Professional Documents
Culture Documents
نشأ البناء األوربي في سياق الحرب الباردة ،ثم تسارعت وتيرته خالل سنوات ،1990مما أسفر عن خلق منظمة
فريدة من نوعها ،وعن سوق وحيد ومتضامن بين الدول األعضاء .وأمام عملية العولمة ،فرض االتحاد األوربي نفسه
على الصعيد العالمي كفاعل رئيسي ،رغم بعض النواقص ،على الساحة الدولية .ومن جهة أخرى ،يعمل االتحاد على
إرساء سياسات ترمي إلى الحد من اختالالت التنمية مع السعي في الوقت ذاته ،إلى الرفع من تنافسية البلدان األوربية
لمواجهة المنافسة العالمية.
-اإلشكالية :كيف يندمج االتحاد األوربي في العولمة؟ وما هي السياسات المتبعة لدعم األقاليم والجهات في وجه تلك
العولمة؟
-أكثر المنظمات الجهوية اندماجا في العالم :االتحاد األوربي منظمة اقتصادية وسياسية من 27دولة عضو ،تم
إحداثها سنة 1992بمقتضى معاهدة ماستريخت .وهو مجال يؤمن حرية التنقل للسلع واألشخاص والرساميل ،في
إطار مؤسسات مشتركة فوق-وطنية (بسلطة أعلى من سلطة الدول) .وداخل مجال شينغن ،تنمحي الحدود ،لتترك
المجال مفتوحا أمام تعاون عابر لتلك الحدود .أما الحدود الخارجية ،فتتم إدارتها بشكل مشترك من طرف الدول
األعضاء التي تراقب نقط العبور عبر فرونتيكس Frontex (L’agence européenne de garde-frontières
et de garde-côtesالوكالة األوربية لحراسة الحدود والسواحل) .وأخيرا ،فإن االتحاد عبارة عن مجال نقدي
وحيد بعملة موحدة ما بين 19من الدول األعضاء.
-قوة اقتصادية في تراجع :االتحاد األوربي عمالق اقتصادي .فهو يضم حوالي 450مليون من السكان ،في مجال
يتوفر إذا ما أخذنا بعين االعتبار جميع الدول األعضاء ،على ثاني ناتج داخلي خام في العالم ،بعد الواليات المتحدة
( %22من الناتج الداخلي العالمي سنة .)2018كما يضم 160مقاولة من المقاوالت الخمسمائة األولى في العالم سنة
.2019ويعد أول مرسل ومستقبل لالستثمارات المباشرة الخارجية ،وأول مصدر للخدمات والبضائع في العالم
(%30من صادرات البضائع) ،مع ثاني عملة في العالم هي األورو .غير أن مكانة االتحاد داخل االقتصاد العالمي في
تراجع مستمر ،حيث يحقق منذ 15سنة أضعف نمو ،بالمقارنة مع األقطاب العالمية ( %2مقابل %3في الواليات
المتحدة و%6.5بالنسبة للصين) .كما أضعف البريكسيت جاذبية االتحاد وقوته بفقدانه لسوق مالي عالمي كبير هو
بورصة لندن.
ب -مظاهر نقص االتحاد كقطب عالمي
-يشكل االتحاد األوربي أول قوة تجارية في العالم :سمح إرساء السوق المشتركة بتعزيز الروابط بين الدول
األعضاء ،حيث تمثل المبادالت الداخلية (بين الدول األعضاء) %70من مبادالت تلك الدول .ويفسر ارتفاع القدرة
الشرائية للسكان ،وكثافة شبكة المواصالت وفعاليتها ،ووفرة اليد العاملة المؤهلة ،ما يحظى به االتحاد من جاذبية لدى
المقاوالت العالمية األجنبية .وفي إطار االتفاقات التجارية ،فإن االتحاد هو الممثل الوحيد لمجموع دوله داخل المنظمة
العالمية للتجارة ،OMCمما يسمح له بالتوفر على ثقل كبير ،وإبرام االتفاقات البين-جهوية كما هو الحال مع كندا
والميركوسور أو مع الصين مؤخرا.
-مظاهر نقص قوة االتحاد :ارتكازا على القيم اإلنسانية ،قيم الديمقراطية وحقوق اإلنسان ،ترك البناء األوربي جانبا،
البعد الجيوسياسي للقوة التقليدية القائم على القوة العسكرية ،hard powerلفائدة القوة الناعمة soft powerالقائمة
على القيم التالية :النهوض بالديمقراطية ومساعدة البلدان في طور النمو ،وإرساء التنمية المستدامة ومكافحة التغير
المناخي .أما الشق السياسي لمعاهدة ماستريخت ،والذي ينص على وضع سياسة خارجية وأمنية مشتركة ،فلم يكتمل
بعد .وإذا كان االتحاد األوربي حاضرا في جميع المنظمات الدولية ،فإنه ال وزن له في الميدان الديبلوماسي ،وال تزال
فكرة دفاع أوربي مشترك ،سبب انقسام عميق بين الدول األعضاء .وامام تصاعد التوترات بين الواليات المتحدة
والصين وروسيا ،وتنامي الصراعات في سوريا مثال أو أوكرانيا أو أفغانستان ،يبقى صوت االتحاد ضعيفا بالمقارنة
مع بعض الدول الرئيسية داخله مثل ألمانيا وفرنسا.
-تجاوز االنقسامات الداخلية :يتسم االتحاد األوربي كمنظمة بتغير درجة االندماج داخله .فال تنتمي جميع الدول
األعضاء لمجال شينغن ،وال تزال 8دول منه خارج األورو .ومما يفسر هذه الوضعية ،أن جميع الدول ال تتوفر على
تصور واحد تجاه البناء األوربي .فقد عززت األزمات المتتالية أسباب الخالف ،ودفعت إلى االنغالق الوطني repli
.nationalكما أن األزمة الهجرية لسنة 2015المرتبطة بالحرب األهلية في سوريا ،قد أسفرت عن إعادة النظر في
مبدإ التضامن بين الدول األعضاء ،حيث شكلت بعض بلدان أوربا الوسطى والشرقية مجموعة فيزيغراد Višegrad
المعارضة الستقبال المهاجرين في أراضيها ،والمدافعة عن السيادة الوطنية ،بينما تريد الدول المتوسطية تغيير قواعد
استقبال المهاجرين من أجل توزيع أفضل للسكان.
-تعميق االندماج األوربي :أمام تصاعد التشكيك في نجاعة الوحدة األوربية euroscepticismeالذي تجسد في
البريكسيت سنة ،2016يسعى الثنائي الفرنسي-األلماني إلى تعزيز االندماج األوربي والتالحم بين الدول األعضاء.
وهكذا تم في إطار أزمة كورونا ،خلق دين detteمشترك بين مجموع الدول األعضاء ،بل وإرساء تدبير مشترك
على المستوى األوربي للقاحات ،مما يبرز الرغبة في تعميق التعاون األوربي .غير أن هنالك دوال أخرى ،تقودها
مجموعة ،Višegradترغب على العكس من ذلك في حصر التعاون األوربي على القضايا االقتصادية .وإذا كان
المواطنون األوربيون متمسكين بالمسألة األوربية ،فإنهم غالبا ما ينتقدون المؤسسات األوربية ،لبعدها عن الواقع
اليومي ،ولنظرتها الليبرالية المفرطة في الميدان االقتصادي .ويبقى تصاعد التيارات التشكيكية في مجموع البلدان
األوربية ،العائق الرئيسي لتعميق االندماج فيما بينها.
أ -يتميز المجال األوربي بتفاوتات عديدة تقسمه إلى مجال مركزي وآخر هامشي.
-مجال مطبوع بمركزية مفرطة :ينتظم المجال األوربي حول محور اقتصادي وتقريري ،يتألف من الميغالوبول
األوربية والحواضر métropolesذات المستوى العالمي .في هذا المجال المتعدد-المراكز polycentrique
المترابط بشبكة كثيفة جدا من محاور االتصال الكاملة ،نجد الواجهة البحرية األوربية الرئيسية ،Northern Range
المنتظمة حول ميناء روتردام الذي يزود مجموع الشمال الغربي األوربي .ويعتبر الشمال الغربي أهم مجال في
االتحاد األوربي ،ببلدان ذات اقتصاد قوي ومتنوع .ويتميز فوق ذلك ،بتوسع حضري قوي ،métropolisation
وتركز للوظائف القيادية األوربية (مقر المؤسسات األوربية والعواصم االقتصادية).
-مجاالت هامشية متأخرة عن المركز :تعاني بلدان جنوب االتحاد األوربي من صعوبات اقتصادية زادتها تفاقما
األزمة المالية والنقدية لسنوات .2010فالبطالة فيها مرتفعة والنمو االقتصادي ضعيف .غيرأن أقل المجاالت نموا،
هي بلدان أوربا الشرقية والوسطى التي التحقت ،بعد تحررها من الشيوعية ،باالتحاد ما بين 2004و 2007بمستوى
تنمية متفاوت .وإذا كانت بعض الدول مثل بولونيا وجمهورية التشيك تستفيد من اندماجها األوربي وتعرف نموا قويا
نسبيا ،فإن بلدانا أخرى ال تزال متأخرة من حيث تنميتها .وبوجه عام ،تعاني المناطق النائية من بعدها عن المركز.
-تعميق التالحم بين األقاليم :وضع االتحاد األوربي سياسة ترابط بين أقاليمه وجهاته صنفها إلى ثالث مجموعات
حسب مستوى ثروتها .وهكذا تتلقى أكثر الجهات فقرا (أقل من %75من الناتج الداخلي الخام لالتحاد) ،أكبر قدر من
المساعدات .وكذلك تحصل الجهات التي يمر اقتصادها من مرحلة انتقالية (أزمة) ،على مساعدات بنيوية ال يستهان
بها .وعموما ،نجد في أوربا ثالثة أنواع كبرى من المساعدات األوربية:
● الصندوق األوربي للتنمية الجهوية ( )FEDERالذي يرمي إلى تنمية البنيات التحتية الضرورية للتنمية .وذلك
من أجل تعزيز التماسك االقتصادي.
● الصندوق االجتماعي األوربي ( )FSEلمساعدة تنفيذ المشاريع والخدمات االجتماعية (تماسك اجتماعي).
● صندوق التماسك الذي يرمي إلى تنمية المشاريع العابرة للحدود transfrontaliersوالمشاريع البيئية في
أكثر البلدان تأخرا (تماسك ترابي).
وفي المجموع ،سيستثمر االتحاد األوربي ما بين 2021و ،2027ما قدره 300مليار أورو في هذا الميدان
(.)politique de cohésion
-االنعكاسات الترابية للسياسة الفالحية المشتركة :PACتم إرساء السياسة الفالحية المشتركة سنة 1962لتحديث
الفالحة في أوربا وتأمين تنافسيتها العالمية .وإذا كانت هذه السياسة قد أدت إلى ارتفاع مداخيل الفالحين ،فإنها أدت
كذلك إلى تنمية الفالحة التجارية وتركز االستغالليات الفالحية .وأمام االنتقادات الموجهة إليها ،اتجهت السياسة
الفالحية المشتركة نحو فالحة أكثر احتراما للبيئة ولألمن الغذائي .وهكذا تتيح السياسة الفالحية المشتركة ،عبر
الصندوق األوربي الفالحي للتنمية القروية بوجه خاص ،تنمية مشاريع اقتصادية واجتماعية في األقاليم القروية،
مغذية بذلك مجاالت على هامش العولمة .غير أن هذه السياسة ال تزال تجد صعوبة في ضمان استمرار صغار
الفالحين ،وتشجع على العكس من ذلك ،تركز وإحداث االستغالليات الفالحية الكبرى.
-تقوية جاذبية األقاليم والجهات األوربية :في إطار الميزانية األوربية لسنوات ،2027-2021وضع االتحاد
األوربي أهدافا كبرى على مستوى جاذبية األقاليم منها:
● رفع مستوى الذكاء األوربي باالستثمار في البحث والتنمية .وهكذا يشجع االتحاد تنمية مركبات Clusters
مثل السيليكون-ساكسوني Silcon-Saxonyالذي يعد أول مركب للميكرو-إلكترونيك في أوربا .وقد لقيت
المشاريع المشتركة في هذا الميدان نجاحا ال يستهان به ،وال سيما إيرباص والوكالة الفضائية األوربية.
● رفع المستوى البيئي للتوصل في نهاية المطاف إلى القضاء نهائيا على انبعاث الكربون .وذلك ما يندرج في
إطار الميثاق األخضر الذي أنشأته اللجنة األوربية التي ترمي إلى جعل االتحاد رائدا عالميا في ميدان
االنتقال اإليكولوجي.
● جعل أوربا أكثر ارتباطا على مستوى النقل واالتصال الرقمي .فقد تم وضع سياسة أوربية لتنمية وسائل
النقل ،وإحداث ممرات طرقية أوربية من أجل تقوية جاذبية اإلقليم األوربي .ويتعلق األمر كذلك برد فعل
على مشروع طرق الحرير الصينية الجديدة.
-المجاالت األوربية العابرة للحدود (أو ذات الحدود المنفتحة) :بفضل حرية تنقل األشخاص والبضائع ،تعددت
عمليات تنمية المجاالت الحدودية المنفتحة التي تستفيد من دعم االتحاد عبر برامج متعددة مثل التجمع األوربي
للتعاون الترابي ،GEFTوتنمو بحسب امتيازات كل مجال حدودي (على مستوى اليد العاملة أو األجور أو سعر
العقار وغير ذلك .)...
-نتائج ترابية متفاوتة :تشكل سياسة التماسك األوربي أحد االستثمارات العمومية الرئيسية داخل الدول األعضاء.
وقد أسفرت هذه السياسة عن انعكاسات إيجابية في بلدان أوربا الوسطى والشرقية التي اندمجت في االتحاد ابتداء من
،2004وفي بلدان أوربا الجنوبية على حد سواء .وهكذا استفادت من تلك السياسة عدة دول ،منها على سبيل المثال
كل من بولونيا وإيرلندا والبرتغال .وعلى الرغم من كل ذلك ،ال تزال التباينات الترابية عميقة في أوربا ،حيث تتركز
االستثمارات دائما في المجاالت الغنية والدينامية بالدرجة األولى.
خاتمة:
االتحاد األوربي إذن مجال فريد من نوعه في العالم ،تمكن بفضل بنائه المتميز من فرض نفسه كأحد المحركات
الرئيسية لالقتصاد العالمي في منافسة مباشرة مع الواليات المتحدة والصين .لكنه يبقى في المقابل قوة ضعيفة على
الصعيد الجيوسياسي .ونتيجة للتوسيعات العديدة ولألزمات االقتصادية والمالية ،يعرف التراب األوربي اختالالت
ترابية متزايدة .ولهذا يرمي االتحاد إلى وضع سياسات مشتركة للتخفيف من ذلك .وقد ساعدت هذه السياسات على
النهوض ببعض المناطق ،لكن االختالالت الترابية ال تزال قوية مع ذلك.