Professional Documents
Culture Documents
الباب التاسع: باب جامع مختصر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الباب التاسع: باب جامع مختصر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،
من يهده هللا فال مضل له ومن يضلل فال هادي له.
وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى هللا عليه
وعلى آله وسلم.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا هللا حق تقاته وال تموتن إال وأنتم مسلمون".
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما
رجاال كثيرا ونساء واتقوا هللا الذي تساءلون به واألرحام إن هللا كان عليكم رقيبا".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا هللا وقولوا قوال سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم
ومن يطع هللا ورسوله فقد فاز فوزا عظيما".
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب هللا وخير الهدي هدي محمد صلى هللا عليه وعلى آله
وسلم وشر األمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضاللة وكل ضاللة في النار.
هذا الباب الذي نتذاكره اليوم هو مقدمة للكالم عن سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في
أبواب أخر تليه ،ألن الكالم -كما ذكرنا إن شاء هللا تعالى في الحصص الماضية -بأن هذه
الدروس دروس االعتصام بالكتاب والسنة هي دروس تفصيلية ،ليست بالكالم المجمل ،ولذلك
انتقلنا إلى الكالم بعد أن تكلمنا عن كتاب هللا تبارك وتعالى في بابين بشكل مفصل ،وفي
أبواب سابقة بشكل مجمل في الكالم عن الوحي ،فجاء الدور الكالم عن سنة رسول هللا صلى
1
الدرس العاشر دروس االعتصام
هللا عليه وسلم بشكل تفصيلي ،ومن المناسب جدا قبل الكالم عن السنة الكالم عن صاحبها
عليه الصالة والسالم بمعرفة سيرته ،ومعرفة سيرة النبي صلى هللا عليه وسلم هي فرد من
أفراد االقتداء ،كما قال تبارك وتعالى "لقد كان لكم في رسول هللا أسوة حسنة" .فال يمكن
للعبد أن يحصل له اتباع النبي صلى هللا عليه وسلم على الوجه األكمل وهو جاهل بمتبوعه
الذي يتبعه وهو النبي صلى هللا عليه وسلم ،وال شك أن معرفة مفصل سيرته صلى هللا عليه
وسلم لها فوائد كثيرة ،فإنها توقف العبد على عظم هذا النبي الكريم صلى هللا عليه وسلم،
ويتعرف فيها عن صفته الخلقية والخلقية ،عن صفته الخلقية حتى إذا أكرمه هللا برؤيته في
المنام عرفه أنه هو ولم يلبس عليه الشيطان كما يحدث عند كثير من الناس ،يقول لك رأيت
النبي صلى هللا عليه وسلم في المنام ،تقول له :صفه لي ،يقول لك :رأيت رجال وجهه مشرق
لحيته بيضاء ،..تقول له :كذبت ،لعب بك الشيطان ،ما هذا الذي رأيت بالنبي صلى هللا عليه
وسلم ،فإنه صلى هللا عليه وسلم كان أسود اللحية ،والشعرات البيضاء معدودة (قرابة ستة
عشر شعيرة عدها أصحابه عليه الصالة والسالم) .فمعرفته عليه الصالة والسالم ومعرفة
أخالقه ومعرفة أحواله بعد نزول الوحي سواء في الفترة المكية أو الفترة المدنية وما واكبها
من التشريعات والغزوات إلى أن قبضه هللا تعالى وقد أكمل به الدين وأتم بهم الحجة وبين به
المحجة ،فهذا الباب الذي يسر هللا تبارك وتعالى جمعه إذا حفظه طالب العلم سهل عليه بإذن
هللا تبارك وتعالى استحضار المهمات من سيرة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم .ألن السيرة
المؤلفات فيها كثيرة واألحداث فيها كثيرة يصعب حفظها على هذا النحو ،ولكن إذا ضبطت
الطالب األصول المهمة في سيرته صلى هللا عليه وسلم انضبطت عنده سيرته صلى هللا عليه
وسلم.
قبل البداءة في الكالم عن الموضوع الذي نريد أن نتكلم عنه ،أريد أن أشير إشارة مهمة
جدا ،وهو أن تناولنا لسيرة النبي صلى هللا عليه وسلم في مادة االعتصام ليس المقصود منها
هو سرد وحكاية الوقائع ،وإنما المقصود هو استلهام العبر والدروس التي لها تعلق بباب
االعتصام.
2
الدرس العاشر دروس االعتصام
وثانيها التنبيه على الطرق الصحيحة والمنهجية التي كان عليها العلماء في دراسة سيرة
النبي صلى هللا عليه وسلم.
المسألة الثالثة التنبيه على األخطاء التي وقعت في دراسة الناس لسيرة النبي صلى هللا عليه
وسلم ،سواء تعلق الخطأ بإثبات ما لم يثبت ،أو الخطأ المتعلق -وهو األهم -بسوء الفهم
والخطأ في االستدالل .وسيأتي الكالم إن شاء هللا تعالى عن هذه األمور في إبانه.
قبل أن نشرع في ذلك -في بيان الضوابط واألصول المهمة التي ينبغي االعتناء بها في
دراسة سيرة النبي صلى هللا عليه وسلم ،-نسمع إلماحة خفيفة عن وقائع سيرة النبي صلى هللا
عليه وسلم؛
4
الدرس العاشر دروس االعتصام
5
الدرس العاشر دروس االعتصام
6
الدرس العاشر دروس االعتصام
7
الدرس العاشر دروس االعتصام
إسالم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة في أول صفر في السنة
الثامنة للهجرة
غزوة جمادى األولى في السنة الثامنة للهجرة
غزوة ذات السالسل جمادى اآلخرة في السنة الثامنة للهجرة
خروجه صلى هللا عليه وسلم لغزوة الفتح في عاشر رمضان للسنة الثامنة للهجرة
فتح مكة في عشرين من رمضان للسنة الثامنة للهجرة
هدم العزى لخمس بقين من رمضان في السنة الثامنة للهجرة
خروج النبي صلى هللا عليه وسلم في غزوة حنين في خمس أو ست شوال في السنة
الثامنة للهجرة
مسير النبي صلى هللا عليه وسلم لغزو الطائف في شوال في السنة الثامنة للهجرة
عمرة الجعرانة في أواخر ذي القعدة في السنة الثامنة للهجرة
تحريم المتعة في تحريما باتا في السنة الثامنة للهجرة
إسالم أبي العاص بن الربيع في السنة الثامنة للهجرة
سرية عدي إلى طيء لهدم صنمها (الفلس) ربيع األول للسنة الثامنة للهجرة
غزوة تبوك في رجب في السنة التاسعة للهجرة
قدوم ثقيف مسلمين في رمضان في السنة التاسعة للهجرة
قدوم وفد رسول ملوك حمير في رمضان في السنة التاسعة للهجرة
بعث الصديق أميرا على الحج في ذو الحجة في السنة التاسعة للهجرة
توارد الوفود عام الوفود في السنة التاسعة للهجرة
قدوم وفد عبد القيس (الوفادة الثانية) في السنة الثامنة التاسعة للهجرة
كتاب النبي صلى هللا عليه وسلم ألهل نجران في السنة التاسعة للهجرة
قدوم وفد اليمن في السنة التاسعة للهجرة
8
الدرس العاشر دروس االعتصام
سرية خالد إلى بني الحارث بن كعب بنجران ربيع االخر أو جمادى األولى في السنة
العاشرة للهجرة
سرية علي إلى بني مدحش في رمضان في السنة العاشرة للهجرة
قدوم وفد بجيلة في رمضان في السنة العاشرة للهجرة
خروج النبي صلى هللا عليه وسلم من المدينة لحجة الوداع في السبت خمس وعشرين
ذو القعدة للسنة العاشرة للهجرة
دخول النبي صلى هللا عليه وسلم مكة في حجة الوداع األحد أربعة ذو الحجة في السنة
العاشرة للهجرة
قدوم وفد محارب في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة
كتاب مسيلمة الكذاب للنبي صلى هللا عليه وسلم ورد النبي عليه في آخر السنة العاشرة
للهجرة
بعث أسامة لغزو الروم في آخر صفر في السنة الحادية عشرة للهجرة
ابتداء مرض النبي صلى هللا عليه وسلم أواخر صفر أو أول ربيع األول في السنة
الحادية عشرة للهجرة
وفاة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في اإلثنين أول ربيع األول ،أو الثاني أو الثاني
عشر منه في السنة الحادية عشرة للهجرة.
إذن فهذه إطاللة على مسيرة النبي صلى هللا عليه وسلم من جهة األحداث من والدته
صلى هللا عليه وسلم إلى وفاته عليه الصالة والسالم.
نتكلم اآلن عن مقدمات وأصول مهمة في دراسة سيرة النبي عليه الصالة والسالم.
السيرة هي الطريقة والهيأة ،مأخوذة من السير ،والمقصود هو ما سار عليه النبي صلى
هللا عليه وسلم .وقد جاء ذكر السيرة في القرآن بمعنى الطريقة والهيئة كما في قوله تعالى
"سنعيدها سيرتها األولى" .وأما ما يقصد بالسيرة فهو ما أثر عن النبي صلى هللا عليه
وسلم وعن أصحابه وعن التابعين وعن من بعدهم من أهل العلم في وصف حال سير النبي
9
الدرس العاشر دروس االعتصام
صلى هللا عليه وسلم ،وحال طريقته وهيأته من بلوغ صلى هللا عليه وسلم إلى أن توفاه هللا
تبارك وتعالى ،فهذه هي السيرة.
اهتم بها العلماء قديما وحديثا ،ألنه بهديه عليه الصالة والسالم تتبين األمور ،كما قال
جل وعال "لقد كان لكم في رسول هللا أسوة حسنة" يقول ابن القيم رحمه هللا في زاد
المعاد' :وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى هللا عليه وسلم فيجب
على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته ونشأته ما
يخرج به عن الجاهلين به ويدخل في عداد أتباعه وشيعته وحزبه ،والناس في هذا بين
مستقل ومستكثر ومحروم ،والفضل بيد هللا يؤتيه من يشاء وهللا ذو الفضل العظيم' انتهى.
ومعرفة سيرة النبي صلى هللا عليه وسلم تبعث في قلب المؤمن قوة اإليمان وتبعث فيه
أنواعا من الخير والهدى ،وتعينه على االستمساك بالحق ،كما قال تعالى "فاستمسك بالذي
أوحي اليك إنك على صراط مستقيم" "وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون".
واالهتمام بالسيرة النبوية هو من صفات العلماء أتباع السلف الصالح ،ومن سمات طلبة
العلم الجادين ،وكما قلنا بدأ االهتمام بموضوع السيرة -سيرة النبي صلى هللا عليه وسلم-
مبكرا في تاريخ اإلسالم ،فقد ذكر العلماء أن أبان بن عثمان بن عفان هو أول من دون
سيرة النبي صلى هللا عليه وسلم ودون مغازيه ،وكانت وفاة أبان سنة خمس ومئة من
الهجرة .وممن شهر أيضا في رواية السيرة وتتبعها عروة بن الزبير بن العوام ،فقد كان
إماما في المغازي ،وله مغازي ألفها وجمعها باسم 'مغازي عروة' .وممن اهتم أيضا بسيرة
النبي صلى هللا عليه وسلم ابن شهاب الزهري (اإلمام المعروف سيد المحدثين في زمانه)
فقد جمع فيها كتابا في المغازي بما ذكره له عمر بن عبد العزيز ،وممن كتب أيضا في
السيرة من التابعين عاصم بن عروة بن قتادة.
وبهذا الجرد السريع يتبين أن كتابة السيرة كانت متقدمة جدا في تاريخ المسلمين ،مما
يدلك على االهتمام بالسيرة مبكرا ،وقد جمع محمد بن إسحاق المدني كتابا في المغازي
والسيرة بإشارة من أبي جعفر المنصور .وهذا محمد بن إسحاق هو أشهر من كتب في
10
الدرس العاشر دروس االعتصام
السيرة ،ثم جاء ابن هشام اللغوي المعروف وانتقى من هذا الكتاب انتقاء أثنى عليه العلماء،
وهو المعروف بسيرة ابن هشام ،وكتاب ابن إسحاق الذي هو األصل هو في عداد المفقود
ولم يبق منه إال ما جمعه عنه ابن هشام ،وابن هشام روى عن ابن إسحاق هذا الكتاب
بواسطة رجل ،وأكثر مرويات السيرة من مرويات ابن إسحاق ،إذن شخصية ابن إسحاق
مهمة جدا في ناحية تدوين السيرة ،لكن مرتبته (يعني في الحفظ) قال البيهقي في السنن
الكبرى' :الحفاظ يتوقون ما ينفرد به ابن إسحاق' ،وقال الذهبي في تاريخ اإلسالم' :الذي
استقر عليه األمر أن ابن إسحاق صالح الحديث وأنه في المغازي أقوى منه في األحكام'.
وهذه شهادة مهمة من إمام كبيرفي علم الرجال وهو اإلمام الذهبي وهو من أهل االستقراء
التام .وممن اهتم أيضا بالسيرة ابن حزم أيضا في كتابه 'جوامع السير' ،وكذلك ابن سيد
الناس ألف أيضا في السيرة .وممن كتب أيضا فيها الواقدي ،ومن أهل العلم من يأتمنه في
المغازي والسير ،ومنهم من قال 'إن شأنه في المغازي كشأنه في الحديث ال يقبل حديثه'،
فالصحيح أن ما ينفرد به الواقدي ال يؤخذ به .وكذلك ممن كتب ابن سعد في أول كتابه
'الطبقات'.
طريقة أهل الحديث في تدوين السيرة؛ اعتنى أهل الحديث في كتابة السير أو السيرة
من جهتين؛
الجهة األولى :من جهة ما ضمنوه في مصنفاتهم من الصحاح والمسانيد بذكر السيرة
سواء أكانت مبوبة أو لم تكن مبوبة ،فتجد مثال كتاب المغازي في صحيح البخاري وكتاب
السير في صحيح مسلم.
وأما الجهة الثانية فهو ما أفردوه من المصنفات في ذكر السيرة ،وفيها ما يصح وفيها
ما ينكر ،من ذلك دالئل النبوة للبيهقي ودالئل النبوة ألبي نعيم ودالئل النبوة للفريابي.
ومن أهم المالحظات العلمية التي ينبغي الوقوف عندها طويال أن كتب السير ليست
معتنية بالصحيح ،وإنما يذكر فيها ما نقل في السيرة ،ولهذا قال الحافظ العراقي' :وليعلم
11
الدرس العاشر دروس االعتصام
الطالب أن السيرة تجمع ما صح وما قد ينكر' ،فسيرة ابن إسحاق مثال فيها ما هو صحيح
كثير ،وفيها ما هو أيضا منكر'.
وهذا يحيل إلى الطريقة الصحيحة التي يؤخذ بها السيرة ،كيف نأخذ السيرة؟
أول مصدر من مصادر السيرة وأعظم ما يؤخذ منه سيرة النبي صلى هللا عليه وسلم
القرآن ،بمعنى ينبغي تتبع المواضع التي لها تعلق بالسيرة وجاءت في القرآن ،ويعلم ذلك
بمعرفة كالم أهل التفسير في تلك اآليات .فمثال نجد بأن غزوة بدر ذكرت في القرآن ،غزوة
أحد ذكرت أحداثها في القرآن وإن لم تذكر باسمها ،غزوة حنين ذكرت ،غزوة تبوك...
المصدر الثاني األحاديث الصحيحة ،خاصة التي في الصحيحين.
المصدر الثالث كتب السيرة وكتب التواريخ كتاريخ الطبري ،لكن بقيد أن األخذ يكون
مما ال يتعارض مع الكتاب والسنة ،أخذ ما ال يتعارض مع الكتاب والسنة .وانتبهوا هنا لم
نقل أخذ ما يصح ،ألن مسألة السير والتواريخ ال يشترط فيها العلماء وأهل السير الصحة إال
إذا تعلق األمر باستنباط األحكام ،إذا أردنا أن نستنبط حكما من السيرة هنا البد أن يكون
الكالم عن الصحة ،أما مسألة استكمال األحداث التاريخية فيتساهل ويتسامح العلماء في هذا
األمر ،لكن بقيد عدم معارضة ما جاء في هذا الخبر -وإن كان فيه ضعف -عدم معارضته
ما جاء في الكتاب والسنة.
إذن فإذا وجدنا حالة في كتب المغازي والسير ولم يكن مخالفا للكتاب والسنة فال بأس من
األخذ به واعتماده ألنه أرفع درجة باالتفاق من أحاديث بني إسرائيل ،وقد قال النبي صلى
هللا عليه وسلم' :حدثوا عن بني إسرائيل وال حرج' ،ومن ذلك أيضا كتاب ابن كثير 'البداية
والنهاية'.
يقول الشيخ صالح المنجد' :البد أن نفرق في حديثنا عن األحاديث الضعيفة في جناب
السيرة النبوية المطهرة بين مقامات ثالثة؛
المقام األول أن علماء الحديث ال يختلفون في أن أبواب السير والمغازي من األبواب
التي يجوز رواية األحاديث الضعيفة فيها وحكايتها ونقلها في الكتب والمجالس وحلق العلم
12
الدرس العاشر دروس االعتصام
والدرس ،لكن ال على سبيل الجزم بنسبتها إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ،وإنما على سبيل
الحكاية والنقل والرواية' .يقول عباس الدوري' :سمعت أحمد بن حنبل وسئل وهو على
باب أبي النضر هاشم بن القاسم فقيل له يا أبا عبد هللا ما تقول في موسى بن عبيدة الربذي
وفي محمد بن إسحاق (ابن إسحاق يعني صاحب السيرة) فقال' :أما محمد بن إسحاق فهو
رجل تكتب عنه هذه األحاديث كأنه يعني المغازي ونحوها ،وأما موسى بن عبيدة فلم يكن
به بأس ،ولكنه حدث بأحاديث مناكير عن عبد هللا بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى
هللا عليه وسلم ،قال فأما إذا جاء الحالل والحرام أردنا قوما هكذا( ..وقبض أبو الفضل
على أصابع يديه من يديه كليهما ولم يضم اإلبهام) وأرانا أبو الفضل يديه وأرانا أبو
العباس'.
إذن طريقة أهل الحديث في التعامل مع المرويات التي في الحالل والحرام التي تبنى
عليها األحكام إذا جاء الحالل والحرام أردنا قوما هكذا ،يعني يشددون ،أما إذا كان األمر
في غير ذلك فاألمر أهون .ويقول عبد الرحمن بن مهدي وهو أيضا من أئمة الحديث
يقول' :إذا روينا عن النبي صلى هللا عليه وسلم في الحالل والحرام واألحكام شددنا في
األسانيد وانتقينا الرجال ،وإذا روينا في فضائل األعمال والثواب والعقاب والمباحات
والدعوات تساهلنا في األسانيد' ذكره الحاكم في المستدرك عن الصحيحين .وقد عقد
الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية بابا بعنوان 'باب التشدد في أحاديث األحكام
والتجوز في فضائل األعمال' ،قال' :قد ورد عن غير واحد من السلف أنه ال يجوز حمل
األحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إال عمن كان بريئا من التهمة بعيدا من الظنة ،وأما
حديث التنقيد والمواعظ وغير ذلك فإنه يجوز كتبها عن سائر المشايخ' ،وأورد فيه أسانيد
عن سفيان الثوري قال' :ال تأخذوا هذا العلم في الحالل والحرام إال من الرؤساء
المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان ،وال بأس بما سوى ذلك من المشايخ'.
وعن ابن عيينة قال' :ال تسمعوا من بقية (يعني بقية بن الوليد) ما كان في سنة،
واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره' ،وذكر أيضا قول اإلمام أحمد الذي مر معنا.
13
الدرس العاشر دروس االعتصام
فمن هنا امتألت كتب العلماء والمحدثين في القديم والحديث بمثل هذه الروايات التي ال
يجدون فيها شذوذا أو نكارة تستوجب الرد والحذر ،ولكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا
يوردونها على سبيل جزم النسبة إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ،وإنما لفضائل العمل أو
استفسار األخبار أو كل ما ال يترتب عليه تشريع أو اعتقاد .إذن هذه نقطة واضحة ،هذه
المسألة فيها توسط وإفراط وتفريط ،كسائر األمور ،فمن الناس من يعامل مرويات السيرة
كاألحاديث وهذا تشدد مخالف لطريقة المحدثين ،ومن الناس من ال يعبأ ،يخلط الصحيح
والضعيف ،ال ضوابط عنده ،سواء تجده يستنبط يعني حكما تعبديا أو حكما منهجيا ويبني
عليه وهو في أصله مبني على قصة ضعيفة أو لم تثبت أو لم يصح إسنادها ،فهذا أيضا فيه
مخالفة ،والوسط هو ما كان عليه أئمة الحديث كاإلمام أحمد والسفيانين وعبد الرحمن بن
مهدي ممن سمعتم كالمهم رحمهم هللا .
المقام الثاني يعني أن من سبق من التساهل في أسانيد السير والمغازي ال يعني إطالقا
أننا ننسب للرسول صلى هللا عليه وسلم على وجه الجزم كالما لم يثبت باألسانيد الصحيحة
أو الحسنة سواء في األحكام أو العقائد أو الفضائل أو السير والمغازي أو غيرها من أبواب
العلم والدين ،فالتساهل في مغازي والسير هو تساهل فيه على مستوى النقل والبحث
العلمي فحسب ،وليس على مستوى جزم النسبة إلى النبي صلى هللا عليه وسلم.
المقام الثالث؛ أما ما ورد عن طريق الكذابين والوضاعين وسراق الحديث ،وما اشتمل
على نكارة أو شذوذ ال يصدر مثله عن النبي صلى هللا عليه وسلم فمثله ال يروى إال على
سبيل التحذير منه ،وال يحكى إال على وجه التنبيه على غلطه ،كي ال يتخذ حجة للطعن
على الدين ،وال يكون سببا في إفساد تصورات الناس اإلجمالية عن أبواب الفضائل والسير
والمغازي ،فما كان في كتب الباحثين والمؤلفين من مقاصد تسعى إللغاء الروايات
الضعيفة من كتب السيرة بالكلية ومنع التحديث بها وترك كتابتها وعدم استئناس الناس
منها ،فهذه مقاصد غير محررة وهي محل نظر وال تتسق مع مناهج المحدثين األوائل
الذين نقلوا لنا هذه الروايات في كتبهم واستأنسوا بها وساقوها في حديثهم مساق اإلحاطة
14
الدرس العاشر دروس االعتصام
والعناية .وهكذا فالعلم باب واسع ال يجوز ألحد حصره فيما يراه برأيه صحيحا ،ويسوي
بين الضعيف والمكذوب ،فيتعامل معهما بوزان واحد وال يفرق بين درجة الثبوت ودركة
عدم الثبوت ،إذن فنفرق بين المرويات الضعيفة والمرويات المكذوبة ،فالمرويات المكذوبة
هذه ال تذكر إال على سبيل التنبيه إلى أنها كذب .يقول الدكتور أكرم ضياء العمري -وهذا
له كتاب جيد في السيرة -يقول' :ينبغي مالحظة منهج المحدثين عند التعامل مع الروايات
التاريخية ،فهم يتساهلون في رواية األخبار التاريخية كما نالحظ عند ثقات المؤرخين مثل
محمد بن إسحاق وخليفة بن خياط والطبري ،حيث يكثرون من األخبار المرسلة
والمنقطعة ،كما أن الطبري يكثر النقل عن رواة في غاية الضعف مثل هشام بن الكلبي
وسيف بن عمر التميمي ونصر بن مزاحم وغيرهم ،وال شك أن عدم تمحيص المؤرخين
لألخبار كما فعلوا في الحديث واكتفاءهم بإلقاء العهدة على الرواة المذكورين في أسانيد
الروايات ألقى عبئا كبيرا على المؤرخ المعاصر المسلم ،ألنه يحتاج إلى بذل جهد ضخم
للوصول إلى الروايات الصحيحة ،بعد فهم وتطبيق منهج المحدثين ،وهو أمر لم يعد سهال
ميسورا كما كان بالنسبة لخليفة بن خياط أو الطبري بسبب تضلعه في مناهج المحدثين
وطريقة سبرهم للروايات وتمييزها ،قال..' :وعلى أية حال فنحن ال نبخس قدامى
المؤرخين حقهم وفضلهم ،فقد جمعوا لنا المادة األولية باألسانيد التي تمكننا من الحكم
عليها ،ولو بعد جهد وعمل ،'...وهذه مسألة مهمة جدا ،فكثير من الناس من مجرد أن يرى
مثال الطبري ذكر مثال قصة سواء في سيرة النبي صلى هللا عليه وسلم أو سيرة الصحابة
أو الخلفاء ،بمجرد أنه ذكرها في كتابه يعتقد أنها صحيحة ،وهذا خطأ ،فالطبري قد ساق
لك القصة كاملة وبرئت عهدته ،فانظر أنت في اإلسناد ،قال..' :واآلن ماذا بعد سبر
الروايات وتمييز صحيحها من سقيمها ،قال :المطلوب اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها
ثم الحسنة ثم ما يعتضد به من الضعيف لبناء الصورة التاريخية ألحداث المجتمع
اإلسالمي في عصر صدر اإلسالم' ،ألن السيرة عموما سيرة النبي صلى هللا عليه وسلم
أو غيره نحن نتكلم على األقل فترة النبوة التي هي مهمة لنا ألنها محل االقتداء هي ثالث
15
الدرس العاشر دروس االعتصام
وعشرون سنة ،كم فيها من شهور وكم فيها من أيام ،لك أن تتصور كم وقع ،أي قد سمعتم
سرد األحداث المهمة وهي كثيرة جدا ،ناهيك عما يحصل في كل غزوة ،في كل سفر من
أقواله صلى هللا عليه وسلم و أفعاله أو أفعال غيره مما يشهد ذلك المشهد ،فحتى تستكمل
صورة الحدث البد أن ترتضي (وهذه هي السر لماذا المحدثون كانوا يقبلون هذه الروايات
الضعيفة) حتى تستكمل صورة الحدث بالقيود التي ذكرنا.
أيضا من القواعد المهمة واألصول المهمة في فهم ودراسة السيرة النبي صلى هللا عليه
وسلم؛ عدم التالزم بين الصحة والشهرة .قال الشيخ األلباني رحمه هللا في الضعيفة' :ال
تالزم بين الصحة والشهرة' ،هي قاعدة عموما في األحاديث والمرويات ،ويكتسي هذا
األمر أهمية في السيرة ،فكون القصة مشهورة ليس دليال على صحتها إال في بعض
األمور القليلة ،وفي هذه يرجع إلى كالم العلماء ،وهي التي يقول فيها العلماء يعني 'أغنت
شهرتها عن دراسة إسنادها'.
أيضا من القواعد المهمة في دراسة السيرة الصحيحة ما ذكره أكرم العمري قال' :ال
يعني ذلك نفي وقوع األمر تاريخيا (عندما يأتي المحدث ويضعف الرواية بناء على قواعد
الحديث فهذا ال يعني ذلك نفي وقوع األمر تاريخيا) ،بل عدم ثبوته فقط( ،وهذا أمر دقيق
بين المسألتين) ال يعني ذلك نفي وقوع األمر تاريخيا بل عدم ثبوته فقط' ،عندما يقول
المحدث في رواية ما مثال في قصة ما يعني هذا الخبر ال يصح أو أنه ضعيف ،فمثال قصة
سفر النبي صلى هللا عليه وسلم إلى الشام وهو صغير مع عمه أبي طالب ورآه بحيرى
الراهب ،فقصة بحيرى الراهب منهم من يثبتها ومنهم من ال يثبتها ،وعلى قول من يثبتها
يعني كالشيخ األلباني رحمه هللا يثبتها لكن يشير إلى بعض األحداث التي فيها نكارة ،مثال
يقول بأن ذكر أبي بكر وبالل في القصة منكر .إذن المقصود هو عندما يحكم المحدث
بضعف رواية ما هذا ليس معناه أنها لم تقع ،وإنما إخبار عن عدم الثبوت ،هو يخبر بناء
على دراسته أن هذا لم يقع بناء على هذا الحديث أو لم تثبت هذه الرواية على طريقة
16
الدرس العاشر دروس االعتصام
المحدثين ،أما وقوع األمر ووقوع هذا الحدث في نفس األمر فهذا شيء آخر .فالمسألة هنا
دقيقة جدا تحتاج إلى تأمل.
المدارس في السيرة النبوية؛ يعني ما كتب في السيرة يمكن تقسيمه (كما ذكر الشيخ
صالح آل الشيخ) إلى خمسة مدارس؛ هناك المدرسة اللغوية ،والمدرسة القومية ،ومدرسة
الفقهاء والمحدثين والعلماء ،والمدرسة الرابعة المدرسة الدعوية المعاصرة ،والخامسة
مدرسة الروايات والقصة.
يعني إذا أردت أن تستقرئ ما كتب في السيرة من أول ما كتب إلى زماننا فهو ال
يخرج عن هذه المدارس الخمسة.
المدرسة اللغوية :هذه المدرسة اهتم فيها أصحابها بأن يتناولوا السيرة باالهتمام بما فيها
من لغة صحيحة ،فإن من نقل السيرة عن ابن إسحاق نقلوها بلغة صحيحة عن التابعين،
ونقلوا فيها أشعارا وخطبا للعرب والصحابة ،ولذلك تجد ابن هشام وهو اللغوي المعروف
قد اهتم بسيرة ابن إسحاق ،وأتى السهيلي بعد ذلك وألف شرحا لسيرة ابن هشام سماه
'الروض األنف' وقد شرح فيه غريب السيرة.
المدرسة الثانية المدرسة القومية :وأصحاب هذه المدرسة إنما كتبوا في السيرة تعصبا
للعرب والعربية ،وكانوا يرون أن شأو العرب قد ارتفع بعد مجيء النبي صلى هللا عليه
وسلم فالبد من ذكر سيرته ،وأصحاب هذه المدرسة إنما كتبوا فيها تقليدا للفرس واليونان
الذين كانوا يكتبون كتبا في سير عظمائهم ،ويمثل لهذه المدرسة بما كتبه طه حسين في
كتابه 'على هامش السيرة' ،فهؤالء الناس ليس غرضهم تعظيم رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم أو االقتداء به ،بل تعصبا للجنس العربي ،كما أن األمم األخرى كانوا يكتبون عن
عظمائهم فهؤالء أيضا كتبوا بهذا االعتبار.
المدرسة الثالثة مدرسة الفقهاء والعلماء والمحدثين :هذه هي التي ينبغي االعتناء بها ،و
أصحاب هذه المدرسة إنما تناولوا السيرة لتوضيح مسائل فقهية ومسائل عقدية ،وممن اهتم
17
الدرس العاشر دروس االعتصام
بكتاب السيرة على هذا النهج ابن القيم رحمه هللا في كتابه 'زاد المعاد' ،ولهذا ينصح
العلماء بدراسة هذا الكتاب 'زاد المعاد' البن القيم رحمه هللا.
المدرسة الرابعة المدرسة الدعوية المعاصرة :وأصحاب هذه المدرسة عنوا بالسيرة من
جهة مسائل دعوية يؤصلونها في نفوس أتباعهم على اختالف مشاربهم ،ولكنهم لم ينظروا
إلى ما صح في السيرة وما لم يصح فيها ،وهذه الكتب التي ألفت في السيرة في هذه
المدرسة تشكل خطرا كبيرا من الناحية المنهجية ،فإن فيها بعض االستنباطات وبعضهم
يستدل على االغتياالت في السيرة ،وبعضهم يستدل على هجرة المجتمع اإلسالمي والحكم
بتكفيره بناء على السيرة ،ألن فيها بعض المجازفات واألمور الخطيرة ،وبعضهم يستدل
على المظاهرات في المساجد بناء على بعض األحداث في السيرة (فهم منكوس) فهذه وهللا
أعلم من أخطر المدارس في السيرة.
المدرسة األخيرة الخامسة مدرسة الروايات والقصة :وهؤالء كتبوا في السيرة على أنها
رواية وقصة عوضا عن الروايات الهابطة المنتشرة في هذا العصر ،يعني ربما يكون -
إن شاء هللا -مقصدهم مقصود حسن من جهة تقديم بديل للناشئة ،من جهة أن يرتبط الناس
بنبيهم صلى هللا عليه وسلم ،وأن يرتبطوا بالصحابة ،خير من أن يرتبطوا يعني بشخصيات
ربما تكون وهمية ال حقيقة لها في الواقع.
إذا فنقف هنا إن شاء هللا ،سبحانك اللهم وبحمدك ،أشهد أن ال إله إال أنت ،أستغفرك
وأتوب إليك.
ألقاه الشيخ أحمد المغير يوم األحد 28رجب 1444هـ 19 /فبراير 2023م
18