You are on page 1of 201

‫عالمات الساعة‬

‫دراسة تحليلية‬

‫رفاع رسور‬
‫ي‬
‫تمهيد‬
‫الحمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول هللا‪ ،‬وبعد‪.‬‬
‫فمن أخطر ظواهر الفكر الجاهلي‪ ،‬سواء كان هذا الفكر ذا مظهرا دينيا أو‬
‫فلسفيا‪ ،‬ظاهرة التأصيل الكوني لألفكار‪ ،‬إذ أن هذا التأصيل هو إثبات للعالقة‬
‫بين هذه األفكار وبين النظام الكوني‪ ،‬ومن ثم فهو تأكيد لصوابها وشرعيتها‪،‬‬
‫وذلك استنادا إلى ما ارتكز في النفوس من أن الحق البد وأن يكون مالئما‬
‫من كل جهاته لنظام هذا العالم‪.‬‬

‫وغالبا ما يكون هذا التأصيل في اتجاهين‪ :‬الماضي «الجذور» والمستقبل‬


‫«االمتداد»‪ ،‬ولعل من األمثلة على ذلك هذه الزبالة الزائلة التي كانت تسمى‬
‫«الشيوعية» والتي كان أصحابها يعتبرونها بداية التاريخ وختامه‪ ،‬وكان‬
‫تأصيلهم الكوني لفكرة الشيوعية يعتمد على القول بصدور حركات العالم‬
‫عن طبيعة المادة‪ ،‬وانحصار تلك الطبيعة في مبادئ أولية ثالثة هي‪ :‬مبدأ‬
‫«تحول الكم إلى كيف»‪ ،‬ومبدأ «نفي النفي»‪ ،‬ومبدأ «وحدة المتناقضات»‪،‬‬
‫واعتبروا أن ذلك الثالوث المادي هو الحاكم لظواهر الطبيعة ولحركة‬
‫التاريخ اإلنساني على حد سواء‪ ،‬وأنه قادر علي تفسير أيا منهما بحكم‬
‫خضوع كل الظواهر له‪ ،‬وأن تحول نظام اإلنتاج مثال من اإلقطاع إلى رأس‬
‫المال ثم الشيوعية هو من جنس تحول صور الماء من الحالة الثلجية إلى‬
‫المائية ثم إلى الحالة البخارية نتيجة تصاعد «كم» معين هو الحرارة‪ ،‬فهذا‬
‫نموذج لربط (الفكرة الشيوعية) بنظام العالم‪ ،‬ويشاء هللا العلي القدير أن‬
‫تتبخر النظرية كلها بكل عصارتها المنتنة‪.‬‬

‫وال شك أن األديان الوضعية‪ ،‬من يهودية ونصرانية‪ ،‬هي أكثر إلحاحا في‬
‫محاولة تحقيق المالئمة بينها وبين ظواهر العالم‪ ،‬وذلك أنها لما كانت ملتزمة‬
‫بفكرة صدور العالم عن هللا سبحانه‪ ،‬فهي من ثم ملتزمة بتفسير كل ما هو‬
‫في العالم بحسب عقيدتها المزيفة‪.‬‬

‫وستجد قراءات نصرانية لظواهر الطبيعة تستخدم كلها لتبرير الالهوت‬


‫المسيحي‪ ،‬فالثلج والماء والبخار الذي كان عند الشيوعية دليال على مبدأ‬
‫«تحول الكم إلى كيف» ستجده في النصرانية دليال على وحدة الثالوث‪،‬‬
‫وهكذا فبحكم الفطرة‪ ،‬تتسابق األفكار الدينية وغير الدينية للتأكيد على‬
‫ومالءمتها لخلق السماوات واألرض‪ ،‬أي للعالم‪.‬‬

‫ومن أهم لحظات العالم هي لحظة نهايته‪ ،‬وهي المعروفة بـ «الساعة» أو‬
‫«يوم القيامة»‪ ،‬فشكل نهاية العالم ينبئ عن حقيقة «اإلرادة» التي ستقوم‬
‫بإنهائه‪ ،‬وعلى ذلك‪ ،‬فمن كمال فكرة ما عن العالم‪ ،‬أن تقدم تصورا لنهايته‬
‫بحيث يالئم مضمون تلك الفكرة من جهة‪ ،‬ومعطيات الواقع من جهة أخرى‪.‬‬
‫وهكذا يطرح التصور اإلسالمي نفسه كصاحب حق شرعي ووحيد في‬
‫تفسير العالم‪ ،‬باعتبار أن «عالمات الساعة» تمثل جزءا أصيال ضخما من‬
‫تاريخ األمة اإلسالمية الباقية إلى آخر الزمان متضمنة ظهور العالمات‪.‬‬
‫وهكذا تأخذ المواجهة مع أهل الكتاب صورة أخرى‪ ،‬وهو إخفاء ما عندهم‬
‫من علم عن العالمات عن العقل المسلم بالذات حتى ال ينتبه هذا العقل إلى‬
‫فاعلية تلك القضية في تحديد منهج الصراع معهم‪.‬‬

‫ورغم المحاوالت المستميتة والمبذولة من أهل الكتاب إلخفاء تلك‬


‫العالمات‪ ،‬إال أن هللا قد قدر كشفها‪ ،‬وعلى ألسنة من أسلم منهم‪ ،‬مثلما أخرج‬
‫الخطيب في الرواية عن مالك أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي فوجدها‬
‫تبكي فقال‪« :‬ما يبكيك؟» قالت‪« :‬هذا اليهودي (تقصد كعب األحبار) يقول‬
‫إنك باب من أبواب جهنم»‪ ،‬فقال عمر‪« :‬ما شاء هللا»‪ ،‬ثم خرج فأرسل إلى‬
‫كعب فجاءه فقال‪« :‬يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده ال ينسلخ ذو الحجة‬
‫حتى تدخل الجنة»‪ ،‬فقال‪« :‬ما هذا؟ مرة في الجنة ومرة في النار؟» فقال‪:‬‬
‫«إنا لنجدك في كتاب هللا على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا‬
‫فيها‪ ،‬فإذا مت اقتحموا» (‪.)1‬‬

‫)‪ (1‬أخرجه أبو نعيم في ‪:‬حلية األولياء «‪ »203 / 6‬مختصرا‪.‬‬


‫كما كانت هناك بعض التصرفات ذات الطبيعة العلنية الدالة على أنهم‬
‫يتحركون بمقتضى تصورات خفية‪ ،‬مثل زراعة اليهود شجر الغرقد ألنه‬
‫شجر اليهود‪ ،‬إذ إن جميع الشجر يدل المسلم على اليهودي الذي يختبئ‬
‫وراءه في آخر الزمان عدا هذا الشجر كما في الحديث المتفق عليه والذي‬
‫رواه أبو هريرة رضي هللا عنه‪.‬‬

‫وبمجرد انكشاف أخبار العالمات عند اليهود والنصارى‪ ،‬نفاجأ بالدقة‬


‫المتناهية التي عندهم في قضية العالمات‪ .‬فبعد موقعة أجنادين التي حارب‬
‫فيها عمرو بن العاص الروم وانتصر عليهم‪ ،‬حاول عمرو فتح فلسطين‪،‬‬
‫فكتب إليه األرطبون بأنك صديقي ونظيري‪ ،‬أنت في قومك مثلي في قومي‪،‬‬
‫وهللا ال تفتح من فلسطين شيئا ً بعد أجنادين‪ ،‬فقال أصحاب األرطبون‪ :‬من‬
‫أين علمت أنه ليس بصاحب فتح هذه البالد؟ فقال‪ :‬صاحبها رجل اسمه على‬
‫ثالثة أحرف‪ ،‬فعلم عمرو بكالم األرطبون فكتب إلى عمر يقول له‪ :‬إني‬
‫أعالج حربا ً كؤودا ً صدوماً‪ ،‬وبالدا ادخرت لك‪ ،‬فعزم عمر على الدخول إلى‬
‫الشام لفتح بيت المقدس (‪.)2‬‬

‫وهذه هي الدقة المتناهية في تصور العالمات عند أهل الكتاب‪ ،‬أن يجزم‬
‫األرطبون أن بيت المقدس لن تفتح على يد عمرو‪ ،‬وإنها ستفتح على يد‬
‫عمر‪ ،‬وقد علم األرطبون ذلك من االسم‪ ،‬والفرق بين االسمين حرف واحد‬
‫وهو الواو‪.‬‬

‫ومما جاء عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي هللا عنه أنه قدم دمشق في‬
‫تجارة من قريش فتخلف عمر بن الخطاب لبعض حاجته‪ ،‬فبينما هو في البلد‬
‫إذا ببطرق يأخذ بعنقه‪ ،‬فذهب ينازعه فلم يقدر عليه‪ ،‬فأدخله دارا ً فيها ترابا ً‬
‫وفأسا ً ومجرفة وزنبيل‪ ،‬وقال له‪ :‬حول هذا من ههنا إلى ههنا‪ ،‬فغلبه عمر‬
‫وخرج فجاء ديرا ً لراهب‪ ،‬فحبس عنده من العشي فأطعمه وسقاه‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫لقد علم أهل دين النصرانية أني أعلمهم بكتابهم‪ ،‬وإني ألراك الذي تخرجنا من‬
‫بالدنا هذه‪ ،‬فهل لك أن تكتب لي كتاب أمان على ديري هذا (‪.)3‬‬
‫)‪« )2‬البداية والنهاية»‪ ،‬المجلد السابع‪ :‬ص ‪55 – 54‬‬
‫)‪" )3‬البداية والنهاية" المجلد السابع ص ‪.60‬‬
‫وعن األقرع مؤذن عمر أن عمر رضوان هللا عليه مر على األسقف فقال‪:‬‬
‫«هل تجدوني في شيء من كتبكم؟» قال‪« :‬نجد صفتكم وأعمالكم وال نجد‬
‫أسماءكم»‪ ،‬قال‪« :‬كيف تجدوني؟» قال‪« :‬قرن من حديد»‪ ،‬قال عمر‪« :‬قرن‬
‫من حديد ماذا؟» قال‪« :‬أمير شديد»‪ ،‬قال عمر‪« :‬هللا أكبر والحمد هلل» (‪.)4‬‬
‫وعن عبد هللا قال‪ :‬ركب عمر رضوان هللا عليه فرسا ً فركضه فانكشف ثوبه‬
‫عن فخذه فرأى أهل نجران على فخذه شامة سوداء‪ ،‬فقالوا‪« :‬هذا الذي نجد‬
‫في كتابنا يخرجنا من أرضنا» (‪.)5‬‬

‫وعلى الرغم من هذه الدقة المتناهية التي يبلغ مداها الفارق بين عمرو وعمر‪،‬‬
‫ويبلغ مداها شامة سوداء في الفخذ‪ ،‬فقد كانت النتيجة النهائية للتصرفات‬
‫اليهودية والنصرانية في وقت الغفلة اإلسالمية أن أصبحت العالمات محكومة‬
‫باإلسرائيليات المطروحة للتضليل‪.‬‬

‫ولعل أخطر مؤامرات التضليل التي نعاني منها اآلن هي التركيز اإلعالمي‬
‫النصراني واليهودي على عالمة الدجال كما سنبين إن شاء هللا‪.‬‬
‫والهدف من هذه المؤامرة هو تجاوز عالمة المهدي‪ ،‬وخصوصا ً بعد‬
‫االنسياق وراء هذا التركيز من جانب الذين يكتبون في اإلسالم أنفسهم‪.‬‬

‫ولم يكن هذا االنسياق هو األثر الوحيد للتضليل اليهودي والنصراني عن‬
‫قضية العالمات في واقع الفكر اإلسالمي‪ ،‬بل أصبحت تلك القضية تعاني‬
‫تجاوز التحكم العقلي في الطبيعة الغيبية للعالمات‪ ،‬كما أصبحت تفتقد العالقة‬
‫الصحيحة بين النصوص والواقع‪ ،‬حتى أصبح إسقاط نصوص العالمات على‬
‫الواقع واألحداث خطأ ً شائعاً‪.‬‬

‫)‪ )4‬أخرجه أبو داود «‪ ،»4656‬والاللكائي في شرح السنة «‪ ،»2658‬وأخرج نحوه الطبراني عن كعب‬
‫وقال الهيثمي «‪ :»9 / 66‬رجاله ثقات‬
‫)‪ )5‬أخرجه ابن سعد «‪ ،»3248‬والطبراني وأحمد في الزهد ص‪ ،153:‬وقال الهيثمي في المجمع (‪ :)9 / 91‬رواه الطبراني‬
‫وإسناده حسن‪.‬‬
‫وذلك كله في الوقت الذي يجب أن تكون فيه لقضية العالمات األهمية‬
‫الفكرية األساسية واألولى‪ ،‬من حيث اليقين بما أخبر به هللا على لسان رسوله‬
‫ﷺ من أحداث حتى آخر الزمان‪ ،‬ومن حيث التوازن النفسي بين اإلنكار‬
‫الجاهل والتعجل السفيه لهذه األحداث‪ ،‬ومن حيث إحياء نصوص اإلخبار‬
‫عن العالمات لتدخل في إطار التصور اإلسالمي الصحيح عن الكون‬
‫والوجود البشري‪ ،‬وكذلك تحديد الدور البشري في إطار أقدار هللا النافذة في‬
‫الواقع حتى قيام الساعة‪ ،‬ثم التحديد المنهجي للدعوة من خالل كل هذه‬
‫الفاعليات مجتمعة‪.‬‬

‫ويمثل تحديد الدور البشري والتحديد المنهجي أهمية كبيرة باعتبار اإلطار‬
‫الواقعي للتحرك اإلسالمي‪ ،‬وبعيدا ً عن التضليل اليهودي والنصراني في‬
‫قضية العالمات‪ ،‬وبعيدا ً عن دائرة الغفلة عن التصور الصحيح للقضية‪،‬‬
‫تنشأ فاعلية العالمات‪ ،‬ليكون التصور الصحيح للعالمات حاكما ً للحركة‬
‫اإلسالمية بكل أبعادها وفي كل مواقفها‪.‬‬

‫وإلدراك أهمية التصور اإلسالمي الدقيق للعالمات وعالقته باألحداث‬


‫بصفة خاصة‪ ،‬علينا أن نقف أمام مثل تاريخي على هذه الحقيقة‪ ،‬أال وهو‬
‫توقف المسلمين عن الزحف إلى بالد الترك عمالً بقول رسول هللا ﷺ‪:‬‬
‫«اتركوا الترك ما تركوكم» (‪.)6‬‬

‫فلما اعتدى خوارزم شاه على تجار جنكيز خان الذين يتبضعون له ثيابا ً‬
‫وتحفاً‪ ،‬فأرسل خوارزم إلى نائبه أن يقتلهم ففعل ذلك‪ ،‬ويقول ابن كثير في‬
‫البداية والنهاية‪« :‬ولم يكن ما فعله خوارزم فعالً جيدا ً»‪ ،‬فلما تهدد جنكيز‬
‫خان السلطان خوارزم أشار من أشار على خوارزم شاه بالمسير إليهم‪،‬‬
‫فسار إليهم «وهذا أيضا ً لم يكن فعالً جيدا ً»‪ ،‬ألن التتر من األتراك الذين‬
‫سموا ذلك لتركه خارج سور ذي القرنين‪ ،‬والخطأ في فعل خوارزم هو في‬
‫األساس مخالفته لقول رسول هللا ﷺ «اتركوا الترك ما تركوكم» (‪.)7‬‬

‫)‪ )6‬صحيح الجامع – رقم(‪)3384‬‬


‫(‪ )7‬المصدر السابق‪.‬‬
‫ولذلك يذكر ابن كثير في عدة مواضع عند ذكر أحداث القتال بين المسلمين‬
‫والتتار أن المسلمين لم يكونوا يتعقبون التتار إذا فروا هاربين أمامهم‪ ،‬حتى‬
‫وإن كانت تنالهم الرماح‪ ،‬عمالً بالحديث‪ ،‬حتى نصرهم هللا عليهم‪.‬‬
‫إن تحذير النبي ألمته بتجنب الترك كان أساسا ً لتحركها العسكري مدة‬
‫طويلة‪ ،‬فلما تحرش المسلمون بالتتار مخالفين تحذير النبي ﷺ في غفلة منهم‪،‬‬
‫جاءت العقوبة عنيفة باجتياح التتار لديار اإلسالم في مشه ٍد مخيف نرى من‬
‫خالله خطورة تحذير النبي ﷺ‪ ،‬وعظم البالء الذي جرته مخالفتهم للنبي ﷺ‪.‬‬
‫ومن هنا تأتي أهمية استحضار اإلسالم ألرض الواقع في حياة المسلمين‪،‬‬
‫واستحضار أحاديث النبي ﷺ لنرى من خاللها عالمات الساعة من خالل‬
‫تصور منهجي كامل‪.‬‬

‫ومن المثل التاريخي لتحكم تصور عالمات الساعة في المجال العسكري‬


‫إلى المثل الحاضر لتحكم تصور عالمات الساعة في المجال السياسي‪ ،‬وهو‬
‫النص الثابت عن رسول هللا ﷺ‪« :‬ستكون خالفة على منهاج النبوة» (‪،)8‬‬
‫وهذه الخالفة قبل المهدي‪.‬‬

‫وعندما يحكم تصور العالمات المنهج السياسي للدعوة (‪ )9‬فإن السعي إلقامة‬
‫هذه الخالفة سيتجاوز كل عقبة يتصورها إنسان ضد إقامة هذه الخالفة‪،‬‬
‫ابتدا ًء من تهيئة العالم لظهور الدجال (‪ ،)10‬وهي المحاولة الخبيثة لمنع‬
‫المسلمين من معايشة حقيقة الخالفة القادمة والتهيئة النفسية لها والسعي‬
‫إلقامتها‪.‬‬

‫وبعد تجاوز التضليل اليهودي والنصراني‪ ،‬وتجاوز الغفلة عن القضية‬


‫(‪ )8‬رواه أحمد والبيهقي في دالئل النبوة وحسنه األلباني في مشكاة المصابيح برقم (‪.)5378‬‬
‫)‪ )9‬يراجع كتاب «التصور السياسي للحركة اإلسالمية» للمؤلف‬
‫)‪ )10‬والمجاراة في التركيز على الدجال والمسيح المنتظر ليساهم في هذه المحاولة ومرورا بالنظام العالمي الجديد الذي‬
‫يريدون به إذابة كل األنظمة واختزالها للنموذج األمريكي‪ ،‬وهنا علينا أن نعي أننا على موعد مع الخالفة‪ .‬وهي في= =قلب‬
‫كل مسلم وال تنتزع إال بموته‪ ،‬ألنها خبر عن رسول هللا ﷺ وخبر الرسول ﷺ ال ينتزع إال بالموت‪ ،‬ستكون خالفة‪ ،‬هكذا‬
‫تحدث الرسول ﷺ‪ ،‬ستكون خالفة‪ ،‬ليست على أساس الواقع المؤلم الذي نراه بل سيكون أساسا ربانيا يصنعه هللا ويصلح‬
‫به الدنيا وال تسل عن الزمن‪ ،‬فإن المهدي الذي سيظهر بعد الخالفة سيصلحه هللا في ليلة‪ ،‬ليلة‪ ،‬ليلة واحدة‪ ،‬وسيسبق تلك‬
‫الليلة‪ ،‬خالفة قادمة‪ ،‬لن يصرفنا عنها تصوريا وال عصبيا وال نفسيا‪ ،‬عالمة المسيح المنتظر‪ ،‬التي تحاول الجاهلية بكثرة‬
‫الكتابة عنها انحرافنا فيها‪ ،‬ألن الخالفة قبل المهدي‪ ،‬والمهدي قبل المسيح‪.‬‬
‫بالطرح اإلسالمي الصحيح لها‪ ،‬واالنتباه لتحكم التصور اإلسالمي للقضية‬
‫في واقع الدعوة‪ ،‬يتكشف أجمل وأعظم ما في هذا التصور لقضايا العالمات‪،‬‬
‫ولعل أول ما سنالحظه في هذا الجمال العظيم المتكشف هو التجرد‬
‫وموضوعية التناول‪:‬‬

‫وما نعنيه بالموضوعية هو أن اإلسالم لم يتحيز إلى نفسه مستقبليا ً‪ ،‬وإنك‬


‫لن تدرك هذا الجمال إال عندما تقارن بين التصور اإلسالمي للعالمات‬
‫وغيره من التصورات المصطنعة المكتوبة لحساب أصحابها في تحديد‬
‫الرؤية المستقبلية لمصير العالم‪ ،‬ولعل معركة «هرمجدون» التي يتحدث‬
‫عنها أهل الكتاب خير مثال على ذلك‪ ،‬وملخصها عندهم‪ :‬أن المسيح سينزل‬
‫ويقتل كل الوثنيين «غير المسيحيين»‪ ،‬ويرتفع بكل المسيحيين فوق‬
‫السحاب؛ هكذا ينتهي التاريخ البشري‪ ،‬وتنتهي الحياة الدنيا‪ ،‬وتنتهي الحكمة‬
‫التي من أجلها خلق هللا السموات واألرض‪ ،‬بهذه الصورة الضئيلة الساذجة‪،‬‬
‫المتحيزة‪.‬‬

‫التصور اإلسالمي يقر بأن اليهود باقون إلى وقت الدجال وسيقاتلون معه‪،‬‬
‫كما يقر بأن النصارى سيبقون كذلك حتى يحقق هللا الغلبة للمسلمين عليهم‬
‫في الملحمة‪.‬‬

‫ف‬‫َص َ‬
‫ويكفي إلثبات جمال الموضوعية في التصور اإلسالمي للعالمات أن ن ِ‬
‫الملحمة كما وصفها الرسول ﷺ‪« :‬تصالحون الروم صلحا ً آمنا ً وتقهرون أنتم‬
‫وهم عدوا ً من ورائهم فتسلمون وتغنمون‪ ،‬ثم تنزلون بمرج ذي تلول فيقوم‬
‫رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول‪ :‬غلب الصليب‪ ،‬فيقوم إليه رجل من‬
‫المسلمين فيقتله فعند ذلك تغدر الروم‪ ،‬وتكون المالحم‪ ،‬فيجمعون لكم فيأتونكم‬
‫في ثمانين غاية مع كل غاية عشرة آالف» (‪.)11‬‬

‫وعن يسير بن جابر قال‪ :‬هاجت ريح حمراء بالكوفة‪ ،‬فجاء رجل ليس له‬
‫هجيري فقال‪« :‬أال يا عبد هللا بن مسعود‪ ،‬جاءت الساعة»‪ ،‬قال‪ :‬فقعد وكان‬
‫)‪ )11‬رواه أبو داود كتاب المالحم «‪ ،»425 / 2‬والحاكم في المستدرك «‪ »1421 / 4‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد ولم‬
‫يخرجاه‪.‬‬
‫متكئا فقال‪« :‬إن الساعة ال تقوم‪ ،‬حتى ال يقسم ميراث‪ ،‬وال يفرح بغنيمة»‪،‬‬
‫ثم قال بيده هكذا (ونحاها نحو الشام) فقال‪« :‬عدو يجمعون ألهل اإلسالم‬
‫ويجمع لهم أهل اإلسالم‪ ،‬ويكون عند ذاكم القتال ردة شديدة»(‪ ،)12‬قال‪:‬‬
‫«فيشترط المسلمون شرطة للموت ال ترجع إال غالبة‪ ،‬فيقتتلون حتى يحجز‬
‫بينهم الليل فيبقى هؤالء وهؤالء كل غير غالب وتفنى الشرطة‪ ،‬ثم يشترط‬
‫المسلمون شرطة للموت ال ترجع إال غالبة فيقتتلون ثم يبقى هؤالء وهؤالء‬
‫كل غير غالب وتفنى الشرطة‪ ،‬ثم يشترط المسلمون شرطة للموت ال ترجع‬
‫إال غالبة فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل فيبقى هؤالء وهؤالء كل غير غالب‬
‫وتفنى الشرطة‪ ،‬فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل اإلسالم فيجعل هللا‬
‫الدائرة عليهم فيقتتلون مقتلة إما قال‪ :‬ال ندري مثلها‪ ،‬وإما قال‪ :‬ال يرى مثلها‪،‬‬
‫حتى إن الطائر يمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً‪ ،‬فيعاد بنو األب كانوا‬
‫مائة فال يجدونه بقي منهم إال الرجل الواحد‪ ،‬فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث‬
‫يقاسم»؟! قال‪« :‬فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس أكبر من ذلك‪ ،‬قال‪« :‬فجاءهم‬
‫الصريخ(‪ )13‬أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم فيرفضون ما في أيديهم‪،‬‬
‫ويقبلون فيبعثون عشرة فوارس طليعة»‪ ،‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬إني ألعلم‬
‫أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم هم خير فوارس على ظهر األرض‬
‫يومئذ»(‪.)14‬‬

‫إن النص يكاد ينطق بصوت مسموع بأنه من مشكاة النبوة‪ ،‬ففيه اإلقرار‬
‫بأن الروم سيكونون أكثر عددا ً‪ ،‬وفيه اإلقرار بأن المسلم قتل الصليبي الذي‬
‫قال‪« :‬بهذا غلبنا»‪ ،‬وهو القول المناقض للهدنة التي كانت معقودة بحسب‬
‫ما ورد في النصوص األخرى‪ ،‬وفيه اإلقرار بأنه ستكون ردة بين المسلمين‪،‬‬
‫وفيه اإلقرار بأن القوة بين األمتين تكاد تكون متقاربة‪ ،‬وقد وضح ذلك من‬
‫وصف المعارك‪ ،‬وذلك من خالل مجموع العبارات‪« :‬فيقتتلون حتى يحجز‬
‫بينهم الليل» وتكررت ثالث مرات‪ ،‬و«فيبقى هؤالء وهؤالء‪ ،‬كل غير‬
‫غالب» ثالث مرات‪ ،‬وفي الرابعة‪ :‬تكون الغلبة للمسلمين على الصليبيين‪،‬‬
‫ولكن وصف المعركة يبين خطورتها‪ ،‬يقول النبي ﷺ «حتى إن الطائر ليمر‬

‫)‪ )12‬قول عبد هللا بن مسعود القول عاد لرسول هللا ﷺ‪.‬‬
‫)‪ )13‬المستنجد الصارخ‪.‬‬
‫)‪ )14‬مسند أحمد بن حنبل‪ ،‬رقم‪.)4001( :‬‬
‫بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتا ً»(‪.)15‬‬

‫أما وصف نتيجتها فهو أشد‪« :‬فيعاد بنو األب كانوا مائة فال يجدونه بقي‬
‫منهم إال الرجل الواحد‪ ،‬فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقسم أو يقاسم»‪،‬‬
‫كما تشعر بالدقة في النقل عن رسول هللا ﷺ‪ ،‬مثلما قال الراوي‪« :‬فيقتتلون‬
‫مقتلة إما قال‪ :‬ال ندري مثلها‪ ،‬وإما قال‪ :‬ال يرى مثلها»؛ فهكذا الخبر‬
‫والوصف والدقة‪ ،‬وهكذا الموضوعية واإلقرار والتفصيل‪ ،‬وهكذا يقبل‬
‫اإلنسان صيغة نهايته وأحداث آخر الزمان‪.‬‬

‫وفي أحاديث الملحمة نص يقول‪« :‬تقوم الساعة والروم أكثر الناس»(‪،)16‬‬


‫ويسمع العبارة عمرو بن العاص ويتعجب‪ ،‬ولكنه يصدق ثم يحلل العبارة‬
‫بعرض لمقومات األمة النصرانية والتي جعلتها باقية بهذا العدد حتى آخر‬
‫الزمان وحتى الملحمة‪ ،‬يقول عمرو لراوي الحديث‪« :‬أبصر ما تقول»‪ ،‬قال‪:‬‬
‫«أقول ما سمعته من رسول هللا ﷺ»‪ ،‬قال‪« :‬لئن قلت ذلك إن فيهم لخصاالً‬
‫أربعاً‪ :‬إنهم ألحكم الناس عند فتنة‪ ،‬وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة‪ ،‬وأوشكهم كرة‬
‫بعد فرة‪ ،‬وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف‪ ،‬وخامسة حسنة جميلة‪ ،‬وأمنعهم‬
‫من ظلم الملوك»(‪ ،)17‬وهكذا تحدث رسول هللا ﷺ‪ ،‬وتحدث الصحابة في تفسير‬
‫أحاديث رسول هللا ﷺ‪ ،‬تجرد وصدق‪ ،‬ولعلنا نالحظ قولة عمرو بن العاص‬
‫في ذكر خصال الروم‪« :‬وخامسة حسنة جميلة»‪ ،‬وهذا هو الوحي وفهم الوحي‬
‫وتفسير الوحي‪.‬‬

‫ولن نجد مثالً أكثر تجردا وموضوعية في تفسير العالقة بين اإلنسان والكون‬
‫من نفي النبي ﷺ أن يكون كسوف الشمس الذي كان في عهده بسبب وفاة ابنه‬
‫إبراهيم‪ ،‬وعلى الرغم من أن الناس قد ربطوا بين الحادثتين فقالوا‪ :‬ما انكسفت‬
‫الشمس إال لموت إبراهيم‪ ،‬فيقوم النبي ﷺ في الناس خطيبا ً فيقول‪ :‬يا أيها الناس‬
‫إن الشمس والقمر آيتان من آيات هللا ال ينكسفان لموت أحد‪ ،‬فكان نفي النبي‬

‫(‪ )15‬مسند أحمد بن حنبل‪ ،‬برقم‪.)4001( :‬‬


‫)‪ )16‬رواه مسلم من حديث الليث بن سعد – كتاب الفتن وأشراط الساعة ح «‪ ،»2898‬وأحمد في المسند ‪.230 /4‬‬
‫)‪ )17‬أخرجه مسلم في‪ :‬الفتن وأشراط الساعة «‪ / 249 / 9‬ح ‪.»2898‬‬
‫ﷺ أشد قوة من آية الكسوف ذاتها‪.‬‬

‫فلم يكن التجرد في تفسير العالمات كظواهر كونية غيبية‪ ،‬بل كان في الظواهر‬
‫الكونية المشاهدة‪ ،‬وهذا هو التجرد الكامل في التفسير اإلسالمي للكون‬
‫بظواهره المشاهدة القائمة‪.‬‬

‫وسنبدأ الكتاب إن شاء هللا بتعريف عالمات الساعة‪ ،‬وهو التعريف الذي سيبقى‬
‫معنا إلى آخر الكتاب‪ ،‬حيث سينتظم نص هذا الكتاب حول ألفاظ هذا التعريف‪.‬‬
‫فالعالمة هي‪« :‬أفعال هللا الجامعة في نهاية الدنيا وبداية اآلخرة‪ ،‬تحقيقا ً إليمان‬
‫الناس»‪.‬‬
‫‪‬الباب األول‬
‫الفصل األول‬

‫«تأصيل ى‬
‫معن العالمة من حيث عالقتها بأفعال هللا‬
‫والخي والحق‬
‫ر‬ ‫ه‪ :‬الحكمة والرحمة واإلحسان‬‫الن ي‬
‫الجامعة ي‬
‫والعدل»‬
‫عالقة عالمات الساعة بالحكمة‬
‫وعالمات الساعة من أهم مجاالت الحكمة اإللهية‪ ،‬وذلك أن أفعال هللا دائرة‬
‫على الحكمة‪ ،‬وإن اختالف صيغ هذه األفعال اإللهية بحسب المراحل الثالث‬
‫ال يوقف معنى الحكمة بل يظهرها أشد ما يكون اإلظهار‪.‬‬

‫وحكمة العالمات عامة وتفصيلية؛ والحكمة العامة هي الحكمة منها‪،‬‬


‫والحكمة التفصيلية هي الحكمة فيها‪ ،‬أما بالنسبة للحكمة العامة من‬
‫س‬ ‫العالمات‪ ،‬ففيها يقول ابن القيم‪« :‬قرأ قارئ‪ ﴿:‬إِذَا ال َّ‬
‫ش ْم ُ‬
‫ُك ِو َر ْ‬
‫ت﴾(التكوير‪ ،)1:‬وفى الحاضرين أبو الوفا ابن عقيل فقال له قائل‪( :‬يا‬
‫سيدي هب أنه سبحانه نشر الموتى للبعث والحساب‪ ،‬وزوج النفوس بقرنائها‬
‫بالثواب والعقاب‪ ،‬فلم هدم األبنية‪ ،‬وسير الجبال‪ ،‬ودك األرض‪ ،‬وفطر‬
‫السماء‪ ،‬ونثر النجوم‪ ،‬وكور الشمس)؟ فقال‪( :‬إنما بنى لهم الدار للسكنى‬
‫والتمتع‪ ،‬وجعلها وجعل ما فيها لالعتبار والتفكر واالستدالل عليه‪ :‬لحسن‬
‫التأمل والتذكر‪ ،‬فلما انقضت مدة السكنى وأجالهم من الدار خربها‪ ،‬النتقال‬
‫الساكن منها‪ ،‬فأراد أن يعلمهم بأن الكون كان معمورا ً بهم‪ ،‬وفى إحالة‬
‫األحوال‪ ،‬وإظهار تلك األهوال‪ ،‬وبيان القدرة بعد بيان العزة‪ ،‬وتكذيب ألهل‬
‫اإللحاد‪ ،‬وزنادقة المنجمين‪ ،‬وعباد الكواكب والشمس والقمر واألوثان‪،‬‬
‫فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين‪ ،‬فإذا رأوا آلهتهم قد انهدمت‪ ،‬وأن‬
‫معبوداتهم قد انتثرت وانفطرت‪ ،‬ومحالَّها قد شققت‪ ،‬ظهرت فضائحهم وتبين‬
‫كذبهم‪ ،‬وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر‪ ،‬له رب يصرفه كيف‬
‫يشاء)»(‪ ،)18‬أما بالنسبة للحكمة التفصيلية فإنها ستتضح من خالل طرح‬
‫العالمات‪.‬‬

‫)‪ )18‬بدائع التفسير "ج‪ ،3‬ص‪ ،183:‬لإلمام ابن القيم‪.‬‬


‫وأهم أمثلة الحكمة من العالمة من الناحية التفصيلية‪ :‬جعل التسبيح والتكبير‬
‫والتحميد والتهليل بديالً عن الطعام في سنوات ما قبل الدجال‪ ،‬وتفسير‬
‫الحكمة في ذلك‪ :‬هو أن الطعام ضرورة بشرية تثبت االفتقار إلى هللا في‬
‫الرزق‪ ،‬وقد كان هذا هو المنهج القرآني في إثبات عبودية عيسى ابن مريم‬
‫س ُل‬ ‫سو ٌل قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ت ِم ْن قَ ْب ِل ِه ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫عندما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬ما ْال َم ِسي ُح اب ُْن َم ْريَ َم ِإ اَّل َر ُ‬
‫ظ ْر أَناى‬
‫ت ث ُ ام ا ْن ُ‬
‫ْف نُبَ ِي ُن لَ ُه ُم ْاْليَا ِ‬
‫ظ ْر َكي َ‬ ‫ام ۗ ا ْن ُ‬ ‫صدِيقَةٌ ۖ َكانَا يَأ ْ ُك ََل ِن ا‬
‫الط َع َ‬ ‫َوأ ُ ُّمهُ ِ‬
‫يُؤْ فَ ُكونَ ﴾ (المائدة‪.)75:‬‬

‫في إثبات اإلطعام لعيسى إثبات لبشريته ونفي االدعاء بألوهيته‪ ،‬ألن هللا هو‬
‫ض َو ُه َو يُ ْ‬
‫ط ِع ُم َو َال‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س َم َاوا ِ‬ ‫َّللاِ أَت َّ ِخذُ َو ِليًّا فَ ِ‬
‫اط ِر ال َّ‬ ‫الذي ﴿ قُ ْل أَ َ‬
‫غي َْر َّ‬
‫طعَ ُم ۗ قُ ْل إِنِي أ ُ ِم ْرتُ أَ ْن أَ ُكونَ أَ َّو َل َم ْن أَ ْسلَ َم ۖ َو َال تَ ُكون ََّن ِمنَ‬ ‫يُ ْ‬
‫ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾(األنعام‪ ،)14:‬وفى ذلك تنزيه هلل عن االفتقار للطعام‪ ،‬وهو معنى‬
‫التسبيح‪ ،‬ألن التسبيح هو التنزيه‪ ،‬أما التكبير فهو إكبار هللا على كل شيء‪،‬‬
‫وعلى الدجال وفتنته‪ ،‬فالدجال أكبر خلق كما قال النبي ﷺ عن عمران بن‬
‫حصين قال‪ :‬سمعت رسول هللا ﷺ يقول‪« :‬ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة‬
‫خلق أكبر من الدجال»(‪ ،)19‬ولكن الخالق أكبر‪ ،‬حتى عندما تقتضي فتنة‬
‫الدجال هذه السنوات الثالث من الجوع فإن هللا أكبر‪ ،‬فال يترك عباده‬
‫المؤمنين نهبا ً لفتنة الدجال‪ ،‬بل يزيدهم إيمانا ً ويقينا ً بإطعامهم الذكر‪ ،‬فيجري‬
‫التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل مجرى الطعام‪.‬‬

‫أما التحميد‪ :‬فهو دليل على أن التسبيح والتكبير أتم الشبع‪ ،‬فاستوجب األمر‬
‫حمدا ً هلل كما نحمده على اإلطعام في الدنيا‪.‬‬

‫أما التهليل فهو قول‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬ومناسبتها أن جميع ما يكون ال يخرج‬
‫على أفعاله‪ ،‬فال إله غيره‪ ،‬فاهلل هو الذي يظهر الدجال‪ ،‬وهو الذي يجعل‬
‫السنوات قبله سنوات جوع‪ ،‬وهو الذي يجعل الذكر يجري مجرى الطعام‬
‫لعباده المؤمنين‪.‬‬

‫)‪ )19‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم رقم ‪.5244‬‬


‫والحقيقة أن اختيار الذكر بصفة أساسية بديالً عن الطعام هو أن حياة اإلنسان‬
‫إنما تكون بأمرين‪ :‬الطعام والذكر‪ ،‬أما الطعام فأمر معروف‪ ،‬وأما الذكر‪:‬‬
‫ففيه قول رسول هللا ﷺ «مثل الذي يذكر ربه ومثل الذي ال يذكر ربه مثل‬
‫الحي والميت» (‪ ،)20‬فالحياة بالذكر والطعام‪.‬‬

‫ومن أمثلة الحكمة التفصيلية في العالمات أيضاً‪ ،‬جعل التهليل والتكبير سببا ً‬
‫في إسقاط جانبي مدينة القسطنطينية‪ ،‬ألن سقوط جانبي المدينة هو الذي‬
‫يساوي االنتصار على أهلها‪ ،‬والنصر في القتال ال يكون إال بأمرين‪ :‬عقيدة‬
‫صحيحة‪ ،‬وإكبار مطلق هلل على العدو في النفوس‪.‬‬

‫عن أبى هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ «سمعتم بمدينة جانب‬
‫منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا نعم يا رسول هللا قال ال تقوم الساعة‬
‫حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق فإذا جاؤها نزلوا فلم يقاتلوا بسالح‬
‫ولم يرموا بسهم قالوا ال إله إال هللا وهللا أكبر‪ ،‬فيسقط أحد جانبيها‪ ،‬ثم يقولوا‬
‫الثانية ال إله إال هللا وهللا أكبر‪ ،‬فيسقط جانبها اآلخر‪ ،‬ثم يقولوا الثالثة ال إله إال‬
‫هللا وهللا أكبر‪ ،‬فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا» (‪.)21‬‬

‫وتفسير وجه اختصاص بني إسحاق – السبعين ألفا ً – بتدمير مدينة‬


‫القسطنطينية هو أن بني إسحاق هم عرقيا ً أصل اليهودية والمسيحية‪ ،‬ولكنهم‬
‫يختلفون عن اليهودية والنصرانية في عقيدتهم عن المسيح‪ ،‬فعلى الرغم من‬
‫التوافق العرقي بينهما‪ ،‬كان االختالف بينهما في قولهم عن عيسى بأنه ابن‬
‫زنى‪ ،‬أو ابن هللا‪ ،‬وبذلك يتحقق فيهم‪ ،‬بمقتضى تقابلهم مع اليهود والنصارى‪،‬‬
‫أحقيتهم في تدمير المدينة القائمة على العقيدة الباطلة عن عيسى‪.‬‬

‫عالقة عالمات الساعة بالرحمة‬


‫وأصل الرحمة في العالمات هو العالمات ذاتها‪ ،‬ذلك ألن هذه العالمات ذكرى‬
‫للبشر وتحقيق لليقين في قلوبهم‪ ،‬كما إنها ترجيح لصفة الخير في الوجود‪ ،‬ليبقى‬
‫)‪ )20‬صحيح أخرجه البخاري‪ ،‬رقم (‪.)6407‬‬
‫)‪ )21‬صحيح مسلم‪ ،‬رقم (‪)5204‬‬
‫الوجود خيرا ً راجحا ً حتى قيام الساعة‪ ،‬ودالئل هذا األصل هي بذاتها تفاصيل هذه‬
‫العالمات‪ ،‬فمن دالئل رحمة هللا‪:‬‬

‫‪-1‬أن الساعة ال تقوم على مؤمن وهي داهية ُمرة (‪ ، )22‬ألن هللا سيقبض كل‬
‫نفس مؤمنة بريح لينة تأتي من اليمين‪ ،‬أما الساعة فال تقوم إال على أشر‬
‫الناس‪ ،‬عن علي بن أبي طالب أن رسول هللا ﷺ قال‪« :‬إن من شرار الناس‬
‫من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد‪ ،‬والذين‬
‫يشهدون بالشهادة قبل أن يسألوها» (‪.)23‬‬

‫وهناك مالحظة في هذا الحديث األخير‪ ،‬وهي أن هذين الصنفين الواردين‬


‫في الحديث هما أول الشر وآخره‪ ،‬ألن أول الشر هو اتخاذ القبور مساجد‬
‫ألن هذا الفعل هو بداية اتخاذ المقامات وفعل الشرك مثل الطواف والنذر‬
‫واالستغاثة وشد الرحال‪ ،‬وآخر الشر هو عبادة األصنام وتسافد الناس‬
‫كتسافد البهائم‪.‬‬

‫‪-2‬ومن دالئل هذه الرحمة في العالمات أنها هي ذاتها حرز وبدل من عذاب‬
‫اآلخرة‪ ،‬كما قال النبي ﷺ‪« :‬أمتي هذه أمة مرحومة‪ ،‬ليس عليها عذاب في‬
‫اآلخرة‪ ،‬عذابها في الدنيا الفتن والزالزل والقتل» (‪.)24‬‬

‫‪-3‬ومن دالئل الرحمة في العالمات‪ :‬حصر الفتن ومنعها دون األمة‪ ،‬مثل‬
‫نهر الفرات الذي يخبئ جبالً من ذهب‪ ،‬فال ينحسر إال في آخر الزمان‪،‬‬
‫ومثل السد الذي بناه ذو القرنين فال يفتح إال في آخر الزمان‪.‬‬

‫‪ -4‬أما دالئل الرحمة التي تتمم المنع من الفتن فهي الحفظ من الفتن حين‬
‫وقوعها‪ ،‬ومنها‪ :‬إظهار نقائص الدجال المثبتة لكذبه‪ ،‬مثل الكتابة على جبينه‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬تعجيزه عن قتل الشاب الذي أماته وأحياه فقال له‪« :‬ربي هللا وأنت‬

‫(‪ )22‬من قوله تعالى‪« :‬والساعة أدهى وأمر»‬


‫(‪ )23‬صحيح‪ ،‬أخرجه ابن القيم في إغاثة اللهفان وابن تيمية في شرح العمدة والشوكاني في الفتح الرباني والهيثمي في‬
‫مجمع الزوائد‪.‬‬
‫)‪ )24‬صحيح‪ ،‬أخرجه أبو داود (‪ )4278‬والحاكم (‪ )444 / 4‬وأحمد (‪ 410 / 4‬و‪.)418‬‬
‫عدو هللا‪ ،‬أنت الدجال‪ ،‬وهللا ما كنت بعد أشد بصيرة بك مني اليوم» (‪.)25‬‬

‫ومثل جعل التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل عوضا ً عن الطعام في‬


‫ون‬‫َّللاِ ﷺ ذَ َك َر َج ْهدًا َي ُك ُ‬ ‫سو َل َّ‬ ‫السنوات التي بين يدي الدجال‪ ،‬فعن عائشة أَ َّن َر ُ‬
‫شدِيدٌ يَ ْس ِقي أَ ْهلَهُ ْال َما َء‬
‫غ َال ٌم َ‬‫ي ْال َما ِل َخي ٌْر يَ ْو َمئِ ٍذ قَا َل ُ‬
‫ي الدَّ َّجا ِل فَقَالُوا أ َ ُّ‬‫بَيْنَ يَدَ ْ‬
‫ِيس‬‫طعَا ُم ْال ُمؤْ ِمنِينَ يَ ْو َمئِ ٍذ قَا َل الت َّ ْسبِي ُح َوالت َّ ْقد ُ‬
‫ْس قَالُوا فَ َما َ‬ ‫َوأَ َّما َّ‬
‫الطعَا ُم فَلَي َ‬
‫َوالت َّ ْح ِميدُ َوالت َّ ْه ِلي ُل»(‪ ،)26‬ومثل تحريم مكة والمدينة على الدجال فال‬
‫يدخلها(‪ )27‬حتى إن المدينة ترجف ثالث رجفات‪ ،‬ومثل قراءة العشر آيات‬
‫من سورة الكهف‪ ،‬ألنها عصمة من الدجال(‪.)28‬‬
‫ويكفي أن يقول النبي ﷺ في فتنة الدجال‪« :‬إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه‬
‫دونكم» (‪.)29‬‬

‫عالقة عالمات الساعة باإلحسان‬


‫اإلحسان هو التمام في الخير‪ ،‬ولذلك ذكر يوسف‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬إحسان‬
‫علَى ْال َع ْر ِش َوخ َُّروا‬ ‫هللا إليه إذ أتم نعمته سبحانه عليه فقال‪َ ﴿:‬و َرفَ َع أَبَ َو ْي ِه َ‬
‫اي ِم ْن قَ ْب ُل قَ ْد َجعَلَ َها َربِي َحقًّا ۖ َوقَ ْد‬ ‫ْ‬ ‫س اجدًا ۖ َوقَا َل يَا أَبَ ِ‬‫لَهُ ُ‬
‫ت َه َذا تَأ ِوي ُل ُرؤْ يَ َ‬
‫غ‬‫الس ْج ِن َو َجا َء ِب ُك ْم ِمنَ ْال َب ْد ِو ِم ْن َب ْع ِد أَ ْن نَزَ َ‬ ‫سنَ ِبي ِإ ْذ أَ ْخ َر َج ِني ِمنَ ِ‬ ‫أَ ْح َ‬
‫يف ِل َما َيشَا ُء ۚ ِإناهُ ُه َو ْال َع ِلي ُم ا ْل َح ِكي ُم‬ ‫ان َب ْينِي َو َبيْنَ ِإ ْخ َوتِي ۚ ِإ ان َر ِبي لَ ِط ٌ‬
‫ط ُ‬ ‫ش ْي َ‬
‫ال ا‬
‫﴾(يوسف‪.)100:‬‬

‫ويجب االنتباه إلى أن ذكره الخروج من السجن يتضمن نعمة التمكين في‬
‫األرض‪ ،‬ألن التمكين جاء مع الخروج‪ ،‬وهو من تمام النعمة‪ ،‬أي اإلحسان‪،‬‬
‫إ ْذ قال له الملك بعد استدعائه من السجن‪َ ﴿:‬وقَا َل ْال َم ِلكُ ائْتُونِي ِب ِه أَ ْستَ ْخ ِل ْ‬
‫صهُ‬

‫)‪ )25‬سنن ابن ماجة‪ ،‬رقم (‪)4067‬‬


‫)‪ )26‬مسند أحمد‪ ،‬رقم (‪)23911‬‬
‫)‪ )27‬أخرجه البخاري‪ ،‬رقم (‪.)1756‬‬
‫)‪ )28‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم في (الفتن) «‪ ،»18:63/6‬وأبو داود في (المالحم» «‪ /114/4‬ح‪.»4321‬‬
‫)‪ )29‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم برقم (‪.)5233‬‬
‫ِلنَ ْف ِسي ۖ فَلَ اما َكلا َمهُ قَا َل ِإنا َك ْال َي ْو َم لَ َد ْينَا َم ِك ٌ‬
‫ين أَ ِم ٌ‬
‫ين﴾(يوسف‪.)54:‬‬

‫وعندما حدد النبي ﷺ «اإلحسان» اصطالحا ً فقد حدده بهذا المعنى‪ ،‬فأطلق‬
‫اإلحسان على إتمام أخير األعمال وهو العبادة‪ ،‬فقال‪« :‬اإلحسان أن تعبد هللا‬
‫كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (‪.)30‬‬

‫وبهذا المعنى يكون اإلحسان في عالمات الساعة أظهر ما يكون في عالمة‬


‫يأجوج ومأجوج‪ ،‬ذلك بأن هللا قد أنجى المؤمنين بإيوائهم إلى جبل الطور‪،‬‬
‫ودعا عيسى راغبا ً هلل أن يقتلهم‪ ،‬فيرسل هللا سبحانه النغف في رقابهم‪،‬‬
‫فيموتون فرسي‪ ،‬فتأخذ الريح أجسادهم إلى ال ُمهبل‪ ،‬وسئل أبو يزيد عن‬
‫المهبل فقال‪« :‬مطلع الشمس»‪.‬‬

‫ولعلنا نالحظ أنه المكان الذي وجد ذو القرنين عنده يأجوج ومأجوج عندما‬
‫بنى الردم‪ ،‬أي أن هللا سبحانه بقدرته أعادهم إلى مكانهم أمواتا ً‪« :‬فيرغب‬
‫نبي هللا عيسى وأصحابه إلى هللا فيرسل هللا عليهم النغف في رقابهم‬
‫فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ويهبط نبي هللا عيسى وأصحابه فال‬
‫يجدون موضع شبر إال قد مأله زهمهم ونتنهم ودماؤهم فيرغبون إلى هللا‬
‫فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء هللا ثم يرسل‬
‫هللا عليهم مطرا ال يكن منه بيت مدر وال وبر فيغسله حتى يتركه كالزلقة ثم‬
‫يقال لألرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة‬
‫فتشبعهم ويستظلون بقحفها ويبارك هللا في الرسل حتى إن اللقحة من اإلبل‬
‫تكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي القبيلة واللقحة من الغنم تكفي‬
‫الفخذ فبينما هم كذلك إذ بعث هللا عليهم ريحا طيبة فتأخذ تحت آباطهم فتقبض‬
‫روح كل مسلم ويبقى سائر الناس يتهارجون كما تتهارج الحمر فعليهم تقوم‬
‫الساعة»(‪.)31‬‬

‫وبعد موت يأجوج ومأجوج‪ ،‬وإعادتهم إلى أصلهم موتى وإرسال المطر‬
‫وتطهير األرض من نتنهم يبلغ اإلحسان تمامه‪ ،‬بأن تكون أجسادهم طعاما ً‬

‫)‪ )30‬أخرجه مسلم في (اإليمان) برقم (‪.)9‬‬


‫)‪ )31‬صحيح‪ ،‬ابن ماجة‪ ،‬برقم (‪)3310‬‬
‫لدواب الناس فتشكر «أي تزداد» لحوم هذه الدواب على أجساد يأجوج‬
‫ومأجوج‪.‬‬

‫بالخي‬
‫ر‬ ‫عالقة عالمات الساعة‬
‫وقد بلغ معناه الكامل في قيام الساعة ذاتها‪ ،‬وذلك عندما تقوم الساعة في‬
‫خير يوم «يوم الجمعة» كما قال رسول هللا ﷺ «خير يوم طلعت عليه الشمس‬
‫يوم الجمعة‪ ،‬فيه خلق آدم‪ ،‬وفيه أدخل الجنة‪ ،‬وفيه أخرج منها‪ ،‬وفيه تقوم‬
‫الساعة» (‪.)32‬‬

‫ويعود الخير في يوم القيامة إلى ضرورة التناسب بينه وبين الشر الذي‬
‫سيكون عليه الناس قبل قيامها مباشرة‪ ،‬وبذلك ستجمع الساعة بين المعنيين‪،‬‬
‫األول‪ :‬معنى الشر باعتبار الواقع الذي ستقوم عليه الساعة‪ ،‬وهو ما يناسب‬
‫عةُ أَ ْدهَى َوأ َم ُّر﴾(القمر‪،)46:‬‬
‫سا َ‬
‫وصفها بقول هللا عز وجل في اآلية‪َ ﴿:‬وال َّ‬
‫والثاني‪ :‬معنى الخير باعتبار إنهاء هذا الشر الواقع وبداية مرحلة الحق‬
‫والعدل‪.‬‬

‫وبنفس القاعدة كان معنى الخير والشر في عالمات الساعة‪ ،‬ولكن بترتيب‬
‫يتفق مع الترتيب الزمني للعالمات لنصل إلى الساعة ذاتها‪ ،‬وفى البداية يحكم‬
‫الزمن قاعدة التناسب المذكورة في الساعة‪ ،‬وهذه القاعدة على مدى الزمان‬
‫كله تفسرها عدة نصوص‪.‬‬

‫النص األول‪ :‬هو قول النبي ﷺ‪« :‬خير الناس قرني‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم‬
‫الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم»‪ ،‬حتى يكون الناس الذين تقوم عليهم الساعة‬
‫هم شر الناس كما قال ﷺ‪« :‬إن شر الناس الذين تقوم عليه الساعة والذين‬
‫يتخذون القبور مساجد» (‪ )33‬كما بين النبي ﷺ اتجاه األيام بهذا االتجاه فيقول‪:‬‬
‫«ال يأتي عليكم زمان إال الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» (‪ ،)34‬وهذا‬

‫(‪.)1410‬‬ ‫)‪ )32‬أخرجه مسلم برقم‬


‫(‪ )33‬أخرج مسلم أوله رقم (‪ )2949‬في الفتن من حديث ابن مسعود بلفظ‪( :‬ال تقوم الساعة إال على أشرار الناس)‬
‫(‪ )34‬البخاري في الفتن (‪ ،)13 / 20 – 19‬والترمذي أيضا‪ ،‬من حديث أنس‬
‫النص هو أساس القاعدة‪ ،‬وهو ما نسميه المستوى اليومي المتحكم في اتجاه‬
‫الزمن نحو الشر حتى قيام الساعة‪.‬‬

‫النص الثاني‪ :‬خيرية يوم الجمعة الواردة في قول النبي ﷺ‪« :‬خير يوم‬
‫طلعت عليه الشمس يوم الجمعة‪ ،‬فيه خلق آدم‪ ،‬وفيه أدخل الجنة‪ ،‬وفيه أخرج‬
‫منها‪ ،‬وفيه تقوم الساعة (‪ ،)35‬والعالقة بين النصين واضحة‪ ،‬فكل يوم جمعة‬
‫ال بد أن يكون خير من اليوم السابق عليه‪ ،‬ولكن هذا الترتيب ال يمنع اتجاه‬
‫الزمن نحو الشر على المدار اليومي‪.‬‬

‫النص الثالث‪ :‬خيرية ليلة القدر على مستوى العام‪ ،‬لقول هللا سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ش ْهر) (الق ْدر‪ ،)3:‬ولكن خيريتها ال تخرج عن‬‫ف َ‬ ‫(لَ ْيلَةُ ْالقَ ْد ِر َخي ٌْر ِم ْن أَ ْل ِ‬
‫قاعدة النص األول المتعلقة باتجاه األيام والزمن نحو الشر‪.‬‬

‫النص الرابع‪ :‬المجددون على مستوى القرن‪ ،‬وفيهم قال رسول هللا ﷺ‪« :‬إن‬
‫هللا يبعث لهذه األمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (‪،)36‬‬
‫وبمقتضى هذا النص نؤمن أن كل مائة عام يكون خير وجديد‪ ،‬ولكنه ال‬
‫يخرج عن اتجاه قاعدة النص األول‪.‬‬

‫ثم تأتي العالمات ليكون الزمن فيها محكوما ً بنفس القاعدة بكل مستوياتها‬
‫الزمنية‪ ،‬على مستوى اليوم‪ ،‬وعلى مستوى األسبوع‪« :‬يوم الجمعة»‪ ،‬وعلى‬
‫مستوى السنة‪« :‬ليلة القدر»‪ ،‬وعلى مستوى القرن‪« :‬التجديد»‪ ،‬لتكون‬
‫العالمة األولى وهي المهدي‪ ،‬وقاعدة التناسب بين الخير والشر في هذه أنه‬
‫«يملؤها قسطا وعدال‪ ،‬كما ملئت جورا وظلما»(‪ ،)37‬ومن كلمة «كما» يتبين‬
‫دقة التناسب‪ ،‬ثم تأتي عالمة الدجال وهو شر مطلق‪ ،‬ليتبعها عالمة عيسى‬
‫وهو الخير المطلق‪ ،‬فيكون التناسب‪ ،‬ثم تأتي عالمة يأجوج ومأجوج‪ ،‬فيكون‬
‫بعدهم البقية التي سيرفعها هللا من األرض‪ ،‬وهم المؤمنون الذين يخبرهم‬

‫(‪.)1410‬‬ ‫(‪ )35‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم برقم‬


‫)‪)36‬صحيح‪ ،‬أخرجه أبو داود في (المالحم) ‪ ،4291‬والطبراني في (األوسط) ‪.6527‬‬
‫(‪ )37‬السلسلة الصحيحة لأللباني برقم (‪.)1529‬‬
‫عيسى بدرجاتهم عند ربهم‪ ،‬ليكون بعدهم شرار الخلق الذين تقوم عليهم‬
‫الساعة‪ ،‬ثم تكون الساعة‪.‬‬

‫ولكن يضاف إلى هذا التصور المأخوذ من النصوص الشرعية حديث هام‬
‫يحدد القضية تحديدا ً جوهرياً‪ ،‬وهو يوازي حديث العالمات‪ ،‬ولكن من خالل‬
‫محور الخير والشر‪ :‬فعن أبي إدريس الخوالني أنه سمع حذيفة بن اليمان‬
‫يقول‪« :‬كان الناس يسألون رسول هللا ﷺ عن الخير‪ ،‬وكنت أسأله عن الشر‬
‫مخافة أن يدركني‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬إنا كنا في جاهلية وشر‪ ،‬فجاءنا هللا‬
‫بهذا الخير‪ ،‬فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قلت‪ :‬وهل بعد ذلك الشر‬
‫من خير؟ قال‪ :‬نعم وفيه دَخَن‪ ،‬قلت‪ :‬وما دخنه؟ قال‪ :‬قوم يهدون بغير هديي‪،‬‬
‫تعرف منهم وتنكر‪ ،‬قلت‪ :‬فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال‪ :‬نعم دعاة على‬
‫أبواب جهنم‪َ ،‬من أجابهم إليها قذفوه فيها‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬صفهم لنا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫هم من جلدتنا‪ ،‬ويتكلمون بألسنتنا‪ ،‬قلت‪ :‬فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال‪ :‬تلزم‬
‫جماعة المسلمين وإمامهم‪ ،‬قلت‪ :‬فإن لم يكن لهم جماعة وال إمام؟ قال‪ :‬فاعتزل‬
‫تلك الفرق كلها‪ ،‬ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على‬
‫ذلك»(‪.)38‬‬

‫وكما هو واضح من الحديث فإن مقام النبوة كان أساسا ً في تحقيق خير‬
‫األمة‪ ،‬يؤكد هذا حديث النبي ﷺ‪« :‬يأتي على الناس زمان يغزو فئام من‬
‫الناس فيقال‪ :‬فيكم من صاحب الرسول فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيفتح لهم‪ ،‬ثم يأتي‬
‫على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال لهم‪ :‬هل فيكم من صاحب‬
‫أصحاب الرسول؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيفتح لهم‪ ،‬ثم يأتي على الناس زمان فيغزو‬
‫فئام من الناس فيقال لهم‪ :‬هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب‬
‫الرسول؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيفتح لهم» (‪.)39‬‬

‫ويبين مجاهد أن كل فتح على المسلمين هو من الفتح الذي كان للنبي ﷺ‬


‫يرة ً تَأ ْ ُخذُونَ َها فَعَ اج َل لَ ُك ْم َه ِذ ِه‬ ‫ع َد ُك ُم ا‬
‫َّللاُ َمغَانِ َم َكثِ َ‬ ‫وذلك في تفسير قول هللا‪َ ﴿:‬و َ‬
‫)‪ )38‬صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري برقم (‪ ،)3338‬ومسلم برقم (‪.)3434‬‬
‫(‪ )39‬صحيح الجامع لأللباني‪ ،‬رقم‪.)8005( :‬‬
‫طا‬ ‫ص َرا ً‬‫ع ْن ُك ْم َو ِلتَ ُكونَ آ َيةً ِل ْل ُمؤْ ِمنِينَ َو َي ْه ِد َي ُك ْم ِ‬
‫اس َ‬ ‫ِي النا ِ‬ ‫ف أَ ْيد َ‬ ‫َو َك ا‬
‫ُم ْستَ ِقي ًما﴾(الفتح‪ ،)20:‬قال‪« :‬هو كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة» (‪،)40‬‬
‫َاربَ َها‪َ ،‬وإِ َّن‬ ‫ض‪ ،‬فَ َرأَيْتُ َمش ِ‬
‫َارقَ َها َو َمغ ِ‬ ‫َّللاَ زَ َوى ِلي ْاأل َ ْر َ‬
‫إن َّ‬‫وقول النبي ﷺ « َّ‬
‫ي ِلي ِم ْن َها» (‪.)41‬‬ ‫أ ُ َّم ِتي َ‬
‫سيَ ْبلُ ُغ ُم ْل ُك َها َما ُز ِو َ‬

‫عالقة عالمات الساعة بمفهوم الحق‬

‫ساهَا ۖ قُ ْل إِنا َما‬ ‫ع ِة أَياانَ ُم ْر َ‬ ‫سا َ‬‫ع ِن ال ا‬ ‫والقرآن يقول في الساعة‪َ ﴿:‬ي ْسأَلُون ََك َ‬
‫ض ۚ ََّل‬ ‫ت َو ْاْل َ ْر ِ‬ ‫س َم َاوا ِ‬‫ت فِي ال ا‬ ‫ِع ْل ُم َها ِع ْن َد َر ِبي ۖ ََّل يُ َج ِلي َها ِل َو ْقتِ َها ِإ اَّل ُه َو ۚ ثَقُلَ ْ‬
‫ع ْن َها ۖ قُ ْل ِإنا َما ِع ْل ُم َها ِع ْن َد ا ِ‬
‫َّللا َولَ ِك ان أَ ْكثَ َر‬ ‫ي َ‬ ‫تَأْتِي ُك ْم ِإ اَّل بَ ْغتَةً ۗ يَ ْسأَلُون ََك َكأَنا َك َح ِف ٌّ‬
‫اس ََّل يَ ْعلَ ُمونَ ﴾(األعراف‪ ،)187:‬ويفسر اآلية قول النبي ﷺ‪ .. « :‬فإن‬ ‫النا ِ‬
‫الساعة كالحامل المتم التي ال يدري أهلها متى تفجؤهم بوالدها ليال أو‬
‫نهارا»(‪ ، )42‬والقول الجامع لآلية والحديث‪ :‬أن الثقل هو االقتراب‪ ،‬بصورة‬
‫ثابتة للحق على الرغم من تغير مراحل هذا االقتراب‪ ،‬تماما ً مثل الجنين‬
‫الذي يتغير كل يوم من حال إلى حال ولكنه متجه نحو الوالدة‪ ،‬فال يخرج‬
‫التغير اليومي على التوجه للوالدة‪ ،‬فكما ال تنفصل الوالدة عن لحظة‬
‫الجماع األولى كذلك ال تنفصل الساعة عن بدء الخلق‪ ،‬ويؤكد هذا المعنى‬
‫ار الاذِينَ‬ ‫ص ُ‬ ‫صةٌ أَ ْب َ‬ ‫َاخ َ‬ ‫يش ِ‬ ‫ب ْال َو ْع ُد ْال َح ُّق فَإِ َذا ِه َ‬ ‫قول هللا عز وجل‪َ ﴿ :‬وا ْقتَ َر َ‬
‫ظا ِل ِمينَ ﴾ (األنبياء‪.)97 :‬‬ ‫غ ْفلَة ِم ْن َه َذا بَ ْل ُكناا َ‬ ‫َكفَ ُروا َيا َو ْيلَنَا قَ ْد ُكناا فِي َ‬

‫ثم يمر كل يوم ليقترب الوعد الحق‪ ،‬كما قال هللا عز وجل‪ ﴿ :‬أَلَ ْم ت َ َر أَ َّن َّ‬
‫َّللاَ‬
‫ت ِبخ َْل ٍ‬
‫ق‬ ‫ق ۚ إِ ْن َيشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم َو َيأ ْ ِ‬
‫ض ِب ْال َح ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫س َم َاوا ِ‬‫َخلَقَ ال َّ‬
‫َجدِي ٍد﴾(إبراهيم‪ )19:‬ألن أي اقتراب من الوعد الحق هو نفسه حق‪ ،‬ثم تأتي‬
‫كل أحداث الساعة لتكون بذاتها أشد إظهارا ً للحق‪ ،‬فاالنشقاق حق‪ِ ﴿ :‬إذَا‬
‫ت ﴾ (االنشقاق‪ ،)2-1‬ومد األرض حق‪﴿ :‬‬ ‫ت َوأَ ِذن ْ‬
‫َت ِل َربِ َها َو ُحقَّ ْ‬ ‫شقَّ ْ‬ ‫س َما ُء ا ْن َ‬
‫ال َّ‬
‫ص ْي َحةَ‬‫َّت﴾ (االنشقاق)‪ ،‬والصيحة حق‪َ ﴿ :‬ي ْو َم َي ْس َمعُونَ ال َّ‬ ‫ض ُمد ْ‬ ‫َو ِإذَا ْاأل َ ْر ُ‬
‫)‪ )40‬تفسير ابن كثير ص‪ 161‬ج‪4‬‬
‫)‪ (41‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم‪ ،‬رقم‪.)5149( :‬‬
‫)‪ )42‬مسند أحمد بن حنبل‪ ،‬رقم ‪.5/198‬‬
‫ق ۚ َٰذَ ِل َك َي ْو ُم ْال ُخ ُروجِ﴾ (ق‪ ،)42:‬والميزان حق‪َ { :‬و ْال َو ْز ُن َي ْو َمئِ ٍذ ْال َح ُّق ۚ‬ ‫ِب ْال َح ِ‬
‫ت َم َو ِازينُهُ فَأُو َٰلَئِ َك ُه ُم ْال ُم ْف ِل ُحونَ }(األعراف‪.)8:‬‬
‫فَ َم ْن ثَقُلَ ْ‬

‫وبداية الخلق إلى نهايته‪ ،‬بدء وإعادة‪ ،‬هو حق ألنه من هللا‪َ ( :‬و ُه َو الَّذِي َي ْبدَأ ُ‬
‫ضۚ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫س َم َاوا ِ‬ ‫علَ ْي ِه ۚ َولَهُ ْال َمث َ ُل ْاأل َ ْعلَ َٰى فِي ال َّ‬
‫ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ َو ُه َو أَ ْه َو ُن َ‬
‫اط ُل َو َما‬ ‫ئ ْالبَ ِ‬ ‫يز ْال َح ِكي ُم) (الروم‪ ،)27:‬كما قال سبحانه‪َ { :‬و َما يُ ْب ِد ُ‬ ‫َو ُه َو ْالعَ ِز ُ‬
‫يُ ِعيد}(سبأ‪ ،)49:‬وبصفة عامة‪ ،‬ارتبطت الساعة بالحق في قول هللا الجامع‪:‬‬
‫ِير َوأَ َّن‬
‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫علَ َٰى ُك ِل َ‬ ‫َّللاَ ُه َو ْال َح ُّق َوأَنَّهُ يُ ْح ِيي ْال َم ْوتَ َٰى َوأَنَّهُ َ‬ ‫( َٰذَ ِل َك ِبأ َ َّن َّ‬
‫ور ) (الحج‪.)7-6:‬‬ ‫ث َم ْن فِي ْالقُبُ ِ‬ ‫ْب فِي َها َوأَ َّن َّ‬
‫َّللاَ يَ ْب َع ُ‬ ‫عةَ آتِيَةٌ َال َري َ‬ ‫سا َ‬ ‫ال َّ‬

‫وبصفة عامة أيضا ً ارتبطت الساعة بالثقل‪ ،‬وهو ارتباط بالحق من حيث‬
‫المعنى‪ ،‬ألن اآلية تصف الحق بالثقل ألن الحق له ثقل حقيقي‪ ،‬وفى هذا قول‬
‫المزمل‪ ،)5:‬و«ثقيالً» في اآلية ليست‬ ‫سنُ ْل ِقي َ‬
‫علَي َْك قَ ْوَّلً ثَ ِقيَلً} ( َّ‬ ‫هللا‪ِ { :‬إناا َ‬
‫مجازاً‪ ،‬بل إنها حقيقة وصفها الصحابة فيما رووه عن صفة الوحي المنزل‬
‫على النبي ﷺ‪ ،‬فعن عائشة رضي هللا عنها أن النبي كان إذا أوحي إليه وهو‬
‫على ناقته وضعت جرانها على األرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري‬
‫عنه (‪.)43‬‬

‫ض الَ‬‫ت َواأل َ ْر ِ‬
‫س َم َاوا ِ‬ ‫وعلى هذا أيضا ً يكون قول هللا في اآلية‪ ﴿:‬ثَقُلَ ْ‬
‫ت ِفي ال َّ‬
‫تَأ ْ ِتي ُك ْم إِالَّ بَ ْغتَةً} (األعراف‪ ،)187:‬أي‪ :‬إن السماوات واألرض تثقل‬
‫بالساعة‪ ،‬والتعبير العام عن عالمات الساعة يفيد معنى هذا الثقل‪ ،‬مثل‬
‫القارعة التي تفيد الثقل والشدة‪ ،‬والطامة التي تفيد الثقل والشمول‪ ،‬والزلزلة‬
‫ض أ َثْقَا َل َها}‬ ‫التي تفيد النوء بالثقل‪ ،‬ومنه قول هللا سبحانه‪َ { :‬وأَ ْخ َر َج ِ‬
‫ت األ َ ْر ُ‬
‫(الزلزلة‪ ،)2:‬وقوله‪َ ﴿:‬وأَ ْلقَ ْ‬
‫ت َما فِي َها َوتَخَلَّ ْ‬
‫ت ﴾(االنشقاق‪ )4:‬هذا هو الحق‬
‫في بداية الوجود ونهايته‪.‬‬

‫)‪ )43‬دالئل النبوة للبيهقي برقم (‪ ،)2986‬والمستدرك على الصحيحين برقم (‪ ،)3739‬والتوحيد البن خزيمة برقم (‪.)377‬‬
‫أما الحق بينهما فهو حق العالمات‪ ،‬وهو موضوع الدراسة تحديداً‪ ،‬ويتميز‬
‫الحق في مرحلة العالمات بأنه أوال‪ :‬شواهد ثبات المرحلة الدنيا‪ ،‬ثانيا‪:‬‬
‫شواهد االنتقال من الدنيا لآلخرة‪ ،‬ثالثا‪ :‬شواهد اجتماع كل ما كان في الدنيا‬
‫في العالمات رابعا‪ :‬ارتباط كل أحداث العالمات بالسنن الثابتة‪ ،‬خامسا‪:‬‬
‫اإلخبار عن كل ذلك‪ ،‬وتحققه في الواقع‪.‬‬

‫عالقة عالمات الساعة بالعدل‬


‫والحقيقة أن هذا األصل تتمثل دالئله بصفة أساسية في عالمة المهدي‪ ،‬ذلك‬
‫ألن أهم عمل للمهدي هو أنه يمأل الدنيا عدالً كما ملئت جورا ً‪ ،‬وإن كان هذا‬
‫هو العمل األساسي للمهدي‪ ،‬إال أن هناك دالئل على العدل مرتبطة بالمهدي‬
‫لها قيمة تصورية عظيمة وهي حادثة الخسف بجيش السفياني المذكور في‬
‫حديث أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬يخرج رجل يقال‬
‫له السفياني في عمق دمشق‪ ،‬وعامة من يتبعه من كلب‪ ،‬فيقتل حتى يبقر‬
‫بطون النساء أو يقتل الصبيان‪ ،‬فتجمع لهم قيس فيقتلها‪ ،‬ويخرج رجل من‬
‫أهل بيتي في الحرة فيبلغ السفياني فيبعث إليه جندا ً من جنده فيهزمهم‪ ،‬فيسير‬
‫إليه السفياني بمن معه حتى إذا صار ببيداء من األرض خسف بهم‪ ،‬فال‬
‫ينجو منهم إال المخبر عنه»(‪.)44‬‬

‫وقبل تفسير حادثة خسف جيش السفياني نستطرد قليالً في مفهوم العدل في‬
‫هذه المرحلة الزمنية التي نسميها عالمات الساعة‪.‬‬

‫وفي هذا االستطراد يجب أن نفهم أن العدل في هذه المرحلة سيكون مفهوما ً‬
‫كونيا ً قدريا‪ ،‬والقصاص فيه ليس على هيئة القصاص بالمعنى الشرعي‬
‫للكلمة‪ ،‬مثل حادثة الشاة الجلحاء والشاة القرناء‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬لتؤدن الحقوق‬
‫إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (‪.)45‬‬
‫(‪.)8704‬‬‫)‪ )44‬المستدرك على الصحيحين برقم‬
‫)‪ )45‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم برقم (‪.)4686‬‬
‫فالظلم في هذه الحادثة ظلم كوني قدري ألن الحيوان غير مكلف شرعا‬
‫باالمتناع عنه‪ ،‬والقصاص أيضا ً قصاص كوني قدري كذلك ألنه قصاص‬
‫غير تكليفي‪ ،‬وبهذا المعنى ننتقل إلى واقع حادثة خسف الجيش‪.‬‬
‫وعناصر حادثة خسف الجيش‪ :‬المهدي‪ ،‬وهو من نسل فاطمة‪ ،‬والجيش الذي‬
‫سمع به وأراد أن يقاتله وعلى رأسه رجل اسمه «السفياني»‪ ،‬ثم الخسف‬
‫بالجيش قبل الوصول إليه‪.‬‬

‫والتفسير هو أن المهدي من نسل فاطمة وعلي أبو الحسين‪ ،‬وأن السفياني‬


‫آخر الزمان يوافق اسمه اسم أبو معاوية وجد يزيد‪ ،‬وأن الفتنة بين علي‬
‫ومعاوية وامتدادها في الحسين ويزيد‪ ،‬وأن الفئة الباغية في الفتنة كانت فئة‬
‫معاوية‪ ،‬وأن التصحيح بالقصاص الكوني يحتم أن ينتصر عليّ في امتداده‬
‫المهدي‪ ،‬ويهزم معاوية في امتداده السفياني‪.‬‬

‫وتنعكس نتيجة الصراع بين امتداد األطراف ليكون القصاص والتصحيح‪،‬‬


‫روى مسلم عن أم سلمة‪ :‬وسئلت عن الجيش الذي يخسف به‪ ،‬وكان ذلك في‬
‫أيام الزبير فقالت‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬ويعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه البعث‪،‬‬
‫فإذا كانوا ببيداء من األرض خسف بهم‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬وكيف بما كان‬
‫كارهاً؟ قال‪ :‬يخسف به معهم‪ ،‬ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته»‪ ،‬وقال ﷺ‪:‬‬
‫ف‬ ‫ض يُ ْخ َ‬
‫س ُ‬ ‫ْش َي ْغ ُزونَهُ َحتَّى ِإذَا َكانُوا بِ َب ْيدَا َء ِمنَ ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ْت َجي ٌ‬ ‫«لَ َي ُؤ َّم َّن َهذَا ْال َبي َ‬
‫ش ِريدُ الَّذِي‬
‫ف بِ ِه ْم‪ ،‬فَ َال يَ ْبقَى ِإ َّال ال َّ‬ ‫س ِط ِه ْم‪َ ،‬ويُنَادِي أ َ َّولُ ُه ْم ِ‬
‫آخ َر ُه ْم ث ُ َّم يُ ْخ َ‬
‫س ُ‬ ‫ِبأ َ ْو َ‬
‫يُ ْخ ِب ُر َ‬
‫ع ْن ُه ْم »(‪.)46‬‬

‫ى‬
‫اإلله» يف العالمات‬
‫ي‬ ‫فعل «الجمع‬
‫وقد أوضحنا أن العالمات هي «أفعال هللا الجامعة»‪ ،‬ومعنى الجمع في‬
‫التعريف هو‪ :‬أن الساعة هي إعادة الخلق إلى هللا‪ ،‬والعالمات هي الجمع‬
‫السابق لإلعادة‪ ،‬وبصفة عامة فقد تحققت حقيقة «الجمع» في العالمات‪،‬‬
‫(‪ )46‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم برقم (‪.)5137‬‬
‫وفى كل عالمة بذاتها‪ ،‬مثلما اجتمع نسب النبي ﷺ واسمه وصفته في‬
‫المهدي‪ ،‬واجتمعت فتنة الخير في عيسى ابن مريم عليه السالم‪ ،‬واجتمعت‬
‫فتنة الشر في الدجال‪ ،‬واجتمعت اآليات في الدابة‪.‬‬

‫وبذلك يجمع هللا أفعاله في العالمات‪ ،‬وقاعدة جمع الشيء قبل إعادته فعل‬
‫إلهي ثابت‪ ،‬ومثاله الواضح‪ :‬جمع اإلسالم في المدينة ثم رفعه منها كما قال‬
‫رسول هللا ﷺ «إن اإلسالم بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ‪ ،‬وهو يأرز بين‬
‫المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» (‪.)47‬‬

‫ومثاله أيضاً‪ :‬جمع الناس في أرض المحشر وجمعهم في الساهرة‪ ،‬ومثاله‬


‫ضتُهُ يَ ْو َم‬ ‫أيضا‪ :‬جمع السماوات‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ { :‬واأل َ ْر ُ‬
‫ض َج ِميعًا قَ ْب َ‬
‫َّات ِب َي ِمي ِن ِه} ( ُّ‬
‫الز َمر‪ ،)67:‬ومثاله أيضاً‪ :‬جمع‬ ‫ماواتُ َم ْ‬
‫ط ِوي ٌ‬ ‫س َ‬ ‫ْال ِق َيا َم ِة َوال َّ‬

‫ور فَ َج َم ْعنَا ُه ْم َج ْمعًا}‬


‫ص ِ‬‫األرواح بالنفخ في الصور‪َ { :‬ونُ ِف َخ فِي ال ُّ‬

‫(الكهف‪ ،)99:‬وسيفهم فعل «الجمع اإللهي» بصورة تفصيلية كاملة من‬


‫خالل عرض العالمات ذاتها فيما بعد‪.‬‬

‫(‪ )47‬صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري برقم (‪ ،)1753‬ومسلم برقم (‪.)213‬‬


‫الفصل الثاني‬
‫«الوحدة الطبيعية للعالمات‪ :‬التجانس‪ ،‬التقسيم‪،‬‬
‫الكبر‪ ،‬حساب الزمن‪ ،‬اإلنذار‪ ،‬النهاية أو اإلعادة‪،‬‬
‫الفجائية»‪.‬‬
‫الوحدة الطبيعية للعالمات‬
‫وبعد فهم العالمة باعتبارها فعال إلهيا جامعا‪ ،‬ننتقل إلى فهم العالمات‬
‫باعتبار الوحدة الطبيعية بينها‪ ،‬وهي الوحدة الناتجة عن وضعية كل‬
‫العالمات كبرزخ بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬وهي الواردة في التعريف «في نهاية‬
‫الدنيا وبداية اآلخرة‪.‬‬
‫التجانس‪:‬‬
‫وباعتبار أن عالمات الساعة ال تخرج في بدايتها ونهايتها عن مرحلة واحدة‬
‫وهي البرزخ‪ ،‬لزم تحقيق التجانس بين العالمات في إطار وحدة المرحلة‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى لزم تحقيق التجانس بين العالمات جميعها وبين الساعة‬
‫ذاتها‪ ،‬ليتمثل هذا التجانس في وحدة األسلوب الذي يُهدم به البناء الكوني‬
‫الذي سيكون في الساعة ذاتها وبين إهالك األمم في الدنيا كمقدمة للساعة‬
‫ومنها القارعة والرجفة والصيحة‪.‬‬

‫أما الربط بين إهالك األمم واإلهالك العام وقت قيام الساعة فقد جاء في عدة‬
‫ع ْن ُه ْم‬
‫َت َ‬ ‫س ُه ْم ۖ فَ َما أَ ْغن ْ‬ ‫ظ َل ْمنَا ُه ْم َو َٰلَ ِك ْن َ‬
‫ظ َل ُموا أَ ْنفُ َ‬ ‫مواضع‪ ،‬منها قوله تعالى‪َ ( :‬و َما َ‬
‫غي َْر‬ ‫ش ْيءٍ لَ َّما َجا َء أَ ْم ُر َر ِب َك ۖ َو َما زَ ادُو ُه ْم َ‬ ‫َّللاِ ِم ْن َ‬ ‫عونَ ِم ْن د ِ‬
‫ُون َّ‬ ‫آ ِل َهت ُ ُه ُم الَّتِي َي ْد ُ‬
‫تَتْبي ٍ َٰ‬
‫شدِيدٌ ِإ َّن ِفي‬ ‫ظا ِل َمةٌ ۚ ِإ َّن أَ ْخذَهُ أَ ِلي ٌم َ‬
‫ي َ‬ ‫ب َو َكذَ ِل َك أَ ْخذُ َر ِب َك ِإذَا أَ َخذَ ْالقُ َر َٰى َو ِه َ‬ ‫ِ‬
‫َٰ‬ ‫َٰ‬ ‫َٰ‬
‫اس َوذَ ِل َك َي ْو ٌم‬ ‫ع لَهُ النَّ ُ‬ ‫اب ْاآل ِخ َر ِة ۚ ذَ ِل َك َي ْو ٌم َم ْج ُمو ٌ‬ ‫عذَ َ‬
‫َاف َ‬ ‫ذَ ِل َك َآل َيةً ِل َم ْن خ َ‬
‫َم ْش ُهودٌ َو َما نُ َؤ ِخ ُرهُ ِإ َّال ِأل َ َج ٍل َم ْعدُو ٍد) (هود‪.)104 -101:‬‬

‫علَ ْي ِه ُم ْالعُ ُم ُر ۗ أَفَ َال‬


‫طا َل َ‬‫وقول هللا سبحانه ( َب ْل َمت َّ ْعنَا َٰ َهؤ َُال ِء َوآ َبا َء ُه ْم َحت َّ َٰى َ‬
‫ط َرافِ َها ۚ أَفَ ُه ُم ْالغَا ِلبُونَ ) (األنبياء‪،)44:‬‬ ‫ص َها ِم ْن أَ ْ‬ ‫ض نَ ْنقُ ُ‬ ‫َي َر ْونَ أَنَّا نَأْتِي ْاأل َ ْر َ‬
‫حيث ورد في إنقاص األرض هو خراب األرض وإهالك أهلها‪ ،‬وذلك‬
‫بموت علمائها(‪ ،)48‬وهو العالمة التي قال فيها النبي ﷺ‪« :‬يرفع العلم ويكثر‬
‫الجهل ويكثر الزنى والزالزل»(‪ ،)49‬حتى تقوم الساعة بزلزالها األكبر‪،‬‬
‫عذَابًا‬ ‫وقول هللا ( َو ِإ ْن ِم ْن قَ ْريَ ٍة ِإ َّال ن َْح ُن ُم ْه ِل ُكوهَا قَ ْب َل َي ْو ِم ْال ِق َيا َم ِة أ َ ْو ُم َع ِذبُوهَا َ‬

‫)‪ )48‬قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة نقال عن تفسير ابن كثير‪.‬‬
‫)‪)49‬صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري برقم (‪.)10366‬‬
‫ورا) (اإلسراء‪ ،)58:‬وهذا إخبار من هللا‬
‫ط ً‬ ‫شدِيدًا ۚ َكانَ َٰذَ ِل َك فِي ْال ِكتَا ِ‬
‫ب َم ْس ُ‬ ‫َ‬
‫عز وجل حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ أنه ما من قرية‬
‫إال سيهلكها‪ ،‬أي يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم‪.‬‬

‫وكما كانت الزالزل في العالمات مقدمة لزلزال الساعة األكبر‪ ،‬كانت‬


‫الصواعق في العالمات مقدمة لصعق الساعة األكبر‪ ،‬كما قال النبي ﷺ‪:‬‬
‫«تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة حتى يأتي الرجل القوم فيقول من‬
‫صعق قبلكم الغداة؟ فيقولون‪ :‬صعق فالن وفالن وفالن» (‪ ،)50‬وكما قال‬
‫ت و َمن‬
‫س َم َوا ِ‬ ‫ور فَ َ‬
‫ص ِعقَ َمن فِي ال َّ‬ ‫ص ِ‬‫تعالى في الصعق األكبر‪ ﴿:‬ونُ ِف َخ فِي ال ُّ‬
‫ض﴾(الزمر‪.)68:‬‬‫فِي األ َ ْر ِ‬

‫وبذلك أصبحت العالمات بين يدي الساعة متجانسة تماما ً مع الساعة ذاتها‪،‬‬
‫فمن العالمات‪« :‬كثرة الزالزل»‪ ،‬وكانت هي الزلزال األكبر‪ ،‬ومن‬
‫العالمات‪« :‬كثرة الصواعق»‪ ،‬وكانت هي الصاعقة الكبرى‪.‬‬

‫التعاظم‪:‬‬

‫ومن مرحلة إهالك األمم كمقدمة بين يدي الساعة‪ ،‬يبقى التجانس ليتجه نحو‬
‫التعاظم في عالمات الساعة نفسها بعد إهالك األمم كمقدمة لها‪ ،‬أي أن‬
‫العالمة التي تتجانس مع أختها يتحقق فيها كلما استمرت طبيعة الساعة‬
‫لتكون الساعة أكبر وأعظم صورة للعالمات‪.‬‬

‫التقسيم‪« :‬صغرى وكبرى»‪:‬‬


‫ومن خالل األساس العام تتحدد الخصائص العامة لعالمات الساعة‪ ،‬وأول‬
‫هذه الخصائص هو انقسامها إلى صغرى وكبرى‪ ،‬والصغرى هي العالمات‬
‫سا في طبيعتها مع الدنيا‪ ،‬والكبرى هي العالمات التي‬
‫التي تكون أكثر تجان ً‬
‫سا في طبيعتها مع اآلخرة‪.‬‬‫تكون أكثر تجان ً‬
‫)‪ )50‬أخرجه أحمد في مسنده (‪ »65-64/3‬والحاكم (‪ /491/4‬ح ‪ »8373‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم‬
‫يخرجاه‪ ،‬من حديث أبي سعيد الخدري – رضي هللا عنه ‪.-‬‬
‫والعالمات الصغرى هي المثبتة للخلل الذي سيصيب الدنيا ليكون من أوله‬
‫ع ِن ْال ُم ْن َك ِر‪َ ،‬حتَّى إِذَا‬ ‫وف َوتَنَاه َْوا َ‬‫خبر النبي ﷺ حيث قال‪« :‬ائْت َ ِم ُروا بِ ْال َم ْع ُر ِ‬
‫اب ُك ِل ذِي َرأْي ٍ بِ َرأْ ِي ِه‪،‬‬ ‫عا َوه ًَوى ُمتَّبَعًا‪َ ،‬ودُ ْن َيا ُمؤْ ثَ َرةً‪َ ،‬و ِإ ْع َج َ‬ ‫طا ً‬ ‫ش ًّحا ُم َ‬
‫ْت ُ‬ ‫َرأَي َ‬
‫ع أ َ ْم َر ْال َع َو ِام‪ ،‬فَإِ َّن ِم ْن‬
‫ِك‪َ ،‬ودَ ْ‬ ‫صةَ نَ ْفس َ‬‫ان لَ َك ِب ِه‪ ،‬فَعَلَي َْك ُخ َو ْي َ‬ ‫ْت أَ ْم ًرا َال َيدَ ِ‬‫َو َرأَي َ‬
‫ام ِل فِي ِه َّن ِمثْ ُل‬ ‫علَى ْال َج ْم ِر‪ِ ،‬ل ْل َع ِ‬‫ْض َ‬ ‫صب ُْر فِي ِه َّن ِمثْ ِل قَب ٍ‬ ‫صب ِْر‪ ،‬ال َّ‬ ‫َو َرائِ ُك ْم أَي َ‬
‫َّام ال َّ‬
‫ع َم ِل ِه»(‪.)51‬‬ ‫أَ ْج ِر َخ ْمسِينَ َر ُج ًلا يَ ْع َملُونَ ِب ِمثْ ِل َ‬

‫وما بين المرحلتين مرحلة وسط‪ ،‬وهي العالمات التي تشهد التحول من‬
‫الغيب إلى الشهادة‪ ،‬أو اقتراب الشهادة من الغيب‪ ،‬ومنها قول رسول هللا ﷺ‪:‬‬
‫«في آخر الزمان ال تكاد رؤيا المؤمن تكذب» (‪ ،)52‬وقوله‪َ « :‬والَّذِي نَ ْفسِي‬
‫عذَبَةُ َ‬
‫س ْو ِط ِه‪،‬‬ ‫الر ُج َل َ‬ ‫اإل ْن َ‬
‫س‪َ ،‬ويُ َك ِل َم َّ‬ ‫عةُ َحتَّى يُ َك ِل َم ِ‬
‫السبَاعُ ْ ِ‬ ‫سا َ‬ ‫ِبيَ ِد ِه‪َ ،‬ال تَقُو ُم ال َّ‬
‫ث أ َ ْهلُهُ بَ ْعدَهُ» (‪.)53‬‬
‫َو ِش َراكُ نَ ْع ِل ِه‪َ ،‬ويُ ْخبِ َرهُ فَ ِخذُهُ بِ َما أَ ْحدَ َ‬

‫حساب الزمن‬
‫وقبل تفسير هذه الخصيصة نفسر العالقة بين الحدث والزمن أصالً‪ ،‬فبصفة‬
‫عامة‪ ،‬فإن الدنيا كانت نموذجا ً عاما ً للعالقة بين الحدث والزمن‪ ,‬وهي الحالة‬
‫التي يذكر فيها قوة الحدث وزمنه دون غلبة ألحدهما على اآلخر‪ ،‬فنقول في‬
‫الدنيا‪ :‬حدث كذا يوم كذا‪ ،‬واالستثناء منها نموذج للحال الثاني‪ ،‬مثال قول‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫ت إِلَى‬ ‫س ْلنَا ُمو َ‬
‫س َٰى ِبآ َيا ِتنَا أَ ْن أَ ْخ ِرجْ قَ ْو َم َك ِمنَ ُّ‬ ‫هللا عز وجل‪َ ( :‬ولَقَ ْد أَ ْر َ‬
‫ور) (إبراهيم‪،)5:‬‬ ‫ش ُك ٍ‬
‫َّار َ‬ ‫ت ِل ُك ِل َ‬
‫صب ٍ‬ ‫َّللاِ ۚ ِإ َّن ِفي َٰذَ ِل َك َآل َيا ٍ‬
‫ور َوذَ ِك ْر ُه ْم ِبأَي َِّام َّ‬
‫النُّ ِ‬
‫أي‪ :‬بنعمه ونقمه‪ ،‬أي أن األيام عرفت بالنعم والنقم‪.‬‬

‫ومثل أن تقول‪ :‬يوم بدر‪ ،‬وعام الفيل‪ ،‬فيُعرف الزمن بالحدث‪ ،‬أي إن الحدث‬
‫يغلب على الزمن‪ ،‬وهي الحالة الثانية من العالمات حيث تقترب الدنيا من‬
‫النهاية فيبدأ حساب الزمن بالحدث بعد غلبة الحدث على الزمن‪ ،‬مثل قول‬
‫ص‬‫ص َو َما يَ ْو ُم ْالخ ََال ِ‬
‫ص يَ ْو ُم ْالخ ََال ِ‬
‫ص َو َما يَ ْو ُم ْالخ ََال ِ‬
‫النبي ﷺ‪« :‬يَ ْو ُم ْالخ ََال ِ‬
‫(‪ )51‬سنن ابن ماجة برقم (‪.)4012‬‬
‫(‪ )52‬مسند أحمد بن حنبل برقم (‪.)7457‬‬
‫(‪ )53‬مسند ابن حنبل برقم (‪ .)11581‬ومصنف ابن أبي شيبة برقم (‪.)36560‬‬
‫ص» قَا َل‪:‬‬ ‫ص ثَ َالثًا»‪ ،‬فَ ِقي َل لَهُ‪َ « :‬و َما َي ْو ُم ْالخ ََال ِ‬ ‫ص َو َما يَ ْو ُم ْالخ ََال ِ‬ ‫َي ْو ُم ْالخ ََال ِ‬
‫ص َحا ِب ِه أَتَ َر ْونَ َهذَا‬ ‫ظ ُر ْال َمدِينَةَ فَيَقُو ُل ِأل َ ْ‬ ‫ص َعدُ أ ُ ُحدًا فَيَ ْن ُ‬
‫«يَ ِجي ُء الدَّ َّجا ُل فَيَ ْ‬
‫ب ِم ْن َها َملَ ًكا‬‫ض َهذَا َم ْس ِجدُ أَ ْح َمدَ ث ُ َّم يَأْتِي ْال َمدِينَةَ فَيَ ِجدُ بِ ُك ِل نَ ْق ٍ‬ ‫ْالقَ ْ‬
‫ص َر ْاأل َ ْبيَ َ‬
‫ت‬ ‫ث َر َجفَا ٍ‬ ‫ف ْال َمدِينَةُ ثَ َال َ‬‫ب ُر َواقَهُ ث ُ َّم ت َ ْر ُج ُ‬
‫ف فَ َيض ِْر ُ‬ ‫ص ِلتًا فَ َيأ ْ ِتي َ‬
‫س ْب َخةَ ْال َح ْر ِ‬ ‫ُم ْ‬
‫فَ َال َي ْبقَى ُمنَافِ ٌق َو َال ُمنَافِقَةٌ َو َال فَا ِس ٌق َو َال فَا ِسقَةٌ إِ َّال خ ََر َج إِلَ ْي ِه فَذَ ِل َك َي ْو ُم‬
‫ص»(‪.)54‬‬ ‫ْالخ ََال ِ‬

‫مثلما يكون في عالمة الدجال حتى يذكر الرسول ﷺ زمنا ً غير ثابت لحدثه‬
‫فيقول‪« :‬ومدة بقائه في األرض أربعين يوماً‪ ،‬يوم كجمعة ويوم كشهر ويوم‬
‫كسنة وباقي أيامه كأيامكم هذه» (‪ ،)55‬ومن هنا تنشأ داللة جديدة للفظ‪:‬‬
‫«اليوم» ليكون هو الوحدة الزمنية الجامعة ألحداث ذات صفة مشتركة‪.‬‬

‫وهذه القاعدة التي تحسب بها أيام الدجال ستكون مقدمة لحساب الزمن في‬
‫اآلخرة كلها‪ ،‬حتى تأتي الساعة فال يذكر اليوم إال بأحداث لتكون الساعة‬
‫هي الحدث وهي الزمن في نفس الوقت‪ ،‬حتى سميت الساعة بكل أحداثها‬
‫وأهوالها «يوم القيامة»‪.‬‬

‫وقياسا ً على ذلك تكون أحداث الساعة بعد ذهاب الليل والنهار الدنيويين‬
‫فيكون اليوم الذي تنسب إليه أحداث الساعة وحدة زمنية معبرة عن الحدث‬
‫فقط مثل يوم القيامة‪ ،‬يوم البعث‪ ،‬يوم الحشر‪ ،‬يوم الحساب وهكذا‪ ،‬وبذلك‬
‫يكون لحساب الزمن ثالثة معايير‪ :‬الليل والنهار‪ ،‬وهو يوم الدنيا‪ ،‬والحدث‬
‫األكبر من الزمان‪ ،‬وهو أيام العالمات‪ ،‬والحدث الذي هو ذاته حساب‬
‫الزمن‪ ،‬وهو الساعة وأحداثها‪.‬‬

‫وباعتبار مجيء الساعة بغتة فقد حسبت كجزء من اليوم ألن الساعة لغة‬
‫هي الزمن السريع وهي جزء من الليل أصالً‪ ،‬قال ابن منظور‪« :‬الساعة‬

‫)‪ )54‬أخرجه أحمد في المسند (‪ »338/4‬وابن أبي شيبة في «مصنفه»«‪ »19337/143/15‬عن أنس‪ ،‬والحاكم في‬
‫المستدرك «‪ »543/4‬كتاب الفتن‪ ،‬وقال‪ :‬صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه‪.‬‬
‫)‪ )55‬أخرجه مسلم في كتاب الفتن باب ذكر الدجال «‪/289/9‬ح ‪ »2137‬وفي المسند «‪ ،»166/2‬والحاكم في (المستدرك)‬
‫«‪ »551/550/4‬وقال‪ :‬صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‪.‬‬
‫قطعة من الليل‪ ،‬ولكن يمكن إطالقها على الجزء من الليل أو النهار» (‪.)56‬‬

‫اإلنذار‬
‫وباعتبار أن عالمات الساعة إنذار بالساعة‪ ،‬فإن حقيقة اإلنذار قد شملت‬
‫العالمات وطبيعتها‪ .‬وعالمة انشقاق القمر هي الدليل األول على معنى‬
‫اإلنذار في العالمات‪ ،‬فإذا افترضنا أن قيام الساعة ذاته مرهون بالشمس‪،‬‬
‫فيكون انشقاق القمر إنذارا ً لها‪ ،‬بسبب عالقته بالشمس‪ ،‬وباعتبار أن الشمس‬
‫نذيرا‪ ،‬ألن النذير هو‬
‫ً‬ ‫هي بداية الساعة‪ ،‬والقمر قبل الشمس أصبح القمر‬
‫الذي يسبق الحدث بحيث يكون قريبا ً منه‪.‬‬

‫وهذا المعنى ليس استنتاجا ً ولكنه حقيقة قرآنية جاءت فيها سورة كاملة وهي‬
‫عةُ َوا ْنش ََّق ْالقَ َم ُر)‬‫سا َ‬ ‫سورة القمر ابتدا ًء من قول هللا عز وجل‪( :‬ا ْقت َ َربَ ِ‬
‫ت ال َّ‬
‫عذَابِي‬ ‫ْف َكانَ َ‬ ‫(القمر‪ )1:‬حتى آخر السورة مرورا ً بقول هللا في السورة‪( :‬فَ َكي َ‬
‫َونُذُ ِر) (القمر‪ )16:‬عدة مرات‪.‬‬

‫اإلنهاء باإلعادة‬
‫وباعتبار خصيصة التعاظم تأتي خصيصة النهاية ألنها النتيجة للتعاظم‪،‬‬
‫ومعنى النهاية هو نفسه معنى إعادة الخلق إلى الخالق سبحانه‪.‬‬
‫وهذه اإلعادة هي أخطر خصائص العالمات ألن هذه اإلعادة ستكون بنفس‬
‫نظام البدء‪ ،‬فكما أن هللا أنزل األمانة قبل الدين فإنه سبحانه يرفع األمانة قبل‬
‫رفع الدين؛ ولذلك قال رسول هللا ﷺ‪« :‬أول ما يرفع من الناس األمانة وآخر‬
‫ما يرفع الصالة» (‪ ،)57‬ثم يرفع العلم‪ ،‬ثم ترفع األحكام‪ ،‬ثم ترفع الصالة‪ ،‬ثم‬

‫(‪ )56‬لسان العرب البن منظور‪.‬‬


‫)‪ )57‬أخرجه الطبراني عن عمر بن الخطاب‪ ،‬قال الهيثمي في (المجمع) «‪ »321/7‬فيه حكيم بن نافع وثقة ابن معين‬
‫وضعفه أبو زرعة وبقية رجاله ثقات وفي الباب عن أبي هريرة عن أبي يعلي وفيه أشعث ابن براز وهو متروك كذا قال‬
‫الهيثمي ايضا‪ ،‬وفي مسند الفردوس من حديث علي بن أبي طالب مقتصرا على أول الحديث «‪ »48/1‬وعزاه ابن حجر في‬
‫(شديد القوس) إلى أحمد من حديث عوف بن مالك والطبراني من حديث أبي الدرداء‪ ،‬قال األلباني في صحيح الجامع‬
‫«‪ :»353/2‬صحيح‪.‬‬
‫يرفع القرآن‪ ،‬ثم ترفع ال إله إال هللا‪.‬‬
‫هذا هو الدين ذاته‪ ،‬أما واقع الدين فإنه يعود من حيث بدأ‪ ،‬إلى المدينة‪ ،‬كما‬
‫قال رسول هللا ﷺ‪« :‬إن اإليمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى‬
‫جحرها» (‪.)58‬‬

‫البغت‪« :‬الفجائية»‬
‫والبغت‪ :‬صفة للساعة‪ ،‬وهي حقيقة ضرورية لتحقيق التوازن بين ضرورتين‬
‫عةَ‬ ‫لعالمات الساعة‪ :‬خفائها وظهور أشراطها‪ ،‬وقد جمعت اآلية‪( :‬إِ َّن ال َّ‬
‫سا َ‬
‫آ ِتيَةٌ أ َ َكادُ أ ُ ْخ ِفي َها ِلت ُ ْجزَ َٰى ُك ُّل نَ ْف ٍس بِ َما تَ ْس َع َٰى) (طه‪ )15:‬بين هاتين‬
‫الضرورتين‪ ،‬فالساعة ال يعلم وقتها إال هللا‪ ،‬وهذا هو الخفاء‪ ،‬ولكن للساعة‬
‫عالمات تنذر بمجيئها‪ ،‬وهو معنى المقاربة في‪ ﴿:‬أ َ َكادُ أ ُ ْخ ِفي َها ﴾‪.‬‬

‫والبغت هو التوازن بين الضرورتين‪ ،‬فالخفاء ليس مطلقا ً ألن للساعة‬


‫عالمات ظاهرة‪ ،‬والعالمات ال تفيد العلم بوقت الساعة المحدد‪.‬‬
‫وال تفسر هذه العالقة بأحسن من كالم النبي ﷺ‪« :‬الساعة كالحامل المتم ال‬
‫يدري أهلها متى تفجئهم بوالدها ليالً أو نهارا ً»(‪ ،)59‬فتمام الحمل يفيد دخول‬
‫وقت الوالدة‪ ،‬ولكن ال يحدد لحظتها‪ ،‬وهذا تفسير قول هللا عز وجل‪:‬‬
‫ساهَا ۖ قُ ْل ِإنَّ َما ِع ْل ُم َها ِع ْندَ َر ِبي ۖ َال يُ َج ِلي َها‬ ‫ع ِة أَيَّانَ ُم ْر َ‬‫سا َ‬ ‫ع ِن ال َّ‬ ‫( َي ْسأَلُون ََك َ‬
‫ض ۚ َال تَأْتِي ُك ْم إِ َّال بَ ْغتَةً ۗ يَ ْسأَلُون ََك‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س َم َاوا ِ‬‫ت فِي ال َّ‬ ‫ِل َو ْقتِ َها ِإ َّال ُه َو ۚ ثَقُلَ ْ‬
‫اس َال يَ ْعلَ ُمونَ )‬ ‫َّللاِ َو َٰلَ ِك َّن أ َ ْكث َ َر النَّ ِ‬
‫ع ْن َها ۖ قُ ْل إِنَّ َما ِع ْل ُم َها ِع ْندَ َّ‬
‫ي َ‬ ‫َكأَنَّ َك َح ِف ٌّ‬
‫ض) تشبيها ً‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س َم َاوا ِ‬ ‫ت ِفي ال َّ‬ ‫(األعراف‪ ،)187:‬ولذلك جاءت‪( :‬ثَقُلَ ْ‬
‫بثقل الحمل‪.‬‬

‫ويصور النبي ﷺ البَ ْغت في قيام الساعة فيقول‪« :‬لتقومن الساعة وقد نشر‬
‫الرجالن ثوبهما فال يتبايعانه‪ ،‬وال يطويانه‪ ،‬ولتقومن الساعة وقد انصرف‬
‫الرجل بلبن لقحته فال يطعمه» (‪.)60‬‬
‫)‪ )58‬أخرجه البخاري في (فضائل المدينة)‪ ،‬باب اإليمان يأرز إلى المدينة «‪»1876/111/4‬‬
‫)‪ )59‬مسند أحمد‪5/189‬‬
‫)‪ )60‬أخرجه البخاري في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬بدون ترجمة‪ ،‬الفتح «‪.»7121/88 / 13‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬التصور املنهجي‬

‫للعالمات‬

‫«المهدي‪ ،‬الدجال‪ ،‬عيىس ابن مريم‪ ...‬يأجوج ومأجوج‪ ،‬الدابة‪،‬‬


‫الشمس»‬
‫اتفقنا أن العالمات هي أفعال هللا الجامعة‪« ،‬وكان تفسير هذا الجزء هو الفصل‬
‫األول من الكتاب»‪ ،‬في نهاية الدنيا وبداية اآلخرة‪« ،‬وكان تفسير هذا الجزء‬
‫هو الفصل الثاني»‪.‬‬

‫وتحقيق إيمان الناس من خالل العالمات يكون باعتبار زمنيين مختلفين‪،‬‬


‫األول‪ :‬زمن ما قبل حدوث العالمات‪ ،‬وتحقيق اإليمان فيه يكون بفهم‬
‫العالمات واليقين في حدوثها والتصور الصحيح إلسقاطها على الواقع‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬زمن حدوث العالمات في آخر الزمان‪ ،‬وتحقيق اإليمان فيه يكون‬
‫بحدوث العالمة ذاتها وتحققها في الواقع فعالً‪ ،‬وباعتبارنا في زمن ما قبل‬
‫الحدوث فإن تحقيق إيمان الناس يكون‪ :‬بفهم العالمات عموما‪ ،‬وبفهم كل‬
‫عالمة على وجه الخصوص‪.‬‬
‫أوال‪ :‬المهدي‬
‫والحكمة األساسية في عالمة المهدي هي أنه حلقة في االمتداد بصالحية‬
‫األمة حتى آخر الزمان‪ ،‬ولذلك اجتمعت فيه كل عوامل هذا االمتداد‪ ،‬أما‬
‫الدليل على هذه الحكمة فهو االرتباط الثابت في نصوص المهدي بينه وبين‬
‫آخ ُرهَا‪،‬‬ ‫ْف تَ ْه ِلكُ أ ُ َّمةٌ أَنَا أَ َّولُ َها َو ِعي َ‬
‫سى اب ُْن َم ْر َي َم ِ‬ ‫النبي ﷺ حيث يقول‪َ « :‬كي َ‬
‫س ِط َها» (‪ )61‬ولعل ذكر المهدي في الوسط يدل‬ ‫َو ْال َم ْه ِد ُّ‬
‫ي ِم ْن أَ ْه ِل َب ْيتِي فِي َو َ‬
‫على أن األمة قد استحقت االنقطاع في زمن يأتي بعد ذلك ويأتي المهدي‬
‫ليصحح حالها بإذن هللا لتبقى حتى آخر الزمان‪.‬‬

‫واستمرار األمة بالمهدي إلى آخر الزمان قدر مكتوب البد أن يكون بإذن‬
‫هللا مهما بلغت المدة التي سيمتد بها‪ ،‬حتى ولو كانت يوما ً واحداً‪ ،‬بدليل قول‬
‫رسول هللا ﷺ‪« :‬لو لم يبق من الدنيا إال ليلة لتملك فيها رجل من أهل بيتي»‬
‫(‪.)62‬‬
‫وذكر ظهور المهدي بهذه الصورة هو الذي يؤكد حتمية هذا االمتداد وأنه‬
‫هو الحكمة األصلية من هذا الظهور‪ ،‬ولعل البقاء على إمامة األمة في‬
‫الصالة حتى آخر الزمان دليل على هذا االمتداد‪ ،‬وقول النبي ﷺ‪ ..« :‬فينزل‬
‫(‪ )61‬تاريخ دمشق البن عساكر برقم (‪.)20731‬‬
‫(‪ )62‬عزاه صاحب عقد الدرر إلى الحافظ أبي نعيم في (صفة المهدي) من حديث أبو هريرة‪.‬‬
‫عيسى ابن مريم عليه السالم فيقول أميرهم‪ :‬تعال صل لنا‪ ،‬فيقول‪ :‬إن‬
‫بعضكم على بعض أمراء تكرمة هللا هذه األمة» (‪ )63‬هو نص صريح في‬
‫هذا المعنى‪.‬‬

‫ولكن االمتداد باألمة حتى آخر الزمان ليس مهمة سهلة‪ ،‬بل تتطلب أن يجتمع‬
‫في المهدي كل اإلمكانيات الالزمة لهذا االمتداد‪ ،‬وأول هذه اإلمكانيات‪:‬‬
‫الخالفة‪ ،‬فالمهدي خالفة مباركة سيعينه هللا عليها‪ ،‬ألنه لم يكن يستشرفها‬
‫لنفسه بل كان كارها ً لها‪ ،‬وهذا هو سبب البركة والصالح‪ ،‬ولذلك وألجل‬
‫البركة في الخالفة‪ ،‬كان المهدي هو الخليفة الذي يحثو المال حثوا ً‪ ،‬وفي هذا‬
‫دليل على بركة عدم االستشراف للدنيا والسلطان والمال‪.‬‬

‫وأهم دالئل الهداية القدرية للمهدي المتعلقة بالخالفة هي مكان الخالفة نفسه‪،‬‬
‫ألن هللا عز وجل ذكر هذا المقام كمقام هداية وآيات بينات للعالمين‪ ،‬فقال‬
‫ار ًكا َو ُهدًى ِل ْل َعالَ ِمينَ فِي ِه‬
‫اس لَلَّذِي ِببَ َّكةَ ُمبَ َ‬ ‫ض َع ِللنَّ ِ‬‫ت ُو ِ‬ ‫عز وجل‪( :‬إِ َّن أَ َّو َل بَ ْي ٍ‬
‫ت َم ِن‬‫اس ِح ُّج ْالبَ ْي ِ‬‫علَى النَّ ِ‬‫يم ۖ َو َم ْن دَ َخلَهُ َكانَ ِآمنًا ۗ َو ِ َّّلِلِ َ‬‫َات َمقَا ُم إِب َْرا ِه َ‬
‫ات بَيِن ٌ‬ ‫آيَ ٌ‬
‫ع ِن ْال َعالَ ِمينَ ) (آل عمران‪-96:‬‬ ‫ي َ‬ ‫غ ِن ٌّ‬ ‫يال ۚ َو َم ْن َكفَ َر فَإِ َّن َّ‬
‫َّللاَ َ‬ ‫سبِ ً‬ ‫ع ِإلَ ْي ِه َ‬ ‫ا ْستَ َ‬
‫طا َ‬
‫‪.)97‬‬

‫وجدير بالتدبر ذلك المكان الذي انطلق سيبايع فيه المهدي‪ ،‬فهو بين الركن‬
‫والمقام‪ ،‬وفي ذلك ربط بين سيدنا إبراهيم كأول إمام لألمة المسلمة‪ ،‬وبين‬
‫المهدي كآخر إمام لها‪ ،‬ووسيطة اإلمامة المحمدية بينهما‪ ،‬فهو ارتباط بين‬
‫والية المهدي على المسلمين وبين العهد الذي كان من هللا لهم في قول هللا‬
‫ت َوإِ ْس َما ِعي ُل َربَّنَا تَقَب َّْل ِمنَّا ۖ‬ ‫عز وجل‪َ ( :‬وإِ ْذ يَ ْرفَ ُع إِب َْرا ِهي ُم ْالقَ َوا ِعدَ ِمنَ ْالبَ ْي ِ‬
‫اجعَ ْلنَا ُم ْس ِل َمي ِْن لَ َك َو ِم ْن ذُ ِريَّ ِتنَا أ ُ َّمةً ُم ْس ِل َمةً لَ َك‬
‫س ِمي ُع ْالعَ ِلي ُم َربَّنَا َو ْ‬ ‫ِإنَّ َك أَ ْن َ‬
‫ت ال َّ‬
‫وال‬‫س ً‬ ‫ث فِي ِه ْم َر ُ‬ ‫الر ِحي ُم َربَّنَا َوا ْب َع ْ‬ ‫اب َّ‬ ‫ت الت َّ َّو ُ‬ ‫علَ ْينَا ۖ ِإنَّ َك أَ ْن َ‬
‫َوأَ ِرنَا َمنَا ِس َكنَا َوتُبْ َ‬
‫يز‬‫ت ْال َع ِز ُ‬ ‫اب َو ْال ِح ْك َمةَ َويُزَ ِكي ِه ْم ۚ إِنَّ َك أَ ْن َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم آيَاتِ َك َويُ َع ِل ُم ُه ُم ْال ِكتَ َ‬ ‫ِم ْن ُه ْم يَتْلُو َ‬
‫ْال َح ِكي ُم) (البقرة‪.)129-127:‬‬

‫(‪ )63‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم في (اإليمان) ‪ /‬باب‪ :‬نزول عيسى ابن مريم حاكما (‪/468/1‬ح ‪ ،»156‬والبخاري في (أحاديث‬
‫األنبياء) ‪ /‬باب‪ :‬نزول عيسى ابن مريم عليهما السالم «‪.»3449/566/6‬‬
‫ويجمع بين الثالثة عالمة صورية وهي الشبه بينهم‪ ،‬فأما الشبه بين النبي‬
‫ﷺ وسيدنا إبراهيم فهو قول النبي ﷺ ليلة اإلسراء والمعراج في وصف‬
‫األنبياء‪ ،‬فجاء ذكر سيدنا إبراهيم فقال‪« :‬فإذا أقرب من رأيت به شبها‬
‫صاحبكم (يعني نفسه)» (‪ ،)64‬وأما بالنسبة للشبه بين سيدنا محمد والمهدي‪،‬‬
‫فهو قول الرسول ﷺ في المهدي‪« :‬إنه أجلى الجبهة وأقنى األنف» (‪.)65‬‬

‫ولعل ما يثبت للمهدي التجرد وعدم االستشراف وينفي عنه حب الرياسة‬


‫هو تراجعه لعيسى ليصلى بالناس‪ ،‬فموقف اإلمامة تحديدا هو دليل على‬
‫التجرد ألنه يوضح طبيعة المهدي التي لم تتغير‪ ،‬ألنها الطبيعة الطيبة‬
‫المتجردة التي بقيت بعد ممارسة السلطان والخالفة ووفرة المال‪.‬‬

‫وفاعلية «حفظ األمة» التي للمهدي إنما تعود في أصلها إلى ما بينه وبين‬
‫النبي ﷺ من معنى مشترك‪ ،‬وقد أخبر النبي ﷺ عن نفسه وأنه سبب لحفظ‬
‫األمة‪ ،‬فقال‪« :‬أنا أمنة ألصحابي‪ ،‬وأصحابي آمنة لمن بعدهم»(‪ ،)66‬هذا من‬
‫حيث الحفظ‪ ،‬إما من حيث التمكين في األرض فهو مرتبط كذلك ﷺ بهذا‬
‫ان فَيَ ْغ ُزو‬ ‫اس زَ َم ٌ‬ ‫المقام‪ ،‬وهذا يستدل عليه من قول النبي ﷺ‪َ « :‬يأْتِي َ‬
‫علَى النَّ ِ‬
‫َّللاِ فَيَقُولُونَ نَ َع ْم فَيُ ْفتَ ُح لَ ُه ْم‬
‫سو َل َّ‬ ‫ب َر ُ‬ ‫صا َح َ‬ ‫اس فَيَقُولُونَ فِي ُك ْم َم ْن َ‬ ‫فِئَا ٌم ِم ْن النَّ ِ‬
‫ب‬ ‫صا َح َ‬ ‫اس فَيُقَا ُل ه َْل فِي ُك ْم َم ْن َ‬ ‫ان فَيَ ْغ ُزو فِئَا ٌم ِم ْن النَّ ِ‬ ‫اس زَ َم ٌ‬ ‫علَى النَّ ِ‬ ‫ث ُ َّم يَأْتِي َ‬
‫ان‬‫اس زَ َم ٌ‬ ‫علَى النَّ ِ‬ ‫َّللاِ ﷺ فَ َيقُولُونَ نَ َع ْم فَيُ ْفتَ ُح لَ ُه ْم ث ُ َّم َيأ ْ ِتي َ‬ ‫سو ِل َّ‬ ‫اب َر ُ‬ ‫ص َح َ‬ ‫أَ ْ‬
‫سو ِل‬ ‫اب َر ُ‬ ‫ص َح َ‬ ‫ب أَ ْ‬ ‫ب َم ْن َ‬
‫صا َح َ‬ ‫صا َح َ‬ ‫اس فَيُقَا ُل ه َْل فِي ُك ْم َم ْن َ‬ ‫فَ َي ْغ ُزو فِئَا ٌم ِم ْن النَّ ِ‬
‫َّللاِ ﷺ فَيَقُولُونَ نَ َع ْم فَيُ ْفتَ ُح لَ ُه ْم»(‪.)67‬‬ ‫َّ‬

‫وبذلك يتأكد أن صلة المهدي برسول هللا ﷺ تمثل فاعلية قدرية عظيمة في‬
‫حفظ األمة والتمكين لها في األرض‪.‬‬
‫والتشارك في االسم بين النبي ﷺ وبين المهدي هو من هذه الصلة‪ ،‬إذ أن‬

‫(‪ )64‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم برقم (‪)249‬‬


‫(‪ )65‬إسناده حسن كما قال األرناؤوط وانظر شرح السنة «‪85/15‬ح ‪ ،»86‬باب المهدي وذكره صاحب عقدة الدرر في‬
‫أخبار المنتظر‪ ،‬ص‪.164:‬‬
‫(‪ )66‬أخرجه مسلم في (فضائل الصحابة) ‪ /‬باب‪ :‬بيان أن بقاء النبي ﷺ أمان ألصحابه‪/222/8« .‬ح ‪.»2531‬‬
‫(‪ )67‬أخرجه البخاري في كتاب الفضائل عن أصحاب النبي ﷺ (‪.)3649‬‬
‫لالسم عموما فاعلية قدرية‪ ،‬وفي ذلك ما رواه البخاري عن سعيد بن المسيب‬
‫أن جده حزنا قدم على النبي ﷺ‪ ،‬فقال‪« :‬ما اسمك»‪ ،‬قال‪« :‬اسمي حزن»‪،‬‬
‫قال‪« :‬بل أنت سهل»‪ ،‬قال‪« :‬ما أنا بمغير اسما سمانيه أبي» قال ابن‬
‫المسيب‪« :‬فما زالت فينا الحزونة بعد» (‪.)68‬‬

‫كما كان رسول هللا ﷺ يفسر الرؤى بحسب ما ورد فيها من أسماء‪ ،‬فعن أنس‬
‫ابن مالك أن النبي ﷺ قال‪« :‬رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع‪ ،‬وأتينا‬
‫برطب من رطب ابن طاب‪ ،‬فأولت‪ :‬أن الرفعة لنا في الدنيا‪ ،‬والعاقبة في‬
‫اآلخرة‪ ،‬وأن ديننا قد طاب»‪ ،‬فإذا كان المهدي هو محمد بن عبد هللا‪ ،‬فان حظه‬
‫من ال ُهدى يكفي بإذن هللا ألن يكون هاديا ً مهديا ً‪.‬‬

‫أضف إلى ذلك روعة استخدام النبي ﷺ للفظة «يواطئ» في عبارة «يواطئ‬
‫اسمه اسمي»‪ ،‬فإن لفظ «يواطئ» يعني «الموافقة» كما يعني «التأكيد»‪،‬‬
‫وكأن المهدي بظهوره هو تأكيد لظهور النبي ﷺ بتكميل وجوده‪.‬‬

‫ويدل على أن الحكمة من ظهور المهدي مرتبطة بحفظ األمة ومد زمانها‪،‬‬
‫أنه يظهر في أحوال موجبة كلها للهالك‪ ،‬فعن ثوبان قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪:‬‬
‫«يقتتل عند كنزكم ثالثة كلهم ابن خليفة ثم ال يصير إلى واحد منهم‪ ،‬ثم تطلع‬
‫الرايات السود من قبل المشرق فيقاتلونكم قتاالً لم يقاتله قوم‪ ،‬ثم ذكر شيئا ً ال‬
‫أحفظه‪ ،‬قال‪ :‬فإذا رأيتموه فتابعوه ولو َحبْوا ً على الثلج فإنه خليفة هللا‬
‫المهدي»(‪ ،)69‬ويدل على ذلك أيضا ما أخبر به النبي ﷺ من أنه‪« :‬أبشركم‬
‫بالمهدي يبعث فيأتي على اختالف من الناس وزالزل فيمأل األرض قسطا‬
‫وعدال كما ملئت جورا وظلما يرضى عنه ساكن السماء وساكن األرض»‪،‬‬
‫وفي حديث أم سلمة‪« :‬يكون اختالف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل‬
‫المدينة هاربا ً إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه‬
‫بين الركن والمقام»(‪ ،)70‬وفيه أن األمة كانت مستحقة للهالك قبله‪ ،‬وفيه‬
‫أيضا أنه قد عقد له خصلة مانعة لألمة من الفتن والهالك‪ ،‬وهي أنه محفوف‬

‫(‪ )68‬صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري برقم (‪.)5754‬‬


‫(‪ )69‬نهاية البداية والنهاية البن كثير‪ ،‬والبحر الزخار والتذكرة للقرطبي‪.‬‬
‫(‪ )70‬أخرجه أبو داود في (المهدي) (‪ ،)4286‬وأحمد «‪.»316 / 6‬‬
‫برضى أهل األرض وأهل السماء‪.‬‬

‫وللفظ «جورا ً» الوارد في وصف األرض في عبارة النبي «يمأل األرض‬


‫عدالً كما ملئت جورا ً له داللة هامة‪ ،‬فالجور هو الخروج عن العدل كما أنه‬
‫الخروج عن الهداية‪ ،‬وبذلك يكون لفظ «الجور» هو اللفظ المقابل للفظ‬
‫«الحنيفية» تماما‪ ،‬وقد ورد لفظ الجور مقابال لمعنى الهداية في قوله تعالى‪:‬‬
‫سبِي ِل َو ِم ْن َها َجائِ ٌر ۚ َولَ ْو شَا َء لَ َهدَا ُك ْم أَ ْج َم ِعينَ ) (النحل‪،)9:‬‬ ‫علَى َّ‬
‫َّللاِ قَ ْ‬
‫صدُ ال َّ‬ ‫( َو َ‬
‫وقد فسر الثعالبي قوله تعالى‪« :‬ومنها جائر» بقوله‪« :‬اليهود والنصارى»‪،‬‬
‫وقد ورد لفظ الجور بالمعنى المقابل للهداية إلى الطريق في الحديث المرفوع‬
‫عن ابن عمر رضي هللا عنهما قال ‪ :‬لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا‬
‫‪ :‬يا أمير المؤمنين إن رسول هللا ﷺ حدَّ ألهل نجد ‪ :‬قرناً‪ ،‬وهو َج ْو ٌر َ‬
‫ع ْن‬
‫طريقنا» أي مائل عنه ليس على جادته‪ ،‬ومنه قول النبي ﷺ‪« :‬حتى يسير‬
‫الراكب بين النطفتين ال يخشى إال جورا»(‪ )71‬أي ضالال عن الطريق‪.‬‬

‫وإننا نالحظ وضوح اآلثار القدرية بصور متفاوتة‪ ،‬في عالمة المهدي‪ ،‬ابتدا ًء‬
‫من كونه حقا ً وفاعلية الحق معروفة قدراً‪ ،‬مرورا ً من خير القرشية‪ ،‬وفاعليتها‬
‫القدرية في تبعية الناس لها‪ ،‬ومرورا ً بنسل إسماعيل «أشد األمة على‬
‫الدجال»‪ ،‬واالسم «والنصيب من االسم» وقلة الطائفة المبايعة «وفاعلية القلة‬
‫المؤيَّدة من هللا»‪ ،‬ثم خسف الجيش المعادي له بالبيداء‪ ،‬لتكون اآلثار القدرية‬
‫أكثر وضوحا ً وأتم حدوثا ً بفتح القسطنطينية بالتكبير‪.‬‬

‫ومن األسباب القدرية التي هيئها هللا عز وجل للمهدي لتحقيق الغلبة له على‬
‫أعدائه من الروم هو ما سيكون من والء بين المسلمين في عهده‪ ،‬والذي‬
‫تبين من رفض المسلمين لطلب النصارى أن يسلموهم من أسلم ممن كانوا‬
‫سولَهُ َوالَّذِينَ آ َمنُواْ فَإ ِ َّن ِح ْز َ‬
‫ب َّللاِ ُه ُم‬ ‫على غير اإلسالم‪َ ﴿،‬و َمن َيتَ َو َّل َّللاَ َو َر ُ‬
‫ْالغَا ِلبُونَ ﴾(المائدة‪.)56:‬‬

‫للوقوف على ما يدل على هذه الواقعة يجب اإلشارة إلى نصين‪ ،‬األول‪ :‬هو‬
‫ما ورد في صحيح مسلم «سمعتم بمدينة جانب منها في البر‪ ،‬وجانب في‬
‫(‪ )71‬تاريخ دمشق البن عساكر رقم ‪543‬‬
‫البحر؟ ال تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق‪ ،‬فإذا جاؤوها‬
‫نزلوا فلم يقاتلوا بسالح‪ ،‬ولم يرموا بسهم‪ ،‬قالوا‪ :‬ال إله إال هللا وهللا أكبر‪،‬‬
‫فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر‪ ،‬ثم يقول الثانية‪ :‬ال إله إال هللا وهللا أكبر‪،‬‬
‫فيسقط جانبها اآلخر‪ ،‬ثم يقول الثالثة‪ :‬ال إله إال هللا وهللا أكبر‪ ،‬فيفرج لهم‪،‬‬
‫فيدخلونها‪ ،‬فيغنمون‪ ،‬فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إن الدجال قد خرج‪ ،‬فيتركون كل شيء ويرجعون»‪ ،‬أما الحديث اآلخر‬
‫فواضح في داللته على طلب الروم من المسلمين التخلية بينهم وبين من‬
‫غزوهم‪ ،‬وهو حديث‪« :‬ال تقوم الساعة حتى ينزل الروم باألعماق‪ ،‬أو بدابق‬
‫فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل األرض يومئذ فإذا تصافوا‬
‫قالت الروم‪ :‬خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم‪ ،‬فيقول المسلمون‪ :‬ال‬
‫وهللا ال نخلي بينكم وبين إخواننا‪ ،‬فيقاتلونهم‪ ،‬فينهزم ثلث ال يتوب هللا عليهم‬
‫أبدا‪ ،‬ويقتل ثلثهم‪ ،‬أفضل الشهداء عند هللا‪ ،‬ويفتتح الثلث‪ ،‬ال يفتنون أبدا‪،‬‬
‫فيفتتحون قسطنطينية‪ ،‬فبينما هم يقتسمون الغنائم‪ ،‬قد علقوا سيوفهم‬
‫بالزيتون‪ ،‬إذ صاح فيهم الشيطان‪ :‬إن المسيح قد خلفكم في أهليكم‪،‬‬
‫فيخرجون‪ ،‬وذلك باطل‪ ،‬فإذا جاءوا الشام خرج‪ ،‬فبينما هم يعدون للقتال‪،‬‬
‫يسوون الصفوف‪ ،‬إذ أقيمت الصالة‪ ،‬فينزل عيسى ابن مريم ﷺ‪ ،‬فأمهم‪ ،‬فإذا‬
‫رآه عدو هللا‪ ،‬ذاب كما يذوب الملح في الماء‪ ،‬فلو تركه النذاب حتى يهلك‪،‬‬
‫ولكن يقتله هللا بيده‪ ،‬فيريهم دمه في حربته»(‪.)72‬‬

‫علَى َو ْج َهي ِْن‪ :‬فَتْح‬


‫سبُوا» َ‬
‫ي« ُ‬
‫يقول اإلمام النووي في شرح الحديث‪ُ « :‬ر ِو َ‬
‫السِين َو ْال َباء‪ ،‬وضمهما‪ ،‬قال القاضي في المشارق‪ :‬الضم رواية األكثرين‪،‬‬
‫قال‪ :‬وهو الصواب‪ ،‬قلت‪ :‬كالهما صواب؛ ألنهم سبوا أوال‪ ،‬ثم سبوا الكفار‪،‬‬
‫وهذا موجود في زماننا‪ ،‬بل معظم عساكر اإلسالم في بالد الشام ومصر‬
‫سبوا‪ ،‬ثم هم اليوم بحمد هللا يسبون الكفار‪ ،‬وقد سبوهم في زماننا مرارا‬
‫كثيرة‪ ،‬يسبون في المرة الواحدة من الكفار الوفا‪ ،‬وهلل الحمد على إظهار‬
‫دينه وإعزازه» (‪.)73‬‬

‫(‪ )72‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم ‪5704‬‬


‫(‪ )73‬شرح النووي على مسلم‪.‬‬
‫أيضا من األسباب التي هيئها هللا للمهدي لتحقيق الغلبة له هو خيانة‬
‫النصارى أنفسهم‪ ،‬وهللا ال يحب الخائنين‪ ،‬وبين القرآن فيهم‪ ﴿:‬فَقَ ْد خَانُوا هللاِ‬
‫ِم ْن قَ ْب ُل فَأ َ ْم َكنَ ِم ْن ُه ْم ﴾(األنفال‪ ،)71 :‬وذلك في غير حديث منها حديث ذي‬
‫حجير رجل من صحابه النبي ﷺ سمعه يقول‪ :‬تصالحون الروم صلحا ً آمناً‪،‬‬
‫وفيه‪« ،‬فيغدرون ويجتمعون للملحمة» (‪ )74‬ونحو هذا أيضا ً في حديث ابن‬
‫مسعود (‪.)75‬‬

‫ثم نأتي إلى أهم أسباب تهيئة الواقع للمهدي لنجدها‪:‬‬

‫خالفة قبل المهدي‬


‫ومما يجب االنتباه إليه هو أسبقية الخالفة السالمية قبل ظهور المهدي‪ ،‬فمما‬
‫ال شك فيه إن إحساس أصحاب الدعوة بسبق الخالفة للمهدي سيعمق من‬
‫اإلحساس بالمسئولية عنها واإلعداد لها وتهيئة الواقع ألقامتها‪ ،‬وأن‬
‫اإلحساس بقيام الخالفة بالمهدي قد يحدث نوعا ً من ضعف المسئولية عنها‪،‬‬
‫ولكن األصل والصواب أال يكون هناك هذا الفرق‪ ،‬ألن إقامة الخالفة في‬
‫الحالتين لن تكون إال بقدر هللا‪ ،‬وأن إقامتها في الحالتين أيضا ً سيتطلب‬
‫االلتزام بتحقيق أسباب قدرية هي واحدة في كال االحتمالين‪.‬‬

‫ومما يجب االنتباه إليه أيضا أن الخالفة القادمة قبل المهدي بإذن هللا لن‬
‫تكون ظاهرة عابرة‪ ،‬بل إن األدلة تثبت استقرارها في الواقع بصورة مكررة‬
‫تحقق استقرار صفة الدوام والبقاء‪ ،‬فمن ذلك ما تقدم من أحاديث تبين أن‬
‫ظهور المهدي عند موت خليفة وال يتصور خليفة بغير خالفة‪.‬‬
‫وهذه المعلومة الثابتة في الخالفة تعطي للمسلم شعورا ً بسهولة األمر عند هللا‬
‫ش ْيئًا أَ ْن يَقُو َل لَهُ‬
‫وأن األمر اإللهي ليس فيه سهل وصعب‪ِ ( :‬إنَّ َما أَ ْم ُرهُ ِإذَا أَ َرادَ َ‬
‫ون) (يس‪ ،)82:‬وبهذا اإلحساس يعلو المسلم فوق مشكالت الواقع‬ ‫ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫وعقباته‪.‬‬
‫(‪ )74‬أخرجه الحاكم في (مستدركه) «‪ ،»421/4‬وأبو داود في (المالحم) ‪ /‬باب‪ :‬ما يذكر من مالحم الروم (‪»4292/107/4‬‬
‫وتقدم‪.‬‬
‫(‪ )75‬أخرجه نعيم بن حماد في (الفتن) وعزاه (صاحب حاشية كتاب عقد الدر) إلى مخطوطة رقم «‪ »117 ،116‬له‪.‬‬
‫وما تعنيه مهمة المهدي من االمتداد باألمة إلى آخر الزمان‪ ،‬إنما هو –‬
‫تحديدا ً– بلوغ األمة مرحلة قتال الدجال‪ ،‬ومن هنا يجب أن نفهم في تحديد‬
‫مهمة المهدي أن قتل الدجال كان مهمة أساسية للمهدي وأن المهدي قد بدأ‬
‫بالفعل في اإلعداد لقتله‪.‬‬

‫ولكن نزول عيسى ابن مريم جاء مساعدة للمهدي على الدجال‪ ،‬هذا المعنى‬
‫يجب أن يستقر حتى وإن كان عيسى هو قاتل الدجال‪ ،‬ودليل ذلك أن جميع‬
‫العالمات المرتبطة بقتل الدجال قائمة بالمهدي كما قال ﷺ‪« :‬عمران بيت‬
‫المقدس خراب يثرب» (‪ ،)76‬وخراب يثرب إنما يكون بخروج المهدي‬
‫بجيشه إلى بيت المقدس لقتال الدجال‪ ،‬كما أن خروج الملحمة وانتصار‬
‫المسلمين فيها سيكون بقيادة المهدي‪.‬‬

‫والدليل المباشر على ذلك ما رواه مسلم في الملحمة‪ :‬فيفتتحون قسطنطينية‪،‬‬


‫فبينما هم يقتسمون الغنائم‪ ،‬قد علقوا سيوفهم بالزيتون‪ ،‬إذ صاح فيهم‬
‫الشيطان‪ :‬إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون‪ ،‬وذلك باطل‪ ،‬فإذا جاءوا‬
‫الشام خرج‪ ،‬فبينما هم يعدون للقتال‪ ،‬يسوون الصفوف‪ ،‬إذ أقيمت الصالة‪،‬‬
‫فينزل عيسى ابن مريم ﷺ‪ ،‬فأمهم‪ ،‬فإذا رآه عدو هللا‪ ،‬ذاب كما يذوب الملح‬
‫في الماء‪ ،‬فلو تركه النذاب حتى يهلك‪ ،‬ولكن يقتله هللا بيده‪ ،‬فيريهم دمه في‬
‫حربته» (‪.)77‬‬

‫والبداية الفعلية التي يعرف بها أمر المهدي‪ ،‬ليست حديثا ً ولكنها عالمة ال‬
‫تجتمع في أحد إال في المهدي‪ ،‬وهي‪ :‬الخسف بالجيش الذي يريد قتل‬
‫المهدي‪ ،‬وبعدها يعرف المهدي معرفة عامة‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬فيخرج رجل‬
‫من أهل المدينة هاربا إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره‬
‫فيبايعونه بين الركن والمقام ويبعث إليه جيش من الشام فيخسف به بالبيداء‬
‫بين مكة والمدينة فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق‬

‫(‪ )76‬أخرجه أبو داود في (المالحم) ‪ /‬باب‪ :‬إمارات المالحم «‪ / 1107 / 4‬ح ‪ ،»4294‬والحاكم في مستدركه (‪.)420 / 4‬‬
‫(‪ )77‬أخرجه مسلم في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬فتح القسطنطينية وخروج الدجال «‪/248/9‬ح ‪.»2897‬‬
‫فيبايعونه»(‪ ،)78‬فهذه هي أولى العالمات التي يعرف بها المهدي لجميع‬
‫الناس‪ ،‬وفتح القسطنطينية ببني إسحاق الذين سينحازون إلي المهدي وهم‬
‫سبعون ألفا ً وهم الذين سيطلب النصارى من المهدي أن يسلمهم لهم فيأبى‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الدجال‬
‫وقبل الدجال يكون الزمان الذي يسبقه‪ ،‬وتطبيقا لقاعدة التجانس‪ ،‬وقاعدة‬
‫العالمات الخارجية للعالمة ذاتها وقاعدة االرتباط بين العالمات‪ ،‬فان هللا‬
‫عز وجل جعل الزمن الذي سيسبق الدجال تهيئة كاملة له‪ ،‬فأصبح للزمن‬
‫السابق للدجال صفتان‪ ،‬األولي‪ :‬سنوات جوع‪ ،‬وذلك ألن فتنة الدجال فتنة‬
‫طعام‪ ،‬الثانية‪ :‬سنوات خداع‪ ،‬ذلك ألن فتنة الدجال خداع‪.‬‬

‫ففي الصفة األولي‪ ،‬وفيها ورد عن عائشة رضي هللا عنها أن رسول هللا ﷺ‬
‫ذكر جهدا ً يكون بين يدي الدجال‪ ،‬فقالوا‪« :‬أي المال خير يومئذ؟» قال‪:‬‬
‫«غالم شديد يسقي أهله الماء وأما الطعام فليس»‪ ،‬قالوا‪« :‬فما طعام‬
‫المؤمنين يومئذ؟» قال‪« :‬التسبيح والتكبير والتهليل»(‪ ،)79‬وعندما قال‬
‫الرسول ﷺ «أما الطعام فليس» يعنى ال يوجد طعام نهائياً‪ ،‬ولكنه يفسر ذلك‬
‫بقوله في حديث آخر في فترة ما قبل الدجال‪« :‬إن ما قبل الدجال ثالث‬
‫سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد‪ ،‬يأمر هللا السماء في السنة األولى‬
‫أن تحبس ثلث مطرها‪ ،‬ويأمر األرض أن تحبس ثلث نباتها‪ ،‬ثم يأمر السماء‬
‫في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها‪ ،‬ويأمر األرض فتحبس ثلثي نباتها‪ ،‬ثم‬
‫يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فال تقطر قطره‪ ،‬ويأمر‬
‫األرض فتحبس نباتها كله فال تنبت خضراء فال تبقي ذات ظلف إال هلكت‬
‫إال ما شاء هللا‪ ،‬قيل فما عيش الناس في ذلك الزمان قال‪ :‬التهليل والتكبير‬

‫(‪ )78‬سنن أبي داوود رقم (‪.)3740‬‬


‫(‪ )79‬له شاهد من حديث عبد هللا بن عمر أخرجه الحاكم في (مستدركه) «‪ »511/4‬قال هذا حديث صحيح اإلسناد على‬
‫شرط مسلم ولم يخرجاه‪.‬‬
‫والتسبيح والتحميد ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام»(‪.)80‬‬

‫أما الصفة الثانية‪ ،‬أي السنون الخداعة التي أتى بها خبر النبي ﷺ‪« :‬إن بين‬
‫يدي الدجال سنون خداعات‪ ،‬يصدق فيها الكاذب‪ ،‬ويكذب فيها الصادق‪،‬‬
‫ضة‪ ،‬قالوا‪ :‬ما‬
‫الر َو ْي ِب َ‬
‫ويؤتمن فيها الخائن‪ ،‬ويخون فيها األمين‪ ،‬ويتكلم فيها ُّ‬
‫الرويبضة يا رسول هللا؟ قال‪ :‬الرجل التافه يتحدث في أمر العامة» (‪،)81‬‬
‫فهي تلك الفترة التي تتمها فتنة الدجال والقائمة على الخداع أيضا‪ ،‬وعناصر‬
‫الخداع في فتنة الدجال واضحة‪ ،‬وهي أن‪« :‬معه جنة ونار‪ ،‬فناره جنة وجنته‬
‫نار» (‪.)82‬‬
‫ومن عناصر الخداع في فتنة الدجال أيضا ما ورد من تشبه الشياطين للناس‬
‫بآبائهم يؤكدون لهم ربوبية الدجال‪ ،‬وهو ما ورد في حديث النبي ﷺ‪:‬‬
‫«وتبعث معه الشياطين على صورة من مات من اآلباء واإلخوان والمعارف‬
‫فيأتي أحدهم إلى أبيه وأخيه وذي رحمه فيقول ألست فالنا ألست تعرفني‬
‫هو ربك فاتبعه» (‪.)83‬‬

‫وكما كانت العالمة من طبيعة الساعة‪ ،‬كان لكل عالمة عالمات لها هي‬
‫أيضا من طبيعتها‪ ،‬يعني ما قبل العالمة‪ ،‬والعالمة ذاتها والساعة طبيعة‬
‫واحدة‪ ،‬ولذلك يجمع رسول هللا ﷺ بين عالمات الدجال والدجال من خالل‬
‫عدة أمور‪:‬‬

‫جفاف نخل بيسان‬


‫وهو مقدمة لظهور الدجال كما هو معلوم من حديث تميم الداري وما نقله‬
‫عن الدجال من قوله‪ ،»:‬أخبروني عن نخل بيسان‪ ،‬قلنا‪ :‬عن أي شأنها‬
‫تستخبر؟ قال‪ :‬أسألكم عن نخلها‪ ،‬هل يثمر؟ قلنا له‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أما إنه يوشك‬

‫(‪ )80‬أخرجه أحمد في (مسنده) «‪ ،»454 ،452/6‬وابن ماجة في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬فتنة الدجال‪ ،‬ونزول عيسى وخروج‬
‫يأجوج ومأجوج «‪ / 1359/2‬ح‪ ،»4077‬عزاه صاحب عقد الدرر لمسلم‪.‬‬
‫(‪ )81‬أخرجه الحاكم في (المستدرك) «‪.»466 / 4‬‬
‫(‪ )82‬أخرجه مسلم في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬ذكر الدجال بصفته وما معه «‪/287/9‬ح ‪ ،»2934‬وتفسير ذلك أن الذي معه جنة‬
‫ونار بطبيعة سحرية‪ ،‬فإذا دخل أحد جنته السحرية يكون قد دخل نار هللا الحقيقية‪ ،‬ألنه سيكون مفتونا‪ ،‬وإذا دخل ناره‬
‫السحرية يكون قد دخل جنة هللا الحقيقة‪ ،‬ألنه سيكون ناجيا‪.‬‬
‫(‪ )83‬تقدم‪.‬‬
‫أن ال تثمر» (‪.)84‬‬

‫أما عالقة هذه العالمة بظهور الدجال فهي أن النخل مطلقا هو ثمر التمر‪،‬‬
‫علم من حديث‬ ‫والتمر مختص بفاعلية قدرية مقابلة للسم السحر‪ ،‬وذلك كما ُ‬
‫النبي ﷺ‪« :‬من تصبح سبع تمرات عجوة‪ ،‬لم يضره ذلك اليوم سم وال سحر»‬
‫(‪ ،)85‬وأظهر أفعال السحر هي ما تكون من الدجال‪ ،‬كما أن الدجال مقترن‬
‫بالسم باقترانه بالموت‪ ،‬واقترانه بالموت معلوم من خبر النبي ﷺ‪« :‬ال يدخل‬
‫المدينة الدجال والطاعون» (‪.)86‬‬

‫ثم إن التمر‪ ،‬إضافة لما ذكرنا من كونه حرزا قدريا من طبائع هي من جنس‬
‫طبائع الدجال‪ ،‬فهو حرز قدري كذلك من أداة الدجال في الفتنة‪ ،‬أي الجوع‪،‬‬
‫وذلك معلوم من خبر النبي ﷺ‪« :‬يا عائشة‪ ،‬بيت ال تمر فيه جياع أهله‪ ،‬يا‬
‫عائشة‪ ،‬بيت ال تمر فيه جياع أهله‪ ،‬قالها مرتين‪ ،‬أو ثالثا» (‪.)87‬‬

‫ويمكن رصد عالقة التضاد بين الدجال وبين النخل من طريق آخر‪ ،‬فنخل‬
‫بيسان كما أنه حرز من الدجال‪ ،‬وثمر النخل مطلقا كما أنه حرز من أفعال‬
‫الدجال (السم والسحر)‪ ،‬فجريد النخل أيضا يخفف من فتنة القبر‪ ،‬وهي قرينة‬
‫فتنة الدجال في دعاء النبي ﷺ‪« :‬اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر‪ ،‬ومن‬
‫عذاب النار‪ ،‬ومن فتنة المحيا والممات‪ ،‬ومن فتنة المسيح الدجال»(‪ ،)88‬أما‬
‫وضعية جريد النخل كسبب لتخفيف عذاب القبر فثابت من حديث النبي ﷺ‬
‫حين أتى على قبرين يعذب صاحباهما‪« :‬ما يعذبان في كبير ثم قال‪ :‬بلى‪،‬‬
‫أما أحدهما فكان يغتاب الناس‪ ،‬وأما اآلخر فكان ال يتأدى من بوله ثم أخذ‬
‫جريدة رطبة أو جريدتين فكسرهما‪ ،‬ثم غرس كل كسرة على قبر‪ ،‬فقال‪ :‬إنه‬
‫يخفف عنهما ما دامتا رطبتين»‪.‬‬

‫(‪ )84‬صحيح مسلم‪ ،‬رقم‪.)2942( :‬‬


‫(‪ )85‬أخرجه البخاري في (الطب) ‪ ،»5769 ،5768‬ومسلم في ((األشربة) ‪ /‬باب‪ :‬فضل تمر المدينة «‪ ،2/14/5‬النووي»‪.‬‬
‫(‪ )86‬أخرجه البخاري في (فضائل المدينة) ‪ /‬باب‪ :‬ال يدخل الدجال المدينة «‪ »1880/114/4‬من حديث أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )87‬صحيح مسلم‪ ،‬رقم‪.)2046( :‬‬
‫(‪ )88‬صحيح البخاري‪ ،‬رقم‪.)1377( :‬‬
‫جفاف بحيرة طبرية‬
‫وأول شواهد العالقة بين الدجال والجدب هو جفاف بحيرة طبرية‪ ،‬كما تقدم‬
‫عند مسلم في حديث تميم الداري مع الجساسة وسؤال الدجال لهم‪:‬‬
‫«أخبروني عن بحيرة طبرية قلنا عن أي شأنها تستخبر؟ قال‪ :‬هل فيها ماء؟‬
‫قالوا‪ :‬هي كثيرة الماء‪ :‬قال أما إن ماءها يوشك أن يذهب» (‪ ،)89‬وجفاف‬
‫بحيرة طبرية ال يعني إال ظهور أرض جدباء ال نفع فيها وهي ما يحبه‬
‫الدجال من األرض‪.‬‬

‫وبذلك يصبح الناس نتيجة ألعمال الدجال بين الفقر المنسي والغنى المطغي‪،‬‬
‫ولذلك يجمع لنا نبينا الكريم ﷺ جميع هذه األعمال في حديث واحد فيقول‪:‬‬
‫منس أو غنى مطغٍ أو‬ ‫«بادروا باألعمال سبعا‪ ،‬هل تنتظرون إال إلى فقر ٍ‬
‫مرض مفسد‪ ،‬أو هرم مفند‪ ،‬أو موت مجهز‪ ،‬أو الدجال فشر غائب ينتظر‪،‬‬
‫أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» (‪ ،)90‬وقد ذكر هذا الحديث في تفسير قول‬
‫عةُ أَ ْده ََٰى َوأَ َم ُّر)‬ ‫عةُ َم ْو ِعدُ ُه ْم َوال َّ‬
‫سا َ‬ ‫سا َ‬
‫هللا عز وجل في سورة القمر‪َ ( :‬ب ِل ال َّ‬
‫(القمر‪ )46:‬على لسان النبي ﷺ ليتحقق االرتباط بين الساعة وعالماتها‪.‬‬
‫الخروج من غضبة‬
‫لقد ذكرنا أن انقطاع ثمر نخل بيسان وجفاف بحيرة طبرية هما عالمتان لعالمة‬
‫الدجال مرتبطتان به في المعنى‪ ،‬وذلك في سياق التأكيد على ارتباط عالمة‬
‫الساعة بعالمتها هي عموما‪ ،‬نضيف هنا داللة واقعة خروج الدجال من غضبة‬
‫يغضبها‪ ،‬والمقصود بالخروج هنا هو ابتداء أمره الذي خلق له‪ ،‬وهي تلك الواقعة‬
‫التي أخبرت بها السيدة عائشة في حديث لها مع ابن عمر تحثه على عدم إغضاب‬
‫ابن صياد‪ ،‬وكان قد شاع أن ابن صياد هو الدجال كما هو معروف‪ ،‬وذلك فيما‬
‫يرويه نافع عن ابن عمر‪« :‬قال (ابن عمر)‪ :‬فلقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬متى فعلت عينك ما أرى؟ قال (ابن صياد)‪ :‬ال أدري‪ ،‬قال‪ :‬قلت (ابن عمر)‪:‬‬
‫ال تدري وهي في رأسك؟ قال (ابن صياد)‪ :‬إن شاء هللا خلقها في عصاك هذه‪ ،‬قال‬
‫(ابن عمر)‪ :‬فنخر كأشد نخير حمار سمعت‪ ،‬فزعم بعض أصحابي أني ضربته‬

‫(‪ )89‬تقدم‪.‬‬
‫(‪ )90‬الترمذي‪ ،‬رقم‪.)2306( :‬‬
‫بعصا كانت معي حتى تكسرت‪ ،‬وأما أنا‪ ،‬فوهللا! ما شعرت‪ ،‬قال (نافع)‪ :‬وجاء –‬
‫أي ابن عمر ‪-‬حتى دخل على أم المؤمنين‪ ،‬فحدثها فقالت‪« :‬ما تريد إليه؟ ألم تعلم‬
‫أنه قد قال‪ ،‬أي الرسول ﷺ‪« ،‬إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه» (‪.)91‬‬
‫والمعنى المشترك بين الدجال وبين الغضب الذي هو عالمته وبداية‬
‫ظهوره‪ ،‬هو (عدم النفع)‪ ،‬فالدجال يخبر عنه النبي ﷺ بأن أبويه يمكثان‬
‫ثالثين عاما ال يولد لهما‪ ،‬ثم «يولد لهما غالم أعور أضر شيء وأقله‬
‫منفعة»‪.‬‬

‫أما الغضب فقد ففي الحديث أن رجال قال للنبي ﷺ‪« :‬أوصني» قال‪« :‬ال‬
‫تغضب» قال‪« :‬ففكرت حين قال رسول هللا ﷺ ما قال‪ ،‬فإذا الغضب يجمع‬
‫الشر كله»‪ ،‬والغضب للنفس هو نذير لذهاب المالئمة وقعود الشيطان‪ ،‬وفي‬
‫ذلك حديث ابن المسيب‪« :‬بينما رسول هللا ﷺ جالس ومعه أصحاب وقع‬
‫رجل بأبي بكر رضي هللا عنه فآذاه فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثانية‬
‫فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثالثة فانتصر أبو بكر فقام رسول هللا ﷺ فقال‬
‫أبو بكر رضي هللا عنه أوجدت علي يا رسول هللا فقال رسول هللا ﷺ نزل‬
‫ملك من السماء يكذبه بما قال لك فلما انتصرت ذهب الملك وقعد الشيطان‬
‫فلم أكن ألجلس إذن مع الشيطان»‪.‬‬

‫الخروج في كذب‬
‫وكما يخرج الدجال من خالل الغضب وهو جماع الشر فإنه يخرج من‬
‫الكذب وهذا هو األمر العجيب‪ ،‬إذ يقول النبي ﷺ بعد ذكر الملحمة‪« :‬ويفتتح‬
‫الثلث ال يفتنون أبدا ً فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا‬
‫سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيه الشيطان أن المسيح قد خلفكم في أهليكم‬
‫فيخرجون وذاك باطل‪ ،‬فإذا جاءوا الشام خرج» (‪.)92‬‬

‫(‪ )91‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم ‪.2932‬‬


‫(‪ )92‬رواه مسلم‪ ،‬في الفتن ‪2897‬‬
‫وفي رواية‪« :‬أن المسيح قد خرج في بالدكم إال وهي كذبة» (‪.)93‬‬

‫فيتبين من الحديث برواياته أن الشيطان أو الصريخ سيكذب ويقول ظهر‬


‫المسيح فيذهب المسلمون ليجدوا أن الصريخ كاذب ولكنهم وهم يعلمون‬
‫كذبه يخرج فعالً‪ ،‬فيكون قد خرج من الكذب كما يخرج من الغضب‪.‬‬

‫الدجال والملح‬
‫وبصفة أساسية فإن للدجال عالمتين تدالن علي نفي النفع والخير فيه‪ ،‬وهما‬
‫دليل واحد على التجانس بين العالمة وعالمة العالمة‪ ،‬جاء الخبر بأن الدجال‬
‫فيما سيأتي من حال يكون فيه ُحرا إال من دخول المدينة‪ ،‬أنه سيترصد بها‬
‫من خارجها واقفا على «أرض سبخة»‪ ،‬وذلك كما هو معلوم من حديث‬
‫النبي ﷺ‪« :‬يأتي الدجال‪ ،‬وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة‪ ،‬فينزل‬
‫بعض السباخ التي تلي المدينة‪ ،‬فيخرج إليه يومئذ رجل‪ ،‬وهو خير‬
‫الناس»(‪ ،)94‬و«السبخة»‪ ،‬كما ورد في لسان العرب البن منظور هي‪:‬‬
‫الم ْل َح وت َ ُ‬
‫سو ُخ فيه‬ ‫«األَرض المالحة»‪ ،‬وال َّ‬
‫س َبخ‪« :‬المكان َي ْسبَ ُخ فَيُ ْن ِبتُ ِ‬
‫األَقدام»(‪.)95‬‬

‫ثم يأتي الدليل المباشر على التجانس بين طبيعة الدجال والملح‪ :‬وهو حديث‬
‫قتل الدجال عن أبي هريرة أن رسول هللا ﷺ قال‪« :‬ال تقوم الساعة حتى‬
‫ينزل الروم باألعماق أو بدابق فيخرج إليه جيش من أهل المدينة يومئذ فإذا‬
‫تصافوا قالت الروم‪ :‬خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم فيقول المسلمون‪:‬‬
‫ال وهللا ال نخلى بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث ال يتوب هللا عليهم‬
‫أبداً‪ ،‬ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند هللا‪ ،‬ويفتتح الثلث ال يفتنون أبدا ً فيفتتحون‬
‫قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح‬
‫الشيطان أن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل فإذا جاءوا الشام‬
‫خرج فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذا أقيمت الصالة نزل عيسى‬
‫(‪ )93‬أخرجه ابن ماجة في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬المالحم «‪/1370/2‬ح ‪»4094‬‬
‫(‪ )94‬صحيح البخاري‪ ،‬رقم‪.)7132( :‬‬
‫(‪ )95‬لسان العرب البن منظور‪.‬‬
‫ابن مريم ﷺ فأم َّهم فإذا رآه عدو هللا ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه‬
‫النذاب حتى يهلك ولكن يقتله بيده فيريهم دمه في حربته»(‪.)96‬‬

‫وأصل التجانس بين الدجال والملح هو أن الشر مفتقر للوجود أصال‪ ،‬ومن‬
‫هنا كان الذوبان مثاالً للشر‪ ،‬وعقوبة عليه‪ ،‬وذلك باعتبار أن الجزاء من‬
‫جنس العمل ولذلك كان الذوبان والشر المطلق جنسا ً واحدا ً وهو العدم (‪،)97‬‬
‫وقد عبر القران عن هذا المآل في مثل المشرك فقال‪ُ ( :‬حنَفَا َء ِ َّّلِلِ َ‬
‫غي َْر‬
‫طفُهُ َّ‬
‫الطي ُْر أَ ْو تَ ْه ِوي‬ ‫اء فَتَ ْخ َ‬ ‫اّلِلِ فَ َكأَنَّ َما خ ََّر ِمنَ ال َّ‬
‫س َم ِ‬ ‫ُم ْش ِر ِكينَ ِب ِه ۚ َو َم ْن يُ ْش ِر ْك ِب َّ‬
‫ق) (الحج‪.)31:‬‬ ‫س ِحي ٍ‬ ‫ان َ‬‫الري ُح فِي َم َك ٍ‬ ‫ِب ِه ِ‬

‫يقول سيد قطب‪« :‬وهي صورة صادقة لحال من يشرك باهلل فيهوي من أفق‬
‫اإليمان السامق إلى حيث الفناء واالنطواء‪ ،‬إذ يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن‬
‫إليها‪ ،‬قاعدة التوحيد ويفقد المستقر اآلمن الذي يثوب إليه فتخطفه األهواء‬
‫تخطف الجوارح وتتقاذفه األوهام تقاذف الرياح وهو ال يمسك بالعروة‬
‫الوثقى‪ ،‬وال يستقر على القاعدة الثابتة التي تربطه بهذا الوجود الذي يعيش‬
‫فيه» (‪.)98‬‬
‫وهناك مالحظة خطيرة خاصة بذوبان الدجال كالملح وهي أن الذوبان‬
‫عقوبة من أراد بالمدينة سوءا أو كيداً‪ ،‬كما قال رسول هللا ﷺ «ال يكيد أهل‬
‫المدينة أحد إال انماع‪ ،‬كما ينماع الملح في الماء» (‪ ،)99‬وقال‪« :‬ال يريد أحد‬
‫أهل المدينة بسوء إال أذابه هللا في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في‬
‫الماء» (‪.)100‬‬

‫وواضح من األحاديث أن صورة اإلذابة كما يذوب الملح في الماء هي أشد‬


‫صور الجزاء ولذلك ضربت مثالً لمن أراد سوءا ً أو كيدا ً بالمدينة‪ ،‬وهي‬
‫الصورة التي سيقتل بها الدجال‪ ،‬وبذلك يضاف إلى طبيعة الدجال المتجانسة‬
‫مع الملح سببا ً آخر للذوبان وهو عداء الدجال للمدينة‪ ،‬وعقوبته بعقاب أعداء‬
‫(‪ )96‬رواه مسلم في كتاب الفتن ‪.34‬‬
‫(‪ )97‬يراجع كتاب شفاء العليل البن القيم تفسير قول رسول هللا ﷺ «الخير بين يديك والشر ليس إليك»‪.‬‬
‫(‪ )98‬في ظالل القرآن‪ ،‬تفسير سورة الحج‪ ،‬اآلية المذكورة‪.‬‬
‫(‪ )99‬رواه البخاري عن سعد‪.‬‬
‫(‪ )100‬رواه أحمد ومسلم‪ ،‬وابن ماجة عن أبي هريرة‪ ،‬ومسلم عن سعد‪.‬‬
‫المدينة‪ ،‬ويتساوى مع الملح في داللته على طبيعة الدجال الدخان‪.‬‬

‫الدجال وال ُّد َخان‬


‫وشواهد هذه الداللة تبدأ منذ ولد ابن صياد وهو الصورة اإلنسانية للدجال‬
‫أو المثل الكوني له‪ ،‬تحت قطيفة يهمهم فأدنته أمه فقالت‪« :‬يا عبد هللا‪ ،‬هذا‬
‫أبو القاسم قد جاء فاخرج إليه من القطيفة» فعن عبد هللا بن عمر أن النبي‬
‫ﷺ مر بابن صياد في نفر من أصحابه‪ ،‬فيهم عمر بن الخطاب وهو يلعب ‪-‬‬
‫أي ابن صياد ‪ -‬مع الغلمان عند أطم بني مغالة(‪ ،)101‬وهو غالم‪ ،‬فلم يشعر‬
‫حتى ضرب رسول هللا ﷺ‪ ،‬ظهره بيده ثم قال‪ :‬أتشهد أني رسول هللا؟ قال‪:‬‬
‫فنظر إليه ابن صياد‪ ،‬فقال‪ :‬أشهد أنك رسول األميين‪ ،‬ثم قال ابن صياد للنبي‬
‫ﷺ‪ :‬أتشهد أني رسول هللا؟ فقال له النبي ﷺ‪ :‬آمنت باهلل ورسله‪ ،‬ثم قال له‬
‫النبي ﷺ‪ :‬ما يأتيك؟ قال‪ :‬يأتيني صادق وكاذب‪ ،‬فقال له النبي ﷺ‪ :‬خلط عليك‬
‫األمر‪ ،‬ثم قال رسول هللا ﷺ‪ :‬إني قد خبأت لك خبيئة وخبأ له (فَ ْ‬
‫ارتَ ِقبْ يَ ْو َم‬
‫ين) (الدخان‪ ،)10:‬قال ابن صياد‪« :‬هو الدخ»‪ ،‬فقال‬ ‫َان ُم ِب ٍ‬ ‫تَأ ْ ِتي ال َّ‬
‫س َما ُء ِبدُخ ٍ‬
‫رسول هللا ﷺ‪« :‬اخسأ فلن تعدو قدرك»‪ ،‬فقال عمر‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ائذن لي‬
‫فأضرب عنقه‪ ،‬فقال رسول هللا ﷺ‪« :‬إن يكن فلن تسلط عليه ‪-‬يعني الدجال‬
‫‪-‬وإال يكن فال خير في قتله» (‪.)102‬‬

‫وتتوالى شواهد دالله الدخان علي طبيعة الدجال حتى آخر أيامه حيث‬
‫سيحاصر المؤمنين في «جبل الدخان»‪ ،‬فعن جابر بن عبد هللا أن النبي ﷺ‬
‫قال‪« :‬يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم وله أربعون ليلة‬
‫يسيحها في األرض اليوم منها كالسنة واليوم منها كالشهر واليوم منها‬
‫كالجمعة ثم سائر أيامه كأيامكم هذه وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه‬
‫أربعون ذراعا فيقول للناس أنا ربكم وهو أعور وإن ربكم عز وجل ليس‬
‫بأعور مكتوب بين عينيه كافر مهجاة يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب يرد‬
‫كل ماء ومنهل إال المدينة ومكة حرمهما هللا عز وجل عليه وقامت المالئكة‬
‫بأبوابها معه جبال من خبز والناس في جهد إال من اتبعه ومعه نهران أنا أعلم‬

‫(‪ )101‬األطم‪ :‬الدار المربعة‬


‫(‪ )102‬صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري برقم ‪.6173‬‬
‫بهما منه نهر يقول الجنة ونهر يقول النار فمن أدخل الذي يسميه الجنة فهو‬
‫النار ومن أدخل الذي يسميه النار فهو الجنة قال وتبعث معه شياطين تكلم‬
‫الناس ومعه فتنة عظيمة يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس فيقول للناس أيها‬
‫الناس هل يفعل مثل هذا إال الرب قال فيفر الناس إلى جبل الدخان في الشام‬
‫فيحاصرهم فيشتد حصارهم ويجهدهم جهدا شديدا ثم ينزل عيسى عليه السالم‬
‫فينادي من السحر فيقول يا أيها الناس ما يمنعكم أن تخرجوا إلى هذا الكذاب‬
‫الخبيث فيقولون هذا رجل جني فينطلقون فإذا هم بعيسى عليه السالم فتقام‬
‫الصالة فيقال له تقدم يا روح هللا فيقول ليتقدم إمامكم فيصلي بكم فإذا صلى‬
‫صالة الصبح خرج إليه قال فحين يراه الكذاب ينماث كما ينماث الملح في‬
‫الماء فيمشي إليه فيقتله حتى إن الشجر والحجر ينادي هذا يهودي فال يترك‬
‫ممن كان يتبعه أحد إال قتله»(‪.)103‬‬

‫أما تفسير داللة الدخان على طبيعة الدجال فهو األمر الذي يعود بنا إلى‬
‫معنى كلمة «دخان» وخصوصا ً إذا علمنا أن الداللة مرتبطة باالسم‪ ،‬حيث‬
‫أن البداية كانت مجرد كلمة مخبئة من رسول هللا ﷺ له‪ ،‬وفي النهاية كانت‬
‫مجرد اسم للجبل‪« :‬جبل الدخان»‪.‬‬

‫ولكننا نفاجأ بتفسير كلمة‪« :‬دخان» لنجدها عالمة الدجال من بـدايته إلى‬
‫نهايته‪ ،‬فقد جاء في لسان العرب‪« :‬فالدخن‪ :‬الرجيع من الطعام الذي يتجنبه‬
‫الناس‪ ،‬والدخان‪ :‬الجدب‪ ،‬والدخان‪ :‬الجوع ليبس األرض من الجدب‬
‫وارتفاع الغبار فشبه غبرتها بالدخان حتى قيل لسنة المجاعة‪« :‬سنة‬
‫غبراء»‪ ،‬والدخان‪ :‬الشر‪ ،‬وضعت العرب الدخان موضع الشر إذا عال‬
‫يقولون‪ :‬كان بيننا أمر ارتفع له دخان‪ ،‬والدخن‪ :‬رجل دخن متغير الدين‬
‫والعقل والحسب‪ ،‬ودخن الخلق‪ :‬ساء وفسد وخبث‪ ،‬والدخن‪ :‬الغم‪ ،‬وليلة‬
‫دخنانه‪ :‬أي شديدة الغم‪ ،‬والدخن‪ :‬الفتنة ستكون فتنة دخنها من تحت قدم‬
‫رجل‪ ،‬والدخن‪ :‬هدنة على دخن شبهها بدخان الحطب لما بينهم من الفساد‬
‫الباطن تحت الصالح الظاهر»(‪.)104‬‬

‫(‪ )103‬أخرجه أحمد في (مسنده) «‪ ،»367/3‬وذكره الهيثمي في (المجمع) «‪ ،»344/7‬وقال رواه أحمد بإسنادين رجال‬
‫أحدهما رجال الصحيح‪.‬‬
‫(‪ )104‬لسان العرب‪ :‬مادة دخن‬
‫ومن تحميل كلمة الدخان ومشتقاتها يتبين التوافق بين الكلمة والدجال‪ ،‬فمن‬
‫حيث فتنة الدجال هي فتنة الجوع‪ ،‬كان الدخان‪ :‬الرجيع من الطعام الذي‬
‫يتجنبه الناس‪ ،‬وكان الدخان‪ :‬الجدب‪ ،‬وكان الدخان‪ :‬هو الجوع‪ ،‬ومن حيث‬
‫أن فتنة الدجال هي فتنة الشر‪ ،‬كان الدخان هو الشر الذي يعلو‪ ،‬وكان الدخان‬
‫السواد‪ ،‬وكان الدخان هو الغيم‪ ،‬وكان الدخان من حيث الخلق هو السوء‬
‫والفساد والخبث‪ ،‬ومن حيث أن الدجال فتنة عن الدين‪ ،‬كان الدخان هو‬
‫الفتنة‪ ،‬وكان الدخن هو تغير الدين والعقل والحسب‪ ،‬ومن حيث أن الدجال‬
‫عالمة خداعية‪ :‬كان الدخن هو الخداع‪ ،‬لما في حديث هدنة على دخن(‪،)105‬‬
‫وصفت بذلك لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصالح الظاهر يعني الخداع‪.‬‬

‫وقد اجتمعت عناصر تفسير الدخان في عالقاته بالدجال بصورة واقعية في‬
‫عدة عالقات قامت بين الدجال والشياطين والذهب والنساء واليهود‪.‬‬

‫وتبعية الشياطين للدجال لها قاعدة‪ ،‬وهي ارتباط المكانة بدرجة اإلفساد(‪،)106‬‬
‫وبتلك القاعدة يصبح للدجال على الشياطين الرئاسة والسيطرة‪ ،‬ذلك أن والء‬
‫الشياطين للشر ولمن يحقق أكبر قدر منه‪ ،‬أما تبعية النساء فهي من تبعية‬
‫الشياطين‪ ،‬وذلك باعتبار طبيعة العالقة بين النساء والشياطين(‪ ،)107‬وفي‬
‫ذلك يقول النبي ﷺ‪« :‬منزل الدجال في هذه السبخة فيكون أكثر من يخرج‬
‫إليه النساء‪ ،‬حتى أن الرجل ليرجع إلى زوجته وإلى أمه وإلى ابنته وأخته‬
‫وعمته فيوثقها رباطا ً مخافة ألن تخرج إليه»(‪ ،)108‬يضاف إلى طبيعة‬
‫العالقة بين النساء والشياطين‪ ،‬عالقة النساء بالذهب‪ ،‬ألن حب النساء‬
‫للذهب‪.‬‬

‫وفي النهاية‪ ،‬فإن أهم ما يفسر تبعية النساء للدجال هو اقتران طبيعتهم‬
‫بالفتنة‪ ،‬ولهذا قال رسول هللا ﷺ‪« :‬سبحان هللا‪ ،‬ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟‬
‫(‪ )105‬عند أحمد «‪ ،»403/5‬وأبو داود «‪ ،»59/2‬والبغوي «‪ ،»9/15‬من حديث حذيفة وأصلة في الصحيحين ولفظ أبي‬
‫داود قلت‪ :‬يا رسول هللا ما الهدنة على دخن؟ قال‪« :‬ال ترجع قلوب أقوام إلى ما كانت عليه»‪ ،‬وعند البخاري ومسلم وهل‬
‫بعد هذا الشر من خير؟ قال‪« :‬نعم وفيه دخن» قال‪ :‬وما دخنه؟ قال‪« :‬قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر»‪ ،‬الحديث‪.‬‬
‫(‪ )106‬انظر كتاب‪( :‬عندما ترعى الذئاب الغنم) للكاتب‪.‬‬
‫(‪ )107‬لمصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ )108‬خرجه أحمد في (مسنده) «‪ ،»67/2‬وذكره الهيثمي في (المجمع) «‪.»346/7‬‬
‫ب‬
‫وماذا انزل هللا من الفتن؟ من يوقظ صواحبات الحجر لكي يصلين ُر َّ‬
‫كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» (‪.)109‬‬

‫واليهود هم الذين ارتبطوا بفتنة النساء ارتباطا قائما بقيام الدنيا‪ ،‬كما في‬
‫الحديث‪« :‬اتقوا الدنيا‪ ،‬واتقوا النساء‪ ،‬فان فتنة بني إسرائيل كانت في‬
‫سدا ً لَهُ ُخ َو ٌ‬
‫ار ﴾(طه‪:‬‬ ‫النساء» (‪ ،)110‬واليهود هم الذين عبدوا الذهب‪ِ ﴿:‬ع ْجالً َج َ‬
‫‪.)88‬‬
‫وعلى هذا األساس تكون فتنة الدجال غير منفصلة عن الواقع البشري الممتد‬
‫حتى ظهوره‪ ،‬وان تسلط الدجال وتبعية الشياطين والنساء والذهب له هي‬
‫في حقيقتها عقوبة لذنوب عاش عليها الناس طول حياتهم‪.‬‬

‫وبهذا االعتبار جاء تحذير جميع األنبياء من الدجال كما قال النبي ﷺ‪« :‬ما‬
‫من نبي إال أنذر قومه الدجال» (‪ )111‬فتكون داللة هذا اإلنذار هي ما يتعلق‬
‫بفتنة الدجال من فتن دون أن يظهر بنفسه‪ ،‬وهذا ما علَّمنا إياه رسول هللا ﷺ‬
‫عندما أمرنا أن نتعوذ دبر كل صالة من الفتن فقال‪« :‬اللهم أني أعوذ بك من‬
‫الفتن ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات‪ ،‬وأعوذ‬
‫بك من عذاب القبر‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال» (‪.)112‬‬

‫وحتى ما بعد الدجال سيبقى تسلط الشياطين على الناس‪ ،‬وبنفس القاعدة‬
‫وهي أن التسلط يكون امتدادا لذنب وقع فيه هؤالء الناس وبقوا عليه (‪،)113‬‬
‫مثل الناس الذين ستقوم عليهم الساعة‪ ،‬وقال فيهم رسول هللا ﷺ‪« :‬فيتمثل‬
‫لهم الشيطان فيقول إال تـستجيبون؟! فيقولون‪ :‬فـما تأمرنا؟ يأمرهم بعبادة‬
‫األوثان» (‪.)114‬‬

‫(‪ )109‬أخرجه البخاري في «العلم والعظة بالليل» (‪.)115‬‬


‫(‪ )110‬خرجه مسلم في (الذكر والدعاء واالستغفار) ‪ /‬باب‪ :‬الرقاق «‪ – 55/1/6‬النووي»‪.‬‬
‫(‪ )111‬أخرجه البخاري في الفتن ‪ /‬باب‪ :‬ذكر الدجال «‪ /97 ،96/13‬ح ‪.»7127‬‬
‫(‪ )112‬تقدم‪.‬‬
‫(‪ )113‬مثل ذنب الربا الذي قال هللا فيه‪« :‬الذين يأكلون الربا ال يقومون إال كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس»‪.‬‬
‫(‪ )114‬مسلم‪ ،‬كتاب (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬خروج الدجال ومكثه في األرض (‪/301/9‬ح ‪.»2940‬‬
‫هكذا‪ ،‬أال تستجيبون؟ ودون أن يعلموا األمر يعلنون الخضوع‪ ،‬فما تأمرنا؟‬
‫وهذه هي العبودية‪ ،‬الخضوع المطلق وعلى الغيب للشيطان‪ ،‬بسبب‬
‫عبوديتهم السابقة والتي أصبحوا بها كالبهائم والحمر وعقول الطير وأحالم‬
‫السباع كما وصفهم النبي ﷺ‪.‬‬

‫ومن أهم الذنوب التي يتحقق بها تسلط الشياطين وتبعية الدجال ذنب التقليد‪،‬‬
‫ألن هذا الذنب هو الذي امتد به الكفر حتى وقت الدجال وكان سبب بقائه‬
‫وأصبح تقليد اآلباء في الشرك هو نفسه صورة تسلط الشياطين‪.‬‬

‫كما قال رسول هللا ﷺ‪« :‬إن الشياطين تتبع الدجال فيقول‪ :‬إن من فتنة الدجال‬
‫أن يقول لألعرابي أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فيتـمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه‪ ،‬فيقوالن يا بني اتبعه فانه‬
‫ربك» (‪.)115‬‬

‫وتبقي مالحظة هامة في الحديث وهي صفة الرجل الذي يكلمه الدجال‪،‬‬
‫وهي أنه أعرابي‪ ،‬ولهذه الصفة معناها‪ ،‬ففي تفسير الحديث يقول عبد هللا‬
‫بن مسعود عندما ذكر عنده الدجال‪« :‬يفترق الناس عند خروجه ثالث فرق‪:‬‬
‫فرقة تتبعه وفرقة تلحق بأرض آبائها بمنابت الشيح وفرقة شط الفرات»‬
‫(‪.)116‬‬
‫وبذلك يعتبر عبد هللا بن مسعود منابت الشيح بأنها أرض البادية وعندما قال‬
‫أرض اآلباء‪ ،‬فيكون هذا معناه أن األعراب هم الذين سيلحقون بالبادية‪،‬‬
‫وهي حالة نفسية يدخل فيها اإلنسان عندما يشعر بالخوف‪ ،‬أي يأوي إلى‬
‫أصله ومنبته وبيئته األصلية‪ ،‬ولكنها فرقة هالكة (‪ ،)117‬ألنه من الواجب‬
‫عليهم أن يأووا إلى هللا عز وجل‪.‬‬

‫(‪ )115‬بن ماجة وإسناده قوي واللفظ له‪.‬‬


‫(‪ )116‬ذكره صاحب (عقد الدرر) «‪.»2:48‬‬
‫(‪ )117‬ألن الدجال سيتبعهم إليها‪.‬‬
‫عيسى والدجال‬
‫وبمجرد أن يقتل الدجال عل يد عيسى ابن مريم عليه السالم‪ ،‬تكون قد‬
‫حسمت قضية الربوبية ونفت عمن سوى هللا‪ ،‬فعيسى الذي يزعمون أنه إله‬
‫من دون هللا ينفي هو ذلك بنفسه فيقتل بيده أكبر من زعم هذا الزعم لنفسه‪،‬‬
‫ليتحقق أكبر إنكار ألكبر كذبة‪ ،‬ألن اإلنكار ترجع درجاته إلى أمرين‪:‬‬
‫الشخص الذي يُنِكر‪ ،‬واألسلوب الذي يُن َكر به‪ ،‬وعندما يكون الشخص الذي‬
‫ينكر هو نبي هللا‪ ،‬واألسلوب هو القتل‪ ،‬يكون هذا دليل على غضب هللا على‬
‫الدجال‪ ،‬ولذلك يقول النبي ﷺ‪« :‬اشتد غضب هللا على عبد قتله نبي أو قتل‬
‫نبيا ً»(‪ ،)118‬وهذا يفسر اختصاص عيسى بقتل الدجال‪.‬‬

‫وهذا االختصاص لعيسى بقتل الدجال يتبع قاعدة عامة في االختصاص‬


‫وهي التناسب‪ ،‬والتناسب هنا هو التضاد بين عيسى ابن مريم والدجال‪.‬‬

‫ولهذه القاعدة نضرب مثاالً معروفا ً‪ ،‬وهو اختصاص النبي ﷺ بالشفاعة دون‬
‫عيسى ابن مريم‪ ،‬ألن أهل الموقف عندما يذهبون لعيسى الذي لم يذكر له‬
‫ذنب‪ ،‬مما يتوهم منه الدليل علي استحقاق عيسى للشفاعة(‪ ،)119‬ولكن‬
‫الشفاعة إنما تكون للبشر وهم موقوفون في يوم الحشر بذنوبهم‪ ،‬فيصبح‬
‫مقام من هو مغفور الذنب أنسب لالستحقاق من مقام الذي لم يذكر له ذنب‪،‬‬
‫ألن مغفور الذنب تحقق فيه اسم هللا الغفور بأتم صورة‪ ،‬قال تعالى‪( :‬إِنَّا‬
‫َّللاُ َما تَقَد ََّم ِم ْن ذَ ْن ِب َك َو َما تَأ َ َّخ َر َويُتِ َّم نِ ْع َمتَهُ‬
‫فَتَ ْحنَا لَ َك فَتْ ًحا ُم ِبينًا ِليَ ْغ ِف َر لَ َك َّ‬
‫يزا) (الفتح‪،)3-1‬‬ ‫ع ِز ً‬ ‫ص ًرا َ‬ ‫ص َر َك َّ‬
‫َّللاُ نَ ْ‬ ‫طا ُم ْستَ ِقي ًما َويَ ْن ُ‬ ‫ص َرا ً‬ ‫علَي َْك َويَ ْه ِديَ َك ِ‬
‫َ‬
‫وتحقيق اسم هللا الغفور بهذه الدرجة هو أساس استحقاق رسول هللا ﷺ‬
‫للشفاعة في الموقوفين بذنوبهم‪ ،‬وبهذه القاعدة نشأ التناسب بين عيسى الذي‬
‫أثبت لنفسه كل صفات العبودية هلل علي الرغم من ادعاء الضالين له األلوهية‬
‫وبين الدجال الذي ادعى لنفسه صفات األلوهية‪ ،‬وقد اجتمعت له كل صفات‬

‫(‪ )118‬أخرجه الحاكم في (مستدركه) «‪ »275/4‬ولفظه عن أبي هريرة‪« :‬اشتد غضب هللا على رجل قتله رسول هللا ﷺ واشتد غضب‬
‫سمي ملك األمالك‪ ،‬ال ملك إال هللا عز وجل»‪ ،‬وأحمد في (مسنده) «‪ »317/2‬بلفظ‪« :‬اشتد غضب هللا عز وجل على قوم‬‫هللا على رجل ُ‬
‫فعلوا برسول هللا ﷺ وهو حينئذ يشير إلى رباعيته‪ ،‬وقال‪ :‬اشتد غضب هللا على رجل يقتله رسول هللا ﷺ أيضا " «‪ )492/2‬بلفظ الذي‬
‫عند الحاكم‪.‬‬
‫(‪ )119‬أخرجه البخاري في (التفسير) ‪ /‬باب‪« :‬ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا» «‪ ،»4712/247/8‬ومسلم في (الشفاعة)‬
‫‪ /‬باب‪ :‬منه «‪ ،69 – 65/3‬النووي»‪ ،‬وأحمد في (مسنده)‬
‫النقص والقبح والشر والضرر الذي ال نفع فيه‪.‬‬

‫نسل إسماعيل والدجال‬


‫وبمثل ما كان من تناسب بين عيسى والدجال‪ ،‬وما صدر من هذا التناسب‬
‫من ضرورة قتل عيسى للدجال‪ ،‬كان التناسب بين «نسل إسماعيل» وبين‬
‫الدجال هو ما جعل هذا النسل أشد أمة النبي عليه‪ ،‬ويعود هذا التناسب إلى‬
‫الحقائق القدرية المتعلقة بإسماعيل نفسه‪ ،‬والمضادة في جوهرها للدجال‪،‬‬
‫فمن البداية نرى تجاوز إسماعيل وأمه فتنة الجوع والموت‪ ،‬عندما ترك‬
‫«إبراهيم» عليه السالم هاجر وابنها في وادي غير ذي زرع قالت له‪ :‬آهلل‬
‫أمرك بهذا؟ فأشار إليها أي نعم‪ ،‬قالت‪ :‬إذا ً ال يضيعنا» (‪.)120‬‬

‫ومن تحت قدم إسماعيل تتفجر بئر زمزم‪ ،‬لتكون حياة إسماعيل وهاجر‬
‫وتبقى البئر حياة لألمة‪ ،‬وتبقى فاعليتها القدرية خيرا ً مطلقاً‪« :‬ماء زمزم لما‬
‫شرب له»(‪ ،)121‬فيجتمع في ماء البئر كل النفع فيتقابل الخير المطلق مع شر‬ ‫ُ‬
‫الدجال المطلق الذي ال نفع فيه‪ ،‬ثم يتجاوز إسماعيل الموت مرة أخرى‬
‫ي قَا َل يَا‬ ‫س ْع َ‬‫عندما يأمر هللا إبراهيم أن يذبح ولده إسماعيل‪ ( :‬فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّ‬
‫ت ا ْفعَ ْل َما‬ ‫ظ ْر َماذَا تَ َر َٰى ۚ قَا َل يَا أَبَ ِ‬ ‫ي إِنِي أ َ َر َٰى فِي ْال َمن َِام أَنِي أَ ْذبَ ُح َك فَا ْن ُ‬ ‫بُنَ َّ‬
‫ين َونَادَ ْينَاهُ أ َ ْن‬ ‫صابِ ِرينَ فَلَ َّما أَ ْسلَ َما َوتَلَّهُ ِل ْل َج ِب ِ‬ ‫ستَ ِجدُ ِني ِإ ْن شَا َء َّ‬
‫َّللاُ ِمنَ ال َّ‬ ‫تُؤْ َم ُر ۖ َ‬
‫الرؤْ َيا ۚ إِنَّا َك َٰذَ ِل َك ن َْج ِزي ْال ُم ْح ِسنِينَ )(الصافات‪-102:‬‬ ‫ت ُّ‬ ‫صدَّ ْق َ‬
‫َيا ِإب َْرا ِهي ُم قَ ْد َ‬
‫‪.)105‬‬

‫ثم يكبر إسماعيل ليذلل هللا له الخيل كما ورد عن ابن عباس رضي هللا عنه‪:‬‬
‫«كانت الخيل وحشية‪ ،‬فذللها هللا ِإلسماعيل بن إبراهيم عليهما السالم» (‪،)122‬‬
‫وهي الخيل التي انعقد في نواصيها الخير إلى يوم القيامة كما أخبر النبي‬
‫اصي َها ْال َخي ُْر َو ْاأل َ ْج ُر َو ْال َم ْغنَ ُم ِإلَى َي ْو ِم ْال ِق َيا َم ِة» (‪.)123‬‬
‫ﷺ‪ْ « :‬ال َخ ْي ُل َم ْعقُودٌ بِن ََو ِ‬
‫(‪ )120‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )121‬مسند أحمد بن حنبل ‪.14555‬‬
‫(‪ )122‬تفسير ابن كثير‪ /‬قول هللا عز وجل‪« :‬والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة»‪.‬‬
‫(‪ )123‬مسند أحمد بن حنبل برقم‪.)18925( :‬‬
‫وقد بلغ التناسب بين إسماعيل والدجال حدا إن هللا قد وضع «حلقة من‬
‫نحاس» على حلق إسماعيل تمنع ابراهيم من ذبحه من الحلق‪ ،‬اختبارا من‬
‫هللا له‪ ،‬فيذبح ابنه من القفا‪ ،‬وأن هللا سبحانه أيضا قد عصم الشاب الذي ذبحه‬
‫الدجال وأصر على الكفر به من أن يذبحه مرة أخرى بحلقة من نحاس‬
‫أيضا‪ ،‬ففي الحديث‪« :‬فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين‬
‫رجليه‪ ،‬قال ثم يمشي الدجال بين القطعتين‪ ،‬ثم يقول له‪ :‬قم‪ ،‬فيستوي قائما‪،‬‬
‫قال ثم يقول له‪ :‬أتؤمن بي؟ فيقول‪ :‬ما ازددت فيك إال بصيرة‪ ،‬قال ثم يقول‪:‬‬
‫يا أيها الناس‪ ،‬إنه ال يفعل بعدي بأحد من الناس‪ ،‬قال فيأخذه الدجال ليذبحه‪،‬‬
‫فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا‪ ،‬فال يستطيع إليه سبيال‪ ،»..‬وهكذا‬
‫ينجو إسماعيل من فتنة القتل في أول أمر األمة‪ ،‬كما ينجو فتى الدجال من‬
‫فتنة القتل في آخر الزمان‪ ،‬فال يضرهما فتنة الموت والدجال بعد ذلك‪ ،‬ويبقى‬
‫فضل إسماعيل في ذريته‪ ،‬حتى يلتقي مع فضل شاب آخر الزمان‪.‬‬

‫إن موقف إسماعيل ليس موقفا ً عارضا ً ولكنه موقف باق‪ ،‬وبقاؤه من خالل‬
‫ق مع بئر زمزم ومع الكعبة‬ ‫ذرية إسماعيل أيسر أسباب البقاء ألن الموقف با ٍ‬
‫ومع السعي بين الصفا والمروة‪ ،‬فكل هذه األمور هي آثار هذا الموقف الباقية‬
‫حتى آخر الزمان‪ ،‬فكيف ال يمتد الموقف نفسه حتى الدجال‪ ،‬ليكون نسل‬
‫إسماعيل أشد األمة على هذا الدجال‪ ،‬وهم المنتصرون على فتنة الجوع‬
‫والموت‪ ،‬أصحاب الموقف األصليين‪ ،‬لذا كان التقابل مع طبيعة هذه اآلثار‬
‫وعمل الدجال‪ ،‬فالدجال ال يدخل مكة‪ ،‬ال يدخل البلد الذي فيه بئر زمزم والكعبة‪،‬‬
‫والصفا والمروة‪.‬‬

‫ويبلغ التقابل مداه بين هذه اآلثار وطبيعة عمل الدجال في بئر زمزم‪ ،‬فأعمال‬
‫الدجال السحرية تعكس قصد الناس‪ ،‬فمن يقصد شيئا ً من عمله يجد عكسه‪،‬‬
‫ومثال ذلك يقصد جنته ويجدها نارا ً على وجه الحقيقة‪ ،‬أما زمزم فأثرها تابع‬
‫لمقاصد من يشربها‪ ،‬سبحان هللا‪ ،‬زمزم لما شربت له‪ ،‬الماء واحد والقصد‬
‫يتحقق من شربها بإذن هللا‪ ،‬وهذه هي أفعال هللا سبحانه وكمالها‪ ،‬وهذه هي أفعال‬
‫الدجال ونقائصها‪.‬‬
‫أما دليل بقاء الفضل في ذرية «إسماعيل» وأهم شواهده أن تكون ذريته هم أولى‬
‫الناس بالحرية والنجاة من الرق ولذلك كان النبي ﷺ يحرض على عتق أي عبد أو‬
‫جارية من نسل إسماعيل‪ ،‬وكان يقول‪« :‬من قال ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬له‬
‫الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كأنما أعتق‬
‫رقبة من ولد إسماعيل»(‪ )124‬ألن مضمون هذا الذكر هو مضمون الخير التام‪،‬‬
‫التوحيد‪ ،‬ونفي الشرك وإثبات الملك كله هلل‪ ،‬وإثبات الحمد كله هلل وإثبات اإلحياء‬
‫واإلماتة والقدرة هلل وحده‪ ،‬واستحقاق ذرية إسماعيل للعتق والبعد بهم عن الرق‬
‫جزاء من طبيعة فعلهم‪ ،‬وهم أشد األمة على الدجال‪ ،‬هم الذين ال ينكسرون أمام فتنة‬
‫الموت‪ ،‬وال يضعفون أمام فتنة الجوع‪ ،‬وال يجرون وراء جبال الخبز والقمح تاركين‬
‫الدين والعقيدة الصحيحة‪ ،‬فال يجب أن يكون هؤالء األحرار عبيداً بيننا‪ ،‬كيف وهم‬
‫السادة األخيار‪.‬‬

‫الدجال وابن صياد‬


‫ولكننا ال يمكن أن نتجاوز عالمة الدجال إال بذكر المشكلة المتعلقة بالعالقة‬
‫بين الدجال وابن صياد وهي المشكلة الخالفية المشهورة الباقية من تلك‬
‫العالمة‪ ،‬هل الدجال هو ابن صياد أم غيره؟‬

‫وبتطبيق مفهوم اإلظهار على عالمات الساعة‪ ،‬نفاجأ بحقيقة خطيرة للغاية‬
‫وهو أن هناك مثال كوني للدجال كحقيقة غيبية‪ ،‬وهذا المثل هو الذي يحسم‬
‫المشكلة الخالفية الخاصة بالعالقة بين الدجال وابن صياد وأصل المشكلة‬
‫أن هناك أحاديث صحيحة تؤكد أن ابن صياد هو بنفسه الدجال وأحاديث‬
‫صحيحة أخرى تبين أنه ليس الدجال‪.‬‬

‫ومثال األحاديث التي تؤكد أنه هو الدجال‪ :‬عن محمد بن المنكدر قال‪ :‬رأيت‬
‫جابر بن عبد هللا رضي هللا عنهما يحلف باهلل أن ابن صياد الدجال‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قلت‪ :‬أتحلف باهلل؟ قال‪ :‬فإني سمعت عمر يحلف باهلل على ذلك عند رسول‬
‫هللا ﷺ فال ينكره النبي ﷺ»(‪ ،)125‬وعن نافع مولى عبد هللا بن عمر رضي‬

‫(‪ )124‬أخرجه البخاري في الدعوات‪ ،)6404( ،‬ومسلم (‪.)2693‬‬


‫(‪ )125‬صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري (‪ )6835‬ومسلم (‪.)5219‬‬
‫هللا عنهما أن ابن عمر كان يقول‪« :‬وهللا ما أشك أن المسيح الدجال ابن‬
‫صياد»(‪ ،)126‬وعن نافع قال‪ :‬قال ابن عمر‪« :‬لقيته مرتين قال فلقيته فقلت‬
‫لبعضهم هل تحدثون أنه هو قال ال وهللا قال قلت كذبتني وهللا لقد أخبرني‬
‫بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم ماال وولدا فكذلك هو زعموا اليوم‬
‫قال فتحدثنا ثم فارقته قال فلقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه قال فقلت متى‬
‫فعلت عينك ما أرى قال ال أدري قال قلت ال تدري وهي في رأسك قال إن‬
‫شاء هللا خلقها في عصاك هذه قال فنخر كأشد نخير حمار سمعت قال فزعم‬
‫بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت وأما أنا فوهللا‬
‫ما شعرت قال وجاء حتى دخل على أم المؤمنين فحدثها فقالت ما تريد إليه‬
‫ألم تعلم أنه قد قال إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه»(‪.)127‬‬

‫أما األحاديث التي تنفي كون ابن صياد هو الدجال فأهمها‪ :‬حديث تميم‬
‫الداري الذي رأى الدجال موثوق في أحد الجزر (‪.)128‬‬
‫اختالف أقوال العلماء في ابن صياد‬
‫وكما اختلفت األحاديث الصحيحة كذلك كان رأي العلماء‪.‬‬

‫قال الخطابي‪« :‬قد اختلف الناس في أمر ابن صياد اختالفا ً شديدا ً وأشكل‬
‫أمره حتى قيل كل قول»‪ ،‬ثم قال‪« :‬والذي عندي أن هذه القصة إنما جرت‬
‫معه أيام مهادنته ﷺ اليهود وحلفاءهم‪ ،‬وذلك أنه بعد أن قدم المدينة كتب بينه‬
‫وبين اليهود كتابا ً صالحهم فيه على أال يهاجروا‪ ،‬وأن يتركوا على أمرهم‬
‫وكان ابن صياد منهم أو دخيالً فيهم» (‪.)129‬‬

‫وحاصل كالم الخطابي أنه ال يرى أن ابن صياد هو الدجال بل هو من الكهنة‬


‫أو السحرة له شيطان يخبره ببعض الغيب فيخطئ ويصيب كما جاء في شأن‬
‫الكهان وهللا أعلم‪.‬‬

‫(‪ )126‬سنن أبي داوود‪ :‬في خبر ابن صياد (‪.)4330‬‬


‫(‪ )127‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم ‪.2932‬‬
‫(‪ )128‬صحيح مسلم‪ :‬باب الفتن وأشراط الساعة‪ :‬قصة الجساسة‪.)5235( .‬‬
‫(‪ )129‬شرح النووي على مسلم‪ ،‬باب ذكر ابن صياد‪.‬‬
‫وقال القرطبي‪« :‬كان ابن صياد على طريقة الكهنة يخبر بالخبر فيصح تارة‬
‫ويفسد أخرى‪ ،‬فشاع ذلك ولم ينزل في شأنه وحي‪ ،‬فأراد النبي ﷺ سلوك‬
‫طريقة يختبر حاله بها‪ ،‬أي فهو السبب في انطالق النبي ﷺ إليه‪ ،‬وقد روى‬
‫أحمد من حديث جابر قال «ولدت امرأة من اليهود غالما ممسوحة عينه‪،‬‬
‫واألخرى طالعة ناتئة‪ ،‬فأشفق النبي ﷺ أن يكون هو الدجال»‪ ،‬وللترمذي‬
‫عن أبي بكرة مرفوعا‪« :‬يمكث أبو الدجال وأمه ثالثين عاما ال يولد لهما ثم‬
‫يولد لهما غالم أضر شيء وأقله منفعة»(‪ ،)130‬قال ونعتهما فقال‪ :‬أما أبوه‬
‫فطويل ضرب اللحم كأن أنفه منقار‪ ،‬وأما أمه ففرضاخة أي بفاء مفتوحة‬
‫وراء ساكنة وبمعجمتين‪ ،‬والمعنى أنها ضخمة طويلة اليدين» قال فسمعنا‬
‫بمولود بتلك الصفة‪ ،‬فذهبت أنا والزبير بن العوام حتى دخلنا على أبويه‪،‬‬
‫يعني ابن صياد‪ ،‬فإذا هما بتلك الصفة» وألحمد والبزار من حديث أبي ذر‬
‫قال بعثني النبي ﷺ إلى أمه فقال‪ :‬سلها كم حملت به فقالت حملت به اثني‬
‫عشر شهرا‪ ،‬فلما وقع صاح صياح الصبي ابن شهر»‪ ،‬فكأن ذلك هو األصل‬
‫في إرادة استكشاف أمره»(‪.)131‬‬

‫قال البيهقي في شرحه لحديث «يمكث أبو الدجال وأمه ثالثون عاما ال يولد‬
‫صيَّاد‪،‬‬ ‫غيْر اِب ِْن َ‬ ‫الز َمان َ‬ ‫آخر َّ‬ ‫لهما»‪« :‬فِي ِه أَ َّن الدَّ َّجال ْاأل َ ْكبَر الَّذِي َي ْخ ُرج فِي ِ‬
‫وج ِه ْم‪َ ،‬وقَ ْد خ ََر َج‬ ‫صيَّاد أَ َحد الدَّ َّجا ِلينَ ْال َكذَّابِينَ الَّذِينَ أَ ْخبَ َر ﷺ ِب ُخ ُر ِ‬ ‫َو َكانَ اِب ِْن َ‬
‫ص ِة تَ ِميم‪،‬‬ ‫أَ ْكثَره ْم َو َكانَ الَّذِينَ يَ ْج ِز ُمونَ بِاب ِْن َ‬
‫صيَّاد ُه َو الدَّ َّجال لَ ْم يَ ْس َمعُوا بِ ِق َّ‬
‫ْف َي ْلتَئِم أَ ْن يَ ُكون َم ْن َكانَ ِفي أَثْنَاء ْال َح َياة‬ ‫َو ِإ َّال فَ ْال َج ْمع َبيْنه َما بَ ِعيد ِجدًّا ِإ ْذ َكي َ‬
‫النَّ َب ِويَّة ِشبْه ْال ُم ْحت َ ِلم‪َ ،‬و َي ْجتَ ِمع ِب ِه النَّ ِبي ﷺ َو َي ْسأَلهُ أ َ ْن َي ُكونَ فِي آ ِخرهَا َ‬
‫ش ْي ًخا‬
‫ع ْن َخبَ ِر‬ ‫يرة ِم ْن َجزَ ائِر ْالبَ ْحر ُموثَقًا ِب ْال َحدِي ِد يَ ْستَ ْف ِهم َ‬ ‫يرا َم ْس ُجونًا فِي َج ِز َ‬ ‫َك ِب ً‬
‫عدَم ِاال ِط َالع» (‪.)132‬‬ ‫علَى َ‬ ‫النَّبِي ﷺ ه َْل خ ََر َج أ َ ْو َال؟ فَ ْاأل َ ْولَى أ َ ْن يُ ْح َمل َ‬

‫صته ُم ْش ِكلَة‪َ ،‬وأ َ ْمره‬‫وقال اإلمام النووي في باب ابن صياد‪« :‬قَا َل ْالعُلَ َماء‪َ :‬وقِ َّ‬
‫غيْره؟ َو َال شَك فِي أَنَّهُ‬ ‫ُم ْشتَبَه فِي أَنَّهُ ه َْل ُه َو ْال َمسِيح الدَّ َّجال ْال َم ْش ُهور أَ ْم َ‬
‫اجلَة‪ ،‬قا َل ْالعُلَ َماء‪َ :‬و َ‬
‫ظا ِهر ْاأل َ َحادِيث أَ َّن النَّبِي ﷺ لَ ْم يُو َح إِلَ ْي ِه‬ ‫دَ َّجال ِم ْن الدَّ َج ِ‬

‫(‪ )130‬مسند أحمد بن حنبل برقم (‪ ،)20013‬والترمذي برقم (‪.)2180‬‬


‫(‪ )131‬كالم القرطبي هو نقال عن ابن حجر من فتح الباري شرح صحيح البخاري‪.‬‬
‫(‪ )132‬فتح الباري شرح صحيح البخاري البن حجر العسقالني‪ :‬كتاب أخبار اآلحاد‪.‬‬
‫ت الدَّ َّجال‪َ ،‬و َكانَ فِي‬ ‫صفَا ِ‬ ‫ي ِإلَ ْي ِه ِب ِ‬ ‫غيْره‪َ ،‬وإِنَّ َما أ ُ ِ‬
‫وح َ‬ ‫ِبأَنَّهُ ْال َمسِيح الدَّ َّجال‪َ ،‬و َال َ‬
‫غيْره‪،‬‬ ‫طع ِبأَنَّهُ الدَّ َّجال َو َال َ‬‫صيَّاد قَ َرائِن ُم ْحتَ ِملَة‪ ،‬فَ ِلذَ ِل َك َكانَ النَّبِي ﷺ َال يَ ْق َ‬ ‫اِبْن َ‬
‫ع ْنهُ‪« :‬إِ ْن يَ ُك ْن ُه َو فَلَ ْن تَ ْست َ ِطيع قَتْله» َوأ َ َّما‬ ‫َّللا َ‬‫ي َّ‬ ‫ض َ‬ ‫َو ِل َهذَا قَا َل ِلعُ َمر َر ِ‬
‫ا ِْح ِت َجاجه ُه َو ِبأَنَّهُ ُم ْس ِلم َوالدَّ َّجال َكافِر‪َ ،‬و ِبأَنَّهُ َال يُولَد ِللدَّ َّجا ِل َوقَ ْد ُو ِلدَ لَهُ ُه َو‪،‬‬
‫صيَّاد دَ َخ َل ْال َمدِينَة‪َ ،‬و ُه َو ُمتَ َو ِجه إِلَى‬ ‫َوأَ ْن َال َي ْد ُخل َم َّكة َو ْال َمدِينَة َوأ َ َّن اِبْن َ‬
‫صفَاته َو ْقت فِتْنَته َو ُخ ُروجه‬ ‫ع ْن ِ‬ ‫َم َّكة‪ ،‬فَ َال دَ َاللَة لَهُ فِي ِه ِأل َ َّن النَّ ِبي ﷺ ِإنَّ َما أَ ْخبَ َر َ‬
‫اجلَة ْال َكذَّابِينَ »(‪.)133‬‬ ‫صته َو َك ْونه أ َ َحد الدَّ َج ِ‬ ‫فِي ْاأل َ ْرض‪َ ،‬و ِم ْن اِ ْشتِبَاه قِ َّ‬

‫وقال ابن حجر‪« :‬وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن‬
‫صياد هو الدجال‪ ،‬أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا ً‪ ،‬وأن ابن‬
‫صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى‬
‫أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر هللا تعالى خروجه‬
‫فيها» (‪.)134‬‬

‫ثم علق ابن حجر على تأكيد جابر رضي هللا عنه بأن ابن صياد هو المرئي‬
‫في حديث الجساسة‪ ،‬بقوله‪:‬‬
‫«في كالم جابر إشارة إلى أن أمره ملتبس وأنه يجوز ما ظهر من أمره ال‬
‫ينافي ما توقع منه في خروجه آخر الزمان‪ ،‬وقد أخرج أحمد من حديث أبي‬
‫ذر‪ :‬لئن أحلف عشر مرات أن ابن صياد هو الدجال أحب ألي أن أحلف مرة‬
‫واحدة أنه ليس هو» (‪ ،)135‬وفي كالم الحافظ ابن حجر داللة واضحة على‬
‫ميله لألخذ برأي عمر بن الخطاب‪.‬‬

‫رأي أبو نعيم األصبهاني‪ :‬قال الحافظ ابن حجر‪« :‬أخرج أبو نعيم‬
‫األصبهاني في تاريخ أصبهان ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال‪ ،‬فساق من‬
‫طريق شبيل عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه قال‪ :‬لما افتتحنا أصبهان‬
‫كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ يعني أربعة أميال فكنا نأتيها‪ ،‬أي‬
‫القرية اليهودية‪ ،‬فنمتار(‪ )136‬ما نحتاج إليه فأتيتها يوما ً فإذا اليهود يزفون‬
‫(‪ )133‬شرح النووي على مسلم‪ ،‬كتاب الفتن وأشراط الساعة‪ ،‬باب ذكر ابن صياد‪.‬‬
‫(‪ )134‬فتح الباري شرح صحيح البخاري البن حجر‪.‬‬
‫(‪ )135‬المصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ )136‬نمتار أي‪ :‬نشتري‪.‬‬
‫ويشربون ويضربون بالدفوف‪ ،‬فسألت صديقا ً لي منهم فقال لي‪ :‬هذا ملكنا‬
‫الذي نستفتح به على العرب يدخل‪ ،‬فبت عنده على سطح فصليت الغداة فلما‬
‫طلعت الشمس‪ ،‬إذا الرهج من قبل العسكر فنظرت فإذا رجل عليه قبة من‬
‫ريحان واليهود يزفون ويضربون فنظرت فإذا هو ابن صياد»(‪.)137‬‬

‫ومن مجموع األحاديث الصحيحة المؤكدة لكون ابن صياد هو الدجال‪،‬‬


‫واألحاديث الصحيحة النافية لكون ابن صياد هو الدجال‪ ،‬ومن مجموع أقوال‬
‫الصحابة المؤكدة والنافية‪ ،‬يلزم الجمع بمثل ما قال اإلمام النووي‪« :‬وظاهر‬
‫األحاديث أن النبي ﷺ لم يوح إليه بأنه المسيح وال غيره وإنما أوحي إليه‬
‫بصفات الدجال وكان في ابن صياد قرائن محتملة»‪.‬‬

‫وبذلك يكون القول األقرب في المسألة ما قاله ابن حجر‪« :‬وأقرب ما يجمع‬
‫به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال‪ ،‬وأن الدجال‬
‫«بعينه» هو الذي شاهده تميم موثقا ً‪ ،‬وابن صياد شيطان تبدى في «صورة»‬
‫الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان» (‪ ،)138‬وبذلك يتحقق التفسير‬
‫الصحيح في المسألة وهو أن ابن صياد ليس الدجال بعينه ولكن ابن صياد‬
‫صورة كونية للدجال‪ ،‬باعتباره حقيقة غيبية‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬عيسى ابن مريم‬


‫واألساس في هذه العالمة هو قول هللا عز وجل‪َ ( :‬وإِنَّهُ لَ ِع ْل ٌم ِلل َّسا َع ِة فَ َال تَ ْمتَ ُر َّن‬
‫خرف‪ )61:‬وقد جاءت األقوال متعددة في‬ ‫ط ُم ْستَ ِقي ٌم) ُّ‬
‫(الز ُ‬ ‫ون ۚ َٰ َهذَا ِ‬
‫ص َرا ٌ‬ ‫ِب َها َوات َّ ِبعُ ِ‬
‫تفسير وصف عيسى ابن مريم بأنه « ِعلم للساعة»‪ ،‬إال أن جميعها تتجه نحو‬
‫تصور منهجي محدد لعيسى ابن مريم كعالمة من عالمات الساعة‪.‬‬

‫فقد قيل في معنى «علم للساعة» أنه‪ :‬أمارة ودليل على وقوعها‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫«خروج عيسى ابن مريم عليه الصالة والسالم قبل يوم القيامة (‪ ،)139‬وقيل‪:‬‬
‫(‪ )137‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪.‬‬
‫(‪ )138‬المصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ )139‬أخرجه ابن أبى حاتم في تفسير عن ابن عباس‪ ،‬وفتح القدير تحت رقم «‪.»11136‬‬
‫آية للساعة‪ ،‬وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك‬
‫وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم‪ ،‬أما القول بأنه أمارة ودليل‬
‫على وقوع الساعة‪ ،‬ألن معجزته هي إحياء الموتى بإذن هللا وهذا اإلحياء‪،‬‬
‫دليل في ذاته‪ ،‬على القيامة‪.‬‬

‫والقول بأنه خروج عيسى قبل يوم القيامة‪ ،‬ألن بقاءه حيا ً حتى آخر الزمان‬
‫دليل على الساعة‪ ،‬أما القول بأنه آية للساعة‪ ،‬فذلك ألن «آية» مرتبطة‬
‫بعيسى ابن مريم في القران بكونه ولد من غير أب‪ ،‬وهذه الوالدة هي‪ ،‬في‬
‫ذاتها‪ ،‬آية من آيات الخلق البشري‪ ،‬وقبل إثبات أن هذه الوالدة آية للساعة‬
‫سنستطرد في إثبات قانون القسمة الرباعية‪ ،‬ألن هذا الخلق خاضع لقانون‬
‫القسمة الرباعية وهو قانون عام للخلق ودالئل هذا القانون‪ ،‬في إطار الخلق‬
‫ور أَ ْو‬
‫ب ِل َمن يَشَاء الذُّ ُك َ‬‫ب ِل َم ْن َيشَاء ِإنَاثًا َو َي َه ُ‬
‫البشري قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬ي َه ُ‬
‫ِير ‪( ﴾50‬الشورى‬ ‫ع ِلي ٌم قَد ٌ‬ ‫يُزَ ِو ُج ُه ْم ذُ ْك َرانًا َو ِإنَاثًا َو َي ْجعَ ُل َمن يَشَاء َ‬
‫ع ِقي ًما إِنَّهُ َ‬
‫‪ ،)50:49‬وفي خلق أعمال البشر جاء قول هللا عز وجل‪ ﴿ :‬أ ُ ْولي ِ األ ْيدِي‬
‫ار﴾ (سورة ص‪.)45:‬‬ ‫ص ِ‬ ‫َواأل ْب َ‬

‫حيث جاء في تفسيرها أن الناس أربعة أنواع‪َ :‬من عنده قدرة بغير بصيرة‬
‫في العمل‪ ،‬و َمن عنده بصيرة بغير قدرة على العمل‪ ،‬و َمن يملك القدرة‬
‫والبصيرة معا ً‪ ،‬و َمن ال يملك القدرة والبصيرة معا ً‪.‬‬

‫وفي خلق أعمال البشر أيضا من حيث اإلخالص والمتابعة‪ :‬من الناس من‬
‫يتابع بغير إخالص‪ ،‬من الناس من يخلص بغير اتباع‪ ،‬من الناس من يخلص‬
‫ع َمر بن سعد‬ ‫ويتابع‪ ،‬من الناس من ال يخلص وال يتابع‪ ،‬وعن أبي كبشة ُ‬
‫األنماري رضي هللا عنه أنه سمع رسول هللا ﷺ يقول‪« :‬ثالث أقسم عليهن‬
‫وأحدثكم حديثا ً فاحفظوه‪ :‬ما نقص مال عبد من صدقة‪ ،‬وال ظلم عبد مظلمة‬
‫صبر عليها إال زاده هللا عزاً‪ ،‬وال فتح عبد باب مسألة إال فتح هللا عليه باب‬
‫فقر أو كلمة نحوها‪ ،‬وأحدثكم حديثا ً فاحفظوا‪ ،‬قال‪ :‬إنما الدنيا ألربعة نفر‪:‬‬
‫عبد رزقه هللا ماالً وعلما ً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه أو يعلم هلل فيه‬
‫حقا ً فهو بأفضل المنازل‪ ،‬وعبد رزقه هللا علما ً ولم يرزقه ماالً فهو صادق‬
‫النية يقول‪ :‬لو أن لي ماالً لعملت بعمل فالن فهو بنيته فأجرهما سواء‪ ،‬وعبد‬
‫رزقه هللا ماالً ولم يرزقه علما ً فهو يخبط في ماله بغير علم ال يتقى فيه ربه‬
‫وال يصل رحمه وال يعلم هلل فيه حقا ً فهو بأخبث المنازل‪ ،‬وعبد لم يرزقه‬
‫هللا ماالً وال علما ً فهو يقول‪ :‬لو لي ماالً لعملت بعمل فالن فهو بنيته فوزرهما‬
‫سواء»(‪.)140‬‬

‫فإذا عدنا إلي عيسى ابن مريم نجد أنه قسم وحده في القسمة الرباعية‪ ،‬ذلك‬
‫أن الخلق من حيث التوالد‪ :‬إما أن يكون من غير أب وأم مثل آدم‪ ،‬وإما أن‬
‫يكون من أب ومن غير أم مثل حواء‪ ،‬وإما أن يكون من أب وأم وهم جميع‬
‫الخلق‪ ،‬وإما أن يكون من أم من غير أب وهو عيسى ابن مريم‪ ،‬ومن هنا‬
‫كان خلق البشر آية وكان عيسى وحده آية أما عالقة هذا المعني بالساعة‪،‬‬
‫فإن الساعة لم تكن تقوم إال بعد تمام األقسام األربعة أو بعد تمام الخلق‬
‫البشري‪ ،‬ولما تحقق التمام بخلق عيسى‪ ،‬كان ذلك آية على الساعة‪.‬‬

‫ع ِة ﴾‪ ،‬وهي مرحلة‬ ‫وهذه هي المرحلة األولى في معني اآلية‪َ ﴿:‬و ِإنَّهُ لَ ِع ْل ٌم ِلل َّ‬
‫سا َ‬
‫عيسى في الحياة الدنيا‪ ،‬أما المرحلة الثانية‪ :‬فهي مرحلة عيسى في إطار‬
‫العالمات وفي هذه المرحلة نجد أن عيسى ليس مجرد عالمة من العالمات‬
‫ولكنه عالمة لكل عالمات الساعة الكبرى‪ ،‬فكونه يصلي خلف المهدي فهذه‬
‫عالمة على المهدي‪ ،‬وكونه يقتل الدجال فهذه عالمة على الدجال‪ ،‬وكونه‬
‫يأوي بعباد هللا من يأجوج ومأجوج إلى جبل الطور فهو عالمة على يأجوج‬
‫ومأجوج‪.‬‬

‫ولذلك ارتبطت عالمة عيسى بآخر زمن العالمات وهو قتل يأجوج‬
‫ومأجوج‪ ،‬بل وقذف أجسادهم في البحر‪ ،‬ففي الحديث بعد أن ذكر النبي ﷺ‬
‫قتل الدجال ثم قتل يأجوج ومأجوج‪ ،‬وقذف أجسادهم في البحر قال‪« :‬ففيما‬
‫عهد إلى ربي عز وجل‪ :‬أن ذلك إذا كان كذلك نهرا ً فإن الساعة كالحامل‬
‫المتم التي ال يدري أهلها متي تفاجئوهم بوالدتها ليالً أو نهارا ً» (‪.)141‬‬

‫(‪ )140‬أخرجه أحمد في (مسنده) «‪ ،»231/4‬والترمذي في (الزهد) ‪ /‬باب‪ :‬مثل الدنيا أربعة نفر «‪/652/4‬ح ‪،»2325‬‬
‫وابن ماجة في (الزهد) ‪ /‬باب‪ :‬النية «‪/1431/2‬ح ‪ ،»4228‬والبغوي في (شرح السنة) «‪ / 290 ،289/4‬ح ‪ »4097‬من‬
‫حديث أبى كبشة‪.‬‬
‫(‪ )141‬مسند أحمد بن حنبل ‪3375‬‬
‫واستمرارا ً في تحليل عالمة عيسى ابن مريم في إطار العالمات‪ ،‬نجد أن‬
‫إيمان أهل الكتاب به قبل موته كما قال هللا سبحانه‪َ ﴿:‬و ِإن ِم ْن أهل ْال ِكتَا ِ‬
‫ب إِالَّ‬
‫ش ِهيدًا﴾(النساء‪ ،)159:‬ونجد‬ ‫علَ ْي ِه ْم َ‬ ‫لَيُؤْ ِمن ََّن بِ ِه قَ ْب َل َم ْوتِ ِه َويَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة يَ ُك ُ‬
‫ون َ‬
‫كذلك أن عيسى بنفسه سيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية‪.‬‬

‫فبذلك يصير الدين ملة واحدة‪ ،‬وهو الوضع البشري الذي ستقوم عليه‬
‫الساعة‪ ،‬ليصبح هذا الواقع كما كان في بداية الخلق‪ ،‬حيث كان الخلق أمة‬
‫اس أ ُ َّمةً َو ِ‬
‫احدَة ً﴾(البقرة‪ ،)213:‬ويعود أمة واحدة‬ ‫واحدة كما قال هللا‪َ ﴿:‬كانَ النَّ ُ‬
‫بفعل عيسى بإذن ربه‪.‬‬

‫أما المرحلة الثالثة فهي‪ :‬يوم القيامة ذاته‪ ،‬حيث سيقف عيسى شاهدا ً على‬
‫لت‬ ‫نت قُ َ‬ ‫سى ابْنَ َم ْر َي َم أَأَ َ‬ ‫وحدانية هللا أمام جميع الخالئق‪َ « :‬و ِإ ْذ قَا َل َّللاُ َيا ِعي َ‬
‫ُ‬
‫س ْب َحان ََك﴾ إلى قوله‪َ ﴿ :‬و َربَّ ُك ْم‬ ‫ُون َّللاِ قَا َل ُ‬‫ي ِإلَـ َهي ِْن ِمن د ِ‬ ‫اس ات َّ ِخذُونِي َوأ ِم َ‬ ‫ِللنَّ ِ‬
‫نت‬‫علَ ْي ِه ْم َوأَ َ‬
‫يب َ‬ ‫الرقِ َ‬
‫نت َّ‬ ‫نت أَ َ‬ ‫ش ِهيدًا َّما د ُْمتُ فِي ِه ْم فَلَ َّما تَ َوفَّ ْيتَنِي ُك َ‬
‫علَ ْي ِه ْم َ‬
‫َو ُكنتُ َ‬
‫يز‬ ‫نت ْالعَ ِز ُ‬‫ش ِهيدٌ إِن تُعَ ِذ ْب ُه ْم فَإِنَّ ُه ْم ِعبَاد َُك َوإِن تَ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم فَإِنَّ َك أَ َ‬
‫ش ْيءٍ َ‬ ‫علَى ُك ِل َ‬ ‫َ‬
‫ْال َح ِكي ُم﴾ (المائدة‪.)118 -117:‬‬

‫وبعد تحليل موقف عيسى‪ ،‬نجد أن عيسى عالمة للساعة في الدنيا وفي‬
‫عالمات الساعة والساعة بصورة جوهرية جعلته في إطار العالمات عالمة‬
‫على كل العالمات الكبرى‪ ،‬ولما كان مجموع العالمات هو الذي يفيد العلم‪،‬‬
‫ع ِة﴾ (الزخرف‪،)61:‬‬ ‫أنطبق على عيسى هذا اللفظ القرآني‪َ ﴿ :‬وإنَّهُ لَ ِع ْل ٌم ِلل َّ‬
‫سا َ‬
‫والحقيقة أن للعالقة بين عيسى والساعة أصالً قرآنيا من خالل معنى اإلرادة‬
‫والمشيئة والقدرة اإللهية المطلقة‪ ،‬حيث لم يُذكر في القران تعبير‪« :‬كن‬
‫فيكون» إال في ثمانية مواضع أربعة متعلقة بعيسى ابن مريم‪ ،‬وأربعة متعلقة‬
‫بقيام الساعة‪ ،‬واألربعة األولي جاءت في سورة البقرة آية ‪ ،117‬آل‬
‫عمران‪ ،59 -47:‬مريم‪ ،35:‬واألربعة األخرى جاءت في سورة األنعام آية‪:‬‬
‫‪ ،73‬والنحل‪ ،40:‬يس‪ ،82 :‬غافر‪.68:‬‬

‫والحقيقة أن حكمة الزمان والمكان في نزول عيسى أمر كان في غاية‬


‫الروعة‪ ،‬فمن حيث الزمان كان صالة الصبح‪ ،‬وصالة الصبح هي أقوي‬
‫موانع الفتن‪ ،‬ولذلك قال رسول هللا ﷺ في حديث نزول الفتن عن أم سلمة‬
‫قالت‪ :‬استيقظ النبي ﷺ ذات ليلة فقال‪« :‬سبحان هللا ماذا أنزل الليلة من الفتن؟‬
‫فرب كاسية في الدنيا‬
‫َّ‬ ‫وماذا فتح من الخزائن؟ أيقظوا صواحبات الحجر‬
‫عارية في اآلخرة» (‪.)142‬‬

‫وقال ﷺ‪« :‬إني ألري الفتن خالل بيوتكم كمواقع القطر» (‪ ،)143‬وذلك ألن‬
‫صالة الليل حرز من الفتن‪ ،‬صالة الصبح تعدل قيام الليل كما قال عليه‬
‫الصالة والسالم‪« :‬من صلى العشاء في جماعة كأنما قام نصف الليل‪ ،‬ومن‬
‫صلى الصبح في جماعة كأنما قام الليل كله» (‪ ،)144‬هذا من ناحية‪ ،‬ومن‬
‫ناحية أخرى فان صالة الصبح تجعل صاحبها في ذمة هللا‪ ،‬كما قال النبي‬
‫ﷺ‪« :‬من صـلى الصبح في جـماعة كان في ذمة هللا حتى يمسي» (‪.)145‬‬

‫ومن ناحية ثالثة‪ ،‬فإن التقابل بين صالة الصبح والدجال‪ ،‬أن صالة الصبح‬
‫خير من الدنيا وما فيها‪ ،‬وأن فتنة الدجال هي شر الدنيا كما قال النبي ﷺ‪:‬‬
‫«يتبعه اليهود والمال والنساء والشياطين» (‪.)146‬‬

‫وقد يكون مالحظا ً أن الكالم عن المسيح عيسى ابن مريم كان أقل في‬
‫العالمات‪ ،‬والحقيقة غير ذلك‪ ،‬ألن عالمة المسيح ابن مريم متداخلة مع أكبر‬
‫العالمات ومجموعها مثل المهدي‪ ،‬والدجال ويأجوج ومأجوج‪ ،‬فيكون‬
‫الكالم عن عالمة المسيح عيسى ابن مريم‪ ،‬حقيقة‪ ،‬قد نال أكبر حيز من‬
‫التصور المنهجي للعالمات‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬يأجوج ومأجوج‬


‫كان يأجوج ومأجوج فوق األرض فأفسدوا فيها‪ ،‬فأخفاهم هللا عز وجل وراء‬
‫الردم الذي بناه ذو القرنين‪ ،‬وبذلك فرق هللا بين المفسدين وغير المفسدين‪،‬‬

‫(‪ )142‬تقدم تخريجه‪.‬‬


‫(‪ )143‬أخرجه البخاري (فضائل المدينة) ‪ /‬باب‪ :‬أحكام المدينة «‪.)1878/113/4‬‬
‫(‪ )144‬أخرجه مسلم في (المساجد ومواضع الصالة) «‪ ،157/5/2‬النووي»‪ ،‬وأبو داود في ((الصالة) ‪/149/1« /‬ح‬
‫‪.»555‬‬
‫(‪ )145‬أخرجه مسلم في (المساجد ومواضع الصالة) ‪ ،158/5/2« /‬النووي»‪ ،‬وأحمد في (مسنده) «‪.)312/4‬‬
‫(‪ )146‬أخرجه أحمد «‪ ،»216/4‬والطبراني في (الكبير) «‪/51/9‬ح ‪ ،»8392‬وذكره الهيثمي في (المجمع)‬
‫حتى إذا فسد أهل األرض وأصبحوا مثل يأجوج ومأجوج‪ ،‬فعندئذ فإن حكمة‬
‫التفريق بين البشر المفسدين وبين يأجوج ومأجوج تنتفي‪ ،‬فال يكون هناك‬
‫حكمة في التفريق بينهما فيخرج يأجوج ومأجوج إليهم وبذلك يدخل يأجوج‬
‫سنَّة هللا الثابتة ويخرجون إلى الناس من تحت الردم‬
‫ومأجوج تحت الردم ب ُ‬
‫بسنة هللا الثابتة أيضاً‪ ،‬ألن سنة هللا الثابتة هي‪ :‬التفريق بين المختلفين‪،‬‬
‫والجمع بين المتماثلين‪.‬‬

‫وهذا تعريف ابن تيمية لسنة هللا الثابتة الذي أورده في كتاب النبوات‪ ،‬فيقول‬
‫في سياق حديثه عن المعجزة‪« :‬وكثير من هؤالء مضطربون في مسمى‬
‫العادة التي تخرق والتحقيق أن العادة أمر إضافي فقد يعتاد قوم ما لم يعتده‬
‫غيرهم فهذه إذا خرقت فليست إال لصدق النبي ال توجد بدون صدقه والرب‬
‫َّللاِ الَّ ِتي‬‫سنَّةَ َّ‬
‫تعالى في الحقيقة ال ينقض عادته التي هي سنته التي قال فيها ( ُ‬
‫ارا‬ ‫ِيال) (الفتح‪ ،)23:‬وقال‪ « :‬ا ْستِ ْك َب ً‬ ‫َّللاِ تَ ْبد ً‬ ‫ت ِم ْن قَ ْب ُل ۖ َولَ ْن تَ ِجدَ ِل ُ‬
‫سنَّ ِة َّ‬ ‫قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ظ ُرونَ إِ َّال‬ ‫ئ إِ َّال ِبأ َ ْه ِل ِه ۚ فَ َه ْل يَ ْن ُ‬ ‫يق ْال َم ْك ُر ال َّ‬
‫س ِي ُ‬ ‫ض َو َم ْك َر ال َّ‬
‫س ِي ِئ ۚ َو َال َي ِح ُ‬ ‫فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫يال‬ ‫َّللاِ تَ ْح ِو ً‬
‫ت َّ‬ ‫سنَّ ِ‬‫ِيال ۖ َولَ ْن تَ ِجدَ ِل ُ‬ ‫َّللاِ ت َ ْبد ً‬
‫ت َّ‬ ‫سنَّ ِ‬ ‫ت ْاأل َ َّو ِلينَ ۚ فَلَ ْن تَ ِجدَ ِل ُ‬ ‫سنَّ َ‬
‫ُ‬
‫(‪)147‬‬
‫»(فاطر‪ ،)43:‬وهي التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين»‬

‫وفي هذه السنة الثابتة جاء قول هللا عز وجل عن يأجوج ومأجوج‪( :‬فَ َما‬
‫عوا لَهُ نَ ْقبًا قَا َل َٰ َهذَا َر ْح َمةٌ ِم ْن َر ِبي ۖ فَإِذَا‬ ‫ظ َه ُروهُ َو َما ا ْستَ َ‬
‫طا ُ‬ ‫عوا أَ ْن َي ْ‬‫طا ُ‬‫ا ْس َ‬
‫َجا َء َو ْعدُ َر ِبي َجعَلَهُ دَ َّكا َء ۖ َو َكانَ َو ْعدُ َر ِبي َحقًّا َوتَ َر ْكنَا بَ ْع َ‬
‫ض ُه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ يَ ُمو ُج‬
‫ور فَ َج َم ْعنَا ُه ْم َج ْمعًا) (الكهف‪.)99 –97 :‬‬ ‫ص ِ‬ ‫ض ۖ َونُ ِف َخ فِي ال ُّ‬ ‫فِي بَ ْع ٍ‬

‫ولذلك جاء في تفسير اآلية األخيرة قول السدي‪« :‬ذاك حين يخرجون على‬
‫الناس‪ ،‬وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال» (‪ )148‬حتى أن هناك قوالً آخر‬
‫يؤكد معنى السنة الثابتة‪« :‬التفريق بين المختلفين والجمع بين المتشابهين» وهو‬
‫إذا ماج الجن واإلنس في آخر الزمان يختلط الجن واإلنس‪ ،‬ألن ظهور الجن‬

‫(‪ )147‬رسالة النبوات‪ :‬ابن تيمية‪ :‬فصل سنة األولين‪.‬‬


‫(‪ )148‬تفسير ابن كثير‪ :‬آية «حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج»‪.‬‬
‫واإلنس واالختالط بينهما سيحدث عندما يكون اإلنس مثل الجن وأعمالهم‬
‫فيظهرون لهم‪ ،‬تماما ً مثلما يظهر يأجوج ومأجوج في آخر الزمان‪.‬‬

‫وبالنظر إلى ما ذكرناه في تعريف العالمة من أنها فعال إلهيا جامعا فقد جمع‬
‫هللا في يأجوج ومأجوج كل صفات الفتن التي ستمر بها األمة بحيث تتحقق‬
‫في فتنة يأجوج ومأجوج الطبيعة الكاملة للفتنة‪ ،‬ابتدا ًء من البداية اليسيرة‬
‫للفتنة‪ ،‬وهي فتنة الرجل في أهله وماله وانتهاء بالفتنة التي تموج كموج‬
‫البحر‪ ،‬بحيث تمثل هذه البداية وتطورها مرحلية أساسية في تطور الفتن‪،‬‬
‫وقد جمع حديث عمر هذين النوعين‪.‬‬

‫فعن حذيفة ابن اليمان أنه قال‪« :‬بينما نحن جلوس عند عمر إذ قال أيكم يحفظ‬
‫قول النبي ﷺ في الفتنة؟ قال‪ :‬فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها‬
‫الصالة والصدقة واألمر بالمعروف والنهى عن المنكر»‪ ،‬قال‪ :‬ليس عن هذا‬
‫أسألك‪ ،‬ولكن التي تموج كموج البحر‪ ،‬فقال‪ :‬ليس عليك منها بأس يا أمير‬
‫المؤمنين‪ ،‬إن بينك وبينها بابا ً مغلقاً‪ ،‬قال عمر‪ :‬أيكسر الباب أم يفتح؟ قال‪ :‬ال بل‬
‫يُكسر‪ ،‬قال عمر‪ :‬إذن ال يُغلق أبداً‪ ،‬قلت‪ :‬أجل‪ ،‬قلنا لحذيفة‪ :‬أكان عمر يعلم الباب؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬كما يعلم أن دون غد ليلة‪ ،‬وذلك أني حدثته حديثا ً ليس باألغـاليط‪ ،‬فهبنا‬
‫أن نسأله َمن الباب فأمرنا مسروقا ً فسأله‪ :‬من الباب؟ قال‪ :‬عمر»(‪.)149‬‬

‫وقد حدد هذا الحديث المرحلة األساسية لتطور الفتن‪ ،‬وقد وصف النبي ﷺ‬
‫هذا التطور من خالل رد الفعل اإلنساني تجاهها فقال‪ :‬ستكون فتن يرقق‬
‫بعضها بعضا ً‪ ،‬وفي حديث آخر يصف النبي ﷺ تطور الفتنة وتصاعدها‬
‫منظورا إليها من موقف اإلنسان منها‪ ،‬وذلك في حديث عبد هللا بن عمر بن‬
‫العاص‪ ،‬يقول فيه النبي ﷺ‪« :‬إنه لم يكن نبي قبلي إال كان حقا عليه أن يدل‬
‫أمته على ما يعلمه خيرا لهم وينذرهم ما يعلمه شرا لهم وإن أمتكم هذه جعلت‬
‫عافيتها في أولها وإن آخرهم يصيبهم بالء وأمور ينكرونها ثم تجيء فتن‬
‫يرقق بعضها بعضا فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف ثم تجيء فتنة‬
‫فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف فمن سره أن يزحزح عن النار ويدخل‬

‫(‪ )149‬صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري (‪.)7096‬‬


‫الجنة فلتدركه موتته وهو يؤمن باهلل واليوم اآلخر»(‪.)150‬‬

‫ونلمح حركة التصاعد في الفتنة أيضا في حديث عبد هللا بن عمر‪ ،‬قال‪« :‬كنا‬
‫عند رسول هللا ﷺ قعودا فذكر الفتن فأكثر ذكرها حتى ذكر فتنة األحالس‬
‫فقال قائل‪ :‬يا رسول هللا وما فتنة األحالس؟ قال‪ :‬هي فتنة هرب وحرب ثم‬
‫فتنة السراء دخلها أو دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه‬
‫مني وليس مني إنما وليي المتقون ثم يصطلح الناس على رجل كورك على‬
‫ضلع ثم فتنة الدهيماء ال تدع أحدا من هذه األمة إال لطمته لطمة فإذا قيل‬
‫انقطعت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسى كافرا حتى يصير الناس‬
‫إلى فسطاطين فسطاط إيمان ال نفاق فيه وفسطاط نفاق ال إيمان فيه إذا كان‬
‫ذاكم فانتظروا الدجال من اليوم أو غد»(‪.)151‬‬

‫وقول رسول هللا ﷺ‪« :‬فانتظروا الدجال من يوم أو من غداة» يدل على أن‬
‫الفتن بطبيعة تصاعدها ستبلغ فتنة يأجوج ومأجوج ولتتضمن فتنة يأجوج‬
‫ومأجوج كل فتنة ستظهر‪ ،‬وبجانب طبيعة التصاعد في الفتن تأتي طبيعة‬
‫صي َب َّن الَّذِينَ‬
‫العموم‪ ،‬وهي السنة الثابتة بقول هللا عز وجل‪َ ( :‬واتَّقُوا ِفتْنَةً َال ت ُ ِ‬
‫ب) (األنفال‪ ،)25:‬ويفسر النبي‬ ‫شدِيدُ ْال ِعقَا ِ‬ ‫صةً ۖ َوا ْعلَ ُموا أَ َّن َّ‬
‫َّللاَ َ‬ ‫ظلَ ُموا ِم ْن ُك ْم خَا َّ‬
‫َ‬
‫ﷺ صفة العموم أو التعميم بتشبيه وقع الفتن في الواقع مثل مواقع القطر‪ ،‬وذلك‬
‫فيما رواه أسامة بن زيد قال‪« :‬أشرف النبي ﷺ على أطم من اآلطام‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«هل ترون ما أرى؟ إني أرى الفتن تقع خالل بيوتكم مواقع القطر»‪.‬‬

‫ومظهر العموم في فتنة يأجوج ومأجوج مفهوم من وصف هللا سبحانه‬


‫ت يَأ ْ ُجو ُج َو َمأ ْ ُجو ُج َو ُه ْم ِم ْن ُك ِل َحدَ ٍ‬
‫ب‬ ‫وتعالى لهم بأنهم‪َ ( :‬حت َّ َٰى ِإذَا فُتِ َح ْ‬
‫يَ ْن ِسلُونَ ) (األنبياء‪ ،)96:‬فيصف النبي ﷺ حالهم بقوله‪« :‬فيقول قائلهم هؤالء‬
‫أهل األرض قد فرغنا منهم ولننازلن أهل السماء» (‪.)152‬‬

‫(‪ )150‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم (‪.)3437‬‬


‫(‪ )151‬أخرجه أبو داود في الفتن باب‪ :‬ذكر الفتن ودالئلها «‪ ،»4242/92/4‬عن عبد هللا بن عمر كنا قعودا عند رسول هللا‬
‫فذكر الفتن‪ ،‬الحديث‪ ،‬وفيه قال قائل‪ :‬يا رسول هللا ما فتنة األحالس؟ قال‪« :‬هي هرب وحرب»‪.‬‬
‫(‪ )152‬ابن ماجة‪ ،‬برقم (‪.)4079‬‬
‫ولما كانت فتنة يأجوج ومأجوج هي ذروة تصاعد الفتنة‪ ،‬فإنها قد احتوت‬
‫على عناصر الفتنة بشكل مكثف‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫الظلمة‪ :‬واإلشارة إليها في فتنة يأجوج ومأجوج مأخوذة من التشارك في‬


‫الصيغة بين بداية خبرين عن النبي ﷺ‪ ،‬األول يقول فيه‪« :‬ويل للعرب من‬
‫شر قد اقترب‪ ،‬فتن كقطع الليل المظلم‪ ،‬يصبح الرجل فيها مؤمنا ً ويمسي‬
‫كافراً‪ ،‬يبيع دينه بعَ َرض من الدنيا قليل‪ ،‬المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على‬
‫الجمر أو قال على الشوك» (‪ ،)153‬والثاني يقول فيه‪« :‬ويل للعرب من شر‬
‫قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج وعقد بيديه عشرة قالت زينب‬
‫قلت يا رسول هللا أنهلك وفينا الصالحون قال إذا كثر الخبث» (‪.)154‬‬

‫ومنها فتن القتل والدماء‪ ،‬وفيها يقول رسول هللا ﷺ قال‪« :‬يتقارب الزمان‪،‬‬
‫وينقص العمل‪ ،‬ويلقي الشح‪ ،‬وتظهر الفتن ويكثر الهرج‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول‬
‫هللا أيهما أشد؟ قال‪ :‬القتل القتل» (‪.)155‬‬

‫والداللة على فتنة القتل من فتنة يأجوج ومأجوج ظاهرة‪ ،‬ولعل أخطرها‬
‫بلوغهم مرحلة قتال أهل األرض واتجاههم إلى قتال أهل السماء‪.‬‬

‫ومنها فتنة اللسان‪ :‬وفيها يقول النبي ﷺ «إنه ستكون فتنة وستصيب العرب‪،‬‬
‫قتالها في النار‪ ،‬وقع اللسان فيها أشد من وقع السيف» (‪.)156‬‬

‫واإلشارة إلى فتنة اللسان في فتنة يأجوج ومأجوج مفهومة من رمزية الكيفية‬
‫التي يخرجون بها من السور بحسب ما أورده كعب األحبار من أن خروجهم‬
‫من السور سيكون بلحسه بألسنتهم (‪ ،)157‬ويكون اللسان في هذه الفتنة كوقع‬

‫(‪ )153‬أخرجه مسلم في (اإليمان) ‪ /‬باب‪ :‬الحث على المبادرة باألعمال قبل تظاهر الفتن «‪ /410/1‬ح ‪.»118‬‬
‫(‪ )154‬تفسير ابن كثير‪ ،‬قوله تعالى‪« :‬وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض‪.» .‬‬
‫(‪ )155‬أخرجه البخاري في (األدب) ‪ /‬باب‪ :‬حسن الخلق «‪/471/10‬ح ‪ ،»6037‬والفتن «‪.)7061/16/13‬‬
‫(‪ )156‬أخرجه أبو داود في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬كف اللسان «‪/99/4‬ح ‪.»4265‬‬
‫(‪ )157‬أورد ابن كثير هذا القول عن أبي هريرة عن كعب األحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه _ أي السور _ فيلحسونه حتى‬
‫ال يبقى منه إال القليل فيقولون غدا نفتحه فيأتون من الغد وقد عاد كما كان فيلحسونه حتى ال يبقى منه إال القليل فيقولون‬
‫السيف‪.‬‬

‫وقد شاء هللا عز وجل أال يتوقف التماثل بين يأجوج ومأجوج والكفار من‬
‫البشر في اإلفساد ودرجته فقط‪ ،‬وأال يتوقف التماثل بينهما في طبيعة الفتنة‬
‫وعناصرها المذكورة فقط بل قد بلغ األمر تماثالً عدديا ً دقيقا ً بين الكفار من‬
‫البشر منذ آدم حتى قيام الساعة وبين يأجوج ومأجوج‪ ،‬وذلك مستفاد من‬
‫حديث النبي ﷺ‪« :‬يقول هللا‪ :‬يا آدم‪ ،‬فيقول‪ :‬لبيك وسعديك والخير في يديك‪،‬‬
‫قال‪ :‬يقول‪ :‬أخرج بعث النار‪ ،‬قال‪ :‬وما بعث النار؟ قال‪ :‬من كل ألف تسعمائة‬
‫وتسعة وتسعين‪ ،‬فذاك حين يشيب الصغير‪ ،‬وتضع كل ذات حمل حملها‪،‬‬
‫وترى الناس سكرى وما هم بسكرى‪ ،‬ولكن عذاب هللا شديد‪ ،‬فاشتد ذلك‬
‫عليهم فقالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أينا ذلك الرجل؟ قال‪ :‬أبشروا‪ ،‬فإن من يأجوج‬
‫ومأجوج ألفا ومنكم رجال» (‪.)158‬‬

‫يأجوج ومأجوج والتتار‬


‫ال يمكن الحديث عن يأجوج ومأجوج دون التطرق لمسألة العالقة بين‬
‫يأجوج ومأجوج وبين التتار‪ ،‬ومن وجهة نظرنا فهذه العالقة متماثلة تماما‪،‬‬
‫من حيث مبدأ صدورها‪ ،‬مع تلك العالقة بين المسيح الدجال وابن صياد‪،‬‬
‫فكالهما تشابه مربك ال يمكن تجاوزه إال بمعالجة المسألة في ضوء فكرة‬
‫«األمثلة الكونية للحقائق الغيبية»‪ ،‬باعتبار غيبية «يأجوج ومأجوج» ثم ما‬
‫يجمع بين «يأجوج ومأجوج» وبين «التتار» من مشهد «الخروج الفجائي‬
‫للخراب»‪.‬‬

‫والواقع أن الحقائق التاريخية والخبرية المتعلقة بـ«األتراك» هي همزة‬


‫وصل ما بين يأجوج ومأجوج وبين التتار‪ ،‬فالثابت عرقيا أن «األتراك» هم‬
‫من جنس المغول‪ ،‬وأن موطنهم األول هو وسط آسيا‪ ،‬وهو موطن التتار‪.‬‬

‫فذلك فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه ويقولون غدا نفتحه ويلهمون أن يقولوا إن شاء هللا فيصبحون وهو كما فارقوه‬
‫فيفتحونه‬
‫(‪ )158‬صحيح البخاري‪ ،‬رقم‪.)6530( :‬‬
‫وقد نقل ابن كثير عن بعض العلماء أنهم سموا تُركا ً ألنهم تركوا خلف السد‪،‬‬
‫يقصد سد يأجوج ومأجوج‪ ،‬فقال‪« :‬إنما سمي هؤالء تركا ً‪ ،‬ألنهم تركوا من‬
‫وراء السد من هذه الجهة‪ ،‬وإال فهم أقرباء أولئك‪ ،‬ولكن كان في أولئك بغي‬
‫وفساد وجراءة»‪.‬‬

‫وقال القرطبي‪« :‬وقال السدي والضحاك‪ :‬الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج‬


‫خرجت تغير‪ ،‬فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب‪ ،‬قال‬
‫سدي‪ :‬بُني السد على إحدى وعشرين قبيلة‪ ،‬وبقيت منهم قبيلة واحدة دون‬ ‫ال ُّ‬
‫السد فهم الترك»‪ ،‬ثم علق القرطبي على هذا فقال‪« :‬قلت‪ :‬وإذا كان هذا‪ ،‬فقد‬
‫نعت النبي ﷺ الترك كما نعت يأجوج ومأجوج‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ال تقوم الساعة‬
‫كالمجان ال ُم ْ‬
‫ط َرقَة يلبَسون الشعر‬ ‫ِ‬ ‫حتى يقاتل المسلمون الترك قوما ً وجوههم‬
‫وحدَّة شوكتهم قال‬
‫ويمشون في الشعر»‪ ،‬ولما علم النبي ﷺ عددهم وكثرتهم ِ‬
‫عليه الصالة والسالم ‪«:‬اتركوا الترك ما تركوكم»‪ ،‬وقد خرج منهم في هذا‬
‫الوقت (يقصد وقت فاجعة التتار) أمم ال يحصيهم إال هللا تعالى‪ ،‬وال يردهم‬
‫عن المسلمين إال هللا تعالى‪ ،‬حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم» أ‪ .‬هـ‪.‬‬
‫كالم القرطبي‪.‬‬

‫وبالنظر إلى هذه الصلة ال ِعرقية والتاريخية والخبرية بين التتار وبين يأجوج‬
‫ومأجوج‪ ،‬فقد نقل الطبري والرازي والشوكاني كالما لبعض العلماء من أن‬
‫«السدين» هما جبلين بين أرمينية وبين أذربيجان‪ ،‬وكالما للبعض اآلخر‬
‫بأنهما عند «منقطع أرض الترك» (‪.)159‬‬

‫ثم يأتي «سور الصين العظيم»‪ ،‬وهو المقابل الحسي للحقيقة الخبرية المتعلقة‬
‫بالسد المانع من خروج «يأجوج ومأجوج»‪ ،‬وهو السد الذي بني خصيصا‬
‫لصد الهجمات المتكررة لقبائل التتار على الصين‪ ،‬وهو السور الذي كان‬
‫انهياره أمامهم مقدمة لغزوهم العالم‪.‬‬

‫ت َيأ ْ ُجو ُج َو َمأ ْ ُجو ُج َو ُه ْم ِم ْن‬


‫أما «الحدب» الوارد في اآلية‪َ ( :‬حت َّ َٰى إِذَا فُ ِت َح ْ‬
‫ب َي ْن ِسلُونَ ) (األنبياء‪ ،)96:‬فقد اعتبرها البعض‪ ،‬استئناسا بما تقدم‪،‬‬ ‫ُك ِل َحدَ ٍ‬
‫(‪ )159‬يراجع تفسير الطبري والرازي والشوكاني‪ ،‬قوله تعالى‪« :‬إن يأجوج ومأجوج مفسدون في األرض» الكهف‪.94 :‬‬
‫أنها «هضاب» منغوليا التي كانت منطلق التتار‪ ،‬فقد ورد في لسان العرب‪:‬‬
‫ظ َه ُرون‬ ‫«وفي حديث يأ ْ ُجو َج مأْجو َج‪ :‬وهم ِمن كل َحدَب يَ ْن ِسلُون؛ يريد‪ :‬يَ ْ‬
‫ب يَ ْن ِسلُونَ ‪ِ ،‬م ْن ُك ِل‬ ‫يظ األَرض و ُم ْرتَ ِفعها‪ ،‬وقال َّ‬
‫الفرا ُء‪ِ :‬م ْن ُكل َحدَ ٍ‬ ‫من َ‬
‫غ ِل ِ‬
‫ظ من‬ ‫ب‪ :‬ال ِغلَ ُ‬
‫داب‪ ،‬وال َحدَ ُ‬ ‫وح ٌ‬ ‫ضع ُم ْرتَ ِفعٍ‪ ،‬وال َج ْم ُع أَ ْح ٌ‬
‫داب ِ‬ ‫أَ َك َمةٍ‪ ،‬ومن كل َم ْو ِ‬
‫ارتِفاع»(‪.)160‬‬ ‫األَرض في ْ‬

‫لكن في مقابل دالئل التماثل تأتي دالئل االختالف لتحول دون القول بأن «يأجوج‬
‫ومأجوج» قد خرجوا بالفعل‪ ،‬وأنهم هم التتار المعروفين تاريخيا‪ ،‬كما ذهب إلى‬
‫ذلك بعض ذوي النزعة المنكرة للغيب من المعاصرين‪ ،‬وصحيح أنهم قد دعموا‬
‫موقفهم بخبر عن النبي ﷺ يقرر فيه أن العالم لن ينقضي فور خروج «يأجوج‬
‫ومأجوج»‪ ،‬وذلك ما رواه أبو سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال‪« :‬ليحجن البيت‬
‫وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج»‪ ،‬فنزول عيسى عليه السالم سابق على‬
‫خروج «يأجوج ومأجوج» ولكنه غير سابق على خروج «التتار»‪ ،‬واحتراز‬
‫عيسى عليه السالم بالمؤمنين بجبل الطور منهم ثابت في آخر الزمان ال في زمان‬
‫خروج «التتار»‪ ،‬ثم إن انتهاء أمر «يأجوج ومأجوج» إنما هو بالنغف (‪ )161‬كما‬
‫صح في الخبر عن النبي ﷺ‪ ،‬أما خالص المسلمين من هجمة «التتار» فكان على‬
‫يد المصريين في عهد بيبرس‪.‬‬

‫لكن مع ذلك تبقى داللة التداخل بين عناصر التماثل وعناصر االختالف بين‬
‫«يأجوج ومأجوج» وبين «التتار»‪ ،‬لقد ذهب البعض إلى حل للمسألة بأن افترض‬
‫أن خروج «التتار» هو أول خروج لـ «يأجوج ومأجوج»‪ ،‬لكن هذا القول وإن‬
‫كان األقرب إلى الصواب مقارنة بنفي العالقة أصال‪ ،‬إال أنه ال يقصر عن اإلجابة‬
‫على التساؤل حول العلة من هذا الخروج الجزئي لـ «يأجوج ومأجوج»‪.‬‬

‫الحقيقة أن واقعة خروج التتار هي تمثيل كوني لحقيقة خروج «يأجوج‬


‫ومأجوج» باعتبارها حقيقة غيبية ال بد ال من «مثال كوني» ظاهر‪ ،‬تماما كما‬
‫كان للمسيح الدجال حقيقة تمثله هي «ابن صياد»‪.‬‬

‫(‪ )160‬لسان العرب البن منظور‪ :‬مادة ح د ب‬


‫(‪ )161‬النغف‪ :‬دود يكون في أنوف اإلبل والغنم‪ ،‬الواحدة منها نغفة وهو أيضا الدود األبيض الذي يكون في النوى‪ ،‬وما‬
‫سوى ذلك من الدود فليس بنغف‪ ،‬والعرب تقول لكل ذليل حقير‪ :‬ما هو إال نغفة‪ ،‬ألن النغفة المستحقر‪( .‬لسان العرب)‬
‫دالالت يأجوج ومأجوج على طبيعة الفتنة‬
‫إن هالك يأجوج ومأجوج بقدر هللا عز وجل‪ ،‬دون أسباب بشرية تعنى حقيقة‬
‫منهجية مهمة‪ ،‬وهي أن الفتنة ال يمنعها إال هللا‪ ،‬أو يقضى عليها إذا ظهرت‬
‫أحد غيره سبحانه‪ ،‬والدور البشري محدود باللجوء إلى هللا عز وجل منها‪.‬‬

‫ومحدودية الدور البشري في مواجهة الفتنة ترجع إلى حقيقة وطبيعة الفتنة‬
‫ذاتها‪ ،‬فالفتنة حالة استثنائية يضيع فيها مفهوم الحق ويتبدد صوابه‪ ،‬فال يرى‬
‫اإلنسان فيها الصواب‪« :‬حتى تدع الحليم حيران»‪ ،‬وقد أخذت الفتنة هذه‬
‫الطبيعة ألنها من بدايتها تغليب للعقل على النص وهو ذنب عقوبته الفتنة‬
‫فتصبح الفتنة بعد االصطدام بينهما «العقل والنص»‪ ،‬ضياع عن العقل‬
‫وضالل عن النص‪ ،‬وألن الفتنة من بدايتها تصرف ذاتي غير منضبط‬
‫شرعاً‪ ،‬فتكون الفتنة هي الحالة التي ال ينفع معها التصرف‪ ،‬لتصبح تخبطا ً‬
‫وأفعاالً غير مقصودة‪.‬‬

‫والفتنة خروج بالواقع عن حكم الشرع‪ ،‬فتكون العقوبة أن تظل الفتنة وقعا ً‬
‫غير محكوم‪ ،‬وتكون الفتنة بؤرة دائرة بمن فيها ال يملك فيها اإلنسان اتخاذ‬
‫موقف ثابت فتكون الحركة قسرية وتصبح كل حركة ضارة‪ ،‬ولهذا كان‬
‫النائم فيها خيرا ً من الجالس‪ ،‬والجالس خيرا ً من الواقف‪ ،‬والواقف خيرا ً من‬
‫الماشي (‪ ،)162‬فيكون الصواب هو الثبات وعدم الحركة‪.‬‬

‫وألجل أن اللسان هو أخطر أداة للتصرف غير المحكوم‪ ،‬كان للسان وقع‬
‫السيف في الفتنة‪ ،‬ألن الكلمة التي ال يملكها صاحبها‪ ،‬يكون مسئوالً عنها‪،‬‬
‫وهو غير قادر عليها‪ ،‬ولذلك كان مثلها مثل ثور هائج خرج من جحر صغير‬
‫ال يستطيع أن يرجع إليه‪ ،‬وال يستطيع أحد التحكم فيه (‪.)163‬‬

‫(‪ )162‬أخرجه أبو داود في الفتن باب‪ :‬النهى عن السعي في الفتنة «‪ ،»4256 / 96 /4‬عن أبى بكرة معروفا وفى أوله‪:‬‬
‫«أنها ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيرا من الجالس‪ ،‬الحديث»‪.‬‬
‫(‪ )163‬تراجع أحاديث اإلسراء والمعراج وفيها ثم أتى على قوم ت ُقرض ألسنتهم وشفاهم بمقاريض من حديد كلما قرضت‬
‫عادت كما كانت ال يفتر عنهم من ذلك شيء فقال ما هذا يا جبريل؟ قال‪ :‬هؤالء خطباء الفتنة ثم أتى على= =جحر صغير‬
‫ولكن الفتنة بطبيعتها ال تتجاوز حدودها‪ ،‬فتقف عند الشرع‪ ،‬وتقف عند‬
‫الطاعة‪ ،‬وتقف عند الحق‪ ،‬ولذلك وقفت فتنة يأجوج ومأجوج عند جبل‬
‫الطور الذي كان فوقه كالم هللا مع اإلنسان‪ ،‬وتلقى عليه موسى األلواح‬
‫س َٰى أ َ ْربَ ِعينَ لَ ْيلَةً ث ُ َّم ات َّ َخ ْذت ُ ُم ْال ِع ْج َل‬ ‫المكتوبة بيد هللا سبحانه‪َ ( .‬و ِإ ْذ َوا َ‬
‫ع ْدنَا ُمو َ‬
‫ع ْن ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد َٰذَ ِل َك لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرونَ )‬ ‫عفَ ْونَا َ‬ ‫ِم ْن بَ ْع ِد ِه َوأَ ْنت ُ ْم َ‬
‫ظا ِل ُمونَ ث ُ َّم َ‬
‫(البقرة‪.)52-51:‬‬

‫وكلمة «من بعده» تشير إلى عتابهم على اتخاذهم العجل بعد ما كان بينه‬
‫وبين هللا من كالم على جبل الطور وتلقيه األلواح منه‪ ،‬وأن موقف موسى‬
‫عليه السالم كان موقفا ال تقبل معه الفتنة‪.‬‬

‫والموقف الجامع لتفسير معنى الفتنة بكل أبعادها‪ ،‬هو ذلك الجزاء الذي جعله‬
‫هللا على بني إسرائيل بعد اتخاذهم العجل‪ ،‬وهو أن يقتل بعضهم بعضاً‪ ،‬ألنهم‬
‫تخلو عن الحب في هللا‪ ،‬بعد أن أُشربوا العجل بكفرهم في ظلمة‪ ،‬ألنهم كانوا‬
‫في ظلمة العجل وفتنته‪ ،‬فال يدري أحدهم من يقتله أو من يحاول قتله‪ ،‬ألنهم‬
‫خرجوا عن نظام ربهم وحدوده‪ ،‬وال يملك موسى إال السجود هلل‪ ،‬حتى يعفوا‬
‫عنهم‪ ،‬وال يعفو عنهم إال بعد قتل سبعون ألفا في ليلة‪ ،‬وإلى هللا ترجع األمور‪.‬‬

‫ولعل الطور كان ملجأ عيسى ومن معه من أجل هذا المعنى‪ ،‬ولكن هالك‬
‫يأجوج ومأجوج ال يكون إال بعد ما يرغب عيسى إلى ربه‪ ،‬وذلك ما يثبت‬
‫القاعدة بين الرغبة إلى هللا وبين طلب االمتداد والحياة‪ ،‬ومثل ذلك تحقيق‬
‫االستجابة لدعاء زكريا بالولد في قوله سبحانه‪( :‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َو َو َه ْبنَا لَهُ يَ ْحيَ َٰى‬
‫غبًا‬‫عونَنَا َر َ‬ ‫ت َو َي ْد ُ‬ ‫عونَ ِفي ْال َخي َْرا ِ‬ ‫ار ُ‬
‫س ِ‬ ‫َوأَ ْ‬
‫صلَ ْحنَا لَهُ زَ ْو َجهُ ۚ إِنَّ ُه ْم َكانُوا يُ َ‬
‫َو َر َهبًا ۖ َو َكانُوا لَنَا خَا ِش ِعينَ ) (األنبياء‪.)90:‬‬

‫وفى توجيه هللا عز وجل لنبيه عليه الصالة والسالم للدنيا بعد العبادة جاءت‬
‫شرح‪ )7:‬إذا فرغت من عبادتك‬ ‫صبْ ) (ال َّ‬ ‫سورة الشرح‪( :‬فَإِذَا فَ َر ْغ َ‬
‫ت فَا ْن َ‬
‫يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فال يستطيع فقال ما هذا يا جبريل؟ فقال‪ :‬هذا الرجل يتكلم‬
‫بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فال يستطيع ردها‪.‬‬
‫فاتجه إلى حياتك‪ ،‬والى ربك فارغب‪.‬‬

‫و عن خباب بن األرت وكان شهد بدرا ً مع رسول هللا ﷺ أنه راقب رسول‬
‫هللا ﷺ الليلة كلها حتى كان الفجر‪ ،‬فلما سلم رسول هللا ﷺ من صالته جاء‬
‫خباب فقال يا رسول هللا‪ :‬بأبي أنت وأمي لقد صليت الليلة صالة ما رأيتك‬
‫صليت نحوها‪ ،‬فقال رسول هللا ﷺ «أجل إنها صالة رغب ورهب‪ ،‬سألت‬
‫هللا فيها ألمتي ثالث خصال فأعطاني أثنين ومنعني واحدة‪ ،‬سألت ربي أال‬
‫يهلكنا بما أهلك به األمم فأعطانيها‪ ،‬وسألت ربي عز وجل أال يظهر عليها‬
‫عدوا ً من غيرنا فأعطانيها‪ ،‬وسالت ربي عز وجل يُ ْلبِ َ‬
‫سنَا شيعا ً‬
‫فمنعنيها»(‪ ،)164‬و بذلك يرتبط معنى الرغب بطلب االمتداد والبقاء‪ ،‬وهو‬
‫مضمون النجاة من فتنة يأجوج ومأجوج بقتلها ودمارها‪.‬‬

‫إخراج األرض بركاتها‬


‫وهي العالمة التي ستكون بعد قتل يأجوج ومأجوج وفيها إثبات‪ :‬لعالقة‬
‫التقابل بين البركة والفتنة‪ ،‬ودليل ذلك حديث الجرة التي أهدتها أم أوس‬
‫البهزية لرسول هللا ﷺ‪ ،‬وفيه‪« :‬أنها أسلت سمنا ً له في عكة ثم أهدته للنبي‬
‫ﷺ فق ِبله وأخذ ما فيها‪ ،‬ودعا لها بالبركة وردها إليها فرأته ممتلئا ً سمناً‪،‬‬
‫فظنت أنه لم يقبلها‪ ,‬فجاءت ولها صراخ فقال ﷺ‪« :‬أخبروها بالقصة»‪،‬‬
‫فأكلت منه بقية عمر النبي ﷺ ووالية أبي بكر الصديق رضي هللا عنه‪،‬‬
‫ووالية عمر رضي هللا عنه ووالية عثمان رضي هللا عنه حتى كان بين‬
‫علي ومعاوية ما كان»(‪ ،)165‬وكذلك ارتباط البركة بامتناع المعاصي‬
‫والفساد في األرض ذلك ألن البركة تمتنع بالفساد بدليل قوله تعالى( َولَ ْو أَ َّن‬
‫ت النَّ ِع ِيم)‬ ‫سيِئَاتِ ِه ْم َو َأل َ ْدخ َْلنَا ُه ْم َجنَّا ِ‬ ‫أَ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫ب آ َمنُوا َواتَّقَ ْوا لَ َكفَّ ْرنَا َ‬
‫ع ْن ُه ْم َ‬
‫(المائدة‪ ،)65:‬وعندما يموت يأجوج ومأجوج والكافرون معهم‪ ،‬حيث لن‬
‫يبقى إال المؤمنون المعتصمون بحبل الطور فإن الفساد يكون قد امتنع في‬
‫باطن األرض وظاهرها‪ ،‬فتخرج األرض بركاتها‪ ،‬وذلك من حديث النواس‬
‫وردي بركتك فيومئذ تأكل‬ ‫بن سمعان وفيه‪« :‬ثم يقال لألرض أنبتي ثمرك ُ‬

‫(‪ )164‬ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره في تفسير قوله تعالى‪« :‬ويذيق بعضكم بأس بعض»‪« ،‬ح ‪.»7415‬‬
‫(‪ )165‬اإلصابة في معرفة الصحابة‪ ،‬ابن حجر العسقالني‪ ،‬فصل‪ :‬من عرف بالكنية من النساء‪.‬‬
‫العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها يبارك في الرسل حتى أن اللقحة من‬
‫اإلبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس‪،‬‬
‫(‪)166‬‬
‫واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس»‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬الدابة‬
‫وإذا أردنا فهم الحكمة من خرج الدابة ال بد لنا من التقديم لهذا بفهم العالقة‬
‫بين األرض وعمل اإلنسان من حيث الخلق‪ ،‬ومن حيث األثر‪ ،‬ومن حيث‬
‫الختم والشهادة‪.‬‬

‫أما من حيث الخلق‪ :‬فقد حدد هللا سبحانه هذه العالقة بقوله عز وجل‪( :‬الَّذِينَ‬
‫ش إِ َّال اللَّ َم َم ۚ ِإ َّن َرب ََّك َوا ِس ُع ْال َم ْغ ِف َرةِ ۚ ُه َو أ َ ْعلَ ُم‬ ‫اح َ‬ ‫اإلثْ ِم َو ْالفَ َو ِ‬
‫يَ ْجتَنِبُونَ َكبَائِ َر ْ ِ‬
‫س ُك ْم ۖ‬‫ون أ ُ َّم َهاتِ ُك ْم ۖ فَ َال تُزَ ُّكوا أ َ ْنفُ َ‬
‫ط ِ‬‫ض َوإِ ْذ أ َ ْنت ُ ْم أَ ِجنَّةٌ فِي بُ ُ‬ ‫شأ َ ُك ْم ِمنَ ْاأل َ ْر ِ‬
‫بِ ُك ْم إِ ْذ أ َ ْن َ‬
‫ُه َو أَ ْعلَ ُم ِب َم ِن اتَّقَ َٰى) (النجم‪ ،)32:‬فاإلنسان مرتبط في عمله بمادة خلقه‪.‬‬

‫أما من حيث األثر‪ :‬فإن لطبيعة األرض وعمل اإلنسان عالقة ثابتة مباشرة‬
‫فقد قال رسول هللا ﷺ‪« :‬إن هللا خلق آدم من جميع األرض فمنه السهل وال َحزَ ن‬
‫األبيض واألسود» (‪.)167‬‬

‫وأما من حيث الختم والشهادة‪ :‬ففيها الحديث الذي رواه أبو هريرة حيث‬
‫ارهَا) (الزلزلة‪ ،)4:‬فقال‪:‬‬‫ِث أَ ْخبَ َ‬
‫قال‪« :‬قرأ رسول هللا ﷺ‪( :‬يَ ْو َمئِ ٍذ ت ُ َحد ُ‬
‫أتدرون ما أخبارها؟ قالوا‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬فإن أخبارها أن تشهد‬
‫على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها أن تقول عمل كذا وكذا يوم كذا‬
‫وكذا قال فهذا إخبارها‪ ،‬فهذا أمرها فهذه أخبارها» (‪ ،)168‬لذا لزم أن تتابع‬
‫األرض عمل اإلنسان حيث تشهد عليه‪ ،‬فلزم كذلك أن تختم على اإلنسان‬
‫عمله‪ ،‬ألنه موضوع شهادتها‪.‬‬

‫(‪ )166‬المستدرك على الصحيحين (‪.)8555‬‬


‫(‪ )167‬أخرجه أبو الشيخ في العظمة «ح ‪ »1023‬وله شاهد من رواية ابن منبه أيضا في (العصمة) «ح‪ ،»1022‬هو‬
‫ضعيف ألن ابن منبه يحدث عن بني إسرائيل‪.‬‬
‫(‪ )168‬صحيح أخرجه الترمذي برقم‪.)8669( :‬‬
‫ولكن األرض ال تستطيع ختم العمل وهي في صورتها التي هي عليها‪،‬‬
‫فحينئذ يبدأ ظهور الدابة كصورة جديدة لألرض‪ ،‬لتتمم الختم‪ ،‬ولتكون عالمة‬
‫الدابة المتولدة من األرض لتحكم عليهم وتختم على أعمالهم‪ ،‬وكما كانت‬
‫األرض ذلوالً لإلنسان‪ ،‬أصبح اإلنسان ذلالً لألرض في صورة هذه العالمة‬
‫الخارجة منها‪.‬‬

‫والحقيقة أن عالقة اإلنسان باألرض جعلت األرض تتأثر بعمل اإلنسان‬


‫وبصورة تستوجب أثرا ً لألرض في اإلنسان يقابل أثر اإلنسان فيها‪ ،‬ومن‬
‫أمثلة هذا التأثر الزالزل التي تكون بسبب الزنا كما قال ﷺ‪« :‬إن من أشراط‬
‫الساعة‪ :‬أن يرفع العلم ويثبت الجهل‪ ،‬ويشرب الخمر‪ ،‬ويظهر الزنا» (‪.)169‬‬

‫وكلها أحوال تدل على اضطراب الوجود اإلنساني‪ ،‬فرفع العلم تغيب به‬
‫األحكام الضابطة لحركة اإلنسان‪ ،‬وشرب الخمر يغيب به كذلك انضباط‬
‫العقل‪ ،‬والزنا يغيب به كذلك نظام النسب والعالقات ليكون اضطراب‬
‫األنساب‪.‬‬
‫ولما كانت الزالزل عقوبة على هذه األعمال‪ ،‬ثبت أن الجزاء من جنس‬
‫سبه اضطرابا ً في‬ ‫العمل‪ ،‬حيث يسبب اضطراب الوجود اإلنساني وعقله ونَ َ‬
‫األرض التي تحمله‪ ،‬لتكون الزالزل‪ ،‬وبذلك تفسر عالمة الدابة قاعدة‬
‫القصاص الكوني الذي سيكون بين الخالئق‪ ،‬ومثاله القصاص الذي سيكون‬
‫بين الشاة الجلحاء والشاة القرناء‪ ،‬من حديث أبي هريرة‪« :‬لتؤد َُّّن الحقوق‬
‫إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (‪ )170‬وهذا‬
‫القصاص المسمى بالقصاص الكوني يختلف عن القصاص التكليفي الذي‬
‫سيكون بين األطراف المكلفة‪.‬‬

‫وهذا المثل المضروب بين الشاتين هو الذي يجعلنا نفهم حقيقة القصاص بين‬
‫اإلنسان واألرض والذي يقتضي أن يكون اإلنسان مذلالً لألرض كما كانت‬
‫األرض مذللة له‪.‬‬

‫(‪ )169‬صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري برقم (‪.)79‬‬


‫(‪ )170‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم برقم (‪.)6486‬‬
‫أما السبب في أن خضوع النوع اإلنساني لألرض قد تمثل في جيل واحد‬
‫من هذا النوع وهو الجيل األخير منه‪ ،‬فهو أن هذا الجيل هو أكثر األجيال‬
‫استغراقا في الظن بأنه قادر على األرض‪ ،‬ودليل ذلك هو قول هللا عز وجل‪:‬‬
‫ض ِم َّما‬ ‫ط ِب ِه نَ َباتُ ْاأل َ ْر ِ‬
‫اختَلَ َ‬
‫اء فَ ْ‬
‫س َم ِ‬‫( ِإنَّ َما َمث َ ُل ْال َح َياةِ الدُّ ْن َيا َك َماءٍ أَ ْنزَ ْلنَاهُ ِمنَ ال َّ‬
‫ظ َّن أَ ْهلُ َها‬
‫َت َو َ‬ ‫ض ُز ْخ ُرفَ َها َو َّ‬
‫ازيَّن ْ‬ ‫ت ْاأل َ ْر ُ‬ ‫اس َو ْاأل َ ْن َعا ُم َحت َّ َٰى ِإذَا أَ َخذَ ِ‬ ‫يَأ ْ ُك ُل النَّ ُ‬
‫صيدًا َكأ َ ْن لَ ْم تَ ْغنَ‬ ‫ارا فَ َجعَ ْلنَاهَا َح ِ‬ ‫علَ ْي َها أَتَاهَا أَ ْم ُرنَا لَي ًْال أَ ْو نَ َه ً‬
‫أَنَّ ُه ْم قَاد ُِرونَ َ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم َيتَفَ َّك ُرونَ ) (يونس‪ ،)24:‬لتكون األرض‬ ‫ص ُل ْاآل َيا ِ‬ ‫ِب ْاأل َ ْم ِس ۚ َك َٰذَ ِل َك نُفَ ِ‬
‫بعد تولد الدابة منها قادرة على البشر كما ظنوا أنهم قادرون عليها‪.‬‬

‫غير أن العالقة بين اإلنسان واألرض ليست منحصرة بصورة كلية في‬
‫الدابة في آخر الزمان‪ ،‬فهناك عالقة ال يستثنى منها بشر‪ ،‬وهي‪« :‬ضمة‬
‫القبر»‪ ،‬وهذا فعل األرض التي تستقبل جزءا ً ناقصا ً منها‪ ،‬عاد إليها‪ ،‬فعلى‬
‫الرغم من أنه لن يستثنى منها أحد إال أن الضمة ستكون متناسبة مع العمل‪،‬‬
‫حتى أنها قد تجعل ضلوع العبد تختلف وتتداخل في جسده‪ ،‬كما أخبر بذلك‬
‫رسول هللا ﷺ‪« :‬إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان وفيه وإن كان منافقا ً‬
‫قال‪ :‬سمعت الناس يقولون فقلت مثله ال أدري فيقولون‪ :‬قد كنا نعلم أنك تقول‬
‫ذلك فيقال لألرض‪ :‬التئمى عليه فتلتئم عليه‪ ،‬فتختلف فيها أضالعه فال يزال‬
‫فيها معذبا ً حتى يبعثه هللا من مضجعه ذلك»(‪.)171‬‬

‫ويدل على نيابة الدابة عن األرض في الشهود على اإلنسان وفي ختم‬
‫أعماله‪ ،‬الخروج المتعددة للدابة من مواضع شتى منها‪ ،‬وذلك ما أخبر به‬
‫النبي ﷺ‪« :‬يكون للدابة ثالث خرجات من الدهر‪ ،‬فتخرج خروجا بأقصى‬
‫اليمن فيفشو ذكرها بالبادية وال يدخل ذكرها القرية‪ ،‬يعني مكة‪ ،‬ثم تمكث‬
‫زمانا طويال ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة‪ ،‬فيفشو ذكرها بالبادية‪،‬‬
‫ويدخل ذكرها القرية فبينما الناس يوما في أعظم المساجد على هللا حرمة‬
‫وأكرمها على هللا عز وجل‪ ،‬يعني المسجد الحرام‪ ،‬لم يرعهم إال وهي في‬
‫ناحية المسجد تدنو وتدنو‪ ،‬كذا قال ابن عمر‪ ،‬وما بين الركن األسود إلى‬

‫(‪ )171‬أخرجه الترمذي برقم‪.)1071( :‬‬


‫باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فارفض الناس عنها‬
‫وثبتت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا هللا‪ ،‬فخرجت عليهم تنفض رأسها‬
‫من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكوكب‬
‫الدرية‪ ،‬ثم ولت في األرض ال يدركها طالب وال يعجزها هارب»(‪.)172‬‬

‫أما العلة التي ألجلها ختمت األرض أعمال الناس في صورة دابة‪ ،‬فهي أن‬
‫هذه الصورة تناسب حالهم حينها‪ ،‬وذلك مأخوذ من قول هللا سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫اس َكانُوا‬ ‫ض ت ُ َك ِل ُم ُه ْم أَ َّن النَّ َ‬ ‫( َو ِإذَا َوقَ َع ْالقَ ْو ُل َ‬
‫علَ ْي ِه ْم أَ ْخ َر ْجنَا لَ ُه ْم دَابَّةً ِمنَ ْاأل َ ْر ِ‬
‫ي ِإلَ َٰى‬ ‫ِبآ َياتِنَا َال يُوقِنُونَ ) (النمل‪ ،)82:‬فقوله تعالى هو من قوله أيضا‪َ ( :‬وأ ُ ِ‬
‫وح َ‬
‫س ِب َما َكانُوا يَ ْفعَلُونَ )‬ ‫نُوحٍ أَنَّهُ لَ ْن يُؤْ ِمنَ ِم ْن قَ ْو ِم َك ِإ َّال َم ْن قَ ْد آ َمنَ فَ َال ت َ ْبتَئِ ْ‬
‫(هود‪.)36:‬‬

‫وهذه حالة تناسب البهيمية التي ظهرت ألجلها األرض في صورة الدابة‪،‬‬
‫علَ ْي ِه‬
‫ون َ‬‫ت ت َ ُك ُ‬ ‫ْت َم ِن ات َّ َخذَ إِ َٰلَ َههُ ه ََواهُ أَفَأ َ ْن َ‬‫وذلك من قول هللا عز وجل(أَ َرأَي َ‬
‫ب أَ َّن أَ ْكث َ َر ُه ْم يَ ْس َمعُونَ أَ ْو يَ ْع ِقلُونَ ۚ إِ ْن ُه ْم إِ َّال َك ْاأل َ ْنعَ ِام ۖ بَ ْل ُه ْم‬ ‫يال أَ ْم تَ ْح َ‬
‫س ُ‬ ‫َو ِك ً‬
‫يال) (الفرقان‪ ،)44-43:‬وقوله تعالى‪َ ( :‬ولَقَ ْد ذَ َرأْنَا ِل َج َهنَّ َم َك ِث ً‬
‫يرا ِمنَ‬ ‫سبِ ً‬ ‫ض ُّل َ‬‫أَ َ‬
‫ان‬‫ْص ُرونَ ِب َها َولَ ُه ْم آذَ ٌ‬ ‫وب َال َي ْفقَ ُهونَ ِب َها َولَ ُه ْم أ َ ْعيُ ٌن َال يُب ِ‬ ‫ْال ِج ِن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن ِس ۖ لَ ُه ْم قُلُ ٌ‬
‫ض ُّل ۚ أُو َٰلَئِ َك ُه ُم ْالغَافِلُونَ )‬ ‫َال يَ ْس َمعُونَ ِب َها ۚ أُو َٰلَئِ َك َك ْاأل َ ْن َع ِام بَ ْل ُه ْم أَ َ‬
‫(األعراف‪.)179:‬‬

‫فهذه النصوص وغيرها تؤكد أن الكافر وصاحب المعصية أو الكبيرة من‬


‫أقرب الناس بالبهائم فإذا كثر هذا الصنف في الناس في أخر الزمان كانوا‬
‫أقرب إلى البهيمة التي تناسب خروج الدابة لهم كما سيتضح ذلك بإذن هللا‪.‬‬
‫آيات الدابة‬
‫والحقيقة أن خضوع الناس للدابة‪ ،‬وتفريق الدابة بين المؤمن والكافر منهم‪،‬‬
‫هو أصل حيازة الدابة لعصا موسى ولخاتم سليمان‪ ،‬وذلك ما ورد في حديث‬
‫النبي ﷺ‪« :‬تخرج الدابة ومعها عصا موسى عليه السالم وخاتم سليمان عليه‬

‫(‪ )172‬المستدرك على الصحيحين للحاكم‪.‬‬


‫السالم فتخطم الكافر قال عفان أنف الكافر بالخاتم وتجلو وجه المؤمن‬
‫بالعصا حتى أن أهل الخوان ليجتمعون على خوانهم فيقول هذا يا مؤمن‬
‫ويقول هذا يا كافر» (‪.)173‬‬

‫فعصا موسى كانت دائما أداة التفريق‪ ،‬فكان بها انفالق البحر‪ ،‬وكان بها‬
‫التفريق بين السحر والمعجزة أمام الناس لما التقمت صورتها الثعبانية‬
‫ثعابين السحرة‪ ،‬وكان بها انبجاس الصخر عن اثنا عشر عينا ليشرب منها‬
‫بنو إسرائيل‪.‬‬

‫وعلى الرغم من القدرة الهائلة والسلطة العظيمة للدابة التي تُثْبتها النصوص‬
‫الواردة مثل عبارة‪« :‬ال يدركها طالب وال ينجو منها هارب» (‪.)174‬‬

‫فإن هذه النصوص بذاتها تثبت أيضا أنها محكومة بقدر هللا عز وجل‪ ،‬ولعل‬
‫إثبات ذلك من النصوص أمر مهم‪ ،‬فقد سبقت العبارة الدالة على القدرة‬
‫المذكورة آنفا ً عبارة تقول‪« :‬وتثبت عصابة من المؤمنين عرفوا أنهم لن‬
‫يعجزوا هللا»‪ ،‬فالدابة‪ ،‬في تصور المؤمنين‪ ،‬ال تتحرك إال بإذن هللا عز وجل‪،‬‬
‫كما أن خرجتها ستكون محكومة من حيث األثر والذكر‪ ،‬حيث لن يفشوا‬
‫ذكرها مكة‪ ،‬إال في الخرجة الثالثة بعد أن يدخل ذكرها مكة دون أن يفشوا‬
‫في الخرجة الثانية حيث ذكر رسول هللا ﷺ‪« :‬إن الدابة لها ثالث خرجات‬
‫من الدهر فقد خرجت من أقصى البادية وال يدخل ذكرها القرية‪ ،‬أي مكة‪،‬‬
‫ثم تكمن زمانا ً طويالً ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشوا ذكرها في‬
‫البادية‪ ،‬ويدخل ذكرها»(‪.)175‬‬

‫ولعل أروع األلفاظ الدالة على أن الدابة محكومة هي قول رسول هللا ﷺ أن‬
‫الدابة لها ثالث خرجات من الدهر‪ ،‬ألن الدهر هو الدليل على خضوع‬
‫الزمان وأحداث الزمان إلرادة هللا عز وجل‪ ،‬بدليل قول رسول هللا ﷺ في‬
‫ِي اللَّ ْي ُل َوالنَّ َه ُ‬
‫ار»‬ ‫ب اب ُْن آدَ َم الدَّ ْه َر‪َ ،‬وأَنَا الدَّ ْه ُر‪ِ ،‬ب َيد َ‬
‫س ُّ‬
‫الحديث القدسي‪« :‬يَ ُ‬
‫(‪ )173‬مسند أحمد بن حنبل برقم‪.)7739( :‬‬
‫(‪ )174‬أخرجه الحاكم وصححه وتقدم بتمامه‪.‬‬
‫(‪ )175‬الحاكم وصححه تقدم فيما قبله‪.‬‬
‫(‪ ،)176‬ومن هنا كان النهي عن سب الدهر‪ ،‬فان األيام والليالي بيد هللا عز‬
‫وجل‪.‬‬

‫وهذه هي الحكمة‪ ،‬بصفة عامة‪ ،‬في فهم عالمة الدابة‪ ،‬ولكن هذه الحكمة لها‬
‫بقية تفسرها بصورة كاملة‪ ،‬وهي ظاهرة في العالقة بين األرض وعمل‬
‫اإلنسان «العالقة األولى‪ ،‬المذكورة آنفا ً» والتي كان دليلها قول هللا عز‬
‫ض َوإ ْذ أ َ ْنت ُ ْم‬ ‫شأ َ ُك ْم ِم ْن ْ‬
‫األر ِ‬ ‫إن َرب ََّك َوا ِس ُع اْلَم ْغ ِف َرةِ ُه َو أَ ْعلَ ُم بِ ُك ْم إ ْذ أَن َ‬
‫وجل‪َّ ﴿ :‬‬
‫ون أ َ َّم َهاتِ ُك ْم﴾(النجم‪ ،)32:‬فقد ذكر هللا مع عالقة األرض باإلنسان‬ ‫ط ِ‬ ‫أَ ِجنَّةٌ ِفي بُ ُ‬
‫عالقة أخرى وهى الوراثة التي تبدأ في بطون األمهات‪َ ﴿ :‬وإ ْذ ْ أنت ُ ْم أَ ِجنَّةٌ فِي‬
‫ون أَ َّم َهاتِ ُك ْم﴾‪ ،‬والوراثة ترجع إلى آدم‪ ،‬وهو أصل الوراثة‪ ،‬ومن هنا‬ ‫ط ِ‬ ‫بُ ُ‬
‫أصبح يحكم عمل اإلنسان مادة الخلق وهي األرض وأصل الخلق وهو آدم‪.‬‬

‫وكما ينتهي حكم األرض على عمل اإلنسان بالختم‪ ،‬فيبقى لحكم آدم‪ ،‬كأصل‬
‫الوراثة‪ ،‬على عمل اإلنسان نهاية توازي الختم وهي بعث أهل الجنة والنار‬
‫عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال‪« :‬أول من يُدعي يوم القيامة آدم‪ ،‬فتراءى‬
‫ذريته‪ ،‬فيقال‪ :‬هذا أبوكم آدم فيقول‪ :‬لبيك وسعديك فيقول‪ :‬أخرجْ من كل مائة‬
‫تسعة وتسعين» (‪.)177‬‬

‫وفي هذا اإلطار تُفهم عالمة الدابة‪ ،‬لماذا تخرج الدابة من األرض؟ ولماذا‬
‫تخرج في صورة دابة؟ ولماذا تخرج من أماكنها المحددة؟ ولماذا تخرج ومعها‬
‫عصا موسى وخاتم سليمان؟ ولماذا تختم على أعمال العباد؟ واإلجابة على‬
‫هذه التساؤالت هو إطار فهم هذه العالمة‪.‬‬

‫(‪ )176‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم برقم (‪ .)4172‬والبخاري برقم (‪.)4826‬‬


‫(‪ )177‬أخرجه البخاري في (الرقاق) ‪ /‬باب‪ :‬الحشر «‪ / 385 / 11‬ح ‪.»6529‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬التصور املنهجي‬

‫العام‬
‫ى‬
‫اإلنسان للعالمة ‪ ..‬من حيث‬
‫ي‬ ‫«المضمون‬
‫متلق‬
‫ي‬ ‫هو مقصود بها‪ ..‬ومن حيث هو‬
‫لخيها»‬
‫ر‬
‫الفصل األول‬
‫ى‬
‫اإلنسان للعالمات‬
‫ي‬ ‫المضمون‬

‫«المقصود بالمضمون اإلنساني لعالمات الساعة‪ :‬داللة اإلنسان‬


‫عليها من خالل طبيعته وأحواله‪ ،‬وتأثرها به وجودا وعدما‪ ،‬ويصدق‬
‫ذلك االرتباط بين اإلنسان وبين عالمات الساعة على اإلنسان من‬
‫حيث هو فرد‪ ،‬ومن حيث هو نوع‪ ،‬أي المستوى الفردي والمستوى‬
‫البشري»‬

‫بي اإلنسان ر ى‬
‫وبي عالمات الساعة‬ ‫المستوى الفردي للعالقة ر ى‬

‫واألساس في تفسير عالقة اإلنسان بالعالمات هو أن نعلم أن اإلنسان ذاته‬


‫دليل جوهري على القيامة من حيث خلقته‪ ،‬ومن حيث طبيعته‪ ،‬فمن حيث‬
‫خلقته أصالً فعالمات الساعة اعتبرت كمرحلة من مراحل تطور خلقته التي‬
‫بدأت في بطن أمه‪ ،‬لقول هللا تعالى‪:‬‬
‫س ْونَا‬ ‫ظا ًما فَ َك َ‬ ‫ضغَةَ ِع َ‬ ‫ضغَةً فَ َخلَ ْقنَا ْال ُم ْ‬ ‫علَقَةً فَ َخلَ ْقنَا ْالعَلَقَةَ ُم ْ‬‫طفَةَ َ‬ ‫(ث ُ َّم َخلَ ْقنَا النُّ ْ‬
‫س ُن ْالخَا ِل ِقينَ ث ُ َّم ِإنَّ ُك ْم بَ ْعدَ َٰذَ ِل َك‬
‫َّللاُ أَ ْح َ‬
‫ار َك َّ‬ ‫ام لَ ْح ًما ث ُ َّم أَ ْنشَأْنَاهُ خ َْلقًا آخ ََر ۚ فَتَ َب َ‬
‫ظ َ‬‫ْال ِع َ‬
‫لَ َم ِيتُونَ ث ُ َّم ِإنَّ ُك ْم يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة ت ُ ْب َعثُونَ ) (المؤمنون‪.)16-15-14:‬‬

‫ويوافق اآلية في معناها قول رسول هللا ﷺ‪ :‬عن أبي عبد الرحمن عبد هللا‬
‫بن مسعود رضي هللا عنه قال‪« :‬حدثنا رسول هللا ﷺ وهو الصادق المصدوق‬
‫قال‪ :‬إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما َ نطفه ثم يكون علقة‬
‫مثل ذلك ثم يكون مضغه مثل ذلك ثم يرسل أليه الملك فينفخ فيه الروح‬
‫ويؤمر بأربع كلمات‪ :‬بكتب رزقه‪ ،‬وأجله‪ ،‬وعمله‪ ،‬وشقي أو سعيد» (‪،)178‬‬
‫حيث جمع الحديث بين اإلنسان بنوعه وعمله في الدنيا وبين مصيره عند‬
‫هللا يوم القيامة‪.‬‬

‫أما من حيث اقتران العالمات بالطبيعة اإلنسانية‪ ،‬فقد قرن هللا سبحانه يوم‬
‫القيامة بما تدل عليه منها‪ ،‬قال تعالى‪َ ( :‬ال أ ُ ْق ِس ُم بِيَ ْو ِم ْال ِقيَا َم ِة َو َال أ ُ ْق ِس ُم بِالنَّ ْف ِس‬
‫اللَّ َّوا َم ِة) (القيامة‪ ،)2-1:‬ألن النفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها بطبيعتها‪،‬‬
‫وهذا يعني وجود أصل الحساب علي األعمال التي سيكون عليها يوم‬
‫ي بَنَانَهُ) (القيامة‪ )4:‬وشكل هذه‬ ‫س ِو َ‬ ‫علَ َٰى أ َ ْن نُ َ‬
‫القيامة‪ ،‬ثم قال‪ ( :‬بَلَ َٰى قَاد ِِرينَ َ‬
‫العظام دليل على القيامة ألن عدم مساواة األصابع دليل علي أن لكل شيء‬
‫صبُع من أصابعه له نهاية‪.‬‬ ‫نهاية‪ ،‬ألن كل أ ُ ْ‬

‫ومن حيث رده إلي أرذل العمر لتكون نهاية الكيان اإلنساني كله ليكون ذلك‬
‫دليالً علي أن نهاية الوجود اإلنساني كله‪ ،‬قال تعالى‪ ( :‬يَا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫اس إِ ْن ُك ْنت ُ ْم‬
‫علَقَ ٍة ث ُ َّم ِم ْن‬
‫طفَ ٍة ث ُ َّم ِم ْن َ‬ ‫ب ث ُ َّم ِم ْن نُ ْ‬‫ث فَإِنَّا َخلَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن ت ُ َرا ٍ‬ ‫ب ِمنَ ْال َب ْع ِ‬ ‫ِفي َر ْي ٍ‬
‫غي ِْر ُمخَلَّقَ ٍة ِلنُ َب ِينَ لَ ُك ْم ۚ َونُ ِق ُّر فِي ْاأل َ ْر َح ِام َما نَشَا ُء ِإلَ َٰى أَ َج ٍل‬ ‫ضغَ ٍة ُمخَلَّقَ ٍة َو َ‬ ‫ُم ْ‬
‫شدَّ ُك ْم ۖ َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُتَ َوفَّ َٰى َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ َردُّ‬ ‫س ًّمى ث ُ َّم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْف ًال ث ُ َّم ِلتَ ْبلُغُوا أ َ ُ‬‫ُم َ‬
‫َامدَة ً فَإِذَا أَ ْنزَ ْلنَا‬
‫ضه ِ‬ ‫ش ْيئًا ۚ َوت َ َرى ْاأل َ ْر َ‬ ‫إِلَ َٰى أ َ ْرذَ ِل ْالعُ ُم ِر ِل َكي َْال يَ ْعلَ َم ِم ْن بَ ْع ِد ِع ْل ٍم َ‬
‫َّللاَ ُه َو ْال َح ُّق‬ ‫ت ِم ْن ُك ِل زَ ْوجٍ بَ ِهيجٍ َٰذَ ِل َك ِبأ َ َّن َّ‬ ‫ت َوأَ ْنبَتَ ْ‬ ‫ت َو َر َب ْ‬‫علَ ْي َها ْال َما َء ا ْهت َ َّز ْ‬
‫َ‬
‫ْب فِي َها‬ ‫عةَ آتِ َيةٌ َال َري َ‬ ‫سا َ‬ ‫ِير َوأَ َّن ال َّ‬ ‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫علَ َٰى ُك ِل َ‬ ‫َوأَنَّهُ يُ ْح ِيي ْال َم ْوتَ َٰى َوأَنَّهُ َ‬
‫ور) (الحج‪ .)7-5:‬وبهذا االعتبار يجب أن تكون‬ ‫ث َم ْن فِي ْالقُبُ ِ‬ ‫َوأَ َّن َّ‬
‫َّللاَ يَ ْب َع ُ‬
‫هناك عالقة بين اإلنسان والساعة باعتبار أن الساعة هي نهاية الخلق عامة‪،‬‬
‫واإلنسان خاصة‪.‬‬
‫ى‬
‫اإلنسان‬
‫ي‬ ‫رفع األمانة والعلم وارتباطه بالوجود‬
‫ويالحظ ارتباط عالمات الساعة بالمضمون اإلنساني أيضا بتحليل عالمتي‪:‬‬

‫(‪ )178‬أخرجه البخاري في بدء الخلق ‪ /‬باب‪ :‬ذكر المالئكة «‪/350/6‬ح ‪ ،»3208‬ومسلم في (القدر) ‪ /‬باب‪ :‬كيفية خلق‬
‫اآلدمي في بطن أمه «‪ ،190/16/6‬النووي»‪ ،‬وأبو داود في السنة ‪ /‬باب‪ :‬القدر «‪/227/4‬ح ‪.»4078‬‬
‫ض‬ ‫الر ُج ُل النَّ ْو َمةَ‪ ،‬فَت ُ ْق َب ُ‬‫رفع العلم واألمانة‪ ،‬ففي رفع األمانة قال ﷺ‪َ « :‬ينَا ُم َّ‬
‫ض فَيَ ْبقَى‬ ‫ظ ُّل أَث َ ُرهَا ِمثْ َل أَثَ ِر ْال َو ْكتِ‪ ،‬ث ُ َّم يَنَا ُم النَّ ْو َمةَ‪ ،‬فَت ُ ْقبَ ُ‬
‫ْاأل َ َمانَةُ ِم ْن قَ ْل ِب ِه‪ ،‬فَيَ َ‬
‫ْس فِي ِه‬‫ط فَتَ َراهُ ُم ْنتَبِ ًرا َولَي َ‬ ‫علَى ِر ْج ِل َك‪ ،‬فَنَ ِف َ‬ ‫أَثَ ُرهَا ِمثْ َل ْال َم ْج ِل َك َج ْم ٍر دَ ْح َر ْجتَهُ َ‬
‫اس يَتَ َبا َيعُونَ فَ َال َي َكادُ أَ َحدٌ يُ َؤدِي ْاأل َ َمانَةَ‪ ،‬فَيُقَا ُل ‪ِ :‬إ َّن فِي‬ ‫صبِ ُح النَّ ُ‬ ‫ش ْي ٌء‪ ،‬فَيُ ْ‬ ‫َ‬
‫ظ َرفَهُ َو َما أَ ْجلَدَهُ َو َما فِي‬ ‫لر ُج ِل ‪َ :‬ما أَ ْعقَلَهُ َو َما أ َ ْ‬ ‫َبنِي فُ َال ٍن َر ُج ًال أَ ِمينًا‪َ ،‬ويُقَا ُل ِل َّ‬
‫ان»(‪.)179‬‬ ‫قَ ْلبِ ِه ِمثْقَا ُل َحبَّ ِة خ َْردَ ٍل ِم ْن إِي َم ٍ‬
‫والمالحظة المنهجية في الحديث هي أن األمانة ال تقبض من قلب الرجل‬
‫إال وهو نائم‪ ،‬ولذلك يقول النبي ﷺ‪« :‬ينام الرجل النومة‪ ،‬ثم ينام النومة»‪،‬‬
‫(‪)180‬‬
‫وذلك أن األمانة هي التكليف‪ ،‬والنوم هو الحال الذي يرفع فيه التكليف‬
‫فيناسب ذلك قبض األمانة‪ ،‬ألنها أصل التكليف فيناسب قبضها حال رفع‬
‫التكليف‪ ،‬وأما حقيقة مكانها فهو جذر قلوب الرجال «أي أصل قلوب‬
‫الرجال»‪ ،‬والنوم هو الحال الذي ينام فيه القلب‪ ،‬ألن الذي ال ينام قلبه إذا نام‬
‫هم األنبياء فيناسب حال نوم القلب أن ترفع األمانة من أصله‪.‬‬

‫وكما كان رفع األمانة دليالً على جوهرية المضمون اإلنساني لعالمات‬
‫الساعة فهناك رفع العلم وهو ال يختلف عن األمانة في رفعها وفي ذلك يقول‬
‫ﷺ‪« :‬إن هللا ال يقبض العلم انتزاعا ً ينتزعه من الناس‪ ،‬ولكن يقبض العلم‬
‫بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما ً اتخذ الناس رؤساء جهاالً فسئلوا فأفتوا‬
‫بغير علم فضلوا وأضلوا» (‪ ،)181‬ذلك ألن العلم الشرعي علم بالوحي‪،‬‬
‫ت تَ ْد ِري‬ ‫والوحي روح من هللا ( َو َك َٰذَ ِل َك أَ ْو َح ْينَا إِلَي َْك ُرو ًحا ِم ْن أَ ْم ِرنَا ۚ َما ُك ْن َ‬
‫ان َو َٰلَ ِك ْن َجعَ ْلنَاهُ نُ ً‬
‫ورا نَ ْهدِي بِ ِه َم ْن نَشَا ُء ِم ْن ِع َبا ِدنَا ۚ َو ِإنَّ َك‬ ‫َما ْال ِكتَ ُ‬
‫اب َو َال ْ ِ‬
‫اإلي َم ُ‬
‫ص َراطٍ ُم ْستَ ِق ٍيم) (الشورى‪ ،)52:‬ولذلك ناسب أن يكون رفع العلم‬ ‫لَتَ ْهدِي ِإلَ َٰى ِ‬
‫بانتزاع الروح والموت وبذلك تأكد المضمون اإلنساني في صفة األمانة‬
‫والعلم‪.‬‬

‫واختيار مثل األمانة والعلم في إثبات المضمون اإلنساني للعالمات ليس فقط‬
‫ألن األمانة والعلم ألصق الصفات وأعمقها في كيان اإلنسان بل ألن رفعها‪،‬‬
‫(‪ )179‬صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري في الفتن (‪.)6045‬‬
‫(‪ )180‬بدليل قول رسول هللا ﷺ «رفع القلم عن ثالث‪ ،‬عن النائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يعقل‪ ،‬والعالم حتى يبلغ‬
‫الحلم»‪.‬‬
‫(‪ )181‬أخرجه البخاري في كتاب العلم (‪.)98‬‬
‫في نفس الوقت‪ ،‬بداية لرفع الدين والكون‪ ،‬فرفع األمانة بداية لرفع األحكام‪،‬‬
‫بدليل قول رسول هللا صلى عليه وسلم‪« :‬أول ما تفقدون من دينكم األمانة‪،‬‬
‫ثم الصالة» (‪ ،)182‬ورفع العلم بداية رفع واقع الدين والكون‪ ،‬كما قال ﷺ‪:‬‬
‫«يرفع العلم ويكثر الجهل ويفشو الزنى وتكثر الزالزل»‪ ،‬حتى تكون الساعة‬
‫الزلزال األكبر‪.‬‬

‫بي اإلنسان ر ى‬
‫وبي عالمات الساعة‬ ‫المستوى ر‬
‫البشي للعالقة ر ى‬

‫والصيغة المقدرة للوجود البشري بصورته الصحيحة هي األمة الواحدة‬


‫التي تعبد ربا ً واحدا ً‪ ،‬وهذه الصيغة هي ضمان الوجود البشري حتى قيام‬
‫الساعة‪ ،‬ولما كانت العالمات هي مقدمة بين يدي الساعة‪ ،‬فإن اعتبار هذه‬
‫الصيغة القدرية للوجود البشري البد أن يكون قائما ً بصورة واضحة حتى‬
‫هذه المرحلة‪ ،‬ويستدل على ذلك بقوله ﷺ في الصحيح‪ ،‬من حديث المغيرة‬
‫بن شعبة‪« :‬ال تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر هللا‬
‫وهم ظاهرون»(‪ ،)183‬وفي رواية‪« :‬حتى تقوم الساعة»‪ ،‬وفي رواية معاوية‬
‫في الصحيح أيضا ً بلفظ‪« :‬ولن يزال أمر هذه األمة مستقيما ً حتى تقوم‬
‫الساعة‪ ،‬أو حتى يأتي أمر هللا»(‪.)184‬‬

‫وأيضا ً البد أن يكون مفهوما ً أن الساعة هي انهيار الوجود البشري‪ ،‬وأن‬


‫األمة هي الصيغة المقدرة لهذا الوجود‪ ،‬ولذا فإن مفهوم األمة سيبقى معنا‬
‫في قضية العالمات وذلك باعتبار أن هذه العالمات هي مقدمة انهيار هذا‬
‫الوجود‪ ،‬حتى قيام الساعة ذاتها‪.‬‬

‫واألمة ِعرق ودين‪ ،‬ولذلك ستكون حقيقة األمة في تحليل العالمات من خالل‬
‫العرق والدين‪ ،‬والخط األول الذي سنتابع به حقيقة األمة هو تحديد األمم‬
‫التي ستدخل مجال العالمات‪ ،‬ونجدها اليهودية والنصرانية واإلسالم‪ ،‬ونجد‬
‫أن عرق اليهود بنو إسحاق‪ ،‬وعرق النصارى الروم بنو األصفر‪ ،‬وعرق‬

‫(‪ )182‬األحاديث المختارة‪1455 ،‬‬


‫(‪ )183‬أخرجه البخاري في (االعتصام بالكتاب والسنة) ‪7311‬‬
‫(‪ )184‬أخرجه البخاري في (االعتصام بالكتاب والسنة) ‪7312‬‬
‫اإلسالم العرب بنو إسماعيل‪.‬‬

‫وأن ما يفسر مفهوم األمة في إطار العالمات بصفة أساسية ثالث حقائق‪:‬‬
‫الحقيقة الثابتة‪ :‬التي تنتظم تحتها األمم الثالث «السنن الثابتة لألمة لالتجاه‬
‫نحو النهاية»‪ ،‬الحقيقة الجامعة‪ :‬التي تجمع بين األمم الثالث «الدور‬
‫اإليجابي»‪ ،‬الحقيقة الفاصلة‪ :‬التي تفصل بين األمم الثالث «حقائق‬
‫الصراع»‪.‬‬

‫ومثال الحقائق الثابتة‪ :‬االفتراق‪ :‬كما قال الرسول ﷺ‪« :‬افترقت اليهود على‬
‫إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة‪ ،‬وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين‬
‫فرقة‪ ،‬وستفرق أمتي على ثالث وسبعين فرقة» (‪ ،)185‬والتقليد‪« :‬كما قال‬
‫عا بذراع‪ ،‬حتى‬‫شبرا بشبر وذرا ً‬
‫الرسول ﷺ‪« :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم ً‬
‫لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»‪ ،‬قالوا‪ :‬اليهود والنصارى يا رسول هللا؟‬
‫قال‪« :‬فمن؟» (‪.)186‬‬

‫ومثال الحقائق الجامعة هو‪ :‬بقاء هذه األمم الثالث حتى آخر العالمات‪،‬‬
‫بدليل أن الدين لن يكون ملة واحدة إال على يد عيسى عليه السالم‪ ،‬فمن حيث‬
‫العرق فإن آخر آثار بني إسحاق هم السبعون ألفا ً الذين سيغزون‬
‫القسطنطينية مع المسلمين‪ ،‬أما نهاية صيغة األمة اليهودية فإن اليهود‬
‫سيبقون عليها حتى يقاتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم‪ ،‬أما أمة النصارى‬
‫باعتبار عرقها فإنها ستبقى مع أمة النبي ﷺ حتى آخر الزمان‪ ،‬بدليل قول‬
‫النبي ﷺ «ستقوم الساعة ويكون الروم أكثر عدداً‪ ،‬أشد الناس عليكم الروم‬
‫ومهلكهم مع الساعة»(‪ ،)187‬كما قال‪« :‬تقوم الساعة والروم أكثر‬
‫الناس»(‪.)188‬‬

‫(‪ )185‬صحيح سنن أبي داوود‪ ،‬كتاب السنة‪.‬‬


‫(‪ )186‬صحيح البخاري‪.‬‬
‫(‪ )187‬أخرجه أحمد في (مسنده) «‪ »230/4‬من حديث المتورد القرشي‪.‬‬
‫(‪ )188‬أخرجه مسلم في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬تقوم الساعة والروم أكثر الناس «‪ /249 / 9‬ح ‪ ،»2898‬وأحمد في (مسنده)‬
‫«‪.)230/4‬‬
‫ومفهوم العرق في إطار العالمات ال ينتهي عند هذا الحد‪ ،‬بل سيكون له‬
‫نطاق أوسع في األمم‪ ،‬حيث يشمل عالمة الدجال ويأجوج ومأجوج‪ ،‬ألن‬
‫الدجال ذُكر كعرق مقابل للعرب‪ ،‬وذلك باعتبار انتسابه إلى اليهودية‪ ،‬بدليل‬
‫قول رسول هللا ﷺ «تغزون جزيرة العرب‪ ،‬تغزون فارس‪ ،‬تغزون الروم‪،‬‬
‫تغزون الدجال» (‪.)189‬‬

‫وقوله‪« :‬إنه لم تكن فتنة في األرض منذ ذرأ هللا آدم أعظم فتنة من الدجال‪،‬‬
‫قالت أم شريك‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬فأين العرب يومئذ؟ قال‪ :‬العرب يومئذ قليل‪،‬‬
‫وجلهم ببيت المقدس‪ ،‬وإمامهم رجل صالح» (‪.)190‬‬

‫والحقيقة أن التقابل العرقي بين العرب والدجال يرجع إلى أصل العرب‬
‫وهو سيدنا إسماعيل‪ ،‬حيث يكون مقدار االقتراب من هذا النسب هو بمقدار‬
‫التقابل مع الدجال‪.‬‬

‫بي الطبيعة اإلنسانية والعالمة‬ ‫ر‬


‫والبشي لالرتباط ر ى‬ ‫المستوى الفردي‬
‫أما الحقيقة الجامعة للمضمون اإلنساني لعالمات الساعة بالمستوى الذاتي‬
‫الفردي والبشري األممي معا ً فهي‪:‬‬
‫محور العبادة‪:‬‬
‫ذلك ألن العبادة علة الوجود اإلنساني على مستوى الفرد والنوع‪ ،‬كما قال‬
‫ُون) (الذاريات‪ ،)56:‬كما أنها هي‬ ‫س إِ َّال ِل َي ْعبُد ِ‬ ‫تعالى‪َ ( :‬و َما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬
‫شرط قيام األمة الواحدة القائمة بالتوحيد‪ ،‬كما قال تعالى‪( :‬إِ َّن َٰ َه ِذ ِه أ ُ َّمت ُ ُك ْم أ ُ َّمةً‬
‫ُون) (األنبياء‪.)92:‬‬ ‫احدَة ً َوأَنَا َربُّ ُك ْم فَا ْعبُد ِ‬
‫َو ِ‬
‫ولذلك قال اإلمام القرطبي في إثبات العالقة بين العبادة والسعادة‪« :‬ولما‬
‫األنس إال‬ ‫كانت العبادة هي علة الخلق كما قال سبحانه‪َ ﴿:‬و َما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ِ‬

‫(‪ )189‬خرجه مسلم في (الفتن) «‪/253/9‬ح ‪ ،»2900‬وأحمد في (مسنده) «‪ ،»178/1‬وابن ماجة «‪/1370/2‬ح ‪.»4091‬‬
‫(‪ )190‬أخرجه أبو داود في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬خروج الدجال «‪ /115/4‬ح ‪ ،»4322‬وابن ماجة في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬خروج‬
‫عيسى وخروج يأجوج ومأجوج «‪ ،»4077/1359/2‬من حديث أبي أمامة الباهلي‪.‬‬
‫ل ِي ْعبُدُونَ ﴾(الذاريات‪ )56:‬كانت هي علة الوجود وأصبحت كذلك هي الصفة‬
‫المرجحة للخير والتي تضمن بقاءه‪ ،‬فإذا قطع التعبد لم يقرهم بعد ذلك في‬
‫األرض زمنا ً طويالً» (‪.)191‬‬

‫ولما كانت الدنيا وعالمات الساعة هما زمنا ً واحدا ً لهذا الوجود‪ ،‬كانت‬
‫العبادة في هذا الزمن الواحد حتما ً مقضيا ً وإال كان الهالك والعدم‪ ،‬فقال‬
‫النبي ﷺ في الدجال‪« :‬وإن أيامه أربعون سنة‪ ،‬السنة كنصف السنة‪ ،‬والسنة‬
‫كالشهر والشهر كالجمعة وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب‬
‫المدينة فال يبلغ بابها اآلخر حتى يمسي‪ ،‬فقيل له‪ :‬يا رسول هللا كيف يصلى‬
‫في تلك األيام القصار؟ قال‪ :‬تـقدرون فيها الصالة كما تـقدرونها في هذه‬
‫األيام الطوال ثم صلوا» (‪.)192‬‬

‫ودليل حتمية العبادة في إطار عالمات الساعة هو تأخير رفع الصالة إلى‬
‫ما قبل الساعة مباشرة‪ ،‬ولذلك قال رسول هللا ﷺ‪« :‬أول ما يرفع من دينكم‬
‫األمانة‪ ،‬وآخر ما يرفع من دينكم الصالة» (‪.)193‬‬

‫ومن أجل أن معنى العبادة بحتميتها حتى قيام الساعة كانت العبادة مقياسا ً‬
‫دقيقا ً للوجود من بدايته إلى نهايته فقال ﷺ‪« :‬مثل المسلمين واليهود‬
‫والنصارى كمثل رجل استأجر قوما ً يعملون له عمال يوما إلى الليل على‬
‫أجر معلوم‪ ،‬فعملوا إلى نصف النهار‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال حاجة لنا إلى أجرك الذي‬
‫شرطت لنا‪ ،‬وعملنا باطل‪ ،‬فقال لهم‪ :‬ال تفعلوا‪ ،‬أكملوا بقية يومكم وخذوا‬
‫أجركم‪ ،‬فأبوا وتركوا‪ ،‬واستأجر آخرين بعدهم‪ ،‬فقال‪ :‬أكملوا بقية يومكم‪،‬‬
‫ولكم الذي شرطت لهم من األجر‪ ،‬فعملوا حتى إذا كان العصر قالوا ما عملنا‬
‫باطل‪ ،‬ولك األجر الذي جعلت لنا فيقال‪ :‬أكملوا بقية عملكم فإن ما بقى من‬
‫النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر قوما ً أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية‬
‫يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجر الفرقين‪ ،‬فذلك مثلهم مثل‪.)194(»...‬‬

‫(‪ )191‬في التذكرة ومختصر التذكرة للشعراني‪ ،‬ص‪.141:‬‬


‫(‪ )192‬أخرجه ابن ماجة في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬فتنة الدجال وخروج عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج «‪/ 1359 /2‬‬
‫ح ‪ ،»4077‬وتقدم من حديث أبي أمامة الباهلي‪.‬‬
‫(‪ )193‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )194‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫ولكن العبادة وأن كانت أساسية للوجود اإلنساني في جميع مراحل الخلق‪،‬‬
‫إال أنها تأخذ صيغا ً مناسبة لكل مرحلة من هذه المراحل‪ ،‬فالعبادة في الدنيا‬
‫مرتبطة بالرسالة والشريعة‪ ،‬لتحقيق صفة الخير المرجحة لبقاء الدنيا حتى‬
‫مرحلة البرزخ‪ ،‬والعبادة في البرزخ مرتبطة بعالمات الخير لتحقيق صفة‬
‫الخير المرجحة لبقاء الدنيا حتى قيام الساعة‪ ،‬بصرف النظر عن الرسالة‬
‫والشريعة التي سترفع في هذه المرحلة‪.‬‬

‫وفي ارتباط العبادة بعالمات الخير أدلة مباشرة‪ ،‬منها المهدي‪ ،‬فإن بيعته‬
‫وبداية ظهوره ستكون وهو قائم بين المقام والحجر «حجر إسماعيل»‪ ،‬وهو‬
‫أفضل موضع للعبادة على اإلطالق‪ ،‬وهو موضع عبادة سيدنا إبراهيم‬
‫وسيدنا محمد عليهما الصالة والسالم (‪ )195‬ومنها نزول عيسى ابن مريم فإنه‬
‫ينزل عند المنارتين البيضاويتين لمسجد دمشق (‪ )196‬وستـكون أول أعماله‬
‫هي صالة الصبح مع المسلمين خلف المهدي في بيت المـقدس وهو آخر‬
‫مواضع العبادة لذلك‪ ،)197(.‬وكذلك خروج الدابة من موضع الخير بعد‬
‫موضعي الشر ليكون هذا الموضع هو ما بين الصفا والمروة‪.‬‬
‫محور القتال‪:‬‬
‫بعد حقيقة العبادة باعتبارها شرط بقاء األمة تأتي حقيقة القتال‪ ،‬وهو األمر‬
‫الذي سيبقى حتى ظهور عيسى ابن مريم‪ ،‬قال النبي ﷺ «ال تزال طائفة من‬
‫أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح‬
‫الدجال» (‪ )198‬وقال ﷺ‪« :‬ال تزال طائفة من أمتي تقاتل على الحق حتى‬
‫ينزل عيسى ابن مريم عند طلوع الفجر‪ ،‬ببيت المقدس ينزل على المهدي‬

‫(‪ )195‬تقدم تخريجه‪.‬‬


‫(‪ )196‬وهو من حديث النواس بن سمعان‪ ،‬وتقدم‪.‬‬
‫(‪ )197‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )198‬أخرجه أحمد في (مسنده) «‪ ،»429/4‬وأخرجه أبو داود في (الجهاد) ‪ /‬باب‪ :‬في دوام الجهاد «‪/4/3‬ح ‪ »2484‬من‬
‫حديث عمران بن حصين‪.‬‬
‫فيقال‪ :‬تقدم يا نبي هللا فصل بنا‪ ،‬فيقول هذه األمة بعضهم على بعض» (‪.)199‬‬
‫محور الحكم‪:‬‬
‫وبعد حقيقة القتال يكون الحكم الذي يقوم بعد القتال وتكون به الخالفة‪ ،‬كما‬
‫قال رسول هللا ﷺ‪« :‬تكون النبوة فيكم ما شاء هللا أن تكون ثم يرفعها إذا شاء‬
‫أن يرفعها‪ ،‬ثم تكون خالفة على منهاج النبوة فتكون ما شاء هللا أن تكون ثم‬
‫يرفعها إذا شاء هللا أن يرفعها‪ ،‬ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء هللا أن‬
‫يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها‪ ،‬ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء هللا‬
‫أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها‪ ،‬ثم تكون خالفة على منهاج النبوة ثم‬
‫سكت» (‪.)200‬‬

‫وبذلك تكون عالمات الساعة في إطار جميع األمم دائرة على هذه الحقائق‬
‫الثالث‪ ،‬ولكن هناك بالنسبة لألمة اإلسالمية حقيقة خاصة بها وهي آخريتها‬
‫وبقاؤها حتى آخر الزمان‪.‬‬

‫وحتى عندما يذكر ضعف األمة وغلبة األمم عليها فيجب أن يفهم ذلك من‬
‫خالل هذه الحقيقة الخاصة‪ ،‬فمثالً عندما نقرأ حديث رسول هللا ﷺ‪« :‬توشك‬
‫أن تداعى عليكم األمم كما تداعى األكلة إلى قصعتها‪ ،‬فقال قائل‪ :‬ومن قلة‬
‫نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن هللا‬
‫من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن هللا في قلوبكم الوهن فقال قائل‪ :‬يا‬
‫رسول هللا‪ ،‬وما الوهن؟ قال‪ :‬حب الدنيا وكراهية الموت» (‪.)201‬‬

‫وباعتبار آخرية أمة النبي ﷺ كان قياس زمن الدنيا مرهونا ً ببقاء هذه األمة‪،‬‬
‫كما أخبر النبي ﷺ‪« :‬أال إن مثل آجالكم في آجال األمم قبلكم كما بين صالة‬
‫العصر إلى مغرب الشمس» (‪.)202‬‬

‫(‪ )199‬أخرجه مسلم في (اإلمارة) ‪ /‬باب‪ :‬قوله ﷺ ال تزال طائفة من أمتي ظاهرين «‪ ،»1923/75/7‬وأحمد في (مسنده)‬
‫«‪ »384/345/3‬من حديث جابر بن عبد هللا وتقدم تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )200‬صححه األلباني في تخريجه لمشكاة المصابيح‪.‬‬
‫(‪ )201‬أخرجه أحمد في (مسنده) «‪ ،»278/5‬وأخرجه أبو داود في (المالحم) (‪ )4297‬من حديث ثوبان‪.‬‬
‫(‪ )202‬أخرجه البخاري في (مواقيت الصالة) (‪.)557‬‬
‫ومنها قول النبي ﷺ‪« :‬ما أعماركم من أعمار َمن مضى إال كما بقي من‬
‫النهار فيما مضى منه» (‪ ،)203‬ومنه أيضا‪« :‬مثلنا ومثل أهل الكتاب كمثل‬
‫رجل استأجر أجيرا ً» (‪.)204‬‬

‫إنذارا بالساعة من‬


‫ً‬ ‫وباعتبار آخرية أمة النبي ﷺ أيضا ً كان ظهور هذه األمة‬
‫خالل عالمة القمر‪ ،‬وقد نبهت سورة القمر على اجتماع معنى اإلنذار في‬
‫أمة النبي ﷺ‪ ،‬فتنبهنا إلى االعتبار الخاص لهذه األمة في عالمات الساعة‪،‬‬
‫لذا أصبحت كل أحوال هذه األمة داخلة في إطار عالمات الساعة‪.‬‬

‫وبعد تفسير الحقيقة الجامعة للمضمون اإلنساني لعالمات الساعة بالمستوى‬


‫الفردي والبشري‪ ،‬نستمر في إثبات المضمون اإلنساني للعالمات من خالل‬
‫القاعدة العامة في العالمات وهي‪:‬‬

‫البدء واإلعادة‪:‬‬

‫والحقيقة أن البدء واإلعادة من أفعال هللا الدالة على قدرته‪ ،‬ولكن مفهوم‬
‫القدرة اإللهية من خالل البدء واإلعادة هو في حقيقته مفهوم إنساني‪ ،‬ألن‬
‫إثبات القدرة هلل من خالله جاء بالقياس على العقل والتفكير والفهم اإلنساني‬
‫البحت‪ ،‬ودليل ذلك قول هللا عز وجل‪َ ( :‬و ُه َو الَّذِي َي ْبدَأ ُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ َو ُه َو‬
‫يز ْال َح ِكي ُم)‬
‫ض ۚ َو ُه َو ْالعَ ِز ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س َم َاوا ِ‬‫علَ ْي ِه ۚ َولَهُ ْال َمث َ ُل ْاأل َ ْعلَ َٰى فِي ال َّ‬
‫أَ ْه َو ُن َ‬
‫(الروم‪ ،)27:‬إذ إن الحقيقة أن البدء عند هللا مثل اإلعادة‪ ،‬وليس عند هللا‬
‫ون) (يس‪،)82:‬‬ ‫ش ْيئًا أَ ْن يَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬ ‫سهل وصعب‪ ( :‬إِنَّ َما أَ ْم ُرهُ إِذَا أ َ َرادَ َ‬
‫ولكن القرآن يخاطب البشر وقد استقر في أذهانهم أن اإلعادة أهون فيثبت‬
‫القدرة على أساس ما استقر من فهم في العقل البشري كما يخاطب القرآن‬
‫العقل البشري على أن قاعدة البدء واإلعادة هي منطلق الفهم الكامل لكل‬
‫علَى َّ‬
‫َّللاِ‬ ‫َّللاُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ ۚ إِ َّن َٰذَ ِل َك َ‬
‫ئ َّ‬ ‫آيات الخلق‪ ( :‬أَ َولَ ْم يَ َر ْوا َكي َ‬
‫ْف يُ ْب ِد ُ‬
‫(‪ )203‬خرجه أحمد في مسنده (‪ )116/2‬وقيقعان‪ :‬بضم القاف األولى وكسر الثانية بلفظ التصغير وهو جبل بمكة إلى‬
‫جنوبها نحو اثني عشر ميال‪.‬‬
‫(‪ )204‬خرجه البخاري في‪( :‬مواقيت الصالة) ‪ /‬باب‪ :‬ما أدرك ركعة من العصر قبل «‪ /46/2‬ح ‪ »558‬من حديث أبي‬
‫موسى‪.‬‬
‫ئ النَّ ْشأَة َ‬ ‫ْف َبدَأَ ْالخ َْلقَ ۚ ث ُ َّم َّ‬
‫َّللاُ يُ ْن ِش ُ‬ ‫ظ ُروا َكي َ‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض فَا ْن ُ‬ ‫َيسِير قُ ْل ِس ُ‬
‫ِير) (العنكبوت‪)20-19:‬‬ ‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬‫علَ َٰى ُك ِل َ‬ ‫ْاآل ِخ َرةَ ۚ إِ َّن َّ‬
‫َّللاَ َ‬

‫وهذا هو المضمون اإلنساني للبدء واإلعادة من حيث الفهم‪ ،‬ثم نأتي إلى‬
‫المضمون اإلنساني للبدء واإلعادة من حيث التحقيق‪ ،‬ليثبت أن الواقع‬
‫اإلنساني هو مجال تحقيق هذه القاعدة في سورة يونس‪ ( :‬قُ ْل َم ْن يَ ْر ُزقُ ُك ْم‬
‫ت‬ ‫ي ِمنَ ْال َميِ ِ‬ ‫ار َو َم ْن يُ ْخ ِر ُج ْال َح َّ‬ ‫ص َ‬ ‫ض أَ َّم ْن يَ ْم ِلكُ ال َّ‬
‫س ْم َع َو ْاأل َ ْب َ‬ ‫اء َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س َم ِ‬
‫ِمنَ ال َّ‬
‫َّللاُ ۚ فَقُ ْل أَفَ َال‬‫س َيقُولُونَ َّ‬ ‫ت ِمنَ ْال َحي ِ َو َم ْن يُدَ ِب ُر ْاأل َ ْم َر ۚ فَ َ‬ ‫َويُ ْخ ِر ُج ْال َم ِي َ‬
‫ق إِ َّال الض ََّال ُل ۖ فَأَنَّ َٰى‬ ‫َّللاُ َربُّ ُك ُم ْال َح ُّق ۖ فَ َماذَا َب ْعدَ ْال َح ِ‬ ‫تَتَّقُونَ فَ َٰذَ ِل ُك ُم َّ‬
‫سقُوا أَنَّ ُه ْم َال يُؤْ ِمنُونَ قُ ْل ه َْل‬ ‫علَى الَّذِينَ فَ َ‬ ‫ت َك ِل َمتُ َر ِب َك َ‬ ‫ص َرفُونَ َك َٰذَ ِل َك َحقَّ ْ‬ ‫تُ ْ‬
‫َّللاُ يَ ْبدَأ ُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ ۖ فَأَنَّ َٰى‬
‫ش َر َكائِ ُك ْم َم ْن يَ ْبدَأ ُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ ۚ قُ ِل َّ‬ ‫ِم ْن ُ‬
‫تُؤْ فَ ُكونَ ) (يونس‪)34-31:‬‬

‫اء‬ ‫س َم ِ‬ ‫ض َوأ َ ْنزَ َل لَ ُك ْم ِمنَ ال َّ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫س َم َاوا ِ‬ ‫وفي سورة النمل‪ ( :‬أَ َّم ْن َخلَقَ ال َّ‬
‫ش َج َرهَا ۗ أَإِ َٰلَهٌ َم َع َّ‬
‫َّللاِ ۚ‬ ‫ات بَ ْه َج ٍة َما َكانَ لَ ُك ْم أ َ ْن ت ُ ْنبِتُوا َ‬ ‫َما ًء فَأ َ ْنبَتْنَا بِ ِه َحدَائِقَ ذَ َ‬
‫ارا َو َجعَ َل لَ َها‬ ‫ارا َو َجعَ َل ِخ َاللَ َها أَ ْن َه ً‬ ‫ض قَ َر ً‬ ‫َب ْل ُه ْم قَ ْو ٌم َي ْع ِدلُونَ أَ َّم ْن َجعَ َل ْاأل َ ْر َ‬
‫َّللاِ ۚ َب ْل أَ ْكثَ ُر ُه ْم َال َي ْعلَ ُمونَ أَ َّم ْن‬‫اج ًزا ۗ أ َ ِإ َٰلَهٌ َم َع َّ‬ ‫ي َو َج َع َل َبيْنَ ْال َب ْح َري ِْن َح ِ‬ ‫َر َوا ِس َ‬
‫ض ۗ أ َ ِإ َٰلَهٌ َم َع‬ ‫سو َء َويَ ْجعَلُ ُك ْم ُخلَفَا َء ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ِف ال ُّ‬ ‫عاهُ َويَ ْكش ُ‬ ‫ط َّر ِإذَا دَ َ‬ ‫ض َ‬‫يب ْال ُم ْ‬ ‫يُ ِج ُ‬
‫الريَا َح‬ ‫ت ْالبَ ِر َو ْالبَ ْح ِر َو َم ْن يُ ْر ِس ُل ِ‬ ‫يال َما تَذَ َّك ُرونَ أَ َّم ْن يَ ْهدِي ُك ْم فِي ُ‬
‫ظلُ َما ِ‬ ‫َّللاِ ۚ قَ ِل ً‬
‫َّ‬
‫ع َّما يُ ْش ِر ُكونَ أَ َّم ْن َي ْبدَأ ُ ْالخ َْلقَ‬‫َّللاُ َ‬ ‫َّللاِ ۚ تَ َعالَى َّ‬‫ي َر ْح َم ِت ِه ۗ أ َ ِإ َٰلَهٌ َم َع َّ‬‫بُ ْش ًرا َبيْنَ َيدَ ْ‬
‫َّللاِ ۚ قُ ْل هَاتُوا بُ ْرهَانَ ُك ْم‬ ‫ض ۗ أ َ ِإ َٰلَهٌ َم َع َّ‬ ‫اء َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ َو َم ْن َي ْر ُزقُ ُك ْم ِمنَ ال َّ‬
‫س َم ِ‬
‫صا ِدقِينَ ) (النمل‪،)64-60:‬‬ ‫ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم َ‬

‫ص ِب ُحونَ َولَهُ ْال َح ْمدُ فِي‬ ‫سونَ َو ِحينَ ت ُ ْ‬ ‫َّللاِ ِحينَ ت ُ ْم ُ‬


‫س ْب َحانَ َّ‬ ‫وفي سورة الروم‪َ ( :‬ف ُ‬
‫ت َويُ ْخ ِر ُج‬ ‫ي ِمنَ ْال َميِ ِ‬ ‫ظ ِه ُرونَ يُ ْخ ِر ُج ْال َح َّ‬ ‫ع ِشيًّا َو ِحينَ ت ُ ْ‬ ‫ض َو َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س َم َاوا ِ‬
‫ال َّ‬
‫ض بَ ْعدَ َم ْوتِ َها ۚ َو َك َٰذَ ِل َك ت ُ ْخ َر ُجون َو ِم ْن آيَاتِ ِه أ َ ْن َخلَقَ ُك ْم‬‫ت ِمنَ ْال َحي ِ َويُ ْحيِي ْاأل َ ْر َ‬ ‫ْال َم ِي َ‬
‫ب ث ُ َّم إِذَا أ َ ْنت ُ ْم بَش ٌَر ت َ ْنتَش ُِرونَ َو ِم ْن آيَاتِ ِه أ َ ْن َخلَقَ لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ُك ْم أ َ ْز َوا ًجا‬ ‫ِم ْن ت ُ َرا ٍ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم َيتَفَ َّك ُرون َ َو ِم ْن‬ ‫ِلت َ ْس ُكنُوا إِلَ ْي َها َو َجعَ َل بَ ْينَ ُك ْم َم َودَّة ً َو َر ْح َمةً ۚ إِ َّن ِفي َٰذَ ِل َك َآل َيا ٍ‬
‫ت‬ ‫ف أَ ْل ِسنَتِ ُك ْم َوأ َ ْل َوانِ ُك ْم ۚ إِ َّن فِي َٰذَ ِل َك َآليَا ٍ‬ ‫ض َو ْ‬
‫اختِ َال ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س َم َاوا ِ‬ ‫آيَاتِ ِه خ َْل ُق ال َّ‬
‫ت‬ ‫ض ِل ِه ۚ إِ َّن فِي َٰذَ ِل َك َآليَا ٍ‬ ‫ِل ْل َعا ِل ِمينَ َو ِم ْن آيَاتِ ِه َمنَا ُم ُك ْم ِباللَّ ْي ِل َوالنَّ َه ِار َوا ْبتِغَا ُؤ ُك ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫اء َما ًء فَيُ ْح ِيي‬ ‫س َم ِ‬‫ط َمعًا َويُن َِز ُل ِمنَ ال َّ‬ ‫ِلقَ ْو ٍم يَ ْس َمعُونَ َو ِم ْن آ َياتِ ِه يُ ِري ُك ُم ْالبَ ْرقَ خ َْوفًا َو َ‬
‫س َما ُء‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُونَ َو ِم ْن آيَاتِ ِه أ َ ْن تَقُ َ‬
‫وم ال َّ‬ ‫ض بَ ْعدَ َم ْوتِ َها ۚ إِ َّن فِي َٰذَ ِل َك َآليَا ٍ‬ ‫ِب ِه ْاأل َ ْر َ‬
‫ض إِذَا أَ ْنت ُ ْم تَ ْخ ُر ُجونَ َولَهُ َم ْن فِي‬ ‫ض بِأ َ ْم ِر ِه ۚ ث ُ َّم إِذَا دَ َ‬
‫عا ُك ْم دَع َْوة ً ِمنَ ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ض ۖ ُك ٌّل لَهُ قَا ِنتُونَ َو ُه َو الَّذِي يَ ْبدَأ ُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ َو ُه َو أ َ ْه َو ُن‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س َم َاوا ِ‬‫ال َّ‬
‫يز ْال َح ِكي ُم)‬ ‫ض ۚ َو ُه َو ْالعَ ِز ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س َم َاوا ِ‬‫علَ ْي ِه ۚ َولَهُ ْال َمث َ ُل ْاأل َ ْعلَ َٰى فِي ال َّ‬ ‫َ‬
‫(الروم‪)27-17:‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫الوح لعالمات الساعة‬
‫ي‬ ‫أسلوب عرض‬

‫ى‬
‫«األسلوب النبوي يف اإلخبار عن عالمات الساعة»‬
‫ترتيب العالمات‬
‫وقد جاءت نصوص اإلخبار على الترتيب بعدة اعتبارات‪ ،‬أهمها‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أن يكون الترتيب مرتبطا ً في جوهره بعلة العالمة وحكمتها‪ ،‬مثل‬
‫اإلخبار عن الدابة والشمس بإطالق دون ترتيب بينهما‪ ،‬ألن العلة والحكمة‬
‫فيهما واحدة زمـنيا ً وهي انقطاع العمل البشري وتوقف التحول من الكفر‬
‫إلى اإليمان وهو الزمن الذي أصبح ظهور واحدة منهما يكفي عن األخرى‪،‬‬
‫ولذلك قال النبي ﷺ في العالمة من حيث الترتيب‪« :‬إذا طلعت إحداهما‬
‫تبعتها األخرى»‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬أن يكون الترتيب شرطا ً ثابتا ً بين العالمات وهو غير المثال األول‪،‬‬
‫حتى يبلغ شرط الترتيب أن تكون العالمة بذاتها عالمة علي العالمة التي‬
‫تليها‪ ،‬دون ذكر لفظ السبق أو «واو العطف» ومثال ذلك قول رسول هللا‬
‫ﷺ‪« :‬عمران بيت المقدس‪ ،‬خراب يثرب‪ ،‬وخراب يثرب‪ ،‬خروج الملحمة‪،‬‬
‫وخروج الملحمة‪ ،‬فتح قسطنطينية‪ ،‬وفتح القسطنطينية خروج الدجال»‪،‬‬
‫فجاء تمام كل عالمة شرطا ً للعالمة التي تليها‪.‬‬

‫ومن األمثلة الدالة على ارتباط الترتيب بعلة العالمة هو قول رسول هللا ﷺ‪:‬‬
‫«بادروا باألعمال ستا ً‪ ،‬طلوع الشمس من مغربها‪ ،‬والدجال‪ ،‬والدخان‪ ،‬ودابة‬
‫األرض» (‪.)205‬‬

‫وكلها عالقة بالعمل‪ ،‬ولذلك بدأ الحديث بقوله‪« :‬بادروا باألعمال ستا ً»‪،‬‬
‫والعالقة هي الفرقان التام بين أعمال المؤمنين والكفار‪ ،‬فالشمس وطلوعها‬
‫من المغرب ال تتغير بعده األعمال‪ ،‬والدجال سيكون دليالً ب ِفتَنه علي صعوبة‬
‫األعمال الصالحة‪ ،‬ألن أتباعه سيكونون أصحاب الشر كله «اليهود‪ ،‬النساء‪،‬‬
‫الشياطين»‪ ،‬والدخان سيكون فرقانا ً بين المؤمنين والكافرين في أثره في الناس‬
‫بحسب األعمال فيخرج الدخان من جميع منافذ الكافر‪ ،‬ويصيب المؤمن مثل‬
‫(‪ )205‬أخرجه مسلم في (الفتن) (‪ .)2947‬وأحمد في مسنده «‪ ،»324 /2‬وأخرجه أبن ماجة في (الفتن) (‪.)4056‬‬
‫الزكمة (‪ ،)206‬أما الدابة فهي صاحبة الخطم والختم‪ ،‬خطم الكافر علي أنفه‬
‫وختم المؤمن باإليمان‪ ،‬وبذلك أصبح العمل محورا ً للعالمات ومن هنا كان‬
‫الترتيب‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬ومنها إسقاط اعتبار الترتيب بين العالمات بصفتها الخاصة في إطار‬
‫اإلثبات العام اإلجمالي لها‪ ،‬مثل ذكر مجموعة من العالمات باعتبارها‬
‫مقدمة إجمالية بين الساعة‪ ،‬ولهذا تجد إسقاط اعتبار الترتيب الخاص‬
‫للعالمات إذا كانت مقدمة إجمالية للساعة‪ ،‬غالبا ً ما نجد في مثل هذه‬
‫األحاديث عبارة‪« :‬ال تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب‬
‫يقتتل عليه من كل مائة تسعة وتسعون‪ ،‬فيقول كل رجل منهم لعلي أن أكون‬
‫أنا أنجو»(‪ ،)207‬وقول النبي ﷺ‪« :‬بين يدى الساعة أيام الهرج»(‪ ،)208‬وقول‬
‫النبي ﷺ‪« :‬بين يدي الساعة كذابون منهم صاحب اليمامة ومنهم صاحب‬
‫صنعاء العنسي‪ ،‬ومنهم صاحب حمير ومنهم الدجال وهو أعظم فتنة»(‪،)209‬‬
‫وقول النبي ﷺ‪« :‬بين يدي الساعة مسخ وخسف وقذف»(‪.)210‬‬

‫رابعا‪ :‬ومنها التعبير عن الترتيب الثابت الواحد بين أمرين باعتبارات‬


‫متعددة وأشهر ذلك‪ ،‬العالقة بين بعثة رسول هللا ﷺ كعالمة للساعة والساعة‬
‫ذاتها‪ ،‬فجاءت هذه العالقة بعدة صيغ أحدها‪« :‬بعثت أنا والساعة كهاتين‬
‫وأشار بإصبعيه السبابة والوسطي»(‪ ،)211‬وفي صيغة أخرى يرتفع معنى‬
‫التالزم إلي معنى التداخل فيقول النبي ﷺ‪« :‬بعثت في نفس الساعة»(‪،)212‬‬
‫وفي هذه الصيغة تأتي إضافة خطيرة وهي قوله ﷺ‪« :‬وإن كادت‬
‫لتسبقني»(‪ ،)213‬وتفسيرها هو أن حال البشرية قبل البعثة قد بلغ حدا كان فيه‬
‫مماثال لحال البشرية قبل يوم القيامة في الضالل‪ ،‬فكان زوال العالم مستحق‬
‫قبل البعثة كما سيكون مستحق قبل يوم القيامة‪ ،‬ومقارنة النبي ﷺ بين الحالين‬

‫(‪ )206‬راجع العالقة بين الدجال والدخان في عالمة الدجال‪.‬‬


‫(‪ )207‬أخرجه البخاري في (الفتن) (‪ ،)7119‬ومسلم في الفتن (‪.)19/18/6‬‬
‫(‪ )208‬أخرجه أحمد في مسنده «‪»90/4‬‬
‫(‪ )209‬خرجه أحمد في (مسنده) «‪ »345/2‬من حديث جابر بن عبد هللا‪.‬‬
‫(‪ )210‬أخرجه أبن ماجة في (السنن) ‪ /‬باب‪ :‬الخسوف «‪/1349/2‬ح ‪.»4059‬‬
‫(‪ )211‬أخرجه مسلم في (الفتن) «‪/315/9‬ح ‪ »2951‬من حديث أنس بلفظ (وضم السبابة والوسطي)‪.‬‬
‫(‪ )212‬أخرجه الترمذي في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬ما جاء في قول النبي ﷺ بعثت أنا والساعة كهاتين‪/496/4« )).‬ح ‪.)2213‬‬
‫(‪ )213‬أخرجه أحمد في (مسنده) (‪ »348/5‬من حديث بريدة بن الحصيب‪.‬‬
‫واضحة في قوله‪« :‬لن تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول‬
‫ذي الخلصة»(‪ ،)214‬وهو فعل كان يفعل قبل البعثة‪ ،‬وسيفعل قبل الساعة‪.‬‬

‫واإلشارة إلى التماثل بين حال البشرية قبل والبعثة وحالها قبل يوم القيامة‬
‫أيضا مأخوذة من حديث آخر أخبر به النبي ﷺ‪« :‬إن هللا نظر إلي أهل‬
‫األرض فمقتهم عجمهم وعربهم إال بقايا من أهل الكتاب‪ ،‬وقال إنما بعثتك‬
‫ألبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا ً ال يغسله الماء تقرؤه نائما ً ويقظانا ً»‬
‫(‪.)215‬‬
‫غير أننا‪ ،‬وفي إطار حدثينا عن التماثل بين واقع ما قبل البعثة وواقع ما قبل‬
‫عالمات الساعة‪ ،‬وفي إطار تفسيرنا لعبارة‪« :‬وإن كادت لتسبقني»‪ ،‬ال بد‬
‫وأن نقف عند واقعة هي أقوى في داللتها على االرتباط بين البعثة ويوم‬
‫القيامة‪ ،‬أال وهي واقعة إجالء يهود بني النضير من المدينة‪ ،‬وقد كان النبي‬
‫ﷺ قد هادنهم وأعطاهم عهدا وذمة على أن ال يقاتلهم وال يقاتلوه‪ ،‬فنقضوا‬
‫العهد الذي كان بينهم وبينه‪ ،‬فأجالهم النبي ﷺ وأخرجهم من حصونهم‪،‬‬
‫وهي الواقعة التي نزلت فيها اآلية‪ُ ( :‬ه َو الَّذِي أَ ْخ َر َج الَّذِينَ َكفَ ُروا ِم ْن أَ ْه ِل‬
‫ظنُّوا أَنَّ ُه ْم َمانِ َعت ُ ُه ْم‬ ‫ار ِه ْم ِأل َ َّو ِل ْال َح ْش ِر ۚ َما َ‬
‫ظنَ ْنت ُ ْم أ َ ْن َي ْخ ُر ُجوا ۖ َو َ‬ ‫ْال ِكتَا ِ‬
‫ب ِم ْن ِد َي ِ‬
‫ْب ۚ‬ ‫الرع َ‬ ‫ف فِي قُلُو ِب ِه ُم ُّ‬ ‫ْث لَ ْم َي ْحتَ ِسبُوا ۖ َوقَذَ َ‬ ‫َّللاُ ِم ْن َحي ُ‬‫َّللاِ فَأَتَا ُه ُم َّ‬
‫صونُ ُه ْم ِمنَ َّ‬‫ُح ُ‬
‫ار)‬ ‫ص ِ‬ ‫يُ ْخ ِربُونَ بُيُوتَ ُه ْم ِبأ َ ْيدِي ِه ْم َوأَ ْيدِي ْال ُمؤْ ِمنِينَ فَا ْعت َ ِب ُروا يَا أُو ِلي ْاأل َ ْب َ‬
‫(الحشر‪.)2:‬‬

‫ووجه داللة الواقعة على التقارب بين البعثة وبين عالمات الساعة‪ ،‬هو أن‬
‫إجالء بني النضير عن المدينة هو بداية حقيقية إلحدى العالمات الكبرى‬
‫للساعة‪ ،‬وهي خروج نار من قعر عدن تحشر الناس إلى أرض المحشر‪،‬‬
‫وذلك أن النبي ﷺ لما طردهم من المدينة سألوه‪ :‬إلى أين؟ قال‪« :‬إلى أرض‬
‫المحشر» (‪ ،)216‬وعن الحسن أن النبي ﷺ لما أجلى بني النضير‪ ،‬قال‪« :‬هذا‬
‫أول الحشر‪ ،‬وأنا على األثر» (‪.)217‬‬

‫(‪ )214‬أخرجه البخاري (الفتن) «‪ ،»7116/82/13‬وأخرجه مسلم في (الفتن) (‪ )2906/260/9‬وأخرجه أحمد في (مسنده)‬
‫(‪ )215‬أخرجه أحمد في (مسنده) «‪.»162/4‬‬
‫(‪ )216‬ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره في قوله «هو الذي أخرج الذين كفروا‪».....‬اآلية «ح ‪.»18850‬‬
‫(‪ )217‬تفسير الطبري (‪ )20/28‬ورواه ابن سعد في الطبقات (‪ )42/2‬عن هوذة ابن خليفة‪ ،‬عن عوف‪ ،‬عن الحسن به‬
‫وهو مرسل‪.‬‬
‫وليست وجهة حشر يهود بني النضير فقط هي وجه التماثل بين واقعة‬
‫إجالءهم وبين الحشر العام يوم القيامة‪ ،‬بل إن كيفية هذا اإلجالء أيضا يعطي‬
‫ذلك التماثل عمقا آخر‪ ،‬فعن معاوية بن حيدة رضي هللا عنه أن رسول هللا‬
‫ﷺ قال‪« :‬يحشر الناس على ثالث طرائق‪ :‬راغبين راهبين‪ ،‬واثنان على‬
‫بعير‪ ،‬وثالثة على بعير‪ ،‬وأربعة على بعير‪ ،‬وعشرة على بعير‪ ،‬وتحشر‬
‫بقيتهم النار‪ ،‬تقيل معهم حيث قالوا‪ ،‬وتبيت معهم حيث باتوا‪ ،‬وتصبح معهم‬
‫حيث أصبحوا‪ ،‬وتمسي معهم حيث أمسوا»(‪ ،)218‬وهو وصف يقابل الكيفية‬
‫التي أجلى بها النبي ﷺ بني النضير إلى أرض الشام حيث نقل ابن كثير في‬
‫تفسير آية الحشر قوال ابن أبي حاتم فقال‪« :‬صالح رسول هللا ﷺ بني النضير‬
‫بعد أن غدروا به علي الجالء بشرط أال يأخذوا معهم السالح‪ ،‬وقد أعطي‬
‫كل ثالثة بعيرا ً وسقا ًء»(‪.)219‬‬

‫ويؤكد ذلك التماثل إشارة ثالثة قوية في داللتها عليه‪ ،‬وهي المأخوذة من‬
‫ض‬ ‫ار أَ ْه ِل األ َ ْر ِ‬
‫ون ِه ْج َرة ٌ بَ ْعدَ ِه ْج َرةٍ فَ ِخيَ ُ‬ ‫ست َ ُك ُ‬
‫خبر النبي ﷺ حيث قال‪َ « :‬‬
‫ضو ُه ْم‬‫ظ ُه ْم أ َ ْر ُ‬‫ار أَ ْه ِل َها تَ ْل ِف ُ‬
‫ض ِش َر ُ‬ ‫يم َو َي ْبقَى ِفي األ َ ْر ِ‬ ‫أَ ْلزَ ُم ُه ْم ُم َها َج َر إِب َْرا ِه َ‬
‫َازير» (‪.)220‬‬ ‫ار َم َع ْال ِق َردَةِ َو ْال َخن ِ‬
‫ش ُر ُه ُم النَّ ُ‬
‫َّللاِ َوت َ ْح ُ‬
‫س َّ‬ ‫تَ ْقذَ ُر ُه ْم نَ ْف ُ‬

‫والداللة هنا واضحة‪ ،‬فالنبي ﷺ قد وصف شرار الناس أثناء الحشر األعظم‬
‫بأنهم قردة وخنازير‪ ،‬وهو ما وصف به هللا سبحانه جنس اليهود الذين كان‬
‫منهم بنو النضير‪ ،‬قال تعالى‪( :‬قُ ْل ه َْل أُن َِبئ ُ ُك ْم ِبش ٍَر ِم ْن َٰذَ ِل َك َمثُو َبةً ِع ْندَ َّ‬
‫َّللاِ ۚ‬
‫وت ۚ‬ ‫غ َ‬ ‫الطا ُ‬‫عبَدَ َّ‬ ‫ير َو َ‬ ‫َاز َ‬ ‫علَ ْي ِه َو َجعَ َل ِم ْن ُه ُم ْال ِق َردَةَ َو ْال َخن ِ‬
‫ب َ‬‫َض َ‬‫َّللاُ َوغ ِ‬‫َم ْن لَ َعنَهُ َّ‬
‫سبِي ِل) (المائدة‪.)60:‬‬ ‫اء ال َّ‬ ‫ع ْن َ‬
‫س َو ِ‬ ‫ض ُّل َ‬‫أُو َٰلَئِ َك ش ٌَّر َم َكانًا َوأ َ َ‬

‫أما اإلشارة الرابعة على التماثل بين واقعة إجالء بني النضير وبين عالمة‬
‫الحشر األعظم يوم القيامة‪ ،‬فهي الحالة النفسية التي كان عليها اليهود أثناء‬
‫(‪ )218‬صحيح البخاري برقم‪.6522 :‬‬
‫(‪ )219‬أخرجه ابن جرير في (تفسيره) «‪ )22 /28‬وانظر فتح القدير «ح ‪ »11968‬بلفظ عن ابن عباس قال‪ :‬كان النبي‬
‫ﷺ قد حاصرها حتى بلغ كل منهم كل مبلغ وفيه‪« :‬وجعل لكل ثالثة منهم بعيرا وسقاء»‪.‬‬
‫(‪ )220‬سنن أبي داوود برقم (‪ ،)2127‬ومسند أحمد بن حنبل برقم (‪.)6694‬‬
‫الجالء‪ ،‬فقد كانوا «راغبين وراهبين»‪ ،‬أيضا كما سيكون عليه الناس يوم‬
‫الحشر األعظم‪ ،‬وذلك أنهم انقسموا أمام الجالء إلى فريقين‪ ،‬فريق راغب‬
‫لما علم من أمر الجالء وأنه آخر عهدهم بالذل‪ ،‬وفريق راهب لما في‬
‫إخراجهم من ترك لديارهم وشتات لهم‪ ،‬وهي الحالة التي تماثل حال الناس‬
‫يوم الحشر األعظم‪ ،‬حيث أخبر النبي ﷺ عن حالهم وأنهم «راغبين‬
‫وراهبين» أي طامعين في حسن الجزاء وجزعين من سوء العقاب‪.‬‬

‫داللة األلفاظ‬
‫األلفاظ والعبارات والصيغ اللغوية التي عرضت بها العالمات في الوحي‬
‫مرتبطة بمضمون العالمات‪ ،‬وال يعني تجاهلها إال قصورا في رؤيتها‪.‬‬

‫ومن األمثلة على دقة األلفاظ في عرض العالمات‪ ،‬ما ورد عن بقاء أمر‬
‫الظهور على الحق في األمة واستمراره فيها إلى قيام الساعة‪ ،‬وهو الخبر‬
‫الوارد في الحديث‪« :‬التزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق‪ ،‬ظاهرين‬
‫على من ناوأهم‪ ،‬حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال»(‪ )221‬فقد عبر النبي ﷺ‬
‫عن بقائهم إلى قيام الساعة ظاهرين على الحق بأن «آخرهم يقاتل الدجال»‪،‬‬
‫وذلك أن مضمون البعثة المحمدية هو «الظهور بها على الرافضين لها منذ‬
‫أن بشر بها المسيح عليه السالم»‪ ،‬ولذلك كان المسيح هو قاتل الدجال وكاسر‬
‫الصليب وواضع الجزية ألن محاولة االلتفاف حول البعثة المحمدية كانت‬
‫من خالله هو بتحويله إلى إله من دون هللا‪ ،‬ولذلك كانت الفئة الظاهرة البد‬
‫أن تكون مرتبطة بالمسيح أثناء قتله للدجال‪.‬‬

‫وما يؤكد حقيقة الظهور كنقض لتأليه المسيح‪ ،‬أو تأليه المسيح كمحاولة‬
‫لنقض البعثة المحمدية‪ ،‬يمكن مالحظتها في سورة التوبة‪ ،‬وفي سورة الفتح‪،‬‬
‫ار ُه ْم‬ ‫وفي سورة الصف‪ ،‬ففي سورة التوبة يقول هللا عز وجل‪( :‬ات َّ َخذُوا أَ ْح َب َ‬
‫َّللاِ َو ْال َمسِي َح ابْنَ َم ْريَ َم َو َما أ ُ ِم ُروا إِ َّال ِليَ ْعبُدُوا إِ َٰلَ ًها‬
‫ُون َّ‬‫َو ُر ْهبَانَ ُه ْم أ َ ْربَابًا ِم ْن د ِ‬
‫ور َّ‬
‫َّللاِ‬ ‫ط ِفئُوا نُ َ‬ ‫ع َّما يُ ْش ِر ُكون َيُ ِريدُونَ أ َ ْن يُ ْ‬ ‫س ْب َحانَهُ َ‬ ‫احدًا ۖ َال إِ َٰلَهَ إِ َّال ُه َو ۚ ُ‬
‫َو ِ‬

‫(‪ )221‬سنن أبي داوود برقم (‪ .)2155‬ومسند أحمد بن حنبل برقم (‪.)19073‬‬
‫سولَهُ‬ ‫ورهُ َولَ ْو َك ِرهَ ْال َكافِ ُرونَ ُه َو الَّذِي أ َ ْر َ‬
‫س َل َر ُ‬ ‫ِبأ َ ْف َوا ِه ِه ْم َو َيأ ْ َبى َّ‬
‫َّللاُ إِ َّال أَ ْن يُتِ َّم نُ َ‬
‫ِين ُك ِل ِه َولَ ْو َك ِرهَ ْال ُم ْش ِر ُكونَ ) (التوبة‪-31:‬‬‫علَى الد ِ‬ ‫ظ ِه َرهُ َ‬ ‫ق ِليُ ْ‬ ‫ِين ْال َح ِ‬
‫ِب ْال ُهدَ َٰى َود ِ‬
‫‪.)33‬‬

‫َّللاِ ۚ َوالَّذِينَ َم َعهُ أَ ِشدَّا ُء‬‫سو ُل َّ‬ ‫وفي سورة الفتح يقول هللا عز وجل‪ُ ( :‬م َح َّمدٌ َر ُ‬
‫َّللا َو ِرض َْوانًا ۖ‬ ‫س َّجدًا يَ ْبتَغُونَ َفض ًْال ِمنَ َّ ِ‬ ‫علَى ْال ُكفَّ ِار ُر َح َما ُء َب ْينَ ُه ْم ۖ تَ َرا ُه ْم ُر َّكعًا ُ‬ ‫َ‬
‫َٰ‬ ‫ِسي َما ُه ْم ِفي ُو ُجو ِه ِه ْم ِم ْن أَثَ ِر ال ُّ‬
‫س ُجو ِد ۚ ذَ ِل َك َمثَلُ ُه ْم ِفي الت َّ ْو َراةِ ۚ َو َمثَلُ ُه ْم ِفي ْ ِ‬
‫اإل ْن ِجي ِل‬
‫ظ‬‫ع ِل َي ِغي َ‬ ‫ب ُّ‬
‫الز َّرا َ‬ ‫سو ِق ِه يُ ْع ِج ُ‬ ‫علَ َٰى ُ‬
‫ظ َفا ْستَ َو َٰى َ‬ ‫َطأَهُ فَآزَ َرهُ َفا ْستَ ْغلَ َ‬ ‫َكزَ ْرع أَ ْخ َر َج ش ْ‬
‫ٍ‬
‫ع ِظي ًما)‬ ‫َ‬
‫ت ِم ْن ُه ْم َم ْغ ِف َرة ً َوأ ْج ًرا َ‬ ‫صا ِل َحا ِ‬‫ع ِملوا ال َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫َّللاُ الذِينَ آ َمنُوا َو َ‬ ‫ِب ِه ُم ْال ُكف َ‬
‫ار ۗ َو َعدَ َّ‬ ‫َّ‬
‫(الفتح‪.)29:‬‬

‫سى اب ُْن َم ْر َي َم َيا َب ِني‬ ‫وفي سورة الصف يقول هللا عز وجل‪َ ( :‬و ِإ ْذ قَا َل ِعي َ‬
‫سو ٍل‬ ‫ي ِمنَ الت َّ ْو َراةِ َو ُم َبش ًِرا بِ َر ُ‬ ‫ص ِدقًا ِل َما بَيْنَ َيدَ َّ‬ ‫َّللاِ ِإلَ ْي ُك ْم ُم َ‬
‫سو ُل َّ‬
‫ِإ ْس َرائِي َل إِنِي َر ُ‬
‫ين َو َم ْن‬ ‫ت قَالُوا َٰ َهذَا ِس ْح ٌر ُم ِب ٌ‬ ‫يَأْتِي ِم ْن بَ ْعدِي ا ْس ُمهُ أَ ْح َمدُ ۖ فَلَ َّما َجا َء ُه ْم ِب ْالبَ ِينَا ِ‬
‫َّللاُ َال يَ ْهدِي ْالقَ ْو َم‬‫اإل ْس َال ِم ۚ َو َّ‬‫ع َٰى إِلَى ْ ِ‬ ‫َّللاِ ْال َكذ َ‬
‫ِب َو ُه َو يُ ْد َ‬ ‫علَى َّ‬ ‫ظلَ ُم ِم َّم ِن ا ْفت َ َر َٰى َ‬ ‫أَ ْ‬
‫ور ِه َولَ ْو َك ِرهَ‬ ‫َّللاُ ُم ِت ُّم نُ ِ‬ ‫َّللاِ ِبأ َ ْف َوا ِه ِه ْم َو َّ‬‫ور َّ‬ ‫ط ِفئُوا نُ َ‬ ‫الظا ِل ِمينَ يُ ِريدُونَ ِليُ ْ‬ ‫َّ‬
‫علَى الد ِ‬
‫ِين ُك ِل ِه‬ ‫ظ ِه َرهُ َ‬ ‫ق ِليُ ْ‬ ‫ِين ْال َح ِ‬‫سولَهُ ِب ْال ُهدَ َٰى َود ِ‬ ‫س َل َر ُ‬ ‫ْال َكافِ ُرونَ ُه َو الَّذِي أ َ ْر َ‬
‫َولَ ْو َك ِرهَ ْال ُم ْش ِر ُكونَ ) (الصف‪.)9-6:‬‬

‫ومثال آخر على ارتباط اللفظ الذي وردت به العالمة بمضمونها‪ ،‬هو قول‬
‫المسيح الدجال عندما رأى المدينة‪« :‬هذا قصر أحمد»(‪ ،)222‬فاستخدم اسم‬
‫«أحمد» ولم يستخدم اسم «محمد»‪ ،‬وهم نفس االسم الذي استخدمه المسيح‬
‫سى اب ُْن َم ْريَ َم يَا بَنِي إِ ْس َرائِي َل إِنِي‬ ‫عيسى ابن مريم عليه السالم‪َ ( :‬وإِ ْذ قَا َل ِعي َ‬
‫سو ٍل َيأ ْ ِتي ِم ْن‬‫ي ِمنَ الت َّ ْو َراةِ َو ُمبَش ًِرا ِب َر ُ‬‫ص ِدقًا ِل َما َبيْنَ َيدَ َّ‬ ‫َّللاِ ِإلَ ْي ُك ْم ُم َ‬
‫سو ُل َّ‬
‫َر ُ‬
‫ين) (الصف‪.)6:‬‬ ‫ت قَالُوا َٰ َهذَا ِس ْح ٌر ُمبِ ٌ‬ ‫َب ْعدِي ا ْس ُمهُ أَ ْح َمدُ ۖ فَلَ َّما َجا َء ُه ْم ِب ْال َبيِنَا ِ‬

‫وداللة استخدام عيسى ابن مريم السم «أحمد» هي أن هذه الصيغة تعني‪:‬‬
‫«أحمد لك»‪ ،‬أي أزكي لك وأختار لك‪ ،‬وهي صيغة مناسبة لحال المسيح‬
‫(‪ )222‬أخرجه أحمد في (مسنده) «‪.)338/3‬‬
‫ابن مريم مع النبي ﷺ كمبشر به‪ ،‬فقد ورد في لسان العرب‪« :‬أَ ْح َمدَ الرج َل‬
‫ِإذا رضي فعله ومذهبه ولم ينشره» (‪.)223‬‬

‫أما داللة التوافق بين المسيحين في استخدام اسم «أحمد»‪ ،‬فتعود إلى ما‬
‫بينهما من وحدة كخير وشر مقابل له‪ ،‬أو كمعنى ونقيضه‪ ،‬أو كحق وما‬
‫يضاهيه من باطل‪ ،‬وليس أدل على هذه الوحدة من نهاية المسيح الدجال ال‬
‫تكون إال على يد المسيح ابن مريم‪ ،‬ويشير إلى تلك الوحدة أيضا ما رآه‬
‫النبي ﷺ في منامه حيث قال‪« :‬أراني في المنام عند الكعبة فرأيت رجال آدم‬
‫كأحسن ما ترى من الرجال له لمة قد رجلت ولمته تقطر ماء واضعا يده‬
‫على عواتق رجلين يطوف بالبيت رجل الشعر فقلت من هذا فقالوا المسيح‬
‫بن مريم ثم رأيت رجال جعدا قططا أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية‬
‫كأشبه من رأيت من الناس بابن قطن واضعا يديه على عواتق رجلين يطوف‬
‫بالبيت فقلت من هذا فقالوا هذا المسيح الدجال»(‪.)224‬‬

‫ومن أمثلة االرتباط بين األلفاظ ومضمونها في إطار عرض الوحي‬


‫لعالمات الساعة أيضا‪ ،‬حديث «عمران بين المقدس خراب يثرب» (‪،)225‬‬
‫فالمعروف أن اسم يثرب قد تغير إلى «المدينة» بعد اإلسالم‪ ،‬ولكن إطالق‬
‫لفظ يثرب على المدينة في هذا الحديث يكون معناه عودة المدينة لما كانت‬
‫عليه قبل الهجرة‪ ،‬وخروج اإلسالم منها كما دخلها مع الهجرة‪ ،‬ولذلك يعيد‬
‫الرسول ﷺ االسم القديم إلى المدينة ليتفق اسمها مع حالها دائماً‪.‬‬

‫ومن قواعد االرتباط بين الصيغ اللغوية لعرض العالمات وبين مضمون‬
‫العالمات ذاتها‪ ،‬تعدد المفردات اللفظية في وصف حقيقة واحدة في نصوص‬
‫متعددة لتغطي جانبا من جوانب تلك الحقيقة مع كل نص‪ ،‬ومثال ذلك وصف‬
‫الناس الذين ستقوم عليهم الساعة‪ ،‬فقد ورد عن النبي ﷺ أنهم‪« :‬شر الناس»‬
‫وذلك في الحديث‪« :‬إن شر الناس الذين تقوم عليهم الساعة»(‪ ،)226‬ثم يقول‬
‫النبي ﷺ في حديث آخر‪« :‬فبينما هم كذلك ـ أي المؤمنين ـ إذ بعث هللا ريحا ً‬

‫(‪ )223‬لسان العرب‪ :‬مادة ح م د‪.‬‬


‫(‪ )224‬مسند أحمد‪.‬‬
‫(‪ )225‬صحيح أبي داوود‪.‬‬
‫(‪ )226‬أخرجه أحمد في (مسنده) (‪ ،»435/1‬وابن أبي شيبة في (المصنف) «‪ ،»345/3‬وابن خزيمة رقم‪.389:‬‬
‫طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقي شرار‬
‫الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة»(‪ ،)227‬ففي الحديث‬
‫إضافة وصفهم بـ «تهارجهم تهرج الحمر»‪ ،‬ثم يأتي حديث ثالث ليصفهم‬
‫النبي ﷺ فيه بقوله‪« :‬يتسافدون تسافد البهائم»‪ ،‬وهو تعميق وتعميم للوصف‬
‫السابق‪.‬‬

‫ثم يكون الحديث الرابع‪« :‬ثم يرسل هللا ريحا ً باردة من قبل الشام فال يبقي‬
‫علي وجه األرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إال قبضته حتى‬
‫لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه» (‪.)228‬‬

‫قال ـ أي الراوي ـ سمعتها من رسول هللا ﷺ قال‪« :‬فيبقي شرار الناس في‬
‫خفة الطير وأحالم السباع‪ ،‬ال يعرفون معروفا ً وال ينكرون منكرا ً فيتمثل‬
‫لهم الشيطان فيقول‪ :‬أال تستجيبون؟ فيقولون‪ :‬فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة‬
‫األوثان وهم في ذلك دار رزقهم حسن معيشتهم» (‪ ،)229‬وفي الحديث تطور‬
‫في الوصف‪ ،‬في الحديث األول مجرد كونهم شرار الناس ليأتي الحديث‬
‫الثاني فيزيد في وصف أفعالهم تهارج الحمر وسيأتي الثالث ليعمق ويعمم‬
‫«تسافد البهائم»‪.‬‬

‫والجمع بين الحديث الذي أخبر فيه النبي ﷺ عنهم بأنهم يحشرون مع القردة‬
‫الخنازير‪ ،‬وبين الحديث الذي أخبر فيه النبي ﷺ عنهم بأنهم يسلمون إرادتهم‬
‫للمسيح الدجال فيأمرهم بعبادة األوثان‪ ،‬هو قول هللا عز وجل‪ ﴿:‬و َج َع َل ِم ْن ُه ْم‬
‫وت﴾(المائدة‪ ،)60:‬حيث سيُحشرون مع القردة‬ ‫غ َ‬ ‫عبَدَ َّ‬
‫الطا ُ‬ ‫ْال ِق َردَةَ َو ْال َخن ِ‬
‫َازيَر َو َ‬
‫والخنازير وعبدة األوثان‪.‬‬

‫ليصبح المعنى العام لمجموع األحاديث هو إسقاط اعتبار إنسانية هؤالء‬


‫الناس فيكون آخر الناس وبقيتهم هم المؤمنين الذي سينجيهم هللا من يأجوج‬
‫ومأجوج‪ ،‬حيث يقول النبي ﷺ‪« :‬لن تقوم الساعة حتى يرفع هللا بقية من أهل‬
‫(‪ )227‬تهذيب اآلثار للطبري برقم (‪.)1073‬‬
‫(‪ )228‬أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة «‪ ،75/18/6‬النووي»‪ ،‬وأخرجه أحمد في (مسنده) «‪ )166/ 2‬والنسائي‬
‫في (الكبدي) تفسير سورة المزمل «‪/50/6‬ح ‪ »11629‬من حديث عبد هللا بن عمرو بن العاص‪.‬‬
‫(‪ )229‬أخرجه مسلم في (الفتن) «‪/310/9‬ح ‪ )2940‬من حديث عبد هللا بن عمرو بن العاص‪.‬‬
‫األرض»‪ ،‬وهذه هي البقية أما رفعها فهو ما ورد في هذا الحديث األخير‪.‬‬

‫التكرار‬
‫ومن دالئل االرتباط في الوحي بين اللفظ وبين مضمون العالمة‪ ،‬داللة‬
‫التكرار‪ ،‬ومثاله قول النبي ﷺ‪« :‬أن رسول هللا ﷺ خطب الناس فقال‪ :‬يوم‬
‫الخالص وما يوم الخالص‪ ،‬يوم الخالص وما يوم الخالص‪ ،‬يوم الخالص‬
‫وما يوم الخالص‪ ،‬فقيل يا رسول هللا ما يوم الخالص؟ فقال‪ :‬يجيء الدجال‬
‫فيصعد أحدا فيطلع فينظر إلى المدينة فيقول ألصحابه‪ :‬أال ترون إلى هذا‬
‫القصر األبيض؟ هذا مسجد أحمد ثم يأتي المدينة فيجد بكل ثقب من ثقابها‬
‫ملكا مصلتا‪ ،‬فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقة‪ ،‬ثم ترجف المدينة ثالث‬
‫رجفات‪ ،‬فال يبقى منافق وال منافقة وال فاسق وال فاسقة إال خرج إليه‬
‫فتخلص المدينة وذلك يوم الخالص»‪.‬‬

‫وعلة التكرار ليست فقط في بيان أهمية ذلك اليوم‪ ،‬بل في أنه في يوم‬
‫الخالص تخرج المدينة ثلث منافقيها ثم كل منافقيها‪ ،‬ومن أجل ذلك كان‬
‫التكرار‪.‬‬
‫التفصيل‬
‫وهو من عناصر تحقيق اليقين‪ ،‬وأهم األدلة عليه‪ :‬قول رسول هللا ﷺ بعد‬
‫ذكر الملحمة «فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك‪ ،‬فجاءهم‬
‫الصريخ‪ ،‬فقال‪ :‬أن الدجال قد خرج في ذراريهم فيرفضون ما بأيديهم‬
‫ويقبلون فيبعثون عشر فوارس طليعة قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪ :‬إني ألعرف‬
‫أسماءهم وأسماء آباءهم وألوان خيولهم هم خير فوارس على ظهر األرض‬
‫أو خير فوارس يومئذ» (‪ ،)230‬وواضح من الحديث عنصر التفصيل في‬
‫وصف الفوارس وخيولهم‪ ،‬مما يزيد اإلنسان يقينا ً بالحدوث‪.‬‬

‫وفي حديث النفخ في الصور يصف رسول هللا ﷺ حال أول من سيسمع‪:‬‬
‫«ثم ينفخ في الصور فال يسمعه أحد إال أصغى ليتا ً ورفع ليتاً‪ ،‬قال‪ :‬فأول‬
‫(‪ )230‬أخرجه مسلم في (الفتن) باب‪ :‬إقبال الروم في كثير القتل عند خروج الدجال «‪.»2899/251/9‬‬
‫من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيُصعق ويُصعق الناس» (‪.)231‬‬

‫وفي حديث هدم الكعبة يقول الرسول ﷺ واصفا ذا السويقتين‪« :‬كأني به‬
‫أسود أفجح يقلعها حجرا ً حجرا ً» (‪.)232‬‬

‫ومثاله أيضا‪ ،‬قول النبي ﷺ في آخر الحشر‪« :‬تتركون المدينة علي خير ما‬
‫كانت ال تغشاها إال العواف ـ يريد عوافي السباع والطير ـ وآخر من يحشر‬
‫راعيان من ُمزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحشا ً حتى إذا‬
‫بلغا ثنية الوداع خرا علي وجوههما»(‪ ،)233‬وثنية الوداع هي المكان الذي‬
‫ظهر منه النبي ﷺ للذين كانوا ينتظرونه فوق أعالي النخيل فرأوه قبل أن‬
‫يدخل المدينة(‪ ،)234‬وتحديد موت الراعيين بهذا المكان معناه أنهما سيموتان‬
‫قبل أن يدخالها‪ ،‬ليكون دخول رسول هللا ﷺ المدينة أول عمارها ويكون‬
‫موت الراعيين قبل دخول المدينة آخر خرابها‪.‬‬
‫اإلجمال‬
‫ومثاله حديث النبي ﷺ‪ ،‬عن حذيفة قال‪« :‬قام فينا رسول هللا ﷺ مقاما ً ما ترك‬
‫فيه شيئا ً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إال َّحدث به‪ ،‬حفظه ونسيه من‬
‫نسيه‪ ،‬قد علمه أصحابي هؤالء وأنه ليكون منه الشيء قد نسيته فذكره كما‬
‫يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم رآه فعرفه» (‪.)235‬‬
‫التناسب بين الخبر وحال النبي أثناء اإلخبار‬
‫ومثاله حال النبي ﷺ حين أخبر عن حتمية قتال الدجال وهو ملدوغ من‬
‫عقرب‪ ،‬وذلك فيما رواه ابن حرملة عن خالته قالت‪« :‬خطبنا رسول هللا ﷺ‬

‫(‪ )231‬أخرجه مسلم في (الفتن) باب‪ :‬خروج الدجال ومكثه في األرض «‪/201/9‬ح ‪ ،»2940‬وقد تقدم‪.‬‬
‫(‪ )232‬أخرجه البخاري في (الحج) باب‪ :‬هدم الكعبة «‪/583/2‬ح ‪ »1595‬من حديث ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )233‬أخرجه البخاري في (فضائل الساعة) باب‪ :‬من رغب عن المدينة «‪ ،»1874/107/4‬من حديث أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )234‬أخرجه البيهقي في الدالئل «‪ »507 ،506/2‬عن عائشة وعزاه الحافظ في الفتح «‪ »307/7‬في شرح حديث البراء‬
‫في باب مقدم النبي ﷺ وأصحابه المدينة‪ ،‬حديث رقم «‪ :»3925‬ألبي سعيد في كتابه (شرف المصطفي) ورويناه في (فوائد‬
‫الخلقي) من طريق عبيد هللا عن عائشة منقطعا‪ ،‬لما دخل النبي ﷺ المدينة جعل الوالئد يقلن‪ :‬طلع البدر علينا من ثنية‬
‫الوداع وجب الشكر علينا ما دعا هلل داعِ‪.‬‬
‫(‪ )235‬أخرجه مسلم في (الفتن) باب‪ :‬إخبار النبي ﷺ فيما يكون إلى قيام الساعة «‪ / 242/9‬ح ‪ ،»23‬من حديث حذيفة‬
‫رضي هللا عنه‪.‬‬
‫وهو عاصب إصبعه ولدغه عقرب فقال‪« :‬إنكم تقولون ال عدو لكم‪ ،‬إنكم ال‬
‫تزالون تقاتلون عدوا ً حتى يأتي يأجوج ومأجوج‪ ،‬عراض الوجه‪ ،‬صغار‬
‫العيون‪ ،‬شهب الشعاف‪ ،‬من كل حدب ينسلون‪ ،‬كأن وجوههم المجان‬
‫المطرقة»(‪ ،)236‬والعالقة بين الخبر وبين حال النبي المخبِر هي أن لدغ‬
‫العقرب دليل علي بقاء القتال‪ ،‬ألن القتال والعداء متالزمان‪ ،‬ولذلك بيَّن النبي‬
‫ﷺ أن آخر القتال هو قتل الدجال‪ ،‬فقال‪« :‬ال تزال طائفة من أمتي‪ ،‬حتى‬
‫يقاتل آخرهم المسيح الدجال»(‪ ،)237‬فعندما يتوقف القتال ال يكون عداء وال‬
‫يكون لدغ‪ ،‬وهذه هي العالقة الموضوعية بين القتال ولدغ العقرب‪.‬‬

‫وهناك عالقة بين العقرب وبين أعدائنا وهي إباحة قتل الجميع في الحل‬
‫ش ْه ِر ْال َح َر ِام قِتَا ٍل فِي ِه ۖ قُ ْل قِتَا ٌل فِي ِه‬ ‫ع ِن ال َّ‬ ‫والحرم‪ ،‬قال تعالى‪ ( :‬يَ ْسأَلُون ََك َ‬
‫َّللاِ َو ُك ْف ٌر بِ ِه َو ْال َم ْس ِج ِد ْال َح َر ِام َو ِإ ْخ َرا ُج أَ ْه ِل ِه ِم ْنهُ أَ ْكبَ ُر‬
‫س ِبي ِل َّ‬‫ع ْن َ‬ ‫صدٌّ َ‬ ‫ير ۖ َو َ‬ ‫َك ِب ٌ‬
‫ع ْن دِينِ ُك ْم‬ ‫َّللاِ ۚ َو ْال ِفتْنَةُ أَ ْكبَ ُر ِمنَ ْالقَتْ ِل ۗ َو َال َيزَ الُونَ يُقَاتِلُونَ ُك ْم َحت َّ َٰى يَ ُردُّو ُك ْم َ‬
‫ِع ْندَ َّ‬
‫ت‬ ‫ط ْ‬ ‫ت َو ُه َو َكافِ ٌر فَأُو َٰلَئِ َك َح ِب َ‬ ‫ع ْن دِينِ ِه فَيَ ُم ْ‬ ‫عوا ۚ َو َم ْن يَ ْرتَ ِد ْد ِم ْن ُك ْم َ‬ ‫طا ُ‬ ‫ِإ ِن ا ْستَ َ‬
‫ار ۖ ُه ْم فِي َها خَا ِلدُونَ )‬ ‫اب النَّ ِ‬ ‫ص َح ُ‬ ‫أَ ْع َمالُ ُه ْم فِي الدُّ ْنيَا َو ْاآل ِخ َرةِ ۖ َوأُو َٰلَئِ َك أ َ ْ‬
‫(البقرة‪ ،)217:‬فأباح قتال العدو في األشهر الحرام فقال ﷺ في ابن خطل‪:‬‬
‫«اقتلوه ولو رأيتموه متعلق بأستار الكعبة»(‪ ،)238‬وقال ﷺ خمس فواسق‬
‫يُقتلن في الحل والحرام فذكر منها العقرب (‪.)239‬‬

‫وهناك عالقة بينهما أخرى أن االثنين ال يرقبون في مؤمن إالَّ وال ذمة‪،‬‬
‫وهو يصلي أو ال يصلي‪ ،‬نبي أو ولي‪ ،‬قال تعالى في آيات صالة الخوف‬
‫طائِفَةٌ‬ ‫ص َالةَ فَ ْلتَقُ ْم َ‬ ‫ت لَ ُه ُم ال َّ‬‫ت فِي ِه ْم فَأَقَ ْم َ‬ ‫وأخذ الحذر أثناء الصالة‪َ ( :‬و ِإذَا ُك ْن َ‬
‫طائِفَةٌ‬ ‫ت َ‬ ‫س َجدُوا فَ ْليَ ُكونُوا ِم ْن َو َرائِ ُك ْم َو ْلتَأ ْ ِ‬ ‫ِم ْن ُه ْم َمعَ َك َو ْليَأ ْ ُخذُوا أَ ْس ِل َحتَ ُه ْم فَإِذَا َ‬
‫صلُّوا َم َع َك َو ْل َيأ ْ ُخذُوا ِح ْذ َر ُه ْم َوأ َ ْس ِل َحتَ ُه ْم ۗ َودَّ الَّذِينَ َكفَ ُروا‬ ‫صلُّوا فَ ْليُ َ‬ ‫أ ُ ْخ َر َٰى لَ ْم يُ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم‬ ‫احدَة ً ۚ َو َال ُجنَا َح َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َم ْيلَةً َو ِ‬‫ع ْن أ َ ْس ِل َحتِ ُك ْم َوأَ ْمتِعَتِ ُك ْم فَيَ ِميلُونَ َ‬
‫لَ ْو تَ ْغفُلُونَ َ‬
‫ضعُوا أ َ ْس ِل َحتَ ُك ْم ۖ َو ُخذُوا‬ ‫ض َٰى أَ ْن تَ َ‬ ‫ط ٍر أَ ْو ُك ْنت ُ ْم َم ْر َ‬ ‫ِإ ْن َكانَ بِ ُك ْم أَذًى ِم ْن َم َ‬
‫عذَابًا ُم ِهينًا) (النساء‪ ،)102:‬وفي الحديث‪:‬‬ ‫عدَّ ِل ْل َكافِ ِرينَ َ‬ ‫َّللاَ أَ َ‬
‫ِح ْذ َر ُك ْم ۗ إِ َّن َّ‬
‫(‪ )236‬مسند أحمد‪.)11044( ،‬‬
‫(‪ )237‬سنن أبي داوود (‪.)2125‬‬
‫(‪ )238‬أخرجه البخاري في (جزاء الصيد) «‪ ،»1846‬ومسلم في (الحج) «‪»132 .131/9/3‬‬
‫(‪ )239‬أخرجه البخاري في (جزاء الصيد) «‪ ،»1829/24/4‬ومسلم في (الحج) «‪115/8‬‬
‫«لدغت النبي ﷺ عقرب وهو في الصالة فقال لعن هللا العقرب ما تدع‬
‫المصلي وغير المصلي اقتلوها في الحل والحرم»(‪ ،)240‬واشترك العقرب‬
‫أيضا ً مع أعدائنا في اسم «الفسق» وهو وصف إلبليس أيضاً‪ ،‬قال هللا تعالى‪:‬‬
‫ع ْن‬
‫سقَ َ‬ ‫يس َكانَ ِمنَ ْال ِج ِن فَفَ َ‬ ‫( َو ِإ ْذ قُ ْلنَا ِل ْل َم َال ِئ َك ِة ا ْس ُجدُوا ِآلدَ َم فَ َ‬
‫س َجدُوا ِإ َّال ِإ ْب ِل َ‬
‫س ِل َّ‬
‫لظا ِل ِمينَ‬ ‫أَ ْم ِر َر ِب ِه ۗ أَفَتَت َّ ِخذُونَهُ َوذُ ِريَّتَهُ أَ ْو ِل َيا َء ِم ْن دُونِي َو ُه ْم لَ ُك ْم َ‬
‫عد ٌُّو ۚ بِئْ َ‬
‫بَدَ ًال) (الكهف‪.)50:‬‬

‫وعالقة أخرى‪ ،‬أنه يجوز قتل العقرب أثناء الصالة كما يجوز االنشغال بقتل‬
‫األعداء أثناء الصالة‪ ،‬لقوله تعالى‪ ( :‬فَإِ ْن ِخ ْفت ُ ْم فَ ِر َج ًاال أَ ْو ُر ْك َبانًا ۖ فَإِذَا أ َ ِم ْنت ُ ْم‬
‫علَّ َم ُك ْم َما لَ ْم تَ ُكونُوا ت َ ْعلَ ُمونَ ) (البقرة‪ ،)239:‬قال ابن عمر‪:‬‬ ‫َّللاَ َك َما َ‬‫فَا ْذ ُك ُروا َّ‬
‫«فإن كان خوف وهو أشد من ذلك صلوا رجاالً قياما ً علي أقدامهم أو ركبانا ً‬
‫مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها»(‪ ،)241‬فعن أبي هريرة أن النبي ﷺ أمر‬
‫ع ْن أَبِي ِه‬ ‫ع ْن اب ِْن أَبِي َرافِعٍ َ‬ ‫بقتل األسودين في الصالة‪ ،‬العقرب والحية»‪ ،‬و َ‬
‫ع ْق َربًا َو ُه َو فِي ال َّ‬
‫ص َالةِ‪.‬‬ ‫ع ْن َج ِد ِه‪ ،‬أَ َّن النَّ ِب َّ‬
‫ي ﷺ قَت َ َل َ‬ ‫َ‬

‫القرائن الحسية‬
‫قال اإلمام أحمد‪ :‬عن أنس قال‪ :‬استأذن ملك القطر أن يأتي النبي ﷺ فأذن‬
‫له‪ ،‬فقال ألم سلمة‪« :‬احفظي علينا الباب ال يدخل علينا أحد‪ ،‬فجاء الحسين‬
‫ابن علي رضي هللا عنه فوثب حتى دخل‪ ،‬فجعل يصعد علي منكب النبي‬
‫ﷺ فقال الملك‪ :‬أتحبه؟ قال النبي ﷺ‪ :‬نعم‪ ،‬فقال فإن أمتك تَ ْقتُلُهُ وإن شئت‬
‫أَ َريت ُ َك المكان الذي يُقتَل فيه‪ ،‬قال‪ :‬فضرب بيده فأراه ترابا ً أحمر‪ ،‬فأخذت أم‬
‫سلمة ذلك التراب فصرته في طرف ثوبها‪ ،‬قال‪ :‬فكنا نسمع يقتل‬
‫ي البيت َملَك لم يدخل قبلها‬ ‫(‪)242‬‬
‫بكربالء» ‪ ،‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬لقد دخل عل َّ‬
‫فقال لي ابنك هذا حسين مقتول‪ ،‬وإن شئت أريتك األرض التي يُقتل بها‪،‬‬
‫فأخرج تربة حمراء»(‪.)243‬‬

‫(‪ )240‬أخرجه ابن ماجة في إقامة الصالة والسنة بينها «‪/395/1‬ح ‪.»1246‬‬
‫(‪ )241‬أخرجه البخاري في (التفسير) باب‪« :‬فإن خفتم فرجاال أو ركبانا‪ ،‬اآلية» «‪/46/18‬ح ‪.»4535‬‬
‫(‪ )242‬أخرجه أحمد في مسنده «‪.»265/3‬‬
‫(‪ )243‬أخرجه أحمد في مسنده «‪.»294/6‬‬
‫وعن ابن عباس قال‪« :‬رأيت رسول هللا ﷺ في المنام نصف النهار أشعث‬
‫أغير معه قارورة فيها دم فقلت بأبي وأمي يا رسول هللا ما هذا؟ قال‪ :‬هذا‬
‫دم الحسين وأصحابه لم أزل التقطه منذ اليوم» (‪.)244‬‬

‫وأخطر ما في هذه األحاديث هو بقاء دم الحسين والطين الذي سيقبل به الدم‬


‫كأثر محسوس وقرينة باقية دالة على حدوث القتل كأمر غيبي‪ ،‬ولكن األثر‬
‫الذي ال يقل خطرا ً عن هذا هو أن يكون الَ َملك الموجود مع رسول هللا ﷺ‬
‫ويخبره بخبر الحسين هو ملك القطر‪ ،‬وتفسير ذلك هو ما تضمنه حديث‬
‫نزول القطر والفتن‪ ،‬الذي قال فيه رسول هللا ﷺ‪ِ « :‬إنِي أ َ َرى ْال ِفتَنَ تَقَ ُع ِخال َل‬
‫ط ِر» (‪ ،)245‬ومن هذه األحاديث تتأكد العالقة المنهجية بين‬ ‫بُيُوتِ ُك ْم َك َم َواقِع ْالقَ ْ‬
‫ِ‬
‫القطر والفتن‪.‬‬

‫وقد فسر اإلمام ابن حجر العسقالني هذه العالقة بالتشابه بينهما من حيث إن‬
‫كليهما يقع على األرض ثم يعمها وبذلك يجتمع القطر والفتن في الوقوع ثم‬
‫العموم‪ ،‬ويلي هذا التفسير احتماالن آخران في تفسير العالقة بين القطر‬
‫والفتن‪:‬‬

‫األول‪ :‬هو أن يكون ملك القطر مختصا ً بالقطر والفتن معاً‪ ،‬لتكون وحدة المصدر‬
‫والفعل أساسا ً في التوازن بينهما‪ ،‬باعتبار أن المطر رحمة وهي ما تقابل الفتنة‬
‫باعتبارها عذاباً‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬وهو أن يكون للقطر ملك وللفتن ملك‪ ،‬ولكن ملك القطر مسئول‬
‫عن ملك الفتن مثل مسئولية ملك الحسنات عن ملك السيئات ونفوذ سلطانه‬
‫عليه في كتابة أعمال العبد‪ ،‬وفي ذلك تغليب للرحمة على العذاب في قدر‬
‫هللا سبحانه وتعالي‪.‬‬

‫(‪ )244‬المستدرك على الصحيحين برقم (‪.)8361‬‬


‫(‪ )245‬مسند أحمد بن حنبل‪.)21202( :‬‬
‫أما المالحظة األخيرة الواردة في مجموع األحاديث فهي أن جبريل هو‬
‫الذي كان مع رسول هللا ﷺ كما ذكرت إحدى الروايات‪ ،‬والجمع بين األمرين‬
‫هو احتمال وجودهما معا ً‪ ،‬جبريل باعتبار مسئوليته عن المالئكة وملك‬
‫القطر باعتبار مسئوليته عن الحدث‪ ،‬تماما ً مثل ما نزل جبريل ومعه ملك‬
‫الجبال في ليلة الطائف‪ ،‬حيث قال جبريل‪« :‬مرني أطبق عليهم األ َ ْخ َ‬
‫شبين»‬
‫(‪.)246‬‬
‫التأييد بالرؤية المباشرة‬
‫وأهم األحاديث المؤكدة لهذا العنصر هو حديث رؤية تميم الداري للدجال‬
‫وهو الحديث المعروف بـ «حديث الجساسة» (‪ ،)247‬ونذكر هنا كيف أيد‬
‫رسول هللا ﷺ هذه الرؤية وفيه‪« :‬فصليت مع رسول هللا ﷺ‪ ،‬فكنت في صف‬
‫النساء التي تلي ظهور القوم‪ ،‬فلما قضى رسول هللا ﷺ صالته‪ ،‬جلس على‬
‫المنبر وهو يضحك‪ ،‬فقال‪« :‬ليلزم كل إنسان مصاله»‪ ،‬ثم قال‪« :‬أتدرون ِل َم‬
‫جمعتكم؟» قالوا‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪« :‬إني وهللا ما جمعتكم لرغبة وال‬
‫رهبة‪ ،‬ولكن جمعتكم ألن تميما ً الداري كان رجالً نصرانياً‪ ،‬فجاء فبايع‬
‫وأسلم‪ ،‬وحدثني حديثا ً وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال‪ ،‬حدثني‬
‫أنه ركب في سفينة بحرية مع ثالثين رجالً من لخم وجذام‪ ،‬فلعب بهم الموج‬
‫شهرا ً في البحر‪ ،‬ثم أرفأوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس‪،‬‬
‫فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة‪ ،‬فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر ال‬
‫يدرون ما قُبُله من دُبُره من كثرة الشعر‪ ،‬فقالوا‪ :‬ويلك ما أنت؟ فقالت‪ :‬أنا‬
‫الجساسة‪ ،‬قالوا‪ :‬وما الجساسة؟ قالت‪ :‬أيها القوم‪ ،‬انطلقوا إلى هذا الرجل في‬
‫الدير‪ ،‬فإنه إلى خبركم باألشواق‪ ،‬قال‪ :‬لما سمت لنا رجالً فرقنا منها أن‬
‫تكون شيطانة‪ ،‬قال‪ :‬فانطلقنا سراعا ً حتى دخلنا الدير‪ ،‬فإذا فيه أعظم إنسان‬
‫رأيناه قط خلقا ً‪ ،‬وأشده وثاقا ً‪ ،‬مجموعة يداه إلى عنقه‪ ،‬ما بين ركبتيه إلى‬
‫كعبيه بالحديد‪ ،‬قلنا‪ :‬ويلك ما أنت؟ قال‪ :‬قد قدرتم علي خبري‪ ،‬فأخبروني ما‬
‫أنتم؟ قالوا‪ :‬نحن أناس من العرب‪ ،‬ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر‬
‫حين اغتلم‪ ،‬فلعب بنا الموج شهرا ً ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في‬
‫(‪ )246‬أخرجه البخاري في (بدء الخلق) باب‪ :‬إذا قال أحدكم آمين والمالئكة في السماء فوافقت إحداهما األخرى غفر له‬
‫ما تقدم من ذنبه «‪ ،»3231/260/6‬وطرفه في البخاري في (التوحيد) باب‪« :‬وكان هللا سميعا بصيرا) «‪،»7389/384/13‬‬
‫ومسلم في (الجهاد والسير) باب‪ :‬ما لقي النبي ﷺ من أذى‬
‫(‪ )247‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫أقربها فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر ال يدرى ما قبله من‬
‫دبره من كثرة الشعر فقلنا‪ :‬ويلك ما أنت؟ فقالت‪ :‬أنا الجساسة‪ ،‬قلنا‪ :‬وما‬
‫الجساسة؟ قالت‪ :‬اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم باألشواق‪،‬‬
‫فأقبلنا إليك سراعا ً وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة‪ ،‬فقال‪ :‬أخبروني‬
‫عن نخل بيسان‪ ،‬قلنا‪ :‬عن أي شأنها تستخبر؟ قال‪ :‬أسألكم عن نخلها‪ ،‬هل‬
‫يُثمر؟ قلنا له‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أما إنه يوشك أن ال يثمر‪ ،‬قال‪ :‬أخبروني عن بحيرة‬
‫طبرية‪ ،‬قلنا‪ :‬عن أي شأنها تستخبر؟ قال‪ :‬هل فيها ماء؟ قالوا‪ :‬هي كثيرة‬
‫الماء‪ ،‬قال إن ماءها يوشك أن يذهب‪ ،‬قال‪ :‬أخبروني عن عين زعر‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫عن أي شأنها تستخبر؟ قال‪ :‬هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء‬
‫العين؟ قلنا له‪ :‬نعم هي كثيرة الماء‪ ،‬وأهلها يزرعون من مائها‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أخبروني عن نبي األميين ما فعل؟ قالوا‪ :‬قد خرج من مكة ونزل يثرب‪،‬‬
‫قال‪ :‬أقاتله العرب؟ قلنا نعم‪ ،‬كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من‬
‫يليه من العرب وأطاعوه‪ ،‬قال لهم‪ :‬قد كان ذلك؟ قلنا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أما إن ذلك‬
‫خير لهم أن يطيعوه‪ ،‬وإني مخبركم عني‪ ،‬إني أنا المسيح وإني أوشك أن‬
‫يُؤذن لي في الخروج‪ ،‬فأخرج فأسير في األرض فال أدع قرية إال هبطتها‬
‫ي كلتيهما‪ ،‬كلما أردت‬‫في أربعين ليلة‪ ،‬غير مكة وطيبة‪ ،‬فهما محرمتان عل َّ‬
‫أن أدخل واحدة منها استقبلني َملَك بيده السيف صلتا ً يصدني عنها وأن على‬
‫كل نقب مالئكة يحرسونها؛ قالت‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪ ،‬وطعن بمخصرته في‬
‫المنبر‪« :‬هذه طيبة‪ ،‬هذه طيبة‪ ،‬هذه طيبة ـ يعني المدينة ـ أال هل كنت حدثتكم‬
‫ذلك؟» فقال الناس‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪« :‬فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت‬
‫أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة‪ ،‬أال إنه في بحر الشام أو بحر اليمن‪ ،‬ال بل‬
‫من قبل المشرق‪ ،‬ما هو من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق‪ ،‬ما هومن‬
‫قبل المشرق وأومأ بيده إلى المشرق» قالت‪ :‬فحفظت هذا من رسول هللا‬
‫ﷺ» (‪.)248‬‬

‫ومن التأييد الرؤية المباشرة‪ :‬ذكر البخاري في صحيحه ـ تعليقا ً ـ أن رجالً‬


‫قال للنبي ﷺ رأيت السد فقال‪ :‬كيف رأيته؟ قال‪ :‬مثل البرد المحبر‪ ،‬قال‪:‬‬
‫رأيته (‪.)249‬‬
‫(‪ )248‬أخرجه مسلم في (الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬قصة الجساسة «‪.»2942‬‬
‫(‪ )249‬ذكره الحافظ في (الفتح) «‪،»445/6‬‬
‫وقد تكررت رؤية السد في خالفه عمر بن الخطاب عندما بعث عمر بن عبد‬
‫الرحمن بن ربيعة‪ ،‬يقول ابن كثير في البداية والنهاية‪ :‬ثم أقبل عبد الرحمن بن‬
‫ربيعة علي الرسول الذي ذهب إلى السد وكان قد بعث رسالً إلى عدة بالد‬
‫ويقصد ابن كثير أن عبد الرحمن أقبل علي الرسول الذي بعثه إلى ملك البالد‬
‫التي فيها السد‪ ،‬فقال ما حال هذا الردم؟ يعني ما صفته فأشار إلى ثوب في زرقة‬
‫وحمرة فقال‪ :‬مثل هذا‪ ،‬فقال رجل لعبد الرحمن‪ :‬صدق‪ ،‬ولقد نفذوا الرأي فقال‪:‬‬
‫أجل وصف صفه هذا الحديد والصفر‪ ،‬قال تعالى‪( :‬آتُو ِني ُزبَ َر ْال َحدِي ِد ۖ َحتَّ َٰى ِإذَا‬
‫َارا قَا َل آتُو ِني أ ُ ْف ِر ْغ َعلَ ْي ِه ِق ْط ًرا)‬
‫صدَفَي ِْن قَا َل ا ْنفُ ُخوا ۖ َحتَّ َٰى ِإذَا َجعَلَهُ ن ً‬
‫َس َاو َٰى بَيْنَ ال َّ‬
‫(الكهف‪.)96:‬‬

‫ومن التأييد بالرؤية المباشرة أيضا‪ ،‬ما أخرجه ابن ماجة عن بريدة رضي‬
‫هللا عنه قال‪ :‬ذهب بي رسول هللا ﷺ إلى موضع بالبادية قريب من مكة‬
‫بأرض يابسة حولها رمل فقال رسول هللا ﷺ «تخرج الدابة من هذا الموضع‬
‫فإذا فتر في سبخ» (‪ ،)250‬ومنه تشيبه عيسى بن مريم بعروة ابن مسعود في‬
‫الحديث الذي قال فيه رسول هللا ﷺ‪« :‬فيبعث هللا تعالي عيسى ابن مريم عليه‬
‫السالم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه ويهلكه» (‪.)251‬‬

‫ومنه تشبيه الدجال بقطن بن عبد العزى‪ ،‬كما في الحديث‪« :‬وأما مسيح‬
‫الضاللة فأنه أعور العين أجلى الجبهة عريض النحر فيه دفا ً كأنه قطن بن‬
‫عبد العزى‪ ،‬قال‪ :‬يا رسول هللا هل يضرني شبهه؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬أنت امرؤ مسلم‬
‫وهو رجل كافر» (‪.)252‬‬
‫التوازن بين الطمأنة والتحذير في عرض النبي للعالمة‬
‫ي رسول هللا ﷺ‬‫ومن ذلك حديث عائشة رضي هللا عنها إذ قالت‪ :‬دخل عل َّ‬
‫وأنا أبكي‪ ،‬فقال‪ :‬ما يبكيك؟ قلت‪ :‬يا رسول هللا ذكرت الدجال فبكيت‪ ،‬فقال‬
‫رسول هللا ﷺ‪« :‬إن يخرج وأنا حي كفيتكموه وإن يخرج الدجال بعدي فإن‬
‫(‪ )250‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )251‬أخرجه مسلم في (الفتن) باب‪ :‬خروج الدجال ومكثه في األرض «‪ / 301 / 9‬ح ‪ »2940‬من حديث عبد هللا بن‬
‫عمرو‪ ،‬وقد تقدم‪.‬‬
‫(‪ )252‬تقدم تخريجه‪ ،‬وهو من حديث النواس بن سمعان رضي هللا عنه الطويل‪.‬‬
‫ربكم عز وجل ليس بأعور‪ ،‬إنه يخرج في يهودية أصبهان» (‪.)253‬‬

‫ومن ذلك أيضا حديث أم سلمة قالت‪ :‬ذكرت المسيح الدجال فلم يأتني النوم‬
‫فلما أصبحت غدوت على رسول هللا ﷺ فأخبرته فقال‪« :‬ال تفعلي فإنه إن‬
‫يخرج وأنا فيكم يكفيكم هللا بي‪ ،‬وإن يخرج بعد أن أموت يكفيكموه‬
‫بالصالحين ثم قام فذكر الدجال فقال‪« :‬ما من نبي إال قد حذر أمته وأنا‬
‫أحذركموه أنه أعور وأن هللا ليس بأعور‪ ،‬إال أن المسيح الدجال كأنه عين‬
‫طافية» (‪.)254‬‬

‫وكذلك حديث أسماء بنت يزيد األنصارية قال‪ :‬كان رسول هللا ﷺ في بيتي‬
‫فذكر الدجال‪ ،‬قالت ثم خرج رسول هللا ﷺ لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام‬
‫وغم مما حدثهم‪ ،‬قالت‪ :‬فأخذ بحلقتي الباب وقال‪ :‬مه مه أسماء‪ ،‬قالت‪ :‬قلت‬
‫يا رسول هللا خلعت أفئدتنا بذِكر الدجال قال‪« :‬فإن يخرج وأنا حي فأنا‬
‫حجيجه وإال فإن ربي خليفتي على كل مؤمن» (‪.)255‬‬

‫وفي رواية مسلم‪ :‬عن المغيرة بن شعبة قال‪« :‬ما سأل أحد النبي ﷺ عن‬
‫الدجال أكثر ما سألته‪ ،‬قال‪ :‬وما سؤالك‪ ،‬قلت‪ :‬إنهم يقولون إن معه جباالً من‬
‫خبز ولحم‪ ،‬ونهرا ً من ماء؟ قال‪ :‬هو أهون على هللا من ذلك» (‪ ،)256‬قال‬
‫عياض‪ :‬معناه وهو أهون من أن يجعل ما يخلقه على يديه مضالً للمؤمنين‪،‬‬
‫ومشككا ً لقلوب الموقنين‪ ،‬بل ليزداد الذين أمنوا إيماناً‪ ،‬ويرتاب الذين في‬
‫قلوبهم مرض‪ ،‬وهو مثل قول الذي يقتله‪ :‬ما كنت أشد بصيرة مني‪ ،‬ال أن‬
‫قوله هو أهون عليه من ذلك‪ ،‬إنه ال شيء من ذلك معه‪.‬‬

‫ولعلنا نالحظ أن إجابة النبي ﷺ للمغيرة‪« :‬هو أهون على هللا من ذلك»‪،‬‬
‫كانت لما رأى النبي ﷺ المغيرة قلق من الدجال بصورة غير عادية‪ ،‬بدليل‬
‫أن المغيرة قال ما سأل أحد رسول هللا ﷺ عن الدجال أكثر مما سألته‪.‬‬

‫(‪ )253‬أخرجه أحمد في مسنده «‪ »75/6‬من حديث عائشة رضي هللا عنها‪.‬‬
‫(‪ )254‬أخرجه الطبراني في الكبير «‪ ،»569‬قال الهيثمي في المجمع «‪ .»351 / 7‬قال الذهبي‪ :‬أسناده قوي‪.‬‬
‫(‪ )254‬أخرجه أحمد في مسنده «‪ »455/6‬من حديث أسماء بنت يزيد وتقدم‪.‬‬
‫(‪ )255‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم برقم‪.)5236( :‬‬
‫ومن أحاديث الفزع‪ ،‬حديث الفزع من الت ُّرك‪ ،‬ما رواه األمام أحمد بن حنبل‬
‫في مسنده عن بريده قال‪ :‬كنت جالسا ً عند النبي ﷺ فسمعته يقول‪« :‬إن أمتي‬
‫ليسوقها قوم عراض الوجه صغار األعين كأن وجههم الجحف ثالث مرات‬
‫حتى يلحقوا بجزيرة العرب‪ ،‬أما السياقة األولى فينجوا من هرب منهم قال‪:‬‬
‫وكان بريدة ال يفارقه بعيران أو ثالثة ومتاع السفر واألسقية بعد ذلك للهرب‬
‫مما سمع من رسول هللا ﷺ من البالء من التُّرك» (‪.)257‬‬

‫وفي التوازنات بين الطمأنة والتحذير أيضا حديث النبي ﷺ‪« :‬كيف أنعم‬
‫وصاحب القرن قد التقم وحنا جبهته ينتظر متى يؤمر أن ينفخ‪ ،‬قيل‪ :‬قلنا‪ :‬يا‬
‫رسول هللا ما نقول يومئذ؟ قال‪ :‬قولوا حسبنا هللا ونعم الوكيل وعليه توكلنا»‬
‫(‪.)258‬‬
‫واآلن وبعد تحقيق الفهم واليقين يأتي األمر الثالث والخطير وهو قواعد‬
‫إسقاط العالمة على الواقع‪.‬‬

‫إسقاط العالمة على الواقع‬


‫العالمة معلومة لنا بالخبر في واقع لم يتحقق‪ ،‬والواقع معلوم لنا بمشاهدة ما هو‬
‫متحقق‪ ،‬والخلل في التوازن بين العالمة والواقع يأتي بمراعاة أحدهما على‬
‫حساب اآلخر‪.‬‬

‫وتجاوز هذا الخلل يتحقق بإحكام إسقاط العالمة على الواقع‪ ،‬ومن هذا‬
‫اإلحكام‪ :‬الحذر من التقييم المادي للعالمة‪ ،‬ولنضرب لذلك مثاال‪ :‬فمن‬
‫عالمات ظهور الدجال‪ :‬جفاف بحيرة طبرية‪ ،‬فإذا نظرنا إلى بحيرة طبرية‬
‫اآلن وجدنها تكاد تجف‪ ،‬فإذا نظرنا لتلك العالمة نظرة مادية‪ ،‬وقسنا الباقي‬
‫من الزمن الالزم لجفاف البحيرة‪ ،‬واعتبرناه هو الزمن الباقي لظهور‬
‫الدجال‪ ،‬واستنتجنا أن الدجال على وشك الظهور بهذا االعتبار‪ ،‬فإننا نكون‬
‫قد ارتكبنا خطأ‪ ،‬ألن الباقي من البحيرة هو المانع من تحقيق عالمة الجفاف‪،‬‬

‫(‪ )257‬أخرجه أحمد في مسنده «‪ »348 /5‬وأبو داود في (الفتن) باب‪ :‬في قتال الترك «‪ / 110/ 4‬ح ‪ )4305‬من حديث‬
‫بريدة عن أبه رضي هللا عنه‪.‬‬
‫(‪ )258‬أخرجه أحمد في مسنده «‪ »374/4‬من حديث زيد بن أرقم‪ ،‬وأخرجه أحمد في (مسنده) «‪ »7 / 3‬والترمذي في‬
‫(الفتن) ‪ /‬باب‪ :‬ما جاء في شأن الصور «‪ / 620 / 4‬ح ‪ »2431‬من حديث أبي سعيد رضي هللا عنه‪.‬‬
‫وهو أمر قدري غير مرهون بالمعدل الزمني الذي بدأ فيه جفاف البحيرة‪،‬‬
‫بل قد تمتلئ البحيرة بعد أن تكاد تجف‪.‬‬

‫ومن ناحية أخرى فإن الحديث نص على أن عالمة ظهور الدجال هو جفاف‬
‫بحيرة طبرية‪ ،‬ولم يدل النص على أن مجرد جفاف بحيرة طبرية سيتبعه‬
‫ظهور الدجال‪ ،‬ولكن دل على أن الدجال سيظهر وقد جفت بحيرة طبرية‪،‬‬
‫وبذلك لم يتحدد وقت جفاف البحيرة‪ ،‬ووقت ما بعد جفاف البحيرة الذي‬
‫يظهر فيه الدجال‪.‬‬

‫وأخطر عالمة تختل فيها أحكام إسقاط العالمات على الواقع «عالمة المهدي»‪،‬‬
‫والسبب في ذلك هو كثرة توافر الشروط الشخصية المحددة في صفاته‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫«أجلى الجبهة وأقنى األنف»‪ ،‬ومثل الرؤى التي يراها الناس ألحد األشخاص‬
‫توافق االسم‪ ،‬أو امتالء جوراً‪.‬‬

‫مما يجعل أهم أحكام إسقاط العالمات على الواقع هو رد العالمة إلى الُمح َكم‬
‫من شروطها‪ ،‬فمن شروط عالمة المهدي أي يخسف جيش ينبعث له في بيداء‬
‫المدينة‪ ،‬وهو أمر يستحيل حدوثه بصورة عارضة‪ ،‬ويستحيل خفاؤه‪،‬‬
‫ويستحيل تأويله أو خفاء معناه‪.‬‬

‫ومن هذه األحكام التوازن في توقُّع حدوث العالمة‪ ،‬فإن تحقُّق اليقين ينشأ‬
‫معه توقع زائد للحدوث‪ ،‬بحيث يصبح هذا التوقع الزائد مشكلة في ذاتها‪،‬‬
‫ولقد عبرت األحاديث عن هذه المشكلة بصورة كاملة‪ ،‬منها حديث جابر‬
‫قال‪« :‬هاجمت ريح حمراء بالكوفة‪ ،‬فجاء رجل ليس له هجير‪ :‬أال يا عبد‬
‫هللا بن مسعود جاءت الساعة‪ ،‬فقام وكان متكئا ً فقال‪ :‬إن الساعة ال تقوم حتى‬
‫ال يقسم ميراث وال يفرح بغنيمة» (‪.)259‬‬

‫(‪ )259‬أخرجه مسلم في (الفتن) «‪.»251 / 9‬‬


‫الباب الرابع‬

‫ى‬
‫القرآن‬
‫ي‬ ‫المنهج‬
‫ر ي‬ ‫التصور‬
‫األساس القرآني العام للعالمات‬
‫ولما كان القرآن كتاب اإليمان أي ليؤمن الناس‪ ،‬كان البد أن يكون للعالمات‬
‫باعتبارها أفعال هللا ليؤمن الناس أيضا ً أن يكون لها حيز ومساحة في هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬وكان من الضروري أن يكون ألهمية قضية العالمات تصور‬
‫قرآني واسع ولكننا فهمنا أن التصور القرآني للعالمات لم يتجاوز حدود‬
‫التطورات الكونية األخيرة والتي تحددت كالمقدمة بين يدي الساعة‪ ،‬مثل‬
‫السماء واألرض والنجوم والجبال والشمس والقمر‪ ،‬وكانت هذه المحدودية‬
‫ضمن ما فهمنا من أخطاء‪.‬‬

‫والدليل على ذلك هو المساحة القرآنية العظيمة التي ناقشت بصورة رائعة‬
‫عالمة الدجال ويأجوج ومأجوج وعيسى والدابة ابتداء‪ ،‬ثم تبعها التطورات‬
‫الكونية األخيرة‪.‬‬

‫ولعل اكتشاف هذه المساحة يعود إلى علم المناسبة‪« :‬علم مناسبة اآلية‬
‫باآلية» حيث أنشأت هذه المناسبة في هذا العلم موضوعية كاملة لكل‬
‫العالمات المذكورة‪ ،‬والسابقة علي التطورات الكونية المشهورة‪ ،‬ولعل‬
‫الخطأ في فهم العالمات في القرآن كان راجعا ً إلى التوقع الخاطئ بأن تمأل‬
‫ألفاظ الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة‪ ،‬آيات القرآن‪ ،‬ولكن الدخول في‬
‫التصور القرآني للعالمات سيكون هو الحكم علي ادعاء المساحة الواسعة‬
‫واألهمية العظمى للعالمات في القرآن‪ ،‬كما أنه سيكون الدليل علي الفهم‬
‫الخاطئ الذي ظل يبحث به أصحابه عن ألفاظ بحروفها ولم يجدوها‪.‬‬
‫وقبل طرح التصور هناك كلمة مهمة‪ ،‬وهي أن استقصاء التصور أكبر من‬
‫الطرح السريع للقضية في هذا الكتاب‪ ،‬لذا سنعطي مؤشرا ً ألبعاد القضية‪،‬‬
‫من خالل أمثلة من سور كاملة‪ ،‬مثل‪ :‬سورة الدخان وعالقتها بالدجال‪،‬‬
‫وسورة األنبياء وعالقتها بيأجوج ومأجوج‪ ،‬وسورة النمل وعالقتها بالدابة‪،‬‬
‫وسورة التوبة وعالقتها بالشمس‪.‬‬
‫أوال‪ :‬سورة الدخان والدجال‬
‫ب ْال ُم ِب ِ‬
‫ين) (الدخان‪.)2-1:‬‬ ‫(حم َو ْال ِكتَا ِ‬

‫لما كانت مقدمات ابن كثير للسور تحمل مضمونها العام ومعناها الجوهري‬
‫كانت المناسبة بين الدجال وسورة الدخان هي مقدمة ابن كثير للسورة‪.‬‬

‫إن هذا الكتاب المبين هو المواجهة الكاملة والحرز التام والعصمة النهائية‬
‫من الدجال‪ ،‬ومن هنا تبدأ أول مناسبة بين اختصاص أُبَي بن كعب‪ ،‬رضي‬
‫هللا عنه‪ ،‬بالذهاب مع رسول هللا إلى ابن صياد ليستطلع أمره‪ ،‬حيث أن أُبَي‬
‫بن كعب كان من كتاب الوحي‪ ،‬وصفة «المبين» هي التي بها تكون اإلبانة‬
‫والوضوح والشهادة‪ ،‬ليكون الحسم واليقين واالستقامة في قضايا الغيب‪،‬‬
‫وخصوصا قضية الدجال التي تحتوي الغموض في ذاتها وفي كل جوانبها‬
‫عن قصد إلهي يالئم موضوعها وهو الفتنة‪ ،‬فالعالقة بين الدجال وابن صياد‬
‫لم تحسم بنص صريح‪ ،‬حيث اكتفى النبي ﷺ بقوله لعمر‪« :‬إن يكن هو فلن‬
‫تسلط عليه»‪ ،‬كما أن إخبار النبي ﷺ عن مكان وجوده لم يكن يخلو من مثل‬
‫ذلك‪ ،‬حيث قال‪« :‬أال أخبركم بأنه في بحر الشام؟» ثم أغمي عليه ساعة‪ ،‬ثم‬
‫سري عنه‪ ،‬ثم قال‪« :‬بل هو في بحر اليمن»‪ ،‬ثم أغمي عليه ساعة‪ ،‬ثم سري‬
‫عنه‪ ،‬فقال‪« :‬هو في بحر العراق» ثالثا‪ ،‬وكذلك إخباره ﷺ عن مكان‬
‫خروجه لم يكن يخلو من مثل ذلك‪ ،‬حيث قال‪« :‬يخرج الدجال من ها هنا‪،‬‬
‫أو ها هنا‪ ،‬أو من هاهنا بل يخرج هاهنا ‪-‬يعني المشرق» (‪.)260‬‬

‫ومن هذه األحاديث تكون مناسبة وصف القرآن بأنه كتاب مبين‪ ،‬وهكذا يأتي‬
‫ذكر ليلة القدر والدجال في سياق واحد في هذا الحديث‪ ،‬لتتأكد مناسبة‬
‫السورة مع قضية الدجال‪ ،‬من خالل قوله تعالى‪ ﴿:‬إِنَّا أَ َ‬
‫نز ْلنَاهُ ِفي لَ ْيلَ ٍة ُّمبَ َ‬
‫ار َك ٍة‬
‫سأ ْ فَإِنَّك لَ ْن ت َ ْس ِبقَ ْالقَدَ َر»‬
‫اخ َ‬ ‫ين﴾(الدخان‪ ،)3:‬ومن خالل كلمة « ْ‬ ‫ِإنَّا ُكنَّا ُمنذ ِِر َ‬
‫الواردة في الحديث‪ ،‬ليتأكد أن تقدير هللا عز وجل وبصفة أساسية من خالل‬
‫قضية الدجال‪ ،‬هو موضوع السورة‪ ،‬وليدل على أن أساس التعامل مع فتنة‬
‫الدجال هو التسليم التام بقدر هللا عز وجل‪.‬‬

‫(‪ )260‬أخرجه الحاكم في المستدرك «ج ‪ / 20‬ص ‪.»8755 – 13‬‬


‫ومن هنا تعددت الروايات التي تناقش هذه العالقة بين الدجال والقدر‪ ،‬فعَ ْن‬
‫صيَّادٍ‪« :‬ماذا ترى‪ ،‬قال ابن صياد‪:‬‬‫سو ُل هللاِ ﷺ قَال الب ِْن َ‬
‫ابن عمر أن َر ُ‬
‫يأتيني صادق وكاذب‪ ،‬فقال النبي ﷺ‪ :‬خلط عليك األمر‪ ،‬ثم قال له النبي ﷺ‪:‬‬
‫إني قد خبأت لك خبيئا‪ ،‬فقال ابن صياد‪ :‬هو الدخ‪ ،‬فقال‪ :‬اخسأ فلن تعدو‬
‫قدرك‪ ،‬فقال عمر رضي هللا عنه‪ :‬دعني يا رسول هللا أضرب عنقه‪ ،‬فقال‬
‫النبي ﷺ‪ :‬إن يكنه فلن تسلط عليه‪ ،‬وإن لم يكنه فال خير لك في قتله» (‪.)261‬‬

‫وفي حديث آخر يقول النبي ﷺ‪« :‬إن لكل أمة مجوساً‪ ،‬وإن مجوس هذه‬
‫األمة الذين يقولون ال قدر‪ ،‬فمن مرض منهم فال تعودوه‪ ،‬ومن مات منهم‬
‫فال تشهدوه‪ ،‬وهم شيعة الدجال‪ ،‬وحق على هللا عز وجل أن يلحقهم به»‬
‫(‪.)262‬‬
‫قال اإلمام ابن األثير في «النهاية في غريب األثر»‪ :‬إنما َج َعلَهم ـ أي القدرية‬
‫صلَين وهما النور‬ ‫مذهب ال َمجوس في قولهم باأل ْ‬ ‫َ‬ ‫ـ َم ُجوسا ً ِل ُمضاهاة َم ْذهَبهم‬
‫الظ ْلمة‪ ،‬وكذا‬
‫والشر من ف ِعل َّ‬
‫َّ‬ ‫أن الخير من فِ ْعل النور‪،‬‬ ‫عمون َّ‬ ‫والظ ْلمة‪ ،‬يَ ْز ُ‬
‫ُّ‬
‫والشيطان‪ ،‬وَّللا تعالى‬
‫ِ‬ ‫والشر إلى اإلنسان‬
‫َّ‬ ‫ضيفون الخير إلى َّللا‪،‬‬ ‫القَدَ ِرية يُ ِ‬
‫خا ِلقُهما معاً‪ ،‬وال يكون شي ٌء منهما إالَّ ب َمشِيئتِه‪ ،‬فهما مضافان إليه خ َْلقا ً‬
‫ع َمالً وا ْكتِسابا»‪.‬‬
‫وإيجاداً‪ ،‬وإلى الفا ِعلين لهما َ‬

‫ومن العالقة بين القَدَر والدجال كانت المناسبة بينه وبين ليلة الق ْدر‪ ،‬حيث جمع‬
‫رسول هللا ﷺ بينهما في الحديث الذي قال فيه رسول هللا ﷺ‪« :‬خرجت إليكم‬
‫وقد تبينت ليلة القدر ومسيح الضاللة‪ ،‬فكان يلوح بين رجلين بسدة المسجد‬
‫فأتيتهما ألحجز بينهما فأنسيتهما‪ ،‬وأما ليلة القدر فالتمسوها في العشر األواخر‬
‫وتراً‪ ،‬وأما مسيح الضاللة فإنه أعور العين‪ ،‬أجلى الجبهة‪ ،‬عريض النحر‪ ،‬فيه‬
‫دفا‪ ،‬كأنه قطن بن عبد العزى» قال‪ :‬يا رسول هللا هل يضرني شبهه؟ قال‪:‬‬
‫«ال‪ ،‬أنت امرؤ مسلم وهو رجل كافر»‪.‬‬

‫(‪ )261‬أخرجه البخاري‪.)6158( ،‬‬


‫(‪ )262‬أخرجه أبو داود‪ ،‬والبيهقي في السنن الكبرى «ج ‪ / 10‬ص ‪.»203‬‬
‫ويكون تعبير رسول هللا ﷺ في حديثه عن ليلة القدر والدجال مناسبا لمعنى‬
‫التبيين‪ ،‬حيث قال‪« :‬وقد تبينت ليلة القدر ومسيح الضاللة» (‪ ،)263‬وقد أكد‬
‫النبي ﷺ علة نسيانه بيان ليلة القدر والدجال بسبب المالحاة بين رجلين‪،‬‬
‫ذلك ألن المالحاة من جنس الحال الذي سيكون عليه الناس عند ظهور‬
‫الدجال‪ ،‬كما أكدته عدة روايات‪ ،‬منها ما رواه أبو هريرة قال‪ :‬أحدثكم ما‬
‫سمعت من رسول هللا ﷺ الصادق المصدوق‪ ،‬حدثنا رسول هللا أبو القاسم‬
‫الصادق المصدوق‪« :‬إن األعور الدجال مسيح الضاللة يخرج من قبل‬
‫المشرق‪ ،‬في زمان اختالف من الناس وفرقة» (‪.)264‬‬

‫وعن الحسين بن علي رضي هللا عنه أن رسول هللا ﷺ لما خبأ البن صائد‬
‫دخانا ً سأله عما خبأ له فقال‪ :‬دخ فقال‪« :‬اخسأ فلن تعدو أجلك»‪ ،‬فلما ولى‬
‫رسول هللا ﷺ قال القوم‪ :‬ماذا قال؟ قال بعضهم‪ :‬دخ‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬بل زخ‪،‬‬
‫فقال رسول هللا ﷺ‪« :‬هذا وأنتم معي تختلفون‪ ،‬فأنتم بعدي أشد اختالفا»‬
‫(‪.)265‬‬
‫وجاء ذكر ليلة القدر بهذه الصفة‪« :‬الليلة المباركة»‪ ،‬ليمثل المعنى األول‬
‫للتقابل مع الدجال‪ ،‬ألن البركة تمام الخير والنعم‪ ،‬والدجال شر وجدب‪ ،‬وفقر‬
‫وجوع‪ ،‬وخوف ورعب‪ ،‬والبركة نفع‪ ،‬والدجال ال نفع فيه» (‪.)266‬‬

‫فذكر الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ضرورة عقَدِية لتصور‬
‫أعمال الدجال تصورا ً صحيحا ً‪ ،‬واإلبانة واالستقامة الموصوف بهما‬
‫ين)‬‫ب ْال ُم ِب ِ‬ ‫الكتاب‪ ،‬أي القرآن‪ ،‬والواردتان في آية الدخان‪َ ( :‬و ْال ِكتَا ِ‬
‫ع ْب ِد ِه ْال ِكتَ َ‬
‫اب َولَ ْم يَ ْج َع ْل‬ ‫(الدخان‪ )2:‬وآية الكهف‪ْ ( :‬ال َح ْمدُ ِ َّّلِلِ الَّذِي أَ ْنزَ َل َ‬
‫علَ َٰى َ‬
‫لَهُ ِع َو ًجا ۜ) (الكهف‪ ،)1:‬تتطلبان في مواجهة الدجال إثبات المقتضى الواقعي‬
‫لهما‪ ،‬وهو الفرقان في الواقع بالرسالة‪ ،‬والنبوة التي يتحقق بها هذا الفرقان‬
‫في حياة الناس‪ ،‬مثلما كان الفرقان في القدر اإللهي المحكم‪.‬‬

‫(‪ )263‬مجمع الزوائد للهيثمي‪.‬‬


‫(‪ )264‬رواه ابن حبان ج ‪ 15‬ص ‪ ،223‬وقال شعيب األرناؤوط‪ :‬إسناده قوي‪.‬‬
‫(‪ )265‬مجمع الزوائد للهيثمي‪.‬‬
‫ُث أَبَ َوا ال َّدجَّا ِل ثَالَثِينَ عَاما الَ يُو َل ُد لَ ُه َما ث َّمُ‬
‫(‪ )266‬وهو الوصف الذي وصف به رسول هللا ﷺ الدجال حين قال عنه‪« :‬يَ ْمك ُ‬
‫غالَ ٌم أَع َْو ُر أَض َُّر ش َْىءٍ َوأَقَلُّهُ نَ ْفعا تَنَا ُم َ‬
‫ع ْي َنا ُه َوالَ يَ َنا ُم َق ْلبُهُ» رواه أحمد برقم‪.)20013( :‬‬ ‫يُولَ ُد َل ُه َما ُ‬
‫ولقد كان ارتباط الدجال بالدخان جانبا أساسيا للمقارنة بين الدجال وليلة‬
‫القدر‪ ،‬وهي صفة الليلة المقابلة للدخان‪.‬‬

‫فمن أهم جوانب التقابل بين ليلة القدر والدخان‪ :‬وصف النبي ﷺ لصفاتها‬
‫الكونية المقابلة تماما ً للدخان بمثل قوله‪« :‬إن أمارة ليلة القدر أنها صافية‬
‫قمرا ساطعًا‪ ،‬ساكنة سجية‪ ،‬ال برد فيها وال حر‪ ،‬وال يحل‬ ‫بَ ْل َجة‪ ،‬كأن فيها ً‬
‫لكوكب يُر َمى به فيها حتى تصبح‪ ،‬وأن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج‬
‫مستوية‪ ،‬ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر‪ ،‬وال يحل للشيطان أن يخرج‬
‫سها‬‫ش ْم ُ‬ ‫اردَة ٌ يُ ْ‬
‫ص ِب ُح َ‬ ‫ارة ٌ َو َال َب ِ‬‫ط ْلقَةٌ َال َح َّ‬
‫س ْم َحةٌ َ‬
‫معها يومئذ»(‪ ،)267‬وقال‪« :‬لَ ْيلَةٌ َ‬
‫صبِ ُح ْالغَدَ‬
‫س تُ ْ‬ ‫ش ْم َ‬ ‫ض ِعيفَةً َح ْم َرا َء»(‪ ،)268‬وقال‪َ ...« :‬وآيَةُ ذَ ِل َك أَ َّن ال َّ‬ ‫ص ِبي َحتَ َها َ‬ ‫َ‬
‫ْس لَ َها ُ‬‫ِم ْن تِ ْل َك اللَّ ْيلَ ِة ت َ َر ْق َر ُق لَي َ‬
‫(‪)269‬‬
‫شعَاعٌ » ‪.‬‬

‫ولما كان الفرقان يتنافى مع الدجال وأفعاله‪ ،‬كان من مقتضيات الرسالة‬


‫وواجب كل رسول أن ينذر أمته من هذه العالمة‪ ،‬ألن هذا اإلنذار أهم‬
‫مقتضيات ذلك الفرقان‪﴿ :‬إِنَّا ُكنَّا ُمنذ ِِرينَ ﴾ (الدخان‪ ،)3:‬وقد تحقق معنى‬
‫اإلنذار اإللهي في قضية الدجال مع عالمات الساعة األساسية‪ ،‬كما قال‬
‫رسول هللا ﷺ‪« :‬إن ربكم أنذركم ثالثاً‪ :‬الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة‪ ،‬ويأخذ‬
‫الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه‪ ،‬والثانية الدابة والثالثة‬
‫الدجال»(‪ ،)270‬وقال ﷺ أيضاً‪« :‬ما ينتظر أحدكم إال ِغنًى ُم ْ‬
‫ط ِغياً‪ ،‬أو فقرا‬
‫منسيا‪ ،‬أو مرضا مفسدا‪ ،‬أو هرما مفندا‪ ،‬أو موتا مجهزا‪ ،‬أو الدجال والدجال‬
‫شر غائب ينتظر‪ ،‬أو الساعة والساعة أدهى َوأَ َمر»(‪.)271‬‬

‫(فِي َها يُ ْف َر ُق ُك ُّل أَ ْم ٍر َح ِك ٍيم) (الدخان‪.)4:‬‬


‫يقول اإلمام ابن كثير‪« :‬وقوله‪ِ ( :‬في َها يُ ْف َر ُق ُك ُّل أَ ْم ٍر َح ِك ٍيم) أي في ليلة القدر من اللوح‬
‫المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة‪ ،‬وما يكون فيها من اآلَجال واألرزاق وما يكون فيها‬
‫إلى آخرها» (‪.)272‬‬
‫(‪ )267‬مسند أحمد بن حنبل (‪.)22153‬‬
‫(‪ )268‬مسند أبي داود (‪.)2793‬‬
‫(‪ )269‬سند أحمد بن حنبل (‪)20692‬‬
‫(‪ )270‬تفسير القرآن العظيم البن كثير‪.‬‬
‫(‪ )271‬شرح السنة للبغوي‬
‫(‪ )272‬تفسير القرآن العظيم البن كثير‪.‬‬
‫ومن الضروري إثبات أن اآلجال واألرزاق من أمر هللا المحكم‪ ،‬ألنه ستكون‬
‫للدجال فتنة في هذا األمر‪ ،‬كما أن أفعال الدجال من حيث اإلحياء واإلماتة‬
‫ومن حيث الرزق والذهب وجبال الخبز وسمن مواشي من يفتن به‪ ،‬وجوع‬
‫من يكفر به‪ ،‬تتطلب حسما إيمانيا ً في قضية األجل والرزق‪.‬‬

‫ومن الضروري كذلك إثبات أن قدر هللا يكون كل عام في ليلة القدر‪ ،‬ألن‬
‫هذه الحقيقة هي التي تثبت أن بقاء الدجال إلى آخر الزمان سيكون محكوما ً‬
‫بقدر هللا‪ ،‬وأن كل عام يعيشه الدجال حتى ظهوره في آخر الزمان محكوم‬
‫بقدر هللا سبحانه‪ ،‬وأن بقاء الدجال حتى هذا الوقت ال يخرجه عن تقدير هللا‬
‫وإحكامه‪.‬‬

‫يقول اإلمام ابن حجر في الفتح‪ :‬قَ ْوله‪« :‬فَلَ ْن تَ ْعدُو قَ ْدرك» أ َ ْ‬
‫ي لَ ْن ت ُ َجا ِوز َما‬
‫َّللا فِيك أَ ْو ِم ْقدَار أَ ْمثَالك ِم ْن ْال ُك َّهان» (‪ ،)273‬وعن هشام بن عامر قال‪:‬‬ ‫قَد ََّر َّ‬
‫سمعت رسول هللا ﷺ يقول‪« :‬ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من‬
‫خلق الدجال» (‪.)274‬‬

‫و كلمة «يفرق» الواردة في اآلية معناها يقدر ولكن جاء بلفظ يفرق الذي‬
‫يثبت الفرق بين األمر الحكيم وبين أفعال الدجال‪ ،‬وكلمة‪« :‬حكيم» أي محكم‬
‫ال يبدل وال يغير‪ ,‬ولهذا قال جل جالله «أمرا ً من عندنا» أي جميع ما يكون‬
‫ويقدره هللا تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه وكلمة «حكيم» هنا لها‬
‫مناسبة مع الدجال ألن أعمال الدجال قد تبدو خارج معنى اإلحكام‪ ،‬مثل أن‬
‫تكون ناره جنة‪ ،‬وجنته نار‪ ،‬ومثل تمثل الشياطين في صورة اآلباء‪ ،‬فكل‬
‫أعمال الدجال‪ ،‬في أمر هللا المحكم ال تخرج عن معنى الفتنة‪ ،‬فكان البد من‬
‫إثبات أن اإلحياء واإلماتة على وجه الحقيقة هي هلل‪ ،‬وإن كان الدجال سيقتل‬
‫رجالً ثم يحييه‪ ،‬فإنما سيكون ذلك بأمر هللا‪ ،‬فتنة وابتال ًء‪.‬‬

‫(‪ )273‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪.‬‬


‫(‪ )274‬صحيح مسلم‪.‬‬
‫والبد أن نؤمن باإلحكام في أقدار هللا؛ حتى ال نتساءل عن األجل المكتوب‬
‫فيمن يميته الدجال ثم يحييه‪ ،‬فاهلل يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‪.‬‬

‫(أَ ْم ًرا ِم ْن ِع ْن ِدنَا ۚ إِنَّا ُكنَّا ُم ْر ِس ِلينَ ) (الدخان‪.)5:‬‬

‫ويتمم معنى كلمة «يُ ْف َر ُق» وكلمة « َح ِك ٍيم» كلمة «أَ ْم ًرا ِم ْن ِعن ِدنَا»‪ ،‬فكما‬
‫عالجت اآلية السابقة أمر الفرقان واإلحكام‪ ،‬تعالج هذه اآلية أمرا آخر وهو أن‬
‫أعمال الدجال بكل ما يوهم فيها بأن الدجال يملك أمورا ليست للبشر‪ ،‬ال تخرج‬
‫عن قدر هللا‪ ،‬مما يتطلب اإليمان بأن ذلك من أمر هللا‪ ،‬ومن عند هللا‪ ،‬ومن هنا‬
‫كان قول هللا في اآلية‪« :‬أَ ْم ًرا ِم ْن ِعن ِدنَا»‪.‬‬

‫﴿ ِإنَّا ُكنَّا ُم ْر ِس ِلينَ ﴾‪.‬‬

‫والرسالة هي المواجهة الكاملة مع الدجال‪ ،‬ولهذا قال رسول هللا ﷺ‪« :‬إن‬
‫يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجكم‪ ،‬وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج‬
‫نفسه‪ ،‬وهللا خليفتي على كل مسلم» (‪ ،)275‬ولكن الفرقان واإلحكام في أمر‬
‫هللا يقتضي أال يُترك الناس لهذه الفتنة‪ ،‬فكان البد من إرسال المرسلين‪.‬‬

‫فالرسالة والنبوة هي التي تحقق في حياة الناس الفرقان‪ ،‬ولما كان الفرقان‬
‫يتنافى مع الدجال وأفعاله‪ ،‬كان من واجب الرسالة أن يحذر كل رسول أمته‬
‫من هذه العالمة‪ ،‬ليكون هذا التحذير أهم مقتضيات هذا الفرقان‪.‬‬

‫كما قال النبي ﷺ‪« :‬ما من نبي إال وقد أنذر أمته األعور الكذاب‪ ،‬أال إنه‬
‫أعور‪ ،‬وإن ربكم ليس بأعور‪ ،‬ومكتوب بين عينيه ك ف ر» (‪.)276‬‬

‫ومن هنا كان التبيين الكامل من الرسول ﷺ لوصف الدجال من البداية حتى‬
‫يقتله عيسى ابن مريم‪ ،‬بتفصيل لم يكن في أي قضية أخرى‪ ،‬مثل تفصيله‬
‫في وصف الفوارس التي ستستطلع أمر الدجال بعد الملحمة‪ ،‬حيث يصفهم‬

‫(‪ )275‬مجمع الزوائد للهيثمي‪.‬‬


‫(‪ )276‬صحيح مسلم رقم ‪2933‬‬
‫النبي ﷺ قائال‪«« :‬إني ألعرف أسمائهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم‪ ،‬هم‬
‫خير فوارس على ظهر األرض يومئذ» (‪ ،)277‬ومثل صفة الشاب الذي‬
‫سيقتله الدجال ثم يعجز عن موته مرة أخرى‪ ،‬ومثل كيفية قتل عيسى للدجال‪،‬‬
‫ومكان قتله‪ ،‬وأداة قتله‪ ،‬وكيفية قتله‪.‬‬

‫س ِمي ُع ْال َع ِلي ُم) (الدخان‪.)6:‬‬


‫( َر ْح َمةً ِم ْن َر ِب َك ۚ ِإنَّهُ ُه َو ال َّ‬

‫ولم يقل هو «الغفور الرحيم»‪ ،‬مع أن التعقيب إنما جاء على ذكر الرحمة‬
‫الربانية‪ ،‬وذلك لداللة اسم «السميع العليم» على الجانب الغيبي في موضوع‬
‫الرحمة‪ ،‬وهو قضية الدجال الغيبية‪ ،‬فاإلنذار رحمة من هللا ألنه نجاة من‬
‫س ِمي ُع ْالعَ ِلي ُم ﴾المحيط بغيب الدجال‪ ،‬وهو سبحانه‬ ‫الفتنة‪ ،‬ولكنه رحمة من﴿ ال َّ‬
‫القادر وحده على إنزال الكتاب المبين‪ ،‬القادر وحده على تحقيق الفرقان‪،‬‬
‫كما قال النبي ﷺ‪« :‬ما من نبي إال وأنذر أمته الدجال وأنا أزيدكم فيه تحذيرا ً»‬
‫(‪.)278‬‬
‫ض َو َما بَ ْينَ ُه َما ۖ إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُموقِنِينَ ) (الدخان‪.)7:‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س َم َاوا ِ‬
‫ب ال َّ‬‫( َر ِ‬

‫واإليمان برب السماوات واألرض هو أهم حقائق االعتقاد التي تبرز أمام‬
‫أعمال الدجال؛ ألن حركة الدجال وآثاره في الوجود الكوني ال تخرج عن‬
‫حقيقة الربوبية الكاملة الشاملة هلل عز وجل في السماوات واألرض‪ ،‬حيث‬
‫ستكون أعمال الدجال ذات آثار خطيرة في السماوات واألرض‪ ،‬مثل أمره‬
‫للسماء بالمطر فتمطر‪ ،‬ومتابعة كنوز الذهب له كيعاسيب النحل‪ ،‬وأن يكون‬
‫معه جبال خبز‪ ،‬وجنة ونارا‪.‬‬

‫ومن هنا كان تعظيم اليهود للدجال وآثاره الكونية‪ ،‬ومواجهة هذا التعظيم‬
‫ت َّ‬
‫َّللاِ بِغَي ِْر‬ ‫كما ورد في تفسير قول هللا عز وجل‪( :‬إِ َّن الَّذِينَ يُ َجا ِدلُونَ فِي آ َيا ِ‬
‫اّلِلِ ۖ ِإنَّهُ ُه َو‬ ‫ُور ِه ْم ِإ َّال ِكب ٌْر َما ُه ْم ِببَا ِل ِغي ِه ۚ فَا ْستَ ِع ْذ ِب َّ‬
‫صد ِ‬ ‫ان أَتَا ُه ْم ۙ ِإ ْن فِي ُ‬
‫ط ٍ‬‫س ْل َ‬
‫ُ‬
‫اس َو َٰلَ ِك َّن أَ ْكث َ َر‬ ‫ق النَّ ِ‬ ‫ض أَ ْكبَ ُر ِم ْن خ َْل ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫صير لَخ َْل ُق ال َّ‬
‫س َم َاوا ِ‬ ‫س ِمي ُع ْالبَ ِ‬
‫ال َّ‬
‫اس َال يَ ْعلَ ُمونَ ) (غافر‪.)57-56:‬‬ ‫النَّ ِ‬

‫(‪ )277‬صحيح مسلم رقم ‪2899‬‬


‫(‪ )278‬صحيح الجامع‪.‬‬
‫ع ْنهُ‪ ،‬قَا َل‪ِ « :‬إ َّن ْاليَ ُهودَ‬ ‫ي َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫ض َ‬ ‫ع ْن أَ ِبي ْال َعا ِليَ ِة‪َ ،‬ر ِ‬‫روى اإلمام ابن أبي حاتم َ‬
‫ون ِم ْن أ َم ِر ِه‬ ‫ان‪َ ،‬ويَ ُك ُ‬ ‫آخ ِر َّ‬
‫الز َم ِ‬ ‫ي ﷺ‪ ،‬فَقَالُوا‪ :‬إِ َّن الدَّ َّجا َل يَ ُكونَ ِمنَّا فِي ِ‬ ‫أَتَ ُوا النَّبِ َّ‬
‫ت َّ‬
‫َّللاِ‬ ‫َّللاُ‪ِ « :‬إ َّن الَّذِينَ يُ َجا ِدلُونَ ِفي آ َيا ِ‬
‫ض ُع َكذَا‪ ،‬فَأ َ ْنزَ َل َّ‬ ‫ظ ُموا أ َ ْم َرهُ‪َ ،‬وقَالُوا‪ِ :‬ب ْ‬ ‫فَ َع َّ‬
‫ُور ِه ْم ِإال ِكب ٌْر َما ُهم ِب َبا ِل ِغي ِه»‪ ،‬قَا َل‪« :‬ال َي ْبلُ ُغ‬ ‫صد ِ‬ ‫ان أَتَا ُه ْم إِ ْن فِي ُ‬ ‫س ْل َ‬
‫ط ٍ‬ ‫ِبغَي ِْر ُ‬
‫اّلِلِ»‪ ،‬فَأ َ َم َر نَ ِبيَّهُ ﷺ أَ ْن يَتَ َع َّوذَ ِم ْن فِتْنَ ِة الدَّ َّجا ِل «لَخ َْل ُق‬
‫الَّذِي يَقُو ُل»‪« :‬فَا ْست َ ِع ْذ ِب َّ‬
‫ار‪،‬‬ ‫ب ْاأل َ ْحبَ ِ‬‫ع ْن َك ْع ِ‬ ‫اس»‪ :‬الدَّ َّجا ِل»‪ ،‬و َ‬ ‫ق النَّ ِ‬ ‫ض أَ ْكبَ ُر ِم ْن خ َْل ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫س َم َاوا ِ‬ ‫ال َّ‬
‫ان»‪،‬‬ ‫ط ٍ‬‫س ْل َ‬ ‫ت َّ‬
‫َّللاِ ِبغَي ِْر ُ‬ ‫ع ْنهُ‪ِ ،‬في قَ ْو ِل ِه‪ِ « :‬إ َّن الَّذِينَ يُ َجا ِدلُونَ ِفي آ َيا ِ‬ ‫ي َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫ض َ‬ ‫َر ِ‬
‫ت فِي ِه ْم فِي َما َي ْنت َ ِظ ُرونَهُ ِم ْن أَ ْم ِر الدَّ َّجال»(‪.)279‬‬ ‫قَا َل‪ُ :‬ه ُم ْال َي ُهودُ نَزَ لَ ْ‬

‫قال أهل التفسير (‪ :)280‬نزلت في اليهود‪ ،‬وذلك أنهم قالوا للنبي ﷺ‪« :‬إن‬
‫صاحبنا المسيح بن داوود ‪-‬يعنون الدجال‪-‬يخرج في آخر الزمان‪ ،‬فيبلغ‬
‫سلطانه في البر والبحر‪ ،‬وفي رواية‪« :‬فيخوض البحر‪ ،‬وتجري معه‬
‫األنهار»‪ ،‬ويرد الملك إلينا‪ ،‬قال هللا تعالى‪« :‬فَا ْستَ ِع ْذ ِب َّ‬
‫اّلِلِ» من فتنة الدجال‪،‬‬
‫صير»‪ ،‬قال الكلبي ومقاتل‪« :‬لَخ َْل ُق السماوات واألرض»‬ ‫س ِمي ُع ْالبَ ِ‬
‫«إِنَّه ُه َو ال َّ‬
‫أعظم من خلق الدجال‪.‬‬

‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َو َما بَ ْينَ ُه َما ۖ ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُموقِنِينَ ) (الدخان‪.)7:‬‬ ‫س َم َاوا ِ‬
‫ب ال َّ‬
‫( َر ِ‬

‫ومناسبة اليقين هنا ال تفهم إال بحادثة قتل الدجال للشاب‪ ،‬ومن هنا وصف‬
‫الرسول ﷺ شهادة هذا الشاب الذي سيقتله الدجال بأنها أعظم شهادة عند‬
‫رب العالمين‪ ،‬ألن هللا عز وجل قد جعل عجز الدجال عن قتل الشاب مرة‬
‫دليالً على معنى الفتنة في إحياء الدجال للميت‪ ،‬كما جاء في الحديث‪:‬‬
‫«يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين‪ ،‬فتلقاه المسالح‪ ،‬مسالح‬
‫الدجال‪ ،‬فيقولون له‪ :‬أين تعمد؟ فيقول‪ :‬أعمد إلى هذا الذي خرج‪ ،‬قال‬
‫فيقولون له‪ :‬أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول‪ :‬ما بربنا خفاء‪ ،‬فيقولون‪ :‬اقتلوه‪ ،‬فيقول‬
‫بعضهم لبعض‪ :‬أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدا دونه‪ ،‬قال فينطلقون به‬

‫(‪ )279‬تفسير ابن أبي حاتم والدر المنثور وفتح القدير‪.‬‬


‫(‪ )280‬تفسير القرطبي (ج ‪ / 15‬ص ‪ )284‬تفسير البغوي (ج ‪ / 7‬ص ‪ )153‬فتح القدير (ج ‪ / 6‬ص ‪ ،)334‬بحر العلوم‬
‫للسمرقندي (ج ‪ / 4‬ص ‪ )62‬الدر المنثور (ج ‪ / 9‬ص ‪).11‬‬
‫إلى الدجال‪ ،‬فإذا رآه المؤمن قال‪ :‬يا أيها الناس‪ ،‬هذا الدجال الذي ذكر رسول‬
‫هللا ﷺ‪ ،‬قال فيأمر الدجال به فيشبح‪ ،‬فيقول‪ :‬خذوه وشجوه‪ ،‬فيوسع ظهره‬
‫وبطنه ضربا‪ ،‬قال فيقول‪ :‬أو ما تؤمن بي؟ قال فيقول‪ :‬أنت المسيح الكذاب‪،‬‬
‫قال فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه‪ ،‬قال ثم‬
‫يمشي الدجال بين القطعتين‪ ،‬ثم يقول له‪ :‬قم‪ ،‬فيستوي قائما‪ ،‬قال ثم يقول له‪:‬‬
‫أتؤمن بي؟ فيقول‪ :‬ما ازددت فيك إال بصيرة‪ ،‬قال ثم يقول‪ :‬يا أيها الناس‪ ،‬إنه‬
‫ال يفعل بعدي بأحد من الناس‪ ،‬قال فيأخذه الدجال ليذبحه‪ ،‬فيجعل ما بين رقبته‬
‫إلى ترقوته نحاسا‪ ،‬فال يستطيع إليه سبيال‪ ،‬قال فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به‪،‬‬
‫فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار‪ ،‬وإنما ألقي في الجنة‪ ،‬فقال رسول هللا ﷺ‪:‬‬
‫هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين» (‪.)281‬‬

‫أعظم الناس شهادة‪ :‬ألن يقينه كان كامال‪ ،‬وألنه واجه الدجال في قمة سلطانه‬
‫كما يواجه الرجل أي صاحب سلطة‪ ،‬ليكون إذا قتله سيدا ً للشهداء‪ ،‬وألنه‬
‫آمن بقول الرسول ﷺ في الدجال حتى آخر الزمان‪ ،‬ولم يباعد الزمان بينه‬
‫وبين اليقين بالنص‪ ،‬وبقول رسول هللا ﷺ أن الدجال لن يمكن منه مرة‬
‫أخرى‪ ،‬وألنه بعد القتل واإلحياء ما ازداد إال بصيرة‪ ،‬وألنه أعلن على الناس‬
‫هذا اليقين ليؤمنوا مثلما آمن‪ ،‬أما قدرة هللا عز وجل فهي القدرة الدائمة‪.‬‬

‫( َال إِ َٰلَهَ إِ َّال ُه َو يُ ْحيِي َويُ ِميتُ ۖ َربُّ ُك ْم َو َر ُّ‬


‫ب آبَائِ ُك ُم ْاأل َ َّو ِلينَ ) (الدخان‪.)8:‬‬

‫إن اآلية التي تثبت هلل عز وجل القدرة على اإلحياء واإلماتة بإطالق إنما‬
‫تحدد فارقا ً جوهريا ً بين قدرة هللا وفتنة الدجال في هذا األمر‪.‬‬
‫َال إِلَهَ إِ َّال ُهو‪ ،‬ليس أحد سواهَ‪ ،‬ال يُ ْحيِي الدجال وال َيُ ِميتُ على وجه الحقيقة‪،‬‬
‫بل على وجه الفتنة‪ ،‬وكما كانت لقول هللا ( َال ِإ َٰلَهَ إِ َّال ُه َو يُ ْح ِيي َويُ ِميتُ ) داللة‬
‫ب آ َبائِ ُك ُم ْاأل َ َّو ِلينَ )‪،‬‬ ‫في مواجهة فتنة الدجال‪ ،‬كذلك يكون لقول هللا‪َ ( :‬ربُّ ُك ْم َو َر ُّ‬
‫وهذه الداللة يفسرها قول رسول هللا ﷺ‪َ « :‬و ِإ َّن ِم ْن فِتْنَتِ ِه أ َ ْن يَقُو َل ألَع َْرا ِب ٍى‬
‫َان‬
‫طان ِ‬‫ش ْي َ‬ ‫اك َوأ ُ َّم َك أَت َ ْش َهدُ أَنِى َرب َُّك فَيَقُو ُل نَعَ ْم‪ ،‬فيَت َ َمث َّ ُل لَهُ َ‬
‫ْت إِ ْن بَعَثْتُ لَ َك أَبَ َ‬
‫أَ َرأَي َ‬
‫ى اتَّبِ ْعهُ فَإِنَّهُ َرب َُّك»(‪.)282‬‬‫ور ِة أَبِي ِه َوأ ُ ِم ِه فَ َيقُوالَ ِن‪َ :‬يا بُنَ َّ‬
‫ص َ‬ ‫في ُ‬

‫(‪ )281‬صحيح مسلم الرقم ‪2938‬‬


‫(‪ )282‬صحيح الجامع (‪.)7875‬‬
‫فربوبية هللا عز وجل لهؤالء الناس وآلبائهم األولين هي التي تحقق‬
‫االطمئنان على المصير وليس الشياطين المتمثلين في صورة اآلباء‪ ،‬وإن‬
‫خرج علينا من يقول وهو في صورة هؤالء اآلباء‪« :‬الدجال ربكم»‪ ،‬نقول‬
‫له‪ :‬هللا ربنا ورب آبائنا األولين‪ ،‬حتى لو تمثلت الشياطين وأتباع الدجال في‬
‫صورة آبائنا األولين‪.‬‬

‫( َب ْل ُه ْم ِفي ش ٍَك يَ ْل َعبُونَ ) (الدخان‪.)9:‬‬

‫ومع كل موجبات اليقين والحذر وكل أسبابه الالزمة لمواجهة الفتنة‪« :‬هم‬
‫في شك» ومع خطورة األمر وعظم القضية‪« :‬هم يلعبون» وهذا هو المدخل‬
‫إلى الفتنة‪ :‬الشك واللعب‪ ،‬أما الشك فعالقته بالفتنة يفسرها قول هللا عز وجل‬
‫ب َوأُخ َُر‬ ‫ات ُه َّن أ ُ ُّم ْال ِكتَا ِ‬
‫ات ُم ْح َك َم ٌ‬‫اب ِم ْنهُ آ َي ٌ‬ ‫علَي َْك ْال ِكتَ َ‬ ‫( ُه َو الَّذِي أَ ْنزَ َل َ‬
‫ات ۖ فَأ َ َّما الَّذِينَ فِي قُلُو ِب ِه ْم زَ ْي ٌغ فَيَت َّ ِبعُونَ َما تَشَابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغَا َء ا ْل ِفتْنَ ِة‬ ‫ُمتَشَابِ َه ٌ‬
‫الرا ِس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه‬ ‫َوا ْبتِغَا َء تَأ ْ ِوي ِل ِه ۗ َو َما يَ ْعلَ ُم تَأ ْ ِويلَهُ إِ َّال َّ‬
‫َّللاُ ۗ َو َّ‬
‫ب) (آل عمران‪ ،)7:‬حيث فسر‬ ‫ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َر ِبنَا ۗ َو َما َيذَّ َّك ُر ِإ َّال أُولُو ْاأل َ ْل َبا ِ‬
‫الزيغ بالشك الذي تكون به الفتنة‪ ،‬ويذكر رسول هللا ﷺ الدجال باعتباره‬
‫ط ِغياً‪ ،‬أو‬ ‫أخطر ما يمكن أن يواجه البشر‪« :‬ما ينتظر أحدكم إال ِغنًى ُم ْ‬
‫الدجال شر غائب ينتظر‪ ،‬أو الساعة والساعة أدهى َوأَ َمر»(‪ ،)283‬ومع ذلك‬
‫هم‪« :‬يلعبون» ويبين النبي ﷺ أنه‪« :‬ما من نبي إال وقد أنذر قومه الدجال»‬
‫وهم‪« :‬يلعبون»‪.‬‬

‫وعندما يكون الشك تكون الفتنة‪ ،‬ومواجهتها تكون باليقين كما كانت من الشاب‬
‫الذي سيقتله الدجال‪ ،‬يقتله بمنشار يشقه نصفين‪ ،‬يمر بينهما‪ ،‬يدعوه فيقوم‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬له أنا ربك‪ ،‬فيقول‪ :‬أنت الدجال ما ازددت فيك إال بصيرة‪ ،‬اليقين أو‬
‫الفتنة‪ ،‬وال ثالث لهما!‬

‫اب أَ ِلي ٌم َربَّنَا‬ ‫اس ۖ َٰ َهذَا َ‬


‫عذَ ٌ‬ ‫ين َي ْغشَى النَّ َ‬ ‫ارت َ ِقبْ َي ْو َم تَأ ْ ِتي ال َّ‬
‫س َما ُء ِبدُخ ٍ‬
‫َان ُم ِب ٍ‬ ‫(فَ ْ‬
‫اب إِنَّا ُمؤْ ِمنُونَ ) (الدخان‪.)12-10:‬‬ ‫عنَّا ْال َعذَ َ‬ ‫ِف َ‬‫ا ْكش ْ‬
‫(‪ )283‬رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (‪.)7994‬‬
‫والروايات الواردة في تفسير اآلية تدور حول معنيين‪ ،‬األول‪ :‬الدخان الذي‬
‫أصاب قريش بعد دعوة رسول هللا عليهم (‪ ،)284‬والثاني‪ :‬الدخان الذي سيكون‬
‫في آخر الزمان‪.‬‬

‫ولكل من التفسيرين عالقة بالدجال‪ ،‬ذلك أن الجدب والجوع والعذاب بشكل‬


‫عام إنما مقصد الدجال منه هو نقيض مقصد هللا عز وجل‪ ،‬فمقصد هللا‬
‫سبحانه من العذاب هو إلجاء عباده إلى التضرع إليه واإليمان به‪ ،‬وليس‬
‫كما يفعل الدجال حين يجعل من ال يؤمن به‪ ،‬وقدر هللا في عذاب الناس يبدأ‬
‫بحرمانهم من نعمة التذكر والتدبر بعد أن جاءهم الرسول المبين‪:‬‬

‫سو ٌل ُّمبِ ٌ‬
‫ين﴾(الدخان‪.)13:‬‬ ‫﴿ أَنَّى لَ ُه ُم ِ‬
‫الذ ْك َرى َوقَ ْد َجاء ُه ْم َر ُ‬

‫ثم ال يكون العذاب إال بعد وقوع أشد موجباته وهو هنا التولي عن الرسول‬
‫المبين واتهامه بأنه معلم مجنون‪:‬‬

‫ع ْنهُ َوقَالُوا ُمعَلَّ ٌم َّم ْجنُ ٌ‬


‫ون﴾(الدخان‪.)14:‬‬ ‫﴿ ث ُ َّم تَ َولَّ ْوا َ‬

‫ومع ذلك يكشف هللا عنهم العذاب وهو سبحانه يعلم أنهم عائدون إلى الكفر‬
‫فكشف هللا عنهم العذاب قليال حتى تكون البطشة الكبرى‪.‬‬

‫يال ِإنَّ ُك ْم َ‬
‫عائِدُونَ ﴾(الدخان‪.)15:‬‬ ‫﴿ ِإنَّا َكا ِشفُو ْال َعذَا ِ‬
‫ب قَ ِل ً‬

‫وهذه اآلية تظهر حقيقة هامة من حقائق التقدير اإللهي وهي اإلحكام الذي‬
‫يبلغ كشف العذاب مع علم هللا بأنهم عائدون وأن كشف العذاب «قليال»‪،‬‬
‫وهي تفيد معنى التقدير الزمني المحكم الذي يمتد لتكون البطشة الكبرى في‬

‫(‪ )284‬إن قريشا لما أبطأت عن اإلسالم واستعصت على رسول هللا ﷺ دعا عليهم بسنين كسني يوسف‪ ،‬فأصابهم من‬
‫الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة‪ ،‬وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فال يرون إال الدخان‪ ،‬وفي رواية فجعل‬
‫الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬فارتقب يوم تأتي السماء بدخان‬
‫مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم} فأتى رسول هللا ﷺ فقيل يا رسول هللا استسق هللا لمضر فإنها قد هلكت‪ ،‬فاستسقى ﷺ‬
‫لهم فسقوا فنزلت «إنا كاشفو العذاب قليال إنكم عائدون» ‪.‬‬
‫يوم مقدر‪.‬‬

‫شةَ ْال ُكب َْرى إِنَّا ُمنتَ ِق ُمونَ ﴾(الدخان‪.)16:‬‬ ‫ش ْالبَ ْ‬


‫ط َ‬ ‫﴿ يَ ْو َم نَب ِْط ُ‬

‫والبطشة الكبرى بإجماع المفسرين هي غزوة بدر‪ ،‬والمناسبة بين الدجال‬


‫وغزوة بدر هي المناسبة بين البداية والنهاية‪ ،‬ألن بداية القتال هي بدر‪،‬‬
‫ونهايته هي قتال الدجال‪ ،‬كما قال رسول هللا ﷺ‪« :‬حتى يقاتل آخرهم‬
‫الدجال»‪.‬‬

‫والربط بين الدجال وغزوة بدر ربط قرآني ورد في مواضع متعددة منها‬
‫سورة القمر وسورة غافر‪ ،‬ففي سورة القمر جاء في تفسير قوله تعالى‪:‬‬
‫عةُ أَ ْده ََٰى َوأَ َم ُّر)‬ ‫عةُ َم ْو ِعدُ ُه ْم َوال َّ‬
‫سا َ‬ ‫سا َ‬ ‫سيُ ْهزَ ُم ْال َج ْم ُع َويُ َولُّونَ الدُّبُر َب ِل ال َّ‬
‫( َ‬
‫(القمر‪ ،)46-45:‬أن قتادة رضي هللا عنه ذكر أن النبي ﷺ قال يوم بدر‪:‬‬
‫سيُ ْهزَ ُم ْال َج ْم ُع َويُ َولُّونَ الدُّبُ َر)هذا‬ ‫« ُه ِز ُموا َو َولُّوا الدُّبُر»(‪ )285‬وهو تفسير ( َ‬
‫عةُ أَ ْده ََٰى َوأ َ َم ُّر)‪ ،‬حيث‬ ‫عةُ َم ْو ِعدُ ُه ْم َوال َّ‬
‫سا َ‬ ‫سا َ‬‫عن بدر‪ ،‬ثم جاء بعدها‪( :‬بَ ِل ال َّ‬
‫جاء ذكر الدجال مع ذكر الساعة بصفتها الواردة في اآلية ضمن ما ينتظره‬
‫الناس من أهوال الغيب‪.‬‬

‫وعن أبي هريرة رضي هللا عنه أن النبي ﷺ قال‪« :‬ما ينتظر أحدكم إال ِغنًى‬
‫ط ِغياً‪ ،‬أو فقرا منسيا‪ ،‬أو مرضا مفسدا‪ ،‬أو هرما مفندا‪ ،‬أو موتا مجهزا‪ ،‬أو‬ ‫ُم ْ‬
‫الدجال والدجال شر غائب ينتظر‪ ،‬أو الساعة والساعة أدهى َوأَ َمر» (‪.)286‬‬
‫وفي سورة غافر تتضح العالقة بين الدجال وغزوة بدر من خالل ما ورد‬
‫َّللاِ َح ٌّق َوا ْستَ ْغ ِف ْر ِلذَ ْن ِب َك َو َ‬
‫سبِ ْح ِب َح ْم ِد‬ ‫صبِ ْر ِإ َّن َو ْعدَ َّ‬
‫عن مقاتل في تفسيره‪( :‬فَا ْ‬
‫ار) (غافر‪.)55:‬‬ ‫َربِ َك بِ ْال َعشِي ِ َو ْ ِ‬
‫اإل ْب َك ِ‬

‫في العذاب أنه نازل بهم القتل ببدر‪ ،‬وضرب المالئكة الوجوه واألدبار‪ ،‬وتعجيل‬
‫َّللاِ َح ٌّق َوا ْست َ ْغ ِف ْر ِلذَ ْن ِب َك َو َ‬
‫سبِ ْح‬ ‫ص ِب ْر إِ َّن َو ْعدَ َّ‬
‫أرواحهم إلى النار‪ ،‬فهذا العذاب (فَا ْ‬
‫ص ِل بأمر ربك بالغداة‪ ،‬يعني‬ ‫اإل ْب َك ِار) (غافر‪ ،)55:‬يعنى و َ‬ ‫بِ َح ْم ِد َربِ َك بِ ْالعَشِي ِ َو ْ ِ‬
‫(‪ )285‬أخرجه ابن المبارك في الزهد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه‪.‬‬
‫(‪ )286‬البغوي شرح السنة‪.‬‬
‫صالة الغداة‪ ،‬وصالة العصر‪.‬‬

‫ان أَتَا ُه ْم ۙ إِ ْن‬ ‫س ْل َ‬


‫ط ٍ‬ ‫ت َّ‬
‫َّللاِ بِغَي ِْر ُ‬ ‫ثم جاء قول هللا سبحانه‪( :‬إِ َّن الَّذِينَ يُ َجا ِدلُونَ فِي آيَا ِ‬
‫ير)‬‫ص ُ‬ ‫س ِمي ُع ْال َب ِ‬ ‫ُور ِه ْم إِ َّال ِكب ٌْر َما ُه ْم بِ َبا ِل ِغي ِه ۚ فَا ْستَ ِع ْذ ِب َّ‬
‫اّلِلِ ۖ ِإنَّهُ ُه َو ال َّ‬ ‫صد ِ‬
‫ِفي ُ‬
‫(غافر‪.)56:‬‬

‫وذلك أن اليهود قالوا للنبي ﷺ‪ :‬إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله‬
‫سلطان‪ ،‬يعنون الدجال‪ ،‬ماء البحر إلى ركبته‪ ،‬والسحاب فوق رأسه‪ ،‬مبالغة‬
‫ت) يعنى يمارون في‬ ‫يهودية في الدجال‪ ،‬فقال‪ِ ( :‬إ َّن الَّذِينَ يُ َجا ِدلُونَ فِي آ َيا ِ‬
‫ان أَتَا ُه ْم) يعنى‬ ‫ط ٍ‬ ‫س ْل َ‬
‫آيات هللا‪ ،‬ألن الدجال آية من آيات هللا عز وجل ( ِبغَي ِْر ُ‬
‫بغير حجة أتتهم من هللا‪ ،‬إضمار بأن الدجال كما يقولون‪ ،‬يقول هللا عز وجل‪:‬‬
‫ُور ِه ْم إِ َّال ِكب ٌْر) يقول‪ :‬ما في قلوبهم إال ِكب ٌْر ( َما ُه ْم ِب َبا ِل ِغي ِه) إلى‬ ‫صد ِ‬ ‫( ِإ ْن ِفي ُ‬
‫اّلِلِ) يا محمد من فتنة‬ ‫ذلك الكبر لقولهم‪ :‬إن الدجال يملك األرض (فَا ْستَ ِع ْذ ِب َّ‬
‫ض أَ ْكبَ ُر‬
‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س َم َاوا ِ‬‫ير) ‪ ،‬ثم قال‪( :‬لَخ َْل ُق ال َّ‬ ‫ص ُ‬ ‫س ِمي ُع ْالبَ ِ‬ ‫الدجال ( ِإنَّهُ ُه َو ال َّ‬
‫اس َال يَ ْعلَ ُمونَ ) يعنى بالناس في هذا الموضع‪:‬‬ ‫اس َو َٰلَ ِك َّن أَ ْكث َ َر النَّ ِ‬
‫ق النَّ ِ‬‫ِم ْن خ َْل ِ‬
‫الدجال وحده‪ ،‬يقول‪ :‬خلق السموات واألرض أكبر من خلق الناس‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫اس َال َي ْعلَ ُمونَ ) يعني اليهود‪.‬‬ ‫هما أعظم خلقا ً من خلق الدجال ( َو َٰلَ ِك َّن أ َ ْكثَ َر النَّ ِ‬

‫إن الدجال يدخل على الناس لفتنتهم في الدنيا بتمثل الشياطين لهم في صورة‬
‫آبائهم الذين في عالم الغيب وهو من قبيل السحر في األعين‪.‬‬

‫والفصل بين الغيب والشهادة هو األساس القدري الكوني الذي جعله هللا بين‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬واالستثناء من هذه القاعدة ال يكون إال بمعجزة محدودة مثلما‬
‫كان من رسول هللا ﷺ في غزوة بدر‪« :‬فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر‬
‫براحلته فشد رحلها‪ ،‬ثم مشي واتبعه أصحابه‪ ،‬وقالوا‪ :‬ما نرى ينطلق إال‬
‫لبعض حاجته حتى قام على شفة الركي فجعل ينادي بأسمائهم وأسماء آبائهم‬
‫وقد جيفوا‪« :‬يا أبا جهل ابن هشام ويا عتبة بن ربيعة‪ ،‬ويا شيبة بن ربيعة‪،‬‬
‫ويا وليد بن عتبة»‪ ،‬أيسركم أنكم أطعتم هللا ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا‬
‫ربنا حقاً‪ ،‬فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قال‪ :‬فسمع عمر قول النبي ﷺ‬
‫فقال‪ :‬يا رسول هللا! ما تكلم من أجساد ال أرواح لها‪ ،‬وهل يسمعون؟ بقول‬
‫عا َء إِذَا َولَّ ْوا ُم ْد ِب ِرينَ )‬ ‫هللا عز وجل‪ِ ( :‬إنَّ َك َال ت ُ ْس ِم ُع ْال َم ْوتَ َٰى َو َال ت ُ ْس ِم ُع ال ُّ‬
‫ص َّم الدُّ َ‬
‫(النمل‪ )80:‬فقال رسول هللا ﷺ‪« :‬والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما‬
‫أقول منهم وهللا إنهم اآلن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم لهو الحق» وفي‬
‫ى شيئا ً»‬ ‫رواية‪« :‬إنهم اآلن ليسمعون غير أنهم ال يستطيعون أن يردوا ع ِل َّ‬
‫(‪.)287‬‬
‫ويظهر االستثناء المحدود من أمرين‪ :‬األول‪ :‬أن ذلك ال يكون إال للرسول‬
‫ﷺ‪ ،‬والثاني‪ :‬أنهم ال يستطيعون الرد عليه‪ ،‬ولذلك قال قتادة‪ :‬أحياهم هللا «له»‬
‫حتى أسمعهم قوله‪ ،‬توبيخا ً وتصغيراً‪ ،‬ونقمة‪ ،‬وحسرة وندما»‪.‬‬

‫فيتقابل الوعد الحق من هللا سبحانه على لسان نبيه ﷺ‪ ،‬مقابل الوعد الباطل‬
‫الكاذب من الدجال في صورة الشياطين بأن يموتوا على غير اإلسالم كما‬
‫في الحديث‪.‬‬

‫وكل ما سبق من اآليات يعالج قضية القدر‪ ،‬ويتمم هذه المعالجة قضية‬
‫ع ْونَ‬‫فرعون‪ ،‬لتكون هذه المعالجة هي مناسبة اآلية‪َ ( :‬ولَقَ ْد فَتَنَّا قَ ْبلَ ُه ْم قَ ْو َم فِ ْر َ‬
‫سو ٌل َك ِري ٌم) (الدخان‪ ،)17:‬ألن هذه القضية هي المثل المضروب‬ ‫َو َجا َء ُه ْم َر ُ‬
‫للقدر الذي تعالجه اآليات‪ ،‬ومن هنا جاء قول ابن عباس عن الضحاك بن‬
‫عثمان‪ ،‬قال‪« :‬وافيت الموسم‪ ،‬فلقيت جماعة في مسجد الخيف‪ ،‬ذكرهم‪،‬‬
‫قال‪ :‬ورأيت طاووسا اليماني فسمعته يقول لرجل‪« :‬إن القدر سر هللا فال‬
‫تدخلن فيه»‪ ،‬ولقد سمعت أبا الدرداء يحدث عن نبيكم ﷺ‪ ،‬أن موسى عليه‬
‫السالم لما خرج من عند فرعون متغير الوجه‪ ،‬استقبله ملك من ُخ َّزان النار‬
‫وهو يقلب كفيه متعجبا لما قال له الروح األمين‪ :‬إن ربك أرسلك إلى فرعون‬
‫مع أنه قد طبع على قلبه فلن يؤمن‪ ،‬قال‪ :‬يا جبريل فدعائي ما هو؟ قال‪:‬‬
‫امض لما أمرت‪ ،‬قال‪ :‬صدقت‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا موسى نحن اثنا عشر ملكا من‬
‫خزان النار‪ ،‬قد جهدنا على أن نسأل في هذا األمر فأوحي إلينا أن القدر سر‬
‫ع ْبدُ‬‫هللا تبارك وتعالى‪ ،‬فال تدخلوا فيه»(‪ ،)288‬وفي رواية الترمذي‪َ « :‬حدَّثَنَا َ‬
‫طا َء بْنَ أ َ ِبي َربَاحٍ‪ ،‬فَقُ ْلتُ لَهُ‪ :‬يَا أَبَا‬ ‫ع َ‬ ‫سلَي ٍْم قَا َل‪ :‬قَد ِْمتُ َم َّكةَ فَلَ ِقيتُ َ‬
‫اح ِد ب ُْن ُ‬ ‫ْال َو ِ‬
‫ي أَتَ ْق َرأ ُ ْالقُ ْرآنَ قُ ْلتُ ‪ :‬نَ َع ْم‪،‬‬ ‫ص َرةِ يَقُولُونَ فِي ْالقَدَ ِر‪ ،‬قَا َل‪ :‬يَا بُنَ َّ‬‫ُم َح َّمدٍ! إِ َّن أَ ْه َل ْالبَ ْ‬
‫(‪ )287‬مجموع ألفاظه عند البخاري ومسلم وأحمد‪.‬‬
‫(‪ )288‬اإلبانة الكبرى البن بطة (ج ‪ / 5‬ص ‪.)55‬‬
‫ع َر ِبيًّا‬‫ين ِإنَّا َج َع ْلنَاهُ قُ ْرآنًا َ‬ ‫ب ْال ُمبِ ِ‬ ‫ف‪ ،‬قَا َل فَقَ َرأْتُ ‪( :‬حم َو ْال ِكتَا ِ‬ ‫الز ْخ ُر َ‬ ‫قَا َل‪ :‬فَا ْق َرأْ ُّ‬
‫خرف‪ ،)4-1:‬فَقَا َل‬ ‫(الز ُ‬ ‫ي َح ِكي ٌم) ُّ‬ ‫ب لَدَ ْينَا لَ َع ِل ٌّ‬ ‫لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْع ِقلُون َو ِإنَّهُ فِي أ ُ ِم ْال ِكتَا ِ‬
‫َّللاُ قَ ْب َل‬
‫اب َكتَبَهُ َّ‬ ‫سولُهُ أَ ْعلَ ُم! قَا َل‪ :‬فَإِنَّهُ ِكتَ ٌ‬ ‫ب؟ قُ ْلتُ ‪َّ :‬‬
‫َّللاُ َو َر ُ‬ ‫أَتَ ْد ِري َما أ ُ ُّم ْال ِكتَا ِ‬
‫ار‬ ‫ع ْونَ ِم ْن أَ ْه ِل النَّ ِ‬ ‫ض‪ِ ،‬في ِه ِإ َّن فِ ْر َ‬ ‫ت َوقَ ْب َل أ َ ْن َي ْخلُقَ ْاأل َ ْر َ‬ ‫س َم َاوا ِ‬ ‫أَ ْن َي ْخلُقَ ال َّ‬
‫ع َبادَةَ ب ِْن‬ ‫طا ٌء‪« :‬فَلَ ِقيتُ ْال َو ِليدَ بْنَ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ب)»‪ ،‬قَا َل َ‬ ‫َّت َيدَا أ َ ِبي لَ َه ٍ‬
‫ب َوتَ َّ‬ ‫َوفِي ِه (تَب ْ‬
‫يك ِع ْندَ ْال َم ْوتِ؟‬ ‫صيَّةُ أ َ ِب َ‬ ‫سأ َ ْلتُهُ‪َ :‬ما َكانَ َو ِ‬ ‫َّللاِ ﷺ‪ ،‬فَ َ‬ ‫سو ِل َّ‬ ‫ب َر ُ‬ ‫اح َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ام ِ‬ ‫ص ِ‬‫ال َّ‬
‫َّللاَ َحتَّى تُؤْ ِمنَ‬ ‫ي َّ‬ ‫َّللاَ‪َ ،‬وا ْعلَ ْم أَنَّ َك لَ ْن تَت َّ ِق َ‬ ‫ق َّ‬ ‫عانِي أَبِي فَقَا َل ِلي يَا بُنَ َّ‬
‫ي ات َّ ِ‬ ‫قَا َل‪ :‬دَ َ‬
‫ار‪ِ ،‬إ ِني‬ ‫ت النَّ َ‬‫غي ِْر َهذَا دَخ َْل َ‬ ‫علَى َ‬ ‫ت َ‬ ‫اّلِلِ َوتُؤْ ِمنَ ِب ْالقَدَ ِر ُك ِل ِه َخي ِْر ِه َوش َِر ِه‪ ،‬فَإِ ْن ُم َّ‬ ‫ِب َّ‬
‫َّللاُ ْالقَلَ َم فَقَا َل لَهُ‪ :‬ا ْكتُبْ قَا َل‪:‬‬ ‫َّللاِ ﷺ َيقُولُ‪ِ « :‬إ َّن أَ َّو َل َما َخلَقَ َّ‬ ‫سو َل َّ‬ ‫س ِم ْعتُ َر ُ‬ ‫َ‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)289‬‬
‫عة »‬ ‫سا َ‬ ‫وم ال َّ‬ ‫ش ْيءٍ َحتَّى تَقُ َ‬ ‫ِير ُك ِل َ‬ ‫ب؟ قَا َل‪ :‬ا ْكتُبْ َمقَاد َ‬ ‫ب َو َماذَا أَ ْكت ُ ُ‬ ‫َر ِ‬

‫ومن هنا جمع الثعالبي في تفسيره بين فرعون والدجال في قضية القدر فقال‬
‫ع ْونَ‬ ‫س َٰى َوفِ ْر َ‬ ‫ين نَتْلُو َ‬
‫علَي َْك ِم ْن نَ َبإِ ُمو َ‬ ‫ب ْال ُم ِب ِ‬ ‫في قوله تعالى(طسم تِ ْل َك آ َياتُ ْال ِكتَا ِ‬
‫ض‬ ‫ع َال فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ع ْونَ َ‬ ‫ق ِل َق ْو ٍم يُؤْ ِمنُونَ ) (القصص‪ )3-1:‬فقال‪ِ ( :‬إ َّن فِ ْر َ‬ ‫ِب ْال َح ِ‬
‫طائِفَةً ِم ْن ُه ْم يُذَبِ ُح أَ ْبنَا َء ُه ْم َويَ ْستَ ْحيِي نِ َ‬
‫سا َء ُه ْم ۚ إِنَّهُ‬ ‫ف َ‬ ‫َو َجعَ َل أَ ْهلَ َها ِشيَعًا َي ْستَ ْ‬
‫ض ِع ُ‬
‫َكانَ ِمنَ ْال ُم ْف ِسدِينَ ) (القصص‪« ،)4:‬خوف خراب ملكه على ما أخبرته كهنته‪،‬‬
‫أو ألجل رؤيا رآها قاله السدي‪ ،‬وطمع بجهله أن يرد القدر‪ ،‬وأين هذا المنزع‬
‫من قول النبي ﷺ لعمر‪ :‬إن يكنه فلن تسلط عليه وان لم يكنه فال خير لك في‬
‫قتله ‪-‬يعني ابن صياد‪ -‬إذ خاف عمر أن يكون هو الدجال»(‪.)290‬‬

‫فيكون موقف فرعون الخاطئ من القدر «طمع بجهله أن يرد القدر» نموذجا‬
‫يقابله موقف الرسول ﷺ الصحيح «إن يكنه فلن تسلط عليه»‪.‬‬

‫وتتواصل المناسبة من خالل السياق الذي ذُكر فيه فرعون‪( :‬أَ ْن أَدُّوا إِ َل َّ‬
‫ي‬
‫ين) (الدخان‪ ،)18:‬يطلب رد بني إسرائيل إليه‪،‬‬ ‫سو ٌل أَ ِم ٌ‬
‫َّللاِ ۖ إِنِي لَ ُك ْم َر ُ‬
‫ِع َبادَ َّ‬
‫فاإلنسان أمانة‪ ،‬وهو يطلب أداء األمانة إليه (‪.)291‬‬

‫(‪ )289‬سنن أبي داوود برقم‪.)4081( :‬‬


‫(‪ )290‬تفسير الثعالبي‪.‬‬
‫(‪ )291‬تفسير الطبري لألية‪.‬‬
‫َّللاِ» قال‪ :‬أرسلوا معي بني إسرائيل‬ ‫ي ِع َبادَ َّ‬ ‫عن مجاهد‪ ،‬قوله‪« :‬أَ ْن أَدُّوا ِإلَ َّ‬
‫‪ ،‬وعن قتادة «أ َ ْن أَدُّوا ِإلَ َّ‬
‫(‪)292‬‬
‫َّللاِ» يعني به بني إسرائيل‪ ،‬قال‬ ‫ي ِعبَادَ َّ‬
‫لفرعون‪ :‬عالم تحبس هؤالء القوم‪ ،‬قوما أحرارا اتخذتهم عبيدا‪ ،‬خل سبيلهم‪.‬‬
‫َّللاِ» قال‪ :‬يقول‪ :‬أرسل عباد هللا‬ ‫ي ِعبَادَ َّ‬ ‫قال ابن زيد في قوله‪« :‬أَ ْن أَدُّوا ِإلَ َّ‬
‫معي‪ ،‬يعني بني إسرائيل‪ ،‬وقرأ «فَأ َ ْر ِس ْل َم َعنَا َبنِي إِ ْس َرائِي َل َوال ت ُ َع ِذ ْب ُه ْم»‬
‫َّللاِ» قال‪ :‬ردهم إلينا‪.‬‬ ‫ي ِعبَادَ َّ‬ ‫قال‪ :‬ذلك قوله‪« :‬أَ ْن أَدُّوا ِإلَ َّ‬

‫سو ٌل أَ ِم ٌ‬
‫ين) يقول‪ :‬إني لكم أيها القوم رسول من هللا أرسلني‬ ‫وقوله ( ِإ ِني لَ ُك ْم َر ُ‬
‫ين)‪ :‬على وحيه ورسالته التي‬ ‫إليكم ال يدرككم بأسه على كفركم به‪( ،‬أَ ِم ٌ‬
‫أوعدنيها إليكم‪.‬‬

‫ومن هنا يربط رسول هللا ﷺ بين األمانة والشعوب فيقول‪« :‬إن أمام الدجال‬
‫سنين خداعة يصدق فيها الكاذب‪ ،‬ويكذب فيها الصادق‪ ،‬ويؤتمن فيها‬
‫الخائن‪ ،‬ويخون فيها األمين‪ ،‬وينطق فيها الرويبضة‪ ،‬قيل‪ :‬وما الرويبضة؟‬
‫قال‪ :‬الفويسق يتكلم في أمر العامة» (‪ ،)293‬فتأكد التماثل بين فرعون والدجال‬
‫بين الخونة المؤتمنين مثل فرعون‪ ،‬وبين األمين الحقيقي مثل موسى‪.‬‬

‫ولم يكن ائتمان فرعون وتخوين موسى هو األمر الوحيد في واقع فرعون‪،‬‬
‫شبَها ً بواقع الدجال حتى قال‬ ‫فلقد كان واقع فرعون في تناقضه إجماالً أقرب َ‬
‫َاف‬‫ع َربَّهُ ۖ ِإ ِني أَخ ُ‬ ‫س َٰى َو ْل َي ْد ُ‬
‫ع ْو ُن ذَ ُرو ِني أَ ْقت ُ ْل ُمو َ‬ ‫فرعون في موسى‪َ ( :‬وقَا َل ِف ْر َ‬
‫سادَ) (غافر‪ ،)26:‬وقال ( َيا قَ ْو ِم لَ ُك ُم‬ ‫ض ْالفَ َ‬ ‫ظ ِه َر فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫أَ ْن يُ َب ِد َل دِينَ ُك ْم أَ ْو أَ ْن يُ ْ‬
‫ص ُرنَا ِم ْن بَأ ْ ِس َّ ِ‬
‫َّللا ِإ ْن َجا َءنَا ۚ َقا َل‬ ‫ض فَ َم ْن يَ ْن ُ‬ ‫ظا ِه ِرينَ فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ْال ُم ْلكُ ْاليَ ْو َم َ‬
‫الرشَا ِد) (غافر‪ ،)29:‬موسى‬ ‫سبِي َل َّ‬ ‫ع ْو ُن َما أ ُ ِري ُك ْم إِ َّال َما أَ َر َٰى َو َما أَ ْهدِي ُك ْم ِإ َّال َ‬‫فِ ْر َ‬
‫س ِبي َل‬‫سادَ) وفرعون ال يهدي ( َما أَ ْهدِي ُك ْم ِإ َّال َ‬ ‫ض ْالفَ َ‬ ‫ظ ِه َر ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫( يُ ْ‬
‫الرشَا ِد)!!‪.‬‬ ‫َّ‬

‫وتتواصل المناسبة من خالل السياق الذي ذكر فيه فرعون‪َ ( :‬وأَ ْن َال تَ ْعلُوا‬
‫ين) (الدخان‪ ،)19:‬والعلو هنا هو المناسبة‬ ‫ان ُم ِب ٍ‬
‫ط ٍ‬‫س ْل َ‬ ‫علَى َّ‬
‫َّللاِ ۖ ِإ ِني آ ِتي ُك ْم ِب ُ‬ ‫َ‬
‫(‪ )292‬المصدر السابق‪.‬‬
‫(‪ )293‬السلسلة الصحيحة لأللباني‪.‬‬
‫بين فرعون والدجال؛ ألن معنى الدخان هو العلو بالشر وقد ثبت هذا‬
‫الوصف على فرعون والدجال‪ ،‬ومن هنا كان من معاني الدخان كما جاء‬
‫في لسان العرب‪« :‬الدخان‪ :‬موضع الشر إذا عال فيقولون‪ :‬كان بيننا أَمر‬
‫ارتفَ َع له دخان»(‪ ،)294‬ولما كان من الضروري التفريق بين آيات هللا وأفعال‬
‫ْ‬
‫الدجال كان من وصف آيات هللا بأنها سلطان مبين ليتبين الفرق بين أفعال‬
‫الدجال القائمة على الفتنة والخداع والسحر وأفعال هللا الحقيقية القوية‬
‫الواضحة الهادية وهو معني السلطان المبين‪.‬‬

‫ع ْذتُ بِ َر ِبي َو َر ِب ُك ْم أَ ْن تَ ْر ُج ُم ِ‬
‫ون) (الدخان‪.)20:‬‬ ‫( َو ِإنِي ُ‬

‫هذه اآلية تحتمل معنيين‪ ،‬األول‪ :‬أن يكون معناها الدعاء‪ ،‬أي يقصد بها‬
‫المضارع والمستقبل‪ ،‬وتقديره‪ :‬أعوذ باهلل أن ترجموني أي تقتلوني‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يكون معناها الخبر‪ ،‬أي أن موسى سبق أن توقع منهم القتل فدعا‬
‫ون )(القصص‪،)33:‬‬ ‫َاف أَ ْن يَ ْقتُلُ ِ‬ ‫سا فَأَخ ُ‬ ‫ب ِإنِي قَت َ ْلتُ ِم ْن ُه ْم نَ ْف ً‬
‫ربه( قَا َل َر ِ‬
‫صلُونَ‬ ‫س ْل َ‬
‫طانًا فَ َال يَ ِ‬ ‫ضدَ َك بِأ َ ِخ َ‬
‫يك َون َْجعَ ُل لَ ُك َما ُ‬ ‫ع ُ‬ ‫شدُّ َ‬ ‫فأجابه هللا بقوله‪ ( :‬قَا َل َ‬
‫سنَ ُ‬
‫ِإلَ ْي ُك َما ۚ ِبآ َيا ِتنَا أَ ْنت ُ َما َو َم ِن ات َّ َبعَ ُك َما ْالغَا ِلبُونَ ) (القصص‪ ،)35:‬فهو يخبرهم بأن‬
‫هللا سيعصمه منهم‪ ،‬ويتحداهم أن يصلوا إليه إيمانا ً بوعد ربه وثقة به‪ ،‬ولذلك‬
‫ون) (الدخان‪ ،)21:‬أي إن لم‬ ‫نصحهم بقوله‪َ (:‬وإِ ْن لَ ْم تُؤْ ِمنُوا ِلي فَا ْعتَ ِزلُ ِ‬
‫تؤمنوا بي فاتركوني أخرج من أرضكم أنا وقومي‪ ،‬وال تحاولوا قتلي‪ ،‬ألنكم‬
‫لن تستطيعوا ذلك‪.‬‬

‫ولذلك أيضا ً كان ردُّه على قومه حين قالوا لما تبعهم فرعون بجنوده‪ ( :‬قَا َل‬
‫ِين) (الشعراء‪ ،)62:‬ويؤكد ذلك ما قاله اإلمام‬ ‫سيَ ْهد ِ‬ ‫َك َّال ۖ إِ َّن َم ِع َ‬
‫ي َربِي َ‬
‫البقاعي في «نظم الدرر»‪(« :‬وإني عذت)أي اعتصمت وامتنعت‬
‫(بربي)الذي رباني على ما اقتضاه لطفه بي وإحسانه إلي‪( ،‬وربكم)الذي‬
‫أعاذني من قتلكم لي بكم على ما دعت إليه حكمته من جبروتكم وتكبركم‬
‫وقوة مكنتكم (أن ترجمون)أي أن يتجدد في وقت من األوقات قتل منكم لي‪،‬‬
‫(‪ )294‬لسان العرب البن منظور‪.‬‬
‫ما أتيتكم حتى توثقت من ربي في ذلك‪ ،‬فإني قلت (إني أخاف أن يقتلون)‬
‫(القصص‪ ،)33:‬فقال‪( :‬سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا ً فال‬
‫يصلون إليكما بآياتنا) (القصص‪ ،)35:‬من أعظم آياتي أن ال تصلوا على‬
‫قوتكم وكثرتكم إلى قتلي منع أنه ال قوة لي بغير هللا الذي أرسلني‪.‬‬

‫ولما كان التقدير‪ :‬فإن آمنتم بذلك وسلمتم لي أفلحتم‪ ،‬عطف عليه قوله‪( :‬وإن‬
‫لم تؤمنوا لي) أي تصدقوا ألجلي ما أخبرتكم به (فاعتزلون) أي وإن لم‬
‫تعتزلوني هلكتم‪ ،‬وال تقدرون على قتلي بوجه وأنا واحد ممن تسومونهم‬
‫سوء العذاب‪ ،‬وما قتلتم أبناءهم إال من أجلي‪ ،‬فرباني على كف من ضاقت‬
‫عليه األرض بسببي وسفك الدماء في شأني‪ ،‬ومنعه هللا من أن يصل إلي‬
‫منه سوء قبل أن أعوذ به‪ ،‬فكيف به بعد أن أرسلني وعذت به فأعاذني‪،‬‬
‫واستجرت به فأجارني»(‪ ،)295‬وبمثل هذا اليقين الذي واجه به موسى‬
‫فرعون‪ ،‬سيواجه ذلك الشاب المؤمن الدجال في آخر الزمان‪.‬‬
‫وأخيرا ً ينطلق موسى بالحكم عليهم‪( :‬فَ َد َعا َرباهُ أَ ان َهؤ ََُّل ِء قَ ْو ٌم ُم ْج ِر ُمونَ )‬
‫(الدخان‪.)22:‬‬
‫ويصدق هللا على حكم موسى ويستجيب له بعد أن دعا عليهم‪ ،‬هكذا يكون‬
‫التعامل بين هللا والعباد‪ ،‬ال يكون الحكم إال بعد الرسالة والبيان والحجة‪،‬‬
‫وهذه الحقيقة هي التي تصلح في الواقع بداية للمقارنة بين أفعال هللا عز‬
‫وجل وأفعال الدجال‪.‬‬

‫(فَأ َ ْس ِر بِ ِع َبا ِدي لَي ًْال إِنَّ ُك ْم ُمت َّ َبعُونَ ) (الدخان‪.)23:‬‬


‫« ُّمت َّ َبعُونَ »‪ ،‬دليل على إحاطة هللا باألحداث‪.‬‬

‫( َواتْ ُر ِك ْالبَ ْح َر َر ْه ًوا ۖ ِإنَّ ُه ْم ُج ْندٌ ُم ْغ َرقُونَ ) (الدخان‪.)24:‬‬


‫وهنا نجد أنفسنا أمام فعل من أفعال هللا عز وجل‪ ،‬أن يصل موسى إلى‬
‫البحر‪ ،‬فيأمره ربه أن يضرب بعصاه البحر فينشق‪ ،‬آية حقيقية ليست سحرا ً‬
‫مثلما فعل السحرة (قَا َل أ َ ْلقُوا ۖ فَلَ َّما أ َ ْلقَ ْوا َ‬
‫س َح ُروا أ َ ْعيُنَ النَّ ِ‬
‫اس َوا ْستَ ْر َهبُو ُه ْم‬
‫ع ِظ ٍيم) (األعراف‪.)116:‬‬ ‫ِح ٍر َ‬
‫َو َجا ُءوا بِس ْ‬

‫(‪ )295‬البقاعي‪ ،‬نظم الدرر‪ ،‬تفسير اآلية‪.‬‬


‫ولكنه كان انشقاقا ً فعليا ً للبحر حتى قال سبحانه وتعالى‪َ ( :‬ر ْهوا ً) أي ساكناً‪،‬‬
‫وهذه الحادثة تكشف حقيقة هائلة من حقائق التقدير اإللهي‪ ،‬وهي الفعل‬
‫الواحد والسبب الواحد مع تعدد النتائج‪ ،‬وهي قاعدة قرآنية في إثبات مطلق‬
‫المشيئة اإللهية‪ ،‬ينشق البحر فينجو موسى ومن معه‪ ،‬ويغرق فرعون ومن‬
‫معه‪.‬‬

‫( َونَ ْع َم ٍة َكانُوا فِي َها فَا ِك ِهينَ ) (الدخان‪.)27:‬‬

‫مقارنة أخرى حسب ترتيب اآليات بين فعل هللا وفعل الدجال‪ ،‬وقد تقرر أن‬
‫حقيقة الفعل اإللهي تؤكد والية هللا لجميع الخالئق‪ ،‬وفعل الدجال ينفي عالقته‬
‫بهذا المقام‪.‬‬
‫فالذي ال يؤمن بالدجال يجوع‪ ،‬ولكن هللا عز وجل يرزق من يكفر به‪ ،‬ودليل‬
‫ذلك هو رزق هللا لفرعون وهو أشد البشر كفرا ً حتى بلغ ادعاء األلوهية‪،‬‬
‫ومع ذلك بلغ رزق هللا‪ ،‬ما تصفه اآلية‪ ،‬ومع استحقاقهم للهالك كان الرزق‬
‫وفيرا لم يمنعه هللا عنهم وهو ينتقم منهم‪ ،‬ليس كما يفعل الدجال الذي يمنع‬
‫الطعام عمن ال يؤمن به‪.‬‬
‫وهذه المقارنة فيها إظهار كامل لصفات هللا الحق الذي يرزق عباده وهم‬
‫يكفرون به‪.‬‬

‫وحتى عندما يتقرر حكم هللا بحرمانهم منها‪ ،‬فإنها تورث إلى قوم آخرين‪،‬‬
‫ت‬‫ألنها رزق هللا‪ ،‬ورزق هللا باق‪َ ( :‬ك َٰذَ ِل َك ۖ َوأَ ْو َرثْنَاهَا قَ ْو ًما آخ َِرينَ فَ َما َب َك ْ‬
‫ظ ِرينَ ) (الدخان‪.)29-28:‬‬ ‫س َما ُء َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ض َو َما َكانُوا ُم ْن َ‬ ‫علَ ْي ِه ُم ال َّ‬
‫َ‬

‫وهذه اآلية تثبت العالقة بين الكون والحق‪ ،‬فالكون مسلم هلل رب العالمين‬
‫وهذا يفسر الظواهر التي ستكون من الدجال بأنها ليست وال ًء كونيا للدجال‬
‫ولكنها مجرد الفتنة أما الوالء الكوني فهو هلل عز وجل‪ ،‬والباطل ليس له‬
‫مستقر كوني‪ ،‬وليس للكفر أصل كوني‪.‬‬

‫والدجال هو الدليل األول على طبيعة الكفر‪ ،‬وذلك عندما يضربه عيسى ابن‬
‫مريم فيذوب كما يذوب الملح أو كما يذوب الرصاص كأنه لم يكن‪ ،‬يذوب‬
‫وال يبقى له وجود وال أثر‪ ،‬وتُعَ ِبر سورة الدخان عن هذه الحقيقة بقوله عز‬
‫ظ ِرينَ ) (الدخان‪.)29:‬‬ ‫س َما ُء َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ض َو َما َكانُوا ُم ْن َ‬ ‫علَ ْي ِه ُم ال َّ‬ ‫وجل‪( :‬فَ َما بَ َك ْ‬
‫ت َ‬
‫وأحداث الدجال الكونية تحتم إدراك الموقف الكوني من الحق‪ ،‬واآلية تثبت‬
‫هذا المعنى فالسماوات واألرض مع أهل الحق وبريئة من أي أحداث باطلة‬
‫في الكون‪.‬‬

‫وموقف الكون من اإلسالم وأهله هو الوالء‪ ،‬كما روي عن رسول هللا ﷺ‬


‫اء‪ ،‬أَ َال ِإنَّهُ َال‬ ‫طو َبى ِل ْلغُ َر َب ِ‬ ‫س َيعُودُ غ َِريبًا فَ ُ‬ ‫اإل ْس َال َم َبدَأ َ غ َِريبًا‪َ ،‬و َ‬
‫أنه قال‪ِ « :‬إ َّن ْ ِ‬
‫علَ ْي ِه ال َّ‬
‫س َما ُء‬ ‫ت َ‬ ‫َاب فِي ِه َب َوا ِكي ِه‪ِ ،‬إ َّال بَ َك ْ‬
‫غ ْر َب ٍة غ َ‬ ‫ض ُ‬‫ات فِي أ َ ْر ِ‬ ‫علَى َم ْن َم َ‬ ‫غ ْربَةَ َ‬ ‫ُ‬
‫ض َو َما َكانُوا‬ ‫س َما ُء َواأل َ ْر ُ‬ ‫علَ ْي ِه ُم ال َّ‬
‫ت َ‬‫ض» ثم قرأ رسول هللا ﷺ‪( :‬فَ َما بَ َك ْ‬ ‫َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ظ ِرينَ ) ثم قال‪« :‬إنهما ال يبكيان على الكافر» (‪.)296‬‬ ‫ُم ْن َ‬

‫ودليل أهمية هذا المعنى هو قول رسول هللا ﷺ في جبل أحد‪ :‬هذا الجبل يحبنا‬
‫ونحبه» وذلك بسبب هزيمة المسلمين عنده‪ ،‬فيثبت الرسول ﷺ موقف حب‬
‫الجبل للمسلمين‪ ،‬فعندما نقرأ أن كنوز الذهب تتبع الدجال ال نتصور أن هذا‬
‫وال ًء كونيا للدجال ولكنها الفتنة المقدرة من هللا للبشر‪.‬‬

‫ع ْونَ ۚ إِنَّهُ َكانَ َ‬


‫عا ِليًا ِمنَ‬ ‫ب ْال ُم ِه ِ‬
‫ين ِم ْن فِ ْر َ‬ ‫( َولَقَ ْد نَ َّج ْينَا بَنِي إِ ْس َرائِي َل ِمنَ ْالعَذَا ِ‬
‫علَى ْال َعالَ ِمينَ ) (الدخان‪.)32-30:‬‬ ‫علَ َٰى ِع ْل ٍم َ‬ ‫ْال ُم ْس ِر ِفينَ َولَقَ ِد ْ‬
‫اخت َ ْرنَا ُه ْم َ‬

‫علَ َٰى ِع ْل ٍم) أي منا بما يكون منهم من خير وشر»‪.‬‬


‫يقول اإلمام البقاعي‪َ ( :‬‬
‫وعلم هللا هو أول مراتب التقدير‪ ،‬فما يعلمه هللا يقضيه‪ ،‬وما يقضيه يشاءه‪،‬‬
‫وما يشاءه يفعله‪ ،‬فجاءت اآلية لتتمم تفسير القدر اإللهي‪ ،‬ولكن علم هللا ببني‬
‫إسرائيل بخيرهم وشرهم يظهر في الواقع التاريخي لبني إسرائيل من خالل‬
‫عالمة الدجال‪.‬‬

‫والتصور المنهجي للعالمات يُثبت دورا ً استثنائيا ً لبني إسرائيل في التحقيق‬


‫المطلق الختيار هللا لهم على العالمين‪ ،‬وهو أن يكون فتح القسطنطينية على‬
‫(‪ )296‬تفسير الطبري (‪ )75/25‬ورواه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت كما في الدر المنثور (‪ )412/7‬وهو مرسل‪.‬‬
‫يد سبعين ألفا ً من ولد إسحاق وأن فتحهم للقسطنطينية سيكون بالتهليل‬
‫والتكبير‪.‬‬

‫ولعلنا نالحظ أن عدد الذين سيفتحون القسطنطينية من بني إسحاق هم نفس‬


‫عدد الذين سيتبعون الدجال من اليهود‪ .‬عن أنس بن مالك أن رسول هللا ﷺ‬
‫قال‪« :‬يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة» (‪ ،)297‬إنه‬
‫الدليل النهائي على اختيار هللا لبني إسرائيل على علم على العالمين‪.‬‬

‫علَ َٰى ِع ْل ٍم) يبلغ هذه المساواة العددية الدقيقة بين عدد أتباع الدجال وعدد‬
‫( َ‬
‫أتباع المهدي «سبعون ألفا ً» يفتحون القسطنطينية بالتهليل والتكبير والذين‬
‫من أجلهم ستكون الملحمة حيث سيطلبهم الروم وهم من بني عيص أخي‬
‫يعقوب «إسرائيل» فيرفض المسلمون تسليمهم لهم ويقولون هم إخواننا ال‬
‫نسلمهم وتكون الملحمة‪ ،‬وهذا علم هللا‪.‬‬

‫( َوآت َ ْينَا ُه ْم ِمنَ ْاآليَا ِ‬


‫ت َما فِي ِه بَ َال ٌء ُمبِ ٌ‬
‫ين) (الدخان‪.)33:‬‬

‫اآليات‪ :‬أي الحجج والبراهين وخوارق العادات‪ ،‬هكذا جاء تفسير اآلية‪.‬‬
‫قال قتادة‪« :‬نعمة بينة من فلق البحر‪ ،‬وتظليل الغمام‪ ،‬وإنزال المن والسلوى‪،‬‬
‫والنعم التي أنعمها عليهم‪ ،‬وقال ابن زيد‪ :‬ابتالهم بالرخاء والشدة‪ ،‬وقرأ‪:‬‬
‫ش ِر َو ْال َخي ِْر ِفتْنَةً ۖ َو ِإلَ ْينَا ت ُ ْر َجعُونَ )‬ ‫( ُك ُّل نَ ْف ٍس ذَائِقَةُ ْال َم ْو ِ‬
‫ت ۗ َونَ ْبلُو ُك ْم ِبال َّ‬
‫(األنبياء‪.)298( )35:‬‬
‫ولذاك تأتي اآليات بذكر الكفار الظانين أنهم خارجين عن إحاطة هللا‬
‫بالعالمين‪ ،‬وكلها تؤكد الفارق بين أفعال هللا وأفعال الدجال السحرية‬
‫الخداعية‪.‬‬

‫إن اآليات التي تناقش موقف بني إسرائيل في سورة الدخان إنما تناقشها من‬
‫منظور ثابت وهو أن بني إسرائيل هم أولى الناس بالكفر بالدجال؛ ألنهم هم‬
‫الناجون من فرعون قرين الدجال بالتوافق والصفات وزعم األلوهية‬

‫(‪ )297‬صحيح مسلم‪.‬‬


‫(‪ )298‬تفسير البغوي‪.‬‬
‫والسحر‪.‬‬

‫وألنهم أعلم الناس بحقيقة أفعال هللا‪ ،‬من خالل آياته‪( :‬فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِ ْن ُك ْنت ُ ْم‬
‫صا ِد ِقينَ ) (الدخان‪ ،)36:‬ولن يأتي اآلباء؛ ألن الفاصل بين الغيب والشهادة ال‬ ‫َ‬
‫يمكن تجاوزه‪ ،‬هذا حكم هللا‪ ،‬أما فعل الدجال بتمثيل الشياطين في صورة اآلباء‬
‫فلعب وكذب وخداع‪.‬‬

‫إن المناسبة بين إثبات الوعد الحق هنا في السورة هي التقابل مع وعد الدجال‬
‫بأن يموت العبد يهودياً‪ ،‬أو نصرانيا ً‪ ،‬ومن هنا يجعل الدجال الشياطين تتمثل‬
‫للرجل في صورة أبيه وأجداده ويقولون له‪ :‬يا بني لقد عاينَّا األمر ووجدنا‬
‫أن اليهودية حق أو النصرانية حق‪.‬‬

‫وكما كان الكتاب مبينا‪ ،‬كان الرسول مبيناً؛ ليتضاعف معنى اإلبانة ألنها الصفة‬
‫الالزمة لمواجهة الدجال ويزيد الرسول ﷺ األمر بياناً‪ ،‬فكان كالم رسول هللا ﷺ‬
‫ش ْالبَ ْط َشةَ ا ْل ُكب َْر َٰى‬
‫مع قتلى بدر تحقيقا ً لإلبانة‪ ،‬وذلك كما جاء في اآلية‪( :‬يَ ْو َم نَب ِْط ُ‬
‫ِإنَّا ُم ْنتَ ِق ُمونَ ) (الدخان‪.)16:‬‬

‫ثم تأتي اآليات بنموذج تاريخي ألصحاب هذا الظن الكافر الخاسر‪( :‬أَ ُه ْم‬
‫َخي ٌْر أَ ْم قَ ْو ُم تُبَّعٍ َوالَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم ۚ أَ ْهلَ ْكنَا ُه ْم ۖ إِنَّ ُه ْم َكانُوا ُم ْج ِر ِمينَ )‬
‫(الدخان‪.)37:‬‬
‫وقوم تبع قوم مجرمين ظنوا أنهم خارجين عن إحاطة هللا ولكن ذلك ال يكون‬
‫وقد خلق السماوات واألرض بالحق‪.‬‬
‫ولكن لماذا خص هللا «تُبَّع» وقومه بالذكر في هذا السياق؟ قوم تبع هم‬
‫« ِحمير»‪ ،‬ولعل هناك سببين لذلك‪ ،‬أحدهما يتعلق بقريش‪ ،‬واآلخر يتعلق‬
‫بالدجال‪.‬‬

‫أما األول‪ :‬فهو أن قوم تبع «حمير» هم العرق المقابل لقريش في الملك بدليل‬
‫قول رسول هللا ﷺ‪َ « :‬كانَ َهذَا األ َ ْم ُر ِفى ِح ْميَ َر‪ ،‬فَنَزَ َعهُ َّ‬
‫َّللاُ ِم ْن ُه ْم‪ ،‬فَ َجعَلَهُ ِفى‬
‫قُ َري ٍْش‪َ ،‬و َسيَعُودُ ِإلَ ْي ِه ْم» (‪.)299‬‬
‫(‪ )299‬أخرجه أحمد (‪ ،91/4‬رقم ‪ )16873‬والطبراني (‪ ،234/4‬رقم ‪ ،)4227‬قال الهيثمي (‪ :)193/5‬رجالهم ثقات‪.‬‬
‫وأما الثاني‪ :‬فهو أن قوم تُبَّع هم «حمير»‪ ،‬وهم من سيخرج منهم آخر‬
‫الدجالين الثالثين الذين سيظهرون قبل ظهور المسيح الدجال‪ ،‬حيث خص‬
‫ع ْن ُه َما‪ ,‬قَا َل‪:‬‬ ‫ي َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫ض َ‬ ‫رسول هللا ﷺ دجال حمير‪ ،‬ف َع ْن َجا ِب ِر ب ِْن َ‬
‫ع ْب ِد هللاِ‪َ ،‬ر ِ‬
‫ب‬‫اح ُ‬ ‫ص ِ‬ ‫ع ِة َكذَّابين ِم ْن ُه ْم‪َ :‬‬
‫سا َ‬‫سو َل هللاِ ﷺ‪َ ،‬يقُولُ‪« :‬إِ َّن بَيْنَ َيدَي ِ ال َّ‬ ‫س ِم ْعتُ َر ُ‬ ‫َ‬
‫ب ِح ْميَ َر‪َ ،‬و ِم ْن ُه ْم‪:‬‬ ‫اح ُ‬‫ص ِ‬‫ي‪َ ،‬و ِم ْن ُه ْم‪َ :‬‬‫ص ْن َعا َء ْال َع ْن ِس ُّ‬
‫ب َ‬ ‫اح ُ‬ ‫ص ِ‬ ‫ْاليَ َما َم ِة‪َ ،‬و ِم ْن ُه ْم‪َ :‬‬
‫يب ِم ْن ثَالَثِينَ‬ ‫ص َحابِي‪ ،‬يَقُولُ‪ُ :‬ه ْم قَ ِر ٌ‬ ‫ض أَ ْ‬ ‫الدَّ َّجالُ‪َ ،‬و ُه َو أَ ْع َ‬
‫ظ ُم ُه ْم فِتْنَةً فَقَا َل بَ ْع ُ‬
‫َكذَّابًا»(‪.)300‬‬

‫يقول اإلمام البغوي في تفسيره‪« :‬وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا‪ :‬كان‬
‫تبع اآلخر‪ ،‬وهو أسعد أبو كرب بن مليك‪ ،‬جاء بكر حين أقبل من المشرق‬
‫وجعل طريقه على المدينة‪ ،‬وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنًا له‬
‫فقتل غيلة‪ ،‬فقدمها وهو مجمع إلخرابها واستئصال أهلها‪ ،‬فجمع له هذا الحي‬
‫من األنصار حين سمعوا ذلك من أمره‪ ،‬فخرجوا لقتاله وكان األنصار‬
‫يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل‪ ،‬فأعجبه ذلك وقال‪ :‬إن هؤالء لكرام‪ ،‬إذ جاءه‬
‫حبران اسمهما‪ :‬كعب وأسد من أحبار بني قريظة‪ ،‬عالمان وكانا ابني عم‪،‬‬
‫حين سمعا ما يريد من إهالك المدينة وأهلها‪ ،‬فقاال له‪ :‬أيها الملك ال تفعل‬
‫فإنك إن أبيت إال ما تريد حيل بينك وبينها‪ ،‬ولم نأمن عليك عاجل العقوبة‪،‬‬
‫فإنها مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه أحمد‪ ،‬مولده مكة‪،‬‬
‫وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت به يكون به من القتل والجراح أمر كبير‬
‫في أصحابه‪ ،‬وفي عدوهم‪ ،‬قال تبع‪ :‬من يقاتله وهو نبي؟ قاال‪ :‬يسير إليه‬
‫قومه فيقتلون ها هنا‪ ،‬فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة‪ ،‬ثم إنهما دعواه‬
‫إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة‪،‬‬
‫وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن»(‪.)301‬‬

‫ومن هذه الرواية تتبين المناسبة بين قوم تبع والسياق من عدة جهات‪ ،‬فمن‬
‫رد تُبَّع عن المدينة‪ ،‬وقالوا‬
‫جهة‪ :‬أن بقايا بني إسرائيل كانوا هم السبب في ِ‬
‫له‪ :‬إنها مهاجر «أحمد» ولن تسلط عليها‪ ،‬وهم من سيخرج الدجال في‬

‫(‪ )300‬رواه الحارث بن أسامة وأحمد بن حنبل وابن حبان في صحيحه‪.‬‬


‫(‪ )301‬تفسير البغوي‪ ،‬آية «أهم خير أم قوم تبع»‪.‬‬
‫ذريتهم ويحاول دخولها عنوة فتمنعه المالئكة‪ ،‬ويشير إليها ويقول‪ :‬هذا قصر‬
‫علَ َٰى ِع ْل ٍم َ‬
‫علَى‬ ‫«أحمد»‪ ،‬وهو ما يفسر قول هللا في السورة‪َ ( :‬ولَقَ ِد ْ‬
‫اختَ ْرنَا ُه ْم َ‬
‫ْالعَالَ ِمينَ ) (الدخان‪.)32:‬‬

‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فالبشارة التي ذكرها حبرا اليهود لـ «تُبَّع» تتعلق بغزوة‬
‫«بدر» وهي «البطشة الكبرى» كما ذكر المفسرون والتي قتل فيها زعماء‬
‫قريش‪ ،‬والتي مازال ذكرها باقيا ً حتى اآلن في سفر أشعياء‪.‬‬

‫وإذا كان علم هللا في بني إسرائيل قد بلغ هذا اإلحكام فما بالنا بخلق السماوات‬
‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ض َو َما بَ ْينَ ُه َما َال ِع ِبينَ َما َخلَ ْقنَا ُه َما إِ َّال‬ ‫واألرض‪َ ( :‬و َما َخلَ ْقنَا ال َّ‬
‫س َم َاوا ِ‬
‫ق َو َٰلَ ِك َّن أ َ ْكث َ َر ُه ْم َال يَ ْعلَ ُمونَ ) (الدخان‪ ،)39-38:‬يعني خلقناهما بقدر‬ ‫بِ ْال َح ِ‬
‫وإحكام‪.‬‬

‫يقول األستاذ سيد قطب في الظالل‪« :‬والواقع أن تدبر ما في خلق السماوات‬


‫واألرض من دقة وحكمة وقصد ظاهر وتنسيق ملحوظ‪ ،‬وخلق كل شيء‬
‫بمقدار ال يزيد وال ينقص عن تحقيق الغاية من خلقه‪ ،‬وتحقيق تناسقه مع‬
‫كل شيء وحوله‪ ،‬وظهور القصد في خلق كل شيء بالقدر والشكل الذي‬
‫خلق به‪ ،‬وانتفاء المصادفة والبعث في أي جانب صغر أو كبر في تصميم‬
‫هذه الخالئق الهائلة وما فيها من خالئق دقيقة لطيفة‪ ،‬الواقع أن تدبر هذا كله‬
‫يوقع في النفس أن لهذا الخلق غاية فال عبث فيه؛ وأنه قائم على الحق فال‬
‫باطل فيه» (‪.)302‬‬

‫إن أهم مقتضيات التصور اإلسالمي الصحيح إلدراك فتنة الدجال هو أن نعلم‬
‫الفارق األكبر بين أفعال الدجال وحقيقة الفعل اإللهي‪ ،‬وهو الفارق بين المخلوق‬
‫والخالق‪.‬‬

‫ومن هنا سبق ِذ ْكر حقيقة الفعل اإللهي مع ذكر عالمات الساعة كلها في‬
‫ترتيب البحث ولكن سورة الدخان تناقش هذا الفارق بصورة مباشرة‬
‫وكاملة‪ ،‬فأمر هللا محكم مكتوب في كتاب عنده‪ ،‬وكل ما علمه هللا يشاؤه‪،‬‬
‫(‪ )302‬في ظالل القرآن‪ ،‬سيد قطب‪.‬‬
‫وكل ما يشاؤه هللا يقضيه‪ ،‬وكل ما قضاه هللا يقدره‪ ،‬وكل ما يقدره هللا يفعله‪،‬‬
‫ال يخرج شيء عن هذه الحدود‪.‬‬

‫أفعال هللا كلها حق‪ ،‬خلق السماوات واألرض‪ ،‬الدنيا واآلخرة‪ ،‬الجنة والنار‪،‬‬
‫ال لعب ال عبث ال سدى وال لهو وال خداع‪.‬‬

‫(إِ َّن يَ ْو َم ْالفَ ْ‬


‫ص ِل ِميقَات ُ ُه ْم أَ ْج َم ِعينَ ) (الدخان‪ )40:‬وهو يوم القيامة يفصل هللا‬
‫تعالى فيه بين الخالئق فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين وقوله عز وجل‪:‬‬
‫( ِميقَ َٰـت ُ ُه ْم أَ ْج َم ِعينَ ) أي يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم» (‪.)303‬‬

‫ومن كالم المفسرين‪ ،‬يتبين لنا أن تسمية يوم القيامة بيوم الفصل يناسب‬
‫محاولة معرفة الكفار لمصيرهم من آبائهم قبل يوم القيامة‪ ،‬ومن هنا كانت‬
‫كلمة {أَ ْج َم ِعين} أي أنتم وآباؤكم‪.‬‬

‫فالقيامة فصل بين الحق والباطل بغير خلط‪ ،‬وبين الغيب والشهادة بغير‬
‫خرق‪ ،‬وبين اآلباء واألبناء بغير تداخل‪ ،‬وال يمكن قبل يوم الفصل معرفة‬
‫المصائر‪ .‬وأول مقتضيات الفصل أن تكون القيامة ( ِإ َّال َم ْن َر ِح َم َّ‬
‫َّللاُ ۚ ِإنَّهُ ُه َو‬
‫الر ِحي ُم) (الدخان‪.)42:‬‬ ‫ْالعَ ِز ُ‬
‫يز َّ‬

‫ولذلك كان ختام السورة عرض للنار والجنة‪ ،‬نار هللا وجنته سبحانه‪ ،‬وليست‬
‫نار الدجال وال جنته‪ ،‬ولكن النار والجنة في سورة الدخان جاء ذكرهما‬
‫باعتبارهما جزا ًء لمن اتبع الدجال ولمن كفر به‪ ،‬فالذي اتبع الدجال‪ ،‬اتبعه‬
‫من أجل الطعام والشراب‪ ،‬ولذا كان في النار طعام وشراب‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ون) (الدخان‪.)45-43:‬‬ ‫ط َعا ُم ْاأل َ ِث ِيم َك ْال ُم ْه ِل يَ ْغ ِلي ِفي ْالبُ ُ‬
‫ط ِ‬ ‫الزقُّ ِ‬
‫وم َ‬ ‫ت َّ‬ ‫( ِإ َّن َ‬
‫ش َج َر َ‬

‫ولذكر شجرة الزقوم مناسبة مع الدجال‪ ،‬ومع غزوة بدر حيث ربط ابن‬
‫عباس بين غزوة بدر وشجرة الزقوم والدجال‪.‬‬
‫ت ْال َم ْقد ِِس ث ُ َّم َجا َء ِم ْن لَ ْيلَ ِت ِه فَ َحدَّث َ ُه ْم‬ ‫َّاس قَا َل‪« :‬أ ُ ْس ِر َ‬
‫ي ِبالنَّ ِبي ِ ِإلَى بَ ْي ِ‬ ‫عب ٍ‬ ‫ف َع ِن اب ِْن َ‬
‫ِق ُم َح َّمدًا ِب َما‬ ‫صد ُ‬ ‫نح ٌن ال نُ َ‬ ‫َاس ْ‬‫ير ِه ْم فَقَا َل ن ٌ‬ ‫ت ْال َم ْقد ِِس َو ِب ِع ِ‬‫ِير ِه َوبِ َع َال َم ِة بَ ْي ِ‬
‫ِب َمس ِ‬
‫(‪ )303‬تفسير ابن كثير‪.‬‬
‫َّللاُ أَ ْعنَا َق ُه ْم َم َع أَ ِبي َج ْه ٍل «في غزوة بدر»‪،‬‬ ‫ب َّ‬ ‫ض َر َ‬‫ارا َف َ‬ ‫ارتَدُّوا ُكفَّ ً‬
‫َيقُولُ‪َ ،‬ف ْ‬
‫وم هَاتُوا ت َ ْم ًرا َو ُز ْبدًا فَت َزَ قَّ ُموا‪،‬‬
‫الزقُّ ِ‬
‫ش َج َرةِ َّ‬ ‫َوقَا َل أَبُو َج ْه ٍل‪ :‬يُخ َِوفُنَا ُم َح َّمدٌ ِب َ‬
‫ْس ُرؤْ يَا َمن ٍَام»(‪.)304‬‬‫عي ٍْن لَي َ‬‫ورتِ ِه ُرؤْ يَا َ‬
‫ص َ‬ ‫َو َرأَى الدَّ َّجا َل فِي ُ‬

‫وكذلك تتناسب شجرة الزقوم مع الدجال في معنى الفتنة‪ ،‬حيث شبه هللا‬
‫طلعها برؤوس الشياطين‪ ،‬الذين سيكونون أتباعا ً للدجال!‬

‫يز ْال َك ِري ُم) (الدخان‪.)49:‬‬


‫ت ْالعَ ِز ُ‬
‫(ذُ ْق ِإنَّ َك أَ ْن َ‬

‫وهذه اآليات نزلت أساسا ً في أبي جهل وما فعله هللا به في غزوة بدر‪ ،‬قال‬
‫قتادة‪« :‬قال أبو جهل‪ :‬ما بين جبليها رجل أعز وال أكرم مني‪ ،‬فقال هللا عز‬
‫يز ْال َك ِري ُم)» (‪.)305‬‬
‫ت ْال َع ِز ُ‬
‫وجل‪( :‬ذُ ْق إِنَّ َك أ َ ْن َ‬

‫وقال عكرمة‪ :‬التقى النبي ﷺ وأبو جهل فقال النبي ﷺ‪« :‬إن هللا أمرني أن‬
‫أقول لك‪ :‬أولى لك فأولى» فقال‪ :‬بأي شئ تهددني! وهللا ما تستطيع أنت وال‬
‫ربك أن تفعال بي شيئا‪ ،‬إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه على قومه‪ ،‬فقتله‬
‫هللا يوم بدر وأذله ونزلت هذه اآلية» (‪.)306‬‬

‫والحقيقة أن مالك‪ ،‬خازن النار‪ ،‬هو من سيوجه هذا القول إلى أبي جهل‬
‫مباشرة‪ ،‬بدليل قول مقاتل‪« :‬ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم» قال‬
‫مقاتل‪ :‬يضرب مالك خازن النار ضربة على رأس أبي جهل بمقمع من‬
‫حديد‪ ،‬فيتفتت رأسه عن دماغه‪ ،‬فيجري دماغه على جسده‪.‬‬
‫ولمالك‪ ،‬خازن النار‪ ،‬مناسبة مع الدجال‪ :‬روى اإلمام مسلم في صحيحه‪:‬‬
‫َّللاِ ﷺ‪:‬‬‫سو ُل َّ‬ ‫َّاس قَا َل‪ :‬قَا َل َر ُ‬ ‫عب ٍ‬ ‫ع ْن أَ ِبي ْال َعا ِل َي ِة َحدَّثَنَا اب ُْن َ‬
‫ع ِم نَ ِب ِي ُك ْم ﷺ اب ُْن َ‬ ‫َ‬
‫س َالم َر ُج ٌل آدَ ُم ُ‬
‫ط َوا ٌل‬ ‫علَ ْي ِه ال َّ‬
‫سى ب ِْن ِع ْم َرانَ َ‬ ‫علَى ُمو َ‬ ‫ي ِبي َ‬ ‫« َم َر ْرتُ لَ ْيلَةَ أ ُ ْس ِر َ‬
‫ق ِإلَى‬ ‫ع ْالخ َْل ِ‬‫سى ابْنَ َم ْريَ َم َم ْربُو َ‬ ‫شنُو َءةَ َو َرأَيْتُ ِعي َ‬ ‫َج ْعدٌ َكأَنَّهُ ِم ْن ِر َجا ِل َ‬
‫ط َّ ْ‬
‫ت‬ ‫ار َوالدَّ َّجا َل فِي آيَا ٍ‬ ‫َازنَ النَّ ِ‬ ‫ي َما ِل ًكا خ ِ‬‫الرأ ِس َوأ ُ ِر َ‬ ‫سبِ َ‬‫اض َ‬ ‫ْال ُح ْم َرةِ َو ْالبَيَ ِ‬

‫(‪ )304‬ورواه النسائي من حديث أبي زيد ثابت بن يزيد عن هالل ‪-‬وهو ابن خباب‪-‬به‪ ،‬وهو إسناد صحيح‪.‬‬
‫(‪ )305‬الدر المنثور‪.‬‬
‫(‪ )306‬تفسير البغوي آية «ذق إنك أنت العزيز الكريم»‪.‬‬
‫أَ َرا ُه َّن َّ‬
‫َّللاُ ِإيَّاهُ»(‪.)307‬‬

‫ودليل اختصاص العالقة بين الدجال ومالك خازن النار هو أن الرسول كان‬
‫يقول رأيت موسى ورأيت عيسى ولكنه جمع في الرؤية بين مالك والدجال‬
‫ي» مال ًكا خازن جهنم والدجال» ولم يفصل بينهما بكلمة‬ ‫فقال‪َ « :‬وأ ُ ِر َ‬
‫«ورأيت»‪ ،‬ليكون الدجال صاحب «النار الوهمية» أمام مالك خازن جهنم‬
‫«النار الحقيقية»‪.‬‬

‫( ِإ َّن َٰ َهذَا َما ُك ْنت ُ ْم ِب ِه ت َ ْمتَ ُرونَ ) (الدخان‪.)50:‬‬


‫إن الذنب المذكور للكافرين هو االمتراء والشك‪ ،‬وقد تكرر ذكر هذا الذنب‬
‫في قول هللا‪( :‬بَ ْل ُه ْم فِي ش ٍَك يَ ْلعَبُونَ ) (الدخان‪ ،)9:‬وقول هللا‪َ ( :‬ر ِ‬
‫ب‬
‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َو َما َب ْينَ ُه َما ۖ ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمو ِق ِنينَ ) (الدخان‪ ،)7:‬ألن اليقين‬ ‫س َم َاوا ِ‬
‫ال َّ‬
‫هو المواجهة الصحيحة الكاملة للدجال‪ ،‬وكما كان وصف جهنم مناسبا‬
‫للدجال‪ ،‬كذلك كان وصف الجنة مناسبا للمتقين‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫(إِ َّن َٰ َهذَا َما ُك ْنت ُ ْم بِ ِه ت َ ْمتَ ُرونَ ) (الدخان‪.)52:‬‬

‫فكان أول صفاتها‪ ،‬األمان‪ ،‬وهي الصفة المقابلة للدجال بأخطر صفاته وهي‬
‫ْب ْال َمسِيحِ ِإ َّال‬ ‫ْس بَلَدٌ إِ َّال يَ ْد ُخلُهُ ُرع ُ‬
‫الرعب كما قال رسول هللا ﷺ‪ِ « :‬إنَّهُ لَي َ‬
‫ْب ْال َمسِيحِ» (‪.)308‬‬ ‫ع ْن َها ُرع َ‬ ‫ان يَذُب ِ‬
‫َّان َ‬ ‫ْال َمدِينَةَ َ‬
‫علَى ُك ِل نَ ْق ٍ‬
‫ب ِم ْن نِقَابِ َها يَ ْو َمئِ ٍذ َملَ َك ِ‬
‫اب َوتَقَ ُع‬‫َّللاُ ِفي زَ َما ِن ِه‪ ،‬أي عيسى ابن مريم‪ْ ،‬ال َمسِي َح الدَّ َّجا َل ْال َكذَّ َ‬ ‫« َويُ ْه ِلكُ َّ‬
‫ور َم َع ْال َبقَ ِر‬‫اإلبِ ُل َم َع ْاأل ُ ْس ِد َج ِميعًا َوالنُّ ُم ُ‬ ‫ض َحتَّى تَ ْرتَ َع ْ ِ‬ ‫ْاأل َ َمنَةُ فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫اب َم َع ْالغَن َِم» (‪.)309‬‬
‫الذئَ ُ‬‫َو ِ‬

‫س ْند ٍُس َو ِإ ْستَب َْر ٍ‬


‫ق ُمتَقَابِ ِلينَ ) (الدخان‪.)53:‬‬ ‫( َي ْل َب ُ‬
‫سونَ ِم ْن ُ‬
‫وتأتي ثياب السندس واإلستبرق للمؤمنين في اآلخرة عوضا ً ع َّما زهدوا فيه‬
‫من فتنة الدنيا التي تمثلت في ثياب أتباع الدجال‪ ،‬حيث قال رسول هللا‪« :‬يتبع‬
‫الدجال سبعون ألفا من يهود أصبهان‪ ،‬عليهم الطيالسة» (‪« ،)310‬يخرج حين‬
‫(‪ )307‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم (‪.)240‬‬
‫(‪ )308‬رواه اإلمام البخاري (‪ )1746‬واإلمام أحمد (‪ )19574‬واللفظ ألحمد‪.‬‬
‫(‪ )309‬رواه أحمد رقم‪9259 /‬‬
‫(‪ )310‬المعجم األوسط للطبراني‪ ،‬ج‪.11 /‬‬
‫يخرج على مقدمته سبعون ألفا‪ ،‬عليهم السيجان» (‪.)311‬‬
‫والطيالسة‪ :‬جمع طيلسان‪ ،‬وهو ثوب يلبس على الكتف يحيط بالبدن ينسج‬
‫للبس خال من التفصيل والخياطة‪ ،‬ومن الطيلسان ثياب السدوس‪:‬‬

‫س ْندُسا ً و ُ‬
‫سدوسا‬ ‫َّ‬
‫كأن عليها ُ‬ ‫ت َح َب ِشيَّةً‬ ‫وداو ْيتُها حتَّى َ‬
‫شت َ ْ‬ ‫َ‬

‫الط ْيلَسان األَخضر‪ ،‬والسدوس هو السندس (‪.)312‬‬ ‫ت ُسدُوسا ً وهو َّ‬


‫ولهذا جعلها كأَنها ُج ِل َل ْ‬
‫ض ُر واألسود (‪.)313‬‬ ‫والسيجان‪ :‬جمع ساجٍ‪ ،‬وهو نوع من الثياب منه َّ‬
‫الط ْيلَ َ‬
‫سان األ َخ َ‬

‫ين) (الدخان‪.)54:‬‬ ‫( َك َٰذَ ِل َك َوزَ َّو ْجنَا ُه ْم بِ ُح ٍ‬


‫ور ِع ٍ‬
‫ويأتي الجزاء بالحور العين عوضا ً عن فتنة النساء التي يستخدمها الدجال‪،‬‬
‫كما جاء في الحديث‪« :‬فأكثر تبعه اليهود والنساء» (‪.)314‬‬

‫ومن هنا كانت الحور العين جزاء من يقرأ سورة الدخان ليلة الجمعة‪ ،‬كما‬
‫ع ْن‬ ‫صدَقَةُ ب ُْن خَا ِل ٍد َ‬ ‫ار ِك َحدَّثَنَا َ‬ ‫روى الدارمي في سننه‪َ :‬حدَّثَنَا ُم َح َّمدُ ب ُْن ْال َمبَ َ‬
‫ع ْن أَ ِبى َرا ِفعٍ قَا َل‪َ « :‬م ْن قَ َرأَ الدُّخَانَ ِفى لَ ْيلَ ِة ْال ُج ُمعَ ِة أَ ْ‬
‫ص َب َح‬ ‫ث َ‬ ‫ار ِ‬ ‫َي ْح َيى ب ِْن ْال َح ِ‬
‫ين» (‪.)315‬‬ ‫ور ْال ِع ِ‬‫َم ْغفُورا ً لَهُ‪َ ،‬و ُز ِو َج ِمنَ ْال ُح ِ‬

‫عونَ ِفي َها ِب ُك ِل فَا ِك َه ٍة ِآم ِنينَ ) (الدخان‪.)55:‬‬


‫( َي ْد ُ‬
‫عونَ )‪ ،‬والمراد هنا أمن خاص غير الذي في‬ ‫و( ِآمنِينَ ) حال من ضمير ( َي ْد ُ‬
‫أمين)‪ ،‬أو آمنين من نفاد ذلك وانقطاعه‪ ،‬وتركيز السورة‬ ‫ٍ‬ ‫مقام‬
‫قوله‪( :‬في ٍ‬
‫على صفة األمان أمر يتناسب مع فتنة الدجال كما أسلفنا‪.‬‬

‫والفاكهة هي الطعام الذي يدل على الشبع‪ ،‬وهو ما يقابل الجوع في فتنة‬
‫الدجال‪ ،‬وبذلك تتناسب اآلية بكل ما فيها مع الدجال‪.‬‬

‫(‪ )311‬أخرجه أحمد والحاكم‪.‬‬


‫(‪ )312‬لسان العرب‪.‬‬
‫(‪ )313‬مختار الصحاح‪.‬‬
‫(‪ )314‬مجمع الزوائد‪.‬‬
‫(‪ )315‬سنن الدارمي‪.‬‬
‫عونَ فِي َها ِب ُك ِل فَا ِك َه ٍة ِآمنِينَ ) أي‪ :‬مهما طلبوا من أنواع الثمار‬‫وقوله‪َ ( :‬ي ْد ُ‬
‫أحضر لهم‪ ،‬وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه‪ ،‬بل يحضر إليهم كلما‬
‫أرادوا» (‪.)316‬‬

‫وتأكيدا لألمان تكون الطمأنة ( َفض ًْال ِم ْن َر ِب َك ۚ َٰذَ ِل َك ُه َو ْال َف ْو ُز ْال َع ِظي ُم)‬
‫(الدخان‪ ،)57:‬ويأتي األمان من الموت في مقابل فتنة اإلحياء واإلماتة التي‬
‫يأتي بها الدجال‪.‬‬

‫سانِ َك لَ َعلَّ ُه ْم َيتَذَ َّك ُرونَ ) (الدخان‪.)58:‬‬ ‫(فَإِنَّ َما َي َّ‬


‫س ْرنَاهُ بِ ِل َ‬
‫لسانك العربي‪ ،‬الذي أوضح سورة كاملة من خالل معني كلمة واحدة هي‬
‫«الدخان»‪ ،‬وللسان العربي مع الدجال شأن عظيم ألن العرب أشد الناس‬
‫ع ْن أَبِي ُه َري َْرةَ‪ ،‬قَا َل‪:‬‬ ‫على الدجال‪ ،‬وأشدهم ولد إسماعيل‪ ،‬وأهمهم بنو تميم‪َ :‬‬
‫َّللاِ ﷺ َيقُو ُل فِي ِه ْم‬ ‫سو ِل َّ‬ ‫س ِم ْعتُ ِم ْن َر ُ‬ ‫ث َ‬ ‫ب بَنِي تَ ِم ٍيم ُم ْنذُ ثَ َال ٍ‬ ‫« َما ِز ْلتُ أ ُ ِح ُّ‬
‫سو ُل‬ ‫صدَقَات ُ ُه ْم فَقَا َل َر ُ‬ ‫ت َ‬ ‫علَى الدَّ َّجا ِل قَا َل َو َجا َء ْ‬ ‫شدُّ أ ُ َّمتِي َ‬‫س ِم ْعتُهُ يَقُو ُل ُه ْم أ َ َ‬ ‫َ‬
‫شةَ فَقَا َل أَ ْعتِ ِقي َها فَإِنَّ َها‬‫عائِ َ‬‫سبِيَّةٌ ِم ْن ُه ْم ِع ْندَ َ‬‫َت َ‬‫صدَقَاتُ قَ ْو ِمنَا َو َكان ْ‬ ‫َّللاِ ﷺ َه ِذ ِه َ‬ ‫َّ‬
‫ِم ْن َولَ ِد إِ ْس َما ِعي َل»(‪.)317‬‬

‫وبنو تميم الذين هم أشد األمة على الدجال هم أنفسهم أفصح العرب لسانا‪:‬‬
‫حدثنا الفضل بن دكين عن أبي خلدة عن أبي العالية قال‪« :‬قرأ على النبي‬
‫ﷺ من كل جنس رجل‪ ،‬فاختلفوا في اللغة فرضي قراءتهم كلهم‪ ،‬فكان بنو‬
‫(‪)318‬‬
‫تميم أعرب القوم»‬

‫سانِ َك لَعَلَّ ُه ْم يَتَذَ َّك ُرونَ ﴾‪،‬‬ ‫ومن هنا تتبين مناسبة اآلية‪ ﴿:‬فَإِنَّ َما يَ َّ‬
‫س ْرنَاهُ بِ ِل َ‬
‫وخصوصا إذا علمنا أن الدجال معه كل األلسنة وأن اللسان أخطر عناصر‬
‫الفتنة‪ ،‬وأن اللسان العربي‪ ،‬الذي هو خير األلسنة وأقواه‪ ،‬هو القادر على‬
‫الدجال بكل ألسنته‪.‬‬

‫(‪ )316‬تفسير ابن كثير‪.‬‬


‫(‪ )317‬صحيح البخاري‪.)2370( .‬‬
‫(‪ )318‬اآلحاد والمثاني البن أبي عاصم ‪1051‬‬
‫ارت َ ِقبْ ِإنَّ ُه ْم ُم ْرت َ ِقبُونَ ) (الدخان‪.)59:‬‬
‫(فَ ْ‬
‫وفيها حقيقة هامة هي طالقة التقدير اإللهي في الصراع بين الخير والشر‪،‬‬
‫والحق والباطل‪ ،‬وأن جميع أطراف الصراع ال يخرجون عن حد االرتقاب لما‬
‫سيكون من أقدار هللا‪.‬‬

‫ارتَ ِقبْ ) (الدخان‪ ،)59:‬أي‪ :‬انتظر‬ ‫ومن هنا كانت أقوال جمهور المفسرين‪ْ ( :‬‬
‫ما وعدك ربك من الخير والنصر (إِنَّ ُه ْم ُم ْرتَ ِقبُونَ ) (الدخان‪ ،)59:‬ما يحل‬
‫بهم من العذاب وفرق بين االرتقابين‪ :‬رسول هللا وأتباعه يرتقبون الخير في‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬وضدهم يرتقبون الشر في الدنيا واآلخرة» (‪.)319‬‬

‫(‪ )319‬تفسير السعدي‪.‬‬


‫سورة األنبياء ويأجوج ومأجوج‬
‫العالقة بين «األنبياء» وبين «يأجوج ومأجوج» هي العالقة بين «أمة‬
‫التوحيد على امتداد التاريخ» والتي يمثل األنبياء حلقاتها المتصلة‪ ،‬وأنويتها‬
‫المتناثرة‪ ،‬وبين «أمة الكفر على امتداد التاريخ» والتي يشكل «يأجوج‬
‫عشر العُشر‪ ،‬وذلك مستفاد من حديث‬ ‫ومأجوج» معها نسبة عددية ثابتة هي ُ‬
‫النبي ﷺ‪« :‬يقول هللا‪ :‬يا آدم‪ ،‬فيقول‪ :‬لبيك وسعديك والخير في يديك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫يقول‪ :‬أخرج بعث النار‪ ،‬قال‪ :‬وما بعث النار؟ قال‪ :‬من كل ألف تسعمائة‬
‫وتسعة وتسعين‪ ،‬فذاك حين يشيب الصغير‪ ،‬وتضع كل ذات حمل حملها‪،‬‬
‫وترى الناس سكرى وما هم بسكرى‪ ،‬ولكن عذاب هللا شديد‪ ،‬فاشتد ذلك‬
‫عليهم فقالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أينا ذلك الرجل؟ قال‪ :‬أبشروا‪ ،‬فإن من يأجوج‬
‫ومأجوج ألفا ومنكم رجال»(‪.)320‬‬

‫والعالقة بين األنبياء وبين «يأجوج ومأجوج» هي عالقة التضاد والتقابل‬


‫من هذا المعنى‪ ،‬وقد أثبت اإلمام البخاري هذه العالقة بين سورة «األنبياء»‬
‫وبين عالمة «يأجوج ومأجوج» حين أورد قصة «يأجوج ومأجوج» في‬
‫«كتاب األنبياء» (‪.)321‬‬

‫أما ابن حجر فقد ذكر ما يُظهر مضمون هذه العالقة في قوله‪« :‬والغرض‬
‫منه هنا ‪-‬ذكر يأجوج ومأجوج‪-‬اإلشارة إلى كثرتهم‪ ،‬وأن هذه األمة بالنسبة‬
‫إليهم نحو عشر العشر‪ ،‬وأنهم من ذرية آدم‪ ،‬ردًّا على من قال خالف ذلك‬
‫(‪.)322‬‬
‫وقد زادت العالقة وضو ًحا عندما ذكر ابن حجر قصة لقاء ذي القرنين‬
‫علَى تَقَدُّم ذِي ْالقَ ْرنَي ِْن َما َر َوى ْالفَا ِك ِهي ِم ْن‬ ‫بإبراهيم(‪ )323‬فقال‪َ « :‬والَّذِي َيدُل َ‬
‫ع َميْر أَ َحد ِك َبار التَّا ِب ِعينَ أ َ َّن ذَا ْالقَ ْرنَي ِْن َح َّج َما ِشيًا فَ َ‬
‫س ِم َع بِ ِه‬ ‫عبَيْد بْن ُ‬ ‫ط ِريق ُ‬ ‫َ‬
‫عبَّاس أَ َّن ذَا ْالقَ ْرنَي ِْن دَ َخ َل ْال َم ْس ِجد‬
‫ع ْن اِبْن َ‬ ‫طاء َ‬ ‫ع َ‬ ‫ط ِريق َ‬ ‫ِإب َْرا ِهيم فَتَلَقَّاهُ‪َ ،‬و ِم ْن َ‬
‫ط ِريق‬ ‫صافَ َح‪ ،‬و ِم ْن َ‬ ‫صافَ َحهُ‪َ ،‬ويُقَال ِإنَّهُ أَ َّول َم ْن َ‬ ‫علَى ِإب َْرا ِهيم َو َ‬ ‫سلَّ َم َ‬‫ْال َح َرام فَ َ‬
‫(‪ )320‬صحيح البخاري‬
‫(‪ )321‬يراجع كتاب «علم الحديث منظور إعجازي» للمؤلف‪ ،‬وفيه يتعرض للمنهجية الدقيقة لترتيب وتصنيف األحاديث‬
‫عند اإلمام البخاري‪.‬‬
‫(‪ )322‬فتح الباري (‪.)386/6‬‬
‫(‪ )323‬فتح الباري(‪.)382/6‬‬
‫ْف َو َق ْد‬‫عو لَهُ فَقَا َل‪َ :‬و َكي َ‬ ‫سأ َ َل ِإب َْرا ِهيم أَ ْن َي ْد ُ‬ ‫ساج أَ َّن ذَا ْالقَ ْرنَي ِْن َ‬ ‫عثْ َمان بْن َ‬ ‫ُ‬
‫ع ْن أَ ْم ِري‪ ،‬يَ ْعنِي أَ َّن بَ ْعض ْال ُج ْند فَعَ َل ذَ ِل َك‬ ‫س ْدت ُ ْم بِئْ ِري؟ فَقَا َل لَ ْم يَ ُك ْن ذَ ِل َك َ‬ ‫أَ ْف َ‬
‫بِغَي ِْر ِع ْلمه‪ ،‬وذَ َك َر اِبْن ِهشَام فِي «التِي َجان» أَ َّن إِب َْرا ِهيم تَ َحا َك َم إِلَى ذِي ا ْلقَ ْرنَي ِْن‬
‫ع ِلي بْن أَ ْح َمد أ َ َّن ذَا‬ ‫ط ِريق َ‬ ‫ش ْيء فَ َح َك َم لَهُ‪َ ،‬و َر َوى اِبْن أ َ ِبي َحا ِتم ِم ْن َ‬ ‫ِفي َ‬
‫ع ْن ذَ ِل َك‬ ‫ان ْال َك ْع َبة فَا ْست َ ْف َه َم ُه َما َ‬
‫ْالقَ ْرنَي ِْن قَد َِم َم َّكة فَ َو َجدَ ِإب َْرا ِهيم َو ِإ ْس َما ِعيل يَ ْبنِ َي ِ‬
‫سة أَ ْكبُش‬ ‫ت خ َْم َ‬ ‫ان‪ ،‬فَقَا َل َم ْن يَ ْش َهد لَ ُك َما؟ فَقَا َم ْ‬ ‫ور ِ‬ ‫ان َمأ ْ ُم َ‬ ‫ع ْبدَ ِ‬‫فَقَ َاال‪ :‬ن َْح ُن َ‬
‫ارة‪َ ،‬ويُ ْحتَ َمل أَ ْن‬ ‫ورة ِح َج َ‬ ‫ظن ْاأل َ ْكبُش ْال َم ْذ ُك َ‬ ‫صدَ ْقت ُ ْم‪ ،‬قَا َل َوأَ ُ‬
‫ت‪ ،‬فَقَا َل‪ :‬قَ ْد َ‬ ‫ش ِهدَ ْ‬ ‫فَ َ‬
‫ع ْهد ذِي ْالقَ ْرنَي ِْن»‬ ‫علَى ِقدَم َ‬ ‫ضا‪ ،‬و َيدُل َ‬ ‫شد بَ ْعض َها َب ْع ً‬ ‫غنَ ًما‪ ،‬ف َه ِذ ِه ْاآلثَار َي ُ‬ ‫تَ ُكون َ‬
‫(‪.)324‬‬
‫فهذا اللقاء يدل على التقابل بين «األنبياء» وبين «يأجوج ومأجوج» من‬
‫جهة أن إبراهيم هو أبو األنبياء‪ ،‬وأن ذي القرنين هو صاحب السد المانع‬
‫من خروج يأجوج ومأجوج‪.‬‬

‫ومع إبراهيم إسماعيل أصل االمتداد البشري ألمة النبي ﷺ الباقية إلى قيام‬
‫الساعة وأكثر األمم عددًا‪ ،‬والتي تمثل ثلثي هذه األمة المسلمة الواحدة‪،‬‬
‫وخصوصا عندما يكون لقاء ذي القرنين مع إبراهيم واسماعيل وهما يبنيان‬
‫الكعبة وهو الوقت الذي أعطى هللا فيه العهد بالوالية على البشر‪.‬‬

‫ت‬ ‫ت َوإِ ْس َما ِعي ُل َربَّنَا تَقَب َّْل ِمنَّا ۖ إِنَّ َك أَ ْن َ‬ ‫( َوإِ ْذ يَ ْرفَ ُع إِب َْرا ِهي ُم ْالقَ َوا ِعدَ ِمنَ ْالبَ ْي ِ‬
‫اج َع ْلنَا ُم ْس ِل َمي ِْن لَ َك َو ِم ْن ذُ ِريَّ ِتنَا أ ُ َّمةً ُم ْس ِل َمةً لَ َك َوأَ ِرنَا‬ ‫س ِمي ُع ْال َع ِلي ُم َربَّنَا َو ْ‬ ‫ال َّ‬
‫س ً‬
‫وال ِم ْن ُه ْم‬ ‫ث فِي ِه ْم َر ُ‬ ‫الر ِحي ُم َربَّنَا َوا ْبعَ ْ‬ ‫اب َّ‬ ‫علَ ْينَا ۖ ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫ت الت َّ َّو ُ‬ ‫َمنَا ِس َكنَا َوتُبْ َ‬
‫يز ْال َح ِكي ُم)‬ ‫ت ْالعَ ِز ُ‬ ‫اب َو ْال ِح ْك َمةَ َويُزَ ِكي ِه ْم ۚ ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬‫علَ ْي ِه ْم آيَاتِ َك َويُعَ ِل ُم ُه ُم ْال ِكتَ َ‬
‫يَتْلُو َ‬
‫(البقرة‪.)129-127:‬‬

‫دليال على بقاء أمة األنبياء؛ فامتداد‬ ‫مع زمزم الماء الباقي إلى قيام الساعة‪ً ،‬‬
‫الماء هو امتداد الحياة‪ ،‬أي هو امتداد الذرية‪ ،‬وامتداد الرسالة‪ ،‬ولذلك كان‬
‫نهر الكوثر‪ ،‬والذي هو حوض النبي في الجنة‪ ،‬عزاؤه حين عيرته قريش‬
‫بأنه أبتر ال ولد له‪ ،‬أي ال امتداد له‪ ،‬فأنزل هللا سبحانه‪( :‬إِ َّن شَا ِنئَ َك ُه َو ا ْأل َ ْبت َ ُر)‬
‫(الكوثر‪.)3:‬‬
‫(‪ )324‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ /‬باب قول هللا تعالى ويسألونك عن ذي القرنين إلى قوله سببا)‪.‬‬
‫وسنجد أن إفناء الماء سيكون أول أعمال يأجوج ومأجوج التي سيعرفون‬
‫بها عند خروجهم في آخر الزمان‪ ،‬فيكون لقاء إبراهيم وذي القرنين بداية‬
‫مرحلة جديدة في التاريخ البشري‪ ،‬حيث كان حبس يأجوج ومأجوج بواسطة‬
‫ذي القرنين مع بداية مرحلة األنبياء‪ ،‬بإبراهيم «أبو األنبياء» وآخرها أمة‬
‫النبي ﷺ‪.‬‬

‫ودون استثناء آية واحدة من السورة فإن عناصرها ترتبط بعالمة يأجوج‬
‫ومأجوج من عدة جهات‪:‬‬

‫أوال‪ :‬عناصر امتداد األمة الكافرة‪ ،‬بما في ذلك أخطر قضايا االمتداد‬
‫البشري الباطل‪ ،‬وبذلك يتم تفسير الوجود الجاهلي وامتداده‪ ،‬ثم يكون تفسير‬
‫األمة المسلمة الممتدة في مقابل الوجود الجاهلي‪ ،‬وهذا ما يفرض العنصر‬
‫الثاني في المسألة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬النبوة واستقرار الوحي وثباته في الواقع البشري‪.‬‬


‫ثالثا‪ :‬وحدة النبوة المستقرة الثابتة‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬والمحققة للصواب والكثرة الصحيحة من خالل اجتماع‪ :‬الحكم‪،‬‬


‫واإلمامة في الدين‪ ،‬والعلم‪ ،‬والبركة‪ ،‬مع النبوة‪ ،‬ثم تفسير البقاء الكوني‬
‫بالحفظ‪ ،‬وبإنشاء األمة بعد األمة‪ ،‬ثم تفسير الطبيعة الكونية الموافقة للنبوة‬
‫باعتبار خلق السماوات بالحق وأثر المالئكة واآليات الكونية‪.‬‬

‫وفي النهاية تكون المناسبات اللفظية في السورة المؤ َّكدة للعالقة بين العالمة‬
‫والسورة وكلماتها وألفاظها المحددة‪.‬‬
‫عناصر االمتداد البشري الكافر‬
‫َاث أَ ْح َال ٍم بَ ِل ا ْفت َ َراهُ بَ ْل ُه َو شَا ِع ٌر فَ ْليَأْتِنَا بِآيَ ٍة َك َما أ ُ ْر ِس َل‬
‫ضغ ُ‬‫(بَ ْل قَالُوا أَ ْ‬
‫ْاأل َ َّولُونَ ) (األنبياء‪.)5:‬‬
‫إن مقدمة السورة تجمع عناصر االمتداد البشري الكافر‪ ،‬ومن مجموع آيات‬
‫المقدمة تتحدد هذه العناصر لتكون الغفلة واإلعراض واللعب واللهو‪ ،‬ثم‬
‫االنشغال باتهام األنبياء بالسحر‪ ،‬وبأضغاث األحالم‪ ،‬وباالفتراء‪ ،‬وبالشعر‪.‬‬
‫يضاف إلى هذه العناصر ما ذكرته اآليات من خالل السورة كلها مثل‬
‫ي‬‫اإلعراض (أَ ِم ات َّ َخذُوا ِم ْن دُونِ ِه آ ِل َهةً ۖ قُ ْل هَاتُوا بُ ْرهَانَ ُك ْم ۖ َٰ َهذَا ِذ ْك ُر َم ْن َم ِع َ‬
‫َو ِذ ْك ُر َم ْن قَ ْب ِلي ۗ َب ْل أ َ ْكثَ ُر ُه ْم َال َي ْعلَ ُمونَ ْال َح َّق ۖ فَ ُه ْم ُم ْع ِرضُونَ ) (األنبياء‪،)24:‬‬
‫آك الَّذِينَ َكفَ ُروا إِ ْن َيت َّ ِخذُونَ َك إِ َّال ُه ُز ًوا أَ َٰ َهذَا الَّذِي َي ْذ ُك ُر‬
‫واالستهزاء‪َ ( :‬و ِإذَا َر َ‬
‫س ٍل‬ ‫الر ْح َٰ َم ِن ُه ْم َكافِ ُرونَ ) (األنبياء‪َ ( ،)36:‬ولَقَ ِد ا ْست ُ ْه ِز َ‬
‫ئ ِب ُر ُ‬ ‫آ ِل َهتَ ُك ْم َو ُه ْم ِب ِذ ْك ِر َّ‬
‫س ِخ ُروا ِم ْن ُه ْم َما َكانُوا بِ ِه يَ ْستَ ْه ِزئُونَ )(األنبياء‪.)41:‬‬ ‫ِم ْن قَ ْب ِل َك فَ َحاقَ بِالَّذِينَ َ‬

‫ولكن هذه المقدمة ذاتها تبدأ بما يثبت الحد النهائي لمعنى المقدمة والسورة‬
‫غ ْفلَ ٍة‬
‫سابُ ُه ْم َو ُه ْم فِي َ‬ ‫وهو اقتراب الساعة والحساب‪( :‬ا ْقتَ َر َ‬
‫ب ِللنَّ ِ‬
‫اس ِح َ‬
‫ُم ْع ِرضُونَ ) (األنبياء‪.)1:‬‬

‫ثم تأتي قضايا االمتداد البشري الكافر‪َ ( :‬وقَالُوا ات َّ َخذَ َّ‬


‫الر ْح َٰ َم ُن َولَدًا ۗ ُ‬
‫س ْب َحانَهُ ۚ‬
‫بَ ْل ِعبَادٌ ُم ْك َر ُمونَ ) (األنبياء‪.)26:‬‬

‫وبدعة اتخاذ الرحمن ولدا ً جاءت كمقابل للقرآن كذكر لنا‪ ،‬ولمن قبلنا‪ ،‬كما‬
‫س ْلنَا ِم ْن قَ ْب ِل َك ِم ْن َر ُ‬
‫سو ٍل إِ َّال‬ ‫جاءت كمقابل لمضمون كل الرساالت ( َو َما أَ ْر َ‬
‫َٰ‬
‫ُون) (األنبياء‪.)25:‬‬ ‫وحي ِإلَ ْي ِه أَنَّهُ َال إِلَهَ ِإ َّال أَنَا فَا ْعبُد ِ‬
‫نُ ِ‬

‫ألنها البدعة التي استحوذت على العقل البشري الكافر أكبر مدة زمنية وأكبر‬
‫مساحة بشرية‪ ،‬إنها البدعة األساسية في التاريخ الجاهلي كله‪.‬‬

‫س ْب َحانَهُ ۚ بَ ْل ِعبَادٌ ُم ْك َر ُمونَ‬ ‫ومن هنا جاءت اآليات ( َوقَالُوا ات َّ َخذَ َّ‬
‫الر ْح َٰ َم ُن َولَدًا ۗ ُ‬
‫َال َي ْس ِبقُونَهُ ِب ْالقَ ْو ِل َو ُه ْم ِبأ َ ْم ِر ِه َي ْع َملُونَ َي ْعلَ ُم َما بَيْنَ أَ ْيدِي ِه ْم َو َما خ َْلفَ ُه ْم َو َال‬
‫ض َٰى َو ُه ْم ِم ْن َخ ْشيَتِ ِه ُم ْش ِفقُونَ َو َم ْن َيقُ ْل ِم ْن ُه ْم إِنِي إِ َٰلَهٌ ِم ْن‬ ‫َي ْشفَعُونَ إِ َّال ِل َم ِن ْ‬
‫ارت َ َ‬
‫الظا ِل ِمينَ ) (األنبياء‪ )29-26:‬لتنفيها‬ ‫دُونِ ِه فَ َٰذَ ِل َك ن َْج ِزي ِه َج َهنَّ َم ۚ َك َٰذَ ِل َك ن َْج ِزي َّ‬
‫تماما ً وتواجهها مواجهة كاملة‪.‬‬

‫وألجل أن ادعاء الولد هلل هو البدعة التي استوعبت في الواقع البشري الكافر‬
‫أكبر مدة زمنية وأكبر مساحة أرضية‪ ،‬كان أتباع هذه البدعة أكبر كثرة‬
‫عددية من أهل النار‪ ،‬ولذلك جاء التعبير عن النار بخصوص هذه القضية‬
‫بلفظ «جهنم» مثلما جاء في اآليات‪َ ( :‬و َم ْن يَقُ ْل ِم ْن ُه ْم ِإنِي ِإ َٰلَهٌ ِم ْن دُونِ ِه فَ َٰذَ ِل َك‬
‫الظا ِل ِمينَ ) (األنبياء‪.)29:‬‬ ‫ن َْج ِزي ِه َج َهنَّ َم ۚ َك َٰذَ ِل َك ن َْج ِزي َّ‬

‫والتعبير عن النار بجهنم في هذه القضية دليل على كثرة أتباعها‪ ،‬إذ لم يأت‬
‫اخ ُرجْ ِم ْن َها َم ْذ ُءو ًما‬ ‫في القرآن إال للداللة على كثرة الهالكين‪ ،‬مثل قوله‪( :‬قَا َل ْ‬
‫ورا ۖ لَ َم ْن تَبِعَ َك ِم ْن ُه ْم َأل َ ْم َأل َ َّن َج َهنَّ َم ِم ْن ُك ْم أَ ْج َم ِعينَ ) (األعراف‪،)18:‬‬ ‫َم ْد ُح ً‬
‫وب َال يَ ْفقَ ُهونَ بِ َها‬ ‫اإل ْن ِس ۖ لَ ُه ْم قُلُ ٌ‬ ‫يرا ِمنَ ْال ِج ِن َو ْ ِ‬ ‫وقال‪َ ( :‬ولَقَ ْد ذَ َرأْنَا ِل َج َهنَّ َم َك ِث ً‬
‫ان َال يَ ْس َمعُونَ ِب َها ۚ أُو َٰلَئِ َك َك ْاأل َ ْن َع ِام بَ ْل ُه ْم‬ ‫ْص ُرونَ بِ َها َولَ ُه ْم آذَ ٌ‬ ‫َولَ ُه ْم أَ ْعيُ ٌن َال يُب ِ‬
‫ض ُّل ۚ أُو َٰلَئِ َك ُه ُم ْالغَافِلُونَ ) (األعراف‪ ،)179:‬وقال‪ ( :‬فَ َو َر ِب َك لَن َْح ُ‬
‫ش َرنَّ ُه ْم‬ ‫أَ َ‬
‫ض َرنَّ ُه ْم َح ْو َل َج َهنَّ َم ِجثِيًّا) (مريم‪ ،)68:‬وقال‪َ ( :‬وقَ ْد ن ََّز َل‬ ‫اطينَ ث ُ َّم لَنُ ْح ِ‬ ‫َوال َّ‬
‫شيَ ِ‬
‫َّللاِ يُ ْكفَ ُر بِ َها َويُ ْستَ ْهزَ أ ُ ِب َها فَ َال ت َ ْقعُدُوا‬ ‫ت َّ‬ ‫ب أ َ ْن ِإذَا َ‬
‫س ِم ْعت ُ ْم آ َيا ِ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِفي ْال ِكتَا ِ‬‫َ‬
‫ام ُع ْال ُمنَافِ ِقينَ‬ ‫غي ِْر ِه ۚ ِإنَّ ُك ْم ِإذًا ِمثْلُ ُه ْم ۗ ِإ َّن َّ‬
‫َّللاَ َج ِ‬ ‫ث َ‬ ‫ضوا فِي َحدِي ٍ‬ ‫َم َع ُه ْم َحت َّ َٰى َي ُخو ُ‬
‫َو ْال َكافِ ِرينَ فِي َج َهنَّ َم َج ِميعًا) (النساء‪ ،)140:‬وغيرها من اآليات‪.‬‬

‫أما القاعدة العامة المثبتة للعالقة بين جهنم وكثرة الواردين فهي اقتران لفظ‬
‫جهنم بألفاظ «مأوى» و«مثوى» و«كفى» و «جمعيا ً» و«ألمالن» و‬
‫«موفورا ً»‪.‬‬

‫ولكن التصور عن جهنم أنه لو ألقي حجر من سفحها لم ينزل في قاعها إال‬
‫بعد سبعين خريفا ً كما قال النبي ﷺ‪ ،‬فهي واسعة ال تملؤها أجساد الكفار من‬
‫غير يأجوج ومأجوج‪ ،‬ولكن تخيل هذا التصور ال يتم إلى من خالل حقيقتين‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬أن يأجوج بالعدد المعروف وبوصف أجسادهم بعد موتهم قد يساعد‬
‫على تخيل هذا التصور‪ ،‬إذ قد ذكر النبي ﷺ في أجساد يأجوج ومأجوج أنها‬
‫تمأل األرض نتنا ً تأكلها البهائم وتزيد لحومها – أي البهائم – بأكل أجسادها‪،‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن حجم أهل النار‪ ،‬سواء من يأجوج ومأجوج أو كفار أهل األرض‪،‬‬
‫لن يكون بالصورة التي هم عليها‪ ،‬إذ يقول النبي ﷺ في ذلك‪« :‬إن ضرس‬
‫الكافر يكون مثل جبل أ ُ ُحد» (‪.)325‬‬

‫(‪ )325‬صحيح‪ ،‬األلباني في صحيح الجامع‪ ،‬والترغيب والترهيب‪.‬‬


‫استقرار الوح وثباته ىف الواقع ر‬
‫البشي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ت فَ ُه ُم ْالخَا ِلدُونَ )‬
‫وقول هللا عز وجل‪َ ( :‬و َما َج َع ْلنَا ِلبَش ٍَر ِم ْن قَ ْب ِل َك ْال ُخ ْلدَ ۖ أَفَإِ ْن ِم َّ‬
‫(األنبياء‪ ،)34:‬ومعنى اآلية أن موت النبي ﷺ دليل على موت كل البشر‪،‬‬
‫ذلك ألن موت النبي ﷺ دليل على الساعة‪ ،‬فقد قال ﷺ‪« :‬اعدد ستا ً بين يدي‬
‫الساعة موتي ثم فتح بيت المقدس‪ ،‬ثم موتان يأخذ فيكم كقعا ً الغنم ثم استفاضة‬
‫المال حتى يعطي الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً‪ ،‬ثم فتنة ال يبقى بيت من‬
‫العرب إال دخلته‪ ،‬ثم هدنة تكون بينكم وبين بني األصفر فيغدرون فيأتوكم‬
‫تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا ً» (‪.)326‬‬

‫ام َو َما َكانُوا خَا ِلدِينَ ) (األنبياء‪.)8:‬‬ ‫سدًا َال يَأ ْ ُكلُونَ َّ‬
‫الط َع َ‬ ‫( َو َما َج َع ْلنَا ُه ْم َج َ‬

‫ولكن موت األنبياء ال يعني ذهاب الوحي‪ ،‬ذلك أن موت األنبياء كان بعد تمام‬
‫رسالتهم‪ ،‬ومن أجل تمام الرسالة كانت حقيقة نجاة األنبياء‪ ،‬فالوحي والنبوة‬
‫ممتدان مستقران في الواقع البشري‪ ،‬ولكن نجاة األنبياء‪ ،‬كما وردت في السورة‪،‬‬
‫كانت قضا ًء إلهيا ً وحتميا ً واضحاً‪ ،‬له معنى ضخم هو نجاة هؤالء األنبياء‬
‫باعتبارهم منابع لهذا االمتداد‪.‬‬

‫ابتدا ًء من سيدنا إبراهيم‪َ ( :‬وأَ َرادُوا بِ ِه َك ْيدًا فَ َج َع ْلنَا ُه ُم ْاأل َ ْخ َ‬


‫س ِرينَ )‬
‫(األنبياء‪.)70:‬‬

‫وإسماعيل الذي أمر إبراهيم بذبحه ثم فداه هللا بذبح عظيم ولذلك جاء ذكر‬
‫يس َوذَا ْال ِك ْف ِل ۖ ُك ٌّل ِمنَ‬ ‫إسماعيل في سورة األنبياء‪َ ( :‬وإِ ْس َما ِعي َل َو ِإ ْد ِر َ‬
‫صابِ ِرينَ ) (األنبياء‪ ،)85:‬ألنه قال ألبيه عندما أخبره أبوه بأمر الرؤية‪:‬‬ ‫ال َّ‬
‫ظ ْر َماذَا‬ ‫ي ِإنِي أ َ َر َٰى فِي ْال َمن َِام أَنِي أ َ ْذ َب ُح َك فَا ْن ُ‬
‫ي قَا َل َيا بُنَ َّ‬ ‫(فَلَ َّما َبلَ َغ َمعَهُ ال َّ‬
‫س ْع َ‬
‫صابِ ِرينَ )‬ ‫َّللاُ ِمنَ ال َّ‬ ‫ست َ ِجدُنِي ِإ ْن شَا َء َّ‬ ‫ت ا ْفعَ ْل َما تُؤْ َم ُر ۖ َ‬ ‫تَ َر َٰى ۚ قَا َل يَا أَبَ ِ‬
‫(الصافات‪ ،)102:‬فكانت نجاة إسماعيل أصالً بشريا ً ممتدا ً حتى بلغ بنسله‬
‫أبو سيدنا محمد ﷺ‪.‬‬

‫(‪ )326‬صحيح أخرجه البخاري (‪.)2957‬‬


‫وحدة األنبياء‬
‫ومن أهم الحقائق العامة في سورة األنبياء‪ :‬ووحدة األمة المؤمنة من خالل وحدة‬
‫األنبياء‪ ،‬هي الحقيقة التي اعتبر الرسول ﷺ جميع المؤمنين من األمم السابقة‬
‫من األمة األخيرة وهي أمة النبي ﷺ فقال من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد‬
‫أي من المؤمنين أول الزمان حتى آخره‪ ،‬وبذلك أصبحت يأجوج ومأجوج هي‬
‫المقابل العددي لألمة الواحدة وذلك بنسبة ‪.1000:1‬‬
‫ثم تتوالى اآليات إلثبات مفهوم األمة الواحدة‪.‬‬

‫ي َو ِذ ْك ُر َم ْن‬ ‫(أَ ِم ات َّ َخذُوا ِم ْن دُونِ ِه آ ِل َهةً ۖ قُ ْل هَاتُوا بُ ْرهَانَ ُك ْم ۖ َٰ َهذَا ِذ ْك ُر َم ْن َم ِع َ‬


‫س ْلنَا ِم ْن قَ ْب ِل َك ِم ْن‬
‫قَ ْب ِلي ۗ بَ ْل أَ ْكثَ ُر ُه ْم َال يَ ْعلَ ُمونَ ْال َح َّق ۖ فَ ُه ْم ُم ْع ِرضُونَ َو َما أَ ْر َ‬
‫َٰ‬
‫ُون) (األنبياء‪ ،)25-24:‬واآلية‬ ‫وحي ِإلَ ْي ِه أَنَّهُ َال إِلَهَ ِإ َّال أَنَا فَا ْعبُد ِ‬ ‫سو ٍل إِ َّال نُ ِ‬ ‫َر ُ‬
‫ُون)‬ ‫احدَة ً َوأَنَا َربُّ ُك ْم فَا ْعبُد ِ‬‫الجامعة لهذا المعنى هي‪ِ ( :‬إ َّن َٰ َه ِذ ِه أ ُ َّمت ُ ُك ْم أ ُ َّمةً َو ِ‬
‫(األنبياء‪.)92:‬‬
‫ولقد وضحت هذه الحقيقة من خالل عدة مفاهيم متفرقة في السورة‪ :‬الوحدة‬
‫من حيث الدعوة‪ ،‬ثم بعد وحدة األنبياء تأتي الحقيقة الثابتة التي ال تنقطع في‬
‫وحدة األمة المؤمنة‪ ،‬وهي القرآن‪.‬‬
‫فمن أجل األمم البشرية الممتدة كان القرآن المنزل بالتوحيد هو نفس‬
‫وحي إِلَ ْي ِه‬‫سو ٍل ِإ َّال نُ ِ‬ ‫س ْلنَا ِم ْن قَ ْب ِل َك ِم ْن َر ُ‬ ‫مضمون الرساالت السابقة ( َو َما أ َ ْر َ‬
‫َٰ‬
‫ُون) (األنبياء‪.)25:‬‬ ‫أَنَّهُ َال ِإلَهَ ِإ َّال أَنَا فَا ْعبُد ِ‬
‫أخالق االمتداد‬
‫وكما كان الماء سببا ً كونيا ً لالمتداد‪ ،‬ربط الرسول ﷺ بينه وبين األسباب‬
‫األخالقية لهذا االمتداد وذلك في حديث أبي هريرة الذي أورده ابن كثير‬
‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ض َكانَتَا َرتْقًا‬ ‫تفسيرا ً آلية‪( :‬أَ َولَ ْم يَ َر الَّذِينَ َكفَ ُروا أ َ َّن ال َّ‬
‫س َم َاوا ِ‬
‫ش ْيءٍ َحي ٍ ۖ أَفَ َال يُؤْ ِمنُونَ ) (األنبياء‪.)30:‬‬ ‫فَفَتَ ْقنَا ُه َما ۖ َو َجعَ ْلنَا ِمنَ ْال َم ِ‬
‫اء ُك َّل َ‬

‫عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال‪ :‬قلت يا رسول هللا إني إذا رأيتك طابت‬
‫نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء خلق من ماء‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬أنبئني‬
‫وص ِل‬
‫عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة قال‪« :‬أفش السالم وأطعم الطعام ِ‬
‫األرحام وقم الليل والناس نيام ثم ادخل الجنة بسالم» (‪ ،)327‬وبذلك يربط‬
‫الرسول بين اإلجابتين‪ ،‬بين منشأ الوجود البشري وهو الماء وامتداد هذا‬
‫الوجود باألخالق‪.‬‬
‫ولعل ما يؤكد على معنى أخالق االمتداد الوارد في الحديث هو صلة الرحم‬
‫التي قال فيها رسول هللا ﷺ «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في‬
‫عمره فليصل رحمه» (‪ ،)328‬حيث جاءت صلة الرحم سببا ً لزيادة الرزق‬
‫والعمر‪ ،‬وهي أسباب االمتداد األساسية لحياة الناس‪.‬‬
‫ى‬
‫ترتيب األنبياء يف السورة‬
‫إن منهجية ترتيب األنبياء قائمة على أساس مفهوم االمتداد البشري الصحيح‬
‫ومن هنا بدأ الترتيب بموسى وهارون باعتبار أن مرحلة موسى وهارون‬
‫هي أعظم مراحل أمة بني إسرائيل‪ ،‬حيث بدأها موسى بإخراج بني إسرائيل‬
‫من عبودية فرعون‪ ،‬وأتمها هارون كأعظم أمة عددية بعد أمة النبي ﷺ‪،‬‬
‫فكان موسى وهارون هما الصحة واالمتداد‪.‬‬

‫ثم كان إبراهيم الذي حقق‪ ،‬وحده‪ ،‬مفهوم األمة بوجوده على التوحيد‪( :‬إِ َّن‬
‫يم َكانَ أ ُ َّمةً قَانِتًا ِ َّّلِلِ َحنِيفًا َولَ ْم يَكُ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ) (النحل‪ ،)120:‬ثم كان‬
‫ِإب َْرا ِه َ‬
‫إسحاق ويعقوب اللذان يمثالن االمتداد البشري إلبراهيم‪ ،‬ثم كان لوطا ً الذي‬
‫حارب داء االنقطاع البشري‪ ،‬أي داء الشذوذ‪ ،‬ثم كان داوود وسليمان اللذان‬
‫يمثالن تمام الصورة البشرية بصفة شخصية‪ ،‬وهما يمثالن مرحلة األمة‬
‫الصحيحة الممكنة‪ ،‬ثم أيوب الذي جاء من اجتماع نسل إسحاق وإسماعيل‪،‬‬
‫فأصبح نقطة اجتماع نسل إبراهيم‪ ،‬ليتحقق امتداد جديد لألمة الواحدة‪ ،‬ثم‬
‫كان إسماعيل‪ ،‬ليكون بداية امتداد أساسي لنسل إبراهيم حيث كان إسحاق‬
‫وإسماعيل‪ ،‬ثم ليكون بداية نسل محمد ﷺ‪ ،‬ثم كان إدريس ليمثل البقاء‬
‫البشري المرتفع حتى يوم القيامة‪ ،‬ثم كان ذو الكفل‪ ،‬نسل أيوب الذي كان ال‬
‫يغضب ليضمن العدل في الحكم بين الناس فأصبح يمثل مهمة القضاء بين‬
‫الناس وهو محصلة األساسيات الثالثة لبقاء األمة‪ :‬الكتاب «الشريعة‬
‫والسلطة والحق»‪ ،‬ثم يونس الذي يمثل غلبة القضاء اإللهي بإنشاء أمة‬
‫(‪ )327‬أخرجه أحمد «‪.»295/2‬‬
‫(‪ )328‬أخرجه البخاري في (األدب) ‪ /‬باب‪ :‬من بسط له الرزق «‪ ،»5986/429/10‬ومسلم في (البر‬
‫االمتداد الصحيح‪ ،‬بصورة تفوق األسباب وتعلو عليها‪ ،‬وذلك حينما يذهب‬
‫مغاضبا ً ليعود وقد آمن قومه كلهم أجمعون‪ ،‬ثم كان زكريا ليرث آل‬ ‫ِ‬ ‫يونس‬
‫يعقوب ثم يدعو هللا من أجل امتداد الحق وميراث النبوة بيحيى الذي يرث‬
‫زكريا الوارث لنبوة بني إسرائيل‪ ،‬ثم مريم وعيسى ليجتمعا مع أمة النبي‬
‫ﷺ الذي يمثل حلقة الوصل بين بني إسرائيل وأمة محمد ﷺ حيث سيكون‬
‫من األمة األولى ثم يعود لألمة الثانية في آخر الزمان محمد ﷺ‪ ،‬وهو اللبنة‬
‫التي تم بها بناء األمة الواحدة الممتدة امتدادا ً صحيحا ً حتى قيام الساعة‪.‬‬

‫الـكثـرة‬
‫والمالحظة األساسية لترتيب األنبياء في السورة هي إثبات الكثرة‪ ،‬ألن األمة‬
‫المقابلة ليأجوج ومأجوج هي األمة الممتدة الملحقة ألكبر نسبة عددية‬
‫ممكنة‪ ،‬وقد أظهرت اآليات قصد الكثرة‪.‬‬

‫وهذا يونس عليه السالم يترك قومه ويذهب مغاضبا ً ليعود فيجد قومه وقد‬
‫آمنوا كلهم أجمعون‪ ،‬ولما كان االمتداد امتدادا ً عددياً‪ ،‬فقد قال هللا في قوم‬
‫س ْلنَاهُ إِلَ َٰى ِمائَ ِة أَ ْلفٍ أَ ْو يَ ِزيدُونَ ) (الصافات‪.)147:‬‬
‫يونس‪َ ( :‬وأَ ْر َ‬

‫وقد وضح هذا المعنى في ذكر األنبياء في السورة وحيث عدَّد لنا القرآن‬
‫س ْلنَاهُ ِإلَ َٰى ِمائَ ِة أ َ ْلفٍ أَ ْو َي ِزيدُونَ )‬ ‫قوم يونس الذين آمنوا بأنهم‪َ ( :‬وأَ ْر َ‬
‫عدًّا َو ُكلُّ ُه ْم‬
‫عدَّ ُه ْم َ‬ ‫(الصافات‪ .)147:‬وهللا يعلم عددهم فرداً‪( :‬لَقَ ْد أَ ْح َ‬
‫صا ُه ْم َو َ‬
‫آتِي ِه يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة فَ ْردًا) (مريم‪.)95-94:‬‬

‫ولكن كلمة «أو يزيدون» هي التي تعطي داللة العدد في إثبات معني‬
‫االمتداد‪ ،‬وكذلك عندما يذكر القرآن في سورة األنبياء مضاعفة أهل‬
‫ض ٍر ۖ َوآتَ ْينَاهُ أَ ْهلَهُ‬
‫ش ْفنَا َما بِ ِه ِم ْن ُ‬
‫«أيوب» في قوله سبحانه‪( :‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ فَ َك َ‬
‫َو ِمثْلَ ُه ْم َمعَ ُه ْم َر ْح َمةً ِم ْن ِع ْن ِدنَا َو ِذ ْك َر َٰى ِل ْل َعا ِبدِينَ ) (األنبياء‪ ،)84:‬يتضاعف‬
‫معني المضاعفة على معنى الزيادة‪.‬‬
‫وبنفس القاعدة تذكر اآليات في إبراهيم الخليل ( َو َو َه ْبنَا لَهُ إِ ْس َحاقَ َو َي ْعقُ َ‬
‫وب‬
‫صا ِل ِحينَ ) (األنبياء‪ ،)72:‬حيث جاء في تفسيره‪ :‬فأعطاه‬ ‫نَافِلَةً ۖ َو ُك ًّال َجعَ ْلنَا َ‬
‫هللا إسحاق وزاده يعقوب‪.‬‬
‫ويوازي معنى العدد في تحقيق الكثرة‪ ،‬معنى التمام‪ ،‬وهو ما أكدته قصة‬
‫زكريا‪ ،‬الذي دعا بأن يرزقه هللا الولد‪ ،‬ليكون تمام نسل يعقوب‪ ،‬في النبوة‪.‬‬
‫اجعَ ْلهُ َر ِ‬
‫ب‬ ‫وب ۖ َو ْ‬‫ث ِم ْن آ ِل يَ ْعقُ َ‬ ‫وهذه علة قول زكريا في الدعاء‪( :‬يَ ِرثُنِي َويَ ِر ُ‬
‫ضيًّا) (مريم‪.)6:‬‬ ‫َر ِ‬

‫ى‬
‫الكون العام‬
‫ي‬ ‫الحفظ‬
‫وكما كانت بعثة األنبياء ووحدة رسالتهم أساسا ً في االمتداد البشري‬
‫الصحيح‪ ،‬فإن هذا االمتداد يتطلب حفظا ً كونيا ً‪ ،‬تبقى به األمم حتى قيام‬
‫الساعة‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه أن االمتداد يقتضي الحفظ‪ ،‬ولهذا كانت حقيقة الحفظ في‬
‫سورة األنبياء كاملة‪ ،‬ومما ورد في معناه قول هللا عز وجل‪( :‬لَ ْو َكانَ فِي ِه َما‬
‫صفُونَ ) (األنبياء‪،)22:‬‬ ‫ب ْالعَ ْر ِش َ‬
‫ع َّما َي ِ‬ ‫س ْب َحانَ َّ‬
‫َّللاِ َر ِ‬ ‫سدَتَا ۚ فَ ُ‬ ‫آ ِل َهةٌ ِإ َّال َّ‬
‫َّللاُ لَفَ َ‬
‫س َو ْالقَ َم َر ۖ ُك ٌّل فِي‬ ‫وقول هللا عز وجل‪َ ( :‬و ُه َو الَّذِي َخلَقَ اللَّ ْي َل َوالنَّ َه َ‬
‫ار َوال َّ‬
‫ش ْم َ‬
‫فَلَكٍ يَ ْسبَ ُحونَ ) (األنبياء‪ ،)33:‬وقول هللا عز وجل‪ ( :‬قُ ْل َم ْن يَ ْكلَ ُؤ ُك ْم ِباللَّ ْي ِل‬
‫ع ْن ِذ ْك ِر َربِ ِه ْم ُم ْع ِرضُونَ ) (األنبياء‪ .)42:‬وقال‬ ‫الر ْح َٰ َم ِن ۗ بَ ْل ُه ْم َ‬
‫ار ِمنَ َّ‬ ‫َوالنَّ َه ِ‬
‫ع َم ًال دُونَ‬ ‫صونَ لَهُ َو َي ْع َملُونَ َ‬ ‫ين َم ْن يَغُو ُ‬ ‫اط ِ‬ ‫هللا في داود وسليمان‪َ ( :‬و ِمنَ ال َّ‬
‫ش َي ِ‬
‫َٰذَ ِل َك ۖ َو ُكنَّا لَ ُه ْم َحافِ ِظينَ ) (األنبياء‪ ،)82:‬وذلك بعد فضائل داود وسليمان‪.‬‬

‫غير أن أهم الحقائق القدرية التي أبقى هللا بها االمتداد البشري الصحيح هو‬
‫مجيء قوم آخرين بعد هالك السابقين من الكافرين‪ ،‬فقال تعالى‪َ ( :‬و َك ْم‬
‫ظا ِل َمةً َوأ َ ْنشَأْنَا َب ْعدَهَا قَ ْو ًما آخ َِرينَ ) (األنبياء‪.)11:‬‬
‫َت َ‬
‫ص ْمنَا ِم ْن قَ ْريَ ٍة َكان ْ‬
‫قَ َ‬

‫وبذلك اجتمعت في السورة مقتضيات االمتداد البشري الصحيح فكانت نجاة‬


‫األنبياء من أجل الوحي وبقاء الشرائع على الرغم من موت األنبياء‪ ،‬والحفظ‬
‫الكوني وإنشاء األقوام بعد األقوام الهالكين‪.‬‬
‫ثم تأتي قضية يأجوج ومأجوج‪ ،‬وقد ال يبلغ العقل البشري الحكمة الكاملة‬
‫من يأجوج مأجوج وبغير هذه الحكمة‪ ،‬فإن هناك أساسا ً لإليمان بهذه‬
‫العالمة‪ ،‬وهو أن خلق السماوات واألرض وما بينهما كان بالحق‪.‬‬

‫ض َو َما بَ ْينَ ُه َما‬ ‫س َما َء َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫ليس هنا ك لعب‪ ،‬ليس هناك لهو‪َ ( ،‬و َما َخلَ ْقنَا ال َّ‬
‫ِف ِب ْال َح ِ‬
‫ق‬ ‫َال ِع ِبينَ لَ ْو أ َ َر ْدنَا أ َ ْن نَت َّ ِخذَ لَ ْه ًوا َالت َّ َخ ْذنَاهُ ِم ْن لَدُنَّا ِإ ْن ُكنَّا فَا ِع ِلينَ بَ ْل نَ ْقذ ُ‬
‫صفُونَ َولَهُ َم ْن فِي‬ ‫اط ِل فَيَ ْد َمغُهُ فَإِذَا ُه َو زَ ا ِه ٌق ۚ َولَ ُك ُم ْال َو ْي ُل ِم َّما تَ ِ‬ ‫علَى ْالبَ ِ‬ ‫َ‬
‫ع ْن ِع َبادَ ِت ِه َو َال يَ ْستَ ْحس ُِرونَ )‬ ‫ض ۚ َو َم ْن ِع ْندَهُ َال َي ْستَ ْك ِب ُرونَ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س َم َاوا ِ‬ ‫ال َّ‬
‫(األنبياء‪.)19-16:‬‬

‫وقصة يأجوج ومأجوج غريبة على العقول‪ ،‬بشر يفسدون‪ ،‬فيُردم عليهم ردم‬
‫حتى يفسد الذين فوق األرض مثل فسادهم فيُخرج هللا إليهم المفسدين من‬
‫تحت الردم فيقتلونهم‪ ،‬ومهما كانت محاولة تفسير العالمة فإن المعالجة لهذه‬
‫ع َّما يَ ْفعَ ُل َو ُه ْم يُ ْسأَلُونَ ) (األنبياء‪.)23:‬‬
‫الغرابة لـن تكون إال آية‪َ ( :‬ال يُ ْسأ َ ُل َ‬

‫سورة النمل وعالمة الدابة‬

‫من قواعد علم المناسبة‪ ،‬قاعدة ذكر األنبياء وترتيبهم في السور‪ ،‬وسورة‬
‫«النمل» مثال واضح على هذه القاعدة؛ حيث ورد فيها ذكر جم ٌع من‬
‫األنبياء؛ هم «موسى‪ ،‬وداود‪ ،‬وسليمان‪ ،‬وصالح‪ ،‬ولوط‪ ،‬ومحمد صلى هللا‬
‫عليهم جميعًا»؛ حيث ال تجمع بينهم أي مناسبة أخرى؛ من ِعرق واحد أو‬
‫ترتيب زمني واحد أو مكان جغرافي واحد‪ ،‬لكنهم يرتبطون ‪-‬جميعًا‪-‬بعالمة‬
‫الدابة التي ستخرج في آخر الزمان‪ ،‬ويمثل ذكر كل نبي جانبًا أساسيًّا في‬
‫فهم هذه العالمة‪.‬‬

‫عن أبي هريرة أن رسول هللا ﷺ قال‪« :‬تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان بن‬
‫داود‪ ،‬وعصا موسى بن عمران‪ ،‬فتجلو وجه المؤمن بالعصا‪ ،‬وتخطم أنف‬
‫الكافر بالخاتم‪ ،‬حتى إن أهل الحواء ليجتمعون فيقول هذا‪ :‬يا مؤمن‪ ،‬ويقول‬
‫هذا‪ :‬يا كافر» (‪.)329‬‬

‫ولما كانت الدابة عالمة من عالمات الساعة اتجهت اآلياتُ من بداية السورة‬
‫إلى الحديث عن «اآلخرة»؛ حيث جاء لفظ «اآلخرة» في ثالث آيات‬
‫متوالية‪:‬‬

‫ع ِل ٍيم) (النمل‪.)6:‬‬ ‫( َوإِنَّ َك لَتُلَقَّى ْالقُ ْرآنَ ِم ْن لَد ُْن َح ِك ٍيم َ‬


‫والتعقيب بقوله تعالى‪( :‬من لدن حكيم عليم) يدل على اتجاه السورة من‬
‫ضا نحو إثبات الحكمة والعلم في أفعال هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬كما‬ ‫البداية أي ً‬
‫َّار َك ِع ْل ُم ُه ْم فِي ْاآل ِخ َرةِ ۚ بَ ْل ُه ْم فِي‬
‫سيأتي ذكر اآلخرة في قوله تعالى‪( :‬بَ ِل اد َ‬
‫ع ُمونَ ) (النمل‪.)66:‬‬ ‫ش ٍَك ِم ْن َها ۖ بَ ْل ُه ْم ِم ْن َها َ‬

‫ذكر موىس عليه السالم‬


‫فقد جاء مضمون قصة موسى‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬مرتب ً‬
‫طا بالعصا «التي ستكون‬
‫مع الدابة»؛ ذلك أن القصة بدأت بتكليم هللا‪ ،‬عز وجل‪ ،‬لموسى عند جبل‬
‫الطور‪َ ( :‬و َما تِ ْل َك ِبيَ ِمينِ َك َيا ُمو َ‬
‫س َٰى) (طه‪.)17:‬‬

‫سآتِي ُك ْم ِم ْن َها بِ َخبَ ٍر أَ ْو آتِي ُك ْم‬


‫َارا َ‬‫س َٰى ِأل َ ْه ِل ِه ِإنِي آنَ ْستُ ن ً‬‫قال تعالى‪ِ ( :‬إ ْذ قَا َل ُمو َ‬
‫ار َو َم ْن‬ ‫ور َك َم ْن ِفي النَّ ِ‬ ‫ِي أَ ْن بُ ِ‬
‫طلُون َفَلَ َّما َجا َءهَا نُود َ‬ ‫ص َ‬‫ب قَ َب ٍس لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْ‬
‫ِب ِش َها ٍ‬
‫يز ْال َح ِكي ُم)‬ ‫َّللاُ ْال َع ِز ُ‬ ‫ب ْال َعالَ ِمين َ َيا ُمو َ‬
‫س َٰى ِإنَّهُ أَنَا َّ‬ ‫َّللاِ َر ِ‬‫س ْب َحانَ َّ‬ ‫َح ْولَ َها َو ُ‬
‫(النمل‪.)9-7:‬‬
‫وتجربة العصا‪ ،‬كما جاءت في سورة النمل‪ ،‬هي نفسها مضمون قصة‬
‫ضا أهم ما جاء في وصف الدابة؛ ليتأكد مدى‬ ‫موسى مع فرعون‪ ،‬وهي أي ً‬
‫جوهرية العالقة بين ذكر موسى والدابة‪ ،‬فكما كان فرعون‪ ،‬قبل بداية‬
‫تحول‬ ‫الصراع‪ ،‬بالنسبة لموسى منافع‪ ،‬كانت العصا مع موسى‪ ،‬وكما َّ‬
‫فر موسى‬ ‫فرعون إلى عدو يريد قتل موسى‪ ،‬تحولت العصا إلى حية‪ ،‬وكما َّ‬
‫(‪ )329‬أخرجه أحمد (‪ )7924( )295/2‬وابن ماجة (‪ .)4066‬تجلو‪ :‬تنور‪ ،‬الحواء‪ :‬البيوت المجتمعة من الناس على ماء‪،‬‬
‫تخطم‪ :‬تسم‪.‬‬
‫من فرعون‪ ،‬كان فراره من الحية‪.‬‬

‫واآلن يجب أن يعود موسى إلى الحية‪ ،‬بوعد من هللا أن تعود إلى سيرتها‬
‫يرتَ َها األُولَى) (طه‪.)21:‬‬
‫سنُع ِيدُهَا ِس َ‬ ‫األولى؛ قال تعالى‪ُ ( :‬خ ْذهَا وال تَخ ْ‬
‫َف َ‬

‫وكذلك يجب أن يعود إلى فرعون بوعد من هللا؛ أن يحفظه من فرعون؛ قال‬
‫صلُوا إلَي َْك) (هود‪ ،)81 :‬وقال سبحانه‪( :‬قَا َل َال تَخَافَا ۖ إِنَّنِي‬
‫تعالى‪( :‬لَن يَ ِ‬
‫َم َع ُك َما أَ ْس َم ُع َوأ َ َر َٰى) (طه‪.)46:‬‬

‫عاجزا عن قتل موسى‪ ،‬لقد كان من‬ ‫ً‬ ‫وكما أعاد هللا الحية عصا‪ ،‬عاد فرعون‬
‫المتوقع أن يقتل فرعون موسى بمجرد أن يراه؛ لكنه ال يزيد عن قوله‪:‬‬
‫(ذَ ُرو ِني أ َ ْقت ُ ْل ُموسى) (غافر‪ ،)26:‬بل يضع نفسه في مقارنة مع موسى‪،‬‬
‫ص َر‬ ‫ْس ِلي ُم ْلكُ ِم ْ‬ ‫ع ْو ُن فِي قَ ْو ِم ِه قَا َل َيا قَ ْو ِم أَلَي َ‬
‫وهو ملك مصر‪َ ( :‬ونَادَى فِ ْر َ‬
‫ْص ُرونَ أَ ْم أَنَا َخي ٌْر ِم ْن َٰ َهذَا الَّذِي ُه َو‬ ‫ار تَ ْج ِري ِمن تَ ْحتِي أَفَ َال تُب ِ‬ ‫َو َه ِذ ِه ْاأل َ ْن َه ُ‬
‫مضطرا إلى هذه‬ ‫ً‬ ‫ين) (الزخرف‪ ،)52 ،51:‬وكأنه كان‬ ‫ين َو َال يَ َكادُ يُبِ ُ‬ ‫َم ِه ٌ‬
‫المقارنة!‬

‫وبذلك كانت تجربة العصا‪ ،‬في سورة النمل‪ ،‬هي نفسها مضمون قصة‬
‫موسى مع فرعون‪ ،‬ودليل هذا الفهم‪ :‬أن األمر الموجه إلى موسى من هللا‪،‬‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬بالرجوع إلى العصا كان بصفته «من المرسلين»؛ قال‬
‫غف ُ ٌ‬
‫ور َر ِحي ٌم) (النمل‪،)11:‬‬ ‫ظلَ َم ث ُ َّم بَدَّ َل ُح ْسنًا بَ ْعدَ ُ‬
‫سوءٍ فَإِنِي َ‬ ‫تعالى‪ِ ( :‬إ َّال َم ْن َ‬
‫طفيك رسوال وأجعلك نبيًّا‬ ‫أي‪ :‬ال تخف مما ترى‪ ،‬فإني أريد أن أص َ‬
‫ً‬
‫رسوال بهذا القول(‪،)331‬‬ ‫وجي ًها(‪ ،)330‬قال ابن بحر‪ :‬فصار على هذا التأويل‬
‫ليكون األمر بالرجوع إلى العصا بمقتضى الرسالة وبصفته «من‬
‫المرسلين»؛ ألن الرجوع إلى العصا في حقيقته تجربة كاملة للعودة إلى‬
‫فرعون‪ ،‬وكذلك تكون العصا مع الدابة‪ ،‬فتجلو وجه المؤمن بالعصا‪.‬‬
‫وفي هذه اآلية إشارة إلى إمكانية تغيير العمل وتبديل السوء بالحسنى وهو‬

‫(‪ )330‬تفسير ابن كثير (‪.)180/6‬‬


‫(‪ )331‬تفسير القرطبي (‪.)285/13‬‬
‫األمر الدال على مغفرة هللا ورحمته لنفهم أن ظهور الدابة وعدم االنتقال من‬
‫الكفر إلى اإليمان بعدل هللا وحكمته‪.‬‬

‫ْص َرة ً قَالُوا َٰ َهذَا ِس ْح ٌر ُمبِ ٌ‬


‫ين) (النمل‪.)13:‬‬ ‫(فَلَ َّما َجا َءتْ ُه ْم آ َياتُنَا ُمب ِ‬
‫ومناسبة هذه الصيغة مع آية الدابة هي ذكر تحول عمل اإلنسان من السوء‬
‫إلى الحسن وهو األمر الذي لن يكون بعد ظهور الدابة؛ حيث سيختم لكل‬
‫إنسان بما عليه من العمل‪ ،‬فالدابة تخطم أنف الكافر أي تسمه‪.‬‬

‫عاقِبَةُ‬
‫ْف َكانَ َ‬ ‫ظ ْل ًما َو ُ‬
‫علُ ًّوا ۚ فَا ْن ُ‬
‫ظ ْر َكي َ‬ ‫( َو َج َحدُوا ِب َها َوا ْست َ ْيقَنَتْ َها أ َ ْنفُ ُ‬
‫س ُه ْم ُ‬
‫ْال ُم ْف ِسدِينَ ) (النمل‪)14:‬‬

‫وعالمة الدابة تعني في جوهرها قضية اليقين؛ ألن الدابة ستخرج ألن الناس‬
‫كبيرا من آيات‬ ‫ً‬ ‫قدرا‬
‫ال يوقنون بآيات هللا‪ ،‬ولذا أخذت مناقشة قضية اليقين ً‬
‫سورة النمل‪ ،‬وكان أول ذلك هو مناقشة اليقين النفسي الذي ال يكون معه‬
‫عمل وهو كعدمه كما في قول هللا سبحانه‪َ ( :‬و َج َحدُوا بِ َها َوا ْستَ ْيقَنَت َها أَ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم‬
‫عا ِقبَةُ ْالم ْف ِسدِينَ ) (النمل‪.)14:‬‬ ‫ظ ْر ُكي َ‬
‫ْف َكانَ َ‬ ‫ظ ْل ًما َو ُ‬
‫علُ َّوا فَان ُ‬ ‫ُ‬

‫واجتماع الجحود واالستيقان في قلب واحد ووقت واحد سؤال يجب اإلجابة‬
‫عليه‪ ،‬فليس الجحود انتفاء معرفة القلب ولكنه مخالفة الجوارح لمقتضى‬
‫معرفة القلب‪ ،‬ولعل هذه اآلية بتفسيرها تمثل األساس في قضية اليقين‬
‫الواردة في السورة‪ ،‬ألن موضوع السورة والدابة‪ ،‬هو العمل الذي ال ينفع‬
‫اليقين النفسي إال به‪.‬‬
‫داود وسليمان والدابة‪:‬‬

‫علَ َٰى َكثِ ٍ‬


‫ير ِم ْن‬ ‫ضلَنَا َ‬ ‫سلَ ْي َمانَ ِع ْل ًما ۖ َوقَ َاال ْال َح ْمدُ ِ َّّلِلِ الَّذِي فَ َّ‬
‫( َولَقَ ْد آت َ ْينَا دَ ُاوودَ َو ُ‬
‫ِع َبا ِد ِه ْال ُمؤْ ِمنِينَ ) (النمل‪)15:‬‬
‫والمناسبة في ذكر داود تتضمن حقيقتين مهمتين بالنسبة لعالمة الدابة‪:‬‬
‫األولى‪ :‬أن خروج الدابة جاء بسبب كفر الناس بالمرسلين وآياتهم؛ والرسالة‬
‫هي خطاب هللا لإلنسان‪ ،‬وأعلى درجات المخاطبة «الكالم»‪ ،‬ومن هنا كان‬
‫علَى‬ ‫س ُل فَض َّْلنَا َب ْع َ‬
‫ض ُه ْم َ‬ ‫فضل موسى على الرسل هو كالم هللا له‪( :‬تِ ْل َك ُّ‬
‫الر ُ‬
‫ض ُه ْم دَ َر َجا ٍ‬
‫ت) (البقرة‪.)253:‬‬ ‫ض ِم ْن ُهم َّمن َكلَّ َم هللاُ َ‬
‫ورفَ َع َب ْع َ‬ ‫َب ْع ٍ‬

‫وعندما يكون الفضل في كالم هللا لألنبياء الذي يبلغوه للبشر نفهم معنى‬
‫الحرمان من هذا الفضل عندما يكون المتكلم مع الناس دابة من األرض‪.‬‬
‫لذا كانت العقوبة على هذا الكفر هي النزول بمستوى البشر عن أن يكونوا‬
‫أهال للمخاطبة بطريق المرسلين‪َ ( :‬و ِإذَا َوقَ َع ْالقَ ْو ُل َ‬
‫علَ ْي ِه ْم أ َ ْخ َر ْجنَا لَ ُه ْم دَابَّةً‬ ‫ً‬
‫ض ت ُ َك ِل ُم ُه ْم أَ َّن النَّ َ‬
‫اس َكانُوا بِآيَاتِنَا َال يُوقِنُونَ )‪.‬‬ ‫ِمنَ ْاأل َ ْر ِ‬

‫كلم الناس بصيغة تتناسب مع ما وصلوا‬‫فجاءت الدابة ومعها هذه اآليات‪ ،‬فت ُ ِ‬
‫إليه من الكفر‪ :‬بالتوبيخ والخطم؛ «حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصالة‪،‬‬
‫فتأتيه من خلفه تقول‪ :‬يا فالن‪ ،‬اآلن تصلي؟! فيقبل عليها فتسمه في وجهه‪،‬‬
‫ثم تنطلق‪ ،)332(»..‬وعلى ذلك تكون الدابة مرتبطة في داللتها بما بلغه‬
‫اإلنسان من التدني‪ ،‬واالنحطاط‪.‬‬

‫ومن هنا كان من الضروري إثبات المقام األصلي لإلنسان؛ ألن إثبات هذا‬
‫المقام هو نفسه الذي يُثبت معنى االنحطاط الذي بلغه هذا اإلنسان‪ ،‬حتى بلغ‬
‫أن يُخاطب من خالل الدابة‪ ،‬وعندما يُذكر المقام األصلي لإلنسان يُذكر‬
‫«داوود» كنموذج لهذا المقام‪ ،‬بدليل حديث الوبيص الوارد في سنن‬
‫س َح‬ ‫َّللاِ ﷺ‪« :‬لَ َّما َخلَقَ َّ‬
‫َّللاُ آدَ َم َم َ‬ ‫سو ُل َّ‬ ‫ع ْن أَبِى ُه َري َْرة َ قَا َل‪ :‬قَا َل َر ُ‬ ‫الترمذي‪َ ،‬‬
‫س َم ٍة ُه َو خَا ِلقُ َها ِم ْن ذُ ِريَّ ِت ِه إِلَى َي ْو ِم ْال ِق َيا َم ِة‪،‬‬‫ظ ْه ِر ِه ُك ُّل نَ َ‬‫ط ِم ْن َ‬‫سقَ َ‬ ‫َ‬
‫ظ ْه َرهُ‪ ،‬فَ َ‬
‫علَى آدَ َم‪،‬‬ ‫ض ُه ْم َ‬‫ع َر َ‬ ‫ور‪ ،‬ث ُ َّم َ‬ ‫صا ِم ْن نُ ٍ‬ ‫ان ِم ْن ُه ْم َو ِبي ً‬‫س ٍ‬‫َو َج َع َل َبيْنَ عيني ُك ِل ِإ ْن َ‬
‫ب‪َ ،‬م ْن َه ُؤالَ ِء؟ قَا َل‪َ :‬ه ُؤالَ ِء ذُ ِريَّت ُ َك‪ ،‬فَ َرأَى َر ُج ًال ِم ْن ُه ْم فَأ َ ْع َجبَهُ‬ ‫فَقَا َل‪ :‬أي َر ِ‬
‫آخ ِر األ ُ َم ِم‬ ‫ب‪َ ،‬م ْن َهذَا؟ فَقَا َل‪َ :‬هذَا َر ُج ٌل ِم ْن ِ‬ ‫ع ْينَ ْي ِه‪ ،‬فَقَا َل‪ :‬أي َر ِ‬ ‫يص َما بَيْنَ َ‬
‫َوبِ ُ‬
‫ِم ْن ذُ ِريَّ ِت َك يُقَا ُل لَهُ‪ :‬دَ ُاودُ‪. »..‬‬
‫(‪)333‬‬

‫ومقام داود بين ذرية آدم هو بُعد واحد من أبعاد هذا المقام؛ ولكن لمقام داود‬
‫في إطار قضية الدابة أبعادًا أخرى منها‪ :‬أن ذكر فضل داود بالنسبة لألنبياء‬
‫طا بالزبور وهو كتاب األقدار الكونية الغيبية حتى قيام الساعة‪،‬‬ ‫جاء مرتب ً‬

‫(‪ )332‬انظر‪ :‬تفسير ابن أبي حاتم (‪ ،)88/51‬مسند الطيالسي (‪.)237/2‬‬


‫سنٌ ص َِحيحٌ‪.‬‬
‫ِيث َح َ‬ ‫(‪ )333‬سنن الترمذي (‪ )330/11‬قَا َل أَبُو ِعي َ‬
‫سى‪َ :‬هذَا َحد ٌ‬
‫ضۗ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س َم َاوا ِ‬ ‫ودليل ذلك قول هللا عز وجل‪َ ( :‬و َرب َُّك أَ ْعلَ ُم بِ َم ْن فِي ال َّ‬
‫ورا) (اإلسراء‪،)55:‬‬ ‫ض ۖ َوآتَ ْينَا دَ ُاوودَ زَ بُ ً‬ ‫علَ َٰى بَ ْع ٍ‬‫ض النَّ ِب ِيينَ َ‬‫َولَقَ ْد فَض َّْلنَا بَ ْع َ‬
‫وفيه يقول الطبري‪« :‬يقول تعالى ذكره لنبيه ﷺ‪ :‬وربك يا محمد أعلم بمن‬
‫في السموات واألرض وما يصلحهم؛ فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم‪،‬‬
‫وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة ومن هو أهل للعذاب‪ ،‬أهدي للحق‬
‫من سبق له مني الرحمة والسعادة‪ ،‬وأُضل من سبق له مني الشقاء والخذالن‪،‬‬
‫ض‬‫ض َولَقَ ْد فَض َّْلنَا بَ ْع َ‬ ‫األر ِ‬
‫ت َو ْ‬ ‫س َم َاوا ِ‬ ‫عن قتادة‪ ،‬قوله‪َ ( :‬و َرب َُّك أَ ْعلَ ُم بِ َم ْن فِي ال َّ‬
‫ض) اتخذ هللا إبراهيم خليال وكلَّم موسى تكلي ًما‪ ،‬وجعل هللا‬ ‫علَى َب ْع ٍ‬‫النَّ ِب ِيينَ َ‬
‫عيسى كمثل آدم خلقه من تراب‪ ،‬ثم قال له كن فيكون‪ ،‬وهو عبد هللا ورسوله‪،‬‬
‫من كلمة هللا وروحه‪ ،‬وآتى سليمان ُمل ًكا ال ينبغي ألحد من بعده‪ ،‬وآتى داود‬
‫ع ِلمه داود‪ ،‬تحميد وتمجيد‪ ،‬ليس فيه حالل وال‬ ‫زبورا‪ ،‬كنا نحدِث دعاء ُ‬ ‫ً‬
‫حرام‪ ،‬وال فرائض وال حدود‪ ،‬وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأ َّخر» ‪.‬‬
‫(‪)334‬‬

‫ويقول الرازي في تفسيره‪« :‬فإن قيل‪ :‬ما السبب في تخصيص داود عليه‬
‫الصالة والسالم في هذا المقام بالذكر؟ إن السبب في تخصيصه بالذكر أنه‬
‫تعالى كتب في الزبور أن محمدًا خاتم النبيين وأن أمته خير األمم» (‪.)335‬‬

‫ويقول األلوسي‪« :‬وفيه إيذان بتفضيل نبينا ﷺ؛ فإن كونه عليه الصالة‬
‫والسالم خاتم األنبياء‪ ،‬وأمته خير األمم‪-‬مما تضمنه الزبور‪ ،‬وقد أخبر‬
‫قائال‪َ ( :‬ولَقَ ْد َكتَ ْبنَا ِفى الزبور ِمن َب ْع ِد الذكر أَ َّن‬
‫سبحانه عن ذلك بقوله عز ً‬
‫األرض َي ِرث ُ َها ِع َبادِي الصالحون) (األنبياء‪ )105:‬يعني محمدًا ﷺ» (‪.)336‬‬

‫وامتدادًا لمفهوم المقام اإلنساني الذي يمثله اإلنسان النموذج «داود» يأتي‬
‫سلَ ْي َمانَ ِع ْل َما ً َوقَاال ْال َح ْمدُ‬
‫ذكر سليمان ليشاركه هذا المقام‪َ ( :‬ولَق ْد آتَ ْينَا دَاودَ َو ُ‬
‫ير ِم ْن ِع َبا ِد ِه اْل ُمؤْ ِمنِ ِينَ )‪.‬‬
‫علَى َكثِ ٍ‬ ‫ِ َّّلِلِ الَّذِي فَ َّ‬
‫ضلَنَا َ‬

‫(‪ )334‬تفسير الطبري (‪.)470/17‬‬


‫(‪ )335‬تفسير الرازي (‪.)74/10‬‬
‫(‪ )336‬تفسير األلوسي (‪.)487/10‬‬
‫فمكانة اإلنسان األصلية محفوظة‪ ،‬وذكر داود وسليمان هو الدليل على هذا‬
‫المقام‪ ،‬بل إن موقف الدابة‪ ،‬بعد خروجها مباشرة‪ ،‬من المؤمنين الثابتين هو‬
‫تقرير المقام األصلي لإلنسان كما قال رسول هللا ﷺ‪« :‬وثبتت عصابة من‬
‫المؤمنين‪ ،‬وعرفوا أنهم لن يعجزوا هللا‪ ،‬فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى‬
‫جعلتها كأنها الكوكب الدري»‪.‬‬
‫سليمان والدابة‪:‬‬
‫وكما بدأت قصة موسى بآية العصا‪ ،‬بدأت قصة سليمان بتعلم منطق الطير‪،‬‬
‫فتبدأ بـ «الحقيقة األولى» المتعلقة بعالمة الدابة التي ستنطق وتكلم الناس‬
‫مثلما ينطق الطير‪:‬‬
‫الطي ِْر َوأُوتِينَا ِمن ُك ِل‬
‫نطقَ َّ‬ ‫ع ِل ْمنَا َم ِ‬ ‫اس ُ‬ ‫ان دَاودَ َوقَا َل َيأَيُّ َها النَّ ُ‬ ‫سلَ ْي َم ُ‬‫ث ُ‬ ‫( َو َو ِر َ‬
‫نس‬ ‫سلَ ْي َمانَ ُجنُودُهُ ِمنَ ْال ِج ِن َو ْ ِ‬
‫اإل ِ‬ ‫ين * َو ُحش َِر ِل ُ‬ ‫ض ُل ْال ُم ِب ُ‬‫ش ْيءٍ ِإ َّن َهذَا لَ ُه َو ْالفَ ْ‬‫َ‬
‫عونَ ) (سورة النمل ‪.)17 -16‬‬ ‫َو َّ‬
‫الطي ِْر فَ ُه ْم يُوزَ ُ‬

‫ت ن َْملَةٌ َيأَيُّ َها النَّ ْم ُل‬


‫علَى َوادِي النَّ ْم ِل قَالَ ْ‬ ‫ثم ذِكر «تكلم النملة»‪َ ( :‬حتَّى ِإذَا أَتَ ْوا َ‬
‫س َم‬ ‫ان َو ُجنُودُهُ َو ُه ْم َال يَ ْشعُ ُرونَ * فَتَبَ َّ‬ ‫سلَ ْي َم ُ‬
‫سا ِكنَ ُك ْم َال يَ ْح ِط َمنَّ ُك ْم ُ‬‫ا ْد ُخلُوا َم َ‬
‫ي‬ ‫علَ َّ‬‫ت َ‬ ‫ب أَ ْو ِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َك الَّتِي أَ ْن َع ْم َ‬ ‫اح ًكا ِمن قَ ْو ِل َها َوقَا َل َر ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫َ‬
‫ِك‬ ‫ضاهُ َوأَ ْد ِخ ْل ِني ِب َر ْح َم ِت َك ِفي ِع َباد َ‬ ‫صا ِل ًحا تَ ْر َ‬ ‫ي َوأ َ ْن أَ ْع َم َل َ‬ ‫علَى َوا ِلدَ َّ‬‫َو َ‬
‫صا ِل ِحينَ ) (النمل ‪ ،)19 -18‬ولعلنا نتبين محورية الموضوع من تسمية‬ ‫ال َّ‬
‫السورة؛ حيث نُسبت إلى النملة التي سمع سليمان قولها‪.‬‬

‫ي َال أ َ َرى ْال ُه ْد ُهدَ‬ ‫الطي َْر فَقَا َل َما ِل َ‬ ‫ثم ذكرت «تكلم الهدهد» بعد النملة‪َ ( :‬وتَفَقَّدَ َّ‬
‫ان‬
‫ط ٍ‬ ‫شدِيدًا أَ ْو َأل َ ْذ َب َحنَّهُ أَ ْو لَ َيأْتِ َينِي ِب ُ‬
‫س ْل َ‬ ‫عذَابًا َ‬ ‫أَ ْم َكانَ ِمنَ ْالغَائِ ِبينَ * َأل ُ َ‬
‫ع ِذ َبنَّهُ َ‬
‫ين)‬ ‫ط ِب ِه َو ِجئْت ُ َك ِمن َ‬
‫سبَإٍ ِبنَبَإ ٍ يَ ِق ٍ‬ ‫غي َْر بَ ِعي ٍد فَقَا َل أَ َحطتُ ِب َما لَ ْم ت ُ ِح ْ‬
‫ث َ‬‫ين * فَ َم َك َ‬
‫ُّم ِب ٍ‬
‫(النمل ‪.)22 -21‬‬

‫ولعل المناسبة في قصة الهدهد بين «سبأ والدابة» هي أن الخرجة األولى‬


‫َّللاِ ﷺ‪ ،‬قَا َل‪« :‬الدَّابَّةُ يَ ُك ُ‬
‫ون‬ ‫سو ِل َّ‬ ‫أن َر ُ‬‫للدابة ستكون من أقصى اليمن كما جاء ْ‬
‫صى ْاليَ َم ِن‪.»..‬‬
‫ت ِمنَ الدَّ ْه ِر‪ :‬فَتَ ْخ ُر ُج خ َْر َجةً فِي أ َ ْق َ‬ ‫لَ َها ثَ ُ‬
‫الث خ ََر َجا ٍ‬
‫وأقصى اليمن هو سبأ‪ ،‬كما جاء في تفسير الرازي‪« :‬أن القرآن يدل على‬
‫أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى‬
‫أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى‪( :‬قَا َل الذي ِعندَهُ ِع ْل ٌم‬
‫ط ْرفُ َك)» (‪ ،)337‬وبذلك تكون مناسبة‬ ‫يك بِ ِه قَ ْب َل أَن يَ ْرتَدَّ ِإلَي َْك َ‬
‫منَ الكتاب أَنَا ْ آ ِت َ‬
‫ذكر سبأ في قصة الهدهد هي أنها المخرج األول للدابة‪.‬‬

‫وتتواصل اآليات في ذكر الحوار بين سليمان والهدهد ليساهم هذا الحوار‬
‫في تقرير قضية الدابة؛ ألن الدابة من غيب األرض؛ قال تعالى‪( :‬أ َ َّال يَ ْس ُجدُوا‬
‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َو َي ْعلَ ُم َما ت ُ ْخفُونَ َو َما ت ُ ْع ِلنُونَ‬ ‫ِ َّّلِلِ الَّذِي يُ ْخ ِر ُج ْالخَبْ َء فِي ال َّ‬
‫س َم َاوا ِ‬
‫ب ْالعَ ْر ِش ْال َع ِظ ِيم) (النمل ‪ ،)26 -25‬ألن الخَبْ َء ك ُّل‬ ‫َّللاُ َال ِإلَهَ ِإ َّال ُه َو َر ُّ‬
‫* َّ‬
‫ما غاب (‪.)338‬‬

‫وقد ذكر الهدهد هذا المعنى اإللهي من خالل واقعه‪ ،‬حيث أن الهدهد من‬
‫الطيور التي تتميز بقدرتها على استخراج غذائها من الدود وهو «مخبأ»‬
‫تحت الطين في باطن األرض‪.‬‬

‫وارتباط ذكر الهدهد لفعل هللا «إخراج الخبء في السماوات واألرض»‬


‫بخبرته الخاصة يُثبت قاعدة مهمة في قضية األسماء والصفات‪ :‬وهي أن‬
‫أسماء هللا وصفاته وأفعاله المعلومة لنا ينطبق عليها حدود معرفة الهدهد‬
‫باهلل‪ ،‬فتكون هذه األسماء والصفات واألفعال المعلومة لنا هي المناسبة لنا‬
‫والمحدودة بواقعنا البشري كذلك‪.‬‬

‫ولذلك ورد أن هلل أسماء ال يعلمها إال هو سبحانه‪ ،‬وهو قول رسول هللا ﷺ‪:‬‬
‫«أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك‪ ،‬أو علمته أحدًا من خلقك‪ ،‬أو‬
‫استأثرت به في علم الغيب عندك‪ ،‬أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور‬
‫بصري وجالء همي وغمي» (‪.)339‬‬

‫(‪ )337‬تفسير الرازي (‪ ،)496/9‬انظر‪ :‬فتاوى الشيخ ابن جبرين (‪ ،)192/63‬سبل الهدى والرشاد في سيرة خير‬
‫العباد (‪.)75/3‬‬
‫(‪ )338‬لسان العرب – مادة‪ :‬خبأ‪.‬‬
‫(‪ )339‬مسند أحمد (‪.)4406‬‬
‫وقد تجانس كالم الهدهد مع كالم الدابة في إدراك حقيقة التوحيد والمفاصلة‬
‫ً‬
‫إعجازا عن كالم الدابة‪،‬‬ ‫بين اإليمان والكفر‪ ،‬وبذلك كان كالم الهدهد ال يقل‬
‫فإذا كانت الدابة ستعرف المؤمن من الكافر وتفاصل بينهما فإن الهدهد تكلم‬
‫بنفس المستوى وحقق نفس المفاصلة من خالل‪:‬‬

‫‪ -‬البصيرة في معرفة الواقع وتقييمه‪َ ( ،‬و َج ْدت ُ َها َوقَ ْو َم َها يَ ْس ُجدُونَ ِلل َّ‬
‫ش ْم ِس‬
‫َّللاِ) فيُقيِم الهدهد الواقع‪ :‬شرك باهلل ومعرفة بالسبب وهو‬ ‫ِم ْن د ِ‬
‫ُون َّ‬
‫الشيطان وتزيينه العمل والصد عن السبيل‪.‬‬

‫ت‬ ‫‪ -‬المنهج والعقيدة‪( ،‬أَ َّال يَ ْس ُجدُوا ِ َّّلِلِ الَّذِي يُ ْخ ِر ُج ْالخَبْ َء فِي ال َّ‬
‫س َم َاوا ِ‬
‫(‪.)340‬‬
‫َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض)‬

‫بي سليمان وملكة سبأ‪ ،‬ر ى‬


‫وبي الدابة‬ ‫العالقة ر ى‬

‫والعالقة بين قصة سليمان وملكة سبأ وبين الدابة هي المضمون الثابت‬
‫الواضح للقصة‪ ،‬وهو األمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار أن‬
‫انقطاع هذا األمر هو السبب األساسي لظهور الدابة‪ :‬عن ابن عمر في تفسير‬
‫قوله تعالى‪( :‬وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من األرض) قال‪« :‬إذا‬
‫لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر» (‪.)341‬‬
‫وكل نصوص القصة تثبت هذا المضمون؛ ابتدا ًء من مواجهة الهدهد‬
‫لسليمان‪:‬‬
‫نت ِمنَ ْال َكا ِذبِينَ * ا ْذهَب ِب ِكتَا ِبي َهذَا فَأ َ ْل ِق ْه ِإلَ ْي ِه ْم ث ُ َّم‬ ‫ت أَ ْم ُك َ‬ ‫ظ ُر أَ َ‬
‫صدَ ْق َ‬ ‫سنَن ُ‬ ‫(قَا َل َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اب َك ِري ٌم‬ ‫ي ِكتَ ٌ‬ ‫ت يَا أَيُّ َها ال َم َأل إِنِي أ ْل ِق َ‬
‫ي إِلَ َّ‬ ‫ظ ْر َماذَا يَ ْر ِجعُونَ * قَالَ ْ‬ ‫ع ْن ُه ْم فَان ُ‬
‫تَ َو َّل َ‬
‫ي َوأْتُو ِني‬ ‫علَ َّ‬ ‫الر ِح ِيم * أ َ َّال تَ ْعلُوا َ‬ ‫الر ْح َم ِن َّ‬ ‫سلَ ْي َمانَ َو ِإنَّهُ بِ ْس ِم َّ‬
‫َّللاِ َّ‬ ‫* ِإنَّهُ ِمن ُ‬

‫(‪ )340‬يقول ابن القيم رحمه هللا‪« :‬وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواقع الماء تحت األرض ال يراه غيره‪ ،‬ثم‬
‫ذكر من أفعاله ‪-‬سبحانه‪-‬إخراج الخبء في السماوات واألرض‪ ،‬وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواع‬
‫ما ينزل من السماء وما يخرج من األرض من أفعال الرب تعالى بخصوصه؛ إشعار بما خصه هللا به من إخراج الماء‬
‫المخبوء تحت األرض»‪.‬‬
‫(‪ )341‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)77/51‬‬
‫اط َعةً أَ ْم ًرا َحتَّى‬ ‫ت َيا أَيُّ َها ال َم َأل ُ أ َ ْفتُونِي فِي أَ ْم ِري َما ُكنتُ قَ ِ‬ ‫ُم ْس ِل ِمينَ * قَالَ ْ‬
‫ظ ِري َماذَا‬ ‫شدِي ٍد َو ْاأل َ ْم ُر إِلَي ِْك فَان ُ‬ ‫ُون * قَالُوا ن َْح ُن أ ُ ْولُوا قُ َّوةٍ َوأُولُوا بَأ ْ ٍس َ‬ ‫تَ ْش َهد ِ‬
‫سدُوهَا َو َجعَلُوا أ َ ِع َّزةَ أَ ْه ِل َها أَذِلَّةً‬ ‫وك إِذَا دَ َخلُوا قَ ْريَةً أَ ْف َ‬ ‫ت إِ َّن ْال ُملُ َ‬ ‫تَأ ْ ُم ِرينَ * قَالَ ْ‬
‫سلُونَ * فَلَ َّما‬ ‫َاظ َرة ٌ ِب َم َي ْر ِج ُع ْال ُم ْر َ‬
‫َو َكذَ ِل َك َي ْفعَلُونَ * َو ِإنِي ُم ْر ِسلَةٌ ِإلَ ْي ِهم ِب َه ِديَّ ٍة فَن ِ‬
‫َّللاُ َخي ٌْر ِم َّما آتَا ُكم َب ْل أَنتُم ِب َه ِديَّتِ ُك ْم‬ ‫ي َّ‬ ‫سلَ ْي َمانَ قَا َل أَت ُ ِمدُّون َِن ِب َما ٍل فَ َما آتَانِ َ‬‫َجاء ُ‬
‫ار ِج ْع ِإلَ ْي ِه ْم فَلَنَأْتِيَنَّ ُه ْم ِب ُجنُو ٍد َّال قِبَ َل لَ ُهم ِب َها َولَنُ ْخ ِر َجنَّ ُهم ِم ْن َها أَ ِذلَّةً‬
‫تَ ْف َر ُحونَ * ْ‬
‫صا ِغ ُرونَ ) (النمل‪.)37-27 :‬‬ ‫َو ُه ْم َ‬

‫وانتها ًء بإسالم ملكة سبأ مع سليمان والذي سيؤكد لنا أن أساس الدعوة ليس‬
‫بالكالم الذي تعرض به القضية فقط بل بصحة األسلوب العملي الذي ينجح‬
‫في كشف حقيقة اإليمان الكامنة في كيان اإلنسان‪ ،‬حتى دون الطلب الصريح‬
‫أو الدعوة المباشرة ولو بكلمة واحدة‪ ،‬فكل ما حدث من سليمان مع ملكة سبأ‬
‫أنه أدخلها في تجربتين‪:‬‬

‫األولى‪ :‬إلثبات قوة العقل وكانت بأخذ العرش وتنكيره ثم عرضه عليها‬
‫وسؤالها‪( :‬أهكذا عرشك)؟ فأجابت أمثل إجابة فقالت‪( :‬كأنه هو)‪ ،‬ولم تقل‬
‫هو ألنه من َّكر‪ ،‬ولم تقل‪ :‬ليس هو ألنه هو‪.‬‬
‫قال تعالى‪( :‬قَا َل يَا أَيُّ َها ال َم َأل ُ أَيُّ ُك ْم يَأْتِينِي ِبعَ ْر ِش َها قَ ْب َل أَن يَأْتُونِي ُم ْس ِل ِمينَ *‬
‫ي‬‫علَ ْي ِه لَقَ ِو ٌّ‬
‫ام َك َوإِنِي َ‬ ‫وم ِمن َّمقَ ِ‬ ‫يك بِ ِه قَ ْب َل أَن تَقُ َ‬ ‫ريت ِمنَ ْال ِج ِن أَنَا آتِ َ‬ ‫قَا َل ِع ْف ٌ‬
‫ط ْرفُ َك‬ ‫يك ِب ِه قَ ْب َل أَن يَ ْرتَدَّ ِإلَي َْك َ‬ ‫ب أَنَا آ ِت َ‬ ‫ين * قَا َل الَّذِي ِعندَهُ ِع ْل ٌم ِمنَ ْال ِكتَا ِ‬ ‫أَ ِم ٌ‬
‫ض ِل َر ِبي ِل َي ْبلُ َونِي أَأ َ ْش ُك ُر أَ ْم أ َ ْكفُ ُر َو َمن‬ ‫فَلَ َّما َرآهُ ُم ْستَ ِق ًّرا ِعندَهُ قَا َل َهذَا ِمن فَ ْ‬
‫ي َك ِري ٌم * قَا َل ن َِك ُروا لَ َها‬ ‫غنِ ٌّ‬ ‫ش َك َر فَإِنَّ َما يَ ْش ُك ُر ِلنَ ْف ِس ِه َو َمن َكفَ َر فَإِ َّن َر ِبي َ‬ ‫َ‬
‫اءت قِي َل أَ َه َكذَا‬‫ون ِمنَ الَّذِينَ َال يَ ْهتَدُونَ * فَلَ َّما َج ْ‬ ‫ظ ْر أَتَ ْهتَدِي أَ ْم تَ ُك ُ‬‫ش َها نَن ُ‬‫ع ْر َ‬ ‫َ‬
‫س ِل ِمينَ ) (النمل‪.)42-38 :‬‬ ‫ت َكأَنَّهُ ُه َو َوأُو ِتينَا ْال ِع ْل َم ِمن قَ ْب ِل َها َو ُكنَّا ُم ْ‬‫ش ِك قَالَ ْ‬
‫ع ْر ُ‬ ‫َ‬

‫فأدخلها في التجربة الثانية وكانت إلسقاط الغرور عن نفسها‪:‬‬


‫َت ِمن قَ ْو ٍم َكافِ ِرينَ *‬ ‫َّللاِ إِنَّ َها َكان ْ‬
‫ُون َّ‬‫صدَّهَا َما َكانَت ت َّ ْعبُدُ ِمن د ِ‬ ‫قال تعالى‪َ ( :‬و َ‬
‫ساقَ ْي َها ۚ قَا َل ِإنَّهُ‬
‫ع ْن َ‬
‫ت َ‬‫شفَ ْ‬‫ص ْر َح ۖ فَلَ َّما َرأَتْهُ َح ِسبَتْهُ لُ َّجةً َو َك َ‬
‫ِقي َل لَ َها ا ْد ُخ ِلي ال َّ‬
‫ظلَ ْمتُ نَ ْفسِي َوأَ ْسلَ ْمتُ َم َع ُ‬
‫سلَ ْي َمانَ‬ ‫ب ِإنِي َ‬ ‫ت َر ِ‬ ‫ير ۗ قَالَ ْ‬‫ص ْر ٌح ُم َم َّردٌ ِم ْن قَ َو ِار َ‬
‫َ‬
‫ب ْال َعالَ ِمينَ ) (النمل‪.)44-43 :‬‬ ‫ِ َّّلِلِ َر ِ‬
‫وبإثبات الذكاء وإسقاط الغرور تمت دعوة سليمان للملكة فقالت‪( :‬وأسلمت‬
‫مع سليمان هلل رب العالمين)‪.‬‬

‫ثمود وقوم صالح والدابة‬


‫ص ُمونَ‬ ‫ان يَ ْختَ ِ‬ ‫صا ِل ًحا أ َ ِن ا ْعبُدُوا َّ‬
‫َّللاَ فَإِذَا ُه ْم فَ ِريقَ ِ‬ ‫س ْلنَا ِإلَى ثَ ُمودَ أَخَا ُه ْم َ‬ ‫( َولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫َّللاَ لَعَلَّ ُك ْم‬
‫سنَ ِة لَ ْو َال ت َ ْست َ ْغ ِف ُرونَ َّ‬‫س ِيئ َ ِة قَ ْب َل ْال َح َ‬
‫* قَا َل َيا قَ ْو ِم ِل َم ت َ ْستَ ْع ِجلُونَ ِبال َّ‬
‫َّللاِ َب ْل أَنت ُ ْم قَ ْو ٌم‬
‫طائِ ُر ُك ْم ِعندَ َّ‬ ‫اطي َّْرنَا ِب َك َو ِب َمن َّمعَ َك قَا َل َ‬ ‫ت ُ ْر َح ُمونَ * قَالُوا َّ‬
‫ص ِل ُحونَ *‬ ‫ض َو َال يُ ْ‬ ‫ت ُ ْفتَنُونَ * َو َكانَ فِي ْال َمدِينَ ِة تِ ْس َعةُ َر ْهطٍ يُ ْف ِسدُونَ فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ش ِه ْدنَا َم ْه ِل َك أَ ْه ِل ِه َوإِنَّا‬
‫اّلِلِ لَنُبَيِتَنَّهُ َوأَ ْهلَهُ ث ُ َّم لَنَقُولَ َّن ِل َو ِليِ ِه َما َ‬
‫س ُموا بِ َّ‬ ‫قَالُوا تَقَا َ‬
‫ْف‬ ‫ظ ْر َكي َ‬ ‫صا ِدقُونَ * َو َم َك ُروا َم ْك ًرا َو َم َك ْرنَا َم ْك ًرا َو ُه ْم َال َي ْشعُ ُرونَ * فَان ُ‬ ‫لَ َ‬
‫عاقِ َبةُ َم ْك ِر ِه ْم أَنَّا دَ َّم ْرنَا ُه ْم َوقَ ْو َم ُه ْم أَ ْج َم ِعينَ * فَتِ ْل َك بُيُوت ُ ُه ْم خَا ِو َيةً ِب َما‬ ‫َكانَ َ‬
‫ظلَ ُموا إِ َّن فِي ذَ ِل َك َآليَةً ِلقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُمونَ * َوأَن َج ْينَا الَّذِينَ آ َمنُوا َو َكانُوا يَتَّقُونَ )‬ ‫َ‬
‫(النمل‪.)53-45 :‬‬

‫فهذه النتيجة التي انتهى إليها قوم صالح بعد دعوته لهم‪ ،‬هي نتيجة كل‬
‫ضا الواقع الذي ستختم عليه الدابة فال يتغير بعدها أبدًا‪:‬‬ ‫الرساالت وهي أي ً‬
‫«فَتَ ْجلُو َو ْجهَ ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َوتَ ْختِ ُم أَ ْن َ‬
‫ف ا ْلكَافِ ِر ِبا ْل َخاتَ ِم‪َ ،‬حتَّى إن أهل الحواء‬
‫ليجتمعون فيقول هذا‪ :‬يا مؤمن‪ ،‬ويقول هذا‪ :‬يا كافر»‪.‬‬

‫والمناسبة بين ثمود والدابة هي الناقة التي تتجانس في طبيعتها مع الدابة؛‬


‫حيث إن اآليتين كانتا بالتولد من األرض‪.‬‬

‫وفي هذه المناسبة يقول األلوسي‪« :‬وفي تقييد إخراجها ‪-‬أي الدابة‪-‬بقوله‬
‫سبحانه‪{ :‬منَ األرض} نوع إشارة ‪-‬على ما قيل‪-‬إلى أن خلقها ليس بطريق‬
‫التوالد؛ بل هو بطريق التولد» (‪.)342‬‬

‫(‪ )342‬تفسير األلوسي (‪.)44/15‬‬


‫قال القرطبي‪« :‬أولى األقوال للعلماء في صفة الدابة‪ :‬أنها فصيل ناقة صالح‬
‫وهو أصحها‪ ،‬وهللا أعلم»‪ ،‬واستدل بحديث أخرجه أبو داود الطيالسي في‬
‫مسنده عن حذيفة‪ ،‬وفيه‪« :‬ثم بينما الناس في أعظم المساجد على هللا‬
‫حرمة‪ ،‬خيرها وأكرمها على هللا‪ ،‬المسجد الحرام لم يرعهم إال وهي ترغو‬
‫بين الركن والمقام» ووجه الداللة من هذا الحديث قوله‪ :‬وهي ترغو‪،‬‬
‫والرغاء لإلبل (‪.)343‬‬

‫قوم لوط والدابة‬


‫الر َجا َل‬ ‫ْص ُرونَ * أَئِنَّ ُك ْم لَتَأْتُونَ ِ‬ ‫شةَ َوأَنت ُ ْم تُب ِ‬‫اح َ‬ ‫طا ِإ ْذ قَا َل ِلقَ ْو ِم ِه أَتَأْتُونَ ْالفَ ِ‬
‫( َولُو ً‬
‫اب قَ ْو ِم ِه إِ َّال أَن‬ ‫ساء َب ْل أَنت ُ ْم قَ ْو ٌم تَ ْج َهلُونَ * فَ َما َكانَ َج َو َ‬ ‫ُون النِ َ‬ ‫ش ْه َوة ً ِمن د ِ‬ ‫َ‬
‫ط َّه ُرونَ * فَأَن َج ْينَاهُ َوأَ ْهلَهُ ِإ َّال‬ ‫قَالُوا أَ ْخ ِر ُجوا آ َل لُوطٍ ِمن قَ ْر َيتِ ُك ْم ِإنَّ ُه ْم أُن ٌ‬
‫َاس َيتَ َ‬
‫ط ُر ْال ُمنذَ ِرينَ )‬ ‫ساء َم َ‬ ‫علَ ْي ِهم َّم َ‬
‫ط ًرا فَ َ‬ ‫ط ْرنَا َ‬ ‫ام َرأَتَهُ قَد َّْرنَاهَا ِمنَ ْالغَا ِب ِرينَ * َوأَ ْم َ‬ ‫ْ‬
‫(النمل‪.)58-54 :‬‬

‫والمناسبة بين ذكر نبي هللا لوط والدابة هي خرجة الدابة من «سدوم» مكان‬
‫قوم لوط؛ وذلك كما ورد في القرطبي وابن كثير‪« :‬وتخرج من تحت سدوم‬
‫دابة تكلم الناس كل يسمعها‪ »..‬رواه ابن أبي حاتم (‪.)344‬‬

‫النن ﷺ والدابة‬
‫ذكر ر ي‬
‫وهو الوارد في قوله تعالى‪( :‬إِنَّ َما أ ُ ِم ْرتُ أَ ْن أَ ْعبُدَ َر َّ‬
‫ب َه ِذ ِه ْالبَ ْلدَةِ الَّذِي َح َّر َم َها‬
‫ش ْيءٍ َوأ ُ ِم ْرتُ أَ ْن أَ ُكونَ ِمنَ ْال ُم ْس ِل ِمينَ ) (النمل‪.)91 :‬‬ ‫َولَهُ ُك ُّل َ‬
‫ومن مجمل أقوال العلماء تحدد في خروج الدابة ثالثة مواضع‪ :‬هي‪ :‬أقصى‬
‫اليمن‪ ،‬وسدوم (‪ ،)345‬ومكة‪.‬‬
‫(‪ )343‬أشراط الساعة (‪.)201/1‬‬
‫(‪ )344‬تفسير ابن كثير (‪.)214/6‬‬
‫(‪ )345‬عن وهب بن منبه‪ ،‬عنه‪ ،‬أنظر‪ :‬تفسير ابن كثير (‪ ،)214/6‬تفسير القرطبي (‪.)237/12‬‬
‫وإن كان ذكر معجزات األنبياء ومعجزات الدابة ‪-‬قبل آخر الزمان‪-‬مرتبط‬
‫بمن يراها في زمن األنبياء ومن يراها في زمن الدابة؛ فاآليات الباقية لكل‬
‫البشر في كل زمان ومكان منذ خلق آدم حتى قيام الساعة هي الرساالت‬
‫والنبوات التي تقوم بها حجة هللا على جميع الخالئق‪ ،‬وهي أيضا اآليات‬
‫الكونية في السماء واألرض‪ ،‬ومن هنا اجتمعت هذه اآليات في سياق واحد‬
‫يرتكز بصورة واضحة على األرض؛ ليكون ذلك هو المناسبة بين السياق‬
‫والدابة باعتبارها أعظم آيات األرض‪:‬‬
‫آّلِلُ َخي ٌْر أَ َّما يُ ْ‬
‫ش ِر ُكونَ ) (النمل‪.)59 :‬‬ ‫ص َ‬
‫طفَى َّ‬ ‫(قُ ِل ْال َح ْمدُ ِ َّ ِ‬
‫ّلِل َو َس َال ٌم َعلَى ِعبَا ِد ِه الَّذِينَ ا ْ‬

‫وتلك هي الحجة الشرعية وهم األنبياء والمرسلون‪ ،‬يأتي بعدها الحجة‬


‫الكونية‪:‬‬
‫س َماء َماء فَأَنبَتْنَا ِب ِه َحدَائِقَ‬ ‫ض َوأَنزَ َل لَ ُكم ِمنَ ال َّ‬‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫(أَ َّم ْن َخلَقَ ال َّ‬
‫س َم َاوا ِ‬
‫ش َج َرهَا أَ ِإلَهٌ َّم َع َّ‬
‫َّللاِ بَ ْل ُه ْم قَ ْو ٌم يَ ْع ِدلُونَ )‬ ‫ات بَ ْه َج ٍة َّما َكانَ لَ ُك ْم أَن تُنبِتُوا َ‬
‫ذَ َ‬
‫(النمل‪.)60:‬‬

‫فتبدأ اآلية بالسموات واألرض ولكنها ال تنتهي من ذكر السماء إال وقد‬
‫وجهتنا إلى «األرض»‪:‬‬
‫ي َو َجعَ َل‬ ‫ارا َو َج َع َل لَ َها َر َوا ِس َ‬ ‫ارا َو َجعَ َل ِخ َاللَ َها أَ ْن َه ً‬ ‫ض قَ َر ً‬ ‫(أَ َّمن َجعَ َل ْاأل َ ْر َ‬
‫ط َّر‬‫ض َ‬‫يب ْال ُم ْ‬ ‫َّللاِ بَ ْل أ َ ْكث َ ُر ُه ْم َال َي ْعلَ ُمونَ * أَ َّمن يُ ِج ُ‬
‫اج ًزا أَ ِإلَهٌ َّم َع َّ‬‫َبيْنَ ْال َب ْح َري ِْن َح ِ‬
‫يال َّما تَذَ َّك ُرونَ‬ ‫ض أَإِلَهٌ َّم َع َّ‬
‫َّللاِ قَ ِل ً‬ ‫سو َء َويَ ْج َعلُ ُك ْم ُخلَفَاء ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ِف ال ُّ‬‫عاهُ َويَ ْكش ُ‬ ‫ِإذَا دَ َ‬
‫ي‬ ‫الريَا َح بُ ْش ًرا بَيْنَ يَدَ ْ‬ ‫ت ْالبَ ِر َو ْالبَ ْح ِر َو َمن يُ ْر ِس ُل ِ‬ ‫ظلُ َما ِ‬ ‫* أَ َّمن يَ ْهدِي ُك ْم فِي ُ‬
‫ع َّما يُ ْش ِر ُكونَ * أَ َّمن َي ْبدَأ ُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ َو َمن‬ ‫َّللاِ ت َ َعالَى َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫َر ْح َم ِت ِه أَإِلَهٌ َّم َع َّ‬
‫صا ِدقِينَ )‬ ‫َّللاِ قُ ْل هَاتُوا بُ ْرهَانَ ُك ْم إِن ُكنت ُ ْم َ‬ ‫ض أَإِلَهٌ َّم َع َّ‬ ‫س َماء َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َي ْر ُزقُ ُكم ِمنَ ال َّ‬
‫(النمل‪.)64-61 :‬‬

‫والسؤال المتكرر في السياق معناه‪ :‬إثبات أن هللا وحده –سبحانه‪-‬هو‬


‫المتصرف في الخلق وهو نفس المعنى المأخوذ من النص الوارد في الدابة‪،‬‬
‫وهو قول رسول هللا ﷺ‪« :‬أن الدابة لها ثالث خرجات من الدهر»؛ ألن‬
‫الدهر هو الدليل على خضوع الزمان وأحداث الزمان إلرادة هللا عز وجل‪،‬‬
‫بدليل قول رسول هللا ﷺ في الحديث القدسي‪« :‬قال هللا يسب بنو آدم الدهر‪،‬‬
‫وأنا الدهر‪ ،‬بيدي الليل والنهار» (‪ ،)346‬ومن هنا كان النهي عن سب الدهر؛‬
‫فإن األيام والليالي بيد هللا عز وجل‪.‬‬

‫ولكن السياق يختم بما يكون أسا ًسا لعالمة الدابة باعتبارها من غيب األرض‪:‬‬
‫َّللاُ َو َما يَ ْشعُ ُرونَ أَيَّانَ يُ ْب َعثُونَ )‬ ‫ض ْالغَي َ‬
‫ْب ِإ َّال َّ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫(قُل َّال يَ ْعلَ ُم َمن ِفي ال َّس َم َاوا ِ‬
‫(النمل‪.)65 :‬‬

‫َّار َك ِع ْل ُم ُه ْم فِي ْاآل ِخ َرةِ بَ ْل ُه ْم‬


‫وكذلك باعتبارها دليال على اآلخرة‪( :‬بَ ِل اد َ‬
‫ع ِمونَ ) (النمل‪ ،)66 :‬أي‪ :‬تتَابع علمهم في اآلخرة‬ ‫فِي ش ٍَك ِم ْن َها بَ ْل ُهم ِم ْن َها َ‬
‫وتواطأ َ حين َحقَّت القيامة وخسروا وبان لهم صدق ما ُو ِعدُوا حين ال ينفعهم‬
‫ذلك العلم (‪ ،)347‬ونفي المنفعة بالعلم يبدأ بخروج الدابة؛ حيث تقول للكافر‪:‬‬
‫يا فالن‪ ،‬اآلن تصلي؟! فتقبل عليه فتسمه في وجهه‪.‬‬

‫( َوقَا َل الَّذِينَ َكفَ ُروا أَئِذَا ُكنَّا ت ُ َرابًا َوآبَا ُؤنَا أَئِنَّا لَ ُم ْخ َر ُجونَ ) (النمل‪.)67 :‬‬

‫فسيخرجون بعد أن يكونوا ترابًا‪ ،‬هكذا يكون البعث‪ :‬ينفض جميع ولد آدم‬
‫عن أنفسهم التراب كما أخبر بذلك رسول هللا ﷺ‪ ..« :‬وأنا سيد ولد آدم وال‬
‫فخر‪ ،‬وأول من تنشق عنه األرض وال فخر‪ ،‬وأول من ينفض التراب عن‬
‫رأسه وال فخر» (‪.)348‬‬

‫تما ًما كما ستفعل الدابة وتنفض عن رأسها التراب كما قال رسول هللا ﷺ‪:‬‬
‫«ثم بينما الناس في أعظم المساجد على هللا حرمة ‪-‬خيرها وأكرمها المسجد‬
‫الحرام‪-‬لم يرعهم إال وهي قرب ترغو بين الركن والمقام‪ ،‬تنفض عن رأسها‬
‫التراب» (‪.)349‬‬

‫(‪ )346‬البخاري (‪ )6181‬ومسلم (‪.)6003‬‬


‫(‪ )347‬تفسير الطبري (‪.)940/19‬‬
‫(‪ )348‬المعجم األوسط للطبراني (‪.)5239‬‬
‫(‪ )349‬تجلو‪ :‬تنور‪ ،‬الحواء‪ :‬البيوت المجتمعة من الناس على ماء‪ ،‬تخطم‪ :‬تسم‪.‬‬
‫ير ْاأل َ َّو ِلينَ ) (النمل‪.)68 :‬‬
‫اط ُ‬ ‫(لَقَ ْد ُو ِع ْدنَا َهذَا ن َْح ُن َوآ َبا ُؤنَا ِمن قَ ْب ُل إِ ْن َهذَا ِإ َّال أَ َ‬
‫س ِ‬
‫وباعتبار أن المرسلين هم الحجة الشرعية المانعة من الوصول بالبشر‬
‫لمرحلة الفساد الذي سيكونون عليه عند خروج الدابة‪-‬ومن هنا كان توجيههم‬
‫في مواجهتهم ألعدائهم الذين اعتبروا اآلخرة من األساطير حيث أمرهم هللا‬
‫بالسير في األرض ليستبينوا مصير المجرمين‪.‬‬

‫عاقِبَةُ ْال ُم ْج ِر ِمينَ ) (النمل‪.)69 :‬‬


‫ْف َكانَ َ‬
‫ظ ُروا َكي َ‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض فَان ُ‬ ‫(قُ ْل ِس ُ‬
‫وكانت العناية بالمرسلين في تلك المواجهة‪ :‬فأمر هللا رسوله بأن ال يأسى‬
‫عليهم وال يضيق بمكرهم‪.‬‬

‫ق ِم َّما يَ ْم ُك ُرونَ ) (النمل‪.)70 :‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم َو َال تَ ُكن فِي َ‬


‫ض ْي ٍ‬ ‫( َو َال تَ ْحزَ ْن َ‬
‫ويواجههم في تساؤلهم عن وعد هللا وينذرهم بالساعة وأشراطها‪:‬‬
‫سى أَن يَ ُكونَ َرد َ‬
‫ِف لَ ُكم‬ ‫صا ِدقِينَ * قُ ْل َ‬
‫ع َ‬ ‫( َو َيقُولُونَ َمتَى َهذَا ْال َو ْعدُ ِإن ُكنت ُ ْم َ‬
‫ض الَّذِي تَ ْستَ ْع ِجلُونَ ) (النمل‪.)72 -71 :‬‬ ‫بَ ْع ُ‬

‫وهنا يرد في السورة نفس اللفظ الدال على القرب بين الساعة والدابة‪،‬‬
‫والوحدة اللفظية للموقفين تدل على غرض الربط بينهما‪ .‬ففي الساعة تقول‬
‫سى أَن‬ ‫سورة النمل‪َ ( :‬ويَقُولُونَ َمتَى َهذَا ْال َو ْعدُ ِإن ُكنت ُ ْم َ‬
‫صا ِدقِينَ * قُ ْل َ‬
‫ع َ‬
‫ض الَّذِي ت َ ْستَ ْع ِجلُونَ )‪.‬‬
‫ِف لَ ُكم بَ ْع ُ‬
‫يَ ُكونَ َرد َ‬

‫ِف لَ ُك ْم) وراءكم وأنتم ال تدرون‪ ،‬وقريبًا منكم وأنتم ال تشعرون‪،‬‬ ‫( َرد َ‬
‫ض الَّذِي ت َ ْستَ ْع ِجلُونَ ) أن يكون قرب لكم بعض‬
‫ِف لَ ُك ْم بَ ْع ُ‬
‫قال ابن عباس (رد َ‬
‫الذي تستعجلون (‪ .)350‬وبذلك تكون الدابة أقرب تشبيه لقرب الساعة من‬
‫اإلنسان مثلما تكون الدابة ردف الرجل وهو ال يدري كما جاء في الحديث‬
‫الذي رواه ابن كثير في تفسيره لآلية‪« :‬حتى إن الرجل ليتعوذ منها في‬
‫الصالة فتأتيه من خلفه‪ ،‬ال ينجو منها هارب» (‪.)351‬‬

‫(‪ )350‬تفسير ابن كثير(‪.)209/6‬‬


‫(‪ )351‬انظر‪ :‬أخبار مكة للفاكهي‪.‬‬
‫اس َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر ُه ْم َال يَ ْش ُك ُرونَ * َو ِإ َّن َرب ََّك لَ َي ْعلَ ُم‬
‫علَى النَّ ِ‬ ‫ض ٍل َ‬‫( َو ِإ َّن َرب ََّك لَذُو فَ ْ‬
‫ض إِ َّال فِي‬ ‫س َماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ُور ُه ْم َو َما يُ ْع ِلنُونَ * َو َما ِم ْن غَائِبَ ٍة فِي ال َّ‬ ‫صد ُ‬‫َما ت ُ ِك ُّن ُ‬
‫علَى بَنِي إِ ْس َرائِي َل أَ ْكث َ َر الَّذِي ُه ْم فِي ِه‬ ‫ص َ‬ ‫ين * إِ َّن َهذَا ْالقُ ْرآنَ يَقُ ُّ‬
‫ب ُّمبِ ٍ‬ ‫ِكتَا ٍ‬
‫َي ْختَ ِلفُونَ ) (النمل‪.)76-73 :‬‬
‫بنو إرسائيل‪ ،‬والدابة‬
‫ومناسبة ذكر بني إسرائيل قبل ذكر الدابة يأتي من ناحيتين‪:‬‬

‫األولى‪ :‬أن «الَّذِي ُه ْم فِي ِه يَ ْختَ ِلفُونَ » هو اختالف اليهود والنصارى في‬
‫عيسى ابن مريم؛ كما ذكر الطبري في تفسير اآلية‪ ،‬قال‪« :‬إن هذا القرآن‬
‫الذي أنزلته إليك يا محمد يقص على بني إسرائيل الحق‪ ،‬في أكثر األشياء‬
‫التي اختلفوا فيها‪ ،‬وذلك كالذي اختلفوا فيه من أمر عيسى‪ ،‬فقالت اليهود فيه‬
‫ما قالت‪ ،‬وقالت النصارى فيه ما قالت‪ ،‬وتبرأ الختالفهم فيه هؤالء من‬
‫هؤالء‪ ،‬وهؤالء من هؤالء‪ ،‬وغير ذلك من األمور التي اختلفوا فيها‪ ،‬فقال‬
‫جل ثناؤه لهم‪ :‬إن هذا القرآن يقص عليكم الحق فيما اختلفتم فيه فاتبعوه‪،‬‬
‫وأقروا لما فيه‪ ،‬فإنه يقص عليكم بالحق‪ ،‬ويهديكم إلى سبيل الرشاد»(‪.)352‬‬

‫والثانية‪ :‬أن الدابة ستخرج وقد تحقق القول الفصل في عبودية عيسى ابن‬
‫ووصف النبي‬
‫ُ‬ ‫مريم؛ حيث تخرج الدابة وهو عليه السالم يطوف بالكعبة‪،‬‬
‫ﷺ لعيسى وهو يطوف بالبيت في آخر الزمان بقوله‪« :‬رأيت عيسى وهو‬
‫يطوف بالبيت متكئا على عاتق رجل» (‪ )353‬وفي نفس النص يصف رسول‬
‫ٌ‬
‫إثبات‬ ‫هللا ﷺ المسيح الدجال وهو يطوف بالبيت متكئًا بين رجلين‪ ،‬وفي ذلك‬
‫الفتقار عيسى والدجال‪ ،‬ونفيًا لأللوهية التي ادَّعاها النصارى لعيسى‪ ،‬ونفيًا‬
‫لأللوهية التي ادعاها الدجال لنفسه (‪.)354‬‬

‫حيث روي في خبر عن النبي ﷺ‪« :‬إن األرض تنشق عن الدابة وعيسى‬
‫عليه السالم يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى‪ ،‬وإنها‬

‫(‪ )352‬تفسير الطبري (‪.)439/19‬‬


‫(‪ )353‬أخرجه البخاري (‪ )6999 ،5902‬ومسلم (‪ )1672 ،443‬كالهما عن ابن عمر‪.‬‬
‫(‪ )354‬انظر‪ :‬المسيح دراسة سلفية ‪-‬للمؤلف‪.‬‬
‫تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب‬
‫دري‪ ،‬وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء كافر» (‪.)355‬‬

‫ومالحظة أن الدابة ستخرج وعيسى يطوف بالبيت تستوجب التفسير؛ ذلك‬


‫أن ترتيب ظهور الدابة هو بعد الدجال وعيسى ويأجوج ومأجوج‪ ،‬وأن‬
‫ظهورا وهي خروج الشمس من‬ ‫ً‬ ‫ظهور الدابة مقترن بآخر العالمات‬
‫أمر‬
‫المغرب‪ ،‬ومن هنا فإن ترتيب العالمات كما وردت في النصوص ٌ‬
‫يتطلب المناقشة‪ ،‬ألن النصوص الواردة في ترتيب العالمات جاءت بأساس‬
‫منهجي‪ ،‬وليس لمجرد الترتيب الزمني‪.‬‬

‫وهناك عدة أبعاد في ترتيب العالمات‪:‬‬

‫منها‪ :‬الترتيب من حيث الفرق بين وجود العالمة وفاعليتها‪ ،‬ألن وقت وجود‬
‫العالمة ال يعني أن يكون هو وقت فاعليتها في الواقع‪ ،‬فالدجال موجود ولكن‬
‫ليس له أي أثر كعالمة؛ بل إنه في حديث الجساسة يحبذ اإليمان بالنبي عليه‬
‫الصالة والسالم(‪ ،)356‬حيث إن هذا الظهور له داللته وهي التقابل مع المسيح‬
‫عيسى من حيث وجوده‪ ،‬فكما أن عيسي موجود يكون الدجال موجود‪ ،‬تحقق‬
‫التقابل التام بينهما‪ ،‬وكذلك يكون وجود الدابة وابتداء ظهورها مع وجود‬
‫عيسى؛ وداللته هي العالقة المنهجية بينهما‪ ،‬ولكن فاعليتها كعالمة ستبدأ‬
‫بعد عيسى والدجال ويأجوج ومأجوج‪.‬‬

‫وفي إطار االرتباط بين الحكمة من العالمة وترتيبها في النصوص جاء‬


‫اإلخبار عن الدابة والشمس بإطالق دون ترتيب بينهما؛ العتبار اشتراكهما‬
‫في علة واحدة وهي أنه ال ينفع نفس أيمانها إذا ظهرت إحدى هاتين‬
‫العالمتين‪.‬‬

‫(‪ )355‬تفسير القرطبي (‪.)237/13‬‬


‫(‪ )356‬في حديث تميم الداري وفيه يقول الدجال‪« :‬أ َ ْخ ِب ُرونِي ع َْن َنبِي ِ األ ُ ِميِينَ َما فَعَلَ؟ َقالُوا‪ :‬قَ ْد َخ َر َج ِم ْن َمكَّةَ َونَ َز َل يَثْ ِر َب‪،‬‬
‫ب َوأَ َطاعُو ُه‪ ،‬قا َل لَ ُه ْم‪ :‬قَ ْد‬ ‫صنَ َع ِب ِه ْم؟ فَأ َ ْخ َب ْرنَا ُه أَنَّهُ قَ ْد َظه ََر َ‬
‫علَى َم ْن َي ِلي ِه ِمنَ ا ْل َع َر ِ‬ ‫قالَ‪ :‬أ َ َقاتَلَهُ ا ْل َع َر ُ‬
‫ب؟ قُ ْلنَا‪ :‬نَ َع ْم‪ ،‬قالَ‪َ :‬كي َ‬
‫ْف َ‬
‫َ‬
‫شكُ أ ْن يُؤْ ذنَ ِلي فِى‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كَانَ ذَ ِلكَ ؟ قُ ْل َنا‪ :‬نَعَ ْم‪ ،‬قالَ‪ :‬أ َما إِنَّ ذاكَ َخي ٌْر ل ُه ْم أ ْن يُ ِطيعُوهُ َوإِنِي ُم ْخبِ ُر ُك ْم عَنِى‪ :‬إِنِي أنَا ال َمسِيحُ‪َ ،‬وإِنِي أو ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ا ْل ُخ ُروجِ» صحيح مسلم (‪.)7573‬‬
‫ولذلك قال ﷺ في عالمة الشمس والدابة من حيث الترتيب‪« :‬وأيهما ما كانت‬
‫قبل صاحبتها فاألخرى على إثرها قريبا» (‪.)357‬‬

‫ضي بَ ْينَ ُهم ِب ُح ْك ِم ِه َو ُه َو ْال َع ِز ُ‬


‫يز‬ ‫( َو ِإنَّهُ لَ ُهدًى َو َر ْح َمةٌ ِل ْل ُمؤْ ِمنِينَ * ِإ َّن َرب ََّك َي ْق ِ‬
‫ين) (النمل‪.)79-77 :‬‬ ‫ق ْال ُم ِب ِ‬‫علَى ْال َح ِ‬ ‫علَى َّ‬
‫َّللاِ ِإنَّ َك َ‬ ‫ْالعَ ِلي ُم * فَتَ َو َّك ْل َ‬

‫وتفسير خروج الدابة هو كفر الناس بالمرسلين وآياتهم؛ والرسالة هي‬


‫خطاب هللا لإلنسان‪ ،‬أما تفسير الكفر نفسه فهو عدم سماع الناس لهذا‬
‫الخطاب‪.‬‬

‫فخرجت الدابة تكلم الناس؛ ألنهم لم يسمعوا كالم األنبياء‪ ،‬ومن هنا كان قول‬
‫هللا قبل ذكر الدابة مباشرة‪:‬‬

‫عاء ِإذَا َولَّ ْوا ُم ْدبِ ِرينَ * َو َما أ َ َ‬


‫نت‬ ‫( ِإنَّ َك َال ت ُ ْس ِم ُع ْال َم ْوتَى َو َال ت ُ ْس ِم ُع ال ُّ‬
‫ص َّم الدُّ َ‬
‫ض َاللَتِ ِه ْم إِن ت ُ ْس ِم ُع إِ َّال َمن يُؤْ ِم ُن بِآيَاتِنَا فَ ُهم ُّم ْس ِل ُمونَ * َوإِذَا‬
‫عن َ‬ ‫بِ َهادِي ْالعُ ْمي ِ َ‬
‫ض ت ُ َك ِل ُم ُه ْم أَ َّن النَّ َ‬
‫اس َكانُوا ِبآ َياتِنَا‬ ‫َوقَ َع ْالقَ ْو ُل َ‬
‫علَ ْي ِه ْم أَ ْخ َر ْجنَا لَ ُه ْم دَابَّةً ِمنَ ْاأل َ ْر ِ‬
‫َال يُوقِنُون) (النمل‪.)82-80 :‬‬

‫ولكن مستوى الكفر والجحود الذي بلغه الناس الذين ستخرج الدابة عليهم‬
‫كان قد بلغه من قبل أفوا ٌج من األمم السابقة كانوا أشد الناس فسادًا؛ فاقتضى‬
‫عدل هللا أن يتحدد موقفهم بمناسبة ذكر الدابة‪.‬‬

‫عونَ ) (النمل‪.)83 :‬‬ ‫ش ُر ِمن ُك ِل أ ُ َّم ٍة فَ ْو ًجا ِم َّمن يُكَذ ُ‬


‫ِب بِآيَا ِتنَا فَ ُه ْم يُوزَ ُ‬ ‫( َويَ ْو َم ن َْح ُ‬
‫وقد اختصت اآلية من كل أمة فو ًجا باعتبارهم أشد األقوام‪ ،‬كما قوله تعالى‪:‬‬
‫الر ْح َم ِن ِعتِيًّا) حيث قال قتادة‪ :‬ثم‬ ‫علَى َّ‬
‫شدُّ َ‬ ‫ع َّن ِم ْن ُك ِل ِشيعَ ٍة أَيُّ ُه ْم أَ َ‬
‫(ث ُ َّم لَنَنز َ‬
‫الشر‪ ،‬تما ًما مثلما ذكرت‬ ‫ِ‬ ‫لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في‬
‫السورة أشد الناس إفسادا مثل الرهط من قوم صالح‪ ،‬قال تعالى‪َ ( :‬و َكانَ فِي‬
‫ص ِل ُحونَ ) الذين قتلوا الناقة‬ ‫ْال َمدِينَ ِة ِت ْس َعةُ َر ْهطٍ يُ ْف ِسدُونَ ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َو َال يُ ْ‬
‫وحاولوا قتل صالح‪ ،‬فسيُسأل هؤالء يوم القيامة‪َ ( :‬حتَّى ِإذَا َجاؤُوا قَا َل أَ َكذَّ ْبتُم‬
‫(‪ )357‬صحيح مسلم (‪.)7570‬‬
‫طوا بِ َها ِع ْل ًما أَ َّماذَا ُكنت ُ ْم ت َ ْع َملُونَ ) (النمل‪.)84:‬‬
‫ِبآ َياتِي َولَ ْم ت ُ ِحي ُ‬

‫ولكنهم لن يستطيعوا اإلجابة‪:‬‬


‫ظلَ ُموا فَ ُه ْم َال َي ِ‬
‫نطقُونَ ) (النمل‪.)85 :‬‬ ‫( َو َوقَ َع ْالقَ ْو ُل َ‬
‫علَ ْي ِهم ِب َما َ‬
‫ففي الوقت الذي ذكرت فيه السورة نطق «الطير والنمل والهدهد والدابة»‪،‬‬
‫أما هؤالء (فهم ال ينطقون)‪.‬‬

‫ْص ًرا ِإ َّن ِفي ذَ ِل َك َآل َيا ٍ‬


‫ت ِلقَ ْو ٍم‬ ‫(أَلَ ْم يَ َر ْوا أَنَّا َجعَ ْلنَا اللَّ ْي َل ِليَ ْس ُكنُوا فِي ِه َوالنَّ َه َ‬
‫ار ُمب ِ‬
‫يُؤْ ِمنُونَ ) (النمل‪ .)86 :‬ومناسبة خروج الدابة بقوله تعالى‪{ :‬والن َ‬
‫َهار‬
‫ْص ًرا} هو كما قال رسول هللا ﷺ في الحديث الذي رواه مسلم‪« :‬إن أول‬ ‫ُمب ِ‬
‫اآليات خروجا طلوع الشمس من مغربها أو خروج الدابة على الناس‬
‫ضحى» (‪)358‬؛ ألن وقت الضحى هو وقت إبصار النهار ألنه وقت تمام‬
‫نيرا»‬ ‫ْص ًرا} أي «م ً‬ ‫َهار ُمب ِ‬ ‫الضياء؛ حيث ورد في تفسير قوله تعالى‪{ :‬والن َ‬
‫(‪ )359‬أو «مضيئًا» (‪.)360‬‬

‫وبذلك يجتمع في الدابة صفة اإلبصار في طبيعتها ‪-‬وهي فصيل ناقة صالح‪-‬‬
‫‪ ،‬التي جعلها هللا مبصرة؛ فعن قتادة قال في تفسير قوله تعالى‪( :‬وآتَ ْينَا ث َ ُمودَ‬
‫النَّاقَةَ ُمب ِ‬
‫ْص َرة ً)‪ :‬أي ِبينة‪.‬‬

‫مبصرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وكذلك وقت ظهورها في الضحى عندما يكون النهار‬
‫ومن هنا كان الربط عند الطبري بين آية الناقة وآية النهار؛ حيث قال‪:‬‬
‫«وإنما عنى بالمبصرة‪ :‬المضيئة البينة التي من يراها كانوا أهل بصر بها‪،‬‬
‫ْص ًرا)» (‪.)361‬‬
‫َهار ُمب ِ‬
‫أنها هلل حجة‪ ،‬كما قال تعالى‪( :‬والن َ‬

‫ت َو َمن فِي ْاأل َ ْر ِ‬


‫ض إِ َّال َمن شَاء‬ ‫س َم َاوا ِ‬ ‫ور فَفَ ِز َ‬
‫ع َمن فِي ال َّ‬ ‫ص ِ‬‫( َو َي ْو َم يُنفَ ُخ فِي ال ُّ‬
‫اخ ِرينَ ) (النمل‪ .)87 :‬والمناسبة بين هذه اآلية والدابة هي‬ ‫َّللاُ َو ُك ٌّل أَتَ ْوهُ دَ ِ‬
‫َّ‬
‫«صيحات الدابة الثالث» التي ستكون ما بين السماء واألرض‪ ،‬ذلك أن‬
‫(‪ )358‬مصنف ابن أبي شيبة (‪.)619/8‬‬
‫(‪ )359‬تفسير ابن أبي حاتم (‪.)124/51‬‬
‫(‪ )360‬تفسير الطبري (‪.)397/17‬‬
‫(‪ )361‬تفسير الطبري (‪.)478/17‬‬
‫الدابة سيكون لها صرخات بين الخافقين؛ أي بين السماء واألرض‪ ،‬وأن‬
‫هذه الصرخات سيسمعها كل من بين السماء واألرض كما سيسمع من في‬
‫ج الدَّابَّةُ‪،‬‬
‫َّللاِ ﷺ‪« :‬تَ ْخ ُر ُ‬ ‫السماوات واألرض نفخة الصعق‪ ،‬وهو قَول َر ُ‬
‫سول َّ‬
‫ص َر َخاتٍ‪ ،‬فَ َي ْ‬
‫س َمعُ َها َما َب ْي َن ا ْل َخا ِفقَ ْي ِن» (‪ ،)362‬وسيكون سمعًا‬ ‫فَتَص ُْر ُ‬
‫خ ثَ َ‬
‫الث َ‬
‫قهريًّا؛ ذلك ألنهم لم يسمعوا لألنبياء والمرسلين من قبل!!‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪َ ( :‬و ُك ٌّل أَتَ ْوهُ دَ ِ‬


‫اخ ِرينَ ) أي صاغرين مطيعين‪ ،‬ال يتخلف أحد‬
‫(‪.)363‬‬
‫وهذا التفسير له عالقة بالدابة حيث سيكون الناس‪ ،‬أمامها داخرين؛ كما قال‬
‫رسول هللا ﷺ‪« :‬ال يدركها طالب وال يعجزها هارب» (‪ ،)364‬وكما قال‪:‬‬
‫«وتخطم أنف الكافر بالخاتم»‪.‬‬

‫َّللاِ الَّذِي أَتْقَنَ ُك َّل‬


‫ص ْن َع َّ‬
‫ب ُ‬ ‫س َحا ِ‬‫ي تَ ُم ُّر َم َّر ال َّ‬‫امدَة ً َو ِه َ‬ ‫( َوتَ َرى ْال ِج َبا َل تَ ْح َ‬
‫سبُ َها َج ِ‬
‫سنَ ِة فَلَهُ َخي ٌْر ِم ْن َها َو ُهم ِمن فَزَ عٍ‬ ‫ير بِ َما ت َ ْف َعلُونَ * َمن َجاء ِب ْال َح َ‬ ‫ش ْيءٍ ِإنَّهُ َخ ِب ٌ‬‫َ‬
‫ار ه َْل ت ُ ْجزَ ْونَ إِ َّال َما‬
‫َّت ُو ُجو ُه ُه ْم فِي النَّ ِ‬ ‫سيِئَ ِة فَ ُكب ْ‬
‫يَ ْو َمئِ ٍذ ِآمنُونَ * َو َمن َجاء بِال َّ‬
‫ُكنت ُ ْم ت َ ْع َملُونَ ) (النمل‪.)90-88 :‬‬

‫وهذه المجموعة من اآليات تناقش العالقة بين األرض وعمل اإلنسان فيها؛‬
‫حيث تثبت العالقة بين خلق الجبال وهي أوتاد األرض من حيث حقيقتها‬
‫المتحركة وصورتها الثابتة من خالل مرورها مر السحاب مما يدل على‬
‫إتقان هللا لكل شيء وبنفس هذا اإلتقان يكون علم هللا بما نفعل؛ ليتجانس خلق‬
‫الجبال وعمل اإلنسان من خالل هذا اإلتقان‪ ،‬لتتواصل اآليات التي تناقش‬
‫قاعدة الحساب على عمل اإلنسان بنفس اإلتقان والعلم‪.‬‬

‫ش ْيءٍ َوأ ُ ِم ْرتُ أ َ ْن‬ ‫( ِإنَّ َما أ ُ ِم ْرتُ أ َ ْن أ َ ْعبُدَ َر َّ‬


‫ب َه ِذ ِه ْال َب ْلدَةِ الَّذِي َح َّر َم َها َولَهُ ُك ُّل َ‬
‫أَ ُكونَ ِمنَ ْال ُم ْس ِل ِمينَ ) (النمل‪.)91 :‬‬

‫(‪ )362‬المعجم الكبير للطبراني (‪.)335/19‬‬


‫(‪ )363‬تفسير ابن كثير (‪.)216/6‬‬
‫(‪ )364‬المعجم الكبير للطبراني (‪.)286/3‬‬
‫وخروج الدابة «الخرجة األخيرة» سيكون من مكة‪ ،‬وهو الخروج األساسي‬
‫لها‪ ،‬ذكر رسول هللا ﷺ الدابة فقال‪« :‬لها ثالث خرجات من الدهر‪ ،‬فتخرج‬
‫في أقصى البادية وال يدخل ذكرها القرية ‪-‬يعني مكة‪ ،-‬ثم تكمن زمنا طويال‪،‬‬
‫ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية‪ ،‬ويدخل ذكرها‬
‫القرية‪.)365( ».‬‬

‫مما يدل على أن الخرجة األساسية هي مكة‪ ،‬وأن ما قبل مكة هو تمهيد لها؛‬
‫ولذلك يذكر الحديث أن الخرجة األولى في أقصى البادية وال يدخل ذكرها‬
‫القرية «مكة» والخرجة الثانية في البادية ويدخل ذكرها مكة‪ ،‬ثم الخروج‬
‫في القرية ذاتها «مكة»‪.‬‬

‫ب َه ِذ ِه ْالبَ ْلدَ ِة الَّذِي َح َّر َم َها} ذكر حرمة‬


‫{ر َّ‬
‫ولعلنا نالحظ في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫البلدة «مكة»‪ ،‬والتي وردت تفصيال في الحديث‪« :‬ثم بينما الناس في أعظم‬
‫المساجد على هللا حرمة ‪-‬خيرها وأكرمها على هللا‪-‬المسجد الحرام لم‬
‫يرعهم إال وهي ترغو بين الركن والمقام‪ ،‬تنفض رأسها عن التراب» (‪.)366‬‬
‫ومما يثبت داللة الحرمة ‪-‬الواردة في اآلية والحديث‪-‬على المناسبة بين آيات‬
‫السورة‪.‬‬

‫هو ما يثبت غلبة هذه الحرمة على شدة العذاب الذي وقع بقوم ثمود بعد‬
‫قتلهم الناقة‪ ،‬ذلك أن من بين قوم ثمود المستحقين للعذاب من كان في حرم‬
‫مكة ولم يقع عليه العذاب إال بعد خروجه منها‪ ،‬مما يؤكد أن شدة عذاب قوم‬
‫ثمود لم تط َغ على حرمة مكة‪ ،‬وهي قصة أبي رغال التي رواها ابن إسحاق‪:‬‬
‫«أن النبي ﷺ لما خرج إلى الطائف مر بقبر أبي رغال فقال‪ :‬إن هذا قبر‬
‫أبي رغال وهو أبو ثقيف‪ ،‬وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه‪ ،‬فلما‬
‫خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان‪ ،‬فدفن فيه»‪.‬‬

‫عذاب هللا‪ ،‬فلما خرج أصابه‬


‫َ‬ ‫وفي رواية‪« :‬كان في حرم هللا‪ ،‬فمنعه حرم هللا‬
‫ما أصاب قومه»‪ ،‬وقيل‪ :‬إن أبا رغال كان دليل أبرهة في طريقه لهدم‬

‫(‪ )365‬مسند أبي داود الطيالسي ‪1153‬‬


‫(‪ )366‬المصدر السابق‬
‫الكعبة‪ ،‬قال الحافظ ابن كثير‪ :‬والجمع بينهما أن أبا رغال المتأخر وافق‬
‫اسمه اسم جده األعلى ورجمه الناس كما رجموا قبر األول أيضا‪.‬‬

‫وفي كنز العمال‪« :‬ال تسألوا نبيكم اآليات‪ ،‬فقد سألها قوم صالح فكانت‬
‫الناقة ترد من هذا الفج‪ ،‬وتصدر من هذا الفج‪{ :‬فعتوا عن أمر ربهم‬
‫فعقروها} فأخذتهم الصيحة‪ ،‬فأهمد هللا من تحت أديم السماء منهم‪ ،‬إال‬
‫رجال واحدا كان في حرم هللا تعالى‪ ،‬قالوا‪ :‬من هو يا رسول هللا؟ قال‪ :‬أبو‬
‫رغال‪ ،‬فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» (‪.)367‬‬

‫وقد صحح محمد بن إسماعيل البخاري حديث سالم عن أبيه «أن رجال من‬
‫ثقيف طلق نساءه فقال له عمر‪ :‬لتراجعن نساءك أو ألرجمن قبرك كما رجم‬
‫قبر أبي رغال»‪.‬‬

‫ضا أن خروج الدابة من مكة وهي ‪-‬كما ورد في الحديث‪-‬‬‫كما أننا نالحظ أي ً‬
‫‪« :‬أعظم المساجد على هللا حرمة‪ ،‬خيرها وأكرمها على هللا» يكون على‬
‫النقيض من خرجتها األولى من سدوم قرية لوط أشر األماكن؛ ليكون خروج‬
‫الدابة من جميع األرض خيرها وشرها‪.‬‬

‫سورة التوبة وعالمة الشمس‬


‫الشمس والدابة‬
‫الشمس قرينة الدابة في الخروج‪ ،‬ألنهما قضية واحدة‪ ،‬حيث ساوى رسول‬
‫هللا ﷺ في احتمالية ظهور أحدهما قبل األخرى‪ ،‬وفي تبعية الثانية لألولى‬
‫ش ْم ِس ِم ْن َم ْغ ِربِ َها َو ُخ ُرو ُج‬ ‫طلُو ُ‬
‫ع ال َّ‬ ‫ت ُخ ُرو ًجا ُ‬ ‫منهما فقال‪« :‬إِ َّن أَ َّو َل ْاآليَا ِ‬
‫اح َبتِ َها فَ ْاأل ُ ْخ َرى َ‬
‫علَى إِثْ ِرهَا‬ ‫ص ِ‬ ‫ض ًحى َوأَيُّ ُه َما َما َكان ْ‬
‫َت قَ ْب َل َ‬ ‫اس ُ‬ ‫علَى النَّ ِ‬
‫الدَّابَّ ِة َ‬
‫قَ ِريبًا»(‪ ،)368‬أما وحدة القضية فهي حسم العمل والموقف اإلنساني‪ ،‬فالدابة‬

‫(‪ )367‬كنز العمال‪ ،‬وأشار المتقي الهندي إلى تخريجه‪( :‬حم حب ك طس وابن مردويه عن جابر) وقد ضعفه األلباني‪.‬‬
‫(‪ )368‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم (‪)5234‬‬
‫لحسم الموقف بحسب العمل‪ ،‬حيث تكتب على جبين المؤمن كلمة «مؤمن»‬
‫بحسب عمله‪ ،‬وعلى جبين الكافر كلمة «كافر» بحسب عمله‪ ،‬أما الشمس‬
‫فهي لحسم العمل حسب الموقف‪ ،‬فمتى خرجت الشمس من مغربها فال عمل‬
‫َت ِمن قَ ْب ُل أَ ْو َك َ‬
‫س َب ْ‬
‫ت ِفي إِي َما ِن َها‬ ‫لإلنسان‪ ،‬كما قال هللا تعالى‪{ :‬لَ ْم ت َ ُك ْن آ َمن ْ‬
‫َخي ًْرا} (األنعام‪.)158:‬‬

‫وما يؤكد وحدة القضية بين الدابة والشمس هو معنى الفرقان‪ ،‬ذلك أن الدابة‬
‫فرقان بين أهل الهدى وأهل الضالل‪ ،‬أما الشمس فقد ذكرت مثالً كونيا ً‬
‫للفرقان بين الهدى نفسه والضالل نفسه‪ ،‬وذلك في قوله سبحانه‪{ :‬أَلَ ْم تَ َر‬
‫علَ ْي ِه‬
‫س َ‬ ‫سا ِكنًا ث ُ َّم َجعَ ْلنَا ال َّ‬
‫ش ْم َ‬ ‫الظ َّل َولَ ْو شَاء لَ َج َعلَهُ َ‬ ‫ِإلَى َر ِب َك َكي َ‬
‫ْف َمدَّ ِ‬
‫دَ ِليالً}(الفرقان‪ ،)45:‬ألن اآلية تعالج الدليل القطعي وعالقته باإلحساس‬
‫البشري في استيعاب اإلنسان للحقائق‪ ،‬فلو أنك نظرت إلى الظل فإنك ال‬
‫تشعر بامتداده‪ ،‬وقد يغلب عليك هذا الظل‪ ،‬وأنت ال تنتبه إلى حركته الدقيقة‬
‫الخفية‪ ،‬حتى أنك تضطر لمعرفة امتداد الظل إلى النظر إلى الشمس‬
‫باعتبارها دليالً على الظل‪ ،‬وهكذا يكون الموقف الصحيح في معرفة‬
‫الحقائق‪ ،‬وهو االرتباط باألدلة القطعية الواضحة والتجرد من اإلحساسات‬
‫والتوهمات‪ ،‬ولعل ما يؤكد معنى الفرقان في الشمس هو أن موضوع سورة‬
‫الفرقان نفسها هو الفرقان‪.‬‬

‫وعالمة الشمس دالة على حقيقة مهمة من حقائق الفعل اإللهي‪ ،‬وهي أن‬
‫هللا‪ ،‬عز وجل‪ ،‬إذا أراد إيجاد شيء أوجده لمقتضاه وبأسبابه‪ ،‬وإذا أراد عدمه‬
‫أعدمه مقتضاه وأسبابه‪ ،‬فلما أراد هللا خلق اإلنسان خلقه لعبادته‪ ،‬وكانت‬
‫نس إِالَّ‬ ‫ْال ِج َّن َو ِ‬
‫اإل َ‬ ‫العبادة هي سبب الخلق‪َ { :‬و َما َخلَ ْقتُ‬
‫ِليَ ْعبُدُون}(الذاريات‪ ،)56:‬ولما أراد خلق اإلنسان خلق له األسباب المحققة‬
‫ض َج ِميعا ً ث ُ َّم ا ْستَ َوى إِلَى ال َّ‬
‫س َماء‬ ‫لبقائه { ُه َو الَّذِي َخلَقَ لَ ُكم َّما فِي األ َ ْر ِ‬
‫ع ِليم}(البقرة‪ ،)29:‬فإذا أراد هللا العدم‬ ‫ش ْيءٍ َ‬‫ت َو ُه َو ِب ُك ِل َ‬
‫س َم َاوا ٍ‬ ‫س َّوا ُه َّن َ‬
‫س ْب َع َ‬ ‫فَ َ‬
‫لإلنسان انعدم المقتضى «رفع الدين والعبادة»‪ ،‬وكتب العدم على أسباب‬
‫اإليجاد والبقاء‪ ،‬هذا بصفة عامة تصور عام للساعة وعالمات الساعة‪ ،‬ولكن‬
‫التفصيل في العالمات هو التفسير المباشر لعالمة غياب الشمس والتوبة‪،‬‬
‫ونقدم له بعدة أمثلة‪.‬‬

‫لما قدر هللا‪ ،‬عز وجل‪ ،‬وضع الحرب وأوزارها عن البشر بقتل الدجال‪،‬‬
‫امتد ذلك القدر إلى كل الواقع الكوني العام بأخص عناصره الدالة على‬
‫العداء‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬حتى تلعب األطفال مع الحيات‪ ،‬وحتى ترعى الذئاب مع‬
‫الغنم»‪« ،‬وترعى الذئاب مع الغنم»‪ ،‬ألن العالقة بين الذئب والغنم هي مثال‬
‫كوني للعالقة بين الشيطان واإلنسان‪ ،‬ولذلك قال ﷺ‪« :‬الشيطان ذئب‬
‫اإلنسان» (‪.)369‬‬

‫فيالحظ أن انعدام العداء في الواقع البشري أنهاه هللا في أبرز أمثلة كونية له‬
‫مثلما يقدر هللا قبول التوبة على اإلنسان‪ ،‬فينقلها في أبرز أمثلة كونية لها‬
‫وهي الشمس‪ ،‬ولما قدر هللا قتل الدجال استقدر هللا إلى قتل اليهود‪ ،‬باعتبار‬
‫أن اليهود هم أولياء الدجال من البشر‪.‬‬

‫ثم يمتد قدر قتل اليهود‪ ،‬وإلى الواقع الكوني العام ليقول الحجر والشجر‪َ « :‬يا‬
‫ي َو َرائِي فَا ْقت ُ ْلهُ» (‪ ،)370‬حيث جاء العداء‪ ،‬كما أخبر القرآن‬ ‫ُم ْس ِل ُم َهذَا َي ُهو ِد ٌّ‬
‫ْ‬ ‫الكريم‪{ :‬قُ ْلنَا ا ْه ِب ُ‬
‫اي فَالَ‬ ‫طواْ ِم ْن َها َج ِميعا ً فَإِ َّما يَأتِيَنَّ ُكم ِمنِي ُهدًى فَ َمن تَ ِب َع ُهدَ َ‬
‫طواْ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوالَ ُه ْم َي ْحزَ نُون} (البقرة‪ )38:‬حيث قال ابن عباس‪( :‬ا ْه ِب ُ‬ ‫ف َ‬ ‫خ َْو ٌ‬
‫ِم ْن َها َج ِميعا ً)‪ :‬آدم وحواء وإبليس والحية‪.‬‬

‫وبذلك تتحدد العالقة بين قدر هللا واإلنسان والوجود الكوني إلى طبيعة األمر‬
‫المقدر في اإلنسان‪ ،‬فإذا رجعنا إلى عالمة الشمس لتفسير العالقة بينها وبين‬
‫انقطاع التوبة فسنجد تحقيق ذلك من خالل عدة قواعد قدرية‪:‬‬

‫(‪ )369‬مسند أحمد بن حنبل برقم (‪.)21464‬‬


‫(‪ )370‬صحيح‪ ،‬أخرجه البخاري برقم‪.)2724( :‬‬
‫أوال‪ :‬عالقة التوبة بالحركة الكونية‪ ،‬وداللة الشمس على هذه الحركة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬داللة حركة الشمس على معنى التوبة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬اقتران غياب الشمس بانقطاع التوبة‪.‬‬

‫وهي الحقيقة المقصودة نهائياً‪ ،‬وفي العنصر األول يراجع عالقة التوبة‬
‫بالحركة الكونية‪ ،‬وداللة الشمس على الحركة الكونية في (المضمون‬
‫اإلنساني)‪ ،‬وأما العنصر ثانياً‪ ،‬وهو داللة حركة الشمس‪ ،‬حيث نشأت هذه‬
‫الداللة من شروق الشمس كل يوم بين قرني شيطان‪ ،‬ولكنها تغرب كل يوم‬
‫تحت عرش الرحمن‪.‬‬

‫ومن هنا كانت بداية الشمس كل يوم شيطانية‪ ،‬حيث الخروج بين قرني‬
‫شيطان والمشرق الذي أشار إليه الرسول ﷺ بالفتنة‪ ،‬حيث قال‪« :‬أال إن‬
‫الفتنة ههنا‪ ،‬وأشار إلى المشرق» (‪.)371‬‬

‫من البداية الشيطانية والفتنة إلى السجود تحت عرش الرحمن في آخر‬
‫سفرها اليومي كل مرة‪ ،‬ولعل وجود باب التوبة كما قال ﷺ يناسب المباعدة‬
‫بين الشر والخير بأقصى درجة مباعدة‪ ،‬ومثلما كان لغياب العداء في الواقع‬
‫الكوني لما قرر هللا دفعه من الواقع البشري‪ ،‬مثاال هو رعي الذئاب مع‬
‫الغنم‪ ،‬فكذلك يكون غياب الشمس مثال كوني النقطاع التوبة عن اإلنسان‪.‬‬

‫الشمس والتوبة‬
‫فالتوبة حقيقة قدرية تمأل الزمان والمكان‪ ،‬كما تمأل الرحمة الزمان والمكان‪،‬‬
‫ألن التوبة أول دالئل الرحمة‪ ،‬والرحمة وسعت كل شيء‪.‬‬

‫ومن هنا كان ارتباط التوبة بالزمان والمكان‪ ،‬ودليل ذلك مقدمة سورة‬
‫علَى النَّ َه ِ‬
‫ار َويُ َك ِو ُر‬ ‫ض بِ ْال َح ِ‬
‫ق يُ َك ِو ُر اللَّ ْي َل َ‬ ‫ت َواأل َ ْر َ‬ ‫س َم َاوا ِ‬‫الزمر‪َ { :‬خلَقَ ال َّ‬
‫س ًّمى أَالَ ُه َو‬ ‫س َو ْالقَ َم َر ُك ٌّل َي ْج ِري أل َ َج ٍل ُم َ‬ ‫ش ْم َ‬ ‫علَى اللَّ ْي ِل َو َ‬
‫س َّخ َر ال َّ‬ ‫النَّ َه َ‬
‫ار َ‬
‫(‪ )371‬صحيح‪ ،‬أخرجه مسلم (‪)2905‬‬
‫}(الز َمر‪ ،)5:‬فكان التعقيب على المعنى المقصود‪ ،‬ألن‬ ‫ُّ‬ ‫يز ْالغَفَّار‬
‫ْالعَ ِز ُ‬
‫التعقيب جاء للداللة على القدرة‪ ،‬ألن العزة هي تمام القدرة‪ ،‬والمغفرة هي‬
‫تمام التوبة‪ ،‬ولذلك جاءت األحاديث المثبتة لهذا االرتباط‪ ،‬وأهمها ارتباط‬
‫المغفرة والتوبة بالليل والنهار‪ ،‬كما في حديث النزول‪« :‬ينـزل ربنا تبارك‬
‫وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل اآلخر‪ ،‬يقول‪ :‬من‬
‫يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له» (‪.)372‬‬
‫أما الحديث اآلخر فهو قول النبي ﷺ‪« :‬إن هللا تعالى يبسط يده بالليل ليتوب‬
‫مسيء النهار‪ ،‬ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل‪ ،‬حتى تطلع الشمس‬
‫من مغربها» (‪.)373‬‬

‫ولما كانت الشمس هي المحور األساسي للحركة الكونية في مجالها اإلنساني‬


‫كان االرتباط بين الشمس وقضية التوبة‪.‬‬

‫ولذلك كان لمعنى التوبة حقيقة اإلسالم كله‪ ،‬وهذا ما قاله اإلمام ابن تيمية‪،‬‬
‫رحمه هللا‪« ،‬اإلسالم هو التوبة كلها»‪ .‬حيث إن بقاء اإلسالم يعني بقاء التوبة‬
‫بالحركة الكونية هو التوافق الفطري بين طبيعة الكون وطبيعة الفطرة‬
‫ط َرة َ‬ ‫ِين َحنِيفًا فِ ْ‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬وهو المعنى المأخوذ من قول هللا‪{ :‬فَأَقِ ْم َو ْج َه َك ِللد ِ‬
‫اس‬ ‫ِين ْالقَ ِي ُم َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫َّللاِ ذَ ِل َك الد ُ‬
‫ق َّ‬ ‫علَ ْي َها الَ تَ ْبدِي َل ِلخ َْل ِ‬
‫اس َ‬ ‫َّللاِ الَّتِي فَ َ‬
‫ط َر النَّ َ‬ ‫َّ‬
‫صالَةَ َوالَ تَ ُكونُوا ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكين‬ ‫الَ يَ ْعلَ ُمون ‪ُ 30‬منِيبِينَ إِلَ ْي ِه َواتَّقُوهُ َوأَقِي ُموا ال َّ‬
‫ب بِ َما لَدَ ْي ِه ْم فَ ِر ُحون ‪َ 32‬و ِإذَا‬ ‫‪ِ 31‬منَ الَّذِينَ فَ َّرقُوا دِينَ ُه ْم َو َكانُوا ِش َيعًا ُك ُّل ِح ْز ٍ‬
‫ع ْوا َربَّ ُهم ُّمنِي ِبينَ ِإلَ ْي ِه ث ُ َّم ِإذَا أَذَاقَ ُهم ِم ْنهُ َر ْح َمةً ِإذَا فَ ِر ٌ‬
‫يق‬ ‫ض ٌّر دَ َ‬
‫اس ُ‬ ‫س النَّ َ‬ ‫َم َّ‬
‫ِم ْن ُهم بِ َر ِب ِه ْم يُ ْش ِر ُكون‪(}33‬الروم‪.)33-30:‬‬

‫أي فطرهم منيبين إليه‪ ،‬فلو خلوا بينهم وبين فطرتهم لما عدلت عن اإلنابة‪،‬‬
‫ع ْوا َربَّ ُهم ُّمن ِيبِينَ إلَ ْي ِه ﴾‪،‬أي أن‬
‫ض ٌّر دَ َ‬ ‫اس ُ‬ ‫وقول هللا تعالى‪ِ ﴿ :‬إذَا َم َّ‬
‫س النَّ َ‬
‫انكشاف الفطرة بمس الضر يكون باإلنابة إليه‪ ،‬ومن هنا كان الكون تبصرة‬
‫وذكرى لكل عب ٍد منيب‪ ،‬ألن طبيعة اإلنابة والكون أقرب ما يكون في‬
‫اء فَ ْوقَ ُه ْم َكي َ‬
‫ْف‬ ‫س َم ِ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وذلك في قول هللا تعالى‪( :‬أَفَلَ ْم َي ْن ُ‬
‫ظ ُروا ِإلَى ال َّ‬

‫(‪ )372‬صحيح البخاري (رقم ‪ ،)1094‬وصحيح مسلم (‪)758‬‬


‫(‪ )373‬صحيح الجامع ‪1871‬‬
‫ض َمدَ ْدنَاهَا َوأَ ْلقَ ْينَا فِي َها َر َوا ِس َ‬
‫ي‬ ‫َبنَ ْينَاهَا َوزَ يَّنَّاهَا َو َما لَ َها ِم ْن فُ ُروجٍ َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ب) (سورة ق‪-6:‬‬ ‫ع ْب ٍد ُمنِي ٍ‬ ‫َوأَ ْنبَتْنَا فِي َها ِم ْن ُك ِل زَ ْوجٍ بَ ِهيجٍ تَب ِ‬
‫ْص َرة ً َو ِذ ْك َر َٰى ِل ُك ِل َ‬
‫‪.)8‬‬

‫والتوافق الطبيعي بين الكون والتوبة هو في ذاته دليل على التوافق بين‬
‫الحركة الكونية وحقيقة التوبة‪ ،‬ألن الكون المتوافق في طبيعته مع التوبة‬
‫متوافق في حركته‪ ،‬فالكون بحركته مسلم‪ ،‬ساجد هلل‪ ،‬والتوبة حركة اإلسالم‬
‫والرجوع إلى هللا‪ ،‬ومن هنا كان التعبير عن االرتداد بالحركة المعاكسة‪:‬‬
‫ت غ َْزلَ َها ِم ْن بَ ْع ِد قُ َّو ٍة أ َ ْن َكاثًا تَت َّ ِخذُونَ أَ ْي َمانَ ُك ْم دَخ ًَال‬ ‫ض ْ‬ ‫( َو َال تَ ُكونُوا َكالَّ ِتي نَقَ َ‬
‫ي أ َ ْر َب َٰى ِم ْن أ ُ َّم ٍة ۚ ِإنَّ َما َي ْبلُو ُك ُم َّ‬
‫َّللاُ بِ ِه ۚ َولَيُ َبيِنَ َّن لَ ُك ْم َي ْو َم‬ ‫ُ‬
‫َب ْينَ ُك ْم أَ ْن ت َ ُكونَ أ َّمةٌ ِه َ‬
‫ْال ِقيَا َم ِة َما ُك ْنت ُ ْم فِي ِه ت َ ْختَ ِلفُونَ ) (النحل‪.)92:‬‬

‫وليس عند ربك ليل وال نهار‪ ،‬ولكنه االرتباط بين التوبة والزمان‪ ،‬ومن هنا‬
‫كانت القاعدة العامة في العالقة بين العبادات ومغفرة الذنوب هي العودة‬
‫الزمنية لهذه العبادات وأهم ذلك‪ :‬قول رسول هللا ﷺ‪« :‬الصلوات الخمس‪،‬‬
‫والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان‪ ،‬مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت‬
‫الكبائر» (‪ ،)374‬وبذلك أصبح الزمن هو أول العالقة بين الكون والتوبة‪.‬‬

‫ومن العبارة األخيرة نالحظ أنه كما كان الزمن الكوني زمنا ً للتوبة‪ ،‬كان‬
‫الزمن التعبدي زمنا ً للتوبة أيضاً‪ ،‬ألن األعمال التي يعود بها الزمن كلها‬
‫عبادات‪.‬‬

‫ومن هنا كانت العبادة أصالً في التوافق بين الكون والتوبة ألن العبادة هي‬
‫غاية الحب مع مطلق الطاعة‪ ،‬وهو المعنى المقابل للنفاق ألن النفاق هو‬
‫كراهية ما أنزل هللا‪ ،‬ولذلك جاءت نتيجة كراهية ما أنزل هللا هي النتيجة‬
‫ط أَ ْع َمالَه ْم‬
‫المقابلة للتوبة‪ ،‬وهي إحباط العمل‪ ،‬كما قال سبحانه‪ ﴿:‬فَأ َ ْح َب َ‬
‫﴾(محمد‪ )9 :‬وفي التهجد يتحقق غاية المحبة مع مطلق الطاعة‪ ،‬ومن هنا‬
‫كان المتهجدون هم عباد هللا في الزمان كله‪ ،‬وهم المتوافقون مع اإلسالم‬
‫(‪ )374‬صحيح الجامع رقم ‪3875‬‬
‫ليالً ونهاراً‪ ،‬ولذلك يذكر الحديث كيف هؤالء المتهجدين هم المدركين‬
‫لعالمة الساعة‪.‬‬

‫باب التوبة‬
‫واألحاديث الواردة في باب التوبة نادرة العدد‪ ،‬ولكنها تعطي لباب التوبة‬
‫قيمة عظيمة‪ ،‬ولكي نفهم هذه القيمة يجب أن نفهم معنى أبواب السماء‪ ،‬فمن‬
‫ت محددة‪ :‬مثل فتح أبواب الرحمة في رمضان‬ ‫أبواب السماء ما يفتح في أوقا ٍ‬
‫(‪ ،)375‬ومن أبواب السماء ما يكون مفتوحاً‪ ،‬ولكن ال يرتفع إليه العمل‪ ،‬مثل‬
‫أخ ْرهما حتى يصطلحا» (‪.)376‬‬ ‫حديث‪ِ « :‬‬

‫إلنسان دون آخر‪ ،‬مثل أبواب الرحمة التي‬ ‫ٍ‬ ‫ومن أبواب السماء ما يفتح‬
‫سيكتبها هللا للمتقين‪ ،‬ولكن باب التوبة هو الباب المفتوح دائما ً لكل الخلق‪،‬‬
‫ويعمهم نفعه دون استثناء‪ ،‬وال يمنع عن الوصول إليه شيء حتى قيام‬
‫الساعة‪ ،‬وكذلك يتميز باب التوبة عن هذه األبواب جميعها بموقعه في‬
‫الغرب‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬إن بالمغرب بابا ً مفتوحا ً للتوبة‪ ،‬مسيرته سبعون سنة‪،‬‬
‫ال يُغلق حتى تطلع الشمس من نحوه»(‪ ،)377‬وذكر القرطبي في تفسير‬
‫الحديث‪ :‬أن الباب قِبَل الشام خلقه هللا – تعالى – يوم خلق السموات واألرض‬
‫مفتوحاً‪ ،‬وهذا الموقع الغربي من باب التوبة يعني التقابل التام بين التوبة‬
‫وبين الفتنة والشر‪ ،‬حيث قال ﷺ وهو مستقبل المشرق‪« :‬أال إن الفتنة ههنا‪،‬‬
‫من حيث يطلع قرن الشيطان أو قرن الشمس»(‪.)378‬‬

‫وباب التوبة دليل طبيعة التوبة في الوجود الكوني من الناحية المكانية‪ ،‬كما‬
‫اعتبار من الناحية الزمنية وهو آخر الزمان‪ ،‬ذلك أن باب التوبة‬
‫ٌ‬ ‫كان للتوبة‬

‫(‪ )375‬أخرجه النسائي في " الكبرى " في الصيام ‪ /‬باب‪ :‬فضل شهر رمضان (ح ‪.)2409‬‬
‫(‪( )376‬صحيح) أخرجه مسلم في باب النهي عن الشحناء والتهاجر (ح ‪ ،)2565‬وأبو داود (‪ ،)4916‬والترمذي (‪،)2023‬‬
‫وابن ماجة (ح ‪ )1740‬من حديث أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )377‬أخرجه الترمذي في الوضوء‪ :‬باب‪ :‬المسح على الخفين (‪ / 159 / 1‬ح ‪ ،)96‬والنسائي في الطهارة‪ :‬باب التوقيت‬
‫في المسح على الخفين (‪ – 83 /1 / 1‬السيوطي)‪ ،‬وأحمد في " مسنده " (‪ )239 / 4‬من زر بن حبيش‪ ،‬على صفوان بن‬
‫عسال‪.‬‬
‫(‪ )378‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫مخلوق يوم خلق هللا السماء واألرض بمسافة تقدر بمسيرة سبعين عاماً‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وبذلك يثبت أن التوبة جزء من طبيعة وبناء هذا الكون‪ ،‬بل إن هناك حديثا ً‬
‫يثبت أن للتوبة فاعلية تغيير طبيعة وبناء هذا الكون‪ ،‬وهو حديث الرجل‬
‫الذي قتل مائة نفس‪ ،‬ذلك أن الحديث يثبت أن هللا‪ ،‬عز وجل‪ ،‬قد طوى لهذا‬
‫الرجل األرض شبراً‪.‬‬

‫الشمس وسورة التوبة‬


‫وسورة التوبة تناقش في جوهرها قضية التوبة‪ ،‬ولكن مناقشة سورة التوبة‬
‫لقضية التوبة جاءت بصورة أساسية بحسب تصور عالمة الشمس‪ ،‬فبدأت‬
‫السورة بالبراءة من المشركين باعتبارهم نجساً‪ ،‬ال يحل لهم أن يقربوا‬
‫المسجد الحرام‪ ،‬ولكن ذلك كان في فتح مكة‪ ،‬ولهذا االرتباط الزمني قيمة‬
‫عظمى‪ ،‬ذلك أنه في فتح مكة أعلن رسول هللا ﷺ بيان انضباط الزمان‬
‫وعودته لما كان عليه منذ خلق هللا السماوات واألرض‪.‬‬

‫وباعتبار ارتباط التوبة بالزمان منذ خلق الزمان بخلق السماوات واألرض‪،‬‬
‫حيث خلق باب التوبة يوم خلق هللا السماوات واألرض‪ ،‬كما ذكر الحديث‪،‬‬
‫باعتبار ضبط الزمان وعودته لهيئته‪ ،‬حيث يذكر الحديث نصا ً أن باب التوبة‬
‫ُخلق يوم خلق هللا السماوات واألرض‪.‬‬

‫وسورة التوبة تفسر في االبتداء معنى التوبة‪ ،‬ولكن من خالل باب التوبة‬
‫وعالمة الشمس‪ ،‬ألن معنى التوبة من خالل باب التوبة لها معنى إنساني‬
‫كوني‪ ،‬يعني أن التوبة ضرورة إنسانية طبيعية ال يستثنى منها أحد‪ ،‬ولذلك‬
‫جاء في السورة أن عدة الشهور عند هللا اثني عشر شهرا ً يوم خلق هللا‬
‫السموات واألرض‪ ،‬ولذلك أوردت سورة التوبة أصنافا ً من الناس يتصور‬
‫أال تبلغ هذا المقام مهما كان ولن ينالها‪ ،‬ألن األعمال المنسوبة إليهم هي‬
‫التي تجعل الظن يغلب لهذا التصوير ومن هذه األصناف‪ :‬المشركين‪ ،‬وفيهم‬
‫سلَ َخ ْاأل َ ْش ُه ُر ْال ُح ُر ُم فَا ْقتُلُوا ْال ُم ْش ِر ِكينَ َحي ُ‬
‫ْث‬ ‫يقول هللا عز وجل‪( :‬فَإِذَا ا ْن َ‬
‫ص ٍد ۚ فَإِ ْن تَابُوا َوأَقَا ُموا‬
‫ص ُرو ُه ْم َوا ْقعُدُوا لَ ُه ْم ُك َّل َم ْر َ‬ ‫اح ُ‬ ‫َو َج ْدت ُ ُمو ُه ْم َو ُخذُو ُه ْم َو ْ‬
‫ور َر ِحي ٌم) (التوبة‪ ،)5:‬وفي‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫َّللاَ َ‬ ‫الز َكاةَ َفخَلُّوا َ‬
‫س ِبيلَ ُه ْم ۚ ِإ َّن َّ‬ ‫ص َالة َ َوآتَ ُوا َّ‬ ‫ال َّ‬
‫أعمالهم جاء قول هللا‪َ ( :‬ال يَ ْرقُبُونَ فِي ُمؤْ ِم ٍن إِ ًّال َو َال ِذ َّمةً ۚ َوأُو َٰلَئِ َك ُه ُم‬
‫ْال ُم ْعتَدُونَ ) (التوبة‪ ،)10:‬ثم تتوالى اآليات‪ ،‬فتنسب إليهم نكث اإليمان‬
‫ظ‬‫غ ْي َ‬‫والطعن في الدين والهم بإخراج الرسول ﷺ ثم تقول اآليات‪َ ( :‬ويُ ْذهِبْ َ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم) (التوبة‪ ،)15:‬وكذلك‬ ‫علَ َٰى َم ْن يَشَا ُء ۗ َو َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫وب َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫قُلُو ِب ِه ْم ۗ َو َيت ُ ُ‬
‫الكافرين والمنافقين في اآلية‪ ،)74 ،73( :‬وفي المقابل يرد هللا – سبحانه –‬
‫في سورة التوبة على َمن يتصور تجاوز مقام التوبة وعلى رأسهم النبي ﷺ‬
‫ار‬ ‫ص ِ‬‫اج ِرينَ َو ْاأل َ ْن َ‬ ‫علَى النَّ ِبي ِ َو ْال ُم َه ِ‬ ‫اب َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫والمهاجرين واألنصار‪( :‬لَقَ ْد تَ َ‬
‫اب‬‫ق ِم ْن ُه ْم ث ُ َّم تَ َ‬ ‫ع ِة ْالعُ ْس َرةِ ِم ْن َب ْع ِد َما َكادَ َي ِزي ُغ قُلُ ُ‬
‫وب فَ ِري ٍ‬ ‫سا َ‬ ‫الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي َ‬
‫وف َر ِحي ٌم) (التوبة‪.)117:‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم ۚ إِنَّهُ ِب ِه ْم َر ُء ٌ‬
‫َ‬

‫ليحقق هؤالء الكرام التوبة كضرورة إنسانية يحسم النبي ﷺ معناها قائالً‪:‬‬
‫«وهللا إني ألستغفر هللا وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (‪.)379‬‬

‫التوبة والعهد‬
‫ثم إن اآليات بعد ذلك تناقش كل جوانب قضية التوبة‪ ،‬فتناقش اآلية عالقة‬
‫التوبة بمعنى العهد‪ ،‬ألن التوبة والعهد هما اإلسالم‪ ،‬فالعبد الذي يفي بعهده‬
‫مع البشر هو الذي يفي بعهده مع هللا‪ ،‬والذي يفي بعهده مع هللا هو التائب‪.‬‬
‫المستغفر‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬اللهم أنت ربي‪ ،‬ال إله إال أنت خلقتني وأنا عبدك‪،‬‬
‫وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت‪ ،‬أعوذ بك من شر ما صنعت‪ ،‬وأبوء‬
‫لك بنعمتك علي‪ ،‬وأبوء بذنبي‪ ،‬فاغفر لي‪ ،‬فإنه ال يغفر الذنوب إال أنت»‬
‫(‪.)380‬‬

‫وما يؤكد العالقة بين التوبة والعهد هو أن التوبة هي الرجوع إلى عهد هللا‬
‫ور ِه ْم ذُ ِريَّتَ ُه ْم‬ ‫الوارد في قوله سبحانه‪َ ( :‬و ِإ ْذ أَ َخذَ َرب َُّك ِم ْن بَنِي آدَ َم ِم ْن ُ‬
‫ظ ُه ِ‬
‫ش ِه ْدنَا ۛ أَ ْن تَقُولُوا يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة‬
‫علَ َٰى أ َ ْنفُ ِس ِه ْم أَلَ ْستُ بِ َربِ ُك ْم ۖ قَالُوا بَلَ َٰى ۛ َ‬
‫َوأَ ْش َهدَ ُه ْم َ‬

‫(‪ )379‬صحيح البخاري ‪6307‬‬


‫(‪ )380‬صحيح البخاري ‪6323‬‬
‫ع ْن َٰ َهذَا غَافِ ِلينَ أَ ْو تَقُولُوا ِإنَّ َما أ َ ْش َر َك آ َبا ُؤنَا ِم ْن قَ ْب ُل َو ُكنَّا ذُ ِريَّةً ِم ْن‬
‫ِإنَّا ُكنَّا َ‬
‫بَ ْع ِد ِه ْم ۖ أَفَت ُ ْه ِل ُكنَا ِب َما فَ َع َل ْال ُمب ِْطلُونَ ) (األعراف‪ ،)173-172:‬ولذلك جاء في‬
‫ت َولَعَلَّ ُه ْم يَ ْر ِجعُونَ )‬ ‫ص ُل ْاآليَا ِ‬ ‫اآلية التي بعدها‪َ ( :‬و َك َٰذَ ِل َك نُفَ ِ‬
‫(األعراف‪.)174:‬‬

‫يقول اإلمام ابن القيم في تعريف التوبة‪« :‬هي الرجوع إلى الحق وفا ًء كما‬
‫رجع إليه عهداً‪ ،‬أي مثل الرجوع إلى هللا حسب الميثاق‪ ،‬فطريا ً‬
‫وباالضطرار‪ ،‬أي أن التوبة هي الرجوع إلى هللا بالعمل واالختيار» (‪.)381‬‬

‫التوبة والجهاد والهجرة‬


‫كما جاء في السورة ذكر القضايا األساسية المتعلقة بالحركة الكونية والتوبة‬
‫ت واحد‪ ،‬ويمكن صياغة هذه القواعد في قول رسول هللا ﷺ‪« :‬الهجرة‬ ‫في وق ٍ‬
‫ق ما بقيت التوبة‪ ،‬والتوبة باقية حتى تشرق‬ ‫بقي الجهاد‪ ،‬والجهاد با ٍ‬ ‫باقية ما َ‬
‫الشمس من مغربها»‪ ،‬فالهجرة‪ ،‬وهي الحركة البشرية المكانية‪ ،‬هي في نفس‬
‫الوقت لها معنى التوبة‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬المهاجر َمن هجر ما نهى هللا‬
‫معنى للتوبة آخر‪ ،‬ال يقل أهمية عن المعنى األول‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عنه»(‪ ،)382‬ولكن للهجرة‬
‫وهو أن اتساع معنى التوبة للمكان كما اتسعت للزمان‪ ،‬يعني أن التوبة قد‬
‫تكون مقدرة في مكان بعيد عن العبد‪ ،‬فعليه أن يسعى إلى ذلك المكان ليعبد‬
‫ِي الَّذِينَ آ َمنُوا ِإ َّن‬
‫هللا‪ ،‬وال يشرك به شيئاً‪ ،‬وهذا معنى قوله سبحانه‪َ ( :‬يا ِع َباد َ‬
‫ُون) (العنكبوت‪ )56:‬ليدل مجموع النصوص‬ ‫ضي َوا ِس َعةٌ فَإِي َ‬
‫َّاي فَا ْعبُد ِ‬ ‫أَ ْر ِ‬
‫على أن معنى العبادة يعم األرض‪ ،‬كما يعمها معنى التوبة‪.‬‬

‫ولعل هذا االرتباط هو الحكمة التي قادت العا ِلم إلى أن ينصح قاتل المائة‬
‫نفس إلى أن يهاجر إلى بل ٍد آخر‪ ،‬وإثباتا ً لدقة هذا االرتباط كان لبقية الحديث‬
‫الذي أثبت فيه رسول هللا ﷺ أن هللا قد طوى لهذا الرجل األرض شبرا ً ليكون‬
‫أقرب إلى أرض التوبة‪ ،‬لتقبض روحه مالئكة الرحمة‪.‬‬
‫(‪ )381‬مدارج السالكين‪.‬‬
‫(‪ )382‬المحلى البن حزم ومجموع الفتاوى البن تيمية‪.‬‬
‫وبقاء الهجرة يعني وجود بقاع على األرض يشغلها الكافرون‪ ،‬وهذا هو‬
‫ق ما بقي‬
‫ق ما بقي العداء‪ ،‬والعداء با ٍ‬
‫المعنى الموجب للجهاد‪ ،‬ألن الجهاد با ٍ‬
‫الكفر‪ ،‬ومن هنا كانت الهجرة باقية ما بقي الجهاد‪.‬‬

‫التوبة والنفاق‬
‫ومن هنا أيضا ً كانت المناقشة المستفيضة في سورة التوبة لقضية الجهاد‪،‬‬
‫ومما ال شك فيه أن قضية الجهاد وقضية الهجرة حركتان في اتجاه التوبة‪،‬‬
‫متفقتان في هذا االتجاه مع الحركة الكونية‪ ،‬وهي حركة العبادة هلل‪ ،‬تبارك‬
‫وتعالى‪ ،‬ولذلك جاء في السورة ذكر المنافقين‪ ،‬الذين يعاكسون تلك الحركة‪،‬‬
‫وهذا االتجاه في باطنهم‪ ،‬ويتوافقون معها في ظاهرهم‪ ،‬لذا شغلت حركة‬
‫النفاق آيات كثيرة من سورة التوبة‪ ،‬حتى أن موقف النفاق يكتمل ظهورا ً‬
‫ووضوحا ً على الصراط من خالل تواجدهم الظاهر مع المؤمنين فوق‬
‫الصراط‪ ،‬وذلك باعتبار ظاهرهم الذي هم عليه‪ ،‬ثم انكشاف باطنهم فوق‬
‫ور‬
‫س ٍ‬
‫ب َب ْينَ ُهم بِ ُ‬ ‫هذا الصراط‪ ،‬وهذا تفسير قول هللا‪ ،‬تبارك وتعالى‪ ﴿ : ،‬فَ ُ‬
‫ض ِر َ‬
‫اب ﴾ (الحديد‪.)13:‬‬ ‫ظا ِه ُرهُ ِمن قِ َب ِل ِه ال َعذَ ُ‬ ‫اطنُهُ فِ ِيه الَّ ْ‬
‫رح َمةُ و َ‬ ‫لَّهُ َب ٌ‬
‫اب َب ِ‬

‫وسبحان هللا القدير‪ ،‬إذ كانت حركة النفاق هي الحركة المضادة تضادا ً كامالً‬
‫للجهاد والهجرة‪ ،‬ومراجعة السيرة تجعل أمامنا هذه الظاهرة أقوى ما تكون‪،‬‬
‫سلول‪ ،‬الذي‬ ‫وأخطر ما تكون‪ ،‬وعلى سبيل المثال حركة عبد هللا بن أُبي بن َ‬
‫عاد بثلث الجيش في إحدى غزوات النبي ﷺ‪.‬‬

‫ولعل أبرز أمثلة التقابل والتضاد بين حركة الجهاد من ناحية‪ ،‬وحركة النفاق‬
‫من ناحية أخرى هو نقطة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬حيث وردت‬
‫كنقطة تقابل وتعاكس بين الحركتين‪ ،‬كما في قوله – سبحانه وتعالى – في‬
‫المنافقين‪:‬‬
‫ض ۚ َيأ ْ ُم ُرونَ ِب ْال ُم ْن َك ِر َو َي ْن َه ْونَ َ‬
‫ع ِن‬ ‫( ْال ُمنَا ِفقُونَ َو ْال ُمنَا ِفقَاتُ َب ْع ُ‬
‫ض ُه ْم ِم ْن َب ْع ٍ‬
‫َّللاَ فَنَ ِس َي ُه ْم ۗ إِ َّن ْال ُمنَافِ ِقينَ ُه ُم ْالفَا ِسقُونَ )‬
‫سوا َّ‬ ‫ْال َم ْع ُر ِ‬
‫وف َو َي ْق ِبضُونَ أَ ْي ِد َي ُه ْم ۚ نَ ُ‬
‫(التوبة‪ ،)67:‬وقال تعالى في المؤمنين‪َ ( :‬و ْال ُمؤْ ِمنُونَ َو ْال ُمؤْ ِمنَاتُ بَ ْع ُ‬
‫ض ُه ْم‬
‫ص َالة َ‬ ‫ع ِن ْال ُم ْن َك ِر َويُ ِقي ُمونَ ال َّ‬ ‫وف َويَ ْن َه ْونَ َ‬ ‫ض ۚ يَأ ْ ُم ُرونَ ِب ْال َم ْع ُر ِ‬ ‫أَ ْو ِليَا ُء بَ ْع ٍ‬
‫يز‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫َّللاَ َ‬‫َّللاُ ۗ إِ َّن َّ‬
‫سيَ ْر َح ُم ُه ُم َّ‬‫سولَهُ ۚ أُو َٰلَئِ َك َ‬ ‫الز َكاةَ َويُ ِطيعُونَ َّ‬
‫َّللاَ َو َر ُ‬ ‫َويُؤْ تُونَ َّ‬
‫َح ِكي ٌم) (التوبة‪.)71:‬‬
‫ومن هنا جاء النفاق كحركة مضادة للطاعة الكاملة الصحيحة‪َ ( :‬ويَقُولُونَ‬
‫ب َما‬ ‫غي َْر الَّذِي تَقُو ُل ۖ َو َّ‬
‫َّللاُ يَ ْكت ُ ُ‬ ‫طا ِئفَةٌ ِم ْن ُه ْم َ‬
‫َّت َ‬ ‫ِك َبي َ‬‫عةٌ فَإِذَا َب َر ُزوا ِم ْن ِع ْند َ‬
‫طا َ‬ ‫َ‬
‫يال) (النساء‪.)81:‬‬ ‫اّلِلِ َو ِك ً‬ ‫علَى َّ‬
‫َّللاِ ۚ َو َكفَ َٰى ِب َّ‬ ‫ع ْن ُه ْم َوتَ َو َّك ْل َ‬ ‫يُ َب ِيتُونَ ۖ فَأَع ِْر ْ‬
‫ض َ‬

‫وبعد مناقشة السورة لظاهرة النفاق باعتبارها حركة معاكسة للجهاد‬


‫والهجرة تناقش السورة ظاهرة النفاق باعتبارها الحركة المعاكسة للتوبة‪،‬‬
‫وذلك من خالل قضية األمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تمثل‬
‫الحركتين التوبة والنفاق‪ ،‬وذلك كما جاء في السورة عن توبة التائبين‬
‫سائِ ُحونَ‬‫امدُونَ ال َّ‬ ‫باعتبارها أولى صفات اإليمان‪( :‬التَّائِبُونَ ْالعَابِدُونَ ْال َح ِ‬
‫ع ِن ْال ُم ْن َك ِر َو ْال َحا ِف ُ‬
‫ظونَ‬ ‫اجدُونَ ْاآل ِم ُرونَ ِب ْال َم ْع ُر ِ‬
‫وف َوالنَّا ُهونَ َ‬ ‫س ِ‬‫الرا ِكعُونَ ال َّ‬
‫َّ‬
‫َّللاِ ۗ َو َبش ِِر ْال ُمؤْ ِمنِينَ ) (التوبة‪.)112:‬‬
‫ِل ُحدُو ِد َّ‬

‫ثم جاء عن النفاق والمنافقين قول هللا‪ ،‬عز وجل‪ْ ( :‬ال ُمنَافِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَاتُ‬
‫وف َو َي ْق ِبضُونَ أ َ ْي ِد َي ُه ْم ۚ‬ ‫ض ۚ يَأ ْ ُم ُرونَ ِب ْال ُم ْن َك ِر َو َي ْن َه ْونَ َ‬
‫ع ِن ا ْل َم ْع ُر ِ‬ ‫ض ُه ْم ِم ْن َب ْع ٍ‬
‫َب ْع ُ‬
‫َّللاَ فَنَ ِسيَ ُه ْم ۗ إِ َّن ْال ُمنَافِ ِقينَ ُه ُم ْالفَا ِسقُونَ ) (التوبة‪ ،)67:‬والفاسقون هنا‬ ‫سوا َّ‬ ‫نَ ُ‬
‫تحمل معنى الخروج المطلق ليشمل الخروج عن حدود اإليمان‪ ،‬وأحكام‬
‫الشريعة‪ ،‬وكذلك الخروج عن طبيعة التوبة‪ ،‬والوجود الكوني وحركته‪.‬‬

‫إن ارتباط التوبة بالحركة الكونية باعتبارها إلى هللا رجوع إلى هللا يعين أن‬
‫البعد عن هللا حركة عكسية‪ ،‬وقد تحددت في الصورة أفعال كثيرة لها هذه‬
‫الصفة العكسية ولعل أهمها قول هللا عز وجل‪َ ( :‬وإِ ْن نَ َكثُوا أَ ْي َمانَ ُه ْم ِم ْن بَ ْع ِد‬
‫ط َعنُوا ِفي دِي ِن ُك ْم فَقَاتِلُوا أَئِ َّمةَ ْال ُك ْف ِر ۙ ِإنَّ ُه ْم َال أَ ْي َمانَ لَ ُه ْم لَ َعلَّ ُه ْم َي ْنتَ ُهونَ )‬
‫ع ْه ِد ِه ْم َو َ‬
‫َ‬
‫سو ِل‬ ‫(التوبة‪ ،)12:‬وقوله‪( :‬أَ َال تُقَاتِلُونَ قَ ْو ًما نَ َكثُوا أَ ْي َمانَ ُه ْم َو َه ُّموا بِإِ ْخ َراجِ َّ‬
‫الر ُ‬
‫اّلِلُ أَ َح ُّق أ َ ْن تَ ْخش َْوهُ إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ )‬
‫َو ُه ْم َبدَ ُءو ُك ْم أَ َّو َل َم َّرةٍ ۚ أَتَ ْخش َْونَ ُه ْم ۚ فَ َّ‬
‫(التوبة‪.)13:‬‬

‫وقد تكرر هذا التعبير في سور أخرى‪ ،‬ولكن الوحدة الموضوعية بين السور‬
‫كانت قائمة بمناسبة هذا التعبير‪.‬‬

‫ومثال سورة الفتح وهي أخت سورة التوبة من الناحية الموضوعية‪ ،‬كان‬
‫َّللاِ فَ ْوقَ أَ ْيدِي ِه ْم ۚ فَ َم ْن‬ ‫في قوله تعالى‪ِ ( :‬إ َّن الَّذِينَ يُ َبا ِيعُون ََك إِنَّ َما يُ َبا ِيعُونَ َّ‬
‫َّللاَ َيدُ َّ‬
‫سيُؤْ تِي ِه أَ ْج ًرا‬ ‫علَ ْيهُ َّ‬
‫َّللاَ فَ َ‬ ‫عا َهدَ َ‬‫علَ َٰى نَ ْف ِس ِه ۖ َو َم ْن أَ ْوفَ َٰى ِب َما َ‬ ‫ث َ‬ ‫ث فَإِنَّ َما َي ْن ُك ُ‬‫نَ َك َ‬
‫ت غ َْزلَ َها ِم ْن‬ ‫ض ْ‬‫ع ِظي ًما) (الفتح‪)10:‬وفي سورة النحل‪َ ( :‬و َال تَ ُكونُوا َكالَّتِي نَقَ َ‬ ‫َ‬
‫ي أَ ْربَ َٰى ِم ْن أ ُ َّم ٍة ۚ‬ ‫ُ‬
‫بَ ْع ِد قُ َّوةٍ أَ ْن َكاثًا تَت َّ ِخذُونَ أَ ْي َمانَ ُك ْم دَخ ًَال بَ ْينَ ُك ْم أَ ْن تَ ُكونَ أ َّمةٌ ِه َ‬
‫َّللاُ ِب ِه ۚ َولَيُ َب ِين ََّن لَ ُك ْم َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة َما ُك ْنت ُ ْم ِفي ِه تَ ْخت َ ِلفُونَ ) (النحل‪.)92:‬‬
‫ِإنَّ َما َي ْبلُو ُك ُم َّ‬

‫التوبة والصدقة‬
‫ومن هنا كانت الصلة بين التوبة والصدقة في قول هللا في سورة التوبة (أَ َل ْم‬
‫اب‬ ‫ت َوأ َ َّن َّ‬
‫َّللاَ ُه َو الت َّ َّو ُ‬ ‫ع ْن ِع َبا ِد ِه َو َيأ ْ ُخذُ ال َّ‬
‫صدَقَا ِ‬ ‫َي ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ‬
‫َّللاَ ُه َو َي ْقبَ ُل الت َّ ْوبَةَ َ‬
‫الر ِحي ُم) (التوبة‪.)104:‬‬ ‫َّ‬
‫وكان االرتباط بين الصدقة والتوبة في قبول هللا لهما‪ ،‬كما في حديث رسول‬
‫هللا ﷺ‪« :‬جاء رجل إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أي‬
‫الصدقة أعظم أجرا؟ قال‪ :‬أن تصدق وأنت صحيح شحيح‪ ،‬تخشى الفقر‬
‫وتأمل الغنى‪ ،‬وال تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم‪ ،‬قلت‪ :‬لفالن كذا‪ ،‬ولفالن كذا‪،‬‬
‫وقد كان لفالن» (‪.)383‬‬
‫وارتبطت التوبة والصدقة بالقبول بالنسبة لإلنسان في آخر حياته‪ ،‬فهو ما‬
‫قبل بلوغ الروح الحلقوم أو التراقي‪ ،‬ارتبطت أيضا ً بالنسبة آلخر الزمان‪،‬‬
‫حتى أنه عندما يكون آخر الزمان ال يجد الرجل من يقبل صدقته‪ ،‬ويغلق‬
‫باب التوبة‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬تصدقوا فسيأتي على الناس زمان يمشي الرجل‬

‫(‪ )383‬صحيح البخاري ‪1419‬‬


‫بصدقته فال يجد َمن يقبلها» (‪ ،)384‬وقال أيضا ً ﷺ‪« :‬يوشك أن ينزل فيكم ابن‬
‫مريم حكما ً عدالً‪ ،‬فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض‬
‫المال» (‪.)385‬‬

‫قال ابن حجر‪« :‬وأما فيض المال الذي يقع في زمن عيسى‪ ،‬عليه السالم‪،‬‬
‫فسببه كثرة المال‪ ،‬وقلة الناس واستشعارهم بقيام الساعة»‪.‬‬

‫كما أن العالقة بين الصدقة والتوبة تمتد إلى الشمس من خالل العرش‪ ،‬ذلك‬
‫أن سجود الشمس تحت العرش يعني بقاء باب التوبة مفتوحاً‪ ،‬وعندما تشرق‬
‫الشمس – بعد اإلذن لها بالسجود تحت العرش – يكون دعاء المالئكة‪« :‬ملَكا ً‬
‫أعط ممسكا ً تلفا ً» (‪ ،)386‬فإذا‬
‫يقول‪ :‬اللهم أعط ُمنفقا ً خلفاً‪ ،‬وملَكا ً يقول‪ :‬اللهم ِ‬
‫عم اإلمساك والقبض عن المنفعة للبشر جميعهم فإن هذا يعني أن يعم التلف‬
‫الوجود البشري‪.‬‬

‫ومن هنا جاء في سورة التوبة المعالجة التامة لظاهرة الشح‪ ،‬فقال هللا تعالى‪:‬‬
‫اس‬ ‫ان لَ َيأ ْ ُكلُونَ أ َ ْم َوا َل النَّ ِ‬
‫الر ْه َب ِ‬ ‫يرا ِمنَ ْاأل َ ْحبَ ِ‬
‫ار َو ُّ‬ ‫( َيا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِإ َّن َك ِث ً‬
‫َب َو ْال ِف َّ‬
‫ضةَ َو َال يُ ْن ِفقُونَ َها‬ ‫َّللاِ ۗ َوالَّذِينَ يَ ْكنِ ُزونَ الذَّه َ‬
‫س ِبي ِل َّ‬ ‫ع ْن َ‬ ‫صدُّونَ َ‬ ‫ِب ْال َب ِ‬
‫اط ِل َو َي ُ‬
‫ب أَ ِل ٍيم) (التوبة‪.)34:‬‬ ‫َّللاِ فَبَش ِْر ُه ْم ِب َعذَا ٍ‬
‫سبِي ِل َّ‬‫فِي َ‬

‫صدَّقَ َّن َولَنَ ُكون ََّن ِمنَ‬


‫ض ِل ِه لَنَ َّ‬
‫َّللاَ َل ِئ ْن آتَانَا ِم ْن َف ْ‬
‫عا َهدَ َّ‬ ‫وقال‪َ ( :‬و ِم ْن ُه ْم َم ْن َ‬
‫ض ِل ِه َب ِخلُوا بِ ِه َوتَ َولَّ ْوا َو ُه ْم ُم ْع ِرضُونَ ) (التوبة‪-75:‬‬ ‫صا ِل ِحينَ فَلَ َّما آتَا ُه ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫ال َّ‬
‫‪.)76‬‬
‫إن التصور الكوني عن التوبة كان أساسا ً في ذكر أقوى أسلوب بشري له‬
‫فاعليته الكونية‪ ،‬وذكر العالقة بين هذا السلوك والتوبة‪ ،‬ومن هنا نتبين طبيعة‬
‫التجانس بين التوبة من ناحية‪ ،‬والكون من ناحية أخرى‪ ،‬ألن الصدقة حققت‬
‫أكبر فاعلية في الوجود الكوني‪.‬‬

‫(‪ )384‬صحيح البخاري ‪7120‬‬


‫(‪ )385‬صحيح البخاري ‪3448‬‬
‫(‪ )386‬صحيح أخرجه البخاري في الزكاة ‪ /‬باب (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى) (‪ / 357 / 3‬خ ‪ )1442‬ومسلم‬
‫في الزكاة ‪ /‬باب‪ :‬في المنفق والممسك (‪ )404 /1‬من حديث أبي هريرة‪.‬‬
‫التوبة والطهارة‬
‫ولعل اشتراط الطهارة في التائب‪ ،‬ألن الطهارة نظافة حسية مقرونة بنظافة‬
‫العبد من الذنوب‪ ،‬ومن هنا كان االغتسال عند التوبة‪.‬‬

‫ومن هنا كان االقتران بين التوابين والمتطهرين في قوله‪ ،‬سبحانه‪ ،‬في سورة‬
‫يض ۖ‬ ‫سا َء فِي ْال َم ِح ِ‬ ‫يض ۖ قُ ْل ُه َو أَذًى فَا ْعتَ ِزلُوا النِ َ‬ ‫ع ِن ْال َم ِح ِ‬ ‫البقرة‪َ ( :‬ويَ ْسأَلُون ََك َ‬
‫َّللاُ ۚ إِ َّن َّ‬
‫َّللاَ‬ ‫ط َّه ْرنَ فَأْتُو ُه َّن ِم ْن َحي ُ‬
‫ْث أ َ َم َر ُك ُم َّ‬ ‫ط ُه ْرنَ ۖ فَإِذَا تَ َ‬ ‫َو َال تَ ْق َربُو ُه َّن َحت َّ َٰى يَ ْ‬
‫ط ِه ِرينَ ) (البقرة‪.)222:‬‬ ‫ب ْال ُمتَ َ‬ ‫ب الت َّ َّوابِينَ َويُ ِح ُّ‬ ‫يُ ِح ُّ‬
‫وقول النبي ﷺ‪« :‬اللهم اقبل توبتي واغسل َحوبتي»(‪ ،)387‬فشرط الطهارة‬
‫متعلق بالتوبة‪ ،‬من ناحية أن التوبة قبول من هللا للناس‪ ،‬لذا كان البد أن يكون‬
‫التائب طيباً‪ ،‬ألن هللا طيب ال يقبل إال طيبا ً ‪ ،388‬كما قال رسول هللا ﷺ ومن‬
‫هنا كانت الطهارة من أهم قضايا العبودية‪ ،‬مثل تطهير المسجد الحرام من‬
‫س فَ َال يَ ْق َربُوا ْال َم ْس ِجدَ‬ ‫المشركين‪( :‬يَا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِإنَّ َما ْال ُم ْش ِر ُكونَ نَ َج ٌ‬
‫ض ِل ِه ِإ ْن شَا َء ۚ‬ ‫ف يُ ْغ ِني ُك ُم َّ‬
‫َّللاُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫س ْو َ‬ ‫ام ِه ْم َٰ َهذَا ۚ َو ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم َ‬
‫ع ْيلَةً فَ َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ْال َح َر َ‬
‫ام بَ ْعدَ َ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ) (التوبة‪.)28:‬‬ ‫ِإ َّن َّ‬
‫َّللاَ َ‬

‫التوبة والفتنة‬
‫إن الطاعة والعبادة هي المقابل الحقيقي للفتنة‪ ،‬أما موقف الطاعة الذي في‬
‫حديث الرجل الساجد فيحدد قيمة الطاعة في مواجهة الفتنة‪.‬‬

‫إن التصنيف الذي كتب به اإلمام البخاري تحدَّد على أساس حقائق كلية في‬
‫هذا الدين‪ ،‬ولذا كان من االعتبار في هذا التصنيف أن يكون كتاب األحكام‪،‬‬

‫(‪ )387‬أخرجه أبو داود في الصالة‪ :‬باب الوتر (ح ‪ ،)1510 /‬والترمذي ‪ /‬في الدعوات (ح ‪ ،)3551 /‬وابن ماجة في الدعاء‬
‫(ح ‪ ،)3830 /‬وأحمد (‪.)227 / 1‬‬
‫(‪ )388‬أخرجه مسلم في الزكاة ‪ /‬باب الحث على الصدقة (‪ ،)7 / 3‬والترمذي (ح ‪ ،)2989 /‬وأحمد (‪ )328 / 2‬من حديث‬
‫أبي هريرة‪.‬‬
‫أي أحكام الطاعة‪ ،‬بعد كتاب الفتن‪.‬‬

‫عةٌ‬ ‫إن حركة النفاق هي الضد الكامل للطاعة‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ ( :‬ويَقُولُونَ َ‬
‫طا َ‬
‫ب َما يُ َبيِتُونَ ۖ‬ ‫غي َْر الَّذِي تَقُو ُل ۖ َو َّ‬
‫َّللاُ َي ْكت ُ ُ‬ ‫طا ِئفَةٌ ِم ْن ُه ْم َ‬
‫َّت َ‬
‫ِك َبي َ‬ ‫فَإِذَا َب َر ُزوا ِم ْن ِع ْند َ‬
‫يال) (النساء‪.)81:‬‬ ‫اّلِلِ َو ِك ً‬ ‫علَى َّ‬
‫َّللاِ ۚ َو َكفَ َٰى ِب َّ‬ ‫ع ْن ُه ْم َوتَ َو َّك ْل َ‬ ‫فَأَع ِْر ْ‬
‫ض َ‬

‫ع ٍام َم َّرة ً أَ ْو َم َّرتَي ِْن ث ُ َّم َال يَتُوبُونَ َو َال‬


‫وقال‪( :‬أَ َو َال يَ َر ْونَ أَنَّ ُه ْم يُ ْفتَنُونَ فِي ُك ِل َ‬
‫ُه ْم َيذَّ َّك ُرونَ ) (التوبة‪.)126:‬‬

‫وأخيرا ً فإن أهم مقتضيات تفسير العالقة بين حقيقة التوبة وطبيعة الحركة‬
‫الكونية هو أن التوبة تمأل الزمان والمكان‪ ،‬ألن الكون وحركته هو كل‬
‫الزمان والمكان‪.‬‬

‫وباعتبار أن الحركة الكونية بطبيعتها هي القرينة الدالة على التوبة‪،‬‬


‫وباعتبار أن الشمس هي القرينة الدالة على الحركة الكونية بالنسبة لإلنسان‪،‬‬
‫كان معنى توقف الشمس واضحا ً للداللة على انقضاء زمن التوبة بالنسبة‬
‫لإلنسان‪.‬‬

‫وإذا كان النبي ﷺ يضرب لنا لألمور االعتقادية الضخمة أمثلة كونية يسيرة‪،‬‬
‫مثل اللبن الدال على الفطرة كعنصر كوني؛ فإن النبي ﷺ قد ضرب لنا مثالً‬
‫للتوبة بفعل بشري‪ ،‬وهو السفر والرجوع منه إلى البيت؛ فقال ﷺ‪« :‬آيبون‬
‫تائبون عابدون إلى ربنا راجعون» (‪ ،)389‬فكان االرتباط بين معنى الرجوع‬
‫إلى البيت والرجوع إلى هللا‪ ،‬وهو معنى التوبة‪.‬‬

‫بهذا التصور يمكن أن نفهم أن الشمس تكون أعظم مثل كوني على التوبة؛‬
‫فهي تشرق في الصباح بين قرني شيطان‪ ،‬وتسجد في المساء تحت عرش‬
‫الرحمن‪ ،‬فال يمر يو ٌم إال بالسجود هلل تبارك وتعالى والرجوع إليه تحت‬
‫عرشه‪ ،‬بعد سفرها الذي يبدأ بالشروق بين قرني الشيطان‪ ،‬ولهذا تمتنع هذه‬
‫(‪ )389‬أخرجه مسلم في الحج‪ ،‬رقم (‪ ،)111‬وأبو داوود‪ ،‬باب ما يقول الرجل إذا سافر (‪.)2599‬‬
‫السجدة عن الشمس عند انقطاع التوبة‪« :‬فال يؤذن لها بالسجود» الحديث‬
‫(‪.)390‬‬

‫إن انقطاع التوبة بغياب الشمس يعبر‪ ،‬في حقيقته‪ ،‬عن الحكمة التي تدور‬
‫عليها كل أفعال هللا‪ ،‬سبحانه وتعالى‪ ،‬ولعل أقرب األفعال في مجال العالمات‬
‫القريبة من هذه الحكمة هو رفع العلم بموت العلماء‪ ،‬ألن هذا يعني أن تنقطع‬
‫أسباب الخير عند انقطاع الخير نفسه‪ ،‬ألن األسباب في الخير هي من الخير‬
‫نفسه‪ ،‬كذلك تنقطع الدالئل التي تدل على هذا الخير‪ ،‬ومنها القرائن التي تدل‬
‫عليه كذلك باعتبارها من هذه الدالئل‪.‬‬

‫ولقد ضربنا مثالً بالسبب‪ ،‬ونضرب مثالً جامعا ً للقرائن‪ ،‬وهو ما سيكون من‬
‫علو الدجال‪،‬‬ ‫قتل اليهود بعد قتل الدجال‪ ،‬إذ إن اليهود كانوا سببا ً أصليا ً في ُ‬
‫وكانوا قرائن له عند ظهوره‪ ،‬ومن هنا كان قتل اليهود قدَرا ً مرتبطا ً بالدجال‪.‬‬

‫(‪ )390‬تقدم تخريجه‪.‬‬


‫مت حبمد اهلل‬
‫كتب للمؤلف‬

‫السياس للحركة اإلسالمية‬


‫ي‬ ‫‪ -1‬التصور‬
‫‪ -2‬المسيح ‪ ..‬دراسة سلفية‬
‫‪ -3‬عندما ترىع الذئاب الغنم‬
‫‪ -4‬أصحاب األخدود‬
‫‪ -5‬قدر الدعوة‬
‫‪ -6‬حكمة الدعوة‬
‫‪ -7‬بيت الدعوة‬
‫‪ -8‬يف النفس والدعوة‬
‫‪ -9‬علم الحديث منظور إعجازي‬
‫‪ -10‬عالمات الساعة‬
‫‪ -11‬علم المناسبة‬
‫‪ -12‬عمر بن الخطاب‬
‫‪ -13‬اإلرساء‬
‫‪ -14‬كتاب دالئل النبوة‬
‫‪ -15‬األذكار‬
‫‪ -16‬كيف تحدث الرسول ﷺ‬
‫الفهرس‬
‫تمهيد ‪2.................................................................................‬‬

‫الباب األول‪ :‬تأصيل معنى العالمة من حيث عالقتها بأفعال هللا الجامعة‬
‫الفصل األول ‪12 .....................................................................‬‬
‫عالقة عالمات الساعة بمعنى الحكمة ‪13 ........................................‬‬
‫عالقة عالمات الساعة بمعنى الرحمة ‪15 ........................................‬‬
‫عالقة عالمات الساعة بمعنى اإلحسان ‪17 ......................................‬‬
‫عالقة عالمات الساعة بمعنى الخير ‪19 .........................................‬‬
‫عالقة عالمات الساعة بمعنى الحق ‪22 ..........................................‬‬
‫عالقة عالمات الساعة بمعنى العدل ‪24...........................................‬‬
‫فعل «الجمع اإللهي» في العالمات ‪25 ...........................................‬‬
‫الفصل الثاني ‪27 .....................................................................‬‬
‫التجانس ‪28 ..........................................................................‬‬
‫التعاظم ‪29 ...........................................................................‬‬
‫التقسيم صغرى وكبرى‪29 .........................................................‬‬
‫حساب الزمن ‪30.....................................................................‬‬
‫اإلنذار ‪32.............................................................................‬‬
‫اإلنهاء باإلعادة‪32...................................................................‬‬
‫البغت «الفجائية» ‪33................................................................‬‬

‫الباب الثاني‪ :‬التصور المنهجي للعالمات‬


‫أوالً‪ :‬المهدي ‪35......................................................................‬‬
‫خالفة قبل المهدي‪41………….……………….………………...‬‬
‫ثانياً‪ :‬الدجال‪43....................................................................... :‬‬
‫جفاف نخل بيسان ‪45..................................................................‬‬
‫جفاف بحيرة طبرية ‪46................................................................‬‬
‫الخروج من غضبة ‪46..............................................................‬‬
‫الخروج في كذب ‪47.................................................................‬‬
‫الدجال والملح ‪48......................................................................‬‬
‫الدجال والدخان ‪50....................................................................‬‬
‫عيسى والدجال ‪55...................................................................‬‬
‫نسل إسماعيل والدجال ‪56..........................................................‬‬
‫الدجال وابن صياد ‪58.................................................................‬‬
‫اختالف أقوال العلماء في ابن صياد……………………………‪69‬‬
‫ثالثاً‪ :‬عيسى ابن مريم ‪62...........................................................‬‬
‫رابعاً‪ :‬يأجوج ومأجوج ‪66.........................................................‬‬
‫يأجوج ومأجوج والتتار ‪71.........................................................‬‬
‫دالالت يأجوج ومأجوج على طبيعة الفتنة ‪74....................................‬‬
‫إخراج األرض بركاتها ‪76.........................................................‬‬
‫خامساً‪ :‬الدابة ‪77.....................................................................‬‬
‫آيات الدابة ‪80........................................................................‬‬

‫الباب الثالث‪ :‬التصور المنهجي العام‬

‫الفصل األول‪ :‬المضمون اإلنساني للعالمات ‪84.................................‬‬


‫المستوى الفردي للعالقة بين اإلنسان وبين عالمات الساعة ‪84...............‬‬
‫رفع األمانة والعلم وارتباطه بالوجود اإلنساني ‪85..............................‬‬
‫المستوى البشري للعالقة بين اإلنسان وبين عالمات الساعة ‪87...............‬‬
‫المستوى الفردي والبشري لالرتباط بين الطبيعة اإلنسانية والعالمة‪89......‬‬
‫محور العبادة………………………‪89……………………..‬‬
‫محور القتال…………………‪91…………………………...‬‬
‫محور الحكم……‪92…………………………………….…..‬‬
‫البدء واإلعادة……………………‪93……………………….‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬أسلوب عرض الوحي لعالمات الساعة ‪96.....................‬‬
‫ترتيب العالمات ‪97..................................................................‬‬
‫داللة األلفاظ ‪101....................................................................‬‬
‫التكرار ‪105..........................................................................‬‬
‫التفصيل ‪105.........................................................................‬‬
‫اإلجمال ‪106.........................................................................‬‬
‫التناسب بين الخبر وحال النبي أثناء اإلخبار ‪106...............................‬‬
‫القرائن الحسية ‪108.................................................................‬‬
‫التأييد بالرؤية المباشرة ‪110.......................................................‬‬
‫التوازن بين الطمأنة والتحذير في عرض النبي للعالمة………‪112…..‬‬
‫إسقاط العالمة على الواقع ‪114....................................................‬‬

‫الباب الرابع‪ :‬التصور المنهجي القرآني‬

‫األساس القرآني العام للعالمات ‪117 .............................................‬‬


‫سورة الدخان والدجال ‪118.........................................................‬‬
‫سورة األنبياء ويأجوج ومأجوج ‪148.............................................‬‬
‫عناصر االمتداد البشري الكافر ‪151..............................................‬‬
‫استقرار الوحي وثباته في الواقع البشري ‪153...................................‬‬
‫وحدة األنبياء ‪154...................................................................‬‬
‫أخالق االمتداد ‪154..................................................................‬‬
‫ترتيب األنبياء في السورة‪155………………………………….‬‬
‫الـكثـرة……………………………‪156…………………...‬‬
‫الحفظ الكوني العام‪157……………………...………………..‬‬
‫سورة النمل وعالمة الدابة ‪158...................................................‬‬
‫ذكر موسى عليه السالم‪159……………...…………………….‬‬
‫داود وسليمان والدابة‪161…………………..………………….‬‬
‫سليمان والدابة…………………… ‪164………………….….‬‬
‫العالقة بين سليمان وملكة سبأ‪ ،‬وبين الدابة……………‪166……….‬‬
‫ثمود وقوم صالح والدابة………………‪168…………………...‬‬
‫قوم لوط والدابة‪169………………………………………….‬‬
‫ذكر النبي ﷺ والدابة‪169……………………………..………..‬‬
‫بنو إسرائيل والدابة……………………‪173………………….‬‬
‫سورة التوبة وعالمة الشمس ‪179................................................‬‬
‫الشمس والدابة‪179..................................................................‬‬
‫الشمس والتوبة………………………‪182………............…..‬‬
‫باب التوبة ……‪185…………….................………………..‬‬
‫الشمس وسورة التوبة‪186..........................................................‬‬
‫التوبة والعهد‪187………………..…………………………..‬‬
‫التوبة والجهاد والهجرة‪188………………...………………….‬‬
‫التوبة والنفاق‪189………………...………………………….‬‬
‫التوبة والصدقة‪191…………..……………………………...‬‬
‫التوبة والطهارة‪193…………………..……………………...‬‬
‫التوبة والفتنة‪193………...………………………………….‬‬
‫الفهرست ‪198 .......................................................................‬‬

You might also like