Professional Documents
Culture Documents
دراسة تحليلية
رفاع رسور
ي
تمهيد
الحمد هلل ،والصالة والسالم على رسول هللا ،وبعد.
فمن أخطر ظواهر الفكر الجاهلي ،سواء كان هذا الفكر ذا مظهرا دينيا أو
فلسفيا ،ظاهرة التأصيل الكوني لألفكار ،إذ أن هذا التأصيل هو إثبات للعالقة
بين هذه األفكار وبين النظام الكوني ،ومن ثم فهو تأكيد لصوابها وشرعيتها،
وذلك استنادا إلى ما ارتكز في النفوس من أن الحق البد وأن يكون مالئما
من كل جهاته لنظام هذا العالم.
وال شك أن األديان الوضعية ،من يهودية ونصرانية ،هي أكثر إلحاحا في
محاولة تحقيق المالئمة بينها وبين ظواهر العالم ،وذلك أنها لما كانت ملتزمة
بفكرة صدور العالم عن هللا سبحانه ،فهي من ثم ملتزمة بتفسير كل ما هو
في العالم بحسب عقيدتها المزيفة.
ومن أهم لحظات العالم هي لحظة نهايته ،وهي المعروفة بـ «الساعة» أو
«يوم القيامة» ،فشكل نهاية العالم ينبئ عن حقيقة «اإلرادة» التي ستقوم
بإنهائه ،وعلى ذلك ،فمن كمال فكرة ما عن العالم ،أن تقدم تصورا لنهايته
بحيث يالئم مضمون تلك الفكرة من جهة ،ومعطيات الواقع من جهة أخرى.
وهكذا يطرح التصور اإلسالمي نفسه كصاحب حق شرعي ووحيد في
تفسير العالم ،باعتبار أن «عالمات الساعة» تمثل جزءا أصيال ضخما من
تاريخ األمة اإلسالمية الباقية إلى آخر الزمان متضمنة ظهور العالمات.
وهكذا تأخذ المواجهة مع أهل الكتاب صورة أخرى ،وهو إخفاء ما عندهم
من علم عن العالمات عن العقل المسلم بالذات حتى ال ينتبه هذا العقل إلى
فاعلية تلك القضية في تحديد منهج الصراع معهم.
وهذه هي الدقة المتناهية في تصور العالمات عند أهل الكتاب ،أن يجزم
األرطبون أن بيت المقدس لن تفتح على يد عمرو ،وإنها ستفتح على يد
عمر ،وقد علم األرطبون ذلك من االسم ،والفرق بين االسمين حرف واحد
وهو الواو.
ومما جاء عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي هللا عنه أنه قدم دمشق في
تجارة من قريش فتخلف عمر بن الخطاب لبعض حاجته ،فبينما هو في البلد
إذا ببطرق يأخذ بعنقه ،فذهب ينازعه فلم يقدر عليه ،فأدخله دارا ً فيها ترابا ً
وفأسا ً ومجرفة وزنبيل ،وقال له :حول هذا من ههنا إلى ههنا ،فغلبه عمر
وخرج فجاء ديرا ً لراهب ،فحبس عنده من العشي فأطعمه وسقاه ،وقال له:
لقد علم أهل دين النصرانية أني أعلمهم بكتابهم ،وإني ألراك الذي تخرجنا من
بالدنا هذه ،فهل لك أن تكتب لي كتاب أمان على ديري هذا (.)3
)« )2البداية والنهاية» ،المجلد السابع :ص 55 – 54
)" )3البداية والنهاية" المجلد السابع ص .60
وعن األقرع مؤذن عمر أن عمر رضوان هللا عليه مر على األسقف فقال:
«هل تجدوني في شيء من كتبكم؟» قال« :نجد صفتكم وأعمالكم وال نجد
أسماءكم» ،قال« :كيف تجدوني؟» قال« :قرن من حديد» ،قال عمر« :قرن
من حديد ماذا؟» قال« :أمير شديد» ،قال عمر« :هللا أكبر والحمد هلل» (.)4
وعن عبد هللا قال :ركب عمر رضوان هللا عليه فرسا ً فركضه فانكشف ثوبه
عن فخذه فرأى أهل نجران على فخذه شامة سوداء ،فقالوا« :هذا الذي نجد
في كتابنا يخرجنا من أرضنا» (.)5
وعلى الرغم من هذه الدقة المتناهية التي يبلغ مداها الفارق بين عمرو وعمر،
ويبلغ مداها شامة سوداء في الفخذ ،فقد كانت النتيجة النهائية للتصرفات
اليهودية والنصرانية في وقت الغفلة اإلسالمية أن أصبحت العالمات محكومة
باإلسرائيليات المطروحة للتضليل.
ولعل أخطر مؤامرات التضليل التي نعاني منها اآلن هي التركيز اإلعالمي
النصراني واليهودي على عالمة الدجال كما سنبين إن شاء هللا.
والهدف من هذه المؤامرة هو تجاوز عالمة المهدي ،وخصوصا ً بعد
االنسياق وراء هذا التركيز من جانب الذين يكتبون في اإلسالم أنفسهم.
ولم يكن هذا االنسياق هو األثر الوحيد للتضليل اليهودي والنصراني عن
قضية العالمات في واقع الفكر اإلسالمي ،بل أصبحت تلك القضية تعاني
تجاوز التحكم العقلي في الطبيعة الغيبية للعالمات ،كما أصبحت تفتقد العالقة
الصحيحة بين النصوص والواقع ،حتى أصبح إسقاط نصوص العالمات على
الواقع واألحداث خطأ ً شائعاً.
) )4أخرجه أبو داود « ،»4656والاللكائي في شرح السنة « ،»2658وأخرج نحوه الطبراني عن كعب
وقال الهيثمي « :»9 / 66رجاله ثقات
) )5أخرجه ابن سعد « ،»3248والطبراني وأحمد في الزهد ص ،153:وقال الهيثمي في المجمع ( :)9 / 91رواه الطبراني
وإسناده حسن.
وذلك كله في الوقت الذي يجب أن تكون فيه لقضية العالمات األهمية
الفكرية األساسية واألولى ،من حيث اليقين بما أخبر به هللا على لسان رسوله
ﷺ من أحداث حتى آخر الزمان ،ومن حيث التوازن النفسي بين اإلنكار
الجاهل والتعجل السفيه لهذه األحداث ،ومن حيث إحياء نصوص اإلخبار
عن العالمات لتدخل في إطار التصور اإلسالمي الصحيح عن الكون
والوجود البشري ،وكذلك تحديد الدور البشري في إطار أقدار هللا النافذة في
الواقع حتى قيام الساعة ،ثم التحديد المنهجي للدعوة من خالل كل هذه
الفاعليات مجتمعة.
ويمثل تحديد الدور البشري والتحديد المنهجي أهمية كبيرة باعتبار اإلطار
الواقعي للتحرك اإلسالمي ،وبعيدا ً عن التضليل اليهودي والنصراني في
قضية العالمات ،وبعيدا ً عن دائرة الغفلة عن التصور الصحيح للقضية،
تنشأ فاعلية العالمات ،ليكون التصور الصحيح للعالمات حاكما ً للحركة
اإلسالمية بكل أبعادها وفي كل مواقفها.
فلما اعتدى خوارزم شاه على تجار جنكيز خان الذين يتبضعون له ثيابا ً
وتحفاً ،فأرسل خوارزم إلى نائبه أن يقتلهم ففعل ذلك ،ويقول ابن كثير في
البداية والنهاية« :ولم يكن ما فعله خوارزم فعالً جيدا ً» ،فلما تهدد جنكيز
خان السلطان خوارزم أشار من أشار على خوارزم شاه بالمسير إليهم،
فسار إليهم «وهذا أيضا ً لم يكن فعالً جيدا ً» ،ألن التتر من األتراك الذين
سموا ذلك لتركه خارج سور ذي القرنين ،والخطأ في فعل خوارزم هو في
األساس مخالفته لقول رسول هللا ﷺ «اتركوا الترك ما تركوكم» (.)7
وعندما يحكم تصور العالمات المنهج السياسي للدعوة ( )9فإن السعي إلقامة
هذه الخالفة سيتجاوز كل عقبة يتصورها إنسان ضد إقامة هذه الخالفة،
ابتدا ًء من تهيئة العالم لظهور الدجال ( ،)10وهي المحاولة الخبيثة لمنع
المسلمين من معايشة حقيقة الخالفة القادمة والتهيئة النفسية لها والسعي
إلقامتها.
التصور اإلسالمي يقر بأن اليهود باقون إلى وقت الدجال وسيقاتلون معه،
كما يقر بأن النصارى سيبقون كذلك حتى يحقق هللا الغلبة للمسلمين عليهم
في الملحمة.
فَص َ
ويكفي إلثبات جمال الموضوعية في التصور اإلسالمي للعالمات أن ن ِ
الملحمة كما وصفها الرسول ﷺ« :تصالحون الروم صلحا ً آمنا ً وتقهرون أنتم
وهم عدوا ً من ورائهم فتسلمون وتغنمون ،ثم تنزلون بمرج ذي تلول فيقوم
رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول :غلب الصليب ،فيقوم إليه رجل من
المسلمين فيقتله فعند ذلك تغدر الروم ،وتكون المالحم ،فيجمعون لكم فيأتونكم
في ثمانين غاية مع كل غاية عشرة آالف» (.)11
وعن يسير بن جابر قال :هاجت ريح حمراء بالكوفة ،فجاء رجل ليس له
هجيري فقال« :أال يا عبد هللا بن مسعود ،جاءت الساعة» ،قال :فقعد وكان
) )11رواه أبو داود كتاب المالحم « ،»425 / 2والحاكم في المستدرك « »1421 / 4وقال :هذا حديث صحيح اإلسناد ولم
يخرجاه.
متكئا فقال« :إن الساعة ال تقوم ،حتى ال يقسم ميراث ،وال يفرح بغنيمة»،
ثم قال بيده هكذا (ونحاها نحو الشام) فقال« :عدو يجمعون ألهل اإلسالم
ويجمع لهم أهل اإلسالم ،ويكون عند ذاكم القتال ردة شديدة»( ،)12قال:
«فيشترط المسلمون شرطة للموت ال ترجع إال غالبة ،فيقتتلون حتى يحجز
بينهم الليل فيبقى هؤالء وهؤالء كل غير غالب وتفنى الشرطة ،ثم يشترط
المسلمون شرطة للموت ال ترجع إال غالبة فيقتتلون ثم يبقى هؤالء وهؤالء
كل غير غالب وتفنى الشرطة ،ثم يشترط المسلمون شرطة للموت ال ترجع
إال غالبة فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل فيبقى هؤالء وهؤالء كل غير غالب
وتفنى الشرطة ،فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل اإلسالم فيجعل هللا
الدائرة عليهم فيقتتلون مقتلة إما قال :ال ندري مثلها ،وإما قال :ال يرى مثلها،
حتى إن الطائر يمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً ،فيعاد بنو األب كانوا
مائة فال يجدونه بقي منهم إال الرجل الواحد ،فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث
يقاسم»؟! قال« :فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس أكبر من ذلك ،قال« :فجاءهم
الصريخ( )13أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم فيرفضون ما في أيديهم،
ويقبلون فيبعثون عشرة فوارس طليعة» ،قال رسول هللا ﷺ« :إني ألعلم
أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم هم خير فوارس على ظهر األرض
يومئذ»(.)14
إن النص يكاد ينطق بصوت مسموع بأنه من مشكاة النبوة ،ففيه اإلقرار
بأن الروم سيكونون أكثر عددا ً ،وفيه اإلقرار بأن المسلم قتل الصليبي الذي
قال« :بهذا غلبنا» ،وهو القول المناقض للهدنة التي كانت معقودة بحسب
ما ورد في النصوص األخرى ،وفيه اإلقرار بأنه ستكون ردة بين المسلمين،
وفيه اإلقرار بأن القوة بين األمتين تكاد تكون متقاربة ،وقد وضح ذلك من
وصف المعارك ،وذلك من خالل مجموع العبارات« :فيقتتلون حتى يحجز
بينهم الليل» وتكررت ثالث مرات ،و«فيبقى هؤالء وهؤالء ،كل غير
غالب» ثالث مرات ،وفي الرابعة :تكون الغلبة للمسلمين على الصليبيين،
ولكن وصف المعركة يبين خطورتها ،يقول النبي ﷺ «حتى إن الطائر ليمر
) )12قول عبد هللا بن مسعود القول عاد لرسول هللا ﷺ.
) )13المستنجد الصارخ.
) )14مسند أحمد بن حنبل ،رقم.)4001( :
بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتا ً»(.)15
أما وصف نتيجتها فهو أشد« :فيعاد بنو األب كانوا مائة فال يجدونه بقي
منهم إال الرجل الواحد ،فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقسم أو يقاسم»،
كما تشعر بالدقة في النقل عن رسول هللا ﷺ ،مثلما قال الراوي« :فيقتتلون
مقتلة إما قال :ال ندري مثلها ،وإما قال :ال يرى مثلها»؛ فهكذا الخبر
والوصف والدقة ،وهكذا الموضوعية واإلقرار والتفصيل ،وهكذا يقبل
اإلنسان صيغة نهايته وأحداث آخر الزمان.
ولن نجد مثالً أكثر تجردا وموضوعية في تفسير العالقة بين اإلنسان والكون
من نفي النبي ﷺ أن يكون كسوف الشمس الذي كان في عهده بسبب وفاة ابنه
إبراهيم ،وعلى الرغم من أن الناس قد ربطوا بين الحادثتين فقالوا :ما انكسفت
الشمس إال لموت إبراهيم ،فيقوم النبي ﷺ في الناس خطيبا ً فيقول :يا أيها الناس
إن الشمس والقمر آيتان من آيات هللا ال ينكسفان لموت أحد ،فكان نفي النبي
فلم يكن التجرد في تفسير العالمات كظواهر كونية غيبية ،بل كان في الظواهر
الكونية المشاهدة ،وهذا هو التجرد الكامل في التفسير اإلسالمي للكون
بظواهره المشاهدة القائمة.
وسنبدأ الكتاب إن شاء هللا بتعريف عالمات الساعة ،وهو التعريف الذي سيبقى
معنا إلى آخر الكتاب ،حيث سينتظم نص هذا الكتاب حول ألفاظ هذا التعريف.
فالعالمة هي« :أفعال هللا الجامعة في نهاية الدنيا وبداية اآلخرة ،تحقيقا ً إليمان
الناس».
الباب األول
الفصل األول
«تأصيل ى
معن العالمة من حيث عالقتها بأفعال هللا
والخي والحق
ر ه :الحكمة والرحمة واإلحسانالن ي
الجامعة ي
والعدل»
عالقة عالمات الساعة بالحكمة
وعالمات الساعة من أهم مجاالت الحكمة اإللهية ،وذلك أن أفعال هللا دائرة
على الحكمة ،وإن اختالف صيغ هذه األفعال اإللهية بحسب المراحل الثالث
ال يوقف معنى الحكمة بل يظهرها أشد ما يكون اإلظهار.
في إثبات اإلطعام لعيسى إثبات لبشريته ونفي االدعاء بألوهيته ،ألن هللا هو
ض َو ُه َو يُ ْ
ط ِع ُم َو َال ت َو ْاأل َ ْر ِ
س َم َاوا ِ َّللاِ أَت َّ ِخذُ َو ِليًّا فَ ِ
اط ِر ال َّ الذي ﴿ قُ ْل أَ َ
غي َْر َّ
طعَ ُم ۗ قُ ْل إِنِي أ ُ ِم ْرتُ أَ ْن أَ ُكونَ أَ َّو َل َم ْن أَ ْسلَ َم ۖ َو َال تَ ُكون ََّن ِمنَ يُ ْ
ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾(األنعام ،)14:وفى ذلك تنزيه هلل عن االفتقار للطعام ،وهو معنى
التسبيح ،ألن التسبيح هو التنزيه ،أما التكبير فهو إكبار هللا على كل شيء،
وعلى الدجال وفتنته ،فالدجال أكبر خلق كما قال النبي ﷺ عن عمران بن
حصين قال :سمعت رسول هللا ﷺ يقول« :ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة
خلق أكبر من الدجال»( ،)19ولكن الخالق أكبر ،حتى عندما تقتضي فتنة
الدجال هذه السنوات الثالث من الجوع فإن هللا أكبر ،فال يترك عباده
المؤمنين نهبا ً لفتنة الدجال ،بل يزيدهم إيمانا ً ويقينا ً بإطعامهم الذكر ،فيجري
التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل مجرى الطعام.
أما التحميد :فهو دليل على أن التسبيح والتكبير أتم الشبع ،فاستوجب األمر
حمدا ً هلل كما نحمده على اإلطعام في الدنيا.
أما التهليل فهو قول :ال إله إال هللا ،ومناسبتها أن جميع ما يكون ال يخرج
على أفعاله ،فال إله غيره ،فاهلل هو الذي يظهر الدجال ،وهو الذي يجعل
السنوات قبله سنوات جوع ،وهو الذي يجعل الذكر يجري مجرى الطعام
لعباده المؤمنين.
ومن أمثلة الحكمة التفصيلية في العالمات أيضاً ،جعل التهليل والتكبير سببا ً
في إسقاط جانبي مدينة القسطنطينية ،ألن سقوط جانبي المدينة هو الذي
يساوي االنتصار على أهلها ،والنصر في القتال ال يكون إال بأمرين :عقيدة
صحيحة ،وإكبار مطلق هلل على العدو في النفوس.
عن أبى هريرة رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا ﷺ «سمعتم بمدينة جانب
منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا نعم يا رسول هللا قال ال تقوم الساعة
حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق فإذا جاؤها نزلوا فلم يقاتلوا بسالح
ولم يرموا بسهم قالوا ال إله إال هللا وهللا أكبر ،فيسقط أحد جانبيها ،ثم يقولوا
الثانية ال إله إال هللا وهللا أكبر ،فيسقط جانبها اآلخر ،ثم يقولوا الثالثة ال إله إال
هللا وهللا أكبر ،فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا» (.)21
-1أن الساعة ال تقوم على مؤمن وهي داهية ُمرة ( ، )22ألن هللا سيقبض كل
نفس مؤمنة بريح لينة تأتي من اليمين ،أما الساعة فال تقوم إال على أشر
الناس ،عن علي بن أبي طالب أن رسول هللا ﷺ قال« :إن من شرار الناس
من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد ،والذين
يشهدون بالشهادة قبل أن يسألوها» (.)23
-2ومن دالئل هذه الرحمة في العالمات أنها هي ذاتها حرز وبدل من عذاب
اآلخرة ،كما قال النبي ﷺ« :أمتي هذه أمة مرحومة ،ليس عليها عذاب في
اآلخرة ،عذابها في الدنيا الفتن والزالزل والقتل» (.)24
-3ومن دالئل الرحمة في العالمات :حصر الفتن ومنعها دون األمة ،مثل
نهر الفرات الذي يخبئ جبالً من ذهب ،فال ينحسر إال في آخر الزمان،
ومثل السد الذي بناه ذو القرنين فال يفتح إال في آخر الزمان.
-4أما دالئل الرحمة التي تتمم المنع من الفتن فهي الحفظ من الفتن حين
وقوعها ،ومنها :إظهار نقائص الدجال المثبتة لكذبه ،مثل الكتابة على جبينه،
ومنها :تعجيزه عن قتل الشاب الذي أماته وأحياه فقال له« :ربي هللا وأنت
ويجب االنتباه إلى أن ذكره الخروج من السجن يتضمن نعمة التمكين في
األرض ،ألن التمكين جاء مع الخروج ،وهو من تمام النعمة ،أي اإلحسان،
إ ْذ قال له الملك بعد استدعائه من السجنَ ﴿:وقَا َل ْال َم ِلكُ ائْتُونِي ِب ِه أَ ْستَ ْخ ِل ْ
صهُ
وعندما حدد النبي ﷺ «اإلحسان» اصطالحا ً فقد حدده بهذا المعنى ،فأطلق
اإلحسان على إتمام أخير األعمال وهو العبادة ،فقال« :اإلحسان أن تعبد هللا
كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (.)30
ولعلنا نالحظ أنه المكان الذي وجد ذو القرنين عنده يأجوج ومأجوج عندما
بنى الردم ،أي أن هللا سبحانه بقدرته أعادهم إلى مكانهم أمواتا ً« :فيرغب
نبي هللا عيسى وأصحابه إلى هللا فيرسل هللا عليهم النغف في رقابهم
فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ويهبط نبي هللا عيسى وأصحابه فال
يجدون موضع شبر إال قد مأله زهمهم ونتنهم ودماؤهم فيرغبون إلى هللا
فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء هللا ثم يرسل
هللا عليهم مطرا ال يكن منه بيت مدر وال وبر فيغسله حتى يتركه كالزلقة ثم
يقال لألرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة
فتشبعهم ويستظلون بقحفها ويبارك هللا في الرسل حتى إن اللقحة من اإلبل
تكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي القبيلة واللقحة من الغنم تكفي
الفخذ فبينما هم كذلك إذ بعث هللا عليهم ريحا طيبة فتأخذ تحت آباطهم فتقبض
روح كل مسلم ويبقى سائر الناس يتهارجون كما تتهارج الحمر فعليهم تقوم
الساعة»(.)31
وبعد موت يأجوج ومأجوج ،وإعادتهم إلى أصلهم موتى وإرسال المطر
وتطهير األرض من نتنهم يبلغ اإلحسان تمامه ،بأن تكون أجسادهم طعاما ً
بالخي
ر عالقة عالمات الساعة
وقد بلغ معناه الكامل في قيام الساعة ذاتها ،وذلك عندما تقوم الساعة في
خير يوم «يوم الجمعة» كما قال رسول هللا ﷺ «خير يوم طلعت عليه الشمس
يوم الجمعة ،فيه خلق آدم ،وفيه أدخل الجنة ،وفيه أخرج منها ،وفيه تقوم
الساعة» (.)32
ويعود الخير في يوم القيامة إلى ضرورة التناسب بينه وبين الشر الذي
سيكون عليه الناس قبل قيامها مباشرة ،وبذلك ستجمع الساعة بين المعنيين،
األول :معنى الشر باعتبار الواقع الذي ستقوم عليه الساعة ،وهو ما يناسب
عةُ أَ ْدهَى َوأ َم ُّر﴾(القمر،)46:
سا َ
وصفها بقول هللا عز وجل في اآليةَ ﴿:وال َّ
والثاني :معنى الخير باعتبار إنهاء هذا الشر الواقع وبداية مرحلة الحق
والعدل.
وبنفس القاعدة كان معنى الخير والشر في عالمات الساعة ،ولكن بترتيب
يتفق مع الترتيب الزمني للعالمات لنصل إلى الساعة ذاتها ،وفى البداية يحكم
الزمن قاعدة التناسب المذكورة في الساعة ،وهذه القاعدة على مدى الزمان
كله تفسرها عدة نصوص.
النص األول :هو قول النبي ﷺ« :خير الناس قرني ،ثم الذين يلونهم ،ثم
الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم» ،حتى يكون الناس الذين تقوم عليهم الساعة
هم شر الناس كما قال ﷺ« :إن شر الناس الذين تقوم عليه الساعة والذين
يتخذون القبور مساجد» ( )33كما بين النبي ﷺ اتجاه األيام بهذا االتجاه فيقول:
«ال يأتي عليكم زمان إال الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» ( ،)34وهذا
النص الثاني :خيرية يوم الجمعة الواردة في قول النبي ﷺ« :خير يوم
طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ،فيه خلق آدم ،وفيه أدخل الجنة ،وفيه أخرج
منها ،وفيه تقوم الساعة ( ،)35والعالقة بين النصين واضحة ،فكل يوم جمعة
ال بد أن يكون خير من اليوم السابق عليه ،ولكن هذا الترتيب ال يمنع اتجاه
الزمن نحو الشر على المدار اليومي.
النص الثالث :خيرية ليلة القدر على مستوى العام ،لقول هللا سبحانه وتعالى:
ش ْهر) (الق ْدر ،)3:ولكن خيريتها ال تخرج عنف َ (لَ ْيلَةُ ْالقَ ْد ِر َخي ٌْر ِم ْن أَ ْل ِ
قاعدة النص األول المتعلقة باتجاه األيام والزمن نحو الشر.
النص الرابع :المجددون على مستوى القرن ،وفيهم قال رسول هللا ﷺ« :إن
هللا يبعث لهذه األمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (،)36
وبمقتضى هذا النص نؤمن أن كل مائة عام يكون خير وجديد ،ولكنه ال
يخرج عن اتجاه قاعدة النص األول.
ثم تأتي العالمات ليكون الزمن فيها محكوما ً بنفس القاعدة بكل مستوياتها
الزمنية ،على مستوى اليوم ،وعلى مستوى األسبوع« :يوم الجمعة» ،وعلى
مستوى السنة« :ليلة القدر» ،وعلى مستوى القرن« :التجديد» ،لتكون
العالمة األولى وهي المهدي ،وقاعدة التناسب بين الخير والشر في هذه أنه
«يملؤها قسطا وعدال ،كما ملئت جورا وظلما»( ،)37ومن كلمة «كما» يتبين
دقة التناسب ،ثم تأتي عالمة الدجال وهو شر مطلق ،ليتبعها عالمة عيسى
وهو الخير المطلق ،فيكون التناسب ،ثم تأتي عالمة يأجوج ومأجوج ،فيكون
بعدهم البقية التي سيرفعها هللا من األرض ،وهم المؤمنون الذين يخبرهم
ولكن يضاف إلى هذا التصور المأخوذ من النصوص الشرعية حديث هام
يحدد القضية تحديدا ً جوهرياً ،وهو يوازي حديث العالمات ،ولكن من خالل
محور الخير والشر :فعن أبي إدريس الخوالني أنه سمع حذيفة بن اليمان
يقول« :كان الناس يسألون رسول هللا ﷺ عن الخير ،وكنت أسأله عن الشر
مخافة أن يدركني ،فقلت :يا رسول هللا ،إنا كنا في جاهلية وشر ،فجاءنا هللا
بهذا الخير ،فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال :نعم ،قلت :وهل بعد ذلك الشر
من خير؟ قال :نعم وفيه دَخَن ،قلت :وما دخنه؟ قال :قوم يهدون بغير هديي،
تعرف منهم وتنكر ،قلت :فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال :نعم دعاة على
أبواب جهنمَ ،من أجابهم إليها قذفوه فيها ،قلت :يا رسول هللا ،صفهم لنا ،قال:
هم من جلدتنا ،ويتكلمون بألسنتنا ،قلت :فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال :تلزم
جماعة المسلمين وإمامهم ،قلت :فإن لم يكن لهم جماعة وال إمام؟ قال :فاعتزل
تلك الفرق كلها ،ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على
ذلك»(.)38
وكما هو واضح من الحديث فإن مقام النبوة كان أساسا ً في تحقيق خير
األمة ،يؤكد هذا حديث النبي ﷺ« :يأتي على الناس زمان يغزو فئام من
الناس فيقال :فيكم من صاحب الرسول فيقولون :نعم ،فيفتح لهم ،ثم يأتي
على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال لهم :هل فيكم من صاحب
أصحاب الرسول؟ فيقولون :نعم ،فيفتح لهم ،ثم يأتي على الناس زمان فيغزو
فئام من الناس فيقال لهم :هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب
الرسول؟ فيقولون :نعم ،فيفتح لهم» (.)39
ساهَا ۖ قُ ْل إِنا َما ع ِة أَياانَ ُم ْر َ سا َع ِن ال ا والقرآن يقول في الساعةَ ﴿:ي ْسأَلُون ََك َ
ض ۚ ََّل ت َو ْاْل َ ْر ِ س َم َاوا ِت فِي ال ا ِع ْل ُم َها ِع ْن َد َر ِبي ۖ ََّل يُ َج ِلي َها ِل َو ْقتِ َها ِإ اَّل ُه َو ۚ ثَقُلَ ْ
ع ْن َها ۖ قُ ْل ِإنا َما ِع ْل ُم َها ِع ْن َد ا ِ
َّللا َولَ ِك ان أَ ْكثَ َر ي َ تَأْتِي ُك ْم ِإ اَّل بَ ْغتَةً ۗ يَ ْسأَلُون ََك َكأَنا َك َح ِف ٌّ
اس ََّل يَ ْعلَ ُمونَ ﴾(األعراف ،)187:ويفسر اآلية قول النبي ﷺ .. « :فإن النا ِ
الساعة كالحامل المتم التي ال يدري أهلها متى تفجؤهم بوالدها ليال أو
نهارا»( ، )42والقول الجامع لآلية والحديث :أن الثقل هو االقتراب ،بصورة
ثابتة للحق على الرغم من تغير مراحل هذا االقتراب ،تماما ً مثل الجنين
الذي يتغير كل يوم من حال إلى حال ولكنه متجه نحو الوالدة ،فال يخرج
التغير اليومي على التوجه للوالدة ،فكما ال تنفصل الوالدة عن لحظة
الجماع األولى كذلك ال تنفصل الساعة عن بدء الخلق ،ويؤكد هذا المعنى
ار الاذِينَ ص ُ صةٌ أَ ْب َ َاخ َ يش ِ ب ْال َو ْع ُد ْال َح ُّق فَإِ َذا ِه َ قول هللا عز وجلَ ﴿ :وا ْقتَ َر َ
ظا ِل ِمينَ ﴾ (األنبياء.)97 : غ ْفلَة ِم ْن َه َذا بَ ْل ُكناا َ َكفَ ُروا َيا َو ْيلَنَا قَ ْد ُكناا فِي َ
ثم يمر كل يوم ليقترب الوعد الحق ،كما قال هللا عز وجل ﴿ :أَلَ ْم ت َ َر أَ َّن َّ
َّللاَ
ت ِبخ َْل ٍ
ق ق ۚ إِ ْن َيشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم َو َيأ ْ ِ
ض ِب ْال َح ِ ت َو ْاأل َ ْر َ س َم َاوا َِخلَقَ ال َّ
َجدِي ٍد﴾(إبراهيم )19:ألن أي اقتراب من الوعد الحق هو نفسه حق ،ثم تأتي
كل أحداث الساعة لتكون بذاتها أشد إظهارا ً للحق ،فاالنشقاق حقِ ﴿ :إذَا
ت ﴾ (االنشقاق ،)2-1ومد األرض حق﴿ : ت َوأَ ِذن ْ
َت ِل َربِ َها َو ُحقَّ ْ شقَّ ْ س َما ُء ا ْن َ
ال َّ
ص ْي َحةََّت﴾ (االنشقاق) ،والصيحة حقَ ﴿ :ي ْو َم َي ْس َمعُونَ ال َّ ض ُمد ْ َو ِإذَا ْاأل َ ْر ُ
) )40تفسير ابن كثير ص 161ج4
) (41صحيح ،أخرجه مسلم ،رقم.)5149( :
) )42مسند أحمد بن حنبل ،رقم .5/198
ق ۚ َٰذَ ِل َك َي ْو ُم ْال ُخ ُروجِ﴾ (ق ،)42:والميزان حقَ { :و ْال َو ْز ُن َي ْو َمئِ ٍذ ْال َح ُّق ۚ ِب ْال َح ِ
ت َم َو ِازينُهُ فَأُو َٰلَئِ َك ُه ُم ْال ُم ْف ِل ُحونَ }(األعراف.)8:
فَ َم ْن ثَقُلَ ْ
وبداية الخلق إلى نهايته ،بدء وإعادة ،هو حق ألنه من هللاَ ( :و ُه َو الَّذِي َي ْبدَأ ُ
ضۚ ت َو ْاأل َ ْر ِس َم َاوا ِ علَ ْي ِه ۚ َولَهُ ْال َمث َ ُل ْاأل َ ْعلَ َٰى فِي ال َّ
ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ َو ُه َو أَ ْه َو ُن َ
اط ُل َو َما ئ ْالبَ ِ يز ْال َح ِكي ُم) (الروم ،)27:كما قال سبحانهَ { :و َما يُ ْب ِد ُ َو ُه َو ْالعَ ِز ُ
يُ ِعيد}(سبأ ،)49:وبصفة عامة ،ارتبطت الساعة بالحق في قول هللا الجامع:
ِير َوأَ َّن
ش ْيءٍ قَد ٌ علَ َٰى ُك ِل َ َّللاَ ُه َو ْال َح ُّق َوأَنَّهُ يُ ْح ِيي ْال َم ْوتَ َٰى َوأَنَّهُ َ ( َٰذَ ِل َك ِبأ َ َّن َّ
ور ) (الحج.)7-6: ث َم ْن فِي ْالقُبُ ِ ْب فِي َها َوأَ َّن َّ
َّللاَ يَ ْب َع ُ عةَ آتِيَةٌ َال َري َ سا َ ال َّ
وبصفة عامة أيضا ً ارتبطت الساعة بالثقل ،وهو ارتباط بالحق من حيث
المعنى ،ألن اآلية تصف الحق بالثقل ألن الحق له ثقل حقيقي ،وفى هذا قول
المزمل ،)5:و«ثقيالً» في اآلية ليست سنُ ْل ِقي َ
علَي َْك قَ ْوَّلً ثَ ِقيَلً} ( َّ هللاِ { :إناا َ
مجازاً ،بل إنها حقيقة وصفها الصحابة فيما رووه عن صفة الوحي المنزل
على النبي ﷺ ،فعن عائشة رضي هللا عنها أن النبي كان إذا أوحي إليه وهو
على ناقته وضعت جرانها على األرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري
عنه (.)43
ض الَت َواأل َ ْر ِ
س َم َاوا ِ وعلى هذا أيضا ً يكون قول هللا في اآلية ﴿:ثَقُلَ ْ
ت ِفي ال َّ
تَأ ْ ِتي ُك ْم إِالَّ بَ ْغتَةً} (األعراف ،)187:أي :إن السماوات واألرض تثقل
بالساعة ،والتعبير العام عن عالمات الساعة يفيد معنى هذا الثقل ،مثل
القارعة التي تفيد الثقل والشدة ،والطامة التي تفيد الثقل والشمول ،والزلزلة
ض أ َثْقَا َل َها} التي تفيد النوء بالثقل ،ومنه قول هللا سبحانهَ { :وأَ ْخ َر َج ِ
ت األ َ ْر ُ
(الزلزلة ،)2:وقولهَ ﴿:وأَ ْلقَ ْ
ت َما فِي َها َوتَخَلَّ ْ
ت ﴾(االنشقاق )4:هذا هو الحق
في بداية الوجود ونهايته.
) )43دالئل النبوة للبيهقي برقم ( ،)2986والمستدرك على الصحيحين برقم ( ،)3739والتوحيد البن خزيمة برقم (.)377
أما الحق بينهما فهو حق العالمات ،وهو موضوع الدراسة تحديداً ،ويتميز
الحق في مرحلة العالمات بأنه أوال :شواهد ثبات المرحلة الدنيا ،ثانيا:
شواهد االنتقال من الدنيا لآلخرة ،ثالثا :شواهد اجتماع كل ما كان في الدنيا
في العالمات رابعا :ارتباط كل أحداث العالمات بالسنن الثابتة ،خامسا:
اإلخبار عن كل ذلك ،وتحققه في الواقع.
وقبل تفسير حادثة خسف جيش السفياني نستطرد قليالً في مفهوم العدل في
هذه المرحلة الزمنية التي نسميها عالمات الساعة.
وفي هذا االستطراد يجب أن نفهم أن العدل في هذه المرحلة سيكون مفهوما ً
كونيا ً قدريا ،والقصاص فيه ليس على هيئة القصاص بالمعنى الشرعي
للكلمة ،مثل حادثة الشاة الجلحاء والشاة القرناء ،كما قال ﷺ« :لتؤدن الحقوق
إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (.)45
(.)8704) )44المستدرك على الصحيحين برقم
) )45صحيح ،أخرجه مسلم برقم (.)4686
فالظلم في هذه الحادثة ظلم كوني قدري ألن الحيوان غير مكلف شرعا
باالمتناع عنه ،والقصاص أيضا ً قصاص كوني قدري كذلك ألنه قصاص
غير تكليفي ،وبهذا المعنى ننتقل إلى واقع حادثة خسف الجيش.
وعناصر حادثة خسف الجيش :المهدي ،وهو من نسل فاطمة ،والجيش الذي
سمع به وأراد أن يقاتله وعلى رأسه رجل اسمه «السفياني» ،ثم الخسف
بالجيش قبل الوصول إليه.
ى
اإلله» يف العالمات
ي فعل «الجمع
وقد أوضحنا أن العالمات هي «أفعال هللا الجامعة» ،ومعنى الجمع في
التعريف هو :أن الساعة هي إعادة الخلق إلى هللا ،والعالمات هي الجمع
السابق لإلعادة ،وبصفة عامة فقد تحققت حقيقة «الجمع» في العالمات،
( )46صحيح ،أخرجه مسلم برقم (.)5137
وفى كل عالمة بذاتها ،مثلما اجتمع نسب النبي ﷺ واسمه وصفته في
المهدي ،واجتمعت فتنة الخير في عيسى ابن مريم عليه السالم ،واجتمعت
فتنة الشر في الدجال ،واجتمعت اآليات في الدابة.
وبذلك يجمع هللا أفعاله في العالمات ،وقاعدة جمع الشيء قبل إعادته فعل
إلهي ثابت ،ومثاله الواضح :جمع اإلسالم في المدينة ثم رفعه منها كما قال
رسول هللا ﷺ «إن اإلسالم بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ،وهو يأرز بين
المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» (.)47
أما الربط بين إهالك األمم واإلهالك العام وقت قيام الساعة فقد جاء في عدة
ع ْن ُه ْم
َت َ س ُه ْم ۖ فَ َما أَ ْغن ْ ظ َل ْمنَا ُه ْم َو َٰلَ ِك ْن َ
ظ َل ُموا أَ ْنفُ َ مواضع ،منها قوله تعالىَ ( :و َما َ
غي َْر ش ْيءٍ لَ َّما َجا َء أَ ْم ُر َر ِب َك ۖ َو َما زَ ادُو ُه ْم َ َّللاِ ِم ْن َ عونَ ِم ْن د ِ
ُون َّ آ ِل َهت ُ ُه ُم الَّتِي َي ْد ُ
تَتْبي ٍ َٰ
شدِيدٌ ِإ َّن ِفي ظا ِل َمةٌ ۚ ِإ َّن أَ ْخذَهُ أَ ِلي ٌم َ
ي َ ب َو َكذَ ِل َك أَ ْخذُ َر ِب َك ِإذَا أَ َخذَ ْالقُ َر َٰى َو ِه َ ِ
َٰ َٰ َٰ
اس َوذَ ِل َك َي ْو ٌم ع لَهُ النَّ ُ اب ْاآل ِخ َر ِة ۚ ذَ ِل َك َي ْو ٌم َم ْج ُمو ٌ عذَ َ
َاف َ ذَ ِل َك َآل َيةً ِل َم ْن خ َ
َم ْش ُهودٌ َو َما نُ َؤ ِخ ُرهُ ِإ َّال ِأل َ َج ٍل َم ْعدُو ٍد) (هود.)104 -101:
) )48قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة نقال عن تفسير ابن كثير.
))49صحيح ،أخرجه البخاري برقم (.)10366
ورا) (اإلسراء ،)58:وهذا إخبار من هللا
ط ً شدِيدًا ۚ َكانَ َٰذَ ِل َك فِي ْال ِكتَا ِ
ب َم ْس ُ َ
عز وجل حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ أنه ما من قرية
إال سيهلكها ،أي يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم.
وبذلك أصبحت العالمات بين يدي الساعة متجانسة تماما ً مع الساعة ذاتها،
فمن العالمات« :كثرة الزالزل» ،وكانت هي الزلزال األكبر ،ومن
العالمات« :كثرة الصواعق» ،وكانت هي الصاعقة الكبرى.
التعاظم:
ومن مرحلة إهالك األمم كمقدمة بين يدي الساعة ،يبقى التجانس ليتجه نحو
التعاظم في عالمات الساعة نفسها بعد إهالك األمم كمقدمة لها ،أي أن
العالمة التي تتجانس مع أختها يتحقق فيها كلما استمرت طبيعة الساعة
لتكون الساعة أكبر وأعظم صورة للعالمات.
وما بين المرحلتين مرحلة وسط ،وهي العالمات التي تشهد التحول من
الغيب إلى الشهادة ،أو اقتراب الشهادة من الغيب ،ومنها قول رسول هللا ﷺ:
«في آخر الزمان ال تكاد رؤيا المؤمن تكذب» ( ،)52وقولهَ « :والَّذِي نَ ْفسِي
عذَبَةُ َ
س ْو ِط ِه، الر ُج َل َ اإل ْن َ
سَ ،ويُ َك ِل َم َّ عةُ َحتَّى يُ َك ِل َم ِ
السبَاعُ ْ ِ سا َ ِبيَ ِد ِهَ ،ال تَقُو ُم ال َّ
ث أ َ ْهلُهُ بَ ْعدَهُ» (.)53
َو ِش َراكُ نَ ْع ِل ِهَ ،ويُ ْخبِ َرهُ فَ ِخذُهُ بِ َما أَ ْحدَ َ
حساب الزمن
وقبل تفسير هذه الخصيصة نفسر العالقة بين الحدث والزمن أصالً ،فبصفة
عامة ،فإن الدنيا كانت نموذجا ً عاما ً للعالقة بين الحدث والزمن ,وهي الحالة
التي يذكر فيها قوة الحدث وزمنه دون غلبة ألحدهما على اآلخر ،فنقول في
الدنيا :حدث كذا يوم كذا ،واالستثناء منها نموذج للحال الثاني ،مثال قول
الظلُ َما ِ
ت إِلَى س ْلنَا ُمو َ
س َٰى ِبآ َيا ِتنَا أَ ْن أَ ْخ ِرجْ قَ ْو َم َك ِمنَ ُّ هللا عز وجلَ ( :ولَقَ ْد أَ ْر َ
ور) (إبراهيم،)5: ش ُك ٍ
َّار َ ت ِل ُك ِل َ
صب ٍ َّللاِ ۚ ِإ َّن ِفي َٰذَ ِل َك َآل َيا ٍ
ور َوذَ ِك ْر ُه ْم ِبأَي َِّام َّ
النُّ ِ
أي :بنعمه ونقمه ،أي أن األيام عرفت بالنعم والنقم.
ومثل أن تقول :يوم بدر ،وعام الفيل ،فيُعرف الزمن بالحدث ،أي إن الحدث
يغلب على الزمن ،وهي الحالة الثانية من العالمات حيث تقترب الدنيا من
النهاية فيبدأ حساب الزمن بالحدث بعد غلبة الحدث على الزمن ،مثل قول
صص َو َما يَ ْو ُم ْالخ ََال ِ
ص يَ ْو ُم ْالخ ََال ِ
ص َو َما يَ ْو ُم ْالخ ََال ِ
النبي ﷺ« :يَ ْو ُم ْالخ ََال ِ
( )51سنن ابن ماجة برقم (.)4012
( )52مسند أحمد بن حنبل برقم (.)7457
( )53مسند ابن حنبل برقم ( .)11581ومصنف ابن أبي شيبة برقم (.)36560
ص» قَا َل: ص ثَ َالثًا» ،فَ ِقي َل لَهَُ « :و َما َي ْو ُم ْالخ ََال ِ ص َو َما يَ ْو ُم ْالخ ََال ِ َي ْو ُم ْالخ ََال ِ
ص َحا ِب ِه أَتَ َر ْونَ َهذَا ظ ُر ْال َمدِينَةَ فَيَقُو ُل ِأل َ ْ ص َعدُ أ ُ ُحدًا فَيَ ْن ُ
«يَ ِجي ُء الدَّ َّجا ُل فَيَ ْ
ب ِم ْن َها َملَ ًكاض َهذَا َم ْس ِجدُ أَ ْح َمدَ ث ُ َّم يَأْتِي ْال َمدِينَةَ فَيَ ِجدُ بِ ُك ِل نَ ْق ٍ ْالقَ ْ
ص َر ْاأل َ ْبيَ َ
ت ث َر َجفَا ٍ ف ْال َمدِينَةُ ثَ َال َب ُر َواقَهُ ث ُ َّم ت َ ْر ُج ُ
ف فَ َيض ِْر ُ ص ِلتًا فَ َيأ ْ ِتي َ
س ْب َخةَ ْال َح ْر ِ ُم ْ
فَ َال َي ْبقَى ُمنَافِ ٌق َو َال ُمنَافِقَةٌ َو َال فَا ِس ٌق َو َال فَا ِسقَةٌ إِ َّال خ ََر َج إِلَ ْي ِه فَذَ ِل َك َي ْو ُم
ص»(.)54 ْالخ ََال ِ
مثلما يكون في عالمة الدجال حتى يذكر الرسول ﷺ زمنا ً غير ثابت لحدثه
فيقول« :ومدة بقائه في األرض أربعين يوماً ،يوم كجمعة ويوم كشهر ويوم
كسنة وباقي أيامه كأيامكم هذه» ( ،)55ومن هنا تنشأ داللة جديدة للفظ:
«اليوم» ليكون هو الوحدة الزمنية الجامعة ألحداث ذات صفة مشتركة.
وهذه القاعدة التي تحسب بها أيام الدجال ستكون مقدمة لحساب الزمن في
اآلخرة كلها ،حتى تأتي الساعة فال يذكر اليوم إال بأحداث لتكون الساعة
هي الحدث وهي الزمن في نفس الوقت ،حتى سميت الساعة بكل أحداثها
وأهوالها «يوم القيامة».
وقياسا ً على ذلك تكون أحداث الساعة بعد ذهاب الليل والنهار الدنيويين
فيكون اليوم الذي تنسب إليه أحداث الساعة وحدة زمنية معبرة عن الحدث
فقط مثل يوم القيامة ،يوم البعث ،يوم الحشر ،يوم الحساب وهكذا ،وبذلك
يكون لحساب الزمن ثالثة معايير :الليل والنهار ،وهو يوم الدنيا ،والحدث
األكبر من الزمان ،وهو أيام العالمات ،والحدث الذي هو ذاته حساب
الزمن ،وهو الساعة وأحداثها.
وباعتبار مجيء الساعة بغتة فقد حسبت كجزء من اليوم ألن الساعة لغة
هي الزمن السريع وهي جزء من الليل أصالً ،قال ابن منظور« :الساعة
) )54أخرجه أحمد في المسند ( »338/4وابن أبي شيبة في «مصنفه»« »19337/143/15عن أنس ،والحاكم في
المستدرك « »543/4كتاب الفتن ،وقال :صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
) )55أخرجه مسلم في كتاب الفتن باب ذكر الدجال «/289/9ح »2137وفي المسند « ،»166/2والحاكم في (المستدرك)
« »551/550/4وقال :صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قطعة من الليل ،ولكن يمكن إطالقها على الجزء من الليل أو النهار» (.)56
اإلنذار
وباعتبار أن عالمات الساعة إنذار بالساعة ،فإن حقيقة اإلنذار قد شملت
العالمات وطبيعتها .وعالمة انشقاق القمر هي الدليل األول على معنى
اإلنذار في العالمات ،فإذا افترضنا أن قيام الساعة ذاته مرهون بالشمس،
فيكون انشقاق القمر إنذارا ً لها ،بسبب عالقته بالشمس ،وباعتبار أن الشمس
نذيرا ،ألن النذير هو
ً هي بداية الساعة ،والقمر قبل الشمس أصبح القمر
الذي يسبق الحدث بحيث يكون قريبا ً منه.
وهذا المعنى ليس استنتاجا ً ولكنه حقيقة قرآنية جاءت فيها سورة كاملة وهي
عةُ َوا ْنش ََّق ْالقَ َم ُر)سا َ سورة القمر ابتدا ًء من قول هللا عز وجل( :ا ْقت َ َربَ ِ
ت ال َّ
عذَابِي ْف َكانَ َ (القمر )1:حتى آخر السورة مرورا ً بقول هللا في السورة( :فَ َكي َ
َونُذُ ِر) (القمر )16:عدة مرات.
اإلنهاء باإلعادة
وباعتبار خصيصة التعاظم تأتي خصيصة النهاية ألنها النتيجة للتعاظم،
ومعنى النهاية هو نفسه معنى إعادة الخلق إلى الخالق سبحانه.
وهذه اإلعادة هي أخطر خصائص العالمات ألن هذه اإلعادة ستكون بنفس
نظام البدء ،فكما أن هللا أنزل األمانة قبل الدين فإنه سبحانه يرفع األمانة قبل
رفع الدين؛ ولذلك قال رسول هللا ﷺ« :أول ما يرفع من الناس األمانة وآخر
ما يرفع الصالة» ( ،)57ثم يرفع العلم ،ثم ترفع األحكام ،ثم ترفع الصالة ،ثم
البغت« :الفجائية»
والبغت :صفة للساعة ،وهي حقيقة ضرورية لتحقيق التوازن بين ضرورتين
عةَ لعالمات الساعة :خفائها وظهور أشراطها ،وقد جمعت اآلية( :إِ َّن ال َّ
سا َ
آ ِتيَةٌ أ َ َكادُ أ ُ ْخ ِفي َها ِلت ُ ْجزَ َٰى ُك ُّل نَ ْف ٍس بِ َما تَ ْس َع َٰى) (طه )15:بين هاتين
الضرورتين ،فالساعة ال يعلم وقتها إال هللا ،وهذا هو الخفاء ،ولكن للساعة
عالمات تنذر بمجيئها ،وهو معنى المقاربة في ﴿:أ َ َكادُ أ ُ ْخ ِفي َها ﴾.
ويصور النبي ﷺ البَ ْغت في قيام الساعة فيقول« :لتقومن الساعة وقد نشر
الرجالن ثوبهما فال يتبايعانه ،وال يطويانه ،ولتقومن الساعة وقد انصرف
الرجل بلبن لقحته فال يطعمه» (.)60
) )58أخرجه البخاري في (فضائل المدينة) ،باب اإليمان يأرز إلى المدينة «»1876/111/4
) )59مسند أحمد5/189
) )60أخرجه البخاري في (الفتن) /باب :بدون ترجمة ،الفتح «.»7121/88 / 13
الباب الثاني :التصور املنهجي
للعالمات
واستمرار األمة بالمهدي إلى آخر الزمان قدر مكتوب البد أن يكون بإذن
هللا مهما بلغت المدة التي سيمتد بها ،حتى ولو كانت يوما ً واحداً ،بدليل قول
رسول هللا ﷺ« :لو لم يبق من الدنيا إال ليلة لتملك فيها رجل من أهل بيتي»
(.)62
وذكر ظهور المهدي بهذه الصورة هو الذي يؤكد حتمية هذا االمتداد وأنه
هو الحكمة األصلية من هذا الظهور ،ولعل البقاء على إمامة األمة في
الصالة حتى آخر الزمان دليل على هذا االمتداد ،وقول النبي ﷺ ..« :فينزل
( )61تاريخ دمشق البن عساكر برقم (.)20731
( )62عزاه صاحب عقد الدرر إلى الحافظ أبي نعيم في (صفة المهدي) من حديث أبو هريرة.
عيسى ابن مريم عليه السالم فيقول أميرهم :تعال صل لنا ،فيقول :إن
بعضكم على بعض أمراء تكرمة هللا هذه األمة» ( )63هو نص صريح في
هذا المعنى.
ولكن االمتداد باألمة حتى آخر الزمان ليس مهمة سهلة ،بل تتطلب أن يجتمع
في المهدي كل اإلمكانيات الالزمة لهذا االمتداد ،وأول هذه اإلمكانيات:
الخالفة ،فالمهدي خالفة مباركة سيعينه هللا عليها ،ألنه لم يكن يستشرفها
لنفسه بل كان كارها ً لها ،وهذا هو سبب البركة والصالح ،ولذلك وألجل
البركة في الخالفة ،كان المهدي هو الخليفة الذي يحثو المال حثوا ً ،وفي هذا
دليل على بركة عدم االستشراف للدنيا والسلطان والمال.
وأهم دالئل الهداية القدرية للمهدي المتعلقة بالخالفة هي مكان الخالفة نفسه،
ألن هللا عز وجل ذكر هذا المقام كمقام هداية وآيات بينات للعالمين ،فقال
ار ًكا َو ُهدًى ِل ْل َعالَ ِمينَ فِي ِه
اس لَلَّذِي ِببَ َّكةَ ُمبَ َ ض َع ِللنَّ ِت ُو ِ عز وجل( :إِ َّن أَ َّو َل بَ ْي ٍ
ت َم ِناس ِح ُّج ْالبَ ْي ِعلَى النَّ ِيم ۖ َو َم ْن دَ َخلَهُ َكانَ ِآمنًا ۗ َو ِ َّّلِلِ ََات َمقَا ُم إِب َْرا ِه َ
ات بَيِن ٌ آيَ ٌ
ع ِن ْال َعالَ ِمينَ ) (آل عمران-96: ي َ غ ِن ٌّ يال ۚ َو َم ْن َكفَ َر فَإِ َّن َّ
َّللاَ َ سبِ ً ع ِإلَ ْي ِه َ ا ْستَ َ
طا َ
.)97
وجدير بالتدبر ذلك المكان الذي انطلق سيبايع فيه المهدي ،فهو بين الركن
والمقام ،وفي ذلك ربط بين سيدنا إبراهيم كأول إمام لألمة المسلمة ،وبين
المهدي كآخر إمام لها ،ووسيطة اإلمامة المحمدية بينهما ،فهو ارتباط بين
والية المهدي على المسلمين وبين العهد الذي كان من هللا لهم في قول هللا
ت َوإِ ْس َما ِعي ُل َربَّنَا تَقَب َّْل ِمنَّا ۖ عز وجلَ ( :وإِ ْذ يَ ْرفَ ُع إِب َْرا ِهي ُم ْالقَ َوا ِعدَ ِمنَ ْالبَ ْي ِ
اجعَ ْلنَا ُم ْس ِل َمي ِْن لَ َك َو ِم ْن ذُ ِريَّ ِتنَا أ ُ َّمةً ُم ْس ِل َمةً لَ َك
س ِمي ُع ْالعَ ِلي ُم َربَّنَا َو ْ ِإنَّ َك أَ ْن َ
ت ال َّ
والس ً ث فِي ِه ْم َر ُ الر ِحي ُم َربَّنَا َوا ْب َع ْ اب َّ ت الت َّ َّو ُ علَ ْينَا ۖ ِإنَّ َك أَ ْن َ
َوأَ ِرنَا َمنَا ِس َكنَا َوتُبْ َ
يزت ْال َع ِز ُ اب َو ْال ِح ْك َمةَ َويُزَ ِكي ِه ْم ۚ إِنَّ َك أَ ْن َ علَ ْي ِه ْم آيَاتِ َك َويُ َع ِل ُم ُه ُم ْال ِكتَ َ ِم ْن ُه ْم يَتْلُو َ
ْال َح ِكي ُم) (البقرة.)129-127:
( )63صحيح ،أخرجه مسلم في (اإليمان) /باب :نزول عيسى ابن مريم حاكما (/468/1ح ،»156والبخاري في (أحاديث
األنبياء) /باب :نزول عيسى ابن مريم عليهما السالم «.»3449/566/6
ويجمع بين الثالثة عالمة صورية وهي الشبه بينهم ،فأما الشبه بين النبي
ﷺ وسيدنا إبراهيم فهو قول النبي ﷺ ليلة اإلسراء والمعراج في وصف
األنبياء ،فجاء ذكر سيدنا إبراهيم فقال« :فإذا أقرب من رأيت به شبها
صاحبكم (يعني نفسه)» ( ،)64وأما بالنسبة للشبه بين سيدنا محمد والمهدي،
فهو قول الرسول ﷺ في المهدي« :إنه أجلى الجبهة وأقنى األنف» (.)65
وفاعلية «حفظ األمة» التي للمهدي إنما تعود في أصلها إلى ما بينه وبين
النبي ﷺ من معنى مشترك ،وقد أخبر النبي ﷺ عن نفسه وأنه سبب لحفظ
األمة ،فقال« :أنا أمنة ألصحابي ،وأصحابي آمنة لمن بعدهم»( ،)66هذا من
حيث الحفظ ،إما من حيث التمكين في األرض فهو مرتبط كذلك ﷺ بهذا
ان فَيَ ْغ ُزو اس زَ َم ٌ المقام ،وهذا يستدل عليه من قول النبي ﷺَ « :يأْتِي َ
علَى النَّ ِ
َّللاِ فَيَقُولُونَ نَ َع ْم فَيُ ْفتَ ُح لَ ُه ْم
سو َل َّ ب َر ُ صا َح َ اس فَيَقُولُونَ فِي ُك ْم َم ْن َ فِئَا ٌم ِم ْن النَّ ِ
ب صا َح َ اس فَيُقَا ُل ه َْل فِي ُك ْم َم ْن َ ان فَيَ ْغ ُزو فِئَا ٌم ِم ْن النَّ ِ اس زَ َم ٌ علَى النَّ ِ ث ُ َّم يَأْتِي َ
اناس زَ َم ٌ علَى النَّ ِ َّللاِ ﷺ فَ َيقُولُونَ نَ َع ْم فَيُ ْفتَ ُح لَ ُه ْم ث ُ َّم َيأ ْ ِتي َ سو ِل َّ اب َر ُ ص َح َ أَ ْ
سو ِل اب َر ُ ص َح َ ب أَ ْ ب َم ْن َ
صا َح َ صا َح َ اس فَيُقَا ُل ه َْل فِي ُك ْم َم ْن َ فَ َي ْغ ُزو فِئَا ٌم ِم ْن النَّ ِ
َّللاِ ﷺ فَيَقُولُونَ نَ َع ْم فَيُ ْفتَ ُح لَ ُه ْم»(.)67 َّ
وبذلك يتأكد أن صلة المهدي برسول هللا ﷺ تمثل فاعلية قدرية عظيمة في
حفظ األمة والتمكين لها في األرض.
والتشارك في االسم بين النبي ﷺ وبين المهدي هو من هذه الصلة ،إذ أن
كما كان رسول هللا ﷺ يفسر الرؤى بحسب ما ورد فيها من أسماء ،فعن أنس
ابن مالك أن النبي ﷺ قال« :رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع ،وأتينا
برطب من رطب ابن طاب ،فأولت :أن الرفعة لنا في الدنيا ،والعاقبة في
اآلخرة ،وأن ديننا قد طاب» ،فإذا كان المهدي هو محمد بن عبد هللا ،فان حظه
من ال ُهدى يكفي بإذن هللا ألن يكون هاديا ً مهديا ً.
أضف إلى ذلك روعة استخدام النبي ﷺ للفظة «يواطئ» في عبارة «يواطئ
اسمه اسمي» ،فإن لفظ «يواطئ» يعني «الموافقة» كما يعني «التأكيد»،
وكأن المهدي بظهوره هو تأكيد لظهور النبي ﷺ بتكميل وجوده.
ويدل على أن الحكمة من ظهور المهدي مرتبطة بحفظ األمة ومد زمانها،
أنه يظهر في أحوال موجبة كلها للهالك ،فعن ثوبان قال :قال رسول هللا ﷺ:
«يقتتل عند كنزكم ثالثة كلهم ابن خليفة ثم ال يصير إلى واحد منهم ،ثم تطلع
الرايات السود من قبل المشرق فيقاتلونكم قتاالً لم يقاتله قوم ،ثم ذكر شيئا ً ال
أحفظه ،قال :فإذا رأيتموه فتابعوه ولو َحبْوا ً على الثلج فإنه خليفة هللا
المهدي»( ،)69ويدل على ذلك أيضا ما أخبر به النبي ﷺ من أنه« :أبشركم
بالمهدي يبعث فيأتي على اختالف من الناس وزالزل فيمأل األرض قسطا
وعدال كما ملئت جورا وظلما يرضى عنه ساكن السماء وساكن األرض»،
وفي حديث أم سلمة« :يكون اختالف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل
المدينة هاربا ً إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه
بين الركن والمقام»( ،)70وفيه أن األمة كانت مستحقة للهالك قبله ،وفيه
أيضا أنه قد عقد له خصلة مانعة لألمة من الفتن والهالك ،وهي أنه محفوف
وإننا نالحظ وضوح اآلثار القدرية بصور متفاوتة ،في عالمة المهدي ،ابتدا ًء
من كونه حقا ً وفاعلية الحق معروفة قدراً ،مرورا ً من خير القرشية ،وفاعليتها
القدرية في تبعية الناس لها ،ومرورا ً بنسل إسماعيل «أشد األمة على
الدجال» ،واالسم «والنصيب من االسم» وقلة الطائفة المبايعة «وفاعلية القلة
المؤيَّدة من هللا» ،ثم خسف الجيش المعادي له بالبيداء ،لتكون اآلثار القدرية
أكثر وضوحا ً وأتم حدوثا ً بفتح القسطنطينية بالتكبير.
ومن األسباب القدرية التي هيئها هللا عز وجل للمهدي لتحقيق الغلبة له على
أعدائه من الروم هو ما سيكون من والء بين المسلمين في عهده ،والذي
تبين من رفض المسلمين لطلب النصارى أن يسلموهم من أسلم ممن كانوا
سولَهُ َوالَّذِينَ آ َمنُواْ فَإ ِ َّن ِح ْز َ
ب َّللاِ ُه ُم على غير اإلسالمَ ﴿،و َمن َيتَ َو َّل َّللاَ َو َر ُ
ْالغَا ِلبُونَ ﴾(المائدة.)56:
للوقوف على ما يدل على هذه الواقعة يجب اإلشارة إلى نصين ،األول :هو
ما ورد في صحيح مسلم «سمعتم بمدينة جانب منها في البر ،وجانب في
( )71تاريخ دمشق البن عساكر رقم 543
البحر؟ ال تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق ،فإذا جاؤوها
نزلوا فلم يقاتلوا بسالح ،ولم يرموا بسهم ،قالوا :ال إله إال هللا وهللا أكبر،
فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر ،ثم يقول الثانية :ال إله إال هللا وهللا أكبر،
فيسقط جانبها اآلخر ،ثم يقول الثالثة :ال إله إال هللا وهللا أكبر ،فيفرج لهم،
فيدخلونها ،فيغنمون ،فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ ،فقال:
إن الدجال قد خرج ،فيتركون كل شيء ويرجعون» ،أما الحديث اآلخر
فواضح في داللته على طلب الروم من المسلمين التخلية بينهم وبين من
غزوهم ،وهو حديث« :ال تقوم الساعة حتى ينزل الروم باألعماق ،أو بدابق
فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل األرض يومئذ فإذا تصافوا
قالت الروم :خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم ،فيقول المسلمون :ال
وهللا ال نخلي بينكم وبين إخواننا ،فيقاتلونهم ،فينهزم ثلث ال يتوب هللا عليهم
أبدا ،ويقتل ثلثهم ،أفضل الشهداء عند هللا ،ويفتتح الثلث ،ال يفتنون أبدا،
فيفتتحون قسطنطينية ،فبينما هم يقتسمون الغنائم ،قد علقوا سيوفهم
بالزيتون ،إذ صاح فيهم الشيطان :إن المسيح قد خلفكم في أهليكم،
فيخرجون ،وذلك باطل ،فإذا جاءوا الشام خرج ،فبينما هم يعدون للقتال،
يسوون الصفوف ،إذ أقيمت الصالة ،فينزل عيسى ابن مريم ﷺ ،فأمهم ،فإذا
رآه عدو هللا ،ذاب كما يذوب الملح في الماء ،فلو تركه النذاب حتى يهلك،
ولكن يقتله هللا بيده ،فيريهم دمه في حربته»(.)72
ومما يجب االنتباه إليه أيضا أن الخالفة القادمة قبل المهدي بإذن هللا لن
تكون ظاهرة عابرة ،بل إن األدلة تثبت استقرارها في الواقع بصورة مكررة
تحقق استقرار صفة الدوام والبقاء ،فمن ذلك ما تقدم من أحاديث تبين أن
ظهور المهدي عند موت خليفة وال يتصور خليفة بغير خالفة.
وهذه المعلومة الثابتة في الخالفة تعطي للمسلم شعورا ً بسهولة األمر عند هللا
ش ْيئًا أَ ْن يَقُو َل لَهُ
وأن األمر اإللهي ليس فيه سهل وصعبِ ( :إنَّ َما أَ ْم ُرهُ ِإذَا أَ َرادَ َ
ون) (يس ،)82:وبهذا اإلحساس يعلو المسلم فوق مشكالت الواقع ُك ْن فَيَ ُك ُ
وعقباته.
( )74أخرجه الحاكم في (مستدركه) « ،»421/4وأبو داود في (المالحم) /باب :ما يذكر من مالحم الروم (»4292/107/4
وتقدم.
( )75أخرجه نعيم بن حماد في (الفتن) وعزاه (صاحب حاشية كتاب عقد الدر) إلى مخطوطة رقم « »117 ،116له.
وما تعنيه مهمة المهدي من االمتداد باألمة إلى آخر الزمان ،إنما هو –
تحديدا ً– بلوغ األمة مرحلة قتال الدجال ،ومن هنا يجب أن نفهم في تحديد
مهمة المهدي أن قتل الدجال كان مهمة أساسية للمهدي وأن المهدي قد بدأ
بالفعل في اإلعداد لقتله.
ولكن نزول عيسى ابن مريم جاء مساعدة للمهدي على الدجال ،هذا المعنى
يجب أن يستقر حتى وإن كان عيسى هو قاتل الدجال ،ودليل ذلك أن جميع
العالمات المرتبطة بقتل الدجال قائمة بالمهدي كما قال ﷺ« :عمران بيت
المقدس خراب يثرب» ( ،)76وخراب يثرب إنما يكون بخروج المهدي
بجيشه إلى بيت المقدس لقتال الدجال ،كما أن خروج الملحمة وانتصار
المسلمين فيها سيكون بقيادة المهدي.
والبداية الفعلية التي يعرف بها أمر المهدي ،ليست حديثا ً ولكنها عالمة ال
تجتمع في أحد إال في المهدي ،وهي :الخسف بالجيش الذي يريد قتل
المهدي ،وبعدها يعرف المهدي معرفة عامة ،كما قال ﷺ« :فيخرج رجل
من أهل المدينة هاربا إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره
فيبايعونه بين الركن والمقام ويبعث إليه جيش من الشام فيخسف به بالبيداء
بين مكة والمدينة فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق
( )76أخرجه أبو داود في (المالحم) /باب :إمارات المالحم « / 1107 / 4ح ،»4294والحاكم في مستدركه (.)420 / 4
( )77أخرجه مسلم في (الفتن) /باب :فتح القسطنطينية وخروج الدجال «/248/9ح .»2897
فيبايعونه»( ،)78فهذه هي أولى العالمات التي يعرف بها المهدي لجميع
الناس ،وفتح القسطنطينية ببني إسحاق الذين سينحازون إلي المهدي وهم
سبعون ألفا ً وهم الذين سيطلب النصارى من المهدي أن يسلمهم لهم فيأبى.
ثانيا :الدجال
وقبل الدجال يكون الزمان الذي يسبقه ،وتطبيقا لقاعدة التجانس ،وقاعدة
العالمات الخارجية للعالمة ذاتها وقاعدة االرتباط بين العالمات ،فان هللا
عز وجل جعل الزمن الذي سيسبق الدجال تهيئة كاملة له ،فأصبح للزمن
السابق للدجال صفتان ،األولي :سنوات جوع ،وذلك ألن فتنة الدجال فتنة
طعام ،الثانية :سنوات خداع ،ذلك ألن فتنة الدجال خداع.
ففي الصفة األولي ،وفيها ورد عن عائشة رضي هللا عنها أن رسول هللا ﷺ
ذكر جهدا ً يكون بين يدي الدجال ،فقالوا« :أي المال خير يومئذ؟» قال:
«غالم شديد يسقي أهله الماء وأما الطعام فليس» ،قالوا« :فما طعام
المؤمنين يومئذ؟» قال« :التسبيح والتكبير والتهليل»( ،)79وعندما قال
الرسول ﷺ «أما الطعام فليس» يعنى ال يوجد طعام نهائياً ،ولكنه يفسر ذلك
بقوله في حديث آخر في فترة ما قبل الدجال« :إن ما قبل الدجال ثالث
سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد ،يأمر هللا السماء في السنة األولى
أن تحبس ثلث مطرها ،ويأمر األرض أن تحبس ثلث نباتها ،ثم يأمر السماء
في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها ،ويأمر األرض فتحبس ثلثي نباتها ،ثم
يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فال تقطر قطره ،ويأمر
األرض فتحبس نباتها كله فال تنبت خضراء فال تبقي ذات ظلف إال هلكت
إال ما شاء هللا ،قيل فما عيش الناس في ذلك الزمان قال :التهليل والتكبير
أما الصفة الثانية ،أي السنون الخداعة التي أتى بها خبر النبي ﷺ« :إن بين
يدي الدجال سنون خداعات ،يصدق فيها الكاذب ،ويكذب فيها الصادق،
ضة ،قالوا :ما
الر َو ْي ِب َ
ويؤتمن فيها الخائن ،ويخون فيها األمين ،ويتكلم فيها ُّ
الرويبضة يا رسول هللا؟ قال :الرجل التافه يتحدث في أمر العامة» (،)81
فهي تلك الفترة التي تتمها فتنة الدجال والقائمة على الخداع أيضا ،وعناصر
الخداع في فتنة الدجال واضحة ،وهي أن« :معه جنة ونار ،فناره جنة وجنته
نار» (.)82
ومن عناصر الخداع في فتنة الدجال أيضا ما ورد من تشبه الشياطين للناس
بآبائهم يؤكدون لهم ربوبية الدجال ،وهو ما ورد في حديث النبي ﷺ:
«وتبعث معه الشياطين على صورة من مات من اآلباء واإلخوان والمعارف
فيأتي أحدهم إلى أبيه وأخيه وذي رحمه فيقول ألست فالنا ألست تعرفني
هو ربك فاتبعه» (.)83
وكما كانت العالمة من طبيعة الساعة ،كان لكل عالمة عالمات لها هي
أيضا من طبيعتها ،يعني ما قبل العالمة ،والعالمة ذاتها والساعة طبيعة
واحدة ،ولذلك يجمع رسول هللا ﷺ بين عالمات الدجال والدجال من خالل
عدة أمور:
( )80أخرجه أحمد في (مسنده) « ،»454 ،452/6وابن ماجة في (الفتن) /باب :فتنة الدجال ،ونزول عيسى وخروج
يأجوج ومأجوج « / 1359/2ح ،»4077عزاه صاحب عقد الدرر لمسلم.
( )81أخرجه الحاكم في (المستدرك) «.»466 / 4
( )82أخرجه مسلم في (الفتن) /باب :ذكر الدجال بصفته وما معه «/287/9ح ،»2934وتفسير ذلك أن الذي معه جنة
ونار بطبيعة سحرية ،فإذا دخل أحد جنته السحرية يكون قد دخل نار هللا الحقيقية ،ألنه سيكون مفتونا ،وإذا دخل ناره
السحرية يكون قد دخل جنة هللا الحقيقة ،ألنه سيكون ناجيا.
( )83تقدم.
أن ال تثمر» (.)84
أما عالقة هذه العالمة بظهور الدجال فهي أن النخل مطلقا هو ثمر التمر،
علم من حديث والتمر مختص بفاعلية قدرية مقابلة للسم السحر ،وذلك كما ُ
النبي ﷺ« :من تصبح سبع تمرات عجوة ،لم يضره ذلك اليوم سم وال سحر»
( ،)85وأظهر أفعال السحر هي ما تكون من الدجال ،كما أن الدجال مقترن
بالسم باقترانه بالموت ،واقترانه بالموت معلوم من خبر النبي ﷺ« :ال يدخل
المدينة الدجال والطاعون» (.)86
ثم إن التمر ،إضافة لما ذكرنا من كونه حرزا قدريا من طبائع هي من جنس
طبائع الدجال ،فهو حرز قدري كذلك من أداة الدجال في الفتنة ،أي الجوع،
وذلك معلوم من خبر النبي ﷺ« :يا عائشة ،بيت ال تمر فيه جياع أهله ،يا
عائشة ،بيت ال تمر فيه جياع أهله ،قالها مرتين ،أو ثالثا» (.)87
ويمكن رصد عالقة التضاد بين الدجال وبين النخل من طريق آخر ،فنخل
بيسان كما أنه حرز من الدجال ،وثمر النخل مطلقا كما أنه حرز من أفعال
الدجال (السم والسحر) ،فجريد النخل أيضا يخفف من فتنة القبر ،وهي قرينة
فتنة الدجال في دعاء النبي ﷺ« :اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ،ومن
عذاب النار ،ومن فتنة المحيا والممات ،ومن فتنة المسيح الدجال»( ،)88أما
وضعية جريد النخل كسبب لتخفيف عذاب القبر فثابت من حديث النبي ﷺ
حين أتى على قبرين يعذب صاحباهما« :ما يعذبان في كبير ثم قال :بلى،
أما أحدهما فكان يغتاب الناس ،وأما اآلخر فكان ال يتأدى من بوله ثم أخذ
جريدة رطبة أو جريدتين فكسرهما ،ثم غرس كل كسرة على قبر ،فقال :إنه
يخفف عنهما ما دامتا رطبتين».
وبذلك يصبح الناس نتيجة ألعمال الدجال بين الفقر المنسي والغنى المطغي،
ولذلك يجمع لنا نبينا الكريم ﷺ جميع هذه األعمال في حديث واحد فيقول:
منس أو غنى مطغٍ أو «بادروا باألعمال سبعا ،هل تنتظرون إال إلى فقر ٍ
مرض مفسد ،أو هرم مفند ،أو موت مجهز ،أو الدجال فشر غائب ينتظر،
أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» ( ،)90وقد ذكر هذا الحديث في تفسير قول
عةُ أَ ْده ََٰى َوأَ َم ُّر) عةُ َم ْو ِعدُ ُه ْم َوال َّ
سا َ سا َ
هللا عز وجل في سورة القمرَ ( :ب ِل ال َّ
(القمر )46:على لسان النبي ﷺ ليتحقق االرتباط بين الساعة وعالماتها.
الخروج من غضبة
لقد ذكرنا أن انقطاع ثمر نخل بيسان وجفاف بحيرة طبرية هما عالمتان لعالمة
الدجال مرتبطتان به في المعنى ،وذلك في سياق التأكيد على ارتباط عالمة
الساعة بعالمتها هي عموما ،نضيف هنا داللة واقعة خروج الدجال من غضبة
يغضبها ،والمقصود بالخروج هنا هو ابتداء أمره الذي خلق له ،وهي تلك الواقعة
التي أخبرت بها السيدة عائشة في حديث لها مع ابن عمر تحثه على عدم إغضاب
ابن صياد ،وكان قد شاع أن ابن صياد هو الدجال كما هو معروف ،وذلك فيما
يرويه نافع عن ابن عمر« :قال (ابن عمر) :فلقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه،
فقلت :متى فعلت عينك ما أرى؟ قال (ابن صياد) :ال أدري ،قال :قلت (ابن عمر):
ال تدري وهي في رأسك؟ قال (ابن صياد) :إن شاء هللا خلقها في عصاك هذه ،قال
(ابن عمر) :فنخر كأشد نخير حمار سمعت ،فزعم بعض أصحابي أني ضربته
( )89تقدم.
( )90الترمذي ،رقم.)2306( :
بعصا كانت معي حتى تكسرت ،وأما أنا ،فوهللا! ما شعرت ،قال (نافع) :وجاء –
أي ابن عمر -حتى دخل على أم المؤمنين ،فحدثها فقالت« :ما تريد إليه؟ ألم تعلم
أنه قد قال ،أي الرسول ﷺ« ،إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه» (.)91
والمعنى المشترك بين الدجال وبين الغضب الذي هو عالمته وبداية
ظهوره ،هو (عدم النفع) ،فالدجال يخبر عنه النبي ﷺ بأن أبويه يمكثان
ثالثين عاما ال يولد لهما ،ثم «يولد لهما غالم أعور أضر شيء وأقله
منفعة».
أما الغضب فقد ففي الحديث أن رجال قال للنبي ﷺ« :أوصني» قال« :ال
تغضب» قال« :ففكرت حين قال رسول هللا ﷺ ما قال ،فإذا الغضب يجمع
الشر كله» ،والغضب للنفس هو نذير لذهاب المالئمة وقعود الشيطان ،وفي
ذلك حديث ابن المسيب« :بينما رسول هللا ﷺ جالس ومعه أصحاب وقع
رجل بأبي بكر رضي هللا عنه فآذاه فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثانية
فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثالثة فانتصر أبو بكر فقام رسول هللا ﷺ فقال
أبو بكر رضي هللا عنه أوجدت علي يا رسول هللا فقال رسول هللا ﷺ نزل
ملك من السماء يكذبه بما قال لك فلما انتصرت ذهب الملك وقعد الشيطان
فلم أكن ألجلس إذن مع الشيطان».
الخروج في كذب
وكما يخرج الدجال من خالل الغضب وهو جماع الشر فإنه يخرج من
الكذب وهذا هو األمر العجيب ،إذ يقول النبي ﷺ بعد ذكر الملحمة« :ويفتتح
الثلث ال يفتنون أبدا ً فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا
سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيه الشيطان أن المسيح قد خلفكم في أهليكم
فيخرجون وذاك باطل ،فإذا جاءوا الشام خرج» (.)92
الدجال والملح
وبصفة أساسية فإن للدجال عالمتين تدالن علي نفي النفع والخير فيه ،وهما
دليل واحد على التجانس بين العالمة وعالمة العالمة ،جاء الخبر بأن الدجال
فيما سيأتي من حال يكون فيه ُحرا إال من دخول المدينة ،أنه سيترصد بها
من خارجها واقفا على «أرض سبخة» ،وذلك كما هو معلوم من حديث
النبي ﷺ« :يأتي الدجال ،وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة ،فينزل
بعض السباخ التي تلي المدينة ،فيخرج إليه يومئذ رجل ،وهو خير
الناس»( ،)94و«السبخة» ،كما ورد في لسان العرب البن منظور هي:
الم ْل َح وت َ ُ
سو ُخ فيه «األَرض المالحة» ،وال َّ
س َبخ« :المكان َي ْسبَ ُخ فَيُ ْن ِبتُ ِ
األَقدام»(.)95
ثم يأتي الدليل المباشر على التجانس بين طبيعة الدجال والملح :وهو حديث
قتل الدجال عن أبي هريرة أن رسول هللا ﷺ قال« :ال تقوم الساعة حتى
ينزل الروم باألعماق أو بدابق فيخرج إليه جيش من أهل المدينة يومئذ فإذا
تصافوا قالت الروم :خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم فيقول المسلمون:
ال وهللا ال نخلى بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث ال يتوب هللا عليهم
أبداً ،ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند هللا ،ويفتتح الثلث ال يفتنون أبدا ً فيفتتحون
قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح
الشيطان أن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل فإذا جاءوا الشام
خرج فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذا أقيمت الصالة نزل عيسى
( )93أخرجه ابن ماجة في (الفتن) /باب :المالحم «/1370/2ح »4094
( )94صحيح البخاري ،رقم.)7132( :
( )95لسان العرب البن منظور.
ابن مريم ﷺ فأم َّهم فإذا رآه عدو هللا ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه
النذاب حتى يهلك ولكن يقتله بيده فيريهم دمه في حربته»(.)96
وأصل التجانس بين الدجال والملح هو أن الشر مفتقر للوجود أصال ،ومن
هنا كان الذوبان مثاالً للشر ،وعقوبة عليه ،وذلك باعتبار أن الجزاء من
جنس العمل ولذلك كان الذوبان والشر المطلق جنسا ً واحدا ً وهو العدم (،)97
وقد عبر القران عن هذا المآل في مثل المشرك فقالُ ( :حنَفَا َء ِ َّّلِلِ َ
غي َْر
طفُهُ َّ
الطي ُْر أَ ْو تَ ْه ِوي اء فَتَ ْخ َ اّلِلِ فَ َكأَنَّ َما خ ََّر ِمنَ ال َّ
س َم ِ ُم ْش ِر ِكينَ ِب ِه ۚ َو َم ْن يُ ْش ِر ْك ِب َّ
ق) (الحج.)31: س ِحي ٍ ان َالري ُح فِي َم َك ٍ ِب ِه ِ
يقول سيد قطب« :وهي صورة صادقة لحال من يشرك باهلل فيهوي من أفق
اإليمان السامق إلى حيث الفناء واالنطواء ،إذ يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن
إليها ،قاعدة التوحيد ويفقد المستقر اآلمن الذي يثوب إليه فتخطفه األهواء
تخطف الجوارح وتتقاذفه األوهام تقاذف الرياح وهو ال يمسك بالعروة
الوثقى ،وال يستقر على القاعدة الثابتة التي تربطه بهذا الوجود الذي يعيش
فيه» (.)98
وهناك مالحظة خطيرة خاصة بذوبان الدجال كالملح وهي أن الذوبان
عقوبة من أراد بالمدينة سوءا أو كيداً ،كما قال رسول هللا ﷺ «ال يكيد أهل
المدينة أحد إال انماع ،كما ينماع الملح في الماء» ( ،)99وقال« :ال يريد أحد
أهل المدينة بسوء إال أذابه هللا في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في
الماء» (.)100
وتتوالى شواهد دالله الدخان علي طبيعة الدجال حتى آخر أيامه حيث
سيحاصر المؤمنين في «جبل الدخان» ،فعن جابر بن عبد هللا أن النبي ﷺ
قال« :يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم وله أربعون ليلة
يسيحها في األرض اليوم منها كالسنة واليوم منها كالشهر واليوم منها
كالجمعة ثم سائر أيامه كأيامكم هذه وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه
أربعون ذراعا فيقول للناس أنا ربكم وهو أعور وإن ربكم عز وجل ليس
بأعور مكتوب بين عينيه كافر مهجاة يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب يرد
كل ماء ومنهل إال المدينة ومكة حرمهما هللا عز وجل عليه وقامت المالئكة
بأبوابها معه جبال من خبز والناس في جهد إال من اتبعه ومعه نهران أنا أعلم
أما تفسير داللة الدخان على طبيعة الدجال فهو األمر الذي يعود بنا إلى
معنى كلمة «دخان» وخصوصا ً إذا علمنا أن الداللة مرتبطة باالسم ،حيث
أن البداية كانت مجرد كلمة مخبئة من رسول هللا ﷺ له ،وفي النهاية كانت
مجرد اسم للجبل« :جبل الدخان».
ولكننا نفاجأ بتفسير كلمة« :دخان» لنجدها عالمة الدجال من بـدايته إلى
نهايته ،فقد جاء في لسان العرب« :فالدخن :الرجيع من الطعام الذي يتجنبه
الناس ،والدخان :الجدب ،والدخان :الجوع ليبس األرض من الجدب
وارتفاع الغبار فشبه غبرتها بالدخان حتى قيل لسنة المجاعة« :سنة
غبراء» ،والدخان :الشر ،وضعت العرب الدخان موضع الشر إذا عال
يقولون :كان بيننا أمر ارتفع له دخان ،والدخن :رجل دخن متغير الدين
والعقل والحسب ،ودخن الخلق :ساء وفسد وخبث ،والدخن :الغم ،وليلة
دخنانه :أي شديدة الغم ،والدخن :الفتنة ستكون فتنة دخنها من تحت قدم
رجل ،والدخن :هدنة على دخن شبهها بدخان الحطب لما بينهم من الفساد
الباطن تحت الصالح الظاهر»(.)104
( )103أخرجه أحمد في (مسنده) « ،»367/3وذكره الهيثمي في (المجمع) « ،»344/7وقال رواه أحمد بإسنادين رجال
أحدهما رجال الصحيح.
( )104لسان العرب :مادة دخن
ومن تحميل كلمة الدخان ومشتقاتها يتبين التوافق بين الكلمة والدجال ،فمن
حيث فتنة الدجال هي فتنة الجوع ،كان الدخان :الرجيع من الطعام الذي
يتجنبه الناس ،وكان الدخان :الجدب ،وكان الدخان :هو الجوع ،ومن حيث
أن فتنة الدجال هي فتنة الشر ،كان الدخان هو الشر الذي يعلو ،وكان الدخان
السواد ،وكان الدخان هو الغيم ،وكان الدخان من حيث الخلق هو السوء
والفساد والخبث ،ومن حيث أن الدجال فتنة عن الدين ،كان الدخان هو
الفتنة ،وكان الدخن هو تغير الدين والعقل والحسب ،ومن حيث أن الدجال
عالمة خداعية :كان الدخن هو الخداع ،لما في حديث هدنة على دخن(،)105
وصفت بذلك لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصالح الظاهر يعني الخداع.
وقد اجتمعت عناصر تفسير الدخان في عالقاته بالدجال بصورة واقعية في
عدة عالقات قامت بين الدجال والشياطين والذهب والنساء واليهود.
وتبعية الشياطين للدجال لها قاعدة ،وهي ارتباط المكانة بدرجة اإلفساد(،)106
وبتلك القاعدة يصبح للدجال على الشياطين الرئاسة والسيطرة ،ذلك أن والء
الشياطين للشر ولمن يحقق أكبر قدر منه ،أما تبعية النساء فهي من تبعية
الشياطين ،وذلك باعتبار طبيعة العالقة بين النساء والشياطين( ،)107وفي
ذلك يقول النبي ﷺ« :منزل الدجال في هذه السبخة فيكون أكثر من يخرج
إليه النساء ،حتى أن الرجل ليرجع إلى زوجته وإلى أمه وإلى ابنته وأخته
وعمته فيوثقها رباطا ً مخافة ألن تخرج إليه»( ،)108يضاف إلى طبيعة
العالقة بين النساء والشياطين ،عالقة النساء بالذهب ،ألن حب النساء
للذهب.
وفي النهاية ،فإن أهم ما يفسر تبعية النساء للدجال هو اقتران طبيعتهم
بالفتنة ،ولهذا قال رسول هللا ﷺ« :سبحان هللا ،ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟
( )105عند أحمد « ،»403/5وأبو داود « ،»59/2والبغوي « ،»9/15من حديث حذيفة وأصلة في الصحيحين ولفظ أبي
داود قلت :يا رسول هللا ما الهدنة على دخن؟ قال« :ال ترجع قلوب أقوام إلى ما كانت عليه» ،وعند البخاري ومسلم وهل
بعد هذا الشر من خير؟ قال« :نعم وفيه دخن» قال :وما دخنه؟ قال« :قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر» ،الحديث.
( )106انظر كتاب( :عندما ترعى الذئاب الغنم) للكاتب.
( )107لمصدر السابق.
( )108خرجه أحمد في (مسنده) « ،»67/2وذكره الهيثمي في (المجمع) «.»346/7
ب
وماذا انزل هللا من الفتن؟ من يوقظ صواحبات الحجر لكي يصلين ُر َّ
كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» (.)109
واليهود هم الذين ارتبطوا بفتنة النساء ارتباطا قائما بقيام الدنيا ،كما في
الحديث« :اتقوا الدنيا ،واتقوا النساء ،فان فتنة بني إسرائيل كانت في
سدا ً لَهُ ُخ َو ٌ
ار ﴾(طه: النساء» ( ،)110واليهود هم الذين عبدوا الذهبِ ﴿:ع ْجالً َج َ
.)88
وعلى هذا األساس تكون فتنة الدجال غير منفصلة عن الواقع البشري الممتد
حتى ظهوره ،وان تسلط الدجال وتبعية الشياطين والنساء والذهب له هي
في حقيقتها عقوبة لذنوب عاش عليها الناس طول حياتهم.
وبهذا االعتبار جاء تحذير جميع األنبياء من الدجال كما قال النبي ﷺ« :ما
من نبي إال أنذر قومه الدجال» ( )111فتكون داللة هذا اإلنذار هي ما يتعلق
بفتنة الدجال من فتن دون أن يظهر بنفسه ،وهذا ما علَّمنا إياه رسول هللا ﷺ
عندما أمرنا أن نتعوذ دبر كل صالة من الفتن فقال« :اللهم أني أعوذ بك من
الفتن ما ظهر منها وما بطن ،وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ،وأعوذ
بك من عذاب القبر ،وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال» (.)112
وحتى ما بعد الدجال سيبقى تسلط الشياطين على الناس ،وبنفس القاعدة
وهي أن التسلط يكون امتدادا لذنب وقع فيه هؤالء الناس وبقوا عليه (،)113
مثل الناس الذين ستقوم عليهم الساعة ،وقال فيهم رسول هللا ﷺ« :فيتمثل
لهم الشيطان فيقول إال تـستجيبون؟! فيقولون :فـما تأمرنا؟ يأمرهم بعبادة
األوثان» (.)114
ومن أهم الذنوب التي يتحقق بها تسلط الشياطين وتبعية الدجال ذنب التقليد،
ألن هذا الذنب هو الذي امتد به الكفر حتى وقت الدجال وكان سبب بقائه
وأصبح تقليد اآلباء في الشرك هو نفسه صورة تسلط الشياطين.
كما قال رسول هللا ﷺ« :إن الشياطين تتبع الدجال فيقول :إن من فتنة الدجال
أن يقول لألعرابي أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول:
نعم ،فيتـمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه ،فيقوالن يا بني اتبعه فانه
ربك» (.)115
وتبقي مالحظة هامة في الحديث وهي صفة الرجل الذي يكلمه الدجال،
وهي أنه أعرابي ،ولهذه الصفة معناها ،ففي تفسير الحديث يقول عبد هللا
بن مسعود عندما ذكر عنده الدجال« :يفترق الناس عند خروجه ثالث فرق:
فرقة تتبعه وفرقة تلحق بأرض آبائها بمنابت الشيح وفرقة شط الفرات»
(.)116
وبذلك يعتبر عبد هللا بن مسعود منابت الشيح بأنها أرض البادية وعندما قال
أرض اآلباء ،فيكون هذا معناه أن األعراب هم الذين سيلحقون بالبادية،
وهي حالة نفسية يدخل فيها اإلنسان عندما يشعر بالخوف ،أي يأوي إلى
أصله ومنبته وبيئته األصلية ،ولكنها فرقة هالكة ( ،)117ألنه من الواجب
عليهم أن يأووا إلى هللا عز وجل.
ولهذه القاعدة نضرب مثاالً معروفا ً ،وهو اختصاص النبي ﷺ بالشفاعة دون
عيسى ابن مريم ،ألن أهل الموقف عندما يذهبون لعيسى الذي لم يذكر له
ذنب ،مما يتوهم منه الدليل علي استحقاق عيسى للشفاعة( ،)119ولكن
الشفاعة إنما تكون للبشر وهم موقوفون في يوم الحشر بذنوبهم ،فيصبح
مقام من هو مغفور الذنب أنسب لالستحقاق من مقام الذي لم يذكر له ذنب،
ألن مغفور الذنب تحقق فيه اسم هللا الغفور بأتم صورة ،قال تعالى( :إِنَّا
َّللاُ َما تَقَد ََّم ِم ْن ذَ ْن ِب َك َو َما تَأ َ َّخ َر َويُتِ َّم نِ ْع َمتَهُ
فَتَ ْحنَا لَ َك فَتْ ًحا ُم ِبينًا ِليَ ْغ ِف َر لَ َك َّ
يزا) (الفتح،)3-1 ع ِز ً ص ًرا َ ص َر َك َّ
َّللاُ نَ ْ طا ُم ْستَ ِقي ًما َويَ ْن ُ ص َرا ً علَي َْك َويَ ْه ِديَ َك ِ
َ
وتحقيق اسم هللا الغفور بهذه الدرجة هو أساس استحقاق رسول هللا ﷺ
للشفاعة في الموقوفين بذنوبهم ،وبهذه القاعدة نشأ التناسب بين عيسى الذي
أثبت لنفسه كل صفات العبودية هلل علي الرغم من ادعاء الضالين له األلوهية
وبين الدجال الذي ادعى لنفسه صفات األلوهية ،وقد اجتمعت له كل صفات
( )118أخرجه الحاكم في (مستدركه) « »275/4ولفظه عن أبي هريرة« :اشتد غضب هللا على رجل قتله رسول هللا ﷺ واشتد غضب
سمي ملك األمالك ،ال ملك إال هللا عز وجل» ،وأحمد في (مسنده) « »317/2بلفظ« :اشتد غضب هللا عز وجل على قومهللا على رجل ُ
فعلوا برسول هللا ﷺ وهو حينئذ يشير إلى رباعيته ،وقال :اشتد غضب هللا على رجل يقتله رسول هللا ﷺ أيضا " « )492/2بلفظ الذي
عند الحاكم.
( )119أخرجه البخاري في (التفسير) /باب« :ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا» « ،»4712/247/8ومسلم في (الشفاعة)
/باب :منه « ،69 – 65/3النووي» ،وأحمد في (مسنده)
النقص والقبح والشر والضرر الذي ال نفع فيه.
ومن تحت قدم إسماعيل تتفجر بئر زمزم ،لتكون حياة إسماعيل وهاجر
وتبقى البئر حياة لألمة ،وتبقى فاعليتها القدرية خيرا ً مطلقاً« :ماء زمزم لما
شرب له»( ،)121فيجتمع في ماء البئر كل النفع فيتقابل الخير المطلق مع شر ُ
الدجال المطلق الذي ال نفع فيه ،ثم يتجاوز إسماعيل الموت مرة أخرى
ي قَا َل يَا س ْع َعندما يأمر هللا إبراهيم أن يذبح ولده إسماعيل ( :فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ ال َّ
ت ا ْفعَ ْل َما ظ ْر َماذَا تَ َر َٰى ۚ قَا َل يَا أَبَ ِ ي إِنِي أ َ َر َٰى فِي ْال َمن َِام أَنِي أَ ْذبَ ُح َك فَا ْن ُ بُنَ َّ
ين َونَادَ ْينَاهُ أ َ ْن صابِ ِرينَ فَلَ َّما أَ ْسلَ َما َوتَلَّهُ ِل ْل َج ِب ِ ستَ ِجدُ ِني ِإ ْن شَا َء َّ
َّللاُ ِمنَ ال َّ تُؤْ َم ُر ۖ َ
الرؤْ َيا ۚ إِنَّا َك َٰذَ ِل َك ن َْج ِزي ْال ُم ْح ِسنِينَ )(الصافات-102: ت ُّ صدَّ ْق َ
َيا ِإب َْرا ِهي ُم قَ ْد َ
.)105
ثم يكبر إسماعيل ليذلل هللا له الخيل كما ورد عن ابن عباس رضي هللا عنه:
«كانت الخيل وحشية ،فذللها هللا ِإلسماعيل بن إبراهيم عليهما السالم» (،)122
وهي الخيل التي انعقد في نواصيها الخير إلى يوم القيامة كما أخبر النبي
اصي َها ْال َخي ُْر َو ْاأل َ ْج ُر َو ْال َم ْغنَ ُم ِإلَى َي ْو ِم ْال ِق َيا َم ِة» (.)123
ﷺْ « :ال َخ ْي ُل َم ْعقُودٌ بِن ََو ِ
( )120تقدم تخريجه.
( )121مسند أحمد بن حنبل .14555
( )122تفسير ابن كثير /قول هللا عز وجل« :والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة».
( )123مسند أحمد بن حنبل برقم.)18925( :
وقد بلغ التناسب بين إسماعيل والدجال حدا إن هللا قد وضع «حلقة من
نحاس» على حلق إسماعيل تمنع ابراهيم من ذبحه من الحلق ،اختبارا من
هللا له ،فيذبح ابنه من القفا ،وأن هللا سبحانه أيضا قد عصم الشاب الذي ذبحه
الدجال وأصر على الكفر به من أن يذبحه مرة أخرى بحلقة من نحاس
أيضا ،ففي الحديث« :فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين
رجليه ،قال ثم يمشي الدجال بين القطعتين ،ثم يقول له :قم ،فيستوي قائما،
قال ثم يقول له :أتؤمن بي؟ فيقول :ما ازددت فيك إال بصيرة ،قال ثم يقول:
يا أيها الناس ،إنه ال يفعل بعدي بأحد من الناس ،قال فيأخذه الدجال ليذبحه،
فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا ،فال يستطيع إليه سبيال ،»..وهكذا
ينجو إسماعيل من فتنة القتل في أول أمر األمة ،كما ينجو فتى الدجال من
فتنة القتل في آخر الزمان ،فال يضرهما فتنة الموت والدجال بعد ذلك ،ويبقى
فضل إسماعيل في ذريته ،حتى يلتقي مع فضل شاب آخر الزمان.
إن موقف إسماعيل ليس موقفا ً عارضا ً ولكنه موقف باق ،وبقاؤه من خالل
ق مع بئر زمزم ومع الكعبة ذرية إسماعيل أيسر أسباب البقاء ألن الموقف با ٍ
ومع السعي بين الصفا والمروة ،فكل هذه األمور هي آثار هذا الموقف الباقية
حتى آخر الزمان ،فكيف ال يمتد الموقف نفسه حتى الدجال ،ليكون نسل
إسماعيل أشد األمة على هذا الدجال ،وهم المنتصرون على فتنة الجوع
والموت ،أصحاب الموقف األصليين ،لذا كان التقابل مع طبيعة هذه اآلثار
وعمل الدجال ،فالدجال ال يدخل مكة ،ال يدخل البلد الذي فيه بئر زمزم والكعبة،
والصفا والمروة.
ويبلغ التقابل مداه بين هذه اآلثار وطبيعة عمل الدجال في بئر زمزم ،فأعمال
الدجال السحرية تعكس قصد الناس ،فمن يقصد شيئا ً من عمله يجد عكسه،
ومثال ذلك يقصد جنته ويجدها نارا ً على وجه الحقيقة ،أما زمزم فأثرها تابع
لمقاصد من يشربها ،سبحان هللا ،زمزم لما شربت له ،الماء واحد والقصد
يتحقق من شربها بإذن هللا ،وهذه هي أفعال هللا سبحانه وكمالها ،وهذه هي أفعال
الدجال ونقائصها.
أما دليل بقاء الفضل في ذرية «إسماعيل» وأهم شواهده أن تكون ذريته هم أولى
الناس بالحرية والنجاة من الرق ولذلك كان النبي ﷺ يحرض على عتق أي عبد أو
جارية من نسل إسماعيل ،وكان يقول« :من قال ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،له
الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كأنما أعتق
رقبة من ولد إسماعيل»( )124ألن مضمون هذا الذكر هو مضمون الخير التام،
التوحيد ،ونفي الشرك وإثبات الملك كله هلل ،وإثبات الحمد كله هلل وإثبات اإلحياء
واإلماتة والقدرة هلل وحده ،واستحقاق ذرية إسماعيل للعتق والبعد بهم عن الرق
جزاء من طبيعة فعلهم ،وهم أشد األمة على الدجال ،هم الذين ال ينكسرون أمام فتنة
الموت ،وال يضعفون أمام فتنة الجوع ،وال يجرون وراء جبال الخبز والقمح تاركين
الدين والعقيدة الصحيحة ،فال يجب أن يكون هؤالء األحرار عبيداً بيننا ،كيف وهم
السادة األخيار.
وبتطبيق مفهوم اإلظهار على عالمات الساعة ،نفاجأ بحقيقة خطيرة للغاية
وهو أن هناك مثال كوني للدجال كحقيقة غيبية ،وهذا المثل هو الذي يحسم
المشكلة الخالفية الخاصة بالعالقة بين الدجال وابن صياد وأصل المشكلة
أن هناك أحاديث صحيحة تؤكد أن ابن صياد هو بنفسه الدجال وأحاديث
صحيحة أخرى تبين أنه ليس الدجال.
ومثال األحاديث التي تؤكد أنه هو الدجال :عن محمد بن المنكدر قال :رأيت
جابر بن عبد هللا رضي هللا عنهما يحلف باهلل أن ابن صياد الدجال ،قال:
قلت :أتحلف باهلل؟ قال :فإني سمعت عمر يحلف باهلل على ذلك عند رسول
هللا ﷺ فال ينكره النبي ﷺ»( ،)125وعن نافع مولى عبد هللا بن عمر رضي
أما األحاديث التي تنفي كون ابن صياد هو الدجال فأهمها :حديث تميم
الداري الذي رأى الدجال موثوق في أحد الجزر (.)128
اختالف أقوال العلماء في ابن صياد
وكما اختلفت األحاديث الصحيحة كذلك كان رأي العلماء.
قال الخطابي« :قد اختلف الناس في أمر ابن صياد اختالفا ً شديدا ً وأشكل
أمره حتى قيل كل قول» ،ثم قال« :والذي عندي أن هذه القصة إنما جرت
معه أيام مهادنته ﷺ اليهود وحلفاءهم ،وذلك أنه بعد أن قدم المدينة كتب بينه
وبين اليهود كتابا ً صالحهم فيه على أال يهاجروا ،وأن يتركوا على أمرهم
وكان ابن صياد منهم أو دخيالً فيهم» (.)129
قال البيهقي في شرحه لحديث «يمكث أبو الدجال وأمه ثالثون عاما ال يولد
صيَّاد، غيْر اِب ِْن َ الز َمان َ آخر َّ لهما»« :فِي ِه أَ َّن الدَّ َّجال ْاأل َ ْكبَر الَّذِي َي ْخ ُرج فِي ِ
وج ِه ْمَ ،وقَ ْد خ ََر َج صيَّاد أَ َحد الدَّ َّجا ِلينَ ْال َكذَّابِينَ الَّذِينَ أَ ْخبَ َر ﷺ ِب ُخ ُر ِ َو َكانَ اِب ِْن َ
ص ِة تَ ِميم، أَ ْكثَره ْم َو َكانَ الَّذِينَ يَ ْج ِز ُمونَ بِاب ِْن َ
صيَّاد ُه َو الدَّ َّجال لَ ْم يَ ْس َمعُوا بِ ِق َّ
ْف َي ْلتَئِم أَ ْن يَ ُكون َم ْن َكانَ ِفي أَثْنَاء ْال َح َياة َو ِإ َّال فَ ْال َج ْمع َبيْنه َما بَ ِعيد ِجدًّا ِإ ْذ َكي َ
النَّ َب ِويَّة ِشبْه ْال ُم ْحت َ ِلمَ ،و َي ْجتَ ِمع ِب ِه النَّ ِبي ﷺ َو َي ْسأَلهُ أ َ ْن َي ُكونَ فِي آ ِخرهَا َ
ش ْي ًخا
ع ْن َخبَ ِر يرة ِم ْن َجزَ ائِر ْالبَ ْحر ُموثَقًا ِب ْال َحدِي ِد يَ ْستَ ْف ِهم َ يرا َم ْس ُجونًا فِي َج ِز َ َك ِب ً
عدَم ِاال ِط َالع» (.)132 علَى َ النَّبِي ﷺ ه َْل خ ََر َج أ َ ْو َال؟ فَ ْاأل َ ْولَى أ َ ْن يُ ْح َمل َ
صته ُم ْش ِكلَةَ ،وأ َ ْمرهوقال اإلمام النووي في باب ابن صياد« :قَا َل ْالعُلَ َماءَ :وقِ َّ
غيْره؟ َو َال شَك فِي أَنَّهُ ُم ْشتَبَه فِي أَنَّهُ ه َْل ُه َو ْال َمسِيح الدَّ َّجال ْال َم ْش ُهور أَ ْم َ
اجلَة ،قا َل ْالعُلَ َماءَ :و َ
ظا ِهر ْاأل َ َحادِيث أَ َّن النَّبِي ﷺ لَ ْم يُو َح إِلَ ْي ِه دَ َّجال ِم ْن الدَّ َج ِ
وقال ابن حجر« :وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن
صياد هو الدجال ،أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا ً ،وأن ابن
صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى
أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر هللا تعالى خروجه
فيها» (.)134
ثم علق ابن حجر على تأكيد جابر رضي هللا عنه بأن ابن صياد هو المرئي
في حديث الجساسة ،بقوله:
«في كالم جابر إشارة إلى أن أمره ملتبس وأنه يجوز ما ظهر من أمره ال
ينافي ما توقع منه في خروجه آخر الزمان ،وقد أخرج أحمد من حديث أبي
ذر :لئن أحلف عشر مرات أن ابن صياد هو الدجال أحب ألي أن أحلف مرة
واحدة أنه ليس هو» ( ،)135وفي كالم الحافظ ابن حجر داللة واضحة على
ميله لألخذ برأي عمر بن الخطاب.
رأي أبو نعيم األصبهاني :قال الحافظ ابن حجر« :أخرج أبو نعيم
األصبهاني في تاريخ أصبهان ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال ،فساق من
طريق شبيل عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه قال :لما افتتحنا أصبهان
كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ يعني أربعة أميال فكنا نأتيها ،أي
القرية اليهودية ،فنمتار( )136ما نحتاج إليه فأتيتها يوما ً فإذا اليهود يزفون
( )133شرح النووي على مسلم ،كتاب الفتن وأشراط الساعة ،باب ذكر ابن صياد.
( )134فتح الباري شرح صحيح البخاري البن حجر.
( )135المصدر السابق.
( )136نمتار أي :نشتري.
ويشربون ويضربون بالدفوف ،فسألت صديقا ً لي منهم فقال لي :هذا ملكنا
الذي نستفتح به على العرب يدخل ،فبت عنده على سطح فصليت الغداة فلما
طلعت الشمس ،إذا الرهج من قبل العسكر فنظرت فإذا رجل عليه قبة من
ريحان واليهود يزفون ويضربون فنظرت فإذا هو ابن صياد»(.)137
وبذلك يكون القول األقرب في المسألة ما قاله ابن حجر« :وأقرب ما يجمع
به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال ،وأن الدجال
«بعينه» هو الذي شاهده تميم موثقا ً ،وابن صياد شيطان تبدى في «صورة»
الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان» ( ،)138وبذلك يتحقق التفسير
الصحيح في المسألة وهو أن ابن صياد ليس الدجال بعينه ولكن ابن صياد
صورة كونية للدجال ،باعتباره حقيقة غيبية.
فقد قيل في معنى «علم للساعة» أنه :أمارة ودليل على وقوعها ،وقيل:
«خروج عيسى ابن مريم عليه الصالة والسالم قبل يوم القيامة ( ،)139وقيل:
( )137فتح الباري شرح صحيح البخاري.
( )138المصدر السابق.
( )139أخرجه ابن أبى حاتم في تفسير عن ابن عباس ،وفتح القدير تحت رقم «.»11136
آية للساعة ،وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك
وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم ،أما القول بأنه أمارة ودليل
على وقوع الساعة ،ألن معجزته هي إحياء الموتى بإذن هللا وهذا اإلحياء،
دليل في ذاته ،على القيامة.
والقول بأنه خروج عيسى قبل يوم القيامة ،ألن بقاءه حيا ً حتى آخر الزمان
دليل على الساعة ،أما القول بأنه آية للساعة ،فذلك ألن «آية» مرتبطة
بعيسى ابن مريم في القران بكونه ولد من غير أب ،وهذه الوالدة هي ،في
ذاتها ،آية من آيات الخلق البشري ،وقبل إثبات أن هذه الوالدة آية للساعة
سنستطرد في إثبات قانون القسمة الرباعية ،ألن هذا الخلق خاضع لقانون
القسمة الرباعية وهو قانون عام للخلق ودالئل هذا القانون ،في إطار الخلق
ور أَ ْو
ب ِل َمن يَشَاء الذُّ ُك َب ِل َم ْن َيشَاء ِإنَاثًا َو َي َه ُ
البشري قول هللا تعالىَ ﴿ :ي َه ُ
ِير ( ﴾50الشورى ع ِلي ٌم قَد ٌ يُزَ ِو ُج ُه ْم ذُ ْك َرانًا َو ِإنَاثًا َو َي ْجعَ ُل َمن يَشَاء َ
ع ِقي ًما إِنَّهُ َ
،)50:49وفي خلق أعمال البشر جاء قول هللا عز وجل ﴿ :أ ُ ْولي ِ األ ْيدِي
ار﴾ (سورة ص.)45: ص ِ َواأل ْب َ
حيث جاء في تفسيرها أن الناس أربعة أنواعَ :من عنده قدرة بغير بصيرة
في العمل ،و َمن عنده بصيرة بغير قدرة على العمل ،و َمن يملك القدرة
والبصيرة معا ً ،و َمن ال يملك القدرة والبصيرة معا ً.
وفي خلق أعمال البشر أيضا من حيث اإلخالص والمتابعة :من الناس من
يتابع بغير إخالص ،من الناس من يخلص بغير اتباع ،من الناس من يخلص
ع َمر بن سعد ويتابع ،من الناس من ال يخلص وال يتابع ،وعن أبي كبشة ُ
األنماري رضي هللا عنه أنه سمع رسول هللا ﷺ يقول« :ثالث أقسم عليهن
وأحدثكم حديثا ً فاحفظوه :ما نقص مال عبد من صدقة ،وال ظلم عبد مظلمة
صبر عليها إال زاده هللا عزاً ،وال فتح عبد باب مسألة إال فتح هللا عليه باب
فقر أو كلمة نحوها ،وأحدثكم حديثا ً فاحفظوا ،قال :إنما الدنيا ألربعة نفر:
عبد رزقه هللا ماالً وعلما ً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه أو يعلم هلل فيه
حقا ً فهو بأفضل المنازل ،وعبد رزقه هللا علما ً ولم يرزقه ماالً فهو صادق
النية يقول :لو أن لي ماالً لعملت بعمل فالن فهو بنيته فأجرهما سواء ،وعبد
رزقه هللا ماالً ولم يرزقه علما ً فهو يخبط في ماله بغير علم ال يتقى فيه ربه
وال يصل رحمه وال يعلم هلل فيه حقا ً فهو بأخبث المنازل ،وعبد لم يرزقه
هللا ماالً وال علما ً فهو يقول :لو لي ماالً لعملت بعمل فالن فهو بنيته فوزرهما
سواء»(.)140
فإذا عدنا إلي عيسى ابن مريم نجد أنه قسم وحده في القسمة الرباعية ،ذلك
أن الخلق من حيث التوالد :إما أن يكون من غير أب وأم مثل آدم ،وإما أن
يكون من أب ومن غير أم مثل حواء ،وإما أن يكون من أب وأم وهم جميع
الخلق ،وإما أن يكون من أم من غير أب وهو عيسى ابن مريم ،ومن هنا
كان خلق البشر آية وكان عيسى وحده آية أما عالقة هذا المعني بالساعة،
فإن الساعة لم تكن تقوم إال بعد تمام األقسام األربعة أو بعد تمام الخلق
البشري ،ولما تحقق التمام بخلق عيسى ،كان ذلك آية على الساعة.
ع ِة ﴾ ،وهي مرحلة وهذه هي المرحلة األولى في معني اآليةَ ﴿:و ِإنَّهُ لَ ِع ْل ٌم ِلل َّ
سا َ
عيسى في الحياة الدنيا ،أما المرحلة الثانية :فهي مرحلة عيسى في إطار
العالمات وفي هذه المرحلة نجد أن عيسى ليس مجرد عالمة من العالمات
ولكنه عالمة لكل عالمات الساعة الكبرى ،فكونه يصلي خلف المهدي فهذه
عالمة على المهدي ،وكونه يقتل الدجال فهذه عالمة على الدجال ،وكونه
يأوي بعباد هللا من يأجوج ومأجوج إلى جبل الطور فهو عالمة على يأجوج
ومأجوج.
ولذلك ارتبطت عالمة عيسى بآخر زمن العالمات وهو قتل يأجوج
ومأجوج ،بل وقذف أجسادهم في البحر ،ففي الحديث بعد أن ذكر النبي ﷺ
قتل الدجال ثم قتل يأجوج ومأجوج ،وقذف أجسادهم في البحر قال« :ففيما
عهد إلى ربي عز وجل :أن ذلك إذا كان كذلك نهرا ً فإن الساعة كالحامل
المتم التي ال يدري أهلها متي تفاجئوهم بوالدتها ليالً أو نهارا ً» (.)141
( )140أخرجه أحمد في (مسنده) « ،»231/4والترمذي في (الزهد) /باب :مثل الدنيا أربعة نفر «/652/4ح ،»2325
وابن ماجة في (الزهد) /باب :النية «/1431/2ح ،»4228والبغوي في (شرح السنة) « / 290 ،289/4ح »4097من
حديث أبى كبشة.
( )141مسند أحمد بن حنبل 3375
واستمرارا ً في تحليل عالمة عيسى ابن مريم في إطار العالمات ،نجد أن
إيمان أهل الكتاب به قبل موته كما قال هللا سبحانهَ ﴿:و ِإن ِم ْن أهل ْال ِكتَا ِ
ب إِالَّ
ش ِهيدًا﴾(النساء ،)159:ونجد علَ ْي ِه ْم َ لَيُؤْ ِمن ََّن بِ ِه قَ ْب َل َم ْوتِ ِه َويَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة يَ ُك ُ
ون َ
كذلك أن عيسى بنفسه سيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية.
فبذلك يصير الدين ملة واحدة ،وهو الوضع البشري الذي ستقوم عليه
الساعة ،ليصبح هذا الواقع كما كان في بداية الخلق ،حيث كان الخلق أمة
اس أ ُ َّمةً َو ِ
احدَة ً﴾(البقرة ،)213:ويعود أمة واحدة واحدة كما قال هللاَ ﴿:كانَ النَّ ُ
بفعل عيسى بإذن ربه.
أما المرحلة الثالثة فهي :يوم القيامة ذاته ،حيث سيقف عيسى شاهدا ً على
لت نت قُ َ سى ابْنَ َم ْر َي َم أَأَ َ وحدانية هللا أمام جميع الخالئقَ « :و ِإ ْذ قَا َل َّللاُ َيا ِعي َ
ُ
س ْب َحان ََك﴾ إلى قولهَ ﴿ :و َربَّ ُك ْم ُون َّللاِ قَا َل ُي ِإلَـ َهي ِْن ِمن د ِ اس ات َّ ِخذُونِي َوأ ِم َ ِللنَّ ِ
نتعلَ ْي ِه ْم َوأَ َ
يب َ الرقِ َ
نت َّ نت أَ َ ش ِهيدًا َّما د ُْمتُ فِي ِه ْم فَلَ َّما تَ َوفَّ ْيتَنِي ُك َ
علَ ْي ِه ْم َ
َو ُكنتُ َ
يز نت ْالعَ ِز ُش ِهيدٌ إِن تُعَ ِذ ْب ُه ْم فَإِنَّ ُه ْم ِعبَاد َُك َوإِن تَ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم فَإِنَّ َك أَ َ
ش ْيءٍ َ علَى ُك ِل َ َ
ْال َح ِكي ُم﴾ (المائدة.)118 -117:
وبعد تحليل موقف عيسى ،نجد أن عيسى عالمة للساعة في الدنيا وفي
عالمات الساعة والساعة بصورة جوهرية جعلته في إطار العالمات عالمة
على كل العالمات الكبرى ،ولما كان مجموع العالمات هو الذي يفيد العلم،
ع ِة﴾ (الزخرف،)61: أنطبق على عيسى هذا اللفظ القرآنيَ ﴿ :وإنَّهُ لَ ِع ْل ٌم ِلل َّ
سا َ
والحقيقة أن للعالقة بين عيسى والساعة أصالً قرآنيا من خالل معنى اإلرادة
والمشيئة والقدرة اإللهية المطلقة ،حيث لم يُذكر في القران تعبير« :كن
فيكون» إال في ثمانية مواضع أربعة متعلقة بعيسى ابن مريم ،وأربعة متعلقة
بقيام الساعة ،واألربعة األولي جاءت في سورة البقرة آية ،117آل
عمران ،59 -47:مريم ،35:واألربعة األخرى جاءت في سورة األنعام آية:
،73والنحل ،40:يس ،82 :غافر.68:
وقال ﷺ« :إني ألري الفتن خالل بيوتكم كمواقع القطر» ( ،)143وذلك ألن
صالة الليل حرز من الفتن ،صالة الصبح تعدل قيام الليل كما قال عليه
الصالة والسالم« :من صلى العشاء في جماعة كأنما قام نصف الليل ،ومن
صلى الصبح في جماعة كأنما قام الليل كله» ( ،)144هذا من ناحية ،ومن
ناحية أخرى فان صالة الصبح تجعل صاحبها في ذمة هللا ،كما قال النبي
ﷺ« :من صـلى الصبح في جـماعة كان في ذمة هللا حتى يمسي» (.)145
ومن ناحية ثالثة ،فإن التقابل بين صالة الصبح والدجال ،أن صالة الصبح
خير من الدنيا وما فيها ،وأن فتنة الدجال هي شر الدنيا كما قال النبي ﷺ:
«يتبعه اليهود والمال والنساء والشياطين» (.)146
وقد يكون مالحظا ً أن الكالم عن المسيح عيسى ابن مريم كان أقل في
العالمات ،والحقيقة غير ذلك ،ألن عالمة المسيح ابن مريم متداخلة مع أكبر
العالمات ومجموعها مثل المهدي ،والدجال ويأجوج ومأجوج ،فيكون
الكالم عن عالمة المسيح عيسى ابن مريم ،حقيقة ،قد نال أكبر حيز من
التصور المنهجي للعالمات.
وهذا تعريف ابن تيمية لسنة هللا الثابتة الذي أورده في كتاب النبوات ،فيقول
في سياق حديثه عن المعجزة« :وكثير من هؤالء مضطربون في مسمى
العادة التي تخرق والتحقيق أن العادة أمر إضافي فقد يعتاد قوم ما لم يعتده
غيرهم فهذه إذا خرقت فليست إال لصدق النبي ال توجد بدون صدقه والرب
َّللاِ الَّ ِتيسنَّةَ َّ
تعالى في الحقيقة ال ينقض عادته التي هي سنته التي قال فيها ( ُ
ارا ِيال) (الفتح ،)23:وقال « :ا ْستِ ْك َب ً َّللاِ تَ ْبد ً ت ِم ْن قَ ْب ُل ۖ َولَ ْن تَ ِجدَ ِل ُ
سنَّ ِة َّ قَ ْد َخلَ ْ
ظ ُرونَ إِ َّال ئ إِ َّال ِبأ َ ْه ِل ِه ۚ فَ َه ْل يَ ْن ُ يق ْال َم ْك ُر ال َّ
س ِي ُ ض َو َم ْك َر ال َّ
س ِي ِئ ۚ َو َال َي ِح ُ فِي ْاأل َ ْر ِ
يال َّللاِ تَ ْح ِو ً
ت َّ سنَّ ِِيال ۖ َولَ ْن تَ ِجدَ ِل ُ َّللاِ ت َ ْبد ً
ت َّ سنَّ ِ ت ْاأل َ َّو ِلينَ ۚ فَلَ ْن تَ ِجدَ ِل ُ سنَّ َ
ُ
()147
»(فاطر ،)43:وهي التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين»
وفي هذه السنة الثابتة جاء قول هللا عز وجل عن يأجوج ومأجوج( :فَ َما
عوا لَهُ نَ ْقبًا قَا َل َٰ َهذَا َر ْح َمةٌ ِم ْن َر ِبي ۖ فَإِذَا ظ َه ُروهُ َو َما ا ْستَ َ
طا ُ عوا أَ ْن َي ْطا ُا ْس َ
َجا َء َو ْعدُ َر ِبي َجعَلَهُ دَ َّكا َء ۖ َو َكانَ َو ْعدُ َر ِبي َحقًّا َوتَ َر ْكنَا بَ ْع َ
ض ُه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ يَ ُمو ُج
ور فَ َج َم ْعنَا ُه ْم َج ْمعًا) (الكهف.)99 –97 : ص ِ ض ۖ َونُ ِف َخ فِي ال ُّ فِي بَ ْع ٍ
ولذلك جاء في تفسير اآلية األخيرة قول السدي« :ذاك حين يخرجون على
الناس ،وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال» ( )148حتى أن هناك قوالً آخر
يؤكد معنى السنة الثابتة« :التفريق بين المختلفين والجمع بين المتشابهين» وهو
إذا ماج الجن واإلنس في آخر الزمان يختلط الجن واإلنس ،ألن ظهور الجن
وبالنظر إلى ما ذكرناه في تعريف العالمة من أنها فعال إلهيا جامعا فقد جمع
هللا في يأجوج ومأجوج كل صفات الفتن التي ستمر بها األمة بحيث تتحقق
في فتنة يأجوج ومأجوج الطبيعة الكاملة للفتنة ،ابتدا ًء من البداية اليسيرة
للفتنة ،وهي فتنة الرجل في أهله وماله وانتهاء بالفتنة التي تموج كموج
البحر ،بحيث تمثل هذه البداية وتطورها مرحلية أساسية في تطور الفتن،
وقد جمع حديث عمر هذين النوعين.
فعن حذيفة ابن اليمان أنه قال« :بينما نحن جلوس عند عمر إذ قال أيكم يحفظ
قول النبي ﷺ في الفتنة؟ قال :فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها
الصالة والصدقة واألمر بالمعروف والنهى عن المنكر» ،قال :ليس عن هذا
أسألك ،ولكن التي تموج كموج البحر ،فقال :ليس عليك منها بأس يا أمير
المؤمنين ،إن بينك وبينها بابا ً مغلقاً ،قال عمر :أيكسر الباب أم يفتح؟ قال :ال بل
يُكسر ،قال عمر :إذن ال يُغلق أبداً ،قلت :أجل ،قلنا لحذيفة :أكان عمر يعلم الباب؟
قال :نعم ،كما يعلم أن دون غد ليلة ،وذلك أني حدثته حديثا ً ليس باألغـاليط ،فهبنا
أن نسأله َمن الباب فأمرنا مسروقا ً فسأله :من الباب؟ قال :عمر»(.)149
وقد حدد هذا الحديث المرحلة األساسية لتطور الفتن ،وقد وصف النبي ﷺ
هذا التطور من خالل رد الفعل اإلنساني تجاهها فقال :ستكون فتن يرقق
بعضها بعضا ً ،وفي حديث آخر يصف النبي ﷺ تطور الفتنة وتصاعدها
منظورا إليها من موقف اإلنسان منها ،وذلك في حديث عبد هللا بن عمر بن
العاص ،يقول فيه النبي ﷺ« :إنه لم يكن نبي قبلي إال كان حقا عليه أن يدل
أمته على ما يعلمه خيرا لهم وينذرهم ما يعلمه شرا لهم وإن أمتكم هذه جعلت
عافيتها في أولها وإن آخرهم يصيبهم بالء وأمور ينكرونها ثم تجيء فتن
يرقق بعضها بعضا فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف ثم تجيء فتنة
فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف فمن سره أن يزحزح عن النار ويدخل
ونلمح حركة التصاعد في الفتنة أيضا في حديث عبد هللا بن عمر ،قال« :كنا
عند رسول هللا ﷺ قعودا فذكر الفتن فأكثر ذكرها حتى ذكر فتنة األحالس
فقال قائل :يا رسول هللا وما فتنة األحالس؟ قال :هي فتنة هرب وحرب ثم
فتنة السراء دخلها أو دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه
مني وليس مني إنما وليي المتقون ثم يصطلح الناس على رجل كورك على
ضلع ثم فتنة الدهيماء ال تدع أحدا من هذه األمة إال لطمته لطمة فإذا قيل
انقطعت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسى كافرا حتى يصير الناس
إلى فسطاطين فسطاط إيمان ال نفاق فيه وفسطاط نفاق ال إيمان فيه إذا كان
ذاكم فانتظروا الدجال من اليوم أو غد»(.)151
وقول رسول هللا ﷺ« :فانتظروا الدجال من يوم أو من غداة» يدل على أن
الفتن بطبيعة تصاعدها ستبلغ فتنة يأجوج ومأجوج ولتتضمن فتنة يأجوج
ومأجوج كل فتنة ستظهر ،وبجانب طبيعة التصاعد في الفتن تأتي طبيعة
صي َب َّن الَّذِينَ
العموم ،وهي السنة الثابتة بقول هللا عز وجلَ ( :واتَّقُوا ِفتْنَةً َال ت ُ ِ
ب) (األنفال ،)25:ويفسر النبي شدِيدُ ْال ِعقَا ِ صةً ۖ َوا ْعلَ ُموا أَ َّن َّ
َّللاَ َ ظلَ ُموا ِم ْن ُك ْم خَا َّ
َ
ﷺ صفة العموم أو التعميم بتشبيه وقع الفتن في الواقع مثل مواقع القطر ،وذلك
فيما رواه أسامة بن زيد قال« :أشرف النبي ﷺ على أطم من اآلطام ،فقال:
«هل ترون ما أرى؟ إني أرى الفتن تقع خالل بيوتكم مواقع القطر».
ومنها فتن القتل والدماء ،وفيها يقول رسول هللا ﷺ قال« :يتقارب الزمان،
وينقص العمل ،ويلقي الشح ،وتظهر الفتن ويكثر الهرج ،قالوا :يا رسول
هللا أيهما أشد؟ قال :القتل القتل» (.)155
والداللة على فتنة القتل من فتنة يأجوج ومأجوج ظاهرة ،ولعل أخطرها
بلوغهم مرحلة قتال أهل األرض واتجاههم إلى قتال أهل السماء.
ومنها فتنة اللسان :وفيها يقول النبي ﷺ «إنه ستكون فتنة وستصيب العرب،
قتالها في النار ،وقع اللسان فيها أشد من وقع السيف» (.)156
واإلشارة إلى فتنة اللسان في فتنة يأجوج ومأجوج مفهومة من رمزية الكيفية
التي يخرجون بها من السور بحسب ما أورده كعب األحبار من أن خروجهم
من السور سيكون بلحسه بألسنتهم ( ،)157ويكون اللسان في هذه الفتنة كوقع
( )153أخرجه مسلم في (اإليمان) /باب :الحث على المبادرة باألعمال قبل تظاهر الفتن « /410/1ح .»118
( )154تفسير ابن كثير ،قوله تعالى« :وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض.» .
( )155أخرجه البخاري في (األدب) /باب :حسن الخلق «/471/10ح ،»6037والفتن «.)7061/16/13
( )156أخرجه أبو داود في (الفتن) /باب :كف اللسان «/99/4ح .»4265
( )157أورد ابن كثير هذا القول عن أبي هريرة عن كعب األحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه _ أي السور _ فيلحسونه حتى
ال يبقى منه إال القليل فيقولون غدا نفتحه فيأتون من الغد وقد عاد كما كان فيلحسونه حتى ال يبقى منه إال القليل فيقولون
السيف.
وقد شاء هللا عز وجل أال يتوقف التماثل بين يأجوج ومأجوج والكفار من
البشر في اإلفساد ودرجته فقط ،وأال يتوقف التماثل بينهما في طبيعة الفتنة
وعناصرها المذكورة فقط بل قد بلغ األمر تماثالً عدديا ً دقيقا ً بين الكفار من
البشر منذ آدم حتى قيام الساعة وبين يأجوج ومأجوج ،وذلك مستفاد من
حديث النبي ﷺ« :يقول هللا :يا آدم ،فيقول :لبيك وسعديك والخير في يديك،
قال :يقول :أخرج بعث النار ،قال :وما بعث النار؟ قال :من كل ألف تسعمائة
وتسعة وتسعين ،فذاك حين يشيب الصغير ،وتضع كل ذات حمل حملها،
وترى الناس سكرى وما هم بسكرى ،ولكن عذاب هللا شديد ،فاشتد ذلك
عليهم فقالوا :يا رسول هللا ،أينا ذلك الرجل؟ قال :أبشروا ،فإن من يأجوج
ومأجوج ألفا ومنكم رجال» (.)158
فذلك فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه ويقولون غدا نفتحه ويلهمون أن يقولوا إن شاء هللا فيصبحون وهو كما فارقوه
فيفتحونه
( )158صحيح البخاري ،رقم.)6530( :
وقد نقل ابن كثير عن بعض العلماء أنهم سموا تُركا ً ألنهم تركوا خلف السد،
يقصد سد يأجوج ومأجوج ،فقال« :إنما سمي هؤالء تركا ً ،ألنهم تركوا من
وراء السد من هذه الجهة ،وإال فهم أقرباء أولئك ،ولكن كان في أولئك بغي
وفساد وجراءة».
وبالنظر إلى هذه الصلة ال ِعرقية والتاريخية والخبرية بين التتار وبين يأجوج
ومأجوج ،فقد نقل الطبري والرازي والشوكاني كالما لبعض العلماء من أن
«السدين» هما جبلين بين أرمينية وبين أذربيجان ،وكالما للبعض اآلخر
بأنهما عند «منقطع أرض الترك» (.)159
ثم يأتي «سور الصين العظيم» ،وهو المقابل الحسي للحقيقة الخبرية المتعلقة
بالسد المانع من خروج «يأجوج ومأجوج» ،وهو السد الذي بني خصيصا
لصد الهجمات المتكررة لقبائل التتار على الصين ،وهو السور الذي كان
انهياره أمامهم مقدمة لغزوهم العالم.
لكن في مقابل دالئل التماثل تأتي دالئل االختالف لتحول دون القول بأن «يأجوج
ومأجوج» قد خرجوا بالفعل ،وأنهم هم التتار المعروفين تاريخيا ،كما ذهب إلى
ذلك بعض ذوي النزعة المنكرة للغيب من المعاصرين ،وصحيح أنهم قد دعموا
موقفهم بخبر عن النبي ﷺ يقرر فيه أن العالم لن ينقضي فور خروج «يأجوج
ومأجوج» ،وذلك ما رواه أبو سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال« :ليحجن البيت
وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» ،فنزول عيسى عليه السالم سابق على
خروج «يأجوج ومأجوج» ولكنه غير سابق على خروج «التتار» ،واحتراز
عيسى عليه السالم بالمؤمنين بجبل الطور منهم ثابت في آخر الزمان ال في زمان
خروج «التتار» ،ثم إن انتهاء أمر «يأجوج ومأجوج» إنما هو بالنغف ( )161كما
صح في الخبر عن النبي ﷺ ،أما خالص المسلمين من هجمة «التتار» فكان على
يد المصريين في عهد بيبرس.
لكن مع ذلك تبقى داللة التداخل بين عناصر التماثل وعناصر االختالف بين
«يأجوج ومأجوج» وبين «التتار» ،لقد ذهب البعض إلى حل للمسألة بأن افترض
أن خروج «التتار» هو أول خروج لـ «يأجوج ومأجوج» ،لكن هذا القول وإن
كان األقرب إلى الصواب مقارنة بنفي العالقة أصال ،إال أنه ال يقصر عن اإلجابة
على التساؤل حول العلة من هذا الخروج الجزئي لـ «يأجوج ومأجوج».
ومحدودية الدور البشري في مواجهة الفتنة ترجع إلى حقيقة وطبيعة الفتنة
ذاتها ،فالفتنة حالة استثنائية يضيع فيها مفهوم الحق ويتبدد صوابه ،فال يرى
اإلنسان فيها الصواب« :حتى تدع الحليم حيران» ،وقد أخذت الفتنة هذه
الطبيعة ألنها من بدايتها تغليب للعقل على النص وهو ذنب عقوبته الفتنة
فتصبح الفتنة بعد االصطدام بينهما «العقل والنص» ،ضياع عن العقل
وضالل عن النص ،وألن الفتنة من بدايتها تصرف ذاتي غير منضبط
شرعاً ،فتكون الفتنة هي الحالة التي ال ينفع معها التصرف ،لتصبح تخبطا ً
وأفعاالً غير مقصودة.
والفتنة خروج بالواقع عن حكم الشرع ،فتكون العقوبة أن تظل الفتنة وقعا ً
غير محكوم ،وتكون الفتنة بؤرة دائرة بمن فيها ال يملك فيها اإلنسان اتخاذ
موقف ثابت فتكون الحركة قسرية وتصبح كل حركة ضارة ،ولهذا كان
النائم فيها خيرا ً من الجالس ،والجالس خيرا ً من الواقف ،والواقف خيرا ً من
الماشي ( ،)162فيكون الصواب هو الثبات وعدم الحركة.
وألجل أن اللسان هو أخطر أداة للتصرف غير المحكوم ،كان للسان وقع
السيف في الفتنة ،ألن الكلمة التي ال يملكها صاحبها ،يكون مسئوالً عنها،
وهو غير قادر عليها ،ولذلك كان مثلها مثل ثور هائج خرج من جحر صغير
ال يستطيع أن يرجع إليه ،وال يستطيع أحد التحكم فيه (.)163
( )162أخرجه أبو داود في الفتن باب :النهى عن السعي في الفتنة « ،»4256 / 96 /4عن أبى بكرة معروفا وفى أوله:
«أنها ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيرا من الجالس ،الحديث».
( )163تراجع أحاديث اإلسراء والمعراج وفيها ثم أتى على قوم ت ُقرض ألسنتهم وشفاهم بمقاريض من حديد كلما قرضت
عادت كما كانت ال يفتر عنهم من ذلك شيء فقال ما هذا يا جبريل؟ قال :هؤالء خطباء الفتنة ثم أتى على= =جحر صغير
ولكن الفتنة بطبيعتها ال تتجاوز حدودها ،فتقف عند الشرع ،وتقف عند
الطاعة ،وتقف عند الحق ،ولذلك وقفت فتنة يأجوج ومأجوج عند جبل
الطور الذي كان فوقه كالم هللا مع اإلنسان ،وتلقى عليه موسى األلواح
س َٰى أ َ ْربَ ِعينَ لَ ْيلَةً ث ُ َّم ات َّ َخ ْذت ُ ُم ْال ِع ْج َل المكتوبة بيد هللا سبحانهَ ( .و ِإ ْذ َوا َ
ع ْدنَا ُمو َ
ع ْن ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد َٰذَ ِل َك لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرونَ ) عفَ ْونَا َ ِم ْن بَ ْع ِد ِه َوأَ ْنت ُ ْم َ
ظا ِل ُمونَ ث ُ َّم َ
(البقرة.)52-51:
وكلمة «من بعده» تشير إلى عتابهم على اتخاذهم العجل بعد ما كان بينه
وبين هللا من كالم على جبل الطور وتلقيه األلواح منه ،وأن موقف موسى
عليه السالم كان موقفا ال تقبل معه الفتنة.
والموقف الجامع لتفسير معنى الفتنة بكل أبعادها ،هو ذلك الجزاء الذي جعله
هللا على بني إسرائيل بعد اتخاذهم العجل ،وهو أن يقتل بعضهم بعضاً ،ألنهم
تخلو عن الحب في هللا ،بعد أن أُشربوا العجل بكفرهم في ظلمة ،ألنهم كانوا
في ظلمة العجل وفتنته ،فال يدري أحدهم من يقتله أو من يحاول قتله ،ألنهم
خرجوا عن نظام ربهم وحدوده ،وال يملك موسى إال السجود هلل ،حتى يعفوا
عنهم ،وال يعفو عنهم إال بعد قتل سبعون ألفا في ليلة ،وإلى هللا ترجع األمور.
ولعل الطور كان ملجأ عيسى ومن معه من أجل هذا المعنى ،ولكن هالك
يأجوج ومأجوج ال يكون إال بعد ما يرغب عيسى إلى ربه ،وذلك ما يثبت
القاعدة بين الرغبة إلى هللا وبين طلب االمتداد والحياة ،ومثل ذلك تحقيق
االستجابة لدعاء زكريا بالولد في قوله سبحانه( :فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َو َو َه ْبنَا لَهُ يَ ْحيَ َٰى
غبًاعونَنَا َر َ ت َو َي ْد ُ عونَ ِفي ْال َخي َْرا ِ ار ُ
س ِ َوأَ ْ
صلَ ْحنَا لَهُ زَ ْو َجهُ ۚ إِنَّ ُه ْم َكانُوا يُ َ
َو َر َهبًا ۖ َو َكانُوا لَنَا خَا ِش ِعينَ ) (األنبياء.)90:
وفى توجيه هللا عز وجل لنبيه عليه الصالة والسالم للدنيا بعد العبادة جاءت
شرح )7:إذا فرغت من عبادتك صبْ ) (ال َّ سورة الشرح( :فَإِذَا فَ َر ْغ َ
ت فَا ْن َ
يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فال يستطيع فقال ما هذا يا جبريل؟ فقال :هذا الرجل يتكلم
بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فال يستطيع ردها.
فاتجه إلى حياتك ،والى ربك فارغب.
و عن خباب بن األرت وكان شهد بدرا ً مع رسول هللا ﷺ أنه راقب رسول
هللا ﷺ الليلة كلها حتى كان الفجر ،فلما سلم رسول هللا ﷺ من صالته جاء
خباب فقال يا رسول هللا :بأبي أنت وأمي لقد صليت الليلة صالة ما رأيتك
صليت نحوها ،فقال رسول هللا ﷺ «أجل إنها صالة رغب ورهب ،سألت
هللا فيها ألمتي ثالث خصال فأعطاني أثنين ومنعني واحدة ،سألت ربي أال
يهلكنا بما أهلك به األمم فأعطانيها ،وسألت ربي عز وجل أال يظهر عليها
عدوا ً من غيرنا فأعطانيها ،وسالت ربي عز وجل يُ ْلبِ َ
سنَا شيعا ً
فمنعنيها»( ،)164و بذلك يرتبط معنى الرغب بطلب االمتداد والبقاء ،وهو
مضمون النجاة من فتنة يأجوج ومأجوج بقتلها ودمارها.
( )164ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره في تفسير قوله تعالى« :ويذيق بعضكم بأس بعض»« ،ح .»7415
( )165اإلصابة في معرفة الصحابة ،ابن حجر العسقالني ،فصل :من عرف بالكنية من النساء.
العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها يبارك في الرسل حتى أن اللقحة من
اإلبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس،
()166
واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس».
خامسا :الدابة
وإذا أردنا فهم الحكمة من خرج الدابة ال بد لنا من التقديم لهذا بفهم العالقة
بين األرض وعمل اإلنسان من حيث الخلق ،ومن حيث األثر ،ومن حيث
الختم والشهادة.
أما من حيث الخلق :فقد حدد هللا سبحانه هذه العالقة بقوله عز وجل( :الَّذِينَ
ش إِ َّال اللَّ َم َم ۚ ِإ َّن َرب ََّك َوا ِس ُع ْال َم ْغ ِف َرةِ ۚ ُه َو أ َ ْعلَ ُم اح َ اإلثْ ِم َو ْالفَ َو ِ
يَ ْجتَنِبُونَ َكبَائِ َر ْ ِ
س ُك ْم ۖون أ ُ َّم َهاتِ ُك ْم ۖ فَ َال تُزَ ُّكوا أ َ ْنفُ َ
ط ِض َوإِ ْذ أ َ ْنت ُ ْم أَ ِجنَّةٌ فِي بُ ُ شأ َ ُك ْم ِمنَ ْاأل َ ْر ِ
بِ ُك ْم إِ ْذ أ َ ْن َ
ُه َو أَ ْعلَ ُم ِب َم ِن اتَّقَ َٰى) (النجم ،)32:فاإلنسان مرتبط في عمله بمادة خلقه.
أما من حيث األثر :فإن لطبيعة األرض وعمل اإلنسان عالقة ثابتة مباشرة
فقد قال رسول هللا ﷺ« :إن هللا خلق آدم من جميع األرض فمنه السهل وال َحزَ ن
األبيض واألسود» (.)167
وأما من حيث الختم والشهادة :ففيها الحديث الذي رواه أبو هريرة حيث
ارهَا) (الزلزلة ،)4:فقال:ِث أَ ْخبَ َ
قال« :قرأ رسول هللا ﷺ( :يَ ْو َمئِ ٍذ ت ُ َحد ُ
أتدرون ما أخبارها؟ قالوا :هللا ورسوله أعلم ،قال :فإن أخبارها أن تشهد
على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها أن تقول عمل كذا وكذا يوم كذا
وكذا قال فهذا إخبارها ،فهذا أمرها فهذه أخبارها» ( ،)168لذا لزم أن تتابع
األرض عمل اإلنسان حيث تشهد عليه ،فلزم كذلك أن تختم على اإلنسان
عمله ،ألنه موضوع شهادتها.
وكلها أحوال تدل على اضطراب الوجود اإلنساني ،فرفع العلم تغيب به
األحكام الضابطة لحركة اإلنسان ،وشرب الخمر يغيب به كذلك انضباط
العقل ،والزنا يغيب به كذلك نظام النسب والعالقات ليكون اضطراب
األنساب.
ولما كانت الزالزل عقوبة على هذه األعمال ،ثبت أن الجزاء من جنس
سبه اضطرابا ً في العمل ،حيث يسبب اضطراب الوجود اإلنساني وعقله ونَ َ
األرض التي تحمله ،لتكون الزالزل ،وبذلك تفسر عالمة الدابة قاعدة
القصاص الكوني الذي سيكون بين الخالئق ،ومثاله القصاص الذي سيكون
بين الشاة الجلحاء والشاة القرناء ،من حديث أبي هريرة« :لتؤد َُّّن الحقوق
إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» ( )170وهذا
القصاص المسمى بالقصاص الكوني يختلف عن القصاص التكليفي الذي
سيكون بين األطراف المكلفة.
وهذا المثل المضروب بين الشاتين هو الذي يجعلنا نفهم حقيقة القصاص بين
اإلنسان واألرض والذي يقتضي أن يكون اإلنسان مذلالً لألرض كما كانت
األرض مذللة له.
غير أن العالقة بين اإلنسان واألرض ليست منحصرة بصورة كلية في
الدابة في آخر الزمان ،فهناك عالقة ال يستثنى منها بشر ،وهي« :ضمة
القبر» ،وهذا فعل األرض التي تستقبل جزءا ً ناقصا ً منها ،عاد إليها ،فعلى
الرغم من أنه لن يستثنى منها أحد إال أن الضمة ستكون متناسبة مع العمل،
حتى أنها قد تجعل ضلوع العبد تختلف وتتداخل في جسده ،كما أخبر بذلك
رسول هللا ﷺ« :إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان وفيه وإن كان منافقا ً
قال :سمعت الناس يقولون فقلت مثله ال أدري فيقولون :قد كنا نعلم أنك تقول
ذلك فيقال لألرض :التئمى عليه فتلتئم عليه ،فتختلف فيها أضالعه فال يزال
فيها معذبا ً حتى يبعثه هللا من مضجعه ذلك»(.)171
ويدل على نيابة الدابة عن األرض في الشهود على اإلنسان وفي ختم
أعماله ،الخروج المتعددة للدابة من مواضع شتى منها ،وذلك ما أخبر به
النبي ﷺ« :يكون للدابة ثالث خرجات من الدهر ،فتخرج خروجا بأقصى
اليمن فيفشو ذكرها بالبادية وال يدخل ذكرها القرية ،يعني مكة ،ثم تمكث
زمانا طويال ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة ،فيفشو ذكرها بالبادية،
ويدخل ذكرها القرية فبينما الناس يوما في أعظم المساجد على هللا حرمة
وأكرمها على هللا عز وجل ،يعني المسجد الحرام ،لم يرعهم إال وهي في
ناحية المسجد تدنو وتدنو ،كذا قال ابن عمر ،وما بين الركن األسود إلى
أما العلة التي ألجلها ختمت األرض أعمال الناس في صورة دابة ،فهي أن
هذه الصورة تناسب حالهم حينها ،وذلك مأخوذ من قول هللا سبحانه وتعالى:
اس َكانُوا ض ت ُ َك ِل ُم ُه ْم أَ َّن النَّ َ ( َو ِإذَا َوقَ َع ْالقَ ْو ُل َ
علَ ْي ِه ْم أَ ْخ َر ْجنَا لَ ُه ْم دَابَّةً ِمنَ ْاأل َ ْر ِ
ي ِإلَ َٰى ِبآ َياتِنَا َال يُوقِنُونَ ) (النمل ،)82:فقوله تعالى هو من قوله أيضاَ ( :وأ ُ ِ
وح َ
س ِب َما َكانُوا يَ ْفعَلُونَ ) نُوحٍ أَنَّهُ لَ ْن يُؤْ ِمنَ ِم ْن قَ ْو ِم َك ِإ َّال َم ْن قَ ْد آ َمنَ فَ َال ت َ ْبتَئِ ْ
(هود.)36:
وهذه حالة تناسب البهيمية التي ظهرت ألجلها األرض في صورة الدابة،
علَ ْي ِه
ون َت ت َ ُك ُ ْت َم ِن ات َّ َخذَ إِ َٰلَ َههُ ه ََواهُ أَفَأ َ ْن َوذلك من قول هللا عز وجل(أَ َرأَي َ
ب أَ َّن أَ ْكث َ َر ُه ْم يَ ْس َمعُونَ أَ ْو يَ ْع ِقلُونَ ۚ إِ ْن ُه ْم إِ َّال َك ْاأل َ ْنعَ ِام ۖ بَ ْل ُه ْم يال أَ ْم تَ ْح َ
س ُ َو ِك ً
يال) (الفرقان ،)44-43:وقوله تعالىَ ( :ولَقَ ْد ذَ َرأْنَا ِل َج َهنَّ َم َك ِث ً
يرا ِمنَ سبِ ً ض ُّل َأَ َ
انْص ُرونَ ِب َها َولَ ُه ْم آذَ ٌ وب َال َي ْفقَ ُهونَ ِب َها َولَ ُه ْم أ َ ْعيُ ٌن َال يُب ِ ْال ِج ِن َو ْ ِ
اإل ْن ِس ۖ لَ ُه ْم قُلُ ٌ
ض ُّل ۚ أُو َٰلَئِ َك ُه ُم ْالغَافِلُونَ ) َال يَ ْس َمعُونَ ِب َها ۚ أُو َٰلَئِ َك َك ْاأل َ ْن َع ِام بَ ْل ُه ْم أَ َ
(األعراف.)179:
فعصا موسى كانت دائما أداة التفريق ،فكان بها انفالق البحر ،وكان بها
التفريق بين السحر والمعجزة أمام الناس لما التقمت صورتها الثعبانية
ثعابين السحرة ،وكان بها انبجاس الصخر عن اثنا عشر عينا ليشرب منها
بنو إسرائيل.
وعلى الرغم من القدرة الهائلة والسلطة العظيمة للدابة التي تُثْبتها النصوص
الواردة مثل عبارة« :ال يدركها طالب وال ينجو منها هارب» (.)174
فإن هذه النصوص بذاتها تثبت أيضا أنها محكومة بقدر هللا عز وجل ،ولعل
إثبات ذلك من النصوص أمر مهم ،فقد سبقت العبارة الدالة على القدرة
المذكورة آنفا ً عبارة تقول« :وتثبت عصابة من المؤمنين عرفوا أنهم لن
يعجزوا هللا» ،فالدابة ،في تصور المؤمنين ،ال تتحرك إال بإذن هللا عز وجل،
كما أن خرجتها ستكون محكومة من حيث األثر والذكر ،حيث لن يفشوا
ذكرها مكة ،إال في الخرجة الثالثة بعد أن يدخل ذكرها مكة دون أن يفشوا
في الخرجة الثانية حيث ذكر رسول هللا ﷺ« :إن الدابة لها ثالث خرجات
من الدهر فقد خرجت من أقصى البادية وال يدخل ذكرها القرية ،أي مكة،
ثم تكمن زمانا ً طويالً ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشوا ذكرها في
البادية ،ويدخل ذكرها»(.)175
ولعل أروع األلفاظ الدالة على أن الدابة محكومة هي قول رسول هللا ﷺ أن
الدابة لها ثالث خرجات من الدهر ،ألن الدهر هو الدليل على خضوع
الزمان وأحداث الزمان إلرادة هللا عز وجل ،بدليل قول رسول هللا ﷺ في
ِي اللَّ ْي ُل َوالنَّ َه ُ
ار» ب اب ُْن آدَ َم الدَّ ْه َرَ ،وأَنَا الدَّ ْه ُرِ ،ب َيد َ
س ُّ
الحديث القدسي« :يَ ُ
( )173مسند أحمد بن حنبل برقم.)7739( :
( )174أخرجه الحاكم وصححه وتقدم بتمامه.
( )175الحاكم وصححه تقدم فيما قبله.
( ،)176ومن هنا كان النهي عن سب الدهر ،فان األيام والليالي بيد هللا عز
وجل.
وهذه هي الحكمة ،بصفة عامة ،في فهم عالمة الدابة ،ولكن هذه الحكمة لها
بقية تفسرها بصورة كاملة ،وهي ظاهرة في العالقة بين األرض وعمل
اإلنسان «العالقة األولى ،المذكورة آنفا ً» والتي كان دليلها قول هللا عز
ض َوإ ْذ أ َ ْنت ُ ْم شأ َ ُك ْم ِم ْن ْ
األر ِ إن َرب ََّك َوا ِس ُع اْلَم ْغ ِف َرةِ ُه َو أَ ْعلَ ُم بِ ُك ْم إ ْذ أَن َ
وجلَّ ﴿ :
ون أ َ َّم َهاتِ ُك ْم﴾(النجم ،)32:فقد ذكر هللا مع عالقة األرض باإلنسان ط ِ أَ ِجنَّةٌ ِفي بُ ُ
عالقة أخرى وهى الوراثة التي تبدأ في بطون األمهاتَ ﴿ :وإ ْذ ْ أنت ُ ْم أَ ِجنَّةٌ فِي
ون أَ َّم َهاتِ ُك ْم﴾ ،والوراثة ترجع إلى آدم ،وهو أصل الوراثة ،ومن هنا ط ِ بُ ُ
أصبح يحكم عمل اإلنسان مادة الخلق وهي األرض وأصل الخلق وهو آدم.
وكما ينتهي حكم األرض على عمل اإلنسان بالختم ،فيبقى لحكم آدم ،كأصل
الوراثة ،على عمل اإلنسان نهاية توازي الختم وهي بعث أهل الجنة والنار
عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال« :أول من يُدعي يوم القيامة آدم ،فتراءى
ذريته ،فيقال :هذا أبوكم آدم فيقول :لبيك وسعديك فيقول :أخرجْ من كل مائة
تسعة وتسعين» (.)177
وفي هذا اإلطار تُفهم عالمة الدابة ،لماذا تخرج الدابة من األرض؟ ولماذا
تخرج في صورة دابة؟ ولماذا تخرج من أماكنها المحددة؟ ولماذا تخرج ومعها
عصا موسى وخاتم سليمان؟ ولماذا تختم على أعمال العباد؟ واإلجابة على
هذه التساؤالت هو إطار فهم هذه العالمة.
العام
ى
اإلنسان للعالمة ..من حيث
ي «المضمون
متلق
ي هو مقصود بها ..ومن حيث هو
لخيها»
ر
الفصل األول
ى
اإلنسان للعالمات
ي المضمون
بي اإلنسان ر ى
وبي عالمات الساعة المستوى الفردي للعالقة ر ى
ويوافق اآلية في معناها قول رسول هللا ﷺ :عن أبي عبد الرحمن عبد هللا
بن مسعود رضي هللا عنه قال« :حدثنا رسول هللا ﷺ وهو الصادق المصدوق
قال :إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما َ نطفه ثم يكون علقة
مثل ذلك ثم يكون مضغه مثل ذلك ثم يرسل أليه الملك فينفخ فيه الروح
ويؤمر بأربع كلمات :بكتب رزقه ،وأجله ،وعمله ،وشقي أو سعيد» (،)178
حيث جمع الحديث بين اإلنسان بنوعه وعمله في الدنيا وبين مصيره عند
هللا يوم القيامة.
أما من حيث اقتران العالمات بالطبيعة اإلنسانية ،فقد قرن هللا سبحانه يوم
القيامة بما تدل عليه منها ،قال تعالىَ ( :ال أ ُ ْق ِس ُم بِيَ ْو ِم ْال ِقيَا َم ِة َو َال أ ُ ْق ِس ُم بِالنَّ ْف ِس
اللَّ َّوا َم ِة) (القيامة ،)2-1:ألن النفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها بطبيعتها،
وهذا يعني وجود أصل الحساب علي األعمال التي سيكون عليها يوم
ي بَنَانَهُ) (القيامة )4:وشكل هذه س ِو َ علَ َٰى أ َ ْن نُ َ
القيامة ،ثم قال ( :بَلَ َٰى قَاد ِِرينَ َ
العظام دليل على القيامة ألن عدم مساواة األصابع دليل علي أن لكل شيء
صبُع من أصابعه له نهاية. نهاية ،ألن كل أ ُ ْ
ومن حيث رده إلي أرذل العمر لتكون نهاية الكيان اإلنساني كله ليكون ذلك
دليالً علي أن نهاية الوجود اإلنساني كله ،قال تعالى ( :يَا أَيُّ َها النَّ ُ
اس إِ ْن ُك ْنت ُ ْم
علَقَ ٍة ث ُ َّم ِم ْن
طفَ ٍة ث ُ َّم ِم ْن َ ب ث ُ َّم ِم ْن نُ ْث فَإِنَّا َخلَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن ت ُ َرا ٍ ب ِمنَ ْال َب ْع ِ ِفي َر ْي ٍ
غي ِْر ُمخَلَّقَ ٍة ِلنُ َب ِينَ لَ ُك ْم ۚ َونُ ِق ُّر فِي ْاأل َ ْر َح ِام َما نَشَا ُء ِإلَ َٰى أَ َج ٍل ضغَ ٍة ُمخَلَّقَ ٍة َو َ ُم ْ
شدَّ ُك ْم ۖ َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُتَ َوفَّ َٰى َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ َردُّ س ًّمى ث ُ َّم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْف ًال ث ُ َّم ِلتَ ْبلُغُوا أ َ ُُم َ
َامدَة ً فَإِذَا أَ ْنزَ ْلنَا
ضه ِ ش ْيئًا ۚ َوت َ َرى ْاأل َ ْر َ إِلَ َٰى أ َ ْرذَ ِل ْالعُ ُم ِر ِل َكي َْال يَ ْعلَ َم ِم ْن بَ ْع ِد ِع ْل ٍم َ
َّللاَ ُه َو ْال َح ُّق ت ِم ْن ُك ِل زَ ْوجٍ بَ ِهيجٍ َٰذَ ِل َك ِبأ َ َّن َّ ت َوأَ ْنبَتَ ْ ت َو َر َب ْعلَ ْي َها ْال َما َء ا ْهت َ َّز ْ
َ
ْب فِي َها عةَ آتِ َيةٌ َال َري َ سا َ ِير َوأَ َّن ال َّ ش ْيءٍ قَد ٌ علَ َٰى ُك ِل َ َوأَنَّهُ يُ ْح ِيي ْال َم ْوتَ َٰى َوأَنَّهُ َ
ور) (الحج .)7-5:وبهذا االعتبار يجب أن تكون ث َم ْن فِي ْالقُبُ ِ َوأَ َّن َّ
َّللاَ يَ ْب َع ُ
هناك عالقة بين اإلنسان والساعة باعتبار أن الساعة هي نهاية الخلق عامة،
واإلنسان خاصة.
ى
اإلنسان
ي رفع األمانة والعلم وارتباطه بالوجود
ويالحظ ارتباط عالمات الساعة بالمضمون اإلنساني أيضا بتحليل عالمتي:
( )178أخرجه البخاري في بدء الخلق /باب :ذكر المالئكة «/350/6ح ،»3208ومسلم في (القدر) /باب :كيفية خلق
اآلدمي في بطن أمه « ،190/16/6النووي» ،وأبو داود في السنة /باب :القدر «/227/4ح .»4078
ض الر ُج ُل النَّ ْو َمةَ ،فَت ُ ْق َب ُرفع العلم واألمانة ،ففي رفع األمانة قال ﷺَ « :ينَا ُم َّ
ض فَيَ ْبقَى ظ ُّل أَث َ ُرهَا ِمثْ َل أَثَ ِر ْال َو ْكتِ ،ث ُ َّم يَنَا ُم النَّ ْو َمةَ ،فَت ُ ْقبَ ُ
ْاأل َ َمانَةُ ِم ْن قَ ْل ِب ِه ،فَيَ َ
ْس فِي ِهط فَتَ َراهُ ُم ْنتَبِ ًرا َولَي َ علَى ِر ْج ِل َك ،فَنَ ِف َ أَثَ ُرهَا ِمثْ َل ْال َم ْج ِل َك َج ْم ٍر دَ ْح َر ْجتَهُ َ
اس يَتَ َبا َيعُونَ فَ َال َي َكادُ أَ َحدٌ يُ َؤدِي ْاأل َ َمانَةَ ،فَيُقَا ُل ِ :إ َّن فِي صبِ ُح النَّ ُ ش ْي ٌء ،فَيُ ْ َ
ظ َرفَهُ َو َما أَ ْجلَدَهُ َو َما فِي لر ُج ِل َ :ما أَ ْعقَلَهُ َو َما أ َ ْ َبنِي فُ َال ٍن َر ُج ًال أَ ِمينًاَ ،ويُقَا ُل ِل َّ
ان»(.)179 قَ ْلبِ ِه ِمثْقَا ُل َحبَّ ِة خ َْردَ ٍل ِم ْن إِي َم ٍ
والمالحظة المنهجية في الحديث هي أن األمانة ال تقبض من قلب الرجل
إال وهو نائم ،ولذلك يقول النبي ﷺ« :ينام الرجل النومة ،ثم ينام النومة»،
()180
وذلك أن األمانة هي التكليف ،والنوم هو الحال الذي يرفع فيه التكليف
فيناسب ذلك قبض األمانة ،ألنها أصل التكليف فيناسب قبضها حال رفع
التكليف ،وأما حقيقة مكانها فهو جذر قلوب الرجال «أي أصل قلوب
الرجال» ،والنوم هو الحال الذي ينام فيه القلب ،ألن الذي ال ينام قلبه إذا نام
هم األنبياء فيناسب حال نوم القلب أن ترفع األمانة من أصله.
وكما كان رفع األمانة دليالً على جوهرية المضمون اإلنساني لعالمات
الساعة فهناك رفع العلم وهو ال يختلف عن األمانة في رفعها وفي ذلك يقول
ﷺ« :إن هللا ال يقبض العلم انتزاعا ً ينتزعه من الناس ،ولكن يقبض العلم
بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما ً اتخذ الناس رؤساء جهاالً فسئلوا فأفتوا
بغير علم فضلوا وأضلوا» ( ،)181ذلك ألن العلم الشرعي علم بالوحي،
ت تَ ْد ِري والوحي روح من هللا ( َو َك َٰذَ ِل َك أَ ْو َح ْينَا إِلَي َْك ُرو ًحا ِم ْن أَ ْم ِرنَا ۚ َما ُك ْن َ
ان َو َٰلَ ِك ْن َجعَ ْلنَاهُ نُ ً
ورا نَ ْهدِي بِ ِه َم ْن نَشَا ُء ِم ْن ِع َبا ِدنَا ۚ َو ِإنَّ َك َما ْال ِكتَ ُ
اب َو َال ْ ِ
اإلي َم ُ
ص َراطٍ ُم ْستَ ِق ٍيم) (الشورى ،)52:ولذلك ناسب أن يكون رفع العلم لَتَ ْهدِي ِإلَ َٰى ِ
بانتزاع الروح والموت وبذلك تأكد المضمون اإلنساني في صفة األمانة
والعلم.
واختيار مثل األمانة والعلم في إثبات المضمون اإلنساني للعالمات ليس فقط
ألن األمانة والعلم ألصق الصفات وأعمقها في كيان اإلنسان بل ألن رفعها،
( )179صحيح ،أخرجه البخاري في الفتن (.)6045
( )180بدليل قول رسول هللا ﷺ «رفع القلم عن ثالث ،عن النائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يعقل ،والعالم حتى يبلغ
الحلم».
( )181أخرجه البخاري في كتاب العلم (.)98
في نفس الوقت ،بداية لرفع الدين والكون ،فرفع األمانة بداية لرفع األحكام،
بدليل قول رسول هللا صلى عليه وسلم« :أول ما تفقدون من دينكم األمانة،
ثم الصالة» ( ،)182ورفع العلم بداية رفع واقع الدين والكون ،كما قال ﷺ:
«يرفع العلم ويكثر الجهل ويفشو الزنى وتكثر الزالزل» ،حتى تكون الساعة
الزلزال األكبر.
بي اإلنسان ر ى
وبي عالمات الساعة المستوى ر
البشي للعالقة ر ى
واألمة ِعرق ودين ،ولذلك ستكون حقيقة األمة في تحليل العالمات من خالل
العرق والدين ،والخط األول الذي سنتابع به حقيقة األمة هو تحديد األمم
التي ستدخل مجال العالمات ،ونجدها اليهودية والنصرانية واإلسالم ،ونجد
أن عرق اليهود بنو إسحاق ،وعرق النصارى الروم بنو األصفر ،وعرق
وأن ما يفسر مفهوم األمة في إطار العالمات بصفة أساسية ثالث حقائق:
الحقيقة الثابتة :التي تنتظم تحتها األمم الثالث «السنن الثابتة لألمة لالتجاه
نحو النهاية» ،الحقيقة الجامعة :التي تجمع بين األمم الثالث «الدور
اإليجابي» ،الحقيقة الفاصلة :التي تفصل بين األمم الثالث «حقائق
الصراع».
ومثال الحقائق الثابتة :االفتراق :كما قال الرسول ﷺ« :افترقت اليهود على
إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ،وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين
فرقة ،وستفرق أمتي على ثالث وسبعين فرقة» ( ،)185والتقليد« :كما قال
عا بذراع ،حتىشبرا بشبر وذرا ً
الرسول ﷺ« :لتتبعن سنن من كان قبلكم ً
لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» ،قالوا :اليهود والنصارى يا رسول هللا؟
قال« :فمن؟» (.)186
ومثال الحقائق الجامعة هو :بقاء هذه األمم الثالث حتى آخر العالمات،
بدليل أن الدين لن يكون ملة واحدة إال على يد عيسى عليه السالم ،فمن حيث
العرق فإن آخر آثار بني إسحاق هم السبعون ألفا ً الذين سيغزون
القسطنطينية مع المسلمين ،أما نهاية صيغة األمة اليهودية فإن اليهود
سيبقون عليها حتى يقاتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم ،أما أمة النصارى
باعتبار عرقها فإنها ستبقى مع أمة النبي ﷺ حتى آخر الزمان ،بدليل قول
النبي ﷺ «ستقوم الساعة ويكون الروم أكثر عدداً ،أشد الناس عليكم الروم
ومهلكهم مع الساعة»( ،)187كما قال« :تقوم الساعة والروم أكثر
الناس»(.)188
وقوله« :إنه لم تكن فتنة في األرض منذ ذرأ هللا آدم أعظم فتنة من الدجال،
قالت أم شريك :يا رسول هللا ،فأين العرب يومئذ؟ قال :العرب يومئذ قليل،
وجلهم ببيت المقدس ،وإمامهم رجل صالح» (.)190
والحقيقة أن التقابل العرقي بين العرب والدجال يرجع إلى أصل العرب
وهو سيدنا إسماعيل ،حيث يكون مقدار االقتراب من هذا النسب هو بمقدار
التقابل مع الدجال.
( )189خرجه مسلم في (الفتن) «/253/9ح ،»2900وأحمد في (مسنده) « ،»178/1وابن ماجة «/1370/2ح .»4091
( )190أخرجه أبو داود في (الفتن) /باب :خروج الدجال « /115/4ح ،»4322وابن ماجة في (الفتن) /باب :خروج
عيسى وخروج يأجوج ومأجوج « ،»4077/1359/2من حديث أبي أمامة الباهلي.
ل ِي ْعبُدُونَ ﴾(الذاريات )56:كانت هي علة الوجود وأصبحت كذلك هي الصفة
المرجحة للخير والتي تضمن بقاءه ،فإذا قطع التعبد لم يقرهم بعد ذلك في
األرض زمنا ً طويالً» (.)191
ولما كانت الدنيا وعالمات الساعة هما زمنا ً واحدا ً لهذا الوجود ،كانت
العبادة في هذا الزمن الواحد حتما ً مقضيا ً وإال كان الهالك والعدم ،فقال
النبي ﷺ في الدجال« :وإن أيامه أربعون سنة ،السنة كنصف السنة ،والسنة
كالشهر والشهر كالجمعة وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب
المدينة فال يبلغ بابها اآلخر حتى يمسي ،فقيل له :يا رسول هللا كيف يصلى
في تلك األيام القصار؟ قال :تـقدرون فيها الصالة كما تـقدرونها في هذه
األيام الطوال ثم صلوا» (.)192
ودليل حتمية العبادة في إطار عالمات الساعة هو تأخير رفع الصالة إلى
ما قبل الساعة مباشرة ،ولذلك قال رسول هللا ﷺ« :أول ما يرفع من دينكم
األمانة ،وآخر ما يرفع من دينكم الصالة» (.)193
ومن أجل أن معنى العبادة بحتميتها حتى قيام الساعة كانت العبادة مقياسا ً
دقيقا ً للوجود من بدايته إلى نهايته فقال ﷺ« :مثل المسلمين واليهود
والنصارى كمثل رجل استأجر قوما ً يعملون له عمال يوما إلى الليل على
أجر معلوم ،فعملوا إلى نصف النهار ،فقالوا :ال حاجة لنا إلى أجرك الذي
شرطت لنا ،وعملنا باطل ،فقال لهم :ال تفعلوا ،أكملوا بقية يومكم وخذوا
أجركم ،فأبوا وتركوا ،واستأجر آخرين بعدهم ،فقال :أكملوا بقية يومكم،
ولكم الذي شرطت لهم من األجر ،فعملوا حتى إذا كان العصر قالوا ما عملنا
باطل ،ولك األجر الذي جعلت لنا فيقال :أكملوا بقية عملكم فإن ما بقى من
النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر قوما ً أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية
يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجر الفرقين ،فذلك مثلهم مثل.)194(»...
وفي ارتباط العبادة بعالمات الخير أدلة مباشرة ،منها المهدي ،فإن بيعته
وبداية ظهوره ستكون وهو قائم بين المقام والحجر «حجر إسماعيل» ،وهو
أفضل موضع للعبادة على اإلطالق ،وهو موضع عبادة سيدنا إبراهيم
وسيدنا محمد عليهما الصالة والسالم ( )195ومنها نزول عيسى ابن مريم فإنه
ينزل عند المنارتين البيضاويتين لمسجد دمشق ( )196وستـكون أول أعماله
هي صالة الصبح مع المسلمين خلف المهدي في بيت المـقدس وهو آخر
مواضع العبادة لذلك ،)197(.وكذلك خروج الدابة من موضع الخير بعد
موضعي الشر ليكون هذا الموضع هو ما بين الصفا والمروة.
محور القتال:
بعد حقيقة العبادة باعتبارها شرط بقاء األمة تأتي حقيقة القتال ،وهو األمر
الذي سيبقى حتى ظهور عيسى ابن مريم ،قال النبي ﷺ «ال تزال طائفة من
أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح
الدجال» ( )198وقال ﷺ« :ال تزال طائفة من أمتي تقاتل على الحق حتى
ينزل عيسى ابن مريم عند طلوع الفجر ،ببيت المقدس ينزل على المهدي
وبذلك تكون عالمات الساعة في إطار جميع األمم دائرة على هذه الحقائق
الثالث ،ولكن هناك بالنسبة لألمة اإلسالمية حقيقة خاصة بها وهي آخريتها
وبقاؤها حتى آخر الزمان.
وحتى عندما يذكر ضعف األمة وغلبة األمم عليها فيجب أن يفهم ذلك من
خالل هذه الحقيقة الخاصة ،فمثالً عندما نقرأ حديث رسول هللا ﷺ« :توشك
أن تداعى عليكم األمم كما تداعى األكلة إلى قصعتها ،فقال قائل :ومن قلة
نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن هللا
من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن هللا في قلوبكم الوهن فقال قائل :يا
رسول هللا ،وما الوهن؟ قال :حب الدنيا وكراهية الموت» (.)201
وباعتبار آخرية أمة النبي ﷺ كان قياس زمن الدنيا مرهونا ً ببقاء هذه األمة،
كما أخبر النبي ﷺ« :أال إن مثل آجالكم في آجال األمم قبلكم كما بين صالة
العصر إلى مغرب الشمس» (.)202
( )199أخرجه مسلم في (اإلمارة) /باب :قوله ﷺ ال تزال طائفة من أمتي ظاهرين « ،»1923/75/7وأحمد في (مسنده)
« »384/345/3من حديث جابر بن عبد هللا وتقدم تخريجه.
( )200صححه األلباني في تخريجه لمشكاة المصابيح.
( )201أخرجه أحمد في (مسنده) « ،»278/5وأخرجه أبو داود في (المالحم) ( )4297من حديث ثوبان.
( )202أخرجه البخاري في (مواقيت الصالة) (.)557
ومنها قول النبي ﷺ« :ما أعماركم من أعمار َمن مضى إال كما بقي من
النهار فيما مضى منه» ( ،)203ومنه أيضا« :مثلنا ومثل أهل الكتاب كمثل
رجل استأجر أجيرا ً» (.)204
البدء واإلعادة:
والحقيقة أن البدء واإلعادة من أفعال هللا الدالة على قدرته ،ولكن مفهوم
القدرة اإللهية من خالل البدء واإلعادة هو في حقيقته مفهوم إنساني ،ألن
إثبات القدرة هلل من خالله جاء بالقياس على العقل والتفكير والفهم اإلنساني
البحت ،ودليل ذلك قول هللا عز وجلَ ( :و ُه َو الَّذِي َي ْبدَأ ُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ َو ُه َو
يز ْال َح ِكي ُم)
ض ۚ َو ُه َو ْالعَ ِز ُ ت َو ْاأل َ ْر ِ
س َم َاوا ِعلَ ْي ِه ۚ َولَهُ ْال َمث َ ُل ْاأل َ ْعلَ َٰى فِي ال َّ
أَ ْه َو ُن َ
(الروم ،)27:إذ إن الحقيقة أن البدء عند هللا مثل اإلعادة ،وليس عند هللا
ون) (يس،)82: ش ْيئًا أَ ْن يَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ سهل وصعب ( :إِنَّ َما أَ ْم ُرهُ إِذَا أ َ َرادَ َ
ولكن القرآن يخاطب البشر وقد استقر في أذهانهم أن اإلعادة أهون فيثبت
القدرة على أساس ما استقر من فهم في العقل البشري كما يخاطب القرآن
العقل البشري على أن قاعدة البدء واإلعادة هي منطلق الفهم الكامل لكل
علَى َّ
َّللاِ َّللاُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ ۚ إِ َّن َٰذَ ِل َك َ
ئ َّ آيات الخلق ( :أَ َولَ ْم يَ َر ْوا َكي َ
ْف يُ ْب ِد ُ
( )203خرجه أحمد في مسنده ( )116/2وقيقعان :بضم القاف األولى وكسر الثانية بلفظ التصغير وهو جبل بمكة إلى
جنوبها نحو اثني عشر ميال.
( )204خرجه البخاري في( :مواقيت الصالة) /باب :ما أدرك ركعة من العصر قبل « /46/2ح »558من حديث أبي
موسى.
ئ النَّ ْشأَة َ ْف َبدَأَ ْالخ َْلقَ ۚ ث ُ َّم َّ
َّللاُ يُ ْن ِش ُ ظ ُروا َكي َ يروا فِي ْاأل َ ْر ِ
ض فَا ْن ُ َيسِير قُ ْل ِس ُ
ِير) (العنكبوت)20-19: ش ْيءٍ قَد ٌعلَ َٰى ُك ِل َ ْاآل ِخ َرةَ ۚ إِ َّن َّ
َّللاَ َ
وهذا هو المضمون اإلنساني للبدء واإلعادة من حيث الفهم ،ثم نأتي إلى
المضمون اإلنساني للبدء واإلعادة من حيث التحقيق ،ليثبت أن الواقع
اإلنساني هو مجال تحقيق هذه القاعدة في سورة يونس ( :قُ ْل َم ْن يَ ْر ُزقُ ُك ْم
ت ي ِمنَ ْال َميِ ِ ار َو َم ْن يُ ْخ ِر ُج ْال َح َّ ص َ ض أَ َّم ْن يَ ْم ِلكُ ال َّ
س ْم َع َو ْاأل َ ْب َ اء َو ْاأل َ ْر ِ س َم ِ
ِمنَ ال َّ
َّللاُ ۚ فَقُ ْل أَفَ َالس َيقُولُونَ َّ ت ِمنَ ْال َحي ِ َو َم ْن يُدَ ِب ُر ْاأل َ ْم َر ۚ فَ َ َويُ ْخ ِر ُج ْال َم ِي َ
ق إِ َّال الض ََّال ُل ۖ فَأَنَّ َٰى َّللاُ َربُّ ُك ُم ْال َح ُّق ۖ فَ َماذَا َب ْعدَ ْال َح ِ تَتَّقُونَ فَ َٰذَ ِل ُك ُم َّ
سقُوا أَنَّ ُه ْم َال يُؤْ ِمنُونَ قُ ْل ه َْل علَى الَّذِينَ فَ َ ت َك ِل َمتُ َر ِب َك َ ص َرفُونَ َك َٰذَ ِل َك َحقَّ ْ تُ ْ
َّللاُ يَ ْبدَأ ُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ ۖ فَأَنَّ َٰى
ش َر َكائِ ُك ْم َم ْن يَ ْبدَأ ُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ ۚ قُ ِل َّ ِم ْن ُ
تُؤْ فَ ُكونَ ) (يونس)34-31:
اء س َم ِ ض َوأ َ ْنزَ َل لَ ُك ْم ِمنَ ال َّ ت َو ْاأل َ ْر َ س َم َاوا ِ وفي سورة النمل ( :أَ َّم ْن َخلَقَ ال َّ
ش َج َرهَا ۗ أَإِ َٰلَهٌ َم َع َّ
َّللاِ ۚ ات بَ ْه َج ٍة َما َكانَ لَ ُك ْم أ َ ْن ت ُ ْنبِتُوا َ َما ًء فَأ َ ْنبَتْنَا بِ ِه َحدَائِقَ ذَ َ
ارا َو َجعَ َل لَ َها ارا َو َجعَ َل ِخ َاللَ َها أَ ْن َه ً ض قَ َر ً َب ْل ُه ْم قَ ْو ٌم َي ْع ِدلُونَ أَ َّم ْن َجعَ َل ْاأل َ ْر َ
َّللاِ ۚ َب ْل أَ ْكثَ ُر ُه ْم َال َي ْعلَ ُمونَ أَ َّم ْناج ًزا ۗ أ َ ِإ َٰلَهٌ َم َع َّ ي َو َج َع َل َبيْنَ ْال َب ْح َري ِْن َح ِ َر َوا ِس َ
ض ۗ أ َ ِإ َٰلَهٌ َم َع سو َء َويَ ْجعَلُ ُك ْم ُخلَفَا َء ْاأل َ ْر ِ ِف ال ُّ عاهُ َويَ ْكش ُ ط َّر ِإذَا دَ َ ض َيب ْال ُم ْ يُ ِج ُ
الريَا َح ت ْالبَ ِر َو ْالبَ ْح ِر َو َم ْن يُ ْر ِس ُل ِ يال َما تَذَ َّك ُرونَ أَ َّم ْن يَ ْهدِي ُك ْم فِي ُ
ظلُ َما ِ َّللاِ ۚ قَ ِل ً
َّ
ع َّما يُ ْش ِر ُكونَ أَ َّم ْن َي ْبدَأ ُ ْالخ َْلقََّللاُ َ َّللاِ ۚ تَ َعالَى َّي َر ْح َم ِت ِه ۗ أ َ ِإ َٰلَهٌ َم َع َّبُ ْش ًرا َبيْنَ َيدَ ْ
َّللاِ ۚ قُ ْل هَاتُوا بُ ْرهَانَ ُك ْم ض ۗ أ َ ِإ َٰلَهٌ َم َع َّ اء َو ْاأل َ ْر ِ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ َو َم ْن َي ْر ُزقُ ُك ْم ِمنَ ال َّ
س َم ِ
صا ِدقِينَ ) (النمل،)64-60: ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم َ
ى
«األسلوب النبوي يف اإلخبار عن عالمات الساعة»
ترتيب العالمات
وقد جاءت نصوص اإلخبار على الترتيب بعدة اعتبارات ،أهمها:
أوال :أن يكون الترتيب مرتبطا ً في جوهره بعلة العالمة وحكمتها ،مثل
اإلخبار عن الدابة والشمس بإطالق دون ترتيب بينهما ،ألن العلة والحكمة
فيهما واحدة زمـنيا ً وهي انقطاع العمل البشري وتوقف التحول من الكفر
إلى اإليمان وهو الزمن الذي أصبح ظهور واحدة منهما يكفي عن األخرى،
ولذلك قال النبي ﷺ في العالمة من حيث الترتيب« :إذا طلعت إحداهما
تبعتها األخرى».
ثانيا :أن يكون الترتيب شرطا ً ثابتا ً بين العالمات وهو غير المثال األول،
حتى يبلغ شرط الترتيب أن تكون العالمة بذاتها عالمة علي العالمة التي
تليها ،دون ذكر لفظ السبق أو «واو العطف» ومثال ذلك قول رسول هللا
ﷺ« :عمران بيت المقدس ،خراب يثرب ،وخراب يثرب ،خروج الملحمة،
وخروج الملحمة ،فتح قسطنطينية ،وفتح القسطنطينية خروج الدجال»،
فجاء تمام كل عالمة شرطا ً للعالمة التي تليها.
ومن األمثلة الدالة على ارتباط الترتيب بعلة العالمة هو قول رسول هللا ﷺ:
«بادروا باألعمال ستا ً ،طلوع الشمس من مغربها ،والدجال ،والدخان ،ودابة
األرض» (.)205
وكلها عالقة بالعمل ،ولذلك بدأ الحديث بقوله« :بادروا باألعمال ستا ً»،
والعالقة هي الفرقان التام بين أعمال المؤمنين والكفار ،فالشمس وطلوعها
من المغرب ال تتغير بعده األعمال ،والدجال سيكون دليالً ب ِفتَنه علي صعوبة
األعمال الصالحة ،ألن أتباعه سيكونون أصحاب الشر كله «اليهود ،النساء،
الشياطين» ،والدخان سيكون فرقانا ً بين المؤمنين والكافرين في أثره في الناس
بحسب األعمال فيخرج الدخان من جميع منافذ الكافر ،ويصيب المؤمن مثل
( )205أخرجه مسلم في (الفتن) ( .)2947وأحمد في مسنده « ،»324 /2وأخرجه أبن ماجة في (الفتن) (.)4056
الزكمة ( ،)206أما الدابة فهي صاحبة الخطم والختم ،خطم الكافر علي أنفه
وختم المؤمن باإليمان ،وبذلك أصبح العمل محورا ً للعالمات ومن هنا كان
الترتيب.
ثالثا :ومنها إسقاط اعتبار الترتيب بين العالمات بصفتها الخاصة في إطار
اإلثبات العام اإلجمالي لها ،مثل ذكر مجموعة من العالمات باعتبارها
مقدمة إجمالية بين الساعة ،ولهذا تجد إسقاط اعتبار الترتيب الخاص
للعالمات إذا كانت مقدمة إجمالية للساعة ،غالبا ً ما نجد في مثل هذه
األحاديث عبارة« :ال تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب
يقتتل عليه من كل مائة تسعة وتسعون ،فيقول كل رجل منهم لعلي أن أكون
أنا أنجو»( ،)207وقول النبي ﷺ« :بين يدى الساعة أيام الهرج»( ،)208وقول
النبي ﷺ« :بين يدي الساعة كذابون منهم صاحب اليمامة ومنهم صاحب
صنعاء العنسي ،ومنهم صاحب حمير ومنهم الدجال وهو أعظم فتنة»(،)209
وقول النبي ﷺ« :بين يدي الساعة مسخ وخسف وقذف»(.)210
واإلشارة إلى التماثل بين حال البشرية قبل والبعثة وحالها قبل يوم القيامة
أيضا مأخوذة من حديث آخر أخبر به النبي ﷺ« :إن هللا نظر إلي أهل
األرض فمقتهم عجمهم وعربهم إال بقايا من أهل الكتاب ،وقال إنما بعثتك
ألبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا ً ال يغسله الماء تقرؤه نائما ً ويقظانا ً»
(.)215
غير أننا ،وفي إطار حدثينا عن التماثل بين واقع ما قبل البعثة وواقع ما قبل
عالمات الساعة ،وفي إطار تفسيرنا لعبارة« :وإن كادت لتسبقني» ،ال بد
وأن نقف عند واقعة هي أقوى في داللتها على االرتباط بين البعثة ويوم
القيامة ،أال وهي واقعة إجالء يهود بني النضير من المدينة ،وقد كان النبي
ﷺ قد هادنهم وأعطاهم عهدا وذمة على أن ال يقاتلهم وال يقاتلوه ،فنقضوا
العهد الذي كان بينهم وبينه ،فأجالهم النبي ﷺ وأخرجهم من حصونهم،
وهي الواقعة التي نزلت فيها اآليةُ ( :ه َو الَّذِي أَ ْخ َر َج الَّذِينَ َكفَ ُروا ِم ْن أَ ْه ِل
ظنُّوا أَنَّ ُه ْم َمانِ َعت ُ ُه ْم ار ِه ْم ِأل َ َّو ِل ْال َح ْش ِر ۚ َما َ
ظنَ ْنت ُ ْم أ َ ْن َي ْخ ُر ُجوا ۖ َو َ ْال ِكتَا ِ
ب ِم ْن ِد َي ِ
ْب ۚ الرع َ ف فِي قُلُو ِب ِه ُم ُّ ْث لَ ْم َي ْحتَ ِسبُوا ۖ َوقَذَ َ َّللاُ ِم ْن َحي َُّللاِ فَأَتَا ُه ُم َّ
صونُ ُه ْم ِمنَ َُّح ُ
ار) ص ِ يُ ْخ ِربُونَ بُيُوتَ ُه ْم ِبأ َ ْيدِي ِه ْم َوأَ ْيدِي ْال ُمؤْ ِمنِينَ فَا ْعت َ ِب ُروا يَا أُو ِلي ْاأل َ ْب َ
(الحشر.)2:
ووجه داللة الواقعة على التقارب بين البعثة وبين عالمات الساعة ،هو أن
إجالء بني النضير عن المدينة هو بداية حقيقية إلحدى العالمات الكبرى
للساعة ،وهي خروج نار من قعر عدن تحشر الناس إلى أرض المحشر،
وذلك أن النبي ﷺ لما طردهم من المدينة سألوه :إلى أين؟ قال« :إلى أرض
المحشر» ( ،)216وعن الحسن أن النبي ﷺ لما أجلى بني النضير ،قال« :هذا
أول الحشر ،وأنا على األثر» (.)217
( )214أخرجه البخاري (الفتن) « ،»7116/82/13وأخرجه مسلم في (الفتن) ( )2906/260/9وأخرجه أحمد في (مسنده)
( )215أخرجه أحمد في (مسنده) «.»162/4
( )216ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره في قوله «هو الذي أخرج الذين كفروا».....اآلية «ح .»18850
( )217تفسير الطبري ( )20/28ورواه ابن سعد في الطبقات ( )42/2عن هوذة ابن خليفة ،عن عوف ،عن الحسن به
وهو مرسل.
وليست وجهة حشر يهود بني النضير فقط هي وجه التماثل بين واقعة
إجالءهم وبين الحشر العام يوم القيامة ،بل إن كيفية هذا اإلجالء أيضا يعطي
ذلك التماثل عمقا آخر ،فعن معاوية بن حيدة رضي هللا عنه أن رسول هللا
ﷺ قال« :يحشر الناس على ثالث طرائق :راغبين راهبين ،واثنان على
بعير ،وثالثة على بعير ،وأربعة على بعير ،وعشرة على بعير ،وتحشر
بقيتهم النار ،تقيل معهم حيث قالوا ،وتبيت معهم حيث باتوا ،وتصبح معهم
حيث أصبحوا ،وتمسي معهم حيث أمسوا»( ،)218وهو وصف يقابل الكيفية
التي أجلى بها النبي ﷺ بني النضير إلى أرض الشام حيث نقل ابن كثير في
تفسير آية الحشر قوال ابن أبي حاتم فقال« :صالح رسول هللا ﷺ بني النضير
بعد أن غدروا به علي الجالء بشرط أال يأخذوا معهم السالح ،وقد أعطي
كل ثالثة بعيرا ً وسقا ًء»(.)219
ويؤكد ذلك التماثل إشارة ثالثة قوية في داللتها عليه ،وهي المأخوذة من
ض ار أَ ْه ِل األ َ ْر ِ
ون ِه ْج َرة ٌ بَ ْعدَ ِه ْج َرةٍ فَ ِخيَ ُ ست َ ُك ُ
خبر النبي ﷺ حيث قالَ « :
ضو ُه ْمظ ُه ْم أ َ ْر ُار أَ ْه ِل َها تَ ْل ِف ُ
ض ِش َر ُ يم َو َي ْبقَى ِفي األ َ ْر ِ أَ ْلزَ ُم ُه ْم ُم َها َج َر إِب َْرا ِه َ
َازير» (.)220 ار َم َع ْال ِق َردَةِ َو ْال َخن ِ
ش ُر ُه ُم النَّ ُ
َّللاِ َوت َ ْح ُ
س َّ تَ ْقذَ ُر ُه ْم نَ ْف ُ
والداللة هنا واضحة ،فالنبي ﷺ قد وصف شرار الناس أثناء الحشر األعظم
بأنهم قردة وخنازير ،وهو ما وصف به هللا سبحانه جنس اليهود الذين كان
منهم بنو النضير ،قال تعالى( :قُ ْل ه َْل أُن َِبئ ُ ُك ْم ِبش ٍَر ِم ْن َٰذَ ِل َك َمثُو َبةً ِع ْندَ َّ
َّللاِ ۚ
وت ۚ غ َ الطا ُعبَدَ َّ ير َو َ َاز َ علَ ْي ِه َو َجعَ َل ِم ْن ُه ُم ْال ِق َردَةَ َو ْال َخن ِ
ب ََض ََّللاُ َوغ َِم ْن لَ َعنَهُ َّ
سبِي ِل) (المائدة.)60: اء ال َّ ع ْن َ
س َو ِ ض ُّل َأُو َٰلَئِ َك ش ٌَّر َم َكانًا َوأ َ َ
أما اإلشارة الرابعة على التماثل بين واقعة إجالء بني النضير وبين عالمة
الحشر األعظم يوم القيامة ،فهي الحالة النفسية التي كان عليها اليهود أثناء
( )218صحيح البخاري برقم.6522 :
( )219أخرجه ابن جرير في (تفسيره) « )22 /28وانظر فتح القدير «ح »11968بلفظ عن ابن عباس قال :كان النبي
ﷺ قد حاصرها حتى بلغ كل منهم كل مبلغ وفيه« :وجعل لكل ثالثة منهم بعيرا وسقاء».
( )220سنن أبي داوود برقم ( ،)2127ومسند أحمد بن حنبل برقم (.)6694
الجالء ،فقد كانوا «راغبين وراهبين» ،أيضا كما سيكون عليه الناس يوم
الحشر األعظم ،وذلك أنهم انقسموا أمام الجالء إلى فريقين ،فريق راغب
لما علم من أمر الجالء وأنه آخر عهدهم بالذل ،وفريق راهب لما في
إخراجهم من ترك لديارهم وشتات لهم ،وهي الحالة التي تماثل حال الناس
يوم الحشر األعظم ،حيث أخبر النبي ﷺ عن حالهم وأنهم «راغبين
وراهبين» أي طامعين في حسن الجزاء وجزعين من سوء العقاب.
داللة األلفاظ
األلفاظ والعبارات والصيغ اللغوية التي عرضت بها العالمات في الوحي
مرتبطة بمضمون العالمات ،وال يعني تجاهلها إال قصورا في رؤيتها.
ومن األمثلة على دقة األلفاظ في عرض العالمات ،ما ورد عن بقاء أمر
الظهور على الحق في األمة واستمراره فيها إلى قيام الساعة ،وهو الخبر
الوارد في الحديث« :التزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ،ظاهرين
على من ناوأهم ،حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال»( )221فقد عبر النبي ﷺ
عن بقائهم إلى قيام الساعة ظاهرين على الحق بأن «آخرهم يقاتل الدجال»،
وذلك أن مضمون البعثة المحمدية هو «الظهور بها على الرافضين لها منذ
أن بشر بها المسيح عليه السالم» ،ولذلك كان المسيح هو قاتل الدجال وكاسر
الصليب وواضع الجزية ألن محاولة االلتفاف حول البعثة المحمدية كانت
من خالله هو بتحويله إلى إله من دون هللا ،ولذلك كانت الفئة الظاهرة البد
أن تكون مرتبطة بالمسيح أثناء قتله للدجال.
وما يؤكد حقيقة الظهور كنقض لتأليه المسيح ،أو تأليه المسيح كمحاولة
لنقض البعثة المحمدية ،يمكن مالحظتها في سورة التوبة ،وفي سورة الفتح،
ار ُه ْم وفي سورة الصف ،ففي سورة التوبة يقول هللا عز وجل( :ات َّ َخذُوا أَ ْح َب َ
َّللاِ َو ْال َمسِي َح ابْنَ َم ْريَ َم َو َما أ ُ ِم ُروا إِ َّال ِليَ ْعبُدُوا إِ َٰلَ ًها
ُون ََّو ُر ْهبَانَ ُه ْم أ َ ْربَابًا ِم ْن د ِ
ور َّ
َّللاِ ط ِفئُوا نُ َ ع َّما يُ ْش ِر ُكون َيُ ِريدُونَ أ َ ْن يُ ْ س ْب َحانَهُ َ احدًا ۖ َال إِ َٰلَهَ إِ َّال ُه َو ۚ ُ
َو ِ
( )221سنن أبي داوود برقم ( .)2155ومسند أحمد بن حنبل برقم (.)19073
سولَهُ ورهُ َولَ ْو َك ِرهَ ْال َكافِ ُرونَ ُه َو الَّذِي أ َ ْر َ
س َل َر ُ ِبأ َ ْف َوا ِه ِه ْم َو َيأ ْ َبى َّ
َّللاُ إِ َّال أَ ْن يُتِ َّم نُ َ
ِين ُك ِل ِه َولَ ْو َك ِرهَ ْال ُم ْش ِر ُكونَ ) (التوبة-31:علَى الد ِ ظ ِه َرهُ َ ق ِليُ ْ ِين ْال َح ِ
ِب ْال ُهدَ َٰى َود ِ
.)33
َّللاِ ۚ َوالَّذِينَ َم َعهُ أَ ِشدَّا ُءسو ُل َّ وفي سورة الفتح يقول هللا عز وجلُ ( :م َح َّمدٌ َر ُ
َّللا َو ِرض َْوانًا ۖ س َّجدًا يَ ْبتَغُونَ َفض ًْال ِمنَ َّ ِ علَى ْال ُكفَّ ِار ُر َح َما ُء َب ْينَ ُه ْم ۖ تَ َرا ُه ْم ُر َّكعًا ُ َ
َٰ ِسي َما ُه ْم ِفي ُو ُجو ِه ِه ْم ِم ْن أَثَ ِر ال ُّ
س ُجو ِد ۚ ذَ ِل َك َمثَلُ ُه ْم ِفي الت َّ ْو َراةِ ۚ َو َمثَلُ ُه ْم ِفي ْ ِ
اإل ْن ِجي ِل
ظع ِل َي ِغي َ ب ُّ
الز َّرا َ سو ِق ِه يُ ْع ِج ُ علَ َٰى ُ
ظ َفا ْستَ َو َٰى َ َطأَهُ فَآزَ َرهُ َفا ْستَ ْغلَ َ َكزَ ْرع أَ ْخ َر َج ش ْ
ٍ
ع ِظي ًما) َ
ت ِم ْن ُه ْم َم ْغ ِف َرة ً َوأ ْج ًرا َ صا ِل َحا ِع ِملوا ال َّ ُ َّ
َّللاُ الذِينَ آ َمنُوا َو َ ِب ِه ُم ْال ُكف َ
ار ۗ َو َعدَ َّ َّ
(الفتح.)29:
سى اب ُْن َم ْر َي َم َيا َب ِني وفي سورة الصف يقول هللا عز وجلَ ( :و ِإ ْذ قَا َل ِعي َ
سو ٍل ي ِمنَ الت َّ ْو َراةِ َو ُم َبش ًِرا بِ َر ُ ص ِدقًا ِل َما بَيْنَ َيدَ َّ َّللاِ ِإلَ ْي ُك ْم ُم َ
سو ُل َّ
ِإ ْس َرائِي َل إِنِي َر ُ
ين َو َم ْن ت قَالُوا َٰ َهذَا ِس ْح ٌر ُم ِب ٌ يَأْتِي ِم ْن بَ ْعدِي ا ْس ُمهُ أَ ْح َمدُ ۖ فَلَ َّما َجا َء ُه ْم ِب ْالبَ ِينَا ِ
َّللاُ َال يَ ْهدِي ْالقَ ْو َماإل ْس َال ِم ۚ َو َّع َٰى إِلَى ْ ِ َّللاِ ْال َكذ َ
ِب َو ُه َو يُ ْد َ علَى َّ ظلَ ُم ِم َّم ِن ا ْفت َ َر َٰى َ أَ ْ
ور ِه َولَ ْو َك ِرهَ َّللاُ ُم ِت ُّم نُ ِ َّللاِ ِبأ َ ْف َوا ِه ِه ْم َو َّور َّ ط ِفئُوا نُ َ الظا ِل ِمينَ يُ ِريدُونَ ِليُ ْ َّ
علَى الد ِ
ِين ُك ِل ِه ظ ِه َرهُ َ ق ِليُ ْ ِين ْال َح ِسولَهُ ِب ْال ُهدَ َٰى َود ِ س َل َر ُ ْال َكافِ ُرونَ ُه َو الَّذِي أ َ ْر َ
َولَ ْو َك ِرهَ ْال ُم ْش ِر ُكونَ ) (الصف.)9-6:
ومثال آخر على ارتباط اللفظ الذي وردت به العالمة بمضمونها ،هو قول
المسيح الدجال عندما رأى المدينة« :هذا قصر أحمد»( ،)222فاستخدم اسم
«أحمد» ولم يستخدم اسم «محمد» ،وهم نفس االسم الذي استخدمه المسيح
سى اب ُْن َم ْريَ َم يَا بَنِي إِ ْس َرائِي َل إِنِي عيسى ابن مريم عليه السالمَ ( :وإِ ْذ قَا َل ِعي َ
سو ٍل َيأ ْ ِتي ِم ْني ِمنَ الت َّ ْو َراةِ َو ُمبَش ًِرا ِب َر ُص ِدقًا ِل َما َبيْنَ َيدَ َّ َّللاِ ِإلَ ْي ُك ْم ُم َ
سو ُل َّ
َر ُ
ين) (الصف.)6: ت قَالُوا َٰ َهذَا ِس ْح ٌر ُمبِ ٌ َب ْعدِي ا ْس ُمهُ أَ ْح َمدُ ۖ فَلَ َّما َجا َء ُه ْم ِب ْال َبيِنَا ِ
وداللة استخدام عيسى ابن مريم السم «أحمد» هي أن هذه الصيغة تعني:
«أحمد لك» ،أي أزكي لك وأختار لك ،وهي صيغة مناسبة لحال المسيح
( )222أخرجه أحمد في (مسنده) «.)338/3
ابن مريم مع النبي ﷺ كمبشر به ،فقد ورد في لسان العرب« :أَ ْح َمدَ الرج َل
ِإذا رضي فعله ومذهبه ولم ينشره» (.)223
أما داللة التوافق بين المسيحين في استخدام اسم «أحمد» ،فتعود إلى ما
بينهما من وحدة كخير وشر مقابل له ،أو كمعنى ونقيضه ،أو كحق وما
يضاهيه من باطل ،وليس أدل على هذه الوحدة من نهاية المسيح الدجال ال
تكون إال على يد المسيح ابن مريم ،ويشير إلى تلك الوحدة أيضا ما رآه
النبي ﷺ في منامه حيث قال« :أراني في المنام عند الكعبة فرأيت رجال آدم
كأحسن ما ترى من الرجال له لمة قد رجلت ولمته تقطر ماء واضعا يده
على عواتق رجلين يطوف بالبيت رجل الشعر فقلت من هذا فقالوا المسيح
بن مريم ثم رأيت رجال جعدا قططا أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية
كأشبه من رأيت من الناس بابن قطن واضعا يديه على عواتق رجلين يطوف
بالبيت فقلت من هذا فقالوا هذا المسيح الدجال»(.)224
ومن قواعد االرتباط بين الصيغ اللغوية لعرض العالمات وبين مضمون
العالمات ذاتها ،تعدد المفردات اللفظية في وصف حقيقة واحدة في نصوص
متعددة لتغطي جانبا من جوانب تلك الحقيقة مع كل نص ،ومثال ذلك وصف
الناس الذين ستقوم عليهم الساعة ،فقد ورد عن النبي ﷺ أنهم« :شر الناس»
وذلك في الحديث« :إن شر الناس الذين تقوم عليهم الساعة»( ،)226ثم يقول
النبي ﷺ في حديث آخر« :فبينما هم كذلك ـ أي المؤمنين ـ إذ بعث هللا ريحا ً
ثم يكون الحديث الرابع« :ثم يرسل هللا ريحا ً باردة من قبل الشام فال يبقي
علي وجه األرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إال قبضته حتى
لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه» (.)228
قال ـ أي الراوي ـ سمعتها من رسول هللا ﷺ قال« :فيبقي شرار الناس في
خفة الطير وأحالم السباع ،ال يعرفون معروفا ً وال ينكرون منكرا ً فيتمثل
لهم الشيطان فيقول :أال تستجيبون؟ فيقولون :فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة
األوثان وهم في ذلك دار رزقهم حسن معيشتهم» ( ،)229وفي الحديث تطور
في الوصف ،في الحديث األول مجرد كونهم شرار الناس ليأتي الحديث
الثاني فيزيد في وصف أفعالهم تهارج الحمر وسيأتي الثالث ليعمق ويعمم
«تسافد البهائم».
والجمع بين الحديث الذي أخبر فيه النبي ﷺ عنهم بأنهم يحشرون مع القردة
الخنازير ،وبين الحديث الذي أخبر فيه النبي ﷺ عنهم بأنهم يسلمون إرادتهم
للمسيح الدجال فيأمرهم بعبادة األوثان ،هو قول هللا عز وجل ﴿:و َج َع َل ِم ْن ُه ْم
وت﴾(المائدة ،)60:حيث سيُحشرون مع القردة غ َ عبَدَ َّ
الطا ُ ْال ِق َردَةَ َو ْال َخن ِ
َازيَر َو َ
والخنازير وعبدة األوثان.
التكرار
ومن دالئل االرتباط في الوحي بين اللفظ وبين مضمون العالمة ،داللة
التكرار ،ومثاله قول النبي ﷺ« :أن رسول هللا ﷺ خطب الناس فقال :يوم
الخالص وما يوم الخالص ،يوم الخالص وما يوم الخالص ،يوم الخالص
وما يوم الخالص ،فقيل يا رسول هللا ما يوم الخالص؟ فقال :يجيء الدجال
فيصعد أحدا فيطلع فينظر إلى المدينة فيقول ألصحابه :أال ترون إلى هذا
القصر األبيض؟ هذا مسجد أحمد ثم يأتي المدينة فيجد بكل ثقب من ثقابها
ملكا مصلتا ،فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقة ،ثم ترجف المدينة ثالث
رجفات ،فال يبقى منافق وال منافقة وال فاسق وال فاسقة إال خرج إليه
فتخلص المدينة وذلك يوم الخالص».
وعلة التكرار ليست فقط في بيان أهمية ذلك اليوم ،بل في أنه في يوم
الخالص تخرج المدينة ثلث منافقيها ثم كل منافقيها ،ومن أجل ذلك كان
التكرار.
التفصيل
وهو من عناصر تحقيق اليقين ،وأهم األدلة عليه :قول رسول هللا ﷺ بعد
ذكر الملحمة «فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك ،فجاءهم
الصريخ ،فقال :أن الدجال قد خرج في ذراريهم فيرفضون ما بأيديهم
ويقبلون فيبعثون عشر فوارس طليعة قال :قال رسول هللا ﷺ :إني ألعرف
أسماءهم وأسماء آباءهم وألوان خيولهم هم خير فوارس على ظهر األرض
أو خير فوارس يومئذ» ( ،)230وواضح من الحديث عنصر التفصيل في
وصف الفوارس وخيولهم ،مما يزيد اإلنسان يقينا ً بالحدوث.
وفي حديث النفخ في الصور يصف رسول هللا ﷺ حال أول من سيسمع:
«ثم ينفخ في الصور فال يسمعه أحد إال أصغى ليتا ً ورفع ليتاً ،قال :فأول
( )230أخرجه مسلم في (الفتن) باب :إقبال الروم في كثير القتل عند خروج الدجال «.»2899/251/9
من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيُصعق ويُصعق الناس» (.)231
وفي حديث هدم الكعبة يقول الرسول ﷺ واصفا ذا السويقتين« :كأني به
أسود أفجح يقلعها حجرا ً حجرا ً» (.)232
ومثاله أيضا ،قول النبي ﷺ في آخر الحشر« :تتركون المدينة علي خير ما
كانت ال تغشاها إال العواف ـ يريد عوافي السباع والطير ـ وآخر من يحشر
راعيان من ُمزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحشا ً حتى إذا
بلغا ثنية الوداع خرا علي وجوههما»( ،)233وثنية الوداع هي المكان الذي
ظهر منه النبي ﷺ للذين كانوا ينتظرونه فوق أعالي النخيل فرأوه قبل أن
يدخل المدينة( ،)234وتحديد موت الراعيين بهذا المكان معناه أنهما سيموتان
قبل أن يدخالها ،ليكون دخول رسول هللا ﷺ المدينة أول عمارها ويكون
موت الراعيين قبل دخول المدينة آخر خرابها.
اإلجمال
ومثاله حديث النبي ﷺ ،عن حذيفة قال« :قام فينا رسول هللا ﷺ مقاما ً ما ترك
فيه شيئا ً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إال َّحدث به ،حفظه ونسيه من
نسيه ،قد علمه أصحابي هؤالء وأنه ليكون منه الشيء قد نسيته فذكره كما
يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم رآه فعرفه» (.)235
التناسب بين الخبر وحال النبي أثناء اإلخبار
ومثاله حال النبي ﷺ حين أخبر عن حتمية قتال الدجال وهو ملدوغ من
عقرب ،وذلك فيما رواه ابن حرملة عن خالته قالت« :خطبنا رسول هللا ﷺ
( )231أخرجه مسلم في (الفتن) باب :خروج الدجال ومكثه في األرض «/201/9ح ،»2940وقد تقدم.
( )232أخرجه البخاري في (الحج) باب :هدم الكعبة «/583/2ح »1595من حديث ابن عباس.
( )233أخرجه البخاري في (فضائل الساعة) باب :من رغب عن المدينة « ،»1874/107/4من حديث أبي هريرة.
( )234أخرجه البيهقي في الدالئل « »507 ،506/2عن عائشة وعزاه الحافظ في الفتح « »307/7في شرح حديث البراء
في باب مقدم النبي ﷺ وأصحابه المدينة ،حديث رقم « :»3925ألبي سعيد في كتابه (شرف المصطفي) ورويناه في (فوائد
الخلقي) من طريق عبيد هللا عن عائشة منقطعا ،لما دخل النبي ﷺ المدينة جعل الوالئد يقلن :طلع البدر علينا من ثنية
الوداع وجب الشكر علينا ما دعا هلل داعِ.
( )235أخرجه مسلم في (الفتن) باب :إخبار النبي ﷺ فيما يكون إلى قيام الساعة « / 242/9ح ،»23من حديث حذيفة
رضي هللا عنه.
وهو عاصب إصبعه ولدغه عقرب فقال« :إنكم تقولون ال عدو لكم ،إنكم ال
تزالون تقاتلون عدوا ً حتى يأتي يأجوج ومأجوج ،عراض الوجه ،صغار
العيون ،شهب الشعاف ،من كل حدب ينسلون ،كأن وجوههم المجان
المطرقة»( ،)236والعالقة بين الخبر وبين حال النبي المخبِر هي أن لدغ
العقرب دليل علي بقاء القتال ،ألن القتال والعداء متالزمان ،ولذلك بيَّن النبي
ﷺ أن آخر القتال هو قتل الدجال ،فقال« :ال تزال طائفة من أمتي ،حتى
يقاتل آخرهم المسيح الدجال»( ،)237فعندما يتوقف القتال ال يكون عداء وال
يكون لدغ ،وهذه هي العالقة الموضوعية بين القتال ولدغ العقرب.
وهناك عالقة بين العقرب وبين أعدائنا وهي إباحة قتل الجميع في الحل
ش ْه ِر ْال َح َر ِام قِتَا ٍل فِي ِه ۖ قُ ْل قِتَا ٌل فِي ِه ع ِن ال َّ والحرم ،قال تعالى ( :يَ ْسأَلُون ََك َ
َّللاِ َو ُك ْف ٌر بِ ِه َو ْال َم ْس ِج ِد ْال َح َر ِام َو ِإ ْخ َرا ُج أَ ْه ِل ِه ِم ْنهُ أَ ْكبَ ُر
س ِبي ِل َّع ْن َ صدٌّ َ ير ۖ َو َ َك ِب ٌ
ع ْن دِينِ ُك ْم َّللاِ ۚ َو ْال ِفتْنَةُ أَ ْكبَ ُر ِمنَ ْالقَتْ ِل ۗ َو َال َيزَ الُونَ يُقَاتِلُونَ ُك ْم َحت َّ َٰى يَ ُردُّو ُك ْم َ
ِع ْندَ َّ
ت ط ْ ت َو ُه َو َكافِ ٌر فَأُو َٰلَئِ َك َح ِب َ ع ْن دِينِ ِه فَيَ ُم ْ عوا ۚ َو َم ْن يَ ْرتَ ِد ْد ِم ْن ُك ْم َ طا ُ ِإ ِن ا ْستَ َ
ار ۖ ُه ْم فِي َها خَا ِلدُونَ ) اب النَّ ِ ص َح ُ أَ ْع َمالُ ُه ْم فِي الدُّ ْنيَا َو ْاآل ِخ َرةِ ۖ َوأُو َٰلَئِ َك أ َ ْ
(البقرة ،)217:فأباح قتال العدو في األشهر الحرام فقال ﷺ في ابن خطل:
«اقتلوه ولو رأيتموه متعلق بأستار الكعبة»( ،)238وقال ﷺ خمس فواسق
يُقتلن في الحل والحرام فذكر منها العقرب (.)239
وهناك عالقة بينهما أخرى أن االثنين ال يرقبون في مؤمن إالَّ وال ذمة،
وهو يصلي أو ال يصلي ،نبي أو ولي ،قال تعالى في آيات صالة الخوف
طائِفَةٌ ص َالةَ فَ ْلتَقُ ْم َ ت لَ ُه ُم ال َّت فِي ِه ْم فَأَقَ ْم َ وأخذ الحذر أثناء الصالةَ ( :و ِإذَا ُك ْن َ
طائِفَةٌ ت َ س َجدُوا فَ ْليَ ُكونُوا ِم ْن َو َرائِ ُك ْم َو ْلتَأ ْ ِ ِم ْن ُه ْم َمعَ َك َو ْليَأ ْ ُخذُوا أَ ْس ِل َحتَ ُه ْم فَإِذَا َ
صلُّوا َم َع َك َو ْل َيأ ْ ُخذُوا ِح ْذ َر ُه ْم َوأ َ ْس ِل َحتَ ُه ْم ۗ َودَّ الَّذِينَ َكفَ ُروا صلُّوا فَ ْليُ َ أ ُ ْخ َر َٰى لَ ْم يُ َ
علَ ْي ُك ْم احدَة ً ۚ َو َال ُجنَا َح َ علَ ْي ُك ْم َم ْيلَةً َو ِع ْن أ َ ْس ِل َحتِ ُك ْم َوأَ ْمتِعَتِ ُك ْم فَيَ ِميلُونَ َ
لَ ْو تَ ْغفُلُونَ َ
ضعُوا أ َ ْس ِل َحتَ ُك ْم ۖ َو ُخذُوا ض َٰى أَ ْن تَ َ ط ٍر أَ ْو ُك ْنت ُ ْم َم ْر َ ِإ ْن َكانَ بِ ُك ْم أَذًى ِم ْن َم َ
عذَابًا ُم ِهينًا) (النساء ،)102:وفي الحديث: عدَّ ِل ْل َكافِ ِرينَ َ َّللاَ أَ َ
ِح ْذ َر ُك ْم ۗ إِ َّن َّ
( )236مسند أحمد.)11044( ،
( )237سنن أبي داوود (.)2125
( )238أخرجه البخاري في (جزاء الصيد) « ،»1846ومسلم في (الحج) «»132 .131/9/3
( )239أخرجه البخاري في (جزاء الصيد) « ،»1829/24/4ومسلم في (الحج) «115/8
«لدغت النبي ﷺ عقرب وهو في الصالة فقال لعن هللا العقرب ما تدع
المصلي وغير المصلي اقتلوها في الحل والحرم»( ،)240واشترك العقرب
أيضا ً مع أعدائنا في اسم «الفسق» وهو وصف إلبليس أيضاً ،قال هللا تعالى:
ع ْن
سقَ َ يس َكانَ ِمنَ ْال ِج ِن فَفَ َ ( َو ِإ ْذ قُ ْلنَا ِل ْل َم َال ِئ َك ِة ا ْس ُجدُوا ِآلدَ َم فَ َ
س َجدُوا ِإ َّال ِإ ْب ِل َ
س ِل َّ
لظا ِل ِمينَ أَ ْم ِر َر ِب ِه ۗ أَفَتَت َّ ِخذُونَهُ َوذُ ِريَّتَهُ أَ ْو ِل َيا َء ِم ْن دُونِي َو ُه ْم لَ ُك ْم َ
عد ٌُّو ۚ بِئْ َ
بَدَ ًال) (الكهف.)50:
وعالقة أخرى ،أنه يجوز قتل العقرب أثناء الصالة كما يجوز االنشغال بقتل
األعداء أثناء الصالة ،لقوله تعالى ( :فَإِ ْن ِخ ْفت ُ ْم فَ ِر َج ًاال أَ ْو ُر ْك َبانًا ۖ فَإِذَا أ َ ِم ْنت ُ ْم
علَّ َم ُك ْم َما لَ ْم تَ ُكونُوا ت َ ْعلَ ُمونَ ) (البقرة ،)239:قال ابن عمر: َّللاَ َك َما َفَا ْذ ُك ُروا َّ
«فإن كان خوف وهو أشد من ذلك صلوا رجاالً قياما ً علي أقدامهم أو ركبانا ً
مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها»( ،)241فعن أبي هريرة أن النبي ﷺ أمر
ع ْن أَبِي ِه ع ْن اب ِْن أَبِي َرافِعٍ َ بقتل األسودين في الصالة ،العقرب والحية» ،و َ
ع ْق َربًا َو ُه َو فِي ال َّ
ص َالةِ. ع ْن َج ِد ِه ،أَ َّن النَّ ِب َّ
ي ﷺ قَت َ َل َ َ
القرائن الحسية
قال اإلمام أحمد :عن أنس قال :استأذن ملك القطر أن يأتي النبي ﷺ فأذن
له ،فقال ألم سلمة« :احفظي علينا الباب ال يدخل علينا أحد ،فجاء الحسين
ابن علي رضي هللا عنه فوثب حتى دخل ،فجعل يصعد علي منكب النبي
ﷺ فقال الملك :أتحبه؟ قال النبي ﷺ :نعم ،فقال فإن أمتك تَ ْقتُلُهُ وإن شئت
أَ َريت ُ َك المكان الذي يُقتَل فيه ،قال :فضرب بيده فأراه ترابا ً أحمر ،فأخذت أم
سلمة ذلك التراب فصرته في طرف ثوبها ،قال :فكنا نسمع يقتل
ي البيت َملَك لم يدخل قبلها ()242
بكربالء» ،قال رسول هللا ﷺ« :لقد دخل عل َّ
فقال لي ابنك هذا حسين مقتول ،وإن شئت أريتك األرض التي يُقتل بها،
فأخرج تربة حمراء»(.)243
( )240أخرجه ابن ماجة في إقامة الصالة والسنة بينها «/395/1ح .»1246
( )241أخرجه البخاري في (التفسير) باب« :فإن خفتم فرجاال أو ركبانا ،اآلية» «/46/18ح .»4535
( )242أخرجه أحمد في مسنده «.»265/3
( )243أخرجه أحمد في مسنده «.»294/6
وعن ابن عباس قال« :رأيت رسول هللا ﷺ في المنام نصف النهار أشعث
أغير معه قارورة فيها دم فقلت بأبي وأمي يا رسول هللا ما هذا؟ قال :هذا
دم الحسين وأصحابه لم أزل التقطه منذ اليوم» (.)244
وقد فسر اإلمام ابن حجر العسقالني هذه العالقة بالتشابه بينهما من حيث إن
كليهما يقع على األرض ثم يعمها وبذلك يجتمع القطر والفتن في الوقوع ثم
العموم ،ويلي هذا التفسير احتماالن آخران في تفسير العالقة بين القطر
والفتن:
األول :هو أن يكون ملك القطر مختصا ً بالقطر والفتن معاً ،لتكون وحدة المصدر
والفعل أساسا ً في التوازن بينهما ،باعتبار أن المطر رحمة وهي ما تقابل الفتنة
باعتبارها عذاباً.
والثاني :وهو أن يكون للقطر ملك وللفتن ملك ،ولكن ملك القطر مسئول
عن ملك الفتن مثل مسئولية ملك الحسنات عن ملك السيئات ونفوذ سلطانه
عليه في كتابة أعمال العبد ،وفي ذلك تغليب للرحمة على العذاب في قدر
هللا سبحانه وتعالي.
ومن التأييد بالرؤية المباشرة أيضا ،ما أخرجه ابن ماجة عن بريدة رضي
هللا عنه قال :ذهب بي رسول هللا ﷺ إلى موضع بالبادية قريب من مكة
بأرض يابسة حولها رمل فقال رسول هللا ﷺ «تخرج الدابة من هذا الموضع
فإذا فتر في سبخ» ( ،)250ومنه تشيبه عيسى بن مريم بعروة ابن مسعود في
الحديث الذي قال فيه رسول هللا ﷺ« :فيبعث هللا تعالي عيسى ابن مريم عليه
السالم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه ويهلكه» (.)251
ومنه تشبيه الدجال بقطن بن عبد العزى ،كما في الحديث« :وأما مسيح
الضاللة فأنه أعور العين أجلى الجبهة عريض النحر فيه دفا ً كأنه قطن بن
عبد العزى ،قال :يا رسول هللا هل يضرني شبهه؟ قال :ال ،أنت امرؤ مسلم
وهو رجل كافر» (.)252
التوازن بين الطمأنة والتحذير في عرض النبي للعالمة
ي رسول هللا ﷺومن ذلك حديث عائشة رضي هللا عنها إذ قالت :دخل عل َّ
وأنا أبكي ،فقال :ما يبكيك؟ قلت :يا رسول هللا ذكرت الدجال فبكيت ،فقال
رسول هللا ﷺ« :إن يخرج وأنا حي كفيتكموه وإن يخرج الدجال بعدي فإن
( )250تقدم تخريجه.
( )251أخرجه مسلم في (الفتن) باب :خروج الدجال ومكثه في األرض « / 301 / 9ح »2940من حديث عبد هللا بن
عمرو ،وقد تقدم.
( )252تقدم تخريجه ،وهو من حديث النواس بن سمعان رضي هللا عنه الطويل.
ربكم عز وجل ليس بأعور ،إنه يخرج في يهودية أصبهان» (.)253
ومن ذلك أيضا حديث أم سلمة قالت :ذكرت المسيح الدجال فلم يأتني النوم
فلما أصبحت غدوت على رسول هللا ﷺ فأخبرته فقال« :ال تفعلي فإنه إن
يخرج وأنا فيكم يكفيكم هللا بي ،وإن يخرج بعد أن أموت يكفيكموه
بالصالحين ثم قام فذكر الدجال فقال« :ما من نبي إال قد حذر أمته وأنا
أحذركموه أنه أعور وأن هللا ليس بأعور ،إال أن المسيح الدجال كأنه عين
طافية» (.)254
وكذلك حديث أسماء بنت يزيد األنصارية قال :كان رسول هللا ﷺ في بيتي
فذكر الدجال ،قالت ثم خرج رسول هللا ﷺ لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام
وغم مما حدثهم ،قالت :فأخذ بحلقتي الباب وقال :مه مه أسماء ،قالت :قلت
يا رسول هللا خلعت أفئدتنا بذِكر الدجال قال« :فإن يخرج وأنا حي فأنا
حجيجه وإال فإن ربي خليفتي على كل مؤمن» (.)255
وفي رواية مسلم :عن المغيرة بن شعبة قال« :ما سأل أحد النبي ﷺ عن
الدجال أكثر ما سألته ،قال :وما سؤالك ،قلت :إنهم يقولون إن معه جباالً من
خبز ولحم ،ونهرا ً من ماء؟ قال :هو أهون على هللا من ذلك» ( ،)256قال
عياض :معناه وهو أهون من أن يجعل ما يخلقه على يديه مضالً للمؤمنين،
ومشككا ً لقلوب الموقنين ،بل ليزداد الذين أمنوا إيماناً ،ويرتاب الذين في
قلوبهم مرض ،وهو مثل قول الذي يقتله :ما كنت أشد بصيرة مني ،ال أن
قوله هو أهون عليه من ذلك ،إنه ال شيء من ذلك معه.
ولعلنا نالحظ أن إجابة النبي ﷺ للمغيرة« :هو أهون على هللا من ذلك»،
كانت لما رأى النبي ﷺ المغيرة قلق من الدجال بصورة غير عادية ،بدليل
أن المغيرة قال ما سأل أحد رسول هللا ﷺ عن الدجال أكثر مما سألته.
( )253أخرجه أحمد في مسنده « »75/6من حديث عائشة رضي هللا عنها.
( )254أخرجه الطبراني في الكبير « ،»569قال الهيثمي في المجمع « .»351 / 7قال الذهبي :أسناده قوي.
( )254أخرجه أحمد في مسنده « »455/6من حديث أسماء بنت يزيد وتقدم.
( )255صحيح ،أخرجه مسلم برقم.)5236( :
ومن أحاديث الفزع ،حديث الفزع من الت ُّرك ،ما رواه األمام أحمد بن حنبل
في مسنده عن بريده قال :كنت جالسا ً عند النبي ﷺ فسمعته يقول« :إن أمتي
ليسوقها قوم عراض الوجه صغار األعين كأن وجههم الجحف ثالث مرات
حتى يلحقوا بجزيرة العرب ،أما السياقة األولى فينجوا من هرب منهم قال:
وكان بريدة ال يفارقه بعيران أو ثالثة ومتاع السفر واألسقية بعد ذلك للهرب
مما سمع من رسول هللا ﷺ من البالء من التُّرك» (.)257
وفي التوازنات بين الطمأنة والتحذير أيضا حديث النبي ﷺ« :كيف أنعم
وصاحب القرن قد التقم وحنا جبهته ينتظر متى يؤمر أن ينفخ ،قيل :قلنا :يا
رسول هللا ما نقول يومئذ؟ قال :قولوا حسبنا هللا ونعم الوكيل وعليه توكلنا»
(.)258
واآلن وبعد تحقيق الفهم واليقين يأتي األمر الثالث والخطير وهو قواعد
إسقاط العالمة على الواقع.
وتجاوز هذا الخلل يتحقق بإحكام إسقاط العالمة على الواقع ،ومن هذا
اإلحكام :الحذر من التقييم المادي للعالمة ،ولنضرب لذلك مثاال :فمن
عالمات ظهور الدجال :جفاف بحيرة طبرية ،فإذا نظرنا إلى بحيرة طبرية
اآلن وجدنها تكاد تجف ،فإذا نظرنا لتلك العالمة نظرة مادية ،وقسنا الباقي
من الزمن الالزم لجفاف البحيرة ،واعتبرناه هو الزمن الباقي لظهور
الدجال ،واستنتجنا أن الدجال على وشك الظهور بهذا االعتبار ،فإننا نكون
قد ارتكبنا خطأ ،ألن الباقي من البحيرة هو المانع من تحقيق عالمة الجفاف،
( )257أخرجه أحمد في مسنده « »348 /5وأبو داود في (الفتن) باب :في قتال الترك « / 110/ 4ح )4305من حديث
بريدة عن أبه رضي هللا عنه.
( )258أخرجه أحمد في مسنده « »374/4من حديث زيد بن أرقم ،وأخرجه أحمد في (مسنده) « »7 / 3والترمذي في
(الفتن) /باب :ما جاء في شأن الصور « / 620 / 4ح »2431من حديث أبي سعيد رضي هللا عنه.
وهو أمر قدري غير مرهون بالمعدل الزمني الذي بدأ فيه جفاف البحيرة،
بل قد تمتلئ البحيرة بعد أن تكاد تجف.
ومن ناحية أخرى فإن الحديث نص على أن عالمة ظهور الدجال هو جفاف
بحيرة طبرية ،ولم يدل النص على أن مجرد جفاف بحيرة طبرية سيتبعه
ظهور الدجال ،ولكن دل على أن الدجال سيظهر وقد جفت بحيرة طبرية،
وبذلك لم يتحدد وقت جفاف البحيرة ،ووقت ما بعد جفاف البحيرة الذي
يظهر فيه الدجال.
وأخطر عالمة تختل فيها أحكام إسقاط العالمات على الواقع «عالمة المهدي»،
والسبب في ذلك هو كثرة توافر الشروط الشخصية المحددة في صفاته ،مثل:
«أجلى الجبهة وأقنى األنف» ،ومثل الرؤى التي يراها الناس ألحد األشخاص
توافق االسم ،أو امتالء جوراً.
مما يجعل أهم أحكام إسقاط العالمات على الواقع هو رد العالمة إلى الُمح َكم
من شروطها ،فمن شروط عالمة المهدي أي يخسف جيش ينبعث له في بيداء
المدينة ،وهو أمر يستحيل حدوثه بصورة عارضة ،ويستحيل خفاؤه،
ويستحيل تأويله أو خفاء معناه.
ومن هذه األحكام التوازن في توقُّع حدوث العالمة ،فإن تحقُّق اليقين ينشأ
معه توقع زائد للحدوث ،بحيث يصبح هذا التوقع الزائد مشكلة في ذاتها،
ولقد عبرت األحاديث عن هذه المشكلة بصورة كاملة ،منها حديث جابر
قال« :هاجمت ريح حمراء بالكوفة ،فجاء رجل ليس له هجير :أال يا عبد
هللا بن مسعود جاءت الساعة ،فقام وكان متكئا ً فقال :إن الساعة ال تقوم حتى
ال يقسم ميراث وال يفرح بغنيمة» (.)259
ى
القرآن
ي المنهج
ر ي التصور
األساس القرآني العام للعالمات
ولما كان القرآن كتاب اإليمان أي ليؤمن الناس ،كان البد أن يكون للعالمات
باعتبارها أفعال هللا ليؤمن الناس أيضا ً أن يكون لها حيز ومساحة في هذا
الكتاب ،وكان من الضروري أن يكون ألهمية قضية العالمات تصور
قرآني واسع ولكننا فهمنا أن التصور القرآني للعالمات لم يتجاوز حدود
التطورات الكونية األخيرة والتي تحددت كالمقدمة بين يدي الساعة ،مثل
السماء واألرض والنجوم والجبال والشمس والقمر ،وكانت هذه المحدودية
ضمن ما فهمنا من أخطاء.
والدليل على ذلك هو المساحة القرآنية العظيمة التي ناقشت بصورة رائعة
عالمة الدجال ويأجوج ومأجوج وعيسى والدابة ابتداء ،ثم تبعها التطورات
الكونية األخيرة.
ولعل اكتشاف هذه المساحة يعود إلى علم المناسبة« :علم مناسبة اآلية
باآلية» حيث أنشأت هذه المناسبة في هذا العلم موضوعية كاملة لكل
العالمات المذكورة ،والسابقة علي التطورات الكونية المشهورة ،ولعل
الخطأ في فهم العالمات في القرآن كان راجعا ً إلى التوقع الخاطئ بأن تمأل
ألفاظ الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة ،آيات القرآن ،ولكن الدخول في
التصور القرآني للعالمات سيكون هو الحكم علي ادعاء المساحة الواسعة
واألهمية العظمى للعالمات في القرآن ،كما أنه سيكون الدليل علي الفهم
الخاطئ الذي ظل يبحث به أصحابه عن ألفاظ بحروفها ولم يجدوها.
وقبل طرح التصور هناك كلمة مهمة ،وهي أن استقصاء التصور أكبر من
الطرح السريع للقضية في هذا الكتاب ،لذا سنعطي مؤشرا ً ألبعاد القضية،
من خالل أمثلة من سور كاملة ،مثل :سورة الدخان وعالقتها بالدجال،
وسورة األنبياء وعالقتها بيأجوج ومأجوج ،وسورة النمل وعالقتها بالدابة،
وسورة التوبة وعالقتها بالشمس.
أوال :سورة الدخان والدجال
ب ْال ُم ِب ِ
ين) (الدخان.)2-1: (حم َو ْال ِكتَا ِ
لما كانت مقدمات ابن كثير للسور تحمل مضمونها العام ومعناها الجوهري
كانت المناسبة بين الدجال وسورة الدخان هي مقدمة ابن كثير للسورة.
إن هذا الكتاب المبين هو المواجهة الكاملة والحرز التام والعصمة النهائية
من الدجال ،ومن هنا تبدأ أول مناسبة بين اختصاص أُبَي بن كعب ،رضي
هللا عنه ،بالذهاب مع رسول هللا إلى ابن صياد ليستطلع أمره ،حيث أن أُبَي
بن كعب كان من كتاب الوحي ،وصفة «المبين» هي التي بها تكون اإلبانة
والوضوح والشهادة ،ليكون الحسم واليقين واالستقامة في قضايا الغيب،
وخصوصا قضية الدجال التي تحتوي الغموض في ذاتها وفي كل جوانبها
عن قصد إلهي يالئم موضوعها وهو الفتنة ،فالعالقة بين الدجال وابن صياد
لم تحسم بنص صريح ،حيث اكتفى النبي ﷺ بقوله لعمر« :إن يكن هو فلن
تسلط عليه» ،كما أن إخبار النبي ﷺ عن مكان وجوده لم يكن يخلو من مثل
ذلك ،حيث قال« :أال أخبركم بأنه في بحر الشام؟» ثم أغمي عليه ساعة ،ثم
سري عنه ،ثم قال« :بل هو في بحر اليمن» ،ثم أغمي عليه ساعة ،ثم سري
عنه ،فقال« :هو في بحر العراق» ثالثا ،وكذلك إخباره ﷺ عن مكان
خروجه لم يكن يخلو من مثل ذلك ،حيث قال« :يخرج الدجال من ها هنا،
أو ها هنا ،أو من هاهنا بل يخرج هاهنا -يعني المشرق» (.)260
ومن هذه األحاديث تكون مناسبة وصف القرآن بأنه كتاب مبين ،وهكذا يأتي
ذكر ليلة القدر والدجال في سياق واحد في هذا الحديث ،لتتأكد مناسبة
السورة مع قضية الدجال ،من خالل قوله تعالى ﴿:إِنَّا أَ َ
نز ْلنَاهُ ِفي لَ ْيلَ ٍة ُّمبَ َ
ار َك ٍة
سأ ْ فَإِنَّك لَ ْن ت َ ْس ِبقَ ْالقَدَ َر»
اخ َ ين﴾(الدخان ،)3:ومن خالل كلمة « ْ ِإنَّا ُكنَّا ُمنذ ِِر َ
الواردة في الحديث ،ليتأكد أن تقدير هللا عز وجل وبصفة أساسية من خالل
قضية الدجال ،هو موضوع السورة ،وليدل على أن أساس التعامل مع فتنة
الدجال هو التسليم التام بقدر هللا عز وجل.
وفي حديث آخر يقول النبي ﷺ« :إن لكل أمة مجوساً ،وإن مجوس هذه
األمة الذين يقولون ال قدر ،فمن مرض منهم فال تعودوه ،ومن مات منهم
فال تشهدوه ،وهم شيعة الدجال ،وحق على هللا عز وجل أن يلحقهم به»
(.)262
قال اإلمام ابن األثير في «النهاية في غريب األثر» :إنما َج َعلَهم ـ أي القدرية
صلَين وهما النور مذهب ال َمجوس في قولهم باأل ْ َ ـ َم ُجوسا ً ِل ُمضاهاة َم ْذهَبهم
الظ ْلمة ،وكذا
والشر من ف ِعل َّ
َّ أن الخير من فِ ْعل النور، عمون َّ والظ ْلمة ،يَ ْز ُ
ُّ
والشيطان ،وَّللا تعالى
ِ والشر إلى اإلنسان
َّ ضيفون الخير إلى َّللا، القَدَ ِرية يُ ِ
خا ِلقُهما معاً ،وال يكون شي ٌء منهما إالَّ ب َمشِيئتِه ،فهما مضافان إليه خ َْلقا ً
ع َمالً وا ْكتِسابا».
وإيجاداً ،وإلى الفا ِعلين لهما َ
ومن العالقة بين القَدَر والدجال كانت المناسبة بينه وبين ليلة الق ْدر ،حيث جمع
رسول هللا ﷺ بينهما في الحديث الذي قال فيه رسول هللا ﷺ« :خرجت إليكم
وقد تبينت ليلة القدر ومسيح الضاللة ،فكان يلوح بين رجلين بسدة المسجد
فأتيتهما ألحجز بينهما فأنسيتهما ،وأما ليلة القدر فالتمسوها في العشر األواخر
وتراً ،وأما مسيح الضاللة فإنه أعور العين ،أجلى الجبهة ،عريض النحر ،فيه
دفا ،كأنه قطن بن عبد العزى» قال :يا رسول هللا هل يضرني شبهه؟ قال:
«ال ،أنت امرؤ مسلم وهو رجل كافر».
وعن الحسين بن علي رضي هللا عنه أن رسول هللا ﷺ لما خبأ البن صائد
دخانا ً سأله عما خبأ له فقال :دخ فقال« :اخسأ فلن تعدو أجلك» ،فلما ولى
رسول هللا ﷺ قال القوم :ماذا قال؟ قال بعضهم :دخ ،وقال بعضهم :بل زخ،
فقال رسول هللا ﷺ« :هذا وأنتم معي تختلفون ،فأنتم بعدي أشد اختالفا»
(.)265
وجاء ذكر ليلة القدر بهذه الصفة« :الليلة المباركة» ،ليمثل المعنى األول
للتقابل مع الدجال ،ألن البركة تمام الخير والنعم ،والدجال شر وجدب ،وفقر
وجوع ،وخوف ورعب ،والبركة نفع ،والدجال ال نفع فيه» (.)266
فذكر الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ضرورة عقَدِية لتصور
أعمال الدجال تصورا ً صحيحا ً ،واإلبانة واالستقامة الموصوف بهما
ين)ب ْال ُم ِب ِ الكتاب ،أي القرآن ،والواردتان في آية الدخانَ ( :و ْال ِكتَا ِ
ع ْب ِد ِه ْال ِكتَ َ
اب َولَ ْم يَ ْج َع ْل (الدخان )2:وآية الكهفْ ( :ال َح ْمدُ ِ َّّلِلِ الَّذِي أَ ْنزَ َل َ
علَ َٰى َ
لَهُ ِع َو ًجا ۜ) (الكهف ،)1:تتطلبان في مواجهة الدجال إثبات المقتضى الواقعي
لهما ،وهو الفرقان في الواقع بالرسالة ،والنبوة التي يتحقق بها هذا الفرقان
في حياة الناس ،مثلما كان الفرقان في القدر اإللهي المحكم.
فمن أهم جوانب التقابل بين ليلة القدر والدخان :وصف النبي ﷺ لصفاتها
الكونية المقابلة تماما ً للدخان بمثل قوله« :إن أمارة ليلة القدر أنها صافية
قمرا ساطعًا ،ساكنة سجية ،ال برد فيها وال حر ،وال يحل بَ ْل َجة ،كأن فيها ً
لكوكب يُر َمى به فيها حتى تصبح ،وأن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج
مستوية ،ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ،وال يحل للشيطان أن يخرج
سهاش ْم ُ اردَة ٌ يُ ْ
ص ِب ُح َ ارة ٌ َو َال َب ِط ْلقَةٌ َال َح َّ
س ْم َحةٌ َ
معها يومئذ»( ،)267وقال« :لَ ْيلَةٌ َ
صبِ ُح ْالغَدَ
س تُ ْ ش ْم َ ض ِعيفَةً َح ْم َرا َء»( ،)268وقالَ ...« :وآيَةُ ذَ ِل َك أَ َّن ال َّ ص ِبي َحتَ َها َ َ
ْس لَ َها ُِم ْن تِ ْل َك اللَّ ْيلَ ِة ت َ َر ْق َر ُق لَي َ
()269
شعَاعٌ » .
ومن الضروري كذلك إثبات أن قدر هللا يكون كل عام في ليلة القدر ،ألن
هذه الحقيقة هي التي تثبت أن بقاء الدجال إلى آخر الزمان سيكون محكوما ً
بقدر هللا ،وأن كل عام يعيشه الدجال حتى ظهوره في آخر الزمان محكوم
بقدر هللا سبحانه ،وأن بقاء الدجال حتى هذا الوقت ال يخرجه عن تقدير هللا
وإحكامه.
يقول اإلمام ابن حجر في الفتح :قَ ْوله« :فَلَ ْن تَ ْعدُو قَ ْدرك» أ َ ْ
ي لَ ْن ت ُ َجا ِوز َما
َّللا فِيك أَ ْو ِم ْقدَار أَ ْمثَالك ِم ْن ْال ُك َّهان» ( ،)273وعن هشام بن عامر قال: قَد ََّر َّ
سمعت رسول هللا ﷺ يقول« :ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من
خلق الدجال» (.)274
و كلمة «يفرق» الواردة في اآلية معناها يقدر ولكن جاء بلفظ يفرق الذي
يثبت الفرق بين األمر الحكيم وبين أفعال الدجال ،وكلمة« :حكيم» أي محكم
ال يبدل وال يغير ,ولهذا قال جل جالله «أمرا ً من عندنا» أي جميع ما يكون
ويقدره هللا تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه وكلمة «حكيم» هنا لها
مناسبة مع الدجال ألن أعمال الدجال قد تبدو خارج معنى اإلحكام ،مثل أن
تكون ناره جنة ،وجنته نار ،ومثل تمثل الشياطين في صورة اآلباء ،فكل
أعمال الدجال ،في أمر هللا المحكم ال تخرج عن معنى الفتنة ،فكان البد من
إثبات أن اإلحياء واإلماتة على وجه الحقيقة هي هلل ،وإن كان الدجال سيقتل
رجالً ثم يحييه ،فإنما سيكون ذلك بأمر هللا ،فتنة وابتال ًء.
ويتمم معنى كلمة «يُ ْف َر ُق» وكلمة « َح ِك ٍيم» كلمة «أَ ْم ًرا ِم ْن ِعن ِدنَا» ،فكما
عالجت اآلية السابقة أمر الفرقان واإلحكام ،تعالج هذه اآلية أمرا آخر وهو أن
أعمال الدجال بكل ما يوهم فيها بأن الدجال يملك أمورا ليست للبشر ،ال تخرج
عن قدر هللا ،مما يتطلب اإليمان بأن ذلك من أمر هللا ،ومن عند هللا ،ومن هنا
كان قول هللا في اآلية« :أَ ْم ًرا ِم ْن ِعن ِدنَا».
والرسالة هي المواجهة الكاملة مع الدجال ،ولهذا قال رسول هللا ﷺ« :إن
يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجكم ،وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج
نفسه ،وهللا خليفتي على كل مسلم» ( ،)275ولكن الفرقان واإلحكام في أمر
هللا يقتضي أال يُترك الناس لهذه الفتنة ،فكان البد من إرسال المرسلين.
فالرسالة والنبوة هي التي تحقق في حياة الناس الفرقان ،ولما كان الفرقان
يتنافى مع الدجال وأفعاله ،كان من واجب الرسالة أن يحذر كل رسول أمته
من هذه العالمة ،ليكون هذا التحذير أهم مقتضيات هذا الفرقان.
كما قال النبي ﷺ« :ما من نبي إال وقد أنذر أمته األعور الكذاب ،أال إنه
أعور ،وإن ربكم ليس بأعور ،ومكتوب بين عينيه ك ف ر» (.)276
ومن هنا كان التبيين الكامل من الرسول ﷺ لوصف الدجال من البداية حتى
يقتله عيسى ابن مريم ،بتفصيل لم يكن في أي قضية أخرى ،مثل تفصيله
في وصف الفوارس التي ستستطلع أمر الدجال بعد الملحمة ،حيث يصفهم
ولم يقل هو «الغفور الرحيم» ،مع أن التعقيب إنما جاء على ذكر الرحمة
الربانية ،وذلك لداللة اسم «السميع العليم» على الجانب الغيبي في موضوع
الرحمة ،وهو قضية الدجال الغيبية ،فاإلنذار رحمة من هللا ألنه نجاة من
س ِمي ُع ْالعَ ِلي ُم ﴾المحيط بغيب الدجال ،وهو سبحانه الفتنة ،ولكنه رحمة من﴿ ال َّ
القادر وحده على إنزال الكتاب المبين ،القادر وحده على تحقيق الفرقان،
كما قال النبي ﷺ« :ما من نبي إال وأنذر أمته الدجال وأنا أزيدكم فيه تحذيرا ً»
(.)278
ض َو َما بَ ْينَ ُه َما ۖ إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُموقِنِينَ ) (الدخان.)7: ت َو ْاأل َ ْر ِ
س َم َاوا ِ
ب ال َّ( َر ِ
واإليمان برب السماوات واألرض هو أهم حقائق االعتقاد التي تبرز أمام
أعمال الدجال؛ ألن حركة الدجال وآثاره في الوجود الكوني ال تخرج عن
حقيقة الربوبية الكاملة الشاملة هلل عز وجل في السماوات واألرض ،حيث
ستكون أعمال الدجال ذات آثار خطيرة في السماوات واألرض ،مثل أمره
للسماء بالمطر فتمطر ،ومتابعة كنوز الذهب له كيعاسيب النحل ،وأن يكون
معه جبال خبز ،وجنة ونارا.
ومن هنا كان تعظيم اليهود للدجال وآثاره الكونية ،ومواجهة هذا التعظيم
ت َّ
َّللاِ بِغَي ِْر كما ورد في تفسير قول هللا عز وجل( :إِ َّن الَّذِينَ يُ َجا ِدلُونَ فِي آ َيا ِ
اّلِلِ ۖ ِإنَّهُ ُه َو ُور ِه ْم ِإ َّال ِكب ٌْر َما ُه ْم ِببَا ِل ِغي ِه ۚ فَا ْستَ ِع ْذ ِب َّ
صد ِ ان أَتَا ُه ْم ۙ ِإ ْن فِي ُ
ط ٍس ْل َ
ُ
اس َو َٰلَ ِك َّن أَ ْكث َ َر ق النَّ ِ ض أَ ْكبَ ُر ِم ْن خ َْل ِ ت َو ْاأل َ ْر ِ صير لَخ َْل ُق ال َّ
س َم َاوا ِ س ِمي ُع ْالبَ ِ
ال َّ
اس َال يَ ْعلَ ُمونَ ) (غافر.)57-56: النَّ ِ
قال أهل التفسير ( :)280نزلت في اليهود ،وذلك أنهم قالوا للنبي ﷺ« :إن
صاحبنا المسيح بن داوود -يعنون الدجال-يخرج في آخر الزمان ،فيبلغ
سلطانه في البر والبحر ،وفي رواية« :فيخوض البحر ،وتجري معه
األنهار» ،ويرد الملك إلينا ،قال هللا تعالى« :فَا ْستَ ِع ْذ ِب َّ
اّلِلِ» من فتنة الدجال،
صير» ،قال الكلبي ومقاتل« :لَخ َْل ُق السماوات واألرض» س ِمي ُع ْالبَ ِ
«إِنَّه ُه َو ال َّ
أعظم من خلق الدجال.
ت َو ْاأل َ ْر ِ
ض َو َما بَ ْينَ ُه َما ۖ ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُموقِنِينَ ) (الدخان.)7: س َم َاوا ِ
ب ال َّ
( َر ِ
ومناسبة اليقين هنا ال تفهم إال بحادثة قتل الدجال للشاب ،ومن هنا وصف
الرسول ﷺ شهادة هذا الشاب الذي سيقتله الدجال بأنها أعظم شهادة عند
رب العالمين ،ألن هللا عز وجل قد جعل عجز الدجال عن قتل الشاب مرة
دليالً على معنى الفتنة في إحياء الدجال للميت ،كما جاء في الحديث:
«يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين ،فتلقاه المسالح ،مسالح
الدجال ،فيقولون له :أين تعمد؟ فيقول :أعمد إلى هذا الذي خرج ،قال
فيقولون له :أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول :ما بربنا خفاء ،فيقولون :اقتلوه ،فيقول
بعضهم لبعض :أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدا دونه ،قال فينطلقون به
أعظم الناس شهادة :ألن يقينه كان كامال ،وألنه واجه الدجال في قمة سلطانه
كما يواجه الرجل أي صاحب سلطة ،ليكون إذا قتله سيدا ً للشهداء ،وألنه
آمن بقول الرسول ﷺ في الدجال حتى آخر الزمان ،ولم يباعد الزمان بينه
وبين اليقين بالنص ،وبقول رسول هللا ﷺ أن الدجال لن يمكن منه مرة
أخرى ،وألنه بعد القتل واإلحياء ما ازداد إال بصيرة ،وألنه أعلن على الناس
هذا اليقين ليؤمنوا مثلما آمن ،أما قدرة هللا عز وجل فهي القدرة الدائمة.
إن اآلية التي تثبت هلل عز وجل القدرة على اإلحياء واإلماتة بإطالق إنما
تحدد فارقا ً جوهريا ً بين قدرة هللا وفتنة الدجال في هذا األمر.
َال إِلَهَ إِ َّال ُهو ،ليس أحد سواهَ ،ال يُ ْحيِي الدجال وال َيُ ِميتُ على وجه الحقيقة،
بل على وجه الفتنة ،وكما كانت لقول هللا ( َال ِإ َٰلَهَ إِ َّال ُه َو يُ ْح ِيي َويُ ِميتُ ) داللة
ب آ َبائِ ُك ُم ْاأل َ َّو ِلينَ )، في مواجهة فتنة الدجال ،كذلك يكون لقول هللاَ ( :ربُّ ُك ْم َو َر ُّ
وهذه الداللة يفسرها قول رسول هللا ﷺَ « :و ِإ َّن ِم ْن فِتْنَتِ ِه أ َ ْن يَقُو َل ألَع َْرا ِب ٍى
َان
طان ِش ْي َ اك َوأ ُ َّم َك أَت َ ْش َهدُ أَنِى َرب َُّك فَيَقُو ُل نَعَ ْم ،فيَت َ َمث َّ ُل لَهُ َ
ْت إِ ْن بَعَثْتُ لَ َك أَبَ َ
أَ َرأَي َ
ى اتَّبِ ْعهُ فَإِنَّهُ َرب َُّك»(.)282ور ِة أَبِي ِه َوأ ُ ِم ِه فَ َيقُوالَ ِنَ :يا بُنَ َّ
ص َ في ُ
ومع كل موجبات اليقين والحذر وكل أسبابه الالزمة لمواجهة الفتنة« :هم
في شك» ومع خطورة األمر وعظم القضية« :هم يلعبون» وهذا هو المدخل
إلى الفتنة :الشك واللعب ،أما الشك فعالقته بالفتنة يفسرها قول هللا عز وجل
ب َوأُخ َُر ات ُه َّن أ ُ ُّم ْال ِكتَا ِ
ات ُم ْح َك َم ٌاب ِم ْنهُ آ َي ٌ علَي َْك ْال ِكتَ َ ( ُه َو الَّذِي أَ ْنزَ َل َ
ات ۖ فَأ َ َّما الَّذِينَ فِي قُلُو ِب ِه ْم زَ ْي ٌغ فَيَت َّ ِبعُونَ َما تَشَابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغَا َء ا ْل ِفتْنَ ِة ُمتَشَابِ َه ٌ
الرا ِس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه َوا ْبتِغَا َء تَأ ْ ِوي ِل ِه ۗ َو َما يَ ْعلَ ُم تَأ ْ ِويلَهُ إِ َّال َّ
َّللاُ ۗ َو َّ
ب) (آل عمران ،)7:حيث فسر ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َر ِبنَا ۗ َو َما َيذَّ َّك ُر ِإ َّال أُولُو ْاأل َ ْل َبا ِ
الزيغ بالشك الذي تكون به الفتنة ،ويذكر رسول هللا ﷺ الدجال باعتباره
ط ِغياً ،أو أخطر ما يمكن أن يواجه البشر« :ما ينتظر أحدكم إال ِغنًى ُم ْ
الدجال شر غائب ينتظر ،أو الساعة والساعة أدهى َوأَ َمر»( ،)283ومع ذلك
هم« :يلعبون» ويبين النبي ﷺ أنه« :ما من نبي إال وقد أنذر قومه الدجال»
وهم« :يلعبون».
وعندما يكون الشك تكون الفتنة ،ومواجهتها تكون باليقين كما كانت من الشاب
الذي سيقتله الدجال ،يقتله بمنشار يشقه نصفين ،يمر بينهما ،يدعوه فيقوم،
ويقول :له أنا ربك ،فيقول :أنت الدجال ما ازددت فيك إال بصيرة ،اليقين أو
الفتنة ،وال ثالث لهما!
سو ٌل ُّمبِ ٌ
ين﴾(الدخان.)13: ﴿ أَنَّى لَ ُه ُم ِ
الذ ْك َرى َوقَ ْد َجاء ُه ْم َر ُ
ثم ال يكون العذاب إال بعد وقوع أشد موجباته وهو هنا التولي عن الرسول
المبين واتهامه بأنه معلم مجنون:
ومع ذلك يكشف هللا عنهم العذاب وهو سبحانه يعلم أنهم عائدون إلى الكفر
فكشف هللا عنهم العذاب قليال حتى تكون البطشة الكبرى.
يال ِإنَّ ُك ْم َ
عائِدُونَ ﴾(الدخان.)15: ﴿ ِإنَّا َكا ِشفُو ْال َعذَا ِ
ب قَ ِل ً
وهذه اآلية تظهر حقيقة هامة من حقائق التقدير اإللهي وهي اإلحكام الذي
يبلغ كشف العذاب مع علم هللا بأنهم عائدون وأن كشف العذاب «قليال»،
وهي تفيد معنى التقدير الزمني المحكم الذي يمتد لتكون البطشة الكبرى في
( )284إن قريشا لما أبطأت عن اإلسالم واستعصت على رسول هللا ﷺ دعا عليهم بسنين كسني يوسف ،فأصابهم من
الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ،وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فال يرون إال الدخان ،وفي رواية فجعل
الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ،قال هللا تعالى{ :فارتقب يوم تأتي السماء بدخان
مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم} فأتى رسول هللا ﷺ فقيل يا رسول هللا استسق هللا لمضر فإنها قد هلكت ،فاستسقى ﷺ
لهم فسقوا فنزلت «إنا كاشفو العذاب قليال إنكم عائدون» .
يوم مقدر.
والربط بين الدجال وغزوة بدر ربط قرآني ورد في مواضع متعددة منها
سورة القمر وسورة غافر ،ففي سورة القمر جاء في تفسير قوله تعالى:
عةُ أَ ْده ََٰى َوأَ َم ُّر) عةُ َم ْو ِعدُ ُه ْم َوال َّ
سا َ سا َ سيُ ْهزَ ُم ْال َج ْم ُع َويُ َولُّونَ الدُّبُر َب ِل ال َّ
( َ
(القمر ،)46-45:أن قتادة رضي هللا عنه ذكر أن النبي ﷺ قال يوم بدر:
سيُ ْهزَ ُم ْال َج ْم ُع َويُ َولُّونَ الدُّبُ َر)هذا « ُه ِز ُموا َو َولُّوا الدُّبُر»( )285وهو تفسير ( َ
عةُ أَ ْده ََٰى َوأ َ َم ُّر) ،حيث عةُ َم ْو ِعدُ ُه ْم َوال َّ
سا َ سا َعن بدر ،ثم جاء بعدها( :بَ ِل ال َّ
جاء ذكر الدجال مع ذكر الساعة بصفتها الواردة في اآلية ضمن ما ينتظره
الناس من أهوال الغيب.
وعن أبي هريرة رضي هللا عنه أن النبي ﷺ قال« :ما ينتظر أحدكم إال ِغنًى
ط ِغياً ،أو فقرا منسيا ،أو مرضا مفسدا ،أو هرما مفندا ،أو موتا مجهزا ،أو ُم ْ
الدجال والدجال شر غائب ينتظر ،أو الساعة والساعة أدهى َوأَ َمر» (.)286
وفي سورة غافر تتضح العالقة بين الدجال وغزوة بدر من خالل ما ورد
َّللاِ َح ٌّق َوا ْستَ ْغ ِف ْر ِلذَ ْن ِب َك َو َ
سبِ ْح ِب َح ْم ِد صبِ ْر ِإ َّن َو ْعدَ َّ
عن مقاتل في تفسيره( :فَا ْ
ار) (غافر.)55: َربِ َك بِ ْال َعشِي ِ َو ْ ِ
اإل ْب َك ِ
في العذاب أنه نازل بهم القتل ببدر ،وضرب المالئكة الوجوه واألدبار ،وتعجيل
َّللاِ َح ٌّق َوا ْست َ ْغ ِف ْر ِلذَ ْن ِب َك َو َ
سبِ ْح ص ِب ْر إِ َّن َو ْعدَ َّ
أرواحهم إلى النار ،فهذا العذاب (فَا ْ
ص ِل بأمر ربك بالغداة ،يعني اإل ْب َك ِار) (غافر ،)55:يعنى و َ بِ َح ْم ِد َربِ َك بِ ْالعَشِي ِ َو ْ ِ
( )285أخرجه ابن المبارك في الزهد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه.
( )286البغوي شرح السنة.
صالة الغداة ،وصالة العصر.
وذلك أن اليهود قالوا للنبي ﷺ :إن صاحبنا يبعث في آخر الزمان وله
سلطان ،يعنون الدجال ،ماء البحر إلى ركبته ،والسحاب فوق رأسه ،مبالغة
ت) يعنى يمارون في يهودية في الدجال ،فقالِ ( :إ َّن الَّذِينَ يُ َجا ِدلُونَ فِي آ َيا ِ
ان أَتَا ُه ْم) يعنى ط ٍ س ْل َ
آيات هللا ،ألن الدجال آية من آيات هللا عز وجل ( ِبغَي ِْر ُ
بغير حجة أتتهم من هللا ،إضمار بأن الدجال كما يقولون ،يقول هللا عز وجل:
ُور ِه ْم إِ َّال ِكب ٌْر) يقول :ما في قلوبهم إال ِكب ٌْر ( َما ُه ْم ِب َبا ِل ِغي ِه) إلى صد ِ ( ِإ ْن ِفي ُ
اّلِلِ) يا محمد من فتنة ذلك الكبر لقولهم :إن الدجال يملك األرض (فَا ْستَ ِع ْذ ِب َّ
ض أَ ْكبَ ُر
ت َو ْاأل َ ْر ِ س َم َاوا ِير) ،ثم قال( :لَخ َْل ُق ال َّ ص ُ س ِمي ُع ْالبَ ِ الدجال ( ِإنَّهُ ُه َو ال َّ
اس َال يَ ْعلَ ُمونَ ) يعنى بالناس في هذا الموضع: اس َو َٰلَ ِك َّن أَ ْكث َ َر النَّ ِ
ق النَّ ِِم ْن خ َْل ِ
الدجال وحده ،يقول :خلق السموات واألرض أكبر من خلق الناس ،يقول:
اس َال َي ْعلَ ُمونَ ) يعني اليهود. هما أعظم خلقا ً من خلق الدجال ( َو َٰلَ ِك َّن أ َ ْكثَ َر النَّ ِ
إن الدجال يدخل على الناس لفتنتهم في الدنيا بتمثل الشياطين لهم في صورة
آبائهم الذين في عالم الغيب وهو من قبيل السحر في األعين.
والفصل بين الغيب والشهادة هو األساس القدري الكوني الذي جعله هللا بين
الدنيا واآلخرة ،واالستثناء من هذه القاعدة ال يكون إال بمعجزة محدودة مثلما
كان من رسول هللا ﷺ في غزوة بدر« :فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر
براحلته فشد رحلها ،ثم مشي واتبعه أصحابه ،وقالوا :ما نرى ينطلق إال
لبعض حاجته حتى قام على شفة الركي فجعل ينادي بأسمائهم وأسماء آبائهم
وقد جيفوا« :يا أبا جهل ابن هشام ويا عتبة بن ربيعة ،ويا شيبة بن ربيعة،
ويا وليد بن عتبة» ،أيسركم أنكم أطعتم هللا ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا
ربنا حقاً ،فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قال :فسمع عمر قول النبي ﷺ
فقال :يا رسول هللا! ما تكلم من أجساد ال أرواح لها ،وهل يسمعون؟ بقول
عا َء إِذَا َولَّ ْوا ُم ْد ِب ِرينَ ) هللا عز وجلِ ( :إنَّ َك َال ت ُ ْس ِم ُع ْال َم ْوتَ َٰى َو َال ت ُ ْس ِم ُع ال ُّ
ص َّم الدُّ َ
(النمل )80:فقال رسول هللا ﷺ« :والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما
أقول منهم وهللا إنهم اآلن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم لهو الحق» وفي
ى شيئا ً» رواية« :إنهم اآلن ليسمعون غير أنهم ال يستطيعون أن يردوا ع ِل َّ
(.)287
ويظهر االستثناء المحدود من أمرين :األول :أن ذلك ال يكون إال للرسول
ﷺ ،والثاني :أنهم ال يستطيعون الرد عليه ،ولذلك قال قتادة :أحياهم هللا «له»
حتى أسمعهم قوله ،توبيخا ً وتصغيراً ،ونقمة ،وحسرة وندما».
فيتقابل الوعد الحق من هللا سبحانه على لسان نبيه ﷺ ،مقابل الوعد الباطل
الكاذب من الدجال في صورة الشياطين بأن يموتوا على غير اإلسالم كما
في الحديث.
وكل ما سبق من اآليات يعالج قضية القدر ،ويتمم هذه المعالجة قضية
ع ْونَفرعون ،لتكون هذه المعالجة هي مناسبة اآليةَ ( :ولَقَ ْد فَتَنَّا قَ ْبلَ ُه ْم قَ ْو َم فِ ْر َ
سو ٌل َك ِري ٌم) (الدخان ،)17:ألن هذه القضية هي المثل المضروب َو َجا َء ُه ْم َر ُ
للقدر الذي تعالجه اآليات ،ومن هنا جاء قول ابن عباس عن الضحاك بن
عثمان ،قال« :وافيت الموسم ،فلقيت جماعة في مسجد الخيف ،ذكرهم،
قال :ورأيت طاووسا اليماني فسمعته يقول لرجل« :إن القدر سر هللا فال
تدخلن فيه» ،ولقد سمعت أبا الدرداء يحدث عن نبيكم ﷺ ،أن موسى عليه
السالم لما خرج من عند فرعون متغير الوجه ،استقبله ملك من ُخ َّزان النار
وهو يقلب كفيه متعجبا لما قال له الروح األمين :إن ربك أرسلك إلى فرعون
مع أنه قد طبع على قلبه فلن يؤمن ،قال :يا جبريل فدعائي ما هو؟ قال:
امض لما أمرت ،قال :صدقت ،ثم قال :يا موسى نحن اثنا عشر ملكا من
خزان النار ،قد جهدنا على أن نسأل في هذا األمر فأوحي إلينا أن القدر سر
ع ْبدُهللا تبارك وتعالى ،فال تدخلوا فيه»( ،)288وفي رواية الترمذيَ « :حدَّثَنَا َ
طا َء بْنَ أ َ ِبي َربَاحٍ ،فَقُ ْلتُ لَهُ :يَا أَبَا ع َ سلَي ٍْم قَا َل :قَد ِْمتُ َم َّكةَ فَلَ ِقيتُ َ
اح ِد ب ُْن ُ ْال َو ِ
ي أَتَ ْق َرأ ُ ْالقُ ْرآنَ قُ ْلتُ :نَ َع ْم، ص َرةِ يَقُولُونَ فِي ْالقَدَ ِر ،قَا َل :يَا بُنَ َُّم َح َّمدٍ! إِ َّن أَ ْه َل ْالبَ ْ
( )287مجموع ألفاظه عند البخاري ومسلم وأحمد.
( )288اإلبانة الكبرى البن بطة (ج / 5ص .)55
ع َر ِبيًّاين ِإنَّا َج َع ْلنَاهُ قُ ْرآنًا َ ب ْال ُمبِ ِ ف ،قَا َل فَقَ َرأْتُ ( :حم َو ْال ِكتَا ِ الز ْخ ُر َ قَا َل :فَا ْق َرأْ ُّ
خرف ،)4-1:فَقَا َل (الز ُ ي َح ِكي ٌم) ُّ ب لَدَ ْينَا لَ َع ِل ٌّ لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْع ِقلُون َو ِإنَّهُ فِي أ ُ ِم ْال ِكتَا ِ
َّللاُ قَ ْب َل
اب َكتَبَهُ َّ سولُهُ أَ ْعلَ ُم! قَا َل :فَإِنَّهُ ِكتَ ٌ ب؟ قُ ْلتُ َّ :
َّللاُ َو َر ُ أَتَ ْد ِري َما أ ُ ُّم ْال ِكتَا ِ
ار ع ْونَ ِم ْن أَ ْه ِل النَّ ِ ضِ ،في ِه ِإ َّن فِ ْر َ ت َوقَ ْب َل أ َ ْن َي ْخلُقَ ْاأل َ ْر َ س َم َاوا ِ أَ ْن َي ْخلُقَ ال َّ
ع َبادَةَ ب ِْن طا ٌء« :فَلَ ِقيتُ ْال َو ِليدَ بْنَ ُ ع َ ب)» ،قَا َل َ َّت َيدَا أ َ ِبي لَ َه ٍ
ب َوتَ َّ َوفِي ِه (تَب ْ
يك ِع ْندَ ْال َم ْوتِ؟ صيَّةُ أ َ ِب َ سأ َ ْلتُهَُ :ما َكانَ َو ِ َّللاِ ﷺ ،فَ َ سو ِل َّ ب َر ُ اح َ ص ِ ت َ ام ِ ص ِال َّ
َّللاَ َحتَّى تُؤْ ِمنَ ي َّ َّللاََ ،وا ْعلَ ْم أَنَّ َك لَ ْن تَت َّ ِق َ ق َّ عانِي أَبِي فَقَا َل ِلي يَا بُنَ َّ
ي ات َّ ِ قَا َل :دَ َ
ارِ ،إ ِني ت النَّ َغي ِْر َهذَا دَخ َْل َ علَى َ ت َ اّلِلِ َوتُؤْ ِمنَ ِب ْالقَدَ ِر ُك ِل ِه َخي ِْر ِه َوش َِر ِه ،فَإِ ْن ُم َّ ِب َّ
َّللاُ ْالقَلَ َم فَقَا َل لَهُ :ا ْكتُبْ قَا َل: َّللاِ ﷺ َيقُولُِ « :إ َّن أَ َّو َل َما َخلَقَ َّ سو َل َّ س ِم ْعتُ َر ُ َ
. ()289
عة » سا َ وم ال َّ ش ْيءٍ َحتَّى تَقُ َ ِير ُك ِل َ ب؟ قَا َل :ا ْكتُبْ َمقَاد َ ب َو َماذَا أَ ْكت ُ ُ َر ِ
ومن هنا جمع الثعالبي في تفسيره بين فرعون والدجال في قضية القدر فقال
ع ْونَ س َٰى َوفِ ْر َ ين نَتْلُو َ
علَي َْك ِم ْن نَ َبإِ ُمو َ ب ْال ُم ِب ِ في قوله تعالى(طسم تِ ْل َك آ َياتُ ْال ِكتَا ِ
ض ع َال فِي ْاأل َ ْر ِ ع ْونَ َ ق ِل َق ْو ٍم يُؤْ ِمنُونَ ) (القصص )3-1:فقالِ ( :إ َّن فِ ْر َ ِب ْال َح ِ
طائِفَةً ِم ْن ُه ْم يُذَبِ ُح أَ ْبنَا َء ُه ْم َويَ ْستَ ْحيِي نِ َ
سا َء ُه ْم ۚ إِنَّهُ ف َ َو َجعَ َل أَ ْهلَ َها ِشيَعًا َي ْستَ ْ
ض ِع ُ
َكانَ ِمنَ ْال ُم ْف ِسدِينَ ) (القصص« ،)4:خوف خراب ملكه على ما أخبرته كهنته،
أو ألجل رؤيا رآها قاله السدي ،وطمع بجهله أن يرد القدر ،وأين هذا المنزع
من قول النبي ﷺ لعمر :إن يكنه فلن تسلط عليه وان لم يكنه فال خير لك في
قتله -يعني ابن صياد -إذ خاف عمر أن يكون هو الدجال»(.)290
فيكون موقف فرعون الخاطئ من القدر «طمع بجهله أن يرد القدر» نموذجا
يقابله موقف الرسول ﷺ الصحيح «إن يكنه فلن تسلط عليه».
وتتواصل المناسبة من خالل السياق الذي ذُكر فيه فرعون( :أَ ْن أَدُّوا إِ َل َّ
ي
ين) (الدخان ،)18:يطلب رد بني إسرائيل إليه، سو ٌل أَ ِم ٌ
َّللاِ ۖ إِنِي لَ ُك ْم َر ُ
ِع َبادَ َّ
فاإلنسان أمانة ،وهو يطلب أداء األمانة إليه (.)291
سو ٌل أَ ِم ٌ
ين) يقول :إني لكم أيها القوم رسول من هللا أرسلني وقوله ( ِإ ِني لَ ُك ْم َر ُ
ين) :على وحيه ورسالته التي إليكم ال يدرككم بأسه على كفركم به( ،أَ ِم ٌ
أوعدنيها إليكم.
ومن هنا يربط رسول هللا ﷺ بين األمانة والشعوب فيقول« :إن أمام الدجال
سنين خداعة يصدق فيها الكاذب ،ويكذب فيها الصادق ،ويؤتمن فيها
الخائن ،ويخون فيها األمين ،وينطق فيها الرويبضة ،قيل :وما الرويبضة؟
قال :الفويسق يتكلم في أمر العامة» ( ،)293فتأكد التماثل بين فرعون والدجال
بين الخونة المؤتمنين مثل فرعون ،وبين األمين الحقيقي مثل موسى.
ولم يكن ائتمان فرعون وتخوين موسى هو األمر الوحيد في واقع فرعون،
شبَها ً بواقع الدجال حتى قال فلقد كان واقع فرعون في تناقضه إجماالً أقرب َ
َافع َربَّهُ ۖ ِإ ِني أَخ ُ س َٰى َو ْل َي ْد ُ
ع ْو ُن ذَ ُرو ِني أَ ْقت ُ ْل ُمو َ فرعون في موسىَ ( :وقَا َل ِف ْر َ
سادَ) (غافر ،)26:وقال ( َيا قَ ْو ِم لَ ُك ُم ض ْالفَ َ ظ ِه َر فِي ْاأل َ ْر ِ أَ ْن يُ َب ِد َل دِينَ ُك ْم أَ ْو أَ ْن يُ ْ
ص ُرنَا ِم ْن بَأ ْ ِس َّ ِ
َّللا ِإ ْن َجا َءنَا ۚ َقا َل ض فَ َم ْن يَ ْن ُ ظا ِه ِرينَ فِي ْاأل َ ْر ِ ْال ُم ْلكُ ْاليَ ْو َم َ
الرشَا ِد) (غافر ،)29:موسى سبِي َل َّ ع ْو ُن َما أ ُ ِري ُك ْم إِ َّال َما أَ َر َٰى َو َما أَ ْهدِي ُك ْم ِإ َّال َفِ ْر َ
س ِبي َلسادَ) وفرعون ال يهدي ( َما أَ ْهدِي ُك ْم ِإ َّال َ ض ْالفَ َ ظ ِه َر ِفي ْاأل َ ْر ِ ( يُ ْ
الرشَا ِد)!!. َّ
وتتواصل المناسبة من خالل السياق الذي ذكر فيه فرعونَ ( :وأَ ْن َال تَ ْعلُوا
ين) (الدخان ،)19:والعلو هنا هو المناسبة ان ُم ِب ٍ
ط ٍس ْل َ علَى َّ
َّللاِ ۖ ِإ ِني آ ِتي ُك ْم ِب ُ َ
( )292المصدر السابق.
( )293السلسلة الصحيحة لأللباني.
بين فرعون والدجال؛ ألن معنى الدخان هو العلو بالشر وقد ثبت هذا
الوصف على فرعون والدجال ،ومن هنا كان من معاني الدخان كما جاء
في لسان العرب« :الدخان :موضع الشر إذا عال فيقولون :كان بيننا أَمر
ارتفَ َع له دخان»( ،)294ولما كان من الضروري التفريق بين آيات هللا وأفعال
ْ
الدجال كان من وصف آيات هللا بأنها سلطان مبين ليتبين الفرق بين أفعال
الدجال القائمة على الفتنة والخداع والسحر وأفعال هللا الحقيقية القوية
الواضحة الهادية وهو معني السلطان المبين.
ع ْذتُ بِ َر ِبي َو َر ِب ُك ْم أَ ْن تَ ْر ُج ُم ِ
ون) (الدخان.)20: ( َو ِإنِي ُ
هذه اآلية تحتمل معنيين ،األول :أن يكون معناها الدعاء ،أي يقصد بها
المضارع والمستقبل ،وتقديره :أعوذ باهلل أن ترجموني أي تقتلوني،
والثاني :أن يكون معناها الخبر ،أي أن موسى سبق أن توقع منهم القتل فدعا
ون )(القصص،)33: َاف أَ ْن يَ ْقتُلُ ِ سا فَأَخ ُ ب ِإنِي قَت َ ْلتُ ِم ْن ُه ْم نَ ْف ً
ربه( قَا َل َر ِ
صلُونَ س ْل َ
طانًا فَ َال يَ ِ ضدَ َك بِأ َ ِخ َ
يك َون َْجعَ ُل لَ ُك َما ُ ع ُ شدُّ َ فأجابه هللا بقوله ( :قَا َل َ
سنَ ُ
ِإلَ ْي ُك َما ۚ ِبآ َيا ِتنَا أَ ْنت ُ َما َو َم ِن ات َّ َبعَ ُك َما ْالغَا ِلبُونَ ) (القصص ،)35:فهو يخبرهم بأن
هللا سيعصمه منهم ،ويتحداهم أن يصلوا إليه إيمانا ً بوعد ربه وثقة به ،ولذلك
ون) (الدخان ،)21:أي إن لم نصحهم بقولهَ (:وإِ ْن لَ ْم تُؤْ ِمنُوا ِلي فَا ْعتَ ِزلُ ِ
تؤمنوا بي فاتركوني أخرج من أرضكم أنا وقومي ،وال تحاولوا قتلي ،ألنكم
لن تستطيعوا ذلك.
ولذلك أيضا ً كان ردُّه على قومه حين قالوا لما تبعهم فرعون بجنوده ( :قَا َل
ِين) (الشعراء ،)62:ويؤكد ذلك ما قاله اإلمام سيَ ْهد ِ َك َّال ۖ إِ َّن َم ِع َ
ي َربِي َ
البقاعي في «نظم الدرر»(« :وإني عذت)أي اعتصمت وامتنعت
(بربي)الذي رباني على ما اقتضاه لطفه بي وإحسانه إلي( ،وربكم)الذي
أعاذني من قتلكم لي بكم على ما دعت إليه حكمته من جبروتكم وتكبركم
وقوة مكنتكم (أن ترجمون)أي أن يتجدد في وقت من األوقات قتل منكم لي،
( )294لسان العرب البن منظور.
ما أتيتكم حتى توثقت من ربي في ذلك ،فإني قلت (إني أخاف أن يقتلون)
(القصص ،)33:فقال( :سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا ً فال
يصلون إليكما بآياتنا) (القصص ،)35:من أعظم آياتي أن ال تصلوا على
قوتكم وكثرتكم إلى قتلي منع أنه ال قوة لي بغير هللا الذي أرسلني.
ولما كان التقدير :فإن آمنتم بذلك وسلمتم لي أفلحتم ،عطف عليه قوله( :وإن
لم تؤمنوا لي) أي تصدقوا ألجلي ما أخبرتكم به (فاعتزلون) أي وإن لم
تعتزلوني هلكتم ،وال تقدرون على قتلي بوجه وأنا واحد ممن تسومونهم
سوء العذاب ،وما قتلتم أبناءهم إال من أجلي ،فرباني على كف من ضاقت
عليه األرض بسببي وسفك الدماء في شأني ،ومنعه هللا من أن يصل إلي
منه سوء قبل أن أعوذ به ،فكيف به بعد أن أرسلني وعذت به فأعاذني،
واستجرت به فأجارني»( ،)295وبمثل هذا اليقين الذي واجه به موسى
فرعون ،سيواجه ذلك الشاب المؤمن الدجال في آخر الزمان.
وأخيرا ً ينطلق موسى بالحكم عليهم( :فَ َد َعا َرباهُ أَ ان َهؤ ََُّل ِء قَ ْو ٌم ُم ْج ِر ُمونَ )
(الدخان.)22:
ويصدق هللا على حكم موسى ويستجيب له بعد أن دعا عليهم ،هكذا يكون
التعامل بين هللا والعباد ،ال يكون الحكم إال بعد الرسالة والبيان والحجة،
وهذه الحقيقة هي التي تصلح في الواقع بداية للمقارنة بين أفعال هللا عز
وجل وأفعال الدجال.
مقارنة أخرى حسب ترتيب اآليات بين فعل هللا وفعل الدجال ،وقد تقرر أن
حقيقة الفعل اإللهي تؤكد والية هللا لجميع الخالئق ،وفعل الدجال ينفي عالقته
بهذا المقام.
فالذي ال يؤمن بالدجال يجوع ،ولكن هللا عز وجل يرزق من يكفر به ،ودليل
ذلك هو رزق هللا لفرعون وهو أشد البشر كفرا ً حتى بلغ ادعاء األلوهية،
ومع ذلك بلغ رزق هللا ،ما تصفه اآلية ،ومع استحقاقهم للهالك كان الرزق
وفيرا لم يمنعه هللا عنهم وهو ينتقم منهم ،ليس كما يفعل الدجال الذي يمنع
الطعام عمن ال يؤمن به.
وهذه المقارنة فيها إظهار كامل لصفات هللا الحق الذي يرزق عباده وهم
يكفرون به.
وحتى عندما يتقرر حكم هللا بحرمانهم منها ،فإنها تورث إلى قوم آخرين،
تألنها رزق هللا ،ورزق هللا باقَ ( :ك َٰذَ ِل َك ۖ َوأَ ْو َرثْنَاهَا قَ ْو ًما آخ َِرينَ فَ َما َب َك ْ
ظ ِرينَ ) (الدخان.)29-28: س َما ُء َو ْاأل َ ْر ُ
ض َو َما َكانُوا ُم ْن َ علَ ْي ِه ُم ال َّ
َ
وهذه اآلية تثبت العالقة بين الكون والحق ،فالكون مسلم هلل رب العالمين
وهذا يفسر الظواهر التي ستكون من الدجال بأنها ليست وال ًء كونيا للدجال
ولكنها مجرد الفتنة أما الوالء الكوني فهو هلل عز وجل ،والباطل ليس له
مستقر كوني ،وليس للكفر أصل كوني.
والدجال هو الدليل األول على طبيعة الكفر ،وذلك عندما يضربه عيسى ابن
مريم فيذوب كما يذوب الملح أو كما يذوب الرصاص كأنه لم يكن ،يذوب
وال يبقى له وجود وال أثر ،وتُعَ ِبر سورة الدخان عن هذه الحقيقة بقوله عز
ظ ِرينَ ) (الدخان.)29: س َما ُء َو ْاأل َ ْر ُ
ض َو َما َكانُوا ُم ْن َ علَ ْي ِه ُم ال َّ وجل( :فَ َما بَ َك ْ
ت َ
وأحداث الدجال الكونية تحتم إدراك الموقف الكوني من الحق ،واآلية تثبت
هذا المعنى فالسماوات واألرض مع أهل الحق وبريئة من أي أحداث باطلة
في الكون.
ودليل أهمية هذا المعنى هو قول رسول هللا ﷺ في جبل أحد :هذا الجبل يحبنا
ونحبه» وذلك بسبب هزيمة المسلمين عنده ،فيثبت الرسول ﷺ موقف حب
الجبل للمسلمين ،فعندما نقرأ أن كنوز الذهب تتبع الدجال ال نتصور أن هذا
وال ًء كونيا للدجال ولكنها الفتنة المقدرة من هللا للبشر.
علَ َٰى ِع ْل ٍم) يبلغ هذه المساواة العددية الدقيقة بين عدد أتباع الدجال وعدد
( َ
أتباع المهدي «سبعون ألفا ً» يفتحون القسطنطينية بالتهليل والتكبير والذين
من أجلهم ستكون الملحمة حيث سيطلبهم الروم وهم من بني عيص أخي
يعقوب «إسرائيل» فيرفض المسلمون تسليمهم لهم ويقولون هم إخواننا ال
نسلمهم وتكون الملحمة ،وهذا علم هللا.
اآليات :أي الحجج والبراهين وخوارق العادات ،هكذا جاء تفسير اآلية.
قال قتادة« :نعمة بينة من فلق البحر ،وتظليل الغمام ،وإنزال المن والسلوى،
والنعم التي أنعمها عليهم ،وقال ابن زيد :ابتالهم بالرخاء والشدة ،وقرأ:
ش ِر َو ْال َخي ِْر ِفتْنَةً ۖ َو ِإلَ ْينَا ت ُ ْر َجعُونَ ) ( ُك ُّل نَ ْف ٍس ذَائِقَةُ ْال َم ْو ِ
ت ۗ َونَ ْبلُو ُك ْم ِبال َّ
(األنبياء.)298( )35:
ولذاك تأتي اآليات بذكر الكفار الظانين أنهم خارجين عن إحاطة هللا
بالعالمين ،وكلها تؤكد الفارق بين أفعال هللا وأفعال الدجال السحرية
الخداعية.
إن اآليات التي تناقش موقف بني إسرائيل في سورة الدخان إنما تناقشها من
منظور ثابت وهو أن بني إسرائيل هم أولى الناس بالكفر بالدجال؛ ألنهم هم
الناجون من فرعون قرين الدجال بالتوافق والصفات وزعم األلوهية
وألنهم أعلم الناس بحقيقة أفعال هللا ،من خالل آياته( :فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِ ْن ُك ْنت ُ ْم
صا ِد ِقينَ ) (الدخان ،)36:ولن يأتي اآلباء؛ ألن الفاصل بين الغيب والشهادة ال َ
يمكن تجاوزه ،هذا حكم هللا ،أما فعل الدجال بتمثيل الشياطين في صورة اآلباء
فلعب وكذب وخداع.
إن المناسبة بين إثبات الوعد الحق هنا في السورة هي التقابل مع وعد الدجال
بأن يموت العبد يهودياً ،أو نصرانيا ً ،ومن هنا يجعل الدجال الشياطين تتمثل
للرجل في صورة أبيه وأجداده ويقولون له :يا بني لقد عاينَّا األمر ووجدنا
أن اليهودية حق أو النصرانية حق.
وكما كان الكتاب مبينا ،كان الرسول مبيناً؛ ليتضاعف معنى اإلبانة ألنها الصفة
الالزمة لمواجهة الدجال ويزيد الرسول ﷺ األمر بياناً ،فكان كالم رسول هللا ﷺ
ش ْالبَ ْط َشةَ ا ْل ُكب َْر َٰى
مع قتلى بدر تحقيقا ً لإلبانة ،وذلك كما جاء في اآلية( :يَ ْو َم نَب ِْط ُ
ِإنَّا ُم ْنتَ ِق ُمونَ ) (الدخان.)16:
ثم تأتي اآليات بنموذج تاريخي ألصحاب هذا الظن الكافر الخاسر( :أَ ُه ْم
َخي ٌْر أَ ْم قَ ْو ُم تُبَّعٍ َوالَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم ۚ أَ ْهلَ ْكنَا ُه ْم ۖ إِنَّ ُه ْم َكانُوا ُم ْج ِر ِمينَ )
(الدخان.)37:
وقوم تبع قوم مجرمين ظنوا أنهم خارجين عن إحاطة هللا ولكن ذلك ال يكون
وقد خلق السماوات واألرض بالحق.
ولكن لماذا خص هللا «تُبَّع» وقومه بالذكر في هذا السياق؟ قوم تبع هم
« ِحمير» ،ولعل هناك سببين لذلك ،أحدهما يتعلق بقريش ،واآلخر يتعلق
بالدجال.
أما األول :فهو أن قوم تبع «حمير» هم العرق المقابل لقريش في الملك بدليل
قول رسول هللا ﷺَ « :كانَ َهذَا األ َ ْم ُر ِفى ِح ْميَ َر ،فَنَزَ َعهُ َّ
َّللاُ ِم ْن ُه ْم ،فَ َجعَلَهُ ِفى
قُ َري ٍْشَ ،و َسيَعُودُ ِإلَ ْي ِه ْم» (.)299
( )299أخرجه أحمد ( ،91/4رقم )16873والطبراني ( ،234/4رقم ،)4227قال الهيثمي ( :)193/5رجالهم ثقات.
وأما الثاني :فهو أن قوم تُبَّع هم «حمير» ،وهم من سيخرج منهم آخر
الدجالين الثالثين الذين سيظهرون قبل ظهور المسيح الدجال ،حيث خص
ع ْن ُه َما ,قَا َل: ي َّ
َّللاُ َ ض َ رسول هللا ﷺ دجال حمير ،ف َع ْن َجا ِب ِر ب ِْن َ
ع ْب ِد هللاَِ ،ر ِ
باح ُ ص ِ ع ِة َكذَّابين ِم ْن ُه ْمَ :
سا َسو َل هللاِ ﷺَ ،يقُولُ« :إِ َّن بَيْنَ َيدَي ِ ال َّ س ِم ْعتُ َر ُ َ
ب ِح ْميَ َرَ ،و ِم ْن ُه ْم: اح ُص ِيَ ،و ِم ْن ُه ْمَ :ص ْن َعا َء ْال َع ْن ِس ُّ
ب َ اح ُ ص ِ ْاليَ َما َم ِةَ ،و ِم ْن ُه ْمَ :
يب ِم ْن ثَالَثِينَ ص َحابِي ،يَقُولُُ :ه ْم قَ ِر ٌ ض أَ ْ الدَّ َّجالَُ ،و ُه َو أَ ْع َ
ظ ُم ُه ْم فِتْنَةً فَقَا َل بَ ْع ُ
َكذَّابًا»(.)300
يقول اإلمام البغوي في تفسيره« :وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا :كان
تبع اآلخر ،وهو أسعد أبو كرب بن مليك ،جاء بكر حين أقبل من المشرق
وجعل طريقه على المدينة ،وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنًا له
فقتل غيلة ،فقدمها وهو مجمع إلخرابها واستئصال أهلها ،فجمع له هذا الحي
من األنصار حين سمعوا ذلك من أمره ،فخرجوا لقتاله وكان األنصار
يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل ،فأعجبه ذلك وقال :إن هؤالء لكرام ،إذ جاءه
حبران اسمهما :كعب وأسد من أحبار بني قريظة ،عالمان وكانا ابني عم،
حين سمعا ما يريد من إهالك المدينة وأهلها ،فقاال له :أيها الملك ال تفعل
فإنك إن أبيت إال ما تريد حيل بينك وبينها ،ولم نأمن عليك عاجل العقوبة،
فإنها مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه أحمد ،مولده مكة،
وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت به يكون به من القتل والجراح أمر كبير
في أصحابه ،وفي عدوهم ،قال تبع :من يقاتله وهو نبي؟ قاال :يسير إليه
قومه فيقتلون ها هنا ،فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة ،ثم إنهما دعواه
إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة،
وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن»(.)301
ومن هذه الرواية تتبين المناسبة بين قوم تبع والسياق من عدة جهات ،فمن
رد تُبَّع عن المدينة ،وقالوا
جهة :أن بقايا بني إسرائيل كانوا هم السبب في ِ
له :إنها مهاجر «أحمد» ولن تسلط عليها ،وهم من سيخرج الدجال في
ومن جهة أخرى ،فالبشارة التي ذكرها حبرا اليهود لـ «تُبَّع» تتعلق بغزوة
«بدر» وهي «البطشة الكبرى» كما ذكر المفسرون والتي قتل فيها زعماء
قريش ،والتي مازال ذكرها باقيا ً حتى اآلن في سفر أشعياء.
وإذا كان علم هللا في بني إسرائيل قد بلغ هذا اإلحكام فما بالنا بخلق السماوات
ت َو ْاأل َ ْر َ
ض َو َما بَ ْينَ ُه َما َال ِع ِبينَ َما َخلَ ْقنَا ُه َما إِ َّال واألرضَ ( :و َما َخلَ ْقنَا ال َّ
س َم َاوا ِ
ق َو َٰلَ ِك َّن أ َ ْكث َ َر ُه ْم َال يَ ْعلَ ُمونَ ) (الدخان ،)39-38:يعني خلقناهما بقدر بِ ْال َح ِ
وإحكام.
إن أهم مقتضيات التصور اإلسالمي الصحيح إلدراك فتنة الدجال هو أن نعلم
الفارق األكبر بين أفعال الدجال وحقيقة الفعل اإللهي ،وهو الفارق بين المخلوق
والخالق.
ومن هنا سبق ِذ ْكر حقيقة الفعل اإللهي مع ذكر عالمات الساعة كلها في
ترتيب البحث ولكن سورة الدخان تناقش هذا الفارق بصورة مباشرة
وكاملة ،فأمر هللا محكم مكتوب في كتاب عنده ،وكل ما علمه هللا يشاؤه،
( )302في ظالل القرآن ،سيد قطب.
وكل ما يشاؤه هللا يقضيه ،وكل ما قضاه هللا يقدره ،وكل ما يقدره هللا يفعله،
ال يخرج شيء عن هذه الحدود.
أفعال هللا كلها حق ،خلق السماوات واألرض ،الدنيا واآلخرة ،الجنة والنار،
ال لعب ال عبث ال سدى وال لهو وال خداع.
ومن كالم المفسرين ،يتبين لنا أن تسمية يوم القيامة بيوم الفصل يناسب
محاولة معرفة الكفار لمصيرهم من آبائهم قبل يوم القيامة ،ومن هنا كانت
كلمة {أَ ْج َم ِعين} أي أنتم وآباؤكم.
فالقيامة فصل بين الحق والباطل بغير خلط ،وبين الغيب والشهادة بغير
خرق ،وبين اآلباء واألبناء بغير تداخل ،وال يمكن قبل يوم الفصل معرفة
المصائر .وأول مقتضيات الفصل أن تكون القيامة ( ِإ َّال َم ْن َر ِح َم َّ
َّللاُ ۚ ِإنَّهُ ُه َو
الر ِحي ُم) (الدخان.)42: ْالعَ ِز ُ
يز َّ
ولذلك كان ختام السورة عرض للنار والجنة ،نار هللا وجنته سبحانه ،وليست
نار الدجال وال جنته ،ولكن النار والجنة في سورة الدخان جاء ذكرهما
باعتبارهما جزا ًء لمن اتبع الدجال ولمن كفر به ،فالذي اتبع الدجال ،اتبعه
من أجل الطعام والشراب ،ولذا كان في النار طعام وشراب ،كما قال تعالى:
ون) (الدخان.)45-43: ط َعا ُم ْاأل َ ِث ِيم َك ْال ُم ْه ِل يَ ْغ ِلي ِفي ْالبُ ُ
ط ِ الزقُّ ِ
وم َ ت َّ ( ِإ َّن َ
ش َج َر َ
ولذكر شجرة الزقوم مناسبة مع الدجال ،ومع غزوة بدر حيث ربط ابن
عباس بين غزوة بدر وشجرة الزقوم والدجال.
ت ْال َم ْقد ِِس ث ُ َّم َجا َء ِم ْن لَ ْيلَ ِت ِه فَ َحدَّث َ ُه ْم َّاس قَا َل« :أ ُ ْس ِر َ
ي ِبالنَّ ِبي ِ ِإلَى بَ ْي ِ عب ٍ ف َع ِن اب ِْن َ
ِق ُم َح َّمدًا ِب َما صد ُ نح ٌن ال نُ َ َاس ْير ِه ْم فَقَا َل ن ٌ ت ْال َم ْقد ِِس َو ِب ِع ِِير ِه َوبِ َع َال َم ِة بَ ْي ِ
ِب َمس ِ
( )303تفسير ابن كثير.
َّللاُ أَ ْعنَا َق ُه ْم َم َع أَ ِبي َج ْه ٍل «في غزوة بدر»، ب َّ ض َر َارا َف َ ارتَدُّوا ُكفَّ ً
َيقُولَُ ،ف ْ
وم هَاتُوا ت َ ْم ًرا َو ُز ْبدًا فَت َزَ قَّ ُموا،
الزقُّ ِ
ش َج َرةِ َّ َوقَا َل أَبُو َج ْه ٍل :يُخ َِوفُنَا ُم َح َّمدٌ ِب َ
ْس ُرؤْ يَا َمن ٍَام»(.)304عي ٍْن لَي َورتِ ِه ُرؤْ يَا َ
ص َ َو َرأَى الدَّ َّجا َل فِي ُ
وكذلك تتناسب شجرة الزقوم مع الدجال في معنى الفتنة ،حيث شبه هللا
طلعها برؤوس الشياطين ،الذين سيكونون أتباعا ً للدجال!
وهذه اآليات نزلت أساسا ً في أبي جهل وما فعله هللا به في غزوة بدر ،قال
قتادة« :قال أبو جهل :ما بين جبليها رجل أعز وال أكرم مني ،فقال هللا عز
يز ْال َك ِري ُم)» (.)305
ت ْال َع ِز ُ
وجل( :ذُ ْق إِنَّ َك أ َ ْن َ
وقال عكرمة :التقى النبي ﷺ وأبو جهل فقال النبي ﷺ« :إن هللا أمرني أن
أقول لك :أولى لك فأولى» فقال :بأي شئ تهددني! وهللا ما تستطيع أنت وال
ربك أن تفعال بي شيئا ،إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه على قومه ،فقتله
هللا يوم بدر وأذله ونزلت هذه اآلية» (.)306
والحقيقة أن مالك ،خازن النار ،هو من سيوجه هذا القول إلى أبي جهل
مباشرة ،بدليل قول مقاتل« :ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم» قال
مقاتل :يضرب مالك خازن النار ضربة على رأس أبي جهل بمقمع من
حديد ،فيتفتت رأسه عن دماغه ،فيجري دماغه على جسده.
ولمالك ،خازن النار ،مناسبة مع الدجال :روى اإلمام مسلم في صحيحه:
َّللاِ ﷺ:سو ُل َّ َّاس قَا َل :قَا َل َر ُ عب ٍ ع ْن أَ ِبي ْال َعا ِل َي ِة َحدَّثَنَا اب ُْن َ
ع ِم نَ ِب ِي ُك ْم ﷺ اب ُْن َ َ
س َالم َر ُج ٌل آدَ ُم ُ
ط َوا ٌل علَ ْي ِه ال َّ
سى ب ِْن ِع ْم َرانَ َ علَى ُمو َ ي ِبي َ « َم َر ْرتُ لَ ْيلَةَ أ ُ ْس ِر َ
ق ِإلَى ع ْالخ َْل ِسى ابْنَ َم ْريَ َم َم ْربُو َ شنُو َءةَ َو َرأَيْتُ ِعي َ َج ْعدٌ َكأَنَّهُ ِم ْن ِر َجا ِل َ
ط َّ ْ
ت ار َوالدَّ َّجا َل فِي آيَا ٍ َازنَ النَّ ِ ي َما ِل ًكا خ ِالرأ ِس َوأ ُ ِر َ سبِ َاض َ ْال ُح ْم َرةِ َو ْالبَيَ ِ
( )304ورواه النسائي من حديث أبي زيد ثابت بن يزيد عن هالل -وهو ابن خباب-به ،وهو إسناد صحيح.
( )305الدر المنثور.
( )306تفسير البغوي آية «ذق إنك أنت العزيز الكريم».
أَ َرا ُه َّن َّ
َّللاُ ِإيَّاهُ»(.)307
ودليل اختصاص العالقة بين الدجال ومالك خازن النار هو أن الرسول كان
يقول رأيت موسى ورأيت عيسى ولكنه جمع في الرؤية بين مالك والدجال
ي» مال ًكا خازن جهنم والدجال» ولم يفصل بينهما بكلمة فقالَ « :وأ ُ ِر َ
«ورأيت» ،ليكون الدجال صاحب «النار الوهمية» أمام مالك خازن جهنم
«النار الحقيقية».
فكان أول صفاتها ،األمان ،وهي الصفة المقابلة للدجال بأخطر صفاته وهي
ْب ْال َمسِيحِ ِإ َّال ْس بَلَدٌ إِ َّال يَ ْد ُخلُهُ ُرع ُ
الرعب كما قال رسول هللا ﷺِ « :إنَّهُ لَي َ
ْب ْال َمسِيحِ» (.)308 ع ْن َها ُرع َ ان يَذُب ِ
َّان َ ْال َمدِينَةَ َ
علَى ُك ِل نَ ْق ٍ
ب ِم ْن نِقَابِ َها يَ ْو َمئِ ٍذ َملَ َك ِ
اب َوتَقَ ُعَّللاُ ِفي زَ َما ِن ِه ،أي عيسى ابن مريمْ ،ال َمسِي َح الدَّ َّجا َل ْال َكذَّ َ « َويُ ْه ِلكُ َّ
ور َم َع ْال َبقَ ِراإلبِ ُل َم َع ْاأل ُ ْس ِد َج ِميعًا َوالنُّ ُم ُ ض َحتَّى تَ ْرتَ َع ْ ِ ْاأل َ َمنَةُ فِي ْاأل َ ْر ِ
اب َم َع ْالغَن َِم» (.)309
الذئَ َُو ِ
س ْندُسا ً و ُ
سدوسا َّ
كأن عليها ُ ت َح َب ِشيَّةً وداو ْيتُها حتَّى َ
شت َ ْ َ
ومن هنا كانت الحور العين جزاء من يقرأ سورة الدخان ليلة الجمعة ،كما
ع ْن صدَقَةُ ب ُْن خَا ِل ٍد َ ار ِك َحدَّثَنَا َ روى الدارمي في سننهَ :حدَّثَنَا ُم َح َّمدُ ب ُْن ْال َمبَ َ
ع ْن أَ ِبى َرا ِفعٍ قَا َلَ « :م ْن قَ َرأَ الدُّخَانَ ِفى لَ ْيلَ ِة ْال ُج ُمعَ ِة أَ ْ
ص َب َح ث َ ار ِ َي ْح َيى ب ِْن ْال َح ِ
ين» (.)315 ور ْال ِع َِم ْغفُورا ً لَهَُ ،و ُز ِو َج ِمنَ ْال ُح ِ
والفاكهة هي الطعام الذي يدل على الشبع ،وهو ما يقابل الجوع في فتنة
الدجال ،وبذلك تتناسب اآلية بكل ما فيها مع الدجال.
وتأكيدا لألمان تكون الطمأنة ( َفض ًْال ِم ْن َر ِب َك ۚ َٰذَ ِل َك ُه َو ْال َف ْو ُز ْال َع ِظي ُم)
(الدخان ،)57:ويأتي األمان من الموت في مقابل فتنة اإلحياء واإلماتة التي
يأتي بها الدجال.
وبنو تميم الذين هم أشد األمة على الدجال هم أنفسهم أفصح العرب لسانا:
حدثنا الفضل بن دكين عن أبي خلدة عن أبي العالية قال« :قرأ على النبي
ﷺ من كل جنس رجل ،فاختلفوا في اللغة فرضي قراءتهم كلهم ،فكان بنو
()318
تميم أعرب القوم»
سانِ َك لَعَلَّ ُه ْم يَتَذَ َّك ُرونَ ﴾، ومن هنا تتبين مناسبة اآلية ﴿:فَإِنَّ َما يَ َّ
س ْرنَاهُ بِ ِل َ
وخصوصا إذا علمنا أن الدجال معه كل األلسنة وأن اللسان أخطر عناصر
الفتنة ،وأن اللسان العربي ،الذي هو خير األلسنة وأقواه ،هو القادر على
الدجال بكل ألسنته.
ارتَ ِقبْ ) (الدخان ،)59:أي :انتظر ومن هنا كانت أقوال جمهور المفسرينْ ( :
ما وعدك ربك من الخير والنصر (إِنَّ ُه ْم ُم ْرتَ ِقبُونَ ) (الدخان ،)59:ما يحل
بهم من العذاب وفرق بين االرتقابين :رسول هللا وأتباعه يرتقبون الخير في
الدنيا واآلخرة ،وضدهم يرتقبون الشر في الدنيا واآلخرة» (.)319
أما ابن حجر فقد ذكر ما يُظهر مضمون هذه العالقة في قوله« :والغرض
منه هنا -ذكر يأجوج ومأجوج-اإلشارة إلى كثرتهم ،وأن هذه األمة بالنسبة
إليهم نحو عشر العشر ،وأنهم من ذرية آدم ،ردًّا على من قال خالف ذلك
(.)322
وقد زادت العالقة وضو ًحا عندما ذكر ابن حجر قصة لقاء ذي القرنين
علَى تَقَدُّم ذِي ْالقَ ْرنَي ِْن َما َر َوى ْالفَا ِك ِهي ِم ْن بإبراهيم( )323فقالَ « :والَّذِي َيدُل َ
ع َميْر أَ َحد ِك َبار التَّا ِب ِعينَ أ َ َّن ذَا ْالقَ ْرنَي ِْن َح َّج َما ِشيًا فَ َ
س ِم َع بِ ِه عبَيْد بْن ُ ط ِريق ُ َ
عبَّاس أَ َّن ذَا ْالقَ ْرنَي ِْن دَ َخ َل ْال َم ْس ِجد
ع ْن اِبْن َ طاء َ ع َ ط ِريق َ ِإب َْرا ِهيم فَتَلَقَّاهَُ ،و ِم ْن َ
ط ِريق صافَ َح ،و ِم ْن َ صافَ َحهَُ ،ويُقَال ِإنَّهُ أَ َّول َم ْن َ علَى ِإب َْرا ِهيم َو َ سلَّ َم َْال َح َرام فَ َ
( )320صحيح البخاري
( )321يراجع كتاب «علم الحديث منظور إعجازي» للمؤلف ،وفيه يتعرض للمنهجية الدقيقة لترتيب وتصنيف األحاديث
عند اإلمام البخاري.
( )322فتح الباري (.)386/6
( )323فتح الباري(.)382/6
ْف َو َق ْدعو لَهُ فَقَا َلَ :و َكي َ سأ َ َل ِإب َْرا ِهيم أَ ْن َي ْد ُ ساج أَ َّن ذَا ْالقَ ْرنَي ِْن َ عثْ َمان بْن َ ُ
ع ْن أَ ْم ِري ،يَ ْعنِي أَ َّن بَ ْعض ْال ُج ْند فَعَ َل ذَ ِل َك س ْدت ُ ْم بِئْ ِري؟ فَقَا َل لَ ْم يَ ُك ْن ذَ ِل َك َ أَ ْف َ
بِغَي ِْر ِع ْلمه ،وذَ َك َر اِبْن ِهشَام فِي «التِي َجان» أَ َّن إِب َْرا ِهيم تَ َحا َك َم إِلَى ذِي ا ْلقَ ْرنَي ِْن
ع ِلي بْن أَ ْح َمد أ َ َّن ذَا ط ِريق َ ش ْيء فَ َح َك َم لَهَُ ،و َر َوى اِبْن أ َ ِبي َحا ِتم ِم ْن َ ِفي َ
ع ْن ذَ ِل َك ان ْال َك ْع َبة فَا ْست َ ْف َه َم ُه َما َ
ْالقَ ْرنَي ِْن قَد َِم َم َّكة فَ َو َجدَ ِإب َْرا ِهيم َو ِإ ْس َما ِعيل يَ ْبنِ َي ِ
سة أَ ْكبُش ت خ َْم َ ان ،فَقَا َل َم ْن يَ ْش َهد لَ ُك َما؟ فَقَا َم ْ ور ِ ان َمأ ْ ُم َ ع ْبدَ ِفَقَ َاال :ن َْح ُن َ
ارةَ ،ويُ ْحتَ َمل أَ ْن ورة ِح َج َ ظن ْاأل َ ْكبُش ْال َم ْذ ُك َ صدَ ْقت ُ ْم ،قَا َل َوأَ ُ
ت ،فَقَا َل :قَ ْد َ ش ِهدَ ْ فَ َ
ع ْهد ذِي ْالقَ ْرنَي ِْن» علَى ِقدَم َ ضا ،و َيدُل َ شد بَ ْعض َها َب ْع ً غنَ ًما ،ف َه ِذ ِه ْاآلثَار َي ُ تَ ُكون َ
(.)324
فهذا اللقاء يدل على التقابل بين «األنبياء» وبين «يأجوج ومأجوج» من
جهة أن إبراهيم هو أبو األنبياء ،وأن ذي القرنين هو صاحب السد المانع
من خروج يأجوج ومأجوج.
ومع إبراهيم إسماعيل أصل االمتداد البشري ألمة النبي ﷺ الباقية إلى قيام
الساعة وأكثر األمم عددًا ،والتي تمثل ثلثي هذه األمة المسلمة الواحدة،
وخصوصا عندما يكون لقاء ذي القرنين مع إبراهيم واسماعيل وهما يبنيان
الكعبة وهو الوقت الذي أعطى هللا فيه العهد بالوالية على البشر.
ت ت َوإِ ْس َما ِعي ُل َربَّنَا تَقَب َّْل ِمنَّا ۖ إِنَّ َك أَ ْن َ ( َوإِ ْذ يَ ْرفَ ُع إِب َْرا ِهي ُم ْالقَ َوا ِعدَ ِمنَ ْالبَ ْي ِ
اج َع ْلنَا ُم ْس ِل َمي ِْن لَ َك َو ِم ْن ذُ ِريَّ ِتنَا أ ُ َّمةً ُم ْس ِل َمةً لَ َك َوأَ ِرنَا س ِمي ُع ْال َع ِلي ُم َربَّنَا َو ْ ال َّ
س ً
وال ِم ْن ُه ْم ث فِي ِه ْم َر ُ الر ِحي ُم َربَّنَا َوا ْبعَ ْ اب َّ علَ ْينَا ۖ ِإنَّ َك أ َ ْن َ
ت الت َّ َّو ُ َمنَا ِس َكنَا َوتُبْ َ
يز ْال َح ِكي ُم) ت ْالعَ ِز ُ اب َو ْال ِح ْك َمةَ َويُزَ ِكي ِه ْم ۚ ِإنَّ َك أ َ ْن َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ َك َويُعَ ِل ُم ُه ُم ْال ِكتَ َ
يَتْلُو َ
(البقرة.)129-127:
دليال على بقاء أمة األنبياء؛ فامتداد مع زمزم الماء الباقي إلى قيام الساعةً ،
الماء هو امتداد الحياة ،أي هو امتداد الذرية ،وامتداد الرسالة ،ولذلك كان
نهر الكوثر ،والذي هو حوض النبي في الجنة ،عزاؤه حين عيرته قريش
بأنه أبتر ال ولد له ،أي ال امتداد له ،فأنزل هللا سبحانه( :إِ َّن شَا ِنئَ َك ُه َو ا ْأل َ ْبت َ ُر)
(الكوثر.)3:
( )324فتح الباري شرح صحيح البخاري /باب قول هللا تعالى ويسألونك عن ذي القرنين إلى قوله سببا).
وسنجد أن إفناء الماء سيكون أول أعمال يأجوج ومأجوج التي سيعرفون
بها عند خروجهم في آخر الزمان ،فيكون لقاء إبراهيم وذي القرنين بداية
مرحلة جديدة في التاريخ البشري ،حيث كان حبس يأجوج ومأجوج بواسطة
ذي القرنين مع بداية مرحلة األنبياء ،بإبراهيم «أبو األنبياء» وآخرها أمة
النبي ﷺ.
ودون استثناء آية واحدة من السورة فإن عناصرها ترتبط بعالمة يأجوج
ومأجوج من عدة جهات:
أوال :عناصر امتداد األمة الكافرة ،بما في ذلك أخطر قضايا االمتداد
البشري الباطل ،وبذلك يتم تفسير الوجود الجاهلي وامتداده ،ثم يكون تفسير
األمة المسلمة الممتدة في مقابل الوجود الجاهلي ،وهذا ما يفرض العنصر
الثاني في المسألة.
وفي النهاية تكون المناسبات اللفظية في السورة المؤ َّكدة للعالقة بين العالمة
والسورة وكلماتها وألفاظها المحددة.
عناصر االمتداد البشري الكافر
َاث أَ ْح َال ٍم بَ ِل ا ْفت َ َراهُ بَ ْل ُه َو شَا ِع ٌر فَ ْليَأْتِنَا بِآيَ ٍة َك َما أ ُ ْر ِس َل
ضغ ُ(بَ ْل قَالُوا أَ ْ
ْاأل َ َّولُونَ ) (األنبياء.)5:
إن مقدمة السورة تجمع عناصر االمتداد البشري الكافر ،ومن مجموع آيات
المقدمة تتحدد هذه العناصر لتكون الغفلة واإلعراض واللعب واللهو ،ثم
االنشغال باتهام األنبياء بالسحر ،وبأضغاث األحالم ،وباالفتراء ،وبالشعر.
يضاف إلى هذه العناصر ما ذكرته اآليات من خالل السورة كلها مثل
ياإلعراض (أَ ِم ات َّ َخذُوا ِم ْن دُونِ ِه آ ِل َهةً ۖ قُ ْل هَاتُوا بُ ْرهَانَ ُك ْم ۖ َٰ َهذَا ِذ ْك ُر َم ْن َم ِع َ
َو ِذ ْك ُر َم ْن قَ ْب ِلي ۗ َب ْل أ َ ْكثَ ُر ُه ْم َال َي ْعلَ ُمونَ ْال َح َّق ۖ فَ ُه ْم ُم ْع ِرضُونَ ) (األنبياء،)24:
آك الَّذِينَ َكفَ ُروا إِ ْن َيت َّ ِخذُونَ َك إِ َّال ُه ُز ًوا أَ َٰ َهذَا الَّذِي َي ْذ ُك ُر
واالستهزاءَ ( :و ِإذَا َر َ
س ٍل الر ْح َٰ َم ِن ُه ْم َكافِ ُرونَ ) (األنبياءَ ( ،)36:ولَقَ ِد ا ْست ُ ْه ِز َ
ئ ِب ُر ُ آ ِل َهتَ ُك ْم َو ُه ْم ِب ِذ ْك ِر َّ
س ِخ ُروا ِم ْن ُه ْم َما َكانُوا بِ ِه يَ ْستَ ْه ِزئُونَ )(األنبياء.)41: ِم ْن قَ ْب ِل َك فَ َحاقَ بِالَّذِينَ َ
ولكن هذه المقدمة ذاتها تبدأ بما يثبت الحد النهائي لمعنى المقدمة والسورة
غ ْفلَ ٍة
سابُ ُه ْم َو ُه ْم فِي َ وهو اقتراب الساعة والحساب( :ا ْقتَ َر َ
ب ِللنَّ ِ
اس ِح َ
ُم ْع ِرضُونَ ) (األنبياء.)1:
وبدعة اتخاذ الرحمن ولدا ً جاءت كمقابل للقرآن كذكر لنا ،ولمن قبلنا ،كما
س ْلنَا ِم ْن قَ ْب ِل َك ِم ْن َر ُ
سو ٍل إِ َّال جاءت كمقابل لمضمون كل الرساالت ( َو َما أَ ْر َ
َٰ
ُون) (األنبياء.)25: وحي ِإلَ ْي ِه أَنَّهُ َال إِلَهَ ِإ َّال أَنَا فَا ْعبُد ِ
نُ ِ
ألنها البدعة التي استحوذت على العقل البشري الكافر أكبر مدة زمنية وأكبر
مساحة بشرية ،إنها البدعة األساسية في التاريخ الجاهلي كله.
س ْب َحانَهُ ۚ بَ ْل ِعبَادٌ ُم ْك َر ُمونَ ومن هنا جاءت اآليات ( َوقَالُوا ات َّ َخذَ َّ
الر ْح َٰ َم ُن َولَدًا ۗ ُ
َال َي ْس ِبقُونَهُ ِب ْالقَ ْو ِل َو ُه ْم ِبأ َ ْم ِر ِه َي ْع َملُونَ َي ْعلَ ُم َما بَيْنَ أَ ْيدِي ِه ْم َو َما خ َْلفَ ُه ْم َو َال
ض َٰى َو ُه ْم ِم ْن َخ ْشيَتِ ِه ُم ْش ِفقُونَ َو َم ْن َيقُ ْل ِم ْن ُه ْم إِنِي إِ َٰلَهٌ ِم ْن َي ْشفَعُونَ إِ َّال ِل َم ِن ْ
ارت َ َ
الظا ِل ِمينَ ) (األنبياء )29-26:لتنفيها دُونِ ِه فَ َٰذَ ِل َك ن َْج ِزي ِه َج َهنَّ َم ۚ َك َٰذَ ِل َك ن َْج ِزي َّ
تماما ً وتواجهها مواجهة كاملة.
وألجل أن ادعاء الولد هلل هو البدعة التي استوعبت في الواقع البشري الكافر
أكبر مدة زمنية وأكبر مساحة أرضية ،كان أتباع هذه البدعة أكبر كثرة
عددية من أهل النار ،ولذلك جاء التعبير عن النار بخصوص هذه القضية
بلفظ «جهنم» مثلما جاء في اآلياتَ ( :و َم ْن يَقُ ْل ِم ْن ُه ْم ِإنِي ِإ َٰلَهٌ ِم ْن دُونِ ِه فَ َٰذَ ِل َك
الظا ِل ِمينَ ) (األنبياء.)29: ن َْج ِزي ِه َج َهنَّ َم ۚ َك َٰذَ ِل َك ن َْج ِزي َّ
والتعبير عن النار بجهنم في هذه القضية دليل على كثرة أتباعها ،إذ لم يأت
اخ ُرجْ ِم ْن َها َم ْذ ُءو ًما في القرآن إال للداللة على كثرة الهالكين ،مثل قوله( :قَا َل ْ
ورا ۖ لَ َم ْن تَبِعَ َك ِم ْن ُه ْم َأل َ ْم َأل َ َّن َج َهنَّ َم ِم ْن ُك ْم أَ ْج َم ِعينَ ) (األعراف،)18: َم ْد ُح ً
وب َال يَ ْفقَ ُهونَ بِ َها اإل ْن ِس ۖ لَ ُه ْم قُلُ ٌ يرا ِمنَ ْال ِج ِن َو ْ ِ وقالَ ( :ولَقَ ْد ذَ َرأْنَا ِل َج َهنَّ َم َك ِث ً
ان َال يَ ْس َمعُونَ ِب َها ۚ أُو َٰلَئِ َك َك ْاأل َ ْن َع ِام بَ ْل ُه ْم ْص ُرونَ بِ َها َولَ ُه ْم آذَ ٌ َولَ ُه ْم أَ ْعيُ ٌن َال يُب ِ
ض ُّل ۚ أُو َٰلَئِ َك ُه ُم ْالغَافِلُونَ ) (األعراف ،)179:وقال ( :فَ َو َر ِب َك لَن َْح ُ
ش َرنَّ ُه ْم أَ َ
ض َرنَّ ُه ْم َح ْو َل َج َهنَّ َم ِجثِيًّا) (مريم ،)68:وقالَ ( :وقَ ْد ن ََّز َل اطينَ ث ُ َّم لَنُ ْح ِ َوال َّ
شيَ ِ
َّللاِ يُ ْكفَ ُر بِ َها َويُ ْستَ ْهزَ أ ُ ِب َها فَ َال ت َ ْقعُدُوا ت َّ ب أ َ ْن ِإذَا َ
س ِم ْعت ُ ْم آ َيا ِ علَ ْي ُك ْم ِفي ْال ِكتَا َِ
ام ُع ْال ُمنَافِ ِقينَ غي ِْر ِه ۚ ِإنَّ ُك ْم ِإذًا ِمثْلُ ُه ْم ۗ ِإ َّن َّ
َّللاَ َج ِ ث َ ضوا فِي َحدِي ٍ َم َع ُه ْم َحت َّ َٰى َي ُخو ُ
َو ْال َكافِ ِرينَ فِي َج َهنَّ َم َج ِميعًا) (النساء ،)140:وغيرها من اآليات.
أما القاعدة العامة المثبتة للعالقة بين جهنم وكثرة الواردين فهي اقتران لفظ
جهنم بألفاظ «مأوى» و«مثوى» و«كفى» و «جمعيا ً» و«ألمالن» و
«موفورا ً».
ولكن التصور عن جهنم أنه لو ألقي حجر من سفحها لم ينزل في قاعها إال
بعد سبعين خريفا ً كما قال النبي ﷺ ،فهي واسعة ال تملؤها أجساد الكفار من
غير يأجوج ومأجوج ،ولكن تخيل هذا التصور ال يتم إلى من خالل حقيقتين:
أوالً :أن يأجوج بالعدد المعروف وبوصف أجسادهم بعد موتهم قد يساعد
على تخيل هذا التصور ،إذ قد ذكر النبي ﷺ في أجساد يأجوج ومأجوج أنها
تمأل األرض نتنا ً تأكلها البهائم وتزيد لحومها – أي البهائم – بأكل أجسادها،
ثانيا :أن حجم أهل النار ،سواء من يأجوج ومأجوج أو كفار أهل األرض،
لن يكون بالصورة التي هم عليها ،إذ يقول النبي ﷺ في ذلك« :إن ضرس
الكافر يكون مثل جبل أ ُ ُحد» (.)325
ام َو َما َكانُوا خَا ِلدِينَ ) (األنبياء.)8: سدًا َال يَأ ْ ُكلُونَ َّ
الط َع َ ( َو َما َج َع ْلنَا ُه ْم َج َ
ولكن موت األنبياء ال يعني ذهاب الوحي ،ذلك أن موت األنبياء كان بعد تمام
رسالتهم ،ومن أجل تمام الرسالة كانت حقيقة نجاة األنبياء ،فالوحي والنبوة
ممتدان مستقران في الواقع البشري ،ولكن نجاة األنبياء ،كما وردت في السورة،
كانت قضا ًء إلهيا ً وحتميا ً واضحاً ،له معنى ضخم هو نجاة هؤالء األنبياء
باعتبارهم منابع لهذا االمتداد.
وإسماعيل الذي أمر إبراهيم بذبحه ثم فداه هللا بذبح عظيم ولذلك جاء ذكر
يس َوذَا ْال ِك ْف ِل ۖ ُك ٌّل ِمنَ إسماعيل في سورة األنبياءَ ( :وإِ ْس َما ِعي َل َو ِإ ْد ِر َ
صابِ ِرينَ ) (األنبياء ،)85:ألنه قال ألبيه عندما أخبره أبوه بأمر الرؤية: ال َّ
ظ ْر َماذَا ي ِإنِي أ َ َر َٰى فِي ْال َمن َِام أَنِي أ َ ْذ َب ُح َك فَا ْن ُ
ي قَا َل َيا بُنَ َّ (فَلَ َّما َبلَ َغ َمعَهُ ال َّ
س ْع َ
صابِ ِرينَ ) َّللاُ ِمنَ ال َّ ست َ ِجدُنِي ِإ ْن شَا َء َّ ت ا ْفعَ ْل َما تُؤْ َم ُر ۖ َ تَ َر َٰى ۚ قَا َل يَا أَبَ ِ
(الصافات ،)102:فكانت نجاة إسماعيل أصالً بشريا ً ممتدا ً حتى بلغ بنسله
أبو سيدنا محمد ﷺ.
عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال :قلت يا رسول هللا إني إذا رأيتك طابت
نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء خلق من ماء ،قال :قلت :أنبئني
وص ِل
عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة قال« :أفش السالم وأطعم الطعام ِ
األرحام وقم الليل والناس نيام ثم ادخل الجنة بسالم» ( ،)327وبذلك يربط
الرسول بين اإلجابتين ،بين منشأ الوجود البشري وهو الماء وامتداد هذا
الوجود باألخالق.
ولعل ما يؤكد على معنى أخالق االمتداد الوارد في الحديث هو صلة الرحم
التي قال فيها رسول هللا ﷺ «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في
عمره فليصل رحمه» ( ،)328حيث جاءت صلة الرحم سببا ً لزيادة الرزق
والعمر ،وهي أسباب االمتداد األساسية لحياة الناس.
ى
ترتيب األنبياء يف السورة
إن منهجية ترتيب األنبياء قائمة على أساس مفهوم االمتداد البشري الصحيح
ومن هنا بدأ الترتيب بموسى وهارون باعتبار أن مرحلة موسى وهارون
هي أعظم مراحل أمة بني إسرائيل ،حيث بدأها موسى بإخراج بني إسرائيل
من عبودية فرعون ،وأتمها هارون كأعظم أمة عددية بعد أمة النبي ﷺ،
فكان موسى وهارون هما الصحة واالمتداد.
ثم كان إبراهيم الذي حقق ،وحده ،مفهوم األمة بوجوده على التوحيد( :إِ َّن
يم َكانَ أ ُ َّمةً قَانِتًا ِ َّّلِلِ َحنِيفًا َولَ ْم يَكُ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ) (النحل ،)120:ثم كان
ِإب َْرا ِه َ
إسحاق ويعقوب اللذان يمثالن االمتداد البشري إلبراهيم ،ثم كان لوطا ً الذي
حارب داء االنقطاع البشري ،أي داء الشذوذ ،ثم كان داوود وسليمان اللذان
يمثالن تمام الصورة البشرية بصفة شخصية ،وهما يمثالن مرحلة األمة
الصحيحة الممكنة ،ثم أيوب الذي جاء من اجتماع نسل إسحاق وإسماعيل،
فأصبح نقطة اجتماع نسل إبراهيم ،ليتحقق امتداد جديد لألمة الواحدة ،ثم
كان إسماعيل ،ليكون بداية امتداد أساسي لنسل إبراهيم حيث كان إسحاق
وإسماعيل ،ثم ليكون بداية نسل محمد ﷺ ،ثم كان إدريس ليمثل البقاء
البشري المرتفع حتى يوم القيامة ،ثم كان ذو الكفل ،نسل أيوب الذي كان ال
يغضب ليضمن العدل في الحكم بين الناس فأصبح يمثل مهمة القضاء بين
الناس وهو محصلة األساسيات الثالثة لبقاء األمة :الكتاب «الشريعة
والسلطة والحق» ،ثم يونس الذي يمثل غلبة القضاء اإللهي بإنشاء أمة
( )327أخرجه أحمد «.»295/2
( )328أخرجه البخاري في (األدب) /باب :من بسط له الرزق « ،»5986/429/10ومسلم في (البر
االمتداد الصحيح ،بصورة تفوق األسباب وتعلو عليها ،وذلك حينما يذهب
مغاضبا ً ليعود وقد آمن قومه كلهم أجمعون ،ثم كان زكريا ليرث آل ِ يونس
يعقوب ثم يدعو هللا من أجل امتداد الحق وميراث النبوة بيحيى الذي يرث
زكريا الوارث لنبوة بني إسرائيل ،ثم مريم وعيسى ليجتمعا مع أمة النبي
ﷺ الذي يمثل حلقة الوصل بين بني إسرائيل وأمة محمد ﷺ حيث سيكون
من األمة األولى ثم يعود لألمة الثانية في آخر الزمان محمد ﷺ ،وهو اللبنة
التي تم بها بناء األمة الواحدة الممتدة امتدادا ً صحيحا ً حتى قيام الساعة.
الـكثـرة
والمالحظة األساسية لترتيب األنبياء في السورة هي إثبات الكثرة ،ألن األمة
المقابلة ليأجوج ومأجوج هي األمة الممتدة الملحقة ألكبر نسبة عددية
ممكنة ،وقد أظهرت اآليات قصد الكثرة.
وهذا يونس عليه السالم يترك قومه ويذهب مغاضبا ً ليعود فيجد قومه وقد
آمنوا كلهم أجمعون ،ولما كان االمتداد امتدادا ً عددياً ،فقد قال هللا في قوم
س ْلنَاهُ إِلَ َٰى ِمائَ ِة أَ ْلفٍ أَ ْو يَ ِزيدُونَ ) (الصافات.)147:
يونسَ ( :وأَ ْر َ
وقد وضح هذا المعنى في ذكر األنبياء في السورة وحيث عدَّد لنا القرآن
س ْلنَاهُ ِإلَ َٰى ِمائَ ِة أ َ ْلفٍ أَ ْو َي ِزيدُونَ ) قوم يونس الذين آمنوا بأنهمَ ( :وأَ ْر َ
عدًّا َو ُكلُّ ُه ْم
عدَّ ُه ْم َ (الصافات .)147:وهللا يعلم عددهم فرداً( :لَقَ ْد أَ ْح َ
صا ُه ْم َو َ
آتِي ِه يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة فَ ْردًا) (مريم.)95-94:
ولكن كلمة «أو يزيدون» هي التي تعطي داللة العدد في إثبات معني
االمتداد ،وكذلك عندما يذكر القرآن في سورة األنبياء مضاعفة أهل
ض ٍر ۖ َوآتَ ْينَاهُ أَ ْهلَهُ
ش ْفنَا َما بِ ِه ِم ْن ُ
«أيوب» في قوله سبحانه( :فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ فَ َك َ
َو ِمثْلَ ُه ْم َمعَ ُه ْم َر ْح َمةً ِم ْن ِع ْن ِدنَا َو ِذ ْك َر َٰى ِل ْل َعا ِبدِينَ ) (األنبياء ،)84:يتضاعف
معني المضاعفة على معنى الزيادة.
وبنفس القاعدة تذكر اآليات في إبراهيم الخليل ( َو َو َه ْبنَا لَهُ إِ ْس َحاقَ َو َي ْعقُ َ
وب
صا ِل ِحينَ ) (األنبياء ،)72:حيث جاء في تفسيره :فأعطاه نَافِلَةً ۖ َو ُك ًّال َجعَ ْلنَا َ
هللا إسحاق وزاده يعقوب.
ويوازي معنى العدد في تحقيق الكثرة ،معنى التمام ،وهو ما أكدته قصة
زكريا ،الذي دعا بأن يرزقه هللا الولد ،ليكون تمام نسل يعقوب ،في النبوة.
اجعَ ْلهُ َر ِ
ب وب ۖ َو ْث ِم ْن آ ِل يَ ْعقُ َ وهذه علة قول زكريا في الدعاء( :يَ ِرثُنِي َويَ ِر ُ
ضيًّا) (مريم.)6: َر ِ
ى
الكون العام
ي الحفظ
وكما كانت بعثة األنبياء ووحدة رسالتهم أساسا ً في االمتداد البشري
الصحيح ،فإن هذا االمتداد يتطلب حفظا ً كونيا ً ،تبقى به األمم حتى قيام
الساعة.
ومما ال شك فيه أن االمتداد يقتضي الحفظ ،ولهذا كانت حقيقة الحفظ في
سورة األنبياء كاملة ،ومما ورد في معناه قول هللا عز وجل( :لَ ْو َكانَ فِي ِه َما
صفُونَ ) (األنبياء،)22: ب ْالعَ ْر ِش َ
ع َّما َي ِ س ْب َحانَ َّ
َّللاِ َر ِ سدَتَا ۚ فَ ُ آ ِل َهةٌ ِإ َّال َّ
َّللاُ لَفَ َ
س َو ْالقَ َم َر ۖ ُك ٌّل فِي وقول هللا عز وجلَ ( :و ُه َو الَّذِي َخلَقَ اللَّ ْي َل َوالنَّ َه َ
ار َوال َّ
ش ْم َ
فَلَكٍ يَ ْسبَ ُحونَ ) (األنبياء ،)33:وقول هللا عز وجل ( :قُ ْل َم ْن يَ ْكلَ ُؤ ُك ْم ِباللَّ ْي ِل
ع ْن ِذ ْك ِر َربِ ِه ْم ُم ْع ِرضُونَ ) (األنبياء .)42:وقال الر ْح َٰ َم ِن ۗ بَ ْل ُه ْم َ
ار ِمنَ َّ َوالنَّ َه ِ
ع َم ًال دُونَ صونَ لَهُ َو َي ْع َملُونَ َ ين َم ْن يَغُو ُ اط ِ هللا في داود وسليمانَ ( :و ِمنَ ال َّ
ش َي ِ
َٰذَ ِل َك ۖ َو ُكنَّا لَ ُه ْم َحافِ ِظينَ ) (األنبياء ،)82:وذلك بعد فضائل داود وسليمان.
غير أن أهم الحقائق القدرية التي أبقى هللا بها االمتداد البشري الصحيح هو
مجيء قوم آخرين بعد هالك السابقين من الكافرين ،فقال تعالىَ ( :و َك ْم
ظا ِل َمةً َوأ َ ْنشَأْنَا َب ْعدَهَا قَ ْو ًما آخ َِرينَ ) (األنبياء.)11:
َت َ
ص ْمنَا ِم ْن قَ ْريَ ٍة َكان ْ
قَ َ
ض َو َما بَ ْينَ ُه َما س َما َء َو ْاأل َ ْر َ ليس هنا ك لعب ،ليس هناك لهوَ ( ،و َما َخلَ ْقنَا ال َّ
ِف ِب ْال َح ِ
ق َال ِع ِبينَ لَ ْو أ َ َر ْدنَا أ َ ْن نَت َّ ِخذَ لَ ْه ًوا َالت َّ َخ ْذنَاهُ ِم ْن لَدُنَّا ِإ ْن ُكنَّا فَا ِع ِلينَ بَ ْل نَ ْقذ ُ
صفُونَ َولَهُ َم ْن فِي اط ِل فَيَ ْد َمغُهُ فَإِذَا ُه َو زَ ا ِه ٌق ۚ َولَ ُك ُم ْال َو ْي ُل ِم َّما تَ ِ علَى ْالبَ ِ َ
ع ْن ِع َبادَ ِت ِه َو َال يَ ْستَ ْحس ُِرونَ ) ض ۚ َو َم ْن ِع ْندَهُ َال َي ْستَ ْك ِب ُرونَ َ ت َو ْاأل َ ْر ِ س َم َاوا ِ ال َّ
(األنبياء.)19-16:
وقصة يأجوج ومأجوج غريبة على العقول ،بشر يفسدون ،فيُردم عليهم ردم
حتى يفسد الذين فوق األرض مثل فسادهم فيُخرج هللا إليهم المفسدين من
تحت الردم فيقتلونهم ،ومهما كانت محاولة تفسير العالمة فإن المعالجة لهذه
ع َّما يَ ْفعَ ُل َو ُه ْم يُ ْسأَلُونَ ) (األنبياء.)23:
الغرابة لـن تكون إال آيةَ ( :ال يُ ْسأ َ ُل َ
من قواعد علم المناسبة ،قاعدة ذكر األنبياء وترتيبهم في السور ،وسورة
«النمل» مثال واضح على هذه القاعدة؛ حيث ورد فيها ذكر جم ٌع من
األنبياء؛ هم «موسى ،وداود ،وسليمان ،وصالح ،ولوط ،ومحمد صلى هللا
عليهم جميعًا»؛ حيث ال تجمع بينهم أي مناسبة أخرى؛ من ِعرق واحد أو
ترتيب زمني واحد أو مكان جغرافي واحد ،لكنهم يرتبطون -جميعًا-بعالمة
الدابة التي ستخرج في آخر الزمان ،ويمثل ذكر كل نبي جانبًا أساسيًّا في
فهم هذه العالمة.
عن أبي هريرة أن رسول هللا ﷺ قال« :تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان بن
داود ،وعصا موسى بن عمران ،فتجلو وجه المؤمن بالعصا ،وتخطم أنف
الكافر بالخاتم ،حتى إن أهل الحواء ليجتمعون فيقول هذا :يا مؤمن ،ويقول
هذا :يا كافر» (.)329
ولما كانت الدابة عالمة من عالمات الساعة اتجهت اآلياتُ من بداية السورة
إلى الحديث عن «اآلخرة»؛ حيث جاء لفظ «اآلخرة» في ثالث آيات
متوالية:
واآلن يجب أن يعود موسى إلى الحية ،بوعد من هللا أن تعود إلى سيرتها
يرتَ َها األُولَى) (طه.)21:
سنُع ِيدُهَا ِس َ األولى؛ قال تعالىُ ( :خ ْذهَا وال تَخ ْ
َف َ
وكذلك يجب أن يعود إلى فرعون بوعد من هللا؛ أن يحفظه من فرعون؛ قال
صلُوا إلَي َْك) (هود ،)81 :وقال سبحانه( :قَا َل َال تَخَافَا ۖ إِنَّنِي
تعالى( :لَن يَ ِ
َم َع ُك َما أَ ْس َم ُع َوأ َ َر َٰى) (طه.)46:
عاجزا عن قتل موسى ،لقد كان من ً وكما أعاد هللا الحية عصا ،عاد فرعون
المتوقع أن يقتل فرعون موسى بمجرد أن يراه؛ لكنه ال يزيد عن قوله:
(ذَ ُرو ِني أ َ ْقت ُ ْل ُموسى) (غافر ،)26:بل يضع نفسه في مقارنة مع موسى،
ص َر ْس ِلي ُم ْلكُ ِم ْ ع ْو ُن فِي قَ ْو ِم ِه قَا َل َيا قَ ْو ِم أَلَي َ
وهو ملك مصرَ ( :ونَادَى فِ ْر َ
ْص ُرونَ أَ ْم أَنَا َخي ٌْر ِم ْن َٰ َهذَا الَّذِي ُه َو ار تَ ْج ِري ِمن تَ ْحتِي أَفَ َال تُب ِ َو َه ِذ ِه ْاأل َ ْن َه ُ
مضطرا إلى هذه ً ين) (الزخرف ،)52 ،51:وكأنه كان ين َو َال يَ َكادُ يُبِ ُ َم ِه ٌ
المقارنة!
وبذلك كانت تجربة العصا ،في سورة النمل ،هي نفسها مضمون قصة
موسى مع فرعون ،ودليل هذا الفهم :أن األمر الموجه إلى موسى من هللا،
سبحانه وتعالى ،بالرجوع إلى العصا كان بصفته «من المرسلين»؛ قال
غف ُ ٌ
ور َر ِحي ٌم) (النمل،)11: ظلَ َم ث ُ َّم بَدَّ َل ُح ْسنًا بَ ْعدَ ُ
سوءٍ فَإِنِي َ تعالىِ ( :إ َّال َم ْن َ
طفيك رسوال وأجعلك نبيًّا أي :ال تخف مما ترى ،فإني أريد أن أص َ
ً
رسوال بهذا القول(،)331 وجي ًها( ،)330قال ابن بحر :فصار على هذا التأويل
ليكون األمر بالرجوع إلى العصا بمقتضى الرسالة وبصفته «من
المرسلين»؛ ألن الرجوع إلى العصا في حقيقته تجربة كاملة للعودة إلى
فرعون ،وكذلك تكون العصا مع الدابة ،فتجلو وجه المؤمن بالعصا.
وفي هذه اآلية إشارة إلى إمكانية تغيير العمل وتبديل السوء بالحسنى وهو
عاقِبَةُ
ْف َكانَ َ ظ ْل ًما َو ُ
علُ ًّوا ۚ فَا ْن ُ
ظ ْر َكي َ ( َو َج َحدُوا ِب َها َوا ْست َ ْيقَنَتْ َها أ َ ْنفُ ُ
س ُه ْم ُ
ْال ُم ْف ِسدِينَ ) (النمل)14:
وعالمة الدابة تعني في جوهرها قضية اليقين؛ ألن الدابة ستخرج ألن الناس
كبيرا من آيات ً قدرا
ال يوقنون بآيات هللا ،ولذا أخذت مناقشة قضية اليقين ً
سورة النمل ،وكان أول ذلك هو مناقشة اليقين النفسي الذي ال يكون معه
عمل وهو كعدمه كما في قول هللا سبحانهَ ( :و َج َحدُوا بِ َها َوا ْستَ ْيقَنَت َها أَ ْنفُ َ
س ُه ْم
عا ِقبَةُ ْالم ْف ِسدِينَ ) (النمل.)14: ظ ْر ُكي َ
ْف َكانَ َ ظ ْل ًما َو ُ
علُ َّوا فَان ُ ُ
واجتماع الجحود واالستيقان في قلب واحد ووقت واحد سؤال يجب اإلجابة
عليه ،فليس الجحود انتفاء معرفة القلب ولكنه مخالفة الجوارح لمقتضى
معرفة القلب ،ولعل هذه اآلية بتفسيرها تمثل األساس في قضية اليقين
الواردة في السورة ،ألن موضوع السورة والدابة ،هو العمل الذي ال ينفع
اليقين النفسي إال به.
داود وسليمان والدابة:
وعندما يكون الفضل في كالم هللا لألنبياء الذي يبلغوه للبشر نفهم معنى
الحرمان من هذا الفضل عندما يكون المتكلم مع الناس دابة من األرض.
لذا كانت العقوبة على هذا الكفر هي النزول بمستوى البشر عن أن يكونوا
أهال للمخاطبة بطريق المرسلينَ ( :و ِإذَا َوقَ َع ْالقَ ْو ُل َ
علَ ْي ِه ْم أ َ ْخ َر ْجنَا لَ ُه ْم دَابَّةً ً
ض ت ُ َك ِل ُم ُه ْم أَ َّن النَّ َ
اس َكانُوا بِآيَاتِنَا َال يُوقِنُونَ ). ِمنَ ْاأل َ ْر ِ
كلم الناس بصيغة تتناسب مع ما وصلوافجاءت الدابة ومعها هذه اآليات ،فت ُ ِ
إليه من الكفر :بالتوبيخ والخطم؛ «حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصالة،
فتأتيه من خلفه تقول :يا فالن ،اآلن تصلي؟! فيقبل عليها فتسمه في وجهه،
ثم تنطلق ،)332(»..وعلى ذلك تكون الدابة مرتبطة في داللتها بما بلغه
اإلنسان من التدني ،واالنحطاط.
ومن هنا كان من الضروري إثبات المقام األصلي لإلنسان؛ ألن إثبات هذا
المقام هو نفسه الذي يُثبت معنى االنحطاط الذي بلغه هذا اإلنسان ،حتى بلغ
أن يُخاطب من خالل الدابة ،وعندما يُذكر المقام األصلي لإلنسان يُذكر
«داوود» كنموذج لهذا المقام ،بدليل حديث الوبيص الوارد في سنن
س َح َّللاِ ﷺ« :لَ َّما َخلَقَ َّ
َّللاُ آدَ َم َم َ سو ُل َّ ع ْن أَبِى ُه َري َْرة َ قَا َل :قَا َل َر ُ الترمذيَ ،
س َم ٍة ُه َو خَا ِلقُ َها ِم ْن ذُ ِريَّ ِت ِه إِلَى َي ْو ِم ْال ِق َيا َم ِة،ظ ْه ِر ِه ُك ُّل نَ َط ِم ْن َسقَ َ َ
ظ ْه َرهُ ،فَ َ
علَى آدَ َم، ض ُه ْم َع َر َ ور ،ث ُ َّم َ صا ِم ْن نُ ٍ ان ِم ْن ُه ْم َو ِبي ًس ٍَو َج َع َل َبيْنَ عيني ُك ِل ِإ ْن َ
بَ ،م ْن َه ُؤالَ ِء؟ قَا َلَ :ه ُؤالَ ِء ذُ ِريَّت ُ َك ،فَ َرأَى َر ُج ًال ِم ْن ُه ْم فَأ َ ْع َجبَهُ فَقَا َل :أي َر ِ
آخ ِر األ ُ َم ِم بَ ،م ْن َهذَا؟ فَقَا َلَ :هذَا َر ُج ٌل ِم ْن ِ ع ْينَ ْي ِه ،فَقَا َل :أي َر ِ يص َما بَيْنَ َ
َوبِ ُ
ِم ْن ذُ ِريَّ ِت َك يُقَا ُل لَهُ :دَ ُاودُ. »..
()333
ومقام داود بين ذرية آدم هو بُعد واحد من أبعاد هذا المقام؛ ولكن لمقام داود
في إطار قضية الدابة أبعادًا أخرى منها :أن ذكر فضل داود بالنسبة لألنبياء
طا بالزبور وهو كتاب األقدار الكونية الغيبية حتى قيام الساعة، جاء مرتب ً
ويقول الرازي في تفسيره« :فإن قيل :ما السبب في تخصيص داود عليه
الصالة والسالم في هذا المقام بالذكر؟ إن السبب في تخصيصه بالذكر أنه
تعالى كتب في الزبور أن محمدًا خاتم النبيين وأن أمته خير األمم» (.)335
ويقول األلوسي« :وفيه إيذان بتفضيل نبينا ﷺ؛ فإن كونه عليه الصالة
والسالم خاتم األنبياء ،وأمته خير األمم-مما تضمنه الزبور ،وقد أخبر
قائالَ ( :ولَقَ ْد َكتَ ْبنَا ِفى الزبور ِمن َب ْع ِد الذكر أَ َّن
سبحانه عن ذلك بقوله عز ً
األرض َي ِرث ُ َها ِع َبادِي الصالحون) (األنبياء )105:يعني محمدًا ﷺ» (.)336
وامتدادًا لمفهوم المقام اإلنساني الذي يمثله اإلنسان النموذج «داود» يأتي
سلَ ْي َمانَ ِع ْل َما ً َوقَاال ْال َح ْمدُ
ذكر سليمان ليشاركه هذا المقامَ ( :ولَق ْد آتَ ْينَا دَاودَ َو ُ
ير ِم ْن ِع َبا ِد ِه اْل ُمؤْ ِمنِ ِينَ ).
علَى َكثِ ٍ ِ َّّلِلِ الَّذِي فَ َّ
ضلَنَا َ
ي َال أ َ َرى ْال ُه ْد ُهدَ الطي َْر فَقَا َل َما ِل َ ثم ذكرت «تكلم الهدهد» بعد النملةَ ( :وتَفَقَّدَ َّ
ان
ط ٍ شدِيدًا أَ ْو َأل َ ْذ َب َحنَّهُ أَ ْو لَ َيأْتِ َينِي ِب ُ
س ْل َ عذَابًا َ أَ ْم َكانَ ِمنَ ْالغَائِ ِبينَ * َأل ُ َ
ع ِذ َبنَّهُ َ
ين) ط ِب ِه َو ِجئْت ُ َك ِمن َ
سبَإٍ ِبنَبَإ ٍ يَ ِق ٍ غي َْر بَ ِعي ٍد فَقَا َل أَ َحطتُ ِب َما لَ ْم ت ُ ِح ْ
ث َين * فَ َم َك َ
ُّم ِب ٍ
(النمل .)22 -21
وتتواصل اآليات في ذكر الحوار بين سليمان والهدهد ليساهم هذا الحوار
في تقرير قضية الدابة؛ ألن الدابة من غيب األرض؛ قال تعالى( :أ َ َّال يَ ْس ُجدُوا
ت َو ْاأل َ ْر ِ
ض َو َي ْعلَ ُم َما ت ُ ْخفُونَ َو َما ت ُ ْع ِلنُونَ ِ َّّلِلِ الَّذِي يُ ْخ ِر ُج ْالخَبْ َء فِي ال َّ
س َم َاوا ِ
ب ْالعَ ْر ِش ْال َع ِظ ِيم) (النمل ،)26 -25ألن الخَبْ َء ك ُّل َّللاُ َال ِإلَهَ ِإ َّال ُه َو َر ُّ
* َّ
ما غاب (.)338
وقد ذكر الهدهد هذا المعنى اإللهي من خالل واقعه ،حيث أن الهدهد من
الطيور التي تتميز بقدرتها على استخراج غذائها من الدود وهو «مخبأ»
تحت الطين في باطن األرض.
ولذلك ورد أن هلل أسماء ال يعلمها إال هو سبحانه ،وهو قول رسول هللا ﷺ:
«أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ،أو علمته أحدًا من خلقك ،أو
استأثرت به في علم الغيب عندك ،أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور
بصري وجالء همي وغمي» (.)339
( )337تفسير الرازي ( ،)496/9انظر :فتاوى الشيخ ابن جبرين ( ،)192/63سبل الهدى والرشاد في سيرة خير
العباد (.)75/3
( )338لسان العرب – مادة :خبأ.
( )339مسند أحمد (.)4406
وقد تجانس كالم الهدهد مع كالم الدابة في إدراك حقيقة التوحيد والمفاصلة
ً
إعجازا عن كالم الدابة، بين اإليمان والكفر ،وبذلك كان كالم الهدهد ال يقل
فإذا كانت الدابة ستعرف المؤمن من الكافر وتفاصل بينهما فإن الهدهد تكلم
بنفس المستوى وحقق نفس المفاصلة من خالل:
-البصيرة في معرفة الواقع وتقييمهَ ( ،و َج ْدت ُ َها َوقَ ْو َم َها يَ ْس ُجدُونَ ِلل َّ
ش ْم ِس
َّللاِ) فيُقيِم الهدهد الواقع :شرك باهلل ومعرفة بالسبب وهو ِم ْن د ِ
ُون َّ
الشيطان وتزيينه العمل والصد عن السبيل.
ت -المنهج والعقيدة( ،أَ َّال يَ ْس ُجدُوا ِ َّّلِلِ الَّذِي يُ ْخ ِر ُج ْالخَبْ َء فِي ال َّ
س َم َاوا ِ
(.)340
َو ْاأل َ ْر ِ
ض)
والعالقة بين قصة سليمان وملكة سبأ وبين الدابة هي المضمون الثابت
الواضح للقصة ،وهو األمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار أن
انقطاع هذا األمر هو السبب األساسي لظهور الدابة :عن ابن عمر في تفسير
قوله تعالى( :وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من األرض) قال« :إذا
لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر» (.)341
وكل نصوص القصة تثبت هذا المضمون؛ ابتدا ًء من مواجهة الهدهد
لسليمان:
نت ِمنَ ْال َكا ِذبِينَ * ا ْذهَب ِب ِكتَا ِبي َهذَا فَأ َ ْل ِق ْه ِإلَ ْي ِه ْم ث ُ َّم ت أَ ْم ُك َ ظ ُر أَ َ
صدَ ْق َ سنَن ُ (قَا َل َ
ُ ُ
اب َك ِري ٌم ي ِكتَ ٌ ت يَا أَيُّ َها ال َم َأل إِنِي أ ْل ِق َ
ي إِلَ َّ ظ ْر َماذَا يَ ْر ِجعُونَ * قَالَ ْ ع ْن ُه ْم فَان ُ
تَ َو َّل َ
ي َوأْتُو ِني علَ َّ الر ِح ِيم * أ َ َّال تَ ْعلُوا َ الر ْح َم ِن َّ سلَ ْي َمانَ َو ِإنَّهُ بِ ْس ِم َّ
َّللاِ َّ * ِإنَّهُ ِمن ُ
( )340يقول ابن القيم رحمه هللا« :وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواقع الماء تحت األرض ال يراه غيره ،ثم
ذكر من أفعاله -سبحانه-إخراج الخبء في السماوات واألرض ،وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواع
ما ينزل من السماء وما يخرج من األرض من أفعال الرب تعالى بخصوصه؛ إشعار بما خصه هللا به من إخراج الماء
المخبوء تحت األرض».
( )341تفسير ابن أبي حاتم (.)77/51
اط َعةً أَ ْم ًرا َحتَّى ت َيا أَيُّ َها ال َم َأل ُ أ َ ْفتُونِي فِي أَ ْم ِري َما ُكنتُ قَ ِ ُم ْس ِل ِمينَ * قَالَ ْ
ظ ِري َماذَا شدِي ٍد َو ْاأل َ ْم ُر إِلَي ِْك فَان ُ ُون * قَالُوا ن َْح ُن أ ُ ْولُوا قُ َّوةٍ َوأُولُوا بَأ ْ ٍس َ تَ ْش َهد ِ
سدُوهَا َو َجعَلُوا أ َ ِع َّزةَ أَ ْه ِل َها أَذِلَّةً وك إِذَا دَ َخلُوا قَ ْريَةً أَ ْف َ ت إِ َّن ْال ُملُ َ تَأ ْ ُم ِرينَ * قَالَ ْ
سلُونَ * فَلَ َّما َاظ َرة ٌ ِب َم َي ْر ِج ُع ْال ُم ْر َ
َو َكذَ ِل َك َي ْفعَلُونَ * َو ِإنِي ُم ْر ِسلَةٌ ِإلَ ْي ِهم ِب َه ِديَّ ٍة فَن ِ
َّللاُ َخي ٌْر ِم َّما آتَا ُكم َب ْل أَنتُم ِب َه ِديَّتِ ُك ْم ي َّ سلَ ْي َمانَ قَا َل أَت ُ ِمدُّون َِن ِب َما ٍل فَ َما آتَانِ ََجاء ُ
ار ِج ْع ِإلَ ْي ِه ْم فَلَنَأْتِيَنَّ ُه ْم ِب ُجنُو ٍد َّال قِبَ َل لَ ُهم ِب َها َولَنُ ْخ ِر َجنَّ ُهم ِم ْن َها أَ ِذلَّةً
تَ ْف َر ُحونَ * ْ
صا ِغ ُرونَ ) (النمل.)37-27 : َو ُه ْم َ
وانتها ًء بإسالم ملكة سبأ مع سليمان والذي سيؤكد لنا أن أساس الدعوة ليس
بالكالم الذي تعرض به القضية فقط بل بصحة األسلوب العملي الذي ينجح
في كشف حقيقة اإليمان الكامنة في كيان اإلنسان ،حتى دون الطلب الصريح
أو الدعوة المباشرة ولو بكلمة واحدة ،فكل ما حدث من سليمان مع ملكة سبأ
أنه أدخلها في تجربتين:
األولى :إلثبات قوة العقل وكانت بأخذ العرش وتنكيره ثم عرضه عليها
وسؤالها( :أهكذا عرشك)؟ فأجابت أمثل إجابة فقالت( :كأنه هو) ،ولم تقل
هو ألنه من َّكر ،ولم تقل :ليس هو ألنه هو.
قال تعالى( :قَا َل يَا أَيُّ َها ال َم َأل ُ أَيُّ ُك ْم يَأْتِينِي ِبعَ ْر ِش َها قَ ْب َل أَن يَأْتُونِي ُم ْس ِل ِمينَ *
يعلَ ْي ِه لَقَ ِو ٌّ
ام َك َوإِنِي َ وم ِمن َّمقَ ِ يك بِ ِه قَ ْب َل أَن تَقُ َ ريت ِمنَ ْال ِج ِن أَنَا آتِ َ قَا َل ِع ْف ٌ
ط ْرفُ َك يك ِب ِه قَ ْب َل أَن يَ ْرتَدَّ ِإلَي َْك َ ب أَنَا آ ِت َ ين * قَا َل الَّذِي ِعندَهُ ِع ْل ٌم ِمنَ ْال ِكتَا ِ أَ ِم ٌ
ض ِل َر ِبي ِل َي ْبلُ َونِي أَأ َ ْش ُك ُر أَ ْم أ َ ْكفُ ُر َو َمن فَلَ َّما َرآهُ ُم ْستَ ِق ًّرا ِعندَهُ قَا َل َهذَا ِمن فَ ْ
ي َك ِري ٌم * قَا َل ن َِك ُروا لَ َها غنِ ٌّ ش َك َر فَإِنَّ َما يَ ْش ُك ُر ِلنَ ْف ِس ِه َو َمن َكفَ َر فَإِ َّن َر ِبي َ َ
اءت قِي َل أَ َه َكذَاون ِمنَ الَّذِينَ َال يَ ْهتَدُونَ * فَلَ َّما َج ْ ظ ْر أَتَ ْهتَدِي أَ ْم تَ ُك ُش َها نَن ُع ْر َ َ
س ِل ِمينَ ) (النمل.)42-38 : ت َكأَنَّهُ ُه َو َوأُو ِتينَا ْال ِع ْل َم ِمن قَ ْب ِل َها َو ُكنَّا ُم ْش ِك قَالَ ْ
ع ْر ُ َ
فهذه النتيجة التي انتهى إليها قوم صالح بعد دعوته لهم ،هي نتيجة كل
ضا الواقع الذي ستختم عليه الدابة فال يتغير بعدها أبدًا: الرساالت وهي أي ً
«فَتَ ْجلُو َو ْجهَ ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َوتَ ْختِ ُم أَ ْن َ
ف ا ْلكَافِ ِر ِبا ْل َخاتَ ِمَ ،حتَّى إن أهل الحواء
ليجتمعون فيقول هذا :يا مؤمن ،ويقول هذا :يا كافر».
وفي هذه المناسبة يقول األلوسي« :وفي تقييد إخراجها -أي الدابة-بقوله
سبحانه{ :منَ األرض} نوع إشارة -على ما قيل-إلى أن خلقها ليس بطريق
التوالد؛ بل هو بطريق التولد» (.)342
والمناسبة بين ذكر نبي هللا لوط والدابة هي خرجة الدابة من «سدوم» مكان
قوم لوط؛ وذلك كما ورد في القرطبي وابن كثير« :وتخرج من تحت سدوم
دابة تكلم الناس كل يسمعها »..رواه ابن أبي حاتم (.)344
النن ﷺ والدابة
ذكر ر ي
وهو الوارد في قوله تعالى( :إِنَّ َما أ ُ ِم ْرتُ أَ ْن أَ ْعبُدَ َر َّ
ب َه ِذ ِه ْالبَ ْلدَةِ الَّذِي َح َّر َم َها
ش ْيءٍ َوأ ُ ِم ْرتُ أَ ْن أَ ُكونَ ِمنَ ْال ُم ْس ِل ِمينَ ) (النمل.)91 : َولَهُ ُك ُّل َ
ومن مجمل أقوال العلماء تحدد في خروج الدابة ثالثة مواضع :هي :أقصى
اليمن ،وسدوم ( ،)345ومكة.
( )343أشراط الساعة (.)201/1
( )344تفسير ابن كثير (.)214/6
( )345عن وهب بن منبه ،عنه ،أنظر :تفسير ابن كثير ( ،)214/6تفسير القرطبي (.)237/12
وإن كان ذكر معجزات األنبياء ومعجزات الدابة -قبل آخر الزمان-مرتبط
بمن يراها في زمن األنبياء ومن يراها في زمن الدابة؛ فاآليات الباقية لكل
البشر في كل زمان ومكان منذ خلق آدم حتى قيام الساعة هي الرساالت
والنبوات التي تقوم بها حجة هللا على جميع الخالئق ،وهي أيضا اآليات
الكونية في السماء واألرض ،ومن هنا اجتمعت هذه اآليات في سياق واحد
يرتكز بصورة واضحة على األرض؛ ليكون ذلك هو المناسبة بين السياق
والدابة باعتبارها أعظم آيات األرض:
آّلِلُ َخي ٌْر أَ َّما يُ ْ
ش ِر ُكونَ ) (النمل.)59 : ص َ
طفَى َّ (قُ ِل ْال َح ْمدُ ِ َّ ِ
ّلِل َو َس َال ٌم َعلَى ِعبَا ِد ِه الَّذِينَ ا ْ
فتبدأ اآلية بالسموات واألرض ولكنها ال تنتهي من ذكر السماء إال وقد
وجهتنا إلى «األرض»:
ي َو َجعَ َل ارا َو َج َع َل لَ َها َر َوا ِس َ ارا َو َجعَ َل ِخ َاللَ َها أَ ْن َه ً ض قَ َر ً (أَ َّمن َجعَ َل ْاأل َ ْر َ
ط َّرض َيب ْال ُم ْ َّللاِ بَ ْل أ َ ْكث َ ُر ُه ْم َال َي ْعلَ ُمونَ * أَ َّمن يُ ِج ُ
اج ًزا أَ ِإلَهٌ َّم َع ََّبيْنَ ْال َب ْح َري ِْن َح ِ
يال َّما تَذَ َّك ُرونَ ض أَإِلَهٌ َّم َع َّ
َّللاِ قَ ِل ً سو َء َويَ ْج َعلُ ُك ْم ُخلَفَاء ْاأل َ ْر ِ ِف ال ُّعاهُ َويَ ْكش ُ ِإذَا دَ َ
ي الريَا َح بُ ْش ًرا بَيْنَ يَدَ ْ ت ْالبَ ِر َو ْالبَ ْح ِر َو َمن يُ ْر ِس ُل ِ ظلُ َما ِ * أَ َّمن يَ ْهدِي ُك ْم فِي ُ
ع َّما يُ ْش ِر ُكونَ * أَ َّمن َي ْبدَأ ُ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعيدُهُ َو َمن َّللاِ ت َ َعالَى َّ
َّللاُ َ َر ْح َم ِت ِه أَإِلَهٌ َّم َع َّ
صا ِدقِينَ ) َّللاِ قُ ْل هَاتُوا بُ ْرهَانَ ُك ْم إِن ُكنت ُ ْم َ ض أَإِلَهٌ َّم َع َّ س َماء َو ْاأل َ ْر ِ َي ْر ُزقُ ُكم ِمنَ ال َّ
(النمل.)64-61 :
ولكن السياق يختم بما يكون أسا ًسا لعالمة الدابة باعتبارها من غيب األرض:
َّللاُ َو َما يَ ْشعُ ُرونَ أَيَّانَ يُ ْب َعثُونَ ) ض ْالغَي َ
ْب ِإ َّال َّ ت َو ْاأل َ ْر ِ
(قُل َّال يَ ْعلَ ُم َمن ِفي ال َّس َم َاوا ِ
(النمل.)65 :
( َوقَا َل الَّذِينَ َكفَ ُروا أَئِذَا ُكنَّا ت ُ َرابًا َوآبَا ُؤنَا أَئِنَّا لَ ُم ْخ َر ُجونَ ) (النمل.)67 :
فسيخرجون بعد أن يكونوا ترابًا ،هكذا يكون البعث :ينفض جميع ولد آدم
عن أنفسهم التراب كما أخبر بذلك رسول هللا ﷺ ..« :وأنا سيد ولد آدم وال
فخر ،وأول من تنشق عنه األرض وال فخر ،وأول من ينفض التراب عن
رأسه وال فخر» (.)348
تما ًما كما ستفعل الدابة وتنفض عن رأسها التراب كما قال رسول هللا ﷺ:
«ثم بينما الناس في أعظم المساجد على هللا حرمة -خيرها وأكرمها المسجد
الحرام-لم يرعهم إال وهي قرب ترغو بين الركن والمقام ،تنفض عن رأسها
التراب» (.)349
وهنا يرد في السورة نفس اللفظ الدال على القرب بين الساعة والدابة،
والوحدة اللفظية للموقفين تدل على غرض الربط بينهما .ففي الساعة تقول
سى أَن سورة النملَ ( :ويَقُولُونَ َمتَى َهذَا ْال َو ْعدُ ِإن ُكنت ُ ْم َ
صا ِدقِينَ * قُ ْل َ
ع َ
ض الَّذِي ت َ ْستَ ْع ِجلُونَ ).
ِف لَ ُكم بَ ْع ُ
يَ ُكونَ َرد َ
ِف لَ ُك ْم) وراءكم وأنتم ال تدرون ،وقريبًا منكم وأنتم ال تشعرون، ( َرد َ
ض الَّذِي ت َ ْستَ ْع ِجلُونَ ) أن يكون قرب لكم بعض
ِف لَ ُك ْم بَ ْع ُ
قال ابن عباس (رد َ
الذي تستعجلون ( .)350وبذلك تكون الدابة أقرب تشبيه لقرب الساعة من
اإلنسان مثلما تكون الدابة ردف الرجل وهو ال يدري كما جاء في الحديث
الذي رواه ابن كثير في تفسيره لآلية« :حتى إن الرجل ليتعوذ منها في
الصالة فتأتيه من خلفه ،ال ينجو منها هارب» (.)351
األولى :أن «الَّذِي ُه ْم فِي ِه يَ ْختَ ِلفُونَ » هو اختالف اليهود والنصارى في
عيسى ابن مريم؛ كما ذكر الطبري في تفسير اآلية ،قال« :إن هذا القرآن
الذي أنزلته إليك يا محمد يقص على بني إسرائيل الحق ،في أكثر األشياء
التي اختلفوا فيها ،وذلك كالذي اختلفوا فيه من أمر عيسى ،فقالت اليهود فيه
ما قالت ،وقالت النصارى فيه ما قالت ،وتبرأ الختالفهم فيه هؤالء من
هؤالء ،وهؤالء من هؤالء ،وغير ذلك من األمور التي اختلفوا فيها ،فقال
جل ثناؤه لهم :إن هذا القرآن يقص عليكم الحق فيما اختلفتم فيه فاتبعوه،
وأقروا لما فيه ،فإنه يقص عليكم بالحق ،ويهديكم إلى سبيل الرشاد»(.)352
والثانية :أن الدابة ستخرج وقد تحقق القول الفصل في عبودية عيسى ابن
ووصف النبي
ُ مريم؛ حيث تخرج الدابة وهو عليه السالم يطوف بالكعبة،
ﷺ لعيسى وهو يطوف بالبيت في آخر الزمان بقوله« :رأيت عيسى وهو
يطوف بالبيت متكئا على عاتق رجل» ( )353وفي نفس النص يصف رسول
ٌ
إثبات هللا ﷺ المسيح الدجال وهو يطوف بالبيت متكئًا بين رجلين ،وفي ذلك
الفتقار عيسى والدجال ،ونفيًا لأللوهية التي ادَّعاها النصارى لعيسى ،ونفيًا
لأللوهية التي ادعاها الدجال لنفسه (.)354
حيث روي في خبر عن النبي ﷺ« :إن األرض تنشق عن الدابة وعيسى
عليه السالم يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى ،وإنها
منها :الترتيب من حيث الفرق بين وجود العالمة وفاعليتها ،ألن وقت وجود
العالمة ال يعني أن يكون هو وقت فاعليتها في الواقع ،فالدجال موجود ولكن
ليس له أي أثر كعالمة؛ بل إنه في حديث الجساسة يحبذ اإليمان بالنبي عليه
الصالة والسالم( ،)356حيث إن هذا الظهور له داللته وهي التقابل مع المسيح
عيسى من حيث وجوده ،فكما أن عيسي موجود يكون الدجال موجود ،تحقق
التقابل التام بينهما ،وكذلك يكون وجود الدابة وابتداء ظهورها مع وجود
عيسى؛ وداللته هي العالقة المنهجية بينهما ،ولكن فاعليتها كعالمة ستبدأ
بعد عيسى والدجال ويأجوج ومأجوج.
فخرجت الدابة تكلم الناس؛ ألنهم لم يسمعوا كالم األنبياء ،ومن هنا كان قول
هللا قبل ذكر الدابة مباشرة:
ولكن مستوى الكفر والجحود الذي بلغه الناس الذين ستخرج الدابة عليهم
كان قد بلغه من قبل أفوا ٌج من األمم السابقة كانوا أشد الناس فسادًا؛ فاقتضى
عدل هللا أن يتحدد موقفهم بمناسبة ذكر الدابة.
وبذلك يجتمع في الدابة صفة اإلبصار في طبيعتها -وهي فصيل ناقة صالح-
،التي جعلها هللا مبصرة؛ فعن قتادة قال في تفسير قوله تعالى( :وآتَ ْينَا ث َ ُمودَ
النَّاقَةَ ُمب ِ
ْص َرة ً) :أي ِبينة.
مبصرا.
ً وكذلك وقت ظهورها في الضحى عندما يكون النهار
ومن هنا كان الربط عند الطبري بين آية الناقة وآية النهار؛ حيث قال:
«وإنما عنى بالمبصرة :المضيئة البينة التي من يراها كانوا أهل بصر بها،
ْص ًرا)» (.)361
َهار ُمب ِ
أنها هلل حجة ،كما قال تعالى( :والن َ
وهذه المجموعة من اآليات تناقش العالقة بين األرض وعمل اإلنسان فيها؛
حيث تثبت العالقة بين خلق الجبال وهي أوتاد األرض من حيث حقيقتها
المتحركة وصورتها الثابتة من خالل مرورها مر السحاب مما يدل على
إتقان هللا لكل شيء وبنفس هذا اإلتقان يكون علم هللا بما نفعل؛ ليتجانس خلق
الجبال وعمل اإلنسان من خالل هذا اإلتقان ،لتتواصل اآليات التي تناقش
قاعدة الحساب على عمل اإلنسان بنفس اإلتقان والعلم.
مما يدل على أن الخرجة األساسية هي مكة ،وأن ما قبل مكة هو تمهيد لها؛
ولذلك يذكر الحديث أن الخرجة األولى في أقصى البادية وال يدخل ذكرها
القرية «مكة» والخرجة الثانية في البادية ويدخل ذكرها مكة ،ثم الخروج
في القرية ذاتها «مكة».
هو ما يثبت غلبة هذه الحرمة على شدة العذاب الذي وقع بقوم ثمود بعد
قتلهم الناقة ،ذلك أن من بين قوم ثمود المستحقين للعذاب من كان في حرم
مكة ولم يقع عليه العذاب إال بعد خروجه منها ،مما يؤكد أن شدة عذاب قوم
ثمود لم تط َغ على حرمة مكة ،وهي قصة أبي رغال التي رواها ابن إسحاق:
«أن النبي ﷺ لما خرج إلى الطائف مر بقبر أبي رغال فقال :إن هذا قبر
أبي رغال وهو أبو ثقيف ،وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه ،فلما
خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان ،فدفن فيه».
وفي كنز العمال« :ال تسألوا نبيكم اآليات ،فقد سألها قوم صالح فكانت
الناقة ترد من هذا الفج ،وتصدر من هذا الفج{ :فعتوا عن أمر ربهم
فعقروها} فأخذتهم الصيحة ،فأهمد هللا من تحت أديم السماء منهم ،إال
رجال واحدا كان في حرم هللا تعالى ،قالوا :من هو يا رسول هللا؟ قال :أبو
رغال ،فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» (.)367
وقد صحح محمد بن إسماعيل البخاري حديث سالم عن أبيه «أن رجال من
ثقيف طلق نساءه فقال له عمر :لتراجعن نساءك أو ألرجمن قبرك كما رجم
قبر أبي رغال».
ضا أن خروج الدابة من مكة وهي -كما ورد في الحديث-كما أننا نالحظ أي ً
« :أعظم المساجد على هللا حرمة ،خيرها وأكرمها على هللا» يكون على
النقيض من خرجتها األولى من سدوم قرية لوط أشر األماكن؛ ليكون خروج
الدابة من جميع األرض خيرها وشرها.
( )367كنز العمال ،وأشار المتقي الهندي إلى تخريجه( :حم حب ك طس وابن مردويه عن جابر) وقد ضعفه األلباني.
( )368صحيح ،أخرجه مسلم ()5234
لحسم الموقف بحسب العمل ،حيث تكتب على جبين المؤمن كلمة «مؤمن»
بحسب عمله ،وعلى جبين الكافر كلمة «كافر» بحسب عمله ،أما الشمس
فهي لحسم العمل حسب الموقف ،فمتى خرجت الشمس من مغربها فال عمل
َت ِمن قَ ْب ُل أَ ْو َك َ
س َب ْ
ت ِفي إِي َما ِن َها لإلنسان ،كما قال هللا تعالى{ :لَ ْم ت َ ُك ْن آ َمن ْ
َخي ًْرا} (األنعام.)158:
وما يؤكد وحدة القضية بين الدابة والشمس هو معنى الفرقان ،ذلك أن الدابة
فرقان بين أهل الهدى وأهل الضالل ،أما الشمس فقد ذكرت مثالً كونيا ً
للفرقان بين الهدى نفسه والضالل نفسه ،وذلك في قوله سبحانه{ :أَلَ ْم تَ َر
علَ ْي ِه
س َ سا ِكنًا ث ُ َّم َجعَ ْلنَا ال َّ
ش ْم َ الظ َّل َولَ ْو شَاء لَ َج َعلَهُ َ ِإلَى َر ِب َك َكي َ
ْف َمدَّ ِ
دَ ِليالً}(الفرقان ،)45:ألن اآلية تعالج الدليل القطعي وعالقته باإلحساس
البشري في استيعاب اإلنسان للحقائق ،فلو أنك نظرت إلى الظل فإنك ال
تشعر بامتداده ،وقد يغلب عليك هذا الظل ،وأنت ال تنتبه إلى حركته الدقيقة
الخفية ،حتى أنك تضطر لمعرفة امتداد الظل إلى النظر إلى الشمس
باعتبارها دليالً على الظل ،وهكذا يكون الموقف الصحيح في معرفة
الحقائق ،وهو االرتباط باألدلة القطعية الواضحة والتجرد من اإلحساسات
والتوهمات ،ولعل ما يؤكد معنى الفرقان في الشمس هو أن موضوع سورة
الفرقان نفسها هو الفرقان.
وعالمة الشمس دالة على حقيقة مهمة من حقائق الفعل اإللهي ،وهي أن
هللا ،عز وجل ،إذا أراد إيجاد شيء أوجده لمقتضاه وبأسبابه ،وإذا أراد عدمه
أعدمه مقتضاه وأسبابه ،فلما أراد هللا خلق اإلنسان خلقه لعبادته ،وكانت
نس إِالَّ ْال ِج َّن َو ِ
اإل َ العبادة هي سبب الخلقَ { :و َما َخلَ ْقتُ
ِليَ ْعبُدُون}(الذاريات ،)56:ولما أراد خلق اإلنسان خلق له األسباب المحققة
ض َج ِميعا ً ث ُ َّم ا ْستَ َوى إِلَى ال َّ
س َماء لبقائه { ُه َو الَّذِي َخلَقَ لَ ُكم َّما فِي األ َ ْر ِ
ع ِليم}(البقرة ،)29:فإذا أراد هللا العدم ش ْيءٍ َت َو ُه َو ِب ُك ِل َ
س َم َاوا ٍ س َّوا ُه َّن َ
س ْب َع َ فَ َ
لإلنسان انعدم المقتضى «رفع الدين والعبادة» ،وكتب العدم على أسباب
اإليجاد والبقاء ،هذا بصفة عامة تصور عام للساعة وعالمات الساعة ،ولكن
التفصيل في العالمات هو التفسير المباشر لعالمة غياب الشمس والتوبة،
ونقدم له بعدة أمثلة.
لما قدر هللا ،عز وجل ،وضع الحرب وأوزارها عن البشر بقتل الدجال،
امتد ذلك القدر إلى كل الواقع الكوني العام بأخص عناصره الدالة على
العداء ،فقال ﷺ« :حتى تلعب األطفال مع الحيات ،وحتى ترعى الذئاب مع
الغنم»« ،وترعى الذئاب مع الغنم» ،ألن العالقة بين الذئب والغنم هي مثال
كوني للعالقة بين الشيطان واإلنسان ،ولذلك قال ﷺ« :الشيطان ذئب
اإلنسان» (.)369
فيالحظ أن انعدام العداء في الواقع البشري أنهاه هللا في أبرز أمثلة كونية له
مثلما يقدر هللا قبول التوبة على اإلنسان ،فينقلها في أبرز أمثلة كونية لها
وهي الشمس ،ولما قدر هللا قتل الدجال استقدر هللا إلى قتل اليهود ،باعتبار
أن اليهود هم أولياء الدجال من البشر.
ثم يمتد قدر قتل اليهود ،وإلى الواقع الكوني العام ليقول الحجر والشجرَ « :يا
ي َو َرائِي فَا ْقت ُ ْلهُ» ( ،)370حيث جاء العداء ،كما أخبر القرآن ُم ْس ِل ُم َهذَا َي ُهو ِد ٌّ
ْ الكريم{ :قُ ْلنَا ا ْه ِب ُ
اي فَالَ طواْ ِم ْن َها َج ِميعا ً فَإِ َّما يَأتِيَنَّ ُكم ِمنِي ُهدًى فَ َمن تَ ِب َع ُهدَ َ
طواْ علَ ْي ِه ْم َوالَ ُه ْم َي ْحزَ نُون} (البقرة )38:حيث قال ابن عباس( :ا ْه ِب ُ ف َ خ َْو ٌ
ِم ْن َها َج ِميعا ً) :آدم وحواء وإبليس والحية.
وبذلك تتحدد العالقة بين قدر هللا واإلنسان والوجود الكوني إلى طبيعة األمر
المقدر في اإلنسان ،فإذا رجعنا إلى عالمة الشمس لتفسير العالقة بينها وبين
انقطاع التوبة فسنجد تحقيق ذلك من خالل عدة قواعد قدرية:
وهي الحقيقة المقصودة نهائياً ،وفي العنصر األول يراجع عالقة التوبة
بالحركة الكونية ،وداللة الشمس على الحركة الكونية في (المضمون
اإلنساني) ،وأما العنصر ثانياً ،وهو داللة حركة الشمس ،حيث نشأت هذه
الداللة من شروق الشمس كل يوم بين قرني شيطان ،ولكنها تغرب كل يوم
تحت عرش الرحمن.
ومن هنا كانت بداية الشمس كل يوم شيطانية ،حيث الخروج بين قرني
شيطان والمشرق الذي أشار إليه الرسول ﷺ بالفتنة ،حيث قال« :أال إن
الفتنة ههنا ،وأشار إلى المشرق» (.)371
من البداية الشيطانية والفتنة إلى السجود تحت عرش الرحمن في آخر
سفرها اليومي كل مرة ،ولعل وجود باب التوبة كما قال ﷺ يناسب المباعدة
بين الشر والخير بأقصى درجة مباعدة ،ومثلما كان لغياب العداء في الواقع
الكوني لما قرر هللا دفعه من الواقع البشري ،مثاال هو رعي الذئاب مع
الغنم ،فكذلك يكون غياب الشمس مثال كوني النقطاع التوبة عن اإلنسان.
الشمس والتوبة
فالتوبة حقيقة قدرية تمأل الزمان والمكان ،كما تمأل الرحمة الزمان والمكان،
ألن التوبة أول دالئل الرحمة ،والرحمة وسعت كل شيء.
ومن هنا كان ارتباط التوبة بالزمان والمكان ،ودليل ذلك مقدمة سورة
علَى النَّ َه ِ
ار َويُ َك ِو ُر ض بِ ْال َح ِ
ق يُ َك ِو ُر اللَّ ْي َل َ ت َواأل َ ْر َ س َم َاوا ِالزمرَ { :خلَقَ ال َّ
س ًّمى أَالَ ُه َو س َو ْالقَ َم َر ُك ٌّل َي ْج ِري أل َ َج ٍل ُم َ ش ْم َ علَى اللَّ ْي ِل َو َ
س َّخ َر ال َّ النَّ َه َ
ار َ
( )371صحيح ،أخرجه مسلم ()2905
}(الز َمر ،)5:فكان التعقيب على المعنى المقصود ،ألن ُّ يز ْالغَفَّار
ْالعَ ِز ُ
التعقيب جاء للداللة على القدرة ،ألن العزة هي تمام القدرة ،والمغفرة هي
تمام التوبة ،ولذلك جاءت األحاديث المثبتة لهذا االرتباط ،وأهمها ارتباط
المغفرة والتوبة بالليل والنهار ،كما في حديث النزول« :ينـزل ربنا تبارك
وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل اآلخر ،يقول :من
يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له» (.)372
أما الحديث اآلخر فهو قول النبي ﷺ« :إن هللا تعالى يبسط يده بالليل ليتوب
مسيء النهار ،ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ،حتى تطلع الشمس
من مغربها» (.)373
ولذلك كان لمعنى التوبة حقيقة اإلسالم كله ،وهذا ما قاله اإلمام ابن تيمية،
رحمه هللا« ،اإلسالم هو التوبة كلها» .حيث إن بقاء اإلسالم يعني بقاء التوبة
بالحركة الكونية هو التوافق الفطري بين طبيعة الكون وطبيعة الفطرة
ط َرة َ ِين َحنِيفًا فِ ْ اإلنسانية ،وهو المعنى المأخوذ من قول هللا{ :فَأَقِ ْم َو ْج َه َك ِللد ِ
اس ِين ْالقَ ِي ُم َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ
َّللاِ ذَ ِل َك الد ُ
ق َّ علَ ْي َها الَ تَ ْبدِي َل ِلخ َْل ِ
اس َ َّللاِ الَّتِي فَ َ
ط َر النَّ َ َّ
صالَةَ َوالَ تَ ُكونُوا ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكين الَ يَ ْعلَ ُمون ُ 30منِيبِينَ إِلَ ْي ِه َواتَّقُوهُ َوأَقِي ُموا ال َّ
ب بِ َما لَدَ ْي ِه ْم فَ ِر ُحون َ 32و ِإذَا ِ 31منَ الَّذِينَ فَ َّرقُوا دِينَ ُه ْم َو َكانُوا ِش َيعًا ُك ُّل ِح ْز ٍ
ع ْوا َربَّ ُهم ُّمنِي ِبينَ ِإلَ ْي ِه ث ُ َّم ِإذَا أَذَاقَ ُهم ِم ْنهُ َر ْح َمةً ِإذَا فَ ِر ٌ
يق ض ٌّر دَ َ
اس ُ س النَّ َ َم َّ
ِم ْن ُهم بِ َر ِب ِه ْم يُ ْش ِر ُكون(}33الروم.)33-30:
أي فطرهم منيبين إليه ،فلو خلوا بينهم وبين فطرتهم لما عدلت عن اإلنابة،
ع ْوا َربَّ ُهم ُّمن ِيبِينَ إلَ ْي ِه ﴾،أي أن
ض ٌّر دَ َ اس ُ وقول هللا تعالىِ ﴿ :إذَا َم َّ
س النَّ َ
انكشاف الفطرة بمس الضر يكون باإلنابة إليه ،ومن هنا كان الكون تبصرة
وذكرى لكل عب ٍد منيب ،ألن طبيعة اإلنابة والكون أقرب ما يكون في
اء فَ ْوقَ ُه ْم َكي َ
ْف س َم ِ اإلنسان ،وذلك في قول هللا تعالى( :أَفَلَ ْم َي ْن ُ
ظ ُروا ِإلَى ال َّ
والتوافق الطبيعي بين الكون والتوبة هو في ذاته دليل على التوافق بين
الحركة الكونية وحقيقة التوبة ،ألن الكون المتوافق في طبيعته مع التوبة
متوافق في حركته ،فالكون بحركته مسلم ،ساجد هلل ،والتوبة حركة اإلسالم
والرجوع إلى هللا ،ومن هنا كان التعبير عن االرتداد بالحركة المعاكسة:
ت غ َْزلَ َها ِم ْن بَ ْع ِد قُ َّو ٍة أ َ ْن َكاثًا تَت َّ ِخذُونَ أَ ْي َمانَ ُك ْم دَخ ًَال ض ْ ( َو َال تَ ُكونُوا َكالَّ ِتي نَقَ َ
ي أ َ ْر َب َٰى ِم ْن أ ُ َّم ٍة ۚ ِإنَّ َما َي ْبلُو ُك ُم َّ
َّللاُ بِ ِه ۚ َولَيُ َبيِنَ َّن لَ ُك ْم َي ْو َم ُ
َب ْينَ ُك ْم أَ ْن ت َ ُكونَ أ َّمةٌ ِه َ
ْال ِقيَا َم ِة َما ُك ْنت ُ ْم فِي ِه ت َ ْختَ ِلفُونَ ) (النحل.)92:
وليس عند ربك ليل وال نهار ،ولكنه االرتباط بين التوبة والزمان ،ومن هنا
كانت القاعدة العامة في العالقة بين العبادات ومغفرة الذنوب هي العودة
الزمنية لهذه العبادات وأهم ذلك :قول رسول هللا ﷺ« :الصلوات الخمس،
والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان ،مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت
الكبائر» ( ،)374وبذلك أصبح الزمن هو أول العالقة بين الكون والتوبة.
ومن العبارة األخيرة نالحظ أنه كما كان الزمن الكوني زمنا ً للتوبة ،كان
الزمن التعبدي زمنا ً للتوبة أيضاً ،ألن األعمال التي يعود بها الزمن كلها
عبادات.
ومن هنا كانت العبادة أصالً في التوافق بين الكون والتوبة ألن العبادة هي
غاية الحب مع مطلق الطاعة ،وهو المعنى المقابل للنفاق ألن النفاق هو
كراهية ما أنزل هللا ،ولذلك جاءت نتيجة كراهية ما أنزل هللا هي النتيجة
ط أَ ْع َمالَه ْم
المقابلة للتوبة ،وهي إحباط العمل ،كما قال سبحانه ﴿:فَأ َ ْح َب َ
﴾(محمد )9 :وفي التهجد يتحقق غاية المحبة مع مطلق الطاعة ،ومن هنا
كان المتهجدون هم عباد هللا في الزمان كله ،وهم المتوافقون مع اإلسالم
( )374صحيح الجامع رقم 3875
ليالً ونهاراً ،ولذلك يذكر الحديث كيف هؤالء المتهجدين هم المدركين
لعالمة الساعة.
باب التوبة
واألحاديث الواردة في باب التوبة نادرة العدد ،ولكنها تعطي لباب التوبة
قيمة عظيمة ،ولكي نفهم هذه القيمة يجب أن نفهم معنى أبواب السماء ،فمن
ت محددة :مثل فتح أبواب الرحمة في رمضان أبواب السماء ما يفتح في أوقا ٍ
( ،)375ومن أبواب السماء ما يكون مفتوحاً ،ولكن ال يرتفع إليه العمل ،مثل
أخ ْرهما حتى يصطلحا» (.)376 حديثِ « :
إلنسان دون آخر ،مثل أبواب الرحمة التي ٍ ومن أبواب السماء ما يفتح
سيكتبها هللا للمتقين ،ولكن باب التوبة هو الباب المفتوح دائما ً لكل الخلق،
ويعمهم نفعه دون استثناء ،وال يمنع عن الوصول إليه شيء حتى قيام
الساعة ،وكذلك يتميز باب التوبة عن هذه األبواب جميعها بموقعه في
الغرب ،كما قال ﷺ« :إن بالمغرب بابا ً مفتوحا ً للتوبة ،مسيرته سبعون سنة،
ال يُغلق حتى تطلع الشمس من نحوه»( ،)377وذكر القرطبي في تفسير
الحديث :أن الباب قِبَل الشام خلقه هللا – تعالى – يوم خلق السموات واألرض
مفتوحاً ،وهذا الموقع الغربي من باب التوبة يعني التقابل التام بين التوبة
وبين الفتنة والشر ،حيث قال ﷺ وهو مستقبل المشرق« :أال إن الفتنة ههنا،
من حيث يطلع قرن الشيطان أو قرن الشمس»(.)378
وباب التوبة دليل طبيعة التوبة في الوجود الكوني من الناحية المكانية ،كما
اعتبار من الناحية الزمنية وهو آخر الزمان ،ذلك أن باب التوبة
ٌ كان للتوبة
( )375أخرجه النسائي في " الكبرى " في الصيام /باب :فضل شهر رمضان (ح .)2409
(( )376صحيح) أخرجه مسلم في باب النهي عن الشحناء والتهاجر (ح ،)2565وأبو داود ( ،)4916والترمذي (،)2023
وابن ماجة (ح )1740من حديث أبي هريرة.
( )377أخرجه الترمذي في الوضوء :باب :المسح على الخفين ( / 159 / 1ح ،)96والنسائي في الطهارة :باب التوقيت
في المسح على الخفين ( – 83 /1 / 1السيوطي) ،وأحمد في " مسنده " ( )239 / 4من زر بن حبيش ،على صفوان بن
عسال.
( )378تقدم تخريجه.
مخلوق يوم خلق هللا السماء واألرض بمسافة تقدر بمسيرة سبعين عاماً،
ٌ
وبذلك يثبت أن التوبة جزء من طبيعة وبناء هذا الكون ،بل إن هناك حديثا ً
يثبت أن للتوبة فاعلية تغيير طبيعة وبناء هذا الكون ،وهو حديث الرجل
الذي قتل مائة نفس ،ذلك أن الحديث يثبت أن هللا ،عز وجل ،قد طوى لهذا
الرجل األرض شبراً.
وباعتبار ارتباط التوبة بالزمان منذ خلق الزمان بخلق السماوات واألرض،
حيث خلق باب التوبة يوم خلق هللا السماوات واألرض ،كما ذكر الحديث،
باعتبار ضبط الزمان وعودته لهيئته ،حيث يذكر الحديث نصا ً أن باب التوبة
ُخلق يوم خلق هللا السماوات واألرض.
وسورة التوبة تفسر في االبتداء معنى التوبة ،ولكن من خالل باب التوبة
وعالمة الشمس ،ألن معنى التوبة من خالل باب التوبة لها معنى إنساني
كوني ،يعني أن التوبة ضرورة إنسانية طبيعية ال يستثنى منها أحد ،ولذلك
جاء في السورة أن عدة الشهور عند هللا اثني عشر شهرا ً يوم خلق هللا
السموات واألرض ،ولذلك أوردت سورة التوبة أصنافا ً من الناس يتصور
أال تبلغ هذا المقام مهما كان ولن ينالها ،ألن األعمال المنسوبة إليهم هي
التي تجعل الظن يغلب لهذا التصوير ومن هذه األصناف :المشركين ،وفيهم
سلَ َخ ْاأل َ ْش ُه ُر ْال ُح ُر ُم فَا ْقتُلُوا ْال ُم ْش ِر ِكينَ َحي ُ
ْث يقول هللا عز وجل( :فَإِذَا ا ْن َ
ص ٍد ۚ فَإِ ْن تَابُوا َوأَقَا ُموا
ص ُرو ُه ْم َوا ْقعُدُوا لَ ُه ْم ُك َّل َم ْر َ اح ُ َو َج ْدت ُ ُمو ُه ْم َو ُخذُو ُه ْم َو ْ
ور َر ِحي ٌم) (التوبة ،)5:وفي غف ُ ٌ َّللاَ َ الز َكاةَ َفخَلُّوا َ
س ِبيلَ ُه ْم ۚ ِإ َّن َّ ص َالة َ َوآتَ ُوا َّ ال َّ
أعمالهم جاء قول هللاَ ( :ال يَ ْرقُبُونَ فِي ُمؤْ ِم ٍن إِ ًّال َو َال ِذ َّمةً ۚ َوأُو َٰلَئِ َك ُه ُم
ْال ُم ْعتَدُونَ ) (التوبة ،)10:ثم تتوالى اآليات ،فتنسب إليهم نكث اإليمان
ظغ ْي َوالطعن في الدين والهم بإخراج الرسول ﷺ ثم تقول اآلياتَ ( :ويُ ْذهِبْ َ
ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم) (التوبة ،)15:وكذلك علَ َٰى َم ْن يَشَا ُء ۗ َو َّ
َّللاُ َ وب َّ
َّللاُ َ قُلُو ِب ِه ْم ۗ َو َيت ُ ُ
الكافرين والمنافقين في اآلية ،)74 ،73( :وفي المقابل يرد هللا – سبحانه –
في سورة التوبة على َمن يتصور تجاوز مقام التوبة وعلى رأسهم النبي ﷺ
ار ص ِاج ِرينَ َو ْاأل َ ْن َ علَى النَّ ِبي ِ َو ْال ُم َه ِ اب َّ
َّللاُ َ والمهاجرين واألنصار( :لَقَ ْد تَ َ
ابق ِم ْن ُه ْم ث ُ َّم تَ َ ع ِة ْالعُ ْس َرةِ ِم ْن َب ْع ِد َما َكادَ َي ِزي ُغ قُلُ ُ
وب فَ ِري ٍ سا َ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي َ
وف َر ِحي ٌم) (التوبة.)117: علَ ْي ِه ْم ۚ إِنَّهُ ِب ِه ْم َر ُء ٌ
َ
ليحقق هؤالء الكرام التوبة كضرورة إنسانية يحسم النبي ﷺ معناها قائالً:
«وهللا إني ألستغفر هللا وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (.)379
التوبة والعهد
ثم إن اآليات بعد ذلك تناقش كل جوانب قضية التوبة ،فتناقش اآلية عالقة
التوبة بمعنى العهد ،ألن التوبة والعهد هما اإلسالم ،فالعبد الذي يفي بعهده
مع البشر هو الذي يفي بعهده مع هللا ،والذي يفي بعهده مع هللا هو التائب.
المستغفر ،كما قال ﷺ« :اللهم أنت ربي ،ال إله إال أنت خلقتني وأنا عبدك،
وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ،وأبوء
لك بنعمتك علي ،وأبوء بذنبي ،فاغفر لي ،فإنه ال يغفر الذنوب إال أنت»
(.)380
وما يؤكد العالقة بين التوبة والعهد هو أن التوبة هي الرجوع إلى عهد هللا
ور ِه ْم ذُ ِريَّتَ ُه ْم الوارد في قوله سبحانهَ ( :و ِإ ْذ أَ َخذَ َرب َُّك ِم ْن بَنِي آدَ َم ِم ْن ُ
ظ ُه ِ
ش ِه ْدنَا ۛ أَ ْن تَقُولُوا يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة
علَ َٰى أ َ ْنفُ ِس ِه ْم أَلَ ْستُ بِ َربِ ُك ْم ۖ قَالُوا بَلَ َٰى ۛ َ
َوأَ ْش َهدَ ُه ْم َ
يقول اإلمام ابن القيم في تعريف التوبة« :هي الرجوع إلى الحق وفا ًء كما
رجع إليه عهداً ،أي مثل الرجوع إلى هللا حسب الميثاق ،فطريا ً
وباالضطرار ،أي أن التوبة هي الرجوع إلى هللا بالعمل واالختيار» (.)381
ولعل هذا االرتباط هو الحكمة التي قادت العا ِلم إلى أن ينصح قاتل المائة
نفس إلى أن يهاجر إلى بل ٍد آخر ،وإثباتا ً لدقة هذا االرتباط كان لبقية الحديث
الذي أثبت فيه رسول هللا ﷺ أن هللا قد طوى لهذا الرجل األرض شبرا ً ليكون
أقرب إلى أرض التوبة ،لتقبض روحه مالئكة الرحمة.
( )381مدارج السالكين.
( )382المحلى البن حزم ومجموع الفتاوى البن تيمية.
وبقاء الهجرة يعني وجود بقاع على األرض يشغلها الكافرون ،وهذا هو
ق ما بقي
ق ما بقي العداء ،والعداء با ٍ
المعنى الموجب للجهاد ،ألن الجهاد با ٍ
الكفر ،ومن هنا كانت الهجرة باقية ما بقي الجهاد.
التوبة والنفاق
ومن هنا أيضا ً كانت المناقشة المستفيضة في سورة التوبة لقضية الجهاد،
ومما ال شك فيه أن قضية الجهاد وقضية الهجرة حركتان في اتجاه التوبة،
متفقتان في هذا االتجاه مع الحركة الكونية ،وهي حركة العبادة هلل ،تبارك
وتعالى ،ولذلك جاء في السورة ذكر المنافقين ،الذين يعاكسون تلك الحركة،
وهذا االتجاه في باطنهم ،ويتوافقون معها في ظاهرهم ،لذا شغلت حركة
النفاق آيات كثيرة من سورة التوبة ،حتى أن موقف النفاق يكتمل ظهورا ً
ووضوحا ً على الصراط من خالل تواجدهم الظاهر مع المؤمنين فوق
الصراط ،وذلك باعتبار ظاهرهم الذي هم عليه ،ثم انكشاف باطنهم فوق
ور
س ٍ
ب َب ْينَ ُهم بِ ُ هذا الصراط ،وهذا تفسير قول هللا ،تبارك وتعالى ﴿ : ،فَ ُ
ض ِر َ
اب ﴾ (الحديد.)13: ظا ِه ُرهُ ِمن قِ َب ِل ِه ال َعذَ ُ اطنُهُ فِ ِيه الَّ ْ
رح َمةُ و َ لَّهُ َب ٌ
اب َب ِ
وسبحان هللا القدير ،إذ كانت حركة النفاق هي الحركة المضادة تضادا ً كامالً
للجهاد والهجرة ،ومراجعة السيرة تجعل أمامنا هذه الظاهرة أقوى ما تكون،
سلول ،الذي وأخطر ما تكون ،وعلى سبيل المثال حركة عبد هللا بن أُبي بن َ
عاد بثلث الجيش في إحدى غزوات النبي ﷺ.
ولعل أبرز أمثلة التقابل والتضاد بين حركة الجهاد من ناحية ،وحركة النفاق
من ناحية أخرى هو نقطة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،حيث وردت
كنقطة تقابل وتعاكس بين الحركتين ،كما في قوله – سبحانه وتعالى – في
المنافقين:
ض ۚ َيأ ْ ُم ُرونَ ِب ْال ُم ْن َك ِر َو َي ْن َه ْونَ َ
ع ِن ( ْال ُمنَا ِفقُونَ َو ْال ُمنَا ِفقَاتُ َب ْع ُ
ض ُه ْم ِم ْن َب ْع ٍ
َّللاَ فَنَ ِس َي ُه ْم ۗ إِ َّن ْال ُمنَافِ ِقينَ ُه ُم ْالفَا ِسقُونَ )
سوا َّ ْال َم ْع ُر ِ
وف َو َي ْق ِبضُونَ أَ ْي ِد َي ُه ْم ۚ نَ ُ
(التوبة ،)67:وقال تعالى في المؤمنينَ ( :و ْال ُمؤْ ِمنُونَ َو ْال ُمؤْ ِمنَاتُ بَ ْع ُ
ض ُه ْم
ص َالة َ ع ِن ْال ُم ْن َك ِر َويُ ِقي ُمونَ ال َّ وف َويَ ْن َه ْونَ َ ض ۚ يَأ ْ ُم ُرونَ ِب ْال َم ْع ُر ِ أَ ْو ِليَا ُء بَ ْع ٍ
يز ع ِز ٌ َّللاَ ََّللاُ ۗ إِ َّن َّ
سيَ ْر َح ُم ُه ُم َّسولَهُ ۚ أُو َٰلَئِ َك َ الز َكاةَ َويُ ِطيعُونَ َّ
َّللاَ َو َر ُ َويُؤْ تُونَ َّ
َح ِكي ٌم) (التوبة.)71:
ومن هنا جاء النفاق كحركة مضادة للطاعة الكاملة الصحيحةَ ( :ويَقُولُونَ
ب َما غي َْر الَّذِي تَقُو ُل ۖ َو َّ
َّللاُ يَ ْكت ُ ُ طا ِئفَةٌ ِم ْن ُه ْم َ
َّت َ ِك َبي َعةٌ فَإِذَا َب َر ُزوا ِم ْن ِع ْند َ
طا َ َ
يال) (النساء.)81: اّلِلِ َو ِك ً علَى َّ
َّللاِ ۚ َو َكفَ َٰى ِب َّ ع ْن ُه ْم َوتَ َو َّك ْل َ يُ َب ِيتُونَ ۖ فَأَع ِْر ْ
ض َ
ثم جاء عن النفاق والمنافقين قول هللا ،عز وجلْ ( :ال ُمنَافِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَاتُ
وف َو َي ْق ِبضُونَ أ َ ْي ِد َي ُه ْم ۚ ض ۚ يَأ ْ ُم ُرونَ ِب ْال ُم ْن َك ِر َو َي ْن َه ْونَ َ
ع ِن ا ْل َم ْع ُر ِ ض ُه ْم ِم ْن َب ْع ٍ
َب ْع ُ
َّللاَ فَنَ ِسيَ ُه ْم ۗ إِ َّن ْال ُمنَافِ ِقينَ ُه ُم ْالفَا ِسقُونَ ) (التوبة ،)67:والفاسقون هنا سوا َّ نَ ُ
تحمل معنى الخروج المطلق ليشمل الخروج عن حدود اإليمان ،وأحكام
الشريعة ،وكذلك الخروج عن طبيعة التوبة ،والوجود الكوني وحركته.
إن ارتباط التوبة بالحركة الكونية باعتبارها إلى هللا رجوع إلى هللا يعين أن
البعد عن هللا حركة عكسية ،وقد تحددت في الصورة أفعال كثيرة لها هذه
الصفة العكسية ولعل أهمها قول هللا عز وجلَ ( :وإِ ْن نَ َكثُوا أَ ْي َمانَ ُه ْم ِم ْن بَ ْع ِد
ط َعنُوا ِفي دِي ِن ُك ْم فَقَاتِلُوا أَئِ َّمةَ ْال ُك ْف ِر ۙ ِإنَّ ُه ْم َال أَ ْي َمانَ لَ ُه ْم لَ َعلَّ ُه ْم َي ْنتَ ُهونَ )
ع ْه ِد ِه ْم َو َ
َ
سو ِل (التوبة ،)12:وقوله( :أَ َال تُقَاتِلُونَ قَ ْو ًما نَ َكثُوا أَ ْي َمانَ ُه ْم َو َه ُّموا بِإِ ْخ َراجِ َّ
الر ُ
اّلِلُ أَ َح ُّق أ َ ْن تَ ْخش َْوهُ إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ )
َو ُه ْم َبدَ ُءو ُك ْم أَ َّو َل َم َّرةٍ ۚ أَتَ ْخش َْونَ ُه ْم ۚ فَ َّ
(التوبة.)13:
وقد تكرر هذا التعبير في سور أخرى ،ولكن الوحدة الموضوعية بين السور
كانت قائمة بمناسبة هذا التعبير.
ومثال سورة الفتح وهي أخت سورة التوبة من الناحية الموضوعية ،كان
َّللاِ فَ ْوقَ أَ ْيدِي ِه ْم ۚ فَ َم ْن في قوله تعالىِ ( :إ َّن الَّذِينَ يُ َبا ِيعُون ََك إِنَّ َما يُ َبا ِيعُونَ َّ
َّللاَ َيدُ َّ
سيُؤْ تِي ِه أَ ْج ًرا علَ ْيهُ َّ
َّللاَ فَ َ عا َهدَ َعلَ َٰى نَ ْف ِس ِه ۖ َو َم ْن أَ ْوفَ َٰى ِب َما َ ث َ ث فَإِنَّ َما َي ْن ُك ُنَ َك َ
ت غ َْزلَ َها ِم ْن ض ْع ِظي ًما) (الفتح)10:وفي سورة النحلَ ( :و َال تَ ُكونُوا َكالَّتِي نَقَ َ َ
ي أَ ْربَ َٰى ِم ْن أ ُ َّم ٍة ۚ ُ
بَ ْع ِد قُ َّوةٍ أَ ْن َكاثًا تَت َّ ِخذُونَ أَ ْي َمانَ ُك ْم دَخ ًَال بَ ْينَ ُك ْم أَ ْن تَ ُكونَ أ َّمةٌ ِه َ
َّللاُ ِب ِه ۚ َولَيُ َب ِين ََّن لَ ُك ْم َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة َما ُك ْنت ُ ْم ِفي ِه تَ ْخت َ ِلفُونَ ) (النحل.)92:
ِإنَّ َما َي ْبلُو ُك ُم َّ
التوبة والصدقة
ومن هنا كانت الصلة بين التوبة والصدقة في قول هللا في سورة التوبة (أَ َل ْم
اب ت َوأ َ َّن َّ
َّللاَ ُه َو الت َّ َّو ُ ع ْن ِع َبا ِد ِه َو َيأ ْ ُخذُ ال َّ
صدَقَا ِ َي ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ
َّللاَ ُه َو َي ْقبَ ُل الت َّ ْوبَةَ َ
الر ِحي ُم) (التوبة.)104: َّ
وكان االرتباط بين الصدقة والتوبة في قبول هللا لهما ،كما في حديث رسول
هللا ﷺ« :جاء رجل إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فقال :يا رسول هللا ،أي
الصدقة أعظم أجرا؟ قال :أن تصدق وأنت صحيح شحيح ،تخشى الفقر
وتأمل الغنى ،وال تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم ،قلت :لفالن كذا ،ولفالن كذا،
وقد كان لفالن» (.)383
وارتبطت التوبة والصدقة بالقبول بالنسبة لإلنسان في آخر حياته ،فهو ما
قبل بلوغ الروح الحلقوم أو التراقي ،ارتبطت أيضا ً بالنسبة آلخر الزمان،
حتى أنه عندما يكون آخر الزمان ال يجد الرجل من يقبل صدقته ،ويغلق
باب التوبة ،كما قال ﷺ« :تصدقوا فسيأتي على الناس زمان يمشي الرجل
قال ابن حجر« :وأما فيض المال الذي يقع في زمن عيسى ،عليه السالم،
فسببه كثرة المال ،وقلة الناس واستشعارهم بقيام الساعة».
كما أن العالقة بين الصدقة والتوبة تمتد إلى الشمس من خالل العرش ،ذلك
أن سجود الشمس تحت العرش يعني بقاء باب التوبة مفتوحاً ،وعندما تشرق
الشمس – بعد اإلذن لها بالسجود تحت العرش – يكون دعاء المالئكة« :ملَكا ً
أعط ممسكا ً تلفا ً» ( ،)386فإذا
يقول :اللهم أعط ُمنفقا ً خلفاً ،وملَكا ً يقول :اللهم ِ
عم اإلمساك والقبض عن المنفعة للبشر جميعهم فإن هذا يعني أن يعم التلف
الوجود البشري.
ومن هنا جاء في سورة التوبة المعالجة التامة لظاهرة الشح ،فقال هللا تعالى:
اس ان لَ َيأ ْ ُكلُونَ أ َ ْم َوا َل النَّ ِ
الر ْه َب ِ يرا ِمنَ ْاأل َ ْحبَ ِ
ار َو ُّ ( َيا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِإ َّن َك ِث ً
َب َو ْال ِف َّ
ضةَ َو َال يُ ْن ِفقُونَ َها َّللاِ ۗ َوالَّذِينَ يَ ْكنِ ُزونَ الذَّه َ
س ِبي ِل َّ ع ْن َ صدُّونَ َ ِب ْال َب ِ
اط ِل َو َي ُ
ب أَ ِل ٍيم) (التوبة.)34: َّللاِ فَبَش ِْر ُه ْم ِب َعذَا ٍ
سبِي ِل َّفِي َ
ومن هنا كان االقتران بين التوابين والمتطهرين في قوله ،سبحانه ،في سورة
يض ۖ سا َء فِي ْال َم ِح ِ يض ۖ قُ ْل ُه َو أَذًى فَا ْعتَ ِزلُوا النِ َ ع ِن ْال َم ِح ِ البقرةَ ( :ويَ ْسأَلُون ََك َ
َّللاُ ۚ إِ َّن َّ
َّللاَ ط َّه ْرنَ فَأْتُو ُه َّن ِم ْن َحي ُ
ْث أ َ َم َر ُك ُم َّ ط ُه ْرنَ ۖ فَإِذَا تَ َ َو َال تَ ْق َربُو ُه َّن َحت َّ َٰى يَ ْ
ط ِه ِرينَ ) (البقرة.)222: ب ْال ُمتَ َ ب الت َّ َّوابِينَ َويُ ِح ُّ يُ ِح ُّ
وقول النبي ﷺ« :اللهم اقبل توبتي واغسل َحوبتي»( ،)387فشرط الطهارة
متعلق بالتوبة ،من ناحية أن التوبة قبول من هللا للناس ،لذا كان البد أن يكون
التائب طيباً ،ألن هللا طيب ال يقبل إال طيبا ً ،388كما قال رسول هللا ﷺ ومن
هنا كانت الطهارة من أهم قضايا العبودية ،مثل تطهير المسجد الحرام من
س فَ َال يَ ْق َربُوا ْال َم ْس ِجدَ المشركين( :يَا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِإنَّ َما ْال ُم ْش ِر ُكونَ نَ َج ٌ
ض ِل ِه ِإ ْن شَا َء ۚ ف يُ ْغ ِني ُك ُم َّ
َّللاُ ِم ْن فَ ْ س ْو َ ام ِه ْم َٰ َهذَا ۚ َو ِإ ْن ِخ ْفت ُ ْم َ
ع ْيلَةً فَ َ ع ِ ْال َح َر َ
ام بَ ْعدَ َ
ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ) (التوبة.)28: ِإ َّن َّ
َّللاَ َ
التوبة والفتنة
إن الطاعة والعبادة هي المقابل الحقيقي للفتنة ،أما موقف الطاعة الذي في
حديث الرجل الساجد فيحدد قيمة الطاعة في مواجهة الفتنة.
إن التصنيف الذي كتب به اإلمام البخاري تحدَّد على أساس حقائق كلية في
هذا الدين ،ولذا كان من االعتبار في هذا التصنيف أن يكون كتاب األحكام،
( )387أخرجه أبو داود في الصالة :باب الوتر (ح ،)1510 /والترمذي /في الدعوات (ح ،)3551 /وابن ماجة في الدعاء
(ح ،)3830 /وأحمد (.)227 / 1
( )388أخرجه مسلم في الزكاة /باب الحث على الصدقة ( ،)7 / 3والترمذي (ح ،)2989 /وأحمد ( )328 / 2من حديث
أبي هريرة.
أي أحكام الطاعة ،بعد كتاب الفتن.
عةٌ إن حركة النفاق هي الضد الكامل للطاعة ،كما قال سبحانهَ ( :ويَقُولُونَ َ
طا َ
ب َما يُ َبيِتُونَ ۖ غي َْر الَّذِي تَقُو ُل ۖ َو َّ
َّللاُ َي ْكت ُ ُ طا ِئفَةٌ ِم ْن ُه ْم َ
َّت َ
ِك َبي َ فَإِذَا َب َر ُزوا ِم ْن ِع ْند َ
يال) (النساء.)81: اّلِلِ َو ِك ً علَى َّ
َّللاِ ۚ َو َكفَ َٰى ِب َّ ع ْن ُه ْم َوتَ َو َّك ْل َ فَأَع ِْر ْ
ض َ
وأخيرا ً فإن أهم مقتضيات تفسير العالقة بين حقيقة التوبة وطبيعة الحركة
الكونية هو أن التوبة تمأل الزمان والمكان ،ألن الكون وحركته هو كل
الزمان والمكان.
وإذا كان النبي ﷺ يضرب لنا لألمور االعتقادية الضخمة أمثلة كونية يسيرة،
مثل اللبن الدال على الفطرة كعنصر كوني؛ فإن النبي ﷺ قد ضرب لنا مثالً
للتوبة بفعل بشري ،وهو السفر والرجوع منه إلى البيت؛ فقال ﷺ« :آيبون
تائبون عابدون إلى ربنا راجعون» ( ،)389فكان االرتباط بين معنى الرجوع
إلى البيت والرجوع إلى هللا ،وهو معنى التوبة.
بهذا التصور يمكن أن نفهم أن الشمس تكون أعظم مثل كوني على التوبة؛
فهي تشرق في الصباح بين قرني شيطان ،وتسجد في المساء تحت عرش
الرحمن ،فال يمر يو ٌم إال بالسجود هلل تبارك وتعالى والرجوع إليه تحت
عرشه ،بعد سفرها الذي يبدأ بالشروق بين قرني الشيطان ،ولهذا تمتنع هذه
( )389أخرجه مسلم في الحج ،رقم ( ،)111وأبو داوود ،باب ما يقول الرجل إذا سافر (.)2599
السجدة عن الشمس عند انقطاع التوبة« :فال يؤذن لها بالسجود» الحديث
(.)390
إن انقطاع التوبة بغياب الشمس يعبر ،في حقيقته ،عن الحكمة التي تدور
عليها كل أفعال هللا ،سبحانه وتعالى ،ولعل أقرب األفعال في مجال العالمات
القريبة من هذه الحكمة هو رفع العلم بموت العلماء ،ألن هذا يعني أن تنقطع
أسباب الخير عند انقطاع الخير نفسه ،ألن األسباب في الخير هي من الخير
نفسه ،كذلك تنقطع الدالئل التي تدل على هذا الخير ،ومنها القرائن التي تدل
عليه كذلك باعتبارها من هذه الدالئل.
ولقد ضربنا مثالً بالسبب ،ونضرب مثالً جامعا ً للقرائن ،وهو ما سيكون من
علو الدجال، قتل اليهود بعد قتل الدجال ،إذ إن اليهود كانوا سببا ً أصليا ً في ُ
وكانوا قرائن له عند ظهوره ،ومن هنا كان قتل اليهود قدَرا ً مرتبطا ً بالدجال.
الباب األول :تأصيل معنى العالمة من حيث عالقتها بأفعال هللا الجامعة
الفصل األول 12 .....................................................................
عالقة عالمات الساعة بمعنى الحكمة 13 ........................................
عالقة عالمات الساعة بمعنى الرحمة 15 ........................................
عالقة عالمات الساعة بمعنى اإلحسان 17 ......................................
عالقة عالمات الساعة بمعنى الخير 19 .........................................
عالقة عالمات الساعة بمعنى الحق 22 ..........................................
عالقة عالمات الساعة بمعنى العدل 24...........................................
فعل «الجمع اإللهي» في العالمات 25 ...........................................
الفصل الثاني 27 .....................................................................
التجانس 28 ..........................................................................
التعاظم 29 ...........................................................................
التقسيم صغرى وكبرى29 .........................................................
حساب الزمن 30.....................................................................
اإلنذار 32.............................................................................
اإلنهاء باإلعادة32...................................................................
البغت «الفجائية» 33................................................................