You are on page 1of 25

‫قصة العبودية في كتب املالكية‬

‫محمد بن املختارالشنقيطي‬

‫مايو ‪2012‬‬

‫(الحلقة األولى)‬
‫َّ‬
‫الع َجاج حول حرق حركة (املبادرة من أجل االنعتاق) في موريتانيا متون‬
‫اللجاج وارتفع َ‬ ‫ساد‬

‫الفقه املالكي بطريقة استفزازية‪ ،‬وفي غمرة املناكفات السياسية املحيطة باألمر ضاعت العبرة من هذه‬

‫السابقة ذات الداللة الخطيرة على مستقبل الدين وانسجام املجتمع‪ .‬وهذه محاولة عجلى للغوص على‬

‫ش يء من الجذور الفقهية والتاريخية للمشكلة‪ ،‬بعيدا عن تداعياتها السياسية الظرفية‪ .‬ونرجو أن تدفع‬
‫هذه الخواطر آخرين إلى مزيد من التفكير الهادئ حول هذا املوضوع وعدم اختزاله في آثاره اآلنية‪ْ .‬‬
‫فاألولى‬

‫من حرق الكتب الفقهية باستفزاز والدفاع عنها بانفعال هو قراءتها بعيون مفتوحة‪ ،‬تميز بين الدين‬

‫والتدين‪ ،‬وبين الشريعة والفقه‪ ،‬وبين الوحي والتاريخ‪ .‬فاألمر ليس حدثا عابرا في بلد قص َّي‪ ،‬وإنما هو في‬

‫جوهره أمرمستقبل اإلسالم في عصرالحرية‪.‬‬

‫ليس من ريب أن الشريعة "عدل كلها‪ ،‬ورحمة كلها‪ ،‬ومصالح كلها‪ ،‬وحكمة كلها" (ابن القيم‪:‬‬
‫إعالم املوقعين ‪ .)3/3‬لكن فقهنا املوروث –وهو كسب بشري ال ٌ‬
‫وحي منزل‪ -‬ليس كله عدال وال رحمة وال‬

‫فهم الفقهاء للوحي مع املواريث االجتماعية والثقافية السابقة‬


‫مصلحة وال حكمة‪ .‬بل هو حاصل تفاعل ِ‬
‫على اإلسالم‪ ،‬ومع واقع القهر االجتماعي الذي ساد في عصرهم‪ .‬وقد نجح هذا الفقه في تحقيق العدل‬

‫حينا‪ ،‬وفشل أحيانا أخرى فشال ذريعا في االرتفاع إلى مقام املبادئ اإلسالمية الجليلة‪ ،‬فانتهى إلى خالصات‬

‫غريبة مثل التي سنوردها في هذا املقال نقال عن كتب السادة املالكية‪ .‬ولكي يتبين الفرق الهائل بين‬

‫‪1‬‬
‫الشريعة والفقه في هذا املضمار أقتصر على مثالين‪ :‬أولهما التفاف الفقهاء على مسألة املكاتبة لتحرير‬

‫الرقيق‪ ،‬والثاني رفضهم املساواة بين الحر والعبد في حق الحياة الذي هو أصل كل الحقوق وأقدسها‪ .‬وكال‬

‫األمرين من املصائب الفقهية الكبرى في التاريخ اإلسالمي‪.‬‬


‫ً‬
‫ابتداء هو األسر في الحرب‪ ،‬وقد قال هللا تعالى في أسرى‬ ‫إن املعروف تاريخيا أن أصل االسترقاق‬
‫ًّ‬
‫منا ُ‬
‫بعد وإما فداء" (سورة محمد‪ ،‬اآلية ‪ .)4‬فهذه اآلية صريحة في خيارين للتعامل مع أسير‬ ‫الحرب‪" :‬فإما‬

‫الحرب‪ ،‬وهما املن‪ :‬أي التسريح بال مقابل‪ ،‬والفداء‪ :‬أي التسريح بمقابل مالي‪ .‬ولم تذكر اآلية الكريمة أي‬

‫خيار ثالث‪ ،‬بل حصرت األمر بين "إما" و"إما"‪ .‬قال الشيخ رشيد رضا‪" :‬وقد خير هللا تعالى أولي األمر منا في‬

‫أسرى هذه الحرب بقوله‪ :‬فإما منا بعد وإما فداء‪ ،‬أي‪ :‬فإما أن تمنوا عليهم وتطلقوهم فضال وإحسانا‪،‬‬

‫وإما أن تأخذوا منهم فداء‪( ".‬محمد رشيد رضا‪ :‬تفسير املنار‪ .)9/5 ،‬وقال‪” :‬وملا كنا مخيرين فيهم بين‬

‫إطالقهم بغير مقابل والفداء بهم‪ ،‬جاز أن يعد هذا أصال شرعيا إلبطال استئناف االسترقاق في اإلسالم؛‬

‫فإن ظاهر التخيير بين هذين األمرين أن األمر الثالث الذي هو االسترقاق غير جائز لو لم يعارضه أنه هو‬

‫األصل املتبع عند جميع األمم‪ ،‬فمن أكبر املفاسد والضرر أن يسترقوا أسرانا ونطلق أسراهم ونحن أرحم‬

‫بهم وأعدل كما يعلم مما يأتي‪ .‬ولكن اآلية ليست نصا في الحصر‪ ،‬وال صريحة في النهي عن األصل‪ ،‬فكانت‬

‫داللتها على تحريم االسترقاق مطلقا غير قطعية‪( ".‬رشيد رضا‪ :‬تفسيراملنار‪.)237|11‬‬

‫والسبب في عدم القطع هذا هو أن اإلسالم دين عملي‪ ،‬وقد ظهر في عالم امبراطوري من سماته حرب‬

‫الكل على الكل‪ .‬وفي هذه الحروب الدائمة يبقى آالف النساء واألطفال في أرض املعركة أحيانا كثيرة‪،‬‬

‫يواجهون أحد خيارات ثالثة هي‪:‬‬

‫‪ -‬اإلبادة على يد الجيش املنتصر‪.‬‬

‫‪ -‬أو املوت جوعا في فيافي األرض‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ -‬أو االستراقاق واالندماج في املجتمع املسلم‪.‬‬
‫ْ‬
‫اآلخرين أسوأ بكثير‪ .‬فلم يكن من السهل‬ ‫وقد اختار اإلسالم الخيار الثالث ‪-‬على مرارته‪ -‬ألن الخيارْين‬

‫على أسير حرب متغرب أن يبدأ حياة جديدة‪ ،‬وال كان من السهل على أرملة تائهة في أرض املعركة أن‬

‫تحافظ على حياتها –فضال عن املحافظة على ِعرضها‪ -‬دون اندماج في املجتمع‪.‬‬

‫لكن تشريع اإلسالم لم يقف عند هذا الحد‪ ،‬بل جعل قضية الرق عمليا مرحلة مؤقتة‪ ،‬حينما وضع‬

‫حرية الرقيق في يده من خالل نظام املكاتبة‪ .‬واملكاتبة هي عقد بين العبد والسيد يلتزم العبد بمقتضاه‬

‫بدفع فدية على أقساط مقابل حريته‪ ،‬ويصبح املكاتب حرا بمجرد إبرام العقد‪ .‬فإن عجز عن األداء لم‬

‫يعد عبدا‪ ،‬وإنما يصبح عليه دين للسيد السابق‪ ،‬يجب على الدائن إنظاره فيه إلى حين ميسرة‪ ،‬ويجب‬
‫ُ َ‬ ‫على السلطة واملجتمع عونه باملال حتى يتحرر من بقة الرق‪ .‬وهذا فحوى قوله تعالى‪َ " :‬و َّالذ َ‬
‫ين َي ْب َتغون‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫َ ُ‬ ‫َّ َّ‬
‫اَّلل ال ِذي آتاك ْم‪( ".‬سورة النور‪،‬‬ ‫ََ َ ْ َْ َ ُ ُ ْ َ َ ُ ُ ْ ْ َ ْ ُ ْ ْ َْ َ ُ ُ ْ ْ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ال ِكتاب ِم َّما ملكت أيمانكم فكا ِتبوهم ِإن ع ِلمتم ِف ِيهم خي ًرا وآتوهم ِمن م ِال ِ‬
‫َّ‬
‫اآلية ‪ .)33‬ففي اآلية أمران صريحان‪ُ :‬يلزم أولهما السادة بقبول عقد الحرية‪ُ ،‬ويلزم الثاني املجتمع –ممثال‬

‫في الدولة‪ -‬باإلسهام املالي في هذا املسارالتحرري‪.‬‬

‫لقد شاع في املطارحات اإلسالمية أن اإلسالم دفع إلى تحرير الرقيق دفعا أخالقيا فقط‪ ،‬بحضه على‬

‫إعتاق الرقاب باعتبار ذلك من أعظم القربات التطوعية‪ ،‬لكنه لم يحرر الرقيق قانونيا بفرض إجراءات‬

‫عملية ملزمة بتحريره‪ .‬وهذا الرأي غير سديد‪ ،‬إذ هو ينطلق من التسليم بفهم فقهي شائع يناقض ظاهر‬

‫كتاب هللا عزوجل‪.‬‬


‫َّ‬
‫لقد جعل القرآن الكريم حرية العبد بيده حينما ألزم ُمالك العبيد باملكاتبة في أمر صريح ال لبس فيه‪.‬‬

‫فاملكاتبة تمنح العبد حق تحرير نفسه إن قدر‪ ،‬وتوجب على املجتمع عونه على ذلك إن لم يقدر‪ ،‬وهو ما‬

‫يعني أن اإلسالم لم يعلن إ عتاق العبيد بإطالق دفعة واحدة‪ ،‬لكنه وضع في يد كل منهم مفاتيح االنعتاق‬

‫‪3‬‬
‫الذاتي‪ ،‬وألزم املجتمع والدولة بمعاضدته في ذلك‪ .‬وهذا املسار كان أليق بالعصور القديمة التي لم يكن‬

‫استقالل الفرد فيه عن الجماعة واعتماده على نفسه باألمر السهل‪ .‬وهو منسجم أيضا غاية االنسجام‬

‫مع إلغاء الرق جملة في العصر الحديث‪ ،‬بقرار من السلطة العامة املمثلة للمجتمع‪ ،‬وذلك بعد أن‬

‫استقلت ذات الفرد عن الجماعة واملجتمع استقالال بعيدا‪.‬‬

‫لكن إحدى املصائب الفقهية في تاريخ الرق باملجتمعات اإلسالمية هي التفاف الفقهاء على نظام‬

‫املكاتبة الذي جعله القرآن طريقا إلى حرية كل العبيد‪ .‬وقد كان أمير املؤمنين عمر بن الخطاب يضرب‬

‫السادة الذين يأبون إعتاق عبيدهم عبر نظام املكاتبة‪" :‬عن أنس بن مالك قال أرادني سيرين على املكاتبة‬
‫ُ‬
‫فأبيت عليه فأتى عمر بن الخطاب رض ي هللا عنه فذكر ذلك له‪ ،‬فأقبل َّ‬
‫بالدرة‬
‫علي عمر رض ي هللا عنه يعني ِ‬
‫فقال ْ‬
‫كاتبه‪( ".‬سنن البيهقي ‪ ،538|10‬وصححه األلباني في إرواء الغليل ‪ .)180|6‬فانظر كيف هجم عمر‬
‫بسوطه على رجل في مقام أنس بن مالك ليلزمه بقبول عقد املكاتبة مع عبده سيرين‪ ،‬ثم انظر كيف َّ‬
‫ميع‬

‫الفقهاء بعد ذلك األمر‪ ،‬فقالوا إن األمر باملكاتبة ليس للوجوب‪ ،‬بل لالستحباب أو حتى لإلباحة (انظر‬

‫الحطاب‪ :‬مواهب الجليل شرح مختصر خليل ‪.)344|6‬‬

‫وبهذا الرأي املرجوح الذي يسد باب االنعتاق الذاتي قال أكثر الفقهاء‪ .‬ولم يخل تاريخ هذا الدين‬

‫املحفوظ بحفظ هللا له من قائم بالحق يقف في وجه هذه التأويالت‪ .‬وكان ابن حزم هو صاحب هذا‬

‫املوقف في قضية املكاتبة‪ ،‬فوقف للفقهاء باملرصاد ببيانه وبيناته‪ ،‬وبين أن عزوف أغلب الفقهاء هنا عن‬
‫ٌ‬
‫فرض‪ ،‬ال يحل‬ ‫ظاهر القرآن خطيئة ال مسوغ لها‪ ،‬قال ابن حزم‪ْ :‬‬
‫"وأمر هللا تعالى باملكاتبة –وبكل ما أمر به‪-‬‬
‫ْ‬
‫افعل‪ ،‬فيقول هو‪ :‬ال أفعل"( (ابن حزم‪ :‬املحلى ‪ .)221|8‬ووصف ابن حزم آراء‬ ‫ألحد أن يقول له هللا تعالى‪:‬‬
‫ُ‬
‫ضاحك" فقال‪:‬‬ ‫و"وساوس" َ‬
‫و"م‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫"تشغيبات"‬ ‫الفقهاء العازفة عن ظاهرة القرآن ومقتض ى العدل هنا بأنها‬

‫جبر عمر عليها ويضرب في االمتناع عن ذلك‪ ،‬والزبير يسمع‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬


‫"فهذا عمر وعثمان يريانها واجبة‪ ،‬وي ِ‬
‫ُ‬
‫حمل عثمان اآلية على الوجوب فال ينكر على ذلك‪ ،‬وأنس بن مالك ملا ذ ِك َر باآلية سارع إلى الرجوع‬
‫‪4‬‬
‫عرف في ذلك مخالف من الصحابة رض ي هللا عنهم‪.‬‬ ‫فصح أنه ال ُي َ‬
‫َّ‬ ‫إلى املكاتبة وترك امتناعه‪.‬‬
‫وموهوا في ذلك‬‫وخالف في ذلك الحنفيون واملالكيون والشافعيون فقالوا ليست واجبة‪َّ ،‬‬
‫َ ُّ‬
‫سخر الشيطان ِب ِهم فيها‪َ ،‬وش َواذ َس َّبب لهم مثل هذه املضاحك في‬ ‫بتشغيبات‪ ...‬وهذه وساوس ِ‬
‫َّ‬ ‫َ َّ‬
‫الدين‪ ،‬فات َبعوه عليها" (ابن حزم‪ :‬املحلى ‪.)223-222|8‬‬‫ِ‬

‫وربما اعترض من يحسنون الظن بالتاريخ متسائلين‪ :‬وكيف ُيتصور استمرار الرق طيلة مسار‬

‫التاريخ اإلسالمي‪ ،‬رغم وجود هذه النصوص القرآنية الصريحة؟ والجواب أن بقاء العبودية االجتماعية‬
‫ْ‬
‫التي تتجسد في الرق ال يختلف ‪-‬من املنظور التاريخي‪ -‬عن بقاء العبودية السياسية املتجسدة في امللك‬

‫العضوض‪ .‬فالتاريخ ليس ُحجة على الوحي‪ ،‬بل الوحي هو الحجة على التاريخ‪.‬‬

‫أما املصيبة الفقهية الثانية فهي رفض الفقهاء للمساواة بين الحر والعبد في حق الحياة‪ .‬فقد تالعبت‬

‫أقالم الفقهاء هنا تالعبا غريبا بالنص القرآني مرة أخرى ليرسخوا التفاوت في أقدس حقوق اإلنسان‬

‫وآكدها‪ ،‬وهو حق الحياة‪ .‬لقد حرم هللا عز وجل قتل النفس –أي نفس‪ -‬إال قصاصا بأخرى أو فساد في‬

‫األرض‪ ،‬دون تمييز بين حر وعبد‪ ،‬ثم عمم في القصاص في القتل دون تمييز بين حر وعبد أو بين مسلم وكافر‪:‬‬
‫َ َّ َّ ْ َ َّ ْ‬ ‫َ َ َْ ََْ ْ‬
‫س" (سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪ ،)45‬وأوجب الدية ألهل القتيل‪ ،‬والكفارة‬ ‫"وكتبنا علي ِهم ِفيها أن النفس ِبالن ِ‬
‫ف‬
‫ٌ َّ ٌ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ً َ ًَ َ َ‬ ‫َ ًَ‬ ‫َ َ ُْ َ ْ ْ ُ ْ ً‬
‫على القاتل‪َ ” :‬و َما كان ِملؤ ِم ٍن أن َيقت َل ُمؤ ِمنا ِإال خطأ َو َم ْن قت َل ُمؤ ِمنا خطأ فت ْح ِر ُير َرق َب ٍة ُمؤ ِمن ٍة َو ِد َية ُم َسل َمة‬
‫َ ْ َ َّ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ص َّدقوا" (سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪ .)92‬وتوعد قاتل املؤمن بوعيد لم يرد في الكتاب مثله‪:‬‬ ‫ِإلى أ ْه ِل ِه ِإال أن ي‬
‫اَّلل َع َل ْي ِه َو َل َع َن ُه َو َأ َع َّد َل ُه َع َذ ًابا َع ِظ ً‬
‫يما‪".‬‬ ‫" َو َم ْن َي ْق ُت ْل ُم ْؤم ًنا ُم َت َعم ًدا َف َج َز ُاؤ ُه َج َه َّن ُم َخال ًدا ف َيها َو َغض َب َّ ُ‬
‫ِ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.)93‬‬

‫وعمم النبي صلى هللا عليه وسلم مبدأ تكافئ الدماء بين املسلمين‪" :‬املسلمون تتكافأ دماؤهم" (رواه‬

‫بسند صحيح ابن ماجة ‪ ،895|2‬والبيهقي ‪ ،51|8‬والنسائي ‪ 24|8‬وغيرهم)‪ .‬كما صرح صلى هللا عليه وسلم‬
‫أن ال ميزة بين الحر والعبد في حق الحياة‪ :‬فقال‪" :‬من قتل عبده قتلناه‪ ،‬ومن َّ‬
‫جدع عبده جدعناه‪( ".‬رواه‬
‫‪5‬‬
‫َّ‬
‫وصححه‪ ،‬وقال الذهبي‪" :‬على شرط البخاري‪".‬‬ ‫أحمد ‪ ،296/33‬والترمذي ‪َّ 26/4‬‬
‫وحسنه‪ ،‬والحاكم ‪408/4‬‬
‫َّ‬
‫وحسن إسناده ابن حجرفي هداية الرواة ‪ 380/3‬والبغوي في شرح السنة ‪).391/5‬‬

‫لكن الفقهاء أهدروا العموم الواضح في هذه النصوص الشرعية‪ ،‬وميزوا بين الحر والعبد في حق‬

‫الحياة‪ ،‬فأعفوا السيد من أي عقوبة دنيوية إذا قتل عبده‪ ،‬عمدا أو خطأ‪ ،‬وأعفوه من القصاص ومن‬
‫َ‬
‫غيره‪ ،‬بل أعفوه حتى من الكفارة‪ ،‬ولم يلزموه بأكثر من دفع "قيمة" العبد‪ .‬وتمسك‬ ‫الدية إذا قتل عبد ِ‬
‫ْ َ َْ‬ ‫ص ُ‬
‫اص ِفي القتلى‬ ‫هؤالء الفقهاء بفهم متناقض غريب آلية القصاص‪" :‬يا َأ ُّي َها َّالذ َ‬
‫ين َآم ُنوا ُكت َب َع َل ْي ُك ُم ْالق َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُْ َ ُْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ال ُح ُّر ِبال ُح ِر َوال َع ْب ُد ِبال َع ْب ِد َواألنثى ِباألنثى" (سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪ .)178‬فطبقوا التمييز على الحروالعبد‪ ،‬ولم‬

‫يطبقوه على الذكر واألنثى‪ ،‬رغم أن اآلية ليس فيها داللة على تمييز أصال‪ ،‬وإنما هي منع من إيغال أهل‬

‫الجاهلية في الثأر وتجاوزهم قتل القاتل إلى غيره‪ ،‬حيث كانوا يأنفون من أخذ الثأر ألشرافهم من العبد‬

‫واملرأة‪.‬‬

‫وإليكم جوانب من كالم الفقهاء يهدرون فيه حق الحياة‪ ،‬ونقتصر فيها على فقهاء املذهب املالكي‬
‫املواق‪" :‬ال ُي ْق َت ُل ٌّ‬
‫حر بعبد" (املواق‪ :‬التاج واإلكليل ملختصر خليل‪،‬‬ ‫املعروفين في بالدنا مراعاة للسياق‪ .‬قال َّ‬

‫عبدا مسلما ِفإنه ال قصاص عليه" (الخرش ي‪ :‬شرح مختصر‬ ‫‪ .)602/4‬وقال الخرش ي‪" :‬لو َقتل ُّ‬
‫الحر املسلم ً‬
‫ٌ َّ‬
‫خليل ‪ .)3/8‬وإذا كانت الدية واجبة في نص القرآن في القتل الخطإ دون تمييز‪" :‬فدية مسلمة إلى أهله"‬

‫(سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪ .)92‬فإن أمر العبد سهل عند فقهائنا‪ ،‬إذ العبد ال أهل له في نظرهم غير السيد‬

‫القاتل‪ ،‬حتى وإن ترك خلفه أرملة ثكلى وأيتاما مكلومين‪" ،‬قال ابن القاسم‪ :‬وإن قتله سيده خطأ فال ش يء‬

‫عليه‪( ".‬ابن رشد‪ :‬البيان والتحصيل ‪.)347/14‬‬

‫وحتى الكفارة –التي هي حق هللا تعالى وحق املساكين‪ -‬تم تجاوزها بجرة قلم‪ .‬قال ابن عبد البر‪:‬‬

‫"والكفارة في قتل الخطأ واجبة‪ ،‬وال كفارة في قتل عمد‪ ،‬وال في قتل كافر وال عبد‪ ،‬إال أنه استحب مالك‬

‫‪6‬‬
‫ً‬
‫الكفارة في قتل العبد خطأ" (ابن عبد البر‪ :‬الكافي في فقه أهل املدينة ‪ ،)1108/2‬وقال ابن ُجز ْي‪" :‬وال‬
‫َ ُ َ‬
‫كفارة في قتل عبد وال كافر إال أنها تستحب في قتل العبد" (ابن جزي‪ :‬القوانين الفقهية‪ ،‬ص ‪ .)228‬وقال‬

‫ابن رشد‪" :‬كفارة قتل العبد ليست بواجبة" (ابن رشد‪ :‬البيان والتحصيل ‪ .)65/13‬وقال‪" :‬الرقبة في قتل‬

‫العبد تطوع‪ ،‬وليست واجبة" (ابن رشد‪ :‬البيان والتحصيل ‪.)181/5‬‬

‫وأغرب ما في األمر هو حديث فقهائنا عن تواطئ الحر والعبد في قتل عبد‪ .‬فهنا ال يكون التمييز بين‬
‫فاعلين للفعل ذاته‪ .‬قال القرافي‪" :‬وإن قتل ٌ‬
‫عبد ُ‬
‫وح ٌّر‬ ‫ْ‬ ‫شخصين ارتكبا جريرتين متمايزين‪ ،‬بل تمييز بين‬
‫َْ‬ ‫ألن ْالعاقلة ال تحمل ْ‬
‫عم ًدا‪ ،‬وال ُيقت ُل ُح ٌّر بعبد"‬ ‫عبد‪ ،‬وعلى ْالحر نصف قيمته في ماله‪َّ ،‬‬
‫عم ًدا ُقتل ْال ُ‬ ‫ً‬
‫عبدا ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(القرافي‪ :‬الذخيرة ‪.)274/12‬‬
‫َ‬
‫أما العبد املسكين‪ ،‬فإذا قتل حرا‪ ،‬فـ"ال خالف بينهم في أن العبد ُيقتل بالحر" (ابن رشد‪ :‬بداية‬
‫املجتهد ‪ .)181/4‬بل إن العبد ال يستحق حتى إجراءات التقاض ي‪ .‬قال ابن جزي‪"َ :‬وإذا قتل َ‬
‫الع ْبد حرا‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫ْ‬
‫أحيوه" (ابن جزي‪ :‬القوانين الفقهية‪ ،‬ص‬ ‫فيسلمه َسيده ألولياء املقتول فإن شاءوا قتلوه ِوإن شاءوا‬

‫‪ .)227‬ومعنى قوله "أحيوه"‪ :‬استرقوه وأبقوه على قيد الحياة‪ .‬وإن املرء ليعجب من هذا املنطق ويتساءل‪:‬‬

‫بأي أساس شرعي في قوانين األرض أو السماء يتم تسليم الجاني إلى املجني عليه ليتصرف فيه كما يشاء؟!‬

‫أال يوجد قضاء ومرافعات وشهود وبينات وسلطة تنفذ أحكام القضاء؟! فما معنى استثناء العبد املتهم‬

‫بالقتل من كل ذلك سوى إهدارإنسانيته؟‬

‫إن تحرر املجتمعات التي ينبثق نظام قيمها من الدين –ومنها مجتمعنا‪ -‬ال بد أن ينطلق من التمييز‬

‫بين العنصر األزلي الخالد والعنصر التاريخي املؤقت من الثقافة الدينية‪ .‬وقراءة تراثنا الفقهي بعيون‬

‫مفتوحة‪ ،‬دون إشعال أو انفعال هو الذي سيجمعنا على كلمة سواء من الوحي الخالد‪ ،‬ويحررنا من الفقه‬

‫‪7‬‬
‫الجامد الذي يقيدنا ثقافيا واجتماعيا‪ ،‬فهل نأخذ العبرة من الهزة الحالية‪ ،‬وننجح مستقبال في تحقيق‬

‫االنعتاق دون احتراق أو إحراق؟‬

‫(الحلقة ‪)2‬‬

‫لقد رأينا في الحلقة األولى هشاشة األساس الفقهي الستمرارالعبودية في املجتمعات املسلمة‪ ،‬وهو‬

‫استمرار سببه التملص من املبدإ القرآني الذي جعل عتق الرقيق بيده من خالل نظام املكاتبة‪ .‬كما رأينا‬

‫نموذجا من ازدواجية املعايير الفقهية في أقدس حق من حقوق اإلنسان وهو حق الحياة‪ .‬بيد أن كل ما‬

‫ذكرناه في الحلقة األولى مجرد تأسيس نظري عام‪ .‬أما الحالة املوريتانية فاألمر فيها أبشع من ذلك إذا‬

‫وضعناه في سياق الزمان واملكان‪ ،‬إذ أصل االسترقاق فيها موبقة من املوبقات الشرعية‪ ،‬ألنه استرقاق‬

‫إخوة في الدين حرم هللا دماءهم وأموالهم أعراضهم‪ ،‬ولعلها مما ينطبق عليه الحديث القدس ي‪ :‬عن أبي‬

‫هريرة رض ي هللا عنه‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال‪" :‬قال هللا‪ :‬ثالثة أنا خصمهم يوم القيامة‪ :‬رجل‬

‫أعطى بي ثم غدر‪ ،‬ورجل باع حرا فأكل ثمنه‪ ،‬ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره‪( ".‬صحيح‬

‫البخاري ‪ .)82/3‬وهذا الذي نريد بيانه في هذه الحلقة بأسانيده التاريخية‪.‬‬

‫منذ أربعة قرون كشف العالمة أحمد بابا التنبكي (‪ 1032-963‬هـ) عوار الرق في الصحراء الكبرى‪،‬‬

‫وضعف أساسه الفقهي والتاريخي‪ .‬وأحمد بابا –ملن ال يعرفه‪ -‬ينحدر من أسرة كريمة من مدينة والتة‬

‫استقر به املقام في مدينة تنبكتو ملا كانت حاضرة امبراطورية سنغاي‪ .‬وهو مؤلف مكثر‪ ،‬ومن ضمن‬

‫مؤلفاته شرح جزئي على (مختصر خليل) سماه (املقصد الكفيل بحل مقفل خليل)‪ ،‬وحاشية عليه‬

‫سماها (منن الرب الجليل في مهمات تحرير خليل)‪ .‬فالشيخ أحمد بابا ينطلق من داخل املنظومة الفقهية‬

‫السائدة التي رأينا من قبل هشاشتها في موضوع الرق واالسترقاق‪ ،‬لكنه رجل ذو حس تاريخي وروح‬

‫‪8‬‬
‫إنصاف‪ ،‬وقد عاين وعايش الواقع املرير لألرقاء‪ ،‬وعانى من املذلة حينما أسره الجيش املغربي السعدي‬

‫املغيرعلى تنبكتو عدة أعوام‪.‬‬

‫وقد ألف أحمد بابا رسالة وجيزة سماها (معراج الصعود إلى نيل مجلب السود) انتهى من‬

‫تحريرها عام ‪ 1024‬هـ‪ ،‬وهي من نشر معهد الدراسات اإلفريقية بالرباط‪ ،‬مع تحقيق وترجمة إلى اإلنكليزية‬

‫بقلم فاطمة حراك وجون هنويك‪ .‬وقد أوضح الشيخ أحمد بابا في رسالته أن أهل السودان (إفريقيا‬

‫الغربية) قد استفاض فيهم اإلسالم منذ أمد بعيد‪ ،‬يرجع إلى القرن الخامس الهجري‪ ،‬وأن استرقاقهم‬

‫موبقة من املوبقات الشرعية ينطبق عليها الوعيد الشديد في الحديث القدس ي اآلنف الذكر‪ .‬وسار على نهج‬
‫ُ‬
‫الفقيه محمد بن إبراهيم الجارمي في رسالة له بعنوان مثير‪ ،‬أقترح أن يكون شعارا لكل‬ ‫الشيخ أحمد بابا‬

‫الساعين إلى إنصاف الحراطين في موريتانيا‪ ،‬وهو‪( :‬تنبيه أهل الطغيان على حرية السودان)‪.‬‬

‫ويبدو أن هذه الرسالة لم تنشر بعد‪ ،‬لكن الباحث املغربي عبد الخالق أحمدون نقل عن نسخة‬

‫مخطوطة منها بمكتبة الشيخ عبد هللا كنون‪ .‬وقد استهل الجارمي رسالته بالقول‪" :‬إني ملا رأيت تحامل كثيرمن‬

‫الناس على السودان‪ ،‬وتجاسرهم عليهم من غيرموجب‪ ،‬وما َّيدعون من ِر ِق َّيتهم وعدم إسالمهم‪ ،‬حملتني الغيرة‬

‫على أن أنبه على ذلك في رسالة‪ ،‬ليكون على بال من له أدنى اهتمام بدينه‪ ".‬ثم خلص الجارمي إلى أن‬

‫استرقاقهم "ظلم وخروج على الهدى‪( ".‬انظرد‪ .‬عبد الخالق أحمدون‪ :‬أبعاد التواصل الحضاري بين املغرب‬

‫والبلدان اإلفريقية من خالل رسالة "معراج الصعود" ألحمد بابا التمبكتي‪ ،‬ص ‪.)16-15‬‬

‫لكن املؤرخ أحمد بن خالد بن محمد الناصري (ت ‪ 1315‬هـ) صاحب كتاب (االستقصا ألخبار‬

‫دول املغرب األقص ى) هو الذي وضع النقاط على الحروف في هذا األمر‪ ،‬وكشف الزيف التاريخي املحيط‬

‫بقضية االسترقاق في غرب وشمال إفريقيا‪ .‬ونظرا ألهمية نص الناصري وطوله نقسمه إلى مواضيعه‬

‫الرئيسية‪ ،‬وأهمها‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫أوال‪ :‬أن شعوب منطقة السودان –وهي تشمل كل غرب إفريقيا في استعمال املغاربة‪ -‬قوم‬

‫مسلمون عميقو التدين منذ القدم‪ ،‬وأن استرقاقهم على أيدي إخوانهم في الدين أمر مستبشع‪ .‬يقول‬
‫َْْ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫السودان َما كان َعل ْي ِه أهل ِتل َك ال ِبالد من األخذ‬ ‫َ‬ ‫الناصري‪" :‬قد تبين لك ِب َما قصصناه َعل ْيك من أخ َبار‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫اإل ْسالم من لدن قديم‪َ ،‬وأ َّن ُه ْم من أحسن األ َمم إسالما‪ ،‬وأقومهم دينا‪َ ،‬وأكثرهم للعلم َوأهله تحصيال‬ ‫بدين ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ‬
‫ومحبة‪َ ،‬و َهذا األمر شا ِئع ِفي جل ممالكهم املوالية للمغرب ك َما علمت‪َ .‬و ِب َهذا يظهر لك شناعة َما َع َّمت ِب ِه‬
‫َْ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬
‫السودان ُمطلقا‪ ،‬وجلب القطائع الك ِث َيرة ِم ْن ُهم ِفي كل‬ ‫َ‬ ‫البلوى ِب ِبالد املغرب من لدن قديم من استرقاق أهل‬

‫الد َواب بل أفحش" مضيفا أن‬ ‫تسمسر َّ‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫سمسرون َبها ك َما‬ ‫سنة‪ ،‬وبيعهم في أسواق ْاملغرب َحاض َرة وبادية‪ُ ،‬ي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ َ‬
‫سلمون‪ ،‬فلهم َما لنا َو َعل ْي ِهم َما علينا‪َ ،‬ولو فرضنا أن فيهم من ُه َو ُمشرك أو متدين‬ ‫السودان قوم م‬ ‫َ‬ ‫"أهل‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ْ َ َّ َ ُ َ ْ َ‬ ‫ََْ َْ ْ َ‬ ‫ْ َْ‬
‫اإل ْسالم‪َ ،‬والحكم للغ ِالب‪َ .‬ولو فرضنا‬ ‫اإلسالم فالغالب علي ِهم اليوم وقبل اليوم ِبك ِثير ِإنما هو ِ‬ ‫بدين آخرغير ِ‬
‫ْ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ ْ َ ْ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫اإل ْسالم ُهنالك متساويان فمن لنا ِبأن املجلوب ِم ْن ُهم ُه َو من صنف الكفار ال‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ر‬‫كف‬ ‫ال‬ ‫ا‬‫م‬ ‫ن‬ ‫إ‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫الب‬ ‫غ‬ ‫أن ال‬
‫ُْ‬
‫املسلمين" (االستقصا ‪.)131/5‬‬

‫ثانيا‪ :‬أن تحول العبودية في شمال إفريقيا إلى مسألة عرقية أمر خطير وظلم فاحش‪ ،‬وقد الحظ‬
‫ْ‬ ‫الناس على َذلك‪ ،‬وتوالت َع َل ْيه أجيالهم‪َ ،‬ح َّتى َ‬
‫صار كثير من ال َع َّامة‬
‫َّ‬
‫الناصري ذلك‪ ،‬فقال‪" :‬قد تماأل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫اح َية‪َ ،‬و َهذا لعمرهللا من‬
‫ْ َ َّ‬
‫الن‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫ا‬‫مجلوب‬ ‫ونه‬
‫َّ ْ َ َ‬
‫ك‬‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ن‬‫و‬ ‫الل‬ ‫اسوداد‬ ‫يفهمون َأن ُموجب االسترقاق شرعا ُه َ‬
‫و‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مها ِفي الدين" (االستقصا ‪ .)131/5‬وقد أحسن الناصري في هذا‪ ،‬خصوصا وأن‬ ‫أفحش املناكر َو َأ ْع َظ َ‬

‫الحضارة اإلسالمية عرفت امتزاجا عرقيا رائعا لم تعرفه أية حضارة كالسيكية‪ .‬وحينما كانت بعض‬
‫ُ‬
‫علماء وأدباء عرب يكتبون‬ ‫الثقافات تحتقر أصنافا من البشر بسبب لون بشرتهم أو سحنة وجوههم‪ ،‬كان‬

‫وينوه‬
‫عن فضائل السود‪ .‬فهذا الجاحظ في رسالته (فخر السودان على البيضان) يشيد بفضائل السود‪ِ ،‬‬
‫ٌ‬
‫أمة السخاء فيها ُّ‬
‫أعم وعليها‬ ‫بأعالم املسلمين ذوي البشرة السوداء‪ ،‬ثم يتوصل إلى أنه "ليس في األرض‬

‫‪10‬‬
‫ُ‬
‫الخلق وقلة األذى‪ ،‬ال تراه أبدا إال َ‬
‫طيب‬ ‫أش َّداء األبدان‪ ...‬والزنجي مع حسن‬ ‫ُ‬
‫أغلب من الزنج‪ ...‬وهم شجعان ِ‬
‫حس َن الظن‪( ".‬الجاحظ‪" :‬فخر السودان على البيضان" ضمن‪ :‬رسائل الجاحظ‬ ‫َ‬
‫ضاحك السن‪َ ،‬‬ ‫النفس‪،‬‬
‫ِ‬
‫‪ .)196-195/1‬ولم يكتف الجاحظ بذلك‪ ،‬بل تجاوزه إلى مدح سواد اللون بإطالق‪" :‬فليس لون أرسخ في‬

‫جوهره وأثبت في حسنه من سواد‪( ".‬الجاحظ‪" :‬فخر السودان على البيضان‪ .)206/1 "،‬وعلى خطى‬

‫الجاحظ سار ابن الجوزي في كتابه (تنوير الغبش في فضل السودان والحبش)‪ ،‬فدل أيضا على أن‬

‫االستعالء العرقي ليس من خصائص الثقافة العربية‪ .‬وقد جمع ابن الجوزي في كتابه كل ما يجول‬

‫بالخاطر من فضائل الزنج‪ .‬فافتتح الكتاب بالحديث عن مكاتبة النبي صلى هللا عليه وسلم للنجاش ي‪،‬‬

‫وهجرة املسلمين األوائل إلى الحبشة‪ ،‬ثم أطنب في اإلشادة بعلماء الزنج‪ ،‬وشعرائهم‪ ،‬وأذكيائهم‪ ،‬وفطنائهم‪،‬‬
‫وكرمائهم‪ ،‬وزهادهم‪ُ ،‬‬
‫وع َّبادهم‪ ،‬من الرجال والنساء‪ ،‬فخصص فصال لكل هذه األصناف‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬أن الحرية هي األصل‪ ،‬وليس سماسرة العبيد بالثقات‪ ،‬حتى نصدقهم في دعاواهم‪ ،‬بل هم‬
‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ َْ‬
‫اإلن َسان ُه َو ال ُح ِرَّية والخلو َعن ُموجب‬ ‫ِ‬ ‫نوع‬ ‫ي‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫األ ْ‬
‫ص‬ ‫أهل كذب واحتيال ومكر‪ .‬يقول الناصري‪" :‬و‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ َ‬ ‫ْ‬
‫صل‪َ .‬وال ِثقة ِبخ َبر الجالبين ل ُهم والبائعين ل ُهم‪ ،‬ملا تقرر‬ ‫االسترقاق‪ ،‬ومدعي خالف ال ُح ِرَّية ُم َّدع لخالف األ‬

‫صوصا ِم َّما‬ ‫الرقيق ُخ ُ‬ ‫طلقا من ْال َكذب ع ْند بيع سلعهم وإطرائها ب َما َل ْي َ َ َ‬ ‫ُ ً‬
‫َو ُعلم ِفي الباعة م‬
‫س ِفيها‪ ،‬و ِفي باعة َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وءة‬ ‫يف َونحن نرى َأن َّالذين يجلبونهم َأو يتجرون فيهم إ َّن َما هم من َال خالق َل ُهم َوَال ُم ُر َ‬ ‫َ َ‬
‫ك‬ ‫ك‪،‬‬ ‫ل‬
‫َ‬
‫ذ‬ ‫من‬ ‫كثر‬
‫ُ َ َ‬
‫أ‬ ‫هو‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َوال دين" (االستقصا‪.)132-131/5 ،‬‬

‫رابعا‪ :‬أن الفوض ى والحروب األهلية بين السلطنات اإلفريقية املسلمة‪ ،‬والحروب األهلية بين‬

‫القبائل العربية واملتعربة في الصحراء –وهي مسلمة أيضا‪ -‬هي السبب في موجة االسترقاق غير الشرعي في‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫املنطقة‪"َ :‬وقد استفاض َعن أهل ْال ْ‬
‫السودان ال َي ْوم َوقبل ال َي ْوم ُيغير َبعضهم على‬ ‫عدل َوغيرهم أن أهل‬
‫َْ‬ ‫َ َ‬
‫بعض‪ ،‬ويختطف َبعضهم أبناء بعض‪ ،‬ويسرقونهم من األ َم ِاكن النائية َعن مداشرهم وعمرانهم‪َ ،‬و ِإن‬

‫‪11‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فعلهم ذ ِلك كفعل أ ْع َراب املغرب ِفي إغارة َبعضهم على بعض واختطاف دوابهم ومواشيهم أو سرقتها‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ ُ َ َّ ْ‬
‫سلمون‪َ ،‬و ِإن َما ال َح ِامل ل ُهم على ذ ِلك قلة الديانة َوعدم ال َو ِازع‪ .‬فكيف يسوغ للمحتاط لدي ِن ِه أن‬ ‫والكل م‬
‫ْ َْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ُ َّ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫اإلقدام على‬ ‫يقدم على ِشراء ما هو من هذا الق ِبيل‪ ،‬وكيف يجوز له التس ِري بإناثهم و ِفي ذ ِلك ما ِف ِيه من ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫ْ‬ ‫فرج َم ْش ُكوك؟‪ ...‬بل َ‬
‫صار الفسقة ال َي ْوم َوأهل الجراءة على هللا يختطفون أ ْوالد األ ْح َرار من قبائل املغرب‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ َّ‬
‫الن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫ص َارى َوال َي ُهود‬ ‫وقراه وأمصاره‪ ،‬ويبيعونهم ِفي األ ْس َواق جهارا من غير ن ِكير َوال امتعاض للدين‪ ،‬وصار‬

‫اج ُعون‬ ‫َ َّ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َ َ َّ‬ ‫ََ َ ُُ َ‬


‫يشترونهم ويسترقونهم بمرأى منا ومسمع‪ ،‬وذ ِلك عقوبة من هللا لنا لو اعتبرنا‪ ،‬فإنا هلل و ِإنا ِإلي ِه ر ِ‬
‫َ‬
‫على َما دهينا ِب ِه ِفي ديننا" (االستقصا‪.)133-132/5 ،‬‬

‫خامسا‪ :‬أن قياس االسترقاق الذي حدث في ضمن حروب الجهاد في صدر اإلسالم باالسترقاق في‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫منطقة غرب وشمال إفريقيا قياس فاسد‪ ،‬حيث ِ"إن َس َبب االسترقاق الش ْر ِعي ال ِذي كان على عهد الن ِبي‬

‫صود ِب ِه إعالء‬‫الناش ئ َعن ْالج َهاد ْاملَ ْق ُ‬


‫َّ‬
‫بي‬ ‫الس‬ ‫الس َلف َّ‬
‫الصالح َم ْف ُقود ْال َي ْوم‪َ ،‬و ُه َو َّ‬ ‫صلى هللا َع َل ْيه َوسلم َو َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ َّ‬ ‫َ َ‬
‫وسوق الناس ِإلى دينه ال ِذي اصطفاه ِل ِع َب ِاد ِه‪َ .‬هذا ُه َو ديننا ال ِذي شرعه لنا نبينا صلى هللا‬ ‫كلمة هللا ت َعالى‪،‬‬
‫َ َْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َعل ْي ِه َوسلم‪ ،‬وخالفه خالف الدين‪َ ،‬وغيره غير املش ُروع‪ ،‬والتوفيق ِإن َما ُه َو بيد هللا‪َ .‬ربنا ظلمنا أنفسنا َو ِإن‬
‫ْ‬
‫لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" (االستقصا‪ .)134/5 ،‬وقد أحسن الناصري في هذا التمييز‪،‬‬

‫يقتل بعضها بعضا سعيا وراء مجد وهمي وزاد زهيد‪ ،‬وبين طالب‬
‫فشتان ما بين سلطنات وقبائل مسلمة ِ‬
‫الشهادة الذين حملوا أرواحهم في أكفهم من أجل إخراج الناس من عبادة العبادة إلى عبادة رب العباد‪،‬‬

‫تسوقهم همم كبيرة معلقة باآلخرة‪ ،‬على نحو ما صوره الشاعر محمد إقبال في ديوان (جناح جبريل)‬

‫بقوله‪:‬‬

‫غبار‬ ‫للموحد َمطم ـ ٌـح وإذا َّ‬


‫تقحم فالج ــراح ُ‬ ‫نيل الشهادة ُ‬
‫ِ‬
‫كبار‬ ‫ُ‬
‫ومطامح الهمم الكبار ُ‬ ‫انة‬ ‫َ‬ ‫ال َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫غانية وسلب خز ٍ‬
‫ٍ‬ ‫سبي‬

‫‪12‬‬
‫وأخيرا أشير إلى أن تونس دولة مسلمة مالكية‪ ،‬بل هي أحد مصادرنا في الفقه املالكي‪ ،‬حيث أخذنا‬
‫َ‬
‫الخلل الشرعي‬ ‫منها متونا مهمة مثل رسالة ابن أبي زيد القيرواني‪ ،‬وقد أدرك أهلها منذ قرن ْ‬
‫وثلثي القرن‬

‫والتاريخي املحيط باسترقاق الشعوب السودانية في غرب وشمال إفريقيا‪ .‬وأصدر الحاكم العثماني لتونس‬
‫َ‬
‫وهدم سوق النخاسة في عاصمته عام ‪1841‬م‪ْ ،‬‬ ‫أحمد باشا ْ‬
‫أي‬ ‫باي قرارا بمنع املتاجرة بالعبيد في تونس‪،‬‬

‫قبل أن تعلن موريتانيا رسميا تحريرالرقيق بمائة وأربعين عاما‪ ،‬بل وقبل فعل بعض الدول األوربية ذلك‪.‬‬

‫ثم أصدر أحمد باي مرسوما عام ‪ 1846‬يلزم فيه الفقهاء والقضاة بالتعاون في تصفية الرق داخل‬

‫مملكته‪ ،‬هذا نصه‪:‬‬

‫"إلى علماء مشايخ ومفتيي تونس يتضمن إعالمهم بإلغاء الرق وعتق العبيد‪:‬‬
‫الحمد هلل‪ ،‬حفظهم هلل تعالى ورعاكم‪ ،‬ونور هداكم‪ ،‬الفضالء األعيان‪ ،‬األخيار العلماء الكمل‪،‬‬
‫هداة األمة ومصابيح العلي‪ ،‬أحبابنا الشيخ س ي محمد بيرم شيخ اإلسالم‪ ،‬والشيخ س ي إبراهيم‬
‫الرياحي باش مفتي املالكية‪ ،‬واملفتيين الشيخ س ي محمد بن الخوجة والشيخ س ي محمد بن‬
‫سالمة‪ ،‬والشيخ س ي أحمد الالبي‪ ،‬والشيخ س ي محمد املحجوب‪ ،‬والشيخ س ي حسين البارودي‪،‬‬
‫والشيخ س ي الشاذلي بن املؤدب‪ ،‬والشيخ س ي علي الدرويش‪ ،‬والشيخ س ي محمد الخضار‪،‬‬
‫والقضاة‪ :‬الشيخ س ي محمود بن باكير‪ ،‬والشيخ س ي محمد البنا‪ ،‬والشيخ س ي محمد النيفر‬
‫بباردو‪ ،‬والشيخ س ي فرج التميمي باملحلة‪ ،‬أكرمهم هللا‪ ،‬السالم عليكم ورحمة هللا وبركاته وبعد‪:‬‬
‫فإنه ثبت عندنا ثبوتا ال ريب فيه أن غالب أهل إيالتنا في هذا العصر ال يحسن ملكية هوالء‬
‫السودان الذين ال يقدرون علي ش يء‪ ،‬علي ما في أصل صحة ملكهم من الكالم بين العلماء‪ ،‬إذ لم‬
‫يثبت وجهه‪ ،‬وقد أشرق بنظرهم صبح اإليمان منذ أزمان‪ ،‬وأن من يملك أخاه علي املنهج الشرعي‬
‫الذي أوص ى به سيد املرسلين آخر عهده بالدنيا وأول عهده باآلخرة‪ ،‬حتى أن من شريعته التي أتى‬
‫بها رحمة العاملين عتق العبد علي سيده باإلضرار‪ ،‬وتشوف الشارع إلى الحرية‪ .‬فاقتض ى نظرنا‬
‫والحالة هذه رفقا بأولئك املساكين في دنياهم‪ ،‬وبمالكيهم في أخراهم‪ ،‬أن نمنع الناس من هذا‬
‫املباح املختلف فيه والحالة هذه‪ ،‬خشية وقوعهم في املحرم املحقق املجمع عليه‪ ،‬وصد إضرارهم‬
‫بإخوانهم الذين جعلهم هللا تحت أيديهم‪ ،‬وعندنا في ذلك مصلحة سياسية‪ ،‬منها عدم إلجائهم إلى‬
‫َّ‬
‫ملتهم‪َّ .‬‬
‫فعينا عدوال بسيدي محرز‪ ،‬وسيدي منصور‪ ،‬والزاوية البكرية‪ ،‬يكتبون لكل‬ ‫حرم والة غير‬
‫من أتى مستجيرا حجة في حكمنا له بالعتق على سيده وترفع إلينا لنختمها‪ .‬وأنتم حرسكم هللا إذا‬

‫‪13‬‬
‫أتى ألحدكم اململوك مستجيرا من سيده‪ ،‬واتصلت بكم نازلة في ملك علي عبد‪ ،‬وجهوا العبد إلينا‪،‬‬
‫وحذار من أن يتمكن له مالكه‪ ،‬ألن حرمكم يأوي من التجأ إليه في فك رقبته من ملك ترجح عدم‬
‫صحته‪ ،‬وال نحكم به ملدعيه في هذا العصر‪ ،‬واجتناب املباح خشية الوقوع في املحرم من‬
‫الشريعة‪ ،‬السيما إذا انضم لذلك أمر اقتضته املصلحة فيلزم حمل الناس عليه‪ .‬وهللا يهدي للتي‬
‫هي أقوم‪ ،‬ويبشر املؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كريما‪ ،‬والسالم من الفقير إلى ربه‬
‫تعالى عبد املشيرأحمد باشا باي وفقه هللا تعالى آمين‪ .‬كتب في ‪ 23‬جانفي ‪."1846‬‬

‫ولم ْ‬
‫نجد في كتب التاريخ اعتراضا من علماء املالكية بتونس على مضمون رسالة أحمد باشا‪ ،‬مما‬

‫يدل على اتفاقهم معه حول عدم شرعية االسترقاق أصال في هذه املنطقة‪ .‬وقد امتدح الشاعر الفرنس ي‬

‫بارتلمي ‪ )1867-1796( Barthélemy‬حاكم تونس بقصيدة مشهورة‪ ،‬ودعا ملوك أوربا إلى االقتداء به في‬

‫إعتاق الرقيق‪ .‬ومن هذه القصيدة قوله‪:‬‬

‫‪Le Sultan de Tunis abolit l’esclavage.‬‬

‫!‪Le pied du nègre est libre, en touchant le rivage‬‬

‫!‪Que Dieu Tout Puissant le couvre de son aile‬‬

‫‪Que l’Europe à ses rois l’impose pour modèle‬‬

‫وخالصة األمر أن الرق في غرب وشمال إفريقيا –ومنه الرق في موريتانيا‪ -‬ليس له أصل شرعي وال‬

‫تاريخي‪ ،‬بل هو ظلم وإدمان على الظلم دام قرونا طويلة‪ ،‬غذته الفوض ى والحروب األهلية‪ ،‬وسوغته‬

‫التكيفات الفقهية مع الواقع‪ .‬وقد آن األوان لنتوب إلى هللا تعالى منه‪ ،‬ومن آثاره املادية واملعنوية التي ال‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫تزال تطحن بكلكلها إخوة لنا‪ ،‬تجمعنا بهم أرحام متضافرة من الدين والوطن والتاريخ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وما أحسن أن نختم باآلية الكريمة التي ختم بها الناصري إدانته السترقاق املسلمين‪َ " :‬ربنا ظلمنا‬
‫ْ‬ ‫َْ ُ َ‬
‫أنفسنا َو ِإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" (سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪ .)23‬فنحن اليوم أحوج ما‬

‫نكون إلى توبة نصوح عامة‪ ،‬يراجع فيها مجتمع السادة ربه‪ ،‬ويتوب من اإلدمان على ظلم إخوة له في الدين‬

‫لقرون مديدة‪ ،‬ويستغفر ألسالف أفضوا ملا قدموا دون أن يبرر أو يكرر أخطاءهم وخطاياهم‪ ،‬وينيب‬

‫حرق الكتب إلى ربه من تحريق الكتب الفقهية بازدراء‪ ،‬وهي كتب مهما تكن مآخذنا على ما فيها من آراء‬ ‫ُ‬
‫م ِ‬
‫غريبة عن روح اإلسالم‪ ،‬فهي تشتمل على أسماء هللا تعالى وآياته‪ ،‬وعلى أحاديث نبي الرحمة صلى هللا عليه‬

‫وسلم‪.‬‬

‫(الحلقة الثالثة)‬

‫رأينا في الحلقة االثانية عدم شرعية االسترقاق ابتداء في منطقة الغرب والشمال اإلفريقي‪ ،‬من‬

‫خالل شهادات التنبكتي والجارمي وغيرهما‪ .‬ونعضد هذا األمراآلن بشهادة أحد العلماء املوريتانيين الذين‬

‫لم يجاملوا مجتمعهم في الحق‪ ،‬وهو محمد بن محمد بن علي اللمتوني‪ ،‬أحد علماء القرن العاشر الهجري‬

‫بمدينة والتة‪ .‬ولشهادة هذا العالم قيمة تاريخية عظيمة تتجاوز حدود بالدنا‪ .‬فقد كتب اللمتوني رسالة‬

‫استفتاء طويلة إلى العالمة جالل الدين السيوطي في مصر عام ‪ 898‬هــ‪ ،‬يسأله فيها اإلجابة عن العديد من‬
‫اإلشكاالت الشائعة في مجتمع بالد التكرور (موريتانيا وما حولها)‪ .‬وقد َّ‬
‫ضمن السيوطي هذه الوثيقة في‬

‫كتابه (الحاوي للفتاوي) وامتدح كاتبها‪ ،‬واصفا إياه بأنه "الشيخ العالم الصالح" (الحاوي ‪ ،)344/1‬ورد‬
‫على أسئلته في رسالة وجيزة سماها (فتح املطلب املبرور َ‬
‫وبرد الكبد املحرور في الجواب عن األسئلة الواردة‬

‫من التكرور)‪ .‬وما يهمنا هو ما ورد في وثيقة اللمتوني من وصف األوضاع الدينية واالجتماعية في هذه‬

‫املنطقة‪ .‬وأهم ذلك داللة ملوضوعنا أمور ثالثة‪:‬‬

‫‪15‬‬
‫أولها‪ :‬تأكيد اللمتوني على ما أكد عليه التنبكتي فيما بعد من شيوع استعباد األحرار في هذه‬
‫البالد‪ ،‬حيث يقول‪" :‬ومنهم من يخاصم على األحرار‪ْ ،‬‬
‫ويدعوهم بالعبيد‪ ،‬فإن مات من ادعى عليه ذلك لم‬
‫َ‬
‫يقسموا بين ورثته‪ ،‬ثم ْيدعوهم من بقي باسم الرق‪ ،‬وإن قلت لهم‪( :‬هؤالء أحرار) كادوا يقتلونك‪،‬‬

‫ويقولون‪ :‬هؤالء عبيد أتباع للسيف‪ ،‬ومنهم من يجعلهم كالخدم بالضرب والعذاب‪ ،‬ومنهم من يسخر منهم‬

‫ويأخذ منهم األموال وال يضرهم في أنفسهم‪ ،‬ومنهم من يبيعهم بالتنافس والتنازع" (السيوطي‪ :‬الحاوي‬

‫للفتاوي ‪.)337/1‬‬

‫ثانيها‪ :‬مالحظته لالزدواجية األخالقية السائدة في الثقافة الدينية ألهل هذه البالد‪ ،‬وإدمانهم على‬
‫َُ‬
‫عادته‬ ‫الظلم االجتماعي‪ ،‬مع تدينهم وحبهم هلل ورسوله صلى هللا عليه وسلم‪ .‬يقول اللمتوني‪" :‬ومنهم من‬

‫محبة العلماء‪ ،‬والصالة على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬واألعمال الصالحة‪ ،‬والصدقة‪ ،‬وإطعام‬

‫الطعام‪ ،‬و ِقرى الضيف‪ ،‬وغير ذلك من وجوه الخير‪ .‬وال يتركون ما هم عليه من تكبر‪ ،‬واسترقاق األحرار‪،‬‬

‫واملقاتلة‪ ،‬والظلم‪ ،‬وأكل الحرام" (السيوطي‪ :‬الحاوي ‪.)339/1‬‬

‫ثالثها‪ :‬أخذ اللمتوني على فقهاء هذه البالد االبتعاد عن الوحي‪ ،‬واالنشغال عنه بكتب الفروع بكل‬

‫مساوئها‪ .‬حيث يقول‪" :‬ومن فقهائهم من عادته ترك القرآن والسنة‪ ،‬وأخذ (الرسالة) و(املدونة الصغرى)‬

‫عادوا من يفسر القرآن‪ ،‬ويقولون‪ :‬قال أبو بكر‬‫ْ‬ ‫و(ابن الجالب) و(الطليطلي) و(ابن الحاجب)‪ ،‬حتى‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كذبت على ربي ُّ‬
‫الحمر‬ ‫أي أرض تحملني؟ وإذا سمعوا آية تتلى لتفسير نفروا عنها نفرة‬ ‫الصديق‪ :‬إن‬
‫ِ‬
‫الوحشية" (السيوطي‪ :‬الحاوي ‪.)340/1‬‬

‫وكأنما الحظ اللمتوني العالقة وثيقة بين هذه األخطاء الفادحة في انتهاك كرامة اإلنسان‪ ،‬وبين‬

‫االنشغال عن نصوص الوحي بمتون وحواش موغلة في التكيف مع الواقع االجتماعي‪ ،‬حتى غدت غواش َي‬

‫تحول بين الناس وبين القيام بالقسط‪ ،‬ذلك املبدأ النبيل الذي بعث هللا كل الرسل وأنزل كل الرساالت‬

‫‪16‬‬
‫َ َ ْ َ ْ َ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ َ ُ َ َّ ُ ْ‬ ‫من أجل تحقيقه‪"َ :‬ل َق ْد َأ ْر َس ْلنا ُر ُس َلنا ب ْال َ‬
‫اس ِبال ِق ْس ِط"‬‫نات وأنزلنا معهم ال ِكتاب و ِامليزان ِليقوم الن‬ ‫ي‬
‫ِ ِ ِ‬‫ب‬

‫(سورة الحديد‪ ،‬اآلية ‪ .)25‬وقد أحسن املفكر الجزائري مالك بن نبي إذ اعتبر "تجريد اآليات القرآنية من‬

‫الغواش ي الفقهية واللغوية والتاريخية" شرطا من شروط النهضة في العالم اإلسالمي‪ ،‬ألن هذه الغواش ي‬

‫أثمرت مفارقات صارخة بعيدة كل البعد عن املعاني اإلنسانية املثلى التي جاء بها القرآن‪ ،‬وعن مقصد كل‬

‫الرساالت السماوية في القيام بالقسط‪.‬‬

‫وفي الجدول اآلتي تلخيص لبعض املفارقات بين النص القرآني والرأي الفقهي‪ .‬وهي كلها تشير إلى‬

‫تأويل النصوص القرآنية الصريحة ذات الصلة بالرق‪ ،‬وصرفها عن ظاهرها‪ ،‬كلما تعلق األمرباملساواة بين‬

‫العبيد واألحرار‪ .‬ولو استقرأنا أكثرألوردنا أمثلة أكثر‪:‬‬

‫خالصة الرأي الفقهي‬ ‫مضمون النص القرآني‬

‫األمرهنا للندب أو اإلباحة‪ ،‬وهو غيرملزم‬ ‫أمرصريح بقبول املكاتبة عند ابتغاء‬ ‫‪.1‬‬

‫للسيد‬ ‫العبد لها‬

‫صداق األمة ملك للسيد‪ ،‬ال لألمة‬ ‫أمرصريح بإيتاء اإلماء مهورهن شأنهن‬ ‫‪.2‬‬

‫شأن الحرائر‬

‫األمرهنا للندب أو اإلباحة‪ ،‬ويجوز للسيد‬ ‫أمرصريح بمساعدة العبيد واإلماء في‬ ‫‪.3‬‬

‫منع العبد من الزواج‬ ‫الزواج‬

‫العبد ال دية له‪ ،‬وإنما له قيمة فقط‬ ‫أمرصريح بدفع الدية في قتل أي نفس‬ ‫‪.4‬‬

‫مؤمنة‬

‫ال قصاص من حرلعبد إذا قتله عمدا‬ ‫أمرصريح بالقصاص في القتل العمد‬ ‫‪.5‬‬

‫طالق العبد طلقتان فقط‬ ‫الطالق ثالث مرات دون تمييزحرمن عبد‬ ‫‪.6‬‬

‫‪17‬‬
‫عدة األمة حيضتان فقط‬ ‫العدة ثالث حيض دون تمييزبين حرة وأمة‬ ‫‪.7‬‬

‫ولم تخل كتب الفقه والحديث من رافض لهذا الجانب أو ذلك من فقه التمييز‪ ،‬ومحتكم إلى نص‬

‫الوحي من غير غواش‪ ،‬حتى وإن ضاعت أصوات هؤالء بين أصوات الجمهور‪ .‬فقد استنكر –مثال‪ -‬القاسم‬

‫بن محمد بن أبي بكر الصديق الخروج على القرآن في موضوع العدة‪" :‬روى الدارقطني من طريق زيد بن‬

‫أسلم قال‪ :‬سئل القاسم بن محمد عن عدة األمة‪ ،‬فقال‪ :‬الناس يقولون حيضتان‪ ،‬وإنا ال نعلم ذلك في‬

‫كتاب وال سنة‪ .‬انتهى وإسناده صحيح" (ابن حجر‪ :‬الدراية في تخريج أحاديث الهداية ‪.)70/2‬‬

‫وأصل هذا التمييز في كل ش يء هو القياس غير املوفق على حكم قرآني جاء تخفيفا على األمة‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َّ ْ ُ‬
‫صف َما َعلى‬ ‫احش ٍة فعلي ِهن ِن‬
‫حينما جعل هللا عز وجل عقوبتها على الزنا نصف عقوبة الحرة‪" :‬ف ِإن أتين ِبف ِ‬
‫َ ْ ََ‬ ‫ُْ ْ َ َ‬
‫تنميه العبودية من ضعف الحصانة‬ ‫اب" (سورة النساء‪ ،‬الىية ‪ )25‬رفقا بها نظرا ملا ِ‬
‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫ات‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫املحص‬

‫االجتماعية وضعف اإلحساس بالكرامة اإلنسانية‪ ،‬ونظرا لظروف اإلكراه على الزنا الذي كان شائعا طلبا‬
‫َ ُ ْ ُ َ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َ ُّ ً‬
‫صنا‬ ‫للمال‪ ،‬وهو أمر استبشعه القرآن الكريم ونهى عنه‪" :‬وال تك ِرهوا فتيا ِتكم على ال ِبغ ِاء ِإن أردن تح‬
‫ُّ ْ‬ ‫ََْ ُ َ َ َ ْ‬
‫الدن َيا" (سورة النور‪ ،‬اآلية ‪ .)33‬وما كان من الالزم الخروج على ظواهر اآلي‬ ‫ض ال َح َي ِاة‬ ‫ِلتبتغوا عر‬

‫املحكمات‪ ،‬والتعدي على حقوق األرقاء‪ ،‬قياسا على هذه الجزئية التي جاءت ملصلحة الرقيق قبل أي ش يء‬

‫آخر‪.‬‬

‫لقد الحظ الباحث املغربي الدكتور عبد اإلله بنمليح في دراسته لتاريخ الرق في املغرب واألندلس‬

‫التعارض عند فقهائنا بين "صورة الرقيق الش يء وصورة الرقيق اإلنسان" (بنمليح‪ :‬الرق في بالد املغرب‬

‫واالندلس‪ ،‬ص ‪ .)264‬كما الحظ غلبة الصورة األولى على الثانية في كتب الفقه‪ ،‬حيث ساد "تشييء الرق"‬

‫(ص ‪ ) 265‬أي تحويله إلى "ش يء"‪ ،‬بدال من التعامل معه كبشر من لحم ودم ومشاعر‪ .‬وهو ما انعكس على‬

‫فهم الفقهاء للنص الشرعي‪ ،‬فأنتجوا "الفقه التمييزي" (ص‪ )273‬الذي ورثناه عنهم‪ .‬وأخيرا الحظ بنمليح‬

‫‪18‬‬
‫نزوع الفقه املغربي–األندلس ي (املالكي) إلى منحى القول بامللكية املطلقة للعبد‪ ،‬ال امللكية النسبية التي‬

‫تحفظ عليه شيئا من إنسانيته‪.‬‬

‫وما الحظه الباحث املغربي صحيح تماما‪ .‬فقد تراوحت مكانة الرقيق في كتب الفقه املالكي بين‬

‫مستويين‪ :‬أولهما‪ :‬اعتباره شيئا متملكا‪ ،‬ال تمييز له عن الحيوان واألشياء‪ .‬وقد ترددت تعبيرات الفقهاء‬

‫املالكية املوحية بهذا املعنى‪ ،‬من مثل قول ابن رشد‪" :‬العبد مال من األموال" (ابن رشد‪ :‬البيان‬

‫والتحصيل ‪ ،)502/15‬وقوله‪" :‬وأما العبد فال دية له على مذهب مالك ‪-‬رحمه هللا‪ -‬وإنما هو كسلعة من‬

‫السلع‪ ،‬فعلى قاتله خطأ كان أو عمدا قيمته‪ ،‬بالغة ما بلغت في ماله‪ ،‬وال تحمل العاقلة من ذلك شيئا"‬

‫(ابن رشد‪ :‬املقدمات‪ .)296/3 ،‬ومنه قول اللخمي الذي نقله عنه ابن رحال‪" :‬الحيوان على اختالف‬

‫األجناس من عبد وفرس وشاة‪( "...‬ابن رحال‪ :‬كشف القناع في تضمين الصناع‪ ،‬ص ‪.)121‬‬

‫وثانيهما‪ :‬اعتباره نصف إنسان‪ ،‬أو "حيوانا عاقال" يستحق معاملة أفضل من معاملة األشياء‬

‫والحيوانات‪ ،‬لكنه ناقص اإلنسانية‪ ،‬وليس له من أمره ش يء‪ .‬وقد جاء خالف الفقهاء في جراحات العبيد‬

‫كاشفة عن هذه النظرة‪ .‬قال ابن رشد‪" :‬وأما جراح العبد فقد اختلف فيها على ثالثة أقوال‪ :‬أحدها أن‬

‫على جارحه ما نقصه من غير تفصيل‪ ،‬قياسا على العروض والحيوان‪ .‬والثاني‪ :‬أن جراحاته في قيمته‬

‫كجراحات الحر في ديته قياسا على الحر‪ .‬وقال الشافعي‪ :‬قياس العبد على الحر أولى من قياسه على‬

‫الحيوان والسلع‪ ،‬ألنه حيوان عاقل مكلف‪ ،‬ليس كالحيوان والسلع‪( ".‬ابن رشد‪ :‬املقدمات‪.)297/3 ،‬‬

‫وفي الصراع بين مفهوم امللكية املطلقة التي ال تدع للعبد هامش تصرف في نفسه وماله‪ ،‬وامللكية النسبية‬
‫ً‬
‫التي تترك له هامش تصرف ينفق منه على نفسه وأسرته ويفتدي نفسه مكاتبة‪ ،‬نحا الفقه املالكي منحى‬

‫امللكية املطلقة‪ .‬وقد تحدث القرطبي عن رأي املالكية في هذا باعتزاز‪ ،‬فقال‪" :‬ولعلمائنا النكتة العظمى في‬

‫أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد" (تفسير القرطبي ‪ .)241/2‬وهكذا جرد فقهاؤنا العبد من حق‬

‫‪19‬‬
‫تملك املال‪ ،‬رغم أن أكثرهم ألزموه باإلنفاق على زوجته وإكسائها في الليل على األقل (ميز بعض الفقهاء‬

‫بين النفقة والكسوة في اليل والنهار‪ ،‬فهما على الزوج اململوك في الليل‪ ،‬وعلى السيد املالك في النهار)!!‬
‫ُ‬
‫وقد تفنن الفقهاء في الحديث عن عيوب العبيد واإلماء الخلقية والخلقية مراعاة ملصلحة السيد‪،‬‬

‫حتى أوصل الونشريس ي هذه العيوب إلى أكثر من ستين عيبا‪ ،‬كما تفننوا في الحديث عن عيوب الجواري‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫والشماء‬ ‫والفوهاء والقنواء‬ ‫وأوصافهن الجسدية التي قد تؤثر على قيمتهن في نظر املالك‪ ،‬فمنهن الفقماء‬
‫ْ‬
‫والفطساء‪..‬الخ لكن هذا االهتمام لم يصحبه ما يناسبه من اهتمام باملعاناة اإلنسانية التي يعيشها العبد‬
‫واألمة‪ ،‬وما يواجهه كالهما من إهدار إلنسانيته وكرامته تحت غطاء فقهي شفاف َّ‬
‫انبت عن مصادر الوحي‬

‫ومعانيه اإلنسانية‪ ،‬وأهدرنصوص القرآن الكريم أمام األعراف االجتماعية‪.‬‬

‫وتحت وطأة هذه الثقافة الفقهية املتحيزة للسادة منع الفقهاء العبد من الحج –خامس أركان‬
‫ُّ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ َّ َ َ َّ‬
‫استطاع ِإل ْي ِه َس ِبيال‬ ‫اس ِحج البي ِت م ِن‬
‫ِ‬ ‫الن‬ ‫َّلل على‬
‫اإلسالم‪ -‬إال بإذن السيد‪ ،‬رغم عموم النص القرآني‪" :‬وِ ِ‬
‫َ َ ْ َ َ َ َ َّ َّ َ َ ٌّ َ ْ َ َ َ‬
‫املين" (سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪ .)97 ،‬وليت ما فعله الفقهاء هنا كان إعفاء ال‬ ‫ومن كفر ف ِإن اَّلل غ ِني ع ِن الع ِ‬
‫منعا‪ ،‬فيكون رخصة لصالح العبد‪ ،‬تراعي حاله البائسة‪ ،‬وتعترف بالقيود املفروضة عليه‪ .‬لكن األمر لم‬

‫يكن كذلك‪ ،‬وإنما جاء قولهم مراعاة لحق السيد في الخدمة‪ .‬وقد صرح بذلك القرطبي فقال‪" :‬قال‬

‫أصحابنا [املالكية]‪ :‬ال تجب عليه [أي على العبد] عبادة األموال من زكاة وكفارات‪ ،‬وال من عبادات األبدان‬

‫ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك" (تفسير القرطبي ‪ )147/10‬وهو ما يعني عمليا‬

‫ترجيح العبودية على العبادة!! وكأن خدمة السيد خمسة أيام أهم من أداء حجة اإلسالم املفروضة‪ ،‬أو‬

‫خدمته ساعتين أهم من عمرة مبرورة‪.‬‬

‫وهكذا منع الفقهاء العبد القادر على الحج من الحج بغير إذن السيد‪ .‬فإذا تجرأ العبد وقدم حق‬

‫الخالق على حق املخلوق ثم "أحرم [بالحج] بغير إذن سيده‪ ،‬فالسيد بالخيار في فسخ إحرامه أو تركه"‬

‫‪20‬‬
‫(ابن عبد البر‪ :‬الكافي ‪ .)412/1‬بل َّ‬
‫عد بعض املالكية اإلحرام عيبا من عيوب البيع في العبد واألمة‪ ،‬ففي‬

‫املدونة‪" :‬قلت [القائل سحنون]‪ :‬أرأيت إن باع عبده أو أمته وهما ُم ْحرمان‪ ،‬أيجوز بيعهما أم ال؟ قال‬
‫َّ‬
‫[القائل ابن القاسم]‪ :‬نعم في قول مالك يجوز بيعه إياهما‪ ،‬وليس للذي اشتراهما أن ُيحلهما‪ ،‬ويكونان‬

‫على إحرامهما‪ .‬قلت‪ :‬فإن لم يعلم بإحرامهما أتراه عيبا يردهما به إن أحب؟ قال‪ :‬لم أسمع من مالك فيه‬

‫شيئا‪ ،‬وأراه عيبا يردهما به إن لم يكن أعلمه بإحرامهما‪ ،‬إال أن يكون ذلك قريبا" (املدونة‪.)490/1 ،‬‬

‫وإمعانا في التحيز –الشعوري والالشعوري‪ -‬للسيد املسيطر على حساب العبد الذي أمر القرآن‬

‫بعتقه‪ ،‬وحضت السنة على إكرامه‪ ،‬منح الفقهاء السيد حق منع عبيده وإمائه من الزواج‪ ،‬في مناقضة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫األ َي َامى م ْن ُك ْم َو َّ‬
‫الص ِال ِحين ِم ْن ِع َب ِادك ْم َو ِإ َما ِئك ْم" (سورة النور‪ ،‬اآلية‬ ‫وا‬ ‫عجيبة لقول هللا عز وجل‪َ " :‬و َأ ْنك ُ‬
‫ح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ .)32‬قال ابن جزي‪" :‬وال ُيجبر السيد على إنكاح العبد" (ابن جزي‪ :‬القوانين الفقهية‪ ،‬ص ‪ .)133‬ورغم أن‬

‫اآلية أمر صريح بمساعتدهم في الزواج‪ ،‬ال بمجرد اإلذن لهم في الزواج‪ ،‬فإن جمهور الفقهاء –بمن فيهم‬

‫املالكية‪ -‬حملوا األمر هنا على الندب أو اإلباحة‪ ،‬ال على الوجوب‪ ،‬فجعلوا معنى اآلية أن السيد يجوز له‬

‫اإلذن لعبده في الزواج "وهو محمل ضعيف في مثل هذا املقام إذ ليس املقام مظنة تردد في إباحة‬

‫تزويجهم" (ابن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير ‪ .)215/18‬ومن أسوإ أنواع االستدالل استدالل بعض الفقهاء‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ً‬ ‫َ َ َ َّ ُ َ‬
‫اَّلل َمثال َع ْب ًدا َم ْملوكا ال َيق ِد ُر َعلى ش ْي ٍء"‬ ‫على حق السيد في منع عبده من الزواج بقوله تعالى‪" :‬ضرب‬

‫(سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪ )75‬رغم أن السياق القرآني جاء ذاما لهذه الحالة ال مقرا لها‪ ،‬كما أن اآلية تندرج‬

‫ضمن الخطاب الخبري القدري‪ ،‬ال الشرعي التكليفي‪.‬‬

‫كل هذا حرصا على عدم إنقاص قيمة العبد املالية‪ .‬هكذا فسر القرافي األمر بالقول‪" :‬ووجه تعلق‬
‫ْ‬
‫حق السيد أن زواج العبد ُينقص الرغبات فيه‪ ،‬لتعذر نقلته من بلده‪ ،‬لتعلقه بامرأته وذريته‪ ،‬وصرف‬

‫كسبه لهم سرا وعالنية‪ ،‬وليس له أن ينقص مال سيده بتنقيص ماليته [أي قيمته املالية]" (القرافي‪:‬‬

‫‪21‬‬
‫الذخيرة‪ .)204/4 ،‬وهذا يدل على أن قول القرطبي‪" :‬والنكاح وبابه إنما هو من املصالح‪ ،‬ومصلحة العبد‬

‫موكولة إلى السيد هو يراها ويقيمها" (تفسير القرطبي ‪ )241/12‬إحسان للظن بالسادة في غير محله‪:‬‬

‫فمصلحة العبد مناقضة ملصلحة السيد هنا‪ ،‬بل األصل أن تكون مناقضة لها دائما‪ .‬وإذا تحدى العبد‬

‫إرادة السيد وتزوج على سنة هللا ورسوله طلبا للعفاف كما يفعل كل املسلمين‪ ،‬فإن للدسوقي رأيا خاصا‬

‫في ذلك‪ ،‬وهو أن هذا الزواج "وإن كان صحيحا إال أنه غير مبيح للوطء‪ ،‬ألن للسيد الخيار [في إقراره أو‬

‫فسخه]" (حاشية الدسوقي‪.)215/2 ،‬‬


‫َ‬
‫وحتى العبد املكاتب الذي يعتبرحرا أو على طريق الحرية على األقل‪ ،‬فقد منعه الفقهاء من الزواج‬

‫دون إذن السيد‪ .‬وكما جعل الفقهاء اإلحرام عيبا في العبد جعلوا زواجه عيبا أيضا‪ ،‬ألنه في نظرهم ينقص‬

‫من قيمته املالية!! فقد ورد في املدونة‪” :‬قلت [سحنون]‪ :‬أريت إن تزوج املكاتب امرأة بغيرإذن سيده رجاء‬

‫الفضل‪ ،‬أترى النكاح جائزا؟ قال [ابن القاسم]‪ :‬ال يجوز‪ ،‬ألنه إن عجز رجع إلى السيد معيبا‪ ،‬ألن تزويج‬

‫العبد عيب" (املدونة ‪ .)138/2‬ثم جعلوا من حق السيد مصادرة وتملك الصداق الذي دفعه العبد في‬

‫زواجه ذاك‪" :‬قلت [سحنون]‪ :‬أريت العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فنقد مهرا‪ ،‬أيكون للسيد أن يأخذ‬

‫جميع ذلك في قول مالك؟ قال [ابن القاسم]‪ :‬نعم" (املدونة ‪.)133/2‬‬

‫وجعل جمهور الفقهاء صداق األمة ملكا لسيدها‪ ،‬رغم صريح القرآن الكريم في إيتائها صداقها‪،‬‬
‫َ ْ ُ ُ َّ ْ َ ْ َّ َ ُ ُ َّ ُ ُ َ ُ َّ ْ َ ْ‬
‫وف" (سورة النساء‪،‬‬‫حيث قال تعالى عن تزويج اإلماء‪" :‬فان ِكحوهن ِب ِإذ ِن أه ِل ِهن وآتوهن أجورهن ِباملع ُر ِ‬
‫‪ .)25‬وتسامح بعضهم مع األمة فترك لها ربع دينار من صداقها‪ .‬قال القرافي‪" :‬وللسيد أخذ صداق األمة إال‬

‫ربع دينار‪ ،‬ألنه حق هللا تعالى" (القرافي‪ :‬الذخيرة‪ )240/4 ،‬وهو تفصيل عجيب‪ .‬وأعجب منه قول الخرش ي‪:‬‬
‫َّ‬
‫ويتكمل عليه‬ ‫"إن السيد إذا زوج أمته ثم قتلها‪ ،‬فإنه ُيقض ى له بأخذ صداقها من زوجها‪ ،‬بنى بها أم ال‪،‬‬

‫الصداق بالقتل‪ ،‬إذ ال ُي َّتهم السيد في قتل أمته ليأخذ صداقها"!! (الخرش ي‪ :‬شرح مختصرخليل ‪.)223/3‬‬

‫‪22‬‬
‫إن مشكلة الفقه املالكي –وكل الفقه اإلسالمي‪ -‬مع قضية الرق ترجع إلى ٍ‬
‫تحد أخالقي وإنساني واجه كل‬

‫الحضارات‪ ،‬وهو توسيع فكرة الحقوق وتعميمها على الكافة‪ ،‬بدل احتكارها للخاصة‪ ،‬سواء كانت تلك‬

‫الخاصة طبقة اجتماعية‪ ،‬أو جماعة دينية‪ ،‬أو مواطني بلد بعينه‪ .‬لقد كانت لدى اليونان حقوق سياسية‬
‫َ‬
‫ومدنية واضحة‪ ،‬وإلى أثينا ترجع فكرة املواطنة كما نعرفها اليوم‪ .‬لكن حقوق املواطنة اليونانية لم تكن‬

‫عامة‪ ،‬بل تم استثناء النساء والعبيد منها‪ ،‬إضافة إلى استثناء من دعاهم اليونان "برابرة" من الشعوب‬

‫غير اليونانية‪ .‬يقول املؤرخ ِول ديورانت‪" :‬هاهو ذا أفالطون يندد باستعباد اليونان لليونان‪ ،‬ولكنه فيما‬
‫ً‬
‫عدا هذا يقر االسترقاق بحجة أن لبعض الناس عقوال غير ممتازة‪ .‬وينظر أرسطو إلى العبد على أنه آلة‬
‫َ‬
‫(ديورانت‪ :‬قصة الحضارة‪.)67/7 ،‬‬ ‫بشرية‪".‬‬

‫ومثل ذلك يقال في االمبراطورية الرومانية التي استثنت العبيد والفقراء والنساء من الحقوق‬

‫السياسية‪ ،‬رغم أنها عممت تلك الحقوق بشكل أفضل مما فعله اليونان‪ ،‬فشملت العوام والشعوب‬

‫الخاضعة‪ ،‬بل كل األحرار داخل االمبراطورية الرومانية‪ .‬على أن الرومان لم يعمموا املواطنة بمعنى حق‬

‫املشاركة السياسية‪ ،‬وإنما املواطنة بمعنى حق الحماية‪ ،‬فجعلوا شعوبا كثيرة ضمن رعاياهم‪ ،‬دون أن‬

‫يكون لهذه الشعوب قول في النظام السياس ي الذي يحكمهم من روما‪.‬‬

‫ولدينا في االستعمار الحديث أعظم عبرة‪ :‬حيث صدر اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان من باريس‬

‫في وقت كانت فرنسا فيه تحتل بالدا شاسعة‪ ،‬وتستعبد شعوبا كثيرة في إفريقيا‪ .‬ومثل ذلك يقال عن‬

‫االزدواجية التي تطبع عالقة أميركا بالشعوب اإلسالمية اليوم‪ .‬وقد عبر لي الدكتور روبرت كرين –وهو‬

‫أكاديمي أميركي مسلم‪ -‬عن ذلك تعبيرا بليغا فقال‪" :‬إن الناس في العالم اإلسالمي يظنون أن أميركا ال تؤمن‬

‫بحقوق اإلنسان‪ .‬الحقيقة أن أميركا تؤمن بحقوق اإلنسان‪ ،‬لكن لديها مشكلة في تعريف اإلنسان"‪ .‬وهو‬

‫يقصد أن ليس كل البشرداخلون في مفهوم اإلنسان في العرف األميركي‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫شوائب من هذه االزدواجية واملثنوية في النظرة إلى حقوق البشر‬ ‫وقد شابت الفقه اإلسالمي‬

‫وحرياتهم‪ ،‬فظهر فيه تأثر بهذا املنزع لدى الخاصة في احتكار الحقوق دون العامة‪ ،‬سواء كانت حقوقا‬

‫سياسية أو حقوقا اجتماعية‪ .‬ويتبين عند التمحيص أن هذه الشوائب متسربة من أعراف املجتمع وتحيز‬

‫بعضه ضد بعض‪ ،‬وليست مستمدة من صريح الوحي الذي أنزله هللا تعالى ليقوم الناس بالقسط‪ .‬وتزداد‬

‫هذه االزدواجية في الفقه كلما ابتعدت بوصلته عن النص القرآني في قضية الحرية عموما‪ ،‬سواء كانت‬
‫حرية سياسية تتعلق بحق َّ‬
‫األمة باختيار قادتها ومحاسبتهم وعزلهم‪ ،‬أو الحرية االجتماعية‪ ،‬وأهمها التحرر‬

‫من تملك اإلنسان لرقبة أخيه اإلنسان‪ ،‬وهدرإنسانيته بالتحكم في حياته‪.‬‬

‫واقرأ مثال قول رجل من أبرز رجال علم األصول والفقه الشافعي ‪-‬هو إمام الحرمين الجويني‪ -‬في‬

‫موضوع الحرية السياسة‪" :‬ما نعلمه قطعا أن النسوة ال مدخل لهن في تخير اإلمام وعقد اإلمامة‪...‬‬

‫وكذلك ال ُيناط هذا األمر بالعبيد وإن حازوا قصب السبق في العلوم‪ ،‬وال تعلق له بالعوام الذين ال يعدون‬

‫من العلماء وذوي األحالم‪ ،‬وال مدخل ألهل الذمة في نصب األئمة‪ .‬فخروج هؤالء عن منصب أهل الحل‬
‫ُّ َ‬
‫والعقد ليس به خفاء‪( ".‬الجويني‪ ،‬غياث األمم في التياث الظلم ‪ .)49/1‬فما الذي بقي من األمة للقيام‬

‫بواجب الشورى الذي وردت النصوص به عامة مطلقة؟! ونحى أحد أعالم املالكية وهو القاض ي أبو بكر‬

‫بن العربي منحى أخطر من هذا في ميدان الحقوق السياسية‪ ،‬حينما ذهب إلى أن "واحدا أو اثنين تنعقد‬

‫بهما الخالفة وتتم‪ ،‬ومن بايع بعد ذلك فهو الزم له‪ ،‬وهو مكره على ذلك شرعا" (ابن العربي‪ :‬العواصم من‬

‫القواصم‪ ،‬ص ‪.)148‬‬


‫ليس من ريب أن هذا الفقه الذي ال يعرف ً‬
‫معنى لتعميم الحقوق والحريات قد ابتعد أشواطا عن‬

‫روح القرآن وما تحمله من عدل وحرية ومساواة بين البشر‪ ،‬وأنه أعان –بحسن نية‪ -‬على إهدار دماء‬

‫معصومة واستحالل أموال محرمة‪ .‬وصيانة دماء الناس وأموالهم وأعراضهم من أصول األحكام ال من‬

‫‪24‬‬
‫فروعها‪ ،‬بل هي أصل األصول ومقصد الشرع‪ .‬وما أجدر من يستفزهم انتقاد فهوم الفقهاء في هذا الشأن‬
‫ً‬ ‫َ َّ‬
‫معظم في النفوس شيئا في‬ ‫أن يأخذوا بنصيحة الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي‪" :‬ال ينبغي أن تسمع من‬

‫األصول فتقلده فيه‪ ،‬ولو سمعت عن أحدهم ما ال يوافق األصول الصحيحة‪ ،‬فقل‪ :‬هذا من الراوي؛ ألنه‬
‫َّ‬ ‫قد ثبت عن ذلك اإلمام أنه ال يقول بش يء من أيه‪ .‬فلو َّ‬
‫قدرنا صحته عنه فإنه ال يقلد في األصول ال أبو بكر‬ ‫ر‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وال عمر رض ي هللا عنهما‪ .‬فهذا أصل يجب البناء عليه‪ ،‬فال يهولنك ذكر ُمعظم في النفوس‪( ".‬ابن الجوزي‪:‬‬

‫صيد الخاطر‪ ،‬ص ‪.)134‬‬

‫وهللا الهادي للحق ال شريك له‬


‫والحمد هلل الذي بنعمته تتم الصالحات‬

‫‪25‬‬

You might also like