‬
‫خمسة– عامل ًّيا عا ًّما‪ ،‬يصل إىل مزيد ومزيد من سكان العامل‪.‬‬

‫مثال)‪ ،‬مل تكن فيه‬


‫لكن لقد مر زمن‪ ،‬ليس غاب ًرا ج ًّدا (زمن آباء أجداد ج َّدي توم ً‬
‫تحسن‪ .‬قبل التوسع الضخم للتجارة‪ ،‬وقبل‬‫ّ‬ ‫مستويات املعيشة وال األعمر املتوقّعة يف‬
‫االزدياد املذهل يف االبتكار‪ ،‬وقبل االغتناء العظيم‪ ،‬كانت الحياة متيش ببطء أمام الناس‬
‫تغري يشء ما يف‬
‫دون تغري ملحوظ يف األعمر املتوقعة أو مستويات املعيشة بني األجيال‪ّ .‬‬
‫نهاية القرن الثامن عرش وبداية القرن التاسع عرش‪ .‬زاد االغتناء العظيم الدخل الفردي‬
‫بعامل ‪ 30‬ضعفًا‪ ،‬أي ‪ 3,000‬باملئة‪ ،‬وهي نسبة مذهلة‪ .‬مل يكن األمر تق ّد ًما بطيئًا ومستق ًّرا‪،‬‬
‫يكون فيه كل جيل أغنى بقليل من سابقه‪ .‬بالنظر إىل االمتداد الواسع للتاريخ اإلنساين‪،‬‬
‫جاء األمر عىل فجاءة‪.‬‬

‫تغري؟ يؤكّد الذين يتكلّمون عن «الرأسملية» من «وجهة نظر يسارية»‬ ‫ما الذي ّ‬
‫و«من وجهة نظر ميينية»‪ ،‬أن األمر كله عائد إىل «رأس املال»‪ .‬الغنى راجع إىل تجميع رأس‬
‫املال‪ ،‬يف رأي جميع األطراف‪ .‬ليس هذا الرأي وصفًا س ّيئًا الغتناء مات أو توم – اكسب‬
‫ووفّر واجمع وسيزداد مالك‪ ،‬أي قدرتك الرشائية‪ .‬ستصبح أغنى‪ .‬هكذا وصفت منظومة‬
‫التنمية التنمي َة عىل م ّر سنوات كثرية‪ .‬بعبارة املنظّر التنموي البارز ويليام آرثر لويس‪،‬‬
‫«القضية املركزية يف التنمية االقتصادية هي الرتاكم الرسيع لرأس املال»‪ 3.‬ليس األمر‬
‫هكذا‪ ،‬كم نعرف اآلن‪ .‬لسنا نتكلم هنا عن االغتناء بالرسقة أو بتجميع القليل‪ ،‬كتضاعف‬

‫‪47‬‬
‫الدخل ضعفني أو ثالثة؛ مل يزدد الدخل ضعفني أو ثالثة‪ ،‬بل ثالثني ضعفًا‪ .‬سيغتني األفراد‬
‫إذا انخرطوا يف تجميع رأس املال الرسيع‪ ،‬ال شك يف ذلك‪ ،‬لكن هذا ال يرشح االغتناء الكبري‬
‫الذي عاشته مجتمعات كاملة‪ ،‬الذي تدل عليه أرقام االستهالك الفردي التي تف ّجرت إذ‬
‫ارتفعت ثالثني ضعفًا‪ .‬إن تراكم القنوات الكربى وآالت غزل الحرير وحقول الرز الجديدة‬
‫واملسؤولني املتعلّمني جعل الصني أغنى بقليل‪ ،‬لكن العائدات املتقلّصة الجوهرية يف هذه‬
‫األنشطة تقتيض أن االغتناء العظيم مل يكن ممكنًا‪ ،‬إال إذا كانت هذه األنشطة ابتكارية عىل‬
‫نحو جذري‪.‬‬

‫إن قصة االغتناء العظيم –قصة الخروج من الفقر العام– ليست قصة ازدياد تراكم‬
‫رأس املال‪ ،‬بل قصة االبتكار‪ .‬إن إضافة طاحونة هواء إىل كومة طواحني هواء مل تكن‬
‫السبب يف ابتكار محرك بخاري‪ .‬لوال الحداثة يف التصميم‪ ،‬لواجهت إضافة املحركات‬
‫ّصا يف العائدات‪ .‬نحن نقيس قوة املحركات بالحصان‪ ،‬لكن محرك‬
‫البخارية نفسها تقل ً‬
‫الوقود الداخيل مل ينتَج من إضافة حصان إىل فريق األحصنة الذي يج ّر العربة أو‬
‫حتم ليس الفرق بني معيشة‬‫املحراث‪ .‬تجميع رأس املال بالعمل والتوفري أمر جيد‪ ،‬لكنه ً‬
‫الناس عام ‪ 1790‬أو ‪ 1890‬ومعيشتنا اليوم‪.‬‬

‫الرسقة طريقة أخرى لالغتناء‪ .‬سارق البنك إذا رسق مليون دوالر واستطاع النجاة‬
‫بفعله‪ ،‬سيصبح أغنى بليون دوالر‪ .‬لكن املجتمع ال يغتني هكذا‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬إن الجهود‬
‫املوجهة القرتاف الرسقة وملنعها –واألذى الحاصل من اقرتافها– تجعل املجتمعات‬
‫باملتوسط أفقر مم كانت لتكون لوال السارقني‪ .‬واملجتمعات الحديثة ليست غنية ألنها‬
‫رسقت املجتمعات األخرى باالستعمر‪ .‬كالرسقة الوطنية‪ ،‬جعل االستعمر بعض الناس‬
‫أغنياء–اإلداريني االستعمريني‪ ،‬وموفّري األسلحة والسفن‪ ،‬واألقلية املفضلة التي متتعت‬
‫بصالحيات االحتكار‪ ،‬لكن الرسقة الجمعية يف االستعمر أثرت أث ًرا سلب ًّيا يف مجموعتني‬
‫عىل األقل‪ :‬دافعي الرضائب ومجنّدي الدولة املستع ِمرة‪ ،‬وامله َّجرين (الذين يجنَّدون‬

‫‪48‬‬
‫ويدفعون الرضائب أيضً ا) يف البلد املستع َمر‪ .‬كم أثبت املؤ ّرخان االقتصاديان النس إدوين‬
‫دافيس‪ ،‬وروبرت آرثر هوتنباك يف دراستهم القتصاد اإلمربيالية الربيطانية‪« ،‬مل يستفد‬
‫‪4‬‬
‫الربيطان ّيون باإلجمل اقتصاديًّا من اإلمرباطورية‪ ،‬لكن استفاد املستثمرون األفراد»‪.‬‬

‫لقد أُقِ ّر بظُلم االستعمر منذ بعض العقود؛ أما أذاه عىل املستع َمرين واملستع ِمرين‬
‫فلم يجذب كبري اهتمم‪ .‬ع ّرف آدم سميث مبادئ اإلمربيالية‪:‬‬

‫جها أول مرشوع إلنشاء‬


‫يبدو أن الحمقة والظلم هم املبدآن اللذان سادا وو ّ‬
‫هذه املستع َمرات؛ حمقة السعي وراء مناجم الذهب والفضة‪ ،‬وظلم حسد‬
‫أمالك البلدان التي مل يؤذ سكّانها األبرياء شعوب أوروبا‪ ،‬بل استقبلوا أ ّول‬
‫‪5‬‬
‫املغامرين بش ّتى أشكال اللطف وحسن الضيافة‪.‬‬

‫قُبلت رواية سميث بشأن الظلم‪ ،‬لكن حجته بأن النظام اإلمربيايل يُف ِقر وال يُغني‬
‫مواطني الدولة املستع ِمرة تستحق مزي ًدا من االهتمم‪.‬‬

‫يف نظام القوانني الذي أُنشئ إلدارة مستعمراتنا األمريكية والهندية الغربية‪،‬‬
‫ضُ ّحي بصلحة املستهلِك الوطني من أجل مصلحة املنتِج‪ ،‬يف إرساف متهور‬
‫مل يُع َرف له مثيل يف ترشيعاتنا التجارية األخرى‪ .‬لقد تأسست إمرباطورية‬
‫كاملة من أجل إنشاء أمة من املستهلكني املل َزمني برشاء كل املنتجات التي‬
‫يستطيع منتجونا املختلفون توفريها يف متاجرهم‪ .‬من أجل الزيادة القليلة‬
‫يف السعر التي يستطيع االحتكار توفريها ملنتجينا‪ ،‬أُث ِقل مستهلكونا‬
‫بتكاليف الحفاظ عىل اإلمرباطورية والدفاع عنها‪ .‬من أجل هذا الهدف‪ ،‬وال‬
‫يشء آخر‪ُ ،‬دفع أكرث من مئتي مليونًا‪ ،‬و ُوقّع عىل دينٍ بأكرث من مئة وسبعني‬
‫مليونًا‪ ،‬فوق كل يشء ُدفع للهدف نفسه يف الحروب السابقة‪ .‬إن الفائدة‬
‫عىل هذا الدين وحدها أكرب من كل الربح االستثنايئ‪ ،‬الذي يُ َّدعى أنه جاء من‬

‫‪49‬‬
‫احتكار التجارة االستعمرية‪ ،‬بل وأكرب من قيمة كل التجارة أو قيمة كل‬
‫‪6‬‬
‫باملتوسط تص َّدر سنويًّا إىل املستعمرات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫السلع‪ ،‬التي‬

‫مل يفعل نهب البلدان األخرى شي ًئا سوى أن أضاف إىل إجميل البضائع املتاحة‬
‫تفرس الفرق‬
‫جم إىل االبتكارات املح ّولة التي ّ‬
‫جم ومل يكن له أن يرت َ‬
‫للناهبني‪ ،‬لكن هذا مل يرت َ‬
‫بني ‪ 1890‬واليوم‪ ،‬أو بني ‪ 1790‬و‪ .1890‬إن ملء السفن بالعاج أو الذهب أو القطن‬
‫املرسوق أو املأخوذ عنو ًة من اآلخرين لن يجعل االتصاالت أرسع‪ ،‬لن يخرتع التلغراف أو‬
‫غريت البيوت وسمحت للناس أن‬
‫الهاتف أو اإلنرتنت‪ ،‬ولن يبتكر املراحيض الدافقة التي ّ‬
‫ميشوا يف الطرق الحرضية دون الخوف من أن تُف َرغ أواين البول عىل رؤوسهم‪ .‬بل يف‬
‫كثري من الحاالت‪ ،‬انتهى األمر بالدول اإلمربيالية إىل الفقر‪.‬‬

‫عىل سبيل املثال‪ ،‬كانت الربتغال وإسبانيا يف ‪ 1800‬من أفقر البلدان يف أوروبا‬
‫عىل رغم قرون من اإلمربيالية‪ ،‬إذ أنهكهم دفع الدم واملال لدعم اإلمربيالية‪ .‬مل يغنت‬
‫الروس اليوم بفضل إخضاع اإلمرباطورية السوفييتية للشعوب‪ ،‬التي عانت فرض‬
‫الشيوعية باإلمربيالية الروسية‪ .‬كل هذه الشعوب عانت من الحمقة والظلم‪.‬‬

‫االبتكار يُغني‬

‫لفهم التحول املذهل يف العامل يف عرصنا الحديث‪ ،‬فلنعد إىل الفقرة التي افتتحت هذا‬
‫الفصل‪ .‬إن التحسينات الكبرية منذ والدة ج ّدي توم تعود إىل إنتاج منتجات وخدمات مل‬
‫تكن موجودة من قبل‪ .‬لو كان الفرق مجرد ازدياد يف معدالت االدخار (وهو أمر مل يحدث‪،‬‬
‫ألن معدالت االدخار انخفضت مع ارتفاع الدخل) أو تجميع رأس املال‪ ،‬المتلك توم مزي ًدا‬
‫يفرس‬
‫من األشياء التي متتع بها جيل ج ّده‪ .‬كان هذا ليكون أم ًرا ج ّي ًدا‪ ،‬لكنه ال يستطيع أن ّ‬
‫الفروق بني مستوى املعيشة عند توم ومستوى املعيشة عند جده‪ .‬ازدياد األحصنة‬

‫‪50‬‬
‫ومصابيح الكريوسني أفضل من نقصانها‪ ،‬لكن هذا مل يكن الفرق بني مستويات الدخل‬
‫يفرس العامل الحديث‪ ،‬ال ازدياد االدخار‬
‫واملعيشة يف ‪ 1890‬وبينها اليوم‪ .‬االبتكار هو الذي ّ‬
‫وجمع األشياء‪ ،‬وال رسقة السلع من اآلخرين طب ًعا‪.‬‬

‫قد ينسب بعض الناس االبتكار إىل التقدم يف العلم أو الثورة العلمية أو االستثمر‬
‫يف البحث‪ .‬وال شك أن التقدم العلمي يلعب دو ًرا هو واالستثمر يف األبحاث‪ ،‬لكن االبتكار‬
‫ال يقترص عىل االخرتاع‪ ،‬الذي نتخيل فيه علمء أذكياء يهتفون «وجدتها!» وهم يهرعون من‬
‫مخابرهم باكتشافات تغري العامل‪ ،‬أو عباقرة منعزلني يف مرائيب السيارات يطلقون فجأة‬
‫ريا‪ ،‬مراكز بحث ضخمة تصدر االخرتاعات واح ًدا بعد‬
‫ابتكارات مزلزلة إىل العامل‪ ،‬أو‪ ،‬أخ ً‬
‫آخر‪ ،‬عىل البساط املتحرك‪ .‬العلمء يكتشفون واملخرتعون يخرتعون والباحثون يبحثون‪،‬‬
‫طب ًعا‪ ،‬لكن االكتشافات واالخرتاعات والبحوث ليست يف حد ذاتها ابتكارات‪.‬‬

‫إن االخرتاع إذا مل يهن َدس ويص َّنع ويس َّوق ويوزَّع ال يكون ابتكا ًرا‪ .‬كثري من‬
‫االكتشافات العلمية وكثري من االخرتاعات قليلة أو منعدمة األهمية اقتصاديًا‪ ،‬وال أقصد أنها‬
‫غري مثرية لالهتمم أو غري مهمة‪ .‬لكنها ليست ابتكارات‪ .‬معظم االبتكارات هي تحسينات‬
‫تغري اتجاه‬
‫«واضحة» (عىل األقل بعد حدوثها) للمنتجات والعمليات املوجودة‪ ،‬أو تك ّيفات ّ‬
‫ما فعله اآلخرون يف أسواق أخرى‪ ،‬أو تنسخه ببساطة‪ .‬هذه الحالة األخرية هي األفضلية‬
‫التي متلكها الدول ذات الدخل املنخفض يف «مواكبة» الدول األغنى‪ ،‬ألن الناس فيها‬
‫يستطيعون أن ينسخوا ما فعله الناس قبلهم يف الدول الغنية ويجربوه يف بلدانهم‪ .‬إن‬
‫تجاوز تقنية الهواتف األرضية واالتجاه مبارش ًة إىل الهواتف الخلوية يف كثري من البلدان‬
‫ذات الدخل املنخفض مثال واضح عىل هذا‪ .‬كم يرشح مات ريديل يف مروره عىل تاريخ‬
‫االبتكارات‪ ،‬ال ينبغي أن يلتبس االبتكار باالخرتاع؛ االخرتاع يكون عادة تدريج ًّيا وغري‬
‫ريا ما ال تظهر أهميته إال بعد وقت طويل من طرحه؛ أما االبتكار فهو ظاهرة‬
‫«مزلزل»؛ وكث ً‬
‫‪7‬‬
‫شبكية تضم عدة أشخاص وال تقترص عىل عمل عبقري منفرد‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫إن النظام القائم عىل االبتكار –وهو غري االكتشاف أو االخرتاع أو البحث– مرتبط‬
‫ارتباطًا وثيقًا بالكرامة والحرية املرتبطة بها لصعود اإلنسان بـ«مكانته» وتجاوز ظروف‬
‫والدته‪ ،‬وتخ ّيل العامل بعي ًدا عنها‪ ،‬والتجريب‪ ،‬والشجاعة‪ ،‬واملثابرة‪ ،‬وتحدي املعتاد‪،‬‬
‫ومخالفة التيار‪ ،‬وتقديم منتجات وخدمات وإجراءات جديدة ليختربها السوق فيقبلها‬
‫املستهلكون أو يرفضوها – أو عىل األقل للهروب إىل مدينة أو منطقة أو بلد آخر‪ .‬يبتكر‬
‫الناس العاديون بهذا املعنى عندما ينتقلون إىل عمل جديد‪.‬‬

‫يف عام ‪ ،1947‬الحظ املؤرخ اإلنكليزي توماس ساوثكليف أشتون‪ ،‬بعد أن انترص‬
‫النخفاض معدالت الفائدة بوصفه سب ًبا يف التقدم الصناعي‪ ،‬الحظ أن‪:‬‬

‫سهال التفريق‬
‫ً‬ ‫املخرتعني واملبتكرين والصناعيني ور ّواد األعمل –ومل يعد‬
‫بني هذه املجموعات يف فرتة التغري الرسيع التي نعيشها– يأتون من كل‬
‫الطبقات االجتمعية ومن كل أنحاء البلد‪ ...‬محامون وجنود وموظفون‬
‫حكوميون‪ ،‬ورجال من مكانات أدىن من ذلك‪ ،‬كلهم وجدوا يف الصناعة‬
‫إمكانات للتقدم إىل ما هو أبعد من أهدافهم األصلية‪ .‬لقد أصبح ريتشارد‬
‫حالق– أغنى وأبرز غازيل القطن؛ وبنى بيرت ستبس –وهو‬
‫أركرايت –وهو ّ‬
‫صاحب نُ ُزل– سمعة رفيعة يف التجارة‪ ،‬وصار سامول ووكر –وهو أستاذ‬
‫‪8‬‬
‫مدرسة– الشخصية القائدة يف صناعة الحديد شمل إنكلرتا‪.‬‬

‫الحالقون وأصحاب الحانات‬


‫ّ‬ ‫كانت حواجز الطبقة واملكانة القدمية تتق ّوض‪ ،‬وكان‬
‫والنزل يغتنون بتجريب أشياء جديدة وتقديم عمليات ومنتجات جديدة‪.‬‬

‫استأنف أشتون حديثه ليالحظ بروز التغيري يف «صعود املجموعات التي عارضت‬
‫الكنيسة الرسمية يف إنكلرتا»‪ ،‬ورأى أن هذا كان ألن «الخارجني عىل الكنيسة شكلوا القسم‬
‫‪9‬‬
‫تعليم بني الطبقات الوسطى»‪.‬‬
‫ً‬ ‫األفضل‬

‫‪52‬‬
‫نستطيع اليوم أن نأخذ نظرة أوسع من نظرة أشتون‪ ،‬الذي كان تركيزه عىل‬
‫بريطانيا عىل امتداد سبعني عا ًما‪ ،‬ولنا أن نرى أن العنرص الذي ال غنى عنه يف االبتكار‬
‫ليس الطبقة الوسطى املتعلّمة –دون انتقاص من التعليم أو من الطبقة الوسطى– بل هو‬
‫صعود الكرامة والحرية التي متتع بها أعضاء كل الطبقات االجتمعية‪( .‬العنرص الذي ال‬
‫غنى عنه هو الكرامة التي كانت أساس إرصار الناس عىل افرتاض حرية االبتكار‪ ).‬إن‬
‫لالستثمر يف التعليم أسبابًا كثرية‪ ،‬لكن هذا االستثمر بعيد ج ًّدا عن أن يكون رشطًا كاف ًيا‬
‫للنمو االقتصادي‪ 10.‬لقد استثمرت حكومات بلدان فقرية كثرية يف التعليم وأخفقت يف‬
‫تقديم فرص إلنشاء الرثوة للشعوب التي ازداد التعليم بينها‪ .‬لقد شهدت مرص ارتفا ًعا‬
‫ضخم يف معدالت االلتحاق بؤسسات التعليم الثالثي بني ‪ 2011‬و‪ ،2018‬من ‪ 26.8‬إىل‬
‫ً‬
‫‪ 38.9‬باملئة‪ ،‬لكن نصيب الفرد من ناتجها اإلجميل املحيل يف الفرتة نفسها انخفض من‬
‫‪ $2,792‬إىل ‪ 11.$2,537‬أما املقارنات عىل نطاقات زمنية أوسع فليست حاسمة بشأن أثر‬
‫نفقات التعليم بحد ذاتها عىل النمو االقتصادي؛ إذا مل تقرتن هذه النفقات بالظروف‬
‫املناسبة املواتية لالبتكار‪ ،‬فمن شأنها أن تنشئ ي ًدا عاملة عالية التعليم‪ ،‬لكن عاطلة عن‬
‫‪12‬‬
‫العمل‪ ،‬كم يف مرص‪.‬‬

‫التعليم أقرب إىل أن يكون نتيجة من أن يكون سب ًبا وراء االبتكار وتعاظم االزدهار؛‬
‫املزدهرون أقرب إىل إرسال أبناءهم إىل املدارس من أن يرسلوهم إىل الحقول أو الورشات‪.‬‬

‫والتعليم بعيد عن أن يكون رشطًا رضوريًّا أو كاف ًيا للتنمية‪ .‬إن صعود الشعوب‬
‫املخضَ عة‪ ،‬كشعب الداليت يف الهند الذي ناقشناه سابقًا‪ ،‬ميكن يف أفضل األحوال أن يُنسب‬
‫ريا من أنجح ر ّواد األعمل جاؤوا من أقل الناس‬
‫يف جزء منه فقط إىل ازدياد التعليم‪ ،‬ألن كث ً‬
‫تعليم‪ .‬يكتسب كثري من الفقراء‬
‫ً‬ ‫وصوال إىل التعليم‪ ،‬وجميعهم بالعموم ليسوا من األفضل‬
‫ً‬
‫تعليم ق ّي ًم يف مدرسة املشاريع‪ ،‬إذا أُتيح لهم ذلك‪ .‬أُخذت كالبانا ساروج من مدرستها‬
‫ً‬
‫عروسا‪ ،‬لكنها اآلن متلك أكرث من مئة مليون دوالر يف مومباي‪ ،‬حيث‬
‫ً‬ ‫و ُز ّوجت لتكون طفلة‬

‫‪53‬‬
‫تعمل رئيسة لرشكة كيمين تيوبز‪ .‬ذكرت السيدة ساروج بشأن انتقالها من الفقر إىل‬
‫الغنى‪،‬‬

‫لقد تعلّمت كل يشء بشأن ريادة األعمل من الصفر من خالل هذا العمل –‬
‫استرياد املواد الخام‪ ،‬وفن املفاوضة‪ ،‬ومعرفة اتجاهات السوق‪ ،‬وفوق كل‬
‫‪13‬‬
‫هذا‪ ،‬الثبات يف بحر من املحتالني الذين يريدون استغاليل‪.‬‬

‫فهم محدو ًدا تاريخ ًّيا لالغتناء‬


‫ً‬ ‫إن تركيز أشتون أيضً ا عىل «التصنيع» يعكس‬
‫العظيم‪ ،‬هو الفهم املعتاد يف الدراسات التي تركز عىل الثورة الصناعية‪ .‬ال ميكن اختزال‬
‫النمو االقتصادي يف إنشاء املرافق الصناعية‪ .‬فال شك أن الرتكيز عىل «الصناعة» بوصفها‬
‫مفتاح النمو أدى إىل هالك بلدان كثرية يف القرن العرشين‪ .‬ومن أمثلة هذا سياسة‬
‫«التصنيع الستبدال الواردات» التي طبقت يف أمريكا الالتينية بحسب اقرتاح االقتصادي‬
‫راؤول بريبيش‪ ،‬وأدت إىل انتشار «الصناعة» غري املنتجة يف كثري من البلدان األمريكية‬
‫الالتينية‪ .‬لقد أسفرت هذه السياسة عن إفقار الناس‪ 14.‬ومن بني األمثلة األشهر الشيوعية‬
‫السوفييتية‪ .‬كان منطق سياسة النمو االقتصادي يف االتحاد السوفييتي‪ ،‬تقري ًبا‪ :‬لقد اغتنت‬
‫بريطانيا ثم الواليات املتحدة ثم أملانيا بعد أن أسست مصانع عظيمة‪ ،‬فيها الدخان‬
‫والضجيج‪ ،‬ووظفت أعدا ًدا ضخمة من الناس‪ .‬إذا بنينا مصانع فيها آالف العمل وكثري من‬
‫الدخان والضجيج‪ ،‬سنغتني نحن أيضً ا‪.‬‬
‫سهال‪ ،‬كم رشح لينني‪،‬‬
‫ً‬ ‫وسيكون األمر كله‬

‫وعمال يف «نقابة» حكومية وطنية واحدة‪.‬‬


‫ً‬ ‫سيصبح كل املواطنني موظفني‬
‫عمال متساويًا‪ ،‬ويقوموا بحصتهم من العمل‪،‬‬
‫كل املطلوب أن يعملوا جمي ًعا ً‬
‫وس ُتدفَع لهم أجورهم بالتساوي‪ .‬لقد ب ّسطت الرأسملية املحاسبة والرقابة‬
‫الالزمتني لهذا األمر إىل درجة كبرية وقلّصتهم إىل عمليات بسيطة ج ًّدا –‬

‫‪54‬‬
‫يستطيع أي متعلم إجراءها– من اإلرشاف والتسجيل ومعرفة قوانني‬
‫‪15‬‬
‫الحساب األربعة وإصدار الفواتري الصحيحة‪.‬‬

‫سمه مايكل‬
‫بدال من أن تزداد رفاهية الناس‪ ،‬ن َتج ما ّ‬
‫بطريقة ما‪ ،‬مل ينجح األمر‪ .‬و ً‬
‫بوالنيي نظام «اإلنتاج التفاخري» الذي «تُنتَج فيه األهداف ال السلع ويُرسق املستهلك من‬
‫‪16‬‬
‫أجل خدمة هيبة الحكّام»‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫الكرامة واملشاريع‬ ‫‪3‬‬

‫ميكننا اعتبار محاولة استنساخ تجربة رفع األجور عرب بناء املصانع مثالً عن تطبيقات عقليّة‬
‫«عبادة البضائع» يف مجال القتصاد‪ .‬وصف عامل الفيزياء ريتشارد فاينامن مثل هذه العقلية‬
‫يف كلمته التي ألقاها يف حفل تخ ّرج يف معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا‪:‬‬

‫توجد لدى بعض شعوب جنوب املحيط الهادي ديانة عبادة البضائع‪ .‬فخالل الحرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬شهدوا هبوط الطائرات التي أم ّدتهم بالكثري من املواد النافعة‪ ،‬واآلن‬
‫يرغبون أن يتكرر حدوث اليشء نفسه‪ .‬لذلك عمدوا إىل تقليد جوانب مثل مدارج‬
‫الطائرات‪ ،‬وإشعال النريان عىل جانبيها‪ ،‬وبناء كوخ خشبي يصلح لجلوس رجل فيه‬
‫يضع قطعتني خشبيتني عىل رأسه مثل سامعات الرأس ذات قضبان خيزران بارزة‬
‫تقوم مقام الهوائيات –باعتباره مراقب الحركة الجوية– وينتظرون هبوط الطائرات‪.‬‬
‫إنهم يفعلون كل يشء بصورة صحيحة‪ .‬إذ أن الجوانب الخارجية مثالية‪ .‬فهي تبدو‬
‫بالضبط كام بدت يف املايض‪ .‬لكنها ل تعمل‪...‬‬
‫حري يب اآلن أن أخربكم ما الذي ينقصهم‪ .‬إمنا سيكون املوضوع بنفس صعوبة‬
‫ّ‬
‫الرشح لسكان جزر جنوب املحيط الهادي كيف ينبغي عليهم ترتيب األمور ليك‬
‫يستدخلوا بعض الرثوة يف نظامهم‪ .‬ول يداين هذا سهولة إخبارهم عن كيفية تحسني‬
‫‪1‬‬
‫أشكال سامعات األذن‪.‬‬

‫ومن املؤسف أن جز ًءا ل يستهان به من نصائح التنمية‪ ،‬والتي يعضد مصداقيتها جني‬
‫مبالغ ضخمة من املال‪ ،‬قد ركز عىل أسلوب أشبه ما يكون بإخبار اآلخرين عن كيفية تحسني‬
‫أشكال سامعاتهم الخشبية‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫عندما كان الرتكيز منصبًا عىل «التصنيع»‪ ،‬والذي كان يعني املصانع الكبرية‪ ،‬فقد جاءت‬
‫النصيحة ببناء املصانع ومصانع الصلب وما شابه ذلك‪ ،‬كام هو يف إنجلرتا‪ ،‬وأمريكا‪ ،‬وأملانيا‪،‬‬
‫واليابان‪ .‬ومؤدى ذلك أن تصل الرثوة تاليًا‪ .‬أصبحت عقلية عبادة البضائع هذه رائد ًة يف‬
‫التحاد السوفييتي‪ ،‬واستنسخت يف الهند ويف بلدان أخرى‪ .‬لكنها منيت بالفشل‪ ،‬سوا ًء عرب‬
‫فرضها بالقمع الشمويل‪ ،‬مثلام حدث يف التحاد السوفييتي‪ ،‬أو عرب ضخ «مساعدات التنمية‬
‫األجنبية»‪ ،‬أو عن طريق فرض الرضائب عىل املزارعني بذريعة تحويل أجورهم إىل أنشطة‬
‫اقتصادية أكرث جدار ًة وأكرث قيمة‪.‬‬

‫يتذكر توم لقاءه مبسؤويل وزارة التخطيط يف بولندا الشيوعية ساب ًقا‪ ،‬حيث قيل له‬
‫ل ينبغي عىل البولنديني استخراج النحاس وتصديره‪ ،‬ألن «البلدان التي تح ّول النحاس إىل‬
‫أوان‪ ،‬ومقال‪ ،‬وغريها من البضائع املص ّنعة تستأثر بكل الفوائد»؛ وش ّدد مسؤولو التخطيط‬
‫عىل أن بولندا يجب عليها الستثامر يف املصانع لتحويل النحاس إىل سلع مصنعة‪ ،‬كاألواين‬
‫واملقايل‪ .‬وههنا تعود فكرة بريبش «الستعاضة عن الواردات» للظهور مرة أخرى‪ .‬حتى يف‬
‫أواخر مثانينيات القرن العرشين‪ ،‬كان من الصعب عىل الكثريين التخيل عن قناعتهم بأن‬
‫املصانع هي السبيل الوحيد لتحقيق الرثوة‪ .‬كام أنه يؤسفنا القول إن هذه العقلية ما تزال‬
‫موجود ًة يف الوقت الحايل‪ ،‬لكنها تحولت لإلنرتنت («كل ما علينا فعله هو تثبيت شبكة‬
‫إنرتنت لسلكية يف املدارس –كام هو الحال يف أمريكا‪ ،‬والدمنارك‪ ،‬وكوريا– وستزدهر‬
‫البالد!» )‪ ،‬ويف املستقبل ستنتقل هذه العقلية ليشء آخر‪ .‬إنها عقلية عبادة البضائع‪ ،‬ذات‬
‫فرص النجاح املكافئة لفرص نجاح بناة مهابط الطائرات الكادحني يف أدغال جزر جنوب‬
‫املحيط الهادي‪.‬‬

‫ل أساس لصحة الدعاء القائل بأن التصنيع هو العامل الوحيد الذي يفيض إىل اغتناء‬
‫البلدان‪ .‬مل تحقق نيوزيلندا ازدهارها إل بعد تخليها عن محاولت فرض التصنيع (عرب‬

‫‪57‬‬
‫سياسات «الستعاضة عن الواردات» «واملنتجات املحلية»‪ ،)2‬وسامحها للمزارعني والصيادين‬
‫بالبتكار‪ ،‬والسترياد‪ ،‬والتصدير‪ ،‬وإخضاع منتجاتهم لالختبار يف مجال السوق‪ 3.‬ويف الهند‬
‫مل يكن منو مراكز التصال والتعاقدات الخارجية ملعالجة البيانات متوافقًا مع منوذج عبادة‬
‫البضائع‪ ،‬ولكنه حقق الرخاء للماليني يف الهند‪ ،‬وق ّدم خدمات قيّمة للماليني غريهم داخل‬
‫الهند وخارجها‪ .‬ومثل هذا البتكار غري املخطط له‪ ،‬والذي يقع عىل طرف النقيض من منوذج‬
‫«السياسة الصناعية»‪ ،‬ولَّد صناعة تكنولوجيا معلومات حيوية وناجحة أتاحت ألفراد من‬
‫القرى‪ ،‬م ّمن كان آباؤهم يعملون تحت أشعة الشمس مقابل بضع روبيات يف اليوم (وأحيانًا‬
‫مل يكن لديهم سوى بنطال واحد يشرتك به جميع أطفالهم‪ ،‬أي أنه مل يستطع سوى طفل‬
‫واحد مغادرة كوخ األرسة مرتديًا البنطال)‪ ،‬أتاحت لهم فرص النتقال إىل العمل يف مكاتب‬
‫مك ّيفة عىل أجهزة الحاسوب؛ والتخطيط يف بيوتهم بشأن مستقبل تعليم أطفالهم ورحالتهم‬
‫خارج البالد‪.‬‬

‫مثل الكثريين يف مجال اقتصاديات التنمية‪ ،‬فإنّنا من ّهد لفكرة املؤسسات بوصفها‬
‫صا رئيس ًيا يف تحويل الفقر إىل الزدهار‪ ،‬ولكن بحيلة‪ .‬فالكثري ممن يرفضون عقلية‬
‫عن ً‬
‫عبادة البضائع يف ميدان التصنيع يتب ّنونها بقوة عندما يتعلق األمر باملؤسسات‪ .‬فهم‬
‫يعتقدون أنك إذا أنشأت مم ًرا لهبوط طائرات لجنة األوراق املالية والصف‪ ،‬فثق متا ًما بأ ّن‬
‫سوق األوراق املالية سيحطّ فيه‪ .‬أو أنّك إذا بنيت بر ً‬
‫جا ملراقبة الحركة الجوية للبنك املركزي‪،‬‬
‫سجل القانون‬
‫ّ‬ ‫سيهبط أمامك نظا ٌم مايل معقد‪ .‬أو أنّك إذا ترجمت القانون املدين الفرنيس (أو‬
‫األملاين أو أيًا غريه) فسوف يكتشفك نظا ٌم قانوين يعمل بكفاءة‪ ،‬ومينحك سيادة القانون‬
‫والرثوة الهائلة‪ .‬مثل هذه العقلية –والتي ر ّوج لها باسم التطوير– هي مجرد مرحلة متقدمة‬
‫بدل من تحسني شكل سامعات األذن‪ ،‬التفت دعاتها إىل‬
‫من عقلية عبادة البضائع‪ ،‬ولكن ً‬
‫املدرج أو برج مراقبة الحركة الجوية‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫جاءت التحسينات الطبية التي خفضت معدلت وفيات األطفال‪ ،‬وزيادة متوسط العمر‬
‫املتوقع مثر ًة للتدابري الصحية‪ ،‬واللقاحات‪ ،‬واملضادات الحيوية‪ ،‬والعمليات الجراحية وغريها‬
‫وحسنت املامرسات الجديدة واألفضل للسباكة –وكان منها التحسني الذي‬
‫ّ‬ ‫– وكلها ابتكارات‪.‬‬
‫أدخله يف العام ‪ 1888‬توماس كينيدي عىل نظام املرحاض الذي يعمل باملياه املتدفقة‬
‫املعروف اآلن‪ ،4‬والذي أضاف عليه رسي ًعا جورج يب هاول تحسينًا متثّل يف خزان دورة‬
‫حسنت من «السباكة الداخلية»‪ ،‬وأتاحتها لرشيحة أكرب من الناس‪ ،‬وهي ابتكار أدى‬
‫املياه – ّ‬
‫‪5‬‬

‫إىل الرتقاء بالحياة بشكل إجاميل‪.‬‬

‫كام يتذكر توم استخدام مرحاض خارجي‪ ،‬كان عبار ًة عن ثقب يف مقعد خشبي فوق‬
‫دلو يف كشك خشبي‪ ،‬عند زيارة أجداده (أو يف الغابة‪ ،‬عند زيارة أقارب زوج توم يف‬
‫تايالند)‪ .‬أسهمت السباكة الداخلية بصورة كبرية يف النظافة الصحية وطول العمر‪ .‬وقللت‬
‫حسنة‪ ،‬واألسمدة القامئة عىل تثبيت النيرتوجني من الهواء‪،‬‬
‫اآللت الزراعية‪ ،‬والبذور امل ّ‬
‫العامل الالزمة إلنتاج الغذاء؛ ومكّنت‬
‫والكثري غريها من البتكارات قللت بشكل كبري من نسبة ّ‬
‫األفراد من مغادرة املزارع ليصبحوا مهنديس طريان‪ ،‬وسائقي حافالت‪ ،‬وفن ّيي طائرات‪،‬‬
‫ومهندسني بيولوجيني‪ ،‬ومصممي مواقع إلكرتونية –وجميع هذه املهن مل تكن موجودة يف‬
‫زمن ولدة أجداد توم– أو من زيادة عدد الحالقني‪ ،‬وأساتذة األدب‪ ،‬وسقايئ الحانات‪،‬‬
‫ومعلمي املدارس الثانوية‪ ،‬وعامل البناء‪ ،‬وعامل الكهرباء‪ ،‬وعامل متاجر البقالة‪ ،‬وعامل‬
‫تنسيق الحدائق‪ .‬س ّهلت العمليات املصفية اإللكرتونية‪ ،‬وصناديق الستثامر املشرتك‪،‬‬
‫وماكينات الصاف اآليل‪ ،‬وغريها الكثري‪ ،‬عىل غالبية الناس الوصول إىل أرصدتهم حسب‬
‫حا يف‬
‫الحاجة‪ ،‬والدخار‪ ،‬واستثامر مدخراتهم يف أشكال أكرث مرونة وتنو ًعا مام كان متا ً‬
‫أصال‪.‬‬
‫صا عىل من هم أثرياء ً‬
‫السابق‪ ،‬أو مام كان مقت ً‬

‫وبسبب ارتفاع دخل العاملة‪ ،‬اقتنى األغنياء اآللت لغسل املالبس واألطباق بدلً من‬

‫‪59‬‬
‫توظيف الخدم الشخصيني‪ .‬أصبحت الوظيفة هي املساهمة التي ارتفع سعرها يف حني‬
‫انخفضت األسعار األخرى؛ وثبتت فائدة هذا األمر األكيدة بالنسبة لنا نحن الذين نقتات من‬
‫عملنا‪ ،‬ل من األرايض أو رأس املال املوروث‪ ،‬مع مالحظة أن أفراد هذه الطبقة أيضً ا حصلوا‬
‫عىل املزيد من السلع والخدمات مقابل الدولر‪ .‬أصبحت ابتكارات الغسالت وجاليات‬
‫الصحون وغريها الكثري متاحة لعدد متزايد من الناس‪ ،‬إذ أصبح لدى كل أرسة تقريبًا يف‬
‫البلدان الغنية غسالة عىل األقل؛ وبفضل وجود الغسالة‪ ،‬زادت نسبة أوقات الفراغ وغريها‬
‫من تسهيالت الحياة‪ .6‬مل يكن كافيًا اخرتاع أجهزة املذياع‪ ،‬والتلفاز‪ ،‬والهواتف املحمولة‪ ،‬إذ‬
‫توجب تكييفها مرا ًرا وتكرا ًرا بهدف اإلتجار الرابح بها‪ ،‬مبا يف ذلك التسويق‪ ،‬والتصنيع‪،‬‬
‫والتوزيع؛ مبعنى أنها أصبحت ابتكارات‪ .‬ومثلها مثل الدراجات والسيارات‪ ،‬فقد ظهرت‬
‫دمى بيد األغنياء‪ ،‬لكن رسعان ما أصبحت أدوات لدى الفقراء‪.‬‬
‫باعتبارها ً‬

‫يف الوقت الحايل‪ ،‬حتى أفقر البلدان العامل اليوم تحظى بالرعاية الصحية‪ ،‬والعناية‬
‫باألسنان‪ ،‬واللقاحات‪ ،‬والتواصل‪ ،‬وفرص السفر‪ ،‬وعدد ل يحىص من وسائل الراحة التي مل‬
‫تكن متاحة (بل مل ميكن تصورها) يف زمن مولد أجداد توم‪ .‬فلنأخذ الرعاية الطبية باألسنان‬
‫كمثال‪ .‬لن يرغب الكثري من الناس حال ًيا يف البلدان متوسطة الدخل يف مستوى رعاية‬
‫األسنان التي كانت متاح ًة حتى ألغنى األشخاص يف أغنى البلدان يف العامل قبل ثالثني عا ًما؛‬
‫فقد أحدثت البتكارات املذهلة تحولً جذريًا يف رعاية األسنان – ابتكارات مثل طب األسنان‬
‫غري املؤمل‪ ،‬وزراعة األسنان‪ ،‬والطباعة ثالثية األبعاد‪ ،‬والختام السني بجهاز التصليب الضويئ‬
‫السني‪ .‬وتأ ّمل يف تاريخ اإلضاءة‪ .‬وفق ما أوضح الخبري القتصادي الحائز عىل جائزة نوبل‬
‫وليام نوردهاوس‪ ،‬فقد انخفض حجم العمل الالزم إلنتاج اإلضاءة من ‪ 50‬ساعة لكل ‪1,000‬‬
‫ساعة لومن إىل ‪ 41.5‬ساعة بني العام ‪ 9000‬قبل امليالد والعام ‪ 1750‬ميالدية‪ .‬لكن ينبغي‬
‫األخذ بالحسبان أنه يف الخمسني عا ًما من ‪ 1750‬حتى ‪ 1800‬انخفض من ‪ 41.5‬ساعات‬
‫إىل ‪ 5.4‬ساعات‪ ،‬وهو أكرب بكثري مام كانت عليه يف العرشة آلف وسبعمئة وخمسني سنة‬

‫‪60‬‬
‫السابقة عىل ذلك‪ .‬بحلول العام ‪ ،1890‬عندما ولد أجداد توم‪ ،‬انخفض إىل ‪ 8‬دقائق‪ .‬من ذلك‬
‫قليال‬
‫الوقت حتى العام ‪( 1992‬عندما توقف نوردهاوس عن القياس) انخفض إىل ما يزيد ً‬
‫عىل ‪ 4‬ثوان‪ 7.‬ومبعث العجب ليس مجرد توفّر املزيد من الضوء‪ ،‬واملتمثّل يف ازدياد نسبة‬
‫إنارة الشوارع؛ بل يف حقيقة أنه ضوء أفضل – فهو متاح وقتام نريده‪ ،‬وحيثام نريده‪،‬‬
‫ومتوفر بألوان متعددة متغرية‪ ،‬مثل األنواع الجديدة من املصابيح الكهربائية القابلة للربمجة‪،‬‬
‫‪8‬‬
‫واملتصلة بشبكة اإلنرتنت الالسلكية‪ ،‬واملف ّعلة بالصوت‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬قلّام تحظى تلك التغيريات الجذرية يف مستويات املعيشة والعديد من التغيريات‬
‫األخرى بالتقدير‪ .‬إىل ح ٍّد ما‪ ،‬قد يكون من حسن الحظ اعتبار كل هذه التحسينات أم ًرا مسل ًّام‬
‫به‪ .‬عندما يذكر كبار السن كيف تغريت األمور مقارن ًة بسنوات صغرهم‪ ،‬يصاب املستمعون‬
‫ريا عىل األقدام‬
‫يل أن أذهب إىل املدرسة س ً‬
‫بالسأم الفوري‪ ،‬ويتحول الحديث إىل قصة‪« :‬كان ع ّ‬
‫كل يوم‪ ...‬يف الثلج‪ ...‬يف طريق صاعد‪ ...‬ذهابًا وإيابًا!» وبغض النظر عن امللل املالزم لهذه‬
‫القصة‪ ،‬فال ميكن نكران أنه بالنسبة ملعظم الناس يف معظم البلدان‪ ،‬حتى أفقرها‪ ،‬تحسنت‬
‫الظروف املادية للحياة بصورة هائلة خالل القرن املايض‪ ،‬مثلام حصل خالل العقد املايض‪.‬‬
‫لكن أللوف السنني قبل ذلك‪ ،‬مل تتحسن ظروف الحياة أب ًدا‪ .‬وفقًا ملعايري اليوم‪ ،‬كانت حياة‬
‫الغالبية العظمى من الناس قصري ًة يشوبها شظف العيش الطاحن‪ .‬غال ًبا ما ننظر إىل املايض‬
‫بنظرة غري واقعية‪ ،‬ألن معظم الوثائق التي وصلتنا كتبها –وكتبت عن حياة– أغنى وأكرث‬
‫الشخصيات نفوذًا يف عصهم؛ ومل يكتبها ومل تكن عن الجامهري الصامتة املغمورة التي‬
‫كابد أفرادها الفاقة‪ ،‬وعانوا‪ ،‬وماتوا مجهولني‪ ،‬مل توثّق حياتهم‪ ،‬ومل يحتف بها‪ ،‬وطواها‬
‫النسيان‪.‬‬

‫عرب املؤرخان نيثان روزنربغ وإل إي بريدزيل جونيور عن األمر أحسن تعبري بقولهم‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪61‬‬
‫تفحصنا التاريخ البرشي بصورة شاملة‪ ،‬وحكمنا عىل الحياة القتصادية ألسالفنا‬
‫ّ‬ ‫إذا‬
‫باملعايري املعارصة‪ ،‬فلن تعدو كونها قصة من البؤس الذي ندر وجود مف ّر منه‪ .‬مل‬
‫يتح املجتمع البرشي النموذجي حيا ًة آدمية سوى ألقل القليل من الناس‪ ،‬يف حني‬
‫عاشت الغالبية العظمى يف شقاء ل قاع له‪ .‬منيل إىل تنايس شظف العيش السائد‬
‫يف العصور األخرى‪ ،‬ومر ّد ذلك جزئيًا إىل األدب‪ ،‬والشعر‪ ،‬واملالحم‪ ،‬واألساطري التي‬
‫تحتفي بأولئك الذين عاشوا بهناء‪ ،‬وتنىس أولئك الذين عاشوا يف صمت الفقر‪ .‬لقد‬
‫ح ّولت عصور التعاسة إىل أساطري‪ ،‬وميكن استذكارها بوصفها العصور الذهبية‬
‫‪9‬‬
‫للبساطة الرعوية‪ .‬بيد أنها مل تكن كذلك‪.‬‬

‫تحسن مستويات معيشة الجامهري طوال القرنني املاضيني‪ ،‬فإن أساطري العصور‬
‫حتى مع ّ‬
‫الذهبية لالزدهار املايض مل تتب ّدد بعد التجارب املعاشة ملاليني األشخاص الذين أصبحت‬
‫حياتهم أكرث ثرا ًء من حياة آبائهم‪ .‬فقد رافقتنا أساطري العصور الذهبية املفقودة ألزمنة‬
‫الرخاء‪ ،‬والفضيلة‪ ،‬والهناء منذ العص الحديدي أو ما قبله‪ .‬حتى يف خض ّم الرتفاع املبهر‬
‫يف مستويات املعيشة يف تاريخ العامل‪ ،‬يف منتصف القرن التاسع عرش‪ ،‬عندما أصبح‬
‫ملموسا بشكل واضح ألي شخص يعري املوضوع اهتاممه‪ ،‬أشار املؤرخ توماس‬
‫ً‬ ‫التحسن‬
‫بابينغتون ماكولي إىل أنه‪:‬‬

‫أصبح األمر من املوضة أن يقصد بالعص الذهبي إلنجلرتا تلك األزمنة التي كان فيها‬
‫النبالء يفتقرون إىل وسائل الراحة التي ل يطيق غيابها الخدم يف عصنا؛ األزمنة‬
‫التي كان فيها فطور املزارعني وأصحاب املتاجر عبارة عن نوع من أرغفة الخبز التي‬
‫من شأن مثيالتها أن تثري شغ ًبا يف إصالحية أحداث من عامل اليوم؛ والتي كان فيها‬
‫ارتداء قميص نظيف مرة واحدة يف األسبوع يعترب امتيازًا اقتص عىل الطبقة العليا‬
‫من النبالء‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫ببصريته النافذة‪ ،‬أدرك ماكولي أنه فيام بعد‪ ،‬فإن أسلوب حياة جيله سيعترب ل يطاق‬
‫حتى لدى أفقر فقراء القرن التايل‪.‬‬

‫ونحن بدورنا سوف يأيت من يتجاوزنا ويحسدنا يف الوقت ذاته‪ .‬وقد يشهد القرن‬
‫العرشين‪ ...‬العديد من وسائل الراحة والرفاهية غري املعروفة اآلن‪ ،‬أو املقتصة عىل‬
‫القلة القليلة‪ ،‬قد تكون متاح ًة حتى لكل عامل كادح ومقتصد‪ .‬بالرغم من ذلك‪ ،‬فقد‬
‫تروج كذلك فكرة التأكيد عىل أن زيادة الرثوة وتقدم العلم أفاد األقلية عىل حساب‬
‫‪10‬‬
‫الكثريين‪.‬‬

‫ما يزال الكثريون يف الوقت الحارض يرددون أن «زيادة الرثوة وتقدم العلم أفاد األقلية عىل‬
‫حساب الكثريين»‪ .‬لكن األمر ليس كذلك‪ .‬فلنذكر أنه عند ولدة أجداد توم‪ ،‬كان متوسط العمر‬
‫املتوقع للمواليد يف الوليات املتحدة ‪ 44‬عا ًما‪ .‬أما يف العام ‪( 2018‬آخر سنة تتوفر البيانات‬
‫عنها)‪ ،‬بلغ املتوسط العاملي ‪ 73‬عا ًما‪ .‬وجاء أدىن معدل يف العامل يف جمهورية أفريقيا‬
‫الوسطى (‪ 53‬عا ًما)‪ .‬أما أعىل نسبة فهي يف هونغ كونغ (‪ 85‬عا ًما)؛ تليها سويرسا‪ ،‬واليابان‪،‬‬
‫وماكاو (‪ 84‬عا ًما)؛ ثم إسبانيا‪ ،‬وسنغافورة‪ ،‬والسويد‪ ،‬وليختنشتاين‪ ،‬والرنويج‪ ،‬وكوريا‬
‫الجنوبية‪ ،‬وإيطاليا‪ ،‬وإرسائيل‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬وجزر فارو‪ ،‬وأسرتاليا (‪ 83‬عا ًما)‪ .‬وبعض الدول‬
‫التي تتب ّوأ أعىل املراتب حال ًيا‪ ،‬كانت يف مصاف الدول األدىن منذ زمن ليس ببعيد‪ .‬ومن غري‬
‫املستغرب أن يرتبط متوسط العمر املتوقع ارتباطًا وثيقًا مبعدل الدخل الفردي‪ ،‬فاملتوسط يف‬
‫البلدان ذات الدخل املرتفع هو (‪ 81‬عا ًما) أي أعىل بسبعة عرش عا ًما منه يف البلدان منخفضة‬
‫‪11‬‬
‫الدخل (‪ 64‬عا ًما)‪ .‬والجدير بالذكر أن تلك الفجوة قد ضاقت بشكل ملحوظ عىل مر السنني‪.‬‬

‫بعد النتهاء من التفسريات املسهبة عن مدى مالءمة الحياة واتّسامها بالوفرة يف الوقت‬

‫‪63‬‬
‫الحارض مقارن ًة باملايض القريب‪ ،‬يؤكد التجاه الثاين الرافض لالزدهار املتنامي عىل توزيعه‬
‫غري العادل‪ .‬ويأيت بعد ذلك الدعاء بأن ثروة بلد ما أو مجموعة ما مر ُّدها بصورة حصية أو‬
‫بدرجة كبرية إىل الظلم الذي يرتكب ضد اآلخرين‪ ،‬الذين يتسبّب إفقارهم بإثراء غريهم‪ .‬مع‬
‫التسليم بأن معدلت النمو القتصادي تتباين بشكل كبري فيام بني البلدان‪ ،‬ورغم أن الدعاءات‬
‫بتزايد عدم املساواة قابلة للنقاش‪ ،‬فقد شهدت بعض البلدان ارتفا ًعا يف األجور بنسبة أرسع‬
‫من غريها‪ .‬أما الدعاء السابق‪ ،‬أن ارتفاع الدخل يف بعض الدول سببه الزيادات األقل يف‬
‫غريها من الدول‪ ،‬فهو ادعاء باطل‪ .‬فالبتكارات ليست مثل قطع الفطرية الثابتة‪ ،‬مام يحتّم‬
‫عىل إحدى القطع أن تكون أصغر ليكون غريها أكرب‪ .‬يف الواقع‪ ،‬يكاد يكون أم ًرا مقطو ًعا به‬
‫أميا بلد –وبوترية رسيعة– ل ب ّد ستنتقل إىل بلدان أخرى‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫أن البتكارات الناشئة يف ّ‬
‫تحسنها‪ ،‬بإضافات ومكونات جديدة‪.‬‬
‫فالبتكارات ل تجعل الفطائر أكرب فحسب‪ ،‬بل ّ‬

‫البتكار وريادة األعامل‬


‫مثة إجامع عىل نطاق واسع أن أي فهم للنمو القتصادي يجب أن يأخذ بعني العتبار دور‬
‫«رائد األعامل»‪ ،‬الشخص الذي يضطلع باملشاريع‪ .‬وتسمية «رائد أعامل» ل تستلزم كون الفرد‬
‫ألي طبقة اجتامعية أو مجموعة إثنية محددة – فريادة األعامل هي سمة من سامت‬
‫منتميًا ّ‬
‫جا مثاليًا»‪ .‬إذ متارس املرأة‬
‫النشاط البرشي التي ميكن عزلها ودراستها باعتبارها «منوذ ً‬
‫الفقرية ريادة األعامل عندما تقيم كشك بيع يف شوارع السوق املحلية‪ .‬كام ميارسها الرجل‬
‫الفقري عندما يدرك أنه يستطيع جني املزيد من املال ألرسته عن طريق عمله يف منجم ذهب‬
‫يف جنوب إفريقيا‪ .‬إذًا‪ ،‬ل يقتص مفهوم ريادة األعامل عىل أمثال إديسون‪ ،‬أو فورد‪ ،‬أو‬
‫بيزوس‪ ،‬أو ماسك‪ ،‬أو إبراهيم‪ ،‬أو ماس‪ .‬جميعنا ميارس ريادة األعامل بصورة أو بأخرى‪.‬‬
‫فهي ليست خاصية جامدة‪ ،‬بل سم ٌة من سامت النشاط البرشي‪.‬‬
‫من املؤسف أن يص ّنف تكوين الرثوات تحت مصطلح «القتصاد»‪ ،‬والذي يستدعي إىل‬
‫الذهن‪ ،‬عىل نحو غري مفاجئ‪ ،‬سلوك «ال ّدخار»‪ .‬ول ميكن اختزال ريادة األعامل يف «الدخار»‬
‫‪64‬‬
‫فحسب‪ ،‬أي مج ّرد توزيع املوارد الشحيحة عىل استخدامات متضاربة‪ .‬فالدخار يفرتض‬
‫استخدامات معروفة لكميات معروفة من املوارد املعروفة‪ .‬فهذه مجرد عملية حسابية‪ .‬ميكنك‬
‫استئجار خدمات حامل ماجستري يف إدارة األعامل لينفذ ذلك أو الكتفاء برشاء آلة حاسبة‪.‬‬
‫أما ريادة األعامل فهي ما يحتاجه البرش للتعامل مع الستخدامات غري املعلومة لكميات غري‬
‫معروفة من املوارد غري املعروفة‪ ،‬باإلضافة إىل الحتياجات املجهولة واألفكار غري املعهودة‪.‬‬
‫أفاد العامل القتصادي والحاخام إرسائيل كريزنر أن‪« :‬النباهة واجب ٌة لكتشاف‪ ...‬الفرص غري‬
‫املستثمرة‪ .‬والعمليات الحسابية وحدها ل تجدي؛ ول يؤدي الدخار والرتشيد يف حد ذاتهام‬
‫‪12‬‬
‫إىل اكتساب هذه املعرفة»‪.‬‬
‫ريادة األعامل هي ملك ٌة تتعامل مع عدم اليقني‪ ،‬واملخاطر‪ ،‬واإلبداع‪ ،‬واملفاجأة‪ .‬وميكن أن‬
‫تكون أم ًرا عاديًا ويوم ًيا‪ ،‬مثل مالحظة أن سلع ًة ما تباع بسعر أعىل يف البلدة املجاورة‪ ،‬مام‬
‫يعني أنه ميكن للمرء ركوب دراجة ومحاولة الرشاء بسعر منخفض من هناك والبيع بسعر‬
‫مرتفع ههنا؛ وميكن لريادة األعامل أن تكون ثوريةً‪ ،‬مثل تص ُّور التوصيل املبارش إىل غرفة‬
‫معيشتك ألي فيلم من ألوف األفالم التي تختارها‪ ،‬وقتام تريد‪.‬‬

‫ربطت إحدى أوىل الدراسات املنهجية عن رواد األعامل الريادة بعالقة مع عدم اليقني‬
‫واملخاطر‪ .‬يف منتصف القرن الثامن عرش‪ ،‬كتب ريتشارد كانتيلون‪ ،‬املصيف األيرلندي الذي‬
‫مقال عن طبيعة التجارة‪ .‬وميكن استنتاج أن كانتيلون كان يعيش‬
‫كان يعمل يف باريس‪ ،‬كتب ً‬
‫يف باريس عندما أشار إىل سكان املدينة يف كتابه بحثٌ يف طبيعة التجارة بصفة عامة‪:‬‬

‫باستثناء النبيذ‪ ،‬فمن النادر أن تخ ّزن العائالت املؤن‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬يعيش معظم سكان‬
‫املدينة عىل أساس يومي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬بوصفهم أكرب رشيحة مستهلكني‪ ،‬فهم يف وضع ل‬
‫يخ ّولهم تخزين السلع القادمة من الريف‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬يربز العديد من سكان املدن‬
‫بوصفهم تجا ًرا أو رواد أعامل عرب رشاء محاصيل الريف من أولئك الذين يجلبونها‪ ،‬أو‬
‫‪65‬‬
‫ترتيب توصيلها عىل حسابهم‪ .‬يدفعون سع ًرا معينًا مقابلها‪ ،‬وف ًقا للمكان الذي تباع فيه‪،‬‬
‫‪13‬‬
‫من أجل إعادة بيعها‪ ،‬إما بالجملة أو بالتجزئة‪ ،‬بأسعار متفاوتة‪.‬‬

‫مل يع ّرف كانتيلون رائد األعامل باعتباره منتميًا لطبقة اجتامعية أو مهنة معينة‪ .‬بل عىل‬
‫القامشني‬
‫النقيض من ذلك‪ ،‬مل يقص صنف رواد األعامل عىل تجار النبيذ‪ ،‬بل ألحق بهم ّ‬
‫واملزارعني كذلك‪ ،‬ألنهم يواجهون حالة من عدم اليقني عند رشائهم بسعر معني بهدف البيع‬
‫بسعر غري مؤكد‪« :‬املزارع هو رائد أعامل يتع ّهد –دومنا يقني تا ّم بشأن املكاسب التي‬
‫والقامش‬
‫ّ‬ ‫سيحققها من املرشوع– بدفع مبلغ ثابت من املال للاملك مقابل مزرعته أو أرضه»‪« .‬‬
‫هو رائد أعامل يشرتي القامش واملواد من الرشكة املصنعة بسعر معني‪ ،‬بهدف بيعها بسعر‬
‫‪14‬‬
‫غري مؤكد‪ ،‬لعدم قدرته عىل التنبؤ بالكمية التي قد تستهلك»‪.‬‬

‫وبنا ًء عليه‪ ،‬فإن رائد األعامل يكابد حال ًة من عدم اليقني‪ .‬فهو يشرتي سلع ًة ما بسعر معني‬
‫لبيعها بسعر غري مؤكد‪ ،‬لكنه يأمل أن يبيع بسعر أعىل مام دفعه‪ .‬ويعترب هذا الفارق بني‬
‫السعر املدفوع والسعر املستلم هو الربح‪ ،‬إذا كان موج ًبا‪ ،‬والخسارة‪ ،‬إذا كان سال ًبا‪ .‬قد يكون‬
‫بعض الناس أكرث وع ًيا بهذه الفروق املحتملة من غريهم‪ .‬كام قد يدركون ما «ميكن أن يكون»‬
‫وليس مجرد «ما هو موجود»‪ .‬ومن األمثلة عىل مامرسة ريادة األعامل هو وضع تص ّور لدمج‬
‫العجالت بحقائب السفر لجعل عملية سحبها أو دفعها أسهل من «ج ّرها بجهد»‪( .‬وتجدر‬
‫اإلشارة إىل أ ّن فكرة تركيب العجالت عىل حقائب السفر هي –يف الحقيقة– أكرث تعقي ًدا من‬
‫مجرد لحظة اإلدراك «واعجبي! ملاذا مل يفكر أحد بهذا من قبل؟!»‪ ،‬وف ًقا ملا وثّقه كاتب العلوم‬
‫مات رايديل يف كتابه كيفية عمل البتكار‪.)15‬‬

‫بطبيعة الحال‪ ،‬ل تقتص اليقظة لقتناص فرص الربح عىل أنشطة تكوين الرثوة ذات‬
‫املنفعة املتبادلة‪ ،‬بل مت ّيز كذلك ما يطلق عليه خرباء القتصاد السعي وراء الريع‪ ،‬وقد يسميه‬

‫‪66‬‬
‫اآلخرون الرسقة املقنّنة‪ ،‬أو الفساد‪ ،‬أو النهب‪ .‬ميّز عامل القتصاد وليام باومول بني ريادة‬
‫األعامل املنتجة وريادة األعامل غري املنتجة أو حتى املد ّمرة‪ .‬عىل مر السنني‪ ،‬انخرط قطاع‬
‫الطرق والحكام الجشعون يف الكثري من مامرسات ريادة األعامل (حتى أننا نشهد ذلك اآلن‬
‫يف الوقت الحارض‪ ،‬إذ يواصل قراصنة الحاسوب تحسني «برامج الفدية» وغريها من‬
‫املامرسات الخبيثة)‪ ،‬إمنا عىل حساب الرثوة اإلجاملية‪ .‬ودامئًا ما تكون املكاسب التي يحققها‬
‫قراصنة الحاسوب الناجحني أقل من الرضر الذي يلحق بضحاياهم وبأولئك الذين يشرتون‬
‫برامج مكافحة الفريوسات واألمن لئال يقعوا ضحايا أولئك املخرتقني‪ .‬وعىل حد تعبري‬
‫باومول‪:‬‬

‫ي ّتضح أن هذا النوع من اإلجراءات الريادية يختلف اختالفًا شدي ًدا عن البدء بعملية‬
‫صناعية لتوفري التكلفة أو منتج استهاليك جديد ق ّيم‪ .‬من نافلة القول إن أي فرد يسعى‬
‫ملراكمة الرثوة عرب الستيالء القرسي عىل ممتلكات اآلخرين ل يق ّدم إسها ًما يف املنتج‬
‫القومي‪ .‬واألثر الصايف قد ل يكون مجرد تحويل‪ ،‬إمنا انخفاض صاف يف الدخل‬
‫‪16‬‬
‫الجتامعي والرثوة‪.‬‬

‫لحظ الوعد املفهوم ضم ًنا يف الفروق التي يستخلصها باومول‪:‬‬

‫إذا تبنّى املجتمع إعادة توزيع جهود ريادة األعامل باعتبارها هدفًا‪ ،‬فتحقيق ذلك عرب‬
‫تغيري القواعد التي تحدد املكاسب النسبية أسهل بكثري من تعديل أهداف رواد األعامل‬
‫‪17‬‬
‫الحاليني واملحتملني‪.‬‬

‫البتكار غري املرخص له‪ ،‬أو افرتاض الحرية‪ ،‬قائ ٌم عىل الكرامة‬

‫‪67‬‬
‫ل تتمكن حتى أكرث الحكومات دكتاتوري ًة وعنفًا من فرض إرادتها لقمع اإلبداع البرشي إذا‬
‫كانت مفتقرة إىل الرشعية األيديولوجية من نوع ما‪ 18.‬إمنا يسهل خنق البتكار بسهولة بالغة‬
‫أول‪ ،‬مثة جهات راسخة ومتنفّذة ميكن أن تترضر مصالحها بسبب‬
‫يف حال تحقُّق رشطني‪ً .‬‬
‫ريا ما عارضت نقابات العامل يف القرون الوسطى البتكارات لهذا السبب‪ ،‬مثلام‬
‫البتكار‪ .‬كث ً‬
‫أوضحت املؤرخة شيال أوغيلفي‪ 19.‬ثانيًا‪ ،‬توجد حال ٌة عام ٌة من الرتياب والعداء تجاه‬
‫املبتكرين‪ ،‬ورواد األعامل‪ ،‬والتجار‪ .‬بالنتيجة‪ ،‬يف ّرق باومول بني القوانني التي تعيق كسب‬
‫الرثوة «والعار الجتامعي» الذي يعوق كسب الرثوة‪ ،‬وهو ما ب ّينه عرب التمييز بني املوقف‬
‫من التجارة يف العامل الروماين‪ ،‬والتي كانت عمو ًما مجال عمل العبيد املحررين‪ ،‬الذين‬
‫اعتربوا فاقدين للكرامة‪ ،‬واملوقف من التجارة يف العامل املعارص‪ ،‬والتي ارتبطت بارتفاع‬
‫مكانة رواد األعامل‪ ،‬واملبتكرين‪ ،‬والتجار‪ 20.‬إن تجاوز «العار الجتامعي» –اإلهانة– الذي‬
‫يوصم به املبتكرون‪ ،‬ورواد األعامل‪ ،‬والت ّجار هو الخطوة األوىل نحو إقرار حريتهم؛ وبهذه‬
‫جري طاقاتهم‪ ،‬ورؤاهم‪ ،‬وإقدامهم يف صالح خدمة اإلنسانية‪.‬‬
‫الحرية‪ ،‬ت َّ‬

‫واملفتاح لفهم افرتاض الحرية هو متييزه عام يعتربه الكثريون الخلفية املألوفة‪:‬‬
‫افرتاض القوة‪ .‬فمن جهة‪ ،‬هناك افرتاض القوة الذي عملت مبوجبه النقابات املهنية يف‬
‫القرون الوسطى‪ ،‬والذي كان يعني أنه من املفرتض أن جه ًة ما تحظى بالسلطة الرشعية ولها‬
‫أن ترفض منح اإلذن بالعمل؛ وأنه ينبغي عىل من يرغب بالتجارة أو البتكار تقديم التامس‬
‫ي‬
‫للحصول عىل اإلذن‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬هناك افرتاض الحرية‪ ،‬الذي يقيض بأنه يف حالة أ ّ‬
‫فرد يعزم عىل مامرسة حريته‪ ،‬من املفرتض أنه يتمتع باإلذن املطلق لفعل ذلك‪ ،‬ما مل يوجد‬
‫سبب كاف لتقييده أو منعه‪ .‬ويقع عبء تقديم األدلة عىل من يو ّد تقييد الحرية‪ ،‬وليس عىل‬
‫ٌ‬
‫من ميارسها‪ 21.‬رسعان ما يتبادر إىل الذهن إلحاق الرضر بحقوق اآلخرين‪ ،‬واملؤثرات‬
‫الخارجية السلبية‪ ،‬كالتلوث‪ ،‬باعتبارها أسبابًا ميكن أن تبطل افرتاض الحرية‪ .‬إمنا‪ ،‬كام‬

‫‪68‬‬
‫أوضح جون ستيوارت ميل‪ ،‬ل يوجد «حق» يف الحامية من املنافسة املرشوعة‪ ،‬ما عدا ضد‬
‫اإلكراه أو الحتيال‪.‬‬

‫وف ًقا لعامل القتصاد والفيلسوف السيايس أنتوين دي ياساي‪ ،‬فافرتاض الحرية يعني‬
‫حا –ول يجوز التدخل فيه‪ ،‬أو ضبطه‪ ،‬أو‬
‫«أن أي فعل يرغب الشخص بفعله يعترب مسمو ً‬
‫سبب كاف يف عدم كونه جائ ًزا»‪ 22.‬وضّ ح ياساي‬
‫فرض رضائب عليه‪ ،‬أو معاقبته– ما مل يق ّدم ٌ‬
‫افرتاض الحرية بأنه «نتيجة لالختالف بني وسيلتني لختبار صحة املقولة – أي‪ ،‬التلفيق‬
‫‪23‬‬
‫بني»‪.‬‬
‫والت ّ‬

‫كل من افرتاض الحرية وافرتاض الرباءة يف املحكمة إىل نفس القيود املعرفية‬
‫يحتكم ٌّ‬
‫التي نواجهها جمي ًعا‪ .‬ما من أحد كامل الحكمة لدرجة متنحه العلم املسبق بكافة النتائج‬
‫املمكنة ومآلتها‪ .‬طب ًعا يف العصور السابقة‪ ،‬ادعى امللوك أنهم يحكمون وفقًا للحق اإللهي‪،‬‬
‫أو التف ّوق العرقي‪ ،‬أو غريها من السامت التي تضعهم يف مكانة فوق الجميع‪ ،‬والتي تعيل‬
‫كرامتهم فوق كرامتنا‪ .‬أما العص الحديث فهو عص املساواة يف الكرامة‪ ،‬ويرافق ذلك‬
‫افرتاض الحرية‪ .‬إن الحفاظ عىل الكرامة يعني توفري أساس للحرية‪ ،‬يف حني أ ّن صون‬
‫الحرية يجعل إثبات الكرامة أم ًرا ممك ًنا‪.‬‬

‫ينسب الفضل يف جعل العامل املعارص ممكنًا إىل التغيري يف مكانة الذين سلكوا‬
‫طريق ريادة األعامل‪ ،‬وأصبحوا مبتكرين‪ ،‬أي التغيري يف الفرتاضات التي تحكمهم؛ ورغم‬
‫انعدام الثقة والكراهية املستمرتني بحق أولئك الذين يبدو أنهم يستحرضون الرثوة من الفراغ‬
‫عن طريق الصافة والبتكار‪ ،‬ولد عاملنا املعارص الذي تحظى فيه شخصيات مثل كالبانا‬
‫ساروج وستيف جوبز بالحرتام عىل نطاق واسع –إن مل نقل عىل نطاق عاملي– بدلً من‬
‫اعتبارها شخصيات مكروهة ومخيفة عىل نطاق شبه عاملي‪ ،‬مثلام كان الحال عليه يف‬

‫‪69‬‬
‫العصور املاضية‪ .‬فلنتذكر وصف فولتري لألرستقراطيني الفرنسيني الذين يستهزئون‬
‫بألقابهم وينظرون إىل «الت ّجار نظرة استصغار شديدة الزدراء»‪ .‬وتتمثل املشكلة األكرب يف‬
‫‪24‬‬
‫حقيقة أن العديد من التجار كانوا «حمقى لشعورهم بالخجل من مهنهم»‪.‬‬

‫وعندما يكون التجار واملبتكرون «حمقى لدرجة شعورهم بالخجل من مهنهم»‪ ،‬يعترب‬
‫ذلك انتصا ًرا لجامعات املصالح املعارضة لالبتكار‪ ،‬وبالتايل لالزدهار العام‪ ،‬وهكذا تبقى‬
‫املجتمعات سادر ًة يف فقرها‪ .‬إن كرامة املرشوع‪ ،‬سواء كان مرشو ًعا يف التجارة أو تسهيلها‬
‫أو يف تقديم البتكارات‪ ،‬هي باب الرخاء الشامل واملشرتك‪.‬‬

‫يقرتح غورتشاران داس‪ ،‬الرئيس التنفيذي السابق لرشكة بروكرت آند غامبل إنديا‪،‬‬
‫ومفرس النصوص الفيدية‪ ،‬واملؤرخ القتصادي‪ ،‬والكاتب‪ ،‬واملثقف البارز‪ ،‬يقرتح ثالثية تض ّم‬
‫ّ‬
‫الكرامة‪ ،‬والحرية‪ ،‬والدارما (أو الفضيلة) باعتبارها مرتكزات أساسية للمجتمع الحر واملزدهر‪.‬‬

‫فالكرامة حقيقة اجتامعية‪ ،‬يف حني أن الحرية مفهوم اقتصادي وسيايس‪ .‬أحرز‬
‫الهنود يف الطبقة الوسطى قسطًا من الكرامة عندما حصلوا عىل الستقالل السيايس يف‬
‫العام ‪1947‬؛ واكتسبوا درج ًة أكرب منها عندما نالوا الحرية القتصادية يف العام ‪1991‬؛‬
‫لكنهم مل يشعروا باملعنى الحقيقي للكرامة‪ ،‬سوى اآلن‪ ،‬بعد عرشين عا ًما من النهضة‬
‫القتصادية للهند‪ ... .‬الحرية بدون كرامة احتقار الذات؛ والكرامة بدون الحرية تقتل األمل‬
‫‪25‬‬
‫يف تحقيق املكانة‪.‬‬

‫املكاسب املتحققة من التجارة والبتكار‬


‫يولّد التبادل الطوعي واملراجحة القيمة من خالل نقل البضائع والخدمات من مكان تعترب‬
‫فيه ذات قيمة منخفضة إىل مكان تكتسب فيه قيم ًة أكرب‪ .‬وتتوقع األطراف الراغبة يف التبادل‬

‫‪70‬‬
‫أصال‪ .‬ويستتبع ذلك أن تخلق‬
‫تحقيق الستفادة‪ ،‬ولول ذلك ملا كانت لتنخرط يف عملية التبادل ً‬
‫عرب عن ذلك آدم سميث‪« :‬تقسيم العمل‬
‫الفرص األكرب ملثل هذا التبادل ثرو ًة أكرب‪ .‬أو كام ّ‬
‫مقيد مبدى السوق»‪ 26.‬كلام اتّسعت الشبكة‪ ،‬زادت املكاسب املتاحة للتداول‪ .‬ركز سميث عىل‬
‫تخصص أطراف‬
‫ُّ‬ ‫تقسيم العمل‪ ،‬وأضاف إليه ديفيد ريكاردو رؤية امليزة النسبية‪ ،‬أو كيفية‬
‫التبادل يف إنتاج تلك السلع والخدمات ذات تكلفة اإلنتاج املتفاوتة (واملفهوم ضمنًا أنها تعني‬
‫ما يجب عىل املنتج التخيل عنه إلنتاج السلعة) والتي تزيد من حاصل املنتج املشرتك‪ ،‬وهو‬
‫ما يجعل تحقيق درجة أكرب من املكاسب التجارية املشرتكة أم ًرا ممكنًا‪ .‬وما تق ّدم هو طريقة‬
‫وليتي مينيسوتا وفلوريدا يصبح‬
‫ّ‬ ‫ملتفّة شي ًئا ما للقول إن عدد الربتقال والتفاح املتاح لسكان‬
‫أكرب بكثري إذا تخىل سكان مينيسوتا عن محاولة زراعة أشجار الربتقال‪ ،‬والتي تتطلب‬
‫زراعتها عدم زراعة عدد كبري من أشجار التفاح؛ وإذا ّ‬
‫تخىل سكان فلوريدا عن زراعة التفاح‪،‬‬
‫وبدل من ذلك ركزوا عىل زراعة الربتقال‪.‬‬
‫ً‬ ‫والتي يصعب عىل أي حال زراعتها يف فلوريدا‪،‬‬
‫حا للجميع بوفرة‪.‬‬
‫وهكذا يصبح عدد الربتقال والتفاح أكرب‪ ،‬ويصبح متا ً‬

‫ميكن إلحراز املكاسب من التجارة‪ ،‬ومن إعادة توزيع العاملة املنتجة‪ ،‬ورأس املال أن‬
‫ريا جزئ ًيا للنمو القتصادي‪ ،‬ولكن كام أوضحت دييدره ماكلوسيك‪ ،‬فإنه ل يقدم‬
‫تقدم تفس ً‬
‫ريا دقي ًقا عىل اإلطالق بشأن الزيادة املذهلة يف نصيب الفرد الواحد من الرثوة عىل مدى‬
‫تفس ً‬
‫القرنني املاضيني‪ 27.‬ولتفسري ذلك‪ ،‬نحن بحاجة ألخذ البتكار يف الحسبان‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ينشأ‬
‫قدر كبري من املكاسب من التجارة من طرح منتجات‪ ،‬وخدمات‪ ،‬وأفكار‪ ،‬وتقنيات‪ ،‬وعمليات‬
‫جديدة‪ ،‬والتي سنعتربها ابتكارات إلثبات موقفنا‪ .‬ميكننا القول إن املكاسب من التجارة –‬
‫وف ًقا لتعريف آدم سميث وديفيد ريكاردو– قد وجدت منذ قديم الزمان‪ ،‬أما املكاسب الهائلة‬
‫للعص الحديث فهي مستج ّدة‪ ،‬وتنشأ من البتكار‪ .‬وقد تغري يش ٌء ما جعل البتكار محركًا‬
‫رئيس ًيا لتحسني ظروف حياة اإلنسان‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫قد تعرقل البتكارات إدراك طموحات أفراد املجتمع‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬تسبّب اخرتاع‬
‫القطار واملقطورات التي ل تجرها األحصنة يف اضطراب عامل النقل‪ ،‬وأجرب العديد من‬
‫صانعي الرسوج‪ ،‬واألربطة الطوقية‪ ،‬واأللجمة عىل البحث عن مهن أخرى؛ لكنهم أصبحوا‬
‫بعدها قادرين عىل الوصول إىل أماكن عملهم بشكل أرسع وأكرث راحة بالقطار‪ ،‬أو الحافلة‪،‬‬
‫أو السيارة‪ .‬أثرى عامل القتصاد النمساوي يوزيف شومبيرت فهمنا لريادة األعامل بإلحاق‬
‫أفكار عدم اليقني واليقظة مبك ّون اإلبداع‪ ،‬مبا مل يج ّرب ساب ًقا‪ ،‬بالبتكار‪ .‬ومن ثم‪:‬‬

‫تتمثل وظيفة رواد األعامل يف إصالح أو تثوير منط اإلنتاج من خالل استغالل اخرتاع‬
‫ما أو‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬إمكانية تقنية مع ّينة غري مج ّربة بهدف إنتاج سلعة جديدة‪ ،‬أو إنتاج‬
‫سلعة قدمية بأسلوب جديد‪ ،‬وذلك عرب النفتاح عىل مصدر جديد إلمدادات املواد أو‬
‫‪28‬‬
‫منفذ جديد للمنتجات‪ ،‬من خالل إعادة تنظيم صناعة مع ّينة وهكذا دواليك‪.‬‬

‫لكن ل يجوز اختزال البتكارات يف الخرتاعات امللهمة التي تأرس املخ ّيلة‪ .‬إذ دمجت‬
‫معظم البتكارات الكربى أو املؤثرة يف تاريخ البرشية ضمن سلسلة هائلة من التغيريات أو‬
‫ح ّتى تسببت يف إحداثها‪ .‬كام أن اخرتاع التصالت الالسلكية –الذي يقتفى تاريخه عاد ًة إىل‬
‫إرسال غولييلمو ماركوين يف العام ‪ 1910‬رسال ًة باستخدام شفرة مورس من بريطانيا إىل‬
‫كندا– كان مثر ًة للعديد من البتكارات السابقة يف اإلرسال الكهرومغناطييس‪ ،‬والتي يربز‬
‫من بينها اخرتاع ماركوين‪ .‬وبدوره م ّهد ذلك الخرتاع الدرب لسلسلة من البتكارات التي‬
‫نعرفها مثل التلفاز‪ ،‬واإلنرتنت‪ ،‬وأجهزة املايكرويف‪ ،‬والرادار‪ ،‬وجميع البتكارات الالحقة التي‬
‫نشأت من هذه الخرتاعات‪ ،‬من التصالت إىل الرتفيه إىل النقل إىل الطب وغريها من‬
‫املجالت‪.‬‬

‫قابال لالختزال يف لحظة «يوريكا» يصخ بها املكتشف أو‬


‫ناد ًرا ما يكون البتكار ً‬

‫‪72‬‬
‫املخرتع؛ ليس هذا فحسب‪ ،‬إذ ميكن يف الواقع أن يتمثّل البتكار يف طرح منتج ما أو عملية‬
‫ما يف سوق جديدة‪ ،‬وقد يكون أحدهام قيد الستعامل يف سوق أخرى؛ أو استخدامه بطريقة‬
‫جديدة؛ أو دمجه مبنتج أو عملية أخرى؛ أو تكييفه ليصبح أحد مكونات يشء مختلف‪ .‬تتألّف‬
‫أصال‪ ،‬وهذا ما أوصل‬
‫العديد من البتكارات القيّمة من تنويع عىل منتجات وعمليات موجودة ً‬
‫مات رايديل لنتيجة مفادها أن «معظم البتكارات تض ّم اإلبقاء املقصود لحالة التنويع عىل‬
‫‪29‬‬
‫التصميم األصيل»‪.‬‬

‫لالستمرار يف حالة اإلثراء العظيم‪ ،‬وتوسيع نطاقه ليشمل أعدا ًدا متزايدة من الناس‪،‬‬
‫يجب الحفاظ عىل ثقافة (أو‪ ،‬ثقافات) الكرامة وتوسيعها‪ .‬وهي ليست مسألة تتمثل يف‬
‫إصدار القوانني واللوائح اإلدارية املناسبة فحسب‪ .‬فالقانون ليس مجرد حرب عىل ورق‪ .‬ولكن‬
‫حالة اإلثراء العظيم تستمر من خالل معايري السلوك‪ .‬فقد أنقذ معيار افرتاض الرباءة العديد‬
‫من األبرياء من مصري الحرق أحيا ًء أو الرجم حتى املوت‪ .‬وأنقذ معيار افرتاض الحرية العديد‬
‫من البتكارات من املحرقة ومن تعقيدات البريوقراطية الالنهائية التي حلّت محل املحرقة يف‬
‫العص الحديث‪ .‬والكرامة هي همزة الوصل بني معايري السلوك والقانون‪ ،‬ألن كرامة الفرد‬
‫هي ما يدفعه لإلرصار عىل افرتاض حرية البتكار‪.‬‬

‫إن البتكار املنتج للرثوة (أو ما يس ّمى مفهوم «ريادة األعامل املنتجة» عند باومول)‬
‫فعال نات ًجا عن عقلية عبقرية نادرة‪ ،‬بل هو نظام معقد‪ .‬فهو يعمل بنجاح عندما تعتنق‬
‫ليس ً‬
‫كتل ٌة حرجة من الشعب افرتاض الحرية‪ ،‬وعندما ل ميتلك من لديهم املصلحة لخنق البتكار‬
‫‪30‬‬
‫والتجارة أدوات السلطة والرشعية األيديولوجية التي تتيح لهم ذلك‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫الكرامة والدميقراطية‬ ‫‪4‬‬

‫تقول إحدى الطروحات الشائعة‪« ،‬تأيت التنمية أوًلا ‪ ،‬وتأيت الدميقراطية ًلحقاا»‪.‬‬
‫مدخًل‬
‫ا‬ ‫ترى هذه الطروحة أن الدميقراطية قد تكون نتيجة للتنمية‪ ،‬لكنها ليست‬
‫قيًم فيها‪ً .‬ل ينكر أولئك الذين يقدمون رؤية كهذه عمو اما الرغبة يف الدميقراطية‬
‫ا‬
‫يف حد ذاتها‪ ،‬رغم أن بعضهم ينكر‪ ،‬لكنهم إما ًل يرون الدميقراطية متوافقة مع‬
‫التنمية‪ ،‬عند مستويات الدخل املنخفضة عىل القل‪ ،‬أو يرون العًلقة بني‬
‫الدميقراطية والتنمية كمقايضة‪ .‬يزعم البعض أن الدميقراطية تقوض التنمية‪ ،‬دون‬
‫مستويات معينة من دخل الفرد‪ ،‬حتى بلوغ عتبة دخل معينة تصبح عندها التنمية‬
‫الدميقراطية مستدامة ذات ايا‪.‬‬

‫وصف صامويل هنتنغتون وجون نيلسون بإيجاز «منوذج التنمية‬


‫التكنوقراطي‪ ،‬املتسم مبستويات مشاركة سياسية منخفضة‪ ،‬ومستويات استثًمر‬
‫مرتفعة (خاص اة اًلستثًمر الجنبي) ومنو اقتصادي‪ ،‬وتفاوتات متزايدة»‪« :‬يفرتض‬
‫هذا النموذج أنه يجب تقييد املشاركة السياسية‪ ،‬مؤقتاا عىل القل‪ ،‬لتعزيز التنمية‬
‫اًلقتصادية‪ ،‬وأن هذه التنمية تنطوي بالرضورة عىل زيادات مؤقتة عىل القل يف‬
‫تفاوت الدخل»‪ .‬ووفقاا لهنتنغتون ونيلسون‪« ،‬مثة رصاع بني توسيع املشاركة‬
‫السياسية والنمو اًلقتصادي الرسيع»‪ 1.‬ومر اة أخرى‪ ،‬ينصب الرتكيز عىل اًلستثًمر‪،‬‬
‫خاص اة اًلستثًمر الجنبي‪ ،‬كآلية جوهرية للنمو اًلقتصادي‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫وفقاا لقراءة فريد زكريا للتاريخ اًلقتصادي‪« ،‬قد يخلص املرء إىل أن البلد‬
‫الذي يحاول اًلنتقال إىل الدميقراطية عندما يكون نصيب الفرد فيه من الناتج‬
‫املحيل اإلجًميل بني ‪ 3,000‬و‪ 6,000‬دوًلر سينجح»‪ 2.‬دافع آخرون‪ ،‬من دعاة‬
‫«الدولة التنموية»‪ ،‬عن املزايا اًلقتصادية للمديرين التنفيذيني القوياء –وحتى‬
‫اًلستبداديني– للحكومات «املعزولة سياس ايا»‪ ،‬والبريوقراطيات املتًمسكة أو‬
‫اًلستحقاقية أو الفيربية‪ ،‬وحتى الديكتاتوريات‪ ،‬التي يُزعم أن آخرها «ميكنها التغلب‬
‫عىل مشاكل العمل الجًمعي داخل الحكومة وخارجها التي تعيق صياغة سياسة‬
‫متًمسكة‪ ،‬وتجاوز الضغوط الريعية والشعبوية‪ ،‬فتدفع بالتايل اًلقتصاد إىل مسار‬
‫منو أكرث كفاءة»‪ 3.‬يُزعم أن هذه الدول التنموية تعزز تراكم رأس املال واًلستثًمر‬
‫الفعال‪ ،‬اللذان يعتربهًم منارصوها خطأا «اآلليتني الجوهريتني اللتني تحددان النمو‬
‫عىل املدى الطويل»‪:‬‬

‫ما النظرية الساسية التي تربر الرتكيز عىل الحالة الفعالة باعتبارها حالة‬
‫مركزية ومتًمسكة داخلياا ومعزولة سياسياا؟ تعود اإلجابات إىل اآلليات‬
‫الجوهرية التي تولد من اوا طويل الجل‪ :‬الرتاكم من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫القدرة عىل توجيه اًلستثًمر إىل القطاعات ذات الكفاءة الديناميكية‪.‬‬

‫يف ضوء ذلك‪ ،‬ميكن اعتبار الدميقراطية إحدى مكاسب التنمية اًلقتصادية‪،‬‬
‫مساهًم فيها‪.‬‬
‫ا‬ ‫رصا تأسيس ايا للتنمية وًل حتى‬
‫لكنها ليست عن ا‬

‫نرى المر بشكل مختلف‪ .‬يساهم الحكم الدميقراطي يف خلق إطار اًلبتكار‬
‫واملنافسة الذي يقود التنمية والحد من الفقر‪ .‬يستلزم فهم كل من مشكلة التنمية‬

‫‪75‬‬
‫ومشكلة الحكم اًلعرتاف «مبشكلة تحديد أفضل طريقة ًلستخدام املعرفة املوزعة‬
‫مبدئ ايا بني جميع الناس»‪ 5.‬يعترب نظام السعار ًلقتصاد السوق وسيلة أكرث كفاءة‬
‫بكثري ًلستخدام هذه املعرفة املوزعة من الديكتاتورية اًلقتصادية‪ ،‬ويعترب الحكم‬
‫الدميقراطي وسيلة أكرث كفاءة –ناهيك عن كونها أكرث عدالة– ًلستخدام املعرفة‬
‫املوزعة للمواطنني من اًلستبداد‪ .‬فإذا قيد استخدام الدولة يف السعي للكسب‬
‫الريعي‪ ،‬يكون السًمح للناس «بالتجريب»‪ ،‬وكًم وصف مكلوسيك املحرك‬
‫اًلقتصادي لليربالية‪ُ ،‬مرثٍ بقوة‪.‬‬

‫يف الواقع‪ ،‬تعتمد املناقشة واملساومة يف التبادًلت عىل جهود اإلقناع‪ ،‬كًم‬
‫أشار آدم سميث‪:‬‬

‫لو استفرسنا عن مبدأ العقل البرشي الذي تقوم عليه هذه النزعة يف‬
‫املقايضة [أي‪ ،‬التجارة]‪ ،‬فمن الواضح أنه يتعلق بامليل الطبيعي لدى كل‬
‫شخص لإلقناع‪ .‬إن عرض الشلن‪ ،‬الذي يبدو لنا واض احا وبسيطاا يف معناه‪،‬‬
‫‪6‬‬
‫يقدم يف الواقع حجة إلقناع املرء فعل هذا وذاك‪ ،‬طاملا أنه ملصلحته‪.‬‬

‫فالدميقراطية‪ ،‬شأنها شأن افرتاض الحرية‪ ،‬تعززها الكرامة‪ ،‬وإن كان ذلك برتكيز‬
‫مختلف‪ :‬ليس كرامة إدارة شؤون الفرد املرتبطة بافرتاض الحرية – العبادة كًم‬
‫يختار املرء‪ ،‬والعيش كًم يحلو له‪ ،‬واًلبتكار‪ ،‬والتبادل («الكرامة الربجوازية»‪ ،‬عىل‬
‫حد تعبري مكلوسيك)‪ ،‬بل كرامة الحق يف اًلنخراط يف مداوًلت حول الشأن العام‪،‬‬
‫وحول المور املتعلقة بالنظام السيايس بأكمله‪ ،‬والتصويت إما مبارش اة عىل‬
‫القوانني والتدابري العامة أو ملمثلني يصوتون بعد ذلك عىل القوانني والتدابري‬

‫‪76‬‬
‫وكيًل له مصلحة مرشوعة عندما يتم اختيار السلع‬
‫ا‬ ‫العامة‪ .‬إنها كرامة اعتبارنا‬
‫العامة الصلية وتأمينها‪ .‬والسلعة العامة الهم عىل اإلطًلق هي توفري السًلم‬
‫والمن لحياة الشعب وحرياته وممتلكاته‪ ،‬لن إطار القانون والتعاون الطوعي هذان‬
‫يجعًلن إنتاج السلع الخرى واستهًلكها ممكناا‪ ،‬سواء كانت عامة أو خاصة‪.‬‬
‫وعًلو اة عىل ذلك‪ ،‬فإن اإلطار القانوين والمن من النهب هًم سلع عامة أصيلة‪،‬‬
‫لنهًم غري متنافسان يف اًلستهًلك –فتمتعك بالمن والحرية ًل يقلل من قدريت‬
‫‪7‬‬
‫عىل التمتع بهًم– وًل ميكن استبعادهًم إًل بكلفة معينة‪.‬‬

‫يتوقف الكثري‪ ،‬بالطبع‪ ،‬عىل ما يعنيه املرء بالدميقراطية‪ً .‬ل يكفي التصويت‬
‫لوحده لوصف نظام سيايس بأنه دميقراطي‪ .‬فالتصويت وسيلة للكشف عن‬
‫تفضيًلت الغلبية –أو الغلبية العظمى– فيًم يتعلق باملسائل املدرجة يف أجندة‬
‫اًلختيار العام‪ .‬لقد أُعلنت بعض أكرث الديكتاتوريات قم اعا يف التاريخ‬
‫«دميقراطيات» بواسطة ديكتاتوريها‪ .‬وهي تسعى إىل إثبات صحة ادعاءاتها‬
‫بكونها دميقراطية من خًلل إقامة طقوس عامة‪ ،‬مثل اًلستفتاءات العامة‬
‫والربملانات‪ ،‬التي تشبه إجراءات الدميقراطيات‪ ،‬ولكن ًل ينبغي لحد أن ينخدع يف‬
‫التفكري يف أن جمهورية كوريا الشعبية الدميقراطية أو جمهورية أملانيا‬
‫الدميقراطية البائدة اآلن كانتا دميقراطيتني من أي وقت مىض‪ .‬يتمثل أحد العنارص‬
‫الرضورية للدميقراطية أيضا ا يف حًمية مجموعة جوهرية من الحقوق الفردية‪.‬‬
‫فآلية التصويت‪ ،‬التي ميكن للدول اًلستبدادية الحديثة نسخ طقوسها‪ ،‬وعاد اة ما‬
‫تفعل‪ ،‬غري كافية لجعل النظام السيايس دميقراطياا‪ ،‬وًل إعًلن النوايا أو التطلعات‬
‫الدميقراطية‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫عندما تُستخدم مصطلحات مثل العدالة واملساواة والدميقراطية يف تقييم‬
‫النظمة السياسية‪ ،‬فإنها تساعد يف توضيح ما يعنيه املرء متا اما لتجنب التحدث‬
‫دون فهم اآلخرين‪ 8.‬وكًم أشار دبليو ب‪ .‬غايل‪ ،‬من بني «املفاهيم املتنازع عليها‬
‫أساسا»‪ ،‬فإن مصطلح الدميقراطية «رسخ نفسه عىل أنه املفهوم السيايس التقييمي‬
‫ا‬
‫بامتياز»‪.‬‬

‫إذا أردنا معرفة ما نفعله متا اما‪ ،‬عندما نطبق مفهو اما تقييمياا معيناا‪ ،‬فإن‬
‫إحدى طرق تعلم ذلك هي بالسؤال من أي نسخة (أو أصل) أكرث غموضا ا أو‬
‫تشويشا ا أو تقيي ادا اشتقت نسختنا املقبولة حالياا من املفهوم املعني‪ .‬عمو اما‪،‬‬
‫نتوصل ملعرفة ما يعنيه مفهوم علمي معني عىل نحو أدق من خًلل مقارنة‬
‫قدراته اًلستنتاجية مع تلك الخاصة مبفاهيم أخرى وثيقة الصلة‪ :‬ويف حالة‬
‫املفهوم التقييمي‪ ،‬ميكننا معرفة ما يعنيه عىل نحو أدق من خًلل مقارنة‬
‫ومقابلة استخداماتنا الحالية له مع اًلستخدامات السابقة الخرى له أو‬
‫‪9‬‬
‫لسًلفه‪ ،‬أي من خًلل النظر يف كيفية نشوئه‪.‬‬

‫إن اشرتاطنا للدميقراطية بأنها تستلزم حًمية مجموعة جوهرية من الحقوق‬


‫الفردية‪ ،‬املحققة يف بعض أنظمة الفصل بني السلطات‪ ،‬واملنظًمت السياسية التي‬
‫ميكن مساءلتها عن طريق نظام معني للتصويت بالغلبية أو الغلبية العظمى‪،‬‬
‫يربره كل من تاريخها ومتطلباتها املنطقية‪.‬‬

‫مهًم من جوانب الكرامة الحديثة‪ ،‬ويوفر‬


‫يعترب الحكم الدميقراطي جانباا ا‬
‫اإلطار القانوين والسيايس ًلفرتاض الحرية الذي يزدهر فيه اًلبتكار‪ .‬وبطبيعة‬

‫‪78‬‬
‫الحال‪ ،‬تكون الدساتري والترشيعات املكتوبة قليلة أو معدومة القيمة إذا غابت‬
‫معايري الحكم الدميقراطي‪ .‬فًل فائدة من الترشيعات املكتوبة عندما ًل يرغب الناس‬
‫يف اتباعها‪.‬‬

‫حدد الدستور السوفيتي لعام ‪ 1936‬ضًمنات مختلفة للحقوق‪ .‬عددت املادة‬


‫‪ 125‬ضًمنات حرية التعبري‪ ،‬وحرية الصحافة‪ ،‬وحرية التجمع‪ ،‬مبا يف ذلك عقد‬
‫اجتًمعات جًمهريية‪ ،‬وحرية املسريات واملظاهرات يف الشوارع‪ .‬وضمنت املادة‬
‫‪« 128‬حًمية حرمة منازل املواطنني وخصوصية املراسًلت مبوجب القانون»‪ 10.‬من‬
‫دون غرس معايري الشجاعة والعدالة واًلحرتام واملساواة –العنارص الساسية‬
‫ربا عىل ورق‪.‬‬
‫للكرامة الحديثة– تعد املؤسسات الرسمية أو الطر املكتوبة ح ا‬

‫الدميقراطية املستدامة‬

‫جادل فريد زكريا بأنه‪ ،‬مثلًم ميكن أن توجد دميقراطيات ليربالية‪ ،‬ميكن أن توجد‬
‫أيضا ا «دميقراطيات غري ليربالية» و«أنظمة استبدادية ليربالية»‪ 11.‬حتى أن برتراند‬
‫دي جوفينيل وجيه ل‪ .‬تاملون اشتهرا بكتابتهًم عن «الدميقراطية الشمولية» بصورة‬
‫أساسية لوصف الهوال اليعقوبية لإلرهاب‪ 12.‬ومع ذلك‪ ،‬لتحديد تركيبات كهذه عىل‬
‫أنها أنواع سياسية‪ ،‬يتعني عىل املرء أكرث من إظهار أن نظا اما دميقراط ايا قد نفذ‬
‫سياسة غري ليربالية أو أن نظا اما سياس ايا استبدادياا قد نفذ سياسة ليربالية‪ .‬يجب‬
‫عىل املرء أن يظهر أن هذه الرتكيبات مستقرة‪ ،‬أي أن املصطلحني متًمسكني‬
‫ومستمرين‪ ،‬وليسا متواجدين م اعا مؤق اتا فحسب‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫إن اإلشرتاط عىل أن الدميقراطية بأكملها هي مسألة تحديد تفضيًلت الغلبية ثم‬
‫ترجمة تلك التفضيًلت إىل سياسة دولة غري ٍ‬
‫كاف عىل اإلطًلق كتعريف لنوع نظام‬
‫سيايس‪ ،‬لنه حتى الغلبية الخالصة تتطلب وسيلة لتحديد تفضيًلت الغلبية‪ .‬لكن‬
‫كيف يتأكد املرء ما هي تفضيًلت الغلبية؟ إن «الدميقراطية غري الليربالية» التي‬
‫تقمع املعارضة؛ وتسجن النقاد؛ وتحتكر وسائل اإلعًلم؛ وتعاقب بالسجن أو النفي‬
‫أو اإلعدام الطامحني إىل املنصب الخارسين؛ وما إىل ذلك لن تكون قادرة عىل‬
‫تحديد ما هي تفضيًلت الغلبية حقاا‪ .‬وستفشل «الدميقراطية غري الليربالية» يف‬
‫تلبية حتى الحد الدىن من معيار الدميقراطية لنه عندما يعيش الشعب يف خوف‬
‫من الرقابة أو السوأ‪ ،‬فإن تزييف التفضيل عىل نطاق واسع سيجعل من املستحيل‬
‫معرفة ما إذا كان الناس‪:‬‬

‫‪ 1‬يعربون عن تفضيًلتهم للسياسات والنتائج عند التصويت أو اإلجابة عىل‬


‫استطًلعات الرأي أو حضور التجمعات؛ أو‬
‫‪ 2‬يؤكدون خط الحزب عًلني اة بدافع الخوف‪ ،‬وهو أحد السباب التي تجعل مثل‬
‫هذه النظمة اًلستبدادية الدميقراطية املزعومة هشة بصورة ملحوظة وميكن‬
‫مثًل‪ ،‬يف حالة «جمهورية أملانيا‬
‫ا‬ ‫أن تنهار برسعة كبرية‪ ،‬كًم حدث‪،‬‬
‫‪13‬‬
‫الدميقراطية»‪.‬‬

‫ريا ما يستخدم مصطلح الدميقراطية باستهتار‪ ،‬ما يعني أن الطراف املختلفة‬


‫كث ا‬
‫بالكاد تتحدث –أو ترصخ– دون فهم بعضها البعض‪ .‬فهل يعني أن‬

‫‪80‬‬
‫‪ 1‬غالبية الشعب (املحدودة عاد اة ببعض معايري السن‪ ،‬ومكان الوًلدة‪ ،‬والنسب‪،‬‬
‫واإلقامة‪ ،‬وما إىل ذلك) تتخذ قرارات بشأن جميع املسائل التي ترغب يف‬
‫اتخاذ قرارات بشأنها؛ أو‬
‫‪ 2‬يتمتع املواطنون بحريات موضوعية‪ ،‬خاص اة حرية التعبري والتجمع والحق‬
‫يف التصويت لوكًلئهم السياسيني‪ ،‬وحقوق مدنية فردية أساسية‪ ،‬تتضمن‬
‫عمو اما حرية الدين وحرية الخروج والحقوق اإلجرائية يف مراعاة الصول‬
‫القانونية وحقوق امللكية والعقود املضمونة‪ ،‬وما إىل ذلك؟‬

‫اًلثنان متناقضان‪ .‬يتعارض الثاين مع البند يف الول الذي يحدد «جميع املسائل‬
‫التي يرغبون يف اتخاذ قرارات بشأنها»‪ ،‬لن اًلشرتاط الثاين يزيل تلك املسائل‪ ،‬التي‬
‫تعترب حريات موضوعية رضورية للحفاظ عىل الدميقراطية‪ ،‬من أجندة اًلختيار‬
‫العام‪ .‬ومن دون اًلشرتاط الثاين –أن يتمتع املواطنون بحرية التعبري عن آرائهم‬
‫وحقوق امللكية التي يتحقق من خًللها هذا التعبري– ًل ميكن للنظام السيايس‬
‫تحديد تفضيًلت الغلبية‪ ،‬التي ًل تعد ميزات مثل الوزن‪ ،‬ميكن طرحها بشكل‬
‫مستقل عن قياسها‪ .‬تحدد العديد من التفضيًلت البرشية يف التعبري عنها‪ .‬فعند‬
‫التعبري عن التفضيًلت وتسجيل تعبريات اآلخرين‪ ،‬تتغري التفضيًلت غالباا‪ ،‬وهذا‬
‫بالضبط ما يحدث يف املناقشات الحرة‪.‬‬

‫الدميقراطية ليست آلة لتسجيل التفضيًلت املشفرة لدى الناس وًل ميكن‬
‫جدولتها بشكل مستقل عن أفعالهم لتوليد وظيفة الرفاه اًلجتًمعية‪ .‬فالدميقراطيات‬
‫هي أنظمة سياسية متكّن الناس من التداول بشأن السلع العامة للعيش م اعا بسًلم‬

‫‪81‬‬
‫وحل خًلفاتهم من خًلل املداوًلت وعمليات صنع القرار الجًمعي املتوقع أن تكون‬
‫عادلة للجميع‪ .‬وكًم وصفها اًلقتصادي والفيلسوف فرانك نايت‪ ،‬الدميقراطية نظام‬
‫«حكم بالنقاش»‪.‬‬

‫يعد مصطلح الدميقراطية الليربالية نو اعا من اإلطناب املفيد لنه مطلب‬


‫رصا جوهرياا من عنارص الحًمية‬
‫مفاهيمي للدميقراطية يستلزم عىل القل عن ا‬
‫الليربالية للحقوق الفردية‪( .‬مع ذلك‪ ،‬يظل إطناباا مفي ادا‪ ،‬لنه يذكرنا بأهمية املساواة‬
‫يف الحقوق للجميع‪ ،‬وهو أمر تقرتب منه الدميقراطيات إىل درجات أكرث أو أقل‬
‫كارثية)‪ .‬تض ّمن الدميقراطيات الليربالية مجموعة من إجراءات صنع قرار أغلبية‬
‫محدودة متعلقة مبسائل السلع العامة ضمن أجندة اختيار عام مقيدة‪ ،‬التي يجعل‬
‫تقييدها املناقشات واملداوًلت الدميقراطية حول السلع العام ممكنة‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫تأمني افرتاض الحرية العام‪ .‬إن نظام الغلبية الذي قمع أو أباد أولئك الذين يتبنون‬
‫وجهات نظر القلية لن يبقى دميقراطياا وسيفقد‪ ،‬مع مرور الوقت‪ ،‬أي ادعاء حتى‬
‫لكونه نظام أغلبية‪ ،‬لنه يلغي وسائل التحقق من تفضيًلت الغلبية‪ .‬قد تصبح‬
‫القليات أغلبية‪ ،‬برشط احرتام حريتها يف اًلستمرار يف تقديم آرائها‪« :‬يعتمد تربير‬
‫الدميقراطية بالكامل عىل حقيقة أن رأي أقلية صغرية اليوم قد يصبح رأي الغلبية‬
‫‪14‬‬
‫مع مرور الوقت»‪.‬‬

‫كل من مبدأ الغلبية ومبدأ املناقشة رضوري‪ .‬ليس الغرض تعظيم وظيفة‬
‫رفاه جًمعي مفرتضة وإمنا التفاوض عىل السًلم اًلجتًمعي والوئام بني وكًلء‬
‫متعددين‪ ،‬لكل منهم اهتًمماته الخاصة ومعرفته الفريدة‪ .‬ر ادا عىل املخاوف املتعلقة‬

‫‪82‬‬
‫مبا يسمى مفارقات التصويت‪ ،‬اعتنق اًلقتصادي والفيلسوف جيمس بوكانان حكم‬
‫الغلبية يف مجتمع حر‬

‫وعكسا بني البدائل‪،‬‬


‫ا‬ ‫لنه‪ ،‬عىل وجه التحديد‪ ،‬يسمح بنوع من املناورة طر ادا‬
‫التي ًل ميكن الحصول عىل إجًمع نسبي عليها‪ .‬يشجع حكم الغلبية هذا‬
‫التحول‪ ،‬ويتيح الفرصة لتغيري أي قرار اجتًمعي أو عكسه يف أي وقت‬
‫بواسطة مجموعة أغلبية جديدة ومؤقتة‪ .‬بهذه الطريقة‪ ،‬يصبح اتخاذ قرار‬
‫الغلبية بحد ذاته وسيلة تصل من خًللها املجموعة بأكملها إىل اإلجًمع يف‬
‫النهاية‪ ،‬أي تتخذ خيا ارا اجتًمعياا حقيقياا‪ .‬وهو يضمن إمكانية اعتًمد البدائل‬
‫املتنافسة تجريبياا ومؤقتاا واختبارها واستبدالها ببدائل توفيقية جديدة‬
‫معتمدة بواسطة مجموعة أغلبية متغرية التكوين باستمرار‪ .‬وهذه عملية‬
‫اختيار دميقراطية‪ ،‬مهًم كانت عواقبها عىل اقتصاديات الرفاه ووظائف‬
‫‪15‬‬
‫الرفاه اًلجتًمعي‪.‬‬

‫املعارضة املوالية‬

‫تتطلب الدميقراطيات املستدامة مؤسسة بالغة الهمية‪ ،‬مؤسسة تغذيها التجربة‬


‫املستمرة للمداوًلت الدميقراطية‪ .‬تلك املؤسسة هي املعارضة املوالية‪ .‬يف‬
‫الدميقراطية‪ ،‬عندما يحل أحد الحزبني محل اآلخر املسيطر عىل الربملان أو‬
‫الكونغرس‪ ،‬يتحول الحزب أو املجموعة املسؤولة سابقاا عن الحكومة لتصبح‬
‫معارضة موالية‪ .‬وهي معارضة موالية للنظام الدستوري لنظام الحكم الدميقراطي‬
‫‪83‬‬
‫التي خرست اًلنتخابات ومل تفجر محطات القطارات‪ ،‬أو تغتال مسؤويل‬
‫اًلنتخابات‪ ،‬أو حتى (احتًمل مستبعد) تغزو مبنى الكابيتول لوقف اًلنتقال السلمي‬
‫للسلطة‪ .‬هذا الوًلء مستحيل‪ ،‬أو عىل القل مستبعد للغاية‪ ،‬إذا كان الخارسون الذين‬
‫يشكلون املعارضة يخشون أنهم بخسارة اًلنتخابات يخاطرون بفقدان كل يشء‪:‬‬
‫سلعهم‪ ،‬وممتلكاتهم‪ ،‬وحرياتهم‪ ،‬ورمبا حتى حياتهم‪ .‬املعارضة املوالية مستحيلة‬
‫دون قيود عىل سلطة الحزب الفائز ملعاقبة الخارسين‪.‬‬

‫ًل ميكن أن يكون لديك دميقراطية من دون معارضة موالية‪ .‬يف غياب القيود‬
‫عىل سلطة الدولة‪ً ،‬ل ميكن لي حكومة يف السلطة حالياا أن تتخىل عن تلك‬
‫السلطات غري املحدودة‪ ،‬التي سيًمرسها أعداؤها من بعدها‪ .‬هذه إحدى املشاكل‬
‫التي تواجه ديكتاتورية فًلدميري بوتني يف روسيا‪ ،‬الذي يدعي أنه يرتأس‬
‫«دميقراطية مدارة»‪ .‬إنه يعلم أنه ًل ميكنه التخيل أب ادا عن مقاليد السلطة‪ ،‬فقد أغلق‬
‫وسائل اإلعًلم الناقدة؛ وسجن منافسيه ونفاهم وسمهم؛ وأعاد إحياء دولة بوليسية‪.‬‬
‫إنه كمن يركب من ارا‪ .‬من املستبعد أن يسمح بإجراء انتخابات حرة أب ادا‪ ،‬لنه يخىش‬
‫ما سيحدث له إذا خرس‪ .‬الطريقة املعتادة ملغادرة مثل هذه الشخصيات اًلستبدادية‬
‫قصورها الرئاسية هي محمولة عىل نعوشها‪ ،‬سواء سلمياا أو بالعنف‪.‬‬

‫تتطلب اًلنتخابات املوثوقة لتحديد تفضيًلت الغلبية حريات التعبري واإلدًلء‬


‫بالصوات املحمية (التي ًل ميكن من دونها تشكيل تفضيًلت الغلبية والتعبري عنها‬
‫وتبويبها) وبعض تقسيم السلطات‪ ،‬بالحد الدىن يف شكل هيئات مختصة مستقلة‬
‫ذات صًلحيات ليست من مسائل اًلختيار العام املبارش يف حد ذاتها‪ 16.‬هذه الهيئات‬

‫‪84‬‬
‫رضورية لإلرشاف عىل اًلنتخابات والتصديق عىل نتائجها‪ .‬ومر اة أخرى‪ ،‬إن مجرد‬
‫إنشاء مثل هذه الهيئة ًل يضمن نجاحها‪ .‬أظهرت اًلنتخابات الرئاسية المريكية لعام‬
‫‪ 2020‬أهمية معايري النزاهة الدميقراطية‪ .‬لو أطاع عدد قليل من مسؤويل‬
‫اًلنتخابات يف عدة وًليات الزعيم الفخري لحزبهم‪ ،‬بدًلا من اتباع متطلبات القانون‪،‬‬
‫لُبطل النظام الدميقراطي‪ .‬فاملناصب والقوانني املجردة ًل تكفي‪ .‬قد تشمل هذه‬
‫الهيئات لجان انتخابية مستقلة وسلطة قضائية مستقلة – لإلرشاف عليها‪ ،‬أي‬
‫سلطة قضائية ًل يسهل عىل الفروع املنتخبة معاقبتها أو عزلها‪ .‬تتطلب النظمة‬
‫الدميقراطية سيادة القانون‪ ،‬وهو عنرص رضوري لكل من التنمية اًلقتصادية‬
‫املستدامة والدميقراطية املستدامة‪ ،‬ويرتكز حكم القانون‪ ،‬بدوره‪ ،‬عىل الخًلق‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬نقتبس بيشء من اإلسهاب من مانكور أولسون املتبرص‪،‬‬

‫الظروف الًلزمة للحصول عىل الحقوق الفردية الًلزمة لتحقيق أقىص قدر‬
‫من التنمية اًلقتصادية هي بالضبط نفس الظروف الًلزمة إلقامة دميقراطية‬
‫دامئة‪ .‬من الواضح أن الدميقراطية غري قابلة للتطبيق إذا كان الفراد‪ ،‬مبن‬
‫فيهم املنافسون الرئيسيون لإلدارة يف السلطة‪ ،‬يفتقرون إىل الحق يف حرية‬
‫التعبري والمن ملمتلكاتهم وعقودهم أو إذا مل يتبع حكم القانون حتى عندما‬
‫يدعو اإلدارة الحالية لرتك منصبها‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن نفس نظام املحاكم‪،‬‬
‫والقضاء املستقل‪ ،‬واحرتام القانون والحقوق الفردية الًلزمة لدميقراطية‬
‫‪17‬‬
‫دامئة‪ ،‬مطلوبة أيضا ا لضًمن حقوق امللكية والعقود‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫إن نفس املؤسسات وخاص اة املعايري التي تدعم الدميقراطية تجعل التنمية ممكنة‪.‬‬
‫فهي تضفي الطابع املؤسيس عىل احرتام كرامة اإلنسان وتؤمن أطر التنمية‪.‬‬

‫التنمية الدميقراطية‬

‫أكدنا يف الفصل الثاين عىل أهمية اًلبتكار يف التنمية‪ ،‬وافرتاض الحرية يف‬
‫اًلبتكار‪ ،‬والكرامة يف افرتاض الحرية‪ ،‬لكن اًلبتكار ليس الساس الوحيد الرضوري‬
‫للتنمية‪ .‬ذلك أن المن الحقيقي للممتلكات والنظام القانوين املوثوق بدرجة معقولة‬
‫لضًمن الحقوق والفصل يف املنازعات بني أصحاب الحقوق‪ ،‬ومع الحكومة نفسها‪،‬‬
‫ظروف مساهمة أيضا ا‪ .‬لكنها غري كافية‪.‬‬

‫تتطلب الدميقراطية املستدامة إزالة مسائل عديدة من أجندة اًلختيار العام؛‬


‫أي أنها تتطلب أن تكون ليربالية‪ .‬ومن بني املسائل املهمة غري املدرجة يف أجندة‬
‫اًلختيار العام هي تلك املوصوفة بأنها حقوق‪ ،‬التي قد تعدد يف الوثائق أو ًل تعدد‬
‫وتدمج يف املعايري والقانون العريف‪ .‬يدرج الحق يف حرية التعبري وانتقاد‬
‫الحكومة عمو اما ضمن الحقوق الرضورية للدميقراطية‪ ،‬لكن هذه الحقوق ًل‬
‫تستويف متطلبات الدميقراطية املستدامة‪.‬‬

‫يعرتف العديد من املدافعني عن الدول التنموية اًلستبدادية بأن النظمة‬


‫اًلستبدادية تخاطر بنتائج مدمرة حقاا‪ ،‬لكن يركزون عىل الحاًلت التي قد يُنسب‬
‫فيها الفضل إىل النظمة اًلستبدادية اللينة نسبياا عىل القل يف تعزيز التنمية‬

‫‪86‬‬
‫اًلقتصادية‪( .‬لقد أصبحت املًمرسة الشائعة يف العقود السابقة املتمثلة يف متجيد‬
‫القيادة اًلقتصادية للينني وموسوليني وستالني وهتلر قدمية الطراز)‪ .‬إن النظر إىل‬
‫بدًل من الرتكيز عىل الحكايات‪ ،‬يشري إىل أن «الوجه‬
‫أعداد كبرية من النظمة‪ ،‬ا‬
‫العلوي» املزعوم للرند املرمي عىل الدميقراطية أو اًلستبداد ًل يستحق الجهد‬
‫املبذول‪.‬‬

‫أخضع ويليام إيسرتيل وستيفن بينينغز أطروحة القيمة اإليجابية للقيادة عمو اما‬
‫لدراسة متأنية ومقارنة مع الدلة وخلصا إىل أن‪:‬‬

‫عىل الرغم من البدء بنموذج يكون فيه «القادة مهمون» للنمو‪ ،‬فإن اكتشافنا‬
‫الرئييس هو أنه يصعب بطريقة مدهشة تأكيد تأثريات منو القادة اإليجابية‬
‫أو السلبية بشكل ملحوظ إحصائ ايا للقادة الفرديني‪ .‬أي أن معرفة أهمية‬
‫القادة للنمو عمو اما تختلف متا اما عن معرفة من القادة املهمني للنمو‪ .‬نؤكد‬
‫اآلثار اإليجابية أو السلبية امللحوظة للقائد لقل من ‪ 50‬من أصل نحو ‪750‬‬
‫قائ ادا ملدة ‪ 3‬سنوات عىل القل (نحو ‪ %6‬من القادة)‪ .‬كثري من هؤًلء هم‬
‫نجوم أو أرشار غري معروفني أو منسيني أو مفاجئني‪ .‬من املثري للدهشة أن‬
‫ناقصا يف مجموعة القادة املهمني إحصائ ايا‪ ،‬ويرجع‬
‫ا‬ ‫متثيًل‬
‫ا‬ ‫املستبدين ميثلون‬
‫ذلك غال ابا إىل أن الدول اًلستبدادية متلك أيضا ا عمليات منو أكرث صخ ابا تجعل‬
‫‪18‬‬
‫عزل تأثريات القائد الحقيقي صع ابا‪.‬‬

‫بالطبع‪ ،‬تدعي جميع الشخصيات السياسية‪ ،‬سواء كانت دميقراطية أو‬


‫استبدادية‪ ،‬الفضل يف أي يشء جيد خًلل فرتة حكمها وتلقي باللوم عىل العداء‬

‫‪87‬‬
‫والغرباء واملخربني وغريهم‪ً .‬ل جديد يف ذلك‪ .‬الًلفت للنظر هو عدد الشخاص‬
‫الذين ًل ينسبون فرتات النمو اًلقتصادي إىل اًلتجاهات الجارية بالفعل‪ ،‬أو إىل‬
‫عوامل أخرى‪ ،‬بل ينسبونها حرصياا إىل «القيادة»‪ .‬ويسعد السياسيون دامئاا بقبول‬
‫اإلطراء‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫إهانة االستبداد‬ ‫‪5‬‬

‫فحص مورتون إتش هالبريين‪ ،‬وجوزيف ت‪ .‬سيغل‪ ،‬ومايكل م‪ .‬واينستني السجالت‬


‫االقتصادية لكل من الدميقراطيات واألنظمة االستبدادية (األوتوقراطية)‪ ،‬باستخدام‬
‫بيانات من مرشوع بوليتي ‪ )Polity IV Project( IV‬والبنك الدويل‪ ،‬ملعالجة‬
‫األطروحة القائلة بأن الدميقراطية تعيق النمو عند الدخل املنخفض‪ .‬ووجدوا أنه من‬
‫الفرتة ‪( 2005-1960‬نرشت دراستهم يف عام ‪،)2010‬‬

‫رغم القبول الواسع للحكمة السائدة‪ ،‬تفوقت الدميقراطيات‪ ،‬يف املتوسط‪،‬‬


‫عىل األنظمة األوتوقراطية يف كل جوانب التنمية املدروسة تقريبًا‪ .‬عند‬
‫دراسة عينة كاملة من البلدان‪ ،‬حققت الدميقراطيات باستمرار مستويات منو‬
‫‪1‬‬
‫اقتصادي أعىل من األنظمة االستبدادية خالل العقود الخمسة املاضية‪.‬‬

‫كام أشاروا‪ ،‬هذا ليس مفاج ًئا ج ًدا‪ ،‬نظ ًرا ألن معظم البلدان الغنية هي‬
‫دميقراطيات‪ ،‬لكن املقارنة األكرث إثارة لالهتامم كانت التعامل بجدية مع املطالبات‬
‫بالحكم االستبدادي يف البلدان ذات الدخل املنخفض‪ .‬مل يجدوا أن األنظمة‬
‫االستبدادية ذات الدخل املنخفض أكرث عرضة للحصول عىل نتائج كارثية فحسب‪،‬‬
‫بل وجدوا أيضً ا أن «الدميقراطيات‪ ،‬حتى الدميقراطيات ذات الدخل املنخفض‪،‬‬
‫تتفوق عىل األنظمة االستبدادية يف النمو االقتصادي‪ ،‬ويرجع ذلك جزئ ًيا إىل أن هذا‬
‫النمو أكرث ثباتًا وأقل عرضة للتقلبات املفاجئة والحادة‪ .‬يجنب سجلها املتفوق‬
‫ريا من املعاناة»‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫الفقراء كث ً‬
‫‪89‬‬
‫وبتحديث األرقام يف دراسة هالبريين وسيغل وواينستني حتى عام ‪،2018‬‬
‫ومبقارنة البيانات بشكل أكرث اتساقًا‪ ،‬وجدنا أيضً ا ميزة قوية للدميقراطيات عىل‬
‫فمثال‪ ،‬أخذ هالبريين وآخرون درجات الدميقراطية أو االستبداد‬
‫ً‬ ‫األنظمة االستبدادية‪.‬‬
‫لعام ‪ 2008‬وطبقوها عىل جميع السنوات السابقة‪ ،‬لكن بعض البلدان تحولت إىل‬
‫دميقراطية أو استبدادية أو تحولت عنها خالل العقود املدروسة‪ ،‬لذا عدلنا الدرجات‬
‫لكل بلد عا ًما بعد عام وطابقنا درجات الدميقراطية واالستبداد لكل عام مع معدالت‬
‫منو الناتج املحل اإلجاميل (‪ )GDP‬لذلك العام‪ 3.‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬استخدم‬
‫هالبريين وآخرون بيانات الدخل القومي اإلجاميل (‪ 4،)GNI‬بينام استخدمنا بيانات‬
‫‪ ،GDP‬ألن ‪ GNI‬يشمل املساعدات الخارجية والتحويالت املالية من الخارج‪ ،‬ما‬
‫يحجب النشاط االقتصادي اإلنتاجي الفعل يف البلد‪ ،‬يف حني أن مقياس ‪GDP‬‬
‫‪5‬‬
‫«ميثل مجموع القيمة املضافة بواسطة جميع منتجيها»‪.‬‬

‫الشكل ‪ 5.1‬معدالت منو ‪ GDP‬الوسطية للدميقراطيات واألنظمة االستبدادية‪ ،‬عىل‬


‫الصعيد العاملي‪ .‬مصدر البيانات‪ :‬استمدت بيانات الدميقراطية‪/‬االستبدادية من‬

‫‪90‬‬
‫قاعدة بيانات بوليتي ‪.www.systemicpeace.org/inscr/p4v2018.xls ،IV‬‬
‫أخذت معدالت منو ‪ GDP‬من مؤرشات التنمية العاملية للبنك الدويل‪،‬‬
‫‪https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.PCAP.KD.ZG‬‬

‫كانت درجة الدميقراطية املستخدمة هي درجة الدميقراطية للبلد للعام املحدد‪ .‬وهذا‬
‫عىل عكس دراسة هالبريين وآخرون‪ ،‬حيث اختار املؤلفون درجة عام ‪ 2008‬كدرجة‬
‫بيانات‬ ‫استمدت‬ ‫السنوات‪.‬‬ ‫لجميع‬ ‫للدميقراطية‪/‬االستبدادية‬
‫‪،IV‬‬ ‫بوليتي‬ ‫بيانات‬ ‫قاعدة‬ ‫من‬ ‫الدميقراطية‪/‬االستبدادية‬
‫‪ .www.systemicpeace.org/inscr/p4v2018.xls‬استخدمت نفس الدرجات‬
‫التي استخدمها هالبريين وآخرون لتعريف الدميقراطية واالستبدادية‪ ،‬أي من ‪ 0‬إىل‬
‫‪ 2‬يف بوليتي ‪ = IV‬استبدادية ومن ‪ 8‬إىل ‪ = 10‬دميقراطية‪ .‬أخذت معدالت منو‬
‫الدويل‪،‬‬ ‫للبنك‬ ‫العاملية‬ ‫التنمية‬ ‫مؤرشات‬ ‫من‬ ‫‪GDP‬‬
‫‪.https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.PCAP.KD.ZG‬‬

‫عند مقارنة معدالت منو ‪ GDP‬الوسطية للدميقراطيات مقابل األنظمة‬


‫االستبدادية منذ عام ‪ 1960‬حتى ‪ ،2018‬نجد ميزة قوية للدميقراطيات عىل‬
‫‪6‬‬
‫األنظمة االستبدادية‪ ،‬إذ تظهر األخرية تباينًا أكرب‪ .‬ال توجد ميزة استبدادية عاملية‪.‬‬
‫يبدو أن التحيز البرشي الطبيعي تجاه افرتاض وجوب وجود وكالة ما وراء‬
‫الظواهر يوجه الناس طبيع ًيا إىل إسناد كل ما يحدث يف بلد ما إىل «قادته»‪.‬‬

‫ثم حسب هالبريين وآخرون البيانات مستثنني بلدان رشق آسيا‪ ،‬بحجة أن‬
‫«تجربة النمو الهائلة لنمور رشق آسيا تحرف بشكل ملحوظ معدل النمو‬

‫‪91‬‬
‫االستبدادي املرصود»‪ 7.‬عندما حدثنا البيانات‪ ،‬وجدنا أن إزالة بلدان رشق آسيا أزالت‬
‫خمس دميقراطيات ومثاين أنظمة استبدادية‪ ،‬ما أدى إىل تراجع األنظمة‬
‫االستبدادية ذات الدخل املنخفض املتبقية باستمرار عن الدميقراطيات ذات الدخل‬
‫املنخفض‪.‬‬

‫الشكل ‪ 5.2‬معدالت منو ‪ GDP‬الوسطية للدميقراطيات واألنظمة االستبدادية ذات‬


‫الدخل املنخفض‪.‬‬

‫مصدر البيانات‪ :‬استمدت بيانات الدميقراطية‪/‬االستبدادية من قاعدة بيانات بوليتي‬


‫‪ .www.systemicpeace.org/inscr/p4v2018.xls ،IV‬أخذت معدالت منو‬
‫‪https://data.world‬‬ ‫‪ GDP‬من مؤرشات التنمية العاملية للبنك الدويل‪،‬‬
‫‪.bank.org/indicator/NY.GDP.PCAP.KD.ZG‬‬

‫الطريقة املستخدمة للشكل ‪ 5.2‬هي نفسها املستخدمة يف ‪ ،5.1‬باستثناء أن الحد‬


‫الفاصل لـ‪ GDP‬للفرد البالغ ‪ 2000‬دوالر‪ ،‬الذي استخدمه هالبريين وآخرون‬
‫للرتكيز عىل البلدان ذات الدخل املنخفض‪ ،‬عدل إىل الدوالر الثابت لعام ‪2010‬‬

‫‪92‬‬
‫(‪ 2,532‬دوال ًرا للناتج املحل اإلجاميل للفرد)‪ ،‬وعدلت البيانات لكل عام بحيث‬
‫حذفت بعض البلدان من التصنيف عند ارتفاع الدخل فوق الحد الفاصل‪ .‬عالو ًة عىل‬
‫غري هالبريين وآخرون طريقتهم من اإلصدار السابق للدراسة‬
‫ذلك‪ ،‬بينام ر‬
‫كال من مؤرش بوليتي ‪ IV‬ومؤرش فريدوم هاوس عند إجراء تحليل‬
‫واستخدموا ً‬
‫البلدان ذات الدخل املنخفض ( ‪The Democracy Advantage [New York:‬‬
‫‪ ،)4326 Routledge, 2010], Kindle Edition, location 4326‬استخدمنا‪،‬‬
‫حرصا عىل االتساق‪ ،‬درجات بوليتي ‪ IV‬فقط لكل مقارنة‪.‬‬
‫ً‬

‫تصحيحات دميقراطية‬

‫من املزايا الرئيسية للدميقراطية هي إضفاء الطابع املؤسيس عىل وسائل تصحيح‬
‫السياسات الكارثية‪ .‬ومثة ميزة أخرى عىل االستبداد هي االحتاملية األكرب نسبيًا‬
‫لتقديم التزامات متسقة عىل نحو موثوق بعدم مصادرة االستثامرات‪ ،‬تشجع هذه‬
‫أجال‪ ،‬والرتتيبات التعاقدية طويلة األجل‪ ،‬واملكونات‬
‫االلتزامات االستثامرات األطول ً‬
‫اإليجابية األخرى للنمو االقتصادي املستدام‪ .‬يفيض هذا االلتزام املوثوق أيضً ا إىل‬
‫تحسينات مختربة يف السوق‪ ،‬وهي محركات النمو االقتصادي‪ .‬ومتيل‬
‫الدميقراطيات إىل أن تكون أكرث قدرة عىل التغلب عىل مشكلة ما يدعى عدم‬
‫االتساق الزمني يف صنع القرار‪ .‬تنشأ مشكلة عدم االتساق الزمني يف صنع القرار‬
‫عندما يجد الوكيل الحقًا‪ ،‬بعد أن قدم التزا ًما يف مرحلة ما‪ ،‬أنه ليس من مصلحته‬
‫الوفاء به‪ ،‬ال سيام عندما يتعني عليه‪ ،‬بعد أن حصل بالفعل عىل مزايا االلتزام‪ ،‬تحمل‬

‫‪93‬‬
‫تكاليف الوفاء بهذا االلتزام‪ .‬فمن السهل أن يعد املرء يف الوقت ‪ T‬بفعل يشء ما يف‬
‫الوقت ‪ ،T + 1‬ولكن عندما يحني الوقت ‪ ،T + 1‬بعد أن حصل بالفعل عىل الفائدة‬
‫سهال يف‬
‫ً‬ ‫من الوعد يف الوقت ‪ ،T‬قد يشعر بأنه أقل ً‬
‫ميال للوفاء بااللتزام‪ .‬قد يكون‬
‫املساء قطع وعد باحرتام اآلخر يف الصباح‪ ،‬يف خضم العاطفة‪ ،‬ولكن يصعب‬
‫تنفيذه يف صباح اليوم التايل‪ .‬تكمن املشكلة يف أن الحافز عىل عدم أداء ما قد‬
‫يوعد به اآلن يف وقت الحق يبدو واض ًحا منذ البداية‪ ،‬ألنه من دون وسيلة لضامن‬
‫التزام موثوق بعدم مصادرة استثامراتهم وأصولهم‪ ،‬سيمتنع املستثمرون والتجار‬
‫عن وضع خطط طويلة األجل‪ .‬ال تواجه مشكلة عدم االتساق الزمني الحكومات‬
‫فحسب‪ ،‬بل تواجه أيضً ا جميع األطراف املشاركة يف أي تشكيلة واسعة من‬
‫‪8‬‬
‫التفاعالت مع مرور الوقت‪.‬‬

‫الشكل ‪ 5.3‬معدالت منو ‪ GDP‬الوسطية للدميقراطيات واألنظمة االستبدادية ذات‬


‫الدخل املنخفض‪ ،‬باستثناء رشق آسيا‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫مصدر البيانات‪ :‬استمدت بيانات الدميقراطية‪/‬االستبدادية من قاعدة بيانات بوليتي‬
‫‪ www.systemicpeace.org/inscr/p4v2018.xls ،IV‬أخذت معدالت منو‬
‫‪https://data.world‬‬ ‫‪ GDP‬من مؤرشات التنمية العاملية للبنك الدويل‪،‬‬
‫‪.bank.org/indicator/NY.GDP.PCAP.KD.ZG‬‬

‫زعم االقتصاديون املؤسسيون‪ ،‬مثل دوغالس نورث وباري وينغاست‪ ،‬أن‬


‫حلول هذه املشاكل هي مفتاح النمو االقتصادي طويل األجل‪ 9.‬يقتيض االلتزام‬
‫املوثوق بالرضورة قيو ًدا عىل السلطة السياسية‪ ،‬ألنه إذا كانت السلطة غري محدودة‪،‬‬
‫فال ميكنها تقديم التزامات‪ .‬يجدر التأكيد مر ًة أخرى عىل أنه رغم رضورة هذه‬
‫االلتزامات املوثوقة بعدم مصادرة األصول للنمو‪ ،‬فإنها ال تكفي لتحقيق إثراء عظيم‬
‫مستمر‪ ،‬املحتم لحرية االبتكار‪ .‬ونضيف أنه يف حني ميكن أن تكون املؤسسات هي‬
‫اآللية التي تُحل بها مشكالت االلتزام‪ ،‬فإن هذه اآللية ال تعمل إال وفق معايري أولئك‬
‫الذين يديرونها‪.‬‬

‫ميكن بالطبع االنتقاء من بني مئات األنظمة االستبدادية يف التاريخ الحديث‬


‫إليجاد قلة نفذت صدف ًة بعض آليات االلتزام‪ .‬يحدد رونالد جيه غيلسون وكورتيس‬
‫جيه ميلهوبت ثالثة مرشحني ملا يسمونه «الديكتاتوريني الخريين»‪ ،‬لكن ال يقدم‬
‫تحليلهام أي إرشادات التخاذ قرار بشأن ما إذا كان االستبدادية أم الدميقراطية هي‬
‫الخري اقتصاديًا» عىل أنه استبداد «تسجل وظائف‬
‫األفضل‪ .‬يعرفان االستبداد « ر‬
‫املنفعة لقادته من ًوا طويل األجل يف الناتج املحل اإلجاميل أعىل من منو حساباتهم‬
‫املرصفية السويرسية‪ ،‬وبالتايل تستخدم قوة الدولة ملتابعة التحول االقتصادي‬

‫‪95‬‬
‫الوطني»‪ 10.‬ويقرصان نفسيهام عىل ثالث ديكتاتوريات يُزعم أنها خرية‪ :‬تشيل‬
‫تحت حكم أوغستو بينوشيه‪ ،‬وكوريا الجنوبية تحت حكم بارك تشونغ‪-‬هي‪،‬‬
‫والصني تحت حكم دينغ شياو بينغ وخلفائه؛ يفرتضان أن االلتزامات التي قدمتها‬
‫تلك األنظمة فاقت االلتزامات املتاحة لألنظمة الدميقراطية املناقضة للواقع؛‬
‫ويقرتحان‪ ،‬بصورة غري مقنعة‪ ،‬أن آليات االلتزام التي يحددانها تقدم إرشادات‬
‫مفيدة «للدميقراطيات النامية»‪ .‬رغم العنوان الجذاب‪ ،‬فإن محاولتهام تنجح يف‬
‫أحسن األحوال (كام يعرتفان) يف تحديد التقنيات السابقة لاللتزام التي قد تكون‬
‫متاحة لتحالفات األغلبية الدميقراطية أيضً ا‪ 11.‬وتجدر اإلشارة إىل أن تشيل‪ ،‬التي‬
‫خري»‪ ،‬شهدت معدالت‬
‫حددها غيلسون وميلهوبت عىل أنها استفادت من «ديكتاتور ر‬
‫منو اقتصادي أعىل وزيادة رسيعة يف مستويات املعيشة مقارن ًة ببلدان أمريكا‬
‫الالتينية األخرى‪ ،‬ولكنها عانت خالل العقود التالية من فهم عام منخفض ج ًدا‬
‫للسياسات االقتصادية‪ ،‬فحلت يف املرتبة ‪ 64‬من أصل ‪ 74‬بلد‪ ،‬كام يظهر يف قياس‬
‫«العقلية االقتصادية» املطور حديثًا واملستمد من استقصاء القيم العاملية واستقصاء‬
‫القيم األوروبية‪ ،‬املؤرش العاملي للعقلية االقتصادية‪ .‬كانت درجتها أقل من‬
‫طاجيكستان‪ ،‬وزميبابوي‪ ،‬ونيجرييا‪ ،‬ونيكاراغوا وبلدان أخرى ذات معدالت منو‬
‫‪12‬‬
‫اقتصادي أقل بكثري‪.‬‬

‫يركز غيلسون وميلهوبت عىل مسألة ذات أهمية حيوية‪ ،‬وهي كيفية ظهور‬
‫العالقات االقتصادية طويلة األجل وبعيدة املدى من التبادالت العالئقية املحلية أو‬
‫القامئة عىل القرابة أو ما شابه ذلك من التبادالت العالئقية محدودة النطاق‪ ،‬حيث‬
‫ميكن ألطراف التبادل االقتصادي االلتزام بشكل موثوق بالوفاء بتعهداتهم‪ ،‬ولكن‬
‫‪96‬‬
‫فقط ضمن حدود االنتامء املحل أو القرابة أو املجموعات املحدودة املامثلة‪ .‬قد تتم‬
‫التبادالت مع الغرباء‪ ،‬لكنها متيل إىل أن تقترص عىل املعامالت الفورية‪ .‬إن مجرد‬
‫الرغبة يف املساومة عىل األسعار يف البازار ليس رشطًا كاف ًيا لإلثراء العظيم‪.‬‬
‫فاقتصادات البازار‪ ،‬التي تكون فيها كل املعامالت تقري ًبا فورية (أي نقدية أو‬
‫مقايضة بالسلع)‪ ،‬مع إجراء التحويالت يف آن واحد‪ ،‬هي عالمات عىل التخلف‬
‫املؤسيس واملعياري‪ ،‬وليست عالمات واعدة عىل عقلية صديقة للسوق عىل نحو‬
‫استثنائ‪.‬‬

‫رصا‬
‫يعترب توسيع الثقة أبعد من دوائر األقارب أو الجريان الصغرية عن ً‬
‫مركزيًا يف ظهور الكرامة الحديثة‪ ،‬وأصبح ممكنًا بفضل إعادة التقييم الليربايل‬
‫العام واآلليات املؤسسية املرتبطة به‪ ،‬مثل الكفالة والسمعة‪ ،‬وقد ُسهلت األخرية اآلن‬
‫يف عامل كامل من الغرباء متا ًما عن طريق مكاتب االئتامن ورشكات بطاقات‬
‫االئتامن‪ ،‬إىل جانب أنظمة أخرى‪ .‬لدى الديكتاتوريات الخريية املزعومة دروس‬
‫قليلة‪ ،‬إن وجدت‪ ،‬ملشاركتها مع الدميقراطيات‪ .‬وإن اختيار ثالثة أنظمة من بني‬
‫املئات‪ ،‬كام يفعل غيلسون وميلهوبت‪ ،‬ثم عزل آليات التزام مواتية لالستثامر‪ ،‬ال‬
‫يقدم أي دعم لألنظمة االستبدادية عمو ًما‪ ،‬كام يعرتفان‪ ،‬ويوفر توجيهات قليلة‬
‫للدميقراطيات النامية‪.‬‬

‫توفر املعايري واملؤسسات الدميقراطية الليربالية أدواتها الخاصة لتوسيع‬


‫شبكات الثقة وحل –أو عىل األقل تحسني– مشكلة عدم االتساق الزمني يف صنع‬
‫القرار‪ ،‬وتُحل األخرية من خالل زيادة احتامل (وذلك ليس مؤك ًدا) أن تكون‬

‫‪97‬‬
‫شموال‪ .‬يقلل بعض الفصل بني الحيازات االقتصادية‬
‫ً‬ ‫مجموعة املستفيدين أكرث‬
‫والسياسية األساسية (الذي مل يحقق بالكامل أب ًدا) من حوافز النضاالت الرامية إىل‬
‫الفوز بكل السلطة والرثوة‪ .‬مييز وزير املالية السلفادوري السابق ورئيس قسم‬
‫البنك الدويل مانويل هيندز املجتمعات أحادية البعد («يقلص كل يشء إىل بُعد‬
‫واحد‪ ،‬البعد السياس» الذي «يحول النزاعات السياسية إىل شؤون الكل أو الال‬
‫يشء») عن املجتمعات متعددة األبعاد («حيث تبقى القوة االقتصادية والسياسية‬
‫‪13‬‬
‫منفصلتني ومستقلتني عن بعضهام البعض»)‪.‬‬

‫تعد املجتمعات متعددة األبعاد أكرث عرضة من املجتمعات أحادية البعد‬


‫لتكون مضيافة لخلق القيمة املبتكر‪ .‬إذا خصص أصحاب السلطة السياسية أيضً ا أو‬
‫امتلكوا الجزء األكرب من الرثوة‪ ،‬فمن املرجح أن يعارضوا االبتكارات التي تخلق‬
‫القيمة‪ ،‬التي تؤدي عاد ًة إىل تآكل قيمة الرشكات القامئة ورأس املال‪ .‬لنأخذ مثاالً‬
‫حديثًا عىل املعارضة الرشسة من رشكات سيارات األجرة للرشكات التي تقدم‬
‫تطبيقات مشاركة الركوب‪ ،‬والتي ولدت عناوين صحف يف جميع أنحاء العامل‬
‫كالتالية «سائقي سيارات األجرة يف أوروبا مرضبون ضد أوبر ( ‪Europas‬‬
‫‪ ،»)Taxifahrer streiken gegen Uber‬و«سيارات األجرة ضد أوبر ( ‪Taxis‬‬
‫‪ »)contre Uber‬و»بعد تعرضها النتقادات من سائقي سيارات األجرة ‪ ،‬افتتحت‬
‫أوبر مكتبًا يف ساو باولو ( ‪Alvo de críticas de taxistas, Uber abre‬‬
‫‪» »)escritório em São Paulo‬وتتحد رشكات سيارات األجرة ضد أوبر وغريها‬
‫من خدمات النقل املشرتكة ( ‪Cab companies unite against Uber and other‬‬
‫‪.»)ride-share services‬‬
‫‪14‬‬

‫‪98‬‬
‫يرجح أن تكون مكاسب االبتكار موزعة عىل نطاق واسع‪ ،‬يف حني يرجح أن‬
‫ترتكز الخسائر الناجمة عن إدخال االبتكارات عىل املنتجني القامئني‪ ،‬الذين‬
‫ميارسون عمو ًما سلطة سياسية أكرب بكثري مام ميارسه املستهلكون املحتملون غري‬
‫املنظمني الذين سيستفيدون من االبتكارات؛ عندما يكون صناع القرار السياس هم‬
‫أيضً ا صناع القرار االقتصادي‪ ،‬فإن تركيز الخسائر عىل رؤوسهم يعني أن االبتكار‬
‫أكرث عرضة لإلحباط‪.‬‬

‫احتامال أن تكون جشعة من االستبداديني‪ ،‬ألن‬


‫ً‬ ‫تعد األغلبيات الدميقراطية أقل‬
‫األغلبية تنتج ومتلك ثرواتها التي قد تخرسها‪ ،‬باإلضافة إىل ما ميكنها اكتسابه من‬
‫خالل إعادة التوزيع‪ .‬وكام يالحظ مانكور أولسون‪،‬‬

‫عىل الرغم من أن األغلبية واملستبد لديهام مصلحة شاملة يف املجتمع ألنهام‬


‫يتحكامن يف جمع الرضائب‪ ،‬تكسب األغلبية باإلضافة إىل ذلك حصة كبرية‬
‫من دخل سوق املجتمع‪ ،‬ما يعطيها مصلحة شاملة أكرث يف إنتاجية املجتمع‪.‬‬
‫إن مصلحة األغلبية يف أرباح سوقها تحثها عىل إعادة توزيع أقل عىل نفسها‬
‫‪15‬‬
‫مام يوزعه املستبد عىل نفسه‪.‬‬

‫يعزز أولسون وجهة نظره عن طريق تطبيق نفس املنطق عىل التجربة‬
‫الدميقراطية املشرتكة لألغلبيات فائقة الشمولية يف أنظمة الحكومة التمثيلية‪.‬‬
‫عندما يركز املرء عىل منع االبتكار وليس فقط عىل إعادة توزيع اإليرادات‬
‫الرضيبية‪ ،‬تتعزز وجهة نظر أولسون أكرث‪ ،‬ألن الجزء األكرب من مكاسب االبتكارات‬
‫يكمن يف املستقبل ومييل إىل الرتاكم عىل رشائح شاسعة وغري منظمة‪ ،‬إن مل يكن‬

‫‪99‬‬
‫عىل مجمل السكان تقري ًبا‪ .‬يف املقابل‪ ،‬فإن الخسائر األصغر بكثري الناتجة عن‬
‫االبتكار متيل إىل الوقوع بشكل فوري وعىل فئات أكرث تركي ًزا من السكان‬
‫فعال الذين ال يتبنون االبتكار أو‬
‫ومعروفة وسهلة التنظيم‪ ،‬مثل املنتجني املعروفني ً‬
‫مخصصا لشكل اإلنتاج السابق لالبتكار فتنخفض بالتايل قيمته‪.‬‬
‫ً‬ ‫يكون رأس مالهم‬

‫تعني مشكلة خالفة السلطة أن اآلفاق الزمنية للحكام املستبدين ال متيل إىل‬
‫أن تكون أطول‪ ،‬بل أقرص من اآلفاق الزمنية لألغلبيات الشاملة‪ 16.‬رغم أن الدورات‬
‫االنتخابية تشري إىل آفاق زمنية للقادة السياسيني أقرص من تلك الخاصة‬
‫باملستثمرين‪ ،‬يرجح أن تكون اآلفاق الزمنية للقادة املنتخبني دميقراطيًا أطول وأكرث‬
‫شموال من اآلفاق الزمنية للمستبدين الذين يخشون خسارة السلطة لصالح أحد‬
‫ً‬
‫املنافسني‪ ،‬ويرجع ذلك جزئيًا إىل أن السياس الخارس عمو ًما يظل قاد ًرا عىل‬
‫الرتشح للمنصب مر ًة أخرى يف املستقبل‪ .‬إن عدم الخوف من السجن أو النفي أو‬
‫اإلعدام يعمل أيضً ا عىل إطالة األفق الزمني للسياسيني يف األنظمة الدميقراطية‪.‬‬

‫ريا‬
‫لعب تشتت املعرفة دو ًرا رئيس ًيا يف الثورة العلمية التي كان لها تأث ً‬
‫تحويل ًيا عىل املجتمعات األوروبية‪ .‬ركزت جويل موكري االنتباه عىل ظهور «ثقافة‬
‫التقدم»‪ 17.‬إن جمهورية اآلداب التي انترشت عرب العديد من الواليات القضائية‬
‫السياسية‪ ،‬مع االتصال املنتظم بني أعضائها‪ ،‬تعني أنه ال ميكن ألي كيان قمع‬
‫ظهور أفكار جديدة‪ 18.‬ما سهل ظهور جمهورية اآلداب مل يكن مجرد االستثامر يف‬
‫التعليم‪ ،‬كام يقال لنا غال ًبا‪ ،‬فالطبقة اإلدارية الصينية املحبطة كانت ذات تعليم عال‬
‫بالتأكيد‪ ،‬وإمنا الصعوبة التي واجهتها السلطات املعتمدة التي حاولت منع ظهور‬

‫‪100‬‬
‫األفكار الجديدة وانتشارها‪ ،‬لكنها فشلت يف ذلك‪ .‬ساهم منو جمهورية اآلداب يف‬
‫رصا أساس ًيا فيه‪ .‬كانت إعادة التقييم الليربالية‬
‫ظهور ثقافة التقدم‪ ،‬ولكن مل يكن عن ً‬
‫مطلوبة أيضً ا‪ ،‬وأدت إىل توسيع افرتاض الحرية ليشمل كل طبقة وعقيدة‪ ،‬وكل‬
‫فضال‬
‫ً‬ ‫لون ولغة‪ ،‬والجميع‪ .‬ترحب ثقافة التقدم الناتجة باالبتكار الذي يخلق القيمة‪،‬‬
‫عن حرية العمل‪ ،‬وتراكم رأس املال‪ ،‬واالستثامر‪ ،‬وحرية التعاقد‪ ،‬وحرية التنقل‪،‬‬
‫والعنارص املركزية األخرى للتنمية االقتصادية‪.‬‬

‫يف عام ‪ ،1920‬ميز املؤرخ جيه يب بوري نظريتني للتقدم تتطابقان مع‬
‫النهجني املوصوفني هنا‪ ،‬وهام «الدولة التنموية» االستبدادية‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وما تسميه‬
‫ديردري مكلوسيك «االبتكارية»‪ ،‬من ناحية أخرى‪.‬‬

‫تتميز بالتايل نظريات التقدم إىل نوعني مختلفني‪ ،‬يتوافقان مع نظريتني‬


‫سياسيتني متعارضتني جذريًا وتجذبان طبعني متعارضني‪ .‬النوع األول هو‬
‫نوع املثاليني واالشرتاكيني البنائني‪ ،‬الذين ميكنهم تسمية جميع شوارع‬
‫وأبراج «مدينة الذهب»‪ ،‬التي يتخيلون أنها تقع بالقرب من رعن‪ .‬حيث يكون‬
‫تطور اإلنسان نظا ًما مغل ًقا؛ مدته معروفة وقريب املنال‪ .‬النوع اآلخر هو‬
‫أولئك الذين يعتقدون‪ ،‬عن طريق استقصاء االرتقاء التدريجي لإلنسان‪ ،‬أنه‬
‫من خالل نفس تفاعل القوى الذي قاده حتى هذا الحد وبفضل التطور‬
‫اإلضايف للحرية التي كافح للفوز بها‪ ،‬سيتقدم ببطء نحو ظروف زيادة‬
‫االنسجام والسعادة‪ .‬يكون التطور هنا غري محدد املدى؛ مدته غري معروفة‬
‫ويقع يف املستقبل البعيد‪ .‬فحرية الفرد هي القوة الدافعة‪ ،‬والنظرية‬

‫‪101‬‬
‫السياسية املقابلة هي الليربالية؛ يف حني تؤدي العقيدة األوىل بطبيعة الحال‬
‫إىل نظام متامثل تكون فيه سلطة الدولة هي الغالبة‪ ،‬ال تزيد قيمة الفرد‬
‫ريا عن قيمة ترس يف عجلة جيدة التجهيز‪ :‬له مكان مخصص؛ وليس من‬
‫كث ً‬
‫‪19‬‬
‫حقه أن يسلك طريقه الخاص‪.‬‬

‫استرياد التقنيات االجتامعية‬

‫حتى البلدان ذات الدخل املنخفض ج ًدا شهدت زيادات يف األعامر‪ ،‬والصحة‪،‬‬
‫واالتصاالت‪ ،‬واملزيد إىل مستويات أعىل بكثري مام حققه سكان البلدان الرثية قبل‬
‫خمسني عا ًما فقط‪ ،‬دون اعتامد العديد من مبادئ الدميقراطية الليربالية‬
‫و«االبتكارية»‪ .‬وأحد األمثلة الواضحة عىل هذا هو الهاتف املحمول‪ ،‬الذي كان حتى‬
‫حا لألثرياء ج ًدا فقط يف البلدان الغنية واآلن أصبح متوف ًرا يف كل‬
‫وقت قريب متا ً‬
‫مكان –وأفضل بشكل ال يقدر‪ ،‬يتضمن كامريات الفيديو‪ ،‬ومرتجامت‪ ،‬ووسائل‬
‫ترفيه‪ ،‬وخرائط ‪ ،GPS‬وقواميس‪ ،‬وبرامج لياقة بدنية وأكرث بكثري– يف البلدان‬
‫الفقرية ج ًدا‪ .‬والسبب يف ذلك هو أن تقنيات اإلنتاج سهلة النقل نسبيًا من بلد إىل‬
‫‪20‬‬
‫آخر‪ ،‬بينام ال تنقل التقنيات االجتامعية بسهولة عمو ًما‪.‬‬

‫تفرتض أطروحتنا أن األشخاص العاملني يف بلدانهم يرجح أن يكونوا‬


‫قادرين عىل تقديم –أو بشكل أعم‪ ،‬تكييف أو تطوير– تقنيات اجتامعية جديدة‬
‫تساعد عىل التنمية‪ .‬متلك الجهات الفاعلة البعيدة يف واشنطن‪ ،‬ولندن‪ ،‬وجنيف‪،‬‬
‫وباريس‪ ،‬وطوكيو‪ ،‬ونيويورك‪ ،‬أو غريها من مراكز صناعة التنمية الدولية معرفة‬
‫‪102‬‬
‫أقل بالحقائق عىل األرض‪ ،‬وفرص التغيري‪ ،‬وسياسات بناء التحالفات من الجهات‬
‫الفاعلة املحلية‪ .‬وعندما يتعلق األمر بالتقنيات االجتامعية‪ ،‬فمن األرجح أن تعرف‬
‫الجهات الفاعلة املحلية ما ميكن استرياده‪ ،‬وما يجب تكييفه‪ ،‬وما هي املؤسسات‬
‫األصلية القامئة التي تقدم خدمات مامثلة أو مكافئة لتلك املألوفة لألجانب يف‬
‫بلدانهم األم‪ .‬وكام قال االقتصادي الغاين جورج ب‪ .‬ن‪ .‬أيتي ساخ ًرا‪ ،‬عندما الحظ‬
‫املسؤولون األجانب نوادي التونتني واالدخار األفريقية‪ ،‬أشاروا إليها عىل أنها‬
‫«تراكم شيوعي بدائ»‪ ،‬بينام يدعونها يف الواليات املتحدة «جمعيات االدخار‬
‫‪21‬‬
‫والقروض»‪.‬‬

‫كان الفرض الخارجي للحكم من تركات االستعامر يف إفريقيا الذي جعل‬


‫اعتامد املؤسسات واملعايري الدميقراطية الليربالية صعبًا للغاية‪ .‬صنفت سياسات‬
‫أساسا‬
‫ً‬ ‫«الحكم غري املبارش» األفارقة املفضلني كعمالء للقوة االستعامرية وجعلتهم‬
‫غري خاضعني للمساءلة أمام الشعب األفريقي الذين ُمنحوا السلطة عليه‪ ،‬التي كانت‬
‫مدعومة بواسطة الجيوش االستعامرية‪ .‬كام أشار أولوفيمي تايوو يف كتابه كيف‬
‫استبق االستعامر الحداثة يف أفريقيا‪ ،‬فإن الحداثة واملفاهيم الحديثة للكرامة قد‬
‫اختنقت يف أفريقيا‪:‬‬

‫حينام ارتكز النظام القانوين الحديث عىل املسؤولية الفردية‪ ،‬كان النظام‬
‫القانوين االستعامري مشب ًعا بقوانني تتطلب مسؤولية جامعية؛ وحينام‬
‫سمح النظام القانوين الحديث بإظهار اإلرادة الذاتية يف العمل دون قيود‬
‫غري رضورية‪ ،‬قيد النظام القانوين االستعامري اإلرادة الذاتية األصلية بقيود‬

‫‪103‬‬
‫ال تحىص‪ ،‬تشمل‪ ،‬عىل وجه الخصوص‪ ،‬القيود املكانية؛ وحينام تأسس‬
‫النظام القانوين الحديث عىل احرتام سالمة الفرد‪ ،‬أضفى النظام‬
‫االستعامري الرشعية عىل العمل القرسي أو تطلبه‪ ،‬الذي يف األساس إنكا ًرا‬
‫للذاتية؛ وحينام سعى النظام القانوين الحديث إىل إخفاء نفسه برشعية‬
‫تقوم عىل موافقة املحكومني من خالل منحهم حق التأثري يف دستور‬
‫حكومتهم‪ ،‬أدان النظام القانوين االستعامري أولئك الذين طالبوا بعدم‬
‫حكمهم من قبل حكومة ليس لهم أي تأثري فيها بارتكاب جناية – تحريض‬
‫عىل الفتنة؛ وحينام كان للنظام القانوين الحديث افرتاضً ا مدم ًجا برباءة‬
‫املتهم‪ ،‬كان للنظام القانوين االستعامري افرتاضً ا مدم ًجا بذنب املواطنني‬
‫املتهمني األصليني حتى تثبت براءتهم‪ ،‬ألنه وفقًا لصورة املواطن األصل التي‬
‫‪22‬‬
‫سادت يف تفكري املسؤولني االستعامريني‪ ،‬كان األفارقة كاذبني بالفطرة‪.‬‬

‫عندما غادرت القوى االستعامرية‪ ،‬بدرجة أو بأخرى‪ ،‬كانت الدول التي تركتها‬
‫وراءها ورثة أنظمة حكام غري خاضعني للمساءلة إىل حد كبري‪ .‬ميكن مقارنة‬
‫الحكم غري املبارش يف إفريقيا مبامرسة اإلمرباطورية اإلسبانية للحكم بالكامل عن‬
‫طريق عمالء مولودين يف إسبانيا‪ ،‬والتي تركت إرثًا متنو ًعا ولكنه دائم يف شتى‬
‫أنحاء اإلمرباطورية اإلسبانية السابقة‪ .‬وميكن مقارنة ذلك مع بيان الكرامة‬
‫الدميقراطية الحديثة لزعيم حركة الليفلرز الكولونيل توماس رينبورو يف مناظرات‬
‫بوتني‪:‬‬

‫‪104‬‬
‫أعتقد حقًا أن أفقر شخص يف إنجلرتا لديه حق يف الحياة‪ ،‬متا ًما مثل‬
‫األغنياء‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإنني أعتقد بصدق‪ ،‬يا سيدي‪ ،‬أنه من الواضح أن كل‬
‫أوال أن يخضع لتلك الحكومة مبوافقته‬
‫شخص يعيش يف ظل حكومة يجب ً‬
‫الخاصة؛ وأعتقد أن أفقر رجل يف إنجلرتا ليس ملز ًما عىل اإلطالق‪ ،‬باملعنى‬
‫‪23‬‬
‫الدقيق للكلمة‪ ،‬بتلك الحكومة التي مل يكن له صوت فيها ليخضع له‪.‬‬

‫إن التغلب عىل تركة اإلدارة االستعامرية والحكم غري املبارش هو أحد أهم‬
‫التحديات التي تواجهها بلدان ما بعد االستعامر‪ .‬مل تكن محاولة تشغيل املؤسسات‬
‫التي تركها املحتلون األجانب ناجحة ج ًدا‪ ،‬وهذا ليس مفاجئًا‪ .‬وكانت محاولة‬
‫استرياد أجندات التنمية األجنبية تكرا ًرا لنفس األسلوب – أقل وحشية‪ ،‬لكن ليست‬
‫فشال‪ .‬وكام يخلص أيتي‪« :‬كفى تنمية بالتقليد‪ .‬فالقارة طافحة بالفعل بجثث‬
‫ً‬ ‫أقل‬
‫األنظمة املستوردة الفاشلة املتعفنة»‪ 24.‬إن تبني الكرامة الدميقراطية يعني أن يقود‬
‫السكان املحليون التغيري‪ ،‬سواء كان ذلك من خالل إبطال املوروثات الضارة‬
‫لالستعامر أو إنشاء أنظمة متأصلة محليًا للمساءلة وتأمني نعمة افرتاض الحرية‬
‫وكرامة الحكم الذايت لشعبهم‪.‬‬

‫الكرامة الدميقراطية (املدنية)‬

‫حدد العامل السياس وعامل الدراسات الكالسيكية جوسياه أوبر أربعة أنواع من‬
‫الكرامة – االستحقاقية‪ ،‬والنبالة النخبوية‪ ،‬واملدنية‪ ،‬واإلنسانية‪ 25.‬النوعان األوالن‬
‫مقيدان متجذران يف األنظمة االجتامعية األرستقراطية‪ .‬والثالث –الكرامة املدنية‪،‬‬
‫‪105‬‬
‫الكرامة األساسية للحكم الدميقراطي– هو محور بحثنا‪ ،‬رغم أنه متشابك بقوة مع‬
‫كرامة اإلنسان أيضً ا‪ .‬يربز الرتكيز عىل الكرامة املدنية الجوانب السياسية والقانونية‬
‫للكرامة‪ ،‬والتي ال تنطوي فقط عىل توقعات املرء باحرتام نفسه – االحرتام الذي‬
‫يوليه له اآلخرون‪ ،‬ولكن أيضً ا عىل االحرتام الذي يوليه املرء لآلخرين‪ ،‬متا ًما كام‬
‫تويل الكرامة الربجوازية االحرتام لآلخرين وتتوقعه يف املقابل‪.‬‬

‫إن القدرة عىل رفع الرأس ومواجهة اآلخرين كمساويني قانونيًا هو جوهر‬
‫الكرامة‪ ،‬سواء وصفت بأنها برجوازية أو مدنية‪ .‬إنها عالئقية وليست داخلية أو‬
‫قامئة بذاتها فحسب‪ .‬فقد يترصف الشخص املستعبد بطريقة كرمية‪ ،‬أو يحافظ‬
‫عىل كرامته‪ ،‬ولكن ال يحرتمه اآلخرون‪ .‬يظل الشخص عاد ًة يف هذه الحالة راغبًا يف‬
‫أن يحرتم اآلخرون كرامته أو كرامتها؛ يف الواقع‪ ،‬هذا أحد األسباب التي تجعل‬
‫األشخاص املظلومني واملضطهدين يضخمون كرامتهم أحيانًا‪ ،‬ليثبتوا عىل وجه‬
‫التحديد ألنفسهم ولآلخرين أنهم أفضل من املعاملة املهينة التي يتلقونها‪.‬‬

‫يف مجتمع متسم بالكرامة املدنية‪ ،‬يعرتف بالكرامة علنًا‪ ،‬وخاص ًة أيضً ا‪ .‬وكام‬
‫يصفها أوبر‪،‬‬

‫تنطوي الكرامة بالتأكيد عىل احرتام الذات‪ ،‬وميكننا الحفاظ عىل جوهر ال‬
‫يختزل من الكرامة الشخصية املصونة كاحرتام للذات بغض النظر عام‬
‫نعانيه عىل أيدي اآلخرين‪ .‬لكن عمليًا‪ ،‬ينطوي العيش بكرامة عىل االحرتام‬
‫الذي يحمله لنا اآلخرون‪ ،‬وكيفية معاملتهم لنا‪ .‬وتتجىل كرامتنا يف كيفية‬
‫ترصفنا تجاه اآلخرين وكيفية ترصفهم تجاهنا‪ .‬إن الكرامة املتعلقة‬

‫‪106‬‬
‫بالدميقراطية هي‪ ،‬إىل حد كبري‪ ،‬مسألة احرتام واعرتاف نوليه علنًا لبعضنا‬
‫‪26‬‬
‫البعض‪ ،‬من خالل أقوالنا وأفعالنا‪.‬‬

‫ميز هذا النوع الكرامة الذي متتعت به الدميوس (‪ ،)demos‬عامة الناس‪،‬‬


‫املجتمعات السياسية األوىل التي حملت اسم دميقراطية‪ ،‬وهذه هي خاصية الكرامة‬
‫املدنية التي حافظت عليها‪ .‬يجدر التأكيد عىل أن الدميوس مل تشمل جميع السكان‪.‬‬
‫جا أوليًا مبك ًرا‬
‫ويف هذا الصدد‪ ،‬كانت الدميقراطية الكالسيكية من نواح كثرية منوذ ً‬
‫للدميقراطية الحديثة وال ينبغي بأي حال من األحوال إضفاء الطابع الرومانيس‬
‫جا أخالقيًا أو سياسيًا‪ .‬استغرقت املبادئ آالف السنني لتطبق‬
‫العتبارها منوذ ً‬
‫باستمرار وتطلبت ظهور الليربالية‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬الدميقراطية الليربالية‪ ،‬لتحقيق‬
‫مثارها يف العامل الحديث‪ .‬رغم عيوبها الواضحة‪ ،‬ما تزال النامذج األولية تحتوي‬
‫عىل دروس مهمة لإلصدارات الالحقة‪ ،‬وهي التي ننظر إليها عند دراسة النامذج‬
‫األولية الدميقراطية للعصور القدمية‪.‬‬

‫بعد عرض قضيته يف محاكمته ضد ميدياس بتهمة االعتداء العلني عليه‬


‫والسعي إىل إذالله‪ ،‬ختم الخطيب والدميقراطي األثيني دميوسثينيس خطابه أمام‬
‫هيئة املحلفني األثينية بتذكري مبا يعنيه أن تكون مواطنًا يف نظام حكم دميقراطي‪:‬‬

‫فكروا فحسب‪ .‬يف اللحظة التي تُرفع فيها هذه الجلسة‪ ،‬سيميش كل واحد‬
‫منكم إىل املنزل‪ ،‬البعض برسعة‪ ،‬واآلخر عىل مهل‪ ،‬ليس قلقًا‪ ،‬وال يلقي نظرة‬
‫خاطفة خلفه‪ ،‬وال يخىش ما إذا كان سيصطدم بصديق أو عدو‪ ،‬برجل كبري‬
‫أو صغري‪ ،‬برجل قوي أو ضعيف‪ ،‬أو أي يشء من هذا القبيل‪ .‬وملاذا؟ ألنه‬

‫‪107‬‬
‫يعرف يف قلبه‪ ،‬وهو متيقن‪ ،‬وتعلم أن يثق يف الكيان السياس‪ ،‬أنه ال يجوز‬
‫‪27‬‬
‫ألحد أن يعتقله أو يهينه أو يرضبه‪.‬‬

‫ال تعزى هذه الثقة يف كرامة املرء إىل القوة الجسدية للشخص أو قدرته عىل‬
‫الدفاع عن نفسه يف القتال‪ ،‬بل تعزى إىل ثقة الجميع يف القوانني وإىل الرغبة‬
‫واسعة النطاق يف الدفاع عن كرامة اآلخرين وحقوقهم‪ .‬ذكرر دميوستينيس املحلفني‬
‫األثينيني بأن‬

‫ذلك ال يعني أنك وحدك من املواطنني املستعد للقتال‪ ،‬وال يعني أن قواك‬
‫الجسدية يف أفضل حاالتها وأقواها‪ ،‬وال يعني أنك يف أوج الرجولة؛ ال يرجع‬
‫ذلك إىل أي سبب من هذا القبيل وإمنا إىل قوة القوانني ببساطة‪ .‬وما هي‬
‫قوة القوانني؟ إذا ظلم أحدكم وبىك جها ًرا‪ ،‬فهل ستهرع القوانني لتكون إىل‬
‫جانبه ملساعدته؟ ال؛ إنها مجرد نصوص مكتوبة وغري قادرة عىل مثل هذا‬
‫الفعل‪ .‬فأين تكمن قوتها؟ يف أنفسكم‪ ،‬فقط إن كنتم تدعمونها وتجعلونها‬
‫قوية ملساعدة من يحتاجها‪ .‬لذلك فالقوانني قوية بفضلكم وأنتم قويون‬
‫‪28‬‬
‫بفضل القوانني‪.‬‬

‫تختلف كرامة العامل القديم املدنية يف نواح كثرية عن كرامة الحداثة‪ ،‬لكن‬
‫أصول الثقافة املدنية تقدم بعض الدروس وبعض املعايري لدور الكرامة يف ترسيخ‬
‫املواطنة الفعالة لدعم السلعة العام‪ ،‬أي لدعم إطار السعي املتبادل ملختلف سلعنا‪.‬‬
‫وكام وصف أرسطو الفهم الشعبي للدميقراطية‪،‬‬

‫‪108‬‬
‫(‪ )1‬إن الفرضية األساسية لنوع النظام الدميقراطي اآلن هي الحرية‪ .‬يقال‬
‫عاد ًة [‪1317‬ب] إن الرجال يشاركون يف الحرية يف هذا النوع من األنظمة‬
‫فحسب‪ ،‬ألن كل دميقراطية‪ ،‬كام يزعم‪ ،‬تهدف إىل ذلك‪ .‬وأحد جوانب الحرية‬
‫هي أن يتم حكمك وأن تحكم بدورك‪ )2( .‬إن العدالة الشعبية بصفة مميزة‬
‫هي املساواة عىل أساس العدد وليس عىل أساس االستحقاق؛ حينام تكون‬
‫العدالة من هذا النوع‪ ،‬يجب بالرضورة أن يكون للجامعة سلطة‪ ،‬وما يتم حله‬
‫عادال‪ ،‬ألنه‪ ،‬كام‬
‫ً‬ ‫بواسطة األغلبية يجب أن يكون نهائ ًيا ويجب أن يكون‬
‫يؤكدون‪ ،‬يجب أن يكون لكل مواطن حصة متساوية‪ .‬والنتيجة هي متتع‬
‫الفقراء يف الدميقراطيات بسلطة أكرب من األثرياء‪ ،‬ألنهم ميثلون األغلبية‪،‬‬
‫وما يتم حله بواسطة األغلبية يعترب موثوقًا‪ )3( .‬هذه‪ ،‬إذن‪ ،‬عالمة من‬
‫عالمات الحرية‪ ،‬ويعتربها أفراد الطبقة الشعبية املبدأ املحدد للنظام‪.‬‬
‫والعالمة األخرى هي العيش كام يرغب املرء‪ .‬ألنهم يؤكدون أن هذا هو عمل‬
‫الحرية‪ ،‬ألن العيش بعكس الرغبة يعد سمة من سامت الشخص املستعبد‪.‬‬
‫(‪ )4‬هذا‪ ،‬إذن‪ ،‬هو املبدأ الثاين املحدد للدميقراطية‪ .‬ومنه جاءت [املطالبة‬
‫باالستحقاق] بأال يحكم أي شخص‪ ،‬أو يف حال فشل ذلك‪ ،‬أن [يح ُكم‬
‫‪29‬‬
‫ويحكم] بدوره‪ .‬ويساهم بهذه الطريقة يف الحرية القامئة عىل املساواة‪.‬‬

‫يستند الحكم بالنقاش تاريخيًا إىل ثقافة الكرامة املدنية‪ .‬من الناحية العملية‪،‬‬
‫جسدت أثينا الدميقراطية الكرامة املدنية يف مامرسات إيسيغوريا (املساواة يف‬
‫التعبري)‪ ،‬وإيسونوميا (تساوي تطبيق القوانني)‪ ،‬وإيسوكراتيا (املساواة يف السلطة‬

‫‪109‬‬
‫السياسية)‪ .‬لقد انترشت هذه املبادئ عرب العامل منذ فرتة طويلة‪ .‬فهي ليست ملكًا‬
‫لثقافة واحدة وإمنا إطار التنمية للجميع‪ .‬الكرامة الحديثة تتطلب الدميقراطية‪.‬‬

‫يف خطابه الشهري عن الحرية القدمية والحديثة‪ ،‬أرص بنجامني كونستانت‬


‫عىل أن الحرية الحديثة احتضنت ما نطلق عليه (اقتدا ًء بديردري مكلوسيك)‬
‫الكرامة الربجوازية عندما عرفها عىل أنها‬

‫الحق يف الخضوع للقوانني فقط‪ ،‬وأال يعتقل أو يحتجز أو يعدم أو تساء‬


‫معاملته بأي شكل من األشكال بإرادة تعسفية لشخص أو أكرث‪ .‬يحق للجميع‬
‫التعبري عن رأيهم واختيار مهنتهم ومامرستها‪ ،‬والترصف مبمتلكاتهم وحتى‬
‫إساءة استخدامها؛ والتنقل دون إذن‪ ،‬ودون الحاجة إىل تفسري دوافعهم أو‬
‫التزاماتهم‪ .‬يحق للجميع االجتامع مع اآلخرين‪ ،‬إما ملناقشة اهتامماتهم‪ ،‬أو‬
‫اعتناق الدين الذي يفضلونه هم ورفاقهم‪ ،‬أو حتى ببساطة لشغل أيامهم أو‬
‫ساعاتهم بطريقة تتوافق مع ميولهم أو أهوائهم‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬اختتم تعريفه مبا أسميناه (اقتدا ًء بجوزياه أوبر) الكرامة املدنية‪:‬‬
‫ريا‪ ،‬يحق للجميع مامرسة بعض التأثري عىل إدارة الحكومة‪ ،‬سوا ًء عن طريق‬
‫«أخ ً‬
‫انتخاب جميع املسؤولني أو بعضهم‪ ،‬أو من خالل التمثيالت وااللتامسات واملطالب‬
‫‪30‬‬
‫التي تضطر السلطات إىل االلتفات إليها بشكل أو بآخر»‪.‬‬

‫ال تكتمل الكرامة الربجوازية وافرتاض الحرية وال تستقران من دون كرامة‬
‫مدنية وسياسات دميقراطية فاعلة‪ .‬لقد اقتبسنا هذا التحذير من كونستانت سابقًا‪،‬‬
‫ولكنه مهم ج ًدا لدرجة أننا نعتربه يستحق االقتباس مر ًة أخرى‪ ،‬ألن تحذيره وثيق‬
‫‪110‬‬
‫الصلة باملناقشات املعارصة حول الدميقراطيات «امل ُدارة (الزائفة)» االستبدادية‬
‫مقابل الدميقراطية الليربالية‪.‬‬

‫يكمن خطر الحرية الحديثة يف أننا‪ ،‬بعد استغراقنا يف التمتع باستقاللنا‬


‫الخاص‪ ،‬والسعي وراء مصالحنا الخاصة‪ ،‬ينبغي أن نتخىل بسهولة بالغة‬
‫عن حقنا يف املشاركة يف السلطة السياسية‪ .‬يحرص أصحاب السلطة ج ًدا‬
‫عىل تشجيعنا عىل ذلك‪ .‬إنهم مستعدون لتجنيبنا جميع أنواع املشاكل‪ ،‬ما عدا‬
‫مشاكل الطاعة والدفع! سيقولون لنا‪ :‬يف النهاية‪ ،‬ما هدف جهودكم‪ ،‬ودافع‬
‫عملكم‪ ،‬وهدف كل آمالكم؟ أليست السعادة؟ حسنًا‪ ،‬اتركوا هذه السعادة لنا‬
‫وسنمنحها لكم‪ .‬ال يا سادة‪ ،‬يجب أال نرتكها لهم‪ .‬مهام كانت هذه االلتزامات‬
‫الرقيقة مؤثرة‪ ،‬دعونا نطلب من السلطات االلتزام بحدودها‪ .‬دعوهم‬
‫يقرصون أنفسهم يف أن يكونوا عادلني‪ .‬سنتحمل مسؤولية سعادتنا‬
‫‪31‬‬
‫بأنفسنا‪.‬‬

‫بغض النظر عن عدد املكافآت والوعود الكاذبة التي يقدمها املستبدون‪ ،‬فإن حكمهم‬
‫ال ميثل تحسينًا عىل الدميقراطية الليربالية‪ .‬وبغض النظر عن مدى رقة التزامات‬
‫األجانب‪ ،‬فإنهم ال يستطيعون تطوير اآلخرين‪ .‬وال يجب عىل الذين يسعون إىل‬
‫تحقيق االزدهار أن يرتكوا تنميتهم لآلخرين‪ .‬قد يساعد األجانب‪ ،‬لكن يجب أن يظلوا‬
‫ضمن حدودهم‪ .‬إن تنمية املجتمعات الفقرية والبلدان الفقرية يف أيدي الفقراء‪ .‬فهم‬
‫وكالء تنميتهم الخاصة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫إهانة الكرامة ف اإلغاثة التنموية‬ ‫‪6‬‬

‫قدم ساميون بالند‪ ،‬الذي عمل ف كينيا فيام كان يدعى‪ ،‬ف تلك األثناء‪ ،‬وزارة التنمية الدولية‬
‫ف اململكة املتحدة‪ ،‬ف إحدى املرات للصحفية نينا مونك صور ًة موجز ًة عن إخفاقات التنمية‬
‫ف املنطقة‪« :‬مضخات املياه معطلة‪ ،‬وعيادات الرعاية الصحية غري مكتملة‪ ،‬ومربعات سكنية‬
‫مهجورة‪ ،‬وطرق ال تؤدي إىل أي مكان‪ ،‬وسدود قد انهارت‪ .‬أفريقيا مليئة ببقايا مشاريع‬
‫التنمية حسنة النية‪ .‬املشكلة هي عندما تغادر‪ ،‬ماذا يحدث عندها؟»‪ 1.‬ال تقترص هذه األنواع‬
‫من اإلخفاقات عىل أفريقيا‪ .‬ف معرض تفكريه ف أعقاب كارثة تسونامي عام ‪ ،2004‬نقل‬
‫عن مسؤول رسيالنيك ف اإلغاثة عىل حافة الفوىض قوله‪« :‬ال أعلم ما هو أسوأ‪ ،‬املوجة‬
‫‪2‬‬
‫األوىل من املاء أم املوجة الثانية من املساعدات»‪.‬‬

‫ف ‪ ،2017‬تساءل االقتصاديان ف البنك الدويل مايكل وولكوك وكيت بريدجز‪« ،‬ملاذا‬


‫تستمر وكاالت التنمية ف اتباع األساليب التي يقر بإشكاليتها بشكل متكرر؟»‪ 3.‬إنه سؤال‬
‫جيد‪ .‬إن إخفاقات اإلغاثة التقليدية موثقة جي ًدا وقد دعت أصوات متعددة إلحداث إصالحات‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬ملاذا مل يحدث ذلك؟ لفهم إجابة هذا السؤال بشكل أفضل وإلدراك نوع التغيري املطلوب‪،‬‬
‫ثم نستكشف فيام ييل سبب فشل اإلغاثة‪.‬‬

‫ف نوفمرب ‪ ،2019‬نرش ناثان نان من جامعة هارفرد كتابًا بعنوان «إعادة التفكري‬
‫ملخصا ملا تعلمه حول تأثري اإلغاثة عىل البلدان النامية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ف التنمية االقتصادية»‪ ،‬قدم فيه‬
‫‪4‬‬
‫وهنا نسلط الضوء عىل أربع مجاالت رئيسية ذات أهمية‪.‬‬

‫ربط الجزء األكرب من املساعدات الخارجية مبامرسات اإلنفاق لصالح الدولة املانحة‪.‬‬
‫تربز حكومة الواليات املتحدة بشكل خاص‪ ،‬إذ متلك أعىل نسبة مساعدات مقيدة‪ ،‬وهي تعمل‬
‫‪112‬‬
‫فعل ًيا كجزء من الرتويج للصناعات والرشكات املفضلة‪ .‬إن ربط اإلغاثة بالسلع والخدمات‬
‫املنتجة ف البلدان املانحة يرفع تكاليفها «بنسبة ‪ 30-15‬باملئة باملتوسط وبنسبة ‪ 40‬باملئة»‬
‫‪5‬‬
‫ف حالة الغذاء‪.‬‬

‫تغذي املساعدات الخارجية الفساد‪ .‬تختفي حصة كبرية من املساعدات‪ .‬وليست نسبة‬
‫ثالثني باملئة مستغربة وهناك حاالت موثقة عجزت فيها ‪ 100‬باملئة من دوالرات اإلغاثة ف‬
‫الوصول إىل غاياتها املقصودة‪ .‬تزيد اإلغاثة من البحث عن الريع ملحيل وتشجع عىل‬
‫املناورات املدمرة‪ .‬والنمو االقتصادي ال يعوض عن الفساد الذي متكنه اإلغاثة؛ إن العالقة‬
‫بني املساعدات الخارجية والنمو االقتصادي بعيدة املنال ف أحسن األحوال‪.‬‬

‫«املساعدات الخارجية ال تغذي االستثامرات املعززة للنمو (أو النمو ذاته) ولكنها‬
‫تزاحم املدخرات املحلية وتزيد من استهالك املنتجات األجنبية»‪( 6.‬يجب أن نذكر أن زيادة‬
‫استهالك املنتجات األجنبية لن يكون أم ًرا سي ًئا ف حد ذاته إذا رشيت تلك املنتجات عن طريق‬
‫اإلنتاج املحيل)‪.‬‬

‫ميكن للمساعدات الخارجية أن تؤدي إىل تفاقم احتامل الرصاع‪ .‬حتى املساعدات‬
‫اإلغاثية حصل أن بيعت لزيادة الجاهزية الحربية‪ .‬وجدت إحدى الدراسات أنه‪ ،‬ف املتوسط‪،‬‬
‫«ف السنة التالية لزيادة املساعدات الخارجية املقدمة من الواليات املتحدة ف بلد ما‪ ،‬يكون‬
‫‪7‬‬
‫هناك ازدياد ف حوادث القتل‪ ،‬والقمع‪ ،‬والتعذيب من قبل الدولة»‪.‬‬

‫يضاف إىل هذه القامئة القلق الحقيقي ج ًدا من أن املساعدات الخارجية تقوض‬
‫مساءلة الحكومة أمام مواطنيها ف الدميقراطيات الناشئة‪ .‬ف البلدان املتلقية‪ ،‬يواجه‬
‫املسؤولون املنتخبون ووزاراتهم ضغوطًا ضارة إذ يلبون مطالب قوى خارجية‪ .‬غال ًبا ما‬

‫‪113‬‬
‫يتعني عليهم تكريس الكثري من وقتهم واهتاممهم لالمتثال للمتطلبات اإلدارية املتعلقة‬
‫باإلغاثة واالنتقال إىل االجتامعات خارج البالد‪.‬‬

‫لنأخذ حالة تنزانيا‪ ،‬وهي دولة ف أفريقيا تراوحت املساعدات الخارجية لها عىل مدى‬
‫السنوات العرش املاضية ما بني ‪ 30‬ف املئة و‪ 70‬ف املئة من ميزانية الحكومة‪ 8.‬لنتخيل‬
‫تأثري مثل هذه املساهمة الضخمة عىل القادة السياسيني ومساءلتهم أمام مواطنيهم‪ .‬ليس‬
‫ذلك استنزافًا للوقت وحسب‪ .‬إذ ميكن للعواقب أن تتبدى بطرق منذرة بالخطر‪ .‬ففي‬
‫مثال‪ ،‬نظم املسؤولون ف إحدى املرات حفل ًة لالحتفاء بخرب أنهم حلوا من جديد‬
‫سرياليون‪ً ،‬‬
‫ف قعر الئحة برنامج األمم املتحدة اإلمنايئ ألسوأ البلدان ف العامل‪ ،‬ما يضمن لهم عا ًما آخر‬
‫‪9‬‬
‫من املساعدات السخية‪.‬‬

‫حتى عندما تأيت املساعدات مع قليل من الرشوط‪ ،‬غالبًا ما تفشل حكومات البلدان‬
‫ف استخدام األموال لتحقيق مصالح مواطنيها‪ .‬وثقت ليندا بوملان‪ ،‬وهي صحفية هولندية‬
‫أمضت خمسة عرش عا ًما ف تغطية األزمات اإلنسانية‪ ،‬منطًا من سوء اإلدارة والفساد من‬
‫قبل نخب غري خاضعة للمساءلة ممن استخدموا أموال املساعدات لتحقيق طموحاتهم‬
‫الخاصة‪ .‬ويشكل كتابها‪ ،‬قافلة األزمة‪ ،‬جول ًة تفتح البصائر عرب املعضالت األخالقية التي‬
‫تتحدى االفرتاضات التقليدية تجاه ما ميكن لألجانب أن يفعلوه حقًا للمساعدة‪ .‬من دارفور‬
‫إىل غوما‪ ،‬ومن كابول إىل أديس أبابا‪ ،‬أثبتت املساعدات أنها شديدة التأثر بانتهازية أكرث‬
‫‪10‬‬
‫الفاعلني فظاع ًة وإجرا ًما داخل هياكل السلطة ف الدول املتلقية‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫مسح الصبغة االستعامرية عن التنمية‬
‫ليست إميا ماودسيل‪ ،‬التي كتبت كتابًا ف عام ‪ 2020‬عن الديناميكيات غري الصحية التي‬
‫تحكم عالقات الدول املانحة واملتلقية‪ ،‬متفائل ًة بأن حكومات األمم الرثية ستغري أساليبها‬
‫قريبًا‪ .‬بل‪ ،‬هي تتطلع إىل األشخاص العاديني وإىل مجموعات املجتمع املدين ف الدول‬
‫املتلقية ليطالبوا بأن تكرس حكوماتهم دورة اإلغاثة‪ 11.‬بدأت الدعوات لقيادة املجتمع املدين‬
‫وزيادة التأثري الشعبي عىل ديناميكيات السلطة الخاصة باإلغاثة ف التصاعد‪ .‬فعىل سبيل‬
‫وعامال ف التنمية‬
‫ً‬ ‫املثال‪ ،‬جمعت منظمة بيس دايركت غري الحكومية ‪ 158‬ناشطًا‪ ،‬وأكادمي ًيا‪،‬‬
‫ف نوفمرب ‪ 2020‬ملناقشة وضع هيمنة املانحني عىل أجندة التنمية‪ .‬وقد لخصت نتائج ذلك‬
‫النقاش ف تقرير من ست وخمسني صفح ًة يدعو إىل تجديد االلتزام بإعطاء املعرفة املحلية‬
‫قيم ًة أعىل من أولويات األجانب‪ .‬وفق تقييم أولئك املشاركني‪،‬‬

‫تحايك العديد من املامرسات الحالية والتوجهات ف نظام اإلغاثة الحقبة‬


‫االستعامرية وهي مشتقة منها‪ ،‬وهو ما يزال معظم املنظامت واملانحني ف‬
‫الشامل العاملي يأنفون من اإلقرار به‪ .‬تعزز بعض املامرسات واألعراف‬
‫املعارصة الديناميكيات االستعامرية واملعتقدات االستعامرية كأيديولوجية‬
‫«املخلص األبيض» الواضحة ف الصور املستخدمة ف جمع التربعات‬
‫والتواصل من قبل املنظامت الدولية غري الحكومية‪ ،‬إىل الهياكل التنظيمية‬
‫للمنظامت الدولية غري الحكومية ف الجنوب العاملي وسلوك بعض عامل‬
‫‪12‬‬
‫اإلغاثة البيض العاملني ف الجنوب العاملي‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫يتالقى تركيز التقرير عىل قضايا العرق مع موضوعات أوسع حول املساواة العرقية تنترش‬
‫حاليًا عىل امتداد الشامل العاملي (مصطلح مخترص للمجموعة التقليدية من الدول املانحة)‪.‬‬
‫وف اآلونة األخرية‪ ،‬ف فرباير ‪ ،2021‬نرشت هيئة تحرير نيويورك تاميز وجهة نظرها حول‬
‫تلك االتجاهات بعنوان «املساعدات األجنبية تصفي حساباتها»‪ 13.‬ولتوضيح حجتهم‪ ،‬فقد‬
‫قارنوا بني حركة حياة السود مهمة ف الواليات املتحدة واالستياء املتزايد من األشخاص‬
‫امللونني الذين يعيشون ف الجنوب العاملي الذين سئموا من النخب األجنبية التي تتدخل‬
‫أبويًا ف بلدانهم‪ .‬وتحت شعار «مسح الصبغة االستعامرية عن التنمية»‪ ،‬تعمل الحركة‬
‫لتحويل سلطة صنع القرار عن الشامل العاملي‪.‬‬

‫تصف التاميز عمل ديغان عيل‪ ،‬وهي ناشطة تقود منظمة غري حكومية ف كينيا‪:‬‬

‫يل أنه لو كانت املؤسسات العاملية أكرث إنصافًا فيام يخص‬


‫تؤمن اآلنسة ع ي‬
‫إقراض املال وإزالة العقبات عىل التجارة‪ ،‬ملا كانت الدول األفريقية ستحتاج‬
‫هذا القدر الكبري من املساعدات‪ .‬وهي تريد أن تجعل نظام إعطاء املعونات‬
‫من األعىل إىل األسفل‪ ،‬املحكوم باألجانب جز ًءا من منسيات املايض‪.‬‬

‫وفقًا لديغان عيل‪« ،‬الخطوة األوىل هي التوقف الفوري لتسويق الشعب ف الجنوب‬
‫العاملي عىل أنهم «مستفيدون» سلبيون للمساعدات يحتاجون «مخلصني بيضً ا»»‪.‬‬

‫يساعد تزايد عدم الرىض عن اإلغاثة التنموية ف تسليط الضوء عىل اإلهانة التي‬
‫يعاين منها األفراد غري املرئيني تحت رحمة و(ال)كفاءة املصادر البعيدة للسلطة‪ .‬يجادل‬
‫موريسيو ميلر الحائز عىل جائزة ماك آرثر جينيوس‪ ،‬الذي أدت جهوده ف إحداث ثورة ف‬
‫العمل ضد الفقر ف أمريكا إىل تعيينه ف إدارة أوباما‪ ،‬بأن هذا االختالل ف ميزان القوى‬
‫عاملي فيام يخص استيالء األجانب عىل حيوات الشعب الفقري‪ .‬وف سياق الخدمات‬

‫‪116‬‬
‫االجتامعية‪ ،‬يدعو إىل نهج راديكايل غري تدخيل ف كتابه‪ ،‬البديل‪ :‬معظم ما تعتقدونه عن‬
‫الفقر خاطئ‪ .‬النموذج الجديد الذي يتصوره ميلر «يتطلب منا أن ندرك أن املبادرة اليومية‬
‫للكثريين تلعب دو ًرا أكرث أهمية من البادرات الكربى ألولئك الذين ننصبهم أبطاالً »‪ 14.‬أو‪،‬‬
‫عىل حد تعبري إميا مودسيل‪ ،‬ف سياق التنمية الدولية‪« ،‬املساعدات الخارجية الغربية محقرة‬
‫ومهينة بطبيعتها‪ ،‬وقد تأسست عىل مجموعة من التسلسالت الهرمية االستعامرية وما بعد‬
‫االستعامرية التي تفرتض تفوق األفكار والنامذج واألعراف «الغربية» وحق الغرب ف‬
‫التدخل»‪ 15.‬إن قيامنا بإطالة أمد مجموعة مكلفة من الربامج التي‪ ،‬ف النهاية‪ ،‬تفشل ف‬
‫إظهار الكثري من اآلثار اإليجابية و‪ ،‬ف الوقت نفسه‪ ،‬تفرض إهانات جديدة عىل املجتمعات‬
‫الضعيفة يحايك الفوىض املستعصية التي صار عليها املجمع الصناعي اإلغايث‪ .‬ف الواقع‪،‬‬
‫ملاذا تستمر بينام نعلم أنها غري فعالة وأنها تؤدي إىل الرضر؟‬

‫مقاومة التغيري‬
‫يقدم بابلو يانغواس‪ ،‬ف ملاذا نكذب بشأن اإلغاثة‪ ،‬تفس ً‬
‫ريا برشيًا ج ًدا لسبب عزوف مجتمع‬
‫التنمية عن تغيري أساليبه‪:‬‬

‫عاد ًة ما يكون أنصار اإلغاثة‪ ،‬بدورهم‪ ،‬هم نفس األشخاص الذين تعتمد‬
‫سبل عيشهم وشعورهم بالهوية املهنية ذاته عىل استمرارها‪ :‬إن مشاركتهم‬
‫ف النظام البيئي لإلغاثة تجعلهم يدعمون زيادة امليزانيات بشكل شبه‬
‫أعمى‪ ،‬وليس من الواضح ما إذا كان مطلبهم بالتحدث «عن الشعب» مح ًقا‬
‫‪16‬‬
‫ف الواقع عند املحك‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫إن الفكرة الخاطئة التي مفادها أن الغرباء غري املنتخبني‪ ،‬ف البلدان الفقرية‪ ،‬مناسبون‬
‫كصناع قرار‪ ،‬وأنهم يصممون اسرتاتيجيات التنمية نياب ًة عن السكان األصليني‪ ،‬قد استخدم‬
‫ف تربيرها التصور الخاطئ بأن التنمية تسبق ظهور املعايري الدميقراطية‪ .‬إن هذا اإلنكار‬
‫للكرامة اإلنسانية ف تقرير شعب البلد ملصريه مل تؤد سوى إىل تشجيع األبوية املتفشية‬
‫التي تتخلل مامرسات التنمية اليوم‪.‬‬

‫إن ويالت األبوية شديدة االنتشار ويصعب عكسها بالتحديد لشدة سهولة إميان‬
‫الغرباء بأنهم األفضل تجهي ًزا‪ ،‬بتعليمهم الرسمي‪ ،‬وشهاداتهم‪ ،‬ومواردهم‪ ،‬إلحداث فرق‬
‫إيجايب‪ .‬قد يفكر اختصاصيو التنمية ببعض األفكار الجديدة لتحسني اإلغاثة‪ ،‬ولكنهم ف‬
‫كثري من األحيان ال يفكرون بجدية ف البدائل التي من شأنها أن تتحدى أدوارهم القيادية‬
‫خبزت هذه العقلية األبوية ف منوذج مفرط ف التبسيط وغري إنساين‬
‫ف هذه العملية‪ .‬لقد ُ‬
‫يقود الخرباء إىل املبالغة ف تقدير قدرتهم عىل تقييم صواب قرارات اآلخرين االقتصادية‪.‬‬

‫ف الهرب من األبوية‪ :‬العقلية‪ ،‬واالقتصاد السلويك‪ ،‬والسياسة العامة‪ ،‬يحقق‬


‫االقتصاديان ماريو ريزو وغلني ويتامن الجذور الفكرية للحلول املوصوفة للمشكالت‬
‫االجتامعية الراهنة ويفضحان مغالط ًة ف النامذج العقلية الشائعة‪ .‬إن هذا هو نفس خطأ‬
‫ٍ‬
‫كاف بحيث‬ ‫االعتقاد بأن مناذجنا الحالية للسلوك البرشي متثل التجربة البرشية بشكلٍ‬
‫ميكنها أن تكشف لنا بشكل موثوق عام يجب عىل الشخص أن يفعله لتعظيم فائدته‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن السياق‪ .‬من أسباب تأدية هذا النهج إىل الخطأ هو أنه يفرتض أن متغريات مهمة‪،‬‬
‫كتفضيالت شخص ما‪ ،‬ميكن أن يعوض عنها حساب ًيا ف النموذج‪ .‬تكمن املشكلة ف أن‬
‫التفضيالت‪ ،‬أو ما يذكره الناس عاد ًة لتفسري قراراتهم‪ ،‬ال توجد ف الحقيقة بشكل مستقل‬
‫عن القرارات التي نريد توقعها‪ .‬بل هي مبنية ف عملية التفاوض عىل الظروف املتغرية‬

‫‪118‬‬
‫والتكيف معها‪ .‬إن تصورها عىل أنها معلومات موجودة مسبقًا ميكننا جمعها وتحليلها كان‬
‫خطأً له عواقب سلبية خطرية‪.‬‬

‫مثال‪ ،‬بني املعلومات‬


‫ميا ً‬
‫يخلط العديد من منظري التنمية‪ ،‬كاملخططني املركزيني قد ً‬
‫واملعرفة‪ .‬ميكن كتابة املعلومات ف التقارير‪ ،‬ووضعها ف الجداول والرسوم البيانية‪ ،‬ونقلها‬
‫وتجميعها وتحليلها‪ .‬تتضمن املعرفة أكرث من ذلك بكثري‪ ،‬فتشمل اإلدراك والخربة واملامرسة‬
‫والخطابة والتفسري‪ 17.‬مييل األبويون من النوع الحديث إىل متجيد املعلومات‪ ،‬التي ميكنهم‬
‫جمعها عن موضوعات دراستهم‪ ،‬وهم يرفضون املعرفة التي ال ميكنهم جمعها‪ .‬إن «عقلية‬
‫الخرباء» تلك‪ ،‬بدورها‪ ،‬تعزز الدوافع األبوية لصانعي السياسة الذين يرون أنفسهم معفيني‬
‫فيام يفعلونه لتحقيق غاياتهم الخاصة‪ .‬وفقًا لريزو وويتامن‪« ،‬مييل صانعو السياسة إىل‬
‫الرتويج ملزيج من تفضيالتهم الخاصة‪ ،‬أو التفضيالت املعتمدة اجتامعيًا‪ ،‬أو تفضيالت‬
‫املصالح الخاصة – وليس أي منها مرادفًا للتفضيالت الحقيقية لألشخاص املستهدفني‬
‫‪18‬‬
‫بالقوانني األبوية»‪.‬‬

‫يجادل ريزو وويتامن ألجل تطبيق «عقلية جامعة» أكرث فائدة بكثري عىل «إطار عمل‬
‫بدال من «إطار عمل مولد لألبوية» ف السياسة العامة‪ 19.‬تساعدنا هذه‬
‫مقاوم لألبوية» ً‬
‫النظرة األوسع ف رؤية أننا كأجانب يجب أال نصم سلوك اآلخرين بأنه غري عقالين ملجرد‬
‫أنه يتحدى افرتاضاتنا عام يجب أن يفكروا به‪ ،‬أو يريدوه‪ ،‬أو يفعلوه‪ .‬وهذا ال يعني التظاهر‬
‫بأن كل قرار برشي هو األمثل‪ .‬فمن الناحية العملية‪ ،‬كلنا نرتكب أخطاء نندم عليها‪ .‬ليس‬
‫السؤال املهم‪« ،‬كيف ميكننا أن نعرف بشكل أفضل ما يجب عىل اآلخرين أن يفعلوه؟»‪،‬‬
‫السؤال املهم يجب أن يكون‪« ،‬ف أي ظروف يكون الناس أقدر عىل اكتشاف القرارات التي‬
‫تتطابق مع تعريفاتهم الناشئة للنجاح والترصف وفقًا لها؟»‪ .‬بصفتنا غرباء‪ ،‬نحتاج إىل تعلم‬
‫كيفية العمل ضمن إطار أقل أبوية والبدء ف صياغة دور مختلف ألنفسنا ف دعم التنمية‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫عرب االقتصادي التنموي ويليام إيسرتيل عن األمر بإ يجاز بقوله‪« ،‬قد تضطر التنمية إىل‬
‫‪20‬‬
‫التخيل عن عقليتها السلطوية من أجل البقاء»‪.‬‬

‫تخربنا إحدى القادة املحليني لخلية تنظري غري حكومية‪ ،‬وهي آربيتا نيبال من منظمة‬
‫سامريدهي بروسبرييتي فاونديشن‪ ،‬عن ثلة األجانب الذين أتوا إىل كامتاندو ملساعدة النساء‬
‫عىل االستقالل اقتصاديًا‪ .‬وكان أحد الحلول التي قدموها تعليم النساء ذوات الدخل املنخفض‬
‫مهارات الخياطة بفكرة أنه نظ ًرا إلمكانية إجراء أعامل الخياطة ف املنزل‪ ،‬ميكن للنساء ذوات‬
‫الدخل املنخفض البدء ف جني دخل إضاف إلعالة أنفسهن وأرسهن‪ ،‬وف نفس الوقت‬
‫يصبحن أقل اعتام ًدا عىل أزواجهن‪.‬‬

‫وكام روت آربيتا‪ ،‬فجأة أصبح العديد من النساء يقدمن خدمات خياطة‪ ،‬ولكن القليل‬
‫منهن استطعن العثور عىل أي زبائن‪ .‬بالطبع‪ ،‬إذا كان هناك سوق لخدمات الخياطة املنزلية‪،‬‬
‫ورمبا كان‪ ،‬فإن التدخل نجح ف إغراقه‪ .‬فيام يتعلق باختبار فرضية السوق‪ ،‬فمن األفضل‬
‫االعتامد عىل رواد األعامل‪ ،‬الذين ميلكون أسبابًا ليكونوا أكرث تيقظًا للفرص من «خرباء‬
‫التنمية» األجانب‪ .‬إذ ميكن لرواد األعامل اختبار السوق بشكل متكرر عىل نطاق ضيق ملعرفة‬
‫ما يصلح ضمن سياقهم‪ .‬املعرفة املهمة هي معرفة املرأة املفردة نفسها‪ ،‬ومامرسة كرامة‬
‫تقرير املصري‪ ،‬وليس افرتاضات األجانب‪ ،‬الذين ال يستقون معرفتهم سوى من نواياهم‬
‫الحسنة‪.‬‬

‫ناد ًرا ما تخرج مثل هذه األخطاء ف حكم األجانب إىل النور‪ .‬تخفى حاالت فشل‬
‫مشاريع اإلغاثة ف معظم األوقات ليس بسبب عدم أمانة األشخاص املسؤولني عن التدخل‬
‫بل لجهلهم عاد ًة بأنهم فشلوا‪ .‬تقيس معظم الربامج النجاح مبخرجاتها‪ ،‬وناد ًرا ما تقيسه‬
‫بنتائجها‪ .‬كتب بني رامالينغام‪ ،‬وهو باحث ومستشار ف لجنة املساعدة اإلمنائية التابعة‬

‫‪120‬‬
‫ملنظمة التعاون االقتصادي والتنمية‪ ،‬ف كتابه الصادر عام ‪ 2013‬بعنوان‪ ،‬اإلغاثة عىل حافة‬
‫الفوىض‪ :‬إعادة التفكري ف التعاون الدويل ف عامل معقد‪:‬‬

‫إن التنمية العمل واإلنساين ‪ ...‬هي صناعة تصدير‪ ،‬وهي صناعة متبلدة‬
‫بشكل استثنايئ‪ ،‬وموجهة نحو التوريد مع ذلك‪ .‬فهي تجمع الفقر‪،‬‬
‫والضعف‪ ،‬واملعاناة من الجنوب‪ ،‬وتعبئها للبيع ف الغرب‪ ،‬وتصدر الحلول‬
‫‪21‬‬
‫غري املثبتة ف موجات ال ترحم من أفضل املامرسات‪.‬‬

‫بالنسبة لرامالينغام‪ ،‬فإن املشكلة ف الطريقة التاريخية لإلغاثة هي أنها توفر حلوالً‬
‫خطية ملشاكل غري خطية‪ ،‬وهو أشبه باستخدام كتاب وصفات خطوة بخطوة للوقوع ف‬
‫الحب‪ .‬أضف املكونات املضبوطة بشكل دقيق بالنسبة الصحيحة‪ ،‬وحرك لعرش دقائق‪،‬‬
‫واسكب ف مقالة‪ ،‬واخبز عند درجة حرارة ‪°220‬م ألربعني دقيقة‪ .‬أو‪ ،‬حسب تعبري‬
‫رامالينغام‪« ،‬لقد قيل أيضً ا إن وكاالت اإلغاثة‪ ،‬عىل الرغم من نواياها الحسنة‪ ،‬محارصة ف‬
‫‪22‬‬
‫«وهم جمعي» يعزز ذاته يتمحور حول فلسفة هندسية»‪.‬‬

‫لنأخذ حالة شهرية‪ ،‬فمرشوع قرى األلفية (‪ )MVP‬كان جه ًدا كرث الرتويج له مبقدار‬
‫‪ $300‬مليون دوال ًرا بذل ف عرش دول ف دول جنوب الصحراء الكربى ف أفريقيا من عام‬
‫‪ 2005‬حتى ‪ .2015‬وقد صمم املرشوع وقاده جيفري ساكس‪ ،‬وهو خبري اقتصادي من‬
‫جامعة كولومبيا ف نيويورك الذي كان يحتفى به ف الغرب كاملشاهري‪ .‬جادل ساكس بأن‬
‫العديد من التدخالت اإلغاثية فشلت ألنها كانت شديدة التحديد ف غاياتها وشديدة الفقر‬
‫ف متويلها‪ .‬وقد دعا إىل اسرتاتيجية «دفعة كبرية» أمل من خاللها بإثبات أن إنفاق الكثري‬
‫من املال عىل جميع أعراض التخلف ف وقت واحد من شأنه أن يتسبب ف قفزة املجتمعات‬
‫ذات الدخل املنخفض إىل ما وراء «فخ الفقر» متعدد الطبقات الذي كان مينع أي تدخل فردي‬

‫‪121‬‬
‫من إحداث فرق كبري‪( .‬لنتذكر وصف جون كينيث غالربيث لفقر «مستديم ذات ًيا» الذي هو‬
‫«يشء عىل املرء تقبله» وقبوله الشديد للتأكيد عىل أن «التغيري الهادف يجب أن يأيت من‬
‫الخارج»)‪ 23.‬ف قرى متفرقة ف أرجاء أفريقيا‪ ،‬قدم مرشوع قرى األلفية الخربة الفنية‬
‫والتمويل ملعالجة كل يشء من الزراعة إىل التعليم والبنية التحتية والصحة العامة‪.‬‬

‫أمضت الصحفية نينا مونك ست سنوات ف تغطيتها ملرشوع قرى األلفية وقدمت‬
‫بالتفصيل العديد من قصص فشله ف كتابها الناقد‪ ،‬املثايل‪ :‬جيفري ساكس والسعي إلنهاء‬
‫الفقر‪ .‬وفيه تصف ساكس بأنه صاحب حملة ال تعرف الكلل‪ ،‬أجنبي‪ ،‬يعميه إرصاره‬
‫الشخيص بأن عىل أفكاره أن تعمل‪ ،‬لو أصغى الجميع وتبعوا توجيهاته‪ .‬وف أواخر تحليلها‪،‬‬
‫تكشف مونك عن االنفصال املنترش الذي يواجهه العديد من فاعيل الخري بني معرفتهم‬
‫التقنية واملعرفة املحلية الواسعة التي يتجاهلونها‪ .‬وتكتب‪« ،‬كانت مالحظات جيفري ساكس‬
‫عىل األرض محدود ًة بالرضورة – بضغوط الوقت‪ ،‬وباللغة‪ ،‬والثقافة‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والخلفية‪،‬‬
‫‪24‬‬
‫والتصورات املسبقة‪ ،‬والنامذج الفكرية الراسخة»‪.‬‬

‫عىل سبيل املثال‪ ،‬ف أوغندا‪ ،‬أقنع مخططو مرشوع قرى األلفية قرية روهيريا املحلية‪،‬‬
‫شخصا‪ ،‬باالنتقال من زراعة املاتويك‪ ،‬وهو محصول يشبه املوز‪ ،‬إىل الذرة‬
‫ً‬ ‫التي تضم ‪7000‬‬
‫ريا‪ ،‬ولكنهم مل يستطيعوا بيع فائض الذرة‪.‬‬
‫من أجل زيادة غلة املحاصيل‪ .‬كان الحصاد وف ً‬
‫فالطرقات السيئة جعلت النقل باهظ التكلفة ومل يكن هناك مكان لتخزينه‪ .‬نتيج ًة لذلك‪،‬‬
‫تعفنت الذرة ف العراء وجذبت اآلفات‪ .‬اضطرت إحدى النساء األوغنديات‪ ،‬وهي أرملة ذات‬
‫تسعة أطفال‪ ،‬للشكوى بيأس‪« ،‬الذرة ف كل مكان! تحت األرسة‪ ،‬ف غرف املعيشة‪ ،‬ف‬
‫‪25‬‬
‫املطابخ – ف كل مكان! والجرذان ف كل مكان أيضً ا»‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫ف أغسطس ‪ ،2018‬أصدرت وزارة التنمية الدولية ف اململكة املتحدة (التي أصبحت‬
‫اآلن جز ًءا من وزارة الخارجية) أول تقييم مستقل لربنامج مرشوع قرى األلفية‪ .‬وعىل الرغم‬
‫من بحثهم عن أي بارقة أمل حيثام أمكن‪ ،‬فقد اختتم التقرير بأن «ال يوجد دليل عىل أن‬
‫األشخاص الذين يعيشون ف مناطق مرشوع قرى األلفية قد نجوا من فخ الفقر» وأن «ما‬
‫تحقق بالفعل كان ميكن تحقيقه بتكلفة أقل»‪ 26.‬وهناك مئات آالف الناس وراء هذه التقارير‬
‫ممن تأثرت حيواتهم بعمق مبقامرة مرشوع قرى األلفية‪ .‬يقتبس مونك عن امرأة ف ديرتو‪،‬‬
‫كينيا‪ ،‬شعرت باإلحباط لعدم قدرة األجانب عىل اإليفاء بوعودهم‪ ،‬أنها أخربتها‪« ،‬وحده الله‬
‫ونحن من يعلم أنواع املشاكل التي لدينا هنا»‪ 27.‬قلة من الناس يدافعون عن مرشوع قرى‬
‫األلفية اليوم‪ .‬لقد قدم طرازه‪ ،‬وكام يجب أن نذكر‪ ،‬كان العديد من عامل اإلغاثة عىل األرض‬
‫ينتقدون مرشوع ساكس منذ بداياته‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فليس من الواضح أن مشاريع اليوم ميكن‬
‫أن تدعي بأنها مختلفة عن مرشوع قرى األلفية بقدر ما تظل حلوالً صممت وقيدت من قبل‬
‫جهات خارجية تستمر ف الهيمنة عىل عملية صنع القرار فيام يخص أفضل الطرق للتدخل‬
‫فيام بعد‪.‬‬

‫مطبات األبوية املفروضة من األعىل‬


‫ف ‪ ،2018‬حقق الباحث دان هونيغ ف العالقة بني التحكم األبوي وفشل املرشوع ف‬
‫التنقل عن طريق الحكم‪ :‬ملاذا ومتى ال تعمل إدارة املساعدات الخارجية املفروضة من األعىل‪.‬‬
‫جمع هونيغ قاعدة بيانات ضخمة من ‪ 14,000‬مرشوع مساعدات ونتائجها‪ ،‬متثل العمل ف‬
‫‪ 178‬دولة خالل الفرتة ‪ .2013-1973‬باإلضافة إىل الكشف عن األداء الضعيف للغالبية‬
‫العظمى من مشاريع اإلغاثة (مل يركز سوى واحد باملئة فقط من مؤرشات املرشوع عىل‬
‫التأثري النهايئ للمشاريع)‪ 28،‬نظر هونيغ أيضً ا فيام إذا كانت منظامت التنمية الدولية (آي‬
‫‪123‬‬
‫دي أوز‪ ،‬كام كان يسميها)‪ ،‬كالوكالة األمريكية للتنمية الدولية أو وزارة التنمية الدولية (من‬
‫جديد‪ ،‬فقد أصبحت اآلن جز ًءا من وزارة الخارجية)‪ ،‬ميكن أن تشهد تحسن أداء مشاريعها‬
‫إذا تنازلت عن املزيد من السلطة من املكتب املركزي إىل الوكالء امليدانيني عىل األرض األقرب‬
‫إىل العمل‪ .‬خلص هونيغ إىل أن اإلجابة تعتمد عىل عدة عوامل‪ ،‬وأهمها اثنان‪ :‬درجة القدرة‬
‫عىل التنبؤ البيئي ومدى إمكانية التحقق من طبيعة نتائج املرشوع الذي تتيحه تلك‬
‫النتائج‪ 29.‬باختصار‪ ،‬كل يشء حسب ما يعتمد عليه‪.‬‬

‫وضع هونيغ إصبعه عىل الحد الفاصل بني ما يتناسب مع املشكالت الهندسية التي‬
‫ميكن لألبويني حلها وبني االحتامالت غري املرئية التي تظهر ف النظام الالمركزي‪ .‬ف‬
‫النهاية‪ ،‬خلص هونيغ إىل أن صناعة اإلغاثة مل تحل –أو حتى تتصالح مبا يكفي مع–‬
‫مشكلتها مع املعرفة املحلية‪ .‬ضمن إطار العمل املولد لألبوية الذي يعرفه هونيغ بشكل‬
‫أفضل‪ ،‬يؤدي به تحليله إىل اقرتاح أن اإلجابة تكمن ف اإلبحار بشكل أفضل فيام يعرف‬
‫مبشكلة الوكيل الرئييس‪.‬‬

‫كل عالقة يجب عىل أحد الطرفني أن يؤديها مبا يريض اآلخر تتضمن هذه املشكلة‪،‬‬
‫والكثري من علم اإلدارة‪ ،‬ف جذوره‪ ،‬يختص بحلها‪ .‬جادل فريدريك وينسلو تايلور‪ ،‬رمبا أول‬
‫مستشار إداري ف العامل‪ ،‬ف القرن التاسع عرش بأن دور املدير هو تحديد كيف يجب عىل‬
‫العامل أن يؤدوا أعاملهم‪ ،‬ويدربوهم عىل أدائها‪ ،‬وثم يحاسبوهم عىل الطريقة املوصوفة‪.‬‬
‫اليوم‪ ،‬نحن نعلم كم هذه الطريقة تحد األفق‪ ،‬ألنها تفرتض أن املدير‪ ،‬أو الرئيس ف هذا‬
‫الثنايئ‪ ،‬لديه كل املعرفة الالزمة للنجاح ف الدور الذي يصفه تايلور وأن العامل أو الوكيل‬
‫ليس لديه أي رؤى أو معارف تقري ًبا ليعرضها‪ .‬بد ًءا من القرن العرشين‪ ،‬بدأت القيم‬
‫التشاركية والدميقراطية ف تلطيف النزعة التايلورية ف مكان العمل‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫خالل الحرب العاملية الثانية‪ ،‬كلف كل من عامل النفس كورت لوين وعاملة‬
‫األنرثوبولوجيا مارغريت ميد بزيادة االستخدام الفعال لألطعمة املقننة بني األرس لتوفري‬
‫املزيد من إمدادات اللحوم للقوات املسلحة‪ .‬وقد أجريا تجربة بني مجموعتني من ربات‬
‫البيوت ف والية آيوا‪ .‬حرضت املجموعة الضابطة محارضة خبري خارجي حثهم عىل‬
‫استخدام لحوم أقل بحجج مقنعة عن «التغذية‪ ،‬والشح‪ ،‬والوطنية»‪ .‬أما املجموعة التجريبية‬
‫فقد تلقت معلومات مامثلة ولكنها دعيت بعد ذلك ملناقشة املشكلة م ًعا كمجموعة لتقرير ما‬
‫حا ف‬
‫يجب فعله بشكل مختلف‪ .‬كانت املجموعة األخرية‪ ،‬التي مكنت من القيادة‪ ،‬أكرث نجا ً‬
‫‪30‬‬
‫تحقيق التغيري الذي سعوا إليه جمي ًعا‪.‬‬

‫وفقًا مليد‪ ،‬فإن هدية [ليوين] الخاصة لفهم املثل األمريكية عن الدميقراطية قادته إىل‬
‫تضمني خطط البحث األوىل هذه إقراره الواضح بأنه ال ميكنك فعل أشياء للناس ولكن فقط‬
‫معهم [إمالة الخط للتأكيد مضافة عىل املصدر]»‪ 31.‬اليوم‪ ،‬يشري إرث ليوين وميد الفكري‬
‫إىل هذه البرصية مبقولة‪« ،‬الناس يدعمون ما يساهمون ف إنشائه»‪ .‬وليس ذلك وحسب‪،‬‬
‫بل إن ما يصنعونه مييل للعمل بشكل أفضل‪ ،‬باعتباره «مناس ًبا أكرث» لظروفهم‪ ،‬وليس‬
‫لـ«أفضل املامرسات» التي يتوقع الخرباء منهم تبنيها‪.‬‬

‫رمبا كان هذا هو املكان الذي ينهار فيه تشبيه هونيغ ملامرسات التنمية‪ ،‬إىل جانب‬
‫أي أمل بإصالح مشكلة فرض املساعدات الخارجية من األعىل إىل األسفل بد ًءا بالتغيريات‬
‫من الداخل إىل الخارج‪ .‬األشخاص الذين يعيشون ف البلدان منخفضة الدخل ال يعملون‬
‫تروسا ميكن لعامل اإلغاثة أن يعدلوها ف العجلة‪.‬‬
‫ً‬ ‫لدى منظامت تنمية دولية‪ .‬هم ليسوا‬
‫ليست الزيادات ف مستوى معيشتهم منت ًجا ميكننا رؤيته يتكون عىل خط تجميع‪ .‬حتى لو‬
‫مهام ألن منوذج األعامل بأكمله‬
‫حسنت كل وكالة إغاثة مامرساتها اإلدارية‪ ،‬فلن يكون ذلك ً‬
‫خاطئ‪ .‬إذا حرصنا نهج التنمية ضمن إطار عمل مولد لألبوية يعتمد عىل إجابات ولدتها‬
‫‪125‬‬
‫العقليات الهندسية للخرباء الخارجيني‪ ،‬فسنفشل‪ .‬ما تحتاجه توسعة أفق االحتامالت للبرش‬
‫هو املامرسة الكرمية لتقريرهم الذايت للمصري‪ .‬ميكنهم أن يبينوا لنا ما هو ممكن‪.‬‬

‫يستشهد رامالينغام بخبري التنمية الربيطاين‪ ،‬روجر ريدل‪ ،‬الذي قىض حياته املهنية‬
‫ف أفريقيا‪ ،‬وف عام ‪ ،1987‬كتب كتاب إعادة النظر ف املساعدات الخارجية‪.‬‬

‫عىل الرغم من إعادة ابتكار نفسها عرب التاريخ‪ ،‬فإن صناعة اإلغاثة ما تزال‬
‫تحتفظ بكل مشاكلها القدمية – ومن خالل عدم مواجهة هذه املشاكل‬
‫النظامية‪ ،‬فإن أولئك الذين يسعون إىل تحويل اإلغاثة هم ف الواقع‬
‫‪32‬‬
‫منشغلون بتبسيط وتحسني نظام معروف بأنه معيب‪.‬‬

‫ويصيغها املفكر باألنظمة راسل آكوف بالشكل التايل‪،‬‬

‫كلام صحت طريقة فعلنا ليشء خاطئ‪ ،‬كلام أصبحنا مخطئني أكرث‪ .‬عندما‬
‫نخطئ ف فعل اليشء الخطأ ونصححه‪ ،‬نصبح مخطئني أكرث‪ .‬وعندما‬
‫‪33‬‬
‫نخطئ ف فعل اليشء الصائب ونصححه‪ ،‬نصبح أكرث صوابًا‪.‬‬

‫يكمن التحدي الذي يواجه إصالح اإلغاثة التنموية ف قبول أن أدوارنا يجب أن تتغري‬
‫مع مراعاة األدوار القيادية املهمة التي يلعبها الفقراء أنفسهم‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫الكرامة واملؤسسات‬ ‫‪7‬‬

‫نحن نعلم بأن عىل اإلغاثة أن تتغري‪ .‬السؤال هو كيف يجب أن تتغري‪ ،‬يتبعه سؤال كم نحن‬
‫ملتزمون بالتغيري حتى ولو كان التغيري يتحدى استثامراتنا يف الوضع القائم؟ يف كتاب‬
‫كيفية إدارة اسرتاتيجية إيقاف اإلغاثة‪ ،‬يشري ديريك فيي إىل نقطة بارزة مفادها أن البالد‬
‫إذا أرادت أن تنجح يف تجاوز مرحلة اإلغاثة‪ ،‬وهو األمر الذي بدأ بعض القادة املتلقون‬
‫لإلغاثة يدعون إليه علنًا‪ ،‬فسيكون مفي ًدا لها بالتأكيد أن تكون القدرات املحلية عىل الحكم‬
‫‪1‬‬
‫الفعال جاهز ًة لتسهيل املرحلة االنتقالية‪.‬‬

‫كمسألة عملية‪ ،‬يؤكد فيي عىل وعد تحسني التعبئة املحلية للموارد‪ ،‬أو تحصيل‬
‫الرضائب‪ ،‬وذلك لتعويض إيرادات املساعدات‪ .‬باإلضافة إىل الحد من صدمات امليزانية‪ ،‬يشري‬
‫وخصوصا يف أفريقيا‪،‬‬
‫ً‬ ‫فيي إىل أنه عىل الرغم من أوجه القصور الحالية يف أداء التحصيل‪،‬‬
‫ميكن أن تصري تعبئة املوارد املحلية أكرث استقرا ًرا بكثري وتصبح مصد ًرا ميكن التنبؤ به‬
‫لإليرادات الحكومية أكرث من تدفقات اإلغاثة املتقلبة‪ 2.‬يجب أن يكون من الواضح أيضً ا أن‬
‫نظا ًما أكرث كفاء ًة لتحصيل الرضائب‪ ،‬يتبع املبادئ الدميقراطية للمعدالت املنخفضة والقاعدة‬
‫العريضة‪ ،‬من شأنه أن يجعل إغراء اإلغاثة أقل إغوا ًء وأن يعزز مساءلة الحكومة أمام‬
‫مواطنيها‪ .‬ثم يكون الرتكيز عند امليض قد ًما‪ ،‬جزئ ًيا‪ ،‬عىل كيفية زيادة القدرات املحلية للحكم‬
‫الفعال‪ .‬وهذا‪ ،‬بدوره‪ ،‬يستدعي التجريب والتطوير‪ ،‬وليس فرض «أفضل املامرسات»‬
‫املستمدة من الخارج‪.‬‬

‫حتى املشاكل الهندسية ميكن حلها من خالل التجريب والتطوير‪ .‬ففي مثانينيات‬
‫القرن العرشين‪ ،‬أرادت رشكة يونيليفر تحسني الفوهة املستخدمة يف صناعة الصابون‪ .‬كُلف‬

‫‪127‬‬
‫املهندسون العاملون يف الرشكة بتحسني الفوهة‪ ،‬ولكن مل ينجح أحد منهم يف التوصل إىل‬
‫ريا‪ ،‬جند املديرون ستيفن جونز للمساعدة‪ ،‬وهو عامل أحياء تطورية كان‬
‫تطوير عميل‪ .‬أخ ً‬
‫يعمل حينها يف إحدى محطات الطاقة التابعة للرشكة‪ 3.‬ومل يكن لدى جونز أي مهارات يف‬
‫التصميم‪ ،‬ولكنه كان يعرف شيئًا عن التطور‪ .‬لقد ركز بشكل أقل عىل تصميم نتيجة وأكرث‬
‫عىل تصميم العملية التي من شأنها أن تؤدي إىل نتيجة مرغوبة‪ .‬فأخذ تصميم الفوهة‬
‫الحايل وأجرى عرشة اختالفات عشوائية‪ ،‬ثم اخترب هذه االختالفات وتجاهل جميعها‬
‫باستثناء التي أعطت أفضل أداء‪ .‬ثم أجرى ‪ 10‬اختالفات عشوائية جديدة واختربها‪ ،‬وكرر‬
‫هذه العملية ‪ 45‬مر ًة‪ ،‬أي أجرى ‪ 45‬جول ًة من تجربة ‪ 10‬أنواع جديدة بالكامل‪ .‬وانتهى به‬
‫املطاف بتصميم فوهة بتحسن كبري مل يصممه أحد وما يزال يستخدم حتى اليوم‪.‬‬

‫فشل طائفة الشحنات أو مؤسسات التقليد‬

‫إن الرتكيز عىل العملية لضامن نتائج مثالية ليس كتصميم نتيجة‪ .‬إذ تنشأ الكثري من حاالت‬
‫فشل التنمية نتيجة إما للرتكيز الزائد عىل تصميم النتيجة أو إلساءة فهم طبيعة العمليات أو‬
‫دورها يف التنمية‪ .‬تعنى املؤسسات القوية التي تسهل تحسني مستويات املعيشة بالعمليات‬
‫أكرث من النتائج‪ ،‬حتى لو أظهرت نتائج أحسن‪ .‬املؤسسات‪ ،‬كام يجادل إيسرتيل‪« ،‬حلول‬
‫معقدة ملشاكل معقدة»‪ 4‬تطورت مع مرور الزمن لتصبح كيانات نقيمها كام لو كان أحد ما‬
‫قد أنشأها‪ .‬يذكرنا رامالينغام بأنه باملعنى العميل الرصف «يجب اعتبار التنمية عملية‪ ،‬طريق ًة‬
‫للتفكري يف املشاكل املعقدة والتعامل معها»‪ .5‬يؤدي تقدير العمليات –«قواعد اللعبة» كام‬
‫يسميها عامل اقتصاد املؤسسات دوغالس نورث– إىل التفكري باملؤسسات ليس فقط من‬
‫حيث «قوتها» أو «قدراتها» بل أيضً ا من حيث البيئات التمكينية التي تسهلها (أو تعطلها)‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫تسارعت جهود تصدير مؤسسات الدميقراطية الليربالية‪ ،‬وهي نظام الحكم األكرث ارتباطًا‬
‫باالزدهار التنموي‪ ،‬بعد سقوط جدار برلني‪ .‬إنها قصة إرادة تصويب املؤسسات‪ ،‬ضمن‬
‫حدود العقلية األبوية‪ .‬يف كتابهم لعام ‪ ،2017‬بناء قدرات الدولة‪ ،‬يصف اقتصاديو هارفرد‬
‫مات آندروز‪ ،‬والنت بريتشت‪ ،‬ومايكل وولكوك ما يجري تصديره‪« :‬إن ترويج "املؤسسات‬
‫الجيدة" قد عنى‪ ،‬إىل حد كبري‪ ،‬محاوالت زرع بريوقراطيات ويربية الشكل (واألدوات‬
‫‪6‬‬
‫القانونية املصاحبة لها) عىل امتداد العامل النامي»‪.‬‬

‫وفقًا آلندروز وزميليه املؤلفني‪ ،‬فإن الزرع خطأ‪ ،‬وهو خطأ متجذر يف منوذج التنمية‬
‫األبوي الذي يغرينا بهذا النوع من التفكري التبسيطي الذي يصفونه بهذه الطريقة‪.‬‬

‫هناك منطق قوي يدفع فكرة الزرع‪ :‬إذا كانت املنظامت الويربية تدعم‬
‫الحياة االقتصادية واإلدارية والسياسية الحديثة يف البلدان ذات الدخل‬
‫املرتفع‪ ،‬أفليست أقرص مسافة بني نقطتني هي الخط املستقيم؟ إذا كنا‬
‫فعال‬
‫نعرف كيف تبدو منظامت الدولة الفعالة والقادرة –إذا كان هناك ً‬
‫«أفضل مامرسة عاملية»– فلامذا ال نطلقها يف أقرب وقت ممكن؟ ملاذا نعيد‬
‫اخرتاع العجلة؟ تدمج املقاربات الربامجية لفكرة «املؤسسات الجيدة»‬
‫بشكل روتيني بني الشكل والوظيفة‪ .‬إن زرع شكل «املؤسسات» –من‬
‫الدساتري إىل القوانني التجارية للوكاالت املرشفة عىل إدارة األرايض إىل‬
‫املشرتيات إىل كيف تبدو املدارس– أمر سهل‪ .‬ميكن للبلدان أن تتبنى‬
‫ترشيعات تؤسس لألشكال‪ :‬مصارف مركزية مستقلة‪ ،‬وضع ميزانيات‬
‫مبنية عىل النتائج‪ ،‬مامرسات رشائية‪ ،‬رشاكات بني القطاعني العام‬
‫‪7‬‬
‫والخاص يف توليد الكهرباء‪ ،‬تنظيم البنى التحتية‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫كدليل عىل فشل الزرع ولتوعيتنا بعواقبه غري املقصودة‪ ،‬يشري عاملا السياسة إيفان‬
‫كراستيف وستيفن هوملز إىل صعود الشعبوية االستبدادية يف البلدان املانحة واملتلقية عىل‬
‫حد سواء باعتباره رفضً ا بديه ًيا وساخطًا للقيود الليربالية املوىص بها من الخارج واملمولة‬
‫خارجيًا عىل السياسات الداخلية‪ .‬يف وجهة نظرهام‪ ،‬فإن فرتة ما بعد الحرب الباردة متثل‬
‫امتدا ًدا ملايض ما بعد االستعامر حني سعت الحكومات الغربية‪ ،‬ويف العديد من الحاالت‬
‫بتعاون حكومات الدول النامية‪ ،‬لتحقيق هيمنة ليربالية من خالل االنتشار النشط املفروض‬
‫من أعىل إىل أسفل للمؤسسات الليربالية‪.‬‬

‫إن الرفض الناتج عن ذلك لليربالية من قبل أجزاء كبرية من سكان عدد من الدول (هنا‬
‫يتبادر للذهن املجر وبولندا بالتأكيد‪ ،‬باإلضافة إىل روسيا‪ ،‬ويف كل منها شجع قادة‬
‫سلطويون عىل رفض الليربالية) يرتبط‪ ،‬يف جزء منه‪ ،‬بطريقة تسويقها عىل أنها «هبة» من‬
‫«الغرب» تحمل معها تحيز التصميم تجاه النتائج والذي ساد بني خرباء الزرع الذين حاولوا‬
‫تدبري وتنظيم مثل هذا النرش العاملي ألفضل املامرسات املقلدة‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬يصطلح‬
‫كراستيف وهوملز عىل تسمية فرتة ما بعد الحرب الباردة يف التنمية باسم عرص التقليد‪.‬‬
‫عندما فشلت النسخ املقلدة من املؤسسات الغربية بأداء وظيفتها بشكل صحيح‪ ،‬كام كان‬
‫محتو ًما عليها أن تفعل (مبا أنها كانت نتائج مصممة ال تضع اعتبا ًرا للعمليات املحلية)‪ ،‬فإن‬
‫اإلهانة املتمثلة يف السعي وراء منوذج أجنبي قدم عىل أنه «مسألة بديهية» متفوقة قادت‬
‫إىل مترد شعبي‪ .‬وقد فشلت الليربالية الزائفة الناتجة التي فرضت من الخارج يف زرع جذور‬
‫قوية يف بعض البلدان بالضبط ألن الليربالية كان يبرش بها –وينظر إليها– عىل أنها سياسة‬
‫تقليد‪.‬‬

‫يرشح كراستيف وهوملز‪« ،‬مرشوع تبني منوذج غريب تحت إرشاف غريب يبدو‬
‫كاعرتاف بالفشل يف الهرب من تبعية أوروبا الوسطى التاريخية للمعلمني واملحققني‬
‫‪130‬‬
‫األجانب»‪ 8.‬ويتابعان قائلني‪« ،‬حتى بدون إكراه أو إنفاذ‪ ،‬فإن التقييم املنتظم من قبل قضاة‬
‫‪9‬‬
‫أجانب مجردين من املعرفة الجادة ببلدهم ميكن أن يؤجج سياسة الغضب»‪.‬‬

‫كان ذلك محتو ًما‪ ،‬وفقًا لكراستيف وهوملز‪،‬‬

‫ألن الدول املقلدة هي عبارة عن منتحلني مرخصني قانونًا‪ ،‬فيجب عليها‪،‬‬


‫بانتظام‪ ،‬أن تسعى للحصول عىل مباركة وموافقة أولئك الذين ميتلكون‬
‫حقوق الطباعة والنرش للوصفات السياسية واالقتصادية التي تستعار‬
‫وتطبق مستعملةً‪ .‬ويجب عليهم أن يقبلوا أيضً ا بال إبداء أي احتجاج حق‬
‫‪10‬‬
‫الغربيني يف تقييم نجاحهم أو فشلهم يف االلتزام باملعايري الغربية‪.‬‬

‫يزعم كراستيف وهوملز أن مقاومة الليربالية اليوم‬

‫متجذرة يف ثورة ضد «اإلذالل بألف جرح» الذي صاحب مرشو ًعا استمر‬
‫لعقود يتطلب االعرتاف بأن الثقافات األجنبية تتفوق بشكل واسع عىل‬
‫ثقافة املرء‪ .‬إن مقاومة الليربالية مبعناها الفلسفي هي غطاء يهدف إىل‬
‫إضفاء مظهر من االحرتام الفكري عىل رغبة عميقة مشرتكة عىل نطاق‬
‫واسع للتخلص من التبعية «االستعامرية»؛ وهي دونية متأصلة يف مرشوع‬
‫‪11‬‬
‫التغريب ذاته‪.‬‬

‫إن غريزة السعي وراء الهيمنة الليربالية بهذه الطريقة أكرث إرباكًا نظ ًرا ألن مؤسسات‬
‫الدميقراطية الليربالية‪ ،‬يف أي مكان تعمل فيه عىل اإلطالق‪ ،‬قد ظهرت لحامية العمليات التي‬
‫هي بطبيعتها محلية ألنها بطبيعتها تعبري عن أولئك املحكومني من قبلهم‪ .‬إن حقيقة أن هذا‬
‫الخطأ قد ارتكب تدل عىل قوة العقلية األبوية التي ال ميكنها رؤية سوى الحلول التي تتطلب‬
‫قيادة خرباء خارجيني لتطبيقها‪ .‬تدور الليربالية حول كرامة اختيارات البرش‪ ،‬وهي ما يجادل‬
‫‪131‬‬
‫كراستيف وهوملز بأنها يشء يتوق إليه كل البرش‪ .‬إن مشاريع التغريب‪ ،‬والسيام املنسقة‬
‫‪12‬‬
‫واملنفذة من قبل النخب األجنبية واملحلية‪ ،‬بالتأكيد ال متثل ليرباليةً‪.‬‬

‫يفتتح إدموند فوسيت‪ ،‬يف محاولته عام ‪ 2018‬الستعادة الطبيعة الحقيقية لليربالية‪،‬‬
‫الليربالية‪ :‬حياة فكرة بهذا النداء الذي يحدد املستوى الذي ينطلق منه‪:‬‬

‫تهدر الطاقة الجدلية يف إظهار أن أهداف الليربالية ومثُلها مقترصة عىل‬


‫األفق الغريب‪ ،‬ومستنرية بالعلامنية‪ ،‬وفردانية برجوازية‪ ،‬ومؤيدة‬
‫للرأساملية‪ ،‬أو –باستخدام مصطلح ميسء عرصي– عاملية بال جذور‪ .‬ال‬
‫يلتصق أي من هذه اإلهانات أو الوصامت‪ .‬ال متتلك أي طائفة وال حزب‬
‫غايات ومثل الليربالية‪ .‬فهي تخدم كل األمم‪ ،‬واألنواع االجتامعية‪،‬‬
‫‪13‬‬
‫والطبقات‪.‬‬

‫مثل كراستيف وهوملز‪ ،‬كذلك نحن أقنعنا بأن الدميقراطية الليربالية منوذج الحكم‬
‫األكرث ترجي ًحا لحامية كرامة اإلنسان وحقوقه‪ .‬ولكن السؤال ال يدور حول ما إذا كنا نفضل‬
‫نظا ًما ما عىل نظام بديل‪ .‬بل السؤال هو كيف ميكن تحسني مؤسسات الحكم يف املقام‬
‫األول ومن هم الذين تهم تفضيالتهم ومصالحهم أكرث من غريهم للتأثري عىل هذه العملية‪.‬‬
‫وتساعدنا أمثلة التجارب املخيبة لآلمال ما بعد الحرب الباردة لنرش الليربالية عىل إدراك‬
‫حامقة تصميم الغرباء للمؤسسات نياب ًة عن اآلخرين‪ .‬يف الواقع‪ ،‬إن التصميم املؤسيس‬
‫كمهمة باملعنى املجرد أيضً ا مضلل‪ .‬إن الدرس الرئييس املستفاد من العقود الثالثة املاضية‬
‫هو‪ :‬إذا كانت البلدان النامية ستقوي مؤسساتها‪ ،‬فإن أدوار الشعب الذي من املفرتض أن‬
‫تحكمه تلك املؤسسات يجب أن تحل محل أدوار الغرباء‪ .‬إن االعرتاف مبعرفتهم ومشاركتهم‬
‫يف العملية يجب أن يروق ملشاعرنا الدميقراطية‪ .‬إضاف ًة إىل ذلك‪ ،‬فإن مشاركتهم بكرامة لها‬

‫‪132‬‬
‫فائدة عملية للتحسني املؤسيس‪ .‬لقد بدأت بالفعل جهود أخذ املعرفة املحلية عىل محمل الجد‪،‬‬
‫كام سنناقش الحقًا‪ .‬هذه الجهود مشجعة‪ ،‬ولكنها تكشف أيضً ا عن مدى صعوبة التخلص‬
‫من العقلية األبوية‪.‬‬

‫رفع مستوى القيادة املحلية والقدرات املحلية‬

‫يف عام ‪ ،2005‬وخالل اجتامع منظمة التعاون االقتصادي والتنمية يف باريس‪ ،‬وصلت أكرث‬
‫من مئة دولة إىل إجامع عىل خطوات التحول عن االعتامد الزائد عىل معرفة األجانب‪ .‬عرفت‬
‫الوثيقة الناتجة باسم «إعالن باريس بشأن فعالية املعونة» وميكن تلخيصها وفق املبادئ‬
‫املفتاحية الخمسة التالية‪:‬‬

‫‪ .1‬امللكية‪ :‬تضع الدولة النامية اسرتاتيجياتها الخاصة للتنمية‪ ،‬وتحسن مؤسساتها‪،‬‬


‫وتواجه الفساد‪.‬‬
‫‪ .2‬االصطفاف‪ :‬تقدم البلدان واملنظامت املانحة دعمها مبا يتامىش مع هذه‬
‫االسرتاتيجيات وتستخدم األنظمة املحلية‪.‬‬
‫‪ .3‬املجانسة‪ :‬تنسق الدول املانحة واملنظامت جهودها‪ ،‬وتبسط اإلجراءات‪ ،‬وتتشارك‬
‫املعلومات لتفادي التكرار‪.‬‬
‫‪ .4‬اإلدارة ألجل النتائج‪ :‬تركز الدول النامية واملانحة عىل تحصيل –وقياس– النتائج‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫‪ .5‬املساءلة املتبادلة‪ :‬املانحون والدول النامية مسؤولون عن نتائج التنمية‪.‬‬

‫كان اإلعالن دعو ًة للدول املتلقية لتقود بقدر ما كان تحديًا لتقليص أبوية الدول املانحة‪.‬‬
‫حدث اإلعالن بعد ثالث سنوات يف اجتامع يف غانا باسم برنامج عمل أكرا (‪ )AAA‬مع تركيز‬
‫ُ‬

‫‪133‬‬
‫زائد عىل قيادة البلد املتلقي يف السعي لتخطيط تنموي دميقراطي يأخذ باالعتبار زيادة‬
‫قدراته‪.‬‬

‫يدعو برنامج عمل أكرا املانحني الحرتام األولويات املحلية مع تشجيع الدول‬
‫النامية للتشاور بالكامل مع برملاناتها ومجتمعاتها املدنية‪ .‬تنمية القدرات‬
‫–لبناء قدرة البلدان عىل إدارة مستقبل كل منها الخاص– يف قلب برنامج‬
‫عمل أكرا‪ ،‬برتكيز عىل ضامن أن الدول تضع أولوياتها الخاصة للمكان الذي‬
‫‪15‬‬
‫تحتاج أن تبني فيه قدراتها‪.‬‬

‫قد تكون تطلعات برنامج عمل أكرا قد ألهمت بناء قدرة الدولة‪ ،‬املشار له سابقًا‪ .‬يشكل‬
‫الكتاب حج ًة لتحسني كفاءة وفعالية الحكومات يف البلدان النامية ومنوذ ً‬
‫جا لتحقيق هذه‬
‫ثقيال عىل السمع‪:‬‬
‫ً‬ ‫الغاية يف الوقت نفسه‪ .‬قد يكون الحل الذي اقرتحه آندروز وزمالؤه‬
‫التكيف التكراري املدفوع باملشاكل‪ ،‬أو ‪ .PDIA‬ما يجعل هذا الحل ميتاز عن األساليب القدمية‬
‫للتنمية هو أن افرتاضه الرئييس فكرة أنه ال يوجد «أفضل مامرسة» ميكن لألجانب أن‬
‫يعلموها فيام يخص بتعزيز مؤسسات البلد املتلقي‪ .‬عوضً ا عن ذلك‪ ،‬فالتكيف التكراري‬
‫املدفوع باملشاكل عملية ميكن من خاللها للبريوقراطيات والوزارات أن تكتشف حلولها‬
‫الخاصة «األكرث مالءمة»‪ .‬وال تبايل هذه الطريقة بدور الحكومة‪ .‬ولكنها‪ ،‬كمسألة عملية‪ ،‬ال‬
‫تتطلب‪ ،‬يف نقطة البداية‪ ،‬تضييق الرتكيز عىل الوظائف التي من الرضوري عىل الحكومات‬
‫أن تحسنها عىل املدى القصري فقط‪ .‬للمساعدة يف فرز األولويات‪ ،‬فهي تقدم مجموعة من‬
‫األسئلة الهامة لقادة الحكومة ليطرحوها عىل أنفسهم عند التفكري يف الحكمة من معالجة‬
‫الوظائف الحكومية الطموحة‪.‬‬

‫باختصار‪ ،‬فهي تثني عن السياسات أو اإلجراءات التي تتصف بأنها‪:‬‬

‫‪134‬‬
‫• تتطلب معامالت مكثفة‪ ،‬أي تحتاج لرصف الكثري من الوقت من قبل الكثري من‬
‫الوكالء الحكوميني إلنجازها؛‬
‫• تقديرية‪ ،‬ما يجعل صنع القرار شديد الغموض عىل الوكالء الحكوميني بحيث‬
‫تكون القرارات غري متسقة وغري ممكن التنبؤ بها؛‬
‫• مرهقة للمواطنني بدل أن تكون داعم ًة الحتياجاتهم؛‬
‫‪16‬‬
‫• مبنية عىل تقنيات غري معروفة ما يجعل اإلدارة الناجحة أقل احتامالً ‪.‬‬

‫تريد طريقة التكيف التكراري املدفوع باملشاكل أن تبتعد عن تفكري طائفة الشحنات أو ما‬
‫يدعوه آندروز وزمالؤه املؤلفون «التقليد املتامثل»‪ ،‬يف مقارنة مع ما تفعله بعض النباتات‬
‫والحيوانات‪ ،‬كالعث‪ ،‬والذباب‪ ،‬واألفاعي‪ ،‬ملحاكاة األنواع األقل عرض ًة للخطر‪ .‬عوضً ا عن ذلك‪،‬‬
‫فإن طريقتهم تسمح للدول املتلقية بامليش قبل الركض‪ .‬وفقًا لذلك‪ ،‬فهي تبدأ بفرض الحد‬
‫من طموحات الحكومة‪ .‬وبنفس األهمية‪ ،‬فإن عمليتهم تساعدنا عىل تقدير خصوصية‬
‫مثال‪،‬‬
‫الحلول «األكرث مالءمة» –من يقول إن مامرسات سندات ملكية األرايض يف الدمنارك‪ً ،‬‬
‫هي املثال الذي يجب عىل الجميع اتباعه؟– وأهمية تقرير املصري الذايت يف السياقات‬
‫املحلية‪.‬‬

‫يف الفصل السابق‪ ،‬كنا قد ناقشنا أهمية املجتمع املدين ووجهات النظر الشعبية يف‬
‫التنمية‪ .‬ويغطي برنامج عمل أكرا ذلك أيضً ا‪ .‬وهو أيضً ا يتحدى الحكومات املتلقية لترشك‬
‫ممثيل الشعب واملجتمع املدين يف اكتشاف «األكرث مالءمة»‪ .‬اشرتك دارين أسيموغلو‬
‫وجيمس روبنسون‪ ،‬املعروفان بكتابهام األكرث مبي ًعا ملاذا تفشل األمم‪ ،‬الذي جادال فيه ألجل‬
‫تقدير أعمق لدور املؤسسات ذات الجودة يف التنمية‪ ،‬حديثًا يف كتابة الرواق الضيق‪ :‬دول‪،‬‬
‫ومجتمعات‪ ،‬وقدر الحرية‪ .‬يف عملهام األخري‪ ،‬رشح أسيموغلو وروبنسون أن الدول املتقدمة‬
‫بنجاح هي تلك التي تتوافق فيها قدرة الدولة مع مجتمع مدين كفؤ قوي ومشارك يبقيها‬
‫‪135‬‬
‫تحت السيطرة‪ .‬إن اإلفراط يف قدرة الدولة دون مشاركة املواطنني أمر غري دميقراطي ويبدي‬
‫فشال يف إرشاك املعارف املحلية‪ .‬وهام يؤكدان عىل دور املؤسسات الدميقراطية‪ ،‬كالصحافة‬
‫ً‬
‫الحرة‪ ،‬وحرية التنظيم‪ ،‬وحرية التعبري‪ ،‬وكلها تسهل تعددية اكتشافات الحلول‪ .‬باختصار‪،‬‬
‫يجب استكامل الدعوات لتحسني قدرة الدولة كجزء من اسرتاتيجية إيقاف اإلغاثة الفعالة‬
‫من خالل تبني املثل العاملية للدميقراطية الليربالية‪ ،‬ألنه بدون الدميقراطية الليربالية‬
‫واملجتمع املدين‪ ،‬متيل الدول القوية نحو االستبداد والفقر‪.‬‬

‫التجارب املنضبطة املعشاة‬

‫يجدر أيضً ا تغطية أحد الحلول األخرى التي أعلن عنها مؤخ ًرا للمشكلة املعرفية للتنمية‪ .‬ففي‬
‫‪ ،2019‬منحت جائزة نوبل يف االقتصاد لعلامء االقتصاد إسرث دافلو‪ ،‬وأبهيجيت بانرجي‪،‬‬
‫ومايكل كرمير ألبحاثهم يف التنمية‪ .‬وهم يجادلون بأن الطريقة الوحيدة ملعرفة ما ينجح‬
‫يف التنمية هي من خالل التطبيق الحريص ألداة تستخدم منذ فرتة طويلة للتحقيق يف‬
‫الفعالية السببية‪ ،‬أال وهي التجربة املنضبطة املعشاة‪ .‬من خالل العمل الجاد إلزالة‬
‫«الضجيج» –وهو العوامل التي قد تؤثر عىل ظاهرة التنمية ولكنها ال ترشحها بشكل كاف–‬
‫وعزل مجموعة ضبط ومعالجة‪ ،‬كام يفعل من يجرب دوا ًء جدي ًدا يف التجارب الطبية‪،‬‬
‫وميكنك إجراء التجارب يف الوقت الفعيل لتعرف التدخالت التي تحصد أفضل النتائج‪ .‬وهذه‬
‫النتائج‪ ،‬كام يرجى‪ ،‬ميكن أن تساهم يف مخزن معريف عام ينجح يف التنمية – وهو مورد‬
‫ميكنه أن يزيد من إثراء مامرسات التنمية عىل نطاق أوسع‪ .‬إنه نهج «رجوع للوحة‬
‫التخطيط» يرص عىل أننا ال نستطيع أن نعرف إال ما ميكننا إثباته علم ًيا باستخدام تقنيات‬
‫التجارب املنضبطة املعشاة واالستدالل اإلحصايئ وأن هذه املعرفة التي حققت صحتها فقط‬

‫‪136‬‬
‫هي التي يجب أن توجه سياسة التنمية‪ .‬من الواضح أنه إطار عمل يولد أبويةً‪ ،‬ولكنه عىل‬
‫األقل أكرث رصام ًة وعلمي ًة من الكثري مام استخدم يف املايض لتوجيه التنمية‪ .‬لرنَ كيف يعمل‬
‫ذلك يف املامرسة الفعلية‪.‬‬

‫ألخذ مثال معروف‪ ،‬أجرى دافلو وبانرجي تجرب ًة يف الهند عىل معلمي املدارس‬
‫ملراقبة ما إذا كانت تغريات معينة يف القواعد املؤسسية ستخفض حاالت الغياب‪ ،‬وهي‬
‫مشكلة كبرية للكثري من الدول النامية التي تأمل بإحداث تحسينات يف التعليم‪ 17.‬نجحت‬
‫التغيريات يف القواعد وهيكل الحوافز يف املدرسة مبعنى أن املعلمني بدأوا يحرضون‬
‫مبعدالت أعىل‪ .‬ولكن عندما حاولوا تطبيق نفس الحوافز والقواعد‪ ،‬مجمعة كحل قابل‬
‫للتعميم للتغيب عن العمل‪ ،‬ولكن يف سياقات أخرى‪ ،‬كاملشايف حيث تغيب املمرضات غال ًبا‪،‬‬
‫فقد فشلوا‪ 18.‬ويعود السبب املحدد للفشل‪ ،‬كام نفهمه‪ ،‬إىل عدم تقبل مسؤويل املشايف‪ .‬يشك‬
‫املرء‪ ،‬سوا ًء باملعنى الحقيقي أم املتصور‪ ،‬يف أن دورهم يف التغيري املؤسيس احتل مقعد‬
‫الركاب الثانوي وراء تجارب التصميم للخرباء الخارجيني‪ .‬وسوا ًء كان االختالل هذا متعم ًدا‬
‫أو عرض ًيا‪ ،‬فإن التأثري هو نفسه‪« .‬يدعم الناس ما يساهمون يف إنشائه»‪ ،‬وذلك ألن الكرامة‬
‫التي يختربونها يف العملية تستوجب تأييدهم وألنهم‪ ،‬بالتبعية ملشاركتهم‪ ،‬يستوعبونها‬
‫ويفهمونها‪.‬‬

‫صممت التجارب املنضبطة املعشاة إلزالة التعقيد من أجل عزل متغري رئييس‪.‬‬
‫وميكنها فعل ذلك أفضل ما يكون من حيث املوثوقية يف الحاالت التي ال تكون املتغريات‬
‫مثال– يتفاعلون ويغريون سلوكهم باعتامد أحدهم عىل اآلخر‬
‫نفسها وسطاء – كالبرش ً‬
‫وبطرق غري متوقعة يف الوقت الفعيل‪ .‬أطلق العامل والريايض وارن ويفر الذي عاش يف‬
‫بدايات القرن العرشين عىل هذه الحاالت «مشاكل التعقيد املنظم»‪ ،‬والتي تقع خارج نطاق‬
‫أساليب العلوم االجتامعية التقليدية‪ 19.‬السلوك البرشي موجه نحو الهدف ومتكرر‪ ،‬ويتلقى‬
‫‪137‬‬
‫باستمرار معلومات جديدة ويستند إىل مزيج من معقد من القيم واملعتقدات والتفضيالت‬
‫والدوافع التي تؤثر عىل القرارات ويتكيف معها‪ .‬يف محاولة لفهم نتائج مثل هذا السلوم‪،‬‬
‫قال ويفر إننا بحاجة إىل «تقدم علمي ثالث» ملعالجة «املشكالت التي تتضمن التعامل يف‬
‫وقت واحد مع عدد كبري من العوامل املرتابطة يف كل عضوي»‪ 20.‬يجب أن يتحدد اختيار‬
‫األدوات حسب طبيعة املشكلة‪ .‬وال ينبغي أن نفرتض أن األداة التي تعمل جي ًدا يف فهم‬
‫مجموعة واحدة من املشكالت مناسبة أيضً ا لفهم مجموعة شديدة االختالف من املجموعات‪.‬‬

‫إذا كان الغرض من التجربة املنضبطة املعشاة هو تحديد نتيجة ميكن تعميمها‬
‫وتطبيقها عىل مواقف أخرى –وهي طريقة لبدء إصدار تنبؤات عام يصلح– فقد فشلت يف‬
‫عامال‬
‫ً‬ ‫حالة املعلمني‪-‬إىل‪-‬املمرضات ألن مامرسة استئصال «الضجيج» يف النظام أزالت‬
‫اتضح أنه مهم‪ .‬وقد أثرت شبكة الروابط االجتامعية داخل املستشفى عىل املعايري املشرتكة‬
‫التي تحدد السلوك‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬مل تترصف املمرضات بالطريقة التي تنبأ بها النموذج‪ .‬من‬
‫أجل بناء منوذج تجربة منضبطة معشاة للتنمية (أو أي نظام تكيفي معقد يتألف من عوامل)‬
‫أساسا قرص استخدام هذه‬
‫ً‬ ‫يكون صل ًبا مبا يكفي ليقدم نتيجة ذات مغزى‪ ،‬يجب عليك‬
‫النتيجة عىل ذلك الزمان واملكان وحدهام فقط‪ .‬قد تتعلم شيئًا عن ذلك الوضع بعينه‪ ،‬ولكن‬
‫من غري املرجح أن تستطيع تعميم تلك النتيجة كأفضل مامرسة‪ ،‬أو مؤسسة مقلدة‪ ،‬ونرشها‬
‫ألنظمة أخرى‪ ،‬بغض النظر عن مدى متاثلها أو تشابهها ظاهريًا‪.‬‬

‫إذا كان «األشخاص يدعمون ما يساهمون يف إنشائه»‪ ،‬وكانت معرفتهم املحلية أقدر‬
‫عىل توليد تحسينات محلية‪ ،‬إذن علينا أن نتقبل خسارة السيطرة الخارجية التي ميثلها هذا‪.‬‬
‫قد نعترب هذا‪ ،‬نتيجة الغريزة والغطرسة‪ ،‬خسار ًة تراجيدية‪ ،‬باعتقاد أن الناس سيكونون‬
‫حاال إذا فعلوا ما نعرف نحن‪ ،‬الخرباء‪ ،‬أنه األفضل لهم‪ .‬قد يبدو وكأنه بدعة‪ ،‬أو عىل‬
‫أفضل ً‬
‫األقل مناهض للعلم‪ ،‬اقرتاح أن التجارب املنضبطة املعشاة‪ ،‬التي تعترب من قبل البعض بأنها‬
‫‪138‬‬
‫املعيار الذهبي للعلوم االجتامعية‪ ،‬ذات فائدة قليلة أو معدومة يف بعض السياقات‪ .‬ولكن‬
‫غالبًا ما تكون هناك حاجة إىل البدعة لزعزعة الحكم التقليدية‪ ،‬وكشف أخطائها وإجبارنا‬
‫عىل إعادة فحص ما كنا نظن أننا نعرفه بالفعل‪ .‬ومن األمثلة الحديثة عىل ما ميكن أن نسميه‬
‫بدع ًة ما فعل ذلك بالضبط من خالل اإلخالل بالجدل الدائم حول الطبيعة مقابل التنشئة‪،‬‬
‫وقد أدى إىل إعادة الكثري من العلامء تفكريهم يف الكثري مام كانوا يعتربونه من املسلامت‪.‬‬

‫الطبيعة مقابل التنشئة؟‬

‫يف تسعينيات القرن العرشين‪ ،‬لوحظت ظاهرة غريبة يف تجارة األحواض املائية يف أملانيا‪.‬‬
‫فقد تطور نوع من إناث جراد البحر‪ ،‬يف نحو عشية وضحاها‪ ،‬لتصبح ذاتية التكاثر‪ ،‬ومل‬
‫تعد بحاجة إىل ذكور لتوليد النسل‪ .‬أمر غريب‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬ولكن الصدمة الحقيقية أتت مام‬
‫اعتربه العلامء فرص ًة فريد ًة ملزيد من الدراسة لألدوار املتبادلة املثرية للجدل للطبيعة ضد‬
‫التنشئة‪ .‬ومبعرفة التكوين شبه املتطابق لنسل جراد البحر‪ ،‬استطاع العلامء ضبط التجارب‬
‫ألجل التأثريات البيئية بني املجموعات املعزولة‪.‬‬

‫مع عدم متييز كل من الطبيعة والتنشئة بهذه الطريقة‪ ،‬فإن أساس كل يشء كنا‬
‫نعتقد معرفته عن أسباب التباين بني أشكال الحياة سيقودنا إىل توقع وجود متاثل افرتايض‬
‫يف جميع الخصائص الجسدية والسلوكية املرصودة للنسل‪ .‬ليس هذا ما حدث‪ ،‬بل‪ ،‬فقد‬
‫أظهرت أجيال من جراد البحر اختالفات شاسعة عرب متغريات متعددة منها الحجم والعادات‬
‫بدال من أن تنمو كنسخ متطابقة‪ ،‬كام تتوقع مناذجنا املعروفة‪ ،‬فإن‬
‫و«الشخصيات» والعمر‪ً .‬‬
‫هائال بطريقة ما‪.‬‬
‫جراد البحر املتطابق جين ًيا وبيئ ًيا أظهر مع ذلك تنو ًعا ً‬

‫‪139‬‬
‫يفصل الصحفي مايكل بالستالند تلك القصة الغريبة‪ ،‬ولكن الغنية باملعلومات‪ ،‬يف‬
‫كتابه لعام ‪ ،2019‬النصف املخفي‪ :‬القوى الخفية التي تؤثر عىل كل يشء‪« .‬بعد تقييد‬
‫السببني الرئيسيني لكل يشء‪ ،‬ما الذي يجعل النتائج غري منظمة إىل هذا الحد؟ اإلجابة‬
‫املخترصة هي‪ :‬ال نعرف»‪ 21.‬يلخص بالستالند ردود الفعل السخيفة للمجتمع العلمي الذي‬
‫تعرض‪ ،‬بكل شخص فيه‪ ،‬لضغوط شديدة لفهم النتائج‪ .‬وهو يؤكد بوضوح عىل نداء‬
‫الصحوة الذي أطلقه هذا الخرب يف جميع أنحاء املجتمع العلمي‪« .‬هذا ما أحب أن أسميه‬
‫صدمة الجهل‪ .‬إنها لحظة جيدة‪ ،‬إعادة معايرة قرسية‪ .‬هي تذكرنا بسهولة إمكانية إرضائنا‬
‫‪22‬‬
‫باألفكار الراسخة‪ ،‬والذهول الذي ينتظرنا يف الزاوية»‪.‬‬

‫الكتاب عبارة عن استعراض قوة يتحدى غطرسة ما أسامه فريدريش هايك الحائز‬
‫عىل جائزة نوبل يف االقتصاد عام ‪« 1974‬علموية» يف الخطاب الذي أدىل به لقبول‬
‫الجائزة‪ .‬مرد ًدا صدى ويفر‪ ،‬قال هايك إن العلموية هي املبالغة يف تقدير ما نعرفه وميكن‬
‫أن نعرفه باستخدام أحدث األساليب والتقنيات العلمية‪ .‬وأوضح هايك أن سبب هذه الثقة‬
‫املوضوعة يف غري محلها‪ ،‬إمنا كان االعتقاد الزائف بأن كل ما نستطيع قياسه‪ ،‬إذا وضعنا ما‬
‫ال نستطيع قياسه جان ًبا‪ ،‬كاف لتوليد إمكانية موثوقة للتنبؤ بنحو كل سؤال مهم يجذب‬
‫خيالنا‪.‬‬

‫يسارع بالستالند إىل استباق أي مناهض للتطور التكنولوجي‪ ،‬أو منظر للمؤامرة‪ ،‬أو‬
‫صويف قبل استخدام كتابه كمربر لغض النظر عن الخربة بال مراعاة‪ .‬عىل العكس من ذلك‪،‬‬
‫فإن دافع بالستالند هو تحسني مصداقية الخرباء واالستخدام املسؤول للعلم‪ .‬ويشري إىل‬
‫لحظة جديدة من «ما وراء العلوم»‪ ،‬مستوحاة أيضً ا من األزمة األخرية إلمكانية تكرار النتائج‬
‫يف املجالت األكادميية املعروفة‪ 23.‬إنه إقرار تنبأت به دعوة ويفر لتقدم ثالث يف املنهجية‬
‫حا أمام «مصدر‬
‫العلمية‪ .‬وينضم بالستالند باملثل إىل الدعوات املنادية بإبقاء الباب مفتو ً‬
‫‪140‬‬
‫ثالث لالختالف التنموي»‪ 24.‬ونظ ًرا لعدم امتالكنا فكر ًة واضح ًة عن ماهية هذا املصدر الثالث‪،‬‬
‫فقد ال يجري تحديده بدقة كام حدث يف بحثنا العلمي يف جدل الطبيعة ضد التنشئة حتى‬
‫اآلن‪ .‬مثل الطبيعة والتنشئة‪ ،‬فقد تكون أفضل طريقة للتفكري يف املصدر الثالث أن يفكر به‬
‫كفئة جديدة ملجموعة من األشياء‪ .‬ويعتقد بالستالند أنه يف الوقت الحايل ال ميكننا سوى‬
‫التفكري يف األمر عىل أنه ما كنا نطلق عليه تقليديًا «ضجي ًجا»‪.‬‬

‫بالطبع‪ ،‬فإن الضجيج هو املصطلح الجامع لكل العوامل أو املؤثرات املحتملة التي قد‬
‫تضع بعض العيص يف عجالت مناذجنا العلمية‪ .‬إنه ما يعمل دافلو وزمالؤه بجهد لضبط‬
‫تجاربهم ملراعاته‪ .‬قبل «قنبلة» بالستالند‪ ،‬كان االفرتاض القائم ال يقترص عىل أن الضجيج‬
‫غري مهم –وهو مصدر إزعاج يجب إزالته من املعادلة– بل أن قوة تأثريه هامشية عىل أكرب‬
‫تقدير عند ضبطه بشكل منظم‪ .‬إن آثاره عىل النتائج‪ ،‬إىل الحد الذي يظل فيه غري معزول‬
‫يف تصميم منوذج‪ ،‬يفرتض أنها مهملة‪ .‬مبعنى آخر‪ ،‬فإن اتجاه النتائج وحجمها رمبا يكونان‬
‫صائبني‪ ،‬بغض النظر عن الضجيج‪.‬‬

‫ولكن بالستالند يظن أننا عاملنا الضجيج بشكل زاد يف مالءمته عام يناسب‬
‫افرتاضاتنا‪.‬‬

‫نحن بحاجة إىل مواجهة احتاملية أن التأثريات الكبرية ليست مبقدار‬


‫االنتظام أو االتساق الذي نتوقعه‪ ،‬وأن الطريقة التي تسري بها األمور ال‬
‫ترتبط بالقوانني أو القوى أو العوامل املشرتكة التي ميكن مالحظتها أكرث‬
‫من ارتباطها بكتلة العوامل غري املشرتكة‪ ،‬وخليط التأثريات املخفية‪،‬‬
‫‪25‬‬
‫والصغرية‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫يف كتاب توماس شيلينغ املؤثر الحوافز الصغرية والسلوك العياين‪ ،‬يرشح األمناط‬
‫املختلفة للمسائل العلمية التي متثلها األنظمة املعقدة‪« .‬املواقف‪ ،‬التي يعتمد فيها سلوك‬
‫األشخاص أو اختياراتهم عىل سلوك أو اختيارات األشخاص اآلخرين‪ ،‬هي تلك التي ال تسمح‬
‫عاد ًة بأي جمع أو استقراء بسيط للتجمعات»‪ 26.‬وقد ظهر علم التعقيد لتناول هذه املشكلة‬
‫أو عىل األقل لفهمها بشكل أفضل‪ .‬وقد عرف معهد سانتا يف‪ ،‬وهو مركز أبحاث رائد يف‬
‫التعقيد‪ ،‬األنظمة املعقدة بأنها أنظمة «تتكون من العديد من األجزاء املتفاعلة التي تكون فيها‬
‫جا للتفاعالت بني األجزاء والتغذيات الراجعة بني تلك النتيجة‬
‫النتيجة الناشئة للنظام نتا ً‬
‫الناشئة والقرارات الفردية»‪ 27.‬عندما يتعلق األمر بالسلوك كثري الضجيج والتعقيد لدى‬
‫البرش‪ ،‬فإن األساليب املجمعة لعمل التنبؤات لن تنجح‪ .‬فهم عنارص‪ ،‬وليسوا مرىض‪.‬‬

‫يطبق بالستالند نتائج جراد البحر عىل املجاالت األوسع لألنظمة التكيفية‪.‬‬

‫إذا كانت حتى املستنسخات يف البيئة نفسها –حيث املشكلة يف أبسط شكل‬
‫ممكن برشيًا وأكرث األشكال ضبطًا– ليست نفس بعضها‪ ،‬بسبب قوة‬
‫متغريات غري مدركة‪ ،‬فام مقدار الثقة التي ميكن أن نتوقع أن نستطيع بها‬
‫تحديد منابع االختالفات بني الناس‪ ،‬أو الرشكات‪ ،‬أو السياسات‪ ،‬بكل‬
‫‪28‬‬
‫تعقيداتها المتناهية الفوضوية؟‬

‫وفقًا لباحثي التعقيد جيمس ميلر وسكوت بيج‪،‬‬

‫إذا كان عدم التجانس هو السمة الرئيسية لألنظمة املعقدة‪ ،‬فإن أدوات‬
‫العلوم االجتامعية التقليدية مع تأكيداتها عىل كون السلوك الوسطي ميثل‬
‫الكل قد تكون غري مكتملة أو حتى مضللة‪ .‬بينام ميكن لالختالفات أن يلغي‬
‫بعضها بعضً ا‪ ،‬ما يجعل املتوسط جي ًدا يف التنبؤ بالكل‪ ،‬فقد ال تكون الحالة‬

‫‪142‬‬
‫كذلك دامئًا‪ .‬يف األنظمة املعقدة‪ ،‬غال ًبا ما نرى تفاعل االختالفات مع بعضها‪،‬‬
‫‪29‬‬
‫ما يؤدي إىل سلوك ينحرف بشكل ملحوظ عن املتوسط‪.‬‬

‫يف النامذج القامئة عىل العنارص يشمل الضجيج سلوك االعتامد املتبادل لصانعي‬
‫القرار عىل بعضهم إذ يتفاعلون مع بعضهم ويردون أفعال بعض يف الوقت الفعيل‪ .‬وهذا‬
‫يتضمن مصد ًرا ثالثًا –لنسمه الضجيج ولكن هذه املرة سنمنحه بعض الكرامة– من التباين‬
‫غري املتوقع الذي ميكن أن يعطل أفضل تصميامتنا‪ .‬يتحدث بالستالند بال مواربة‪« .‬يجب‬
‫‪30‬‬
‫تعميم املعرفة حيثام أردنا استخدامها‪ ،‬وإال فهي ليست معرفةً»‪.‬‬

‫ريا وغري‬
‫بالطبع‪ ،‬فإن اإلقرار بأن الضجيج‪ ،‬يف بعض الحاالت‪ ،‬ميكنه أن يلعب دو ًرا كب ً‬
‫متوقع يف نتائج التنمية ال يوفر لنا‪ ،‬بذاته‪ ،‬اإلطار املقاوم لألبوية الذي نبحث عنه‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫يظل بإمكاننا أن نبدأ بتعلم املزيد عن عمليات النظام املعقد من خالل النامذج القامئة عىل‬
‫العنارص‪ .‬ميكن للنتائج من هذه النامذج أن تساعدنا يف تقدير أن حتى أصغر التغريات عىل‬
‫فمثال‪ ،‬باستخدام منوذج قائم‬
‫ً‬ ‫البيئة التجريبية ميكنها أن تؤدي إىل نتائج شديدة االختالف‪.‬‬
‫عىل العنارص محاىكً حاسوب ًيا الختبار انتشار النار كتابع لكثافة الغابة‪ ،‬بنا ًء عىل مجموعة‬
‫واحدة من نقاط االنطالق املعشاة‪ ،‬تسفر كثافة أشجار مقدارها ‪ 57‬باملئة عن حرق ‪ 7.5‬باملئة‬
‫من الغابة‪ .‬زد تلك الكثافة بنسبة واحد باملئة فستحرتق نسبة ‪ 16.4‬باملئة من الغابة‪ ،‬وهو‬
‫أكرث بقليل من ضعفي مقدار الدمار‪ .‬ولكن زد الكثافة إىل ‪ 60‬باملئة‪ ،‬أي أكرث بدرجتني‬
‫مئويتني فقط‪ ،‬وستأكل النريان ‪ 76.7‬باملئة من الغابة‪ .‬زد درج ًة مئوي ًة واحدة أيضً ا وستقفز‬
‫النتيجة مبقدار نحو خمس درجات مئوية فقط إىل ‪ 81.4‬باملئة‪ 31.‬إذا أعيدت التجربة بنقاط‬
‫بداية معشاة من جديد ميكن للنتائج أن تتغري‪ .‬األمر الذي يساعدنا هذا النوع من التجارب‬
‫يف تقديره بعمق أكرب هو نوع الظواهر التي ليست النامذج املركزية للتنبؤ مجهز ًة لتحديدها‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫األمر يدعو للتواضع‪ ،‬ولكن النمذجة القامئة عىل العنارص ما زال ميكنها أن توفر أيضً ا رؤى‬
‫غنية‪.‬‬

‫النمذجة القامئة عىل العنارص لألنظمة املعقدة‬

‫يروي إريك بينهوكر بواكري النمذجة القامئة عىل العنارص التي أجراها جوشوا إبستني‬
‫وروبرت آكستل مؤسسة معهد بروكينغز يف تسعينيات القرن العرشين‪ .‬حاىك النموذج‬
‫الحاسويب الذي صنعاه‪ ،‬الذي عرف باسم شوغارسكيب‪ ،‬اتباع عنارص لبضعة قواعد بسيطة‬
‫تعكس تفضيالت العنرص ملزيج معظم للفائدة من السكر والبهار‪ .‬بإمكان العنارص أن يجدوا‬
‫السكر والبهار بأنفسهم أو أن يتاجروا مع العنارص اآلخرين إذا وفقط إذا أمكنهم أن يجدوا‬
‫راغبني بالتجارة وأسعا ًرا متفقًا عليها بشكل مشرتك (يتفاوض عليها بوحدات السكر‬
‫والبهار)‪ .‬يف سيناريو التجارة‪ ،‬فإن «مجتمع» العنارص أصبح أغنى بكثري إذ متتع كل منهم‬
‫بحرية االستجابة لتغري الرشوط مع مزيجهم الشخيص الخاص من البحث عن السكر‬
‫والبهار والبحث عن رشكاء تجارة يتفقون معهم‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فباستخدام بيانات عىل‬
‫مستوى العنارص عن األسعار الناتجة (قبول البيع والرشاء)‪ ،‬كشف النموذج «منحنى طلب‬
‫مبيل نحو األسفل يكاد يحايك ما يف الكتب النظرية متا ًما‪ ،‬يصاحبه منحنى عرض ميله نحو‬
‫األعىل‪ ،‬رغم أن إبستني وآكستل مل يبنيا رصاح ًة أي يشء عن العرض والطلب يف‬
‫‪32‬‬
‫منوذجهام»‪.‬‬

‫باإلضافة إىل تأكيد نظريات اقتصادية‪ ،‬فإن النامذج القامئة عىل العنارص تعمق‬
‫تقديرنا لألدوار التي يلعبها العنارص املفردون يف تحديد النتائج‪ .‬الدرس املستفاد؟ التوقف‬
‫عن الرتكيز عىل نتائج التصميم وإيالء اهتامم أكرب بالعمليات‪ ،‬إلرساء القواعد بشكل صحيح‪،‬‬

‫‪144‬‬
‫أو عىل األقل تحسينها‪ .‬ولهذا آثار عملية ج ًدا عىل الطريقة التي واجهت بها التنمية طريقًا‬
‫مسدو ًدا يف تطبيق االسرتاتيجيات األبوية عىل األنظمة املعقدة‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬فيام يتعلق‬
‫مبوضوع ترويج الصادرات يف البلدان النامية‪ ،‬اكتشف إيسرتيل وزمالؤه املؤلفون يف البنك‬
‫الدويل كم ميكن أن تكون صدمات الطلب مدمرة يف إطار منوذج «انتقاء الفائزين» –وهو‬
‫‪33‬‬
‫اختصار لتحديد الدولة ألولويات الصناعات لزيادة حجم الصادرات– وهو تصميم نتائج‪.‬‬
‫يقرتح إيسرتيل وزمالؤه املؤلفون أن تتبع تدفقات الصادرات «قانون قوة»‪ ،‬مبعنى «أن‬
‫يصبح انتقاء رابح بنجاح أقل ترجي ًحا بشكل أيس مع درجة النجاح املتوقعة»‪ .‬باإلضافة إىل‬
‫هذا‪ ،‬فقد وجدوا أن «التعرض النسبي األعىل لصدمات الطلب»‪ 34‬يعني أن عواقب أسلوب‬
‫«انتقاء رابحني» عايل املخاطرة هي أشد حتى كلام قل مدى تنمية البلد أو املنطقة‪.‬‬

‫هناك تشبيه مفيد لفهم قوانني القوة يف كتاب جون ميلر وسكوت بيج‪ ،‬النظم‬
‫التكيفية املعقدة‪ :‬مقدمة للنامذج الحسابية للحياة االجتامعية‪ .‬إذ يصفان كومة رمل ويطلبان‬
‫من القارئ تخيل أن كل حبة تضاف إليها شكل من أشكال املؤثرات الصغرية عىل حجم‬
‫الكومة وشكلها‪ .‬كام ميكن ألي شخص منا قىض وق ًتا يف بناء القالع الرملية عىل الشاطئ‬
‫يف الطفولة أن يشهد‪ ،‬فغال ًبا ما تكون هناك لحظة‪ ،‬نقطة تحول‪ ،‬ينهار عندها هيكل (ويؤدي‬
‫إما إىل رصخات من البهجة أو نوبات من الغضب والدموع)‪ .‬عندما تضاف حبة رمل‪ ،‬إذا‬
‫متكنا من مراقبتها عن كثب‪ ،‬إىل كومة وصلت إىل حدها األقىص‪ ،‬فإن التداعيات تكون أكرب‬
‫بكثري من سقوط حبة واحدة‪ .‬إن حجم االنهيار الذي تسببه‪ ،‬بوحدات حبوب الرمل‪ ،‬غري‬
‫خطي مع ميل إضافات حبوب الرمل الذي سبقه‪ .‬ليس من السهل التنبؤ بتلك النقطة الحرجة‪،‬‬
‫بالتأكيد ليست سهل ًة عىل مستوى وحدة حبة الرمل‪ .‬ابنِ الكومة من جديد ولن ترى حدث‬
‫‪35‬‬
‫االنهيار يتبع نفس النمط‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫وباملثل‪ ،‬فإنه من غري السهل تجريد أنظمة التعقيد إىل أجزائها املكونة‪ ،‬وال يسهل‬
‫ضبط التجارب لتعويض الضجيج بشكل دقيق‪ ،‬وال النمذجة للحصول عىل تنبؤات موثوقة‪.‬‬
‫حان وقت التخيل عن تصميم النتائج للبلدان النامية وتركيز اهتاممنا عىل العملية‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫حتى هنا‪ ،‬فقد ثبت أن إدماننا لألبوية له آثار كارثية عىل التغيري املؤسيس‪ .‬يتطلب دربنا‬
‫فهام أقوى وتقدي ًرا أكرب لكرامة األفراد‪ ،‬واالعرتاف مبعارفهم ورغباتهم‬
‫نحو إعادة التأهيل ً‬
‫وخططهم ورؤاهم وجهودهم الخاصة‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫الكرامة واملعرفة‬ ‫‪8‬‬

‫لفطم أنفسنا عن العقلية األبوية‪ ،‬نحن بحاجة إىل تبني عقلية بديلة‪ .‬لذا نقرتح عقلية تحرتم‬
‫كرامة اإلنسان‪ .‬قد يكون مفي ًدا أن نحرر أنفسنا أوًلً من افرتاض تفوقنا املعريف فذلك يرتبط‬
‫بحل مشكالت الفقراء اًلقتصادية‪ .‬يستخدم األنرثوبولوجي كليفورد غريتز‪ ،‬يف كتابه الذي‬
‫نرش عام ‪ ،1982‬املعرفة املحلية‪ ،‬املصطلح املعروف الحس السليم ملساعدتنا عىل التفكري يف‬
‫قيمة املعرفة غري الرسمية التي ميتلكها الناس يف املناطق املعوزة‪ .‬من منظور أنرثوبولوجي‪،‬‬
‫جادل غريتز ضد تقليد مساواة املجتمعات املتخلفة بتدين العقل‪ .‬وسلط الضوء عىل عمل‬
‫الحلفاء الذين ساعدوا يف إنشاء قضية كرامة اإلنسان بنرش بحث‬
‫مصمم إلثبات أن الشعوب «البسيطة» لديها حس بالله‪ ،‬أو اهتامم محايد باملعرفة‪ ،‬أو‬
‫فهم للقانون‪ ،‬أو تقدير خالص للجامل‪ ،‬حتى لو مل تكن هذه األشياء محصورة يف‬
‫‪1‬‬
‫عوامل الثقافة املرتبة واملقسمة املألوفة لنا‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬كان غريتز قلقًا من أننا مل نكن ناجحني مبا يكفي‪.‬‬
‫حا من نوع ما‪ ،‬فناد ًرا ما يخطر البدائيون يف‬
‫عىل الرغم من أن كل هذا قد حقق نجا ً‬
‫بال أحد يف الوقت الراهن‪ ،‬ومل يستخدموا املصطلح بعد اآلن إطالقًا‪ ،‬بصفتنا‬
‫براغامتيني بسيطني يتلمسون الرفاهية الجسدية عرب ضباب الخرافات‪ ،‬إنه مل يسكت‬
‫السؤال الجوهري‪ :‬أين يكمن اًلختالف –فحتى أكرث املدافعني حامسة عن اًلقرتاح‬
‫القائل إن كل شعب يتمتع بنوع متفرد من العمق (وأنا واحد منهم) يق ّرون بوجود‬
‫اختالف– بني األشكال املختلقة للثقافة املدروسة‪ ،‬واألشكال الجاهزة للثقافة‬
‫‪2‬‬
‫العامية؟‬
‫‪147‬‬
‫وجد غريتز فكرة الحس السليم موضو ًعا واع ًدا للدراسة لزيادة فهمنا لدوره يف اتخاذ‬
‫القرارات البرشية وإلخضاع افرتاضاتنا عن العلم الالنهايئ للخربة الرسمية التي نربطها مع‬
‫ثقافتنا‪.‬‬
‫يجب أن يبدأ تحليل الحس السليم‪ ،‬عىل النقيض من مامرسته‪ ،‬بإعادة رسم هذا‬
‫التمييز املحذوف بني اإلدراك املحض والواقعي للواقع –أو أيًا كانت التسمية التي تود‬
‫أن تطلقها عىل ما ندركه فحسب بشكل واقعي– والحكمة الواقعية والعامية‪ ،‬أو‬
‫األحكام أو التقييامت لها‪ .‬فحني نقول إن أحدهم صاحب حس سليم‪ ،‬فإننا نقصد أكرث‬
‫من أنه يستخدم عينيه وأذنيه‪ ،‬فهو يبقيها يقظة‪ ،‬أو يستخدمها بتعقل وذكاء وإدراك‬
‫وتفكري أو يحاول ذلك‪ ،‬ومن أنه قادر عىل مواجهة املشكالت اليومية بطريقة يومية‬
‫‪3‬‬
‫وبفعالية‪.‬‬
‫خذ يف اًلعتبار املثال التايل للسيدة البريوفية‪ ،‬فريونيكا كاناليس‪ ،‬التي تدير كشكًا يف‬
‫السوق لبيع لوازم املعدات يف مدينة كانيت‪ .‬تصف بكلامتها الرحلة التي خاضتها للرشوع‬
‫يف عملها الخاص وما تعلمته خاللها‪.‬‬
‫إن امتالك امرأة متجرًا للمعدات مختلف بعض اليشء؛ فهذا ليس شائ ًعا‪ .‬أنا عىل دراية‬
‫باملوضوع ألنني عملت يف متجر للمعدات قبل بدء مرشوعي‪ .‬وأنا أعرف املوردين‬
‫والعمالء وكيفية إدارة متجر للمعدات وكيفية عرض منتج عايل الجودة بسعر‬
‫منافس‪.‬‬
‫حا وأتهيأ لبدء اليوم‪ .‬أذهب إىل السوق‬‫أبدأ نهاري باًلستيقاظ الساعة السادسة صبا ً‬
‫بني الثامنة والثامنة والنصف لتجهيز واجهات العرض‪ .‬وإذا كان لدي يشء يحتاج‬
‫إىل تحضري‪ ،‬فأقوم بتجهيزه للعميل الذي طلبه مقد ًما‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫إين أقدم ثالث نصائح لرواد األعامل املستقبليني الذين يرغبون يف أن يكون لديهم‬
‫عمل تجاري‪.‬‬
‫األوىل هي املثابرة‪ .‬إذ ًل ينبغي أن يدعوا شيئًا يهزمهم‪ .‬ومن األمور التي يصعب القيام‬
‫بها هو البدء‪ .‬فاملرء تساوره الشكوك حول كيفية البدء‪ ،‬وما إن تبدأ‪ً ،‬ل ينبغي لك‬
‫اًللتفات إىل الوراء‪ .‬فذلك ما يدفع املرء إىل اًلزدهار وامليض قد ًما‪.‬‬
‫والثانية‪ ،‬يجب أن يواصلوا تعلم املزيد عن أعاملهم‪ .‬إذ ينبغي للمرء أن يبقى مطل ًعا‬
‫عىل أحدث املواصفات الفنية لكل أداة‪ .‬ومع أن املنتجات يف متاجر املعدات متنوعة‬
‫ج ًدا‪ ،‬يف أثناء عملك مع العمالء‪ ،‬تتعرف عىل الغرض من كل منتج‪ .‬هذا سيجعل‬
‫العمالء سعداء وسيساهم يف بناء املجتمع‪.‬‬
‫ما يعجبني يف عماليئ هو أنهم يطلبون أشياء مني‪ .‬وعليه فإنني أطالب نفيس‬
‫باملزيد لخدمتهم بشكل أفضل وتوفري منتجات ترضيهم‪ .‬إن فهم طلبهم ومعاملتهم‬
‫بلطف‪ ،‬وتكوين الصداقات معهم أمر يف غاية األهمية‪.‬‬
‫ثق بنفسك‪ .‬فذلك مهم ملعالجة املشكالت والتحديات التي تواجهك يوميًا يف عملك‬
‫التجاري‪.‬‬
‫من التحديات التي يواجهها متجر املعدات هو إصدار رأس املال‪ .‬فمرشوع متجر‬
‫املعدات يتطلب رأس مال كبريًا ملواصلة النمو‪ .‬لكنني عىل معرفة مسبقة باملوردين‬
‫وهم رشكايئ وحلفايئ وبعضهم أصدقايئ‪ ،‬لذا يسمحون يل بالحصول عىل املنتجات‬
‫وتسويقها ثم دفع مثنها لهم ًلحقًا‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫أحد أحالمي أن يزدهر املرشوع فيصبح لدي متاجر أخرى‪ ،‬وأوزع عىل مستوى آخر‪،‬‬
‫عىل مستوى البالد‪ ،‬وليس املقاطعة فحسب‪ .‬وأرى أن املجتمع املحيط يب يتطور‬
‫أيضً ا‪ .‬هنا يف السوق أعتقد أن متجر املعدات واملشاريع األخرى ميكن أن تستمر يف‬
‫‪4‬‬
‫اًلزدهار‪ .‬فمنطقة كانيت تتمتع بإمكانات عظيمة‪.‬‬
‫هل ميكن أن يساورنا الشك يف أن فريونيكا قد تعلمت من تجربتها جوانب مهمة لعملها‬
‫أثرت يف قراراتها اليومية إلبقائه قامئًا؟ ما تطلبه وكميته وكم مرة وما هي األدوات الجديدة‬
‫املتوفرة وما هو اًلستخدام األمثل لها ومن يستفيد من اقتنائها والطريقة املثىل لتسعريها‬
‫حتى يتمكن عمالؤها من رشائها مع ضامن قدرتها عىل اًلستمرار يف العمل؟ وًل ميكن ألي‬
‫مستشار تقني متعلم أو خبري تطوير أن يتعلم كل هذه املعرفة يف فصل درايس أو من كتاب‪.‬‬
‫إذ يعتمد تعقيدها املتفرد عىل املتغريات الفريدة للزمان واملكان والظروف‪ .‬فإذا كانت كل تلك‬
‫القرارات تؤثر‪ ،‬لألفضل أو لألسوأ‪ ،‬يف قابلية استمرار مرشوعها‪ ،‬كيف ميكن لنموذج التنمية‬
‫إغفال مثل هذه املعرفة املهمة يف مفهومه عن اًلسرتاتيجيات الواعدة للنجاح؟ إن املامرسة‬
‫التنموية تتجاهلها ألنها ًل تستطيع تفسريها‪ .‬وهي ًل تعرف كيفية الحصول عليها أو قياسها‪،‬‬
‫لذلك تسميها ضوضاء‪.‬‬
‫قد ًل يكون يف حوزتنا مصطلحات براقة لنوع املعرفة التي نقلل من قيمتها حتى اآلن‪،‬‬
‫لكننا نستطيع الحفاظ عىل احرتام مناسب ألهميتها إذا تعاطينا جديًا مع املفهوم الحديث‬
‫للكرامة اإلنسانية وامتنعنا عن تصور األفراد والعائالت واملجتمعات عىل أنها مجرد كائنات‬
‫من تصاميمنا‪ .‬ولتقدير دور معرفة األفراد وتفضيالتهم بشكل أفضل يف اكتشاف حلول‬
‫«أكرث مالءمة» لبناء املؤسسات‪ ،‬يجب أن نتعلم تقدير أدوار أولئك الذين يعرفون بشكل أفضل‬

‫‪150‬‬
‫نقاط اًلنطالق السياقية –الظروف األولية– لرحالتهم‪ .‬تتضمن تلك الظروف األولية الفروق‬
‫الدقيقة يف قواعد السلوك التي تعترب متفردة بكل زمان ومكان‪.‬‬

‫تعاطي املعايري جديًا‬


‫ريا مؤسس ًيا عىل نطاق مجتمعي‪« .‬إنها اًلنتقال من القواعد‬
‫يع ّد بابلو يانغاس التنمية تغي ً‬
‫‪5‬‬
‫القدمية إىل القواعد الجديدة‪ ،‬واملسار الصعب يف كثري من األحيان هو الذي يقع بينهام»‪.‬‬
‫وقد متثل خطأ التنمية إىل اآلن باستبعاد حتى التفكري بأهمية ذلك املسار‪ً .‬لحظ عامل‬
‫اًلجتامع والرت باول أن‬
‫معظم تراث العلوم اًلجتامعية حول املؤسسات يتميز بطابع مرسحية تبدأ بالفصل‬
‫كال من الحبكة والرسد أم ًرا واق ًعا‪ .‬وتسأل قلة من األبحاث عن كيفية‬
‫الثاين‪ ،‬معتربة ً‬
‫‪6‬‬
‫بدًل من قصة أخرى‪.‬‬
‫أداء مرسحية ما أو ملاذا تعرض هذه القصة بالذات ً‬
‫ما هي الظروف األولية املهمة للتغيري املؤسيس؟ وفقًا لالقتصاديني جيمس كاتون وإدوارد‬
‫لوبيز‪ ،‬فإن «وجود مؤسسة ميثل اتفاقًا جامع ًيا يف ما يتعلق بنموذج التفاعل‪ .‬وتتضمن‬
‫‪7‬‬
‫املؤسسة القامئة هياكل القواعد التي استوعبها الوكالء مسبقًا أو لديهم الحافز ًلستيعابها»‪.‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬املعرفة املحلية هي السلطة عىل املعايري املحلية‪.‬‬
‫تشمل املعايري مجموعة واسعة من التوقعات اًلجتامعية الرسمية وغري الرسمية يف‬
‫ما يتعلق بالسلوك‪ .‬يف سياق املؤسسات‪ ،‬يصف سكوت املعايري يف ثالث فئات –تنظيمية‪،‬‬
‫ومعيارية‪ ،‬وثقافية‪-‬معرفية– ويقرتح أن الباحثني مييلون إىل تأكيد واحدة منها أكرث من‬
‫األخريتني اعتام ًدا عىل مجالهم‪ 8.‬عىل سبيل املثال‪ ،‬قد ينجذب الباحثون يف اًلختيار‬

‫‪151‬‬
‫العقالين إىل املفاهيم التنظيمية للمعايري‪ ،‬مركزين عىل القواعد واللوائح الواضحة والرسمية‬
‫التي تحكم املجتمع‪ .‬وبالنسبة لهؤًلء الباحثني‪ ،‬تحظى ذرائعية املعايري بأهمية قصوى‪.‬‬
‫ريا‪ .‬وتشمل هذه القواعد‬
‫قد تكون القواعد املعيارية غري رسمية ولكنها ًل تقل تأث ً‬
‫التوقعات اًلجتامعية واًللتزامات والوصفات التي تحكم السلوك‪ .‬قد يركز علامء اًلجتامع‬
‫عىل معنى القواعد املعيارية وقد يبدون اهتام ًما أقل بفائدتها أو رضرها‪ .‬نحن مهتمون بكل‬
‫من املعنى والتأثري الذي تضفيه املعايري عىل كيفية اختيار الناس للسلوك املناسب يف موقف‬
‫معني‪ .‬ويركز اًلقتصاديون عىل الدور التوجيهي لألسعار‪ ،‬لكن املعايري ميكن أن تكون بنفس‬
‫القدر من األهمية بالنسبة للسلوك اًلقتصادي‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬يف منتصف القرن التاسع عرش‪ ،‬كان سوق التأمني عىل الحياة يف‬
‫مهده‪ .‬وعىل الرغم من القدرة عىل تحمل تكاليفه وسالمة الحسابات األكتوارية‪ ،‬فإن قلة‬
‫قليلة من الناس اشرتت السياسات‪ .‬فكام اتضح‪ ،‬ظن معظم الناس أنه سيكون مخزيًا جني‬
‫مكاسب مفاجئة حني يرحل أحد أحبائهم‪ .‬وبعد عقود‪ ،‬انقلب هذا املعيار رأساً عىل عقب؛‬
‫فحني رشع الناس يف إعادة تأطري التأمني عىل الحياة كطريقة كرمية لحامية أرسهم مال ًيا‬
‫‪9‬‬
‫يف حالة وفاة أحدهم‪ ،‬انطلق سوق التأمني عىل الحياة‪.‬‬
‫متثل املعايري الثقافية املعرفية األطر املقبولة للتنبؤ باملعنى والصواب اًلجتامعي‪ .‬وقد‬
‫ينجذب األنرثوبولوجيون إىل تلك املعايري لتسليط الضوء عىل حدود السلوك التي متثل‬
‫الوفاء لألرثوذكسية‪ .‬ميكن لتلك املعايري أن تربك الدخالء باعتبارها عقبات مزعجة يف‬
‫ريا بالسلوك ومالءمة له من القوانني‬
‫طريقهم لحامية الناس من أنفسهم‪ ،‬لكنها ًل تقل تأث ً‬
‫الرسمية التي تستخدمها الحكومات‪ .‬ما ييل مقتبس من كتاب الصحفية نينا مونك الذي‬
‫يتحرى مرشوع قرى األلفية (‪:)MVP‬‬

‫‪152‬‬
‫يف أوائل عام ‪ ،2007‬مع ظهور الرباعم عىل الشجريات ومنو األعشاب الصحراوية‬
‫عال ًيا‪ ،‬رشع أحمد [وهو رجل متعلم من السكان املحليني وظِّف إلدارة برامج ‪MVP‬‬
‫يف املنطقة] يف إقناع أهل ديرتو بفوائد التنب‪ ،‬موض ًحا‪« :‬إذا جمعتم العشب الطويل‬
‫وجففتموه اآلن‪ ،‬فسيصبح لديكم طعام لحيواناتكم يف املرة القادمة التي يحل فيها‬
‫الناس حول تجفيف العشب الطويل‪ .‬واعرتض أحد‬ ‫َ‬ ‫الجفاف»‪ .‬مل تعجب أفكاره‬
‫قائال‪« :‬لقد وهبنا الله هذا العشب‪ .‬وهو ليس ملكًا لنا لنقطعه»‪.‬‬
‫الرجال ً‬
‫ومسلام‪ .‬وقد ترعرع يف هذه األنحاء؛ وهو ابن‬
‫ً‬ ‫كان أحمد‪ ،‬مثل شعب ديرتو‪ ،‬صومال ًيا‬
‫دخيال عىل ديرتو‪ .‬فبنطاله‬
‫ً‬ ‫راع؛ وواحد منهم‪ .‬وعىل الرغم من كل ذلك‪ ،‬كان يعترب‬
‫املطوي‪ ،‬وقمصانه املنشَّ اة‪ ،‬ولحيته املشذبة كانت أشيا ًء كفيل ًة بجعله يف منأى عن‬
‫اآلخرين‪ .‬وكام أشري إليه أكرث من مرة‪ ،‬فمع أنه صومايل‪ ،‬انحدر من عشرية فرعية‬
‫مختلفة عن قبيلة ديرتو‪ .‬وكان ذلك وحده سب ًبا لعدم الثقة به‪.‬‬
‫يف اململكة العربية السعودية‪ ،‬وجد أحمد أن املسلمني السنة الورعني يقطعون‬
‫العشب؛ وإذا مل يعارض الله عىل قيام السعوديني بقطع العشب‪ ،‬فإنه بالتأكيد‬
‫سيسمح للمسلمني السنة يف ديرتو أن يفعلوا اليشء ذاته‪ .‬مل يؤثر هذا املنطق يف‬
‫رأي أحد منهم‪ .‬وردد أحدهم‪« :‬إنه هبة من الله»‪« .‬كلام قطعت عش ًبا أكرث‪ ،‬زاد غضب‬
‫الله – إنه نذير شؤم»‪.‬‬
‫قال أحمد بلطف‪« :‬الوقت ينفد‪ .‬فالحرائق قادمة مع الرياح الهابّة من الصومال‪ ،‬وتلك‬
‫الحرائق ستلتهم كل األعشاب إذا مل تهموا إىل قطعها أوًلً »‪.‬‬
‫واجهت امرأة عجوز تدعى ماما أبشرية أحمد‪ ،‬بدس إصبعها يف وجهه‪ ،‬قائلة إنه‬
‫ْ‬
‫يتدخل يف أسلوب حياتهم‪ .‬انضم فجأة آخرون إىل النقاش‪ .‬ورسعان ما وقع الجميع‬
‫‪153‬‬
‫يف جدال‪ .‬عمت غوغاء من الرصاخ املشوش‪ .‬وصاحت ماما أبشرية مناشدة‪« :‬أرجوك‪،‬‬
‫‪10‬‬
‫لوجه الله‪ً ،‬ل تقطع عشبنا»‪.‬‬
‫يقرتح سكوت أننا قد نبيل بالء حس ًنا باتباع نهج يع ّد كل هذه الجوانب مساهمة‪ ،‬بطرق‬
‫مرتابطة ومع ِّززة بشكل متبادل‪ ،‬يف اإلطار اًلجتامعي الذي تنشأ فيه املؤسسات‪ .‬لقد دفعنا‬
‫ريا وليس‬ ‫هذا النهج املوسع إىل إعادة النظر يف «السلوك العقالين» باعتباره «متغ ً‬
‫افرتاضً ا»‪ 11.‬وًل ينبغي اًلعتامد عىل أي من هذا ًلقرتاح أننا يجب أن نحكم عىل جميع املعايري‬
‫عىل قدم املساواة من حيث قيمتها العملية لبناء املؤسسة‪ .‬كام ًل ينبغي أن يدعي أحدنا أننا‬
‫ننظر إىل كل معيار أو مامرسة ثقافية أو معتقد ديني بتكافؤ أخالقي‪ .‬فثمة معايري تعوق‬
‫تخل بإحساسنا بالصواب‬
‫فضال عن املعايري التي ّ‬
‫ً‬ ‫املحسنة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫بوضوح الحلول اًلقتصادية‬
‫والخطأ‪.‬‬
‫تكمن أهمية تقدير واقع املعايري يف تقدير تأثريها ودورها يف النشوء املؤسيس‪ .‬قد‬
‫يكون هناك معيار أو معتقد معوق بشكل خاص يفقد فعاليته مبرور الوقت يف أذهان أولئك‬
‫الذين ميارسونه أو يالحظونه‪ً ،‬ل سيام مع تزايد املكاسب املتنوعة إلعادة تفسري املعيار‪ .‬أو‬
‫قد يتم اكتشاف حلول بديلة تتخطى أو تأخذ يف اًلعتبار املعيار وتدمجه يف الحل الجديد‪.‬‬
‫إن تجاهل املعايري أو رفضها كضوضاء هو الخطأ الجسيم الذي نرتكبه كدخالء ألن رفضنا‬
‫ًل يساهم يف إضعاف سلطتهم للتأثري عىل مسار التنمية‪ .‬وألن حساسياتهم تجاه قابلية‬
‫تغيري أو قابلية ثبات املعايري التي تحكم مجتمعاتهم من املرجح أن تكون األحرص‪ ،‬فإن أفراد‬
‫املجتمعات منخفضة الدخل هم يف موقع أفضل من الدخالء للمشاركة يف بناء املؤسسات‬
‫والتغيري اًلجتامعي‪ .‬ذلك يعني أن املبادئ التشاركية والدميقراطية هي أكرث احتامًلً من‬
‫الفرض األجنبي يف توليد التحسينات‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫صب املؤرخ اًلقتصادي أفنري غرايف اهتاممنا بشكل مفيد عىل كيفية «تشكيل‬ ‫ّ‬
‫املعتقدات واملعايري واملنظومات املوروثة من املايض لجزء من الظروف األولية يف العمليات‬
‫املؤدية إىل إنشاء مؤسسات جديدة»‪ 12.‬وذلك ينطبق عىل كل املستويات‪ ،‬من الجامعات‬
‫الصغرية إىل الرشكات الكبرية فالشبكات عرب الوطنية للسلوك املهني والقانوين املوحد‪ .‬يف‬
‫أي نظام معقد‪ ،‬يجب أن تكون تلك الظروف األولية نقطة اًلنطالق للتغيري‪ .‬وإذا سلّمنا بها‬
‫جدًل‪ ،‬وانتقلنا إىل الفصل الثاين من مرسحية باول‪ ،‬أو أسأنا تفسريها‪ ،‬فسيخفق التغيري‬
‫ً‬
‫الذي نسعى إليه‪ .‬إن إساءة تفسريها عىل أنها دخيلة هو ضامن تقريبي‪ .‬ضع يف اعتبارك‬
‫الحقيقة بأن العديد من املعايري ضمنية وغري معلَنة وغري موثَّقة‪ ،‬وقد ًل تسجل حتى عىل‬
‫أنها استدًلل واع بالنسبة للسكان املحليني‪ .‬فلامذا نحارب هذا العيب الدخيل بالحفاظ بغرية‬
‫عىل دور قيادي يف التغيري املؤسيس؟ حري بنا النظر إىل حيث تكمن املعرفة املتفوقة‪ ،‬مع‬
‫األصوات املحلية التي‪ ،‬بارتباطها مباضيها‪ ،‬تكون يف موقع أفضل لقيادة «مجتمعاتها‬
‫‪13‬‬
‫للتطور عىل طول مسارات مؤسسية متميزة» كام قال غرايف ًلحقًا‪.‬‬

‫الصوت والتغيري املؤسيس‬


‫أضاف باتريك هيلر وفيجايندرا راو املزيد من التفاصيل إىل هذا النهج البديل للتنمية يف‬
‫مقدمة مجلدهام املح ّرر لعام ‪ ،2015‬التداول والتنمية‪ :‬إعادة النظر يف دور الصوت والعمل‬
‫الجامعي يف املجتمعات غري املتكافئة‪ .‬وهام ينتقدان التنمية السائدة عىل مبادراتها الضعيفة‬
‫تجاه تكريم املشاركة املحلية ويقارنانها مع التداول التحوييل الحقيقي الذي «ميكن أن يؤدي‬
‫إىل تغيريات يف املعاين التأسيسية التي توجه العمل وتخرب بالتفضيالت»‪ .‬كام كتبا «لقد‬
‫تعرضت فكرة ’التنمية‘ كيشء موجه أو مخطط أو منظم لالنتقاد»‪ ،‬باإلضافة إىل رفض‬

‫‪155‬‬
‫«للحبوب السحرية» و«الحلول املوحدة املناسبة لجميع الحاًلت»‪ .‬بدًلً من ذلك‪« ،‬يجب أن‬
‫تتالءم الحلول مع السياق… املفاضالت معقدة ج ًدا وتدعم الحاجة الناتجة للتجربة أفضل‬
‫دعم بالتداول الدميقراطي الدقيق»‪ 14.‬بعبارة أبسط‪« ،‬كلام كان الضامن لصنع القرار من‬
‫خالل عملية من النقاش العقالين أكرب‪ ،‬كان أقرب إىل ’الصالح العام‘ وبالتايل يحمل رشعية‬
‫أكرب»‪ 15.‬فالناس يدعمون ما يساعدون يف صنعه‪.‬‬
‫مل ينل التأكيد التنظيمي عىل املساعدات الخارجية ومامرسات التنمية لدينا حتى اآلن‬
‫سوى القليل من اهتامم املعايري واملعتقدات املحلية‪ ،‬وحني يحظى باًلهتامم‪ ،‬فإنه يسعى إىل‬
‫طمسها مبرسوم قانوين‪ .‬وذلك ًل يضاهي الواقع بيشء‪ .‬وفقًا لسكوت‪« :‬يف النظم‬
‫اًلجتامعية املستقرة‪ ،‬نحن نراقب املامرسات التي تستمر وتع َّزز ألنها من تحصيل حاصل‪،‬‬
‫وتقرها وتدعمها السلطات املفوضة بشكل معياري‪ .‬فعند محاذاة الركائز‪ ،‬ميكن أن تكون‬
‫‪16‬‬
‫شدة قواها مجتمع ًة هائلة»‪.‬‬
‫ينبغي أن يكون هدفنا هو متكني السكان املحليني من تسخري املعايري املحلية لتصبح‬
‫الرياح التي تدفع أرشعة التنمية‪ .‬ولن يكون أي شخص دخيل يف موقع جيد لتقدير املعايري‬
‫املحلية واًلستناد إليها – أو تغيريها‪ .‬ستعتمد الحلول املحلية املتكررة عىل أهم تلك املعايري‬
‫وبطرق تجعلها تتامىش مع التحسينات لحل املشكالت املختلفة التي يواجهونها‪ .‬تلك هي‬
‫قائال‪« :‬ليست‬
‫ً‬ ‫النتيجة التي ينبغي أن نرجو جمي ًعا تحقيقها يف التنمية‪ .‬يتابع سكوت‬
‫الرشعية سلعة يجب امتالكها أو تبادلها‪ ،‬بل هي حالة تعكس التوافق املتصور مع القواعد‬
‫‪17‬‬
‫والقوانني ذات الصلة أو القيم املعيارية‪ ،‬أو املواءمة مع األطر الثقافية املعرفية»‪.‬‬
‫يف إشارة إىل كرامة اإلنسان‪ ،‬يذكّرنا هيلر وراو أن‬

‫‪156‬‬
‫النظريات الكالسيكية واملعارصة للدميقراطية تسلّم جدًلً بأن استقاللية األفراد يف‬
‫اتخاذ القرارات هي أساس الحياة الدميقراطية‪ .‬وإن قدرة املواطنني املتمتعني‬
‫بالحقوق عىل ربط التفضيالت وتداولها وصياغتها تنتج بدورها املعايري التي تكفل‬
‫‪18‬‬
‫رشعية السلطة السياسية الدميقراطية‪.‬‬
‫عىل النقيض من التمرد ضد مؤسسات ديانة الشحن التي ر ِّوج لها خالل عرص‬
‫التقليد‪ ،‬يؤكد هيلر وراو أن «املؤسسات املبنية عىل قوة العملية التداولية هي أكرث استقرا ًرا‬
‫‪19‬‬
‫ورشعية ورجحانًا ألن تحظى بالوًلء»‪.‬‬

‫تنوع املعرفة املحلية‬


‫مامثال لتحدي غريتز‪ .‬إذ أراد قياس اًلختالف بني‬
‫ً‬ ‫تناول الباحث جريميي شابريو تحديًا‬
‫افرتاضاتنا حول ما نعتقد أن الناس يف املجتمعات منخفضة الدخل يحتاجون إليه وما‬
‫يعتقدون أنهم بحاجة إليه واختبار فعالية عينة من املساعدات حسنة السمعة‪ .‬استخدم‬
‫منوذج تحويل نقدي للمقارنة‪ ،‬وهو بديل متنامي للمساعدات التقليدية‪ .‬وأوضح أن التحول‬
‫يف التفكري يف التحويالت النقدية ميثل‪:‬‬
‫يف حني ركزت املساعدات تاريخ ًيا عىل تلبية احتياجات الفقراء كام يتصورها مجتمع‬
‫املساعدات‪ ،‬فإن التحويالت النقدية متكن متلقي املساعدات من تلبية اًلحتياجات كام‬
‫تحوًل يف األسس النظرية‬
‫ً‬ ‫يتصورونها هم أنفسهم‪ .‬يعكس هذا التغيري متأخ ًرا‬
‫والفلسفية للمساعدات الدولية‪ :‬من األصول اًلستعامرية األبوية إىل الرتكيز عىل‬
‫‪20‬‬
‫الفقراء كوكالء يف تحقيق التنمية اًلقتصادية‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫استخدم شابريو وفريقه مؤرشات بديلة لتحديد املحتاجني من عينة من أفقر‬
‫املقاطعات يف كينيا‪ .‬واستهدفا عىل وجه التحديد البالغني العاطلني عن العمل وأرباب األرس‬
‫الذين تفتقر منازلهم إىل املواد املصنعة يف بنائها‪( .‬تصبح الطريقة التي تحدد املحتاجني‬
‫مهام سيخضع ملزيد من التدقيق يف دراسة متابعة)‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬أجرى‬
‫ريا ً‬
‫يف املقام األول متغ ً‬
‫الفريق مس ًحا عىل مجموعة ذوي الدخل املنخفض املكونة من ‪ 3,008‬أشخاص ملعرفة القيم‬
‫النقدية التي سيضعها كل منهم لثالثة تدخالت للمساعدة مختلفة لكن ذات صلة‪ :‬التدريب‬
‫صوصا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الزراعي‪ ،‬واألسمدة املجانية‪ ،‬واإلمداد ملرة واحدة بخمسة وعرشين‬
‫تحويال نقديًا مكاف ًئا لتكلفة‬
‫ً‬ ‫ثم تلقت املجموعة بشكل عشوايئ أحد املساعدات أو‬
‫املساعدة املخصصة للفرد الواحد يف منطقته‪ .‬بعد ستة أشهر‪ ،‬ق ّيموا املتلقني ملعرفة التأثريات‬
‫النسبية للعالجات املختلفة عىل الرفاهية‪ .‬ووجدوا فرقًا بسيطًا بني الذين تلقوا املساعدات‬
‫والذين استلموا تحويالت نقدية‪ ،‬ومل يكن هناك فرق ملحوظ حتى بني الذين تلقوا مساعدتهم‬
‫األعىل قيمة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وجدوا أن الذين تلقوا تحويالت نقدية قد أبلغوا عن شعور متزايد‬
‫تدخال باملساعدات‪.‬‬
‫ً‬ ‫باًلستقاللية مقارنة بأولئك الذين تلقوا‬
‫بالنسبة إىل شابريو‪ ،‬فإن إثبات أن الفقراء ليسوا أسوأ من العاملني يف املساعدات يف‬
‫مهام‬
‫تحسني املوارد من أجل التنمية‪ ،‬حتى برصف النظر عن التكاليف العامة‪ ،‬يعد إنجازًا ً‬
‫لإلجابة عن السؤال التايل‪ ،‬كام صاغه‪:‬‬
‫هل تتحقق نتائج التنمية عىل أفضل وجه من خالل متكني املستفيدين من املساعدات‬
‫من تحسينها وفقًا لقيودهم ومعلوماتهم الفريدة؟ أم أنه من األفضل لصناعة‬
‫املساعدات أن تؤثر ضمنًا أو علنًا يف قرارات املستفيدين واستخدام موارد‬
‫‪21‬‬
‫املساعدات؟‬

‫‪158‬‬
‫قد يجادل املدافعون عن فرضية «فقري لكن كفء» بشأن السؤال األول‪ ،‬بينام قد يسأل‬
‫األبويون الثاين‪ .‬وقد يقول شابريو أن التعادل يذهب للفقراء‪ .‬إنه سؤال يعتمد‪ ،‬بشكل‬
‫أسايس‪ ،‬عىل تقديرنا ملفهوم حديث للكرامة اإلنسانية وإخالصنا له‪.‬‬
‫يف دراسة متابعة نرشت ًلحقًا من نفس العام (‪ ،)2019‬تعمق شابريو أكرث بشأن‬
‫تدخال‪ .‬وقد وجد‬
‫ً‬ ‫مسألة تباين القيمة من خالل اختبار نطاق أوسع مكون من أربعة عرش‬
‫مستويات مرتفعة من عدم التجانس يف التفضيالت ومستويات متباينة من عدم اًلهتامم‬
‫بني تدخالت املساعدة الشائعة والدفع النقدي – وهو تذكري بأن األشخاص ذوي الدخل‬
‫املنخفض‪ ،‬كأي شخص آخر‪ ،‬ليسوا مجموعات متجانسة‪ 22.‬لكل منهم تفضيالته ومفاضالته‪،‬‬
‫وبالتايل مييل إىل وضع قيم مختلفة ج ًدا للسلع والخدمات املتنوعة‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬اخترب‬
‫شابريو التقييامت عىل وكالء للحاجة شائعي اًلستخدام ووجد أنه ما من ارتباط بني أولئك‬
‫الذين يتوقع الدخالء أنهم سيحتاجون إىل التدخل والقيمة التي وضعها املستفيد للتدخل‪.‬‬
‫فاصال عند استخدام أي مؤرشات بديلة للحاجة‬
‫ً‬ ‫باملجمل‪ ،‬ينبغي أن تعطينا تلك النتائج‬
‫ًلفرتاض أننا نعرف ما يريده الناس منا يف املجتمعات منخفضة الدخل وينبغي أن تضعف‬
‫أي سخط قد نتشاركه أحيانًا مع الخبري الحانق الذي سأل‪« :‬مل ًل يريدون ما نعرف أنهم‬
‫بحاجة إليه؟»‪.‬‬
‫ًل شك يف أن النتائج ًل تشري بالرضورة إىل أن التحويالت النقدية هي أفضل طريقة‬
‫لدعم التنمية الهادفة‪ .‬وإمنا هي مثال عىل ما يعنيه أن نأخذ عىل محمل الجد منظور‬
‫املستفيدين وتفضيالتهم ملا ميكن أن يحدث فرقًا يف حياتهم‪ .‬وما يهم هو معرفتهم بزمانهم‬
‫ومكانهم وأحاسيسهم الفردية مبا هو مهم بالنسبة لهم‪ .‬غال ًبا ما يكون ذلك العنرص غائ ًبا‬
‫يف اسرتاتيجية التنمية‪ ،‬مع أنه العنرص الذي يحدد تأثري العمل التنموي‪ .‬ميكن للتفضيالت‬

‫‪159‬‬
‫واملعرفة واملعايري املحلية‪ ،‬حني ًل يتجاوزها تحكم خارجي‪ ،‬أن توجه عمليات التكيف‬
‫التكرارية بحثًا عن تحسينات لألنظمة املعقدة‪ .‬قد يساعد مثال من تجربة موريسيو ميلر يف‬
‫تكريم املعرفة الفردية يف توضيح َ‬
‫مل يستلزم التدخل نيابة عن «أفضل املامرسات» املزعومة‬
‫‪23‬‬
‫تجاوز املعرفة املحلية وقدرة اآلخرين عىل التكيف والبحث عن حلول أفضل‪.‬‬
‫فاجأ وسيط الرهن العقاري الزوجني الشابني‪ ،‬خافيري وماريا‪ ،‬مفاجأة سارة‪ ،‬حني‬
‫أخربهام أنه مبقدورهام رشاء منزل يف ح ّيهام للطبقة العاملة يف أوكالند‪ ،‬كاليفورنيا‪.‬‬
‫غمرتهام سعادة عارمة‪ .‬ويف أثناء استعدادهام لتأمني القرض‪ ،‬تشاركا خربهام السار مع‬
‫أصدقائهام وعائلتهام‪ .‬وانترش الخرب إىل طاقم العمل يف منظمة ميلر غري الربحية‪ ،‬مبادرة‬
‫استقالل األرسة (‪ .)FII‬كان خافيري وماريا يشاركان يف برنامج تابع ملبادرة استقالل األرسة‬
‫مصمم لتتبع قراراتهام املالية‪.‬‬
‫كان طاقم العمل يف مبادرة استقالل األرسة قلقني من أن خافيري وماريا عىل وشك‬
‫الحصول عىل قرض مفرتس مل يفهموا أبعاده بالكامل‪ .‬وقد شكل ذلك معضلة مليلر وفريقه‪.‬‬
‫بعد عقود من العمل مع املجتمعات منخفضة الدخل‪ ،‬خلص ميلر إىل أن التدخل الخارجي‬
‫يف حياة الناس‪ ،‬مهام بلغ من حسن النية‪ ،‬غال ًبا ما كان رضره أكرث من نفعه‪ .‬فمن القواعد‬
‫التي تبناها أنه إذا حاول أي فرد من طاقم العمل التدخل يف قرارات املشاركني يف الربنامج‪،‬‬
‫فسيتم طرده‪ .‬لقد بات يعتقد أن الخدمات اًلجتامعية املهنية تعوق أو تقوض حلول الحد من‬
‫الفقر التي يكتشفها أولئك الذين يعيشون يف مجتمعات منخفضة الدخل‪ .‬لكن رهن خافيري‬
‫حاسام للسياسة الجديدة‪ .‬فمن الصعب تخيل ترك هذين‬
‫ً‬ ‫وماريا املخطط له كان اختبا ًرا‬
‫الزوجني الشابني املكافحني ًلرتكاب مثل هذا الخطأ الفادح‪ .‬لذا عقد طاقم عمل مبادرة‬

‫‪160‬‬
‫استقالل األرسة اجتام ًعا للفريق ملناقشة خرق القاعدة هذه املرة فقط‪ .‬يف نهاية املطاف‪،‬‬
‫عزموا عىل عدم القيام بذلك وترقبوا حدوث األفضل‪.‬‬
‫حصل خافيري وماريا عىل قرضهام‪ ،‬وكام هو متوقع‪ ،‬كان واه ًيا من الناحية املالية‪.‬‬
‫جه خافيري وماريا إىل األصدقاء والعائلة وملعت فكرة يف‬ ‫بعد تعرضهام لإلفالس‪ ،‬تو ّ‬
‫أذهانهم‪ .‬إذا ساهم الجميع يف ترميم املنزل‪ ،‬فيمكنهم زيادة قيمته مبا يكفي إلعادة متويل‬
‫وحل أفراد املجتمع املشكلة بأنفسهم‪ ،‬إذ أعادت تجربة مساعدة‬
‫املنزل‪ .‬لقد نجحت الفكرة‪ّ .‬‬
‫خافيري وماريا صياغة متلك املنازل كاحتامل يف املتناول‪ .‬رسعان ما بدأت املزيد من العائالت‬
‫باًلدخار من أجل امتالك املنازل‪ ،‬وقد نجح العديد منهم يف ذلك‪ ،‬وهو ما حسبه كثريون أم ًرا‬
‫مستحيال‪ .‬لقد استوعبوا الدرس‪ :‬أن يتأكدوا من أن القرض يوفر رشوطًا مستدامة‪.‬‬
‫ً‬
‫بالنسبة للدخالء‪ ،‬أمثال طاقم عمل مبادرة استقالل األرسة‪ ،‬يصعب النظر إىل‬
‫املجتمعات منخفضة الدخل وعدم التعبري عن رأيك بشأن الخيارات التي يتخذونها‪ .‬لكن نظرة‬
‫ميلر الثاقبة تجاه األثر السلبي لتأثري الدخيل كانت حاسمة يف الكشف عن يشء تفتقر إليه‬
‫معظم برامج مكافحة الفقر‪ .‬فقد أتاحت من خالل الوقوف خلف املعرفة املحلية‪ ،‬وليس‬
‫حل املشكالت املتكررة داخل املجتمع‪ ،‬وهي عملية حساسة بطبيعتها لتعقيدات‬
‫أمامها‪ّ ،‬‬
‫مجتمعات معينة يف أوقات وأماكن محددة‪.‬‬
‫إنها نظرة نالت تقدي ًرا من بعض األشخاص يف القطاع اًلجتامعي منذ أيام جني آدمز‪،‬‬
‫إحدى أوائل العاملني اًلجتامعيني وأشهرهم يف الوًليات املتحدة‪ .‬وصف لويس ميناند‬
‫الدرس العظيم الذي تعلمته آدمز بهذه الطريقة‪:‬‬
‫وجدتْ أن األشخاص الذين كانت تحاول مساعدتهم لديهم أفكار حول كيفية تحسني‬
‫خلصت إىل اًلعتقاد بأن أي طريقة‬
‫ْ‬ ‫حياتهم أفضل مام يف جعبتها هي وزمالؤها‪ .‬وقد‬
‫‪161‬‬
‫للعمل الخريي أو اإلصالح ترتكز عىل افرتاضات من أعىل إىل أسفل –كاًلفرتاض أن‬
‫أذواق املصلح أو قيمه تتفوق عىل أذواق الخاضع لإلصالح وقيمه‪ ،‬أو بشكل أبسط‪،‬‬
‫أن العمل الخريي هو صنيع أحادي الجانب من العطاء يؤديه الشخص الذي لديه ما‬
‫‪24‬‬
‫يعطيه للشخص الذي ليس لديه– هي بال جدوى وخاطئة بطبيعتها‪.‬‬
‫فحلول الدخالء تكون‪ ،‬بطبيعتها‪ ،‬خطية ومخطَّطًا لها‪ .‬من كان ليتصور خطة يقرتض فيها‬
‫خافيري وماريا قرض منزل متعرث‪ ،‬ويتعلامن من أخطائهام‪ ،‬ويف صياغة حل‪ ،‬يعززان رأس‬
‫املال اًلجتامعي بني شبكات أقرانهام ويزيدان الوعي مبا هو ممكن ألفراد مجتمعهام؟‬
‫نالحظ أيضً ا أن السياسات املصممة بشكل متعمد لزيادة معدًلت متلّك املنازل تقدم‬
‫حالة كالسيكية من العواقب غري املقصودة‪ .‬ومثل تلك السياسات كانت مفصلية يف األزمة‬
‫املالية لعام ‪ .2008‬فكام وثقت غريتشني مورغنسون وجوشوا روزنر يف مخاطرة متهورة‪:‬‬
‫كيف أدى الطموح الكبري والجشع والفساد إىل أرمجدون اقتصادي‪« ،‬ستحقق الرشاكة‬
‫أهدافها ’بجعل متلك املنازل أقل تكلفة‪ ،‬وتوسيع التمويل اإلبداعي‪ ،‬وتبسيط عملية رشاء‬
‫املنازل‪ ،‬وتقليل تكاليف املعامالت‪ ،‬وتغيري األساليب التقليدية يف التصميم‪ ،‬وبناء منازل أقل‬
‫‪25‬‬
‫تكلفة‪ ،‬من بني وسائل أخرى‘»‪.‬‬
‫زعم ألفونسو جاكسون‪ ،‬القائم بأعامل وزير اإلسكان والتنمية الحرضية‪ ،‬يف عام‬
‫‪« :2004‬إن تقديم قروض رهن من إدارة اإلسكان الفدرالية دون دفعة أولية سيفتح الباب‬
‫أمام مئات اآلًلف من العائالت األمريكية‪ ،‬وًل سيام األقليات‪ ،‬لتملّك املنازل»‪ .‬وأضاف أحد‬
‫زمالء جاكسون ًلحقًا‪ً« :‬ل نتوقع أن تقع أي تكاليف عىل كاهل دافعي الرضائب»‪ 26.‬فكيف‬
‫‪27‬‬
‫تكلل ذلك بالنجاح؟‬

‫‪162‬‬
‫مثة اختالف أسايس يف رؤية أحد األقران‪ ،‬أو شخص تتامهى معه‪ ،‬أو شخص تراه‬
‫مثلك‪ ،‬ينجح‪ ،‬فذلك يغري وجهة نظرك‪ .‬بشكل حاسم‪ ،‬يعد اختيار املرء لنفسه أي ابتكارات‬
‫يتبنى‪ ،‬ومتى يتبناها‪ ،‬وكيف يوامئها مع ظروفه‪ ،‬جز ًءا أساس ًيا من تلك العملية‪ .‬فالوكالة هي‬
‫أن يختار املرء لنفسه‪ ،‬وهذا مبدأ من مبادئ الكرامة اإلنسانية‪ ،‬وذلك رس هذا النجاح‪.‬‬

‫اًلنحراف اإليجايب‬
‫لهذا النهج اسم هو اًلنحراف اإليجايب وقد ر ّوج له يف تسعينيات القرن العرشين جريي‬
‫ومونيك سترينني‪ ،‬اللذان ذهبا إىل فيتنام ملعالجة سوء تغذية الرضع بالنيابة عن منظمة‬
‫أنقذوا األطفال غري الربحية‪ 28.‬عىل غرار ميلر‪ ،‬قاما بتجربة يشء مختلف‪ .‬فبدًلً من الرتكيز‬
‫عىل من هم يف أمس الحاجة‪ ،‬سعيا وركزا اهتاممهام عىل أولئك الذين يعيشون معيشة جيدة‬
‫نسب ًيا داخل املجتمع‪ .‬مل يكن سؤالهام‪ :‬من يعاين ويحتاج إىل مساعدتنا؟ وإمنا كان عن َمن‬
‫هو‪ ،‬عىل الرغم من مواجهة نفس التحديات والقيود التي يواجهها اآلخرون‪ ،‬بحال جيد وًل‬
‫يحتاج إىل مساعدتنا؟ لقد اكتشفا عدة عائالت ًل يعاين أطفالها من سوء التغذية وقاما‬
‫بدراستها‪ .‬فاكتشفا مجموعة من العادات واًلسرتاتيجيات التي بدت كأنها تحدث فرقًا‪ .‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬تقوم العائالت التي لديها أطفال أصحاء بإطعامهم عدة مرات عىل مدار اليوم‪،‬‬
‫وليس ثالث مرات فقط‪ .‬كام استخدموا أيضً ا الحساء املتبقي من املحاريات‪ ،‬الذي ًل يعتقد‬
‫اآلخرون أنه مفيد‪ ،‬يف طعام أطفالهم‪.‬‬
‫قد يغرينا توثيق هذه اًلختالفات والبدء بربنامج تدريبي للعائالت لتشجيعهم عىل‬
‫بدًل من ذلك‪ ،‬طلبت عائلة سترينني من العائالت الناجحة أن تطبخ‬
‫تبني «أفضل املامرسات»‪ً .‬‬
‫مع جريانها لترسيع تأثري التعرض لالبتكار ضمن شبكة من الوكالء النشطني الذين‬

‫‪163‬‬
‫يتحملون مسؤولية حياتهم ومجتمعاتهم‪ .‬احرتمت تلك العملية الكرامة اإلنسانية يف صميم‬
‫انتشار اًلبتكار‪ ،‬إذ اعتمدت عىل وكالة األقران لتفسري اًلبتكار وتبنيه بشكل عضوي‪ .‬ومل‬
‫تعتمد‪ ،‬كام هو الحال غال ًبا‪ ،‬عىل الغرباء «املهنيني» للتدخل و«تعليمهم» شي ًئا مل يجربوه‬
‫ألنفسهم‪.‬‬
‫يتحدث دنكان غرين من منظمة أوكسفام عن اًلنحراف اإليجايب يف كتابه كيف‬
‫يحدث التغيري بهذه الطريقة‪:‬‬
‫تتمثل نقطة البداية بالبحث عن اًلستثنائيني الذين نجحوا يف مواجهة الصعاب‪ .‬لكن‬
‫من الذي يقوم بالبحث مهم أيضً ا‪ .‬فإذا قام «خرباء» خارجيون بالتحقيق بشأن‬
‫اًلستثنائيني وتحويل النتائج إىل مجموعة أدوات‪ ،‬فلن يتمخض عن ذلك إًل القليل‪.‬‬
‫وإذا قامت املجتمعات باًلكتشاف لنفسها‪ ،‬ميكن أن يرتسخ التغيري السلويك ‪...‬‬
‫فاًلنحراف اإليجايب يستفيد من حقيقة نشطة‪ :‬يف أي مشكلة‪ ،‬سيكون هناك فرد يف‬
‫‪29‬‬
‫حال لها‪.‬‬
‫املجتمع قد وضع مسبقًا ً‬
‫إذا أردنا ترسيع تأثري اًلنحراف اإليجايب ونرش اًلبتكار داخل املجتمعات منخفضة الدخل‪،‬‬
‫نحتاج إىل الرتكيز عىل نقاط القوة‪ ،‬وليس نقاط الضعف‪ ،‬ودعم امتداد الوكالة ًلكتشاف‬
‫تلك اًلبتكارات واعتامدها‪ .‬يف الواقع‪ ،‬هذه هي الطريقة التي حدث بها معظم التقدم البرشي‪.‬‬
‫يصف باينهوكر اًلبتكار من منظور الفرد مبصطلحات تشاركية (بل وحتى‬
‫دميقراطية)‪:‬‬
‫نحن نستخدم أدمغتنا عىل أفضل وجه ممكن يف صنع القرار اًلقتصادي‪ ،‬لكننا بعد‬
‫ونحسن عليها نحو مستقبل ًل ميكن التنبؤ به‪ ،‬فنبقي عىل ما‬
‫ّ‬ ‫ذلك نخترب طريقتنا‬

‫‪164‬‬
‫ينجح ونبني عليه ونتجاهل ما هو غري ذلك‪ .‬إن قصديتنا وعقالنيتنا وإبداعنا مهمة‬
‫‪30‬‬
‫كقوة دافعة يف اًلقتصاد‪ ،‬لكنها مهمة كجزء من عملية تطورية أكرب‪.‬‬
‫بإلقاء نظرة إىل املايض‪ ،‬نود أن نروي ألنفسنا قصة خطية حول كيفية حدوث‬
‫اًلكتشافات‪ ،‬وبتلك القصة الخيالية نبدأ السري عىل الطريق اإلشكايل املتمثل يف تكرار تلك‬
‫العملية عن طريق التصميم‪ً .‬ل تحب عقولنا قصص الصدفة واًلئتامن غري امللموس‪ .‬فنحن‬
‫نرغب يف فهم ما حدث حتى نشعر بالسيطرة عىل األحداث‪ ،‬وعىل التقدم اًلجتامعي‪.‬‬
‫ونخىش أنه لوًل وجود شخصية نافذة تتقلد املسؤولية والسلطة لتحقيق اًلكتشافات‪ ،‬تكون‬
‫فرصنا ضئيلة يف حل املشكالت التي نواجهها اليوم‪ .‬غري أن العكس صحيح‪.‬‬
‫تتطلب زيادة احتاملية حدوث اًلكتشافات بيئات متكينية‪ .‬فنحن بحاجة إىل إلغاء‬
‫اإلكراه‪ ،‬الذي يعتربه أمارتيا سن مهمة التنمية‪ .‬وما يخفق الدخالء غال ًبا يف إدراكه هو أن‬
‫السكان املحليني دامئًا ما يحلون مشاكلهم تدريج ًيا –بشكل مجزأ– ويفعلون ذلك دون‬
‫توجيه خارجي‪ ،‬وبطرق ناجعة ألنها متكررة وناشئة‪ .‬وكام تقول األنرثوبولوجية غريس‬
‫غودل‪:‬‬
‫إحدى املزايا الرئيسية للتغيري املجزأ ألغراض التنمية اًلقتصادية أنه مقتصد‪ ،‬إذ يعطي‬
‫أكرب قدر ممكن من حرية العمل واملسؤولية ألولئك األقرب إىل املشكلة‪ ،‬الذين يتمتعون‬
‫بالقدر األكرب من الخربة يف تلك البيئة ويف وسعهم التفاعل بشكل أرسع‪ .‬يف الوقت‬
‫‪31‬‬
‫نفسه‪ ،‬إنه يعزز الضبط الدقيق املستمر‪.‬‬
‫يعد الضبط الدقيق املستمر جوهريًا للتنمية‪ ،‬لكن يصعب عىل املخططني الخارجيني تبنيه‬
‫ألنه ًل توجد طريقة واضحة لتفسريه يف تصميامتهم‪ .‬توضح غودل تفاصيل املامرسة‬

‫‪165‬‬
‫املعقدة إلنتاج البيض وتسويقه يف منطقة سانتا دالينا بالفلبني‪ ،‬وهي عملية نشأت قبل قيام‬
‫الحكومة بالتدخل وإيقافها ألنها مل تنسجم مع خطط الدخالء للتنمية‪ .‬إذ كتبت‪:‬‬
‫مل يقل أحد يف سانتا دالينا‪« :‬ما يحتاجه هذا املكان هو جمعية تعاونية للبيض – إليك‬
‫كيف ينبغي إنشاء جمعيات تعاونية للبيض»‪ .‬مل تأت أي وكالة بقرض كبري‪ ،‬أو ألف‬
‫بدًل من ذلك‪ ،‬من خالل‬
‫صوص‪ ،‬أو ثالثني ق ّن دجاج جاهز الصنع من اليونيسف‪ً .‬‬
‫التجربة والخطأ‪ ،‬والحاجة‪ ،‬واملبادرة‪ ،‬والظروف‪ ،‬والجهد املحيل‪ ،‬مر القرويون بعملية‬
‫توطيد مجال تفاعلهم ألغراضهم التي حددوها بأنفسهم‪ ،‬وهذا بالضبط ما منحهم‬
‫الهمة والخربة ومكنهم من صد جهود املالك والبريوقراطيني إليقافهم‪ .‬عىل مر‬
‫التاريخ‪ ،‬استمر األوتوقراطيون وأتباعهم التكنوقراطيون يف تقديم حجج اقتصادية‬
‫قوية لفرض «كفاءة» قصرية املدى تعيق األسس املحلية لبلوغ القدرة عىل التنبؤ عىل‬
‫‪32‬‬
‫املدى الطويل‪ ،‬والعقالنية‪ ،‬والرتابط‪.‬‬
‫من املفاجئ‪ ،‬أو رمبا ًل‪ ،‬أن خطة الحكومة املركزية كانت غري منسجمة مع الظروف املحلية‪.‬‬
‫فالفرق صارخ بني النهج ويكشف أن الدخالء ًل حاجة إىل أن يكونوا أجانب‪ ،‬يف حد ذاتهم؛‬
‫دخيال هو أنه ًل يتحمل عبء الفشل عن‬
‫ً‬ ‫إذ ميكن أن يكونوا من أبناء البلد‪ .‬ما يجعل الدخيل‬
‫حال اكتشف عرب التجربة التي أثبت الوقت‬
‫مل نجح الحل املحيل؟ ألنه كان ً‬ ‫املجتمع املعني‪َ .‬‬
‫جهه أولئك الذين كانوا إما سيكسبون وإما يخرسون بناء عىل النتائج‪ .‬فالنموذج‬
‫فعاليتها‪ ،‬وو ّ‬
‫ريا من التجارب املتزامنة‬
‫الالمركزي الذي يتعاطى كرامة اإلنسان بجدية يتيح عد ًدا كب ً‬
‫والنتائج والتكيفات‪ .‬ويتم تكرار أفضل النتائج‪ ،‬ليس عن طريق سلطة مركزية‪ ،‬وإمنا بحكمة‬
‫األفراد الذين يتمتعون بحرية التنقل يف شبكاتهم وحرية تبني ما يحلو لهم دون طلب إذن‬
‫من أحد‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫انتشار الكرامة واالبتكار‬ ‫‪9‬‬

‫أتذكرون الحل املضلل ملسألة متكني األعامل التجارية يف نيبال؟ حددت إحدى‬
‫املنظامت الخارجية املشكلة عىل أنها غياب ريادة األعامل يف أوساط النساء‬
‫حل بسيطًا فشل يف تحقيق املطلوب منه‪ .‬قررت رائدة األعامل‬
‫النيباليات‪ ،‬ووضعت ً‬
‫بديل أقل تكلف ًة وصدي ًقا للبيئة من أجل‬
‫الشابة ريكا داي يف املقابل أن تنهج نه ًجا ً‬
‫بناء املنازل التقليدية يف الهند‪ .‬هذه هي قصتها بكلامتها الخاصة‪:‬‬

‫أدعى ريكا داي‪ ،‬ولقد عملت بجد خلل االثني عرش عا ًما املاضية من أجل البدء‬
‫مبرشوعي الخاص يف الخيزران‪ .‬متكنت من تأسيس رشكتي ووندر بامبو‬
‫إنرتبرايزس يف إطار رشاكة مع تانوجون أسوسييت ذات املسؤولية املحدودة‬
‫أخيًا قبل أربع سنوات‪ ،‬وما نفعله هو بناء البيوت من الخيزران‪.‬‬

‫كان هناك بعد زواجي مزرعة من الخيزران خلف منزل زوجي‪ ،‬وقد‬
‫الحظت مقدار استخدام الناس لها‪ .‬كانت تستخدم يف الغالب يف صناعة‬
‫الحدود والسقوف‪ ،‬ومل تستخدم كثيًا يف األعامل املتعلقة يف األثاث والبناء‪.‬‬
‫ولذلك أردت قضاء بعض الوقت يف هذه املنطقة وتنفيذ يشء ما مبتكر فيها‪.‬‬

‫بكل رصاحة‪ ،‬الخيزران قادر عىل إنقاذ البيئة‪ .‬العامل بأرسه يتحدث عن‬
‫االحتباس الحراري والتغي املناخي واالستدامة البيئية‪ .‬إنها قضية مهمة يف‬
‫الهند‪ .‬ولكن تنفيذ هذه الفكرة يتطلب منا اتخاذ بعض الخطوات الصغية‪.‬‬
‫وانطلقًا من وجهة النظر هذه‪ ،‬أثار الخيزران اهتاممي‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫يعترب [الخيزران] عشب ًا أو جذمو ًرا وليس شجر ًة من وجهة نظر علم‬
‫النباتات‪ .‬ولذلك ال يتسبب قطعه يف أي رضر مهام كان بالبيئة‪ .‬بل عىل العكس‬
‫من ذلك‪ ،‬سنكون مبذرين إن مل نقطعه وتركناه ليزهر بعد سبعني عا ًما‪ .‬ولهذا‬
‫السبب من األفضل أن يزرع الخيزران بكميات كبية‪ ،‬ثم نقطعه بعد مرور‬
‫أربع سنوات‪ .‬من املفضل أن يقطع الخيزران بعد أربع سنوات ليستخدم‬
‫ألغراض متعددة‪ ،‬أما تركه فيسبب مشكلةً‪.‬‬

‫أحلم بأن أرتقي بالخيزران إىل مستوى األثاث املعقد كالذي يوجد يف‬
‫أيكيا‪ ،‬بحيث يصبح التصدير واالستياد ممكنًا وتغدو الهند دول ًة قامئ ًة عىل‬
‫التصدير من خلل استخدامها للخيزران كامدة خام‪ .‬ال أدري كم سيستغرق‬
‫هذا األمر من سنوات‪ .‬ولكن مهام تطلب األمر‪ ،‬أعتقد أنني قادرة عىل تحقيق‬
‫ذلك يف حيايت هذه‪.‬‬

‫لقد كانت رحل ًة طويل ًة – بدءًا بدراسة الخيزران وتحديد أنواع الخيزران‬
‫والغرض من استخدامها‪ .‬متتلك الهند ‪ 145‬نو ًعا من الخيزران‪ ،‬ولكل نوع‬
‫استخدامات مختلفة‪ .‬إننا نتخذ خطوات صغية يف تقدمنا‪.‬‬

‫لن نستطيع تحقيق ذلك يف ليلة وضحاها‪ .‬ولكن إذا ثقفنا الناس حول‬
‫االستخدامات املتعددة للخيزران يف حياتنا اليومية‪ ،‬سيتمكنون من العيش يف‬
‫منازل مصنوعة من الخيزران‪ ،‬وصنع قوالب من الخيزران‪ ،‬فضلً عن صنع‬
‫أثاث منه‪ .‬وإذا استخدمناه عىل نطاق واسع فستصبح البصمة الكربونية‬
‫الصفرية التي نتحدث عنها قابلة للتحقيق‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫ما هو الطلب؟ وما الذي ميكننا تحقيقه بشكل أفضل؟ وما هي‬
‫الفجوات؟ وهل ينقصنا مصممني جيدين؟ ومن يستطيع تصميم منازل مكون ًة‬
‫من ستة طوابق باستخدام الخيزران؟ وكيف ميكننا الوصول إىل هذا الهدف؟‬
‫كان األمر «بحثًا ذاتي ًا» باملطلق بالنسبة يل‪.‬‬

‫كانت مهمة تسجيل رشكتي مبفردي يف يونيو عام ‪ 2016‬من خلل‬


‫ذهايب إىل تينسوكيا [املقر اإلداري ملقاطعة تينسوكيا يف والية أسام] مليئ ًة‬
‫بالتحديات‪ .‬ذهبنا يف البداية إىل تينسوكيا من أجل تأسيس الرشكة وتسجيلها‪.‬‬
‫كان هذا األمر تجرب ًة يف حد ذاتها‪ ،‬ألنه تعني علينا الذهاب إىل املحكمة‪.‬‬

‫ذهبت إىل تينسوكيا يف يونيو عام ‪ 2016‬يف ظل جو شديد الحرارة‪.‬‬


‫ذهبت برفقة زوجي إىل املحكمة وسجلنا الرشكة فيها‪ .‬كانت هذه املرة األوىل‬
‫التي أسجل فيها رشكة رشاكة‪ ،‬ومل أكن أعرف الكثي عن جوانب األمر‬
‫القانونية‪ .‬اكتشفنا عند تسجيلنا لرشكتنا يف تينسوكيا أنه ال ميكن للمرء أن‬
‫يبدأ عمله التجاري بعد تسجيل الرشكة مبارشةً‪ .‬عىل الرغم من أننا اآلن يف‬
‫عام ‪ 2019‬ومل ميض عىل األمر سوى ثلث سنوات‪ ،‬إال أنه من الواضح أن هذا‬
‫الحدث أصبح محفو ًرا يف ذاكريت‪ .‬طلب منا بصامت أصابعنا وصور ونسخ‬
‫لبعض املستندات‪ ،‬ثم أعطوين الشهادة أخيًا يف املرة الثالثة التي تقدمت فيها‬
‫بطلب‪ .‬كل ما حققناه يف هذه الرحلت الثلث هو امتلكنا قطع ًة من الورق‬
‫لتسجيل رضيبة املبيعات التي تسمح للمرء مبامرسة األعامل التجارية‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫تطلب األمر بحثًا واتصاالت واستفسارات عن األوراق املطلوبة بشكل‬
‫يومي‪ .‬عدت بعد التسجيل وكانت خطتي األوىل هي إنشاء مصنع ملعالجة‬
‫الخيزران يف ورشة تانجون‪-‬ووندر بامبو يف سهارنبور‪.‬‬

‫ولتحقيق هذا األمر‪ ،‬بحثنا ووجدنا أن اآلالت متوفرة يف مكانني –‬


‫كجرات وإندور‪ .‬توصلنا بعد دراسة األمر إىل استنتاج مفاده أننا سنشرتيها‬
‫من ديواس يف مقاطعة إندور‪.‬‬

‫ذهبنا إىل هناك بأنفسنا وبحثنا األمر‪ .‬كان هناك ثلثة أو أربعة‬
‫مزودين‪ .‬لقد تحدثنا أيضً ا إىل أحد مطوري املاكينات نظرًا ألن متطلباتنا كانت‬
‫متخصص ًة للغاية‪ .‬أردنا أن نتمكن من معالجة خمسني عمو ًدا دفع ًة واحدةً‪ .‬إذا‬
‫قمنا بهذا األمر مرتني يومي ًا فسنستطيع معالجة مائة عمود يومي ًا‪.‬‬

‫كنت أعلم متا ًما ما أريده‪ ،‬ولكن كيف سيبدو األمر عند تنفيذه؟ لقد‬
‫تعلمنا تدريجي ًا كيفية فعل ذلك‪ .‬قدمنا طلب ًا بعد ذهابنا إىل هناك وفهمنا جميع‬
‫الجوانب الفنية‪ .‬إنه أول استثامر يل يف تجارة الخيزران‪ .‬كنت متحمس ًة للغاية‬
‫ألنني أعرف أن هذا العمل يحتاج إىل بضع سنوات من االستثامر وكنت‬
‫مستعدة ذهني ًا لذلك‪.‬‬

‫كان رأس املال للستثامر األويل من مدخرايت الشخصية‪ .‬مل أكن أعرف‬
‫مصدر استثامري املستقبيل‪ ،‬ولكنني كنت أعلم منذ بداية الرحلة أنني سأجد‬
‫الحل عىل طول الطريق‪ .‬مل أكن أدرك حجم التحدي الذي ميثله تقديم طلب‬
‫لرشاء آلة يف الهند خلل تلك الفرتة‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫ذهبنا بعد تسجيل الرشكة إىل مكتب رضائب املبيعات من أجل الحصول‬
‫عىل رقم التعريف الرضيبي‪ .‬كان رقم التعريف الرضيبي رش ً‬
‫طا للسامح‬
‫بالتجارة يف الهند‪ .‬ولذلك ذهبنا إىل سهارنبور ألنه كان من املقرر تركيب اآللة‬
‫يف ورشة العمل يف مقاطعة سهارنبور‪.‬‬

‫تطلب هذا األمر وحده أن أسافر شخصي ًا من دلهي إىل سهارنبور ثلث‬
‫أو أربع مرات‪ ،‬وكانت ابنتي بالكاد تبلغ من العمر ست أو سبع سنوات يف تلك‬
‫يل أن أسافر برفقتها‪.‬‬
‫الفرتة‪ .‬توجب ع ي‬
‫قدمنا بعد ذلك طلب ًا من أجل الحصول عىل اآللة‪ ،‬ومل أكن أعلم بوجود‬
‫منوذج يس الذي ميكن للمرء أن يحصل عىل خصم رضائبي بسيط من خلله‪.‬‬
‫مل يكن هذا النموذج موجو ًدا يف تلك الفرتة إال بصيغة ورقية‪ .‬هذا ما تعلمناه‬
‫تدريجي ًا‪.‬‬

‫أرسلنا النسخ الورقية بعد ذلك إىل ديواس بريدي ًا‪ ،‬ولكن ضاعت هذه‬
‫اإلرسالية عن طريق الصدفة‪ .‬لقد كان بري ًدا حكومي ًا رسي ًعا وجي ًدا‪ ،‬ولكن ال‬
‫أدري كيف ضاعت‪ .‬ما اكتشفناه تالي ًا هو أن هذه الورقة مهمة للغاية‪ ،‬إذ ينبغي‬
‫يف حال فقدانها أن يقدم املرء تقرير معلومات أويل‪ .‬وأين ميكن تقديم تقرير‬
‫املعلومات األويل؟ ينبغي فعل ذلك يف املدينة التي فقدت فيها الورقة‪ .‬وبذلك‬
‫تعلمنا كل يوم معلوم ًة جديدةً‪.‬‬

‫ذهبت بعد ذلك إىل مركز الرشطة يف ديواس من أجل تقديم تقرير‬
‫يل القيام بذلك من أجل هذا الهدف فقط‪ .‬وبعد ذهابنا‬
‫املعلومات األويل‪ ،‬كان ع ي‬
‫إىل هناك توجب علينا أن نعرف املكان الذي وصلت إليه الوثيقة‪ .‬وصلت إىل‬

‫‪171‬‬
‫مكتب الربيد العام يف ديواس ومل تظهر أي معلومات عنها بعد ذلك‪ .‬حاولنا‬
‫أن نحصل عىل بعض املعلومات يف مكتب الربيد العام ولكننا مل نتمكن من‬
‫العثور عىل يشء‪ .‬ذهبنا بعدها إىل مركز الرشطة وقدمنا تقرير املعلومات‬
‫األويل وأخذنا نسخ ًة منه معنا‪ .‬إنها مسألة حامية ذاتية‪ .‬إذا فقدت شيئًا ما ثم‬
‫أساء أحدهم استخدامه غ ًدا فستشي أصابع االتهام إليك‪.‬‬

‫سافرنا خلل ذلك الصيف مرا ًرا وتكرا ًرا ثم عدنا إىل نقطة البداية‬
‫وقدمنا طلب ًا للحصول عىل ذلك النموذج مجد ًدا‪ ،‬ألننا لن نتمكن من الحصول‬
‫عىل الخصم الرضيبي بدونه‪ ،‬إذ كانت الرضيبة ضخمةً‪ .‬ولكن يف غضون ذلك‪،‬‬
‫تسلمنا اآللة من مصنعيها قبل أن نرسل تلك األوراق‪.‬‬

‫ميكنكم أن تلحظوا حني يبدأ شخص ما مرشو ًعا جدي ًدا‪ ،‬حتى اآلن‬
‫وأعتقد أنه سيبقى األمر كذلك إىل األبد‪ ،‬لن يرغب هذا الشخص أب ًدا يف فعل‬
‫أي يشء خارج نطاق النظام القانوين أو قواعد الحكومة‪ .‬ولكن حني تعيشون‬
‫هذه التجربة ستدركون أنها أشبه بصندوق باندورا‪ .‬تفتحون شيئًا ما فيظهر‬
‫لكم شيئًا آخر‪.‬‬

‫ينبغي عليكم أن تذهبوا إىل كل مكان بشكل شخيص ليك تعرفوا ما‬
‫يحتاجونه منكم‪ .‬اعتدنا أن نأخذ معنا كل يشء‪ ،‬وأن نقدم دو ًما نس ًخا مصورةً‪.‬‬
‫لقد واجهت العديد من التحديات‪ ،‬ومل تنته العقبات يف طريقي بعد‪ .‬بدأت يف‬
‫عام ‪ ،2016‬ولكن اإلرسالية األوىل يف مبادريت الريادية شحنت يف عام‬
‫‪ 2017‬بعد أن اعرتفت الحكومة الهندية بأن الخيزران املزروع محلي ًا يعترب‬
‫جذمو ًرا (عشب ًا) مبوجب قانون الغابات‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫قبل أن يحدث ذلك‪ ،‬اعتاد التجار عىل إخبارنا يف كل مرة ناقشنا فيها‬
‫األسعار يف واليات مختلفة أن هذه املنتجات حرجية وأن الرضائب مختلفة‪.‬‬
‫هناك ‪ GP‬و‪ TP‬أي ترصيح املرور وترصيح النقل‪ .‬إذا كنت ترغب يف رشاء أي‬
‫منتجات حرجية‪ ،‬فمن املؤكد أن هناك بعض اللوائح الرضيبية‪ .‬كان هذا األمر‬
‫ينطبق عىل الخيزران أيضً ا‪ ،‬ويف ذلك الوقت مل يكن تحليل التكلفة الذي‬
‫أنجزته من أجل تحديد التكلفة التي ميكننا العمل ضمن نطاقها متطاب ًقا أب ًدا‬
‫مع تكلفة مواد الخام املرتفعة للغاية‪.‬‬

‫اعتاد التجار عىل إبلغنا يف وقت التسليم أنه سيتعني علينا دفع الكثي‬
‫من املال من أجل الرضائب‪ .‬مل نتمكن يف كثي من األحيان من تقدير املبلغ‬
‫مقد ًما‪ .‬ولذلك متلكني خوف من أن أتقدم بطلب وأدفع مقد ًما ثم ترتفع التكلفة‬
‫لدرجة تجعل كل عميل الشاق يضيع هباءً‪ .‬ولذلك استغرقني األمر وقتًا طويلً‬
‫قبل أن أبدأ بالعمل‪ ،‬وميكنني القول إنني محظوظة ألنني فعلت ذلك‪ ،‬إذ‬
‫انتظرت قرار الحكومة بأن الخيزران ليس شجر ًة مبوجب قانون الغابات بل‬
‫عشب‪ ،‬وبالتايل ال ينبغي أن يخضع إىل أي رضائب حرجية تنظيمية‪.‬‬

‫وبذلك قدمنا أول طلب لنا بعد التغيي الذي طرأ عىل القانون‪ ،‬ومل نشرت‬
‫سوى الخيزران املزروع محلي ًا ألن التجار هناك يحصدونه من قرى مختلفة‪.‬‬
‫يأيت الخيزران الذي نشرتيه من مقاطعة كوكراجهار؛ ويأيت بعض منه من‬
‫مناطق أخرى أيضً ا‪ .‬ولكن بطبيعة الحال‪ ،‬كان الخيزران يف مقاطعة أسام من‬
‫حيث التكلفة ذو نوعية جيدة وسعر أرخص‪ ،‬ولذلك نطلب الخيزران من هناك‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫إن إزالة الخيزران من قامئة ترخيصات راج هي نعمة عظيمة بالنسبة‬
‫ألصحاب املشاريع مثلنا‪ ،‬إذ لن يكون عملك قابلً للتطبيق إن مل تحصل عىل‬
‫املواد الخام بسعر رخيص وبتكلفة معينة‪ .‬ولوال ذلك يذهب عملك الشاق كله‬
‫‪1‬‬
‫هباءً‪.‬‬

‫كانت ريكا شغوف ًة بكيفية استخدام الخيزران باعتباره ماد ًة للبناء‪ ،‬وكرست نفسها‬
‫لتعلم كيفية تسيي األعامل التجارية‪ .‬واجهت ريكا العديد من العقبات‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫التنظيامت املرهقة التي تحد من االستخدام التجاري القانوين للخيزران بسبب‬
‫تصنيفه خطأً مبوجب القانون عىل أنه شجرة‪ .‬كانت هذه التنظيامت مبثابة هدية‬
‫ملنافيس ريكا األكرث قوةً‪ ،‬إذ استفادوا من الحظر املفروض عىل ابتكارات ريكا التي‬
‫أرادت إدخالها إىل مجال البناء‪ .‬ويف نهاية املطاف‪ ،‬شهدت ريكا مبساعدة من إحدى‬
‫املنظامت غي الحكومية املحلية إعادة تصنيف الخيزران بشكل صحيح باعتباره‬
‫عش ًبا‪ ،‬ومتكنت بذلك من تنمية عملها التجاري‪ .‬امتلكت ريكا يف األساس املوهبة‬
‫واملعرفة اللزمة للنجاح يف عملها‪ ،‬ولكن البيئة املؤسسية هي ما منعها من رؤية‬
‫تجربتها يف طور االزدهار‪.‬‬

‫الحواجز التنظيمية‬

‫إن البيئة املؤسسية التي متنع تجارب ريكا وأمثالها تلغي بذلك أحيانًا جميع الجهود‬
‫األخرى التي تهدف إىل حل مشكلة الفقر‪ .‬إن حل مشكلة الفقر مسألة تتعلق بالحامية‬
‫‪174‬‬
‫املؤسسية للمعرفة واالستقللية واملبادرات الفردية يف التجارب دون توجيه أو إكراه‪.‬‬
‫إنها تتطلب احرتام حقهم يف تقرير املصي واحرتام كرامتهم‪ .‬يعود الفضل إىل‬
‫معرفة ريكا ويقظتها يف جعل بناء املنازل من الخيزران أم ًرا ممكنًا‪ ،‬وذلك بعد أن‬
‫نجحت املنظامت غي الحكومية املحلية يف الرتويج إللغاء القانون الذي صنف‬
‫الخيزران خطأً عىل أنه شجرة ً‬
‫بدال من عشب‪ .‬كم من «ريكا» واجهت مشاكل مامثل ًة‬
‫وقررت االستسلم ألسباب ميكننا فهمها؟ يحتاج الحد من الفقر إىل أفق مفتوحة‬
‫للحرية لسبب عميل للغاية‪ ،‬إذ ال ميكن ألحد أن يتنبأ مبصدر االبتكارات التالية‪.‬‬
‫ويحتاج الحد من الفقر إىل حلول متعددة ومتنوعة للمشاكل االقتصادية واملؤسسية‪.‬‬

‫وهنا تظهر فائدة التعددية‪ ،‬والتي تعكس فائدة الكرامة اإلنسانية باعتبارها‬
‫قاعد ًة اجتامعيةً‪ .‬كل املبدأين يتمتعان بقيمة عملية كبية‪ .‬إن التعددية‪ ،‬املفهومة‬
‫بشكل صحيح‪ ،‬تتوقع احتاملية اكتشاف قيمة أعىل يف الحلول التي متثل التأثي‬
‫املشرتك للعديد من األصوات‪ .‬أما احرتام كرامة الجميع –األغنياء والفقراء عىل حد‬
‫سواء– فيزيد من احتاملية اكتشاف القيمة األعىل (الضامن الحتمي للقيمة الذاتية‬
‫العليا) يف الحلول التي تشمل وجهة نظر الفرد الخاصة حول األسئلة املتعلقة بذلك‬
‫الفرد وأرسته وحيه ومجتمعه وتقاليده وبلده وما إىل ذلك‪.‬‬

‫إن تحديد األسئلة التي تندرج يف إطار اختصاص املجموعة –وماهية‬


‫املجموعة– بطبيعة الحال هو محل نقاش كبي عىل جميع مستويات التنظيم‬
‫االجتامعي تقري ًبا‪ .‬أما فيام يتعلق بأهداف التنمية واملؤسسات التي تحكم نجاحها‪،‬‬
‫فنكرر التأكيد عىل رضورة استكشاف هذه األسئلة بعد أن يتمتع الجميع باحتاملية‬
‫الحرية‪ ،‬التي تنشأ عنها عاد ًة االبتكارات املختربة يف السوق‪ .‬يعزز مفهوما التعددية‬
‫والكرامة الحقوق الفردية والقيم الدميقراطية‪ .‬يشي ميناند إىل أن الحجة العملية يف‬
‫‪175‬‬
‫وسط الحجج املختلفة لحرية التعبي كافية وحدها‪« :‬نحن نسمح بحرية التعبي ألننا‬
‫‪2‬‬
‫نحتاج إىل موارد املجموعة بأكملها من أجل تزويدنا باألفكار التي نحتاجها»‪.‬‬

‫يطرح سكوت ملحظ ًة أخرى تضم اقرتا ً‬


‫حا حول كيفية التفكي يف مستقبل‬
‫أكرث إرشاقًا للتنمية‪.‬‬

‫يؤكد منارصو نظرية الشبكات عىل أهمية التهميش يف تعزيز عمليات االبتكار‬
‫والتعلم‪ ... .‬متا ًما كام تدعم نقاط التقاء مياه البحر باملياه العذبة األشكال‬
‫خصوصا‪ ،‬تولد مناطق التداخل وااللتقاء بني املجاالت‬
‫ً‬ ‫املتنوعة للحياة البحرية‬
‫‪3‬‬
‫املؤسسية إمكانيات كثي ًة ألشكال جديدة‪.‬‬

‫ميكن أن يشي التهميش بطبيعة الحال إىل أي شخص عىل حافة الشبكة‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن حالته االجت امعية واالقتصادية‪ ،‬ولكننا نقرتح اتباع نهج جديد يف التنمية‬
‫يتطلب انخراط هؤالء املهمشني اآلن أو سابقًا نظ ًرا لفشلنا التاريخي يف تقدير قيمة‬
‫دور السكان ذوي الدخل املحدود يف حل املشكلت االجتامعية‪ .‬ومن الجدير بالذكر‬
‫يف هذا السياق هو أن التغيي املؤسيس الناجح دالة للظروف األولية –كيفية عمل‬
‫يا بفضل مجموعة متنوعة من األصوات التشاركية‪ .‬من‬
‫الناس اآلن– وهو أكرث تبش ً‬
‫غي املرجح أن تأخذ عملية التغيي قصية النظر والتي يهمني عليها النخبة املخزونات‬
‫الهائلة من معلومات وأفكار ووجهات نظر املجتمعات منخفضة الدخل يف الحسبان‪.‬‬
‫من املمكن أن يؤدي اتباع نهج أكرث توازنًا يسمح للمجتمعات منخفضة الدخل يف‬
‫اتخاذ قراراتهم الخاصة دون التدخل األبوي إىل إضعاف الغرباء‪ ،‬ولكنه سيغني‬
‫العامل بأرسه‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫إمكانات «الفلحني» واألسواق غي الرسمية‬

‫قارن بول دويتشامن وأورالندو فالس بوردا يف إحدى الدراسات البارزة يف ستينيات‬
‫القرن العرشين بني أمناط انتشار‪ ،‬أو معدل تبني‪ ،‬االبتكارات الزراعية يف قرى‬
‫الفلحني يف كولومبيا بتلك يف املجتمعات الزراعية األكرث ثرا ًء وثقاف ًة يف أوهايو‪.‬‬
‫تطابقت األمناط يف نواح مهمة‪ .‬كانت احتاملية أن يسعى املزارعون أصحاب الدخل‬
‫املنخفض يف املناطق املتخلفة إىل تحسني أساليب كسب عيشهم من خلل التجارب‬
‫فضل عن أنهام كانا حساسني للختلفات‬
‫ً‬ ‫املدروسة والحكيمة مشابهة لآلخرين‪،‬‬
‫النسبية فيام يتعلق يف التعرض لألفكار الجديدة وانتهاز الفرص لتطبيقها يف‬
‫املامرسة‪ .‬كان املزارعون الذين يعيشون يف جبال األنديز ممن ال ميتلكون سوى‬
‫وصوال محدو ًدا إىل وسائل اإلعلم ويضطرون غالبًا إىل االعتامد عىل الكلم الشفهي‬
‫ً‬
‫يف تعلم التقنيات الجديدة‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أبطأ عىل صعيد تبني االبتكارات‬
‫الجديدة مقارن ًة بغيهم يف مجموعتهم املحلية ممن أصبح لديهم تنو ًعا يف طرق‬
‫جمع املعلومات‪ ،‬كالسفر خارج قريتهم والوصول املنتظم إىل الصحف والراديو‬
‫‪4‬‬
‫مثل‪.‬‬
‫والكتب ً‬

‫الدرس املستفاد هو أن املجموعات ذات الدخل املنخفض تتمتع بنفس قدرات‬


‫املجموعات األكرث ثرا ًء وثقاف ًة من الناحية الشكلية حني يتعلق األمر بالتفكي يف‬
‫االبتكارات التي يعتقدون أنها من املمكن أن تحسن مصيهم‪ ،‬باإلضافة إىل اختبارها‬
‫واعتامدها‪ .‬أما ما يبطئ تقدمهم فهي أيضً ا العوامل ذاتها التي تبطئ اكتشاف أي‬
‫ابتكار أو انتشاره‪ ،‬أي القيود املفروضة عىل الوصول إىل األفكار الجديدة واملعوقات‬
‫التي تعرتض التجريب الحر لتلك األفكار‪ .‬ألهمت دراسة دويتشامن وفالس بوردا يف‬
‫العقود التالية سلسل ًة من الدراسات املامثلة حول أمناط االنتشار‪ ،‬والتي أثبتت أيضً ا‬
‫‪177‬‬
‫وجود منط عاملي نسب ًيا فيام يتعلق بانتشار االبتكار باعتباره دال ًة للتنوع الشبيك‬
‫والتواصل والتجريب‪.‬‬

‫وعىل الرغم من ذلك‪ ،‬سارت عملية التنمية الدولية كام لو أن جبال األبحاث‬
‫حول التغيي املؤسيس واالنتشار املرتاكمة لدينا قد كتبت بلغة غريبة ونرشت يف‬
‫مجرة أخرى‪ .‬استمرت النهج النزولية القدمية يف طريقها املعاكس‪ ،‬إن مل يكن‬
‫املعادي‪ ،‬ملا تعلمناه عن العمليات اللمركزية واملشاركة املستقلة اللزمة الكتشاف‬
‫مناذج التغيي الدائم‪.‬‬

‫يسلط سكوت الضوء عىل عمل ديفيد سرتانغ‪ ،‬الذي راجع مجموع ًة من‬
‫دراسات االنتشار يف عام ‪ 2010‬وأكد عىل استقللية األفراد الذين راقبهم يف بحثه‪.‬‬
‫يؤكد سرتانغ أنه يف «عامل الفاعلني السياديني القادرين عىل اتخاذ قرار حول ما إذا‬
‫كانوا سيفعلون شي ًئا ما أم ال» يترصف الناس بشكل مستقل نسب ًيا‪ ،‬عىل الرغم من‬
‫أنهم يهتمون باآلخرين ويأخذون أفعالهم يف االعتبار‪ ،‬حتى أنهم يظهرون دها ًء يف‬
‫مقارنتهم بني املامرسات وتكييفها لتتناسب مع ظروفهم‪ 5.‬وما ال يحظ بتقدير كاف‬
‫عىل اإلطلق يف مناذج التنمية هو الجزء من العملية الذي ميارس فيه األعضاء‬
‫املستقلون يف املجتمعات منخفضة الدخل امتيازاتهم بحكمة يف تحققهم أو رفضهم‬
‫أو تبنيهم أو تكييفهم أو ابتكارهم أو حفاظهم عىل الخيارات الكثية التي يتيحها لهم‬
‫ما ميكن لشبكتهم أن تقدمه‪.‬‬

‫إن إرشاك األصوات الهامشية يف اإلغاثة والتنمية هو أمر ألفنا سامعه من‬
‫الناحية الخطابية بطبيعة الحال‪ .‬بذل البنك الدويل جهو ًدا مضني ًة مل يسبق لها مثيل‬
‫من أجل فهم وجهات نظر املجتمعات منخفضة الدخل فيام يتعلق بالتنمية خلل‬

‫‪178‬‬
‫أواخر تسعينات القرن العرشين‪ .‬سعى املرشوع املعروف باسم أصوات الفقراء إىل‬
‫فهم وجهات نظر املجتمعات منخفضة الدخل بنا ًء عىل الدراسات االستقصائية‬
‫التقليدية لألرس املعيشية من خلل املقابلت وغيها من األساليب التحليلية األخرى‪.‬‬
‫نرشت النتائج يف ثلث مجلدات وتضمن املجلد األول والثاين عنوانني مثل أصوات‬
‫الفقراء‪ :‬هل من أحد يسمعنا؟ وأصوات الفقراء‪ :‬رصخة من أجل التغيي‪.‬‬

‫يؤكد املؤلفون يف ختام املجلد األول‪ ،‬تحت العنوان الفرعي «عنارص‬


‫اسرتاتيجية التغيي»‪ ،‬عىل الفجوة بني النوايا الحسنة للغرباء الذين ينوون خدمة‬
‫الفقراء ونوايا ورغبات الفقراء أنفسهم‪« .‬غالبًا ما ترتك اللقاءات املؤسسية الفقراء‬
‫مستضعفني ومستبعدين وبل صوت»‪ 6.‬أما يف املجلد الثالث فكانت الخامتة يف‬
‫أصوات الفقراء‪ :‬من األرايض العديدة مرتكز ًة عىل حامية حقوق الفقراء‪ .‬يشارك‬
‫املؤلفون قصة‬

‫فرناندو البالغ من العمر ‪ 21‬عا ًما‪ ،‬والذي نشأ يف األحياء الفقية يف ساكادورا‬
‫كابرال يف الربازيل محاطًا بالجرائم واملخدرات وسوء استخدام السلطة‪... .‬‬
‫يحلم فرناندو بأن يصبح قاض ًيا يو ًما ما‪ .‬إنه يطمح إىل دراسة القانون من‬
‫أجل متكني نفسه ورفع مستوى الوعي يف جميع أنحاء مجتمعه‪ .‬يعتقد‬
‫فرناندو أن التثقيف والتوعية بالحقوق أمران رضوريان ملستقبل الفافيل‪ .‬قال‪:‬‬
‫«ال ميتلك الناس يف الفافيل أي فكرة عن حقوقهم‪ .‬نحن نعاين من التمييز‬
‫الذي متارسه الرشطة؛ ييسء رجال الرشطة إلينا‪ ،‬ويستخدم آخرون معرفتهم‬
‫‪7‬‬
‫الستغللنا‪ .‬لذلك أريد أن أعرف كل يشء عن الحقوق والواجبات»‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫إن الحقوق والواجبات التي يشعر فرناندو أنها الحل ملشاكل حيه ينبغي أن‬
‫تكون مؤمن ًة من قبل املؤسسات القوية التي ناقشناها‪ ،‬ولكن ما يشعر به من انفصال‬
‫تام حتى حني يتعلق األمر مبعرفتها يبني غياب الفقراء عن املشاركة يف عملية التغيي‬
‫املؤسيس‪ .‬ال يستطيع شخص خارجي ميتلك تخطيطًا مؤسسيًا أفضل أن يصلح األمر‪،‬‬
‫ومل يكن هناك كثي من األدلة قبل نرش أصوات الفقراء حول حد املجتمع اإلمنايئ‬
‫الدويل من دوره يف املشاركة يف التخطيط للتغيي املؤسيس بالرشاكة مع النخب‬
‫الحكومية‪.‬‬

‫ال شك يف أن أحد األسباب يف عدم تغي مجتمع التنمية بهذه الطريقة هو ما‬
‫تحدث عنه بابلو يانغاس حول الطبيعة الوجودية لدور الغرباء املحدود‪ .‬إن املعضلة‬
‫التي يواجهها الغرباء ذوي النوايا الحسنة ال ميكن حلها ببساطة‪ .‬كيف ميكن لدور‬
‫الغرباء أن يكون محدو ًدا دون أن يصبح سلب ًيا أو غي فاعل يف قضيتي محاربة الفقر‬
‫والتنمية؟ ال ميكن تلخيص اإلجابة بسهولة يف سطر أو اثنني‪ ،‬ولكننا نعتقد أنها تبدأ‬
‫ببعض األفكار التي تحدث عنها أحد االقتصاديني األفارقة البارزين‪.‬‬

‫أمىض االقتصادي الغاين الشهي عامل ًيا والذي شغل منصب مستشار بونو‬
‫رأسا عىل عقب‪ .‬زار أيتي‬
‫ساب ًقا جورج أيتي عقو ًدا من حياته يف محاولة لقلب التنمية ً‬
‫مكاتبنا يف شهر أغسطس عام ‪ ،2016‬عىل الرغم من مشاكله الصحية الخطية‪،‬‬
‫تخصصا التزامه بأن‬
‫ً‬ ‫مخططًا ملرشوع طموح‪ .‬يقابل إتقان إيتي للقتصاد بوصفه‬
‫يرى ازدها ًرا يف أفريقيا‪ .‬كان أيتي يفكر يف تأليف كتاب مهم‪ ،‬كونه مؤلف للعديد‬
‫من الكتب املهمة التي نرشت عىل مدار عقدين من الزمن‪ ،‬مبا يف ذلك املؤسسات‬
‫األفريقية األصلية وأفريقيا املغدورة وأفريقيا يف الفوىض وأكرث كتبه مبي ًعا أفريقيا‬
‫بل قيود‪ .‬أوضح أيتي لنا أن أحد العوائق التي يواجهها األفارقة يف طريقهم‬
‫‪180‬‬
‫االقتصادي نحو االزدهار هو عدم قدرة الطلب األفارقة عىل الوصول إىل الكتب‬
‫الدراسية االقتصادية األجنبية‪ .‬ما يلزم إلحياء املبادئ االقتصادية لدى الطلب األفارقة‪،‬‬
‫عىل حد تعبيه‪ ،‬هو كتاب درايس قوي حول االقتصاد التطبيقي مكتوب يف سياق‬
‫أفريقي ومن قبل خبي اقتصادي أفريقي باستخدام أمثلة وتشابيه أفريقية ميكن‬
‫التعرف عليها‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫انتهى كتاب أيتي الذي يضم ‪ 400‬صفح ًة االقتصاد التطبيقي من أجل أفريقيا‬
‫حا عرب اإلنرتنت مجانًا آلالف طلب االقتصاد ورجال‬
‫بعد مرور عامني ثم أصبح متا ً‬
‫األعامل والعلامء والصحفيني وصناع السياسات يف جميع أنحاء أفريقيا‪ .‬مل يكن‬
‫االقتصاد التطبيقي من أجل أفريقيا مجرد دراسة استقصائية للمبادئ االقتصادية‪.‬‬
‫قدم الكتاب ذلك ولكنه ضم أيضً ا مجموع ًة غني ًة من تجارب أيتي التي مر بها خلل‬
‫حياته باإلضافة إىل أفكاره حول التحديات والفرص االقتصادية يف أفريقيا‪ .‬كرس‬
‫أيتي عدة فصول ملسائل التنمية وحمل العديد من الجناة املعروفني مسؤولية الفشل‬
‫الحايل‪ :‬االستعامر‪ ،‬والحكم ما بعد االستعامر‪ ،‬واملساعدات الخارجية‪ .‬جادل أيتي عىل‬
‫وجه الخصوص بأن أحد األرضار التي تسبب بها االستعامر‪ ،‬والتي استمرت منذ ذلك‬
‫الحني‪ ،‬هي فصل مستقبل أفريقيا عن ماضيها‪ .‬استهدف األفارقة برواية خاطئة حول‬
‫تاريخهم عىل طول الطريق‪ ،‬عىل حد تعبيه‪ ،‬إذ تدعم هذه الرواية األسطورة املفرطة‬
‫يف بساطتها حول مجتمعات الصيادين وجامعي الثامر البدائية التي تنفي األدلة عىل‬
‫وجود املؤسسات االقتصادية أو تيسء فهم املجتمعات األفريقية التقليدية وتعتربها‬
‫مجتمعات جامعي ًة بشكل منوذجي‪.‬‬

‫بدال من ذلك أدل ًة وفي ًة إلثبات وجود منط مشرتك من التقاليد‪ ،‬مع‬
‫يقدم أيتي ً‬
‫اعرتافه بالتنوع الرثي للمجتمعات األفريقية‪ ،‬مبا يف ذلك األسواق وحقوق امللكية‬
‫‪181‬‬
‫واملعايي الدميقراطية التشاركية‪ .‬يسعى أيتي إىل إعادة الروابط بني األفارقة‬
‫ومعاييهم ومامرساتهم التاريخية‪ ،‬يف محاولة إلصلح سلسلة التطور التكراري‬
‫املكسورة واالتجاه نحو مستقبل أكرث إرشاقًا عىل صعيد التنمية املؤسسية‪ ،‬أي‬
‫مستقبل يخلقه األفارقة ويدعمونه‪.‬‬

‫ينظر أيتي إىل الديكتاتورية باعتبارها غريب ًة عن الثقافة األفريقية‪ ،‬كام كانت‬
‫القوة االستعامرية يف القرن املايض‪ .‬مل يكن للزعامء وامللوك التقليديني عمو ًما‬
‫سيطر ًة مطلق ًة ومل ميارسوا الديكتاتورية عىل شعوبهم‪ .‬اتخذت معظم القرارات‬
‫مبوجب شكل من أشكال التوافق‪ .‬مارست األرس املعيشية املكونة من عدة أجيال‬
‫سيطر ًة واسعةً‪ ،‬إن مل تكن مطلقةً‪ ،‬عىل ممتلكاتها‪ .‬كانت األسواق الحرة شائع ًة وقويةً‪،‬‬
‫ومل يكن هناك أي سلطة مركزية تحدد املوقع أو األسعار أو البائعني املفضلني‪ .‬همشت‬
‫هذه التقاليد ودمر الكثي منها عىل يد االستعامر‪ .‬أما االسرتاتيجيات التنموية ما بعد‬
‫االستعامر فكانت عىل نفس القدر من اإلهامل‪ ،‬إن مل تكن معادي ًة متا ًما للتقاليد‬
‫األفريقية األصلية‪.‬‬

‫حني كان توم يف غرب أفريقيا يف مقابلة إذاعية ملناقشة اقتصاديات التضخم‪،‬‬
‫كان انهيار اقتصاد زميبابوي موضوع اليوم‪ .‬قال زميل توم النيجيي‪ ،‬الذي سافر‬
‫إىل زميبابوي عدة مرات‪ ،‬ر ًدا عىل مدح املحاور لروبرت موغايب‪« :‬لو كان موغايب‬
‫بدال من رئيس»‪ .‬لرمبا يبدو األمر غري ًبا بالنسبة‬
‫راغ ًبا يف مساعدة بلده لكان مل ًكا ً‬
‫لألجانب‪ ،‬ولكن لطاملا كان امللوك األفارقة مقيدين يف سلطتهم وركزوا عىل حل‬
‫النزاعات وتأمني السلم يف مجتمعاتهم‪ ،‬فهم ليسوا –مثل العديد من الرؤساء‬
‫األفارقة– أصحاب سلطة غي محدودة وتعسفية‪ ،‬وهم بالتأكيد ليسوا ديكتاتوريني ال‬
‫يتورعون عن اإلبادة الجامعية‪.‬‬
‫‪182‬‬
‫يستشهد أيتي يف كتابه االقتصاد التطبيقي من أجل أفريقيا بقائد رشطة يف‬
‫العاصمة الزميبابوية هراري الذي كان واض ًحا بشأن اسرتاتيجيته للقضاء عىل الفقر‬
‫من خلل القبض عىل التجار غي الرسميني ومصادرة مخزونهم املتواضع‪ 9.‬إن هذا‬
‫الدافع الغريب لتحقيق التنمية من خلل استبعاد أو منع كل ما يبدو أنه تخل ًفا هو‬
‫عكس ما يعتربه أيتي رضوريًا من أجل تحقيق النمو‪ .‬يجادل أيتي بأن القطاع غي‬
‫يا حني يتعلق األمر بالتنمية‪ ،‬ويعود‬
‫خصوصا هو األكرث تبش ً‬
‫ً‬ ‫الرسمي أو االنتقايل‬
‫السبب يف ذلك إىل حجمه –الذي ال ميكن للمرء تجاهله– باإلضافة إىل أنه فعال ح ًقا‬
‫عىل الرغم من حجم العقبات يف طريقه‪ .‬ألن يكون األمر أكرث فعالي ًة بالنسبة‬
‫لألشخاص الذين يكسبون لقمة العيش من خلله –باإلضافة إىل بقية األشخاص يف‬
‫البلد– لو منحت االجتهادات واليقظة التي أظهرها املشاركون فيه تجاه الفرص‬
‫الكرامة واالحرتام والخدمات الوقائية املمنوحة للمؤسسات القانونية؟‬

‫عرف أيتي التنمية ليس باعتبارها من ًوا وحسب‪ ،‬ألن هذا التعريف ظامل إىل حد‬
‫كبي‪ ،‬بل عىل أنها تحسن يف مستوى املعيشة للفرد العادي‪ ،‬لذا فهو ينتقد معظم‬
‫مشاريع اإلغاثة ألنها تعطي األولوية للبيئات الحرضية‪ ،‬حيث ال تعيش الغالبية‬
‫العظمى من ذوي الدخل املنخفض وتخدم جهود التحديث مشاعر وتفضيلت النخب‪،‬‬
‫أو ألنها تحوم حول املناطق الريفية مستخدم ًة أساليب أجنبي ًة و«أفضل املامرسات»‬
‫الزراعية التي غال ًبا ما تتعارض مع املعارف واملعايي املحلية‪ .‬يرى أيتي أنه حني يكون‬
‫الرتكيز متامش ًيا مع ما تعلمناه من رؤى االنحراف اإليجايب بدالً من ذلك‪ ،‬ميكن أن‬
‫تخلق الحلول ملشكلة الفقر من داخل القطاعات غي الرسمية التي يقودها العديد من‬
‫أصحاب النفوذ املجهولني‪ ،‬الذين من املحتمل أن يزدهروا حني ميتلكون ح ًقا الكرامة‬
‫والحرية املحمية مؤسس ًيا من أجل متابعة مساراتهم الخاصة نحو االزدهار‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫الصني غي النموذجية‬

‫هذه هي الطريقة التي تحققت من خللها معظم معجزات التنمية الحديثة يف واقع‬
‫األمر‪ .‬إن ما يسمى مفارقة منو الصني ليست محي ًة إال يف سياق منوذجنا الفاشل‬
‫لتصدير الدميقراطية الليربالية تحت سلطة املستشارين األجانب‪ .‬يتساءل مارتن كينغ‬
‫وايت يف ورقة بحثية نرشت عام ‪ 2009‬يف الدورية األمريكية لعلم االجتامع‪ ،‬كام‬
‫توحي لنا الحكمة التقليدية‪ ،‬عن سبب نجاح الصني فيام فعلته بينام تفشل عىل ما‬
‫يبدو يف «إصلح املؤسسات»‪ .‬تعمل املعايي والقيم التقليدية يف الصني‪ ،‬وف ًقا لجميع‬
‫الروايات وبد ًءا من ملحظات ماكس ويرب يف مطلع القرن‪ ،‬ضد ابتكار السوق‬
‫الحديث والنمو االقتصادي‪ .‬وصف ويرب السامت الثقافية التاريخية للصني بأنها‬
‫«تؤكد عىل احرتام املايض واالستقرار والوئام بدالً من االنفتاح والتغيي والسعي‬
‫يا لسجلها اليسء‬
‫لتحقيق املصلحة الشخصية الفردية»‪ ،‬واستشهد بها باعتبارها تفس ً‬
‫يف املايض‪.‬‬

‫ما تغي يف عام ‪ 1978‬موصوف يف آخر كتاب ألفه االقتصادي رونالد كوس‬
‫الحائز عىل جائزة نوبل قبل وفاته‪ .‬يروي كيف أصبحت الصني رأساملية‪ ،‬الذي ألفه‬
‫بالتشارك مع نينغ وانغ‪ ،‬قصة تغيي مؤسيس تختلف متا ًما عن الحكاية التوجيهية‬
‫إلجامع واشنطن أو منوذج الرأساملية الذي تقوده الدولة والذي قد يبدو ظاهريًا أن‬
‫الصني تديره‪ 10.‬إنها قصة اللمركزية الرتاكمية‪ ،‬والتجريب عىل مستوى األسواق‪،‬‬
‫واالعتامد عىل الظروف األولية‪ ،‬وتقرير املصي‪ ،‬والتحول الكبي يف الخطاب‪.‬‬
‫ومخترص القول إن الصني اتبعت ما أطلق عليه ياشينغ هوانغ‪ ،‬مؤسس مخترب الصني‬

‫‪184‬‬
‫التابع ملعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا‪« ،‬الليربالية االتجاهية» بد ًءا من حيث كانت‪،‬‬
‫ثم اكتشفت ما ميكن أن ينجح‪ ،‬واتجهت إىل تقنني النجاحات الناشئة وتوسيع نطاقها‬
‫لتصبح سياس ًة مرتجلةً‪ .‬كان الخطاب ً‬
‫مهام أيضً ا بحسب ما قال املؤرخ االقتصادي‬
‫ديردري مكلوسيك دفا ًعا عن القضية العامة للبتكار والتنمية‪ .‬لرمبا ميكن تلخيص‬
‫التحول الخطايب يف مقولتني شهيتني منسوبتني إىل دينغ شياو بينغ تصفان‬
‫سياسته عىل الرغم من أنهام موجزتني‪.‬‬

‫اعرب النهر بعد أن تتحسس الحجارة‪.‬‬

‫أن يصبح املرء ثريًا هو أمر عظيم‪.‬‬

‫ميكن النظر إىل املقولة األوىل باعتبارها وص ًفا بسيطًا ولكنها تعرب عن سياسة‬
‫تدريجية للتغيي املؤسيس‪ .‬من املهم أن ندرك أن مليني املزارعني ورجال األعامل‬
‫الصينيني هم من قادوا هذه العملية‪ ،‬وليس الرؤساء املسنني يف الحزب الشيوعي‬
‫الصيني (‪ .)CCP‬خلق موت ماو –الذي كان أكرب مساهمة له يف النجاح االقتصادي‬
‫للصني– مساح ًة لحركة باوشان داوهو اللمركزية («التعاقد مع األرسة من أجل‬
‫اإلنتاج») التي فككت نظام الزراعة املجتمعي الكاريث‪ ،‬ومن ثم تخلت يف مثال رائع‬
‫للرباعة عن تاريخ الرشكة الحديثة‪ ،‬بفضل داي هونغاموزي («ارتداء القبعة‬
‫الحمراء»)‪ ،‬األمر الذي أسفر عن تأسيس الرشكات العائلية‪ ،‬ويف نهاية املطاف‬
‫‪11‬‬
‫الرشكات التي ميتلكها املساهمون‪ ،‬تحت غطاء كونها تعاونيات عاملية شيوعية‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫بدأت التغييات عىل مستوى القاعدة الشعبية واتجهت نحو األعىل‪ ،‬ثم اعرتف خلفاء‬
‫ماو وال سيام زاو زيانغ ودينغ شياو بينغ باملسية القادمة وقرروا مواجهة األمر‪.‬‬

‫ميكن النظر إىل املقولة الثانية باعتبارها وص ًفا لتغي املوقف تجاه املبادرة‬
‫الفردية‪ ،‬يتخلله وضوح جيل بشأن الكرامة املشرتكة الجديدة التي ينبغي أن متنح‬
‫ألولئك الذين يسعون وراء الرثوة ويحققونها‪ .‬ميكن القول إن هذين الشعارين‬
‫البسيطني يصفان التغييات التي حدثت يف السنوات اللحقة‪ .‬متتعت املشاريع يف‬
‫املدن والقرى تدريج ًيا عىل سبيل املثال مبزيد من السيطرة عىل ممتلكاتها وإمكانية‬
‫توظيف من يرغبون بتوظيفه وبيع ما يريدون بيعه – كل ذلك بأسعار متفاوض‬
‫عليها بحرية‪ .‬ألغي الطابع املركزي للسيطرة وتحولت إىل الحكومات اإلقليمية‬
‫واملحلية يف معظم املسائل االقتصادية‪ ،‬وما حفز هذه الجهات ليس املكافآت التي‬
‫تديرها الدولة بل تقييد الدولة كيل تصادر مثار نجاحها‪.‬‬

‫شهدت الرشكات التي متلكها الدولة يف الوقت ذاته منافس ًة غي مرشوعة‬


‫ساب ًقا يف السوق من أجل ضامن اهتاممها باإلنتاجية والجودة‪ .‬ميكن القول –وال‬
‫غرابة يف األمر– إن هذه الرشكات اململوكة للدولة‪ ،‬والتي يعتربها قادة الحزب‬
‫الشيوعي الصيني مبثابة جواهر عىل تاج االقتصاد الصيني‪ ،‬تشكل عب ًئا حقيق ًيا عىل‬
‫املؤسسة اإلنتاجية للشعب الصيني‪ .‬وكام وثق كل من شينغ هونغ وتشاو نونغ من‬
‫معهد يونيول للقتصاد يف بكني املغلق حال ًيا (بأمر من الحكومة)‪ ،‬تنكشف‬
‫الرشكات اململوكة للدولة واملربحة ظاهريًا عىل حقيقتها بأنها مؤسسات خارسة‬
‫مبجرد أن تأخذ اإلعانات يف عني االعتبار‪« .‬تلعب الرشكات اململوكة للدولة دو ًرا سلب ًيا‬
‫يف توزيع الدخل» وف ًقا ملا خلصا له بعد دراستهام لنظام املحاسبة يف الرشكات التي‬
‫‪12‬‬
‫متلكها الدولة‪.‬‬
‫‪186‬‬
‫ال وجود لنموذج صيني‪ .‬ما فعله الصينيون هو السامح بإصلحات تبدأ من‬
‫القاعدة باإلضافة إىل مقاومة التدخل يف االبتكارات املختربة يف السوق‪ ،‬إىل جانب‬
‫دعم الرشكات الخارسة من أجل توفي وظائف عاطلة لنخبة الحزب الشيوعي‬
‫الصيني‪ .‬إن النهج املنفتح للبتكار القائم عىل املنافسة هو ما يجعل اكتشاف املزايا‬
‫النسبية أم ًرا ممكنًا‪ .‬يلحظ وايت أن حكام الصني يسمحون للصينيني بالسعي وراء‬
‫مستقبلهم االقتصادي نظ ًرا للقيود السياسية املفروضة عليهم فيام يتعلق بتحويل‬
‫مشاكل التنمية الخاصة لهم إىل خرباء اإلغاثات األجانب الغربيني‪ .‬ولكن لسوء الحظ‪،‬‬
‫تتجه الصني حاليًا بسبب الرتكز الشديد للقوة يف يد رجل واحد نحو إخضاع العنارص‬
‫التي تخلق االبتكار واإلبداع يف املجتمع الصيني وجعلها فريس ًة للنخبة من الحزب‬
‫الشيوعي الصيني‪.‬‬

‫وكام أشار الربوفيسور جورج كالهون من معهد ستيفنز للتكنولوجيا فيام‬


‫يتعلق باالنخفاض الرسيع يف ثروة رجل األعامل جاك ما من رشكة تسنسنت إىل‬
‫النصف‪ ،‬وتدمي رشكة آنت غروب‪ ،‬والقيود املتزايدة املفروضة عىل املشاريع املبتكرة‬
‫والريادية‪« :‬توزع بكني اآلن بعضً ا من أكرث أعامل جاك ما رب ًحا عىل [رشكاء] جدد‬
‫من اختيارها‪ ،‬مبا يف ذلك واحدة من أكرث الرشكات فسا ًدا وهشاش ًة من الناحية املالية‬
‫يف جميع أنحاء الصني»‪.‬‬
‫‪13‬‬

‫ليس هناك بلد معني بتاريخه وثقافته ومؤسساته ولوائحه وهيكل إدارته‬
‫يستطيع تقديم «منوذج» ليكرره اآلخرين‪ .‬يتنقل كل بلد يف مرحلة ما من تطوره بني‬
‫مجموعة مرتابطة وفريدة من العوامل ضمن األنظمة املعقدة التي تشكل الظواهر‬
‫االجتامعية واالقتصادية‪ .‬ما ميكن تعلمه من النتائج املختلفة لدرجات النجاح النسبية‬

‫‪187‬‬
‫هو سامت عملية التغيي التي من املرجح أن تجعل االبتكار أم ًرا أسهل‪ ،‬وتحد من‬
‫الفقر‪ ،‬وترفع مستوى معيشة الشخص العادي‪.‬‬

‫الحظ آدم فيغسون‪ ،‬أحد معارصي آدم سميث‪ ،‬ما ييل بكل حكمة‪:‬‬

‫كل خطوة وكل حركة تقوم بها الجامهي‪ ،‬حتى يف ما يسمى بالعصور‬
‫التنويرية‪ ،‬تتسم بنفس القدر من الجهل باملستقبل؛ واألمم تجد املؤسسات التي‬
‫‪14‬‬
‫فعل‪ ،‬ولكنها ليست تنفي ًذا ألي تصميم برشي‪.‬‬
‫هي نتيجة للعمل البرشي ً‬

‫لقد أصبحنا مقتنعني متا ًما بأن املؤسسات الدميقراطية الليربالية (الحقوق املدنية‪،‬‬
‫واملساواة القانونية‪ ،‬وامللكية‪ ،‬وتصور الحرية‪ ،‬والتبادل الحر‪ ،‬وحرية التعبي‪ ،‬وسيادة‬
‫القانون) رضورية لرفع مستويات االزدهار البرشي‪ .‬ولكن هذه القناعة وحدها ال‬
‫تكفي ليك نعرف ما يجعل تقوية املؤسسات الليربالية أكرث أو أقل احتامالً ‪ .‬دفع هذا‬
‫األمر تاريخ ًيا العديد إىل مسار التقليد يف بناء املؤسسات وأسفر عن نتائج كارثية‪.‬‬
‫مل ير «الخرباء» الخارجيون هذه املؤسسات سوى كنتائج بسبب تركيزهم عىل‬
‫التصميم‪ ،‬ومل يكلفوا أنفسهم عناء النظر يف العمليات التي ولدتها‪.‬‬

‫إن الدميقراطية الليربالية‪ ،‬بحكم تعريفها‪ ،‬هي نظام حكم يقدر األصوات‬
‫الفردية والخيارات الفردية‪ ،‬وينبغي أن تكون كيفية متابعة الدميقراطية الليربالية‬
‫أيضً ا خيا ًرا يتخذه هؤالء الذي سيحكمهم التعبي املؤسيس لهذا الهدف‪ .‬أما أولئك‬
‫الذين نجحوا يف تعزيز مؤسسات الدميقراطية الليربالية القادرة عىل الصمود فهم‬
‫من قادوا عملية التغيي‪ ،‬وعملوا مرا ًرا وتكرا ًرا من أجل تقييد سلطة الدولة لردعها عن‬
‫تدمي املشهد التجريبي اللمركزي اللزم البتكار حلول للفقر‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫التنمية بكرامة‬ ‫‪10‬‬

‫إذا كان حل مشكلة الفقر إحدى وظائف الكرامة اإلنسانية التي ُتم ارس يف بيئة مواتية من‬
‫املؤسسات الراسخة‪ ،‬فنحن بحاجة إىل بناء منوذج تنموي جديد يضمن أن األطراف الخارجية‬
‫تساعد وال ترض‪ .‬ميكننا البدء بتحديد وكالء ريادة األعامل الرئيسيني الذين يقودون التنمية‬
‫املستدامة‪.‬‬
‫عندما نفكر يف رائد أعامل‪ ،‬فإننا منيل إىل التفكري يف أمور استثنائية إىل حد ما‪.‬‬
‫نفكر يف مبتكر اشتهر بتغيري الطريقة التي نؤدي بها أعاملنا أو نعيش حياتنا اليومية‪ .‬نفكر‬
‫يف عمالقة تكنولوجيا غدت ثري ًة بسبب نباهتها الشديدة تجاه فرص الربح الكبرية‪ ،‬ورمبا‬
‫أطلقت كتابًا من أكرث الكتب مبي ًعا حول إعادة كتابة «كتاب القواعد»‪ .‬توجد أسباب عملية‬
‫ريا من الجهود العلمية‬
‫علام أن جز ًءا كب ً‬
‫وأكادميية لتعريف ريادة األعامل مبصطلحات ضيقة‪ً ،‬‬
‫‪1‬‬
‫يصارع حدود التعريفات املنافسة واملكملة‪.‬‬

‫ريادة األعامل العاملية واملؤسساتية‬


‫إذا وضعنا هذه املناقشات األكادميية جان ًبا‪ ،‬فإننا نقرتح‪ ،‬كتمرين فكري‪ ،‬أن علينا يف سياق‬
‫التنمية بذل جهد إضايف للتعرف عىل السلوك الريادي الذي يظهره جميع البرش يوم ًيا يف‬
‫أثناء عملهم ملعاينة الخيارات التي يواجهونها‪ .‬تستلزم كرامة اإلنسان الحق يف أن يقرر الفرد‬
‫أفضل طريقة لعيش حياته‪ ،‬وهذه الحرية تطلق بدورها العنان لسامت الريادة التي نربطها‬
‫بالتنمية‪ .‬س ّميهم –سميهم جمي ًعا– رواد أعامل عامليني‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫عّب فاسييل غروسامن عن رؤيته بوضوح يف روايته الحياة والقدر عن حصار‬
‫ّ‬
‫ستالينغراد‪ ،‬عندما عاين الكولونيل بالجيش األحمر بيوتر بافلوفيتش نوفيكوف الجنود‬
‫املجتمعني تحت إمرته وأدرك أن‪،‬‬

‫للجامعات البرشية هدف رئييس واحد‪ :‬التأكيد عىل حق كل شخص بأن يكون‬
‫مختلفًا‪ ،‬وأن يكون ممي ًزا‪ ،‬وأن يفكر ويشعر ويعيش بطريقته الخاصة‪ .‬يتحد الناس‬
‫للظفر بهذا الحق أو الدفاع عنه‪ .‬لكن هنا يمولد خطأ فادح ومصريي‪ :‬االعتقاد بأن هذه‬
‫التجمعات باسم عرق أو إله أو حزب أو دولة غاية الحياة وليست مجرد وسيلة لتحقيق‬
‫غاية ما‪ .‬ال! إن املعنى الوحيد الحقيقي والدائم للنضال من أجل الحياة كامن يف الفرد‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫يف خصائصه املتواضعة ويف حقه يف تلك الخصائص‪.‬‬

‫يف «خصائصنا املتواضعة»‪ ،‬نتشارك كلنا أم ًرا واح ًدا؛ كل منا فريد من نوعه‪ .‬وبعملنا‬
‫عىل تحسني أوضاعنا الحياتية‪ ،‬فنحن جمي ًعا رواد أعامل‪.‬‬
‫عندما قرر دينيش ديكسيت‪ ،‬بائع متجول يف الهند‪ ،‬االنتقال إىل نيودلهي لتجربة‬
‫امتهان بيع األساور‪ ،‬قام باختبار فرضيات السوق وتعديل قراراته بنا ًء عىل النتائج‪ .‬وجد‬
‫مو ّردين بالجملة يف أماكن بعيدة واختار مجموعة متنوعة من املنتجات بنا ًء عىل خّبته فيام‬
‫يتعلق بأفضل املنتجات املباعة وبأي كميات نسبية‪ .‬لقد وضع يف االعتبار الفرص البديلة –‬
‫التي سعى وراء بعضها فرت ًة قبل التخيل عنها للبيع يف الشوارع– والقيود التي يفرضها‬
‫الوقت واملواصالت واألرسة والقواعد الحكومية‪ .‬لقد عاين كل هذه العوامل‪ ،‬واتخذ قرارات‬
‫صغرية كل يوم عىل طول الطريق للبقاء‪ ،‬ويف النهاية‪ ،‬لالزدهار‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫بالنسبة لبعض التعريفات األكادميية‪ ،‬يصنَّف دينيش ديكسيت كرائد أعامل‪ ،‬ولكن‬
‫عندما نفكر يف ريادة األعامل يف سياق التنمية‪ ،‬غال ًبا ما يمستبعد أشخاص مثله‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫ميكننا أن نجادل بأن عاملية السلوك الريادي املوجود بني األشخاص املتواضعني‪ ،‬وال سيام‬
‫أولئك العاملني يف القطاع غري الرسمي‪ ،‬يجب أن تدفع مجتمع التنمية إىل إعطاء األولوية‬
‫لكرامة كل فرد كرائد أعامل‪ .‬إن تفكريهم وتقييمهم وتجسيدهم واختيارهم السلوكيات تخلق‬
‫قدرتهم عىل قيادة املسارات الفردية من فقر اليوم إىل ازدهار الغد‪ .‬يف ضوء ذلك‪ ،‬نقرتح‬
‫أيضً ا‪ ،‬كام جادل جورج أيتي بوضوح‪ ،‬أن تطلعاتنا للتنمية يجب أن تركز عىل إطالق العنان‬
‫إلبداعات القطاع غري الرسمي‪ ،‬ليس كأشياء تثري شفقتنا‪ ،‬بل كعنارص متمكنة قادرة عىل‬
‫قيادة التقدم‪.‬‬
‫هنا مرة أخرى‪ ،‬تّبز أهمية مالحظات ويليام بومول املرجعية حول الطبيعة العاملية‬
‫أساسا إىل ندرتها؛‬
‫ً‬ ‫لريادة األعامل‪ 3.‬نظر الرأي الشائع إىل ريادة األعامل باالستناد‬
‫لالقتصادات الناجحة رواد أعامل أكرث؛ وتلك غري الناجحة لديها عدد أقل‪ .‬واملعنى املضمن‬
‫هنا يقول بحاجة إنتاج االقتصادات غري الناجحة إىل تقديم املزيد من رواد األعامل بطريقة‬
‫ما‪ ،‬ما أدى بدوره إىل العديد من الجهود الّبامجية لتعليم السكان املحليني «كيف يصبحون‬
‫رواد أعامل»‪.‬‬
‫أدرك بومول أن لهذه القصة بقية طويلة‪ .‬وافرتض أن إجاميل رواد األعامل املتوفرين‬
‫ريا‪ .‬املتغري الحقيقي هو اإلنتاجية النسبية لجهود تنظيم‬
‫قليال‪ ،‬ولكن ليس كث ً‬
‫قد يتغري ً‬
‫املشاريع كدالة لألعراف االجتامعية السائدة والقوانني الرسمية التي تحكم السياق املحيل‪.‬‬
‫وعليه ال يكون السؤال األهم‪ :‬كيف ميكننا الحصول عىل املزيد من رواد األعامل؟ بل‪ :‬ما تأثري‬
‫قواعد املجتمع لو مس ّخرت الطاقة املبذولة يف ريادة األعامل عىل نحو مثمر؟ إن املجتمع الذي‬

‫‪191‬‬
‫مجاال للتجربة يف السوق ويحمي مثار جهودهم يرى طاقة ريادة األعامل تمنفق‬
‫ً‬ ‫مينح شعبه‬
‫عىل خلق قيمة اقتصادية للمجتمع‪ .‬أما املجتمع الذي يقيد التجريب‪ ،‬وينظر إىل النشاط‬
‫التجاري بازدراء‪ ،‬ويكافئ الرتابط السيايس‪ ،‬سوف يرى طاقة ريادة األعامل تمنفق عىل‬
‫التالعب بهذا النظام وفقًا لذلك‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬حيث مل تمكفل كرامة طبقة التجار‪،‬‬
‫ين ّوه باومول بالصني يف العصور الوسطى ً‬
‫حتى لألثرياء منهم‪ .‬بل ممنحت ملوظفي الخدمة املدنية الذين واجهوا اختبارات تنافسية للغاية‬
‫لكسب مناصب حكومية مرغوبة‪ .‬قد تزدهر أحوال التجار‪ ،‬لكنهم سيستخدمون ثرواتهم‬
‫لدفع أتعاب املعلمني ملساعدة أطفالهم حتى يصبحوا موظفني مدنيني‪ .‬تدفقت املوهبة إىل ما‬
‫أسامه بومول ريادة األعامل غري املنتجة‪ ،‬ويف هذه الحالة‪ ،‬استثامر مفرط يف دراسة الفلسفة‬
‫ومامرسة فن الخط يف الغالب‪( 4.‬ال يعني هذا عي ًبا يف دراسة الفلسفة أو تحسني فن الخط!‬
‫ولكن مثل هذه األنشطة تصنف غال ًبا عىل أنها استهالكية أكرث من إنتاجية) واألسوأ من ذلك‪،‬‬
‫ريادة األعامل املدمرة‪ ،‬التي ندركها بني اللصوص ومجموعات قرصنة برامج الفدية‪ ،‬وغريها‬
‫من املؤسسات اإلجرامية‪ ،‬التي تلحق دامئًا أرضا ًرا أكّب بكثري من الفوائد التي تتلقاها‪.‬‬
‫لموحظت أيضً ا عوائد أفضل يف أي مكان ميارس فيه الضغط عىل املسؤولني الحكوميني‬
‫(ورشوتهم) للحصول عىل خدمات‪ ،‬مقارن ًة بالتنافس عىل العمالء يف السوق‪ .‬يجري‬
‫استثامر كم كبري من الطاقة واملوهبة يف العالقات والرشاوى واملناورات الرسية‪ .‬ورواد‬
‫األعامل املدمرون يظهرون الكثري من اإلبداع واملوهبة واالجتهاد‪ ،‬لكنهم يصبحون أثرياء عىل‬
‫حساب اآلخرين‪ ،‬وعاد ًة عّب طرائق ذات تكاليف إجاملية أكّب بكثري من الفوائد التي‬
‫يحصلون عليها‪ .‬إنهم ال يضيفون إىل الكعكة االقتصادية‪ .‬بل يؤثرون يف طريقة توزيع‬
‫كعكة أصغر‪ .‬من الجدير بالذكر‪ ،‬أن نظرية باومول لريادة األعامل قد أمثبتت بشكل تجريبي‬

‫‪192‬‬
‫يف السنوات التي تلت أطروحته األولية‪ 5.‬إذا أردنا رؤية مزيد من ريادة أعامل صافية تخلق‬
‫قيمةً‪ ،‬فنحن بحاجة إىل تغيري الطريقة التي يتعامل بها املجتمع مع رواد األعامل وسلوك‬
‫ريادة األعامل يف العمل داخلنا جمي ًعا‪.‬‬
‫يتطلب فهم اإلمكانات الخفية لرواد األعامل العامليني‪ ،‬ال سيام أولئك العاملني يف‬
‫ريا مام يقف بينهم وبني مستقبل أكرث‬
‫القطاعات غري الرسمية أو االنتقالية‪ ،‬إدراك أن جز ًءا كب ً‬
‫ازدها ًرا هو املؤسسات واملامرسات التي تحط من قدرهم وتهينهم وتسيطر عليهم؛ فهذه‬
‫تستبدل بافرتاض الحرية افرتاض السلطة؛ وهذا بدوره يضع العبء عىل عاتقهم لتّبير‬
‫ابتكاراتهم‪ ،‬وليس عىل مسؤويل الدولة أو أمراء الحرب لتّبير منعهم‪ .‬والكثري من تلك‬
‫املامرسات املهينة واملذلّة واملسيطرة جرى فرضها عىل الفقراء عىل يد السادة االستعامريني‬
‫السابقني‪ ،‬ثم واصلها ورثة تلك املؤسسات واملامرسات ما بعد االستعامر‪ .‬نتيج ًة لذلك‪ ،‬يتعني‬
‫عىل رواد األعامل التحرك يف مشهد ُتلؤه مؤسسات مفرتسة ومختلة وقمعية‪ .‬إن عكس هذه‬
‫االتجاهات وبناء مؤسسات أقوى من ظروفها األولية يتطلب رؤي ًة وقياد ًة محليتني‪.‬‬

‫تحقيق أجندة التوطني‬


‫أصبح مجتمع التنمية العاملي بخطوات بطيئة أكرث انسجا ًما مع الدور الحاسم للجهات‬
‫الفاعلة املحلية يف دفع عجلة التنمية‪ .‬أمطلق عىل االعرتاف بهذا الدور يف التنمية عنوان‬
‫مثال‪ ،‬أخّبت سامانثا باور‪ ،‬مديرة الوكالة األمريكية‬
‫«أجندة التوطني»‪ .‬ففي يوليو ‪ً 2021‬‬
‫للتنمية الدولية املعينة حديثًا حينها‪ ،‬لجنة العالقات الخارجية مبجلس الشيوخ أن االستثامر‬
‫يف التوطني سيكون مفتاح نجاح الوكالة عىل املدى الطويل‪ 6.‬نستكشف بعض عنارص هذه‬
‫األجندة يف هذا الفصل لتسليط الضوء عىل ما تحمله من وعود ومخاطر‪ .‬بينام يوجه املجتمع‬

‫‪193‬‬
‫اإلمنايئ الدويل اهتاممه وموارده لدعم «بناء القدرات» يف الجنوب العاملي لقيادة تنميته‪،‬‬
‫ينبغي عليه أن يتعلم برسعة كيفية الحد من دوره القيادي حتى ال يقف عائقًا يف هذا‬
‫الطريق‪ .‬هذا ليس حتم ًيا‪ ،‬إذ نوهت باور يف إفادتها تلك أيضً ا بأن الوكالة األمريكية للتنمية‬
‫الدولية ستحتاج إىل املزيد من املوارد واملوظفني من الوكالة لتمثيل مجموعة أكرث تنو ًعا من‬
‫املستفيدين املحليني الذين قد ال يكونون عىل استعداد ٍ‬
‫كاف لاللتزام مبعامالت الوكالة‬
‫الورقية املرهقة‪ 7.‬يوحي هذا السياق بأن مضامني التوطني الحقيقية مل يتم استيعابها حقًا‪.‬‬
‫فهام أفضل‪ ،‬نستعرض تال ًيا مناذج التوطني املعارصة‪ ،‬مع الرتكيز عىل‬
‫لفهم هذه املضامني ً‬
‫مرشح التمثيل املحيل األكرث شيو ًعا‪ :‬خلية التفكري غري الحكومية املحلية‪.‬‬
‫يف ورقة عمل عام ‪ 2017‬لوحدة غويلم غيبون للسياسات يف أكسفورد‪ ،‬شارك غاي‬
‫لودج وويل باكستون خّباتهم يف العمل عىل بناء القدرات من أجل إنشاء خاليا تفكري محلية‬
‫غري حكومية يف زامبيا وزميبابوي ورواندا‪ 8.‬يدير لودج وباكستون كيفو إنرتناشونال‪،‬‬
‫ويصفون يف موقعهم عىل الويب الغرض منها بهذه الطريقة‪:‬‬

‫نعتقد أن الطريقة األنجح إلحداث تغيري يف السياسات تنطوي عىل دعم الفاعلني‬
‫السياسيني املحليني وُتكينهم‪ .‬فهم األنسب لتطوير حلول السياسات األنجع يف‬
‫بيئتهم السياسية‪ .‬إنهم يفهمون كيف يحدث التغيري –وال يحدث– يف سياقهم‪ .‬يتمثل‬
‫دورنا يف العمل مع رشكائنا باستخدام خّباتهم ومعرفتهم املحلية‪ ،‬وخّبتنا الواسعة‬
‫‪9‬‬
‫يف صنع السياسات والتأثري فيها‪ ،‬ملساعدتهم عىل إحداث التغيري الذي يبتغون‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫تناول لودج وباكستون يف ورقتهام حدود الجهات الخارجية يف سياق االعرتاف‬
‫املتزايد باملجتمع اإلمنايئ‪ ،‬كام قال بابلو يانغواس‪ ،‬بأنه من السذاجة مبكان تجاهل الحقائق‬
‫السياسية للتغيري املؤسيس يف التنمية‪ .‬ولكن يف عامل ما بعد االستعامر‪ ،‬ميكن أيضً ا تفهم‬
‫اإلحجام عن االنخراط يف بلد مستفيد‪ .‬الحظ لودج وباكستون ضعفًا جزئ ًيا يف التزامنا‬
‫بتقدير دور القيادة املحلية يف تحديد أولويات التنمية‪ ،‬ألن وكاالت اإلغاثة ستخضع يف نهاية‬
‫املطاف دامئًا للضغوط السياسية يف بلدانها‪ .‬لتحقيق أهداف التوطني فكريًا‪ ،‬فإن االتجاه‬
‫الطبيعي هو تضخيم أهمية املبادرات األقل أهمية‪ ،‬مثل زيادة وجود املوظفني األجانب «عىل‬
‫‪10‬‬
‫األرض»‪.‬‬
‫يدعو لودج وباكستون إىل انتقال أكرث شمولي ًة إىل التوطني‪ ،‬مستشهدين بخاليا‬
‫التفكري كمرشحني مستعدين للحصول عىل دعم املانحني‪ .‬يعرتفان‪ ،‬كام نعرتف نحن‪ ،‬أن‬
‫حال سحريًا لتحدي التوطني يف التنمية‪ .‬ومع‬
‫خاليا التفكري غري الحكومية املحلية ليست ً‬
‫ذلك‪ ،‬يؤكدان أنها تستطيع تأدية دور أكّب بكثري لو استثمر املانحون أكرث يف إمكاناتها‪.‬‬
‫هذا ُتا ًما ما فعله تحالف من املؤسسات الخريية‪ ،‬بقيادة مؤسسة ويليام وفلورا‬
‫هوليت‪ .‬لنتذكر مرشوع قرى األلفية‪ ،‬تجربة جيفري ساكس الفاشلة التي استمرت عرش‬
‫سنوات‪ ،‬بعد استثامرها أمواالً طائلة –‪ 300‬مليون دوالر أمرييك– يف حلول تقنية تقليدية‬
‫بقيادة جهات خارجية ملشكلة الفقر‪ .‬يف منتصف الطريق تقري ًبا يف هذا املرشوع‪ ،‬عام‬
‫‪ ،2009‬أمطلق مرشوع مختلف ُتا ًما‪ :‬مبادرة خلية التفكري (‪ .)TTI‬شهدت السنوات العرش‬
‫التالية إنفاق املبادرة أكرث من ‪ 200‬مليون دوالر كندي لدعم خاليا الفكر املحلية من خالل‬
‫تقديم ُتويل سنوي أسايس‪ ،‬وفرص تشبيك‪ ،‬وتوفري تدريب تقني‪ .‬واستنا ًدا إىل «النقص‬
‫الحاد يف قدرات خاليا الفكر»‪ 11‬يف البلدان النامية‪ُ ،‬تحورت الفكرة حول إمكانية خاليا‬

‫‪195‬‬
‫التفكري املحلية‪ ،‬املتجذرة يف الثقافة والتاريخ املحليني‪ ،‬إحداث التغيريات املؤسسية التي‬
‫تؤدي إىل التنمية‪ .‬مع الحرص عىل أال تكون إلزامية للغاية‪ ،‬اختارت مبادرة خلية التفكري‬
‫تقديم التمويل األسايس‪ ،‬بدالً من ُتويل املرشوع‪ ،‬بهدف ُتكني خاليا التفكري غري الحكومية‬
‫املحلية يف الجنوب العاملي من تحديد أفضل السبل لتحقيق رؤاها للتغيري مبرونة‪.‬‬
‫حا باه ًرا‪ ،‬مع وصول العديد من خاليا التفكري‬
‫عىل بعض املقاييس‪ ،‬حقق املرشوع نجا ً‬
‫املشاركة يف الّبنامج‪ ،‬والبالغ عددها ‪ 52‬خليةً‪ ،‬إىل مستويات غري مسبوقة من القوة‬
‫التنظيمية‪( .‬يف النهاية‪ ،‬ظلت ثالث وأربعون خلية تفكري‪ ،‬ممثل ًة عرشين دولة يف أمريكا‬
‫الالتينية وأفريقيا وآسيا‪ ،‬مؤهل ًة للحصول عىل الدعم املستمر طوال فرتة املرشوع‪ ).‬تقدم لنا‬
‫تجارب املؤسسات الخريية والجهات املستفيدة املعنية مجموع ًة غني ًة من األفكار حول‬
‫التحديات العملية املرتبطة مبتابعة أجندة التوطني بهذه الطريقة‪ .‬ستكون بعض هذه‬
‫التحديات مألوفة ملانحي املساعدات التقليديني‪ ،‬ولهذا السبب نرى قيمة كبرية يف مراجعة‬
‫جهود مبادرة خلية التفكري الرائدة‪ .‬هنا يّبز موضوعان‪:‬‬
‫أوالً‪ ،‬عّب تقييمني مستقلني للمرشوع‪ ،‬أحدهام بعد خمس سنوات‪ ،‬أي عام ‪ ،2013‬والثاين‬
‫عند ختام املرشوع عام ‪ ،2019‬واجه املق ّيمون صعوب ًة يف تحديد ارتباط واضح بني زيادة‬
‫قدرات املستفيدين وتأثريات السياسة التي هدفوا إىل تحقيقها‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬نجحت قلة من خاليا‬
‫تفكري يف التحضري النتقال سلس إىل اإليرادات البديلة بعد نهاية التزام مبادرة خلية التفكري‬
‫بالتمويل مدة عرش سنوات‪.‬‬
‫يف تقرير ‪ ،2013‬الحظ املق ِّيمون أن ‪ ٪50-41‬من التمويل ذهب إىل جودة البحث‪،‬‬
‫و‪ ٪30-22‬ذهب إىل التطوير التنظيمي‪ ،‬و‪ ٪27-18‬فقط ذهب إىل االتصاالت والتوعية‪.‬‬
‫‪12‬‬

‫أوصوا بإعادة موازنة املخصصات الثالثة لتتامىش ُتاش ًيا أفضل مع أهداف املرشوع‬

‫‪196‬‬
‫الظاهرة‪ .‬وأعطوا أيضً ا تحذيرات مبكرة تتضمن اختالف وجهة نظر لجنة مبادرة خلية‬
‫التفكري التنفيذية –الهيئة األكرث قدر ًة عىل اتخاذ القرارات املتعلقة بالّبنامج– حول‬
‫املفاضالت بني الالأدرية يف أهداف السياسة و«رؤية أجدى»‪ ،‬حيث يتوقع املانحون أن تعمل‬
‫مراكز األبحاث «بصورة مبارشة أكرث عىل قضايا سياسية محددة يرى [املانحون] أنها‬
‫كامال عىل أولوياتهم‬
‫ً‬ ‫مهمة»‪ 13.‬قد يكون لذلك تأثري يف قدرة املستفيدين عىل الرتكيز تركي ًزا‬
‫دون القلق من أي اختالل يف التوافق مع أولويات املانحني من شأنه أن يهدد دفعات التمويل‬
‫املجدول يف املستقبل‪.‬‬
‫حا السرتاتيجية مبادرة‬
‫عالو ًة عىل ذلك‪ ،‬يف حني أن التمويل غري املخصص كان مفتا ً‬
‫خلية التفكري –منح املستفيدين من الجنوب العاملي مرون ًة تنظيمي ًة واسع ًة– اقرتح املق ِّيمون‬
‫(رمبا تحس ًبا من مخاطر االتكال عىل أموال مبادرة خلية التفكري) إلزام املستفيدين بتطوير‬
‫خطط انتقالية لتصبح مستدامة بعد انتهاء دعم مبادرة خلية التفكري‪.‬‬
‫يف تقرير التقييم النهايئ بحلول عام ‪ ،2019‬والذي أجرته هذه املرة مجموعة جديدة‬
‫من املق ِّيمني املستقلني‪ ،‬تأكدت رشعية املخاوف املذكورة يف التقرير السابق‪ .‬يعرتف املؤلفون‬
‫يف صفحاته االفتتاحية‪« ،‬بصعوبة ُتييز نتائج واضحة» ميكن عزوها إىل مبادرة خلية‬
‫التفكريمن ناحية مكاسب السياسة لدى املستفيدين‪ ،‬وأن «االفرتاضات الضمنية أو اآلمال بأن‬
‫فرتات التمويل األسايس الطويلة ميكن أن تحول دون أزمات التمويل يف املستقبل ال‬
‫تصمد»‪ 14.‬يتابع التقرير‪:‬‬

‫هام يف تعبئة املوارد‪ .‬يكافح‬


‫مل يحقق سوى عدد قليل [من الثالثة واألربعني] تقد ًما م ً‬
‫بعضهم بالفعل للتعامل مع انتهاء ُتويل مبادرة خلية التفكري‪ ،‬عائ ًدا إىل االعتامد‬

‫‪197‬‬
‫السابق عىل كم أكّب من العمل االستشاري و ‪ /‬أو عدد متضائل [من] كبار املوظفني‬
‫الدامئني‪.‬‬

‫دعام مطابقًا إىل‬


‫كجزء من الّبنامج‪ ،‬عرضت مبادرة خلية التفكري عىل املستفيدين ً‬
‫جانب ُتويلهم السنوي‪ ،‬لكنه كان متواض ًعا للغاية (‪ 50-20‬ألف دوالر كندي مع رشط‬
‫مطابقة قدره ‪ ٪25‬فقط من املستفيدين)‪ ،‬ومن قراءتنا يبدو أن تلك األموال مل تهدف إىل‬
‫تحفيز تطوير مصادر ُتويل متنوعة‪ ،‬بل إىل خلق تعاون بني أعضاء شبكة املستفيدين‪ .‬يف‬
‫رأينا‪ ،‬كانت تلك فرصة ضائعة‪ .‬فلو تجرأت مبادرة خلية التفكري أكرث يف هيكلها املطابق منذ‬
‫البداية‪ ،‬من طريق قرن أجزاء كبرية من تّبعاتها بنجاحات املستفيدين يف جمع األموال‪،‬‬
‫لرمبا ألهمت املستفيدين ليلتفتوا أكرث نحو تطوير ومن ثم متابعة خطط طويلة األجل بهدف‬
‫تنويع مصادر ُتويلهم‪ .‬لرمبا تحققت هكذا استفادتهم من موارد مبادرة خلية التفكري‬
‫بالشكل األمثل‪ ،‬وتعززت استقالليتهم عن التأثري غري املقصود ألي ممول‪.‬‬
‫يف تجربتنا‪ ،‬ليست خاليا التفكري يف البلدان النامية عاجز ًة عن العثور عىل مصادر‬
‫ُتويل محلية‪ .‬إنه أمر ليس بالسهل‪ ،‬لكنه ممكن‪ ،‬ال بل ورضورة ال بد منها‪ .‬إن إراحة خاليا‬
‫التفكري من عبء جمع التّبعات الدؤوب يحرمها ‪-‬من شأنه أن يحرم أيًا منا– من تعليم ق ّيم‬
‫وُتكني تنظيمي يتوجان كسبها محفظ ًة متنوع ًة من املؤيدين‪ .‬وعىل القدر ذاته من األهمية‪،‬‬
‫فإن قيمة البحث اإلبداعي عن تلك األنواع من العالقات وتطويرها محل ًيا تزيد من تأثري‬
‫وجهات النظر املحلية يف أولويات خاليا التفكري‪ ،‬وعليه ترسخ رؤية املستفيد أكرث ضمن‬
‫عملية تثمن التعددية األصيلة‪ .‬ال يلزم أن تكون هياكل املطابقة ‪ 1:1‬لتكون فعالة‪ ،‬ولكنها‬

‫‪198‬‬
‫يجب أن تربط دفعات الدعم املستقبلية بكمية مطابقة طموحة ميكن تحقيقها‪ .‬وتحديد هذه‬
‫النسبة (و‪/‬أو عدد املانحني الجدد) ممكن بالتعاون مع املستفيد‪.‬‬
‫فيام يتعلق بصياغة مبادرة خلية التفكري‪ ،‬سأل املقيمون‪« ،‬هل أدى الضغط املحدود‬
‫للرتكيز عىل «املحصلة النهائية» إىل قبول مناذج تكلفة غري فعالة أو غري مستدامة؟»‪ 15‬يف‬
‫تجربتنا يف العمل مع مستفيدي خاليا التفكري‪ ،‬نعتقد أن الضغط املحدود للرتكيز عىل‬
‫«املحصلة النهائية» رمبا يخلق راح ًة زائف ًة ترض أكرث مام تنفع عىل املدى الطويل‪ .‬مثل أي‬
‫منا‪ ،‬ويف أي موقف‪ ،‬يستجيب املستفيدون للمؤرشات والحوافز ويسخرون الطاقات وفق‬
‫أولويات مالمئة لها‪ .‬لو كان الهدف زيادة قدرات خاليا التفكري املحلية‪ ،‬فعىل فاعيل الخري‬
‫الحرص عىل تجنب عزل قيادة املستفيدين عن الرضورة املستمرة لجمع التّبعات‪ .‬إن التمويل‬
‫املتنوع رضورة من رضورات االستقاللية‪ ،‬والتعلم النابع من صقل عرض القيمة باستمرار‬
‫هو حلقة مالحظات مهمة ال تتبناها العديد من منظامت «الوفرة أو الندرة» غري الربحية‬
‫مطلقًا‪ .‬إن الحاجة إىل تجسيد مجموعة ما باستمرار القيمة الصافية التي تقدمها‪ ،‬وعليه‬
‫مهام للتميز‪ ،‬كام هو الحال عند مقارنة النتائج مع تلك املحققة‬
‫استحقاقها الدعم‪ُ ،‬تثل حاف ًزا ً‬
‫يف خاليا التفكري األخرى‪.‬‬
‫ليس ب ّينًا من الناحية العملية ُتليح مبادرة خلية التفكري باستمرار إىل التزامها بعدم‬
‫التدخل يف أولويات املستفيد‪ .‬يف عام ‪ ،2020‬نرش أندرو هريست‪ ،‬مدير برامج مبادرة خلية‬
‫التفكري يف السنوات الخمس املاضية من تشغيلها‪ ،‬أفكاره حول الدروس املستفادة يف املجلة‬
‫الكندية للدراسات اإلمنائية ‪ Canadian Journal of Development Studies.‬خلص‬
‫هريست إىل رضورة بذل جهد إضايف ملعرفة كيفية تحييد اآلثار السلبية الختالل توازن‬
‫القوى بني املتّبعني واملستفيدين‪:‬‬

‫‪199‬‬
‫يقر الجميع بأن «أجندة النتائج» رضورية‪ ،‬خاص ًة للممولني الثنائيني املسؤولني عن‬
‫دافعي الرضائب‪ ،‬ويف سياق تركيز املانحني املتزايد عىل إظهار القيمة مقابل املال‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬يقر معظمهم أيضً ا بأن هذا قد شوه رسد التنمية وفضل وجهات النظر‬
‫التكنوقراطية املبسطة حول «كيفية حدوث التغيري»‪ .‬ص ّعب هذا الدفاع عن عمليات‬
‫‪16‬‬
‫التغيري املتسمة بفوضوية أكّب وخط ّية أقل يف قلب التنمية‪.‬‬

‫تصحيح اختالالت موازين القوى‬


‫ميكننا أن نتعاطف مع املمولني الذين‪ ،‬رغم إدراكهم مشكلة التدخل الخارجي املفرط من‬
‫املانحني األجانب‪ ،‬ما يزالوا يطلبون من املستفيدين بعض الوضوح بشأن األهداف والوسائل‬
‫املعقولة لضامن املساءلة‪ .‬لقد الحظنا أن بديل املشاريع ذات الهيمنة األجنبية‪ ،‬بالنسبة إىل‬
‫الكثريين‪ ،‬هو تصحيح مفرط عىل شكل تبني تطرف آخر‪ :‬الدعم األعمى للمستفيدين غري‬
‫الخاضعني للمساءلة‪ .‬هذا أيضً ا غري مفيد‪ .‬لقد رأينا اآلثار اإليجابية لنهج أكرث توازنًا يعالج‬
‫إىل حد كبري مشكالت املوكل والوكيل التي نوقشت سابقًا‪ .‬ميكن لألطراف الخارجية ويتعني‬
‫عليها أن تدعم رؤية املستفيد للتغيري وأن ترىض بأفضل حكم يقدمه حول كيفية تحقيق‬
‫التغيري‪ ،‬ولكن ما يزال واج ًبا عىل هؤالء املستفيدين التنافس للحصول عىل هذا الدعم من‬
‫خالل التوضيح املسبق ملا يأملون تحقيقه وما مؤرشات النجاح التي ميكن التحقق منها‪.‬‬
‫بهذه الطريقة‪ ،‬تكتسب األطراف الخارجية صور ًة أشمل عن آراء طالبي الدعم تجاه التغيري‬
‫(بدالً من تسميم البرئ مبخاوفهم الخاصة)‪ ،‬ثم يرتكون األمر للمستفيد لتحديد نجاحه‪ .‬يف‬

‫‪200‬‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬يحتفظون بإمكانية مساءلة هؤالء املستفيدين وفقًا للنتائج املقرتحة من‬
‫املستفيدين‪ ،‬والتي يقدمونها يف بداية املرشوع أو املنحة‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬ميكن للجهات املانحة أن تحرتم أولويات املستفيدين بينام تظل حكيمة عندما‬
‫يتعلق األمر بتقييم جودة االسرتاتيجية املوضحة واملؤرشات املختارة والقيمة االجتامعية‬
‫اإلجاملية للنتائج املقرتحة‪ .‬هذا ال يقتيض امتالك خاليا التفكري قوى تنبؤية‪ ،‬أو اعتبار أي‬
‫فشال‪ .‬يجب أن يخفّض عدم اليقني يف إطار التغيري‬
‫ً‬ ‫يشء أقل من النجاحات املتوقعة‬
‫املؤسيس وتعقيده توقعاتنا بتحقيق خطط املرشوع دامئًا كام هو متوقع ُتا ًما‪ .‬فالفائدة‬
‫الحقيقية من هذا اإلطار الهجني –حيث يع ّرف املستفيدون النجاح بطموح ويحملهم‬
‫املانحون املسؤولية– هو توفريه هيكلي ًة داللي ًة وتحفيزي ًة لخاليا التفكري ترتفع فيها احتاملية‬
‫إبداعهم وعملهم لتحقيق نتائج موثقة‪ .‬ميكن تحقيق األهداف املتوقعة‪ ،‬أو ميكن تحقيق‬
‫مجموعة بديلة من النتائج ثم الدفاع عنها يف نهاية مدة املرشوع باإلشارة إىل النتائج‬
‫املتوقعة أصالً ويف سياقها‪ .‬ستؤدي العالقات الصحية واملحرتمة بني املانحني واملستفيدين‬
‫إىل االعرتاف املتبادل بالتعلم القيم النابع من هذا النهج‪ .‬ال يحتاج التمويل املستقبيل إىل‬
‫االعتامد املتقلب عىل االلتزام الصارم بالنتائج األصلية املتصورة يف مرحلة االقرتاح‪ ،‬ولكن‬
‫باألحرى عىل جودة التعلم وااللتزام الجاد بإحداث تأثري حقيقي‪.‬‬
‫يف ظل هذا النموذج‪ ،‬تفيد تجربتنا بأن التأثريات اإليجابية قد تحققت بالفعل‪ .‬عالو ًة‬
‫عىل ذلك‪ ،‬فإن االلتزام املسبق بنتائج واضحة ومحددة يضفي مصداقي ًة ممتاز ًة عىل ادعاءات‬
‫املستفيد بالنجاح عند تحققها‪ ،‬وهو حل مرحب به للغاية ملا يراه مقيمو مبادرة خلية التفكري‬
‫ميؤوسا منها إىل حد ما عندما يتعلق األمر‬
‫ً‬ ‫–وكثريون غريهم من قبلهم– معضل ًة سببي ًة‬
‫بإعطاء الفضل للجهات الفاعلة املحلية يف إحداث التغيري املؤسيس‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫يث ّمن هريست أيضً ا النوع املتميز من املعرفة –املعرفة العملية– التي تسخرها خاليا‬
‫التفكري املؤهلة للمساعدة عىل اإلمناء محل ًيا من طريق التعاون االجتامعي‪ ،‬ولإلسهام يف‬
‫التغيري املؤسيس‪« .‬مثّل إنشاء روابط مع املواطنني واملجتمعات والتفاعل معهم أحد األبعاد‬
‫املهمة لضامن الرشعية واملكانة لغرض توظيفهام يف عملية البحث»‪ 17.‬بالنسبة لنا‪ ،‬رمبا‬
‫يقدم هذا أحد أهم الدروس املستفادة من مرشوع مبادرة خلية التفكري الذي بإمكانه توجيه‬
‫الجهود املستقبلية لتعزيز أجندة التوطني‪ .‬كلام زاد عدد املنظامت غري الحكومية املحلية‬
‫بأنواعها املختلفة والتي ُتثل بصورة حقيقية وجهات نظر رواد األعامل العامليني يف‬
‫مجتمعاتهم‪ ،‬أصبحت أولوياتهم أكرث مالءم ًة لحل التحديات املؤسسية التي يواجهونها‪.‬‬
‫إضاف ًة إىل تعزيز اإلدراك العاملي حول اآلثار العملية ألجندة التوطني‪ ،‬يبدو أيضً ا أن‬
‫مبادرة خلية التفكري قد نجحت يف توسيع الرؤى القيادية لدى املستفيدين يف خاليا‬
‫التفكري‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬شارك قادة املؤسسات الفكرية سوخاديو ثورات وآجايا ديكسيت‬
‫وسمر فريما كمستفيدين يف املبادرة‪ ،‬وجمعوا مجموعة من املقاالت التي تضمنت العديد من‬
‫املشاركني اآلخرين يف منطقتهم لرواية قصص أربعة عرش خلية تفكري يف جنوب آسيا وما‬
‫تعلموه من التجربة‪ .‬ما يأخذه املحررون املشاركون من تلك القصص مشجع‪ .‬عىل حد‬
‫تعبريهم‪:‬‬
‫ال ميكن حل مشكالت الجنوب العاملي بحلول من الشامل‪ .‬حان وقت تحرك خاليا‬
‫التفكري الجنوبية واتخاذها إجراءات إضافية – ال حاجة لتصويت الشامل عىل األفكار‬
‫الجنوبية‪ ... .‬للبقاء سادة أصواتها‪ ،‬يجب أن تكون خاليا التفكري قادر ًة مبسؤولية‬
‫‪18‬‬
‫عىل التمييز بني ما يريدون قوله وما هي أجندات سياسات مقدمي األموال‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫ونحن هنا نتفق كل ًيا‪ .‬بحكمة‪ ،‬دعوا املتّبعني املحليني إىل التقدم وتأدية دورهم الجديد يف‬
‫هذا التحول يف أجندة التوطني أيضً ا‪« .‬إذا ُتكن املانحون الدوليون البارزون يف مبادرة‬
‫خلية التفكري من وضع ثقتهم يف خاليا التفكري يف البلدان النامية‪ ،‬فمن املؤكد أن املؤسسات‬
‫الخريية املحلية تستطيع تحمل مسؤولية هذه الثقة»‪ .‬كلام زاد التمويل املحيل الداعم لقضية‬
‫خاليا التفكري املحلية‪ ،‬زادت متانة روابطها باألولويات املحلية واستقالليتها عن تأثريات‬
‫التمويل الرئيسية من الخارج‪.‬‬
‫نحن ندرك ُتا ًما أن إملامنا بخاليا التفكري يقودنا‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬إىل التأكيد عىل‬
‫الدور الذي ميكن أن تلعبه –والدور املحدود الذي يجب أن يلعبه مم ّولوها الخارجيون– يف‬
‫التنمية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال ندعي أن خاليا التفكري اإلجابة األمثل لكل األسئلة‪ .‬يتمثل أحد األهداف‬
‫الرئيسية لهذا الكتاب يف التأكيد عىل الطبيعة التعددية متعددة األسباب للتغيري املؤسيس‬
‫املستمر‪ .‬يكمن أملنا ببساطة يف زيادة تقدير الفاعلني املحليني املتنوعني والكرث‪ ،‬الذين يجوز‬
‫لهم وينبغي عليهم تأدية دور أكّب يف قيادة التنمية‪ ،‬وكثري منهم كان يعمل بهدوء يف الظل‬
‫بينام تناقش القوى األجنبية والخّباء أغلب تحركاتهم اإلمنائية القادمة لوحدها‪.‬‬
‫عندما يتعلق األمر بتحديد أفضل رشكاء التنمية غري الحكوميني من السكان األصليني‬
‫العاملني يف بلدانهم‪ ،‬سيكون لكثري منهم غرائز وتعلقات خاصة‪ .‬نحن جمي ًعا محظوظون‬
‫الزدياد الخيارات زياد ًة كبري ًة يف السنوات األخرية‪ .‬وفقًا لديفيد لويس ونزينني كانجي‬
‫ونونو ثيمودو يف كتابهم لعام ‪ ،2021‬املنظامت غري الحكومية والتنمية‬
‫‪ Nongovernment Organizations, and Development‬من الصعب معرفة عدد‬
‫املنظامت غري الحكومية املوجودة هناك‪ .‬تشري طرائقنا لتقدير عددهم إىل ارتفاع رسيع منذ‬
‫‪19‬‬
‫عام ‪ 1990‬من نحو ‪ 5000‬منظمة إىل ما يزيد عن ‪ 75000‬منظمة اليوم‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫نظ ًرا إىل انتشار املنظامت غري الحكومية‪ ،‬وكذلك تلك املحلية‪ ،‬قد يبدو صع ًبا‪ ،‬وحتى‬
‫غري فعال‪ ،‬نرش الدعم عىل امتداد مثل هذا املشهد املتنوع والالمركزي‪ .‬بالطبع‪ ،‬لو يقدم‬
‫ٍ‬
‫حينئذ تركيز‬ ‫التغيري املؤسيس أفضل طريقة لتحقيق ريادة أعامل منتجة وعاملية‪ ،‬سيمكننا‬
‫دعم التنمية عىل مجموعة فرعية من املنظامت غري الحكومية املحلية‪ ،‬مثل خاليا التفكري‪،‬‬
‫التي تتجه مناذجها نحو التغيري املؤسيس وإصالح السياسات‪ .‬وفقًا لّبنامج خاليا التفكري‬
‫ومنظامت املجتمع املدين التابع لجامعة بنسلفانيا‪ ،‬مثة ما يقارب ‪ 8200‬خلية تفكري يف‬
‫ريا يف فهمنا‬
‫ريا‪ .‬رغم إسهام مبادرة خلية التفكري إسها ًما كب ً‬
‫العامل‪ .‬ما يزال هذا عد ًدا كب ً‬
‫‪20‬‬

‫الفرص والعوائق املتعلقة بدعم القدرات يف الجنوب العاملي‪ ،‬إال أن سخائها النسبي اقترص‬
‫يف النهاية عىل ‪ 43‬منظمة فقط‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬إذا كان التجريب الحر الالمركزي‬
‫فعاال ومرنًا الكتشاف النجاح املبتكر‪ ،‬فرمبا يريحنا االعتقاد بأن ال حاجة إىل‬
‫والتعددية نه ًجا ً‬
‫إيجاد إجابة واحدة موحدة لكيفية دعم الجنوب العاملي‪ .‬لو اعتّبنا شيئا من املايض‪ ،‬فعلينا‬
‫أن نخرج من البحث غري املجدي عن حل واحد كبري وبسيط للفقر والتنمية‪ .‬بدالً من ذلك‪،‬‬
‫ميكننا االستمرار‪ ،‬بجدية وبروح التعلم من بعضنا‪ ،‬مع أفضل فرضياتنا لدعم قيادة التغيري‬
‫فعاال يف جميع أنحاء الجنوب العاملي‪ ،‬ويف أي مكان آخر تحتاج فيه‬
‫ً‬ ‫دعام‬
‫ً‬ ‫املؤسيس‬
‫الدميقراطية إىل الدعم‪.‬‬
‫وبهذه الروح‪ ،‬نشارك املجموعة التالية من األفكار التي وجهت عمليات االختيار والدعم‬
‫الخاصة بنا‪ .‬أوالً‪ ،‬إذا ممنح رواد األعامل العامليني كرامتهم بصفتهم مبتكرين يف واجهة املشهد‬
‫الشاسع لإلمكانيات االقتصادية‪ ،‬فال ينبغي اعتبار جميع رواد األعامل املؤسسيني (مثل خاليا‬
‫التفكري) مفيدين بالقدر نفسه‪ .‬فقط أولئك الذين يضعون يف االعتبار مشاركة رواد األعامل‬

‫‪204‬‬
‫العامليني يف تغيري األساليب ويركزون عىل الرسم الصحيح لحدود القيود القانونية عىل‬
‫التجارب سيقودون التغيري املؤسيس يف اتجاه االزدهار التعددي‪.‬‬
‫يف عام ‪ ،2014‬اعتمدت الهند قانون الباعة املتجولني‪ ،‬الذي يوفر اعرتافًا قانون ًيا‬
‫ريا ملاليني األشخاص يف الهند الذين يكسبون رزقهم عن طريق بيع السلع يف‬
‫ومدخال يس ً‬
‫ً‬
‫ريا مؤسس ًيا تدريج ًيا يف هوامش السوق غري الرسمية‪ .‬أصبح هذا‬
‫السوق‪ .‬ميثل الترشيع تغي ً‬
‫التغيري ممكنًا‪ ،‬جزئ ًيا‪ ،‬عىل يد حاملني محليني‪ ،‬رائد األعامل العاملي دينيش ديكسيت‪ ،‬ورائد‬
‫مهام يف التغيري محيل القيادة‪ .‬تأ ّمل القصة‬
‫األعامل املؤسيس بارث شاه؛ أدى كل منهام دو ًرا ً‬
‫التالية لعملية التغيري الخاصة بهام مروي ًة بكلامتهام الخاصة‪.‬‬

‫رائد أعامل عاملي‬


‫اسمي دينيش كومار ديكسيت‪ .‬أبيع األساور يف ساروجيني ناجار‪ ،‬سوق بابو‪ .‬أبيع األساور‬
‫منذ عام ‪ .1978‬يف ذلك الوقت‪ ،‬اعتادت رشطة دلهي ومجلس بلدية نيودلهي (‪)NDMC‬‬
‫حجز بضاعتي يف كل مرة تأيت فيها إىل السوق‪.‬‬
‫لقد عانيت هذه املشكالت سنوات‪ .‬يف كل مرة صادر فيها رشطة دلهي ومجلس بلدية‬
‫نيودلهي بضاعتي‪ ،‬قدمت له طل ًبا خط ًيا – «يف هذا املكان وهذا الزمان أخذتم بضاعتي»‪،‬‬
‫وقد سجلت مالحظة لكل حالة من هذا القبيل‪.‬‬
‫كان حجز بضاعتي التي تساوي آالف (الروبيات) وأخذها بعي ًدا من شأنه أن يسحق‬
‫معنويايت‪ .‬كنت أشعر بالضيق الشديد‪ .‬يف ذلك الوقت‪ ،‬كنت حزي ًنا ج ًدا‪ .‬قبل عام ‪ ،2014‬مل‬
‫ترخيصا وال حقًا! لكن عندما صدر قانون ‪،2014‬‬
‫ً‬ ‫يصغ أحد إلينا‪ .‬قالو ببساطة إننا ال منلك‬
‫شعرت بالقوة‪ .‬شعرت اآلن أنني أمتلك القوة‪ ،‬وبهذه القوة حدث تغيري يف طريقة تفكريي‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫قبل عام ‪ ،2014‬اعتقدت أنني مجرد «باتري واال» (بائع متجول)‪ .‬بعد عام ‪ ،2014‬شعرت‬
‫أن لدينا هذه القوة الجديدة يف أجسادنا‪ ،‬وميكن اآلن سامع أصواتنا‪ ،‬سواء يف اإلدارة أو‬
‫برملان الهند!‬
‫تضمن [القانون] بن ًدا إلنشاء لجان البيع باملدينة (‪ .)TVC‬حيث يجري اتخاذ جميع‬
‫القرارات‪ .‬جرت انتخابات اللجان‪ .‬وتقدمت بطلب لعضوية اللجنة وحصلت عىل أعىل‬
‫األصوات! اآلن أرفع صويت لصالح الباعة الجائلني‪ .‬بعد قانون ‪ ،2014‬حصلنا عىل حقوقنا‬
‫وارتفعت أصواتنا‪ .‬اآلن‪ ،‬يستمعون إىل ما نقوله‪ ،‬وينفذون مطالبنا أيضً ا‪.‬‬
‫يف نيودلهي حيثام يوجد بائعون جائلون‪ ،‬أذهب وأرى أين ميكنهم العمل‪ .‬ثم أتحدث‬
‫إىل إن دي إم يس لتخصيص أماكن دامئة لهؤالء الباعة الجائلني حتى يتمكنوا من كسب‬
‫عيشهم بطريقة قانونية‪ .‬يف حال حدوث ظلم‪ ،‬أتوىل بنفيس القضية وهم يستمعون إيل‪.‬‬
‫يدرك الباعة الجائلون أن لديهم اآلن صوتًا‪ ،‬صوت تسمعه اإلدارة‪ ،‬وحتى الّبملان‬
‫الهندي‪ .‬أنا أعمل بجد كل يوم لتحصيل مكان عمل دائم لكل هؤالء الباعة الجائلني‪ .‬يستمعون‬
‫إيل‪ .‬وأخّبهم عن الطريقة التي يفرتض اتباعها للحصول عىل الرتاخيص‪ ،‬جميع أنواع الباعة‬
‫الجائلني حتى أولئك الذين يتجولون لكسب الرزق‪ .‬أعمل معهم أيضً ا الستخراج تراخيص لهم‬
‫حتى يحملوها معهم وميتلكوا هوي ًة يف السوق [مع العلم] أن أعضاء لجان البيع باملدينة‬
‫قاموا بهذا العمل واآلن ميكنهم بفخر رفع رؤوسهم لكسب لقمة العيش‪.‬‬
‫أبلغ من العمر ثالثة وستني عا ًما‪ ،‬وما بقي يل من الوقت أريد أن أقضيه من أجل‬
‫تحسني املجتمع‪ .‬أخّبت اإلدارة‪ ،‬أن اليوم مل يعد كسابقه‪ ،‬فأنا عضو يف يت يف يس‪ .‬اعتدت‬
‫تغري‬
‫أن أكون «باتري واال» (بائع متجول) واآلن أنا عضو يف لجان البيع باملدينة‪ ،‬واآلن ّ‬

‫‪206‬‬
‫تفكريي لفعل الخري للمجتمع‪ .‬تلك الحياة [يف ذلك الوقت] وهذه الحياة اآلن مختلفتان‬
‫ُتا ًما‪ .‬يف ذلك الوقت كنت وحدي‪ .‬اآلن أنا مليون صوت‪ ،‬مليار صوت‪ ،‬ممثل الشعب‪.‬‬
‫بوجود املجتمع‪ ،‬توجد مشكالت‪ ،‬ولحلها يوجد دينيش كومار ديكسيت‪ .‬ألعب دوري‬
‫يف حل القضايا‪ .‬أنام وأنا أرتدي حذايئ حتى ال أضيع الوقت عندما يطلب أحدهم املساعدة‪.‬‬
‫ميكنني أن أحرض ملساعدتهم عىل الفور‪.‬‬
‫أشعر كأنني كنت عىل األرض‪ ،‬واآلن أطري وأملس السامء‪ .‬لقد وصلت من «فرش»‬
‫(أرض) إىل «أرش» (السامء)‪ .‬يف السابق‪ ،‬كنت أبيع سل ًعا تبلغ قيمتها بضع مئات الروبيات‬
‫(أقل من دوالرين)‪ ،‬واآلن لدي يف متجري سلع تبلغ قيمتها اآلالف‪ .‬أشعر أنني أصبحت رجل‬
‫أعامل أفضل‪.‬‬

‫رائد أعامل مؤسيس‬


‫أنا بارث شاه‪ ،‬مؤسس مركز املجتمع املدين‪ ،‬وهو خلية تفكري غري حكومية مقرها نيودلهي‪.‬‬
‫يوجد يف دلهي ‪ 600000‬بائع متجول‪ .‬يدفع كل منهم وسط ًيا نحو ‪ 200‬روبية يف‬
‫الشهر رشا ٍو للضباط [حتى يمرتكوا وشأنهم إلدارة أعاملهم]‪ .‬وهذا يعادل نحو ‪ 4‬دوالرات‬
‫أمريكية شهريًا‪ .‬برضب هذين الرقمني‪ 600000 ،‬يف ‪ 4‬دوالرات أمريكية شهريًا‪ ،‬تحصل‬
‫عىل ‪ 2.4‬مليون دوالر أمرييك شهريًا‪ ،‬تمجمع من أفقر الفقراء يف عاصمة الدولة‪ .‬مينحك‬
‫هذا فكرة جيدة ج ًدا عن تكلفة كونك غري رسمي‪.‬‬
‫مثة مزايا عديدة للعمل يف القطاع الرسمي‪ .‬إذ تحصل عىل تسهيالت ائتامنية‪.‬‬
‫وتستطيع توظيف عاملة عالية الجودة مبوجب عقد‪ .‬لكن القوانني صارمة للغاية‪ ،‬إذ إن‬
‫وجودك يف القطاع الرسمي يف الهند باهظ الثمن وصعب للغاية‪ .‬والقطاع الرسمي صغري‬

‫‪207‬‬
‫نو ًعا ما مقارنة بالقطاع غري الرسمي يف الهند‪ .‬توجد تحديات كثرية يواجهونها لبدء عمل‬
‫أوال‪ ،‬التمويل الذي يحتاجه املرء للحصول عىل شهادة من الحكومة‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬طملب‬
‫تجاري‪ً .‬‬
‫ريا‪.‬‬
‫سابقًا رأس مال يجب دفعه مقد ًما‪ ،‬وغال ًبا ما كان مبلغ املال الذي يتعني عليك دفعه كب ً‬
‫تعني عليك دفعها‪،‬‬
‫حتى وقت قريب‪ ،‬كان املبلغ نحو لك واحد‪ ،‬أي ‪ 100000‬روبية ّ‬
‫وإذا قارنت هذا الرقم مبعدل دخل الفرد يف البالد‪ ،‬فهو يقارب ‪ ٪40‬منه‪ .‬إلعطائك فكرة عام‬
‫يعنيه هذا املبلغ‪ ،‬يبلغ معدل دخل الفرد يف الواليات املتحدة نحو ‪ 60‬ألف دوالر‪ .‬ومتطلبات‬
‫رأس املال يف الهند تعني أنه سيتعني عليك طرح [ما يعادل] ‪ 25000‬دوالر أمرييك أو ‪30‬‬
‫ألف دوالر أمرييك مقد ًما لتسجيل رشكة‪ .‬هذه تكلفة باهظة للغاية يتحملها رجل األعامل‬
‫مسجال رسم ًيا ككيان تجاري‪.‬‬
‫ً‬ ‫الفقري ليصبح‬
‫إن التحول الهائل يف حياة شخص واحد مثال ميكنك رؤيته‪ .‬ارضب ذلك باملاليني‪.‬‬
‫وميكنك أن ترى تأثري تغيري قانوين بسيط يف الحياة الواقعية‪.‬‬
‫إن الباعة الجائلني يف مدن الهند الذين تراهم هم رواد األعامل املحليون الصاعدون‬
‫من القاع والذين يأتون يف الغالب من خارج املدينة‪ .‬إنهم يخاطرون مخاطر ًة كبرية‬
‫باالستقرار يف املدينة‪ .‬يجدون شبكة معارف ليتمكنوا من بدء عمل تجاري ويخوضون‬
‫املعارك القانونية التي يتعني عليهم خوضها كل يوم‪.‬‬
‫ما ألهمني شخص ًيا للعمل يف هذا املوضوع هو مالحظتي الخاصة يف أحد األسواق‬
‫املحلية حيث كنت أتسوق مع عائلتي‪ .‬فجأة جاءت سيارة رشطة‪ ،‬ومبجرد أن سمعنا صفارة‬
‫اإلنذار‪ ،‬بدأ جميع الباعة يف شوارع ذلك السوق يف الرتاجع والركض «شذر مذر»‪ .‬وأدركت‬
‫أن حياة رائد األعامل يف الشارع تعتمد بصور ًة كبري عىل أهواء النظام الرقايب‪ ،‬تار ًة تسري‬
‫أعاملهم جي ًدا‪ ،‬وفجأة يختبئون جمي ًعا ويهربون من عمالئهم‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫تعني علينا خوض معركة إضفاء الرشعية عىل الباعة الجائلني عىل املستوى املحيل‪.‬‬
‫ّ‬
‫أجرينا حملتني يف مدينتني يف الهند –يف جايبور وباتنا– واجتمعنا مع الباعة الجائلني‬
‫لفهم التحديات التي يواجهونها‪ .‬لقد عملنا معهم لصياغة نوع معني من القانون من شأنه‬
‫أن يغري وضع رواد األعامل يف الشوارع‪ ،‬من كونهم غري رسميني ُتا ًما إىل االعرتاف بهم‬
‫بشكل أفضل يف النظام الرقايب‪.‬‬
‫ميكنك أن ترى مثاالً عىل فائدة ذلك يف قصة دينيش‪ ،‬الذي عمل هناك أكرث من أربعني‬
‫عا ًما‪ ،‬والذي طاملا نظر إليه النظام بازدراء‪ .‬واآلن انتمخب لعضوية لجنة البيع باملدينة‪ ،‬وهي‬
‫لجنة ترشف عىل مساحات البيع يف املدينة وتنظمها‪ .‬أصبح اآلن قاد ًرا عىل الجلوس عىل‬
‫الطاولة نفسها مع نفس الضباط الذين اعتادوا رضبه ومضايقته‪ ،‬وتحدي طريقة تفكريهم‬
‫حول حياة أشخاص مثله‪.‬‬
‫أعتقد أنه قبل حملة ‪« Jeevika‬سبل العيش» لتغيري القانون‪ ،‬مل ميلك أشخاص مثل‬
‫دينيش صوتًا يف النظام‪ ،‬إذ جرى التعامل معهم عىل أنهم منبوذون‪ ،‬كأشياء ضارة باملجتمع‪.‬‬
‫جالسا عىل طاولة املسؤولني الحكوميني نفسها وقاد ًرا‬
‫ً‬ ‫تغري كل هذا فجأة‪ ،‬وبات دينيش‬
‫عىل التحدث معهم وجعلهم يفهمون التحديات التي يواجهها هو وماليني األشخاص مثله‬
‫كل يوم لكسب العيش برشف‪.‬‬
‫يتمتع دينيش وعائلته ألول مرة بالكرامة‪ ،‬كرامة كإنسان وكرامة كرائد أعامل يف‬
‫الشوارع وكرامة كعضو يف املجتمع‪ ،‬وأصبح بإمكانهم السري مرفوعي الرأس‪ ،‬ليس فقط‬
‫‪21‬‬
‫أمام عائالتهم ومجتمعهم‪ .‬ولكن أيضا أمام الحكومة‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫من هذه األمثلة وما شابهها‪ ،‬ميكننا أن نرى كيف تستطيع خلية تفكري محلية ملتزمة بالتغيري‬
‫املؤسيس التكراري أن تقدم بديالً أكرث فاعلي ًة عن خطة إمنائية تقودها جهات خارجية‪.‬‬
‫عندما تتم توعية خلية تفكري حول أهمية املشاركة والتعلم من أناس حقيقيني يعيشون عىل‬
‫هامش املجتمع‪ ،‬ميكن أن تصبح جهودهم للتغيري املؤسيس أكرث إيجابية واستدامة‪ .‬يتمثل‬
‫دورنا كأجانب يف إيجاد وكالء التغيري هؤالء ودعم رحالتهم الريادية‪.‬‬
‫جرى التعرف عىل عيوب منوذج «التنمية من طريق املساعدات الخارجية» –واعرتف‬
‫بها املامرسون أحيانًا– عىل امتداد عقود‪ .‬يف تجربتنا‪ ،‬حتى الجهود الصادقة إلصالح هذه‬
‫العيوب عّب ترقيع خطط مشاريع اإلغاثة أو مناذج الوساطة قد باءت بالفشل ألنها عىل وجه‬
‫الدقة ال تبلغ جذر املشكلة‪ :‬النموذج بأكمله متنافر‪ ،‬من هيكله‪ ،‬إىل أساسيات الكرامة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وتقرير املصري الفردي‪ ،‬واملعرفة املشتتة والحكمة‪ ،‬واملشاركة الدميقراطية‪.‬‬
‫حان الوقت للتفكري بجدية يف كيفية التخيل كل ًيا عن املساعدات الخارجية والتدخل‬
‫الخارجي‪ .‬كان الفيلسوف آدم سميث رائ ًدا يف اقتصاديات التنمية‪ ،‬ولطاملا أخذ مسائل طبيعة‬
‫ثروة األمم وأسبابها مأخذ الجد‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬اقرتح البعض أن سميث رمبا كان متعنّت اآلراء‬
‫تجاه قضية إنهاء االستعامر‪ ،‬وأنه‪ ،‬يف جوهره‪ ،‬مل يدعم هذه القضية‪ .‬وجد بحث ويليام‬
‫دليال يدعم معارضة سميث االستعامر بشدة‪ ،‬رغم أن إنهاء االستعامر مل يكن‬
‫ً‬ ‫إيسرتيل‬
‫اهتاممه األوحد وال حتى اهتاممه الرئييس‪ ،‬ألن هذا بدا يف تلك الفرتة أم ًرا مستبع ًدا‪ 22.‬يجسد‬
‫هذا مامرس ًة متجذر ًة بعمق يف الوضع الراهن‪ ،‬ذات مصالح عديدة قوية مستثمرة يف‬
‫إدامتها‪.‬‬
‫عندما يتعلق األمر باملساعدات الخارجية والتنمية الدولية‪ ،‬قد نجد أنفسنا يف وضع‬
‫مشابه اليوم‪ .‬فاملصالح الهائلة واملعقدة –كثري منها‪ ،‬ولكن ليس كلها بأي حال‪ ،‬مدفوع‬

‫‪210‬‬
‫ثقال يمحسب له‬
‫بالنوايا الحسنة– واملتجذرة يف مؤسستنا اإلغاثية األجنبية تلقي بحد ذاتها ً‬
‫حساب‪ ،‬والتحدي املتمثل يف إنهاء مامرسة املساعدات الخارجية يزداد تعقي ًدا بسبب أهداف‬
‫السياسة الخارجية التي غال ًبا ما تنتفع بتشارك العالمة التجارية والتكاملية مع أنشطة‬
‫اإلغاثة األجنبية‪ .‬أضف إىل هذا الجمود حقيقة أن املساعدات الخارجية والحلول أجنبية‬
‫الصنع ملساعدة فقراء العامل ما تزال عمو ًما يف الثقافة الشعبية مبثابة التزامات أخالقية ال‬
‫جدال فيها‪ .‬لكن رمبا‪ ،‬كحال االستعامر‪ ،‬سلف اإلغاثة األجنبية امللغى بالحق‪ ،‬سيبقى هذا‬
‫واقعنا حتى‪ ،‬عىل حني غفلة‪ ،‬ال يعد كذلك‪.‬‬
‫من املرجح أن تنطوي القوى الالزمة للوصول إىل تلك اللحظة عىل مقاومة املجتمع‬
‫املدين يف البلدان املستفيدة بقدر يجعل الدول الغنية‪ ،‬من قمتها نزوالً ‪ ،‬تفكر جديًا بدروس‬
‫فشلنا يف نرش الدميقراطية واالزدهار‪ .‬قدم آدم سميث مالحظة أكرث تفاؤالً بشأن نهاية‬
‫االستعامر‪:‬‬
‫فيام بعد‪ ،‬قد يغدو سكان تلك البلدان أقوى‪ ،‬أو سكان أوروبا أضعف‪ ،‬وقد يستوي‬
‫جميع سكان العامل يف الشجاعة والقوة‪ ،‬وهذا التساوي‪ ،‬بخلقه خوفًا متبادل‪ ،‬ميكنه‬
‫‪23‬‬
‫وحده تخشيع ظلم الدول املستقلة وتحويله إىل نوع من االحرتام لحقوق بعضها‪.‬‬
‫تمعد منظامت خلية الفكر املحلية غري الحكومية امللتزمة بالدميقراطية الليّبالية من أكفأ‬
‫الرافعات إلحالل التنمية‪ .‬إن األطراف الخارجية قادرة عىل دعم قدراتها املتزايدة وملزمة بهذا‬
‫الدعم‪ ،‬وعليها مساءلة هذه املنظامت وفقًا لتعريفاتها الخاصة للنجاح‪ .‬بالطبع‪ ،‬سيدعم‬
‫اآلخرون التنمية بطرق مختلفة ورمبا يجلب هذا املنفعة‪ .‬وعىل أي حال‪ ،‬فإن ما نأمل رؤية‬
‫إجامع متزايد عليه هو تقدير أكّب لدور رواد األعامل العامليني واملؤسسيني يف قيادة التغيري‬

‫‪211‬‬
‫حيث يعيشون‪ .‬إن معرفتهم وتقريرهم مصريهم وعملياتهم الدميقراطية أعظم بشائر األمل‬
‫بتحقيق التنمية بالكرامة‪.‬‬
‫من أهم دروس مامرسة التنمية إدراك أن األنظمة التكيفية املعقدة تتكون من عنارص‬
‫فردية – برش‪ .‬يجب أن يذكرنا االلتزام املشرتك بالكرامة اإلنسانية بأن هؤالء الفاعلني‬
‫مستقلون وذاتيو تقرير املصري‪ .‬كام جادل االقتصادي الحائز عىل جائزة نوبل أنغوس‬
‫ديتون‪« ،‬ما ينبغي أن يحدث بال شك هو ما حدث سابقًا يف دول العامل الرثي اليوم‪ ،‬حيث‬
‫تطورت البلدان وفق طريقتها الخاصة‪ ،‬ويف وقتها الخاص‪ ،‬وضمن إطار هيكلها السيايس‬
‫واالقتصادي الخاص»‪ 24.‬إن مل نتمكن من تحديد نفعنا بوصفنا أطرافًا خارجية‪ ،‬فإن كرامة‬
‫اإلنسان تقتيض منا التنحي جان ًبا‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫مالحظات‬

‫مقدمة‬

1. Yasmine Ryan, “The Tragic Life of a Street Vendor,” Al Jazeera,


January 20, 2011,
www.aljazeera.com/features/2011/01/20/the-tragic-life-of-a-
street-vendor/

2. Bob Simon,“How a Slap Sparked Tunisia’s Revolution,” CBS News,


February 22, 2011, www.cbsnews.com/news/how-a-slap-sparked-
tunisias-revolution-22-02-2011/.

3. Lin Noueihed, “Peddler’s Martyrdom Launched Tunisia’s


Revolution,” January 29, 2011, www.reuters.com/article/uk-
tunisia-protests-bouazizi/peddlers-martyrdom-launched-
tunisias-revolution-idUKTRE70I7TV20110119

4. Rania Abouzeid, “The Martyr’s Mother: An Interview with


Mannoubia Bouazizi,” Time, December 14, 2011.
https://content.time.com/time/specials/packages/article/0,288
04,210174521021382102239,00.html.

‫ لكن واح ًدا منهم برز‬،‫حسنوا حياتنا إال قليل‬


ّ ‫ لن يُع َرف من املهندسني الزراعيني الذين‬.5
‫ لعمله البحثي‬1970 ‫ الذي ُمنح جائزة نوبل للسالم عام‬،‫ نورمان بورلوغ‬:‫بوضوح‬
213
‫ أق ّرت لجنة نوبل أن «أن هذا الشخص ساعد أكرث من أي‬.‫لزيادة إنتاج املحاصيل‬
،»‫شخص آخر يف هذا العرص يف توفري الخبز للعامل الجائع‬
./www.nobelprize.org/prizes/peace/1970/ceremony-speech

‫ لفهم اآلثار املدمرة للسياسات الخاطئة يف الدول ذات القدرة الكبرية عىل إنتاج‬.6
Robert Conquest، The Harvest of Sorrow: Soviet ‫ راجع‬،‫الطعام‬
Collectivization and the Terror Famine (Oxford: Oxford University
Press, 1987); Anne Applebaum, Red Famine: Stalin’s War on
Ukraine (New York: Doubleday, 2017); Frank Dikötter, Mao’s Great
Famine: The History of China’s Most Devastating Catastrophe,
.‫ ودراسات أخرى‬،1958–1962 (New York:Walker Publishing Co., 2010)

7. Benjamin Constant, “The Liberty of Ancients Compared with that of


Moderns,” https://oll.libertyfund.org/title/constant-the-liberty-
of-ancients-compared-with-that-of-moderns-1819.

8. See Tom G. Palmer,“The Terrifying Rise of Authoritarian


Populism,” Reason, September 2019,
https://reason.com/2019/07/14/the-terrifying-rise-of-
authoritarian-populism/.

9. Scott Gordon, Controlling the State: Constitutionalism from Ancient


Athens to Today (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1999),
p. 4.

214
10. See Mancur Olson, “Democracy, Dictatorship, and
Development,” The American Political Science Review, Vol. 87, No.
3, September 1993, pp. 567–576. ‫ أن املهم ليس‬،‫تدل األحداث األخرية‬
‫القوانني الرسمية التي تحكم انتقال السلطة بل األعراف التي تحكم العمليات التي‬
‫ يحرتم الخارسون هذه العمليات وتقيدهم األعراف السائدة –هم‬.‫تحقق االنتقال‬
‫ مجرد موانع مكتوبة‬.‫وخصومهم– من تجاهل اآلثار املوضوعية لعمليات االنتخاب‬
‫من االستبداد ال يحرتمها املواطنون وال أصحاب املناصب وال يرون فيها الحامية التي‬
‫يقتضيها اسمها‬.

11. Amartya Sen, Development as Freedom (New York: Anchor


Books 1999), p. 182.

12. François Guizot, The History and Origins of Representative


Government in Europe (1821; Indianapolis: Liberty Fund, 2002),
Lecture 7, p. 63.

13. Deirdre McCloskey, Bourgeois Equality: How Ideas, Not


Capital or Institutions, Enriched the World (Chicago: University of
Chicago Press, 2016), p. xiii.

‫ ومن التواصل بني أطراف‬،‫ميكن أن توجد حاالت كثري من هذه االخرتاع املبتكر‬ .14
Matt Ridley, How ‫ يف كتاب‬،‫ريا ما ال تجمعها معرفة مسبقة‬
ً ‫ كث‬،‫عديدة‬
Innovation Works, And Why It Flourishes in Freedom (New York:
.HarperCollins, 2019)

15. Sen, Development as Freedom, p. 7.

215
16. Al Baker, J. David Goodman, and Benjamin Mueller,“Beyond
the Chokehold: The Path to Eric Garner’s Death,” The New York
Times, June 13, 2015,
www.nytimes.com/2015/06/14/nyregion/eric-garner-police-
chokehold-staten-island.html.

،2021 ‫اعتام ًدا عىل مقابلة مع بابا كورياندر جرت يف بوروندي يف يوليو‬ .17
.‫ طُبعت بعد أخذ اإلذن‬.‫قام بها أميابل مانرياكيزا‬

18. Interview of John Kenneth Galbraith by John Newark in


Aurora Online, in Interviews with John Kenneth Galbraith, ed.
James Ronald Stanfield and Jaqueline Bloom Stanfield (Jackson:
University of Mississippi Press, 2004), p. 156.

19. For a stark example, see Jeffrey Sachs, Chandrika Bahadur,


Guido Schmidt-Traub, Jeffrey D. Sachs, Margaret Kruk, and John
McArthur, “Ending Africa’s Poverty Trap,” in Brookings Papers on
Economic Activity 1 (Washington, DC: Brookings Institution, 2004),
pp. 117–216. For a description of the actual working and the actual
impact of Sachs’s policies, backed by hundreds of millions of donor
dollars, see Nina Munk, The Idealist: Jeffrey Sachs and the Quest to
End Poverty (New York: Anchor Books, 2013).

20. See Martin E. P. Seligman, Helplessness (New York: W. H.


Freeman and Company, 1975).

216
21. W. Richard Scott, Institutions and Organizations: Ideas,
Interests, and Identities (Los Angeles: Sage Publications, 2014), p.
82.

22. See Daron Acemoglu and James Robinson, Why Nations Fail
(New York: Crown Business, 2013).

23. See the criticism of Acemoglu and Robinson’s approach by


Deirdre McCloskey, Bourgeois Equality, pp. 136–137.

The Tacit Dimension (Chicago: ‫كام رشح مايكل بوالنيي يف‬ .24
.»‫ «ما نعرفه أكرث مام ميكن أن نقوله‬،University of Chicago Press, 1980)
Law, Legislation, and Liberty (Chicago: ‫وكام قال فردريك حايك يف كتابه‬
.University of Chicago Press, 1973), p. 77

،‫ إن حقيقة عجز اللغة عن التعبري عن كل ما يأخذه العقل بعني االعتبار‬.a


‫ قد‬،‫ريا عن التعبري بالكلامت عام نعرف كيف نفعله عمليًّا‬
ً ‫أو عجزنا كث‬
‫ وإن كانت مل تزل مفهو ًما غري‬،‫دلّت عليها األدلة يف مجاالت كثرية‬
.‫مألوف‬
25. Polly Hill, Studies in Rural Capitalism in West Africa
(Cambridge: Cambridge University Press, 1970), p. 28.

‫ ما كان له سعر ميكن أن‬.‫ لكل يشء سعر أو كرامة‬،‫يف مملكة الغايات‬
‫ وال يسمح أن يكون‬،‫ أما الذي فوق كل سعر‬،‫ هو نظريه‬،‫يب َّدل بيشء آخر‬
.‫ فهو صاحب الكرامة‬،‫له نظري‬

217
‫ريا إىل الرغبات والحاجات اإلنسانية العامة كان له سعر‬ ً ‫ما كان مش‬
‫ أي ما‬،‫ دون افرتاض الحاجة‬،‫ أما ما كان يتفق مع بعض األذواق‬،‫سوق‬
‫ وأما ما كان‬،‫ فل ُه سعر باهظ‬،‫كان متع ًة يف اللعب العبثي بقوى العقل‬
‫ فليس له‬،‫الظرف الذي ميكن فيه وحده أن يكون اليشء غاية يف نفسه‬
.‫ أي كرامة‬،‫ بل له قيمة داخلية‬،‫ أي سعر‬،‫مجرد قيمة نسبية‬
Immanuel Kant, Groundwork of the Metaphysics of (
)Morals
,)Cambridge: Cambridge University Press, 2012(
)Prussian Academy Edition 4, pp. 434–435(
26. Eustace Davie, “Amendments to the Land Rights Bill Would Be
a Great Injustice,” City Press, August 24, 2020,
www.news24.com/citypress/voices/amendments-to-the-land-
rights-bill-would-be-a-great-injustice-20200824.

27. The energizing effect of secure and securely transferrable


property title has long been known and has been documented
effectively by, among others, Hernando de Soto, The Mystery of
Capital (New York: Basic Books, 2000).
28. G. W. F. Hegel, Philosophy of Right, trans. T. M. Knox (Oxford:
Oxford University Press, 1952; 1977), p. 57.

29. “Ownership,” Tony Honoré, Making Law Bind: Essays Legal


and Philosophical (Oxford: Oxford University Press, 1987).

218
‫‪30.‬‬ ‫‪Quoted from a now-lost manuscript by Dugald Stewart in‬‬
‫‪“Account of the Life and Writings of Adam Smith, LLD,” in Adam‬‬
‫‪Smith, Essays on Philosophical Subjects, eds. W. P. D. Wightman and‬‬
‫‪J. C. Bryce,Vol. 3 of the Glasgow Edition of the Works and‬‬
‫‪Correspondence of Adam Smith (Indianapolis: Liberty Fund, 1982),‬‬
‫‪p. 322.‬‬

‫‪31.‬‬ ‫‪Elinor Burkett, “‘God Created Me to Be a Slave,’” New York‬‬


‫‪Times Magazine, October 12, 1997:‬‬
‫‪ .a‬إذا سألت فاطمة بنت ماماديو عن عمرها‪ ،‬تُطرق املرأة املوريتانية إىل‬
‫أسفل خجِلةً؛ هي ال تعرف متى ُولدت‪ .‬اسألها كم عدد الجامل والخراف‬
‫التي تعتني بها‪ ،‬أو كم عدد قدور املاء التي تنقلها كل يوم‪ ،‬سيتج ّمد‬
‫وجهها؛ هي ال تستطيع العد‪ .‬اسألها إن كانت قد اغتُصبت هي أو‬
‫الفتيات التي تربّت معهن يف قرية يف إقليم براكنا النايئ‪ ،‬وستواجهك‬
‫التحري‪ .‬هي تصغي باهتامم ونحن نسأل‬
‫ّ‬ ‫مالمحها التي تج ّمدت من‬
‫السؤال بصيَغ مختلفة‪ .‬يف النهاية‪ ،‬أجابت بطريقة عاديّة‪« ،‬طب ًعا كانوا‬
‫يأتون يف الليل عندما يحتاجون أن يُحبِلونا‪ .‬هل هذا ما تقصده‬
‫باالغتصاب؟»‬
‫‪32.‬‬ ‫‪Sen, Development as Freedom, p. 33.‬‬

‫الفصل األول‬

‫‪219‬‬
1. See, for examples, the studies at https://dignityproject.net/; Editorial
Board, “Foreign Aid Is Having a Reckoning,” The New York Times,
February 13, 2021, www.nytimes.com/2021/02/13/opinion/africa-
foreign-aid-philanthropy.html; Nathalie Dortonne, “The Dangers of
Poverty Porn,” CNN Health, December 8, 2016,
edition.cnn.com/2016/12/08/health/povertyporn-danger-
feat/index.html; Irina Mosel and Kerrie Holloway, “Dignity and
humanitarian aid in displacement,” Humanitarian Policy Group Report,
Overseas Development Institute, March 2019; Jeremy Shapiro,
“Exploring Recipient Preferences and Allocation Mechanism in the
Distribution of Development Aid,” The World Bank Economic Review,
Vol. 32, No. 3, October 2020, pp. 749–766.

2. Mosel and Holloway, “Dignity and humanitarian action in


displacement,” p. 6.

3. Mosel and Holloway, “Dignity and humanitarian action in


displacement,” p. 7.

4. See W. B. Gallie, “Essentially Contested Concepts,”Proceedings of the


Aristotelian Society, Vol. 56, 1956, pp. 167–198.

220
5. Ronald Dworkin, “The Jurisprudence of Richard Nixon,” The New York
Review of Books, Vol. 18, No. 8, May 1972, pp. 27–35.

6. English Translation of Magna Carta, published July 28, 2015, British


Library, www.bl.uk/magna-carta/articles/magna-carta-english-
translation.

7. William F. Swindler, “Runnymede Revisited: Bicentennial Reflections


on a 750th Anniversary,” Missouri Law Review, Vol. 41, No. 2, Spring
1976, p. 153.

8. “Last Speech of Colonel Richard Rumbold, at the Market Cross at


Edinburgh, with Several Things That Passed, at His Trial, June 26, 1685,”
in A Complete Collection of State Trials and Proceedings for High Treason
and Other Crimes and Misdemeanors, from the Earliest Period to the Year
1783, compiled by T. B. Howell (London: T. C. Hansard, 1816), Vol. XI,
pp. 879–881, 881.

9. Cicero,On Duties, eds. M. T. Griffin and E. M. Atkins (Cambridge:


Cambridge University Press, 1991), I, 3, p. 3.

10. On Duties (De Officiis) was the third book to be produced in Europe
by printing press after the introduction to Europe of moveable type and

221
the first classical text to be so printed. Handwritten copies were, compared
to other books, already more widely available across Europe.

11. Cicero, On Duties, I, 107, p. 42. 12 Cicero, On Duties, I, 110, p. 43.

13. Cicero, On Duties, I, 106, pp. 42–43. Cicero obviously reflects the
prevailing mores of his age, notably regarding “manliness” as the standard
of dignity, but it takes little or no effort to abstract from the gendered
nature of the description. What emerges is an exhortation to live well and
to exercise self-control. 14 Cicero, On Duties, II, 26, pp. 109–110.

15. St. Thomas Aquinas,Summa Theologica, trans. Fathers of the English


Dominical

Province (Westminster, MD: Christina Classics, 1981), Pt. 1, Q. 29, Art. 3,


Reply to Objection 2, Vol. I, p. 158.

16. Aquinas, Summa Theologica, Pt. 1, Q. 29, Art. 1, “I answer that,” Vol.
I, p. 156 (Original emphasis in the English translation). Thomas also
advanced greatly the understanding of the uniqueness of each and every
human person. In his rebuttal to the “Latin Averroists” who argued that
you and I can both know the same thing because we share a collective

222
intellect, he presented an array of arguments on behalf of individualism,
including the importance of individuation to moral philosophy:

If … the intellect does not belong to this man in such a way that it is
truly one with him, but is united to him only through phantasms or
as a mover, the will will not be in this man, but in the separate
intellect. And so this man will not be the master of his act, nor will
any act of his be praiseworthy or blameworthy. That is to destroy the
principles of moral philosophy. Since this is absurd and contrary to
human life (for it would not be necessary to take counsel or to make
laws), it follows that the intellect is united to us in such a way that it
and we constitute what is truly one being.

(Thomas Aquinas, On the Unity of the Intellect Against the


Averroists (Milwaukee: Marquette University Press, 1968),
Chap. II, par. 82, p. 57)

Finally, Thomas pioneered the application of individual rights to social


order in his commentaries on the Roman law, in which he reconciled
“objective right,” or justice, with “subjective right,” or the claims of right
of individuals and groups:

223
It would seem that lawyers have unfittingly defined justice as being
the steady and enduring will to render unto everyone his right. For,
according to the Philosopher (Nicomachean Ethics, V, i.), justice is
a habit which renders a man apt to do what is just, and which causes
them to act justly and to wish what is just … I answer that, The
aforesaid definition of justice [Justinian’s Institutes, 1.1] is fitting if
understood aright. For since every virtue is a habit that is the
principle of a good act, a virtue must needs be defined by means of
the good act bearing on the matter proper to that virtue. Now the
proper matter of justice consists of those things that belong to our
intercourse with other men … Hence the act of justice in relation to
its proper matter and object is indicated in the words, Rendering to
each one his right, since, as Isidore says (Etym. X), a man is said to
be just because he respects the rights (ius) of others.

(Aquinas, Summa Theologica, IIa, IIae, Q. 58, Vol. III, p. 1429)

17. Giovanni Pico della Mirandola, Oration on the Dignity of Man


(Washington, DC: Regnery Gateway, 1956), pp. 11–12.

224
18. Frank H. Knight, The Ethics of Competition, and Other Essays (New
York: Harper and Brothers, 1935), p. 22. James M. Buchanan, one of
Knight’s students, later wrote that:

Man wants liberty to become the man he wants to become. He does


so precisely because he does not know what man he will want to
become in time. Let us remove, once and for all, the instrumental
defense of liberty, the only one that can possibly be derived from
orthodox economic analysis. Man does not want liberty in order to
maximize his utility, or that of the society of which he is a party. He
wants liberty to become the man he wants to become.

(James M. Buchanan, “Natural and Artifactual Man,” in The


Collected Works of James M. Buchanan, Vol. I, The Logical
Foundations of Constitutional Liberty (Indianapolis, IN:
Liberty Fund, 1999), pp. 246–259)

19. Samuel Pufendorf, 1673, The Whole Duty of Man, According to the
Law of Nature, eds. Ian Hunter and David Saunders (Indianapolis, IN:
Liberty Fund, 2003), I, 7, p. 100. (Original emphasis in the English
translation) Pufendorf also writes of “the Dignity which Nature bestowed
upon him,” p. 101.

225
20. John Locke, Two Treatises of Government, ed. Peter Laslett
(Cambridge: Cambridge University Press, 1988), II, 6, p. 271. He quotes
Richard Hooker on what is necessary for “a Life, fit for the Dignity of
Man,” (II, 15, p. 277). See, for an illuminating study of Locke’s views on
subordination and enslavement, and correction of recent misstatements
and historical errors, Holly Brewer, “Slavery, Sovereignty, and
‘Inheritable Blood’: Reconsidering John Locke and the Origins of
American Slavery,” American Historical Review, Vol. 122, No. 4, October
2017, pp. 1038–1078.

21. Richard Overton, “An Arrow against All Tyrants,” in The English
Levellers, ed. Andrew Sharp (Cambridge: Cambridge University Press,
1998), p. 55. As Colonel Thomas Rainborough insisted in the Putney
debates of 1647,

For really I think that the poorest he that is in England hath a life to
live, as the greatest he; and therefore truly, sir, I think it’s clear, that
every man that is to live under a government ought first by his own
consent to put himself under that government; and I do think that
the poorest man in England is not at all bound in a strict sense to that
government that he hath not had a voice to put himself under.

226
(A. S. P. Woodhouse, ed., Puritanism and Liberty: Being the
Army Debates (1647) from the Clarke Manuscripts with
Supplementary Documents (London: J. M. Dent & Sons, Ltd.,
1992), p. 53)

22. Jeremy Waldron, Dignity, Rank, and Rights (Oxford: Oxford


University Press, 2012), p. 33.

23. Sidney Painter, “Individualism in the Middle Ages,” in Sidney Painter,


Feudalism and Liberty: Articles and Addresses, ed. Fred A. Cazel Jr.
(Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 1961), p. 259. On the
other hand, see Robert von Keller, Freiheitsgarantien für Person und
Eigentum im Mittelalter, eine Studie zur Vorgeschichte moderner
Verfassungsgrundrechte (Heidelberg: Carl Winters
Universitätsbuchhandlung, 1933), which argued that the rights asserted
by nobles were often modeled on the claims that were being, or had
already been, successfully asserted by urban populations. See esp. pp. 75–
77.

24. Walter Ullman, The Individual and Society in the Middle Ages
(Baltimore: The Johns Hopkins Press, 1966), p. 54. The distance from
power and the fracturing of political power created a remarkably

227
competitive political order, within which the nobodies of the time could
maneuver and find space to become somebodies.

25. Waldron, Dignity, Rank, and Rights, p. 33.

26. Waldron, Dignity, Rank, and Rights, p. 53.

27. Max Weber, Economy and Society (Berkeley, CA: University of


California Press, 1978), Vol. II, p. 1304. See pp. 1301–1307 (Original
emphasis).

28. Thomas Paine, “Rights of Man, Part I,” in Political Writings, ed. Bruce
Kuklick (Cambridge: Cambridge University Press, 1989), p. 111.

29. Benjamin Constant, “The Liberty of the Ancients Compared with that
of the Moderns,” in Political Writings, ed. Biancamaria Fontana
(Cambridge: Cambridge University Press, 1988), p. 313.

30. Norbert Elias, The Civilizing Process (Oxford: Blackwell Publishing,


2000), p. 117. See also Christine Dunn Henderson, “On Bourgeois Dignity:
Making the Self-Made Man,” in Dignity: A History, ed. Remy Debes
(Oxford: Oxford University Press, 2017), pp. 275–276:

Trade between individuals or nations who differ requires that the


trading partners forsake going to war to settle those differences, and
228
that they be willing to tolerate different ways of life, beliefs, and
values for the sake of the mutual advantage gained through
commerce.

Adam Smith wrote of “the virtues of self-denial, of self-government, of


that command of the passions which subjects all the movements of our
nature to what our own dignity and honour, and the propriety of our own
conduct require,” Adam Smith, The Theory of Moral Sentiments (first
published in 1759; Indianapolis, IN: Liberty Fund, 1982), Part I, Chap. 5,
p. 23.

31. John Bright, Speech at Birmingham Town Hall, October 29, 1858, in
Selected Speeches of the Right Hon. John Bright, M.P., on Public
Questions (London: J. M. Dent & Co., 1907), p. 204, available at oll-
resources.s3.us-east-2.
amazonaws.com/oll3/store/titles/1658/0618_Bk.pdf.

32. See https://ourworldindata.org/extreme-poverty for data, evidence,


and visual presentation of the dramatic and continuing fall in poverty.

33. Francis Fukuyama argues that it is the search for recognition of the
“inner self’s worth or dignity” that drives most contemporary political
conflicts. Francis Fukuyama, Identity (London: Profile Books, 2018).
229
34. Deirdre McCloskey, Bourgeois Dignity: Why Economics Can’t Explain
the Modern World (Chicago: University of Chicago Press, 2010), p. 11.

35. Deirdre McCloskey, Bourgeois Equality: How Ideas, Not Capital or


Institutions, Enriched the World (Chicago: University of Chicago Press,
2016), p. 93.

.36

‫إن النقطة الفاصلة يف كل من الرابطات واملجتمعات املحلية هو أن التفرد واالتحاد‬


‫ ويسعى‬.‫ إذ ينال املرء الحرية باالنتساب إىل نوع املجموعات الخاص به‬.‫هنا متالزمان‬
‫ والحرفيون إىل تحقيق أهدافهم الخاصة إذا تكاتفوا م ًعا تحت‬،‫ والتجار‬،‫املواطنون‬
.‫القسم‬

(Anthony Black, Guilds and Civil Society in European Political


Thought from the Twelfth Century to the Present (Ithaca: Cornell
University Press, 1984), p. 65)

37. Voltaire, Letters Concerning the English Nation, ed. Nicholas Cronk
(Oxford: Oxford University Press, 1999), p. 43.

38. The legal historian Sir Henry Sumner Maine described well “the
movement of the progressive societies” as “a movement from Status to
Contract,” Henry Sumner Maine, Ancient Law (first published in 1861;

230
Brunswick: Transaction Publishers, 2003), p. 170. On role complexity, see
Rose Laub Coser, In Defense of Modernity: Role Complexity and
Individual Autonomy (Stanford, CA: Stanford University Press, 1991). On
self-control, role complexity, and individuality, see Norbert Elias, The
Society of Individuals (New York: Continuum, 2001), p. 129.

[T]he development of society towards a higher level of


individualization in its members opens the way to specific forms of
fulfillment and specific forms of dissatisfaction, specific chances of
happiness and contentment for individuals and specific forms of
unhappiness and discomfort that are no less society-specific. The
opportunity individuals now have to seek the fulfillment of personal
wishes on their own and largely on the basis of their own decisions,
carries with it a particular kind of risk. It demands not only a
considerable amount of persistence and foresight; it also constantly
requires the individual to pass by momentary chances of happiness
that present themselves in favour of long-term goals that promise
more lasting satisfaction, or to juxtapose these to short-term
impulses. Sometimes they can be reconciled, sometimes not. One can
take a risk. One has the choice. More freedom of choice and more
risk go together.
231
39. Georg Simmel, “The Web of Group Affiliations,” in Conflict and The
Web of Group Affiliations, trans. Kurt H. Wolff and Reinhard Bendix
(respectively) (New York: The Free Press, 1955), p. 140.

40. F. A. Hayek, “The Use of Knowledge in Society,” American Economic


Review, Vol. XXXV, No. 4, September 1945, pp. 519–530.

41. Anders Chydenius, “The National Gain,” in Anticipating the Wealth


of Nations: The Selected Works of Anders Chydenius (1729–1803), eds.
Maren Jonasson and Pertti Hyttinen, trans. Peter C. Hogg (London:
Routledge, 2012), p. 155.

42. A. R. Bridbury, “Markets and Freedom in the Middle Ages,” in The


Market in History, eds. B. L. Anderson and A. J. H. Latham (London:
Croom Helm, 1986), pp. 79–119, 85.

43. Polly Hill, Studies in Rural Capitalism in West Africa (Cambridge:


Cambridge University Press, 1970), pp. 6–7.

44. Hill, Studies in Rural Capitalism in West Africa, p. 28.

45. We set aside unusual proclivities; it seems that people with erotic
fixations on humiliation don’t generally seek it out outside of certain
settings.

232
‫‪46. G. W. F. Hegel, The Phenomenology of Spirit, trans. A. V. Miller‬‬
‫‪(Oxford: Oxford University Press, 1977), p. 111.‬‬

‫‪47. Rania Abouzeid, “The Martyr’s Mother: An Interview with Mannoubia‬‬


‫”‪Bouazizi,‬‬ ‫‪Time,‬‬ ‫‪December‬‬ ‫‪14,‬‬ ‫‪2011.‬‬
‫‪http://content.time.com/time/speci‬‬
‫‪als/packages/article/0,28804,2101745_2102138_2102239,00.html.‬‬

‫‪ .48‬يستخدم املاركسيون هذا املصطلح لإلشارة إىل «طبقة» محددة ومميزة من الناس‪ .‬ويف‬
‫بعض املصادر‪ ،‬استخدم ماركس هذا املصطلح لإلشارة إىل رواد األعامل املبتكرين الذين‬
‫ينظمون مؤسسات تجارية منتجة ويستثمرون يف خلق الثورة‪ ،‬ويف مصادر أخرى‪ ،‬استخدم‬
‫هذا املصطلح لإلشارة إىل أولئك الذين يتجمعون حول الدولة‪ ،‬ويعيشون عىل الرضائب‪،‬‬
‫ويضغطون عىل السياسيني ملنع املنافسة وتقييد حرية التجارة‪ ،‬أو باختصار‪ ،‬أولئك الذي‬
‫يستثمرون‪ ،‬ال يف خلق القيمة‪ ،‬بل يف ضامن سلطة إعادة توزيع أو تدمري ثروة اآلخرين‪،‬‬
‫وإبقاء األسواق مغلقة‪ ،‬وإبقاء الفقراء يف مكانهم‪ ،‬واملجتمع تحت سيطرتهم‪ .‬وعىل حد قول‬
‫املؤرخ شرييل غرونر‪« :‬ظن ماركس أنه فهم الواقع بشكل جيد حني صاغ مصطلح‬
‫(الربجوازية)‪ ،‬ولكنه يف واقع األمر توصل إىل مصطلح غامض للغاية»‪ ،‬شرييل م‪ .‬غرونر‪،‬‬
‫املادية االقتصادية واألخالق االجتامعية (الهاي‪ :‬موتون‪ ،)1973 ،‬ص‪ .190–189 .‬وينسب‬
‫العديد من املفكرين مصطلح «الربجوازية» إىل معايري الذوق واللباقة التي يعدونها أقل منهم‬
‫يف املكانة‪ ،‬غافلني عن الدرجة التي يدينون بها إىل االبتكارات الربجوازية يف جعل الفن‬

‫‪233‬‬
،‫ من بني أمثلة عديدة‬،‫ انظر‬.‫ مبا فيهم املفكرين الذين يحتقرونهم‬،‫والثقافة متاحني للجامهري‬
.)1986 ،‫ بنجوين بوكس‬:‫ تاريخ قصري لفكرة (نيويورك‬:‫ املنزل‬،‫ويتولد ريبكزينسىك‬

49. The terms “bourgeois” and “civil” in modern European languages are
historically rooted in the “early town community”; Anthony Black lists
terms used for towns in the high Middle Ages as “civitas, commune,
communitas, universitas civium/burgensium, urbani, burgensis populus,
universi cives, and the vernacular commune (French and Italian),
Gemeinde, burgh,” Black, Guilds and Civil Society, p. 49. Hans Planitz
notes that “the expression burgenses was at first used only if the city was
not a civitas, and civitas was at first only the old episcopal seat
(‘Bischofsstadt’),” Hans Planitz, Die Deutsche Stadt im Mittelalter: Von
der Römerzeit bis zu den Zünftkämpfen (Graz, Austria, and Köln: Böhlau,
1954), p. 100. In Karl Marx’s anti-Semitic tract “On the Jewish
Question,” the term for “civil society” is Bürgerliche Gesellschaft; his
attacks on “bourgeois society” are attacks on “civil society.” In The
Communist Manifesto, Marx and Engels adopted the French term
bourgeoisie, itself derived from bürgerlich, and used it to refer to a
sociological/economic “class” of people. For discussion of the confusion
that Marx introduced, see Tom G. Palmer, ed., “Classical Liberalism,

234
Marxism, and the Conflict of Classes,” in Realizing Freedom (2nd ed.;
Washington, DC: Cato Institute, 2014), pp. 321–341.

50. See especially the studies in Remy Debes, Dignity: A History (Oxford:
Oxford University Press, 2017) and Marcus Düwel, Jens Braarvig, Roger
Brownsward, and Dietmar Mieth, eds., The Cambridge Handbook of
Human Dignity: Interdisciplinary Perspectives (Cambridge: Cambridge
University Press, 2015).

51. For an account of the partial liberalization that freed millions from the
License Raj and allowed hundreds of millions to lift themselves out of
poverty, see Gurcharan Das,India Unbound: The Social and Economic
Revolution from Independence to the Global Information Age (New York:
Anchor Books, 2002).

52. Swaminathan S. Anklesaria Aiyar, “The Unexpected Rise of Dalit


Millionaires,” The Economic Times, July 31, 2011,
economictimes.indiatimes.com/ swaminathan-s-a-aiyar/the-
unexpected-rise-of-dalit-millionairesswaminathan-s-anklesaria-
aiyar/articleshow/9429337.cms?utm_source=
contentofinterest&utm_medium=text&utm_campaign=cppst and
“Capitalism’s Assault on the Indian Caste System: How Economic

235
‫‪Liberalization Spawned Low-caste Dalit Millionaires,” Cato Institute‬‬
‫‪Policy‬‬ ‫‪Analysis,‬‬ ‫‪No.‬‬ ‫‪776,‬‬ ‫‪July‬‬ ‫‪21,‬‬ ‫‪2015,‬‬
‫‪www.cato.org/sites/cato.org/files/pubs/ pdf/pa776.pdf.‬‬

‫‪ .53‬من طرق إهانة اآلخرين‪ ،‬ومتجيد الذات ومتجيد الجامعة التي ينتمي إليها الفرد فوق‬
‫غريها‪ ،‬هو منع الناس من االستهالك‪ ،‬وال سيام ارتداء املالبس التي تكون «أعىل منهم يف‬
‫املكانة»‪ ،‬إما بقوانني إنفاقية رسمية أو من خالل مامرسة الوحشية‪ ،‬واإلعدامات بدون‬
‫محاكمة‪ ،‬والعنف الغوغايئ‪ .‬ومتر الهند اآلن بتحول رسيع يسمح للمنبوذين بارتداء املالبس‬
‫التي يعتربها غريهم أعىل منهم يف املكانة‪ ،‬ولكنه تحول مرت به مجتمعات أخرى أيضً ا‪ .‬انظر‬
‫ت‪ .‬إتش‪ .‬برين‪« ،‬معنى األشياء»‪ ،‬عن االستهالك وعامل البضائع‪ ،‬طبعة جون برور وروي‬
‫بورتر (لندن‪ :‬روتليدج‪.)1993 ،‬‬

‫‪54. “The Dignity of the Underclass is the first casualty: Chandra Bhan‬‬
‫”‪Prasad,‬‬ ‫‪Round‬‬ ‫‪Table‬‬ ‫‪India,‬‬ ‫‪April‬‬ ‫‪29,‬‬ ‫‪2020,‬‬
‫=‪roundtableindia.co.in/index.php?option‬‬
‫‪com_content&view=article&id=9894:the-dignity-of-the-underclass-is-‬‬
‫‪thefirst-casualty-chandra-bhan-prasad&catid=118&Itemid=131.‬‬

‫الفصل الثان‬

‫‪236‬‬
1. “Life Expectancy (from Birth) in the United States, from 1860 to
2020,” compiled by Aaron O’Neill, February 3, 2021,
www.statista.com/statistics/1040079/life-expectancy-united-
states-all-time/; Report of the Statistics of Agriculture of the
United States, Eleventh Census: 1890, Part II: Comparative
Occupation Statistics (Washington, DC: Government Printing Office,
1895), p. 93,
www2.census.gov/library/publications/decennial/1940/populati
on-occupation/00312147ch2.pdf; “Child Mortality Rate (under
Five Years Old) in the United States, from 1800 to 2020,” compiled
by Aaron O’Neill, March 19, 2021,
www.statista.com/statistics/1041693/united-states-all-time-
child-mortality-rate/; there are no census data on indoor plumbing
until the 1940 census, when only 55 percent of homes had
“Complete plumbing facilities... defined as hot and cold piped water,
a bathtub or shower, and a flushtoilet,”
www2.census.gov/programs-surveys/decennial/tables/time-
series/coh-plumbing/plumbing-tab.txt.

2. McCloskey’s pioneering historical, economic, and cultural research


is a primary intellectual inspiration for this work. Among her many
learned essays and books, her trilogy on the “Bourgeois Era” stands
out for reformulating the issues of economic development in both

237
descriptive and moral terms. See Deirdre McCloskey, Bourgeois
Ethics (Chicago: University of Chicago Press, 2006); Bourgeois
Dignity (Chicago: University of Chicago, 2010), and Bourgeois
Equality (Chicago: University of Chicago Press, 2016).
3. W. Arthur Lewis, “Economic Development with Unlimited Supplies
of Labor,” The Manchester School, Vol. 22, May 1954, pp. 139–192;
cited in William R. Easterly, The Elusive Quest for Growth
(Cambridge, MA: MIT Press, 2002), Kindle Edition, locations 511–
512.

4. Lance E. Davis and Robert A. Huttenback, Mammon and the Pursuit


of Empire: The Economics of British Imperialism, abridged edition
(Cambridge: Cambridge University Press, 1988), p. 267. As they
explain further,

‫ إذ يعتمد عىل طريقة‬،‫ كان مستوى الفوائد غري معروف‬،‫يف اإلمرباطورية نفسها‬
‫ اإلجابة‬،‫ يف مستعمرات استيطان البيض‬.‫الحساب وعىل الشخص املسؤول‬
‫ استفاد‬،‫ يف اإلمرباطورية التابعة‬.‫قليال وحصلوا عىل كثري‬
ً ‫ لقد دفعوا‬:‫واضحة‬
‫ وإن كانت‬،‫ أما الشعوب األصلية‬.‫املستوطنون البيض كذلك استفادة واضحة‬
‫ فام من دليل‬،‫حصلت عىل سلة سوقية من سلع الحكومة بأسعار جملة حقيقية‬
‫ حتى‬،‫يدل عىل أنها كانت لتشرتي هذه السلع نفسها لو كانت لها حرية االختيار‬
.‫ولو بأسعار أرخص بكثري‬
5. Adam Smith, An Inquiry Into the Nature and Causes of the Wealth
of Nations, eds. R. H. Campbell and A. S. Skinner, textual ed. W. B.
238
Todd, vol. II of the Glasgow Edition of the Works and
Correspondence of Adam Smith (Indianapolis: Liberty Fund: 1981),
IV.vii, “Of Colonies,” p. 588.

6. 1 Smith, Wealth of Nations, IV.viii, “Conclusion of the Mercantile


System,” p. 661.

‫ وهو اصطالح‬،‫ إن الهوس الحديث باالبتكارات املزلزلة‬.‫معظم االبتكار عملية تدريجية‬


‫ حتى لو كانت‬.‫هوس مضلل‬
ٌ ،1995 ‫لربوفسور هارفارد كاليتون كريستينن سكّه عام‬
‫ يبدأ‬،‫ كام فعلت وسائل التواصل الرقمية للصحف‬،‫التقنية تعتمد عىل تقنية أقدم منها‬
.‫ دون قفزات ووثبات‬،‫ ثم يستجمع قوته تدريج ًّيا ويعمل شيئًا فشيئًا‬،‫األثر بطيئًا‬
Matt Ridley, How Innovation Works: And Why It Flourishes in (
)Freedom (New York: Harper Collins, 2020), p. 9
7. T. S. Ashton, The Industrial Revolution: 1760–1830 (1948; Oxford:
Oxford University Press, 1976), pp. 13–14.

8. Ashton, The Industrial Revolution, p. 15.

9. Nor are they even necessary, as economic historian David Mitch


argues. See “The Role of Education and Skill in the British Industrial
Revolution,” in The British Industrial Revolution: An Economic
Perspective, ed. Joel Mokyr (2nd ed., Boulder: Westview Press,
1999), pp. 241–279.

10. Egyptian gross enrollment ratio in tertiary education,


http://uis.unesco.org/en/country/eg, accessed May 20, 2021;
239
Egyptian GDP per capita,
https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.PCAP.CD?locatio
ns=EG, accessed May 10, 2021.

11. The official unemployment rate among Egyptians with upper


secondary school educations was 35.5 percent in 2017,
www.statista.com/statistics/1028359/egypt-unemployment-by-
educational-status/.

12. Rakhi Chakraborty, “Dalit child bride to $112 million CEO:


The wonder story of Kalpana Saroj,” YourStory, February 24, 2015,
https://yourstory.com/2015/02/kalpana-saroj/amp/.

13. The succeeding history of failed attempts to “protect” infant


industries, jump-start industries, and so on is presented in a series
of case studies by Arvind Panagariya, Free Trade and Prosperity:
How Openness Helps Developing Countries Grow Richer and
Combat Poverty (Oxford: Oxford University Press, 2019).
14. V. I. Lenin, The State and Revolution (Peking: Foreign
Languages Press, 1973), pp. 120–121 (Original emphasis).

15. Michael Polanyi, “Toward a Theory of Conspicuous


Production,” in Society, Economics, & Philosophy: Selected Papers,
ed. R. T. Allen (New Brunswick: Transaction Publishers, 1997), pp.
165–182, 181.

240
‫الفصل الثالث‬

‫‪1. Adapted from the commencement address given in 1974 at the‬‬


‫‪California‬‬ ‫‪Institute‬‬ ‫‪of‬‬ ‫‪Technology‬‬ ‫‪(Caltech),‬‬
‫‪https://calteches.library.caltech.edu/51/ 2/CargoCult.htm.‬‬

‫وعرب عن هذا رجل األعامل النيوزيلندي آالن غيبس من واقع تجربته يف استرياد أجهزة‬
‫‪ّ .2‬‬
‫التلفاز‪:‬‬

‫كنا نذهب إىل اليابان ونقول لرشكة جيه يف يس‪« :‬نريد رشاء أجهزة التلفاز التي تص ّنعونها‬
‫عىل هيئة قطع»‪ .‬وكانوا يسألوننا‪« :‬ملاذا؟ ال أحد يفعل ذلك»‪ .‬وكان ردنا أننا مطالبون‬
‫بتجميعها يف نيوزيلندا‪ .‬فكان ردهم‪« :‬حس ًنا‪ ،‬هل لديكم الكثري من العاملة الرخيصة؟ ملاذا‬
‫تتجشّ مون عناء هذا؟ ال توجد دول صغرية أخرى تفعل هذا األمر»‪ .‬كنا نشاطرهم الرأي‪ ،‬إمنا‬
‫كانت هذه هي القواعد املعمول بها يف نيوزيلندا‪« .‬تشرتط حكومتنا علينا أن نصنعها يف‬
‫البالد إذا أردنا بيعها»‪ .‬فر ّد اليابانيون‪« :‬لكن‪ ،‬تكلف هذه العملية الكثري من املال؛ فنحن نصنع‬
‫اآلالف من أجهزة التلفاز يوم ًيا‪ ،‬تأيت القطع من أماكن مختلفة؛ وإلرسال القطع إليكم‪،‬‬
‫سيتعني علينا تفكيك األجهزة‪ ،‬فرتتفع التكلفة عليكم»‪ .‬قلنا لهم‪« :‬ال يهم تكلفة ذلك‪ ،‬إنها‬
‫الطريقة الوحيدة الستريادها‪ .‬ال شك أن الحكومة ستتخىل عن هذه السياسة الحمقاء يو ًما‬
‫ما‪ ،‬وستكون أجهزة التلفاز بعالمتكم التجارية يف مكانها الصحيح»‪ .‬وهكذا‪ ،‬راحوا يبيعوننا‬

‫‪241‬‬
‫أجزاء أجهزة التلفاز‪ ،‬باستثناء القطع القليلة املصنوعة يف نيوزيلندا‪ ،‬ويضعونها يف صندوق‬
‫مرفوق بتعليامت عن كيفية تجميعها؛ وكانوا يتقاضون ‪ %10‬أكرث مام يفرضونه عىل جهاز‬
‫تعني علينا بناء مصنعٍ كامل‪ ،‬وتوظيف العامل‪ ،‬وإنشاء خط التجميع‪ ،‬وإيجاد‬
‫تلفاز جاهز‪ .‬ثم ّ‬
‫متويل للمخزون‪ .‬مل يكن هناك محتوى حقيقي لنيوزيلندا‪ ،‬أو قيمة مضافة‪ ،‬فقد جاء مثن‬
‫كل العمل اإلضايف غري الرضوري عىل أكتاف املستهلكني النيوزيلنديني‪ ،‬الذين دفعوا ضعف‬
‫أسعار ِسلَعهم اإللكرتونية‪ .‬كانت صفق ًة خارس ًة متا ًما‪.‬‬

‫مقتبس من كتاب بول غولدسميث‪ ،‬الهزل الجاد‪ :‬حياة وعرص آالن غيبس (أوكالند‪ ،‬نيوزيلندا‪:‬‬
‫دار نرش راندوم هاوس‪ ،)2012 ،‬نسخة كيندل‪ ،‬املواقع ‪)2090-2080‬‬

‫‪3. For a brief description of the process of abandoning “import‬‬


‫‪substitution” and attempts to force industrialization, see Bill Frezza, New‬‬
‫‪Zealand’s Far-Reaching Reforms (Guatemala City: Universidad‬‬
‫‪Francisco‬‬ ‫‪Marroquin‬‬ ‫‪Antigua‬‬ ‫‪Forum,‬‬ ‫‪2015),‬‬
‫‪https://static1.squarespace.com/static/53506678e4b0337f7ff6‬‬
‫‪5f95/t/‬‬
‫‪57e15fdf2e69cf0a7550c583/1474387983903/New+Zealands+F‬‬
‫‪ar+Reach ing+Reforms.pdf.‬‬
‫‪4. United‬‬ ‫‪States‬‬ ‫‪Patent‬‬ ‫‪Office,‬‬ ‫‪SIPHON‬‬ ‫‪WATER-CLOSET.‬‬
‫‪SPECIFICA- TION forming part of Letters Patent No. 376,002,‬‬
‫‪dated‬‬ ‫‪January‬‬ ‫‪3,‬‬ ‫‪1888,‬‬

‫‪242‬‬
https://patentimages.storage.googleapis.com/1c/a3/7b/fbd4c144
2f3a47/ US376002.pdf.
5. United States Patent Office,WATER-CLOSET RESERVOR
SPECIFICA- TION forming part of Letters Patent No. 520,358,
dated May 22, 1894,
https://patentimages.storage.googleapis.com/79/ee/08/af64b275
951719/ US520358.pdf.

:‫ للراحل هانز روزلنغ بشأن الغسالة‬TED ‫ يُنصح مبشاهدة كلمة‬.6


www. gapminder.org/videos/hans-rosling-and-the-magic-
washing-machine.
‫ اشرتت والدة توم غسالة كانت عبارة عن حوض غسيل ميكانييك مع‬،‫يف طفولته‬
‫عصارة يدوية مثبتة عليها؛ تلقى توم مكافأة عىل سلوكه الحسن بالسامح له بتحريك‬
‫ اآلن لدى توم مجفف‬.‫ وبعد ذلك نرشت والدته الغسيل حتى يجف‬،‫املقبض وعرص املاء‬
.»‫مالبس كهربايئ أوتوماتييك مع خاصية «خا ٍل من التك ّمش‬

7. William D. Nordhaus, “Do Real-Output and Real-Wage Measures


Capture Reality? The History of Lighting Suggests Not,” in The
Economics of New Goods, eds.Timothy F. Bresnahan and Robert J.
Gordon (Chicago: University of Chicago Press, 1996), pp. 27–70,
numerical values cited on pp. 46–47.

243
‫‪ .8‬تُشري دييدره ماكلوسيك إىل األهمية األكرث غراب ًة لحسابات نوردهاوس عندما يأخذ‬
‫املرء يف االعتبار جودة السلع املستهلكة‪ ،‬مام يجعل املقارنة بينها صعبة من عدة‬
‫باستحالها‪.‬‬ ‫نقل‬ ‫إلّم‬ ‫جوانب‪،‬‬
‫دييدره ماكلوسيك‪ ،‬الكرامة الربجوازية‪ :‬ملاذا يعجز االقتصاد عن تفسري العامل‬
‫املعارص (شيكاغو‪ :‬مطبعة جامعة شيكاغو‪.)2010 ،‬‬

‫‪9. Nathan Rosenberg and L. E. Birdzell Jr., How the West Grew Rich:The‬‬
‫‪Economic Transformation of the Industrial World (New York: Basic‬‬
‫‪Books, 1986), p. 3.‬‬
‫توماس بابينغتون ماكوالي‪ ،‬تاريخ إنجلرتا من تتويج جيمس الثان‬ ‫‪.10‬‬
‫(فيالدلفيا‪ ،‬بنسلفانيا‪ :‬إي إيتش بتلر ورشكاه‪ ،)1849 ،‬الصفحات ‪.292-291‬‬
‫كام أشار ماكوالي يف محارضاته يف «ندوات ساويث»‪:‬‬
‫سيعتربنا العدي ُد مجانني‪ ،‬إذا تكّهنا أنه يف العام ‪ ،1930‬سيقطن يف الجزر الربيطانية عدد‬
‫سكان يبلغ خمسني مليونًا من اإلنجليز‪ ،‬يعيشون حيا ًة أفضل من اإلنجليز يف عرصنا من‬
‫حيث الغذاء واللباس‪ ،‬واملسكن؛ وأن ساسكس وهنتينغدونشري ستصبحان أكرث ثرا ًء من أغنى‬
‫أجزاء مقاطعة ويست رايدينغ يف يوركشاير اآلن؛ وأن املحاصيل الزراعية‪ ،‬الوفرية بوفرة‬
‫زراعة حديقة الزهور ‪ ،‬س ُتنقل إىل قمم جبال بن نيفيس وهلفلني؛ وأنه ستتوفر يف كل منزل‬
‫صنعت وفقًا ملبادئ مل تُكتشف بعد؛ أنه لن توجد طرق عامة إمنا سكك حديدية؛ وأن‬
‫أجهزة ُ‬
‫السفر سيقترص عىل املركبات البخارية؛ وأ ّن ديوننا الهائلة كام يبدو لنا ‪ ،‬ستبدو ألحفادنا‬
‫مبال َغ ضئيلة‪ ،‬ميكننا سدادها بسهولة يف غضون عام أو عامني‪.‬‬

‫‪244‬‬
( ،‫ الواردة يف كتاب مقاالت نقدية وتاريخية‬،»‫ «ندوات ساويث‬،‫توماس بابينغتون ماكوالي‬
223‫ و‬،224 – 187 ‫ الصفحات‬،‫ املجلد الثان‬،)1967 ،‫ مطبعة داتون‬:‫)(نيويورك‬.

11. Life expectancy at birth (total years),


https://data.worldbank.org/indicator/
SP.DYN.LE00.IN?name_desc=false. In 1990, the gap between the
average life expectancy of high-income countries and of low-
income countries was twenty-four years.
12. Israel Kirzner, Competition and Entrepreneurship (Chicago:
University of Chicago Press, 1973), p. 41.
13. Richard Cantillon, Essay on the Nature of Trade in General, trans.
Antoin
E. Murphy (1755; Indianapolis: Liberty Fund, 2015), p. 25.

14. Cantillon, Essay on the Nature of Trade, pp. 24, 25.


15. See the section “Was wheeled baggage late?” in Matt Ridley,
How Innovation Works: And Why It Flourishes in Freedom (New
York: HarperCollins, 2020),
pp. 170–172.

16. William J. Baumol, “Entrepreneurship: Productive,


Unproductive, and Destructive,” Journal of Political Economy,Vol.
98, No. 5, 1990, pt. 1, pp. 893–
921, 904.

245
‫‪17. Baumol,“Entrepreneurship,” pp. 893–921, 916.‬‬
‫وكام ذكر إيتيان دو ال بويسيه يف العام ‪: 1576‬‬ ‫‪.18‬‬
‫كل ما أريده هو فهم كيف يعان الكثري من الرجال‪ ،‬والعديد من القرى‪ ،‬والعديد‬
‫حكم طاغية واحد ال يتمتع بأي سلطة‬ ‫من املدن‪ ،‬والعديد من الدول أحيانًا تحت ُ‬
‫غري السلطة التي مينحونها له؛ فهو ال يستطيع إيذاءهم سوى بالقدر الذي لديهم‬
‫االستعداد لتحمله؛ وال يستطيع أن يُلحق بهم أي أذى عىل اإلطالق إال إذا اختاروا‬
‫الطاغية‪.‬‬ ‫وجه‬ ‫يف‬ ‫الوقوف‬ ‫من‬ ‫بدال‬
‫ً‬ ‫تح ّمله‬
‫(إيتيان دو ال بويسيه‪ ،‬مقالة العبودية الطوعية‪ ،‬ترجمة هاري كورتز (‪1942‬؛‬
‫إنديانابوليس‪ :‬دار نرش لربيت فاند‪ ،)2011 ،‬الصفحة ‪.5‬‬
‫‪https://oll-resources.s3.us-east-2.amazonaws.com/oll3/store/‬‬
‫)‪titles/2250/Boetie_Discourse1520_EBk_v6.0.pdf‬‬

‫‪ .19‬مل تكن نقابات العامل يف القرون الوسطى يف حد ذاتها محبة للتكنولوجيا أو معادية‬
‫لها‪ .‬إمنا قدمت مجموعة من اإلجراءات املؤسسية التي ميكن ألعضائها اتّباعها للتعامل مع‬
‫مآالت االبتكار‪ ،‬س ّيئها وحسنها‪ .‬واعتمد قبول أحد االبتكارات أو معارضته لدى النقابة عىل‬
‫آثاره التوزيعية –فيام إذا مثّل تهدي ًدا لنقابة ضعيفة وأفاد نقاب ًة قوية‪ ،‬أو فيام إذا مثّل تهدي ًدا‬
‫لنقابة حرفية وأفاد مجموعة من التجار‪ ،‬أو ه ّدد موظفي النقابة وأفاد كبار مسؤويل النقابة‪،‬‬
‫أو هدد املسئولني كبار السن وأفاد الشباب‪ ،‬أو هدد الفقراء من أرباب املصالح وأفاد األغنياء‬
‫من املنعزلني‪ ،‬وهدد األعضاء الحرفيني يف النقابة وأفاد األعضاء التجار‪ .‬كام اعتمدت‬
‫النقابات الحرفية عىل األدوات املؤسسية املتاحة ملجموعات املصالح املختلفة‪ :‬عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬أي مجموعات النقابة تحكمت يف الشؤون املالية للنقابة‪ ،‬ومدى تق ّبل النظام القانون‬

‫‪246‬‬
‫للجوء النقابة إىل التقايض‪ ،‬ومدى استجابة مختلف مستويات الحكومة اللتامسات النقابة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مساحات خالية من عمل النقابة‪.‬‬ ‫وما إذا كانت الجيوب القضائية قد خلقت‬

‫(شيال أوغيلفي‪ ،‬النقابات األوروبية‪ :‬تحليل اقتصادي‬

‫(برينستون‪ :‬مطبعة جامعة برينستون‪ ،)2019 ،‬الصفحة ‪)571‬‬

‫يف كتابه مناقب جان كلود ماري فنسنت دي غورناي‪ ،‬الحظ صديقه وطالبه آن روبري جاك‬
‫تريغو أن غورناي أدرك حامقة فرض االحتكارات «واملعايري» عىل السوق التي مل يطلبها‬
‫املستهلكون يف واقع الحال‪ .‬عىل حد تعبري تريغو‪ ،‬فإن غورناي «اندهش عندما علم أن ال‬
‫ميكن ألي مواطن صنع أو بيع أي يشء دون رشاء الحق لفعل ذلك بتكلفة كبرية لدى رشكة‬
‫أوال من نقابة احتكارية الحق يف مزاولة التجارة‬
‫تعني عىل املرء أن يشرتي ً‬ ‫ما»‪ ،‬أي أنه ّ‬
‫وعرض السلع للزبائن الراغبني‪ .‬مل ميكنه تخيل أن هذه القطعة من أي يشء‪ ،‬لعدم توافقها‬
‫مع بعض القوانني‪ ،‬قد تُقطّع إىل أجزاء‪ ،‬وأن الرجل املسكني الذي صنعها يُحكم عليه بدفع‬
‫غرامة من شأنها دفعه وعائلته إىل التسول‪.‬‬
‫(جاك تريغو‪ ،‬مناقب دي غورناي‪ُ ،‬مقتبس من كتاب الليربالية الغربية‪ :‬تاريخ الوثائق من‬
‫لوك إىل كروس‪ ،‬تحرير إي كيه برامستيد وجيه كيه ميلويش (لندن‪ :‬لونغامن‪،)1978 ،‬‬
‫الصفحة ‪.)305‬‬

‫إذا كانت القواعد من شأنها أن تعرقل كسب نسبة كبرية من الرثوة عن‬ ‫‪.20‬‬
‫طريق مزاولة النشاط أ‪ ،‬أو من شأنها أن تُلِحق وصم ًة اجتامعية بالذين ينخرطون‬
‫فيها‪ ،‬عندئذ‪ ،‬وبسبب تساوي األمور‪ ،‬فإن جهود رواد األعامل تتجه إىل أنشطة‬
‫أخرى‪ ،‬ميكننا تسميتها بالنشاط "ب"‪ .‬ولكن إذا كان إسهام النشاط "ب" يف‬
‫اإلنتاج أو الرفاهية أقل من النشاط "أ"‪ ،‬فقد تكون العواقب عىل املجتمع كبرية‪.‬‬
‫(باومول‪ ،‬ريادة األعامل‪ ،‬الصفحات ‪ )898 ،921-893‬تُشري جويس أبلباي إىل‬

‫‪247‬‬
‫تب ّوء هولندا مكان ًة متم ّيزة يف الدفاع املعارص عن كرامة ريادة األعامل‪« .‬اتّسم‬
‫الهولنديون باستعدادهم لرعاية هذا التنظيم االجتامعي املعقد للسوق عرب حامية‬
‫املبادرة الفردية التي ازدهرت بسببها»‪.‬‬

‫تُشري جويس أبلباي إىل تب ّوء هولندا مكان ًة متميّزة يف الدفاع املعارص عن كرامة ريادة‬
‫األعامل‪« .‬اتّسم الهولنديون باستعدادهم لرعاية هذا التنظيم االجتامعي املعقد للسوق عرب‬
‫بسببها»‪.‬‬ ‫ازدهرت‬ ‫التي‬ ‫الفردية‬ ‫املبادرة‬ ‫حامية‬
‫الفكر واأليديولوجيا االقتصادية يف إنجلرتا يف القرن السابع عرش (برينستون‪،‬‬
‫نيوجرييس‪ :‬مطبعة جامعة برينستون‪ ،)1978 ،‬الصفحة ‪.96‬‬

‫‪21 For the significance of the presumption of liberty in modern‬‬


‫‪political thought, see George H. Smith, The System of Liberty‬‬
‫‪(Cambridge: Cambridge University Press, 2013), esp. pp. 16–21.‬‬
‫‪22 Anthony de Jasay, “Liberalism, Loose or Strict,” The Independent‬‬
‫‪Review, Vol. IX, No. 3,Winter 2005, pp. 427–432.‬‬
‫‪23 Jasay, “Liberalism, Loose or Strict,” p. 430.‬‬
‫‪24 Voltaire, Letters Concerning the English Nation, ed. Nicholas Cronk‬‬
‫‪(Oxford: Oxford University Press, 1999), p. 43.‬‬
‫‪25 Gurcharan Das, India Grows at Night: A Liberal Case for a Strong‬‬
‫‪State (New Delhi: Penguin Books, 2012), pp. 171–172.‬‬
‫‪ .26‬مبا أن قوة التبادل هي التي تخلق فرصة تقسيم العمل‪ ،‬فإن مدى هذا التقسيم‬
‫يجب أن يتقيد دامئًا مبدى تلك القوة‪ ،‬أو بعبارة أخرى‪ ،‬مبدى السوق‪ .‬عندما يكون‬
‫ريا ج ًدا‪ ،‬ال يستطيع أي شخص أن يتشجع ويتف ّرغ لوظيفة‬
‫نطاق السوق صغ ً‬
‫‪248‬‬
‫واحدة‪ ،‬بسبب الحاجة إىل القدرة عىل تبادل كامل الجزء الفائض من إنتاج عمله‪،‬‬
‫والذي يزيد عن استهالكه الشخيص‪ ،‬ضمن الفرصة التي تُتيحها تلك األجزاء من‬
‫إنتاج عمل غريه من الرجال‪ .‬مثة صناعات‪ ،‬حتى أبسطها‪ ،‬ال ميكن مزاولتها يف أي‬
‫عمال‬
‫الحامل أن يجد ً‬
‫ّ‬ ‫مكان آخر غري املدن الكبرية‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ال يستطيع‬
‫ومورد رزق يف مكان غري املدينة‪ ،‬فالقرية تُعترب مجاالً ضيقًا ج ًدا بالنسبة له؛ حتى‬
‫عمال مستدا ًما‪ .‬ويف املنازل املنعزلة والقرى‬
‫البلدة ذات السوق‪ ،‬يندر أ ْن توفر له ً‬
‫بلد كمرتفعات اسكتلندا‪ ،‬ينبغي عىل كل‬ ‫الصغرية املنترشة يف األرايض البعيدة يف ٍ‬
‫مزارع أن يضطلع بعمل الج ّزار‪ ،‬والخباز‪ ،‬وصانع البرية يف عائلته‪ .‬يف مثل هذه‬
‫ميال‬
‫البيئة‪ ،‬ناد ًرا ما نجد حدا ًدا‪ ،‬أو نجا ًرا‪ ،‬أو بنّا ًء يعمل يف نطاق أقل من عرشين ً‬
‫من عاملٍ آخر يف نفس الصنعة‪ .‬ويجب عىل العائالت املتناثرة التي تعيش عىل بعد‬
‫مثانية أو عرشة أميال من أقربهم‪ ،‬أن تتعلم أداء عدد كبري من األعامل الصغرية‪،‬‬
‫والتي من أجلها‪ ،‬يضطرون لطلب املساعدة من هؤالء العامل يف البلدان األكرث‬
‫اكتظاظًا بالسكان‪( .‬آدم سميث‪ ،‬بحثٌ يف طبيعة ثروة األمم وأسبابها‪ ،‬تحرير آر‬
‫إيتش كامبل وإيه إس سكيرن‪ ،‬ومحرر النصوص دبليو يب تود‪ ،‬املجلد األول من‬
‫طبعة غالسكو ألعامل ومراسالت آدم سميث (إنديانابوليس‪ ،‬إنديانا)‪ :‬دار نرش‬
‫لبرييت فاند‪ ،)1981 ،‬املجلد األول‪ ،‬الفصل الثالث‪« ،‬تقسيم العمل مقيد بنطاق‬
‫)السوق»‪ ،‬الصفحة ‪31‬‬
‫(آدم سميث‪ ،‬بحثٌ يف طبيعة ثروة األمم وأسبابها‪ ،‬تحرير آر إيتش كامبل وإيه إس سكيرن‪،‬‬
‫ومحرر النصوص دبليو يب تود‪ ،‬املجلد األول من طبعة غالسكو ألعامل ومراسالت آدم‬
‫سميث (إنديانابوليس‪ ،‬إنديانا)‪ :‬دار نرش لبرييت فاند‪ ،)1981 ،‬املجلد األول‪ ،‬الفصل‬
‫الثالث‪« ،‬تقسيم العمل مقيد بنطاق السوق»‪ ،‬الصفحة ‪)31‬‬

‫‪249‬‬
27 McCloskey, Bourgeois Dignity, pp. 174–177.
28 Joseph A. Schumpeter, Capitalism, Socialism and Democracy
(London:Taylor & Francis 2003), p. 132, Kindle Edition Location
2866.
29 Ridley, How Innovation Works, p. 227.
30 Historian Johan Norberg cites some examples of attempts by
rulers to suppress innovations in Open: The Story of Human Progress
(London: Atlantic Books, 2020), pp. 166–188.

‫الفصل الرابع‬

1 Samuel Huntington and Joan Nelson, No Easy Choice: Political


Participation in Developing Countries (Cambridge, MA: Harvard
University Press, 1976), pp. 23, 24. An alternative approach
emphasizes decentralized decision-making. Contrast Huntington’s
and Nelson’s approach with that of Grace Goodell, who stresses
active political involvement within a multiplicity of “fields of
interaction,” which “spring forth out of repeated dealings between
people, and their regularity and intensity can be charted by actual
observations,” Grace Goodell, “The Importance of Political

250
‫‪Participation for Sustained Capitalist Development,” European‬‬
‫‪Journal of Sociology, Vol. 26, No. 1, May 1985, pp. 93–127, 100.‬‬
‫إذا كان األشخاص النشطاء يف مجال التفاعل هم من يحددون ما هو معقول‪ ،‬ومن‬
‫ثم يحددون القانون‪ ،‬فإن هؤالء األشخاص أنفسهم يضمنون إمكانية التنبؤ‬
‫بطريقتني‪ :‬من خالل تقديم تغذية راجعة تحدد القاعدة (ببساطة غال ًبا عن طريق‬
‫االعرتاض عىل السلوك الجديد)‪ ،‬وعن طريق العمل كرقباء ضد تعسف آليات التنسيق‬
‫أو اإلدارة‪)p. 103( .‬‬
‫‪2 Fareed Zakaria, The Future of Freedom: Illiberal Democracy at‬‬
‫‪Home and Abroad, rev. edn. (New York: W. W. Norton & Company,‬‬
‫إن تداعيات ادعاء زكريا غري واضحة‪ .‬فإذا فشلت الدميقراطية ‪2007), p. 61.‬‬
‫وأصبحت دولة استبدادية‪ ،‬فهل سيكون هذا سب ًبا وجي ًها لعدم اعتناق الدميقراطية؟‬
‫‪3 Stephen Haggard, Developmental States (Cambridge: Cambridge‬‬
‫«عىل عكس حقوق امللكية ونهج «سيادة ‪University Press, 2018), p. 48.‬‬
‫القانون»‪ ،‬أكدت أدبيات الدولة التنموية بشدة عىل املديرين التنفيذيني األقوياء –‬
‫‪ p. 6.‬وحتى االستبداديني– والبريوقراطيات املتامسكة أو االستحقاقية أو «الفيربية»‬
‫‪4 Haggard, Developmental States, p. 45.‬‬
‫‪5 F. A. Hayek, “The Use of Knowledge in Society,” in Individualism‬‬
‫‪and Economic Order, ed. Hayek (Chicago: University of Chicago‬‬
‫‪Press, 1980), pp. 78–79, Kindle Edition Location 1162.‬‬

‫‪251‬‬
‫‪6 Adam Smith, Lectures on Jurisprudence, eds. R. L. Meek, D. D.‬‬
‫‪Raphael, and Peter Stein (Indianapolis, IN: Liberty Classics, 1982),‬‬
‫‪p. 352.‬‬
‫‪ 7‬يشري مصطلح السلعة العامة إىل السلع التي يستهلكها الجمهور ويتمتع بها؛ ال‬
‫ينبغي افرتاض أن املصطلح ينطبق عىل ما تقرر هيئة عامة أنه سلعة‪ ،‬الذي قد يستلزم‬
‫التضحية بالكثريين من أجل املتعة الخاصة للقلة‪ ،‬أي توفري سلع خاصة عىل حساب‬
‫اآلخرين‪ .‬يقارن بول سامويلسون بني «السلع االستهالكية الخاصة» و«السلع‬
‫االستهالكية الجامعية )‪ (Xn+1, …, Xn+m‬التي يتمتع بها الجميع بشكل مشرتك‪،‬‬
‫مبعنى أن استهالك كل فرد لهذه السلع ال يؤدي إىل خصم من استهالك أي فرد آخر‬
‫لها»‪ .‬من ‪“The Pure Theory of Public Expenditure,” Review of‬‬
‫–‪Economics and Statistics, Vol. 36, No. 4, November 1954, pp. 387‬‬
‫‪389. Mancur Olson, The Logic of Collective Action (Cambridge, MA:‬‬
‫‪« :)Harvard University Press, 1965‬تعرف السلعة املشرتكة أو الجامعية أو‬
‫العامة هنا عىل أنها أي سلعة إذا استهلكها أي شخص ‪ Xi‬يف مجموعة ‪X1, …, Xi,‬‬
‫‪ ،…, Xn‬فال ميكن أن تحجب عمل ًيا عن اآلخرين يف تلك املجموعة»‪.p. 14 ،‬‬
‫‪8 See W. B. Gallie, “Essentially Contested Concepts,” Proceedings of‬‬
‫‪the Aristotelian Society, Vol. 56, 1955, pp. 167–198.‬‬
‫‪9 Gallie, “Essentially Contested Concepts,” p. 198.‬‬
‫‪10 1936‬‬ ‫‪Constitution‬‬ ‫‪of‬‬ ‫‪the‬‬ ‫‪USSR,‬‬
‫‪www.departments.bucknell.edu/russian/const/1936toc.html,‬‬

‫‪252‬‬
www.departments.bucknell.edu/russian/const/36cons04.html#ch
ap10
11 Zakaria, The Future of Freedom, p. 16.
12 Bertrand de Jouvenel, On Power: Its Nature and the History of Its
Growth (Boston: Beacon Press, 1962), pp. 254–282; J. L. Talmon,
The Origins of Totalitarian Democracy (New York: W. W. Norton &
Co., 1970).
13 Systematic preference falsification has been studied by Timur Kuran
in his study Private Truths, Public Lies: The Social Consequences of
Preference Falsification (Cambridge, MA: Harvard University
Press, 1997).
14 F. A. Hayek, “Individualism: True and False,” in Individualism and
Economic Order, ed. Hayek (Chicago: University of Chicago Press,
1980), pp. 29–30, Kindle Edition Location 452. He continues,
‫أعتقد حقًا أن أحد أهم األسئلة التي يتعني عىل النظرية السياسية أن تكتشف إجابة‬
‫بشأنها يف املستقبل القريب هي إيجاد خط فاصل بني املجاالت التي يجب أن تكون‬
‫ يجب السامح لرأي‬،‫ عىل عكسها‬،‫آراء األغلبية فيها ملزمة للجميع واملجاالت التي‬
‫ وأنا‬.‫األقلية بأن يسود إذا أمكنه تحقيق نتائج تلبي طلب الجمهور بشكل أفضل‬
،‫ بأنه عندما يتعلق األمر مبصالح فرع معني من فروع التجارة‬،‫ قبل كل يشء‬،‫مقتنع‬
‫فإن رأي األغلبية سيكون دامئًا هو الرأي الرجعي الثابت وأن استحقاق املنافسة هو‬

253
‫بالتحديد أنها متنح األقلية فرصة للفوز‪ .‬إذا كان بإمكانها القيام بذلك دون أي سلطات‬
‫قرسية‪ ،‬فيجب أن يكون لها الحق يف ذلك دامئًا‪.‬‬
‫”‪15 James Buchanan, “Social Choice, Democracy, and Free Markets,‬‬
‫‪Journal of Political Economy, Vol. 62, April 1954, pp. 114–123,‬‬
‫‪reprinted in The Collected Works of James Buchanan, Vol. I, The‬‬
‫‪Logical Foundations of Constitutional Liberty (Indianapolis, IN:‬‬
‫يعترب بوكانان أن نظرية االستحالة ‪Liberty Fund, 1999), pp. 89–102, 97.‬‬
‫‪:‬املرتبطة بكينيث أرو ليست نقطة ضعف يف العمليات الدميقراطية‪ ،‬بل نقطة قوة‬

‫إن تعريف الدميقراطية عىل أنها «حكم بالنقاش» يعني أن القيم الفردية ميكن أن تتغري‪،‬‬
‫وتتغري بالفعل‪ ،‬يف عملية صنع القرار‪ .‬يجب أن يكون الرجال أحرا ًرا يف االختيار‪ ،‬وأن‬
‫يكون لديهم عقل متفتح إذا كان لآللية الدميقراطية أن تعمل عىل اإلطالق‪ .‬إذا كانت القيم‬
‫الفردية يف مفهوم أرو لرتتيب جميع البدائل االجتامعية ثابتة‪ ،‬يصبح النقاش بال معنى‪.‬‬
‫شامال ألكرث من النشاط السابق للتصويت األويل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ويجب اعتبار النقاش‬

‫‪ 16‬ال يعني هذا أن صالحيات وعضوية هذه الهيئات ليست مسألة اختيار عام عىل‬
‫اإلطالق‪ ،‬فبينام ميكن تعيني أعضاء هذه الهيئات لفرتات طويلة –ملدى الحياة حتى–‬
‫يظل اختيارهم األويل‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬مسألة اختيار عام‪ .‬قد تتداخل إجراءات االختيار مع‬
‫االنتخابات الشعبية وقد يعتمد هؤالء املختارون إىل حد كبري عىل «البريوقراطيات‬
‫الفيربية» التي تدعو إىل متجيد الدولة التنموية‪ ،‬ولكن مع وظيفة‪ ،‬ليس تخصيص‬
‫رأس املال‪ ،‬وإمنا اإلرشاف عىل العمليات االنتخابية‪.‬‬

‫‪254‬‬
17 Mancur Olson, “Democracy, Dictatorship, and Development,”
American Political Science Review, Vol. 87, No. 3, September 1993,
pp. 567–576, 569.
18 William Easterly and Steven Pennings, “Shrinking dictators: how
much economic growth can we attribute to national leaders?” Paper
presented at Annual Bank Conference on Development Economics
2018: Political Incentives and Development Outcomes, June 25–26,
2018, Washington, DC, p. 26,
https://pubdocs.worldbank.org/en/265381528721163955/EP2
018ayLeadersFinal.pdf. See also William Easterly, “Benevolent
Autocrats,” NYU Development Research Institute, DRI Working
Paper No. 75,
2011,https://wp.nyu.edu/dri/2011/05/31/publications-
benevolent-autocrats/.

‫الفصل الخامس‬

1 Morton H. Halperin, Joseph T. Siegle, and Michael M. Weinstein, The


Democracy Advantage: How Democracies Promote Prosperity and
Peace (New York: Routledge, 2010), Kindle Edition, location 828.

255
‫‪Halperin, Siegle, and Weinstein, The Democracy Advantage, location 2‬‬
‫‪ 895.‬اعترب أحد املدافعني عن الدوالنية االستبدادية‪ ،‬عامل النفس السلويك ب‪ .‬ف‪.‬‬
‫سكيرن‪ ،‬الدليل من هذا النوع خارج عن املوضوع األسايس ألن «الخطأ الحقيقي هو‬
‫التوقف عن املحاولة»‪ .‬وزعم أنه‬
‫إذا فشلت االقتصادات املخططة‪ ،‬والديكتاتوريات الخريية‪ ،‬واملجتمعات املثالية‪،‬‬
‫واملشاريع الطوباوية األخرى‪ ،‬يجب أن نتذكر أن الثقافات غري املخططة وغري‬
‫الديكتاتورية وغري املثالية قد فشلت أيضً ا‪ .‬الفشل ليس خطأ دامئًا؛ قد يكون‬
‫ببساطة أفضل ما ميكن أن يفعله املرء يف ظل الظروف املحيطة‪ .‬الخطأ‬
‫الحقيقي هو التوقف عن املحاولة‪.‬‬
‫‪(B. F. Skinner, Beyond Freedom and Dignity (New York: Vintage‬‬
‫)‪Books, 1971), p. 148‬‬
‫‪3 Halperin, Siegle, and Weinstein, The Democracy Advantage, location‬‬
‫‪4319, Appendix C.‬‬
‫‪4 Halperin, Siegle, and Weinstein, The Democracy Advantage, location‬‬
‫‪4326, Appendix C.‬‬
‫‪5 World‬‬ ‫‪Bank,‬‬ ‫‪Metadata‬‬ ‫‪Glossary,‬‬
‫‪https://databank.worldbank.org/metadataglossary/gender-‬‬
‫‪statistics/series/NY.GDP.MKTP.CD.‬‬
‫‪ 6‬تقوض دراسات أخرى االعتقاد السائد بأن «القادة» مسؤولون عن النتائج االقتصادية‬
‫فمثال‪ ،‬حللت ستيفان م‪ .‬ريزو وأحمد صقيل مجموعات بيانات أكرب حول‬
‫ً‬ ‫اإليجابية‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫«النمو االقتصادي واألنظمة السياسية والقادة السياسيني خالل الفرتة ‪-1858‬‬
‫‪ »2010‬ووجدا أن‬

‫املستبدون اإليجابيون للنمو‪ ،‬أولئك القادة الذين تشهد بلدانهم من ًوا‬


‫اقتصاديًا أكرب من املتوسط‪ ،‬ال يوجدون إال بنا ًء عىل الصدفة وحدها‪ .‬وهذه‬
‫النتيجة قوية للعديد من التعريفات البديلة لألنظمة السياسية‪ ،‬وأيضً ا‬
‫للمقاييس البديلة للنجاح االقتصادي‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ال نجد أي دليل يشري إىل‬
‫أن القادة املستبدين ينجحون يف تحقيق النمو االقتصادي بأي طريقة‬
‫منهجية‪ .‬يف املقابل‪ ،‬نظهر أن املستبدين السلبيني للنمو يوجدون بشكل‬
‫ملحوظ أكرث مام تتوقعه الصدفة‪.‬‬

‫‪(Stephanie M. Rizo and Almed Skali, “How Often Do Dictators Have‬‬


‫‪Positive Economic Effects? Global Evidence, 1858–2010,” The‬‬
‫(‪Leadership Quarterly, Vol. 31, 2020, pp. 1–18, 2‬‬
‫‪7 Halperin, Siegle, and Weinstein, The Democracy Advantage, location‬‬
‫‪851.‬‬
‫‪ 8‬ال توجد مشاكل االلتزام يف السياسة فحسب‪ ،‬بل توجد أيضً ا يف جميع مجاالت الحياة‬
‫االجتامعية‪ .‬متتلك جميع املعامالت االقتصادية تقري ًبا بع ًدا زمن ًيا‪ .‬يسلم التجار عاد ًة‬
‫البضائع اليوم ولكنهم يتلقون الدفع غ ًدا‪ .‬تنشأ مشكلة االلتزام إذا وعد العمالء بسداد‬
‫دفعة غ ًدا‪ ،‬ولكن عندما يأيت الغد‪ ،‬ال يكون الدفع من مصلحتهم‪ .‬يف هذه الحالة‪،‬‬

‫‪257‬‬
‫يرتاجعون عن وعودهم ويفشلون يف الدفع‪ .‬ولذلك‪ ،‬هناك مجال رحب ملشاكل االلتزام‬
‫يف العالقات االجتامعية واالقتصادية‪.‬‬
‫‪(Daron Acemoglu and James A. Robinson, Economic Origins of‬‬
‫‪Dictatorship and Democracy (Cambridge: Cambridge University‬‬
‫‪Press, 2006), p. 134‬‬
‫‪9 Douglass C. North and Barry Weingast, “Constitutions and‬‬
‫‪Commitment: The Evolution of Institutions Governing Public Choice‬‬
‫‪in SeventeenthCentury England,” The Journal of Economic History,‬‬
‫‪Vol. XLIX, No. 4, December 1989, pp. 803–832.‬‬
‫‪10 Ronald J. Gilson and Curtis J. Milhaupt, “Economically Benevolent‬‬
‫‪Dictators: Lessons for Developing Countries,” The American Journal‬‬
‫‪of Comparative Law, Vol. 59, No. 1, Winter 2011, pp. 227–288, 229.‬‬
‫كام أشارا‪ ،‬رمبا كانت الدوافع الخريية املزعومة مسألة «حظ محض»‪ ،‬ما يجعلها‬
‫‪.‬أساسا ضعيفًا إىل حد ما السرتاتيجية التنمية‬
‫ً‬
‫‪ 11‬تجدر اإلشارة إىل االدعاء املثري للجدل لغيلسون وميلهوبت بأنه «منذ التسعينيات حتى‬
‫الوقت الحارض‪ ،‬كان النمو الصيني بقيادة الدولة‪ .‬وركزت اإلصالحات يف املرحلة‬
‫الثانية عىل تحسني أداء املؤسسات اململوكة للدولة أو التابعة لها وتوسيع االستثامر‬
‫األجنبي املبارش » (ص‪ .)260 .‬وفقًا لفحص دقيق لحسابات املؤسسات اململوكة‬
‫للدولة )‪ (SOEs‬يف الصني‪ ،‬مبا يف ذلك اإلعانات املمنوحة للمؤسسات اململوكة للدولة‪،‬‬
‫التي تتلقى معاملة رضيبية تفضيلية‪ ،‬وال تدفع إيجارات األرايض أو إيجارات املوارد‪،‬‬

‫‪258‬‬
‫ خلص االقتصاديان الصينيان شنغ هونغ وتشاو‬،‫وتدفع أسعار فائدة أقل لبنوك الدولة‬
‫نونغ إىل أن الرشكات اململوكة للدولة تخرس املال فعل ًيا و«تلعب دو ًرا سلب ًيا يف توزيع‬
Zhao Nong, China’s StateOwned Sheng Hong and .»‫الدخل‬
Enterprises: Nature, Performance and Reform (Singapore: World
Scientific Publishing, 2013), p. 124
12 Global Index of Economic Mentality, preliminary findings,
www.atlasnetwork.org/assets/uploads/misc/GIEMREVISED4.pdf.
13 Manuel Hinds, In Defense of Liberal Democracy (Watertown, MA:
Imagine Books, 2021), pp. 79–83.
14 Headlines from Die Welt, Le Point, Folha de São Paulo, and The
Washington Post: “Europas Taxifahrer streiken gegen Uber”
www.welt.de/wirtschaft/gallery128968543/Europas-Taxifahrer-
streiken-gegen-Uber.html; “Taxis contre Uber: « On est dans une
situation de concurrence illicite » www.lepoint.fr/editos-du-
point/laurence-neuer/taxis-contre-uber-on-est-dans-une-
situation-de-concurrence-illicite-20-07-2020-2384856_56.php; «
Alvo de críticas de taxistas, Uber abre escritório em São Paulo,”
www1.folha.uol.com.br/tec/2014/08/1500063-alvo-de-criticas-
de-taxistas-uber-abre-escritorio-em-sao-paulo.shtml; “Cab
companies unite against Uber and other ride-share services,”

259
‫‪www.washingtonpost.com/local/trafficandcommuting/cab-‬‬
‫‪companies-unite-against-uber-and-other-ride-share-‬‬
‫‪services/2014/08/10/11b23d52-1e3f-11e4-82f9-‬‬
‫‪2cd6fa8da5c4_story.html.‬‬
‫‪15 Mancur Olson, Power and Prosperity (New York: Perseus Books,‬‬
‫‪2000), p. 16.‬‬
‫‪16‬‬
‫يقرتح تفسرينا األسايس لألدلة أن الحكومات املحدودة تسمح بنمو أرسع للمدن ألنها‬
‫ريا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬قد يوجهنا أحد التأثريات‬
‫متيل إىل فرض معدالت رضائب أقل وأقل تدم ً‬
‫إىل اتجاه يقرتح أن معدالت الرضائب املنخفضة ميكن أن توجد تحت حكم األمراء‬
‫املطلقني‪ .‬قد يكون لدى األمراء املطلقني أفق زمني أطول من التجار إذا كانت أعاملهم‬
‫قصرية العمر نسب ًيا مع انتقال ماملكهم إىل أطفالهم‪ .‬نتيج ًة لذلك‪ ،‬قد يهتم األمراء‬
‫املطلقون املنتمون إىل سالالت مستقرة باالزدهار االقتصادي الحايل واملستقبيل ألنه‬
‫يزيد من القاعدة الرضيبية املستقبلية‪ .‬إذا اهتم األمراء املطلقون باملدى الطويل أكرث‬
‫مام يهتم التجار أو الطبقات االجتامعية‪ ،‬سيميلون إىل فرض معدالت رضيبية أقل‬
‫وتعزيز النمو االقتصادي‪ .‬رغم أن هذه الحجة جذابة نظريًا‪ ،‬يبدو أنها خاطئة‬
‫تجريب ًيا‪ .‬فمن الخطأ االعتقاد أن األمراء يؤسسون سالالت مستقرة‪ .‬يف أوروبا‪ ،‬كانت‬
‫اآلفاق الزمنية لألمراء قصرية‪.‬‬

‫‪260‬‬
(J. Bradford DeLong and Andrei Schleifer, “Princes and Merchants:
European City Growth Before the Industrial Revolution,” Journal of
Law and Economics, Vol. XXXVI, October 1993, pp. 671–702, 699(
‫إنهم يختربون أطروحتهم القائلة بأن اآلفاق الزمنية للمستبدين قصرية بسبب الخالفة‬
:‫غري املؤكدة من خالل النظر يف واحدة من أقوى وأطول األنظمة امللكية يف أوروبا‬
‫ أظهر فحص قامئة الحكام اإلنجليز ملدة خمسمئة عام أنه «مل يتجاوز‬.‫مملكة إنجلرتا‬
)‫احتامل انتقال العرش اإلنجليزي بسالم إىل الحفيد الرشعي (أو وريث الجيل الثان‬
.700 .‫ ص‬،»‫ باملئة‬22 ‫ألي ملك نسبة‬
17 Joel Mokyr, “Progress, Useful Knowledge, and the Origins of the
Industrial Revolution,” in, Institutions, Innovation, and
Industrialization, eds. Avner Greif ,Lynne Kiesling, and John V. C.
Nye (Princeton: Princeton University Press ,)2015 ,pp. 33–67.
18 Mokyr describes the condition for the creation and dissemination of
useful knowledge as “political fragmentation within an intellectually
unified market,” Joel Mokyr, “Culture, Institutions, and Modern
Growth,” in Institutions, Property Rights, and Economic Growth, eds.
Sebastiani Galiani and Itai Sened (Cambridge: Cambridge University
Press, 2014), pp. 151–191, 176. See also Joel Mokyr, A Culture of
Growth: The Origins of the Modern Economy (Princeton, NJ:
Princeton University Press, 2017),

261
‫ املفهوم القائل‬:‫ عىل فكرتني مبتكرتني ومتكاملتني للغاية‬... ‫انطوى التنوير األورويب‬
‫بأن املعرفة وفهم الطبيعة ميكن ويجب استخدامهام لتعزيز الظروف املادية‬
‫ واالعتقاد بأن السلطة والحكومة ليستا لخدمة األغنياء واألقوياء بل لخدمة‬،‫لإلنسانية‬
)341 .‫ (ص‬.‫املجتمع ككل‬
19 J. B. Bury, The Idea of Progress: An Inquiry into Its Growth and Origin
(New York: Dover Publications, 1955), p. 236.
20 The distinction is at the center of Thráinn Eggertsson’s Imperfect
Institutions: Possibilities and Limits of Reform (Ann Arbor, MI:
University of Michigan Press, 2005).
21 George B. N. Ayittey, “African Peasants and the Market System,”
Humane Studies Review, Vol. 5, No. 3, April 1988, p. 5.
22 Olúfémi Táíwò, How Colonialism Preempted Modernity in Africa
(Bloomington, IN: Indiana University Press, 2010), p. 186. The
harmful legacy of indirect rule and the stifling of indigenous forms of
accountable government is described in detail by George B. N.
Ayittey in Indigenous African Institutions (Ardsley-on-Hudson:
Transnational Publishers, 1991).
23 In A. S. P. Woodhouse, ed., Puritanism and Liberty: Being the Army
Debates (1647) from the Clarke Manuscripts with Supplementary
Documents (London: J. M. Dent & Sons, Ltd., 1992), p. 53.

262
24 George B. N. Ayittey, Africa Unchained: The Blueprint for Africa’s
Future (New York: Palgrave Macmillan, 2005), p. 334.
25 Josiah Ober, “Democracy’s Dignity,” American Political Science
Review, Vol. 106, No. 4, November 2012, pp. 827–846.
26 Ober, “Democracy’s Dignity,” pp. 831–832.
27 Demosthenes, “Against Meidias,” Orations XXI–XXVI, trans. J. H.
Vince (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1935), 221–222,
pp. 147–149.
‫(» يف ترجمة فينس‬State) ‫(» بكلمة «دولة‬Polity) ‫لقد استبدلنا كلمة «كيان سيايس‬
‫ كانت‬،‫ نستخدم أيضً ا «هو» و«له» ألنه يف ذلك الوقت‬.‫لتجنب مفارقة تاريخية مزعجة‬
‫ رغم ميل النساء يف مثل هذه‬،‫ وليس جميعهم‬،‫هذه التوقعات تخص الرجال‬
‫املجتمعات إىل التمتع بحقوق أكرث وكرامة أكرث من غريهن يف املجتمعات األخرى‬
.‫حيث سمحت الحالة املتدهورة للرجال بإهانة املرأة وإذاللها أكرث‬
28 Demosthenes, “Against Meidias,” 224–225, p. 149.
29 Aristotle, The Politics, trans. Carnes Lord (2nd ed., Chicago:
University of Chicago Press, 2013), VI, 2, pp. 172–173. ‫اشتهر فوستل‬
‫ وال الحرية‬،‫ الحرية يف الحياة الخاصة‬... ‫دي كوالنج بادعائه أن «القدماء مل يعرفوا‬
‫ فاإلنسان كان قليل األهمية أمام تلك السلطة املقدسة‬.‫ وال الحرية الدينية‬،‫يف التعليم‬
»‫ وشبه اإللهية التي كانت تسمى البلد أو الدولة‬Fustel de Coulanges, Numa
Denis Fustel de Coulanges, The Ancient City (New York: Doubleday

263
Anchor, 1956), p. 222 ‫ عىل األقل فيام يتعلق بالدميقراطية‬،‫دحض هذا االدعاء‬
‫ بشكل فعال بواسطة‬،‫ األثينية‬Mogens Herman Hansen, The Athenian
Democracy in the Age of Demosthenes (Norman, OK: University of
Oklahoma Press, 1999), and by Kurt Raaflaub, The Discovery of
Freedom in Ancient Greece (Chicago: University of Chicago Press,
2004).
30 Benjamin Constant, The Liberty of the Ancients Compared to That of
the Moderns (1816; Indianapolis, IN: Liberty Fund, 2011), p. 6
https://oll-resources.s3.us-
east2.amazonaws.com/oll3/store/titles/2251/Constant_Liberty15
21_EBk_v6.0.pdf

31 Constant, The Liberty of the Ancients, p. 17

‫الفصل السادس‬
1. Nina Munk, The Idealist: Jeffrey Sachs and the Quest to End Poverty
(New York: Doubleday, 2013), p. 135.
2. Ben Ramalingam, Aid on the Edge of Chaos (Oxford: Oxford
University Press, 2013), p. 89.
3. Michael Woolcock and Kate Bridges, “How (Not) to Fix Problems
That Matter: Assessing and Responding to Malawi’s History of

264
Institutional Reform,” World Bank Group, December 2017, p. 2,
https://openknowledge.
worldbank.org/bitstream/handle/10986/29111/WPS8289.pdf?s
equence=1.
4. Nathan Nunn, “Rethinking Economic Development,” Canadian
Journal of Economics, November 2019, Vol. 52, No. 4, pp. 1349–
1373.
5. Nunn citing Clay, E. J., M. Geddes, and L. Natali (2009) “Aid
untying: Is it working? An evaluation of the implementation of the
Paris Declaration and of the 2001 DAC recommendation of untying
ODA to the IDCs,” Danish Institute for International Studies, p.
1351.
6. Nunn, “Aid untying: Is it working?” p. 1352.
7. Nunn, “Aid untying: Is it working?” p. 1354.
8. “Net ODA received (% of central government expense) – Tanzania,”
Development Assistance Committee of the Organisation for
Economic Co-operation and Development, Geographical
Distribution of Financial Flows to Developing Countries,
Development Co-operation Report, and International Development
Statistics database. Data are available online at:
oecd.org/dac/stats/idsonline. IMF central government expense

265
estimates are used for the denominator.
https://data.worldbank.org/indicator/DT.ODA.
ODAT.XP.ZS?locations=TZ.
9. Angus Deaton, The Great Escape (Princeton, NJ: Princeton
University Press, 2013), p. 302.
10. Linda Polman, The Crisis Caravan (New York: Picador, 2010).
11. Emma Mawdsley, From Recipients to Donors: Emerging
Powers and the Changing Landscape of Aid (London: Zed Books,
2012), p. 3.
12. “Time to Decolonise Aid: Insights and Lessons from a Global
Consultation,” www.peacedirect.org/wp-
content/uploads/2021/05/PD-DecolonisingAid-Report.pdf.
13. The New York Times editorial board, “Foreign Aid Is Having a
Reckoning,” February 21,
2021.www.nytimes.com/2021/02/13/opinion/africa-foreignaid-
philanthropy.html.
14. Mauricio Miller, The Alternative: Most of What You Believe
about Poverty Is Wrong (Morrisville, NC: Lulu Publishing, 2017), p.
125.
15. Mawdsley, From Recipients to Donors, p. 6.

266
16. Pablo Yanguas, Why We Lie about Aid (London: Zed Books,
2018), p. 39.
17. Peter Boettke, The Struggle for a Better World (Arlington:
Mercatus Center at George Mason University, 2021), p. 163.
18. Mario Rizzo and Glen Whitman, Escaping Paternalism:
Rationality, Behavioral Economics, and Public Policy (Cambridge:
Cambridge University Press, 2020), p. 19.
19. Rizzo and Whitman, Escaping Paternalism, p. 20.
20. William Easterly, The Tyranny of Experts: Economists,
Dictators, and the Forgotten Rights of the Poor (New York: Basic
Books, 2013), p. 350.
21. Ramalingam, Aid on the Edge of Chaos, p. 128.
22. Ramalingam, Aid on the Edge of Chaos, p. 80.
23. Interview of John Kenneth Galbraith by John Newark in
Aurora Online, in Interviews with John Kenneth Galbraith, eds.
James Ronald Stanfield and Jaqueline Bloom Stanfield (Jackson:
University of Mississippi Press, 2004), p. 156.
24. Munk, The Idealist, p. 203.
25. Munk, The Idealist, p. 128.
26. C. Barnett et al., “Impact Evaluation of the SADA Millennium
Villages Project in Northern Ghana: Endline Summary Report,”

267
Brighton: Itad., 2018,
https://opendocs.ids.ac.uk/opendocs/handle/20.500.12413/140
60.
27. Munk, The Idealist, p. 52.
28. Dan Honig, Navigation by Judgment (Oxford: Oxford
University Press, 2018), p. 24.
29. Honig, Navigation by Judgment, p. 26.
30. Marvin Weisbord,Productive Workplaces (San Francisco:
Jossey-Bass, 2012), p. 98.
31. Weisbord, Productive Workplaces, p. 98.
32. Ramalingam, Aid on the Edge of Chaos, p. 15.
33. Ramalingam, Aid on the Edge of Chaos, p. 15.

‫الفصل السابع‬

1. Derek Fee, How to Manage an Aid Exit Strategy: The Future of


Development Aid (London: Zed Books, 2012), p. 65.
2. Fee, How to Manage an Aid Exit Strategy, p. 65.
3. Prof. Steve Jones at Royal Society, March 8, 2010, viewable on
YouTube:www. youtube.com/watch?v=0ZlQybxkTGM&t=361s.

268
4. William Easterly, The Tyranny of Experts: Economists, Dictators,
and the Forgotten Rights of the Poor (New York: Basic Books, 2013),
p. 28.
5. Ben Ramalingam, Aid on the Edge of Chaos (Oxford: Oxford
University Press, 2013), p. 362.
6. Matt Andrews, Lant Pritchett, and Michael Woolcock,Building State
Capability (Oxford: Oxford University Press, 2017), p. 44.
7. Andrews, Pritchett, and Woolcock, Building State Capability, p. 45.
8. Ivan Krastev and Stephen Holmes, The Light That Failed: Why the
West Is
9. Losing the Fight for Democracy (London: Penguin, 2020), p. 9. 9
Krastev and Holmes, The Light That Failed, p. 73.
10. Krastev and Holmes, The Light That Failed, p. 73.
11. Krastev and Holmes, The Light That Failed, p. 74.
12. Krastev and Holmes, The Light That Failed, p. 5. This is
especially galling to students of Central Europe who know the deep
traditions of liberalism there. See, for example, József Eötvös, The
Dominant Ideas of the Nineteenth Century and Their Influence on
the State, trans. Elizabeth A. Drummond (1851–1854; New York:
Columbia University Press, 1996).
13. Edmund Fawcett, Liberalism: The Life of an Idea (2nd ed.,
Princeton, NJ: Princeton University Press, 2018), p. xiii.

269
14. Organisation for Economic Co-operation and Development,
“The Paris Declaration on Aid Effectiveness and Accra Agenda for
Action,” accessed October 14, 2021.
www.oecd.org/dac/effectiveness/34428351.pdf.
15. Organisation for Economic Co-operation and Development,
“The Accra Agenda for Action,” p. 1, accessed October 14, 2021.
www.oecd.org/dac/ effectiveness/45827311.pdf.
16. Andrews, Pritchett, and Woolcock, Building State Capability,
pp. 104–106.
17. Abhijit Banerjee et al., “Remedying Education: Evidence from
Two Randomized Experiments in India,” National Bureau of
Economic Research. December 2005.
18. Abhijit Banerjee et al., “Putting a Bandaid on a Corpse:
Incentives for Nurses in the Indian Public Health Care System,”
Journal of the European Economic Association, Vol. 6, No. 2–3, 1
May 2008, pp. 487–500, https://doi.org/
10.1162/JEEA.2008.6.2-3.487.
19. Warren Weaver, “Science and Complexity,” American
Scientist, Vol. 36, 1948, p. 536,
https://people.physics.anu.edu.au/~tas110/Teaching/Lectures/
L1/Material/WEAVER1947.pdf.
20. Weaver, “Science and Complexity,” p. 5.

270
21. Michael Blastland, The Hidden Half (London: Atlantic Books,
2020), p. 6.
22. Blastland, The Hidden Half, p. 7.
23. For more on this, start with John P. A. Ionnidis, “Why Most
Published Findings Are False,” PLoS Medicine, August 30, 2015,
https://journals.plos.
org/plosmedicine/article?id=10.1371/journal.pmed.0020124.
24. Blastland, The Hidden Half, p. 10.
25. Blastland, The Hidden Half, p. 11.
26. Thomas Schelling, Micromotives and Macrobehaviors (New
York: W.W. Norton & Company, 2006 edition of 1978 volume), p.
14.
27. Definition taken from the curriculum at time marker 0:12 in a
video lecture presented as part of Unit 1.6 for the course “An
Introduction to Agent-Based Modeling,” with instructor Bill Rand in
association with Santa Fe Institute,
www.youtube.com/watch?v=DPpy_nZ1L54&t=12s.
28. Blastland, The Hidden Half, p. 12.
29. John Miller and Scott Page, Complex Adaptive Systems
(Princeton, NJ: Princeton University Press, 2007), p. 14.
30. Blastland, The Hidden Half, p. 12.
31. Based on the author’s use of Forest Fire from Models Library
in NetLogo 6.2.4.
271
32. Eric Beinhocker, The Origin of Wealth: Evolution, Complexity,
and the Radical Remaking of Economics (London: Random House
Business Books, 2007), p. 91.
33. William Easterly, Ariell Reshef, and Julia Schwenkenberg,
“The Power of Exports,” The World Bank, 2009,
https://openknowledge.worldbank.org/
bitstream/handle/10986/4273/WPS5081.pdf?sequence=1.
34. Easterly, Reshef, and Schwenkenberg, “The Power of
Exports,” p. 19.
35. Miller and Page, Complex Adaptive Systems, p. 50.

‫الفصل الثامن‬

1 Clifford Geertz, Local Knowledge: Further Essays in Interpretative


Anthropology (New York: Basic Books, 1982), p. 74.

2 Geertz, Local Knowledge, p. 74.

3 Geertz, Local Knowledge, p. 75.

4 Based on an interview of Verónica Cañales conducted in Mercado


Mayorista, Canete, Peru, in October 2019 by Daniel Anthony. Printed
with permission.

272
5 Pablo Yanguas, Why We Lie about Aid (London: Zed Books, 2018), p.
75.

6 Walter Powell, Kelly Packalen, and Kjersten Whittington (2012: 434)


cited in W. Richard Scott, Institutions and Organizations (4th ed., Los
Angeles: Sage, 2014), p. 113.

7 James Caton and Edward J. Lopez, “The Cognitive Dimension of


Institutions,” 15 July 2018. Available at SSRN:
https://ssrn.com/abstract=3214278 or
http://dx.doi.org/10.2139/ssrn.3214278.

8 Scott, Institutions and Organizations, p. 59.

9 Viviana Zelizer, “Human Values and the Market: The Case of Life
Insurance in the 19th Century,” American Journal of Sociology, Vol. 84,
No. 3, November 1978, pp. 591–610.

10 Nina Munk, The Idealist: Jeffrey Sachs and the Quest to End Poverty
(New York: Anchor Books, 2013), pp. 53–54.

11 Scott, Institutions and Organizations, quoting Swedberg on p. 15.

12 Avner Greif, Institutions and the Path to the Modern Economy: Lessons
from Medieval Trade (Cambridge: Cambridge University Press, 2006), p.
17.

13 Greif, Institutions and the Path to the Modern Economy, p. 17.

273
14 Patrick Heller and Vijayendra Rao, Deliberation and Development:
Rethinking the Role of Voice and Collective Action in Unequal Societies
(Washington: World Bank Group, 2015), p. 5.

15 Heller and Rao, Deliberation and Development, p. 5.

16 Scott, Institutions and Organizations, p. 70.

17 Scott, Institutions and Organizations, p. 72.

18 Heller and Rao, Deliberation and Development, p. 9.

19 Heller and Rao, Deliberation and Development, p. 11.

20 Jeremy Shapiro, “The Impact of Recipient Choice on Aid


Effectiveness,” World Development, Vol. 116, April 2019, pp. 137–149,
https://doi.org/10.1016/j.worlddev.2018.10.010.

21 Shapiro, “The Impact of Recipient Choice,” p. 138.

22 Jeremy Shapiro, “Exploring Recipient Preferences and Allocation


Mechanisms in the Distribution of Development Aid,” World Development
Economic Review, Vol. 34, Oxford, 2019, pp. 1–18.

23 Mauricio Miller, The Alternative: Most of What You Believe about


Poverty Is Wrong (Morrisville, NC: Lulu Publishing, 2017), pp. 138–139.

24 Louis Menand, The Metaphysical Club: A Story of Ideas in America


(New York: FSG, 2001), p. 311.

274
25 Gretchen Morgenson and Joshua Rosner, Reckless Endangerment:
How Outsized Ambition, Greed, and Corruption Led to Economic
Armageddon (New York: Times Books, Henry Holt & Co., 2011), pp. 2–3.

26 Lew Sichelman, “Bush to Offer Zero Down FHA Loan,” Realty Times,
January 20, 2004,
http://realtytimes.com/rtpages/20040120_zerodown.htm.

27 See also Johan Norberg, Financial Fiasco: How America’s Infatuation


with Home Ownership and Easy Money Created the Economic Crisis
(Washington, DC: Cato Institute, 2009) and Jeffrey Friedman and
Wladimir Kraus, Engineering the Financial Crisis: Systemic Risk and the
Failure of Regulation (Philadelphia, PA: University of Pennsylvania
Press, 2011).

28 Monique Sternin, Jerry Sternin, and Richard Pascale, The Power of


Positive Deviance: How Unlikely Innovators Solve the World’s Toughest
Problems (Boston: Harvard University Press, 2010), p. 19.

29 Duncan Green, How Change Happens (Oxford: Oxford University


Press, 2016), p. 25.

30 Eric Beinhocker, The Origin of Wealth (Boston: Harvard Business


School Press, 2006), p. 15.

275
31 Grace Goodell, “The Importance of Political Participation for
Sustained Capitalist Development,” European Journal of Sociology, Vol.
26, May 1985, p. 107.

32 Goodell, “The Importance of Political Participation,” pp. 108–109.

‫الفصل التاسع‬

‫ استنا ًدا إىل مقابلة أجراها غوبيكريشنان ناير وأيويش جاين مع ريكا داي يف‬-1
.‫ طبعت بعد الحصول عىل اإلذن‬.2019 ‫دهرادون يف الهند يف يونيو عام‬
Louis Menand, The Metaphysical Club: A Story of Ideas in America -2
.(New York: FSG, 2001), p. 431
W. Richard Scott, Institutions and Organizations (4th ed., Los -3
.Angeles: Sage, 2014), p. 126
Everett Rogers, Diffusion of Innovations (5th ed., New York: Free -4
.Press, 2003), pp. 269–271
Scott, Institutions and Organizations, p. 156 citing David Strang, -5
Learning by Example: Imitation and Innovation at a Global Bank
.(Princeton: Princeton University Press, 2010)
Deepa Narayan et al.,Voices of the Poor: Can Anyone Hear Us? -6
.(Oxford: Oxford University Press, 2000), p. 273

276
Deepa Narayan and Patti Petesch,Voices of the Poor: From Many -7
.Lands (Oxford: Oxford University Press, 2002), p. 492
George B. N. Ayittey, Applied Economics for Africa, 2018, -8
www.africanliberty. org/wp-
content/uploads/Applied%20Economics%20for%20Africa.%20
.African%20Liberty.pdf
.Ayittey, Applied Economics for Africa, p. 264 -9
Ning Wang and Ronald Coase, How China Became Capitalist -10
.(London: Palgrave McMillan, 2012)
The process is described in Kate Zhou’s China’s Long March to -11
Freedom: Grassroots Modernization (New Brunswick: Transaction
.Publishers, 2009)
Sheng Hong and Zhao Nong, China’s State-Owned Enterprises: -12
Nature, Performance, and Reform (Singapore: World Scientific
.Publishing Co., 2009), p. 124
George Calhoun, “The Sad End of Jack Ma, Inc.,” Forbes, June -13
7, 2021, www.
forbes.com/sites/georgecalhoun/2021/06/07/the-sad-end-of-
.jack-ma-inc/ ?sh=66847ce9123a
Adam Ferguson, An Essay on the History of Civil Society (5th -14
ed., London: T. Cadell, 1782),

277
https://oll.libertyfund.org/title/ferguson-an-essay-on-
.thehistory-of-civil society#Ferguson_1229_388

‫الفصل العارش‬

1 For a quick glance summary of the dominant theories and potential


subdomains of entrepreneurship, see Steven Gedeon’s “What Is
Entrepreneurship?” Entrepreneurial Practice Review, Vol. 1, No. 3, 2010, pp.
16–35.

2 Vasily Grossman, Life and Fate: A Novel, trans. Robert Chandler (New York:
Harper & Row, 1987), p. 230.

3 William Baumol, “Entrepreneurship: Productive, Unproductive, and


Destructive,” Journal of Political Economy, Vol. 98, No. 5, 1990, pp. 893–921.

4 Baumol, “Entrepreneurship,” p. 901.

5 For one example, see Russell Sobel’s “Testing Baumol: Institutional Quality
and the Productivity of Entrepreneurship,” Journal of Business Venturing, Vol.
23, 2004, pp. 641–655.

6 Adva Saldinger, “USAID to Push Localization, Counter China’s Influence,


Power Says,” Devex, July 15, 2021.

7 Saldinger, “USAID to Push Localization, Counter China’s Influence, Power


Says.

278
8 Guy Lodge and Will Paxton, “Achieving Policy Change in Developing Contexts:
The Role of Think Tanks,” Gwilym Centre Working Paper, Nuffield College,
Oxford, 2017.

9 See Kivu International web page “What We Do,” www.kivu-international.


org/what-we-do/, accessed June 27, 2021.

10 Lodge and Paxton, “Achieving Policy Change in Developing Contexts.”

11 John Young, Volker Hauck, and Paul Engel, “Final Report of the External
Evaluation of the Think Tank Initiative,” Overseas Development Institute and
European Centre for Development Policy Management, September 2013.
12 Young, Volker Hauck, and Paul Engel, “Final Report of the External
Evaluation of the Think Tank Initiative,” 2013.
13 Young, Volker Hauck, and Paul Engel, “Final Report of the External
Evaluation of the Think Tank Initiative,” 2013.

14 Ian Christoplos et al., “External Evaluation of the Think Tank Initiative (TTI)
Phase Two, 2014–2019,” NIRAS, April 18, 2019.

15 Christoplos et al., “External Evaluation of the Think Tank Initiative,” p. 25.

16 Andrew Hurst, “Reflections from the Think Tank Initiative and Their
Relevance for Canada,” Canadian Journal of Development Studies, Vol. 42,
2020, p. 8.
17 Hurst, “Reflections from the Think Tank Initiative,” p. 7.

279
18 Sukhadeo Thorat, Ajaya Dixit, and Samar Verma, eds. Strengthening Policy
Research: Role of Think Tank Initiative in Asia (Los Angeles: Sage, 2019), p.
366.

19 David Lewis, Nazneen Kanji, and Nuno Themudo, Nongovernment


Organizations and Development (2nd ed., London: Routledge, 2021), pp. 1–2.
20 James McGann “2019 Global Go To Think Tank Index Report,” Scholarly
Commons, 2020, p. 10, https://repository.upenn.edu/cgi/viewcontent.cgi?
article=1018&context=think_tanks.

21 Based on interviews with Parth Shah and Dinesh Dixit conducted in New
Delhi, March 2019 by AJ Skiera and Tarun Vats. Printed with permission.

22 William Easterly “Progress by Consent: Adam Smith as Development


Economist,” The Review of Austrian Economics, Vol. 34, 2021, p. 198.

23 Adam Smith, An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations,
ed. W. B. Todd (Indianapolis, IN: Liberty Fund, 1981), Vol. 2, IV, vii, p. 626.

24 Angus Deaton, The Great Escape (Oxford: Oxford University Press, 2013), p.
312.

280
A translation of “Development with Dignity:
Self-determination, Localization, and the End to Poverty” © [2022] Tom G. Palmer,
Matt Warner.

You might also like