You are on page 1of 151

‫مادة الحديػ ػػث‬ ‫كلية العلوـ الشرعية واإلسالمية‬

‫شرح الشيخ‪ /‬مصطفى القليوبي‬


‫"عم ػ ػػدة األحكػ ػػاـ"‬ ‫مادة الحديػ ػػث ‪ -‬الفرقة األولى‬

‫المحاضػ ػػرة األولى‬


‫إف الحمد هلل تعالى نحمده‪ ،‬ونستعين بو ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده اهلل تعالى فال مضل لو‪ ،‬ومن‬
‫ٍ‬
‫محمد وعلى آؿ محمد‪ ،‬كما‬ ‫يضلل فال ىادي لو‪ ،‬وأشهد أف ال إلو إال اهلل وحده ال شريك لو‪ ،‬وأشهد أف محمدا عبده ورسولو‪ ،‬اللهم صل على‬
‫صليت على إبراىيم وعلى آؿ إبراىيم إنك حميد مجيد‪ ،‬وبارؾ اللهم على محمد وعلى آؿ محمد‪ ،‬كما باركت على إبراىيم وعلى آؿ إبراىيم‬
‫إنك حمي ٌد مجيد‪ .‬ثم أما بعد؛ أحمد اهلل تبارؾ وتعالى أف وفق لهذا اللقاء‪ ،‬وأسألو جل وعال أف يجعلو خالصا لوجهو الكريم‪ ،‬وأف يعيننا على ما‬
‫نحن فيو‪ ،‬وأف ينفعنا بو‪.‬‬
‫ومن باب من لم يشكر الناس لم يشكر اهلل عز وجل‪ ،‬فأتوجو بالشكر لكل من ساعد أو ساىم أو كاف سببا في ىذا العمل المبارؾ‪.‬‬
‫أسأؿ اهلل عز وجل أف يجزيهم خير الجزاء‪ ،‬وأف يجعل ىذا في موازين حسناتنا جميعا‪ ،‬إنو ولي ذلك والقادر عليو‪.‬‬
‫كتاب من كتب أحاديث األحكاـ‪ ،‬والعلماء عليهم رحمة اهلل تعالى لما صنفوا في كتب الحديث‪ ،‬صنفوىا‬ ‫موضوعنا في ىذا اللقاء ىو شرح ٍ‬
‫وبطرؽ مختلفة‪ ،‬ىذه الطرؽ اختلفت بحسب المقصود من ىذا التأليف والغرض منو‪ ،‬وكذلك بحسب الفترة الزمنية التي ألفت فيها‬ ‫ٍ‬ ‫بأنواع شتى‪،‬‬
‫ىذه الكتب‪ ،‬والتأليف أو التصنيف بدأ قديما‪ ،‬من بعد عهد النبوة‪.‬‬
‫كتب أخرى ألفت في زمن اإلماـ مالك أيضا‪ ،‬صنفت في‬
‫فأوؿ من صنف في الحديث النبوي ىو اإلماـ (مالك)‪ ،‬فصنف كتابو الموطأ‪ ،‬وىناؾ ٌ‬
‫الحديث‪ ،‬إال أنها لم تصل إلينا‪ ،‬كانوا في ىذه الفترة يجمعوف الحديث‪ ،‬ويدونونو‪ ،‬ويذكرونو بإسناده‪.‬‬
‫مثل أف يقوؿ المحدث‪ :‬حدثنا فالف‪ ،‬عن فالف‪ ،‬عن فالف؛ إلى أف يصل باإلسناد إلى النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وكاف ىذا الزمن يسمونو زمن‬
‫الرواية‪ ،‬واستمر األمر على ىذا‪ ،‬إلى أف جاء اإلماـ البخاري عليو رحمة اهلل بعد اإلماـ مالك‪ ،‬فصنف كتابو الصحيح‪.‬‬
‫ثم جاء اإلمػاـ مسػلم وصػنف الجػام الصػحيح أيضػا‪ ،‬ثػم جػاء بعػدىم أصػحاب السػنن األربعػة‪ ،‬اإلمػاـ أبػو داود السجسػتاني‪ ،‬واإلمػاـ الترمػذي‪،‬‬
‫والنسائي‪ ،‬وابن ماجو‪ ،‬وغيرىم من أصحاب الكتب الحديثية المعروفة‪.‬‬
‫مؤلفات‬
‫ٌ‬ ‫كلهم كاف يذكر حديث رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) بإسناده‪ ،‬واستمر األمر على ىذا‪ ،‬والتصنيف على ىذا في الحديث‪ ،‬فصنفت‬
‫زمن متأخر‪ ،‬وابتعد النػاس عػن‬
‫كثير منها‪ ،‬واستمر األمر إلى أف تأخرت القروف‪ ،‬وجاء ٌ‬
‫كثيرة في حديث رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪ ،‬وصلنا ٌ‬
‫زمن النبوة وزمن الرسالة‪ ،‬فلما بعػد النػاس عػن زمػن الرسػالة والنبػوة‪ ،‬طالػت األسػانيد جػدا‪ ،‬فأصػبح العلمػاء يصػنفوف كتبػا يحػذفوف منهػا األسػانيد‬
‫اختصارا‪ ،‬لئال يطوؿ الكتاب‪ ،‬واعتاضوا عن ذكر اإلسناد بعزو الحديث إلى الكتب التي أخرجتو‪.‬‬
‫مثل أف يذكر الحديث في كتابو‪ ،‬ويذكر الصحابي الذي رواه‪ ،‬ثم بعد االنتهاء من رواية الحديث‪ ،‬يكوف العزو إلى الكتاب‪.‬‬
‫مثل أف يقوؿ‪ :‬أخرجو البخاري مثال‪ ،‬أو أخرجو اإلماـ مسلم‪.‬‬
‫وكاف ممن ألف ىذا النوع في الكتب جماعة من أىل العلم صنفوا كتبا تحوي أحاديث األحكاـ فقط‪.‬‬
‫وأحاديث األحكاـ‪ :‬ىي األحاديث المتعلقة بالفقو‪ ،‬أو بالحالؿ والحراـ‪.‬‬
‫فكػػاف مػػن أوؿ مػػن صػػنف فػػي ىػػذا النػػوع مػػن التصػػانيف‪ ،‬أي أحاديػػث األحكػػاـ‪ ،‬ىػػو اإلمػػاـ (عبػػد الغنػػي المقدسػػي)‪ ،‬المتػػوفى علػػى رأس القػػرف‬
‫السادس الهجري‪ ،‬سنة ستمائة من الهجرة‪ ،‬ألف كتابو [عمدة األحكاـ ]‪ ،‬وىو ىذا الكتاب الذي سيكوف بػين أيػدينا فػي ىػذه اللقػاءات المباركػة‬
‫إف شاء اهلل تعالى‪.‬‬
‫وأيضا ممن ألف في ىذا النوع من التصانيف (المجد بن تيمية)‪ ،‬وىو جد شيخ اإلسالـ (ابن تيمية)‪( ،‬عبد السالـ بن تيمية الحراف)‪.‬‬
‫كتاب مشهور معروؼ‪.‬‬
‫فألف كتابا في أحاديث األحكاـ أيضا‪ ،‬وسماه [منتقى األخبار]‪ ،‬وىو ٌ‬
‫وأشهر منو شرحو‪ ،‬وىو كتاب [نيل األوطار]‪ ،‬لإلماـ الشوكاني عليو رحمة اهلل‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫شرح شهير‪ ،‬وىو [سػبل السػالـ فػي شػرح بلػوغ المػراـ]‪ ،‬لإلمػاـ‬
‫كتاب آخر للحافظ بن حجر العسقالني‪ ،‬وىو كتاب [بلوغ المراـ]‪ ،‬ولو ٌ‬
‫وأيضا ٌ‬
‫الصنعاني عليو رحمة اهلل‪ .‬ويوجد غير ذلك كثير‪ ،‬لكن ىذه أشهرىا‪.‬‬
‫وقد تم اختيار ىذا الكتاب الذي بين أيدينا‪ ،‬وىو كتاب [عمدة األحكاـ] لما يميزه عن غيره من ىذه الكتب‪ ،‬خاصةً ىذه الكتب الثالث‪.‬‬
‫فمن ىذه الميزات‪ :‬أنو أخصر ىذه الكتب‪ ،‬وأصغرىا حجما‪ ،‬فيكوف نافعا للمبتدئ‪.‬‬
‫فالمبتدئ يبدأ بما ىو أخصر لو‪ ،‬وال يبدأ بما ىو أطوؿ‪ ،‬خشية الملل والسآمة‪ ،‬وخشية االنقطاع‪ ،‬فهو أخصر ىذه الكتب الثالث‪.‬‬
‫ويليو بعد ذلك‪ ،‬أو أوس منو قليال‪ ،‬كتاب [بلوغ المراـ]‪ ،‬للحافظ بن حجر‪ ،‬ثم [منتقى األخبار]‪.‬‬
‫الميزة الثانية‪ :‬أف اإلماـ الحافظ (عبد الغني المقدسي) عليو رحمة اهلل‪ ،‬لما صنف ىذا الكتاب اشترط على نفسو أف ال يذكر في ىذا الكتاب إال‬
‫األحاديث المتفق عليها‪.‬‬
‫ومعنى (المتفق عليها)‪ :‬ىي ما اتفق على إخراجها اإلماماف البخاري ومسلم‪ ،‬عليهما رحمة اهلل‪.‬‬
‫مصطلح معروؼ عند أىل الحديث‪ ،‬أو عند أىل العلم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وىذا‬
‫فالحديث الصحيح تتفػاوت درجتػو؛ يعنػي ىػو صػحيح نعػم‪ ،‬لكػن تتفػاوت درجتػو ومرتبتػو‪ ،‬أعالىػا فػي الصػحة مػا اتفػق عليػو الشػيخاف‪ ،‬أي الػذي‬
‫أخرجو اإلماـ البخاري ومسلم معا‪ ،‬ويليو في الدرجة‪ ،‬أو في المرتبة‪ ،‬أو في الصػحة‪ ،‬مػن انفػرد بػو البخػاري وحػده‪ ،‬ثػم مػا انفػرد بػو اإلمػاـ مسػلم‬
‫وحده‪ ،‬وىكذا‪.‬‬
‫إذا ىذا الكتاب يمتاز بأف األحاديث التي جاءت فيو في أعلى درجات الصحة‪ ،‬وكذلك باالختصار كما ذكرت آنفا‪.‬‬
‫ىذه الميزات ليست في [المنتقى]‪ ،‬و [بلوغ المراـ]؛ لكن [المنتقى] و [بلوغ المراـ] يفوقاف ىذا الكتاب في ٍ‬
‫جانب آخر‪ ،‬أال وىو أنهما أكثر‬
‫جمعا ألحاديث األحكاـ منو‪ ،‬يعني ىنا في كتاب العمدة اشترط المصنف أال يخرج فيو إال ما اتفق عليو الشيخاف‪.‬‬
‫لكن الكتب األخرى جمعت ما جاء عند الشيخين‪ ،‬وجاءوا أيضا باألحاديث التي ذكرىا اإلماـ أبو داود‪ ،‬والنساء‪ ،‬والترمذي‪ ،‬وأصحاب السنن‪.‬‬
‫المػواطن‬ ‫وم أف االماـ الحافظ (عبدالغني المقدسي) قد اشترط على نفسو أال يذكر في كتابو ىذا إال ما اتفق عليو الشيخاف‪ ،‬إال أنو في بعػ‬
‫كل؛ ىذا ال يخرج الكتاب‪ ،‬وال ينػزؿ أحاديثػو عػن منزلتهػا فػي‬‫مسلم وحده‪ .‬على ٍ‬
‫ٌ‬ ‫قد ذكر أحاديث قد انفرد بها البخاري وحده‪ ،‬أو قد انفرد بها‬
‫الصحة‪ ،‬ذلك ألف األحاديث التي ذكرت فيو ىي أحاديث في أعلى درجات الصحة‪.‬‬
‫اإلماـ (عبدالغني المقدسي) ىو اإلماـ الحافظ ( تقي الدين أبو محمد‪ ،‬عبدالغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي)‪.‬‬
‫نسبةً إلى قرية تسمى جماعيل‪ ،‬وىي قرية يقاؿ أنها في نابلس في أرض فلسطين‪.‬‬
‫ثم (المقدسي)‪ :‬نسب إلى بيت المقدس‪ ،‬ألنو ولد في جماعيل‪ ،‬ثم سكن بيت المقدس‪ ،‬فيقاؿ لو المقدسي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وواحد وأربعين من الهجرة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫خمسمائة‬ ‫وىو ينسب إلى مذىب اإلماـ أحمد‪ ،‬فهو من أئمة الحنابلة‪ ،‬ومن كبار محدثيو‪ .‬ولد في سنة‬
‫قريب في سنو من أقرانو‪ ،‬وكاف رفيقا لو في طلػب العلػم‪ ،‬وىػو ابػن عمتػو اإلمػاـ (الموفػق ابػن قدامػة المقدسػي) عليػو‬
‫وقد ولد في بيت علم‪ ،‬ولو ٌ‬
‫رحمة اهلل‪ ،‬صاحب كتاب [المغني] البن قدامة‪ ،‬وصاحب كتاب [الكافي]‪ ،‬وصاحب كتاب [المقن ]‪ ،‬وىو من متوسطي الحنابلة‪.‬‬
‫فكاف يطلباف العلم سويا‪ ،‬ورحال سويا إلى بغداد‪ ،‬والتقيا ىناؾ باإلماـ عبدالقادر الجيالني من أئمة الحنابلة‪ ،‬قرءا عليو شيئا من العلم‪.‬‬
‫لكن الموفق (أحمد بن عبد اهلل بن قدامة) عليو رحمة اهلل‪ ،‬كانت عنايتو بالفقو أكثر منو بالحديث‪.‬‬
‫واإلماـ عبدالغني المقدسي كانت عنايتو بالحديث أكثر‪.‬‬
‫وال يأتي إلى ذىنك أف ابن قدامة كاف ال يفهم في الحديث‪ ،‬أو أف عبدالغني المقدسي كاف ال يفهم في الفقو‪.‬‬
‫ال؛ فالعلماء كانوا جماعين‪ ،‬كانوا موسوعات علميػة‪ ،‬فتجػد العػالم مػنهم إمامػا فػي الفقػو‪ ،‬إمامػا فػي الحػديث‪ ،‬إمامػا فػي النحػو‪ ،‬ىكػذا فػي العلػوـ‬
‫كلها‪ ،‬أو في أكثرىا‪.‬‬
‫لكن العناية البالغة لإلماـ (عبدالغني المقدسي) عليو رحمة اهلل‪ ،‬كانت بالحديث أكثر منها بالفقو؛ بخالؼ الموفق ابن قدامة‪.‬‬
‫رحل اإلماـ عبد الغني المقدسي عليو رحمة اهلل إلى مصر‪ ،‬وكذلك إلى أصفهاف‪ ،‬وعاد الى دمشق‪.‬‬
‫وكاف معروفا بالحفظ‪ ،‬والورع‪ ،‬والصالح‪ ،‬والدين‪ ،‬والعبادة‪ ،‬وىذا ىو شأف أىل العلم‪ ،‬وىكذا ينبغي أف يكوف شأف طالب العلم‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫فينبغي لطالب العلم م تعلمو‪ ،‬أو بعد تعلمو‪ ،‬أال ينفك عن الورع‪ ،‬وعن الخشػية‪ ،‬وعػن العبػادة؛ وإال فػإف العلػم إذا كػاف بمع ٍ‬
‫ػزؿ عػن ىػذه األمػور‬
‫فخير منو ما لو قد جهلتو‪.‬‬
‫فإنو يضر صاحبو وال ينفعو‪ ،‬بل يكوف وباال عليو‪ .‬كما قاؿ القائل‪ :‬فإذا لم يفدؾ العلم خيرا‪ٌ ،‬‬
‫فتصحيح النية مطلوب‪ ،‬وإخالص العمل مطلوب‪ ،‬والعمل بو كذلك مطلوب‪ ،‬وإال يكوف العلم حجةً على صاحبو ال حجةً لو‪.‬‬
‫فإف من تعلم العلم ولم يعمل بو‪ ،‬فإنو يكوف أشد إثما ممن لم يعلم أصال‪.‬‬
‫ذلك ألف الجاىل ربما قد يكوف معذورا‪ ،‬أو لو عذر‪.‬‬
‫لكن من تعلم فما ىو عذره أما ـ اهلل عز وجل في عدـ التطبيق وعدـ العمل بالعلم الذي تعلمو؟‬
‫فنسأؿ اهلل عز وجل أف يعلمنا ما جهلنا‪ ،‬وأف ينفعنا بما علمنا‪ ،‬وأف يجعلو حجة لنا ال حجة علينا‪.‬‬
‫مؤلفات كثيرة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫اإلماـ (عبد الغني المقدسي) عليو رحمة اهلل‪ ،‬لو‬
‫من أشهر ىذه المؤلفات‪ ،‬ال سيما وأني قد ذكرت أف عنايتو بالحديث أكثر منها بالفقو‪ ،‬من أشهر ىذه الكتب‪:‬‬
‫كتاب جم فيو تراجم رجاؿ الكتب الستة‪.‬‬‫كتاب [الكماؿ في أسماء الرجاؿ]‪ ،‬وىو ٌ‬
‫والكتب الستة ىي‪ :‬البخاري‪ ،‬ومسلم‪ ،‬والترمذي‪ ،‬وأبو داود‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وابن ماجة‪.‬‬
‫وأصبح ىذا الكتاب بعده‪ ،‬أي بعد اإلماـ‪ ،‬عمدةً لمن جاء بعده من المحدثينن‪ ،‬وقد اعتنى بو العلماء عنايةً كبيرة جدا‪.‬‬
‫فممن من اعتنى بو‪ :‬اإلماـ الحافظ (المزي)‪.‬‬
‫فأخذ كتاب الكماؿ‪ ،‬وىذبو في ٍ‬
‫كتاب آخر مطبوع‪ ،‬وسماه [تهذيب الكماؿ]‪.‬‬
‫وطب ىذا الكتاب تقريبا في قرابة ٍ‬
‫سبعة وثالثين مجلدا‪ ،‬وصار عمدةً للمحدثين أيضا‪.‬‬
‫ثم جاء من ىذب كتاب (المزي) بعده‪ ،‬وىو الحافظ (الذىبي) وذىَّب من ىذا الكتاب‪ ،‬وسماه [تذىيب التهذيب]‪.‬‬
‫وىو مطبوع أيضا قيل أنو في عشرة مجلدات‪.‬‬
‫وألف بعده كذلك الكاشف‪.‬‬
‫ع أيضا‪.‬‬
‫ثم جاء الحافظ (ابن حجر العسقالني) عليو رحمة اهلل‪ ،‬فهذب التهذيب‪ ،‬وسماه [تهذيب التهذيب]‪ ،‬وىو مطبو ٌ‬
‫وألف أيضا كتاب [تقريب التهذيب]‪.‬‬
‫كل ىذه الكتب تجدىا متفرعة ومتولدة من كتاب [الكماؿ] للحافظ (عبدالغني المقدسي)؛ وىو الكتاب الذي بين أيدينا‪.‬‬
‫قديم‪ ،‬ومنها ما ىو معاصر‪.‬‬
‫شروح كثيرة‪ ،‬منها ما ىو ٌ‬
‫مهم جدا‪ ،‬ومن أىمية ىذ الكتاب أف لو ٌ‬
‫كتاب ٌ‬
‫ىذا الكتاب ٌ‬
‫من ىذه الكتب القديمة التي شرحت ىذا الكتاب‪ ،‬وىي من الكتب المعتمدة‪ ،‬كتاب [العدة شرح العمدة]‪.‬‬
‫وىناؾ [العدة شرح العمدة] في الحديث‪.‬‬
‫وىناؾ العدة شرح العمدة] في الفقو‪.‬‬
‫[العدة شرح العمدة] في الفقو شرحو بهاء الدين المقدسي‪.‬‬
‫و [العدة شرح العمدة] في الحديث شرحو (ابن العطار الشافعي)‬
‫وىو‪( :‬عالء الدين علي بن داود)‪ ،‬المتوفى سنة سبعمائة وأرب وعشرين من ىجرة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وىو من الكتب التي اعتمد عليها الحافظ بن حجر في كتابو [فتح الباري]‪.‬‬
‫وأيضا من الكتب القديمة التي شرحت ىذا الكتاب كتاب [اإلعالـ بفوائد عمدة األحكاـ]‪ ،‬لإلماـ (أبي حفص‪ ،‬عمرو بن علي بن الملقن)‪.‬‬
‫كتاب مطوؿ‪ ،‬وىو أوس الكتب في شرح ىذا الكتاب‪ .‬اإلماـ (ابن الملقن) توفي سنة ثمانمائة وأربعة من الهجرة‪.‬‬
‫وىو ٌ‬
‫وأيضػا مػن الكتػب التػي شػرحت ىػػذا الكتػاب‪ ،‬كتػاب عمػدة األحكػاـ‪ ،‬كتػػاب [كشػف اللثػاـ عػن عمػدة األحكػػاـ]‪( ،‬لمحمػد بػن أحمػد بػن سػػالم‬
‫السفاريني الحنبلي)‪ ،‬المتوفى سنة ألف ومائة وثمانين من الهجرة‪.‬‬
‫والفرؽ بين ىذا الشرح واللذاف قبلو‪ ،‬أف السفاريني حنبلي المذىب‪ ،‬فتجده مهتما في شرحو بتحرير مذىب اإلماـ أحمد‪.‬‬
‫بخالؼ ابن الملقن‪ ،‬وابن العطار‪ ،‬فكالىما شافعي المذىب‪ .‬ىما أشارا إلى المذىب في شروحهما‪ ،‬لكن دوف تحرير المذىب‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أيضػػا مػػن الكتػػب المعاصػػرة التػػي شػػرحت ىػػذا الكتػػاب؛ وطبعػػا الكتػػب المعاصػػرة لهػػا ميػػزة خاصػػة‪ ،‬ذلػػك ألنهػػا تمتػػاز بسػػهولة العبػػارة‪ ،‬واختصػػار‬
‫الشرح‪ .‬من ىذه الكتب‪ ،‬وىو من أخصر ىذه الكتب في شرح عمدة األحكاـ‪ ،‬كتاب [خالصة الكالـ على عمدة األحكاـ]‪.‬‬
‫وىذا للشيخ (فيصل المبارؾ) عليو رحمة اهلل‪ ،‬المتوفى سنة ألف وثالثمائة ٍ‬
‫وست وسبعين من الهجرة‪ .‬وىو مطبوعٌ في مجلد واحد‪.‬‬
‫وأيضا من الشروح الجيدة لهذا الكتاب‪ ،‬كتاب [تيسير العالـ شرح عمدة األحكاـ]‪ ،‬للشػيخ (عبػد اهلل بػن عبػدالرحمن البسػاـ) عليػو رحمػة اهلل‪،‬‬
‫ع في مجلدين‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وثالث وعشرين من الهجرة‪ .‬وىو مطبو ٌ‬ ‫المتوفى سنة ألف وأربعمائة‬
‫وىذا الكتاب إف شاء اهلل ىو الذي نعتمده في الشرح بين أيدينا‪ ،‬فينبغػي علػى الطالػب أف يكػوف علػى األقػل المػتن بػين يديػو حػاؿ الشػرح‪ ،‬وإف‬
‫تمكن أف يأتي بشرح الشيخ (البساـ) عليو رحمة اهلل فيكوف حسنا‪ ،‬ألف ىذا الذي سنعتمده في شرح ىذا الكتاب إف شاء اهلل تبارؾ وتعالى‪.‬‬
‫بدأ المصنف عليو رحمة اهلل بمقدمة في ىذا الكتاب المبارؾ فقاؿ‪:‬‬
‫[بسم اهلل الرحمن الرحيم‪ ،‬وىو حسبي؛ قاؿ الحافظ‪ ،‬أبو محمد‪ ،‬عبد الغني بن عبد الواحػد بػن علػي بػن سػروٍر المقدسػي رحمػو اهلل‪ :‬الحمػد هلل‬
‫الملك الجبار‪ ،‬الواحد القهار‪ ،‬وأشهد أف ال إلو إال اهلل وحده ال شريك لو رب السماوات واألرض وما بينهما العزيز الغفار‪ ،‬وصلى اهلل على النبي‬
‫المصطفى المختار‪ ،‬وعلى آلو وصحبو األطهار‪ ،‬أما بعد؛ فإف بع إخواني سألني اختصار جمل ٍػة فػي أحاديػث األحكػاـ ممػا اتفػق عليػو اإلمامػاف‬
‫(أبػػو عبػػداهلل‪ ،‬محمػػد بػػن إسػػماعيل بػن إبػػراىيم البخػػاري) و (أبػػو الحسػػين‪ ،‬مسػػلم بػػن الحجػػاج القشػػيري النيسػػابوري)‪ ،‬فأجبتػػو إلػػى سػػؤالو‪ ،‬رجػػاء‬
‫المنفعة بو‪ ،‬وأسأؿ اهلل أف ينفعنا بو‪ ،‬ومن كتبو‪ ،‬أو سمعو‪ ،‬أو حفظو‪ ،‬أو نظر فيو‪ ،‬وأف يجعلو خالصا لوجهو‪ ،‬موجبا للفوز لديػو‪ ،‬فإنػو حسػبنا ونعػم‬
‫الوكيل]‪.‬‬
‫بين المؤلف عليو رحمة اهلل أنو اختصر في ىذا المتن جملةً من أحاديث األحكاـ المتعلقة بأحكاـ الفقو‪ ،‬أو باألحكاـ الفقهية‪.‬‬
‫أي ليست متعلقة بالتفسير مثال‪ ،‬وال بالعقائد‪ ،‬وال غير ذلك‪ .‬وبين كذلك في مقدمتو ىذا المنهج الذي سيسير عليػو فػي ىػذا الكتػاب‪ ،‬وىػو أنػو‬
‫جم ىذه األحاديث التي اتفق عليها اإلماماف البخاري ومسلم‪ ،‬وىذا فيو إشارة إلى علو درجة األحاديث المذكورة في ىذا المتن‪.‬‬
‫ثم سأؿ اهلل عز وجل النف لو‪ ،‬ولمن كتبو‪ ،‬أو قرأه‪ ،‬أو حفظو‪ ،‬أو نظر فيو‪.‬‬
‫شيوخهم أيضا‪ ،‬أنهم كانوا رجػاال صػالحين‪،‬‬ ‫وقد ذكر من عبادة ودين الشيخ (عبدالغني المقدسي) عليو رحمة اهلل‪ ،‬وكذلك (الموفق)‪ ،‬وعن بع‬
‫مجتهدين في طاعة اهلل عز وجل‪ ،‬منقطعين عن كثير من عوائق الدنيا‪.‬‬
‫وسبحاف اهلل كاف من أثر ىذا األمر أنو حكيت عنهم أشياء كثيرة من إجابة الدعاء‪.‬‬
‫ولعل مما استجاب اهلل عز وجل بو دعاء المصنف الشيخ (عبدالغني)‪ ،‬حينما دعا في مقدمة كتابو فقاؿ‪:‬‬
‫ػاب مػػن كتػػب أحاديػػث األحكػػاـ بعػػد الكتػػب‬
‫[ واسػػأؿ اهلل أف ينفعنػػا بػػو ومػػن كتبػػو‪ ،‬أو سػػمعو‪ ،‬أو قػػرأه أو حفظػػو‪ ،‬أو نظػػر فيػػو] فإنػػو ال يُعلػػم كتػ ٌ‬
‫المسندة‪ُ ،‬عني بو العلماء حفظا‪ ،‬وشرحا‪ ،‬وتصنيفا‪ ،‬وتداوال‪ ،‬كما ُعني العلماء رحمهم اهلل تبارؾ وتعالى بهذا الكتاب الذي بين أيدينا‪.‬‬
‫ولعل ىذا من توفيق اهلل عز وجل لو‪ ،‬وإجابة لدعائو وسؤلو‪.‬‬
‫لذلك اإلنساف إذا انتف بعلم أحد من أىل العلم يقوؿ العلماء‪ :‬فإنو يستحب لو أف يدعو لو‪.‬‬
‫شيخ من المشايخ فيستحب أف تدعو لهذا الشيخ‪ ،‬أو لهذا العالم الذي استفدت منو‪.‬‬
‫إنك إذا انتفعت بعلم ٍ‬
‫فقد نقل ابن أبي يعلى في الطبقات‪ ،‬عن الشيخ رزؽ اهلل التميمي الحنبلي الكوفي أنو قاؿ‪( :‬يقبح بكم)‬
‫سواء كاف طلبة علم‪ ،‬أو كاف عواـ الناس واستفادوا من العلماء‪ .‬قاؿ‪( :‬يقبح بكم أف تستفيدوا منا ثم ال تترحموا علينا)‪.‬‬
‫ً‬
‫كالـ جميل؛ فنسأؿ اهلل عػز وجػل أف يػرحم علمػاء المسػلمين عامػة‪ ،‬ومشػايخنا وأصػحاب الفضػل علينػا خاصػة‪ ،‬والشػيخ (عبػد الغنػي المقدسػي)‬
‫بالخصوص‪ ،‬النتفاعنا بكتابو ىذا الذي بين أيدينا‪ ،‬وكذلك النتفاعنا بشرح شراح ىذا الكتاب‪.‬‬
‫وإف من بركة ىذا الدعاء‪ ،‬وىو كما ذكر أنو مستجاب الدعوة‪ ،‬أنو دعا لمن كتبو‪ ،‬أو قرأه‪ ،‬أو حفظو‪ ،‬أو نظر فيو‪.‬‬
‫وكذلك سأؿ اهلل عز وجل اإلخالص وحسن النية‪.‬‬
‫وىذا ما ينبغي أف يكوف عليو العبد في كػل عم ٍػل يشػرع فيػو أف يحسػن النيػة‪ ،‬وأف يسػأؿ اهلل عػز وجػل اإلخػالص‪ ،‬وأف يرجػو بعملػو ىػذا وجػو اهلل‬
‫تبارؾ وتعالى‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫َحػ ًدا فػػنحن أولػػى بهػػذا الطلػػب منػػو‪ ،‬وبهػػذا‬ ‫ولػػذلك قػػاؿ اهلل عػػز وجػػل‪{ :‬فَمػػن َكػػا َف يػرجػػو لِ َقػػاء ربْػ ِػو فَػ ْليػعمػػل َعمػ ًػال صػػالِحا وَال ي ْشػ ِر ْؾ بِ ِعبػ َ ِ ِ‬
‫ػادة َربْػػو أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ََْ ْ َ َ ً َ ُ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ‬
‫السؤاؿ منهم‪ ،‬وبهذا الدعاء منهم‪ ،‬أف ندعو اهلل عز وجل أف يرزقنا اإلخالص‪ ،‬وأف يحسن نياتنا‪.‬‬
‫ثم ابتدأ المصنف كتابو ىذا [بكتاب الطهارة]‪ ،‬وذكر فيو عدة أحاديث‪.‬‬
‫ولكن بداية نعرؼ [كتاب الطهارة]‪ ،‬الطهارة في اللغة‪ :‬ىي النظافة‪.‬‬
‫وفي االصطالح‪ :‬ىي رف الحدث‪ ،‬وزواؿ الخبث‪.‬‬
‫‪ -‬يكوف بالوضوء‪ ،‬ىذا إذا كاف الحدث حدثا أصغرا؛ كالبوؿ‪ ،‬والغائط‪ ،‬والريح‪.‬‬ ‫ورف الحدث‬
‫‪ -‬ويكوف بالغسل إذا كاف الحدث حدثا أكبرا؛ كالجنابة‪ ،‬والحي ‪ ،‬والنفاس‪.‬‬
‫سواء كانت النجاسة على البدف‪ ،‬أو كانت على الثوب‪ ،‬أو على‬
‫وزواؿ الخبث‪ :‬أي زواؿ النجاسات‪ ،‬وزواؿ النجاسات يكوف بغسلها أو بإزالتها‪ً ،‬‬
‫بقعة المصلي أي األماكن التي يسجد فيها‪ ،‬مواض سجود اإلنساف تسمى بقعتو‪.‬‬
‫سواء كاف بغسل‪ ،‬فإذا أزاؿ النجاسة بالغسل ىذا ما يسمى باالستنجاء‬
‫وزواؿ الخبث يكوف بإزالة النجاسة أيضا من على السبيلين‪ ،‬القبل والدبر‪ً ،‬‬
‫بالماء‪ ،‬أو بالحجارة‪ ،‬أو ما يقوـ مقاـ الحجارة‪ ،‬وىو ما يسمى باالستجمار‪ ،‬وكال األمرين يسمى بإزالة الخبث‪.‬‬
‫فإزالة الخبث يكوف باالستنجاء‪ ،‬أو باالستجمار‪ ،‬أو بإزالة النجاسة بأي ٍ‬
‫شيء زالت بو‪.‬‬
‫أما رف الحدث فيكوف بالوضوء‪ ،‬وىذا من الحدث األصغر‪ ،‬ويكوف كذلك باالغتساؿ إذا كاف الحدث ىذا من ٍ‬
‫حدث أكبر‪.‬‬
‫إلى ىنا نقف حتى ال نطيل عليكم‪ ،‬وإف شاء اهلل سنشرع في اللقاء القادـ بإذف اهلل تبارؾ وتعالى في بداية ىػذا الكتػاب‪ ،‬ومػ أوؿ ح ٍ‬
‫ػديث ذكػره‬
‫المصنف في ىذا الكتاب إف شاء اهلل جل وعال‪.‬‬
‫ٍ‬
‫محمد‪ ،‬وعلى آلو وصحبو وسلم‪.‬‬ ‫ىذا وصلى اهلل وسلم وبارؾ على نبينا‬

‫‪6‬‬
‫المحاضػ ػػرة الثانيػ ػػة‬
‫ػص عمػر بػن الخطػاب (رضػي اهلل عنػو) قػاؿ؛ سػمعت رسػوؿ اهلل‬ ‫قد ابتدأ المصنف كتابو ىذا بكتاب الطهارة‪ ،‬وذكر فيو أوؿ حديث‪ ،‬عن أبي حف ٍ‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) يقوؿ‪" :‬إنما األعماؿ بالنيات‪( ،‬وفي ٍ‬
‫رواية بالنية)‪ ،‬وإنما لكل امر ٍئ ما نػوى‪ ،‬فمػن كانػت ىجرتػو إلػى اهلل ورسػولو‪ ،‬فهجرتػو‬
‫إلى اهلل ورسولو‪ ،‬ومن كانت ىجرتو إلى دنيا يصيبها‪ ،‬أو امرأةٍ ينكحها‪ ،‬فهجرتو إلى ما ىاجر إليو"‪.‬‬
‫فضل كب ٌير عنػد أىػل‬
‫عظيم لو ٌ‬
‫حديث ٌ‬
‫ٌ‬ ‫عاـ ال يختص بالطهارة؟ والجواب‪ :‬أف ىذا‬
‫حديث ٌ‬
‫ٌ‬ ‫والسؤاؿ‪ :‬ما عالقة ىذا الحديث بالطهارة رغم أف ىذا‬
‫العلم‪ ،‬ولذلك فإف كثيرا من أىل العلم إذا ألف كتابا بدأ فيو بهذا الحديث‪.‬‬
‫ألف ىذا الحديث يدخل في كل ٍ‬
‫باب من أبواب العلم‪ ،‬ذلك لتعلقو بالنية‪.‬‬
‫وقد انتهج المصنف عليو رحمة نهج اإلماـ البخاري في بدايتو بهذا الحديث‪ ،‬كما بدأ البخاري عليو رحمة اهلل كتابو الصحيح بهذا الحديث‪.‬‬
‫وال سيما أف المصنف قد اشترط على نفسو أال يذكر في كتابو ىذا إال ما صح من األحاديث‪ ،‬ال سيما ما اتفق عليو اإلماماف البخاري ومسلم‪.‬‬
‫واألعماؿ ال تقبل إال بنية‪ ،‬ولذلك ذكر المصنف ىذا الحديث في أوؿ كتاب الطهارة‪ ،‬تنبيها منو إلى أف الوضوء يحتاج إلى نيػة‪ ،‬والغسػل كػذلك‬
‫يحتاج إلى نية‪ ،‬وكذلك الصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬وسائر العبادات‪.‬‬
‫فذكره المصنف في بداية كتابو إشارةً إلى أف األعماؿ تحتاج إلى نية‪ ،‬ولذا فإف ىذا الحديث يحتاج إليو في كل أبواب العلم‪.‬‬
‫ذلك ألف النية ىي التي تفرؽ العمل بين كونو عادة أو كونو عبادة‪ ،‬وما يترتب على ذلك من حصوؿ العبد على األجر والثواب‪ ،‬أو عػدـ حصػولو‬
‫عليو‪ ،‬وليس المراد بالنية أف يقف المرء عند كل عمل ويقوؿ‪ :‬نويت أف أفعل كذا‪ ،‬أو أنوي بعملي ىذا كذا وكذا؛ فإف ىذا ممنوع‪.‬‬
‫أىل العلم من البدع‪ ،‬كما ذكر القاضي عياض عليو رحمة اهلل أف ذلك بدعة‪.‬‬ ‫بل عده بع‬
‫سهل‪ ،‬النية معناىا‪ :‬القصد‪.‬‬
‫فالنية أمرىا ٌ‬
‫(ىي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا ٍ‬
‫لغرض ما‪ ،‬من جلب نف أو دف ضر‪ ،‬كما قاؿ البيضاوي عليو رحمة اهلل)‪.‬‬
‫أما في الشرع‪ :‬فهي العزـ على فعل العبادة تقربا هلل عز وجل‪.‬‬
‫أىل العلم كتبهم‪.‬‬ ‫فهذا الحديث صدَّر بو بع‬
‫ٍ‬
‫أحاديث أخرى عليها مدار االسالـ‪ ،‬وىي‪ :‬ىذا الحديث "إنما األعماؿ بالنيات"‪.‬‬ ‫قاؿ بعضهم‪ :‬ىذا الحديث يعدؿ رب العلم‪ ،‬ألنو م ثالثة‬
‫وحديث‪" :‬الحالؿ بين والحراـ بين"‪ ،‬وحديث‪" :‬من حسن إسالـ المرء تركو ما ال يعنيو"‪ ،‬وحديث‪" :‬ازىد في الدنيا يحبك اهلل‪ ،‬وازىد فيما عنػد‬
‫الناس يحبك الناس"‪ ،‬وبعضهم قاؿ‪ :‬ىو ثلث العلم‪.‬‬
‫وعللوا ذلك بأف األعماؿ ال تخرج عن كونها إما باللساف‪ ،‬وإما بالقلب‪ ،‬وإما بالجوارح‪ ،‬فهذا الحػديث يغطػي األعمػاؿ القلبيػة‪ ،‬ألف النيػة محلهػا‬
‫القلػب‪ ،‬وبعضػهم قػاؿ‪ :‬إف ىػذا الحػػديث يعػدؿ نصػف العلػم‪ ،‬وعللػػوا ذلػك بػأف األعمػاؿ إمػػا إػاىرة وإمػا باطنػة‪ ،‬وىػػذا الحػديث إنمػا يحكػي عػػن‬
‫األعماؿ الباطنة‪.‬‬
‫قاؿ في ىذا الحديث‪ :‬إنما األعماؿ بالنيات"‪.‬‬
‫و (إنما) من صيغ الحصر‪ ،‬وفائدة الحصر ىو مفهوـ المخالفة للفظ المحصور‪.‬‬
‫مقدر محذوؼ‪ ،‬بمعنى أنو ال يثاب المرء على عمل إال بنية‪ ،‬وال يقبل منو العمل إال بنية‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬أف ىنا ٌ‬
‫معنى ىذا‪ :‬أ نو ال يكوف الثواب على ىذا العمل إال بنية‪ ،‬وال يكوف الجزاء عليو إال بنية‪ ،‬وال يكوف القبوؿ إال بنية صالحة‪.‬‬
‫فبين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في بداية ىذا الحديث مسألة اشتراط النية فقاؿ‪" :‬إنما األعماؿ بالنيات"‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪" :‬وإنما لكل امر ٍئ ما نوى"‪.‬‬
‫فهل ىناؾ فر ٌؽ بين "إنما األعماؿ بالنيات"‪ ،‬وبين "وإنما لكل امر ٍئ ما نوى"؟‬
‫ص ُػروا الصػالح‬ ‫ض قَالُوا إِنَّما نَحػن م ِ‬
‫يل ل َُه ْم َال تُػ ْف ِس ُدوا فِي ْاأل َْر ِ‬ ‫(إنما) من صيغ الحصر‪ ،‬كما قاؿ اهلل عز وجل‪ِ ِ :‬‬
‫صػل ُحو َف المعنػى‪ :‬أنهػم قَ َ‬
‫َ ُُْ ْ‬ ‫{وإذَا ق َ‬
‫َ‬
‫على أنفسهم‪ ،‬أي ليس ىناؾ أح ٌد صالح إال نحن‪ .‬فإنما من صيغ الحصر‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ىناؾ فر ٌؽ بػين األوؿ والثػاني؛ أي بػين إنمػا األعمػاؿ بالنيػات‪ ،‬وإنمػا لكػل امػر ٍئ مػا نػوى‪ ،‬فػاألوؿ‪ :‬اشػترط النيػة فػي العمػل والثػاني‪ :‬اشػترط تعيػين‬
‫المنوي‪.‬‬
‫كالـ ممكن أف يكوف ثقيال؛ بالمثاؿ يتضح المقاؿ‪.‬‬
‫رجل دخل المسجد يصلي‪ ،‬فهنا نوى بقلبو الصالة‪ ،‬فهل تنعقد الصالة؟‬
‫ٌ‬
‫الجواب نعم‪ ،‬تنعقد الصالة لكن أي صالة تنعقد؟‬
‫ىب أنو دخل المسجد وقت صالة الظهر مثال‪ ،‬فهل تنعقد إهرا؟ الجواب ال تنعقد إهرا‪ ،‬ألنو نوى صالة‪ ،‬أي صالة‪.‬‬
‫فهنا تنقلب الصالة إلى ٍ‬
‫نفل مطلق‪ .‬ىذه مسألة اشتراط النية في البداية‪.‬‬
‫أنو نوى يصلي‪ ،‬لكن لم ينو بقلبو تعيين المنػوي‪ ،‬يعنػي لػم ينػو صػالة الظهػر‪ ،‬لكنػو إف دخػل ونػوى بقلبػو أنػو سيصػليها إهػرا‪ ،‬فهنػا تنعقػد الصػالة‬
‫إهرا‪.‬‬
‫رجل أخرج من جيبو ماال ليتصدؽ بو‪ ،‬ىو نوى الصدقة عندما أراد أف يتصدؽ‪ ،‬فهنا تحسب لو صدقة‪ ،‬لكن ىل تحسب لو زكاة؟‬ ‫ٌ‬
‫مثاؿ آخر‪ٌ :‬‬
‫ال تحسب لو زكاة‪ ،‬ألنو لم يعين المنوي على أنها زكاة‪ ،‬إنما نوى صدقة فقط‪.‬‬
‫لكن إذا نوى عند إخراجها أنها من زكاة مالو‪ ،‬ىنا تحسب لو من زكاة مالو‪ ،‬وىكذا‪.‬‬
‫فمن ىنا يترتب الثواب والجزاء على النية‪.‬‬
‫سواء النية في البداية‪ ،‬أي نية األعماؿ‪ ،‬أو نية المنوي‪ ،‬وكذلك يترتب اإلجزاء‪ ،‬أي يسقط من عليو الفرض أـ ال‪.‬‬
‫حديث أيضا يوضػح)‪" :‬إف الرجػل إذا خػرج مػن بيتػو ال يخرجػو إال الصػالة‪ ،‬كػاف لػو بكػل خطػوة يخطوىػا‬
‫ٌ‬ ‫قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪( ،‬وىذا‬
‫حسنة‪ ،‬ومحيت عنو بها سيئة"‪.‬‬
‫إذا فالنية ىنا عند الخروج من أجل الصالة‪ ،‬أي خروجو كاف للصالة‪ ،‬فهذه ىي النية الصالحة‪ ،‬فتؤجر على المشي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لحاجة دنيوية؛ كأكل‪ ،‬أو مشرب‪ ،‬أو غير ذلك؛ م أنو شيءٌ مشروع‪ ،‬فال يؤجر على مشيو‪.‬‬ ‫لكن من خرج من بيتو‬
‫حتى ولو ذىب إلى المسجد في الطريق فإنو ال يأخذ أجر المشي كامال‪ ،‬بخالؼ من خرج ال يريد إال الصالة‪ .‬وىكذا في بقية األعماؿ‪.‬‬
‫ثم ضرب النبي (صلى اهلل عليو وسلم) مثاال فقاؿ‪( :‬فمن كانت ىجرتو إلى اهلل ورسولو‪ ،‬فهجرتو إلى اهلل ورسولو)‪.‬‬
‫والهجرة‪ :‬ىي ترؾ المكاف الذي ىو فيو‪ ،‬أو ترؾ األوطاف‪.‬‬
‫وإف كاف المقصود بها شرعا ىو الهجرة من دار الكفر إلى دار اإلسالـ‪ ،‬إلى اهلل عز وجل ورسولو‪.‬‬
‫أي ال يريد بذلك إال اهلل عز وجل‪ ،‬ورسولو (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬فهجرتو إلى اهلل ورسولو) أي ثوابا من اهلل عز وجل وأجرا‪ ،‬ألنو ابتغى بذلك وجو اهلل عز وجل‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬ومن كانت ىجرتو إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها)‪ ،‬وىنا ذكر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) الدنيا‪ ،‬ثم ذكر المرأة بعد الدنيا‪.‬‬
‫أليست المرأة من الدنيا؟ الجواب بلى؛ المرأة من الدنيا‪ ،‬إذا لماذا ذكرىا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بعد الدنيا؟‬
‫قاؿ العلماء‪ :‬ىذا من باب ذكر الخاص بعد العاـ استصغارا لشأف ىذا األمر‪.‬‬
‫أف الهجرة ال تكوف إال من أجل اهلل عز وجل‪ ،‬ال من أجل الدنيا‪.‬‬
‫فإف كانت من أجل الدنيا فال ثواب وال أجر على ذلك؛ ناىيك إف كانت إلى معصية‪ ،‬فإنو يعاقب على ذلك‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬فهجرتو إلى اهلل ورسولو) في المقاـ األوؿ‪ ،‬وفي الثانية قاؿ‪( :‬وإف كانت ىجرتو إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها)‬
‫فلم يقل‪( :‬كانت ىجرتو إلى دنيا) أو (إلى امرأة)؛ إنما قاؿ‪" :‬فهجرتو إلى ما ىاجر إليو"‪.‬‬
‫فل م يكرر ذكر الدنيا وال ذكر المرأة‪ ،‬استصغارا لشأف الدنيا والمرأة‪ ،‬فلم يذكرىما‪.‬‬
‫ىناؾ فوائد تستنبط من ىذا الحديث‪:‬‬
‫الفائدة األولى‪ :‬أف مدار األعماؿ على النيات صحةً وفسادا‪ ،‬ألف العلماء جعلوا النية إما شرطا وإما ركنا‪ ،‬كماال ونقصانا‪ ،‬وطاعةً ومعصية‪.‬‬
‫فمن قصد بعملو الرياء أثم؛ ومن قصد وجو اهلل عز وجل كمل ثوابو‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫كرجل خرج يجاىد في سبيل اهلل‪ ،‬أراد بذلك وجو اهلل عز وجل؛ يكمل ثوابو‪ ،‬ومن قصد ذلك والغنيمة‪ ،‬نقص ثوابو‪.‬‬
‫أجر دنيوي‪ ،‬وأخذه في الغنيمة‪.‬‬
‫ومن قصد الغنيمة وحدىا فإنو ال يأخذ أجر المجاىد‪ ،‬ألف النية ليست خالصة هلل عز وجل‪ ،‬إنما ىو ٌ‬
‫أساسي في العمل‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ط‬
‫الفائدة الثانية‪ :‬أف النية شر ٌ‬
‫قائم بين أىل العلم‪.‬‬
‫خالؼ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ط أـ ىي ركن‪ ،‬وىذا‬
‫وطبعا أنا قلت أف النية محل خالؼ بين أىل العلم ىل ىي شر ٌ‬
‫لكن ال ينبغي الغلو في استحضار النية‪ ،‬حتى ال يكوف الوسواس بسببها فيفسد على العبد عبادتو‪ ،‬فبمجرد قصد القلب وعزمو تنعقد النية‪.‬‬
‫أىػل العلػم مػن البػدع‪ ،‬كمػا ذكػرت فػي بدايػة الػدرس قػوؿ‬ ‫الفائدة الثالثػة‪.‬أف النيػة محلهػا القلػب‪ ،‬والػتلفظ بهػا أم ٌػر غيػر مشػروع‪ ،‬حتػى عػده بعػ‬
‫القاضي عياض أف ىذا من البدع‪ ،‬ولم يذكر أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وال أح ٌد من أصحابو تلفظوا بها‪ ،‬إال في مواطن معينة قليلة‪.‬‬
‫من ىذه المواطن‪ :‬التلفظ بها عند الحج أو العمرة‪ ،‬لبيك اللهم حجا‪ ،‬لبيك اللهم عمرة‪.‬‬
‫وثبت عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو تلفظ بها عند ذبح الهدي‪ ،‬فقاؿ‪" :‬اللهم ىذا منك وإليك‪ ،‬اللهم ىذا عن محمد وآؿ بيتو"‪.‬‬
‫غير ذلك ال يشرع التلفظ بها‪.‬‬
‫الفائدة الرابعة‪ :‬وجوب الحذر من الرياء والسمعة‪ ،‬والعمل ألجل الناس والدنيا‪ ،‬ألف ىذا من محبطات األعماؿ‪.‬‬
‫ادةِ َربِْو أَ َح ًدا‬ ‫العمل البد أف يكوف هلل عز وجل‪ ،‬خالص هلل عز وجل‪ ،‬قاؿ تعالى‪{ :‬فَمن َكا َف يػرجو لِ َقاء ربِْو فَػ ْليػعمل عم ًال ِ‬
‫صال ًحا َوَال يُ ْش ِر ْؾ بِ ِعبَ َ‬
‫َ َ ََْ ْ ََ َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ‬
‫الفائدة الخامسة‪ :‬وجوب االعتناء بأعماؿ القلوب ومراقبتها وتصحيحها‪.‬‬
‫ألف النية من أعماؿ القلوب‪ ،‬فعلى العبد أف يحسن نيتو ويخلص العمل هلل عز وجل‪.‬‬
‫الفائدة السادسة‪ :‬أف الهجرة من بالد الشرؾ إلى بالد اإلسالـ ىي من أفضل العبادات هلل عز وجل إذا قصد بذلك وجو اهلل تبارؾ وتعالى‪.‬‬
‫فإف اهلل عز وجل يثيبو على ذلك‪ ،‬ال سيما أف الهجرة ترؾ األوطاف ومالعب الصبا‪ ،‬واألىل والجيراف واألحباب‪.‬‬
‫وفي حديث النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف اإلنساف إذا ما أراد أف يسلم أو أف يهاجر يقعد الشيطاف لو بطرقو‪.‬‬
‫قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إف الشيطاف قعد البن آدـ بأطرقو كلها"‪ ،‬ومنها‪" :‬قعد لو في طريق الهجرة‪،‬‬
‫فقاؿ‪ :‬أتهاجر وتدع أرضك وسماءؾ؟ إنما مثل المهاجر مثل الفرس في الطوؿ‪ ،‬فعصاه فهاجر"؛‬
‫في نهاية الحديث قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬فمن فعل ذلك كاف حقا على اهلل أف يدخلو الجنة"‪.‬‬

‫ثم اتى المصنف بح ٍ‬


‫ديث آخر‪:‬‬
‫عن أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ؛ قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ال يقبل اهلل صالة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"‪.‬‬
‫ىذا الحديث إنما يدؿ على نفي صحة الصالة؛ ألف القاعدة عند أىل العلم أف النفي المجرد يحمل على ٍ‬
‫واحد من ثالثة أمور‪:‬‬ ‫ُ‬
‫األوؿ‪ :‬إما أف يُحمل على نفي الحقيقة والوجود؛ يعني أقوؿ‪ :‬إف فالنا لم يصل؛ فليست ىناؾ صالة موجودة في الوجػود تراىػا؛ فهنػا نفػي وجػود‬
‫ونفي حقيقة‪ ،‬وإما أف يحمل على نفي الصحة‪.‬‬
‫ونفي الصحة إما بفقد ٍ‬
‫شرط من الشروط‪ ،‬أو برك ٍن من األركاف‪ ،‬كما في ىذا الحديث؛ قاؿ‪" :‬ال يقبل اهلل صالة أحدكم حتى يتوضأ"‪.‬‬
‫فإف لم يتوضأ فقد فَػ َق َد شرطا من شروط صحة الصالة‪.‬فهنا ال تصح الصالة‪ ،‬أو أف يحمل على نفي الكماؿ‪.‬‬
‫نفي الكماؿ‪ :‬أف يأتي اإلنساف بصالة بشروطها وأركانها‪ ،‬لكنو يأتي بأشياء تُنقص ثواب ىذه الصالة؛‬
‫كما قاؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪" :‬ال صالة في حضرة طعاـ وال وىو يدافعو األخبثاف"‪.‬‬
‫الصالة موجودة؟ نعم موجودة‪.‬‬
‫بأركانها وشروطها؟ نعم‪.‬‬
‫لكن وىو يدافعو األخبثاف أو في حضرة الطعاـ‪ ،‬فإنو ينشغل بشيء يذىب بخشوعو في الصالة‪ ،‬فينقص ذلك من أجر الصالة‪.‬‬
‫فهنا قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ال يقبل اهلل صالة أحدكم حتى يتوضأ"‪.‬‬
‫نفي للصحة‪ ،‬فالصالة موجودة‪ ،‬لكنها ال تقبل ألنها غير صحيحة‪.‬‬
‫ىنا ٌ‬
‫وصف يرف عنو حكم الطهارة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إذا أحدث"‪ :‬أي إذا جاءه‬

‫‪9‬‬
‫ما ىو الحدث؟ الحدث‪ :‬ىو وصف قائم بالبدف يمن من الصالة ونحوىا‪.‬‬
‫بوؿ أو ٍ‬
‫غائط أو ريح‪ ،‬واألكبر‪ :‬يكوف من جنابة‪ ،‬أو حي ‪ ،‬أو نفاس‪.‬‬ ‫والحدث نوعاف كما تعلموف‪ :‬أصغر‪ ،‬وأكبر‪ ،‬الحدث األصغر‪ :‬يكوف من ٍ‬
‫قائم بالبدف‪ ،‬والوصف‪ :‬إما أف يكوف وصفا حكميا‪ ،‬وإما أف يكوف وصفا حقيقيا‪.‬‬
‫وصف ٌ‬‫ٌ‬ ‫وطبعا الحدث كما ذكرت‪ :‬ىو‬
‫الوضػوء‪ ،‬فينتقػد بهػا الوضػوء حكمػا‪ ،‬مػ أنػك لػم تػراه‪ ،‬لػم تػر شػيئا‪ ،‬ىػذا اسػمو وصػف‬ ‫ما ىو الوصف الحكمي؟ ىو الذي يحدث بأحد نػواق‬
‫حكمي‪ ،‬أما الوصف الحقيقي‪ :‬ىو الذي تراه بعينيك؛ كالنجاسات التي تكوف على البػدف‪ ،‬ومثػل رؤيػة المنػي فػي الثػوب مػثال بعػد االسػتيقاظ مػن‬
‫النوـ؛ ىذا وصف حقيقي‪.‬‬
‫فقاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬ال يقبل اهلل صالة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"‪.‬‬
‫يستنبط من ىذا الحديث أيضا فوائد‪:‬‬
‫الفائدة األولى‪ :‬أف الوضوء شرط لصحة الصالة‪ ،‬فمن لم يتوضأ ال تصح صالتو‪.‬‬
‫الفائدة الثانية‪ :‬قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ال صالة لمن ال وضوء لو"‪.‬‬
‫طبعا أنت تقارف بين األحاديث‪ ،‬أو تجم بين األحاديث‪ .‬قاؿ‪" :‬ال يقبل اهلل صالة أحدكم"‪.‬‬
‫فجاءت كلمة صالة نكرة في سياؽ النفي‪ ،‬فكل ٍ‬
‫شيء يسمى صالة تشترط لو الطهارة؛‬
‫كصالة الجنازة‪ ،‬كصالة العيد‪ ،‬كقياـ الليل‪ .‬أي صالة يشترط لها الطهارة‪.‬‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬أف الحدث سواءٌ كاف أصغر أو أكبر ىو ناق ٌ للوضوء‪ ،‬وإف كاف في الصالة فإنو يبطل الصالة‪.‬‬
‫الفائدة الرابعة‪ :‬المراد بعدـ القبوؿ في الحديث ىو عدـ صحة الصالة‪.‬‬

‫ثم ثلث المصنف بح ٍ‬


‫ػديث آخػر‪ ،‬وىػو حػديث عبػد اهلل بػن عمػرو بػن العػاص رضػي اهلل عنػو‪ ،‬وأبػي ىريػرة‪ ،‬وعائشػة‪ ،‬رضػي اهلل عنهمػا؛ قػالوا‪ :‬قػاؿ‬
‫"ويل لألعقاب من النار"‪.‬‬
‫رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ٌ :‬‬
‫والويل‪ :‬ىو الهالؾ والعذاب‪ ،‬والسؤاؿ‪ :‬ماذا فعلت األعقاب حتى يكوف لها الويل والعذاب؟‬
‫ىذا الحديث لو قصة‪ ،‬ومعرفة القصة تُبين معنى الحديث‪.‬‬
‫والقصػػة‪ :‬أف الصػػحابة رضػػي اهلل عػػنهم كػػانوا فػػي سػػفر‪ ،‬فنزلػػوا منػػزال‪ ،‬وقػػد ضػػاقت علػػيهم الصػػالة‪ ،‬أي ضػػاؽ علػػيهم الوقػػت‪ ،‬فأخػػذوا فػػي الوضػػوء‬
‫واستعجلوا فيو حتى يدركوا الوقت‪ ،‬فمن استعجالهم وسرعتهم في الوضوء‪ ،‬أنهم أخذوا يمسحوف األعقاب دوف قصد منهم لذلك‪ ،‬فلم يقصدوا‬
‫المسح‪.‬‬
‫واألعقاب‪ :‬ىي مؤخرة األقداـ‪ ،‬أي الجزء األخير في القدـ الذي يمشي عليو اإلنساف‪.‬‬
‫بخالؼ العظمتاف الناتئتاف في جانب القدـ‪ ،‬ىذا يسمى الكعب‪ ،‬أما العقب‪ :‬ىو الجزء األخير مؤخرة القدـ‪.‬‬
‫"ويل لألعقاب من النار"‪.‬‬
‫فرأى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ذلك‪ ،‬فصاح فيهم وقاؿ‪ٌ :‬‬
‫فويل لو من النار‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬ال تستعجلوا في الوضوء فتمسحوا األعقاب بدال من أف تغسلوىا‪ ،‬فإف من فعل ذلك ٌ‬
‫ألف الذي يفعل ذلك فإنو لم يتم وضوؤه‪ ،‬وإف وضوءه ال يصح‪ ،‬وإذا لم يصح وضوؤه فإف صالتو تبطل‪.‬‬
‫وىذا الذي يقاؿ في األعقاب‪ ،‬يقاؿ في جمي المواض التي قد ال يصل إليها الماء عند االستعجاؿ في الوضوء‪ ،‬مثل المرافق مثال‪.‬‬
‫فينبغي لإلنساف إذا توضأ أف يتعاىد مواض الوضوء بعناية حتى يصلها الماء‪.‬‬
‫يستنبط أيضا من ىذا الحديث فوائد؛ أال وىي‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بشيء منها‪.‬‬ ‫الفائدة األولى‪ :‬وجوب االعتناء بأعضاء الوضوء‪ ،‬وعدـ اإلخالؿ‬
‫وإف كػػاف الػػنص فػػي الحػػديث علػػى القػػدمين‪ ،‬إال أف بقيػػة األعضػػاء مقيس ػةٌ عليهمػػا‪ ،‬وطبعػػا مسػػألة غسػػل القػػدمين ىػػي األصػػل إف كانػػت القػػدـ‬
‫مكشوفة‪ ،‬بخالؼ الشيعة اإلمامية‪ ،‬فيروف المسح على القدـ وأنها ال تغسل‪ ،‬وىذا ٌ‬
‫قوؿ باطل‪.‬‬
‫"ويل لألعقاب من النار"‪.‬‬
‫الفائدة الثانية‪ :‬الوعيد الشديد للمخل في الطهارة‪ ،‬كما جاء في الحديث‪ٌ :‬‬
‫واإلخالؿ في الطهارة لو صورتاف‪ :‬األولى‪ :‬اإلىماؿ في الوضوء‪ ،‬بعدـ استيعاب أعضاء الوضوء عند الوضوء‪،‬‬

‫‪10‬‬
‫والثانية‪ :‬اإلىماؿ في توقي النجاسة‪ ،‬كما جاء في حديث صاحب القبرين‪ ،‬عندما قاؿ النبػي صػلى اهلل عليػو وسػلم‪" :‬إنهمػا ليعػذباف‪ ،‬ومػا يعػذباف‬
‫في كبير‪ ،‬أما أحدىما فكاف يمشي بين الناس بالنميمة‪ ،‬وأما اآلخر فكاف ال يستنزه من البوؿ (أو ال يستبرئ من البوؿ) "‪.‬‬
‫أي‪ :‬ال يقي نفسو من البوؿ‪ ،‬فيتلطخ بالبوؿ ثم يصلي‪ ،‬ىذا مثلو مثل الذي يقصر في الوضوء‪.‬‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬أنو ال بد من غسل األعضاء في الوضوء وال يجزئ المسح‪.‬‬
‫والغُسل‪ :‬ىو سيالف الماء على العضو وانفصالو‪ ،‬فإف المسح ال يجزئ عن الغسل‪.‬‬
‫الفائدة الرابعػة‪ :‬استحباب دلك األعضاء‪.‬‬
‫ألف العقب إذا ساؿ عليو الماء قد يصل إلى ٍ‬
‫جزء دوف جزء‪ ،‬وال يستطي اإلنساف أف يغسل عقبو كامال ويتأكد من تعميمو بالماء إال بالدلك‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف رحمو اهلل الحديث الراب ‪:‬‬


‫ػاء ثػػم ليسػػتنثر‪ ،‬ومػػن اسػػتجمر‬
‫عػػن أبػػي ىريػػرة رضػػي اهلل عنػػو‪ ،‬أف رسػػوؿ اهلل (صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم) قػػاؿ‪" :‬إذا توضػػأ أحػػدكم فليجعػػل فػػي أنفػػو مػ ً‬
‫فليوتر‪ ،‬وإذ ا استيقظ أحدكم من نومو فليغسل يديو قبل أف يدخلهما في اإلناء ثالثا فإف أحدكم ال يدري أين باتت يده"‪.‬‬
‫ولفظ لمسلم‪" :‬فليستنشق بمنخريو من الماء"‪ ،‬وفي لفظ قاؿ‪" :‬من توضأ فليستنثر"‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قاؿ‪( :‬إذا توضأ أحدكم)‪ :‬إذا توضأ معناه أنو إذا انتهى من الوضوء فليجعل في أنفو الماء؟‬
‫الجواب‪ :‬ال؛ ليس ىذا ىو المراد؛ إنما "إذا توضأ أحدكم"‪ :‬أي إذا أراد أحدكم الوضوء‪ ،‬أو إذا شرع في الوضوء‪.‬‬
‫الرِج ِ‬ ‫الشيطَ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ْت الْ ُقرآ َف فَ ِ‬
‫يم يعني‪ :‬إذا أردت أف تقرأ القرآف "فاستعذ باهلل"‪.‬‬ ‫اف َّ‬ ‫استَع ْذ بِاللَّو م َن َّ ْ‬
‫ْ‬ ‫كقوؿ اهلل عز وجل‪{ :‬فَِإذَا قَػ َرأ َ ْ‬
‫وى ُك ْم َوأَيْ ِديَ ُك ْم أي إذا أردتم القياـ للصالة‪.‬‬ ‫وقوؿ اهلل عز وجل‪{ :‬يا أَيػُّها الَّ ِذين آمنُوا إِذَا قُمتم إِلَى َّ ِ ِ‬
‫الص َالة فَا ْغسلُوا ُو ُج َ‬ ‫ُْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ماء ثم ليستنثر"‪ ،‬ىذا الحديث فيو ثالث جمل‪:‬‬ ‫فقاؿ‪" :‬إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفو ً‬
‫الجملػػة األولػػى‪ :‬مػػا يتعلػػق بقضػػية االسػػتنثار واالستنشػػاؽ؛ وذلػػك فػػي قولػػو صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم‪" :‬إذا توضػػأ أحػػدكم فليجعػػل فػػي أنفػػو مػػاء ثػػم‬
‫ليستنثر"‪ ،‬وفي لفظ عند اإلماـ مسلم‪" :‬وليستنشق بمنخريو الماء"‪ ،‬وفي لفظ‪" :‬من توضأ فليستنشق"‪.‬‬
‫ىذه الجمل الثالث أو األلفاظ الثالث في الحديث‪ ،‬استدؿ بها على مسائل‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬ىي مسألة وجوب االستنشاؽ‪ ،‬وكذلك المضمضة؛ كما جاء في حديث لقيط بن صبرة رضي اهلل‪" :‬إذا توضأت فمضم "‪.‬‬
‫وىذا ما استدؿ بو اإلماـ أحمد عليو رحمة اهلل في مسألة وجوب االستنشاؽ‪ ،‬وكذلك في حديث لقيط استدؿ بها أيضا في وجوب المضمضة‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬ىي صفة االستنشاؽ؛ واالستنشاؽ لو صفتاف‪:‬‬
‫األولى‪ :‬صفة كماؿ؛ وىو أف يجعل اإلنساف الماء قريبا من أنفو‪ ،‬ثم يستنشقو حتى يصل إلى من منخره‪.‬‬
‫ماء‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬صفة إجزاء‪ ،‬وىي أقل من األولى‪ ،‬أو تستطي أف تقوؿ‪ :‬ىي أقل صفة من صفات االستنشاؽ‪ ،‬وىو أف يجعل العبد في أنفو ً‬
‫لقولو صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬فليجعل فيو أنفو ماء"‪ ،‬وأقل ما يمكن أف يتصور أف يوض في األنف الماء‪ :‬أف يبل المرء يده‪ ،‬ثم يضعها في أنفو‪.‬‬
‫أو أف يبل منديال أو خرقة فيضعها في أنفو‪ ،‬وىذا قد يحتاج إليو‪ ،‬ال سيما لمن كاف مريضا‪ ،‬أو بو أذى في أنفو وال يستطي استنشاؽ الماء‪.‬‬
‫ففي ىذه الحالة يسمى أيضا مستنشقا ألنو جعل في أنفو الماء‪.‬‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬أال وىي مسألة (االستنثار)‪ ،‬قاؿ‪" :‬فلينتثر" وىو إخراج الماء الذي دخل م االستنشاؽ‪.‬‬
‫ىل ىو سنة أـ واجب؟ الراجح أنو سنة وليس بواجب‪.‬‬
‫قاؿ العلماء‪ :‬ألف النبي (صلى اهلل عليػو وسػلم) أمػر فػي األحاديػث جميعػا باالستنشػاؽ‪ ،‬ولػم يػأمر فػي كلهػا باالسػتنثار‪ ،‬إنمػا أمػر فػي بعضػها دوف‬
‫البع ‪.‬‬
‫األحاديث‪.‬‬ ‫قاؿ العلماء‪ :‬إنما أمر باالستنثار كما أمر بالمبالغة في االستنشاؽ في بع‬
‫كما جاء في حديث لقيط بن صبرة‪" :‬وبالغ في االستنشاؽ ما لم تكن صائما"‪ ،‬فقالوا‪ :‬إف االستنشاؽ واجب‪ ،‬واالستنثار سنة‪.‬‬
‫وىذا مشهور مذىب اإلماـ أحمد عليو رحمة اهلل‪.‬‬
‫وفي قولو صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬إذا توضأ أحدكم" فهذا يدؿ على أف االستنشاؽ واجب فليستنشق في الوضوء‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫وكذلك في الغسل من باب أولى‪ ،‬ألف الوضوء جزءٌ من الغسل‪.‬‬
‫أما الجملة الثانية التي ذُكرت في الحديث‪ ،‬ىي ما يتعلق بقضية االستجمار‪ ،‬وذلك في قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ومن استجمر فليوتر"‪.‬‬
‫ما ىو االستجمار؟ االستجمار ىو قط الخارج من السبيلين‪ ،‬فإف كاف ٍ‬
‫بماء سمي استنجاء؛ وإف كاف بحجارة ونحوىا سمي استجمارا‪.‬‬
‫فاالستجمار من الجمر‪ ،‬وىي الحجارة الصغيرة‪ ،‬واالستجمار ال يكوف إال للخارج من السبيلين فقط‪.‬‬
‫وبناء على ىذا فإف النجاسة لو جاوزت المحل المعتػاد التػي تصػل إليػو فػي الخػارج مػن السػبيلين‪ ،‬أي مػا حػوؿ القبػل والػدبر‪ ،‬سػواء كػاف بػوال أو‬
‫غائطا‪ ،‬فال يجوز ازالتها إال بالماء‪.‬‬
‫االستجمار ىو إزالة حكم الخارج‪ ،‬وليس إزالة الخارج بالكلية‪ ،‬ألف المرء إذا استجمر في الحقيقة سيبقى شيءٌ من أثر النجاسة‪.‬‬
‫فإنك لو أتيت بمنديل‪ ،‬أو بحج ٍر‪ ،‬فمسحت جلدؾ‪ ،‬فال بد أف يبقى على الجلد شيءٌ‪ ،‬ولذلك نقوؿ أنو إزالة حكم النجاسة‪.‬‬
‫ثم تأتي بعد ذلك مسألةٌ أخرى‪ ،‬أال وىي مسألة "من استجمر فليوتر"‪ ،‬والوتر معناه‪ :‬أف يقط النجاسة على وتر‪ ،‬أي أف يكوف المسح وترا‪.‬‬
‫وأقل الوتر كم؟ الوتر يبدأ بواحد؛ وال شك أف ىذا ليس ىو المراد‪ ،‬ولكن المراد ىو الوتر الذي جاء بعده‪ ،‬وىو الثالث‪.‬‬
‫من أين عرفنا ذلك؟ كما جاء في حديث سلماف (رضي اهلل عنو)‪" :‬نهانا النبي "صلى اهلل عليو وسلم) وسلم أف نستنجي بأقل من ثالثة أحجار"‪.‬‬
‫فصار ىذا ىو المراد‪ ،‬أو ىو أقل المراد‪.‬‬
‫الجملة الثالثة في الحديث‪ :‬وىي ما يتعلق بغسل اليد بعد االستيقاظ من النوـ‪.‬‬
‫وذلك في قولو‪" :‬إذا استيقظ أحدكم من نومو فليغسل يديو قبل أف يدخلهما في اإلناء ثالثا‪ ،‬فإف أحدكم ال يدري أين باتت يده"‪.‬‬
‫ىذه الجملة "إذا استيقظ أحدكم من نوـ"؛ أي ٍ‬
‫نوـ يقصد الشارع؟‬
‫سواء كاف نوـ ٍ‬
‫ليل‪ ،‬أو نهار‪.‬‬ ‫جمهور أىل العلم على أنو أي ٍ‬
‫الوضوء‪ً ،‬‬ ‫نوـ ينق‬
‫خالفا لإلماـ أحمد‪ ،‬فإف اإلماـ أحمد عليو رحمة اهلل يقوؿ‪ :‬المقصود بو ىو نوـ الليل فقط‪.‬‬
‫لماذا؟ قاؿ‪ :‬ألف في الحديث قرائن تدؿ على أف المراد ىو نوـ الليل‪.‬‬
‫ما ىي ىذه القرائن؟ قاؿ؛ أوال‪ :‬جاء في رواية الترمذي رحمو اهلل أنو قاؿ‪" :‬إذا استيقظ أحدكم من الليل"؛ أي من نوـ ليل‪.‬‬
‫وفي ىذا الحديث الذي بين أيدينا قاؿ‪" :‬فإنو ال يدري أين باتت يده"‪ ،‬والبيتوتة ال تكوف إال في الليل‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪" :‬فإنو ال يدري أين باتت يده"‪ ،‬وفي ىذا كناية لطيفة ال أريد أف أمر دوف أف أذكرىا؛ ىػذه الكنايػة تػدؿ علػى أدب النبػي (صػلى اهلل عليػو‬
‫وسلم) الجم في الحديث‪ ،‬وىو أنو قاؿ‪" :‬فإنو ال يدري أين باتت يده"‪.‬‬
‫ألف العلماء يقولوف‪ :‬أف ما يُستحيا من ذكره‪ ،‬يذكر باإلشارة‪ ،‬وإال فمعلوـ أين تبيت يده‪.‬‬
‫قد تصيب موض النجاسة وىو ال يدري‪.‬‬
‫"فعليو"‪ :‬أي ينبغي عليو‪ .‬ىنا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لم يذكر النجاسة‪ ،‬وإنما قاؿ باإلشارة "فإنو ال يدري أين باتت يده"‪.‬‬
‫فعلى اإلنساف أف يغسل يديو ثالثا قبل غمسها في اإلناء‪ ،‬ذلك ألنها لو لمست موض النجاسة ثم وضعها في اإلناء قبػل غسػلها‪ ،‬فعلػى مػذىب‬
‫اإلماـ أحمد اف ىذا الماء يسلب الطهورية‪.‬‬
‫فيصبح ىذا الماء طاىرا ال يرف الحدث‪ ،‬ذلك إذا كاف الماء أقل من القلتين‪.‬‬
‫يستنبط من ىذا الحديث فوائد‪:‬‬
‫الفائدة األولى‪ :‬وجوب االستنشاؽ‪ ،‬واستحباب االستنثار‪ ،‬على الراجح من أقواؿ العلم‪.‬‬
‫الفائدة الثانية‪ :‬وجوب اإليتار في االسػتجمار‪ ،‬لحػديث سػلماف (رضػي اهلل عنػو) قػاؿ‪" :‬نهانػا النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) أف نسػتنجي بأقػل مػن‬
‫ثالثة أحجار"‪.‬فهب أنو استنجى بثالثة أحجار ولم تنقط النجاسة؟‬
‫ٍ‬
‫بخامسة حتى يقط االستجمار على وت ٍر‪.‬‬ ‫وجوبا عليو أف يأتي برابعة‪ ،‬فإذا أنقت الرابعة يستحب لو أف يأتي‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬أف االستجمار مشروع مطلقا‪ ،‬وليس من الدين تركو‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫الناس ممن يصاب بالوسواس يقوؿ‪ :‬إف االستجمار ال بد أف يبقى معو شيءٌ من النجاسة‪ ،‬فيتػرؾ االسػتجمار إنػا منػو أنػو ال يشػرع مػ‬ ‫ألف بع‬
‫وجود الماء‪ ،‬لكنو الصحيح أف ىذا يجوز‪ ،‬وىذا يجوز‪ ،‬حتى واف كاف الماء موجودا‪ ،‬ولكن الماء أفضػل فػي اإلنقػاء ألنػو يزيػل النجاسػة‪ ،‬ال يزيػل‬
‫الحكم فقط‪ ،‬إنما يزيلو أصل النجاسة‪.‬‬
‫الفائدة التي بعد ذلك ىي‪ :‬وجوب غسل اإلنساف ليديو ثالث مرات إذا قاـ من نومو قبل أف يدخلهما في اإلناء‪.‬‬
‫لحديث النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫الفائدة التي بعد ذلك‪ :‬وجوب االحتياط‪ ،‬ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أمر بغسل اليد احتياطيا في قولو‪" :‬فإنو ال يدري أين باتت يده"‪.‬‬
‫قد تصيب موض النجاسة‪ ،‬فاحتياطا يغسل يده لذلك‪.‬‬
‫الفائدة السادسة‪ :‬أف علم اإلنساف قاصر‪ ،‬أو‪ :‬قصور علم اإلنساف بحاؿ نفسو‪ ،‬وىذا يظهر في قولو‪" :‬فإف أحدكم ال يدري أين باتت يده"‪.‬‬
‫الفائدة التي بعد ذلك‪ :‬وجوب الوضوء من النوـ من باب أولى‪ ،‬ألنو إذا كاف ال يدري أين باتت يده‪ ،‬فهو كذلك ال يدري ىل خرج منػو شػيءٌ أـ‬
‫ال‪ ،‬وقد ذكر اإلماـ النووي عليو رحمة اهلل في كتابو [بستاف العارفين] قصة‪ :‬أنو كاف ىناؾ رجال سمجا في بلػده (نينػوى)‪ ،‬عػرض ىػذا الحػديث‪،‬‬
‫فلما قيل لو "فإنو ال يدري أين باتت يده) قاؿ‪ :‬أين تبيت يدي؟ تبيت بجانبي‪.‬‬
‫فلما ذىب ليناـ ربط يده في سريره‪ ،‬فلما استيقظ وجد يده على موطن النجاسة‪.‬‬
‫اإلماـ النووي قاؿ‪ :‬وصارت ىذه القصة عندنا في بلدنا مشهورة حتى بلغت حد التواتر‪.‬‬
‫الفائدة التي بعد ذلك‪ :‬حسػن تعلػيم النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) لألمػة‪ ،‬حيػث ذكػر لهػم فػي ىػذا الحػديث مسػألة الوضػوء‪ ،‬ومسػألة االسػتنثار‪،‬‬
‫ومسألة االستجمار‪ ،‬ومسألة غسل اليدين أيضا بعد االستيقاظ من النوـ‪.‬‬
‫فهذا من حسن تعليم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ألمتو‪.‬‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬اذكر ترجمةً مختصرةً لإلماـ المقدسي عليو رحمة اهلل‪ ،‬واذكر لماذا تم اختيار ىذا الكتاب‪ ،‬وما الذي يميزه‬
‫عن غيره من الكتب التي ذَكرت أحاديث األحكاـ‪ ،‬وىذا قد ذكرتو في درس المقدمة‪.‬‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما عالقة ذكر حديث أمير المؤمنين عمر في مقدمة باب الطهارة؟‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ما معنى النية لغةً وإصالحا؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬ما فائدة الحصر التي ذكرت في الحديث في قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إنما األعماؿ بالنيات"؟‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬ما الفائدة التي تستنبط من قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم "فمن كانت ىجرتو إلى اهلل ورسولو فهجرتو‬
‫إلى اهلل ورسولو"؛‬
‫وقولو صلى اهلل عليو وسلم "ومن كانت ىجرتو إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرتو إلى ما ىاجر إليو"؟‬
‫السؤاؿ األخير‪ :‬اذكر الفوائد المستنبطة من حديث "إنما األعماؿ بالنيات وإنما لكل امر ٍئ ما نوى"‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫المحاضػ ػػرة الثالث ػ ػػة‬
‫ال يزاؿ الحديث في باب الطهارة‪.‬‬
‫وقد ذكر المصنف فيو الحديث الخامس‪ ،‬عن أبي ىريرة رضي اهلل‪ ،‬عنو أف رسػوؿ اهلل (صػلى اهلل عليػو وسػلم) قػاؿ‪" :‬ال يبػولن أحػدكم فػي المػاء‬
‫الدائم الذي ال يجري ثم يغتسل فيو"‪ ،‬وعند اإلماـ مسلم قاؿ‪" :‬ال يغتسل أحدكم في الماء الدائم وىو جنب"‪.‬‬
‫واضح شديد‪ ،‬وذلك اللتصاؽ الفعل المضارع بنوف التوكيد الثقيلة‪ .‬قاؿ‪" :‬ال يبولن"‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫نهي‬
‫ىذا الحديث فيو ٌ‬
‫ففيو نهي شديد لإلنساف عن البوؿ في الماء الدائم الذي ال يجري‪ ،‬ثم يذىب يغتسل منو‪.‬‬
‫معلوـ أنو نجس ثم يذىب ويغتسل فيو‪.‬‬
‫ألف ىذا فيو من التضاد ما ىو إاىر‪ ،‬فكيف يبوؿ االنساف في الماء‪ ،‬والبوؿ ٌ‬
‫في رواية اإلماـ مسلم قاؿ‪" :‬ال يغتسل أحدكم في الماء الدائم وىو جنب"‪ ،‬ففي الرواية األولى نهى عػن البػوؿ فػي المػاء الػدائم الػذي ال يجػري‬
‫ثم يذىب يغتسل فيو‪ ،‬وىنا نهى أف يغتسل من الجنابة في الماء الدائم‪.‬‬
‫فيكوف النهي وارٌد من وجهين‪:‬‬
‫سواء اغتسل فيو أو ال‪ ،‬وىذا ألنو لو جاء أحد وباؿ في الماء الراكد‪ ،‬ثم جاء آخ ٌػر وبػاؿ‪ ،‬وجػاء‬
‫الوجو األوؿ‪ :‬النهي عن البوؿ في الماء الراكد‪ً ،‬‬
‫آخر وباؿ؛ فإف الماء يفسد‪.‬‬
‫ٌ‬
‫الوجو الثاني‪ :‬البوؿ في الماء الراكد ثم االغتساؿ فيو‪ ،‬فال شك أنو أشد قبحا‪ ،‬فإذا كاف النهي عن البوؿ فيو م عػدـ االغتسػاؿ فيػو منهػي عنػو‪،‬‬
‫فال شك أنو م االغتساؿ أولى‪.‬‬
‫والماء لو أحكاـ ‪.‬أنتم تعلموف أف الماء على حسب تقسيم العلماء أقساـ‪.‬‬
‫منهم من قسم الماء إلى قسمين‪ :‬طهور ونجس‪.‬‬
‫ومنهم من قسمو ثالثة أقساـ‪ :‬طهور وطاىر ونجس‪.‬‬
‫على ٍ‬
‫كل؛ فالطهور‪ :‬ىو الذي يجوز رف الحدث بو‪ ،‬فإذا تغير سلبت طهوريتو‪ ،‬لو أف ماء تغير بطاىر فهو طاىر‪ ،‬يزيل الخبث‪ ،‬وال يرف الحدث‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بنجاسة فهو نجس‪ ،‬ال يزيل الخبث‪ ،‬وال يرف الحدث‪ ،‬ألنو في أصلو نجس‪.‬‬ ‫وإف تغير‬
‫والعلماء فصلوا في سقوط النجاسة في الماء‪ ،‬فجعلوا حدا للقلة وحدا للكثرة‪ ،‬فقالوا‪( :‬إذا سقطت النجاسة في الماء الكثير)‪.‬‬
‫الماء الكثير‪ :‬عرفو النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪ ،‬وىو مقدار القلتين‪.‬‬
‫في حديث النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪" :‬إذا بلغ الماء قلتين فإنو ال يحمل الخبث"‪.‬‬
‫فمقدار القلتين فأكثر‪ ،‬ىو الكثير والقليل‪ :‬ىو ما دوف القلتين‪.‬‬
‫واختلف العلماء في تقدير القلتين وعلى ٍ‬
‫كل قدروىا تقريبا بمئتي كيلو من الماء‪.‬‬
‫فإذا سقطت النجاسة في الكثير من الماء فينظر؛ ىل تغير أـ ال؟‬
‫فاذا تغير بالنجاسة فهو نجس باإلجماع‪ ،‬وإف لم يتغير فهو طهور باإلجماع‪.‬‬
‫فماذا لو سقطت النجاسة في القليل؟ قاؿ العلماء‪ :‬فإف تغير فهو نجس باإلجماع‪.‬‬
‫وإف لم يتغير فهو محل خالؼ بين أىل العلم‪ ،‬وقوؿ جمهور أىل العلم أنو نجس‪ ،‬واستدلوا بحديث القلتين‪.‬‬
‫قاؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪" :‬إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث"‪.‬‬
‫ففهم بمفهوـ المخالفة أنو إذا كاف دوف القلتين فإنو يحمل الخبث‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬إذا كاف الماء قليال فإنو بمجرد مالقاتو النجاسة فهو ينجس‪.‬‬
‫ىذا الحديث فيو فوائد‪:‬‬
‫‪ ‬من فوائد ىذا الحديث أنو ال يجوز لإلنساف أف يبوؿ في الماء ثم يغتسل فيو ‪ ،‬ألنو مظنة النجاسة‪ ،‬وفد يتنجس بالفعل إف كاف قليال‪.‬‬
‫‪ ‬إذا كاف الماء كثيػرا جاريػا‪ ،‬فػال بػأس أف يبػوؿ اإلنسػاف أو يغتسػل فيػو‪ ،‬ألف المػاء فيػو متكػاثر‪ ،‬كالمػاء المسػتبحر مػثال كاألنهػار والبحػار‬
‫والمحيطات‪ ،‬م أف األفضل اجتنابو‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫األحياف قد يكوف أغلى من الماؿ‪،‬‬ ‫‪ ‬الفائدة الثالثة‪ :‬حرص الشارع على كماؿ الطهارة‪ ،‬والبعد عن وسائل تنجيس المياه‪ ،‬فالماء في بع‬
‫وذلك في وقت الحاجة إليو‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الرابعة‪ :‬النهي عن كل شيء من شأنو األذى واالعتداء‪ ،‬وىذا من محاسن الشريعة اإلسالمية‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى حديث آخر‪ :‬حديث أبي ىريرة أيضا رضي اهلل عنو‪ ،‬أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إذا شرب الكلب في إناء‬
‫أحػػدكم فليغسػػلو سػػبعا) ولمسػ ٍ‬
‫ػلم‪" :‬أوالىػػن بػػالتراب"‪ ،‬وقػػد جػػاء فػػي الحػػديث السػػاب ‪ ،‬حػػديث عبػػداهلل بػػن مغفػػل‪ ،‬أف رسػػوؿ اهلل (صػػلى اهلل عليػػو‬
‫وسلم) قاؿ‪" :‬إذا ولغ الكلب في اإلناء‪ ،‬فاغسلوه سبعا‪ ،‬وعفروه الثامنة بالتراب"‪.‬‬
‫الحديث األوؿ‪" :‬إذا شرب الكلب في إناء أحدكم" ىذا الحديث أصل في االستدالؿ على نجاسة الكلب‪.‬‬
‫والكلب قد جاء الشرع تخصيصو بأحكاـ دوف غيره من البهائم والسباع‪ ،‬فنجاسة الكلب نجاسة مغلظػة‪ ،‬ذلػك ألنػو لػم يشػرع تسػبي الغسػالت‬
‫وال التتريب إال في لعاب الكلب‪.‬‬
‫والجمهور على أف الكلب نجس‪ ،‬خالفا للمالكية‪.‬‬
‫وقد جاء في الشرع أحكاـ بالنسبة للكلب‪.‬‬
‫منها أف الكلب ال يجوز امتالكو من غير حاجة‪ ،‬والحاجة‪ :‬إما أف تكوف للحراسة‪ ،‬أو للصيد‪ ،‬أو للحرث‪.‬‬
‫وأف اإلنساف إذا اقتنى كلبا لغير حاجة نقص من أجره كل يوـ قيراط‪.‬‬
‫وكذلك نهى الشرع عن بي الكلب‪ ،‬وبين أف ثمن الكلب خبيث‪ ،‬وىذا الحديث أصل كما ذكرت في نجاسة الكلب‪.‬‬
‫فهنا في الحديث قاؿ‪" :‬إذا شرب الكلب في إناء أحدكم"‪ ،‬فالشرب معروؼ؛ وىو أف يض فمو في اإلناء ويشرب‪.‬‬
‫وفي حديث عبداهلل بن مغفل قاؿ‪ :‬إذا ولغ الكلب في اإلناء"‪.‬‬
‫فهل ىناؾ فر ٌؽ بين الشرب‪ ،‬وبين ولوغ الكلب؟‬
‫‪ ‬بعضهم قاؿ‪ :‬الولوغ ىو الشرب؛ نفس المعنى‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬الولوغ ىو الشرب بطرؼ اللساف‪.‬‬ ‫‪ ‬والبع‬
‫بخالؼ الشرب العادي الذي يض فيو الكلب فمو في اإلناء‪ ،‬فقالوا إف الولوغ فيو زيادة‪.‬‬
‫ما ىي الزيادة؟ قالوا‪ :‬ىو الشرب بطرؼ اللساف‪ ،‬وىو تحريك اللساف داخل اإلناء‪ ،‬حتى وإف لم يشرب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بكلب دوف كلب؟‬ ‫خاص‬
‫فهل ىذا يشمل جمي الكالب؟ أـ أف ىذا ٌ‬
‫كلب مشروع اقتناؤه‪ ،‬ككلب الصيد وكلب الحرث‪.‬‬
‫ال سيما إذا عرفت أف ىناؾ ٌ‬
‫العلماء على أف النجاسة تعم جمي الكالب‪ ،‬يعني كل الكالب نجسة‪.‬‬
‫وقالوا‪( :‬إذا شرب الكلب) فاأللف والالـ ىنا لالستغراؽ‪ ،‬لتشمل أي كلب‪ ،‬حتى المأذوف فيو شرعا‪.‬‬
‫وقولو‪( :‬إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسلو) فليغسلو‪ :‬الفاء ىنا مصاحبة لفعل األمػر تػدؿ علػى الوجػوب‪ ،‬ليبػين أنػو البػد مػن الغسػل‪ ،‬وال‬
‫يكفي النضح أو المسح‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬أوالىن بالتراب) أي أولى ىذه الغسالت بالتراب‪ ،‬فال يكفي رش التراب عليو‪ ،‬أو وض التراب عليو؛ بل ال بد أف يكوف م التراب ماء‪.‬‬
‫أي أف يكوف ممزوجا بالماء‪ ،‬ألنو قاؿ‪( :‬إحداىن) أي إحدى ىذه الغسالت تكوف بالتراب‪.‬‬
‫فعند اإلماـ مسلم قاؿ‪" :‬أوالىن بالتراب"‪.‬‬ ‫وقد تعددت الروايات‪:‬‬
‫وعند اإلماـ الترمذي‪ ،‬قاؿ‪" :‬أخراىن بالتراب"‪.‬‬
‫وقد جاءت في الثامنة كما في حديث عبداهلل بن مغفل أيضا عند مسلم قاؿ‪" :‬وعفروه الثامنة"‪ ،‬أي‪ :‬عفروه الثامنة بالتراب‪.‬‬
‫فدؿ تعدد ىذه الروايات أنو يجوز أف تكوف غسلة التراب في األولى‪ ،‬أو تكوف في الوسطى‪ ،‬أو في األخيرة‪.‬‬
‫لكن النزاع بين أىل العلم في األفضلية‪.‬‬
‫ىل األفضل أف تكوف في األولى؟ أـ تكوف في الوسط؟ أـ تكوف في اآلخر؟‬

‫‪15‬‬
‫قالوا‪ :‬إف األولى أف تكوف في األولى‪ ،‬للرواية التي جاءت عند اإلماـ مسلم‪( :‬أوالىن بالتراب)‪.‬‬
‫أما قولو‪( :‬وعفروه الثامنة)‪ ،‬التعفير‪ :‬ىو التمريغ بالتراب‪.‬‬
‫وىذا أيضا ال ينفك عما سبق ذكره‪ ،‬من أف التراب يكوف م واحدة من الغسالت السب ‪.‬‬
‫ولكن سماىا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) (ثامنة)‪ :‬قيل إف اعتبر انفصالها عن الماء‪ ،‬ال تكوف لوحدىا طبعا؛ لكػن طبعػا ىػذا ال ينبغػي‪ ،‬ال بػد أف‬
‫تكوف م الماء‪ ،‬وإال التراب وحده ال يكفي‪ ،‬إنما يكوف ممزوجا بالماء‪ ،‬وإال فهي واحدة من السب ‪ ،‬الشتراكها م إحدى الغسالت‪.‬‬
‫ىن سب ؛ لكن لو قمنا بعد التراب وحدىا‪ ،‬ستكوف التراب ىي الثامنة‪ ،‬لكن ىي داخلةٌ فيها‪ ،‬فتكوف سب إحداىن بالتراب‪.‬‬
‫ىذا الحديث أيضا فوائد‪ ،‬من ىذه الفوائد‪:‬‬
‫الفائدة األولى‪ :‬وجوب تطهير ما ولغ فيو الكلب‪ ،‬أف يغسل سب مرات أوالىن بالتراب‪.‬‬
‫وذكرنا أف ىذا ىو األفضل‪ ،‬حتى يأتي الماء بعده مرة ومرة ومرة‪ ،‬سب مرات‪ ،‬حتى ينقى االناء‪.‬‬
‫الفائدة الثانية‪ :‬أنو ال فرؽ بين الكلب الذي يباح اقتناؤه‪ ،‬والكلب الذي ال يباح اقتناؤه في النجاسة‪.‬‬
‫والكلب الذي يجوز اقتناؤه‪ :‬ىو كلب الماشية‪ ،‬أو كلب الصيد‪ ،‬أو كلب الحراسة‪.‬‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬أف التسبي والتتريب في غسل اإلناء الذي ولغ فيو الكلب أو شرب فيو‪ ،‬يدؿ على تغليظ نجاسة الكلب‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف عليو رحمة اهلل إلى حديث آخر يبين فيو كيفية وضوء النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫فقاؿ‪ :‬عن حمراف مػولى عثمػاف بػن عفػاف‪ ،‬أنػو رأى عثمػاف دعػا بوض ٍ‬
‫ػوء‪ ،‬فػأفرغ علػى يديػو مػن إنائػو‪ ،‬فغسػلهما ثػالث مػرات‪ ،‬ثػم أدخػل يمينػو فػي‬
‫واستنشق واستنثر‪ ،‬ثم غسل وجهو ثالثا‪ ،‬ويديو إلى المرفقين ثالثػا‪ ،‬ثػم مسػح برأسػو‪ ،‬ثػم غسػل كلتػا رجليػو ثالثػا‪ ،‬ثػم قػاؿ‪:‬‬ ‫الوضوء‪ ،‬ثم تمضم‬
‫"رأيت النبي (صلى اهلل عليو وسلم) توضأ نحو وضوئي ىذا وقاؿ‪" :‬من توضأ نحو وضوئي ىذا‪ ،‬ثم صلى ركعتين ال يحدث فيهما نفسو‪ ،‬غفر اهلل‬
‫لو ما تقدـ من ذنبو"‪.‬‬
‫مولى لعثماف رضي اهلل عنو‪ ،‬وأعتقو عثماف بن عفاف (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫قاؿ في ىذا الحديث‪( :‬عن حمراف مولى عثماف)‪ ،‬حمراف‪ :‬كاف ً‬
‫وعثماف‪ :‬ىو ثالث الخلفاء الراشدين‪ ،‬ولو مناقب عظيمة‪.‬‬
‫قاؿ أنو (رأى عثماف دعا َبوضوء) قاؿ دعا َبوضوء وليس ُبوضوء‪.‬‬
‫والوضوء بالضم‪ :‬ىو الفعل‪ ،‬أي العمل الذي يقوـ بو‪.‬‬
‫الوضوء بالفتح‪ :‬ىو الماء المستعمل في الوضوء‪ُ ،‬‬
‫والفرؽ‪ :‬أف َ‬
‫نهي عن غمس اليدين في‬
‫فقاؿ‪( :‬فأفرغ على يده من إنائو)‪ ،‬أوؿ ما بدأ‪ ،‬ما غمس يده في اإلناء‪ ،‬وىذا يبين لك ما مر معنا قبل ذلك‪ ،‬أف ىناؾ ٌ‬
‫اإلناء قبل غسلهما‪ ،‬والنهي إما أف يكوف نهي كراىة‪ ،‬وإما أف يكوف تحريم‪.‬‬
‫ويستنشق بعد ذلك‪.‬‬ ‫ثم بعد ما غسلهما (أدخل يمينو في الوضوء) ي أنو أخذ بيمينو ليفرغ على شمالو‪ ،‬أو ليتمضم‬
‫(فأدخل يده في اإلناء) وىذا يدؿ على أف الغمس بعد الغسل ليس ممنوعا‪.‬‬
‫المضمضة‪ :‬ىي إدخاؿ الماء في الفم‪ ،‬وإدارتو داخل الفم‪.‬‬ ‫واستنشق واستنثر)‪:‬‬ ‫(ثم تمضم‬
‫االستنشاؽ‪ :‬ىو أف يستنشق الماء إلى داخل منخره‪.‬‬
‫االستنثار‪ :‬ىو إخراج الماء الذي استنشقو‪.‬‬
‫ثالثػػا‪،‬‬ ‫(ثػػم غسػػل وجهػػو ثالثػػا) يعنػػي فػػي المضمضػػة واالستنشػػاؽ لػػم يبػػين العػػدد‪ ،‬وإف كػػاف فػػي األحاديػػث األخػػرى بينػػت العػػدد‪ ،‬أنػػو تمضػػم‬
‫واستنشق كذلك ثالثا‪( ،‬ثم غسل وجهو ثالثا)‪ ،‬والوجو‪ :‬ىو ما تحدث بو المواجهة‪ ،‬وطبعا الفم واألنف من الوجو‪.‬‬
‫وحد الوجو‪ :‬من األذف إلى األذف عرضا‪ ،‬ومن منبت الشعر المعتاد إلى أسفل الذقن‪ ،‬أو أسفل اللحية‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪( :‬ويديو إلى المرفقين ثالثا)‪ ،‬والمرفقاف ىما‪ :‬مفصل الذراع من العضد‪.‬‬
‫وسمي مرفقين‪ :‬ألف اإلنساف يرتفق بهما‪ ،‬أي يتكئ عليهما‪ ،‬وىما داخالف في الغسل أيضا‪ ،‬لورود ذلك عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫فعند اإلماـ مسلم‪" :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) غسل ذراعيو حتى شرع في العضد"‪.‬‬
‫وقاؿ أبو ىريرة (رضي اهلل عنو)‪" :‬ىكذا رأيت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يفعل"‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫الرأس‪،‬‬ ‫قاؿ‪( :‬ثم مسح برأسو) والباء ىنا اختلف العلماء‪ ،‬ىل الباء ىنا للتبعي ؟ أي مسح جزءا من الرأس‪ ،‬أي بع‬
‫أـ ىي لإللصاؽ؟ ليلصق المسح بالرأس كلو‪ ،‬والراجح أف الباء لإللصاؽ‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬ثم مسح برأسو‪ ،‬ثم غسل كلتا رجليو ثالثا)‪ ،‬ثم قاؿ‪" :‬رأيت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يفعل ذلك"‪ ،‬أو "رأيت رسوؿ اهلل (صلى اهلل‬
‫عليو وسلم) توضأ نحو وضوئي ىذا"‪.‬‬
‫(كلتا رجليو ثالثا)‪ :‬أي غسل الرجلين إلى الكعبين‪ ،‬وىما العظمتاف الناتئتاف على جانبي القدـ‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪( :‬من توضأ نحو وضوئي ىذا)‪ :‬أي‪ :‬مثل وضوئي ىذا‪ ،‬أو قريبا من وضوئي ىذا‪.‬‬
‫أىػل العلػم قػاؿ‪ :‬ومػن منػا لػم تحػدث نفسػو‪ ،‬ولػم تأتيػو خػاطرةٌ مػن‬ ‫(ثم صلى ركعتين ال يحدث فيهما نفسو غفر اهلل لو مػا تقػدـ مػن ذنبػو)‪ :‬بعػ‬
‫خواطر الدنيا تخطر ببالو‪.‬‬
‫كلنا يأتينا ذلك‪ .‬فما المقصود إذا كاف كلنا يأتينا ذلك؟‬
‫قالوا‪ :‬أف المقصود أنو من جاءتو تلك الخواطر فإنو يدفعها‪ ،‬وال يسترسل معها‪.‬‬
‫فإف دفعها ولم يسترسل معها‪ ،‬ىذا الذي لم تحدثو نفسو‪ ،‬ذلك ألنو لم يستسلم لخواطره‪.‬‬
‫ىذا الحديث يستنبط منو فوائد‪ ،‬من ىذه الفوائد‪:‬‬
‫الفائػػدة األولػى‪ :‬ذكػػر صػػفة مػػن صػػفات وضػػوء النبػػي (صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم)‪ ،‬ألف صػػفات وضػػوء النبػػي جػػاءت فػػي أحاديػػث‪ ،‬وجػػاءت‬
‫صفات متعددة‪ ،‬فهنا ذكر صفة من صفات وضوء النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫الفائدة الثانية‪ :‬تواض الخلفاء الراشػدين‪ ،‬الخليفػة؛ أميػر المػؤمنين‪ ،‬يػأتي بمػاء‪ ،‬ويعلػم أصػحابو كيػف كػاف وضػوء النبػي (صػلى اهلل عليػو‬
‫وسلم)‪.‬‬
‫الفائدة الثالثة‪ :‬أف التعليم بالفعل أقوى من التعليم بالقوؿ‪ ،‬ألف اإلنساف إذا شاىد ثبتت الصورة في ذىنو‪ ،‬بخالؼ ما يسم فقط‪ ،‬فإذا‬
‫كاف مشاىدا للصورة‪ ،‬فإف الصورة تثبت في ذىنو‪.‬‬
‫الفائدة الرابعة‪ :‬استحباب غسل الكفين ثالثا قبػل البػدء فػي الوضػوء‪ ،‬وطبعػا فػي الحػديث قػاؿ‪" :‬فػأفرغ علػى يديػو مػن إنائػو‪ ،‬فغسػلهما‬
‫ثالث مرات"‪.‬‬
‫وكػػذلك مػػن الفوائػػد‪ :‬االقتصػػاد فػػي اسػػتعماؿ المػػاء‪ ،‬والعلمػػاء تكلمػػوا فػػي ىػػذا بشػ ٍ‬
‫ػيء لطيػػف؛ قػػالوا‪ :‬أف عثمػػاف م ػ أنػػو خليفػػة‪ ،‬وأميػػر‬
‫بغالـ ليصب عليو الماء‪ ،‬وال شك أف الصب الدائم فيو إىدار للماء‪ ،‬لكنو أخذ يفػرغ مػن اإلنػاء علػى يديػو‪ ،‬فعنػدما‬ ‫للمؤمنين‪ ،‬لم يأت ٍ‬
‫يفرغ ىو‪ ،‬فإنو يفرغ بقدر الحاجة‪ ،‬فاستدلوا من ىذا الفعل باالقتصاد في استعماؿ الماء‪ ،‬حيث أنو كاف يفرغ على قدر حاجتو‪.‬‬
‫الفائدة السادسة‪ :‬أنو ال يسن غسل الرأس؛ م أنو غسل الوجو‪ ،‬وغسل اليدين‪ ،‬وغسل الرجلين؛ لكن قاؿ‪( :‬ثم مسح برأسو)‪.‬‬
‫فالرأس ال يكوف لها إال المسح‪ ،‬فلو غسل فقد خالف‪ ،‬ألف مسح الرأس ىذا فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وقد قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬من عمل عمال ليس عليو أمرنا فهو رد" أي مردود عليو غير مقبوؿ‪.‬‬
‫الفائدة السابعة‪ :‬أف تحديث النفس ينقص من أجر الصػالة‪ ،‬وال يبطلهػا‪ ،‬يعنػي كلنػا يأتيػو الخػواطر‪ ،‬فلػو قلنػا بػأف تحػديث الػنفس يبطػل‬
‫ٍ‬
‫إلنساف أبدا‪.‬‬ ‫الصالة‪ ،‬ال تجد صالةً صحيحة‬
‫الفائػدة الثامنػة‪ :‬أف غفػػراف مػا تقػػدـ مػن الػػذنوب لػو شػػروط كمػا جػػاء فػي الحػػديث‪" :‬مػن توضػػأ نحػو وضػػوئي ىػذا‪ ،‬ثػػم صػلى ركعتػػين‪ ،‬ال‬
‫يحدث فيهما نفسو‪ ،‬غفر اهلل لو ما تقدـ من ذنبو"‪.‬‬
‫ما ىي ىذه الشروط؟‬
‫الشرط األوؿ‪ :‬أف يتوضأ على الكيفية المذكورة‪ ،‬ألنو قاؿ "من توضأ نحو وضوئي ىذا"‪ ،‬يعني مثل وضوئي ىذا أو قريبا منو‪.‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬أف يصلي ركعتين ال يحدث فيهما نفسو‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أال تنقص الصالة عن ركعتين‪ ،‬لكن ىنا م مغفرة ىذه الذنوب؛ أي الذنوب التي تكفر؟ ىل ىي الصغائر أـ الكبائر‬
‫خالؼ بين أىل العلم‪.‬‬
‫ٌ‬

‫‪17‬‬
‫وإاىر الحديث يدؿ على أنو يغفر لو حتى الكبائر؛ لقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬غفر لو ما تقدـ من ذنبو"‪.‬‬
‫أىل العلم‪.‬‬ ‫تكفر كل الذنوب‪ ،‬إاىر حديث يدؿ على ذلك‪ ،‬وىذا قوؿ بع‬
‫لكن الجمهور على أف الحسنات تكفر الصغائر من السيئات فقط‪.‬‬
‫أي تكفير الحسنات للسيئات يشمل الصغائر فقط‪.‬‬
‫مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫واستدلوا بحديث‪" :‬الصلوات الخمس‪ ،‬والجمعة إلى الجمعة‪ ،‬ورمضاف إلى رمضاف‪،‬‬
‫وم ىذا؛ فإننا ال نحجر واسعا‪ ،‬فإف فضل اهلل عز وجل عظيم‪ ،‬ورحمتو وسعت كل شيء‪.‬‬
‫الفائدة التي بعد ذلك التي استنبطها العلماء من ىذا الحديث‪ :‬وجوب الترتيب في غسل األعضاء‪.‬‬
‫الص َػالةِ فَا ْغ ِسػلُوا وجػوى ُكم وأَي ِػدي ُكم إِلَػى الْمرافِ ِػق وامسػحوا بِرء ِ‬
‫وسػ ُك ْم‬ ‫آمنُوا إِ َذا قُ ْمػتُ ْم إِلَػى َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ََ َ ْ َ ُ ُُ‬ ‫ُُ َ ْ َْ َ ْ‬ ‫ين َ‬
‫أوال ألف اآليات التي ذكرت‪{ :‬يَا أَيُّػ َها الذ َ‬
‫َوأ َْر ُجلَ ُك ْم إِلَى الْ َك ْعبَػ ْي ِن جاءت اآلية مرتبة‪.‬‬
‫وكذلك في حديث النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ثم تمضم ‪ ،‬ثم استنشق‪ ،‬ثم غسل وجهو ثالثا‪ ،‬ويديو إلى المرفقين‪ ،‬ثم مسح برأسو‪،‬‬
‫ثم غسل كلتا رجليو"‪.‬‬
‫وكذلك استدلوا على الترتيب بأم ٍر‪ ،‬أال وىو‪ :‬إدخاؿ الشارع الممسوح وىو الرأس‪ ،‬بين مغسولين‪.‬‬
‫فالعرب ال تعرؼ ىذه المخالفة إال من أجل علة‪ ،‬قالوا‪ :‬فإدخاؿ الممسوح بين مغسولين ىذا مراعا ًة للترتيب بين األعضاء‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حديث آخر‪ ،‬أال وىو حديث عمرو بن يحيى المازني فقاؿ‪:‬‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى‬
‫عن عمرو بن يحيى المازني‪ ،‬عن أبيو قاؿ‪ :‬شهدت عمرو بن أبي الحسػن سػأؿ عبػد اهلل بػن زيػد عػن وضػوء النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم)‪ ،‬فػدعا‬
‫بتور من ماء‪ ،‬فتوضأ لهم وضوء النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم)‪ ،‬فأكفػأ علػى يديػو مػن التػور فغسػل يديػو ثالثػا‪ ،‬ثػم أدخػل يػده فػي التػور فمضػم‬
‫واستنشق واستنثر ثالثا بثالث غرفات؛ ثم أدخل يده في التور فغسل وجهػو ثالثػا؛ ثػم أدخػل يػده فغسػلهما مػرتين إلػى المػرفقين؛ ثػم أدخػل يديػو‬
‫فمسح بهما رأسو‪ ،‬فأقبل بهما وأدبر مرةً واحدة‪ ،‬ثم غسل رجليو"‪.‬‬
‫ىذا الحديث رواه عمرو بن يحيى المازني عن أبيو‪ ،‬عن عم أبيو عمرو بن أبي الحسن‪ ،‬قاؿ سألت عبداهلل بن زيد‪.‬‬
‫وعبد اهلل بن زيد ىذا ىو‪ :‬عبد اهلل بن زيد بن عاصم‪ ،‬وىذا صاحب أحاديث الوضوء‪ ،‬بخالؼ (عبد اهلل بن زيد بن عبد ربو) الذي يروي حديث‬
‫األذاف‪ ،‬قاؿ‪ :‬سألت عبد اهلل عن وضوء النبي صلى اهلل عليو وسلم"‪ ،‬فأجابو‪.‬‬
‫أجابو كيف؟ ىل أجابو بالقوؿ؟ أـ أجابو بالفعل؟ الجواب أنو أجابو بالفعل ‪ ،‬والجواب بالفعل كما ذكرت أبلغ في التعليم‪ ،‬وثبوتا في الذىن‪.‬‬
‫(فدعا بتوٍر من ماء)‪ :‬التور‪ :‬ىو ما يشبو الطست‪ ،‬أي اإلناء الكبير‪.‬‬
‫(فتوضأ لهم وضوء النبي صلى اهلل عليو وسلم)‪ :‬أي يبين لهم كيفية وضوء النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫(فأكفأ على يديو من التور)‪ :‬يعني أماؿ اإلناء‪ ،‬لم يغمس يديو في اإلناء‪.‬‬
‫ىذا الفائدة التي ذكرتها قبل ذلك‪ ،‬لم يدخل يده في اإلناء‪ ،‬إنما أكفأ أماؿ اإلناء وصب على يديو من التور‪ ،‬فغسل يديو ثالثا‪.‬‬
‫واستنشق)‪ ،‬ىذا الحديث ال يختلف عن حديث عثماف رضي اهلل عنو‪ ،‬إال أنو ىنا يبػين العػدد فػي المضمضػة‬ ‫(ثم أدخل يده في التور فمضم‬
‫واستنشق واستنثر‪ ،‬ولم يبين العدد‪.‬‬ ‫واالستنشاؽ‪ ،‬يعني في حديث عثماف (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬أنو تمضم‬
‫واستنشػػق بغرفػػة‪ ،‬ثػػم تمضػػم‬ ‫ىنػػا بػػين العػػدد‪ ،‬فػػي المضمضػػة واالستنشػػاؽ‪ ،‬قػػاؿ‪ ( :‬ثالثػػا بػػثالث غرفػػات)‪ ،‬يعنػػي أخػػذ غرفػػة واحػػدة‪ ،‬تمضػػم‬
‫واستنشق بغرفة‪.‬‬ ‫واستنشق بغرفة‪ ،‬ثم تمضم‬
‫ثم ذكر غسل الوجو ثالثا فقاؿ‪ ( :‬ثم أدخل يده في التور فغسل وجهو ثالثا‪ ،‬ثم أدخل يده فغسلهما مرتين)‪ :‬في المرة األولػى فػي حػديث عثمػاف‬
‫قاؿ‪ :‬ويديو إلى المرفقين ثالثا‪ ،‬وىنا قاؿ‪ :‬فغسل يده مرتين إلى المرفقين‪ ،‬وبين كذلك صفة مسح الرأس‪.‬‬
‫في األولى قاؿ‪( :‬ثم مسح برأسو‪ ،‬ثم غسل كلتا رجليو)‪ ،‬لكن ىنا بين كيفية المسح‪ ،‬قاؿ‪( :‬فمسح بهما رأسو‪ ،‬فأقبل بهما وأدبر)‪.‬‬
‫أي ذىب بهما من مقدمة الرأس إلى قفاه مرة واحدة‪ ،‬ثم عاد بهما إلى الموطن األوؿ‪ ،‬ثم غسل رجليو‪.‬‬
‫في رواية قاؿ‪( :‬بدأ بمقدـ رأسو حتى ذىب بهما إلى قفاه‪ ،‬ثم ردىما حتى رج إلى المكاف الذي بدأ منو)‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫وفػػي روايػػة قػػاؿ‪( :‬أتانػػا رسػػوؿ اهلل (صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم) فأخرجنػػا لػػو مػػاء فػػي تػػور مػػن صػػفر) التػػور‪ :‬ىػػو الطسػػت‪ ،‬والصػػفر‪ :‬قيػػل أنػػو معػػدف مػػن‬
‫النحاس‪.‬‬
‫األعضاء مرتين‪.‬‬ ‫األعضاء ثالثا‪ ،‬وبع‬ ‫فهذا الحيث يبين كيفية وضوء النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بصفة أخرى‪ ،‬وأنو غسل بع‬
‫فهذا جائز‪ ،‬أف يفاضل بين األعضاء‪.‬‬
‫يغسل ىذا ثالث مرات‪ ،‬وىذا مرتين‪ ،‬وىذا مرة واحدة‪.‬‬
‫الحاصل من ىذا أف في الوضوء الغسلة األولى ىي الفرض‪ ،‬أي ىي الركن‪ ،‬والثانية والثالثة سنة‪.‬‬
‫فإذا توضأ اإلنساف مرة مرة فوضوؤه صحيح‪ ،‬وإف توضأ مرتين مرتين فالوضوء صحيح‪ ،‬وإف توضأ ثالثا ثالثا فالوضوء صحيح‪.‬‬
‫وإف توضأ فغسل الوجو ثالثا‪ ،‬واليدين مرتين‪ ،‬كذلك فالوضوء صحيح‪ ،‬إال في مسح الرأس‪ ،‬فإنو يمسح الػرأس مػرة واحػدة‪ ،‬وكػذلك األذنػين مػرة‬
‫واحدة‪ ،‬كما جاء ذلك عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ويستنبط أيضا من ىذا الحديث فوائد‪ ،‬من ىذه الفوائد‪:‬‬
‫أف عادة السلف أنهم يبينوف العلم للناس بالفعل‪ ،‬كما في حديث عثماف ىذا‪ ،‬وحديث عمرو بن يحيى المازني رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫ومن قبل ذلك النبي عليو وسلم كيف علم أصحابو؟ كاف يتوضأ أمامهم‪ ،‬وقاؿ‪" :‬من توضأ نحو وضوئي ىذا‪."..‬‬
‫وصلى أمامهم وقاؿ‪" :‬صلوا كما رأيتموني أصلي"‪.‬فالتعليم بالفعل أبلغ من التعليم بالقوؿ‪.‬‬
‫من الفوائد أيضا التي تستنبط ىنا‪ :‬تعلم كيفية وضوء النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بالصفات المختلف التي جاءت في األحاديث‪.‬‬
‫كف واحدة‪.‬‬‫من الفوائد أيضا‪ :‬الجم بين المضمضة واالستنشاؽ من ٍ‬
‫ويستنشػق بسػت غرفػات‪،‬‬ ‫واستنشق بثالث غرفات‪ ،‬يعنػي السػنة أف االنسػاف ال يتمضػم‬ ‫وذلك لقولو (بثالث غرفات)‪ ،‬أنو تمضم‬
‫يجعل ثالث غرفات للفػم للمضمضػة‪ ،‬وثػالث غرفػات لالستنشػاؽ‪ ،‬ال؛ األصػل أف يجعػل ثػالث غرفػات‪ ،‬يأخػذ نصػفها فػي الفػم ويػدير‬
‫الماء في فمو ويمجو‪ ،‬ثم يستنشق بالنصف البػاقي‪ ،‬ثػم ينتثػر‪ ،‬مػن ىػذه الغرفػة‪ ،‬ويفعػل ذلػك مػرة ومػرة ومػرة‪ ،‬إف لػم يػتمكن وفعػل لكػل‬
‫واحدةٍ غرفة فال بأس‪ ،‬لكن األولى أف يتمضم بثالث غرفات‪.‬‬
‫الفائدة الرابعة‪ :‬جواز االختالؼ في العدد في أعضاء الوضوء‪ ،‬كما ذكرنا‪ ،‬كما لو غسل الوجو ثالث مرات‪ ،‬وغسل اليدين مرتين‪ ،‬ىػذا‬
‫جائز وىذا جائز‪.‬‬
‫وكذلك من الفوائد‪ :‬مسح الرأس المسنوف‪ ،‬أف يكوف من مقدمة الرأس إلى القفا‪ ،‬ثم ردىما‪ ،‬ىذا ىو األفضل كما جػاء ذلػك عػن النبػي‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫من الفوائد أيضا؛ جواز استعماؿ اآلنية من النحاس في التطهر‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حديث اخر؛ أال وىو حديث عائشة رضي اهلل تبارؾ عنها وعن أبيها وعن صحابة رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى‬
‫قالت‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يعجبو التيمن في تنعلو وترجلو وطهوره وفي شأنو كلو"‪.‬‬
‫قالت عائشة (رضي اهلل عنها) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يعجبو التيمن‪ :‬أي أنو كاف يستحسن أف يبدأ باليمين في كل شيء‪ ،‬في لبسو‬
‫لنعلو‪ ،‬وفي لبسو لثوبو‪.‬‬
‫طبعا المقصود بلبس الثوب إذا كاف قميصا‪ ،‬أف يدخل رأسو فيو‪ ،‬ثم يبدأ بإدخاؿ يده اليمنى‪ ،‬ىذا معنى التيمن‪.‬‬
‫وكذلك لبسو الثوب باليمين‪ ،‬بإدخاؿ اليمين في األكماـ‪.‬‬
‫والترجل‪ :‬يعني تسريح الشعر‪ ،‬أف يسرح الجانب األيمن؛ ودىنو‪ :‬أي يدىن من الجانب األيمن؛ وطهوره‪ :‬كاف يبدأ في وضوئو وغسلو بميامنو‪.‬‬
‫وفي شأنو كلو (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫فػػي أكلػػو‪ ،‬وشػػربو‪ ،‬وإعطائػػو‪ ،‬وأخػػذه‪ ،‬وكػػل شػ ٍ‬
‫ػيء كػػاف يحػػب فيػػو التيػػامن‪ ،‬إال مػػا اسػػتثني مػػن ذلػػك‪ ،‬أال وىػػو االسػػتجمار واالسػػتنجاء‪ ،‬فإنػػو يجعلػػو‬
‫باليسار‪.‬‬
‫وكذلك الخل ‪ ،‬إذا أراد أف يخل نعلو‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫فإنو كاف يح ب أف يبدأ باليمين في لبسو لنعلو‪ ،‬فعندما كاف يخل كاف يخل اليسرى أوال‪ ،‬وعندما كاف يخل الثوب يخل اليسرى أوال‪ ،‬وىكذا‪.‬‬
‫لكن في كل شأنو كاف يحب التيامن (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ولهذا الحديث أيضا فوائد استنبطها العلماء‪ ،‬وىي‪:‬‬
‫تقديم التيامن في أطيب األشياء؛ كل ٍ‬
‫شيء طيب يحب فيو التيامن‪.‬‬
‫يدخل المسجد برجلو اليمنى؛ ينتعل باليمنى؛ يترجل بالجانب األيمن‪ ،‬يلبس باليمنى‪ ،‬وىكذا‪.‬‬
‫وجعل اليسار للمستقذر من األشياء؛ لالستنجاء‪ ،‬ولخل اللبس‪ ،‬والنعل‪ ،‬وكذلك للخروج من المسجد‪ ،‬ألف الخػروج مػن المسػجد ىػو‬
‫خروج من األكمل إلى األقل‪.‬‬
‫ٌ‬
‫واستحباب التيامن في التطهر‪ ،‬واللبس‪ ،‬والتنعل‪ ،‬والترجل‪ ،‬وجعل اليسرى في الخل ‪ ،‬واالستنجاء‪ ،‬واالستجمار‪ ،‬ذكرنا ذلك‪.‬‬

‫ثم أتى للحديث الذي بعد ذلك‪ ،‬وىو الحديث الحادي عشر‪ ،‬قاؿ‪:‬‬
‫عن نعيم المجمر‪ ،‬عن أبي ىريرة رضي اهلل عنو‪ ،‬عن النبي (صلى اهلل عليػو وسػلم) أنػو قػاؿ‪" :‬إف أمتػي يػدعوف يػوـ القيامػة غػرا محجلػين مػن آثػار‬
‫لفظ عند اإلماـ مسلم قاؿ‪ :‬رأيت أبا ىريرة يتوضأ‪ ،‬فغسػل وجهػو ويديػو حتػى كػاد يبلػغ‬ ‫الوضوء‪ ،‬فمن استطاع منكم أف يطيل غرتو فليفعل"‪ ،‬وفي ٍ‬
‫المنكبين‪ ،‬ثم غسل رجليو حتى رف إلػى السػاقين‪ ،‬ثػم قػاؿ‪" :‬سػمعت رسػوؿ اهلل (صػلى اهلل عليػو وسػلم) يقػوؿ‪ :‬إف أمتػي يػدعوف يػوـ القيامػة غػرا‬
‫ػلم قػاؿ‪ :‬سػمعت خليلػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم)‬ ‫لفظ لمس ٍ‬‫محجلين من آثار الوضوء‪ ،‬فمن استطاع منكم أف يطيل غرتو وتحجيلو فليفعل"‪ ،‬وفي ٍ‬
‫يقوؿ‪" :‬تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء"‪.‬‬
‫لقب لنعيم ولقب بذلك ألنو كاف يجمر المسجد‪ ،‬أي يبخره‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬عن نعيم المجمر)‪ :‬نعيم المجمر‪( :‬المجمر) ىذا ٌ‬
‫وقيل أف أباه ىو الذي كاف يجمر المسجد فلقب بذلك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وفضل؛ حيث يدعوف يوـ القيامة‪ ،‬أي ينادوف يػوـ القيامػة؛ أيهػا‬ ‫في ىذا الحديث يبشر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أمتو بأف لهم عالمات ٍ‬
‫شرؼ‬
‫الغر المحجلوف‪.‬‬
‫الوجو‪ ،‬والمحجل من البهائم أو األفراس‪ :‬ىو الذي كانت أطراؼ أرجلو بيضاء‪.‬‬ ‫واألغر‪ :‬ىو الفرس الذي في وجهو بياض‪ ،‬أبي‬
‫وضياء يوـ القيامة من أثر الوضوء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ووصف النبي صلى عليو وسلم أمتو أف وجوىهم وأطرافهم تتألأل نورا‬
‫ىذه العالمة يعرؼ بها النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أمتو يوـ القيامة‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪( :‬فمن استطاع أف يطيل غرتو فليفعل) العلماء تكلموا في ىذه اللفظة‪ ،‬يعني أبو ىريرة روى الحديث وقاؿ‪( :‬إف أمتي يػدعوف يػوـ القيامػة‬
‫غرا محجلين من آثار الوضوء؛ فمن استطاع منكم أف يطيل غرتو فليفعل)‪.‬‬
‫العلماء قالوا ىذه الزيادة التي ىي (من استطاع أف يطيل غرتو)‪ ،‬ىذه زيادة مدرجة‪.‬‬
‫ما معنى مدرجة؟ مدرجة‪ :‬أي ليست من كالـ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬إنما ىي من كالـ أبي ىريرة (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫أىل العلم أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ال يأمر بالمستحيل‪ ،‬ألف ىذا غير ممكن‪.‬‬ ‫ولذا علق بع‬
‫ما ىو الذي غير ممكن؟ قالوا‪ :‬ألف الغرة ىي بياض الوج و‪ ،‬والوجو ال يمكن تطويلو‪ ،‬فأين يذىب لو أراد أف يطيل غرتو؟‬
‫إال أنو سيدخل في الرأس أو الرقبة‪ ،‬بخالؼ إطالة التحجيل فإنها ممكنة‪.‬‬
‫يمكن لإلنساف أف يطيل التحجيل‪ ،‬بدال من أف يكوف التحجيل الى المرفق‪ ،‬يكوف إلى نصف العضد أو الكتف‪.‬‬
‫وكذلك في القدمين‪ ،‬بدال من أف يكوف إلى الكعبين‪ ،‬يكوف إلى نصف الساؽ‪ ،‬أو يزيد‪.‬‬
‫فاإلشكاؿ في (الغرة)‪ ،‬ألف الوجو ال يزاد عليو‪ ،‬ألنو ال يتس ألكثر مما ىو عليو‪.‬‬
‫ولهذا ذىب المحققوف من أىل العلم أف ىذه الزيادة إنما ىي زيادةٌ مدرجة من كالـ أبي ىريرة (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫ولذلك حتى اإلماـ ابن القيم عليو رحمة اهلل ذكر ىذا في نونيتو؛‬
‫وذا في غاية التبياف‪.‬‬ ‫وإطالة الغرات ليس بممك ٍن أبدا‬ ‫قاؿ‪:‬‬
‫فغدا يميزه أولو العرفاف‪.‬‬ ‫وأبو ىريرة قاؿ ذا من كيسو‬

‫‪20‬‬
‫م ىذا إال أف العلماء اختلفوا‪ :‬ىل األفضل أف يجاوز اإلنساف محل الفرض؟ أو أف يقتصر على المرفقين؟‬
‫قوالف ألىل العلم‪ :‬القوؿ األوؿ‪ :‬أنو ينبغي مجاوزة محل الفرض‪ ،‬وأإن أف ىذا قوؿ الجمهور إف لم أكن واىما‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬قالوا ال ينبغي أف يزاد على ما حدد اهلل عز وجل؛ فقاؿ في اليدين إلى المرفقين‪ ،‬يكوف إلى المرفقين‪.‬‬
‫وقاؿ في الرجلين إلى الكعبين‪ ،‬يكوف إلى الكعبين‪ ،‬وىذا ىو الصواب‪.‬‬
‫لكن عندنا إشكالية‪ ،‬التي ىي في لفظ اإلماـ مسلم‪ ،‬قاؿ‪" :‬تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء"‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وفضة وغير ذلك‪.‬‬ ‫ما ىي الحلية؟ الحلية‪ :‬ىي ما يتحلى بو اإلنساف من ٍ‬
‫ذىب‬
‫وقد ذكر في أف أىل الجنة يحلوف فيها من أساور من ٍ‬
‫ذىب ولؤلؤا‪ ،‬ولباسهم فيها حرير‪ ،‬وقاؿ تعالى‪( :‬وحلوا أساور من فضة)‪.‬‬
‫اإلشكاؿ ىنا أف الحلية تبلغ حيث يبلغ الوضوء‪ ،‬فإلى أين يبلغ الوضوء؟ على رأي أبي ىريرة رضي اهلل عنو‪ ،‬أنها إلػى المنكػب‪ ،‬ألنػو غسػل حتػى‬
‫كاد يبلغ المنكبين‪.‬‬
‫ثم غسل رجليو حتى رف إلى الساقين‪.‬‬
‫فهنا في اجتهاد أبي ىريرة رضي اهلل عنو‪ ،‬أنو يصل إلى المنكب‪ ،‬أو إلى نصف الساؽ أو أكثر‪.‬‬
‫أما في اآلية ما حدده اهلل عز وجل‪ ،‬ففي اليدين قاؿ إلى المرفقين‪ ،‬وفي الرجلين إلى الكعبين‪.‬‬
‫وعلى ىذا نقوؿ‪ :‬العلماء قالوا‪ :‬إف قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء"‪ ،‬يحمل على الوضوء الذي أمر‬
‫اهلل عز وجل بو في كتابو‪ ،‬أمر إلى المرفقين يكوف إلى المرفقين؛ أمر إلى الكعبين يكوف الى الكعبين‪.‬‬
‫ولهذا الحديث أيضا فوائد استنبطها العلماء‪ ،‬من ىذه الفوائد‪:‬‬
‫‪ ‬الفائدة األولى‪ :‬فضيلة ىذه األمة‪ ،‬حيث حباىا اهلل عز وجل بهذه المنقبة العظيمة يوـ القيامة‪.‬‬
‫‪ ‬الفائػدة الثانيػة‪ :‬فضػػيلة الوضػوء والجػزاء المترتػب عليػو‪ ،‬تبلػػغ الحليػة حيػػث يبلػغ الوضػوء‪ ،‬و"مػػن توضػأ نحػػو وضػوئي ىػذا وصػػلى ركعتػين لػػم‬
‫يحدث فيهما نفسو‪ ،‬غفر اهلل لو ما تقدـ من ذنبو"‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف اإلنساف إذا توضأ‪ ،‬خرجت خطاياه من أعضاء وضوئو م آخر قطر الماء‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الرابعة‪ :‬تقرير عقيدة البعث والنشور‪ ،‬لقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إف امتي يأتوف يوـ القيامة"‪.‬‬
‫‪ ‬يوـ القيامة‪ :‬ىو يوـ البعث‪ ،‬ويوـ النشور؛ ويدعوف يوـ القيامة‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الخامسة أنو ينبغي على الدعاة إلى اهلل عز وجل ذكر ما يرغب الناس في الخير‪ ،‬كما ينبغي ذكر ما يرىب الناس من الشر‪ ،‬كمػا كػاف‬
‫يفعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كقولو‪" :‬ويل لألعقاب من النار" يرىبهم من ىذا؛ ويرغبهم‪" :‬من توضأ نحو وضوئي ىذا فلو كذا وكذا"‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة السادسة‪ :‬الحث على إتقاف الوضوء وإسباغو‪ ،‬ألف الحلية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء‪.‬‬
‫ػرـ علػػى الرجػػاؿ فػػي الػػدنيا‪ ،‬إال أف اهلل عػػز وجػػل‬
‫‪ ‬الفائػػدة السػػابعة‪ :‬إثبػػات التحلػػي ألىػػل الجنػػة رجػػاال ونسػػاء‪ ،‬وإف كػػاف الػػذىب والحريػػر محػ ٌ‬
‫يحليهم بو في الجنة‪ ،‬نسأؿ اهلل عز وجل أف يجعلنا وإياكم من ىؤالء‪.‬‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬لماذا نهى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عن البوؿ في الماء الراكد؟ اذكر الوجهين الذين ذكرا في ذلك‪.‬‬
‫كلب دوف كلب؟ وما الدليل على ذلك؟‬
‫نجس أـ طاىر؟ وىل يختص بهذا الحكم ٌ‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما حكم الكلب؟ ىل ىو ٌ‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ما ىي العلة من غسل اإلناء الذي ولغ فيو الكلب بالتراب‪ ،‬أو الذي شرب فيو الكلب؟‬
‫طبعا العلة األصل فيها أنها تعبدية؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬ما ىو الولوغ؟ وىل ىو بمعنى الشرب؟ أـ ىناؾ فرؽ؟‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬اذكر صفة وضوء النبي صلى اهلل عليو وسلم التي جاءت في حديث عثماف‪ ،‬وحديث عمرو بن يحيى‬
‫المازني‪ ،‬ثم اذكر الفوائد المستنبطة من األحاديث التي سبق شرحها‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫المحاضػ ػػرة الرابعػ ػػة‬
‫موصوال في (كتاب الطهارة) قد توقفنػا عنػد‪ :‬بػاب دخػوؿ الخػالء واالسػتِطابة‪ ،‬وممػا يؤخػذ علػى المصػنف فػي ىػذا الكتػاب أنػو‬
‫ً‬ ‫ال يزاؿ الحديث‬
‫خالف طريقة الفقهاء في ترتيب األبواب‪ ،‬فإف غالب الفقهاء يذكروف أحكاـ االستطابة قبل ذكرىم لصفة الوضوء وفروضو‪.‬‬
‫وترتيب الفقهاء ال شك أنو أنسب‪ ،‬وذلك ألف المرء إذا أراد أف يتوضأ وقد قضى حاجتو‪ ،‬فال يصح وضػوؤه إال أف يسػبق باس ٍ‬
‫ػتنجاء أو اسػتجمار‬ ‫ُ َ‬
‫إلزالة ال نجاسة‪ ،‬ولذلك يقولوف بالتخلية قبل التحلية‪ ،‬التخلية بإزالة النجاسة‪ ،‬والتحلية تكوف بالوضوء‪.‬‬

‫قاؿ المصنف‪ :‬باب دخوؿ الخالء واالستِطابة‪.‬‬


‫والخالء‪ :‬من الخلو‪ ،‬وىو المكاف المعد لقضاء الحاجة‪ ،‬وسمي بذلك‪ :‬ألف اإلنساف يخلو بو عن غيره‪.‬‬
‫ػتنجاء‪،‬‬
‫وكذلك االستطابة‪ :‬فهي من الطيب‪ ،‬أي تنظيف السبيلين من الخػارج منهمػا‪ ،‬وتشػمل اسػتعماؿ المػاء والحجػر‪ ،‬فػإف كػاف بالمػاء سػمي اس ً‬
‫استجمارا أو استطابة‪.‬‬
‫ً‬ ‫وإف كاف بالحجر سمي‬
‫وذكر فيو المصنف عدة أحاديث‪:‬‬
‫أوؿ ىذه األحاديث‪ :‬حديث أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) قاؿ‪( :‬إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف إذا دخػل الخػالء قػاؿ‪ :‬اللهػم إنػي أعػوذ‬
‫بك من ال ُخبُث والخبائث)‪.‬‬
‫ػل للشػياطين فالشػياطين تػألف‬
‫الخبث‪ :‬جم خبيث والخبائث‪ :‬جم خبيثة‪ ،‬وىي االستعاذة من ذكراف الشياطين وإنػاثهم‪ ،‬ذلػك ألف الخػالء مح ٌ‬
‫الخبث ألنها خبيثة‪ ،‬كما أف المالئكة تألف الطيب ألنها طيبة‪.‬‬
‫فاإلنساف ينبغي عليو إذا دخل الخالء أف يتب سنة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بأف يذكر اهلل عػز وجػل قبػل دخولػو‪ ،‬وأف يسػتعيذ باللَّػو عػز وجػل‬
‫من الخبث والخبائث‪.‬‬
‫ومن الفوائد التي تستنبط من ىذا الحديث‪:‬‬
‫أوال‪ :‬استحباب ذكر اللَّو عز وجل واالستعاذة عند دخوؿ الخالء‪.‬‬
‫‪ً -‬‬
‫ضرا‪ ،‬ألنو يستعيذ باهلل من شر الخبث والخبائث‪.‬‬ ‫نفعا وال ً‬
‫بشر ال يملك لنفسو ً‬
‫‪ -‬ثانيًا‪ :‬أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ٌ‬
‫‪ -‬ثالثًا‪ :‬كماؿ توحيد النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪ ،‬حيث إنو لم يلجأ ٍ‬
‫ألحد إال اللَّو عز وجل‪ ،‬إنما لجأ إليو سبحانو وتعالى‪.‬‬
‫تأثير على بني آدـ‪ ،‬وكذلك اإلشارة إلى أف الخالء مسكن الشياطين ومأواىم‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬إثبات وجود الشياطين‪ ،‬وأف لهم ٌ‬
‫‪ً -‬‬
‫خامسا‪ :‬عموـ ُملك اهلل سبحانو وتعػالى وقوتػو‪ ،‬ىػذه الشػياطين القويػة الخفيػة جعػل اهلل عػز وجػل لهػا سػلطة ولهػا قػوة لكػن قػوة اهلل عػز‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫وجل فوؽ قوتها وسلطة اهلل عز وجل فوؽ سلطتها‪ ،‬ولهذا استعاذ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) باهلل عز وجل من الخبث والخبائث‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حديث آخر يبين فيو بقية اآلداب التي ينبغي أف تكوف عند قضاء الحاجة‪ ،‬فذكر حػديث أبػي أيػوب األنصػاري رضػي عنػو‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى‬
‫فقاؿ‪ :‬عن أبي أيوب األنصاري (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪( :‬إذا أتيتم الغائط فال تستقبلوا القبلة ٍ‬
‫بغائط وال ٍ‬
‫بوؿ‬
‫وال تستدبروىا ولكن شرقوا أو غربوا)‪.‬‬
‫أبو أيوب األنصاري عليو رحمة اهلل ورضى اهلل عنو‪ :‬ىو خالد بن زيد األنصاري الخزرجي (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫مػن األرض‪ ،‬وكػانوا يػأتوف إليػو لقضػاء الحاجػة‪ ،‬ذلػك‬ ‫إذا أتيتم الغائط‪ :‬أي إذا أردتم أف تذىبوا لمكاف الغػائط‪ ،‬وىػو المكػاف المطمػئن المػنخف‬
‫ألنو كانت البيوت عند العرب يأنفوف أف يجعلوا فيها ال ُكنف وأماكن قضاء الحاجة‪ ،‬فكانوا يذىبوف بعي ًدا عن البيوتات لقضاء حوائجهم‪.‬‬
‫بوؿ‪ :‬والغائط ىنا‪ :‬المقصود بو ىو الخارج المستقذر من الدبر‪ ،‬يعني إذا جلس اإلنساف يقضي حاجتو ال ينبغي لو‬ ‫فال تستقبلوا القبلة ٍ‬
‫بغائط وال ٍ‬
‫أف يستقبل القبلة‪ ،‬ال يجعلها أمامو في اتجاىو‪ ،‬وكذلك ال يستدبرىا سواء جلس للغائط أو للبوؿ‪ ،‬أي ال تجعلوىا خلف إهوركم وال أمامكم‪.‬‬
‫أين نذىب يا رسوؿ اهلل؟‬
‫فتح النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بابًا آخر‪ ،‬وىذا ما ينبغي أف يكوف عليو الدعاة؛ إذا أغلق بابًا للناس فعليو أف يفتح لهم بابًا آخر‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫فهنا لما نهاىم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عن االسػتقباؿ واالسػتدبار أرشػد إلػى األمػر الجػائز فقػاؿ‪ :‬ولكػن شػرقوا أو غربػوا‪ ،‬شػرقوا أي اتجهػوا‬
‫ناحية المشرؽ أو غربوا ناحية الغرب‪.‬‬
‫خاص بأىل المدينة‪ ،‬ألنهم لو اتجهوا ناحية الشرؽ‬
‫خاص بأىل المدينة‪ ،‬يعني ىذا الحكم شرقوا أو غربوا‪ ،‬إنما ىو ٌ‬
‫أىل العلم‪ :‬إف ىذا ٌ‬ ‫قاؿ بع‬
‫ػثال ل َكػػانوا‬
‫ال يكونػػوف مسػػتقبلين للقبلػػة‪ ،‬أو غربػػوا كػػذلك ال يكونػػوف ال مسػػتقبلين وال مسػػتدبرين‪ ،‬بخػػالؼ غيػػرىم فػػإف أىػػل المشػػرؽ لػػو غربػػوا مػ ً‬
‫ضا ِ‬
‫للقبلة‪.‬‬ ‫للقبلة‪ ،‬وأىل المغرب لو شرقوا ل َكانوا مستقبلين أي ً‬ ‫مستقبلين ِ‬
‫فقالوا إف ىذا خاص بأىل‪ ،‬المدينة غير أىل المدينة‪ ،‬يراعوا مسألة القبلة فيتجهوف اتجاىات بعيدة عنها إما ِ‬
‫للشماؿ وإما للجنوب‪.‬‬ ‫َ‬
‫والعلة من تجنب استقباؿ القبلة أو استدبارىا فػي قضػاء الحاجػة‪ :‬مػن أجػل تعظػيم القبلػة واحترامهػا‪ ،‬ولػئال يتشػبو الػذي جلػس فػي ىػذا المكػاف‬
‫تعظيما للقبلة‪.‬‬
‫ً‬ ‫لقضاء حاجتو بالمصلى الذي جعل القبلة جهةً لو‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫قد بنيت نحو الكعبة فننحرؼ عنها ونستغفر اهلل ّ‬ ‫قاؿ أبو أيوب‪ :‬فقدمنا الشاـ أي ذىبنا إلى الشاـ‪ ،‬فوجدنا مراحي‬
‫المراحي ‪ :‬ىي األماكن الذى يقضى فيها الحاجة‪.‬‬
‫مراحيضهم‬
‫قد بنيت نحو الكعبة‪ ،‬ذلك ألف أىل الشاـ كانوا نصارى‪ ،‬والنصارى ال يتجهوف في صالتهم إلى الكعبة‪ ،‬فبنوا َ‬ ‫قاؿ‪ :‬فوجدنا مراحي‬
‫متجهة للكعبة‪.‬‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬فكنا ننحرؼ عنها‪ :‬أي نميل عنها‪ ،‬ونستغفر اهلل ّ‬
‫وىنا سؤاؿ‪ :‬ما ىو سبب االستغفار م أنهم ينحرفوف؟ يعني ينحرؼ عن جهة القبلة فلِم االستغفار؟‬
‫وضعيف ج ًدا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أىل العلم إنهم يستغفروف لمن قاموا ببنائها على ىذا الوجو‪ ،‬ولكن ىذا التعليل بعي ٌد ج ًدا‬ ‫قاؿ بع‬
‫وقيل شيء آخر‪ ،‬إنهم يستغفروف ألنهم ينحرفوف‪ ،‬واالنحراؼ ليس اتجاىا تاما يعني عندما ينحرؼ ال يكوف موليا إلى ٍ‬
‫جهة كاملة‪ ،‬يعني ال يكػوف‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫ٌ‬
‫مقصرا في ىذا االنحراؼ فقاؿ ننحرؼ ونستغفر اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ً‬ ‫كامال‪ ،‬أو ليس مخالفةً تامة‪ ،‬فخاؼ (رضي اهلل عنو) أف يكوف‬
‫االتجاه ً‬
‫من الفوائد التي تستنبط من ىذا الحديث‪:‬‬
‫أوال‪ :‬النهي عن استقباؿ القبلة أو استدبارىا حاؿ قضاء الحاجة‪.‬‬
‫‪ً -‬‬
‫‪ -‬ثانيًا‪ :‬األمر باالنحراؼ عن القبلة في حاؿ قضاء الحاجة‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثًا‪ :‬تعظيم الكعبة المشرفة‪ ،‬واحترامها وىذه حكمة النهي‪ ،‬ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) نهى من أجل ىذا التعظيم‪.‬‬
‫الذين قالوا إنو ال يجوز استقباؿ الشمس أو القمر‪،‬‬ ‫رابعا‪ :‬جواز استقباؿ الشمس أو القمر ‪ ،‬بخالؼ البع‬
‫‪ً -‬‬
‫لكن الصحيح جواز استقباؿ الشمس أو القمر لقولو (صلى اهلل عليو وسلم)‪( :‬ولكن شرقوا أو غربوا)‪.‬‬
‫مستدبرا للشمس أو للقمر‪.‬‬
‫ً‬ ‫مستقبال أو‬
‫ً‬ ‫متسقبل للشمس‪ ،‬وإذا غرب كذلك إما أف يكوف‬
‫ٌ‬ ‫فإذا شرؽ فهو‬
‫مقصرا فيو فليستغفر اهلل عز وجػل‪ ،‬كمػا قػاؿ أبػو أيػوب (رضػي اهلل عنػو)‪( :‬ننحػرؼ‬
‫ً‬ ‫فعال‬
‫خامسا‪ :‬أف اإلنساف إذا رأى من نفسو أنو فعل ً‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫ونستغفر اهلل عز وجل)‪ .‬وىذا ليغفر اهلل عز وجل لو ىذا التقصير‪.‬‬
‫سواء كاف ذلك خارج البنياف أو داخل البنياف‪.‬‬
‫عاـ في النهي عن استقباؿ القبلة واستدبارىا‪ً ،‬‬
‫سادسا واألخيرة‪ :‬أف ىذا الحديث ٌ‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬

‫وىذه مسألة خالفية بين أىل العلم‪ ،‬وذك ر المصنف الحديث الثالث وىو حديث عبد اهلل بن عمر ليفرؽ بين مسألة قضاء الحاجة داخل البنياف‪،‬‬
‫يومػا علػى بيػت حفصػة فرأيػت النبػي‬
‫ومسألة قضاء الحاجة خارج البنياف‪ ،‬فقاؿ‪ :‬عن عبد اهلل بن عمر بن الخطاب (رضي اهلل عنو) قاؿ‪( :‬رقيػت ً‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) يقضي حاجتو مستقبل الشاـ مستدبر الكعبة)‪.‬‬
‫يوما على بيت حفصة فرأيت النبي يقضي حاجتو مستقبل الشاـ‪ :‬ىذا ال إشكاؿ فيو‪.‬‬
‫وقاؿ‪ :‬رقيت ً‬
‫أما قولو مستدبر الكعبة‪ :‬ىذا ىو اإلشكاؿ ألنو يعارض حديث أبي أيوب في قولو‪ :‬وال تستدبروىا‪.‬‬
‫وطبعػا مسػألة اسػتقباؿ القبلػة واسػتدبارىا اختلػف العلمػاء فيهػا وفيهػا ثالثػة أقػواؿ‬
‫ومن ىنا اختلف العلماء في كيفية الجم بين ىػذين الحػديثين‪ً ،‬‬
‫ألىل العلم‪ :‬القوؿ األوؿ‪ :‬قالوا‪ :‬إنو ال يجوز استقباؿ القبلة وال استدبارىا مطل ًقا‪ ،‬ال في البنياف وال خارج البنياف‪ ،‬لحديث أبي أيوب وكما ذكرت‬
‫عاـ في النهي‪ ،‬وىذا قوؿ شيخ اإلسالـ بن تيمية ورواية عن اإلماـ أحمد عليو رحمة اهلل‪.‬‬
‫حديث ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أنو‬

‫‪23‬‬
‫والقوؿ الثاني‪ :‬يقولوف بحديث ابن عمر‪ :‬إنو يجوز استدبار الكعبة‪ ،‬وقالوا‪ :‬إف حػديث ابػن عمػر ناسػ ٌخ لحػديث أبػي أيػوب أي أنػو يرفػ الحكػم‬
‫األوؿ‪.‬‬
‫والقوؿ الثالث‪ :‬ىذا ىو قوؿ التفصيل فقالوا‪ :‬إف حديث أبي أيوب إنما ىػو نه ٌػي مطلػق‪ ،‬يُحمػل علػى قضػاء الحاجػة فػي الصػحراء‪ ،‬أي عنػدما ال‬
‫يكوف بينو وبين القبلة حائل‪.‬‬
‫وحديث ابن عمر يتكلم عن داخل البنيػاف‪ ،‬ففرقػوا بػين الصػحراء وبػين البنيػاف فقػالوا بعػدـ جػواز االسػتقباؿ أو االسػتدبار فػي الصػحراء‪ ،‬وجػواز‬
‫ذلك داخل البنياف لحديث ابن عمر (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫استنبط العلماء فوائد أيضًا من ىذا الحديث‪:‬‬
‫‪ -‬األولى‪ :‬جواز تبسط اإلنساف في بيت قريبو‪ ،‬ال سيما إذا كاف من محارمو‪،‬‬
‫يومػا علػى بيػت حفصػة رضػي اهلل عنهػا‪ ،‬وحفصػة ىػي أخػت عبػد اهلل بػن عمػر وىػي زوج النبػي (صػلى اهلل‬
‫لقوؿ عبد اهلل بن عمر‪ :‬رقيت ً‬
‫عليو وسلم)‪.‬‬
‫يومػػا علػػى بيػػت‬
‫ػك لهػػن‪ ،‬وذلػػك ألنػػو أضػػاؼ البيػػت إلػػى حفصػػة‪ ،‬قػػاؿ‪ :‬رقيػػت ً‬
‫‪ -‬الثانيػػة‪ :‬أف بيػػوت أزواج النبػي (صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم) ملػ ٌ‬
‫حفصة‪.‬‬
‫وى َّن ِمن بُػيُوتِ ِه َّن َوَال يَ ْخ ُر ْج َن فنسب البيوت إلى النساء‪.‬‬
‫{ال تُ ْخ ِر ُج ُ‬
‫واهلل عز وجل قاؿ في مسائل الطالؽ‪َ :‬‬
‫كذلك قصة عائشة (رضي اهلل عنها) لما طُعن عمر (رضي اهلل عنو) أرسل يستأذنها أف يُدفن في بيتها‪.‬‬
‫‪ -‬الثالثة‪ :‬ىي حسػن تعلػيم النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) ألصػحابو ولألمػة‪ ،‬وذلػك ألنػو لمػا ذكػر الممنػوع لػم يتػرؾ األمػر مغل ًقػا إنمػا ذكػر‬
‫الجائز بعده‪.‬قاؿ‪( :‬ال تستقبلوا القبلة وال تستدبروىا ولكن شرقوا أو غربوا)‪.‬‬
‫‪ -‬والرابعة‪ :‬االستدالؿ بفعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ألنو من سننو‪ ،‬مػن سػنن النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم)‪ ،‬وسػنة النبػي (صػلى اهلل‬
‫عليو وسلم) إما قولية وإما فعلية وإما تقريرية‪.‬‬

‫ضا في باب التخلي وىو حديث أنس (رضي اهلل عنػو) قػاؿ‪ :‬عػن أنػس بػن مالػك (رضػي اهلل عنػو) أنػو قػاؿ‪:‬‬
‫ثم انتقل المصنف إلى حديث آخر أي ً‬
‫وغالـ نحوي إدواةً من ماء‪ ،‬وعنزةً فيستَنجي بالماء)‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫(كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يدخل الخالء‪ ،‬فأحمل أنا‬
‫واإلداوةَ‪ :‬إناء صغير من ٍ‬
‫جلد‪.‬‬ ‫العنزة‪ :‬الحربة الصغيرة‪.‬‬
‫ٌ ٌ‬
‫حرا أعطتو إياه أمو رضي اهلل عنها‪ ،‬حين‬
‫حرا ما كاف عب ًدا‪ ،‬إنما كاف ً‬
‫أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) ىو خادـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪ ،‬وكاف ً‬
‫قدـ المدينة‪ ،‬قالت‪ :‬يا رسوؿ اهلل ادع ألنس‪ ،‬فقاؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪ :‬اللهم أكثر مالو وولده وبارؾ لو فيو‪،‬‬
‫خمسػا وعشػرين ومئػة‪ ،‬وإف أرضػي ليثمػر فػي السػنة مػرتين‪ ،‬ومػا فػي البلػد شػيءٌ يثمػر مػرتين‬
‫قاؿ أنس‪" :‬فلقػد دفنػت مػن صػلبي سػوى ولػد ولػدي ً‬
‫غيرىا"‪ ،‬وىذا من بركة دعاء النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لو‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يدخل الخالء) أي‪ :‬عندما يذىب للخالء‪.‬‬
‫وغالـ نحوي)‪ :‬قيل إف ىذا الغالـ ىو ابن مسعود رضي اهلل عنو‪ ،‬وقيل غيره؛ ألف ابن مسعود كاف يخدـ النبي (صلى اهلل عليػو‬
‫ٌ‬ ‫قاؿ‪( :‬فأحمل أنا‬
‫ضا‪.‬‬
‫وسلم) أي ً‬
‫مقارب لي في السن‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫قاؿ‪( :‬أنا وغالـ نحوي) أي‪:‬‬
‫باردا‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬يوض فيو الماء ليكوف ً‬
‫(إداو ًة من ماء)‪ :‬واإلداو َة ىي‪ :‬الوعاء من الجلد‪ ،‬وقيل يكوف أحيانًا من طل النخل أي ً‬
‫قاؿ‪( :‬وعنزة فيستَنجي بالماء)‪.‬‬
‫ما فائدة العنزة؟ والعنزة‪ :‬ىي الحربة أو العصا الصغيرة‪.‬‬
‫ضػا عنػد قضػاء الحاجػة ويضػ عليهػا الثػوب ليسػتره مػن أعػين المػارة‪ ،‬وكػاف أحيانًػا‬
‫كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يتكئ عليها‪ ،‬وكاف يضعها أي ً‬
‫يتخذىا سترة عند الصالة‪.‬‬
‫اإلنساف لما يقضي حاجتو يتوضأ ويصلي‪ ،‬فكاف يض ىذه العنزة سترًة لو ويصلي إليها‪ ،‬عندما يصلي في الصحراء‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫وىنا استنبط العلماء أيضًا فوائد من ىذا الحديث‪:‬‬
‫فجواز استخداـ األحرار في األعماؿ الشخصية‪.‬‬
‫أنسا والغالـ كانا حرين‪َ ،‬‬
‫‪ -‬األولى‪ :‬جواز استخداـ األحرار ألف ً‬
‫‪ -‬الثانية‪ :‬جواز االستنجاء بالماء دوف التراب أو الحجارة‪.‬‬
‫وال شك أف االستنجاء بالماء أفضل‪ ،‬ألنو يزيل أثر النجاسة‪ ،‬أما التراب أو الحجارة ال يزيل األثر‪ ،‬إنما يزيل عين النجاسة ويبقى أثرىا‪،‬‬
‫فإنما ىي إزالة لحكم النجاسة‪.‬‬
‫‪ -‬الثالثة‪ :‬أنو ينبغي لإلنساف إذا أراد أف يقضي حاجتو أف يستعد بطهوره عند قضاء الحاجة‪ ،‬لئال يحوجو ذلك إلػى القيػاـ فيتلَػوث بسػبب‬
‫قيامو‪.‬‬

‫الحارس بن ربعي األنصاري رضػي اهلل عنػو‪ ،‬أف النبػي (صػلى اهلل‬ ‫ٍ‬
‫ثم انتقل المصنف إلى حديث آخر‪ ،‬وىو حديث أبي قتادة‪ ،‬قاؿ‪ :‬عن أبي قتادة َ‬
‫عليو وسلم) قاؿ‪( :‬ال يُمسكن أحدكم ذكره بيمينو وىو يبوؿ‪ ،‬وال يتمسح من الخالء بيمينو‪ ،‬وال يتنفس في اإلناء)‪.‬‬
‫ىنا قالوا‪ :‬أف النهي لعلة تكريم اليمنى‪( ،‬ال يُمسكن أحدكم ذكره بيمينو)‬
‫ألف اليمنى إنما ُجعلت للطيب من األشياء‪ :‬كالمأكل والمشرب وغير ذلك من طيبات األشياء‪.‬‬
‫ضا إف من علل النهي أنو لمظنة وقوع النجاسػة عليهػا‪ ،‬فاإلنسػاف إذا أمسػك ذكػره بيمينػو‪ ،‬أو تمسػح بيمينػو‪ ،‬فػال يخلػو ىػذا مػن إصػابتها‬
‫وقالوا أي ً‬
‫بالنجاسة‪ ،‬فلربما حملت النجاسة إلى الطعاـ والشراب وغيره وسيتَضرر اإلنساف بذلك‪.‬‬
‫واختلف العلماء في مسألة النهي عن مسك الذكر باليمين‪ ،‬ىل ىو على التحريم أـ ىو على الكراىة؟‬
‫فجمهور أىل العلم‪ :‬على أف النهي ىنا للكراىة‪ ،‬وقالوا ألف ىذا من اآلداب وليس من باب العبادات‪ ،‬ىذا مػن بػاب اآلداب عنػد التخلػي ولػيس‬
‫من باب العبادات‪.‬‬
‫خالفًا للظاىرية أنهم يقولوف بالتحريم وجعلوا ذلك من باب العبادات‪.‬‬
‫ِ‬
‫بيمنيو وىو يبوؿ‪ ،‬وال يتمسح من الخالء بيمينو‪ ،‬وال يتنفس في اإلناء)‪.‬‬ ‫وكذلك النهي عن التنفس في اإلناء كما قاؿ‪( :‬ال يمسكن أحدكم ذكره‬
‫ضا‪ ،‬ربما يصادـ ذلك نزوؿ المػاء مػ ارتفػاع الػنفس‪ ،‬عنػدما يتػنفس اإلنسػاف يصػادؼ ذلػك‬‫فالنهي عن التنفس في اإلناء قد يحصل بو أضرار أي ً‬
‫ُ‬
‫جرياف الماء ونزولو‪ ،‬فيشرؽ اإلنساف ويؤدي ذلك إلى الضرر أو الوفاة‪.‬‬
‫وكذلك ربما يخرج من نفسو شيءٌ من أنفو أو فمو في اإلناء‪ ،‬فيحصل بذلك خروج جراثيم أو ميكروبات فتعلق في اإلناء أو في الماء‪.‬‬
‫استقذارا لمن يشرب بعده‪ ،‬إذا وجد شيئًا في ىذا اإلناء بسبب التنفس فيو‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأقل حاالت ىذا أف يورث ىذا‬
‫الفوائد التي استنبطها أىل العلم‪:‬‬
‫أوال‪ :‬تكريم اليمين على الشماؿ لنهي النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عن االستنجاء أو التمسح باليمين أو مسك الذكر باليمين‪.‬‬
‫‪ً -‬‬
‫‪ -‬ثانيًا‪ :‬النهي عن التنفس في اإلناء وكذلك االستنجاء باليمين‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثًا‪ :‬اىتماـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بمسائل النظافة العامة‪ ،‬وىذا من ديننا‪ ،‬النظافة من اإليماف‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬أف الشريعة الغراء ما تركت من خي ٍر إال ودلتَنا عليو‪ ،‬وما تركت من ش ٍر إال َ‬
‫ونهتنا عنو‪.‬‬ ‫‪ً -‬‬
‫ٍ‬
‫حديث آخر وىو حديث عبد اهلل بن عباس (رضي اهلل عنو)‪ :‬قاؿ‪( :‬مر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بقبرين فقػاؿ‪ :‬إنهمػا‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى‬
‫ليعذباف وما يعذباف في كبي ٍر‪ ،‬أما أحدىما فكاف ال يستتر من البوؿ‪ ،‬وأما اآلخر فكاف يمشي بالنميمة‪ ،‬فأخذ جريدةً رطبةً فشقها نصفين فغرز في‬
‫كل قب ٍر واحد ًة‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسوؿ اهلل لم فعلت ىذا؟ قاؿ‪ :‬لعلو يخفف عنهما ما لم ييبسا)‪.‬‬
‫وىػذا الحػػديث فيػػو شػيء أال وىػػو اطػػالع النبػي (صػػلى اهلل عليػػو وسػلم) علػػى شػ ٍ‬
‫ػيء مػن األمػػور الغيبيػػة‪ ،‬وىػذا أطلعػو اهلل عػػز وجػل عليػػو‪( ،‬إنهمػػا‬ ‫ٌ‬
‫أمر غيبي‪.‬‬
‫يعذباف) وىذا ٌ‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬فإنهما)‪ :‬صاحبا القبرين‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬إنهما ليُعذباف‪ ،‬وما يعذباف في كبير"‪ :‬أي ىذا الذي يعذباف فيو ال يشق عليهما‪ ،‬يعني ليس بكبي ٍر عليهما‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الروايات كما عند اإلماـ البخاري‪ ،‬قاؿ‪ :‬وإنو لكبير‪.‬‬ ‫ولكن اإلشكالية أنو قد جاء في بع‬
‫كبيرا يشق عليهما التحرز منو‪.‬‬
‫فكيف نجم بين ىذا وىذا؟ قالوا في األولى‪ :‬إنهما ليعذباف وما يعذباف في كبير يعني‪ :‬ليس ً‬
‫كبيرا من جهة المشقة والتحرز منو‪.‬‬
‫كبير من جهة الذنب‪ ،‬وليس ً‬
‫أما الرواية األخرى قاؿ‪ :‬وإنو لكبير‪ :‬أي أنو ٌ‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬أما أحدىما فكاف ال يستتر من البوؿ)‪ ،‬وفي ٍ‬
‫لفظ (ال يستبرئ)‪ ،‬وفي آخر (ال يستنجي)‪،‬‬
‫ساترا‪.‬‬
‫والمعنى واحد‪ :‬أنو إذا باؿ كاف ال يستتر أي ال يحجب عورتو‪ ،‬يعني ال يستتر يعني ال يجعل بينو وبين أعين الناس ً‬
‫وفي الرواية األخرى ال يستبرأ‪ ،‬أو ال يستنجي‪ ،‬أو ال يستنزه أنو كاف ال يغسل أثر البوؿ ال في بدنو‪ ،‬وال في ثيابو‪ ،‬وال في بقعتو‪ ،‬وال يهتم بانقطاع‬
‫النجاسة عنو‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬من البوؿ) يقصد بولو ىو أي بوؿ نفسو‪.‬وىذا قيدتو الرواية األخرى كما عند البخاري‪ :‬أنو ال يستنزه أو ال يستتر من بولو‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬وأما اآلخر فكاف يمشي بين الناس بالنميمة)‪.‬والنميمة‪ :‬من النم‪ ،‬أو نم الحديث إلى الغير‪ ،‬أي نقل الحديث إلى الغير‪.‬‬
‫والنميمة‪ :‬ىي الكالـ المنقوؿ إلػى الغيػر‪ ،‬والمقصػود بػو‪ :‬ىػو نقػل الكػالـ أو نقػل كػالـ الغيػر إلػى الغيػر علػى وجػو اإلفسػاد بينهمػا‪ ،‬ىػذامن أعظػم‬
‫األشياء‪.‬‬
‫الروايات قاؿ‪( :‬ال يدخل الجنة قتات) أي النماـ‪.‬‬ ‫وقد قاؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪( :‬ال يدخل الجنة نماـ)‪ ،‬وفي بع‬
‫‪ -‬فهنا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) (أخذ جريدة رطبة)‪.‬والجريدة‪ :‬جريدة النخل معروفة وىي َعسيف النخل‪.‬وشقها وجعلها نصفين فغرز في كل‬
‫قب ٍر واحدة‪ ،‬فسألو الصحابة يا رسوؿ اهلل لم فعلت ىذا؟ قاؿ لعلو يخفف عنهما ما لم ييبسا‪.‬‬
‫وكلمتو لعل ىنا‪ :‬للترجي‪ ،‬أي أرجو أف يخفف عنهما العذاب إلى أف تيبس ىاتاف الجريدتاف‪.‬‬
‫خاص بالنبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫أمر ٌ‬
‫وىذا األمر مسألة وض الجريدة‪ ،‬أو وض الشجر‪ ،‬أو شيء من ىذا على القبور ىذا ٌ‬
‫خاص بالنبي (صلى اهلل عليو وسلم) ذكروا لذلك أمور‪:‬‬
‫أمر ٌ‬
‫والعلماء لما قالوا إف ىذا ٌ‬
‫أوؿ ىذه األمور‪ :‬قالوا إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إنما فعل ىذا ألف اهلل عز وجل أطلعو على ٍ‬
‫شيء من علم الغيب‪ ،‬أنهما يعذباف‪ ،‬ولم يعلم‬
‫ٍ‬
‫بشيء من األمور الغيبية‪.‬‬ ‫أح ٌد غير النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‬
‫ػاس‬
‫ضا من خصوصػية النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) أنػو لػم يفعػل ذلػك مػ غيػرىم مػن النػاس‪ ،‬رغػم أف ىنػاؾ أن ٌ‬
‫واألمر الثاني‪ :‬الذي جعل ذلك أي ً‬
‫آخروف ربما يُػ َعذبوف في قبورىم‪ ،‬لكن لم يفعل ىذا الفعل م غيرىم‪.‬‬
‫وكذلك من األمور التي جعلت ىذا األمر من اختصاصات أو من خصوصيات النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪ :‬أنو لم يثبػت عػن أحػد مػن الصػحابة‬
‫رضي اهلل عنهم فعل ىذا األمر بعد النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وكذلك قالوا‪ :‬أف وض الجريد الرطب ىذا يعني الجريد نفسو‪ ،‬ليس سببًا لتخفيف العذاب‪ ،‬إنما ىو ح ٌد للتخفيف‪،‬‬
‫ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪( :‬لعلو يخفف عنهما ما لم ييبسا) أي حده اليبس‪ ،‬فدؿ على أنو للتوقيت وليس سبب‪ ،‬يعني ليس الجريد‬
‫سبب للتخفيف‪ ،‬إنما ىو للتوقيت‪ ،‬أي يأمل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو يخفف عنهما العذاب ما لم تيبس ىذه الجريدة‪.‬‬
‫استنبط العلماء فوائد أيضًا من ىذا الحديث‪:‬‬
‫‪ -‬األولى‪ :‬ىي إثبات عذاب القبر‪ ،‬وىو مذىب أكثر ىذه األمة خالفًا للمعتزلة الذين ينكروف عذاب القبر‪.‬‬
‫‪ -‬الثانية‪ :‬أف الغيب ال يعلمو إال اهلل سبحانو وتعالى‪ ،‬وال يُطلِ عليو أح ٌد من خلقو إال من شاء من خلقو سبحانو وتعالى‪،‬‬
‫ضى ِم ْن ر ُس ٍ‬
‫وؿ‬ ‫ِ‬
‫قاؿ اهلل عز وجل {فَال يُظْ ِه ُر َعلَى غَْيبِو أ َ‬
‫َح ًدا إِال َم ِن ْارتَ َ‬
‫َ‬
‫‪ -‬الثالثة‪ :‬وجوب التنزه من البوؿ‪ ،‬وأف عدـ التنزه من البوؿ يكوف سببًا في العذاب‪.‬‬
‫‪ -‬الرابعة‪ :‬أنو إذا كاف الذي ال يستنزه من بولو‪ ،‬أو ال يستب ِرئ من بولو يُعذب في قبره‪ ،‬فما بالك بالذي ال يصلي؟‬
‫ال شك أف العذاب يكوف مضاعفا أو أكبر‪.‬‬
‫لترتػب العػذاب علػى وقوعهػا‪ ،‬وقػوؿ النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم)‪( :‬ال‬
‫‪ -‬الخامسػة‪ :‬تحػريم النميمػة‪ ،‬والنميمػة مػن كبػائر الػذنوب‪ ،‬وذلػك َ‬
‫نماـ‪.‬‬
‫يدخل الجنة قتَّات) أي َّ‬

‫‪26‬‬
‫أحياء وأمواتًا‪.‬‬
‫‪ -‬السادسة‪ :‬رأفة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بأمتو ً‬
‫أحياء‪ :‬فكاف يرشدىم لما فيو الخير‪.‬‬
‫ً‬
‫وأمواتًا‪ :‬أنو كاف يدعو لمن مات منهم وكما فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بوض الجريدة على ىذين القبرين‪.‬‬
‫خاص بالنبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬السابعة‪ :‬أنو ال يستحب أف يوض على القبر الجريد أو الشجر؛ ألف ىذا ٌ‬
‫‪ -‬الثامنة‪ :‬حرص الصحابة على العلم‪ ،‬وذلػك حػين سػألوا النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) لمػا رأوه وضػ الجريػدة فقػالوا‪ :‬يػا رسػوؿ اهلل لمػا‬
‫فعلت ذلك؟ وىذا من حرص الصحابة على العلم‪.‬‬
‫ومستكبر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مستح من السؤاؿ‬
‫ٍ‬ ‫قاؿ العلماء‪ :‬ال يناؿ العلم اثناف‪:‬‬
‫حرصا على طلب العلم‪.‬‬
‫فالصحابة رضي اهلل عنهم كانوا يسألوف عن كل شيء ً‬
‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬
‫باب آخر أال وىو‪ :‬باب السواؾ‪.‬‬
‫والسواؾ‪ :‬يطلق على الفعل‪ ،‬وىو التسوؾ‪ ،‬ويطلق على عود األراؾ الذي يتسوؾ بو‪.‬‬
‫والسواؾ‪ :‬سنةٌ مطلقة‪ ،‬تتأكد في مواض معينة‪.‬‬
‫ػات‬
‫ػاـ فػي كػل وقػت‪ ،‬ولكػن ىنػاؾ أوق ٌ‬
‫أما كونو سنة مطلقػة‪ :‬فلقػوؿ النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم)‪( :‬السػواؾ مطهػرةٌ للفػم مرضػاةٌ للػرب)‪ .‬وىػذا ع ٌ‬
‫يتأكد فيها استحباب السواؾ‪ ،‬ذكر المصنف منها أوقات في األحاديث التي ذكرىا‪:‬‬
‫فػػأوؿ حػػديث ذكػػره فػػي ىػػذا البػػاب‪ :‬حػػديث أبػػي ىريػػرة (رضػػي اهلل عنػػو) قػػاؿ‪ :‬عػػن النبػػي (صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم) قػػاؿ‪( :‬لػػوال أف أشػػق علػػى أمتػػي‬
‫ألمرتهم بالسواؾ عند كل صالة)‪.‬‬
‫وقاؿ‪ :‬عن حذيفة بن اليماف (رضي اهلل عنو) قاؿ‪( :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) إذا قاـ من الليل يشوص فاه بالسواؾ)‪.‬‬
‫وىنا ذكر المصنف من ىذه األوقات كما جاء في حديث أبي ىريرة‪ :‬لوال أف أشق على أمتي ألمرتهم بالسواؾ عند كل صالة‪.‬‬
‫وأرىقهم وأشق عليهم‪ ،‬ألمرتهم بالسواؾ عند كل صالة وىنا تشمل الصالة‪ ،‬صالة النافلة وصالة الفريضة‪.‬‬ ‫ولوال أف أشق‪ :‬أي لوال أف أ ِ‬
‫ُتعب أمتي‬
‫ُ‬
‫وىناؾ أوقات أخرى كما قاؿ‪:‬‬
‫‪ -‬وعند االستيقاظ من النوـ‬ ‫‪ -‬وم كل وضوء‬ ‫‪ -‬عند كل صالة‬
‫‪ -‬وعند تغير رائحة الفم‪.‬‬ ‫‪ -‬وعند تالوة القرآف‬ ‫‪ -‬وعند دخوؿ المنزؿ‬
‫كما جاء في حديث حذيفة قاؿ‪( :‬كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إذا قاـ من الليل)‬
‫وال شك أف اإلنساف إذا قاـ من الليل فإف رائحة الفم تكوف متغيرة‪.‬‬
‫فهنا قاؿ‪" :‬كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يشوص فاه‪.‬‬
‫ويسارا فيكوف ذلك بمعنى الغسل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ويَشوص‪ :‬أي يغسل فاه أو يدلك فاه بالسواؾ‪ ،‬فكاف يحركو يمينًا‬
‫ػودا رطبًػػا‪ ،‬وىػذا يػدخل فػي الغسػل‪ ،‬وربمػا أف يوضػ مػ‬
‫ومسػألة الغسػل فػي السػواؾ بعضػهم قػاؿ‪ :‬ىػذا مػػن رطوبػة السػواؾ‪ ،‬فإنػو كػاف يسػتعمل ع ً‬
‫ضا في مسألة الغسل‪.‬‬
‫السواؾ الماء فيدخل أي ً‬
‫ثم قاؿ في حديث عائشة رضي عنها‪ :‬عن عائشة (رضػي اهلل عنهػا) قالػت‪( :‬دخػل عبػد الػرحمن بػن أبػي بكػر الصػديق رضػي اهلل عنػو‪ ،‬علػى النبػي‬
‫رطب يستن بو‪ ،‬فأبده رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) بصره‪ ،‬فأخذت‬
‫سواؾ ٌ‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) وأنا مسندتو إلى صدري‪ ،‬وم عبد الرحمن ٌ‬
‫السواؾ فقضمتو‪ ،‬وطيبتو ثم دفعتو إلى النبي (صلى اهلل عليو وسػلم)‪ ،‬فاسػتن بػو‪ ،‬فمػا رأيػت رسػوؿ اهلل (صػلى اهلل عليػو وسػلم) اسػتن اسػتنانًا قػط‬
‫أحسن منو‪ ،‬فما عدا أف فرغ رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪ ،‬رف يده أو إصبعو ثم قاؿ في الرفيق األعلى ثالثًا ثم قضى‪ ،‬وكانت تقوؿ‪ :‬مػات‬
‫بين حاقنتي وذاقنتي)‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم نحوه‪.‬‬ ‫وفي ٍ‬
‫لفظ قالت‪( :‬فرأيتو ينظر إليو‪ ،‬وعرفت أنو يحب السواؾ‪ ،‬فقلت‪ :‬آخذه لك؟ فأشار برأسو أف نعم) ىذا لفظ اإلماـ البخاري‬
‫دليل على حب النبي (صلى اهلل عليو وسلم) للسواؾ‪ ،‬حتى أنو في آخر لحظات حياتو كاف يصػعد بصػره‬
‫ىنا في حديث عائشة (رضي اهلل عنها) ٌ‬
‫لعبد الرحمن بن أبي بكر‪ ،‬وذلك يعني ألنو أعجبو السواؾ والتسوؾ‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫قالت‪( :‬فأخذتو وقضمتوُ) أي قطعتو بأسػنانها‪ ،‬أي قطعػت الجػزء الػذي كػاف يسػتعملو عبػد الػرحمن أو ربمػا مػن الجػزء اآلخػر‪ ،‬يعنػي طيبتػو وىيأتػو‬
‫ليتسوؾ بو رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫رأسا جدي ًدا َ‬
‫للنبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪ ،‬فجعلت لو ً‬
‫قالت‪( :‬فاستن استنانًا) أي تسوؾ استيا ًكا‬
‫(ما رأيت أفضل منو) يعني أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بالغ في االستياؾ بهذا السواؾ‪.‬‬
‫سواء‬ ‫ٍ‬
‫قالت‪( :‬فاستن استنانًا) أي تسوؾ استيا ًكا ما رأيت أفضل منو‪ ،‬وىذا يدؿ يعني على أف المرء إذا أقدـ على شيء فيستحب لو أف يتهيأ لو‪ً ،‬‬
‫مثال فيُستحب لو أف يتوضأ‪.‬‬
‫كاف بالتنظف أو التطهر أو ما شابو ذلك‪ ،‬مثل إذا أراد اإلنساف أف يناـ ً‬
‫قالت‪( :‬فما عدا أف فرغ رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) رف يده أو إصبعو)‪.‬‬
‫ضا أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪( :‬ما من نب ٍي يموت إال ويخير قبل وفاتو بين البقاء في الدنيا أو الوفاة‪،‬‬
‫قد جاء في حديث عائشة أي ً‬
‫قالت‪ :‬فما عدا أف فرغ‪ ،‬فلما انتهى من االستياؾ‪.‬‬
‫قالت‪( :‬سمعتو رف يده أو إصبعو‪ ،‬قالت‪ :‬فلما سمعتو يقوؿ‪ :‬بل الرفيق األعلى علمت أنو يخير‪ ،‬فاختار ما عند اهلل عز وجػل‪ ،‬فقػاؿ‪ :‬بػل الرفيػق‬
‫األعلى‪ ،‬بل الرفيق األعلى‪ ،‬بل الرفيق األعلى)‪.‬‬
‫أي م النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفي ًقا‪،‬‬
‫(ثم قضى) أي مات وفاضت روحو (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك ذكر حديث آخر وىو آخر حديث في ىذا الباب‪:‬‬
‫رطب قاؿ‪ :‬وطرؼ السواؾ على لسانو‬ ‫ٍ‬
‫بسواؾ ٍ‬ ‫حديث أبي موسى األشعري (رضي اهلل عنو) قاؿ‪( :‬أتيت النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وىو يستاؾ‬
‫وىو يقوؿ أع‪ ،‬أع والسواؾ في فِ ِيو كأنو يتهوع)‪.‬‬
‫رطب‪ ،‬ذلك ألف السواؾ اليابس قد يؤذي من يتسوؾ بو‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بسواؾ ٍ‬ ‫النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ذكر أبو موسى أنو كاف يستاؾ‬
‫فقاؿ‪( :‬وطرؼ السواؾ على لسانو)‬
‫ػل علػػى أف النبػي (صػػلى اهلل عليػو وسػػلم) كػاف يػػدخل السػواؾ فػػي فمػو علػػى لسػانو وعلػػى أسػنانو‪ ،‬وىػػو يقػوؿ أُع‪ ،‬أُع وىػػذا الصػوت إنمػػا ىػػو‬
‫دلي ٌ‬
‫ػوت للتهػػوع أي للتقيػػؤ‪ ،‬وىػػذا كنايػػة عػػن المبالغػػة فػػي التسػػوؾ‪ ،‬أي النبػػي (صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم) كػػاف يػػدخل السػػواؾ علػػى طػػرؼ لسػػانو مػػن‬
‫صػ ٌ‬
‫الداخل‪ ،‬ويتسوؾ على لسانو و أسنانوُ‪.‬‬

‫واستنبط العلماء أيضًا فوائد من ىذه األحاديث‪ ،‬أحاديث ىذا الباب‪:‬‬


‫‪ -‬األولى‪ :‬وىو تأكد استحباب السواؾ عند الصالة‪ ،‬وكذلك عند تغير رائحة الفم‪ ،‬كما ذُكِ َر في حديث أبي ىريرة‪ ،‬وحديث حذيفة رضي‬
‫اهلل عنهما‪.‬‬
‫‪ -‬الثانية‪ :‬أف االستياؾ يكوف بالسواؾ الرطػب‪ ،‬والرطػب إمػا أف يكػوف جديػ ًدا رطبًػا كمػا ذكػرت‪ ،‬وإمػا أف يوضػ معػو شػيءٌ مػن المػاء حػاؿ‬
‫االستياؾ لترطيبو‪.‬‬
‫‪ -‬الثالثة‪ :‬استحباب إصالح السواؾ وتهيئتو‪ ،‬كما فعلت عائشة (رضي اهلل عنها) م سواؾ عبد الرحمن‪ ،‬فقضمتو وىيئتو للنبي (صلى اهلل‬
‫عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الرابعة‪ :‬جواز االستياؾ بسواؾ الغير إذا تم تطهيره وتنظيفو‪.‬‬
‫‪ -‬الخامسة‪ :‬إثبات العلو هلل عز وجل‪ ،‬وذلك برف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إصبعو إلى األعلى‪ ،‬وكذلك بقولػو بػل الرفيػق األعلػى‪ ،‬بػل‬
‫الرفيق األعلى‪ ،‬فهذا فيو إثبات ِ‬
‫لصفة العلو هلل عز وجل‪.‬‬
‫‪ -‬السادسة‪ :‬مشروعية المبالغة في التَسوؾ كما جاء في حديث أبي موسى‪( :‬السواؾ على طػرؼ لسػانو وىػو يقػوؿ‪ :‬أع‪ ،‬أُع) يعنػي مبالغػة‬
‫في التسوؾ‪.‬‬
‫‪ -‬السابعة‪ :‬أف التسوؾ يكوف باستعماؿ السواؾ على اللساف وعلى األسناف‪.‬‬
‫وبهذا نكوف قد انتهينا من باب السواؾ‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬اذكر صفة وضوء النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على نحو ما درست في األحاديث السابقة‪ ،‬وىل يجوز التفاوت‬
‫مثال؟‬
‫وعضوا ثالثة ً‬
‫ً‬ ‫عضوا مرتين في الوضوء‬
‫بين األعضاء في الغسل؟ أي ىل يجوز أف تغسل ً‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما حكم المضمضة واالستنثار؟ م ذكر الدليل‪.‬‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬اذكر معاني الكلمات اآلتية‪ :‬ثوٍر‪ ،‬صف ٍر‪ ،‬غالـ نحوي‪ ،‬إداوة‪ ،‬التنعل‪ ،‬الترجل‪ً ،‬‬
‫غرا‪ ،‬محجلين‪ ،‬الخبث‪ ،‬الخبَائث‪،‬‬
‫العنزة؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬اذكر الفوائد المستنبطة من أحاديث الوضوء السابق ذكرىا‪.‬‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬لماذا نهى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عن استقباؿ القبلة أو استِدبارىا حاؿ البوؿ والغائط؟‬
‫خالؼ بين االستقباؿ واالستدبار خارج البنياف وداخلو؟ اذكر ذلك بالدليل‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫السؤاؿ السادس‪ :‬ىل ىناؾ‬
‫السؤاؿ السا ب ‪ :‬اذكر الفوائد المستنبطة من األحاديث التي ذكرت في باب االستطابة والتخلي‪ ،‬م توضيح خطورة عدـ‬
‫االستتار واالستنزاه من النجاسة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫المحاضػ ػػرة الخامسة‬
‫كنا قد توقفنا عند‪[ :‬باب‪ :‬المسح على الخفين] وباب المسح على الخفين ذكر فيو المصنف حديثين‪:‬‬
‫حديث المغيرة بن شعبة‪ ،‬وحديث حذيفة (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫والمسح على الخفين من األفعاؿ التي وردت عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بالتواتر‪.‬‬
‫حتى أف الحسن البصري عليو رحمة اهلل قاؿ‪" :‬حدثني سبعوف من أصحاب النبي أنو قد مسح على الخفين"‪.‬‬
‫وقد جاء عن اإلماـ أحمد أنو قاؿ‪ :‬فيو سب ٌ وثالثوف حديثًا صحت عن النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وىكذا قاؿ غيرىم من أىل العلم‪.‬‬
‫فالمسح على الخفين من شعائر ىذا الدين الظاىرة‪ ،‬ولم يخالف في ىذا إال أىل البدع مثل الرافضة‪.‬‬
‫وفي باب المسح على الخفين‪.‬‬
‫الخفاف‪ :‬ىما ما يلبس على الرجل من ٍ‬
‫جلد ونحوه لسترىما إما تدفئةً لهما أو وقايةً لهما‪.‬‬
‫وأما ما يكوف من القطن أو الصوؼ‪ ،‬فتسمى‪ :‬جوارب أو يسمى جوربًا‪.‬‬

‫وقد ذكر المصنف فيو حديث المغيرة‪ ،‬فقاؿ‪ :‬عن المغيرة بن شعبة رضي عنو قػاؿ‪" :‬كنػت مػ النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) فػي سػف ٍر‪ ،‬فأىويػت‬
‫ألنزع خفيو‪ ،‬فقاؿ‪ :‬دعهما فإني أدخلتهما طاىرتين‪ ،‬فمسح عليهما"‪.‬‬
‫وقاؿ عن حذيفة بن اليماف قاؿ‪" :‬كنت م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في سف ٍر فباؿ وتوضأ ومسح على خفيو"‪.‬‬
‫مختصرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫قاؿ‪:‬‬
‫ىنا في حديث المغيرة بن شعبة ذكر أنو كاف م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في سف ٍر‪ ،‬وىذا الحديث بهذه اللفظة أنو قاؿ‪ :‬كنت معو في سفر‪.‬‬
‫أىل العلم على أف المسح على الخفين إنما يكوف في السفر دوف الحضر‪.‬‬ ‫فاستدؿ بع‬
‫والذي استدؿ بهذا ىو اإلماـ مالك عليو رحمة اهلل‪.‬‬
‫ضا في الحضر‪.‬‬
‫لكن قد ثبت حديث آخر أف المسح على الخفين ثبت أي ً‬
‫وقد جاء حديث علي بن أبي طالب (رضي اهلل عنو) في مسألة التأقيت في المسح فقاؿ‪ :‬إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وقّػت فػي المسػح أنػو‬
‫يوما وليلة للمقيم‪ ،‬وثالثة أياـ بلياليهن للمسافر‪.‬‬
‫جعل ً‬
‫قاؿ في ىذا الحديث‪ :‬فأىويت ألنزع خفيو صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقاؿ‪" :‬دعهما فإني أدخلتهما طاىرتين"‪.‬‬
‫أىوى المغيرة بن شعبة أف يخل خفي النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ليغسل قدميو‪ ،‬فقاؿ‪) :‬دعهما (أي‪ :‬اتركهما) فإني أدخلتهما طاىرتين"‪.‬‬
‫فبين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو لبسهما بعد أف تطهر أو بعد أف توضأ‪ ،‬وىنا بين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) شرطًا لمسألة المسح‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫"فمسح عليهما"‪.‬‬
‫ومن شروط المسح على الخفين أف يلبس الخفين بعد كماؿ الطهارة المائية‪.‬‬
‫وىذه مسألة مما اختلف فيو أىل العلم‪ :‬ىل يلػبس الخفػين بعػد كمػاؿ الطهػارة المائيػة أـ يجػوز أف يلػبس قبػل إتمػاـ الطهػارة؟ وصػورة ذلػك‪ :‬أف‬
‫يتوضأ الرجل ثم يغسل قدمو اليمنى ثم يلبس الخف األيمن في الرجل اليمنى ثم يغسل اليسرى ثم يلبس بعد ذلك‪.‬‬
‫ىذا قد لبس ولكن يعني ليس بعد إتماـ الطهارة كاملة‪.‬‬
‫أمػا لبسػهما بعػد كمػاؿ الطهػارة المائيػة‪ :‬ىػو أف يغسػػل القػدمين ثػم يلػبس الخفػين بعػد ذلػك‪ ،‬ىػػذا مػن شػروط المسػح عليهمػا‪ ،‬إلػى جػوار‪ :‬طهػػارة‬
‫عينهما وسترىما لغالب محل الفرض‪.‬‬
‫فبين ىنا شرطًا من شروط المسح على الخفين‪.‬‬
‫ثم جاء في حديث حذيفة بن اليماف قاؿ‪" :‬كنت م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في سف ٍر فباؿ وتوضأ ومسح على خفيو"‪.‬‬
‫مختصرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫قاؿ‪:‬‬
‫مختصرا؛ ألف في ىذا الحديث قصة‪ ،‬وىي‪ :‬أنو كاف م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فأتيا سباطة قوـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫قاؿ‬

‫‪30‬‬
‫والسباطة‪ :‬ىي الموض الذي يلقى فيو القمامة يقاؿ لو المزبلة‪.‬‬
‫قائما ثم توضأ ومسح على خفيو (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫فقاـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فباؿ ً‬
‫فهنا إثبات لمسألة المسح على الخفين‪ ،‬وىذا خالفًا لما عليو الرافضة أو ما عليو الشيعة من إنكار المسح على الخفين‪.‬‬
‫واستنبط العلماء فوائد من ىذه األحاديث‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬قالوا جواز المسح على الخفين في السفر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬قالوا جواز معاونة المتوضئ‪.‬ىذا لقوؿ المغيرة‪" :‬فأىويت ألنزع خفيو"‪.‬‬
‫البسػا للخػف لقػوؿ النبػي صػلى اهلل عليػو وسػلم‪" :‬دعهمػا فػإني‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬وكذلك استدلوا بأفضلية المسح علػى الخفػين لمػن كػاف ً‬
‫أدخلتهما طاىرتين"‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في مسألة المسح على الخفين‪ :‬ىل المسح أفضل أـ الغسل أفضل؟‬
‫فبعضهم قاؿ‪ :‬إف الغسل أفضل ألف الغسل عزيمة والعزيمة أفضل من الرخصة‪.‬‬
‫وبعضهم قاؿ‪ :‬ال وىذا قوؿ اإلماـ أحمد‪ ،‬قاؿ إف المسح أفضل ألف المسح سنة‪ ،‬وقد أنكره أىل البدع وإإهار السنة في ىػذه الحػاؿ‬
‫أفضل‪.‬‬
‫والقػػوؿ الثالػػث‪ :‬ىػػو قػػوؿ التفصػػيل‪ ،‬وىػػو قػػوؿ شػػيخ اإلسػػالـ ابػػن تيميػػة عليػػو رحمػػة اهلل قػػاؿ‪" :‬إف اإلنسػػاف ال يتكلػػف إنمػػا يكػػوف علػػى‬
‫خالعا فليغسل قدميو وال يتكلف"‪.‬‬
‫البسا للخف فالمسح لو ىنا أفضل‪ ،‬وإف كاف ً‬
‫الحاؿ الذي ىو عليها‪ ،‬فإذا كاف ً‬
‫يعني‪ :‬ال يلبس الخف حتى يمسح عليو‪ ،‬وال يخل حتى يغسل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬اشتراط كماؿ الطهارة المائية لجواز المسح على الخفين‪.‬‬
‫لقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬دعهما فإني أدخلتهما طاىرتين"‪.‬‬
‫ضا لحديث حذيفة بن اليماف الذي قاؿ فيو إنو كاف م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فباؿ‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز المسح في الحضر أي ً‬
‫في سباطة قوـ‪..‬استدلوا منو أنو في الحضر‪ ،‬وقالوا‪ :‬إف سباطة القوـ ال تكوف في السفر إنما تكوف في الحضر‪.‬‬
‫ضا حديث علي الذي ذكرتو آن ًفا‪.‬‬
‫ويؤيد مسألة المسح في الحضر أي ً‬

‫باب في المذي وغيره)‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر قاؿ‪ٌ ( :‬‬
‫مستقال‪ ،‬لكن المصنف جم‬
‫ً‬ ‫الفقهاء لكل ٍ‬
‫واحد من ىذه األشياء بابًا‬ ‫وقد ذكر المصنف في ىذا الباب أربعة أشياء‪ ،‬عاد ًة يفرد الفقهاء‪ ،‬أو بع‬
‫ىذه األشياء في ىذا الباب‪ .‬وىي‪:‬‬
‫‪ -‬وكيفية تطهير النجاسات‪.‬‬ ‫‪ -‬أنواع النجاسات‪.‬‬
‫‪ -‬وسنن الفطرة‪.‬‬ ‫الوضوء‪.‬‬ ‫‪ -‬نواق‬
‫باب في المذي وغيره)‬
‫فقاؿ‪ٌ ( :‬‬
‫سائل يخرج من الذكر عند ىيجاف الشهوة‪.‬‬
‫والمذي‪ :‬ىو ٌ‬
‫وىو يختلف عن المني‪ ،‬فإف المني يخرج بشهوةٍ‪ ،‬وتدفق ويشعر بو اإلنساف‪ ،‬لكن المذي يخرج وقد ال يشعر بو‪.‬‬
‫نجس والمني طاىر‪.‬‬
‫والفرؽ بين المني وبين المذي‪ :‬أف المذي ٌ‬
‫اء فاسػػتحييت أف أسػأؿ رسػػوؿ اهلل صػلى اهلل عليػػو وسػػلم؛‬
‫فػي ىػػذا الحػديث ذكػػر عػن علػػي بػػن أبػي طالػػب رضػي اهلل عنػػو‪ ،‬قػاؿ‪" :‬كنػػت رجػ ًػال مػ ّذ ً‬
‫لمكاف ابنتو مني‪ ،‬فأمرت المقداد بن األسود فسألو‪ .‬فقاؿ‪" :‬يغسل ذكره ويتوضأ"‪.‬‬
‫وللبخاري قاؿ‪" :‬اغسل ذكرؾ وتوضأ"‪ ،‬ولمسلم قاؿ‪" :‬توضأ وانضح فرجك"‪.‬‬
‫مذاء أي كثير المذي‪ ،‬قاؿ‪ :‬فاستحييت أف أسأؿ رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليػو وسػلم) لمكػاف‬
‫رجال ً‬
‫ىنا في حديث علي بن أبي طالب‪ ،‬قاؿ‪ :‬كنت ً‬
‫ابنتو؛ ألنو كاف زوج فاطمة (رضي اهلل عنها) بنت النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وىنا استنبط العلماء أف اإلنساف يستحي أف يتكلم م صهره في األشياء التي تتعلق بالفروج واألبضاع‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫قاؿ‪ :‬فأمرت المقداد بن األسود‪.‬والمقداد كاف صدي ًقا لعلي بن أبي طالب رضي اهلل عنو‪ ،‬فعرض عليو ىذا األمر‪ ،‬وأمره أف يسأؿ النبي صػلى اهلل‬
‫رجل تبناه‪ ،‬وىو األسود بن عبد يغوث فنسب إليو‪.‬‬
‫عليو وسلم‪ ،‬والمقداد بن األسود ىو المقداد بن عمرو‪ ،‬واألسود ىو ٌ‬
‫الك ْندي؛ نسبة إلى قبيلة كِندة‪.‬‬
‫والمقداد بن األسود ممن نسب إلى غير أبيو ويقاؿ المقداد بن األسود ِ‬
‫فالمقداد (رضي اهلل عنو) ذىب وسأؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فقاؿ‪" :‬يغسل ذكره ويتوضأ"‪.‬‬
‫والعلماء من ىنا استدلوا بهذا الحديث على نجاسة المذي؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أمر بغسلو‪ ،‬وقاؿ‪ :‬يتوضأ ألنو ناق ٌ للوضوء‪ ،‬فإذا‬
‫خرج نق الوضوء‪.‬‬
‫لكن ىل المعنى أف يغسل ما أصاب ذكره منو‪ ،‬أي‪ :‬موطن النجاسة الذي أصاب الفرج فقط‪ ،‬أـ يغسل الفرج (الذكر) كلو؟‬
‫للعلماء في ىذه المسألة قوالف‪:‬‬
‫‪ -‬األوؿ‪ :‬قالوا إف عليو غسل المحل فقط الذي أصابتو النجاسة‪ ،‬وىذا قوؿ جمهور أىل العلم‪.‬‬
‫كامال‪.‬‬
‫المالكية‪ ،‬قالوا‪ :‬إنو يغسل الذكر ً‬ ‫‪ -‬اآلخر‪ :‬ىو قوؿ الحنابلة وبع‬
‫كامال للنص الذي ورد؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬يغسل ذكره"‪ ،‬ولم يستثن شػيئًا‪ ،‬إنمػا قػاؿ يغسػل‬
‫اإلماـ أحمد يقوؿ بغسل الذكر ً‬
‫الذكر كلو‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪" :‬اغسل ذكرؾ وتوضأ"‪ ،‬ولإلماـ مسلم قاؿ‪" :‬توضأ وانضح فرجك"‪.‬‬
‫في رواية النضح‪ ،‬الغسل غير النضح‪ ،‬النضح ىو الرش‪.‬‬

‫والفرؽ بين الغسل والنضح‪:‬‬


‫أف الغسل ىو جرياف الماء على العضو‪ ،‬وانفصالو إما بنفسو‪ ،‬وإما بعص ٍر‪ ،‬أو ما شابو ذلك‪.‬‬
‫أما النضح‪ :‬فهو الرش وىو غمر المكاف للماء دوف انفصاؿ‪.‬‬
‫أىل العلم بحمل رواية النضح على الغسل‪ ،‬فيكوف المػراد مػن ذلػك‪ :‬غسػل الفػرج والغسػل كػذلك ال يقتصػر علػى الػذكر وحػده‪،‬‬ ‫وىنا قاؿ بع‬
‫ضا أنثييو‪.‬‬
‫إنما يشمل الذكر واألنثيين؛ ألف غالبًا إذا نزؿ المذي من ذكر اإلنساف فإنو قد يصيب أي ً‬
‫أمر بأف يغسل ذكره وأنثييو؛ ليقط ذلك الخارج من الذكر ويزيل النجاسة‪.‬‬
‫وىناؾ رواية أخرى فيها ٌ‬
‫حديث آخر‪ ،‬وىو حديث عباد بن تميم قاؿ عن عبّاد بن تميم عن عبد اهلل بن زيد بن عاصم المازني (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ُ " :‬ش ِك َي‬
‫ٍ‬ ‫ثم انتقل إلى‬
‫الرجل الذي يُخيّل إليو أنو يجد الشيء في الصالة‪ ،‬فقاؿ النبي صلى اهلل عليو وسػلم‪" :‬ال ينصػرؼ حتػى يسػم‬
‫ُ‬ ‫إلى النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‬
‫ريحا"‪.‬‬
‫صوتًا أو يجد ً‬
‫في ىذا الحديث‪..‬أف الذي شكا إلى النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬يقاؿ إنو ىو عبد اهلل بن زيد نفسو وعبد اهلل بن تميم يروي عن عمو عبد اهلل بن‬
‫زيد بن عاصم‪.‬‬
‫للوضوء‪.‬‬ ‫الشيء‪ ،‬والمقصود بالشيء‪ ،‬أي‪ :‬الشيء الناق‬
‫َ‬ ‫قاؿ للنبي (صلى اهلل عليو وسلم) إف الرجل يجد‬
‫وقولو "يخيل إليو) أي‪ :‬أنو يشك أنو خرج منو شيء‪.‬‬
‫ريحا"‪.‬‬
‫فأمره النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بعدـ االنصراؼ‪ ،‬قاؿ‪" :‬ال ينصرؼ حتى يسم صوتًا أو يجد ً‬
‫والمقصود ىنا‪ :‬ليس سماع الصوت بذاتو‪ ،‬وال شم الريح بذاتو إنما ىذا ٌ‬
‫مثاؿ قرب بو النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وضوؤه‪.‬‬ ‫ريحا فإنو ينتق‬
‫يعني ىذا مثاؿ المقصد منو‪ :‬أف يصل إلى اليقين فإذا خرج منو شيءٌ‪ ،‬وإف لم يسم صوتًا أو يشم ً‬
‫لكن المقصد أف يتيقن من خروج ىذا الشيء‪.‬‬
‫وىذه قاعدة عند الفقهاء وىي أف [اليقين ال يزوؿ بالشك واألصل بقاء ما كاف على ما كاف]‪.‬‬

‫الفوائد من ىذه األحاديث السابقة‪:‬‬ ‫واستنبط العلماء بع‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬فضيلة علي بن أبي طالب (رضي اهلل عنو) ومنقبتو‪ ،‬لمكانتو من النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫‪ -‬الفائػدة الثانيػة‪ :‬أنهػم قػالوا بجػواز التوكيػل فػي االسػتفتاء‪ ،‬كمػا وكػػل عل ٌػي (رضػي اهلل عنػو) المقػداد أف يسػتفتي لػو النبػي (صػلى اهلل عليػػو‬
‫وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬استنبطوا جواز التصريح مما يستحيا ذكره للعلم بحكمو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬قالوا بقبوؿ خبر الواحد في األحكاـ الشرعية؛ ألف عليًا (رضػي اهلل عنػو) أرسػل المقػداد وىػو واحػد‪ ،‬وسػأؿ النبػي وعػاد‬
‫علي منو‪.‬‬
‫باإلجابة فقبلها ٌ‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬نجاسة المذي ووجوب غسل الذكر منو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬قالوا إنو ال يكفي إزالة المذي باالستجمار‪ ،‬يعني‪ :‬بالحجارة أو بالتراب بل ال بد من الماء؛ ألف النجاسة إذا خرجػت‬
‫وتعدت محل خروجها‪ ،‬فال يجزئ فيها االستجمار‪ ،‬إنما ال تزوؿ إال بالغسل‪ ،‬وال ترف إال بالغسل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬أف األصل البناء على اليقين‪ ،‬فإذا تيقن أنو خرج منو شيء ينصرؼ‪ ،‬إذا شك فال يخرج‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬أف الشيطاف يوسوس للقلب السليم‪ ،‬يعني‪ :‬الصحابة رضي اهلل عنهم قلػوبهم أسػلم قلػوب‪ ،‬وقػد يػأتي الشػيطاف يوسػوس‬
‫لهذا القلب السليم؛ حتى يفسد عليو العبادة‪.‬‬
‫وذكػػر أنػػو قيػػل البػػن مسػػعود (رضػػي اهلل عنػػو)‪ :‬إف اليهػػود يقولػػوف إننػػا ال نػُ َوسػ َػوس فػػي الصػػالة فقػػاؿ‪ :‬صػػدقوا‪ ،‬ومػػاذا يصػػن الشػػيطاف بقل ػ ٍ‬
‫ب‬
‫خرب؟!‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬أف مجرد الشك في الحدث ال يبطل الوضوء وال الصالة‪ ،‬إنما ال يكوف ذلك إال باليقين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬أنو يحرـ االنصراؼ من الصالة لغير سبب‪ ،‬مجرد الشك يحرـ معو االنصراؼ من الصالة‪.‬‬
‫ريحا"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لقوؿ اهلل عز وجل‪َ { :‬وَال تُػ ْبطلُوا أَ ْع َمالَ ُك ْم ‪ ،‬وقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ال ينصرؼ حتى يسم صوتًا أو يشم ً‬

‫ثم انتقل المصنف إلى حديث أـ قيس بنت محصن األسدية (رضي اهلل عنها)‪" :‬أنها أتت باب ٍن لها صغير لم يأكل الطعاـ‪ ،‬إلػى رسػوؿ اهلل (صػلى‬
‫اهلل عليو وسلم) فأجلسو رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) في حجره‪ ،‬فباؿ على ثوبو‪ ،‬فدعا ٍ‬
‫بماء فنضحو على ثوبو ولم يغسلو"‪.‬‬
‫وفي حديث عائشة أـ المؤمنين (رضي اهلل عنها) أف رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أُتِي بصب ٍي فباؿ على ثوبو فدعا ٍ‬
‫بماء فأتبعو إياه"‪.‬‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم‪ :‬فأتبعو بولو ولم يغسلو‪.‬‬
‫أـ قيس بنت محصن األسدية‪ ،‬ىي‪ :‬أخت ٌعكاشة بن محصن (رضي اهلل عنو) الذي قاؿ فيو النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬سبقك بها عكاشة"‪.‬‬
‫قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬سػبعوف أل ًفػا مػن أمتػي يػدخلوف الجنػة بغيػر حس ٍ‬
‫ػاب وال سػابقة عػذاب فقػاؿ عكاشػة‪ :‬ادع اهلل أف أكػوف مػنهم يػا‬
‫رجل آخر فقاؿ‪ :‬وأنا يا رسوؿ اهلل‪ ،‬قاؿ‪ :‬سبقك بها عكاشة"‪.‬‬ ‫رسوؿ اهلل قاؿ‪" :‬أنت منهم"‪.‬فقاـ ٌ‬
‫ىذا الحديث جاء في بياف كيفية تطهير بوؿ الغالـ‪ ،‬وذكرت أـ قيس أنها أتػت بػاب ٍن لهػا (أي ذكػ ٍر صػغير لػم يأكػل الطعػاـ‪ ،‬أي لػم يتغػذ بالطعػاـ‪،‬‬
‫(يعني‪ :‬ما زاؿ في العامين) فأتت بو إلى النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وكاف من عادة الصحابة أنهم يػأتوف بأطفػالهم للنبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم)‬
‫ػاء فنضػحو‪ ،‬أي‪ :‬لػم يغسػلو ولػم يعصػر‬‫للتبرؾ بو صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فأجلسو في حجره فباؿ على ثوبو‪ ،‬فدعا النبي (صلى اهلل عليو وسػلم) بم ٍ‬
‫الثوب‪ ،‬إنما اكتفى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بنضحو (أي‪ :‬صب عليو الماء) أو نضح ىذا البوؿ بالماء‪.‬‬
‫وفرؽ العلماء بين بوؿ الغالـ وبوؿ الجارية؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أمر أف بوؿ الغالـ ينضح‪ ،‬وبوؿ الجارية يغسل‪.‬‬
‫وقد تكلم العلماء في التفريق بين بوؿ الغالـ وبوؿ الجارية قالوا لِ َم؟‬
‫إذا كانت الجارية مثل الغالـ ىذا لم يأكل لشهوة طعاـ‪ ،‬وىذا لم يأ كل لشهوة طعػاـ‪ ،‬فلمػاذا ينضػح بػوؿ الغػالـ وال ينضػح بػوؿ الجاريػة‪ ،‬واألمػر‬
‫فيو بالغسل‪ ،‬بخالؼ بوؿ الغالـ؟‬
‫بع أىل العلم قاؿ‪ :‬إف بوؿ الغػالـ ينتشػر بخػالؼ بػوؿ الجاريػة؛ ألف بػوؿ الغػالـ يخػرج مػن ثقػب صػغير فيكػوف فيػو انػدفاع فينتشػر فػي مكػاف‬
‫أكبر‪ ،‬وىذا يشق على الناس غسلو‪ ،‬والمشقة تجلب التيسير بخالؼ بوؿ الجارية‪ ،‬فإنو يجتم في ٍ‬
‫مكاف واحد‪.‬‬
‫وكذلك قالوا‪ :‬إف العلة تعبدية؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أمر بنضح بوؿ الغالـ الذي لم يأكل الطعاـ لشهوة‪ ،‬وغسل بوؿ الجارية فالعلػة‬
‫تعبدية‪ ،‬قاؿ‪ :‬ينضح ىذا فينضح‪ ،‬ويغسل ىذا فيغسل‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫وبعضهم علل ذلك بأف الغالـ تكوف الرغبة في حملو‪ ،‬من آلو أكثر من الجارية‪ ،‬وإذا ِ‬
‫حمل الغالـ فإنو يشق االحتراز من بولو‪ ،‬فيصيب بولو ثوب‬
‫ضا في مسألة الغسل؛ فمن أجل ىذا خفف لقاعدة‪[ :‬المشقة تجلب التيسير]‪.‬‬ ‫من يحملو‪ ،‬وىذا يتكرر غالبًا فتكوف ىناؾ مشقة أي ً‬
‫وأيضا أحاديث عائشة (رضي اهلل عنها) ذكرت أف النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أُتِي بصب ٍي فباؿ على ثوبو‪ ،‬فدعا ٍ‬
‫بماء فأتبعو إياه"‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ضا بأنو أتب البوؿ الماء‪ ،‬ولم يغسلو‪ ،‬يعني اكتفى بالنضح‪ ،‬ولم يغسل‪.‬‬ ‫وىذا الحديث كحديث أـ قيس‪ ،‬ولكن ىنا صرحت أي ً‬
‫واستنبط العلماء فوائد من ىذين الحديثين‪:‬‬
‫ػاىرا مػا نضػحو‬
‫أوال‪ :‬نجاسة بوؿ الغالـ حتى وإف كاف لم يأكػل الطعػاـ‪ ،‬والنبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) أمػر بالنضػح‪ ،‬قػالوا‪ :‬فلػو كػاف ط ً‬
‫‪ً -‬‬
‫طاىرا لتركو‪ ،‬لكن النضح والغسل يدؿ على نجاسة البوؿ‪.‬‬
‫النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وال غسلو‪ ،‬إنما لو كاف ً‬
‫‪ -‬ثانيًا‪ :‬قالوا إف بوؿ الغالـ الذي لم يأكل الطعاـ لشهوة ينضح‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثًا‪ :‬تواض النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وكريم أخالقو‪ ،‬حيث إنػو كػاف يقبػل أطفػاؿ أصػحابو‪ ،‬ويضػعهم فػي حجػره فيبولػوف فػي حجػره‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬

‫أعرابي فباؿ في طائفة المسجد‪ ،‬فزجره الناس‪ ،‬فنهاىم‬


‫ٌ‬ ‫ثم ذكر في الباب حديثا آخر أال وىو‪ :‬حديث أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬جاء‬
‫ٍ‬
‫بذنوب من ماء فأُىريق عليو"‪.‬‬ ‫النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فلما قضى بولو أمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‬
‫أعرابي‪ ،‬من ىم األعراب؟‬
‫ٌ‬ ‫قاؿ‪ :‬جاء‬
‫األعراب‪ :‬ىم سكاف البادية‪ ،‬والغالب على األعراب‪ :‬الجفاء والجهل حتى أف اهلل عز وجل ذكر عنهم في القرآف‪.‬‬
‫َنز َؿ اللَّوُ َعلَ ٰى َر ُسولِ ِو كما قاؿ اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫َج َد ُر أ ََّال يَػ ْعلَ ُموا ُح ُد َ‬
‫ود َما أ َ‬ ‫قاؿ تعالى‪َ { :‬وأ ْ‬
‫الروايػات‪ ،‬النبػي (صػلى اهلل‬ ‫فجاء ىذا األعرابي فقضى حاجتو فباؿ في جانب المسجد‪ ،‬وىذا إنِّا منو أنو والصعداء شيئًا واح ًدا‪ ،‬حتى فػي بعػ‬
‫عليو وسلم) سألو‪" :‬ما الذي حملك أف تفعل ىذا؟"‬
‫قاؿ‪ :‬ما إننتو إال والصعداء‪ ،‬أي‪ :‬ىو واألرض العادية والصحراء العادية شيئًا واح ًدا‪.‬‬
‫فلما باؿ في جانب المسجد صاح بو الناس بشدة؛ ألف ىذا أمر منكر ٍ‬
‫مناؼ للشرع‪ ،‬ألف المسجد إنما جعل للعبادة‪ ،‬فهنا أمػرىم النبػي (صػلى‬ ‫ٌ‬
‫اهلل عليو وسلم) بتركو حتى ينتهي من حاجتو؛ وىذا من رحمة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بأمتو‪ ،‬وعدـ غلظتو عليهم‪ ،‬م أف ىػذا األعرابػي جػاء‬
‫وشيء مستنكر‪ ،‬من رحمة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو تلطف بو‪.‬‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بشيء مستبش‬
‫الروايات‪( :‬ال تذرموه) ال تقطعوا عليو بولو‪ ،‬وىذا من حكمة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) البالغة‪ ،‬وتتمثل حكمة النبي (صلى اهلل‬ ‫وقاؿ في بع‬
‫عليو وسلم) في ىذا الموقف في مسألة المفاسد التي ستق بسبب زجر الصحابة لهذا الرجل‪.‬‬
‫ومن ىذه المفاسد التي تحصل ىي‪:‬‬
‫قط البوؿ خوفًا منهم‪ ،‬فقد يتضرر ىذا الرجل بذلك‪.‬‬
‫وقد يخاؼ منهم فيتحرؾ فتنكشف عورتو‪.‬‬
‫وقد ينتشر البوؿ في أنحاء المسجد فتتلوث بقعة أكثر في المسجد‪.‬‬
‫اتقاء للمفاسد من النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وكذلك جلبًا للمصالح‪.‬‬
‫فكاف ىذا ً‬
‫الروايات أف ىذا األعرابي جاء إلى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وقاؿ‪" :‬اللهم‬ ‫ومن ىذه المصالح‪ :‬تأليف قلب ىذا األعرابي‪ ،‬فقد جاء في بع‬
‫ٍ‬
‫ولمحمد) أو قاؿ‪' :‬اللهم ارحمني ومحم ًدا‪ ،‬وال ترحم أح ًدا غيرنا) فضحك النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وقاؿ‪" :‬يا أعرابي‪ ،‬لقد تحجرت‬ ‫اغفر لي‬
‫واسعا"‪.‬‬
‫ً‬
‫فػػال بػػد أف يكػػوف اإلنسػػاف عامػةً‪ ،‬والػػدعاة إلػػى اهلل عػػز وجػػل خاصػةً عنػػدىم شػػيءٌ مػػن اللػػين والحلػػم فػػي الػػدعوة إلػػى اهلل عػػز وجػػل‪ ،‬والصػػبر علػػى‬
‫الناس‪.‬‬
‫والحلم ىو سيد األخالؽ‪ ،‬وىو من األخالؽ التي يحبها اهلل عز وجل كما جاء في حديث عبد القيس أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إف‬
‫فيك خصلتاف يحبهما اهلل عز وجل ورسولو‪ ،‬الحلم واألناة‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫قاؿ‪ :‬أجبلت عليهما أـ تخلقت بهما؟ قاؿ بل جبلت عليهما‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬الحمد هلل الذي جبلني على ما يحب"‪.‬‬
‫فالحلم من األخالؽ التي قد تكتسب‪،‬‬
‫كما قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إنما الحلم بالتحلم وإنما العلم بالتعلم"‪.‬‬
‫فلما انتهى ىذا األعرابي من قضاء بولو أمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بذنوب‪.‬‬
‫والذنوب ىو الدلو أو اإلناء الذي فيو ماء‪ ،‬فأمر بهذا الماء فأىريق على مكاف ىذا البوؿ‪.‬‬
‫وطبعا ىذا أسرع في إزالػة النجاسػة؛ ألف المػاء إذا تكػاثر علػى مكػاف النجاسػة أزالهػا‪ ،‬بخػالؼ إذا تركػت فجفػت بالشػمس‪ ،‬أو أزيلػت بػأي مزي ٍػل‬
‫ً‬
‫آخر‪ ،‬فالماء أسرع في إزالتها‪.‬‬

‫استنبط العلماء فوائد من ىذا الحديث من ىذه الفوائد‪:‬‬


‫أوال‪ :‬بياف مدى جهل األعرابي باألحكاـ الشرعية‪ ،‬وذلك بسبب البعد عن المدف وأماكن التعليم‪.‬‬
‫‪ً -‬‬
‫فينبغي لإلنساف أف يحرص على مجاورة أىل العلم فإف البعد عنهم يكوف سببًا في زيادة الجهل لإلنساف‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيًػا‪ :‬رحمػػة النبػػي صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم‪ ،‬وسػػماحة خلقػػو‪ ،‬وبعػػد نظػػره‪ ،‬وتقػػديره لمػػآالت األمػػور كمػػا فعػػل مػ األعرابػػي (صػػلى اهلل عليػػو‬
‫وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثًا‪ :‬نجاسة البوؿ‪ ،‬وأنو يجب تطهير النجاسات ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أمر بإراقة الماء عليو‪.‬‬
‫ضررا‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬أنو عند تزاحم المفاسد‪ ،‬ترتكب أخفها ً‬ ‫‪ً -‬‬
‫كما فعل النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم م األعرابي‪ :‬البوؿ في المسجد مفسدة؛ لكػن إذا صػاح بػو الصػحابة فقػد تكػوف المفاسػد أكثػر؛‬
‫فاختار النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم أف ترتكب أقل المفاسد‪.‬‬
‫فقاؿ ال تذرموه أو ال تقطعوا عليو بولو أو قاؿ اتركوه‪.‬‬
‫الروايػات جػاء فػي الحػديث قػاؿ‪ :‬يػا أعرابػي إف المسػاجد لػم تُجعػل‬ ‫خامسا‪ :‬تعظيم المساجد وبيػاف حرمتهػا مػن الفوائػد ألنػو فػي بعػ‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫لهذا‪ ،‬إنما جعلت للصالة‪ ،‬ولذكر ال ٰلّو ولقراءة القرآف‪.‬‬
‫سادسا من الفوائد التي تستنبط‪ :‬بياف غيرة الصحابة رضي ال ٰلّو عنهم‪ ،‬وأنهم ال يتركوف األمر بالمعروؼ والنهي عن المنكػر أبػ ًدا‪ ،‬يعنػي‪:‬‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫عندما رأوا المنكر قاموا لينكروه‪ ،‬فأوقفهم النبي (صلى ال ٰلّو عليو وسلم)‪.‬‬
‫لمػا ينهػى عػن المنكػر ينهػى عػن المنكػر بغيػر منكػر؛ فالمقصػود مػن‬
‫سابعا من الفوائد‪ :‬أف المقصود من النهي عن المنكر‪ :‬أف اإلنسػاف ّ‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫النهي عن المنكر إزالتو‪ ،‬أي‪ :‬إزالة المنكر‪ ،‬ال تأنيب الفاعل على فعلو وتبكيتو‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حديث آخر يبين فيو (خصاؿ الفطرة)‪.‬‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى‬
‫ػس‪ ،‬الختػاف واالسػتحداد‪ ،‬وقػص الشػارب‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫ٰ‬ ‫ٰ‬
‫فقاؿ عن أبي ىريرة رضي اللّو عنو‪ ،‬قاؿ‪ :‬سمعت رسوؿ اللّو صلى اللّو عليو وسلم يقوؿ‪" :‬الفطرة خم ٌ‬
‫وتقليم األإفار ونتف اإلبط"‪.‬‬
‫وجبِل الناس عليها‪ ،‬ىذه األشياء التي جاءت‬ ‫ٰ‬ ‫ٰ‬
‫ىنا قاؿ‪ :‬سمعت رسوؿ اللّو صلى اللّو عليو وسلم يقوؿ‪ :‬الفطرة خمس‪ ،‬الفطرة ىي التي تستحسن ُ‬
‫في ىذا الحديث من محاسن اإلسالـ التي جاء بها الشرع؛ ليكوف المسلم على أحسن حاؿ وعلى أجمل صورة‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬الفطرة خمس‪ ،‬ليس معنى ذلك أف الفطرة محصورةٌ بهذه الخمس‪ ،‬فقد جاء في حديث آخر قوؿ النبي صلى ال ٰلّو عليػو وسػلم‪" :‬عش ٌػر مػن‬
‫خمسا من الفطرة‪ ،‬بدأ ىذه الخمس بالختاف‪.‬‬
‫الفطرة"‪ ،‬ولكن ىنا يعني ذكر ً‬
‫والختاف ىو‪ :‬قط الجلدة التي فوؽ حشفة الذكر بالنسبة للرجل‪ ،‬وبالنسبة لألنثى ىي‪ :‬قط الجلدة الزائدة في فرجها؛ وكوف ىذا من الفطرة لما‬
‫فيو من تطهير المحل فال يجتم فيو النجاسات‪ ،‬ثم أنو من كماؿ االستمتاع‪ ،‬يعني‪ :‬من كماؿ استمتاع الزوج بزوجتو والعكس‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪ :‬واالستحداد‪ ،‬ى و استعماؿ الحديدة وىو ما يسمى بالموس لحلق شعر العانة‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫وشعر العانة‪ :‬ىو الشعر النابت حوؿ القبل حوؿ عند الرجل والمرأة‪ ،‬وترؾ ىذا الشعر بدوف حلق قد يكوف سػببًا فػي تلوثػو بالنجاسػة؛ ذلػك ألنػو‬
‫إذا طاؿ وبلغ الفرج فإنو قد يتلوث عندما يتبوؿ اإلنساف‪.‬‬
‫فقد يحمل النجاسات ويصلي اإلنسػاف وىػو حامػل للنجاسػة فتبطػل صػالتو بػذلك‪ ،‬وكػذلك تركػو يكػوف سػببًا فػي إهػور الػروائح الكريهػة مػن ىػذا‬
‫المكاف‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪" :‬وقص الشارب"‪ ،‬والشارب‪ :‬ىو الشعر النابت فوؽ الشفة العليا لإلنساف عند الرجل‪.‬‬
‫يعني‪ :‬قص الشارب يكوف إما بالقصر‪ ،‬أو بالجز‪ ،‬أو يكوف بالحف‪ ،‬أو اإلنهاؾ كما تعددت الروايات بذلك‪.‬‬
‫ضا من المثلة كما قاؿ اإلمػاـ مالػك عليػو رحمػة ال ٰلّػو إف‬
‫ولكن ال يكوف بالحلق‪ ،‬يعني ال يحلق بالموس ألنو لم يأت النص بو‪ ،‬وقد يكوف ذلك أي ً‬
‫حلقو ُمثلة‪ .‬يعني حلق الشارب بالموس ُمثلة؛ ينبغي أف يؤدب فاعلو‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪" :‬وتقليم األإفار"‪ ،‬واألإفار‪ :‬ىي ما تكوف نابتةٌ على أصاب القدمين واليدين‪.‬‬
‫لو تركت ىذه األإفار لتراكمت األوساخ بين الظفر واللحم؛ وىذا يكوف سببًا فػي األذى والضػرر‪ ،‬فربمػا تحمػل الجػراثيم التػي تضػر اإلنسػاف‪ ،‬ال‬
‫سيما إذا حملت إلى طعامو وجرى بو‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪" :‬ونتف اإلبْط"‪ ،‬بتسكين الباء قد فرؽ النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم بين العانة وبين اإلبط‪ ،‬فجعل للعانة الحلق‪ ،‬ولإلبط النتف يػؤدى إلػى‬
‫ضعف أصوؿ الشعر فيقل نموه‪ ،‬لكن إف كانت ىناؾ مشقة في نتف اإلبط فيزاؿ‪.‬‬
‫وكاف اإلماـ الشافعي قاؿ‪ :‬إني أجد مشقةً فيو‪ ،‬وإني أتألم فكاف يستعمل النورة‪ ،‬فيزاؿ بأي شيء‪.‬‬
‫شيء يقوـ مقاـ النتف أو الحلق‪.‬‬ ‫النورة مثل‪ :‬األدوات التي تزيل الشعر‪ ،‬مثل‪ :‬الكريمات واألشياء الكيماوية التي يضعونها اآلف‪ ،‬فبأي ٍ‬
‫ت الشرع كما وقت النبي صلى ال ٰلّو عليػو وسػلم‪ ،‬بػأف ال تتػرؾ ىػذه األشػياء تقلػيم األإفػار‪ ،‬ونتػف اإلبػط وحلػق العانػة‪ ،‬وجػذ الشػارب أال‬
‫فقد َوقَّ َ‬
‫يوما‪.‬‬
‫تترؾ أكثر من أربعين ً‬
‫يوما‪.‬‬ ‫ٰ‬
‫نهى النبي صلى اللّو عليو وسلم أف تترؾ أكثر من أربعين ً‬

‫الفوائد التي استنبطها العلماء من ىذه األحاديث أو حديث الفطرة‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف فطرة ال ٰلّو عز وجل تدعو إلى كل خي ٍر‪ ،‬وتبعد عن كل ش ٍر وىذا واضح في كل ما أمر بو الشرع أو نهى عنو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف من الفطرة ىذه الخمس وليست محصورة في ىذه الخمس‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر‪( :‬باب الغسل من الجنابة)‬
‫وذكر في ىذا الباب أحاديث تبين ثالثة أمور‪ :‬موجبات الغسل‪ ،‬صفة الغسل‪.‬‬
‫األحكاـ التي يمن منها الجنب‪.‬‬ ‫بع‬
‫[والغسل] في اللغة‪ :‬ىو تعميم البدف بالماء‪ ،‬ىذا ىو الغسل المجزيء‪.‬‬
‫الجنابة‪ ،‬قيل‪ :‬إنها من البعد‪ ،‬وىي تطلق على المجام أو من خرج منو المني‪ ،‬ذلك ألف ماءه قد باعد محلو‪ ،‬يعني‪ :‬خرج عن المحل‪ ،‬في‬
‫قاؿ‪ :‬أجنب يعني أخذ جانبًا‪..‬فيقاؿ‪ُ :‬جنُب‪.‬‬
‫طػرؽ المدينػة وىػو جنػب‪ ،‬فقػاؿ‪ :‬فانخنسػت منػو‪،‬‬ ‫وذكر حديث أبي ىريػرة (رضػي اهلل عنػو) قػاؿ‪ :‬إف النبػي صػلى ال ٰلّػو عليػو وسػلم لقيػو فػي بعػ‬
‫فذىبت فاغتسلت ثم جئت‪ ،‬فقاؿ‪" :‬أين كنت يا أبا ىريرة؟) قاؿ‪ :‬كنت جنبًا فكرىت أف أجالسك وأنا على غير طهارة‪ ،‬فقاؿ‪" :‬سبحاف ال ٰلّو! إف‬
‫المسلم ال ينجس"‪.‬‬
‫وفي رواية "والمؤمن ال ينجس"‪.‬‬
‫الطرؽ‪.‬‬ ‫ىنا في ىذا الحديث أف أبا ىريرة رضي ال ٰلّو عنو لقي النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في بع‬
‫خناسا؛ ألنو يأتي على وجو الخفاء‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬فانخنست منو‪ ،‬أي‪ :‬اختبأت منو‪ ،‬منو سمي الشيطاف ً‬
‫لقى النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم وىو على ىذه الحالة‪.‬‬
‫فانخنست منو وىذا حتى ال ي ٰ‬

‫‪36‬‬
‫وىذا من أدب أبي ىريرة رضي ال ٰلّو عنو فسألو النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم‪ ،‬قاؿ‪..‬ذىبت إلى داري فاغتسلت ثم جئت‪.‬‬
‫وفي بع الروايات أنو لقيو فمشى معو‪ ،‬وجلس بجانبو ثم اختبأ‪ ،‬فقاـ فاغتسل‪ ،‬فقاؿ النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم‪" :‬أين كنت يا أبا ىريرة؟) قاؿ‪:‬‬
‫حكمػا آخػر أال وىػو حكػم نجاسػة المػؤمن مػن‬ ‫ٰ‬
‫كنت جنبًا فكرىت أف أجالسك‪.‬أي‪ :‬وأنا على غير طهػارة‪ ،‬فبػين لػو النبػي صػلى اللّػو عليػو وسػلم ً‬
‫طهارتو‪.‬‬
‫فقاؿ‪" :‬سبحاف ال ٰلّو‪.‬‬
‫وكاف النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم إذا تعجب من أمر‪ ،‬وإذا استعجب من أم ٍر سبح‪ ،‬قاؿ‪ :‬سبحاف اهلل‪.‬‬
‫وىنا يستحب اإلنساف إذا رأى شيئًا يتعجب منو فيقوؿ‪ :‬سبحاف ال ٰلّو‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪" :‬إف المؤمن ‪-‬أو المسلم‪ -‬ال ينجس"‪.‬‬
‫أي‪ :‬أف عين أعضائو ليست نجسة ال حكما وال عينا‪.‬‬
‫إنما الجنابة حدث‪ ،‬والحدث سواء كاف أصغر أو أكبر فإنو ال يكوف سببًا في نجاسة المؤمن‪.‬‬
‫كافرا حيًا كاف أـ ميتًا فإنو طاىر‪ ،‬وإنما نجاسة الكافر‬
‫سواء كاف مؤمنًا أو ً‬
‫ومن ىنا استدؿ العلماء من ىذا الحديث على أف اآلدمية‪ ،‬يعني‪ :‬مطل ًقا ً‬
‫ِ‬ ‫ٰ‬
‫التي ذكػرت فػي القػرآف قػوؿ اللّػو ع َّػز وجػل‪{ :‬إنَّ َمػا ال ُْم ْشػ ِرُكو َف نَ َج ٌ‬
‫ػس إنمػا ىػي نجاسػةٌ معنويػة‪ ،‬نجاسػة اعتقػاد‪ ،‬نجاسػة الشػرؾ وال سػيما اآلدمػي‬
‫مطل ًقا ال ينجس‪.‬‬
‫وقد أباح الشرع للمؤمن الزواج من الكتابية‪ ،‬وال يبػيح الشػرع معاشػرة النجاسػة‪ ،‬إذا كانػت الكتابيػة نجسػة؛ وعليػو فػإف عػرؽ اآلدمػي وريقػو طػاىر‬
‫حتى ولو كاف مشرًكا‪.‬‬

‫وقد استنبط العلماء أيضًا فوائد من ىذا الحديث‪.‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف الجنابة ليست نجاسة‪.‬‬
‫الروايات أنو مشى‬ ‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز تأخير الغسل من الجنابة‪.‬ألف أبا ىريرة خرج جنبًا وقابل النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم‪ ،‬وفي بع‬
‫معو وجلس معو‪ ،‬ثم بعد ذلك ذىب واغتسل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬تعظيم أىل الفضل والعلم‪ ،‬واستحباب مجالستهم على أفضل الهيئات‪.‬كما أراد أف يفعل أبو ىريرة م النبي (صلى ال ٰلّو‬
‫عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬ىي بطالف عقائد الفرؽ الضالة ال سيما الصوفية‪ ،‬بادعائهم أف النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم يعلػم الغيػب‪ ،‬يعنػي‪ :‬بػين فػي‬
‫ىذا الحديث أف النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم ال يعلم الغيب والدليل أنو سأؿ أبا ىريرة‪" :‬أين كنت يا أبا ىريرة؟"‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬حسن خلق وأدب أبي ىريرة رضي ال ٰلّو عنو ألنو لم يرد أف يجالس النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم وىو على ىذه الهيئة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬استحباب التسبيح عند التعجب واالستغراب‪ ،‬كما قاؿ النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم‪" :‬سبحاف اهلل"‪.‬‬

‫انتقل المصنف إلى حديث عائشة رضي ال ٰلّو عنها‪ ،‬وىذا الحديث يصف غسل رسوؿ ال ٰلّو (صلى ال ٰلّو عليو وسلم)‪.‬‬
‫ضا تصف غسل النبي صلى ال ٰلّو عليو وسلم‪ ،‬قاؿ‪ :‬عن عائشة رضي ال ٰلّو عنها قالت‪ :‬كاف رسػوؿ ال ٰلّػو‬‫وكذلك أتى حديث ميمونة بنت الحارث أي ً‬
‫صلى ال ٰلّو عليو وسلم إذا اغتسل من الجنابة‪ ،‬غسل يديو ثم توضػأ وضػوءه للصػالة‪ ،‬ثػم يغتسػل ثػم يخلػل بيديػو شػعره حتػى إذا إػن أنػو قػد أروى‬
‫بشرتو أفاض عليو الماء ثالث مرات‪ ،‬ثم غسل سائر جسده‪.‬‬
‫جميعا"‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٰ‬ ‫ٰ‬
‫وكانت تقوؿ‪" :‬كنت أغتسل أنا ورسوؿ اللّو صلى اللّو عليو وسلم من إناء واحد نغترؼ منو ً‬
‫وعػػن ميمونػػة بنػػت الحػػارث رضػػي ال ٰلّػػو عنهػػا‪ ،‬زوج النبػػي صػػلى ال ٰلّػػو عليػػو وسػػلم‪ ،‬أنهػػا قالػػت‪" :‬وضػػعت لرسػػوؿ ال ٰلّػػو صػػلى ال ٰلّػػو عليػػو وسػػلم وضػػوء‬
‫واستنشق وغسل‬ ‫الجنابة‪ ،‬فأكفأ بيمينو على يساره مرتين أو ثالثة‪ ،‬ثم غسل فرجو ثم ضرب يده باألرض أو الحائط مرتين أو ثالثة‪ ،‬ثم تمضم‬
‫المػاء‬ ‫وجهو وذراعيو‪ ،‬ثم أفاض على رأسو الماء‪ ،‬ثػم غسػل سػائر جسػده‪ ،‬ثػم تنحػى فغسػل رجليػو‪ ،‬قالػت فأتيتػو بخرق ٍػة فلػم يردىػا‪ ،‬فجعػل يػنف‬
‫بيديو‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫مال؛‬ ‫ىنا في حديث عائشة رضي ال ٰلّو عنها‪ ،‬تصف غسل رسوؿ ال ٰلّو صلى ال ٰلّو عليو وسلم‪ ،‬والغسل إما يكوف ً‬
‫غسال مجزئًػا‪ ،‬وإمػا يكػوف غس ًػال كػا ً‬
‫فالغسل المجزئ‪ :‬ىو تعميم البدف بالماء كما ىو معروؼ‪.‬‬
‫والغسل الكامل‪ :‬أف يأتي اإلنساف بمستحباتو وسننو‪.‬‬
‫والغسل المجزئ‪ :‬أف ينوي بقلبو أنو سيرف بذلك الحدث‪ ،‬ويعمم جسده بالماء م المضمضة واالستنشاؽ على الراجح من أقواؿ أىل العلم‪.‬‬
‫متمم لو‪.‬‬ ‫ٰ‬
‫والغسل الكامل‪ :‬حكتو عائشة رضي اللّو عنها في صفة غسل النبي في الحديث الذي روتو‪ ،‬وحديث ميمونة ٌ‬
‫ىذاف الحديثاف‪ :‬ىما األصل في صفة الغسل من الجنابة‪ ،‬وقد جاء فيهما صفة الكماؿ في غسل النبي (صلى ال ٰلّو عليو وسلم)‪.‬‬
‫وأمر مختلف‪.‬‬ ‫ٰ‬
‫أمر متشابو ٌ‬
‫العلماء يقدموف حديث عائشة رضي اللّو عنها‪ ،‬قالوا‪ :‬إف حديث عائشة مقدـ على حديث ميمونة‪ ،‬فالحديثاف بينهما ٌ‬
‫األمر الذي فيو االختالؼ‪ :‬اختلف فيو أمراف‪:‬‬
‫األوؿ‪ :‬صفة الرأس في الغسل والثانية‪ :‬في صفة الوضوء‪.‬‬
‫ففي حديث عائشة رضي ال ٰلّو عنها‪ ،‬لما غسل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) رأسو‪ ،‬قالت‪ :‬خلل بيديو شعره حتى إذا إن أنو قد أروى بشرتو‪.‬‬
‫‪ -‬غلب على إنو أنو أروى بشرتو‪ :‬أي وصل الماء إلى أصوؿ الشعر‪ ،‬وذلك من تخليل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) شعره بيديو‪.‬‬
‫‪ -‬أما في حديث ميمونة رضي اهلل عنها‪ ،‬ما ذكرت مسػألة التخليػل فػي الشػعر‪ ،‬إنمػا قالػت‪ :‬ثػم أفػاض المػاء علػى رأسػو‪.‬مجػرد إفاضػة المػاء علػى‬
‫الرأس‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬في صفة الوضوء‪.‬‬
‫تفصل في ىذا‪.‬‬
‫‪ -‬صفة الوضوء في حديث عائشة‪ ،‬قالت‪ :‬توضأ وضوءه للصالة‪ ،‬ولم ّ‬
‫واستنشػق‪ ،‬وغسػل وجهػو وذراعيػو ثػم‬ ‫‪ -‬أما في حديث ميمونة بيّنت أنو أكفأ بيمينو على يساره مػرتين‪ ،‬ثػم غسػل فرجػو ثػم ضػرب‪ ،‬ثػم تمضػم‬
‫أفاض على رأسو الماء‪.‬‬
‫كامال‪.‬‬
‫وضوءا ً‬
‫ً‬ ‫‪ -‬ففي حديث عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) توضأ‬
‫كامال بمعنى أنو غسل رجليو في وضوئو األوؿ‪ ،‬ثم غسل سائر جسده‪.‬‬
‫وضوءا ً‬
‫ً‬ ‫يعني‪ :‬توضأ‬
‫‪ -‬وجاء في حديث ميمونة أنو توضأ ولم ِ‬
‫يبق إال قدميو‪ ،‬ثم اغتسل‪ ،‬ثم غسل قدميو بعد ذلك‪.‬‬
‫أىل العلم يقدـ حديث عائشة على حديث ميمونة‪.‬‬ ‫ىذا التعارض بين ىذين الصفتين؛ جعل بع‬
‫فقالوا‪ :‬إف حديث عائشة ىو األصل المقدـ‪ ،‬وحديث ميمونة جائز‪.‬‬
‫وذلك ألف عائشة (رضي اهلل عنهػا) رضػي اهلل عنهػا فػي بدايػة الحػديث‪ ،‬قالػت‪ :‬كػاف رسػوؿ اهلل (صػلى اهلل عليػو وسػلم) إذا اغتسػل‪.‬أي‪ :‬إذا أراد‬
‫الغسل‪.‬‬
‫دليل أو إفادة على التكرار‪.‬‬
‫وىنا القاعدة عند اللغويين‪ ،‬وأخذىا األصوليوف منهم‪ ،‬قالوا‪ :‬إف الفعل إذا سبق بػ(كاف) كاف ذلك ٌ‬
‫‪ -‬كاف إذا اغتسل‪..‬كاف إذا فعل‪..‬‬
‫كما جاء في حديث ابن عمر‪ ،‬كانت الكالب تقبل وتدبر في المسجد‪ ،‬وكانت تبوؿ فيو‪.‬‬
‫يعني‪ :‬كاف ىذا األمر متكرر فما كانوا يرشوف من أبوالها شيء‪.‬‬
‫ىنا قالت عائشة (رضي اهلل عنها)‪ :‬كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إذا اغتسل‪.‬‬
‫يعني‪ :‬قالوا إف الفعل إذا سبق بكاف فإنو يفيد التكرار‪.‬‬
‫‪ -‬فعائشة (رضي اهلل عنها) أخبرت عن الفعل المتكرر‪ ،‬وىو األكثر‪.‬‬
‫‪ -‬وأما ميمونة (رضي اهلل عنها) فإنها حكت واقعةً واحدة‪ ،‬فقالت إنها وضعت لرسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) وضوء الجنابة‪ ،‬أي‪ :‬ماء الغسل‬
‫من الجنابة‪.‬‬
‫ولذلك اإلماـ أحمد عليو رحمة اهلل قاؿ‪ :‬االغتساؿ عندنا من الجنابة على حديث عائشة‪ ،‬م االتفاؽ على جواز فعل حديث ميمونة‪.‬‬
‫كامال‪.‬‬
‫وضوءا ً‬
‫ً‬ ‫يعني‪ :‬أف األصل أنو يتوضأ‬

‫‪38‬‬
‫وحديث ميمونة أنو أخر غسل القدمين إلى ما بعد الغسل‪ ،‬يعني‪ :‬ىذا جائز‪.‬‬
‫وعللوا ذلك أف النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬قد يكوف قد اغتسل في ٍ‬
‫مكاف فيو طين‪.‬‬
‫كامال‪.‬‬
‫وضوءا ً‬
‫ً‬ ‫وأف أغلب الروايات عن عائشة‪ ،‬وتكرار األمر أنو كاف يتوضأ‬
‫وحديث ميمونة أنها حكت مرة واحدة‪ ،‬أو حكايةً واحدة؛ فدؿ ذلك على أنو ربما في ىذا الموطن‪ ،‬فِعل النبي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) فػي ىػذه‬
‫الواقعة أنو كاف المكاف متس ًخا أو كاف تحتو طين‪.‬‬
‫فأراد النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬أف يؤخر غسل القدمين آلخر الغسل؛ حتى تتنظف من ىذا أو ال يصيبها األذى‪.‬‬
‫قالت عائشة (رضي اهلل عنها)‪ :‬كنت أغتسل أنا ورسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) من ٍ‬
‫إناء واحد‪.‬‬

‫ضا على أمرين‪:‬‬


‫واستدؿ العلماء من ىذا الحديث أي ً‬
‫‪ -‬األوؿ‪ :‬جواز نظر الرجل لجمي بدف امرأتو‪ ،‬والمرأة إلى جمي بدف زوجها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كنت أغتسل أنا والنبي (صلى اهلل عليو وسلم) من إناء واحد"‪.‬‬
‫الروايات‪" :‬نض أيدينا فيو فتختلف أيدينا فيو‪ ،‬ويقوؿ‪ :‬دعي لي‪ ،‬وأقوؿ لو‪ :‬دع لي"‪.‬‬ ‫وفي بع‬
‫‪ -‬واألمر الثاني‪ :‬قالوا إف فضل طهور المرأة يرف الحدث‪ ،‬وال يفقد الماء الطهورية بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬في حديث ميمونة (رضي اهلل عنها)‪ :‬أنها قالت وضعت للنبي (صلى اهلل عليو وسلم) وضوء الجنابة‪ ،‬فأكفأ بيمينو على يساره‪.‬‬
‫‪ -‬وفي حديث عائشة قالت‪ :‬غسل يديو‪.‬‬
‫وىذا قد فصلنا فيو قبل ذلك‪ ،‬أف تغسل اليد قبل وضعها في اإلناء ‪.‬‬
‫قاؿ فأكفأ بيمينو على يساره مرتين أو ثالثة‪ ،‬ثم غسل فرجو‪ ،‬ثم ضرب بيديو الحائط أو ضرب بيديو األرض؛ وذلك إلزالة مػا فيهمػا مػن اللزوجػة‬
‫(لزوجة المني واألذى الذي أزالو من فرجو)‪.‬‬
‫واستنشق وقػد بينػا حكػم المضمضػة واالستنشػاؽ‪ ،‬وغسػل وجهػو وذراعيػو‪ ،‬ثػم أفػاض علػى رأسػو المػاء‪ ،‬ثػم غسػل سػائر جسػده‪ ،‬ثػم‬ ‫ثم تمضم‬
‫تنحى فغسل رجليو‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فأتيتو بخرقو‪ ،‬فلم يُردىا‪ ،‬أي‪ :‬ردىا النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ىنا قالت‪ :‬أفاض على رأسو الماء‪ ،‬ولم تذكر ميمونة مسألة تخليل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لبشرتو‪.‬‬
‫ىذا يدؿ‪ :‬على أنها صفة إجزاء‪ ،‬أما صفة الكماؿ فتكوف بالتخليل قالت فأتيتو بخرقة فلم يُردىا‪ ،‬يعني‪ :‬ىذا ليس سنة أنو رد الخرقة ولم يتنشف‬
‫ىذا ليس سنة‪.‬‬
‫ألنو صح عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو توضأ‪ ،‬فمسح أعضاءه بمنديل‪.‬‬
‫حارا‪ ،‬وفي ىذه الحالة يحتاج المرء إلى الرطوبة للتبرد‪ ،‬بخالؼ الوقت البػارد فػإف التنشػيف يكػوف‬
‫فلربما كاف ىذا األمر لحاجة كأف يكوف الجو ً‬
‫أنسب لو؛ كي ال يتضرر المتوضئ أو المغتسل فيبرد‪.‬‬
‫يديو‪ ،‬يعني‪ :‬يزيلو عن جسده ثم يرميو‪.‬‬ ‫قالت‪ :‬فجعل ينف‬

‫استنبط العلماء فوائد من ىذين الحديثين‪:‬‬


‫صفة كماؿ الغسل‪ :‬الحديثاف فيهما صفة كماؿ الغسل‪ ،‬من صفات كماؿ الغسل‪ -‬أف يبدأ فيو بالبسملة‪.‬‬
‫‪ -‬ثم البداءة بالوضوء‪.‬‬
‫‪ -‬وتخليل اللحية والرأس‪.‬‬
‫‪ -‬والبداءة باليمين في الغسل‪ ،‬في غسل الرأس وسائر الجسد‪.‬‬
‫‪ -‬وكذلك غسل الفرج قبل الوضوء‪.‬‬
‫‪ -‬وغسل القدمين بعد الخروج من المغتسل‪ ،‬ىذا إذا كاف المكاف فيو ما يلوثو‪ ،‬كل ىذه صفات كماؿ في الغسل‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ٍ‬
‫حديث آخر‪ ،‬أال وىو‪ :‬حديث عبداهلل بن عمر‪ ،‬أف عمر بن الخطاب رضي اهلل عنو‪ ،‬قاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل أيرقػد أحػدنا وىػو‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى‬
‫جنب؟ قاؿ‪" :‬نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد وىو جنب"‪.‬‬
‫وحديث عبد اهلل بن عمر أف عمر سأؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ىذا فيو استفهاـ‪.‬‬
‫ىل يحل ألحدنا أف يناـ وقد أصابو شيءٌ من موجبات الغسل؟ وحددىا ىنا بالجنابة‪.‬‬
‫قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد"‪.‬‬
‫و العلماء اختلفوا في ىذه المسألة‪ ،‬يعني‪ :‬ىل يحرـ النوـ من غير وضوء بالنسبة للجنب‪ ،‬أو األمر علي الكراىة‪.‬‬
‫ذكرت أقواؿ في ىذه المسألة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫حرمة النوـ من غير وضوء على الجنب ألف النبي (صلى اهلل عليو وسػلم) قػاؿ‪" :‬نعػم إذا توضػأ"‪.‬يعنػي‪ :‬مفهػوـ الحػديث أنػو إذا لػم يتوضػأ فإنػو ال‬
‫يحل لو أف يرقد‪.‬‬
‫واألمر الثاني‪ :‬جواز النوـ على جنابة‪ ،‬واستدلوا بحديث عائشة (رضي اهلل عنها) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يناـ وىو جنب من غير أف‬
‫يمس ماء‪.‬‬
‫والقوؿ الثالث‪ :‬قالوا بكراىة النوـ على جنابة‪ ،‬وىذا ىو المشهور من مذىب اإلماـ أحمد‪ ،‬فإف اغتسل فالغسل أكمل‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬إف في ىذا فائدة‪ ،‬يعني‪ :‬كالـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪..‬قاؿ‪" :‬إذا توضأ أحدكم فليرقد"‪.‬قالوا‪ :‬إنػو إذا قػاـ ليتوضػأ‪ ،‬فإنػو قػد ينشػط‬
‫حرـ من قراءة القرآف‪ ،‬وال يحرـ كذلك من الصالة بالليل‪.‬‬
‫إلى االغتساؿ فيغتسل‪ ،‬فال يُ َ‬
‫وكذلك أنو إذا قاـ وتوضأ فأراد أف يعود إلى زوجتو أو أف يجامعها مرة أخرى؛ فإنو يكوف أنشط للعودة‪ ،‬فػإف لػم يسػتط الغسػل فليتوضػأ تخفي ًفػا‬
‫للجنابة‪.‬‬

‫من الفوائد المستنبطة‪:‬‬


‫‪ -‬جواز السؤاؿ عما يستحيا من ذكره بلفظ التصريح‪.‬‬
‫‪ -‬جواز نوـ الجنب قبل الغسل إذا توضأ‪.‬‬
‫‪ -‬كراىية النوـ بال غسل‪ ،‬وال وضوء‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى حديث آخر وىو حػديث أـ سػلمة (رضػي اهلل عنهػا)‪ :‬عػن أـ سػلمة زوج النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) قالػت‪" :‬جػاءت أـ‬
‫سليم (رضي اهلل عنها) امرأة أبي طلحة‪ ،‬إلى رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسوؿ اهلل إف اهلل ال يستحي من الحق‪.‬فهػل علػى المػرأة‬
‫غسل إذا ىي احتلمت؟ فقاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬نعم إذا ىي رأت الماء"‪.‬‬‫من ٍ‬
‫فهنا في ىذا الحديث‪ :‬قالت أـ سلمة‪ :‬وأـ سلمة ىي زوج النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وىي ىند بنت أبي أمية‪.‬‬
‫‪ -‬قالت‪ :‬جاءت أـ سليم‪ ،‬وأـ سليم ىي أـ أنس بن مالك رضي اهلل عنو‪ ،‬وىي زوج أبي طلحة‪ ،‬ويقاؿ لها الرميصاء والغميصاء‪.‬وىي أخت ِحراـ‬
‫بن منحاف رضي اهلل عنهم أجمعين‪.‬‬
‫‪ -‬جاءت أـ سليم‪ :‬أي قدمت بمقدمة بين يدي رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬ىذه المقدمة يسميها البالغيوف "براعة االستهالؿ"‪.‬‬
‫أي‪ :‬إف اإلنسػاف إذا أراد أف يػػذكر شػػيئا يُسػتحيا مػػن ذكػػره‪ ،‬فعليػػو أف يقػدـ بمقدمػػة تهػػوف مػن وقػ ىػػذا الكػػالـ علػى أذف السػػام ‪ ،‬فقػػدمت بهػػذه‬
‫المقدمة‪ ،‬فمهدت السؤاؿ التي ستذكره ألنو مما يستحي ذكره في العادة ألنو متعلق بالفروج‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬إف اهلل ال يستحي من الحق‪ :‬والمعنى‪ :‬إف اهلل ال يأمر بالحياء في الحق‪.‬‬
‫فإف اإلنساف إذا استحيا امتن عن السؤاؿ فيحرـ العلم‪.‬‬
‫ثم طرحت السؤاؿ‪ ،‬فقالت‪ :‬ىل على المرأة من ٍ‬
‫غسل إذا ىي احتلمت؟‬
‫فقاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬نعم إذا ىي رأت الماء)‬
‫إثبات أف المرأة يصيبها ما يصيب الرجل في مسألة اإلنزاؿ‪ ،‬ويؤيده قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إنما الماء من الماء"‪.‬‬
‫وىذا فيو ٌ‬

‫‪40‬‬
‫وقد استنبط العلماء فوائد من ىذا الحديث وىي‪:‬‬
‫إثبات صفة الحياء هلل عز وجل إثباتًا يليق بجاللو وكمالو‪.‬‬
‫صالح نساء الصحابة فلم يمنعهن الحياء من التثقف في الدين‪.‬‬
‫معفو عنو طالما ىو نائم‪.‬‬
‫النائم معفو فيما يرى‪ :‬فقد يرى اإلنساف أنو يجام أو يحتلم‪ ،‬أو يزني فهذا ٌ‬
‫الغسل متعل ٌق برؤية الماء‪ ،‬كما قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬نعم إذا ىي رأت الماء)‪.‬‬
‫ويستحب لإلنساف إذا أراد أف يذكر شيئا يستحي منو‪ ،‬أف يقدـ لو بمقدمة حتى يلطف ذلك على أذف السام ‪.‬‬
‫ضا (رضي اهلل عنها) قالت‪ :‬كنت أغسل الجنابة من ثوب رسػوؿ اهلل صػلى اهلل عليػو وسػلم‪ ،‬فيخػرج إلػى الصػالة وإف بقػ‬
‫عندنا حديث عائشة أي ً‬
‫الماء في ثوبو‪ ،‬وفي لف ٍظ لمسلم‪ :‬لقد كنت أفركو من ثوب رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) فرًكا فيصلي فيو‪.‬‬
‫‪ -‬فهذا الحديث قالت فيو عائشة (رضي اهلل عنها)‪" :‬كنت أغسل الجنابة) والمقصود بالجنابة المني‪.‬‬
‫وىذا الحديث دؿ على أف المني‪:‬‬
‫إذا كاف رطبًا يغسل وإذا كاف جافًا يفرؾ‪.‬‬
‫وىنا اختلف العلماء‪ :‬ىل المني طاىر أـ نجس؟ على قولين ألىل العلم‪:‬‬
‫‪ -‬القوؿ األوؿ‪ :‬قالوا بنجاسة المني‪ :‬وىو قوؿ الحنفية والمالكية‪.‬واستدلوا بأنها كانت تغسلو‪.‬‬
‫‪ -‬والثاني‪ :‬وىو قوؿ الجمهور بأنو طاىر‪ ،‬والدليل أنو يفرؾ‪ ،‬والفرؾ ال يزيل األثر بالكلية إنما يبقى األثر‪.‬‬
‫ردوا على األحناؼ والمالكية‪ :‬بأف الغسل ليس من أجل النجاسة‪ ،‬بل ىو من أجل االستقذار‪ ،‬كمن أصاب ثوبو البصاؽ مثال والمخاط‪ ،‬فالبصاؽ‬
‫والمخاط ليسا نجسين إنما ىو من باب االستقذار‪.‬‬
‫والنبي (صلى اهلل عليو وسلم) لم يأمر بأمر في البوؿ‪.‬‬
‫من النكت علػى ىػذا‪ :‬أف رج ًػال كػاف ينػاإر ابػن عقيػل فػي ىػذه المسػألة‪ ،‬وابػن عقيػل يقػوؿ إف المنػي طػاىر وىػذا الرجػل يقػوؿ إف المنػي نجػس‪،‬‬
‫فعلَت أصواتهما‪ ،‬فجاء رجل لهما وقاؿ‪ :‬ما شأنكما؟‬
‫َ‬
‫نجسا فالشكوى إلى اهلل عز وجل‪.‬‬
‫فقاؿ ابن عقيل‪ :‬كنت أعالجو على أف أقوؿ إف أصلك طاىر‪ ،‬وىو يأبى إال أف يكوف أصلو ً‬

‫استنبط العلماء فوائد من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬جواز استخداـ الرجل المرأتو‪ ،‬وذلك يتمثل في غسل عائشة (رضي اهلل عنها) لثوب النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬جواز اطالع المرأة على ما يخرج من زوجها‪ ،‬لما ثبت ذلك من رؤية عائشة (رضي اهلل عنها) في ثوب النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬طهارة المني؛ ألنها كانت تفركو من ثوب النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ويصلي النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في ثوبو‪.‬‬
‫‪ -‬استحباب إزالتو عن الثوب فيغسل إذا كاف رطبًا ويفرؾ إف كاف جافًا‪.‬‬
‫ثم جاء في أحاديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬إف رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬قاؿ‪( :‬إذا جلس بين شعبها األرب ثػم جهػدىا‬
‫فقد وجب الغسل)‪ .‬فهنا ذكر شيئًا من موجبات الغسل‪ ،‬وقاؿ إذا جلس بين شعبها األرب ‪.‬‬
‫والشعب األربػ ‪ :‬ىػي اليػداف والػرجالف؛ ألنهػا متشػعبة مػن البػدف‪ ،‬قػاؿ ثػم جهػدىا‪ :‬أي بلػغ منهػا الجهػد‪ ،‬وىػي كنايػة عػن الجمػاع؛ ألف‬
‫الجماع بالنسبة للمرأة فيو شيء من المشقة‪.‬‬
‫لكن قوة الشهوة تطغى على ىذه المشقة فال تشعر بها المرأة‪.‬‬
‫قاؿ فقد وجب الغسل‪ ،‬وفي لفظ مسلم‪ ،‬قاؿ‪" :‬وإف لم ينزؿ)‪.‬‬
‫‪ -‬ىذا الحديث يبين أف موجبات الغسل ىي الجماع‪.‬‬
‫‪ -‬وبين كذلك أف مجرد اإليالج موجب للغسل‪ ،‬وإف لم ينزؿ كما في رواية اإلماـ مسلم‪.‬‬
‫يفوت المقصود‪ ،‬كما قاؿ‪ :‬إذا جلس بين شعبها األرب‬
‫ضا التي تستنبط أف التكنية تستحب عما يُستحيا من ذكره‪ ،‬ما لم ْ‬
‫‪ -‬ومن الفوائد أي ً‬
‫ثم جهدىا‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫‪ -‬وجوب الغسل من اإليالج وإف لم ينزؿ‪.‬‬

‫ثم انتقل إلى آخر حديث في الباب‪ :‬أال وىو حديث أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي اهلل عنو‪ ،‬أنو كاف ىو وأبوه عند جابر‬
‫ػل‪ :‬مػا يكفينػي‪ ،‬فقػاؿ جػابر‪ :‬كػاف يكفػي مػن ىػو أوفػر‬
‫بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما‪ ،‬وعنده قوـ فسألوه عن الغسل فقاؿ‪ :‬يكفيك صػاعٌ‪ ،‬فقػاؿ رج ٌ‬
‫منك شعرا وخير منك (يريد رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم) ثم أمنا فػي ثػوب‪ ،‬وفػي لف ٍ‬
‫ػظ‪" :‬كػاف رسػوؿ اهلل (صػلى اهلل عليػو وسػلم) يفػرغ المػاء‬ ‫ً ٌ‬
‫على رأسو ثالثًا)‬
‫قاؿ (رضي اهلل عنو)‪ :‬الرجل الذي قاؿ‪ :‬ما يكفيني‪ .‬ىو (الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب) (رضي اهلل عنو) وأبوه محمد بن الحنفية‪.‬‬
‫عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين‪ ،‬وىو محمد بن علي المعروؼ بمحمد الباقر‪ ،‬أبوه علي زين العابدين بن الحسين‪ ،‬كاف ىو وأبوه عند‬
‫جابر بن عبد اهلل بن حراـ الصحابي الجليل فسألو عن الغسل فقاؿ‪ :‬يكفيك صاع‪.‬‬
‫قليل بالنسبة لما يستعملو الناس اليوـ‪.‬‬
‫والصاع‪ :‬أربعة أمداد‪ ،‬والمد‪ :‬ىو ملء كفي الرجل المعتدؿ‪ ،‬وىذا ٌ‬
‫وقد قدر العلماء الصاع بخمسة أرطاؿ وثلث بالعراقي‪ ،‬وحجمو تقريبًا ما يقارب ثالث لترات‪ .‬ىذا كاف غسل النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‬
‫فقاؿ الحسن بن محمد‪ :‬ما يكفيني‪ ،‬وقد أساء ىنا في التعبير؛ ألف ىذا الكالـ فيو شبو رد على ما قالو الصحابي الجليل جابر بن عبد اهلل رضي‬
‫اهلل عنهما‪.‬‬
‫شعرا‪.‬‬
‫شعرا وخير منك‪ ،‬أي‪ :‬أكثر منك ً‬
‫فهنا أجابو جابر بهذه العبارة الشديدة‪ ،‬قاؿ‪ :‬إنو كاف يكفي من ىو أوفر منك ً‬
‫وخيرا منك‪ ،‬أي‪ :‬أتقى منك هلل عز وجل وأحرص منك على الطهارة‪.‬‬
‫ً‬

‫وقد استنبط العلماء أيضًا فوائد‪:‬‬


‫‪ -‬مشروعية التقليل من استعماؿ الماء في الغسل إذا كاف ىذا سابغًا للغسل‪.‬‬
‫‪ -‬استدلوا كذلك على كثرة شعر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وكثافتو‪ ،‬وىذا من عالمة رجولتو (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬وجوب الغسل من الجنابة‪.‬‬
‫‪ -‬جواز اإلنكار على من يخالف السنة وىذا في رد جابر بن عبد اهلل عليو‪.‬‬
‫إلى ىنا قد نكوف قد انتهينا من باب الغسل من الجنابة‪.‬‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬عرؼ الخف‪ ،‬وما ىو المقصود بقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم "دعهما فإني أدخلتهما طاىرتين"؟‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما ىي المدة التي وقّتها النبي صلى اهلل عليو وسلم للمسح على الخفين؟‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬لماذا أمر النبي صلى اهلل عليو وسلم بغسل الذكر من المذي؟ وكيف تجم بين قولو‪ :‬انضح فرجك‪،‬‬
‫وقولو‪ :‬اغسل ذكرؾ؟‬
‫يحا؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬ما المقصود بقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬ال ينصرؼ حتى يسم صوتًا أو يجد ر ً‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬عرؼ الجنابة؟ وما معنى قوؿ أبي ىريرة انخنست منو؟‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬ما ىو حكم المني؟ وما ىي موجبات الغسل؟ وىل يشترط اإلنزاؿ لالغتساؿ؟ واذكر الدليل‪.‬‬

‫نكتفي بهذا‪ ،‬أقوؿ قولي ىذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫المحاضػ ػػرة السادسػ ػػة‬
‫كنا قد توقفنا في الدرس الماضي عند‪ :‬باب التيمم‪.‬‬
‫اللغة‪ :‬ىو القصد‪ ،‬يقاؿ‪ :‬تيمم الشيء‪ ،‬أي‪ :‬قصده‪.‬‬ ‫والتيمم في‬
‫وشرعا‪ :‬ىو التعبد هلل عز وجل بتطهير الوجو والكفين بالتراب على ٍ‬
‫صفة مخصوصة‪.‬‬ ‫ً‬
‫وىو ٌ‬
‫بدؿ عن الماء في حالة عدـ وجوده أو تعذر استعمالو‪.‬‬
‫والتيمم من الخصائص التي اختص اهلل عز وجل بها أمة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بخالؼ األمم السابقة‪ ،‬فكانوا إذ لم يجدوا الماء بقوا على‬
‫حالهم إلى أف يجدوه‪ ،‬ثم بعد ذلك يتطهروف‪ ،‬ثم يقضوف ما فاتهم من الصلوات‪.‬‬

‫وقد ذكر المصنف عليو رحمة اهلل في ىذا الباب عدة أحاديث‪.‬‬
‫معتزال لػم يصػل فػي القػوـ‪،‬‬
‫رجال ً‬‫بدأ ىذه األحاديث بحديث عمراف بن حصين (رضي اهلل عنو) وفيو‪" :‬أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) رأى ً‬
‫فقاؿ‪ :‬يا فالف ما منعك أف تصلي في القوـ؟ فقاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل أصابتني جنابة وال ماء‪ ،‬فقاؿ‪ :‬عليك بالصعيد فإنو يكفيك"‪.‬‬
‫ػلي مػ‬
‫ػردا) لػػم يصػػل‪ ،‬والنػاس يصػػلوف‪ ،‬فقػػاؿ‪" :‬مػا منعػػك أف تصػ َ‬
‫ػزال (أي‪ :‬منف ً‬
‫فػي ىػػذا الحػػديث رأى النبػي (صػػلى اهلل عليػػو وسػلم) فيػػو رجػ ًػال معتػ ً‬
‫جماع أو من ٍ‬
‫إنزاؿ للمني‪.‬‬ ‫الناس؟) فقاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل أصابتني جنابة وال ماء‪ ،‬والجنابة إما أف تصيب الرجل من ٍ‬
‫محدث حدثًا أكبر‪ ،‬وال ماء‪ :‬أي ال ماء عندي أغتسل بو من ىذه الجنابة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫قاؿ‪ :‬أصابتني جنابة‪ ،‬أي‪ :‬أنو‬
‫رمل‪ ،‬أو حجارةٍ‪ ،‬أو طين‪.‬‬ ‫فقاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬عليك بالصعيد" والصعيد‪ :‬ىو كل ما تصاعد على األرض من ٍ‬
‫تراب‪ ،‬أو ٍ‬
‫قاؿ‪ :‬فإنو يكفيك‪ :‬أي يكفيك في التطهر‪.‬أي يقوـ مقاـ الماء إذا لم تجد الماء‪.‬‬

‫ثم قاؿ‪" :‬عن عمار بن ياسر رضي اهلل عنو‪ ،‬قاؿ‪ :‬بعثني النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في حاج ٍػة‪ ،‬فأجنبػت فلػم أجػد المػاء‪ ،‬فتمرغػت فػي الصػعيد‬
‫كما تمرغ الدابة‪ ،‬ثم أتيػت النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) فػذكرت ذلػك لػو‪ ،‬فقػاؿ‪" :‬إنمػا كػاف يكفيػك أف تقػوؿ بيػديك ىكػذا"‪ ،‬ثػم ضػرب بيديػو‬
‫األرض ضربةً واحدة‪ ،‬ثم مسح الشماؿ على اليمين‪ ،‬وإاىر كفيو ووجهو"‪.‬‬
‫حديث عمار رضي اهلل عنو‪ ،‬قاؿ إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أرسلو في ٍ‬
‫حاجة لو‪ :‬ربما كاف ىذا في الحضر وربما كاف ىذا في السفر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫احتالـ‪ ،‬أو من جماع‪.‬‬ ‫قاؿ‪ :‬فأجنبت‪ ،‬أي أصابتني جنابة من‬
‫قاؿ‪ :‬فلم أجد الماء‪ ،‬فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة‪ :‬أي‪ :‬تقلبت في الصعيد‪ ،‬أي‪ :‬على وجو األرض‪.‬‬
‫وىذا اجتها ٌد منو رضي اهلل عنو‪ ،‬إنًا منو أف التراب طالما ىو ٌ‬
‫بدؿ عن الماء فينبغي أف يعم البدف كذلك‪ ،‬كما يكوف الماء في الغسل‪.‬‬
‫فهذا اجتها ٌد من عمار رضي اهلل عنو‪ ،‬ولكن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لما ذكر لو ذلك قاؿ‪" :‬إنما كاف يكفيك أف تقوؿ بيديك"‬
‫قاؿ‪ :‬أف تقوؿ بيديك‪ :‬ىل اليد تقوؿ؟ القوؿ باليد ىنا المراد بو الفعل‪ ،‬أي‪ :‬أف تفعل بيديك ىكذا‪.‬‬
‫ثم ضرب بيديو األرض‪ :‬أي بكفيو‪.‬‬
‫ثػػم مسػػح الشػػماؿ علػػى اليمػػين‪ :‬أي‪ :‬مسػػح ببػػاطن كفيػػو إاىرىمػػا‪ ،‬ببػػاطن الشػػماؿ علػػى إهػػر الكػػف األيمػػن‪ ،‬وببػػاطن الكػػف األيمػػن علػػى إهػػر‬
‫اليسرى‪ ،‬وكذلك مسح وجهو بيديو‪.‬‬

‫خمسا لم يعطهن‬
‫ثم قاؿ‪ :‬عن جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما (ىو جابر بن عبد اهلل بن حراـ) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬أعطيت ً‬
‫وطهورا‪ ،‬فأيما ٍ‬
‫رجل من أمتي أدركتو الصالة فليصل‪ ،‬وأحلت لي‬ ‫ً‬ ‫أح ٌد من األنبياء قبلي‪ :‬نصرت بالرعب مسيرة شه ٍر‪ ،‬وجعلت لي األرض مسج ًدا‬
‫المغانم‪ ،‬ولم ِ‬
‫تح ُّل ألحد قبلي‪ ،‬وأعطيت الشفاعة‪ ،‬وكاف النبي يبعث إلى قومو خاصة‪ ،‬وبعثت إلى الناس عامة"‪.‬‬
‫خمسا لم يعطهن أحػد مػن األنبيػاء قبلػي‪ ،‬وىػذا لػيس‬
‫ىنا في ىذا الحديث بيَّ َن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) شيئًا من الخصائص‪ ،‬فقاؿ‪ :‬أعطيت ً‬
‫على سبيل الحصػر‪.‬أي‪ :‬ىػذه الخمػس التػي أعطيهػا النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) ليسػت علػى سػبيل الحصػر فػإف للنبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم)‬
‫خصائص أخرى لم يعطها أح ٌد من األنبياء وال األمم قبلنا‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫قاؿ‪ :‬نصرت بالرعب‪.‬‬
‫قدـ م الرعب‪.‬‬ ‫والرعب‪ :‬ىو ما يلقيو اهلل عز وجل في قلوب أعدائو منو‪ ،‬والرعب من أشد األسلحة؛ ألنو ال يمكن أف تثبت ٌ‬
‫ػيرا علػى األقػداـ أو راكبػين للخي ِػل‪ ،‬وعلمػوا بخروجػو‬ ‫قاؿ‪ :‬نصرت بالرعب مسػيرة شػهر‪.‬أي إذا كػاف بينػو وبيػنهم مسػيرة شػه ٍر‪ ،‬س ً‬
‫ػواء كػاف ذلػك س ً‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) لهم‪ ،‬وق الرعب في قلوبهم؛ ففروا وتفرقوا‪.‬‬
‫وطهورا‪.‬أي‪ :‬جعلت لي األرض‪ ،‬لي وألمتي مكانًا للسجود وأداء الصلوات‪.‬‬
‫ً‬ ‫قاؿ‪ :‬وجعلت لي األرض مسج ًدا‬
‫ىذا بخالؼ األمم السابقة فإنهم كانوا ال يصلوف إال في الكنائس والبي ونحو ذلك‪.‬‬
‫فكل موض ٍ في األرض يصلح للصالة إال مػا اسػتثناه النبػي صػلى اهلل عليػو وسػلم‪ ،‬ونهػى عػن الصػالة فيػو‪ ،‬كمػا نهػى (صػلى اهلل عليػو وسػلم) عػن‬
‫الصالة في المقبرة‪ ،‬وفي الحماـ‪ ،‬وفي معاطن اإلبل‪ ،‬واألماكن المتنجسة‪.‬‬
‫وطهورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫قاؿ‪ :‬وجعلت لي األرض مسج ًدا‬
‫طهورا‪ ،‬أي‪ :‬ىو ما يتطهر بو من التراب‪ ،‬فإذا لم يجد اإلنساف الماء‪ ،‬فإنو يتيمم بهذا التراب‪.‬‬
‫أي جعلت لي تربتها ً‬
‫رجل من أمتي أدركتو الصالة‪ ،‬فليصل"‪.‬‬‫وطهورا‪ ،‬فأيما ٍ‬
‫ً‬ ‫قاؿ‪" :‬وجعلت لي األرض مسج ًدا‬
‫وىذا ليس المقصود بو جنس الرجاؿ‪ ،‬إنما المقصود بو الرجاؿ والنساء‪ ،‬فإذا حضرت الصالة فإنو يصلي‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬وأحلت لي الغنائم‪ .‬والغنائم‪ :‬ىي ما يكتسبو المسلموف من الكفار‪ ،‬وقد أحلها اهلل عز وجل لهذه األمة‪.‬‬
‫نار من السماء فتحرقها؛ فيعلموف‬
‫حراما عليهم وال تحل للمقاتلين منهم‪ ،‬لكنهم كانوا يجمعونها فتنزؿ عليها ٌ‬
‫بخالؼ األمم السابقة‪ ،‬فإنها كانت ً‬
‫بذلك أنها قد قبلت منهم‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬وأعطيت الشفاعة‪ ،‬والشفاعة أنواع‪" :‬أعطيت الشفاعة"‪ ،‬وىي الشفاعة العظمى التي يعتذر عنها جمي األنبياء يوـ القيامة‪.‬‬
‫فكلما تأتي األمم إلى نب ٍي من األنبياء يقوؿ‪ :‬لست لها‪ ،‬لست لها‪ ،‬والحديث معروؼ فيقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬أنا لها‪ ،‬أنا لها‪ ،‬فيسجد‬
‫تحت العرش ويحمد اهلل عز وجل بمحامد لم تكن من قبل فيقاؿ لو‪ :‬ارف رأسك وسل تعط واشف تشف ‪.‬‬
‫وكذلك شفاعتو (صلى اهلل عليو وسلم) في دخوؿ أمتو الجنة‪ ،‬وىذا من الشفاعات الخاصة بو (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ضػا مػن الشػفاعة الخاصػة بػالنبي‬ ‫ضا شفاعتو في ٍ‬
‫رجل من الكفار وىػو عمػو "أبػو طالػب) أف يخفػف اهلل عػز وجػل عنػو العػذاب‪ ،‬فهػذا أي ً‬ ‫وكذلك أي ً‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬وكاف النبي يبعث إلى قومو خاصة‪ ،‬وبعثت إلى الناس عامة‪.‬‬
‫وؿ اللَّ ِو إِل َْي ُك ْم َج ِم ًيعا‬
‫َّاس إِنْي َر ُس ُ‬
‫وىذا قوؿ اهلل عز وجل‪{ :‬قُ ْل يَا أَيػُّ َها الن ُ‬
‫أي‪ :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بعث إلى الناس عامة‪ ،‬وختم اهلل عز وجل بو األنبياء‪ ،‬وختم برسالتو الرسل‪.‬‬
‫نصراني‪ ،‬ثم ال‬ ‫يهودي‪ ،‬وال‬ ‫محمد بيده ال يسم بي واحد من ىذه األمة‬ ‫ٍ‬ ‫ضا أنو قاؿ‪" :‬والذي نفس‬ ‫وقد صح عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أي ً‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫يؤمن بما جئت بو إال كاف من أصحاب النار) وىذا الحديث رواه اإلماـ مسلم‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الباب‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف التيمم يقوـ مقاـ الغسل من الجنا بة عند عدـ وجود الماء‪ ،‬أو تعذر استعمالو كما ذكر في األحاديث السابقة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف اإلنكار يكػوف علػى المخػالف برف ٍػق ولػين‪ ،‬كمػا قػاؿ النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) للرجػل‪ :‬مػا منعػك أف تصػلي‪ ،‬ولػم‬
‫ينهره‪ ،‬ولم يزجره لكن سألو‪ ،‬وأنكر عليو برفق ولين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬إقرار النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ألصحابو في اجتهادىم‪ ،‬كما فعل عمار لما تمػرغ فػي التػراب‪ ،‬أقػره فػي اجتهػاده مػ‬
‫تصحيح ما أخطأ فيو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف المجتهد إذا اجتهد وأخطأ‪ ،‬وتبين لو ذلك ‪-‬أنو أخطأ‪ -‬بعد فعل العبادة؛ فليس عليو إعادة العبادة‪.‬‬
‫كمن اجتهد في تحري الق بلة‪ ،‬ثم صلى بعد أف اجتهد أف يسأؿ عن القبلة‪ ،‬واجتهد في معرفتها ثم صلى إليها‪ ،‬ثم تبين لو بعد ذلك أنو‬
‫صلى إلى غير القبلة‪ ،‬فهذا ليس عليو إعادة‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬تفضيل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على سائر األنبياء‪ ،‬وكذلك تفضيل أمة النبي (صلى اهلل عليػو وسػلم) علػى سػائر‬
‫األمم‪.‬‬
‫ػورا)‬ ‫ٍ‬
‫ستثن كما قػاؿ النبػي صػلى اهلل عليػو وسػلم‪" :‬جعلػت لػي األرض مسػج ًدا وطه ً‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬إباحة الصالة في أي مكاف ما لم يُ َ‬
‫إال ما استثناه النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كما بيَّػنَّا‪ ،‬وكذلك إباحة التطهر بتربتها‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر‪ :‬باب الحي ‪:‬‬
‫أحكاـ مخصوصة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أوقات مخصوصة‪ ،‬ولو‬ ‫والحي ‪ :‬ىو دـ ٍ‬
‫طبيعة وجبلة يخرج من رحم المرأة في‬
‫ٌ‬
‫أحكاـ؛ ألنو إذا أصاب المرأة فإنها ال تصلي‪ ،‬وال تصوـ‪ ،‬وكذلك ال يأتيها الزوج في موض الدـ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ومعنى دـ طبيعة‪ :‬أي أنو ليس دـ ٍ‬
‫مرض‪ ،‬ولو‬

‫ضا في ىذا الباب عدة أحاديث بدأىا‪ :‬بحديث عائشة رضي اهلل تبارؾ وتعالى عنها قالػت‪" :‬إف فاطمػة بنػت أبػي حب ٍ‬
‫ػيأ سػألت‬ ‫وذكر المصنف أي ً‬
‫النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬إني أُستحاض فال أطهر؛ أفأدع الصالة؟ فقاؿ‪" :‬ال‪ ،‬إف ذلك عر ٌؽ ولكن دعي الصالة قدر األيػاـ التػي كنػت‬
‫تحيضين فيها‪ ،‬ثم اغتسلي وصلي"‪.‬‬
‫وفي رواية قاؿ‪ " :‬وليس بالحيضة‪ ،‬فإذا أقبلت الحيضة‪ ،‬فاتركي الصالة فيها‪ ،‬فإذا ذىب قدرىا فاغسلي عنك الدـ وصلي"‪.‬‬
‫وعػػن عائشػػة (رضػػي اهلل عنهػػا)‪" :‬أف أـ حبيبػػة استحيضػػت سػػب سػػنين‪ ،‬فسػػألت رسػػوؿ اهلل (صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم) عػػن ذلػػك‪ ،‬فأمرىػػا أف تغتسػػل‬
‫فكانت تغتسل لكل صالة"‪.‬‬
‫جنب‪ ،‬قالػت‪ :‬وكػاف يػأمرني فػأتّزر‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وعن عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬كنت أغتسل أنا ورسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) من إناء واحد كالنا ٌ‬
‫إلي‪ ،‬وىو معكتف فأغسلو وأنا حائ "‪.‬‬ ‫فيباشرني وأنا حائ ‪ ،‬قالت‪" :‬وكاف يخرج رأسو ّ‬
‫فيقرأ القرآف"‪.‬‬ ‫قاؿ‪ :‬وعن عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يتكئ في حجري وأنا حائ‬
‫وىنا في ىذا الحديث األوؿ حديث عائشة (رضي اهلل عنها) أف فاطمة بنت أبي حبيأ (وفاطمة بنت أبي حبيأ (رضي اهلل عنها) زوجة عبد اهلل‬
‫بن جحأ رضي اهلل عنو) فقالت‪ :‬إني أُستَحاض‪.‬‬
‫واالستحاضة بخالؼ الحي ‪ ،‬فالحي ‪ :‬كما ذكرت ىو دماء طبيعية‪.‬‬
‫واالستحاضة‪ :‬دـ فساد‪ ،‬وىو جرياف الدـ وسيالنو في غير أوانو‪.‬‬
‫سألت النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنها تستحاض‪ ،‬فال تطهر‪.‬أي‪ :‬ينزؿ عليها الدماء باستمرار‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أفأدع الصالة؟ أي‪ :‬أترؾ الصالة في ىذا الوقت الذي ينزؿ فيو الدـ‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬ال‪ ،‬إف ذلك عرؽ‪ ،‬أي‪ :‬دـ عرؽ انفجر‪ ،‬أي‪ :‬دـ فساد‪ ،‬ولكن دعي الصالة قدر األياـ التي تحيضين فيها‪ ،‬ثم اغتسلي وصلي‪.‬‬
‫وطبعا كما َستدرسوف في الفقو‪ ،‬أف المستحاضة على أنواع‪:‬‬
‫وإاىر الحديث يدؿ على أنها معتادة‪ً ،‬‬
‫منها المعتادة‪.‬‬
‫ومنها المميزة‪.‬‬
‫ومنها المتحيرة‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬أو في نصف الشهر‪ ،‬أو في آخر الشهر أياـ معلومة ستة‬ ‫فالمعتادة‪ :‬ىي التي لها عادةٌ معلومة‪.‬يعني‪ :‬ينزؿ عليها دـ الحي في أوؿ الشهر ً‬
‫أياـ‪ ،‬أو سبعة أياـ‪ ،‬فهذه لها عادة تعلم أنها تحي في أوؿ كل شه ٍر‪ ،‬أو فػي نصػف كػل شػه ٍر‪ ،‬أو فػي آخػر كػل شػه ٍر أيػاـ معػدودة سػتة أيػاـ‪ ،‬أو‬
‫سبعة أياـ‪ ،‬أو أكثر‪ ،‬أو أقل ىذه تسمى معتادة‪.‬‬
‫بصػفاتو‪ ،‬وتعلػم دـ االستحاضػة بصػفاتو‪ ،‬فتسػتطي أف تفػرؽ ىػل ىػذا ىػو دـ‬ ‫والمميزة‪ :‬ىي التي تستطي أف تفرؽ بين الدماء‪ ،‬فػتعلم دـ الحػي‬
‫أـ دـ استحاضة؟‬ ‫حي‬
‫ضا قد يكوف ليس لها عادة‪ ،‬فال تعلم لها أياـ في مسألة الحي ‪.‬‬
‫والمتحيرة‪ :‬ىي التي ال تستطي أف تفرؽ بين الدماء وأي ً‬

‫‪45‬‬
‫أيامػا‬
‫ً‬ ‫‪ -‬إاىر الكالـ ىنا أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قػاؿ‪" :‬دعػي الصػالة قػدر األيػاـ التػي كنػت تحيضػين فيهػا"‪.‬أي‪ :‬أنهػا تعلػم أنهػا تحػي‬
‫معينة‪ ،‬فقاؿ‪ :‬دعي الصالة قدر ىذه األياـ‪ ،‬ثم اغتسلي وصلي‪.‬‬
‫الحديث الثاني‪ :‬قاؿ‪ :‬عن عائشة (رضي اهلل عنها) أف أـ حبيبة استحيضت سب سنين‪.‬أي‪ :‬نزؿ عليها الدماء بكثرة لمدة كبيرة‪.‬يعني‪ :‬إلت سػب‬
‫سنوات‪ ،‬فأمرىا أف تغتسل‪.‬‬
‫وأمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ىنا لها باالغتساؿ أي باالغتساؿ بعد انقضاء أياـ عادتها‪.‬‬
‫فيكوف ىذا اغتساؿ عن الحي ‪ ،‬ثم بعد ذلك إذا‬ ‫ضا الظاىر أنها لها أياـ معلومة‪ ،‬فقاؿ‪ :‬لها بعد ىذه األياـ أف تغتسلي بانقطاع الحي‬
‫يعني‪ :‬أي ً‬
‫نزلت الدماء؛ فتُعتبر دماء استحاضة‪.‬‬
‫أمرا من النبي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) لهػا أف تغتسػل‬
‫ثم تتوضأ لكل صالة‪ ،‬فكانت (رضي اهلل عنها) تغتسل لكل صالة‪ ،‬وىذا اجتهاد منها ليس ً‬
‫أوؿ مػا ينتهػي‪ ،‬ثػم بعػد ذلػك تتوضػأ وتصػلي‪ ،‬فكانػت باجتهػاد منهػا‬ ‫لكل صالة‪ ،‬إنما أمرىػا النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) أف تغتسػل مػن الحػي‬
‫تغتسل لكل صالة‪.‬‬
‫في الحديث الثالث قاؿ‪ :‬عن عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪ :‬كنت أغتسل أنا ورسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) من إناء واحد كالنا جنب"‪.‬‬
‫وىذا الحديث قد مر معنا قبل ذلك الكالـ عليو‪ ،‬ولكن فيو مسائل‪:‬‬
‫‪ -‬المسألة األولى‪ :‬أنو يجوز للرجل أف ينظر إلى جمي بدف زوجتو وكذلك يجوز للمرأة أف تنظر لجمي بدف زوجها‪.‬‬
‫جميعا من إناء واحد‪.‬‬
‫‪ -‬المسألة الثانية‪ :‬أنو يجوز للرجل والمرأة أف يغتسال ً‬
‫الروايات أنها كانت تختلف أيػديهم فػي اإلنػاء وىػذا مػا يسػمى بفضػل طهػور‬ ‫‪ -‬األمر الثالث‪ :‬أف الماء ال يُسلَب الطهورية‪ ،‬فهنا في بع‬
‫المرأة‪.‬‬
‫‪ -‬والراجح‪ :‬جواز استعماؿ فضل طهور المرأة‪.‬‬

‫ثم أتى بالحديث الذي بعد ذلك قالت‪" :‬وكاف يأمرني فأتّزر فيباشرني وأنا حائ "‪.‬‬
‫وىنا مسألة المباشرة ىي‪ :‬اللمس بشهوة‪.‬‬
‫كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يأمر عائشة (رضي اهلل عنها) إذا أرادىا فيباشرىا‪ ،‬وىذا دليل على عدـ نجاسة الحائ ‪.‬‬
‫فالحائ كانت إذا حاضػت فػي األمػم السػابقة كػانوا ال يؤاكِلوىػا‪ ،‬وال يشػاربوىا بػل يجعلونهػا فػي مك ٍ‬
‫ػاف منعػزؿ عػنهم‪ ،‬لكػن جػاء اإلسػالـ‪ ،‬وبػين‬ ‫ُ‬
‫خالؼ ذلك‪ ،‬فكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يؤاكلها ويشاربها‪ ،‬بل ويباشرىا فبين بذلك أف المرأة الحائ ليست نجسة‪.‬‬
‫إلي وىو معتكف‪ ،‬فأغسلو وأنا حائ "‪.‬‬
‫قالت‪" :‬وكاف يخرج رأسو ّ‬
‫جزءا من جسده خارج المعتكف ال ينقط اعتكافو‪.‬‬
‫ىنا مسألة زائدة تتعلق بالمعتكف وىي أنو إذا أخرج ً‬
‫‪ -‬بخالؼ إذا خرج كلو لغير حاجة‪ ،‬فإذا خرج لغير حاجة؛ ينقط االعتكاؼ‪ ،‬وىذا من مبطالت االعتكاؼ‪.‬‬
‫جزءا كما كاف يفعل النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬أنو يخرج رأسو فتُرجلو عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬أو تغسلو لو‪.‬‬
‫‪ -‬بخالؼ إذا أخرج ً‬
‫‪ -‬قالت "وكاف يتكئ في حجري وأنا حائ ‪ ،‬فيقرأ القرآف"‪.‬‬
‫ٍ‬
‫استشكاؿ ورد في الحديث أال وىو‪:‬‬ ‫ال تقرأ القرآف‪ ،‬وفُهم ىذا من‬ ‫أىل العلم على أف الحائ‬ ‫وىذا الحديث استدؿ بو بع‬
‫فيقرأ القرآف"‪.‬‬ ‫عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يتكئ في حجري وأنا حائ‬
‫يقرأ القرآف أـ ال؟‬ ‫فاالستشكاؿ ىل المتكئ في حجر الحائ‬
‫فحسمت عائشة (رضي اهلل عنها) النزاع بأف المالمس للحائ ‪ ،‬أو المتكئ في حجرىا يقرأ‪.‬‬
‫من باب أولى أنها ال تقرأ‪ ،‬فمن ىنا‬ ‫محال للنزاع ىل يقرأ أـ ال يقرأ فقالوا‪ :‬إف الحائ‬
‫ً‬ ‫أىل العلم‪ :‬إذا كاف المتكئ في حجر الحائ‬ ‫فقاؿ بع‬
‫أف تقرأ القرآف‪ ،‬وىذا ٌ‬
‫قوؿ من أقواؿ أىل العلم‪ ،‬والمسألة محل خالؼ‪.‬‬ ‫منعوا الحائ‬
‫تقضػػي الصػػوـ وال تقضػػي الصػػالة؟ فقالػػت‪:‬‬ ‫ثػػم قػػاؿ‪ :‬عػن معػػاذة بنػػت عبػػد اهلل قالػػت‪" :‬سػػألت عائشػػة (رضػػي اهلل عنهػػا) فقلػػت‪ :‬مػػا بػػاؿ الحػػائ‬
‫بحرورية ولكني أسأؿ‪.‬فقالت‪" :‬كاف يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوـ وال نؤمر بقضاء الصالة"‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أحروريةٌ أنت؟ فقلت‪ :‬لست‬

‫‪46‬‬
‫‪ -‬ىذا الحديث عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪ :‬أحروريةٌ أنت؟‬
‫من ىم الحرورية؟ الحرورية‪ :‬فرقةٌ من الخوارج‪ ،‬نزلت منطقة في العراؽ تسمى حروراء فنسبوا إليها‪.‬‬
‫أستفهم عن العلم‪،‬‬
‫‪ -‬فعائشة (رضي اهلل عنها) تقوؿ‪ :‬لها ىل أنت من ىؤالء الذين يوجبوف القضاء على الحائ ؟ فقالت‪ :‬ال‪ ،‬ولكني أسأؿ أي ْ‬
‫فأجابتها عائشة (رضي اهلل عنها)‪ :‬أنو كاف يصيبنا ذلك على عهد النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فنؤمر بقضاء الصياـ‪ ،‬وال نؤمر بقضاء الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬فلو كاف قضاء الصالة واجبًا علينا ألمرنا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بذلك‪ ،‬ألنو ال يجوز تأخير البياف عن وقت الحاجة‪.‬‬
‫فبينت لها أف ىذا كاف يصيب النساء على عهد النبي‪ ،‬والنبي أمر بكذا‪.‬فإذا جاء األمر عن النبي (صلى اهلل عليػو وسػلم) فنقػوؿ‪ :‬سػمعنا وأطعنػا‪،‬‬
‫وال نقوؿ لماذا قاؿ النبي كذا ولم يقل النبي كذا؟‬
‫إنما األدب االمتثاؿ لألمر؛ فإذا جاء األمر عن النبي‪ ،‬فإنما نقوؿ سمعنا وأطعنا‪.‬‬
‫الفوائد في ىذا الباب‪:‬‬
‫ودـ االستحاضة‪.‬‬ ‫أوال‪ :‬التفريق بين دـ الحي‬
‫‪ً -‬‬
‫مرض وفساد‪.‬‬
‫فالحي ‪ :‬طبيعة وجبلة‪ ،‬واالستحاضة‪ٌ :‬‬
‫يمن من الصالة والصياـ والجماع‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف دـ الحي‬
‫بخالؼ دـ االستحاضة ال يمن من ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز اغتساؿ الزوجين من الجنابة من ٍ‬
‫إناء واحد‪ ،‬وأف الماء ال يفسد بذلك‪.‬‬
‫فيما دوف الفرج‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬جواز مباشرة الحائ‬
‫وجواز لمسها ومباشرتها‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬طهارة الحائ‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬أف خروج جزء من جسد المعتكف خارج المعتكف ال يبطل اعتكافو‪.‬‬
‫تقضػػي الصػػياـ وال تقضػػي الصػػالة؛ وذلػػك لرفػ المشػػقة والحػػرج‪ ،‬ألف الصػػالة أمػ ٌػر متكػػرر يوميًػػا بخػػالؼ‬ ‫‪ -‬الفائػػدة السػػابعة‪ :‬أف الحػػائ‬
‫شهر في السنة‪.‬‬ ‫الصياـ فصياـ الفرض ىو ٌ‬
‫ِ‬
‫المسترشد للعلم يُعلَّم‪ ،‬واإلنكار يكوف على المجادؿ والمتعنت‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬أف‬

‫انتقل المصنف إلى‪( :‬كتاب الصالة) قاؿ‪ :‬باب المواقيت‪:‬‬


‫والصالة في اللغة‪ :‬ىي الدعاء‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وأفعاؿ معلومة مفتتحةٌ بالتكبير مختتمةٌ بالتسليم‪.‬‬ ‫وفي الشرع‪ :‬ىي عبادةٌ ذات ٍ‬
‫أقواؿ‬
‫وىي مشتقةٌ من الصلة؛ ألنها صلةٌ بين العبد وربو‪.‬‬
‫وىي العبادة الوحيدة التي فرضت على النبي (صلى اهلل عليو وسلم) من رب العزة بدوف واسطة ليلة اإلسراء والمعراج‪.‬‬
‫والمواقيت‪ :‬جم ميقات‪ ،‬والمواقيت‪ :‬إما أف تكوف مواقيت زمانية‪ ،‬وإما أف تكوف مواقيت مكانية‪.‬‬
‫المواقيت المكانية‪ :‬ىي التي تتعلق بأمر المناسك‪ ،‬أي‪ :‬مناسك الحج والعمرة‪.‬وىي األماكن التي ال يجوز للحػاج أو المعتمػر أف يتجاوزىػا دوف‬
‫إحػػراـ‪ ،‬والمواقيػػت الزمانيػػة‪ :‬ىػػي المتعلقػػة بػػزمن أداء العبػػادة‪ ،‬والمقصػػود بهػػا ىنػػا المواقيػػت الزمانيػػة التػػي تتعلػػق بػػأمر الصػػالة‪ ،‬التػػي تػػؤدى فيهػػا‬
‫الصالة‪.‬وىي من شروط صحة الصالة‪ ،‬فال تصح الصالة قبل دخوؿ وقتها وكذلك ال تؤخر عن وقتها إال بعذر‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف عليو رحمة اهلل أوؿ حديث في ىذا الباب‪ :‬قاؿ‪ :‬عن أبي عمرو الشػيباني (واسػمو‪" :‬سػعد بػن إيػاس"‪.‬أبػي عمػرو الشػيباني‪ ،‬ىػو‪:‬‬
‫تابعي مخضرـ) والمخضرـ من التابعين‪ :‬ىو من أدرؾ زمن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لكنو لػم يلت ِػق بػو‪ ،‬فالػذين عاصػروا النبػي (صػلى اهلل عليػو‬
‫ٌ‬
‫وسلم) مؤمنين بو ولم يروه‪ ،‬يقاؿ لهم‪ :‬طبقة المخضرمين؛ فهم أقرب إلى الصحابة‪.‬‬
‫الصحابي‪ :‬ىو من رأى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وآمن بو ومات على ذلك ىذا يسمى صحابي‪.‬بخالؼ التابعين‪،‬‬

‫‪47‬‬
‫التابعوف‪ :‬ىم الذين رأوا أصحاب النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬لكنهم لم يروا النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬لكن منهم من عاصر النبي أي عاش في‬
‫زمن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لكنو لم يراه فهذا يكوف أقرب إلى الصحابة لكن لعػدـ الرؤيػة؛ ُعػدوا مػن التػابعين أو مػن كبػار التػابعين ولػذلك‬
‫يقاؿ لهم طبقة المخضرمين‪.‬‬
‫ىنا في حديث أبي عمرو الشيباني قاؿ‪ :‬حدثني صاحب ىذه الدار وأشار بيده إلى دار عبد اهلل بػن مسػعود (رضػي اهلل عنػو) قػاؿ‪" :‬سػألت النبػي‬
‫صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬أي األعماؿ أحب إلى اهلل عز وجل؟ قػاؿ‪" :‬الصػالة علػى وقتهػا)‪.‬قلػت‪ :‬ثػم أي؟ قػاؿ‪" :‬بػر الوالػدين"‪.‬قلػت‪ :‬ثػم أي؟ قػاؿ‪:‬‬
‫بهن رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ولو استزدتو لزادني"‪.‬‬
‫"الجهاد في سبيل اهلل"‪ ،‬قاؿ‪ :‬حدثني ّ‬
‫‪ -‬في ىذا الحديث بين أف الصحابة رضي اهلل عنهم كانوا عندما يسألوف عن مثل ىذا‪ ،‬ليس السؤاؿ لمجرد العلم وفقط‪ ،‬بل كانوا يسألوف للعمل‬
‫بو فكانوا يسألوف عن الشيء من أجل أف يفعلوه إذا كاف مطل‬
‫مأمورا بو‪ ،‬أو من أجل أف ي َدعوه إذا كاف منهيًا عنو‪.‬‬
‫وبًا أو ً‬
‫وقد جاءت أحاديث كثيرة عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في بياف أحب األعماؿ إلى اهلل عز وجل‪.‬‬
‫لكن ىل ىذا على نفس الترتيب الذي قالو النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬أف أحب األعماؿ إلى اهلل عز وجل الصالة على وقتها؟‬
‫قاؿ‪ :‬ثم أي؟ قاؿ‪ :‬بر الوالدين‪ ،‬قاؿ‪ :‬ثم أي؟ قاؿ‪ :‬الجهاد في سبيل اهلل‪.‬‬
‫ألىل العلم في ىذا األمر توجيهات متعددة‪ ،‬ولعل أقرب ىذه التوجيهات ما وجهو الشيخ "تقي الدين) وغيره عليهم رحمة اهلل‪:‬‬
‫أف المراد باختالؼ األعماؿ التي ىي أحب األعماؿ إلى اهلل عز وجل اختالؼ أحواؿ الناس على سبيل المثاؿ قالوا‪ :‬من كاف حالو أف لو والداف‬
‫فإف أحب األعماؿ إلى اهلل عز وجل برىما‪ ،‬ومن كاف في حاؿ الجهاد والغزو فإف أحب األعماؿ إلى اهلل في تلك الحالة ىو الجهاد‪.‬‬
‫ومن كاف في حاؿ السلم والمكث في داره آمنًا مطمئنًا فإف أحب األعماؿ إلى اهلل الصالة على وقتها وىكذا‪.‬‬
‫وقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أحب األعماؿ إلى اهلل عز وجل الصالة على وقتها"‪ :‬ألف أحب األعماؿ إلى اهلل عز وجل الصالة مػن حيػث‬
‫العظم؛ فهي أعظم ما يفعل بعد الشهادتين‪ ،‬وقد بين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف من ترؾ الصالة فقد كفر كما قاؿ‪" :‬بين المػرء وبػين الكفػر‬
‫ترؾ الصالة) كما جاء في حديث جابر عند اإلماـ مسلم‪.‬‬
‫ضا صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬العهد الذي بيننا وبينهم الصالة فمن تركها فقد كفر"‪.‬‬
‫وقاؿ أي ً‬
‫وقد اختلف العلماء على القدر الذي يَكفر اإلنساف بتركو من الصلوات متعم ًدا‪ ،‬فمنهم من قاؿ‪ :‬صالةً واحدة إذا تركها متعم ًدا‪.‬‬
‫كامال‪ ،‬أي‪ :‬خمس صلوات‪.‬‬
‫يوما ً‬
‫ومنهم من قاؿ‪ :‬ثالث صلوات؛ ألنها أقل الجم ‪ ،‬ومنهم من قاؿ‪ً :‬‬
‫أسبوعا‪ ،‬ومنهم من قاؿ‪ :‬ثالث جم ‪ ،‬لقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬من ترؾ ثالث جم طُب على قلبو"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومنهم من قاؿ‪ :‬جمعة‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ضػا‪" :‬الصػػالة لوقتهػا) أو "علػى وقتهػا) دؿ ذلػػك علػى أف للصػالة وقتًػا وأنهػػا ال تسػقط عػن المسػػلم‬
‫والنبػي (صػلى اهلل عليػو وسػػلم) عنػدما قػاؿ أي ً‬
‫بحاؿ‪ ،‬وقد قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬من ناـ عن صالةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرىا ال كفارة لها إال ذلك"‪.‬‬
‫أما إذا تركها متعم ًدا فهذا الذي يخشى عليو؛ ألنو أتى بكبيرةٍ من كبائر الذنوب‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬قلت‪ :‬ثم أي؟ قاؿ‪" :‬بر الوالدين"‬
‫بذال للماؿ والنفس وبكل شيء‪.‬‬
‫فعال أو ً‬
‫قوال أو ً‬
‫سواء كاف ذلك ً‬
‫والبر‪ :‬كثرة الخير‪ ،‬ويكوف ذلك بكثرة اإلحساف إليهما ً‬
‫والمقصود بالوالدين‪ ،‬أي‪ :‬الوالدين األقربين‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪ :‬قلت‪ :‬ثم أي؟ قاؿ‪" :‬الجهاد في سبيل اهلل"‪.‬‬
‫تطوعا‪.‬‬
‫والجهاد‪ :‬ىو القتاؿ لتكوف كلمة اهلل عز وجل ىي العليا‪ ،‬والجهاد قد يجب على اإلنساف وقد يكوف الجهاد ً‬
‫ٍ‬
‫حاالت معينة‪ ،‬أرب حاالت يجب على اإلنساف فيها الجهاد‪:‬‬ ‫والجهاد ال يجب على اإلنساف إال في‬
‫أوال‪ :‬إذا التقى الصفاف‪ ،‬أي إذا تواجو العدو معك‪.‬‬ ‫‪ً -‬‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َك َف ُروا َز ْح ًفا فَ َال تُػ َولُّ ُ‬
‫وى ُم ْاألَ ْدبَ َار فهنا يجب القتاؿ‪.‬‬ ‫آمنُوا إِذَا لَقيتُ ُم الذ َ‬
‫ين َ‬
‫لقوؿ اهلل عز وجل‪{ :‬يَا أَيػُّ َها الذ َ‬
‫‪ -‬الحالة الثانية‪ :‬عند استنفار اإلماـ‪ ،‬أي إذا أمر اإلماـ أو الحاكم الناس أف يخرجوا للقتاؿ ىنا يجب عليهم‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ض‬ ‫انف ُروا فِي َسبِ ِ‬
‫يل اللَّ ِو اثَّاقَػلْتُ ْم إِلَى ْاأل َْر ِ‬ ‫لقوؿ اهلل عز وجل {يا أَيػُّها الَّ ِذين آمنُوا ما لَ ُكم إِذَا قِيل لَ ُكم ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ َ َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫‪ -‬الحالة الثالثة‪ :‬إذا حضر العدو ببلده‪.‬‬
‫ىنا وجب على جمي أىل البلدة صد العدواف‪ ،‬والدفاع عن أنفسهم‪.‬‬
‫‪ -‬الحالة الرابعة‪ :‬إذا احتػيج إليػو فػي القتػاؿ ‪ ،‬كػأف يكػوف مػن أصػحاب المهػارات أو الخبػرات فػي الحػرب‪ ،‬وخبرتػو أو مهارتػو يحتػاج إليهػا‬
‫الجيأ‪.‬‬
‫فهذه أرب حاالت يكوف الجهاد فيها واجبًا‪.‬‬
‫علمػا لعلمنػي؛ فلقػد كػاف النبػي (صػلى اهلل عليػو‬
‫ىنا قاؿ‪" :‬حدثني بهن رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ولو استزدتو لزادني"‪.‬أي‪ :‬لو طلبت منو ً‬
‫حريصا على تعليم أصحابو رضي اهلل عنهم‪ ،‬وكاف منشرح الصدر بذلك؛ ألنهم ىم حملة العلم لألمة من بعده (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ً‬ ‫وسلم)‬
‫الفوائد من ىذا الحديث‪:‬‬
‫أوال‪ :‬حرص الصحابة على العلم حيث كانوا يسألوف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على العلم من أجل العمل بو‪.‬‬
‫‪ً -‬‬
‫‪ -‬ثانيا‪ :‬إثبات صفة المحبة هلل عز وجل لقولو‪" :‬أحب األعماؿ إلى اهلل"‪.‬‬
‫‪ -‬الثالثة‪ :‬فضيلة الصالة على وقتها وأنها أحب األعماؿ إلى اهلل عز وجل‪.‬‬
‫مقدـ على جمي الحقوؽ‪.‬‬
‫‪ -‬الرابعة‪ :‬بر الوالدين من أفضل األعماؿ وأحبها إلى اهلل عز وجل وىو ٌ‬
‫‪ -‬الخامسة‪ :‬فضيلة الجهاد في سبيل اهلل عز وجل‪.‬‬
‫‪ -‬السادسة‪ :‬أف األعماؿ تتفاضل في محبة اهلل عز وجل فكلما كاف العمل أحب إلى اهلل عز وجل فهو أفضل‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حديث آخر قاؿ‪ :‬عن عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬لقػد كػاف رسػوؿ اهلل (صػلى اهلل عليػو وسػلم) يصػلي الفجػر فيشػهد‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى‬
‫معو نساءٌ من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس"‪.‬‬
‫ىذا الحديث فيو إشارةٌ على أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يبادر ويبكر بصالة الصبح‪.‬‬
‫وكػػذلك فيػػو إشػػارةٌ علػػى جػػواز حضػػور النسػػاء صػػالة الجماعػػة مػ مراعػػاة اتخػػاذ الحجػػاب الشػػرعي‪ ،‬فػػيفعلن كمػػا كػػاف يفعػػل نسػػاء الصػػحابة عنػػد‬
‫خروجهن‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فيشهد معو نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن‪ ،‬ومتلفعات أي‪ :‬ملتحفات أو متلففات‪.‬‬
‫متلفعات بأكسيتهن‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫والمروط ىي‪ :‬األكسية‪.‬أي‬
‫أوال ثم بعد ذلك الرجاؿ‪.‬‬
‫"ثم يرجعن إلى بيوتهن"‪ :‬كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يأمر أصحابو بالبقاء حتى ينصرؼ النساء‪ ،‬فتنصرؼ النساء ً‬
‫فكن يخرجن ال يعرفهن الرجاؿ‪ ،‬حتى لو أدركوىم‪.‬وذلك ألمرين‪:‬‬
‫ّ‬
‫األمر األوؿ‪ :‬أشار إليو بقولو "من الغلس"‬
‫دليل على أف النبػي (صػلى اهلل عليػو وسػلم) كػاف يبػادر‬
‫والغلس‪ ،‬ىو‪ :‬اختالط إلمة آخر الليل ببداية نور الصبح‪ ،‬أي‪ :‬بالضوء اليسير‪ ،‬وىذا فيو ٌ‬
‫بصالة الصبح وينتهي منو والظلمة ما زالت قائمة‪.‬‬
‫متلفعات بمروطهن‪.‬أي يسترف أبدانهن من فوقهن إلى أسفل منهن‪ ،‬فيكوف ذلك غايةً في التستر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫واألمر الثاني‪ :‬أنهن‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫أوال‪ :‬استحباب المبادرة بصالة الفجر إذا تيقن دخوؿ وقتها‪.‬‬
‫‪ً -‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز حضور النساء صالة الجماعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف المشروع في حق المرأة إذا خرجت من بيتها أف تتستر‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫ثػػم انتقػػل المصػػنف إلػػى حػ ٍ‬
‫ػديث آخػػر وىػػو‪ :‬حػػديث جػػابر بػػن عبػػد اهلل رضػػي اهلل عنهمػػا قػػاؿ‪" :‬كػػاف النبػػي (صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم) يصػػلي الظهػػر‬
‫بالهاجرة‪ ،‬والعصر‪ :‬والشمس نقية‪ ،‬والمغرب إذا وجبت‪ ،‬والعشاء أحيانًا وأحيانًا‪ ،‬إذا رآىم اجتمعوا عجػل‪ ،‬وإذا رآىػم أبطػؤوا أخػر‪ ،‬والصػبح كػاف‬
‫النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصليها بغلس"‪.‬‬
‫قاؿ الهاجرة‪ :‬ىي شدة الحر بعد زواؿ الشمس‪.‬‬
‫ضا يبين مسألة المواقيت‪ ،‬وىذه المواقيت متعلقة بالشمس‪.‬فهذا الحديث يبين‬
‫قاؿ‪" :‬كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي بالهاجرة"‪ ،‬وىنا أي ً‬
‫المواقيت التي كاف يصلي النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فيها الصلوات الخمس‪.‬‬
‫فبدأ بالظهر؛ ألنها أوؿ صالة صالىا بو جبريل عليو السالـ بعد رحلة المعراج‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬كاف يصليها بالهاجرة"‬
‫قليال‪.‬‬
‫والهاجرة‪ :‬ىي شدة حر الشمس‪ ،‬وتكوف بعد الزواؿ‪ ،‬يعني‪ :‬بعد تحرؾ الشمس من كبد السماء عندما تميل إلى الغروب ً‬
‫‪ -‬قاؿ‪ :‬والعصر والشمس نقية‪.‬أي بيضاء كما ىي‪ ،‬لم ِ‬
‫تمل إلى االصفرار‪.‬‬
‫إشارًة على أنو كاف يصليها في أوؿ وقتها‪.‬‬
‫‪ -‬ثم قاؿ‪" :‬والمغرب إذا وجبت) أي‪ :‬إذا سقطت‪ ،‬أي‪ :‬بعد الغروب مباشرةً‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬والعشاء أحيانًا وأحيانًا) أي‪ :‬أحيانًا كاف يبكر بها‪ ،‬وأحيانًا كاف يؤخرىا‪.‬‬
‫‪ -‬فإذا اجتم الناس صلى‪ ،‬لئال يشق عليهم باالنتظار‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا رآىم أبطؤوا أخر؛ ألف ىذا ىو األفضل‪ ،‬فكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يراعي األفضل واألرفق‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬والصبح كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصليها بغلس"‬
‫ضا فيو الوجهاف‪:‬‬
‫والصبح أي ً‬
‫مبكرا‪.‬‬
‫‪ -‬فكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصليها بغلس‪ ،‬أي‪ً :‬‬
‫‪ -‬والغلس كما ذكرت‪ ،‬ىو‪ :‬اختالط آخر إلمة الليل ببداية الصبح‪.‬‬
‫قليال‪.‬‬
‫ضا فيها اإلسفار وىذا الوجو الثاني‪ ،‬أي‪ :‬التأخير ً‬
‫‪ -‬ويجوز أي ً‬
‫فهذه أوقات الصلوات‪ ،‬وبياف أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يبادر بها إال العشاء كاف يراعي فيها حاؿ الناس‪.‬‬

‫الفوائد من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ ‬الفائدة األولى‪ :‬بياف أفضلية الصالة على وقتها‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الثانية‪ :‬أف من السنة ترؾ السنة مؤقتًا للرفق بالناس‪.‬‬
‫كما كاف يخرج النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بعد ثلث الليل ويقوؿ‪" :‬واهلل إنو لوقتها لوال أف أشق على أمتي)‪.‬‬
‫ْرت أ َْولَى من الصالة في أوؿ وقتها‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف صالة الجماعة وإف أُخ َ‬
‫بدليل أف الصحابة كانوا ينتظروف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لصالة الجماعة‪.‬‬

‫ثم انتقل إلى حديث آخر‪ ،‬وىو حديث أبي المنهاؿ سيار بن سالمة‪ ،‬وىو من التابعين قاؿ‪ :‬دخلت أنا وأبي على أبي برزة األسلمي فقاؿ لو أبي‪:‬‬
‫الشمس‪،‬‬ ‫حدْثنا كيف كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي المكتوبة؟ فقاؿ‪ :‬كاف يصلي الهجير‪ ،‬وىي التي تدعونها األولى حين تدح‬
‫ويصلي العصر ثم يرج أحدنا إلػى رحلػو فػي أقصػى المدينػة والشػمس حيػة‪ ،‬ونسػيت مػا قػاؿ فػي المغػرب‪ ،‬وكػاف يَسػتَ ِحب أف يػؤخر العشػاء التػي‬
‫تدعونها العتمة‪ ،‬وكاف يكره النوـ قبلها والحديث بعدىا‪ ،‬وكاف ينفتل من صالة الغداة حين يعرؼ الرجل جليسو‪ ،‬وكاف يقرأ بالستين إلى المائة"‪.‬‬
‫ضا بمسألة المواقيت‪.‬‬
‫ىذا الحديث متعلق أي ً‬
‫قاؿ‪ :‬عن سيار بن سالمة دخلت أنا وأبي على أبي برزة األسلمي فقاؿ لو أبي‪ :‬حدثنا كيف كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي المكتوبة؟‬
‫وكيف يسأؿ بها في العادة عن الماىية والكيفية‪ ،‬ولكن ىنا أبو برزة (رضي اهلل عنو) أجاب عنها بالزماف‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫فقاؿ العلماء‪ :‬إف (كيف) ىنا بمعنى (متى) أي تتعلػق بالزمػاف؛ فلػذلك يقولػوف إف كيػف مػن الممكػن أف يسػتفهم بهػا عػن ماىيػة الشػيء وكيفيتػو‪،‬‬
‫ضا عن زمانو كما جاء في ىذا الحديث‪.‬‬
‫ويستفهم بها أي ً‬
‫قاؿ‪" :‬كيف كاف يصلي المكتوبة"؟ المكتوبة‪ :‬ىي المفروضة‬
‫قاؿ‪" :‬كاف يصلي الهجير"‪ ،‬والهجير يراد بها صالة الظهر وسميت بالهجير ألنها تق في الهاجرة‪ ،‬وىي شدة الحر‪.‬‬
‫وسميت األولى؛ ألنها أوؿ صالة َّأـ جبريل بها النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫قليال‪.‬‬
‫الشمس" أي‪ :‬تزوؿ‪ ،‬تميل إلى جهة الغروب ً‬ ‫وقولو‪" :‬حين تدح‬
‫وىذا يدؿ على أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يصليها في أوؿ وقتها‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬وكاف يصلي العصر ثم يرج أحدنا إلى رحلو) أي‪ :‬إلى داره في أقصى المدينة‪.‬‬
‫دليل على أنو كاف يصليها في وقتها‪.‬‬
‫ضا ىذا ٌ‬
‫(والشمس حيَّة) أي‪ :‬ما زالت قائمة‪ ،‬وحارة لم تصفر‪.‬وأي ً‬
‫قاؿ "ونسيت ما قاؿ في المغرب"‪.‬‬
‫لكن ىناؾ أحاديث أخرى تبين ما جاء في المغرب مثل حديث جابر المتقدـ‪.‬‬
‫قاؿ فيو‪ :‬والمغرب إذا وجبت‪ ،‬أي؛ إذا غابت الشمس‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪" :‬وكاف يستحب أف يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة"‪.‬‬
‫متأخرا‪ ،‬ربما بعدما مضى ثلث الليل‪ ،‬فقاؿ‪" :‬واهلل إنو لوقتها لوال أف أشق على أمتي"‪.‬‬
‫فقد ثبت عنو (صلى اهلل عليو وسلم) أنو خرج على الناس ً‬
‫والعتمة‪ :‬ىي إلمة الليل‪ ،‬وىنا يحتمل أنو كره تسميتها بالعتمة‪.‬‬
‫حديث وىو حديث عبد اهلل بن عمر أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬ال يغلبنكم األعراب على اسم صالتكم فإنها العشاء‪ ،‬إنما‬
‫ٌ‬ ‫فقد جاء‬
‫يدعونها العتمة إلعتامهم باإلبل لحالبها"‪.‬‬
‫أنهم كانوا يؤخرونها‪ ،‬ىذا جاء في مسند اإلماـ أحمد‪.‬‬
‫وجاءت رواية عند اإلماـ مسلم‪" :‬إنها في كتاب اهلل العشاء‪ ،‬وإنها تُعتَم بحالب اإلبل) أي يؤخروف حلب اإلبل إلى شدة الظالـ‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬وكاف يكره النوـ قبلها) أي بين المغرب والعشاء خشية أف تغلبو عينو‪ ،‬فتفوت عليو الصالة‪.‬‬
‫مبكرا‪ ،‬وىذا ألمرين‪:‬‬
‫وكاف يكره الحديث بعدىا‪.‬ألف المستحب بالليل بعد العشاء النوـ ً‬
‫مبكرا‪.‬‬
‫‪ ‬ألف ىذا فيو إعانة على القياـ إلدراؾ صالة الفجر إذا ناـ اإلنساف ً‬
‫‪ ‬والثانية‪ :‬أنو قد ينشط المسلم من الليل لقياـ الليل‪.‬‬
‫مبكرا‪.‬‬
‫‪ ‬وىناؾ فائدة ثالثة‪ :‬أف ىذا يساعد على االستيقاظ ً‬
‫وقد قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬بورؾ ألمتي في بكورىا"‬
‫فإف في البكور بركة‪ ..‬ولكن يستثنى من ىذا إذا كاف السهر بعد العشاء لمذاكرة العلم‪ ،‬أو الستقباؿ الضيف‪ ،‬أو مسامرة الزوجة وما شابو ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬وكاف ينفتل من صالة الغداة حين يعرؼ الرجل جليسو"‪.‬‬
‫وىذا ال يكوف إال بارتفاع ضوء الفجر؛ ألف البيوت والمساجد آنذاؾ لم يكن فيها مصابيح‪.‬‬
‫‪ -‬وقاؿ‪" :‬وكاف يقرأ بالستين إلى المائة"‬
‫ىنا القراءة ليس تحدي ًدا ولكن ىذا على سبيل التقدير‪.‬‬
‫ػل علػػى أنػػو (صػػلى اهلل عليػػو وسػػلم) كػػاف يصػػليها مبكػ ًػرا‪ ،‬أي؛ بغلػ ٍ‬
‫ػس وكػػاف يطيػػل القػػراءة فيهػػا‪ ،‬فينصػػرؼ عنػػد اإلسػػفار أي بدايػػة إهػػور‬ ‫وىػػذا دليػ ٌ‬
‫الضوء‪.‬‬
‫وبهذا نستطي أف نجم بين رواية أنو كاف يصليها بغلس‪ ،‬ورواية أنو (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬أسفروا بالفجر"‪.‬‬
‫مبكرا بغلس‪ ،‬واالنصراؼ بعد طوؿ القراءة يكوف عند اإلسفار‪.‬‬
‫الجم ىنا‪ :‬أف البداية تكوف ً‬
‫ولكن ىذا يراعى فيو حاؿ الناس حتى ال يشق عليهم‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫الفوائد من ىذا الحديث‪:‬‬
‫‪ ‬الفائدة األولى‪ :‬حرص السلف على العلم‪ ،‬والتساؤؿ عنو للعمل بو‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الثانية‪ :‬بياف كيفية أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يصلي المكتوبات في أوؿ وقتها‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الثالثة‪ :‬استحباب تأخير العشاء وكراىية تسمية العشاء بالعتمة‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الرابعة‪ :‬كراىية النوـ قبل العشاء والحديث بعدىا‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حديث آخر‪ ،‬أال وىو‪ :‬حديث علي (رضي اهلل عنو) أف النبي (صلى اهلل عليو وسػلم) قػاؿ يػوـ الخنػدؽ‪" :‬مػأل اهلل قبػورىم‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى‬
‫نارا كما شغلونا عن الصالة الوسطى حتى غابت الشمس"‪.‬‬
‫وبيوتهم ً‬
‫وفي ٍ‬
‫لفظ لمسلم‪" :‬شغلونا عن الصالة الوسطى صالة العصر‪ ،‬ثم صالىا بين المغرب والعشاء"‪.‬‬
‫ولو عن عبد اهلل بن مسعود قاؿ‪ :‬حبس المشركوف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) عن صالة العصر حتػى احمػرت الشػمس أو اصػفرت‪ ،‬فقػاؿ‬
‫ػارا"‪ ،‬أو قػاؿ‪" :‬حشػى اهلل أجػوافهم‪،‬‬
‫رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬شغلونا عػن الصػالة الوسػطى‪ ،‬صػالة العصػر؛ مػأل اهلل أجػوافهم‪ ،‬وقبػورىم ن ً‬
‫نارا"‪.‬‬
‫وقبورىم ً‬
‫الروايات‪.‬‬ ‫الكالـ ىنا واضح في ىذا الحديث‪ ،‬والصالة الوسطى‪ ،‬المقصود بها‪ :‬صالة العصر‪ ،‬وقد جاء التصريح بها في بع‬
‫وقد شغلو المشركوف بالمرابطة والحراسػة يػوـ الخنػدؽ‪ ،‬فخػرج وقػت الصػالة‪ ،‬ولعػل ىػذا كػاف قبػل أف تشػرع صػالة الخػوؼ؛ فػدعا علػيهم النبػي‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وىنا استنبط العلماء‪:‬‬
‫جواز الدعاء على الكفار على سبيل العموـ على الراجح من كالـ أىل العلم‪ ،‬وىذا بخالؼ الدعاء على المعين منهم؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو‬
‫ػوب َعلَ ْػي ِه ْم أ َْو يُػ َعػ ْذبَػ ُه ْم فَػِإنػَّ ُه ْم إَػالِ ُمو َف‬ ‫وسلم) لما دعا علػى أعيػاف المشػركين أنػزؿ اهلل عػز وجػل‪ :‬قولػو تعػالى‪{ :‬لَػيس لَ َ ِ‬
‫ػك م َػن ْاأل َْمػ ِر َش ْػيءٌ أ َْو يَػتُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ولهذا قاؿ العلماء‪ :‬إنو ال يجوز لعن المعين من الكفرة؛ ألف اهلل عز وجل ربما يهديو لإليماف قبل موتو‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‬


‫‪ ‬الفائػػدة األولػػى‪ :‬إذا كػػاف األمػػر غيػػر مػ ٍ‬
‫ػألوؼ‪ ،‬فينبغػػي لإلنسػػاف أف يعلػػل؛ كمػػا دعػػا النبػػي صػػلى اهلل وسػػلم علػػيهم وىػػذا أمػػر غيػػر مػػألوؼ‪،‬‬
‫فعلل‪ :‬ألنهم شغلوه عن الصالة الوسطى حتى غابت الشمس‪.‬‬
‫الروايات‪.‬‬ ‫‪ ‬الفائدة الثانية‪ :‬فضيلة صالة العصر‪ ،‬وأنها ىي الصالة الوسطى كما جاء التصريح بهذا في بع‬
‫‪ ‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز قضاء الصلوات بعد خروج وقتها إذا كاف ذلك لعذر‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حديث آخر‪ :‬وعن عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما قاؿ‪ :‬أعتم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بالعشاء‪ ،‬فخرج عمر فقاؿ‪ :‬الصالة يا‬ ‫ثم قاؿ في‬
‫رسوؿ اهلل‪ ،‬رقد النساء والصبياف‪.‬فخرج النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ورأسو يقطر يقوؿ‪" :‬لوال أف أشق علػى أمتػي‪ ،‬أو علػى النػاس ألمػرتهم بهػذه‬
‫الصالة ىذه الساعة"‪.‬‬
‫ىنا في حديث عبد اهلل بن عباس قاؿ‪" :‬أعتم النبي بالعشاء" أعتم‪ ،‬أي‪ :‬تأخر‪ .‬أي‪ :‬أخرىا حتى اشتدت الظلمة‪.‬‬
‫فخػػرج عمػر (رضػػي اهلل عنػػو) فقػػاؿ‪" :‬الصػػالة يػػا رسػػوؿ اهلل" أي‪ :‬أقػػم الصػػالة يػػا رسػػوؿ اهلل‪ ،‬فقػػد رقػػد النسػػاء والصػػبياف‪ ،‬أي‪ :‬شػػق علػػيهم ذلػػك‬
‫(فخرج النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ورأسو يقطر)‬
‫مغتسال‪ ،‬ألف م الوضوء ال يقطر الماء من الرأس‪ ،‬ألف الفرض في الوضوء مسح الرأس بخالؼ الغسل‪.‬‬
‫ً‬ ‫رأسو يقطر‪ :‬ألنو كاف‬
‫مغتسال‪.‬‬
‫ً‬ ‫فقاؿ‪ :‬يقطر؛ فدؿ ذلك على أنو كاف‬
‫فقاؿ‪ " :‬لوال أف أشق على أمتي‪ ،‬أو على الناس ألمرتهم بهذه الصالة ىذه الساعة"‪ ،‬فهذا يدؿ على أف األفضل في صػالة العشػاء ىػو التػأخير مػا‬
‫لم يشق ذلك على الناس‪.‬‬
‫نكتفي بهذا القدر‪ ،‬وقد وصلنا إلى نهاية ىذا الباب [باب المواقيت]‬

‫‪52‬‬
‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫واصطالحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬عرؼ التيمم لغةً‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬اذكر صفة التيمم التي ذكرىا النبي صلى اهلل عليو وسلم في حديث عمار بن ياسر؟‬
‫وطهورا"؟‬
‫ً‬ ‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ما معنى "جعلت لي األرض مسج ًدا‬
‫وىل كل ٍ‬
‫أرض تصلح فيها الصالة؟ وضح ذلك‪.‬‬
‫الصوـ‪ ،‬وال تقضي الصالة؟ وضح ذلك‪.‬‬ ‫السؤاؿ الراب ‪ :‬لماذا تقضي الحائ‬
‫واالستحاضة؟‬ ‫السؤاؿ الخامس‪ :‬ىل ىناؾ فر ٌؽ بين الحي‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬اذكر مواقيت الصالة التي جاءت في األحاديث‪.‬‬
‫ىذا وصلى اهلل وسلم وبارؾ على النبي محمد صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وعلى آلو‪ ،‬وصحبو أجمعين‪ ،‬وعلى التابعين‪،‬‬
‫وتابعيهم بإحساف إلى يوـ الدين‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫المحاضػ ػػرة السابعػ ػ ػػة‬
‫كنا قد توقفنا في اللقاء السابق عند باب في‪ٍ :‬‬
‫شيء من مكروىات الصالة‪ ،‬ذكر المصنف في ىذا الباب حديثا عن عائشة (رضي اهلل عنها)‬
‫شاءُ‬
‫الع َ‬
‫ضا‪ ،‬فقاؿ‪ :‬عن عائشة (رضي اهلل عنها) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إذا أقيمت الصالة وحضر َ‬
‫كذلك حديثا آخر عن عائشة أي ً‬
‫ش ِاء)‪.‬‬
‫بالع َ‬
‫فابدؤوا َ‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم عن عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪ :‬سمعت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يقوؿ‪" :‬ال صالة بحضرة‬ ‫قاؿ‪ :‬وعن ابن عمر نحوه‪ ،‬قاؿ‪:‬‬
‫الطعاـ وال وىو يدافعو األخبثاف)‪.‬‬
‫ىنا ذكر المصنف في عنونة ىذا الباب‪ ،‬قاؿ‪( :‬باب في ٍ‬
‫شيء من مكروىات الصالة)‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫امتثاال وال يعاقب فاعلو‪.‬‬
‫والمكروه عند األصوليين‪ :‬ىو ما يثاب تاركو ً‬
‫والمكروىات ال تخل بأمر الصالة من حيث الصحة ولكنها تخل بها من حيث الكماؿ‪.‬‬
‫وقولو ىنا في حديث عائشة (رضي اهلل عنها) "إذا أقيمت الصالة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء"‪ ،‬ليس ىذا من باب تقديم حق العبد على حق‬
‫ٍ‬
‫بشيء‬ ‫محتاجا إلى العشاء تعلقت نفسو بو وإذا تعلقت النفس‬ ‫الرب جل وعال‪ ،‬بل ىو من باب تقديم حق الرب؛ ذلك ألف اإلنساف إذا كاف‬
‫ً‬
‫خاشعا فال يذىب ذلك بكماؿ‬
‫ً‬ ‫مشغوال بو؛ فلهذا أمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بتقديم العشاء حتى يكوف الذىن صافيًا والقلب‬
‫ً‬ ‫صار الباؿ‬
‫الصالة‪.‬‬
‫عذر في التخلف‬ ‫ِ‬ ‫شاء على ِ‬
‫العشاء على العشاء ٌ‬
‫عذر في التخلف عن الجماعة؟ نعم‪ ،‬يكوف تقديم َ‬
‫سبب أو ٌ‬
‫شاء ىل ىذا ٌ‬
‫الع َ‬ ‫الع َ‬
‫لكن مسألة تقديم َ‬
‫عن الجماعة‪ ،‬ولكن بشروط‪:‬‬
‫‪ ‬أوؿ ىذه الشروط‪ :‬أف تكوف ىناؾ حاجةٌ إلى الطعاـ بحيث لو تركو اإلنساف وصلى انشغل بو عن الصالة‪.‬‬
‫‪ ‬الشرط الثاني‪ :‬أال يكوف ذلك ديدنًا لو بحيث ال يعتاد أف يكوف وقت الطعاـ في وقت الصالة‪.‬‬
‫العشاء فقط إذا قدـ‪،‬‬
‫قاصرا على َ‬
‫‪ ‬الشرط الثالث‪ :‬أال يجره ذلك لخروج وقت الصالة ويكوف سببًا في فواتها عليو‪ ،‬وىذا األمر ليس ً‬
‫يح‪ ،‬أو ٍ‬
‫غائط أو غير ذلك‪.‬‬ ‫ضا كل ما يشوش على اإلنساف ويشغلو عن الصالة من ٍ‬
‫بوؿ‪ ،‬أو ر ٍ‬ ‫ولكن يتعلق بهذا األمر أي ً‬

‫ضا قالت‪ :‬سمعت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يقوؿ‪" :‬ال صالة بحضرة الطعاـ وال وىو يدافعو‬
‫والحديث الثاني حديث عائشة أي ً‬
‫األخبثاف"‪ ،‬ىذا الحديث يؤيد الحديث األوؿ‬
‫وىناؾ فوائد في ىذا الباب‪:‬‬
‫‪ ‬الفائدة األولى‪ :‬كراىية الصالة عند حضور الطعاـ للمحتاج إليو وكذلك في حالة مدافعة األخبثين‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الثانية‪ :‬تقديم حق اهلل عز وجل باالنصراؼ عما يشغلو عن العبادة‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الثالثة‪ :‬حضور القلب والخشوع مطلوباف لكماؿ الصالة‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الرابعة‪ :‬مراعاة حفظ صحة اإلنساف؛ ذلك ألف حبس البوؿ‪ ،‬والريح‪ ،‬والغائط‪ ،‬قد يضر بو‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر‪ ،‬قاؿ‪( :‬باب أوقات النهي)‬
‫وأوقات النهي‪ :‬يقصد بها أوقات النهي عن الصالة‪ ،‬وأوقات النهي عن الصالة ثالثة ىي‪:‬‬
‫أىل العلم باكتماؿ قرص الشمس بعد الشروؽ‬ ‫‪ ‬الوقت األوؿ‪ :‬من بعد صالة الفجر حتى ترتف الشمس قدر الرمح‪ ،‬وىذا قدَّره بع‬
‫وانفصالو عن األرض‪ ،‬ىذا بالنسبة لنظر الناإر إليها‪.‬‬
‫بميالنها ناحية الغرب‪ ،‬وىذا يعرؼ بفيء الزواؿ‪.‬‬
‫‪ ‬الوقت الثاني‪ :‬عندما تكوف الشمس في منتصف السماء وينتهي ىذا بزوالها‪ ،‬أي َ‬
‫وىذا الوقت ىو أقصر أوقات النهي‪ ،‬ال يتعدى الثالث أو األرب دقائق أو الخمس دقائق على األكثر‪.‬‬
‫‪ ‬الوقت الثالث‪ :‬من بعد صالة العصر إلى أف يكتمل غروب الشمس‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ثم ذكر المصنف في ىذا الباب حديث‪ :‬عن عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما قاؿ‪ :‬شهد عندي ٌ‬
‫رجاؿ مرضيوف وأرضاىم عندي عمر أف النبي‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) نهى عن الصالة بعد الصبح حتى تطل الشمس وبعد العصر حتى تغرب‪ .‬وما في معناه من الحديث‪.‬‬
‫ثم ذكر حديث‪ :‬عن أبي سعيد الخدري (رضي اهلل عنو) عن رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬ال صالة بعد الصبح حتى ترتف الشمس‬
‫وال صالة بعد العصر حتى تغيب الشمس"‪.‬‬

‫ٍ‬
‫مسعود‪ ،‬وعبد اهلل بن عمر‪ ،‬وعبد اهلل بن عمرو بن العاص‪ ،‬وأبي‬ ‫قاؿ المصنف رحمو اهلل تعالى‪ :‬وفي الباب عن علي بن أبي طالب‪ ،‬وعبد اهلل بن‬
‫ىريرة‪ ،‬وسمرة ب ن جندب وسلمة بن األكوع‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬ومعاذ بن عفراء‪ ،‬وكعب بن مرة‪ ،‬وأبي أمامة الباىلي‪ ،‬وعمرو بن عبسة السلمي‪،‬‬
‫والصنباحي‪ ،‬ولم يسم من النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وعائشة رضي اهلل عنهم‪،‬‬
‫في حديث ابن عباس قاؿ‪" :‬شهد عندي ٌ‬
‫رجاؿ مرضيوف"‪ :‬ىذه تزكيةٌ لمن شهد عنده‪ ،‬والصحابة كلهم عدوؿ فهذه تزكيةٌ منو لمن شهد منهم‬
‫عنده‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬وأرضاىم عندي) أي أ ْزكاىم عندي عمر (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫وبدأ يبين أوقات النهي التي نهى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عنها وبين في ىذا الحديث وقتين من األوقات الثالثة‪.‬‬
‫ضا في حديث أبي سعيد الذي بعده أنو بين فيو وقتين من أوقات النهي أال وىما‪:‬‬
‫وكذلك أي ً‬
‫‪ -‬النهي عن الصالة بعد الصبح حتى تطل الشمس‪.‬‬
‫‪ -‬وبعد العصر حتى تغرب الشمس‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حديث آخر‪ :‬وىو‪ :‬حديث عقبة بن عامر (رضي اهلل عنو) أف النبي (صلى اهلل عليو‬ ‫وقت ثالث لم يذكره المصنف وقد جاء ذلك في‬
‫لكن ىناؾ ٌ‬
‫ٍ‬
‫ساعات نهانا رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) أف نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا (إحدى ىذه األوقات‬ ‫ٍ‬
‫أوقات أو ثالث‬ ‫وسلم) قاؿ‪" :‬ثالث‬
‫وىذا ىو الشاىد على الوقت الثالث) قاؿ‪" :‬إحداىا أف يقوـ قائم الظهيرة"‪.‬‬
‫مختص بالنوافل المطلقة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ىو الوقت الذي عند الظهيرة عندما تكوف الشمس في كبد السماء‪ ،‬وىذا النهي عن الصالة فيو إنما ىو‬
‫سبب فال يشملها ىذا النهي‪.‬‬
‫أما بالنسبة لقضاء الفوائت أو الصلوات التي لها ٌ‬
‫ثم انتقل المصنف إلى ب ٍ‬
‫اب آخر‪( :‬باب قضاء الفوائت وترتيبها)‪:‬‬
‫وذكر فيو حديث جابر رضي اهلل عنو‪ ،‬قاؿ‪ :‬عن جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما أف عمر بن الخطاب (رضي اهلل عنو) جاء يوـ الخندؽ بعدما‬
‫غربت الشمس فجعل يسب كفار قريأ وقاؿ‪" :‬يا رسوؿ اهلل ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب‪ ،‬فقاؿ النبي صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪ :‬واهلل ما صليتها‪ ،‬قاؿ‪ :‬فقمنا إلى بطحاف فتوضأ للصالة وتوضأنا لها فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدىا المغرب"‪.‬‬
‫أتى المصنف ىنا بهذا الحديث لبياف كيفية قضاء الفوائت‪ ،‬فالحديث يبين أف [الفوائت تقضى مرتبة] وىذا مذىب جمهور أىل العلم‪.‬‬
‫والترتيب ىو األصل‪ ،‬أف تصلى الصلوات مرتبة وال يخل بالترتيب إال في حاالت الضرورة‪.‬‬

‫مثال ثم يتذكر بعده أنو لم ِ‬


‫يصل العصر‪ ،‬فهنا يصلي العصر وال إعادة‬ ‫حاالت الضرورة لها أحواؿ مثل‪ :‬أف ينسى اإلنساف الترتيب فيصلي المغرب ً‬
‫وقت إال ألدائها فإف راعينا الترتيب ىنا خرج وقت‬
‫يبق ٌ‬
‫ضا‪ :‬ضيق الوقت‪ ،‬بمعنى أنو إذا ضاؽ الوقت عن الصالة ولم َ‬
‫عليو‪ ،‬ومن ىذه الحاالت أي ً‬
‫الصالة‪.‬‬
‫مثال سوى خمس دقائق وىذه ال تكفي إال لصالة المغرب‪.‬‬
‫يبق على العشاء ً‬ ‫مثل أف يضيق الوقت على المغرب‪ ،‬وىو لم ِ‬
‫يصل العصر لم َ‬
‫أوال فإنو يخرج وقت المغرب‪،‬‬
‫فإذا راعى الترتيب وصلى العصر ً‬
‫فهنا يقوؿ أىل العلم‪ :‬يُ ِخ ُل بالترتيب حتى يصلي المغرب في وقتها كي ال يكوف ىناؾ صالتين قضاء‪ ،‬فيصلي المغرب في وقتها ثم يصلي العصر‬
‫بعد ذلك‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫الفوائد المستنبطة من ىذا الباب‪:‬‬
‫عموما‪.‬‬
‫‪ -‬استدؿ العلماء أنو يجوز سب الكفار على العموـ ال على التعيين‪ .‬يعني ال يجوز سب الكافر بعينو إنما سب الكفار ً‬
‫قالوا بجواز الحلف‪ ،‬أف يحلف الصادؽ دوف أف يستحلف مثل ما قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬واهلل ما صليتها"‪.‬‬
‫ضا‪ :‬أف الفوائت تقضى مرتبة كما فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وصلى الفوائت مرتبة‪.‬‬
‫‪ -‬ومن الفوائد أي ً‬
‫‪ -‬وكذلك من الفوائد‪ :‬جواز قضاء الفوائت جماعة لمن لم يصلْها‪.‬‬
‫إاىر في كالـ‬
‫ضا‪ :‬قاؿ العلماء بجواز تسلية اإلنساف لغيره لتهوين المصيبة عليو؛ ألف في تسليتو طمأنينةٌ لخاطره‪ ،‬وىذا ٌ‬
‫‪ -‬ومن الفوائد أي ً‬
‫النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لما جاء عمر يشكو إليو أنو ما صلى الصلوات‪ ،‬فقاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬واهلل ما صليتها)‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر‪ :‬فضل صالة الجماعة ووجوبها‪ ،‬وذكر في ىذا الباب حديث عبد اهلل بن عمر (رضي اهلل عنو) أف رسوؿ اهلل‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬صالة الجماعة أفضل من صالة الفذ بسب ٍ وعشرين درجة)‪.‬‬

‫ثم ذكر حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬صالة الرجل في الجماعة تضعَّف على صالتو في بيتو وفي‬
‫ط خطوةً إال رفعت لو بها‬
‫خمسا وعشرين ضع ًفا؛ وذلك أنو إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد ال يخرجو إال الصالة لم يخ ُ‬
‫سوقو ً‬
‫درجة وحط عنو بها خطيئة‪ ،‬فإذا صلى لم تزؿ المالئكة تصلي عليو ما داـ في مصاله‪ ،‬اللهم صل عليو‪ ،‬اللهم اغفر لو‪ ،‬اللهم ارحمو‪.‬وال يزاؿ‬
‫في صالةٍ ما انتظر الصالة"‬

‫ثم ذكر حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أثقل الصالة على المنافقين صالة العشاء وصالة الفجر‪،‬‬
‫رجال فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجا ٍؿ معهم ٌ‬
‫حزـ من‬ ‫حبوا‪.‬ولقد ىممت أف آمر بالصالة فتقاـ ثم آمر ً‬ ‫ولو يعلموف ما فيهما ألتوىما ولو ً‬
‫حطب إلى ٍ‬
‫قوـ ال يشهدوف الصالة فأح ْرؽ عليهم بيوتهم بالنار"‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ىنا في حديث عبد اهلل بن عمر األوؿ‪:‬‬
‫يح في بياف أفضلية صالة الجماعة‪.‬‬
‫‪ -‬ىذا الحديث صر ٌ‬
‫‪ -‬وبياف درجة األفضلية بأنها أفضل من صالة الفذ بسب وعشرين درجة‪.‬‬
‫لكن كلمة أفضل ىنا ىي التي أدت إلى الخالؼ بين أىل العلم في مسألة وجوب صالة الجماعة‪ ،‬ىل ىي واجبة أـ ىي سنة؟‬
‫خمسا وعشرين ضع ًفا"‪.‬‬
‫وفي حديث أبي ىريرة الذي بعده قاؿ‪" :‬صالة الرجل في الجماعة تضعَّف على صالة الرجل في بيتو وفي سوقو ً‬
‫ٍ‬
‫بخمس وعشرين ضع ًفا‪،‬‬ ‫‪ -‬في حديث عبد اهلل بن عمر قاؿ‪" :‬أفضل من صالة الفذ بسب ٍ وعشرين درجة"‪.‬وىنا قاؿ‬
‫سبعا وعشرين؟ ىل ىناؾ تعارض بين الحديثين؟‬
‫السؤاؿ ىنا‪ :‬كيف قاؿ إنها خمسةٌ وعشرين ثم قاؿ ً‬
‫الجواب‪ :‬أنو ليس ىناؾ تعارض‪.‬‬
‫أىل العلم إف العدد في كل األحاديث غير معتبر المفهوـ‪.‬‬ ‫قاؿ بع‬
‫ما معنى ىذا الكالـ؟ المعنى أف اإلخبار بالخمسة والعشرين ليس معنى ذلك أنها خمسةً وعشروف ال تزيد على ذلك‪ ،‬وضربوا أمثلةً لذلك قالوا‪:‬‬
‫مثال‪ ،‬ليس معنى ذلك أنو ليس عنده صدي ٌق سادس أو ساب ‪.‬‬
‫إذا قاؿ اإلنساف‪ :‬عندي خمسة أصدقاء ً‬
‫أو لو قاؿ‪ :‬معي ألف جنيو أو ألف لاير ليس معنى ذلك أنو ليس معو غيرىا من الماؿ‪.‬‬
‫‪ -‬فقالوا إف ذكر العدد ال ينفي الزيادة‪،‬‬
‫بالخمس والعشرين‪ ،‬ثم أُ ْعلِ َم بعد ذلك بالزيادة‪ ،‬فأخبر بها (صلى اهلل عليو‬
‫ْ‬ ‫‪ -‬وبعضهم قاؿ إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أخبر بما أُ ْعلِ َم ً‬
‫أوال‬
‫وسلم)‪.‬‬
‫جزءا تساوي السب والعشرين ضع ًفا‪.‬‬
‫‪ -‬وبعضهم قاؿ إف الجزء غير الدرجة‪ ،‬فال َخمسة وعشرين ً‬
‫‪ -‬وبعضهم قاؿ إف الحديث األوؿ نسخ‪ ،‬وىذا فيو نظر؛ ذلك ألف األخبار ال تنسخ‪ ،‬والنبي (صلى اهلل عليو وسلم) ال ينطق عن الهوى‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫‪ٌ -‬‬
‫قوؿ آخر ذكر أف السب والعشرين‪ ،‬والخمس والعشرين تختلف باختالؼ الحاؿ؛ فمن صلى الجماعة م المسجد مدرًكا لها في أوؿ وقتها‪،‬‬
‫فق د ناؿ أعظم الدرجات التي ىي السب والعشرين‪ ،‬ومن صلى جماعة في سوقو‪ ،‬أو في بيتو فقد فاتو شيء ربما حصل على أجر أقل من ذلك‬
‫إلى الخمس والعشرين؛ ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬ألف الحديث األوؿ فرؽ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بين الفذ‪ ،‬وبين الجماعة بسب ٍ وعشرين‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بخمس وعشرين‪ ،‬وربما يكوف ىذا من أقرب األقواؿ‪.‬‬ ‫‪ -‬وفي الثاني فرؽ بين السوؽ‪ ،‬والجماعة‬
‫ثم قاؿ بعد ذلك‪" :‬ذلك أنو إذا توضأ فأحسن الوضوء"‪،‬‬
‫وإحساف الوضوء ال يكوف إال باتباع السنة‪ ،‬وقد بينا ذلك قبل ذلك‪ ،‬وىي مسألة إسباغ الوضوء‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬ثم خرج إلى المسجد ال يخرجو إال الصالة"‪ ،‬وىي أف يقصد بالخروج الصالة فقط‪ ،‬ال الصالة وغيرىا؛ ألف تشريك النية ينقص األجر‪.‬‬
‫فقد جاء في حديث عبد اهلل بن عمر (رضي اهلل عنو) عند مسلم أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬ما من غاز ٍية تغزو في سبيل اهلل‪،‬‬
‫الغنيمة تم لهم أجرىم"‪.‬ذلك ألنهم أرادوا الغزو‪ ،‬وأرادوا‬
‫فيصيبوف الغنيمة إال تعجلوا ثلثي أجرىم من اآلخرة‪ ،‬ويبقى لهم الثلث‪ ،‬وإف لم يصيبوا َ‬
‫الغنيمة‪ ،‬فشركوا بين النيتين‪.‬‬
‫ط خطوة إال رفعت لو بها درجة‪ ،‬فإذا صلى لم تزؿ المالئكة تصلي عليو"‪(.‬أي تدعو لو)‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬لم يخ ُ‬
‫‪ -‬أي كلما جلس ينتظر الصالة‪ ،‬فهو في صالة‪ ،‬والمالئكة تدعو لو‪" ،‬اللهم اغفر لو اللهم ارحمو"‪.‬‬
‫صالتين على المنافقين‪ ،‬صالة العشاء‪ ،‬وصالة الفجر)‪.‬‬
‫ثم قاؿ في حديث أبي ىريرة‪" :‬أثقل َ‬
‫‪ -‬ذلك ألف ىذا الوقت ىو في الغالب وقت راحة الناس‪.‬‬
‫ضا ألف وقتهما في الظالـ‪ ،‬فيستطي المنافق أف يختفي وال يحضرىا وال يشعر بو أحد بخالؼ الصلوات األخرى‪.‬‬
‫‪ -‬وأي ً‬
‫حبوا"‪ .‬أي على األيدي والركب‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬ولو يعلموف ما فيهما (أي من األجر والثواب) ألتوىما ولو ً‬
‫خاطر في القلب‪ ،‬وعزـ القلب على فعل الشيء‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬ولقد ىممت) والهم ىو ٌ‬
‫برجاؿ معهم حزـ من حطب إلى ٍ‬
‫قوـ ال يشهدوف‬ ‫ٍ‬ ‫رجال فيصلي بالناس‪ ،‬ثم أنطلق معي‬
‫قاؿ‪( :‬ولقد ىممت أف آمر بالصالة فتقاـ‪ ،‬ثم آمر ً‬
‫ٌ‬
‫الصالة‪ ،‬فأحرؽ عليهم بيوتهم بالنار)‪.‬‬
‫رجال فيصلي بالناس‪.‬‬
‫رجال بالصالة‪ ،‬فتقاـ ثم يأمر ً‬
‫ىنا ىم بو النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬لكنو لم يفعلو أف يأمر ً‬
‫أىل العلم بهذه الجملة على جواز التخلف عن صالة الجماعة‪.‬‬ ‫وىنا استدؿ بع‬
‫وقد اختلف العلماء في حكم صالة الجماعة على أقواؿ‪:‬‬
‫ط لصحة الصالة‪.‬‬‫فمنهم من قاؿ إنها سنةٌ مؤكدة‪ ،‬ومنهم من قاؿ إنها فرض كفاية‪ ،‬ومنهم من قاؿ إنها فرض عين‪ ،‬ومنهم من قاؿ‪ :‬بل ىي شر ٌ‬
‫حزـ من حطب إلى قوـ ال يشهدوف الصالة (أي صالة الجماعة)‪ ،‬فأّحرؽ عليهم بيوتهم‬ ‫نعود إلى الحديث قاؿ‪" :‬ثم أنطلق معي ٍ‬
‫برجاؿ معهم ٌ‬
‫بالنار)‬
‫الروايات‪" :‬لوال النساء والذرية"‪.‬‬ ‫وفي بع‬
‫والعاقلين األحرار‪.‬‬
‫فاستدؿ العلماء على وجوب صالة الجماعة على غير النساء والذرية‪ ،‬أي على الرجاؿ البالغين َ‬
‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬
‫باب آخر‪( :‬حضور النساء المسجد)‬
‫وذكر فيو حديث عبد اهلل بن عمر (رضي اهلل عنو) عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إذا استأذنت أحدكم امرأتو إلى المسجد‪ ،‬فال‬
‫يمنعها"‪.‬فقاؿ بالؿ بن عبد اهلل‪ :‬واهلل لنمنعهن‪.‬قاؿ‪ :‬فأقبل عليو عبد اهلل‪ ،‬فسبو سبًا سيئًا ما سمعتو سبو مثلو قط‪ ،‬وقاؿ‪ :‬أخبرؾ عن رسوؿ اهلل‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) وتقوؿ‪" :‬واهلل لنمنعهن!"‪.‬‬
‫ىنا بيّن في ىذا الحديث أمرين‪:‬‬
‫‪ -‬اوال‪ :‬أف المرأة ال ينبغي لها أف تخرج من بيت زوجها إال بإذنو حتى ولو كاف من أجل العبادة التي ىي حق اهلل عز وجل على العباد‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا‪ :‬أف الرجل ال ينبغي لو أف يمن زوجتو من المسجد إذا استأذنتو ما لم يكن ىناؾ مفسدة أو ضرر‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫أما إذا كاف ىناؾ ضرر ومفسدة فهنا يحق لو المن ‪.‬‬
‫وقد جاء في حديث عائشة (رضي اهلل عنها) أنها قالت‪" :‬لو علم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ما أحدث النساء ‪-‬أي في المساجد‪ -‬لمنعهن‬
‫المساجد كما ُمنِ َع ْ‬
‫ت بنو إسرائيل"‪.‬‬
‫اعتراضا منو على كالـ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬لكنها الغيرة التي‬
‫ً‬ ‫ومن أجل ىذا قاؿ بالؿ بن عبد اهلل بن عمر‪ :‬واهلل لنمنعهن‪ ،‬وىذا ليس‬
‫دفعتو إلى ذلك لما رأى حاؿ النساء في زمانو ليس كحاؿ النساء على عهد النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فكيف بو لو رأى النساء في زماننا‪.‬‬
‫اهلل المستعاف أإنو يقوؿ أشد من ىذا‪.‬‬
‫اعتراض على األمر م أنو ليس كذلك‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الئق ولهذا غضب عبد اهلل بن عمر ألف إاىر الكالـ ىو‬ ‫لكن على كل ٍ‬
‫حاؿ كاف االعتراض منو غير ٍ‬
‫انتصارا لنفسو إنما غيرة على االعتراض على كالـ رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ً‬ ‫قاؿ‪( :‬فسبو سبًا سيئًا) ىنا لما سبو ليس‬
‫وقاؿ‪( :‬أخبرؾ عن رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) وتقوؿ واهلل لنمنعهن)‪.‬‬
‫ضا في لفظ مسلم قاؿ‪" :‬ال تمنعوا إماء اهلل مساجد اهلل)‪.‬‬‫وذكر أي ً‬
‫وكأنو أراد أف يقوؿ إف اإلماء إماء اهلل‪ ،‬وإف المساجد مساجد اهلل‪ ،‬فال يليق لكم أف تمنعوا إماء اهلل من مساجد اهلل‪.‬‬
‫فهنا قاؿ‪ :‬ال تمنعوا إماء اهلل مساجد اهلل ىذه إضافة أعياف‪.‬‬
‫والمضاؼ إلى اهلل عز وجل نوعاف‪:‬‬
‫‪ -‬األوؿ‪ :‬إضافة ٍ‬
‫صفة إلى موصوؼ كعلم اهلل عز وجل‪ ،‬وقدرة اهلل عز وجل‪ ،‬وسم اهلل عز وجل فهذه صفات رب العباد قائمةٌ بو سبحانو‬
‫وتعالى‪ ،‬وىذه تدؿ على كمالو وعظمتو سبحانو وتعالى‪.‬‬
‫‪ -‬والثاني‪ :‬إضافة أعياف قائمةٌ بذاتها‪ ،‬كبيت اهلل عز وجل‪ ،‬وناقة اهلل عز وجل ىذه اإلضافة تقتضي تشريف المضاؼ‪.‬‬
‫تشريف للمضاؼ إلى اهلل تبارؾ وتعالى‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫حث على عدـ المن على التفصيل الذي ذكرتو‪ ،‬وفيها‬
‫فهنا قاؿ‪( :‬ال تمنعوا إماء اهلل مساجد اهلل) ففيها ٌ‬

‫ىناؾ فوائد مستنبطة من ىذا الباب‪:‬‬


‫‪ -‬األولى‪ :‬بياف فضل صالة الجماعة على صالة الفرد‪.‬‬
‫‪ -‬الثانية‪ :‬إحساف الوضوء‪ ،‬والخروج من أجل الصالة ال غيرىا يكوف سببًا في مضاعفة األجر‪.‬‬
‫‪ -‬الثالثة‪ :‬ثواب منتظر الصالة كثواب من ىو في الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الرابعة‪ :‬بياف أف صالة الجماعة واجبةٌ على الرجاؿ البالغين‪.‬‬
‫‪ -‬الخامسة‪ :‬درء المفاسد مقدـ على جلب المصالح‪ ،‬وذلك يظهر في قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬لوال النساء والذرية"‪.‬‬
‫‪ -‬السادسة‪ :‬فضل صالتي العشاء‪ ،‬والفجر‪.‬‬
‫‪ -‬السابعة‪ :‬أف المنافقين ال يقصدوف بعبادتهم إال الرياء‪ ،‬والسمعة‪.‬‬
‫‪ -‬الثامنة‪ :‬استحباب إذف الرجل لزوجتو بالذىاب للمسجد ما لم يكن ىناؾ ضرر أو فتنة‪.‬‬
‫‪ -‬التاسعة‪ :‬ينبغي اختيار األلفاظ الالئقة عند االعتراض على أم ٍر من األمور‪.‬‬
‫‪ -‬العاشرة واألخيرة‪ :‬جواز الشدة في اإلنكار على من اعترض على سنة النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وعدـ جواز خروج المرأة إال بإذف‬
‫زوجها‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر‪( :‬باب السنن الراتبة)‪ ،‬وتأكيد ركعتي سنة الفجر وفضلها‪.‬‬
‫وذكر في ىذا الباب حديث عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما قاؿ‪" :‬صليت م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ركعتين قبل الظهر‪ ،‬وركعتين‬
‫بعدىا‪ ،‬وركعتين بعد الجمعة‪ ،‬وركعتين بعد المغرب‪ ،‬وركعتين بعد العشاء"‪.‬‬
‫لفظ‪" :‬فأما المغرب والعشاء والجمعة ففي بيتو"‪ ،‬وفي ٍ‬
‫لفظ للبخاري أف ابن عمر (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬حدثتني حفصة أف النبي (صلى اهلل‬ ‫وفي ٍ‬
‫عليو وسلم) كاف يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطل الفجر‪ ،‬وكانت ساعةً ال أدخل على النبي فيها"‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫وعن عائشة في الباب أيضا قالت (رضي اهلل عنها)‪" :‬لم يكن رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) على ٍ‬
‫شيء من النوافل أشد تعاى ًدا منو على‬ ‫ً‬
‫خير من الدنيا وما فيها"‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ركعتي الفجر"‪ ،‬وفي لفظ لمسلم‪" :‬ركعتا الفجر ٌ‬
‫ىذاف الحديثاف فيهما بياف السنن الراتبة‪.‬‬
‫سنن مؤكدة‪ ،‬فهي أشد تأكي ًدا من غيرىا‪.‬‬
‫والسنن الراتبة ىي ٌ‬
‫والسنن على مراتب‪ :‬أعالىا في الدرجة السنن الراتبة‪ ،‬وىي التي تسبق صالة الفريضة وتعقبها‪.‬‬
‫ونقصها‪.‬‬ ‫وقيل إنما ىي شرعت لجبر خلل الفرائ‬
‫وأقل ىذه السنن النفل المطلق وىو الذي يتعبد بو اإلنساف هلل سبحانو وتعالى‪.‬‬
‫ىنا ذكر حديث عبد اهلل بن عمر‪ ،‬وذكر أنو صلى م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ركعتين قبل الظهر‪ ،‬وركعتين بعدىا إلى آخر الحديث‪.‬‬
‫وىذه من السنن الرواتب المؤكدة‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬وركعتين بعد الجمعة"‪ ،‬ثم قاؿ‪" :‬فأما المغرب والعشاء والجمعة ففي بيتو" فكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي النوافل أو الرواتب‬
‫في بيتو؛ وذلك ألنها أدعى لإلخالص‪ ،‬وأبعد عن الرياء أف يصلي اإلنساف في بيتو حيث ال يراه أحد‪.‬‬
‫وقد جاءت أحاديث تبين أف السنن الرواتب ما بين العشر ركعات والثنتي عشرة ركعة‪.‬‬
‫كما جاء في حديث أـ حبيبة (رضي اهلل عنها)‪" :‬من صلى هلل ثنتي عشرة ركعة في ٍ‬
‫يوـ وليلة بنى اهلل لو بيتًا في الجنة"‪.‬‬
‫كما ذكر ىنا في لفظ البخاري أف ابن عمر قاؿ‪" :‬إنو كاف يصلي بعدما يُػ َؤذَّف للفجر"‪.‬‬
‫وكاف ابن عمر ال يدخل على النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في ىذا الوقت‪ ،‬وغيره من األوقات التي شرع فيها االستئذاف؛ ألف اإلنساف في ىذه‬
‫األوقات قد يخلد إلى الراحة‪ ،‬فيتخفف من ثيابو‪ ،‬أو يخلو فيها بأىلو‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫َم يَػ ْبػلُغُوا‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين ل ْ‬
‫ت أَيْ َمانُ ُك ْم َوالذ َ‬
‫ين َملَ َك ْ‬
‫آمنُوا ليَ ْستَأْذنْ ُك ُم الذ َ‬
‫ين َ‬‫امتثاال لقوؿ اهلل تعالى‪{ :‬يَا أَيػُّ َها الذ َ‬
‫وكاف ىذا من أدب ابن عمر (رضي اهلل عنو) ً‬
‫ات لَ ُك ْم‬ ‫ث َعور ٍ‬ ‫ات ۚ ِمن قَػب ِل ص َالةِ الْ َفج ِر و ِحين تَضعو َف ثِياب ُكم ِمن الظَّ ِهيرةِ وِمن بػع ِد ص َالةِ ال ِْع َ ِ‬‫ث م َّر ٍ‬ ‫ال ِ‬
‫شاء ثََال ُ ْ َ‬ ‫َ َ ْ َْ َ‬ ‫ْ َ َ َُ َ َ ْ َ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫ْحلُ َم م ْن ُك ْم ثََال َ َ‬
‫ُ‬
‫حريصا على العلم‪ ،‬فكاف يسأؿ أختو حفصة زوج النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ورضي اهلل عنها عن صالة النبي (صلى اهلل عليو‬ ‫ً‬ ‫لكنو م ذلك كاف‬
‫وسلم) في ىذا الوقت‪ ،‬فأخبرتو أنو كاف يصلي ركعتين خفيفتين‪.‬‬
‫ضا عن عائشة (رضي اهلل عنها) أنها قالت‪" :‬ال أدري أقرأ فيهما بأـ الكتاب أـ ال"‪.‬‬
‫وثبت ذلك أي ً‬
‫دليل على تخفيف ىاتين الركعتين‪.‬‬
‫وىذا ٌ‬
‫وحديث عائشة أيضا قالت‪" :‬لم يكن رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) على ٍ‬
‫شيء من النوافل أشد تعاى ًدا منو على ركعتي الفجر"؛ ألنهما كما‬ ‫ً‬
‫خير من الدنيا وما فيها"‪.‬‬
‫أخبر النبي صلى اهلل عليو وسلم‪) :‬أنهما ٌ‬
‫وأمالؾ‪ ،‬ومناصب‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬‫ٍ‬ ‫أمواؿ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫خير من الدنيا وما فيها من‬
‫حضرا‪.‬‬
‫سفرا وال ً‬
‫فكاف ال يتركهما النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ً‬
‫خير من الدنيا وما فيها)‪ ،‬فما بَالكم بالفريضة؟‬
‫والمقصود بهما سنة الفجر ال ركعتي الفريضة‪ ،‬فإذا كاف ىذا في النافلة قالت "ركعتي الفجر ٌ‬

‫ىناؾ فوائد مستنبطة من ىذه األحاديث أال وىي‪:‬‬


‫‪ -‬األولى‪ :‬استحباب المواإبة على السنن الرواتب‪.‬‬
‫‪ -‬الثانية‪ :‬رحمة اهلل عز وجل بعباده حيث شرع لهم من النوافل ما تُ َك َّم ُل بو نقص الفرائ ‪.‬‬
‫‪ -‬الثالثة‪ :‬استحباب صالة النوافل في البيت‪ ،‬وإف كاف ذكر أف راتبة المغرب والعشاء والجمعة كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصليها‬
‫ٍ‬
‫حديث آخر قاؿ‪" :‬أفضل صالة المرء في‬ ‫ضا يدخل في ىذا الحديث؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في‬‫في البيت إال أف الظهر أي ً‬
‫بيتو إال الصالة المكتوبة)‪.‬‬
‫‪ -‬الرابعة‪ :‬بياف أف السنة تخفيف ركعتي الفجر‪ ،‬وقد ورد أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يقرأ في األولى ب {قل يا أيها الكافروف‬
‫وفي الثانية ب {قل ىو اهلل أحد‬

‫‪59‬‬
‫يل َوإِ ْس َحا َؽ‬ ‫ضا أنو كاف يقرأ في األولى قوؿ اهلل عز وجل‪{ :‬قُولُوا آمنَّا بِاللَّ ِو وما أُن ِز َؿ إِلَيػنا وما أُن ِز َؿ إِلَى إِبػر ِاى ِ ِ‬
‫يم َوإ ْس َماع َ‬ ‫ٰ َْ َ‬ ‫َْ ََ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫وقد ورد أي ً‬
‫يس ٰى َوَما أُوتِ َي النَّبِيُّو َف ِمن َّربْ ِه ْم َال نُػ َف ْر ُؽ بَػ ْي َن أَ َح ٍد ْم ْنػ ُه ْم َونَ ْح ُن لَوُ ُم ْسلِ ُمو َف‬ ‫ِ‬
‫وس ٰى َوع َ‬
‫ِ‬ ‫ويػع ُقوب و ْاأل ِ‬
‫َسبَاط َوَما أُوت َي ُم َ‬
‫ََ ْ َ َ ْ‬
‫ٍ‬
‫َى َكلِم ٍة سواء بػيػنَػنَا وبػيػنَ ُكم أ ََّال نَػعب َد إَِّال اللَّوَ وَال نُ ْش ِر َؾ بِ ِو َشيئًا وَال يػت ِ‬ ‫وفي الركعة الثانية قولو تعالى‪{ :‬قُل يا أ َْىل ال ِ‬
‫َّخ َذ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫اب تَػ َعال َْوا إِل ٰ َ َ َ َ ْ َ َ ْ ْ‬ ‫ْكتَ ِ‬
‫َْ َ‬
‫ِ‬
‫وف اللَّ ِو ۚ فَِإف تَػ َولَّْوا فَػ ُقولُوا ا ْش َه ُدوا بأَنَّا ُم ْسل ُمو َف‬
‫ِ‬ ‫ضا أَربابا ْمن ُد ِ‬
‫ضنَا بَػ ْع ً َْ ً‬
‫بَػ ْع ُ‬
‫‪ -‬الخامسة‪ :‬حرص ابن عمر (رضي اهلل عنو) على تعلم العلم الشرعي‪.‬‬
‫خير من الدنيا وما فيها"‪.‬‬
‫دليل على تفاضل العبادات‪ ،‬العبادات تتفاضل كما قاؿ‪" :‬ركعتي الفجر ٌ‬
‫‪ -‬السادسة‪ :‬في األحاديث ٌ‬
‫وانتقل المصنف إلى ٍ‬
‫باب آخر‪( :‬باب األذاف واإلقامة)‬
‫ْح ْج ْاألَ ْكبَ ِر‬ ‫{وأَ َذا ٌف ْم َن اللَّ ِو َوَر ُسولِ ِو إِلَى الن ِ‬
‫َّاس يَػ ْو َـ ال َ‬ ‫اللغة‪ :‬ىو اإلعالـ‪ ،‬قاؿ اهلل عز وجل َ‬ ‫واألذاف في‬
‫وشرعا‪ :‬ىو اإلعالـ بدخوؿ وقت الصالة‪ ،‬واألذاف ىو شعار أىل اإلسالـ‪.‬‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫وكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عندما يريد قتاؿ قوـ انتظر‪ ،‬فإف سم أذانًا كف عنهم‪ ،‬وإف لم يسم أذانًا أغار عليهم‪ ،‬أو قاتلهم‪.‬‬
‫وقصة مشروعية األذاف الحديث المشهور حديث عبد اهلل بن زيد قصة مشهورة‪.‬‬

‫ذكر المصنف ىنا في ىذا الباب حديث أنس (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫عن أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬أ ُِم َر ٌ‬
‫بالؿ أف يشف األذاف‪ ،‬ويوتر اإلقامة"‪.‬‬
‫حديث موقوؼ‪ ،‬ولكن سياؽ الكالـ يبين أف ىذا الحديث لو حكم الرف ؛ ألنو قاؿ‪" :‬أمر بالؿ"‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫وىذا الحديث ىو‬
‫واآلمر ىنا ىو من لو األمر الشرعي‪ ،‬وىو رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬أف يشف األذاف‪ ،‬وأف يوتر اإلقامة"‪.‬‬
‫والشف ‪ :‬أف يجعلو مثنى مثنى‪ ،‬ولكن ىذا ليس على اإلطالؽ‪ ،‬فالتَكبير فيو التربي ؛ أف يقوؿ‪ :‬اهلل أكبر أرب مرات‪.‬‬
‫والتوحيد في آخر األذاف قوؿ‪ :‬ال إلو إال اهلل فيها الوتر‪.‬‬
‫وكذلك الوتر في اإلقامة ليس على إطالقو‪ ،‬فالتَكبير فيو التثنية يعني ىي شف ‪.‬‬
‫وكذلك في قولو‪ :‬قد قامت في الصالة فيها الشف إنما يعني القوؿ بشف األذاف‪ ،‬ووتر اإلقامة أف ىذا من باب التغليب‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في حكم األذاف واإلقامة‪ :‬فمنهم من قاؿ‪ :‬ىو فرض كفاية‪ ،‬ومنهم من قاؿ‪ :‬إنهما سنةٌ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصفات مختلفة كلها جائزة منها ما ورد عن بالؿ رضي اهلل عنو‪ ،‬وعن عبداهلل بن زيد رضي اهلل عنو‪ ،‬وعن أبي‬ ‫وقد ورد األذاف بصي ٍغ مختلفة‪ ،‬أو‬
‫محذورة‪.‬‬
‫مشتهر بين الناس ىو األذاف الذي نسمعو اآلف‪ ،‬وىو أذاف بالؿ (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫والذي عليو الجمهور‪ ،‬وىو ما عليو عمل الناس اليوـ‪ ،‬وىو‬
‫فيو أرب تكبيرات في األوؿ‪ ،‬وأرب تَشهدات‪ ،‬ثم أرب حيعالت‪ ،‬ثم تكبيرتين‪ ،‬ثم قوؿ التوحيد مرةً واحدة‪.‬‬
‫بوضوء‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بالؿ‬ ‫ثم قاؿ‪ :‬عن أبي جحيفة وىب بن عبد اهلل السوائي قاؿ‪" :‬أتيت النبي صلى اهلل عليو‪ ،‬وىو في ٍ‬
‫قبة لو حمراء من ٍ‬
‫أدـ قاؿ‪ :‬فخرج ٌ‬
‫فمن ناضح‪ ،‬ونائل فخرج النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وعليو حلةٌ حمراء حتى كأني أنظر إلى بياض ساقيو قاؿ‪ :‬فتوضأ وأذف بالؿ قاؿ‪ :‬فجعلت‬
‫وشماال حي على الصالة حي على الفالح‪ ،‬ثم ُركِ َز ْ‬
‫ت لو عنزة‪ ،‬فتقدـ وصلى الظهر ركعتين‪ ،‬ثم لم يزؿ‬ ‫ً‬ ‫أتتب فاه ىا ىنا‪ ،‬وىا ىنا يقوؿ يمينًا‪،‬‬
‫يصلي ركعتين حتى رج إلى المدينة"‪.‬‬
‫وىنا في ىذا الحديث قاؿ عن أبي جحيفة وىب بن عبد اهلل السوائي (وىو من صغار التابعين) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بعدما أتى من‬
‫حجة الوداع وىو باألبطح وىو في ٍ‬
‫قبة لو حمراء‪( ،‬والقبة‪ :‬مثل الخيمة‪ ،‬حمراء يعني يغلب عليها اللوف األحمر)‪.‬‬
‫من أَ ْدٍـ أي‪ :‬من ٍ‬
‫جلد‪.‬‬
‫قاؿ "فخرج بالؿ بوضوء"‪ :‬وىو الماء الذي يتوضأ بو المتوضئ‪.‬وىذا كاف بعد أف توضأ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ناضح ٍ‬
‫ونائل)‬ ‫قاؿ‪" :‬فمن ٍ‬

‫‪60‬‬
‫الناضح ىو‪ :‬من أخذ من فضل وضوء النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫فأخذ ينضح بو وجهو وصدره‪.‬‬
‫يعني أخذ من بقية الماء‪ ،‬فنضح بو وجهو وصدره ومالبسو‪.‬‬
‫والنائل ىو‪ :‬الذي أخذ القليل‪ ،‬أو لم يبق لو شيءٌ من الماء‪ ،‬فأخذ يتمسح مما أخذ بو الناضح‪ ،‬فأخذ يبل نفسو بو‪.‬‬
‫وقد جاء عند البخاري في رواية‪" :‬أف بعضهم لم يحصل على شيء‪ ،‬فجعل يتمسح بأعضاء أخيو التي أصابها الماء)‪.‬‬
‫مما يدؿ على أنهم قصدوا بذلك التبرؾ‪ ،‬وىذا بعد أف توضأ بو رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ومسألة التبرؾ بآثار النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ىذا من خصوصيات النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو يجوز التبرؾ بذاتو‪ ،‬أو بأثره مثل آثار‬
‫وضوئو‪ ،‬أو آثاره‪.‬‬
‫وقد نقل عن الصحابة رضي اهلل عنهم مما كاف يوـ الحديبية لما حلق النبي (صلى اهلل عليو وسلم) شعره في الحج‪ ،‬فاقْتسم الصحابة شعره؛‬
‫لبركتو‪.‬‬
‫وغير ذلك من األحاديث‪ ،‬فمنهم من جم عرؽ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في قارورة كما فعلت أـ سلمة (رضي اهلل عنها)‪.‬‬
‫خاص في حق النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وال يقاس عليو غيره؛ ذلك ألف القياس يقتضي المساواة‪.‬‬
‫كل ىذا ٌ‬
‫فقياس النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يقتضي المساواة‪ ،‬وال يساوي النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ما عداه من البشر إال األنبياء‪ ،‬فإذا أردت أف‬
‫تقيس‪ ،‬فيقاس عليو باألنبياء أما ما عدا ذلك فهم أقل درجة‪ ،‬ورتبةً من األنبياء‪.‬‬
‫ولم يثبت أف الصحابة رضي اهلل عنهم تَبركوا بغير النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بشخص‪ ،‬فقد يدخل الغرور‪ ،‬والعجب في قلبو‪.‬‬ ‫فكل ما عدا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ال يؤمن عليو الفتنة‪ ،‬فإذا تبركنا‬
‫فهذه الخصوصيات يختص بها النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وال يشاركو فيها غيره من الصحابة‪ ،‬أو التابعين‪ ،‬أو الصالحين‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫كا ْختصاصو (صلى اهلل عليو وسلم) بزواجو من تس نسوة فال يشاركو فيها غيره أي ً‬
‫اآلف‪ ،‬وبع‬ ‫اآلثار التي يدعوف أنها من آثار النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬كاآلنية الموجودة التي يدعيها البع‬ ‫الناس يتبرؾ اآلف ببع‬ ‫وبع‬
‫شعرات التي يدعوف أنها من شعرات النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وىذه البردة التي يظهرونها على أنها بردة النبي صلى اهلل عليو وسلم‪،‬‬
‫فهذه األشياء لم يثبت أنها من آثار النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫نعود إلى الحديث قاؿ‪" :‬فخرج وعليو حلةٌ حمراء"‪.‬‬
‫إزار ورداء‪.‬‬
‫الحلة من قطعتين ٌ‬
‫ط بغيره أف يكوف ىناؾ لو ٌف آخر يشارؾ ىذا اللوف‪.‬‬
‫ومعنى حمراء أنها ليست حمراء بكاملها‪ ،‬وال ينافي ذلك أف يكوف ىذا األحمر مخلو ٌ‬
‫وذلك ألنو جاء في حديث علي (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬نهانا رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) عن خاتم الذىب‪ ،‬وعن لبس الحمراء"‪.‬‬
‫فيجم بين ىذا وذاؾ‪ ،‬أنها من النوع األحمر الذي خالطو غيره‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬حتى كأني أنظر إلى بياض ساقيو"‪.‬‬
‫وبياض الساقين ىنا يظهر لوجهين‪:‬‬
‫بياضا‪ ،‬فيظهر بياض الساؽ‪.‬‬
‫األوؿ‪ :‬أف الساؽ بالنسبة للحلّة الحمراء تكوف أش ّد ً‬
‫الوجو ّ‬
‫بياضا من القدـ؛ ألف الساؽ مستترة بخالؼ القدـ‪ ،‬فتكوف بارزًة للشمس‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أف الساؽ قد تكوف شديدة البياض‪ ،‬أو أش ّد ً‬
‫قاؿ‪" :‬فتوضأ‪ ،‬وأذف بالؿ"‪.‬‬
‫وقد جاء في ٍ‬
‫رواية أخرى‪" :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) توضأ قبل أف يخرج"‪ .‬قاؿ‪" :‬فجعلت أتتب فاه ىا ىنا‪ ،‬وىا ىنا‬
‫وشماال‪ ،‬في الحيعلتين‪.‬‬
‫ً‬ ‫بالال (رضي اهلل عنو) يمينًا‪،‬‬
‫وشماال في الحيعلتين) أي يتتب ً‬
‫ً‬ ‫يقوؿ‪ :‬يمينًا‬
‫يسارا‪.‬‬
‫دليل على مشروعية االلتفات في الحيعلة عندما يقوؿ حي على الصالة يلتفت يمينًا‪ ،‬وعندما يقوؿ حي على الفالح يلتفت ً‬
‫‪ -‬وىذا ٌ‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬ثم ركزت لو عنزة"‪ ،‬والعنزة‪ :‬ىي الحربة الصغيرة‪ ،‬أو العصاة‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫‪" -‬وركزت لو"؛ ذلك ليجعلها سترةً لو ىذا يدؿ على استحباب السترة للمصلي‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪ :‬فتقدـ فصلى الظهر ركعتين‪ ،‬ثم لم يزؿ يصلي ركعتين حتى رج إلى المدينة‪.‬‬
‫دليل على مشروعية القصر في السفر؛ ألنو كاف يصلي الظهر ركعتين ال أرب ‪.‬‬
‫‪ -‬وفي ىذا ٌ‬
‫بالال يؤذف بليل‪ ،‬فكلوا‪ ،‬واشربوا حتى يؤذف ابن أـ مكتوـ)‪.‬‬
‫ثم ذكر حديث عبد اهلل بن عمر عن رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) أنو قاؿ‪" :‬إف ً‬
‫وعن أبي سعيد الخدري (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إذا سمعتم المؤذف‪ ،‬فقولوا مثلما يقوؿ"‪.‬‬
‫عن عبد اهلل بن عمر حديث بالؿ يؤذف بليل‪ ،‬فكلوا‪ ،‬واشربوا ىذا الحديث قالو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في رمضاف يخاطب بو من أراد‬
‫الصياـ‪.‬‬
‫وكاف قد اتخذ (صلى اهلل عليو وسلم) مؤذنين لألذاف‪:‬‬
‫في األذاف األوؿ‪ :‬بالؿ (رضي اهلل عنو)‪ ،‬وفي األذاف الثاني‪ :‬عبد اهلل بن أـ مكتوـ (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫فكاف بالؿ يؤذف في آخر الليل قبل دخوؿ الوقت‪ ،‬وىذا ليرج القائم؛ ليتفرغ للسحور‪ ،‬ويوقظ النائم؛ لكي يتسحر‪.‬‬
‫‪ -‬واألذاف إنما شرع لإلعالـ بدخوؿ الوقت‪ ،‬فال يصح األذاف قبل دخوؿ الوقت إال في صالة الفجر‪.‬‬
‫كما ثبت ذلك عن النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فإنو يؤذف أذاف قبل دخوؿ الوقت؛ وذلك لما ذكرت إليقاظ النائم‪ ،‬وإلرجاع القائم‪.‬‬
‫‪ -‬ومعنى الحديث أنو ال يمنعكم أذاف بالؿ من األكل‪ ،‬والشرب إنما يكوف ذلك بأذاف ابن أـ مكتوـ (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫وفي حديث أبي سعيد الخدري قاؿ‪" :‬إذا سمعتم المؤذف‪ ،‬فقولوا مثل ما يقوؿ)‪.‬‬
‫‪ -‬ىذا الحديث في مسألة ترديد األذاف خلف المؤذف الذي يؤذف للصالة‪ ،‬فظاىر ىذا الحديث يشير إلى ترديد جمي ألفاظ األذاف مثلما يقوؿ‬
‫المؤذف‪ ،‬لكن األمر ليس كذلك‪.‬‬
‫ضا؛ ألنو جاءت أحاديث صحيحة تبين أنو إذا قاؿ‪ :‬حي على الصالة حي على الفالح‪ ،‬أف يقوؿ السام ال‬
‫‪ -‬إنما ذكر ىذا من باب الغالب أي ً‬
‫حوؿ وال قوة إال باهلل‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الباب‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬بياف أف ىناؾ فر ٌؽ بين األذاف واإلقامة‪ ،‬وأنهما ليسا على ٍ‬
‫صفة واحدة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬استحباب شف األذاف‪ ،‬ووتر اإلقامة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز إعانة المتوضئ سواءً كاف ذلك بتقريب الماء لو‪ ،‬أو بصبو عليو‪.‬‬
‫وشماال في الحيعلتين‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬مشروعية التفات المؤذف يمينًا‪،‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬مشروعية قصر الصالة في السفر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬مشروعية اتخاذ السترة أماـ المصلي‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬أف المسافر إذا وصل إلى بلده‪ ،‬فعليو إتماـ الصالة‪ ،‬لقولو‪" :‬حتى رج إلى المدينة"‪ ،‬فعندما رج أتم الصالة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مسجد واحد‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬جواز اتخاذ مؤذنَػ ْي ِن في‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬خصوصية جواز األذاف قبل دخوؿ الوقت في صالة الفجر‪.‬‬
‫رجال أعمى‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬جواز اتخاذ المؤذف األعمى؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف قد اتخذ عبد اهلل بن أـ مكتوـ وكاف ً‬
‫‪ -‬الفائدة الحادية عشر‪ :‬جواز العمل بخبر الواحد إذا كاف ثقة‪ ،‬كما قاؿ‪" :‬فكلوا‪ ،‬واشربوا حتى يؤذف ابن أـ مكتوـ"‪ ،‬وىو واحد‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية عشر‪ :‬استحباب متابعة المؤذف‪ ،‬وأف تقوؿ مثل ما يقوؿ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة عشر‪ :‬ورد التفريق بين األذاف‪ ،‬واإلقامة وعليو فإف متابعة اإلماـ‪ ،‬والترديد يكوناف في األذاف دوف اإلقامة‪.‬‬
‫األسئلة على ىذه األبواب‪.‬‬ ‫وبهذا نكوف انتهينا من لقاء اليوـ‪ ،‬لكن نأخذ بع‬

‫‪62‬‬
‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬ما ىي العلة في أمر النبي صلى اهلل عليو وسلم بالبداءة بالعشاء قبل ِ‬
‫العشاء إذا حضر؟ وىل األمر على اإلطالؽ؟‬ ‫َ‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬اذكر األوقات التي نهى النبي صلى اهلل عليو وسلم عن الصالة فيها؟‬
‫واجب في قضاء الفوائت من الصلوات؟ وما ىي الحاالت التي يسقط فيها الترتيب من خالؿ دراستك لهذا‬
‫ٌ‬ ‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ىل الترتيب‬
‫الحديث؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬كيف تجم بين قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم "صالة الجماعة أفضل من صالة الفذ بسب ٍ وعشرين درجة"‪ ،‬وقولو صلى‬
‫اهلل عليو وسلم "صالة الرجل في جماعة تضعف على صالتو في بيتو وسوقو خمسةً وعشرين ضع ًفا) من خالؿ دراستك للحديث؟‬
‫حبوا؟‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬لماذا صالة الفجر‪ ،‬والعشاء خاصةً أثقل على المنافقين؟ وما معنى ً‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬ىل أمر النبي صلى اهلل عليو وسلم بعدـ من النساء من المساجد على إطالقو؟ وضح ذلك‪.‬‬
‫السؤاؿ الساب ‪ :‬عرؼ ما ىي السنن الرواتب؟ واذكر كم عدد السنن الرواتب؟‬
‫السؤاؿ الثامن‪ :‬ىل يجوز التبرؾ بالصالحين؟ ولم؟ وىذا من خالؿ دراستك لألحاديث‪.‬‬
‫حاالت مستثناة؟‬
‫ٌ‬ ‫السؤاؿ التاس ‪ :‬ىل يجوز األذاف قبل دخوؿ الوقت؟ وىل ىناؾ‬

‫أقوؿ قولي ىذا‪ ،‬وأستغفر اهلل لي ولكم‪.‬‬


‫ٍ‬
‫محمد‪ ،‬وعلى آلو‪ ،‬وصحبو أجمعين‪ ،‬وعلى التابعين‪ ،‬وتابعيهم بإحساف إلى يوـ الدين‪.‬‬ ‫وصلى اهلل وسلم وبارؾ على النبي‬

‫‪63‬‬
‫المحاضػ ػػرة الثامن ػ ػػة‬
‫كنا قد توقفنا في ىذا الكتاب عند (باب استقباؿ القبلة)‪.‬‬
‫ط من شروط صحة الصالة‪.‬‬ ‫والقبلة‪ :‬ىي ما يتجو إليو اإلنساف؛ ذلك ألنو يكوف في مقابل الوجو‪ ،‬واستقباؿ القبلة شر ٌ‬
‫بيت وض للناس‪ ،‬وقد كانت الكعبة قبلة األنبياء‪ ،‬وكاف المصلوف يستقبلونها في كل ملة‪ ،‬لكن لما حصل التحريف في كتب‬ ‫والكعبة ىي أوؿ ٍ‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬صاروا يتوجهوف إلى بيت المقدس‪ ،‬وحرفوا دينهم‪.‬‬
‫شهرا‪.‬‬
‫ض اهلل عز وجل استقباؿ القبلة بعد الهجرة بستة عشر ً‬
‫فر َ‬
‫في ديننا َ‬
‫وأمر اهلل عز وجل بالتوجو إلى الكعبة بعد أف كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي تجاه بيت المقدس‪ ،‬وكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يود‬
‫أف يؤمر باالتجاه إلى الكعبة‪ ،‬فكاف يقلب وجهو في السماء من أجل ذلك‪.‬‬
‫َّك قِبلَةً تَرضاىا‬ ‫فأنزؿ اهلل عز وجل قولو تعالى‪{ :‬قَد نَرى تَػ َقلُّب وج ِهك فِي َّ ِ‬
‫السماء فَػلَنُػ َولْيَػن َ‬ ‫َ َ َ‬
‫مقبال على ربو جل وعال‪ ،‬فكاف من‬
‫متجها بقلبو في صالتو ً‬
‫قاؿ بع أىل العلم‪ :‬إف التوجو إلى القبلة لو حكمة‪ ،‬وىي أنو لما كاف المصلي ً‬
‫ضا أف يتجو ببدنو إلى بيت اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫المناسب أي ً‬
‫والحكمة من ذلك أف يتفق الظاىر والباطن‪ ،‬فالباطن يتجو إلى اهلل عز وجل‪ ،‬والبدف يتجو إلى بيتو جل وعال‪.‬‬
‫وقد كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يحب موافقة أىل الكتاب في بادئ األمر‪ ،‬ثم بعد ذلك أ ُِم َر بمخالفتهم؛ فكاف يصلي إلى بيت المقدس‪،‬‬
‫وىو يحب أف يصلي إلى الكعبة إلى أف نزؿ األمر بذلك من اهلل عز وجل‪.‬‬
‫سبق وأف قلت‪ :‬إف استقباؿ القبلة شرط من شروط صحة الصالة؛ فإف من تعمد الصالة إلى غير القبلة‪ ،‬فصالتو باطلة‪.‬‬
‫ط من شروط صحة الصالة أمور‪:‬‬
‫لكن يستثنى من كوف استقباؿ القبلة شر ٌ‬
‫صلب‪ ،‬أو غير ذلك من‬ ‫حبس‪ ،‬أو ٍ‬ ‫سواء كاف ذلك لمرض‪ ،‬أو ٍ‬ ‫‪ -‬أوؿ ىذه األمور المستثناة‪( :‬العاجز) أي‪ :‬الذي يعجز عن استقباؿ القبلة ً‬
‫فسا إِّال ُو َ‬
‫سعها ‪ ،‬وقولو‬ ‫األمور التي ال يمكنو معها استقباؿ القبلة‪ ،‬فإنها تسقط عنو‪ ،‬وذلك لقوؿ اهلل تبارؾ وتعالى‪{ :‬ال يُ َكلْ ُ َّ‬
‫ف اللوُ نَ ً‬
‫تعالى‪{ :‬فَاتَّػ ُقوا اللَّوَ َما استَطَعتُم‬
‫ضا يسقط عنو استقباؿ القبلة‪ ،‬لقولو تعالى‪{ :‬فَِإف ِخفتُم فَ ِر ً‬
‫جاال أَو ُركبانًا‬ ‫‪ -‬ثاني ىذه األمور المستثناة‪ :‬الخوؼ‪ .‬فالخائف أي ً‬
‫ضا من استقباؿ القبلة‪ :‬صالة النافلة في السفر‪ ،‬فإنو ال يشترط فيها استقباؿ القبلة‪ ،‬بل يصلي اإلنساف إلى‬
‫‪ -‬واألمر الثالث المستثنى أي ً‬
‫جهة سيره‪ ،‬كما كاف يفعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على الراحلة‪ ،‬فكاف يصلي حيث توجهت بو راحلتو‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف ىنا حديث ابن عمر (رضي اهلل عنو)‪" :‬أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يسبح على إهر راحلتو حيث كاف وجهو يومئ‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم‪" :‬غير أنو ال يصلي عليها المكتوبة"‪ ،‬وللبخاري‪" :‬إال الفرائ "‪.‬‬ ‫برأسو‪ ،‬وكاف ابن عمر يفعلو"‪ ،‬وفي رواية‪" :‬كاف يوتر على بعيره"‪،‬‬
‫نفال‪.‬‬
‫ىنا في حديث ابن عمر (رضي اهلل عنو) قاؿ إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يسبح على إهر راحلتو‪ ،‬ومعنى أنو كاف يسبح أي يصلي ً‬
‫نفال)‪:‬‬
‫ودليل ىذا المعنى‪( ،‬أنو كاف يسبح‪ ،‬أي‪ :‬يصلي ً‬
‫يوما الظهر في سف ٍر‪ ،‬ثم ذىب إلى رحلو‪ ،‬فرأى ً‬
‫أناسا يصلوف بعد الصالة فقاؿ‪ :‬ما باؿ ىؤالء؟ قالوا‪:‬‬ ‫"أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى ً‬
‫مسبحا؛ ألتممت"‪.‬‬
‫ً‬ ‫نفال) قاؿ‪ :‬لو كنت‬
‫يسبحوف‪(.‬يعني‪ :‬يصلوف ً‬
‫أي‪ :‬لو كنت مصليًا من النوافل لكاف من األولى أف أتم الفريضة‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬كاف يسبح على إهر راحلتو"‪.‬‬
‫بغاال‪ ،‬أو سيارات‪ ،‬أو سف ٍن‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬
‫حميرا‪ ،‬أو ً‬
‫خيال‪ ،‬أو ً‬
‫‪ -‬والراحلة‪ :‬تطلق على كل ما يوض عليو رحل اإلنساف‪ ،‬ويرتحل بو سواءً كاف ً‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬حيث كاف وجهو يومئ برأسو"‪.‬‬
‫متجها إلى القبلة‪ ،‬أو إلى غير القبلة‪.‬‬
‫سواء كاف ً‬
‫أي ً‬
‫دليل على تخفيف األركاف‪ ،‬فإنو ال يأتي باألركاف على ىيئتها المعهودة‪ ،‬ولكنو يكتفي باإليماء‪.‬‬
‫‪ -‬يومئ برأسو‪ :‬وىذا ٌ‬

‫‪64‬‬
‫اليسير‪ ،‬وىو‬ ‫وسجودا كاملين؛ يكتفي بالخف‬
‫ً‬ ‫كوعا‬
‫جالسا‪ ،‬وبدؿ أف يرك أو يسجد ر ً‬
‫يعني‪ :‬من سبل التخفيف‪ ،‬بدؿ أف يكوف واق ًفا يكوف ً‬
‫اإليماء‪.‬‬
‫ضا‬
‫دليل أي ً‬
‫خاصا بالنبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬بل ىو مشروعٌ لألمة‪ ،‬وفيو ٌ‬
‫‪ -‬ثم قاؿ‪" :‬وكاف ابن عمر يفعلو" وىذا فيو دليل على أف األمر ليس ً‬
‫منسوخا ما فعلو ابن عمر (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫ً‬ ‫على بقاء الحكم وعدـ نسخو‪ ،‬فلو كاف‬
‫‪ -‬ثم قاؿ‪" :‬وفي رواية‪ :‬كاف يوتر على بعيره" أي‪ :‬يصلي الوتر على بعيره‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم‪" :‬غير أنو ال يصلي عليها المكتوبة"‪ .‬أي‪ :‬ال يصلي على الراحلة إال النافلة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬وللبخاري‪" :‬إال الفرائ "‪.‬‬
‫ىذا كلو من باب توكيد أف الصالة على الراحلة‪ :‬تكوف للنافلة دوف الفريضة‪.‬‬

‫ىناؾ فوائد تستنبط من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬جواز صالة النافلة على الراحلة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬التسهيل على األمة في النفل؛ لئال يعوقهم عائ ٌق عنو‪.‬‬
‫أي‪ :‬عن صالة النافلة يشرع لإلنساف أف يصلي نوافل مطلقة في الحضر وفي السفر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أنو ال تصلى النافلة على الراحلة إال في السفر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف قبلة المسافر في النافلة ىي جهة سيره‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬أف المتنفل على الراحلة ال يلزمو الركوع وال السجود؛ إنما يكتفي باإليماء‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬التفريق بين الفرض والنفل؛ ألنو كاف يصلي على الراحلة النافلة‪ ،‬أما الفريضة فال‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬أف الوتر ليس بواجب لقولو‪" :‬كاف يوتر على بعيره"‪.‬‬
‫وقولو‪" :‬غير أنو ال يصلي عليها المكتوبة"‪ ،‬فدؿ ذلك على أف الوتر ليس بواجب‪.‬‬

‫ثم ذكر حديثا آخر عن ابن عمر قاؿ‪" :‬بينما الناس ٍ‬


‫بقباء في صالة الصبح إذ جاءىم ٍ‬
‫آت فقاؿ‪ :‬إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد أنزؿ عليو‬ ‫ً‬
‫الليلة قرآ ٌف‪ ،‬وقد أمر أف يستقبل الكعبة‪ ،‬فاستقبلوىا‪ ،‬وكانت وجوىهم إلى الشاـ‪ ،‬فاستداروا إلى الكعبة"‪.‬‬
‫‪ -‬ىذا الحديث يبين أف أمر القبلة قد نسخ‪ :‬فبعد أف كانوا يصلوف إلى بيت المقدس جاء األمر بالصالة إلى بيت اهلل الحراـ‪ ،‬وىو الكعبة‪.‬‬
‫أسبوع ماشيًا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بقباء" وقباء مكا ٌف معروؼ‪ ،‬وفيو مسجد قباء‪ ،‬وكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يأتيو كل‬ ‫‪ -‬قاؿ‪" :‬بينما الناس ٍ‬
‫ٍ‬
‫وـ أَح ُّق أَف تَقوـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فيو‬ ‫َ‬ ‫س َعلَى التَّقوى من أ ََّو ِؿ يَ َ‬
‫‪ -‬وىذا المسجد ىو الذي أنزؿ اهلل عز وجل فيو قولو تعالى‪{ :‬ل ََمسج ٌد أُ ْس َ‬
‫‪ -‬ىذا المسجد قاؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فيو‪" :‬من صلى في قباء كاف لو أجر عمرة"‪.‬‬
‫آت)‪ :‬أي شخص من المسلمين‪.‬‬ ‫‪ -‬قاؿ‪( :‬إذ جاءىم ٍ‬
‫وحي من السماء‪.‬‬
‫‪ -‬فقاؿ‪" :‬إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد أنزؿ عليو الليلة قرآف"‪ .‬أي‪ٌ :‬‬
‫"وقد أمر أف يستقبل الكعبة‪ ،‬فاستقبلوىا‪ ،‬وكانوا يصلوف إلى بيت المقدس‪ ،‬فاستقبلوىا"‪.‬‬
‫أي‪ :‬بعد أف كانت وجوىهم إلى الشاـ استدبروا الشاـ‪ ،‬واتجهوا إلى الكعبة‪.‬‬
‫رجل واحد‪ ،‬فقبل الناس الخبر وعملوا بو‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫إثبات أف أحكاـ الشرع تثبت بخبر الواحد؛ ألنو قاؿ إذ جاءىم آت‪ ،‬واآلتي ىو ٌ‬
‫وىذا فيو ٌ‬
‫أنسا حين قدـ من الشاـ‪ ،‬فلقيناه بعين التمر‪ ،‬فرأيتو يصلي على حما ٍر ووجهو من ذا الجانب‬
‫ثم ذكر حديث أنس بن سيرين قاؿ‪" :‬استقبلنا ً‬
‫(يعني‪ :‬عن يسار القبلة)‪ ،‬فقلت‪ :‬رأيتك تصلي لغير القبلة‪ ،‬فقاؿ‪ :‬لوال أني رأيت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يفعلو ما فعلتو"‪.‬‬
‫‪ -‬أنس بن سيرين‪ :‬ىو من التابعين وىو أخو اإلماـ المشهور محمد بن سيرين‪.‬‬
‫أنسا" أي‪ :‬أنس بن مالك الصحابي المعروؼ‪ ،‬خادـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬استقبلنا ً‬
‫‪" -‬حين قدـ من الشاـ فلقيناه بعين التمر"‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫وعين التمر‪ :‬قريةٌ في العراؽ قريبةٌ من البصرة‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬فرأيتو يصلي على حما ٍر ووجهو من ذا الجانب"‪ .‬يعني‪ :‬على يسار القبلة‪.‬‬
‫ألف القبلة في ىذه الحالة (وىو متجوٌ إلى الجنوب) تكوف عن يمينو‪ ،‬وىنا كاف وجهو على يسار القبلة‪ ،‬أي ليس في اتجاىها‪.‬‬
‫‪" -‬فقلت رأيتك تصلي إلى غير القبلة"‪ .‬وىنا أنس بن سيرين ال ينكر على أنس بن مالك ىذا الفعل؛ إنما يسترشد منو ويستفهم منو؛ ذلك ألف‬
‫أنس بن مالك صحابي‪ ،‬وابن سيرين تابعي‪.‬‬
‫‪ -‬فكاف رد أنس بن مالك قاؿ‪" :‬لوال أني رأيت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يفعلو ما فعلتو"‪.‬‬
‫والمقصود ىنا‪ :‬أنو يبين أف المسافر يصلي إلى جهة سيره‪.‬‬
‫أي‪ :‬قبلتو تكوف في جهة سيره ىذا إف كاف راكبًا‪.‬‬

‫ىناؾ فوائد مستنبطة من ىذا الحديث أيضًا‪:‬‬


‫عدال‪ ،‬والصحابة كلهم عدوؿ‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة األولى‪ :‬قبوؿ خبر الواحد بشرط أف يكوف ً‬
‫‪ ‬الفائدة الثانية‪ :‬وجوب األمر بالمعروؼ والنهي عن المنكر؛ ذلك ألف االستمرار في الصالة جهة بيت المقدس بعد نسخ الحكم يكوف‬
‫منكرا‪ ،‬فأنكر الصحابي ذلك ووجهو إلى المعروؼ‪.‬‬
‫ً‬
‫وىذا الحديث وحده ال يدؿ على وجوب اإلنكار؛ بل ىناؾ أحاديث أخرى تعضد ذلك‪.‬‬
‫منكرا‪.)....‬‬
‫كقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪( :‬من رأى منكم ً‬
‫إثبات لصفة العلو هلل عز وجل‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الثالثة‪ :‬نزوؿ القرآف فيو ٌ‬
‫‪ ‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف من استقبل القبلة خطأً بعد االجتهاد ال إعادة عليو‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الخامسة‪ :‬أف الحركة لمصلحة الصالة ال تؤثر في صحتها‪.‬‬
‫أنسا"‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة السادسة‪ :‬من عادة السلف استقباؿ آؿ الشرؼ والعلم؛ لقولو "استقبلنا ً‬
‫نجسا‪ ،‬ما صحت الصالة عليو‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة السابعة‪ :‬جواز الصالة على الحمار‪ ،‬وىذا يدؿ أف الحمار حيوا ٌف طاىر؛ ألنو لو كاف ً‬
‫واضح في سؤاؿ أنس بن سيرين ألنس بن مالك (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪ ‬الفائدة الثامنة‪ :‬حرص السلف على العلم‪ ،‬وذلك‬
‫‪ ‬الفائدة التاسعة‪ :‬فعل الرسوؿ حجة ولذلك أخذ بو أنس قاؿ‪" :‬لوال أني رأيت رسوؿ اهلل يفعلو ما فعلتو"‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة العاشرة‪ :‬حرص الصحابة على اتباع السنة‪.‬‬
‫‪ ‬الفائدة الحادية عشر‪ :‬األصل في العبادة التوقيف؛ ألف أنس (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬لوال أني رأيت رسوؿ اهلل يفعلو ما فعلتو"‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف عليو رحمة اهلل إلى ٍ‬


‫باب آخر أال وىو‪ :‬باب الصفوؼ‪:‬‬
‫والصفوؼ من خصائص ىذه األمة‪ ،‬وقد تعبد اهلل عز وجل األمة بالصفوؼ في موضعين‪:‬‬
‫‪ -‬الموض األوؿ‪ :‬ىو الصالة وأعني بها صالة الجماعة‪.‬‬
‫‪ -‬والثاني‪ :‬عندما يصفوف في الجهاد‪.‬‬
‫وقد علل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ذلك األمر؛ بأنهم بهذا يتشبهوف بالمالئكة‪.‬‬
‫كما قاؿ صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أال تصفوف كما تصف المالئكة عند ربها؟‬
‫قالوا‪ :‬يا رسوؿ اهلل كيف تصف المالئكة عند ربها؟قاؿ‪ :‬يتراصوف ويكملوف األوؿ فاألوؿ"‪.‬‬
‫ثم بدأ المصنف ىذا الباب بحديث أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬سووا صفوفكم؛ فإف تسوية‬
‫الصفوؼ من تماـ الصالة"‪.‬‬
‫وكلمة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) (سووا صفوفكم) تسوية الصفوؼ ىنا تحتمل ثالثة ٍ‬
‫معاف‪:‬‬
‫مستقيما ال اعوجاج فيو‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬األوؿ‪ :‬تسويتو بمعنى عدـ الميالف فيو‪ ،‬وذلك بأف يكوف الصف‬

‫‪66‬‬
‫فرج فيو‪ ،‬فتكوف التسوية ىنا بمعنى إكماؿ الشيء‪.‬‬
‫‪ -‬والثاني‪ :‬تسويتو بعدـ وجود ٍ‬
‫‪ -‬والمعنى الثالث‪ :‬أف التسوية بمعنى إكماؿ الصف األوؿ فاألوؿ‪ ،‬وىذا قد جاء في حديث جابر "صفوا كما تصف المالئكة عند ربها"‪.‬‬
‫فهذا كلو يحتملو قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬سووا صفوفكم"‪ ،‬أي عدـ الميالف في الصف‪ ،‬وسد الفرج فيو‪ ،‬وإكماؿ الصفوؼ األوؿ‬
‫فاألوؿ‪.‬‬
‫تعليل لألمر‪ ،‬قاؿ بتسوية الصفوؼ‪ ،‬وعلل ىذا األمر بأف تسوية‬
‫وقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬فإف تسوية الصفوؼ من تماـ الصالة) ىذا ٌ‬
‫الصفوؼ من تماـ الصالة‪.‬‬
‫فإف النبي صلى اهلل عليو وسلم أمر بتسوية الصفوؼ والعلة من ذلك‪ :‬أف تسوية الصف من تماـ الصالة‪.‬‬
‫وتماـ الصالة‪ :‬ىو إكمالها‪.‬‬
‫فإف لم يكن ىناؾ تسويةٌ للصفوؼ؛ فإف الصالة صحيحة‪ ،‬ولكن من تمامها (أي‪ :‬إكمالها) تسوية الصفوؼ على المعاني التي ذكرتها آن ًفا‪.‬‬
‫وتسوية الصفوؼ سنةٌ وليس بواجب‪ ،‬وىذا قوؿ جماىير أىل العلم‪ ،‬وىو مشهور مذىب اإلماـ أحمد‪.‬‬
‫إال أف ىناؾ روايةٌ ثانية في مذىب اإلماـ أحمد بإف تسوية الصفوؼ واجبة؛ وليست بسنة‪.‬‬
‫واستدلوا على ذلك بحديث أنس رضي اهلل عنو‪ ،‬الذي جاء عند اإلماـ البخاري‪ ،‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إف تسوية الصف من‬
‫إقامة الصالة"‬
‫قالوا‪ :‬وإقامة الصالة واجبة؛ فدؿ ذلك على أف تسوية الصفوؼ واجبة‪.‬‬
‫"لتسوف صفوفكم‪ ،‬أو ليُخالفن اهلل بين‬
‫ُّ‬ ‫ثم ذكر حديث النعماف بن بشير (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬سمعت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يقوؿ‪:‬‬
‫وجوىكم"‪.‬‬
‫يوما فقاـ حتى كاد‬ ‫ٍ‬
‫ولمسلم‪" :‬كاف رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح‪ ،‬حتى رأى أف قد عقلنا عنو‪ ،‬ثم خرج ً‬
‫لتسوف صفوفكم‪ ،‬أو ليخالفن اهلل بين وجوىكم"‪.‬‬
‫رجال باديًا صدره من الصف فقاؿ‪ :‬عباد اهلل ُّ‬
‫أف يكبر‪ ،‬فرأى ً‬
‫"لتسوف بين صفوفكم"‪.‬‬‫ُّ‬ ‫‪ -‬ىنا في ىذا الحديث حديث النعماف بن بشير قاؿ‪ :‬سمعت النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يقوؿ‪:‬‬
‫صحابي كذلك‪.‬‬ ‫صحابي‪ ،‬وىو‬ ‫النعماف بن بشير الخزرجي ىو أوؿ ٍ‬
‫مولود لألنصار بعد الهجرة‪ ،‬أبوه‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫"لتسوف"‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫"لتسوف صفوفكم) فيو تأكيد الوعيد لمن خالف في تسوية الصفوؼ؛ حيث إف الجملة مؤكدة (بالالـ‪ ،‬ونوف التوكيد)‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬وقولو‪:‬‬
‫قسم محذوؼ بمعنى‪ :‬واهلل لتسوف صفوفكم‪ ،‬أو ليخالفن اهلل بين وجوىكم‪ ،‬أي‪ :‬إف لم تفعلوا ليخالفن اهلل بين‬
‫‪ -‬وقاؿ بعضهم إف ىنا ٌ‬
‫وجوىكم‪.‬‬
‫خطر عظيم أف يلقى الخالؼ والفرقة بين‬
‫‪ -‬والمقصود بمخالفة الوجوه ىنا اختالؼ القلوب؛ لما يكوف بينها من النفرة والتباعد والفرقة‪ ،‬وىذا ٌ‬
‫األمة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم "كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح"‪.‬‬ ‫‪ -‬قاؿ‪:‬‬
‫مستقيما‪ ،‬وعصا‬
‫ً‬ ‫‪ -‬والقداح‪ :‬جم قدح وىو السهم‪ ،‬وذكر القداح؛ ألف صان السهاـ إذا أراد أف يصن السهم‪ ،‬فإنو يبريو بالسكين حتى يكوف‬
‫مستقيما‪ ،‬فإنو ال يُرمى بو‪ ،‬وإذا ُرمي بو‪ ،‬فإنو ال يصيب الهدؼ‪.‬‬
‫ً‬ ‫السهم تكوف مائلة‪ ،‬فيسويها حتى تكوف مستقيمة‪ ،‬فإف السهم إف لم يكن‬
‫‪ -‬فقولو‪" :‬يسوي الصفوؼ حتى كأنما يسوي بها القداح"‪ ،‬ىذه مبالغةٌ في االستقامة في الصف‪ ،‬وعدـ الميالف كالذي يصن السهاـ‪ ،‬فإنو يكوف‬
‫حريصا على استقامتها‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ثم قاؿ‪" :‬حتى إذا رأى أف قد عقلنا عنو) أي‪ :‬رأى أنهم قد فهموا ذلك عن النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فهموا ىذا األمر فأصبحوا يعلمونو‪،‬‬
‫ويعملوف ىذه التسوية وحدىم دوف أمر منو (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫يوما فقاـ حتى إذا كاد أف يكبر"‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬ثم خرج ً‬
‫خارجا عن الصف ليس مستويًا فيو‪.‬‬
‫رجال بادي الصدر أي‪ً :‬‬
‫أي‪ :‬خرج فقاـ في المكاف الذي سيصلي فيو‪ ،‬فقبل أف يكبر التفت‪ ،‬فرأى ً‬
‫لتسوف صفوفكم‪ ،‬أو ليخالفن اهلل بين وجوىكم"‪.‬‬
‫فقاؿ‪" :‬عباد اهلل ُّ‬

‫‪67‬‬
‫ىذا وعيد‪ ،‬قد يكوف من باب الوعيد الحسي؛ فتتغير الوجوه فتنقلب إلى وجوهٍ غير الوجوه على الحقيقة‪.‬‬
‫عظيم على األمة‪.‬‬
‫خطر ٌ‬‫أو يكوف المقصود بو العذاب المعنوي‪ ،‬وىو تغير اآلراء‪ ،‬وتنافر القلوب‪ ،‬وىذا كما ذكرت أنو ٌ‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية الصفوؼ في صالة الجماعة‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أنو إذا كاف األمر بتسوية الصفوؼ من تمامها‪ ،‬أي‪( :‬كمالها) فهذه مسئولية اإلماـ‪ ،‬والمأمومين أي ً‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف العلة من تماـ تسوية الصف ىي موافقة المالئكة في صفوفهم‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬تسوية النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بقولو‪ ،‬وبيده‪ ،‬وبعصاه‪.‬‬
‫أصحابو للتسوية بين الصفوؼ التي ال يراىا‪.‬‬ ‫يسوي الصفوؼ بقولو‪ :‬استووا‪ ،‬وبعصاه‪ ،‬وكاف يرسل بع‬
‫كاف ْ‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز كالـ اإلماـ بين اإلقامة وقبل الصالة‪ ،‬ال سيما إذا كاف ذلك في مصلحة الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬أف اإلماـ ال يكبر للصالة حتى يرى أف الصفوؼ قد استوت‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف حديث أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) "أف جدتو ُمليكة دعت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ٍ‬
‫لطعاـ صنعتو لو فأكل منو‪ ،‬ثم‬
‫قاؿ‪ :‬قوموا فألص ْل لكم‪.‬قاؿ أنس‪ :‬فقمت إلى حصي ٍر لنا قد اسود من طوؿ ما لُبِس‪ ،‬فنضحتو ٍ‬
‫بماء‪ ،‬فقاـ عليو رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وصففت أنا واليتيم وراءه‪ ،‬والعجوز من ورائنا‪ ،‬فصلى لنا ركعتين‪ ،‬ثم انصرؼ"‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم "أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) صلى بو وبأمو‪ ،‬قاؿ‪ :‬فأقامني عن يمينو‪ ،‬وأقاـ المرأة خلفنا"‪.‬‬
‫ضميرة جد الحسين بن عبد اهلل بن ضميرة‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪ :‬اليتيم ىو ُ‬
‫‪ -‬وىنا في ىذا الحديث يروي أنس أف جدتو مليكة دعت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ٍ‬
‫لطعاـ صنعتو‪.‬‬
‫‪ -‬مليكة ىذه قيل‪ :‬إنها جدة الراوي عن أنس وىو إسحاؽ بن عبد اهلل بن أبي طلحة‪ ،‬وقيل‪ :‬ىي جدة ٍ‬
‫أنس ألمو‪ ،‬وأنس (رضي اهلل عنو) أمو أـ‬
‫سليم (رضي اهلل عنها)‪.‬‬
‫‪ -‬وىذا الحديث في بياف كيفية الصفوؼ‪ ،‬وكاف من عادة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو إذا ُدعي أجاب‪ ،‬وىذا من تواضعو صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪ ،‬فلما ُدعي إلى الطعاـ فأكل‪ ،‬فقاؿ‪" :‬قوموا ألصلي لكم"‪ ،‬أي‪ :‬أصلي من أجلكم‪.‬‬
‫‪ -‬فقاؿ أنس (رضي اهلل عنو)‪" :‬فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طوؿ ما لُبِس؛ فنضحتو"‪.‬‬
‫س أي‪ :‬اسود من كثرة استخدامو‪ ،‬وىذا يدؿ على أف الصحابة كانوا في فق ٍر شديد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫من طوؿ ما لُب َ‬
‫‪ -‬والحصير‪ :‬ىذا شيءٌ يفرش على األرض يصن من عسيف النخل‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬فنضحتو بالماء" أي رششتو بالماء‪ ،‬ىذا يحتمل أنو من أجل تليينو‪ ،‬وإزالة ما بو من شعيرات (الشيء الخشن الذي يكوف على‬
‫الحصير)‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬فقاـ عليو رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وصففت أنا واليتيم وراءه‪ ،‬والعجوز من خلفنا" ‪ -‬أي‪ :‬وراءىم‪ ،‬فصاروا اآلف خلف النبي‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) صفين‪:‬‬
‫األوؿ‪ :‬أنس واليتيم‪ ،‬والثاني‪ :‬العجوز‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬فصلى لنا ركعتين" أي‪ :‬من أجلنا ركعتين‪ ،‬ثم انصرؼ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم "أنو صلى بو وبأمو‪ ،‬فأقامو عن يمينو‪ ،‬وأقاـ المرأة خلفنا"‪.‬‬ ‫‪ -‬قاؿ‪:‬‬

‫ثم ذكر عن عبد اهلل بن عباس (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬بت عند خالتي ميمونة‪ ،‬فقاـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي من الليل‪ ،‬فقمت عن‬
‫يساره‪ ،‬فأخذ برأسي‪ ،‬فأقامني عن يمينو"‪.‬‬
‫‪ -‬ميمونة (رضي اهلل عنها) ىي زوج النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وكانت خالةٌ البن عباس رضي اهلل عنهما‪ ،‬وكاف ابن عباس (رضي اهلل عنو) دوف‬
‫الحلم‪ ،‬ومن كاف دوف الحلم جاز أف يدخل في مواض العورات الثالث‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬فقاـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) من الليل‪ ،‬فقمت عن يساره‪ ،‬فأخذ برأسي‪ ،‬فأقامني عن يمينو"‪.‬‬
‫مأموـ واحد فمكاف المأموـ عن يمين اإلماـ‪.‬‬
‫فبين ىنا أف اإلماـ إذا كاف معو ٌ‬
‫واختلف العلماء في ىذا األمر ىل ىذا ىو األفضل؟ أـ ىذا ىو الواجب؟‬
‫فالجمهور على أف ىذا ىو األفضل‪ ،‬واإلماـ أحمد عليو رحمة اهلل يقوؿ‪ :‬إف ىذا ىو الواجب‪.‬‬
‫والفرؽ بينهما‪( :‬أي‪ :‬ثمرة ىذا الخالؼ)‬
‫أنو إذا كاف ىذا ىو األفضل‪ ،‬فإف الصالة تصح م وقوؼ المأموـ على يسار اإلماـ‪.‬‬
‫أما إذا كاف ىذا ىو الواجب؛ فإف الصالة ال تصح بوقوؼ المأموـ على يسار اإلماـ‪ ،‬بل يجب أف يكوف عن يمين اإلماـ‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذين الحديثين‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬تعظيم الصحابة لرسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬تواض النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ويظهر ىذا في إجابتو الدعوة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز مصافة الصبي‪ ،‬وأف الصبي ال يقط الصف‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف المرأة تكوف ص ًفا خلف اإلماـ حتى ولو كاف من محارمها‪ ،‬أي‪ :‬ال تقف بجواره؛ إنما تكوف ص ًفا خلفو‪.‬‬
‫نفال‪ ،‬وجمعهم فيو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز الجماعة في صالة النافلة؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى بهم ً‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬جواز بيات اإلنساف عند الرجل وأىلو إذا كاف من محارـ المرأة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬مشروعية قياـ الليل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬أف قياـ المأموـ عن يسار اإلماـ ال يبطل الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬جواز الحركة لفعل ما ىو أفضل في الصالة‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف عليو رحمة اهلل إلى ٍ‬


‫باب آخر أال وىو‪( :‬باب اإلمامة)‬
‫ضا‪.‬‬
‫إماـ نأتم بو في الصلوات المفروضة‪ ،‬وفي النوافل أي ً‬
‫والمراد باإلمامة‪ ،‬أي‪ :‬أحكاـ اإلمامة‪ ،‬فإنو يشرع لنا أف يكوف لنا ٌ‬
‫أحكاـ متعددة‪ ،‬ذكر المصنف بعضها في األحاديث التي ذكرىا في ىذا الباب‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬ولإلمامة‬
‫فبدأ بأحاديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬أما يخشى الذي يرف رأسو قبل اإلماـ أف يحوؿ اهلل رأسو رأس‬
‫حما ٍر‪ ،‬أو يجعل اهلل صورتو صورة حمار"‪.‬‬
‫ىنا يبين المصنف في ىذا الحديث الذي ذكره مسألة مهمة‪ ،‬أال وىي‪ :‬مسألة مسابقة اإلماـ‪.‬‬
‫‪ -‬ومسابقة اإلماـ في الصالة محرمة باإلجماع‪.‬‬
‫أىل العلم قد أبطل صالة من سبق االماـ متعم ًدا ذلك‪ ،‬وىذا مشهور مذىب اإلماـ أحمد‪.‬‬ ‫‪ -‬وبع‬
‫‪ -‬وجمهور أىل العلم يقولوف بأنها ال تبطل سواءً سبق عم ًدا أو نسيانًا‪.‬‬
‫وعللوا ذلك بأف‪ :‬الذي فعلو ىذا خطأ‪ ،‬وأف من الممكن تصحيح الخطأ‪.‬‬
‫‪ -‬ىذا خالفًا للحنابلة ال ذين يقولوف إف التصحيح أو الرجوع يكوف في حالة النسياف‪ ،‬أما في حالة التعمد‪ ،‬فال يكوف ذلك‪.‬‬
‫فهنا قاؿ‪ :‬قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أما يخشى الذي يرف رأسو قبل اإلماـ"‪.‬‬
‫يرف رأسو ىنا‪ :‬إما أف يكوف ىذا في الركوع‪ ،‬وإما أف يكوف في السجود‪.‬‬
‫"أف يحوؿ اهلل رأسو رأس حما ٍر‪ ،‬أو يجعل صورتو صورة حمار"‪.‬‬
‫قد يكوف ىذا الوعيد على الحقيقة‪ ،‬فيكوف الوعيد ىنا بمسخ الصورة‪ ،‬أي‪ :‬على صورة حمار‪.‬‬
‫قبل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫دليل أف ىذا حدث م أحد من الناس ُ‬ ‫لكن لم يأت ٌ‬

‫‪69‬‬
‫معنوي‪ ،‬بحيث يكوف بلي ًدا مثل الحمار؛ فالحمار حيوا ٌف بليد فشبو بالحمار؛ خشية أف يصاب بالبالدة مثل‬
‫ٌ‬ ‫فبعضهم قاؿ إف ىذا الوعيد وعي ٌد‬
‫الحمار‪.‬‬
‫فهذا الذي يرف رأسو قبل اإلماـ أيظن أف ينتهي من الصالة قبل إمامو؟ فلماذا يسابق اإلماـ إذف فأي بالدةٍ ىذه؟ وأي ٍ‬
‫غباء ىذا؟‬
‫ثم ذكر حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إنما جعل اإلماـ ليؤتم بو‪ ،‬فال تختلفوا عليو فإذا كبر فكبروا‪،‬‬
‫جلوسا أجمعوف"‪.‬‬
‫ً‬ ‫جالسا فصلوا‬
‫وإذا رك فاركعوا‪ ،‬وإذا قاؿ سم اهلل لمن حمده‪ ،‬فقولوا اللهم ربنا لك الحمد‪ ،‬وإذا سجد فاسجدوا‪ ،‬وإذا صلى ً‬
‫ىنا في ىذا الحديث أمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بمتابعة اإلماـ‪.‬‬
‫قياما‪ ،‬فأشار‬ ‫ٍ‬
‫قوـ ً‬‫جالسا‪ ،‬وصلى وراءه ٌ‬
‫ضا حديث عائشة رضي عنها قالت‪" :‬صلى رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) وىو شاؾ‪ ،‬فصلى ً‬
‫وذكر أي ً‬
‫إليهم أف اجلسوا‪ ،‬فلما انصرؼ قاؿ‪ :‬إنما جعل اإلماـ ليؤتم بو‪ ،‬فإذا رك فاركعوا‪ ،‬وإذا رف فارفعوا‪ ،‬وإذا قاؿ سم اهلل لمن حمده‪ ،‬فقولوا ربنا‬
‫جلوسا أجمعوف"‪.‬‬
‫ً‬ ‫جالسا فصلوا‬
‫لك الحمد‪ ،‬وإذا صلى ً‬
‫ضا يبين فيو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) مسألة متابعة اإلماـ كالحديث الذي قبلو‪.‬‬
‫‪ -‬ىذا الحديث أي ً‬
‫‪ -‬قالت عائشة (رضي اهلل عنها)‪" :‬صلى رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) في بيتو وىو شاؾ"‪.‬‬
‫أصل في كثي ٍر من أحكاـ اإلمامة‪.‬‬
‫ىذاف الحديثاف ٌ‬
‫‪ -‬وقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إنما جعل اإلماـ ليؤتم بو"‪.‬‬
‫ىذا الجعل إنما ىو جعل شرعي‪ ،‬فالوإيفة األساسية لإلماـ‪ :‬أف يؤتم بو في أفعاؿ الصالة التي يفعلها‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬فال تختلفوا عليو"‪ ،‬ىذا في الحديث األوؿ قاؿ‪ :‬فال تختلفوا عليو"‬
‫أي‪ :‬ال تسابقوه في الركوع‪ ،‬وال في السجود‪ ،‬وال في القياـ‪ ،‬وال في الجلوس‪.‬‬
‫‪" -‬فإذا كبر فكبروا"‪ ،‬والفاء ىنا‪ :‬فاء التعقيب‪.‬‬
‫أي‪ :‬إذا انتهى من التكبير فكبروا‪ ،‬وىنا يحتمل أمرين‪:‬‬
‫إما أف يكوف ىذا في تكبيرة اإلحراـ‪.‬‬
‫وإما أف يكوف في تكبيرات االنتقاؿ‪ ،‬وكالىما صحيح‪.‬‬
‫ضا يدؿ على المتابعة أي‪ :‬إذا فعل فافعلوا‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬وإذا رك فاركعوا) ىذا أي ً‬
‫‪" -‬وإذا قاؿ سم اهلل لمن حمده‪ ،‬فقولوا ربنا ولك الحمد‪ ،‬وإذا سجد فاسجدوا"‪.‬‬
‫خاص باإلماـ والمنفرد؛ أما المأموـ‪ ،‬فإنو يشرع لو أف يقوؿ‪ :‬ربنا ولك الحمد‪.‬‬
‫إاىر ىذا الكالـ يدؿ على أف التسمي إنما ىو ٌ‬
‫خالؼ أف الكل سواء فيها أي اإلماـ والمأموـ والمنفرد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وفي المسألة‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬وإذا سجد فاسجدوا) أي‪ :‬تابعوه وال تسجدوا قبلو‪ ،‬أو تساووه‪.‬‬
‫سجودا‬
‫ً‬ ‫وقد جاء في حديث البراء بن عازب "أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إذا سجد لم يح ِن أح ٌد منا إهره حتى يق النبي ساج ًدا؛ ثم نق‬
‫بعده"‪.‬‬
‫جلوسا أجمعوف"‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪" -‬وإذا صلى جلو ًسا‪ ،‬فصلوا‬
‫ضا على متابعة اإلماـ‪.‬‬
‫وىذا من أجل االقتداء بو‪ ،‬وعدـ االختالؼ عليو‪ ،‬فهذا يدؿ أي ً‬
‫‪ -‬في حديث عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬صلى بنا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في بيتو"‪.‬‬
‫ىل صلى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في بيتو لعذ ٍر أـ صلى في بيتو من غير عذر؟‬
‫نعم صلى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في بيتو لعذ ٍر بينتو عائشة (رضي اهلل عنها) في الحديث قالت‪" :‬وىو ٍ‬
‫شاؾ) أي مري ‪.‬‬
‫‪ -‬وكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد خرج على فرسو إلى منطقة يقاؿ لها الغابة قريبة من المدينة‪ ،‬فسقط عن فرسو‪ ،‬فجحشت ساقو أي‬
‫جرحت‪ ،‬فأصيب النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فبسبب ىذه الشكوى صلى في بيتو‪ ،‬وتخلف عن الجماعة‪.‬‬
‫قياما‪ ،‬فأشار إليهم أف اجلسوا فلما انصرؼ قاؿ ىذه الجملة‪.‬‬
‫قوـ ً‬‫جالسا؛ ألف اإلصابة منعتو وصلى وراءه ٌ‬
‫ضا ً‬ ‫‪ -‬وصلى أي ً‬

‫‪70‬‬
‫قاؿ‪" :‬إنما جعل اإلماـ ليؤتم بو"‪.‬‬
‫جلوسا أجمعوف"‪.‬‬
‫ً‬ ‫جلوسا‪ ،‬فصلوا‬
‫ً‬ ‫‪ -‬وقاؿ‪" :‬وإذا صلى‬
‫قياما‪.‬‬
‫جلوسا‪ ،‬وال يصلوف ً‬
‫ً‬ ‫جالسا؛ فإف المأمومين خلفو يصلوف‬
‫أي‪ :‬أف اإلماـ إذا ابتدأ الصالة ً‬
‫جالسا فى آخر حياتو‪ ،‬وىم‬
‫ضا؛ ألنو ثبت أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى بالناس ً‬
‫خالؼ بين أىل العلم أي ً‬
‫ٌ‬ ‫لكن ىذه المسألة وق فيها‬
‫قياـ‪.‬‬
‫أىل العلم بالنسخ‪ ،‬والنسخ يعني‪ :‬رف الحكم األوؿ‪.‬‬ ‫فقاؿ بع‬
‫تعطيل ألحد الحديثين‪ ،‬وىذا ليس باألمر الهين‬
‫ٌ‬ ‫وبعضهم قاؿ‪ :‬ال نذىب إلى النسخ إال بعد عدـ إمكانية الجم بين الحديثين؛ ذلك ألف النسخ‬
‫أف يعطل حديث من أحاديث النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫قائما‪ ،‬ثم عرض‬
‫جلوسا‪ ،‬وإذا ابتدأىا ً‬
‫ً‬ ‫جالسا‪ ،‬صلى المأموموف خلفو‬
‫إلى الجم بين الحديثين‪ ،‬فقالوا‪ :‬إف اإلماـ إذا ابتدأ الصالة ً‬ ‫فذىب البع‬
‫قائما‪.‬‬
‫قياما كما ابتدأ بهم أبو بكر (رضي اهلل عنو) الصالة ً‬
‫عارض منعو من القياـ‪( ،‬مرض أو تعب)‪ ،‬فإنهم يصلوف ً‬
‫ٌ‬ ‫لو‬
‫قائما بالمسلمين‪ ،‬ثم أتى النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فتأخر أبو بك ٍر‪ ،‬فصلى النبي‬
‫‪ -‬المعنى‪ :‬أف سيدنا أبا بكر (رضي اهلل عنو) ابتدأ الصالة ً‬
‫جالسا‪ ،‬فكاف أبو بك ٍر يأتم بالنبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬والصحابة يأتموف بأبي بكر (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫ً‬

‫ىناؾ فوائد أيضًا تستنبط من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬وجوب متابعة المأموـ لإلماـ‪ ،‬وتحريم المسابقة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬النهي عن االختالؼ على اإلماـ؛ لقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬فال تختلفوا عليو"‪.‬‬
‫جلوسا؛ اقتداءً بو‪ ،‬ولو كانوا قادرين على القياـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫جالسا‪ ،‬صلى المأموموف‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف اإلماـ إذا صلى ً‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف الحكمة في جعل اإلماـ ىي االقتداء والمتابعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز اإلشارة في الصالة؛ لمصلحتها كما فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف أشار إليهم أف اجلسوا‪.‬‬

‫حديث عبد اهلل بن يزيد الخطمي األنصاري (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬حدثني البراء وىو غير كذوب قاؿ‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) إذا‬
‫سجودا بعده"‪.‬‬
‫ً‬ ‫قاؿ سم اهلل لمن حمده‪ ،‬لم يح ِن أح ٌد منا إهره حتى يق رسوؿ اهلل ساج ًدا‪ ،‬ثم نق‬
‫يعني ىذا ذكره عبد اهلل بن يزيد الخطمي األنصاري قاؿ‪" :‬حدثني البراء بن عازب‪ ،‬وىو غير كذوب"‪ :‬وىذه تزكية من عبد اهلل بن يزيد األنصاري‬
‫للبراء بن عازب‪.‬‬
‫وعازما عليو؛ ذلك ألف الصحابة كلهم عدوؿ ليس فيهم كذوب‪.‬‬
‫والمعنى أف البراء بن عازب (رضي اهلل عنو) أنو قاؿ ذلك متأك ًدا منو ً‬
‫ثم ذكر الحديث‪ ،‬وقد مر معنا المعنى في األحاديث السابقة أف المقصود متابعة اإلماـ‪.‬‬

‫عن أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إذا أمن اإلماـ فأمنوا‪ ،‬فإنو من وافق تأمينو تأمين المالئكة غفر لو ما‬
‫تقدـ من ذنبو"‪.‬‬

‫ضا حديثًا آخر عن أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إذا صلى أحدكم للناس فليخفف‪ ،‬فإف فيهم‬
‫وذكر أي ً‬
‫الضعيف والسقيم وذا الحاجة‪ ،‬وإذا صلى أحدكم لنفسو‪ ،‬فليطوؿ ما شاء"‪.‬‬
‫ننتقل إلى حديث أبي ىريرة‪" :‬إذا أمن اإلماـ فأمنوا"‪ ،‬فالحديث يدؿ على أف المالئكة تؤمن بعد تأمين اإلماـ‪ ،‬أو يوافقوف تأمين اإلماـ وىذا ال‬
‫خاص بالمالئكة التي تتاب اإلماـ في الصالة‪.‬‬
‫يشمل كل المالئكة؛ إنما ٌ‬
‫داع‪ ،‬والمؤمن‬
‫(وقوؿ آمين) بمعنى‪ :‬اللهم استجب‪ ،‬كأف المؤْمن قد شارؾ الداعي في الدعاء‪ ،‬ولما أمن على دعائو فكأف الذي يقرأ الفاتحة ٍ‬
‫مشارؾ لو في ىذا‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ين َال يَػ ْعلَ ُمو َف‬ ‫ُجيبت َّد ْعوتُ ُكما فَاست ِقيما وَال تَػتَّبِعا ْف سبِ َّ ِ‬
‫ِ‬
‫يل الذ َ‬
‫َ َ َْ َ َ َ َ َ‬ ‫اؿ قَ ْد أ َ‬
‫ومصداؽ ىذا قوؿ اهلل عز وجل لما خاطب موسى عليو السالـ‪{ :‬قَ َ‬

‫‪71‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫فالذي كاف يدعو ىو موسى عليو السالـ‪ ،‬وكاف ىاروف عليو السالـ يؤمن على دعائو‪ ،‬فاإلجابة كانت للداعي‪ ،‬وللمؤمن أي ً‬
‫آمين‪ ،‬وال يقل أمييييۚف ىكذا‪ ،‬ال؛ إنما يقوؿ‪ :‬آميۚف بمد العارض للسكوف‪.‬‬
‫‪ -‬والسنة في قوؿ‪( :‬آمين) أف يمدىا‪ ،‬ال يقل‪ :‬أمين‪ ،‬وال يقل‪ّ :‬‬
‫‪" -‬فإنو من وافق تأمينو تأمين المالئكة غفر لو ما تقدـ من ذنبو"‪ :‬فمن رحمة اهلل بهذه األمة موافقتها للمالئكة في صفوفها وركوعها وسجودىا‪،‬‬
‫وكذلك تأمينها‪.‬‬
‫وىذا من خصائص اهلل عز وجل لهذه األمة المباركة‪.‬‬

‫ثم انتقل إلى حديث أبي ىريرة رضي اهلل عنو‪ ،‬أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إذا صلى أحدكم للناس‪ ،‬فليخفف فإف فيهم الضعيف‬
‫والسقيم وذا الحاجة‪ ،‬وإذا صلى أحدكم لنفسو‪ ،‬فليطوؿ ما شاء"‪.‬‬

‫رجل إلى رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) فقاؿ‪ :‬إني ألتأخر عن صالة‬
‫وحديث أبي مسعود األنصاري البدري (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬جاء ٌ‬
‫موعظة قط أشد مما غضب ٍ‬
‫يومئذ؛ فقاؿ‪ :‬يا أيها‬ ‫ٍ‬ ‫الصبح من أجل فالف مما يطيل بنا‪ ،‬فقاؿ‪ :‬فما رأيت النبي (صلى اهلل عليو وسلم) غضب في‬
‫الناس‪ ،‬إف منكم منفرين‪ ،‬فأيكم َّأـ الناس فليوجز‪ ،‬فإف من ورائو الكبير والصغير وذا الحاجة"‪.‬‬
‫إماما للناس أف يخفف‪ ،‬أي‪ :‬ال يطيل عليهم الصالة‪.‬‬
‫ىنا أمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف الرجل إذا كاف ً‬
‫والمقياس في ذلك ىو حاؿ الناس‪ ،‬فمنهم من يناسبو التطويل‪ ،‬ومنهم من يناسبو التخفيف‪ ،‬ولكن الحد في ذلك ىو قوؿ النبي صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪" :‬واقتدي بأضعفهم"‪.‬‬
‫(فإف منهم الضعيف) أي‪ :‬ضعيف الجسم الذي ال يتحمل‪.‬‬
‫الذى ال يتحمل‪.‬‬ ‫(والسقيم) أي‪ :‬المري‬
‫(وذا الحاجة) وىو الذي لو حاجة يريد أف يذىب إليها ويقضيها‪.‬‬
‫(وإذا صلى أحدكم لنفسو) (أي‪ :‬وحده)‪" ،‬فليطوؿ ما شاء"‪.‬‬
‫ضا كما في التخفيف‪ ،‬وىو المشقة‪.‬‬
‫ضا ليس على إطالقو‪ ،‬فالضابط ىنا أي ً‬
‫وىذا أي ً‬

‫الصحابيات‪ ،‬وىي زينب (رضي اهلل عنها) لما كانت تقوـ الليل‪ ،‬وجعلت لها‬ ‫ودليل ذلك أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد أنكر على بع‬
‫حبال‪ ،‬فإف فترت أي تعبت تستند عليو‪ ،‬فأمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بقطعو‪ ،‬وقاؿ‪" :‬ال تكلفوا أنفسكم من األعماؿ ما ال تطيقوف"‪.‬‬
‫ً‬
‫ضا ال بأس‬
‫فالتخفيف المطلوب أو المأمور بو ىو‪ :‬الذي ال يخل باألركاف‪ ،‬ىذا ال بأس بو‪ ،‬والتطويل الذي ال يبلغ بو المشقة‪ ،‬أو فوت الطاقة أي ً‬
‫بو‪.‬‬
‫بدرا؛ إنما نزؿ ببد ٍر‪ ،‬وسكن فيها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ثم قاؿ عن أبي مسعود األنصاري البدري‪ :‬وىو عقبة بن عمرو الخزرجي المشهور بالبدري‪ ،‬ىو لم يشهد ً‬
‫فنسب إليها‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬يا رسوؿ اهلل إني ألتأخر عن صالة الصبح من أجل فالف"‪.‬‬
‫من أجل فالف‪ :‬أي اإلماـ‪ ،‬وقيل إف اإلماـ كاف ىو أبي بن كعب (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫‪ -‬فقاؿ‪ :‬إنو يتأخر بسبب تطويل اإلماـ‪ ،‬فغضب النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫مواعظو كأنو منذر جيأ‪.‬‬ ‫وكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) من صفتو أنو إذا غضب في بع‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬فما رأيتو أشد غضبا قط أشد مما غضب ٍ‬
‫يومئذ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬يا أيها الناس إف منكم منفرين"‪،‬‬ ‫ً‬
‫منفرين‪ ،‬أي‪ :‬بعضكم منفروف عن طاعة اهلل عز وجل‪.‬‬
‫‪" -‬فإذا أـَّ أحدكم الناس فليوجز) أي‪ :‬فليخفف‪.‬‬
‫وىذا بمعنى الحديث السابق أف األمر يكوف بالتخفيف على الناس‪ ،‬وقد ذكرت أف الحد في ذلك ىو حاؿ الناس‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫ىناؾ فوائد مستنبطة أيضًا من ىذه األحاديث في الباب‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية التأمين لإلماـ والمأموـ والمنفرد‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف المالئكة تؤمن على دعاء المصلين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬من فضيلة التأمين أنو سبب في مغفرة الذنوب‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬مشروعية الجهر بالتأمين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬وجوب التخفيف على اإلماـ إذا كاف يصلي للناس‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬مشروعية التطويل إذا صلى لنفسو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬أف األحكاـ تختلف بحسب أحواؿ الناس‪.‬‬
‫ممال‪.‬‬
‫تطويال ً‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬جواز التأخر عن صالة الجماعة؛ لتطويل اإلماـ ً‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬صراحة الصحابة قاؿ‪ :‬إني ألتأخر عن الصالة من أجل فالف‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬جواز الغضب عند الموعظة كغضب النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الحادية عشر‪ :‬حسن تعليم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ألصحابو‪.‬‬
‫نكتفي بهذا‪ ،‬ونأخذ أسئلة على ما سبق‪.‬‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬ما ىي القبلة؟ وما ىي الحكمة من استقبالها؟ وما معنى أف النبي صلى اهلل عليو وسلم كاف يسبح على الراحلة؟‬
‫"لتسو َّف صفوفكم‪ ،‬أو ليخالفن اهلل بين وجوىكم"؟‬
‫ُّ‬ ‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما معنى قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪:‬‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ما معنى قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أما يخشى الذي يرف رأسو قبل اإلماـ أف يحوؿ اهلل رأسو رأس حما ٍر أو أف‬
‫يجعل اهلل صورتو صورة حمار"؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬اذكر حكم مسابقة اإلماـ في الصالة؟‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬ما ىو المعيار الذي يقاس بو تخفيف الصالة‪ ،‬أو تطويلها؟‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬اذكر الفوائد المستنبطة في األبواب التي ذكرت في درس اليوـ؟‬

‫نكتفي بهذا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫محمد‪ ،‬وعلى آلو وصحبو أجمعين‪،‬‬ ‫ىذا وصلى اهلل وسلم وبارؾ على نبينا‬
‫ٍ‬
‫بإحساف إلى يوـ الدين‪.‬‬ ‫وعلى التابعين وتابعيهم‬

‫‪73‬‬
‫المحاض ػ ػرة التاسعػ ػػة‬
‫كنا قد توقفنا عند باب‪( :‬صفة صالة النبي صلى اهلل عليو وسلم)‬
‫َؿ عنو العبد يوـ القيامة‪ ،‬فإف صلحت صلح سائر عملو‪ ،‬وإف فسدت فسد سائر عملو‪.‬‬
‫والصالة‪ ،‬ىي‪ :‬عمود الدين‪ ،‬وىي أوؿ ما يُ ْسأ ُ‬
‫وىي ثاني أركاف اإلسالـ بعد الشهادتين‪ ،‬وىي آخر وصية رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وذلك في قولو صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬الصالة الصالة‪ ،‬وما ملكت أيمانكم‪".‬‬
‫وىي كذلك قرة عين النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ومفزعو عند الشدائد‪ ،‬وىي آخر ما يذىب من ىذا الدين‪ ،‬وىي عبادةٌ من أجل العبادات‪.‬‬
‫إخالص هلل عز وجل‪ ،‬األمر الثاني‪ :‬متابعةٌ للرسوؿ (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫والعبادة ال بد فيها من أمرين‪ :‬األمر األوؿ‪:‬‬
‫وقد ذكر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في أمر الصالة قاؿ‪" :‬صلوا كما رأيتموني أصلي‪".‬‬
‫فكيف ىي صالة النبي صلى اهلل عليو وسلم؟‬
‫األحاديث التي تبين صفة صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬ ‫أورد المصنف عليو رحمة اهلل بع‬
‫فبدأ بحديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ فيو‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) إذا كبر في الصالة سكت ىنيهة قبل أف يقرأ‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫يا رسوؿ اهلل بأبي أنت وأمي‪ ،‬أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة؛ ما تقوؿ؟ قاؿ‪" :‬أقوؿ‪ :‬اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين‬
‫من الدنس‪ ،‬اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد‪".‬‬ ‫المشرؽ والمغرب‪ ،‬اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب األبي‬
‫في ىذا الحديث‪ :‬ذكر أبو ىريرة (رضي اهلل عنو) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إذا كبر في الصالة سكت ىنيهة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وأفعاؿ مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم‪ ،‬أو نقوؿ‪ :‬تحريمها التكبير وتحليلها التسليم‪.‬‬ ‫(فالصالة(‪ٌ :‬‬
‫أقواؿ‬
‫إذا كبر‪ ،‬أي‪ :‬عقد الصالة بتكبيرة اإلحراـ‪.‬‬
‫يسيرا‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬إذا كبر‪ ،‬سكت ىنيهة قبل أف يقرأ‪ .‬أي‪ :‬سكت شيئًا ً‬
‫وقد ثبت أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف لو سكتتاف في الصالة‪:‬‬
‫‪ -‬األولى‪ :‬قبل قراءة الفاتحة‪ ،‬وىذا بعد تكبيرة اإلحراـ في الركعة األولى فقط‪.‬‬
‫‪ -‬والثانية‪ :‬أي‪ :‬السكتة الثانية في كل الركعات‪ ،‬وىذا يكوف قبل الركوع وبعد االنتهاء من القراءة‪.‬‬
‫قاؿ فقلت‪" :‬يا رسوؿ اهلل بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقوؿ؟"‬
‫وىذا إف دؿ يدؿ على شدة متابعة الصحابة رضي اهلل عنهم للنبي صلى اهلل عليو وسلم؛ فهم يتتبعوف حتى حركة فمو في الصالة‪.‬‬
‫فقاؿ‪ :‬أفديك بأبي وأمي يا رسوؿ اهلل‪ ،‬ىذه السكتة بين التكبير والقراءة ما تقوؿ فيها؟‬
‫قاؿ (أقوؿ فيها‪" :‬اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرؽ والمغرب)‬
‫مخطئ ومذنب‪ ،‬ومن أحب األشياء إلى اهلل عز وجل أف يقر العبد بذنبو‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫إقرار من العبد أنو‬
‫وىذا فيو ٌ‬
‫وقد جاء في حديث ذي النوف أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬دعوة أخي ذو النوف‪ :‬ال إلو إال أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‪".‬‬
‫قاؿ‪ :‬أقوؿ‪" :‬اللهم باعد بيني وبين خطاياي‪".‬‬
‫خطاياي‪ :‬التي اقترفتها‪ ،‬اجعل بيني وبينها أم ًدا بعي ًدا‪.‬‬
‫أو باعد بيني وبين الذنوب التي ستأتي‪ ،‬والمعنى‪ :‬سد عني باب الذنب يا ربي‪.‬‬
‫فإف اهلل عز وجل إذا أحب عب ًدا صرفو عن أبواب السوء واإلثم‪ ،‬ومواطن الفتن‪.‬‬
‫من الدنس‪".‬‬ ‫قاؿ‪" :‬اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب األبي‬
‫وىنا اختار الثوب األبي ؛ ألف الوسخ يظهر فيو أكثر من غيره من األلواف‪ ،‬فنقاؤه منو يعني عدـ بقائو فيو‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد‪".‬‬
‫وىذا كما قاؿ شيخ اإلسالـ يدؿ على أف للذنوب حرارة‪ ،‬أو أف عاقبتها تكوف األلم والحرارة فاحتاجت إلى الثلج والبرد لتبريدىا ومحوىا‪.‬‬
‫وىذا الحديث من األدعية التي تسمى بأدعية االستفتاح التي وردت عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫وقد ورد لها صي ٌغ أخرى‪ :‬منها قوؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في دعاء االستفتاح‪" :‬سبحانك اللهم وبحمدؾ‪ ،‬وتبارؾ اسمك‪ ،‬وتعالى جدؾ‬
‫وال إلو غيرؾ‪".‬‬
‫ضا في استفتاح النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في صالة الليل وقيامو دعاؤه‪" :‬اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل‪ ،‬فاطر السماوات‬
‫وقد ورد أي ً‬
‫واألرض‪ ،‬عالم الغيب والشهادة‪ ،‬أنت تحكم بين عبادؾ فيما كانوا فيو يختلفوف‪ ،‬اىدني لما اختلف فيو من الحق بإذنك‪ ،‬إنك تهدي من تشاء‬
‫إلى صراط مستقيم‪ ".‬ىذه األدعية كلها مشروعة‪ ،‬ويستحسن أف ينوع العبد في صالتو بهذه األدعية‪ ،‬فمرة يقوؿ ىذا الدعاء‪ ،‬ومرة يقوؿ ىذا‬
‫الدعاء؛ فإف ىذا فيو فوائد‪.‬‬
‫عموما‪ ،‬أف اإلنساف ال يقف عند ذك ٍر واحد؛ إنما ينوع‪.‬‬
‫العلماء تكلموا في تنوع األدعية أو تنوع األذكار ً‬
‫وإعماؿ لكل النصوص التي وردت‪.‬وكذلك عدـ السآمة‪ ،‬أف اإلنساف ال يمل كمن يثبت على ذك ٍر واحد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ظ للسنة‪،‬‬
‫فهذا فيو حف ٌ‬

‫الفوائد المستنبطة من الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬إثبات التكبير في الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف الصالة ليس في أركانها سكوت‪.‬‬
‫محتاج إلى مغفرة الذنوب‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كغيره‬
‫جهرا لعلمو‪.‬‬
‫سرا بدليل سؤاؿ أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬ما تقوؿ فيها؟ فلو كاف ً‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف دعاء االستفتاح يكوف ً‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬حرص الصحابة على العلم‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى حديث عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يفتتح الصالة بالتكبير‪ ،‬والقراءة بالحمد‬
‫قائما‪ ،‬وكاف‬
‫هلل رب العالمين‪ ،‬وكاف إذا رك لم يشخص رأسو‪ ،‬ولم يصوبو‪ ،‬ولكن بين ذلك‪ ،‬وكاف إذا رف رأسو من الركوع لم يسجد حتى يستوي ً‬
‫إذا رف رأسو من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاع ًدا‪ ،‬وكاف يقوؿ في كل ركعتين التحية‪ ،‬وكاف يفرش رجلو اليسرى‪ ،‬وينصب رجلو اليمنى‪،‬‬
‫وكاف ينهى عن عقبة الشيطاف‪ ،‬وينهى أف يفترش الرجل ذراعيو افتراش السب ‪ ،‬وكاف يختم الصالة بالتسليم"‪.‬‬
‫في ىذا الحديث "كاف يفتتح النبي (صلى اهلل عليو وسلم) الصالة بالتكبير‪".‬‬
‫ومعنى قولها (كاف رسوؿ اهلل)‪ :‬يدؿ ىذا على ديمومة ىذا األمر وتكراره‪.‬‬
‫كاف يفتتح صالتو بالتكبير‪ :‬ألنو ىو تحريم الصالة‪ ،‬وتنعقد الصالة بو‪.‬‬
‫وقد جاء في الحديث "تحريمها التكبير"‪ ،‬وىذا ىو أوؿ أركاف الصالة من لم يأت بو ال تنعقد صالتو‪ ،‬ولفظو‪ :‬اهلل أكبر‪ ،‬وال يجزئ غيره‪.‬‬
‫يعني‪ :‬شروط التكبير أف يكوف بلفظ اهلل أكبر‪ ،‬وأف يكوف حاؿ القياـ للقادر عليو‪.‬‬
‫ثم قالت‪" :‬والقراءة بالحمد هلل رب العالمين"‪.‬‬
‫أىل العلم على أف البسملة‬ ‫دليل على عدـ الجهر باالستعاذة والبسملة‪ ،‬واستدؿ بع‬
‫والحمد هلل رب العالمين‪ ،‬أي‪ :‬فاتحة الكتاب‪ ،‬وىذا فيو ٌ‬
‫ليست آية من آيات الفاتحة بهذا الحديث‪.‬‬
‫في الصالة كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في أغلب أحيانو ال يجهر بالبسملة وال باالستعاذة‪ ،‬وىذا كاف أغلب حاؿ النبي صلى اهلل عليو‬
‫خالؼ بين أىل العلم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وسلم‪ ،‬وإال فالمسألة فيها‬
‫قالت‪" :‬وكاف إذا رك لم يشخص رأسو‪ ،‬ولم يصوبو‪ ،‬ولكن بين ذلك‪".‬‬
‫أي لم ينزلو ولم يرفعو‪ ،‬وإنما بين ذلك مما يدؿ على أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يمد إهره م ًدا‪ ،‬ويجعل رأسو في امتداد إهره (أي‬
‫ممدودا ال منحنيًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حياؿ الظهر)‪ ،‬ويكوف الظهر‬
‫قائما"‬
‫قالت‪" :‬وكاف إذا رف رأسو من الركوع لم يسجد حتى يستوي ً‬
‫كن من أركاف الصالة‪.‬‬
‫ىذا يدؿ على أف الطمأنينة ر ٌ‬
‫"وكاف إذا رف رأسو من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاع ًدا" أي‪ :‬يطمئن قاع ًدا‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫"وكاف يقوؿ في كل ركعتين التحية"‪.‬‬
‫وىذا بعد كل ركعتين سواءً كاف بعدىما سالـ كركعتي الفجر أـ ليس بعدىما سالـ كالظهر والعصر والمغرب والعشاء‪.‬‬
‫والمراد بالتحية‪ ،‬ىي‪ :‬التحيات هلل والصلوات والطيبات‪...‬إلى آخره‪.‬‬
‫أىل العلم بهذه اللفظة على أف المرء إذا جلس للتشهد األوؿ في الصالة الرباعية والثالثية؛ فإنو يقرأ التحيات ويصلي على النبي‪.‬‬ ‫واستدؿ بع‬
‫أي‪ :‬التحيات كاملة بالصالة على النبي صلى اهلل عليو وسلم؛ ألنها قالت بعد كل ركعتين‪ ،‬ولم تفرؽ بين التي بعدىا سالـ‪ ،‬والتي ليس بعدىا‬
‫سواء بعدىما سالـ‪ ،‬أو‬
‫سالـ أي‪ :‬التشهد األوؿ والتشهد األخير؛ فلم تفرؽ بينهما‪ ،‬فالتحية (يعني‪ :‬تقصد التشهد األوؿ الذي بعد الركعتين ً‬
‫ليس بعدىما سالـ كالرباعية والثالثية)‪ ،‬لم تفرؽ عائشة (رضي اهلل عنها) بينهما‪.‬‬
‫فالتحية ىنا تشمل التحيات هلل‪ ،‬وتشمل الصالة على النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫لكن ىذا خالؼ المذىب عند الحنابلة‪ ،‬فعند الحنابلة أنو ال يقرأ فى التشهد األوؿ إال التحية أي‪ :‬أنو ال يزيد فيها على قولو‪" :‬أشهد أف ال إلو‬
‫إال اهلل‪ ،‬وأشهد أف محم ًدا عبده ورسولو"‪ ،‬ال يزيد فيها الصالة على النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫قوال وسطًا‪ ،‬وىو‪ :‬أنو مشروع‪.‬‬
‫أىل العلم قاؿ ً‬ ‫لكن بع‬
‫أي‪ :‬أف الصالة على النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ليس منهيًا عنها‪ ،‬وأنها ليست واجبة في التشهد األوؿ‪ ،‬فإف جاء بها ال بأس‪.‬‬
‫وقولها (رضي اهلل عنها)‪" :‬وكاف يفرش رجلو اليسرى‪ ،‬وينصب اليمنى"‪.‬‬
‫وىذا ما يسمى بجلسة االفتراش وىي ثابتة في التشهد األوؿ‪ ،‬وفي الجلسة بين السجدتين‪.‬‬
‫وصورتها‪ :‬أف ينصب اإلنساف رجلو اليمنى فيجعل أصابعها جهة القبلة‪ ،‬ورجلو اليسرى يفرشها‪ ،‬أي‪ :‬يجعلها مائلة ويجلس عليها‪.‬‬
‫قالت‪" :‬وكاف ينهى عن عقبة الشيطاف‪".‬‬
‫و(عقبة الشيطاف) فسرىا العلماء بثالث صور‪:‬‬
‫‪ -‬الصورة األولى‪ :‬أف يفرش قدميو‪ ،‬ويجلس على عقبيو أي‪ :‬أف تكوف الرجل اليمنى أصابعها جهة اليمين‪ ،‬والرجل اليسرى أصابعها جهة‬
‫اليسار‪ ،‬وبواطن القدمين إلى األرض‪ ،‬ويجلس على العقبين‪ ،‬وقيل إنها سميت بعقبة الشيطاف؛ ألنها مأخوذةٌ من العقب‪.‬‬
‫وقيل إنها أضيفت للشيطاف؛ ألنو يحبها‪ ،‬أو أنها كيفية جلوسو‪.‬‬
‫‪ -‬الصورة الثانية‪ :‬من عقبة الشيطاف التي فسرىا العلماء بها أف ينصب رجليو‪ ،‬ويجلس بينهما‪.‬يعني تكوف إليتو على األرض‪ ،‬وىذه من صور‬
‫اإلقعاء المنهي عنها في الصالة‪.‬‬
‫منهي عنها في التشهد فقط دوف الجلسة بين السجدتين‪ ،‬وىي أف ينصب قدميو‪ ،‬ويجعل األصاب متجهة للقبلة‪ ،‬ثم‬
‫‪ -‬الصورة الثالثة‪ :‬وىي ٌ‬
‫يجلس عليهما وىما واقفتين‪.‬‬
‫جالسا ىذه الجلسة بين السجدتين‪ ،‬سئل عنها؛ قاؿ‪ :‬ىي السنة‪ ،‬والمعنى‪ :‬أنها‬
‫بل جاء في حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما أنو لما شوىد ً‬
‫جائزة (يعني‪ :‬بين السجدتين خالفًا للتشهد)‪.‬‬
‫قالت‪" :‬وكاف ينهى أف يفترش الرجل ذراعيو افتراش السب " وىو أف يجعل ذراعو على األرض كهيئة السب ‪.‬‬
‫والسب ىنا يشمل الكلب وغيره من السباع‪ ،‬وىذا فيو نوعٌ من التقبيح؛ كي ال يتشبو اإلنساف بالسباع في جلستو‪.‬‬
‫ثم قالت‪" :‬وكاف يختتم الصالة بالتسليم‪ :".‬أي‪ :‬بالتسليم المعهود‪.‬‬
‫كن باتفاؽ أىل العلم‪.‬‬
‫كن من أركاف الصالة‪ ،‬والتسليمة األولى ر ٌ‬
‫والتسليم ر ٌ‬
‫كن من أركاف الصالة‪.‬‬
‫كن؟ والصحيح أف التسليمتاف ر ٌ‬
‫واختلفوا في التسليمة الثانية ىل ىي سنة أـ ر ٌ‬
‫ٍ‬
‫حديث آخر وىو حديث عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما "أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يرف يديو حذو منكبيو‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى‬
‫إذا افتتح الصالة‪ ،‬وإذا كبر للركوع‪ ،‬وإذا رف رأسو من الركوع رفعهما كذلك‪ ،‬وقاؿ‪ :‬سم اهلل لمن حمده‪..‬ربنا ولك الحمد‪ ،‬وكاف ال يفعل ذلك‬
‫في السجود"‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫حديث آخر يبين فيو مواطن رف اليدين في الصالة‪ ،‬حديث ابن عمر أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يرف يديو في الصالة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ىذا‬
‫ىنا ذكر ابن عمر في حديثو (ثالثة مواض لرف اليدين)‪:‬‬
‫‪ -‬األولى‪ :‬في التكبير في الصالة‪ .‬يعني‪ :‬في التكبيرة األولى تكبيرة اإلحراـ‪.‬‬
‫‪ -‬والثانية‪ :‬إذا كبر للركوع‪.‬‬
‫‪ -‬والثالثة‪ :‬إذا رف رأسو من الركوع‪.‬‬
‫وقد ثبت في السنن موض ٌ راب ‪ ،‬أال وىو‪ :‬عندما يقوـ من التشهد األوسط إلى الركعة الثالثة‪.‬‬
‫وىناؾ قاعدة تسهل ىذا األمر‪ ،‬تبين المواطن التي يرف فيها اإلنساف يديو عند التكبيرات‪ ،‬ىذه القاعدة تعرؼ بها مواطن الرف من عدمو‪.‬‬
‫القاعدة تقوؿ‪[[ :‬أف كل تكبيرة من التكبيرات يسبقها سجود أو يلحقها سجود؛ ال ترف فيها اليدين‪ ،‬وكل تكبيرة ال يسبقها سجود وال يعقبها‬
‫سجود؛ ترف فيها اليدين]]‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬كاف يرف يديو حذو منكبيو"‪.‬والحذو‪ :‬ىو المقابل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حديث آخر‪( :‬حذو أذنيو) ومعناه‪ :‬أنو في مقابل منكبيو‪ ،‬أي‪ :‬كتفيو أو مقابل أذنيو‪.‬‬ ‫وقد ثبت في‬
‫الناس يلمس األذف أو المنكب ىذا ليس بصحيح‪.‬‬ ‫بع‬
‫إنما ىو المقابل فقط إذا افتتح الصالة يعني‪ :‬أنو يرف مقابل كتفو أو أذنو‪.‬‬
‫معا‪.‬‬
‫وبعضهم قاؿ‪ :‬إذا رف يديو فتكوف أطراؼ أصابعو حذو أذنيو‪ ،‬وتكوف راحة اليد حذو المنكبين‪ ،‬فيكوف قد أتى بهما ً‬
‫قاؿ‪" :‬إذا افتتح الصالة‪ ".‬أي‪ :‬في تكبيرة اإلحراـ‪ ،‬ىذا ىو الموض األوؿ‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬إذا كبر للركوع‪ .‬والثالث‪ :‬إذا رف رأسو من الركوع رفعهما كذلك‪ ،‬وقاؿ‪ :‬سم اهلل لمن حمده؛ ربنا ولك الحمد‪.‬‬
‫قالت‪" :‬وكاف ال يفعل ذلك في السجود‪".‬‬
‫وىذه ىي القاعدة التي ذُكِ َر ْ‬
‫ت قبل (أف كل تكبيرة يلحقها سجود أو يعقبها سجود ال ترف فيها اليدين)‬

‫ثم ذكر حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أمرت أف أسجد على سبعة أعظُم‪ :‬على الجبهة‪ ،‬وأشار‬
‫بيده إلى أنفو‪ ،‬واليدين‪ ،‬والركبتين‪ ،‬وأطراؼ القدمين"‪.‬‬
‫يبين في ىذا الحديث األعضاء التي أمرنا بالسجود عليها في الصالة‪ ،‬وبدأ بأشرفها الجبهة واألنف‪.‬‬
‫رت) تدؿ على الوجوب‪.‬‬‫وكلمة (أ ُِم ُ‬
‫سجودا‪.‬فالسجود لو ىيئة‪ ،‬وال يجزئ غير ىيئة السجود‪.‬‬
‫ً‬ ‫يعني‪ :‬مس ىذه األعضاء السبعة لألرض على غير ىيئة السجود ال يسمى‬
‫(وىيئة السجود معروفة) وىي‪ :‬أف يكوف أسفل الظهر أعلى من أعاله‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬ومست ىذه األعضاء السبعة األرض ىل ىذا يسمى ساج ًدا؟ ال يسمى ساج ًدا‪.‬‬
‫فإذا ناـ اإلنساف على بطنو ً‬
‫قد جاء عند ابن عدي في الكامل أف أبا طالب عم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لما دعاه لإلسالـ قاؿ لو‪" :‬يا ابن أخي إني ألعلم أنك على‬
‫حق‪ ،‬ولكني أكره السجود فيعلو أسفل إهري أعاله‪".‬‬
‫يعني‪ :‬ىذه ىي ىيئة السجود‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬على الجبهة‪ ،‬وأشار بيده إلى أنفو"‬
‫أىل العلم قالوا‪ :‬إف اإلشارة إلى األنف ىنا ىذا من كالـ الراوي‪.‬‬ ‫بع‬
‫فالوجوب‪ :‬أف يكوف السجود على الجبهة واألنف يكوف نافلة‪.‬‬
‫معا‪.‬‬
‫لكن الصحيح أف الوجوب أف يكوف السجود على الجبهة واألنف ً‬
‫حاجزا بين الجبهة واألرض‪ ،‬كما يفعل أىل البدع من الرافضة أنهم يجعلوف بينهم وبين األرض تربةً معينة أو حجارة معينة‪..‬ىذا ال‬
‫ً‬ ‫وأال يجعل‬
‫ينبغي‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫أما إذا سجد اإلنساف على ٍ‬
‫ثوب أو سجادة أو ما شابو ذلك فهذا ال بأس بو؛ ذلك ألنو ثبت عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو سجد على‬
‫كورة العمامة‪ ،‬والصحابة رضي اهلل عنهم ثبت عنهم أنهم كانوا يبسطوف الثوب في شدة الحر ويسجدوا عليو‪.‬‬
‫ثم أشار إلى بقية المواض التي يسجد عليها ثم قاؿ‪" :‬واليدين"‪.‬‬
‫والمراد باليدين ىنا‪ :‬الكفاف‪ ،‬والسنة‪ :‬أف تكوف اليد مبسوطة مضمومة األصاب ‪ ،‬واألصاب متجهة إلى القبلة‪.‬‬
‫طبعا على األرض‬
‫وأف يكوف موض اليدين في السجود كموض التكبير‪ :‬إما أف يحاذي بهما منكبيو‪ ،‬أو أف يحاذي بهما أذنيو‪ ،‬وتكوف اليدين ً‬
‫حاؿ السجود‪ ،‬م مجافاة العضدين عن الجنبين‪ ،‬يجافي عضديو عن جنبيو‪ ،‬م عدـ اإليذاء لجاره الذي يصلي بجواره‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪" :‬والركبتين"‪.‬وىذا معروؼ‪.‬‬
‫ضا إلى القبلة منصوبة ومضمومة‪.‬‬
‫"وأطراؼ القدمين"‪.‬والسنة فيهما أف يكوف على أطراؼ أصاب القدمين‪ ،‬وأف تكوف متجهة أي ً‬
‫ثم قاؿ‪ :‬عن أبي ىريرة (رضي اهلل عنو)‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) إذا قاـ إلى الصالة يكبر حين يقوـ‪ ،‬ثم يكبر حين يرك ‪ ،‬ثم‬
‫يقوؿ‪ :‬سم اهلل لمن حمده‪.‬حين يرف صلبو من الركوع‪ ،‬ثم يقوؿ وىو قائم‪ :‬ربنا لك الحمد‪ ،‬ثم يكبر حين يهوي ساج ًدا ثم يكبر حين يرف‬
‫رأسو‪ ،‬ثم يكبر حين يسجد‪ ،‬ثم يكبر حين يرف رأسو‪ ،‬ثم يفعل ذلك في صالتو كلها حتى يقضيها‪ ،‬ويكبر حين يقوـ من الثنتين بعد الجلوس‪.‬‬
‫ثم ذكر حديث مطرؼ بن عبد اهلل (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬صليت أنا وعمراف بن حصين خلف علي بن أبي طالب رضي اهلل عنو‪ ،‬فكاف إذا سجد‬
‫ٍ‬
‫محمد صلى‬ ‫بيدي عمراف بن حصين فقاؿ‪ :‬قد ذكرني ىذا صالة‬
‫كبر‪ ،‬وإذا رف رأسو كبر‪ ،‬وإذا نه من الركعتين كبر‪ ،‬فلما قضى الصالة أخذ َ‬
‫ٍ‬
‫محمد صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬ ‫اهلل عليو وسلم‪ ،‬أو قاؿ صلى بنا صالة‬
‫ىنا يبين المصنف في ىذا الحديث والذي قبلو تكبيرات االنتقاؿ‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬وكاف يكبر حين يقوـ" أي‪ :‬حين يقوـ إلى الصالة‪ ،‬وىي تكبيرة اإلحراـ‪ ،‬وىذه ىي الركن وما بعدىا ىي تكبيرات االنتقاؿ‪ ،‬وقد ذكرنا أنها‬
‫من واجبات الصالة‪ ،‬ثم يكبر حين يرك ‪ ،‬ثم يقوؿ سم اهلل لمن حمده حين يرف صلبو من الركوع‪ ،‬ثم يقوؿ وىو قائم ربنا ولك الحمد‪ ،‬ثم‬
‫يكبر حين يهوي ساج ًدا‪ ،‬ثم يكبر حين يرف رأسو (أي‪ :‬من السجدة األولى) وىكذا‪.‬‬
‫ورف ‪.‬‬ ‫" ثم يفعل ذلك في صالتو كلها حتى يقضيها"‪.‬أي‪ :‬يكبر في كل خف‬
‫(ويكبر حين يقوـ من الثنتين) أي‪ :‬بعد الجلوس‪ ،‬في القياـ للثالثة بعد التشهد األوسط‪.‬‬
‫ذكرا في االنتقاؿ‪ ،‬وأراد أف يبين أف الذكر الذي ورد في االنتقاؿ يشتمل على شيئين أو يشتمل على ذكرين‪:‬‬
‫وىنا أراد أف يذكر أف ىناؾ ً‬
‫‪ -‬األوؿ‪ :‬التكبير في كل خف ٍ ورف ‪.‬‬
‫‪ -‬والثاني‪ :‬ىو قوؿ "سم اهلل لمن حمده) عند الرف من الركوع‪ ،‬وكذلك قوؿ "ربنا ولك الحمد"‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في حكم تكبيرات االنتقاؿ ىل ىي واجب من واجبات الصالة؟ أـ ىي سنة من سنن الصالة؟‬
‫فالجمهور على أنها سنة من سنن الصالة‪ ،‬خالفًا لإلماـ أحمد‪ ،‬وأىل الظاىر الذين يقولوف بوجوبها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫محمد صلى‬ ‫فهنا في حديث مطرؼ بن عبد اهلل الشخير‪ ،‬قاؿ في آخر الحديث‪" :‬ذكرني ىذا صالة رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬أو صالة‬
‫اهلل عليو وسلم"‪.‬‬
‫ىذا الحديث قد استدؿ بو فريقاف من أىل العلم على قولين متضادين‪ ،‬وىذا يبين كيف أف الفقهاء يستدلوف بالحديث الواحد من وجهين‬
‫متضادين‪.‬‬
‫ضا يبين كيفية استثمار النص‪ ،‬وكيفية االستدالؿ بو ومعرفة طرؽ االستدالؿ‪.‬‬
‫ىذا أي ً‬
‫فاستدؿ الفقهاء على أف تكبيرات االنتقاؿ ليست واجبة‪ ،‬وإنما ىي سنة‪ ،‬وىذا قوؿ الجمهور كما ذكرت‪.‬‬
‫ضا صحابي‪ ،‬فلما صلى عمراف خلف عل ٍي رضي اهلل عنو‪ ،‬قاؿ‪ :‬سمعو‬
‫صحابي وعلي أي ً‬
‫ً‬ ‫ووجو االستدالؿ عندىم‪ :‬أف عمراف (رضي اهلل عنو)‬
‫يكبر‪ ،‬فقاؿ‪ :‬لقد ذكرني صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وىنا وقفة‪ :‬لما سمعو يكبر قاؿ‪ :‬لقد ذكرني صالة النبي‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫منتشر بين الناس‪ ،‬فبما‬
‫ٌ‬ ‫معنى ىذا أنهم لم يكونوا يكبروف‪ ،‬ولما يقوؿ‪ :‬ذكرني صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فهذا يدؿ على أف ىذا األمر‬
‫أنو انتشر بينهم‪ ،‬فإف تكبيرات االنتقاؿ ليست بواجبة‪.‬استدؿ الجمهور بهذا‪.‬‬
‫القوؿ الثاني‪ :‬ىو قوؿ اإلماـ أحمد‪ ،‬قالوا‪ :‬إف تكبيرات االنتقاؿ واجبة‪ ،‬واستدلوا‪ :‬بنفس الحديث؛ ألف عمراف قاؿ‪" :‬ىذه صالة النبي"‪ ،‬أو‬
‫ذكرني ىذا صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪ :‬يعني‪ :‬ىذه الصالة التي كاف يالزمها النبي صلى اهلل عليو ٍ‬
‫بصفة دائمة‪.‬‬
‫وىذا ما يؤيده حديث أبي ىريرة السابق (رضي اهلل عنو) أنو قاؿ‪" :‬كاف رسوؿ اهلل إذا قاـ إلى الصالة يكبر"‪.‬‬
‫صدْر بكاف فهذا يدؿ في أغلب األحياف على الديمومة والتكرار‪.‬‬
‫وقد سبق معنا أف الكالـ إذا ُ‬
‫وال شك أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أولى باالتباع من غيره‪ ،‬وىذا يدؿ على وجوب التكبير في االنتقاؿ‪ ،‬وىذا ىو القوؿ األقرب للصواب‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذه األحاديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف الصالة ال تنعقد إال بالتكبير‪ ،‬لقوؿ عائشة (رضي اهلل عنها)‪" :‬يستفتح الصالة بالتكبير"‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لم يكن يجهر باالستعاذة وال بالبسملة‪.‬لقولها‪" :‬والقراءة بالحمد هلل رب العالمين"‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬وجوب الركوع والرف منو‪ ،‬واالعتداؿ في القياـ بعده‪.‬‬
‫جالسا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬وجوب السجود والرف منو‪ ،‬واالعتداؿ بعده ً‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬وجوب التشهد بعد كل ركعتين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬مشروعية افتراش المصلي رجلو اليسرى‪ ،‬ونصب اليمنى في جلسات الصالة غير التشهد األخير‪ ،‬ومشروعية التورؾ‬
‫فيو (أي‪ :‬في التشهد األخير)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬النهي عن مشابهة الشيطاف في جلوسو؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) نهى عن عقبة الشيطاف‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬النهي عن التشبو بالسب في جلستو في الصالة "ال يفترش أحدكم ذراعيو افتراش السب "‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬وجوب ختم الصالة بالتسليم‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬استحباب رف اليدين عند تكبيرة اإلحراـ‪ ،‬وعند الركوع‪ ،‬وعند الرف منو‪( ،‬ىذه الثالثة مواض التي ذكرت في‬
‫األحاديث)‪ ،‬لكن قد جاء موطن راب في حديث آخر وىو عند القياـ للثالثة‪ ،‬تصبح أربعة مواطن‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الحادية عشر‪ :‬أف الرف يكوف حذو المنكبين أو األذنين‪ ،‬أي‪ :‬مقابل للمنكبين أو األذنين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية عشر‪ :‬وجوب السجود على األعضاء السبعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة عشر‪ :‬أف األنف تاب ٌ للجبهة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة عشر‪ :‬أف يكبر لإلحراـ حاؿ القياـ‪ ،‬للقادر عليو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة عشر‪ :‬أف تكبيرات االنتقاؿ تكوف حاؿ االنتقاؿ وليس بعد إتماـ االنتقاؿ؛ لقولو‪ :‬حين يرك ‪ ،‬حين يسجد‪ ،‬أي خالؿ‬
‫ما يرك أو خالؿ ما يسجد‪ ،‬يعني‪ :‬بين ذلك وبين ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة عشر‪ :‬أف الخلفاء كانوا أئمةً للناس (صليت وراء علي بن أبي طالب رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة عشر‪ :‬مشروعية جهر اإلماـ بالتكبير‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة عشر‪ :‬أف العمل بالعلم من أسباب رسوخو وبقائو‪.‬‬

‫ٍ‬
‫محمد صلى اهلل عليو وسلم؛ فوجدت قيامو‪ ،‬فركعتو‪ ،‬فاعتدالو‬ ‫ثم انتقل إلى حديث البراء بن عازب (رضي اهلل عنو) فقاؿ‪" :‬رمقت الصالة م‬
‫بعد ركوعو‪ ،‬فسجدتو‪ ،‬فجلستو بين السجدتين‪ ،‬فسجدتو‪ ،‬فجلستو ما بين التسليم واالنصراؼ قريبًا من السواء"‪.‬‬
‫وفي رواية البخاري قاؿ‪( :‬ما خال القياـ والقعود قريبًا من السواء)‪ ،‬ىذا الحديث يذكر فيو البراء (رضي اهلل عنو) صفة صالة النبي (صلى اهلل‬
‫عليو وسلم) وكيف أنها كانت متقاربة في القراءة والركوع والسجود واالعتداؿ فكاف ال يطيل ركنًا ويخفف اآلخر بل كل رك ٍن كاف يجعلو متقاربًا‬
‫ومتناسبًا م الركن اآلخر‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫والمتأمل في ىذه األحاديث يجد أف الصحابة رضي اهلل عنهم قد أكثروا في ذكر أحاديث الصالة‪ ،‬وىذا ليتبين لك أنهم ما تركوا صغيرةً وال‬
‫كبيرةً من صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إال ذكروىا حتى سكتاتو ووقفاتو وقراءتو‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬رمقت الصالة) أي نظرتها وىذا بمعنى أنو نظر إلى صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وتتب دقائقها‪.‬‬
‫منهي عنو‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬م محمد) وتسمية النبي (صلى اهلل عليو وسلم) باسمو المجرد حاؿ النداء ىذا ٌ‬
‫ضا‬ ‫وؿ بػيػنَ ُكم َك ُد َع ِاء بػ ْع ِ‬
‫ض ُك ْم بَػ ْع ً‬ ‫{ال تَ ْج َعلُوا ُد َعاء َّ ِ‬
‫َ‬ ‫الر ُس َ ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫أف تقوؿ‪ :‬يا محمد‪ .‬ىذا َنهى اهلل عز وجل عنو في قولو تعالى‪َ :‬‬
‫مجردا كما جاء في ىذا الحديث وغيره‪.‬‬ ‫أما حاؿ اإلخبار (أف تخبر عنو)‪ ،‬فإنو يجوز ذكره ً‬
‫إخبار عن حاؿ صالة النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فإنو إذا أطاؿ القياـ والقراءة جعل بقية‬
‫قاؿ‪" :‬فوجدت قيامو) إلى آخر الحديث‪ ،‬يعني‪ :‬ىذا ٌ‬
‫ضا بقية األركاف متقاربة‪.‬‬
‫األركاف متقاربة‪ ،‬وإذا خفف القراءة جعل أي ً‬
‫فقاؿ‪" :‬فجلستو بين التسليم واالنصراؼ قريبًا من السواء)‪.‬‬
‫التسليم بمعنى االنتهاء من الصالة‪ ،‬واالنصراؼ بعد الصالة ال يكوف مباشرةً؛ إنما يكوف ىناؾ فترة بين التسليم وبين االنصراؼ‪.‬‬
‫قليال‪.‬‬
‫فمن السنة للمرء إذا سلم من صالتو أال يقوـ وينصرؼ مباشرةً؛ بل يبقى ً‬
‫وقد كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إذا انفتل من صالتو يذكر اهلل عز وجل وىو جالس‪ ،‬ويقوؿ‪" :‬أستغفر اهلل أستغفر اهلل أستغفر اهلل‪ ،‬اللهم‬
‫أنت السالـ‪ ،‬ومنك السالـ‪ ،‬تباركت يا ذا الجالؿ واإلكراـ"‪ ،‬وغير ذلك من األذكار‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من الحديث‪:‬‬


‫قصيرا‪.‬‬
‫طويال وركنًا ً‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أفضلية مساواة أركاف الصالة في المقدار‪ ،‬بأف ال يجعل ركنًا ً‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف ىذه األحاديث تدؿ على ثبوت الطمأنينة في األركاف ووجوبها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬حرص الصحابة رضي اهلل عنهم على تتب أفعاؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬كماؿ حفظ الشريعة‪ ،‬وذلك بحفظ أصحاب النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لها ونقلها إلينا‪.‬‬

‫ثم انتقل إلى حديث آخ ٍر وىو حديث ثابت البناني‪ ،‬قاؿ‪ :‬عن أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬إني ال آلو أف أصلي بكم كما كاف رسوؿ‬
‫اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي بنا"‪.‬‬
‫قائما حتى يقوؿ القائل قد نسي‪ ،‬وإذا رف رأسو من‬
‫أنس يصن شيئًا ال أراكم تصنعونو كاف إذا رف رأسو من الركوع انتصب ً‬
‫قاؿ ثابت‪" :‬فكاف ٌ‬
‫السجدة مكث حتى يقوؿ القائل قد نسي"‪.‬‬
‫تابعي معروؼ‪ ،‬وىو من أوثق من روى عن أنس بن مالك (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫ثابت البناني عليو رحمة اهلل ىو ٌ‬
‫وأنس بن مالك ىو الصحابي المعروؼ خادـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬إني ال آلو أف أصلي بكم‪ ،‬والمعنى‪ :‬إني سأجتهد فال أقصر أف أصلي بكم كما كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي بنا لتقتدوا بو؛‬
‫إماما‪.‬‬
‫ألف أنس (رضي اهلل عنو) كاف ً‬
‫واإلماـ يجب عليو أف يتب السنة‪ ،‬ويعلمها للناس‪ ،‬وال يبالي أف يقولوا طولت أو قصرت‪ ،‬طالما لم يخرج عن المعتاد بما ليس فيو مشقة على‬
‫الناس‪.‬‬
‫قائما حتى يقوؿ القائل قد نسي"‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬فكاف أنس (رضي اهلل عنو) يصن شيئًا ال أراكم تصنعونو‪ :‬كاف إذا رف رأسو من الركوع انتصب ً‬
‫ضا على أف إطالة الجلسة بين السجدتين سنة‪.‬‬ ‫ىذه الجملة تدؿ على أف إطالة القياـ من الركوع سنة‪ ،‬وكذلك إذا رف رأسو من السجدة‪ ،‬فدؿ أي ً‬
‫بحديث آخر حديث أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬ما صليت وراء ٍ‬
‫إماـ قط أخف صالةً وال أتم صالةً من رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو‬ ‫ٍ‬ ‫وجاء‬
‫أنسا (رضي اهلل عنو) الذي كاف‬
‫وسلم"‪ ،‬وىذا من فقو المؤلف عليو رحمة اهلل أنو ذكر ىذا الحديث بعد ذكر حديث ثابت البناني عن أنس‪ ،‬فإف ً‬
‫إماما قط أخف صالةً من النبي‬
‫يطيل القياـ بعد الركوع‪ ،‬ويطيل ما بين السجدتين‪ ،‬يعني‪ :‬الظاىر أنو كاف يطيل الصالة ىو الذي يقوؿ‪" :‬ما رأيت ً‬
‫صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وال أتم صالةً منو"‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫تخفيف نسبي‪ ،‬فكاف يخفف أحيانًا ويطيل أحيانًا‪ ،‬لكن م ىذا‬
‫ٌ‬ ‫وىذا يدؿ على أف التخفيف في صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إنما ىو‬
‫التخفيف فإنو كاف ال يخل بأركاف الصالة؛ بل ِ‬
‫يأت بها تامة م تخفيفها‪.‬‬ ‫ُ ُ‬
‫ثم ذكر حديث أبي قِالبة عن عبد اهلل بن زيد الجرمي البصري قاؿ‪" :‬جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا ىذا فقاؿ‪ :‬إني ألصلي بكم‪ ،‬وما‬
‫أريد الصالة‪ ،‬أصلي كيف رأيت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أبي قالبة كيف كاف يصلي؟ قاؿ‪ :‬مثل صالة شيخنا ىذا‪،‬‬
‫في الركعة األولى"‪.‬‬ ‫وكاف يجلس إذا رف رأسو من السجود قبل أف ينه‬
‫أراد بشيخهم أبا بريد عمرو بن سلمة الجرمي‪ ،‬ويقاؿ أبو يزيد‪.‬‬
‫تابعي قاؿ‪" :‬جاءنا مالك بن الحويرث)‪.‬‬
‫أبو قالبة ىو عبد اهلل بن زيد الجرمي البصري وىو ٌ‬
‫ومالك بن الحويرث من صحابة رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وكناه النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بكنية‪ ،‬كاف يكنى بأبي سليماف‪ ،‬قد أدرؾ‬
‫النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في آخر حياتو‪( ،‬يعني‪ :‬وفد على النبي صلى عليو وسلم في عاـ الوفود‪ ،‬في العاـ التاس من الهجرة‪ ،‬وأدرؾ النبي‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) في آخر حياتو)‪ ،‬قاؿ‪" :‬جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا ىذا" أي‪ :‬في مسجد البصرة‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬إني ألصلي بكم‪ ،‬وما أريد الصالة" أي‪ :‬إني أصلي هلل عز وجل‪ ،‬ولكن أصلي بكم صالة رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم؛ لتتعلموا كيف‬
‫كانت صالة رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫فهنا أراد أف يشير إلى الجلسة بين السجدتين؛ فقاؿ‪ :‬مثل صالة شيخنا ىذا‪.‬‬
‫في الركعة األولى"‬ ‫"كاف يجلس إذا رف رأسو من السجود قبل أف ينه‬
‫ضا بين الثالثة والرابعة‪.‬‬
‫الركعة الثانية‪ ،‬وتكوف أي ً‬
‫الركعة األولى وبين ّ‬
‫يشير إلى جلسة االستراحة‪ ،‬وجلسة االستراحة تكوف بين ّ‬
‫ذكر معين عن رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ىي جلسةٌ خفيفة‪ ،‬لم يثبت فيها ٌ‬
‫وقد اختلف العلماء في ىذه الجلسة ىل ىي سنة من سنن الصالة؟ أـ أنها فعلت للحاجة؟ قوالف ألىل العلم في ىذه المسألة‪:‬‬
‫‪ -‬قوؿ يقوؿ‪ :‬إنها ليست سنة‪ ،‬وىو مشهور مذىب الحنابلة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وقوؿ يقوؿ‪ :‬بسنيتها‪( ،‬وىذا آخر الروايتين عن اإلماـ أحمد رحمو اهلل)‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الخالؿ أف اإلماـ أحمد رج عن قولو األوؿ أنها ليست بسنة‪ ،‬إلى حديث مالك بن الحويرث أنها سنة‪.‬‬
‫قد ذكر ّ‬
‫صحابي أدرؾ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وىو صغير‪ ،‬وكاف يؤـ قومو وىو صغير؟‬
‫ٌ‬ ‫وقاؿ‪( :‬مثل صالة شيخنا) ىذا عمرو بن سلمة الجرمي‪ ،‬وىو‬
‫ألنو كاف أكثرىم قرآنًا‪.‬‬
‫وقد روى البخاري لو حديثًا معل ًقا في اإلمامة‪ ،‬أنو يؤـ الناس أكثرىم قرآنًا‪ ،‬واستدؿ بحديث عمرو بن سلمة‪.‬‬
‫فرج بين يديو حتى يبدو بياض إبطيو"‪.‬‬
‫ثم ذكر حديث عبد اهلل بن مالك بن بحينة‪" :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف إذا صلى ّ‬
‫فهنا عبد اهلل بن مالك بن بحينة‪ ،‬ىو‪ :‬عبد اهلل بن مالك بن القشم‪ ،‬يقاؿ لو‪ :‬ابن بحينة‪ ،‬وبُحينة ىذه ىي أمو‪( ،‬ىي بحينة بنت الحارث)‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف إذا صلى فرج بين يديو"‪.‬‬
‫أي‪ :‬جعل بينو وبين جنبو فرجة إذا سجد‪.‬‬
‫وىنا لم يذكر السجود لكن قاؿ‪ :‬كاف إذا صلى (إذا صلى) ىذا يشمل الصالة‪ ،‬لكن ىذا من باب التعبير بالكل عن البع ‪.‬‬
‫ألننا نعلم أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف ال يفرج بين يديو في القياـ‪ ،‬وال في الركوع‪ ،‬لكن ثبتت المجافاة عنو (صلى اهلل عليو وسلم) في‬
‫من غيره‪.‬‬ ‫السجود‪ .‬قاؿ‪" :‬حتى يبدو بياض إبطيو" بياض اإلبط يظهر؛ ألنهما من األجزاء المستورة باللباس‪ ،‬والجزء المستور يكوف أبي‬
‫والمجافاة سنة من سنن الصالة‪ ،‬وىذا باتفاؽ أىل العلم‪ ،‬لكن الخالؼ‪:‬‬
‫ضا؟ قوالف ألىل العلم‪:‬‬
‫ىل ىذه السنة خاصة بالرجاؿ؟ أـ أف النساء يستحب لهن المجافاة أي ً‬
‫خاص بالرجاؿ‪ ،‬وىذا مشهور مذىب الحنابلة‪.‬‬
‫األوؿ‪ :‬أنو ٌ‬
‫والثاني‪ :‬أنو يستوي فيو النساء والرجاؿ ‪ ،‬بشرط أف تصلي المرأة في معزؿ عن الرجاؿ‪ ،‬أما إذا كانت في حضرة الرجاؿ‪ ،‬فإنها ال تجافي بل تستر‬
‫نفسها‪( ،‬ال تجافي ىذا أستر لها)‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫ثم ذكر حديث أبي مسلمة سعيد بن يزيد قاؿ‪" :‬سألت أنس بن مالك (رضي اهلل عنو)‪ :‬أكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي في نعليو؟ قاؿ‪:‬‬
‫ضا يبين جواز الصالة في النعل‪.‬‬
‫نعم"‪ .‬ىذا الحديث أي ً‬
‫تابعي ثقة وىو يزيد بن مسلمة األزدي البصري‪.‬‬
‫وأبو مسلمة سعيد بن يزيد ىو ٌ‬
‫قاؿ‪ :‬سألت أنس بن مالك أكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي في نعليو؟ قاؿ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ىذا فيو استرشاد‪ ،‬يسأؿ الصحابي ويستفهم عن مشروعية الصالة في النعاؿ‪ ،‬وقد جاء في سنن أبي داود من حديث شداد بن أوس أف النبي‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬خالفوا اليهود‪ ،‬فإنهم ال يصلوف في نعالهم وال خفافهم"‪.‬‬
‫مفروش‪ ،‬أو أف يصلي اإلنساف في ٍ‬
‫مكاف يشق عليو فيو خل‬ ‫ٍ‬ ‫فمن السنة الصالة في النعاؿ إذا احتاج األمر إلى ذلك‪ ،‬كأف يكوف المسجد غير‬
‫النعل وما شابو ذلك‪.‬‬

‫حامل أمامة بنت زينب بنت رسوؿ‬


‫ثم ذكر حديث أبي قتادة األنصاري (رضي اهلل عنو)‪" :‬أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يصلي وىو ٌ‬
‫اهلل صلى اهلل عليو وسلم" وألبي العاص بن الربي بن عبد شمس‪" :‬فإذا سجد وضعها‪ ،‬وإذا قاـ حملها"‪.‬‬
‫أبو قتادة األنصاري روى أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يصلي وىو حامل أمامة بنت زينب‪.‬‬
‫تدليال على قرب أمامة منو‪ ،‬ألف زينب ألصق منو من الربي ‪.‬‬
‫وذكر ىنا زينب قبل أبي العاص؛ ً‬
‫السنن للحاجة‪.‬‬ ‫ضا جواز ترؾ بع‬
‫وفي ىذا الحديث يبين األعماؿ التي يباح للمرء فعلها في الصالة من حمل الصبي ووضعو‪ ،‬ويبين أي ً‬
‫مثال رف اليدين في التكبيرات‪.‬‬
‫فإذا حمل اإلنساف صبيًا‪ ،‬واحتاج إلى الركوع أو السجود‪ ،‬فإنو يترؾ ً‬
‫السنن للحاجة مثل ىذه‬ ‫ضا وض اليمنى على اليسرى على الصدر حاؿ القراءة‪ ،‬فهنا بين جواز ترؾ بع‬
‫كذلك إذا حمل طفال؛ فقد يترؾ أي ً‬
‫األشياء التي ذكرتها‪.‬‬

‫ثم ذكر حديث أنس (رضي اهلل عنو) عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قالوا‪" :‬اعتدلوا في السجود‪ ،‬وال يبسط أحدكم ذراعيو انبساط الكلب)‪.‬‬
‫ىذا الحديث يأمر فيو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) باالعتداؿ في السجود‪ ،‬واالعتداؿ فيو يكوف باتباع السنة‪.‬‬
‫وكماؿ االعتداؿ ىو الذي جاء عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) (من تمكين األعضاء السبعة من األرض‪ ،‬ومجافاة العضدين عن الجنبين‪،‬‬
‫والبطن عن الفخذين‪ ،‬والفخذين عن الساقين‪ ،‬وأال يفترش اإلنساف ذراعيو كافتراش الكلب)‪.‬‬
‫ىذا ىو الذي جاء عن النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وىذا ىو الذي أمر بو النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذه األحاديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية تطويل القياـ بعد الركوع‪ ،‬وتطويل الجلوس بعد السجود‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أكمل صالة‪ ،‬وأتم صالة‪ ،‬وأخف صالة‪ ،‬فليحرص اإلنساف أف يجعل صالتو مثل‬
‫صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬استحباب جلسة االستراحة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬جواز التعليم بالفعل‪ ،‬فإنو أبقى في ذىن المتعلم كما قاؿ أصلي لكم صالة رسوؿ اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز فعل العبادة من أجل التعليم‪.‬‬
‫طبعا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬المجافاة سنةٌ من سنن الصالة الفعلية في السجود ً‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬استحباب الصالة في النعاؿ لمن أتيح لو ذلك دوف ضرٍر أو مفسدة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬جواز دخوؿ المسجد بالنعل بعد تنظيفو من األقذار‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬جواز الحركة في الصالة للحاجة‪ ،‬وجواز حمل الصبي في الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬كراىية التشبو بالحيوانات في الصالة‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫ورد أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬ال ينقر أحدكم الصالة كنقرة الغراب‪ ،‬وكنقرة الديك‪ ،‬وال يلتفت أحدكم التفات الثعلب‪ ،‬وال يبسط‬
‫أحدكم يديو انبساط الكلب‪ ،‬وال يفترش أحدكم ذراعيو افتراش السب "‪.‬‬
‫يعني‪ :‬نهى عن التشبو بالحيوانات‪ ،‬فالسنة االعتداؿ في السجود على الهيئة المشروعة‪.‬‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬ما ىي السكتات التي وردت عن النبي صلى اهلل عليو وسلم في الصالة؟ واذكر دعاءين من أدعية االستفتاح‪.‬‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬اذكر صفة صالة النبي صلى اهلل عليو وسلم من خالؿ دراستك ألحاديث صفة صالتو صلى اهلل عليو وسلم‪.‬‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ما حكم جلسة االستراحة؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬ما حكم الصالة في النعاؿ؟‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬ما حكم مجافاة العضدين عن الجنبين؟‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬اذكر الفوائد المستنبطة من ىذا الباب‪.‬‬

‫نكتفي بهذا القدر‪ ،‬أقوؿ قولي ىذا‪ ،‬وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بإحساف إلى يوـ الدين‪.‬‬ ‫ىذا وصلَّى اهلل وسلم وبارؾ على نبينا محمد وعلى آلو وصحبو أجمعين‪ ،‬وعلي التابعين وتابعيهم‬
‫والسالـ عليكم ورحمة اهلل وبركاتو‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫المحاضػ ػػرة العاش ػػرة‬
‫كنا قد توقفنا عند باب‪( :‬وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود)‬
‫ٍ‬
‫مفصل إلى مقره‪ ،‬وقد أورد المصنف عليو رحمة اهلل حديثًا في ىذا الباب‪ ،‬وىو حديث أبي ىريرة رضي‬ ‫والطمأنينة ىي‪ :‬السكوف بحيث يعود كل‬
‫اهلل عنو‪ ،‬وىذا الذي يسميو الفقهاء بحديث المسيء في صالتو‪.‬‬
‫ىذا الصحابي الجليل ىو خالد بن راف رضي اهلل عنو‪ ،‬ومجمل ىذا الحديث أف خالد صلى صال ًة غير تامة األفعاؿ واألقواؿ‪ ،‬فلما جاء إلى‬
‫النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فسلم عليو فرد عليو السالـ‪ ،‬ثم قاؿ لو‪" :‬ارج فصل فإنك لم تصل"‪.‬‬

‫رجل فصلى‪ ،‬ثم جاء فسلم على النبي صلى اهلل‬


‫قاؿ‪ :‬عن أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) دخل المسجد فدخل ٌ‬
‫عليو وسلم‪ ،‬فرد النبي (صلى اهلل عليو وسلم) السالـ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ارج فصل فإنك لم تصل‪ ،‬فرج الرجل فصلى كما كاف صلى‪ ،‬ثم جاء فسلم‬
‫على النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬وعليك السالـ‪ ،‬ثم قاؿ‪ :‬ارج فصل فإنك لم تصل ثالثًا‪ ،‬فقاؿ الرجل‪:‬‬
‫والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني‪ ،‬فقاؿ صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬إذا قمت إلى الصالة فكبر‪ ،‬ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآف‪ ،‬ثم ارك‬
‫جالسا‪ ،‬ثم افعل ذلك في صالتك كلها"‪.‬‬
‫قائما‪ ،‬ثم اسجد حتى تطمئن ساج ًدا‪ ،‬ثم ارف حتى تطمئن ً‬
‫راكعا‪ ،‬ثم ارف حتى تعتدؿ ً‬
‫حتى تطمئن ً‬
‫ىذا الحديث ىو األصل في بياف أركاف الصالة‪.‬‬
‫كن من أركاف الصالة‪ ،‬وما لم يأمر بو فليس ركنًا وال واجبًا‬
‫فيقوؿ العلماء‪ :‬إف كل ما أمر بو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في ىذا الحديث فهو ر ٌ‬
‫أمر لم يأمر بو النبي (صلى اهلل‬‫من واجبات الصالة‪ ،‬لكن ىذا الكالـ ليس على إطالقو؛ ذلك ألف روايات الحديث قد اختلفت‪ ،‬ففي بعضها ٌ‬
‫عليو وسلم) في الروايات األخرى‪.‬‬
‫وقد ذكر الحافظ بن حجر في الفتح أف لو جزءًا في تتب طرؽ ىذا الحديث‪ ،‬وما الذي أمر بو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وما الذي لم يأمر‬
‫بو‪ ،‬لكن الظاىر أف ىذا الحديث يدؿ على الواجبات العامة‪ ،‬ومعنى ذلك‪ :‬أنو قد يكوف ىناؾ غيرىا من الواجبات؛ فيجب غيرىا كالفاتحة‬
‫مثال وغير ذلك‪.‬‬
‫والتشهد ً‬
‫رجل فصلى"‪.‬‬
‫ففي ىذا الحديث قاؿ‪" :‬دخل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) المسجد‪ ،‬فدخل ٌ‬
‫ففي ىذه الجملة استدؿ منها أىل العلم على أف من دخل المسجد فالسنة أف يصلي ركعتين‪.‬‬
‫وقد ثبت عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو قاؿ‪" :‬إذا دخل أحدكم المسجد فليصل ركعتين"‪.‬‬
‫عاـ في جمي المساجد إال المسجد الحراـ‪.‬‬
‫وىذا ٌ‬
‫كذلك إذا أراد من دخل المسجد الحراـ أف يطوؼ بالبيت‪ ،‬فالسنة أف يبدأ بالطواؼ‪ ،‬وإف لم يرد الطواؼ وأراد الجلوس‪ ،‬فعليو أف يصلي‬
‫ركعتين تحيةً للمسجد قبل أف يجلس‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬ثم سلم على النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فرد عليو السالـ ثم قاؿ‪ :‬ارج فصل فإنك لم تصل"‪.‬‬
‫والمعنى ىنا‪ :‬أي أف صالتك ىذه غير صحيحة‪.‬‬
‫فرج فصلى كصالتو األولى كما كاف صلى من قبل‪ ،‬وكرر ىذا ثالث مرات‪ ،‬ثم لما قاؿ لو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ذلك في الثالثة‪ ،‬قاؿ‪:‬‬
‫"والذي بعثك بالحق ال أحسن غيره"‪.‬‬
‫وىذا إقر ٌار من خالد بن راف بصدؽ ما جاء بو النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬قاؿ‪" :‬والذي بعثك بالحق"‪.‬‬
‫يعني‪ :‬صدؽ أف اهلل عز وجل أرسلو بالحق‪.‬‬
‫ثم قاؿ لو‪ :‬علمني‪ :‬فبدأ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بتعليمو‪،‬‬
‫فقاؿ‪( :‬إذا قمت) أي‪ :‬إذا أردت الصالة‪( ،‬فكبر) أي‪ :‬تكبيرة اإلحراـ‪.‬‬
‫أىل العلم استدؿ بو على عدـ وجوب قراءة الفاتحة‪.‬‬ ‫(ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآف)‪ ،‬وىذا محموؿ على قراءة الفاتحة‪ ،‬إال أف بع‬
‫والصحيح أف الفاتحة واجبةٌ لألحاديث التي وردت تبين ذلك‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫ثم ذكر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) األركاف العامة في الصالة وىي‪:‬‬
‫‪ -‬القياـ‬
‫‪ -‬والركوع‬
‫‪ -‬واالعتداؿ منو‬
‫‪ -‬والسجود‬
‫‪ -‬واالعتداؿ منو‪ ،‬إلى آخر ما ذكر في ىذا الحديث‪.‬‬
‫ىذا إف دؿ فيدؿ على أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ألزمو باالطمئناف‪ ،‬وىذا الحديث من أقوى األدلة على وجوب االطمئناف في أفعاؿ‬
‫الصالة‪.‬‬
‫واالطمئناف يكوف بشيئين‪:‬‬
‫‪ -‬إنما يكوف بالسكوف بحيث يعود كل عض ٍو إلى مكانو‪.‬‬
‫مثال فيو التسبيح‪ ،‬والركوع فيو‬ ‫‪ -‬وإما أف يكوف بأداء الذكر الواجب‪ ،‬فما من رك ٍن في الصالة إال وفيو ٌ‬
‫ذكر‪ ،‬إما التسبيح كالسجود ً‬
‫التسبيح‪ ،‬والرف منو فيو سم اهلل لمن حمده‪ ،‬وىكذا‪.‬‬
‫ضا يكوف بأداء الذكر الواجب كالتسبيح في الركوع والسجود‪ ،‬والذكر في الجلسة بين السجدتين‪.‬‬
‫يعني‪ :‬االطمئناف أي ً‬
‫وىذا أقل ما يسمى اطمئنانًا‪ ،‬أي‪ :‬أقل شيء في االطمئناف فمن زاد على ذلك فهو خير‪.‬‬
‫ثم قاؿ لو‪( :‬ثم افعل ذلك في صالتك كلها)‪.‬‬
‫أي‪ :‬في كل ركعة تفعل ذلك‪ ،‬في صالتك كلها أي تشمل كذلك النافلة والفريضة‪.‬‬

‫ىناؾ فوائد مستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية الصالة عند دخوؿ المسجد‪ ،‬وىذا ما يسمى بتحية المسجد‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬بياف حرص النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على أمتو‪ ،‬حيث كاف يراقب الداخل إلى المسجد وينظر ماذا يفعل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬مشروعية السالـ على من في المسجد؛ ألف خالد بن راف سلم على النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فرد عليو ولم ينكر‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬وجوب إعادة العبادة إذا فعلها العبد على ٍ‬
‫وجو ال يجزئ؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أمر خالد باإلعادة‪ ،‬قاؿ‪:‬‬
‫فص ّل"؛ ألف صالتو ال تجزئو‪.‬‬
‫"ارج َ‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬إثبات رسالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في قولو‪" :‬والذي بعثك بالحق"‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬ترسيخ قاعدة عدـ جواز تأخير البياف عن وقت الحاجة؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عندما رآه لم يسكت إنما‬
‫نصحو‪ ،‬وقاؿ‪" :‬ارج فصل"‪ ،‬ولم يؤخر ىذا البياف‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬جواز القسم بدوف استقساـ‪ ،‬كما فعل خالد‪ ،‬ولم ينكر عليو النبي (والذي بعثك بالحق)‪.‬‬
‫نارا؛ ضيعوا علينا الصالة"‬
‫وكما مر معنا قبل ذلك في حديث عمر لما جاء في يوـ الخندؽ وقاؿ‪" :‬مأل اهلل قبور المشركين وأجوافهم ً‬
‫فقاؿ النبي‪" :‬واهلل ما صليتها" بدوف استقساـ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬يحسن بالمرء أف يطلب علم ما يجهل‪ ،‬كما قاؿ خالد للنبي (صلى اهلل عليو وسلم) (علمني)‪ ،‬وىذا في أمور الدين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬وجوب التكبير عند الدخوؿ في الصالة‪ ،‬وال يجزئ غيره تكبيرة اإلحراـ بلفظ (اهلل أكبر)‪ ،‬ومحلها كما ذكرت قبل‬
‫ذلك وىو قائم لمن استطاع القياـ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬وجوب الركوع والطمأنينة فيو‪ ،‬ووجوب الرف منو واالعتداؿ بعده‪ ،‬وكذلك وجوب السجود والطمأنينة فيو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية عشر‪ :‬يتساوى الفرض والنفل في الواجبات واألركاف لقولو‪" :‬افعل ذلك في صالتك كلها"‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫جاىال بأركاف الصالة‪ ،‬فلم تسقط عنو‪ ،‬لكن النبي‬
‫جهال؛ ىذا خالد كاف ً‬
‫سهوا وال ً‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة عشر‪ :‬أف أركاف الصالة ال تسقط ً‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) أمره باإلعادة‪.‬‬
‫دليل على وجوب الترتيب؛ لقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬ثم افعل كذا‪ ،‬ثم افعل كذا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة عشر‪ :‬في ىذا الحديث ٌ‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة عشر‪ :‬مشروعية حسن التعليم واألمر بالمعروؼ والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر أال وىو (باب القراءة في الصالة)‬
‫وذكر فيو حديثًا عن عبادة بن الصامت قاؿ فيو‪ :‬إف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬ال صالة لمن لم يقرأ بأـ الكتاب"‪.‬‬
‫وىذا الحديث من األحاديث التي يستدؿ بها أىل العلم على وجوب قراءة الفاتحة في الصالة‪.‬‬
‫فرضا أو جنازة أو غير ذلك من الصلوات‪.‬‬
‫نفال أو ً‬
‫وقولو‪( :‬ال صالة) تشمل كل صالة سواءً كانت ً‬
‫وقولو‪( :‬ال صالة) ىي‪ :‬نفي لصحة الصالة إذا لم يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب‪.‬‬
‫والنفي كما ذكرت قبل ذلك أنو يتوجو لثالثة أشياء‪ :‬إما لنفي الوجود‪ ،‬وإما لنفي الصحة‪ ،‬وإما لنفي الكماؿ‪.‬‬
‫نفي الوجود ىنا ال يلتفت إليو؛ ألف الصالة موجودة حقيقةً‪( ،‬الرجل صلى) فيتجو لنفي الصحة؛ ألنو ىو األصل الذي بعده‪.‬‬
‫منفردا‪.‬‬
‫مأموما أو ً‬
‫إماما أو ً‬ ‫سواء كاف ً‬
‫مصل ً‬‫ويشمل النفي ىنا صالة كل ٍ‬
‫(وفاتحة الكتاب) أي‪ :‬سورة الفاتحة‪.‬‬
‫فكل مصل لم يقرأ بها كاملة‪ ،‬فإف صالتو غير صحيحة فلو أسقط حرفًا‪ ،‬أو لحن لحنًا جليًا أحاؿ المعنى بطلت صالتو‪.‬‬
‫إال أف العلماء قد اختلفوا في ىذه المسألة‪ ،‬قالوا‪ :‬ىل قراءة الفاتحة واجبة أـ ال؟ فالجمهور على أنها واجبة‪.‬‬
‫خالفًا لألحناؼ الذين يقولوف‪ :‬بأنها سنة وأنو بأي ٍ‬
‫شيء قرأ من القرآف يجزئو‪.‬‬
‫واختلفوا كذلك ىل ىي واجبة على اإلماـ والمأموـ والمنفرد‪ ،‬أـ على اإلماـ والمنفرد فقط؟‬
‫‪ -‬اإلجماع على وجوبها على اإلماـ والمنفرد‪.‬‬
‫سواء كانت الصالة سرية أو جهرية‪.‬‬
‫‪ -‬أما على المأموـ‪ ،‬فاألحناؼ والحنابلة يروف سقوطها عن المأموـ مطل ًقا‪ً ،‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬والشافعية يقولوف بوجوب قراءتها على الجمي إماـ ومأموـ ومنفرد أي ً‬
‫‪ -‬المالكية‪ :‬يقولوف بوجوب قراءتها على المأموـ في السرية‪ ،‬وتسقط عنو في الجهرية‪.‬‬
‫ولكل ٍ‬
‫أدلة يستدؿ بها‪ ،‬لكن ال يتس الوقت لبسطها اآلف‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫ضا ىل الفاتحة واجبة في جمي الصلوات أـ ال؟‬


‫واختلفوا أي ً‬
‫الجمهور على أنها واجبة في جمي الصلوات‪ ،‬إال أف شيخ اإلسالـ قاؿ‪ :‬إال صالة الجنازة‪ ،‬فإف صالة الجنازة الواجب فيها الدعاء‪ ،‬وإنما‬
‫كملت الصالة بالفاتحة‪ ،‬وال يرى أنها واجبة في صالة الجنازة‪.‬‬
‫إال أف قوؿ الجمهور أكبر؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬ال صالة لمن لم يقرأ بأـ الكتاب" أو "بفاتحة الكتاب"‪ ،‬فشمل النهي ىنا‬
‫جمي الصلوات بما فيها صالة الجنازة‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬بياف فضل سورة الفاتحة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬وجوب قراءة الفاتحة في الصالة‪ ،‬وىذا في كل ركعة لقولو‪" :‬وافعل ذلك في صالتك كلها"‪.‬‬

‫ثم ذكر حديث أبي قتادة األنصاري قاؿ‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يقرأ في الركعتين األوليين من صالة الظهر بفاتحة الكتاب‪،‬‬
‫وسورتين يطوؿ في األولى ويقصر في الثانية‪ ،‬ويسم اآلية أحيانًا‪ .‬وكاف يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين يطوؿ في األولى‪ ،‬ويقصر في‬
‫الثانية‪ ،‬وفي الركعتين األخريين بأـ الكتاب‪ ،‬وكاف يطوؿ في الركعة األولى في صالة الصبح‪ ،‬ويقصر في الثانية"‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫ضا بيّن أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يقرأ الفاتحة في كل ركعة وسورتين‪ ،‬سورةٌ في الركعة األولى بعد الفاتحة‪ ،‬وسورةٌ في الثانية‪.‬‬
‫ىنا أي ً‬
‫وقولو‪( :‬يطوؿ الصالة) يحتمل أنو يراد بو تطويل القراءة‪ ،‬ويحتمل أنو يراد بذلك تطويل الصالة كلها‪ ،‬أي في الركوع والسجود‪.‬‬
‫وقد مر معنا أف صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كانت متناسبةً في طولها‪ ،‬أو قصرىا‪.‬‬
‫(كاف يطوؿ في األولى ويقصر في الثانية)‪ ،‬وىذا يدؿ على أف ىناؾ فر ٌؽ في الطوؿ بين الركعة األولى والركعة الثانية‪.‬‬
‫والعلماء قد تكلموا في تطويل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في الركعة األولى‪ ،‬وقالوا‪ :‬إطالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في الركعة األولى‬
‫لوجهين‪:‬‬
‫متأخرا‪ ،‬فيدرؾ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في الصالة‪.‬‬
‫حاضرا الصالة‪ ،‬أي جاء ً‬
‫ً‬ ‫‪ -‬الوجو األوؿ‪ :‬من أجل أف يدرؾ من لم يكن‬
‫‪ -‬الوجو الثاني‪ :‬أف اإلنساف عندما يشرع في العبادة يكوف نشيطًا يكوف بقوتو؛ فناسب أف يكوف أوؿ الصالة أطوؿ من آخرىا‪.‬‬
‫سم اآلية أحيانًا) أي‪ :‬في السرية‪ .‬وعرفنا أنها في السرية؛ ألنو يحكي عن صالة الظهر‪ ،‬وىذا لتنبيو الصحابة رضي اهلل عنهم‪،‬‬ ‫قاؿ‪( :‬وي ِ‬
‫ُ‬
‫وإلعالمهم أنو يقرأ‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬وفي الركعتين األخريين بأـ الكتاب) أي‪ :‬يقرأ في الركعتين األخريين بالفاتحة‪ ،‬وال يقرأ سورًة أخرى‪ ،‬وكاف يطوؿ في الركعة األولى في صالة‬
‫الصبح‪ ،‬ويقصر في الثانية‪ ،‬وىذا للوجهين الذين ذكرتهما قبل‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية القراءة بعد الفاتحة في الركعتين األوليين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬مشروعية إطالة الركعة األولى على الثانية‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬استحباب اإلسرار في الظهر م جواز الجهر لقصد التعليم‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف حديثًا آخر عن جبير بن مطعم قاؿ‪" :‬سمعت النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يقرأ في المغرب بالطور"‪.‬‬
‫(جبير بن مطعم) ىو ابن المطعم بن عدي‪ ،‬النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في أسارى بدر قاؿ‪" :‬لو كاف المطعم بن عدي حيِّا‪ ،‬وكلمني في ىؤالء‬
‫النتنى (أي‪ :‬األسرى)‪ ،‬ألعطيتهم إياه"‪.‬‬
‫يحتمل أف جبير بن مطعم كاف سم ىذا؛ فذىب إلى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ليكلمو في ىؤالء األسرى‪ ،‬فلما ذىب صادؼ أف النبي‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) كاف يصلي صالة المغرب‪ ،‬فكاف يقرأ في المغرب بالطور‪.‬‬
‫فعندما سم جبير النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يقرأ بالطور ثبت عنو أنو لما سم قراءة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) {أ َْـ ُخلِ ُقوا ِم ْن غَْي ِر َش ْي ٍء أ َْـ‬
‫ُى ُم الْ َخالُِقو َف ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬إني حين سمعتها كاد قلبي أف يطير‪ ،‬وىذا من شدة وقعها في قلبو‪.‬‬
‫وىنا ثبت أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قرأ في المغرب بالطور‪ ،‬وىذا يبين قراءة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في المغرب‪.‬‬
‫والطور من طواؿ المفصل‪ ،‬وقرأ بها النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاملة؛ ألنو قاؿ‪" :‬يقرأ بالطور"‪ ،‬والعلماء يقولوف إف الباء ىنا لالستيعاب‪ ،‬أي‬
‫قرأ السورة كلها‪.‬‬

‫الفوائد‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف المشروع ىو الجهر بالقراءة في صالة المغرب‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز إطالة القراءة فيها‪ ،‬والقراءة بطواؿ المفصل‪.‬‬

‫ذكر المصنف بعد ذلك حديث البراء بن عازب (رضي اهلل عنو)‪" :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف في سفر‪ ،‬فصلى العشاء اآلخرة‪ ،‬فقرأ في‬
‫الزيػتُ ِ‬
‫وف ‪ ،‬قاؿ‪ :‬فما سمعت أح ًدا أحسن صوتًا أو قراءةً منو"‪.‬‬ ‫إحدى الركعتين { َوالتْي ِن َو َّ ْ‬
‫ىنا أراد البراء (رضي اهلل عنو) أف يبين أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف في سفر‪ ،‬والسفر شرع فيو قصر الصالة‪ ،‬فمن باب أولى التخفيف‬
‫فيها‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫قاؿ‪( :‬فصلى العشاء اآلخرة) أي‪ :‬المتأخرة؛ ألف المغرب عشاءٌ أولى‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬فقرأ في إحدى الركعتين بالتين) أى‪ :‬بقصار المفصل‪.‬‬
‫قاؿ فما سمعت أح ًدا أحسن صوتًا‪ ،‬أو قراءةً منو‪.‬‬
‫فهنا اجتم في قراءة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ثالثة أمور‪:‬‬
‫‪ -‬األوؿ‪ :‬التخفيف‪ ،‬أنو قرأ بقصار المفصل‪َ { ،‬والتْي ِن َو َّ‬
‫الزيْػتُوف ِ‪.‬‬
‫‪ -‬الثاني‪ :‬حسن األداء‪.‬‬
‫‪ -‬الثالث‪ :‬حسن الصوت كذلك‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫وسفرا‪.‬‬
‫حضرا ً‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف السنة في العشاء الجهر بالقراءة ً‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أنو يجوز فيها القراءة بقصار المفصل‪ ،‬كما سيأتي‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬حسن صوت النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقد كاف (صلى اهلل عليو وسلم) أحسن الناس قراءةً‪.‬‬

‫رجال على ٍ‬
‫سرية‪ ،‬فكاف يقرأ ألصحابو في صالتو‪ ،‬فيختم ب‬ ‫ثم ذكر حديث عائشة (رضي اهلل عنها) "أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) بعث ً‬
‫{قُل ىو اللَّو أَح ٌد ‪ ،‬فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقاؿ‪ :‬سلوه ألي ٍ‬
‫شيء يصن ذلك؟ فسألوه فقاؿ‪ :‬ألنها صفة‬ ‫ْ َُ ُ َ‬
‫الرحمن عز وجل‪ ،‬فأنا أحب أف أقرأ بها‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬أخبروه أف اهلل تعالى يحبو"‪.‬‬
‫أميرا عليها‪.‬‬
‫رجال على سرية) أى‪ً :‬‬
‫قوؿ عائشة (رضي اهلل عنها)‪( :‬بعث النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ً‬
‫والسرية جزءٌ من الجيأ‪.‬‬
‫ومن العادة أف يكوف األمراء ىم األئمة في الصالة‪ ،‬فكاف يقرأ ألصحابو في صالتهم فيختم ب {قُ ْل ُى َو اللَّوُ أ َ‬
‫َح ٌد ‪.‬‬
‫‪ -‬محتمل أنو كاف يختم بها قراءتو في الركعة األولى‪ ،‬بعد قراءتو الفاتحة وسورةٌ أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬ومن المحتمل أنو كاف يقرأىا في الركعة الثانية‪ ،‬فيختم بها القراءة‪.‬‬
‫كل ىذا األمر لم يكن يألفو الصحابة رضي اهلل عنهم‪ ،‬فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬ ‫على ٍ‬
‫أمر‪ ،‬فإنهم كانوا يردونو إلى رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ليبين لهم‪.‬‬
‫فهنا نقف م فعل الصحابة أنهم كانوا إذا أشكل عليهم ٌ‬
‫فماذا نفعل نحن اآلف بعد موت النبي صلى اهلل عليو وسلم؟ الجواب‪ :‬إننا نرد ذلك إلى كتاب اهلل‪ ،‬وسنة رسولو (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫شيء يصن ذلك؟"‬ ‫فهنا لما أخبروا النبي صلى اهلل عليو وسلم؛ قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬سلوه‪ ،‬ألي ٍ‬
‫فلما سألوه قاؿ‪ :‬إنها صفة الرحمن‪ ،‬وأنا أحب أف أقرأىا‪.‬‬
‫فقاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أخبروه أف اهلل يحبو"‪.‬‬
‫فيا لها من ٍ‬
‫منقبة عظيمة‪ ،‬كاف يقرأ ويصحب القراءة بنية أنو يحب صفة الرحمن‪ ،‬فكاف جراء ذلك أف اهلل عز وجل أحبو‪.‬‬

‫الفوائد‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬فضل سورة اإلخالص‪ ،‬وقد ثبت أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إنها تعدؿ ثلث القرآف"‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف أمير القوـ ىو إمامهم؛ فينبغي أف يكوف من أىل العلم والفضل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬تفاضل آيات القرآف‪ ،‬فقد ثبت أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬أعظم آية في القرآف {اللَّوُ ال إِلَوَ إَِّال ُى َو ال َ‬
‫ْح ُّي‬
‫وـ ‪ ،‬وكذلك في فضل سورة الفاتحة‪ ،‬وكذلك في فضل سورة اإلخالص قاؿ‪" :‬إنها تعدؿ ثلث القرآف" فآيات القرآف تتفاضل‪.‬‬ ‫الْ َقيُّ ُ‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف األعماؿ يكتب ثوابها بسبب ما يصاحبها من ٍ‬
‫نية صالحة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬إثبات صفة المحبة هلل عز وجل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬جواز أو مشروعية بشرى المؤمن قاؿ‪" :‬أخبروه أف اهلل يحبو"‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ك ْاألَ ْعلَى‪،‬‬
‫اس َم َربْ َ‬
‫بسبْ ِح ْ‬
‫قاؿ‪ :‬الحديث الذي بعد ذلك عن جابر (رضي اهلل عنو) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ لمعاذ‪" :‬فلوال صليت َ‬
‫شى‪ ،‬فإنو يصلي وراءؾ الكبير والضعيف وذو الحاجة"‪.‬‬ ‫اىا‪َ ،‬واللَّْي ِل إِذَا يَػغْ َ‬
‫ض َح َ‬ ‫الش ْم ِ‬
‫س َو ُ‬ ‫َو َّ‬
‫ىنا سبب ىذا الحديث أف معاذًا (رضي اهلل عنو) كاف يصلي م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) العشاء؛ ليتعلم منو ويقتدي بو‪ ،‬ثم يرج إلى قومو‬
‫رجل من القوـ (يعني‪ :‬انفصل عنو وصلى وحده)‪،‬‬ ‫فيصلي بهم‪ ،‬وكانوا أصحاب ٍ‬
‫عمل وحرث‪ ،‬فلما صلى بهم ابتدأ القراءة بسورة البقرة‪ ،‬فانفتل ٌ‬
‫فرماه معاذ (رضي اهلل عنو) بالنفاؽ‪ .‬لما علم ذلك‪ ،‬قاؿ‪ :‬واهلل إنو لمنافق‪ ،‬فلما أُخبر الرجل شكاه للنبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فدعا النبي (صلى‬
‫الش ْم ِ‬
‫س‬ ‫ك ْاألَ ْعلَى‪َ ،‬و َّ‬
‫اس َم َربْ َ‬
‫بسبْ ِح ْ‬
‫صادا للناس عن دينهم) أال صليت بكذا وكذا َ‬
‫اهلل عليو وسلم) معاذًا‪ ،‬وقاؿ‪" :‬أتريد أف تكوف فتانًا (أي‪ً :‬‬
‫شى"‪ ،‬وبين لو أف وراءه الكبير الذي ال يستطي القياـ‪ ،‬والضعيف الذي ال يقوى عليو‪ ،‬وذو الحاجة الذي لو حاجة قد‬ ‫اىا‪َ ،‬واللَّْي ِل إِذَا يَػغْ َ‬
‫ض َح َ‬
‫َو ُ‬
‫تشغلو عن الصالة إذا طوؿ فيها اإلماـ‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬جواز الغضب عند الموعظة؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في ىذا الحديث قيل إنو غضب غضبًا شدي ًدا‪ ،‬ووعظ‬
‫معاذ وىو غضباف‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬األفضل أف يراعي اإلماـ حاؿ المأمومين‪ ،‬ىذا بالنسبة للطوؿ والقصر‪.‬‬
‫الش ْم ِ‬
‫س‬ ‫ك ْاألَ ْعلَى‪َ ،‬و َّ‬
‫اس َم َربْ َ‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬مشروعية القراءة في العشاء بأوسط المفصل‪ ،‬كما قاؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ( َسبْ ِح ْ‬
‫اىا)‪.‬‬
‫ض َح َ‬
‫َو ُ‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬حسن تعليم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) للصحابة ولألمة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز االنفصاؿ عن اإلماـ للحاجة‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر‪ ،‬أال وىو‪( :‬ترؾ الجهر ببسم اهلل الرحمن الرحيم)‪ ،‬ومن فقو المؤلف ىنا رحمو اهلل أنو قاؿ‪( :‬باب ترؾ الجهر‬
‫ببسم اهلل الرحمن الرحيم)‪ ،‬فالحديث الذي ورد ال يدؿ على ترؾ القراءة؛ إنما يدؿ على ترؾ الجهر بها‪.‬‬
‫ىذا الحديث قاؿ فيو عن أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) "أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحوف الصالة بالحمد هلل رب‬
‫العالمين"‪ ،‬وفي رواية قاؿ‪" :‬صليت م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) وأبي بك ٍر وعمر وعثماف‪ ،‬فلم أسم أح ًدا منهم يقرأ بسم اهلل الرحمن‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم "صليت خلف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وأبي بك ٍر وعمر وعثماف رضي اهلل عنهم‪ ،‬فكانوا يستفتحوف الصالة بالحمد هلل‬ ‫الرحيم"‪،‬‬
‫رب العالمين‪ ،‬ال يذكروف بسم اهلل الرحمن الرحيم في أوؿ قراءةٍ‪ ،‬وال في آخرىا"‪.‬‬
‫جهرا‪ ،‬وقالوا إنها آية من الفاتحة‪ ،‬وىذا بخالؼ قوؿ جمهور أىل العلم‪.‬‬
‫أىل العلم أف البسملة تقرأ ً‬ ‫ىنا رأى بع‬
‫فجمهور أىل العلم يقولوف‪ :‬بأنها ليست آية من آيات الفاتحة‪.‬‬
‫فهنا يذكر أنس (رضي اهلل عنو) أنو م طوؿ صحبتو للنبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ومالزمتو لخلفائو‪ ،‬لم يسم أح ًدا منهم يقرأ بسم اهلل الرحمن‬
‫الرحيم (أي‪ :‬في بداية القراءة في الفاتحة)‪ ،‬وال بين السور (يعني‪ :‬ال في أولها وال في آخرىا)‪ ،‬قاؿ‪ :‬وإنما كانوا يفتتحوف الصالة بالحمد هلل رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫وىذه المسألة قد اختلف العلماء فيها‪،‬‬
‫‪ -‬فذىب الجمهور إلى استحباب البسملة‪ ،‬ومنهم أبو حنيفة رحمو اهلل والشافعي وأحمد‪.‬‬
‫جهرا)‪.‬‬
‫‪ -‬واإلماـ مالك قاؿ بعدـ مشروعيتها (يعني‪ :‬الكالـ فيها ً‬
‫ىنا في قوؿ الجمهور قالوا‪ :‬باستحباب قراءتها‪ ،‬يبسمل قبل أف يقرأ‪.‬‬
‫واختلفوا في الجهر بها ىل يجهر بها أـ ال؟‬
‫‪ -‬فالشافعية يقولوف‪ :‬بمشروعية الجهر بها‪.‬‬
‫‪ -‬وقاؿ األحناؼ والحنابلة باإلسرار أي يسر بها؛ ألف ىذا كاف أغلب أحواؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كما دلت األحاديث على ذلك‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية قراءة البسملة بعد االستفتاح والتعوذ‪.‬‬
‫سرا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف تكوف قراءتها ً‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف البسملة ليست آية من الفاتحة‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف الترؾ قد يكوف سنة‪ ،‬كما أف الفعل سنة أي ً‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر أال وىو‪( :‬باب سجود السهو)‬
‫ذكر فيو حديثًا عن محمد بن سيرين عن أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬صلى بنا رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) إحدى صالتي العشي‪ ،‬قاؿ‬
‫ٍ‬
‫معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنو غضبا ٌف‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫خشبة‬ ‫ابن سيرين‪ :‬سماىا أبو ىريرة ولكني نسيت أنا‪ ،‬قاؿ‪ :‬فصلى بنا ركعتين ثم سلم‪ ،‬فقاـ إلى‬
‫السرعاف) من أبواب المسجد فقالوا‪ :‬قصرت الصالة‪ ،‬وفي‬
‫رعا ُف (وفي رواية ُّ‬
‫الس َ‬
‫ووض يده اليمنى على اليسرى‪ ،‬وشبك بين أصابعو‪ ،‬وخرجت َّ‬
‫القوـ أبو بك ٍر وعمر فهابا أف يكلماه‪ ،‬وفي القوـ ٌ‬
‫رجل في يديو طوؿ يقاؿ لو‪( :‬ذو اليدين)‪ ،‬قاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل أنسيت أـ قصرت الصالة؟ قاؿ‪:‬‬
‫لم أنس ولم تقصر‪ ،‬فقاؿ‪ :‬أكما يقوؿ ذو اليدين؟ فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فتقدـ فصلى ما ترؾ‪ ،‬ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطوؿ‪ ،‬ثم رف رأسو‬
‫فكبر‪ ،‬ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطوؿ ثم رف رأسو وكبر‪ ،‬فربما سألوه‪ :‬ثم سلم؟ قاؿ‪ :‬فنُبْئت أف عمراف بن حصين قاؿ‪ :‬ثم سلم"‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬العشي"‪ :‬ما بين زواؿ الشمس إلى غروبها قاؿ اهلل تعالى‪َ { :‬و َسبْ ْح بِ َح ْم ِد َربْ َ‬
‫ك بِال َْع ِش ْي َو ِْ‬
‫اإلبْ َكا ِر‬
‫وقاؿ‪ :‬عن عبد اهلل بن بحينة‪ ،‬وكاف من أصحاب النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى بهم الظهر‪ ،‬فقاـ في‬
‫الركعتين األوليين ولم يجلس‪ ،‬فقاـ الناس معو حتى إذا قضى الصالة وانتظر الناس تسليمو‪ ،‬كبر وىو جالس‪ ،‬فسجد سجدتين قبل أف يسلم ثم‬
‫سلم"‪.‬‬
‫ىنا ذكر حديثًا في الزيادة‪ ،‬وذكر حديثًا في النقصاف ىذا بالنسبة للسهو‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لحكم كثيرة منها‪:‬‬ ‫والسهو ىو النسياف‪ ،‬وقد وق ذلك من النبي صلى اهلل عليو وسلم‪،‬‬
‫بشرية النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬أنو بشر قد يطرأ عليو ما يطرأ على البشر‪.‬‬
‫بشر أنسى كما تنسوف"‪.‬‬
‫وقد قاؿ صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إنما أنا ٌ‬
‫ضا التشري لهذه األمة إذا وق منهم ذلك‪ ،‬فشرع لهم سجود السهو‪.‬‬
‫ومن ىذه الحكم أي ً‬
‫وسجود السهو لو أسباب ثالثة‪:‬‬
‫‪ -‬إما أف يكوف بسبب زيادة في الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬وإما أف يكوف بسبب ٍ‬
‫نقص فيها‪.‬‬
‫وإرغاما للشيطاف‪ ،‬ورضاءً للرحمن‪.‬‬ ‫جبرا للنقصاف‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫‪ -‬أو أف يكوف بسبب شك فيها‪ ،‬فشرع السهو ً‬
‫وسجود السهو قد اختلف فيو أىل العلم متى يكوف؟‬
‫‪ -‬فمنهم من قاؿ‪ :‬يكوف بعد السالـ مطل ًقا‪ ،‬وىذا مذىب األحناؼ‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من قاؿ‪ :‬يكوف قبل السالـ مطل ًقا‪ ،‬وىو قوؿ الشافعية‪.‬‬
‫نقص‪ ،‬فيكوف بعد السالـ‪ ،‬وإف كاف عن زيادة أو ٍ‬
‫شك يكوف قبلو‪ ،‬وىذا مذىب الحنابلة‪.‬‬ ‫قوؿ بالتفصيل قالوا‪ :‬إف كاف عن ٍ‬ ‫‪ -‬وىناؾ ٌ‬
‫نقص؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) سلم من ركعتين‪ ،‬ثم لما ذُكر قاـ فأتى بالركعتين‪ ،‬ثم سلم وسجد للسهو‪.‬‬
‫ىنا في إاىر الحديث أنو فيو ٌ‬
‫نقص لكن في الحقيقة أنو فيو زيادة‪ ،‬وىذه الحالة فقط التي قاؿ فيها الحنابلة بأف السجود يكوف بعد السالـ‪ ،‬وىي أنو إذا سلم‬
‫ىو في إاىره ٌ‬
‫اإلماـ قبل إتمامو الصالة‪ ،‬فهنا يكوف السجود بعد السالـ في ىذه الحالة فقط؛ ليس في الزيادات‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬إنو إذا سلم قبل إتمامو يسجد للسهو بعد السالـ كما فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في ىذه الحالة‪ ،‬بخالؼ ذلك قالوا‪ :‬إنو يسجد‬
‫قبل السالـ‪ ،‬ففي ىذه الحالة وإف كاف الظاىر النقص إال أف فيو زيادة‪.‬‬
‫ما ىي الزيادة؟ أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) سلم تسليمتين بعد ركعتين‪ ،‬ثم سلم تسليمتين بعد الركعتين األخريين اللتين أتى بهما‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫ٍ‬
‫معروضة في المسجد"‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫خشبة‬ ‫فهنا قاؿ‪" :‬فقاـ إلى‬
‫مغموـ متأثر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أي‪ :‬في قبلة المسجد ووض خده األيمن على إهر كفو اليسرى‪ ،‬وكأنو‬
‫يعني‪ :‬قاؿ العلماء‪ :‬ىذا ليقظة النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وكأنو شعر بأف ىناؾ شيئًا لم يستكمل‪ ،‬ولكن مسألة النسياف طرأت عليو للتشري ‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬ووض يده اليمنى على اليسرى‪ ،‬وشبك بين أصابعو"‪.‬‬
‫وىنا إشكالية؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد نهى عن تشبيك األصاب في المسجد‪ ،‬فقاؿ‪" :‬إذا أتى أحدكم المسجد‪ ،‬فال يقل ىكذا‬
‫وشبك بين أصابعو"‪ .‬أي‪ :‬ال يشبك األصاب ‪.‬‬
‫تشبيك األصاب لو ثالث حاالت‪:‬‬
‫منهي عنو للحديث الذي ذكرتو‪.‬‬
‫‪ -‬الحالة األولى‪ :‬إما أف يكوف قبل الصالة‪ ،‬فهذا ٌ‬
‫محرما‪.‬‬
‫‪ -‬الحالة الثانية‪ :‬إما أف يكوف التشبيك أثناء الصالة؛ فهذا أشد نهيًا‪ ،‬وأشد كراىةً‪ ،‬إف لم يكن ً‬
‫‪ -‬الحالة الثالثة‪ :‬أف يكوف بعد الصالة‪ ،‬فهذه الحالة ثبت أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فعلها كما جاء في حديث ذي اليدين‪ ،‬فجوزه‬
‫أىل العلم‪ ،‬وقاؿ‪ :‬إف التشبيك بعد انتهاء الصالة جائز‪.‬‬ ‫بع‬
‫وقالوا‪ :‬إف التشبيك في غير ىذه المواض فهو جائز مطل ًقا‪.‬‬
‫السرعاف من المسجد" أي‪ :‬خرج الناس مسرعين من المسجد‪ ،‬فقالوا‪ :‬قصرت الصالة؛ لم يخطر ببالهم أف النبي‬
‫الس َر َعا ُف أو ُّ‬
‫قاؿ‪" :‬وخرجت َّ‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) يطرأ عليو النسياف‪ ،‬كما يطرأ على البشر‪ ،‬فقالوا‪ :‬قصرت الصالة‪.‬‬
‫وفي القوـ أبو بك ٍر وعمر فهابا أف يكلماه؛ ألف اهلل عز وجل ألقى على النبي (صلى اهلل عليو وسلم) مهابة‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬وفي القوـ رجل في يديو طوؿ"‪ ،‬وىو الخرباؽ بن عمرو السلمي‪ ،‬وكاف بينو وبين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) مزاح‪ ،‬كاف النبي (صلى اهلل‬
‫عليو وسلم) يسميو بذي اليدين‪ ،‬وغالبًا الرجل الذي يكوف بينو وبين أخيو مزاح‪ ،‬فتكوف الصلة أكثر‪ ،‬وقد يتجرأ أف يسألو أسئلة ال يتجرأ عليها‬
‫غيره فهنا الخرباؽ بن عمرو السلمي قط ىذا الصمت بسؤاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقاؿ‪" :‬يا رسوؿ اهلل أقصرت الصالة أـ نسيت؟ قاؿ‪:‬‬
‫"لم أنس ولم تقصر"‪.‬‬
‫قصر في الصالة‪ ،‬فتأكد أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد طرأ عليو النسياف‪،‬‬
‫فهنا تأكد الخرباؽ أنو ليس ىناؾ تشري ٌ جديد‪ ،‬وليس ىناؾ ٌ‬
‫فقاؿ‪" :‬بل نسيت يا رسوؿ اهلل"‪.‬‬
‫فهنا سأؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أكما يقوؿ ذو اليدين؟ قالوا‪ :‬نعم"‪.‬‬
‫‪ -‬فتقدـ‪ :‬أي تقدـ إلى مكانو الذي صلى فيو‪.‬‬
‫‪ -‬فصلى ما ترؾ‪ :‬أي الركعتين الباقيتين‪.‬‬
‫‪ -‬ثم سلم‪ ،‬ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطوؿ‪ ،‬ثم رف رأسو فكبر‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬فربما سألوه‪ ،‬أي أبا ىريرة‪ ،‬ىل سلم أـ ال؟‬
‫يعني سلم بعد سجود السهو ىذا أـ ال؟‬
‫فقاؿ‪ :‬نُبئت أف عمراف بن حصين قاؿ‪" :‬ثم سلم"‪ ،‬فروى أبو ىريرة (رضي اهلل عنو) عن عمراف بن حصين أنو قاؿ‪" :‬ثم سلم"‪.‬‬
‫يعني‪ :‬سجود السهو ىنا كاف بعد التسليم من الصالة؛ للزيادة التي طرأت في الصالة‪.‬‬
‫ثم في حديث عبد اهلل بن بحينة "أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى بهم الظهر‪ ،‬فقاـ من الركعتين ولم يجلس"‪.‬‬
‫واجب)‬
‫ٌ‬ ‫(أي لم يجلس للتشهد األوسط‪ ،‬والتشهد األوسط‬
‫‪ -‬فقاـ الناس معو" (أي تابعوه)‪.‬‬
‫"فلما انقضت الصالة انتظر الناس تسليم النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فسجد قبل السالـ سجدتين ثم سلم"‪.‬‬
‫ىنا استدؿ العلماء بهذا الحديث على وجوب التشهد األوسط‪ ،‬واستدلوا على أف النقصاف في الصالة يكوف السهو لو قبل السالـ‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬جواز السهو من األنبياء في األفعاؿ البالغية؛ وىذا للتشري ‪ ،‬أما األقواؿ البالغية فالسهو فيها ممتن ؛ وىذا لكماؿ‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫سهوا‪ ،‬أو م غلبة الظن أنها صحيحة ال يبطلها‪ ،‬ىذا أُخذ من ىذا الحديث؛ ألف النبي‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬الخروج من الصالة قبل إتمامها ً‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) لم يعد الصالة؛ إنما أتمها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف الكالـ لمصلحة الصالة من الناس؛ ال يبطلها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬وجوب سجود السهو لمن سها في الصالة بزيادةٍ أو نقصاف‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬أف سجود السهو ال يتعدد‪ ،‬ولو تعددت أسبابو‪.‬‬
‫فهنا لما ترؾ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) التشهد األوسط‪ ،‬وترؾ الجلوس لو؛ ىنا تعددت األسباب‪ ،‬لكن سجود السهو كاف واح ًدا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬جواز تشبيك اليدين بعد الصالة في المسجد‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬مشروعية التكبير لسجود السهو؛ ألنو كبر ثم سجد‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬أنو ال تشهد بعد سجود السهو؛ بل يكوف التسليم بعده‪.‬‬

‫ثم أتى المصنف ٍ‬


‫بباب آخر أال وىو‪( :‬المرور بين يدي المصلي)‬
‫إف المصلي إذا قاـ يصلي‪ ،‬فإنو يناجي اهلل عز وجل‪ ،‬وأف اهلل تعالى يكوف قِبل وجهو‪ ،‬وىو قائم بين يدي اهلل تبارؾ وتعالى‪ ،‬فالمرور بين يدي‬
‫المصلي في ىذه الحاؿ عدوا ٌف وإثم عظيم؛ ألنو يحوؿ بينو وبين ربو جل وعال‪ ،‬ويشوش فكر المصلي‪ ،‬فقد يلتفت المصلي إلى ىذا المار‪،‬‬
‫فينقص ذلك من صالتو‪.‬‬
‫وقد ذكر المصنف في ىذا الباب حديث أبي ٍ‬
‫جهيم عبد اهلل بن الحارث بن الصمة األنصاري رضي اهلل عنو‪ ،‬قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪" :‬لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليو من اإلثم لكاف يقف أربعين خيرا لو من أف يمر بين يديو"‬
‫والمرور الممنوع بين يدي المصلي أف يكوف المصلي يصلي لسترة‪ ،‬يعني جعل بينو وبين القبلة سترة‪ ،‬فيحرـ أف يمر أح ٌد بينو وبين السترة‪.‬‬
‫واألمر الثاني‪ :‬أال تكوف ىناؾ سترة‪ ،‬فهنا اختلف العلماء في الحد الذي يحرـ عليو المرور فيو‪،‬‬
‫‪ -‬فقاؿ بعضهم ثالثة أذرع‪ ،‬تكوف من مكاف األقداـ إلى األماـ‪،‬‬
‫راكعا يمد يديو إلى اإلماـ فهذه بمقدار الثالثة أذرع‪،‬‬
‫‪ -‬وبعضهم قاؿ إذا كاف ً‬
‫‪ -‬وقيل إف ىذه المسافة التي يحرـ المرور فيها‪ ،‬ىي ما بينو وبين محل سجوده‪ ،‬وىذا ىو األقرب السجود‪.‬‬
‫سواء كاف المصلي في صالة نافلة‪ ،‬أو كاف في صالة فريضة‪.‬‬
‫وىذا األمر ً‬
‫قاؿ‪" :‬فلو يعلم المار ما يكوف بين يديو من اإلثم"‪.‬‬
‫أمر عظيم‪ ،‬وأحيانًا يكوف التنكير لعظم‬
‫لفظة "من اإلثم" ىذه قاؿ العلماء إنها مدرجة من كالـ الراوي‪ ،‬لكن الثابت قاؿ‪" :‬لو يعلم ما عليو" ىذا ٌ‬
‫األمر‪.‬‬
‫شهرا أو سنة"‪.‬‬
‫يوما أو ً‬
‫فقاؿ‪" :‬لكاف يقف أربعين" وىنا ذكر أربعين مبهمة‪ ،‬فذكر العدد ىنا مبهم قاؿ‪" :‬ال ندري أربعين ً‬
‫خيرا لو أف ينتظر أربعين سنة‪ ،‬وال يمر بين‬
‫الروايات (أربعين خري ًفا) أي‪ :‬أنو لو ُخيّر بين أف يمر أو أف يبقى أربعين سنة‪ ،‬لكاف ً‬ ‫وقد ورد في بع‬
‫شهرا أو سنة‪.‬‬
‫يوما أو ً‬
‫يدي المصلي‪ .‬قاؿ أبو النضر‪ :‬ال أدري قاؿ أربعين ً‬
‫وذكر حديث أبي سعيد الخدري (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬سمعت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يقوؿ‪" :‬إذا صلى أحدكم إلى ٍ‬
‫شيء يستره من‬
‫الناس‪ ،‬فأراد أح ٌد أف يجتاز بين يديو فليدفعو‪ ،‬فإف أبى فليقاتلو فإنما ىو شيطاف"‬
‫ضا حرمة المرور بين يدي المصلي‪ ،‬فبين ىنا أف المصلي لو أف يتخذ شيئًا يصلي إليو (أي‪ :‬السترة)‪ ،‬فإذا أراد‬
‫وىنا في حديث أبي سعيد يبين أي ً‬
‫أح ٌد أف يمر بينو وبين ىذه السترة‪ ،‬فليدفعو‪ .‬وىذا ألمرين‪ :‬األوؿ‪ :‬لئال يق المار في اإلثم‪ ،‬والثاني‪ :‬لئال ينقص ىذا من أجر الصالة‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫فإف المصلي كما ذكرت إذا مر من أمامو أح ٌد‪ ،‬فإنو ينشغل بالنظر إليو‪ ،‬فينقص ىذا من ثواب صالتو‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬وليدفعو"‪ ،‬أي‪ :‬ليمنعو‪.‬‬
‫منعا‬
‫"فإف أبى فليقاتلو" ليس ىنا القتاؿ بمعنى القتاؿ على الحقيقة‪ ،‬أف يخرج السالح ويقتلو‪ ..‬ال؛ إنما ىي مبالغة ليبين شدة المن ‪ ،‬أي‪ :‬ليمنعو ً‬
‫شدي ًدا‪.‬‬
‫وقاؿ فإنما ىو شيطاف؛ ذلك ألنو يكوف فيو شبوٌ بالشيطاف‪ ،‬ومن ذلك التشويأ على الناس في صالتهم إذا مر من أمامهم وقطعها عليهم‪ ،‬وىذا‬
‫ما يريده الشيطاف إفساد العبادة على الناس‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف للمصلي حرمة‪ ،‬ويجب مراعاة حرمتو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أنو ال يحرـ المرور بعد مكاف السجود إف كاف يصلي لغير سترة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬المرور بين يدي المصلي من كبائر الذنوب‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬ينبغي على المصلي أال يصلي في طريق الناس‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬مشروعية السترة للمصلي‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬جواز دف الصائل‪ ،‬وأف دفعو يكوف باألسهل فاألسهل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬العمل في مصلحة الصالة ال يبطلها‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس عن عبد اهلل بن عباس (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬أقبلت راكبًا على حما ٍر أتاف‪ ،‬وأنا يومئذ قد ناىزت االحتالـ‪،‬‬
‫فمررت بين يدي بع الصف‪ ،‬فنزلت فأرسلت األتاف ترت ‪ ،‬ودخلت في‬ ‫ُ‬ ‫ورسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يصلي بالناس بِ ِمنى إلى غير جدا ٍر‪،‬‬
‫الصف‪ ،‬فلم ينكر ذلك علي أح ٌد"‪.‬‬

‫وعن عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬كنت أناـ بين يدي رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ورجالي في قبلتو‪ ،‬فإذا سجد غمزني‪ ،‬فقبضت‬
‫رجلي‪ ،‬فإذا قاـ بسطتهما‪ ،‬والبيوت ٍ‬
‫يومئذ ليس فيها مصابيح"‪.‬‬
‫ىنا عن عبد اهلل بن عباس (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬أقبلت راكبًا على حما ٍر أتاف" (واألتاف) ىي‪ :‬أنثى الحمار‪.‬‬
‫(وأنا ٍ‬
‫يومئذ قد ناىزت االحتالـ) أي‪ :‬قاربت االحتالـ‪.‬‬
‫ىذاف الحديثاف يتعلقاف بمسألة قط الصالة‪ ،‬وقط الصالة يحتمل بطالنها‪ ،‬ويحتمل نقصاف أجرىا‪ ،‬وىذا بالنسبة لمرور الحمار والمرأة أماـ‬
‫المصلي‪.‬‬
‫‪ -‬فالجمهور على عدـ قط الصالة يعني بمرور الحمار والمرأة‪.‬‬
‫اإلماـ أحمد ثبت عنو روايتاف في مشهور المذىب‪:‬‬
‫‪ -‬أنو ال يقط الصالة إال الكلب األسود البهيم‪ ،‬قاؿ‪ :‬في قلبي شيءٌ من المرأة والحمار‪ .‬أما المرأة فلحديث عائشة‪ ،‬قالت‪" :‬كنت أناـ‬
‫بين يدي رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ورجالي في قبلتو‪ ،‬فإذا سجد غمزني‪ ،‬فقبضت رجلي"‪.‬‬
‫مسألة الحمار‪ ،‬قاؿ‪ :‬في قلبي شيءٌ منو لحديث ابن عباس قاؿ‪" :‬فأقبلت راكبًا حما ٍر أتاف"‪.‬‬
‫‪ -‬الرواية الثانية‪ :‬عن اإلماـ أحمد أف الثالثة كلها تقط الصالة (الحمار‪ ،‬والمرأة‪ ،‬والكلب األسود) لحديث أبي ذ ٍر (رضي اهلل عنو)‪:‬‬
‫"يقط صالة الرجل المسلم إذا لم يكن بين يديو مثل مؤخرة الرحل‪ :‬المرأة‪ ،‬والحمار‪ ،‬والكلب األسود"‪.‬‬
‫كانت عائشة (رضي اهلل عنها) تنكر ىذا الحديث وتقوؿ‪" :‬شبهتمونا بالكالب والحمير"‪ ،‬لكن ىذا ليس المقصود بو تشبيو المرأة بالحمير‬
‫والكالب؛ إنما ذكرت من أجل العلة التي تكوف سببًا في قط الصالة‪.‬‬
‫فقد بين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف الكلب األسود شيطاف‪ ،‬والشيطاف إنما يريد قط الصالة‪ ،‬وإفساد العبادة على الناس‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬الكلب األسود شيطاف"‬

‫‪93‬‬
‫وبين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف اإلنساف إذا سم نهيق الحمار أف يستعيذ باهلل من الشيطاف؛ ألنو رأى شيطانًا‪.‬‬
‫وبين كذلك أف المرأة إذا خرجت من بيتها‪ ،‬فإنو يستشرفها الشيطاف‪ ،‬وبين أنها تقبل في صورة شيطاف‪ ،‬وبين كذلك أف الحيضة عند المرأة‬
‫ركضة من الشيطاف‪ ،‬فهذا وجو الشبو؛ وليس التشبيو من كل الوجوه؛ إنما ىو في قط الصالة‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذه األحاديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬جواز ركوب الحمير وأنها طاىرة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬مشروعية اتخاذ السترة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف المرور بين يدي المصلي في صالة الجماعة ال يبطلها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف سترة اإلماـ سترة من خلفو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز نوـ المرأة أماـ زوجها وىو يصلي‪.‬‬
‫الوضوء‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬أف لمس المرأة ال ينق‬
‫رجليها‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬ينبغي على اإلنساف أف يزيل ما يمن كماؿ السجود؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يغمزىا فتقب‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬االطمئناف في الصالة يكوف بشيئين‪ .‬اذكرىما‪ ،‬واذكر فوائد الحديث‪.‬‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما حكم قراءة الفاتحة في الصالة؟ وما الدليل على ذلك؟‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ما ىو حد المرور بين يدي المصلي؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬متى يكوف سجود السهو قبل السالـ‪ ،‬ومتى يكوف بعده؟‬

‫نكتفي بهذا القدر‪ ،‬أقوؿ قولي ىذا‪ ،‬وأستغفر اهلل لي ولكم‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫المحاض ػػرة الحاديػػة عشػػرة‬
‫أحكاما متعددة ال تدخل تحت ٍ‬
‫باب بعينو؛ ذلك ألف‬ ‫ً‬ ‫باب جام ) والمراد بالباب الجام ‪ ،‬أي الذي يجم‬
‫باب قاؿ فيو‪ٌ ( :‬‬
‫ذكر اإلماـ في كتابو ٌ‬
‫حكم يندرج في ٍ‬
‫باب مختلف عن اآلخر؛ لذا ناسب أف يكوف القوؿ فيو الباب‬ ‫حكم‪ ،‬وكل ٍ‬ ‫الحديث الواحد ربما يستدؿ بو على أكثر من ٍ‬
‫الجام ‪ ،‬أي الجام لعدة أحاديث‪ ،‬وتلك األحاديث خاصةٌ باألحكاـ‪.‬‬
‫ذكر المصنف في ىذا الباب حديث أبي قتادة رضي اهلل عنو‪ ،‬وىو الحارث بن ربعي األنصاري قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إذا‬
‫دخل أحدكم المسجد‪ ،‬فال يجلس حتى يصلي ركعتين"‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬إذا دخل أحدكم المسجد)‪ ،‬واأللف والالـ ىنا للعهد‪ ،‬فتشمل جمي المساجد‪.‬‬
‫(فال يجلس حتى يصلي ركعتين)‪ ،‬وركعتين ىنا مطلقة‪ ،‬فتشمل أي ركعتين‪ ،‬فلو دخل وصلى سنة راتبة أجزأتو‪ ،‬ولو صلى كذلك فريضة أجزأتو‪.‬‬
‫لكن السؤاؿ ىل إذا ضاؽ الوقت‪ ،‬أو صادؼ دخوؿ المسجد وقت كراىة‪( ،‬ووقت الكراىة ىو الوقت المنهي عن الصالة فيو) ىل يصلي تحية‬
‫ٍ‬
‫خالؼ بين أىل العلم‪،‬‬ ‫المسجد أـ ال؟ ىذا محل‬
‫‪ -‬وقد ذىب فري ٌق من أىل العلم إلى جواز صالة تحية المسجد في وقت الكراىة‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنها من الصلوات ذوات األسباب‪ ،‬فالصلوات ذوات‬
‫األسباب يشرع أف تصلى في وقت الكراىة‪.‬‬
‫الشاىد أف اإلنساف إذا دخل المسجد‪ ،‬فال ينبغي لو أف يجلس حتى يصلي ركعتين تحيةً للمسجد‪.‬‬
‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬
‫أىل العلم بوجوبها‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية تحية المسجد؛ بل قاؿ بع‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬النهي عن الجلوس لداخل المسجد حتى يصلي ركعتين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز صالة تحية المسجد في أى ٍ‬
‫وقت‪ ،‬وإف كاف الوقت وقت نه ٍي؛ ألنها من الصلوات ذوات األسباب كما ذكرت‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬فإنها ال تجزئو؛ ألف النبي‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أنو ال يجزئ صالة أقل من ركعتين‪ ،‬فإذا دخل المسجد‪ ،‬فصلى الوتر ركعةً واحدة ً‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬فال يجلس حتى يصلي ركعتين"‪.‬‬
‫تعظيم للمساجد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬أف ىذا فيو‬

‫ثم ذكر الحديث الذي بعد ذلك وىو حديث زيد بن أرقم (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬كنا نتكلم في الصالة‪ ،‬يكلم الرجل منا صاحبو‪ ،‬وىو إلى جنبو‬
‫فى الصالة‪ ،‬حتى نزلت {وقُ ِ ِ ِِ‬
‫وموا للَّو قَانت َ‬
‫ين ‪ ،‬فأمرنا بالسكوت‪ ،‬ونهينا عن الكالـ"‪.‬‬ ‫َ ُ‬
‫كلمات جاءت في القرآف بأكثر من معنى‪ ،‬من ىذه الكلمات على سبيل المثاؿ‪( :‬لفظ األمة)‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ىناؾ‬
‫{و َج َد َعلَْي ِو أ َُّمةً ِم َن الن ِ‬
‫َّاس يَ ْس ُقو َف‬ ‫ٍ‬ ‫{و َّ‬
‫اد َك َر بَػ ْع َد أ َُّمة ‪ ،‬وفى قولو تعالى‪َ :‬‬
‫ِ ِ ِ‬
‫مثال قوؿ اهلل عز وجل‪{ :‬إ َّف إبْػ َرٰى َ‬
‫يم َكا َف أ َُّمةً ‪ ،‬وقولو تعالى‪َ :‬‬ ‫ً‬
‫كلمات كثيرة فلفظ األمة ىنا تعددت مواضعو‪ ،‬واختلفت معانيو‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مثل ىذا‬
‫ِ ِ ِ‬
‫يم َكا َف أ َُّمةً أي كاف جماعةً وحده‪.‬‬ ‫‪ -‬فقولو‪{ :‬إ َّف إبْػ َرٰى َ‬
‫اد َك َر بَػ ْع َد أ َُّم ٍة أي بعد فترةٍ من الزمن‪.‬‬ ‫{و َّ‬
‫‪َ -‬‬
‫َّاس يَ ْس ُقو َف يعني وجد عليو جماعةً من الناس يسقوف‪.‬‬ ‫{و َج َد َعلَْي ِو أ َُّمةً ِم َن الن ِ‬
‫‪َ -‬‬
‫ضا كلمة تحتمل أكثر من معنى‪ ،‬أال وىي كلمة (القنوت) في قولو تعالى‪{ :‬وقُ ِ ِ ِِ‬
‫وموا للَّو قَانت َ‬
‫ين‬ ‫َ ُ‬ ‫فهنا أتت في ىذا الحديث أي ً‬
‫فقد تأتي بمعنى (الطاعة أو الخشوع)‪ ،‬وقد تأتي بمعنى (الدعاء‪ ،‬أو طوؿ القياـ)‪ ،‬وقد تأتي بمعنى (السكوت)‪.‬‬
‫وقد أتت ىنا بمعنى (السكوت)‪ ،‬وىذا بعد أف كاف المسلموف يتكلموف في صالتهم بقدر حاجتهم‪ ،‬وىذا في بادئ األمر‪ ،‬فلما كاف في الصالة‬
‫شغال بمناجاة اهلل عز وجل أُمروا بالسكوت‪ ،‬والنهي عن الكالـ وذلك في قولو تعالى‪{ :‬وقُ ِ ِ ِِ‬
‫وموا للَّو قَانت َ‬
‫ين‬ ‫َ ُ‬ ‫ً‬
‫وقد أجم العلماء على أف من تكلم في صالتو عام ًدا لغير مصلحة الصالة‪ ،‬فإف صالتو تبطل بذلك‪.‬‬
‫واختلفوا في الساىي والجاىل والمكره والمتكلم لمصلحتها‪ ،‬فمنهم من قاؿ ببطالنها‪ ،‬ومنهم من قاؿ بصحتها‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بحكم آخر‪ ،‬وذلك في قوؿ الصحابي‪" :‬كنا‬ ‫دليل على وجود النسخ‪ ،‬والنسخ ىو إلغاء الحكم األوؿ‬ ‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬في الحديث ٌ‬
‫نتكلم في الصالة حتى نزلت {وقُ ِ ِ ِِ‬
‫وموا للَّو قَانت َ‬
‫ين فأمرنا بالسكوت"‪.‬‬ ‫َ ُ‬
‫مبطل لها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف الكالـ في الصالة ٌ‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف إطالؽ العموـ‪ ،‬قد يراد بو الخصوص‪ ،‬كقولو‪" :‬أمرنا بالسكوت عن الكالـ"‪ ،‬فليس المراد بو كل كالـ؛ بل السكوت‬
‫عن كالـ اآلدميين؛ ذلك ألنو مطالب في الصالة بالكالـ‪ ،‬أي مطالب بالقراءة في الصالة‪ ،‬فيكوف إطالؽ العموـ ىنا قد يراد بو‬
‫الخصوص‪.‬‬

‫ثم انتقل بعد ذلك إلى حديث عبد اهلل بن عمر‪ ،‬وأبي ىريرة رضي اهلل عنهم‪ ،‬عن رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) أنو قاؿ‪" :‬إذا اشتد الحر‬
‫فأبردوا عن الصالة‪ ،‬فإف شدة الحر من فيح جهنم"‪.‬‬
‫ىنا في حديث عبد اهلل بن عمر يبين رفق النبي (صلى اهلل عليو وسلم) باألمة‪ ،‬وحرصو على أف يؤدوا العبادات خاليةً مما يشغلهم ويؤرقهم‪.‬‬
‫فهنا قاؿ‪( :‬إذا اشتد الحر)‪ ،‬واشتداد الحر يكوف متعل ٌق بالفصوؿ ومتعل ٌق باألوقات‪ ،‬فاشتداد الحر في فصل الصيف‪ ،‬بخالؼ اشتداد الحر في‬
‫فص ل الشتاء‪ ،‬فاشتداد الحر في فصل الصيف قد ال يطيقو اإلنساف‪ ،‬بخالؼ إذا اشتد الحر في وقت الشتاء فقد يطيقو‪ ،‬وىنا اشتداد الحر‬
‫يكوف في وقت الظهيرة‪ ،‬في وقت أذاف الظهر‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬فأبردوا بالصالة)‪ ،‬أي أخروىا حتى يبرد الجو‪.‬‬
‫(فإف شدة الحر من فيح جهنم)‪ ،‬أي من سمومها‪.‬‬
‫واألصل أف الصالة تصلى في أوؿ وقتها إال ما استثناه النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬كصالة العشاء لما أخرىا‪.‬‬
‫وقاؿ‪" :‬واهلل إنو لوقتها لوال أف أشق على أمتي"‪.‬‬
‫وىنا في صالة الظهر أبرد بالظهر قاؿ‪ :‬واإلبراد بالظهر في حالة اشتداد الحر‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫مبني على السهولة واليسر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف أمر الدين ٌ‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬مراعاة العبادة في ذاتها‪ ،‬أولى من مراعاة العبادة في وقتها‪ ،‬وىذا بشرط أال يخرج الوقت‪.‬‬
‫ٍ‬
‫واطمئناف‪ ،‬بحيث ال يشغلو عن الصالة شاغل أو يؤرقو شيءٌ‪ ،‬فيشغلو عنها‪ ،‬وأولى من‬ ‫بخشوع‬
‫ٍ‬ ‫مراعاة العبادة في ذاتها‪ ،‬أف تؤدى‬
‫الصالة فى وقتها‪ ،‬فقد يصلي اإلنساف في وقت اشتداد الحر‪ ،‬ولكن شدة الحر تؤرقو وتشغلو‪ ،‬فال يؤدي الصالة كما ينبغي‪ ،‬فطالما أف‬
‫الوقت موس ‪ ،‬فيستطي أف يؤخرىا إذا كاف ذلك لمصلحة الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬إثبات وجود النار؛ ألنو قاؿ‪" :‬إف شدة الحر من فيح جهنم"‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أنو يشرع للمصلي أف يؤدي العبادة بعي ًدا عن كل ٍ‬
‫شاغل عنها‪.‬‬

‫ثم انتقل إلى حديث أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬من نسي صال ًة فليصلها إذا ذكرىا‪ ،‬ال كفارة لها‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم "من نسي صالةً‪ ،‬أو ناـ عنها‪ ،‬فكفارتها أف يصليها إذا ذكرىا"‪.‬‬ ‫الص َالةَ لِ ِذ ْك ِري "‪،‬‬
‫{وأَقِ ِم َّ‬
‫إال ذلك‪ ،‬وتال قولو تعالى‪َ :‬‬
‫قاؿ‪( :‬من نسي صالةً فليصلها إذا ذكرىا)‪ ،‬النسياف ضده العمد‪.‬‬
‫وىنا قوؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) من "نسي صال ًة فليصلها إذا ذكرىا"‪ ،‬وقوؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) (من نسي صالةً فليصلها‪ ،‬أو‬
‫(من ناـ عنها فكفارتها أف يصليها إذا ذكرىا)‪ ،‬مفهوـ الحديث أف من ترؾ الصالة عم ًدا حتى يخرج وقتها‪ ،‬فإنو ال يقضيها؛ ذلك ألنو قاؿ (من‬
‫عظيما بتركو للصالة‪ ،‬فال كفارة لو فيها‪.‬‬
‫ناـ عن صالة أو نسيها) ولم يذكر المتعمد؛ ذلك ألف المتعمد قد فعل ذنبًا ً‬
‫عظيما‪ ،‬فال‬
‫وقد ذىب إلى ىذا القوؿ شيخ اإلسالـ ابن تيمية والظاىرية وغيرىم‪ ،‬وقالوا إف الكفارة تكوف للذنوب اليسيرة‪ ،‬وأما الذنب إذا كاف ً‬
‫كفارة لو‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫غموسا‪ ،‬فال كفارة فيو‪.‬‬
‫ً‬ ‫وضربوا أمثلةً لذلك‪ ،‬كاليمين إذا َّ‬
‫عقده صاحبو‪ ،‬ثم حنث فيو فعليو كفارة‪ ،‬أما إذا كاف اليمين‬
‫أىل العلم بعدـ صحتو‪ ،‬وقالوا‪ :‬إف المعنى من كفارتها أي قضاؤىا؛‬ ‫وكما ذكرت ىذا قوؿ الظاىرية وشيخ اإلسالـ‪ ،‬وىذا الكالـ قد قاؿ بع‬
‫ألف النائم ليس عليو إثم يترتب عليو كفارة‪ ،‬وقالوا‪ :‬إف المتعمد من باب أولى أف يقضي ما ترؾ من الصلوات‪.‬‬
‫يعني إذا كاف ىذا حكم الناسي أو النائم‪ ،‬فإف المتعمد من باب أولى أف يقضي ما ترؾ من الصالة‪ ،‬وىذا قوؿ الجمهور‪.‬‬
‫سهوا أو نسيانًا أو ناـ عنها‪ ،‬فالكفارة أف يصليها بمجرد أف يذكرىا‪ ،‬وال يجوز‬
‫ىذا وإف كاف‪ ،‬إال أنو ال يجوز تأخير الصالة عم ًدا‪ ،‬يعني إذا كاف ً‬
‫مثال‪.‬‬
‫مثال أو االغتساؿ ً‬ ‫ٍ‬
‫لمصلحة شرعية كالوضوء ً‬ ‫تأخيرىا بعد أف استيقظ من نومو‪ ،‬أو ذكرىا إذا كاف ناسيًا لها‪ ،‬إال‬
‫الص َالةَ لِ ِذ ْك ِري‬
‫{وأَقِ ِم َّ‬
‫ثم قاؿ‪َ :‬‬
‫العلماء ذكروا في ىذا وجهين‪:‬‬
‫الص َالةَ لِ ِذ ْك ِري أي‪ :‬عند التذكر لها‪ ،‬يعني بعد النسياف ىذا وجوٌ‪.‬‬
‫{وأَقِ ِم َّ‬
‫‪َ -‬‬
‫‪ -‬والوجو اآلخر‪ :‬أف أقم الصالة لعبادتي ولذكري‪ ،‬أي‪ :‬لذكر اهلل سبحانو وتعالى‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬وجوب قضاء الصالة على الناسي والنائم عند ذكرىا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬وجوب المبادرة إلى فعلها وعدـ التراخي بعد ذكرىا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬عدـ ترتب اإلثم على من أخر العبادة لعذ ٍر‪ ،‬ما لم يفرط‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف الكفارة المذكورة في الحديث ليست عن ٍ‬
‫إثم ارتكبو‪ ،‬لكن المعنى أنو ال يجزئ عنها ٌ‬
‫بدؿ‪ ،‬بل ال بد من اإلتياف بها‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حديث آخر أال وىو حديث جابر بن عبد اهلل (رضي اهلل عنو) قاؿ فيو‪" :‬إف معاذ بن جبل (رضي اهلل عنو) كاف يصلي م‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى‬
‫رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) العشاء اآلخرة‪ ،‬ثم يرج إلى قومو‪ ،‬فيصلي بهم تلك الصالة"‪.‬‬
‫وقد مر معنا قبل ذلك في حديث جابر بن عبد اهلل في باب (القراءة في الصالة) أف قوـ معاذ كانوا خارج المدينة‪ ،‬وكاف معاذًا (رضي اهلل عنو)‬
‫إماما فكاف يأتي ويصلي بهم بعد أف يصلي م النبي (صلى اهلل عليو‬
‫يحرص على الصالة م النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وكاف يأبى قومو غيره ً‬
‫وسلم)‪.‬‬

‫وقد استنبط العلماء من ىذا الحديث فوائد‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬جواز إمامة المتنفل بالمفترض‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬حرص الصحابة على تلقي العلم من النبي صلى اهلل عليو وسلم؛ وذلك لحرص معاذ (رضي اهلل عنو) على الصالة خلف‬
‫النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز انتظار اإلماـ‪ ،‬وىذا إذا كاف ال يشق على المأمومين كما كاف يفعل قوـ معاذ (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫قياسا من باب أولى؛ ألف معاذ كاف يصلي فريضة م النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ويأتي‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬جواز ائتماـ المتنفل بالمفترض ً‬
‫يصلي نافلة‪ ،‬فكانوا يأتموف بو‪ ،‬فالمتنفل بالمفترض من باب أولى‪.‬‬

‫ثم انتقل إلى حديث أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬كنا نصلي م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) في شدة الحر‪ ،‬فإذا لم يستط أحدنا‬
‫أف يمكن جبهتو من األرض‪ ،‬بسط ثوبو فسجد عليو"‪.‬‬
‫وىنا دؿ ىذا الحديث على أف الصحابة رضي اهلل عنهم كانوا يسجدوف على األرض مباشرًة؛ ألنو لم يكن في مسجد النبي (صلى اهلل عليو‬
‫وسلم) فرش‪ ،‬وقولو‪( :‬كنا نصلي م النبي في شدة الحر) المقصود بو حر الفصوؿ‪ ،‬أي إذا اشتد الحر في فصل الصيف؛ إذ أف اإلنساف يمكنو‬
‫السجود على األرض في حر الشتاء دوف عناء‪ ،‬بخالؼ حر الصيف‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬فإذا لم يستط أحدنا أف يمكن جبهتو من األرض)‪ :‬يعني‪ :‬من شدة الحر‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫(بسط ثوبو)‪ ،‬أي مد ثوبو الذي كاف عليو فسجد عليو‪ ،‬فدؿ ذلك على جواز اتخاذ الفرش والسجود عليها‪ ،‬وىذا ال ينافي تمكين األعضاء من‬
‫األرض‪.‬‬
‫والفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬
‫عذرا في التخلف عن الجماعة‪ ،‬وىذا لمن قدر عليو؛ ألف الصحابة رضي اهلل عنهم كانوا‬‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف شدة الحر ال تكوف ً‬
‫يسجدوف في شدة الحر‪ ،‬ويبسطوف الثوب فيسجدوا عليو‪ ،‬وما تخلفوا عن صالة الجماعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬وجوب تمكين أعضاء السجود من األرض‪.‬‬
‫ٍ‬
‫متصل بالساجد‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز السجود على‬
‫يعني‪ :‬اإلنساف يستطي أف يمد رداءه ويسجد عليو‪ ،‬أو غترتو يبسطها على األرض ويسجد عليها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬مشروعية صالة الجماعة‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف رحمو اهلل حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ال يصلي أحدكم في الثوب الواحد‬
‫ليس على عاتقو منو شيء"‪.‬‬
‫ينبغي على المصلي أف يكوف على أحسن ىيئة حاؿ الصالة‪.‬‬
‫آد َـ ُخ ُذوا ِزينَتَ ُك ْم ِعن َد ُك ْل َم ْس ِج ٍد وإف من حسن الهيئة أف يستر اإلنساف عورتو في الصالة‪.‬‬
‫قاؿ اهلل عز وجل‪{ :‬يَا بَنِي َ‬
‫وقد قسم العلماء العورات إلى‪ :‬عورةٍ مغلظة‪ ،‬وعورةٍ غير مغلظة‪.‬‬
‫والعورة المغلظة ال يجوز النظر إليها‪ ،‬وال يجوز كشفها‪ ،‬ال في الصالة وال في غيرىا‪.‬‬
‫والعورة غير المغلظة قد يجوز النظر إليها‪ ،‬وقد يجوز كشفها خارج الصالة‪ ،‬أما في الصالة‪ ،‬فال ينبغي كشف العورات‪.‬‬
‫من ىذه العورات التي أمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بسترىا في الصالة فهي عورةٌ في الصالة‪ ،‬لكن ليست عورة نظر‪ ،‬إنما ىي عورةٌ في‬
‫الصالة‪ ،‬فمن ىذه العورات التي أمر النبي أف يسترىا اإلنساف في الصالة‪ :‬العاتقين (الكتفين)‪.‬‬
‫فقد "نهى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقو منو شيء"‪ ،‬أي ليس على كتفو منو شيء‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في حكم صالة مكشوؼ العاتقين على قولين‪:‬‬
‫استدالال بهذا الحديث‪ ،‬حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) "ال يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقو‬
‫ً‬ ‫‪ -‬فمنهم من قاؿ بالحرمة‬
‫منو شيء"‪ ،‬وىذا ىو مشهور مذىب اإلماـ أحمد‪.‬‬
‫واسعا‬ ‫‪ -‬والجمهور وىو القوؿ الثاني‪ :‬على الكراىة‪ ،‬واستدلوا بحديث جابر (رضي اهلل عنو) أنو "من صلى في ٍ‬
‫ثوب واحد‪ ،‬فإف كاف ً‬
‫فليلتحف بو‪ ،‬وإف كاف ضي ًقا فليتزر بو"‪ ،‬وال شك أنو إذا اتزر بو‪ ،‬فإنو ينكشف كتفو فقالوا ىنا بالكراىة‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬النهي عن الصالة بدوف ستر العاتق‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬استحباب ستر العاتقين في الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أنو ينبغي للمصلي أف يكوف على ٍ‬
‫ىيئة حسنة حاؿ الصالة‪.‬‬

‫بصال فليعتزلنا‪ ،‬أو‬


‫ثوما أو ً‬
‫ثم انتقل المصنف إلى حديث جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنو‪ ،‬عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬من أكل ً‬
‫ليعتزؿ مسجدنا‪ ،‬وليقعد في بيتو"‪.‬‬
‫يحا‪ ،‬فسأؿ فأخبر بما فيها من البقوؿ‪ ،‬فقاؿ‪ :‬قربوىا (أي إلى بع أصحابو كاف معو)‪ ،‬فلما رآه‬
‫خضرات من بقوؿ فوجد لها ر ً‬
‫ٌ‬ ‫"وأُتِ َي بقدر فيو‬
‫كره أكلها‪ ،‬قاؿ‪ :‬كل فإني أناجي من ال تناجي"‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪ :‬عن جاب ٍر (رضي اهلل عنو) عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬من أكل البصل أو الثوـ أو الكراث‪ ،‬فال يقربن مسجدنا‪ ،‬فإف‬
‫المالئكة تتأذى مما يتأذى منو اإلنساف"‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫وفي رواية "بنو آدـ"‪.‬‬
‫مطالب بالحفاظ على‬
‫ٌ‬ ‫كما ذكرت أنو ينبغي على المسلم كما أمر باتخاذ الزينة عند كل مسجد‪ ،‬والمحافظة على الهيئة الحسنة‪ ،‬كذلك فإنو‬
‫حسن الرائحة والتطيب؛ ولذلك أمر باالغتساؿ على سبيل االستحباب‪ ،‬وذلك في المجام التي يظن فيها اجتماع الناس كالجم ‪ ،‬واألعياد‪،‬‬
‫والجماعات‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫بصال نيئين أف يجتنب مساجد‬
‫ثوما أو ً‬
‫ونُهي كذلك أف تنبعث منو رائحة كريهة تنفر الناس منو؛ ولذلك أمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) من أكل ً‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫وفي رواية قاؿ‪" :‬من أكلهما فليمتهما طب ًخا حتى ال تكوف لهما رائحة"‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬وأ ُِم َر أف يؤدي صالتو في بيتو حتى تذىب عنو الرائحة الكريهة‪ ،‬التي يتأذى منها بنو آدـ والمالئكة‪.‬‬
‫ريحا‪ ،‬والثوـ والبصل من البقوؿ‪ ،‬فتركها النبي (صلى اهلل‬ ‫خضرات من ٍ‬ ‫ولذلك لما أتي ِبقد ٍر ِ‬
‫بقوؿ‪ ،‬فوجد لها ً‬ ‫ٌ‬ ‫(والقدر‪ :‬ىو الوعاء أو اإلناء) فيو‬
‫أصحابو‪.‬‬ ‫عليو وسلم) وأمر أف تقرب لبع‬
‫فلما رأى الصحابي أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد تركها كراىيةً منو لها‪ ،‬إن أنها محرمة‪ ،‬فتردد في أكلها‪ ،‬فأخبره النبي (صلى اهلل عليو‬
‫وسلم) أنها ليست محرمة‪ ،‬وقاؿ لو‪ :‬بل كل أنت منها‪.‬‬
‫وبين لو العلة التي تركها من أجلها‪ ،‬فقاؿ‪ :‬أف الذي منعني أنني أناجي من ال تناجي‪ ،‬أي أنو يناجي جبريل عليو السالـ؛ وألنو ينزؿ عليو بالوحي‪،‬‬
‫فكره أف تكوف لو رائحةٌ كريهة‪.‬‬
‫ثم بين في الحديث اآلخر أف من أكل البصل‪ ،‬أو الثوـ‪ ،‬والكراث‪ ،‬فال يقربن المسجد؛ ذلك ألف الناس تتأذى من رائحتو الكريهة‪ ،‬والمالئكة‬
‫كذلك تتأذى مما يتأذى منو بنو آدـ‪.‬‬
‫فنالحظ ىنا أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد من من ٍ‬
‫شيء ىو ٌ‬
‫حالؿ في األصل‪ ،‬فكيف بالذين يشربوف المحرمات؟‬
‫مثل الذين يدمنوف الدخاف وما شابو ذلك ثم يأتوف إلى المساجد‪ ،‬فيتأذى برائحتهم المصلوف‪ ،‬وال شك أف المالئكة تتأذى مما يتأذى منو‬
‫الناس‪ ،‬فعلى ىؤالء أف يراجعوا أنفسهم‪ ،‬ويتوبوا إلى اهلل عز وجل‪ ،‬فنسأؿ اهلل عز وجل أف يتوب علينا‪ ،‬وعلى عصاة المسلمين‪.‬‬

‫من الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬جواز أكل الثوـ والبصل والكراث‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف من أكل من ىذه البقوؿ ذوات الروائح الكريهة‪ ،‬فال يدخلن المسجد‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬كراىية حضور من ابتلي بشرب الدخاف من باب أولى‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬تجنب كل ما يؤذي بني آدـ؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) نهى عن اإليذاء بالرائحة‪ ،‬فغيرىا من باب أولى‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر أال وىو‪( :‬باب التشهد)‬
‫والتشهد مأخوذٌ من الشهادة‪ ،‬أي شهادة أف ال إلو إال اهلل‪ ،‬وأف محم ًدا رسوؿ اهلل‪.‬‬
‫والمراد بباب التشهد‪ :‬أي الدعاء الذي فيو الشهادة‪ ،‬وىو الذي يُبدأ بالتحيات؛ ألف التحيات في آخرىا الشهادة‪.‬‬
‫وخص بالشهادة لشرفها فهي أفضل الكالـ وأنفعو‪.‬‬
‫والفقهاء يعنوف بالتشهد أمرين‪:‬‬
‫‪ -‬األمر األوؿ‪ :‬يعنوف بو اللفظ‪ ،‬وىو التحيات وما يتبعها من الصالة على النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬والثاني‪ :‬يعنوف بو الجلسة‪ ،‬وىي التي تكوف بعد الركعة الثانية‪ ،‬أو في آخر الصالة‪.‬‬
‫وقد وردت أحاديث في صيغ التشهد منها حديث ابن مسعود رضي اهلل عنو‪ ،‬وحديث جابر رضي اهلل عنو‪ ،‬وحديث عمر (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مسعود رضي اهلل عنو‪ ،‬الذي أورده اإلماـ البخاري في صحيحو‪ ،‬والعلماء على أف أصح صيغ التشهد ىي‬ ‫وقد ذكر المصنف ىنا حديث ابن‬
‫جميعا‪ ،‬إال أف أصح ىذه الصيغ ىو حديث ابن مسعود (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫صيغة عبد اهلل بن مسعود‪ ،‬وإف كانوا قد اتفقوا على جواز الصيغ ً‬

‫‪99‬‬
‫قاؿ فيو‪" :‬علمني رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) التشهد‪ ،‬وكفي بين كفيو كما يعلمني السورة من القرآف‪ :‬التحيات هلل والصلوات والطيبات‪،‬‬
‫السالـ عليك أيها النبي ورحمة اهلل وبركاتو‪ ،‬السالـ علينا وعلى عباد اهلل الصالحين‪ ،‬أشهد أف ال إلو إال اهلل‪ ،‬وأشهد أف محم ًدا عبده ورسولو"‪.‬‬
‫صالح في السماء‬
‫عبد هلل ٍ‬ ‫لفظ قاؿ‪" :‬إذا قعد أحدكم للصالة‪ ،‬فليقل‪ :‬التحيات هلل‪ ،"...‬وفيو‪" :‬فإنكم إذا فعلتم ذلك‪ ،‬فقد سلمتم على كل ٍ‬ ‫وفي ٍ‬
‫واألرض"‪ .‬وفيو‪" :‬فليتخير من المسألة ما شاء"‪.‬‬
‫ىنا في قوؿ عبد اهلل بن مسعود (رضي اهلل عنو)‪" :‬علمني رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) التشهد كما يعلمني السورة من القرآف"‪ ،‬ىذا إف دؿ‬
‫توقيفي أي ال يجوز الزيادة فيو‪ ،‬وال النقصاف منو؛ ذلك ألف الزيادة في العبادة كالنقصاف منها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫توقيفي‪ ،‬ومعنى‬
‫ٌ‬ ‫إنما يدؿ على أف التشهد‬
‫حتى أف العلماء قالوا‪ :‬ال يجوز التلفيق بين األحاديث التي وردت فيو‪ ،‬ذكرت أنو جاءت روايات في التشهد يعني تشهد عمر رضي اهلل عنو‪،‬‬
‫ظ زائد أزيده أنا‬
‫مثال‪ ،‬لف ٌ‬ ‫وتشهد ابن مسعود‪ ،‬وتشهد جابر رضي اهلل عنو‪ ،‬فهنا ال يجوز التلفيق‪ ،‬يعني ال يجوز أف نأتي ٍ‬
‫بلفظ ورد في حديث عمر ً‬
‫في صيغة ابن مسعود‪ ،‬ال يصح ىذا‪.‬‬
‫وال آتي بحديث جابر آخذ منو ألفاظ أضعها في حديث ابن مسعود‪ ،‬وألفق بين ىذه الروايات ىذا ال يجوز‪.‬‬
‫فالعلماء على جواز التلفيق في األفعاؿ‪ ،‬وعدـ جوازه في األقواؿ‪.‬‬
‫وحديث آخر قاؿ‪" :‬حذو أذنيو"‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مثال‪" :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يرف يديو في التكبير حذو منكبيو"‪،‬‬
‫في األفعاؿ مثل حديث ً‬
‫قالوا‪ :‬فهنا يجوز التلفيق في األفعاؿ بأف يجعل اليدين في موض بين االثنين‪ ،‬يعني أطراؼ األصاب عند األذنين‪ ،‬وراحة اليد عند الكتفين‪،‬‬
‫فيجم بين االثنين‪ ،‬فهذا تلفي ٌق في األفعاؿ‪.‬‬
‫صيغ األقواؿ في ٍ‬
‫صيغة واحدة‪ ،‬فهذا ال يقبل؛ ألنو تلفي ٌق في األقواؿ‪ ،‬وتلفيق األقواؿ ال يقبل‪.‬‬ ‫أما أف يجم صيغ األقواؿ أو بع‬
‫دليل على شدة قربو من النبي‬
‫قاؿ‪( :‬وكفي بين كفيو) أي أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يمسك كفي ابن مسعود رضي اهلل عنو‪ ،‬وىذا ٌ‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫فقاؿ فيو‪( :‬التحيات هلل والصلوات والطيبات)‪( :‬التحيات) قيل أي جمي التحيات التي تدؿ على تعظيم اهلل عز وجل‪.‬‬
‫قديما عندما يعظموف الملوؾ يقولوف‪( :‬لك التحية) أي لك الحياة‪ ،‬فاهلل عز‬
‫وقيل‪ :‬إنها من الحياة‪ ،‬ومعناىا أف الحياة هلل عز وجل‪ ،‬وكانت العرب ً‬
‫وجل لو كماؿ الحياة‪ ،‬وىذا كلو يشمل تعظيم اهلل تبارؾ وتعالى‪.‬‬
‫فرضا‪ ،‬وأعظم ما يُتقرب بو إلى اهلل عز وجل‬
‫نفال أو ً‬
‫سواء كانت ً‬
‫قاؿ‪( :‬والصلوات والطيبات)‪ :‬والصلوات تشمل كل ما يؤديو العباد من صلوات‪ً ،‬‬
‫ىي الفروض‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بشيء أحب إلي مما افترضتو عليو"‪.‬‬ ‫كما جاء في الحديث القدسي "وما تقرب إلي عبدي‬
‫(والطيبات) ىذه اللفظة وردت بزيادة الواو مرة‪ ،‬ووردت بغير وا ٍو مرة‪ ،‬فيجوز أف تقوؿ‪( :‬والصلوات والطيبات)‪ ،‬ويجوز أف تقوؿ‪( :‬والصلوات‬
‫الطيبات)‪ :‬والمعنى إما أف يكوف والصلوات الطيبات‪ ،‬أي أف الصلوات من الطيبات هلل عز وجل‪ ،‬والصلوات تكوف هلل عز وجل‪.‬‬
‫ين‬ ‫ِِ‬ ‫ك أ ُِم ْر ُ‬
‫ت َوأَنَا أ ََّو ُؿ ال ُْم ْسلم َ‬ ‫يك لَوُ َوبِ َذلِ َ‬
‫ين * ال َش ِر َ‬ ‫ِ‬ ‫اي َوَم َماتِي لِلَّ ِو َر ْ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬
‫قاؿ تعالى‪{ :‬قُل إِ َّف ص َالتِي ونُ ِ‬
‫سكي َوَم ْحيَ َ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫طيب ال يقبل إال طيبًا"‪.‬‬
‫أو أف المعنى (والصلوات والطيبات)‪ ،‬أي أف الطيبات تكوف هلل عز وجل؛ ألف "اهلل تعالى ٌ‬
‫ثم قاؿ‪( :‬السالـ عليك أيها النبي ورحمة اهلل وبركاتو)‪ :‬ىذا السالـ فيو بداية ونهاية‪ ،‬بدايتو الدعاء للنبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ولعباد اهلل‬
‫الصالحين باألمن والعافية واالطمئناف‪ ،‬وغير ذلك مما يسر المؤمن في الدنيا‪ ،‬ونهايتو الدعاء لهم بالجنة؛ ألف الجنة ىي دار السالـ‪ ،‬وتحية‬
‫الناس فيها السالـ‪ ،‬وإذا دخلوىا ُحيوا فيها بالسالـ‪.‬‬
‫فهنا بقولو‪( :‬السالـ علينا وعلى عباد اهلل الصالحين)‪ :‬يبدأ بالدعاء لنفسو‪ ،‬ثم الدعاء لعباد اهلل الصالحين‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لمسلم جعل اهلل‬ ‫صالح في السماء واألرض"‪ ،‬ومن دعا‬
‫عبد ٍ‬ ‫وىذا قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬فإنكم إذا فعلتم ذلك‪ ،‬فقد سلمتم على كل ٍ‬
‫لو من األجر مثل ذلك‪،‬‬
‫كن في الصالة‪.‬‬
‫كن في األذاف‪ ،‬وكذلك ىي ر ٌ‬
‫كن من أركاف اإلسالـ‪ ،‬وكذلك ىي ر ٌ‬
‫ثم قاؿ‪( :‬أشهد أف ال إلو إال اهلل)‪ :‬والشهادة ر ٌ‬

‫‪100‬‬
‫ومعناىا أنني أشهد بأنو ال معبو ٌد ِ‬
‫بحق إال اهلل‪ ،‬وأف محم ًدا عبده ورسولو‪ ،‬أي أنو عب ٌد هلل عز وجل نُجلو ونقدره ونعظمو‪ ،‬لكن ال نرفعو فوؽ قدره‬
‫الطوائف‪ ،‬فجعلتو فوؽ ىذا المقاـ‪ ،‬وبعضهم أنزلوا رتبتو فأنزلوه عن منزلة الرسالة‪.‬‬ ‫كما غالت فيو بع‬
‫لكننا نشهد أف ال إلو إال اهلل‪ ،‬وأف محم ًدا رسوؿ اهلل‪ ،‬تشهد بها ألسنتنا‪ ،‬ونوقن بها بقلوبنا‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪ :‬وفيو (فليتخير من المسألة ما شاء)‪ :‬أي يسأؿ اهلل عز وجل بما شاء من الدعاء‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬عناية النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بالتشهد‪ ،‬وأنو كاف يعلمو كما يعلم السورة من القرآف‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف اهلل عز وجل مستح ٌق للتعظيم‪ ،‬وأنو يتقرب إليو بالطيبات‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬إثبات نبوة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫ين‬‫ي ولِل ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫ْم ْؤمن َ‬
‫{ربػَّنَا ا ْغف ْر لي َول َوال َد َّ َ ُ‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أنو ينبغي لإلنساف أف يقدـ نفسو في الدعاء على غيره‪ ،‬قاؿ تعالى‪َ :‬‬
‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬
‫باب آخر أال وىو‪( :‬باب كيفية الصالة على النبي (صلى اهلل عليو وسلم))‬
‫وذكر فيو حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قاؿ‪" :‬لقيني كعب بن عجرة فقاؿ‪ :‬أال أىدي لك ىدية؟ إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) خرج علينا‬
‫ٍ‬
‫محمد‪ ،‬كما صليت على‬ ‫ٍ‬
‫محمد وعلى آؿ‬ ‫فقلنا‪ :‬يا رسوؿ اهلل قد علمنا كيف نسلم عليك‪ ،‬فكيف نصلي عليك؟ فقاؿ‪ :‬قولوا اللهم ِ‬
‫صل على‬
‫إبراىيم وعلى آؿ إبراىيم إنك حمي ٌد مجيد‪ ،‬وبارؾ على محمد وعلى آؿ محمد‪ ،‬كما باركت على إبراىيم وعلى آؿ إبراىيم إنك حمي ٌد مجيد"‪.‬‬
‫صحابي قاؿ‪( :‬أال أىدي لك ىدية)‪ ،‬وذلك يدؿ على أف أعظم ما يهدى‬
‫ٌ‬ ‫تابعي قاؿ‪( :‬لقيني كعب بن عجرة) وىو‬
‫عبد الرحمن بن أبي ليلى ىو ٌ‬
‫علما ينتف بو‪.‬‬
‫بو ىو العلم‪ ،‬وأف أعظم ما يتركو الرجل خلفو ً‬
‫قاؿ‪( :‬إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) خرج علينا فقلنا‪ :‬يا رسوؿ اهلل قد علمنا كيف نسلم عليك‪ ،‬فكيف نصلي عليك؟)؛ ذلك ألف اهلل عز‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫صلُّوا َعلَْيو َو َسلْ ُموا تَ ْسل ً‬
‫يما‬ ‫آمنُوا َ‬
‫ين َ‬
‫وجل أمر بالصالة والسالـ على النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪ ،‬وذلك في قولو‪{ :‬يَا أَيػُّ َها الذ َ‬
‫محمد وعلى آؿ محمد كما صليت على إبراىيم وعلى آؿ إبراىيم"‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫صل على‬‫فقاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬قولوا اللهم ِ‬
‫أىل العلم إف الصالة من اآلدميين ىي الدعاء‪ ،‬ومن المالئكة ىي االستغفار‪ ،‬ومن اهلل عز وجل ىي الثناء على النبي (صلى اهلل‬ ‫وىنا قاؿ بع‬
‫عليو وسلم) في المأل األعلى‪.‬‬
‫محمد)‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫محمد وعلى آؿ‬ ‫صل على‬‫قاؿ‪( :‬اللهم ِ‬
‫تعريف أشمل من أف يكونوا قرابتو‪ ،‬أي‬
‫ٌ‬ ‫من ىم آؿ محمد صلى اهلل عليو وسلم؟ بعضهم قاؿ‪ :‬ىم قرابتو‪ ،‬وبعضهم قاؿ‪ :‬ىم أتباع ملتو‪ ،‬وىذا‬
‫أتباع ملة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ىم أشمل أف يكونوا من آؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫عرب ومن ِ‬
‫عجم‬ ‫على الشريعة من ٍ‬ ‫آؿ النبي ىم أتباع ملتو‬ ‫قائل يقوؿ‪:‬‬
‫وىناؾ ٌ‬
‫لصلى اهلل على الطاغية أبي ِ‬
‫لهب‬ ‫لو لم يكن آلو إال قرابتو‬
‫فاألعم واألشمل أف آؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ىم أتباع ملتو‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬كما صليت على آؿ إبراىيم)‪ :‬وىم أتباعو وذريتو من المؤمنين‪ ،‬ويدخل فيهم النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫(إنك حمي ٌد مجيد) فهو سبحانو وتعالى محمود يحمده خلقو؛ لكماؿ صفاتو جل وعال‪( ،‬مجي ٌد) صاحب العظمة والسلطاف‬
‫ٍ‬
‫محمد‪ ،‬وعلى آؿ محمد)‪ :‬أي أنزؿ عليهم البركة‪ ،‬أو فيهم البركة والنماء والزيادة‪ ،‬كما أعطيتها إلبراىيم عليو السالـ‪ ،‬وآؿ‬ ‫قاؿ‪( :‬وبارؾ على‬
‫إبراىيم عليو السالـ من دواـ الخير عليهم‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫كن في التشهد األخير‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف الصالة على النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ر ٌ‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف السلف كانوا يتهادوف مسائل العلم‪ ،‬ويجعلونها من أعظم الهدايا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف من حق النبي (صلى اهلل عليو وسلم) الصالة والسالـ عليو‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف من أكمل الصيغ في الصالة على النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬تلك التي علمها النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‬
‫للصحابة‪.‬‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬ما حكم صالة تحية المسجد في وقت الكراىة؟‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما معنى قوؿ اهلل تعالى‪{ :‬وقُ ِ ِ ِِ‬
‫وموا للَّو قَانت َ‬
‫ين‬ ‫َ ُ‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ما ىي كفارة من ترؾ الصالة ناسيًا لها‪ ،‬أو لمن ناـ عنها‪.‬‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬ما حكم صالة مكشوؼ العاتقين؟‬
‫السؤاؿ الخام س‪ :‬ىل يجوز زيادة ألفاظ في التشهد تشير إلى تعظيم النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬كقوؿ اللهم صل على سيدنا‬
‫محمد؟ ولماذا؟‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬ما معنى السالـ على النبي صلى اهلل عليو وسلم؟ وما ىي بدايتو ونهايتو؟‬
‫السؤاؿ الساب ‪ :‬ما معنى الصالة على النبي صلى اهلل عليو وسلم من اآلدميين‪ ،‬ومن المالئكة‪ ،‬ومن اهلل عز وجل؟‬
‫السؤاؿ الثامن‪ :‬من ىم آؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم؟‬
‫ٍ‬
‫محمد‪ ،‬وعلى آلو وصحبو أجمعين‪،‬‬ ‫ىذا وصلى اهلل وسلم وبارؾ على نبينا‬
‫وعلى التابعين‪ ،‬وتابعيهم بإحساف إلى يوـ الدين‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫المحاض ػػرة الثانيػ ػػة عشػػرة‬
‫كنا قد وقفنا عند باب‪( :‬الدعاء بعد التشهد األخير)‪ ،‬لقد جعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) مواطن للدعاء‪ ،‬وحث على تحريها؛ مظنةً إلجابة‬
‫الدعاء فيها‪ ،‬ومن ىذه المواطن دبر الصلوات؛ ألنو موطن إجابة‪.‬‬
‫وقد ذكر المصنف عليو رحمة اهلل أحاديث في ىذا الباب‪ ،‬تبين األدعية التي كاف يقولها النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ويعلمها أصحابو رضي اهلل‬
‫عنهم‪ ،‬من ىذه األحاديث‪ :‬حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يدعو في صالتو‪ ،‬ويقوؿ‪ :‬اللهم إني‬
‫أعوذ بك من عذاب القبر‪ ،‬ومن عذاب النار‪ ،‬ومن فتنة المحيا والممات‪ ،‬ومن فتنة المسيح الدجاؿ"‪.‬‬
‫قولو‪( :‬كاف يدعو في صالتو)‪ :‬ىنا ليس في صالتو من أولها؛ إنما بين ذلك في رواية اإلماـ مسلم في قولو‪" :‬إذا تشهد أحدكم" أي بعد انتهائو‬
‫من التشهد "فليستعذ باهلل من أرب "‪.‬‬
‫دليل على إثبات عذاب القبر خالفًا للمعتزلة الذين ينكروف ذلك‪،‬‬
‫(واالستعاذة) ىي اللجوء واالعتصاـ باهلل عز وجل "من عذاب القبر"‪ :‬فهذا ٌ‬
‫وعذاب القبر من األمور الغيبية‪ ،‬التي يطل اهلل عز وجل عليها من شاء من عباده‪ ،‬كما أطل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على عذاب صاحبي‬
‫جميعا‪ ،‬وىذه عقيدة أىل السنة‪ ،‬لكن كيف يكوف ذلك؟ اهلل أعلم بهذا‪.‬‬
‫القبرين‪ ،‬وعذاب القبر يق على الروح‪ ،‬وعلى الجسد ً‬
‫قاؿ‪( :‬ومن عذاب النار)‪ :‬أي عذاب جهنم‪ ،‬أعاذنا اهلل وإياكم منها‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬ومن فتنة المحيا والممات)‪ .‬وفتن المحيا أي فتن الحياة‪ ،‬وفتن الحياة كثيرة‪ ،‬منها فتن الشبهات والشهوات‪ ،‬ومن خطورة فتن الحياة‪ ،‬أنها‬
‫تصد عن سبيل اهلل والعياذ باهلل‪.‬‬
‫(وفتنة الممات) قد تكوف عند الموت‪ ،‬وقد تكوف بعد الموت‪ ،‬والفتنة عند الموت ىي التي تحوؿ بين اإلنساف وبين الخاتمة الحسنى‪ ،‬وقد‬
‫تحدث حتى لمن يُظن فيهم الصالح والتقوى‪ ،‬وىذا من عمل الشيطاف؛ إلغواء بني آدـ عند الموت‪ ،‬واإلنساف ال يأمن على نفسو الفتنة طالما‬
‫أف الروح فيو‪ ،‬وقد تكوف فتنة الممات بعد الموت؛ ألف الناس يفتنوف في قبورىم‪ ،‬فإنهم يسألوف في قبورىم‪ :‬من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟‬
‫فيثبت اهلل الذين آمنوا بالقوؿ الثابت في الحياة الدنيا وفي اآلخرة‪ ،‬أعاذنا اهلل وإياكم من الفتن‪ ،‬ما إهر منها وما بطن‪.‬‬
‫رجل من بني آدـ‪ ،‬يخرج في آخر الزماف‪ ،‬يفتن الناس‪ ،‬ومن نجا من فتنة الدجاؿ‬‫ثم قاؿ‪( :‬ومن فتنة المسيح الدجاؿ)‪ .‬والمسيح الدجاؿ ىو ٌ‬
‫نجا من كل ٍ‬
‫فتنة بعدىا؛ ذلك ألنو أعظم فتنة‪.‬‬
‫فقد ذكر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) "أنو ما من ٍ‬
‫شيء من خلق آدـ عليو السالـ إلى قياـ الساعة‪ ،‬أعظم من فتنة الدجاؿ‪ ،‬فإنو يأمر األرض‬
‫فتنبت‪ ،‬ويأمر السماء فتمطر"‪ ،‬وغير ذلك من الخوارؽ التي يجريها اهلل عز وجل على يديو؛ فتنةً للناس إلى أف ينزؿ المسيح عليو السالـ عند‬
‫المنارة البيضاء بدمشق‪ ،‬ويقتلو عند باب لُد في فلسطين‪.‬‬

‫فوائد ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية الدعاء بعد التشهد األخير‪ ،‬والتعوذ من ىذه األرب ‪ :‬عذاب القبر‪ ،‬وعذاب النار‪ ،‬وفتنة المحيا والممات‪،‬‬
‫وفتنة المسيح الدجاؿ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬رحمة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بأمتو في أمره لهم باالستعاذة من ىذه األرب ‪.‬‬
‫ضا كبش ٍر إلى أف يعيذه اهلل عز وجل من الفتن‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬حاجة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أي ً‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬إثبات عذاب القبر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬إثبات عذاب النار‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬خطورة فتنة المحيا والممات‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬خطر فتنة المسيح الدجاؿ‪.‬‬
‫ب لَ ُك ْم‬ ‫اؿ ربُّ ُكم ا ْدعُونِي أ ِ‬
‫َستَج ْ‬
‫ْ‬ ‫{وقَ َ َ ُ‬ ‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬أف اهلل عز وجل ىو ملجأ ومالذ الداعين‪ ،‬قاؿ تعالى‪َ :‬‬

‫‪103‬‬
‫قاؿ عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص عن أبي بك ٍر الصديق (رضي اهلل عنو) أنو قاؿ لرسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬علمني ً‬
‫دعاء أدعو بو في‬
‫كثيرا‪ ،‬وال يغفر الذنوب إال أنت‪ ،‬فاغفر لي مغفرًة من عندؾ وارحمني‪ ،‬إنك أنت الغفور‬ ‫إلما ً‬ ‫صالتي‪ ،‬قاؿ‪ :‬قل‪ :‬اللهم إني إلمت نفسي ً‬
‫الرحيم"‪.‬‬
‫ىنا في ىذا الحديث طلب أبو بك ٍر من النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف يعلمو دعاءً يدعو بو في الصالة؛ والصالة فيها مواطن للدعاء‪ ،‬لكن منها‬
‫ما ىو مقي ٌد‪ ،‬ومنها ما ىو مطلق‪.‬‬
‫نص‪ ،‬فيكوف الدعاء فيو توقيفيًا مثل‪:‬‬
‫والمقيد ىو الذي فيو ٌ‬
‫‪ -‬الدعاء بين تكبيرة اإلحراـ وقراءة الفاتحة‪ ،‬الذي يسمى بدعاء االستفتاح‪.‬‬
‫‪ -‬وعند الرف من الركوع‪.‬‬
‫‪ -‬والدعاء بين السجدتين‪ ،‬كل ىذا ورد فيو نصوص‪.‬‬
‫ومواطن الدعاء المطلق تكوف في السجود‪ ،‬وتكوف قبل التسليم بعد التشهد‪.‬‬
‫فهذا الدعاء إما أف يكوف موضعو في السجود‪ ،‬وإما أف يكوف بعد التشهد وقبل التسليم‪.‬‬
‫اؼ من العبد بظلمو لنفسو‪ ،‬وإلمو لنفسو إما أف يكوف بحملها على المعاصي‪ ،‬أو‬
‫كثيرا)‪ :‬وىذا فيو اعتر ٌ‬
‫إلما ً‬
‫قاؿ‪( :‬قل‪ :‬اللهم إني إلمت نفسي ً‬
‫بمنعها من الطاعات‪ ،‬ثم طلب المغفرة من اهلل عز وجل على ىذا الذنب فقاؿ‪( :‬وال يغفر الذنوب إال أنت)‪ .‬أي أنو سبحانو وتعالى ىو المتفرد‬
‫بالمغفرة‪ ،‬قاؿ‪( :‬فاغفر لي مغفرةً من عندؾ)‪ :‬فأضاؼ المغفرة إلى عندية اهلل عز وجل؛ ليدؿ على عظم ىذه المغفرة؛ ألف الشيء من العظيم‬
‫عظيما‪ ،‬والمغفرة ىي ستر الذنب والتجاوز عنو‪.‬‬
‫يكوف ً‬
‫قاؿ‪( :‬وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)‪ :‬والرحمة ىي تفضل من اهلل سبحانو وتعالى‪ ،‬وجو ٌد وكرـ منو جل وعال‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬حرص الصحابة رضي اهلل عنهم على ما ينفعهم‪ ،‬ويقربهم إلى اهلل تعالى‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف أفضل الدعاء ما يكوف في الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أنو يستحسن للعبد إذا دعا‪ ،‬أف يبدأ باعترافو وعجزه وتقصيره‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف الدعاء في الصالة يشمل الفريضة‪ ،‬ويشمل كذلك النافلة‪.‬‬

‫قاؿ المصنف‪ :‬عن عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬ما صلى رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) بعد أف نزلت عليو إذا جاء نصر اهلل والفتح إال‬
‫لفظ "كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يكثر أف يقوؿ في ركوعو وسجوده‪،‬‬ ‫يقوؿ فيها‪ :‬سبحانك اللهم ربنا وبحمدؾ‪ ،‬اللهم اغفر لي"‪ ،‬وفي ٍ‬
‫سبحانك اللهم ربنا وبحمدؾ‪ ،‬اللهم اغفر لي"‪.‬‬
‫ىذه السورة نزلت مؤذنةً بقرب أجل النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وقوؿ عائشة (رضي اهلل عنها)‪( :‬ما صلى صالةً) يشمل ىذا الفريضة والنافلة‪.‬‬
‫أفواجا‪ ،‬فإنو قد اكتمل عملك‪ ،‬وأتممت رسالة‬
‫والمعنى أف اهلل عز وجل خاطب نبيو فيها أنو إذا فتح اهلل عليك مكة‪ ،‬ودخل الناس في دين اهلل ً‬
‫ربك‪ ،‬وأديت األمانة‪ ،‬فما بقي إال أف تختم الحياة وىذه األعماؿ‪ ،‬بتسبيح اهلل عز وجل وحمده واستغفاره‪.‬‬
‫أىل العلم بهذه السورة على أنو ينبغي على اإلنساف في آخر حياتو‪ ،‬أف يكثر من الحمد والتسبيح واالستغفار‪.‬‬ ‫وقد استدؿ بع‬
‫قاؿ‪ :‬وفي ٍ‬
‫لفظ "كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يكثر أف يقوؿ في ركوعو وسجوده‪ ،‬سبحانك اللهم ربنا وبحمدؾ‪ ،‬اللهم اغفر لي"‪.‬‬
‫كلمات جامعة في ذكر اهلل عز وجل وتنزيهو‪ ،‬وذكر محامده‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ىذه‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬استحباب ىذا الدعاء في الركوع والسجود‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬إثبات نزوؿ القرآف على النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬مبادرة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في االمتثاؿ لألمر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬استحباب ختم األعماؿ والعبادات باالستغفار؛ ليتدارؾ ما حصل فيها من ٍ‬
‫نقص‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬فضيلة االستغفار‪ ،‬ومشروعية طلبو في كل وقت‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر وىو‪( :‬باب الوت ػ ػر)‬
‫(والوتر)‪ :‬ىو الفرد والمقصود بو الركعات التي تصلى‪ ،‬فتكوف ركعة‪ ،‬أو ثالث‪ ،‬أو خمس‪ ،‬أو سب ‪ ،‬أو تس ‪ ،‬أو إحدى عشر‪ ،‬وىو ما يختم بو‬
‫اإلنساف صالة الليل‪.‬‬
‫أىل العلم بوجوبو‪.‬‬ ‫ووقت الوتر من صالة العشاء إلى طلوع الفجر‪ ،‬وىو من السنن المؤكدة التي ال ينبغي تركها‪ ،‬وقد قاؿ بع‬
‫وىناؾ فر ٌؽ بين الوتر‪ ،‬وبين قياـ الليل‪ ،‬وبين التهجد‪.‬‬
‫نفل مطلق‪ ،‬والتهجد‪ :‬صالة الليل‪.‬‬
‫فالوتر‪ :‬سنةٌ خاصة‪ ،‬وقياـ الليل‪ٌ :‬‬
‫ويستحب صالة الوتر في أوؿ الليل لمن خشي أال يقوـ في آخره؛ أما من علم أنو سيقوـ في آخر الليل‪ ،‬أو غلب على إنو ذلك‪ ،‬فيستحب لو‬
‫وترا"‪.‬‬
‫تأخير الوتر‪ ،‬لقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬اجعلوا آخر صالتكم من الليل ً‬

‫رجل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وىو على المنبر‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ما ترى في صالة‬
‫ذكر المصنف حديث عبد اهلل بن عمر (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬سأؿ ٌ‬
‫وترا"‪.‬‬
‫الليل؟ قاؿ‪ :‬مثنى مثنى‪ ،‬فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدةً‪ ،‬فأوترت لو ما صلى‪ ،‬وأنو كاف يقوؿ‪ :‬اجعلوا آخر صالتكم بالليل ً‬
‫وبين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ىنا أف صالة الليل مثنى مثنى‪ ،‬أي يصلي ركعتين‪ ،‬ثم يسلم‪ ،‬ثم يصلي ركعتين‪ ،‬ثم يسلم وىكذا‪.‬‬
‫وترا‪.‬‬
‫(فإذا خشي طلوع الصبح صلى واحدة‪ ،‬فأوترت لو ما صلى)‪ ،‬أي جعلت الصالة السابقة التي ىي مثنى مثنى أي شف ‪ ،‬جعلتهن ً‬
‫وترا"‪.‬‬
‫وكاف يقوؿ‪" :‬اجعلوا آخر صالتكم بالليل ً‬

‫ثم ذكر حديث عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬من كل الليل قد أوتر رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬من أوؿ الليل‪ ،‬وأوسطو‪ ،‬وآخره‪ ،‬فانتهى‬
‫وتره إلى السحر"‪.‬‬
‫وىذا الحديث يدؿ على أف الوتر يكوف في كل الليل من بعد صالة العشاء؛ ألف الوتر متعل ٌق بها‪ ،‬فيبدأ من بعدىا مباشرةً‪ ،‬ويكوف في كل الليل‬
‫وترا‪.‬‬
‫أولو‪ ،‬أو أوسطو‪ ،‬أو آخره‪ ،‬واألفضل أف يختم اإلنساف الصالة بو‪ ،‬فيكوف آخر صالتو بالليل ً‬
‫ٍ‬
‫بخمس‪ ،‬ال‬ ‫ضا قالت (رضي اهلل عنها)‪" :‬كاف رسوؿ اهلل صلى سلم يصلي من الليل ثالث عشرة ركعة‪ ،‬يوتر من ذلك‬
‫ثم ذكر حديث عائشة أي ً‬
‫يجلس في ٍ‬
‫شيء إال في آخرىا"‪.‬‬
‫وتسعا‪،‬‬
‫سبعا‪ً ،‬‬
‫خمسا‪ ،‬وروت أنو يصلي ً‬
‫ً‬ ‫وقد اختلفت الروايات عن عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬فقد روت أنو (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يصلي‬
‫وإحدى عشر‪ ،‬وثالثة عشر‪.‬‬
‫وقد اتجو العلماء للجم بين ىذه الروايات‪:‬‬
‫فمنهم من قاؿ إف ىذا بخالؼ ركعتي التهجد‪( ،‬ركعتا التهجد) ىما الركعتاف الخفيفتاف اللتاف تصلياف في بداية التهجد‪.‬‬
‫وفي ىذا حديث أف المرء إذا ناـ عقد الشيطاف على قافيتو ثالث عقد‪ ،‬فإذا قاـ من نومو انحلت عقدة‪ ،‬فإذا توضأ انحلت العقدة الثانية‪ ،‬فإذا‬
‫صلى انحلت العقدة الثالثة‪.‬‬
‫فاإلنساف إذا أراد أف يقوـ من الليل يصلي ركعتين خفيفتين لكي تحل ىذه العقدة الثالثة‪.‬‬
‫وىناؾ من فرؽ بين الوتر‪ ،‬وبين قياـ الليل‪ ،‬فقاؿ إف الوتر ال يزيد على إحدى عشرة ركعة‪ ،‬بخالؼ قياـ الليل فقد يصلي أكثر من ذلك‪.‬‬
‫ومنهم من قاؿ إف ىذا كاف أغلب حاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وأنو قد يزيد‪ ،‬أو قد ينقص حسب النشاط وعدمو‪ ،‬أو لقصد التعليم‪ ،‬وبياف‬
‫الجواز لألمة‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫الصحابة‬ ‫وطبعا مسألة الصالة بالليل أنها ال تزيد على إحدى عشرة ركعة‪ ،‬قد جم العلماء كما ذكرت بين ىذه الروايات‪ ،‬فقد ثبت عن بع‬
‫ً‬
‫مثال‪.‬‬
‫أنهم صلوا صالة الليل عشرين ركعة ً‬
‫فقالوا إف ىناؾ فر ٌؽ بين صالة الليل‪ ،‬وبين قياـ الليل‪ ،‬وبين الوتر‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذه األحاديث التي وردت في باب الوتر‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬حرص الصحابة على العلم؛ وذلك بسؤالهم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في كل شيء‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز سؤاؿ الخطيب على المنبر‪ ،‬الرجل سأؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وىو على المنبر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف نهاية وقت الوتر صالة الصبح‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬استحباب ختم صالة الليل بالوتر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬أف الوقت واس ٌ في صالة الوتر‪ ،‬فهو من أوؿ الليل إلى آخره‪.‬‬
‫الروايات‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد يزيد على إحدى عشرة ركعة؛ لقولها‪" :‬ثالث عشرة ركعة" في بع‬
‫سالـ إال في آخرىا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مجموعة بدوف ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بخمس‬ ‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬جواز اإليتار‬

‫باب آخر وىو‪( :‬باب الذكر عقب الصالة)‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬
‫الص َالةَ فَاذْ ُك ُروا اللَّوَ قِيَ ًاما َوقُػعُ ً‬
‫ودا َو َعلَ ٰى ُجنُوبِ ُك ْم‬ ‫مأمور بو بنص القرآف‪ ،‬لقوؿ اهلل تعالى‪{ :‬فَِإ َذا قَ َ‬
‫ض ْيتُ ُم َّ‬ ‫والذكر عقب الصلوات ٌ‬
‫أي‪ :‬على أي ٍ‬
‫حاؿ قاع ًدا‪ ،‬أو ماشيًا‪ ،‬أو على ٍ‬
‫جنب‪.‬‬
‫والذكر بعد الصلوات من السنن المؤكدة‪ ،‬فيبدأ اإلنساف باالستغفار بعد انتهائو من الصالة؛ من أجل ما حصل في الصالة من ٍ‬
‫خلل‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك يقوؿ‪" :‬اللهم أنت السالـ ومنك السالـ تباركت يا ذا الجالؿ واإلكراـ"‪ ،‬وىذا ثناءٌ على اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وقد ذكر بع أىل العلم قاعدةً مستقاة من ىذه األحاديث الواردة في الذكر في الصلوات وعقبها‪ ،‬وىذه قاعدةٌ مهمة وىي‪( :‬أف األصل في‬
‫وتسبيحا هلل عز وجل‪ ،‬فإنو يكوف عقب الصالة)‪.‬‬
‫ً‬ ‫ثناء‬ ‫الذكر إذا كاف ذكر ٍ‬
‫طلب ومسألة‪ ،‬فإنو يكوف قبل السالـ‪ ،‬وإذا كاف الذكر ً‬
‫كما مر معنا أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يتعوذ من أرب ‪ ،‬ىذا طلب مسألة قبل السالـ؛ ولذلك ذكره المصنف في الباب الذي قبلو‪،‬‬
‫وىو باب الدعاء بعد التشهد األخير‪.‬‬

‫وذكر المصنف ىنا حديث عبد اهلل بن عباس (رضي اهلل عنو)‪" :‬أف رف الصوت بالذكر حين ينصرؼ الناس من المكتوبة كاف على عهد رسوؿ‬
‫اهلل صلى اهلل عليو وسلم"‪.‬‬
‫قاؿ ابن ٍ‬
‫عباس‪" :‬كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعتو"‪.‬‬
‫وفي ٍ‬
‫لفظ‪" :‬ما كنا نعرؼ انقضاء صالة رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) إال بالتكبير"‪.‬‬
‫وىنا بين عبد اهلل بن عباس (رضي اهلل عنو) أف رف الصوت بالذكر حين ينصرؼ الناس من المكتوبة؛ كاف على عهد النبي‪.‬‬
‫مخصوص بالصالة المكتوبة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وىنا بين أف الذكر الوارد بعد الصالة‪ ،‬إنما ىو‬
‫والسؤاؿ ىل يرف اإلنساف صوتو بالذكر أـ ال؟ اختلف أىل العلم في ىذه المسألة على ثالثة أقواؿ‪:‬‬
‫منهي عنو‪ ،‬وىذا قوؿ اإلماـ مالك‪ ،‬واإلماـ أبي حنيفة‪ ،‬واإلماـ الشافعي‪ ،‬ورواية لإلماـ أحمد‪،‬‬
‫القوؿ األوؿ‪ :‬أف الجهر بالذكر عقب الصلوات ٌ‬
‫وقد جاء عن اإلماـ مالك أنو قاؿ‪ :‬بدعةٌ محدثة‪.‬‬
‫واستدلوا على ا لمن بهذا الحديث الذي ورد معنا‪ ،‬ووجو االستدالؿ عندىم أنو قاؿ فيو‪" :‬أنو كاف على عهد رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم"‪،‬‬
‫فدؿ ذلك على أف الصحابة تركوه‪.‬‬
‫والشافعي عليو رحمة اهلل قاؿ‪ :‬إف ىذا إنما كاف من النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على سبيل التعليم‪ ،‬فلما علم الناس الذكر وعرفوه تركو‪ ،‬وتركو‬
‫الصحابة بعده رضي اهلل عنهم‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫القوؿ الثاني‪ :‬قالوا إف الجهر بالذكر سنة؛ ألنو ىو الثابت عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪ ،‬كما في حديث ابن عباس ىنا‪ ،‬واألحاديث األخرى‬
‫مثل قولو‪" :‬ما كنا نعرؼ انقضاء صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إال بالتكبير"‪.‬‬
‫مما يدؿ على أنو كاف يرف صوتو وكذلك الصحابة‪.‬‬
‫كثير من أىل العلم‪.‬‬
‫وىذا اختيار الشيخ تقي الدين‪ ،‬وىي الرواية الثانية عن اإلماـ أحمد‪ ،‬وعليو ٌ‬
‫وقد ألف الشيخ سليماف بن سحماف رسالة في ىذا الباب‪ :‬أف الجهر بالذكر عقب الفريضة سنة‪.‬‬
‫ضا عن اإلماـ أحمد‪.‬‬
‫جائز‪ ،‬ليس سنة‪ ،‬وليس منهيًا عنو‪ ،‬وىي رواية أي ً‬
‫القوؿ الثالث‪ :‬أف الجهر بالذكر بعد الفريضة ٌ‬
‫ثم ذكر المصنف حديث وارد مولى المغيرة بن شعبة قاؿ‪" :‬أملى علي المغيرة بن شعبة في ٍ‬
‫كتاب إلى معاوية أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫يقوؿ في دبر كل صالةٍ مكتوبة‪ :‬ال إلو إال اهلل وحده ال شريك لو‪ ،‬لو الملك ولو الحمد‪ ،‬وىو على كل شيء قدير‪ ،‬اللهم ال مان لما أعطيت‪،‬‬
‫وال م ٍ‬
‫عط لما منعت‪ ،‬وال ينف ذا الجد منك الجد‪ ،‬ثم وفدت بعد ذلك على معاوية‪ ،‬فسمعتو يأمر الناس بذلك"‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ىنا في ىذا الحديث ال يزاؿ يذكر األذكار التي تكوف عقب الصلوات المكتوبة‪ ،‬ومنها ما ذكره المغيرة في كتابو إلى معاوية‪.‬‬
‫بحديث سمعو من النبي صلى اهلل عليو وسلم؛ فكتب لو أنو كاف يقوؿ في دبر‬ ‫ٍ‬ ‫وكاف المغيرة واليًا لو على الكوفة‪ ،‬فطلب منو معاوية أف يرسل إليو‬
‫كل صالة‪ ،‬أي بعد انتهاء الصالة‪ ،‬وذكر لو ىذا الدعاء‪.‬‬
‫وقد جم ىذا الدعاء أنواع التوحيد والثناء على اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وقاؿ فيو‪( :‬اللهم ال مان لما أعطيت‪ ،‬وال معطي لما منعت)‬
‫أي أف ما قدره اهلل عز وجل للعبد‪ ،‬فلن يستطي أح ٌد منعو‪ ،‬وما قدر اهلل عز وجل أف يمنعو منو‪ ،‬فلن يستطي أح ٌد أف يعطيو إياه‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬وال ينف ذا الجد منك الجد)‪ ،‬أي أنو ال ينف صاحب الحظ والغنى‪ ،‬إنما الحظ والغنى منك سبحانك‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬ثم وفدت بعد ذلك على معاوية‪ ،‬فسمعتو يأمر الناس بذلك)‪.‬‬
‫قاؿ وفي ٍ‬
‫لفظ‪" :‬كاف ينهى عن قيل وقاؿ وعن إضاعة الماؿ‪ ،‬وكثرة السؤاؿ‪ ،‬وكاف ينهى عن عقوؽ األمهات‪ ،‬ووأد البنات ومن َ وىات"‪.‬‬
‫(ينهى عن قيل وقاؿ) أي لغو الحديث والكالـ فيما ال ينف ‪.‬‬
‫(وعن إضاعة الماؿ)‪ ،‬أي إنفاقو فيما ال يعود بالنف على صاحبو‪.‬‬
‫(وعن كثرة السؤاؿ) ىذه تشمل سؤاؿ الماؿ من أصحاب األمواؿ‪ ،‬وتشمل كثرة السؤاؿ على سبيل الجداؿ والتعنت‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬وعن عقوؽ األمهات) ذلك ألف اهلل عز وجل قد أمر ببر الوالدين‪ ،‬وخص الوالدة بالبر واإلكراـ؛ لما لها من الفضل الكبير على الولد‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬ووأد البنات) وىذه كانت من عادات الجاىلية‪.‬‬
‫كانت من العادات السيئة الممقوتة‪ ،‬لما فيها من سوء الظن باهلل عز وجل‪ ،‬واالعتداء على النفس التي حرـ اهلل تبارؾ وتعالى‪ ،‬كانوا يدفنوف‬
‫البنات وىن أحياء؛ خشية الفقر‪.‬‬
‫ضا عن من وىات‪ ،‬وىو البخل الشديد‪ ،‬والحرص على جم األمواؿ في الدنيا‪ ،‬واالنشغاؿ بتحصيلها‪ ،‬وعدـ إنفاقها في طرؽ‬
‫وقاؿ‪ :‬وينهى أي ً‬
‫الخيرات‪.‬‬
‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬استحباب الذكر بعد الصلوات المكتوبة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬مشروعية رف الصوت بالذكر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬استحباب الثناء على اهلل عز وجل‪ ،‬بما يكوف فيو من التوحيد هلل عز وجل كما جاء في حديث المغيرة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬النهي عن الخصاؿ الذميمة‪ ،‬التي تشتمل على المفاسد الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬حث المسلم على تعلق قلبو باهلل تبارؾ وتعالى ال بغيره؛ ألنو ىو المعطي المان ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬مسارعة الصحابة إلى تنفيذ ما علموه من سنة النبي صلى اهلل عليو وسلم؛ وذلك ألمر معاوية الناس للعمل بالحديث‬
‫لما بلغو‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫صالح السماف‪ ،‬عن أبي ىريرة (رضي اهلل عنو)‬
‫ٍ‬ ‫مي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن ىشاـ‪ ،‬عن أبي‬ ‫ثم ذكر المصنف حديث ُس ّ‬
‫قاؿ‪" :‬إف فقراء المهاجرين أتوا رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) فقالوا‪ :‬يا رسوؿ اهلل ذىب أىل الدثور بالدرجات العلى‪ ،‬والنعيم المقيم‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬
‫وما ذاؾ؟ قاؿ‪ :‬قالوا‪ :‬يصلوف كما نصلي‪ ،‬ويصوموف كما نصوـ‪ ،‬ويتصدقوف وال نتصدؽ‪ ،‬ويعتقوف وال نعتق‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪ :‬أفال أعلمكم شيئًا تدركوف بو من سبقكم‪ ،‬وتسبقوف بو من بعدكم‪ ،‬وال يكوف أح ٌد أفضل منكم إال من صن مثلما صنعتم؟ قالوا‪ :‬بلى يا‬
‫رسوؿ اهلل‪ .‬قاؿ‪ :‬تسبحوف وتكبروف وتحمدوف دبر كل صالة ثالثًا وثالثين مرة‪.‬‬
‫قاؿ أبو صالح‪ :‬فرج فقراء المهاجرين إلى رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسوؿ اهلل سم إخواننا أىل األمواؿ بما فعلنا‪ ،‬ففعلوا‬
‫مثلو‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬ذلك فضل اهلل يؤتيو من يشاء"‪.‬‬
‫قاؿ ُس مي‪ :‬فحدثت بع أىلي بهذا الحديث‪ ،‬فقاؿ‪ :‬وىمت إنما قاؿ‪ :‬تسبح اهلل ثالثًا وثالثين‪ ،‬وتحمد اهلل ثالثًا وثالثين‪ ،‬وتكبر اهلل ثالثًا‬
‫وثالثين‪ ،‬فرجعت إلى أبي صالح‪ ،‬فذكرت لو ذلك فأخذ بيدي فقاؿ‪ :‬قل‪ :‬اهلل أكبر‪ ،‬وسبحاف اهلل‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬اهلل أكبر‪ ،‬وسبحاف اهلل‪ ،‬والحمد‬
‫هلل‪ ،‬حتى تبلغ من جميعهن ثالثًا وثالثين"‪.‬‬
‫ُسمي ىو مولى أبي بك ٍر بن عبد الرحمن‪ ،‬وأبو بكر بن عبد الرحمن ىو أحد فقهاء المدينة السبعة‪.‬‬
‫والمعنى أف المنافسة في طاعة اهلل عز وجل كانت شديدة بين الصحابة‪ ،‬وبين الفقراء منهم‪ ،‬واألغنياء كذلك‪ ،‬فشعر الفقراء بسبق األغنياء لهم؛‬
‫ذلك ألنهم يقوموف بالحقوؽ الشرعية لألمواؿ من الصدقات والزكوات‪ ،‬فتمنى الفقراء أف لو كاف لهم من العمل مثل األغنياء‪ ،‬فشكوا ذلك إلى‬
‫النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وأنهم ال يتحصلوف على أج ٍر مثل أجر األغنياء‪ ،‬فأرشدىم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إلى ىذا الذكر الذي ينالوف‬
‫بو األجر العظيم‪ ،‬أكثر من أجر اإلنفاؽ والصدقة‪.‬‬
‫فلما قاموا بو سمعهم األغنياء‪ ،‬ففعلوا مثلما فعلوا‪ ،‬فجاء الفقراء مرًة أخرى إلى النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬يشكوف حالهم من سبق األغنياء‬
‫لهم‪ ،‬بأنهم شاركوىم في العبادات القلبية والبدنية والذكر الذي علمهم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إياه‪ ،‬بل قد امتازوا عليهم بالعبادات المالية‪.‬‬
‫فقاؿ لهم النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ذلك فضل اهلل يؤتيو من يشاء"‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬حرص الصحابة وتنافسهم في أعماؿ الخير‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬فضل الذكر المذكور في الحديث التسبيح‪ ،‬والتكبير‪ ،‬والتحميد عقب الصلوات‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف فضل اهلل يؤتيو من يشاء من عباده‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬إثبات تفاضل الناس فيما بينهم‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى باب آخر وىو باب‪( :‬الخشوع في الصالة)‬
‫والخشوع أثنى اهلل عز وجل على أصحابو‪ ،‬فقد أثنى سبحانو وتعالى على عباده الذين ىم في صالتهم خاشعوف؛ ألنهم يرثوف الفردوس ىم فيها‬
‫خالدوف؛ ذلك الستحضارىم القلوب في عبادتهم وخشوعهم فيها‪.‬‬
‫ولقد نهى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عن كل ٍ‬
‫شاغل يشغل عن الصالة فقاؿ‪" :‬ال صالة في حضرة طعاـ‪ ،‬وال وىو يدافعو األخبثاف"‪.‬‬

‫وقد ذكر المصنف ىنا حديث عائشة (رضي اهلل عنها) "أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى في خمي ٍ‬
‫صة لها أعالـٌ‪ ،‬فنظر إلى أعالمها نظرةً‪،‬‬
‫جهم‪ ،‬وأتوني بأنبجانية أبي ٍ‬
‫جهم‪ ،‬فإنها ألهتني آن ًفا عن الصالة"‪.‬‬ ‫فلما انصرؼ قاؿ‪ :‬اذىبوا بخميصتي ىذه إلى أبي ٍ‬
‫قاؿ‪( :‬الخميصة) كساءٌ مرب ٌ لو أعالـ‪( ،‬واألنبجانية)‪ :‬كساءٌ غليظ‪.‬‬
‫ط تلفت األنظار‪.‬‬
‫ىنا الخميصة كما ذكر المصنف كساءٌ مرب لو أعالـ‪ ،‬أي خطو ٌ‬
‫فنظر إليها النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لفتت نظر النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فلما انصرؼ من صالتو قاؿ‪" :‬اذىبوا بخميصتي ىذه إلى أبي‬
‫جهم"‪ ،‬وما العلة في ذلك؟ العلة أف أبا ٍ‬
‫جهم قد أىداىا إلى النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فأمر بها النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف ترد إليو‪ ،‬وأف‬ ‫ٍ‬
‫أعالـ وال خطوط‪.‬‬
‫يأتوا بأنبجانية أبي جهم‪ ،‬واألنبجانية ىي كساءٌ غليظٌ‪ ،‬ليس فيو ٌ‬

‫‪108‬‬
‫وإنما أمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بذلك؛ حتى ال يق في قلب أبي جهم أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) رد عليو الهدية‪ ،‬فينكسر قلبو إنما‬
‫رد إليو ىذه وطلب منو أنبجانيتو؛ ليجبر قلبو بذلك‪ ،‬وعلل أنها ألهتني عن الصالة آن ًفا لألعالـ التي فيها‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬حرص النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على حضور قلبو في الصالة؛ وذلك إلزالتو ما يلهيو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬ينبغي على المرء أف يزيل كل ما يلهيو عن عبادتو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬حسن خلق النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وحرصو على جبر خواطر أصحابو‪.‬‬
‫معذورا‪ ،‬كما فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في رد‬
‫ً‬ ‫فعال مستغربًا أف يبين العلة؛ ليكوف‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أنو ينبغي لإلنساف إذا فعل ً‬
‫الهدية‪ ،‬قاؿ‪ :‬ألنها ألهتني آن ًفا عن الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز النظر إلى القبلة في الصالة‪ ،‬وترؾ محل السجود‪ ،‬الخميصة كانت في قبلة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وقد وردت أحاديث أخرى تبين أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف ينظر إلى القبلة‪ ،‬ومنها حديث لما أراه اهلل عز وجل الجنة‪ ،‬ومد يده إلى‬
‫العنقود وغير ذلك من األحاديث‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر قاؿ‪( :‬الجم بين الصالتين في السفر)‬
‫وشرع المصنف بعد االنتهاء من أحكاـ الصالة‪ ،‬وصفتها‪ ،‬وأذكارىا‪ ،‬وما يتعلق بذلك‪ ،‬شرع بذكر صالة ذوي األعذار وىو الجم والقصر‪ ،‬ثم‬
‫الصلوات المخصوصة كالكسوؼ والخسوؼ‪ ،‬واالستسقاء وغير ذلك كما سيأتي معنا‪.‬‬
‫الرخص في العبادات‪ ،‬ومن ىذه الرخص إباحة الجم والقصر في السفر؛ وذلك لرف‬ ‫ولما كاف السفر مظنة المشقة رخص فيو الشارع بع‬
‫وتيسيرا عليهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫الحرج عن األمة‪،‬‬
‫وذكر حديث عبد اهلل بن عباس (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يجم في السفر بين صالة الظهر والعصر إذا كاف‬
‫على إهر سي ٍر‪ ،‬ويجم بين المغرب والعشاء"‪.‬‬
‫وىذه كانت عادة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إذا جد بو السير في السفر‪ ،‬جم بين الظهر والعصر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تقديم‪ ،‬فيصلي العصر م الظهر في وقت الظهر‪.‬‬ ‫والجم إما أف يكوف جم‬
‫ٍ‬
‫تقديم‪ ،‬فيصلي العشاء م المغرب في وقت المغرب‪.‬‬ ‫وكذلك يجم بين المغرب والعشاء جم‬
‫أو يكوف جم تأخير فيصلي المغرب م العشاء في وقت العشاء‪ ،‬ويصلي الظهر م العصر في وقت العصر‪ ،‬ىذا جم التأخير‪ ،‬وىذا من رفق‬
‫الشريعة ويسرىا‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في جواز الجم بين الصالتين‪:‬‬
‫‪ -‬فذىب كثي ٌر من أىل العلم إلى جوازه منهم اإلماـ الشافعي‪ ،‬واإلماـ أحمد‪ ،‬واإلماـ الثوري‪.‬‬
‫‪ -‬وذىب بعضهم إلى عدـ جواز الجم ‪ ،‬وقالوا‪ :‬إف الجم المقصود في األحاديث إنما ىو الجم الصوري‪.‬‬
‫(والجم الصوري)‪ :‬ىو أف يصلي الظهر في آخر وقتو‪ ،‬وقد يكوف قد دخل وقت العصر‪ ،‬فيصلي العصر في أوؿ وقتو‪ ،‬ىذا يسمى‬
‫جمعا صوريًا‪ ،‬وكذلك في المغرب والعشاء‪.‬‬
‫ً‬
‫وىذا القوؿ قوؿ اإلماـ أبو حنيفة‪ ،‬واإلماـ الحسن البصري‪ ،‬والنخعي‪.‬‬
‫ضا في مذىب اإلماـ مالك‪.‬‬
‫‪ -‬وبعضهم قاؿ يجوز جم التأخير دوف التقديم كالظاىرية (اإلماـ ابن حزـ الظاىري)‪ ،‬وىذه الرواية أي ً‬
‫الروايات بدوف لفظ التقديم‪ ،‬إنما الجم كاف جم تأخير‪.‬‬ ‫واستدلوا على ذلك بورود بع‬
‫سبب لجم التقديم والتأخير أـ ال؟‬
‫ضا ىل السفر ٌ‬‫واختلفوا أي ً‬
‫سبب في الجم بين الصلوات‪.‬‬
‫سبب للجم ‪ ،‬فذىب الجمهور إلى أف السفر ٌ‬ ‫‪ -‬فبعضهم قاؿ‪ :‬إف السفر ٌ‬

‫‪109‬‬
‫‪ -‬وبعضهم قاؿ‪ :‬ال السفر ليس سببًا للجم بين الصلوات؛ إنما السبب للجم ىو النسك‪ ،‬والجم يكوف للنسك ال للسفر‪ ،‬وقالوا‪ :‬أال‬
‫يجم إال في عرفة‪ ،‬الظهر والعصر في عرفة يجم وىذا للنسك‪ ،‬وىذا قوؿ اإلماـ أبي حنيفة‪.‬‬
‫‪ -‬وبعضهم قاؿ ال يجم إال لحاجة‪ ،‬أي إذا جد بو السير‪.‬‬
‫جائز مطل ًقا؛ ذلك ألف السفر موطن مشقة في النزوؿ‪ ،‬وفي السير وغير ذلك‪ ،‬وأف الجم‬
‫لكن األحاديث الثابتة تدؿ على أف الجم في السفر ٌ‬
‫بين الصلوات رخصة ما جعلت إال للتيسير‪ ،‬وقد وردت أحاديث تدؿ على أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) جم بين الظهر والعصر والمغرب‬
‫خوؼ وال مطر‪ ،‬وفي رواية (من غير ٍ‬
‫خوؼ وال سفر)‪.‬‬ ‫والعشاء‪ ،‬من غير ٍ‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬جواز الجم بين صالتي الظهر والعصر‪ ،‬وبين صالتي المغرب والعشاء‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز جم التقديم والتأخير‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬األحاديث تدؿ على أف الفجر ال يجم م غيره؛ بل الجم يكوف بين الظهر والعصر‪ ،‬وبين المغرب والعشاء‪.‬‬

‫ثم انتقل إلى ٍ‬


‫باب آخر قاؿ‪( :‬باب قصر الصالة في السفر)‬
‫ومن فقو المؤلف رحمو اهلل أنو لم يجم القصر والجم في ٍ‬
‫باب واحد؛ ذلك ألنو ال تالزـ بين الجم والقصر‪ ،‬فقد يجوز الجم ‪ ،‬وال يجوز‬
‫القصر مثل المري ‪ ،‬وفي المطر‪ ،‬والريح‪ ،‬وقد يجوز القصر‪ ،‬وال يجوز الجم كما يفعل الحجيج في منى‪ ،‬وقد يجوز الجم والقصر كما في‬
‫السفر على اختالؼ أنواعو كما ذكرنا قبل ذلك من حاالت السفر‪.‬‬
‫ضا السفر لو حاالت‪ ،‬ومن ىذه الحاالت اشتداد وجدة السير‪.‬‬
‫وأي ً‬
‫الركعات في الصالة الرباعية‪ ،‬أما الثنائية والثالثية ال قصر فيها‪ ،‬فتصلى في الرباعية ركعتين‪.‬‬ ‫والقصر‪ :‬ىو ترؾ بع‬
‫وذكر المصنف حديث عبد اهلل بن عمر قاؿ‪" :‬صحبت رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فكاف ال يزيد في السفر عن ركعتين‪ ،‬وأبا بك ٍر‪ ،‬وعمر‪،‬‬
‫وعثماف كذلك"‪.‬‬
‫والسفر الذي يبيح القصر‪ :‬أي قصر الصالة اختلف العلماء فيو‪:‬‬
‫ص ُروا ِم َن َّ‬
‫الص َالةِ‬
‫اح أَف تَػ ْق ُ‬
‫س َعلَْي ُك ْم ُجنَ ٌ‬ ‫ض َربْػتُ ْم فِي ْاأل َْر ِ‬
‫ض فَػلَْي َ‬ ‫{وإِذَا َ‬
‫بعضهم قاؿ‪ :‬كل سف ٍر يقصر فيو الصالة‪ ،‬واستدلوا بقوؿ اهلل عز وجل‪َ :‬‬
‫ىذا يدؿ على أنو كل سف ٍر تقصر فيو الصالة‪.‬‬
‫سفر مقي ٌد بمسافة‪ ،‬وقد وردت أحاديث تدؿ أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قصر في مسافة أرب برد (وىي ستة عشر‬
‫‪ -‬وقالوا إف ىناؾ ٌ‬
‫فرس ًخا‪ ،‬وىو تحدي ًدا ما يقرب من ٍ‬
‫ثالثة وثمانين كيلو متر)‪ ،‬وىذا قوؿ جمهور أىل العلم‪.‬‬
‫سفر مقيد بالعرؼ‪ ،‬كل ما يطلق عليو في العرؼ سفر‪ ،‬فهذا تقصر فيو الصالة‪ ،‬وىذا اختيار شيخ اإلسالـ‪.‬‬
‫‪ -‬وقالوا‪ :‬إف ىناؾ ٌ‬
‫ىنا معنى قوؿ عبد اهلل بن عمر‪" :‬صحبت رسوؿ اهلل‪ ،‬فكاف ال يزيد في السفر عن ركعتين"‪.‬‬
‫السفر ىنا لو حاالت كما ذكرت‪:‬‬
‫‪ -‬الحالة األولى‪ :‬اشتداد السفر وجدة السير فيو‪ ،‬وىذا الذي ذكر في الحديث (إذا جد بو السير كاف يقصر الصالة)‪.‬‬
‫‪ -‬الحالة الثانية‪ :‬أف يمكث المسافر في ٍ‬
‫بلد مدةً ال يعلمها‪.‬‬
‫‪ -‬الحالة الثالثة‪ :‬أف يمكث فيو مدة دوف حد اإلقامة‪.‬‬

‫وحد اإلقامة اختلف فيها أىل العلم‪:‬‬


‫‪ -‬أقلها أنو يمكث فيو أربعة أياـ‪ ،‬فهنا يشمل حاالت السفر الثالث‪ ،‬فقاؿ‪( :‬صحبت النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فكاف ال يزيد في السفر عن‬
‫ركعتين)‪.‬‬
‫منفردا‪ ،‬أو يصلي في‬ ‫‪ -‬المقصود بالسفر ىنا أنو يشمل الحاالت الثالث‪ ،‬فدؿ على أف القصر في السفر سنة‪ ،‬يقصر كل مساف ٍر ً‬
‫سواء كاف ً‬
‫جماعة‪ ،‬وىذه المسألة من المسائل التي اختلف فيها أىل العلم‪ ،‬وىي ىل القصر واجب‪ ،‬أـ رخصة يستحب إتيانها؟‬

‫‪110‬‬
‫‪ ‬فالجمهور على جواز اإلتماـ في السفر وقالوا‪ :‬إف القصر أفضل؛ ألنو من فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ ‬واألحناؼ والظاىرية [ابن حزـ الظاىري] قالوا بوجوب القصر؛ وذلك لمداومة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عليو في أسفاره‪.‬‬
‫ضا لحديث عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬فرضت الصالة ركعتين‪ ،‬فأقرت صالة السفر‪ ،‬وأتمت صالة الحضر"‪.‬‬
‫وأي ً‬
‫‪ ‬ورد الجمهور على ىذه األدلة بأف فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ال يدؿ على الوجوب عندىم‪.‬‬
‫ضا أجابوا على حديث عائشة بأنو لم يرف إلى النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وأف ىذا من كالـ عائشة (رضي اهلل عنها)‪.‬‬ ‫وأي ً‬
‫ص ُروا ِم َن َّ‬
‫الص َالةِ ‪ ،‬قالوا فنفي الجناح ىنا يفيد بأنو رخصة وليس عزيمة‪.‬‬ ‫اح أَف تَػ ْق ُ‬
‫س َعلَْي ُك ْم ُجنَ ٌ‬
‫ضا بقولو تعالى‪{ :‬فَػلَْي َ‬
‫واستدلوا أي ً‬
‫بحديث رواه الدراقطني‪ ،‬عن عائشة (رضي اهلل عنها) "أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يقصر في السفر ويتم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ضا‬
‫واستدلوا أي ً‬
‫ويفطر ويصوـ"‪.‬‬
‫وقد رد الذين قالوا بالوجوب على ىذه األدلة وقالوا‪ :‬إف اآلية إنما وردت في صالة الخوؼ‪.‬‬
‫متكلم فيو‪ ،‬وقالوا‪ :‬إف األولى للمسافر أف يتب سنة النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وأال يدع القصر في السفر؛ ألنو ىو‬
‫ٌ‬ ‫وأجابوا عن الحديث أنو‬
‫وخروجا من الخالؼ‪.‬‬
‫ً‬ ‫األفضل على قوؿ جمهور أىل العلم‪،‬‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية قصر الصالة الرباعية في السفر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬يسر الشريعة في التخفيف على الناس حاؿ المشقة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬قصر الصالة من سنة النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وىو ما كاف عليو الخلفاء من بعده‪.‬‬
‫سفرا‪ ،‬يباح فيو القصر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف السفر يكوف على إطالقو‪ ،‬فما كاف في عرؼ الناس ً‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬ما المقصود بفتنة المحيا والممات؟‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما ىي مواطن الدعاء المطلق‪ ،‬ومواطن الدعاء المقيد في الصالة؟ وما المقصود بالدعاء المقيد في الصالة؟‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬في أي ٍ‬
‫وقت تصلى صالة الوتر؟ وما ىو األفضل في صالة الوتر؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬ما ىي القاعدة التي استقاىا أىل العلم في التفريق بين الذكر الذي يكوف قبل السالـ‪ ،‬وبين الذكر الذي يكوف‬
‫بعد السالـ؟‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬ما ىو حكم رف الصوت بالذكر عقب الصلوات؟‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬ما ىو حكم الجم بين الصلوات في السفر؟‬
‫السؤاؿ الساب ‪ :‬ما ىو حكم القصر في السفر؟‬

‫بهذا نكتفي‪ ،‬أقوؿ قولي ىذا‪ ،‬وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪،‬‬


‫ٍ‬
‫بإحساف إلى يوـ الدين‪.‬‬ ‫وصلى اهلل وسلم وبارؾ على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آلو وصحبو أجمعين‪ ،‬وعلى التابعين وتابعيهم‬

‫‪111‬‬
‫المحاض ػػرة الثالث ػػة عشػػرة‬
‫وكنا قد وقفنا فيو عند‪( :‬باب الجمعة)‬
‫قاؿ المصنف عليو رحمة اهلل‪( :‬باب الجمعة)‪ ،‬والجمعة المقصود بو‪ :‬يوـ الجمعة‪ ،‬ويوـ الجمعة ادخره اهلل تبارؾ وتعالى لهذه األمة‪ ،‬وأضل اهلل‬
‫عز وجل عنو اليهود والنصارى‪ ،‬فهم فيو تب ٌ لنا‪ ،‬فلليهود السبت‪ ،‬وللنصارى األحد‪.‬‬
‫يوـ اختصو اهلل عز وجل بخصائص ليست لغيره من األياـ‪:‬‬
‫ويوـ الجمعة ٌ‬
‫فأعظم ما في ىذا اليوـ صالة الجمعة‪ ،‬وىذه الصالة لها فضائل عظيمة‪ ،‬واختصاصات ليست لغيرىا من الصلوات‪.‬‬

‫وكذلك يوـ الجمعة اختصو اهلل عز وجل بأشياء ليست لغيره‪:‬‬


‫‪ -‬فيستحب في فجر الجمعة قراءة السجدة واإلنساف‪.‬‬
‫‪ -‬وكذلك استحباب قراءة سورة الكهف في يومو‪.‬‬
‫‪ -‬وكذلك أمر اهلل عز وجل في ىذا اليوـ بترؾ البي ‪ ،‬والذىاب إلى الجمعة‪ ،‬وقد حرـ العلماء البي بعد أذاف الجمعة الثاني‪.‬‬
‫‪ -‬وفي ىذا اليوـ ساعة إجابة ليست لغيره من األياـ‪.‬‬

‫خصائص كثيرة ليوـ الجمعة‪ ،‬واختصاصات خصها اهلل عز وجل لهذا اليوـ‪ ،‬ليست لغيره من األياـ‪.‬‬
‫من ىذه الخصائص ما ذكره المصنف عليو رحمة اهلل في أوؿ ىذا الباب‪.‬‬

‫النسخ تجد ىذه‬ ‫النسخ تجدىا في أوؿ الباب‪ ،‬وفي بع‬ ‫النسخ‪ ،‬ففي ترتيب األحاديث في بع‬ ‫وىناؾ ملحوإة‪ :‬أف ىنا ؾ اختالؼ في بع‬
‫األحاديث في آخر الباب؛ ىذا ألف ىذا الكتاب طب منو نس ٌخ كثيرة‪.‬‬

‫بدأ المصنف بحديث عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬من جاء منكم الجمعة فليغتسل"‪.‬‬
‫واختلف العلماء في ىذا الغسل‪ ،‬فمنهم من قاؿ بوجوبو‪ ،‬ومنهم من قاؿ باستحبابو‪ ،‬ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أمر بو فقاؿ‪" :‬من جاء‬
‫منكم الجمعة‪ ،‬فليغتسل" فقالوا إف الفاء المصاحبة لفعل األمر تفيد الوجوب عند األصوليين‪.‬‬
‫ومنهم من قاؿ باستحبابو ألف ىناؾ صوارؼ صرفت ىذا األمر بالوجوب إلى االستحباب‪.‬‬
‫منها ما جاء عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬من توضأ يوـ الجمعة‪ ،‬فبها ونعمت‪ ،‬ومن اغتسل فالغسل أفضل"‪.‬‬
‫والصحيح من كالـ أىل العلم أف غسل الجمعة مستحب؛ وذلك ألف كل ٍ‬
‫مكاف يظن فيو اجتماع الناس للعبادة‪ ،‬يستحب فيو التنظف والتطيب‬ ‫ٌ‬
‫يح كريهة‪.‬‬
‫واالغتساؿ؛ ىذا حتى ال يشم لو ر ٌ‬

‫قائم‪ ،‬يفصل بينهما بجلوس"‪.‬‬


‫ثم ذكر حديث عبد اهلل بن عمر اآلخر قاؿ‪" :‬كاف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يخطب خطبتين وىو ٌ‬
‫خالؼ بين أىل العلم‪ ،‬فهناؾ ٌ‬
‫قوؿ يقوؿ‬ ‫ٌ‬ ‫ط؛ لصحة الجمعة‪ ،‬وىو قوؿ جماىير أىل العلم‪ ،‬والمسألة فيها‬
‫ىذا الحديث يبين أف الخطبتين شر ٌ‬
‫بالوجوب ٌ‬
‫وقوؿ يقوؿ باالستحباب‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬كاف يخطب يوـ الجمعة خطبتين وىو قائم‪.‬‬
‫قائما‪ ،‬فإنو يكوف أبين للناس حتى يروه‪،‬‬ ‫جالسا‪ ،‬إذا كاف لعذ ٍر‪ ،‬وإال فإف السنة أف يخطب ً‬
‫قائما؛ ذلك ألنو إذا كاف ً‬ ‫يجوز للخطيب أف يخطب ً‬
‫ورؤية المتكلم أبلغ في اإلنصات إليو والتأثر بو؛ وكذلك القياـ يكوف أشج للمتكلم على األداء‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بجلوس)‪.‬‬ ‫قاؿ‪( :‬يفصل بينهما‬
‫مثال‪.‬‬
‫قصيرا؛ بل مقداره أف يكوف بمقدار قراءة سورة اإلخالص ً‬
‫طويال وال ً‬
‫الجلوس بين الخطبتين سنة‪ ،‬وقيل إنو ال يكوف ً‬

‫‪112‬‬
‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪ ،‬والذي قبلو‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬استحباب الغسل لصالة الجمعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف األفضل أف يكوف الغسل قبيل الذىاب للجمعة‪.‬‬
‫ضا فيو داللةٌ على استحباب أخذ الزينة عند الذىاب للمساجد‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬وىذا الحديث أي ً‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬وجوب الخطبتين‪ ،‬وأنهما شرط لصحة الجمعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬استحباب القياـ للخطيب‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬استحباب الفصل بين الخطبتين بجلوس‪.‬‬

‫رجل والنبي (صلى اهلل عليو وسلم) يخطب الناس يوـ الجمعة‪ ،‬فقاؿ‪ :‬صليت يا‬
‫ثم ذكر حديث جابر بن عبد اهلل (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬جاء ٌ‬
‫فالف؟ قاؿ‪ :‬ال‪ ،‬قاؿ‪ :‬قم فارك ركعتين"‪ ،‬وفي رواية‪ :‬قاؿ‪" :‬فصل ركعتين"‪.‬‬
‫الكالـ في ىذا الحديث عن تحية المسجد‪ ،‬أنو إذا دخل رجل المسجد كيف يفعل؟‬
‫رجال دخل المسجد وجلس‪ ،‬ىذا الرجل ىو (سليك الغطفاني) رضي اهلل عنو‪ ،‬دخل والنبي (صلى اهلل عليو وسلم) يخطب يوـ‬ ‫ىنا ذكر أف ً‬
‫الجمعة فجلس‪ ،‬فقاؿ لو النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أصليت؟ قاؿ ال‪ ،‬قاؿ‪ :‬قم فارك ركعتين"‪.‬‬

‫استدؿ العلماء بهذا الحديث على عدة أمور‪:‬‬


‫‪ -‬أوؿ ىذه األمور‪ :‬جواز كالـ الخطيب للمأمومين‪ ،‬وجواز رد المأموـ عليو‪ ،‬أو جواز كالـ المأموـ لإلماـ‪ ،‬وىو يخطب يوـ الجمعة‪.‬‬
‫األمور غير المتعلقة بالخطبة‪.‬‬ ‫‪ -‬األمر الثاني‪ :‬أنو يجوز للخطيب أف يقط خطبتو؛ للنصيحة؛ أو لبياف بع‬
‫‪ -‬األمر الثالث‪ :‬أنو يجوز قضاء السنن؛ ألنو لما دخل سليك الغطفاني وجلس‪ ،‬والنبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد أمر أنو "إذا دخل‬
‫أحدكم المسجد‪ ،‬فال يجلس حتى يصلي ركعتين" ىنا لما جلس فوت محل الركعتين‪ ،‬فهنا لما أمره النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف‬
‫يقوـ ويرك ‪ ،‬فاستنبط العلماء من ىذا أنو يجوز قضاء السنن‪.‬‬

‫وقد اختلف العلماء فيمن دخل المسجد‪ ،‬والخطيب يخطب‪ ،‬ىل يصلي أـ ال؟‬
‫‪ -‬قوؿ جمهور أىل العلم أف المشروع لو ىو صالة الركعتين‪ ،‬أي تحية المسجد‪.‬‬
‫‪ -‬وبعضهم قاؿ‪ :‬يجلس وال يصلي‪.‬‬
‫‪ -‬قوؿ الجمهور أقوى؛ لألدلة التي وردت ومنها‪ :‬قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إذا جاء أحدكم واإلماـ يخطب‪ ،‬فليرك ركعتين‪،‬‬
‫وليتجوز فيهما"‪ ،‬وفي رواية قاؿ‪" :‬إذا دخل أحدكم المسجد‪ ،‬فال يجلس حتى يصلي ركعتين"‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية خطبتي الجمعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬تأكد استحباب ركعتي تحية المسجد‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬مشروعية قضاء السنن‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬جواز كالـ اإلماـ للمأمومين أثناء الخطبة والعكس‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ما ترؾ شيئًا من أمور الدين إال وبينو‪ ،‬ولم يسكت عليو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬عدـ مشروعية الزيادة عن ركعتين واإلماـ يخطب‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف عليو رحمة اهلل حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬إذا قلت لصاحبك أنصت يوـ‬
‫الجمعة‪ ،‬واإلماـ يخطب‪ ،‬فقد لغوت"‪.‬‬
‫أصل من األصوؿ في وجوب اإلنصات للخطيب وىو يخطب‪.‬‬
‫وىذا الحديث ٌ‬

‫‪113‬‬
‫قاؿ‪( :‬إذا قلت لصاحبك) والمراد بالصاحب ىنا أي‪ :‬الذي يجلس بجانبك في المسجد‪.‬‬
‫وقولك‪( :‬أنصت) أي اسكت واستم للخطيب‪.‬‬
‫إثما تحرـ بو أجر الجمعة‪.‬‬
‫فإذا قلت لو ىذا فقد لغوت‪ .‬ومعنى (لغوت) أي ارتكبت ً‬
‫كما جاء في رواية‪" :‬ومن لغا فال جمعة لو"‪ .‬فالكالـ والخطيب يخطب ال يجوز‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حاالت معينة استثناىا أىل العلم‪ ،‬من ىذه الحاالت‪:‬‬ ‫إال في‬
‫مأمورا باإلنصات؛ ألنو ال يسم الخطيب‪.‬‬
‫كبيرا وال يسم المأموـ الخطيب‪ ،‬وىنا ىو ليس ً‬
‫‪ -‬أف يكوف المسجد ً‬
‫‪ -‬والحالة األخرى‪ :‬ىي الصورة التي سبقت معنا من سؤاؿ الخطيب المأموـ أو العكس‪.‬‬
‫‪ -‬والصورة الثالثة‪ :‬الكالـ الواجب‪ .‬ما ىو الكالـ الواجب؟‬
‫مثال‪.‬‬
‫طفل سيسقط ً‬‫الكالـ الواجب‪ :‬كإنقاذ غر ٍيق‪ ،‬أو إنقاذ ٍ‬
‫كالما واجبًا إف لم يقم بو غيره‪.‬‬
‫واختلف العلماء في رد السالـ‪ ،‬وتشميت العاطس‪ ،‬فقالوا‪ :‬على الراجح أنو يعتبر ً‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬وجوب اإلنصات للخطيب يوـ الجمعة‪ ،‬وتحريم الكالـ حاؿ الخطبة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أنو يستثنى من ىذا‪ :‬من كلمو اإلماـ‪ ،‬أو كلم اإلماـ‪ ،‬ومن كاف ال يسم ‪ ،‬ومن تكلم ٍ‬
‫بكالـ واجب‪.‬‬

‫عود ىو؟ فقاؿ‬ ‫رجاال تماروا في منبر رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) من أي ٍ‬ ‫سعد (رضي اهلل عنو) قاؿ فيو‪" :‬إف ً‬‫ثم ذكر حديث سهل بن ٍ‬
‫سهل‪ :‬من طرفاء الغابة‪ ،‬وقد رأيت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاـ عليو فكبر‪ ،‬وكبر الناس وراءه وىو على المنبر‪ ،‬ثم رك فنزؿ القهقرى‪،‬‬
‫حتى سجد في أصل المنبر‪ ،‬ثم عاد حتى فرغ من آخر صالتو‪ ،‬ثم أقبل على الناس فقاؿ‪ :‬يا أيها الناس إني صنعت ىذا لتأتموا بي‪ ،‬ولتعلَّموا‬
‫صالتي"‪ ،‬وفي ٍ‬
‫لفظ‪" :‬فصلى وىو عليها‪ ،‬ثم كبر عليها‪ ،‬ثم رك وىو عليها‪ ،‬ثم نزؿ القهقرة"‪.‬‬
‫سهل بن سعد (رضي اهلل عنو) ىو من الصحابة الذين عمروا بعد النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وقيل إنو من آخر الصحابة موتًا‪.‬‬
‫رجاال تماروا في منبر رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) من أي ٍ‬
‫عود ىو؟‬ ‫ذكر أف ً‬
‫فأخذ الناس يتماروف ويتباحثوف ويتجادلوف في أم ٍر أال وىو‪ :‬منبر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) من أي ٍ‬
‫عود ىو؟ أي‪ :‬من أي األشجار صن ؟‬
‫فجاءوا إلى سهل بن سعد رضي اهلل عنو‪ ،‬فأخبرىم أنو من طرفاء الغابة‪.‬‬
‫والغابة كانت منطقة تق في غرب المسجد النبوي‪ ،‬كانت تبعد عن المدينة في عهد النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ما يقارب ثمانية أمياؿ‪.‬‬
‫وقد جاء في بع الروايات أنو من أثل الغابة‪ ،‬أي من شجر األَثْ ِل‪ ،‬وكاف العرب يروف أف خشب األثل ىذا من أقوى األخشاب وأمتنها‪ ،‬وأصبرىا‬
‫على حرارة شبو الجزيرة‪.‬‬
‫وكاف ىذا الشجر في ىذه الغابة‪ ،‬وكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يجعل إبل الصدقة ترعى في ىذه الغابة‪ ،‬ثم بعد أف بين لهم سهل (رضي اهلل‬
‫عنو) مما صن منبر النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬أراد أف يشغلهم بما ىو أنف لهم‪ ،‬فبدأ يبين لهم كيف علم النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‬
‫الصحابة الصالة‪ ،‬وىو على ىذا المنبر‪ ،‬ثم بعد أف فرغ من صالتو أقبل عليهم‪ ،‬وأعلمهم أنو ما فعل ىذا الفعل؛ إال ليروا صالتو‪ ،‬ويتعلموا منو‬
‫الصالة‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أنو يجب على اإلنساف أف ينشغل بما ينفعو‪ ،‬فهناؾ أشياءٌ العلم بها ال يفيد‪ ،‬والجهل بها ال يضر‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬وىذا فعلو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لما صلى‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز ارتفاع اإلماـ عن المأمومين فى الصالة؛ لحاجة كالتعليم ً‬
‫على المنبر‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز الحركة اليسيرة للحاجة في الصالة؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) نزؿ من على المنبر‪ ،‬أو نزؿ القهقرى‪،‬‬
‫وسجد في أصل المنبر‪ ،‬أو سجد على األرض‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف من حسن التعليم التعليم بالفعل؛ ألنو أبلغ في الثبوت في الذىن‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز إقامة الصالة؛ من أجل تعليم الناس‪ ،‬ىذا ال ينافي اإلخالص‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬جواز اتخاذ المنبر‪.‬‬

‫ثم ذكر بعد ذلك حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬من اغتسل يوـ الجمعة ثم راح في الساعة‬
‫شا أقرنًا‪ ،‬ومن راح في‬
‫األولى‪ ،‬فكأنما قرب بدنة‪ ،‬ومن راح في الساعة الثانية‪ ،‬فكأنما قرب بقرة‪ ،‬ومن راح في الساعة الثالثة‪ ،‬فكأنما قرب كب ً‬
‫الساعة الرابعة‪ ،‬فكأنما قرب دجاجة‪ ،‬ومن راح في الساعة الخامسة‪ ،‬فكأنما قرب بيضة‪ ،‬فإذا خرج اإلماـ حضرت المالئكة يستمعوف الذكر"‪.‬‬
‫في ىذا الحديث ذكر أبو ىريرة (رضي اهلل عنو) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪( :‬من اغتسل يوـ الجمعة)‪ ،‬وإف من الفضائل يوـ الجمعة‬
‫أف يغتسل اإلنساف يومها‪ ،‬وأف يبكر في الذىاب للمسجد‪.‬‬
‫وقد بين النبي صلى اهلل وسلم في ىذا الحديث‪ ،‬أف االغتساؿ متعل ٌق بيوـ الجمعة ال بليلتها‪ ،‬قاؿ‪" :‬من اغتسل يوـ الجمعة"‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬ثم راح)‪ :‬وكلمة راح عند العرب األصل فيها أف الرواح يكوف بعد الزواؿ‪.‬‬
‫وبهذا استدؿ اإلماـ مالك عليو رحمة اهلل أف الذىاب يوـ الجمعة يكوف بعد الزواؿ‪ ،‬وىذا خالفًا لما عليو جماىير أىل العلم‪ ،‬إذ أف كلمة راح‬
‫تستخدـ لكل خروج من البيت أو من غيره‪ ،‬وفي أي ٍ‬
‫ذىاب كذلك‪.‬‬
‫تفصيل‬
‫ٌ‬ ‫ط بالرواح‪ ،‬فيستحب أف يكوف االغتساؿ قبل الذىاب مباشرةً للجمعة‪ ،‬والمسألة فيها‬
‫ضا استدؿ بع أىل العلم أف الغسل مرتب ٌ‬ ‫وىنا أي ً‬
‫ال أريد أف أتطرؽ إليو اآلف‪.‬‬
‫ثم بين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) درجات الفضل بين الناس في مسألة التبكير إلى الجمعة‪ ،‬فقاؿ‪" :‬ثم راح في الساعة األولى"‪.‬‬
‫كيف تحسب الساعة األولى؟‬
‫‪ -‬جمهور أىل العلم أف الساعات األولى تبدأ من أوؿ النهار‪.‬‬
‫‪ -‬خالفًا لإلماـ مالك كما ذكرت‪ ،‬الذي يقوؿ إف ىذه الساعات تبدأ بعد الزواؿ‪.‬‬
‫‪ -‬وقوؿ الجمهور أقوى‪.‬‬

‫لكن متى يكوف أوؿ النهار؟ ىل يكوف من طلوع الفجر؟ أـ من طلوع الشمس؟‬
‫‪ -‬المذىب عند الحنابلة‪ :‬أنو من طلوع الفجر‪.‬‬
‫‪ -‬والقوؿ الثاني‪ :‬أنو من طلوع الشمس‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬والجمعة في الثانية عشرة‪ ،‬إذف نقسم ىذه‬
‫فنحسب على القوؿ الثاني أنو من طلوع الشمس‪ ،‬فلو قلنا إف الشمس تطل في السادسة ً‬
‫الفترة على خمسة أقساـ‪ ،‬فتكوف ىذه ىي الساعات الخمس‪.‬‬
‫والساعة ليست ىي الساعة المعروفة بالستين دقيقة؛ بل ىي البرىة أو الفترة من الزمن‪.‬‬
‫(فمن راح في الساعة األولى فكأنما قرب بدنة)‪( ،‬والبدنة )‪ :‬األصل أف المراد بالبدنة اإلبل والبقر‪ ،‬ولكن ىنا في ىذا الحديث يراد بها اإلبل؛‬
‫ألنو جاء في الساعة الثانية‪ ،‬وقاؿ‪" :‬فكأنما قرب بقرة"‪.‬‬
‫وقد استدؿ أىل العلم بهذا الحديث‪ ،‬على أف اإلبل أفضل من البقر في الهدي واألضاحي‪.‬‬
‫ضا استدؿ أىل العلم بهذا على أف الكبأ أفضل من األنثى في األضحية‪ ،‬وأنو إذا كاف‬
‫شا أقرنًا)‪ ،‬وأي ً‬
‫قاؿ‪( :‬ومن راح في الثالثة‪ ،‬فكأنما قرب كب ً‬
‫سواد‪ ،‬وينظراف في ٍ‬
‫سواد‪ ،‬ويمشياف في‬ ‫أقرف كاف أفضل؛ ولذلك كانت أضحية النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كبشاف أقرناف أملحاف‪ ،‬يأكالف في ٍ‬
‫سواد‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬ومن راح في الساعة الرابعة‪ ،‬فكأنما قرب دجاجة)‪ ،‬والدجاج ىو الطيور المعروفة التي تربى في البيوتات‪ ،‬وتشمل الذكر واألنثى منها‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫أىل العلم قد استدؿ بهذا الحديث على جواز األضحية بالدجاج والطيور‪ ،‬وأإن ىو الشيخ يوسف بن عبد الهادي الحنبلي والظاىرية‬ ‫وبع‬
‫ضا‪.‬‬
‫أي ً‬
‫مخالف لإلجماع‪ ،‬فقد نقل اإلجماع ابن مفلح عليو رحمة اهلل في الفروع أنو ال يجزئ في األضحية إال بهيمة األنعاـ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫لكن ىذا القوؿ‬
‫قاؿ‪( :‬ومن راح في الساعة الخامسة‪ ،‬فكأنما قرب بيضة)‪.‬‬
‫فيقوؿ‪ :‬كيف يكوف التقريب بين الحيواف وبين البيضة؟‬ ‫وقد يستغرب البع‬
‫والجواب‪ :‬أف التقرب في الحيواف يكوف بذبحو‪ ،‬وبالبيضة يكوف بالتصدؽ بها‪.‬‬
‫ثم قاؿ‪( :‬فإذا خرج اإلماـ حضرت المالئكة‪ ،‬يستمعوف الذكر) أي إذا خرج للخطبة وللصالة‪ ،‬انصرفت المالئكة الموكلوف بكتابة المفضلين في‬
‫القدوـ المقربين‪ ،‬وطويت الصحف‪ ،‬فمن أتى بعد ذلك لم يكتب من ىؤالء المقربين المفضلين‪.‬‬
‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬فضل االغتساؿ يوـ الجمعة‪ ،‬وأنو يكوف قبل الذىاب إلى الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬فضيلة التبكير إلى الجمعة م االغتساؿ لها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬عدؿ اهلل عز وجل في ترتيب الثواب على المجيء إلى الجمعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أفضلية البدنة على البقرة‪ ،‬والبقرة على الشاة‪ ،‬وكذلك أفضلية الكبأ األقرف على غيره من الغنم‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬عناية اهلل بعباده‪ ،‬وذلك بوجود المالئكة على أبواب المساجد‪ ،‬يكتبوف األوؿ فاألوؿ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬أف المالئكة تستم لخطبة اإلماـ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬يستدؿ من قولو‪" :‬إذا خرج اإلماـ" أف اإلماـ يدخل مباشرةً قبل الخطبة‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف حديث سلمة بن األكوع (رضي اهلل عنو) وكاف من أصحاب الشجرة قاؿ‪" :‬كنا نصلي م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‬
‫إل نستظل بو"‪.‬‬
‫صالة الجمعة‪ ،‬ثم ننصرؼ وليس للحيطاف ٌ‬
‫وفي لفظ‪" :‬كنا نجم م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) إذا زالت الشمس‪ ،‬ثم نرج فنتتب الفيء"‪.‬‬
‫ىنا في حديث سلمة بن األكوع‪ ،‬وكاف من أصحاب الشجرة‪ ،‬وسلمة (رضي اهلل عنو) كاف من المتقدمين في اإلسالـ‪ ،‬وىو من أصحاب الشجرة‬
‫أي بيعة الشجرة‪.‬‬
‫وعندما يذكر ىذا معناه أنو رأى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) سنين كثيرة يفعل ذلك‪.‬‬
‫إل يستظلوف بو‪.‬‬
‫إل‪ :‬أي ليس للجدراف ٌ‬
‫وىنا يذكر أنهم كانوا يصلوف الجمعة مبكرين‪ ،‬وينصرفوف إلى منازلهم‪ ،‬وليس للحيطاف ٌ‬
‫قاؿ‪" :‬وفي ٍ‬
‫لفظ كنا نجم م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) إذا زالت الشمس‪ ،‬ثم نرج فنتتب الفيء"‪.‬‬
‫ىذا الحديث فيو بياف الوقت الذي تصلى فيو الجمعة‪:‬‬
‫تماما‪ ،‬خالفا لإلماـ أحمد الذي قاؿ في المشهور عنو‪ :‬أف‬
‫ووقت الجمعة على قوؿ جمهور أىل العلم أنو يبدأ من زواؿ الشمس‪ ،‬كصالة الظهر ً‬
‫وقتها كوقت صالة العيد‪ ،‬أي بعد بزوغ الشمس قدر رمح‪.‬‬
‫وىذه بدايةٌ لألوقات‪ ،‬أما انتهاء وقت صالة الجمعة‪ ،‬فقد اتفق العلماء على أف آخر وقت الجمعة‪ ،‬ىو آخر وقت صالة الظهر‪.‬‬
‫أما قوؿ العلماء الذين قالوا بأف الجمعة تجوز صالتها قبل الزواؿ‪ ،‬ىذا لو وجهة قوية‪ ،‬وربما يكوف ىو الصواب؛ وذلك لألحاديث التي وردت‬
‫منها حديث سلمة بن األكوع ىذا الذي مر معنا‪.‬‬

‫ومنها حديث جابر عند اإلماـ مسلم "أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يصلي الجمعة‪ ،‬ثم نذىب إلى جمالنا فنريحها حين تزوؿ الشمس"‪.‬‬
‫فدؿ ذلك على أف الصالة كانت قبل الزواؿ‪ ،‬وقد علَّم اإلماـ الشوكاني عليو رحمة اهلل على استدالالت الجمهور‪ ،‬بأف الجمعة ال تصلى إال بعد‬
‫قائال‪ :‬إف استداللهم باألحاديث القاطعة بأف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى الجمعة بعد الزواؿ‪ ،‬ال ينفي الجواز قبلو‪ ،‬لكن‬ ‫الزواؿ‪ً ،‬‬
‫المستحب والمتأكد على اإلماـ‪ ،‬وإف كاف يرى أف الصحيح جواز صالة الجمعة قبل الزواؿ‪ ،‬أال يصلي إال بعده‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫وقد ذكر العلماء لهذا سببين‪:‬‬
‫‪ -‬األوؿ‪ :‬أ نو قد يصلي خلفك من ال يرى صحة الصالة قبل الزواؿ‪ ،‬ال سيما أف الجمهور يشترطوف لصالة الجمعة أف تكوف بعد الزواؿ؛‬
‫استدالال بقوؿ اإلماـ مالك عليو رحمة اهلل الذي ذكرتو قبل ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬السبب الثاني‪ :‬أف النساء في البيوت يصلين م أذاف المؤذف‪ ،‬وأغلب النساء ال يعلمن أف صالة الجمعة تجوز أف تصلى قبل الزواؿ‪،‬‬
‫فإذا سمعت المؤذف يؤذف ربما قامت وصلت الظهر‪ ،‬فلو كاف ىذا قبل الزواؿ تبطل الصالة؛ ألنها تكوف قبل الوقت‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬إاىر الحديث يدؿ على جواز صالة الجمعة قبل الزواؿ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬استحباب التبكير لصالة الجمعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز فعل اإلنساف ما ىو أرفق بو؛ لقولو‪" :‬فنتتب الفيء"‪ ،‬أي يبحثوف عن الظل؛ ليستظلوا بو‪.‬‬

‫نزيل (أي‬
‫ثم ذكر المصنف حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يقرأ في صالة الفجر يوـ الجمعة {الم تَ ُ‬
‫اإلنس ِ‬
‫اف " (أي سورة اإلنساف)‪.‬‬ ‫{ى ْل أَتَ ٰى َعلَى ِْ َ‬
‫سورة السجدة)‪َ ،‬‬
‫ىاتاف السورتاف كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يقرأىما في صالة الفجر يوـ الجمعة‪ ،‬على سبيل الديمومة‪.‬‬
‫وىذا لحكمة قد ذكرىا شيخ اإلسالـ ابن تيمية‪ ،‬وذكرىا تلميذه ابن مفلح في الفروع‪" :‬أف ىاتين السورتين تحوياف ذكر خلق السماوات‬
‫واألرض‪ ،‬وخلق اإلنساف‪ ،‬وقد ثبت في صحيح اإلماـ مسلم أف انتهاء خلق السماوات واألرض كاف في يوـ الخميس‪ ،‬وأف آدـ عليو السالـ‬
‫خلق يوـ الجمعة‪ ،‬فناسب أف يكوف في فجر الجمعة ذكر خلق السماوات واألرض‪ ،‬وذكر خلق اإلنساف‪ ،‬وذكر المعاد‪ ،‬وحشر العباد الذي‬
‫سيكوف في يوـ الجمعة"‪.‬‬
‫وقد أخطأ من قاؿ‪ :‬إف المقصود من قراءة السجدة يوـ الجمعة إنما ىو السجدة‪ ،‬ال‪ ،‬السجدة ليست مقصودة لذاتها‪ ،‬إنما المقصود السورة‬
‫بمعانيها‪ ،‬وقراءة السورتين في فجر الجمعة سنة‪.‬‬
‫أىل العلم قد قاؿ بكراىة المداومة عليهما؛ لكي ال يظن الناس أنهما واجبتاف‪.‬‬ ‫وبع‬
‫الجهلة أنها واجبة‪ ،‬م أف إاىر الحديث يدؿ على‬ ‫من أىل العلم الذين كرىوا ىذا‪ ،‬يعني كره اإلماـ أحمد المداومة عليها؛ لئال يظن بع‬
‫المداومة عليها‪.‬‬
‫فرض في ىذه‬
‫أمر آخر‪ ،‬وىو أنو ربما أدى الجهاؿ إلى اعتقاد أف ذلك ٌ‬
‫وقد قاؿ ابن دقيق العيد في إحكاـ األحكاـ‪" :‬وفي المواإبة على ذلك ٌ‬
‫دفعا لهذه المفسدة"‪.‬‬
‫األوقات ً‬ ‫الصالة‪ ،‬فإذا انتهى الحاؿ إلى أف تق ىذه المفسدة‪ ،‬فينبغي أف تترؾ في بع‬
‫لكن ىذا الكالـ لم يمر مرور الكراـ‪ ،‬فتعقب ىذا الكالـ اإلماـ الصنعاني عليو رحمة اهلل في العدة‪ ،‬فقاؿ‪" :‬إنو يتعين إشاعة السنن‪ ،‬وتعريف‬
‫الجاىل لما يجهلو‪ ،‬وإعالمو بالشريعة‪ ،‬وال تترؾ السنة؛ مخافة جهلو‪ ،‬وما ماتت السنن إال؛ لخيفة العلماء من الجهاؿ‪ ،‬وليس بعذ ٍر‪ ،‬فإف اهلل قد‬
‫أمر بإبالغ الشرائ "‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف عليو رحمة اهلل إلى‪( :‬باب صالة العيدين)‪.‬‬
‫وسمي العيد عي ًدا؛ ألنو يعود ويتكرر‪ ،‬والعيداف ىما (الفطر واألضحى)‪ ،‬وليس في السنة عي ٌد سواىما إال العيد األسبوعي‪ ،‬وىو يوـ الجمعة‪.‬‬
‫كثير من األحكاـ المشتركة‪ ،‬فإف ىيئتهما متقاربة‪:‬‬
‫والفقهاء يذكروف باب العيدين بعد باب الجمعة مباشرةً؛ ألف بين ىاتين الصالتين شبوٌ‪ ،‬وبينهما ٌ‬
‫‪ -‬ففيهما خطبتاف‪.‬‬
‫‪ -‬والصالة فيهما ركعتاف‪.‬‬
‫‪ -‬ولهما يجتم الناس وىكذا‪.‬‬
‫وصالة العيد في قوؿ جماىير أىل العلم أنها سنة‪ ،‬أو فرض كفاية‪ ،‬ولم يقل بوجوبها إال شيخ اإلسالـ عليو رحمة اهلل‪ ،‬بل أنو أوجبها على النساء‬
‫ضا؛ لما ذكر في األحاديث‪.‬‬
‫أي ً‬

‫‪117‬‬
‫فذكر المصنف ىنا حديث عبد اهلل بن عمر قاؿ‪" :‬كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وأبو بك ٍر وعمر‪ ،‬يصلوف العيدين قبل الخطبة"‪.‬‬
‫األصل أف كل صالةٍ معها خطبة‪ ،‬أف تكوف الخطبة بعدىا مثل‪ :‬العيدين‪ ،‬وصالة الخسوؼ‪ ،‬وصالة الكسوؼ‪ ،‬وصالة االستسقاء‪.‬‬
‫ولكن استثنى العلماء من ىذا صالة الجمعة‪ ،‬وخطبة يوـ عرفة؛ وىذا لفعل النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وقد أجم أىل العلم أف خطبة العيد‬
‫تكوف بعد الصالة‪.‬‬
‫وخطبة العيد تخالف خطبة الجمعة‪ ،‬أو تفترؽ عنها بأربعة أشياء‪:‬‬
‫‪ -‬الفرؽ األوؿ‪ :‬أف خطبة العيد بعد الصالة‪ ،‬وخطبة الجمعة قبل الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفرؽ الثاني‪ :‬أف خطبة العيد سنة‪ ،‬وخطبة الجمعة شرط لصحة صالة الجمعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفرؽ الثالث‪ :‬أف خطبة العيد ال يجب استماعها‪ ،‬فيجوز الكالـ فيها والخطيب يخطب‪ ،‬بخالؼ الجمعة‪ ،‬فإنو يجب اإلنصات فيها‬
‫لإلماـ‪.‬‬
‫‪ -‬الفرؽ الراب ‪ :‬ىو ما يتعلق بموضوع الخطبة‪ ،‬فإف خطبة العيد يستحب إذا كاف في عيد الفطر‪ ،‬أف يتكلم فيها اإلماـ عن صدقة الفطر‬
‫عموما‪ ،‬أما في األضحى فيستحب أف يتكلم عن أحكاـ األضحية‪ ،‬بل ويتأكد ذلك‪ ،‬فالحاصل أف موضوع‬ ‫خصوصا‪ ،‬وعن الصدقة ً‬
‫ً‬
‫خطبة العيد محدد‪ ،‬بخالؼ خطبة الجمعة‪ ،‬وقد ذكر ىذه الفروؽ الموفق بن قدامة في [الكافي في الفرؽ بين خطبة العيد وخطبة‬
‫الجمعة]‪.‬‬
‫ّ‬

‫صالتَنا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫صلّى َ‬ ‫يوـ األضحى بع َد الصالة‪ ،‬فقاؿ‪َ :‬من َ‬ ‫ثم ذكر حديث البراء بن عازب (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬خطبنا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) َ‬
‫سوؿ اللَّ ِو‪ ،‬إنْي‬
‫خاؿ البَراء بن عازب‪ :‬يا َر َ‬ ‫بن نِيا ٍر ُ‬ ‫ك قَػبل َّ ِ‬
‫قاؿ أبو بُػ ْر َدةَ ُ‬
‫ك لو‪ ،‬فَ َ‬ ‫سَ‬‫الصالة‪ ،‬فال نُ ُ‬ ‫س َ َْ‬ ‫ومن نَ َ‬‫ك‪َ ،‬‬ ‫ُّس َ‬
‫أصاب الن ُ‬
‫َ‬ ‫س َكنا‪ ،‬ف َق ْد‬ ‫ك نُ ُ‬‫سَ‬ ‫ونَ َ‬
‫ت قَػ ْب َل أ ْف‬
‫ت شاتي وتَػغَدَّيْ ُ‬‫ت أ ْف تَ ُكو َف شاتي َّأو َؿ ما يُ ْذبَ ُح في بَػ ْيتِي‪ ،‬فَ َذبَ ْح ُ‬ ‫َحبَْب ُ‬ ‫اليوـ يَػ ْو ُـ أ ْك ٍل و ُش ْر ٍ‬ ‫ت َّ‬ ‫ت شاتي قَػبل َّ ِ‬
‫ب‪ ،‬وأ ْ‬ ‫أف َ‬ ‫وع َرفْ ُ‬
‫الصالة‪َ ،‬‬ ‫َْ‬ ‫س ْك ُ‬‫نَ َ‬
‫َن‬ ‫َي ِمن شاتَػ ْي ِن‪ ،‬أفَػتَ ْج ِزي َعنْي؟ َ‬
‫قاؿ‪ :‬نَػ َع ْم ول ْ‬ ‫ب إل َّ‬ ‫أح ُّ‬
‫فإف عنْ َدي َعناقًا لَنا َج َذ َعةً ىي َ‬
‫سوؿ اللَّ ِو‪ِ َّ ،‬‬ ‫قاؿ‪ :‬يا َر َ‬ ‫َح ٍم َ‬ ‫ك شاةُ ل ْ‬ ‫قاؿ‪ :‬شاتُ َ‬ ‫الصالةَ‪َ ،‬‬ ‫آتِ َي َّ‬
‫أح ٍد بَػ ْع َد َؾ"‪.‬‬
‫ي عن َ‬ ‫تَ ْج ِز َ‬
‫بداية الحديث فيو تأكيد لما سبق من أف خطبة العيد تكوف بعد الصالة‪ ،‬وتأكيد أف خطبة األضحى يستحب أف يكوف موضوعها متعل ًقا‬
‫باألُضحية وأحكامها‪ ،‬بل ويتأكد ذلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ح في بَػ ْيتِي‪ ،‬فَ َذبَ ْح ُ‬ ‫ت شاتي قَػبل َّ ِ‬
‫الصالةَ‪،‬‬
‫إلى َّ‬ ‫ت قَػ ْب َل أ ْف آتي َ‬
‫ت شاتي وتَػغَدَّيْ ُ‬ ‫ت أ ْف تَ ُكو َف شاتي َّأو َؿ ما يُ ْذبَ ُ‬ ‫َحبَْب ُ‬
‫الصالة‪ ،‬وأ ْ‬ ‫َْ‬ ‫قاؿ أبو بردة‪( :‬إنْي نَ َ‬
‫س ْك ُ‬
‫َح ٍم) أي ال تجزئ عنك في األضحية‪.‬‬ ‫ك شاةُ ل ْ‬ ‫فقاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬إف شاتَ َ‬ ‫َ‬
‫توقيت‪ ،‬ورمي الجمار لو‬
‫ٌ‬ ‫توقيت‪ ،‬والوقوؼ بعرفة لو‬
‫ٌ‬ ‫توقيت‪ ،‬والصياـ لو‬
‫ٌ‬ ‫توقيت‪ ،‬والحج لو‬
‫ٌ‬ ‫ذلك ألف األفعاؿ في الشرع لها توقيت‪ ،‬فالصالة لها‬
‫وقت‪ ،‬والنسك من األفعاؿ‪ ،‬فمن فعل الفعل قبل وقتو‪ ،‬فإنو ال يصح منو‪.‬‬ ‫توقيت‪ ،‬وكل ٍ‬
‫فعل في العبادات لو ٌ‬ ‫ٌ‬
‫قاؿ يا رسوؿ اهلل‪( :‬إف عندي عناقًا)‪ ،‬والعناؽ ىي أنثى الماعز التي لم تبلغ السنة‪ ،‬قاؿ وىي غاليةٌ في نفسي‪ ،‬أي أحب عندي من شاتين‪،‬‬
‫أفتجزئ عني إذا أرخصتها في طاعة اهلل عز وجل؟ قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬نعم‪ ،‬ولكنها ال تجزئ عن أحد بعدؾ؛ ذلك ألف السن في‬
‫األضحية معتبر‪ ،‬فال يجزئ أقل من السن المحدد‪.‬‬

‫ثم ذكر حديث ُجن ُدب أو ُجن َدب بن عبد اهلل البجلي (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬صلى رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يوـ النحر‪ ،‬ثم خطب ثم‬
‫باس ِم اللَّ ِو"‪.‬‬
‫َم يَ ْذبَ ْح‪ ،‬فَػلْيَ ْذبَ ْح ْ‬ ‫صلْ َي‪ ،‬فَػلْيَ ْذبَ ْح أُ ْخرى َمكانَها‪َ ،‬‬
‫ومن ل ْ‬ ‫ذبح‪ ،‬وقاؿ‪َ :‬من ذَبَ َح قَػ ْب َل أ ْف يُ َ‬
‫يوـ النحر ىو اليوـ العاشر من ذي الحجة‪ ،‬وىو أفضل األياـ عند اهلل عز وجل‪.‬‬
‫كما جاء في الحديث "إف أفضل األياـ عند اهلل يوـ النحر‪ ،‬ثم يوـ القر"‪ ،‬وىو الذي يلي يوـ النحر‪.‬‬
‫ىنا في ىذا الحديث يبين ترتيب األعماؿ يوـ النحر‪ ،‬فأكد أنو (صلى اهلل عليو وسلم) ابتدأ بالصالة‪ ،‬ثم ثنى بالخطبة‪ ،‬ثم ثلث بالذبح‪ ،‬وبين أف‬
‫من ذبح قبل صالة العيد‪ ،‬فإنها ال تجزئ عنو؛ بل عليو أف يذبح مكانها أخرى‪ ،‬ذلك لمن يرى وجوب األضحية‪.‬‬
‫فاألحناؼ والمالكية يروف أف األضحية واجبة على الموسر‪ ،‬خالفًا للجمهور الذين يقولوف بأنها سنةٌ مؤكدة‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫فهنا بين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف من ذبح قبل الصالة‪ ،‬فإنها ال تجزئ عنو؛ بل عليو أف يذبح مكانها أخرى بعد الصالة‪.‬‬
‫ك َوانْ َح ْر‬‫ص ْل لَِربْ َ‬
‫ألف اهلل عز وجل قاؿ‪{ :‬فَ َ‬
‫قاؿ‪ :‬ومن لم يذبح إلى اآلف‪ ،‬فليذبح باسم اهلل‪ ،‬أي يذكر اسم اهلل عز وجل على ذبيحتو‪،‬‬
‫اس ُم اللَّ ِو َعلَْي ِو‬ ‫ِ‬
‫َم يُ ْذ َك ِر ْ‬
‫{وَال تَأْ ُكلُوا م َّما ل ْ‬
‫قاؿ اهلل تعالى‪َ :‬‬
‫وفي السنة في حديث النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬ما أنهر الدَّـ‪ ،‬وذُكِر اسم ِ‬
‫اهلل عليو فَ ُكل"‪.‬‬ ‫َ ُ‬ ‫ََ َ‬

‫ثم ذكر حديث جابر بن عبد اهلل (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬شهدت م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) الصالة يوـ العيد‪ ،‬فبدأ بالصالة قبل‬
‫وذكرىم‪ ،‬ثم مضى حتى أتى النساء‬‫بالؿ‪ ،‬فأمر بتقوى اهلل تعالى‪ ،‬وحث على طاعتو‪ ،‬ووعظ الناس َّ‬ ‫الخطبة‪ ،‬بال ٍ‬
‫أذاف وال إقامة‪ ،‬ثم قاـ متوكئًا على ٍ‬
‫لم يا رسوؿ‬
‫فوعظهن وذكرىن‪ ،‬فقاؿ‪ :‬يا معشر النساء تصدقن‪ ،‬فإنكن أكثر حطب جهنم‪ ،‬فقامت امرأةٌ من سطة النساء سفعاء الخدين‪ ،‬فقالت‪َ :‬‬
‫اهلل؟ فقاؿ ألنكن تكثرف الشكاة‪ ،‬وتكفرف العشير‪ ،‬قاؿ‪ :‬فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب ٍ‬
‫بالؿ من أقرطتهن وخواتمهن"‪.‬‬

‫قوؿ جابر بن عبد اهلل (رضي اهلل عنو)‪( :‬شهدت م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يوـ العيد) أي حضرت م النبي يوـ العيد‪ ،‬ويحتمل ىذا أف‬
‫يكوف عيد فط ٍر‪ ،‬أو عيد أضحى‪ ،‬لكن قد جاء في بع الروايات أف المراد أنو عيد فط ٍر‪.‬‬
‫تقرير لما سبق بأف الصالة تكوف قبل الخطبة في العيد‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬فبدأ بالصالة قبل الخطبة)‪ ،‬وىذا ٌ‬
‫قاؿ‪( :‬بال ٍ‬
‫أذاف وال إقامة) فهناؾ إجماعٌ بأنو ال يؤذف لصالة العيدين‪ ،‬لم يثبت أف ىناؾ نداءٌ لصالة العيد بأي صورة من الصور‪ ،‬بخالؼ ما قد‬
‫جاء في صالة الكسوؼ‪ ،‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) نادى لها وحدىا (بالصالة جامعة)‪ ،‬فدؿ ذلك على أنو ال ينادى لصالة العيد‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬ثم قاـ متوكئًا على بالؿ)‪ ،‬أي قاـ معتم ًدا عليو في قيامو‪ ،‬فأمر بتقوى اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وعلى قوؿ كثي ٍر من أىل العلم أف من شروط صحة الخطبة األمر بتقوى اهلل تبارؾ وتعالى‪ ،‬وىي أف يجعل اإلنساف بينو وبين عذاب اهلل وقاية‪،‬‬
‫وذلك بامتثاؿ أوامره‪ ،‬واجتناب نواىيو‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬وحث الناس على طاعتو‪ ،‬ووعظ الناس وذكرىم)‪ .‬والحث ىو طلب المبادرة‪ ،‬والمسابقة إلى الطاعة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بترغيب أو بترىيب‪.‬‬ ‫(ووعظهم)‪ :‬أي قاؿ لهم قوؿ الوعظ الذي يلين القلوب‪ ،‬سواءً كاف‬
‫قاؿ‪( :‬ثم مضى حتى أتى النساء)‪ ،‬ذلك ألف النساء كن في ٍ‬
‫معزؿ عن الرجاؿ‪ ،‬فقد ال يسمعن الخطبة‪ ،‬فكاف رؤوفًا بهم صلى اهلل عليو وسلم‪،‬‬
‫مشف ًقا عليهم‪ ،‬وىذه عادة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على األمة صغيرىم وكبيرىم‪ ،‬ذكرىم وأنثاىم‪.‬‬
‫ووعظ النساء وذكرىن وأمرىن بالصدقة‪ ،‬بل وخوفهن أنهن أكثر أىل النار‪ ،‬وأف طريق النجاة من ىذا ىو الصدقة‪.‬‬
‫(فقامت امرأةٌ من سطة النساء)‪ ،‬قيل‪ :‬إنها من خيار النساء‪ ،‬وقيل من وسطهن‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬سفعاء الخدين)‪ ،‬قيل‪ :‬إما إف يكوف ىذا حقيقة سفعاء الخدين‪ ،‬فيكوف ذلك عالمةً في وجهها‪ ،‬وقيل‪ :‬إف السفعة في الوجو ىو السواد‬
‫والشحوب‪ ،‬وإما أف يكوف كنايةً عن جرأتها‪ ،‬وقدرتها على الكالـ دوف غيرىا من النساء‪.‬‬
‫اعتراضا منها على النبي صلى‬
‫ً‬ ‫فهذه المرأة قامت‪ ،‬وسألت النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عن العلة التي يكوف النساء بسببها أكثر أىل النار‪ ،‬ليس‬
‫اهلل عليو وسلم؛ بل ليتداركن ذلك‪ ،‬ويفعلن ما يكوف سببًا في نجاتهن‪ ،‬فبين النبي صلى اهلل عليو وسلم؛ ذلك بأنهن يكثرف الشكاة‪ ،‬فالمرأة أكثر‬
‫كثيرا إذا أصابها أدنى مكروه‪.‬‬
‫من الرجل شكاية؛ ألنها ال تتحمل فتتضجر ً‬

‫وقاؿ كذلك‪( :‬وتكفرف العشير)‪ ،‬والعشير ىو الزوج‪ ،‬وكفراف العشير يكوف بجحد فضلو‪ ،‬وإضاعة حقو‪ ،‬فلما سم النساء ذلك‪ ،‬وأمرىن النبي‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) بالصدقة‪ ،‬فجعلن يتصدقن بحليهن‪ ،‬ويلقين في ثوب بالؿ من أقرطتهن وخواتيمهن‪.‬‬
‫المراد بذلك أنهن امتثلن بسرعة‪ ،‬فجعلن يتصدقن حتى مما يحتجن إليو في التزين‪ ،‬ومن أقرطتهن‪.‬‬
‫(القرط)‪ :‬ىو ال ُخرص الذي يعلق باألذف‪ ،‬ويقاؿ عنو بلغتنا ىو الحلق‪ ،‬وأما الخواتيم فمعروفة‪ ،‬وىي التي تلبس في أصاب اليد‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف الصالة مقدمةٌ على خطبة العيد‪ ،‬وىذه سنة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫جاىال‪ ،‬فعليو إعادتها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف من فعل العبادة قبل دخوؿ وقتها ولو ً‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬تخصيص النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أبا بردة بإجزاء العناؽ‪ ،‬وال تجزئ عن ٍ‬
‫أحد غيره؛ ذلك ألنو ال يجزئ في‬
‫شرعا‪.‬‬
‫األضحية إال ما بلغ السن المحدد ً‬
‫لقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ال تذبحوا إال مسنة"‪.‬‬
‫والمسن في اإلبل ىو ما لو خمس سنوات‪ ،‬وفي البقر ما لو سنتاف‪ ،‬وفي الماعز ما لو سنة‪ ،‬وفي الضأف ما لو ستة أشهر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف اإلنساف إذا أخطأ وذبح قبل الصالة‪ ،‬فعليو أف يذبح أخرى مكانها‪ ،‬ويدور ذلك بين الوجوب واالستحباب في حكم‬
‫األضحية‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬وجوب التسمية عند الذبح‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬أنو ال أذاف‪ ،‬وال إقامة لصالة العيد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫محتاجات لتذكي ٍر يخصهن‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بعيدات ال يسمعن الوعظ‪ ،‬أو كن‬ ‫ٍ‬
‫بموعظة‪ ،‬إذا كن‬ ‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬جواز إفراد النساء‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬أف النساء كن يخرجن لصالة العيد‪.‬‬
‫سبب من أسباب دخوؿ النساء النار‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬أف كثرة الشكوى‪ ،‬وكفراف العشير‪ٌ ،‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬أف الصدقة من أسباب النجاة من النار‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الحادية عشر‪ :‬جواز تصدؽ المرأة من مالها بغير إذف زوجها‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف حديث أـ عطية نسيبة األنصارية؛ قالت‪" :‬أمرنا (تعني النبي صلى اهلل عليو وسلم) أف نخرج في العيدين العواتق وذوات‬
‫ِج البكر من خدرىا‪ ،‬وحتى نخرج‬ ‫ٍ‬
‫الحيَّ َ أف يعتزلن مصلى المسلمين"‪ ،‬وفي لفظ‪" :‬كنا نؤمر أف نخرج يوـ العيد‪ ،‬حتى نُخر َ‬
‫الخدور‪ ،‬وأمر ُ‬
‫الحي ‪ ،‬فيكبرف بتكبيرىم‪ ،‬ويدعوف بدعائهم‪ ،‬يرجوف بركة ذلك اليوـ وطهرتو"‪.‬‬
‫أىل العلم بهذا الحديث على وجوب صالة العيد على األعياف‪ ،‬كاإلماـ أبي حنيفة رحمو اهلل‪ ،‬وىو اختيار شيخ اإلسالـ ابن تيمية‪.‬‬ ‫استدؿ بع‬

‫والمسألة فيها خالؼ‪:‬‬


‫‪ -‬فبعضهم قاؿ‪ :‬إنها فرض كفاية‪ ،‬وىو مشهور المذىب‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من قاؿ‪ :‬إنها سنةٌ مؤكدة كالشافعية والمالكية‪.‬‬
‫قالت أـ عطية (رضي اهلل عنها)‪ :‬أمرنا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف نخرج في العيدين العواتق‪ ،‬وذوات الخدور)‪.‬‬
‫(والعواتق) قيل‪ :‬إنهن النساء الكبار‪ ،‬وقيل‪ :‬ىي المرأة الشابة‪.‬‬
‫(وذوات الخدور)‪ :‬أي األبكار الالتي ال يخرجن من حجورىن‪.‬‬
‫الحيَّ َ ) وىي المرأة التي جاءىا الحي ‪ ،‬أمر الحي أف يأتين‪ ،‬ويشهدف الخير‪ ،‬لكن يعتزلن مكاف الصالة‪.‬‬
‫قالت‪( :‬وأمر ُ‬
‫قالت‪( :‬كن يخرجن فيكبرف بتكبيرىم) أي يكبرف م الناس بتكبير الناس؛ ذلك ألف المرء إذا كاف م ٍ‬
‫قوـ‪ ،‬فإنو يكوف أنشط للعبادة‪ ،‬بخالؼ ما‬
‫إذا كاف المرء وحده‪ ،‬فإنو يكوف أضعف في العبادة‪ ،‬ىذا بخالؼ ما إذا كانت العبادة عبادة سر‪ ،‬فهنا تكوف الخلوة بينو وبين ربو أفضل؛ ألف‬
‫األجر فيها يكوف أعظم؛ ذلك ألنو ال إعانة لو فيها بكثرة الناس حولو‪.‬‬
‫المؤْمن كالداعي‪.‬‬
‫قالت‪( :‬ويدعوف بدعائهم) أي يؤمنوف على دعائهم؛ ألف َ‬
‫قاؿ اهلل عز وجل‪{ :‬قَ ْد أ ِ‬
‫ُجيبَت َّد ْع َوتُ ُك َما‬
‫ومعلوـ أف الذي كاف يدعو ىو موسى عليو السالـ‪ ،‬والذي يؤمن ىاروف‪ ،‬وقاؿ‪{ :‬قَ ْد أ ِ‬
‫ُجيبَت َّد ْع َوتُ ُك َما ‪ ،‬فجعل المؤمن بمنزلة الداعي‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫قالت‪( :‬يرجوف بركة ذلك اليوـ وطهرتو)‪ .‬والبركة ىي الخير الكثير‪ ،‬والطهرة من الذنوب‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫البركة نوعاف‪:‬‬
‫‪ -‬بركةٌ أخروية‪ :‬وىي أف يتحصل المرء على األجر والثواب من اهلل عز وجل‪.‬‬
‫‪ -‬والبركة الدنيوية‪ :‬وىي أف يحصل المرء من العمل الذي يعملو‪ ،‬أكثر مما يحصلو منو غيره‪.‬‬
‫فالبركة في الماؿ أف ينفق منو القليل فيكفيو‪ ،‬وينفق غيره الكثير فال يكفيو‪ ،‬والبركة في الولد نماؤىم وصالحهم‪ ،‬وبرىم وإحسانهم إليو‪ ،‬والبركة‬
‫في العمر أف يكوف وقتو مبارًكا‪ ،‬فينجز فيو من األعماؿ ما ال ينجزه غيره في العمر الطويل‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬وجوب صالة العيد‪ ،‬حتى أف شيخ اإلسالـ قاؿ‪ :‬بوجوبها على النساء كما ذكرت‪.‬‬
‫إلى مصلى العيد؛ ليشهدف الخير‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬مشروعية خروج الحي‬
‫لمكاف الصالة‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬وجوب اجتناب الحي‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬يشرع للحائ الدعاء والذكر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬أف يوـ العيد يوـ بر ٍ‬
‫كة وطهره‪.‬‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬ما الحكمة من أف يخطب اإلماـ واق ًفا؟ ىذا ذكرناه في بداية الدرس‪.‬‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما حكم تحية المسجد واإلماـ يخطب؟ م ذكر الدليل‪.‬‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ما ىي الحاالت التي يجوز للمأموـ أف يتكلم فيها واإلماـ يخطب؟ م بياف حكم اإلنصات‬
‫للخطيب وذكر الدليل‪.‬‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬ما حكم االغتساؿ يوـ الجمعة؟ وما الذي يستحب فيو؟‬
‫أقصد بهذا المستحب أف يكوف الغسل قبل الذىاب مباشرةً‪.‬‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬ما ىي األسباب التي تؤكد استحباب صالة الجمعة بعد الزواؿ؟‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬ما ىي الحكمة من قراءة سورة السجدة وسورة اإلنساف في فجر الجمعة؟‬
‫السؤاؿ الساب ‪ :‬اذكر الفروؽ التي ذكرىا أىل العلم بين خطبة العيد وخطبة الجمعة‪.‬‬
‫السؤاؿ الثامن‪ :‬ما معنى تكثرف الشكاة‪ ،‬وتكفرف العشير؟‬
‫السؤاؿ التاس واألخير‪ :‬اذكر الفوائد المستنبطة من أحاديث محاضرة اليوـ‪.‬‬

‫ٍ‬
‫محمد‪،‬‬ ‫ىذا وصلى اهلل وسلم وبارؾ على نبينا‬
‫وعلى آلو وصحبو وسلم‪ ،‬وعلى التابعين وتابعيهم بإحساف إلى يوـ الدين‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫المحاض ػػرة الرابعػ ػػة عشػػرة‬
‫معا‪.‬‬
‫خاص بالشمس‪ ،‬والخسوؼ يكوف للقمر‪ ،‬وقد يطلق الكسوؼ عليهما ً‬
‫كنا قد توقفنا عند باب صالة الكسوؼ‪ ،‬والكسوؼ األصل فيو أنو ٌ‬
‫وقوؿ المصنف‪( :‬باب صالة الكسوؼ) يعني بو كسوؼ الشمس‪ ،‬وخسوؼ القمر؛ ألف لفظة الكسوؼ تدؿ على المعنيين‪.‬‬
‫وأسباب دينيةٌ شرعية‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أسباب طبيعيةٌ حسية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وأسباب معنوية‪ ،‬أو إف شئت فقل لو‬
‫ٌ‬ ‫أسباب حسية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫والكسوؼ لو‬
‫فاألسباب الطبيعية الحسية‪:‬‬
‫‪ -‬في كسوؼ الشمس ‪ :‬أف القمر يحوؿ بينها وبين األرض‪ ،‬فيغطي ضوء الشمس عن أىل األرض‪ ،‬وكسوؼ الشمس ال يق إال في آخر‬
‫الشهر‪ ،‬غالبًا يكوف في اليوـ الساب والعشرين‪ ،‬أو الثامن والعشرين‪ ،‬أو التاس والعشرين؛ حيث يكوف القمر قريبًا من الشمس‪ ،‬فيمكن‬
‫أف يحجبها‪.‬‬
‫بدرا‪.‬‬
‫‪ -‬وسبب خسوؼ القمر‪ :‬ىو حيلولة األرض بينو وبين الشمس؛ ولذلك ال يق إال في الليالي التي يكوف فيها القمر ً‬
‫أما السبب الديني الشرعي‪ ،‬فقد بينو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عندما قاؿ‪" :‬إف الشمس والقمر آيتاف من آيات اهلل‪ ،‬ال ينكسفاف لموت ٍ‬
‫أحد‬
‫وال لحياتو؛ ولكن اهلل تعالى يخوؼ بها عباده"‪.‬‬
‫ولذلك أمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أصحابو فقاؿ‪" :‬فإذا رأيتم ذلك‪ ،‬فاىرعوا إلى الصالة"‪.‬‬

‫ذكر المصنف ىنا في أوؿ الباب حديث عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬إف الشمس خسفت على عهد رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فبعث‬
‫ٍ‬
‫سجدات"‪.‬‬ ‫مناديا ينادي‪ :‬الصالة جامعة‪ ،‬فاجتمعوا‪ .‬وتقدـ فكبر‪ ،‬وصلى أرب ر ٍ‬
‫كعات في ركعتين‪ ،‬وأرب‬ ‫ً‬
‫استدؿ فقهاء الحنابلة بهذه الجملة على أف صالة الكسوؼ وحدىا جملة (أنو بعث مناديًا ينادي للصالة) استدؿ بها الفقهاء على أف صالة‬
‫الكسوؼ وحدىا‪ ،‬ىي التي ينادى لها "بالصالة جامعة"‪ ،‬وىذه من مفردات المذىب‪.‬‬
‫(فاجتم الناس‪ ،‬وتقدـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فصلى بهم‪ ،‬فكبر وصلى أرب ر ٍ‬
‫كعات)‪.‬‬
‫والمراد (بالركعات) ىنا‪ :‬الركوعات فعبرت بالركعة عن الركوع‪ ،‬بدليل أنها قالت بعدىا‪" :‬فصلى أرب ر ٍ‬
‫كعات في ركعتين" أي صلى أرب ركوعات‬
‫في ركعتين‪ ،‬ففي كل ركعة ركوعاف‪ ،‬ثم سجود واحد أي سجدتين في الركعة‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف حديث أبي مسعود عقبة بن عامر األنصاري البدري (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إف الشمس‬
‫والقمر آيتاف من آيات اهلل‪ ،‬يخوؼ اهلل بها عباده‪ ،‬وإنهما ال ينكسفاف لموت ٍ‬
‫أحد من الناس وال لحياتو‪ ،‬فإذا رأيتم منها شيئًا فصلوا‪ ،‬وادعوا اهلل‬
‫حتى ينكشف ما بكم"‪.‬‬
‫قيل إف الشمس خسفت على عهد رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وأف ذلك كاف في اليوـ التاس والعشرين من شواؿ‪ ،‬وصادؼ ذلك موت‬
‫إبراىيم عليو السالـ ابن النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وفزع الناس لذلك‪ ،‬وكاف عند العرب معتق ٌد‪ ،‬أنهم يظنوف أف الشمس تخسف لموت‬
‫العظماء‪ ،‬فهنا أراد النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف يزيل عنهم ىذا الفهم‪ ،‬فبين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ألصحابو أنهما آيتاف من آيات اهلل‬
‫عز وجل‪ ،‬وأف اهلل عز وجل ىو مدبر ىذا الكوف‪ ،‬والشمس والقمر يجرياف بحسباف‪ ،‬وال يستطي أح ٌد أف يسيرىما‪ ،‬أو يوقف سيرىما‪.‬‬
‫وبين كذلك أنهما ال ينخسفاف لموت ٍ‬
‫أحد من الناس؛ إنما ىي من اآليات التي يخوؼ اهلل بها العباد‪ ،‬حتى أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) خرج‬
‫فزعا خشية أف تقوـ الساعة‪.‬‬
‫يجر رداءه ً‬
‫أىل العلم ىذا التفسير؛ ذلك ألف النبي (صلى اهلل عليو‬ ‫العلماء فسر خشية أف تقوـ الساعة‪ ،‬أنو فسرىا بقياـ القيامة‪ ،‬وقد أعل بع‬ ‫وبع‬
‫وسلم) يعلم أف الساعة لن تقوـ في ىذا الوقت؛ ألف لها عالمات لم تظهر‪ ،‬إنما التفسير الصحيح إنما خشي أف تكوف ىذه الساعة ساعة‬
‫ٍ‬
‫عذاب تحل بهم‪.‬‬
‫ثم أمرىم أنهم إذا رأوا ذلك أف يصلوا‪ ،‬أي يصلوا صالة الكسوؼ التي علمهم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كيف يصلونها‪ ،‬وأف يدعوا اهلل عز‬
‫وجل أف يكشف عنهم؛ خشية أف يصيبهم العذاب‪ ،‬وأف يستغفروا‪ ،‬وأف يتصدقوا‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث والذي قبلو‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬ثبوت وجود الخسوؼ على عهد النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬استحباب الصالة عند الخسوؼ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬مشروعية النداء لصالة الخسوؼ بالصالة جامعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬مشروعية االجتماع لها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬أف صالة الخسوؼ أرب ر ٍ‬
‫كوعات في ركعتين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬أف الخسوؼ آيةٌ من آيات اهلل عز وجل وىي كونية‪ ،‬أي آيات اهلل عز وجل كونيةٌ وشرعية التي تدؿ على كماؿ قدرتو‬
‫سبحانو وتعالى‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬أف ىذه اآليات إنما ىي لتخويف العباد‪ ،‬قاؿ تعالى‪{ :‬وما نػُر ِسل بِ ْاآلي ِ‬
‫ات إَِّال تَ ْخ ِوي ًفا‬‫ََ ْ ُ َ‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬مشروعية الدعاء عند رؤية الخسوؼ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬إنكار ما كاف يعتقده أىل الجاىلية من أف كسوؼ الشمس يكوف لموت ٍ‬
‫عظيم أو لحياتو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬أف صالة الكسوؼ مشروعة لمن يرى ذلك‪.‬‬
‫لقوؿ النبي‪" :‬فإذا رأيتم ذلك" معنى ىذا أنو ليس بكالـ أىل الفلك‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الحادية عشر‪ :‬السنة أف يصلي الناس‪ ،‬ويدعوف اهلل حتى ينجلي ىذا الكسوؼ‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف حديثًا آخر عن عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬خسفت الشمس على عهد رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقاـ رسوؿ اهلل‬
‫صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فصلى بالناس فأطاؿ القياـ‪ ،‬ثم رك فأطاؿ الركوع‪ ،‬ثم قاـ فأطاؿ القياـ‪ ،‬وىو دوف القياـ األوؿ‪ ،‬ثم رك فأطاؿ الركوع‪،‬‬
‫وىو دوف الركوع األوؿ‪ ،‬ثم سجد فأطاؿ السجود‪ ،‬ثم فعل في الركعة الثانية مثلما فعل في الركعة األولى‪ ،‬ثم انصرؼ وقد تجلت الشمس‪،‬‬
‫فخطب الناس فحمد اهلل وأثنى عليو‪ ،‬ثم قاؿ‪ :‬إف الشمس والقمر آيتاف من آيات اهلل‪ ،‬ال ينخسفاف لموت ٍ‬
‫أحد وال لحياتو‪ ،‬فإذا رأيتم ذلك‬
‫ٍ‬
‫محمد واهلل لو تعلموف‬ ‫محمد واهلل ما من ٍ‬
‫أحد أغير من اهلل أف يزني عبده أو تزني أمتو‪ ،‬يا أمة‬ ‫ٍ‬ ‫فادعوا اهلل وكبروا وصلوا وتصدقوا‪ ،‬ثم قاؿ‪ :‬يا أمة‬
‫كعات وأرب سجدات"‪.‬‬ ‫لفظ "فاستكمل أرب ر ٍ‬‫قليال‪ ،‬ولبكيتم كثيرا"‪ ،‬وفي ٍ‬
‫ما أعلم‪ ،‬لضحكتم ً‬
‫ً‬
‫‪ -‬ىذا الحديث إنما جاء في صفة صالة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في الكسوؼ‪ .‬فذكرت عائشة (رضي اهلل عنها) أنو صلى بالناس فأطاؿ‬
‫القياـ‪ ،‬وقدر العلماء ىذه اإلطالة بقدر قراءة سورة البقرة‪ ،‬ثم رك فأطاؿ الركوع‪ ،‬وإطالة الركوع بما يتناسب م طوؿ القياـ‪.‬‬
‫نحوا من ركوعو‪ ،‬فالحاصل أف‬
‫نحوا من قيامو‪ ،‬وكاف سجوده ً‬‫‪ -‬وقد ثبت في أحاديث أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف ركوعو في صالتو ً‬
‫الركوع والسجود كاف يطيل فيو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بما يتناسب م طوؿ قيامو‪ ،‬وبعضهم قدره أي الركوع بنصف قراءتو‪.‬‬
‫أىل العلم بقراءة آؿ عمراف‪ ،‬ثم رك فأطاؿ الركوع وىو دوف الركوع‬ ‫‪ -‬قالت‪( :‬ثم قاـ فأطاؿ القياـ‪ ،‬وىو دوف القياـ األوؿ)‪ .‬وقد قدره بع‬
‫ضا بما يتناسب م طوؿ الركوع‪ ،‬ثم فعل في الركعة الثانية مثلما فعل في الركعة األولى‪ ،‬فيكوف قد أتى ىنا‬
‫األوؿ‪ ،‬ثم سجد فأطاؿ السجود أي ً‬
‫بأرب ركوعات‪ ،‬وأرب سجدات في الركعتين‪ ،‬في كل ركعة ركوعين وسجدتين‪ ،‬ثم انصرؼ وقد تجلت الشمس‪.‬‬
‫‪ -‬ويعني ىذا منتهى وقت الصالة‪ ،‬فمن السنة أف يشرع اإلنساف في الصالة من بداية الكسوؼ أو الخسوؼ‪ ،‬ويكوف االنصراؼ منها بتجليها‪،‬‬
‫أو بانجالء ىذه الظاىرة‪.‬‬
‫‪ -‬قالت‪ :‬فخطب الناس‪ ،‬فحمد اهلل وأثنى عليو‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء ىل لصالة الكسوؼ خطبة أـ ال؟ وىناؾ قوالف ألىل العلم‪:‬‬
‫‪ -‬القوؿ األوؿ‪ :‬قالوا إف صالة الكسوؼ ال خطبة لها‪ ،‬وقالوا إف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ذكر في الحديث الدعاء والصالة والتكبير‬
‫والصدقة‪ ،‬وما ذكر الخطبة‪ ،‬وإف ما فعلو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) من خصائصو‪.‬‬
‫أىل العلم قاؿ‪ :‬إنما ىي موعظة‪ ،‬وليست بخطبة‪.‬‬ ‫وبع‬

‫‪123‬‬
‫‪ -‬القوؿ الثاني‪ :‬قالوا باستحباب الخطبة للكسوؼ‪ ،‬لقوؿ عائشة (رضي اهلل عنها)‪" :‬أنو خطب الناس‪ ،‬وحمد اهلل وأثنى عليو"‪ .‬وحمد اهلل‬
‫والثناء عليو‪ ،‬ىذا من شروط الخطبة‪.‬‬
‫أىل العلم أنو إذا احتيج إلى الخطبة‪ ،‬وموعظة الناس فُعلت‪ ،‬كما فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في تبيين خطأ ما كاف‬ ‫‪ -‬وقد فصل بع‬
‫يعتقده أىل الجاىلية‪ ،‬وإف لم يكن ىناؾ حاجة‪ ،‬فهنا يكوف االقتصار على الصالة واالستغفار والدعاء‪.‬‬
‫‪ -‬ثم قاؿ‪( :‬إف الشمس والقمر آيتاف من آيات اهلل‪ ،‬ال ينخسفاف لموت ٍ‬
‫أحد أو لحياتو‪ ،‬ثم قاؿ فإذا رأيتم ذلك فكبروا)‪.‬‬

‫قاؿ أىل العلم‪ :‬إف ىذا يحتمل أمرين‪:‬‬


‫أف المقصود بو التكبير في الصالة؛ ألف فيها تكبيرات زائدة؛ ألف فيها ركوعين في كل ركعة‪.‬‬
‫وتحتمل أنهم كبروا على سبيل اإلفراد‪ ،‬فيكوف التكبير وحده عندما يرى الظاىرة‪ ،‬فيكوف الذكر وفيو التكبير؛ ألف القاعدة أنو كلما ُرؤي شيءٌ‬
‫عظيم ُكبر عليو‪ ،‬والمعنى أف اهلل عز وجل أكبر من كل شيء‪.‬‬
‫ٌ‬
‫كما جاء في حديث عدي بن حاتم‪" :‬لما قاؿ لو النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬أتدري ما اهلل أكبر؟ أي اهلل أكبر من كل شيء"‪ ،‬وىذا ىو األقرب‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬وصلوا) أي صالة الكسوؼ وتصدقوا‪.‬‬
‫‪ -‬ثم قاؿ‪( :‬يا أمة محمد)‪ .‬وأمة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على قسمين‪:‬‬
‫أمة دعوة‪ :‬وىم جمي اإلنس والجن؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بعث إلى الناس كافة‪.‬‬
‫نصراني‪ ،‬ثم يموت‬ ‫يهودي وال‬ ‫ٍ‬
‫محمد بيده‪ ،‬ال يسم بي أح ٌد من ىذه األمة (أي أمة الدعوة)‬ ‫وقد قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬والذي نفس‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وال يؤمن بالذي أرسلت بو‪ ،‬إال كاف من أصحاب النار"‪.‬‬
‫يقصد بهذه األمة أمة الدعوة‪ ،‬والثاني‪ :‬أمة إجابة‪.‬‬
‫القسم الثاني وىم الذين استجابوا هلل ولرسولو صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وىم المقصودوف ىنا بالنداء بقولو‪" :‬يا أمة محمد" ىم أمة اإلجابة‪ ،‬فبين‬
‫لهم صفة من صفات اهلل عز وجل‪ ،‬وىي الغيرة‪.‬‬
‫‪ -‬وبين لهم شيئًا من المعاصي التي توجب غضب اهلل تبارؾ وتعالى فقاؿ‪" :‬واهلل ما أح ٌد أغير من اهلل أف يزني عبده‪ ،‬أو تزني أمتو"‪.‬‬
‫قليال‪.‬‬
‫‪ -‬ثم بين لهم أنهم ال يعلموف من األىواؿ والعقوبات وعذاب اهلل عز وجل إال ً‬
‫قاؿ‪( :‬ولو أنكم تعلموف ما أعلم) من ىذا ألصابكم الحزف والهم والغم‪ ،‬فيكثر بكاؤكم‪ ،‬ويقل ضحككم‪.‬‬

‫فزعا يخشى‬
‫حديث آخر عن أبي موسى األشعري (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬خسفت الشمس في زمن النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقاـ ً‬ ‫ٍ‬ ‫ثم انتقل إلى‬
‫وسجود‪ ،‬ما رأيتو يفعلو في صالةٍ قط‪ ،‬ثم قاؿ‪ :‬إف ىذه اآليات التي يرسلها‬
‫ٍ‬ ‫أف تكوف الساعة‪ ،‬حتى أتى المسجد فقاـ يصلي بأطوؿ ٍ‬
‫قياـ وركو ٍع‬
‫اهلل تعالى ال تكوف لموت ٍ‬
‫أحد وال لحياتو‪ ،‬ولكن اهلل يرسلها يخوؼ بها عباده‪ ،‬فإذا رأيتم منها شيئًا فافزعوا إلى ذكره ودعائو واستغفاره"‪.‬‬
‫رعد‪ ،‬أو ٍ‬
‫خوؼ‪ ،‬حدث عنده فزع صلى اهلل عليو‬ ‫يح‪ ،‬أو مط ٍر‪ ،‬أو ٍ‬
‫‪ -‬كاف من عادة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إذا حدثت حادثةٌ كونية من ر ٍ‬
‫وسلم؛ وذلك من أف يحل عذاب اهلل عز وجل بهذه األمة‪ ،‬كما حل باألمم السابقة‪ ،‬فكاف يلجأ إلى اهلل تبارؾ وتعالى عند حدوث ىذه‬
‫ٍ‬
‫مألوفة لهم؛ ألنو كاف‬ ‫الحوادث‪ ،‬فلما حدثت حادثة الكسوؼ‪ ،‬فزع النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إلى المسجد‪ ،‬فقاـ يصلي بالناس صال ًة غير‬
‫يأمر اإلماـ إذا ّأـ بالناس فليخفف‪ ،‬ولكنو (صلى اهلل عليو وسلم) صلى صالةً طويلة‪ ،‬فيها من طوؿ القياـ‪ ،‬والركوع‪ ،‬والسجود‪ ،‬مما لم يره‬
‫الصحابة في صالةٍ أخرى‪.‬‬
‫ثم بين لهم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ما تكلمنا عنو في األحاديث السابقة‪ ،‬من تغيير معتقدات أىل الجاىلية؛ ألنهم كانوا يعتقدوف أف‬
‫الشمس أو القمر ينخسفاف لموت ٍ‬
‫عظيم أو لحياتو‪ ،‬فبين لهم أف ىذه اآليات يرسلها اهلل تبارؾ وتعالى؛ لتخويف عباده‪ ،‬وقرر لهم مسألة‬
‫االستغفار والدعاء عند نزوؿ ىذه الحوادث‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫الفوائد المستنبطة من ىذه األحاديث‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬إثبات حدوث الكسوؼ في عهد رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬مشروعية صالة الكسوؼ عند حدوث أسبابو (أي عند إهوره)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬مشروعية اإلطالة في صالة الكسوؼ‪ ،‬وأف تكوف كل ركعة أدنى من التي قبلها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬مشروعية الخطبة والتذكير بعد الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬بياف عظم فاحشة الزنا‪ ،‬وأنو من أسباب العقوبة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬بياف شدة خوؼ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) من اهلل عز وجل؛ وذلك لكماؿ علمو باهلل تبارؾ وتعالى وبقدرتو‬
‫وعظمتو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬بياف أف الحكمة من اآليات ىي تخويف الناس‪ ،‬ال لموت ٍ‬
‫أحد وال لحياتو‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف عليو رحمة اهلل إلى ٍ‬


‫باب آخر قاؿ‪( :‬باب صالة االستسقاء)‬
‫(واالستسقاء)‪ :‬ىو طلب السقيا من اهلل عز وجل‪ ،‬وطلب السقيا ىو طلب نزوؿ المطر‪.‬‬
‫واالستسقاء لو صور ثالثة‪:‬‬
‫‪ -‬األولى‪ :‬أف يكوف دعاءً في دبر الصالة‪ ،‬وأف يسأؿ اهلل عز وجل السقيا (أي نزوؿ المطر)‪.‬‬
‫‪ -‬الصورة الثانية‪ :‬أف يستسقي اإلماـ على المنبر كما سيأتي معنا‪.‬‬
‫‪ -‬الصورة الثالثة‪ :‬أف يخرج الناس فيصلوا صالة االستسقاء‪.‬‬
‫وصالة االستسقاء من الصلوات ذوات األسباب‪ ،‬التي تشرع عند وجود سببها‪ ،‬وسبب االستسقاء ىو تضرر الناس بالقحط ‪،‬والجدب من انقطاع‬
‫األمطار‪ ،‬أو جفاؼ األنهار‪ ،‬أو ذىاب ماء اآلبار‪.‬‬

‫ذكر المصنف ىنا حديث عبد اهلل بن زيد بن عاصم المازني (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬خرج النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يستسقي‪ ،‬فتوجو إلى‬
‫القبلة يدعو‪ ،‬وحوؿ رداءه‪ ،‬ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة"‪ ،‬وفي ٍ‬
‫لفظ‪" :‬أتى المصلى"‪.‬‬
‫‪ -‬ىنا يذكر أف الناس أصابهم القحط على عهد النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فخرج بهم إلى الصحراء‪ ،‬وقيل إنو إلى مصلى العيد‪ ،‬وليس ىناؾ‬
‫تعارض؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يصلي العيد في الخالء (أي في الصحراء)؛ وىذا ليكوف أبلغ في إإهار االفتقار‪ ،‬والتضرع إلى‬
‫ٌ‬
‫اهلل تبارؾ وتعالى‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬فتوجو إلى القبلة) والتوجو إلى القبلة حاؿ الدعاء؛ ىو مظنة لقبوؿ الدعاء‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬يطلب السقيا من اهلل عز وجل)‪.‬‬
‫استبشارا بتبدؿ الحاؿ من القحط والجدب‪ ،‬إلى الخصب والرخاء‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬قاؿ‪( :‬ثم حوؿ رداءه) أي جعل باطنو إاىره وأيمنو أيسره‪ ،‬وىذا‬
‫‪( -‬ثم صلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة) ىذا ألنها كصالة الجماعة‪.‬‬

‫رجال دخل المسجد يوـ الجمعة من ٍ‬


‫باب كاف نحو دار القضاء‪ ،‬ورسوؿ اهلل (صلى اهلل‬ ‫ثم ذكر حديث أنس بن مالك (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬إف ً‬
‫قائما‪ ،‬ثم قاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل ىلكت األمواؿ وانقطعت السبل‪ ،‬فادع اهلل‬
‫قائم يخطب‪ ،‬فاستقبل رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ً‬ ‫عليو وسلم) ٌ‬
‫أنس‪ :‬فال واهلل ما نرى في السماء‬
‫يغيثنا‪ ،‬قاؿ‪ :‬فرف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يديو‪ ،‬ثم قاؿ‪ :‬اللهم أغثنا‪ ،‬اللهم أغثنا‪ ،‬اللهم أغثنا‪ ،‬قاؿ ٌ‬
‫بيت وال دار‪ ،‬قاؿ‪ :‬فطلعت من ورائو سحابةٌ مثل الترس‪ ،‬فلما توسطت السماء انتشرت ثم‬ ‫سحاب وال قزعة‪ ،‬وما بيننا وبين سل من ٍ‬‫ٍ‬ ‫من‬
‫قائم‬
‫رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة‪ ،‬ورسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ٌ‬
‫أمطرت‪ ،‬قاؿ‪ :‬فال واهلل ما رأينا الشمس سبتًا‪ ،‬قاؿ‪ :‬ثم دخل ٌ‬
‫قائما فقاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل ىلكت األمواؿ‪ ،‬وانقطعت السبل‪ ،‬فادع اهلل يمسكها عنا‪ ،‬قاؿ‪ :‬فرف رسوؿ اهلل (صلى اهلل‬
‫يخطب الناس‪ ،‬فاستقبلو ً‬
‫عليو وسلم) يديو ثم قاؿ‪ :‬اللهم حوالينا وال علينا‪ ،‬اللهم على اآلكاـ‪ ،‬والظراب‪ ،‬وبطوف األودية‪ ،‬ومنابت الشجر‪ ،‬قاؿ‪ :‬فأقلعت وخرجنا نمشي‬
‫شريك‪ :‬فسألت أنس بن مالك‪ :‬أىو الرجل األوؿ؟ قاؿ‪ :‬ال أدري"‪.‬‬
‫في الشمس‪ ،‬قاؿ ٌ‬

‫‪125‬‬
‫قاؿ المصنف رحمو اهلل‪:‬‬
‫‪( -‬الظراب)‪ :‬الجباؿ الصغار‪.‬‬
‫‪( -‬واآلكاـ)‪ :‬جم أكمة‪ ،‬وىي أعلى من الرابية‪ ،‬ودوف الهضبة‪.‬‬
‫‪( -‬ودار القضاء)‪ :‬دار عمر بن الخطاب (رضي اهلل عنو) سميت بذلك؛ ألنها بيعت في قضاء دينو‪.‬‬
‫‪ -‬ىذا الحديث في الصفة الثانية التي ذكرناىا من صفات االستسقاء‪ ،‬وىو االستسقاء على المنبر يوـ الجمعة‪.‬‬
‫رجال دخل المسجد يوـ الجمعة من ٍ‬
‫باب كاف نحو دار القضاء) وىذا لتبيين الجهة التي دخل منها الرجل‪.‬‬ ‫‪ -‬قاؿ‪( :‬إف ً‬
‫دارا ألمير المؤمنين عمر‪ ،‬بيعت على معاوية بعد وفاة عمر (رضي اهلل عنو) في قضاء دينو‪ ،‬فكانوا يسمونها دار قضاء‬
‫‪ -‬ودار القضاء كانت ً‬
‫الدين‪ ،‬ثم اقتصروا بعد ذلك على تسميتها بدار القضاء‪.‬‬
‫قائم يخطب‪ ،‬فاستقبل رسوؿ اهلل)‪ ،‬أي ىذا الرجل استقبل النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬أي صار‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬ورسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ٌ‬
‫مقابال لو في وجهو‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ثم قاؿ‪( :‬يا رسوؿ اهلل) وىذا فيو داللةٌ على جواز تكليم اإلماـ‪ ،‬وىو على المنبر‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬ىلكت األمواؿ‪ ،‬وانقطعت السبل) أي ىلكت الحيوانات من قلة الكأل الذي يكوف بسبب المطر‪.‬‬
‫‪( -‬وانقطعت السبل) أي انقطعت الطرؽ‪ ،‬وىذا بسبب ضعف اإلبل من قلة رعيها‪ ،‬التي يسافروف عليها‪.‬‬
‫‪( -‬فادع اهلل عز وجل أف يغيثنا) أي أف يزيل ما نحن فيو من شدة‪.‬‬
‫وىذه المسألة تبين جواز التوسل بالنبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬لكن ىذا التوسل كاف حاؿ حياة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫وكيف يكوف؟ كما في ىذه الصورة ىو بأف يدعو اهلل عز وجل لهم أف يغيثهم‪ ،‬أف ينزؿ عليهم الغيث‪.‬‬
‫أىل العلم إف رف اليدين في الدعاء‪ ،‬يكوف سببًا إلجابتو‪.‬‬ ‫‪ -‬قاؿ‪( :‬فرف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يديو)‪ .‬وقد قاؿ بع‬
‫صفرا"‪.‬‬
‫فقد ثبت عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو قاؿ‪" :‬إف اهلل يستحي من عبده أف يمد يديو إلى السماء أف يردىما ً‬
‫وكاف من عادة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عندما يدعو أنو يرف يديو‪.‬‬
‫‪ -‬ثم قاؿ‪( :‬اللهم أغثنا ثالثًا) وكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يكرر الدعاء ثالثًا‪ ،‬فمن السنة أف يكرر اإلنساف دعاءه‪ ،‬وأف يلح على اهلل عز‬
‫وجل في الدعاء‪ ،‬فإف اهلل تبارؾ وتعالى يحب ذلك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫سحاب وال قزعة)‪ .‬وىنا يقسم أنس رضي اهلل عنو؛ لزيادة التأكيد أنو ما كاف ىناؾ‬ ‫‪ -‬قاؿ أنس (رضي اهلل عنو)‪( :‬فال واهلل ما نرى في السماء من‬
‫سحاب وال شيءٌ من الغيم‪.‬‬
‫ٌ‬
‫بيت وال دار)‪ .‬وسل ىذا ىو جبل يق جنوبي المدينة‪ ،‬بينو وبين مسجد النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قرابة‬ ‫‪ -‬قاؿ‪( :‬وما بيننا وبين سل من ٍ‬
‫الميل‪ ،‬وليس بينهم وبين الجبل ما يحجب الرؤية من دا ٍر وال بيت (أي أف الرؤية صافية)‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬فطلعت من ورائو سحابةٌ مثل الترس)‪ .‬والترس‪ :‬ىو اآللة التي يتقى بها في الحروب من ضربات السيوؼ ونحو ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬فلما توسطت السماء انتشرت)‪ .‬ذلك ألنها كانت صغيرة في بداية طلوعها عليهم‪ ،‬ثم كبرت بعد ذلك‪ ،‬وانتشرت في السماء‪ ،‬ثم‬
‫أمطرت‪.‬‬
‫كامال‪ ،‬والمطر ينزؿ‪.‬‬
‫أسبوعا ً‬
‫ً‬ ‫‪ -‬قاؿ‪( :‬فال واهلل ما رأينا الشمس سبتًا) أي‬
‫رجل) يحتمل أف يكوف ىو ىو نفس الرجل‪ ،‬أو يكوف غيره‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪( :‬ونحن نمطر‪ ،‬قاؿ ثم دخل ٌ‬
‫قائما‪ ،‬فقاؿ‪ :‬يا رسوؿ اهلل ىلكت‬
‫قائم يخطب الناس‪ ،‬فاستقبلو ً‬
‫‪( -‬دخل من ىذا الباب في الجمعة المقبلة‪ ،‬ورسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ٌ‬
‫األمواؿ‪ ،‬وانقطعت السبل)‪ .‬أي أف الحيوانات كادت تهلك بسبب قلة رعيها من كثرة المطر‪ ،‬وكف الناس عن السير في الطرؽ‪ ،‬بسبب شدة‬
‫المطر والطين والوحل‪.‬‬
‫‪( -‬فادع اهلل عز وجل أف يمسكها عنا‪ ،‬فدعا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فقاؿ‪ :‬اللهم حوالينا وال علينا) أي قريبًا منا وليس علينا‪.‬‬
‫‪( -‬اللهم على األكاـ‪ ،‬والظراب) أي مرتفعات األرض وجبالها‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫‪( -‬وبطوف األودية‪ ،‬ومنابت الشجر) وىي مجاري الشعاب في األودية‪ ،‬وأمكنة نبات الشجر‪.‬‬
‫‪( -‬قاؿ فأقلعت)‪ :‬يعني توقف المطر‪.‬‬
‫‪( -‬وخرجنا نمشي في الشمس) وىذا من بركة دعاء النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية صالة االستسقاء عند وجود سببها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬مشروعية إقامتها في مصلى العيد‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬مشروعية استقباؿ القبلة حاؿ الدعاء‪.‬‬
‫استبشارا بتبدؿ الحاؿ‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬مشروعية قلب الرداء‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬الجهر في صالة االستسقاء بالقراءة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬جواز االستسقاء في خطبة الجمعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬مشروعية رف الخطيب يديو في دعاء االستسقاء يوـ الجمعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬جواز تكليم الخطيب يوـ الجمعة‪ ،‬وىو على المنبر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬استحباب اإللحاح في الدعاء‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬جواز طلب الدعاء ممن ترجى إجابتو‪ ،‬أو إجابة دعائو من أىل الخير والصالح‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الحادية عشر‪ :‬بياف معجزة من معجزات النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وكرامةٌ من كراماتو الدالة على نبوتو وصدؽ رسالتو‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر قاؿ‪( :‬باب صالة الخوؼ)‬
‫والخوؼ ‪ :‬ضد األمن‪ ،‬والمراد بصالة الخوؼ أي صالة الفريضة‪ ،‬حاؿ الخوؼ من العدو‪ ،‬ويكوف ىذا عند اصطفاؼ الجيأ؛ لمالقاة العدو‪ ،‬أو‬
‫عند طلب العدو‪ ،‬أو عند الفرار منو‪ ،‬والعدو‪ :‬ىو كل عد ٍو يحصل الخوؼ منو‪ٌ ،‬‬
‫آدمي كاف أو سب ٌ‪.‬‬
‫وصالة الخوؼ لها صفةٌ مخصوصة ال تجوز في غيرىا من الصلوات‪ ،‬ففيها من الرخص والصفات ما إف فعلت في غيرىا من الصلوات‪ ،‬بطلت‬
‫الصالة‪.‬‬
‫من ىذه الصفات التي اختصت بها صالة الخوؼ‪:‬‬
‫‪ -‬الصفة األولى‪ :‬أنها تصلى لغير القبلة‪.‬‬
‫‪ -‬الصفة الثانية‪ :‬أنو يجوز فيها مسابقة اإلماـ‪.‬‬
‫‪ -‬الصفة الثالثة‪ :‬أنو يجوز فيها التراخي عن اإلماـ (أي يسبق اإلماـ المأموـ)‪.‬‬
‫‪ -‬الصفة الرابعة‪ :‬أنها تجوز فيها الحركة الكثيرة‪ ،‬بالرك ‪ ،‬أو المشي أثناء الصالة‪.‬‬
‫ىذه الصفات كلها مستثناة؛ ألجل الحاجة أال وىي الخوؼ‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف حديث عبد اهلل بن عمر بن الخطاب (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬صلى بنا رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) صالة الخوؼ في بع‬
‫أيامو‪ ،‬التي لقي فيها العدو‪ ،‬فقامت طائفةٌ معو‪ ،‬وطائفةٌ بإزاء العدو‪ ،‬فصلى بالذين معو ركعة‪ ،‬ثم ذىبوا وجاء اآلخروف فصلى بهم ركعة‪ ،‬وقضت‬
‫الطائفتاف ركعةً ركعة"‪.‬‬
‫‪ -‬ىنا يخبر عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنو‪ ،‬أنو كاف م النبي في إحدى غزواتو‪ ،‬قيل‪ :‬إنها غزوة ذات الرقاع وقيل‪ :‬إنها غزوة عسفاف‪.‬‬
‫‪ -‬وكاف العدو في غير جهة القبلة‪ ،‬فجعلهم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) طائفتين‪ ،‬يعني قسم الصحابة إلى طائفتين‪:‬‬
‫طائفةٌ قائمة في مقابلة العدو تحرس‪ ،‬وطائفة تصلي معو ركعة‪.‬‬
‫‪ -‬ثم انصرفوا بعد ىذه الركعة‪ ،‬الطائفة التي صلت م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ىذه الركعة انصرفوا‪( ،‬أي رجعوا مكاف الطائفة األخرى)‪،‬‬
‫فوقفوا تجاه العدو يحرسوف‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫‪ -‬وجاءت الطائفة التي كانت تحرس فصلت م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ركعة‪.‬‬
‫فيكوف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد صلى ركعتين‪ ،‬وكل ٍ‬
‫طائفة منهم ركعةً ركعة م النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ثم سلم النبي صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪ ،‬وأتمت ىذه الطائفة التي معو الركعة التي بقيت لهم‪ ،‬ث م انصرفوا فوقفوا في وجو العدو‪ ،‬ثم رجعت الطائفة األولى التي كانت صلت الركعة‬
‫األولى‪ ،‬فأتموا الركعة التي بقيت لهم‪ ،‬بهذا يكونوا قد أتموا الركعتين‪.‬‬

‫عمن صلى م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) صالة ذات الرقاع (يقصد بها‬ ‫ِ‬
‫خوات بن جبير َّ‬ ‫ثم ذكر حديث يزيد بن روماف عن صالح بن‬
‫قائما‪ ،‬فأتموا ألنفسهم‪ ،‬ثم انصرفوا فصفوا وجاه‬
‫صالة الخوؼ)‪" :‬أف طائفةً صفت معو‪ ،‬وطائفةٌ وجاه العدو‪ ،‬فصلى بالذين معو ركعةً‪ ،‬ثم ثبت ً‬
‫جالسا‪ ،‬وأتموا ألنفسهم ثم سلم بهم"‪.‬‬
‫العدو‪ ،‬وجاءت الطائفة األخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت ً‬
‫‪ -‬قاؿ‪ :‬الرجل الذي صلى م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ىو سهل بن أبي حثمة‪.‬‬
‫‪ -‬يزيد بن روماف ىو مولى آؿ الزبير‪ ،‬وىو من صغار التابعين‪ ،‬روى عن صالح بن خوات وىو‪ :‬ابن جبير بن النعماف‪ ،‬وىو من أواسط التابعين‪.‬‬
‫‪ -‬ذكر ىنا صفةً أخرى من صفات صالة الخوؼ؛ ذلك ألف صالة الخوؼ وردت بصفات كثيرة‪ ،‬بلغت أكثر من ست صفات‪.‬‬
‫‪ -‬وىي شبيهةٌ بالصفة األولى التي ذكرناىا في الحديث السابق‪ ،‬حديث ابن عمر‪ ،‬إال أنو ليس فيها انفصاؿ‪ ،‬في الحديث األوؿ انفصلت طائفة‬
‫ورجعت‪ ،‬ثم انفصلت الطائفة األخرى وصلت‪.‬‬
‫‪ -‬فقاؿ‪( :‬صلى صالة ذات الرقاع) وىي غزوة غزا فيها النبي (صلى اهلل عليو وسلم) غطفاف‪ ،‬وأكثر الصحابة كانوا مشاة‪ ،‬فرقت أقدامهم من‬
‫المسير‪ ،‬فأخذوا يلفوف على أقدامهم الخرؽ؛ فسميت ىذه الغزوة بذات الرقاع نسبةً إلى ذلك‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬فقسمهم النبي (صلى اهلل عليو‬
‫‪ -‬وفي ىذه الغزوة صلى بهم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صالة الخوؼ‪ ،‬وكاف العدو في غير جهة القبلة أي ً‬
‫وسلم) إلى طائفتين‪ ،‬فجعل طائفةً تحرس تجاه العدو‪ ،‬وطائفةٌ صفت معو للصالة‪.‬‬
‫قائما‪ ،‬وأتموا ألنفسهم في مكانهم ركعة لم ينفصلوا‪ ،‬أي لم يرجعوا مثل الصورة‬
‫‪ -‬فلما صلى بهم ركعة ثبت النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ً‬
‫األولى‪ ،‬لكن أتموا الركعة في مكانهم‪ ،‬ثم انصرفوا إلى العدو فقاموا تجاىو‪.‬‬
‫‪ -‬فجاءت الطائفة التي كانت تجاه العدو‪ ،‬فصفوا خلف النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فصلى بهم الركعة التي بقيت لو ىو صلى اهلل عليو وسلم‪،‬‬
‫فلما جلس للتشهد قاموا فصلوا ألنفسهم الركعة التي بقيت لهم‪ ،‬ثم جلسوا للتشهد م النبي صلى اهلل وسلم فسلم بهم‪ ،‬وىذه الصورة من‬
‫صور صالة الخوؼ‪.‬‬
‫ضا لقلة‬
‫‪ -‬قاؿ اإلماـ أحمد عليو رحمة اهلل‪" :‬ىي من أحب صور صالة الخوؼ إلي"‪ ،‬وكاف يرجحها على غيرىا؛ ذلك لصحة اإلسناد بها‪ ،‬وأي ً‬
‫المخالفة فيها لألفعاؿ‪ ،‬إذ أف الصورة األولى فيها انفصاؿ كما ذكرت‪ ،‬وىذه الصورة ليست فيها انفصاؿ‪.‬‬
‫أىل العلم أإنو اإلماـ‬ ‫‪ -‬قيل‪ :‬إف الرجل الذي صلى م النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ىو سهل بن أبي حثمة‪ ،‬ىذا الكالـ قد اعترض عليو بع‬
‫ابن عبد البر قاؿ‪ :‬ىذا كالـٌ فيو نظر؛ ألف سهل بن أبي حثمة‪ ،‬ولد سنة ثالث من الهجرة‪ ،‬فال يمكنو شهود ذات الرقاع‪.‬‬
‫حديث في الصحيحين عن صفة صالة الخوؼ‪ ،‬أو صالة ذات الرقاع‪ ،‬لكنو من مراسيل الصحابة (مرسل صحابي)‪ ،‬ويعتد بهذا‬ ‫ٌ‬ ‫‪ -‬لكن لو‬
‫الحديث؛ ألف مراسيل الصحابة يعتد بها‪.‬‬

‫صف‬
‫ثم ذكر حديث جابر بن عبد اهلل (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬شهدت م رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) صالة الخوؼ‪ ،‬فصففنا صفين‪ٌ ،‬‬
‫جميعا‪ ،‬ثم رف رأسو من الركوع ورفعنا‬
‫جميعا‪ ،‬ثم رك وركعنا ً‬
‫خلف رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬والعدو بيننا وبين القبلة‪ ،‬فكبر النبي وكبرنا ً‬
‫جميعا‪ ،‬ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليو‪ ،‬وقاـ الصف المؤخر في نحر العدو‪ ،‬فلما قضى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) السجود‪ ،‬وقاـ‬ ‫ً‬
‫الصف الذي يليو‪ ،‬انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا‪ ،‬ثم تقدـ الصف المؤخر‪ ،‬وتأخر الصف المقدـ‪ ،‬ثم رك النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‬
‫مؤخرا في الركعة األولى‪ ،‬وقاـ الصف‬
‫جميعا‪ ،‬ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليو‪ ،‬الذي كاف ً‬
‫جميعا‪ ،‬ثم رف رأسو من الركوع ورفعنا ً‬
‫وركعنا ً‬
‫المؤخر في نحور العدو‪ ،‬فلما قضى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) السجود والصف الذي يليو‪ ،‬انحدر الصف المؤخر بالسجود‪ ،‬فسجدوا ثم‬
‫جميعا"‪.‬‬
‫سلم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وسلمنا ً‬

‫‪128‬‬
‫مسلم بتمامو‪.‬‬
‫قاؿ جابر‪" :‬كما يصن حرسكم ىؤالء بأمرائهم" ذكره ٌ‬
‫‪ -‬وذكر البخاري طرفًا منو‪ ،‬وأنو صلى صالة الخوؼ م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في الغزوة السابعة‪ ،‬غزوة ذات الرقاع‪.‬‬
‫‪ -‬ىنا يحكي جابر بن عبد اهلل األنصاري رضي اهلل عنو‪ ،‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد صلى بهم صالة الخوؼ‪.‬‬
‫قوما من جهينة‪ ،‬فلما جاء وقت الظهر قاؿ المشركوف‪ :‬إنو ستأتيهم صالةٌ ىي أحب إليهم من‬‫‪ -‬وىنا قد غزا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ً‬
‫أوالدىم‪ ،‬فلو ملنا عليهم ميلةً واحدة الستأصلنا شأفتهم‪ ،‬فأخبر جبريل عليو السالـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بذلك‪ ،‬فلما جاء وقت صالة‬
‫العصر صلى بهم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صالة الخوؼ‪.‬‬
‫‪ -‬وىنا كاف العدو بينهم وبين القبلة‪ ،‬بخالؼ األحاديث السابقة‪.‬‬
‫جميعا‪ ،‬أي الطائفتين ركعوا‪ ،‬فلما سجد سجد معو الصف‬
‫جميعا‪ ،‬ورك بهم ً‬
‫‪ -‬قاؿ فصفوا خلف النبي صفين في وجو العدو‪ ،‬فكبر بهم النبي ً‬
‫األوؿ‪ ،‬ووقف الصف الثاني يحرس‪ ،‬فلما قاـ النبي من السجود ومعو الصف األوؿ‪ ،‬سجد الصف الثاني‪.‬‬
‫‪ -‬فلما قاموا (ثم قاـ) فتقدموا مكاف الصف األوؿ‪ ،‬يعني الصف الثاني جاء مكاف الصف األوؿ‪ ،‬وتأخر الصف األوؿ إلى مكاف الثاني‪ ،‬فصفوا‬
‫فصنعوا في الركعة الثانية مثل ما صنعوا في الركعة األولى‪.‬‬
‫جميعا‪.‬‬
‫جميعا‪ ،‬ثم سلم بهم ً‬
‫‪ -‬ثم سجد النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بالصف األوؿ‪ ،‬وقعد بهم للتشهد‪ ،‬فجلس الصف الثاني معو‪ ،‬فتشهد بهم ً‬
‫‪ -‬وقد وردت صور أخرى في صفة صالة الخوؼ‪ ،‬واتفق العلماء على جوازىا‪.‬‬
‫‪ -‬وقد استدؿ العلماء بأحاديث صالة الخوؼ على وجوب صالة الجماعة؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ما تركها حتى في حاؿ الخوؼ‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية صالة الخوؼ عند وجود سببها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز العمل الكثير في الصالة للضرورة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬وجوب المحافظة على الصالة في وقتها‪.‬‬
‫وسفرا‪ ،‬في حاؿ األمن والخوؼ‪.‬‬
‫حضرا ً‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬وجوب صالة الجماعة على الرجاؿ ً‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬أف صالة الجماعة تدرؾ بركعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬جواز انفراد المأموـ عن إمامو لعذر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬وجوب اتخاذ الحذر من األعداء بكل الوسائل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬حسن تنظيم اإلسالـ وعدالتو ‪ ،‬وذلك يظهر في تقدـ الصف الثاني مكاف األوؿ‪ ،‬ورجوع األوؿ مكاف الثاني؛ حتى‬
‫كل منهم في الصالة خلف النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫يستوي ٌ‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬تعدد صفات صالة الخوؼ حسب الحاؿ التي كاف عليها المسلموف‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫كتاب آخر إال وىو‪( :‬كتاب الجنائز)‬
‫(والجنائز)‪ :‬جم ِجنازة أو َجنازة بفتح الجيم وىو الميت‪ ،‬وبكسرىا وىو النعأ الذي يحمل عليو الميت‪.‬‬
‫عموما كتاب الجنائز‪ ،‬أي‪ :‬الكتاب الذي يجم األحكاـ التي تتعلق بالميت من الغسل‪،‬‬
‫ً‬ ‫وقوؿ المصنف كتاب الجنائز‪ ،‬أو قوؿ الفقهاء‬
‫والتكفين‪ ،‬والصالة على الميت‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫باب في الصالة على الغائب‪ ،‬وعلى القبر)‪.‬‬
‫وأوؿ ما ذكر المصنف في ىذا الباب قاؿ‪ٌ ( :‬‬
‫ذكر فيو حديث أبي ىريرة رضي اهلل عنو‪ ،‬قاؿ‪" :‬نعى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) النجاشي في اليوـ الذي مات فيو‪ ،‬وخرج بهم إلى المصلى‪،‬‬
‫فصف بهم وكبر أر ًبعا"‪.‬‬
‫اسم يطلق على ملوؾ الحبشة‪ ،‬لقب يطلق على ملوؾ الحبشة‪ ،‬كما يطلق على ملوؾ الروـ قيصر‪ ،‬وملوؾ الفرس كسرى‪.‬‬
‫‪( -‬النجاشي)‪ٌ :‬‬
‫‪ -‬والمراد بالنجاشي ىنا ىو أصحمة النجاشي‪ ،‬وقيل إف أصحمة في اللغة العربية بمعنى العطية أو الهبة‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫منهي‬
‫نعي ٌ‬ ‫‪ -‬النبي (صلى اهلل عليو وسلم) نعاه‪ ،‬يعني‪ :‬أخبر الصحابة بموتو في اليوـ الذي مات فيو‪ ،‬وىذا من أنواع النعي المشروع؛ ألف ىناؾ ٌ‬
‫عنو‪ ،‬وىو ما كاف على سبيل المفاخرة وما شابو ذلك‪.‬‬
‫فضل في اإلسالـ‪ ،‬إذ أنو آوى الصحابة‪ ،‬وآمن بالنبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وأحسن لِمن ىاجر إليو من‬
‫‪ -‬وكاف ىذا الملك رضي اهلل عنو‪ ،‬لو ٌ‬
‫المضطهدين بمكة من المؤمنين‪.‬‬
‫رجل صالح من الحبأ‪ ،‬فقوموا صلوا على أخيكم أصحمة"‪.‬‬
‫‪ -‬فقاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬توفي اليوـ ٌ‬
‫‪ -‬وقد اختلفت الروايات في ىذا‪ ،‬فخرج بهم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إلى المصلى‪ ،‬أي‪ :‬المكاف الذي تصلى فيو الجنائز فصف الصحابة‪،‬‬
‫أربعا كما يصلي على الميت الحاضر‪.‬‬
‫ثم تقدـ فكبر ً‬

‫ضا (رضي اهلل عنو)‪" :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى على النجاشي‪ ،‬فكنت في الصف الثاني أو الثالث"‪.‬‬
‫ثم ذكر حديثًا آخر عن جابر أي ً‬
‫فهذا الحديث يؤكد مسألة الصالة على الغائب‪ ،‬ويؤكد كذلك مسألة الصفوؼ في صالة الجنازة‪.‬‬
‫فصالة الجنازة على الغائب قد اختلف فيها أىل العلم‪:‬‬
‫‪ -‬فمنهم من من مطل ًقا كاألحناؼ والمالكية‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من أجازىا كالحنابلة‪.‬‬
‫صلي عليو فتشرع‪،‬‬
‫‪ -‬ومنهم من فصل كشيخ اإلسالـ عليو رحمة اهلل‪ ،‬أنو‪ :‬إذا كاف الميت قد صلي عليو‪ ،‬فإنها تسقط‪ .‬وإف لم يكن قد ُ‬
‫صل عليو‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫كما فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) م النجاشي؛ ألنو مات بأرض قوـ نصارى فلم يُ َ‬
‫ضا‪:‬‬
‫وكذلك مسألة الصفوؼ أي ً‬
‫استدؿ أىل العلم بلفظة "كنت في الصف الثاني أو الثالث" على أف السنة في صالة الجنازة أف تكوف صفوفًا‪ ،‬خالفًا لمن قاؿ بعدـ جوازىا‪.‬‬
‫عطاء بن يسار رحمو اهلل قاؿ‪ :‬إنها ال تصلى صفوفًا‪ ،‬وإنما تصلى كل ٍ‬
‫واحد وحده‪ ،‬وقد أنكر اإلماـ أحمد قوؿ عطاء‪ ،‬وقاؿ‪ :‬إنو غريب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صفوؼ‪ ،‬فقد أوجب"‪ :‬أي‪ :‬وجبت لو الجنة‪ ،‬يشفعوف فيو‪ ،‬أو أوجب لو الشفاعة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بإسناد حسن‪" :‬من صلى عليو ثالثة‬ ‫وقد جاء عند الترمذي‬

‫ثم ذكر حديث عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما‪" :‬أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى على قب ٍر بعد ما ُدفن‪ ،‬فكبر عليو ً‬
‫أربعا"‪.‬‬
‫إثبات لجواز الصالة على الميت بعد دفنو‪ ،‬وىذا قوؿ جماىير أىل العلم‪ ،‬خالفًا للمالكية الذين قالوا‪ :‬ال يصلى على الميت‬
‫وفي ىذا الحديث ٌ‬
‫بعد دفنو‪ ،‬لكن النص يخالف قولهم حتى أف اإلماـ أحمد رحمو اهلل‪ ،‬قاؿ‪ :‬عندي ستة أحاديث‪ ،‬أي‪ :‬ثبتت عندي ستة أحاديث ِحسا ٌف أف النبي‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) صلى على القبر بعد دفنو‪.‬‬
‫ويقوؿ ابن عبد البر‪ :‬ثبت عندي ثالثة أحاديث ِحسا ٌف في ىذا‪ ،‬فيكوف المجموع تسعة أحاديث‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬فمات ولم يخبروا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بموتو‪ ،‬فلما أصبحوا‬
‫وىنا في ىذا الحديث ورد أف طلحة بن البراء (رضي اهلل عنو) كاف مري ً‬
‫بليل يا رسوؿ اهلل‪ ،‬وكرىنا أف نشق عليك‪ ،‬فذىب إلى قبره فقاـ وصفوا وراءه‪ ،‬وكبر عليو‬ ‫أخبروه‪ ،‬فقاؿ‪" :‬ما منعكم أف تخبروني؟ قالوا‪ :‬كنا ٍ‬
‫دليل على أف صالة الجنازة أرب تكبيرات‪ ،‬ىذا ىو األغلب من فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫أر ًبعا"‪ ،‬وىنا ٌ‬
‫أىل العلم أنها إما أف تكوف في صالة الجنازة على طفل‪ ،‬وإما أف تكوف لمن لو‬ ‫خمسا وستًا‪ ،‬والزيادة على األرب ‪ ،‬قاؿ بع‬
‫ضا أنو كبر ً‬
‫وثبت أي ً‬
‫فضل في اإلسالـ مثل الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة‪ ،‬قيل‪ :‬إنو كبر عليهم أكثر من أرب تكبيرات‪.‬‬
‫قدـٌ في اإلسالـ‪ ،‬أو يكوف لو ٌ‬
‫نرج إلى مسألة الصالة على القبر‪ ،‬ىل ىناؾ مدة معينة يصلي فيها اإلنساف على القبر؟ أـ يصلي في أي ٍ‬
‫وقت شاء؟‬

‫المدة التي يصلى على الميت فيها بعد دفنو‪:‬‬


‫كالـ فيو نظر‪ ،‬فلو أخذنا بهذا القوؿ‪ ،‬لذىب الناس‬
‫من أىل العلم من قاؿ‪ :‬إنو ال نهاية لها‪ ،‬يعني يصلي عليو مطل ًقا‪ ،‬وإف طاؿ الزمن‪ ،‬لكن ىذا ٌ‬
‫إلى قبور الصحابة اليوـ‪ ،‬وأخذوا يصلوف عليهم صالة الجنائز‪ ،‬لكن ىذا لم يُعهد منذ حياة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إلى يومنا ىذا‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫لكن ثبت أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى عليهم بعد ثماني سنين صالة الوداع‪ ،‬لكن لم تكن صالة بالمعنى المعروؼ‪ ،‬إنما كاف دعاءً‬
‫ألىل القبور‪.‬‬
‫فهنا ثبت أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى على أـ سعد (رضي اهلل عنها) بعد شه ٍر من وفاتها؛ وذلك ألنها توفيت وكانوا في غزوة تبوؾ‪،‬‬
‫على ما أذكر‪ ،‬ثم رج وقد ماتت أـ سعد رضي اهلل عنها‪ ،‬فالنبي (صلى اهلل عليو وسلم) صلى عليها بعد شهر‪.‬‬
‫فقاؿ بع أىل العلم بأف ىذا ىو المنتهى؛ ألنو فعل النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فإف زاد على ذلك بكثي ٍر‪ ،‬فإنو ال يصلى عليو‪ ،‬لكن يلحق بو‬
‫إذا زاد عن الشهر يوـ أو يومين‪ ،‬فهذا يعتبر مدة تلحق بالشهر‪ ،‬أما إذا زاد زيادةً كبيرة ال يصلى عليو‪.‬‬

‫الفوائد‪:‬‬
‫صل عليو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬ثبوت صالة الجنازة على الغائب‪ ،‬وتتأكد إف كاف لم يُ َ‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬مشروعية الصالة صفوفًا خلف اإلماـ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬ثبوت آية من آيات النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬بإخباره بموت النجاشي في اليوـ الذي مات فيو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬بياف فضيلة النجاشي (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز نعي الميت‪ ،‬وىو اإلخبار بموتو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬بياف جواز الصالة على الميت بعد دفنو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬صفة الصالة على الميت بعد دفنو‪ ،‬كصفة الصالة عليو قبل دفنو‪ ،‬وىي أرب تكبيرات‪.‬‬
‫نكتفي بهذا القدر‪ ،‬ونذكر أسئلة على ما سبق‪.‬‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬اذكر صفة صالة الكسوؼ‪ ،‬وىل يشرع النداء لها؟ م ذكر الدليل على ذلك‪.‬‬
‫فزعا يخشى أف تكوف الساعة"؟ وىل لصالة الكسوؼ خطبة؟ اذكر ذلك م الدليل‪.‬‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما معنى‪" :‬فقاـ النبي ً‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ما الحكمة من تبدؿ األحواؿ الكونية مثل الكسوؼ والخسوؼ؟ وضح ذلك من خالؿ دراستك لألحاديث‪.‬‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬اذكر صور االستسقاء‪ ،‬وما الحكمة التي من أجلها حوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم رداءه؟‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬ىل يجوز التوسل بالنبي صلى اهلل عليو وسلم بعد وفاتو؟ وىل يجوز التوسل بالصالحين؟ م بياف كيفية ذلك‪.‬‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬ما معنى‪( :‬اآلكاـ‪ ،‬والظراب‪ ،‬وبطوف األودية‪ ،‬ومنابت الشجر)؟‬
‫السؤاؿ الساب ‪ :‬ما ىي الصفات التي تختص بها صالة الخوؼ‪ ،‬حيث لو فُعلت في صالةٍ أخرى بطلت الصالة؟‬
‫السؤاؿ الثامن‪ :‬ىل يجوز الصالة على الغائب؟ اذكر الدليل على ذلك‪.‬‬
‫السؤاؿ التاس ‪ :‬ىل يجوز الصالة على القبر بعد الدفن؟ وىل ىناؾ مدةٌ محددةٌ للصالة على الميت بعد دفنو؟ وىل يجوز الزيادة‬
‫على أرب تكبيرات في صالة الجنازة؟‬
‫السؤاؿ العاشر‪ :‬اذكر الفوائد المستنبطة على كل ٍ‬
‫باب من األبواب السابقة‪.‬‬

‫نكتفي بهذا القدر‪ ،‬أقوؿ قولي ىذا‪ ،‬وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بإحساف إلى يوـ الدين‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫محمد‪ ،‬وعلى آلو وصحبو أجمعين‪ ،‬وعلى التابعين وتابعيهم‬ ‫ىذا وصلى اهلل وسلم وبارؾ على نبينا‬

‫‪131‬‬
‫المحاض ػػرة الخامسػػة عشػػرة‬
‫موصوال في‪( :‬كتاب الجنائز)‪ ،‬وكنا قد وقفنا فيو عند (باب الكفن)‪.‬‬
‫ً‬ ‫ال يزاؿ الحديث‬
‫باب في الكفن)‬
‫قاؿ المصنف عليو رحمة اهلل‪ٌ ( :‬‬
‫والكفن‪ :‬ىو اللباس الذي يوض على الميت‪ ،‬ويدفن في قبره وىو عليو‪.‬‬
‫وقد أورد المصنف عليو رحمة اهلل حديث عائشة رضي اهلل تبارؾ وتعالى عنها وفيو‪" :‬أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) كفن في ثالثة ٍ‬
‫أثواب‬
‫قميص وال عمامة"‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يمانية بي ٍ سحولية‪ ،‬ليس فيها‬
‫ٌ‬
‫ىنا في ىذا الحديث تخبر أـ المؤمنين عائشة (رضي اهلل عنها) عن كفن النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬عن عدده وعن لونو‪ ،‬وعن نوعو‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ىي ثالثة ٍ‬
‫أثواب بي ٍ يمانية‪.‬‬
‫يمانية‪ :‬نسبةً إلى اليمن؛ ألنها صنعت فيها‪.‬‬
‫ضا نسبةً إلى بلد في اليمن‪.‬‬
‫وقالت‪َ :‬سحولية‪ ،‬أو ُسحولية قيل‪ :‬إنها أي ً‬
‫إدراجا‪ ،‬وىنا اعتبار العدد في الكفن‪ ،‬إنما ىو من باب السنية؛ ألف السنة أف يكفن الرجل‬
‫قالت‪ :‬لم يكن فيها قميص وال عمامة‪ ،‬إنما أدرج فيها ً‬
‫في ثالثة أثواب‪.‬‬
‫وقد اختلفوا في المرأة ىل ىي مثل الرجل أـ تزيد؟ قوالف ألىل العلم‪:‬‬
‫تماما‪.‬‬
‫‪ -‬األوؿ قاؿ‪ :‬إف المرأة مثل الرجل ً‬
‫‪ -‬والقوؿ الثاني‪ :‬وىو مشهور المذىب أنها تكفن في خمسة ٍ‬
‫أثواب‪ ،‬يعني زيادةً عن الرجل‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية تكفين الرجل في ثالثة ٍ‬
‫أثواب بي ٍ ‪ ،‬ليس فيها قميص وال عمامة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬كرامة بني آدـ على اهلل عز وجل‪ ،‬وىذا يظهر في باب تغسيل الميت‪ ،‬ودفنو‪ ،‬وإكرامو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز الزيادة في الكفن على ٍ‬
‫لفافة واحدة؛ ذلك ألف األصل أف يكفن فيما يستر بدنو‪ ،‬فإف كاف ثوبًا واح ًدا‪ ،‬فهذا ىو‬
‫األصل أما الزيادة فهي من باب السنية كما ذكرت‪.‬‬

‫باب في صفة تغسيل الميت وتشيي الجنازة)‬ ‫ثم انتقل إلى ٍ‬


‫باب آخر قاؿ‪ٌ ( :‬‬
‫ضا حديث أـ عطية األنصارية قالت‪" :‬دخل علينا رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) حين توفيت ابنتو زينب‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬ ‫وأورد في ىذا الباب أي ً‬
‫كافورا‪ ،‬أو شيئًا من كافوٍر‪ ،‬فإذا فرغتن فآذنني‪ ،‬فلما‬ ‫ٍ‬
‫خمسا أو أكثر من ذلك إف رأيتن ذلك بماء وسدر‪ ،‬واجعلن في اآلخرة ً‬ ‫اغسلنها ثالثًا أو ً‬
‫سبعا‪ ،‬وقاؿ‪ :‬ابدأف بميامنها‪ ،‬ومواض الوضوء منها"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فرغنا آذناه‪ ،‬فأعطانا حقوه‪ ،‬فقاؿ‪ :‬أشعرنها إياه"‪ ،‬يعني إزاره‪ ،‬وفي رواية‪" :‬أو ً‬
‫‪ -‬وأف أـ عطية قالت‪" :‬وجعلنا رأسها ثالثة قروف"‪.‬‬
‫‪ -‬أـ عطية (رضي اهلل عنها) تروي ىذا الحديث في كيفية تغسيل الميت‪ ،‬وكانت أـ عطية األنصارية (رضي اهلل عنها) ممن يغسل النساء على‬
‫عهد النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بعد موتهن‪ ،‬فتخبر أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) دخل عليهن حين توفيت ابنتو زينب رضي اهلل عنها‪،‬‬
‫خمسا إذا احتجن لذلك‪.‬‬
‫فأمرىن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف يغسلنها ثالثًا‪ ،‬أو ً‬
‫تماما‪ ،‬الفرض فيو تعميم البدف بالماء‪ ،‬والوتر أي الثالث غسالت إنما ىي سنة‪ ،‬أما إذا خرج من الميت شيءٌ‪،‬‬
‫وغُسل الميت أصلو كغسل الحي ً‬
‫فإنو يغسل خمس أو سب حتى ينقى‪.‬‬
‫شجر نبقي‪ ،‬وشجر النبق يدؽ ورقو ويخلط بالماء‪ ،‬فيكوف أبلغ في التنظيف‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫‪ -‬وقولو صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬اغسلنها بماء وسدر"‪ :‬السدر‪ٌ :‬‬
‫كانوا يستعملوف السدر في التنظيف‪ ،‬كالصابوف عندنا اآلف ومثل ىذه األشياء‪.‬‬
‫كافورا"‪ :‬والكافور‪ :‬نوعٌ من الطيب لو خاصيةٌ يقاؿ‪ :‬إنو يَصلب البدف‪ ،‬ويقاؿ‪ :‬إنو لو‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬واجعلن في اآلخرة (أي في الغسلة األخيرة) ً‬
‫خاصية في طرد الدواب عن الميت؛ ألف لو رائحة تبعد عنو الدواب‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫‪ -‬ثم قاؿ صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬فإذا فرغتن من غسلها فآذنني"‪ .‬أي أخبرنني‪.‬‬
‫‪ -‬قالت‪" :‬فلما فرغنا آذناه"‪ .‬أي أعلمناه‪.‬‬
‫‪ -‬قالت‪" :‬فأعطانا حقوه"‪ .‬والحقو‪ :‬ىو اإلزار‪.‬‬
‫‪ -‬فقاؿ‪" :‬أشعرنها إياه"‪ :‬والشعار‪ :‬ىو الذي يجعل مما يلي الجسد مباشرةً‪ ،‬أي يلتصق بو‪ ،‬وىذا من باب التبرؾ بثياب النبي (صلى اهلل عليو‬
‫وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬وفي رواية قاؿ‪" :‬ابدأف بميامنها‪ ،‬ومواض الوضوء"‪ .‬أي يُبدأ بالجانب األيمن فيغسل‪ ،‬ثم األيسر فيغسل‪ ،‬ويبدأف كذلك بتوضيئها؛ ألف ىذا‬
‫يشبو غسل األحياء‪.‬‬
‫‪ -‬قالت‪" :‬وجعلنا رأسها ثالثة ٍ‬
‫قروف"‪ .‬أي نقضنا ضفر رأسها‪ ،‬وجعلناىا ثالثة قروف‪ ،‬تجعل على الناصية قرف‪ ،‬وعلى الجانباف قرناف‪ ،‬ثم ألقينو‬
‫خلفها‪ ،‬يلقى خلف إهر المرأة‪.‬‬

‫واقف بعرفة‪ ،‬إذ وق عن راحلتو فوقصتو‪ ،‬أو قاؿ‪ :‬فأوقصتو‪ ،‬فقاؿ النبي‬ ‫رجل ٌ‬‫ثم جاء بحديث عبد اهلل بن عباس (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬بينما ٌ‬
‫صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬اغسلوه ٍ‬
‫بماء وسد ٍر‪ ،‬وكفنوه في ثوبين‪ ،‬وال تحنطوه وال تخمروا رأسو‪ ،‬فإنو يبعث يوـ القيامة ملبيًا"‪.‬‬
‫وفي رواية‪" :‬وال تخمروا وجهو ورأسو"‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ المصنف‪( :‬الوقص) كسر العنق‪.‬‬
‫رجال كاف واق ًفا بعرفة‪ ،‬أي على ناقتو‪ ،‬فوق‬
‫محرما‪ ،‬وىنا يقوؿ ابن عباس رضي اهلل عنهما أف ً‬
‫‪ -‬ىذا الحديث يبين كيف يفعل بالميت إذا كاف ً‬
‫من على راحلتو فوقصتو‪ ،‬أو أوقصتو‪ ،‬أي كسرت عنقو‪ ،‬فمات رضي اهلل عنو‪ ،‬فأمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف يغسل ٍ‬
‫بماء وسد ٍر‪ ،‬وأف‬
‫يكفن في ثوبين‪ ،‬والثوبين ىما اإلزار والرداء‪ ،‬الذين كانا عليو‪.‬‬
‫‪ -‬ونهاىم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف يحنطوه‪ ،‬أي أف يقربوا إليو طيبًا‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬وال تخمروا رأسو"‪ :‬أي ال تغطوا رأسو؛ ألف المحرـ ال يمس الطيب‪ ،‬وال يغطي رأسو؛ ألف ىذا من محظورات اإلحراـ‪ ،‬وىو ىنا قد‬
‫مات وىو على ىذه الحاؿ‪ ،‬أي على إحرامو‪ ،‬فال يزاؿ باقيًا على إحرامو‪ ،‬فإنو يبعث يوـ القيامة ملبيًا‪ ،‬أي يقوؿ‪ :‬لبيك اللهم لبيك‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬وجوب تغسيل الميت‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف النساء ال يغسلهن إال النساء‪ ،‬ويستثنى من ذلك الزوج‪ ،‬فيجوز لو أف يغسل زوجتو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف من السنة في الغسل أف يبدأ بمواض الوضوء وبالميامن‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف من السنة أف يقط الغسل على وت ٍر‪ ،‬أي يكوف ثالث غسالت‪ ،‬أو خمس‪ ،‬أو سب ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬ثبوت التبرؾ بمالبس النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وآثاره‪ ،‬وىذا من خصائصو صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فال يتبرؾ بغيره‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬جواز استعماؿ السدر‪ ،‬أو ما يقوـ مقامو في التنظيف في الغسل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬استحباب تطييب الميت في آخر غسالتو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬أف من السنة ضفر شعر المرأة المتوفاة‪ ،‬وجعلو ثالث ٍ‬
‫قروف خلفها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬جواز تغسيل المحرـ‪ ،‬أي الذي مات على إحرامو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬مشروعية تكفين المحرـ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الحادية عشر‪ :‬عدـ جواز تطييب الميت المحرـ وتحنيطو‪ ،‬أي وض األشياء التي فيها الطيب والحنوط‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية عشر‪ :‬أف اإلحراـ ال يبطل بالموت؛ بل يظل باقيًا على إحرامو‪.‬‬
‫محرما‪ ،‬وأف عملو ال ينقط حيث إنو يبعث يوـ القيامة ملبيًا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة األخيرة‪ :‬فضل من مات ً‬

‫‪133‬‬
‫ثم أورد المصنف عليو رحمة اهلل حديثًا آخر في الباب‪ ،‬عن أـ عطية األنصارية (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬نهينا عن اتباع الجنائز‪ ،‬ولم يعزـ علينا"‪.‬‬
‫وأـ عطية األنصارية‪ :‬ىي أـ عطية بنت الحارث األنصارية‪ ،‬وىي من كبار نساء الصحابة‪ ،‬وقد غزت م النبي (صلى اهلل عليو وسلم) سب‬
‫غزوات‪ ،‬وكانت ممن يغسل النساء بعد موتهن‪ ،‬وأُخذت عنها األحكاـ التي تتعلق بغسل الميت وتكفينو‪.‬‬
‫وتخبر ىنا (رضي اهلل عنها) قالت‪" :‬نهينا عن اتباع الجنائز‪ ،‬ولم يعزـ علينا"‪.‬‬
‫ٌ‬
‫محموؿ على الرف ] أي مرفوعٌ للنبي صلى اهلل عليو وسلم؛‬ ‫والقاعدة عند جماىير األصوليين‪[ :‬أف الصحابي إذا قاؿ‪ :‬أمرنا أو نهينا‪ ،‬فإف ذلك‬
‫ذلك ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ىو اآلمر أو ىو الناىي‪.‬‬
‫‪ -‬قالت‪( :‬نهينا عن اتباع الجنائز)‪ ،‬واتباع الجنائز يكوف إما قبل وصوؿ الجنازة إلى القبر بالسير م الجنازة‪ ،‬أو يكوف باتباعها بعد وصولها إلى‬
‫القبر‪ ،‬والمعنى ىنا أي حضور النساء عند القبر في دفن الجنازة‪.‬‬
‫‪ -‬والنهي ىنا األصل فيو التعبد؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) نهى‪ ،‬وقد علل العلماء ذلك بأف ىذا لرقة النساء‪ ،‬فليس لديهن صبر الرجاؿ‬
‫وتحملهم؛ وكذلك ألف خروجهن قد يؤدي للفتنة والهل والحزف بما يشاىدف من حمل الجنازة ودفنها‪.‬‬
‫‪ -‬قالت‪" :‬ولم يعزـ علينا"‪.‬‬
‫إلزاما‪ ،‬يعني ليس المقصود بو التحريم؛ وإنما ىو من باب الكراىة؛ ألف األصل في‬
‫والعزيمة‪ :‬مقابلها الرخصة‪ ،‬فكأنها تقوؿ‪ :‬إف النهي ىنا ليس ً‬
‫النهي ىو للتحريم‪ ،‬فهنا صرؼ النهي من التحريم إلى الكراىة؛ ألنها قالت‪ :‬لم يعزـ علينا فهو من باب الكراىة فقط؛ ألف اتباعهن للجنازة يؤدي‬
‫إلى الوقوع فيما ال يجوز من الندب والنياحة والفتنة‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫سواء كاف ذلك قبل الدفن‪ ،‬أو عند القبر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬نهي النساء عن اتباع الجنائز ً‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف النهي ىنا للتنزيو‪ ،‬أما إذا تحققت المفسدة‪ ،‬فيكوف حر ًاما‪ ،‬يرج إلى األصل‪.‬‬

‫فخير تقدمونها إليو‪،‬‬


‫ثم ذكر حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬أسرعوا بالجنازة‪ ،‬فإنها إف تك صالحةً ٌ‬
‫فشر تضعونو عن رقابكم"‪.‬‬
‫وإف تك سوى ذلك ٌ‬
‫‪ -‬إف من السنة اإلسراع بالجنازة‪ ،‬واإلسراع بها يشمل اإلسراع في تجهيزىا‪ ،‬واإلسراع في السير بها‪ ،‬وكذلك اإلسراع في دفنها‪.‬‬
‫‪ -‬وكاف الصحابة رضي اهلل عنهم يأمروف أنهم إذا توفوا‪ ،‬أف يدفنوا في أقرب ٍ‬
‫وقت حتى ال تنتظر بهم صالة‪ ،‬يعني ال تنتظر بهم صالة فريضة‬
‫حتى يجتم الناس؛ والعلة في اإلسراع بالجنازة ىذا حفاإًا عليها‪ ،‬ومن باب إكرامها‪ ،‬وحتى ال تتغير‪.‬‬
‫صالحا فذلك من مصلحتو؛ ألنو يقدـ إلى خي ٍر‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأنو كما جاء في حديث النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬إذا كاف الميت‬
‫وقد ثبت أف الجنازة إذا كانت صالحة‪ ،‬قالت‪( :‬قدموني قدموني)‪ ،‬وذلك لما أعده اهلل عز وجل لها من النعيم والسرور‪.‬‬
‫وإف كاف الميت غير صالح‪ ،‬فإف ذلك من مصلحة مشيعيو وحامليو‪.‬‬
‫"فشر تضعونو عن رقابكم"‪ ،‬فيتخلصوف من ىذا الشر الذي على أكتافهم ويفارقوه‪.‬‬
‫‪ -‬لذلك قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ٌ :‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬استحباب اإلسراع بتجهيز الميت والسير بو‪ ،‬م مراعاة عدـ المشقة على الناس‪ ،‬وال بما يضر الميت‪.‬‬
‫خير لو من بقائو في الدنيا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف القبر للميت الصالح ٌ‬
‫"فشر تضعونو عن أعناقكم"‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬استحباب مفارقة الشر وأىلو‪ ،‬قاؿ‪ٌ :‬‬

‫باب في موقف اإلماـ من الميت)‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر أال وىو‪ٌ ( :‬‬
‫يبين في ىذا الباب المكاف الذي يقف فيو اإلماـ حذاء الميت‪ ،‬وىنا ذكر موقف اإلماـ إذا كاف الميت امرأة‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬عن سمرة بن جندب (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬صليت وراء النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على امرأةٍ ماتت في نفاسها‪ ،‬فقاـ في وسطها"‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫‪ -‬وسمرة بن جندب‪ :‬ىو سمرة بن جندب بن ىالؿ الفزاري‪ ،‬ويكنى أبا سليماف‪ ،‬كاف من حلفاء األنصار‪ ،‬لو قصة م النبي (صلى اهلل عليو‬
‫وسلم) يوـ أحد لما أجازه‪ ،‬وذلك عندما صارع راف بن خديج رضي اهلل عنو‪ ،‬نزؿ البصرة وكاف يستخلف عليها‪ ،‬كاف شدي ًدا على الخوارج وعلى‬
‫أىل البدع‪ ،‬مات سنة ستين من الهجرة‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬صليت وراء النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على امرأةٍ ماتت في نفاسها"‪.‬‬
‫قيل إف ىذه المرأة ىي أـ كعب األنصارية رضي اهلل عنها‪ ،‬ماتت في نفاسها‪ ،‬يحتمل أنو في مدة نفاسها أي بعد الوالدة‪ ،‬أو في مدة حملها‪.‬‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬فقاـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في وسطها"‪.‬‬
‫أي لما قاـ يصلي عليها‪ ،‬قاـ عند وسطها وىذا ألمرين‪:‬‬
‫‪ -‬األمر األوؿ‪ :‬أنو أستر للمرأة‪ ،‬فإنهم على عهد النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬لم يكن يوض على النساء شيءٌ‪ ،‬يستر جسدىن من‬
‫الخشب ونحوه‪ ،‬وقد جاء أف أوؿ من وض ذلك ىي أسماء رضي اهلل عنها‪ ،‬لما رأت نساء الحبشة يضعوف عليهن شيئًا من الخشب‬
‫مثل الهرـ؛ لكي يستر أجسادىن‪.‬‬
‫‪ -‬األمر الثاني‪ :‬لكي يميز النساء من الرجاؿ ‪ ،‬فالوقوؼ عند جنازة الرجل تكوف عند رأسو‪ ،‬والمرأة عند وسطها‪ ،‬وىنا للتفريق من حيث‬
‫خيرا من أىلو‪ .‬وأما إذا عرفت أف الميت امرأة فتقوؿ‪" :‬اللهم أبدلها‬
‫وأىال ً‬
‫خيرا من داره ً‬
‫دارا ً‬
‫الدعاء في الضمير‪ ،‬فتقوؿ‪ :‬اللهم أبدلو ً‬
‫خيرا من أىلها" وىكذا‪.‬‬
‫وأىال ً‬
‫خيرا من دارىا‪ً ،‬‬
‫دارا ً‬
‫ً‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية صالة الجنازة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬مشروعية وقوؼ اإلماـ في صالة الجنازة عند وسط المرأة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف نفاس المرأة وحيضها‪ ،‬ال يمن من الصالة عليها‪.‬‬
‫‪ -‬وىناؾ فائدةٌ أخرى في ىذا الباب وىي‪ :‬أف المصنف لم يذكر في ىذا الباب حديثًا في موقف اإلماـ على الرجل؛ ذلك ألنو ال يوجد‬
‫في الصحيحين حديث في موقف اإلماـ على الرجل‪ ،‬والمصنف قد شرط على نفسو أو قد اقتصر في كتابو ىذا على ما ورد في‬
‫الصحيحين‪ ،‬لكن روي عند اإلماـ أحمد والترمذي وأبي داود من حديث أنس (رضي اهلل عنو) "أنو صلى على جنازة رجل‪ ،‬فقاـ عند‬
‫رأسو‪ ،‬وعلى جنازة امرأة فقاـ عند وسطها فقيل لو‪ :‬أىكذا كاف يفعل النبي صلى اهلل عليو وسلم؟ فقاؿ‪ :‬نعم"‪.‬‬

‫باب في تحريم التسخط بالفعل والقوؿ)‬ ‫ثم انتقل المصنف إلى ٍ‬


‫باب آخر قاؿ‪ٌ ( :‬‬
‫ضر‪ ،‬صبر واحتسب‬
‫شكورا عند السراء‪ ،‬راضيًا بقضاء اهلل تبارؾ وتعالى وقدره‪ ،‬فإذا أصابو ٌ‬
‫ً‬ ‫صبورا عند الضراء‪،‬‬
‫‪ -‬والمؤمن الحق ىو الذي يكوف ً‬
‫األجر عند اهلل عز وجل‪ ،‬ولم يتسخط ال بقلبو وال بقولو وال بفعلو‪.‬‬
‫‪ -‬والصبر إنما يكوف عند الصدمة األولى‪ ،‬وقد نهى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عن التسخط‪ ،‬بل وبرئ ممن تسخط على قضاء اهلل وقدره‪.‬‬
‫وقد أورد المصنف في ىذا الباب حديثًا في أوؿ الباب‪ ،‬وىو حديث أبي موسى األشعري وحديثًا آخر جعلو في آخر الباب‪ ،‬وىو حديث عبد‬
‫اهلل بن مسعود رضي اهلل عنهما‪ ،‬فجمعتهما في الشرح التفاقهما في أم ٍر ٍ‬
‫واحد‪ ،‬أال وىو عدـ التسخط على قدر عز وجل‪.‬‬

‫الحديث األوؿ حديث أبي موسى (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬عن أبي موسى عبد اهلل بن قيس (رضي اهلل عنو)‪" :‬أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم)‬
‫برئ من الصالقة والحالقة والشاقة"‪.‬‬

‫والحديث الثاني حديث عبد اهلل بن مسعود (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬عن النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو قاؿ‪" :‬ليس منا من ضرب الخدود‪ ،‬وشق‬
‫الجيوب‪ ،‬ودعا بدعوى الجاىلية"‪.‬‬

‫ىنا في الحديث األوؿ حديث أبي موسى وىو عبد اهلل بن قيس األشعري القحطاني‪ ،‬وقد قدـ على النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في مكة‬
‫وأسلم‪ ،‬ورج إلى قومو‪ ،‬ثم قدـ على النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في خمسين من قومو عند فتح خيبر‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫واله النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على اليمن‪ ،‬وواله عمر على البصرة رضي اهلل عنهما بعد موت النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وكذلك واله عثماف‬
‫(رضي اهلل عنو) على الكوفة‪ ،‬وقد مات بها (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫وجعا‪ ،‬أي أصيب بوج ‪ ،‬فأغشي عليو ورأسو في حجر امرأةٍ من أىلو‪.‬‬
‫ً‬ ‫حكاية ىذا الحديث أف أبا موسى (رضي اهلل عنو) وج‬
‫قيل (في حجر امرأة)‪ :‬أي كانت رأسو على صدرىا‪ ،‬فصاحت امرأةٌ من أىلو فلم يستط أف يرد عليها شيئًا‪ ،‬فلما أفاؽ قاؿ‪" :‬أنا بريءٌ مما برئ‬
‫منو رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فإف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) برئ من الصالقة والحالقة والشاقة"‪.‬‬
‫والصالقة‪ :‬ىي التي ترف صوتها بالبكاء‪ ،‬والعويل عند المصيبة‪.‬‬
‫وجزعا‪.‬‬
‫والحالقة‪ :‬ىي التي تحلق شعرىا‪ ،‬وتقطعو عند المصيبة تسخطًا ً‬
‫وجزعا‪.‬‬
‫والشاقة‪ :‬ىي التي تشق ثوبها عند المصيبة تسخطًا ً‬
‫صبرا من الرجاؿ‪ ،‬وغالبًا ما تصدر منهن ىذه األشياء دوف‬
‫وتجد ىنا أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قد خص النساء بذلك؛ ذلك ألنهن أقل ً‬
‫الرجاؿ‪.‬‬
‫وفي الحديث الثاني حديث عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنهما قاؿ‪" :‬ليس منا من لطم الخدود"‪.‬‬
‫وىنا إيراد ىذا اللفظ‪ ،‬لفظ (ليس منا)؛ ىذا للمبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك‪ ،‬بأف يتسخط على أقدار اهلل تبارؾ وتعالى‪.‬‬
‫والمراد بلفظة (ليس منا)‪ ،‬أي ليس من أىل سنتنا وطريقتنا‪.‬‬
‫(من ضرب الخدود) أي لطم الخدود‪ ،‬والمراد بو صفحة الوجو‪ ،‬أي الذي يضرب بيديو على وجهو حاؿ المصيبة‪.‬‬
‫(وليس منا من شق الجيوب)‪.‬‬
‫ضا من عالمات التسخط‪.‬‬
‫والجيب‪ :‬ىو طوؽ الثوب الذي يدخل منو اإلنساف رأسو فيو‪ ،‬والمراد بشقو أي إكماؿ فتحو إلى آخره‪ ،‬وىذا أي ً‬
‫وقاؿ‪" :‬ودعا بدعوى الجاىلية"‪.‬‬
‫دعا بدعوى الجاىلية‪ :‬أي قاؿ ألفاإًا جاىلية ال تنبغي‪ ،‬سواء كاف في مدح‪ ،‬أو ٍ‬
‫ذـ‪ ،‬أو ٍ‬
‫سب للدىر ومثل ىذا‪ ،‬تسخطًا على قضاء اهلل عز وجل‬ ‫ً‬
‫ضا فيها النياحة‪ ،‬والدعاء بالويل والثبور‪ ،‬وىو الهالؾ أو اإلىالؾ‪.‬‬
‫وقدره‪ ،‬فكل ىذا من دعوى الجاىلية‪ ،‬ويدخل أي ً‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬تحريم التسخط على أقدار اهلل عز وجل‪ ،‬وأنو من كبائر الذنوب؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) تبرأ من فاعلو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬وجوب الصبر على المصائب‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬ضعف النساء‪ ،‬وقلة تحملهن‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف الدعاء بالويل والثبور من الجهل‪ ،‬إذ ال يستفيد الداعي بو سوى الدعاء على نفسو‪ ،‬وإشعاؿ األحزاف‪.‬‬

‫نسائو‬ ‫ثم ذكر المصنف عليو رحمة اهلل حديث عائشة رضي اهلل تبارؾ وتعالى عنها قالت‪" :‬لما اشتكى النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬ذكرت بع‬
‫كنيسةً رأتها بأرض الحبشة يقاؿ لها‪ :‬مارية‪ ،‬وكانت أـ سلمة وأـ حبيبة رضي اهلل عنهما أتتا أرض الحبشة‪ ،‬فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها‪،‬‬
‫فرف رأسو (صلى اهلل عليو وسلم) وقاؿ‪ :‬أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسج ًدا‪ ،‬ثم صوروا فيو تلك الصور‪ ،‬أولئك شرار‬
‫الخلق عند اهلل تبارؾ وتعالى"‪.‬‬
‫ىذا الحديث يبين حكم بناء المساجد على القبور‪ ،‬وتعظيم األموات‪.‬‬
‫كن يتحدثن في مرضو الذي مات فيو‪ ،‬وىذا إف دؿ إنما يدؿ على أف ىذا األمر كاف‬
‫نساء النبي ّ‬ ‫وذكرت فيو عائشة (رضي اهلل عنها)‪ :‬أف بع‬
‫ردا على الذين يقولوف‪ :‬إف ىذا كاف في بادئ أمر اإلسالـ‪ ،‬ولقرابة عهد الناس بالشرؾ‪.‬‬
‫في آخر عهد النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ً ،‬‬
‫نسائو)‪.‬‬ ‫قالت‪( :‬ذكرت بع‬
‫وىن أـ سلمة وأـ حبيبة رضي اهلل عنهن‪ ،‬فهن اللتاف ىاجرتا إلى الحبشة‪ ،‬فتحدثتا عن كنيسة رأتاىا بأرض الحبشة‪ ،‬يقاؿ لها‪( :‬مارية)؛ وسميت‬
‫مارية ذلك من حسنها‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫فذكرتا حسن التصاوير فيها؛ تعجبًا مما يفعلو النصارى في دينهم‪ ،‬فرف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) رأسو‪ ،‬رغم مرضو الشديد؛ لخطورة األمر‪،‬‬
‫وتعلقو بتوحيد اهلل عز وجل‪.‬‬
‫تحذيرا ألمتو (صلى اهلل عليو وسلم) مما يصن ىؤالء؛ لكي ال يتشبهوا بهم في‬
‫ً‬ ‫فبين لهما أسباب وض ىذه الصور‪ ،‬وخطورة ىذا األمر؛ ذلك‬
‫صنيعهم ىذا‪ ،‬وىو أنو كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح‪ ،‬بنوا على قبره مسج ًدا يصلوف فيو‪ ،‬أي كنيسةً يصلوف فيها‪ ،‬وصوروا فيو تلك الصور‪.‬‬
‫وبين (صلى اهلل عليو وسلم) أف ىؤالء شرار الخلق عند اهلل عز وجل؛ بسبب ىذا الصني ‪.‬‬
‫‪ -‬الصني األوؿ‪ :‬بناء المساجد على القبور‪.‬‬
‫‪ -‬الثاني‪ :‬تصوير تلك التصاوير‪.‬‬
‫وذلك لما يق بسبب فعلهم ىذا من الفتنة والشرؾ باهلل تبارؾ وتعالى‪.‬‬

‫حديث آخر عن عائشة (رضي اهلل عنها) قالت‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) في مرضو الذي لم يقم منو‪" :‬لعن اهلل اليهود‬ ‫ٌ‬ ‫ثم جاء‬
‫والنصارى‪ ،‬اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‪ ،‬قالت‪ :‬لوال ذلك ألبرز قبره‪ ،‬غير أنو خشي أف يُتخذ مسج ًدا"‪.‬‬
‫يصا كل الحرص على حماية جناب التوحيد هلل رب‬
‫تقرير لما جاء في الحديث الذي قبلو‪ ،‬وىو أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف حر ً‬
‫‪ -‬ىذا ٌ‬
‫العالمين‪ ،‬حتى أنو في مرضو الذي مات فيو‪ ،‬لم يمنعو ذلك من تحذير األمة من أف يفعلوا مثل ما فعلت اليهود والنصارى‪ ،‬من تعظيم القبور‬
‫واألموات‪.‬‬
‫‪ -‬فقاؿ‪" :‬لعن اهلل اليهود والنصارى"‪( ،‬واللعن)‪ :‬ىو الطرد من رحمة اهلل تبارؾ وتعالى‪.‬‬
‫إخبارا من النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬بأف اهلل لعنهم بسبب فعلهم‪.‬‬
‫وقد يكوف ىذا ً‬
‫ضا‪ :‬إنو قد يكوف دعاء من النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عليهم؛ ألنهم كانوا سببًا في فتنة الناس‪ ،‬وانحرافهم عن توحيد رب العالمين‪.‬‬
‫‪ -‬وقيل أي ً‬
‫‪ -‬قاؿ‪" :‬لعن اهلل اليهود والنصارى"‪.‬‬
‫يهودا نسبةً إلى يهودا‪ ،‬وىو أكبر أوالد يعقوب عليو السالـ‪.‬‬
‫واليهود ىم أتباع موسى عليو السالـ‪ .‬وسموا ً‬
‫وقيل‪ :‬ألنهم ىادوا أي تابوا من اتخاذ العجل إلو‪.‬‬
‫والنصارى ىم من ينتسبوف إلى شريعة عيسى عليو السالـ‪ ،‬وسموا بذلك ألنهم نزلوا قرية تسمى ناصرة‪ ،‬فسموا باسمها‪.‬‬
‫وقيل ألف الحواريين قالوا‪( :‬نحن أنصار اهلل) فسموا بالنصارى‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬لعن اهلل اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وىذا ىو سبب اللعن‪ ،‬يحذر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) األمة مما صنعوا‪،‬‬
‫دليال على أف األمر كاف في آخر حياتو‪ ،‬وأف الحكم لم ينسخ‪.‬‬
‫وذلك في مرض موتو ً‬
‫قالت عائشة (رضي اهلل عنها)‪" :‬لوال ذلك ألبرز قبره"‪ :‬أي مخافة أف يق الناس في تعظيم القبر‪ ،‬والوقوع في الشرؾ‪ ،‬ألإهر في البقي أي كاف‬
‫في البقي ‪ ،‬أو أزيل عنو الحائل الذي يحجبو عن الناس‪ ،‬بهدـ جدراف الحجرة التي دفن فيها النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬تحريم بناء المساجد على القبور‪ ،‬وأف من فعل ذلك فهو من شرار الخلق عند اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ومعو ما لم يؤذه ذلك‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز التحدث عند المري‬
‫حراما‪ ،‬إال أف يكوف في ذلك إغراءٌ بالحراـ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز التحدث بما شاىده اإلنساف من العجائب‪ ،‬حتى وإف كانت ً‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬كماؿ نصح النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وإنكاره للمنكر‪ ،‬فلم يصرفو ما يقاسيو من األلم في مرضو عن ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬بياف تعظيم النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لجانب التوحيد‪ ،‬وتحذيره من الشرؾ ووسائلو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬لعن من اتخذ القبور مساجد‪ ،‬وأف اتخاذ القبور مساجد من كبائر الذنوب‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬الحكمة في عدـ إبراز قبر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ىو خشية أف يتخذ مسج ًدا‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫ثم ذكر المصنف عليو رحمة اهلل حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬من شهد الجنازة حتى يصلى‬
‫ٍ‬
‫ولمسلم قاؿ‪" :‬أصغرىما مثل جبل‬ ‫عليها فلو قيراطٌ‪ ،‬ومن شهدىا حتى تدفن فلو قيراطاف‪ ،‬قيل‪ :‬وما القيراطاف؟ قاؿ‪ :‬مثل الجبلين العظيمين"‪،‬‬
‫أحد"‪.‬‬
‫واجب‪ ،‬ومنو ما يكوف سنة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ىذا الحديث ورد في بياف أجر من اتب الجنازة‪ ،‬وشهود الجنازة على نوعين؛ منو ما ىو‬
‫والنبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬حق المسلم على المسلم ست" وذكر منها اتباع جنازتو‪ ،‬فالواجب في اتباع الجنازة أف يقاـ بتغسيلو‬
‫ٍ‬
‫شخص واحد ىذا ىو الواجب‪ ،‬وأف يحسن دفنو‪ ،‬فهذا ىو الحد الواجب‪ ،‬وما زاد على ذلك فهو سنة‪.‬‬ ‫والصالة عليو‪ ،‬ولو من‬
‫فقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬من شهد الجنازة حتى يصلى عليها"‪.‬‬
‫الروايات قاؿ‪" :‬من شهد جنازة عند أىلها" فهنا يكوف الحضور ليس إلى المسجد؛ بل يكوف الحضور قبل ذلك عند أىلها؛ وذلك‬ ‫في بع‬
‫لمواساتهم وتعزيتهم‪ ،‬وللمشاركة في تجهيز الجنازة‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬فلو قيراط‪ ،‬قاؿ‪ :‬ومن شهدىا حتى تدفن فلو قيراطاف"‪.‬‬
‫أي أنو من حضرىا من عند أىلها حتى الصالة فلو قيراط‪ ،‬وإذا تاب من بعد الصالة حتى الدفن فلو قيراطاف‪ ،‬لكن فضل اهلل عز وجل واس لمن‬
‫ضا إف شاء اهلل تبارؾ وتعالى‬
‫لم يتمكن من حضورىا من عند أىلها‪ ،‬وحضرىا في المسجد فقط إلى أف تدفن‪ ،‬فلعلو يدخل في القيراط األوؿ أي ً‬
‫بفضل من اهلل عز وجل ورحمة‪.‬‬
‫(والقيراط)‪ :‬في لغة العرب قيل‪ :‬ىو نصف الدانق‪ ،‬والدانق سدس الدرىم‪ ،‬فيكوف القيراط جزءٌ من اثني عشر جزءًا من الدرىم‪ ،‬أي ما يقارب‬
‫رب جراـ من الفضة يعني شيء قليل‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬فمن شهدىا من أولها إلى أف تدفن‪ ،‬فلو مثل نصف جراـ فضة‪ ،‬لكن لما سئل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قيل يا رسوؿ اهلل‪ :‬وما‬
‫القيراطاف؟ قاؿ‪ :‬مثل الجبلين العظيمين‪ ،‬ولإلماـ مسلم قاؿ‪" :‬أصغرىما مثل جبل أحد"‪.‬‬

‫والسؤاؿ ىنا لماذا عبر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بالقيراط‪ ،‬وىو الشيء اليسير في لغة العرب على أم ٍر عظيم‪ ،‬أال وىو الجبل جبل أحد؟ ما‬
‫السر في ذلك؟‬
‫وقفت على كالـ البن القيم عليو رحمة اهلل فقد أشكل علي ىذا الشيء لماذا لم يقل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ابتداءً كاف لو جبالف عظيماف‬
‫مثال من الخير؟ لماذا عبر بالشيء الحقير ولم يبين عظمو إال لما سئل؟‬
‫ً‬
‫قاؿ ابن القيم عليو رحمة اهلل‪" :‬أراد أف يبين أف من شهدىا بالصالة وبالدفن فقط‪ ،‬فإنما لو ىذا األجر من أجر من غسل‪ ،‬وشارؾ في الدفن‪،‬‬
‫وقاـ بالحمل وسائر األمور األخرى‪ ،‬وىذا من باب اإليماء إلى أف أجر المغسل‪ ،‬وأجر من قاـ بالحمل‪ ،‬وأجر من قاـ بالدفن‪ ،‬وحفر القبر فلهم‬
‫كامال‪ ،‬ومن قاـ بهذين الفعلين فقط من الصالة عليها‪ ،‬وشهود الدفن فقط‪ ،‬فلو سدس أجر من قاـ بهذه األعماؿ كلها‪ ،‬نعم ىذا كالـ ابن‬
‫األجر ً‬
‫القيم عليو رحمة اهلل‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬فضيلة اتباع الجنازة‪ ،‬والصالة عليها ودفنها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف الجزاء بقدر العمل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬كرامة المسلم على اهلل عز وجل‪ ،‬حيث أثاب من اتب جنازتو‪ ،‬وصلى عليها ودفنها بهذا األجر العظيم‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف عليو رحمة اهلل إلى ٍ‬


‫كتاب آخر قاؿ‪( :‬كتاب الزكاة)‬
‫(والزكاة) في اللغة‪ :‬ىي النماء والزيادة‪ ،‬ويطلق عليها التطهير‪.‬‬
‫وقت مخصوص‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫لطائفة مخصوصة‪ ،‬في ٍ‬ ‫ماؿ مخصوص‪،‬‬ ‫واجب في ٍ‬ ‫(وفي الشرع)‪ :‬ىي ح ٌق‬
‫ٌ‬
‫الماؿ المخصوص‪ :‬ىو الماؿ الذي بلغ النصاب‪ ،‬والطائفة المخصوصة‪ :‬ىم الذين ذكروا في اآلية في سورة التوبة‪.‬‬
‫ين َوفِي َسبِ ِ‬
‫يل اللَّ ِو َوابْ ِن ا َّ‬
‫لسبِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين َعلَْيػ َها َوال ُْم َؤلََّف ِة قُػلُوبُػ ُه ْم َوفِي ال ْرقَ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ات لِلْ ُف َقر ِاء والْم ِ‬ ‫{إِنَّ َما َّ‬
‫يل‬ ‫اب َوالْغَا ِرم َ‬ ‫ساكي ِن َوال َْعامل َ‬
‫الص َدقَ ُ َ َ َ َ‬

‫‪138‬‬
‫ىؤالء الذين ذكروا في اآلية التي ىي الطائفة المخصوصة‪.‬‬
‫ووقت مخصوص)‪ .‬يعني ىو مرور الحوؿ‪ ،‬أف يمر الحوؿ على الماؿ‪.‬‬
‫قاؿ‪ٌ ( :‬‬
‫الزكاة لوجوبها شروط‪ ،‬ىذه الشروط‪:‬‬
‫‪ -‬أولها‪ :‬اإلسالـ فإنها ال تجب على الكافر‪ ،‬وإف كاف مطالبًا بفروع الشريعة‪ ،‬إذف اإلسالـ أوؿ شرط من شروط وجوب الزكاة‪.‬‬
‫‪ -‬الشرط الثاني‪ :‬بلوغ النصاب‪.‬‬
‫‪ -‬الشرط الثالث‪ :‬تماـ الملك إال في أربعة أمواؿ‪.‬‬
‫‪ -‬الشرط الراب ‪ :‬ىو مرور الحوؿ‪.‬‬
‫اإلسالـ‪ ،‬بلوغ النصاب‪ ،‬تماـ الملك‪ ،‬مرور الحوؿ‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف ىنا حديث عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما قاؿ‪" :‬قاؿ رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) لمعاذ بن جبل حين بعثو إلى‬
‫قوما أىل ٍ‬
‫كتاب‪ ،‬فإذا جئتهم فادعهم إلى أف يشهدوا أف ال إلو إال اهلل‪ ،‬وأف محم ًدا رسوؿ اهلل‪ ،‬فإف ىم أطاعوا لك بذلك‪،‬‬ ‫اليمن‪ :‬إنك ستأتي ً‬
‫يوـ وليلة‪ ،‬فإف ىم أطاعوا لك بذلك‪ ،‬فأخبرىم أف اهلل قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من‬ ‫صلوات في كل ٍ‬
‫ٍ‬ ‫فأخبرىم أف اهلل قد فرض عليهم خمس‬
‫أغنيائهم‪ ،‬فترد على فقرائهم‪ ،‬فإف ىم أطاعوا لك بذلك‪ ،‬فإياؾ وكرائم أموالهم‪ ،‬واتق دعوة المظلوـ‪ ،‬فإنو ليس بينها وبين اهلل حجاب"‪.‬‬

‫في ىذا الحديث يروي عبد اهلل بن عباس (رضي اهلل عنو) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ لمعاذ بن جبل‪.‬‬
‫وبدرا بعثو النبي (صلى اهلل‬
‫وعبد اهلل بن عباس ىو حبر األمة وترجماف القرآف‪ ،‬ومعاذ بن جبل ىو معاذ بن جبل األنصاري الخزاعي‪ ،‬شهد العقبة ً‬
‫قوما أىل كتاب"‪.‬‬
‫ومعلما وقاضيًا‪ ،‬فقاؿ لو النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إنك ستأتي ً‬
‫ً‬ ‫عليو وسلم) لليمن‪ ،‬داعيًا‬
‫والمعنى ىنا أي عندىم من العلم والحجج‪.‬‬
‫فإذا جئتهم فادعهم إلى عبادة اهلل وحده واإليماف برسولو صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وىذا ىو األصل الذي يرد إليو‪ ،‬وىو إقرارىم بأنو ال معبود ٍ‬
‫بحق‬
‫إال اهلل‪ ،‬وال يستحق العبادة غيره‪.‬‬
‫ورسوال‪.‬‬
‫ً‬ ‫والزـ ىذا اإلقرار أف تشهد أف اهلل عز وجل قد بعث محم ًدا (صلى اهلل عليو وسلم) نبيًا‬
‫أصل وىو اإلسالـ‪ ،‬فإف ىم أطاعوا لذلك وأسلموا‪ ،‬واإلسالـ ىو االستسالـ‪ ،‬واالنقياد والطاعة هلل عز وجل‪.‬‬ ‫فهذا أوؿ ٍ‬
‫ٍ‬
‫صلوات المعروفة الفريضة‪.‬‬ ‫صلوات‪ ،‬وىي الخمس‬‫ٍ‬ ‫فإف ىم أطاعوا لذلك وانقادوا لذلك‪ ،‬فأخبرىم أف اهلل عز وجل افترض عليهم خمس‬
‫قد ال تفقو العقوؿ وال تتصور وال تستنبط ما ىي ىذه الصلوات؟‬
‫قوما أىل كتاب ال يعلموف شيئًا عن اإلسالـ‪ ،‬فقد ال يتصوروف ىذه الصلوات‪ ،‬لكن من الزـ إسالمهم طاعتهم هلل عز وجل‪ ،‬ومن‬ ‫ألنو أتى ً‬
‫طاعتهم أف يسلموا ألمر اهلل عز وجل‪ ،‬فيقروا بالصالة حتى ولو لم يعلموا كيفيتها‪ ،‬وال الفائدة المترتبة عليها‪.‬‬
‫دليل على صدؽ إيماف صاحبها‪.‬‬
‫وكذلك الصدقة وسميت صدقة؛ ألنها ٌ‬
‫وبين أنها تؤخذ من أغنيائهم‪ ،‬وترد على فقرائهم‪.‬‬
‫وقد استدؿ الحنابلة بهذه اللفظة على عدـ جواز نقل الزكاة من ٍ‬
‫مكاف الى آخر مسافة قص ٍر‪.‬‬

‫ثم قاؿ‪( :‬واتق كرائم أموالهم)‪ :‬أي احذر أفضل األمواؿ‪ ،‬فالجابي الذي ىو يحصل الزكاة يأخذ من أوسط الماؿ وليس من أفضلو‪.‬‬
‫إلما ألصحاب األمواؿ‪ ،‬وكذلك من الظلم أف يأخذ‬
‫ثم حذره من الظلم‪ ،‬ودعوة المظلوـ‪ ،‬وإف من الظلم ىنا أف يأخذ من أفضل الماؿ؛ ألف فيو ً‬
‫إلم للفقراء‪.‬‬
‫ضا فيو ٌ‬
‫من أدنى الماؿ‪ ،‬الماؿ القليل أو الرديء؛ ألنو أي ً‬
‫وحاكم عليهم أف يظلمهم‪ ،‬ألف دعوة المظلوـ ال يمنعها من دوف‬
‫ٌ‬ ‫فحذره النبي (صلى اهلل عليو وسلم) من الظلم‪ ،‬واستغالؿ نفوذه كجابي للزكاة‪،‬‬
‫اهلل عز وجل مان ‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬جواز إرساؿ الدعاة للدعوة إلى اإلسالـ‪ ،‬وتبصيرىم بحاؿ المدعوين‪.‬‬
‫علم وشبو ومثل ىذا‪.‬‬
‫كما قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إنك ستأتي قوـ أىل الكتاب"‪ ،‬أي عندىم ٌ‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز االستعداد بالحجج والعلم؛ لمجادلة أعداء الدين ورد شبههم‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬االبتداء في الدعوة باألىم فاألىم‪ ،‬قاؿ‪ :‬ادعهم إلى عبادة اهلل فإف ىم أطاعوا لذلك فأخبرىم كذا‪ ،‬فإف ىم أطاعوا‬
‫لذلك فأخبرىم كذا‪ ،‬إذف االبتداء في الدعوة باألىم فاألىم‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬أف األساس الذي ال تصح الدعوة بدونو‪ ،‬ىو توحيد اهلل عز وجل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬فرضية الصلوات الخمس‪ ،‬وأنها ىي المرتبة الثانية بعد توحيد اهلل عز وجل‪ ،‬وىي أوكد العبادات البدنية‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬كذلك فرضية الزكاة‪ ،‬وقد جاءت في المرتبة الثالثة بعد التوحيد وبعد الصالة‪ ،‬وىي كذلك أوكد العبادات المالية‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬أف الحكمة من الزكاة ىي سد حاجة الفقراء‪ ،‬تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬جواز صرؼ الزكاة إلى ٍ‬
‫صنف واحد من األصناؼ الثمانية‪ ،‬قاؿ‪" :‬وترد على فقرائهم"‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬مشروعية صرؼ الزكاة في المكاف الذي وجبت فيو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬أف الداعي ال ينتقل من دعوةٍ إلى أخرى حتى يطاع في التي قبلها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الحادية عشرة‪ :‬قاؿ في فرضية الصلوات ىنا أف اهلل افترض عليهم خمس صلوات‪ ،‬ىذا يدؿ على عدـ وجوب صالة الوتر؛‬
‫ذلك ألنها متكررة في اليوـ والليلة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية عشرة‪ :‬أنو ال يحل للساعي الذي يجم أمواؿ الزكاة أف يأخذ أفضل األمواؿ‪ ،‬بل يأخذ من أوسطها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة عشرة‪ :‬تحذير الساعي أال يستخدـ سلطانو في إلم الناس‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة عشرة‪ :‬أنو ال يحل للساعي أف يأخذ نقائص األمواؿ؛ ألنو بذلك يظلم الفقراء‪ ،‬كما أنو ال يجوز أف يأخذ من كرائم‬
‫األمواؿ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة عشرة‪ :‬من كماؿ عدؿ اهلل عز وجل استجابتو لدعوة المظلوـ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة عشرة‪ :‬إثبات العلم والسم والقدرة هلل تبارؾ وتعالى؛ ألف ذلك من لوازـ استجابة الدعاء‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة عشرة‪ :‬إثبات حكمة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) في إرشاد الدعاة عند توجيههم‪.‬‬
‫أىال لدعوة أىل اليمن‪ ،‬ولهذه المهمة العظيمة التي كلفو النبي‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة عشرة‪ :‬بياف فضل معاذ بن جبل رضي اهلل عنو؛ حيث كاف ً‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) بها‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة األخيرة‪ :‬ىي بياف حجية قبوؿ خبر اآلحاد خبر الواحد‪.‬‬

‫ثم ذكر حديث أبي ٍ‬


‫سعيد الخدري (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ليس فيما دوف خمس ٍ‬
‫أواؽ صدقة‪ ،‬وال في ما‬
‫دوف خمس ٍ‬
‫زود صدقة‪ ،‬وال فيما دوف خمسة ٍ‬
‫أوسق صدقة"‪.‬‬
‫‪ -‬الزكاة ال تجب إال على الغني الذي يحتمل مالو أف تؤخذ منو الزكاة؛ لذلك جعل الشرع ح ًدا لهذا الماؿ حتى يؤخذ منو ىذه الزكاة‪.‬‬
‫‪ -‬ىذا الحد سماه أىل العلم بالنصاب‪ ،‬والنصاب ىو المقدار الذي إذا بلغو الماؿ أخذت منو الزكاة‪ ،‬باإلضافة إلى الشروط األخرى من‬
‫اإلسالـ‪ ،‬وتماـ الملك‪ ،‬ومرور الحوؿ‪.‬‬
‫أنواع من الماؿ وىي الفضة واإلبل والزروع‪.‬‬
‫فبين ىنا في ىذا الحديث ثالثة ٍ‬
‫بين ىذه الثال ثة التي تؤخذ منها األمواؿ الفضة واإلبل والزروع‪ ،‬وبين كذلك النصاب الذي إذا بلغو الماؿ تخرج فيو الزكاة‪ ،‬بمعنى أف ىذا أقل‬
‫قدر تخرج فيو الزكاة إذا بلغ الماؿ ىذا النصاب‪.‬‬
‫درىما‪ ،‬والدرىم ما يساوي ثالث جرامات‬ ‫ٍ‬
‫‪ -‬فقاؿ‪" :‬ليس فيو ما دوف خمس أواؽ صدقة"‪( :‬واألوقية)‪ :‬ىي أوقية الفضة‪ ،‬وىي تساوي أربعين ً‬
‫بالتقريب‪ ،‬أو تحدي ًدا ىو جراماف وتسعمائة وخمسة وسبعوف من األلف من الجراـ‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫درىما يساوي مئتي درىم‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ىذه القيمة إذا حسبناىا تكوف خمس أواؽ في أربعين ً‬
‫نضربهم في قيمة الدرىم التي ىي تقريبًا الثالث جرامات‪ ،‬أو بالتحديد اثنين وتسعمائة وخمسة وسبعين من األلف‪ ،‬فيساوي عندنا خمسمائة‬
‫وخمسة وتسعوف جر ًاما من الفضة‪.‬‬
‫فإذا بلغ مقدار الفضة ىذا النصاب وجبت فيو الزكاة‪ ،‬وإذا كاف مقدار الفضة أقل من ىذا فال تجب فيو الزكاة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫خمس من اإلبل صدقة‪،‬‬ ‫ثم قاؿ‪" :‬وال فيما دوف خمس ٍ‬
‫زود صدقة"‪( :‬والزود)‪ :‬ىي اإلبل وتطلق على الثالثة إلى العشرة‪ ،‬فقاؿ ليس فيما دوف‬
‫يعني إذا كاف اإلبل أقل من خمسة فليس فيها صدقة‪.‬‬
‫صاعا‪ ،‬والصاع أربعة أمداد بكف الرجل المعتدؿ‪.‬‬ ‫"وال فيما دوف خمسة ٍ‬
‫أوسق صدقة"‪ ،‬ىنا يبين نصاب الزرع‪( ،‬والوسق) ستوف ً‬
‫اختلف العلماء في تقدير الصاع‪ ،‬فقدر ما بين االثنين كيلو‪ ،‬والثالثة كيلو جرامات‪.‬‬
‫مثال إلى ثالثة كيلو جرامات‪.‬‬
‫يعني تقريبًا اثنين كيلو جراـ وأربعمائة ً‬
‫فإذا حسبناىا تقريبًا نقوؿ‪ :‬الخمسة أوسق نضربها في الستين صاع‪ ،‬فتساوي ثالثمائة‪ ،‬نضربها في مقدار الصاع‪ ،‬فتقريبًا ما بين الستمائة‬
‫قمحا أو ما شابو ذلك‪.‬‬
‫أرزا أو ً‬
‫وخمسين كيلو جراـ إلى سبعمائة كيلو جراـ من الحبوب‪ ،‬سواء كاف ً‬
‫فإذا كاف المقدار أقل من ىذا في ىذه األمواؿ‪ ،‬أو في ىذه الزروع فال تجب فيو الصدقة‪ ،‬وإذا بلغ ىذا المقدار فإنو تجب فيو الزكاة‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬وجوب الزكاة في الفضة واإلبل والحبوب إذا بلغت النصاب‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أنو ال زكاة فيما دوف النصاب؛ لقوؿ النبي‪" :‬ليس فيو ماء دوف خمس ٍ‬
‫أوسق صدقة"‪.‬‬

‫نكتفي بهذا القدر‪ ،‬ونأخذ أسئلة على ما سبق‪.‬‬

‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬لماذا أمر النبي صلى اهلل عليو وسلم بعدـ تغطية وجو وتحنيط الرجل الذي وقصتو دابتو؟‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما المقصود بالكفن؟ وىل كفن الرجل مثل كفن المرأة؟ وىل يجوز التكفين في ٍ‬
‫ثوب واحد؟‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬لماذا نهيت النساء عن اتباع الجنائز‪ ،‬وما المقصود باتباعهن الجنائز؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬ما المقصود بقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أسرعوا بالجنازة"؟‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬ما الحكمة في وقوؼ اإلماـ عند وسط المرأة إذا صلى عليها الجنازة؟‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬ما معنى الصالقة‪ ،‬والحالقة‪ ،‬والشاقة‪ ،‬وما معنى لطم الخدود‪ ،‬ودعوى الجاىلية؟‬
‫السؤاؿ السا ب ‪ :‬ىل يجوز بناء المساجد على القبور؟ واذكر السببين الذين بسببهما قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم ىذه‬
‫اللفظة‪" :‬أولئك شرار الخلق عند اهلل‪.‬‬
‫السؤاؿ الثامن‪ :‬ما ىو األجر الذي يحصل عليو من اتب الجنازة؟ وما ىو القيراط؟ ولماذا عبر النبي صلى اهلل عليو وسلم بو؟‬
‫وشرعا‪ ،‬واذكر األنصبة التي تجب فيها الزكاة في ٍ‬
‫كل من‪( :‬الفضة‪ ،‬واإلبل‪ ،‬والزروع)‪.‬‬ ‫السؤاؿ التاس ‪ :‬عرؼ الزكاة لغةً ً‬
‫السؤاؿ العاشر واألخير‪ :‬اذكر الفوائد المستنبطة من األحاديث التي وردت معنا اليوـ‪.‬‬

‫ىذا وصلى اهلل وسلم وبارؾ على نبينا محمد وعلى آلو وصحبو أجمعين‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بإحساف إلى يوـ الدين‪.‬‬ ‫وعلى التابعين وتابعيهم‬
‫والسالـ عليكم ورحمة اهلل وبركاتو‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫المحاض ػػرة السادسػػة عشػػرة‬
‫موصوال في (كتاب الزكاة)‬
‫ً‬ ‫ال يزاؿ الحديث‬
‫وكنا قد وقفنا عند‪ :‬حديث أبي ىريرة رضي اهلل عنو‪ ،‬وفيو أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬ليس على المسلم في عبده وال فرسو‬
‫صدقة"‪ ،‬قاؿ‪ :‬وفي ٍ‬
‫لفظ‪" :‬إال زكاة الفطر في الرقيق"‪.‬‬
‫لقد أوجب اهلل عز وجل الزكاة في أمواؿ األغنياء إلعطاء الفقراء‪ ،‬وخص من ىذه األمواؿ األمواؿ المعدة للنماء‪ ،‬أما األمواؿ التي ال تنمو فهذه‬
‫خيل أو ٍ‬
‫رقيق صدقة أي‬ ‫ال يكوف فيها الزكاة‪ ،‬وىنا في ىذا الحديث بين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو ليس على المسلم فيما يستخدمو من ٍ‬
‫زكاة؛ ذلك ألنو اختصو لنفسو وليس للنماء‪.‬‬
‫لكن استثنى ىنا زكاة الفطر؛ ذلك ألف زكاة الفطر متعلقةٌ باألبداف‪.‬‬
‫والزكاة نوعاف‪ :‬زكاة ٍ‬
‫أمواؿ‪ ،‬وزكاة أبداف‪.‬‬
‫وزكاة الفطر من زكاة األبداف‪ ،‬فهنا يخرج اإلنساف عن نفسو‪ ،‬وعن زوجو‪ ،‬وعن رقيقو‪.‬‬
‫فزكاتو (أي زكاة الماؿ) ال تجب عليو في عبده م أنو ماؿ عنده؛ ألنو ٌ‬
‫ماؿ مع ٌد للقنية‪ ،‬ماؿ معد لالقتناء من المقتنيات‪،‬‬
‫لكن تجب زكاة الفطر عليو؛ ألنو بدف من األبداف‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬عدـ وجوب الزكاة فيما اختصو المسلم لنفسو من ٍ‬
‫رقيق أو ٍ‬
‫خيل‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬إذا كاف الرقيق والخيل معدَّين للتجارة‪ ،‬فتجب الزكاة فيهما‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬وجوب زكاة الفطر على الرقيق‪ ،‬وإف لم يكن للتجارة‪ ،‬كما ذكرنا أنها زكاة أبداف‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬حكمة التشري وسهولتو‪ ،‬وما فيو من مصالح المسلمين‪.‬‬

‫جبار‪ ،‬وفي‬
‫جبار‪ ،‬والمعدف ٌ‬
‫جبار‪ ،‬والبئر ٌ‬
‫ثم ذكر حديثًا آخر‪ :‬عن أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬العجماء ٌ‬
‫الركاز الخمس"‪.‬‬
‫الجبار‪ :‬الهدر الذي ال شيء فيو‪ ،‬والعجماء‪ :‬الدابة‪.‬‬
‫يخبر ىنا في الحديث عن حكم ضماف التلف‪ ،‬أو الضرر الذي يحدث بفعل البهيمة التي ىي العجماء‪ ،‬العجماء ىي البهيمة؛ وسميت بذلك‬
‫ألنها ال تتكلم‪.‬‬
‫بئرا فسقط البئر عليو‪ ،‬أو سقط ىو في البئر فمات فيو‪ ،‬أو‬
‫فالتلف أو الضرر الذي يحدث بفعل البهيمة‪ ،‬أو بفعل نزوؿ البئر‪ :‬إنساف نزؿ ً‬
‫المعدف‪ :‬نزوؿ المكاف الذي تستخرج منو المعادف‪.‬‬
‫فبين ىنا النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف التلف الحاصل بفعل البهيمة‪ ،‬ال ضماف فيو على أحد‪ ،‬إال إذا فرط صاحب البهيمة‪.‬‬
‫وطبعا وردت أحاديث أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ إف على أىل الماشية حفظها بالليل‪ ،‬وعلى أصحاب األرض حفظها بالنهار‪.‬‬
‫ً‬
‫أرضا؛ فإف صاحبها يضمن‪.‬‬ ‫فإذا فرط صاحب البهيمة فلم يمسكها بالليل فخرجت فأتلفت ً‬
‫يط من صاحبها‪ ،‬فهنا ال يضمن؛ ألف على أىل األرض حفظها بالنهار‪.‬‬ ‫أرض وأتلفت ما فيها دوف تفر ٍ‬
‫أما إذا كانت بالنهار‪ ،‬فدخلت في ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وكذلك إذا نزؿ إنسا ٌف في بئ ٍر‪ ،‬أو في معدف‪ ،‬وىو المكاف الذي تستخرج منو المعادف والكنوز ومثل ىذا‪ ،‬فهلك فهنا ال ضماف على أحد سواءً‬
‫مثال‪ ،‬ما لم يحدث اعتداء وال تفريط منو‪.‬‬‫كاف مال ًكا لها (مال ًكا للبهيمة) أـ قائ ًدا للبهيمة ً‬
‫ثم ذكر بعد ذلك قاؿ‪" :‬وفي الركاز الخمس"‪.‬‬
‫كثيرا‬
‫قليال أـ ً‬
‫كنزا سواءً كاف ً‬
‫والركاز ىو‪ :‬الكنز الذي ىو كنز الجاىلية ليس عليو ملك ألحد‪ ،‬فبين النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف من وجد ً‬
‫فهو ركاز‪ ،‬وقاؿ‪ :‬فيو الخمس؛ ذلك ألنو حصلو بال ٍ‬
‫كلفة منو وال ٍ‬
‫تعب‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫الفوائد المستنبطة من الحديث‪:‬‬
‫أىال للتضمين‪ ،‬إال أف يكوف حصل من مالكها اعتداء أو تفريط كما ذكرنا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف جناية البهيمة ىدر؛ ذلك ألنها ليست ً‬
‫تلف حصل بسبب البئر أو المعدف‪ ،‬فال ضماف فيو على أحد إال أف يحصل منو ٍ‬
‫تعد أو تفريط‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف كل ٍ‬
‫ملك لواجده‪ ،‬وال يلزمو تعريفو بخالؼ اللقطة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف الركاز ٌ‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬وجوب إخراج الخمس من الركاز فور وجوده‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف حديثًا آخر عن أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬بعث رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) عمر على الصدقة فقيل‪ :‬من ابن‬
‫فقيرا‬ ‫جميل‪ ،‬وخالد بن الوليد‪ ،‬والعباس عم النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬ما ينقم ابن ٍ‬
‫جميل إال أف كاف ً‬ ‫ٍ‬
‫فأغناه اهلل تعالى‪ ،‬وأما خال ٌد فإنكم تظلموف خال ًدا‪ ،‬فقد احتبس أدراعو وأعتاده في سبيل اهلل‪ ،‬وأما العباس فهي علي ومثلها‪ ،‬ثم قاؿ‪ :‬يا عمر أما‬
‫شعرت أف عم الرجل صنو أبيو"‪.‬‬

‫قاؿ‪ :‬بعث النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عمر بن الخطاب (رضي اهلل عنو) على الصدقة‪ ،‬ىنا يبين أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يرسل‬
‫السعاة لجم الزكوات من أصحاب األمواؿ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جميل نُسب إلى أبيو ولم يعرؼ‬ ‫يوما عمر بن الخطاب (رضي اهلل عنو) فامتن عن التسليم لو ثالثة رجاؿ‪ :‬كاف منهم ابن جميل‪ ،‬وابن‬ ‫فبعث ً‬
‫اسمو‪ ،‬إال أنو قيل‪ :‬اسمو عبد اهلل‪ ،‬وقيل‪ :‬إف اسمو حمي ًدا‪ .‬وقد ذكر بع أىل العلم (أإنو المهلب)‪ :‬أنو كاف مناف ًقا ثم تاب بعد ذلك‪.‬‬
‫عذر في ذلك‬ ‫جميل‪ ،‬فأنكر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) على ابن ٍ‬
‫جميل امتناعو‪ ،‬وأنو ليس لو ٌ‬ ‫فشكا عمر إلى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ابن ٍ‬
‫ذـ من باب التأديب البن جميل والزجر لو؛ ذلك ألف اإلنساف يجب عليو‬‫فقيرا‪ ،‬فأغناه اهلل تبارؾ وتعالى‪ ،‬وىذا ليس بعذر إنما ىذا ٌ‬
‫إال أنو كاف ً‬
‫ٍ‬
‫وضعف من قوة‪ ،‬فقواه اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫ماؿ‪ ،‬فأغناه اهلل عز وجل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ضعف من ٍ‬ ‫أف ينظر في حالو األولى عندما كاف في‬
‫وكذلك شكا عمر إلى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) خال ًدا‪ ،‬فداف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عن ٍ‬
‫خالد وقاؿ‪ :‬إنكم تظلموف خال ًدا؛ إلنو‬
‫احتبس أدراعو‪ ،‬والدرع ىو ما يلبس على الصدر التقاء السهاـ والضربات في الحرب‪.‬‬
‫قاؿ‪" :‬احتبس أدراعو وأعتاده"‪( :‬واألعتاد)‪ :‬ىي ما يعد للحرب من العتاد والسالح‪.‬‬
‫متطوعا‪ ،‬والمتطوع بالماؿ ال يمتن من أداء‬
‫ً‬ ‫فقاؿ‪ :‬فإنو احتبسها في سبيل اهلل‪ ،‬فهنا إما أف يكوف فعل ذلك من باب أداء الزكاة‪ ،‬وإما أف يكوف‬
‫الواجب عليو‪.‬‬
‫وشكا عمر كذلك العباس عم النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فقاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ىي علي ومثلها"‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في تفسير ىذه اللفظة (ىي علي ومثلها)‪.‬‬
‫‪ -‬فمنهم من قاؿ‪ :‬إف ىذا من باب اإلخبار من النبي (صلى اهلل عليو وسلم) عن ٍ‬
‫شيء سابق وىو أف العباس قد أعطى النبي (صلى اهلل‬
‫عليو وسلم) الزكاة ومثلها‪ ،‬أي عجل زكاة سنتين‪ ،‬وقد وردت أحاديث تدؿ على أف العباس قدـ زكاة سنتين‪.‬‬
‫أىل العلم من قاؿ‪ :‬إف ىذا من باب االلتزاـ‪ ،‬فكاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) يقوؿ‪ :‬أما صدقة عمي فأنا ألتزـ بها ومثلها‬ ‫‪ -‬وبع‬
‫معها‪.‬‬
‫‪ -‬والتفسير األوؿ أقرب؛ ذلك ألف االلتزاـ ال يكوف إال بالواجب‪ ،‬يعني‪ :‬إذا كانت حلت زكاة ىذه السنة فهي واجبة‪ ،‬أما مثلها ٍ‬
‫لسنة‬
‫أخرى فهي ليست واجبة‪ ،‬فااللتزاـ ال يكوف بغير الواجب‪.‬‬

‫ثم قاؿ‪" :‬يا عمر أما شعرت أف عم الرجل صنو أبيو؟" (والصنو)‪ :‬من الصنواف وىما النخلتاف اللتاف تنبتاف من ٍ‬
‫أصل واحد‪.‬‬
‫تعليل لكلمة "ىي علي ومثلها"‪ :‬أي أف مالي وماؿ عمي‬
‫فهنا يقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬إف عم الرجل صنو أبيو‪ ،‬أي مثل أبيو‪ ،‬فكأف ىذا ٌ‬
‫شيءٌ واحد‪ ،‬كما أف مالي وماؿ أبي شيءٌ واحد؛ فما كاف على عمي فإنو علي‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫الفوائد المستنبطة من الحديث‪:‬‬
‫الزكاة من أصحاب األمواؿ‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬مشروعية بعث اإلماـ السعاة؛ لقب‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬فضل عمر بن الخطاب (رضي اهلل عنو) حيث كاف موض ثقة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز شكاية من امتن من دف الزكاة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬جواز توبيخ الممتن من أداء الواجبات بال عذر‪.‬‬
‫مظلوما"‪.‬‬
‫ً‬ ‫إالما أو‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬مشروعية الدفاع عن المظلوـ؛ قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬انصر أخاؾ ً‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬بياف فضيلة خالد بن الوليد (رضي اهلل عنو)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬بياف جواز تحمل الزكاة عن الغير‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬تعظيم حق العم؛ لكونو صنو األب‪ ،‬يعني‪ :‬مثل األب‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬كماؿ صلة النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ألقاربو‪ ،‬وكرمو في التحمل عنهم‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬بياف أف األشياء الموقوفة في سبيل اهلل عز وجل ليس عليها زكاة؛ إنما الزكاة تكوف في ريعها إذا مر عليو الحوؿ‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف عليو رحمة اهلل حديث عبد اهلل بن زيد بن عاصم المازني (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬لما أفاء اهلل على نبيو يوـ حني ٍن قسم في‬
‫الناس‪ ،‬وفي المؤلفة قلوبهم‪ ،‬ولم يعط األنصار شيئًا‪ ،‬فكأنهم وجدوا في أنفسهم إذ لم يصبهم ما أصاب الناس‪ ،‬فخطبهم فقاؿ‪ :‬يا معشر األنصار‬
‫أمن‪.‬‬
‫ضالال فهداكم اهلل بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم اهلل بي؟ وعالةً فأغناكم اهلل بي؟ كلما قاؿ شيئًا قالوا‪ :‬اهلل ورسولو ُّ‬
‫ألم أجدكم ً‬
‫أمن‪ ،‬قاؿ‪ :‬لو شئتم لقلتم‪ :‬جئتنا كذا وكذا‪ ،‬أال ترضوف أف يذىب‬
‫قاؿ‪ :‬ما يمنعكم أف تجيبوا رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم؟ قالوا‪ :‬اهلل ورسولو ُّ‬
‫الناس بالشاة والبعير‪ ،‬وتذىبوف بالنبي إلى رحالكم؟ لوال الهجرة لكنت امرأً من األنصار‪ ،‬ولو سلك الناس واديًا وشعبًا لسلكت وادي األنصار‬
‫شعار والناس دثار‪ ،‬إنكم ستلقوف بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"‪.‬‬
‫وشعبها‪ ،‬األنصار ٌ‬

‫ىذا الحديث يقيم فيو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) موازنةً ألصحابو بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬فبين لهم أف من فاتتو الدنيا فلم يفتو شيء‪ ،‬وأف من‬
‫فاتتو اآلخرة فقد فاتو كل شيء‪.‬‬
‫فمن الناس من يفرحهم أمر الدنيا ويسوؤىم‪ ،‬أما المؤمن فال ينبغي لو ذلك‪ ،‬بل يكوف ىمو اآلخرة‪ ،‬فإف كاف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أعطى‬
‫فالنًا وفالنًا من الدنيا لتأليف القلوب‪ ،‬فقد وكل أصحاب اإليماف إليمانهم‪ ،‬فكفاىم أف يرجعوا برسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) إلى ديارىم‪،‬‬
‫وكفى بهذا‪.‬‬
‫ضالال فهداكم اهلل بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم اهلل بي؟ وكلما قاؿ‪ :‬شيئًا‬
‫فهنا قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬يا معشر األنصار ألم أجدكم ً‬
‫ومخذوال فنصرناؾ‪ ،‬وطري ًدا‬
‫ً‬ ‫أمن‪ .‬قاؿ‪ :‬ما يمنعكم أف تجيبوا؟ قاؿ‪ :‬لو شئتم لقلتم جئتنا كذا وكذا‪ :‬أي أتيتنا مكذبًا فصدقناؾ‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬اهلل ورسولو ّ‬
‫وفقيرا فواسيناؾ‪ ،‬لو شئتم لقلتم ىكذا‪.‬‬
‫فآويناؾ‪ً ،‬‬
‫ثم بين لهم‪ :‬أال ترضوف أف يذىب الناس بالشاة والبعير‪ ،‬وترجعوف أنتم بالنبي (صلى اهلل عليو وسلم) إلى رحالكم؟ فقاؿ‪ :‬لوال الهجرة لكنت امرأً‬
‫من األنصار‪ :‬أي الذي يمنعني أف أكوف منكم الهجرة‪ ،‬ولو سلك الناس واديا ِ‬
‫وشعبًا لسلكت وادي األنصار‪ ،‬وشعبها‪.‬‬ ‫ً‬
‫(األنصار شعار)‪ :‬والشعار ىو الثوب الذي يلي الجسد من اللباس‪ :‬أي ىو أقرب ٍ‬
‫شيء إلى الجسد‪ ،‬األنصار شعار يعني يبين النبي (صلى اهلل‬ ‫ٌ‬
‫عليو وسلم) مدى قرب األنصار للنبي (صلى اهلل عليو وسلم) وحبو لهم‪.‬‬
‫(والناس دثار)‪ :‬والدثار ىو الثوب البعيد عن الجسد‪ :‬أي غير الملتصق يعني ىم أقرب الناس إلى النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬إنكم ستلقوف بعدي أثرة)‪.‬‬
‫الناس يفضل نفسو على اآلخرين‪ ،‬فاصبروا حتى‬ ‫(واألثرة)‪ :‬ىي تفضيل النفس وتقديمها بالشيء دوف الغير‪ :‬أي ستجدوف أشياءً تنكرونها‪ ،‬وبع‬
‫تلقوني على الحوض‪ ،‬حوض النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف المؤمنين ىم أصحاب الحق في رزؽ اهلل تعالى‪ ،‬مما أفاء اهلل على النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬أو من الغنائم‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنيمة‪ ،‬بحسب رأي اإلماـ واجتهاده‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬جواز حرماف من ُوثِق بدينو إذا كاف في ىذا مصلحةٌ عامة‪ ،‬كما فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) م األنصار‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬مشروعية الموعظة والخطبة؛ لبياف ما أُشكل على الناس كما فعل النبي م األنصار لما وجدوا في أنفسهم‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬أنو ال لوـ على المرء في حزنو على ما حصل لو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬حسن رعاية النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ألصحابو‪ ،‬وحكمتو في معالجة األمور‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬تواض النبي (صلى اهلل عليو وسلم) واعترافو بالجميل‪.‬‬
‫يتخل عن وصف‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬بياف فضل األنصار‪ ،‬وبياف أف المهاجرين أفضل من األنصار؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لم َ‬
‫نفسو بالهجرة‪ ،‬م شدة محبتو لألنصار‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬إثبات البعث يوـ القيامة‪ ،‬وإثبات الحوض للنبي (صلى اهلل عليو وسلم) يوـ القيامة‪.‬‬

‫ثم انتقل المصنف عليو رحمة اهلل إلى ٍ‬


‫باب آخر قاؿ‪( :‬باب صدقة الفطر)‬
‫(وصدقة الفطر)‪ :‬سميت بصدقة الفطر من باب إضافة الشيء إلى وقتو‪.‬‬
‫كما يقاؿ‪ :‬صالة العصر‪ ،‬وصالة الفجر وىكذا‪.‬‬
‫وقد ذكرت أف الزكاة نوعاف‪ :‬زكاة ٍ‬
‫أمواؿ‪ ،‬وزكاة أبداف‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مملوؾ‪ ،‬وىي طهرةٌ للصائم من اللغو والرفث‪ ،‬وطعمةٌ للمساكين‪.‬‬ ‫وزكاة الفطر‪ :‬زكاة ٍ‬
‫بدف تُخرج عن كل كبي ٍر وصغي ٍر‪ ،‬ذك ٍر أو أنثى‪ ،‬ح ٍر أو‬
‫ذكر ىنا عن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما قاؿ‪" :‬فرض رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) صدقة الفطر‪ ،‬أو قاؿ‪ :‬صدقة رمضاف على الذكر‬
‫صاع من بُ ٍر على الصغير والكبير"‪.‬‬
‫صاعا من شعي ٍر‪ .‬قاؿ‪ :‬فعدؿ الناس بو نصف ٍ‬
‫صاعا من تم ٍر‪ ،‬أو ً‬
‫واألنثى‪ ،‬والحر والمملوؾ‪ً ،‬‬
‫وفي ٍ‬
‫لفظ "أف تؤدى قبل خروج الناس إلى الصالة"‪ ،‬ىنا بين في ىذا الحديث عمن تخرج زكاة الفطر من رمضاف‪.‬‬
‫صاعا من شعير عن كل ٍ‬
‫فرد‪.‬‬ ‫صاعا من تم ٍر‪ ،‬أو ً‬
‫وبين أنها على الذكر واألنثى‪ ،‬والحر والمملوؾ‪ ،‬وكذلك بين المقدار التي تخرج بو‪ ،‬فقاؿ‪ً :‬‬
‫(والصاع)‪ :‬أربعة أمداد‪.‬‬
‫صاع من ب ٍر على الصغير والكبير‪ :‬أي‬
‫قاؿ‪( :‬فعدؿ الناس)‪ :‬والمقصود بالناس ىنا معاوية (رضي اهلل عنو) لما كاف خليفة‪ ،‬فعدؿ الناس بو نصف ٍ‬
‫يعني لما كثر البر‪ ،‬وكاف أنفس منهما‪ ،‬من التمر والشعير‪ ،‬رأى معاوية (رضي اهلل عنو) أف نصف الصاع من البر‪ ،‬يعدؿ الصاع من التمر أو من‬
‫الشعير‪.‬‬
‫ثم بين بعد ذلك الوقت الذي تؤدى فيو‪ ،‬والمقصود من صدقة الفطر إغناء الفقراء عن السؤاؿ يوـ العيد‪ ،‬فلما كاف ىذا ىو المقصود‪ ،‬أمر النبي‬
‫(صلى اهلل عليو وسلم) بإخراجها قبل خروج الناس إلى صالة العيد‪ ،‬ىذا بخالؼ األضحية في عيد األضحى‪ ،‬فإنها تكوف بعد الصالة‪.‬‬

‫وزكاة الفطر لها ثالثة أوقات العلماء يقولوف‪:‬‬


‫‪ -‬وقت وجوب واستحباب‪ :‬وىو أف يكوف بعد صالة الفجر يوـ العيد‪ ،‬وقبل صالة العيد‪.‬‬
‫‪ -‬والوقت الثاني‪ :‬وقت جوا ٍز ورخصة قبل العيد بيوـ أو يومين‪.‬‬
‫وقد جاء في حديث ابن عمر "أف الفقراء كانوا يأتونو قبل العيد ٍ‬
‫بيوـ أو يومين‪ ،‬فيعطيهم الزكاة"‪.‬‬
‫تاما فإنو يكوف قبلها بيومين‪.‬‬
‫يوما‪ ،‬وإف كاف الشهر ً‬
‫ناقصا فيكوف ً‬
‫واليوـ واليومين ىذا يكوف بحسب اختالؼ الشهر‪ ،‬فإف كاف الشهر ً‬
‫سواء كاف ناسيًا أو‬ ‫ٍ‬
‫‪ -‬والوقت الثالث قالوا‪ :‬وقت قضاء وىو إذا صلى المرء صالة العيد ولم يكن قد أخرجها‪ ،‬فيجب عليو أف يخرجها ً‬
‫متعم ًدا‪ ،‬لكن ال شك أف المتعمد عليو إثم‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫وإف شئت فقل في ىذه األوقات‪:‬‬
‫‪ -‬األوؿ وقت جوا ٍز‪ :‬وىو قبل العيد ٍ‬
‫بيوـ أو يومين‪.‬‬
‫‪ -‬والوقت الثاني‪ :‬وقت وجوب وىو بعد غروب شمس آخر يوـ من رمضاف‪.‬‬
‫ضا‪ :‬وىو بعد الفجر يوـ العيد‪ ،‬وقبل صالة العيد‪.‬‬
‫‪ -‬ووقت أفضلية ووجوب أي ً‬

‫صاعا من تم ٍر‪،‬‬ ‫صاعا من ٍ‬


‫طعاـ‪ ،‬أو ً‬ ‫ثم ذكر حديث أبي ٍ‬
‫سعيد الخدري (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬كنا نعطيها في زماف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ً‬
‫صاعا من ٍ‬ ‫ٍ‬
‫زبيب‪ ،‬فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قاؿ‪ :‬أرى ُم ًدا من ىذا يعدؿ مدين‪ .‬قاؿ أبو سعيد‪:‬‬ ‫صاعا من شعي ٍر‪ ،‬أو ً‬
‫صاعا من أقط‪ ،‬أو ً‬ ‫أو ً‬
‫أما أنا فال أزاؿ أخرجو كما كنت أخرجو على عهد رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم"‪.‬‬
‫صاعا من طعاـ‪ ،‬وبين أنواع‬
‫ىنا بين أبو سعيد الخدري (رضي اهلل عنو) أف صدقة الفطر كانت تُخرج على عهد رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) ً‬
‫ٍ‬
‫صاعا من زبيب‪( ،‬واألقط)‪ :‬ىو اللبن المجفف‪.‬‬ ‫صاعا من تم ٍر‪ ،‬أو من شعي ٍر‪ ،‬أو ً‬
‫صاعا من أقط‪ ،‬أو ً‬ ‫الطعاـ الذي كانت تخرج منو‪ ،‬فقاؿ‪ً :‬‬
‫فلما قدـ معاوية (رضي اهلل عنو) إلى المدينة‪ ،‬وكاف خليفة المسلمين‪ .‬قاؿ‪ :‬أرى أف ُم ًدا من ىذا‪ :‬أي من (السمراء) وىي الحنطة أي البُر‪ ،‬يعدؿ‬
‫مدين من التمر‪ ،‬أو الشعير‪ ،‬لكن أبا سعيد (رضي اهلل عنو) لم يسلم بهذا؛ بل أنكر ىذا والتزـ أنو يخرجها كما كاف يخرجها على عهد النبي‬
‫اتباعا لفعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫صلى اهلل عليو وسلم؛ ً‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف زكاة الفطر واجبةٌ على كل ٍ‬
‫فرد من المسلمين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف مقدارىا صاعٌ من طعاـ‪ ،‬والطعاـ المقصود ىو قوت أىل البلدة‪.‬‬
‫صاع من كل األنواع‪ ،‬يعني حتى من البُر‪ ،‬خالفًا لمن قاؿ‪ :‬إف نصف الصاع‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬إاىر الحديث يبين أف األفضل إخراج ٍ‬
‫يجزئ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬وجوب إخراج زكاة الفطر قبل صالة العيد‪ ،‬واألفضل أف تكوف في صباح يوـ العيد‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬أف إخراج غير الطعاـ في زكاة الفطر ال يجزئ في الفطر‪.‬‬
‫خروجا عليو ال سيما م وجود الدليل‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬أف مخالفة ولي األمر في رأيو في أم ٍر من األمور الدينية‪ ،‬ال تعد‬

‫ثم انتقل المصنف عليو رحمة اهلل إلى‪( :‬كتاب الصياـ)‬


‫(والصياـ)‪ :‬في اللغة ىو اإلمساؾ عن الشيء‪.‬‬
‫وفي الشرع‪ :‬ىو اإلمساؾ عن المفطرات من طلوع الفجر الصادؽ إلى غروب الشمس؛ تعب ًدا هلل تبارؾ وتعالى‪.‬‬

‫رجل كاف‬ ‫ٍ‬


‫ثم ذكر حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ال تقدموا رمضاف بصوـ يوـ‪ ،‬وال يومين إال ٌ‬
‫مواقيت محددة‪ ،‬ال يجوز أف تتقدـ عليها أو تتأخر عنها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫صوما‪ ،‬فليصمو"‪ .‬العبادات التي فرضها اهلل تبارؾ وتعالى على العباد‪ُ ،‬جعلت لها‬
‫يصوـ ً‬
‫وعبادة الصوـ من أجل ىذه العبادات‪،‬‬
‫وىنا في ىذا الحديث‪ :‬نهى النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف يتقدـ أحد صياـ شهر رمضاف ٍ‬
‫بيوـ أو يومين‪ ،‬إال لمن كاف لو عادةٌ في الصوـ‪ ،‬كأف‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫مثال يوـ اثنين أو يوـ خميس‪ ،‬وكاف من عادتو صياـ االثنين والخميس‪ ،‬أو صياـ يوـ ويوـ‪ ،‬فهنا يجوز لو الصياـ‪.‬‬
‫يوافق اليوـ الذي قبلو ً‬
‫ضا يجوز لو الصياـ‪ ،‬إنما النهي عن التطوع المطلق‪.‬‬
‫نذر لزمو في ىذه األياـ‪ ،‬فهنا أي ً‬
‫وكذلك من كاف عليو قضاءٌ وضاؽ وقتو‪ ،‬أو ٌ‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬النهي عن سبق رمضاف بصوـ ٍ‬
‫يوـ أو يومين‪.‬‬
‫بيوـ أو يومين لمن كاف لو عادة ٍ‬
‫بصوـ معين‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬جواز الصوـ قبل رمضاف ٍ‬
‫العبادات من نوافلها‪.‬‬ ‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬حكمة الشرع في تمييز فرائ‬

‫‪146‬‬
‫ثم ذكر المصنف حديث عبد اهلل بن عمر قاؿ‪ :‬سمعت رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) يقوؿ‪" :‬إذا رأيتموه فصوموا‪ ،‬وإذا رأيتموه فأفطروا‪ ،‬فإف‬
‫غم عليكم فاقدروا لو"‪.‬‬
‫ىنا يخبر عبد اهلل بن عمر عن مسألة‪ :‬متى يجب الصوـ؟‬
‫وبين أف الصوـ يجب بأمرين‪:‬‬
‫‪ -‬األمر األوؿ‪ :‬برؤية الهالؿ‪.‬‬
‫يوما‪.‬‬
‫‪ -‬األمر الثاني‪ :‬بإتماـ عدة الشهر ثالثين ً‬
‫يوما م عدـ الرؤية أو تعذرىا‪ ،‬حيث ال يمكن‬
‫وىذا حتى يكوف الناس على بينة من أمرىم‪ ،‬أما برؤية الهالؿ‪ ،‬أو بإكماؿ الشهر السابق ثالثين ً‬
‫يوما‪.‬‬
‫زيادة الشهر الهاللي عن ثالثين ً‬
‫وىنا قد أمر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) األمة بالصياـ‪ ،‬إذا رأوا ىالؿ رمضاف‪ ،‬وأف يفطروا إذا رأوا ىالؿ شواؿ‪ ،‬فإف حصل مان ٌ من ٍ‬
‫غيم أو‬
‫غيره‪ .‬قاؿ‪ :‬فليكملوا عدة الشهر السابق ثالثين يوما؛ ذلك ألف األصل ىو بقاء الشهر‪ ،‬فال يحكم بانقضائو إال ٍ‬
‫برؤية‪ ،‬أو إتماـ عدة الشهر‬ ‫ً‬
‫يوما‪.‬‬
‫ثالثين ً‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف وجوب الصوـ معل ٌق برؤية الهالؿ‪ ،‬وكذلك الفطر من رمضاف‪ ،‬وال دخل فيو للحساب الفلكي‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬إف لم يظهر الهالؿ ٍ‬
‫لغيم أو قط ٍر أو غير ذلك‪ ،‬فالواجب إتماـ عدة الشهر ثالثين‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف من انفرد برؤية الهالؿ‪ ،‬لزمو الصوـ لقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬صوموا لرؤيتو"‪.‬‬

‫ثم ذكر حديث أنس بن مالك قاؿ‪ :‬قاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬تسحروا‪ ،‬فإف في السحور بركة"‪.‬‬
‫السحور الذي ىو الفعل‪.‬‬
‫السحور)‪ :‬بالفتح ىو الطعاـ الذي يؤكل‪ ،‬بخالؼ ُ‬
‫( َ‬
‫السح ِر‪ ،‬فإف في السحور بركة‪ :‬أي أف البركة في طعاـ َ‬
‫السحور‪.‬‬ ‫والمعنى‪ :‬أي كلوا أكلة َ‬
‫ٍ‬
‫بشيء آخر‪ ،‬فإف الثاني يدف األوؿ‪،‬‬ ‫قيل‪ :‬ألف آخر ما يأكلو اإلنساف يكوف مغذيًا لبدنو‪ ،‬وذلك لبقائو فيو‪ ،‬بخالؼ إذا ما أكل شيئًا ثم أعقبو‬
‫السحور‪،‬‬
‫ضا في وقت َ‬
‫السحور أنو يكوف فيو اإلعانة على طاعة اهلل عز وجل في النهار‪ ،‬وىذا ال يمن أف تكوف البركة أي ً‬
‫السحور‪ ،‬أو َ‬
‫ومن بركة ُ‬
‫السحور‪.‬‬
‫يعني الوقت الذي يكوف فيو ُ‬
‫ومن السنة تأخير السحور إلى ما قبل الفجر‪ ،‬وقد أخبر النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف من الفروؽ بيننا وبين أىل الكتاب أكلة السحر‪ ،‬ومن‬
‫بركة ىذا الوقت استيقاظ النائم؛ لذكر اهلل تبارؾ وتعالى‪ ،‬وصالة الجماعة‪ ،‬ومتابعة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬استحباب السحور ومتابعة النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬السحور فيو بركة دنيوية ودينية‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬كماؿ الشريعة في المحافظة على األبداف وعدلها في الحث على العبادات‪.‬‬

‫ثم ذكر المصنف حديثًا عن أنس بن مالك رضي اهلل عنو‪ ،‬وعن زيد بن ثابت (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬تسحرنا م رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو وسلم‪،‬‬
‫يد‪ :‬كم كاف بين األذاف والسحور؟ قاؿ‪ :‬قدر خمسين آية"‪.‬‬‫ثم قاـ إلى الصالة‪ ،‬قاؿ أنس‪ :‬قلت لز ٍ‬
‫ٌ‬
‫ىذا الحديث في بياف وقت سحور النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬فلما كاف من مقاصد السحور تقوية البدف على الصياـ‪ ،‬وىذا من مقاصد‬
‫الشريعة في المحافظة على األبداف‪ ،‬كما قاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬إف لبدنك عليك ح ًقا"‪.‬‬
‫فكاف من ىذه الحكمة تأخير السحور؛ لذلك لما سئل زيد (رضي اهلل عنو) كم كاف بين األذاف والسحور؟ قاؿ‪ :‬قدر خمسين آية‪.‬‬
‫مثال بقراءةٍ بين بين متأنية‪ ،‬تقدر تقريبًا بنحو نصف الساعة‪ ،‬أو ثلث الساعة‪.‬‬
‫وقدر خمسين آية من أوائل سورة البقرة ً‬

‫‪147‬‬
‫الفوائد المستنبطة‪:‬‬
‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أفضلية تأخير السحور إلى قبيل الفجر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬بياف أف بين سحور النبي (صلى اهلل عليو وسلم) وصالة الفجر‪ ،‬قدر قراءة الخمسين آية‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬حرص الصحابة على االجتماع بالنبي صلى اهلل عليو وسلم؛ ليتعلموا منو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬بياف كرـ النبي وتواضعو‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬مشروعية المبادرة بصالة الفجر حيث قربت من وقت اإلمساؾ‪.‬‬

‫جنب‬
‫ثم ذكر المصنف حديثًا عن عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬وأـ سلمة رضي اهلل عنهما "أف رسوؿ اهلل (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يدركو الفجر وىو ٌ‬
‫من أىلو‪ ،‬ثم يغتسل ويصوـ"‪.‬‬
‫ىذا الحديث يبين حكم صوـ من أصبح جنبًا‪ ،‬وقد فرؽ العلماء بين الفعل وبين األثر‪ ،‬فالفعل الذي ىو الجماع‪ ،‬والجماع في نهار رمضاف‬
‫بإجماع أىل العلم مفطر للصائم‪ ،‬بخالؼ األثر الذي ىو الجنابة التي ىي من أثر الجماع‪.‬‬
‫فمن جام قبل ابتداء الصوـ‪ ،‬وبقي أثر الجنابة معو إلى النهار فإف الصوـ صحيح‪.‬‬
‫وىنا في ىذا الحديث تخبر عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬وأـ سلمة وىما من أمهات المؤمنين رضي اهلل عنهن‪ ،‬بأف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف‬
‫يصبح في رمضاف جنبًا من أىلو‪ :‬أي من جماع أىلو‪.‬‬
‫وتقييد الكالـ أنو جنبًا من أىلو؛ ليتبين أف أثر الجنابة ما كاف عن احتالـ؛ إنما ىو من جماع؛ لبياف أف تأخير الغسل كاف عن اختيا ٍر منو صلى‬
‫اهلل عليو وسلم‪ ،‬بخالؼ االحتالـ أنو يفاجأ بما يوجب الغسل‪.‬‬
‫فتخبراف أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) كاف يجام أىلو في رمضاف‪ ،‬ثم يصوـ ويطل عليو الفجر قبل أف يغتسل‪ ،‬فيمضي في صومو وال‬
‫يقضيو‪ ،‬فدؿ ذلك على أف أثر الجنابة ال يؤثر في الصوـ‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث أيضًا‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬صحة صوـ الجنب‪ ،‬وإف لم يغتسل إال بعد طلوع الفجر‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬يقاس على الجماع االحتالـ من باب أولى؛ ذلك ألف الجماع يكوف باختيار بخالؼ االحتالـ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬ال فرؽ بين الصوـ الواجب‪ ،‬والنفل في ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬جواز الجماع في ليالي رمضاف‪ ،‬أو في ليالي الصياـ‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬بياف فضل نساء النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وما كن عليو من العلم باألحكاـ الشرعية‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬جواز ذكر ما يُستحيا منو للمصلحة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬أف فعل النبي (صلى اهلل عليو وسلم) حجة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬جواز تأخير الغسل من الجنابة‪.‬‬

‫صائم فأكل أو شرب‪ ،‬فليتم صومو‪،‬‬


‫ثم ذكر المصنف حديث أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) أف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) قاؿ‪" :‬من نسي وىو ٌ‬
‫فإنما أطعمو اهلل عز وجل وسقاه"‪.‬‬
‫وىذا الحديث يبين حكم من أكل أو شرب ناسيًا‪.‬‬
‫خارجا عن إرادتو‪ ،‬سواءً كاف ذلك عن إكراهٍ أو نسياف‪.‬‬
‫أمرا ً‬
‫يؤاخذ من فعل ً‬
‫فإف من يسر الشريعة وحكمتها‪ ،‬أنو ال َ‬
‫جاىال بالحاؿ‪.‬‬
‫عالما بالحكم‪ ،‬لكنو ً‬
‫وىنا ذكر مسألة النسياف‪ ،‬قاؿ‪" :‬من أكل أو شرب ناسيًا"‪ ،‬والنسياف المراد بو أف يكوف الشخص ً‬
‫عالما بالحكم‪ :‬يعني يعلم أف من أكل أو شرب في نهار رمضاف‪ ،‬بطل صومو‪.‬‬
‫ً‬
‫جاىال بالحاؿ‪ :‬أنو نسي أنو صائم‪ ،‬فسمي ناسيًا بخالؼ من جهل الحكم‪ ،‬فهذا يسمى جاىل‪.‬‬ ‫لكن ً‬
‫والناسي يدخل تحت القاعدة العظيمة‪ :‬قوؿ اهلل عز وجل‪{ :‬ربػَّنا َال تُػ َؤ ِ‬
‫اخ ْذنَا إِف نَّ ِسينَا أ َْو أَ ْخطَأْنَا‬ ‫ََ‬

‫‪148‬‬
‫وىنا في ىذا الحديث يخبر أبو ىريرة (رضي اهلل عنو) عن النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬أنو أمر الصائم الذي ينسى ويأكل أو يشرب أف يستمر‬
‫في صومو وال يقطعو؛ ذلك ألف ىذا وق منو بغير اختيا ٍر منو‪ ،‬فكأف اهلل عز وجل ىو الذي أطعمو وسقاه‪.‬‬
‫لكن ىنا مسألة‪ :‬ىل يقاس على األكل والشرب نسيانًا الجماع؟ يعني إذا أكل أو شرب ناسيًا ىل يقاس عليو إذا جام ناسيًا؟‬

‫اختلف العلماء في ىذه المسألة على قولين‪:‬‬


‫‪ -‬األوؿ‪ :‬أف الجماع ناسيًا مفس ٌد للصوـ‪ ،‬وىذا من مفردات مذىب الحنابلة‪.‬‬
‫واستدلوا بأف الحديث اقتصر على األكل والشرب دوف الجماع‪ ،‬قاؿ‪" :‬من أكل أو شرب ناسيًا"‪ ،‬ولم يذكر الجماع‪ ،‬فقالوا‪ :‬إف‬
‫الجماع مفس ٌد للصوـ‪.‬‬
‫‪ -‬القوؿ الثاني‪ :‬قوؿ جمهور أىل العلم أف الجماع ناسيًا ال يفسد الصياـ‪ ،‬ىذا قوؿ األحناؼ والشافعية وشيخ اإلسالـ‪.‬‬
‫واستدلوا بعموـ اآلية قوؿ اهلل عز وجل‪{ :‬ربػَّنا َال تُػ َؤ ِ‬
‫اخ ْذنَا إِف نَّ ِسينَا أ َْو أَ ْخطَأْنَا‬ ‫ََ‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬أف الصوـ ال يبطل باألكل والشرب نسيانًا‪ ،‬ويقاس عليهما باقي المفطرات‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬عدـ اإلثم على من أكل أو شرب ناسيًا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف الصوـ ال ينقص باألكل والشرب نسيانًا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬سعة رحمة اهلل تعالى بعفوه عن عباده‪.‬‬

‫رجل فقاؿ‪ :‬يا‬


‫جلوس عند النبي (صلى اهلل عليو وسلم) إذ جاءه ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ثم ذكر المصنف حديثًا آخر عن أبي ىريرة (رضي اهلل عنو) قاؿ‪" :‬بينما نحن‬
‫رسوؿ اهلل ىلكت‪ ،‬فقاؿ‪ :‬مالك؟ قاؿ‪ :‬وقعت على امرأتي وأنا صائم‪ ،‬وفي رواية‪( :‬أصبت أىلي في رمضاف)‪ ،‬فقاؿ رسوؿ اهلل صلى اهلل عليو‬
‫وسلم‪ :‬ىل تجد رقبةً تعتقها؟ قاؿ‪ :‬ال‪ ،‬قاؿ‪ :‬فهل تستطي أف تصوـ شهرين متتابعين؟ قاؿ‪ :‬ال‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ىل تجد إطعاـ ستين مسكينًا؟ قاؿ‪ :‬ال‪.‬‬
‫تمر (والعرؽ المكتل)‪ .‬قاؿ‪ :‬أين‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫قاؿ‪ :‬فسكت النبي (صلى اهلل عليو وسلم) فبينا نحن على ذلك إذ أُتي النبي (صلى اهلل عليو وسلم) بعرؽ فيو ٌ‬
‫بيت أفقر من أىل‬‫السائل؟ قاؿ‪ :‬أنا‪ .‬قاؿ‪ :‬خذ ىذا فتصدؽ بو‪ ،‬فقاؿ‪ :‬أعلى أفقر مني يا رسوؿ اهلل؟ فواهلل ما بين البتيها (يريد الحرتين) أىل ٍ‬
‫بيتي‪ ،‬فضحك النبي (صلى اهلل عليو وسلم) حتى بدت أنيابو‪ ،‬ثم قاؿ‪ :‬أطعمو أىلك"‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬الحرة األرض تركبها حجارةٌ سود‪.‬‬
‫كانت من عادة الصحابة رضي اهلل عنهم الجلوس عند النبي صلى اهلل عليو وسلم؛ للتعلم منو‪.‬‬
‫قاؿ أبو ىريرة (رضي اهلل عنو)‪( :‬فبينما نحن على ىذه الحاؿ إذ أتى رجل)‬
‫وقيل‪ :‬إف ىذا الرجل ىو سلمة بن صخر البياضي‪.‬‬
‫قاؿ‪( :‬ىلكت‪ ،‬قاؿ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) مالك؟)‪.‬‬
‫عظيما يريد الخالص منو‪ ،‬وىو أنو جام امرأتو في نهار رمضاف وىو صائم‪.‬‬ ‫فبين للنبي (صلى اهلل عليو وسلم) أنو فعل ذنبًا ً‬
‫فلم يعنفو النبي صلى اهلل عليو وسلم؛ ذلك ألنو جاء تائبًا يبحث عن كفارةٍ لذنبو‪ ،‬فأرشده النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لكفارة ىذا الذنب‪.‬‬
‫فقاؿ‪" :‬ىل تجد رقبةً تعتقها؟"‬
‫(والرقبة)‪ :‬ىي العبد أو األمة‪ ،‬أو أف المقصود ىل تجد الماؿ الذي تشتري بو عبد أو أمة لتحرره من الرؽ؟ قاؿ‪ :‬ال‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬ىل تستطي أف تصوـ شهرين متتابعين؟ (أي متواليين ال فطر فيهما)‪ .‬فقاؿ‪ :‬ال‬
‫الروايات‪" :‬قاؿ ىل وق ذلك إال في الصوـ؟"‪.‬‬ ‫وفي بع‬
‫فسألو النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ىل تجد إطعاـ ستين مسكينًا؟ قاؿ‪ :‬ال‪.‬‬
‫أىل العلم أف الكفارة ىنا ال تسقط عن غير‬ ‫(فسكت النبي صلى اهلل عليو وسلم)‪ ،‬ومعنى سكوت النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أخذ منو بع‬
‫المستطي ؛ ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لم يسقط عنو الكفارة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫رجل من األنصار بعرؽ فيو تمر)‪ ،‬والعرؽ‪ :‬المكتل كما ذكر في الحديث‪ ،‬وىو الزنبيل الذي يوض فيو األشياء‪.‬‬
‫(فجاء ٌ‬
‫صاعا من التمر‪.‬‬
‫الروايات مقدار ىذا التمر قيل‪ :‬إنو خمسة عشر ً‬ ‫قد جاء في بع‬
‫فقاؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ :‬خذ ىذا فتصدؽ بو على الفقراء والمساكين‪ ،‬وبذلك تكوف قد أديت الكفارة‪.‬‬
‫فطم الرجل في كرـ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وتيسيره على أمتو‪ ،‬فقاؿ‪ :‬على أفقر مني‪ ،‬فأقسم الرجل أنو ما بين البتيها أفقر مني‪.‬‬
‫أرض تعلوىا الحجارة السوداء‪.‬‬
‫أي البتي المدينة‪ :‬وىما الحرة الشرقية‪ ،‬والحرة الغربية‪( ،‬والحرة)‪ :‬كما ذُكر ٌ‬
‫ىنا قاؿ العلماء‪ :‬بجواز الحلف على غلبة الظن‪ ،‬إذ أنو غلب على إنو أنو أفقر أىل ٍ‬
‫بيت في المدينة‪ ،‬م أنو من الممكن أف يكوف ىناؾ من ىو‬
‫أفقر منو‪.‬‬
‫(فضحك النبي (صلى اهلل عليو وسلم) حتى بدت أنيابو)‪ :‬وذلك لتبدؿ حاؿ الرجل بعد أف كاف خائفا مرتع ًدا‪ ،‬فإذا بو ينقلب مطمئنًا‪ ،‬ويرغب في‬
‫أف يناؿ من ىذا الفضل من يسر الشريعة‪ ،‬وكرـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم)‪.‬‬
‫فقاؿ لو النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬خذ ىذا فأطعمو أىلك"‪.‬‬
‫وقد استدؿ جماىير أىل العلم من كالـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) ىنا في ىذا الحديث عندما سألو ىل تجد رقبةً تعتقها؟ قاؿ‪ :‬ال‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬ىل تستطي أف تصوـ شهرين متتابعين؟ قاؿ‪ :‬ال‪.‬‬
‫قاؿ‪ :‬ىل تستطي إطعاـ ستين مسكينًا؟قاؿ‪ :‬ال‪.‬‬
‫فاستدؿ أىل العلم من كالـ النبي (صلى اهلل عليو وسلم) أف الكفارة على الترتيب‪ ،‬ال بد أف تأتي بهذا الترتيب‪.‬‬
‫خالفًا لإلماـ مالك الذي يقوؿ‪ :‬بأنها على التخيير‪.‬‬
‫وقد استدؿ اإلماـ مالك على ىذا ٍ‬
‫برواية ضعيفة جاء فيها‪( :‬فأعتق‪ ،‬أو صم‪ ،‬أو تصدؽ) يعني جعلها على التخيير‪ ،‬لكنها رواية ضعيفة‪.‬‬
‫ضا بقوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬ىل تجد رقبة تعتقها؟" أف الكفارة على من جام في نهار رمضاف متعم ًدا‬
‫وقد استدؿ فقهاء الحنابلة أي ً‬
‫كاف أو ناسيًا؛ وذلك ألف النبي (صلى اهلل عليو وسلم) لم يسألو أكنت متعم ًدا أو ناسيًا؟ وىذا من مفردات المذىب‪ ،‬خالفًا لجمهور أىل العلم‪.‬‬
‫فالمذىب على أف جمي الكفارات تسقط باإلعسار إال كفارة الجماع‪.‬‬

‫الفوائد المستنبطة من ىذا الحديث‪:‬‬


‫‪ -‬الفائدة األولى‪ :‬عظم اإلثم في جماع الصائم في نهار رمضاف‪ ،‬إذ أنو من الفواحأ المهلكات‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثانية‪ :‬أف الواطئ عم ًدا تجب عليو الكفارة‪ ،‬والكفارة على الترتيب‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثالثة‪ :‬أف الكفارة ال تسقط م اإلعسار‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الرابعة‪ :‬جواز التكفير من الغير‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الخامسة‪ :‬جواز األكل من الكفارة إذا كفر عنو غيره‪ ،‬وىذه ىي الحالة الوحيدة التي استثناىا أىل العلم أف يأكل الرجل من‬
‫كفارتو‪ ،‬أف يكفر عنو غيره‪.‬‬
‫مقدـ على الكفارة في قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم‪" :‬أطعمو أىلك"‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة السادسة‪ :‬أف سد الحاجة ٌ‬
‫‪ -‬الفائدة السابعة‪ :‬بياف سهولة الشريعة‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة الثامنة‪ :‬عدـ تعنيف من أذنب إذا جاء تائبًا‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة التاسعة‪ :‬جواز الحلف على غلبة الظن‪.‬‬
‫‪ -‬الفائدة العاشرة‪ :‬حسن خلق النبي صلى اهلل عليو وسلم‪ ،‬وبياف كرمو ورحمتو بأمتو‪.‬‬

‫نكتفي بهذا القدر‪ ،‬ونأخذ أسئلة على ما سبق‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫األسئ ػ ػ ػلة‬
‫السؤاؿ األوؿ‪ :‬لماذا استثنى النبي صلى اهلل عليو وسلم زكاة الفطر في الرقيق‪ ،‬م قولو‪" :‬ليس على المسلم في عبده وال فرسو صدقة"؟‬
‫وقد ذكرنا اإلجابة على ىذا السؤاؿ‪ :‬أف الزكاة على الرقيق‪ ،‬إنما ىي زكاة أمواؿ وليس على المسلم في عبده صدقة‪ ،‬بخالؼ استثناء‬
‫زكاة الفطر؛ ألنها زكاة أبداف‪.‬‬
‫السؤاؿ الثاني‪ :‬ما معنى (العجماء جبار‪ ،‬والبئر جبار‪ ،‬والمعدف جبار)؟ وما ىو الركاز؟‬
‫السؤاؿ الثالث‪ :‬ما معنى قوؿ النبي صلى اهلل عليو وسلم لعمر‪" :‬أما شعرت أف عم الرجل صنو أبيو"؟‬
‫السؤاؿ الراب ‪ :‬لماذا سميت صدقة الفطر بذلك؟ ومن أي أنواع الزكاة ىي؟ وكم مقدارىا؟ وما ىو وقت إخراجها؟‬
‫وشرعا‪ ،‬وبماذا يعرؼ دخوؿ الشهر‪ ،‬أو وجوب الصوـ؟‬
‫السؤاؿ الخامس‪ :‬عرؼ الصياـ لغةً ً‬
‫السؤاؿ السادس‪ :‬ما معنى تسحروا فإف في السحور بركة؟ وما الحكمة في تأخير السحور؟‬
‫السؤاؿ الساب ‪ :‬ما ىو حكم من أصبح جنبًا في رمضاف؟‬
‫السؤاؿ الثامن‪ :‬ما حكم من أكل أو شرب ناسيًا وىو صائم؟ وىل يقاس عليو من جام ناسيًا؟‬
‫معسرا؟‬
‫السؤاؿ التاس ‪ :‬ىل كفارة الجماع في الصوـ على الترتيب أـ على التخيير؟ وىل تسقط الكفارة إذا كاف ً‬
‫السؤاؿ العاشر واألخير‪ :‬اذكر الفوائد المستنبطة من األحاديث التي ذكرت في محاضرة اليوـ‪.‬‬

‫ٍ‬
‫محمد‪،‬‬ ‫نكتفي بهذا‪ ،‬ىذا وصلى اهلل وسلم وبارؾ على نبينا‬
‫ٍ‬
‫بإحساف إلى يوـ الدين‪.‬‬ ‫وعلى آلو وصحبو أجمعين‪ ،‬وعلى التابعين وتابعيهم‬
‫والسالـ عليكم ورحمة اهلل وبركاتو‪.‬‬

‫الخاتم ػ ػػة‬
‫وىنا تنتهى محاضرات مادة (الحديػػث)‬
‫من كتاب "تيسيػػر العػالـ شرح ُعمػػدة األحكػػاـ"‬
‫شرح فضيلة لشيخ‪ :‬مصطفى القليوبي (حفظو اهلل)‪ ،‬ونف اهلل بو اإلسػالـ والمسلمين‪ ،‬وجزاه اهلل عنا‬
‫خير الجزاء‪ ،‬وبهذا تنتهى محاضرات الفصل الدراسي األوؿ (الفرقػة األولى)‬
‫نذكركم بموعد إختبار مادة‪( :‬الحديػػث)‬
‫يوـ‪ :‬السبػػت الموافق‪ 25 :‬جمادي األولى _ ‪ 9‬ينػاير‬
‫العلم‪ ،‬نف اهلل بكم‪ ،‬وزادكم ِعلماً‪ ،‬وعمالً (اللهم آميػػن)‬
‫بالتوفيق لجمي طلبة ِ‬
‫نسألكم الدعاء لمن قاـ بجم وتنسيق المحاضرات‪ ،‬حتى خرجت إليكم بهذا الشكل البسيط الفريد‪.‬‬
‫أخرجو لكم‪ :‬أخوكم في اهلل (فه ػ ػد بن عبدالعزي ػز)‬
‫"جمهورية مصػر العربية"‬
‫(نسألكم الدعاء)‬

‫‪151‬‬

You might also like