You are on page 1of 292

‫جمع وإعداد‬

‫الدكتور‪ /‬أحمد مطهر الشامي‬


‫الطبعة الثانية‬
‫‪ 1445‬هـ‪2023 -‬م‬

‫مركز الشهداء لألعمال الثقافية والفني�ة‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــ جميع احلقوق محفوظة ـــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫المركز الرئيسي‪ :‬اليمن ‪ -‬صعدة‬


‫للتواصل‪771766111 - 733100753 :‬‬
‫البريد اإللكتروني‪center@gmail..com:‬‬
‫‪shuhda..center@gmail‬‬
‫‪shuhda‬‬
‫فرع صنعاء‪ :‬الجراف ‪ -‬خط المطار‬
‫للتواصل‪714770577 - 771766222 :‬‬
‫ةمدقملا‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫المقدمة‬
‫كانت فترات عصيب�ة ومقلقة بالنسبة لي كشاب في ريعان شبابه يبحث عما‬
‫يريح ضميره وقلبه في عالم األفكار والمذاهب‪ ،‬ومررت حينها بتجارب قاسية‬
‫ً‬
‫وعشت فيها لحظات مريرة‪ ،‬وكان قلبي معلقا ما بين اليأس واألمل؛ اليأس من‬
‫زمن التبس فيه الحق بالباطل وأصبح للباطل جوالت‬ ‫الوصول إلى الحقيقة في ٍ‬
‫غد مشرق يستمد نوره من هللا‬ ‫وصوالت ولم يعد للحق وأهله حضور‪ ،‬واألمل في ٍ‬
‫الذي وعد بالتمكين والنصر ألهل الحق والصدق‪ ،‬وسبحت بتفكيري هنا وهناك‬
‫ً ً‬
‫عساه يجد مهبطا آمنا يحط فيه رحاله ويستريح فيه من سفره‪ ،‬كانت األفكار من‬
‫هنا وهناك تزاحم تفكيري‪ ،‬وكانت العقائد من هنا وهناك تزاحم فطرتي‪ ،‬ولكن كانت‬
‫هناك ثقافة ومشروع‪ ،‬وكانت هناك عقيدة فرضت نفسها بنفسها وأثبتت وجودها‬
‫صدى ٌّ‬‫ً‬
‫قوي في وجداني وفطرتي‪ ،‬إنه المشروع القرآني ‪-‬ثقافة ومشروع‬ ‫بذاتها كان لها‬
‫ورثة الكتاب أئمة أهل البيت عليهم السالم‪ -‬عند ذلك حططت رحالي وهبطت‬
‫َ ْ‬
‫من رحلة طويلة لطالما أنهكت ضميري ووجداني‪ ،‬وعندها وجدت أمة من الناس‬
‫ُ‬
‫وصلت إليه؛ وجدتهم ُي َّ‬
‫سي ُر ون بأفكار سقيمة‪ ،‬ووجدتهم يعانون‬ ‫لم تصل إلى ما‬
‫ُ‬
‫ويقاسون ويمرون بتجارب قاسية سبق أن مررت بها‪ ،‬فقلت لنفسي هيهات أن أنعم‬
‫بالحق والحقيقة وهناك أمة حائرة وإنساني�ة ممزقة ما زالت تتخبط في متاهات‬
‫األفكار والعقائد السقيمة! لم ال أختصر لهم الطريق وألقي اليهم بخالصة تجربتي‬
‫ً‬
‫ومعايشتي بدال من التخبط والمرور بنفس التجارب حتى تتفرغ لما هو مطلوب منها‬
‫كأمة مستخلفة في االرض وداعية إلى هللا سبحانه وتعالى؟ عند ذلك فكرت أن‬
‫َ‬
‫أكتب عن هذا المشروع القرآني باعتب�اره المشروع الوحيد القادر على ل ّم شمل هذه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫األمة وباعتب�اره يمثل فطرة ونبض هذه االنساني�ة فكان هذا الكتاب‪.‬‬
‫وال شك أن المتابع لقضية المذاهب في اليمن يجد أن المذهب الوهابي التكفيري‬
‫يمثل عنصرا دخيال في نسيج المجتمع اليمني الفكري والثقافي‪ ،‬واتضح بأنه فكر‬

‫‪3‬‬
‫بداية الطريق‬

‫مزروع لخدمة الغزاة‪ ،‬والعدوان السعودي خير دليل على أن التكفيريين الوهابيين‬
‫أداتها الداخلية لقتل أبن�اء الشعب اليمني‪ ،‬وال يعني هذا بحال من األحوال التعبئ�ة‬
‫واالستنفار الستئصال جذور هذا المذهب الدموي بالقوة فحسب بمقدار ما يحتاج‬
‫األمر كذلك إلى معالجة وتنوير ثقافي وفكري لمجتمعنا عن خطورة الوهابي�ة على‬
‫ُ‬
‫وحدة صف األمة‪ ،‬وباعتب�ارها نبت�ة خبيث�ة ز رعت من قبل االستعمار الغربي إلثارة‬
‫نعرات داخلية بين المسلمين‪ ،‬وإيجاد المبرر للتدخل في شؤون المسلمين بحجة‬
‫اإلرهاب‪.‬‬
‫وال شك أن أبن�اء اليمن بشريحتي�ه الزيدية والشافعية قد عانوا من صلف‬
‫الوهابي�ة بشقيها السلفي واالصالحي‪ ،‬واألخيرة تعتبر في عصرنا هذا ضحية المنهج‬
‫الوهابي السعودي رغم حداثة سنها في بالدنا لدرجة تصل إلى اقتحام المساجد‬
‫وضرب القيمين عليها‪ ،‬بل في بعض األحيان تصل المسألة إلى القتل والتفجير‬
‫كما حصل في جامعي الحشوش وبدر وكذلك جامع المؤيد في صنعاء‪ ،‬وألجل هذا‬
‫ً‬
‫السبب ايضا اقتصرت على مناقشة األفكار الوهابي�ة مقارنة بمنهج ورثة الكتاب من‬
‫أهل البيت عليهم السالم حتى تعلم أنها مقارنة بين النور والظالم‪.‬‬
‫وقبل البداية أود أن أنوه للتالي‪:‬‬
‫ليس من منهجيتن�ا إصدار األحكام بالتكفير والتفسيق على أحد من األمة‪.‬‬
‫الطريقة الحكيمة في مواجهة مجموعة من األفكار المنحرفة والنظريات‬
‫السيئ�ة أن نتحدث عن الفكرة مباشرة؛ ألن الخطورة تكمن فيها ‪ -‬خصوصا إذا‬
‫تحولت وتمثلت في جماعات أو أفراد ‪ -‬وال يليق بن�ا أن نلصقها بجميع الناس‪.‬‬
‫العنوان الرئيسي الذي سمانا به هللا هو اإلسالم فال ينبغي أن نتخندق خلف‬
‫عناوين مذهبي�ة وبالذات في هذه المرحلة التي يريد فيها األمريكيون واإلسرائيليون‬
‫إثارة النعرات الطائفية والمذهبي�ة‪.‬‬
‫***‬

‫‪4‬‬
‫ةيادبلا‬

‫البداية‬
‫كانت البداية عندما كنت طالبا ثانويا في جمهورية السودان الشقيقة‪ ،‬وفي تلك‬
‫الفترة بدأت أشعر بإقبال شديد على الدين‪ ،‬وبدأ يشغل حيزا كبيرا من تفكيري إن لم‬
‫الهم الوحيد الذي كنت أفكر به‪ ،‬وكنت أتلقف الدروس والمواعظ والمعلومات‬ ‫يكن هو َّ‬
‫الديني�ة بنهم شديد‪ ،‬ولم أكن آنذاك ممن يملك رصيدا معرفيا عن االتجاهات اإلسالمية‬
‫المختلفة يعينني في غربلة وتصفية ما أتلقاه من معلومات ديني�ة سوى النزر اليسير‬
‫من المعلومات عن المذهب الزيدي الذي كنت أنتمي له انتماء شكليا‪ ،‬فكنت آخذ كل‬
‫معلومة ديني�ة بثقة وتصديق دون مراعاة جانب التدبر والتأمل‪.‬‬
‫ولما كانت الثقافة الديني�ة العامة في هذا البلد العربي هي ثقافة القطب الواحد‬
‫‪-‬التي�ار الوهابي بشقيه السلفي واإلخواني‪ -‬انعكس جزء يسير من هذه الثقافة‬
‫َْ‬
‫على تفكيري وصبغته بصبغة سني�ة‪ ،‬وإن لم أكن آنذاك قد تعمقت في أفكارهم‬
‫ومبادئهم إال النزر اليسير جدا‪ ،‬ورغم أن ثقافتي كانت سطحية جدا إال أنني كنت‬
‫أتلمس أن هناك صراعا إسالميا إسالميا‪ ،‬وكانت الصولة والجولة في تلك البالد‬
‫للحركة الوهابي�ة‪ ،‬وكانت هناك صيحات من هنا وهناك تمثل السنة المتصوفة‬
‫الذين يوجدون بكثرة في أطراف تلك البالد‪ ،‬ولكنني لم أنشغل بهم كثيرا؛ ربما ألنهم‬
‫كانوا بعيدين عن واقع الحياة ومنشغلين عن حياة الناس بحياة خاصة بهم في الزوايا‬
‫َ‬
‫واألربطة‪ ،‬فتركت البالد للوهابي�ة تنشر أفكارها دون وجود من يقف في وجهها‪ ،‬وحقا‬
‫كان الوهابيون الحنابلة غليظون على من خالفهم من أبن�اء المذاهب األخرى‪ ،‬وذلك‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ولد رد فعل عنيفا من أبن�اء المذاهب األخرى ضد الوهابي�ة وأفكارها‪ ،‬وأصبحت تلك‬
‫األمة تعيش حالة من الصراع الفكري المرير‪.‬‬
‫دارت األيام والليالي والتقى والدي الذي كان قنصال في السفارة اليمني�ة في‬
‫السودان بالشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان هللا عليه‪ ،‬وأخبرتني فيما‬
‫بعد والدتي الكريمة بأن الوالد استضاف مجموعة من الطالب اليمنيين في السودان‬
‫في بيتن�ا في وجبة طعام وكان السيد حسين رضوان هللا عليه بين هؤالء الطالب‪,‬‬
‫وشخصيا لم أعلم آنذاك من هو السيد حسين‪ ,‬إال أنني ما زلت أذكر أن والدي حصل‬

‫‪5‬‬
‫بداية الطريق‬

‫على هدية من الشهيد القائد عبارة عن كتاب‪( :‬تحرير األفكار) للمولى العالمة بدر‬
‫الدين الحوثي‪ ،‬ووجدت والدي مسرورا جدا بالكتاب عندما التقيت�ه بعدها‪ ،‬وأخبرني‬
‫بأنه كتاب لعالمة زيدي عظيم‪.‬‬
‫اطلعت على الكتاب‪ ،‬ولما كانت ثقافتن�ا العامة قد تأثرت بالثقافة السني�ة التي‬
‫غزت المدارس في اليمن والسودان انصدمت من بعض ما ورد فيه‪ ،‬فقلت لوالدي‪:‬‬
‫هذا كتاب رافضي يا أبي‪ ،‬كانت ردة فعل والدي عنيفة وحكيمة‪ ،‬وحذرني من مسلك‬
‫النواصب‪ ،‬وأن أحذر من الوهابي�ة والمبغضين ألهل البيت‪.‬‬
‫لم يكن لدى والدي القدرة الكاملة في اإلقناع‪ ،‬لكن تصرفه العفوي معي كان‬
‫له دور في بذر وتنمية الشعور باالنتماء ولو بشكل محدود للمذهب الزيدي وألهل‬
‫البيت عليهم السالم‪.‬‬
‫انتهت فترة عمل الوالد ضمن البعثة الدبلوماسية اليمني�ة في تلك الدولة وعدت‬
‫إلى اليمن‪ ،‬وفي بالدي تفاجأت بأن الخالف المذهبي قد بلغ منتهاه في تلك الفترة‬
‫بين الحنابلة الوهابيين من جهة وبين أبن�اء الزيدية الذي يمثل انتماء معظم أبن�اء‬
‫المنطقة الشمالية في اليمن‪ ،‬أما في المناطق الجنوبي�ة لليمن فقد كان هناك الصراع‬
‫على أشده بين الشوافع المتصوفة من جهة والوهابي�ة من جهة أخرى‪ .‬والمالحظ‬
‫أن الحركات الوهابي�ة رغم حداثتها في بالدنا كانت مشاغبة ومستفزة‪ ،‬وفي حارتن�ا‬
‫الكائن�ة في العاصمة صنعاء عشت في بيئ�ة متنوعة المشارب والمذاهب‪ ،‬وكان‬
‫بجوارنا جوامع زيدية وجوامع وهابي�ة ومركز إثني عشري‪ ،‬كل هذا التنوع المذهبي‬
‫أوجد نوعا من التن�اقض في بيئتن�ا انعكس سلبا على حياة الناس‪ ،‬ومثلت تلك الفترة‬
‫فترة صراع مذهبي كبير بين الوهابيين من جهة وأبن�اء الزيدية من جهة أخرى‪ ،‬والحق‬
‫أن األفكار الوهابي�ة استفحلت في ظل الدعم السعودي السخي والرضى األمريكي‬
‫طرف ٌ‬ ‫ٌ‬
‫رابع‬ ‫بذلك‪ ،‬وفي ظل النوم العميق ألبن�اء الزيدية والشافعية‪ ،‬ودخل في الصراع‬
‫أال وهو الشيعة االثن�ا عشرية بقوة كبيرة فانتشرت كتبهم ولقيت لها قبوال ‪-‬شيئ�ا‬
‫ما‪ -‬وسط المجتمع اليمني ربما كردة فعل على العنف والتعصب والنصب السلفي‪.‬‬
‫وهكذا أصبحت الساحة اليمني�ة مسرحا للصراع المذهبي والفكري تارة بين‬

‫‪6‬‬
‫ةيادبلا‬

‫السلفية الوهابي�ة والزيدية‪ ،‬وتارة بين الوهابي�ة والشافعية‪ ،‬وتارة بين االثني عشرية‬
‫والوهابي�ة‪ ،‬وفي هذه البيئ�ة المليئ�ة باالختالفات بدأت الطريق وأيقنت بأن هناك‬
‫علي بمجموعة من اإلخوة‬ ‫خطا يمثل الحق والحقيقة‪ ،‬وكان من فضل هللا أن َّ‬
‫من َّ‬
‫في هللا أخذوا بي�دي وأعانوني على هذا الدرب الشاق‪ ،‬كان أحد هؤالء اإلخوة يدعى‬
‫حسين‪ ،‬وكان يسكن بجوار حارتن�ا تعرفت عليه في أحد الجوامع المجاورة للمنزل‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وكان حقا مثاال لألخالق الفاضلة‪ ،‬أذكر يوما أنن�ا خرجنا من المسجد وكنا ثالثة أحدنا‬
‫حسين‪ ،‬فكان يحدثن�ا عن تفرق هذه األمة وتمزقها إلى فرق متعددة‪ ،‬وكان اعتقاده أن‬
‫سبب تفرق هذه األمة هو تركها لمنهج ورثة الكتاب من أعالم اهل البيت‪ ،‬كانت هذه‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫والغلو والتخلف‪ ،‬دخل معي في نقاشات وحوارات‬ ‫الفكرة تمثل لي نوعا من التعصب‬
‫ً‬
‫كثيرة‪ ،‬والحق أنني كنت في بادئ األمر أتوجس خيفة من هذه األفكار الجديدة التي‬
‫لم يسبق لي أن سمعت بها أو تعرفت عليها‪ ،‬وهذا حال الناس فـ «الناس أعداء ما‬
‫جهلوا"‪ ،‬كان يساورني الشك تجاه هذا الرجل بادئ األمر‪ ،‬وحدثتني نفسي أنه أحد‬
‫المتشددين والمغالين المتعصبين لمذاهبهم‪ ،‬ولكن الغريب أن هذا الرجل كان ‪-‬‬
‫قبل ذلك‪ -‬من المتأثرين بالمنهج الوهابي‪ ،‬وأخبرني بأنه كان شديد الحنق والحقد‬
‫على كل من خالفه‪ ،‬ولم يكن هناك أبغض إلى قلبه من إمام جامعه الذي يدعى‬
‫‪-‬االستاذ إبراهيم‪ -‬ال لشيء إال ألنه كان من أتب�اع أهل البيت عليهم السالم‪ ،‬ولكن‬
‫ْ‬
‫حنكة هذا األستاذ وأخالقه أثرت في حسين فاستطاع أن يؤثر في تفكيره‪ ،‬ومن ثم‬
‫تحول حسين إلى منهج قرناء القرآن من أهل البيت عليهم السالم كما أخبرني بذلك‪.‬‬ ‫ّ‬

‫المهم أنني واصلت الدرب مع أخي حسين فأعطاني مجموعة من الكتب كان لها‬
‫الفضل بعد هللا سبحانه وتعالى في بداية المعرفة الصحيحة‪ ،‬وكان مما يزيد عجبي‬
‫واندهاشي أن هؤالء اإلخوة يستدلون على آرائهم وعقائدهم من القرآن ويعتبرونه‬
‫كلية الشريعة والهداية ويستدلون على الوهابي�ة من كتبهم من باب ‪-‬وشهد شاهد‬
‫من أهلها‪ -‬وكنت أستغرب وأتساءل في نفسي إذا كانت األدلة متظافرة من كتب‬
‫أهل السنة على أحقية منهج قرناء القرآن في االتب�اع فلماذا هذا التكتم بل والحرب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫على هذا المنهج؟ أثر ذلك في نفسيتي تأثيرا بالغا وأخذت أحدث نفسي لماذا كل‬
‫هذا اإلعراض عن هذا المنهج؟ وما السبب في ذلك؟ هل هو التعصب من جانب‬

‫‪7‬‬
‫بداية الطريق‬

‫بقية المذاهب اإلسالمية؟ أم أن السبب لعدم انتشارهذا المنهج هم أبن�اؤه الذين‬


‫ظلموه ولم يعيروه أي اهتمام‪ ،‬وخلصت في االخير إلى أن السبب مشترك من الداخل‬
‫َ ْ‬
‫والخارج‪ ،‬بدأت بعد ذلك لحظات الحماس واالندفاع‪ ،‬وفي هذه المرحلة تعرفت على‬
‫ً‬
‫صديق جديد يدعى جمال والذي كان وهابي�ا إصالحيا فيما سبق‪ ،‬وكنا نقوم بجوالت‬
‫لمجموعة من المساجد التي سيطرت عليها الوهابي�ة ‪-‬كما هي عادتهم في السيطرة‬
‫على الجوامع وطرد أبن�اء الزيدية والشافعية منها‪ -‬وكذلك زرنا بعض المراكز االثني‬
‫عشرية لغرض البحث عن الحقيقة وغرض المناقشة والمحاورة وفي بعض األحيان‬
‫وحمية‪ ،‬كنا ندخل في بعض المساجد وربما‬‫ّ‬ ‫المناظرة‪ ،‬وكانت هذه الفترة فترة نزق‬
‫يصل الحوار بن�ا إلى مشادات كالمية‪ ،‬بل وصل األمر في أحد المساجد أن تعرضنا‬
‫لتعامل عنيف كاد أن ينتهي بمعركة ومشادة باأليدي والعصي‪.‬‬
‫المهم أنني بدأت بقراءة الكتب اإلسالمية بمشاربها المختلفة‪ ،‬وكانت مرحلة‬
‫صعبة؛ كنت أتحسر وأتألم لحال األمة وما جرى عليها من فرقة وشتات وتخلف‪،‬‬
‫وكانت أمنيتي أن يهديني هللا إلى المشروع الذي يجمع شتات هذه األمة ويحفظ لها‬
‫ً‬
‫وخالية من معالم ّ‬ ‫ً‬
‫الغلو والعصبي�ة والتطرف والبدع‪.‬‬ ‫عقيدتها صافية‬

‫وفي الطريق‪:‬‬
‫وفي طريق البحث عن الحقيقة لم أكن أتصور أن الخالف بين المسلمين وصل‬
‫إلى حد المسائل الجوهرية المتعلقة بمعرفة هللا‪ ،‬وفي والية أمر األمة‪ ،‬وكنت أتصور‬
‫أن المسألة خالفات في المسائل الفرعية كهيئ�ات الصالة (اإلرسال أو السربلة عند‬
‫الزيدية والضم عند الشافعية والوهابي�ة) وكلمات األذان (حي على خير العمل في‬
‫جوامع الزيدية‪ ،‬وعدمها في الجوامع الشافعية والوهابي�ة) وغيرها من المسائل‬
‫البسيطة التي ال تتطلب منا كمسلمين أن نتشاغل بها ونتفرق من أجلها‪ ،‬ولكن كانت‬
‫مست أغلى ما يملكه المؤمن في‬ ‫المفاجأة أن القضية وصلت إلى أكبر من ذلك وقد َّ‬
‫مست اعتقاد المؤمن في خالقه‪ ،‬وفي عدله‪ ،‬بل ودخل اإلختالف‬ ‫حياته‪ ،‬نعم لقد ّ‬
‫كذلك في صفات األنبي�اء‪ ،‬القرآن الكريم‪ ،‬والوالية‪ ،‬وغيرها من المسائل الهامة‪ ،‬إلى‬
‫درجة أصبح من الصعب التغاضي عن ذلك‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ةيادبلا‬

‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫المختلف فيها أدركت مدى خطورة المسألة ومدى‬ ‫ولما وجدت كثرة المسائل‬
‫الشرخ والخلل الذي أوقعه أعداء اإلسالم في جسد هذه األمة الدامي‪ ،‬وكان مما ُيدمي‬
‫ويحز في النفس أن هذه األمة رغم معاناتها وتمزقها أصبح بأسها بينها شديدا‪،‬‬ ‫القلب َ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫وعايش األفكار‬ ‫عايش التمزق والتفرق‪،‬‬ ‫واع‬
‫ٍ‬ ‫كشباب‬
‫ٍ‬ ‫�ا‬ ‫ن‬ ‫علي‬ ‫المسؤلية‬ ‫بثقل‬ ‫شعرت‬ ‫عندئذ‬
‫ٍ‬
‫وتأثيرهاعلىالمجتمعات‪.‬‬
‫وفي ظل هذه الظروف المتوترة وجدت بحمد هللا سبحانه وتعالى ضالتي؛ أال‬
‫وهو المشروع القرآني الذي تحرك به الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي‪،‬‬
‫ِ‬
‫اإلمام زيد‬ ‫والذي يمثل االمتداد الطبيعي لورثة الكتاب من أهل البيت السابقين؛‬
‫وغيرهم من أئمة أهل البيت عليهم السالم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واإلمام الهادي ِ‬ ‫ِ‬
‫واإلمام القاسم الرسي‬
‫الذين يمثلون االمتداد الطبيعي لإلسالم المحمدي األصيل‬
‫ً‬
‫ومن منطلق الرحمة بأمة محمد كما تعلمنا ذلك في ظل هذا المنهج‪ ،‬ومحبة في‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬سواء كنت سني�ا أو شيعيا‪ -‬آثرت أن أكتب عن‬ ‫أن تعيش معي الحقيقة أخي القارئ‬
‫ً‬
‫هذا المنهج كأبسط تقدير عرفانا مني بالجميل وطلبا للقرب من هللا سبحانه وتعالى‬
‫في نصرة الحق وأهله‪ ،‬لذلك فضلت أن أكتب هذا الكتاب بأسلوب مبسط وميسر‬
‫للعوام حتى تحصل به الفائدة بإذن هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وقررت أن أضع هذا الكتاب‬
‫بأسلوب العرض المقارن لعقائد ومفاهيم المشروع القرآني في مقابل العقائد‬
‫السلفية الوهابي�ة‪ ،‬ونعرج قليال على بعض الروايات الغير منطقية في كتب إخوانن�ا‬
‫من االثني عشرية وبالذات الغالة منهم (باستثن�اء التي�ار الخميني الجهادي الذي‬
‫ّ‬
‫مثل ثورة ضد االستب�داد األمريكي والصهيوني‪ ،‬وضد الخنوع والخرافة المستشرية‬
‫داخليا عند غالة االثني عشرية) إيمانا مني بالقاعدة المنطقية أن الضد بالضد‬
‫َ‬
‫يعرف‪ ،‬وحتى يتميز للقارئ الكريم الغث من السمين‪ ،‬تعال معي الكتشاف الحقائق‬
‫التالية‪.‬‬
‫***‬

‫‪9‬‬
‫بداية الطريق‬

‫العقيدة في الله سبحانه‬


‫منذ أن ُوجد اإلنسان على وجه األرض وهو يشعر وجداني�ا بعالقة مقدسة‬
‫ُ‬
‫تربطه بالخالق سبحانه وتعالى كحقيقة ف ِط َر الناس عليها‪ ،‬ولما كانت المجتمعات‬
‫والثقافات بطبيعة حالها متداخلة إما صراعا أو حوارا‪ ،‬وفي ظل االبتعاد عن ثقافة‬
‫َ‬
‫األسمى‪،‬‬ ‫ومنهج األنبي�اء‪ ،‬فقد تشكلت عدة نظريات وعقائد في محاولة فهم الوجود‬
‫انبثقت معظم هذه النظريات والعقائد نتيجة أهواء أنجبتها العصبي�ات واألهواء‪،‬‬
‫وأظلتها العادات والتقاليد‪ ،‬وغذاها ورباها الجهل‪ ،‬فساهمت بشكل كبير في طمس‬
‫أو تشويه الفطرة اإللهية التي فطر هللا الناس عليها‪ ،‬وكان لزاما ‪-‬في حكمة هللا‬
‫ورحمته‪ -‬أن يرسل هللا سبحانه أنبي�اءه ورسله بكتب�ه ورساالته الستث�ارة دفائن‬
‫العقول وإلعادة الفطرة البشرية إلى سابق عهدها بربها سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وضمن نطاق المجتمع اإلسالمي فهو مجتمع كغيره من المجتمعات يخضع‬
‫لقانون التأثر والتأثير‪ ،‬ونتيجة لهذا القانون ونتيجة لالبتعاد عن القرآن وورثت�ه‬
‫الحقيقيين اختلطت المبادئ اإلسالمية بغيرها من المعتقدات واألفكار اإلسرائيلية‬
‫واليوناني�ة والزرادشتي�ة وغيرها‪ ،‬ولما كانت بعض الفرق اإلسالمية وبالذات الفرقة‬
‫الوهابي�ة وغالة اإلثني عشرية الشيرازية واإلخبارية قائمة على أساسات هشة نتج‬
‫عن ذلك أفكار وعقائد سقيمة حسبها أصحابها من صميم الدين والكتاب والحق‬
‫رغم أنها من صميم األهواء والبدع‪ ،‬ووجدت هذه الفرق نفسها ناطقة رسمية عن‬
‫عقائد إسرائيلية ويوناني�ة وزرادشتي�ة وهندوسية وغيرها من العقائد البعيدة كل‬
‫البعد عن منطق القرآن وبساطة التوحيد‪.‬‬

‫عقيدة الوهابية في اهلل �سبحانه وتعالى‬


‫ً‬
‫كانت المفاجأة كبيرة جدا بالنسبة لي ولكثير من أصدقائي الذين كنت أخطو‬
‫ً‬
‫معهم سويا في طريق البحث عن الحقيقة عندما تفاجأنا ونحن ّنطلع على الكم‬
‫بجرأة‬
‫ٍ‬ ‫الهائل من الروايات الموجودة في كتب الوهابي�ة التي تتكلم عن الذات اإللهية‬
‫عجيب�ة ووقاحة لم نكن نتصورها!!!‬

‫‪10‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫وال شك أن أغلى ما يملكه االنسان هو حبه ومعرفته باهلل سبحانه وتعالى‬


‫ً‬
‫وحياء‬ ‫المعرفة التي يصنعها القرآن في النفس فتمأل وجدانه وأعماق مشاعره محبة‬
‫وهو يستعرض صفحات القرآن وصفحات هذا الكون الشاهدة على عظمة هللا‬
‫وقدسيت�ه‪ ،‬وتمأله محبة وإجالال وهو يت�ذكر نعم هللا التي أسبغها على عباده‪ ،‬والقرآن‬
‫يأتي لإلنسان من كل جانب ليغرس في نفسه معرفة تجعله مفعما باإليمان التزحزح‬
‫إيمانه الشدائد وال الصعاب‪ ،‬القرآن يغرس في اإلنسان معرفة تجعله مستشعرا‬
‫حضور هللا وشهادته على خلقه‪ ،‬ومن الصعب على قلب تعلق بحب هللا سبحانه‬
‫وتعالى أن يقبل بمثل هذه الروايات التي تلوث فطرة اإلنسان وتجعل ثقافته أشبه‬
‫بثقافة اليهود التي امتألت جرأة ووقاحة بحق هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وقد مثلت تلك‬
‫الروايات ظاهرة شاذة بالنسبة لي والصدقائي على المجتمع المسلم الذي يؤمن من‬
‫منطلق فطرته وثوابت�ه القرآني�ة بإله عظيم منزه مقدس ال يشبه شيئ�ا من مخلوقاته‬
‫ََ ُ ُ َ‬
‫يطون ب ِ ِهۦ‬ ‫ۡٱلَ ِص ُ‬
‫ري﴾ [الشورى‪ ]11 :‬وأنه ﴿ول يِ‬
‫َّ ُ‬ ‫ُ‬
‫شء ‪َ ۖ ٞ‬وه َو ٱلس ِميع‬
‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ َ‬
‫﴿ليس ك ِمثلِ ِهۦ‬
‫ۡ‬
‫عِل ٗما‪[ ﴾١١٠‬طه‪ ]110 :‬وأن له األسماء الحسنى التي نتعبد هللا بالدعاء بها ونحن نتحرك‬
‫في إطار تحملنا مسؤولية االستخالف في األرض‪ ،‬فنعيش في حالة من الطمأنين�ة‬
‫والسكين�ة في ظل الرأفة والرحمة اإللهية‪ ،‬ال يساورك شك بقداسة المعبود وعظمته‬
‫وكبريائه‪ ،‬وال تملك إال أن تسجد بقلبك وجوارحك إعظاما وإجالال له سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ْ ُ‬
‫وكم كان وقع هذه الروايات الخبيث�ة على قلبي قويا‪ ،‬وامتألت حينها حنقا‬
‫وغضبا على من كان السبب في إدخال هذا المنهج الخبيث‪ ،‬وامتألت ألما وحسرة‬
‫على كثير من الشباب الذين وقعوا في شراكه‪ ،‬والغريب العجيب في المسألة أنني‬
‫كنت أتوجه بهذه الروايات إلى بعض المتعاطفين والمنتمين إلى منهج الوهابي�ة‬
‫فيجيبني برد فطري «هذا ال يجوز على هللا" و"هذا كفر"‪ ،‬ولكن عندما يعلم بأن‬
‫هذه المرويات موجودة في الكتب التي يقدسها الوهابي�ة كما في "صحيح" البخاري‬
‫َّ ْ‬
‫أقرته فطرته السليمة‪،‬‬ ‫ومسلم سرعان ما ينقلب على عقبي�ه وينقض ويعاكس ما‬
‫كل ذلك ولو كان على حساب الذات اإللهية! فيعيش حالة من التن�اقض بين ما‬
‫يمليه عليه ضميره وفطرته السليمة من جهة وبين ما يمليه عليه انتماؤه ومنهجه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الذي ارتضاه لنفسه تقليدا وتعصبا من جهة أخرى‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫وقد مثلت هذه النقطة بالذات بالنسبة لي منطلقا كبيرا وتحوال متسارعا عن‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫منهج من يسمون أنفسهم بأهل السنة والجماعة الذي ُصبغت به صبغة سطحية‬
‫َ‬
‫جدا‪ ،‬وبداية التعلق بمنهج قرناء القرآن من أهل البيت عليهم السالم‪ ،‬ولكي تدرك ما‬
‫أقول لك عزيزي القارئ لنب�دأ في طرح التصور الوهابي عن الذات اإللهية من خالل‬
‫مروياتهم‪ ،‬والتي تتحدث عن إله غيراإلله الذي يعرفه المسلمون وتعرفه النفوس‬
‫الزاكية والفطر السليمة‪ ،‬أرجو أن تفهم أخي القارئ أن هذه الروايات تتحدث عن إله‬
‫وهمي ال وجود له إال في كتب اليهود وروايات الوهابي�ة‪ ،‬وأما هللا فهو أسمى وأعلى‬
‫من أن تتن�اوله هذه الروايات اإلسرائيلية التي ملئت بها كتب الوهابي�ة‪.‬‬
‫فالتصور الوهابي للذات اإللهية مبني في مجمله على التشبي�ه والتجسيم للذات‬
‫اإللهية‪ ،‬فاهلل سبحانه وتعالى له (عندهم) أغلب ما لإلنسان من أعضاء وجوارح‬
‫تعالى هللا عما يصفون‪ ،‬ويلمس المطالع ذلك من خالل االطالع على أمهات كتبهم‪،‬‬
‫وسوف أذكر لك هنا نماذج من روايات التشبي�ه من كتبهم ومصادرهم هم حتى‬
‫تعلم أن إيهامهم العوام بأن كتبهم بريئ�ة من التشبي�ه دعوى باطلة ال أساس لها من‬
‫‪-‬سواء كنت ً‬
‫سني�ا أم‬ ‫ً‬ ‫الصحة تشهد بذلك كتبهم كما سنوافيك‪ ،‬ولعلك أخي القارئ‬
‫ً ُ‬
‫شيعيا‪ -‬تفاجأ بهذه الروايات كما تفاجأت بها‪ ،‬بل وقد ال تصدق ذلك‪ ،‬ولكنها لألسف‬
‫الحقيقة وإن كانت ُم َّرة للغاية‪ ،‬فقبل أن تسارع إلى تكذيب كالمي هذا ما عليك إال أن‬
‫تدخل أي مكتب�ة كانت حتى تت�أكد بنفسك مما أقول لك‪.‬‬
‫ولنب�دأ بطرح التصور الوهابي للذات االلهية‪:‬‬
‫فقد أثبتوا هلل يدين ليس هذا فحسب بل جعلوا لها خمسة أصابع كما روي ذلك‬
‫في أصح كتاب عندهم وهو صحيح البخاري «عن عبدهللا قال‪ :‬جاء حبر من األحبار إلى‬
‫رسول هللا (÷) فقال‪ :‬يا محمد إنا نجد أن هللا يجعل السموات على إصبع واألرضين‬
‫على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخالئق على‬
‫إصبع فيقول‪ :‬أنا الملك‪ ،‬فضحك النبي صلى هللا عليه وآله حتى بدت نواجذه تصديقا‬
‫ۡ‬‫َ َ َ َ ُ ْ َّ َ َ َّ َ‬
‫(((‬
‫ٱلل حق قد ِره ِٓۦ﴾ [الزمر‪.]67 :‬‬ ‫لقول الحبر‪ ،‬ثم قرأ رسول هللا (÷) ﴿وما قدروا‬

‫((( صحيح البخاري كتاب التفسير‪ /‬باب تفسير سورة الزمر (و ما قدروا هللا حق قدره)‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫ولم يقتصر األمر على ذلك فما كان منهم إال أن يتبرعوا بتحديد طول هذه اليد‬
‫كما روى أحد كبار أئمتهم وهو عبدهللا بن أحمد بن حنب�ل‪« :‬إن غلظ جلد الكافر‬
‫أربعون ذراعا بذراع الجبار» (((‪.‬‬
‫ثم أثبتوا لهذه اليد البرد كما روى الترمذي في سنن�ه "عن معاذ بن جبل رضي‬
‫هللا عنه قال‪ :‬احتبس عنا رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ذات غداة من صالة‬
‫الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعا فثوب بالصالة فصلى رسول‬
‫وتجوز في صالته فلما سلم دعا بصوته فقال لنا‪ :‬على‬‫َّ‬ ‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫مصافكم‪...‬إلى قوله‪ :‬فإذا أنا بربي تب�ارك وتعالى في أحسن صورة فقال‪ :‬يا محمد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لبيك رب‪ .‬قال‪ :‬فيم يختصم المأل األعلى؟ قلت‪ :‬ال أدري‪ .‬قالها ثالثا‪ .‬قال‪:‬‬
‫فرأيت�ه وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي" (((‪.‬‬
‫كما ترى فإن هذه الرواية تثبت صفة البرودة مع أنها من صفات األجسام‬
‫المحدثات‪ ،‬بل تجعل هللا في صورة والصورة تراكيب وأشكال‪ ،‬يقول سبحانه‬
‫ٓ َ ّ ُ َ َّ َ ٓ َ َ َّ َ َ‬
‫﴿ف أ ِي صورة ٖ ما شاء ركبك﴾ [االنفطار‪ ،]8 :‬والغريب أن إمام أهل الحديث‬ ‫وتعالى‪ِ :‬‬
‫األكبر البخاري يصحح هذا الحديث! يقول الترمذي‪ :‬سألت عن صحته محمد بن‬
‫إسماعيل البخاري فقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح(((!!!!!‪.‬‬
‫ولما كان أكثر تفكير الوهابي�ة تفكيرا قاصرا وخاليا من تعظيم ومعرفة الخالق‪:‬‬
‫كان لسان حالهم يقول‪ :‬كيف يمكن أن يكون لإلله يدان بال ذراع وصدر؟ فما كان‬
‫منهم إال أن استوردوا األحاديث والمرويات اإلسرائيلية التي تسربت إلى كتبهم‬
‫فأثبتوا هلل سبحانه وتعالى الذراعين والصدر! روى عبد هللا بن أحمد بن حنب�ل عن‬
‫النبي (÷) ‪ -‬حاشاه ‪ -‬أنه قال «خلق هللا المالئكة من نور الذراعين والصدر»(((‪،‬‬
‫ويا ليتهم وقفوا عند هذا القدر من التشبي�ه هلل ‪-‬تعالى عن ذلك علوا كبيرا‪ -‬فها‬
‫هم يثبتون له سبحانه وتعالى القدمين! وفي ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن‬

‫((( كتاب السنة ‪.492/2‬‬


‫((( الترمذي ‪.‬‬
‫((( سنن الترمذي‪ :‬كتاب تفسير القرآن‪/‬باب تفسير سورة ص‪.‬‬
‫((( كتاب السنة ص‪.65‬‬

‫‪13‬‬
‫بداية الطريق‬

‫أبي هريرة عن النبي (÷) أنه قال‪« :‬يلقى في النار فتقول هل من مزيد حتى يضع‬
‫قدمه أو رجله فتقول قط قط»((( واألغرب من ذلك أن يروي عبد هللا بن أحمد بن‬
‫حنب�ل «أن الكرسي كالنعل في قدميه»((( ثم بعد ذلك يقولون‪ :‬إنه ال تشبي�ه وال‬
‫تجسيم في كتبهم‪.‬‬
‫وألن عظمة هللا ومحبت�ه لم تترسح في نفوس الوهابي�ة فقد قاسوا الخالق على‬
‫المخلوق ولم يستطيعوا اإليمان باهلل خارج نطاق المادة وفوق مستوى اإلدراكات‬
‫البشرية‪ ،‬وأقحموا الذات العلية إلى حدود المادة وقوانينها‪ ،‬بدال من أن يرتقوا‬
‫بنفوسهم إلدراك أن هللا منزه من ذلك‪ ،‬فما كان منهم إال أن يثبتوا الساق للخالق إذ ال‬
‫يمكن تصور قدم بال ساق‪ ،‬وفي ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث طويل‬
‫عن أبي سعيد الخدري نأخذ منه هذا المقطع «فيأتيهم الجبار فيقول‪ :‬أنا ربكم‪.‬‬
‫فيقولون له‪ :‬هذا مكانن�ا حتى يأتين�ا ربن�ا‪ .‬فيقول‪ :‬هل بينكم وبين�ه آية؟ فيقولون‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬الساق فيكشف عن ساقه» (((! غفرانك ربن�ا ونتوب إليك ونسألك الهداية‬
‫للمسلمين من مثل هذه العقائد الدخيلة على دينن�ا‪.‬‬
‫والبد بعد ذلك من أن يكون هناك حقو للخالق في المخيلة الوهابي�ة إذ كيف‬
‫يكون هناك ارتب�اط بين الصدر والساق بدون حقو!!! روى البخاري في صحيحه عن‬
‫أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وآله أنه قال‪ :‬خلق هللا الخلق فلما فرغ منه قامت‬
‫الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال مه! قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة‪ .‬قال‪:‬‬
‫(((‬
‫أال ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت‪ :‬بلى يا رب‪ .‬قال‪ :‬فذاك‬
‫ولم يعد من الصعب أن نثبت لإلله القعود والنزول والصعود وأن نخضعه‬
‫لقانون الجاذبي�ة فنجعل له ثقال كما روي في أحاديث أهل السنة (أن هللا إذا جلس‬
‫على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد (((» وزاد بن خزيمة‪ :‬من ثقله‪.‬‬

‫((( كتاب البخاري‪/‬كتاب التفسير‪ /‬باب سورة ق (وتقول هل من مزيد) وكتاب التوحيد باب ((إن رحمة هللا‬
‫قريب من المحسنين))‪.‬‬
‫((( كتاب السنة ‪. 475/2‬‬
‫((( صحيح البخاري‪ /‬كتاب التوحيد‪ /‬باب وجوه يومئذ ناظرة إقرأ أحاديث الباب‪.‬‬
‫ُ‬
‫((( صحيح البخاري كتاب التفسير باب تفسير ((وتقطعوا أرحامكم)) سورة محمد‪.‬‬
‫((( كتاب التوحيد البن خزيمة ص‪ 103‬وأبو داود وابن ماجة في سننهما باب ما أنكرت الجهمية‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫وأصبح من السهل ‪-‬تبعا لهذه العقائد الخبيث�ة‪ -‬أن تكتنفه المتغيرات‬


‫والمحدثات! روى البخاري في صحيحه أن هللا يتغير من صورة إلى أخرى إقرأ هذا‬
‫المقطع من حديث طويل عن أبي هريرة‪« ...‬فيأتيهم هللا فيقول‪ :‬أنا ربكم‪ ،‬فيقولون‪:‬‬
‫هذا مكانن�ا حتى يأتين�ا ربن�ا‪ ،‬فإذا جاءنا ربن�ا عرفناه‪ ،‬فيأتيهم هللا في صورته التي‬
‫يعرفون‪.((( »...‬‬
‫ثم تطور الحال والمقال عند الوهابي�ة المضلين فأثبتوا هلل دارا ومكانا يحل‬
‫فيه! روى البخاري في صحيحه عن النبي (÷) أنه قال‪ :‬ننقل هذا المقطع «‪..‬‬
‫فيأتوني فأنطلق فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه حتى إذا رأيت�ه وقعت له‬
‫ساجدا»(((‪.‬‬
‫وليس غريب�ا حسب منطق القوم على رب تحويه مخلوقاته ويأوي إلى دار أن‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫يدنو ويت�دلى! روى البخاري في صحيحه حديث�ا طويال عن شريك ننقل منه هذا‬
‫الجزء «‪ ..‬حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب‬
‫قوسين أو أدنى»(((‪.‬‬
‫َ‬
‫والمعلوم أن الذي دنا فتدلى هو جبريل عليه لسالم بدليل قوله تعالى‪﴿ :‬ما‬
‫ًَۡ ُ‬ ‫ۡ ََ ُ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ َ ُ َ َ َ ٰٓ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫َ‬
‫ى‪ ١٣‬عِند‬ ‫ۡخ َر ٰ‬ ‫اه نزلة أ‬ ‫ى‪َ ١٢‬ولقد رء‬ ‫ع َما يَ َر ٰ‬ ‫ى‪ ١١‬أف ُت َم ٰ ُرونَ ُهۥ َ ٰ‬ ‫كذ َب ٱلفؤاد ما رأ‬
‫ۡ‬
‫َ َ َ‬
‫ش‪ ١٦‬ما زاغ‬ ‫ۡغ َ ٰ‬ ‫ۡ َ َ َ‬ ‫ّ‬
‫ٱلسد َرة ما ي‬
‫ۡ َ‬
‫ى‪ ١٥‬إِذ يغش ِ‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َمأ َو ٰٓ‬ ‫َ َ َ َّ ُ‬
‫ه‪ ١٤‬عِندها جنة ٱل‬
‫ُۡ َ‬
‫نت َ ٰ‬ ‫ۡ‬
‫ِسد َرة ِ ٱلم‬
‫ََ َ‬
‫ى‪[ ﴾١٨‬النجم‪ ]18-11 :‬وآيات هللا غير‬ ‫ب ٰٓ‬‫َۡ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ّ‬
‫ت َرب ِ ِه ٱلك‬
‫ۡ َ‬
‫ى مِن ءَاي ٰ ِ‬ ‫ۡد َرأ ٰ‬
‫غ‪ ١٧‬لق‬ ‫ۡٱلَ َ ُ‬
‫ص َو َما َط َ ٰ‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وال أدري كيف يستقيم هذا الحديث مع الحديث الذي رواه‬
‫البخاري نفسه عن عائشة أنها قالت في هذه اآلية‪« :‬أنا أول هذه األمة سأل رسول‬
‫هللا عن ذلك فقال‪ :‬إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين‬
‫(((‬
‫المرتين‪ ،‬رأيت�ه منهبطا من السماء سادا عظيم خلقه ما بين السماء واألرض»‬
‫واستكماال لمسلسل التشبي�ه إضافة النزول الحسي ال المعنوي من ذلك ما‬
‫((( البخاري كتاب التوحيد باب وجوه يومئذ ناظرة إقرأ آحاديث الباب‪.‬‬
‫((( البخاري كتاب التوحيد باب وجوه يومئذ ناظرة إقرأ آحاديث البا ب‪.‬‬
‫((( البخاري كتاب التوحيد باب وكلم هللا موسى تكليما‪.‬‬
‫((( ذكر حديث مقارب لهذا في صحيح البخاري كتاب التفسير باب تفسير سورة النجم‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫بداية الطريق‬

‫رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول هللا (÷) قال‪ :‬ينزل ربن�ا تب�ارك‬
‫وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدني�ا حين يبقى ثلث الليل اآلخر فيقول‪ :‬من يدعوني‬
‫فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له؟ (((‪.‬‬
‫ورغم أن بعض العلماء فسر الحديث بالنزول المعنوي كما ذكر بن حجر‬
‫العسقالني شارح البخاري‪ ،‬إال أن الوهابي�ة يرفضون ذلك رفضا قاطعا ويؤكدون‬
‫أنه ينزل بذاته! وال أدري كيف يستقيم ذلك مع الحديث الذي يقول‪ :‬إن السموات‬
‫على إصبع واألرضين على إصبع المذكور سابقا فإذا كانت السموات بأكملها على‬
‫إصبع كيف يكون النزول من السابعة إلى األولى إال إذا أثبتوا للخالق سبحانه وتعالى‬
‫خاصية التمدد واإلنكماش ‪-‬سبحانه وتعالى عن ذلك‪ -‬ولم ال؟ لم يعد ذلك صعبا‬
‫(عندهم) بعد كل هذه الخزعبالت‪.‬‬
‫بل كيف يكون على العرش ثم ينتقل إلى السماء التي ال تساوي شيئ�ا أمام‬
‫العرش كما هو مروي في كتبهم؟ كل ذلك يدل على محدودية الخالق وحلوله في‬
‫خلقه بالمقتضى الوهابي وإال ما معنى ذلك؟ والحق أنني سألت كثيرا من الوهابيين‬
‫العقائديين عن هذه اإلشكاالت فلم أجد منهم إال جوابا واحدا وهو‪" :‬يجب أن نؤمن‬
‫بهذه األحاديث بال كيف"‪ ،‬بينما عندما أعرضها على عوامهم الذين ما زالوا على‬
‫الفطرة يستنكرونها ويستبشعونها‪.‬‬
‫وروى عبدهللا بن أحمد بن حنب�ل بإسناده عن النبي أنه قال‪« :‬لما كلم هللا موسى‬
‫عليه السالم ربه عز وجل كان عليه جبة صوف وعمامة ونعاله من جلد حمار غير‬
‫زكي» (((" وقد أخرج هذا األثر اآلجري في الشريعة وابن بطة وهما من الحنابلة‪،‬‬
‫واألثر مكذوب على النبي صلى هللا عليه وآله وسلم وفيه تجسيم وتشبي�ه واضح‬
‫واستهانة بالذات اإللهية وقد يقول البعض‪ :‬إن هذا يريد من القائل وصفا لموسى ال‬
‫هلل عز وجل‪ ،‬أقول أرجو ذلك ولكن يعكر على هذا االعتذار أن سياق اآلثار في الباب‬
‫كله إثب�ات صفات هللا عز وجل من جلوس وقيام وصوت وكرسي وصدر وذراعين‬

‫((( البخاري كتاب التهجد‪ ،‬باب الدعاء والصالة في آخر الليل‪.‬‬


‫البخاري كتاب التوحيد باب وكلم هللا موسى تكليما‪.‬‬
‫((( كتاب السنة ‪. 293/1‬‬

‫‪16‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫ونحو ذلك‪ ،‬وال فائدة لهم هنا في ذكر لبس موسى فإن هذا مما ال دخل له بالعقيدة‬
‫وال السنة» (((‪.‬‬
‫مثل هذه العقائد ال تثمر إال قلوبا خاوية من تعظيم الخالق حتى أن التشبي�ه‬
‫والتجسيم واالستهزاء بالذات العلية أصبح تنزيها وتعظيما عندهم فها هو ابن‬
‫تيمية والملقب عندهم بشيخ اإلسالم يقر مقولة الدارمي الشنيعة‪« :‬ولو شاء هللا‬
‫الستقر على ظهر بعوضة‪ ،‬فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيت�ة فكيف على عرش‬
‫عظيم» (((‪.‬‬
‫وحتى تكتمل لديك الصورة وتدرك تماما أن َّ‬
‫حمى التشبي�ه متجذرة لدى الوهابي�ة‬
‫تأمل هذه الروايات‪:‬‬
‫أن السماء ممتلئ باهلل عز وجل‪ .‬كتاب السنة ‪.457/2‬‬
‫وأن أسباب الزالزل أن هللا يب�دي بعضه لألرض فتزلزل‪ .‬كتاب السنة ‪.407 /2‬‬
‫وأنه خلق آدم على صورته هو‪ .‬المصدر السابق ‪.472 /2‬‬
‫وأن عرش الرحمن مطوق بحية‪ .‬المصدر السابق ‪.474 /2‬‬
‫وأن هللا يطوف في األرض‪ .‬المصدر السابق ‪.486 /2‬‬
‫وأن هللا يضع يده في يد داود‪ .‬المصدر السابق ‪.502 /2‬‬
‫ويأمره أن يأخذ بحقوه‪ .‬المصدر السابق ‪.503/2‬‬
‫وأن الرياح من نفس الرحمن‪ .‬المصدر السابق ‪.510/2‬‬
‫يقول األستاذ حسن فرحان المالكي مستعرضا طامات الحنابلة السلفيين‬
‫بقوله‪:‬‬
‫صحح الشيخ عبد المغيث الحربي الحنبلي حديث االستلقاء!! الذي فيه أن‬
‫هللا لما انتهى من الخلق استلقى ووضع رجال على رجل» (((‪.‬‬
‫((( أ‪.‬هـ قراءة في كتب العقائدبتصرف ص‪.125-124‬‬
‫((( التأسيس‪.568/1/‬‬
‫((( انظر سير أعالم النبلاء للذهبي ‪.160 /21‬‬

‫‪17‬‬
‫بداية الطريق‬

‫أما األهوازي [الحسن بن علي بن إبراهيم ] ‪-‬وهو من غالة أهل السنة وغالة‬
‫أهل السنة حنابلة‪ -‬الحنبلي فقد ألف كتابا طويال في الصفات أورد فيه أحاديث‬
‫باطلة ومنها حديث عرق الخيل الذي نصه‪ " :‬إن هللا لما أراد أن يخلق نفسه خلق‬
‫الخيل فأجراها حتى عرقت ثم خلق نفسه من ذلك العرق " ((( تعالى هللا عن ذلك‬
‫علوا كبيرا‪.‬‬
‫إلى أن وصل إلى قوله‪ :‬كما حدث األهوازي هذا بحديث «رأيت ربي بمنى على‬
‫جمل أورق عليه جبة» وهذا تشبي�ه واضح وتجسيم صريح‪...‬‬
‫وروى عبد الصمد بن يحيى الحنبلي قال‪ :‬قال لي شاذان‪ :‬إذهب إلى أبي عبدهللا‬
‫‪ -‬أحمد بن حنب�ل ‪ -‬فقل ترى لي أن أحدث بحديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس‬
‫قال‪« :‬رأيت ربي عز وجل في صورة شاب» قال‪ :‬فأتيت أبا عبدهللا فقلت له‪ :‬فقال‬
‫(((‬
‫لي‪ :‬قل له‪ :‬تحدث به قد حدث به العلماء‪((( !!..‬إ‪.‬هـ‬
‫وكثيرة جدا هي الروايات من هذا القبي�ل في كتب الوهابي�ة وخصوصا كتاب‬
‫السنة لعبد هللا بن أحمد بن حنب�ل‪ ،‬وكتاب التوحيد البن خزيمة‪ ،‬والغريب أن شيخ‬
‫الوهابي�ة مفتي السعودية في العصر السابق عبد العزيز بن باز يصف هذين الكتابين‬
‫ضمن الكتب الهامة في العقيدة وينصح بهما إلى جانب كتب أخرى‪.‬‬
‫واألغرب من ذلك أن علماء السلفيين من لدن عبد هللا بن أحمد بن حنب�ل إلى ابن‬
‫تيمية في كتابه التأسيس في رد أساس التقديس‪ ،‬إلى ابن باز يصححون الحديث‬
‫المكذوب على رسول هللا (÷) «أن هللا خلق آدم على صورة الرحمن» (((‪.‬‬
‫وقد قام أحد مشائخهم وهو المدعو حمود التويجري بت�أليف كتاب بهذا الشأن‬
‫سماه «عقيدة أهل اإليمان في خلق آدم على صورة الرحمن»‪.‬‬

‫((( سير أعالم النبلاء ‪ 17 /18‬وتاريخ اإلسالم ‪ 124/30‬وقد اتهمه ابن عساكر بأنه من الفرقة السالمية المجسمة‪،‬‬
‫لكن ابن تيمية عده من أهل السنة في الجملة فاحتمل أمثال هؤالء داخل أهل السنة مع ما ترى من بشاعة ولم‬
‫يحتمل دخول المعتزلة والجهمية ومعتدلي الشيعة وهذه مفارقة عجيب�ة‪.‬‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪.46 /2 ،218/1‬‬
‫((( قراءة في كتب العقائد ص‪.130-129‬‬
‫((( انظر فتاوى بن باز ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫ثم تجدهم يصدرون كالمهم هذا بقولهم‪ :‬إجماع السلف‪ ،‬وقال السلف الصالح‪،‬‬
‫وإجماع الصحابة‪ ،‬لتأكيد هذا الكفر والكذب!‬
‫واعلم أن عامة المسلمين قد شنعوا على الوهابيين الحنابلة عقائدهم الكفرية‬
‫والضالة هذه‪ ،‬فما كان منهم إال أن التفوا على هذه المرويات بإلحاق ذيل بعد كل‬
‫تشبي�ه وتجسيم فتراهم يقولون‪" :‬إن التشبي�ه والمشبهة هم الذين يقولون‪ :‬يد‬
‫كيدي ووجه كوجهي ولكنن�ا نقول‪ :‬بال كيف وبما يليق بجالله"‪ ،‬والحق أنن�ا ال نعلم‬
‫أحدا حتى اليهود الذين هم أئمة التشبي�ه يقولون أن هلل يدا كأيدين�ا أو رجال كأرجلنا‪،‬‬
‫وهلل درالقائل معلقا على ذلك‪:‬‬

‫وجماعـــة حمـــر لعمـــري موكفـــة‬ ‫وجماعـــة ســـموا هواهـــم ســـنة‬


‫شـــنع الـــورى فتســـتروا بالبلكفـــة‬ ‫قـــد شـــبهوه بخلقـــه وتخوفـــوا‬

‫روايات الت�شبيه والتج�سيم الموجودة في كتب االثني ع�شرية‬


‫ً‬
‫اما الشيعة االثني عشرية فهم أخف وطئا من الوهابي�ة في هذا الجانب‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬
‫خالل مطالعتي لكتب علمائهم المتقدمين والمتأخرين منهم فقد ألفوا الكثير‬
‫ومشرف‪ ،‬ولكن رغم ذلك لم ُ‬
‫تخل‬ ‫ّ‬ ‫من الكتب التي ترد على المشبهة بشكل قوي‬
‫مراجعهم وكتبهم من روايات التشبي�ه والتجسيم ربما ألن كتبهم مصابة بداء الحشو‬
‫الزائد‪ ،‬وإليك امثلة لروايات التشبي�ه عندهم‪:‬‬
‫“إن بين هللا وبين خلقه تسعين ألف حجاب‪ ،‬وأقرب الخلق إلى هللا أنا وإسرافيل‪،‬‬
‫وبينن�ا وبين�ه أربعة حجب‪ ،‬حجاب من نور‪ ،‬وحجاب من الغمام‪ ،‬وحجاب من ماء” (((‪.‬‬
‫وروى عبد هللا ّ‬
‫شبر في كتابه حق اليقين ‪ 239/1‬عن النبي صلى هللا عليه وعلى‬
‫آله وسلم أنه قال‪ ..“ :‬فلما دخلت إلى الجنة رجعت إلى نفسي‪ ،‬فسألت جبريل عن‬
‫تلك البحار وهولها وأعاجيبها‪ ،‬فقال‪ُ :‬سرادقات الحجب التي احتجب هللا تب�ارك‬
‫وتعالى بها”‪.‬‬

‫((( حق اليقين ‪.239/1‬‬

‫‪19‬‬
‫بداية الطريق‬

‫وروى في الكافي ‪ 7/2‬عن أبي عبد هللا عليه السالم‪“ :‬إن هللا ّلما أراد أن يخلق‬
‫آدم أرسل الماء على الطين‪ ،‬ثم قبض قبضة فعركها‪ ،‬ثم فرقها فرقتين بي�ده”‪.‬‬
‫وروى في الكافي ‪“ 5/2‬فأمسك القبضة األولى بيمين�ه‪ ،‬والقبضة األخرى‬
‫منك‬
‫منك الرسل‪ ،‬وإلى أن قال للذي بشماله‪ِ :‬‬
‫بشماله‪ ...‬إلى أن قال للذي بيمين�ه‪ِ :‬‬
‫الجبارون”‪.‬‬
‫ومن كتاب نور العين في المشي إلى زيارة قبر الحسين انظر الفهرس وفيه باب‪:‬‬
‫من زار قبر الحسين كان كمن زار هللا فوق عرشه!!!‬
‫باب‪ :‬من زار قبر الحسين كان كمن زار هللا فوق كرسيه!!!‬
‫باب‪ :‬من ّ‬
‫سره أن ينظر الى هللا فليكثر زيارة الحسين!!!‬
‫وغيرها من الروايات اإلسرائيلية التي امتلئت بها كتبهم‪.‬‬
‫ومن المناسب ذكر أن جميع علماء االثني عشرية في العصر الحالي ينكرون‬
‫التشبي�ه‪ ،‬وهذا تحول إيجابي بعكس الوهابي�ة‪ ،‬بل ويكذبون الروايات الموجودة في‬
‫كتبهم حول التشبي�ة وال يحيطونها بهالة من القداسة كما هو حال الوهابي�ة‪.‬‬

‫عقيدة قرناء القر�آن في اهلل‬


‫إن شئت أن تسميهم بأهل المعرفة فسمهم‪ ،‬وإن شئت أن تسميهم بأهل القرآن‬
‫فسمهم‪ ،‬فالحق أنني ومنذ فترة طويلة وأنا أبحث عن المعرفة الحقيقية الصادقة‬
‫باهلل سبحانه وتعالى التي تنسجم مع القرآن ومع الفطرة التي فطرنا هللا عليها لم‬
‫أجدها إال في المشروع القرآني العظيم؛ إن اإلله في هذا المنهج إله خارج نطاق‬
‫المادة وفوق مستوى إإلدراكات‪ ،‬إنه إله ال تحويه األقطار وال يقاس بالناس وال يدرك‬
‫بالحواس‪ ،‬الظاهر والباطن األول واآلخر السميع البصير‪ ،‬إنها المعرفة التي صنعها‬
‫القرآن والواسعة بسعة تعاليم القرآن‪.‬‬
‫وبهذا تجد كتبهم مشحونة‪ ،‬وقد نذر قرناء القرآن أنفسهم للدفاع عن أساس‬
‫الدين وهو معرفة هللا المعرفة القرآني�ة‪ ،‬وها أنا ذا أذكر لك نماذج مما روي في كتبهم‬

‫‪20‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫وما نطقت به أئمتهم سالم هللا عليهم فهم االمتداد الطبيعي لجدهم رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم‪:‬‬
‫‪ -‬روى اإلمام أبو طالب الهاروني في أماليه بسند صحيح قال‪ :‬جاء رجل إلى‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا علمني من غرائب العلم‪،‬‬
‫فقال (÷) وماذا صنعت في رأس العلم حتى تسألني عن غرائب�ه؟ قال وما رأس‬
‫العلم يا رسول هللا؟‪ .‬قال‪ :‬أن تعرف هللا حق معرفته‪ .‬قال‪ :‬وما معرفة هللا حق معرفته؟‬
‫قال‪ :‬أن تعرفه بال مثي�ل وال شبي�ه وأن تعرفه إلها واحدا أوال آخرا ظاهرا باطنا ال كفؤ له‬
‫وال مثل له»((( وروى اإلمام أبو طالب الهاروني عليه السالم عن النبي صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم أنه قال‪« :‬خمس ال يعذر بجهلهن أحد معرفة هللا‪ ،‬أن تعرفه وال تشبهه‬
‫بشيء ومن شبه هللا بشيئ وزعم أن هللا يشبه شيئ�ا فهو من المشركين‪ ،‬والحب في‬
‫(((‬
‫هللا والبغض في هللا‪ ،‬واألمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬واجتن�اب الظلم»‪.‬‬
‫‪ -‬قال اإلمام علي عليه السالم مثني�ا على ربه سبحانه وتعالى‪« :‬فاعل ال‬
‫باضطراب آلة‪ ،‬مقدر ال بجول فكرة‪ ،‬غني ال باستفادة‪ ،‬ال تصحبه األوقات‪ ،‬وال ترفده‬
‫األدوات»((( وقال أيضا‪ “ :‬ال يوصف بشيء من األجزاء‪ ،‬وال بالجوارح واألعضاء‪...،‬‬
‫وال يقال له حد وال نهاية‪ ،‬وال انقطاع وال غاية‪ ،‬وال أن األشياء تحويه فتقله أو تهويه‪،‬‬
‫أو أن شيئ�ا يحمله فيميله أو يعدله‪ ...،‬يخبر ال بلسان ولهوات‪ ،‬ويسمع ال بخروق‬
‫وأدوات‪ ،‬يقول وال يلفظ‪ ،‬ويحفظ وال يتحفظ‪ ،‬ويريد وال يضمر‪ ،‬يحب ويرضى من‬
‫(((‬
‫غير رقة‪ ،‬ويبغض ويغضب من غير مشقة)‪.‬‬
‫‪ -‬وقال اإلمام علي بن الحسين عليه السالم (سبحانك خضع لك من جرى‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫في علمك‪ ،‬وانقاد للتسليم لك كل خلقك‪ ،‬سبحانك التجس والتحس‪ ،‬وال تمس‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وال تكاد‪ ،‬وال تماط‪ ،‬وال تن�ازع‪ ،‬وال تجارى‪ ،‬وال تمارى‪ ،‬وال تخادع‪ ،‬وال تماكر‪ ،‬سبحانك‬
‫سبيلك جدد‪ ،‬وأمرك رشد‪ ،‬وأنت حي صمد‪...‬‬

‫((( امالي ابي طالب‪.‬‬


‫((( امالي ابي طالب‪.‬‬
‫((( نهج البالغة ص‪.439‬‬
‫((( نهج البالغة ص‪.440‬‬

‫‪21‬‬
‫بداية الطريق‬

‫‪ -‬روى العلوي عن عبي�د هللا بن العالء قال‪ :‬سمعت زيدا عليه السالم يقول في‬
‫ۡ َ ُ ُ ْ َ َ ُْۘ َ‬
‫ۡل يَ َداهُ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ َ ٌ ُ َّ‬ ‫ۡ َ ُ ُ َ ُ َّ َ‬ ‫ََ َ‬
‫يهم ول ِعنوا بِما قالوا ب‬‫ِ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫غ‬ ‫ۚ‬ ‫ة‬‫ول‬ ‫ل‬‫غ‬‫م‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ود‬‫ه‬ ‫ٱل‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬وقال‬
‫ُ ُ‬ ‫ۡ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫ان﴾ [المائدة ‪ ، ]64‬قال‪ :‬مجاز اآلية النعمة منه والفضل‪ ،‬وقوله تعالى‪﴿ :‬ين ِفق‬ ‫مبسوطت ِ‬
‫َۡ ََ ٓ‬ ‫َ‬
‫كيف يشا ُء ۚ﴾‪ ،‬يدل على ذلك وقد يقول الرجل من العرب‪ :‬لفالن علي يد أي نعمة‪ .‬وقد‬
‫ُۡ ًَ َ‬ ‫ۡ ََ َ َ‬ ‫َۡ‬‫ََ َ‬
‫ك﴾[ المائدة‪]64 :‬‬ ‫ِ‬
‫ق‬ ‫ن‬
‫ِ ُُ َ‬‫ع‬ ‫ٰ‬
‫ل‬ ‫إ‬ ‫ة‬ ‫ول‬‫ل‬‫غ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫قال علي عليه السالم في قوله تعالى‪﴿ :‬ول‬
‫قال‪« :‬ال تمسك يدك عن النفقة في حق بمنزلة المغلولة يده إلى عنقه‪.((( »...‬‬
‫ويقول اإلمام القاسم الرسي عليه السالم‪“ :‬فأما دالئله لنا سبحانه أنه خالف‬
‫لألشياء‪ ،‬ولكل ما يعقل في جميعها من العجزة واألقوياء فقوله سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ۡ‬ ‫ُ َ َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ َ‬
‫ري‪ ﴾١١‬وما ليس كمثله شيء فهو خالف‬ ‫شء ‪َ ۖ ٞ‬وهو ٱلس ِميع ٱلَ ِ‬
‫ص ُ‬ ‫ۡ‬ ‫﴿ليس ك ِمثلِ ِهۦ‬
‫لكل شيء وقوله سبحانه في سورة التوحيد واإلفراد بعد تنزهه فيها سبحانه عن‬
‫َ َ َ ُ َّ ُ ُ َ َ ُ‬
‫ۡم يكن ُلۥ كف ًوا أحدۢ‪[ ﴾٤‬اإلخالص‪ ]4 :‬ومن لم يكن له كفوا أحد‬
‫الوالد واألوالد ﴿ول‬
‫فهو خالف لكل أحد‪ ،‬وما كان خالفا لآلحاد كلها كان خالفا اضطرارا ألصلها؛ ألن‬
‫األصل في نفسه وتحداده فهو غير شك جميع آحاده‪ ،‬فاهلل سبحانه هو خالف اآلحاد‬
‫المعدودة وجميع ما يعقل من األصول الموجودة‪ ،‬وهو هللا الصمد الحق الذي ليس‬
‫من وراءه مصمد يصمد إليه صامد”‪.(((.‬‬
‫‪ -‬ويقول اإلمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السالم‪ ..“ :‬وأن هللا عالم الغيوب‬
‫ال تخفى عليه خافية في األرض وال في السماء وال في الدني�ا وال في اآلخرة وأنه القادر‬
‫الذي ال يعجزه شيء من األشياء لم يزل عالما قادرا وال يزال قادرا عالما‪ ،‬ليس لقدرته‬
‫غاية وال ل[]علمه نهاية‪ ،‬وليس علمه وقدرته سواه‪ ،‬هو القادر ال بقدرة سواه‪ ،‬والعالم‬
‫ال بعلم سواه‪ ،‬وهو السميع البصير‪ ،‬ليس سمعه غيره وال بصره سواه‪ ،‬وال السمع غير‬
‫البصر وال البصر غير السمع‪ ،‬وال يوصف بسمع كأسماع المخلوقين‪ ،‬وال يبصر ببصر‬
‫كأبصار المخلوقين‪ ،‬تعالى هللا عن ذلك ولكنه سميع ال تخفى عليه األصوات‪ ،‬وال‬
‫الكالم‪ ،‬وال اللغات‪ ،‬بصير ال تخفى عليه األشخاص وال الصور وال الهيئ�ات وال مكان‬

‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام زيد ص ‪.338‬‬


‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام القاسم الرسي ص‪.230‬‬

‫‪22‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫شيء من األشياء وموضعه‪ ،‬وال يغيب عليه أمره وحاله‪ ،‬لم يزل سميعا بصيرا ليس‬
‫ذلك على إضافة شيء ثان له تب�ارك وتعالى‪ ،‬وال كما ظن المشبهون أن له وجها‬
‫وصورة وتخطيطا‪ ،‬وأنها نفس في جسد حاشا هللا من ذلك‪ ،‬ولكنه على تحقيق إثب�اته‬
‫جل جالله‪.((( »...‬‬
‫‪ -‬ويقول الشهيد القائد «ومتى ما سمعناه يسمي نفسه بأنه قدير فإنه يقول‪:‬‬
‫شءٖ قَ ِد ٌ‬
‫ۡ‬‫َّ ُ َ َ ٰ ُ ّ َ‬
‫ير‪[ ﴾٣٩‬فصلت‪ ]39 :‬ال يعجزه شيء‪ ،‬والقرآن الكريم عمل على‬ ‫ك‬
‫﴿إِنهۥ ع ِ‬
‫ترسيخ مبدأ الكمال‪ ،‬كمال هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو المبدأ الذي استطاع أن ينسف‬
‫ً‬
‫الشرك من نفوس العرب‪ ،‬عندما جاء ليقول لهم‪ :‬إن اإلله يجب أن يكون كامال‪ ،‬اإلله‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الذي يستحق العبادة يجب أن يكون كامال كماال مطلقا‪ ،‬أما إذا كان ناقصا محتاجا‬
‫ً‬
‫فغيره أكمل منه‪ ،‬إذا فغيره أولى بالعبادة له منه‪ ،‬فتحدث عن أصنامهم بأنها ال تنفع‬
‫ً‬
‫وال تضر‪ ،‬ال تسمع‪ ،‬ال تبصر‪ ..‬ألم يتحدث في القرآن الكريم عن هذا كثيرا؟‪.‬‬
‫نبي هللا إبراهيم عندما حطم تلك األصنام؛ ليثير في نفوس قومه أن هذه‬
‫األصنام التي تعبدونها ناقصة قاصرة‪ ،‬ال تستطيع أن تنفع وال تضر‪ ،‬ال تستطيع أن‬
‫تدفع عن نفسها فكيف يمكن أن تدفع عنكم‪ ،‬فلماذا تعبدونها؟! إن من يجب أن‬
‫تعبدوه هو هللا سبحانه وتعالى الكامل‪ ،‬ذي الكمال المطلق‪ ،‬الذي ال أحد يستطيع‬
‫أن يقهره‪ ،‬الذي إذا التجأت إليه نفعك‪ ،‬إذا خرجت عن نهجه وتجبرت عليه ضربك‪،‬‬
‫َ َّ‬
‫﴿و ِلِ‬ ‫ويستطيع أن يضربك‪ ،‬ويقول لك‪ :‬بأن كل من في السموات واألرض جنود لـه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ ْ َّ ُ‬ ‫َ َ َ ُ ٓ ْ َ ٰٓ َ ُ‬ ‫َۡ‬ ‫ُ ُ ُ َّ َ َ‬
‫ۡم أنت ُم‬ ‫ۡم فقال ٓوا إِنك‬
‫ل أنف ِس ِه‬ ‫ت َوٱل ِ ۚ‬
‫ۡرض﴾ [الفتح‪ :‬من اآلية‪﴿ ]4‬فرجعوا ِإ‬ ‫جنود ٱلسمٰو ٰ ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ٱلظٰلِ ُمون﴾ [األنبي�اء‪ ]64:‬عرفوا أنه فعال أصنام تتحطم هي ناقصة‪ ،‬فكيف نعبدها‪ ،‬ماذا‬
‫أي كمال لها تستحق به‬ ‫يمكن أن تعمل هذه األصنام؟ من أي وجه تستحق العبادة؟ ّ‬
‫َ‬ ‫ُْ‬
‫ونثني عليها‪.‬‬ ‫أن نعبدها‪ ،‬ونخ ِضع أنفسنا لها‪،‬‬
‫وهكذا استطاع القرآن الكريم أن ينسف الشرك من نفوس العرب إلى اآلن‪ .‬هل‬
‫هناك صنم في البالد العربي�ة ركزوه من جديد ليعبدوه؟ انتهى الموضوع؛ ألن كل‬
‫ً‬
‫واحد يتساءل لماذا أنصب صخرة‪ ،‬أو خشبة‪ ،‬أو تمثاال فأعبده وأؤلهه‪ ،‬ماذا يمكن‬
‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام الهادي عليه السالم ص ‪.88‬‬

‫‪23‬‬
‫بداية الطريق‬

‫أن يعمل؟ لماذا أعبده؟ بأي وجه يستحق العبادة؟ أي كمال فيه يستحق أن أعبده‪،‬‬
‫واثني عليه‪ ،‬وأمجده‪ ،‬وأعظمه وأقدسه؟ انتهت‪.‬‬
‫ً‬
‫فعندما نسمع أن من عقائدنا‪ :‬أن هللا سبحانه وتعالى ال يشبه شيئ�ا‪ ،‬وال يجوز‬
‫ً‬
‫أن يشبه شيئ�ا؛ ألن كل األشياء غيره سبحانه وتعالى فيها دالئل الحدوث‪ ،‬فلو كان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مشبها ألي شيء من مخلوقاته لكان قد أصبح ناقصا محتاجا كمثلها‪ ،‬ولكان هو في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نفسه دليال على أن هناك طرفا آخر هو أكمل منه‪ ،‬وهذا نسف لأللوهية من أساسها‪،‬‬
‫ً‬
‫نسف الستحقاقه األلوهية والربوبي�ة من أساسها؛ ألنن�ا سنقول فيما بعد‪ :‬إذا ذلك‬
‫الذي منحك هذا الذي أنت عليه هو أجدر بالعبادة‪ ،‬هو أكمل منك‪ .‬وتالحظون أن‬
‫ً‬
‫مبدأ الكمال ‪ -‬أيضا ‪ -‬هو مما رسخه هللا سبحانه وتعالى في نفوسنا‪ ،‬فطرة فطر‬
‫الناس عليها‪.‬‬
‫أنت في كل أعمالك تبحث عن األكمل‪ .‬أليس كذلك؟ أنت تريد أن تبني فيقال‬
‫لك‪ :‬فالن وفالن‪ ،‬وفالن‪ ،‬وفالن‪ ،‬فالن هو تعلم عند فالن‪ .‬ستقول وهللا سأشوف‬
‫فالن الذي علمه هو أبصر منه‪ ..‬أليس كذلك‪ .‬حتى وأنت تبحث عن زوجة تريد أن‬
‫تبحث عن الزوجة األكمل‪ ،‬عندما نقول نحن‪ :‬أريد أن تكون طبيعتها جيدة‪ ،‬شكلها‬
‫جيدة‪ ..‬ألست هنا تبحث عن كمال؟ هكذا وأنت تريد أن تغرس‬ ‫مقبول‪ ،‬ومن أسرة ِّ‬
‫شجرة قات ألست ستبحث عن الشجرة الجيدة؟ تقول ما نشتي نغرس حمار أو‬
‫سواد نشتي نغرس قات زراق هو أحسن‪ ،‬وبيتحمل قطف‪ ،‬هو كذا وكذا‪ ..‬وأنت تريد‬
‫أن تشتري ثور‪ ،‬أنت تبحث في السوق تبحث عن الثور الذي تجد فيه مميزات كمال‬
‫بالنسبة له‪ ،‬وأنت تريد أن تبحث عن خياط كذلك تريد تبحث عن خياط يجيد‬
‫الخياطة أي فيه صفات كمال أكمل من اآلخر‪ ...‬دكاكين الخياطة واحد اثنين ثالثة‬
‫جيد وهكذا‪ .‬مبدأ الكمال والبحث عن األكمل‬ ‫أربعة أنت تبحث عن من؟ عن خياط ّ‬
‫َّ‬
‫هو من الفطر التي فطر هللا الناس عليها‪ ،‬وهو ُسلم ينتهي باهلل سبحانه وتعالى‬
‫الكامل الكمال المطلق‪.‬‬
‫ً‬
‫حتى عندما نصف شخصا نقول‪ :‬عالم كريم فاضل‪ ..‬ما أنت تصفه بنوع من‬
‫هذه الصفات التي تسمع هللا سبحانه وتعالى يصف نفسه بها؟ لكن وفوق كل ذي‬

‫‪24‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫علم عليم‪ ،‬إلى أن تنتهي إلى عند العالم الذي ال يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات‬
‫وال في األرض‪ ،‬عند من قال عن نفسه بأنه ال تسقط ورقة إال يعلمها‪ ،‬وال حبة في‬
‫ظلمات األرض وال رطب وال يابس إال يعلمه‪ ،‬وهو في كتاب مبين‪ ،‬في علمه الذي ال‬
‫يعزب عنه شيء‪.‬‬
‫والكمال المطلق ال يمكن أن يكون إال لواحد‪ ،‬ال يمكن أن تفترض أن هناك اثنين‬
‫ً‬
‫كاملين‪ ،‬كل واحد منهما سيظهر ناقصا بالنسبة لآلخر‪ ،‬الكمال المطلق ال يمكن أن‬
‫يكون إال لواحد‪ ،‬وهو هللا سبحانه وتعالى؛ ولهذا كل ما يستلزم منه أن يكون هللا‬
‫ً‬
‫مشابها لخلقه بما يعني هذا‪ :‬أنه أصبح فيه دالئل أنه محدث ومحتاج إلى طرف آخر‬
‫فهو من أكبر الكبائر عندما تعتقده بالنسبة هلل سبحانه وتعالى؛ ألنه ماذا يعني؟ بأنك‬
‫حكمت بنسف استحقاقه لأللوهية من أساسها؛ ولهذا نحن نقول في عقائدنا‪ :‬ال‬
‫ً‬
‫يجوز أن نقول‪ :‬إن هلل وجها‪ ،‬كما يقول اآلخرون‪ ،‬وليس له يد‪ ،‬ليس له أعين كما يقول‬
‫اآلخرون‪ ،‬هذه آليات عملها لنا نحن الناقصين‪ ،‬نحن القاصرين‪ ،‬نحن المحتاجين‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫لو قلنا بأن له وجها وله يدا وله ِرجال‪ ،‬حتى ولو قلنا كما يقولون‪« :‬يليق به»‪ ،‬وجه‬
‫يليق به‪ ،‬يد تليق به‪ِ ،‬ر ْجل تليق به‪ ..‬هكذا يقولون‪ .‬اسألهم‪ :‬هل وجهه غير يده‪ ،‬ويده‬
‫غير رجله؟ أم أن وجهه يده‪ ،‬ويده رجله‪ ،‬ورجله وجهه؟‪ .‬سيقول لك‪ :‬ال‪ ،‬هي بالطبع‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وجهه غير يده‪ ،‬ويده غير رجله؟ إذا َمن الذي منحه وجها هو مغاير ليده‪ ،‬ويدا مغايرة‬
‫ً‬
‫لرجله‪ ،‬إذا أثبتم له أعضاء‪ ،‬وإن كنتم تقولون بأنن�ا ال نعرف كيفيتها‪ ،‬فالتن‍زيه ال يعني‬
‫ّ‬
‫فقط بأنك تقول بأنك ال تعرف الكيفية التي عليها هذا الوجه الذي أثبت�ه هلل‪ ،‬أن تنفي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عنه من األساس أن يكون له عضو‪ ،‬أو يكون مركبا من أجزاء‪ ،‬أن يكون مؤلفا‪ ،‬ال يصح؛‬
‫لماذا؟‪ .‬ألن التركيب عالمة من عالمات الحدوث‪.‬‬
‫ماذا يعني الحدوث؟‪ .‬أي أن هناك َمن منحه وجهه كما منحك وجهك‪ ،‬ومن‬
‫منحه يده وجعلها في موضع في غير موضع وجهه‪ ،‬ولها أعمال غير أعمال وجهه‪،‬‬
‫وله ِر ْجل لها أعمال غير أعمال يده‪ ،‬وموضعها غير موضع يده‪ ،‬كما هو الحال بالنسبة‬
‫لنا أليس كذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إذا فهذه عالمات الحدوث‪ ،‬إذا هناك من منحه هذه األشياء‪ ،‬إذا فهو ناقص‪،‬‬

‫‪25‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫ومن منحه هذه األشياء هو أكمل منه‪ ،‬إذا فليس ربا وال إلها‪ ،‬أليست المسألة تنتهي‬
‫إلى هذه؟ المسألة تنتهي في األخير إلى كفر باهلل؛ ولهذا أذكر أن أحد أعمامي (رحمة‬
‫هللا عليه) وهو السيد العالمة [حسين بن حسن الحوثي] وزع قبل سنوات فتوى‬
‫يحكم فيها بكفر من يعتقد‪ :‬أن هللا ُيرى‪ ،‬ويقول‪ :‬أن هللا يرى؛ ألنه هكذا تنتهي‬
‫المسألة إلى هذا الحد؛ ولهذا نزه هللا سبحانه وتعالى نفسه عن أن يكون له مشابه‪،‬‬
‫(((‬
‫وهنا نزه نفسه عن أن يكون له ولد‪ ،‬ألم ينزه نفسه هنا؟‪.‬‬
‫ذكر الشهيد القائد في الدرس الثالث والعشرين من دروس رمضان عند حديث�ه‬
‫ۡ َ ُ ُ ْ َ َ ُْۘ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ َ ٌ ُ َّ‬ ‫ۡ َ ُ ُ َ ُ َّ َ‬ ‫ََ َ‬
‫يهم ول ِعنوا بِما قالوا‬
‫ِ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫غ‬ ‫ۚ‬ ‫ة‬ ‫ول‬‫ل‬‫غ‬‫م‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ود‬ ‫ه‬ ‫ٱل‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫عن قول هللا سبحانه ﴿وقال‬
‫ۡ َ َ َ ُٓ‬ ‫ۡ ُ َ َ ُ ُ َ‬ ‫ۡ ََ ُ َ‬‫َ‬
‫ان ين ِفق كيف يشاء ۚ﴾ [المائدة‪ ..“ ]64 :‬ليس المقام اآلن مقام أخذ ورد‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫وط‬ ‫س‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫بل يداه‬
‫إلى حول كيفية هللا‪ ،‬هل هو كذا أو كذا‪ ،‬المقام في هذا الموضوع يعطي موضوعا آخر‪.‬‬
‫هذا التعبير اللغوي ما يزال عند الناس إلى اليوم‪ ،‬ألسنا نقول‪[ :‬فالن يده ناشف]؟‬
‫ال يريدون أن يده يابس‪ ،‬هل هناك أحد يفهم هذا؟ يعرفون معناها كناية عن البخل‪،‬‬
‫[فالن يده خضراء] ألسنا نقول‪ :‬يده خضراء؟ يعني‪ :‬كريم‪ ،‬ال يوجد أحد عندما تقول‬
‫له‪ :‬يده خضراء يتب�ادر إلى ذهن السامع أن معناها‪ :‬يد خضراء‪ ،‬يد‪ ،‬هذه اليد‪ ،‬مع أن‬
‫معه يد‪ ،‬أليس اإلنسان معه يد؟ ال يتب�ادر إلى الذهن أن اليد عندما نقول له‪ :‬يده‬
‫خضراء أن هذه اليد نفس هذا العضو أخضر‪ ،‬يتب�ادر إلى ذهنك مجمل العبارة‪ ،‬مجمل‬
‫العبارة ماذا؟ أنه سخي‪ ،‬عندما يقولون‪[ :‬فالن لسانه طويل] في سياق كالم حول‬
‫بذاءة‪ ،‬وأشياء من هذه‪ ،‬هل يتب�ادر إلى ذهنك أن لسانه إلى فوق صدره‪ ،‬أو يتب�ادر إلى‬
‫ذهنه هو نفس السامع عندما تقول‪ :‬أنت يا فالن لسانك طويل‪ ،‬يتب�ادر إلى ذهنه أنه‬
‫بذيء أي‪ :‬ال يتحكم في منطقه‪ ،‬ين�ال الناس بلسانه‪ ،‬بمنطقه”‬
‫بعد هذه المقاطع النوراني�ة التي قرأتها والتي تستحق أن تكتب بماء الذهب‬
‫لب حجة في ترك تلك األفكار والعقائد السقيمة واالرتحال إلى كنف‬‫لم يعد لذي ّ‬
‫التنزيه والنور والحقيقة‪.‬‬

‫((( ملزمة معرفة هللا الدرس الثامن للشهيد القائد‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫مناق�شة الوهابية في الت�شبيه والتج�سيم‬


‫لقد وضع أئمة أهل البيت عليهم السالم ردودا كثيرة في هذه المسألة بحيث لم‬
‫يتركوا ألحد الحجة في جهل الحقيقة‪ ،‬وقد حددوا أسبابا كثيرة لنزوع الوهابي�ة إلى‬
‫التشبي�ه نحاول ذكرها هنا باختصار‪:‬‬

‫‪ -3‬االبتعاد عن الثقلين و االختراق اليهودي‬


‫ألن الوهابي�ة وأسالفهم من الحنابلة نواصب وبعيدون عن القرآن وورثت�ه‬
‫الحقيقيين أصبحوا عرضة لالختراق اليهودي‪ ،‬ولعب اليهود وما زالوا يلعبون دورا‬
‫مهما وخطيرا في إفساد تفكيرهم وعقائدهم وزعزعة ثقتهم بربهم سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫إله ال يرقى إلى مرتب�ة األلوهية في قلوب كثير من أبن�اء األمة؛ للوصول إلى‬
‫بتصوير ٍ‬
‫مجتمع مهزوز وضعيف اإليمان باإلمكان اختراقه واللعب بعواطفه كيفما شاؤوا‬
‫ومتى ما شاؤوا‪ ،‬وهذا ما شاهدناه في عصرنا الحالي كيف أصبحت الحركات‬
‫والجماعات المنحرفة ‪-‬والمنتمية في أغلبها إلى التي�ارات الوهابي�ة‪ -‬ألعوبة في‬
‫أيدي الكفار يسيرونهم كيفما شاؤوا لضرب اإلسالم من حيث اليشعرون‪ ،‬وسوف‬
‫أذكر هنا بعض النماذج ألحاديث إسرائيلية في التوراة وعالقتها بعقائد المشبهة‪،‬‬
‫ولمعرفة مزيد من االختراقات االسرائيلية ارجع إلى موضوع السنة النبوية في هذا‬
‫الكتاب‪:‬‬
‫اليهود يثبتون الذراع هلل جاء في التوراة المحرفة‪“ :‬هل لك ذراع كما هلل” سفر‬
‫أيوب الباب األربعين‪ ،‬وقريب�ا من هذا الكالم الحديث المكذوب الذي رواه عبدهللا‬
‫بن أحمد بن حنب�ل «خلق هللا المالئكة من نور الذراعين والصدر»(((‪.‬‬
‫تقول توراتهم المحرفة ‪“ :‬يكون الثلج من نفس الرحمن”‪ ،‬ويروي عبد هللا بن‬
‫أحمد بن حنب�ل «ال تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن» (((‪.‬‬
‫تقول توراتهم المحرفة‪“ :‬يوم خلق هللا اإلنسان على شبه هللا خلقه” سفر‬

‫((( كتاب السنة ص‪.56‬‬


‫((( كتاب السنة ‪.510/2‬‬

‫‪27‬‬
‫بداية الطريق‬

‫التكوين‪ ،‬ويروي البخاري في صحيحه كتاب اإلستئ�ذان «خلق هللا آدم على صورته»‬
‫إلى آخر الحديث‪ ،‬وأصرح منه ما رواه عبدهللا بن أحمد بن حنب�ل «خلق هللا آدم على‬
‫صورة الرحمن»‪ ،‬وقد علق على هذا الحديث بقوله‪ :‬رجاله رجال الصحيح‪ ،‬وقد لقي‬
‫ً‬
‫هذا الحديث تأيي�د ابن باز في فتاواه‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬وكبار أئمة السلفية‪ ،‬وهناك كثير جدا‬
‫ً‬
‫من الروايات الموجودة في كتب اليهود تشابه كثيرا الروايات الموجودة عند الوهابي�ة‪.‬‬

‫الجهل بلغة العرب والروا�سب الجاهلية‪:‬‬


‫يعد سبب�ا آخر في الوقوع في التشبي�ه والتجسيم‪ ،‬والمالحظ أن معظم أئمة‬
‫ووجود‬
‫ِ‬ ‫التشبي�ه هم من األعاجم الحديثي عهد بالوثني�ة‪ ،‬ونتيجة جهلهم بلغة العرب‪،‬‬
‫عدهم عن ورثة الكتاب‪ ،‬فسروا ظاهر القرآن تفسيرا ينم عن جهل‬ ‫ُ‬
‫رواسب وثني�ة‪ ،‬وب ِ‬
‫شديد باللغة العربي�ة‪ ،‬والفهم البديهي الفطري‪ ،‬ولقد قسم علماء اللغة عموم الكالم إلى‬
‫حقيقة ومجاز‪ ،‬وقالوا األصل في الكالم الحقيقة وال يجوز الخروج عن ظاهره إلى مجازه‬
‫إال بقرين�ة صارفة‪ ،‬ومثلوا لذلك بأدلة كثيرة تثبت بأن هناك في القرآن والسنة النبوية‬
‫ألفاظا مجازية اليراد ظاهرها‪ ،‬وهي مسألة بديهية ال تحتاج إلى تعقيد‪ ،‬من تلك األمثلة‪:‬‬

‫�أ) المجاز في القر�آن‪:‬‬


‫َّ َ َ ُ‬ ‫َ ُ ْ َّ َ َ َ ُ‬
‫ۡم ۖ﴾‬
‫ۡم ۚ﴾ [التوبة ‪ ، ]67‬وقوله تعالى‪﴿ :‬إِنا ن ِسينٰك‬ ‫ٱلل فن ِس َيه‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬نسوا‬
‫ََ‬
‫﴿وما‬ ‫فظاهر هاتين اآليتين غير مراد لمن يت�دبر‪ ،‬أليس يقول سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫َ َ ُّ َ َ ّٗ‬
‫كن َربك ن ِسيا﴾ [مريم‪ ]64 :‬وال يصح أن يقال‪ :‬ينسى ال كنسيانن�ا أو بما يليق بجالله‬
‫وعظمته فظاهر اآلية غير مراد لذلك تصرف إلى معناها المجازي وهو الكناية عن‬
‫الترك واإلهمال‪ ،‬وهذه مسألة بديهية ال تحتاج إلى تبحر في اللغة‪.‬‬
‫ري‪[ ﴾..‬يوسف‪ ،]82 :‬وقال تعالى‪:‬‬‫ۡٱل ِع َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َ َ َّ ُ َّ‬
‫ۡرية ٱل ِت كنا فِيها َو‬
‫ۡ‬
‫﴿و َ‍ٔ‬
‫س ِل ٱلق‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫ۡ َّ َ ٗ َ َ َ ُ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ۡ َ‬
‫ِيعا َول تف َّرق ۚوا﴾ [آل عمران‪ ]103 :‬فال القرية تسأل‪ ،‬وال العير وال‬ ‫ص ُموا ِبب ِل ٱللِ ج‬ ‫َ‬
‫﴿وٱعت ِ‬
‫الحبل المعروف على حقيقته مطلوب‪ ،‬وإنما المراد بالقرية أهلها‪ ،‬وبالعير أصحابها‬
‫وبالحبل صراط هللا المستقيم الذي هو الكتاب والعترة‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫وقد طرحت هذه المسألة في زمن األئمة سالم هللا عليهم وكانوا يتصدون لها‬
‫بالرد والتبيين‪.‬‬
‫روى العلوي عن عبي�د هللا بن العالء قال‪ :‬سمعت سعيد بن بارق يقرأ على اإلمام‬
‫ۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬
‫زيد بن علي عليهما السالم شيئ�ا حتى انتهى إلى قوله سبحانه وتعالى ﴿بل مك ُر‬
‫ۡ َ َّ َ‬ ‫َّ‬
‫ار﴾ فوقف‪ ،‬قال اإلمام زيد بن علي ما يوقفك؟ قال جعلت فداك أي مكر‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ٱنل‬ ‫و‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ٱل‬
‫الليل والنهار وهما ال يمكران؟‬
‫ۡ‬
‫س ِل‬ ‫﴿و َ‍ٔ‬‫قال اإلمام زيد بن علي عليه السالم‪ :‬وهذا الحرف أو أعجبك فله مثل َ‬
‫َّ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ت أقبلنا فِيهاۖ﴾ [يوسف‪ ]82 :‬والقرية ال تسأل إنما يسأل‬
‫َۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ري ٱل ٓ‬ ‫ۡٱل ِع َ‬ ‫ِيها َ‬
‫و‬
‫ۡ َ َ َّ ُ َّ َ‬
‫ف‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ٱل‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫ر‬
‫َۡ‬
‫ق‬‫ٱل‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ۡ َ َّ َ َ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫ك ٱلق َر ٰٓ‬‫ۡ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ‬
‫ى أهلكنٰهم لما ظلموا﴾ [الكهف‪ ]59 :‬أي أهلها مجاز ذلك على ما‬ ‫أهلها ﴿وت ِل‬
‫يفعلون والعرب تقول‪ :‬بنوا فالن تطؤهم الطريق أي أهل الطريق ألن الطريق ال تطأ‬
‫وقولهم‪ :‬مازلنا نطأ السماء حتى جئن�اكم‪ ،‬أي ماء السماء والسماء ال تطأ‪.‬‬
‫ۡ َّ َ َّ‬ ‫ََ‬
‫قۗ﴾ [البقرة ‪،]189‬‬ ‫ٱت َ ٰ‬ ‫ك َّن ٱل ِب م ِن‬‫﴿ول ٰ ِ‬ ‫وكذلك بل مكر الليل والنهار‪ ،‬وكذلك في‬
‫ومن اتقى ليس البر ولكنه البار والبر فعله‪.‬‬
‫َٰ َ‬ ‫ۡ َّ َ َ‬
‫ۡ‬ ‫ُۡ ُ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ُۡ ُ‬ ‫َّ َ‬
‫حدةٍ ۚ﴾[لقمان‪ ]28:‬أي كخلق نفس‬ ‫و﴿ما خلقكم َول بعثكم إِل كنف ٖس و ِ‬
‫واحدة(((‪...‬‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫وكذلك قوله سبحانه وتعالى لرسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪َ :‬‬
‫﴿وٱخ ِفض‬
‫ك َتٰ ٌ‬ ‫َّ ُ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫َّ َ َ َ‬ ‫َ َ َ َ َ‬
‫ب‬ ‫جناحك ل ِم ِن ٱتبعك م َِن ٱلمؤ ِمنِني﴾ [الشعراء‪ ،]215 :‬وقوله تعالى‪ِ﴿ :‬إَونهۥ ل ِ‬
‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫ۡ َٰ ُ ۢ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ‪َ َّ ٞ‬‬
‫ي يدي ِه ول مِن خل ِف ِهۖۦ﴾ [فصلت‪ ]42 - 41 :‬فليس‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ط‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ٱل‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِي‬ ‫ت‬‫أ‬ ‫ي‬ ‫ع ِزيز‪ ٤١‬ل‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫هناك ثم جناح لرسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وال ثم يدان لكتاب هللا عز‬
‫وجل‪ ،‬فال تعلق هنا بالمعنى الظاهري أبدا‪.‬‬
‫ولو أردنا حصر اآليات المجازية في القرآن الحتجنا إلى مجلد كامل كما فعل ذلك‬
‫الشريف الرضي في كتابه المعروف بـ«تلخيص البي�ان في مجاز القرآن»‪.‬‬

‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام زيد بن علي عليه السالم ص‪.334‬‬

‫‪29‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ب) المجاز في كتب الوهابية‬


‫والغريب أن الوهابيين غفلوا أو تغافلوا عن كثير من األحاديث والمرويات‬
‫الموجودة في كتبهم التي ال يراد ظاهرها وهذا معروف بالبديهة ويتب�ادر للذهن دون‬
‫ً‬
‫الحاجة إلى تبحر في اللغة‪ ،‬ونذكر هنا بعضا منها كي تكون حجة عليهم وقاطعة‬
‫لعنادهم‪: :‬‬
‫‪ -1‬ثبت في صحيح مسلم ‪ /‬الحديث رقم ‪ 2569‬عن رسول هللا (÷) أن‬
‫هللا تعالى يقول‪ :‬يابن آدم مرضت فلم تعدني‪ ،‬قال‪ :‬يارب كيف أعودك وأنت رب‬
‫العالمين؟ قال‪ :‬أما علمت أن عبدي فالنا مرض فلم تعده‪ ،‬أما علمت أنك لو عدته‬
‫لوجدتني عنده‪.»...‬‬
‫فهل يعقل أن يمرض هللا بمرض عبده؟ وهل صحيح أنن�ا إذا عدنا المريض‬
‫فسنجد هللا؟!!! الحديث دليل قوي على ظهور المعنى المجازي فيه كما قال‬
‫العلماء‪ ،‬بل حتى دون أن يقولوا فهذا المعنى هو المتب�ادر إلى الذهن بالبديهة‪ ،‬فإضافة‬
‫المرض إلى هللا سبحانه وتعالى والمراد عبده ما هو إال تشريف للعبد وتقريب له‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬معنى وجدتني عنده أي وجدت ثوابي وكرامتي‪.‬‬
‫‪-2‬ثبت في صحيح البخاري أن النبي (÷) قال‪ :‬إن هللا تب�ارك وتعالى قال‪:‬‬
‫من عادى لي وليا فقد آذنت�ه بالحرب‪ ،‬وما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه‪،‬‬
‫وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببت�ه كنت سمعه الذي يسمع‬
‫به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها‪ )...‬فهل حقا‬
‫أن سمع وبصر ويد أولياء هللا هو هللا بذاته؟ بل وهل يعقل أن يكون هللا أرجلهم التي‬
‫يمشون بها!!! أم أن المراد معان مجازية؟ والمراد أن هللا يؤيدهم فهم ال يسمعون‬
‫وال يبصرون وال يبطشون وال يمشون إال هلل وفي هللا وفي كنف ورعاية هللا ونصرته‬
‫وتأيي�ده‪.‬‬
‫ثبت في صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء عن ابي ذر أن هللا عز وجل يقول‬
‫في الحديث القدسي‪« :‬أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني‪ ،‬فإن ذكرني‪...‬‬
‫وإن اقترب إلي شبرا‪ ،‬تقربت إليه ذراعا‪ ،‬وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا‪ ،‬وإن‬

‫‪30‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫أتاني يمشي أتيت�ه هرولة» فالتقرب ضرب مثل إلنعام هللا على عبده والهرولة لزيادة‬
‫اإلنعام بزيادة الطاعة من العبد‪.‬‬
‫بعد عرض هذه اآليات واألحاديث أصبح من السهل أن نقول إن هناك الكثير‬
‫من اآليات واألحاديث ليس المراد ظاهرها ولكن المراد روح اآلية أو بما بات يعرف‬
‫بالمعنى المجازي‪.‬‬
‫ومن آثار جهل الوهابي�ة باللغة أنهم سموا األخبار أخبار صفات وإنما هي‬
‫َ ُ َّ َ َ‬
‫ۡوق‬ ‫إضافات‪ ،‬وليس كل مضاف صفة‪ ،‬فقوله تعالى على سبي�ل المثال‪﴿ :‬يد ٱللِ ف‬
‫ۡ‬‫َ‬
‫ۡم ۚ﴾ [الفتح‪ ]10 :‬فاليد هنا مضاف وليست صفة ولم َي ِرد في القرآن ذكر لليد والوجه‬
‫ْ‬
‫يه‬
‫أ ِ‬‫د‬‫ِ‬ ‫ي‬
‫والساق على أنها صفات هلل سبحانه وتعالى إال في مخيلة وقواميس الوهابي�ة‪.‬‬
‫َۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ ً َ‬
‫ي ذِي ع َِو ٖج﴾ [الزمر‪ ]28 :‬ولما كان‬ ‫ۡرءَانا ع َرب ِ ًّيا غ‬ ‫يقول سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ق‬
‫المعلوم من لغة العرب أنه ينقسم إلى حقيقة ومجاز‪ ،‬فإذا ما رأين�ا آيات كاآليات التي‬
‫تذكر الوجه واليد والساق فالمعنى المتب�ادر للذهن عند من صفت فطرته يؤخذ من‬
‫السياق ومن القرائن المحيطة ومن البديهيات الفطرية‪ ،‬فقد يكون المقصود المعنى‬
‫الحقيقي أو المجازي‪ ،‬فالوجه يطلق حقيقة على عضو من اإلنسان مخصوص بما‬
‫فيه من عينين ولسان وشفتين‪ ،‬ومجازا يطلق على ذات الشيء كما يقال‪ :‬هذا وجه‬
‫الرأي أي هذا هو الرأي بذاته‪ ،‬وكذلك يطلق مجازا على أول الشيء كقوله تعالى‪:‬‬
‫ۡ َ ٰ َ ُ ْ َّ ٓ ُ َ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ َ َ َّ ٓ َ ‪ّ ٞ‬‬
‫ار‬
‫ۡ َ َّ َ‬
‫ه‬ ‫ٱنل‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫ام ُنوا ْ َ‬
‫و‬ ‫ء‬ ‫ِين‬
‫ٱل‬ ‫ع‬ ‫ل‬‫نز‬ ‫أ‬ ‫ِي‬
‫ٱل‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ا‬ ‫ء‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫ۡ‬
‫أ‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫﴿وقالت طائِفة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬
‫ۡ ُ ُ ٓ ْ َ َ ُ َ َّ ُ‬
‫جعون﴾ [آل عمران‪ ]72 :‬فأين وجه النهار وأين آذانه ولسانه؟‬ ‫خرهۥ لعلهم ير ِ‬ ‫َوٱكفروا ءا ِ‬

‫الوهابيون يت�أولون ولكن ‪:..‬‬


‫فإما أن يحملوا اآليات على ظاهرها ومعانيها الحقيقية مخالفين بذلك ما يتب�ادر‬
‫للذهن وما ينسجم مع الفطرة‪ ،‬فيثبتوا هلل وجها كما هو معروف في اللغة وهو العضو‬
‫المخصوص المؤلف من خدود وأنف وعين وفم‪ ،‬وكذا يثبتوا له يدا حقيقية مؤلفة‬
‫من أصابع وراحة‪ ،‬وإما أن يحملوها على معانيها المجازية المستخدمة في لغة‬
‫العرب بما يتن�اسب مع عظمة هللا سبحانه وتعالى ويجعلوا اآليات النافية للتشبي�ه‬

‫‪31‬‬
‫بداية الطريق‬

‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬


‫ۡ َ َ‬
‫شء ‪[ ﴾ۖ ٞ‬الشورى‪ ]11 :‬قرين�ة صارفة لظاهر اآلية إلى‬
‫ۡ‬ ‫كقوله تعالى‪﴿ :‬ليس ك ِمثلِ ِهۦ‬
‫مجازها‪ ،‬ولكن الوهابي�ة أخرجوا األلفاظ عن معانيها الحقيقية والمجازية وأثبتوا لها‬
‫معان ال توجد في لغة العرب وال توجد إال في أذهانهم وبذلك أخرجوا القرآن عن أن‬
‫يكون عربي�ا‪ ،‬فهم في الحقيقة متأولون وليسوا بب�اقين على ظواهر القرآن والسنة كما‬
‫ّ‬
‫يدعون‪ ،‬والفرق بينهم وبين أهل البيت أن أهل البيت عليهم السالم يتعاملون معها‬
‫على مقتضى لسان العرب‪.((( .‬‬

‫‪ -2‬ف�ساد القلب و�ضعف خا�صية التدبر والتعقل لديهم‪:‬‬


‫إن لالنحراف وفساد القلب وعدم تزكية النفوس دور كبير في تقبل األفكار‬
‫والعقائد الكفرية المنحطة‪ ،‬والمالحظ أن المجتمعات التي أصيبت بالوباء الوهابي‬
‫هي من أكثر المجتمعات المهيئ�ة لالنحراف األخالقي وهذا هو الحاصل اآلن في‬
‫السعودية في موسم الرياض وفي اإلمارات وفي بقية الدول الخليجية إال ما رحم ربك‪،‬‬
‫ويعتبر الفكر الوهابي فكرا منحطا يهيئ النفوس لالنحراف األخالقي ولالنحطاط‬
‫العقائدي‪ ،‬فلذلك ال غرابة أن يتقبل من تشبع بالوهابي�ة مثل هذه األفكار والعقائد‬
‫البشعة‪ ،‬وكذلك يعتبر ضعف خاصية التدبر والتعقل الفطري لكتاب هللا مشكلة‬
‫من مشاكلهم الكبيرة‪ ،‬فكثيرا ما كنت أتكلم مع بعض الوهابي�ة ونتب�ادل الحديث في‬
‫جوانب كثيرة وخصوصا في الجوانب العقائدية لدى المدرستين مدرسة أهل البيت‬
‫عليهم السالم ومدرسة الوهابي�ة‪ ،‬وكنت أجد منهم تغييب�ا تاما لدور التدبروالتعقل‬
‫ورفضا تاما إلعمال ذلك في تدبر آيات القرآن وسنة النبي ‪-‬صلوات هللا عليه وآله‪-‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫للوصول إلى الحقيقة‪ ،‬وكثيرا ما كنت أسمع منهم عبارة «نحن يجب أن نقر ونمر”‪،‬‬
‫وأذكر يوما بل أياما أنني تكلمت معهم بخصوص حديث النزول فقلت لهم الحديث‬
‫المروي في صحيح البخاري يقول‪« :‬إن هللا ينزل ثلث الليل إلى السماء الدني�ا»‬
‫فهل المراد بالنزول نزول الرحمة والعفو اإللهي من باب المجاز‪ ،‬أم نزول المالئكة‬
‫أم انها بضم الياء أي ُ‬
‫(ينزل) كما ذكر ضمن آراء متعددة للعلماء‪ ،‬أم أن المراد أن هللا‬
‫ينزل بذاته؟ فيجيبون بال أدنى تفكير‪ :‬بل ينزل بذاته‪ .‬فقلت لهم‪ :‬إن معنى كالمكم‬

‫((( نظرة وبي�ان ص‪.21‬‬

‫‪32‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫هذا ‪ :‬أن هللا ينزل إلى السماء الدني�ا وال يصعد بعد ذلك أبدا ألن ثلث الليل باق في‬
‫األرض ال يزول ؛ فإذا اختفى ثلث الليل من جزء من األرض فهو في جزء آخر وهكذا‬
‫باستمرار‪ ،‬كما أقره علماء الفلك نتيجة لكروية األرض‪ ،‬هذا من جهة ومن جهة أخرى‬
‫كيف يستقيم ذلك مع الحديث المروي في البخاري من أن السموات على إصبع‬
‫من أصابع الرحمن؟ فإذا كانت السموات كلها على إصبع كيف ينزل من العرش‬
‫إلى السماء الدني�ا إال إذا كنتم تؤمنون بأن هلل صفة التمدد واالنكماش؟ واألغرب‬
‫من ذلك أن السموات واألرضين ال تساوي شيئ�ا أمام العرش فعلى كالمكم يصبح‬
‫المولى شيئ�ا صغيرا جدا بجانب العرش وتحويه األماكن وتحده األقطار‪ ،‬وهذا هو‬
‫ً‬
‫الحلول والتشبي�ه بعين�ه‪ ،‬ثم ألم يكن هللا سبحانه وتعالى موجودا ولم يكن هناك‬
‫سماء وال أرض والعرش وال كرسي وال مكان وال زمان؟ ويوم القيامة سيفنى كل شيء‬ ‫ٌ‬
‫ولن يبقى إال هللا‪ ،‬كل ذلك يدل أن هللا سبحانه ليس بحاجة الى المكان وأنه منزه من‬
‫التحيز والحلول‪ ،‬وبعد كل هذا الكالم والشرح لمحاولة إقناعهم للعدول عما هم عليه‬
‫ُ‬
‫أفاجأ برد على وتيرة واحدة‪ ،‬وكأنك تستمع إلى شريط كاست مكرر «يجب علين�ا‬
‫أن نؤمن بذلك بال كيف»‪ ،‬وهذا يدل على مسخ عجيب للفطرة وضالل رهيب‪،‬‬
‫وأخبرني أحد اإلخوة أن أحد طالب جامعة اإليمان (جامعة وهابي�ة) أجابه بقوله‪ :‬في‬
‫مجال العقيدة يجب أن تضع تعقلك وتدبرك لألشياء تحت أرجلك!! وعندما يكون‬
‫التعقل تحت األرجل ال ننتظر إال عقائد تخرج أناسا ال يفرقون بين الناقة والجمل‪.‬‬

‫قرناء القر�آن والتعقل‪:‬‬


‫أدرك أئمة أهل البيت أكثر من غيرهم من األئمة أن التعقل والتدبر لكتاب هللا‬
‫وصفحات هذا الكون نور يدرك اإلنسان به ويميز به بين الحق والباطل وبين الخير‬
‫والشر وبين الممكن والمستحيل‪.‬‬
‫ۡ‬‫ۡ ََ‬ ‫ُۡ َ ّ‬ ‫َۡ‬‫ۡ ي َ َّ‬ ‫َََ‬
‫ۡرءَان ل ِذلِك ِر فهل مِن‬ ‫سنا ٱلق‬ ‫﴿ولقد‬ ‫والتعقل والتدبر مما ييسر فهم القرآن‬
‫َ ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ َُٓ‬ ‫ََ َ‬ ‫ُّ َّ‬
‫قلها إِل ٱلعٰلِمون‪[ ﴾٤٣‬العنكبوت‪:‬‬ ‫﴿وما يع ِ‬ ‫مدك ِٖر﴾ [القمر‪ ]17 :‬وقال سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ش ع َِبادِ‪َّ ١٧‬ٱل َ‬
‫ِين‬ ‫ۡ‬ ‫ََ ّ‬
‫‪ ،]43‬وقد بشر هللا أهل التعقل والتفهم للقول اإللهي فقال‪﴿ :‬فب ِ‬
‫ۡ ُُْ ْ‬ ‫ۡ َ َ ُ ٓ ُ ْ َ ٰٓ َ َّ َ َ َ ٰ ُ ُ َّ ُ ُ َ َ ُ‬ ‫ۡ َ َ َ َّ ُ َ َ‬ ‫ۡ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ٱللۖ َوأ ْو ٰٓلئِك هم أولوا‬ ‫ۡول ف َيتبِعون أحسنه ۚۥ أولئِك ٱلِين هدىهم‬ ‫يست ِمعون ٱلق‬
‫‪33‬‬
‫بداية الطريق‬

‫َ َّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ َ َّ َّ َ ٓ‬ ‫َۡ‬ ‫َۡ‬


‫ب‪[ ﴾١٨‬الزمر‪ ]18-17 :‬وذم الذين ال يعقلون فقال‪۞﴿ :‬إِن ش ٱدلوا ِب عِند ٱللِ‬ ‫ٰ‬
‫ٱللب ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ٱلك ُم ٱل َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُّ‬
‫ٱلص ُّم ُ‬
‫ِين ل يع ِقلون﴾ [األنفال‪ ،]22 :‬ولذلك نجد القرآن الكريم استخدم‬
‫َ َ َ‬
‫ۡو كن‬ ‫خاصية التعقل الفطري في إثب�ات مسائل أصول الدين في مثل قوله تعالى‪﴿ :‬ل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬
‫ل َوما كن‬ ‫َّ َ َ َّ ُ‬ ‫َ ٓ َ ٌ َّ َّ ُ َ َ َ َ َ‬
‫ِيهما ءَال ِهة إِل ٱلل لفسدتاۚ﴾ [األنبياء‪ ]22 :‬وقوله تعالى‪﴿ :‬ٱتذ ٱلل مِن و ٖ‬ ‫ف ِ‬
‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ۡ ٰ َ‬‫َ‬ ‫ۡ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫ََُ‬
‫ض﴾ [المؤمنون‪ ]91 :‬وقوله‬ ‫ع بع ٖ ۚ‬ ‫ب ك إِل ٰ ِهۢ ب ِ َما خلق َولعل بعضهم‬ ‫ِۡن إل ٰ ۚه إذا له َ‬
‫ِ‬ ‫معهۥ م ِ ٍ‬
‫ۡ َٰ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ي ش ٍء أم هم ٱلخلِقون‪[ ﴾٣٥‬الطور‪ ،]35:‬والمشروع القرآني‬ ‫ۡ‬
‫تعالى‪﴿ :‬أم خلِقوا مِن غ ِ‬
‫يثبت مسائل أصول الدين باالستن�اد إلى الفطرة والكتب اإللهية واألنبي�اء وال يلغون‬
‫دور التدبر والتعقل الفطري‪ ،‬فالنفس البشرية تتعقل األمور وبالذات عندما تستنير‬
‫بالقرآن وباألعالم(((‪.‬‬

‫مناق�شة الوهابية في بع�ض الآيات‬


‫عندما تدخل إلى القرآن بروحية إيماني�ة وبصفاء فطري فإنك تتلو آيات هللا‬
‫ۡ‬‫َ‬
‫لتجلو الصدأ الذي يصيب القلب؛ فإذا ضاقت عليك األرزاق وتلوت قول هللا ﴿بل‬
‫ۡ َمت ُ‬ ‫ۡ ُ َّ‬ ‫َّ َّ َ ُ َ َّ َّ ُ ُ‬ ‫َۡ ََ ٓ‬ ‫ۡ ُ َ َ ُ ُ َ‬ ‫ََ ُ َ‬
‫ني﴾‬ ‫ان ين ِفق كيف يشا ُء ۚ﴾ [المائدة‪﴿ ]64 :‬إِن ٱلل هو ٱلرزاق ذو ٱلقوة ِ ٱل ِ‬ ‫يداه مبسوطت ِ‬
‫تثق بأن هللا له خزائن السموات واألرض‪ ،‬وإذا تكالب عليك األعداء وتآمروا وتلوت‬
‫َ‬ ‫ۡ ُ َّ‬‫َ َّ َّ َ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ ُ َّ َ‬
‫قني‪[ ﴾١٩٤‬البقرة‪]194 :‬‬ ‫يهم ۚ﴾ [الفتح‪﴿ ]10 :‬أن ٱلل مع ٱلمت ِ‬ ‫ِ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫قول هللا ﴿يد ٱللِ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫ۡن‬ ‫تستحضر مشاعرك معية هللا وتأيي�ده لعباده‪ ،‬وعندما تتلو قول هللا تعالى ﴿ك م‬
‫َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ‬‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َۡ َ‬ ‫ۡ ُ َّ َ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫َۡ‬ ‫َۡ َ ََ‬ ‫َ َ‬
‫ٱلكرا ِم﴾ [الرحمن‪ ]27-26 :‬تدرك يقين�ا مدى‬ ‫و‬
‫ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ٱل‬ ‫و‬ ‫ذ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ه‬‫ج‬ ‫و‬ ‫ٰ‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ان‬
‫ٖ‬ ‫ف‬ ‫ا‬‫ه‬ ‫ي‬ ‫عل‬
‫افتقارنا إلى هللا وأن الكل سيفنى واليدوم ويبقى إال هللا فتجيش في نفسك مشاعر‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫اإللتجاء واإلعتصام باهلل‪ ،‬وعندما تتلو قول هللا تعالى‪﴿ :‬فإِنك بِأعينِناۖ﴾ [الطور‪]48 :‬‬

‫((( المقصود بالتعقل هنا ليس كما يذكره المعتزلة من أن العقل جهاز مستقل بقوم بفرز الحق من الباطل تلقائي�ا‪،‬‬
‫فهذا من أبطل الباطل‪ ،‬فلو كان كذلك لما اختلف الناس فيما بينهم ولكنن�ا وجدنا أصحاب العقول مختلفين‪،‬‬
‫وإنما القصد أن النفس البشرية ترى ببصرها وتسمع بأذنها وتعقل بقلبها‪ ،‬فالنفس هي من تتعقل األمور وهي‬
‫بحاجة إلى هدى هللا كي تتعقل بكل سليم‪ ،‬ومما يعين على التعقل بشكل سليم البديهيات الفطرية التي فطر‬
‫هللا الناس عليها‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫شه ِد َ‬‫ۡم َ ٰ‬ ‫ۡ‬ ‫﴿و ُك َّنا ِ ُ‬


‫َ‬
‫ين‪[ ﴾٧٨‬األنبي�اء‪ ]78 :‬تستحي من أن تعصي هللا وأنت تحت رقابت�ه‬ ‫ِ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ل‬
‫وزك ْت ُ‬
‫نفسه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫ورعايت�ه وهو شهيد عليك‪ ،‬وهكذا يفهم القرآن من صفت فطرته‬
‫لكن عندما تدخل إلى القرآن بروحية وهابي�ة تتحول كل تلك المعاني السامية‬
‫تشبه هللا بخلقه وتثبت له‬ ‫والمشاعر اإليماني�ة إلى مشاعرقاسية وجافة ووقحة ّ‬
‫الجوارح واألعضاء‪ ،‬ولذلك سنبين ونن�اقش الوهابي�ة في بعض اآليات التي جهلوها‬
‫وأهانوا قدرها‪.‬‬
‫ۡ‬‫ۡ َ ُ ُ ْ َ َ ُْۘ َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ َ ٌ ُ َّ‬ ‫ۡ َ ُ ُ َ ُ َّ َ‬ ‫ََ َ‬
‫يهم ول ِعنوا بِما قالوا بل‬
‫ِ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫غ‬ ‫ۚ‬ ‫ة‬ ‫ول‬ ‫ل‬‫غ‬‫م‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ود‬ ‫ه‬‫ٱل‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫‪ /1‬قال تعالى‪﴿ :‬وقال‬
‫ۡ َ َ َ ُٓ‬ ‫ۡ ُ َ َ ُ ُ َ‬ ‫ََ ُ َ‬
‫ان ين ِفق كيف يشاء ۚ﴾ [المائدة‪ ]64 :‬قالوا فاهلل أثبت لنفسه اليدين فيجب‬ ‫يداه مبسوطت ِ‬
‫أن نؤمن بذلك بال تأويل وال تعطيل‪.‬‬
‫كما تشاهد فإن ضحالة التعقل للوهابي�ة واإلنحطاط النفسي وتلوث الفطرة‬
‫بل والتعصب المذهبي أيضا الذي وصلوا إليه كان عائقا كبيرا أمامهم منعهم من‬
‫فهم اآليات التي يفهمها جميع الناس ممن لم يصابوا بداء التشبي�ة‪ ،‬ولذلك نرى أن ال‬
‫تن�اقش هذه المواضيع إال مع من أصيب بهذا الداء وأن ال ينشغل الناس كثيرا بالرد‬
‫على هؤالء؛ ألن التشبي�ه مرفوض فطريا‪ ،‬ومن غير المناسب أن يقتصر الناس في‬
‫معرفة هللا على موضوع نفي التشبي�ه وينسوا مواضيع المعرفة باهلل الواسعة في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وألن هؤالء حقيقة ليس هلل احترام في نفوسهم تراهم بكل بساطة‬
‫يثبتون أعضاء لإلله‪ ،‬ولم يكلفوا أنفسهم حتى بربطها مع سياقاتها‪ ،‬فمثال يستدلون‬
‫ۡ ََ ُ َ‬
‫ۡ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫ان﴾ [المائدة‪ ]64 :‬مجردة ومسلوخة من‬ ‫على اليدين بقوله تعالى‪﴿ :‬بل يداه مبسوطت ِ‬
‫سياقاتها‪ ،‬ولو أنهم قرؤوا سياق اآلية لما وصلوا إلى هذه النتيجة‪ ،‬فلو تتبعت اآلية‬
‫ُۡ ٌَ‬‫ۡ َ ُ ُ َ ُ َّ َ‬ ‫ََ َ‬
‫ٱلهود يد ٱللِ مغلولة ۚ﴾ [المائدة‪ ]64 :‬لعلمت أن‬ ‫ت‬‫﴿وقال ِ‬ ‫من صدرها وهو قوله تعالى‪:‬‬
‫اليهود اتهموا هللا بالبخل وعلى ذلك إجماع المفسرين سنة وشيعة‪ ،‬ولم يتهموه بأن‬
‫ّ‬
‫يده مقيدة إلى عنقه ‪-‬تعالى هللا عن ذلك‪ -‬كما يفيد ظاهر اآلية‪ ،‬ولذلك رد عليهم‬
‫ۡ‬‫ۡ َ‬
‫ُ َّ‬
‫ۡم﴾ [المائدة‪ ]64 :‬فلو كان المراد ظاهر اآلية أي قيدت‬
‫يه‬
‫سبحانه بقوله تعالى‪﴿ :‬غلت أ ِ‬
‫د‬
‫ِ‬ ‫ي‬
‫إلى أعناقهم لخالف الواقع والحقيقة من أن اليهود أيديهم محررة وليست مقيدة بل‬

‫‪35‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ويستعملونها في سفك دماء إخوانن�ا من الفلسطينيين‪ ،‬ولذا لزم أن يكون المعنى‬


‫َ‬ ‫ُ‬
‫المجازي هو المراد أي أ لزموا البخل فهم أبخل الناس‪ ،‬ولما كانت شبهتهم هي دعوى‬
‫البخل في حق هللا ‪-‬تعالى عن ذلك‪ -‬كان لزاما أن يكون الرد من مخرج الشبهة وهو‬
‫ۡ ُ َ َ‬ ‫ۡ ََ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ان﴾‬ ‫أنه سبحانه كريم بل وبالغ في الكرم فقال سبحانه وتعالى‪﴿ :‬بل يداه مبسوطت ِ‬
‫ً‬ ‫َۡ ََ ٓ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫[المائدة‪ ]64 :‬كناية عن الكرم بدليل قوله بعد ذلك‪﴿ :‬ين ِفق كيف يشا ُء ۚ﴾ [المائدة‪ ]64 :‬إذا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المسألة مسألة إنفاق وتقتير وليست مسألة تقيي�د اليد للعنق أو فرشها كما توهم‬
‫السلفيون‪ ،‬ومثل هذا المجاز مذكور في كتاب هللا سبحانه وتعالى كقوله تعالى‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ُۡ ًَ َ ُ ُ َ َ َ‬ ‫ۡ ََ َ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ََ َ‬
‫﴿ول تعل يدك مغلولة إ ِ ٰل عن ِقك َول تبسطها‬ ‫لنبي�ه صلى هللا عليه وآله وسلم‪:‬‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡب ُس ُط ّ‬ ‫َّ َ َّ َ َ‬ ‫ۡ‬
‫م ُس ً‬‫ۡ ُ َ َ ُ ٗ َّ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ُ َّ‬
‫ٱلرزق ل َِمن يشا ُء َويق ِد ُر ۚ‪﴾..‬‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ا‪٢٩‬‬ ‫ور‬ ‫ا‬‫وم‬ ‫ل‬‫م‬ ‫د‬‫ع‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫ط‬
‫ِ‬ ‫س‬ ‫ب‬ ‫ٱل‬ ‫ك‬
‫[اإلسراء‪“ ]30 -29 :‬أال ترى أنها مشابهة لآلية السابقة؛ هناك يد مغلولة نهى عنها ويد‬
‫مبسوطة كل البسط نهى عنها وكل هذا ال حقيقة له باتفاق‪ ،‬فليس هناك يد مغلولة‬
‫َۡ َ َ‬ ‫ُُۡ ْ َ َ َ‬ ‫ۡ ُ ْ ََ َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫َ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ‬
‫ي ذٰل ِك‬ ‫توا َوكن ب‬ ‫ۡم يق‬ ‫سفوا ول‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫وال مبسوطة وإنما معناه ﴿وٱلِين إِذٓا أنفقوا ل‬
‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ۡ ُ ٌ ُ َّ‬ ‫َ ُ ُ َ ُ َّ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اما‪[ ﴾٦٧‬الفرقان‪ ]67 :‬وارجع بهذه اآلية إلى قوله‪َ :‬‬ ‫ََ ٗ‬
‫ٱلهود يد ٱللِ مغلولة ۚغلت‬ ‫ت‬
‫﴿وقال ِ‬ ‫قو‬
‫ۡ‬ ‫َ‬
‫(((‬
‫ۡم﴾ [المائدة‪ ]64 :‬أال يظهر لك أن مخرجهما واحد وأنهما يؤديان غرضا واحدا؟!”‬ ‫يه‬
‫أ ِ‬‫د‬
‫ِ‬ ‫ي‬
‫وقد جلست مع كثير من الوهابيين وتن�اقشنا حول هذه اآلية وكنت أسعى جاهدا‬
‫لثنيهم عن معتقدهم ورؤيتهم الخاطئة‪ ،‬ولكني كنت أواجه بكلمات تنم عن تحجر‬
‫وانحطاط‪ ،‬وضالل رهيب‪ ،‬ما أكثر ما سمعناها حتى أصبحت (كاست) مكرر يسقط‬
‫ُ َ‬
‫على آذانن�ا كلما تكلمنا معهم مثل قولهم «ن ِقر ون ُمر»‪« ،‬النقول إال ماقاله السلف»‪.‬‬
‫وسرعان ما يقولون لك إن هللا ذكر اليد مثن�اة وال تثنى اليد إال للحقيقة وليس‬
‫ۡ‬‫َّ َ‬ ‫َّ ُ َ َ ٰ ٌ َ‬
‫ب ع ِزيز‪ ٤١ٞ‬ل يأت ِي ِه‬ ‫كت‬‫للمجاز‪ ،‬فقلت لهم أين تذهبون بقوله تعالى‪ِ﴿ :‬إَونهۥ ل ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َُ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫ۡ َٰ ُ ۢ َ‬
‫ۡر ِسل‬ ‫﴿وه َو ٱلِي ي‬ ‫ِۡن خل ِف ِهۖۦ﴾ [فصلت‪ ]42 - 41 :‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫ي يدي ِه َول م‬
‫ٱلب ِطل مِن ِ‬
‫ب‬
‫َۡ‬ ‫َۡ ََ‬‫ۡ َ َ‬‫ّ َٰ َ ُ‬
‫ۡي َرحتِ ِهۖۦ﴾ [األعراف‪ ]57 :‬فأين يدي المطر بل أين يدي القرآن الذي‬ ‫ي يد‬ ‫شۢا ب‬ ‫ٱلريح ب‬
‫ِ‬
‫نقرؤه باستمرار فال يستطيعون جوابا إال بتلك الكلمات المتوارثة‪.‬‬

‫((( قراءة في كتب العقائد ص بتصرف‪.250‬‬

‫‪36‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫كالم الإمام زيد في تف�سير هذه الآية‬


‫أخرج العلوي عن عمارة قال‪ :‬حدثني عبي�د هللا بن العالء قال سمعت زيدا عليه‬
‫ۡ َُ ُ ْ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ َ ٌ ُ َّ‬ ‫ۡ َ ُ ُ َ ُ َّ َ‬ ‫ََ َ‬
‫يهم ول ِعنوا‬
‫ِ‬ ‫د‬‫ِ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫غ‬ ‫ۚ‬ ‫ة‬ ‫ول‬‫ل‬‫غ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ود‬‫ه‬ ‫ٱل‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫السالم يقول في قوله تعالى‪﴿ :‬وقال‬
‫ۡ ََ ُ َ‬
‫ۡ ُ َ َ‬ ‫َ َ ُ ْ َ‬
‫بِما قال ۘوا بل يداه مبسوطت ِ‬
‫ان﴾ [المائدة‪.]64 :‬‬
‫َۡ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫قال عليه السالم مجاز اآلية النعمة منه والفضل وقوله تعالى‪﴿ :‬ين ِفق كيف‬
‫ََ ٓ‬
‫يشا ُء ۚ﴾ [المائدة‪ ]64 :‬يدل على ذلك‪ ،‬وقد يقول الرجل من العرب لفالن علي يد أي نعمة‪،‬‬
‫ُۡ ًَ َ ُ ُ َ‬ ‫ۡ ََ َ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ََ َ‬
‫﴿ول تعل يدك مغلولة إ ِ ٰل عن ِقك﴾‬ ‫وقد قال علي عليه السالم في قوله تعالى‪:‬‬
‫[اإلسراء‪ ]29 :‬قال‪ :‬ال تمسك يدك من النفقة في حق بمنزلة المغلولة يده إلى عنقه‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ۡ ُ‬
‫وقوله تعالى‪﴿ :‬ل َِما خلقت بِ َيد َّيۖ﴾ [ص‪ ]75 :‬أي توليت أنا خلقه بغير أبوين‪،‬‬
‫ۡ ََ َ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫َ َ‬
‫كقوله يداك عملت هذا‪[ ،‬وكقوله تعالى‪﴿ :‬ذٰل ِك ب ِ َما قدمت يداك﴾ [الحج‪ (((] ]10 :‬أنت‬
‫فعلته ولم تعالجه بي�دك‪ ،‬وأنت عملت هذا بي�دك ولعله إنما قاله بلسانه ولم يعمل‬
‫شيئ�ا بي�ده ((( (((‪.‬‬

‫((( ما بين المعكوفتين من تصرفنا‪.‬‬


‫((( أ‪ .‬هـ مجموع كتب ورسائل اإلمام األعظم زيد بن علي عليه السالم ص‪..337‬‬
‫((( ذكر بعض معاني اليد في اللغة‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ۡ َّ ُ َ‬‫َۡ‬ ‫ََۡ َ ُ َ َ‬ ‫ۡ ُ َ‬
‫ۡر عبدنا داوۥد ذا ٱلي ِدۖ إِنهۥ أواب‪[ ﴾١٧‬ص‪.]17 :‬‬
‫َّ‬ ‫ٓ‬ ‫﴿وٱذك‬‫القوة قال تعالى‪َ :‬‬
‫ُۡ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ُۡ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ۡ ََ َ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫َ َ‬
‫ۡم إِل ٱتلَّهلك ِة﴾ [البقرة‪. ]195 :‬‬ ‫الذات قال تعالى‪﴿ :‬ذٰل ِك ب ِ َما قدمت يداك﴾ [الحج‪ ]10 :‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬ول تلقوا بِأي ِديك‬
‫ۡ‬
‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫ۡ َٰ ُ ۢ َ‬ ‫ۡ‬‫َّ َ‬ ‫َّ ُ َ َ ٰ ٌ َ‬
‫ِۡن خل ِف ِهۖۦ﴾ [فصلت‪.]41 :‬‬ ‫ي يدي ِه َول م‬ ‫ِن ب ِ‬ ‫ب ع ِزيز‪ ٤١ٞ‬ل يأت ِي ِه ٱلب ِطل م‬ ‫األمام أو المتقدم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِنهۥ لكِت‬
‫النعمة يقال له علي أياد بيضاء‪ .‬انظر مختار الصحاح‪.‬‬
‫الطاقة والقدرة‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم عن يأجوج ومأجوج‪(( :‬ال يدان ألحد بقتالهم)) رواه‬
‫مسلم ‪ 2253 /4‬ذكر النووي في شرحه أي ال طاقة وال قدرة‪.‬‬
‫ۡ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َّ‬
‫التصرف المطلق والملك‪ ،‬يقال الدولة في يد رئيسها أو بي�ده ‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬تبٰرك ٱلِي بِي ِده ِ ٱلملك﴾[الملك‪.]1 :‬‬
‫المساندة والعهد والتعاون كأن يقال لنضع أيدين�ا فوق بعض لبن�اء المنزل أي لنتعاون ونتساند‪ ،‬من ذلك قوله‬
‫ۡ‬‫ۡ َ َ‬
‫َ ُ َّ َ‬
‫ۡم ۚ ﴾[الفتح‪.]10 :‬‬
‫تعالى‪﴿ :‬يد ٱللِ فوق أي ِد ِ‬
‫يه‬
‫النصح واإلرشاد‪ ،‬يقال أسلم فالن على يدي الشيخ الفالني أي بنصحه وإرشاده‪.‬‬
‫(‪ )9‬يد بال كيف‪ :‬بدعة لغوية ال ذكر لها في قواميس اللغة‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ ٌ َّ‬ ‫ُ ُّ َ‬
‫ش ٍء هال ِك إِل َوجه ُه ۚۥ﴾ [القصص‪.]88 :‬‬ ‫‪ /2‬قال تعالى‪﴿ :‬ك‬
‫قالت الوهابي�ة من أهل السنة إن هذه اآلية دليل على أن هلل وجها ‪-‬تعالى‬
‫هللا عن ذلك‪ -‬وهكذا تظل هذه العقلية تحكم غالة أهل السنة‪ ،‬يقول أحد الدعاة‬
‫وهابي يخطب‬ ‫ّ‬ ‫«بتصرف»‪ :‬دخلت ذات يوم جامعا من جوامع نيجيريا فإذا أنا بشيخ‬
‫ۡ ُ َ َ‬ ‫ۡ ََ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ان﴾ [المائدة‪]64 :‬‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫وط‬ ‫س‬‫ب‬ ‫م‬ ‫في الناس قائال‪« :‬إن هلل يدا يقول سبحانه وتعالى‪﴿ :‬بل يداه‬
‫ۡ َ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫َۡ ُ‬
‫اق﴾ [القلم‪ ]42 :‬وله وله ‪ ..‬وله‬‫وله ساق يقول سبحانه وتعالى‪﴿ :‬يوم يكشف عن ٖ‬
‫س‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ ٌ َّ‬ ‫ُ ُّ َ‬
‫ش ٍء هال ِك إِل َوجه ُه ۚۥ﴾ [القصص‪ ،]88 :‬فاستوقفته‬ ‫وجه يقول سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ك‬
‫قائال يا أخي ما هذا الكالم الذي تقوله أال تعلم أن لغة العرب فيها الحقيقة والمجاز‪،‬‬
‫واآليات التي ذكرتها ليس المراد ظاهرها؛ ألن هللا ليس كمثله شيء‪ ،‬فقال الشيخ بل‬
‫نحن نؤمن بأن هلل يدا وأن له ساقا وله وله وجها بال كيف وال نؤول وال نعطل‪ ،‬يقول‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ ٌ َّ‬ ‫ُ ُّ َ‬
‫ش ٍء هال ِك إِل َوجه ُه ۚۥ﴾ قال الداعية‪ ،‬فاستوقفته قائال ياشيخ‬ ‫سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ك‬
‫لقد زدت الطين بلة ؛ إذا كنت تقول إن هلل يدا وساقا وقدما إلى جانب الوجه معنى‬
‫ذلك أن هذه األعضاء سوف تهلك ولن يبقى إال الوجه أليس يقول سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ ٌ َّ‬
‫ُ ُّ َ‬
‫ش ٍء هال ِك إِل َوجه ُه ۚۥ﴾ فسكت الشيخ ولم يرد جوابا (((‪ ،‬ولو أن الشيخ أنصف‬ ‫﴿ك‬
‫لذكر أن المراد بالوجه هنا الذات اإللهية وليس العضو المخصوص الذي تعني�ه‬
‫السلفية‪ ،‬وهذا هو الواجب في حقه سبحانه وتعالى‪ ،‬ولكي تعلم المراد نحيلك إلى‬
‫أئمة الهدى ومصابيح الدجى قرناء القرآن ليزيلوا عنك شبه التشبي�ه بأكف التنزيه‪.‬‬

‫كالم الإمام القا�سم الر�سي عليه ال�سالم في معر�ض رده على الم�شبهة‪:‬‬
‫“وإن فرقة من البدعية استعجمت في كتاب هللا وسارعت في تأويله من غير‬
‫فصاحة بالتأويل وال فهم في التنزيل وال آلة في العلم باللغات‪ ،‬فتأولت بالعجمة إذ‬
‫ۡ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫ۡ‬
‫ۡم ل َِوج ِه ٱللِ﴾‬‫تأولته‪ ،‬ولما سمعوا كالم هللا وما فيه من قول المطعمين‪﴿ :‬إِن َما نط ِع ُمك‬
‫ۡب َ ٰ‬
‫ق‬
‫َ‬
‫ان‪َ ٢٦‬وي‬
‫َۡ َ‬
‫ف‬ ‫ا‬ ‫ه‬‫ي‬
‫ۡ َ َ‬
‫ل‬‫ع‬ ‫ن‬
‫ُ ُّ َ‬
‫م‬ ‫﴿ك‬ ‫وقوله‬ ‫﴾‬ ‫ۥ‬‫ۚ‬ ‫ه‬ ‫ش ٍء َهال ٌِك إ َّل َ‬
‫ۡج َه ُ‬
‫و‬ ‫ۡ‬‫ُ ُّ َ‬
‫وقوله‪﴿ :‬ك‬
‫ٖ‬ ‫‪]88‬‬ ‫[القصص‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ ُ َّ َ‬
‫ٱلك َرا ِم‪[ ﴾٢٧‬الرحمن‪ ،]27 - 26 :‬إن هلل ‪-‬عز عن ذلك‪ -‬وجها كوجه‬ ‫َ ٰ َ‬
‫وجه ربِك ذو ٱلل ِل و ِ‬
‫َ‬

‫ ‬
‫((( مع الصادقين‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫ۡ ّ َ ُ‬
‫ۡب َ ٰ‬
‫ق َوج ُه َربِك ذو‬
‫ََ‬
‫﴿وي‬ ‫اإلنسان‪ ،‬ونحن سائلوهم وباهلل نستعين ماذا أراد هللا بقوله‪:‬‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َۡ َ‬
‫ٱلكرا ِم‪[ ﴾٢٧‬الرحمن‪ ]27 :‬شيء منه دون شيء؟ أم هو هللا تب�ارك وتعالى يبقى؟!‬ ‫ٱلل ِل و ِ‬
‫ألنه ليس بذي جوارح متفاوتة؟ فإن رجعوا إلى النظر وتصفية الجواب علموا أن هللا‬
‫ّ‬ ‫ۡ ّ َ‬
‫ق َوج ُه َربِك﴾ يعني يبقى ربك‪ ،‬وأن كل شيء غيره فان؛ ألن هللا ليس‬ ‫ۡب َ ٰ‬
‫ََ‬
‫﴿وي‬ ‫أراد بقوله‪:‬‬
‫َ ً‬
‫مب ّعضا يبقى وجهه دون أبعاضه‪ ،‬تعالى هللا عن التبعيض‪ ،‬فإن تقحم ذو حيرة غمرات‬
‫الكفر وزعم أن له أبعاضا أحدها وجه!! قيل له أخبرنا عن تلك األبعاض التي أحدها وجه‬
‫تفنى دون الوجه؟! فإن زعم أنها تفنى دون الوجه صرح بشركه‪ ،‬وإن زعم أن األبعاض‬
‫التي هي غير الوجه تبقى مع الوجه‪ ،‬قيل له من أين قلت أن كلها تبقى؟ وقد قال هللا عز‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ ٌ َّ‬ ‫ُ ُّ َ‬
‫ش ٍء هال ِك إِل َوجه ُه ۚۥ﴾ [القصص‪ ]88 :‬ولن تجدوا حجة تدفعون بها‬ ‫وجل في كتابه‪﴿ :‬ك‬
‫الفناء عن األبعاض التي هي سوى الوجه إال أن ترجعوا إلى قولنا”(((‪..‬‬
‫وفي معرض ذكر معان الوجه في مثل تلك اآليات المتشابهة يقول اإلمام الهادي‬
‫إلى الحق عليه السالم‪ :‬إن معنى الوجه في هللا سبحانه وتعالى عن كل شان شانه هو‬
‫هللا وإنه ليس بذي أعضاء وال أبعاض وال أجزاء‪ ،‬وذلك فمعروف في العربي�ة‪ ،‬يعرفه‬
‫كل من فارق لسان األعجمية‪ ،‬من ذلك ما تقول العرب‪ :‬هذا وجه بني فالن‪ ،‬تريد أنه‬
‫المنظور إليه منهم‪ ...‬وتقول‪ :‬هذا وجه الرأي‪ ،‬أي محضه وصدقه وصوابه في كل أمر‬
‫وحقه‪ ،‬ال أن له وجها كما يعرف من الوجوه المخلوقة في البشر المجعولة له المقدرة‬
‫المركبة المصورة‪ ،‬وفي ذلك وما كان كذلك ما يقول الشاعر‪:‬‬
‫وينجـــو بـــإذن هللا من حيـــث يحذر‬ ‫وقد يهلك اإلنســـان مـــن وجه أمنه‬

‫‪ ...‬ومما يحتج به أهل اللغة‪ ،‬وبما قالت في ذلك‪ ،‬ما يقول العلي األعلى‪ ،‬مما‬
‫ۡ َ َّ‬ ‫ُۡ ّ َ َ ُ ُ َ‬ ‫ََٓ َ‬
‫﴿وما ءَاتيتم مِن زك ٰوة ٖ ت ِريدون َوجه ٱللِ‬ ‫بين فيه أن وجهه هو ال بعضه ما يقول‪:‬‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َُ َ َ ُ‬
‫فأ ْو ٰٓلئِك ه ُم ٱل ُمض ِعفون‪[ ﴾٣٩‬الروم‪ ]39 :‬فقال تريدون وجه هللا وإنما أراد سبحانه‬
‫ۡ‬‫َّ ُ ُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ََ َ َ‬
‫ۡ َ‬
‫ۡن أسل َم َوجه ُهۥ ِلِ َوه َو م ِس ‪ٞ‬ن﴾ [البقرة‪ ]112 :‬فقال من‬
‫لۚم‬
‫تريدون هللا‪ ...‬وقال‪﴿ :‬ب ٰ‬
‫أسلم وجهه أراد بذلك سبحانه من أسلم نفسه لربه‪ ،‬واستسلم له في جميع أموره‪،‬‬
‫((( مجموع رسائل اإلمام القاسم الرسي عليه السالم ‪. 472/1‬‬

‫‪39‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ‬
‫َ‬
‫وأخلص له سبحانه دين�ه‪ ،‬وقال جل جالله عن أن يحويه قول أو ين�اله‪﴿ :‬فأق ِم وجهك‬
‫َۡ‬
‫ِين ٱلق ّيِ ِم﴾ [الروم‪ ]43 :‬فأمره بإقامة وجهه للدين واإلخالص في ذلك لرب العالمين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ل ِدل ِ‬
‫ولم يرد الوجه دون القلب وسائر األبعاض واألعضاء وإنما أراد بذلك العلي األعلى‪...‬‬
‫ۡ َ ٰ َ ُ ْ َّ ٓ ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ َ َ َّ ٓ َ ‪ّ ٞ‬‬
‫نزل‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ِي‬ ‫ٱل‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ا‬ ‫ء‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫وفي ذلك ما يقول هللا سبحانه‪﴿ :‬وقالت طائِفة‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬
‫ۡ ُ ُ ْٓ َ َُ َ ُ‬
‫َّ‬ ‫ۡج َه َّ‬
‫ٱنل َهار َ‬ ‫ام ُنوا ْ َ‬‫َ َ َّ َ َ َ‬
‫جعون‪[ ﴾٧٢‬آل عمران‪ ]72 :‬فلم‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫ۥ‬ ‫ه‬‫ر‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ء‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ر‬‫ف‬‫ٱك‬‫و‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ع ٱلِين ء‬
‫ُۡ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ۡد ٰٓ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن أن يأتوا‬ ‫يرد سبحانه فيما ذكر عنهم أن للنهار وجها‪ ...‬وقال عز وجل‪﴿ :‬ذٰل ِك أ‬
‫ۡ َٓ‬ ‫َ‬
‫(((‬
‫ع َوج ِهها﴾ [المائدة‪ ]108 :‬يريد على حقيقتها وصدقها‪.‬‬ ‫ٱلش َه ٰ َدة ِ َ ٰ‬
‫َّ‬
‫بِ‬
‫ۡ َ‬ ‫َ َّ َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫َ‬
‫‪..﴿ /3‬ت ِري بِأع ُينِنا﴾ [القمر‪..﴿ ،]14 :‬فإِنك بِأع ُينِناۖ﴾ [الطور‪:]48 :‬‬
‫استلهم الوهابيون من خالل هذه اآليات أن هلل عينين اثنتين وأن العين في‬
‫الوجه!! رغم عدم وجود نص يفيد أنها اثنتين؛ ألن األعين جمع وليس تثني�ة‪ ،‬كما أنه‬
‫ال نص يفيد بأن العينين في الوجه إال إذا كانت كلتا القضيتين من باب قياس الخالق‬
‫على المخلوق وهذا هو التشبي�ه بعين�ه‪ ،‬والحق أن معنى اآليتين واضح لكل ذي لب‬
‫ولوال العصبي�ة لما احتجنا إلى توضيح ذلك‪ ،‬لذلك نقول للوهابي�ة إما أن تأخذوا بظاهر‬
‫اآليتين وهو أن السفين�ة كانت تجري بأعين هللا وليس في البحر كما هو المعلوم!!‬
‫برعاية‬
‫ٍ‬ ‫وإما أن الظاهر غير مراد وهذا هو الحق فيكون المعنى أن السفين�ة تجري‬
‫ومرأى منا‪ ،‬وهذا هو المعنى المتب�ادر للذهن لكل من صفت فطرته ولم يكابر ويعاند‪،‬‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫وكذلك قوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬فإِنك بِأعينِناۖ﴾ [الطور‪ ]48 :‬ظاهر اآلية أن أعين هللا‬
‫مكان للنبي صلى هللا عليه وآله وسلم ولذلك فهو غير مراد‪ ،‬والمراد هو المجاز أي‬
‫بحفظنا ورعايتن�ا‪ ،‬وكغيرها من األلفاظ العربي�ة تحتمل العين معان عديدة أوردناها‬
‫في الهامش‪ ،‬ومن خالل السياق والقرائن والبديهيات الفطرية يفهم المعنى(((‪.‬‬
‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام الهادي ص‪.122‬‬
‫((( بعض معاني العين‪:‬‬
‫َۡ َ ُ ُ ٗ‬ ‫َۡ‬‫َ َ َّ‬ ‫ۡ ‪ٞ َ َ ٞ‬‬ ‫َ َ‬
‫ارية‪[﴾ ١٢‬الغاشية‪﴿ ،]12 :‬وفجرنا ٱلۡرض عيونا﴾ [القمر‪.]12 :‬‬‫‪ -‬عين الماء‪﴿ :‬فِيها عي ج ِ‬
‫‪ -‬الجاسوس‪ :‬يقال‪ :‬هذا عين للعدو‪ .‬مختار الصحاح‪.‬‬
‫‪ -‬الذات‪ :‬إنه هو بعين�ه أي بذاته‪ .‬مختار الصحاح‪.‬‬
‫‪ -‬الحفظ واإلكرام‪(( :‬أنت على عيني))‪ .‬مختار الصحاح‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫َۡ‬ ‫ۡ ََ ٰ ََ‬ ‫ُ‬


‫[الحديد‪]4 :‬‬ ‫ۡر ِ ۖ‬
‫ش﴾‬ ‫ى ع ٱلع‬ ‫‪﴿ /4‬ث َّم ٱستو‬
‫يقول الشهيد القائد رضوان هللا عليه‪ :‬فهو قادر على كل شيء‪ ،‬من خلق‬
‫ً‬
‫السموات واألرض في ستة أيام هو قادر على كل شيء‪ ،‬أفال يكون قادرا على أن ينجز‬
‫ألوليائه ما وعدهم به في الدني�ا؟! لكن من الذي يثق؟‪ .‬الذي يثق من يعش حضور‬
‫هللا في ذهنيت�ه وشهادته على كل شيء‪ ،‬من يكرر تدبره في القرآن الكريم وتأمله في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ويلغي عبارات اآلخرين القاصرة في مجال معرفته‪ ،‬اللهم إال من كان‬
‫أسلوبه يدور حول أسلوب القرآن الكريم كأئمة أهل البيت القدامى الذين لم يت�أثروا‬
‫بالمعتزلة وال بغيرهم‪ ،‬كاإلمام الهادي واإلمام القاسم بن إبراهيم‪ ،‬وفي ما نجد في‬
‫ً‬
‫[نهج البالغة] من فقرات جميلة جدا في الحديث في مجال معرفة هللا سبحانه‬
‫ُ‬
‫وتعالى‪ ،‬هؤالء هم من َيد ْو ُروا حول القرآن‪.‬‬
‫َۡ‬ ‫ۡ ََ ٰ ََ‬ ‫ُ‬
‫ش﴾ [الحديد‪ ]4 :‬اآليات من أولها هي تتحدث عن ماذا؟ عن‬ ‫ۡر ِ ۖ‬
‫ى ع ٱلع‬ ‫﴿ث َّم ٱستو‬
‫عظمة هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬عن مظاهر قدرته العجيب�ة‪ ،‬هو خلق السماوات واألرض‬
‫تحدث عن خلقها عن تكوينها‪ ،‬أليست هذه آية عظيمة على قدرته؟ على حكمته؟‬
‫وأنه وحده الذي له ملك السماوات واألرض؟‪.‬‬
‫ۡ ََ ٰ ََ‬ ‫ُ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ ََ ٰ ََ‬ ‫ُ‬
‫ى ع‬ ‫ش﴾ نأتي إلى الحديث عن كلمة‪﴿ :‬ث َّم ٱستو‬ ‫ۡر ِ ۖ‬ ‫ى ع ٱلع‬ ‫﴿ث َّم ٱستو‬
‫ً‬ ‫َۡ‬
‫ۡر ِ ۖ‬
‫استواء يليق‬ ‫ش﴾ بالمعنى الذي يقول اآلخرون‪ ،‬أي‪ :‬هناك عرش استوى عليه‬ ‫ٱلع‬
‫بجالله! انظر كيف ستهبط اآلية إلى أحط مستوى؟ ما قيمة أن يقول هللا لنا هللا‬
‫ً‬
‫سبحانه وتعالى بأن هناك عرشا هو يستوي عليه؟‪ .‬ما قيمته بالنسبة لنا في مقام‬
‫الداللة على قدرته سبحانه وتعالى‪ ،‬على تدبيره‪ ،‬على حكمته‪ ،‬على عظمته وجالله!‪.‬‬
‫هل يمكن ألي شخص منا أن يتحدث بأن له سرير نوم [يرقد] عليه في بيت�ه ما قيمة‬
‫ً‬
‫هذا؟ أن أقول‪ :‬فالن عظيم وهو من أولياء هللا وهو كذا وهو كذا ومعه أيضا سرير في‬
‫غرفته ين�ام عليه‪ .‬هل لهذا الكالم قيمة؟‪ .‬أو له كرسي في صالته يستوي عليه!‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ۡ َ َٰ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫َ ٌ ُ‬
‫كمت ءايتهۥ﴾ [هود‪]1 :‬‬ ‫القرآن الكريم كل مفردة داخله لها أهميتها ﴿ك ِتٰب أح ِ‬
‫ً‬
‫يتحدث عن خلق السماوات واألرض ويقول‪ :‬ولـه أيضا عرش يجلس عليه! ما قيمة‬

‫‪41‬‬
‫بداية الطريق‬

‫هذه في مجال حكمته؟ في مجال قدرته؟ في مجال ماذا؟ بل قد تستوحي منها على‬
‫هذا النحو‪ :‬بأنه [ثم تعب ورجع يرتاح قليل على الكرسي حقه] هذا في منطقنا نحن‬
‫ُ‬
‫نقول هذا‪[ :‬عملت إلى بعد العصر وعدت إلى البيت ألستريح فألقيت بنفسي على‬
‫الكرسي] ألسنا نقول هكذا؟ حينئ ٍ�ذ يكون كالمك على الكرسي في مكانه صحيح؟‬
‫لكن في الداللة على ماذا؟ على التعب‪ ،‬أنك قد تعبت‪.‬‬
‫َۡ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُ‬
‫ش﴾ [الحديد‪ ]4 :‬عندما يقولون‪ :‬هناك عرش‪ ،‬يعني‪ :‬سرير‬ ‫﴿ث َّم ٱست َو ٰى ع ٱلع‬
‫ۡر ِ ۖ‬
‫أو كرسي‪ ،‬فاهلل استوى عليه‪ .‬ولكن قالوا‪ :‬كيف استوى عليه؟ هل جلس كذا أو كذا؟‬
‫قالوا‪ :‬استواء يليق به‪ ،‬لكن ما الذي قد ثبت في الصورة؟‪ .‬هو أن هناك عرش‪ ،‬وهللا‬
‫جاء فوقه‪[ ،‬لكن ما درين�ا كيف يكون استواؤه فوقه؟]‪ .‬أليس هذا الذي يحصل في‬
‫الذهني�ة؟‪ .‬هناك عرش وهناك جلس فوقه‪ ،‬على حد عبارة من يقولون استواء يليق به‪.‬‬
‫كلمة‪ :‬استوى على العرش تبين لك أن هللا من حيث المبدأ خلق السماوات‬
‫كونها‪ ،‬لكن السماوات واألرض شؤونها واسعة‪ ،‬مملكة عظيمة‪ ،‬مملكة‬ ‫واألرض‪ّ ،‬‬
‫ۡ‬‫َۡ‬ ‫َُّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ً ُ َّ َ ُ‬
‫ۡو ٍم ه َو ِف شأ ٖن‪[ ﴾٢٩‬الرحمن‪﴿ ]29 :‬يدب ِ ُر ٱلم َر م َِن‬‫واسعة‪ ،‬شؤونها كثيرة جدا ﴿ك ي‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ُۡ ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َّ َ ٓ َ‬
‫َ َ َ‬
‫ار ُهۥٓ ألف سن ٖة﴾ [السجدة‪ ]5 :‬شؤون‬ ‫ِۡق َد ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫ۡو ٖم كن م‬ ‫ۡ‬
‫ل ِه ِف ي‬ ‫ۡرض ث َّم يعرج ِإ‬
‫ٱلسماءِ إِل ٱل ِ‬
‫مملكته في اليوم الواحد ينجز فيها ما ال ينجز إال في ألف سنة مما نعد‪ ،‬فهذا الكون‬
‫الذي خلقه لم يخلقه ثم يرمي به هناك‪ ،‬خلقه ثم اتجه إلى تدبيره‪ ،‬إلى تدبير شئونه‪،‬‬
‫تدبير شؤون هذا العالم الفسيح‪ ،‬وهذا هو ما يعبر عنه [بالعرش] الذي يعني‪:‬‬
‫السلطان والمملكة‪.‬‬
‫االستواء على العرش معناه‪ :‬ثم اتجه نحو تدبير شؤونه‪ ،‬هو خلقه ثم دبره‪ ،‬وجاء‬
‫ً‬
‫صريحا هذا في أول [سورة يونس]‪ ،‬ومعظم ما تأتي عبارة‪[ :‬استوى على العرش]‬
‫تأتي في مقام عرض لمظاهر قدرته سبحانه وتعالى ففي أول [سورة يونس] يقول‬
‫ۡ ََ ٰ ََ‬ ‫َّ َ َّ ُ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ‬ ‫َّ َّ ُ َّ ُ َّ‬
‫ىع‬ ‫ت َوٱلۡرض ِف ِست ِة أيا ٖم ث َّم ٱستو‬
‫تعالى‪﴿ :‬إِن َربك ُم ٱلل ٱلِي خلق ٱلسمٰو ٰ ِ‬
‫ۡ‬‫َۡ‬ ‫ۡ ۖ َُّ‬ ‫َۡ‬
‫ش يدب ِ ُر ٱلم َر ۖ﴾ [يونس‪ ]3 :‬يدبر األمر‪ ..‬وهم يقولون‪[ :‬استواء يليق به‪ ،‬وفي األثر‪:‬‬ ‫ٱلعر ِ‬
‫استواء يليق به!!] وأينما وصلنا عند‪[ :‬استوى على العرش]‪ :‬استواء يليق به!‬
‫فهم مغلوط للقرآن‪ ،‬بل حط‪ ،‬حط لعظمة القرآن وحكمته‪ .‬أي‪ :‬أنه خلق وعندما‬
‫‪42‬‬
‫هناحبس هللا يف ةديقعلا‬

‫ّ‬
‫خلق هذا الكون الفسيح ذو الشؤون‪ ،‬ذو الشؤون الكثيرة لم يتخل عنه‪ ،‬هو وليه‪ ،‬هو‬
‫ً‬
‫ملكه‪ ،‬هو من يدبر أمره‪ ،‬هو حكيم‪ ،‬هو حكيم ال يخلق شيئ�ا هناك ثم يرم به‪ ،‬ثم ما عاد‬
‫له حاجة منه‪.‬‬
‫يسمون ُ‬
‫الملك‬ ‫اتجه إلى تدبير شؤونه‪ ،‬وهذا ما يعني في اللغة العربي�ة‪ ،‬العرب ّ‬
‫ً‬
‫والسلطان والية األمر يسموها العرش‪ ،‬عرش المملكة‪ ،‬هو أساسا مأخوذ ‪ -‬في لغة‬
‫العرب‪ ،‬وفيما هو معروف ‪ -‬من األشياء عند الملوك هو أن يكون للملك عرش يجلس‬
‫عليه‪ ،‬ال يجلس عليه إال الملك‪ ،‬حتى ولي العهد يكون له مقام آخر‪ ،‬هذا العرش الذي‬
‫ً‬ ‫ْ‬
‫هو أصله كرسي‪ ،‬كرسي مزخرف كبير مفخم‪ ،‬يضفي على ال َم ِلك هيب�ة أيضا‪ .‬عرش‪،‬‬
‫عرش تكرر في الذهني�ة استخدام [عرش ‪ ..‬عرش‪ ]..‬ثم أصبحت العبارة تعني‪:‬‬
‫المملكة والملك‪.‬‬
‫والقرآن الكريم هو قرآن عربي‪ ،‬هو قرآن عربي‪ ،‬بلسان العرب‪ ،‬وبأساليب العرب‬
‫يتحدث‪ ،‬فقال‪ :‬هو خلق هذا العالم السموات واألرض‪ ،‬ثم اتجه نحو تدبير شؤونها؛‬
‫ألنه ملكها‪ ،‬عبر عن المسألة بالعبارة المعروفة لدى العرب [االستواء على العرش]‪.‬‬
‫أذكر أنه في األردن قبل فترة ُط ِبع دين�ار أردني مكتوب فيه‪[ :‬بمناسبة مرور‬
‫خمسة وعشرين عاما من االستواء على العرش] أو بعبارة تشبه هذه‪ ،‬في الدين�ار‬
‫األردني طبعوه‪ ،‬معروف إلى اآلن‪.‬‬
‫ألسنا نقول‪ :‬أن المسؤول همه الكرسي‪ ،‬ماذا تعني هذه‪ ،‬عبارة [كرسي]؟‬
‫المنصب‪ ،‬المقام‪ ،‬الرتب�ة التي هو فيها‪ ،‬ال تزال الكلمة معروفة لدين�ا إلى اآلن‬
‫ً‬
‫تستعمل‪ ،‬التعبير عن الملك‪ ،‬عن المنصب‪ ،‬عن المقام بما هو عادة يكون متوفرا‬
‫لدى الملوك ولدى المسؤولين‪ ،‬فنقول‪ :‬الرئيس ما همه إال الكرسي‪ ،‬رئيس الوزراء‬
‫همه الكرسي‪ ،‬وزير الخارجية همه الكرسي‪ ،‬ألسنا نحن نقول هكذا؟‪.‬‬
‫الذي يسمعك تقول ما همه إال الكرسي‪ ،‬هل ممكن أن يقول لك‪[ :‬يا أخي نحن‬
‫سنبحث له عن كرسي ونوصله إلى بيت�ه من غير أن يزعجنا]‪ ،‬هل أحد سيقول كذا؟‪.‬‬
‫ال أحد يقول لك هذا‪ ،‬هو فاهم أنه يعني‪ :‬همه المنصب‪ ،‬همه الملك‪ ،‬همه الزعامة‪.‬‬
‫َّ َ َّ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ‬ ‫َّ ُ َّ‬ ‫َّ َّ ُ‬
‫﴿إِن َربك ُم ٱلل ٱلِي خلق ٱلسمٰو ٰ ِ‬
‫ت َوٱلۡرض ِف ِست ِة أيا ٖم﴾ [يونس‪ ]3 :‬مثل‬
‫‪43‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡ‬ ‫َّ ۢ َ‬ ‫َ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ ََ ٰ ََ‬ ‫ُ‬


‫ۡر ِ ۖ ُ َ ّ ُ‬ ‫عبارة سورة الحديد ﴿ث َّم ٱستو‬
‫يع إِل مِن بع ِد‬ ‫ش يدبِر ٱلمر ۖ ما مِن ش ِف ٍ‬ ‫ى ع ٱلع‬
‫ۡ ُ ُ ُ َ َ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫َ ٰ ُ ُ َّ ُ َ ُّ ُ َ‬ ‫ۡ‬
‫ۡم فٱعبدوه ۚ أفل تذكرون‪[ ﴾٣‬يونس‪ ]3 :‬تذكرك نفس اآليات‬ ‫إِذن ِ ِهۚۦ ذلِكم ٱلل ربك‬
‫ۡ َ َ‬ ‫َ‬
‫في [سورة الحديد]‪ .‬بما هو بمعنى‪ :‬يدبر األمر الذي جاء في [سورة يونس] ﴿يعل ُم ما‬
‫ۡينَ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُۡ ُ َ ََُ ََ ُ‬ ‫ۡ َ َ َ َ ُ َ َّ َ ٓ ِ َ َ َ‬ ‫ُۡ ُ‬
‫ََ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َ ُ‬
‫زنل مِن ٱلسماء وما يعرج فِيهاۖ وهو معكم أ‬ ‫ۡرض وما يرج مِنها وما ي ِ‬ ‫يلِج ِف ٱل ِ‬
‫ُْ‬ ‫ۡ َُ َ َ‬ ‫ۡ َّ ُ َ َ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫الملك‪ ،‬تصرف‬ ‫صري‪[ ﴾٤ٞ‬الحديد‪ ]4 :‬أليس هذا هو تصرف‬ ‫ما كنتم ۚ َوٱلل بِما تعملون ب ِ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫َُّ‬ ‫ْ‬
‫ال َم ِلك؟‪ .‬هذا معنى ﴿يدب ِ ُر ٱلمر ۚ﴾ [يونس‪. »]31 :‬‬
‫(((‬

‫وهكذا وقف أئمة أهل البيت عليهم السالم وقفة مشرفة في توضيح عقائد‬
‫اإليمان‪ ،‬والحق أنهم فرسان الحق‪.‬‬
‫وكثيرة هي اآليات التي اغتر بظواهرها الوهابيون نتيجة االنحطاط في النفوس‬
‫والجهل باللغة‪ ،‬ولكن هذا الكتاب غير مخصص لذلك ومن أراد أن يتزود ويستنير‬
‫بعقائد أهل البيت للتعرف أكثر على الحق فعليه بدروس معرفة هللا للسيد حسين بدر‬
‫الدين الحوثي رضوان هللا عليه‪ ،‬ومجاميع األئمة عليهم السالم وخصوصا المجاميع‬
‫العقائدية لإلمام زيد بن علي واإلمام القاسم الرسي واإلمام الهادي عليهم السالم‪.‬‬
‫***‬

‫((( الدرس السادس من دروس معرفة هللا للشهيد القائد‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫العدل اإللهي‬
‫شكلت هذه المسألة نقطة ساخنة من نقاط الجدل بين أئمة أهل البيت عليهم‬
‫السالم والوهابي�ة ونحوهم من أهل السنة‪ ،‬وكانت تأخذ أبعادا وعناوين عديدة؛ فتارة‬
‫تكون باسم القضاء والقدر‪ ،‬وتارة باسم الجبر واالختي�ار‪ ،‬وال شك أن هذه المسألة من‬
‫المسائل الكبيرة التي تعنى بقضية مهمة جدا وهي مسألة الحرية اإلنساني�ة ومدى‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫مسؤولية اإلنسان تجاه عمله وفعله‪ ،‬ففي الوقت الذي يجعل القرآن اإلنسان مسؤول‬
‫ٌَ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ‬‫ُ ُّ َ‬
‫عن أفعاله االختي�ارية مسؤولية كاملة ﴿ك نف ِۢس ب ِ َما كس َبت َرهِينة‪[ ﴾٣٨‬المدثر‪،]38 :‬‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ َّ َ ُ ُ َ‬ ‫ۡ‬‫ََ ُ‬
‫ۡم تع َملون‪[ ﴾٥٤‬يس‪ ،]54 :‬تقف المدرسة الوهابي�ة ونحوهم‬ ‫﴿ول ت َزون إِل ما كنت‬
‫من أهل السنة موقفا سلبي�ا من الحرية اإلنساني�ة‪ ،‬فهم يعتقدون أن اإلنسان ما هو‬
‫إال كالريشة في مهب الريح‪ ،‬وإن لم يصرحوا بذلك ولكن يفهم ضمني�ا من كالمهم‪،‬‬
‫فلذلك يؤمنون بأن كل صغيرة وكبيرة قد قضى هللا بها وقدر من غير حول لإلنسان‬
‫ً‬
‫وال قوة ؛ يقول النووي (ومذهب أهل السنة أيضا أن هللا تعالى ال يجب عليه شيء‬
‫تعالى هللا‪ ،‬بل العالم ملكه والدني�ا واآلخرة في سلطانه‪ ،‬يفعل فيهما ما يشاء‪ ،‬فلو‬
‫ً‬
‫عذب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار كان عدال منه‪ ،‬ولو ّنعم الكافرين‬
‫وأدخلهم الجنة كان له ذلك)(((‪.‬‬
‫ال خالف من أن هللا سبحانه وتعالى ال يجب عليه شيء وأنه المالك لكل شيء‪،‬‬
‫ولكن ما معنى قول النووي (فلو عذب المطيعين‪)...‬؟ ما الداعي إليراد مثل هذا‬
‫الكالم؟ وهل يعقل أن يدخل هللا سبحانه وتعالى المؤمنين النار والكافرين الجنة؟‬
‫هذا جائز عندهم‪ ،‬ولسنا بحاجة إلى كثير عناء كي نفند هذه ّ‬
‫الترهات‪ ،‬يكفين�ا قوله‬
‫َۡ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ َ ُّ َ َ َ ٗ‬ ‫ََ َ‬
‫﴿ول يظلِم ربك أحدا‪[ ﴾٤٩‬الكهف‪ ]49 :‬وقوله عز من قائل‪﴿ :‬ورح ِت‬ ‫سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫َ َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ َّ َ‬ ‫َ‬
‫ِين يتقون﴾ [األعراف‪ ]156 :‬وقوله تعالى‪﴿ :‬إِن َوعد ٱللِ‬ ‫شءٖ ۚ فسأكت ُبها ل ِل‬ ‫ۡ‬ ‫َو ِسعت ك‬
‫َ ّ‪ٞ‬‬
‫حق﴾ [يونس‪.]55 :‬‬

‫((( صحيح مسلم بشرح النووي ‪.160/17‬‬

‫‪45‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ومن عقائدهم وعقائد أهل السنة األشاعرة (أن هللا يأمر بما يكره وينهى عما يحب‪...‬‬
‫وأن أفعالهم خيرها وشرها من هللا)(((‪.‬‬
‫ويقول ابن عثيمين‪« :‬وفيه أيضا المعاصي والفجور والكفر والفسوق والقتل‬
‫وغير ذلك وكل هذه شر‪ ،‬لكن باعتب�ار نسبتها إلى هللا هي خير؛ ألن هللا عز وجل لم‬
‫ّ‬
‫(((‬
‫يقدرها إال لحكمة بالغة عظيمة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها‪»...‬‬
‫وليت الشيخ أتحفنا بذكر الحكمة من ذلك وأي حكمة هذه التي يقضي فيها‬
‫هللا الحكيم المتعال الزنا والفجور والقتل على عباده ثم يعذبهم بالنار على فعلها بال‬
‫ذنب سوى أنه قدرها وكتبها عليهم من غير حول منهم وال قوة‪.‬‬
‫ويروي البخاري في صحيحه عن أبي هريرة‪« :‬احتج آدم وموسى فقال موسى‪:‬‬
‫يا آدم أنت أبونا خيبتن�ا وأخرجتن�ا من الجنة‪ .‬قال له آدم‪ :‬يا موسى اصطفاك هللا‬
‫بكالمه وخط لك بي�ده‪ ،‬أتلومني على أمر قدره هللا علي قبل أن يخلقني بأربعين‬
‫ّ‬
‫فحج ُ‬
‫آدم موسى ثالثا» ((( هذا الحديث يظهر عتاب موسى عليه السالم آدم‬ ‫سنة؟‬
‫وإلقاءه بالالئمة عليه لخروجنا من الجنة‪ ،‬ولكن نبي هللا آدم ‪-‬حاشاه‪ُ -‬يلقي بالالئمة‬
‫على هللا سبحانه وتعالى؛ ألنه هو الذي قدر آلدم العصيان بحسب الرواية‪ ،‬لكن هللا‬
‫ۡ َ َ‬ ‫ََ َ‬
‫﴿ول تق َربا هٰ ِذه ِ‬ ‫سبحانه وتعالى ُيكذب هذه الرواية؛ ألنه قال ألبين�ا آدم وزوجه‪:‬‬
‫ۡ ُ َ َّ َ‬ ‫َۡ ُ َ َ‬‫ۡ َ‬ ‫ََ‬ ‫َّ َ َ َ َ َ ُ َ َ َّ‬
‫ٱلظٰلم َ‬
‫َ‬
‫ني‪[ ﴾٣٥‬البقرة‪﴿ ]35 :‬ألم أنهكما عن ت ِلكما ٱلشجرة ِ﴾‬ ‫ِِ‬ ‫ٱلشجرة فتكونا مِن‬
‫[األعراف‪ ]22 :‬ولم يقدر عليهما أكلها‪.‬‬
‫كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة أنها قالت‪« :‬دعي رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم إلى جنازة صبي من األنصار فقلت‪ :‬يا رسول هللا طوبى لهذا عصفور‬
‫من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه‪ .‬قال‪ :‬أوغير ذلك يا عائشة إن هللا خلق‬
‫للجنة أهال خلقهم لها وهم في أصالب آبائهم‪ ،‬وخلق للنار أهال خلقهم وهم في أصالب‬
‫آبائهم»(((‪.‬‬
‫((( المواقف في علم الكالم والفروق للقرافي والمذاهب االسالمية البي زهرة ‪.63/1‬‬
‫((( المحاضرات السني�ة في شرح العقيدة الواسطية الجزء األول ص‪ 47‬مكتب�ة طبرية‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى‪.‬‬
‫((( صحيح مسلم كتاب القدر باب كل مولود يولد على الفطرة‬

‫‪46‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫هل حقا أن معشر البشر مجرد دمية تحركها أيدي القدر؟ كل هذه األحاديث‬
‫خلقت بلبلة في صفوف المسلمين غير المتمسكين بالثقلين حتى أصبحت‬
‫القضية من األمور الغامضة التي ليس لها حل إال الحيرة واالنتظار للقدر المحتوم‬
‫وها أنا ذا أنقل لك كالم أحد الكتاب اإلسالميين والذي تحول من مذهب السنة‬
‫وكانت هذه المسألة من بين عدة مسائل سارعت بتحوله هذا‪ ،‬نذكر كالمه بتصرف‪،‬‬
‫يقول‪“ :‬القضاء والقدر عند أهل السنة‪ ..‬كان موضوع القضاء والقدر لغزا عويصا‬
‫فيما مضى من حياتي‪ ،‬إذ لم أجد فيه تفسيرا شافيا وال كافيا يريح فكري ويقنع قلبي‪،‬‬
‫وبقيت محتارا بين ما تعلمته في مدرسة أهل السنة من أن اإلنسان مسير في كل‬
‫أفعاله‪ ...‬وبين ما يمليه عقلي وضميري‪ ،‬من عدالة هللا سبحانه وتعالى وعدم ظلمه‬
‫أفعال ثم يحاسبهم عليها‪ ،‬ويعذبهم من أجل جرم‬‫ٍ‬ ‫لمخلوقاته‪ ،‬إذ كيف ُيجبرهم على‬
‫كتب�ه هو عليهم وأجبرهم عليه‪.‬‬
‫فكنت كغيري من شباب المسلمين أعيش تلك التن�اقضات الفكرية في تصوري‬
‫ۡ َُ َ‬ ‫ۡ َُ َُ ُ‬ ‫ۡ َُ َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫سلون‪[ ﴾٢٣‬األنبي�اء‪:‬‬ ‫ۡم ي ‍ٔ‬‫سل ع َّما يفعل وه‬
‫بأن هللا سبحانه هو القوي الجبار الذي ﴿ل ي ‍ٔ‬
‫َ َّ ‪ُ ُ ّ ٞ‬‬
‫‪﴿ ]23‬فعال ل َِما ي ِريد‪[ ﴾١٦‬البروج‪ ،]16 :‬وقد خلق الخلق وجعل قسما منهم في الجنة‬
‫ۡ َ َ َ َّ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫َ َ‬
‫وقسما آخر في الجحيم‪ ،‬ثم هو رحمن رحيم بعباده ﴿ل يظلِم مِثقال ذرة ٖۖ﴾ [النساء‪:‬‬
‫ۡٗ َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ۡ‬‫َّ َّ َ َ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َ َ ُّ َ َ َّ ّ‬
‫ك َّن‬
‫﴿وما َربك بِظل ٰ ٖم لِلعبِي ِد‪[ ﴾٤٦‬فصلت‪﴿ ]46 :‬إِن ٱلل ل يظلِ ُم ٱنلاس شي‍ٔا َول ٰ ِ‬ ‫‪]40‬‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َ‬
‫َّ َ ُ َ ُ َ‬
‫أحن عليهم من المرأة على ولدها كما‬ ‫ون‪[ ﴾٤٤‬يونس‪ ،]44 :‬ثم هو ُّ‬ ‫ۡم يظلِم‬
‫ٱنلاس أنفسه‬
‫جاء ذلك في الحديث الشريف (((‪.‬‬
‫وكثيرا ما يتراءى هذا التن�اقض في فهمي آليات القرآن الكريم؛ فمرة أفهم بأن‬
‫َۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اإلنسان على نفسه بصيرة وهو المسؤول الوحيد عن أعماله ﴿ف َمن يع َمل مِثقال‬
‫ۡ َ َ َ َّ َ ّٗ َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡٗ َ ُ‬‫َ َّ َ‬
‫شا ي َر ُهۥ‪[ ﴾٨‬الزلزلة‪ ،]8 - 7 :‬ومرة أفهم بأنه‬ ‫ذرةٍ خيا ي َرهۥ‪َ ٧‬ومن يعمل مِثقال ذرة ٖ‬
‫ََ ََ ٓ َ‬
‫﴿وما تشا ُءون‬ ‫مسير وليس له حول وال قوة‪ ،‬وال يملك لنفسه نفعا وال ضرا وال رزقا‪،‬‬
‫َ َ َ ُٓ‬ ‫ۡ‬‫َ َّ َّ َ ُ ُّ َ َ َ ٓ َ‬
‫ضل من يشا ُء َويه ِدي من يشاء ۖ﴾ [فاطر‪.]8 :‬‬ ‫َّ ٓ َ َ َ ٓ َّ ُ‬
‫إِل أن يشاءَ ٱللۚ﴾ [اإلنسان‪﴿ ،]30 :‬فإِن ٱلل ي ِ‬

‫((( صحيح البخاري ج ‪ 7‬ص‪.75‬‬

‫‪47‬‬
‫بداية الطريق‬

‫نعم لست وحدي بل أغلب المسلمين يعيش هذه التن�اقضات الفكرية‪ ،‬ولذلك‬
‫تجد أغلب الشيوخ والعلماء إذا ما سألتهم عن موضوع القضاء والقدر ال يجدون‬
‫جوابا يقنعون به أنفسهم قبل إقناع غيرهم‪ ،‬فيقولون‪ :‬هذا موضوع ال يجب الخوض‬
‫فيه‪ ،‬وبعضهم يحرم الخوض فيه ويقول‪ :‬يجب على المسلم أن يؤمن بالقضاء‬
‫والقدر خيره وشره وأنه من عند هللا‪.‬‬
‫ُ ُّ‬ ‫َ‬
‫وإذا ما سألهم معاند‪“ :‬كيف يجبر هللاُ عبده على ارتكاب جريمة ثم َيزج به‬
‫في نار جهنم؟” اتهموه بالكفر والزندقة والخروج عن الدين إلى غير ذلك من التهم‬
‫فجمدت العقول وتحجرت‪ ،‬وأصبح اإليمان بأن الزواج بالمكتوب‪ ،‬والطالق‬ ‫الباردة‪ُ ،‬‬
‫بالمكتوب‪ ،‬وحتى الزنا فهو مكتوب إذ يقولون‪ :‬مكتوب على كل فرج اسم ناكحه‪،‬‬
‫وكذلك شرب الخمر‪ ،‬وقتل النفس وحتى األكل والشرب‪ ،‬فال تأكل وال تشرب إال‬
‫ما كتب�ه هللا لك! على اعتب�ار أن الكتابة والتقدير ثمرة الفرض والجبر ‪ -‬فال إرادة‬
‫لالنسان ‪ -‬ال ثمرة العلم والحكمة والسنن اإللهية‪.‬‬
‫قلت لبعض علمائن�ا بعد استعراض كل هذه المسائل‪ :‬إن القرآن يكذب هذه‬
‫المزاعم‪ ،‬وال يمكن للحديث أن ين�اقض القرآن! قال تعالى في شأن الزواج‬
‫ّ َ ٓ‬ ‫ُ ْ َ َ َ َ ُ ّ‬ ‫َ‬
‫اب لكم م َِن ٱلنِساءِ﴾ [النساء‪ ]3 :‬فهذا يدل على مزية االختي�ار‪،‬‬ ‫كحوا ما ط‬ ‫﴿فٱن ِ‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ٰ ُ َ َّ َ َ‬
‫سيح بِإِحسٰنۗ﴾ [البقرة‪]229 :‬‬
‫ۡ ُۢ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫وف‬ ‫ۡع ُ‬
‫ر‬ ‫اكۢ ب َ‬
‫م‬
‫ۡ َ ُ‬
‫س‬ ‫م‬ ‫إ‬ ‫ف‬ ‫انۖ‬
‫ٖ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وفي شأن الطالق‪﴿ :‬ٱلطلق مرت ِ‬
‫ۡ َ ُ ْ ّ َ ٰٓ َّ ُ َ َ َ ٰ َ ٗ َ ٓ َ ٗ‬ ‫ََ َ‬
‫حشة َوساءَ سبِيل‪﴾٣٢‬‬ ‫ٱلزن ۖإِنهۥ كن ف ِ‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫وهو أيضا اختي�ار‪ ،‬وفي الزنا قال‪﴿ :‬ول‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ ُ ُ َّ‬
‫[اإلسراء‪ ]32 :‬وهو أيضا دليل االختي�ار‪ ،‬وفي الخمر قال‪﴿ :‬إِن َما ي ِريد ٱلشي َطٰ ُن أن يوق ِع‬
‫َّ َ‬ ‫ۡ َّ َ‬ ‫َ َ ُ َّ ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ‬‫َۡ‬ ‫ضآءَ‬
‫ۡ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡٱل َع َدٰ َوةَ َ‬ ‫َۡ ُ‬ ‫َ‬
‫ٱلصل ٰوة ِۖ‬ ‫ۡم عن ذِك ِر ٱللِ َوع ِن‬ ‫س ويصدك‬ ‫ِ ِ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ٱل‬‫و‬‫َ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫غ‬‫ٱل‬‫و‬ ‫كُ‬
‫م‬ ‫بين‬
‫ۡ َ ُ ُّ َ ُ َ‬ ‫ََ‬
‫فهل أنتم منتهون‪[ ﴾٩١‬المائدة‪ ]91 :‬وهي أيضا تنهى بمعنى االختي�ار‪.‬‬
‫ۡ ّ‬ ‫ۡ َ َّ َ َّ َ َّ ُ َّ‬ ‫ۡق ُت ُلوا ْ َّ‬ ‫ََ َ‬
‫ٱلل إِل بِٱلَ ِقۗ﴾‬ ‫ٱنلفس ٱل ِت حرم‬ ‫﴿ول ت‬ ‫أما قتل النفس فقد قال فيها‪:‬‬
‫ب َّ ُ‬ ‫َ‬
‫ِيها َوغض َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬
‫ۡؤم ِٗنا ُّم َت َع ّم ٗدا ف َج َزاؤ ُهۥ َج َه َّن ُم َخٰ ِ ٗ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ُۡ‬ ‫ََ َ‬
‫ٱلل‬ ‫ِ‬ ‫لا ف‬ ‫ِ‬ ‫﴿ومن يقتل م‬ ‫[اإلسراء‪ ]33 :‬وقال‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ۡيه َولَ َع َن ُهۥ َوأ َع َّد ُلۥ َعذابًا َعظ ٗ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫يما‪[ ﴾٩٣‬النساء‪ ]93 :‬فهذه أيضا تفيد االختي�ار في‬ ‫ِ‬ ‫عل ِ‬
‫القتل‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫ۡ َُ ْ َ‬ ‫َُُ ْ‬
‫ٱشبوا َول‬‫﴿وكوا َو‬ ‫وحتى بخصوص األكل والشرب فقد رسم لنا حدودا فقال‪:‬‬
‫ۡسف َ‬
‫ِني‪[ ﴾٣١‬األعراف‪ ]31 :‬فهذه أيضا باالختي�ار‪.‬‬ ‫ُۡ‬
‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ۡس ُف ۚٓوا ْ إنَّ ُهۥ َل ُي ُّ‬
‫ب‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ِ‬
‫فكيف يا سيدي بعد هذه األدلة القرآني�ة تقولون بأن كل شيء من هللا‪ ،‬والعبد‬
‫مسير في كل أفعاله؟!‬
‫ُ‬
‫أجابني‪ :‬بأن هللا سبحانه هو وحده الذي يتصرف في الكون واستدل بقوله‪﴿ :‬ق ِل‬
‫ََ ٓ ُ َ ََ ٓ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ ََ ُٓ ََ ُ‬ ‫ُۡ‬ ‫ۡ ُ‬
‫ۡ‬ ‫ُۡ‬ ‫َّ ُ َّ َ ٰ َ‬
‫زنع ٱل ُملك م َِّمن تشا ُء َوت ِع ُّز من تشا ُء‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ء‬ ‫ا‬ ‫ش‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫ؤ‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ل‬‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ك‬ ‫ٱللهم ملِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ُۡ َ َ‬ ‫ۡ‬
‫َ ُ ُّ َ َ ُ َ َ َ‬
‫ٓ‬ ‫َ‬
‫شءٖ ق ِدير‪[ ﴾٢٦ٞ‬آل عمران‪.]26 :‬‬ ‫ۡ‬ ‫ك‬‫ِ‬ ‫ٰ‬
‫ع‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫وت ِذل من تشاء ۖ بِي ِدك ٱل ِ‬
‫ۖ‬ ‫ي‬
‫قلت‪ :‬ال خالف بينن�ا في مشيئ�ة هللا سبحانه‪ ،‬وإذا شاء هللا أن يفعل شيئ�ا‪ ،‬فليس‬
‫بإمكان اإلنس والجن وال سائر المخلوقات أن يعارضوا مشيئت�ه! وإنما اختالفنا في‬
‫أفعال العباد هل هي منهم أم من هللا؟؟‬
‫أجابني‪ :‬لكم دينكم ولي دين‪ ،‬وأغلق باب النقاش بذلك‪ .‬هذه هي في أغلب‬
‫األحيان حجة علمائن�ا «(((‪.‬‬

‫العدل الإلهي في منظور �أهل البيت عليهم ال�سالم‬


‫تساؤالت كثيرة كانت تطرأ على عقول وقلوب كثير من الناس فتثير البلبلة‬
‫والشك في صدورهم‪ ،‬هل أن المعاصي من زنا وقتل وسرقة وغيرها بقضاء من هللا‬
‫وقدره؟ وهل أن الظلم واالستعباد للشعوب والمستضعفين بقضاء هللا وقدره؟‬
‫في بيئتن�ا اليمني�ة بعد أن استفحلت عقائد وأفكار الوهابي�ة في فترة خمل فيها أتب�اع‬
‫أهل البيت عليهم السالم من الزيدية‪ ،‬كنت كثيرا ما أسمع تحليال عجيب�ا لقضايا‬
‫ُ ّ‬
‫وجل الناس‬ ‫مهمة وخطيرة‪ ،‬فعندما تحصل جريمة قتل تجد القاتل بل أهل المقتول‬
‫يحملون القدر اإللهي المسؤولية‪ ،‬وكذلك العجز والعوز االقتصادي‪ ،‬بل حتى صعود‬ ‫ِّ‬
‫الفجرة والظلمة على رقاب الناس فهو عندهم ليس سوى نتيجة لتقدير الباري‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا هو سر أن السلفية والصوفية وأهل السنة عموما مقربون‬

‫((( كتاب مع الصادقين‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫بداية الطريق‬

‫من السلطة ودوائرها‪ ،‬بعكس من ينتمي لمنهج أهل البيت عليهم السالم‪ ،‬حتى‬
‫القضايا االجتماعية كالزواج مثال فهو قسمة ونصيب! فعندما تحاول البحث عن‬
‫بنت الحالل بمواصفات معين�ة كالخلق والدين وغيرها من الصفات التي ترغب فيها‬
‫النفس البشرية سرعان ما يب�ادرونك بقولهم‪« :‬الزواج قسمة ونصيب»‪« ،‬ما لك‬
‫إال ما كتب لك» على أساس أن الكتابة والتقدير اإللهي ألفعال العباد ثمرة للجبر‬
‫والتسيير االلهي وليس ثمرة لعلم هللا المسبق وحكمته البالغة وسنن�ه االلهية‬
‫التي وضعها في هذا الكون‪ ،‬ولن تشفع لك حتى األحاديث النبوية كقوله صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم‪« :‬تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس» وكقوله صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪« :‬فاظفر بذات الدين‪ »..‬التي تدعو إلى األخذ باألسباب ‪ ،‬وكانت هذه األفكار‬
‫الجبرية موجودة منذ ما قبل التاريخ اإلسالمي‪ ،‬وقد طرأت هذه المسألة بقوة في‬
‫عصر األئمة عليهم السالم‪ ،‬من ذلك قصة الرجل الشامي الحائر في سفره وفي فعله‬
‫هل له الحرية واالختي�ار في العمل أم أنه كالريشة في مهب الريح‪ ،‬وقد رواها أئمة‬
‫أهل البيت والعلماء السائرون على دربهم في كتبهم‪ ،‬وأذكر هنا هذه الرواية «سأل‬
‫ً‬
‫شيخ شامي اإلمام عليا عليه السالم عن مسيره إلى الشام أكان بقضاء وقدر؟ فقال‬
‫علي عليه السالم‪ :‬والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما قطعنا واديا وعلونا تلة إال بقضاء‬
‫وقدر‪.‬‬
‫فقال الشيخ‪ :‬عند هللا أحتسب عنائي‪ ،‬ما أرى لي من األجر شيئ�ا‪.‬‬
‫فقال علي عليه السالم‪ :‬بلى أيها الشيخ قد عظم هللا لكم األجر في مسيركم‬
‫وأنتم سائرون وعلى منصرفكم وأنتم منصرفون‪ ،‬ولم تكونوا في شيء من حاالتكم‬
‫مكرهين وال إليها مضطرين‪.‬‬
‫فقال الشيخ‪ :‬فكيف والقضاء والقدر ساقانا‪ ،‬وعنهما كان مسيرنا؟‬
‫فقال علي عليه السالم للشيخ‪ :‬لعلك ظننت قضاء الزما وقدرا حتما؟ لو كان‬
‫كذلك لبطل الثواب والعقاب‪ ،‬وسقط الوعد والوعيد‪ ،‬واألمر من هللا والنهي‪ ،‬ولما‬
‫كانت تأتي من هللا محمدة لمحسن وال مذمة لمسيء‪ ،‬ولما كان المحسن بثواب‬
‫اإلحسان أولى من المسيء‪ ،‬وال المسيء بعقوبة اإلساءة أولى من المحسن‪ ،‬تلك‬

‫‪50‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫مقالة عبدة األوثان‪ ،‬وجنود الشيطان‪ ،‬وخصماء الرحمن‪ ،‬وشهود الزور وأهل العمى‬
‫عن الصواب في األمور‪ ،‬قدرية هذه األمة ومجوسها‪ ،‬إن هللا أمر تخييرا ونهى تحذيرا‪،‬‬
‫وكلف يسيرا‪ ،‬ولم ُيعص مغلوبا‪ ،‬ولم ُي َطع ُمكرها‪ ،‬ولم يرسل الرسل هزؤا‪ ،‬ولم ينزل‬
‫﴿ذٰل َِك َظ ُّن َّٱل َ‬
‫ِين‬
‫َ‬
‫القرآن عبث�ا‪ ،‬ولم يخلق السموات واألرض وعجائب اآليات باطال‬
‫ۡ ‪َ َ َّ ّ ٞ‬‬
‫ك َف ُروا ْ م َِن َّ‬ ‫ك َف ُر ۚوا ْ َف َ‬
‫َ‬
‫ار‪[ ﴾٢٧‬ص‪.]27 :‬‬
‫ِ‬ ‫ٱنل‬ ‫ِين‬‫ِل‬ ‫ل‬ ‫ل‬‫ي‬ ‫و‬
‫فقال الشيخ‪ :‬ما القضاء والقدر اللذان ما وطئن�ا موطئا إالبهما؟‬
‫ۡ ُ ُ ْٓ‬‫َ َ َ ٰ َ ُّ َ َ َّ َ‬
‫فقال عليه السالم‪ :‬األمر من هللا والحكم‪ ،‬ثم تلى‪۞﴿ :‬وقض ربك أل تعبدوا‬
‫َّ ٓ َّ ُ‬
‫إِل إِياه﴾ [اإلسراء‪]23 :‬‬

‫فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول شعرا‪:‬‬


‫يـــوم النشـــور مـــن الرحمن رضوانــــا‬ ‫أنـــت اإلمـــام الـــذي نرجو بطاعـــــته‬
‫جـــزاك ربـــك عنـــا فيـــه إحسانـــــا‬ ‫أوضحت من دينن�ا ما كــــان ملتبســـا‬
‫بعـــد النبـــي علـــي الحبـــر موالنــــــا‬ ‫نفســـي الفداء لخيـــر الناس كلهـــــم‬
‫وزاد ذا العلـــم واإليمـــان إيمانــــــا‬ ‫نفـــي الشـــكوك مقال منك متضــــح‬
‫يومـــا لراكبهـــا ظلمـــا وعدوانــــــا‬ ‫فليـــس معـــذرة فـــي فعل فاحـشـــــة‬
‫(((‬
‫فيها عبـــدت إذا يـــا قوم شيطانــــا‬ ‫ال ال وال قــائـــــل ناهيـــه أوقعـــه‬

‫‪ -‬وفي عصر اإلمام زيد بن علي كانت هذه العقائد الفاسدة ظاهرة‪ ،‬وبدأت‬
‫تسري في أوساط المجتمع فتصدى لها اإلمام زيد بن علي عليه السالم بالرد‪ ،‬يقول‬
‫عليه السالم‪“ :‬سبحانه وتعالى عما تقول المجبرة والمشبهة علوا كبيرا؛ إذ يزعمون‬
‫أن هللا سبحانه وتعالى خلق الكفر بنفسه‪ ،‬والجحود والفرية عليه‪ ،‬وأن يده مغلولة‪،‬‬
‫َۡ ُ َ‬ ‫َ َّ ٰ ُ‬ ‫َّ‬
‫ن يؤفكون‪[ ﴾٤‬المنافقون‪]4 :‬‬ ‫وأنه فقير وأنه سفيه‪ ،‬وأنه أفك العباد ثم قال‪﴿ :‬أ‬
‫َ ُ ْ‬ ‫َ َّ ٰ ُ‬
‫ۡ َُ َ‬
‫صفون‪[ ﴾٦٩‬غافر‪ ]69 :‬وقال‪﴿ :‬سابِق ٓوا﴾ [الحديد‪ ]21 :‬ولم يعطهم‬ ‫وصرفهم وقال‪﴿ :‬أن ي‬
‫آلة للسباق‪ ،‬وأنه خلقهم أشقياء‪ ،‬ثم بعث إليهم رسوال يدعوهم إلى السعادة‪ ،‬وأنه‬
‫أجبرهم على المعاصي إجبارا ثم دعاهم إلى الطاعة ولم يخل سبيلهم إليها‪ ،‬ثم‬
‫((( مقدمة مجموع كتب و رسائل االمام الهادي عليه السالم‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫بداية الطريق‬

‫غضب عليهم وعاقبهم بغرق وحرق واصطالم بقوارع النقم‪ ،‬وجعل موعدهم جهنم‬
‫ۡ ً ّٗ‬ ‫ُۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ َ‬
‫يا إِدا‪[ ﴾٨٩‬مريم‪:‬‬ ‫ۡم ش ‍ٔ‬‫جئت‬‫ِ‬ ‫د‬ ‫ق‬ ‫وأنه جاء باإلد فأدخله في قلوب الكافرين ثم قال‪﴿ :‬ل‬
‫‪ ]89‬سخطا منه لخلقة فطرها‪ ،‬وأنه لم يجعل للقلوب استطاعة لدفع ما دهمها وحل‬
‫بها ؛ إذ أجبرها عليه وجبلها له‪ ،‬فنسبوا إلى هللا تب�ارك وتعالى المذمات ونفوها عن‬
‫أنفسهم من جميع الجهات‪ ،‬فقالوا‪ :‬منه جميع تقلبن�ا في الحركات التي هي المعاصي‬
‫وباعث المرسلين‬ ‫ِ‬ ‫والطاعات‪ ،‬وإنه محاسبن�ا يوم القيامة على أفعاله التي فعلها‪ ...‬كال‬
‫ما هذه صفة أحكم الحاكمين‪ ،‬بل خلقهم مكلفين مستطيعين محجوجين مأمورين‬
‫ْ‬
‫منهيين‪ ،‬أمرنا بالخير ولم يمنع منه‪ ،‬ونهى عن الشر ولم ُيغ ِر عليه‪ ،‬وهداهم النجدين‬
‫ۡ ُ ْ‬
‫سبي�ل الخير والشر ثم قال‪﴿ :‬ٱع َملوا﴾ [األنعام‪ ]135 :‬فكل ميسر لما خلق له من عمل‬
‫س ُهۥ‪﴾٢٠‬‬‫يل ي َ َّ َ‬ ‫ُ َّ َّ َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ َّ َ ُ‬
‫الطاعة وترك المعصية‪ ،‬وقال تعالى‪﴿ :‬خلقهۥ فقدرهۥ‪ ١٩‬ثم ٱلسبِ‬
‫[عبس‪ ”]20 - 19 :‬إلى آخر كالمه عليه السالم وهي رسالة مهمة جدا ننصح بمطالعتها(((‪.‬‬
‫‪ -‬ويقول اإلمام القاسم الرسي عليه السالم ردا على الجبرية‪“ :‬فزعمت القدرية‬
‫الكاذبة على ربها أن هللا ‪-‬عز وجل عن قولهم‪ -‬خلق أكثر خلقه ليعبدوا غيره ويتخذوا‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ‬ ‫ۡ َ ُ ْ َّ َ َ ٗ‬ ‫ََ َ‬
‫الشركاء واألنداد مع قوله‪﴿ :‬فل تعلوا ِلِ أندادا﴾ [البقرة‪ ،]22 :‬ومع قوله‪﴿ :‬يأيها‬
‫َّ ُ َّ ُ ْ َّ ُ‬
‫ٱنلاس ٱتقوا َربك ُم﴾ [النساء‪ ... ]1 :‬فزعموا أنه لم ُيرد منهم أن يطيعوا رسله‪ ،‬وأن هللا‬
‫ُۡ ُ َ‬
‫َۡ َ‬ ‫َ َ‬
‫أمر بما ال يريد‪ ،‬ونهى عما يريد‪ ،‬وخلقهم كفارا وقال هللا‪﴿ :‬وكيف تكفرون﴾ [آل‬
‫ۡ َ َ ُ ْ َّ‬ ‫ۡ‬‫ََ َ َ َ‬
‫ۡو ءَامنوا بِٱللِ﴾ [النساء‪ ]39 :‬وقال‪:‬‬‫﴿وماذا علي ِهم ل‬ ‫عمران‪ ]101 :‬ومنعهم من اإليمان وقال‪:‬‬
‫ٰٓ‬ ‫ۡ‬
‫ۡ َ َٓ ُ َُ‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ َ َ َّ َ َ ُ‬
‫ۡ ُ ْٓ‬
‫﴿وما منع ٱنلاس أن يؤمِنوا إِذ جاءهم ٱلهدى﴾ [اإلسراء‪. ”]94 :‬‬
‫(((‬

‫وال يعني ذلك أن هللا سبحانه وتعالى خلق خلقه ثم أهملهم كما يقول الفيلسوف‬
‫أرسطو‪ ،‬بل إن يد القدرة اإللهية وحكمة التدبير اإللهي تت�دخل في كل شيء وال تغفل‬
‫عن شيء‪ ،‬ويجب أن ال يغفل اإلنسان أنه محاط بسنن إلهية ومن ورائها إرادة مدبرة‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫مطمئن السريرة وهو يشاهد تدبير‬ ‫ومشيئ�ة مطلقة‪ ،‬فالمؤمن يعيش هادئ النفس‬
‫هللا وتدخله في كل حادث‪ ،‬والمؤمن يعيش في ظل رعاية هللا ويستشعر فاعلية‬

‫((( انظر مجموع كتب ورسائل اإلمام زيد ص‪.213‬‬


‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام القاسم الرسي ‪.499/1‬‬

‫‪52‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫ُّ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ۡ َ َّ َ َ َ ُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ ُ‬


‫شف ٱلسوء﴾ [النمل‪:‬‬ ‫تأثير أسماء هللا الحسنى‪﴿ ،‬أمن يِيب ٱلمضطر إِذا دعه ويك ِ‬
‫َ َّ ُ َ ٌ َ َ‬ ‫ٱلَب ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َۡ‬ ‫َُ‬
‫ري‪[ ﴾١٨‬األنعام‪﴿ ]18 :‬وٱلل غلِب عٰٓ‬ ‫ِ‬
‫كيمُ‬ ‫﴿وه َو ٱلقاه ُِر فوق عِبا ِدهِۚۦ َوه َو ٱل ِ‬
‫َ‬ ‫‪]62‬‬
‫ۡيَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َ ُ ٓ َّ َّ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫اس ل يعلمون‪[ ﴾٢١‬يوسف‪﴿ ]21 :‬وٱعلموا أن ٱلل يول ب‬ ‫كن أكث ٱنل ِ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫أم ِره ِۦ ول ِ‬
‫ۡ َ َُّ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ َ َ َّ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫‪ٞ‬‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫َۡ‬
‫﴿ومن يت ِق ٱلل يعل لۥ‬ ‫ريد‪[ ﴾١٦‬البروج‪]16 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ا‬‫ِم‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ع‬ ‫﴿ف‬ ‫‪]24‬‬ ‫[األنفال‪:‬‬ ‫ۦ﴾‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ق‬‫و‬ ‫ِ‬ ‫ء‬‫ر‬ ‫م‬ ‫ٱل‬
‫ۡ ُ ُ ٓ َّ َّ َ َ ٰ ُ‬ ‫َّ ُ َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َ ََ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ ُ‬ ‫ۡ‬‫َ‬
‫ب ۚ َومن يت َوك ع ٱللِ فه َو حسبه ۚۥ إِن ٱلل بلِغ‬ ‫ِۡن حيث ل يت ِس‬ ‫ۡرزق ُه م‬ ‫م َر ٗجا‪ ٢‬وي‬
‫ٱللُ‬‫َّ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َّ َّ ُ َ َ ُ ۢ َ َ َ ٓ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫اصيتِها ۚ﴾ [هود‪﴿ ]56 :‬أليس‬ ‫خذ بِن ِ‬ ‫أم ِرهِۚۦ﴾ [الطالق‪﴿ ]3 - 2 :‬ما مِن دٓاب ٍة إِل هو ءا ِ‬
‫َّ ُ َ َ َُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٱل َ‬ ‫ۡ َ ُ َ ُ َ ّ ُ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِين مِن دون ِ ِهۚۦ﴾ [الزمر‪﴿ ]36 :‬من ي ِه ِن ٱلل فما لۥ مِن‬ ‫اف عبده ۖۥ ويخ ِوفونك ب ِ‬ ‫بِك ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ ُ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُّ‬
‫ِۡن ها ٖد‪[ ﴾٣٣‬غافر‪.]33 :‬‬ ‫ٱلل ف َما ُلۥ م‬ ‫﴿ومن يضلِ ِل‬ ‫مۚ﴾ [الحج‪]18 :‬‬ ‫مك ِر ٍ‬
‫من هنا ندرك أن اإلنسان والكون وإن كان محاطا بالسنن والقوانين اإللهية‪،‬‬
‫فهناك دائما وراء السنن والقوانين اإللهية َم ْن خلق هذه السنن ودبرها وهو هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ً‬
‫إذا فاإلنسان في المشروع القرآني صاحب مسؤولية كبيرة‪ ،‬وال ينبغي له بأن‬
‫ُيلقي تبعات أفعاله وأخطائه على غيره‪.‬‬
‫ويقول اإلمام الهادي عليه السالم‪« :‬ومما يسألون عنه أن يقال لهم‪ :‬أجيبونا‬
‫ۡ َ ‪ً َ ّ َ َ َ َ َّ َ ٓ َ َ َ ٞ‬‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬
‫عن قول هللا سبحانه‪﴿ :‬إِن هٰ ِذه ِۦ تذك ِرة ۖ فمن شاء ٱتذ إ ِ ٰل رب ِ ِ‬
‫هۦ سبِيل‪[ ﴾١٩‬المزمل‪:‬‬
‫ُۡ‬ ‫ۡ‬‫َ َ ٓ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬‫َ ٓ َ‬ ‫َ‬
‫ۡر ۚ﴾ [الكهف‪ ،]29 :‬أمن شاء أن‬ ‫‪ ،]19‬وعن قوله‪﴿ :‬ف َمن شاءَ فل ُيؤمِن َومن شاءَ فل َيكف‬
‫يفعل خيرا فعله‪ ،‬أم ليس هو عندكم كما قال هللا؟ فإن قالوا‪ :‬ليس هو كما قال هللا‬
‫كفروا‪ ،‬وإن قالوا هو كما قال هللا رجعوا إلى الحق وقالوا على هللا بالصدق وأقروا أن‬
‫َّ‬
‫العباد ُم َمكنون من العمل‪ ،‬وأنهم يفعلون ما شاؤوا بما جعل هللا فيهم من االستطاعة‬
‫التي ركبها فيهم‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬ليس هو كذلك ردوا كتاب هللا وكذبوه‪ ،‬ومن فعل ذلك فقد كفر»‬
‫مجموع كتب ورسائل اإلمام الهادي‪.‬‬
‫وهنا رواية ملفتة لإلمام الهادي عليه السالم‪:‬‬

‫‪53‬‬
‫بداية الطريق‬

‫عندما دخل اإلمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السالم صنعاء‬
‫ّ‬
‫النقوي‪.‬‬ ‫اجتمع وعلماء المجبرة الذين اختاروا لمناظرته العالم‬
‫فقال النقوي‪ :‬ما تقول يا سيدي في المعاصي؟ ممن المعاصي؟‬
‫فأجاب اإلمام الهادي عليه السالم‪ :‬ومن العاصي؟‬
‫ُ‬
‫فانقطع النقوي ولم يحر جوابا‪ ،‬فالمه أصحابه‪ ،‬فقال‪ :‬إن قلت «هللا» كفرت‪،‬‬
‫وإن قلت «العبد» خرجت من مذهبي‪.‬‬
‫وفي إطار هذا الموضوع نقتطف هذا المقطع من دروس الشهيد القائد السيد‬
‫حسين بدر الدين رضوان هللا عليه‪:‬‬
‫َ ُ‬
‫﴿ب ِديع‬ ‫«تأتي هذه اآليات تتحدث عن تنزيهه لذاته سبحانه وتعالى ألنه هو‬
‫َۡ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ۡرض﴾ [األنعام‪ ]101 :‬هو من ال يحتاج ‪ -‬وهو يخلق ما يخلق ويفطر ما يفطر ‪ -‬إلى‬ ‫ت َوٱل ِ ۖ‬
‫ٱلسمٰو ٰ ِ‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ْ َْ‬ ‫ً‬
‫يستق ِد َم نموذجا فيصنع‬ ‫أن يعتمد على طرف آخر يسلمه مخططا ليرسم عليه‪ ،‬أو‬
‫كمثله‪ ،‬هو َمن ال يحتاج إلى هذا‪ ،‬هو من ليس هناك غيره يمكن أن يعمل هذا؛ ألن كل‬
‫ما سواه مخلوق‪ ،‬كل ما سواه محدث‪ ،‬هو الذي خلقه‪ ،‬هو الذي أحدثه‪ ،‬فهو َمن ابت�دع‬
‫السماوات واألرض‪ ،‬هو من ال يمكن أن يكون له ولد‪.‬‬
‫ً‬
‫هل فهمنا اآلن بأنها صفة نقص لو حكمنا بأن له ولدا؟ صفة نقص فيه نثبتها‪..‬‬
‫ما هي صفة النقص هذه؟ أي سنثبت بأنه ناقص‪ .‬ما هو النقص؟ أنن�ا أثبتن�ا أنه‬
‫ً‬
‫محتاج لطرف آخر‪ ،‬وأن الطرف اآلخر هو أكمل منه‪ ،‬إذا ونحن مفطورون على إعطاء‬
‫الحق لألولي أليس كذلك؟ والتسليم لألكمل‪ ،‬سنقول‪ :‬إن ذلك الذي هو من صنع‬
‫ً‬
‫هللا على هذا النحو‪ ،‬أو منحه هذا الشيء هو األكمل‪ ،‬إذا فهو األولى‪ .‬فهذه تنسف‬
‫التوحيد من أساسه‪ ،‬كفر‪ ،‬كفر شديد‪.‬‬
‫ۡ‬‫َ َ َ َ ُ َّ َ‬
‫شءٖ ۖ﴾ [األنعام‪ ]101:‬هو من خلق كل شيء‪ ،‬كل شيء من هذه األشياء التي نراها‬ ‫﴿وخلق ك‬
‫َۡ‬ ‫َ َ َ َ ُ َّ‬
‫أمامنا‪،‬خلقنانحن‪،‬وخلقكلهذهالموجوداتالتيأمامنا‪.‬كلمة‪﴿:‬وخلق ك شءٖ ۖ﴾ أتتفي‬
‫سياق الثن�اء على هللا‪ ،‬والتمجيد هلل‪ ،‬والتقديس هلل‪ ،‬والحديث عن كماله سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫كمالهالذييستحقالثن�اءمنعباده‪،‬بلهومنأثنىعلىنفسهقبلأنيثنيعليهعباده‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫ً‬ ‫ۡ‬‫َ َ َ َ ُ َّ َ‬
‫شءٖ ۖ﴾ يعني‪ :‬هو أيضا أفعالنا هذه‪،‬‬ ‫فعندما يأتي اآلخرون فيقولون‪﴿ :‬وخلق ك‬
‫ً‬
‫المعاصي هو الذي خلقها؛ ألنها أشياء فهو إذا الذي خلقها‪ .‬ال يفهمون الحديث هو‬
‫عن ماذا هنا‪ ،‬أنه يتحدث عن كماله‪ ،‬عن تن‍زيهه‪ ،‬عن تن‍زيه ذاته‪ ،‬عن تمجيده‪ ،‬عن‬
‫َ ّ‬
‫تقديسه‪ ،‬عن الثن�اء عليه‪ ،‬عن كماله سبحانه وتعالى‪ ..‬فهل هو من يتمدح َيت َمدح بأنه‬
‫الذي خلق المعاصي وخلق الظلم وخلق الفساد وخلق الكفر وخلق النفاق؟! هل هذا‬
‫ُّ‬
‫تمدح؟!‪ .‬لو كان هو من خلق الضالل والكفر والفساد والنفاق والمعاصي والباطل‬
‫لما استحق أن نثني عليه‪ .‬نثني عليه مقابل ماذا؟ إذا كنا نقول‪ :‬بأنه مصدر كل قبيح‬
‫ومصدر الفواحش‪ ،‬ومصدر الشرور‪ ،‬فلماذا نثني عليه؟‪ .‬هل يستحق الثن�اء عليه فيما‬
‫إذا وصفناه بأنه مصدر القبائح والفواحش؟ هل من هو مصدر القبائح والفواحش‬
‫َْ‬
‫يستحق أن ُيثنى عليه؟ هل هللا سبحانه وتعالى ممكن أن يثني على نفسه‪ ،‬ويتحدث‬
‫في مقام الثن�اء على ذاته بأنه من خلق الظلم والفواحش والفساد؟! هذا ليس مما‬
‫يمكن أن يقوله من في قلبه مثقال ذرة من معرفة باهلل صادقة‪ ،‬وشعور بعظمة هللا‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫هو من نزه نفسه في آيات أخرى عن الفساد والظلم‪ ،‬أنه ال يريد أن يظلم‬
‫ۡ‬ ‫َ َ َّ ُ ُ ُ ُ‬ ‫َ َ ُّ َ َ َّ ّ‬
‫َۡ‬
‫ٱلل ي ِريد ظل ٗما‬ ‫﴿وما َربك بِظل ٰ ٖم لِلعبِي ِد‪[ ﴾٤٦‬فصلت‪ ]46 :‬وهو من قال‪﴿ :‬وما‬ ‫العباد‪:‬‬
‫ني‪[ ﴾١٠٨‬آل عمران‪ ،]108 :‬وكلمة ظلم تشمل ‪ -‬تقريب ً�ا ‪ -‬كل أنواع الفساد ﴿إ َّن َّ َ‬ ‫ّ‬
‫ِۡل َعٰلَم َ‬
‫ٱلل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬
‫ۡ ُُ‬‫َّ َّ َ َ‬ ‫ۡ َُ َ‬ ‫ۡ َ ٓ َ َ ُ ُ َ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ُۡ‬
‫َ َ‬
‫ل يأم ُر بِٱلفحشاءِ ۖ أتقولون ع ٱللِ ما ل تعلمون‪[ ﴾٢٨‬األعراف‪۞﴿ ]28 :‬إِن ٱلل يأمر‬
‫غۚ﴾ [النحل‪.]90 :‬‬ ‫َۡ‬
‫ۡ‬
‫ٱل‬‫و‬
‫ُۡ َ‬
‫نكر َ‬ ‫م‬ ‫ٱل‬‫و‬‫ۡح َشآءِ َ‬‫َۡ‬
‫ف‬‫ٱل‬ ‫ن‬
‫ۡ َٰ َ‬
‫ع‬ ‫ه‬ ‫ن‬
‫ۡ َٰ َ َ‬
‫ي‬ ‫و‬ ‫ر‬
‫ُۡ‬
‫ق‬‫ٱل‬ ‫ِي‬ ‫ذ‬ ‫ي‬
‫َٓ‬
‫ا‬‫ِإَويت‬ ‫ن‬ ‫ۡح َسٰ‬
‫ٱل‬
‫ۡ‬‫ۡدل َ‬ ‫َۡ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ِٕ‬ ‫ِ‬ ‫بِٱل ِ ِ‬
‫و‬ ‫ع‬
‫هو الذي ينهى عنها فكيف يتمدح بأنه هو من يخلقها‪ ،‬وكيف يمكن أن يكون‬
‫هو من خلقها فيك‪ ،‬إذا كان هو من خلقها فيك فمعنى ذلك بأنك انطلقت فيها بغير‬
‫اختي�ار منك؛ ألن كل ما خلقه هللا فيك هو بغير اختي�ار منك‪ ،‬بل وبغير اختي�ار من‬
‫أبيك‪ ،‬وبغير اختي�ار من أمك‪ ،‬لونك‪ ،‬شكلك‪ ،‬طولك‪ ،‬قصرك‪ ،‬شكل أعضائك‪ ،‬هل‬
‫ً‬
‫هو باختي�ار منك؟ هل أنت قدمت هلل مخططا فقلت أريد أن تجعل أذني كذا وأنفي‬
‫ً‬
‫كذا وعيوني كذا وأن يكون طول وعرض وجهي على هذا النحو مثلما تعمل مخططا‬
‫لواحد صاحب ورشة؟‪ .‬ال‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬
‫إذا فلو كان هللا هو من خلق فين�ا المعاصي‪ ،‬ومن ساقنا إليها ‪ -‬على اختالف‬
‫أقوالهم حول هذه ‪ -‬هم يلتقون حول هذه أنه خلقها فكيف يمكن أن ينطلق هو ليلعن‬
‫الشيطان ويأمرنا أن نعادي الشيطان وأن نلعنه والشيطان إنما يوسوس ليحملنا على‬
‫الفحشاء فكيف يعمل هذا مع الشيطان وهو هو من خلق الفحشاء؟! من األسوأ‬
‫حينئ ٍ�ذ من يخلق الفحشاء أو من يوسوس لها فقط؟‪.‬‬
‫حينئ ٍ�ذ جعلوا هللا ‪ -‬سبحانه وتعالى ننزهه ونقدسه ‪ -‬جعلوه أسوأ من الشيطان!‬
‫عقائد سيئ�ة‪ ..‬خلق الفواحش وهو من تنزل أول آية من كتاب هللا الكريم بعد بسم‬
‫ۡ ُ َّ‬ ‫َۡ‬
‫هللا الرحمن الرحيم هي [سورة الفاتحة] وأولها الثن�اء على هللا ﴿ٱلمد ِلِ﴾ [الفاتحة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ُۡ‬‫ۡ‬
‫﴿لِ﴾ سبحانه‬ ‫‪﴿ ]2‬ٱلَمد﴾ بهذه العبارة التي تعني‪ :‬كل الحمد‪ ،‬كل الثن�اء كل المجد ِ‬
‫ني‪[ ﴾٢‬الفاتحة‪ ]2 :‬فكيف يستحق الثن�اء من هو الذي يخلق‬ ‫ۡٱل َعٰلَم َ‬
‫﴿ر ِّب‬
‫وتعالى َ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الفواحش‪ ،‬من يمأل القلوب كفرا ويملؤها نفاقا رغما عن أصحابها‪ ،‬ثم هو في األخير‬
‫من يلعنهم‪ ،‬وفي األخير من يقودهم إلى قعر جهنم؟! ماذا عملوا؟ ماذا عملت أنت؟‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رغما عنك يمأل قلبك كفرا ونفاقا‪ ،‬ويمأل قلبك فسادا ثم يعذبك؟!‪ ..‬يتن�افى هذا مع‬
‫عدله‪ ،‬يتن�افى مع حكمته‪ ،‬يتن�افى مع رحمته‪ ،‬يتن�افى مع كماله‪ ،‬يتن�افى مع جالله‬
‫وعظمته وقدسيت�ه‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يقولون‪ :‬هذه عقيدة أهل السنة والجماعة‪ ،‬هذه عقيدتن�ا‪ ،‬وهذا دليلها‬
‫ً‬ ‫ۡ‬‫َ َ َ َ ُ َّ َ‬
‫شءٖ ۖ﴾ [األنعام‪ ،]101 :‬والمعاصي هي أشياء إذا هو الذي خلقها!!‪.‬‬ ‫من القرآن ﴿وخلق ك‬
‫القرآن الكريم هو كتاب عربي‪ ،‬بلسان العرب‪ ،‬بأساليب العرب‪ ،‬ونحن نستخدم‬
‫هذه العبارة‪ ،‬والقرائن المحيطة بها‪ ،‬والجو الذي تقدم فيه‪ ،‬الطرف اآلخر الذي‬
‫تتحدث معه هو من يعرف ماذا تعني‪ ،‬عندما تقول‪[ :‬نحن تغدين�ا عند فالن وقدم لنا‬
‫من كل شيء] ألسنا نقول هكذا؟ هل سيفهم ذلك أنه قدم لكم من كل شيء في الدني�ا‬
‫في السماوات واألرض؟ ال‪ .‬من األشياء المعلومة المعروفة(((‪.‬‬

‫((( ونظير ذلك ما قاله هللا عن ملكة سبأ ((وأوتيت من كل شيء)) فال يعني ذلك أنها أوتيت من كل ما في‬
‫السماوات واألرض من مالئكة وجن وإنس وجمادات وحيوانات وغيرها‪ ،‬وإنما أوتيت من األشياء التي‬
‫ينسجم مع مقامها كملكة‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫فنقول‪ :‬هذه األشياء التي تشاهدونها‪ ،‬هذه األشجار هذه الجبال واألحجار‪،‬‬
‫ۡ‬‫َ َ َ َ ُ َّ َ‬
‫شءٖ ۖ﴾‬ ‫هذه الدواب‪ ،‬هذه الكواكب‪ ،‬هذه السحب هللا هو الذي خلقها ﴿وخلق ك‬
‫ً‬
‫من هذه األشياء‪ ،‬ألن الناس بفطرتهم ال أحد يتب�ادر إلى ذهنه أن يقول‪ :‬إذا هو خلق‬
‫أفعالي؛ ألن كل إنسان بفطرته‪ ،‬بل الدواب بفطرتها تعرف أن أفعالها منها‪ ،‬أنها هي‬
‫ً‬
‫التي انطلقت فيها؛ ولهذا ترى القط‪ ،‬ترى الكلب عندما يعمل عمال هو يعرف بأنه‬
‫عمل غير مسموح به‪ ،‬يدخل من باب البيت فمتى ما سمعك أنك قريب من البيت‬
‫ً‬
‫يهرب بسرعة؛ ألنه يعرف أنه قد ارتكب خطأ‪ ،‬دخل البيت وليس من حقه أن يدخل‬
‫البيت‪ُّ .‬‬
‫القط قبل أن يتن�اول [اللحمة] أليس هو ينظر هنا وهنا قبل أن يتن�اولها هل‬
‫أحد يراه ثم يقفز وينطلق بسرعة؟ وإذا لم يكن أحد عنده أكلها مكانها‪ ،‬فعندما يسمع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أحدا قادما إليه يأخذها ويهرب بسرعة‪ ..‬هكذا حتى الحيوانات تعرف أن أفعالها‬
‫منها‪.‬‬
‫من منا ممكن أن يتب�ادر إلى ذهنه أنه عندما يشرب‪ ،‬عندما يأكل أن هللا هو الذي‬
‫خلق هذا الفعل وأنا آكل‪ ،‬يمكن تقول هو الذي خزن هو الذي دخن! خلق التدخين‬
‫خلق التخزين؟! هذه أفعالنا نحن‪ ،‬والحيوانات لها أفعال تختص بها‪ .‬ال يتب�ادر إلى‬
‫الذهن‪ ،‬لكن الطواغيت‪ ،‬وعلماء السوء هم من أجل خدمة السياسة الفاسدة‪ ،‬خدمة‬
‫يحملون هللا كل سوء‪ ،‬وينسبون إلى هللا كل قبيح فيشبهون على العوام‬ ‫الطواغيت ِّ‬
‫من الناس‪ ،‬فمتى ما رأين�ا معاوية بطغيانه وقبحه نقول‪ :‬هللا هو الذي واله‪ ،‬واألعمال‬
‫ً‬
‫التي تصدر من معاوية هللا هو الذي خلقها! فأصبح معاوية مقبوال بكل ما هو عليه؛‬
‫ألنه كله من هللا‪ ،‬هو الذي واله‪ ،‬وهو الذي خلق أفعاله!! فمن الذي سيستث�ار ضد‬
‫َ ُ‬
‫معاوية إذا أو أشباه معاوية وهو يعتقد هذه العقيدة؟!‪ ..‬أليسوا هم من د َّجنوا‬
‫ودجنوا األمة للظالمين بعقائد مثل هذه؟ هم من أساءوا إلى هللا إساءة‬ ‫أنفسهم ّ‬
‫بالغة‪.‬‬
‫فسبحانه وتعالى ما أعظم حلمه عنهم‪ ،‬وهم من ينطلقون في عباداتهم‪ ،‬وأنت‬
‫عندما ترى ما في كتبهم من عقائد باطلة‪ ،‬وتراهم يتعبدون ستحكم بأنهم يتعبدون‬
‫لغير هللا‪ ،‬وأنهم يتعبدون لمن؟ أنت كيف تقول‪« :‬سبحان هللا والحمد هلل وال إله إال‬
‫هللا وهللا أكبر» فتثني على من تعتقد أنه وراء كل فاحشة وقبيح؟! هذا تن�اقض‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ثم أنت تجعل العقيدة الباطلة في قلبك‪ ،‬والمنطق الصحيح على لسانك فقط‪،‬‬
‫وهللا يتعامل مع من؟ مع القلب أو مع اللسان؟ مع القلب‪ .‬بل لو انطلقت من لسانك‬
‫ً‬
‫كلمة كفر تكره عليها وقلبك مطمئن باإليمان ال يضر‪ ،‬لكن أن يكون قلبك مطمئن�ا‬
‫ً‬
‫بالكفر وتنطلق من لسانك كلمة إيمان ال تنفع وال قيمة لها‪ .‬يقرؤون القرآن أحيانا‬
‫ويبكون‪ ،‬وفي الصالة يسبحون‪ :‬سبحان ربي العظيم وبحمده‪ .‬اسأله عن ربه بعد‬
‫ً‬
‫سيقول لك‪ :‬هو الذي يقدر كل شيء إذا فلماذا تسبحه؛ ألن التسبيح هلل يعني‪ :‬تن‍زيه‬
‫له عما ال يليق بكماله‪ ،‬وأنت اآلن نسبت إليه بأن تلك الفاحشة التي اقترفها فالن‪،‬‬
‫تلك الجريمة التي ارتكبها فالن هللا هو الذي قدرها‪ ،‬هو الذي خلق الفعل الذي انطلق‬
‫من هذا الشخص وهو ينفذ الجريمة! فكيف تسبحه! وكيف تلعن الشيطان وهو‬
‫لم يعمل إال أقل مما عمله ربك الذي قلت بأنه خلق الفاحشة‪ ،‬وقدرها وساق ذلك‬
‫ً‬
‫الشخص إليها رغما عنه!‪ .‬إنهم متن�اقضون‪ ..‬عقائد خبيث�ة‪ ،‬عقائد تتن�افى مع القرآن‬
‫الكريم بشكل مفضوح‪.‬‬
‫ثم ال ينفع أن يقولوا‪« :‬سبحان هللا والحمد هلل وال إله إال هللا وهللا أكبر» أو‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ۡٱل َعٰلَم َ‬ ‫ۡم ُ َّ َر ّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫حي ِم‪[ ﴾٣‬الفاتحة‪ ]3 - 2 :‬ألم ينطق‬ ‫ِ‬ ‫ٱلر‬ ‫ِنَٰمۡح‬‫ٱلر‬ ‫‪٢‬‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫﴿ٱل‬ ‫يقول‪:‬‬
‫ً‬ ‫ُۡ‬ ‫ۡ‬
‫بكلمة‪﴿ :‬ٱلَمد﴾ لكن كما قلت سابقا؛ ألن بعض الناس يقول‪ :‬كيف هم هؤالء‬
‫يقولون مثلنا يسبحون هللا ويحمدون هللا ويمجدون هللا!‪ .‬نقول‪ :‬لكن فيما إذا كان‬
‫الواقع على هذا النحو‪ :‬أن قلوبهم تعتقد عقائد باطلة وفقط ألسنتهم تقول بهذا‬
‫فما يصدر من ألسنتهم إنما هو شهادة على قبح اعتقادهم‪ ،‬وهو نفس المنطق‬
‫ََ‬
‫﴿ولئِن‬ ‫الذي استخدمه القرآن مع الكافرين الذين كانوا يجعلون مع هللا آلهة أخرى‪:‬‬
‫َۡ ُ‬ ‫ۡٱل َع ُ‬ ‫َۡ َ ََُ ُ‬
‫ول َّن َخلَ َق ُه َّ‬ ‫ۡ َ َ َ َّ َ ٰ َ‬ ‫ۡ َ ُ َّ‬ ‫َ َ‬
‫زيز ٱلعلِيم‪[ ﴾٩‬الزخرف‪]9 :‬‬ ‫ن‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫ۡرض‬ ‫ٱل‬‫و‬‫ت َ‬ ‫ِ‬ ‫ٰ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ٱلس‬ ‫ق‬ ‫ل‬‫خ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫س‬
‫ِ‬
‫َََ‬ ‫ۡ ُ َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫َ ُ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ولئِن سألَهم‪ ﴾..‬ثم بعدها يقول‪﴿ :‬أفل تع ِقلون﴾ ﴿أفل‬ ‫ويردد في آيات أخرى‪َ ،‬‬
‫َ َ َ َ َ َ َّ َ‬ ‫َ َّ ُ َ‬
‫تتقون﴾ ﴿أفل تتذك ُرون﴾‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إذا أنتم تقولون‪ :‬بأن هللا هو الذي خلق السموات واألرض‪ ،‬إذا فلماذا تجعلون‬
‫ً‬
‫معه آلهة؟ أنت من تقول‪ :‬الحمد هلل‪ ،‬وتقول‪ :‬سبحان هللا‪ ،‬إذا فلماذا تعتقد بأنه‬
‫مصدر القبائح؟ نفس المنطق‪ ،‬ونفس األسلوب‪ .‬فأولئك عندما كانوا يقولون‪:‬‬

‫‪58‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫يم‪[ ﴾٩‬الزخرف‪ ]9 :‬هللا هو الذي خلقنا‪ ،‬ألم يجعل هذه حجة‬ ‫ۡٱل َعلِ ُ‬
‫ۡٱل َعز ُ‬
‫يز‬ ‫﴿خلَ َق ُه َّ‬
‫ن‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫عليهم وشهادة انطلقت من ألسنتهم على بطالن ما يعتقدون من أن هناك آلهة مع‬
‫هللا؟‪ .‬نفس الشيء أنت عندما تقول‪ :‬سبحان هللا والحمد هلل وأنت تعتقد أن هللا‬
‫هو مصدر القبائح والفواحش‪ ،‬هو الذي خلقها وقدرها‪ ،‬فأنت تشهد على نفسك‪،‬‬
‫ً‬
‫وقولك حجة عليك يشهد ببطالن ما تعتقد‪ ،‬إذا فلماذا ال تتحول عن هذا االعتقاد‬
‫الباطل‪.‬‬
‫أما أن آتي أنا وأقول‪ :‬هذا االعتقاد ال يضر؛ ألني سمعتك تقول‪ :‬سبحان هللا‬
‫ۡ‬ ‫ۡ َ ََ ُ‬ ‫ۡ َ ُ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ً‬
‫﴿ولئِن سألهم من خلقهم‬ ‫والحمد هلل‪ ،‬إذا سأقول لذلك النبي عندما يقولون‪:‬‬
‫ً‬ ‫ََُ ُ‬
‫ول َّن َّ ُ‬
‫ٱللۖ﴾ [الزخرف‪ ]87 :‬سأقول له إذا خالص هم يقولون هللا‪ ،‬إذا فالمسألة انتهت‬ ‫لق‬
‫إلى مجرد حجر يطوفون عليها فال تضر هذه المسألة‪ ،‬أو أنهم جعلوا هذا إله‪ ،‬هم ما‬
‫نسبوا إليه أنه خلق‪ ،‬وال نسبوا إليه أنه رزق‪ ،‬وال نسبوا إليه أنه من يدبر األمر‪ ،‬وال‬
‫ً‬
‫نسبوا إليه أنه من خلقهم‪ ،‬وال شيء‪ ،‬إذا لم يعد إال مجرد خرافة ال تضر وال شيء‬
‫فلماذا نتقاتل نحن وإياهم عليها؟‪ ..‬هل هذا منطق؟ على هذا األساس ممكن أن‬
‫يكون منطق‪ ،‬لكن القرآن رفض هذا األسلوب‪ .‬إذا كنت من أتأول لك وأنت صاحب‬
‫ۡ ُ َّ‬ ‫َۡ‬
‫هذه العقيدة الباطلة؛ ألنه انطلقت من لسانك كلمات‪﴿ :‬ٱلمد ِلِ﴾ [الفاتحة‪]2 :‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ۡ َ‬‫ُ‬
‫وكلمات‪﴿ :‬سبحٰ َن ٱللِ﴾ [القصص‪ ]68 :‬فأقول‪ :‬خالص‪ ..‬إذا سأقول‪ :‬خالص لذلك‬
‫المشرك بعد أن قال‪ :‬هللا هو الذي يدبر األمر‪ ،‬هللا هو الذي خلق السماوات واألرض‪،‬‬
‫هللا هو الذي يرزق‪ ،‬هللا هو الذي ين‍زل من السماء ماء‪ ..‬هكذا ورد اعترافهم بهذا نقول‪:‬‬
‫خالص يا محمد‪ ،‬خالص يا نوح‪ ،‬خالص يا فالن‪ ،‬خالص‪ ..‬انتهى الموضوع‪ ..‬ماذا‬
‫تريدون منهم‪ ..‬نقوم نتقاتل إحنا وإياهم وهم ذوال معترفين أن هللا هو الذي عمل كل‬
‫شيء‪ ،‬فقط تعتبر مجرد خرافة أنهم نصبوا حجر يقولون‪ :‬أنها إله وهم ذوال يقولون‬
‫أنها ما سوت شيء‪ ..‬الحظ هل هذا منطق قبله القرآن؟ ال‪ .‬بل اعتبر اعترافهم شهادة‬
‫ً‬
‫على بطالن اعتقادهم بجعل هذا إله حتى وإن كانوا ال ينسبون إليه شيئ�ا مما هو‬
‫يختص باهلل سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫َّ َّ َ َ ُ َ َ َ‬ ‫ۡ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ‬ ‫َّ َ‬
‫ٱلل ثالِث ثلٰث ٖةۘ﴾ [المائدة‪ ]73 :‬وهل هللا في‬ ‫ِين قال ٓوا﴾ قالوا ﴿إِن‬‫﴿لقد كفر ٱل‬

‫‪59‬‬
‫بداية الطريق‬

‫واقعه ثالث ثالثة؟ ال‪ .‬هل يمكن أن أقول لكن هللا ليس ثالث ثالثة وهذه مجرد كلمة‬
‫ً‬
‫أخذتها الرياح‪ ،‬كفروا وإن لم يكن إال مجرد قول‪ .‬وفعال الشرك ال حقيقة له‪ ..‬هل‬
‫للشرك حقيقة؟‪ .‬هل هلل شركاء حقيقيون؟‪ .‬لو كان هلل شركاء حقيقيون لكان الشرك‬
‫حق‪ ،‬فالشرك باطل أي ال أصل له‪ ،‬وال حقيقة له‪ .‬طيب‪ ..‬كونه ال حقيقة له وال أصل‬
‫ً‬
‫له‪ ..‬وهو مجرد خرافة‪ ،‬إذا خالص ال يضر‪ .‬ال‪ ،‬يقتل صاحبه وإن كان هذا ال أساس له‪.‬‬
‫ً‬
‫ماذا يعني ال أساس له؟ أي ليس واقعا‪ ،‬وليس هناك شريك هلل حقيقة‪ ،‬وفي واقع‬
‫األمر‪.‬‬
‫َّ َ َ ُ َ َ َ‬
‫﴿ٱلل ثالِث ثلٰث ٖةۘ﴾ هل هللا ثالث ثالثة؟ ال‪ .‬هللا إله واحد‬ ‫كذلك عندما قالوا‪:‬‬
‫َّ َ َّ ُ َ ٰ ‪ٞ ٰ َ ٞ‬‬
‫حدۖ﴾ [النساء‪ ،]171 :‬لكن هم كافرون‪ ،‬وسيدخلون جهنم‪ ،‬وسيخلدون‬ ‫﴿إِنما ٱلل إِله و ِ‬
‫في جهنم‪ ،‬ويجب قتالهم‪ .‬أن آتي وأقول‪ :‬يا أخي هذه كلمة تأخذها الرياح وكلنا‬
‫نعرف أن هللا سبحانه وتعالى إنما هو إله واحد فإذا قالوا أن هللا ثالث ثالثة ستكون‬
‫ً‬
‫مريم والمسيح آلهة سيصبحون آلهة حقيقيين لمجرد هذا القول؟ ال‪ .‬إذا ال تضر‬
‫المسألة!!!!‪ ..‬هل هذا المنطق قبله هللا؟‪ .‬ال‪ .‬هم كافرون‪ ،‬هم كافرون‪.‬‬
‫ۡ‬‫َ َ َ َ ُ َّ َ‬ ‫ً‬
‫شءٖ ۖ﴾ [األنعام‪ ]101 :‬في مقام الثن�اء على هللا سبحانه‬ ‫إذا فجاءت كلمة‪﴿ :‬وخلق ك‬
‫وتعالى‪ ،‬وهو يعلم أنن�ا نفهم‪ ،‬وأنن�ا بفطرنا ال يمكن أن يتب�ادر إلى أذهانن�ا أن هناك‬
‫ۡ‬‫َ َ َ َ ُ َّ َ‬ ‫ً‬
‫شءٖ ۖ﴾‪ ،‬الناس عرب‬ ‫ما نعمله من معاصي هو أيضا داخل تحت كلمة‪﴿ :‬وخلق ك‬
‫والناس يفهمون في تخاطبهم ماذا تعني العبارات المطلقة أنها مقيدة بالقرائن‬
‫الحالية‪ ،‬بالقرائن المقالية‪ ،‬بما يحيط بالكالم من مالبسات‪ ،‬وقرائن‪ ،‬بل ال يتب�ادر‬
‫إلى الذهن شيء من هذا»(((‪.‬‬
‫وهناك نقطة من الجدير بالذكر أن نوضحها هنا وهي عالقة سنن هللا وقضاءه‬
‫وقدره بأفعال العباد‪ ،‬فمثال عندما يشرب بعض الفساق الخمر ويكثرون منه‬
‫ويترتب على ذلك تليف أكبادهم‪ ،‬نستطيع القول إن سنن هللا وتقديراته دخلت في‬
‫الموضوع ولكن من أي زاوية؟ من زاوية أن هللا جعل في سنن�ه وتقديراته أن الكبد‬
‫يتليف عندما يتعرض لجرعات مفرطة من الكحول‪ ،‬ولكن َمن الذي سبب لنفسه‬
‫((( الدرس الثامن من دروس معرفة هللا للشهيد القائد‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫أن يدخل في هذه السنن والتقديرات؟ بالتأكيد هو العبد العاصي وبما كسبت يداه‪،‬‬
‫مثال آخر عندما تهمل حارة معين�ة النظافة وتلقي القمائم في شوارعها‪ ،‬وترتب على‬
‫ذلك أن تنتشر األمراض واألوبئ�ة ويموت بعض صغار السن‪ ،‬ما عالقة سنن هللا‬
‫وتقديراته في موت األطفال؟ وما عالقة تفريط وإهمال المجتمع في هذه الوفيات؟‬
‫عالقة سنن هللا وتقديراته من زاوية أن هللا وضع في سنن�ه أن اإلهمال للنظافة‬
‫يترتب عليه تزايد األوبئ�ة والجراثيم مما يتسبب بموت األطفال‪ ،‬وعالقة إهمال‬
‫الناس وتفريطهم أنهم هم السبب في دخول سنة هللا بهذا الشكل‪ ،‬وهكذا نستطيع‬
‫أن نتحدث عن كثير من الحاالت‪.‬‬

‫تف�صيل م�س�ألة العدل الإلهي من منظور قرناء القرءان عليهم ال�سالم‬


‫“ العدل اإللهي ‪-‬عند المؤمنين باهلل تعالى‪ -‬قضية بديهية ال يرقى إليها شك‪،‬‬
‫وال يعتريها ريب‪ ،‬وال تحوم حولها شبهة‪.‬‬
‫وكل الملل وكل معطيات العقل السليم والمنطق العلمي ُم ّ‬
‫قرة بذلك أتم إقرار‪،‬‬
‫ومذعنة له أكمل إذعان‪.‬‬
‫ولهذا لم يكن العدل اإللهي ‪-‬بمعناه البحت المجرد‪ -‬معضلة من المعضالت‬
‫الفكرية المعقدة التي تحتاج إلى تجريد بحث خاص ُيعنى بتسجيل براهينها وإيراد‬
‫أدلتها ومناقشة ما قيل ويقال بشأنها من شبهات وشكوك‪ ،‬بل ربما يعتبر البحث‬
‫فيها تافها إلى حد بعيد؛ ألنه من قبي�ل الحديث عن توضيح الواضحات واالستدالل‬
‫َّ‬
‫على المسلمات‪.‬‬
‫ولكن المسائل الفكرية البديهية قد تحوطها مالبسات هامشية معين�ة‪ ،‬وتضاف‬
‫إليها تفريعات جانبي�ة معقدة‪ ،‬وتلقى عليها ظالل قاتمة من التفاسير والشروح‬
‫والتأويالت‪ ،‬فتمسخ الفطرة تدريجيا‪ ،‬ويتكدر صفاء الحق في النفوس‪ ،‬ويصبح‬
‫استكشاف الواقع ‪-‬في هذه الحال‪ -‬محتاجا إلى بعض من البحث والمناقشة‬
‫واألخذ والرد‪ ،‬لتظهر الحقيقة جلية ناصعة‪ ،‬ال يحجبها ضباب الحواشي والتفريعات‪،‬‬
‫ُ‬
‫األكداس الهائلة من المجادالت العقيمة المطولة‪.‬‬ ‫َ‬
‫معالمها تلك‬ ‫وال تطمس‬

‫‪61‬‬
‫بداية الطريق‬

‫المجبرة القدرية‬
‫اإليمان بالقضاء والقدر عقيدة من العقائد التي أسسها اإلسالم على اإليمان‬
‫باهلل عز وجل‪ ،‬وبن�اها على المعرفة الصحيحة لذاته العليا‪ ،‬وأسمائه الحسنى‪.‬‬
‫وال ريب أن اإلسالم قد أوجب هلل الكمال‪ ،‬والجالل والجمال‪ ،‬ودواعي الحمد‬
‫والتمجيد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫﴿ٱلِي َخلَ َق َف َس َّو ٰ‬
‫ى ‪َ ٢‬وٱلِي‬ ‫ثم فصلت هذه الكماالت الواجبة لرب الوجود‬
‫ى‪[ ﴾٣‬األعلى‪ ،]3 - 2 :‬فكان في عداد ما ينبغي اإليمان به واالطمئن�ان إليه‪ :‬أن‬ ‫قَ َّد َر َف َه َد ٰ‬
‫ّ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فعال‬ ‫الواسع‪ ،‬واإلرادة الشاملة‪ ،‬والقدرة الكاملة‪ ،‬وأنه ‪-‬سبحانه‪-‬‬ ‫العلم‬ ‫هلل وحده‬
‫لما يريد‪ ،‬عالم بما يفعل‪.‬‬
‫وعلى هذه الصفات قامت عقيدة القضاء والقدر؛ فكان اإليمان بها ‪-‬ال ريب‪-‬‬
‫جزءا متمما لإليمان باهلل‪ ،‬وعنصرا من حقيقته الواضحة المشرقة‪.‬‬
‫سواء في هيمنت�ه ُ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫دبيب‬ ‫نعم إن هللا وسع كل شيء علما‪ ،‬وأحاط بكل شيء خبرا‪،‬‬
‫ُ‬
‫النمل في جحورها‪ ،‬أم ثب�ات األفالك في مداراتها‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وشمول علمه يستغرق األمكنة على تعدادها واألزمنة على تطاولها‪ .‬فما تغيب‬
‫عنه بقعة في المشرق أو في المغرب‪ ،‬وما يغيب عنه يوم في األزل أو األبد‪.‬‬
‫وأحداث الحياة ‪-‬وما أكثر ما يلوح في آفاق الحياة من خير وشر‪ ،‬ويأس ورجاء‪،‬‬
‫ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ً ََ َ‬
‫﴿وما يع ُز ُب عن َّربِك‬
‫ًّ‬
‫وحزن وفرح‪ -‬ذلك كله استوعبه العلم اإللهي عدا وإحصاء‬
‫ۡ َ َ َّ‬ ‫َ َ َٓ َ‬ ‫َّ َ ٓ َ ٓ َ‬ ‫َۡ‬
‫ب‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫ِت‬ ‫ك‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫ۡص َغ َر مِن ذٰل ِك َ‬
‫و‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫ۡرض َو َل ف ٱلسماءِ َ‬
‫و‬ ‫ِ‬ ‫ٱل‬
‫َۡ َ‬ ‫ّ‬
‫مِن مِثقا ِل ذ َّرة ٖ ِف‬
‫ٖ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬
‫ني‪[ ﴾٦١‬يونس‪.]61 :‬‬ ‫مبِ ٍ‬
‫وعرفت مصاير‬ ‫وفي صفحات هذا الـ {كتاب} ُخطت سطور القضاء والقدر‪ُ ،‬‬
‫األمور‪ ،‬ووضحت نهاياتها‪ ،‬من شقاوة وسعادة‪ ،‬ولكن أنى لنا علم بذلك؟‬
‫رب العالمين‬ ‫عن عيـــون الخلــــق ُّ‬ ‫ٌ‬
‫كتـــــاب صـــــانه‬ ‫ُ‬
‫الغيـــب‬ ‫إنمـــا‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫الحاضر حين�ا بعــــد حين‬
‫ِ‬ ‫صفحـــة‬
‫ِ‬ ‫ليس يبـــ�دو منه للنـــــاس ســــوى‬

‫‪62‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫ويتعلق القضاء والقدر بوقائع الحياة وأحداثها وأعمال الناس وتصرفاتهم على‬
‫نحوين واضحين متميزين! لكل نحو منهما حكمه الخاص وآثاره التي تترتب عليه‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبين كال القسمين فواصل قائمة‪ ،‬تجاهلها يوقع في الدين الغموض‬
‫َ‬ ‫َ ِّ‬
‫ومعالمه‪.‬‬ ‫قسم‬
‫واالضطراب‪ ،‬ولذلك سنوضح حدود كل ٍ‬

‫نحن مجبورون في هذا‬


‫هناك أمور تحدث وتتم بمحض القدرة العليا‪ ،‬وعلى وفق المشيئ�ة اإللهية‬
‫وحدها‪ ،‬وهي تنفذ في الناس طوعا أو كرها‪ ،‬سواء شعر بها الناس أم لم يشعروا‪.‬‬
‫فالعقول ومقدار ما يودع فيها من ذكاء‪ ،‬واألجسام وما تكون عليه من طول أو‬
‫قصر‪ ،‬وجمال أو قبح‪ ،‬والشخصيات وما تطبع عليه من امتداد وانكماش‪ ،‬والزمان‬
‫الذي تولد فيه والمكان الذي تحيى به‪ ،‬والبيئ�ة التي تنشأ في ظلها‪ ،‬والوالدان اللذان‬
‫تنحدر منهما‪ ،‬وما تتركه الوراثة في دمك من غرائز وميول‪ ،‬والحياة والموت‪ ،‬والسعة‬
‫والضيق‪ ،‬ذلك ومثله ال يد لإلنسان فيه‪.‬‬
‫ُ َ َّ ُ َ ّ ُ ُ‬ ‫َّ َ ٓ‬ ‫ََ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َۡ َ َ‬ ‫َّ َّ َ َ‬
‫ۡ‬
‫ۡرض ول ِف ٱلسماءِ‪ ٥‬هو ٱلِي يص ِوركم ِف‬ ‫شء ‪ِ ٞ‬ف ٱل ِ‬
‫ۡ‬ ‫ف علي ِه‬ ‫ٱلل ل َي ٰ‬ ‫﴿إِن‬
‫ُ‬ ‫ۡ‬‫ُ‬ ‫ۡ‬
‫َُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َۡ ََ‬ ‫َ‬ ‫َۡ‬
‫ۡ َ‬
‫كيم‪[ ﴾٦‬آل عمران‪.]6 - 5 :‬‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫ُ‬
‫ٱلرحا ِم كيف يشاء ۚ ل إِله إِل هو ٱلع ِزيز ٱل ِ‬
‫وغني عن البي�ان‪ ،‬أن شيئ�ا من هذا ليس محل مؤاخذة وال موضع حساب‪ ،‬وإنما‬
‫لفتن�ا النظر إليه لتعرف أن الجنسية التي تنتمي إليها‪ ،‬واللغة التي تنطق بها‪ ،‬بل نوع‬
‫التكوين الذي يوجد اإلنسان عليه‪ ،‬ذكرا أو أنثى ليس محل مؤاخذة‪.‬‬
‫واإليمان بهذا الضرب من القدر واجب‪ ،‬واألدلة عليه متظاهرة‪ ،‬وعلى المؤمن‬
‫أن يوقن ‪-‬من أعماق قلبه‪ -‬أن هذه أمور مفروغ منها‪ ،‬مفرقة على ذويها من قديم‪،‬‬
‫جفت األقالم بها فال راد لها‪.‬‬
‫وهي حتى ليست من أعمالنا لتنسب إلين�ا‪ ،‬بل هي أفعال هللا سبحانه وتقديره‬
‫وقضاؤه المحتوم في العباد‪.‬‬
‫ُّ‬
‫هذه أمور َع ِل َمها الحق وأرادها ونفذها استقالال‪ ،‬ولسنا منها في قليل وال كثير‪،‬‬

‫‪63‬‬
‫بداية الطريق‬

‫وقد أحسن سلفنا الصالح اإليمان بها فكان أثرها في مسلكهم رائعا‪.‬‬
‫ومواضع الرجوع إلى القضاء والتسليم هلل فيما أراد‪ ،‬كثيرة متنوعة‪ ،‬وهي تعطي‬
‫المسلم صالبة وقوة واندفاعا‪ ،‬وتملؤه عزيمة وتحمال وجالدة‪.‬‬

‫هنا إرادتنا حرة‪:‬‬

‫أما القسم الثاني من متعلقات القضاء والقدر‪ ،‬فهو ما يتصل بأعمال على عكس‬
‫األولى‪ ،‬ونحن نشعر حين أدائها بيقظة عقولنا‪ ،‬وحركة ميولنا‪ ،‬ورقابة ضمائرنا‪.‬‬
‫فما مدى صلتن�ا بها؟ وما معنى نسبة القدر إليها؟‬
‫الخطب سهل جدا‪ ،‬وسنجيب على هذا التساؤل بما يذر شبه المشوشين ً‬
‫هباء‬
‫إن شاء هللا‪.‬‬
‫إنن�ا نحس باستقالل إرادتن�ا فيما نب�اشر من أعمال‪ ،‬وكان يكفي هذا اإلحساس‬
‫دليال على حريتهما لوال أن هناك من يزعم أن اإلحساس يكذب أحيانا‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولكنن�ا نطمئن إلى صدق هذا اإلحساس ونكذب ما يغض من قيمته بعد أن‬
‫نرجع إلى القرآن الكريم لنستفتي�ه في ذلك‪.‬‬
‫ونحن نجد القرآن يؤكد هذا اإلحساس البديهي وينوه بحرية اإلرادة اإلنساني�ة‬
‫ۡ‬‫ُۡ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ َٓ َ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬‫ۡ ََ َ َٓ َ‬ ‫َّ ّ ُ‬ ‫ۡ َ ُّ‬ ‫َُ‬
‫﴿وق ِل ٱلق مِن ربِكم ۖ فمن شاء فليؤمِن ومن شاء فليكفر ۚ﴾ [الكهف‪.]29 :‬‬
‫ۡ‬ ‫ۡ َ ٰٓ َ ُّ َ َّ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ٱنلاس قد‬ ‫وال يخليها من المسؤولية الواضحة على مايصدر منها‪﴿ :‬قل يأيها‬
‫َ َ َ َّ َ َّ َ َ ُّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ ٰ َ َّ َ َ‬
‫َۡ‬ ‫َّ ّ ُ َ‬ ‫ۡ َ ُّ‬ ‫َ ٓ ُ‬
‫ضل‬ ‫َ‬
‫ى فإِنما يهت ِدي ِلف ِس ِهۖۦ ومن ضل فإِنما ي ِ‬ ‫ۡم ۖ ف َم ِن ٱهتد‬ ‫ٱلق مِن ربِك‬ ‫جاءَك ُم‬
‫كم ب َ‬‫ۡ ُ‬ ‫ۡ َ َ َ ٓ ََ۠ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِيل‪[ ﴾١٠٨‬يونس‪.]108 :‬‬‫ِ ٖ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫اۖ‬ ‫ه‬‫ي‬ ‫عل‬
‫بل إن طبيعة الدين ال تتحقق البت�ة مع استبعاد اإلرادة وتقيي�دها‪..‬‬
‫وإيقاع الجزاء كذلك ال يتوجه ويقر إال في هذا الجو الطلق الفسيح‪.‬‬
‫وليس هذا موضع سرد اآليات الشاهدة لذلك‪ ،‬فالقرآن كله شواهد بين�ات‬
‫ودالئل واضحات‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫فما موقف العلم اإللهي من هذا النوع من األعمال؟ هو اإلحاطة التامة والشمول‬
‫نس‪[ ﴾٥٢‬طه‪.]52 :‬‬‫ب َّل يَض ُّل َر ّب َو َل يَ َ‬
‫ۖ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫ِت‬ ‫ك‬ ‫ف‬ ‫ب‬
‫َ َّ‬
‫ر‬ ‫ِند‬
‫ع‬ ‫ا‬‫ه‬
‫َُۡ‬
‫الكامل ﴿عِلم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٖ‬ ‫ِ ِ‬
‫ولكن كيف يتفق القول بحرية اإلرادة والقول بأن أعمالنا لن تخرج عن دائرة‬
‫العلم اإللهي المحيط الشامل؟‬
‫والجواب سهل‪ :‬قف أمام مرآة مجلوة صافية وأنت عابس الوجه مقطب الجبين‬
‫فماذا ترى؟ سترى صورتك كما هي عابسة مقطبة‪.‬‬
‫أي ذنب للمرآة في ذلك؟ إن مهمتها أن تصف وأن تكشف وهي قد صدقت فيما‬
‫أثبتت لك‪ ،‬ولو كنت ضاحك الوجه ألثبت لك على صفحتها خياال ضاحكا ال شك فيه‪.‬‬
‫كذلك صفحات العلم اإللهي ومرائي�ه ال تتصل باألعمال اتصال تصريف‬
‫وتحريك‪ ،‬ولكنه اتصال انكشاف ووضوح‪.‬‬
‫غاية ما يمتاز به العلم‪ ،‬أنه ال يكشف الحاضر فقط‪ ،‬ولكنه يكشف كذلك‬
‫الماضي والمستقبل‪.‬‬
‫فيرى األشياء على ما كانت عليه‪ ،‬وعلى ما ستكون عليه‪ ،‬كما يراها وهي كائن�ة‪،‬‬
‫سواء بسواء‪.‬‬
‫بقي بعد ذلك تفسير ما قررناه من شمول اإلرادة العليا‪ ،‬ومن هيمنة القدرة العليا‬
‫على الخالئق كافة‪ ،‬فما معنى ذلك وكيف يتفق مع حرية اإلرادة اإلنساني�ة؟‬
‫معنى يضل من يشاء ويهدي من يشاء‪:‬‬
‫الخطب في ذلك سهل كذلك‪ ،‬ولن نذهب في بي�انه إلى أبعد من كتاب هللا لمن‬
‫ُّ َّ‬ ‫ۡ‬‫ۡ ََ‬ ‫ُۡ َ ّ‬ ‫َۡ‬‫ۡ ي َ َّ‬‫َََ‬
‫ۡرءَان ل ِذلِك ِر فهل مِن مدك ِٖر‪[ ﴾١٧‬القمر‪.]17 :‬‬
‫سنا ٱلق‬ ‫﴿ولقد‬ ‫شاء أن يفهم‬
‫ونحن نجد إطالق المشيئ�ة في آية‪ ،‬تقيده آية أخرى يذكر فيها اإلختي�ار اإلنساني‬
‫صريحا‪.‬‬
‫الغي على الرشاد فأقره‬‫أي أن إضالل هللا لشخص‪ ،‬معناه‪ :‬أن هذا الشخص آثر َّ‬
‫هللا على مراده‪ ،‬وتمم له ما يبغي لنفسه‪..‬‬

‫‪65‬‬
‫بداية الطريق‬

‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫َۡ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ َّ ُ َ َ‬ ‫َ َ َّ َ ُ ٓ ْ َ َ َ َّ ُ ُ ُ َ ُ‬


‫﴿فلما زاغوا أزاغ ٱلل قلوبهم ۚ وٱلل ل يه ِدي ٱلقوم ٱلف ِس ِقني‪[ ﴾٥‬الصف‪.]5 :‬‬
‫ۡ َ‬ ‫َّ ُ َ ۢ َ‬ ‫ََ َُ‬
‫ِن بع ِد ما‬ ‫﴿ومن يشاق ِِق ٱلرسول م‬ ‫وانظر إلى قيمة التنويه باالتجاه البشري المعتاد‪،‬‬
‫َ َ َّ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ ُ ّ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫َۡ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ َ ٰ َ َ َّ‬ ‫ي َُ‬ ‫تَ َب َّ َ‬
‫ني ن َو ِلِۦ ما ت َو ٰل َونصلِ ِهۦ جهن َم ۖ﴾ [النساء‪.]115 :‬‬ ‫يل ٱلمؤ ِمنِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫س‬ ‫ي‬ ‫غ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ى‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫ٱل‬ ‫ل‬
‫فهل بقي غموض في إطالق المشيئ�ة؟ ال‪.‬‬
‫ََ‬ ‫ُ ُّ َ َ َ ٓ‬
‫﴿وما‬ ‫ضل من يشا ُء﴾ [الرعد‪ ،27 :‬النحل‪ ،93 :‬فاطر‪ ]8 :‬ال يعدو قوله‬ ‫إن معنى قوله‪﴿ :‬ي ِ‬
‫َٰ‬
‫ِن بع ِد مِيث ِق ِهۦ﴾ [البقرة‪.]27 - 26 :‬‬
‫ۡ‬
‫ۡ َ َّ ۢ َ‬ ‫َ َ ُ َ َ‬
‫ِين ينقضون عهد ٱللِ م‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ني‪ ٢٦‬ٱل‬ ‫ۡٱل َفٰسق َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ُّ‬
‫ضل ب ِ ِه ٓۦ إِل‬
‫ِ ِ‬ ‫ي ِ‬
‫َ ََ ٓ‬ ‫ۡ‬
‫َ‬
‫وكذلك الحال في ﴿يه ِدي من يشا ُء ۗ﴾ [البقرة‪ .]272 :‬انظر إلى قيمة اإلرادة اإلنساني�ة‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ ٓ َ‬ ‫ۡ َّ َّ َ ُ ُّ َ َ َ ٓ َ‬ ‫ُ‬
‫ۡن‬ ‫ل ِه م‬ ‫ضل من يشا ُء َويه ِدي ِإ‬ ‫في قول الحق وهو يتكلم عن إرادته‪﴿ :‬قل إِن ٱلل ي ِ‬
‫ۡٱل ُق ُل ُ‬ ‫ۡ َّ َ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ َّ َ َ‬ ‫ُُ ُُ‬ ‫ۡ‬‫َّ َ َ ُ ْ َ‬ ‫أَ َن َ‬
‫وب‪﴾٢٨‬‬ ‫ِين ءَامنوا َوتط َمئِ ُّن قلوبهم ب ِ ِذك ِر ٱللِۗ أل ب ِ ِذك ِر ٱللِ تط َمئِ ُّن‬ ‫اب‪ ٢٧‬ٱل‬
‫[الرعد‪.]28 - 27 :‬‬
‫ني‪[ ﴾٦‬المنافقون‪.]6 :‬‬ ‫ۡٱل َفٰسق َ‬ ‫ۡو َم‬
‫َۡ‬ ‫ۡ‬‫َّ َّ َ َ َ‬
‫ٱلل ل يه ِدي ٱلق‬ ‫فهو يهدي إليه من أناب ﴿إِن‬
‫ِ ِ‬
‫وسر في نوره‪ ،‬فلن تجد في دين هللا‬ ‫اجعل أيها القارئ هذا المصباح بين يديك‪ْ ،‬‬
‫قلقا أو اضطرابا‪ .‬وإنما القلق واالضطراب في عقول الحمقى وقلوب الغافلين‪.‬‬
‫وهنا قد يسأل البعض عن حدود اإلرادة الدني�ا والعليا في األعمال‪ ،‬ومع أن‬
‫ُّ‬
‫السر في نسبة الهداية‬ ‫هذا السؤال ال مبرر له‪ ،‬فنحن نتبرع باإلجابة عنه حتى يظهر‬
‫واإلضالل؛ تارة هلل‪ ،‬وتارة لإلنسان‪.‬‬
‫ّ‬
‫هل تعرف ما يفعله الفلح في حقله؟ إنه يلقي البذر‪ ،‬ويتعهده بالسقي وعلى‬
‫هللا اإلنب�ات‪.‬‬
‫تستطيع أن تسمي الفالح زارعا ‪-‬وأنت صادق‪ -‬لقيامه بالسبب‪ ،‬وتستطيع أن‬
‫ۡز َر ُعونَ ُهۥٓ‬
‫ۡ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ ُ َّ َ‬ ‫ََ‬
‫تسمي الحق سبحانه زارعا لقيامه بالعمل‪﴿ .‬أف َرءَيتم ما ت ُرثون‪ ٦٣‬ءَأنتم ت‬
‫َۡ ُ‬ ‫ۡ ُ َّ ٰ ُ َ َ َ َ ٓ َ َ‬ ‫ۡ َ‬‫َ‬
‫ۡو نشا ُء لَعل ٰن ُه ح َطٰ ٗما﴾ [الواقعة‪.]65 - 63 :‬‬
‫أم نن ٱلز ِرعون‪ ٦٤‬ل‬
‫فما لإلنسان في سعيه مثل ما للفالح في زرعه‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫فازرع عمرك ‪-‬إن شئت‪ -‬خيرا‪ ،‬فإن يد القدرة سوف تنميه لك وردا يانعا‪ ،‬أو‬
‫ازرعه‪ -‬إن شئت ‪ -‬شرا فإن يد القدرة تنميه شوكا‪.‬‬
‫إن الصورة التي يرسمها الجبريون للعالم ال ترمز إال إلى الفوضى المطلقة‬
‫والخلط الشائن‪.‬‬
‫ولما كان البشر ‪-‬في نظرهم‪ -‬يقومون بأدوار ال خيرة لهم فيها‪ ،‬فهم ال يفرقون‬
‫بين ّبر وفاجر‪.‬‬
‫ً‬
‫وإنك لتسمع في كرم بعض الناس ممن يدينون بهذا المذهب الباطل‪ ،‬تسوية‬
‫ُ ِّ‬
‫عمل ما قدر‬
‫بين آدم وإبليس‪ ،‬وبين موسى وفرعون‪ ،‬إذ الكل ‪-‬في نظرهم‪ -‬مدفوع إلى ِ‬
‫عليه أزال‪.‬‬
‫ُ‬
‫وليست الحياة إال رواية يقوم أفرادها بما فرض عليهم من مواقف‪ ،‬وينطقون‬
‫ُ‬
‫بما لقنوا من كلمات‪.‬‬
‫الليـــل ســـتر والنهـــار الملعـــب‬ ‫هـــذي الحيـــاة روايـــة لممثـــل‬

‫وإنك لو نقبت لرأيت هذه الصورة مرتسمة في أذهان الكثيرين منهم‪ ،‬بعضهم‬
‫يعلنها مصارحا‪ ،‬وبعضهم يطويها مستحيا وإن كان يدين بها‪.‬‬
‫وأحد أسباب انهيار الدول اإلسالمية راجع إلى ّ‬
‫فشو هذه الضاللة بين الناس‪،‬‬
‫ًّ‬
‫فشوا جعل المنكر ينتشر بال نكير‪ ،‬وجعل الواجبات تهمل بال نصيح‪.‬‬
‫فمن أساسيات اإلصالح تصحيح الفهم في عقيدة القضاء والقدر‪ ،‬حتى تعود‬
‫كما كانت‪ ،‬الدافع األعظم على التضحية والفداء‪ ،‬والوازع األول على ترك الشر وفعل‬
‫الخير‪ ،‬قياما بواجب اإلنسان نحو نفسه‪ ،‬وتنفيذا ألوامر هللا جل شأنه‪.‬‬
‫أما اآليات واألحاديث التي توهم بظاهرها أن اإلرادة اإلنساني�ة غير حرة‪،‬‬
‫وفهم ذلك ال يحتاج إلى معرفة عميقة باللغة وأساليبها‬ ‫فليست كما يظن الواهمون‪ُ ،‬‬
‫إذ هي مما يفهمه العامة بل ويستعملونه في خطابهم وحديثهم العادي جدا‪ ،‬قال هللا‬
‫ُّ َّ‬ ‫ۡ‬‫ۡ ََ‬ ‫َۡ َ ّ‬ ‫ُۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ ي َ َّ‬ ‫َََ‬
‫ر فهل مِن مدك ِر‪[ ﴾١٧‬القمر‪.]40 ،32 ،22 ،17 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِك‬
‫ِذل‬ ‫ل‬ ‫ان‬‫ء‬‫ر‬ ‫ق‬‫ٱل‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫س‬ ‫د‬ ‫ق‬‫تعالى‪﴿ :‬ول‬
‫ٖ‬

‫‪67‬‬
‫بداية الطريق‬

‫وأما ذلك الفهم العجيب المغلوط فقد نضحت به العقول المعوجة‪ ،‬ولم توح به‬ ‫ّ‬
‫ۡ‬‫ۡ َ‬‫ۡ َ‬‫َُۡ‬ ‫ۡ ََ َ‬ ‫ۡ‬‫َّ َّ َ َ َ ْ َ ٓ َ َ‬
‫ِين كف ُروا س َوا ٌء علي ِهم ءأنذرتهم أم لم‬
‫نصوص الدين‪ ،‬إذ قال هللا تعالى‪﴿ :‬إِن ٱل‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫ُۡ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ۡم ل يؤمِنون‪[ ﴾٦‬البقرة‪.]6 :‬‬ ‫تن ِذره‬
‫فليس إنذارهم وعدمه سواء ألن نفوسهم صيغت بحيث ال تقبل الحق من تلقاء‬
‫ذاتها!! فهي أوعية للكفر برغم أنوفها‪ .‬كال!! وإنما القصد صرف همة الرسول عن‬
‫قوم طالما دعاهم وبذل جهوده إلنقاذهم من غوايتهم فأصروا على تنكب الصراط‬
‫(((‬
‫المستقيم بمحض اختي�ارهم‪.‬‬

‫ّ‬
‫بتصرف‪.‬‬ ‫((( مقدمة الشهيد عبدالكريم جدبان لمجموع االمام القاسم الرسي عليه السالم ص ‪112- 105‬‬

‫‪68‬‬
‫هلإلا لدعلا‬

‫مناظرة‬

‫يقال بأنه حصلت مناظرة بين منزه هلل من أتب�اع أهل البيت وبين جبري قدري‬
‫‪ :‬وكان الجبري يتحدث دائما في المجالس والمساجد عن أن المعاصي بقضاء هللا‬
‫وقدره وأن اإلنسان ال حول له وال قوة وال دخل بهذه األعمال‪ ،‬وكان يردد العبارة التي‬
‫يرددها الجبريون دائما أمام كل جريمة ترتكب «قدر هللا وماشاء فعل» فيحملون‬
‫القدر اإللهي المسؤولية ويبرؤون اإلنسان من تحمل تبعات عمله‪.‬‬
‫المنزه هلل ‪ :‬يا أخي اتق هللا‪ ،‬ال يجوز أن تنسب إلى هللا الفواحش والجرائم فاهلل‬
‫أمرنا باجتن�ابها‪.‬‬
‫الجبري القدري‪ :‬ولكن هللا هو المقدر لالمور‪ ،‬وال يقدر أحد على مغالبة هللا‬
‫فاألمور تجري بتقديره وقضائه‪.‬‬
‫المنزه هلل ‪ :‬ال مشكلة في أنه ال قدرة ألحد على مغالبة هللا‪ ،‬ولكن هللا أعطى‬
‫اإلنسان القدرة على أن يقوم بأعماله‪ ،‬والقدرة على أن يعمل العمل الصالح أو الطالح‬
‫«كل نفس بما كسبت رهين�ة»‪ ،‬واإلنسان هو المسؤول عن أفعاله فهو القاتل وهو‬
‫المجرم وهو الباغي وال يصح أن تنسب إلى هللا‪.‬‬
‫الجبري القدري ‪ :‬قدر هللا وماشاء فعل‪.‬‬
‫المنزه هلل غضب من حماقة وصلف هذا الجبري ولطمه في وجهه فوقف‬
‫الجبري مندهشا من هذا التصرف وقال ‪ :‬لماذا اعتديت علي؟‬
‫فأجابه المنزه هلل ‪ :‬قدر هللا وماشاء فعل‪ ،‬فبهت الجبري‪.‬‬

‫***‬

‫‪69‬‬
‫بداية الطريق‬

‫النبوة واألنبياء‬
‫األنبي�اء شخصيات عظيمة‪ ،‬وأهم مصدر لمعرفتهم هو القرآن الكريم‪ ،‬ومن يت�أمل‬
‫في القرآن يدرك كم هم عظماء وحكماء ورحماء‪ ،‬ولكن من يتعرف على األنبي�اء من‬
‫الهوة والفارق الكبير بين‬‫خالل الكتب الخاصة بالمذاهب المنحرفة سيجد كم هي ّ‬
‫الكمال البشري وبين أخالق األنبي�اء في هذه الكتب‪ ،‬وال شك أن األنبي�اء لهم مكانة‬
‫سامية في قلوب المسلمين عامة سواء كانوا سنة أو شيعة‪ ،‬وهي تمثل مرتب�ة الكمال‬
‫البشري‪ ،‬فهم محط الوحي ومنبع الحكمة‪ ،‬وكما كان األنبي�اء هم قادة العالم وهم‬
‫أنصارا ومبلغين يسعون للحيلولة دون‬‫ً‬ ‫المبلغون عن رب العالمين‪ ،‬فإن للشيطان‬
‫وصول هداية األنبي�اء إلى الناس‪ ،‬فلم يقتصروا على التشكيك في عقائد ورساالت‬
‫األنبي�اء فحسب‪ ،‬بل أرادوا التشكيك في أخالقيات وسلوكيات األنبي�اء‪.‬‬
‫فكما وقعت الوهابي�ة والغالة من االثني عشرية في خطأ القبول بالروايات‬
‫اإلسرائيلية في مجال االعتقاد باهلل‪ ،‬فإنهم كرروا نفس الخطأ بحق أنبي�اء هللا‪،‬‬
‫فشحنت كتبهم بكثير من الروايات التي تقدح في أخالق وحكمة األنبي�اء‪ ،‬بينما تجد‬
‫في جانب مشروع أهل البيت عليهم السالم الرؤية والعقيدة الصحيحة عن األنبي�اء‪،‬‬
‫وسنذكر بعضا من ذلك آخر هذا الباب بإذن هللا‪.‬‬

‫عقيدة الوهابية في الأنبياء‬


‫األنبي�اء في روايات أهل السنة والجماعة يصلون في بعض الحاالت إلى مرتب�ة‬
‫العوام من الناحية الخلقية؛ فالنبي قد ربما تقرصه نملة فال يتمالك أعصابه ويؤدي‬
‫به غضبه إلى أن يحرق قرية النمل بأكملها!!‬
‫روى البخاري ومسلم في صحيحيهما((( عن أبي هريرة أنه قال‪« :‬قرصت نملة‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫نبي�ا من األنبي�اء فأمر بقرية النمل فأحرقت‪ ،‬فأوحى هللا إليه أن قرصتك نملة أحرقت‬
‫أمة من األمم تسبح هللا»‪.‬‬

‫((( البخاري في كتاب الجهاد والسير باب‪ ،‬بال عنوان‪ ،‬ومسلم في كتاب السالم باب النهي عن قتل النمل‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫ايبنألاو ةوبنلا‬

‫(((‬
‫وحسب ما ورد في مضمون حديث آخر أخرجه الترمذي((( وصححه القسطالني‬
‫وابن حجر(((‪ ،‬يظهر أن ذلك النبي الذي أحرق آالفا من النمل بسبب قرصة نملة واحدة‬
‫هو نبي هللا موسى عليه السالم!!! وال أدري من أي كيس خرجت هذه الرواية؟ غير‬
‫َّ‬
‫أنن�ا نجزم أنها روايات إسرائيلية ُوضعت للني�ل من قداسة األنبي�اء عليهم السالم‪.‬‬
‫ولكن عندما نت�أمل في القرآن ونشاهد كيف يتعامل األنبي�اء مع النمل ستدرك‬ ‫ْ‬
‫ْۡ‬ ‫َ َّ َ َ َ‬
‫ت إِذٓا أتوا‬ ‫قيمة وأهمية أن تعرف األنبي�اء من خالل القرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ح ٰٓ‬
‫َۡ‬ ‫ۡ َ َّ ُ ُ َ‬ ‫ۡ ُ ُ ْ َ َٰ َ ُ َ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫ۡ َ ‪َ ُّ َ ٰٓ َ ٞ‬‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ََ‬
‫ۡم سليم ٰ ُن‬ ‫ۡم ل ي ِطمنك‬ ‫كنك‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫وا‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ٱد‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫َّ‬
‫ٱنل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫أ‬‫ي‬ ‫ة‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ال‬‫ق‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫َّ‬
‫ٱنل‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ا‬‫و‬‫َ‬ ‫ٰ‬
‫ع‬
‫ۡ َُ‬ ‫ۡ َ‬‫ۡ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ ُ‬
‫ن أن أشكر‬ ‫ۡول ِها َوقال َر ِب أوزع ٓ‬ ‫حك مِن ق‬ ‫َوجنود ُهۥ َوهم ل يشع ُرون‪ ١٨‬فتبس َم ضا ِ‬
‫ۡ‬
‫َ ِ ِ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َ َ َّ َ‬
‫َۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡر َضى ٰ ُ‬‫ۡ ََ َٰ ٗ َ‬ ‫ع َوٰ ِ َ‬ ‫ۡ َ ََ َ ََ‬ ‫َۡ‬
‫خل ِن ب ِ َرحتِك ِف‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫أ‬‫و‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫ح‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ص‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫أ‬‫و‬‫َ‬ ‫َّ‬
‫ي‬ ‫ل‬ ‫ٰ‬ ‫و‬ ‫َّ‬
‫ع‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ن ِعمتك ٱل ٓ‬
‫تأ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬
‫ع َِباد َِك ٱلصٰلح َ‬
‫ني‪[﴾١٩‬النمل‪ ]19 :‬فحتى النملة تعرف عدالة سليمان وجنوده‪ ،‬وأنه ال‬ ‫ِ ِ‬
‫يمكن لهم أن يعمدوا إلى قتلها وهم يشعرون‪.‬‬
‫وتماشيا مع الروايات اإلسرائيلية التي تصور للناس بأن األنبي�اء لديهم هوس‬
‫تخل الكتب السني�ة بما يوحي بهذه الفرية‬ ‫ُ‬ ‫وانحراف جنسي ‪-‬وحاشاهم‪ -‬لم‬
‫العظيمة وهذا االتهام الخطير‪ ،‬فلربما يصل تفكير بعض األنبي�اء من منظور روايات‬
‫أهل السنة والجماعة إلى أن يطوف على مائة أو تسعة وتسعين من نسائه في ليلة‬
‫واحدة لينجبن له رجاال يجاهدون في سبي�ل هللا! ولكن لسوء الحظ لم يقل هذا النبي‬
‫إن شاء هللا بعد تذكير الملك له فال ينجب إال من امرأة واحدة جاءت بشق رجل!!‬
‫وهذا هو مضمون الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن عبدالرحمن بن هرمز‬
‫قال‪ :‬سمعت أبا هريرة عن رسول هللا (÷) قال‪ :‬قال سليمان بن داود‪« :‬ألطوفن‬
‫الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كل منهن يأتي بفارس يجاهد في سبي�ل هللا‪،‬‬
‫فقال له الملك ‪-‬صاحبه‪ :-‬قل إن شاء هللا فلم يقل‪ :‬إن شاء هللا فلم يحمل منهن إال‬
‫امرأة واحدة جاءت بشق رجل‪.((( »..‬‬

‫((( سنن الترمذي كما أشار إليه القسطالني‪.‬‬


‫((( إرشاد الساري ‪.114 :6‬‬
‫((( فتح الباري البن حجر ‪.167 :7‬‬
‫((( صحيح البخاري كتاب الجهاد باب من طلب الولد للجهاد‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫بداية الطريق‬

‫في كتاب أضواء على الصحيحين علق المؤلف على الرواية نذكر تعليقه هنا‬
‫بتصرف(((‪:‬‬
‫«والمالحظ على هذه الرواية عدة تساؤالت‪:‬‬
‫•اضطراب نص الحديث ألن عدة النساء في رواية أنهن مائة امرأة(((‪ ،‬وأخرى‬
‫أنهن تسع وتسعون(((‪ ،‬وثالثة أنهن تسعون(((‪ ،‬وأخرى أنهن سبعون(((‪ ،‬وفي‬
‫بعضها ستون(((‪ ،‬وكل هذه األعداد مروية في صحيح البخاري ومسلم‪ ،‬وهذا‬
‫َ‬
‫االضطراب العددي دليل على التن�اقض ومن ث َّم على زيف هذه الرواية‪.‬‬
‫•إن الفترة الزمني�ة للطواف على مائة امرأة لليلة واحدة لقليلة جدا‪.‬‬
‫•إن طاقة البشر ال تقوى على مثل هذه الطريقة التي تشبه الخوارق‬
‫والمعجزات‪ ،‬بينما هذه القصة ال تمت إلى المعجزة وال إلى الكرامة بصلة‪.‬‬
‫•إنه ال يجوز على النبي سليمان (÷) وهو من عباد هللا المقربين أن يترك‬
‫التعليق بـ»إن شاء هللا” حتى لو سلمنا بأنه نسي‪ ،‬خصوصا بعد تذكير‬
‫الملك؛ ألن شأن األنبي�اء هو التوكل واالعتماد المطلق على هللا‪ ”...‬انتهى‪.‬‬

‫ر�سول من ر�سل اهلل يفق�أ عين ملك الموت‬


‫إن شأن األنبي�اء هو التسليم المطلق هلل رب العالمين‪ ،‬واالستجابة ألوامر هللا‬
‫حتى لو كانت على حساب التضحية بأغلى ما يملك اإلنسان‪ ،‬ولكن الحاصل في‬
‫بعض روايات أهل السنة أن أحد األنبي�اء يستقبل رسول ربه بلكمة تفقأ عين�ه! وال‬
‫أدري أي صورة تريد هذه الرواية أن تصور لنا أنبي�اء هللا الذين هم قدوة وأسوة األمم‬
‫ُ‬
‫والشعوب؟! فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة قال‪“ :‬أرسل‬

‫((( ص ‪. 219-218‬‬
‫((( البخاري كتاب الجهاد باب من طلب الولد للجهاد‪.‬‬
‫((( البخاري باب من طلب الولد للجهاد‪.‬‬
‫((( البخاري‪ :‬كتاب األيمان والنذور‪ :‬باب كيف يمين النبي وباب اإلستثن�اء‪.‬‬
‫((( صحيح مسلم كتاب األيمان باب اإلستثن�اء‪.‬‬
‫((( البخاري كتاب التوحيد باب في المشيءة واإلرادة‪ ،‬أو باب بال عنوان‪ ،‬كتاب كفارات األيمان باب اإلستثن�اء‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫ايبنألاو ةوبنلا‬

‫ملك الموت إلى موسى عليه السالم فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه‪ ،‬فقال‪ :‬أرسلتني‬
‫إلى عبد ال يريد الموت‪ ،‬فرد هللا عين�ه وقال‪ :‬ارجع فقل له‪ :‬يضع يده على متن ثور‬
‫فله بكل ما غطت يده بكل شعرة َسنة‪ .‬قال‪ :‬أي رب ثم ماذا؟ قال‪ :‬ثم الموت قال‪:‬‬
‫فاآلن‪ ”...‬إلى آخر الحديث((( أخرج هذا الحديث مسلم والبخاري‪ ،‬إال أن في رواية‬
‫مسلم‪“ :‬فلما جاء صكه ففقأ عين�ه”‪.‬‬
‫نقل مؤلف األضواء ‪-‬بتصرف‪« (((-‬روى الثعالبي في كتابه (ثمار القلوب‬
‫في المضاف والمنسوب) القصة في باب لطمة موسى‪ ،‬ثم قال‪ :‬هذا الحديث‬
‫في أساطير األولين ويضرب مثال بين الناس‪ ،‬وقد اشتهر بعد ذلك بين العوام بأن‬
‫عزرائي�ل أعور وفيه قيل‪:‬‬
‫لطمـــة موســـى تركتـــك أعـــورا‬ ‫يـــا ملـــك المـــوت لقيـــت مكرها‬

‫واختتم الثعالبي مقولته قائال‪ :‬وأنا بريئ من عهدة هذه الحكاية‬


‫(((‬

‫ٌّ‬
‫وحق ما قاله الثعالبي من أن هذه الرواية أسطورة‪ ،‬وإال كيف يليق بنبي من أولي‬
‫العزم أن يفعل هذا؟‬
‫ثم كلنا يعلم أن المالئكة مخلوقات عليا ال طاقة للبشر بنزالهم‪ ،‬وكذلك أين‬
‫ۡ ُ َ َ َٗ‬ ‫ۡ َ َ‬
‫ۡ َ‬ ‫َ َ َ َٓ َ َ ُُ‬
‫خرون ساعة‬ ‫تذهب هذه الرواية بقوله سبحانه وتعالى‪﴿ :‬فإِذا جاء أجلهم ل يستأ ِ‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫ۡ َ‬
‫َول يستق ِدمون‪[ ﴾٣٤‬األعراف‪ ]34 :‬؟‬
‫ُّ‬
‫فكيف َي ُرد نبي من أنبي�اء هللا أمر هللا بالموت؟ بل كيف يرفض نبي هللا من‬
‫َ َ‬
‫فنوا أعمارهم للقاء هللا سبحانه وتعالى ورضاه؟ ثم ّ‬
‫أي‬ ‫أنبي�اء هللا لقاء ربه وهم الذين أ‬
‫ُ‬
‫فضيلة هذه التي نسبت لموسى عليه السالم بعد أن اعترض أمر هللا ولطم رسوله‬
‫َ‬
‫حتى يوردها مسلم في صحيحه في باب فضائل موسى؟!‬

‫((( البخاري‪ :‬كتاب الجنائز باب‪ :‬من أحب الدفن في األرض المقدسة‪ ،‬وكتاب بدء الخلق باب وفاة موسى‪،‬‬
‫وصحيح مسلم كتاب الفضائل باب من فضائل موسى‪.‬‬
‫((( أضواء على الصحيحين ص‪.220‬‬
‫((( ثمار القلوب ص‪ 53‬رقم ‪.63‬‬

‫‪73‬‬
‫بداية الطريق‬

‫�سباق مو�سى والحجر‬


‫أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم‪« :‬إن موسى كان رجال حيي�ا ستيرا‪ ،‬ال يرى من جلده شيئ�ا استحياء‬
‫منه‪ ،‬فآذاه من آذاه من بني إسرائي�ل‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما يستتر هذا الستر إال من عيب‬
‫ُ‬
‫بجلده‪ ،‬إما برص وإما أدرة وإما آفة‪ ،‬وإن هللا أراد أن يبرئه مما قالوا له‪ ،‬فخال يوما‬
‫وحده فوضع ثي�ابه على الحجر‪ ،‬ثم اغتسل‪ ،‬فلما فرغ أقبل على ثي�ابه ليأخذها‪ ،‬وإن‬
‫الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر‪ ،‬فجعل يقول ثوبي حجر‪ ،‬ثوبي‬
‫حجر‪ ،‬حتى انتهى إلى مإل من بني إسرائي�ل فرأوه عريانا‪ ،‬أحسن مما خلقه هللا وأبرأه‬
‫مما يقولون‪ ،‬وقام الحجر فأخذ بثوبه فلبسه‪ ،‬وطفق بالحجر ضربا بعصاه‪ ،‬فوهللا إن‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ‬
‫بالحجر لندبا من أثر ضربه‪ ،‬ثالثا وأربعا وخمسا وذلك قوله‪﴿ :‬يأيها ٱلِين ءامنوا‬
‫َ َّ َ ٗ‬ ‫ۡ ْ ُ َ ٰ َ َ َّ َ ُ َّ ُ َّ َ ُ ْ َ َ َ‬
‫َ َ ُ ُ ْ َ َّ َ َ‬
‫جيها‪﴾٦٩‬‬ ‫و‬
‫ِ ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫ِند‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ِين ءَاذوا موس فبأه ٱلل مِما قال ۚوا وك‬ ‫ل تكونوا كٱل‬
‫ً‬
‫[األحزاب‪ ]69 :‬صحيح البخاري كتاب الغسل باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة‬
‫وكتاب بدء الخلق باب حديث الخضر مع موسى‪ ،‬صحيح مسلم كتاب الفضائل باب‬
‫فضائل موسى وكتاب الحيض باب جواز االغتسال عريانا ًفي الخلوة‪( .‬المصادر في‬
‫الحاشية مع ذكر الصفحات)‬
‫يقول مؤلف األضواء معلقا على هذه الرواية(((‪« :‬قبل أن نقوم بالبحث والتحقيق‬
‫حول هذا الحديث‪ ،‬ندعو القراء الكرام إلى أن ُيلقوا نظرة فيما قاله اثن�ان من شارحي‬
‫الصحيحين بهذا الصدد‪.‬‬
‫قال بدر الدين العيني في شرحه على صحيح البخاري وفيه ‪-‬أي في هذا‬
‫الحديث‪:-‬‬
‫‪ -1‬جواز المشي عريانا للضرورة‪ ،‬وكذا النظر إلى العورة عند الضرورة‪.‬‬
‫‪ -2‬وفيه معجزة ظاهرة لموسى وال سيما تأثير ضربه بالعصا على الحجر مع‬
‫علمه بأنه ما سار بثوبه إال بأمر من هللا تعالى(((‪.‬‬

‫((( أضواء على الصحيحين ص ‪.223‬‬


‫((( عمدة القاري ‪.302 :15‬‬

‫‪74‬‬
‫ايبنألاو ةوبنلا‬

‫وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم‪ :‬إن فيه معجزتين ظاهرتين‬
‫لموسى؛ إحداهما مشي الحجر بثوبه إلى مأل من بني إسرائي�ل‪ ،‬والثاني�ة‬
‫حصول الندب في الحجر(((‪.‬‬
‫أقول إن في هذا الحديث ‪-‬وهو عندهم صحيح معتبر‪ -‬انتقادات واستفسارات‪:‬‬
‫‪ -1‬هل أن تشهير كليم هللا موسى عليه السالم بإبداء سوأته على مرأى من قومه‬
‫يبقي موسى على مقامه ويحفظ شخصيت�ه التي كان عليها قبل الواقعة أم‬
‫ال؟ وال سيما إذا رآه القوم بتلك الحالة المضحكة‪ ،‬وهو يعدو خلف الحجر ال‬
‫يسمع وال يدرك شيئ�ا وين�اديه‪ :‬ثوبي حجر ثوبي حجر‪.‬‬
‫‪ -2‬لو سلمنا صحة الحديث فال بد أن نقول‪ :‬بأن حركة الحجر من مكانه كانت‬
‫إجبارية وبأمر من هللا‪ ،‬ففي هذه الحالة فما يعني غضب موسى عليه السالم‬
‫وأي أثر لعقوبة الحجر وعتابه؟‬
‫‪ -3‬إن فرار الحجر بثي�اب موسى عليه السالم ال يبيح لموسى أن يب�دي عورته‬
‫ويهتك نفسه بل كان في إمكانه عقال وشرعا أن يستتر في مكان ما ويستر‬
‫عورته عن أعين الناس‪.‬‬
‫وما ادعاه العيني والنووي من كون عمل موسى عليه السالم هذا معجزة‪ ،‬فعلى‬
‫فرض صحة دعواهما ال بد أن يعلما أن المعجزة ال تأتي إال إذا كان المقام مقام التحدي‬
‫ُ‬
‫والتعجيز‪ ،‬وما نسب إلى موسى عليه السالم بهذا الشأن لم يكن في مقام التحدي‬
‫والتعجيز‪.‬‬
‫ُ‬
‫وأما براءته من األدرة وغيره فليست من األمور التي يب�اح في سبيلها هتكه‬
‫وتشهيره‪ ،‬وال هي من المهمات التي تصدر بسببها اآليات والمعجزات‪ ،‬ولو فرض‬
‫ابتلاؤه بهذا المرض فأي بأس عليه؟ ألم يصب النبي شعيب عليه السالم في بصره‪،‬‬
‫وأيوب عليه السالم في جسمه‪ ،‬وأنبي�اء هللا قد مرضوا وماتوا بذلك فهل هتكوا‬
‫ُ‬
‫أنفسهم؟ هذا على فرض ابتلائه باألدرة‪ ،‬فإن هذا الداء كان مستورا على أعين الناس‬
‫ولم يكونوا يعلمون بذلك» إ‪.‬هـ‪.‬‬

‫((( شرح النووي على صحيح مسلم ‪.127 :15‬‬

‫‪75‬‬
‫بداية الطريق‬

‫نبينا محمد (÷) وبع�ض روايات �أهل ال�سنة‬


‫ٌ‬
‫فوافر جدا‬ ‫أما نصيب نبين�ا محمد صلى هللا عليه وآله وسلم من هذه الروايات‬
‫في كتب أهل السنة والجماعة‪ ،‬غير أنن�ا سنقتصر على شيء مما ورد في الصحيحين‬
‫لمكانتهما في قلوبهم وسنذكر بعض األمثلة لذلك‪:‬‬

‫الأكذوبة الأولى‪ :‬ما ذبح على الن�صب‪ ،‬و�سب من الي�ستحق‪.‬‬


‫أخرج البخاري في صحيحه بإسناده عن سالم أنه سمع عبد هللا بن عمر يحدث‬
‫عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أنه لقي زيد بن عمر بن نفيل بأسفل بلدح‪،‬‬
‫وذلك قبل أن ينزل على رسول هللا (÷) الوحي‪ ،‬فقدم رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها‪ ،‬ثم قال‪ :‬إني ال آكل مما تذبحون على‬
‫(((‬
‫أنصابكم وال آكل إال مما ذكر اسم هللا عليه‪.‬‬
‫واألنكى من ذلك ما رواه أحمد بن حنب�ل عن نوفل بن هشام بن سعيد بن زيد عن‬
‫أبي�ه عن جده فإنه قال‪ :‬ومر بالنبي ‪-‬يعني زيد بن عمر بن نفيل‪ -‬ومعه أبوسفيان بن‬
‫الحرث‪ ،‬يأكالن من سفرة لهما‪ ،‬فدعواه إلى الغداء فقال‪ :‬يا ابن أخي إني ال آكل مما‬
‫ذبح على النصب‪ ،‬قال‪ :‬فما رؤي النبي صلى هللا عليه وآله وسلم من يومه هذا يأكل‬
‫(((‬
‫مما ذبح على النصب حتى ُبعث‪.‬‬
‫ِّ‬
‫وتبين هذه الرواية أن زيد بن عمر بن نفيل كان أعلم وأتقى من رسول هللا! فهو‬
‫يرفض أكل ما ذبح على األصنام‪ ،‬بينما هادي األمم والبشر الذي ما عبد غير ربه يأكل‬
‫من هذه األشياء!! ألم يصل إلى درجات اإليمان الرفيعة باهلل سبحانه وتعالى كما‬
‫وصل إليها زيد بن عمر بن نفيل؟!! حتى يصبح زيد مرشدا له‪.‬‬
‫روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫قال‪ :‬اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني اتخذت عندك عهدا لم‬
‫ْ‬
‫(((‬
‫تخلفني�ه‪ ،‬فأيما عبد آذيت�ه أو سببت�ه أو جلدته‪ ،‬فاجعلها كفارة وقربة تقربها إليك‪.‬‬
‫((( البخاري كتاب الذبائح والصيد باب ما ذبح على النصب واألزالم‪.‬‬
‫((( صحيح مسند أحمد بن حنب�ل ‪.189 :1‬‬
‫((( البخاري كتاب الدعوات‪ ،‬باب‪ :‬قول النبي من آذيت�ه‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ايبنألاو ةوبنلا‬

‫وفي حديث آخر قال‪ :‬اللهم إنما أنا بشر فأيما رجل من المسلمين لعنت�ه أو سببت�ه‬
‫(((‬
‫فاجعله له زكاة وأجرا‬
‫َّ‬
‫مؤدى هذين الحديثين ُيظهر أن رسول هللا يسب ويلعن من ال يستحق اللعن‪،‬‬
‫وأنه تطرأ عليه نزوات وغرائز الشر فيدعو ويسب تبعا لذلك‪ ،‬حاشاه وهو الموصوف‬
‫َّ َ َ َ َ ٰ ُ ُ َ‬
‫ل خل ٍق ع ِظي ٖم‪[ ﴾٤‬القلم‪ ،]4 :‬ثم يروي‬ ‫في الذكر الحكيم بقوله تعالى‪ِ﴿ :‬إَونك لع‬
‫مسلم في صحيحه أحاديث عديدة عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أنه نهى‬
‫أن يكون المسلم لعانا وفحاشا ونهاهم حتى عن لعن الدواب والحيوانات(((! فكيف‬
‫يستجيز لنفسه أن يسب عباد هللا المؤمنين دونما ذنب أو سبب‪.‬‬

‫الأكذوبة الثانية ‪ :‬البول قائما‪.‬‬


‫َ‬
‫روى البخاري ومسلم عن حذيفة قال‪ :‬أتى النبي (÷) ُسباطة قوم خلف‬
‫الحائط فبال قائما(((‪.‬‬
‫ورويا أيضا عن أبي وائل قال‪ :‬كان أبو موسى األشعري يشدد في البول ويقول‪:‬‬
‫إن بني إسرائي�ل كان إذا أصاب أحدهم قرضه‪ .‬فقال حذيفة‪ :‬لوددت أن صاحبكم ال‬
‫يشدد هذا التشديد‪ ،‬فلقد رأيتني أنا ورسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم نتماشى‬
‫ً‬
‫فأتى ُسباطة خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم فبال فانت�دبت منه فأشار إلي فجئت‬
‫(((‬
‫فقمت عقبه حتى فرغ‪.‬‬
‫وهذه الروايات تقلل من قداسة المصطفى صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬فكيف‬
‫يجهل رسول هللا أبسط اآلداب التي جاء مبعوثا بها؟!!‬
‫يقول مؤلف األضواء‪ :‬والجدير بالذكر أن هذه المسألة قد طرحت بعد وفاة‬
‫الرسول (÷)‪ ،‬وكانت عائشة تفند وتستنكر هذه األحاديث وتقول من حدثكم‬

‫((( صحيح مسلم‪ :‬كتاب البر والصلة باب‪ :‬من لعنه الرسول أو سبه أو دعا عليه وليس لذلك أهال‪.‬‬
‫((( مسلم كتاب البر والصلة‪ :‬باب النهي عن لعن الدواب‪.‬‬
‫((( مفاد ما ورد في صحيح البخاري كتاب الوضوء باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط وباب البول قائما‬
‫وقاعدا وباب البول عند بساطة قوم وفي صحيح مسلم كتاب الطهارة باب المسح على الخفين‪.‬‬
‫((( نفس المصدر السابق‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫بداية الطريق‬

‫أن النبي كان يبول قائما فال تصدقوه ما كان يبول إال قاعدا(((‪ ،‬وقال الترمذي بعد‬
‫تخريجه لهذا الحديث‪ :‬حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح‪.‬‬

‫الأكذوبة((( الثالثة ‪ :‬ر�سول اهلل (÷) يُ�سحر‬


‫َۡ َ َُ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫ۡس ُح ً‬‫َ َ َّ ُ َ َّ ُ ٗ َّ‬ ‫َ َ َ َّ‬
‫ۡر كيف ضبوا‬ ‫ورا‪ ٨‬ٱنظ‬ ‫﴿وقال ٱلظٰلِ ُمون إِن تتبِعون إِل َرجل م‬ ‫قال تعالى‪:‬‬
‫ۡ َ ُ َ َ ٗ‬
‫يل‪[ ﴾٩‬الفرقان‪ ،]9 - 8 :‬هذه اآلية تبين ً‬ ‫َۡ‬
‫ۡ َ َ َ َ ُّ ْ َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫نوعا من‬ ‫لك ٱلمثٰل فضلوا فل يست ِطيعون س ِب‬
‫َ‬ ‫أنواع السخرية التي كان َ‬
‫يواجه بها رسول هللا باتهامه بأنه مسحور‪ ،‬ودفاع الباري عنه‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬ولكن هذه اآلية لم تشفع لنبين�ا محمد من تهمة اإلنسحار؛ فها هي‬
‫الروايات الموجودة في كتب أهل السنة تؤكد ما جاء على لسان الجاهليين من أن‬
‫الرسول ُسحر‪ ،‬وخالصة القصة هي أن الساحر اليهودي لبي�د بن األعصم من بني‬
‫زريق َسحر النبي (÷) حتى كان النبي (÷) يتخيل أنه يعمل عمال ما‪ ،‬بينما هو ال‬
‫يعمله‪ ،‬وتارة يتصور أنه قد أتى إحدى زوجاته وهو لم يأتها(((!‬

‫الأكذوبة الرابعة‪ :‬النبي يقتل ن�ساء و�أطفال الم�شركين‪.‬‬


‫يقول هللا سبحانه وتعالى مشنعا على المشركين قتل أطفالهم ‪« :‬وإذا الموؤودة‬
‫سئلت بأي ذنب قتلت» وقال تعالى «وال تقتلوا أوالدكم خشية إمالق نحن نرزقهم‬
‫وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا» هذه اآليات تبين عظمة رحمة اإلسالم بالطفولة‬
‫حتى فيما يتعلق بأبن�اء المشركين‪ ،‬بينما بعض الروايات الموجودة في كتب أهل‬
‫السنة والجماعة تظهر اإلسالم متوحشا‪ ،‬وأن داعش والقاعدة امتداده الطبيعي‪،‬‬
‫والمعلوم أن الفلم المسيء الذي نشره األمريكان عن أطهر الخلق أخذ معظمه من‬
‫كتب أهل السنة والجماعة ومن رواياتهم الخبيث�ة المكذوبة على رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ومن هذه الروايات الرواية الموجودة في البخاري ومسلم‪:‬‬
‫“سئل النبي صلى هللا عليه وآله وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون‬

‫((( سنن الترمذي كتاب الطهارة باب ما جاء في النهي عن البول قائما‪.‬‬
‫((( سنن الترمذي كتاب الطهارة ذيل حديث (‪.)12‬‬
‫((( البخاري كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده وكذلك انظر كتاب الطب باب هل يستخرج السحر‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫ايبنألاو ةوبنلا‬

‫من نسائهم وذراريهم‪ ،‬فقال ‪ :‬هم منهم «(((‪.‬‬


‫وهذه رواية أخرى في صحيح مسلم أنهم سألوا رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم «لو أن خيال أغارت من الليل فأصابت من أبن�اء المشركين؟ قال‪ :‬هم من‬
‫آبائهم «(((‪.‬‬

‫الأكذوبة الخام�سة �أن النبي ي�أمر بقتل الأ�سرى‬


‫وجاءت روايات كما في مسلم وأحمد بن حنب�ل تفيد أن النبي (صلوات هللا‬
‫عليه وعلى آله) استشار أصحابه في األسرى؟ فأشار عليه عمر بقتلهم‪ ،‬وفي‬
‫مقدمتهم العباس عم النبي! وأشار عبدهللا بن رواحة بإحراقهم! وأشار عليه أبو بكر‬
‫وأخذ الفداء منهم؛ فعمل النبي (صلوات هللا عليه وعلى آله) بمشورة‬‫بتسـريحهم ِ‬
‫أبي بكر؛ فنزلت اآلية ً‬
‫عتابا له (صلوات هللا عليه وعلى آله) على قبوله الفداء وعدم‬
‫قتلهم وتصديقا لعمر‪.‬‬
‫ومن الواضح جدا أن هذه الرواية غير صحيحة من عدة نواحي‪ ،‬منها أن النبي‬
‫(صلوات هللا عليه وعلى آله) قد قبل فداء عثمان بن عبدهللا بن المغيرة والحكم بن‬
‫ُ‬
‫كيسان اللذين أسـرا في سـرية عبدهللا بن جحش‪ ،‬وذلك قبل بدر‪.‬‬
‫َ َ َ َ َ َ ُ َ َُ َ‬
‫ت‬‫ى َح َّ ٰ‬ ‫س ٰ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ب أن يكون لۥٓ أ‬ ‫أما بالنسبة لآلية وهي قوله تعالى ﴿ما كن ِل ّ‬
‫ٍِ‬ ‫َۡ‬
‫ۡ‬ ‫ُ ُ َ َ َ َ‬ ‫ۡ‬‫ُ‬
‫ٱدلن َيا﴾ [األنفال‪ ،]67 :‬فهي جواب على رغبة بعض‬ ‫ض ُّ‬ ‫ۡرض ت ِريدون عر‬ ‫خ َن ِف ٱل ِ ۚ‬ ‫يث ِ‬
‫المسلمين في قافلة غير ذات الشوكة طمعا بما فيها من غنائم وأسرى للفداء‪ ،‬بدال‬
‫من االنصدام بذات الشوكة‪ ،‬ومايترتب على ذلك من تفويت لكسر هيب�ة قريش‬
‫ۡ‬ ‫َّ ٓ َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ ُ ُ‬
‫ك ُم َّ ُ‬
‫ي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫ئ‬ ‫ا‬ ‫ٱلط‬ ‫ى‬ ‫د‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ٱلل‬ ‫بقتل مجرميها في المعركة‪ ،‬قال تعالى‪ِ﴿ :‬إَوذ ي ِعد‬
‫ۡ‬
‫ُ َّ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َ ُ ُ َّ‬ ‫ۡ َ َ ُ ُ َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َۡ َ‬ ‫ۡ َ َ َ ُّ َ َ َّ َ‬ ‫َ َّ َ َ ُ‬
‫ات ٱلشوك ِة تكون لكم وي ِريد ٱلل أن يِق ٱلق‬ ‫أنها لكم وتودون أن غي ذ ِ‬
‫ك ٰ ِفر َ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡق َط َع َداب َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ين‪[ ﴾٧‬األنفال‪ ]7 :‬فاإلثخان هناك المقصود به أن‬ ‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫بِكلِمٰتِ ِهۦ َوي‬
‫األولوية في الصراع مع المجرمين هو اإلثخان في القتل في المعركة وليس األسر‪-‬‬

‫((( صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير‪.‬‬


‫((( صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫بداية الطريق‬

‫كما ذكر اإلمام الهادي في مجموع رسائله [‪ -]311‬وبالذات أنها المعركة األولى‬
‫التي يخوضها اإلسالم ضد الشـرك‪ ،‬أما وقت األسر فالتعامل العام مع األسرى‬
‫ۡ ٗ‬
‫ينا َو َيت ٗ‬ ‫ام َ َ ٰ ُ ّ‬
‫ٱلط َع َ‬ ‫ۡ ُ َ‬
‫ون َّ‬ ‫َُ‬
‫يما‬‫ِ‬ ‫ك‬‫ع حبِ ِهۦ مِس ِ‬ ‫﴿ويط ِعم‬ ‫فإنما هو على وفق قول هللا تعالى‪:‬‬
‫َ‬
‫َوأ ِس ً‬
‫ريا‪[ ﴾٨‬اإلنسان‪.]8 :‬‬

‫الأكذوبة ال�ساد�سة ‪ :‬زواج النبي الأكرم من عائ�شة وهي طفلة‬


‫وهذه األكذوبة مروية في كتب الحديث بشكل كبير‪ ،‬وبالتأكيد فإن هذه الرواية‬
‫مكذوبة على رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم الذي ال يمكن أن يمارس شيئ�ا‬
‫يتن�اقض مع ما ذكره هللا في القرآن الكريم‪ ،‬ألن هللا يشترط في الزواج الوصول لسن‬
‫َ َّ ٰٓ َ َ َ ُ ْ ّ َ َ‬
‫ٱنل ِكح﴾‬ ‫البلوغ الذي يعبر عن حالة النضج الجنسي‪ ،‬قال تعالى ‪﴿ :‬حت إِذا بلغوا‬
‫[النساء‪.]6 :‬‬

‫روايات م�سيئة للأنبياء في كتب االثني ع�شرية‬


‫رغم الغلو الذي يضفيه غالة االثني عشرية على االنبي�اء واالئمة إلى درجة تصل‬
‫وي ِّسيرون الكون‬
‫إلى تنزيههم عن السهو والنسيان‪ ،‬بل إن ائمتهم يعلمون الغيب ُ‬
‫وغيرها من األفكار المغالية وهذا ما ستقرأه في فصل الحق إن شاء هللا‪ ،‬ولكن رغم‬
‫ذلك فإن هناك روايات اثن�ا عشرية تنتقص االنبي�اء ال تقل جرأة عن جرأة الروايات‬
‫ُ ْ‬
‫السني�ة إن لم تفقها‪ ،‬والحق أن المتأخرين منهم يرفضونها‪ ،‬بل حتى أغلب المتقدمين‪،‬‬
‫ويصفون هذه الروايات بالموضوعة‪ ،‬لكن ذكرنا لهذه الروايات حتى يعلموا خطورتها‬
‫عليهم‪ُ ،‬وبعدها عن منهج أهل البيت ومقدار الحشو في كتبهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ففي بعض الروايات يتملك الحسد نبي�ا من األنبي�اء فيكون ذلك سبب�ا لخروجه‬
‫من الجنة‬
‫روي في عيون أخبار الرضا ‪ 170‬وبحار األنوار ‪ 362/16‬عن الرضا قال‪ :‬قال هللا‬
‫خير منك ومن‬‫آلدم‪ :‬هؤالء من ذريتك محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وهم ٌ‬
‫جميع خلقي‪ ،‬ولوالهم ما خلقتك وال خلقت الجنة والنار وال السماء واألرض‪ ،‬فإياك‬

‫‪80‬‬
‫ايبنألاو ةوبنلا‬

‫ُ‬
‫أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري‪ ،‬فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى‬
‫منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي ُن َ‬
‫هي عنها‪ ،‬وتسلط على‬
‫حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة‪.‬‬
‫معلوم أن السبب الرئيسي لخروج آدم سالم هللا عليه من الجنة هو األكل من‬
‫ُ‬
‫الشجرة التي نهي عنها‪ ،‬فقد ذكر ذلك في مواضع كثيرة من القرآن كفيلة بتكذيب‬
‫هذه الرواية‪ ،‬ولم يأت في واحدة منها إشارة ولو من بعيد إلى هذه القصة والرواية‬
‫ً‬
‫الغربي�ة رغم كثرة مواضعها وتنوع أساليب إخبارها‪ ،‬وحاشا هلل أن يتملك الحسد نبي�ا‬
‫من األنبي�اء عليهم السالم‪.‬‬
‫وقد يتملك الكبر والعجب األنبي�اء في روايات االثني عشرية! من ذلك ما رواه‬
‫الكافي ‪ 311/2‬عن أبي عبد هللا قال إن يوسف عليه السالم لما قدم عليه الشيخ‬
‫الملك فلم ينزل إليه‪ ،‬فهبط جبريل‪ ،‬فقال‪ :‬يا يوسف ابسط‬ ‫يعقوب دخله عز ُ‬
‫ِ‬
‫ٌ‬
‫راحتك‪ ،‬فخرج منها نور ساطع فصار في جو السماء‪ ،‬فقال يوسف‪ :‬يا جبريل ما هذا‬
‫ً‬
‫النور الذي خرج من راحتي‪ ،‬قال جبريل‪ :‬نزعت النبوة من عقبك عقوبة ّلما لم تنزل‬
‫إلى الشيخ يعقوب فال يكون من عقبك نبي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫العجب‪ ،‬فقال في نفسه‪:‬‬ ‫النبي‬ ‫‪ -‬عن أبي جعفر عليه السالم‪ :‬ودخل حزقيل‬
‫ُ ِّ‬
‫ما فضل سليمان النبي علي وقد أعطيت مثل هذا؟ قال‪ :‬فخرجت على كبده قرحة‬
‫(((‬
‫فآذته‪.‬‬
‫‪ -‬عن علي بن الحسين قال‪ :‬يا أيتها الحوت‪ ،‬فأطلع الحوت رأسه من البحر مثل‬
‫الجبل العظيم وهو يقول‪ :‬لبيك لبيك يا ولي هللا‪ ...‬فقال من أنت؟ قال‪ :‬أنا حوت‬
‫ً‬
‫يونس يا سيدي‪ ،‬قال‪ :‬أنبئن�ا بالخبر‪ ،‬قال‪ :‬يا سيدي إن هللا لم يبعث نبي�ا إال وقد‬
‫عرض عليه واليتكم أهل البيت‪ ،‬فمن قبلها من االنبي�اء َس ِلم وتخلص‪ ،‬ومن توقف‬
‫عنها وتمنع في حملها لقي ما لقي آدم من المعصية وما لقي نوح من الغرق وما لقي‬
‫إبراهيم من النار وما لقي يوسف من الجب وما لقي أيوب من البالء وما لقي داوود‬
‫ّ‬
‫من الخطيئ�ة‪ ،‬إلى أن بعث هللا يونس فأوحى إليه أن يا يونس تول أمير المؤمنين‬

‫((( بحار االنوار ‪.185-63‬‬

‫‪81‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬
‫عليا واألئمة الراشدين من صلبه‪ ،‬قال‪ :‬كيف أتولى من لم أره ولم أعرفه؟و ذهب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مغتاظا فأوحى هللا ّ‬
‫إلي‪ :‬أن التقمي يونس وال توهني له عظما‪ ،‬فمكث في بطني‬
‫ً‬
‫أربعين صباحا يطوف معي البحار في ظلمات ثالث ين�ادي (ال إله إال انت سبحانك‬
‫(((‬
‫إني كنت من الظالمين) قد قبلت والية أمير المؤمنين واألئمة الراشدين!‬
‫‪ -‬ليس هذا فحسب بل إن موسى سالم هللا عليه ال يصل إلى مرتب�ة ّأمة محمد!‬
‫عن الرضا عن آبائه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ :‬إن موسى‬
‫سأل ربه فقال‪ :‬يا رب اجعلنى من أمة محمد‪ ،‬فأوحى هللا إليه يا موسى إنك ال تصل‬
‫(((‬
‫إلى ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ولما كان أنبي�اء هللا ال يصلون إلى مرتب�ة أمة محمد حسب الرواية السابقة‪،‬‬
‫فمن أجل نزوة شهواني�ة يقدم‬‫فلم يعد من الصعب أن نتهمهم بكل قبيح حاشاهم‪ِ ،‬‬
‫ً‬
‫داوود عليه السالم أوريا للموت طمعا في الزواج من زوجته التي افتتن بها داوود‬
‫حاشاه من هذا الكذب!‬
‫عن الصادق عليه السالم قال‪ :‬وقد كان داوود عليه السالم قد بعث أوريا في‬
‫بعث‪ ،‬فصعد داوود الحائط ليأخذ الطير وإذا امرأة أوريا تغتسل‪ ،‬فلما رأت ظل داوود‬
‫ٍ‬
‫نشرت شعرها وغطت به بدنها‪ ،‬فنظر إليها داوود وافتتن بها‪ ،‬فكتب داوود إلى قائد‬
‫ّ‬
‫جيشه‪ :‬ضع التابوت بينك وبين عدوك‪ ،‬وقدم أوريا بن حنان بين يدي التابوت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫فقد َمه وق ِتل ثم تزوج داوود زوجة أوريا وأنجبت له سليمان عليه السالم‪ (((.‬هذه‬
‫الرواية موجودة أيضا في بعض كتب أهل السنة وتفاسيرهم لألسف الشديد‪.‬‬
‫وإليك مجموعة من الروايات التي تنتقص نبين�ا محمد صلوات هللا عليه وآله‬
‫وبعض األنبي�اء‪:‬‬
‫‪ -1‬النبي يسحر‪ :‬عن أمير المؤمنين قال‪ :‬سحر لبي�د ابن األعصم اليهودي وأم‬
‫عبد هللا اليهودية رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ ،‬فعقدوا له في‬
‫إحدى عشرة عقدة‪ ...‬فأقام النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم ال يأكل وال‬
‫((( بحار االنوار ‪.52/61‬‬
‫((( عيون اخبار الرضا ‪.113‬‬
‫((( بحار االنوار ‪.23-20/14‬‬

‫‪82‬‬
‫ايبنألاو ةوبنلا‬

‫(((‬
‫يشرب وال يسمع وال يبصر وال يأتي النساء‪.‬‬
‫َ‬
‫ۡن َع َم َّ ُ‬
‫ٱلل‬ ‫ول ل َِّل ٓ‬
‫ِي أ‬
‫ۡ َُ ُ‬
‫‪ -3‬سأل المأمون الرضا عليه السالم عن قول هللا ﴿ِإَوذ تق‬
‫َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ َ َ َ َّ‬‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ َ َ‬ ‫َۡ‬‫ۡ َ‬ ‫َ َ‬
‫علي ِه َوأنعمت علي ِه أم ِسك عليك زوجك وٱت ِق ٱلل وت ِف ِف نف ِسك ما‬
‫َ‬
‫ۡ‬‫َّ ُ ُ‬
‫ٱلل مب ِدي ِه﴾ [األحزاب‪.]37 :‬‬
‫قال الرضا‪ :‬إن رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم قصد دار زيد بن‬
‫خلقك(((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أمر أراده‪ ،‬فرأى امرأته تغتسل فقال لها‪ :‬سبحان هللا الذي‬
‫حارثة في ٍ‬
‫‪ -4‬إن بعض أنبي�اء بنى إسرائي�ل شكا إلى هللا قسوة القلب وقلة الدمع(((‪.‬‬
‫‪ -5‬عن أبي جعفر الباقر قال‪ :‬لما صعد رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‬
‫إلى السماء‪ ...‬ثم قال محمد‪ :‬أين أبي إبراهيم؟ فقالوا له‪ :‬هو مع أطفال‬
‫الشيعة‪ ،‬فدخل الجنة فإذا هو تحت الشجرة لها ضروع كضروع البقر‪ ،‬فإذا‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫انفلت الضرع من فم الصبي قام إبراهيم فرد عليه‪ ،‬قال‪ :‬فسل َم عليه وسأله‬
‫ُ‬
‫عن علي‪ ،‬فقال‪ :‬خلفته في أمتي‪ ،‬قال‪ِ :‬ن ْع َم الخليفة خلفت‪َ ،‬أما إن هللا فرض‬
‫على المالئكة طاعته‪ ،‬وهؤالء أطفال شيعته سألت هللا عز وجل ان يجعلنى‬
‫القائم عليهم ففعل(((‪.‬‬

‫عقيدة قرناء القر�آن في الأنبياء عليهم ال�سالم‬


‫قال اإلمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السالم‪:‬‬
‫“اعلم أن األنبي�اء صلوات هللا عليهم لم يعص أحد منهم متعمدا يعلم أن هلل‬
‫معصية فيتعمدها‪ ،‬وذلك ال يجوز على األنبي�اء ألنهم أصفياؤه ورسله اختارهم على‬
‫علم سبق منه فيهم أنه إذا بعثهم إلى خلقه سيبلغون الرسالة‪ ،‬ويؤدون األمانة‪ ،‬وال‬
‫يعصونه في شيء من األشياء فعلى ذلك اصطفاهم واختارهم‪ .‬قال في قصة آدم‬
‫ۡ َُ َ ٗ‬ ‫ۡ َ‬‫ََ َ ََ‬
‫ۡزما‪[ ﴾١١٥‬طه‪ ،]115 :‬وقال في قصة نوح عندما دعا‬
‫ند لۥ ع‬
‫س ولم ِ‬ ‫عليه السالم‪﴿ :‬فن ِ‬
‫((( الكافي ‪.46/8‬‬
‫((( عيون اخبار الرضا ‪.113‬‬
‫((( بحار االنوار ‪.258/36‬‬
‫((( بحار االنوار ‪.303/18‬‬

‫‪83‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َّ ُ َ‬ ‫ۡ َ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ّ َّ‬
‫ب إِن ٱب ِن مِن أهل﴾ [هود‪ ]45 :‬فقال له ربه‪﴿ :‬إِنهۥ ليس مِن أهلِكۖ﴾ [هود‪]46 :‬‬ ‫ربه‪﴿ :‬ر ِ‬
‫ِ‬
‫ََ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫سل ِن ما ليس لك ب ِ ِهۦ‬
‫َ‬
‫ح فل ت َ‍ٔ‬ ‫ي َصٰلِ ٖ ۖ‬‫ُۡ‬ ‫يقول‪ :‬ليس من أهل طاعتك ﴿إِن ُهۥ ع َمل غ‬
‫ۡ ‪َّ ٞ‬‬ ‫ََۡ َ َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ّ ّ َ ُ ُ َ َ‬
‫ۡ َ‬
‫سلك ما ليس ِل ب ِ ِهۦ عِلم ۖ ِإَول‬ ‫ن أعوذ بِك أن أ ‍ٔ‬ ‫﴿ر ِب إ ِ ٓ‬ ‫ِۡل ٌم ۖ﴾ [هود‪ ]46 :‬فقال نوح‪َ :‬‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ن أكن ّم َِن ٱلخٰ ِس َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡر ل َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ين‪[ ﴾٤٧‬هود‪ ،]47 :‬فتاب عليه السالم من ذلك‪،...‬‬ ‫ح ٓ‬ ‫ر‬ ‫ت‬‫و‬ ‫ِ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫غ‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫َ ّ ّ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫وقال موسى عندما قتل القبطي‪﴿ :‬ر ِب إ ِ ِن ظلمت نف ِس فٱغ ِفر ِل﴾ [القصص‪ ]16 :‬و‬
‫ۡ ُ َ ٓ ٗ َ َ َ ۠ َ َّ ّ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ِۡن ع َم ِل ٱلشي َطٰ ِنۖ﴾ [القصص‪ ]15 :‬وقال‪﴿ :‬فعلتها إِذا وأنا مِن ٱلضٓالِني‪﴾٢٠‬‬
‫َ‬ ‫﴿هٰذا م‬
‫[الشعراء‪ ،]20 :‬يقول‪ :‬من الجاهلين لعاقبة أمري‪ ...‬وكذلك سليمان‪ ،‬ويونس وأيوب‬
‫وجميع األنبي�اء صلوات هللا عليهم‪ ،‬ما كانت خطاياهم وعصيانهم إال على وجه‬
‫الزلل والنسيان فاعلم ذلك وال تنسب إليهم ما ال يليق بهم‪ ،‬ألنهم بررة أتقياء أصفياء‬
‫صلوات هللا عليهم»(((‪.‬‬
‫هذه هي رؤية أهل البيت عليهم السالم ألنبي�اء هللا عليهم السالم‪ ،‬وهم كما‬
‫رأيت َمنحوا األنبي�اء مرتب�ة الكمال البشري‪ ،‬ولم يغالوا بإضفاء بعض صفات‬
‫األلوهية كما فعل بعض الغالة‪ ،‬فأنبي�اء هللا مهما بلغوا من الكمال فما زالوا في إطار‬
‫البشرية والمحدودية‪ ،‬والكمال المطلق هلل وحده‪.‬‬
‫ولعل هناك نظرة مغايرة تماما لنظرة غالة أهل السنة‪ ،‬وهي نظرة غالة الشيعة‬
‫وغالة المتصوفة‪ ،‬فهم قد جعلوا ألئمتهم وأوليائهم بعض صفات األلوهية من علم‬
‫الغيب وعدم النسيان وما إلى ذلك من الصفات اإللهية تأثرا بفكرة وحدة الوجود‬
‫المستوردة من الهند واليونان‪.‬‬
‫والخالصة أن منهج أهل البيت عليهم السالم أثبت أنه المنهج السامي في‬
‫تفسير حدود النبوة‪ ،‬وسيأتيك الحقا لمحة تفسيرية لبعض اآليات التي تذكر‬
‫خطايا األنبي�اء وكيف تعامل معها أئمة أهل البيت عليهم السالم‪.‬‬

‫((( إ‪.‬هـ مجموع كتب ورسائل اإلمام الهادي عليه السالم ص ‪.82‬‬

‫‪84‬‬
‫ايبنألاو ةوبنلا‬

‫ق�صة يو�سف عليه ال�سالم‪:‬‬


‫ّ‬ ‫ۡ َ ٓ َ َّ َ ُ َ‬
‫َ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ‬‫َََ‬
‫ۡرهٰ َن َرب ِ ِهۚۦ﴾ [يوسف‪ ]24 :‬قال‬‫﴿ولقد ه َّمت ب ِ ِهۖۦ َوه َّم بِها لول أن رءا ب‬ ‫قال تعالى‪:‬‬
‫ً‬
‫اإلمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السالم ردا على سؤال ابراهيم بن المحسن‬
‫هم طباع‬‫همه هو بها ّ‬ ‫هم شهوة ومراودة‪ ،‬وكان ّ‬ ‫همها هي ّ‬ ‫العلوي عن هذه اآلية‪“ :‬كان ّ‬
‫النفس والتركيب‪ ،‬أال ترى أنك إذا رأيت شيئ�ا حسنا أعجبك وحسن في عينك وإن لم‬
‫َ‬
‫ت ُه ّم به لتظلمه أوتأخذه غصبا من أهله‪ ،‬وكذلك إذا رأيت طعاما طيب�ا أو لباسا حسنا‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أعجبك وتمنيت أن يكون لك مثله وأنت ال تريد بإعجابك به أخذه وال أكله إال على‬
‫أحل ما يكون وأطيب�ه‪ ،‬ولم ترد بقولك إنك تأكله أو تلبسه أو تنكحه إال حالال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فذلك كان ّ‬
‫هم يوسف صلى هللا عليه في زوجة الملك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد سمعنا بعض الرواة يذكر أن منع يوسف عليه السالم من إتي�انها أنه‬
‫رأى يعقوب صلى هللا عليه كأنه يزجره عنها ويخوفه‪.‬‬
‫قال‪ :‬قد قيل فيه شبي�ه من ذلك‪ ،‬وليس القول فيه كذلك‪ ،‬وحاشا هللا أن ينسب‬
‫ذلك إلى نبي هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد كان يروي لنا ذلك المأل‪ ،‬ونتحدث به في المساجد‪.‬‬
‫قال‪ :‬قد ذكر ذلك ‪-‬جل هللا وتعالى عن كل ما يقول فيه الملحدون وينسب‬
‫إليه الضالون‪ -‬وليس قولهم هذا في أنبي�اء هللا وروايتهم الكاذبة عليهم بأعظم من‬
‫كذبهم وجرأتهم على هللا سبحانه وتعالى مما يقول الظالمون علوا كبيرا‪ ،‬أال ترى‬
‫كيف شبهوه باألشياء من خلقه‪ ،‬وجعلوه جسما ذا أعضاء وأجزاء مختلفة‪ ،‬فتعالى‬
‫عن ذلك من ليس كمثله شيء‪ ،‬ولقد ناظرت رجال ممن ينتحل التشبي�ه فألزمته أن‬
‫يقول إن هللا مخلوق أو ينفي عنه التشبي�ه‪ ،‬فاختار أن يجعله مخلوقا وكره أن ينفي‬
‫عنه التشبي�ه‪ ،‬فهذا أعظم األمور وأقبح األقاويل كلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالبرهان الذي رآه يوسف صلى هللا عليه ما هو؟‬
‫قال‪ :‬هو ما جعل هللا فيه من علمه وخصه به من المعرفة والخوف في عالنيت�ه‬

‫‪85‬‬
‫بداية الطريق‬

‫وسره‪ ،‬وإنما ذلك ابت�داء منها ومراودة له على نفسه كان من قولها‪ :‬يا يوسف إن لم‬
‫تأتني أتيت أنا إليك‪ ،‬فقال‪ :‬معاذ هللا من ذلك(((‪....‬‬
‫حديث الشهيد القائد عن عظمة األنبي�اء‬
‫«اإليمان بالرسل كشخصيات مهمة‪ ،‬أشخاص مهمون‪ ،‬اصطفاهم هللا‪ ،‬أكملهم‬
‫ً‬
‫هللا‪ ،‬لم يكونوا أناسا عاديين‪ ،‬أنت حينئ�ذ ستحس وأنت تؤمن بأولئك العظماء ‪-‬على‬
‫امتداد التاريخ‪ -‬تحس بافتخار‪ ،‬بعز‪ ،‬برفعة نفس‪ ،‬أن قدواتك على امتداد التاريخ‪،‬‬
‫أن من أنت تسير على نهجهم‪ ،‬وعلى طريقهم هم أناس عظماء‪ ،‬اصطفاهم هللا‬
‫وأكملهم واختارهم ألن يكونوا هم المبلغين لدين�ه‪ ،‬لهديه إلى عباده‪.‬‬
‫اإليمان بالرسل نحن في حاجة ماسة إليه على هذا النحو‪ ،‬فالقرآن الكريم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عرض لنا عددا كبيرا من األنبي�اء والرسل وشرح لنا كثيرا من أحوالهم وأورد كثيرا من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نصوص دعواتهم‪ ،‬وأبان كثيرا من أساليب دعوتهم‪ ،‬وكشف لنا كثيرا عن خصائص‬
‫جد‪ ،‬من اهتمام‪ ،‬من إخالص‪ ،‬من نصح‪ ،‬من حرص على‬ ‫نفسياتهم‪ ،‬فيما تحمله من ٍ‬
‫البشر لهدايتهم إلى صراط هللا المستقيم‪.‬‬
‫في مسيرة الرسل (صلوات هللا عليهم) الكثير من الدروس‪ ،‬الكثير من العبر‪،‬‬
‫لكنها كلها لن يكون لها قيمة ‪ -‬وهذه هي المشكلة ‪ -‬أن من رضي لنفسه بأن‬
‫يظل جامدا فكل شيء لن يكون له قيمة لديه‪ .‬متى انطلقت‪ ،‬متى شعرت بتحمل‬
‫المسئولية أمام هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬أن تكون من أنصار دين�ه‪ ،‬أن تكون من العاملين‬
‫في سبيله‪ ،‬حينها ستعرف قيمة كل شيء وأهمية كل شيء‪ ،‬كم من األنبي�اء في القرآن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكريم عرفنا كثيرا من أخبارهم‪ ،‬عرفنا كثيرا عن تلك األمم التي ُبعثوا إليها‪ .‬ولكن‬
‫نمشي على كل تلك القصص المهمة دون اعتب�ار‪ ،‬دون استلهام ما نحن بحاجة إليه‬
‫تعرف على السنن اإللهية‪ ،‬دون تعرف على‬ ‫من واقع تلك الشخصيات المهمة‪ ،‬دون ّ‬
‫األساليب المهمة التي يجب أن يتوخاها‪ ،‬وأن يعمل بها العاملون في سبي�ل هللا‪.‬‬
‫هكذا ستجد في سيرة األنبي�اء‪ ،‬في أخبار األنبي�اء‪ ،‬في قصصهم ما هو عبرة ألولي‬
‫األلباب‪ ،‬ما هو دروس عظيمة ومهمة‪.‬‬

‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السالم ص ‪.450‬‬

‫‪86‬‬
‫ايبنألاو ةوبنلا‬

‫الرسول (صلوات هللا عليه وعلى آله) أخبرنا القرآن الكريم بأنه كان بحاجة إلى‬
‫أن يقص عليه أنب�اء الرسل السابقين قبله‪ ،‬فقص عليه من أنب�اء الرسل‪ ،‬وقال بأن‬
‫َُ َ َ‬ ‫َ َُ ُ‬
‫الغاية من ذلك هو‪﴿ :‬ما نث ّبِت ب ِ ِهۦ فؤادك ۚ﴾ [هود‪ ،]120 :‬ألن فؤاد النبي (صلوات هللا‬
‫عليه وعلى آله) فؤاد رجل‪ ،‬قلب رجل مهتم‪ ،‬يعمل‪ ،‬يتحرك‪ ،‬وأمام كل األحداث‪ ،‬أمام‬
‫كل المتمردين‪ ،‬أمام المعاندين‪ ،‬أمام كل الظروف والمواقف الصعبة‪ ،‬سيكون ألخبار‬
‫ۡ َ َ ٓ ُّ ُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ ُ ّٗ َّ ُ ُّ َ َ‬
‫األنبي�اء السابقين أثره الكبير في تثبيت فؤاده ﴿وك نقص عليك مِن أۢنباءِ ٱلرس ِل‬
‫َۡ‬
‫َۡ‬ ‫ْ‬ ‫َۡ‪ُّٞ‬‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ َ َ‬‫ََ‬ ‫َُ َ َ‬ ‫َ َُّ ُ‬
‫بۗ﴾ [يوسف‪:‬‬ ‫ٰ‬
‫ص ِهم عِبة ِلو ِل ٱللب ِ‬ ‫ما نثبِت ب ِ ِهۦ فؤادك ۚ﴾ [هود‪﴿ ]120 :‬لقد كن ِف قص ِ‬
‫‪ .]111‬رسل هللا وتلك األمم التي بعثوا إليها عدد كبير‪ ،‬وأمم كثيرة‪ ،‬وأجيال متعاقبة‪،‬‬
‫وأزمنة مختلفة‪ ،‬ونفسيات متعددة‪ ،‬وأحوال متب�اين�ة‪.‬‬
‫من حسن حظنا نحن المسلمين الذين نحن آخر األمم أن كان بين أيدين�ا رصيد‬
‫عظيم‪ ،‬رصيد مهم مليء بالعبر والدروس‪ ،‬مليء بالمواقف المتماثلة‪ ،‬والمواقف‬
‫المتب�اين�ة‪ ،‬كلها دروس مهمة‪ ،‬تراث مهم‪ ..‬فمن العجيب‪ ،‬ومن الغريب أن تضل أمة‬
‫بين يديها هذا التراث العظيم‪ ،‬هذا الرصيد المهم الذي عرضه القرآن الكريم بين‬
‫يديها‪ .‬تجد في أنبي�اء هللا ‪ -‬على الرغم من كمالهم‪ ،‬هم في أنفسهم‪ ،‬باعتب�ار الظروف‪،‬‬
‫وباعتب�ار نوعيات األمم التي بعثوا إليها ‪ -‬تجد وحدة األنبي�اء‪ ،‬روحية األنبي�اء الواحدة‬
‫على اختالف الزمان والفارق الكبير بين كل نبي ونبي‪ ،‬تشعر وكأنك أمام مجموعة من‬
‫التالميذ عاشوا في زمن واحد‪ ،‬وتلقوا تعليمهم على يد أستاذ واحد‪ ،‬هذا نفسه هو‬
‫شاهد حي على أن بإمكان منهج هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وهديه أن يبني أمة متوحدة‪.‬‬
‫َ‬
‫من الذي يقرأ أخبار أولئك األنبي�اء ثم ال يلمس أنه أمام روحية واحدة‪ ،‬ونفس‬
‫واحدة؟ تقرأ عن نوح‪ ،‬عن إدريس‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وهكذا إلى أن تصل إلى نبين�ا‬
‫محمد (صلوات هللا عليه وعلى آله) إذا بك ترى نفسك أمام مجموعة واحدة‪ ،‬كلها‬
‫على قلب رجل واحد‪ ،‬نظرتها إلى الحياة واحدة‪ ،‬اهتمامها بعباد هللا واحد‪ ،‬تفانيها‬
‫في ميدان العمل من أجل هللا واحد‪ ،‬عالقتها باهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬منطلقها واحد؛‬
‫لنقول ألنفسنا نحن في هذه األمة التي تفرقت وتمزقت بعد أن حذرها هللا في كتابه‬
‫الكريم‪ ،‬ونهاها عن التفرق واالختالف‪ ،‬وأن ال تقع فيما وقعت فيه األمة السابقة‪ ،‬أو‬

‫‪87‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡ َ‬ ‫ۡ ََُ ْ ۢ َ‬ ‫َ َ َ ُ ُ ْ َ َّ َ َ َ ُ ْ‬
‫ِين تف َّرقوا َوٱختلفوا م‬
‫ِن بع ِد ما‬ ‫جملة من األمم السابقة قبلها ﴿ول تكونوا كٱل‬
‫‪ٞ‬‬ ‫ۡ َ ّ َ ٰ ُ َ ُ ْ َ ٰٓ َ َ ُ‬
‫ۡ َ َ ٌ َ‬ ‫َ ٓ ُ ُ‬
‫ت وأولئِك لهم عذاب ع ِظيم‪[ ﴾١٠٥‬آل عمران‪.)]105 :‬‬ ‫جاءَهم ٱليِن ۚ‬
‫نقول ألنفسنا‪ :‬ما الذي فرقنا؟ هل هو دين هللا؟ هل هو هدي هللا؟ إن هدي هللا‬
‫استطاع أن يوحد ويخلق روحية واحدة لمجاميع من أنبي�ائه ورسله وأوليائه على‬
‫اختالف عصورهم‪ ،‬على اختالف فئاتهم‪ ،‬على اختالف مجتمعاتهم‪.‬‬
‫يشرعون االختالف‪ ،‬ويؤصلون للفرقة‪ :‬ليست هذه هي‬ ‫لنقول ألولئك الذين ّ‬
‫روحية األنبي�اء‪ ،‬هذه ليست هي الروحية التي يمكن أن يخلقها هدي هللا في نفوس‬
‫األمة‪ ،‬ليعرفوا هم جسامة الخطأ الذي ارتكبوه‪ ،‬وما زالوا يرتكبونه‪ ،‬أن ينطلقوا إلى‬
‫أولئك الذين سيكونون هم الفئة التي تنطلق إلصالح المجتمع‪ ،‬الفئة التي تحمل‬
‫ً‬
‫دين هللا‪ ،‬ليقولوا لكل واحد منهم أن له صالحية أن ينطلق معتمدا على نفسه فيدين‬
‫بما أداه إليه نظره واجتهاده‪ ،‬مع علمهم ومع علمنا جميعا بالتب�اين الذي يحصل في‬
‫وجهات النظر وفي النت�ائج التي تحدث بن�اء على اختالف وتعدد وجهات النظر‪ .‬هل‬
‫هذا دين هللا؟ ليس هذا دين هللا‪.‬‬
‫نرجع إلى هدي هللا في كتابه الكريم الذي أبان لنا أمة واحدة‪ ،‬وليس فقط األنبي�اء‬
‫بل عرض علين�ا شخصيات أخرى من أوليائه‪ ،‬ومجاميع أخرى من أوليائه ليبين لنا‬
‫نفسياتهم كيف هي وهم في ميدان االهتداء بهدي هللا وااللتزام بدين�ه‪ ،‬والعمل في‬
‫سبيله‪ ،‬تراهم كذلك نموذجا واحدا‪ ،‬تراهم كذلك نفسيات واحدة‪ ،‬ونظرة واحدة‪،‬‬
‫ووعي واحد‪.‬‬
‫هذا مما يمكن أن نستفيده من خالل التعرف على أنبي�اء هللا ورسله في القرآن‬
‫الكريم‪ .‬تجد في نفس الوقت األمم التي بعث إليها األنبي�اء والرسل كيف كانت‬
‫أساليبهم واحدة‪ ،‬كيف كانت بواعث تمردهم وعنادهم ودعاياتهم ضد األنبي�اء‬
‫ً‬ ‫ۡ ُُ ُُ‬‫ََٰ َ‬
‫ش َبهت قلوبه‬
‫ۡم ۗ﴾ [البقرة‪ ]118 :‬هكذا قال هللا عنهم‪ ،‬إنما أحيانا ‪ -‬وهو الشيء‬ ‫واحدة‪﴿ ،‬ت‬
‫الطبيعي ‪ -‬مع تعاقب األمم أن تكثر الدروس‪ ،‬وتتعدد المواقف التي تتجلى من‬
‫خاللها الدروس والعبر في هذا االتجاه‪ ،‬أو في هذا االتجاه‪ ،‬فإذا نحن نرى أنفسنا أن‬
‫ً‬
‫بين أيدين�ا تراثا مهما‪ ،‬رصيدا مهما لكنن�ا نحن ونحن كطالب علم‪ ،‬نرجع إلى األنبي�اء‪،‬‬
‫‪88‬‬
‫ايبنألاو ةوبنلا‬

‫أو نرجع إلى نظرتن�ا إلى األنبي�اء فنجد أنها نظرة غير واقعية ونظرة غير حقيقية‬
‫بسبب األخطاء الثقافية التي تلقين�اها فقدمت لنا األنبي�اء مجموعة من المساكين‬
‫الذين ال يعرفون كيف يتحركون‪ ،‬والذين ال يكادون يعرفون كيف يتكلمون‪[ ،،‬أجواد‬
‫أطياب مساكين هللا]‪ ،‬فلم يكن هناك ما يمكن أن يجعلنا نستلهم من حياتهم‪ ،‬ومن‬
‫أساليبهم‪ ،‬ومن حركتهم‪ ،‬ومن أعمالهم ومن مواقفهم الدروس المهمة‪ ..‬فإذا بن�ا‬
‫نعطل تلك اآليات الكثيرة‪ ،‬على الرغم من قول هللا لنا في كتابه الكريم أن في قصص‬
‫األنبي�اء تثبيت�ا لفؤاد نبي�ه‪.‬‬
‫رسول هللا (صلوات هللا عليه وعلى آله) الذي نؤمن بأنه سيد الرسل‪ ،‬كيف‬
‫نظرتن�ا إليه؟ ومن أين يمكن أن نتعرف على شخصيت�ه بالشكل الذي تمأل نفوسنا‬
‫حبا له‪ ،‬وشعورا بعظمته‪ ،‬وكمال نفسيت�ه‪ ،‬وكمال شخصيت�ه‪ ،‬وقدرته الهائلة‪ ،‬وذكائه‬
‫الكبير؟‪.‬‬
‫السير التي تحمل عنوان سيرة النبي (صلوات هللا عليه وعلى‬‫متى ما جئن�ا إلى ّ‬
‫آله) ثم نأتي فيتحدثون عن مولده ونب�ذة بسيطة من اإلرهاصات التي حصلت عند‬
‫مولده‪ ،‬ثم يب�دأ المؤلف‪ ،‬غزوة بدر‪ ،‬بعدها‪ ،‬غزوة أحد‪ ،‬بعدها‪ ،‬غزوات‪ ،‬غزوات‪.‬‬
‫يتحدث عن الغزوة كم عدد المسلمين‪ ،‬كم كان عدد الكافرين‪ ،‬ما الذي حدث أخيرا‪،‬‬
‫متى كانت ومتى انتهت‪ ،‬ثم ينتقل إلى غزوة أخرى‪ ،‬فنخرج من كتب السيرة ولدين�ا‬
‫معرفة بتواريخ أحداث‪ ،‬غزوة بدر‪ ،‬غزوة أحد‪ ،‬غزوة حنين‪ ،‬غزوة كذا إلى آخره‪ ،‬ولكن‬
‫أين هي شخصية محمد (صلوات هللا عليه وعلى آله) التي تعرفنا عليها من بين‬
‫ذلك الركام من كتب السيرة؟!‪ .‬بل نقرأ في كتب الكالم األساليب التي توجهنا إلى‬
‫كيف نعمل ونحن نستدل‪ ،‬ونحن نحتج‪ ،‬ونحن نن�اقش‪ ،‬ونحن نبحث‪ ،‬ونحن نجادل‬
‫اآلخرين‪ ،‬وحتى ونحن ندعو اآلخرين‪ ،‬وإذا بن�ا نرى أنفسنا بعيدين عن شخصيات‬
‫األنبي�اء‪ ،‬وعن أساليبهم بما فيهم سيدنا محمد (صلوات هللا عليه وعلى آله) (((‪.‬‬
‫***‬

‫((( ملزمة الهوية اإليماني�ة للشهيد القائد‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫بداية الطريق‬

‫أهل البيت عليهم السالم‬


‫�سنة اهلل في الهداية‪:‬‬
‫االرتب�اط بأهل بيت األنبي�اء عليهم السالم سنة إلهية منذ آدم عليه السالم‪،‬‬
‫ولكن قبل أن نتكلم عن آل محمد من المهم أن نتعرف على سنة هللا في الهداية‪،‬‬
‫َّ‬
‫ِفلله سبحانه وتعالى سنن وقوانين كوني�ة لتنظيم الكون‪ ،‬كقانون الجاذبي�ة وغيرها‬
‫من السنن والقوانين الفيزيائي�ة والطبيعية‪ ،‬وقد استفاد البشر كثيرا من هذه السنن‬
‫والقوانين‪ ،‬فقد شاهدوا الطير وتأملوا في القوانين والسنن التي تتحكم به وصنعوا‬
‫الطائرات‪ ،‬وشاهدوا قرون االستشعار الموجودة في الحشرات والحيوانات وقدرتها‬
‫ً‬
‫على استشعار الكائن�ات حراريا من مسافة بعيدة فصنعوا من خالل هذه المشاهدة‬
‫ُ‬
‫البشر ‪-‬من خالل‬ ‫الرادارات‪ ،‬وهكذا في بقية التأمالت والمشاهدات‪ ،‬استطاع‬
‫َ‬
‫القيام بثورة صناعية وتقني�ة‬ ‫االستفادة من هذه السنن الطبيعية والفيزيائي�ة‪-‬‬
‫والصعود للفضاء‪ ،‬ولكنهم فيما يتعلق بالسنن اإللهية المرتبطة بهداية وإرشاد‬
‫البشر حين تعاملوا معها برفض وجحود هبطوا وانحطوا في مجال القيم واألخالق‬
‫والمالحظ آليات القرآن الكريم يجد أن هللا سبحانه‬
‫ِ‬ ‫إلى تحت مستوى الحيوانات‪،‬‬
‫وتعالى عندما يذكر الكون يتحدث عن تدبيره للكون ثم ينتقل للحديث عن البشر‬
‫فيتحدث عن تدبيره لشؤون البشر‪ ،‬ولكن تدبير الكون وبقية المخلوقات يختلف عن‬
‫تدبير البشر‪ ،‬فالحيوانات مثال ال تحتاج إلى كتب وأنبي�اء وورثة كتاب‪ ،‬بينما اإلنسان‬
‫ُُ‬
‫يحتاج لتدبير هللا بهذا الشكل (كتب وقيادات)‪ ،‬ولرحمة هللا سبحانه وتعالى فهو‬
‫يجعل في المبادئ األساسية للدين ما يشهد له من واقع البشر‪ ،‬فحاجة البشر‬
‫لمنهج وقائد مسألة فطرية‪ ،‬وسنة هللا في الهداية غير بعيدة عن فطرة البشر وعن‬
‫نظام الحياة للمجتمعات البشرية من أوسع نطاق مجتمعي إلى أضيقه‪ ،‬فليس‬
‫هناك دولة إال ولها قائد ودستور‪ ،‬وليس هناك محافظة إال ولها محافظ وقانون‪،‬‬
‫ّ‬
‫وليس هناك قبيلة إال ولها شيخ وأعراف تنظم حياة القبيلة‪ ،‬فال بد من منهج وقائد‬
‫كقضية فطرية وواقع اليمكن تجاوزه‪ ،‬وهذه حجة كبيرة على البشر أنهم بحاجة إلى‬
‫منهج وقائد‪ ،‬وسنة هللا في الهداية ال تخرج عن هذه السنة الفطرية‪ ،‬وتؤكد أنه البد‬

‫‪90‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ُۡ‬ ‫َۡ‬‫َ َ َ‬
‫ۡم‬ ‫﴿وجعلنا مِنه‬ ‫من منهج وقائد‪ ،‬ولكن هللا هو من يهيئ القادة الهداة قال تعالى‪:‬‬
‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ ٰ َ ُ ُ َ‬ ‫ُۡ َ َ‬ ‫َ َّ ٗ َ‬
‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫ۖ‬
‫بايتِنا يوق ِنون‪[ ﴾٢٤‬السجدة‪﴿ ،]24 :‬تؤ ِت ٱلملك من‬
‫ُ‬ ‫أئِمة يهدون بِأم ِرنا لما صبوا وكنوا ِ ‍ٔ‬
‫ۡ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُۡ‬
‫يل﴾‬ ‫ۡ َ َّ َ َ ٓ ُ‬ ‫ََ ُٓ ََ ُ‬
‫تشاء وتزنِع ٱلملك مِمن تشاء﴾ [آل عمران‪َ ،]26 :‬وهو من يهيئ المنهج ﴿وع ٱللِ قصد ٱلسبِ ِ‬
‫َ َُّ َ‬ ‫ۡ َ ُ َ ّ َ َّ‬ ‫ۡ َ ّ‬ ‫َۡٓ َ‬
‫ۡم﴾‬ ‫ۡ‬
‫ل ِه‬ ‫اس ما ن ِزل إ ِ‬ ‫ي ل ِلن ِ‬ ‫َ َ‬
‫ۡينا للهد ٰى‪[ ﴾١٢‬الليل‪﴿ ]12 :‬وأنزلا إِلك ٱذلِكر ِلب ِ‬
‫َُۡ‬‫َّ َ َ َ َ‬
‫[النحل‪﴿ ]9 :‬إِن عل‬
‫ََ‬ ‫كتٰ َ‬‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ب﴾ [اإلسراء‪ ،]2 :‬فال بد من منهج يهيئ�ه هللا وعلم يهيئ�ه‬ ‫﴿وءَاتينا موس ٱل ِ‬ ‫[النحل‪َ ]44 :‬‬
‫هللا‪ ،‬وقد أوضح هللا سنت�ه هذه في كتابه الكريم من خالل التأمل في هذه اآليات قال‬
‫َۡ ُٗ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ّ َّٓ‬ ‫ۡ َٰ َ َ َ َ ُ‬ ‫َۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َََ‬
‫ِۡري ٖة مِن لِقائ ِ ِهۖۦ َوجعلنٰ ُه هدى‬ ‫ب فل تكن ِف م‬ ‫كت‬ ‫﴿ولقد ءَاتينا موس ٱل ِ‬ ‫تعالى‬
‫ۡ َ ٰٓ َ‬ ‫ّ‬
‫ن إِسرءِيل‪[ ﴾٢٣‬السجدة‪ ،]23 :‬فموسى هو القائد والكتاب هو المنهج‪ ،‬وبعد موت‬ ‫ِلَ ٓ‬
‫ِ‬
‫النبي ال بد من امتداد بشري بشكل قادة أعالم هداة يواصلون الدرب فال انقطاع‬
‫ۡ َ َ َّ َ َ ُ ۖ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ‬ ‫ُۡ َ َ‬ ‫ُۡ َ ٗ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َ َ َ‬
‫بايٰتِنا‬ ‫ۡم أئ ِ َّمة يهدون بِأم ِرنا لما صبوا وكنوا ِ ‍ٔ‬ ‫﴿وجعلنا مِنه‬ ‫لهذه السنة اإللهية‪،‬‬
‫ُ ُ َ‬
‫يوق ِنون‪[ ﴾٢٤‬السجدة‪.]24 :‬‬
‫من خالل هذه السنة اإللهية يتضح لنا أن هللا سبحانه وتعالى يهيئ لألمة أعالم‬
‫هداية في كل مرحلة حتى بعد األنبي�اء‪ ،‬ومن الخطأ االعتقاد أن بانقطاع الوحي ووفاة‬
‫األنبي�اء تنقطع صلة الخالق بالمخلوق‪ ،‬لقد أكد هللا في القرآن أنه سبحانه وتعالى ال‬
‫ۡلمۖ َو َما ُك َّنا َغآئب َ‬ ‫ۡ‬‫َ َ َ ُ َّ َّ َ َ‬
‫ني‪﴾٧‬‬ ‫ِِ‬ ‫يغيب عن قضايا الناس حتى البسيطة ﴿فلنقصن علي ِهم ب ِ ِع ٖ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ‬‫َ َ‬
‫ِۡن حب ِل ٱل َو ِري ِد‪[ ﴾١٦‬ق‪ ،]16 :‬والقرآن يؤكد قرب هللا من‬ ‫ل ِه م‬‫ۡ‬ ‫﴿ون ُن أقرب ِإ‬ ‫[األعراف‪]7 :‬‬

‫سطر هللا شهادته وتفهيمه‬ ‫عباده وأنه يرعاهم واليتركهم همال بدون راع‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫َلعلم من أعالم دين�ه في قضية عادية ليؤكد على قربه من عباده ورعايت�ه لهم‪ ،‬قال‬
‫ُ َّ‬ ‫َۡ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ََ َ‬ ‫ۡ‬ ‫كَ‬‫ۡ ُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡي َم ٰ َ‬ ‫ََ ُ َ َ ُ َ‬
‫ۡو ِم َوكنا‬‫ث إِذ نفشت فِي ِه غن ُم ٱلق‬ ‫ۡ‬
‫ان ِف ٱلَر ِ‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ذ‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫تعالى‪﴿ :‬وداوۥد وسل‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫َۡ‬ ‫َ‬ ‫َۡ َ ُ‬ ‫َ َ َّ‬
‫َ‬ ‫ۡم َ ٰ‬ ‫ۡ‬
‫ين‪ ٧٨‬ففهمنٰها سليم ٰ َنۚ َوك ءَاتينا حك ٗما َوعِل ٗماۚ﴾ [األنبي�اء‪ ،]79 - 78 :‬في‬ ‫ش ِه ِد‬ ‫ُِ‬
‫لك ِم ِه‬
‫لكن‬‫قضية غنم نفشت في مزرعة شخص وهي قضية فرعية كما يسميها العلماء‪ْ ،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫لم يترك هللا المسألة الجتهاد المجتهدين‪ّ ،‬‬
‫وفهم وارث الكتاب سليمان رغم أن النبي‬
‫في تلك المرحلة هو داوود‪ ،‬وكان سليمان في تلك المرحلة وارث كتاب‪ ،‬فاهلل يوحي‬
‫َُ‬
‫ويف ِّهم أعالم دين�ه‪ ،‬فإذا كان هللا لم َي ِغ ْب عنه قضية فرعية كهذه فهل‬ ‫إلى أنبي�ائه‬

‫‪91‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ستغيب عنه قضايا صراع بين األمة وبين اليهود والنصارى‪ ،‬وهل سيتركنا دون أن‬
‫َ‬
‫يهيئ لألمة عل ًما من أعالم دين�ه من آل رسول هللا كما هي سنت�ه في األمم السابقة‬
‫ۡ َ‬ ‫ُۡ َ َ‬ ‫ۡ َٰ ُ َ ٗ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ۡم أئ ِ َّمة يهدون بِأم ِرنا﴾‬ ‫﴿وجعلنه‬ ‫يكون محطة للتفهيم اإللهي والهداية بأمر هللا‬
‫[األنبي�اء‪ ،]73 :‬إذا كان هللا سبحانه وتعالى لم يغفل عن قضايا كمالية بالنسبة لإلنسان‪،‬‬
‫فجعل الفواكه بالشكل والطعم الذي يلبي حاجة ورغبة في نفسية االنسان بل وهيأ‬
‫له أدنى من ذلك‪ ،‬هل يمكن أن يغيب عن هللا تهيئ�ة القيادة التي يفهمها لهداية‬
‫األمة والبشرية وبالذات أن األمة في صراع مع العدو ومع عدو خطير وذكي كاليهود‬
‫والنصارى وغيرهم من فئات الكفر الذين من شدة خطورتهم كادوا أن يخدعوا رسول‬
‫ۡ ُ َّ‬ ‫َۡ َ‬ ‫ََ‬
‫﴿ولول فضل ٱللِ‬ ‫هللا صلى هللا عليه وآله لوال فضل هللا عليه ورحمته‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ۡ َ ُ ُّ َ َ َ ُ ُّ َ َّ ٓ َ ُ َ ُ‬ ‫ُۡ‬ ‫ۡ َ ُ ُ َ َ َّ َّ ٓ َ ‪ّ ٞ‬‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ َ‬
‫ۡم ۖ﴾ [النساء‪،]113 :‬‬‫ضلون إِل أنفسه‬ ‫ضلوك وما ي ِ‬ ‫عليك َو َرحتهۥ لهمت طائِفة مِنهم أن ي ِ‬
‫َۡٓ َ‬ ‫َ‬
‫ي ُه ۖۥ‬‫َۡ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َ َ‬
‫ت َي علينا غ‬
‫ۡ َ‬
‫ف‬
‫ۡ َ‬
‫ك ِلَ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫ي‬
‫ۡ َ‬
‫ح‬ ‫و‬ ‫ك َعن َّٱل ٓ‬
‫ِي أ‬
‫ۡ ُ َ َ‬
‫ون‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫وقال تعالى‪ِ﴿ :‬إَون َك ُدوا ْ َلَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٗ َّ َّ َ ُ َ َ ٗ‬
‫ِإَوذا لتخذوك خلِيل‪[ ﴾٧٣‬اإلسراء‪ ]73 :‬حاشا هلل أن يتركنا بال راع وقيادة يفهمها كيف‬
‫تواجه وكيف تربي األمة وتزكيها‪.‬‬
‫والتأمل في هذه اآلية أيضا يبين سنة هللا في الهداية‪:‬‬
‫ۡ َ‬‫ۡ َ ٰ َ َ ُ ُّ ُ َ‬ ‫ُ ُ ْ َ ٗ ّ َ َّ َ ُ ُ ْ‬ ‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ٓ ْ‬
‫كتب يردوكم بعد‬ ‫﴿يأيها ٱلِين ءامنوا إِن ت ِطيعوا ف ِريقا مِن ٱلِين أوتوا ٱل ِ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ ٰ ُ َّ َ ُ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ۡ َ َ َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ۡ ُ ُ َ ََ ُ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬
‫ك ٰ ِفر َ‬ ‫َ ُ‬
‫ين‪َ ١٠٠‬وكيف تكفرون وأنتم تتل عليكم ءايت ٱللِ وفِيكم‬
‫ٰ‬ ‫ِ‬ ‫إِيمٰنِكم‬
‫ََ‬
‫والعلم‪ ،‬وأنتم تتلى‬
‫ّ‬
‫ول ۗۥ﴾ [آل عمران‪ ،]101 - 100 :‬هذه اآلية تؤكد هذه السنة‪ :‬المنهج‬ ‫َر ُس ُ ُ‬
‫ََ‬
‫(العلم)‪ ،‬وهذا االستفهام االستنكاري‬ ‫عليكم آياته (المنهج)‪ ،‬وفيكم رسوله‬
‫“وكيف تكفرون” يؤكد بأنه حصلت حالة كفر((( والكتاب موجود والرسول موجود‬
‫بين أظهركم‪ ،‬فإذا حصلت حالة كفر والرسول موجود بينهم وهم في مواجهة يهود‬
‫عاديين‪ ،‬فكيف ستصنع هذه األمة وهي في مواجهة دول متطورة ويهود متطورين‬
‫َ‬
‫والرسول ليس موجودا؟ هل يمكن أن يتركنا هللا بغير َعلم من أعالم دين�ه يقوم مقام‬
‫رسول هللا ويجسد قيمه وسيرته ونحن في مواجهة يهود على أرقى مستوى من‬
‫((( حالة الكفر التي حصلت من مجتمع النبي األكرم صلى هللا عليه وآله وسلم أمثلتها في القرآن كثيرة منها هذه‬
‫ۡ َ ُ َ‬‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َُ‬ ‫َ َ َ َّ ُ‬
‫ۡ َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ ٰ ُ ُ‬
‫ع قلوب ِ ِهم فهم ل يفقهون‪[ ﴾٣‬المنافقون‪.]3 :‬‬ ‫اآلية ﴿ذٰل ِك بِأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبِع‬

‫‪92‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫الدهاء والخبرة؟ هذا ال يجوز على هللا وليس من عدل هللا الرحيم والحكيم‪.‬‬

‫معايير اختيار القائد الأعلى‬


‫بما أن سنة هللا في الهداية ال بد فيها من منهج وقائد‪ ،‬وهذه كآلية ال تختلف عن‬
‫بقية األنظمة البشرية التي تؤمن أيضا بضرورة وجود القائد والمنهج‪ ،‬بل هي فطرة‬
‫ً‬
‫بشرية كما ذكرنا‪ ،‬إذا ما هو الفارق بينن�ا وبينهم ما دامت اآللية واحدة؟ بالطبع الفارق‬
‫هو في معايير اختي�ار القائد األعلى وكذلك في مضامين المنهج‪ ،‬فمعايير اختي�ار‬
‫القائد األعلى تختلف بين نظام الوالية القرآني عن النظام الديموقراطي والملكي‬
‫ونظام الخالفة السني‪ ،‬فما هي المعايير في اختي�ار القائد األعلى في هذه األنظمة؟‬
‫ْ ْ‬
‫ولنقارنها بمعايير نظام الوالية القرآني‪ ،‬وسيتضح جليا لنا أي هذه األنظمة يستحق‬
‫أن يوصم بالمتخلف والكهنوتي واإلجرامي والمنحرف‪.‬‬
‫ْ ْ‬
‫ولنب�دأ بالنظام الديموقراطي والذي ال يشترط في معاييره غير التالي ‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يكون يمني الجنسية ومن أبوين يمنيين (أو مصري أو فرنسي بحسب‬
‫البلد)‪.‬‬
‫‪ -2‬أن ال يكون قد صدر بحقه حكم قضائي مخل بالشرف‪.‬‬
‫‪ -3‬أن ال يقل عمره عن أربعين سنة‪.‬‬
‫وطبعا هذه المعايير ال تحمي مقام القائد األعلى من أن يصل إليه الفاجر أو‬
‫السكير أو الجبان أو الذليل أو العاهر أو الكافر أو الديوث أو الرقاصة أو الشاذ أخالقيا‬
‫ما دامت انطبقت عليه المعايير وفاز في االنتخابات الرئاسية‪ ،‬بمعنى أن النظام‬
‫الديموقراطي ال يشترط فيمن يلي أمر األمة أن يكون على أساس مبدأ الكمال‬
‫ُ‬
‫الكثير من‬ ‫األخالقي واإليماني واإلنساني‪ ،‬ونتيجة هذا النظام صعد إلى الحكم‬
‫العرابي�د والمجرمين واالنتهازيين‪ ،‬وهناك ثغرات أخرى على النظام الديموقراطي‬
‫فيما يتعلق بعدد األصوات في الصناديق االنتخابي�ة والذي باإلمكان أن يسيطر‬
‫عليه من يمتلك الماكنات اإلعالمية الضخمة‪ ،‬أو من يمتلك اإلمكانات المالية‬
‫الكافية لشراء األصوات وغيرها من الثغرات الخطيرة‪ ،‬وفي الوقت الذي مازالت فيه‬

‫‪93‬‬
‫بداية الطريق‬

‫الشعوب العربي�ة مخدرة بالديموقراطية الغربي�ة‪ ،‬نجد أن الكثير من الشعوب الحرة‬


‫والمفكرين داخل الغرب وخارجه بدؤوا ينظرون للديموقراطية الغربي�ة كأكبر أكذوبة‬
‫في هذا القرن‪ ،‬فالدول الكبرى كأمريكا وبريطاني�ا تحكمها أسر معين�ة تسيطر على‬
‫الشركات الرأسمالية‪ ،‬واستطاعت هذه األسر الحاكمة إقناع الشعوب الغربي�ة أنها‬
‫تحكم نفسها بنفسها‪ ،‬وقد تحدث الصحفي األمريكي الشهير ريك وايل في القنوات‬
‫األمريكية بوضوح وكذلك السناتور األمريكي بول فندلي في مقابلته مع قناة الجزيرة‬
‫عن أن الحاكم الفعلي ألمريكا هي الصهيوني�ة واليهود‪....‬انتهى‪ ،‬وبالطبع ال يمكنك‬
‫انتقاد اليهود في أمريكا‪ ،‬بينما يمكنك انتقاد هللا بل وسبه والعياذ باهلل‪ ،‬وهذا دليل‬
‫كاف على أن الصهيوني�ة هي المسيطرة والمتحكمة بالبلد‪.‬‬
‫ننتقل اآلن إلى النظام الملكي والذي ال يشترط فيمن يلي أمر األمة إال التالي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يكون أحد أبن�اء الملك أو أحد أقاربه‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يكون قد وصل إلى سن معين‪.‬‬
‫‪ -3‬وغيرها من المعايير التي تختلف من بلد آلخر‪.‬‬
‫ونتيجة لهذا النظام صعد الكثير من الزعماء أمثال بن سلمان ووالده وبن زايد‬
‫ووالده وغيرهم ممن ال يمتكلون أدنى معايير أخالقية أو إيماني�ة أو حتى إنساني�ة‪،‬‬
‫ولكن حاله كحال النظام الديموقراطي له إيجابي�ات قليلة وسلبي�اته أكثر‪ ،‬إال أن من‬
‫إيجابي�اته أنه أكثر استقرارا من األنظمة الديموقراطية؛ ألن شخص القائد األعلى‬
‫ّ‬
‫من نطاق أسري محدد والبقية مسلمون لهذا التحديد‪ ،‬فالسعودية مثال وقطر أكثر‬
‫استقرارا من لبن�ان بلد الديموقراطيات العربي كما يسمونه‪ ،‬وال ّ‬
‫تمر على لبن�ان سنة‬
‫إال وهي مليئ�ة باألزمات السياسية‪ ،‬هذا على مستوى العالم العربي‪ ،‬أما على مستوى‬
‫العالم فالملكيات أيضا أكثر استقرارا‪ ،‬فبريطاني�ا والسويد واسباني�ا وهولندا و اليابان‬
‫َ‬ ‫َّ ْ‬
‫ملكيات‪ ،‬وكذلك أمريكا كما ذكرنا لكم تحكمها أسرة واحدة غلفت ملكيتها الرأسمالية‬
‫بالديموقراطية‪ ،‬والصين ال توجد فيها تعدديات سياسية بل حزب واحد وقائد واحد‬
‫وديموقراطية محدودة جدا جدا ضمن إطار الحزب الواحد والقائد الواحد‪ ،‬وروسيا ال‬
‫توجد فيها تعدديات بل قائد واحد على رأس البلد ‪-‬وهو بوتين حاليا‪ -‬وديموقراطية‬

‫‪94‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫َ‬
‫محدودة جدا ضمن إطار الحزب والقائد الواحد‪ ،‬وحدهم العرب من كانوا أكثر‬
‫انخداعا بالديموقراطية على الطريقة الغربي�ة‪ ،‬ومن دجنوا شعوبهم لثقافة الشرق‬
‫والغرب وابتعدوا عن القرآن الكريم كتاب ربهم والذي فيه نجاتهم وعزهم‪.‬‬
‫ننتقل اآلن إلى نظام الخالفة السني والذي هو أسوأ األنظمة وهذه معاييره الذي‬
‫يشترطها للقائد األعلى‪:‬‬
‫من الطبيعي أن يحكمك الفاجر القاتل المجرم بل لو ارتكب كل المحرمات‬
‫وحتى لو قتل ثلثي الشعب كما قال أحد علماء السعودية‪ ،‬وحتى لو زنى على الهواء‬
‫مباشرة والناس يشاهدونه من على الشاشات كما ذكر العالمة السعودي عبدالعزيز‬
‫الريس كبير ما يعرف بالتي�ار المدخلي السلفي في السعودية‪ ،‬أهم شرط هو أن ال‬
‫يعلن الكفر البواح‪ ،‬بمعنى أن يعلن خروجه عن ملة اإلسالم!!‪ ،‬وهذه أحد الروايات‬
‫التي توضح عقيدة أهل السنة في الموضوع ‪:‬‬
‫روى مسلم عن حذيفة أنه قال‪( :‬يكون بعدي أئمة ال يهتدون بهداي وال يستنون‬
‫بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسي) قلت‪( :‬كيف‬
‫أصنع يا رسول هللا إن أدركت ذلك؟)قال‪( :‬تسمع وتطيع لألمير وإن ضرب ظهرك‬
‫وأخذ مالك) (((‪.‬‬
‫وروى مسلم أيضا بوجوب طاعة أولي األمر «إال أن تروا كفرا بواحا) (((‪.‬‬
‫نأتي اآلن إلى معايير اختي�ار القائد األعلى في نظام الوالية القرآني‪:‬‬
‫وقبل ذكر المعايير يجب أن نعرف أن القائد األعلى في نظام الوالية القرآني هو‬
‫شخص النبي أو شخص وارث الكتاب‪ ،‬فما هي المعايير في اختي�ارهم؟‬
‫معايير اختي�ارهم تعتمد على مبدأ الكمال اإليماني واألخالقي واإلنساني فإن‬
‫جئت إلى تربيتهم منذ الصغر فهم خضعوا ألرقى تربي�ة‪ ،‬وإلى رعاية إلهية عجيب�ة‪،‬‬
‫ۡي ٓ‬‫ۡ َ َ َ َٰ َ‬ ‫ۡف ِس‪( ﴾ ٤١‬سورة طه‪ ،‬اآلية ‪َ )14‬‬ ‫ُۡ َ‬‫ۡ َ‬
‫ن‪( ﴾٣٩‬سورة طه‪ ،‬من اآلية‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ع‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ص‬ ‫﴿و ِلُ‬ ‫ك ِلَ‬ ‫﴿وٱص َطنعت‬
‫َ‬

‫((( مسلم كتاب اإلمارة‪/‬باب األمر بلزوم الجماعة‪.‬‬


‫((( مسلم ‪/‬باب وجوب طاعة األمراء في غير معصية‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ٰ‬
‫َ َ َ َ ٓ ٗ ََ‬
‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ّٗ َ َ َ‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َ ٗ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ََ‬
‫فاوى‪ ٦‬ووجدك ضٓال فهدى‪ ٧‬ووجدك عائِل فأغن‪﴾٨‬‬ ‫يدك يتِيما ‍ٔ‬ ‫‪﴿ )93‬ألم ِ‬
‫(سورة الضحى‪ ،‬اآليات ‪ ،)8 ،7 ،6‬وإن جئت إلى علمهم فهم كما قال هللا عن أحد ورثة الكتاب‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡلم َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ ٗ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ٱلس ِمۖ﴾ (سورة البقرة‪ ،‬من اآلية ‪ ،)742‬وإن جئت إلى رأفتهم‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ة‬ ‫﴿وزاد ُهۥ بسط‬
‫ۡم َحريصٌ‬ ‫ۡ َ َ ُّ‬ ‫ۡ َ ٌ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َ ُ‬ ‫ۡ َ ُ ‪ّ ٞ‬‬ ‫ۡ َ َٓ ُ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫يز‬ ‫ز‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫نف‬ ‫أ‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ول‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ء‬ ‫ا‬ ‫ج‬ ‫د‬ ‫ق‬ ‫ورحمتهم‪﴿ :‬ل‬
‫‪ٞ‬‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫ۡ ُ‬‫َ َ‬
‫يم‪( ﴾١٢٨‬سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪ ،)821‬وإن جئت إلى كرمهم فهم‬ ‫ح ‪ٞ‬‬ ‫عليكم بِٱلمؤ ِمنِني َر ُءوف َّر ِ‬
‫ۡ َ‬ ‫َ َ ٓ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ َ َ َ‬
‫َ‬ ‫كما قال هللا‪﴿ :‬فراغ إ ِ ٰٓ‬
‫ني‪( ﴾٢٦‬سورة الذاريات‪ ،‬اآلية ‪ ،)62‬وإن‬ ‫ل أهلِ ِهۦ فجاء ب ِ ِعج ٖل س ِم ٖ‬
‫َۡ‬‫َ َ َ‬
‫﴿وجعلنا‬ ‫جئت إلى يقينهم وصبرهم والتزامهم بأوامر هللا فهم كما قال هللا عنهم‬
‫ۡ َ َ َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ ٰ َ ُ ُ َ‬ ‫ُۡ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َّ ٗ‬‫ُۡ‬
‫بايتِنا يوق ِنون‪( ﴾٢٤‬سورة السجدة ‪ ،)42‬وهكذا‬ ‫مِنهم أئِمة يهدون بِأم ِرنا لما صب ۖوا وكنوا ِ ‍ٔ‬
‫لو تأملت في مزاياهم االجتماعية والنفسية واألخالقية ستجدهم على أرقى مستوى‬
‫في الكمال البشري‪ ،‬فهم بعيدون عن ما يشينهم اجتماعيا‪ ،‬فأنسابهم خير أنساب‪،‬‬
‫وأسرهم من أفضل األسر‪ ،‬وهم بعيدون عن النقص األخالقي فهم في قمة األخالق‬
‫والقيم‪ ،‬وهذا االختي�ار اإللهي وفق مبدأ الكمال األخالقي واإليماني واإلنساني يسميه‬
‫هللا في القرآن ‪ :‬باالصطفاء‪.‬‬

‫اال�صطفاء تكريم للب�شرية‬


‫ُ‬
‫غربة المثقفين العرب عن مفاهيم ومصطلحات القرآن وهزيمتهم أمام ثقافة‬
‫الغرب جعلهم يتقبلون التفسير والتشويه الغربي لمصطلحات ومفاهيم القرآن‪،‬‬
‫ومن بينها االصطفاء اإللهي والذي قرنه الغرب ودوائره االستعمارية بالعنصرية في‬
‫عقول المغفلين‪ ،‬وهذا قلب للحقيقة‪ ،‬وتشويه وباطل كبير‪.‬‬
‫فاالصطفاء اإللهي تكريم للبشرية‪ ،‬وهو اختي�ار وفق مبدأ الكمال االخالقي‬
‫واالنساني واإليماني‪ ،‬وهو اختي�ار مقترن بمسؤولية وليس اختي�ارا اعتب�اطيا‪،‬‬
‫والمسؤولية األساسية ‪-‬التي يتحرك ألجلها من اصطفاه هللا‪ -‬هي خدمة البشرية‪،‬‬
‫وتعبي�د الناس هلل رب العالمين‪.‬‬
‫ۡ َرٰه َ‬ ‫َ‬ ‫اد َم َونُ ٗ‬
‫ۡ َ َ ٰٓ َ َ‬
‫وهللا رب العالمين عندما يقول ﴿۞إ َّن َّ َ‬
‫ِيم‬ ‫وحا َوءَال إِب‬ ‫ٱلل ٱصطف ء‬ ‫ِ‬

‫‪96‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ۡ‬‫ۡ ُ َ ۢ َ‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫ۡٱل َعٰلَم َ‬ ‫ۡ َ ََ‬ ‫َ‬


‫ني‪ ٣٣‬ذ ّ ِريَۢة بعضها م‬
‫ِن بع ٖض﴾ (سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪ 33‬ومن اآلية ‪،)43‬‬ ‫ِ‬ ‫َوءَال عِم َرٰن ع‬
‫هو يؤكد هذه الحقيقة التي ذكرناها‪.‬‬
‫ۡ ُ‬‫ۡ َ َ َ‬ ‫وقال هللا ﴿إ َّن َّ َ‬
‫ۡم﴾ (سورة البقرة‪ ،‬من اآلية ‪ )742‬أي اصطفاه عليكم‬ ‫ٱلل ٱص َطفى ٰ ُه عليك‬ ‫ِ‬
‫من أجلكم ولمصلحتكم وليس ضدكم‪.‬‬
‫«إن هللا اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم»‬
‫(سورة البقرة‪ ،‬من اآلية ‪)247‬‬
‫َّ‬
‫المميزات التي لديه ليست مميزات مردودها شخصي‪ ،‬بل كلها ستنعكس وتوظف‬
‫لصالحكم في خدمتكم‪.‬‬
‫هللا رب العالمين عندما اصطفى النبي محمدا صلى هللا عليه وعلى وآله وسلم‬
‫بهذه المميزات وهذا الكمال البشري واألخالقي في حكمته وفي علمه ورحمته‪ ،‬هل‬
‫في هذا االصطفاء وهذه المعايير إهانة للبشرية أم تكريم للبشرية؟ بالتأكيد تكريم‬
‫للبشرية‪ ،‬ولتوضيح المسألة أكثر نضرب هذا المثل؛ فعندما يتم اختي�ار رئيس‬
‫للجمهورية بمواصفات سيئ�ة هذا يعني أن من اختار هذا الرئيس ال يحترم الشعب‬
‫وال يكرمه‪ ،‬وألن هللا يكرمنا يصطفي لنا األنبي�اء وورثة الكتاب على أرقى مستوى في‬
‫مواصفات كمالهم‪.‬‬
‫حتي في الجانب النسائي هناك قدوات ونماذج يصطفيها هللا سبحانه وتعالى‬
‫َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َ َ‬
‫ك َ ٰ‬
‫ع‬
‫َ َّ‬
‫ك َوطه َركِ َوٱصطفى ٰ ِ‬
‫ۡ َ َّ َّ َ‬ ‫َ َ‬
‫لتقتدي بها النساء وتلتف حولها‪﴿ ،‬يٰمري ُم إِن ٱلل ٱصطفى ٰ ِ‬
‫ني‪( ﴾٤٢‬سورة آل عمران‪ ،‬من اآلية ‪ ،)24‬فاإلنسان بطبيعته مفطور على االقتداء‬ ‫ۡٱل َعٰلَم َ‬ ‫َ ٓ‬
‫ن ِساءِ‬
‫ِ‬
‫والمحاكاة‪ ،‬فبدال من أن تقتدي النساء بنماذج ملطخة بعار الرذيلة والخالعة‪،‬‬
‫يصطفي هللا لهن نساء كالزهراء عليها السالم ومريم وغيرهن‪.‬‬
‫واالصطفاء عادة ما يكون مقترنا بالتفضيل‪ ،‬والتفضيل ذكره هللا في آيات كثيرة‬
‫َ‬ ‫َۡ َ‬ ‫ۡ َ َّ‬ ‫َََ‬
‫ۡ‬
‫ع َبع ٖ ۖ‬
‫ض﴾ (سورة اإلسراء‪ ،‬من اآلية ‪)55‬‬ ‫ي َۧن َ ٰ‬ ‫َّ ّ‬
‫ٱنلبِ ِ ‍‬
‫ۡ َ‬
‫﴿ولقد فضلنا بعض‬ ‫في القرآن الكريم‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ۡم ع ٱل َعٰلم َ‬‫َ‬ ‫ۡ‬
‫َّ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫َّ‬
‫ۡ َ َ ٓ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ ٰٓ َ‬ ‫َ‬
‫ني‪﴾٤٧‬‬ ‫ِ‬ ‫ۡم َوأ ِن فضلتك‬ ‫ت أنعمت عليك‬ ‫ٱل‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ِع‬ ‫ن‬ ‫وا‬ ‫ِيل ٱذك ُ‬
‫ر‬ ‫﴿ي ٰ َب ٓ‬
‫ن إِسرء‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫(سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪( ،)74‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪« ،)221‬الرجال قوامون على النساء بما فضل هللا‬
‫َ َّ ُ َ َّ َ‬
‫ٱلل فضل‬ ‫بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم» (سورة النساء‪ ،‬من اآلية ‪﴿ )43‬و‬

‫‪97‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡ‬ ‫ۡعض ف ّ‬ ‫ۡ َ َٰ َ‬ ‫ۡ َ ُ‬‫َ‬


‫ٱلرز ِقۚ﴾ (سورة النحل‪ ،‬اآلية ‪ ،)17‬والتفضيل ليس عنصرية كما يروج‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٖ‬ ‫ب‬ ‫بعضكم ع‬
‫البعض‪ ،‬بل التفضيل مسألة فطرية وواقع بشري ال يمكن تجاوزه‪ ،‬فاهلل سبحانه‬
‫البشر بمواهب مشتركة‪ ،‬وفاضل بينهم في مواهب أخرى‪ ،‬فمثال هناك‬ ‫َ‬ ‫وتعالى ّ‬
‫عم‬
‫فوارق فردية بين األفراد؛ البعض لديه قدرات ذهني�ة‪ ،‬والبعض شعرية‪ ،‬والبعض‬
‫مكتبي�ة‪ ،‬والبعض هندسية‪ ،‬والبعض اقتصادية‪ ،‬والبعض بدني�ة وهكذا‪ ،‬وهذه‬
‫الفوارق ال بد منها ليتكامل البشر بعضهم ببعض فليست اعتب�اطية‪ ،‬وإنما مقترنة‬
‫بمسؤولية‪ ،‬فال داعي ألن يحسد بعضنا بعضا‪ ،‬فما فضلك هللا به مردوده سيكون‬
‫إيجابي�ا ولصالحي‪ ،‬وما فضلني هللا به أيضا سيكون مردوده إيجابي�ا ولصالحك‪ ،‬ما‬
‫دمت أنا وأنت نتحرك كفريق واحد ضمن إطار أمة واحدة ونهج واحد وقيادة واحدة‪،‬‬
‫وهكذا الحال في المحافظات‪ ،‬فهناك محافظات ألبن�ائها قدرات ذهني�ة وتثقيفية‬
‫أكثر من غيرهم‪ ،‬وهناك محافظات ألهلها قدرات اقتصادية أكثر من غيرهم‪ ،‬وهناك‬
‫محافظات ألبن�ائها شجاعة وكرم ونخوة أكثر من غيرهم‪ ،‬وهذا فضل من هللا فال داعي‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ألن نعيش حالة الحسد تجاههم‪ ،‬ولكن فلنوظف هذا الفضل فيما يخدم المجموع‪.‬‬
‫حتى على مستوى الشعوب‪ ،‬تجد مثال كل شعب من شعوب العالم يتميز عن‬
‫غيره بمميزات‪ ،‬هذه المميزات هي ما نعني�ه بالفضل والتفضيل الذي أراد هللا أن‬
‫يقترن بمسؤولية جماعية‪ ،‬فلو أن اإلسالم انتصر واستقامت األمور بعد رسول هللا‬
‫كما أراد هللا‪ ،‬لكان اإلسالم العظيم قادرا على توظيف كل هذا المميزات الموجودة‬
‫لدى الشعوب في اتجاه تكاملي ال تصادمي‪.‬‬
‫وعندما نتحدث عن تفضيل أهل بيت األنبي�اء فهو في نفس السياق السابق‬
‫ضمن إطار مسؤولية‪ ،‬فأهل البيت عليهم السالم هم أقدر الناس على قيادة البشرية‬
‫على أساس كتاب هللا‪ ،‬وهم أقدر الناس على هداية البشرية؛ ألن هللا فضلهم بوراثة‬
‫الكتاب وغيرها من المؤهالت الالزمة لتحمل هذه المسؤولية‪ ،‬كما ّ‬
‫حمل سابقا بني‬
‫ۡ َ َ َ ُ ُ ّ َ ََ‬ ‫ن إ َّن َّ َ‬ ‫ُۡ ُ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ َٰ ُ َ‬ ‫َ َ َّ ٰ َ ٓ‬
‫ِين فل‬ ‫ف لكم ٱدل‬‫ٱلل ٱصط ٰ‬ ‫هۧم بنِي ِه ويعقوب يٰب ِ َّ ِ‬ ‫ص بِها إِبر ِ ‍‬ ‫إسرائي�ل ﴿وو‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َ ُ ُ َّ َّ َ َ ُ ُّ‬
‫تموتن إِل وأنتم مسلِمون‪( ﴾١٣٢‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.)231‬‬

‫‪98‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫دوائر اال�صطفاء‬
‫البعض من مرتزقة تحالف العدوان يعتبر أن االصطفاء اإللهي ألهل البيت‬
‫عليهم السالم واختي�ار أعالم لألمة من دائرتهم يعتبر عنصرية‪ ،‬وتارة يتحدثون عن‬
‫الموضوع تحت عنوان الحصر في البطنين والساللية‪ ،‬وإليكم الجواب‪:‬‬
‫•أن المرتزقة يتحركون كأدوات تحت راية آل سعود وآل نهيان وهم أنظمة‬
‫ساللية فلماذا يفتخرون بأن يكونوا أدوات لهذه السالالت العميلة‪،‬‬
‫ويتحاشون االنضواء تحت راية أعالم الهدى من أهل بيت رسول هللا؟‬
‫إن الدافع لهم لهذه الخطوة هو العمى والضالل والحسد وليس كراهية‬
‫الساللية كما يريدون إيهام البسطاء به‪.‬‬
‫•الحصر العرقي والجغرافي متعارف عليه في كل النظم‪ ،‬ويمارس عمليا في‬
‫معظم الدول‪ ،‬والفارق بينن�ا وبينهم أن حصرهم عرقي جغرافي بحت ال قيمة‬
‫فيه لمبدأ الكمال‪ ،‬بينما الحصر في منهج أهل البيت يعتمد أساسا على‬
‫مبدأ الكمال األخالقي واإليماني واإلنساني‪.‬‬
‫•فاألحزاب الوطني�ة تشترط الحصر العرقي والجغرافي‪ ،‬فمثال من سيلي‬
‫رئاسة الجمهوية في اليمن (أن يكون يمني الجنسية ومن أبوين يمنيين وأن‬
‫يكون يمني األصل غير متجنس و أن ال يكون متزوجا بأجنبي�ة) وهكذا تجد‬
‫الموضوع‪ ،‬فلو أن هناك مصريا جديرا وإداريا ومؤمنا في اليمن ولو عاش‬
‫فيها فترة طويلة ال يحق له بحسب القانون أن يترشح للرئاسة‪ ،‬أليس هذا‬
‫حصرا عرقيا وجغرافيا؟‬
‫•واألحزاب القومية تشترط في رئيس الجمهورية أن يكون من نفس العرقية‬
‫التي تنتمي لها األحزاب‪ ،‬فالقوميون العرب يشترطون العروبة واألتراك‬
‫يشترطون التتريك والفرس يشترطون العرق الفارسي كذلك وهكذا‪ ،‬أليس‬
‫هذا حصرا عرقيا؟‪.‬‬
‫•المرتزقة من أبن�اء حزب اإلفساد ال يحق لهم الحديث حول الحصر في‬
‫البطنين؛ ألن جميع المذاهب السني�ة تحصر الخالفة في البطن القرشي‬

‫‪99‬‬
‫بداية الطريق‬

‫باستثن�اء الحنفية‪ ،‬كما أن النووي في شرحه لصحيح مسلم يقول بأن‬


‫إجماع الصحابة على أن األئمة من قريش‪ ،‬كما أن أبا بكر وعمر في صحيح‬
‫البخاري قالوا بأن األئمة من قريش عندما تحاججوا هم واألنصار‪ ،‬وقد‬
‫تكلم الماوردي في كتابه األحكام السلطاني�ة عن أن إجماع أهل السنة على‬
‫أن األئمة من قريش‪ ،‬فلماذا عندما تحصر المذاهب السني�ة والصحابة‬
‫الخالفة عرقيا ‪-‬وحتى بدون مواصفات كمال‪ -‬ال يسمون حصرهم هذا‬
‫ساللية وعنصرية‪ ،‬بينما عندما يتحدث أعالم الهدى عن االصطفاء ضمن‬
‫دائرة أهل البيت عليهم السالم وبمواصفات تعتمد على مبدأ الكمال‬
‫يعتبرون ذلك عنصرية؟ هذا هو التن�اقض والعصبي�ة المقيت�ة‪.‬‬
‫•المشروع القرآني ال يشترط في من يلي رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء‬
‫أن يكون من نسل آل البيت‪ ،‬فموضوع والية أمر األمة ليس كرئاسة‬
‫الجمهورية‪ ،‬فعلم الهداية مهمته هي‪ :‬والية أمر المسلمين جميعا وليس‬
‫مجرد رقعة جغرافية محددة‪ ،‬ومن المعيب أن نؤمن بالحصر العرقي‬
‫لرئيس الجمهورية ونرفض اختي�ار هللا واصطفائه لعلم الهداية وولي أمر‬
‫المسلمين من دائرة أهل البيت‪ ،‬هل أنن�ا نحن من نملك السموات واألرض‬
‫ُۡ‬
‫ۡ َ َّ َ َ ٓ ُ‬
‫زنع ٱلملك مِمن تشاء﴾ (سورة آل‬
‫ۡ َ َ ََ ُٓ ََ ُ‬
‫ت‬ ‫و‬ ‫ء‬ ‫ا‬ ‫ش‬ ‫ت‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬‫م‬‫ُۡ‬
‫ٱل‬ ‫ت‬
‫ُ‬
‫ۡ‬
‫ِ‬ ‫أم هللا سبحانه ﴿ت ِ‬
‫ؤ‬
‫عمران‪ ،‬من اآلية ‪.)62‬‬
‫•وفي األخير ال يهمنا ضالل المضلين وفلسفة المتفلسفين مادام اختي ُ�ار هللا‬
‫ً‬
‫من دوائر اصطفاء معين�ة سنة إلهية منذ أبين�ا آدم‪ ،‬فالقرآن أولى بأن ُيتبع‪،‬‬
‫وهنا سنتحدث عن دوائر االصطفاء عبر التاريخ‪:‬‬
‫منذ آدم عليه السالم واالصطفاء هو سنة هللا في اختي�ار األنبي�اء وورثة الكتاب‬
‫من ذرية األنبي�اء‪ ،‬فبعد نبي هللا آدم مرت قرون طويلة وتم اختي�ار نبي هللا نوح وبعد‬
‫نبي هللا نوح لم يتخذ هللا نبي�ا وال وارث كتاب إال من دائرة نوح وذريت�ه رغم أنه كان‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬‫ۡ ُ َ َ َ َ َّ ُّ ُ ُ‬‫َ َّ َ َ ٓ َ‬
‫ور قلنا ٱحِل فِيها مِن‬ ‫ت إِذا جاءَ أمرنا وفار ٱتلن‬
‫هناك ذرية أخرى من غير نسله ﴿ح ٰٓ‬
‫َ ٓ َ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َۡ ُ َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ َ َّ َ َ َ َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُّ َ‬
‫ۡ َ‬
‫ۡن ءَام َنۚ َوما ءَام َن مع ُهۥٓ إِل‬ ‫ي َوأهلك إِل من س َبق علي ِه ٱلق‬
‫ۡول َوم‬ ‫ي ٱثن ِ‬
‫ك زوج ِ‬
‫ٖ‬

‫‪100‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫َ ‪ٞ‬‬
‫قلِيل‪( ﴾٤٠‬سورة هود‪ ،‬من اآلية ‪ ،)04‬هذه اآلية تثبت أن من نجى من البشر هم من ذرية نوح‬
‫ومن غير ذريت�ه من قومه‪ ،‬هذا على قول من يؤمن بأن الطوفان غمر الكرة األرضية‬
‫بكلها‪ ،‬أما على قول من يؤمن بأنها لم تغمر سوى قوم نوح فهناك ذرية أخرى من غير‬
‫قومه‪ ،‬ورغم أن الموجودين من ذريات وأقوام متعددة‪ ،‬لكن هللا سبحانه وتعالى‬
‫ِني‪( ﴾٧٧‬سورة الصافات‪ ،‬اآلية ‪ )77‬أي ذرية نوح‪ ،‬وبالطبع‬ ‫ۡٱلَاق َ‬ ‫ۡ َ ُ َّ َ ُ‬
‫﴿وجعلنا ذ ّ ِريت ُهۥ ه ُم‬
‫َ َ َ‬
‫قال‪:‬‬
‫المقصود هنا بالبقاء‪ :‬بقاء الحق في ذريت�ه فاألنبي�اء وورثة الكتاب منهم‪ ،‬قال هللا‬
‫ُۡ‬ ‫ۡ َٰ َ َ‬ ‫ُ ّ َّ َ ُّ ُ َّ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ َٰ َ َ َ َ‬ ‫ٗ‬ ‫َۡ ُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َََ‬
‫كتب ۖ ف ِمنهم‬ ‫َ‬
‫﴿ولقد أرسلنا نوحا ِإَوبرهِيم وجعلنا ِف ذ ِريتِ ِهما ٱنلبوة وٱل ِ‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُۡ‬‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َۡ‬ ‫ُّ‬
‫ۡم ف ٰ ِسقون‪( ﴾٢٦‬سورة الحديد‪ ،‬اآلية ‪ )62‬فلن ترجع البشرية للحق الذي‬ ‫مهت ٖدۖ َوكثِري ‪ ٞ‬مِنه‬
‫َ‬
‫يريد هللا إال َبعلم هداية من ذرية نوح عليه السالم‪ ،‬مرت بعدها قرون كثيرة كان الحق‬
‫ً‬
‫موجودا في ذريه نوح عليه السالم‪ ،‬إلى أن جاءت مرحلة جديدة وهي مرحلة نبي هللا‬
‫ۡ‬ ‫ۡ ُ َ ۢ َ‬ ‫ُ َّ َ‬
‫ض﴾ (سورة‬ ‫ِن بع ٖ‬ ‫إبراهيم عليه السالم واألنبي�اء كما قال هللا عنهم ﴿ذ ّ ِريَۢة بعضها م‬
‫آل عمران‪ ،‬من اآلية ‪ ،)43‬فنبي هللا إبراهيم هو من ذرية نوح عليه السالم‪ ،‬ومع ذلك اختار‬
‫هللا إبراهيم من دائرة نوح واختار ذريت�ه كدائرة يختار منها األنبي�اء وورثة الكتاب‪ ،‬قال‬
‫ۡ َ ََ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َرٰه َ‬ ‫َ‬ ‫اد َم َونُ ٗ‬ ‫ۡ َ َ ٰٓ َ َ‬ ‫هللا في القرآن الكريم ﴿۞إ َّن َّ َ‬
‫ِيم َوءَال عِم َرٰن ع‬ ‫وحا َوءَال إِب‬ ‫ٱلل ٱصطف ء‬ ‫ِ‬
‫َۡ‬ ‫ََ‬
‫ِن بع ٖضۗ﴾ (سورة آل عمران‪ ،‬من اآلية ‪ ،)43‬وقال هللا تعالى‪﴿ :‬ولقد‬
‫ۡ‬ ‫ۡ ُ َ ۢ َ‬ ‫ُ َّ َ‬
‫ني‪ ٣٣‬ذ ّ ِريَۢة بعضها م‬ ‫ۡٱل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ َّ َ ُّ ُ َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬
‫ۡ َٰ َ َ َ َ َ‬ ‫ٗ‬ ‫ُ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬
‫كتب﴾ (سورة الحديد‪ ،‬من اآلية ‪)62‬‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫أرسلنا نوحا ِإَوبرهِيم وجعلنا ِف ذ ِريتِ ِهما ٱنلبوة وٱل ِ‬
‫َ‬
‫ۡ َ ٰ ُ‬ ‫َ‬ ‫ن إ َّن َّ َ‬ ‫ۡع ُق ُ‬ ‫َ َ َّ ٰ َ ٓ‬
‫ك ُم ّ‬
‫ٱدل َ‬
‫ِين‬ ‫ٱلل ٱصطف ل‬ ‫ِ‬ ‫وب َي ٰ َب َّ‬ ‫ي‬
‫ََ‬
‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ن‬
‫ۡ َٰ ُ َ‬
‫ب‬ ‫ۧم‬ ‫‍‬
‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬ووص بِها‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ۡ ُ ُ َ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َّ َّ َ َ ُ ُّ‬
‫فل تموتن إِل وأنتم مسلِمون‪( ﴾١٣٢‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪ ،)231‬وقال تعالى ﴿أم يسدون‬
‫ۡ ََ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡٓ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ع َما ٓ ءَاتَى ٰ ُه ُم َّ ُ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ب َوٱل ِكمة‬ ‫ك َتٰ َ‬ ‫ِيم ٱل ِ‬ ‫ۡ َرٰه َ‬ ‫ۡ َ‬
‫ٱلل مِن فضلِ ِهۖۦ فقد ءَاتينا ءَال إِب‬
‫ۡ‬ ‫اس َ ٰ‬ ‫ٱنل‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ۡ‬
‫ۡينٰ ُهم ُّملك عظ ٗ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يما‪( ﴾٥٤‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.)45‬‬ ‫ِ‬ ‫َوءَات‬
‫وكذلك إبراهيم عليه السالم استمر بقاء الحق في ذريت�ه كما حصل مع نوح‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َّ َ ٓ ّ َ‬ ‫ََ‬ ‫َۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ َ‬
‫ۡو ِم ِه ٓۦ إِن ِن ب َراء ‪ ٞ‬م َِّما تع ُبدون‪٢٦‬‬ ‫ِيم ِلبِي ِه وق‬ ‫عليه السالم قال تعالى‪ِ﴿ :‬إَوذ قال إِبرٰه‬
‫َ َ َ ََ َ َ َ َٗ‬
‫ين‪ ٢٧‬وجعلها كِمَۢة باقِية﴾ (سورة الزخرف‪ ،‬اآليات ‪)82 ،72 ،62‬‬ ‫د‬ ‫ه‬
‫ۡ‬‫إ َّل َّٱلِي َف َط َرن َفإنَّ ُهۥ َس َ‬
‫ي‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ريتهۥ هم ٱلاقِني‪( ٧٧‬سورة الصافات‪،‬‬ ‫الحظوا كيف قال في حق نبي هللا نوح ﴿وجعلنا ذ ِ‬
‫‪101‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ‬‫َ َ َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ٗ‬ ‫َ َ َََ َ‬


‫جعون‪( ﴾٢٨‬سورة الزخرف‪،‬‬
‫ير ِ‬‫﴿وجعلها ك ِ َمَۢة باق َِية ِف ع ِقبِ ِهۦ لعلهم‬ ‫اآلية ‪ ،)77‬وهنا قال‬
‫اآلية ‪ ،)82‬قال اإلمام زيد عليه السالم في كتابه الصفوة‪“ :‬فلم يرجع أحد من األمة إلى‬
‫الحق بعد إبراهيم إال بذرية إبراهيم»‪.‬‬
‫بعد أن اصطفى هللا إبراهيم وآل إبراهيم‪ ،‬اختار من هذه الدائرة الواسعة بني‬
‫ۡ َ‬ ‫﴿ي ٰ َب ٓ‬ ‫َ‬
‫ن إِس َرٰٓءِيل‬ ‫ِ‬ ‫إسرائي�ل الذين هم ذرية نبي هللا يعقوب حفيد نبي هللا إبراهيم‪،‬‬
‫َ‬ ‫ۡ َٰ َ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫ُۡ ُ‬ ‫ۡ َ َ ّ َ َّ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ۡ ُ َ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ َ َّ َ‬
‫ت ٱل ٓ‬‫َ‬ ‫ۡ ُُ ْ‬
‫ت أنعمت عليكم وأ ِن فضلتكم ع ٱلعل ِمني‪ ،﴾٤٧‬ثم اختار من‬ ‫ِ ِ‬ ‫م‬ ‫ِع‬ ‫ن‬ ‫ٱذكروا‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪ٞ‬‬
‫﴿وبَ ِق َّية ّم َِّما ت َر َك ءَال ُم َ ٰ‬
‫وس َوءَال هٰ ُرون﴾‪ ،‬وكانت‬ ‫دائرة بني إسرائي�ل دوائر متعددة‪َ ،‬‬
‫آخر دوائر بني إسرائي�ل‪ :‬هي دائرة آل عمران‪ ،‬والتي منها يحيى وزكريا ومريم وابنها‬
‫ۡ َ ُ َ َ َ ٰ َّ َّ َ ٓ َّ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ َ َٰ َ‬ ‫ۡ َٰ َ ٓ‬ ‫ۡ َ ُ َّ ُ َ ٓ َ َ‬
‫ت من نشا ُء ۗ إِن َربك‬ ‫ٖ‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ف‬‫ر‬ ‫ن‬ ‫ۦ‬‫ۚ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ع‬ ‫ِيم‬ ‫ه‬ ‫ٰ‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫ات‬ ‫﴿وت ِلك حجتنا ء‬ ‫عيسى‪َ ،‬‬
‫ۡ َ ََ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َرٰه َ‬ ‫َ‬ ‫اد َم َونُ ٗ‬ ‫ۡ َ َ ٰٓ َ َ‬ ‫يم‪۞﴿ ،،﴾٨٣‬إ َّن َّ َ‬ ‫يم َعلِ ‪ٞ‬‬ ‫َ‬
‫ِيم َوءَال عِم َرٰن ع‬ ‫وحا َوءَال إِب‬ ‫ٱلل ٱصطف ء‬ ‫ِ‬
‫ك ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫ِن بع ٖضۗ﴾‪ ،‬وقد اعتبر هللا سبحانه وتعالى عيسى عليه‬
‫ۡ‬ ‫ۡ ُ َ ۢ َ‬ ‫ُ َّ َ‬
‫ني‪ ٣٣‬ذ ّ ِريَۢة بعضها م‬ ‫ۡٱل َعٰلَم َ‬
‫ِ‬
‫السالم من ذرية إبراهيم ونوح عليهما السالم من جهة أمه مريم رغم أنه من غير أب‬
‫َ ُ َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ُۡ‬ ‫َ‬ ‫َۡ‬ ‫َۡ ُ ً َ َ‬ ‫ۡ ُ َ ُ ًّ َ َ‬ ‫ۡ َ َ َ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َ َ‬
‫اوۥد‬ ‫وبۚ ك هديناۚ َونوحا هدينا مِن قبل ۖ َومِن ذ ّ ِريتِ ِهۦ د‬ ‫﴿و َوهبنا ُلۥٓ إِسحٰق َويعق‬
‫َ َ َّ‬ ‫ُۡ‬ ‫ۡ َ َ َ َ ُّ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ‬
‫ني‪َ ٨٤‬وزك ِريا‬ ‫ۡحسن َ‬ ‫ۡ‬ ‫ٰ‬ ‫ٰ‬ ‫ٰ‬ ‫َ ُ َ ٰ‬
‫ِ ِ‬ ‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫وسليمن وأيوب ويوسف ‪ٞ‬وموس وهرونۚ وكذل ِك ِ‬
‫ن‬
‫ٱلصٰلح َ‬ ‫ۡ َ َ ُ ّ ّ َ َّ‬ ‫ي َوع َ ٰ‬ ‫ۡح َ ٰ‬ ‫َ‬
‫ني‪ ،﴾٨٥‬وهذا هو الحال بالنسبة للحسن‬ ‫ِ ِ‬ ‫اس ك مِن‬ ‫ِيس ِإَول ۖ‬ ‫َوي‬
‫والحسين عليهما السالم فهما من ذرية رسول هللا محمد من جهة ابنت�ه فاطمة‬
‫الزهراء عليها السالم‪.‬‬
‫بعد أن فسق معظم بني إسرائي�ل سلب هللا منهم الفضل ونقله إلى بني‬
‫إسماعيل‪ ،‬وأصبح اختي�ار دوائر اإلصطفاء من بني إسماعيل وليس من بني إسرائي�ل‪،‬‬
‫وهذه الذرية المباركة سبق وأن أسكنها إبراهيم عليه السالم في مكة المكرمة‪،‬‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫َ َ‬ ‫ُ ّ َّ‬ ‫ۡ َ ُ‬ ‫َّ َّ َ ٓ ّ َ‬
‫ۡر ٍع عِند بيتِك ٱل ُمح َّر ِم‬ ‫ي ذِي ز‬‫ِ‬ ‫غ‬ ‫د‬
‫ٍ‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ب‬
‫ِ ِ ِ‬‫ت‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫ذ‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫نت‬ ‫ك‬ ‫س‬ ‫نأ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬ربنا إ ِ ٓ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬
‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َّ َ ُ ُ ْ َّ َ ٰ َ َ‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫اس ته ِوي إِل ِهم وٱرزقهم مِن ٱثلمر ٰ ِ‬ ‫ٓ‬ ‫فِدة مِن ٱنل ِ‬ ‫ربنا ِل ِقيموا ٱلصلوة فٱجعل أ ‍ٔ‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َ َ َّ ُ َ‬
‫ۡم يشك ُرون‪[﴾٣٧‬إبراهيم‪ ،]37 :‬وهذه الذرية هي ذرية إبراهيم من ابن�ه إسماعيل‬ ‫لعله‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ٓ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ ُ َّ َ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ُ‬‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ت ِإَوسم ٰ ِعيل َربنا تق َّبل مِنا ۖ إِنك‬ ‫ه ُۧم ٱلقواعِد م َِن ٱلَي ِ‬ ‫ۡرفع إِب َر ٰ ِ ‍‬ ‫عليه السالم ﴿ِإَوذ ي‬
‫‪102‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ۡ َ ٗ َّ َ‬ ‫ُ ّ َّ َ ٓ ُ َّ ٗ ُّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ ُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َۡ‬ ‫َ َ َّ ُ‬


‫ي لك ومِن ذ ِريتِنا أمة مسلِمة لك‬ ‫أ َنت ٱلس ِميع ٱلعلِيم‪ ١٢٧‬ربنا وٱج َعلنا مسلِم ِ‬
‫ۡ َ ُ ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫يم‪َ ١٢٨‬ر َّب َنا َ‬ ‫ح ُ‬ ‫اب َّ‬ ‫نت ٱتلَّ َّو ُ‬‫ۡ َ ٓ َّ َ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ َ ََ ََ َُ‬
‫ِيهم رسول‬ ‫َ ِ‬ ‫ف‬ ‫ث‬ ‫ع‬ ‫ٱب‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ٱلر‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ۖ‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫وأ ِرنا منا ِسكنا وت‬
‫ۡ‬
‫نت ٱل َعز ُ‬
‫ۡ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫ب َوٱل ِك َمة َو ُي َ‬ ‫َ‬
‫كتٰ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬
‫ك َو ُي َعلِ ُم ُه ُ‬ ‫ۡ َ َٰ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُۡ ْ َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُۡ‬‫ّ‬
‫يز‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ۖ‬ ‫م‬ ‫ِيه‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ز‬ ‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫اي‬ ‫ء‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫مِنهم يتلوا عل ِ‬
‫ي‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫كيم‪[﴾١٢٩‬البقرة‪ ،]129 - 127 :‬وقبل أن يختار هللا محمدا خاتم أنبي�اء هللا اصطفى من‬ ‫ٱل ِ‬
‫ذرية إسماعيل ورثة كتاب ودوائر اصطفاء‪ ،‬ففي الرواية المتوارثة عن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم والتي تن�اقلتها كل المذاهب اإلسالمية حتى الوهابيون‬
‫الذين لديهم ُعقدة تجاه أهل البيت ومنهجهم ها هو أحد أهم أسالفهم وهو بن‬
‫تيمية يقول ‪ ..«:‬ومثله أيضا في المسألة ما رواه أحمد ومسلم والترمذي من حديث‬
‫األوزاعي عن شداد بن أبي عمار عن واثلة بن األسقع قال‪ :‬سمعت رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم يقول‪« :‬إن هللا اصطفى كنانة من ولد إسماعيل‪ ،‬واصطفى‬
‫(((‬
‫قريشا من كنانة‪ ،‬واصطفى من قريش بني هاشم‪ ،‬واصطفاني من بني هاشم»‬
‫وهكذا جاءت مرحلة أعظم األنبي�اء وأعظم البشر وهو محمد صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم‪ ،‬فاختتم هللا به النبوة ولم يختتم االصطفاء‪ ،‬فاالصطفاء مازال مستمرا‬
‫باختي�ار ورثة الكتاب من آل محمد واختي�ار دائرة اصطفاء جديدة وهي دائرة آل محمد‬
‫بالتأكيد‪.‬‬
‫وهنا نسأل سؤاال وجيها بعد أن عرفنا سنة هللا في اختي�ار األنبي�اء وأعالم الهدى‪:‬‬
‫هل النبي صلى هللا عليه وآله وسلم بدع من الرسل ال تنطبق عليه سنة االصطفاء‬
‫له وآلله التي انطبقت على األنبي�اء السابقين من أولي العزم‪ ،‬أم أن االصطفاء ما‬
‫زال قائما إلى يوم القيامة؟ بالتأكيد أنه ما زال قائما إلى يوم القيامة‪ ،‬الحظوا كيف‬
‫قال هللا في سورة فاطر في سياق الحديث عن النبي األكرم محمد صلى هللا عليه‬
‫ۡ ُّ ُ َ ّ ٗ ّ َ‬ ‫ۡ َٰ ُ‬ ‫َۡٓ َ‬ ‫َ‬
‫ۡ َّ‬ ‫َۡ ََ‬
‫ي يدي ِهۗ إِن‬ ‫ب ه َو ٱلَق مص ِدقا ل َِما ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫َ‬
‫ِن‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫ۡ َ‬
‫ل‬ ‫إ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ي‬
‫ۡ َ‬
‫ح‬ ‫و‬ ‫﴿و َّٱل ٓ‬
‫ِي أ‬ ‫وآله وسلم‪َ :‬‬
‫ُ َّ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ‪َ َّ ُ ٞ‬‬
‫َۡ‬ ‫ك َتٰ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ََ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ۡو َرثنا‬ ‫ب﴾ أي بعد النبي محمد﴿ثم أ‬ ‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫ث‬ ‫َ‬
‫ر‬ ‫ۡ‬
‫و‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ث‬ ‫‪٣١‬‬ ‫ري‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ۢ‬ ‫ُ‬
‫ري‬‫ٱلل ب ِ ِعبا ِده ِۦ ل ِ‬
‫ب‬
‫ۡم‬
‫ُۡ‬
‫صد َومِنه‬
‫َۡ ‪ٞ‬‬ ‫ۡ ُ ُّ‬ ‫ۡ‬‫ۡم َظال ‪ِٞ‬م ّ ِ َ‬
‫لف ِس ِهۦ َومِنهم مقت ِ‬
‫ُۡ‬ ‫َ َ‬
‫ِۡن ع َِبادِناۖ ف ِمنه‬
‫َۡ‬ ‫ۡ َ‬
‫ِين ٱص َطفينا م‬ ‫ب َّٱل َ‬‫ك َتٰ َ‬ ‫ۡ‬
‫ٱل ِ‬

‫((( كتاب اقتضاء الصراط المستقيم‬

‫‪103‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ‬‫َۡ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ٰ َ ُ‬ ‫ۡ‬


‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫َۡ‬
‫ۡ‬ ‫َ ُۢ‬
‫ت بِإِذ ِن ٱللِۚ ذل ِك هو ٱلفضل ٱلكبِري‪[ ﴾٣٢‬فاطر‪ ]32‬والحظوا لم يقل ثم‬ ‫سابِق بِٱلير ِ‬
‫َۡ‬‫ۡ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َ َّ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫ً‬
‫كتب ٱلِين ٱصطفينا﴾‪،‬‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫اصطفاء جديدا‪ ،‬بل قال‪﴿ :‬ثم أورثنا ٱل ِ‬ ‫ً‬ ‫اصطفين�ا فيحدث‬
‫َۡ َ ََ َ‬ ‫ۡ َ َ َ َ َ َُ ٗ ََ َ‬ ‫وم ْن هم الذين اصطفاهم هللا؟ ﴿۞إ َّن َّ َ‬ ‫َ‬
‫ف ءادم ونوحا وءال إِبرٰهِيم وءال‬ ‫ٱلل ٱصط ٰٓ‬ ‫ِ‬
‫ۡٱل َعٰلَم َ‬ ‫ۡ َ ََ‬
‫ني‪ ،﴾٣٣‬ومعلوم أن النبي محمدا صلى هللا عليه وآله وسلم واإلمام‬ ‫ِ‬ ‫عِم َرٰن ع‬
‫ٌّ‬
‫وعلي‬ ‫عليا عليه السالم من ذرية إبراهيم‪ ،‬وأنهم االمتداد لدوائر االصطفاء اإللهي‪،‬‬
‫بإجماع األمة هو من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة‪ ،‬الحظوا كيف تسلسلت دوائر‬
‫االصطفاء إلى أن وصلت إلى محمد وآل محمد‪.‬‬
‫ولترسيخ هذه الحقيقة أمر هللا سبحانه وتعالى كل المسلمين في صالتهم في‬
‫التشهد األخير أن يصلوا على محمد وآل محمد‪ ،‬وأن يقرنوها بالصالة على إبراهيم وآل‬
‫إبراهيم‪ ،‬ألن مهمة آل محمد في هذه األمة هي نفس مهمة آل إبراهيم في تلك األمة‬
‫ٗ‬ ‫ۡ ً َ‬
‫ۡ َ ٰ ُ ُّ‬ ‫ۡ‬
‫ََۡ ََ َ‬ ‫ك َتٰ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َرٰه َ‬ ‫َۡٓ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ََ‬
‫ب َوٱل ِكمة وءاتينهم ملك ع ِظيما‪[ ﴾٥٤‬النساء‪.]54 :‬‬ ‫ِيم ٱل ِ‬ ‫﴿فقد ءَاتينا ءَال إِب‬
‫وأكد النبي صلى هللا عليه وآله وسلم هذه الحقيقة بأن ردد كثيرا على أسماع األمة‬
‫حديث الثقلين (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا‪ ،‬كتاب هللا‬
‫وعترتي أهل بيتي‪ ،‬إن اللطيف الخبير نب�أني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)‪.‬‬

‫(كتاب اهلل و�سنتي) �أم (كتاب اهلل وعترتي)‬


‫فرض مـــن هللا في القرآن أنزلـــــه‬ ‫يا أهـــل بيت رســـول هللا حبــــكم‬
‫مـــن لم يصـــل عليكـــم ال صالة له‬ ‫يكفيكم من عظيــــم الشـــأن أنكم‬

‫أهل البيت عليهم السالم يذوقون مرارة الظلم واالستب�داد العباسي ومن قبله‬
‫األموي‪ ،‬وتاريخهم الحافل بالثورات جعلهم عرضة الستب�داد الطغاة عبر التاريخ‪،‬‬
‫حملهم هللا سبحانه وتعالى أمانة هذه األمة َّ‬
‫وحمل‬ ‫وال غرابة في ذلك؛ فهم أهل بيت َّ‬
‫األمة محبتهم واتب�اعهم‪ ،‬وهذه كانت من المواضيع المهمة التي أثيرت في المجتمع‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وفي مجتمعنا اليمني عندما كنت في بداية البحث عن الحقيقة كنت‬
‫أدخل وأجلس إلى علماء من أتب�اع أهل البيت فأسمع كالما عن فضائل أهل البيت‬

‫‪104‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫واتب�اعهم ووجوب محبتهم‪ ،‬كنت أحسبه في بداية األمر غلوا وتطرفا وعنصرية‬
‫حسب تعبير كثير من الوهابيين وكذلك حسب تعبير السلطة الظالمة بقيادة آل‬
‫األحمر المحسوبين جغرافيا على الزيدية رغم أنهم من أوائل من حاربها وأدخل‬
‫الوهابي�ة‪ ،‬ولكن الذي لفت انتب�اهي بشكل كبير هو حديث الثقلين «إني تارك فيكم‬
‫ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب هللا وعترتي أهل بيتي» الذي تفاجأت‬
‫به ولم أصدق وجوده في بداية األمر؛ ألن الذي نعرفه ونسمعه منذ الطفولة وعلى‬
‫المنابر وفي المناهج الدراسية هو حديث «كتاب هللا وسنتي» وكم كانت المفاجأة‬
‫عندما علمت ورأيت بنفسي حديث «كتاب هللا وعترتي أهل بيتي» موجودا في كتب‬
‫أهل السنة وبطرق كثيرة أوصلها بعض العلماء إلى خمس وأربعين طريقا‪ ،‬وتفاجأت‬
‫ً‬
‫أكثر عندما لم أجد لحديث «كتاب هللا وسنتي» وجودا في الصحاح الستة المعتبرة‬
‫عند أهل السنة! وتساءلت في نفسي مستغربا لماذا يخفي أهل السنة والجماعة‬
‫هذا الحديث وال يتكلمون به ال في خطبهم وال في جوامعهم رغم أنه من األحاديث‬
‫المهمة التي تنير لإلنسان طريق الحق؟ وكان يقول الشهيد القائد حسين الحوثي‬
‫في مضمون كالمه إن هللا من رحمته وحجته البالغة على عباده‪ ،‬جعل األحاديث‬
‫ْ‬
‫المفصلية المهمة محفوظة في كتب كل المسلمين‪.‬‬ ‫ِ‬

‫مناظرة‪:‬‬
‫هذه هي إحدى المناظرات التي تأثرت بها حول هذا الموضوع وأحب أن أوردها‬
‫كما هي‪ ،‬وهي مناظرة ألحد المتحولين عن منهج أهل السنة وهو الشيخ السوداني‬
‫معتصم سيد أحمد مع المحدث الدمشقي عبد القادر األرنؤوطي‪ ،‬ننقل المناظرة‬
‫على لسان الشيخ معتصم سيد أحمد حيث يقول‪ :‬بعد أن فرغ المحدث الشامي من‬
‫َ‬
‫ذكر فضائل بعض البلدان‪ :‬قلت للعالمة المحدث‪ :‬سماحة الشيخ‪ ،‬نحن باحثون عن‬
‫الحق‪ ،‬وقد اختلط علين�ا األمر‪ ،‬وجئن�ا كي نستفيد منك عندما عرفنا أنك عالم جليل‬
‫ومحدث وحافظ‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من البديهيات التي ال يتغافل عنها إال أعمى أن المسلمين قد تقسموا إلى‬

‫‪105‬‬
‫بداية الطريق‬

‫طوائف ومذاهب متعددة وكل فرقة تدعي أنها على الحق وغيرها على الباطل‪ ،‬فكيف‬
‫يتسنى لي وأنا مكلف بشرع هللا أن أعرف الحق من بين هذه الخطوط المتن�اقضة؟ هل‬
‫أراد هللا لنا أن نكون متفرقين‪ ،‬أم أراد أن نكون على ملة واحدة ندين هللا بتشريع واحد؟‬
‫وإذا كان نعم‪ ،‬ما هي الضمانة التي تركها هللا ورسوله لنا لكي تحصن األمة من الضاللة؟‬
‫مع العلم أن أول ما وقع الخالف بين المسلمين كان بعد وفاة الرسول (÷)‬
‫ً‬
‫مباشرة فليس جائزا في حق الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم أن يترك أمته من غير‬
‫هدى يسترشدون به‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬إن الضمانة التي تركها رسول هللا لتمنع األمة من االختالف قوله‬
‫صلى هللا عليه وآله‪« :‬إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب هللا وسنتي»‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬هذا الحديث ال أصل له في الصحاح الستة فكيف تقول به وأنت رجل‬
‫محدث؟‬
‫‪ ...‬هنا شبت ناره وأخذ يصرخ قائال‪ :‬ماذا تقصد هل تريد أن تضعف الحديث؟‬
‫فقلت‪ :‬مهال‪ ،‬إن سؤالي واحد ومحدد‪ ،‬هل يوجد هذا الحديث في الصحاح‬
‫الستة؟‬
‫قال‪ :‬الصحاح ليست ستة‪ ،‬وكتب الحديث كثيرة‪ ،‬وإن هذا الحديث يوجد في‬
‫كتاب الموطأ لإلمام مالك‪.‬‬
‫قلت «متوجها إلى الحضور»‪ :‬حسنا قد اعترف الشيخ أن هذا الحديث ال وجود‬
‫له في الصحاح الستة ويوجد في موطأ مالك‪ ،‬فقاطعني بلهجة شديدة قائال‪ :‬شو‪،‬‬
‫الموطأ مو كتاب حديث؟‬
‫قلت‪ :‬الموطأ كتاب حديث‪ ،‬ولكن حديث «كتاب هللا وسنتي» مرفوع في‬
‫الموطأ من غير سند‪ ،‬مع العلم أن كل أحاديث الموطأ مسندة‪.‬‬
‫هنا صرخ الشيخ بعدما سقطت حجته وأخذ يضربني بي�ده ويقول‪ :‬أنت تريد أن‬
‫تضعف الحديث وأنت َمن حتى تضعفه؟! حتى خرج عن حد المعقول وأخذ الجميع‬
‫ين�دهش من حركته وتصرفه هذا‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫قلت‪ :‬يا شيخ هنا مقام مناقشة ودليل‪ ،‬وهذا األسلوب الغريب ال ُيجدي‪ ،‬وقد‬
‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َ َ ُّ ْ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ ُ َ َ ًّ َ َ‬ ‫ََ‬
‫ۡول ِكۖ﴾ [آل عمران‪ ]159 :‬وبعد‬
‫ب لنفضوا مِن ح‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ق‬‫ٱل‬ ‫يظ‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫غ‬ ‫ا‬‫ظ‬ ‫ف‬ ‫نت‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬ول‬
‫هذا هدأ قليال من ثورته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أسألك يا شيخ‪ ،‬هل رواية مالك لحديث «كتاب هللا وسنتي» في الموطأ‪،‬‬
‫ضعيفة أم صحيحة؟‬
‫قال بتحسر شديد‪ :‬ضعيفة‪.‬‬
‫ً‬
‫قلت‪ :‬فلماذا إذا قلت إن الحديث في الموطأ وأنت تعلم أنه ضعيف؟‬
‫قال‪ :‬رافعا صوته‪ :‬إن للحديث طرقا أخرى‪.‬‬
‫قلت للحضور‪ :‬قد تن�ازل الشيخ عن رواية الموطأ‪ ،‬وقال‪ :‬إن للحديث طرقا أخرى‪،‬‬
‫فلنسمع منه هذه الطرق‪ ...‬هنا أحس الشيخ بالهزيمة والخجل؛ ألن ليس للحديث‬
‫طرق صحيحة‪ ،‬وتهرب من اإلجابة‪ ...‬ولكني أصررت وقلت‪ :‬أسمعنا ياشيخ الطرق‬
‫األخرى للحديث!‬
‫قال بلهجة منكسرة‪ :‬ال أحفظها‪ ،‬وسوف أكتبها لك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سبحان هللا! أنت تحفظ كل هذه األحاديث في فضل البلدان والمناطق‪،‬‬
‫وال تحفظ طريق أهم األحاديث والذي يعصم األمة من الضاللة كما قلت‪ ...‬فظل‬
‫ً‬
‫ساكتا‪ ،‬وعندما أحس الحضور بخجله قال لي أحدهم‪ :‬ما ذا تريد من الشيخ وقد‬
‫وعدك أن يكتبها لك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا أقرب لك الطريق‪ ،‬إن هذا الحديث يوجد أيضا في سيرة ابن هشام من‬
‫غير سند‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن سيرة ابن هشام كتاب سيرة وليس كتاب حديث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذا أنت تضعف هذه الرواية‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كفيتني مؤونة النقاش فيها‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫بداية الطريق‬

‫وواصلت كالمي قائال‪ :‬ويوجد أيضا في كتاب اإللماع للقاضي عياض‪ ،‬وفي‬
‫كتاب الفقيه المتفقه للخطيب البغدادي‪ ...‬هل تأخذ بهذه الروايات؟‬
‫قال‪ :‬ال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذا حديث «كتاب هللا وسنتي» ضعيف بشهادة الشيخ‪ ،‬ولم يبق أمامنا‬
‫إال ضمانة واحدة تمنع األمة من االختالف‪ ،‬وهي حديث متواتر عن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم وقد روته كتب الحديث السني�ة والصحاح الستة ما عدا‬
‫البخاري‪ ،‬وهو قول الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إني تارك فيكم الثقلين ما إن‬
‫تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب هللا حبل ممدود ما بين السماء واألرض وعترتي‬
‫أهل بيتي‪ ،‬فإن العليم الخبير‪ ،‬نب�أني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» كما ورد‬
‫في رواية أحمد بن حنب�ل‪ ،‬وال مناص لمؤمن يريد اإلسالم الذي أمر هللا به ورسوله‬
‫غير هذا الطريق وهو طريق أهل البيت المطهرين في القرآن الكريم من الرجس‬
‫والمعاصي‪ ،‬وذكرت مجموعة من فضائل أهل البيت عليهم السالم والشيخ ساكت‬
‫ً‬
‫لم يتفوه بكلمة طوال هذه المدة‪( .‬نقال عن كتاب الحقيقة الضائعة)‬

‫م�صادر حديث كتاب اهلل وعترتي‪:‬‬


‫يقول الشهيد القائد في معنى كالمه إن هذا الحديث من األحاديث المهمة‪،‬‬
‫وإن هللا من رحمته بعباده جعل األحاديث المهمة والمفصلية محفوظة في كتب‬
‫كل المسلمين حجة عليهم ‪.....‬انتهى‪ ،‬وبالطبع لسنا بحاجة إلثب�ات عقائدنا أن تكون‬
‫أدلتها موجودة في كتب خصومنا‪ ،‬يكفين�ا أن القرآن وورثت�ه الحقيقيين قد أكدوا‬
‫وذكرنا لمصادر الحديث من كتب أهل السنة من‬ ‫ُ‬ ‫أهمية اتب�اع أعالم أهل البيت‪،‬‬
‫باب وشهد شاهد من أهلها‪ ،‬وإليك الحديث وحجمة في كتب القوم‪“ :‬هذا الحديث‬
‫صحيح ال غبار عليه وحسبك أنه ورد في صحيح مسلم‪ ،‬وقد حفلت به كتب السنن‬
‫والسير والتاريخ وغيرها”‪.‬‬
‫وأصدر مجمع التقريب بين المذاهب في مصر رسالة أثبت فيها تواتر هذا‬
‫الحديث في جميع طبقاته‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫إضافة لهذا صححه الكثير من علماء أهل السنة منهم‪ :‬الطبري‪ ،‬محمد‬
‫بن إسحاق‪ ،‬األزهري‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬الذهبي في تلخيص المستدرك‪ ،‬الحاكم في‬
‫المستدرك‪ ،‬الهيثمي في مجمع الزوائد‪ ،‬ابن كثير في تاريخه‪ ،‬السيوطي في الجامع‬
‫الصغير‪ ،‬والمناوي‪ ،‬وصححه من المعاصرين‪ :‬محدث أهل السنة السلفي الشيخ‬
‫األلباني‪ ،‬والمحدث األشعري الشافعي الحسن بن علي السقاف كما سيأتي ذكره‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وقد َروى هذا الحديث عن النبي صلى هللا عليه وآله وسلم خمسة وثالثون‬
‫(((‬
‫صحابي�ا‪ ،‬ورواه عن الصحابة تسعة عشر من التابعين‪»...‬‬
‫وقد رأيت أنه من المناسب أن أذكر متن الحديث في بعض المصادر السني�ة‬
‫لمزيد من التوضيح‪.‬‬
‫فهو كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال‪ ...« :‬قام رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم يوما خطيب�ا بماء يدعى خما‪ ،‬بين مكة والمدين�ة‪ ،‬فحمد هللا وأثنى‬
‫عليه ووعظ‪ ،‬ثم قال‪ :‬أما بعد أال أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي‬
‫فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب هللا فيه الهدى والنور‪ ،‬فخذوا بكتاب هللا‬
‫وتمسكوا به‪ ،‬فحث على كتاب هللا ورغب فيه‪ ،‬ثم قال‪ :‬وأهل بيتي أذكركم هللا في‬
‫(((‬
‫أهل بيتي‪ ،‬أذكركم هللا في أهل بيتي‪ ،‬أذكركم هللا في أهل بيتي»‬
‫وفي مسند أحمد بن حنب�ل «إني تارك فيكم خليفتين‪ ،‬كتاب هللا حبل ممدود‬
‫ما بين السماء واألرض أو ما بين السماء إلى األرض‪ ،‬وعترتي أهل بيتي‪ ،‬وإنهما لن‬
‫(((‬
‫يفترقا حتى يردا علي الحوض»‬
‫وفي صحيح الترمذي والمستدرك على الصحيحين ـ وصححه ـ‪« :‬إني تارك‬
‫فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي‪ ،‬أحدهما أعظم من اآلخر‪ ،‬كتاب هللا حبل‬
‫ممددو من السماء إلى األرض‪ ،‬وعترتي أهل بيتي‪ ،‬ولن يفترقا حتى يردا على الحوض‪،‬‬
‫(((‬
‫فانظروا كيف تخلفوني فيهما»‬

‫((( وركبت السفين�ة ص‪.394‬‬


‫((( صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل اإلمام علي (ع)‪.‬‬
‫((( مسند أحمد ‪ ،182 /5‬وفضائل الصحابة ‪ ،603 /2‬وصححه األلباني في السنة البن أبي عاصم ‪.337‬‬
‫((( صحيح الترمذي ج‪ 5‬كتاب المناقب ‪ ،3788 /663‬والمستدرك ‪ ،148 ،3‬واحتج بحديث الترمذي ابن تيمية‬
‫في حجية إجماع أهل البيت راجع مجموعه الفتاوى ‪.269 /28‬‬

‫‪109‬‬
‫بداية الطريق‬

‫داللة الحديث‪:‬‬
‫حديث الثقلين صريح في وجوب التمسك بكتاب هللا وآل البيت عليهم السالم‬
‫معا‪ ،‬فاألمن من الضالل يكون بالتمسك بكتاب هللا سبحانه وتعالى جنب�ا إلى جانب‬
‫أهل البيت عليهم السالم؛ بدليل قوله صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬ما إن تمسكتم‬
‫به»‪ ،‬وقوله صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إني تارك فيكم الثقلين» يقول النووي في‬
‫شرحه على مسلم‪« :‬قوله صلى هللا عليه وآله وسلم «وأنا تارك فيكم ثقلين‪ .‬فذكر‬
‫كتاب هللا وأهل بيت�ه‪ ،‬قال العلماء‪ :‬سميا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما‪ ،‬وقيل لثقل‬
‫(((‬
‫العمل بهما»‬

‫من هم �أهل البيت في روايات �أهل ال�سنة‬

‫‪� )1‬أهل البيت في �آية التطهير‪:‬‬


‫ۡ‬‫ۡ ََُ َُّ‬ ‫ۡ‬‫َۡ‬‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َ َ ُ‬
‫نك ُم ّ‬ ‫َّ َ ُ ُ‬
‫يد َّ ُ‬
‫ت ويط ِهركم‬ ‫َ‬
‫ٱلرجس أهل ٱلي ِ‬ ‫ع‬ ‫ِب‬ ‫ه‬‫ذ‬ ‫ٱلل ِ ُ‬
‫ل‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬إِنما ي ِر‬
‫ِ‬
‫ۡطه ٗ‬‫َ‬
‫ريا‪[ ﴾٣٣‬األحزاب‪.]33 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ت‬
‫أخرج مسلم في صحيحه قالت عائشة «خرج النبي صلى هللا عليه وآله‬
‫ً‬
‫غداة وعليه ٌ‬
‫مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء‬ ‫وسلم‬
‫ََّ‬
‫الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال‪﴿ :‬إِنما‬
‫ٗ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡ ََُ َُّ‬ ‫ۡ‬‫َۡ‬‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َ َ ُ‬
‫نك ُم ّ‬ ‫يد َّ ُ‬
‫ُ ُ‬
‫ت ويط ِهركم تط ِهريا‪ )﴾٣٣‬وفي سنن‬
‫(((‬ ‫َ‬
‫ٱلرجس أهل ٱلي ِ‬ ‫ٱلل ِ ُ‬
‫لذهِب ع‬ ‫ي ِر‬
‫ِ‬
‫الترمذي من حديث أم سلمة «أن النبي صلى هللا عليه وآله وسلم جلل على الحسن‬
‫وحامتي أذهب عنهم‬‫ّ‬ ‫ً‬
‫كساء وقال‪ :‬اللهم هؤالء أهل بيتي‬ ‫والحسين وعلي وفاطمة‬
‫إنك على‬
‫الرجس وطهرهم تطهيرا‪ ،‬قالت أم سلمة وأنا معهم يا رسول هللا؟ فقال‪ِ :‬‬
‫خير»(((‪ ،‬وبعد نزول هذه اآلية كان رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يمر بب�اب‬
‫َ‬
‫فاطمة إذا خرج إلى صالة الفجر ويقول‪ :‬الصالة يا أهل البيت إنما يريد هللا ليذهب‬

‫((( مسلم بشرح النووي كتاب الفضائل باب فضائل علي بن أبي طالب (ع)‪.‬‬
‫((( صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ‪ -‬باب فضائل أهل البيت‪..‬‬
‫((( سنن الترمذي ‪663 /5 -‬‬

‫‪110‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا(((‪.‬‬


‫من خالل الروايات السابقة يظهر بجالء أن أهل البيت عليهم السالم هم علي‬
‫وفاطمة والحسن والحسين (ع) وذريتهم‪ ،‬وقد كان النبي صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫في عدة مناسبات يردد هذه اآلية بجوار باب فاطمة إذا خرج للصالة حتى يرسخ في‬
‫نفوس أصحابه معرفة أهل بيت�ه‪ ،‬وحديث الكساء من الروايات المشهورة وورد في‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مصادر عديدة لم نذكرها تجنب�ا للتطويل ولكن بإمكانن�ا أن نحيلك أخي القارئ إلى‬
‫كتاب اإلعتصام لإلمام القاسم بن محمد (ع) فقد استوفى جميع مصادر الحديث‪،‬‬
‫ْ‬
‫ومن يقل إن هذه اآلية نزلت في نساء النبي بداللة السياق ما قبل اآلية وما بعدها‪،‬‬
‫ْ‬
‫ومن يقل كذلك إن ذكر األهل في القرآن دائما يقصد بها الزوجات‪ ،‬وإنهن المطلوب‬
‫اتب�اعهن فهو مخطئ لألسباب اآلتي�ة‪:‬‬
‫‪1.‬أن هللا ذكر النساء بنون النسوة “لستن‪ ..‬كنتن”‪ ،‬وعندما وصل آلية التطهير‬
‫قال‪« :‬عنكم» ولم يقل عنكن‪.‬‬
‫‪2.‬أن هللا كان يجمع البيوت عندما كان المقصود بها هو بيت السكن‬
‫الزوجي «بيوتكن»‪ ،‬بينما عندما أراد بيت النسب النبوي أتى به مفردا‬
‫قال‪»:‬البيت»‪.‬‬
‫‪3.‬السبب في ذكر اآلية في سياق ذكر نساء النبي صلى هللا عليه وآله وسلم أن‬
‫نساء النبي أصبحن كالحاشية للبيت النبوي ومن المهم أن تكون الساحة‬
‫المحيطة بالبيت النبوي ساحة بعيدة عن الدنس والمعاصي‪.‬‬
‫‪4.‬يجب أن نفرق بين أهل بيت السكن وأهل بيت النسب‪ ،‬فنساء النبي صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم هن من أهل بيت السكن ال النسب‪ ،‬ألنه إذا طلقها فلن‬
‫تصبح من أهل بيت�ه‪.‬‬
‫‪5.‬ليس صحيحا أن القرآن ال يذكر األهل إال والمقصود الزوجات بدليل الكثير‬
‫من اآليات «واجعل لي وزيرا من أهلي‪ ،،‬هارون أخي» فاألخ من األهل‪ ،‬وقال‬

‫((( مستدرك الحاكم وصححه ‪ - 158/3-‬مجمع الزوائد ‪ - 168 /9-‬تفسير الطبري وتفسير ابن كثير ‪/3 -‬‬
‫‪484،483‬‬

‫‪111‬‬
‫بداية الطريق‬

‫تعالى ‪« :‬فأنجين�اه وأهله إال امرأته كانت من الغابرين» وهنا بين أن البنين‬
‫والبن�ات (الذرية) من األهل‪ ،،‬وغيرها من اآليات‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪6.‬كما أن االتب�اع في القرآن هو لالنبي�اء وورثة الكتاب‪ ،‬ووراثة الكتاب بعد‬
‫األنبي�اء وهداية البشرية ليست في القرآن متعلقة بزوجات األنبي�اء من أهل‬
‫بيت سكناهم‪ ،‬بل متعلقة بذريتهم‪ ،‬ودائرة القرابة القريب�ة من أهل بيت‬
‫ۡٱل َعٰلَم َ‬ ‫َۡ ََ‬ ‫َ ُ ّٗ َ َّ‬
‫ني‪٨٦‬‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫ل‬ ‫ض‬ ‫أنسابهم‪ ،‬قال تعالى بعد ذكر ثماني�ة عشر نبي�ا ﴿وك ف‬
‫ۡ َ‬ ‫ُّ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َۡ ُ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َۡ ُ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ َّ‬ ‫ۡ َٓ‬
‫ص َر ٰ ٖط مست ِقي ٖم‪٨٧‬‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫َومِن ءَابائ ِ ِهم َوذ ّ ِريٰتِ ِهم ِإَوخوٰن ِِهم ۖ َوٱجتبينٰهم َوهدينٰهم إ ِ ٰل ِ‬
‫ُۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ ُ ْ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ٓ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫شكوا لَبِ َط عنهم‬ ‫ِۡن ع َِبا ِدهِۚۦ َولو أ‬ ‫ذٰل ِك هدى ٱللِ يه ِدي ب ِ ِهۦ من يشا ُء م‬
‫ۡ َ َ ُّ َ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫ك َتٰ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َٰ ُ‬ ‫ۡ َ ُ َ ُ ْ َ ٰٓ َ َّ َ َ َ‬ ‫َّ َ ُ ْ َ‬
‫ٱنل ُب َّوة ۚ فإِن‬ ‫ٱلكم و‬ ‫ب َو‬ ‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ات‬ ‫ما كنوا يعملون‪ ٨٨‬أولئِك ٱلِين ء‬
‫ۡي ُسوا ْ ب َها ب َك ٰ ِفر َ‬ ‫ۡ ٗ َّ‬ ‫َۡ َ َ‬ ‫ۡ َّ‬ ‫ۡ َ َ ٰٓ ُ َ ٓ َ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫َ‬
‫ين‪[ ﴾٨٩‬األنعام‪.]89 - 86 :‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬‫م‬‫و‬ ‫هؤلءِ فقد َوكنا بِها ق‬ ‫يكفر بِها‬
‫ۡ‬ ‫ُ َّ َ َ َ َ َ ُ َ‬ ‫َ ٗ َ َ‬ ‫َ َ ّ َ ُ َ َّ‬
‫اس إِماماۖ قال َومِن ذ ّ ِري ِت ۖ قال ل ينال عه ِدي‬ ‫﴿قال إ ِ ِن جاعِلك ل ِلن ِ‬
‫َّ‬
‫ٱلظٰلم َ‬
‫ني‪[ ﴾١٢٤‬البقرة‪.]124 :‬‬ ‫ِِ‬
‫‪7.‬إن سؤال إبراهيم أن يجعل من ذريت�ه أئمة للناس ألنه يعلم أن سنة هللا أن‬
‫يهيئ من ذرية األنبي�اء أعالما لألمة يسيرون بها على منهج الكتاب المقدس‬
‫ُ‬
‫وال ين�ال هذا العهد من كان ظالما‪.‬‬
‫ۡٱل ِ َ َ‬
‫كتٰب﴾ [العنكبوت‪]27 :‬‬
‫ُّ َ‬
‫ٱنل ُب َّوة َو‬
‫ُ َّ‬ ‫َۡ‬ ‫ُۡ َ َ َ‬
‫وب َوجعلنا ِف ذ ّ ِريتِ ِه‬
‫ۡ َ َ َ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َ َ‬
‫﴿و َوهبنا ُلۥٓ إِسحٰق َويعق‬
‫َۡٓ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ع َما ٓ ءَاتَى ٰ ُه ُم َّ ُ‬ ‫ۡ ُ ُ َ َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫ۡ َرٰه َ‬
‫ِيم‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ‬
‫ٱلل مِن فضلِ ِهۖۦ فقد ءَاتينا ءَال إِب‬ ‫اس َ ٰ‬ ‫﴿أم يسدون ٱنل‬
‫ۡ َ‬
‫ۡ ُ َّ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡل ًك َعظ ٗ‬ ‫ۡ َ ُ ُّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ك َتٰ َ‬ ‫ۡ‬
‫ۡن ءَام َن ب ِ ِهۦ َومِنهم من صد‬ ‫يما‪ ٥٤‬ف ِمنهم م‬ ‫ِ‬ ‫ب َوٱل ِك َمة َوءَاتينٰهم م‬ ‫ٱل ِ‬
‫ۡ‬‫َ‬
‫عن ُ ۚه﴾ [النساء‪.]54 :‬‬

‫‪� )2‬أهل البيت في �آية المباهلة‪:‬‬


‫ۡ ُ‬ ‫ۡ ََ َ ْ َ‬ ‫ۡ َُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ ٓ َ‬ ‫ۢ َ‬ ‫َ َ َ ٓ َّ َ‬
‫ۡوا ندع‬ ‫ِن بع ِد ما جاءَك م َِن ٱل ِعل ِم فقل تعال‬‫ۡن حاجك فِي ِه م‬ ‫قال تعالى ﴿فم‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ ُ َ َ َ ُ َ ُ ُ َ‬
‫َۡ‬ ‫َ‬ ‫َ ٓ ُ‬ ‫َ ٓ َ‬ ‫َۡٓ ُ‬ ‫َۡٓ َ َ‬ ‫َ‬
‫ۡم ث َّم نبت ِهل فنجعل‬ ‫ۡم َون ِساءَنا َون ِساءَكم وأنفسنا وأنفسك‬ ‫أبناءَنا َوأبناءَك‬

‫‪112‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ۡٱل َكٰذب َ‬ ‫ۡ َ َ َّ َ َ‬
‫َّ‬
‫ني‪[ ﴾٦١‬آل عمران‪ ]61 :‬أجمع المفسرون على نزول هذه اآلية‬ ‫ِِ‬ ‫لعنت ٱللِ ع‬
‫في أصحاب الكساء عند مباهلة النبي صلى هللا عليه وآله وسلم لنصارى نجران‪،‬‬
‫ً‬
‫وعندما رأى أسقف نجران أهل الكساء قال‪ :‬يا معشر النصارى إني ألرى وجوها لو‬
‫ً‬
‫شاء هللا أن ُيزيل جبال من مكانه ألزاله بها‪ ،‬فال تب�اهلوا فتهلكوا وال يبقى على وجه‬
‫ٌ‬
‫نصراني إلى يوم القيأمة‪ ،‬فقالوا يا أبا القاسم رأين�ا أن ال نب�اهلك وأن نقرك‬ ‫األرض‬
‫على دينك ونثبت على دينن�ا‪ ،‬قال الرازي‪ :‬واعلم أن هذه الرواية كمتفق على صحتها‬
‫بين أهل التفسير والحديث(((‪.‬‬
‫وال شك أن المباهلة تتطلب خالصة وصفوة القوم‪ ،‬وهو ما فعله صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم باستدعائه صفوة الصفوة سالم هللا عليهم‪ ،‬وهذا يدل داللة واضحة على‬
‫مكانتهم ومنزلتهم عند هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪� )3‬أهل البيت في �آية المودة‪:‬‬


‫ُۡ‬
‫َۡ‬ ‫ۡ ً َّ‬
‫ۡ َ َ َّ َ‬ ‫ۡ َ‬‫ۡ َ َ‬ ‫َُۡ ُ‬ ‫ُ َّ ٓ َ‬
‫ٰ‬
‫سلكم علي ِه أجرا إِل ٱلمودة ِف ٱلقرب ۗ﴾ [الشورى‪ ]23 :‬عن‬ ‫قال تعالى ﴿قل ل أ ‍ٔ‬
‫ابن عباس لما نزلت هذه اآلية قالوا‪ :‬يا رسول هللا من قرابتك هؤالء الذين وجبت‬
‫علين�ا مودتهم؟ قال‪ :‬علي وفاطمة وولداهما(((‪.‬‬
‫وال يخفاك مدى عظمة هذه المنزلة عندما يجعل رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم أجر رسالته مودة قرباه‪ ،‬والشك أن ذلك ال يعبر عن نزعة عاطفية من رسول هللا‬
‫وإنما فضل من هللا ُيؤتي�ه من يشاء من عباده‪ ،‬وفي الواقع ليس هناك مودة بدون اتب�اع‬
‫ك ُم َّ ُ‬
‫ۡ ُ‬ ‫ُ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ ُ ُّ َ َّ َ َ َّ ُ‬
‫ُ ُ‬ ‫ۡ‬‫ُ‬
‫ٱلل﴾ [آل عمران‪.]31 :‬‬ ‫ون يبِب‬
‫واقتداء قال تعالى‪﴿ :‬قل إِن كنتم تِبون ٱلل فٱتبِ ِ‬
‫ع‬
‫ً‬
‫والحق أن هذا الكتاب ال يتسع لحصر فضائل أهل البيت (ع)‪ ،‬ويكفيهم فخرا‬
‫ً‬
‫وفضال أن الصالة على النبي مقرونة بالصالة عليهم في كل صالة‪ ،‬نسأل هللا سبحانه‬
‫وتعالى أن نكون من محبيهم وأتب�اعهم‪ ،‬وأن يرزقنا الشهادة تحت رايتهم‪.‬‬

‫((( تفسير الرازي ‪ ، 247/3‬صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل علي بن ابي طالب صحيح الترمذي‬
‫‪ ، 638/5‬مسند احمد ‪ 185/1‬و غيرهم‪.‬‬
‫((( تفسير ابن كثير ‪ ، 122/4‬تفسير الطبري ‪ ، 16/25‬فتح القدير ‪ 537/4‬و غيرها من التفاسير‬

‫‪113‬‬
‫بداية الطريق‬

‫(((‬
‫(االنتماء �إلـى الر�سول من قبل الأم)‬
‫كل المذاهب اإلسالمية تؤمن بأن الحسن والحسين ونسلهما من ذرية رسول‬
‫هللا من جهة ابنت�ه فاطمة الزهراء سالم هللا عليها وهذه النسبة تصح بداللة آيات‬
‫القرآن واألحاديث النبوية وداللة العلم الذي يؤكد أن الجين�ات الوراثي�ة تنتقل من‬
‫األب البنت�ه ثم ألبن�ائها‪ ،‬وكل المذاهب اإلسالمية تؤمن بأن الصالة على محمد وآل‬
‫محمد تشريع من هللا وأن الحسن والحسين وذريتهما ضمن آل محمد الذين يدعو‬
‫لهم الناس بهذا الدعاء‪ ،‬وال عبرة بالنواصب الغير معترف بهم إسالميا‪ ،‬والذين‬
‫يقدمون شبهات هي في الواقع تعبر عن عقدة الشعور بالنقص‪ ،‬وفي هذا الزمان‬
‫تتحرك بريطاني�ا وأمريكا عبر أدواتها في المنطقة لصرف الناس عن أهل بيت رسول‬
‫هللا ووجدت ضالتها في مجموعة من المعقدين والحاقدين‪ ،‬وقد وضحنا في ثن�ايا‬
‫الكتاب بما فيه الكفاية حول سنة هللا في الهداية وعالقتها بقرابة رسول هللا وكيف‬
‫أن االصطفاء مستمر من القرابة حتى بعد موت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫وهنا سنقتبس مجموعة من المقاطع من كتاب السلسلة الذهبي�ة وهي مجموعة‬
‫كتب جمعت لرباني آل محمد السيد بدر الدين الحوثي وهي بعنوان «االنتماء إلى‬
‫الرسول من جهة األم»‬
‫«قال زيد بن علي عليه السالم في كتاب الصفوة (ص ‪ :)65‬وقال هللا عز وجل‬
‫َۡ‬‫ۡ ُ َ ُ ًّ َ َ‬
‫ۡ َ َ ََ‬ ‫ۡ َ َُ ٓ‬
‫َ ََ‬
‫وهو يذكر نعمته على إبراهيم﴿ووهبنا لۥ إِسحٰق ويعقوبۚ ك هديناۚ﴾ [األنعام‪]84 :‬‬

‫ي َوع َ ٰ‬ ‫َ َ َ َّ َ‬
‫ۡح َ ٰ‬
‫ِيس﴾ [األنعام‪ ]85 :‬قال عليه السالم‪ :‬فنسب هللا‬ ‫﴿وزك ِريا َوي‬ ‫إلى قوله تعالى‪:‬‬
‫عز وجل عيسى إلى إبراهيم في الكتاب‪.‬‬
‫وقال الهادي عليه السالم في األحكام وفيهما يعني الحسن والحسين ما يقول‬
‫(((‪:‬‬

‫الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم‪« :‬كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إال ابني فاطمة‬
‫فأنا أبوهما وعصبتهما» فهما ابن�اه وولده بفرض هللا وحكمه‪ ،‬وفي ذلك ما يقول هللا‬
‫َۡ‬‫َ ُ َ ُ َ‬ ‫ُ َّ‬
‫اوۥد َوسليم ٰ َن‬‫﴿ومِن ذ ّ ِريتِ ِهۦ د‬
‫تب�ارك وتعالى في إبراهيم صلى هللا عليه وآله وسلم‪َ :‬‬

‫((( السلسلة الذهبي�ة الجزء األول ص ‪ 164‬لرباني آل محمد السيد بدر الدين الحوثي‪.‬‬
‫((( ط‪/1‬دار التراث اإلسالمي ‪-‬صعدة‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫َ‬ ‫ۡ‬‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ ُّ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ‬


‫ۡ‬
‫وس وهٰرونۚ وكذٰل ِك ن ِزي ٱلمح ِسنِني‪[ ﴾٨٤‬األنعام‪ ]84 :‬فذكر أن‬
‫وأيوب ويوسف وم ٰ‬
‫عيسى من ذرية إبراهيم كما أن موسى وهارون من ذريت�ه وإنما جعله ولده وذريت�ه‬
‫بوالدة مريم‪ ،‬وكان سواء عنده في معنى الوالدة والقرابة والدة االبن ووالدة البنت إذ‬
‫قد أجرى موسى وعيسى مجرى واحدا من إبراهيم صلى هللا عليه‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وفي الدر المنثور للسيوطي (ج‪3‬ص ‪ )28‬أخرج ابن أبي حاتم عن أبي حرب (أي‬
‫األسود) قال‪ :‬أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال‪ :‬بلغني أنك تزعم أن الحسن‬
‫والحسين من ذرية النبي صلى هللا عليه وآله وسلم؛ تجده في كتاب هللا وقد قرأته‬
‫َ ُ َ‬ ‫ُ َّ‬
‫اوۥد‬‫﴿ومِن ذ ّ ِريتِ ِهۦ د‬
‫من أوله إلى آخره فلم أجده‪ .‬قال‪ :‬ألست تقرأ سورة األنعام َ‬
‫ُ َ‬
‫ۡح َ ٰ‬
‫ي َوع َ ٰ‬
‫ِيس﴾ [األنعام‪ ]85 :‬قال‪ :‬بلى‪ .‬قال‪ :‬أليس عيسى من‬
‫ََ‬
‫﴿وي‬
‫َۡ‬
‫َوسليم ٰ َن﴾ حتى بلغ‪:‬‬
‫ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال‪ :‬صدقت‪.‬‬
‫وأخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال‪ :‬دخل يحيى‬
‫بن يعمر على الحجاج فذكر الحسين فقال الحجاج‪ :‬لم يكن من ذرية النبي صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم فقال‪ :‬يحيى كذبت؟ فقال‪ :‬لتأتيني على ما قلت ببين�ة‪ ،‬فتال‪َ :‬‬
‫﴿ومِن‬
‫َۡ َ‬ ‫َ ُ َ َ ُ َ‬
‫ۡي َم ٰ َن﴾ [األنعام‪ ]84 :‬إلى قوله‪َ :‬‬
‫﴿وع َ ٰ‬ ‫ُ َّ‬
‫اس﴾ [األنعام‪ ]85 :‬فأخبر‬
‫ِيس ِإَول ۖ‬ ‫ذ ّ ِريتِ ِهۦ داوۥد وسل‬
‫تعالى أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه قال‪ :‬صدقت‪.‬‬
‫وقال ابن القيم في كتابه جالء األفـهام (ص‪ )177‬في بحث ذكر من هم آل‬
‫النبي الذي أوله في (ص‪ :)138‬وال خالف بين أهل اللغة أن الذرية يقال على األوالد‬
‫َ َ ٰ َ َ َ َّ ُ َّ َ َ ّ َ ُ َ َّ‬ ‫ۡ َر ٰ ‍ َ َ ُّ ُ‬‫ٱب َت َ ٰٓ‬
‫ۡ‬
‫اس‬
‫ت فأتمهنۖ قال إ ِ ِن جاعِلك ل ِلن ِ‬
‫هۧم ربهۥ بِكلِم ٖ‬ ‫ل إِب ِ‬ ‫الصغار والكبار ﴿۞ِإَوذِ‬
‫ُ َّ‬ ‫َ ٗ َ َ‬
‫إِماماۖ قال َومِن ذ ّ ِري ِت ۖ﴾ [البقرة‪.]124 :‬‬
‫ثم قال‪ :‬إذا ثبت هذا فالذرية األوالد وأوالدهم‪ ،‬وهل يدخل فيه أوالد البن�ات؟‬
‫فيه قوالن للعلماء هما‪ :‬روايت�ان عن أحمد إحداهما يدخلون وهو مذهب الشافعي‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬ال يدخلون وهو مذهب أبي حنيفة رحمه هللا‪ ،‬واحتج من قال بدخولهم بأن‬
‫المسلمين مجمعون على دخول أوالد فاطمة رضي هللا عنها في ذرية النبي صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم المطلوب لهم من هللا الصالة؛ ألن أحدا من بن�اته غيرها لم يعقب‬

‫‪115‬‬
‫بداية الطريق‬

‫َۡ‬ ‫َ ُ َ ُ َ‬ ‫ُ َّ‬
‫اوۥد َوسليم ٰ َن‬ ‫﴿ومِن ذ ّ ِريتِ ِهۦ د‬
‫إلى قوله‪...‬فقد قال هللا تعالى في حق إبراهيم‪َ :‬‬
‫َ َ َ َّ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ ُّ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ‬
‫ۡ‬
‫ۡح َيٰ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫ُ‬
‫وس وهٰرونۚ وكذٰل ِك ن ِزي ٱلمح ِسنِني‪ ٨٤‬وزك ِريا وي‬ ‫وأيوب ويوسف وم ٰ‬
‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫ۡ َ َ ُ ّ ‪َّ َ ّ ٞ‬‬ ‫َوع َ ٰ‬
‫حني‪[ ﴾٨٥‬األنعام‪ ،]85 - 84 :‬ومعلوم أن عيسى لم ينتسب‬ ‫اس ك مِن ٱلصلِ ِ‬ ‫ِيس ِإَول ۖ‬
‫إلى إبراهيم إال من جهة أمه مريم‪ ،‬إلى أن ذكر جواب المخالفين في أوالد غير فاطمة‬
‫بما معناه‪ :‬الفرق بين فاطمة وغيرها بأن دخول أوالد فاطمة رضي هللا عنها في ذرية‬
‫النبي صلى هللا عليه وآله وسلم لشرف هذا األصل العظيم والوالد الكريم الذي ال‬
‫يداني�ه أحد من العالمين سرى ونفذ إلى أوالد البن�ات لقوته وجاللته وعظم قدره‪،‬‬
‫ونحن نرى من ال نسبة له إلى هذا الجناب العظيم من العظماء والملوك وغيرهم‬
‫تسري حرمة إيالدهم وأبوتهم إلى أوالد بن�اتهم‪ ،‬فتلحظهم العيون بلحظ أبن�ائهم‪،‬‬
‫ويكادون يضربون عن ذكر آبائهم صفحا فما الظن بهذا اإليالد العظيم قدره‪ ،‬الجليل‬
‫خطره‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬العمدة الدليل‪ ،‬وفيما ذكرناه في هذه الفصول كفاية لمن أنصف‪ ،‬وباهلل‬
‫التوفيق‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫خاتمــــة‬
‫في بعض أسئلة قد يعترض بها بعض المخالفين من أهل هذا الزمان‪ ،‬وجوابن�ا‬
‫على ذلك‪:‬‬
‫السؤال األول‪ :‬كيف يصح أن الحسنين وذريتهما ذرية رسول هللا صلى هللا‬
‫ۡ‬‫َّ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َ ٓ َ َ ّ ّ َ ُ‬
‫رجال ِكم﴾ [األحزاب‪:‬‬
‫عليه وآله وسلم وقد قال هللا تعالى‪﴿ :‬ما كن ممد أبا أح ٖد مِن ِ‬
‫‪.]40‬‬
‫الجواب وباهلل التوفيق‪ :‬هذه اآلية لبي�ان أن زيد بن حارثة ليس ابن�ا لرسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم ألنهم كانوا يقولون له زيد بن محمد‪.‬‬
‫أخرج البخاري في صحيحه [ج‪ 5‬ص‪ ]22‬من النسخة المفردة عن الشروح‪،‬‬
‫وذلك في التفسير في تفسير سورة األحزاب بسنده عن ابن عمر أن زيد بن حارثة‬
‫مولى رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ما كنا ندعوه إال زيد بن محمد حتى نزل‬
‫َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َُ َ‬
‫ۡ َ‬ ‫َٓ‬ ‫ۡ ُ ُ‬
‫ۡم ٓأِلبائ ِ ِهم هو أقسط عِند ٱللِۚ﴾ [األحزاب‪.]5 :‬‬
‫القرآن‪﴿ :‬ٱدعوه‬
‫قوله‪ :‬مولى رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم أي أن رسول هللا صلى هللا‬
‫ً‬
‫تعبيرا عن الصلة بين‬ ‫عليه وآله وسلم أعتقه وهم يسمون العتيق مولى للمعتق‬
‫المعتق والعتيق والعالقة األكيدة الحاصلة بسبب نعمة اإلعتاق‪ ،‬وقول ابن عمر هذا‬
‫الذي أخرجه البخاري؛ أخرجه الترمذي في سنن�ه [ج‪5‬ص‪ ]676‬وقال هذا حديث‬
‫صحيح‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وقال محمد بن جرير الطبري في تفسيره ج ‪22‬ص‪ 12‬القول في تأويل قوله‬
‫َّ ّ‬ ‫ُ َ َّ َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َ ٓ َ َ ّ‬
‫كن َّرسول ٱللِ َوخات َم ٱنلبِ ِي‍ َۧنۗ‬‫تعالى‪﴿ :‬ما كن ممد أبا أح ٖد مِن ّ ِرجالِكم َول ٰ ِ‬
‫شء َعل ٗ‬ ‫َ َ َ َّ ُ ُ ّ َ‬
‫يما‪[ ﴾٤٠‬األحزاب‪ ]40 :‬يقول تعالى ذكره‪ :‬ما كان يا أيها الناس‬ ‫ۡ ٍ ِ‬ ‫وكن ٱلل بِك ِل‬
‫محمد أبا زيد بن حارثة‪ ،‬وال أبا أحد من رجالكم الذي لم يلده محمد‪ ،‬فيحرم عليه نكاح‬
‫زوجته‪ ،‬أي زوجة زيد ونحوه بعد فراقه إياها‪ ،‬ولكنه رسول هللا وخاتم النبيين الذي‬
‫ختم النبوة فطبع عليها فال تفتح ألحد بعده إلى قيام الساعة‪ .‬وكان هللا بكل شيء من‬
‫أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم ال يخفى عليه شيء‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫بداية الطريق‬

‫قال ابن جرير الطبري‪ :‬وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل‪ ،‬ذكر من قال ذلك‬
‫َّ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َ ٓ‬
‫حدثن�ا بشر قال‪ :‬حدثن�ا يزيد قال‪ :‬حدثن�ا سعيد عن قتادة قوله‪﴿ :‬ما كن ممد أبا‬
‫ۡ‬‫َ َ ّ ّ َ ُ‬
‫أح ٖد مِن ِرجالِكم﴾ قال‪ :‬نزلت في زيد أنه لم يكن بابن�ه‪ ،‬ولعمري ولقد ولد له ذكور‬
‫َّ ُ َ َّ َ َ َ َ َّ ّ‬ ‫َ‬
‫ي َۧنۗ﴾ أي‬ ‫ٱنلبِ ِ ‍‬ ‫أنه ألبو القاسم وإبراهيم والطيب والمطهر ﴿ل ٰ ِ‬
‫كن رسول ٱللِ وخاتم‬
‫شء َعل ٗ‬‫َ َ َ َّ ُ ُ ّ َ‬
‫يما‪.﴾٤٠‬‬ ‫ۡ ٍ ِ‬ ‫آخرهم ﴿وكن ٱلل بِك ِل‬
‫‪...........‬قلت‪ :‬إذا تأملت سياق اآليات المذكورات وهو في سورة األحزاب ظهر‬
‫َّ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َ ٓ َ َ ّ ّ َ ُ‬
‫ۡ‬
‫لك أن قوله تعالى‪﴿ :‬ما كن ممد أبا أح ٖد مِن ِرجالِكم﴾ نزلت في زيد بن حارثة‬
‫ليتبين بذلك أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم لما تزوج زينب‪ ،‬وكانت قبل‬
‫وطرا ‪ -‬أي قضى حاجته منها ورغب‬ ‫ذلك زوجة لزيد بن حارثة‪ ،‬فلما قضى زيد منها ً‬
‫عنهاـ زوج هللا رسوله صلى هللا عليه وآله وسلم بتلك التي كانت مع زيد‪ ،‬فلم يتزوج‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم حليلة ابن�ه كما كانت الجاهلية تعتقد‪ ،‬فقوله‬
‫ۡ‬‫َّ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َ ٓ َ َ ّ ّ َ ُ‬
‫تعالى‪﴿ :‬ما كن ممد أبا أح ٖد مِن ِرجالِكم﴾ ردا العتقاد الجاهلية في زيد ليعلموا‬
‫أن تزوج رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من كانت حليلته سابقا ال بأس به؛ ألنها‬
‫ليست حليلة ابن له‪.‬‬
‫ۡ َ ُ ُ َّ َ‬
‫ۡن َعمَ‬ ‫وسياق اآليات يدل على ذلك فتأملها من قول هللا تعالى‪ِ﴿ :‬إَوذ تقول ل ِل ٓ‬
‫ِي أ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ َ َ َ َّ‬
‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬‫ۡ َ َ َ‬ ‫َۡ‬‫ۡ َ‬ ‫َّ ُ َ َ‬
‫ٱلل علي ِه َوأنعمت علي ِه أم ِسك عليك زوجك وٱت ِق ٱلل﴾ [األحزاب‪ ]37 :‬إلى قوله‪:‬‬
‫ۡ‬ ‫َّ َ َ ُ َ َّ ٌ َ َ ٓ َ َ ّ ّ َ ُ‬
‫﴿ما كن ممد أبا أح ٖد مِن ِرجالِكم﴾ [األحزاب‪ ]40 :‬اآلية‪..‬لتعرف أن الكالم مسوق‬
‫لتأكيد أن التزويج المذكور والزواج حق وصواب وحكمة‪ ،‬ليكون الرسول صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم قدوة للمسلمين في استحالل الزوجة التي كانت مع الدعي إذا‬
‫وطرا وطلقها رغبة عنها‪ ،‬فكانت هذه طريقة من طرقات‬ ‫كان الدعي قد قضى منها ً‬
‫محو ظلمات الجاهلية بنور اإلسالم‪ ،‬الفارق بين الحق والباطل‪ ،‬وحكمة إلزالة ما في‬
‫صدورهم من استنكار الزواج بمن كانت مع الدعي‪ ،‬أو النفار عن ذلك الزواج أو محبة‬
‫اجتن�ابه تنـزها بسبب ما في قلوبهم من آثار عقيدة الجاهلية التي كانت ال يذهب‬
‫أثرها إال بفعل القدوة المعظم صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وحكم هللا العلي األكرم‬

‫‪118‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ۡ ُ َ ُ ُ‬ ‫َّ َّ َ َ‬
‫ٱلل يك ُم ما ي ِريد‪[ ﴾١‬المائدة‪...............]1 :‬‬ ‫الذي هو أعلم وأحكم وله الحكم ﴿إِن‬
‫انتهى من السلسلة الذهبي�ة‪.‬‬
‫ولمن كان متعصبا وأبى إال أن يحرف اآلية عن معناها وسياقها وادعى أنها عامة‬
‫في كل الرجال حتى في منهم من ذريت�ه فباإلمكان الجواب عليه بهذا الجواب الذي‬
‫اقتطعناه من كالم رباني آل محمد السيد بدر الدين الحوثي رضوان هللا عليه ‪:‬‬
‫«والجواب فيهما عليهما السالم أنهما كانا صغيرين عند نزول اآلية وفي وقت‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ولم يصيرا رجلين إال بعد موته بزمن طويل‪،‬‬
‫فاآلية ال تعم الحسنين‪ ،‬ألنها ال تعم الصبي�ان‪ ،‬ألن هللا تعالى قال‪( :‬من رجالكم) ولم‬
‫يقل‪ :‬من صبي�انكم‪ ،‬ولو كان المراد عموم كل ذكر ولو صغيرا لقال‪ :‬ما كان محمد أبا‬
‫أحد من الذكور‪ ،‬ولم يقل‪ :‬من رجالكم فلما قال من رجالكم لم تكن عامة إال لرجالهم‬
‫دون الحسنين عليهما السالم‪.‬‬
‫فإن قال المخالفون‪ :‬إن الحسن والحسين عليهما السالم وإن لم يكونا من‬
‫الرجال في وقت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فقد صارا من الرجال بعده‪،‬‬
‫فيجب أن تعمهما اآلية‪.‬‬
‫قلنا جوابا عليهم‪ :‬إن اآلية ال تدل على أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫ليس أبا لمن سيكون رجال على العموم إذا لم يكن رجال عند نزولها‪ ،‬ألن هللا تعالى‬
‫قال‪( :‬ما كان محمد) وكلمة (ما كان) لنفي الماضي دون المستقبل كقوله تعالى‪:‬‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ ُ ََ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫َ ُ َ َ‬
‫ٱليم ٰ ُن﴾ [الشورى‪ ]52 :‬فهذا لنفي الماضي فقط‪ ،‬ألن‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫كتٰب و‬
‫﴿ما كنت تد ِري ما ٱل ِ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قد علم الكتاب واإليمان بعد ذلك‪ ،‬وهذا واضح‬
‫معروف في لغة العرب‪ ،‬أن (ما كان) لنفي الماضي‪ ،‬فأما المستقبل فنفيه (لن‬
‫يكون) ونحو ذلك مما يدل على المستقبل فلو أراد هللا نفي المستقبل لقال‪( :‬لن‬
‫أبوة رسول هللا صلى‬‫يكون محمد) أو نحو ذلك‪ ،‬فثبت بذلك أن اآلية الكريمة لم تنف ّ‬
‫ً‬
‫هللا عليه وآله وسلم للحسنين؛ ألنها خاصة بالرجال الذين كانوا رجال عند نزولها‪،‬‬
‫وألن النفي في قوله‪( :‬ما كان) خاص بالماضي دون المستقبل‪ ،‬وباهلل التوفيق‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫بداية الطريق‬

‫تنبيه‪( :‬خا�ص ب�أهل النحو)‬


‫قد يشكل على بعض النفي بـ (ما كان) وليس الغرض به الماضي وحده‪ ،‬فنقول‬
‫لدفع اإلشكال‪ :‬اعلم أن األصل في (ما كان) هو أنها لنفي الماضي؛ ألن (كان) في‬
‫الحقيقة للماضي و (ما) ال ينفى بها المستقبل في األصل‪ ،‬وإنما يكون فهم النفي‬
‫للمستقبل لسبب عارض وهو قسمان‪ :‬لفظي‪ ،‬وحالي‪ ،‬فاللفظي أن يكون خبر‬
‫كان يدل على االستقبال‪ ،‬والحالي أن تقوم قرين�ة حالية على إرادة نفي المستقبل‬
‫بواسطة نفي الماضي‪ .‬وللقسم اللفظي أمثلة‪:‬‬
‫المثال األول‪ :‬أن يكون خبر كان فيه فعل مضارع مقترن بالم الجحود نحو‪:‬‬
‫ۡ‬ ‫ۡ ََ َ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ ُ َ ّ َ ُ‬
‫ِيهم ۚ﴾ [األنفال‪ ]33 :‬فقوله‪( :‬ليعذبهم) فيه الالم التي‬ ‫﴿وما كن ٱلل ِلع ِذبهم وأنت ف ِ‬
‫تسمى (الم الجحود) ويعذب فعل مضارع‪ ،‬فهذا يفيد استمرار النفي في قوله‪( :‬وما‬
‫كان هللا ليعذبهم) في الماضي والحال واالستقبال‪ ،‬وصح هذا بسبب أن الفعل‬
‫المضارع يستعمل للمستقبل في بعض األحوال‪ ،‬ونظير هذا (لم) فهي لنفي الوقوع‬
‫ً‬
‫في الماضي‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬لم أكن أجالس زيدا‪ .‬فهو نفي لوقوع المجالسة لزيد في‬
‫الماضي‪ ،‬فإذا جئت بعدها بالم الجحود فهم المستقبل نحو‪ :‬لم أكن ألجالس زيدا‪.‬‬
‫ََ َ َ‬
‫﴿وما كن‬ ‫المثال الثاني‪ :‬أن يكون خبر كان اسم فاعل في معنى المستقبل نحو‪:‬‬
‫َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡ َُ َ‬ ‫َّ ُ ُ َ ّ َ ُ‬
‫ۡم يستغ ِف ُرون‪[ ﴾٣٣‬األنفال‪ ]33 :‬فما داموا يستغفرون في المستقبل‬ ‫ٱلل مع ِذبهم وه‬
‫ۡ َ َ‬
‫فهم في أمان من العذاب‪ ،‬واسم الفاعل يكون فيه معنى االستقبال نحو‪﴿ :‬إِذ قال‬
‫َّ ُ َ ٰ َ ٰٓ ّ ُ َ ّ َ‬
‫يس إ ِ ِن مت َوف ِيك﴾ [آل عمران‪.]55 :‬‬ ‫ٱلل ي ِع‬
‫ََ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫﴿وما‬ ‫مضارعا مقرونا بأن المصدرية نحو‪:‬‬ ‫المثال الثالث‪ :‬أن يكون اسم كان فعل‬
‫ۡ ُ ْ‬ ‫ۡ َ ُ‬ ‫ََ َ َ َ ُ‬ ‫ۡ ً َّ َ َ ٗ‬ ‫َُۡ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬
‫طاۚ﴾ [النساء‪ ،]92 :‬ونحو‪﴿ :‬وما كن لكم أن تؤذوا‬ ‫كن ل ُِمؤم ٍِن أن يقتل مؤمِنا إِل خ ‍ٔ‬
‫ۡ ٓ ََ ً‬ ‫ۡ َٰ َ ُ ۢ َ‬ ‫ُ َ َّ َ ٓ َ َ ُ ٓ ْ َ‬
‫كحوا أزوجهۥ مِن بع ِده ِۦ أبدا ۚ﴾ [األحزاب‪ ،]53 :‬وهذا بسبب الفعل‬ ‫َرسول ٱللِ َول أن تن ِ‬
‫المضارع‪ ،‬ألنه يستعمل لالستقبال في بعض األحوال‪.‬‬
‫فهذه الثالثة األمثلة ال يقاس عليها إال ما كان مثلها في سبب فهم االستقبال‬
‫الذي ذكرناه من الفعل المضارع مع الم الجحود والفعل المضارع مع أن المصدرية‬

‫‪120‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫واسم الفاعل الذي يكون بمنزلة الفعل المضارع مع الم الجحود‪.‬‬


‫والتحقيق أن (ما كان) لنفي الكون في الماضي‪ ،‬وإنما فهم االستقبال من‬
‫الفعل الذي بعدها المقرون بالالم أو بأن المصدرية‪ ،‬ومن اسم الفاعل الذي بمعنى‬
‫االستقبال‪ ،‬فأما (ما كان) فهي باقية على أصلها‪.‬‬
‫وأما السبب الحالي الذي ألجله يفهم النفي للمستقبل وهو يسمى قرين�ة حالية‬
‫فهو أن ينفى الماضي ألجل يقاس عليه المستقبل‪.‬‬
‫وتدل القرين�ة الحالية على أن ذلك هو المقصود كما لو قيل لك‪ :‬ال تخن أمانتك‪.‬‬
‫فأجبت ما كنت خائن�ا فيما مضى من عمري‪ .‬فقلت هذا لتدل على أنك لن تخون‬
‫في المستقبل‪ ،‬وال يخفى أن هذا القسم بقيت فيه (ما كان) على أصلها في نفي‬
‫الماضي‪ ،‬وإنما يستفاد نفي المستقبل بالقرين�ة الحالية الدالة على إرادة قياس‬
‫المستقبل على الماضي‪.‬‬
‫ََ ُ َ‬
‫﴿وما كنت‬ ‫فإذا لم توجد القرين�ة اللفظية والحالية فاألصل نفي الماضي ال غير‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ُ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُۡ ْ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ‬
‫لك‬ ‫ۡر ُج ٓوا أن يُل َ ٰٓ‬
‫ق ِإ‬ ‫ۡبلِ ِهۦ مِن ك َِتٰب﴾ [العنكبوت‪ ،]48 :‬ونحو‪َ :‬‬
‫﴿وما كنت ت‬ ‫ٖ‬ ‫ق‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫تتلوا‬
‫ۡ ََُٓ َ َ ََ َ ُ َ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫ك َتٰ ُ‬ ‫ۡ‬
‫ۡومك﴾ [هود‪ ،]49 :‬وهذا واضح‬ ‫ب﴾ [القصص‪﴿ ،]86 :‬ما كنت تعلمها أنت ول ق‬ ‫ٱل ِ‬
‫عند أهل العربي�ة‪ ،‬وإنما أطلنا في التفصيل ألجل المبت�دئ ليفهم ويسلم التضليل‪....‬‬
‫انتهى من السلسلة الذهبي�ة‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى ما ذكره رباني آل محمد ذكرنا في ثن�ايا الكتاب الكثير من األدلة‬
‫على استمرارية االصطفاء إلى يوم القيامة من ذرية النبي محمد صلى هللا عليه‬
‫َۡ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َ َّ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ َّ َ‬
‫كتب ٱلِين ٱصطفينا‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫وآله في قوله تعالى بعد أن ذكر النبي محمدا ﴿ثم أورثنا ٱل ِ‬
‫َََۡٓ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫ْۡ َ‬‫ۡ ََ َ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬
‫ِۡن ع َِبادِناۖ﴾ [فاطر‪ ،]32 :‬وأيضا من خالل قوله تعالى ‪﴿ :‬فقل تعالوا ندع أبناءنا‬ ‫م‬
‫ُۡ‬‫ۡ َ َٓ‬ ‫َ‬
‫َوأبناءكم﴾ [آل عمران‪ ]61 :‬آية المباهلة والتي أجمع فيها المسلمون أن المقصود بهم‬
‫ۡ‬ ‫َََ‬
‫﴿ولقد‬ ‫هم الحسن والحسين فسماهم أبن�اء للرسول‪ ،‬وأيضا من خالل قوله تعالى‬
‫ۡ َ‬
‫ۡ َ ٗ َ ُ ّ َّ ٗ‬ ‫َۡ َُ‬ ‫َۡ ُ ُ ٗ ّ َ‬
‫ۡ َ َ َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬
‫ۚ‬ ‫ٰ‬
‫أرسلنا رسل مِن قبلِك وجعلنا لهم أزوجا وذ ِرية﴾ [الرعد‪ ]38 :‬فهي سنة دائمة أن‬
‫يكون لألنبي�اء أزواجا وذرية‪ ،‬وكذلك من خالل قوله تعالى لمن شنأ وعاب رسول هللا‬

‫‪121‬‬
‫بداية الطريق‬

‫َۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡ َٰ َ‬
‫َ‬ ‫َّ ٓ َ‬
‫ۡ‬
‫َ‬
‫بأنه ابتر ال عقب له فأنزل هللا سبحانه وتعالى قوله تعالى ﴿إِنا أعطينك ٱلكوثر‪١‬‬
‫َۡ‬
‫َۡ‬ ‫َّ َ َ َ ُ‬ ‫َۡ‬ ‫َ َ ّ ّ َ‬
‫ۡر‪ ٢‬إِن شان ِئك ه َو ٱلبت‪[ ﴾٣‬الكوثر‪ ]3 - 1 :‬فوصف هللا نبي�ه بأنه‬
‫ُ‬ ‫فص ِل ل َِربِك َوٱن‬
‫ليس أبترا بل أعطاه الكوثر والتي أول مصاديقها الذرية الكثيرة التي تأتي من ابنت�ه‬
‫فاطمة الزهراء سالم هللا عليها‪ ،‬ولعل الحكمة من جعل ذرية النبي محمد صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم من نسل فاطمة عليها السالم تكريما لفاطمة وتكريما للمرأة التي‬
‫كانت ممتهنة في زمن الجاهليين‪ ،‬ومن األدلة كذلك إيمان كل المذاهب اإلسالمية‬
‫بأن المهدي المنتظر الموعود من ذرية النبي محمد صلى هللا عليه وآله من نسل‬
‫ابنت�ه فاطمة عليها السالم‪.‬‬

‫�أهل البيت عند �أهل ال�سنة والجماعة‬


‫ً‬
‫ليس غريب�ا أن تتولع القلوب بحب أهل البيت (ع)‪ ،‬ولكن الغريب أن تتولع‬
‫بحبهم وحب أعدائهم وقاتليهم‪ ،‬والحق أن قضية أهل البيت في منهج أهل السنة‬
‫قضية تدعو إلى االستغراب والحيرة‪ ،‬وقليلة حسبما أعتقد هي تلك المذاهب‬
‫التي يجتمع فيها حب القاتل والمقتول والظالم والمظلوم في ٍآن واحد‪ ،‬ولكن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هذه التن�اقضات جميعا ُجمعت في منهج أهل السنة؛ فهم يحبون عليا ويبجلون‬
‫المتآمرين في السقيفة ومعاوية‪ ،‬ويحبون الحسين والبعض منهم ال يتن�ازلون‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫عن يزيد‪ ،‬وقد قرأت قصة أضحكتني وأعجبتني كثيرا تصف هذه الحال المضحكة‬
‫مرة إلى‬
‫والمبكية في ٍآن واحد‪ ،‬وهي أن أحد أصحاب أو محبي اإلمام علي دخل ذات ٍ‬
‫ً‬
‫مقبرة فوجد رجال يبكي بجوار قبر سيدنا حجر ابن عدي ‪ ‬فقال له‪ :‬لماذا تبكي يا‬
‫رجل؟ قال‪ :‬أبكي على سيدنا حجر رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬ولماذا تبكي على سيدنا حجر‬
‫ابن عدي؟ قال الرجل‪ :‬قتله سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي هللا عنه‪ !!..‬فقال‬
‫له‪ :‬ولماذا قتله معاوية؟ قال‪ :‬ألنه قاتل مع سيدنا علي رضي هللا عنه‪ ،‬فبكى المحب‬
‫فبادره الرجل بقوله‪ :‬وأنت لماذا تبكي؟ قال المحب‪ :‬وأنا أبكي عليك أنت رضي هللا‬
‫عنك‪.‬‬
‫كما تالحظ فقد بلغ اإلسفاف والسخف بعوام الناس إلى أن يجللوا الباغي‬

‫‪122‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫الظالم برضاء هللا كما المظلوم العادل ً‬


‫سواء بسواء‪ ،‬على الرغم من تلك المخازي التي‬
‫قام بها معاوية والتي تدلل بجالء على مدى االنحراف الذي وصل إليه الرجل‪ ،‬ونحن‬
‫نؤمن يقين�ا أن فتن�ة معاوية لم تكن وليدة وقتها ولكنها ثمرة لغلطة تاريخية سابقة‬
‫أودت باألمة إلى هوة سحيقة من االستعباد والذل على أيدي أمثال معاوية ويزيد‬
‫والحجاج وغيرهم إلى زمنن�ا هذا‪ ،‬وهو ثمرة لقرار الخليفة عمر الذي واله على الشام‬
‫ً‬
‫وقال عنه‪ :‬ذلك كسرى العرب‪ ،‬وبدال من أن نمتلك الشجاعة الكافية لنقد تراثن�ا‬
‫ّ‬
‫التاريخي وإخضاعه للفحص والتأمل‪ ،‬لم نجد ممن يسمون أنفسهم أهل السنة إال‬
‫االلتفاف على كل المصائب والمخازي التي حصلت واختزالها بكلمة واحدة‪ ،‬وهي‬
‫أنهم مخطئون مجتهدون‪ ،‬وبما أنهم مجتهدون فإن جزاء من شرب الخمور منهم‬
‫وسفك الدماء وسب أولياء هللا هو جزاء المجتهد المخطئ صاحب األجر الواحد!‬
‫قال ابن حزم في فصله ما موجزه‪ :‬إن معاوية ومن معه مخطئون مجتهدون‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مأجورون أجرا واحدا(((‪ ،‬واعتذر ابن تيمية ايضا لمعاوية فيما فعل بأنه مجتهد وقال‪:‬‬
‫إنه كعلي ابن ابي طالب في ذلك(((‪ ،‬ولما كان لشخصية الشيخ ابن تيمية مكانة‬
‫ً‬
‫عظيمة في قلوب أتب�اعه من الوهابي�ة آثرنا أن نسلط الضوء عليها قليال كمثال‬
‫للتن�اقض‪.‬‬

‫كالم ابن تيمية عن �إجتباء �آل الر�سل‬


‫يقول بالحرف الواحد (إن فكرة تقديم آل الرسول هي من أثر الجاهلية في تقديم‬
‫(((‬
‫أهل بيت الرؤساء)‬
‫(لنرى العقيدة في ذلك بين قول هللا ورسوله‪ ،‬وقول ابن تيمية‪:‬‬
‫ً‬
‫قال تعالى بعد أن ذكر ثماني�ة عشر نبي�ا بأسمائهم في أربع آيات من سورة األنعام‪:‬‬
‫َۡ ُ‬ ‫ۡ َٰ ُ َ َ‬
‫ۡ ََ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َٓ‬ ‫َۡ ََ‬
‫ۡٱل َعٰلَم َ‬ ‫َ ُ ّٗ َ َّ‬
‫ۡم‬‫ۡم َوهدي ٰنه‬
‫ۡم ۖ َوٱجتبينه‬
‫ۡم ِإَوخوٰن ِِه‬
‫ۡم َوذ ّ ِريٰتِ ِه‬‫ِۡن ءَابائ ِ ِه‬
‫ني‪َ ٨٦‬وم‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫﴿وك ف‬
‫ۡ َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫ص َر ٰ ٖط مست ِقي ٖم‪[ ﴾٨٧‬األنعام‪ ]87 - 86 :‬واجتبين�اهم اي اخترناهم وأخلصناهم‪ .‬لماذا‬ ‫إ ِ ٰل ِ‬
‫((( الفصل في الملل واألهواء والنحل ‪161/4 -‬‬
‫((( منهاج السنة ‪298-261/3‬‬
‫((( منهاج السنة ‪269 /3‬‬

‫‪123‬‬
‫بداية الطريق‬

‫خص هللا آل الرسل بهذا االجتب�اء؟ لماذا هذه العناية الخاصة بآل االنبي�اء آبائهم‬
‫وإخوانهم وذرياتهم دون سائر البشر؟‬
‫ۡ‬ ‫ََُ َُّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫نك ُم ّ‬‫ۡ َ َ ُ‬ ‫يد َّ ُ‬ ‫َّ َ ُ ُ‬
‫ت ويط ِهركم‬ ‫َ‬
‫ٱلرجس أهل ٱلي ِ‬ ‫ع‬ ‫ِب‬ ‫ه‬ ‫ذ‬ ‫ٱلل ِ ُ‬
‫ل‬ ‫قال تعالى ﴿إِنما ي ِر‬
‫ِ‬
‫ۡطه ٗ‬ ‫َ‬
‫ريا‪[ ﴾٣٣‬األحزاب‪ ]33 :‬لماذا خص أهل البيت بهذه العناية وبهذا التطهير دون‬ ‫ت ِ‬
‫سواهم من الصحابة والقرابة؟‬
‫ً‬
‫والنبي يفرد أربعة فقط ممن حوله من المسلمين عليا وفاطمة والحسن‬
‫كساء ثم يقول‪“ :‬اللهم هؤالء أهل بيتي”‪ ،‬هؤالء النفر ال‬ ‫ً‬ ‫والحسين ويدير عليهم‬
‫ً‬
‫“أذه ْب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا”‪ ،‬فلماذا هذا التقديم الذي خص به آل‬ ‫غير ِ‬
‫الرسول دون سواهم؟‬
‫ّ َ ُ َ َّ‬
‫اس‬‫‪.....‬هل قول إبراهيم الخليل حين قال له هللا تعالى‪﴿ :‬إ ِ ِن جاعِلك ل ِلن ِ‬
‫ُ َّ‬ ‫َ ٗ‬
‫﴿ومِن ذ ّ ِري ِت ۖ﴾ [البقرة‪ ]124 :‬فقوله هذا في تقديم ذريت�ه‬ ‫اماۖ﴾ [البقرة‪ ]124 :‬فقال إبراهيم َ‬ ‫إِم‬
‫هو من عقائد اليهود الذي لم يخلقوا بعد أم من أثر الجاهلية؟! وقول هللا تعالى في‬
‫ك َتٰ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُّ ُ َّ َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َۡ‬ ‫َ َ َ‬
‫ب﴾ [العنكبوت‪ِ ]27 :‬أم ْن عقائد‬ ‫ٱنلبوة َوٱل ِ‬ ‫﴿وجعلنا ِف ذ ّ ِريتِ ِه‬ ‫إبراهيم عليه السالم‬
‫اليهود مشيئ�ة هللا تعالى واختي�اره ذرية إبراهيم أم من أثر الجاهلية؟! وقال تعالى‬
‫َۡ‬ ‫ۡ ُ َ َ َ ٗ ُ ّٗ َ َ‬ ‫ۡ َ َ َ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َ َ‬
‫وب ناف ِلة ۖ َوك جعلنا‬ ‫﴿و َوهبنا ُلۥٓ إِسحٰق َويعق‬ ‫في إبراهيم الخليل عليه السالم‬
‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ُۡ َ‬ ‫ۡ َ ٰ ُ َ َّ ٗ َ‬‫َ َ‬ ‫َصٰلح َ‬
‫ۡم أئِمة يهدون بِأم ِرنا﴾ [األنبي�اء‪.]73 - 72 :‬‬ ‫ني‪َ ٧٢‬وجعلنه‬ ‫ِ ِ‬
‫فلماذا وهب له اثنين من األنبي�اء وجعل فيهم اإلمامة بعده؟ ولماذا لم يجعلها‬
‫في أحد أصحابه المؤمنين به؟ أهذا حكم هللا ومشيئت�ه واصطفاؤه أم هو من عقائد‬
‫اليهود وأثر الجاهلية؟! [وليكن معلوما ً بأن مفهوم اإلمامة مفهوم أوسع وأكبر من‬
‫مفهوم القيادة السياسية أو السلطة التنفيذية‪ ،‬باعتب�ار أن اإلمامة مرجعية ديني�ة‪،‬‬
‫واعتب�ار أن االئمة مشعل هداية لتربي�ة وتزكية ورعاية وتوجيه وقيادة األمة‪ ،‬ولذلك‬
‫ً‬
‫(((‬
‫قرنوا بكتاب هللا تعالى في كون التمسك بهما منقذا من الضاللة]‬

‫((( ما بين المعكوفتين من تصرفنا [ ]‬

‫‪124‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ۡ َ ََ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َرٰه َ‬ ‫َ‬ ‫اد َم َونُ ٗ‬


‫ۡ َ َ ٰٓ َ َ‬ ‫وقول هللا تعالى‪۞﴿ :‬إ َّن َّ َ‬
‫ِيم َوءَال عِم َرٰن ع‬ ‫وحا َوءَال إِب‬ ‫ٱلل ٱصطف ء‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ضۗ﴾ [آل عمران‪]34 - 33 :‬‬
‫ۡ‬ ‫ۡ ُ َ ۢ َ‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫ۡٱل َعٰلَم َ‬
‫ني‪ ٣٣‬ذ ّ ِريَۢة بعضها م‬
‫اصطفاء من هللا تعالى آلل‬ ‫ِن بع ٖ‬ ‫ِ‬
‫الرسل وذرياتهم‪ ،‬أيقال فيه إنه من عقائد اليهود أو من أثر الجاهلية؟!‬
‫محمد خير الخلق وسيد األنبي�اء أجمعين أظهر عنايت�ه بأهل بيت�ه أشد العناية‬
‫ً‬
‫جهارا على المأل؛ “فاطمة بضعة مني” “الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة”‬
‫“هذان ابن�اي وريحانت�اي من الدني�ا” “حسين منى وأنا من حسين”‪“ ...‬اللهم هؤالء‬
‫ً‬
‫أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا”‪ ...‬وغير هذا كثير‪ ،‬ثم يتوجه إلى‬
‫أمته في أكبر تجمع لهم معه صلى هللا عليه وآله وسلم عند عودته من حجة الوداع‬
‫فيقول‪( :‬إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب‪ ،‬وإني تارك فيكم الثقلين‬
‫كتاب هللا فيه الهدى والنور‪ ،‬وعترتي أهل بيتي‪ ،‬أذكركم هللا في أهل بيتي أذكركم‬
‫هللا في أهل بيتي أذكركم هللا في أهل بيتي) يكرر هذا التذكير مرة بعد أخرى؛ ألنه‬
‫وجحود بحقهم المذكور ومقامهم‬ ‫ٍ‬ ‫يعلم ما سيحدث بعده من صدود عن أهل بيت�ه‪،‬‬
‫الذي ال يسمو إليه أحد من غيرهم‪ ،‬فهم ثاني الثقلين مع القرآن الكريم “وإن اللطيف‬
‫الخبير نب�أني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»‪ ،‬فهذا كله هل هو من قول‬
‫الشيعة ليقال إنه من عقائد اليهود وأثر الجاهلية؟ أم أن هذا التأويل بعقائد اليهود‬
‫وأثر الجاهلية له حقيقة؟! إن حقيقته الكاملة هي التي وصفها هللا تعالى في كتابه‬
‫ۡ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ ُ ُ َ َّ َ َ َ ٰ َ ٓ َ َ ٰ ُ ُ َّ‬ ‫ۡ َ‬‫َ‬
‫الحكيم إذ قال وقوله الحق‪﴿ :‬أم يسدون ٱنلاس ع ما ءاتىهم ٱلل مِن فضلِ ِهۖۦ فقد‬
‫ٗ‬ ‫ۡ ً َ‬ ‫ۡ َ ٰ ُ ُّ‬ ‫ۡ ََ ََ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ك َتٰ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َرٰه َ‬ ‫َۡٓ َ‬ ‫َ‬
‫ب َوٱل ِكمة وءاتينهم ملك ع ِظيما‪[ ﴾٥٤‬النساء‪ ]54 :‬وعند‬ ‫ِيم ٱل ِ‬ ‫ءَاتينا ءَال إِب‬
‫هذه االية قال اإلمامان الباقر والصادق‪( :‬نحن وهللا المحسودون)‪.‬‬
‫هل كل هذا االجتب�اء اإللهي آلل األنبي�اء هو من أثر الجاهلية؟! وكل هذا الذي في‬
‫القرآن هو من أثر الجاهلية؟! وهذه الصالة على آل محمد وآل إبراهيم التي ترددها‬
‫في صالتك هي من أثر الجاهلية!؟‪ ...‬الخ‬
‫قاتل هللا العصبي�ة الجاهلية‪ ،‬والعناد والضالل‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫بداية الطريق‬

‫‪ -‬ابن تيمية الوجه الآخر‬


‫آل أمية آل أبي سفيان وآل مروان حين توارثوا الحكم ال يخرج من بيتهم حتى‬
‫ً‬
‫انقرضت دولتهم هل رأى فيها شبها باليهود‪ ،‬أو نسب سيرتهم إلى آثار الجاهلية؟‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫كال أبدا فهم عنده الخلفاء على المسلمين وأمراء المؤمنين‪ ،‬الطاعة لهم واجبة ومن‬
‫طعن عليهم فقد أدخل الفتن�ة والفساد في أمور المسلمين وهللا يأمر بالصالح ال‬
‫وجه كالمه ضد الحسين سبط النبي وسيد شباب أهل الجنة حين‬ ‫بالفساد! هكذا ّ‬
‫طعن الحسين في إمارة يزيد بن معاوية (((‪ ...‬انتهى(((‪.‬‬
‫والغريب أن ابن تيمية عاد وتن�اقض مع طرحه األول‪ ،‬وذكر اصطفاء هللا ألهل‬
‫البيت في مكان آخر‪ ،‬يقول رباني آل محمد السيد بدر الدين الحوثي‪“ :‬قال ابن تيمية‬
‫في كتابه المسمى‪( :‬اقتضاء الـصراط المستقيم) في [ص‪« :]150‬والدليل على فضل‬
‫جنس العرب‪ ،‬ثم جنس قريش‪ ،‬ثم جنس بني هاشم ما رواه الترمذي‪ ،‬من حديث‬
‫إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد‪ ،‬عن عبد هللا بن الحارث‪ ،‬عن العباس‬
‫بن عبد المطلب رضي هللا عنه قال‪ :‬قلت‪ :‬يارسول هللا إن قريشا جلسوا فتذاكروا‬
‫أحسابهم بينهم‪ ،‬فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من األرض‪ ،‬فقال النبي صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم‪« :‬إن هللا خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم‪ ،‬ثم َّ‬
‫خير القبائل‬
‫خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم‪ ،‬فأنا خيرهم نفسا‪،‬‬‫فجعلني في خير قبيلة‪ ،‬ثم َّ‬
‫وخيرهم بيت�ا»‪ .‬قال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن‪ .‬وعبد هللا بن الحارث هو ابن نوفل‬
‫الكبى بالكسر والقصر‪ ،‬والكبة‪ :‬الكناسة والتراب الذي يكنس من البيت‪.‬‬
‫وفي الحديث‪( :‬الكبوة) وهي مثل‪ :‬الكبة‪ ،‬والمعنى‪ :‬أن النخلة طيب�ة في نفسها‪،‬‬
‫وإن كان أصلها ليس بذاك‪ .‬فأخبر صلى هللا عليه وآله وسلم‪ :‬أنه خير الناس نفسا‬
‫ونسبا‪.‬‬
‫وروى الترمذي أيضا من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد هللا بن‬
‫الحارث‪ ،‬عن المطلب بن أبي وداعة قال‪ :‬جاء العباس إلى رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم فكأنه سمع شيئ�ا‪ ،‬فقام رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم على المنبر‬
‫((( منهاج السنة ‪.241‬‬
‫ً‬
‫((( نقال عن كتاب ابن تيمية حياته وعقائده ص ‪.296-291‬‬

‫‪126‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫فقال‪« :‬من أنا؟» فقالوا‪ :‬أنت رسول هللا صلى هللا عليك وسلم‪ .‬قال‪« :‬أنا محمد‬
‫بن عبد هللا بن عبد المطلب» ثم قال‪« :‬إن هللا خلق الخلق فجعلني في خيرهم‪ ،‬ثم‬
‫جعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة‪ ،‬ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة‪،‬‬
‫ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيت�ا‪ ،‬فأنا خيرهم بيت�ا‪ ،‬وخيرهم نفسا»‪ .‬قال‬
‫الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن‪.‬‬
‫قال ابن تيمية‪ :‬وقد روى أحمد هذا الحديث في المسند من حديث الثوري عن‬
‫يزيد بن أبي زياد عن عبد هللا بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال‪:‬‬
‫قال العباس رضي هللا عنه‪ :‬بلغه صلى هللا عليه وآله وسلم بعض ما يقول الناس‬
‫قال‪ :‬فصعد المنبر فقال‪« :‬من أنا؟» قالوا‪ :‬أنت رسول هللا فقال‪« :‬أنا محمد بن عبد‬
‫هللا بن عبدالمطلب» ثم قال‪« :‬إن هللا خلق الخلق فجعلني من خير خلقه‪ ،‬وجعلهم‬
‫فرقتين فجعلني في خير فرقة‪ ،‬وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة‪ ،‬وجعلهم بيوتا‬
‫فجعلني في خيرهم بيت�ا‪ ،‬فأنا خيركم بيت�ا‪ ،‬وخيركم نفسا»‪ .‬أخبر صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم أنه ما انقسم الخلق فريقين إال كان هو في خير الفريقين‪.‬‬
‫إلى أن قال ابن تيمية‪ :‬ومثله أيضا في المسألة ما رواه أحمد ومسلم والترمذي‬
‫من حديث األوزاعي عن شداد بن أبي عمار عن واثلة بن األسقع قال‪ :‬سمعت رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪« :‬إن هللا اصطفى كنانة من ولد إسماعيل‪،‬‬
‫واصطفى قريشا من كنانة‪ ،‬واصطفى من قريش بني هاشم‪ ،‬واصطفاني من بني‬
‫هاشم» هكذا رواه الوليد وأبو المغيرة عن األوزاعي‪.‬‬
‫ورواه أحمد والترمذي من حديث محمد بن مصعب عن األوزاعي ولفظه‪« :‬إن هللا‬
‫اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل‪ ،‬واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة» الحديث‪.‬‬
‫قال الترمذي‪ :‬هذا حديث صحيح‪.‬‬
‫وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريت�ه صفوة ولد إبراهيم‪ ،‬فيقتضي أنهم أفضل من‬
‫ولد إسحاق‪ ،‬ومعلوم أن ولد إسحاق الذين هم بنو إسرائي�ل أفضل العجم؛ لما فيهم‬
‫من النبوة والكتاب‪ ،‬فمتى ثبت الفضل على هؤالء‪ ،‬فعلى غيرهم بطريق األولى»‪.‬‬
‫انتهى المراد نقله من كالم ابن تيمية‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫بداية الطريق‬

‫وفي المبحث زيادة في كتابه المسمى‪( :‬اقتضاء الصـراط المستقيم) فمن أراد‬
‫الزيادة فليراجعه» (((‪.‬‬
‫وهلل درالسيد العالمة مجد الدين المؤيدي حينما عجب لكثرة تن�اقض هذا‬
‫الشيخ انظر كتاب مجمع الفوائد‬

‫المجتهد عبد الرحمن ابن ملجم قاتل االمام علي‬


‫قال ابن حزم في المحلى ‪ 284 /10‬وابن التركماني في الجوهر النقي بذيل سنن‬
‫البيهقي ‪ 59-58/8‬واللفظ لألول (ال خالف بين أحد من األمة في أن عبد الرحمن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بن ملجم لم يقتل عليا إال متأوال ًمجتهدا مقدرا أنه على صواب وفي ذلك يقول عمران‬
‫بن حطان شاعر الصفرية‪:‬‬
‫إال ليبلـــغ من ذي العـــرش رضوانا‬ ‫يـــا ضربة مـــن تقي مـــا أراد بهـــــا‬
‫أوفـــى البرية عنـــد هللا رضوانـــــا‬ ‫إنـــي ألذكـــره يومـــا ًفأحـسبـــــه‬

‫فهذا الحطاني المبتهج بمقتل أمير المؤمنين عليه السالم أثنى عليه المحدثون‬
‫من أهل السنة‪ ،‬وأخرج له النسائي وأبو داوود وأحمد‪ ،‬وله في صحيح البخاري حديث�ان‬
‫حديث رقم ‪ 5387‬وحديث رقم ‪ 9496‬ترقيم العالمية‪ ،‬فيا له من حب عجيب حينما‬
‫يثنى على ابن حطان الذي وصف قاتل االمام بالتقوى وهللا يقول «ومن يقتل مؤمنا‬
‫ً متعمدا ًفجزاؤه جهنم‪.“ ...‬‬
‫[وهذا حريز ابن عثمان المتوفي ‪ 163‬هجرية كان يسب عليا ًو يشتمه وال يخرج‬
‫من المسجد بعد الصالة حتى يلعنه سبعين مرة ذكر ذلك البغدادي في تاريخ بغداد‬
‫‪ 267/8‬والمزي في تهذيب الكمال ‪ 576/5‬وابن حجر في تهذيب التهذيب ‪،209/2‬‬
‫ومع ذلك قال ابن عدي‪ :‬حريز من األثب�ات في الشاميين‪ ،‬ووثقه القطان وابن معين‪،‬‬
‫ً ً‬
‫وقال الذهبي في الميزان‪ :‬كان متقنا ثبت�ا‪ ،‬وحكي عن معاذ ابن معاذ أنه قال‪ :‬ال أعلم‬
‫ٌ ٌ‬ ‫ً‬
‫(((‬
‫أني رأيت شاميا أفضل منه!! وعن ابي داوود سألت احمد عنه فقال ثقة ثقة ثقة ]‬

‫((( السلسلة الذهبي�ة‪.‬‬


‫((( الصحابة عند الزيدية رؤية متوازنة ‪.9‬‬

‫‪128‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫يرو‬
‫واعتمد روايت�ه أصحاب الصحاح الست عدا مسلم‪ ،‬أما البخاري ‪-‬الذي لم ِ‬
‫عمن كذب على حصانه كما يقول أهل السنة‪ -‬ها هو يروى عمن كان يسب أمير‬ ‫ّ‬
‫المؤمنين سبعين مرة بعد الصالة‪ّ ،‬‬
‫وعمن مدح قاتل أمير المؤمنين‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وهذان الرجالن مثال فقط لمدى محبة هؤالء القوم ألهل بيت رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وإال فهناك الكثير من أمثال عبد هللا بن شقيق العقيلي ونعيم‬
‫بن أبي هندل االشجعي ولمازة بن زبار الذين كانوا مشهورين بالنصب وبغض وسب‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬ولكن أهل الصحاح لم يتورعوا عن الرواية عنهم رغم أنهم يروون‬
‫عن النبي صلى هللا عليه وآله أنه قال لعلي عليه السالم‪« :‬ال يحبك إال مؤمن وال‬
‫يبغضك إال منافق”(((‪.‬‬
‫[والغريب الملفت للنظر في هذه المسألة أن بعض المحدثين تغاضوا عمن‬
‫كان يسب عليا ًولم يمتنعوا على األقل عن الرواية عنه‪ ،‬أما إذا تعلق األمر بأبي بكر أو‬
‫عمر أو عثمان فال يتركون الرواية عمن ين�ال منهم فحسب‪ ،‬بل يحكمون عليه بالكفر‬
‫والردة‪ ،‬ويجعلون حده القتل والتنكيل‪ ،‬فقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب‬
‫‪ 132/6‬أن سعيد بن عبد الرحمن بن ابزي ُسئل عن رجل يسب أبا بكر فقال‪ :‬يقتل‬
‫فقيل سب عمر؟ قال‪ :‬يقتل‪ ،‬وذكر ابن بطة في شرح اإلبانة ‪ 162‬عن عبد الرحمن‬
‫األوزاعي أنه قال‪ :‬من شتم أبا بكر الصديق فقد ارتد عن دين�ه وأباح دمه‪ ،‬فلماذا يرتد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الراوي عندما يشتم أبا بكر أو عمر‪ ،‬وعندما يشتم عليا تعتمد روايت�ه ويكون ثقة‬
‫ً‬
‫ثقة ثقة؟! وأي تعصب أسوأ من هذا؟ واللوم في هذا يقع على المحدثين أكثر من‬
‫(((‬
‫غيرهم؛ ألنهم أصحاب نظرية العدالة المطلقة للصحابة]‬
‫يسيرا نستبين به مدى‬‫ً‬ ‫نعود مرة أخرى إلى ابن تيمية لنقتطف من أقواله ً‬
‫نزرا‬
‫حبه ألهل البيت عليهم السالم وغليك بعض األقوال‪:‬‬
‫قال ابن تيمية‪ :‬ومن قال إن حرب علي كحرب الرسول فإن الحديث “حربك‬
‫حربي وسلمك سلمي” كذب ‪،‬ولو كان حربه كحرب الرسول وهللا تعالى قد تكفل‬

‫((( الصحابة عند الزيدية رؤية متوازنة ‪.9‬‬


‫((( صحيح مسلم كتاب مناقب الصحابة باب حب علي واالنصار من االيمان‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡنياَ‬ ‫ۡ‬
‫ٱلَ َي ٰوة ِ ٱدلُّ‬ ‫َّ َ َ ُ ُ ُ ُ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ‬
‫ِين ءَامنوا ِف‬ ‫بنصر رسوله كما في قوله تعالى‪﴿ :‬إِنا لنص رسلنا وٱل‬
‫ۡ َ ََُ َ َ‬ ‫ۡ َ ََ‬‫َََ‬ ‫ۡ َٰ ُ‬ ‫َۡ‬
‫ۡو َم َي ُق ُ‬
‫َ‬
‫وم ٱلشهد‪[ ﴾٥١‬غافر‪ ،]51 :‬وكما في قوله تعالى ﴿ولقد سبقت كِمتنا لِ ِعبادِنا‬ ‫َوي‬
‫َۡ ُ َ‬ ‫َّ ُ َ َ َ ُ ُ‬ ‫َۡ ُ ُ َ‬ ‫ۡ َُ ُ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ُۡ‬
‫ٱلمرسلِني‪ ١٧١‬إِنهم لهم ٱلمنصورون‪ِ ١٧٢‬إَون جندنا لهم ٱلغٰلِبون‪[ ﴾١٧٣‬الصافات‪- 171 :‬‬

‫‪ ]173‬لوجب أن ُيغلب محارب رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ولم يكن األمر‬
‫كذلك‪ ،‬بل الخوارج لما أمر النبي صلى هللا عليه وآله وسلم بقتالهم وكانوا من جنس‬
‫َ‬
‫المنتصر‬ ‫المحاربين هلل ورسوله انتصر عليهم فلو كانت محاربت�ه محاربة للرسول لكان‬
‫(((‬
‫في آخر األمر هو‪ ،‬ولم يكن األمر كذلك بل كان آخر األمر يطلب مسالمة معاوية!‬
‫بهذه الطريقة كيف سيفسر ابن تيمية هزيمة أتب�اع كثير من األنبي�اء أمام الباطل‪،‬‬
‫بل ووصل األمر في كثير من الحاالت إلى استشهاد الكثير من األنبي�اء قتال‪ ،‬هل يعني‬
‫ذلك أنهم ليسوا على حق؟!‪ ،‬الحظ كيف تغافل ابن تيمية عمدا عن السبب الرئيسي‬
‫لمآل األمور إلى معاوية‪ ،‬وهو تخاذل أتب�اع اإلمام علي وتراكمات سقيفة بني ساعدة‪،‬‬
‫وتخاذل األتب�اع هو السبب الرئيسي الستشهاد األنبي�اء واألولياء‪ ،‬ولكن تلك كما ترى‬
‫رؤية ابن تيمية التحليلية لمآل األمور إلى معاوية في آخر المطاف‪ ،‬و تلك النظرة‬
‫عبر عن حقد دفين وكتمان للحقيقة‪.‬‬ ‫التي يريد من خاللها أن يخدع السطحيين ُت ِّ‬

‫جزءا رئيسيا من األسباب‬ ‫ويجدر بن�ا أن نذكر كالم األستاذ سيد قطب الذي حلل ً‬
‫بطريقة سليمة يقول‪“ :‬مضى عثمان إلى رحمة ربه‪ ،‬وقد خلف الدولة األموية قائمة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالفعل‪ ،‬بفضل ما مكن لها في االرض وبخاصة في الشام‪ ،‬وبفضل ما مكن للمبادئ‬
‫األموية المجافية لروح اإلسالم‪ ،‬من إقامة الملك الوراثي واالستئث�ار بالمغانم‬
‫واألموال والمنافع‪ ،‬مما أحدث خلخلة في الروح اإلسالمي العام‪ ،‬وليس بالقليل ما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يشيع في نفس الرعية ‪-‬إن حقا وإن باطال‪ -‬أن الخليفة يؤثر أهله ويمنحهم مئات‬
‫األلوف‪ ،‬ويعزل أصحاب رسول هللا ليولي أعداء رسول هللا‪ ،‬ويبعد مثل ابي ذر ألنه‬
‫انكر كنز األموال وأنكر الترف الذي يخب فيه األغني�اء‪ ،‬ودعا إلى مثل ما كان يدعو‬
‫إليه الرسول صلى هللا عليه وعلى آله وسلم من اإلنفاق والبر والتعفف‪ ..‬فإن النتيجة‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نفوس وأن تنحل‬ ‫الطبيعية لشيوع مثل هذه األفكار ‪-‬إن حقا وإن باطال‪ -‬أن تثور‬

‫((( منهاج السنة ‪234-233/2‬‬


‫‪130‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ً‬
‫وتأثما‪ ،‬وتنحل ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫نفوس‪ ،‬تثور ُ‬‫ٌ‬
‫نفوس‬ ‫نفوس الذين أشربت نفوسهم روح الدين إنكارا‬
‫الذين لبسوا اإلسالم ً‬
‫رداء ولم تخالط بشاشته قلوبهم والذين تجرفهم مطامع الدني�ا‬
‫ويرون االنحدار مع التي�ار‪ ،‬وهذا كله قد كان في أواخر عهد عثمان‪.‬‬
‫فلما أن جاء علي كرم هللا وجهه لم يكن من اليسير أن يرد األمر إلى نصابه في‬
‫ً‬
‫هوادة‪ ،‬وقد علم المستنفعون على عهد عثمان ‪-‬وبخاصة بني أمية‪ -‬أن عليا لن‬
‫يسكت عليهم فانحازوا بطبيعتهم وبمصالحهم إلى معاوية‪.‬‬
‫علي ليرد التصور اإلسالمي للحكم إلى نفوس الحكام ونفوس الناس‪ ،‬جاء‬ ‫جاء ّ‬
‫ليأكل الشعير تطحنه امرأته بي�ديها‪ ... ،‬ما يصنع علي بنفسه ما صنع وهو يجهل هذا‬
‫كله‪ ،‬إنما كان يعلم أن الحاكم مظنة وقدوة‪ ،‬مظنة التبحبح بالمال العام إذ كان تحت‬
‫سلطانه وقدوة الوالة والرعية في التحرج والتعفف‪ ...‬وسار علي كرم هللا وجهه في‬
‫طريقه يرد للحكم صورته كما صاغها النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪( ...‬وجد‬
‫درعه عند رجل نصراني فأقبل به إلى شريح قاضيه‪ ،‬يخاصمه مخاصمة رجل من عامة‬
‫رعاياه‪ ،‬وقال‪ :‬إنها درعي ولم أبع ولم أهب‪ ،‬فسأل شريح النصراني‪ :‬ما تقول فيما يقول‬
‫أمير المؤمنين؟ قال النصراني‪ :‬ما الدرع إال درعي‪ ،‬وما أمير المؤمنين عندي بكاذب‪،‬‬
‫فالتفت شريح إلى علي يسأله يا أمير المؤمنين هل من بين�ة؟ فضحك علي وقال‪ :‬أصاب‬
‫شريح ما لي بين�ة! فقضى بالدرع للنصراني‪ ،‬أخذها ومشى‪ ،‬وأمير المؤمنين ينظر إليه‪...‬‬
‫يخط خطوات حتى عاد يقول‪ :‬أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبي�اء‪...‬‬‫إال أن النصراني لم ُ‬
‫ً‬
‫أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقضي عليه! أشهد أن ال إله إال هللا وأشهد أن محمدا‬
‫ُ‬
‫الدرع ‪-‬وهللاِ‪ُ -‬‬
‫درعك يا أمير المؤمنين‪ ،‬اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى‬ ‫عبده ورسوله‪،‬‬
‫َ ْ‬
‫صفين‪ ،‬فخرجت من بعيرك األورق‪ ،‬فقال علي‪ :‬أما إذ أسلمت فهي لك)‪.‬‬
‫ولقد كان منهاجه الذي شرعه هو ما قاله في خطبت�ه عقب البيعة له‪( :‬أيها الناس‬
‫وعلي ما عليكم‪ ،‬وإني حاملكم على منهج نبيكم ومنفذ فيكم‬ ‫إنما أنا رجل منكم‪ ،‬لي ما لكم َّ‬
‫ُ‬
‫ما أمرت به‪ ،‬أال إن كل قطيعة أقطعها عثمان‪ ،‬وكل مال أعطاه من مال هللا فهو مردود في‬
‫ُ َ‬ ‫بيت المال‪ ،‬فإن الحق ال يبطله شيء‪ ،‬ولو وجدته قد ُت ُز و َج به النساء ُ‬
‫وم ِلك اإلماء وف ِّرق في‬ ‫ِ‬
‫البلدان لرددته‪ ،‬فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق‪...‬‬

‫‪131‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ّ‬
‫ولقد كان من الطبيعي أل يرضى المستنفعون عن علي‪ ،‬وأن ال يقنع بشرعة‬
‫المساواة من اعتادوا التفضيل ومن مردوا االستئث�ار‪ ،‬فانحاز هؤالء في النهاية إلى‬
‫ً‬
‫المعسكر اآلخر‪ :‬معسكر أمية حيث يجدون فيه تحقيقا ألطماعهم على حساب‬
‫الذين ّ‬ ‫َ‬
‫يصر عليهما علي رضي هللا عنه هذا اإلصرار!‬ ‫ِ‬ ‫العدل والحق‬
‫والذين يرون في معاوية ً‬
‫دهاء وبراعة ال يرونهما في علي ويعزون إليهما غلبة‬
‫معاوية في النهاية‪ ،‬إنما يخطئون تقدير الظروف‪ ،‬كما يخطئون فهم علي وواجبه‪،‬‬
‫لقد كان واجب علي األول واألخير أن يرد للتقاليد اإلسالمية قوتها‪ ،‬وأن يرد إلى الدين‬
‫روحه‪ ،‬وأن يجلو الغاشية التي غشت هذا الروح على أيدي بني امية في كبرة عثمان‪.‬‬
‫لظفره‬
‫ِ‬ ‫ولو جارى وسائل بني أمية في المعركة لبطلت مهمته الحقيقية ولما كان‬
‫ً ْ‬ ‫ً‬
‫قيمة في حياة هذا الدين‪ ،‬إن عليا إما أن يكون عليا أو فلتذهب‬‫بالخالفة خالصة من ٍ‬
‫الخالفة عنه بل فلتذهب حياته معها‪ ،‬وهذا هو الفهم الصحيح الذي لم يغب عنه‬
‫كرم هللا وجهه‪ ،‬وهو يقول فيما ُروي عنه إن صحت الرواية‪( :‬وهللا ما معاوية بأدهى‬
‫مني‪ ،‬ولكنه يغدر ويفجر‪ ،‬ولوال كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس)‪.‬‬
‫لقد اتسعت رقعة اإلسالم فيما بعد‪ ،‬ولكن روحه انحسرت بال جدال‪ ،‬ولوال قوة‬
‫كامنة في طبيعة هذا الدين‪ ،‬وفيض عارم في طاقته الروحية لكانت أيام أمية كفيلة‬
‫بتغيير مجراه األصيل‪ ،‬ولكن روحه ظلت تقاوم وتغالب وما تزال فيها الطاقة الكامنة‬
‫للغلب واالنتصار‪ ...‬انتهى(((‪.‬‬

‫غالة االثني ع�شرية‪ ..‬و�أهل البيت عليهم ال�سالم‬


‫ُس ِئل المرجع االثنى عشري حسن الحائري‪( :‬إذا كان اإلمام علي عليه السالم‬
‫أفضل من النبي موسى عليه السالم فما معنى قوله عليه السالم (أنا عصا موسى)؟‬
‫وهل يكون اإلمام أمير المؤمنين اآلية الكبرى معجزة لموسى؟ هذا واإلمام يقول‪( :‬أي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫آية أكبر مني؟) أرجو التفضل بالجواب مفصال ظاهرا وباطنا ولكم جزيل الشكر‪.‬‬

‫((( (العدالة االجتماعية في االسالم) ص ‪. 164-161‬‬

‫‪132‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫جواب الحائري‪:‬‬

‫لهذه الكلمة المباركة تفسيران أو معني�ان‪:‬‬


‫المعنى األول‪ :‬يعنى أنه عليه السالم بمنزلة عصا موسى لرسول هللا‪ ،‬يعنى أنه‬
‫أكبر آية وأعظم معجزة إلثب�ات نبوة أخيه وابن عمه صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‬
‫في علمه ومعاجزه وكراماته‪.‬‬
‫المعنى الثاني‪ :‬أنه المؤثر في عصا موسى عليه السالم‪ ،‬ولوال تأثير واليت�ه‬
‫ً‬
‫العظمى لما تحولت ثعبان إلى‪ ،‬وهو الذي نصر األنبي�اء جميعا في إظهار معاجزهم‬
‫وكراماتهم وتأثير حججهم والغلبة على منكري رسالتهم‪ ،‬كما هو صريح روايتهم‬
‫عليهم السالم بسلطنت�ه الكبرى وواليت�ه الكلية العامة‪ ،‬وهو االية الكبرى والنب�أ‬
‫(((‬
‫العظيم‪ ...‬انتهى‬
‫كما ترى أخي القارئ مدى الغلو والمبالغة عند غالة االثنى عشرية‪ ،‬لكي تعلم‬
‫أن نظرة قرناء القرآن بعيدة كل البعد عن نظرة الغالة التي اختلطت بعقائد الهندوس‬
‫واليونان في تقديسهم ورفعهم لمقام العبودية إلى مراتب األلوهية بطريقة غير‬
‫مباشرة‪ ،‬فكما رأين�ا سابقا كيف أن الروايات السلفية حطت من مرتب�ة األلوهية‬
‫إلى مرتب�ة المخلوقين عبر روايات التشبي�ه والتجسيم‪ ،‬فإن روايات غالة االثنى‬
‫ْ َ ْ‬
‫عشرية ‪-‬بالعكس‪ -‬رفعت من قدر البشر المخلوقين‪ ،‬وأضفت عليهم صبغة‬
‫األلوهية من مراتب ال تجوز إال للكمال المطلق الذي هو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذه‬
‫العقيدة التي تأثر بها غالة الشيعة وغالة الصوفية على السواء هي عقيدة تسربت‬
‫من الغنوصية اليوناني�ة‪ ،‬في الفترة التي كان فيها منهج أهل البيت عليهم السالم‬
‫يعاني من االضطهاد والمالحقة من قبل خلفاء بني العباس‪ ،‬وقد أجاد محمد تقي‬
‫المدرسي وهو من علماء االثنى عشرية المتأخرين في الرد عليهم في كتابه (العرفان‬
‫اإلسالمي)‪ ،‬وما يهمنا هنا هو توضيح تلك الروايات الشاذة والتي تأثر بها كثير‬
‫من عوام الشيعة البسطاء‪ ،‬فانعكست على واقعهم المعاش على شكل خرافات‬
‫ُ‬
‫وخزعبالت أسروا بها‪ ،‬وإليك أمثلة لبعض هذا الروايات التي تبين مدى االنحراف‬

‫((( الدين بين السائل والمجيب الجزء الثاني ص ‪.72‬‬

‫‪133‬‬
‫بداية الطريق‬

‫الذي وصل إليه غالة االثنى عشرية في معرفة أهل بيت رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وعلى آله وسلم‪.‬‬

‫(‪ )1‬تف�ضيل االئمة االثني ع�شر على االنبياء عليهم ال�سالم‪:‬‬


‫يقول السيد أمير محمد الكاظمي في كتابه الشيعة في عقائدهم وأحكامهم(((‪.‬‬
‫ويقول آية هللا عبد الحسين دستغيب في كتابه اليقين ص ‪ 46‬دار التعارف‬
‫بيروت لبن�ان‪“ :‬وأئمتن�ا االثن�ا عشر عليهم السالم أفضل من جميع األنبي�اء باستثن�اء‬
‫خاتم االنبي�اء صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ ،‬ولعل أحد اسباب ذلك هو أن اليقين‬
‫لديهم أكثر”‪.‬‬

‫(‪ )2‬ع�صمة الأئمة االثني ع�شر‬


‫ً‬
‫يقول الزنجاني في كتابه (عقائد االثني عشر) ‪ 175/2‬األعلمي‪ ،‬نقال عن رئيس‬
‫المحدثين الصدوق ما نصه‪“ :‬اعتقادنا في األنبي�اء واألئمة أنهم معصومون مطهرون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من كل دنس‪ ،‬وأنهم ال يذنبون ال صغيرا وال كبيرا‪ ،‬وأنهم ال يعصون هللا ما أمرهم‬
‫ويفعلون ما يؤمرون‪ ،‬ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم‪،‬‬
‫ومن جهلهم فهو كافر”‪.‬‬

‫(‪� )3‬أ�شباح الأئمة خارج نطاق الزمان والمكان‬


‫ُس ِئل آية هللا العظمى جواد التبريزي في تعليقاته وفتاويه المطبوعة مع‬
‫صراط النجاة للخوئي ‪ 439- 438/3‬مكتب�ة الفقيه الكويت‪ :‬هل يجوز االعتقاد بأن‬
‫الصديقة الطاهرة السيدة الزهراء عليها السالم تحضر بنفسها في مجالس النساء‬
‫في ٍآن واحد في مجالس متعددة بنفسها ولحمها ودمها؟‬
‫أجاب التبريزي‪ :‬الحضور بصورتها النورية في أمكنة متعددة في زمان واحد ال‬
‫ً‬
‫اعنصريا‬ ‫ً‬
‫جسم‬ ‫مانع منه‪ ،‬فإن صورتها النورية خارجة عن الزمان والمكان‪ ،‬وليست‬
‫ليحتاج إلى الزمان والمكان‪ ،‬وهللا العالم‪.‬‬
‫((( ص ‪ 73‬الطبعة الثاني�ة (األئمة من أهل البيت عليهم السالم أفضل من األنبي�اء‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ُ‬
‫وس ِئل‪ :‬ما رأيكم فيمن يعتقد بأن النبي وأهل بيت�ه عليهم السالم كانوا موجودين‬
‫بأرواحهم وأجسادهم المادية قبل وجود العالم‪ ،‬وأنهم كانوا مخلوقين قبل خلق آدم‬
‫عليه السالم ال أن هللا تعالى جعل صورهم حول العرش فما هو الجواب؟‬
‫أجاب التبريزي‪ :‬كانوا عليهم السالم موجودين بأشباحهم النورية قبل خلق آدم‬
‫عليه السالم‪ ،‬وخلقتهم المادية متأخرة عن خلقة آدم كما هو واضح‪ ،‬وهللا العالم‪.‬‬

‫الغلو في �صفات الأئمة‪:‬‬


‫ّ‬ ‫(‪)4‬‬
‫وإليك قراءة في فهارس بعض المصادر والكتب المعتبرة عند إخوانن�ا االثني عشرية‪:‬‬
‫بعض فهارس كتاب أصول الكافي ‪ -‬الجزء األول ‪ -‬دار التعارف ‪ -‬بيروت‪:‬‬
‫•باب ‪ -‬أن األئمة عليهم السالم إذا شاؤوا أن يعلموا علموا‬
‫•باب ‪ -‬أن األئمة عليهم السالم يعلمون متى يموتون وأنهم ال يموتون إال‬
‫باختي�ارهم‬
‫•باب ‪ -‬أن األئمة عليهم السالم يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه ال يخفى‬
‫عليهم شيء‬
‫•باب ‪ -‬أن القرآن يهدي لإلمام‬
‫•بعض أبواب فهرس بحار األنوار ‪ -‬الجزء الثالث والعشرين ‪ -‬كتاب اإلمامة‬
‫‪ -‬دار إحياء التراث العربي‬
‫ً‬
‫•باب ‪ -‬أن هللا تعالى يرفع لإلمام عمودا ينظر به إلى أعمال العباد‬
‫•باب ‪ -‬أنه ال يحجب عنهم شيء من أحوال شيعتهم‪ ،‬وما تحتاج إليه األئمة‬
‫من جميع العلوم‪ ،‬وأنهم يعلمون ما يصيبهم من الباليا‪ ...‬وأنهم يعلمون ما‬
‫في الضمائر‪ ،‬وعلم الباليا والمنايا وفصل الخطاب والمواليد‬
‫•باب ‪ -‬أنهم أعلم من األنبي�اء عليهم السالم‬
‫•باب ‪ -‬أنهم يظهرون بعد موتهم ويظهر منهم الغرائب‬

‫‪135‬‬
‫بداية الطريق‬

‫•باب ‪ -‬أنهم يقدرون على إحياء الموتي وإبراء األكمه واألبرص وجميع‬
‫معجزات األنبي�اء عليهم السالم‬
‫•ومن كتاب بصائر الدرجات ‪ -‬طبعة األعلمي‬
‫•باب ‪ -‬في أن اإلمام يرى ما بين المشرق والمغرب بالنور‬
‫•باب ‪ -‬في ركوب أمير المؤمنين السحاب وترقيه في األسباب واألفالك‬
‫•ومن كتاب نور العين في المشي إلى زيارة قبر الحسين ‪ -‬طبعة دار الميزان‬
‫‪ -‬بيروت‬
‫•باب ‪ -‬أن زيارة الحسين تعدل اثنتين وعشرين عمرة‬
‫•باب ‪ -‬أن هللا تب�ارك وتعالى يتجلى لزوار قبر الحسين عليه السالم‬
‫ويخاطبهم بنفسه‬
‫•باب ‪ -‬أن هللا جل وعال يزور الحسين عليه السالم في كل ليلة جمعة‬
‫•باب ‪ -‬أن زيارة الحسين تعدل ثالثين حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‬
‫•باب ‪ -‬من زار قبر الحسين كان كمن زار هللا فوق عرشه‬
‫•باب ‪ -‬من زار قبر الحسين كان كمن زار هللا فوق كرسيه‬
‫•باب ‪ -‬من سره أن ينظر إلى هللا فليكثر من زيارة قبر الحسين عليه السالم‬
‫‪ُ -‬سئل آية هللا العظمى محمد الشيرازي في كتابه الفقه والعقائد ص ‪370‬‬
‫توزيع مكتب�ة جنان الغدير الكويت‪( :‬يقال إن أرض كربالء أفضل من أرض مكة‪،‬‬
‫والسجدة على التربة الحسيني�ة أفضل من السجدة على أرض الحرم! هل هذا‬
‫صحيح؟ فأجاب الشيرازي‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ال ننسى أن نؤكد أن الجناح الثوري داخل االثني عشرية كان له دور كبير في‬
‫تصحيح مسار االثني عشرية واالتجاه بأتب�اعه نحو الثقافة الجهادية القرآني�ة‪ ،‬وهذه‬
‫خطوة كبيرة في اتجاه اجتماع األمة على ثقافة القرآن‪.‬‬
‫***‬
‫‪136‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫عدالة ال�صحابة‬

‫ال�صدمة‬
‫عشت في مجتمع خضع للوصاية السعودية طوال عقود من الزمن حتى في‬
‫مناهجه الدراسية‪ ،‬وترسخت فيه ثقافة المحبة للصحابة الغث منهم والسمين‪،‬‬
‫وكان النصيب األوفر تحديدا ألبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وترددت على مسامعنا‬
‫هذه الشخصيات حتى صارت شخصيات مقدسة‪ ،‬فعندما تدخل إلى المدرسة تتربى‬
‫فيها على محبتهم من البداية‪ ،‬ويتردد على مسامعك ذكرهم في بعض األحيان أكثر‬
‫من ذكر رسول هللا‪ ،‬وإذا دخلت المسجد ال بد أن تسمع كلمات الصحابة‪ ..‬السلف‪،‬‬
‫وكان من المالمح التي ارتسمت في أذهانن�ا ومشاعرنا أن هذه الشخصيات كان‬
‫بينها االنسجام الكامل مع بقية الصحابة‪ ،‬وخصوصا مع اإلمام علي عليه السالم‪،‬‬
‫وكانوا على قلب رجل واحد‪ ،‬وعندما مات رسول هللا كانوا نموذجا للتوحد على قلب‬
‫رجل واحد‪ ،‬فالكل توجه إلى أبي بكر وعلى رأسهم اإلمام علي عليه السالم‪ ،‬وكانت‬
‫عالقة الصحابة بأهل البيت عالقة قائمة على االنسجام والتآلف‪ ،‬كيف ال واإلمام‬
‫علي من أول من سارع لمبايعة أبي بكر وكان أبوبكر ُي ُّ‬
‫كن كل الود واالحترام لإلمام‬
‫علي والزهراء‪ ،‬كيف ال تترسخ في مشاعر مجتمعنا محبتهم وهم يسمعون عن أبي‬
‫بكر وعمر وعثمان وأيضا معاوية بن أبي سفيان عند البعض وهم يرضعون محبتهم‬
‫منذ الصغر‪ ،‬وتربين�ا على أن ما حصل بين الصحابة من فتن�ة ماهي إال مؤامرة من أحد‬
‫المتآمرين‪ ،‬وإال فإنهم جميعا مقدسون ال يمكن أن يتطرق إليهم الشك‪ ،‬فأصبحوا‬
‫القدوة الذين نستحضر تاريخهم المشرق‪ ،‬فإذا ذكرت البطوالت والعدالة تذكرنا‬
‫الخليفة العادل عمر‪ ،‬كل ذلك تلقين�اه في المدارس‪ ،‬وبالطبع كان معظم مدرسين�ا‬
‫من التي�ار الوهابي‪ ،‬ونتيجة لهذه التربي�ة كنا ننظر بتوجس وريب�ة لكل من يتحدث عن‬
‫الصحابة وبالذات عن أبي بكر وعمر‪ ،‬بل وصل األمر عند بعض أفراد مجتمعنا بالذات‬
‫المنتمين للسلفيين ولحزب اإلصالح أن يحرضوا على الشيعة‪ ،‬وأنهم أخطر من‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬وأن كل من يتعرض للصحابة ولو من باب التقييم وتبيين الحقائق‬
‫التاريخية أشد خطرا من اليهود‪ ،‬ولذلك تشاهد قنواتهم وصحفهم وثقافتهم تحذر‬

‫‪137‬‬
‫بداية الطريق‬

‫من الشيعة والروافض أكثر من اليهود وأمريكا‪ ،‬بل هم اليوم باتوا دعاة للتطبيع مع‬
‫اليهود الصهاين�ة ومنابر لتعظيم أمريكا‪ ،‬والواقع أمام هذا الشحن وهذه التعبئ�ة‬
‫وهذه الثقافة أنه كان من الصعب جدا أن يأتي اليوم الذي تهتز هذه الشخصيات في‬
‫ذهني ومشاعري‪ ،‬وهل ُيتصور ذلك؟ وهل هناك حقيقة غير ما تعلمناه وما سمعناه‬
‫في مدارسنا وعلى يد مدرسين�ا؟ يا إلهي هل هناك حقيقة غير ذلك؟ وهل يعقل أن‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫هالة القداسة التي أض ِف َيت على تلك الشخصيات الصحابي�ة كل ذلك كان مجرد‬
‫تاريخ مزيف صاغه الحكام المنتصرون‪ ،‬كما يقال أن المنتصر هو من يصنع التاريخ‬
‫وأن الناس على دين ملوكهم‪ ،‬وأن السياسة دخلت في الموضوع؟ لقد كانت القضية‬
‫بالنسبة لي تمثل صدمة لوال أنني سألت هللا أن يعصم قلبي وأن يهديني إلى الحق‪،‬‬
‫لقد كنت أعيش ‪-‬وغيري من الشباب‪ -‬حالة من االندهاش‪ ،‬وأستيقظ من نومي‬
‫وكأنني في حلم؛ هل حقا أن النزاع حصل بعد موت رسول هللا مباشرة؟ بل وحتى قبل‬
‫موته وهو روحي له الفداء طريح على فراش المرض؟ وهل حقا أن الصحابة انقسموا‬
‫واختلفوا بعد موت الرسول مباشرة بل ودخلوا في معارك طاحنة؟ وهل حقا أن اإلمام‬
‫عليا عليه السالم قال كما في صحيح مسلم ((( أن أبا بكر وعمر كاذبان غادران آثمان‬
‫وليس كما تعلمنا على يد المدرسين الوهابي�ة في المدارس أن عالقة بعضهم ببعض‬
‫كانت كما يقول المثل البلدي «سمن على عسل»؟! إنها لألسف الحقيقة وإن كانت‬
‫ُم ّرة‪ ،‬فماذا يسعني أن أقول وأنا أقرأ الكتب المحسوبة على من يسمون أنفسهم بأهل‬
‫السنة والجماعة وأنصار الصحابة وهي تروي المتن�اقضات؟ كيف ال يهتز ويتزعزع‬
‫ما رسخوه في نفوسنا تجاه تلك الشخصيات ونحن نقرأ في كتبهم حقائق عن شقاق‬
‫وتن�ازع ومخالفة وغيرها من المواقف التي قد تستغرب وتن�دهش عندما تقرأها؟‬
‫وإليك الحقائق التالية من خالل قراءة تحليلية لمجموعة من األحداث في اللحظات‬
‫األخيرة من حياة النبي صلى هللا عليه وآله وسلم وما بعدها(((‪:‬‬

‫((( صحيح مسلم ‪-‬حكم الفيء ‪ -‬الجهاد والسير‪.‬‬


‫((( أخذت هذه القراءة التحليلية من كتاب (يوم انحدر الجمل من السقيفة) للكاتب اللبن�اني نبي�ل فياض‪،‬‬
‫وبالطبع مع بعض اإلضافات والتعديالت‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫الحدث الأول‬

‫‪� -‬سرية �أ�سامة بن زيد‪-‬‬


‫سرية أسامة بن زيد‪ ،‬هي آخر سرية في حياة النبي صلوات هللا عليه واله‪،‬‬
‫ليال بقين في صفر سنة‬ ‫ألربع ٍ‬
‫جاء في طبقات ابن سعد أنه لما كان يوم اإلثنين ِ‬
‫مهاجر رسول هللا صلوات هللا عليه وآله‪ ،‬أمر رسول هللا الناس‬‫َ‬ ‫إحدى عشرة من‬
‫َ‬
‫بالتهيؤ لغزو الروم‪ ،‬فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد‪ ،‬فقال‪ْ :‬‬
‫سر إلى موضع‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫صباحا على أهل ابنى‬ ‫مقتل أبيك فأوطئهم الخيل‪ ،‬فقد وليتك هذا الجيش‪ ،‬فأغر‬
‫(إحدى المناطق) وحرق عليهم وأسرع السير لتسبق األخبار‪ ،‬فإن أظفرك هللا فأقلل‬
‫اللبث فيهم وخذ معك األدالء وقدم العيون والطالئع أمامك‪ ..‬وقد أثبتت المصادر‬
‫ُ ً‬ ‫ّ‬
‫التاريخية أن في هذا الجيش أناسا من كبار الصحابة‪ ،‬منهم أبو بكر وعمر(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يوم األربعاء ُبدء رسول هللا‪ّ ،‬‬
‫فحم وصدع‪ ..‬والخميس‪ ،‬عقد ألسامة لواء بي�ده‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬اغز باسم هللا في سبي�ل هللا فقاتل من كفر باهلل‪ ..‬فخرج‪ ..‬فعسكر بالجرف‪..‬‬
‫ُ‬
‫فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين األولين واألنصار إال انت�دب‪ ..‬أبو بكر وعمر بن‬
‫الخطاب وأبو عبي�دة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وقتادة بن‬
‫النعمان وسلمة بن أسلم‪ ..‬تكلم قوم‪ ،‬وقالوا‪( :‬يستعمل هذا الغالم على المهاجرين‬
‫(أمر ً‬
‫غالما على‬ ‫األولين)‪ ،‬وفي كامل ابن األثير تكلم المنافقون في إمارته‪ ،‬وقالوا‪ّ :‬‬
‫جلة المهاجرين واألنصار)((( وفي تاريخ اليعقوبي‪( :‬تكلم قوم‪ ،‬وقالوا‪ :‬حدث السن‬
‫وابن سبع عشرة سنة)((( غضب رسول هللا‪ ،‬فصعد المنبر‪ ،‬وقال(((‪ :‬لئن طعنتم‬
‫عليه‪ ،‬فقبله طعنتم على أبي�ه وإن كانا لخليقين باإلمارة(((‪ ،‬جهزوا جيش أسامة‪ ،‬لعن‬
‫هللا من تخلف عنه(((‪.‬‬
‫((( ابن سعد الطبقات الكبرى ‪ ،66/4‬ترجمة أسامة بن زيد‪ ،‬تهذيب تاريخ دمشق ‪.218/3 ،395 :2‬‬
‫((( الكامل البن األثير ‪.317/2‬‬
‫((( تاريخ اليعقوبي ‪.113/2‬‬
‫((( طبقات ابن سعد ‪.190/2‬‬
‫ً‬
‫((( تاريخ اليعقوبي ‪ 113/2‬دار صادر بيروت ‪ .1960‬راجع أيضا‪:‬ص البخاري‪ ،‬المغازي ‪ ،٣٩١٩‬صحيح مسلم‪،‬‬
‫فضائل الصحابة‪ ،‬مسند أحمد‪ ،‬مسند المكثرين ‪.٤٤٧١‬‬
‫((( الشهرستاني‪ ،‬الملل والنحل ‪ ،23/1‬شرح النهج ‪.21/2‬‬

‫‪139‬‬
‫بداية الطريق‬

‫نزل النبي فدخل بيت�ه‪ ،‬وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع األول‪ ..‬وجاء‬
‫المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول هللا ويمضون إلى العسكر‬
‫بالجرف‪ ..‬ثقل النبي‪ ..‬وراح يقول‪ :‬أنفذوا بعث أسامة‪ ..‬األحد اشتد برسول هللا‬
‫وجعه‪ ،‬فدخل أسامة والنبي مغمور فطأطأ رأسه فقبله‪ ..‬رجع أسامة إلى معسكره‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫معفيا‪ ،‬فقال‪ :‬اغد على بركة هللا‪ ...‬ودعه أسامة‬ ‫دخل يوم اإلثنين‪ ..‬أصبح رسول هللا‬
‫وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل‪ ،‬فبين�ا هو يريد الركوب إذا رسول أمه (أم‬
‫أيم) قد جاءه يقول‪ :‬إن رسول هللا يموت! فأقبل وأقبل معه عمر وأبو عبي�دة فانتهوا‬
‫إلى رسول هللا وهو يموت‪ ،‬فتوفي حين زاغت الشمس يوم اإلثنين‪ ،‬الثنتي عشرة ليلة‬
‫خلت من شهر ربيع األول‪ ،‬ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدين�ة(((‪.‬‬

‫مناق�شة الن�صو�ص‪:‬‬
‫من النصوص السابقة يمكن أن نستنتج ما يلي‪:‬‬
‫بدنو أجله‪ّ ،‬‬
‫أصر على إنفاذ جيش أسامة‬ ‫‪ - ١‬عندما ّ‬
‫أحس النبي صلوات هللا عليه وآله ّ‬
‫بن زيد التي أشرك فيها معظم وجوه المهاجرين واألنصار ولعن من تخلف عنها‪،‬‬
‫لرغبت�ه بتسوية أمور خالفته في غياب مراكز القوى التي قد تثير خالفات بعده‬
‫حول مسألة الحكم‪ ،‬وهذا ما حصل فعال‪.‬‬
‫أميرا على شيوخ المهاجرين واألنصار معنى هام‬ ‫‪ - ٢‬الختي�اره أسامة بن زيد الشاب ً‬
‫غالبا‪ ،‬كي يذعنوا لوالية من اختاره النبي بعده‪ً ،‬أيا‬
‫للغاية‪ ،‬فهو ترويض لهم‪ً ،‬‬
‫كانت سنه‪.‬‬
‫‪ - ٣‬إحساس مراكز القوى بما يخطط له النبي‪ ،‬وتث�اقلهم بالتالي عن الخروج في‬
‫جيش أسامة‪ ،‬ورغم إلحاح النبي المتواصل‪ ،‬وجدنا هؤالء‪ ،‬عند وفاة النبي‬
‫صلوات هللا عليه وآله متن�اثرين في أرجاء المدين�ة‪.‬‬

‫((( طبقات ابن سعد ‪.190/٢‬‬

‫‪140‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫الحدث الثاني‬
‫‪ -‬رزية الخمي�س ‪-‬‬
‫* النص األول‪:‬‬
‫لما ُحضر رسول هللا وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب‪ ،‬قال النبي‪“ :‬هلم‬
‫ّ‬ ‫أكتب لكم ً‬
‫كتابا ال تضلوا بعده‪ .‬فقال عمر‪ :‬إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم‬
‫القرآن! حسبن�ا كتاب هللا! فاختلف أهل البيت‪ ،‬فاختصموا‪ ،‬منهم من يقول‪ :‬قربوا‬
‫يكتب لكم النبي ً‬
‫كتابا لن تضلوا بعده! ومنهم من يقول ما قاله عمر‪ ،‬فلما كثر اللغو‬
‫واالختالف عند النبي‪ ،‬قال لهم رسول هللا قوموا! قال عبي�د هللا ابن مسعود‪ :‬فكان‬
‫ابن عباس يقول‪( :‬إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول هللا وبين أن يكتب لهم ذلك‬
‫الكتاب من اختالفهم ولغطهم)(((‪.‬‬

‫* النص الثاني‪:‬‬
‫لما حضرت رسول هللا الوفاة‪ ،‬وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب‪ ،‬قال‬
‫رسول هللا‪ :‬ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم ً‬
‫كتابا ال تضلون بعده‪ .‬فقال عمر‬
‫كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول هللا ثم قال‪ :‬عندنا القرآن‪ ،‬حسبن�ا‬
‫كتاب هللا (((‪.‬‬

‫* النص الثالث‪:‬‬
‫اشتد برسول هللا وجعه‪ ،‬فقال‪« :‬آتوني بكتاب أكتب لكم ً‬
‫كتابا لن تضلوا بعده‬
‫ً‬
‫أبدا فتن�ازعوا‪ ،‬وال ينبغي عند نبي التن�ازع»‪ ،‬فقالوا‪ :‬هجر رسول هللا(((‪.‬‬

‫((( البخاري ‪ ،161/8 ،9/7‬مسلم ‪ ،75/5‬مسند أحمد ‪ 356/4‬ح‪ ،2992‬البخاري‪ ،‬العلم‪ ،111‬المغازي ‪،4079‬‬
‫ّ‬
‫الوصية ‪ ،3091‬مسند أحمد‪ ،‬مسند بني هاشم ‪.2945 ،2835‬‬ ‫المرضى االعتصام بالكتاب‪ ،‬ص مسلم‪،‬‬
‫((( شرح النهج للمعتزلي ‪.51/6‬‬
‫((( البخاري كتاب الجهاد‪ ،‬باب جوائز الوفد‪ ،‬باب إخراج اليهود من جزيرة العرب‪ ،‬مسلم كتاب الوصية‪ ،‬باب ترك‬
‫الوصية لمن ليس عنده شيء‪ ،‬مسند أحمد ‪ ،222/1‬صحيح البخاري‪ ،‬الجهاد والسير ‪.2825‬‬

‫‪141‬‬
‫بداية الطريق‬

‫في نص ثان فقالوا‪ :‬ما شأنه؟ أهجر(((‪،‬وفي نص ثالث فقالوا‪ :‬إن رسول هللا‬
‫يهجر(((‪.‬‬

‫* النص الرابع‪:‬‬
‫ّ‬ ‫لما مرض النبي‪ ،‬قال‪ :‬ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم ً‬
‫كتابا لن تضلوا من بعده‬
‫ً‬
‫أبدا‪ ،‬فقال النسوة من وراء الستر‪ :‬أال تسمعون ما يقول رسول هللا؟ قال عمر‪ :‬إنكن‬
‫صويحبات يوسف‪ ،‬إذا مرض رسول هللا عصرتن أعينكن‪ ،‬وإذا صح ركبتن عنقه!‬
‫فقال رسول هللا‪ :‬دعوهن فإنهن خير منكم(((‪.‬‬

‫* النص األخري‪:‬‬
‫ولما مات رسول هللا‪ ،‬قال قبل موته‪ :‬إيتوني بدواة وبي�اض ألزيل عنكم إشكال‬
‫األمر وأذكر لكم المستحق لها بعدي‪ .‬قال عمر‪ :‬دعوا الرجل فإنه ليهجر؛ وقيل‪:‬‬
‫يهذو(((‪.‬‬

‫مناق�شة الن�صو�ص‪:‬‬
‫‪ -1‬النصوص الخمسة السابقة تظهر بجالء أسلوب تعامل معظم المؤرخين‬
‫اإلسالميين مع الحدث التاريخي فمن المعروف أن عمر بن الخطاب واحد من‬
‫أهم الشخصيات في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬وهذا ما جعل بعض المؤرخين يتعاملون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بحذر حين�ا‪ ،‬وتمويه أحيانا‪ ،‬مع بعض ما صدر عنه ففي النصوص السابقة‪ ،‬نجد‬
‫النص األول يقول عن لسان عمر إن النبي قد غلب عليه الوجع‪ ،‬والتي صارت‬
‫في النص الثاني قال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول هللا‪ ،‬وفي‬
‫((( تاريخ الطبري ‪ ،193-192/2‬صحيح البخاري‪ ،‬الجزية والموادعة‪ ،‬المغازي ‪ ،4078‬صحيح مسلم‪ ،‬الوصية‬
‫‪ ،3089‬مسند أحمد‪ ،‬مسند بني هاشم ‪ .1834‬في النص األخير نجد القول‪(( :‬قالوا‪ :‬ما شأنه؟ أهجر؟ قال‬
‫سفيان‪ :‬يعني‪ ،‬هذى))‪.‬‬
‫ّ‬
‫((( مسند ابن حنب�ل ‪ ،355/1‬الكامل ‪ .302/2‬صحيح مسلم‪ ،‬الوصية ‪ ،3090‬مسند أحمد‪ ،‬مسند بني هاشم‬
‫‪.3165‬‬
‫((( طبقات ابن سعد ‪.244-243/2‬‬
‫((( اإلمام الغزالي‪ ،‬سر العالمين وكشف ما في الدارين‪ ،‬ص ‪ ،٢١‬مطابع النعمان ط‪ ،/٤ /‬سبط بن الجوزي‪ ،‬تذكرة‬
‫ً‬
‫الخواص‪ ،‬ص‪ ،٦٢ /‬ط الحيدرية‪ ،‬انظر أيضا كتاب الغزالي ذاته‪(( ،‬سر العالمين وكشف ما في الدارين‬
‫المسمى بالسر المكنون)) ط بن�در بومبي‪ ،‬نسخة الظاهرية‪ ،‬باب المقالة الرابعة ص‪.9/‬‬

‫‪142‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫النص الثالث ظهرت تلك الكلمة التي معناها‪ :‬أن الوجع قد غلب على رسول‬
‫هجر رسول هللا‪ ،‬لكنها لم تنسب إلى عمر‪ ،‬بل إلى شخص مجهول‬ ‫هللا وهي‪َ :‬‬
‫فقالوا‪ :‬ما شأنه؟ أهجر؟ لكن الغزالي في النص الخامس يوضح المسألة برمتها‬
‫حين يقول‪ ،‬إن عمر ابن الخطاب هو الذي قال‪ :‬إن النبي ليهجر وال شك أن عمر‬
‫قال «هجر رسول هللا» كما أكد ذلك الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي‬
‫رضوان هللا عليه‪.‬‬
‫‪ -2‬إن كلمة يهجر بمعنى يخلط أو يهذو تتن�افى ً‬
‫تماما مع أبسط المعايير الموضوعية‬
‫والديني�ة‪ ،‬بل حتى األخالقية؛ فسياق النص‪ ،‬يظهر أن النبي يوم وفاته‪ ،‬وقبل‬
‫وديني�ا تتعارض‬ ‫ً‬ ‫ذلك‪ ،‬حين كان يجهز لسرية أسامة بن زيد‪ ،‬كان بكامل وعيه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫ََ‬ ‫ً‬
‫﴿وما ءَاتىٰك ُم‬ ‫تماما أيضا مع ما جاء في القرآن الكريم عن النبي‬ ‫كلمة يهجر ً‬
‫َ َ ُ ْ َّ َ َ َ ُ ْ‬ ‫ۡ َ َُ ْ‬ ‫َّ ُ ُ َ ُ ُ ُ َ َ َ َ ٰ ُ َ‬
‫ۡم عن ُه فٱنته ۚوا﴾ [الحشر‪﴿ ]7 :‬وأ ِطيعوا ٱلل وأ ِطيعوا‬ ‫ٱلرسول فخذوه وما نهىك‬
‫ۡ َ‬ ‫َّ ُ ُ ُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ََ َ‬ ‫َّ ُ َ‬
‫﴿وما كن ل ُِمؤم ِٖن َول مؤمِن ٍة إِذا قض ٱلل َو َرسولۥٓ أم ًرا أن‬ ‫ٱلرسول ۚ﴾ [التغابن‪،]12 :‬‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ۡ ََُ‬ ‫َ ُ َ َُ‬
‫يكون له ُم ٱل ِية مِن أم ِرهِم ۗ﴾ [األحزاب‪.]36 :‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متذرعا بأن القرآن الكريم حسبه يتن�افى أيضا مع ما‬ ‫‪ -3‬رفض عمر لوصية النبي‪،‬‬
‫يقوله القرآن الكريم بضرورة طاعة الرسول األكرم صلوات هللا عليه وآله‪.‬‬
‫كثيرا ما نصادف مثل هذه األحداث‪ ،‬عند غياب‬ ‫لكن من وجهة نظر تاريخية‪ً ،‬‬
‫مؤسسي الحركات الديني�ة والفكرية الكبرى في معظم األزمنة والعصور‪ ،‬وقد‬
‫ذكر القرآن موضوع االنقالب على األنبي�اء من داخل صفوف األتب�اع كقضية‬
‫بديهية حصلت مع الكثير من األنبي�اء (وما محمد إال رسول قد خلت من قبله‬
‫الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم)‪.‬‬
‫‪ -4‬في النصوص السابقة نجد بذور االنحراف والصراع على الحكم ما بعد النبي‬
‫صلوات هللا عليه وآله والتحزبات والصراعات‪ ،‬وقد وضحت ً‬
‫تماما‪ .‬فالنبي من‬
‫يصر على كتابة وصيت�ه وهو الحريص على هداية األمة‪ ،‬وعمر بالمقابل‬ ‫جهة ّ‬
‫ٍ‬
‫ّ‬
‫يصر على الرفض! األمر الذي أدى إلى انقسام الناس بين مؤيد للنبي صلوات هللا‬
‫عليه واله ومؤيد لعمر‪ ،‬ففي النص األول نقرأ‪ :‬فاختلف أهل البيت فاختصموا‪،‬‬

‫‪143‬‬
‫بداية الطريق‬

‫فمنهم من يقول‪ :‬قربوا يكتب لكم النبي‪ ،‬ومنهم من يقول ما قاله عمر‪ ،‬وفي‬
‫النص الثالث نقرأ‪ :‬فتن�ازعوا وال ينبغي عند نبي التن�ازع‪ ،‬وفي النص الرابع‪ ،‬تظهر‬
‫نساء النبي بين الحلف المؤيد لكتابة الوصية‪ ،‬مقابل عمر الرافض لذلك‪.‬‬
‫إن موقف عمر ومؤيديه في سرية أسامة بن زيد ثم من كتابة الوصية‪ ،‬البد أن‬
‫يدفعنا إلى التساؤل‪ :‬ماذا كان هدف عمر من البقاء في المدين�ة لمتابعة مجريات‬
‫األمور عند وفاة النبي رغم إلحاح النبي على إنفاذ السرية؟ ولماذا رفض كتابة‬
‫الوصية؟‬
‫يصر النبي على كتابة الكتاب بالقوة لسببين؛ السبب األول أن عمر ضرب‬ ‫لم ّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جماعة تدعي بأن رسول هللا‬
‫ٍ‬ ‫نشوء‬ ‫سمعة الكتاب‪ ،‬وفرضه بالقوة سيترتب عليه‬
‫خرف آخر حياته والكتاب ليس له أي مستن�د شرعي ألنه كتب بعد زوال عقل النبي‬ ‫ّ‬
‫األكرم!!!‪ ،‬السبب الثاني أن النبي األكرم اكتفى بأن يفضح نفسية عمر لألجيال‪،‬‬
‫ويوضح لهم أنه ال يهمه أمر هدايتهم‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫الحدث الثالث‬
‫‪� -‬سقيفة بني �ساعدة ‪-‬‬

‫ق�صة ال�سقيفة‪:‬‬
‫اجتمع بعض وجهاء األنصار بعد أن علموا بأن األمر لن يؤول إلى اإلمام علي‬
‫ليب�ايعوا واحدا منهم‪ ،‬قال عمر بن الخطاب‪“ :‬إنه كان من خبرنا حين توفى هللا نبي�ه‬
‫أن األنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة‪ ،‬وخالف عنا علي والزبير ومن معهما(((‪،‬‬
‫فقلت ألبي بكر‪ :‬انطلق بن�ا إلى إخوانن�ا األنصار‪ ،‬فانطلقنا في سقيفة بني ساعدة‪،‬‬
‫وتركوا جنازة الرسول يغسله أهله(((‪ ،‬وكان األنصار قد اجتمعوا حتى أتين�اهم فقالوا‪:‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫سعد َ‬
‫بن ُعبادة‪ .‬وأخرجوا سعدا إليهم وهو مريض‪،‬‬ ‫محمد‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫ّنولي هذا األمر ‪-‬بعد‬
‫فحمد هللا وأثنى عليه‪ ،‬وذكر سابقة األنصار في الدين وفضيلتهم في اإلسالم‪،‬‬
‫وإعزازهم للنبي وأصحابه‪ ،‬وجهادهم ألعدائه‪ ،‬حتى استقامت العرب‪ ،‬وتوفي‬
‫الرسول وهو عنهم راض‪ ،‬وقال‪ :‬استب�دوا بهذا األمر (الحكم) دون الناس‪.‬‬
‫فأجابوه بأجمعهم أن قد وفقت في الرأي‪ ،‬وأصبت في القول‪ ،‬ولن نعدو ما‬
‫َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫رأيت‪ ،‬نوليك هذا األمر‪ ،‬ثم إنهم ترادوا الكالم بينهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬فإن أ َبت مهاجرة قريش‪،‬‬
‫َ‬
‫فعالم‬ ‫فقالوا‪ :‬نحن المهاجرون وصحابة رسول هللا األولون‪ ،‬ونحن عشيرته وأولياؤه‪،‬‬
‫ً‬
‫تن�ازعونن�ا هذا األمر بعده؟ فقالت طائفة منهم (األنصار)‪ :‬فإنا نقول إذا منا أمير‬
‫ومنكم أمير! فقال سعد بن عبادة‪ :‬هذا أول الوهن)(((‪.‬‬
‫ً‬
‫وكما أشير سابقا سمع أبو بكر وعمر بذلك‪ ،‬فأسرعا إلى السقيفة مع أبي عبي�دة بن‬

‫((( الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة‪ :‬علي بن أبي طالب‪ ،‬العباس بن عبد المطلب‪ ،‬الفضل‬
‫بن العباس‪ ،‬عتب�ة بن أبي لهب‪ ،‬سلمان الفارسي‪ ،‬أبو ذر الغفاري‪ ،‬عمار بن ياسر‪ ،‬المقداد‪ ،‬البراء بن عازب‪،‬‬
‫أبي بن كعب‪ ،‬سعد بن أبي وقاص‪ ،‬طلحة بن عبي�د هللا‪ ،‬الزبير بن العوام‪ ،‬خزيمة بن ثابت‪ ،‬فروة بن محمد‬
‫األنصاري‪ ،‬خالد بن سعيد بن العاص‪ ،‬سعد بن عبادة‪ ،‬وجماعة من بني هاشم (انظر‪ :‬تاريخ الطبري ‪،208/3‬‬
‫الكامل في التاريخ ‪ ،325/2‬تاريخ اليعقوبي ‪ ،103/2‬السيرة الحلبي�ة ‪ ،356/3‬أسد الغابة ‪ ،222/3‬مروج‬
‫الذهب ‪ ،301/2‬شرح النهج للمعتزلي ‪ ،134-131/1‬العقد الفريد ‪.)256/4‬‬
‫((( البخاري كتاب الحدود‪ ،‬باب رجم الحبلى من الزنا ‪.120/4‬‬
‫((( انظر‪ :‬تاريخ الطبري‪ ،‬ط أوروبا ‪ ،1838/1‬ابن األثير ‪ ،125/2‬تاريخ الخلفاء البن قتيب�ة ‪.5/1‬‬

‫‪145‬‬
‫بداية الطريق‬

‫الجراح‪ ،‬وانحاز معهم أسيد بن حضير((( وعويم بن ساعدة((( وعاصم بن عدي((((((‪.‬‬


‫يقول عمر بن الخطاب‪ :‬أتين�اهم فإذا رجل مزمل‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا سعد بن عبادة‬
‫يوعك فلما جلسنا قليال‪ ،‬تشهد خطيبهم فأثنى على هللا‪ ،‬ثم قال‪ :‬أما بعد! فنحن‬
‫أنصار اإلسالم‪ ،‬وأنتم معشر المهاجرين رهط‪ ...‬فأردت أن أتكلم‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫على رسلك تكلم أبو بكر‪-‬بعد أن منع عمر عن الكالم‪ -‬فحمد هللا وأثنى عليه‪ ،‬ثم‬
‫ذكر سابقة المهاجرين في التصديق بالرسول دون جميع العرب‪ ،‬وقال‪ :‬فهم أول من‬
‫عبد هللا في األرض وآمن بالرسول‪ ،‬وهم أولياؤه وعشيرته وأحق بهذا األمر من بعده‪،‬‬
‫وال ين�ازعهم ذلك إال ظالم‪ ،‬ثم ذكر فضيلة األنصار‪ ،‬وقال‪ :‬فليس بعد المهاجرين‬
‫األولين عندنا بمنزلتكم‪ ،‬فنحن األمراء وأنتم الوزراء(((‪ ،‬وعن حديث أبي بكر قال‬
‫عمر‪ :‬وهللا ما ترك من كلمة في تزويري إال قال في بديهته مثلها أو أفضل(((‪ ،‬فقام‬
‫الحباب بن المنذر((( وقال‪ :‬يا معشر األنصار! املكوا عليكم أمركم فإن الناس في‬
‫فيئكم وفي ظلكم‪ ،‬ولن يجترئ مجترئ على خالفكم‪ ،‬وال تختلفوا فيفسد عليكم‬
‫رأيكم‪ ،‬وينتقض عليكم أمركم‪ ،‬فإن أبى هؤالء إال ما سمعتم‪ ،‬فمنا أمير ومنكم أمير‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬هيهات! ال يجتمع اثن�ان في قرن! وهللا ال ترضى العرب أن يؤمروكم‬
‫ونبيها من غيركم‪ ،‬ولكن العرب ال تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم‪ ،‬وولي‬
‫أمورهم منهم‪ .‬ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين‪ ،‬من ذا‬
‫ين�ازعنا سلطان محمد وإمارته‪ ،‬ونحن أولياؤه وعشيرته‪ ،‬إال مدل بب�اطل أو متجانف‬
‫إلثم أو متورط في هلكة‪.‬‬
‫((( أسيد‪ ،‬أحد السابقين لإلسالم‪ ،‬وأحد النقباء ليلة العقبة‪ .‬اختلف في شهوده ً‬
‫بدرا‪ .‬آخى رسول هللا (ص) بين�ه‬
‫وبين زيد بن حارثة‪)،‬وكان ممن ثبت يوم أحد‪ ،‬وجرح يومئذ سبع جراحات‪ .‬قال النبي (ص)‪ :‬نعم الرجل أسيد‬
‫ً‬
‫بن حضير‪ .‬وكان أبو بكر ال يقدم أحدا من األنصار على أسيد بن حضير‪ .‬ولما مات‪ ،‬حمل عمر نعشه بنفسه‪،‬‬
‫وباع ماله ثالث سنين‪ ،‬فوفى دين�ه‪ ،‬وقال‪ :‬ال أترك بني أخي عالة (انظر‪ :‬اإلصابة ‪ ،83/1‬االستيعاب ‪-31/1‬‬
‫‪.)33‬‬
‫ً‬
‫((( صحابي أنصاري كان مؤاخيا لعمر بن الخطاب (االستيعاب ‪.)170/3‬‬
‫((( من خلفاء األنصار‪.‬‬
‫((( سيرة ابن هشام ‪.339/4‬‬
‫((( راجع الحاشية ‪.19‬‬
‫((( البخاري‪ ،‬المرجع السابق‪.‬‬
‫((( أحد زعماء األنصار (اإلصابة ‪.)302/1‬‬

‫‪146‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫فقام الحباب بن المنذر‪ ،‬وقال‪ :‬يا معشر األنصار! املكوا على أيديكم وال تسمعوا‬
‫مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا األمر‪ ،‬فإن أبوا عليكم ما سألتموهم‪،‬‬
‫فأجلوهم عن هذه البالد‪ ،‬وتولوا عليهم هذه األمور‪ ،‬فأنتم وهللا أحق بهذا األمر منهم‪،‬‬
‫فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين به‪ .‬أنا وهللا جذيلها المحكك وعذيقها‬
‫المرجب‪ ،‬أما وهللا لو شئتم لنعيدنها جذعة‪.‬‬
‫ً‬
‫قال عمر‪ :‬إذا يقتلك هللا!‬
‫قال‪ :‬بل إياك يقتل!‬
‫فقال أبو عبي�دة‪ :‬يا معشر األنصار! إنكم كنتم أول من نصر وآزر‪ ،‬فال تكونوا أول‬
‫من بدل َّ‬
‫وغير‪.‬‬
‫فقام بشير بن سعد الخزرجي‪ ،‬فقال‪ :‬يا معشر األنصار! إنا وهللا لئن كنا أولي‬
‫فضيلة في جهاد المشركين‪ ،‬وسابقة في هذا الدين‪ ،‬ما أردنا به إال رضا ربن�ا وطاعة‬
‫ً‬
‫نبين�ا والكدح ألنفسنا؛ فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك‪ ..‬أال إن محمدا‬
‫ً‬
‫(ص) من قريش‪ ،‬وقومه أحق به وأولى‪ ،‬وايم هللا ال يراني هللا أنازعهم هذا األمر أبدا‪.‬‬
‫فاتقوا هللا‪ ،‬وال تخالفوهم وال تن�ازعوهم!‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬هذا عمر‪ ،‬وهذا أبو عبي�دة‪ ،‬فأيهما شئتم فبايعوا‪.‬‬
‫فقاال‪ :‬وهللا ال نتولى هذا األمر عليك(((‪.‬‬
‫وفي رواية لعمر‪ ،‬أن أبا بكر‪ ،‬قال ما ذكرت فيكم من خير فأنتم له أهل‪ ،‬ولن ُيعرف‬
‫ودارا‪ ،‬وقد رضيت لكم‬‫نسبا ً‬‫هذا األمر إال لهذا الحي من قريش‪ ،‬هم أوسط العرب ً‬
‫أحد هذين الرجلين‪ ،‬فبايعوا أيهما شئتم‪ .‬فأخذ بي�دي وبي�د أبي عبي�دة‪ ،‬فلم أكره مما‬
‫قال غيرهما‪.‬‬
‫فقال قائل من األنصار‪ :‬أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب‪ ،‬منا أمير ومنكم‬
‫أمير يا معشر قريش!‬
‫فكثر اللغط وارتفعت األصوات‪ ،‬حتى فرقت من االختالف‪ ،‬فقلت‪ :‬ابسط يدك‬
‫يا أبا بكر!‬

‫((( الطبري ط دار سويدان ‪.221-220/3‬‬

‫‪147‬‬
‫بداية الطريق‬

‫فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون‪ ،‬ثم بايعته األنصار(((‪.‬‬


‫ويروى أن عبد الرحمن بن عوف قام‪ ،‬فقال يا معشر األنصار! إنكم وإن كنتم على‬
‫فضل‪ ،‬فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي‪.‬‬
‫وقام المنذر بن األرقم‪ ،‬فقال‪ :‬ما ندفع فضل ما ذكرت‪ ،‬وإن فيهم لرجال لو طلب‬
‫هذا األمر لم ين�ازعه فيه أحد ‪-‬يعني علي بن أبي طالب‪( -‬فقالت األنصار أو بعض‬
‫األنصار‪ :‬ال نب�ايع إال ً‬
‫عليا)((( (((‪ ،‬قال عمر فكثر اللغط وارتفعت األصوات حتى‬
‫ْ ُ‬
‫تخوفت االختالف‪ ،‬فقلت‪ :‬ابسط يدك ألبايعك(((‪.‬‬
‫فلما ذهبا (عمر وأبو عبي�دة) ليب�ايعاه‪ ،‬سبقهما إليه بشير بن سعد‪ ،‬فبايعه‪،‬‬
‫فناداه الحباب بن المنذر‪ :‬يا بشير بن سعد‪ ،‬عققت عقاق‪ ،‬وفي رواية ابن أبي الحديد‬
‫((( َ ْ َ‬ ‫ُ‬
‫فست على ابن عمك (سعد ابن عبادة) االمارة؟‬ ‫المعتزلي‪( :‬عقك عقاق) ‪ ،‬أن‬
‫ً ً‬
‫قوما حقا جعله هللا لهم!‬ ‫فقال‪ :‬ال وهللا؛ ولكني كرهت أن أنازع‬
‫ولما رأت األوس ما صنع بشير بن سعد الخزرجي وما تدعو إليه قريش وما‬
‫تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة‪ ،‬قال بعضهم لبعض ‪-‬وفيهم أسيد بن‬
‫حضير وكان أحد النقباء‪ :-‬وهللا لئن وليتها الخزرج عليكم مرة‪ ،‬ال زالت لهم عليكم‬
‫ً ً‬
‫نصيب�ا أبدا‪ ،‬فقوموا‪.‬‬ ‫بذلك الفضيلة‪ ،‬وال جعلوا لكم فيها‬
‫فبايعوا أبا بكر‪ ،‬وفي رواية المعتزلي‪ :‬لما رأت األوس أن ً‬
‫رئيسا من رؤساء الخزرج‬
‫ً‬
‫قد بايع‪ ،‬قام أسيد بن حضير ‪-‬وهو رئيس األوس‪ -‬فبايع حسدا لسعد ومنافسة له‬
‫أن يلي األمر(((‪ ،‬فقاموا إليه فبايعوه‪ ،‬فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما‬
‫كانوا أجمعوا له من أمرهم‪.‬‬
‫فأقبل الناس من كل جانب يب�ايعون أبا بكر‪ ،‬وكادوا يطؤون سعد بن عبادة‪ ،‬في‬

‫((( البخاري‪ ،‬المصدر السابق‪.‬‬


‫((( في نص الطبري (ط أوروبا ‪ )1818/1‬وابن األثير (‪(( :)23/2‬ان األنصار قالت ذلك بعد أن بايع عمر أبا بكر))‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬تاريخ اليعقوبي‪ ،‬ط دار صادر ‪ ،123/2‬الموفقيات للزبير بن بكار‪.579 ،‬‬
‫((( سيرة ابن هشام ‪.336/4‬‬
‫((( شرح النهج ‪.2/2‬‬
‫((( شرح النهج ‪.2/2‬‬

‫‪148‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ََ‬
‫رواية عمر في البخاري‪ :‬نز ونا على سعد بن عبادة(((‪ .‬فقال أناس من أصحاب سعد‪:‬‬
‫اتقوا سعدا‪ ،‬ال تطؤوه!‬
‫فقال عمر‪ :‬اقتلوه! قتله هللا! ثم قام على رأسه‪ ،‬فقال‪ :‬لقد هممت أن أطأك حتى‬
‫تن�در عضوك! فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر‪ ،‬فقال‪ :‬وهللا لو حصصت منه شعره‬
‫ما رجعت وفي فيك واضحة!‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬مه ال يا عمر! الرفق هاهنا أبلغ‪ .‬فأعرض عنه عمر‪.‬وقال سعد‪ :‬أما‬
‫وهللا لو أن بي قوة ما‪ ،‬أقوى على النهوض‪ ،‬لسمعت مني في أقطارها وسككها ً‬
‫زئيرا‬
‫يحجرك وأصحابك؛ أما وهللا ًإذا أللحقنك بقوم كنت فيهم ً‬
‫تابعا غير متبوع؛ احملوني‬
‫من هذا المكان!فحملوه وأدخلوه في داره(((‪.‬‬
‫وفي رواية البخاري‪ :‬فقام عمر وقال ألبي بكر ابسط يدك أبايعك‪ ،‬فبايعه عمر‬
‫َ‬
‫وقسم من المهاجرين واألنصار‪ ،‬وتدافع الناس حتى نز وا على سعد بن عبادة‪ ،‬فقال‬
‫َََ‬
‫قائل منهم‪ :‬قتلتم سعد بن عبادة‪ ،‬فقال عمر بن الخطاب‪( :‬قتل ُه هللا) (((‪.‬‬
‫إذا نستنتج من كل هذا أن بيعة أبي بكر لم تكن شورى كما كان الوهابيون يعلمونن�ا‬
‫بل كانت ثمرة صراع سياسي تحت سقيفة بني ساعدة‪ ،‬بل أنها كانت فلتة ‪-‬أي لم‬
‫ّ ّ‬
‫يغترن امرؤ‬ ‫يتصوروا أنها قد تستقيم لمثل أبي بكر‪ -‬كما قال عمر بن الخطاب‪( :‬فال‬
‫أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت‪ ،‬أال وإنها وقد كانت كذلك‪ ،‬ولكن هللا‬
‫وقى شرها) (((‪.‬‬
‫ً‬
‫وكان عمر يومئذ محتجزا يهرول بين يدي أبي بكر‪ ،‬ويقول‪ :‬أال إن الناس قد بايعوا‬
‫أبا بكر(((‪.‬‬

‫((( البخاري‪ ،‬المرجع السابق‪.‬‬


‫((( تاريخ الطبري‪ ،‬ط سويدان‪.222-221/3 ،‬‬
‫((( البخاري كتاب الحدود أو كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة‪/‬باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت‪.‬‬
‫((( البخاري كتاب الحدود أو كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة‪/‬باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت‪.‬‬
‫((( شرح النهج للمعتزلي ‪.133/1‬‬

‫‪149‬‬
‫بداية الطريق‬

‫مواقف المعار�ضة‬
‫الثابت والمتحول‬

‫‪ -1‬المعار�ضة الأن�صارية‪:‬‬
‫شعر بعض األنصار بما يدبره بعض قريش من أجل االستيلاء على السلطة‪،‬‬
‫ً‬
‫وأن المسألة ربما ال تتم لإلمام علي‪ ،‬وبدل من أن يلتفوا حول اإلمام علي عليه‬
‫السالم لتتم له المسألة‪ ،‬اجتمع بعض األنصار في سقيفة بني ساعدة في يوم وفاة‬
‫النبي صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬واختاروا أحد زعماء األنصار‪ ،‬وهو سعد بن ُعبادة‬
‫أميرا وخليفة للمسلمين(((‪ ،‬في بداية األمر ظهرت المعارضة األنصارية‬‫الخزرجي ً‬
‫قوية متماسكة‪ ،‬لكنها سرعان ما انهارت تحت وطأة الصراعات الخزرجية الداخلية‪،‬‬
‫والخزرجية األوسية‪ ،‬وكان رأس هذه المعارضة األمير الخزرجي سعد بن عبادة‪ .‬فمن‬
‫هو سعد‪ ،‬وما كانت مواقفه من البيعة‪ ،‬وما كانت مواقف جماعة الحكم منه؟‬
‫جاء في اإلصابة‪ ،‬سعد بن عبادة‪( :‬سيد الخزرج‪ ،‬شهد العقبة‪ ،‬واختلف في‬
‫شهوده ً‬
‫بدرا‪ ،‬فأثبت�ه البخاري‪ ،‬وقال ابن سعد كان يتهيأ للخروج‪ ،‬فنهس فأقام) (((‪.‬‬
‫قال ابن سعد‪ :‬وكان يكتب بالعربي�ة‪ ،‬ويحسن العلوم والرمي‪ ،‬فكان يقال له‬
‫ً‬
‫مشهورا بالجود هو وأبوه وجده وولده‪.‬‬ ‫الكامل‪ ،‬وكان‬
‫كما رأين�ا‪ ،‬رفض سعد مبايعة أبي بكر فتركوه ً‬
‫أياما‪ ،‬ثم بعث إليه أن أقبل فبايع‪،‬‬
‫فقد بايع الناس وبايع قومك‪ ،‬فقال‪ :‬أما وهللا حتى أرميكم بما في كنانتي من نب�ل‬
‫وأخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي‪ ،‬وأقاتلكم بأهل بيتي ومن‬
‫أطاعني من قومي فال أفعل‪ ،‬وايم هللا لو أن الجن اجتمعت لكم مع اإلنس ما بايعتكم‬
‫ُ‬
‫حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي(((‪ ،‬فلما أتي أبو بكر بذلك قال عمر‪ :‬ال تدعه‬
‫حتى يب�ايع‪.‬‬

‫((( اليعقوبي‪ ،‬تاريخ اليعقوبي‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.123‬‬


‫((( طبقات ‪.142/3‬‬
‫((( انظر‪ :‬تاريخ الطبري ‪ ،456/3‬كنز العمال ‪ ،134/3‬ابن األثير ‪ ،126/2‬اإلمامة والسياسة ‪ ،10/1‬السيرة الحلبي�ة‬
‫‪.397/4‬‬

‫‪150‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫فقال له بشير بن سعد‪ :‬إنه قد لج وأبى‪ ،‬وليس بمبايعكم حتى يقتل‪ ،‬وليس‬
‫بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيت�ه وطائفة من عشيرته‪ ،‬فاتركوه فليس تركه‬
‫بضاركم‪ ،‬إنما هو برجل واحد‪ ،‬فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد‪ ،‬واستنصحوه لما‬
‫يصلي بصالتهم‪ ،‬وال يجتمع معهم‪ ،‬وال يحج وال يفيض‬ ‫بدا لهم منه‪ ،‬فكان سعد ال ّ‬
‫معهم بإفاضتهم‪ .‬فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر َ‬
‫وو ِلي عمر(((‪.‬‬
‫ولما ولي عمر الخالفة‪ ،‬لقيه في بعض طرق المدين�ة‪ ،‬فقال له‪ :‬إيه يا سعد؟!‬
‫فقال له‪ :‬إيه يا عمر؟!‬
‫فقال له عمر‪ :‬أنت صاحب المقالة؟‬
‫قال سعد‪ :‬نعم! أنا ذلك! وقد أفضى إليك هذا األمر! كان وهللا صاحبك أحب‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫إلين�ا منك‪ ،‬وقد أصبحت وهللا كارها لجوارك!‬
‫فقال عمر‪ :‬من كره جوار جار تحول عنه!‬
‫فقال سعد‪ :‬ما أنا غير مستسر بذلك‪ ،‬وأنا متحول إلى جوار من هو خير منك!‬
‫فلم يلبث قليال حتى خرج إلى الشام في أول خالفة عمر(((‪.‬‬
‫وفي الشام ‪-‬التي كانت وقتئ�ذ تحت حكم عمر‪ُ -‬وجد سعد مقتوال‪ ،‬وقد اتفق‬
‫كثير من كبار المؤرخين اإلسالميين على أن الجن قتلته!!!!!(((‪.‬‬
‫لكن البالذري يرفض رواية الجن السابقة‪ ،‬فيقول‪ :‬إن سعد ابن عبادة لم يب�ايع‬
‫أبا بكر وخرج إلى الشام‪ ،‬فبعث عمر رجال‪ ،‬وقال‪ :‬ادعه إلى البيعة واختل له‪ ،‬فإن أبى‬
‫فاستعن باهلل عليه!‬
‫ً‬
‫فقدم الرجل الشام‪ ،‬فوجد سعدا في حائط بحوارين إحدى قرى الشام‪ ،‬فدعاه‬
‫ً ً‬
‫قرشيا أبدا!‬ ‫إلى البيعة‪ ،‬فقال‪ :‬ال أبايع‬
‫قال‪ :‬فإني قاتلك!‬

‫((( الرياض النضرة ‪.168/1‬‬


‫((( انظر‪ :‬السيرة الحلبي�ة ‪ ،397/3‬تاريخ ابن عساكر ‪ ،90/6‬طبقات ابن سعد ‪/3‬ق‪ ،145/2‬كنز العمال ‪.134/3‬‬
‫((( انظر‪ :‬العقد الفريد ‪ ،260-259/4‬الرياض النضرة‪ ،‬االستيعاب‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫بداية الطريق‬

‫قال‪ :‬وإن قاتلتني؟‬


‫قال‪ :‬أفخارج أنت مما دخلت فيه األمة؟!‬
‫قال‪ :‬أما من البيعة فإني خارج!‬
‫فرماه بسهم‪ ،‬فقتله! (((‪.‬‬
‫وفي تبصرة العوام‪ :‬قيل أنهم أرسلوا محمد بن مسلمة األنصاري فرماه بسهم‪،‬‬
‫ً‬
‫(((‬
‫وإن خالدا ابن الوليد كان في الشام يومذاك‪ ،‬فأعانه على ذلك(((‪ ،‬قال ابن سعد‬
‫المعارض األنصاري الشهير اآلخر كان الحباب بن المنذر‪ ،‬وهو خزرجي شهد ً‬
‫بدرا‪،‬‬
‫ً‬
‫وإذا كان سعد بن عبادة قد دفع حياته ثمنا لمعارضته‪ ،‬فإن الحباب ابن المنذر اختار‬
‫أن يسالم‪ ،‬فاستسلم للضغوط‪ ،‬وبايع(((‪.‬‬
‫وهنا أيضا نص آخر يوضح دور المعارضة األنصارية ‪( :‬فقال األنصار‪ :‬ال نب�ايع إال‬
‫سيفا حتى ُيب�ايع علي‪ ،‬وانظم وانحاز في بيت ٍّ‬ ‫ً‬ ‫َّ ً‬
‫علي وفاطمة‪:‬‬ ‫عليا‪ ،‬وقال الزبير‪ :‬ال أغمد‬
‫ذر الغفاري‪َّ ،‬‬
‫وعمار بن‬ ‫المقداد بن عمرو‪ ،‬وخالد بن سعيد‪ ،‬وسلمان الفارسي‪ ،‬وأبو ٍّ‬
‫ُ‬
‫ياسر‪ ،‬والبراء بن عازب‪ ،‬وأبي بن كعب‪ ،‬وحذيفة بن اليمان‪ ،‬وابن التيهان‪ ،‬وعبادة بن‬
‫ُّ‬
‫الصامت(((‪ ،‬كلهم يرفضون البيعة البن أبي قحافة‪ ،‬للسبب اآلنف ذكره‪..‬‬
‫ً‬
‫إضافة إلى ذلك فقد اعتصم جماعة من األنصار في أحيائهم‪ ،‬فجاء عبدالرحمن‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫بن عوف يعاتبهم على تخلفهم عن بيعة الخليفة‪ ،‬ويذكر لهم حقه بقرابت�ه من‬
‫يتشبثون بها من أجل إثب�ات حق أبي بكر‬ ‫َّ‬ ‫رسول هللا‪ ،‬وما شابه ذلك من الحجج التي‬
‫ممن َّ‬ ‫َّ‬
‫فرد عليه جماعة األنصار‪« :‬إن َّ‬‫َّ‬ ‫َّ‬
‫سميت من‬ ‫بالخالفة‪ ،‬وأنه أولى بها من غيره‪،‬‬
‫علي بن أبي طالب»!‬ ‫قريش‪َ ،‬م ْن إذا طلب هذا األمر لم ين�ازعه فيه أحد‪ُّ :‬‬

‫((( أنساب األشراف ‪.589/1‬‬


‫((( المصدر السابق‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫((( طبقات ‪.109/3‬‬
‫ً‬
‫((( اإلصابة للعسقالني ط دار الجيل ‪ .11-10/2‬راجع أيضا‪ :‬تاريخ اإلسالم للذهبي ‪ ،66/2‬جمهرة ابن حزم ‪،359‬‬
‫أسد الغابة ‪.364/1‬‬
‫((( تاريخ اليعقوبي ‪ ،124/2‬تاريخ أبي الفداء ‪ ،63/2‬ابن أبي الحديد ‪ 56 ،49/2‬و‪ ،11/6‬وزاد في ‪ 220/1‬حذيفة‬
‫وابن التيهان وعبادة بن الصامت‪ ،‬وتاريخ الطبري ‪ ،198/3‬الكامل في التاريخ ‪ ،194 ،189/2‬تاريخ الخلفاء ‪:‬‬
‫‪ 51‬ولم يذكروا األسماء‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫هذا أحد المواقف ضد اإلتجاه الذي نال خالفة رسول هللا بالغلبة!‬
‫عباس‪ ،‬الذي‬‫وموقف آخر يمكن أن نقتبس منه بعض األقوال‪ ،‬كقول الفضل بن َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫قام خطيب�ا وأجاد حيث قال‪« :‬يا معشر قريش‪ :‬إنه ما حقت لكم الخالفة بالتمويه!‬
‫ونحن أهلها دونكم وصاحبن�ا أولى بها منكم»(((‪ ،‬ويقصد بصاحبن�ا َّ‬
‫علي بن أبي‬
‫طالب عليه السالم‪.‬‬

‫‪-2‬اعترا�ض �أهل البيت وبع�ض ال�صحابة ‪:‬‬


‫تقريب�ا((( بغسل النبي وتجهيزه حين كان‬ ‫ً‬ ‫كان بنو هاشم منشغلين وحدهم‬
‫الصراع على أشده حول الخالفة بين بعض المهاجرين (القرشيين) وبعض‬
‫األنصار(األوس والخزرج) ((( في سقيفة بني ساعدة ‪،‬وبعد مبايعة أبي بكر أقبلت‬
‫ّ‬
‫الجماعة التي بايعته تزفه إلى مسجد رسول هللا (ص)‪ ،‬فصعد على المنبر فبايعه‬
‫الناس حتى أمسى‪ ،‬وشغلوا عن دفن رسول هللا حتى كانت ليلة الثالثاء(((‪.‬‬
‫سمع العباس وعلي التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول هللا (ص)‬
‫فقال علي‪ :‬ما هذا؟‬
‫قال العباس‪ :‬ما رئي مثل هذا قط! أما قلت لك(((‪.‬‬
‫وجاء البراء بن عازب فضرب الباب على بني هاشم‪ ،‬وقال‪ :‬يا معشر بني هاشم!‬
‫بويع أبو بكر!‬
‫ً‬
‫يحدثون حدثا نغيب عنه ونحن أولى‬
‫فقال بعضهم لبعض‪ :‬ما كان المسلمون ِ‬
‫بمحمد!‬
‫فقال العباس‪ :‬فعلوها ِّ‬
‫ورب الكعبة!‬
‫((( تاريخ اليعقوبي ‪.124/2‬‬
‫((( الرياض النضرة ‪ ،164/1‬تاريخ الخميس ‪ ،188/1‬الموفقيات ‪.578‬‬
‫((( كل من تغير وشارك في اإلنقالب من المهاجرين واألنصار ولم يتب إلى هللا ال يصح تسميتهم بالمهاجرين‬
‫واألنصار ألن الهجرة والنصرة أعمال إيماني�ة وقلبي�ة تتغير بتغير صاحبها (فمن كانت هجرته لدني�ا يصيبها أو‬
‫امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه))‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬العقد الفريد ‪ ،258/4‬شرح النهج للمعتزلي ‪ ،132/1‬الموفقات ‪.580-577‬‬
‫((( الموفقيات ‪.580‬‬

‫‪153‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ّ‬
‫يشكون أن ً‬
‫عليا هو صاحب األمر بعد‬ ‫وكان عامة المهاجرين وجل األنصار ال‬
‫رسول هللا‪ ،‬غضب رجال من المهاجرين من بيعة أبي بكر‪ ،‬منهم علي بن أبي طالب‬
‫والزبير بن العوام((( فدخال بيت فاطمة ومعهما السالح‪ :‬لقد اجتمعوا على أن يب�ايعوا‬
‫ً (((‬
‫عليا‬
‫َّ‬
‫ولما كان اليوم الثاني‪ ،‬وبعد أن واروا جثمان النبي الطاهر‪ ،‬انحاز مع ِّ‬
‫علي بن‬
‫ً‬
‫أبي طالب عليه السالم بنو هاشم جميعا‪ ،‬ومعهم طائفة من المهاجرين واألنصار‪،‬‬
‫ِّ‬
‫بحق ٍّ‬ ‫ً‬
‫علي في الخالفة(((‪.‬‬ ‫اعتقادا منهم‬
‫بلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين واألنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي‬
‫طالب في بيت((( فاطمة بنت رسول هللا((( وفيهم طلحة والزبير‪.‬‬
‫عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة‪ ،‬وقال له‪ :‬إن‬ ‫فبعث إليهم أبو بكر َ‬
‫أبوا فقاتلهم(((‪ ،‬أما عن علي‪ ،‬فقد قال أبو بكر لعمر ائتني به بأعنف العنف‪ ،‬فاقتحموا‬
‫علي عليه السالم‪ ..‬وقد ثبت عن أبي بكر قوله‪ ،‬حين حضرته الوفاة‪« :‬وددت‬ ‫بيت ٍّ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫أني لم أكشف عن بيت فاطمة‪ ،‬وتركته ولو أغلق على حرب»(((‪.‬‬
‫علي بن أبي طالب عليه السالم فقال‪ :‬يدعوك‬ ‫أتى قنفذ ـرسول الخليفة الجديدـ َّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سريع ما كذبتم على رسول هللا»!‬ ‫خليفة رسول هللا‪ .‬فقال عليه السالم‪« :‬ل‬
‫َّ ً ُ‬ ‫ً‬
‫مرة أخرى بتحريض من‬ ‫فرجع فأبلغ أبا بكر قوله‪ ،‬فبكى أبو بكر طويال! فبعثه‬
‫عمر‪ ،‬فقال‪ :‬خليفة رسول هللا يدعوك لتب�ايع‪ ،‬فقال عليه السالم بصوت مرتفع‪:‬‬
‫«سبحان هللا! لقد َّادعى ما ليس له»‪ .‬فرجع قنفذ وأبلغه كالم ٍّ‬
‫علي فبكى أبو بكر‬
‫ً‬
‫طويال‪..‬‬
‫((( تاريخ الخميس ‪ ،169/2‬الرياض النضرة ‪ ،218/1‬شرح النهج للمعتزلي ‪.213/1‬‬
‫((( شرح النهج للمعتزلي ‪ ،134/1‬ابن شحنة بهامش الكامل (‪ )113/11‬بلفظ‪(( :‬ومالوا مع علي بن أبي طالب))‪.‬‬
‫((( صحيح مسلم ـ الجهاد والسير ‪ 1380/3‬ح‪ ،52‬صحيح البخاري ـ باب غزوة خيبر ‪ 288/5‬ح‪ ،456‬الكامل في‬
‫التاريخ ‪.231/2‬‬
‫((( تاريخ اليعقوبي ‪.126/2‬‬
‫((( تاريخ الخميس‪ ،188/1‬الرياض النضرة ‪ ،167/1‬كنز العمال ‪ ،128/2‬تاريخ الطبري ‪ ،446-442/2‬عباس‬
‫العقاد‪ ،‬عبقرية عمر ‪.173‬‬
‫((( تاريخ أبي الفداء ‪ ،156/1‬العقد الفريد ‪.64/3‬‬
‫((( اإلمامة والسياسة ‪ ،24/1‬تاريخ الطبري ‪.430/3‬‬

‫‪154‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫بشدة‪َّ ،‬‬‫َّ‬ ‫َّ‬


‫فلما سمعت‬ ‫علي مع جماعة وطرقه‬ ‫فتعجل األمر‪ ،‬وأتى بيت ٍّ‬ ‫َّأما عمر‬
‫الخطاب‬‫فاطمة أصواتهم نادت‪« :‬يا أبت يا رسول هللا‪ ،‬ماذا لقين�ا بعدك من ابن َّ‬
‫ِ‬
‫وابن أبي قحافة» ؟!‬
‫َّ‬
‫فانصرف القوم باكين لبكائها ومناجاتها أباها‪ ،‬إال عمر لم يتصدع قلبه لبكاء ابن�ة‬
‫ً‬
‫رسول هللا وبضعته‪ ،‬فبقي معه جماعة‪ ،‬فخرج عليهم الزبير مصلتا بالسيف‪ ،‬فعثر‪،‬‬
‫فسقط السيف من يده‪ ،‬فوثبوا عليه‪ ،‬فأخذوه((( وكان الزبير‪ :‬يقول ال أحد أولى بهذا‬
‫األمر من علي بن أبي طالب(((‪ ،‬وفي رواية أخرى؛ سأل عمر الزبير ما هذا السيف؟‬
‫يشكون في ٍّ‬ ‫ُّ‬ ‫قال‪ :‬أعددته ألبايع ً‬
‫علي عليه السالم(((‪.‬‬ ‫عليا! وكان المهاجرون واألنصار ال‬
‫َّ ً‬
‫عليا عليه السالم فمضوا به إلى أبي بكر‪ ،‬وعرضوا عليه البيعة فأجابهم‬ ‫حتى أخرجوا‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬
‫بكل ثب�ات وعزيمة‪« :‬أنا أحق بهذا األمر منكم‪ ،‬ال أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي»‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬نضرب عنقك!!‬
‫فقال عليه السالم‪« :‬إذن تقتلون عبدهللا وأخا رسوله»!‬
‫فقال عمر‪َّ :‬أما عبدهللا فنعم‪َّ ،‬‬
‫وأما أخو رسوله فال!‬
‫ُ‬
‫وأبو بكر ساكت! ث َّم قال عمر ألبي بكر‪ :‬أال تأمر فيه بأمرك ؟!‬
‫ُ‬
‫فأجابه الخليفة‪ :‬ال أكرهه على شيء مادامت فاطمة إلى جنب�ه!‬
‫علي عليه السالم إلى قبر رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وهو‬ ‫فذهب ٌّ‬
‫َّ‬
‫يردد بصوت شجي‪« :‬يا ابن ِّأم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني»(((‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫عليا ‪.‬‬ ‫وهكذا وقع سريعا تأويل ما أخبر به رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫َّ ُ‬ ‫َّ‬
‫النبي صلى هللا عليه وآله وسلم أن األ َّمة‬
‫ُّ‬ ‫مما عهد َّ‬
‫إلي‬ ‫«إن َّ‬ ‫قال اإلمام علي ‪:‬‬
‫ستغدر بي بعده»‪.‬‬

‫((( تاريخ اليعقوبي ‪.126/2‬‬


‫((( اإلمامة والسياسة ‪ ،57/1‬العقد الفريد ‪.278/2‬‬
‫((( تاريخ اليعقوبي ‪ ،124/2‬شرح نهج البالغة ‪ 21/6‬وغيرها‪.‬‬
‫ً‬
‫((( انظر ‪ :‬شرح النهج ‪ ،11/6 ،56/2‬اإلمامة والسياسة ‪ 12 :‬ـ ‪ ،13‬تاريخ اليعقوبي ـ مختصرا ـ ‪ ،126/2‬الفتوح ابن‬
‫أعثم ‪ ،13/1‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ 1‬ـ ‪1406‬هـ‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫بداية الطريق‬

‫َّ‬
‫كنا نمشي أنا ورسول هللا آخذ بي�دي‪َّ ..‬‬ ‫ُ‬
‫فلما خال له‬ ‫وفي رواية أخرى قال ‪« :‬بينما‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الطريق اعتنقني ث َّم أجهش باكيا‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ما يبكيك ؟ قال‪ :‬ضغائن في‬
‫صدور أقوام‪ ،‬ال يب�دونها لك إال من بعدي»‪.‬‬
‫انطلق عمر وخالد بن الوليد إلى بيت فاطمة حتى هجموا على الدار(((‪.‬‬
‫وفي بعض الروايات كان في البيت ناس كثير منهم المقداد وجمهور من‬
‫الهاشميين‪ ،‬فاخترط عمر السيف وضرب به صخرة في البيت فكسره‪ ،‬ثم أخرجوا‬
‫ْ‬
‫الزبير إلى خالد ومن معه‪ ،‬وكان معه جمع كثير(((‪ ،‬أرسلهم أبو بكر رد ًءا لعمر وخالد‪،‬‬
‫ً‬
‫وقيل أيضا إن عمر جاء بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار‪ ،‬فلقيتهم فاطمة‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬يا ابن الخطاب! أجئت لتحرق دارنا؟!((( (قال‪ :‬نعم! أو تدخلوا فيما دخلت‬
‫فيه األمة)‪.‬‬
‫وفي رواية أخرى أن فاطمة تلقفت عمر على الباب‪ ،‬فقالت فاطمة‪ :‬يا ابن‬
‫ً‬
‫الخطاب! أتراك محرقا علي بابي؟! قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫إذا‬ ‫أرهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب لتحريقهم‬
‫(((‬
‫ويذكر عروة بن الزبير أن ِ‬
‫هم أبوا البيعة((( فيما سلف‪.‬‬
‫عليا باإلحراق وسيلة إلجباره على المبايعة‪،‬‬‫في واقع األمر كان تهديد عمر لإلمام ً‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫فقد قال عمر لعلي‪ :‬والذي نفسي بي�ده لتخرجن إلى البيعة أو ألحرقن البيت‬
‫عليكم(((‪ ،‬قم فبايع! فتلكأ علي واحتبس‪ .‬فأخذ بي�ده‪ ،‬لكن ً‬
‫عليا لم يرضخ للتهديد‪.‬‬
‫فعاد عمر‪ ،‬ليقول وقال‪ :‬قم! فأبى‪ ،‬فحملوه ودفعوه إلى خالد كما دفعوا الزبير؛‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وساقهما عمر ومن معه من الرجال َسوقا عنيفا‪ ،‬واجتمعت الناس ينظرون‪ ،‬وامتألت‬
‫شوارع المدين�ة بالرجال؛ فلما رأت فاطمة ما صنع عمر صرخت وولولت‪ ،‬واجتمع‬

‫((( شرح النهج للمعتزلي ‪.19/2‬‬


‫((( شرح النهج للمعتزلي ‪.19/2‬‬
‫((( تاريخ أبي الفداء ‪ ،156/1‬العقد الفريد ‪.64/3‬‬
‫ً‬
‫((( من أجل تهديد عمر عليا وفاطمة باإلحراق‪ ،‬انظر‪ :‬تاريخ الطبري ‪ ،202/3‬اإلمامة والسياسة ‪ ،12/1‬العقد‬
‫الفريد ‪ ،259/4‬تاريخ أبي الفداء ‪ ،156/1‬تاريخ ابن شحنة بهامش الكامل ‪ ،164/7‬أعالم النساء ‪.1207/3‬‬
‫((( مروج الذهب ‪ ،100/2‬شرح النهج ‪.481/2‬‬
‫((( العقد الفريد ‪ ،335/4‬شرح النهج ‪.415/3‬‬

‫‪156‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫معها نساء كثيرات من الهاشميات وغيرهن‪ ،‬فخرجت إلى باب حجرتها‪ ،‬ونادت‪ :‬يا أبا‬
‫بكر! ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول هللا! وهللاِ ال أكلم عمر حتى ألقى هللا(((‪.‬‬
‫ومحاولة إحراق بيت فاطمة الزهراء عليها السالم معروف تاريخيا حتى أن‬
‫الشعراء تحدثوا بهذا وأصبح جزء من األدب والشعر الذي يتن�اقله الناس عبر‬
‫العصور‪ ،‬فهذا شاعر مصر الكبير شاعر الني�ل حافظ إبراهيم يقول في قصيدته‬
‫العمرية والتي غالى فيها في مدح عمر حتى ليخالك أنه يتحدث عن أحد األنبي�اء‬
‫ولكنه فضح الصحابي عمر من حيث ال يشعر عندما كشف محاولة عمر إحراق دارها‬
‫فكان في بيت�ه الشعري هذه األبي�ات ‪:‬‬
‫أكـــرم بســـامعها أعظـــم بملقيهـــا‬ ‫وقولـــة لعلـــي قالهـــا عمـــر‬
‫إن لم تب�ايـــع وبنـــت المصطفى فيها‬ ‫حرقـــت دارك ال أبقـــي عليـــك بهـــا‬

‫‪-3‬دور العبا�س‪ ،‬ومحاولة الحكم ك�سر تحالف جبهة الحق‪:‬‬


‫بدا تماسك بني هاشم مع اإلمام علي كأنه يشكل عقبة فعلية في وجه خالفة‬
‫أبي بكر‪ ،‬فما كان من الخليفة إال أن راح يستفسر عن وسيلة يكسر بها هذا التحالف‪.‬‬
‫هنا‪ ،‬قال له المغيرة بن شعبة الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب فتجعل له في‬
‫ً‬
‫نصيب�ا يكون له ولعقبه من بعده فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب‬ ‫هذا األمر‬
‫وتكون لكما (أبو بكر وعمر) حجة على علي إذا مال معكم(((‪.‬‬
‫فانطلق أبو بكر وعمر والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليال‪ ،‬فقال له أبو بكر‪:‬‬
‫إن هللا بعث لكم محمدا نبي�ا‪ ،‬وللمؤمنين وليا‪ ،‬حتى اختار له ما عنده‪ ،‬وترك للناس‬
‫أمرهم ليختاروا ألنفسهم مصلحتهم متفقين ال مختلفين‪ ،‬فاختاروني عليهم ً‬
‫واليا؛‬
‫ُّ‬
‫وما أنفك يبلغني عن طاعن بقول الخالف على عامة المسلمين يتخذكم لجأ‪ ،‬ولقد‬
‫نصيب�ا يكون لك ويكون لمن بعدك من‬‫ً‬ ‫جئن�اك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا األمر‬
‫عقبك! على رسلكم يا بني هاشم! فان رسول هللا منا ومنكم(((‪.‬‬

‫((( شرح النهج ‪.19/2‬‬


‫((( انظر‪ :‬تاريخ اليعقوبي ‪ ،152-142/2‬اإلمامة والسياسة ‪.14/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬تاريخ اليعقوبي واإلمامة والسياسة‬

‫‪157‬‬
‫بداية الطريق‬

‫مقابل محاولة الرشوة االسترضائي�ة السابقة قال عمر بحزم ‪-‬ضمن إطار لعبة‬
‫ً‬
‫الحمائم والصقور‪ :-‬إنا لم نأتكم لحاجة إليكم‪ ،‬ولكن كرها أن يكون الطعن فيما أجمع‬
‫عليه المسلمون منكم فيتفاقم الخطب بكم وبهم‪ ،‬فانظروا ألنفسكم(((‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫أجاب العباس‪ :‬إن كنت برسول هللا طلبت فحقنا أخذت‪ ،‬وإن كنت بالمؤمنين‬
‫أخذت فنحن منهم‪ .‬ما أبعد قولك من أن طعنوا عليك من قولك‪ :‬إنهم اختاروك‬
‫ومالوا إليك؛ وما أبعد تسميتك خليفة رسول هللا من قولك خلى على الناس أمورهم‬
‫ً‬
‫ليختاروا فاختاروك‪ .‬فأما ما قلت إنك تجعله لي‪ ،‬فإن كان حقا للمؤمنين فليس لك‬
‫ً‬
‫أن تحكم فيه‪( ،‬أو‪ :‬فإن يكن حقا لك فال حاجة لنا فيه)‪ ،‬وإن كان لنا فلم نرض ببعضه‬
‫دون بعض‪ ،‬وعلى رسلكم؛ فإن رسول هللا من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها(((‪.‬‬
‫فخرجوا من عنده‪.‬‬

‫‪ -4‬دور فاطمة الزهراء‪:‬‬


‫ما كاد ينتهي هجوم الحكم على بيت فاطمة بنت النبي رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم‪ -‬ومحاولتهم إحراقه‪ ،‬حتى تفجرت أزمات جديدة‪ ،‬ساهمت في تعميق الهوة‬
‫بين الزهراء والحكم‪ .‬ولعب أبو بكر الدور األبرز في خلق تلك الهوة‪ ،‬عن طريق خلق‬
‫مصاعب أمام أهل البيت ومن وقف معهم من الصحابة لدفعهم في النهاية إلى مبايعته‪.‬‬
‫فعلى سبي�ل المثال‪ ،‬اختار أبو بكر بعد وفاة النبي‪ ،‬أن ُيسقط سهم الرسول وسهم‬
‫بني هاشم من الخمس(((‪ ،‬وكان النبي يخص نفسه بسهم من الخمس‪ ،‬ويخص‬
‫ً‬
‫أقاربه من بني هاشم بسهم آخر منه‪ ،‬ولم يعهد بتغيير ذلك حتى توفي((( اعتمادا على‬

‫((( انظر‪ :‬تاريخ اليعقوبي واإلمامة والسياسة‬


‫((( انظر‪ :‬تاريخ اليعقوبي واإلمامة والسياسة‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬تفسير القرطبي ‪ ،10/8‬فتح القدير ‪ ،295/2‬تفسير الطبري ‪ ،6/10‬الدر المنثور ‪ ،187/3‬الكشاف ‪،151/2‬‬
‫سنن النسائي كتاب الفيء باب ‪ 1‬ج‪ ،121/7‬شرح النهج للمعتزلي ‪ ،230/16‬مقدمة مرآة العقول ‪.144/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬شرح صحيح مسلم للنووي ‪ ،82/12‬األحكام السلطاني�ة ألبي يعلي ‪ ،185-181‬األحكام السلطاني�ة‬
‫للماوردي ‪ ،171-168‬مقدمة مرآة العقول ‪ ،113/1‬أحكم القرآن للجصاص ‪ ،60/3‬األموال ألبي عبي�د ‪،325‬‬
‫تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ج‪ ،10‬تاريخ الطبري ‪ ،19/3‬سنن النسائي كتاب الفيء باب ‪1‬‬
‫ج‪ ،122-120/7‬الكشاف للزمخشري ‪ ،158/2‬تفسير القرطبي ‪ ،10/8‬فتح القدير للشوكاني ‪ ،295/2‬تفسير‬
‫الطبري ‪ 5-4/10‬و‪ ،7‬الدر المنثور ‪ ،186-185/3‬تفسير المنار ‪ 15/10‬و‪.16‬‬

‫‪158‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ٰ‬ ‫ُۡ‬
‫َۡ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ َّ ُ ُ َ ُ َ َّ ُ‬
‫اآلية الكريمة ﴿فأن ِلِ خسهۥ ول ِلرسو ِل و ِلِي ٱلقرب﴾ [األنفال‪.]41 :‬‬
‫ً‬
‫مثال آخر‪ :‬هو فدك‪ ،‬وفدك أرض كانت ملكا للنبي((( صلى هللا عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫ً‬
‫ولما مات رسول هللا (ص) ادعت فاطمة عليه السالم أنه كان ينحلها فدكا؛‬
‫فقرا‪ ،‬وأحبهم إلي غنى‪ ،‬ولكني ال أعرف صحة‬ ‫علي ً‬ ‫أنت أعز الناس َّ‬‫فقال لها أبو بكر‪ِ :‬‬
‫قولك‪ ،‬فال يجوز أن أحكم لك! فشهدت لها أم أيمن ومولى لرسول هللا فطلب منها‬
‫أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع‪ ،‬فلم يكن(((‪ .‬ورغم أن ألفاظ هذه‬
‫الرواية فيها محاباة ألبي بكر لكن ما يهمنا هو إثب�ات الحدث التاريخي‪.‬‬
‫أما المولى الذي تهيب الرازي عن ذكر اسمه‪ ،‬فهو علي بن أبي طالب(((‪.‬‬
‫مثال ثالث‪ :‬مطالبة فاطمة بحصتها من خيبر وإرثها مما أفاء هللا على رسول هللا‬
‫محتجا بحديث نبوي يقول إن األنبي�اء ال يورثون‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في المدين�ة‪ .‬فرفض أبو بكر ذلك‬
‫ما تركوه صدقة(((‪.‬لكن الزهراء احتجت عليه بآية قرآني�ة تقول عن لسان زكريا في‬
‫ۡ‬ ‫ۡ ََ َ ٗ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ٓ‬ ‫ۡ َم َو ٰ ِ َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ّ‬
‫ت ٱمرأ ِت عق ِرا فهب ِل‬ ‫ل مِن َو َراءِي َوكن ِ‬ ‫خفت ٱل‬
‫«﴿ِإَون ِ‬
‫ِ‬ ‫حديث�ه عن ابن�ه يحيى‬
‫ٗ‬ ‫ۡ‬
‫ۡ َ ُه َر ّب َر ّ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ ُ َ َ ّٗ َ ُ‬
‫ضيا‪[ ﴾٦‬مريم‪.)»]6 - 5 :‬‬ ‫لا‪ ٥‬ي ِرث ِن َوي ِرث مِن ءَا ِل يعقوبۖ َوٱجعل ِ ِ‬ ‫مِن لنك و ِ‬

‫موقف فاطمة عليها ال�سالم من البيعة‪:‬‬


‫اجتمعت أمور كثيرة‪ ،‬أثارت سخط الزهراء‪َّ ،‬ثم جاء عمر وأبو بكر إليها يلتمسان‬
‫رضاها فقالت لهما‪« :‬نشدتكما هللا‪ ،‬ألم تسمعا رسول هللا يقول‪ :‬رضا فاطمة من رضاي‪،‬‬
‫أحبني‪ ،‬ومن أرضى فاطمة فقد‬‫أحب فاطمة ابنتي فقد َّ‬
‫وسخط فاطمة من سخطي‪ ،‬فمن َّ‬
‫أرضاني‪ ،‬ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني!؟» فقاال‪ :‬نعم‪ ،‬سمعناه من رسول هللا‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬سيرة ابن هشام ‪ ،353/2‬شرح النهج ‪ ،210/16‬تاريخ الطبري ‪ ،20/2‬الكامل في التاريخ ‪ ،224/2‬معجم‬
‫البلدان ‪ ،240-238/4‬وفاء الوفاء ‪ 997/3‬و‪ ،998‬فتوح البلدان للبالذري ‪ ،43 ،42‬سنن أبي داود ‪،47/2‬‬
‫األموال ‪ ،9‬االكتفاء ‪ ،259/2‬شواهد التنزيل ‪ 338/1‬و‪ ،443‬المغازلي للواقدي ‪ ،706‬األحكام السلطاني�ة ألبي‬
‫يعلي ‪ ،185‬األحكام السلطاني�ة للماوردي ‪.170‬‬
‫((( تفسير الفخر للرازي ‪.284/29‬‬
‫((( انظر‪ :‬السمهودي‪ ،‬وفاء الوفاء ‪ 999/3‬ط مصر‪ ،‬تحقيق محمد محيي الدين‪.‬‬
‫((( البخاري ‪ ،37/3‬مسلم ‪ ،72/2‬مسند أحمد ‪.6/1‬‬

‫‪159‬‬
‫بداية الطريق‬

‫َّ‬ ‫ِّ ُ‬
‫فقالت‪« :‬فإني أشهد هللا ومالئكته أنكما أسخطتماني‪ ،‬وما أرضيتماني‪ ،‬ولئن‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫لقيت َّ‬
‫النبي ألشكونكما إليه»((((((‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫غضبى عليهما حتى توفيت(((‪.‬‬ ‫فمازالت‬
‫‪-‬كرم هللا وجهه‪ -‬يحمل فاطمة بنت رسول هللا‬ ‫علي َّ‬
‫وعن ابن قتيب�ة قال‪ :‬وخرج ٌّ‬
‫ً‬ ‫على َّ‬
‫دابة ليال في مجالس األنصار تسألهم النصرة‪ .‬فكانوا يقولون‪ :‬يا بنت رسول‬
‫عمك سبق إليها قبل أبي بكر‬‫هللا‪ ،‬قد مضت بيعتن�ا لهذا الرجل‪ ،‬ولو َّأن زوجك وابن ِّ‬
‫ما عدلنا به‪.‬‬
‫ُ‬ ‫علي َّ‬
‫فيقول ٌّ‬
‫كرم هللا وجهه‪« :‬أفكنت أدع رسول هللا في بيت�ه لم أدفنه‪ ،‬وأخرج‬
‫ُ‬
‫أنازع الناس سلطانه»؟!‬
‫فقالت فاطمة‪« :‬ما صنع أبو الحسن إال ما كان ينبغي له‪ ،‬ولقد صنعوا ما هللا‬
‫حسيبهم وطالبهم»(((‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّأما ٌّ‬
‫علي ‪ ،‬فقد خاصمهم بقوله‪« :‬هللا هللا يا معشر المهاجرين‪ ،‬التخرجوا‬
‫محمد عن داره وقعر بيت�ه إلى دوركم وقعور بيوتكم‪ ،‬والتدفعوا أهله عن‬ ‫سلطان َّ‬
‫َّ‬ ‫ُ ُّ‬ ‫ِّ‬
‫لنحن أحق الناس به‪ ،‬ألنا أهل‬ ‫مقامه في الناس وحقه‪ ،‬فوهللا يا معشر المهاجرين‬
‫ُ ُّ‬
‫ونحن أحق بهذا األمر منكم ما كان فين�ا القارئ لكتاب هللا‪ ،‬الفقيه في دين‬ ‫البيت‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫هللا‪ ،‬العالم بسنن رسول هللا‪ ،‬المضطلع بأمر الرعية‪ ،‬القاسم بينهم بالسوية‪ ،‬ووهللا‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫إنه لفين�ا‪ ،‬فال تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبي�ل هللا‪ ،‬فتزدادوا من الحق ُبعدا»‪.‬‬
‫أقر بنود‬ ‫فلما سمعوا منه هذا الكالم قال بشير بن سعد األنصاري ‪-‬الذي َّ‬ ‫َّ‬
‫ْ‬
‫األنصار منك قبل بيعتها ألبي بكر ما اختلف‬ ‫ُ‬ ‫السقيفة‪ :-‬لو كان هذا الكالم ِس ِم َعـته‬
‫عليك اثن�ان(((‪.‬‬
‫َّ‬
‫((( المستدرك ‪ ،140/3‬ابن عساكر ‪ 148/3‬ح‪ 1164‬ـ ‪ ،1168‬تذكرة الحفاظ ‪ ،995/3‬ابن أبي الحديد ‪ ،45/6‬كنز‬
‫العمال ‪ 11‬ح‪ ،32997‬الخصائص الكبرى ‪.235/2‬‬ ‫َّ‬
‫((( اإلمامة والسياسة ‪.14/1‬‬
‫َّ‬
‫((( مستدرك الحاكم ‪ 3‬ح‪ ،139‬ابن أبي الحديد ‪ ،107/4‬مجمع الزوائد ‪ ،118/9‬كنز العمال‪ 17613 .‬ح‪،46533‬‬
‫صحيح البخاري ‪ 288/5‬ح‪ ،256‬صحيح مسلم ‪ 138/3‬ح‪.52‬‬
‫((( اإلمامة والسياسة ‪ 12/1‬وكذا شرح النهج ‪.47/2‬‬
‫((( اإلمامة والسياسة ‪.12 :‬‬

‫‪160‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ِّ ً‬
‫معرضا بأبي بكر‪:‬‬ ‫وأنشد عليه السالم‬
‫فكيـــف بهـــذا والمشـــيرون ُغ َّي ُ‬ ‫َ‬
‫ملكـــت َ‬ ‫َ‬
‫ـــب‬ ‫أمورهم‬ ‫فإن كنت بالشـــورى‬
‫ُ (((‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫بالنبـــي وأقـــرب‬ ‫فغيـــرك أولـــى‬ ‫وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫النبي وأولى الناس به‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ولما بلغه عليه السالم احتجاج قريش بأنهم قوم‬
‫َّ‬
‫«احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة»(((‪.‬‬
‫لقد عانى اإلمام علي معاناة شديدة‪ ،‬بداية من معاناة فراق األحبة ورفاق الدرب‬
‫وأولهم رسول هللا‪ ،‬الذي فاضت نفسه الشريفة في حجر اإلمام ‪ ،‬وواراه الثرى‬
‫بنفسه‪ ،‬وعايش مأساة فراقه بكل أبعادها‪ ،‬وها هو يخاطب رسول هللا وهو يلي غسله‬
‫ََ َْ‬ ‫َ َْ َ ُ‬
‫«بأ ِبي أنت وأ ِّمي‪ ،‬لق ِد انق َط َع‬‫األسى‪ِ َ :‬‬ ‫وتجهيزه بكلمات حزين�ة تدمي القلب وتزرع‬
‫َ َ ْ َ َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ُّ ُ َّ َ َ‬
‫ماء‪ ،‬خصصت حتى‬ ‫ِبمو ِتك ما لم ينق ِطع ِبمو ِت غي ِرك ِمن النبو ِة واألنب ِ�اء وأخب ِار الس ِ‬
‫َ َ ً َ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬
‫واء‪َ ،‬ول ْوال أنك أ َم ْرت‬ ‫ِص ْرت ُم َسل ًيا َع َّم ْن ِس َواك‪َ ،‬و َع َم ْمت َحتى َص َار الن ُاس ِفيك س‬
‫َ َ َ ْ َ ْ َ ((( َ َ ْ َ َ َ ُّ ُ ((( َ َ َ َ َّ ُ ُ َ ً‬ ‫َ َ‬
‫اطل(((‪،‬‬ ‫ون ‪ ،‬ولكان الداء مم ِ‬ ‫ِ‬ ‫الص ْب ِر‪َ ،‬ون َه ْيت َع ِن الجز ِع‪ ،‬ألنفدنا عليك ماء الشؤ‬ ‫ب َّ‬
‫ِ َ ْ َ َ ُ ُ َ ً ((( َ َ َّ َ َ ((( َ َّ ُ َ َ ُ ْ َ ُ َ ُّ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ ْ ُ ُ َ َ ْ َ‬
‫والكمد محا ِلفا ‪ ،‬وقال لك ! و ِلكنه ما ال يملك رده‪ ،‬وال يستطاع دفعه! ِبأ ِبي أنت‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ ُ َ َْ َ‬ ‫ُ‬
‫َوأ ّمي! اذك ْرنا ِعند َر ِّبك‪َ ،‬و ْاج َعلنا ِم ْن َبا ِلك!»(((‪.‬‬
‫وإذا أعدنا إلى األذهان ما يحظى به رسول هللا من حب وتعظيم في نفس أمير‬
‫المؤمنين‪ ،‬ألدركنا حجم األسى الذي ُص َّب على اإلمام بفقده رسول هللا‪ ،‬فعلي قد‬
‫حظي بتربي�ة الرسول ورعايت�ه وإعداده ومصاحبت�ه منذ الصبا حتى فارق رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله الدني�ا الدني�ا‪.‬‬

‫((( نهج البالغة ‪ 503 :‬ح‪.190‬‬


‫((( نهج البالغة‪ ،‬الخطبة الثالثة بتصرف‪.‬‬
‫((( ألنفدنا‪ :‬أي ألفنين�ا‪.‬‬
‫((( الشؤون‪ :‬منابع الدمع من الرأس‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫((( لكان الداء مماطل‪ :‬مماطل بالشفاء‪.‬‬
‫َ‬
‫((( الك َمد‪ :‬الحزن‪ ،‬ومحالفته‪ :‬مالزمته‪.‬‬
‫ّ‬
‫((( قل‪ :‬فعل ماض متصل بألف التثني�ة‪ ،‬أي مماطلة الداء ومحالفة الكمد قليلتان لك‪.‬‬
‫((( نهج البالغة ‪.355 /1‬‬

‫‪161‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ولقد كانت تلك التربي�ة وتلك األخوة بينهما مليئ�ة بضـروب الود والحنان والوفاء‬
‫واإلخالص مما ليس له نظير‪.‬‬

‫وت�ستمر معاناة الإمام‪:‬‬


‫لم يكد اإلمام علي يمسح دموع الحزن واألسى على فراقه لرسول الرحمة والخير‪،‬‬
‫ولم يكد ينفض التراب العالق بي�ديه بعد مواراة الرسول في مثواه األخير‪ ،‬حتى فوجئ‬
‫بالمؤامرة التي عصفت باألمة فـ «كان يت�ألم عندما يرى أن تلك الجهود التي بذلها‬
‫الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم وبذلها هو تحت لوائه ‪-‬في مكة وفي المدين�ة في‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫منثورا تحت أقدام وعلى أيدي من لم‬ ‫معارك اإلسالم‪ -‬كلها معرضة ألن تصير هباء‬
‫يكونوا يجرؤون في يوم من األيام أن ين‍زلوا إلى ساحات الوغى لمواجهة أعداء هللا‪.‬‬
‫لقد كان اإلمام علي عليه السالم يخوض غمار الموت ويقتحم الصفوف؛ في‬
‫ً َ َ‬
‫جانب�ا‪َ ،‬ول ْيتهم جلسوا‬ ‫بدر‪ ،‬في أحد‪ ،‬في كل معارك اإلسالم‪ ،‬بينما كان أولئك يجلسون‬
‫جانب�ا من بعد ممات الرسول ! لقد كانوا في أثن�اء احتدام مواجهة الكفر يجلسون‬ ‫ً‬
‫جانب�ا‪ ،‬وعنـدما نـزل إلى قبره ‪-‬بل من قبل وهو ال يزال على فراش الموت‪ -‬بدؤوا‬ ‫ً‬
‫يتحركون وين‍زلون إلى ساحة هذه األمة؛ لينحرفوا بها عن نهج محمد صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم الذي من أجله كان يقتحم ساحات الوغى‪ ،‬يقتحم الصفوف‪ ،‬وهو يواجه‬
‫المشركين ويواجه الرومان‪ ،‬ويواجه اليهود‪ ،‬ويواجه كل أصناف أعداء اإلسالم !‬
‫هناك عبارة قالها أحد العلماء بالنسبة لعلي عليه السالم‪« :‬لو كانت األمور‬
‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫مظلوما أكثر مما حصل على علي من‬ ‫تقاس بمقاييس الدني�ا لما رأين�ا أحدا ُيعد‬
‫الظلم» يجاهد‪ ،‬يعاني‪ ،‬يتعب في سبي�ل دين هو يعلم أنه دين عظيم‪ ،‬وفي خير هذه‬
‫األمة‪ ،‬وفي مصلحة هذه األمة‪ ،‬وفي عزة هذه األمة‪ ،‬ثم يرى أيادي تعبث بهذا الدين‪.‬‬
‫لقد اتجه اإلمام علي عليه السالم إلى تلك األمة نفسها التي من أجلها جاهد‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ومن أجلها عانى‪ ،‬ومن أجل عزتها تعب‪ ،‬يحاول أن يحركها قبل أن َي ْعظم الخ ْطب‪،‬‬
‫في مرحلة كان يمكن أن يتلافى فيها ما حصل‪ ،‬لم يحصل له استجابة‪ّ ،‬‬
‫حرك الزهراء‬ ‫ٍ‬
‫‹صلوات هللا عليها›‪ ،‬حرك الجانب العاطفي‪ ،‬ماذا عمل أولئك عندما خطبت فيهم‬
‫الزهراء؟‪ .‬بكوا وقالوا‪ :‬إن خطوتها ما َت ْخ ُرم خطوة رسول هللا‪ ،‬تذكروا رسول هللا ÷‬
‫‪162‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ُ‬
‫في خطوة فاطمة‪ ،‬وخ َطا فاطمة‪ ،‬ومنطق فاطمة‪ ،‬ولم يت�ذكروا رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم فيما ذكرتهم به فاطمة!‪.‬‬
‫بكوا لغياب الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم ولم يبكوا لغياب دين�ه‪ ،‬لم يبكوا‬
‫ًّ‬
‫لغياب الدين الذي كان الرسول مستعدا من أجله أن ُيقتل‪ ،‬وواجه المخاطر الشديدة‬
‫من أجل هذا الدين‪.‬‬
‫ً‬
‫مظلوما وهو يرى‬ ‫فكيف ال يت�ألم اإلمام علي عليه السالم‪ ،‬وكيف ال يرى نفسه‬
‫األمور تسير على هذا النحو الذي يضيع كل الجهود التي بذلها الرسول صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم‪ ،‬وكل الجهود التي بذلها هو وبذلها عظماء آخرون من خيار صحابة‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم”(((‪.‬‬
‫لقد كان مما خاطب به الناس في تلك المرحلة الحرجة قوله‪:‬‬
‫ُ َ َ‬ ‫الن َجاة‪َ ،‬و َع ِّر ُجوا َع ْن َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ ُ ُّ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫المناف َر ِة‪،‬‬ ‫ريق‬‫َ ِ‬ ‫ط‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ف‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫س‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫الف‬
‫ِ‬ ‫اج‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫وا‬ ‫ق‬ ‫ش‬ ‫‪،‬‬ ‫اس‬ ‫الن‬ ‫ها‬ ‫«أ ُّ‬
‫ي‬
‫ْ َ ْ ََ ََ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ُ َ َ ََْ َ‬ ‫َ‬
‫المفاخ َر ِة‪ .‬أفلح َم ْن ن َهض ِب َجن ٍاح‪ِ ،‬أو استسلم فأراح‪ .‬هذا ماء ِآجن ‪،‬‬
‫ٌ (((‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َوض ُعوا ِتيجان‬
‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ((( َّ‬ ‫َ ُ ْ َ ٌ َ َ ُّ َ ُ َ َ ُ ْ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫ارع ِبغ ْي ِر أ ْر ِض ِه‪ .‬ف ِإن‬ ‫َ ِ‬‫كالز‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫�اع‬‫ِ‬ ‫ين‬ ‫إ‬‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫ولقمة يغص ِبها ِآكلها‪ ،‬ومجت ِني الثمر ِة ِلغي ِر و‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ ُ ْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َُ ْ ُ ُ‬
‫(((‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫المل ِك‪َ ،‬و إن أ ْسكت يقولوا‪ :‬ج ِزع((( ِمن المو ِت! هيهات‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫أقل َيقولوا‪َ :‬ح َر َص َعلى‬
‫َ ِّ ْ َ ْ ُ‬
‫الطف ِل ِبث�دي أ ِّم ِه‪،‬‬ ‫بالم ْو ِت ِمن‬ ‫الل َت َّي�ا َو َّالتي(((! َوهللاِ َل ْب ُن َأبي َطا لب َآن ُس َ‬ ‫َ ْ َ َّ‬
‫بعد‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫اب ال ْر ِش َي ِة((( ِفي‬ ‫َبل اند َم ْجت((( َعلى َمكنون علم ل ْو ُب ْحت به لض َط َر ْبت ُم اضط َر َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َّ ِّ ((( َ َ‬
‫الط ِوي الب ِعيد ِة!» ‪.‬‬
‫(‪((1‬‬

‫يقول الدكتور سعيد عاشور أستاذ التاريخ بجامعة الكويت وهو يتحدث عن‬

‫((( ملزمة ذكرى استشهاد اإلمام علي× للشهيد القائد‪.‬‬


‫اآلج ُن‪ :‬المتغير الطعم واللون‪ ،‬ال يستساغ‪ ،‬واإلشارة إلى الخالفة‪.‬‬ ‫((( َ ِ‬
‫ُ‬
‫((( إين�اعها‪ :‬نضجها وإدراك ثمرها‪.‬‬
‫َ‬
‫((( َج ِزع‪ :‬خاف‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ‬
‫((( ه ْيهات‪ :‬اسم فعل ماض بمعنى بعد‪ ،‬والمراد نفي ما عساهم يظنون من جزعه من الموت عند سكوته‪.‬‬
‫َ َّ‬
‫((( َب ْعد اللت ّي�ا والتي‪ :‬بعد الشدائد كبارها وصغارها‪.‬‬
‫َ َ ْ ُ َ َْ ُ‬
‫((( اندمجت‪ :‬انطويت‪.‬‬
‫األر ِش َية‪ :‬جمع ِرشاء بمعنى الحبل‪.‬‬ ‫((( ْ‬
‫الطو ّي‪ :‬جمع ّ‬
‫طوية وهي البئر‪ ،‬والبئر البعيدة‪ :‬العميقة‪.‬‬ ‫((( ّ‬
‫ِ‬
‫(‪ ((1‬نهج البالغة ‪.52 /1‬‬

‫‪163‬‬
‫بداية الطريق‬

‫صور التشويه في التاريخ اإلسالمي وعند ذكره هذه الحقيقة التاريخية يقول‪:‬‬
‫“أين كان اإلمام علي بن أبي طالب ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬في ذلك الوقت؟ أين كان؟‬
‫ُ ُ‬ ‫ً‬
‫كان مشغول بتجهيز الرسول ودفنه‪ ،‬وهناك تب�دو فكرة السمو‪ ،‬السمو الخلقي‪،‬‬
‫فكرة النزاهة‪ ،‬النزاهة وعدم التكالب وراء الحكم أو الجري وراء منصب‪ ،‬كيف يترك‬
‫ً‬
‫جثمان الرسول ويجري ليجتمع مع المجتمعين ليطلب لنفسه شيئ�ا؟! هنا الخلق‬
‫ً‬
‫هنا المتانة‪ ،‬كان ينبغي أن يقف المؤرخ وقفة عند هذه المسألة‪ ،‬عند هذه النقطة‬
‫ً‬
‫بالذات؛ فإذا لم يكن هناك تفريط من اإلمام علي ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬بأي حال من‬
‫األحوال‪ ،‬ولكن كان هناك ما هو أهم‪ ،‬ما هو أسمى‪ ،‬الصلة التي تربطه برسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم في الوقت الذي انصرف فيه المنصرفون وتن�اقشوا‬
‫مقربة منهم جثمان الرسول صلى هللا عليه‬ ‫ٍ‬ ‫وتحادوا واختلفوا حول الخالفة‪ ،‬وعن‬
‫ً‬ ‫وآله وسلم‪ُ ،‬ش ِغ َل ُّ‬
‫علي بن أبي طالب بتجهيزه ودفنه؛ إذا لم يكن هناك تفريط من‬
‫اإلمام علي في المطالبة بحقه في الخالفة‪ ،‬وإذا كان اإلمام علي ‪-‬رضي هللا عنه وكرم‬
‫وجهه‪ -‬قد طالب بالخالفة فينبغي أن ينزه من أنه كان يجري وراء متاع‪ ،‬لو كان يجري‬
‫وراء متاع النصرف من أول األمر وكان أسبق السابقين إلى السقيفة إلى سقيفة بني‬
‫ساعدة ليرفع صوته مع من رفعوا أصواتهم”(((‪.‬‬

‫وفاة فاطمة الزهراء عليها ال�سالم‬


‫توالت النكبات على علي وفاطمة عليهما السالم‪ ،‬ويب�دو أن توالي النكبات‬
‫ّ ْ‬
‫ألمت بالزهراء ‪-‬سيدة نساء‬ ‫على فاطمة الزهراء عليها السالم سارع في وفاتها‪ ،‬فقد‬
‫ُ‬
‫العالمين‪ -‬العلة التي توفيت على إثرها‪ ،‬فلحقت بالراحل العظيم أبيها‪ ،‬حيث كان‬
‫اإلمام عليه السالم طوال فترة المرض الذي عانت منه فاطمة عليها السالم يعايش‬
‫ْ‬
‫ما تعاني ملء ِكيانه؛ فهي وديعة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم وهي الصابرة‬
‫المحتسبة‪ ،‬وهي بعد ذلك زوجته الوفية التي عايشت معه آماله وآالمه طوال‬
‫حياتها‪.‬‬

‫((( سعيد عاشور‪ ،‬محاضرة قيمة‪ ،‬دار العالم اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبن�ان‪ ،‬ص‪17‬ـ ‪( .19‬أحمد محمد الهادي‪ ،‬التاريخ‬
‫اإلسالمي ‪.)9/1‬‬

‫‪164‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫َّ‬
‫وأوصت ‪-‬سالم هللا عليها‪ -‬قبي�ل وفاتها أل يحضر جنازتها وال الصالة عليها أبو‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫بكر وال عمر‪ ،‬وشددت على اإلمام علي بأن ينفذ وصيتها؛ وذكر في بعض الكتب‪ ،‬فلم‬
‫تعش بعد أبيها غير ستة أشهر‪ ،‬قضتها مخاصمة ألبي بكر‪ ،‬فلم تكلمه حتى ماتت‪،‬‬
‫ولما ماتت‪ ،‬دفنها زوجها علي ليال ّ‬
‫وصلى عليها‪ ،‬ولم يؤذن بها أبا بكر(((‪.‬‬
‫كان هذا القرار الذي اتخذته فاطمة عليها السالم حكيما فقد أرادت أن توصل‬
‫رسالة عبر مراحل التاريخ أن هناك انحرافا حصل في تاريخ هذه األمة‪ ،‬وسيثير‬
‫تساؤال مستمرا عن سبب ذلك‪ ،‬ويوصل إلى معرفة االنحراف وجذوره الضاربة في‬
‫تاريخ هذه األمة‪.‬‬
‫فخرج علي عليه السالم مع عمار ومجموعة خاصة من أوليائه‪ ،‬ليدفنوها في‬
‫الليل ويعملوا عدة قبور ّ‬
‫ليعموا حتى قبرها عنهم‪.‬‬
‫وفاطمة هي كما قال الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم‪“ :‬هي سيدة نساء‬
‫العالمين”‪“ ،‬فاطمة بضعة مني ُير ُ‬
‫يـبني ما رابها‪ ،‬يؤذيني ما يؤذيها‪ ،‬يغضبني ما‬ ‫ِ‬
‫يغضبها‪ ،‬من آذاها فقد آذاني‪ ،‬من أغضبها فقد أغضبني” على اختالف ألفاظ‬
‫الحديث أو تعدد رواياته(((‪.‬‬
‫اإلمام علي ‪-‬سالم هللا عليه‪ -‬يرى ويشاهد هذه الزوجة الوفية بضعة رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ُتقتل َك َم ًدا ً‬
‫وقهرا وهي ترى هذا الدين ُيعصف به من‬
‫أول يوم بعد وفاة والدها رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم فيزداد ألمه وحزنه‪.‬‬
‫لم تبك السيدة فاطمة عليها السالم وتت�ألم على مصادرتهم لما نحلها أبوها من‬
‫ََ‬
‫أراض واسعة في (فدك) كما يصور البعض‪ ،‬صحيح بأن (فدك) قضية تؤلمها لكن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫لم تبك عليها‪ ،‬ولم تمت كمدا على فدك‪ ،‬إنما ماتت كمدا وحزنا على هذه األمة‪.‬‬
‫رأى اإلمام عليه السالم الزهراء بعد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهي تعايش‬
‫مرارة األسى على ما حصل من ضياع لدين أبيها‪ ،‬ثم وهي تستسلم لفراش المرض‬
‫فيشحب لونها وتتردى أوضاعها الصحية ً‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬ثم يراها وهي تفارق الدني�ا‪،‬‬

‫((( نهج البالغة ‪ :‬الخطبة ‪ ،67‬وانظر ‪ :‬اإلمامة والسياسة ‪ ،11 :‬وانظر صحيح البخاري‪.‬‬
‫((( البخاري‪ ،‬ج ‪ / 5‬ص ‪ ،26‬باب مناقب فاطمة‪ ،‬ط‪ :‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبن�ان‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ِّ‬
‫فيب�اشر تغسيلها وتجهيزها عليها السالم ثم يقف على شفير قبرها مود ًعا‪ ،‬وال ينسى‬
‫أن يحملها رسالة إلى أبيها رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم بعبارات تكشف عن‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫شاكيا إلى أخيه ومربي�ه ومعلمه رسول هللا ما أل َّم به وما يعاني�ه قائل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ألمه وحزنه‪،‬‬
‫السـر َ‬ ‫َ َ َ َّ‬ ‫َ ِّ َ َ ْ َ َ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ َ‬
‫يع ِة‬ ‫الن ِازل ِة ِفي ِجو ِارك‪ ،‬و َ ِ‬ ‫“السال ُم َعل ْيك َيا َر ُسول هللاِ عني‪ ،‬وع ِن ابن ِتك‬
‫َّ َّ‬ ‫َّ ْ َ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َّ‬
‫الل َح ِاق ِبك! قل َيا َر ُسول هللاِ‪َ ،‬ع ْن َص ِف َّي ِتك َص ْب ِري‪َ ،‬و َرق َعن َها ت َجل ِدي‪ِ ،‬إ ل أن ِلي ِفي‬
‫ُْ َ‬ ‫َََ ْ‬ ‫َ ٍّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َّ َ‬
‫التأ ِّس ِي((( ِب َع ِظ ِيم ف ْرق ِتك‪َ ،‬وف ِاد ِح((( ُم ِص َيب ِتك‪َ ،‬م ْو ِض َع ت َعز(((‪ ،‬فلقد َو َّسدتك ِفي‬
‫ْ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ْ َ َ َ‬
‫َمل ُحود ِة ق ْب ِرك(((‪َ ،‬وفاضت َب ْي َن ن ْح ِري َو َصد ِري نف ُسك‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َّ َ ُ َ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َََ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ‬
‫الر ِهين�ة! أ َّما ُحز ِني‬ ‫(إنا هلل َو ِإنا ِإل ْي ِه َر ِاج ُعون)‪ ،‬فلق ِد ْاست ْر ِج َع ِت ال َو ِد َيعة‪َ ،‬وأ ِخذ ِت‬
‫يم‪.‬‬‫َف َس ْـر َم ٌد‪َ ،‬و َأ َّما َل ْيلي َف ُم َس َّه ٌد(((‪ ،‬إ َلى َأ ْن َي ْخ َت َار هللاُ لي َد َار َك َّالتي َأ ْن َت ب َها ُمق ٌ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ َ ُ ُ َ‬ ‫َُ ُ َ َُ َ‬
‫السؤال(((‪،‬‬ ‫(بتضاف ِر أ َّم ِتك َعلى هض ِم َها)(((‪ ،‬فأ ْح ِف َها‬ ‫ِ‬ ‫َو َستن ِّبئك ْابنتك‬
‫ْ َ ِّ ْ‬ ‫ْ ُ َ ْ‬ ‫َ ْ َ ْ ْ َ َ َ َ َ‬
‫الحال‪ ،‬هذا َول ْم َي ُط ِل ال َع ْهد‪َ ،‬ول ْم َيخ ُل ِمنك الذك ُر‪.‬‬ ‫واستخ ِبرها‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ ْ ْ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ ُ‬
‫َوال َّسال ُم َعل ْيك َما َسال َم ُم َودع‪ ،‬ال ق ٍال((( َوال َس ٍئم(((‪ ،‬فإن أن َص ِرف فال َع ْن َماللة‪،‬‬
‫الصابر َ‬ ‫ال َع ْن ُسوء َظ ٍّن ب َما َو َع َد هللاُ َّ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ َ‬
‫ين”‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و ِإن أ ِقم ف‬

‫موقف المجتمع في مكة والمدينة‬


‫َّ‬ ‫وبعد أن بويع ألبي بكر بالخالفة‪َّ ،‬‬
‫تميز في مجتمع المدين�ة ومكة ‪-‬عن سائر‬
‫الناس‪ -‬فريقان‪:‬‬
‫َّ‬
‫الفريق األول‪ :‬فريق أظهر كل ما كان يخفيه من نفاق وسعى إلى إثارة الفتن�ة‪،‬‬
‫َّ ِّ‬
‫يقابله فريق آخر لم يظهر الحق بكل ما يملك من قدرة‪..‬‬
‫((( يريد بالتأسي‪ :‬االعتب�ار بالمثال المتقدم‪.‬‬
‫المثقل‪.‬‬
‫((( الفادح‪ِ :‬‬
‫ّ‬
‫((( التعزي‪ :‬التصبر‪.‬‬
‫ْ‬
‫((( َمل ُحودة القبر‪ :‬الجهة المشقوقة منه‪.‬‬
‫((( ُم َس ّهد‪ :‬أي ينقضي بالسهاد وهو السهر‪.‬‬
‫َ ْ‬
‫((( هضمها‪ :‬ظلمها‪.‬‬
‫َ‬
‫((( ْإحفاء السؤال‪ :‬االستقصاء فيه‪.‬‬
‫((( القالي‪ :‬المبغض‪.‬‬
‫((( السئم‪ :‬من السآمة وهي الضجر‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫فأما الفريق األول‪ :‬فهم الكائدون لإلسالم‪ ،‬أولهم وعلى رأسهم أبو سفيان الذي‬ ‫َّ‬
‫يحرضه على مناجزة القوم الذين كانوا مع أبي بكر‪ ،‬فيقول‬ ‫قدم على أمير المؤمنين ِّ‬
‫ً َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫لإلمام علي عليه السالم‪ :‬وهللا لئن شئت ألمألنها عليه خيال َور ِجال‪ .‬فرده عليه‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫السالم بقوله‪“ :‬وهللا إنك ما أردت بهذه إال الفتن�ة‪ ،‬وإنك وهللا طالما بغيت لإلسالم‬
‫َّ ً‬
‫شرا‪ ،‬ال حاجة لنا في نصيحتك”(((‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫ومن هذا القسم أيضا مسلمو الفتح‪- :‬الطلقاء والمؤلفة قلوبهم‪ -‬وكان في‬
‫طليعتهم‪ :‬سهيل بن عمرو‪ ،‬والحارث بن هشام‪ ،‬وعكرمة بن أبي جهل‪ ،‬والوليد بن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ِّ ،‬‬
‫يحرضون قريشا على األنصار لهتافهم‬ ‫عقبة بن أبي معيط‪ ،‬سعوا في الفتن�ة‬
‫علي‪ ،‬يريدون إلزامهم بتجديد البيعة وإال فليقتلوهم!‬ ‫باسم ٍّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ ُ‬
‫مرة أخرى قائال‪ :‬يا معشر قريش‪ ،‬إنه ليس لألنصار أن يتفضلوا‬ ‫وظهر أبو سفيان‬
‫قر وا بفضلنا عليهم‪ ..‬وايم هللا لئن بطروا المعيشة‪ ،‬وكفروا‬ ‫على الناس‪ ،‬حتى ُي ُّ‬
‫ّ‬
‫النعمة‪ ،‬لنضربنهم على اإلسالم كما ضربونا عليه!‬
‫ً‬
‫هؤالء هم الذين طالما كادوا لإلسالم وحاربوه بسيوفهم عشرين عاما أو تزيد ولم‬
‫َّ ً‬ ‫يدخلوا اإلسالم إال نفاقا واستسالما ‪َّ ،‬‬
‫فلما لم يجدوا ُبدا من الكيد بأيديهم كادوه بألسنتهم‪.‬‬
‫حسان بن ثابت‪:‬‬ ‫وما أجمل قول َّ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫جهل‬ ‫وعكرمـــة الشـــاني لنا ابن أبـــي ِ‬ ‫حرب وحارث‬ ‫ٍ‬ ‫تن�ادى ســـهيل‪ ،‬وابن‬
‫الفضل‬ ‫الخطط‬ ‫خط ٍة ليست من‬ ‫على َّ‬ ‫قريـــش تب�ايعوا‬ ‫ٌ‬
‫رهـــط مـــن‬ ‫أولئـــك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫يقول اقتلوا األنصـــار‪ ،‬يا بئس ِمن ِف ْع ِل‬ ‫ثـــان عـــن الحـــق عطفـــه‬ ‫وكلهـــم ٍ‬
‫َّ‬
‫(((‬
‫ذحل‬ ‫كأنا اشـــتملنا من قريـــش على ِ‬ ‫وأعجـــب منهـــم‪ ،‬قابلـــوا ذاك منهم‬
‫ِّ‬ ‫َّأما الفريق اآلخر‪ :‬فهم المناصرون ٍّ‬
‫لعلي ‪ ،‬الداعون إلى حقه باإلمامة‪ ،‬ويلحق‬
‫بهذه الطائفة المهاجرون واألنصار الذين مالوا عن مبايعة أبي بكر‪ ،‬حيث كانوا ال‬
‫يشكون َّأن األمر صائر إلى ٍّ‬
‫علي ‪ ،‬وكان شعارهم الذي رفعوه بأصواتهم‪“ :‬ال نب�ايع إال‬
‫ُّ‬
‫َّ ً‬
‫عليا”‪ ،‬ومنهم‪ :‬عتب�ة بن أبي لهب بن عبدالمطلب الذي أنشد يقول‪:‬‬
‫((( نهج البالغة‪ ،‬الكتاب ‪.62‬‬
‫((( تاريخ الطبري ‪ ،209/3‬الكامل في التاريخ ‪.189/2‬‬

‫‪167‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ُ‬


‫الحسن‬
‫ِ‬ ‫هاشـــم‪ ،‬ث َّم منها عن أبي‬
‫ٍ‬ ‫عن‬ ‫َ‬
‫األمـــر منصرف‬ ‫أحســـب أن‬ ‫ما كنت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ـــنن‬ ‫ُ‬
‫بالقـــرآن والس ِ‬
‫ِ‬ ‫وأعلـــم النـــاس‬
‫ِ‬ ‫عـــن َّأول النـــاس إيمانـــا وســـابقة‬
‫ُ ٌ‬ ‫وم ْ‬‫بالنبـــي َ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫جبريـــل عون له في الغســـل والكفن‬ ‫ـــن‬ ‫وآخـــر النـــاس عهـــدا‬
‫(((‬
‫الحســـن‬ ‫وليس في القوم ما فيه من‬ ‫َم ْ‬
‫ـــن فيـــه مـــا فيهـــم ال يمتـــرون بـــه‬
‫ِ‬
‫وعمار وسلمان وأبو ٍّ‬
‫ذر وحذيفة بن اليمان وخالد بن سعيد بن‬ ‫ومنهم‪ :‬المقداد َّ‬
‫العاص وأبو أيوب األنصاري‪ ،‬وسائر بني هاشم‪.‬‬
‫وال ننسى موقف الحسن السبط من أبي بكر‪ ،‬حين رآه يرقى منبر رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم وهو مايزال في الثامنة من عمره‪ ،‬ين�اديه‪« :‬انزل عن منبر أبي‪،‬‬
‫واذهب الى منبر أبيك»(((!‬
‫ومنهم‪ :‬ابن عباس في حديث�ه مع عمر‪ ،‬حين سأله عمر عن ٍّ‬
‫علي عليه السالم‪،‬‬
‫نص عليه ؟!‬‫أيزعم َّأن رسول هللا َّ‬
‫ُ‬ ‫فقال‪:‬‬
‫قال ابن عباس‪ :‬نعم‪ ،‬وأزيدك‪ :‬سألت أبي عن ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬صدق(((‪ ،‬وغيرها من‬
‫المواقف التي سنأتي عليها في موضع الحق‪.‬‬
‫َّ ً‬
‫عليا عليه‬ ‫ومنهم‪ :‬قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي‪ ،‬إذ ذكر ‪-‬سعد بن عبادة‪-‬‬
‫َّ ً‬
‫نصا بوجوب واليت�ه‪ ،‬فقال له ابن�ه‪ :‬أنت سمعت من رسول‬ ‫السالم‪ ،‬فذكر من أمره‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫هللا يقول هذا الكالم في ِّ‬
‫علي بن أبي طالب‪ ،‬ثم تطلب الخالفة‪ ،‬ويقول أصحابك‪:‬‬
‫ً ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫منا أمير ومنكم أمير ؟! ال كلمتك وهللا من رأسي بعد هذا كلمة أبدا(((‪.‬‬
‫وفيما وراء المدين�ة ومكة هناك قبائل من المسلمين‪ ،‬لم يرضوا بالبيعة ألبي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بكر‪ ،‬فامتنعوا عن أداء الزكاة له‪ ،‬ال جحودا بالزكاة‪ ،‬ولكن إنكارا لزعامته(((‪ ،‬فعزم أبو‬
‫َّ َّ‬
‫بحجة أن هذا األمر تعطيل لفريضة الزكاة التي أوجبها هللا على‬ ‫بكر على مقاتلتهم‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الموف َّ‬
‫قيات للزبير بن بكار ‪.585 :‬‬ ‫(((‬
‫((( مختصر تاريخ دمشق ‪.127/7‬‬
‫((( شرح نهج البالغة ‪.21/12‬‬
‫((( شرح نهج البالغة ‪.44/6‬‬
‫((( وهؤالء غير المرتدين الذين خرجوا من اإلسالم كأتب�اع مسيلمة الكذاب وسجاح واألسود العنسي‪.‬‬
‫َّ‬
‫الموف َّ‬
‫قيات ‪.580 :‬‬ ‫اليعقوبي ‪،124/2‬‬

‫‪168‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫َّ ً‬
‫المسلمين‪ ،‬غاضا بصره عن السبب األصلي الذي دعاهم إلى هذا الموقف الصلب‪،‬‬
‫وهو اعتراضهم على الخالفة!‬
‫َّ‬
‫فمع أحد شيوخ كندة في حضرموت‪ ،‬الحارث بن سراقة يقول‪« :‬نحن إنما أطعنا‬
‫َّ ً‬
‫حيا‪ ،‬ولو قام رجل من أهل بيت�ه ألطعناه‪،‬‬ ‫رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم إذ كان‬
‫وأما ابن أبي قحافة فال وهللا‪ ،‬ما له في رقابن�ا طاعة وال بيعة»!‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫َّثم أنشد أبي�اتا‪ ،‬كان َّأولها‪:‬‬
‫بكر‬ ‫ً َّ‬
‫فيا عجبـــا ممـــن يطيع أبـــا ِ‬ ‫أطعنـــا رســـول هللا إذ كان بيننـــ�ا‬
‫(((‬

‫ومنهم‪ :‬زعيم كندة األشعث بن قيس‪ ،‬الذي أمر قومه بمنع الزكاة‪ ،‬وأن يلزموا‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫بالدهم‪ ،‬ويتحدوا على كلمة واحدة‪“ ،‬فإني أعلم أن العرب ال ت ِق ُّر بطاعة بني تيم بن‬
‫َّ‬
‫مرة‪ ،‬وتدع سادات البطحاء من بني هاشم إلى غيرهم‪.(((”..‬‬
‫واألنكى من ذلك كان األمر مع مالك بن نويرة‪ ،‬الذي استعمله رسول هللا على‬
‫َّ ُ‬
‫فلما نعي له رسول هللا قام بتوزيع الصدقات على فقراء قومه‪ ،‬ولم‬ ‫صدقات قومه‪،‬‬
‫يبعثها إلى الخليفة الجديد‪..‬‬
‫وأنشد يقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫نظـــر فيمـــا يجـــيء مـــن ِ‬
‫الغد‬ ‫ٍ‬ ‫وال‬ ‫خائف‬
‫ٍ‬ ‫فقلت خذوا أموالكـــم غير‬
‫ديـــن َّ‬
‫ُ‬ ‫محـــوق ٌ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫محم ِد‬ ‫أطعنا‪ ،‬وقلنـــا الدين‬ ‫قائم‬ ‫فـــإن قـــام بالديـــن ال‬

‫إذن هؤالء لم تطمئن قلوبهم للخليفة الجديد‪ ،‬هذه هي مشكلتهم التي من أجلها‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫ارتكب خالد بن الوليد أبشع مجزرة في ظل الخالفة الجديدة‪ ،‬فضرب أعناقهم صبرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واحدا بعد اآلخر‪ ،‬وارتكب أيضا أقبح كبيرة‪ ،‬إذ واقع زوجة مالك في ليلة قتله(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬الفتوح البن أعثم ‪ ،58/1‬معجم البلدان لياقوت الحموي‪(( ،‬حضرموت))‪.‬‬
‫((( الفتوح ‪ 59/1‬ـ ‪.60‬‬
‫ُ‬
‫((( الفتوح ‪ 21/1‬ـ ‪ ،23‬أسد الغابة واإلصابة ترجمة خالد بن نويرة‪ ،‬تاريخ اليعقوبي ‪ 131/2‬ـ ‪ ،132‬سير أعالم‬
‫النبلاء (سير الخلفاء الراشدين) ‪.43 :‬‬

‫‪169‬‬
‫بداية الطريق‬

‫مواقف بني ها�شم‬


‫ً‬
‫عموما تنم عن قناعتهم الراسخة بأن الخالفة لعلي عليه‬ ‫كانت مواقف بني هاشم‬
‫السالم‪ ،‬وأن أبا بكر أخذها منه عنوة‪ ،‬فكانت الزهراء تقول‪“ :‬ويحهم أنى زحزحوها‬
‫عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة؟ أال ذلك الخسران المبين ما الذي نقموا من أبي‬
‫الحسن؟ استب�دلوا وهللا الذناب بالقوادم والعجز بالكاهل؟ أال إنهم هم المفسدون‬
‫ولكن ال يعلمون” (((‪.‬‬
‫أما ابن عباس فكان يرى أن النبي أثن�اء مرضه األخير أراد أن يصرح باسم علي‬
‫ً‬
‫واضحا في قول ابن عباس‬ ‫خليفة له من بعده‪ ،‬لكن عمر منعه عن ذلك‪ ،‬ويب�دو هذا‬
‫ً‬
‫لعمر (كان النبي يربع في أمره وقتا‪ ،‬ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه(علي)‬
‫فمنعته من ذلك)(((‪.‬‬
‫كذلك كان عقبة بن أبي لهب يطالب بالخالفة لإلمام علي بن أبي طالب(((‪.‬‬
‫لهذا ال نستغرب إذا وجدنا الحسن بن علي‪ ،‬يقول ألبي بكر‪ ،‬وهو على منبر النبي‪:‬‬
‫“انزل عن مجلس أبي”‪ ،‬فيرد أبو بكر‪ :‬صدقت وهللا! إنه مجلس أبيك(((‪.‬‬

‫ابن عبا�س في حواره مع عمر‪:‬‬


‫إن المالحظ للتاريخ بعد وفاة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم سيعرف أن‬
‫ً‬
‫هناك قصدا في تجنب األسرة الكريمة ‪-‬وخاصة علي‪ -‬من هذا الشأن الذي يخصه‬
‫ُ‬
‫بالدرجة األولى حيث لم تغرب شمس ذلك اليوم حتى أبرم األمر وتمت البيعة ألبى‬
‫بكر خليفة المسلمين‪ ،‬وانتهت فصول السقيفة بهذا الحدث التاريخي‪ ،‬وأعقب‬
‫الحدث أمر صارم من الخليفة أو مؤيديه بأن كل من لم يب�ايع فمصيره القتل‪.‬‬
‫وتوالت التبريرات لموقفهم‪ ،‬فقد ادعوا بأن النصوص التي وردت في اإلمام علي‬

‫((( بالغات النساء البن أبي طيفور ‪ ،20/19‬أعالم النساء لعمر كحالة ‪ ،219/3‬شرح النهج للمعتزلي ‪.87/4‬‬
‫ً‬
‫((( شرح النهج للمعتزلي ‪ ،141/3‬انظر أيضا‪ :‬تاريخ بغداد‪.‬‬
‫((( مختصر أبي الفداء ‪.8/2‬‬
‫((( انظر‪ :‬الصواعق المحرقة البن حجر ‪ ،175‬اإلتحاف بحب األشراف‪ ،‬الشبراوي ط الحلبي ص‪ ،7‬الرسول‬
‫األعظم مع خلفائه ‪ ،35‬شرح النهج ‪.17/2‬‬

‫‪170‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫قد ُجمدت للمصلحة العامة! فأي مصلحة عامة هذه تقف قبالة النص الشرعي‬
‫وتتقدم عليه؟!‬
‫ولم تكن التبريرات التي ساقها القوم كافية مقنعة‪ ،‬وبقي السؤال يلتاع على‬
‫ً‬
‫الشفاه فترة ظامئا إلى الجواب الشافي‪ ،‬حتى كان يوم أن اجتمع فيه عمر بن الخطاب‬
‫وعبد هللا بن عباس ودار بينهما الحديث التالي‪:‬‬
‫عمر‪ :‬أتدرى ما منع قومكم منكم بعد محمد؟‬
‫ابن عباس ‪-‬وهو يكره أن يخوض في هذا الحديث مع الخليفة‪ :-‬إن لم أكن‬
‫أدري فأمير المؤمنين يدريني‪.‬‬
‫عمر‪ :‬كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخالفة فتتبجحوا((( على قومكم ً‬
‫بجحا‬
‫ووفقت‪.‬‬ ‫بجحا‪ ،‬فاختارت قريش لنفسها فأصابت ُ‬‫ً‬

‫ابن عباس‪ :‬أما قولك (فاختارت قريش لنفسها فأصابت ووفقت) فلو أن‬
‫ً‬
‫قريشا اختارت لنفسها حيث اختار هللا عز وجل لها لكان الصواب بي�دها غير مردود‬
‫ومحسود‪ ،‬وأما قولك (إنهم كرهوا أن تكون النبوة لنا والخالفة) فإن هللا عز وجل‬
‫َ‬
‫ۡ َ َُ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ ُ ْ َ ٓ َ َ َ َّ ُ َ َ‬‫َ َ َ َّ ُ‬
‫ۡم‪﴾٩‬‬ ‫ٱلل فأح َب َط أعمٰله‬ ‫وصف ً‬
‫قوما بالكراهية فقال‪﴿ :‬ذٰل ِك بِأنهم ك ِرهوا ما أنزل‬
‫[محمد‪.)»]9 :‬‬
‫عمر‪ :‬هيهات! وهللا يا بن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء وكنت أكره أن‬
‫أخبرك عنها فتزيل منزلتك عندي‪.‬‬
‫ًّ‬
‫ابن عباس‪ :‬وما هي؟ فإن كانت حقا فما ينبغي أن تزول منزلتي منك‪ ،‬وإن كانت‬
‫ً‬
‫باطل فمثلي من أماط الباطل عن نفسه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وظلـما‪.‬‬ ‫عمر‪ :‬بلغني أنك تقول إنما حذفوها حسدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫(ظلـما) فقد تبين للجاهل والحليم‪ ،‬وأما قولك (حسدا)‬ ‫ابن عباس‪ :‬أما قولك‬
‫فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون‪.‬‬

‫((( تتبجحوا‪ :‬أي تتفاخروا‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫عمر‪ :‬هيهات! أبت ‪-‬وهللاِ‪ -‬قلوبكم يا بني هاشم إال حسدا ما يحول‪ ،‬وضغنا‬
‫ًّ‬
‫وغشا ما يزول‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تطهيرا‬ ‫ابن عباس‪ :‬مهل‪ ،‬ال تصف قلوب قوم أذهب هللا عنهم الرجس وطهرهم‬
‫بالحسد والغش‪ ،‬فإن قلب رسوله هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من بني هاشم‪.‬‬
‫عمر‪ :‬إليك عني(((‪.‬‬
‫هذه المحاورة تكشف بوضوح األسباب الرئيسية التي دعت القوم أن يصـرفوها‬
‫عن صاحبها الذي نص عليه رسول هللا صاحب الرسالة كراهة أن تجتمع في بيت‬
‫عبد المطلب النبوة والخالفة‪.‬‬
‫مصورا ما حدث‪“ :‬حتى إذا قبض رسوله رجع‬‫ً‬ ‫ويقول اإلمام علي عليه السالم‬
‫قوم على األعقاب‪ ،‬وغالتهم السبل‪ ،‬واتكلوا على الوالئج((( ووصلوا غير الرحم‪،‬‬
‫وهجروا السبب الذي أمروا بمودته‪ ،‬ونقلوا البن�اء عن رص أساسه‪ ،‬فبثوه في غير‬
‫موضعه‪ ،‬معادن كل خطيئ�ة‪ ،‬وأبواب كل ضارب في غمرة»(((‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مخاطبا أحد عماله ومتحدثا عن مظلوميت�ه‪“ :‬بلى كانت‬ ‫يقول عليه السالم‬
‫في أيدين�ا فدك من كل ما أظلته السماء‪ ،‬فشحت عليها نفوس قوم‪ ،‬وسخت عنها‬
‫َ‬
‫نفوس آخرين‪ ،‬ونعم الحكم هللا‪ ،‬وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في‬
‫غد جدث((( تنقطع في ظلمته آثارها‪ ،‬وتغيب أخبارها‪ ،‬وحفرة لو زيد في فسحتها‬
‫وأوسعت يدا حافرها ألضغطها الحجر والمدر‪ ،‬وسد فرجها التراب المتراكم”(((‪.‬‬
‫“لقد استأثروا باألمر‪ ،‬ونقلوه عن أهله ومعدنه‪ ،‬ووضعوه في غير محله وقد‬
‫ُ‬
‫فاجؤوا أهل البيت عليهم السالم والجرح لما ين�دمل والرسول لما يقبر‪ ،‬بصرف األمر‬
‫عنهم واالعتداء عليهم‪ ،‬وتركوهم يتجرعون الغصص ويتوسدون األرق‪ ،‬وتساورهم‬

‫((( تاريخ الطبري ‪ ،31/5‬والكامل البن األثير ‪ ،31/3‬وشرح النهج البن أبي الحديد ‪.57/2‬‬
‫((( الوالئج‪ :‬جمع وليجة‪ ،‬وهي بطانة اإلنسان وخاصته‪.‬‬
‫((( شرح نهج البالغة ‪.48/2‬‬
‫((( الجدث‪ :‬القبر‪.‬‬
‫((( نهج البالغة‪.592 ،‬‬

‫‪172‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫السموم‪ ،‬فما أعظم رزيتهم! وما أشد محنتهم وبالءهم!”(((‪.‬‬


‫وامتنع أمير المؤمنين عن البيعة‪ ،‬وأعلن سخطه البالغ مما حدث‪ ،‬وقدم األدلة‬
‫واالحتجاجات على أحقيت�ه مع علمه أن محله من الخالفة محل القطب من الرحى‬
‫دون جدوى‪...‬حتى لقد مورس في حقه وأهل بيت�ه الحصار االقتصادي مع العزل‬
‫السياسي وتحمل اإلمام عليه السالم كل ذلك بصبر وثب�ات وحكمة‪.‬‬
‫وكيفما كان فإن حوادث السقيفة انتهت‪ ،‬وحملت بين طياتها سحابة قاتمة‬
‫ً‬
‫ونيرانا تستعر ً‬
‫لهبا مزقت المسلمين وشوشت الصورة الواضحة‬ ‫ومأساة مفجعة‪،‬‬
‫ٍّ‬
‫لإلسالم‪ ،‬وعلى كل فقد اقتضت الحكمة أن يصبر اإلمام ‪-‬كما قال‪ -‬على طخية‬
‫عمياء‪.‬‬

‫((( حياة اإلمام الحسن ‪.127/1‬‬

‫‪173‬‬
‫بداية الطريق‬

‫الإمام علي بن �أبي طالب‪ :‬الثابت والمتحوالت‬


‫كان اإلمام علي بن أبي طالب يذكر اآلخرين بخطورة االنحراف عن توجيهات‬
‫الرسول في موضوع والية األمر‪ ،‬ويورد لهم نصوصا لعلهم يت�ذكرون ويتراجعون عن‬
‫موقفهم‪ ،‬من تلك النصوص الشهيرة نص يوم اإلنذار في دار أبي طالب‪ ،‬حين دعا‬
‫َۡ‬
‫ۡق َرب َ‬ ‫ۡ َ ََ َ‬ ‫َ‬
‫ني‪[ ﴾٢١٤‬الشعراء‪ )»]214 :‬وانتهى بأن‬ ‫ٱل‬ ‫ك‬ ‫ت‬‫ري‬ ‫ش‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ر‬ ‫ذ‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫«﴿وأ‬ ‫النبي عشيرته األقربين‪،‬‬
‫ِ‬
‫صغيرا‪ ،‬وقال‪“ :‬هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم‪ ،‬فاسمعوا‬ ‫ً‬ ‫أخذ بي�د علي‪ ،‬وكان ً‬
‫صبي�ا‬
‫له وأطيعوا”(((‪ ،‬كذلك تذكر مصادر عديدة أن النبي صلى هللا عليه وآله وسلم قال‬
‫لعلي عليه السالم‪“ :‬ال ينبغي أن أذهب إال وأنت خليفتي”(((‪ ،‬وحديث الوالية‪،‬‬
‫وغيرها من األدلة من هنا كان رفض علي الواضح لخالفة أبي بكر‪ ،‬فحين جاؤوا إليه‬
‫وقالوا له بايع! قال‪ :‬أنا أحق بهذا األمر منكم‪ ،‬ال أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي؛ أخذتم‬
‫هذا األمر من األنصار‪ ،‬واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول هللا‪ ،‬فأنصفونا ‪-‬إن كنتم‬
‫تخافون هللا‪ -‬من أنفسكم‪ ،‬واعرفوا لنا األمر مثل ما عرفت األنصار لكم‪ ،‬وإال فبوؤوا‬
‫بالظلم وأنتم تعلمون‪.‬‬
‫ً‬
‫فقال عمر‪ :‬إنك لست متروكا حتى تب�ايع(((‪.‬‬
‫عليا كان يفهم سبب إصرار عمر على المبايعة‪ ،‬فقد قال علي عليه‬ ‫يب�دو أن ً‬
‫ً‬ ‫السالم لعمر‪ :‬احلب ً‬
‫حلبا لك شطره‪ ،‬وهللا ما حرصك على إمارته إال ليؤثرك غدا(((‪.‬‬
‫ً‬ ‫وفي نص آخر‪ :‬احلب ياعمر ً‬
‫حلبا لك شطره؛ اشدد له اليوم ليرد عليك غدا‪ .‬ال وهللا ال‬
‫أقبل قولك وال أتابعه!‬

‫((( انظر‪ :‬تاريخ الطبري ‪ ،321-319/2‬الكامل البن األثير ‪ 62/2‬و‪ ،63‬شرح النهج للمعتزلي ‪ 120/13‬و‪ ،244‬السيرة‬
‫الحلبي�ة ‪ ،311/1‬منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ‪ 41/5‬و‪ ،42‬شواهد التنزيل للحسكاني ‪ ،371/1‬كنز‬
‫العمال ‪ ،392/6‬تاريخ ابن عساكر ‪ ،85/1‬حياة محمد حسنين هيكل ‪ 104‬ط عام ‪1353‬هـ‪ ،‬تفسير الخازن‬
‫‪ 371/3‬و‪ ،390‬التفسير المنير للجاوي ‪ ،118/2‬تفسير الطبري ‪.121/19‬‬
‫((( تاريخ ابن عساكر ‪ ،183/1‬أنساب األشراف ‪ ،106/2‬مستدرك الصحيحين ‪ ،132/2‬مسند ابن حنب�ل ‪،25/5‬‬
‫اإلصابة للعسقالني ‪.509/2‬‬
‫((( شرح النهج للمعتزلي ‪.2/2‬‬
‫((( أنساب األشراف ‪.587/1‬‬

‫‪174‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫وانصرف علي إلى منزله ولم يب�ايع(((‪ ،‬لكن يب�دو أن الرياح كانت تسير بعكس‬
‫ما يشتهي علي‪ .‬وتخبرنا بعض المصادر‪ ،‬مثال‪ ،‬أن جماعة اجتمعت إلى علي بن أبي‬
‫طالب يدعونه إلى البيعة‪ ،‬فقال لهم‪ :‬اغدوا علي ّ‬
‫محلقين الرؤوس فلم يغد إال ثالثة‬
‫نفر(((‪.‬‬
‫وهكذا نالحظ أسلوب الترغيب ‪-‬مثل ما كان مع العباس‪ -‬والترهيب ‪-‬مثل‬
‫ما كان مع سعد بن عبادة‪ -‬الذي استخدمته جماعة الحكم‪ ،‬كان له دوره األبرز في‬
‫استمالة الناس وبالتالي تقاعسهم عن نصرة اإلمام علي عليه السالم‪ ،‬وهو أسلوب‬
‫استخدم كثيرا بغرض فرض استقرار الحكم ألبي بكر في المدين�ة‪ ،‬فعلى سبي�ل المثال‬
‫رفض خالد بن سعيد بن العاص مبايعة أبي بكر‪ ،‬وانحاز إلى علي عليه السالم‪ ،‬لكنه‬
‫خضع بعد ذلك بفعل الضغوط وبايع‪ ،‬فقد بعث أبو بكر الجنود إلى الشام وكان أول‬
‫من استعمل على ربع منها خالد بن سعيد‪ ،‬لكن عمر أخذ يقول‪ :‬أتؤمره وقد صنع ما‬
‫صنع وقال ما قال؟! فلم يزل بأبي بكر حتى عزله‪ّ ،‬‬
‫وأمر يزيد بن أبي سفيان(((‪.‬‬
‫وفي األخير‬
‫بعد أن بذل اإلمام علي عليه السالم كل جهوده لمواجهة االنحراف بدء بالتوعية‬
‫والتذكير بخطورة مخالفة أمر رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬ثم بطلبه‬
‫النصرة لمواجهة االنقالب فلم يجد الناصر وحتى باستخدام األسلوب العاطفي‪،‬‬
‫كل محاوالت اإلمام علي عليه السالم لم تنجح في مواجهة االنقالب وفي توعية‬
‫الجماهير فلم يبق لإلمام علي إال الخطوة األخيرة وهي أن يتركهم يذوقوا وبال أمرهم‬
‫ألن عليه ما حمل وعليهم ما حملوا‪ ،‬فالتجربة خير برهان‪ ،‬وعند التجربة سيدرك‬
‫الكثير حجم التفريط الذي ارتكبوه وعسى أن تحين الفرصة إلعادة الحق واستعادته‪.‬‬

‫((( شرح النهج للمعتزلي ‪.5-2/2‬‬


‫((( تاريخ اليعقوبي ‪ ،126/2‬شرح النهج للمعتزلي ‪.4/2‬‬
‫((( تاريخ الطبري ط أوروبا ‪ ،2079/1‬تهذيب ابن عساكر ‪.51/5‬‬

‫‪175‬‬
‫بداية الطريق‬

‫مناق�شة �إ�ضافية لن�صو�ص ال�سقيفة وبع�ض نتائجها‬

‫‪ -‬بيعة �أبي بكر كانت فلتة‪:‬‬


‫وهكذا تمت عملية االستيلاء على السلطة التي تم التخطيط لها من قبل‪،‬‬
‫مستغلين انشغال اإلمام علي والمخلصين من أصحاب رسول هللا في تغسيل‬
‫وإعداد الجثمان الطاهر لمواراته الثرى‪ ،‬ففيما كان اإلمام علي ومن يعرفون عظمة‬
‫ُّ‬
‫رسول هللا منشغلين بوداع رسول هللا كان هناك في سقيفة بني ساعدة من ُي ِعد‬
‫نفسه ليحكم المسلمين‪ ،‬وتمت لهم العملية بالتضليل واإلرهاب‪ ،‬وبالتعاون مع‬
‫مرضى النفوس من الطلقاء ونحوهم‪ ،‬ولقد اعترف عمر نفسه بذلك حين قال‪ :‬إن‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫بيعة أبي بكر كانت فلتة‪ (((،‬يعني هكذا (تل َّج َمت ومشت)‪ ،‬يعني لم يكن هو المؤمل‬
‫فيه‪ ،‬وال المتوقع لمثله هو أن تستقيم له المسألة‪ ،‬وكان المتوقع أن يأتي اضطراب‬
‫كبير‪ ،‬وكان المتوقع أن يأتي أشياء كثيرة‪.‬‬
‫َْ‬
‫(فلتة لكن وقى هللا شرها) كما قال عمر!! هذا يدل على أن أبا بكر نفسه لم يكن‬
‫َ‬
‫هو الشخص المؤهل ألن يلي أمر األمة؛ ألن عمر نفسه وأبو بكر نفسه كانا متخوف ْي ِن‬
‫َّ‬
‫أل تتم المسألة‪ ،‬ولكن سيجربون فربما تمضي المسألة من خالل إدراكهم للناس‪،‬‬
‫ََْ‬
‫وفهمهم لآلخرين من بني أمية والمنافقين‪ ،‬فكانت فلتة‪.‬‬
‫ً‬
‫جميعا ال تكون بيعته فلته‪.‬‬ ‫الشخص الذي يكون محط إجالل وإكبار الناس‬
‫ُ‬
‫اإلمام علي ألم يتجهوا إليه كلهم بعد ما قتل عثمان؟ حتى كادوا يطؤوا ابن�ه الحسن!‬
‫جميعا؛ ألنه ال أحد يشك في أن علي بن أبي طالب‬ ‫ً‬ ‫اتجهوا كلهم إليه من بعد يـبايعونه‬
‫ً‬
‫ليس أهل‬
‫للوالية‪ ،‬لكن كان عمر نفسه ممن يشك بالنسبة ألبي بكر؛ ألن الناس يعرفون‬
‫ً‬
‫بأنه ليس أهل للخالفة ولكن ربما تنجح المسألة‪ ،‬فكانت فلتة ‪-‬بحسب تعبيره‪-‬‬
‫ومشت المسألة‪.‬‬
‫ً‬
‫صحيحا‪ ،‬ما زال شرها إلى اآلن‪ ،‬وما زال شر‬ ‫لكن قوله‪“ :‬وقى هللا شرها” ليس‬

‫((( انظر‪ :‬البخاري ‪ ،2505/6‬وابن حبان ‪ ،155/2‬وسنن البيهقي ‪ ،272/4‬ومسند البزار ‪.410/1‬‬

‫‪176‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫تلك البيعة ‪-‬التي قال إنها “فلتة”‪ -‬ما زال شرها إلى اآلن‪ ،‬وما زلنا نحن المسلمين‬
‫نعاني من آثارها إلى اآلن‪.‬‬
‫الم َع ِّمي على حل‬
‫هي كانت طامة بشكل عجيب‪ ،‬هي سبب المشكلة وهي ُ‬
‫َّ‬
‫المشكلة‪ ،‬ال يوجد قضية مثلها‪ ،‬أن تكون هي سبب المشكلة‪ ،‬والذي يعمي على أل‬
‫َ‬
‫تعرف حلها‪.‬‬
‫أال ترى المسلمين كيف أنهم لم يستطيعوا أن يحلوا إشكالياتهم ًّ‬
‫نهائي�ا‪ ،‬ما أكثر‬
‫خصوصا السني�ة وهم متولون ألبي بكر وعمر! لم يستطيعوا أن يصلوا‬ ‫ً‬ ‫المسلمين‬
‫ً‬
‫إلى حل إطالقا في قضيتهم هذه في صراعهم مع أعداء اإلسالم‪ ،‬واألمة في كل سنة‬
‫ً‬
‫تهبط نحو األسفل نحو األسفل جيل بعد جيل بعد جيل‪ ،‬إلى أن وصلت تحت أقدام‬
‫ً‬
‫اليهود‪ ،‬من عهد أبي بكر إلى اآلن وهي تهبط جيل بعد جيل‪.‬‬
‫يعمي على‬ ‫كيف تكون هذه المشكلة سبب�ا لمشاكل المسلمين‪ ،‬ثم هي من ّ‬
‫ً‬
‫الحلول أمام المسلمين‪ ،‬يكون أحيانا سبب المشكلة هنا والحلول هناك‪ ،‬يوجد‬
‫مشاكل كثيرة تكون سبب المشكلة هنا وحلها هناك‪ ،‬وال تكون المشكلة نفسها هي‬
‫تعمي على الحل‪ .‬أما هذه المشكلة فكانت من هذا النوع‪ ،‬قضية أبي بكر وعمر‬ ‫من ّ‬
‫كانت هي سبب مشاكل المسلمين ثم هي من غطى على أعينهم عن أن يعرفوا الحل‬
‫والمخرج منها‪.‬‬
‫ألف وأربعمائة سنة أليست فترة طويلة؟ ألف وأربعمائة سنة والمسلمون لم‬
‫يجلسوا جلسة واحدة لين�اقشوا لماذا؟ ما هو الخلل؟‪ .‬ما الذي حصل حتى أصبحنا‬
‫على هذا النحو؟ إلى تحت‪ ،‬إلى تحت‪ ،‬بعد كل مائة سنة هبوط هبوط‪ ،‬وكم قد جاءت‬
‫من ضربات لألمة هذه ضربها الصليبيون ضربات شديدة‪ ،‬ضربها التت�ار والمغول‬
‫ضربات شديدة‪ ،‬الصليبيون من قبل‪ ،‬والصليبيون في فترات االستعمار المتأخرة‪،‬‬
‫وهكذا ضربة بعد ضربة حتى أصبحوا اآلن تحت أقدام اليهود‪ ،‬ولم يجلسوا لين�اقشوا‬
‫المسألة من جديد‪ ،‬ويرجعوا إلى القرآن الكريم لينظروا هل فيه حل؟ هل هو وضع‬
‫ً‬ ‫ًّ‬
‫حل؟ هل عالج المشكلة هذه؟ هل تحدث عن أسباب هذه المشكلة؟ أبدا‪.‬‬
‫ولن يتخلوا عن أبي بكر وعمر حتى آخر ذرة من البالد العربي�ة‪ ،‬حتى آخر ذرة من‬

‫‪177‬‬
‫بداية الطريق‬

‫تراب الوطن العربي‪ ،‬ما معنى إلى آخر ذرة؟ يعني إلى آخر ذرة تستعمر وتستذل‬
‫وتقهر(((‪.‬‬

‫الأن�صار كانوا �أول من دفع ثمن التفريط‪:‬‬


‫يقول السيد حسين ‪ -‬رضوان هللا عليه ‪:-‬‬
‫“ولقد كان األنصار في طليعة من دفعوا ثمن تفريطهم؛ ألنه كان من المفترض‬
‫َ‬
‫عليهم أن يجتمعوا مع اإلمام علي عليه السالم؟ ال أن يجتمعوا هناك َو ْحدهم‪،‬‬
‫ً‬
‫ويأتمروا وحدهم خوفا منهم أنه ربما ال تتم المسألة لإلمام علي! فكان الصواب أن‬
‫يذهبوا هم إلى اإلمام علي ويقفوا معه حتى تتم المسألة‪ ،‬ال أن يقولوا‪ :‬ربما ال تتم‬
‫المسألة فاألحسن أن نكون قد انتبهنا ألنفسنا حتى ال يأتي آخرون فيمسكوا بزمام‬
‫األمور فيظلمونا‪.‬‬
‫ُ‬
‫لم تنفعهم هذه‪ .‬ظ ِلموا‪ ،‬وأهينوا في أيام أبي بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬ومعاوية‪،‬‬
‫ً ًّ‬ ‫ويزيد اجتاح المدين�ة إجتي ً‬
‫رهيب�ا جدا قتل حوالي سبعمائة شخص أو أكثر منهم‪،‬‬ ‫�احا‬
‫ًّ‬
‫وانتهك أعراضهم ودمر بيوتهم‪ ،‬قضية رهيب�ة جدا حصلت لهم‪.‬‬
‫هذه العواقب السيئ�ة التي نالتهم بسبب تفريطهم وهي قضية قائمة في دين‬
‫هللا‪ ،‬هذا هدى هللا هل الناس سيقبلونه؟ يجب أن يقبلوه وإال فيجب أن يعرفوا بأن‬
‫البديل هو الخزي‪ ،‬والعواقب السيئ�ة في الدني�ا واآلخرة”‪.‬‬

‫ا�ستكمال مناق�شة ن�صو�ص ال�سقيفة‪:‬‬


‫قال عمر بن الخطاب (كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى هللا شرها) ((( لماذا؟‬
‫ً‬
‫قد الحظنا أوال أن أبا بكر وعمر بن الخطاب تث�اقال عن المضي في سرية أسامة‬
‫بدنو أجل النبي‪ ،‬وخوفهما بالتالي من أن ُيتوفى‬ ‫بن زيد لشعورهما ‪-‬على األرجح‪ّ -‬‬
‫ْ‬ ‫َُ‬
‫ويث ّبت في غيابهما َم ْن سبق أن أعلن واليت�ه‪.‬‬ ‫النبي‬

‫((( در وس من هدي القرآن الكريم‪ ،‬سورة المائدة‪ ،‬الدرس األول‬


‫((( البخاري كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة باب رجم الحبلى من الزنا‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬أراد النبي ‪-‬وقد رأى أن خطته بإنفاذ هؤالء في سرية أسامة بن‬
‫زيد لن تكتمل‪ -‬أن يملي على المسلمين وصيت�ه التي كانت ستتضمن ً‬
‫حتما أشياء‬
‫لن تعجب عمر بن الخطاب ‪-‬كان أبو بكر ً‬
‫غائب�ا‪ -‬فاحتج عمر بقوله‪ ،‬إن النبي يهذي‪.‬‬
‫غاب بنو هاشم عن السقيفة ومجريات األمور فيها؛ النشغالهم بغسل النبي‬
‫وتجهيزه‪ .‬لكن بعض األنصار ‪-‬الذين لم ينتظروا حتى يدفن النبي ويكتمل حضور‬
‫الجماعة اإلسالمية األولى‪ -‬اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة الختي�ار خليفة للنبي‬
‫منهم‪ ،‬وحين سمعت مراكز القوى القرشية بذلك‪ ،‬تدافعت إلى السقيفة كي تحبط‬
‫مسعى األنصار‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منقسما منذ البداية األولى‪ ،‬يضاف إلى ذلك‬ ‫بدا الموقف األنصاري ضعيفا‬
‫الحس القبلي عند بعض األنصار‪ ،‬الذي كان يقول‪ :‬إن األنصار ‪-‬رغم أنهم هم الذين‬
‫أعزوا النبي وأصحابه وجاهدوا أعداءه حتى استقامت العرب‪ -‬إال أن قريشا أهله‬
‫وعشيرته وهم األحق بخالفته؛ لذلك اقترحوا في البداية أن يكون أمير أنصاري وأمير‬
‫قرشي‪ ،‬فرد سعد بن عبادة‪ :‬هذا أول الوهن‪.‬‬
‫ً‬
‫متراصا خلف عمر‬ ‫مقابل ذلك‪ ،‬بدا الموقف القرشي ‪-‬في غياب بني هاشم‪-‬‬
‫بن الخطاب‪ .‬وحين حضر القرشيون إلى السقيفة‪ ،‬احتج أبو بكر بأن قريشا أولياء‬
‫النبي وعشيرته وأحق الناس بالخالفة من بعده؛ وحاول استرضاء األنصار‪ ،‬بالقول‪:‬‬
‫نحن األمراء وأنتم الوزراء؛ فوقف الحباب بن المنذر‪ ،‬وقد أضعف وضع سعد بن‬
‫عبادة الصحي موقف األنصار‪ ،‬ليحتج على القرشيين بالقول‪ :‬إن البالد بالد األنصار‪،‬‬
‫وطالب بإجالء قريش عن المدين�ة‪ ،‬بعدها جاء أول تن�ازل أنصاري والذي جر وراءه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫محتجا أيضا‬ ‫تن�ازالت كثيرة‪ :‬منا أمير ومنكم أمير‪ .‬لكن عمر رفض ذلك بحسم‪،‬‬
‫بالحس القبلي ذاته‪ :‬نحن أولياء النبي وعشيرته‪ .‬فجاء رد الحباب العنيف‪ :‬أجلوهم‬
‫عن هذه البالد‪ ،‬فبأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين به‪.‬‬
‫وهكذا كان التن�افس األوسي الخزرجي من جهة‪ ،‬والتن�افس الخزرجي الخزرجي‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬سبب�ا في القضاء على أي أمل لألنصار في تسلم سدة الحكم‪.‬‬
‫وقد كانت ذكرى حرب البعاث ‪-‬التي لم يكن قد مضى عليها سنوات كثيرة بين‬

‫‪179‬‬
‫بداية الطريق‬

‫األوس والخزرج‪ -‬ماثلة في البال؛ لذلك خاف األوس من سلطة الخزرج؛ وخافوا أكثر‬
‫ً‬
‫نصيب�ا‪ ،‬وتكون‬ ‫من أنهم إذا دعموهم للوصول إلى سدة الحكم‪ ،‬أن ال يجعلوا لهم فيه‬
‫لهم بذلك فضيلة‪ ،‬فوقف بالتالي زعيم األوس‪ :‬أسيد بن حضير ‪-‬أبرز منافسي سعد‬
‫بن عبادة وحساده‪ -‬ليطالب بمبايعة أبي بكر‪ ،‬دون أن ننسى ً‬
‫طبعا العالقة المميزة‬
‫التي كانت تربط أسيد بن حضير بأبي بكر وعمر‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬فقد بايع بشير بن سعد الخزرجي أبا بكر‪ ،‬حتى ال تذهب‬
‫الخالفة إلى ابن عمه ومنافسه سعد بن عبادة‪ ،‬وعلل ذلك بقوله‪ :‬إنه يكره منافسة‬
‫ً‬
‫قوم حقا جعله هللا لهم‪ ،‬رغم هذا كان موقف بشير غير مستقر‪ ،‬يت�ذبذب بين تأيي�د‬
‫أبي بكر واالنتصار لعلي عليه السالم‪.‬‬
‫ً‬
‫أخيرا‪ ،‬كان لمجيء قبيلة أسلم التي مألت شوارع المدين�ة ومبايعتها أبي بكر‪ ،‬أثره‬
‫الحاسم‪ ،‬في دعم موقف جماعة الحكم ضد األطراف األنصارية المعارضة‪.‬‬

‫‪ -‬الها�شميون‪:‬‬
‫بدا أن معظم كبار القرشيين ‪-‬عدا بني هاشم‪ -‬ومعظم وجهاء األنصار كانوا‬
‫منشغلين بصراعات الحكم‪ ،‬إلى درجة أنهم نسوا غسل النبي وتجهيزه‪ ،‬رغم استمرار‬
‫ذلك من االثنين حتى عصر الثالثاء(((‪ .‬بل إن انشغال أبي بكر وعمر بأفراح التنصيب‬
‫منعهما من حضور مراسم دفن النبي(((‪.‬‬
‫لم يعلم بنو هاشم ‪-‬ومنهم اإلمام علي‪ -‬بمجريات األمور في السقيفة وما‬
‫بعد‪ ،‬حتى تعالت أصوات الفرح بمبايعة أبي بكر في المسجد‪ ،‬فقد كان بنو هاشم‬
‫منشغلين بتجهيز النبي للدفن‪ .‬وبعد استقرار البيعة ألبي بكر‪ ،‬حاولت جماعة الحكم‬
‫فرض األمر على علي وبني هاشم بالقوة‪ ،‬لكنهم فشلوا‪.‬‬
‫وكان لفاطمة الزهراء ‪-‬بما تشكل من ثقل معنوي كبير أبرز األثر في إفشال‬
‫مخطط جماعة الحكم‪ ،‬لذلك‪ ،‬كانت محاوالتهم المتكررة للضغط على الزهراء من‬
‫خالل مجموعة إجراءات منها‪:‬‬
‫((( طبقات ابن سعد ‪ 2‬ق ‪ 78/2‬ط ليدن‪.‬‬
‫((( كنز العمال ‪.160/3‬‬

‫‪180‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫* حرمان بني هاشم من الخمس‪ ،‬الذي كان سيتيح لهم فرصة االستقالل المادي‬
‫عن جماعة الحكم‪.‬‬
‫* رفضهم إعطاء فاطمة حقها من اإلرث في فدك‪.‬‬
‫‪ -‬هذا يقودنا إلى السؤال المشروع التالي‪ :‬هل يعقل أن يطالب أبو بكر فاطمة‬
‫الزهراء ‪-‬ابن�ة النبي وخديجة وزوجة علي وأم الحسن والحسين‪ -‬بتقديم أدلة‬
‫على صحة أقوالها ًأيا كانت؟ وإذا كانت فاطمة بحاجة إلى دالئل على صحة‬
‫أقوالها‪ ،‬فمن هو ذا في طول التاريخ اإلسالمي وعرضه الذي سنصدق أقواله‬
‫دون دالئل قاطعة؟‬
‫فقد نقلت تلك الكتب عن أبي بكر قوله فيما يتعلق باإلرث النبوي‪ ،‬إن األنبي�اء ال‬
‫يورثون؛ ونسب هذا القول للنبي ذاته‪ ،‬مع ذلك فإن احتجاج الزهراء بالقرآن الكريم‬
‫ۡ َٰ ُ َ ُ َ‬‫َ َ ُ َ‬ ‫ُۡ َ‬‫ۡ َ َ‬ ‫َ ُ ََ ُ‬
‫اوۥد ۖ﴾ [النمل‪ ]16 :‬حجة‬ ‫﴿و َو ِرث سليمن د‬ ‫ل يعقوبۖ﴾ [مريم‪]6 :‬‬‫﴿ي ِرث ِن وي ِرث مِن ءا ِ‬
‫كافية‪ ،‬فإذا افترضنا أن المقصود باإلرث في اآلية الكريمة هو اإلرث المادي فذلك‬
‫يعني أن لفاطمة الحق الكامل في اإلرث النبوي؛ وإذا كان المقصود بذلك اإلرث‬
‫ً‬
‫المعنوي لكان لها أيضا الحق الكامل في هذا اإلرث المعنوي (وراثة الكتاب)‪ ،‬كذلك‬
‫فإن رفض أبي بكر شهادة علي بن أبي طالب في قضية الميراث يتن�اقض ً‬
‫تماما مع‬
‫قول النبي عن علي‪ ،‬إن الحق معه‪ ،‬يدور حيثما دار(((‪.‬‬
‫ً‬
‫أما التن�اقض األبرز الذي سيدخل فيه من يدافع عن جماعة الحكم فيب�دو صارخا‬
‫في تضارب األقوال التالية والذي ال سبي�ل إلى حله عندهم؛ نقل عن النبي صلوات‬
‫هللا عليه وآله قوله البنت�ه الزهراء “هللا يغضب لغضبك ويرضى لرضاك”(((؛‬
‫“فاطمة بضع مني يؤذيني ماآذاها ويريبني مارابها”(((؛ “فاطمة بضع مني يغضبني‬
‫رواية “فمن أغضبها أغضبني» (((؛ «فاطمة بضع‬ ‫ٍ‬ ‫ما أغضبها”‪ .‬قال النبهاني‪ :‬وفي‬

‫((( انظر‪ :‬الترمذي ‪ ،297/5‬المستدرك للحاكم ‪ ،124/3‬تاريخ ابن عساكر ‪ ،117/3‬شرح النهج ‪.572/2‬‬
‫((( انظر‪ :‬اإلصابة ‪ ،366/4‬كنز العمال ‪ 11/12‬و‪ ،646/13‬المستدرك للحاكم ‪ ،154/3‬أسد الغابة ‪.322/5‬‬
‫((( انظر‪ :‬الباري ‪ ،47/7‬مسلم ‪ ،1902/4‬الترمذي ‪ ،698/5‬اإلصابة ‪ ،366/4‬ابن ماجة ‪ ،644/1‬كنز العمال‬
‫‪ 107/12‬و‪.112‬‬
‫((( البخاري ‪ 26/5‬و‪ ،36‬الجامع الصغير للمناوي ‪.122/2‬‬

‫‪181‬‬
‫بداية الطريق‬

‫مني يقبضني مايقبضها ويبسطني مايبسطها”(((‪.‬‬


‫من ناحية أخرى‪ ،‬جاء في الكتب التراثي�ة التابعة لكل المذاهب اإلسالمية‬
‫ً‬
‫أن فاطمة “وجدت على أبي بكر فهجرته فلم تكلمه حتى ماتت”(((؛ وجاء أيضا‪:‬‬
‫“غضبت فاطمة بنت رسول هللا صلى هللا عيله وآله وسلم فهجرت أبا بكر‪ ،‬فلم تزل‬
‫ً‬
‫مهاجرته حتى توفيت”(((؛ وأيضا‪“ :‬غضبت فاطمة على أبي بكر فهجرته‪ ،‬فلم تكلمه‬
‫حتى ماتت”(((‪.‬‬

‫العبا�س والإمام‪:‬‬
‫يكشف الحوار المذكور الذي دار بين جماعة الحكم والعباس‪ ،‬عم علي عليه‬
‫السالم‪ ،‬عن أكثر من وجه؛ فالمغيرة بن شعبة رأى في رشوة العباس بأن يجعل‬
‫نصيب�ا من الخالفة غايتين‪ :‬فهم يضعفون موقف اإلمام علي من جهة‪ ،‬وتكون‬ ‫ً‬ ‫له‬
‫لهم حجة إذا مال العباس معهم من جهة أخرى‪ ،‬كذلك فإن حوار أبي بكر وعمر مع‬
‫العباس يكشف عن توزع أدوار؛ صقور وحمائم بين جماعة الحكم ال سبي�ل إلى‬
‫إنكاره‪ ،‬أبو بكر يتحدث إلى العباس بأسلوب يختلف عن حديث�ه لألنصار‪“ :‬إن رسول‬
‫هللا منا ومنكم”‪ ،‬لكن عمر يقول بصرامته المعهودة إنهم لم يأتوه لحاجة‪ ،‬أي ليسوا‬
‫بحاجة السترضائه‪ ،‬بل حتى ال يتفاقم الخطب‪ ،‬وبالمنطق ذاته الذي خاطب فيه أبو‬
‫بكر وعمر األنصار‪ ،‬رد العباس فقال‪ :‬إنه إذا كان أبو بكر يطلب برسول هللا فقد أخذ‬
‫حقهم‪ ،‬وهو لن يرضى برشوته ببعض هذا الحق دون بعض‪ .‬وكي يقطع عليه الطريق‬
‫أردف أنه إذا كان هذا الحق للمؤمنين فليس ألحد أن يحكم فيه وحده‪ ،‬فبنو هاشم‬
‫من المؤمنين‪ ،‬وهم لم يكونوا موجودين أثن�اء المبايعة‪ ،‬وأنهى كالمه بقوله‪ :‬إن رسول‬
‫هللا من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها‪ ،‬من ناحية أخرى كان علي يدرك بما ال‬
‫يدع مجاال للشك أن ما حصل انقالب على مبادئ وقيم اإلسالم‪ ،‬وكان له مبرراته‬

‫((( المستدرك للحاكم النيسابوري ‪ ،158/3‬الجامع الصغير للمناوي ‪ ،122/2‬كنز العمال ‪ 108/2‬و‪.111‬‬
‫((( البخاري ح ‪.1759‬‬
‫((( البخاري ح ‪ ،2926‬ح ‪.1259 :7 ،4 :12 ،1126 :3 ،141 ،139 :6 ،6346‬‬
‫((( انظر‪ :‬الترمذي‪ ،‬كتاب السير‪ ،‬باب ‪ 4‬ج ‪ ،157/4‬مسلم‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب ‪ ،16‬مسند أحمد ‪ 6/1‬و‪،353/2‬‬
‫شرح النهج للمعتزلي ‪ ،217/16‬النسائي‪ ،‬كتاب الفيء‪ ،‬باب ‪ 1‬ج‪.120/7‬‬

‫‪182‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫المنطقية ً‬
‫ديني�ا في المطالبة بالخالفة ورفض مبايعة أبي بكر؛ فالنبي كما أشرنا‬
‫تحدث في مناسبات عديدة أن خليفته هو علي ليس إال‪ ،‬كذلك فقد كشف اإلمام‬
‫علي تن�اقض جماعة الحكم مع أنفسهم‪ :‬فهم حجبوا الخالفة عن األنصار محتجين‬
‫عليهم بالقرابة من النبي‪ ،‬فلماذا حجبوها عنه؟‬
‫لقد حاول أبو عبي�دة دون جدوى التركيز على عامل السن لتبرير حجب الخالفة‬
‫عن علي‪ ،‬وحاول استمالته بالقول‪“ :‬هؤالء مشيخة قريش قومك إن تعش ويطل‬
‫عمرك فأنت لهذا األمر خليق”‪ ،‬هنا البد أن نت�ذكر نظرة النبي الصائب�ة وبصيرته‬
‫ُ‬
‫النافذة حين ّأمر قبي�ل وفاته بأيام أسامة بن زيد ‪-‬وهو الشاب األصغر من علي‬
‫بسنوات‪ -‬على كل هؤالء الشيوخ‪.‬‬

‫متى ظهرت بوادر التخلي؟‬


‫ً‬
‫يقول السيد حسين ‪ -‬رضوان هللا عليه ‪ -‬معلقا على ما جرى في مرض النبي‬
‫‹صلوات هللا عليه وآله›‪:‬‬
‫“‪ ..‬عندما فرطوا‪ ،‬عندما لم يكن إيمانهم باهلل بالشكل الذي يجعلهم يلتزمون‬
‫ً‬
‫إيمانا ً‬ ‫ًّ‬
‫واعيا‪ .‬هم كانوا مؤمنين باهلل وبرسوله‪ ،‬لكن اإليمان درجات‪ ،‬اإليمان‬ ‫حرفيا‪،‬‬
‫درجات‪ ،‬لم يكونوا بمستوى أن يعوا‪ ،‬أن يعوا من خالل القرآن‪ ،‬ومن خالل محمد ÷‬
‫عظم المسؤولية الكبرى‪ ،‬وكيف يكونون بمستواها‪ ،‬ولم يأت التقصير‪ ،‬ال من خالل‬
‫القرآن‪ ،‬وال من خالل رسول هللا ÷ الذي هو أفصح العرب‪ ،‬أفصح العرب‪ ،‬وأنشط‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نشاطا‪ ،‬وأعظم البشر تبليغا بوسائله‪ ،‬وبمنطقه‪.‬‬ ‫األنبي�اء في عمله‪ ،‬أكثرهم‬
‫ًّ‬
‫حرفيا بتوجيهات‬ ‫عندما لم يعوا مسألة اإليمان بالشكل الذي يجعلهم يلتزمون‬
‫الرسول ÷ بالقرآن الكريم بدأ التفريط من أيامهم‪ ،‬بدأ التفريط ورسول هللا ÷‬
‫على فراش الموت مريض في آخر أيامه‪ ،‬عندما قال‪“ :‬هلم أكتب لكم ً‬
‫كتابا ال تضلوا‬
‫بعده”(((‪ ،‬فجاء عمر مع مجموعة كبيرة داخل مجلس رسول هللا ÷ ليعارضوا بأن‬

‫((( عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬لما حضرت رسول هللا÷ الوفاة وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب فقال النبي÷‪:‬‬
‫((هلموا لكتاب أكتب لكم ً‬
‫كتابا لن تضلوا بعده))‪ .‬فقال عمر‪ :‬إن رسول هللا قد غلب عليه الوجع‪ ،‬وعندكم‬
‫القرآن‪ ،‬حسبن�ا كتاب هللا‪ .‬فاختلف أهل البيت واختصموا‪ ،‬فمنهم من يقول‪ :‬قربوا له يكتب لكم رسول هللا÷‪،‬‬

‫‪183‬‬
‫بداية الطريق‬

‫يقدم لرسول هللا قلم ودواة‪ ،‬فيأمر بكتابة من يكتب ما ال تضلوا بعده‪ ،‬ما ال تضل‬
‫األمة إن تمسكت به‪ ،‬فعارض عمر‪ ،‬وأثاروا ضجة في مكان رسول هللا ÷ وقالوا‪:‬‬
‫«حسبن�ا كتاب هللا»! لو كانوا يعرفون كتاب هللا بالشكل المطلوب لكان عليهم أن‬
‫يقدموا لرسول هللا ÷ ً‬
‫قلما ودواة حتى يكتب ذلك المكتوب الذي يريد أن يكتب�ه‪،‬‬
‫يأمر بكتابت�ه حتى ال تضل األمة من بعده‪.‬‬
‫بوادر التخلي عن المسؤولية‪ ،‬عن المسؤولية الكبرى بدأت ورسول هللا ÷ كان‬
‫ً‬ ‫ال يزال ًّ‬
‫حيا بكامل وعيه‪ ،‬وهو في آخر أيامه‪ ،‬مريضا على فراش الموت»(((‪.‬‬
‫وقال الشهيد القائد في الدرس الثاني من دروس المائدة‪“ :‬وألنه (صلوات هللا‬
‫ۡ‬‫ۡ َ ٌ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َ ُ ‪ُ َ ّ ٞ‬‬ ‫ۡ َ ٓ ُ‬ ‫ََ‬
‫يز علي ِه‬ ‫ِۡن أنف ِسكم ع ِز‬ ‫عليه وعلى آله) كما وصفه هللا‪﴿ :‬لقد جاءَكم رسول م‬
‫‪ٞ‬‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫ۡ َ ٌ َ َ‬
‫ۡ ُ‬ ‫َ َ ُّ‬
‫ما عنِتم ح ِريص عليكم بِٱلمؤ ِمنِني َر ُءوف َّر ِ‬
‫ح ‪ٞ‬‬
‫يم‪[ ﴾١٢٨‬التوبة‪ ]128 :‬يهمه أمر األمة‬
‫من بعده ال تضل ال تختلف ال تتمزق ال تتفرق‪ ،‬ال يبرز أشخاص يضلونها يدمرونها‬
‫«ه ُل َّم أكتب لكم ً‬
‫كتابا ال‬
‫َ‬
‫يهلكونها‪ ،‬وعلى الرغم مما قد عمل في الغدير وغيره يقول‪:‬‬
‫ً‬
‫تضلوا بعده» والحمى تلهب جسمه‪ ،‬لكنه ال يزال يحمل اهتماما بأمر المسلمين بأمر‬
‫األمة يريد أن يعمل ما يمكن أن يعمله حتى في اللحظات األخيرة من حياته‪ ،‬أليس‬
‫هذا هو يهمه أمر األمة؟ حريص عليها مشفق عليها؟‪.‬‬
‫في مجلسه عمر ومجموعة كبيرة‪ ،‬يقول عمر‪ :‬ال‪ ،‬حسبن�ا كتاب هللا ويثير ضجة‬
‫وآخرون يلتفون نحو عمر ويفهمون ماذا يريد عمر ويفهمون ماذا يمكن أن يقول رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم هم يعرفون أنه سيركز الوصية حول علي‪ِّ ،‬‬
‫يرمز علي‬
‫ً‬
‫يشد الناس نحو علي إذا هو سيكتبها لعلي‪ ..‬ال‪ .‬ال‪ ،‬حسبن�ا كتاب هللا‪ ،‬دعوا الرجل‬
‫فقد غلبه الوجع‪ ،‬دعوا الرجل فإنه يهجر(((‪.‬‬
‫قلما ودواة يكتب لكم ً‬
‫كتابا ال تضلوا بعده‪ ،‬يقول عمر‪ :‬ال‪،‬‬ ‫آخرون يقولون‪ :‬قربوا ً‬

‫ومنهم من يقول ما قال عمر‪ ،‬فلما أكثروا اللغط واالختالف عند رسول هللا÷ قال‪(( :‬قوموا عني‪ ،‬فال ينبغي‬
‫عندي التن�ازع))‪ .‬فكان ابن عباس يقول‪ :‬إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول هللا÷ وبين أن يكتب لهم ذلك‬
‫الكتاب باختالفهم ولغطهم‪ .‬وال ينبغي عند نبي تن�ازع‪ .‬أخرجه البخاري‪ ،‬ومسلم‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وغيرهم بلفظ مقارب‪.‬‬
‫((( دروس من هدي القرآن الكريم‪ ،‬سورة آل عمران ‪ -‬الدرس الرابع‪.‬‬
‫َ ُْ َ َ‬
‫الـهـذيان‪ .‬وكان الصواب التسليم لكل ما أمر به رسول هللا‪.‬‬ ‫((( الهجر‪:‬‬

‫‪184‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫وبإصرار‪ :‬ال‪ .‬ال‪ .‬ألم يسمع أن الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم يقول‪« :‬ال تضلوا‬
‫ًّ ًّ‬ ‫ً‬
‫حريصا جدا جدا على شخطة قلم‪ ،‬كلمة‬ ‫بعده»؟‪ .‬إن كان يهمه أمر األمة فسيكون‬
‫واحدة يكون فيها أمان لألمة من الضالل‪ ،‬والسالمة لألمة من الضالل؛ ألنه يعلم‬
‫أن الذي تكلم بهذه العبارة هو رسول هللا ÷‪ ،‬لكن ال‪ ،‬هو يعلم ما سيعمل النبي ÷‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وسيعارض ألن له أهدافا‪ ،‬له آمال أخرى‪ ،‬هو ال يهمه أمر األمة تضل أو ال تضل فيحول‬
‫بين أن يكتب الرسول ÷ هذا الكتاب بعد أن سمع «أكتب لكم ً‬
‫كتابا ال تضلوا‬
‫بعده» ألم يكشف لنا هنا نفسية عمر أنه إنسان ال يهمه أمر األمة‪ ،‬أنه إنسان ال يت�ألم‬
‫فيما إذا ضلت األمة‪ ،‬أنه إنسان يحول دون كتابة كالم يحول دون ضالل األمة‪ ،‬يؤدي‬
‫َّ‬
‫باألمة إلى أل تضل؟ هل هذا إنسان في أعماق نفسه يهمه أمر األمة وأمر الدين؟‪ .‬ال”‬
‫انتهى‪.‬‬

‫الالمباالة والب�ساطة وخطورتها‬


‫“لهذا نقول في حديث الغدير‪ :‬حتى نحن نقدمه بشكل مختزل [قال‪ :‬من كنت‬
‫فعلي مواله]! ال‪ .‬يجب أن تنظر إلى الموضوع من أصله «أيها الناس إن هللا‬ ‫ٌ‬ ‫مواله‬
‫ََ َ‬
‫موالي وأنا مولى المؤمنين» هذا تسلسل مثلما قال النبي في بني إسرائي�ل‪﴿ :‬وقال‬
‫ُ َ َ ٗ‬ ‫ۡ ََ َ َ ُ‬ ‫ۡ َّ َّ َ َ‬ ‫َ ُ َ ُّ ُ‬
‫ۡم َطالوت ملِك ۚ﴾ [البقرة‪« ]247 :‬إن هللا موالي وأنا مولى‬
‫ٱلل قد بعث لك‬ ‫ۡم نبِيهم إِن‬ ‫له‬
‫علي مواله»‪ ،‬هل هناك أوضح من هذه؟‬ ‫المؤمنين فمن كنت مواله فهذا ـ هذا ـ ٌ‬
‫ال يوجد أوضح من هذه‪ .‬ذلك المجتمع الذي سمع الكالم هذا هل أحد يستطيع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أن يفرض عليه موقفا آخر؟ هل كان لدى أبو بكر وعمر مثال‪ ،‬وتلك المجموعة ما‬
‫يفرضونه أمام هذا البي�ان؟‬
‫ً‬
‫إذا موقف اإلمام علي هو نفس موقف اآليات القرآني�ة هذه‪ ،‬من بعد ما يكون‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫هذا المجتمع سمع كل شيء‪ ،‬وفهم كل شيء‪ ،‬وذكرهم أيضا هو‪ ،‬وذكرتهم الزهراء‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وذكرهم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫العوام‪ ،‬وذكرهم آخرون‪ ،‬لم يرضوا‪ .‬إذا فليجربوا أنفسهم‪ .‬هذه‬ ‫هي أيضا‪،‬‬
‫سنة إلهية‪ ،‬هذه سنة إلهية داخل األمم‪ ،‬الناس إذا لم يستجيبوا لهدى هللا فليجربوا‬
‫أنفسهم‪ ،‬وسيذوقون العواقب السيئ�ة نتيجة تقصيرهم ونتيجة مخالفتهم‪.‬‬
‫ألم يقم اإلمام علي بكل ما لديه من وسائل؟ حتى في الجانب العسكري قال هو‪:‬‬
‫‪185‬‬
‫بداية الطريق‬

‫َّ‬
‫«فطفقت أرتئي بين أن أصول بي ٍ�د جذاء»‪ .‬الكثير بسطاء أثر عليهم آخرون؟ ونحن‬
‫نقول أكثر من مرة‪ :‬يجب أن نفهم األمور على هذا النحو ال نقع في اإلحراجات التي‬
‫وقع فيها اآلخرون ما بين مقدس للصحابة على الرغم مما هم عليه‪ ،‬وما بين من له‬
‫ً‬
‫موقف سلبي تماما يعتبر بأنهم كفروا بما تعني�ه الكلمة‪ .‬نقول‪ :‬ال‪ ،‬يوجد حالة أخرى‪،‬‬
‫حالة أخرى هي حالة البساطة‪ ،‬حالة ألال مباالة‪ ،‬التي يمكن أن تحصل مع إيمانك‬
‫بالقضية‪ ،‬مع إيمانك بالقضية‪.‬‬
‫كل الناس كانوا مؤمنين بأن الرسول (صلوات هللا عليه وعلى آله) قال هكذا‬
‫ً‬
‫لعلي سالم هللا عليه في [يوم الغدير] ويعرفون ما قال سابقا‪ ،‬لكن لم يعطوا القضية‬
‫األهمية الالئقة بها‪ ،‬كانوا ضحية لآلخرين عندما ضلوا‪ ،‬وقلنا أكثر من مره‪ :‬التضليل‬
‫عادة في مواقف معين�ة‪ ،‬ال يالمس القضية األساسية لديك فيدفعك إلى أن تكفر‬
‫بها‪ ،‬هذه ال تحصل‪ .‬هل إبليس ذهب إلى آدم ليقول له‪ :‬أكفر بمسألة النهي عن أكل‬
‫الشجرة؟‪ .‬هل قال له هكذا؟ ال‪[ .‬مجابر ثاني�ة والموضوع هناك]‪ .‬هل قدموا لهم أن‬
‫ً‬
‫يكفروا بما قاله الرسول (صلوات هللا عليه وعلى آله) لعلي؟ قدموا أسلوبا آخر [علي‬
‫ً‬
‫أناسا ٌ‬
‫وعلى كذا‪ ،‬وهناك أناس آخرون ويمكن نجربهم والمقصود واحد ورسول‬ ‫قد قتل‬
‫هللا همه واحد‪ ،‬وهؤالء الناس تعرفونهم كانوا قريبين من رسول هللا] وأشياء من هذه‬
‫تجعلك تتقبل المسألة التي تعتبر مخالفة‪ ،‬وال يطلب منك الكفر بما سمعته من‬
‫النبي‪ ،‬وهذه من أخطر األشياء‪ ،‬من أخطر أساليب الضالل هذه الطريقة‪.‬‬
‫لم يرضوا يسمعوا وال يتفهموا!‪.‬اإلمام علي تركهم يجربون‪ ،‬جربوا أبا بكر‪ ،‬عمر‪،‬‬
‫ً‬
‫عثمان‪ ،‬وفي األخير ذاقوا هم وبال أمرهم‪ ،‬وأهينوا‪ ،‬األنصار أوال‪ ،‬الذين اجتمعوا في‬
‫السقيفة! ألم يكن المفروض ألولئك أن يجتمعوا مع علي؟ ال أن يجتمعوا هناك‬
‫لوحدهم‪ ،‬ويأتمروا لوحدهم على أساس أنه ربما ال تتم المسألة لعلي! ألنه إجلسوا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أنتم معه تتم‪ ،‬عندما يكونون مثال ولو ثالثين شخصا‪ ،‬ولو خمسين شخصا يذهبون‬
‫إليه‪ ،‬ال أن يقولوا‪[ :‬ربما ال تتم المسألة أحسن أن نكون قد انتبهنا ألنفسنا حتى ال‬
‫يأتي آخرون يمسكون بزمام األمور فيظلمونن�ا] ما نفعتهم هذه‪ ،‬ظلموا‪ ،‬وأهينوا في‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫أيام أبي بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬ومعاوية‪ ،‬ويزيد اجتاح المدين�ة إجتي�احا رهيب�ا جدا قتل‬
‫حوالي سبع مائة شخص أو أكثر منهم‪ ،‬وانتهك أعراضهم ودمر بيوتهم‪ ،‬قضية رهيب�ة‬

‫‪186‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ً‬
‫جدا حصلت لهم‪ ،‬أي‪ :‬هذه القضية قائمة في دين هللا‪ ،‬هذا هدى هللا هل الناس‬
‫سيقبلونه؟ يجب أن يقبلونه وإال فيجب أن يعرفوا بأن البديل هو الخزي‪ ،‬والعواقب‬
‫السيئ�ة في الدني�ا واآلخرة” ملزمة الدرس الحادي عشر من دروس رمضان‪.‬‬

‫هل يمكن �أن ي�ضل �صحابة تربوا على يد نبي اهلل؟‬


‫“عندما يكون اإلنسان غير مهتم ‪ ،‬ولو كان في عصر مليء باألنبي�اء‪ ،‬ولو كانت‬
‫آيات هللا تتنزل‪ ،‬ولو يشاهد عصا موسى تتحول إلى ثعبان‪ ،‬إذا لم تبن عليها قاعدة‬
‫ُ‬
‫أساسية عندك‪ :‬التزام‪ ،‬وفهم‪ ،‬ووعي‪ ،‬ستكون عرضة للتضليل‪ ،‬هؤالء ناس ضللوا‬
‫ً‬
‫وموسى ما زال حيا‪ ،‬وضللوا بعد أن قضى موسى معهم فترة طويلة في التبيين‪،‬‬
‫وبعدما قد رأوا اآليات الكثيرة‪.‬‬
‫عندما يقول البعض‪ :‬إنه كيف يمكن أن يكونوا ضلوا ناس من الصحابة بعد‬
‫ً‬
‫رسول هللا! أليس هؤالء صحابة ضلوا وما زال موسى حيا‪ ،‬إنما ذهب لفترة أربعين‬
‫ً‬
‫يوما منهم‪ ،‬صحابة من داخل بني إسرائي�ل‪ ،‬من الذين اصطفاهم هللا على العالمين‪،‬‬
‫أمكن أن يضلوا مع وجود النبي‪ ،‬ثم تقول لي‪ :‬كيف أنه يمكن أن يضل ناس من بعد‬
‫النبي؟! أليس احتمال أن يضلوا بعد نبي أكثر من احتمال أن يضلوا في وقته؟ هذه‬
‫ً‬
‫اآليات نفسها كانت هي هامة جدا بالنسبة للصحابة أيام رسول هللا (صلوات هللا‬
‫ً‬
‫عليه وعلى آله)‪ ،‬أن يكون كل واحد منهم منتبها عندما يعرف أنه أمكن أن يضل ناس‬
‫ً‬
‫وما زال نبيهم موجودا‪ ،‬وآيات قاهرة معه‪ ،‬عصا تتحول إلى ثعبان‪ ،‬يده تتحول إلى‬
‫عمود من النور‪ ،‬وأمكن أن يضلوا‪ ،‬وقال لهم‪ :‬إنه أضلهم السامري‪ .‬هذه اآلية ألم‬
‫يقرأها الصحابة؟ لكن أي ناس كائن�ا من كان إذا لم يتفهموا‪ ،‬ويعوا‪ ،‬سيكونون عرضة‬
‫للضالل‪.‬‬
‫فهي تعتبر حالة خطيرة في حد ذاتها‪ ،‬إذا ما هناك تفاعل بإيجابي�ة مع هدى هللا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قد يكون الناس في حالة‪ ،‬قد فعال يضلهم فعال‪ ،‬من يت�أمل موقف اإلمام علي في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تلك الحالة يعرف المسألة ‪ -‬مثلما قلنا سابقا ‪ -‬يعرف اإلمام عليا‪ ،‬أشياء كثيرة من‬
‫سنن هللا‪ ،‬عندما ال يكون هناك اهتمام أثن�اء تقديمه‪ ،‬وهو يقدم على أرقى صورة‪،‬‬
‫ً‬
‫ويبين على أحسن تبيين‪ ،‬ويقدم على أجمل صورة‪ ،‬وأيضا يعطى في نفس الوقت‪،‬‬

‫‪187‬‬
‫بداية الطريق‬

‫يعطى الناس حتى وإن كانوا بسطاء أشياء واضحة لاللتزام‪ ،‬واضحة مثل‪ :‬اتبعوا‪،‬‬
‫أطيعوا‪ ..‬أليست عبارات واضحة؟‪.‬‬
‫لكن في األخير‪ ،‬عندما ال يكون هناك اهتمام بالشكل المطلوب‪ ،‬هذه النوعية‬
‫تكون عرضة ألن تضل‪ ،‬وأن تكون ضحية المضلين‪ .‬قوم موسى أضلهم واحد‪،‬‬
‫ً‬
‫السامري‪ ،‬وجعلهم يعبدون عجال! أال يمكن أن يأتي من بعد رسول هللا (صلوات‬
‫هللا عليه وعلى آله) من يضلهم‪ ،‬ويجعلهم يعملون خليفة آخر‪ ،‬قد أمكن شخص‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يجعلهم يعبدون إلها آخر‪ ..‬أين أكبر؟ ألم يستطع أن يضلهم حتى يجعلوا لهم صنما؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إذا بالتأكيد يستطيع أي شخص أن يضلهم فيتخذون لهم شخصا آخر خليفة بدل‬
‫ذلك الشخص الذي أعلنه على مرأى‪ ،‬ومسمع منهم‪ .‬لكن إذا ما هناك اهتمام فهي‬
‫في حد ذاتها حالة خطيرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كذلك في أي زمان ال يتصور واحد‪ ،‬مثال تتصور بأنه كأنك ال تسمع شيئ�ا‪ ،‬الناس‬
‫إذا لم يكن عندهم اهتمام أن يصغوا بجدية‪ ،‬ويتفهموا‪ ،‬قد تأتي في مسيرة الناس‬
‫ً‬
‫أشياء كثيرة يكون من ال يهتمون عرضة ألن يضلوا فعال‪ ،‬ليست قضية سهلة‪ .‬هنا‬
‫يبين لنا أشياء‪ ،‬بين للناس في أيام رسول هللا (صلوات هللا عليه وعلى آله) بهذه‬
‫ۡ َ َ َّ َ َ َ‬
‫َ َّ َ‬ ‫ً‬
‫ۡومك‬ ‫األشياء‪ ،‬ولم يأخذوها على محمل الجد فضلوا فعال! هنا قال‪﴿ :‬فإِنا قد فتنا ق‬
‫ۡ َ‬ ‫ۢ َ‬
‫(((‬
‫ِن بع ِدك﴾ [طه‪ ]85 :‬فتنهم‪.‬‬ ‫م‬

‫حري�صا على هداية الأمة‪.‬‬


‫ً‬ ‫النبي في �آخر �أيامه ال يزال‬
‫“رسول هللا (صلوات هللا عليه وعلى آله) الذي هو إنسان قرآني يتحرك بحركة‬
‫القرآن ويعرف قدرة القرآن على كشف اآلخرين‪ ،‬يكشف للناس في آخر أيامه نفسية‬
‫ً‬
‫عمر‪ ،‬ويكفين�ا أن يكشف لنا نفسية عمر ألن عمر أصبح َعلما للخط اآلخر‪ ،‬عمر هو‬
‫ً‬
‫مهندس كل تلك المتغيرات من الصعود بأبي بكر‪ ،‬واإلمام علي كشف المسألة أيضا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قال لعمر «إحلب حلبا لك شطره‪ ،‬شدها له اليوم يردها عليك غدا»‪ .‬هو الذي قال‬
‫ألبي بكر‪( :‬أمدد يدك أبايعك) أليس هو الذي رفع أبا بكر بين الضجة؟‪ .‬هو الذي‬

‫((( الشهيد القائد ملزمة األعراف الدرس الثامن والعشرون‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫هندس أن تصل الخالفة إلى عثمان؟ هو الذي هندس ورتب أوضاع معاوية أن يكون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في الشام هو الشخص الذي يمكن يكون مؤهال ألن يضرب عليا متى ما تحرك هو‬
‫أو أحد من أهل بيت�ه في أي فترة‪ ،‬هو الذي رفع بني أمية بعد أن وضعهم اإلسالم‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وأصبحوا مجتمعا منحطا في نظر األمة؟ هو الذي رفعهم من جديد فأصبحوا‬
‫يمتلكون األموال الهائلة‪ ،‬وأصبح لهم عالقات واسعة في أوساط كثير من زعماء‬
‫العشائر في هذه األمة!‪.‬‬
‫ً‬
‫إذا من خالل أن يكشف لعمر سيعرف عمر وكل من يدور في فلك عمر أنهم ليسوا‬
‫جديرين بأن يلوا أمر األمة وال أنهم يهتمون بأمر األمة‪ ،‬أليس هذا ما حصل؟‪ .‬وبعد‬
‫ّ‬
‫ذلك فليقولوا ما يقولون‪ :‬فاروق‪ ،‬صديق أشياء من هذه لو يقولوا ما يقولون‪ .‬كلمة‬
‫(فاروق) ما هي كلمة كبيرة؟ فاروق ‪ ..‬فيظهر لك عمر يرتفع إلى هناك‪ ،‬لكن تعال إلى‬
‫القضية التي رواها البخاري وغيره رووها هم مؤرخين ومحدثين أنه عارض أن يكتب‬
‫ً‬
‫رسول هللا كتابا ال تضل األمة من بعده‪ ،‬ألم يشهد عمر هو على نفسه أنه لو كان لديه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫احتمال بأن رسول هللا سيكتب شيئ�ا يتعلق به وبصاحبه وأنه قد يرفعهم لقدم برميال‬
‫وليس دواة ولحاول أن ُيقدم أي شيء يكتب به النبي (صلوات هللا عليه وعلى آله)‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ليكتب المكتوب إذا كان سيكتب شيئ�ا يتعلق بأبي بكر أو عمر يجعلهم أعالما لألمة‪،‬‬
‫ً‬
‫لكن هو يعرف أنه لن يكتب شيئ�ا إال وهو يقصي األمة عنهما‪ ،‬أنه سيكتب ما يقصي‬
‫ً‬
‫األمة عن أبي بكر وعمر‪ ،‬إذا فهو يريد ال يعمل لهم ورطة ثاني�ة بعد الغدير‪ .‬في الغدير‬
‫طلع هو وعلي فوق األقتاب ورفع يد علي وقال‪« :‬من كنت مواله فهذا علي مواله‬
‫ً‬
‫اللهم وال من وااله وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» فهو أيضا يريد‬
‫يعمل لنا ورطة ثاني�ة ويكتب ‪ ..‬تلك ممكن نقل‪ :‬مواله‪ ،‬يعني ويعني ويعني ‪ ..‬ما يزال‬
‫معنا ‪..‬‬
‫والمكتوب الذي كان يريد الرسول (صلوات هللا عليه وعلى آله) أن يكتب�ه ألم‬
‫يعمل عمر دعاية تضرب المكتوب‪ ،‬وهذا الذي جعل النبي فعال يتوقف ويقول‬
‫أخرجوا إنه ال ينبغي عند نبي تن�ازع‪ ،‬وأصبح الغالب في القاعة‪ ،‬في المجلس عند‬
‫رسول هللا هم يدورون في فلك عمر عندما قال حسبن�ا كتاب هللا‪ ،‬دعوا الرجل فقد‬
‫غلبه الوجع‪ ،‬إنه َي ْه ُجر‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬
‫لكن لو كتب النبي (صلوات هللا عليه وعلى آله) كتابا ما عمر قد عمل الدعاية‬
‫ضد هذا الكتاب؟ سيقول هذا الكتاب ال ينفع ألنه كتب�ه وهو في حالة هذيان ال‬
‫ً‬
‫يعرف ما يتكلم فال يعمل به‪ ،‬لم يكتب�ه في حالة الصحة واالختي�ار شرعا‪ُ ،‬فيضرب‬
‫المكتوب‪ ،‬لكن النبي (صلوات هللا عليه وعلى آله) بهذا الموقف المهم كشف لنا‬
‫ً‬
‫عمر بشكل رهيب‪ ،‬بل هو ّبين لنا بي�انا ال يضل الناس بعده إن فهموا حتى وإن لم‬
‫يكتب في األوراق فقد كتب في أعماق الكون وفي التاريخ وكتب في القلوب إن‬
‫كانت تفهم‪ ،‬أني كشفت لكم عمر أنه ال يهمه أمركم أن تضلوا فلتضلوا فإذا كان ال‬
‫يهمه أمركم أن تضلوا فعمر وكل من يدور في فلك عمر ليسوا أمناء على األمة‪ ،‬وال‬
‫يمكن أن يكونوا هم األعالم الذين تقتدي بهم األمة‪ ،‬وال يمكن أن يؤيد اإلسالم وال‬
‫ً‬
‫كتابه وال رسوله (صلوات هللا عليه وعلى آله) أن تلتف األمة حول عمر ويكون علما‬
‫لها كما يصنع اآلخرون‪ ،‬ألم يكشف الرسول هذا كما كشف القرآن نفسية علي عليه‬
‫السالم؟‪ .‬فمن خالل نفسية علي هنا تعرف نفسية عمر هناك” ملزمة الدرس الثاني‬
‫من سلسلة دروس المائدة‪.‬‬

‫بعد الإنحراف في ال�سقيفة‬


‫وبعد أن انحرف مسار األمة في السقيفة عن أهل البيت وقرناء القرآن‪ ،‬تعاقب‬
‫على الخالفة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب بأمر من أبي بكر عند مرض وفاته وبدون‬
‫شورى‪ ،‬ولم يعترض أحد على أبي بكر كتابة الوصية‪ ،‬ولم يقولوا غلبه الوجع أو أنه‬
‫(((‬
‫يهجر كما قالوا لرسول هللا!‬
‫واتجهت الخالفة بعد عمر إلى عثمان عبر تسويات سياسية بين عبدالرحمن بن‬
‫ّ‬
‫عوف وعثمان وعمر‪ ،‬ولم يكتف عمر بذلك بل إنه ولى معاوية على الشام وقال‪ :‬ذلك‬
‫كسرى العرب‪ ،‬وهكذا كان مسلسل اإلقصاء والتهميش الذي تعرض له اإلمام علي‬
‫عليه السالم والتي�ار الموالي له‪ ،‬فها هو أبو ذر الغفاري ُينفى إلى الربذة من قبل عثمان‪،‬‬
‫انظر صحيح البخاري كتاب الزكاة وها هو عبدهللا بن مسعود ُيكسر ضلعه انظر تاريخ‬
‫اليعقوبي والبالذري والواقدي‪ ،‬وهاهو عمار بن ياسر ضرب حتى فتق من قبل غالم‬
‫((( انظر تاريخ الطبري‪ ،‬وتاريخ ابن عساكر‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫عثمان‪ ،‬انظر تاريخ اليعقوبي‪ ، ،‬بل عندما قتل أبو الغادية عمارا قال علماء السنة إن‬
‫أبا الغادية متأول مجتهد مأجور أجرا واحدا؛ ألنه من السابقين ومن أهل بيعة الرضوان‬
‫كما قال بن حزم في الفصل ‪ 161/4‬وابن حجر في اإلصابة !!‪ ،‬هكذا عاش التي�ار الموالي‬
‫لإلمام علي عليه السالم حالة اإلقصاء والتهميش واإلسترخاص لدمائهم‪.‬‬
‫وفي المقابل قرب عثمان أقاربه من بني أمية وبدؤوا يلعبون بمصائر العباد‪،‬‬
‫فهذا أبو سفيان يدخل إليه بعد البيعة ويقول‪( :‬يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة‪،‬‬
‫فو الذي يحلف به أبوسفيان‪ ،‬ما زلت أرجوها لكم‪ ،‬ولتصيرن إلى صبي�انكم وراثة)(((‪،‬‬
‫وبالطبع فإن أبا سفيان وبني�ه لم يدخلوا في اإلسالم إال كرها‪ ،‬قال أبو سفيان‪ :‬وهللا‬
‫(((‬
‫مازلت ذليال مستيقنا بأن أمره سيظهر‪ ،‬حتى أدخل هللا قلبي اإلسالم وأنا كاره!‬
‫وهكذا قويت شوكة بني أمية في الشام‪ ،‬وكان جيش معاوية أكثر من جيش الخليفة‬
‫الناس على عثمان‬ ‫وسخط ُ‬‫َ‬ ‫عثمان نفسه‪ ،‬فعبث بنو أمية بأموال وكرامة الناس‪،‬‬
‫حرضت على قتله‪ ،‬واتهمته بتغيير سنة النبي (÷) بقولها (اقتلوا‬ ‫حتى أن عائشة ّ‬
‫ُ‬
‫يكتف من قتلوه وحاصروه إال بأن‬‫ِ‬ ‫عثال فقد كفر)(((‪ ،‬وعندما قتل عثمان بن عفان لم‬
‫يدفنوه في مقبرة اليهود‪ (((،‬وقد سألت أيضا عند ذهابي للعمرة عن مكان قبر عثمان‬
‫فتفاجأت أنه بعيد جدا عن البقيع وهي المقبرة التي كان الصحابة يدفنون فيها‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبعد أن قتل عثمان بايع المسلمون اإلمام عليا عليه السالم بعد أن أصبح‬
‫المجتمع المسلم ممزقا سياسيا كل ذلك من آثار السقيفة‪ ،‬ولكن عائشة غضبت‬
‫لذلك وقالت إنها ستأخذ بث�أر عثمان رغم أن أهل التاريخ رووا أنها حرضت على‬
‫قتله‪ (((،‬وهكذا خرجت عائشة لقتال اإلمام الحق علي بن أبي طالب عليه السالم‪،‬‬
‫وكانت موقعة الجمل والتي راح ضحيتها آالف من المسلمين‪ ،‬وقد أخبر الرسول‬
‫بهذه الفتن�ة سابقا فقد قام النبي خطيب�ا فأشار نحو مسكن عائشة فقال‪ :‬هاهنا‬

‫((( انظر تاريخ الطبري والمسعودي وابن األثير واإلستيعاب في حوادث ذلك الزمان‪.‬‬
‫((( البخاري ص‪122‬ج‪4‬كتاب الجهاد ‪.‬‬
‫((( انظر الطبري ج‪4‬ص‪277‬ط القاهرة والنهاية البن األثير‪.‬‬
‫((( انظر تاريخ الطبري والكامل وغيره في حوادث ذلك الدهر‪.‬‬
‫((( انظر الطبري ج‪/5‬ص‪172‬وابن األثير وابن سعد‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫بداية الطريق‬

‫الفتن�ة‪ ،‬ثالثا‪ ،‬من حيث يطلع قرن الشيطان(((‪.‬‬


‫ُ‬
‫وعندما قتل الخليفة عثمان كان معاوية قد اشتد عوده‪ ،‬والفضل بالدرجة‬
‫األولى يعود لعمر الذي واله على الشام وقال‪ :‬هذا كسرى العرب‪ (((،‬إليك تاريخ هذا‬
‫الكسرى الذي يعتبر ثمرة من ثمرات سقيفة بني ساعدة‪.‬‬

‫معاوية بن �أبي �سفيان‬


‫يقول سيد قطب بعد ذكر توريث معاوية الحكم البن�ه يزيد “‪ ..‬على هذا األساس‬
‫الذي ال يعترف به اإلسالم البت�ة قام ُملك يزيد‪ ،‬فمن هو يزيد؟ هو الذي يقول فيه‬
‫عبد هللا بن حنظلة‪ :‬وهللا ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء‬
‫ً‬
‫أن رجال ينكح األمهات والبن�ات واألخوات ويشرب الخمر ويدع الصالة‪ ،‬وهللا لو لم‬
‫يكن معي أحد من الناس ألبليت هللا فيه ً‬
‫بالء حسنا‪.‬‬
‫ُ‬
‫فإذا كانت هذه مقالة خصم ليزيد‪ ،‬فإن تصرفات يزيد العملية الواقعية فيما بعد‬
‫‪-‬من قتل للحسين رضي هللا عنه على ذلك النحو الشنيع إلى حصار البيت ورميه‪...‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إلخ‪ -‬تشهد بأن خصوم يزيد لم يب�الغوا كثيرا فيما قالوه‪ ،‬وأيا ما كان األمر فإن أحدا ال‬
‫يجرؤ على الزعم بأن يزيد كان أصلح المسلمين للخالفة وفيهم الصحابة والتابعون‪،‬‬
‫إنما كانت مسألة وراثة الملك في البيت األموي‪ ،‬وكان هذا اإلتجاه طعنة نافذة في‬
‫قلب اإلسالم ونظام اإلسالم وإتجاه اإلسالم” (((‪.‬‬
‫وفي هذه العجالة سأضع معاوية على طاولة النقاش‪ ،‬ولكن ليس بقلمي ولكن‬
‫بقلم أحد علماء الشافعية بتصرف‪“ :‬سيدنا علي بن أبي طالب رضي هللا عنه زوج‬
‫بنت رسول هللا سيدة نساء أهل الجنة ووالد سيدي شباب أهل الجنة الحسن‬
‫والحسين رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫قال الحافظ الذهبي في سير اعالم النبلاء ‪ 147/5‬قال ابن سعد‪ :‬أخبرنا علي بن‬
‫محمد عن لوط بن يحيى قال‪ :‬كان الوالة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون‬
‫((( صحيح البخاري ص‪217‬ج‪4‬كتاب الخمس‪.‬‬
‫((( انظر االستيعاب ‪ 471/3‬وسير أعالم النبلاء ‪133/3‬والبداية والنهاية ‪.133/8‬‬
‫((( العدالة اإلجتماعية في اإلسالم ص‪.155‬‬

‫‪192‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫َُ‬ ‫ً‬
‫رجال رضي هللا عنه فلما ولي هو ‪-‬عمر بن عبد العزيز ‪ -‬أمسك عن ذلك فقال كث ِّير عزة‬
‫الخزاعي‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫مجرم‬ ‫بريـــــــا ولـــم تتبـــع مقالـــة‬ ‫وليت فلم تشتم عليـــــا ولم تخف‬
‫تبيـــن آيـــات الهـــدى بالتكلــــــم‬ ‫تكلمـــت بالحـــق المبين وإنمـــــــا‬
‫فعلت فأضحى راضيا ًكل مســـلم‬ ‫فصدقت معروف الذي قلت بالذي‬

‫وكان معاوية بن أبي سفيان هو الذي سن للناس لعن الخليفة الراشد ابن عم‬
‫رسول هللا على المنابر يوم الجمعة‪ ،‬فجعل لعنه كأنه أحد أركان الخطبة‪ ،‬ففي صحيح‬
‫مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل علي بن أبي طالب رقم الحديث ‪ 2409‬عن‬
‫ُ‬
‫سيدنا سهل بن سعد رضي هللا عنه قال‪ :‬استعمل على المدين�ة رجل من آل مروان‪،‬‬
‫عليا‪ ،‬قال‪ :‬فأبى سهل‪ ،‬فقال له‪ :‬أما إذا أبيت‬ ‫قال فدعى سهل بن سعد فأمره أن يشتم ً‬
‫فقل‪ :‬لعن هللا أبا تراب‪ ،‬ولم يمتث�ل ألمره سهل رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ً‬
‫عن عامر بن سعد بن ابي وقاص عن أبي�ه قال‪ :‬أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا‬
‫ً‬
‫فقال‪ :‬ما منعك أن تسب أبا التراب (أي علي)؟ فقال‪ :‬أما ما ذكرت ثالثا قالهن‬
‫له رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم فلن أسبه‪ ،‬لئن تكن لي واحدة منهن‬
‫إلي من حمر النعم‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم خلفه‬ ‫أحب َّ‬
‫في بعض مغازيه فقال له علي‪ :‬يا رسول هللا خلفتني مع النساء والصبي�ان؟ فقال‬
‫له رسول هللا‪ :‬أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إال أنه ال نبوة بعدي‪.‬‬
‫ً‬
‫وسمعته يقول يوم خيبر‪ :‬ألعطين الراية رجال يحب هللا ورسوله ويحبه هللا‬
‫ً ُ‬
‫ورسوله‪ ،‬قال‪ :‬فتطاولنا لها فقال‪ :‬ادعوا لي عليا‪ ،‬فأتي به أرمد‪ ،‬فبصق في عين�ه ودفع‬
‫الراية إليه ففتح هللا عليه‪.‬‬
‫َۡٓ ُ‬ ‫َۡٓ َ َ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ ََ َ ْ َ‬ ‫َُ‬
‫ۡم﴾ [آل عمران‪ ]61 :‬دعا‬‫ۡوا ندع أبناءَنا َوأبناءَك‬ ‫ولما نزلت هذه االية‪﴿ :‬فقل تعال‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسين�ا‪ ،‬فقال اللهم‬
‫هؤالء أهلي‪( .‬صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل االمام علي)‪.‬‬
‫ً‬
‫قلت‪ :‬ولما ولى معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة قال له‪ :‬ولست تاركا‬

‫‪193‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ْ‬
‫تترك شتم ّ‬
‫علي وذمه) انتهى (((‪.‬‬ ‫إيصاءك بخصلة‪ :‬ال‬
‫ُ‬
‫وقد قتل معاوية الصحابي الجليل حجر بن عدي ‪-‬صبرا‪ -‬عندما أنكر على عمال‬
‫معاوية ووالته َّ‬
‫سب سيدنا علي رضي هللا عنه‪ ،‬وهذا شيء مشهور‪ ،‬قال الحافظ ابن‬
‫حجر في االصابة (‪ )314/1‬في ترجمته‪( :‬وقتل بمرج عذراء بأمر معاوية)!‬
‫قلت‪ :‬وقد قتل معاوية أناسا من الصالحين من الصحابة والفضالء من أجل‬
‫ً‬
‫السلطة‪ ،‬ومن أولئك أيضا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد‪ ،‬قال بن جرير في تاريخه‬
‫(‪ )453/3‬واللفظ له‪“ :‬وكان سبب موته ‪-‬عبد الرحمن بن خالد بن الوليد‪ -‬أنه قد‬
‫كان عظم شأنه عند أهل الشام ومالوا إليه لما عنده من آثار أبي�ه ولغنائه في بالد‬
‫الروم ولشدة بأسه‪ ،‬فخافه معاوية وخشي منه وأمر بن أثال النصراني أن يحتال في‬
‫قتله‪ ،‬وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش‪ ،‬وأن يوليه جباية خراج حمص‪ ،‬فلما‬
‫قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن اثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه‬
‫فشربها فمات بحمص‪ ،‬فوفى له معاوية بما ضمن له) انتهى‬
‫ُۡ‬
‫ۡ‬ ‫ََ َ‬
‫﴿ومن يقتل‬ ‫قلت‪ :‬فهل يجوز قتل المسلم وهللا تعالى يقول في كتابه العزيز‪:‬‬
‫َ‬
‫َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َََ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ َ َ‬ ‫ۡ ٗ ُّ َ َ ّ ٗ َ َ َ ٓ ُ ُ َ َ َّ ُ َ ٗ‬ ‫ُ‬
‫ٱلل علي ِه َولعن ُهۥ َوأعد ُلۥ عذابا‬ ‫ضب‬ ‫مؤمِنا متع ِمدا فجزاؤهۥ جهنم خٰ ِلا فِيها وغ ِ‬
‫يما‪[ ﴾٩٣‬النساء‪ ،]93 :‬وهل معاوية مستثنى من مثل هذه اآلية؟! ولذلك قال في‬ ‫َعظ ٗ‬
‫ِ‬
‫(أربع خصال كن في معاوية‪ ،‬لو لم‬ ‫ُ‬ ‫حقه الحسن البصري كما في الكامل ‪:487 /3‬‬
‫ُ‬
‫تكن فيه إال واحدة لكانت موبقة‪ :‬انتزاؤه على هذه األمة بالسيف حتى أخذ األمر من‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة‪ ،‬واستخالفه ابن�ه بعده سكيرا ًخميرا‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫يلبس الحرير ويضرب بالطنابير‪ ،‬وادعاؤه زيادا وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وأصحاب حجر‪ ،‬فيا ويال‬ ‫وعلى آله وسلم‪ :‬الولد للفراش وللعاهر الحجر‪ ،‬وقتله حجرا‬
‫ً‬
‫له من حجر ويا ويال له من أصحاب حجر) انتهى‬
‫قلت‪ :‬ولما كانت سيرة معاوية هكذا لم ترد له فضائل عن النبي صلى هللا عليه‬
‫وعلى آله وسلم‪ ،‬نقل الحافظ الذهبي في سير أعالم النبلاء ‪ 132/3‬عن إسحاق بن‬
‫راهويه أنه قال‪( :‬ال يصح عن النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم في فضل معاوية‬
‫((( الكامل ‪.472/3‬‬

‫‪194‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫شيء‪ ،‬وقال اإلمام النسائي صاحب السنن‪ُ :‬سئل عن فضائل معاوية فقال‪ :‬ال أعلم‬
‫ً‬
‫له فضيلة إال “ال أشبع هللا بطنه”‪ ،‬فقتله أهل دمشق)(((‪ ،‬وقال الشوكاني في فضائل‬
‫معاوية‪ :‬وفيها تحقق على أنه لم يصح في فضائل معاوية حديث (الفوائد المجموعة‬
‫في األحاديث الموضوعة)‪.‬‬
‫وقد ثبت في صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب من لعنه النبي أو سبه‪...‬‬
‫حديث رقم ‪“ 2604‬عن ابن عباس أن النبي قال له‪ :‬اذهب وادع لي معاوية‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فجئت فقلت‪ :‬هو يأكل‪ ،‬فقال صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ :‬ال اشبع هللا بطنه”‪...‬‬
‫قلت‪ :‬وفي مسند أحمد بن حنب�ل من طريق عبد هللا بن بريدة بسند رجاله(((‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫دخلت أنا وأبي على معاوية‪ ،‬فأجلسنا على الفرش‪ ،‬ثم أتين�ا بالطعام فأكلنا‪ ،‬ثم أتين�ا‬
‫بالشراب فشرب معاوية ثم ناول أبي فقال‪ :‬ما شربت�ه منذ حرمه رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وعلى آله وسلم”‪ ،‬قلت‪ :‬وأما حديث الترمذي ‪ 3842‬من طريق سعيد بن عبد‬
‫العزيز عن ربيعة بن يزيد عن عبد الرحمن بن أبي عميرة عن النبي صلى هللا عليه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وعلى آله وسلم أنه قال لمعاوية‪ :‬اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به‪ ،‬فحديث ضعيف‬
‫ومضطرب ال تقوم به حجة‪ ،‬ال سيما وإسحاق بن راهويه يقول‪ :‬ال يصح عن النبي في‬
‫فضل معاوية شيء)‪...‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يقول بعض النواصب الذين يظهرون االعتدال‪ :‬لعلي أجران‬
‫أجر؛ ألنه مجتهد؟! فهل يصح االجتهاد في قتل المسلمين الموحدين وو‪...‬؟!‬ ‫ولمعاوية ٌ‬
‫وهل هناك اجتهاد في مورد النص؟! وقد تواتر عنه صلى هللا عليه وعلى آله وسلم أنه‬
‫قال في سيدنا عمار الذي قاتل مع أمير المؤمنين سيدنا علي‪“ :‬ويح عمار تقتله الفئة‬
‫الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار” (البخاري كتاب الصالة باب التعاون في‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ ٰ ُ َ َّ ٗ َ‬
‫َ َ َ‬
‫ۡم أئِمة يدعون‬ ‫﴿وجعلنه‬ ‫بن�اء المسجد‪ ،‬وغيرها من المصادر‪ ،‬يقول سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ۡ َٰ َ َ ُ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫إ َل َّ‬
‫نصون‪[ ﴾٤١‬القصص‪ ،]41 :‬فهل البغاة والدعاة إلى النار ممن‬ ‫ۡو َم ٱل ِقيم ِة ل ي‬‫ارۖ َوي‬
‫ِ‬ ‫ٱنل‬ ‫ِ‬
‫يجوز الدفاع عنهم؟! وهل يصح االجتهاد مع ورود نصوص كثيرة متواترة وصحيحة‪،‬‬

‫((( سير اعالم النبلاء ‪.132/14‬‬


‫((( رجال مسلم ‪ 476/6‬برقم ‪.22432‬‬

‫‪195‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ُ‬
‫منها قوله صلى هللا عليه وعلى آله وسلم في حق سيدنا علي رضي هللا عنه‪َ :‬م ْن كنت‬
‫وعاد من عاداه‪.‬‬
‫وال من وااله ِ‬
‫مواله فعلي مواله اللهم ِ‬
‫قال الحافظ الذهبي في سير أعالم النبلاء (‪ )335/8‬عن هذا الحديث‪ :‬متواتر‪.‬‬
‫وفي صحيح مسلم برقم ‪ 78‬في كتاب االيمان عن سيدنا علي رضي هللا عنه‬
‫قال‪ :‬إنه لعهد النبي ّ‬
‫األمي َّ‬
‫إلي‪( :‬أنه ال يحبك إال مؤمن وال يبغضك إالمنافق)‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما حكم هذا الذي يأمر بسب ولعن مولى المؤمنين بشهادة رسول رب‬
‫بلعن سيدنا علي رضي هللا عنه‬‫العالمين على المنابر؟! وما حكم من يمتحن رعيت�ه ِ‬
‫وقتل من لم يسبه ويلعنه؟!‬ ‫والتبري منه‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫باب عقده في تاريخه‬
‫ومن الغريب المضحك حقا بعد هذا‪ ،‬أن تجد ابن كثير في ٍ‬
‫(‪ )20/8‬في فضل معاوية ما نصه‪“ :‬هو معاوية بن أبي سفيان‪ ...‬خال المؤمنين‪،‬‬
‫وكاتب وحي رب العالمين‪ ،‬أسلم هو وأبوه وأمه هند‪ ...‬يوم الفتح”‪ ،‬ثم قال بعد ذلك‪:‬‬
‫“والمقصود أن معاوية كان يكتب الوحي لرسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‬
‫مع غيره من كتاب الوحي‪ ...‬انتهى)‪.‬‬
‫َ‬
‫قلت‪ :‬كال وهللاِ الذي ال إله إالهو ‪-‬لم يصح كالمك يا بن كثير وال ما اعتمدته‬
‫َ‬
‫وزعمته‪ ،‬فأما قولك‪“ :‬خال المؤمنين”‪ ،‬فليس بصحيح البت�ة؛ وذلك ألنه لم يرد ذلك‬
‫ّ‬
‫في سنة صحيحة أو أثر‪ ،‬وعلى قولك في الخؤولة يكون حيي ابن أخطب اليهودي جد‬
‫المؤمنين؛ ألنه والد السيدة صفية زوجة النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم وليس‬
‫ً‬
‫كذلك‪ ...‬وأما قولك‪« :‬وكاتب وحي رب العالمين” فليس بصحيح أيضا؛ وذلك ألن‬
‫معاوية أسلم عام الفتح وهو وأبوه من الطلقاء‪ ،‬وقد أسلم في أوقات قد فرغ فيها‬
‫ۡ َ‬ ‫َۡ َ‬
‫ۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ۡ‬‫ۡ ُ َ ُ‬
‫﴿ٱلوم أكملت لكم دِينكم وأتممت‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫نزول الوحي ووصل عند قوله تعالى‬
‫ٗ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ِۡع َمت َو َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ٱلسل ٰ َم دِيناۚ﴾ [المائدة‪ ]3 :‬فماذا سيكتب معاوية بعد‬‫ِ‬
‫كُ‬
‫م‬ ‫ل‬ ‫يت‬ ‫ض‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫عل‬
‫هذا؟!‬
‫وقد ذكر الحافظ الذهبي في السير (‪ )123/3‬عن أبي الحسن الكوفي قال‪:‬‬
‫ً‬
‫(كان زيد بن ثابت كاتب الوحي‪ ،‬وكان معاوية كاتب�ا فيما بين النبي وبين العرب)‬

‫‪196‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫وكذا قال الحافظ بن حجر في ترجمته في االصابة‪.‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْول ْ‬
‫يكن معلوما أنه أيضا ما كتب للنبي إال ثالث رسائل‪ ،‬ثم ليعلم علما أكيدا أن‬
‫كتابة معاوية للوحي ‪-‬على فرض أنها صحيحة كما يزعم ابن كثير‪ -‬ليست عاصمة‬
‫له مما وقع فيه مما قدمنا بعضه وسنذكر تمامه في بحث علمي مستقل إن شاء هللا‬
‫تعالى‪ ،‬بدليل أن عبد هللا بن أبي سرح الذي كان يكتب للنبي الوحي في مكة أول‬
‫ما نزل الوحي ارتد وخرج من اإلسالم بعد ذلك كما في ترجمته في كتب الحفاظ‬
‫المحدثين ومنها كتاب سيرأعالم النبلاء (‪ )33/3‬واإلصابة البن حجر وغير ذلك‪،‬‬
‫وروى أبو داود في سنن�ه بسند حسن عن ابن عباس قال‪ :‬كان عبد هللا بن سعد بن‬
‫ّ‬
‫أبي سرح يكتب لرسول هللا فأزله الشيطان فلحق بالكفار‪ ،‬فأمر به رسول هللا أن يقتل‬
‫يوم الفتح‪ ...‬انتهى (دفع شبه التشبي�ه ص ‪ 242- 236‬الهامش)‪.‬‬
‫ۡ‬ ‫ۡ ّٓ َ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن أخاف إِن‬ ‫ِِ‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫﴿ق‬ ‫وإذا كان رسول هللا الذي نزل عليه الوحي يخاطبه هللا بقوله‪:‬‬
‫ۡ ُ َّ َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ۡو ٍم ع ِظي ٖم‪[ ﴾١٥‬األنعام‪ ،15 :‬الزمر‪ ]13 :‬فما بالك بمن كتب الوحي؟!‬
‫عصيت ر ِب عذاب ي‬

‫�أما عن االبن البار يزيد بن معاوية‬


‫فهو الذي تلقف الخالفة كالكرة مثلما أوصى جده أبوسفيان‪ ،‬وهكذا أصبحت‬
‫األمة ساحة لصعود الظالمين‪ ،‬وساحة لقتل أعالم الهداية وإليكم بعض منجزات‬
‫يزيد‪.‬‬

‫منجزات المجتهد يزيد بن معاوية!!!‬


‫‪ -‬في تاريخ ابن كثير ‪“ :436/8‬اشتهر يزيد بالمعازف‪ ،‬وشرب الخمور‪ ،‬والغناء‪،‬‬
‫والصيد‪ ،‬واتخاذ القيان والكالب‪ ،‬والنطاح بين األكباش والدباب والقرود‪ ،‬وما من‬
‫ً‬
‫يوم إال ويصبح فيه مخمورا‪ ،‬وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫قالنس الذهب وكذلك الغلمان‪ ،‬وكان يسابق بين الخيل وكان إذا مات‬ ‫ويلبس القرد‬
‫القرد حزن عليه‪ ،‬وقيل إن سبب موته أنه حمل قردة وجعل ينقزها فعضته‪”...‬‬
‫‪ -‬ومن منجزات يزيد قتله للحسين بن علي سبط رسول هللا‪ ،‬وكتب التاريخ‬

‫‪197‬‬
‫بداية الطريق‬

‫مشحونة متواترة بذلك‪ ،‬بل إنه عندما قتل الحسين تمثل بأبي�ات ابن الزبعري فقال‪:‬‬
‫جـــزع الخـــزرج مـــن وقع األســــل‬ ‫�در شـــهدوا‬
‫ليـــت أشـــياخي ببـــ ٍ‬
‫ً‬
‫ثـــم قالـــوا يـــا يزيـــد ال تشــــــل‬ ‫ألهلـــوا واســـتهلوا فرحـــــا‬
‫بـــدر فاعتــــــدل‬
‫ٍ‬ ‫وعدلنـــا ميـــل‬ ‫قـــد قتلنـــا القـــرم مـــن ســـاداتهم‬

‫فاطلع على جميع كتب‬ ‫انظر تاريخ ابن كثير‪ ،‬وإذا أردت المزيد عن مأساة كربالء ّ‬
‫التاريخ‪ ،‬حتى تعرف حقيقة هذه الشخصية‪.‬‬

‫وقعة الحرة‬
‫وتعتبر من أعظم منجزاته التي تقرب بها إلى الشيطان‪ ،‬فعندما ثار أهل المدين�ة‬
‫عليه أرسل إليهم مسلم بن عقبة بجيش من أهل الشام‪ ،‬وإليك ماذا فعل هذا‬
‫الجيش‪:‬‬
‫(((‬
‫قال الطبري وغيره‪ :‬واباح مسلم المدين�ة ثالثا ًيقتلون الناس ويأخذون االموال‬
‫ُ‬
‫أحد إال قتل‪ ،‬وأباح حرم رسول هللا(أي المدين�ة‬
‫وقال اليعقوبي‪“ :‬فلم يبق بها كثير ٍ‬
‫(((‬
‫المنورة) حتى ولدت األبكار ال ُيعرف من أولدهن)‬
‫ُ‬
‫وفي تاريخ ابن كثير‪ :‬قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن‪ ،‬وكان فيهم‬
‫ٌ‬
‫بشر كثير حتى كاد ال يفلت أحد من أهلها‪،‬‬‫ثالثة من أصحاب رسول هللا‪ ،‬وقال‪ُ :‬قتل ٌ‬
‫وقال‪ :‬ووقعوا على النساء حتى قيل إنه حبلت ألف امرأة في تلك األيام من غير‬
‫(((‬
‫زوج!)‬
‫بعد كل هذه الجرائم نجد من بعض أهل السنة من يقول‪ :‬ذاك إمام مجتهد!‬
‫والقائل أبو الخير(((‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫مخازي يزيد يقول ‪-‬بعدما نقل عن‬ ‫بل إن ابن كثير نفسه الذي سجل تاريخه‬

‫((( تاريخ الطبري ‪ ، 11/7‬ابن االثير ‪ ، 47/3‬ابن كثير ‪220/8‬‬


‫((( تاريخ اليعقوبي ‪251/6‬‬
‫((( ابن كثير ‪.234 /6‬‬
‫((( ابن كثير ‪9/13‬‬

‫‪198‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫أبي الفرج تجويز لعنه‪ -‬قال ابن كثير‪ :‬ومنع من ذلك آخرون وصنفوا في ذلك أيضا‬
‫ُ‬
‫ًلئال ُيجعل لعنه وسيلة إلى إبي�ه أو أحد من الصحابة‪ ،‬وحملوا ماصدر منه من سوء‬
‫ً‬ ‫تأول فأخطأ‪ ،‬وقالوا إنه مع ذلك كان ً‬
‫التصرفات على أنه ّ‬
‫إماما فاسقا‪ ،‬واإلمام إذا فسق‬
‫(((‬
‫ال ُيعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء!!‬
‫وها هو ابن حجر الهيثمي ‪-‬الذي أورد في كتابه (الصواعق) األحاديث الجمة‬
‫عن فضائل أهل البيت‪ -‬نقل عن الغزالي والمتولي بأنه‪ :‬ال يجوز لعن يزيد وال تكفيره؛‬
‫وأمر ُه إلى مشيئ�ة هللا إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه(((‪.‬‬
‫فإنه من جملة المؤمنين‪ُ ،‬‬

‫وتعاقب على حكم المسلمين‪..‬‬


‫وتعاقب على حكم المسلمين كثير من األئمة الظلمة‪ ،‬فكان ال بد من إضفاء‬
‫الشرعية على حكمهم‪ ،‬وهكذا بدأت تترسخ ثقافة تدجين األمة للحكام الظلمة عبر‬
‫أمثال هذه الروايات‪:‬‬
‫‪ -1‬روى مسلم عن حذيفة أنه قال‪“ :‬يكون بعدي أئمة ال يهتدون بهداي وال يستنون‬
‫بسنتي‪ ،‬وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسي” قلت‪ :‬كيف‬
‫أصنع يا رسول هللا إن أدركت ذلك؟ قال‪“ :‬تسمع وتطيع لألمير وإن ضرب ظهرك وأخذ‬
‫مالك”! مسلم كتاب اإلمارة‪/‬باب األمر بلزوم الجماعة وهكذا تعاقب على األمة أئمة‬
‫َ‬
‫الشعوب‬ ‫ُ‬
‫علماء السوء على مدى العصور‬ ‫قلوبهم قلوب الشياطين إلى اآلن‪ ،‬وأخضع‬
‫ُ‬
‫والحكام بدورهم وفي هذا الزمن أخضعوا الشعوب ألمريكا وإسرائي�ل‪ ،‬فانظروا‬ ‫للحكام‪،‬‬
‫ماذا جنت ثقافة السقيفة على األمة وأين أوصلتها وهللا المستعان!‬

‫هل هذه االختالفات ثـمرة بغي �أم �سوء فهم‬


‫ينبري الكثير من الوهابي�ة مدافعين عن حالة االختالف التي كانت قائمة بعد‬
‫موت الرسول (÷)‪ ،‬بحجة أنه سوء فهم وأن الني�ات كانت حسنة‪ ،‬والواقع أن هللا‬
‫يؤكد في أكثر من آية أن االختالف بعد موت األنبي�اء ووضوح بين�اتهم ليس إال ثمرة‬

‫((( ابن كثير ‪.224-223/8‬‬


‫((( الصواعق المحرقة ‪.221‬‬

‫‪199‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡ َ ّ َٰ ُ‬
‫ُ‬ ‫ُۡ‬
‫َ‬ ‫ۡ َ َ ٓ‬‫َّ َّ َ ُ ُ ُ ۢ َ‬ ‫ۡ َََ‬ ‫ََ‬
‫﴿وما ٱختلف فِي ِه إِل ٱلِين أوتوه مِن بع ِد ما جاءتهم ٱليِنت‬ ‫البغي‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫َُۡ‬‫ۡ َ‬ ‫َ‬
‫بغ َيۢا بينه‬
‫ۡم ۖ﴾ [البقرة‪.]213 :‬‬

‫«الر�ؤية القرءانية في تقييم ال�صحابة»‬

‫مقدمة ال بد منها‪:‬‬
‫عكفت مساجد ومنابر آل سعود وأذنابهم من حزب اإلفساد وآل األحمر ‪-‬بعد‬
‫كل موقف إيماني ووطني يتخذه أنصار هللا في مواجهة مؤامراتهم؛ ابت�داء بالتوقيع‬
‫على المؤامرة (المبادرة) الخليجية‪ ،‬وانتهاء بمحاولة إفشال مؤتمر الحوار الوطني‪،‬‬
‫وكذلك تمرير مشروع األقاليم‪ ،‬ومواجهة العدوان السعودي‪ -‬عكفوا على إثارة‬
‫النعرات الطائفية وافتعال عدة قضايا (دماج‪ ،‬كتاف‪ ،‬الدواعش في الجنوب)‬
‫وذرف دموع التماسيح‬ ‫بالتنسيق مع أسيادهم في المخابرات األمريكية واإلسرائيلية‪ْ ،‬‬
‫على الصحابة ونساء النبي (÷)‪ ،‬وكأنهم األوصياء عليهم‪ ،‬وألنهم شغلوا اليمنيين‬
‫نعيقا حول موضوع الصحابة ونساء النبي صلوات هللا عليه‪ ،‬وافتروا على أنصار هللا‬
‫وضخموا وضللوا على الناس إعالميا حول هذا الموضوع‪ ،‬ولم يكلفوا أنفسهم حتى‬
‫االستغالل‬
‫ِ‬ ‫باالستماع إلى أنصار هللا وقراءة منهجهم القرآني قراءة منصفة بعيدا عن‬
‫َ‬
‫السياسي وش َر ِه الوصول والسيطرة على الحكم الذي جعلهم يفترون الكذب على‬
‫خصومهم السياسيين من أنصار هللا والذين بدأ صيتهم يذاع بالعدل والعزة والخير‬
‫أينما حلوا‪ ،‬ولذلك آثرنا أن نوضح المسألة في هذا المنشور‪.‬‬

‫هل ِغيرتهم دينية �أم �سيا�سية؟‬


‫فهل يا ترى أن ِغيرتهم على الصحابة ونساء النبي (÷) ِغيرة ديني�ة أم أنها‬
‫غيرة سياسية يوظف فيها الدين لصالح مكاسب سياسية قذرة كما هي عادتهم؟‬
‫بال شك أن هللا كشف قناعهم على حقيقته‪ ،‬وافتضح هؤالء بحمد هللا حينما لم‬
‫ً‬
‫َيغيروا ولم يثوروا حمية لرسول هللا صلوات هللا عليه وآله ضد إساءات أمريكا وال‬
‫حتى بمظاهرة‪ ،‬ولم ُيلهبوا مشاعر اليمنيين في مساجدهم ومنابرهم ضد أمريكا‬

‫‪200‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫التي أساءت لنبي الرحمة‪ ،‬كما شغلوا الناس نعيقا حول موضوع ّ‬
‫سب الصحابة‪ ،‬هذا‬
‫بحمد هللا يكشف حقيقة ِغيرتهم وأنها لدوافع سياسية ال تمت إلى الدين بصلة‪.‬‬

‫�أن�صار اهلل ومنهجيتهم القر�آنية‪:‬‬


‫وبما أن أذناب أمريكا بدؤوا يتن�اولون ثقافة األمة القرآني�ة بالتشويه‪ ،‬آثرنا‬
‫مناقشة بعض األطروحات الثقافية حول المواضيع التي يثيرونها‪ ،‬ولكن بمنهجية‬
‫قرآني�ة‪ ،‬هذه المنهجية دعت الناس للخروج من الخطاب الطائفي المذهبي الضيق‬
‫َ‬
‫إلى آفاق الخطاب القرآني الذي ُيعتبر الكلمة السواء فيما بين المؤمنين والقاسم‬
‫المشترك ونقطة االلتقاء بين كآفة المسلمين؛ باعتب�اره الكتاب الذي ال يأتي�ه‬
‫الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ،‬وباعتب�اره الكتاب الذي خوطب رسول هللا‬
‫َ‬ ‫ۡ َ ُ َ ّ َ َّ‬ ‫ۡ َ ّ‬ ‫َۡٓ َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ ُ َ‬ ‫ََّۡ‬
‫اس ما‬ ‫ت َوٱلزب ِرۗ َوأنزلا إِلك ٱذلِكر ِلب ِي ل ِلن ِ‬ ‫ٱليِنٰ ِ‬ ‫بتبيين�ه للناس ال سواه‪﴿ :‬ب ِ‬
‫ۡ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫َ َ َّ ُ‬ ‫َُّ َ‬
‫ۡم َولعلهم يتفكرون‪[ ﴾٤٤‬النحل‪ ،]44 :‬ولذلك نعتقد بأن الحل للواقع السيئ‬ ‫ل ِه‬‫ۡ‬
‫ن ِزل إ ِ‬
‫والمظلم ‪-‬الذي يعتبر امتدادا لتراكمات ثقافية سابقة أوصلت األمة إلى ما وصلت‬
‫إليه من ثقافة االنحطاط واالستعباد لألنظمة والحكام الظلمة بحجة طاعة ولي‬
‫األمر وإن كان ظالما‪ -‬لن يت�أتى إال بالعودة إلى القرآن‪ ،‬ولذلك نؤكد أنه ليس هناك‬
‫قداسة فوق قداسة الحق‪ ،‬وال مكان في ثقافة القرآن للمحاباة والمجاملة ألحد فوق‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ‬
‫الحق والقسط الذي أراد هللا منا أن نجسده في واقعنا‪۞﴿ :‬يأيها ٱلِين ءامنوا‬
‫َ‬ ‫ۡ‬‫َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َ َ ٰٓ َ ُ‬ ‫ُ َ َ ٓ َ َّ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُكونُوا ْ قَ َّوٰم َ‬
‫َ‬
‫ن وٱلقربِني ۚ﴾ [النساء‪:‬‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ٰ‬ ‫و‬ ‫ٱل‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫نف‬ ‫أ‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ء‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫ش‬ ‫ط‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ب‬ ‫ِني‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ ]135‬بل إن هللا لم يجامل ويحابي رسوله أشرف الخلق وأطهرهم‪ ،‬وأكد هذه القضية‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ َّ َ َ َ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ ّٓ َ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫بقوله تعالى‪﴿ :‬قل إ ِ ِن أخاف إِن عصيت ر ِب عذاب يو ٍم ع ِظي ٖم‪[ ﴾١٥‬األنعام‪،]15 :‬‬
‫وننَّ‬‫ۡ َ َ َّ َ َ ُ َ َ َ َ ُ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َ َّ‬ ‫ۡ ُ َ َ‬ ‫َََ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وح إِلك ِإَول ٱلِين مِن قبلِك لئِن أشكت لحبطن عملك ولك‬ ‫﴿ولقد أ ِ‬
‫ي‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ين‪[ ﴾٦٥‬الزمر‪ ،]65 :‬وقو ِله تعالى لداوود عليه السالم‪﴿ :‬فٱحكم ب‬ ‫ۡٱل َخٰ ِس َ‬ ‫م َِن‬
‫ۡ ِ‬
‫َّ َّ َّ َ َ ُّ َ َ َ‬ ‫ۡ َ َ ٰ َ ُ َّ َ َ َ‬ ‫َ ّ َ َ َ َّ‬ ‫َّ‬
‫يل‬‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ون‬ ‫ل‬ ‫ض‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ِين‬ ‫ٱل‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ۚ‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫يل‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ى‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ٱل‬ ‫ع‬‫ِ‬ ‫اس بِٱل ِق ول ت ِ‬
‫ب‬ ‫ت‬ ‫ٱنل ِ‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡو َ‬ ‫ۡ َ َ ‪َ ْ ُ َ َ ُۢ َ ٞ‬‬ ‫َّ َ ُ‬
‫اب‪[ ﴾٢٦‬ص‪ ،]26 :‬فإذا كان هللا ُيجري ميزان‬ ‫ِ‬ ‫ِس‬ ‫ٱل‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫وا‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫ا‬‫م‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫يد‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ش‬ ‫اب‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ٱللِ ل‬

‫‪201‬‬
‫بداية الطريق‬

‫الحق على رسله وأشرف الخلق وأبعدهم عن الظلم‪ ،‬فغيرهم أولى بذلك سواء كانوا‬
‫صحابة أو من أهل البيت أو من نساء النبي‪ ،‬ومن هذا المنطلق نؤكد أن المنهجية‬
‫التي تخاف من الحقيقة ووضوحها‪ ،‬وتحاول أن تجامل وتحابي األقارب واألصحاب‬
‫على حساب الحق‪ ،‬وتضع هالة من القداسة أمام مناقشة أخطاء تاريخية وثقافية‬
‫مازلنا نعاني من أثارها حتى اليوم‪ ،‬هي منهجية األنظمة المستب�دة وليست منهجية‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬

‫الوهابية يخافون من قراءة التاريخ‪:‬‬


‫من العجيب أن يعيش اإلنسان في حالة من الخوف من دراسة تاريخه‪ ،‬وكأنن�ا‬
‫أمة بال تاريخ‪ ،‬ومن األسوأ أن يكون ذلك باسم الدين كما تفعل الوهابي�ة ‪-‬التي نشأت‬
‫بمباركة ودعم أمريكي بريطاني‪ -‬بشقيها السلفي واإلصالحي؛ تراهم يرفضون‬
‫رفضا قاطعا الحديث عن األخطاء التاريخية المربوطة بماضي األمة‪ ،‬وبالذات إذا‬
‫كانت متعلقة بالصحابة‪ ،‬وإن كان الغرض دراسة اإليجابي�ات والسلبي�ات لنستفيد‬
‫ونتجنب‪ ،‬فال عالقة للماضي بالحاضر في نظرهم ونظر من ال يعرف أهمية العودة‬
‫إلى مفترق الطرق لمعرفة الخلل وعدم تكراره‪ ،‬ولذلك فإن القرآن يؤكد أن الحاضر‬
‫والمستقبل هو امتداد طبيعي للماضي‪ ،‬فإذا كان ماضي األمة ملوثا ويحمل ثقافة‬
‫ُ‬
‫عل َن هذه األمة براءتها من‬ ‫خاطئة‪ ،‬فإن آثار هذه الثقافة سيمتد عبر األجيال حتى ت ِ‬
‫ۡ‬
‫تلك الثقافة ومن تلك الرموز‪ ،‬يقول هللا سبحانه وتعالى عن بني إسرائي�ل‪ِ﴿ :‬إَوذ‬
‫َۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ۡ َٰ َ َ َ ُ ُ ُ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َٰ َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ َ َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُّ َ َ‬
‫تأذن ربك لبعث علي ِهم إِل يو ِم ٱل ِقيم ِة من يسومهم سوء ٱلعذ ِ‬
‫ابۗ﴾ [األعراف‪،]167 :‬‬
‫ما الذي يجعل العذاب يمتد عبر األجيال غير امتداد الثقافة المغلوطة؟ ولذلك أمر‬
‫ُۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ ُ َ َ َ ٓ َ َّ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ُ‬
‫هللا رسوله أن يقول لليهود الذين في عصره‪﴿ :‬قل فلِ َم تقتلون أۢنبِياء ٱللِ مِن قبل‬
‫ۡؤ ِمن َ‬ ‫ُ ُ ُّ‬
‫ني‪[ ﴾٩١‬البقرة‪ ،]91 :‬رغم أن بينهم وبين من قتل األنبي�اء مئات وآالف‬ ‫إِن كنتم م ِ‬
‫ولكن ألنهم امتداد طبيعي لثقافة أجدادهم؛ ثقافة القتل والحقد على‬ ‫ْ‬ ‫السنين‪،‬‬
‫البشرية جمعاء‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫التف�سير الخاطئ ومعاداة التاريخ‪:‬‬


‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ ُ ُ َ َّ‬ ‫َ‬
‫والتفسير الخاطئ لمعنى قوله تعالى‪﴿ :‬أم تقولون إِن إِب َر ٰ ِه‍ َۧم ِإَوسم ٰ ِعيل‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ ُ َ َّ ُ َ َ‬ ‫ۡ َ ُ َ‬ ‫ۡ َ ََٰ ٰ ُ‬ ‫ۡ َ َ َ ُ ْ ُ ً َ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡع ُق َ‬‫ۡ َ َ َ‬
‫ۡن أظل ُم‬ ‫ۡم أعلم أ ِم ٱللۗ َوم‬ ‫ىۗ قل ءَأنت‬ ‫اط كنوا هودا أو نصر‬ ‫وب َوٱلسب‬ ‫ِإَوسحٰق َوي‬
‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َ ُ َّ ‪َ ٞ‬‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َ َ َ َ َ ٰ َ ً َ ُ َ َّ َ َ َّ ُ َ‬
‫ۖ‬‫ت‬ ‫ل‬‫خ‬ ‫د‬ ‫ٱلل بِغٰ ِف ٍل ع َّما تع َملون‪ ١٤٠‬ت ِلك أمة ق‬ ‫مِمن كتم شهدة عِندهۥ مِن ٱللِۗ وما‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ ُ َ َ َّ َ ُ ْ َ‬ ‫ُۡ َ ُ‬ ‫ۡ َ ُ َّ َ َ‬ ‫ََ َ َ َ‬
‫سلون عما كنوا يع َملون‪[ ﴾١٤١‬البقرة‪،]141 - 140 :‬‬ ‫ۡم ۖ َول ت ‍ٔ‬ ‫لها ما كس َبت َولكم ما كسبت‬
‫غير صحيح؛ ألن اآلية مما يفهم من معانيها أنها‬ ‫التفسير بأنه ال يجوز قراءة التاريخ ُ‬ ‫ُ‬
‫فلكل كسبه وعمله‪،‬‬ ‫في موضع تذكير بني إسرائي�ل أن ال يتشدقوا بأن األنبي�اء منهم ٍ‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ َّ َ ُ ُ َ‬ ‫ۡ‬‫ََ ُ‬
‫ۡم تع َملون‪[ ﴾٥٤‬يس‪ ،]54 :‬وبما أن اآلية‬ ‫﴿ول ت َزون إِل ما كنت‬ ‫على وفق المبدأ القرآني‪:‬‬
‫وردت في سياق ذكر األنبي�اء؛ فهل يعقل أن هللا نهى عن معرفة تاريخ أنبي�ائه وهو من‬
‫َۡ‬ ‫َۡ‬ ‫لْ‬ ‫َۡ‪ُّ ٞ‬‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ََ‬
‫بۗ﴾ [يوسف‪]111 :‬؟ والقرآن‬ ‫ِ‬ ‫ٰ‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ٱل‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ة‬‫ِب‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ص‬ ‫ِ‬ ‫ص‬ ‫ق‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫د‬ ‫ق‬ ‫يقول لرسوله‪﴿ :‬ل‬
‫ِ‬
‫مليء بذكرهم وذكر قضايا تاريخية عن أمم سابقة‪ ،‬وال يصح أن يقال إن أمة محمد‬
‫قد خلت بانتهاء القرن األول؛ ألن أول وآخر قرن فيها ضمن إطار أمة واحدة هي أمة‬
‫محمد‪ ،‬ولذلك نؤكد أن الواقع المزري لألمة اإلسالمية هو ألنها رضيت لنفسها أن‬
‫تكون امتدادا طبيعيا ألخطاء تاريخية ولرموز تاريخية منحرفة عن منهجية القرآن‪،‬‬
‫وما هذا الواقع المزري لألمة اإلسالمية إال ثمرة من ثمرات َمن انحرفوا باألمة عن‬
‫ُ‬
‫خط القرآن‪ ،‬وبالذات أن منهجية الوهابي�ة هو أخذ الدين من أي شخصية صحابي�ة!‬
‫المهم أنها رأت الرسول وأسلمت‪ ،‬دون التحري عن تاريخ هذا الصحابي ومواقفه‪،‬‬
‫فالكل ‪-‬عندهم‪ -‬مقدسون وال يجوز أن تن�اقش األخطاء التي ارتكبها بعضهم‪ ،‬رغم‬
‫ن‬‫ۡل إ ِّ ٓ‬ ‫ُ‬
‫﴿ق‬ ‫وأم َره أن يقول‪:‬‬ ‫أن القرآن ناقشها بوضوح ولم يجامل حتى أشرف الخلق‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫ۡ ُ َّ َ َ َ َ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ۡو ٍم ع ِظي ٖم‪[ ﴾١٥‬األنعام‪ ،15 :‬الزمر‪.]13 :‬‬ ‫أخاف إِن عصيت ر ِب عذاب ي‬

‫منهجية �صكوك الغفران‪:‬‬


‫ما الفارق بين هذه المنهجية القرآني�ة من جهة‪ ،‬وبين منهجية من يفتح الباب على‬
‫مصراعيه ويقدم صكوك الغفران والحصانة التي تشجع على ارتكاب المعاصي من‬
‫جهة أخرى؟ كما في هذه األحاديث المزعومة‪“ :‬ما ضر عثمان ما صنع بعد اليوم”‪“ ،‬إن‬

‫‪203‬‬
‫بداية الطريق‬

‫هللا اطلع على أهل بدر فقال اصنعوا ما شئتم فقد غفرت لكم”‪“ ،‬لو لم تذنبوا لذهب‬
‫هللا بكم وجاء بقوم آخرين يذنبون‪ ”...‬الخبر‪ ،‬كما روته كتب الوهابي�ة(((‪ ،‬ونحن نرى‬
‫ۡ َ ً‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ َ َّ ْ َ‬
‫ۡ َ‬
‫ۡوما‬‫ۡوا يستب ِدل ق‬ ‫كتاب هللا يطرح الموضوع بخالف ذلك في قوله عز وجل‪ِ﴿ :‬إَون تتول‬
‫ۡ ُ ُ َ َ ُ ُ ْ َ‬
‫َۡ َ ُ‬
‫ۡم ث َّم ل يكون ٓوا أمثٰلكم‪[ ﴾٣٨‬محمد‪ ،]38 :‬كما أن الصحابة المنتجبين ليسوا‬ ‫َغ َ‬
‫يك‬
‫بحاجة هذا االفتراء‪ ،‬إن َمن شرعن لبعض الرموز التاريخية االنقالبي�ة جرائمهم‬
‫في حق األمة وأدخلهم تحت ستار الصحابة زورا وبهتانا‪ ،‬هم أتب�اع نفس المنهجية‬
‫والتدين الشكلي الذي شرعن لعلي عبدهللا صالح وعلي محسن األحمر جرائمهم‬
‫تحت ستار الحصانة‪ ،‬وقائد الجيش الموالي للثورة‪ ،‬وطاعة ولي األمر‪ ،‬وغيرها من‬
‫األلقاب الوهمية‪ ،‬فالتاريخ يعيد نفسه‪.‬‬

‫التلقي الع�شوائي للدين ونتائجه‪:‬‬


‫ونتيجة ألخذ الدين بشكل عشوائي عن المجتمع الذي كان في عهد الرسول‪،‬‬
‫ترتب على ذلك مشروع ثقافي مغلوط يحمله التي�ار الموالي لهذه الشخصيات‬
‫التاريخية‪ ،‬ولو لم يكن من ثمرات هذا التوجه الثقافي إال تلك الرواية سيئ�ة الذكر التي‬
‫مازالوا يقدسونها إلى اآلن بحجة أنها مروية عن صحابي ‪-‬وكل الصحابة عدول!!!‪-‬‬
‫والتي تشرعن لطاعة ولي األمر وإن كان ظالما غشوما‪ ،‬وإن جلد ظهرك وأخذ مالك‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ما لم يعلن كفرا بواحا!!! والتي كان من نت�ائجها أن استعبدت الشعوب اإلسالمية‬
‫ألنظمة مستب�دة‪ ،‬فكان لهذه الثقافة والمنهجية المستوردة من خارج ثقافة القرآن‬
‫دور الريادة في إخضاع الشعوب المسلمة للحكام الظلمة‪ ،‬الذين بدورهم أخضعوا‬
‫شعوبهم ألمريكا وإسرائي�ل‪.‬‬

‫معنى ال�صحبة ودالالتها‪.‬‬


‫إن مفردة الصحبة ال يستلزم منها المديح لمن يتصف بها‪ ،‬وال حتى تقتصر على‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ح ُب ُهۥ َوه َو‬
‫معشر البشر‪ ،‬فالصحبة قد تكون بين مؤمن وكافر قال تعالى‪﴿ :‬قال ُلۥ صا ِ‬
‫ۡ َ ُ َّ َ َّ ٰ َ َ ُ ٗ‬ ‫ُّ‬ ‫ك مِن تُ َراب ُث َّ‬
‫َ ََ َ‬ ‫ۡ َ َّ‬ ‫َُ ُُٓ َ َ َ‬
‫ة ثم سوىك رجل‪[ ﴾٣٧‬الكهف‪:‬‬ ‫ٖ‬ ‫ف‬ ‫ط‬ ‫ن‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫م‬ ‫ٖ‬ ‫ق‬ ‫ل‬‫خ‬ ‫ِي‬
‫ٱل‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ت‬‫ر‬ ‫ف‬ ‫اورهۥ أك‬
‫ي ِ‬
‫((( انظر صحيح مسلم رقم الحديث‪.2749‬‬

‫‪204‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ َ َ َ ُّ َ َ‬ ‫ۡ ََ َ‬ ‫ََ‬
‫يل‪[ ﴾١‬الفيل‪:‬‬ ‫ٰ‬ ‫َ‬
‫ب ٱل ِف ِ‬ ‫‪ ،]37‬وقد تكون مع الحيوان‪﴿َ :‬ألم تر كيف فع َل ربك بِأصح ِ‬
‫ۖ‬ ‫ۡ َ َّ‬ ‫ۡص َحٰ ُ‬ ‫ۡ َ ٰ ُ َّ‬
‫ب ٱلن ِة﴾‪ ،‬بل إن الصحبة قد‬ ‫ارۖ﴾ ﴿أ‬ ‫‪ ،]1‬وقد تكون مع الجماد‪﴿ :‬أصحب ٱنل ِ‬
‫ۡ ُ‬ ‫﴿و َما َصا ُ ُ َ‬ ‫تكون بين النبي وكفار قريش‪َ :‬‬
‫ون‪[ ﴾٢٢‬التكوير‪ ،]22 :‬وبشكل عام‬ ‫حبكم بِمجن ٖ‬ ‫ِ‬
‫ال يوجد في القرآن مديح لمن صاحب رسول هللا لمجرد الصحبة بعيدا عن اإليمان‬
‫والعمل الصالح‪ ،‬ومن هنا يتضح حجم الضجة المفتعلة لمصطلح الصحابة‪ ،‬والذي‬
‫أصبح عقيدة من عقائد التكفيريين التي يستبيحون من أجلها دماء أبن�اء اإلسالم‪،‬‬
‫وكذلك يتضح من خالل القرآن أن من َص ِحب الرسول ولم تقترن صحبت�ه باتب�اع‬
‫وهجرة أو نصرة ال قيمة لها عند هللا؛ ألن مديح هللا في القرآن هو لمن اتبع وهاجر‬
‫ۡ ُ ٓ ْ َ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ۡ‬
‫ٱللِۚ َعٰ‬ ‫يل أدعوا إِل‬ ‫وناصر وتوفي على ذلك ال لمجرد الصحبة‪﴿ :‬قل َهٰ ِذه ِۦ َسبِ ِ ٓ‬
‫َۡ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٰ‬ ‫َُۡ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ َّ َ َّ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ۠ َ َ َّ‬
‫ار‬
‫ج ِرين وٱلنص ِ‬ ‫ب وٱلمه ِ‬ ‫ۡ﴾ [يوسف‪﴿ ،]108 :‬لقد تاب ٱلل ع ٱنل ِ ِ‬ ‫صريةٍ أنا وم ِن ٱتبع ِن ۖ‬ ‫ب ِ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡ َّ َ َ َ‬‫ُ‬ ‫ُۡ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫يغ قل ُ‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ ۢ َ‬ ‫َّ َ َ ُ ُ َ َ ُ‬ ‫َّ‬
‫يق مِنهم ثم تاب علي ِهم ۚ‬ ‫ِ ٖ‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫وب‬ ‫ز‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫د‬‫ك‬ ‫ا‬‫م‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ِ‬ ‫ة‬‫س‬ ‫ع‬‫ٱلِين ٱتبعوه ِف ساع ِة ٱل‬
‫‪ٞ‬‬ ‫ۡ‬ ‫َّ ُ‬
‫يم‪[ ﴾١١٧‬التوبة‪.]117 :‬‬ ‫ح ‪ٞ‬‬ ‫إِنهۥ ب ِ ِهم َر ُءوف َّر ِ‬

‫هل يمكن �أن ينقلب ال�صحابة؟‪.‬‬


‫من األسئلة التي تطرح من جهة الوهابي�ة على سبي�ل االستبعاد‪ :‬هل يعقل أن‬
‫بعض من صحابت�ه؟ إذا صح‬ ‫يحصل انقالب على توجيهات النبي بعد موته من قبل ٍ‬
‫ذلك فمعناه أن النبي فشل في تربيتهم! ومعنى ذلك أيضا أن اإلمام عليا داهن وجبن‬
‫فلماذا لم يقاتل ألخذ حقه؟‬
‫والجواب على ذلك هو أنه يتضح أن هذه األسئلة واالفتراضات بعيدة عن‬
‫روح القرآن‪ ،‬فاهلل أكد لنا في كتابه الكريم أنه قد يحصل انقالب‪ ،‬وأن القضية‬
‫ليست مستغربة‪ ،‬فقد حصلت مع كثير من األنبي�اء والرسل قبل خاتمهم يقول‬
‫ُّ ُ ُ َ َ ْ َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ َ ُ َ ٌ َّ ُ ‪َ ٞ‬‬
‫ۡو‬‫﴿وما م َّمد إِل َرسول قد خلت مِن قبلِ ِه ٱلرسل ۚ أفإِين مات أ‬ ‫سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ۡ َ َ َ ُ َّ َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ ٰ َ‬ ‫َۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُۡ َ‬ ‫ُ َ َ َ‬
‫ۡ‬ ‫ۡٗ َ‬
‫ٱلل شي‍ٔا ۗ َوس َيج ِزي‬ ‫ع ع ِق َبي ِه فلن يض‬
‫َ َ َ‬
‫ۡم ۚ َومن ينقلِب‬
‫ع أعقٰبِك‬‫ۡم َ ٰٓ‬ ‫قتِل ٱنقلبت‬
‫ين‪[ ﴾١٤٤‬آل عمران‪ ،]144 :‬وقد حكى القرآن عملية انقالب للصحابة في وجود‬ ‫كر َ‬ ‫َّ ُ َّ ٰ‬
‫ٱلل ٱلش ِ ِ‬

‫‪205‬‬
‫بداية الطريق‬

‫النبيين موسى وهارون‪ ،‬ولم‬ ‫نبيين وليس مجرد انقالب بعد موتهما‪ ،‬وهم صحابة َّ‬ ‫َّ‬
‫يكن االنقالب مجرد تغيير إمام بدل اإلمام الشرعي‪ ،‬بل تم تغيير إله بدل هللا الواحد‪،‬‬
‫ۡ ُ َ َ َ َ َّ ٓ َّ‬ ‫ۡ َ ٰ ُ ُ َ ٰٓ َّ َ‬ ‫َۡ َ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫وس إِنا ل ُمد َركون‪ ٦١‬قال ك ۖ إِن‬ ‫ان قال أصحب م‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ٱلَ‬ ‫ا‬‫﴿فلَ َّما تَ َرٰٓءَ‬ ‫قال تعالى‪:‬‬
‫ِ‬
‫ين‪[ ﴾٦٢‬الشعراء‪ ،]62 - 61 :‬وعندما أنقذهم هللا من فرعون ومن الغرق‬
‫ۡ‬ ‫َم َ َ ّ َ َ‬
‫ع ر ِب سيه ِد ِ‬ ‫ِ‬
‫ۡ َ َ ‪ٞ‬‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َ َّ َ ٓ َ ٰ ٗ َ َ َ‬ ‫َّ‬
‫وفي وجود نبيين تم االنقالب على هللا‪﴿ :‬ٱجعل لا إِلها كما لهم ءال ِهة ۚ﴾ [األعراف‪:‬‬

‫‪ ،]138‬وهنا نقف عند هذه اآلية لنتساءل هل كانت تربي�ة موسى ألصحابه فاشلة‬
‫أم أنهم هم الفاشلون؟ من هنا يتضح بطالن تساؤل الوهابي�ة الثاني‪ ،‬لقد أضلهم‬
‫السامري‪ ،‬والسامري كان من كبار صحابة موسى‪ ،‬فال ُيستبعد أن يقوم مجموعة من‬
‫كبار صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم لينقلبوا على رسول هللا بعد موته‪،‬‬
‫ويرفعوا يد أبي بكر بدل يد على التي رفعها رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم في‬
‫غدير خم‪ ،‬وأما بالنسبة لقولهم أن اإلمام عليا عليه السالم بايع ورضي بأبي بكر‪ ،‬وأن‬
‫رفض هذه القضية يستلزم منه تجبين اإلمام علي؛ فكيف يسكت عن هذا الوالية‬
‫وهو يعلم أن النت�ائج ستكون كارثي�ة فالجواب من عدة نواحي‪:‬‬
‫ُُۡ َ ََ‬ ‫ََ ُ ْ َ‬ ‫ۡ َُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ َ ُ َّ َّ‬ ‫َ َ‬
‫ون وكدوا يقتلون ِن فل‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ع‬‫ض‬ ‫ت‬ ‫ٱس‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬‫ٱل‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫م‬‫أ‬ ‫ن‬ ‫ٱب‬ ‫ال‬ ‫أوال‪ :‬قال هللا تعالي ﴿ق‬
‫ۡ َٓ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫ۡ‬
‫ب ٱلعداء﴾ [األعراف‪ ،]150 :‬فهل عدم مواجهة هارون لهذا االنقالب يعتبر‬ ‫َ‬ ‫ت َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ش‬ ‫ت‬
‫ِ‬
‫جبن�ا؟! وهل عدم قتالهم دليل على أن هارون جبان والعياذ باهلل؟ بالتأكيد ال‪ ،‬لقد‬
‫استخدم نبي هللا هارون عليه السالم األسلوب الذي يراه مناسبا مع تلك الوضعية‬
‫ّ‬ ‫َ َ‬
‫والظرف الذي وصل في مراحل أخرى إلى الحد الذي قال فيه موسى‪﴿ :‬قال َر ِّب إ ِ ِن‬
‫ۡٱل َفٰسق َ‬ ‫َۡ‬ ‫َۡ‬‫ََۡ ََ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ َّ َ‬ ‫َٓ َ‬
‫ني‪[ ﴾٢٥‬المائدة‪ ،]25 :‬حالة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ۡو ِم‬
‫ي ٱلق‬ ‫ل أملِك إِل نف ِس َوأ ِخۖ فٱف ُرق بيننا وب‬
‫ال مباالة لعامة أصحاب موسى أمام التوجيهات اإللهية لم يملك معها موسى إلى‬
‫أن يتركهم يذوقوا وبال أمرهم‪ ،‬فكانت عقوبة التي�ه لعل وعسى أن يتراجعوا عندما‬
‫يذوقون عاقبة العصيان‪.‬‬
‫ثاني�ا‪ :‬لقد استخدم اإلمام علي كل الوسائل الممكنة لتذكير الناس بخطورة‬
‫الموقف الذي اتخذوه‪ ،‬بل وبحث عمن ين�اصره إلعادة الحق إلى نصابه‪ ،‬بل واستخدم‬
‫الجانب العاطفي المتمثل بالزهراء الستث�ارة المهاجرين واألنصار وتذكيرهم بتوجيه‬

‫‪206‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫النبي في غدير خم‪ ،‬ولكن القوم تعاملوا بال مباالة مع الموضوع‪ ،‬فكانت غاية ما‬
‫استطاعه اإلمام علي هو أنه تركهم ليذوقوا وبال أمرهم ال سيما مع تخوفه على بيضة‬
‫اإلسالم ممن يتربص بها من أعدائها الداخليين والخارجيين‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫القول بأن اإلمام عليا كان راضيا ببيعة أبي بكر مناقض لما أوردته كل‬ ‫ثالثا‪:‬‬
‫المصادر التاريخية عن الحدث‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬إن صالح حال األمة مرهون بمدى وعيها‪ ،‬فعندما تكون األمة ال مبالية وال‬
‫تدرك قيمة أن يكون اإلمام علي هو وليها بعد رسولها‪ ،‬فمن الطبيعي أن يتوالها من هم‬
‫ۡ َ َّ ُ َ ّ ُ ْ َ َ ُ‬ ‫َّ َّ َ َ ُ َ ّ ُ َ َ‬
‫ۡم ۗ﴾ [الرعد‪.]11 :‬‬
‫يوا ما بِأنف ِس ِه‬
‫ِ‬ ‫غ‬ ‫ي‬ ‫ٰ‬
‫ت‬ ‫ح‬ ‫م‬
‫دونه كما قال تعالى‪﴿ :‬إِن ٱلل ل يغ ِي ما ب ِ ٍ‬
‫و‬ ‫ق‬

‫من هو ال�صحابي وما هو حكمه عند الوهابية‪:‬‬


‫الوهابي�ة تؤمن بأن كل من رأى النبي ولو للحظة واحدة في العمر وأسلم فهو من‬
‫ويجزم بأنه عدل زكي طاهر ال يتطرق إليه شك وال يخضع لمعايير الجرح‬ ‫الصحابة ُ‬
‫والتعديل‪ ،‬بل تؤخذ رواياتهم عفويا بدون تمحيص‪ ،‬وهذا لعمري كان سبب�ا كبيرا في‬
‫إدخال األحاديث المكذوبة والثقافة المنحرفة على رسول هللا صلى هللا عليه واله‬
‫وسلم‪ ،‬يقول النووي وهو من علماء الحديث عند أهل السنة‪ :‬فأما الصحابي فكل‬
‫مسلم رأى رسول هللا (÷) ولو للحظة‪ ،‬هذا هو الصحيح في حده‪ ،‬وهو مذهب‬
‫بن حنب�ل وأبي عبد هللا البخاري في صحيحه والمحدثين كافة‪ ،(((.‬وخالصة مفهوم‬
‫الوهابي�ة في تعريف الصحابي أن المجتمع الذي رأى رسول هللا وأسلم في عهده‬
‫كلهم صحابة وكلهم عدول‪ ،‬بينما يقول أهل الثقافة القرآني�ة إن المجتمع الذي رأى‬
‫ُ‬
‫المقياس في تعديله هو العمل وليست الرؤية؛ فمنهم الصادق في إيمانه‬ ‫رسول هللا‬
‫ونصرته وهجرته‪ ،‬ومنهم من انقلب على عقبي�ه‪ ،‬وهم بشكل عام خاضعون للتقييم‬
‫القرآني بدون وضع أي هالة من القداسة تجاه ذلك‪.‬‬

‫((( صحيح مسلم شرح النووي ‪.36-35/1‬‬

‫‪207‬‬
‫بداية الطريق‬

‫�أفت�ؤمنون ببع�ض الكتاب وتكفرون ببع�ض‬


‫عندما يتحدث الوهابيون عن الصحابة يتعاملون بشكل انتقائي‪ ،‬ويتغاضون‬
‫عن كثير من اآليات التي توبخ جزءا منهم‪ ،‬فإذا كان القرآن أثنى على جزء من الصحابة‬
‫ممن هاجر وناصر واستمر على ذلك بصورة الثن�اء المجمل‪ ،‬هو أيضا ذم وانتقد‬
‫وناقش بعض أخطاء الصحابة في صورة الذم المجمل‪ ،‬والوهابي�ة حذت حذو أهل‬
‫ُۡ ُ َ‬ ‫ۡ َٰ َ َ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫ََُ‬ ‫َّ‬
‫ب وتكفرون‬ ‫كت ِ‬ ‫الكتاب الذين وبخهم هللا عز وجل بقوله‪﴿ :‬أفتؤمِنون بِبع ِض ٱل ِ‬
‫ۡ‬
‫ض﴾ [البقرة‪.]85 :‬‬ ‫ب ِ َبع ٖ ۚ‬
‫وإليك بعض اآليات التي تذم بعضا من الصحابة بصيغة اإلجمال‪:‬‬
‫َ‬ ‫ًۡ‬ ‫ََُ َ‬ ‫ۡ َُ َ‬ ‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ْ َ ُ ُ َ َ َ َ‬
‫ب مقتا عِند‬ ‫ِين ءَامنوا ل َِم تقولون ما ل تفعلون‪ ٢‬ك‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬يأيها ٱل‬
‫ۡ َُ َ‬ ‫َّ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ‬
‫ٱللِ أن تقولوا ما ل تفعلون‪[ ﴾٣‬الصف‪ ]3 - 2 :‬أليست هذه اآلية أول ما نزلت في‬
‫المجتمع الذي آمن ورأى الرسول؟ أي الصحابة حسب مفهوم الوهابي�ة؟‬
‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫كُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ‬
‫يل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ر‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫ٱن‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ِيل‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ذ‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬يأيها ٱلِين ءامنوا ما ل‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫خ َرة ِۚ َف َما َم َتٰ ُع َ‬ ‫َۡ‬ ‫َۡ َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫َۡ‬ ‫ُۡ َ‬ ‫َّ َّ َ‬
‫ٱدلن َيا‬ ‫ٱل َي ٰوة ِ ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ٱلي ٰوة ِ ٱدلنيا م َِن ٱٓأۡل ِ‬ ‫ضيتم ِب‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫ۡرض‬‫ۚ‬ ‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ۡم إِل‬ ‫ٱللِ ٱثاقلت‬
‫َُۡ َ‬ ‫ۡ َ ً َ‬ ‫ۡ َ‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ َ َ ً َ‬ ‫ْ َُ ّ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ َ ٌ‬
‫ۡم َول‬ ‫ۡوما غيك‬ ‫ۡم عذابا أ ِل ٗما َويستب ِدل ق‬ ‫خ َرة ِ إِل قلِيل‪ ٣٨‬إِل تن ِف ُروا يع ِذبك‬ ‫ِف ٱٓأۡل ِ‬
‫شءٖ قَ ِد ٌ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ۡ ٗ َ َّ ُ َ ٰ ُ ّ َ‬ ‫َ ُ ُّ ُ َ‬
‫ير‪[ ﴾٣٩‬التوبة‪.]39 - 38 :‬‬ ‫ك‬‫تضوه شي‍ٔا ۗ وٱلل ع ِ‬
‫ۡٗ‬ ‫ۡ َ ُ َ‬ ‫ۡ ََ ُ‬ ‫َُۡ ُ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ ُ َ‬ ‫ََ‬
‫ۡم شي‍ٔا‬ ‫ۡم تغ ِن عنك‬ ‫ثتكم فل‬ ‫ۡم ك‬ ‫ي إِذ أعج َبتك‬ ‫﴿ويوم حن ٍ‬ ‫وقال عنهم‪:‬‬
‫ۡدبر َ‬ ‫ۡ ُ ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡرض ب َما َر ُح َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ين‪[ ﴾٢٥‬التوبة‪.]25 :‬‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ت ث َّم َ‬
‫و‬ ‫ب‬ ‫ٱل‬ ‫كُ‬
‫م‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ت‬ ‫وضاق‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ۡ َٓ‬ ‫ُۡ ّ ۢ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ُۡ ََ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫ِن بع ِد ما‬ ‫ۡم ِف ٱلم ِر َوعصيتم م‬ ‫ۡم َوتنٰ َزعت‬ ‫ت إِذا ف ِشلت‬ ‫وقال عنهم يوم أحد‪﴿ :‬ح ٰٓ‬
‫ََ‬ ‫ُ َّ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ َّ ُ ُ‬ ‫َ َ ٰ ُ َّ ُ ُّ َ‬
‫خرة ۚ﴾ [آل عمران‪.]152 :‬‬ ‫أرىكم ما تِبونۚ مِنكم من ي ِريد ٱدلنيا ومِنكم من ي ِريد ٱٓأۡل ِ‬
‫َ َ ُ ُّ َ َّ ُّ ُ َ ۠‬
‫﴿وتظنون بِٱللِ ٱلظنونا‪[ ﴾١٠‬األحزاب‪.]10 :‬‬ ‫وقال عنهم يوم األحزاب‪:‬‬
‫ۡ َّ‬ ‫ُ ُّ َ َ‬
‫ل ِهم بِٱل َم َودة ِ﴾ [الممتحنة‪. :]1 :‬‬ ‫ۡ‬
‫وقال عنهم في سورة الممتحنة‪﴿ :‬ت ِسون إ ِ‬
‫َ َّ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫وقال عن أصحاب اإلفك من الصحابة وفيهم بدريون‪﴿ :‬فأ ْو ٰٓلئِك عِند ٱللِ ه ُم‬
‫ۡ َ ُ َ‬
‫ٱلك ٰ ِذبون‪[ ﴾١٣‬النور‪.]13 :‬‬

‫‪208‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫َۡ‬ ‫َّ ُ َ ُ ُ َ ُ َ ّ‬
‫ۡو ِل‬ ‫ۡم لَقولون منك ٗرا م َِن ٱلق‬ ‫ظاهر من امرأته وهو صحابي‪ِ﴿ :‬إَونه‬ ‫ُ‬
‫وقال عن الم ِ‬
‫وراۚ﴾ [المجادلة‪.]2 :‬‬ ‫َو ُز ٗ‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ َُُ َ َ‬ ‫َ‬
‫ۡم ل يع ِقلون‪[ ﴾١٠٣‬المائدة‪.]103 :‬‬ ‫وقال عن الذين أسلموا عنده من بني تميم‪﴿ :‬أكثه‬
‫َ َٓ ُ َ ُ َ‬
‫ۡم فا ِس ۢق بِن َب ٖإ‬
‫َُ ْ‬
‫ِين ءَامن ٓوا إِن جاءك‬ ‫﴿ي َأ ُّي َها َّٱل َ‬ ‫وقال عن الوليد بن عقبة‪ٰٓ َ :‬‬
‫َََ ُ ْ‬
‫فتب َّين ٓوا﴾ [الحجرات‪.]6 :‬‬
‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ ُّ‬ ‫َۡ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ ُ ُ‬ ‫ۡ َ ُ َ َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َ ُ ٓ ْ َ َّ‬ ‫وقال‪َ :‬‬
‫﴿وٱعلموا أن فِيكم رسول ٱللِۚ لو ي ِطيعكم ِف كثِريٖ مِن ٱلم ِر لعنِتم﴾‬
‫[الحجرات‪.]7 :‬‬
‫َ َ‬ ‫ۡ َ ٰ َ َ َّ َ َ‬ ‫ۡ ُ َّ‬
‫ۡن ءَاتىٰنا‬ ‫َ‬
‫وقال في حق بعض أصحاب النبي (÷)‪:‬ؤ﴿۞ومِنهم من عهد ٱلل لئِ‬
‫َ ُ ْ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ََ ٓ َ ُ ّ َ‬
‫ني‪ ٧٥‬فل َّما ءَاتىٰهم مِن فضلِ ِهۦ بِلوا ب ِ ِهۦ‬
‫َّ‬ ‫َ َّ َّ َ َ ُ َ َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫مِن فضلِ ِهۦ لَصدق َّن َولَكونن م َِن ٱلصٰلِ ِ‬
‫ح‬
‫ٱللَ‬ ‫ۡ َ ُ ْ َّ‬ ‫َُۡ َٓ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ َ‬‫ۡ َٰ َ‬ ‫ُُ‬ ‫ۡ َ ٗ‬ ‫ۡ ََُ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫َ َّ ْ ُ ُّ‬
‫َوت َولوا َّوهم مع ِرضون‪ ٧٦‬فأعقبهم ن ِفاقا ِف قلوب ِ ِهم إِل يو ِم يلقونهۥ بِما أخلفوا‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َ ُ ْ َ‬ ‫َما َو َع ُد ُ‬
‫وه َوب ِ َما كنوا يك ِذبون‪[ ﴾٧٧‬التوبة‪.]77 - 75 :‬‬
‫بل إن القرآن ّبين أن بعض الصحابة ال يحترمون خطبة رسول هللا ويخرجون‬
‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َۡ َ ُ َ َٓ ُ‬ ‫ۡ ً َ ُّ ٓ ْ َ‬ ‫ْۡ ًََٰ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫لها َوت َركوك قائ ِ ٗماۚ قل ما عِند‬ ‫ۡو لهوا ٱنفضوا ِإ‬ ‫منها إلى تجارتهم‪ِ﴿ :‬إَوذا َرأوا ت ِجرة أ‬
‫ٱلرٰزق َ‬‫ۡ ُ َّ‬ ‫ۡ َ َ ّ َ ٰ َ َ َّ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ ّ‬ ‫َّ َ‬
‫ِني‪[ ﴾١١‬الجمعة‪.]11 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل خي‬ ‫ٱللِ خي ‪ ٞ‬م َِن ٱلله ِو ومِن ٱتل ِجرة ِۚ و‬
‫َۡ َ َ َُ ْ ََ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُ َٰ ُ َ‬ ‫ۡ‬‫َۡ‬ ‫َۡ ُ ّ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ َّ‬
‫اب من ِفقونۖ ومِن أه ِل ٱلم ِدين ِة مردوا ع‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وقال‪﴿ :‬ومِمن حولكم مِن ٱلعر ِ‬
‫ۡ َ ُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َُُ َ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ۡم ۚ﴾ [التوبة‪.]101 :‬‬ ‫ۡم ۖ ن ُن نعل ُمه‬ ‫اق ل تعلمه‬ ‫ٱنل ِف ِ‬
‫َ َ َ َّ ُ‬
‫ۡم‬ ‫حتى أن بعضهم ممن رأى النبي وآمن ثم كفر وتحول إلى منافق ﴿ذٰل ِك بِأنه‬
‫ۡ َ ُ َ‬ ‫ۡ َُ َ َ‬ ‫َ َ ُ ْ ُ َّ َ َ ُ ْ َ ُ َ َ َ ٰ ُ ُ‬
‫ۡم ل يفقهون‪[ ﴾٣‬المنافقون‪.]3 :‬‬ ‫ع قلوب ِ ِهم فه‬ ‫ءامنوا ثم كفروا فطبِع‬
‫فمن يقول ‪-‬كما يقول هللا في القرآن‪ -‬إن بعض الصحابة يقولون ما ال يفعلون‪،‬‬
‫وإن بعضهم يتث�اقل عن النفير‪ ،‬وإن هللا هدد بعضهم باالستب�دال‪ ،‬وإن بعضهم يفر من‬
‫الزحف وين�ازع ويعصي ويسيء الظن باهلل ويكذب ويأفك ووو الخ‪ ،‬هل هذا تقييم‬
‫وكشف لحقيقة وواقع بعض الصحابة أم أنه شتم وسباب؟ هل هذه رؤية قرآني�ة أم‬

‫‪209‬‬
‫بداية الطريق‬

‫رؤية رافضية؟ هل أن القرآن كان مؤدبا مع الصحابة أم أن الوهابي�ة أكثر أدبا!!!‬

‫ازدواجية المعايير‪:‬‬
‫يتم التركيز في قنوات التكفيريين على بعض المقاطع للسيد حسين وهو‬
‫يتن�اول بعض الصحابة وإحدى نساء النبي بالنقد البن�اء والتقييم والكشف لواقعهم‪،‬‬
‫ويوضع كل ذلك ضمن إطار السب والشتم للصحابة ونساء النبي‪ ،‬ويمكن مناقشة‬
‫الوهابي�ة حول هذا الموضوع في ثالث جوانب‪:‬‬
‫أوال‪ :‬لماذا الهجوم على السيد حسين والتغاضي عن بعض علمائكم ممن تكلم‬
‫بكالم قادح في بعض الصحابة ‪:‬‬
‫‪ -1‬فابن عثيمين وهو أحد كبار علماء الوهابي�ة في شرح العقيدة الواسطية البن‬
‫تيمية يقول‪ :‬وال شك أنه حصل من بعضهم [أي الصحابة] سرقة وشرب خمر‬
‫وقذف وزنا بإحصان وزنا بغير إحصان‪.‬‬
‫‪ -2‬والبخاري وهو من كبار المحدثين الذين يجلهم الوهابي�ة يروي في قدح عائشة‬
‫هذا الحديث‪“ :‬قام النبي خطيب�ا فأشار نحو مسكن عائشة فقال‪ :‬ها هنا الفتن�ة‬
‫‪-‬ثالثا‪ -‬من حيث يطلع قرن الشيطان)(((‪.‬‬
‫وقد أورد البخاري ‪-‬وغيره من العلماء الذين يقدسهم الوهابي�ة‪ -‬روايات تتحدث‬
‫عن مصير كثير من الصحابة بعد موت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫وإليك شيء من هذه الروايات‪:‬‬
‫‪ -1‬ما رواه البخاري في صحيحه عن النبي (÷) قال‪“ :‬بين�ا أنا قائم إذا زمرة حتى‬
‫إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال‪ :‬هلم فقلت أين؟ قال‪ :‬إلى النار‬
‫وهللا‪ ،‬قلت‪ :‬وما شأنهم؟ قال‪ :‬إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى‪ ،‬ثم إذا‬
‫زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال‪ّ :‬‬
‫هلم‪ ،‬قلت‪ :‬إلى أين؟‬
‫قال‪ :‬إلى النار وهللا‪ ،‬قلت‪ :‬ما شأنهم؟ قال‪ :‬إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم‬
‫القهقرى‪ ،‬فال أراه يخلص منهم إال مثل همل النعم» البخاري كتاب الرقاق ـ‬

‫((( صحيح البخاري ص‪217‬ج‪4‬كتاب الخمس‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ُ‬
‫باب في الحوض ‪ ،‬وهؤالء الذين أ ِخذوا إلى النار صحابة بداللة أحاديث أخرى‬
‫صحيحة منها‪:‬‬
‫“فأقول‪ :‬يارب أصحابي أصحابي!! فيقال‪ :‬ال تدري ما أحدثوا بعدك”‪.‬‬
‫ِين‬ ‫ِۡت َن ٗة َّل تُص َ َّ‬
‫يب َّٱل َ‬ ‫َ َّ ُ ْ‬
‫﴿وٱتقوا ف‬
‫ِ‬ ‫البخاري‪ ،‬كتاب الفتن ما جاء في قوله تعالى‬
‫ُ َ ٓ َّ ٗ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ۡم خاصة ۖ﴾ [األنفال‪.]25 :‬‬ ‫ظل ُموا مِنك‬
‫‪ -2‬وفي تاريخ ابن كثير قال‪ :‬أخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال‪ :‬يا رسول هللا‬
‫بلغني أنك تقول‪ :‬ليرتدن أقوام بعد إيمانهم‪ .‬قال (÷)‪ :‬أجل ولست منهم”‪.‬‬
‫ُّ ُ ُ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ َ ُ َ َّ ٌ َّ َ ُ ‪َ ٞ‬‬
‫﴿وما ممد إِل رسول قد خلت مِن قبلِ ِه ٱلرسل ۚ‬ ‫وهذا مصداق قوله تعالى‪:‬‬
‫َۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َّ َ َ ُ َ َ َ‬
‫ۡم ۚ ‪[ ﴾...‬آل عمران‪.]144 :‬‬
‫ع أعقٰبِك‬‫ۡم َ ٰٓ‬‫ُۡ‬
‫ۡو قتِل ٱنقلبت‬
‫أفإِين مات أ‬
‫‪ -3‬وقال (÷)‪“ :‬إن من أصحابي من ال يراني بعد أن أفارقه” سلسلة األحاديث‬
‫الصحيحة ‪ ،1202/6‬رقم الحديث ‪( 2982‬المصدر في الحاشية)‪ ،‬وأخرج‬
‫البخاري ومسلم في صحيحيهما‪ :‬أن عمر بن الخطاب طلب من النبي‬
‫(÷) أن يضرب عنق عبد هللا بن أبي فقال‪ :‬يا رسول هللا دعني أضرب عنق‬
‫هذا المنافق‪ .‬فقال النبي (÷)‪“ :‬دعه ال يتحدث الناس بأن محمدا يقتل‬
‫ً‬
‫أصحابه” مسلم كتاب البر والصلة باب نصر األخ ظالما أو مظلوما‪.‬‬
‫‪ -4‬وروى مسلم في صحيحه عن النبي (÷) أنه قال‪“ :‬في أصحابي اثن�ا عشر‬
‫منافقا‪ ،‬فيهم ثماني�ة ال يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط”(((‪.‬‬
‫ويجب أن يفهم القارئ أن الصحابة من المهاجرين واألنصار لهم مكانة عظمى‬
‫عند هللا في حالة االستمرار على ذلك وعدم النكث‪ ،‬وال عبرة لهم إال بالخواتيم‪ ،‬قال‬
‫ۡ ُ ُ َ َ َ‬
‫ۡ َ َّ َ‬ ‫ُۡ‬
‫ۡؤ ِمن َ‬ ‫ۡ َ َ َّ ُ َ‬ ‫َّ َ‬
‫ني إِذ ي َبايِعونك تت ٱلشج َرة ِ ‪[ ﴾...‬الفتح‪،]18 :‬‬ ‫ض ٱلل ع ِن ٱلم ِ‬ ‫تعالى‪۞﴿ :‬لقد ر ِ‬
‫َّ َّ َ ُ َ ُ َ َ َّ َ ُ َ ُ َ َّ َ َ ُ َّ‬
‫ِين يبايِعونك إِنما يبايِعون ٱلل يد ٱللِ‬ ‫وقال تعالى حاكيا نفس القضية‪﴿ :‬إِن ٱل‬
‫ۡي ُه َّ َ‬‫ۡ َٰ َ َٰ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ َ َّ َ َ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ ٰ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ‬
‫ٱلل‬ ‫ۡن أوف بِما عهد عل‬ ‫ع نف ِس ِهۖۦ َوم‬ ‫يهم ۚ فمن نكث فإِنما ينكث‬ ‫فوق أ ِ َِ‬
‫د‬ ‫ي‬
‫ۡج ًرا َعظ ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬
‫يما‪[ ﴾١٠‬الفتح‪.]10 :‬‬ ‫ِ‬ ‫فس ُيؤت ِي ِه أ‬

‫((( صحيح مسلم‪ /‬كتاب صفات المنافقين وأحكامهم حديث رقم ‪ 9‬أو ‪.2779‬‬

‫‪211‬‬
‫بداية الطريق‬

‫فاهلل سبحانه وتعالى في اآلية األولى قد رضي عن المؤمنين المبايعين‪ ،‬ولكنه‬


‫أكد في اآلية الثاني�ة أن رضاه مستمر لمن استمر على العهد‪ ،‬أما الذين ينقضون‬
‫عهدهم فهم معرضون للسخط بعد الرضا‪ ،‬ويدخل في هؤالء من قال عنهم النبي‬
‫(÷)‪ ..“ :‬فأقول‪ :‬يارب أصحابي أصحابي‪ .‬فيقال إنك ال تدري ما أحدثوا بعدك”‬
‫كما سبق والعبرة بالخواتيم‪.‬‬
‫ۡ ُ َّ‬ ‫ُّ َ َّ ‪َ َ ُ ٓ َّ َ ٓ ُ َ َ َ َّ َ َّ ُ ُ َّ ٞ‬‬
‫ار‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ك‬ ‫ٱل‬ ‫ع‬ ‫ويقول سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ممد رسول ٱللِۚ وٱلِين معهۥ أ ِشداء‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ۡ َٗ‬ ‫َّ‬ ‫َُۡ َ َ‬
‫ۡ ٗ ّ‬ ‫َّ ُ َّ ٗ َ‬ ‫َُۡ َ ُ‬ ‫ََٓ َ‬
‫ۡم ِف ُوجوه ِِهم‬ ‫يماه‬ ‫ۡم ُرك ٗعا سجدا يبتغون فضل م َِن ٱللِ َو ِرضوٰناۖ ِس‬ ‫ۡم ۖ ت َرىٰه‬
‫ُرحا ُء بينه‬
‫ّ َ َ ُّ ُ‬
‫ِۡن أث ِر ٱلسجو ِدۚ‪[ ﴾...‬الفتح‪.]29 :‬‬ ‫م‬
‫يقول مؤلف كتاب الصحبة والصحابة ص‪« :67‬لوال أن بعض الناس يورد‬
‫هذه اآلية للداللة على فضل المتأخر من المسلمين في عهد النبي (÷) كالطلقاء‬
‫ُ‬
‫واألعراب والوفود وأمثالهم لما أوردتها هنا؛ فاآلية من سورة الفتح التي نزلت بعد‬
‫فتح الحديبي�ة وقبل فتح مكة‪ ،‬وعلى هذا فالثن�اء فيها على الذين مع النبي (÷)‬
‫َ‬
‫ينزل على المؤمنين يومئذ من المهاجرين واألنصار‪ ،‬وال ينزل على َمن بعدهم‪،‬‬
‫إضافة إلى أن المعية هنا تقتضي النصرة والتمكين أيام الحاجة والذل والضعف‪”...‬‬
‫‪ ،‬والمقصود أن اآلية لم تقل محمد ومن رآه ولو للحظة وآمن به‪ ،‬وإنما قالت‪“ :‬محمد‬
‫والذين معه” أي سار على نهجه قلبا وقالبا‪ ،‬ثم اآلية وضعت قيودا (أشداء على‬
‫الكفار رحماء بينهم)‪ ،‬وما حصل بين الصحابة ‪-‬من معارك في الجمل وصفين‬
‫وفتن�ة مقتل عثمان وآالف الدماء التي سالت‪ -‬يدل على أن الكثير من الصحابة كانوا‬
‫أشداء على بعضهم بعضا‪.‬‬
‫ثاني�ا‪ :‬لماذا اإليهام لعامة الناس من جهة الوهابي�ة أن السيد حسين يعم باالنتقاد‬
‫جميع الصحابة ونساء النبي‪ ،‬فهذا يعتبر افتراء كبيرا على السيد حسين‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬ما ذكره السيد حسين عن أبي بكر وعمر وعثمان من أنهم (مخطئون‪،‬‬
‫عاصون‪ ،‬ضالون)‪ ،‬وما قاله عن عمر من أنه “كل سيئ�ة في األمة هذه‪ ،‬كل ظلم وقع‬
‫على األمة‪ ،‬وكل معاناة األمة وقعت فيها المسئول عنها أبو بكر وعمر وعثمان‪ ،‬عمر‬
‫بالذات ألنه هو المهندس للعملية كلها»‪ ،‬هل هذا الكالم خارج عن إطار األسلوب‬

‫‪212‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫القرآني في نقد وتقييم بعض الصحابة؟ ففي المقطع األول لم يخرج السيد حسين‬
‫ۡ‬‫ُۡ ّ ۢ َ‬ ‫ۡ َ َ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ُۡ ََ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫ۡم ِف ٱلم ِر وعصيتم مِن بع ِد‬ ‫ۡم َوتنٰ َزعت‬ ‫عن أسلوب القرآن الذي قال‪﴿ :‬ح ٰٓ‬
‫ت إِذا ف ِشلت‬
‫ََ‬ ‫ُ َّ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫ُّ‬ ‫ُ َّ ُ ُ‬ ‫َ ٓ َ َ ٰ ُ َّ ُ ُّ َ‬
‫خرة ۚ ﴾ [سورة آل عمران‬‫ما أرىكم ما تِبونۚ مِنكم من ي ِريد ٱدلنيا ومِنكم من ي ِريد ٱٓأۡل ِ‬
‫ى‪( ﴾ ١٢١‬سورة طه ‪ -‬من‬ ‫اد ُم َر َّب ُهۥ َف َغ َو ٰ‬
‫َ َ َ ٰٓ َ َ‬
‫‪ -‬من اآلية ‪ ،]152‬وقال عن آدم عليه السالم‪﴿ :‬وعص ء‬
‫ّ‬
‫َ َّ َ‬ ‫۠‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٗ‬ ‫ٓ‬ ‫َُۡ‬ ‫َ َ ََ‬
‫َ‬
‫اآلية ‪ ،)121‬وقال عن موسى عليه السالم‪﴿ :‬قال فعلتها إِذا وأنا مِن ٱلضٓال ِني‪( ﴾ ٢٠‬سورة‬

‫الشعراء ‪ -‬اآلية ‪ ،)20‬رغم أنه ال مقارنة بين معاصي األنبي�اء وغيرهم‪ ،‬فال يصح أن يقال إن‬
‫كالم السيد حسين شتم وسب وبعيد عن المنهج القرآني‪ ،‬وبالنسبة لما قاله السيد‬
‫حسين عن عمر فهو في إطار كشف الحقائق التاريخية‪ ،‬ولم يزد عن ما رواه البخاري‬
‫وغيره من المحدثين‪ ،‬وكذلك المؤرخين التابعين ألهل السنة حول رزية الخميس‬
‫المشهورة وكيف كان موقف عمر‪:‬‬
‫‪-1‬روى بن عباس وقال‪ :‬لما حضر النبي (÷) وفي البيت رجال فيهم عمر بن‬
‫الخطاب قال‪“ :‬هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده”‪ ،‬قال عمر‪ :‬إن النبي غلبه الوجع‬
‫وعندكم كتاب هللا‪ ،‬فحسبن�ا كتاب هللا‪ ،‬واختلف أهل البيت‪ ،‬فمنهم من يقول ما‬
‫قال عمر‪ ،‬فلما أكثروا اللغط واالختالف قال‪“ :‬قوموا عني ال ينبغي عندي التن�ازع”(((‪.‬‬
‫وفي رواية‪ :‬بكى ابن عباس حتى خضب دمعه الحصباء فقال‪ :‬اشتد برسول‬
‫هللا (÷) وجعه‪ ،‬فقال‪“ :‬آتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا”‪ .‬فتن�ازعوا‬
‫وال ينبغي عند نبي تن�ازع‪ ،‬فقالوا‪ :‬هجر رسول هللا!!!!! البخاري كتاب الجهاد‪/‬باب‬
‫جوائز الوفد وكتاب الجزية‪/‬باب إخراج اليهود من جزيرة العرب‪ ،‬وصحيح مسلم‪،‬‬
‫كتاب الوصية‪/‬باب ترك الوصية‪.‬‬
‫هل يعقل أن تصل أخالق المسلم إلى الدرجة التي يدعي فيها أن رسول هللا‬
‫‪-‬يخرف‪ -‬وهو يقول لن تضلوا بعد هذا الكتاب؟! أليست مالمح سقيفة‬ ‫يهجر أي ُ‬
‫دون النبي (÷)‬ ‫بني ساعدة تؤكد أن القوم كانوا حريصين على الخالفة‪ ،‬وأن ال ُي ِّ‬
‫في آخر حياته بما كان يكرره عليهم باستمرار‪“ :‬أيها الناس إن هللا موالي وأنا مولى‬
‫المؤمنين أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مواله فهذا علي مواله”‪“ ،‬إني تارك فيكم‬
‫((( صحيح البخاري كتاب العلم‪/‬باب كتابة العلم‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب هللا وعترتي أهل بيتي‪.”...‬‬


‫فكم هي الرزية التي رزئت بها األمة عند منع الرسول من كتابة هذه الوصية‪،‬‬
‫وقد أكد ذلك ابن عباس حيث يقول‪ :‬إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول هللا‬
‫(÷) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختالفهم ولغطهم‪ .‬البخاري كتاب‬
‫االعتصام بالكتاب والسنة‪/‬باب قول المريض قوموا عني وباب كراهية الخالف‪،‬‬
‫أليس حديث السيد حسين هو مضمون نتيجة هذه الرزية؟ بلى وهللا‪.‬‬

‫افتراء الوهابية على ال�سيد بدر الدين رحمة اهلل عليه‪:‬‬


‫ومن األكاذيب التي يسطرونها في منشوراتهم أن السيد العالمة بدر الدين قال‬
‫إن الصحابة كفار‪ ...‬ومرتدون!! وهذه كذبة إصالحية وسلفية بإيعاز من أسيادهم‬
‫في مطابخ االستخبارات األمريكية واإلسرائيلية والسعودية‪ ،‬وأتحدى أن يأتوا‬
‫بها في أي كتاب من كتب�ه‪ ،‬وكيف يقول هذا الكالم والنسبة األكبر من المهاجرين‬
‫واألنصار كانت إلى جانب اإلمام علي في مواجهة الناكثين والقاسطين والمارقين؟‬

‫مالحظة مهمة فيما يتعلق ب�صاحبه في الغار‬


‫بعض العلماء يرفضون االعتراف بأن أبا بكر كان في الغار واستن�دوا على أدلة‬
‫كثيرة ال مجال لذكرها هنا‪ ,‬وبغض النظر عن صحة ذلك من عدمه فمن كان مع‬
‫رسول هللا تثبت اآليات أنه كان حزين�ا على نفسه وليس على رسول هللا صلى هللا‬
‫َّ َ ُ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ّ ْ َ ْ َ‬
‫ص ُه الل إِذ أخ َرج ُه‬ ‫عليه وآله وسلم‪ ,‬دعونا نت�أمل في اآليات ﴿إِال تنصوه فقد ن‬
‫ْ ْ َّ ّ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َُ ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫ان اثْنَ ْي إ ْذ ُه َ‬ ‫َّ َ َ َ ُ ْ َ‬
‫حبِ ِه ال ت َزن إِن الل معنا‬ ‫ار إِذ يقول ل ِصا ِ‬
‫ِ‬ ‫غ‬ ‫ال‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫الِين كفروا ث ِ‬
‫ُّ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ ََ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ ََ ّ َ ََ َ ْ‬
‫َ‬
‫ِين كف ُروا السفل‬ ‫كينت ُه علي ِه َوأيد ُه ِبنو ٍد ل ْم ت َر ْوها َوجعل ك ِ َمة ال‬ ‫فأنزل الل س ِ‬
‫ك ٌ‬ ‫ََ َُ ّ َ ُ َ َ ّ َ ٌ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫يم﴾ [التوبة‪ ]40‬يظهر من خالل القرآن أن صاحب‬ ‫يز ح ِ‬ ‫وكِمة اللِ ِه العليا والل ع ِز‬
‫الرسول في الغار كان حزين�ا على نفسه ولهذا لم يستحق نزول السكين�ة عليه كما‬
‫ََ ََ ّ َ ََ َ َْ‬
‫كينت ُه علي ِه﴾ أي على الرسول‪ ،‬ولم يقل‬ ‫نزلت على رسول هللا ﴿فأنزل الل س ِ‬
‫َ‬
‫ولِ َو َع ُ‬
‫الم ْؤ ِمن َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ َ ُ َ َ ُ‬
‫َ‬
‫ني﴾‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫كينته ع ر‬ ‫عليهما أو عليهم كما في آية أخرى ﴿فأنزل الل س ِ‬

‫‪214‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ُُ ْ ََ ََ‬ ‫َ َ ْ َ ِ َ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ َ َ ْ َ َّ َ َ َ َ‬
‫ني إِذ ي َبايِعونك تت الشج َرة ِ فعلِ َم ما ِف قلوب ِ ِهم فأنزل‬ ‫﴿لقد رض الل ع ِن المؤ ِمنِ‬
‫َّ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ ً َ ً‬
‫كينة علي ِهم وأثابهم فتحا ق ِريبا﴾[الفتح‪ ]18‬وخالصة اآلية تذكير النبي لصاحبه‬ ‫الس ِ‬
‫بأن ال داعي للحزن مادام هللا معنا ‪ ،‬فمعية هللا بحاجة الستجابة العبد ليترتب عليها‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ َّ َّ َ َ ْ َ ُ َ‬
‫ات وما ِف الر ِض ما‬ ‫السكين�ة والتأيي�د اإللهي ﴿ألم تر أن الل يعلم ما ِف السماو ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ َ ْ َ َّ ُ َ ُ ُ‬ ‫َّ ْ َ َ َ َّ ُ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫يكون مِن ن َوى ثلث ٍة إِل ه َو َرابِعه ْم َول خس ٍة إِل ه َو سادِسه ْم َول أدن مِن ذل ِك‬
‫َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ ُ َّ ُ َ ّ ُ ُ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َّ َّ َ ُ ّ‬
‫ول أكث إِل هو معهم أين ما كنوا ثم ينبِئهم بِما ع ِملوا يوم ال ِقيام ِة إِن الل بِك ِل‬
‫َ ْ‬
‫ش ٍء َعلِ ٌ‬
‫يم﴾ [المجادلة‪.]7‬‬

‫فيما يتعلق بن�ساء النبي �صلى اهلل عليه و�آله الطاهرين‪:‬‬


‫تعال معي إلى سورة من سور القرآن الكريم وهي سورة التحريم‪ ،‬والتي تؤكد أن‬
‫القرآن يتن�اول أي شخصية مهما كانت قريب�ة من رسول هللا ويضعها تحت ميزان التقييم‪،‬‬
‫بدون مجاملة أو وضع هالة من القداسة والتهويل حول مناقشة مثل هذه القضايا‪ ،‬هذه‬
‫السورة تن�اولت شخصيتين من أزواج الرسول صلوات هللا عليه وعلى آله الطاهرين‪.‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫ۡ َ َ َ‬ ‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ ُّ َ ُ َ ّ ُ َ ٓ َ َ َّ َّ ُ َ َ َ‬
‫ٱلل َغ ُفور‪ٞ‬‬
‫ك َو َّ ُ‬‫ۡ َٰ َ‬
‫ز‬ ‫أ‬ ‫ات‬ ‫ض‬‫ر‬
‫َۡ َ‬
‫م‬ ‫غ‬
‫ج ۚ‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫﴿يأيها ٱنل ِب ل ِم ت ِرم ما أحل ٱلل لكۖ ت ِ‬
‫ت‬‫ب‬
‫يم‪[ ﴾١‬التحريم‪.]1 :‬‬ ‫َّر ِ‬
‫ح ‪ٞ‬‬

‫هذه اآلية توحي أن بعض زوجات الرسول صلوات هللا عليه وآله اضطرت‬
‫الرسول إلى أن ُيحرم على نفسه شيئ�ا أحله هللا من أجل أن يرضيهن‪ ،‬أليس معنى‬
‫ذلك أن إرضائهن في بعض األمور قد ال ُيرضي هللا وقد يفضي إلى أن يحرم الرسول‬
‫على نفسه حالال أحله هللا؟‬
‫ۡ‬‫َ ٗ َ َ َّ َ َّ َ‬
‫ۡز َو ِٰ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ َ َّ َّ ُّ َ َ‬
‫ج ِهۦ ح ِديثا فلما نبأت ب ِ ِهۦ‬ ‫ب إ ِ ٰل بع ِض أ‬ ‫الثالثة‪ِ﴿ :‬إَوذ أس َٱنل ِ‬ ‫وفي اآلية‬
‫ۡ َ َ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َ ُ َّ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ‬
‫ض فل َّما ن َّبأها ب ِ ِهۦ قالت من أۢنبأك‬
‫ۡ‬
‫ن َبع ٖ ۖ‬‫ۡع َر َض َع ۢ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬
‫ٱلل علي ِه ع َّرف بعض ُهۥ َوأ‬ ‫َوأظهره‬
‫ۡ‬ ‫ۡٱل َعلِ ُ‬ ‫َ َ َ َ َ َّ َ‬
‫ٱلَب ُ‬
‫ري‪[ ﴾٣‬التحريم‪ ،]3 :‬ذكر هللا أن إحداهن أفشت سر رسول‬ ‫ِ‬ ‫يم‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫هٰذاۖ قال نبأ ِ‬
‫هللا‪ ،‬فهل هي منهجية قرآني�ة أن ال نتكلم عن أخطاء نساء النبي؟ أم أن هللا نسف هذه‬
‫‪215‬‬
‫بداية الطريق‬

‫الرؤية‪ ،‬وطرح الخطأ والغلطات التي تحصل منهن بشكل واضح‪ ،‬بدون وضع هالة‬
‫من القداسة والتهويل على ذكر مثل هذه المواضيع كما تعمل الوهابي�ة؟‬
‫وكيف كان تعامل هللا معهن؟ هل جامل وحابى؟ أم أنه تكلم بدون أي مجاملة‬
‫ۡ‬ ‫ََ َ َ َ‬ ‫ۡ ُُ ُ ُ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ ُ َ ٓ َ َّ َ َ‬
‫ومحاباة؟ قال تعالى‪﴿ :‬إِن تتوبا إِل ٱللِ فقد صغت قلوبك َماۖ ِإَون تظٰه َرا علي ِه‬
‫ۡع َد َذٰل َِك َظه ٌ‬ ‫ۡ َ َ ٰٓ َ ُ َ‬ ‫ۡؤ ِمن َ‬
‫ني ۖ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫ۡ ُ َ َٰ ُ‬ ‫ۡولَى ٰ ُه َ‬ ‫َ َّ َّ َ ُ َ َ‬
‫ري‪﴾٤‬‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ة‬ ‫ك‬‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ل‬ ‫م‬‫ٱل‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ٱل‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ص‬ ‫و‬ ‫يل‬ ‫ب‬
‫ِ ِ‬‫ج‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫فإِن ٱلل هو‬
‫ُ‬
‫[التحريم‪ ]4 :‬هل أمر هللا لهن بالتوبة‪ ،‬وتذكيره لهن بأن قلوبهن قد صغت ومالت‪ ،‬وأنهن‬ ‫ُ‬
‫إذا تظاهرن على رسوله فإن هللا وجبريل وصالح المؤمنين والمالئكة سيكونون‬
‫مظاهرين مع رسول هللا ضد مظاهرتهن‪ ،‬هل هذا خطاب وتهديد قوي يتوجه إلى‬
‫هاتين الزوجتين؟ أم يصح أن نقول ‪-‬وحاشا‪ -‬إن الخطاب القرآني خطاب رافضي‬
‫حوثي وغير مؤدب‪ ،‬ويجب أن نخفف من حدته ضد أزواج الرسول؟ هل يعقل أن‬
‫يقول مؤمن هكذا؟!‬
‫ۡب ِد َ ُلۥٓ‬ ‫َ َ ٰ َ ُّ ُ ٓ َ َّ َ ُ َّ َ ُ‬
‫وهذا تهديد آخر من هللا لهاتين الزوجتين‪﴿ :‬عس ربهۥ إِن طلقكن أن ي‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ٰ َ ٰ َ ٰٓ َ‬ ‫ۡ َ ٰ َ ٰ َ ٰ َ ٰٓ َ‬ ‫ۡ َ ٰ ُّ‬ ‫ۡ ٗ ّ ُ َّ ُ‬ ‫ۡ َٰ ً َ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫ٰ‬
‫ت ثيِب ٖ‬ ‫ٰ‬
‫ت سئِح ٖ‬ ‫ت عبِد ٖ‬ ‫ٰ‬
‫ت تئِب ٍ‬ ‫ت قنِت ٖ‬ ‫ت مؤمِن ٖ‬ ‫أزوجا خيا مِنكن مسلِم ٖ‬
‫ۡ َ‬ ‫َ‬
‫ٗ‬
‫َوأبكارا‪[ ﴾٥‬التحريم‪.]5 :‬‬
‫نستوحي نقاطا من هذه اآلية‪:‬‬

‫التلميح بالطالق بشكل تهديدي‪.‬‬

‫التهديد بأن يب�دله أزواجا خيرا منهن‪ ،‬معنى ذلك أن هناك من هو خير من عائشة‬
‫وحفصة من النساء المؤمنات‪ ،‬فلماذا ال نسمع الوهابي�ة ال تتكلم إال عنهن وكأنه ال‬
‫وجود لمؤمنات أخريات؟ لماذا ال يتحدثون عن فاطمة عليها السالم؟ من يغضب‬
‫ً‬
‫هللا لغضبها ويرضى لرضاها‪ ،‬كما هو مروي في كتب المسلمين جميعا؟ والحظ‬
‫الفرق بين من يكون رضاها ينسجم مع رضى هللا‪ ،‬ومن يكون إرضاؤها في بعض‬
‫األمور ال ينسجم مع رضى هللا‪ ،‬بل يفضي إلى أن يحرم الرسول على نفسه شيئ�ا أحله‬
‫هللا‪ ،‬مثلما حصل مع عائشة وحفصة كما ذكر في أول السورة‪ ،‬فلماذا ال نجد الحديث‬
‫عن فاطمة الزهراء وخديجة الكبرى وعن بقية نساء النبي رضوان هللا تعالى عليهن‪.‬‬
‫‪216‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫التلميح بشكل تهديدي بأن يب�دله بنساء‪ ،‬ويذكر مواصفات لهن ومن بين‬
‫المواصفات “ثيب�ات” ألن حفصة كانت ثيب�ا “وأبكارا” ألن عائشة كانت بكرا‪.‬‬
‫وفي اآلية الخامسة التي تؤكد على جميع المؤمنين أن ال ينسوا أن يقوا أنفسهم‬
‫وأهليهم نارا وقودها الناس والحجارة؛ ألن المؤمنين قد ينشغلون بأعمال وينسون‬
‫أنفسهم وأهليهم من التذكير بتقوى هللا‪ ،‬والخوف منه فيحصل ما يحصل من أخطاء‬
‫لدى الزوجات واألبن�اء وغيرهم‪.‬‬
‫قربك من رسول‬‫وفي اآلية العاشرة؛ كيف ضرب هللا مثال يؤكد لجميع الناس أن ِ‬
‫هللا حتى لو كنت زوجته ال يغنيك من هللا شيئ�ا إذا لم يترافق معه حالة التقوى‬
‫ۡ ََ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ََ َ ُ‬ ‫َ َ َ َّ ُ َ َ ٗ ّ َّ َ َ َ ُ ْ‬
‫وطۖ‬ ‫ٖ‬
‫واإليمان‪ ،‬ولذلك قال‪﴿ :‬ضب ٱلل مثل لِلِين كفروا ٱمرأت نوح وٱمرأت ل ٖ‬
‫ۡٗ‬‫ۡ ُ َ َ َّ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ۡ َ َ ََ ُ َ ََ‬ ‫ۡ َ َ َٰ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ََ َ‬
‫ۡ َ َ‬
‫َۡ‬
‫ي فخانتاهما فلم يغنِيا عنهما مِن ٱللِ شي‍ٔا‬ ‫كنتا تت عبدي ِن مِن عِبادِنا صلِح ِ‬
‫ۡ ُ َ َّ َ َ َ َّ‬
‫ٱلدٰخل َ‬ ‫َ‬
‫ني‪[ ﴾١٠‬التحريم‪.]10 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫َوقِيل ٱدخل ٱنلار مع‬
‫ونستوحي من هذه اآلية نقاط عديدة‪:‬‬
‫أليس نوح ولوط من أنبي�اء هللا‪ ،‬ألم تصبح امرأة نوح ولوط مضرب مثل للكفار‬
‫وهن زوجات ألنبي�اء وأمهات المؤمنين؟ بل قال هللا عنهن بكل وضوح إنهن من أهل‬
‫النار‪.‬‬
‫بعد أن قال هللا إن زوجة نوح ولوط عليهما السالم من أهل النار‪ ،‬هل يصح أن‬
‫نقول إن الخطاب القرآني رافضي؟ كيف يتكلم عن أمهات المؤمنين بهذا الكالم‬
‫القاسي؟!‬
‫إن هذه اآلية فيها تنبي�ه أيضا لحفصة وعائشة ُ‬
‫مفاده‪ :‬ال تظنن أن قربكن من‬
‫ّ‬
‫يعصمكن من النار في حال وقعتن في مخالفة‬ ‫رسول هللا صلوات هللا عليه وآله قد‬
‫الرسول صلوات هللا عليه وآله؛ فها هي زوجات أنبي�اء سابقين وقعن في نفس الغلط‬
‫(مخالفة أزواجهن ومعصية ربهن)‪ ،‬فلم ينفعهن قربهن من األنبي�اء‪ ،‬وهذا يؤكد‬
‫عظمة اإلسالم الذي لم يدع مجاال لمحاباة أو مجاملة ألحد على حساب الحق‪.‬‬
‫ثم تأمل معي إلى اآلية الحادية عشرة‪ ،‬التي تؤكد على أن الرابط اإليماني ورابط‬

‫‪217‬‬
‫بداية الطريق‬

‫كنت زوجة فرعون‪:‬‬ ‫إلدخالك الجنة حتى لو ِ‬ ‫ِ‬ ‫التقوى أعظم الروابط‪ ،‬وسيكون سبب�ا‬
‫ۡٗ‬‫َ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ‬‫ۡ ََ َ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ َ َ ٗ ّ َّ َ َ ُ ْ‬
‫ِين ءَامنوا ٱمرأت ف ِرعون إِذ قالت ر ِب ٱب ِن ِل عِندك بيتا ِف‬ ‫﴿وضب ٱلل مثل لِل‬
‫َّ‬
‫ۡوم ٱلظٰلم َ‬ ‫ۡ‬
‫َ َ‬ ‫َ ّ‬‫َ‬ ‫ۡو َن َو َع َ‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ َّ َ َ ّ‬
‫ني‪[ ﴾١١‬التحريم‪.]11 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ن ِن مِن ٱلق ِ‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ۦ‬‫ه‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫م‬ ‫ع‬ ‫ِر‬ ‫ف‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ن‬‫نِ‬‫ٱلن ِة و ِ‬
‫ثم ذكر هللا في اآلية األخيرة نموذجا للمرأة القانت�ة المخلصة؛ لتكون قدوة لكل‬
‫المؤمنات في هذه األرض وهي مريم عليها السالم‪.‬‬
‫ۡ ُ َّ َ َ َ‬ ‫َ ٰ َ ٓ َ َّ َ‬
‫لكن مع التقوى‪﴿ :‬ينِساء ٱنل ّ‬ ‫هناك قيمة لك أن تكوني زوجة نبي ْ‬
‫ت كأح ٖد‬ ‫ب لس‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ۡٗ‬ ‫ۡ َ َ‬‫ََ ‪َُ ٞ‬‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡ َ َ َّ‬‫َ‬ ‫ۡ َ‬‫َۡ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ َ‬ ‫ّ َ ٓ‬ ‫ّ‬
‫م َِن ٱلنِساءِ إ ِ ِن ٱتقيت ۚ فل تضع َن بِٱلقو ِل فيطمع ٱلِي ِف قلبِ ِهۦ مرض وقلن قول‬
‫ۡ ٗ‬ ‫َّ‬
‫مع ُروفا‪[ ﴾٣٢‬األحزاب‪ ،]32 :‬ففي حالة انعدام التقوى ‪-‬كما هو حال امرأت نوح ولوط‪-‬‬
‫لك عند هللا ولو كنت زوجة رسول هللا صلى هللا عليه وآله‪.‬‬ ‫فال قيمة ِ‬
‫بج‬
‫ۡ َ َ َ ُّ َ‬
‫بجن ت‬ ‫ِك َّن َو َل َت َ َّ‬
‫ُُ ُ‬
‫ۡرن ِف بيوت‬
‫ََ َ‬
‫وعندما يقول هللا سبحانه وتعالى ﴿وق‬
‫ُۡ َ‬ ‫ۡ َ‬
‫ٱلجٰ ِهلِ َّي ِة ٱلول﴾ [األحزاب‪ ،]33 :‬فعندما يأمر هللا نساء النبي أن تستقر في بيوتهن‪،‬‬
‫ۖ‬ ‫ٰ‬
‫فتأتي إحداهن لتركب على الجمل وتقاتل اإلمام علي عليه السالم‪ ،‬وهو من قال‬
‫فيه الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم‪“ :‬من كنت مواله فهذا علي مواله اللهم وال‬
‫من وااله وعاد من عاداه” ومن قال فيه الرسول‪“ :‬ال يحبك إال مؤمن وال يبغضك‬
‫ً‬
‫إال منافق” ‪-‬كما هو مروي في كتب المسلمين جميعا‪ -‬أليس ذلك مخالفة للتوجيه‬
‫اإللهي؟ وكان من ثمرة خروج عائشة على الوصي ثالثون ألف قتي�ل من المسلمين‪،‬‬
‫مع العلم أن هذه المحاربة قد أفرزت واقعا سياسيا وثقافيا ممتدا حتى اليوم‪ ،‬غير‬
‫الواقع الذي أراده هللا ومضى عليه الرسول صلوات هللا عليه وآله واإلمام علي عليه‬
‫السالم‪.‬‬

‫ال�صحابة عند �أئمة �أهل البيت (ر�ؤية قر�آنية)‬


‫ورثة الكتاب يؤمنون بأن للصحابة األخيار ‪-‬من المهاجرين واألنصار‪ -‬منزلة‬
‫عالية عند هللا لمن أحسن اإلتب�اع لرسول هللا وتوفي على ذلك‪ ،‬وفي تقييمهم‬
‫للمجتمع المسلم الذي عاصر رسول هللا‪ ،‬ال يخرجون عن رؤية القرآن‪ ،‬وال يضعون‬

‫‪218‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫هالة من القداسة تجاه مناقشة أخطائهم وآثارها المترتب�ة على األمة حتى عصرنا‬
‫ُ‬
‫الحالي كما علمنا القرآن؛ فمن الصحابة رجال صدقوا ما عاهدوا هللا عليه وتوفوا على‬
‫ذلك‪ ،‬ومنهم من انقلب على عقبي�ه ولم تنفعهم صحبتهم لرسول هللا‪ ،‬وبشكل عام‬
‫اليتبنون أسلوب المجاملة والمداهنة مع أحد حتى لو كان صحابي�ا أو من أهل البيت أو‬
‫من نساء النبي‪ ،‬فالكل يخضع لقانون الحق‪ ،‬بل حتى النبي نفسه صلى هللا عليه وآله‬
‫ۡ َ‬ ‫ۡ ُ َّ َ َ َ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ ّٓ َ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫م‪[ ﴾١٥‬األنعام‪:‬‬‫ٖ‬ ‫ي‬‫ظ‬‫ِ‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫ٍ‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫اب‬ ‫ذ‬‫ع‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫ي‬‫ص‬ ‫ع‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫اف‬ ‫خ‬ ‫أ‬ ‫ن‬‫ِِ‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫﴿ق‬ ‫وسلم ألم يقل هللا له‪:‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫‪ ،15‬الزمر‪ ]13 :‬؟ فإذا كان هذا الخطاب ألعظم الخلق فكيف بمن هم دونه؟!‬
‫ويؤمن أهل البيت أن الصحابي بشر قد يخطئ ويصيب‪ ،‬ويخضع لمقاييس‬
‫الجرح والتعديل كغيره من البشر‪ ،‬وأن الصحابة كغيرهم ال عبرة لهم إال بالخواتيم‪.‬‬
‫شيء من أقوال أئمة أهل البيت عن الصحابة األخيار‪:‬‬

‫الإمام الهادي يحيى بن الح�سين تـ ‪ 289‬هـ‪:‬‬


‫قال اإلمام الهادي في جوابه على أهل صنعاء‪“ :‬وال أنتقص أحدا من الصحابة‬
‫الصادقين والتابعين بإحسان‪ ،‬المؤمنات منهم والمؤمنين‪ ،‬أتولى جميع من هاجر‬
‫سب مؤمنا عندي استحالال فقد كفر‪ ،‬ومن سبه استحراما فقد‬ ‫ومن آوى ونصر‪ ،‬فمن ّ‬
‫ضل عندي وفسق‪ ،‬وال أسب إال من نقض العهد والعزيمة وفي كل وقت له هزيمة‬
‫من الذين بالنفاق تفردوا‪ ،‬وعلى الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم مرة بعد مرة‬
‫تمردوا‪ ،‬وعلى أهل بيت�ه اجترؤوا وطعنوا‪ ،‬وإني أستغفر هللا ألمهات المؤمنين اللواتي‬
‫خرجن من الدني�ا وهن من الدين على يقين‪ ،‬وأجعل لعنة هللا على من تن�اولهن بما ال‬
‫يستحققن من سائر الناس أجمعين”(((‪.‬‬

‫الإمام المرت�ضى محمد بن الهادي تـ ‪ 310‬هـ‪:‬‬


‫قال اإلمام المرتضى بن الهادي‪”:‬ثم تعلمون من بعد ذلك أن أصحاب رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم الذين قاموا بالدين وكانوا في اإليمان‪ ،‬واتبعوا بالطاعة‬
‫واإلحسان‪ ،‬واجب فضلهم مشهور‪ ،‬والطاعن عليهم مأزور‪ ،‬والمتنقص لهم مذموم‬
‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام الهادي عليه السالم‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫بداية الطريق‬

‫لمدح هللا سبحانه لهم وما قال فيهم حيث‬ ‫ۡ ِ‬ ‫هالك عند هللا مثبور‪ ،‬معذب مدحور؛‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ ُ ُ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫ۡ َ َ َّ ُ َ‬ ‫َّ َ‬
‫ۡم‬‫ني إِذ ي َبايِعونك تت ٱلشج َرة ِ فعلِ َم ما ِف قلوب ِ ِه‬ ‫ض ٱلل ع ِن ٱلمؤ ِمنِ‬ ‫يقول‪۞﴿ :‬لقد ر ِ‬
‫﴿ل َقد تَّابَ‬ ‫َّ‬ ‫ٗ‬ ‫ۡ ٗ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ َ َٰ َ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ َ َ َ‬
‫كينة علي ِهم وأثبهم فتحا ق ِريبا‪[ ﴾١٨‬الفتح‪ ]18 :‬وقال عز وجل‪:‬‬ ‫فأنزل ٱلس ِ‬
‫َ‬
‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َ ۢ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬ ‫ٱت َب ُع ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫ب َوٱل ُم َهٰجر َ‬ ‫ع َّ‬ ‫َّ ُ َ َ‬
‫ِن بع ِد ما كد‬ ‫وه ِف ساع ِة ٱلعسة ِ م‬ ‫ار ٱلِين‬ ‫نص‬ ‫ٱل‬ ‫ين َ‬
‫و‬ ‫ّ‬ ‫ٱنل‬ ‫ٱلل‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫‪ٞ‬‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ‬‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُۡ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يغ قل ُ‬‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫يم‪[ ﴾١١٧‬التوبة‪ ،]117 :‬وقال‬ ‫ح ‪ٞ‬‬‫يق مِنهم ث َّم تاب علي ِهم ۚ إِنهۥ ب ِ ِهم َر ُءوف َّر ِ‬ ‫ٖ‬ ‫وب ف ِر‬ ‫ي ِز‬
‫ۡ ُ َّٗ‬ ‫َُۡ َ ُ‬ ‫ٓ‬
‫ََ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ ‪ُ َّ ٞ‬‬ ‫ُّ‬
‫ۡم ۖ ت َرىٰهم ركعا‬ ‫ار ُرحا ُء بينه‬ ‫َ َ َ ُ ٓ َّ ُ‬ ‫َّ َ‬
‫تعالى‪﴿ :‬ممد رسول ٱللِۚ وٱلِين معهۥ أ ِشداء ع ٱلكف ِ‬
‫ۡ َٗ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ ٗ ّ‬ ‫َُۡ َ َ‬ ‫ُ َّ ٗ َ‬
‫سجدا يبتغون فضل م َِن ٱللِ َو ِرضوٰناۖ﴾ [الفتح‪ ،]29 :‬وفيهم من التفضيل في كتاب هللا‬
‫وعلى لسان نبي�ه ما لو ذكرناه لطال به الشرح وكثر فيه القول‪ ،‬فحقهم واجب على‬
‫جميع المسلمين‪ ،‬وفضلهم الزم لجميع المؤمنين‪ ،‬فال يسع أحدا من الناس طعن‬
‫على أحد ممن ذكرنا‪ ،‬إال الترحم عليهم‪ ،‬واالستغفار لهم واجب‪ ،‬واالقتداء بحسن‬
‫أفعالهم الزم؛ إذ لهم السابقة القديمة‪ ،‬واألفعال المحمودة‪ ،‬والني�ة والبصيرة‪ ،‬رحمة‬
‫هللا ورضوانه عليهم أجمعين‪ ،‬إنه لذو فضل على العالمين وحسبن�ا هللا ونعم الوكيل‪،‬‬
‫فذلك الواجب لمن ثبت على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم منهم ولم‬
‫يتغير عما عاهد هللا فيه‪ ،‬حتى لقي هللا عليه”(((‪.‬‬
‫نستطيع أن نستشف من كالم اإلمام المرتضى أن الصحابة المرضيين عند‬
‫قرناء القرآن هم الذين جالسوا والزموا وأسلموا وتوفوا على اإلسالم‪ ،‬وأنت تشاهد‬
‫ٍّ‬
‫البون الشاسع بين تعريفهم الذي هو بحق تعريف قرآني‪ ،‬وتعريفات كل غالة االثني‬
‫عشرية والوهابي�ة التي نتجت عن عواطف وردود أفعال ال عالقة لها بالقرآن وبالحق‬
‫ال من قريب وال من بعيد‪ ،‬إال المعتدلين منهم وهم قلة بجانب الكثرة المتعصبة‪،‬‬
‫والحق أن هذه المسألة قد أرقتني وأقلقت تفكيري ِلما كان لها من نت�ائج سيئ�ة على‬
‫واقع الصراع السني والشيعي‪ ،‬الذي بلغ حد التكفير والتراشق الكالمي‪ ،‬ولألسف‬
‫كنا نقعد مناقشين ومناظرين أحيانا مع الوهابي�ة في هذه المسألة‪ ،‬ومع علمهم‬
‫تقاوم في مقابل هشاشة حجتهم‪ ،‬سرعان‬ ‫بعجزهم أمام حجة قرناء القرآن‪ ،‬التي ال َ‬
‫ما يضعونن�ا تحت مظلة غالة اإلثني عشرية‪ ،‬ويب�دؤون بسبن�ا وشتمنا ادعاء منهم‬

‫((( مجموع كتب اإلمام المرتضى‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫أنن�ا اثن�ا عشرية‪ ،‬وما ذلك إال لعلمهم بعجزهم أمام حجتن�ا فيلقون علين�ا واقع االثني‬
‫عشرية؛ حتى يقنعوا أنفسهم على مضض ويقنعوا العوام بسالمة وقوة معتقدهم‬
‫ولو بطرق ملتوية‪.‬‬
‫***‬

‫‪221‬‬
‫بداية الطريق‬

‫العمل عن الإيمان (الإرجاء)‬


‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ف�صل‬
‫قيل إن أحد النصارى األمريكيين دخل في اإلسالم وهو في بالده‪ ،‬وعندما جاء‬
‫لزيارة بالد المسلمين قال كلمته المشهورة‪ :‬الحمد هلل أنني عرفت اإلسالم قبل أن‬
‫أعرف المسلمين‪.‬‬
‫ً‬
‫حقا إنها كلمة مثيرة للحزن من رجل عرف حقيقة اإلسالم‪ ،‬وعندما جاء إلى بالد‬
‫ً‬
‫المسلمين لم يجد لإلسالم وجودا في حياة وسلوك الناس‪ ،‬ولم يجد اإلسالم إال‬
‫شعارات تلوكها األلسن أو كما يعرف في بلدانن�ا بـ (مسلم بالبطاقة)‪.‬‬
‫كلنا يسمع عن العلماني�ة والتي تعني عند كثير من المفكرين (فصل الدين عن‬
‫الدولة)‪ ،‬فالدين ‪-‬عند العلمانيين‪ -‬محله المساجد‪ ،‬وهو عالقة فردية بين العبد‬
‫وربه‪ ،‬وال شأن له بالسياسة وشؤون الدولة ال من قريب وال من بعيد!!! وهو كما ترى‬
‫تعريف خبيث‪ ،‬الغرض منه إقصاء الدين عن الحياة السياسية‪ ،‬وتحكيم الطاغوت‬
‫بكل ما يمثله من نظريات بشرية‪ ،‬وإخضاع للمجتمعات البشرية لتجارب قاسية‬
‫ومريرة كنتيجة أكيدة لمن استغنى عن هللا بالعقليات البشرية المحدودة والقاصرة‪،‬‬
‫ً‬
‫لقد اجتهد كثير من علماء اإلسالم في الرد على العلماني�ة‪ ،‬ولكنهم غفلوا كثيرا عن‬
‫مفهوم آخر من المفاهيم المغلوطة التي غزت حياة المسلمين أال وهو (اإلرجاء) أو‬
‫(فصل العمل عن اإليمان)‪.‬‬
‫“وفي ظل هذا الفصل والفهم المعوج ترى المسلم واليهودي والمسيحي‬
‫يتعاشرون سنين عديدة‪ ،‬فال تستطيع أن تميز أحدهم عن اآلخر في شيء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكل ال يدخل مسجدا‪ ،‬وال ُيقيم فريضة‪ ،‬وال يحترم هلل شعيرة‪.‬‬
‫والكل يشرب الخمر‪ ،‬ويأكل الربا‪ ،‬ويفجر باألعراض ويظلم العباد والبالد‪.‬‬
‫وغاية ما بينهم من فوارق أن اليهودي يقدس يوم السبت‪ ،‬وقد يذهب المسيحي‬
‫إلى كنيسته خلسة‪ ،‬أما ذلك المسلم المزعوم فليس يربطه باإلسالم إال اسم ُس ِّجل‬
‫في شهادة الميالد فحسب”(((‪.‬‬

‫((( مقدمة مجموع االمام القاسم عليه السالم ‪.116 /1‬‬

‫‪222‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫لالسف الشديد طفحت كتب أهل السنة وكتب االثني عشرية بتلك الروايات‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫التي تصور للمسلم أنه يكفيك أن تقر بالشهادتين‪ ،‬ولتفعل بعدها ما شئت؛ فان‬
‫مصيرك إلى الجنة‪.‬‬
‫ْ‬
‫إن هذا الكالم يشبه إلى حد كبير صكوك الغفران عند النصارى وإن تغيرت‬
‫الوسيلة‪ ،‬مع فارق الفكرة‪ ،‬فيكفيك أن تعلن الوالء للكنيسة‪ ،‬ويكفيك أن تؤمن‬
‫بالمسيح المصلوب ‪-‬ابن هللا تعالى هللا عن ذلك‪ -‬حتى تخلع عن عنقك كل‬
‫مسؤولية‪ ،‬وتضمن الجنة بغير حساب!!‬

‫�أمثلة لروايات الإرجاء عند�أهل ال�سنة واالثني ع�شرية‬


‫عن أبي ذر عن النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم قال‪ ..“ :‬أما أخي جبريل‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫فبشرني أنه من مات من أمتك ال يشرك باهلل تعالى شيئ�ا دخل الجنة”‪ ،‬قلت‪ :‬وإن‬
‫زنى وإن سرق؟ قال‪“ :‬وإن زنى وإن سرق”‪ ،‬قلت‪ :‬وإن زنى وإن سرق؟‪ ،‬قال‪“ :‬وإن زنى‬
‫وإن سرق”‪ ،‬ثم قال في الرابعة‪« :‬على رغم أنف أبي ذر”(((‪.‬‬
‫القمي في األمالي ص ‪ 156‬عن النبي صلى هللا عليه وآله وسلم‬ ‫روى ابن بابويه ّ‬
‫في فضل علي عليه السالم‪“ :‬يا علي‪ ...‬يا علي إن شيعتك مغفور لهم على ما كان‬
‫منهم من ذنوب وعيوب”‪.‬‬
‫عن أبي موسى عن رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم قال‪“ :‬أمتي هذه أمة‬
‫مرحومة‪ ،‬ليس عليها عذاب في اآلخرة‪ُ ،‬‬
‫عذابها في الدني�ا الزالزل والفتن والقتل”(((‪.‬‬
‫وروى الطوسي في األمالي ص ‪ 302‬عن الصادق عليه السالم أنه قال عن‬
‫الشيعة االثني عشرية‪ :‬وهللا ال يدخل النار منكم رجل واحد‪.‬‬
‫عن جابر قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪“ :‬ال تمس النار‬
‫مسلما رآني أو رآى من رآني”(((‪.‬‬

‫((( البخاري‪ 2192-/5‬رقم ‪ 5489‬ورقم ‪ 1180‬ومسلم رقم الحديث ‪ 94‬عن ابي ذر‪.‬‬
‫((( ابو داود ‪ 468/4‬برقم ‪.4278‬‬
‫((( الترمذي ‪ 651/5‬برقم ‪.3853‬‬

‫‪223‬‬
‫بداية الطريق‬

‫وروى المفيد في األمالي ص ‪ 169‬عن أبي ذر رأيت رسول هللا وقد ضرب على‬
‫كتف علي؛ «‪ ..‬وأن المالئكة يهدمون سيئ�ات شيعتن�ا كما يهدم القوم البني�ان”‪.‬‬
‫عن عبد هللا بن عمرو أن النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم قال‪“ :‬إن هللا‬
‫ً‬
‫تعالى سيخلص رجل من أمتي على رؤوس الخالئق يوم القيامة‪ ،‬فينشر له تسعة‬
‫ُْ‬ ‫ً‬
‫وتسعون سجال‪ ،‬كل سجل مثل مد البصر‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أتن ِكر من هذا شيئ�ا؟ أظلمك‬
‫كتبتي الحافظون؟ فيقول‪ :‬ال يا رب‪ ،‬فيقول تعالى‪ :‬بلى إن لك عندنا حسنة‪ ،‬فإنه ال‬
‫ً‬
‫ظلم عليك اليوم‪ ،‬فيخرج بطاقة فيها‪ :‬أشهد أن ال إله إال هللا وأشهد أن محمدا عبده‬
‫ُ‬
‫ورسوله‪ ،‬فيقول‪ :‬يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجالت‪ ،‬فقال‪ :‬فإنك ال تظلم‪،‬‬
‫فتوضع السجالت في كفة والبطاقة في كفة‪ ،‬فطاشت السجالت وثقلت البطاقة‬
‫وال يثقل مع اسم هللا شيء”(((‪.‬‬
‫وروى في بحار األنوار للمجلسي ‪ 248- 247/5‬أن في القيامة؛ حسنات السنة‬
‫تعطى للشيعة‪ ،‬وسيئ�ات الشيعة توضع على أهل السنة ثم يلقون في النار‪.‬‬
‫(هذه األحاديث مثيرة الداللة‪ ،‬و تضع عن الناس شتى التكاليف اإللهية‪ ،‬وتبطل‬
‫ََ‬ ‫ۡ َّ َ َ‬ ‫ۡف ِس ِد َ‬
‫ين‪َ ٨١‬و ُيح ُّق َّ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ َ َ‬ ‫َّ َّ َ َ ُ‬
‫ۡو‬
‫ٱلل ٱلَق بِكلِمٰتِ ِهۦ ول‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل ل يصلِح ع َمل ٱل ُم‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬إِن‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ك ِرهَ ٱل ُمج ِرمون‪[ ﴾٨٢‬يونس‪.]82-81 :‬‬
‫هدم للدين كله‪ ،‬وهو األساس‬ ‫إن إطالق هذه األحاديث وأشباهها بين العوام ٌ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لتكوين طوائف من المتدينين تدين�ا شكليا يحط من قدر اإليمان وأثره‪ ،‬وإن أعداء‬
‫اإلسالم وقد عجزوا عن هزيمته في ساحات القتال لم تعيهم الحيل لسحقه في عقر‬
‫داره‪ ،‬فدسوا على المسلمين من يصور لهم أن اإلسالم مجرد كلمة ال تكاليف لها‪،‬‬
‫وأماني ال عمل معها‪.‬‬
‫وهذا ما كان عليه بعض أتب�اع الملل األخرى‪ ،‬حين ظنوا بأن التمسك بأصل‬
‫ۡ‬‫ۡ َّ َ َّ َ َ َ ُ ً َ‬ ‫ََ ُ ْ َ َ‬
‫ۡ ُ َ‬
‫﴿وقالوا لن يدخل ٱلَنة إِل من كن هودا أو‬ ‫كاف في النجاة مهما صنعوا‪،‬‬ ‫الدين ٍ‬
‫ۡ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫نَ َصٰ َر ٰ‬
‫ىۗ ت ِلك أمان ُِّيه‬
‫ۡم ۗ﴾ [البقرة‪ ،]111 :‬وقد فند القرآن الكريم هذه المزاعم‪ ،‬ورسم طريق‬

‫((( الترمذي ‪ 24/5‬برقم ‪ 2639‬ابن ماجة ‪ 1437/2‬برقم ‪ 4300‬واحمد ‪ 213/2‬برقم ‪ 6994‬وغيرهم‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫النجاة الحقيقي‪ ،‬وهو مزيج من اإليمان الحي‪ ،‬واإلحسان في العمل‪ ،‬واإلخالص هلل‬
‫ۡ‬ ‫ۡ َ ُ َّ َ ُ َ ُ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ َٰ َ‬ ‫ۡم َصٰدق َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ۡ َ ُ ْ ُ َ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫مسن‪ٞ‬‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل ۚ من أسلم وجههۥ ِلِ وهو‬ ‫ِني‪ ١١١‬ب‬ ‫ِ‬ ‫ۡم إِن كنت‬ ‫ۡرهٰنك‬ ‫﴿قل هاتوا ب‬
‫َُۡ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ ََ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ٌۡ َ َ‬ ‫َ َّ ََ َ‬ ‫ُ‬ ‫ََُ َ‬
‫ۡ‬
‫فلهۥٓ أجرهۥ عِند رب ِ ِهۦ ول خوف علي ِهم ول هم يزنون‪[ ﴾١١٢‬البقرة‪ ،]112-111 :‬ويقول‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫سبحانه وتعالى محذرا أمة محمد من أن يقعوا في نفس ما وقع به اليهود والنصارى‪:‬‬
‫ۡ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ۡ‬
‫يَ‬ ‫ۡ ُ ٓٗ ُ‬ ‫ۡ َٰ َ َ‬
‫ۡع َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َٓ ََ َ‬ ‫ۡ َ ََ ّ ُ‬ ‫َّ‬
‫يد ُلۥ مِن‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ۦ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ز‬ ‫ا‬‫ء‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ب‬
‫ۗ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ل‬‫ه‬
‫ِِ ِ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫ان‬‫م‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫كم َ‬
‫و‬ ‫ِي‬
‫ِ ِ‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫﴿ل‬
‫ٗ‬ ‫َّ َ ّٗ َ َ َ‬ ‫ُ‬
‫صريا‪[ ﴾١٢٣‬النساء‪.]123 :‬‬ ‫ون ٱللِ و ِلا ول ن ِ‬ ‫د ِ‬
‫ً‬
‫والمؤسف أن أقواما من أهل العلم الديني ال يكترثون بذلك‪ ،‬فالمرء إذا غمغم بين‬
‫ً‬
‫شفتي�ه بكلمة التوحيد تحصن وراءها فأصبح يسيرا عليه أن ال يقوم إلى واجب وأن‬
‫ال ينتهي عن محرم‪ .‬حتى أصبحنا أمة تعتبر العمل من الكماليات الخفيفة‪ ،‬فكيف‬
‫يقوم لها دين؟ أو تقوم بها دني�ا؟‬
‫إن هللا عز وجل جعل العمل رسالة الوجود ووظيفة األحياء‪ ،‬وجعل السباق في‬
‫ۡ ُ َ ُ َ ُّ ُ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َّ‬
‫ۡم‬ ‫ۡم أيك‬ ‫ٱل َي ٰوة ِلَبلوك‬ ‫ۡوت َو‬ ‫إحسانه سر الخليقة ودعامة الحساب‪﴿ :‬ٱلِي خلق ٱلم‬
‫َ‬
‫ور‪[ ﴾٢‬الملك‪.]2 :‬‬ ‫ۡٱل َغ ُف ُ‬‫ۡٱل َعز ُ‬
‫يز‬ ‫ۡح َس ُن َع َم ٗل ۚ َو ُه َ‬
‫و‬ ‫أ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫وما من آية في كتاب هللا ذكرت اإليمان مجردا‪ ،‬بل عطفت عليه عمل الصالحات‬
‫أو تقوى هللا أو اإلسالم له‪ ،‬بحيث أصبحت صلة العمل باإليمان آصرة ال يعلوها‬
‫وهن‪ ،‬يقول اإلمام زيد بن علي عليه السالم‪ :‬واإليمان والعمل الصالح كالروح في‬
‫ُ‬
‫الجسد؛ إذا ف ِّرق بينهما هلكا‪ ،‬وإذا اجتمعا عاشا‪( .‬مجموع االمام زيد العقائدي‬
‫ً‬
‫ص‪ ،)143‬فإذا ُع ِقدت مقارنة بين الهدى والضالل‪ ،‬جعل اإليمان والعمل جميعا في‬
‫ۡ َ ُ َ َّ َ َ َ ُ ْ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ََ َ‬
‫صري وٱلِين ءامنوا‬ ‫َ‬
‫م وٱل ِ‬ ‫ۡس َت ِوي ٱلع ٰ‬
‫َ‬ ‫كفة‪ ،‬وجعل الكفر في الكفة األخرى‪﴿ :‬وما ي‬
‫ً‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ َّ َ‬
‫س ُء ۚ﴾ [غافر‪ ،]58 :‬وكثيرا ما يشار إلى اإلسالم وحقيقته‬ ‫ت َول ٱل ُم ِ ٓ‬ ‫َوع ِملوا ٱلصٰلِحٰ ِ‬
‫ۡ َٰ َ َ‬ ‫َٓ َ‬ ‫ََۡ َ‬ ‫َۡ َ‬ ‫ََ‬
‫الشاملة بمظاهر عملية واضحة محدودة‪﴿ :‬فل ٱقتح َم ٱلعق َبة‪َ ١١‬وما أدرىك ما‬
‫ۡ ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫َ ٗ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َٰ ‪َ ٞ‬‬ ‫ۡ‬‫َ‬ ‫ۡ َ َ َ ُ َ ُّ َ َ‬
‫كينا‬ ‫ٱلعقبة‪ ١٢‬فك َرقب ٍة‪ ١٣‬أو إِطعم ِف يو ٖم ذِي مسغب ٖة‪ ١٤‬يتِيما ذا مقرب ٍة‪ ١٥‬أو مِس ِ‬
‫ََۡ‬ ‫َ َ‬
‫تب ٖة‪[ ﴾١٦‬البلد‪.]16-11 :‬‬ ‫ذا م‬
‫ً‬
‫وخراب‬
‫ِ‬ ‫فراغ النفس من العقيدة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫على‬ ‫دليال‬ ‫بل إن العالمة التي ينصبها القرآن‬

‫‪225‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫القلب من االيمان‪ ،‬هي في النكوص عن القيام ببعض األعمال الصالحة‪﴿ :‬أرءيت‬
‫ََ َ‬ ‫ك ّذ ُب ب ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬
‫ِين‪[ ﴾١‬الماعون‪ ،]1 :‬من هو يا ترى هذا المكذب بالدين؟ ﴿فذٰل ِك‬ ‫ِ‬ ‫ٱدل‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ِي‬
‫ٱل‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ َ ٰ َ َ‬ ‫َّ َ ُ ُّ‬
‫ني‪[ ﴾٣‬الماعون‪.]3-2 :‬‬
‫ِ‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫س‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫ط‬ ‫ع‬ ‫ض‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫‪٢‬‬ ‫يم‬ ‫ِ‬ ‫ت‬‫ٱل‬ ‫ع‬ ‫ٱلِي يد‬
‫ثم ما الذي يوزن في الدار اآلخرة؟ أليست األعمال التي تميل باإلنسان إلى‬
‫ۡ ََ ُ‬ ‫ۡ َ ُّ َ َ ُ َ‬ ‫ۡ ُ َ َ‬ ‫ۡ‬
‫ٱلق ۚف َمن ثقلت مو ٰ ِزين ُهۥ‬ ‫ۡومئِ ٍذ‬ ‫﴿وٱل َوزن ي‬
‫النعيم أو الجحيم؟ أم الدعاوى والمزاعم؟ َ‬
‫ۡ َ َ ٰ ُ ُ َ ُ ْ َ ٰٓ َ َّ َ َ ُ ْ َ ُ َ ُ‬ ‫ۡ َ َّ‬ ‫ۡ ُ َ ََ‬ ‫ُۡ‬ ‫َ ُ ْ َ ٰٓ َ ُ‬
‫س ٓوا أنفسهم ب ِ َما‬ ‫ِ‬ ‫خ‬ ‫ِين‬‫ٱل‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ۥ‬‫ه‬ ‫ين‬ ‫ز‬
‫ِ‬ ‫و‬‫م‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫خ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫‪٨‬‬ ‫ون‬ ‫ح‬‫ِ‬ ‫ل‬‫ف‬ ‫م‬‫ٱل‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫فأولئِك‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ُ ْ َ َ َ َ‬
‫بايٰتِنا يظلِ ُمون‪[ ﴾٩‬األعراف‪.]9-8 :‬‬‫كنوا ِ ‍ٔ‬
‫إنن�ا نعرف تاريخ أمم هلكت بسوء عملها‪ ،‬ونعرف أن هللا نقم على قوم لوط‬
‫بخسهم المكيال والميزان‪ ،‬وقد عرفنا مصائر‬ ‫ارتكابهم الفاحشة‪ ،‬وعلى قوم شعيب َ‬ ‫َ‬
‫أولئك الفاسقين‪ ،‬فهل أمتن�ا وحدها هي التي تريد أن ترتكب السيئ�ات دون حذر‬
‫ً‬ ‫أو َ‬
‫وجل؟ ليس اإلسالم بدعا من الشرائع السابقة فيوجب اإليمان دون العمل‪ ،‬بل‬
‫إن القرآن الكريم يقص علين�ا عبر السابقين لنتعظ منها‪ ،‬ثم لنسمع قول هللا بعد‬
‫َ‬ ‫ََّۡ‬ ‫ُۡ ُ ُُ‬ ‫ۡ ُ َ َ َ ْ َ ٓ‬ ‫َ‬ ‫ُۡ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ َ‬‫ۡ َ‬ ‫َََ‬
‫ت َوما‬
‫ٱليِنٰ ِ‬‫ۡم ُرسلهم ِب‬ ‫ۡم ل َّما ظل ُموا َوجاءَته‬
‫ذلك‪﴿:‬ولقد أهلكنا ٱلق ُرون مِن قبلِك‬
‫َۡ‬ ‫ۡ َ َ ٰٓ َ‬‫َۡ ُ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ ُ ْ َ َ َ َ‬
‫ۡرض م ۢ‬
‫ِن‬ ‫لئِف ِف ٱل ِ‬ ‫ِني‪ ١٣‬ث َّم جعلنٰكم خ‬
‫ۡ‬
‫ۡو َم ٱل ُمج ِرم‬
‫ۡ‬ ‫َكنُوا ْ ِ ُ‬
‫لؤمِن ۚوا كذٰل ِك ن ِزي ٱلق‬
‫ۡ ُ َ‬‫َۡ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫ِۡم ِلَنظ َر كيف تع َملون‪[ ﴾١٤‬يونس‪ ،]14-13 :‬ثم ألم يكن إبليس يعلم بأن هللا واحد‬ ‫بع ِده‬
‫ً‬
‫وأن محمدا رسول هللا؟ ولكنه مع ذلك لزمه الكبر فكان من الضالين((( ‪.‬‬
‫ـ وقد استدل علماء بعض أهل السنة والجماعة االثني عشرية بقوله تعالى‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ۡ ُ َ ُ َ َٰ َ َ َ َ ٓ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ ُ َ ُ‬
‫ۡ َ َ‬ ‫َّ َّ َ َ َ‬
‫ٱلل ل يغ ِفر أن يشك ب ِ ِهۦ ويغ ِفر ما دون ذل ِك ل ِمن يشاء ۚ﴾ [النساء‪ ،]48 :‬فكل‬ ‫﴿إِن‬
‫ما دون الشرك من كبائر وصغائر سيغفرها هللا سبحانه وتعالى بدون توبة بدليل‬
‫هذه اآلية!!!‪ ،‬وال يحتاج الجواب عليهم إلى كثير عناء‪ ،‬إن المتأمل لآلية يجد أن هللا‬
‫ََ ٓ‬
‫سبحانه وتعالى قال فيها ﴿ل َِمن يشا ُء ۚ﴾ ولم يقل (إن شاء) والفرق واضح؛ فهذه اآلية‬
‫مجملة تحتاج إلى تبيين‪ ،‬فمن هؤالء الذين شاء هللا أن يغفر لهم من غير توبة؟‬

‫((( مقدمة مجموع االمام القاسم الرسي بتصرف ص ‪.119-114‬‬

‫‪226‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ً‬
‫هل سيغفر ألهل الصغائر تفضال من غير توبة من دون أهل الكبائر كما هو‬
‫ۡ َ َّ ُ‬ ‫ُۡ ُ َّ َ ُ‬ ‫َۡ َ َ‬ ‫َۡ ْ َ ٓ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ۡم﴾‬ ‫ۡون عنه نك ِف‬
‫ۡر عنكم س ِ ‍ٔ‬
‫يات ِك‬ ‫صريح قوله تعالى ﴿إِن تتنِ ُبوا ك َبائ ِ َر ما تنه‬
‫[النساء‪]31 :‬؟ مع العلم أن هذه اآلية في نفس السورة‪.‬‬
‫هل سيغفر هللا سبحانه وتعالى ألهل الكبائر من غير توبة دون أهل الصغائر وهذا‬
‫القول الذي ال تتقبله قلوب المؤمنين مناف آليات كثيرة في كتاب هللا المتوعدة‬
‫ب َّ ُ‬
‫ٱلل‬ ‫ِيها َو َغض َ‬ ‫َ‬ ‫ۡؤم ِٗنا ُّم َت َع ّم ٗدا َف َج َزا ٓ ُؤ ُهۥ َج َه َّن ُم َخٰ ِ ٗ‬
‫لا ف‬
‫ۡ ُ‬ ‫ُۡ‬ ‫ََ َ‬
‫﴿ومن يقتل م‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ألهل الكبائر‬
‫ۡ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ۡيه َولَ َع َن ُهۥ َوأ َع َّد ُلۥ َع َذابًا َعظ ٗ‬ ‫َ َ‬
‫ِين ل يدعون‬ ‫﴿وٱل‬ ‫يما‪[ ﴾٩٣‬النساء‪ ]93 :‬وقال تعالى َ‬ ‫ِ‬ ‫عل ِ‬
‫َۡ ّ َ َ َ ُ َ َ‬ ‫ۡ َ َّ َ َّ َ َّ ُ َّ‬ ‫ُُۡ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ َّ َ ً‬
‫ۡزنونۚ َومن‬ ‫ٱلل إِل بِٱل ِق ول ي‬ ‫ٱنلفس ٱل ِت حرم‬ ‫ون َّ‬ ‫مع ٱللِ إِلٰها ءَاخ َر َول يقتل‬
‫ُ َ ً‬ ‫ۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َۡ َ ُ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َۡ ََ ٗ‬ ‫ۡ َ َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬
‫ل فِي ِهۦ مهانا‪﴾٦٩‬‬ ‫ۡ‬ ‫ۡو َم ٱل ِقيٰ َم ِة َويخ‬ ‫يفعل ذٰل ِك يلق أثاما‪ ٦٨‬يضٰعف ُل ٱلعذاب ي‬
‫[الفرقان‪ ]69-68 :‬فلو أن هللا سيغفر لهم من غير توبة فما فائدة قوله سبحانه وتعالى بعد‬
‫َ َ َ‬ ‫َّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ٗ َ ٰ ٗ َ ُ ْ َ ٰٓ َ ُ َ ّ ُ َّ ُ َ ّ‬
‫ۡم حسنٰ ٖ ۗ‬
‫ت‬ ‫ٱلل س ِ َ‍ٔ‬
‫يات ِِه‬ ‫ذلك ﴿إِل من تاب وءامن وع ِمل عمل صلِحا فأولئِك يب ِدل‬
‫ورا َّرح ٗ‬ ‫َ َ َّ ُ َ ُ‬
‫يما‪[ ﴾٧٠‬الفرقان‪.]70 :‬‬ ‫َوكن ٱلل غف ٗ ِ‬
‫ۡل ُه نَ ً‬ ‫َّ َ َ َ ُ َ ُ َ َ َ َّ ُ ُ َ ُ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ََ َ‬
‫ارا‬ ‫ولۥ َويتعد حدود ُهۥ يد ِ‬
‫خ‬ ‫﴿ومن يع ِص ٱلل ورس‬ ‫ويقول سبحانه وتعالى‬
‫اب ُّمه ‪ٞ‬‬ ‫ِيها َو َ ُلۥ َع َذ ‪ٞ‬‬ ‫َ‬ ‫َخٰ ِ ٗ‬
‫ني‪[ ﴾١٤‬النساء‪ ]14 :‬وهذه اآلية نزلت تهديدا للمسلمين‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ل‬
‫الذين يريدون أن يتعدوا حدود هللا في المواريث ولم تنزل في المشركين‪ ،‬وغيرها‬
‫من اآليات الكثيرة التي تبين حال أهل الكبائر‪ ،‬فكيف يستساغ بعد ذلك أن نقول‬
‫إن هللا سبحانه وتعالى سيغفر لهم من غير توبة ما داموا أقروا بالشهادتين؟ وأين‬
‫َۡ‬‫ۡ ُ َ َ َّ َ َ ٓ َ َ ۠ َ َّ ٰ ّ‬ ‫َۡ‬ ‫َ ُ َّ ُ‬
‫نذهب بقوله تعالى‪﴿ :‬ما ي َبدل ٱلقول لي وما أنا بِظل ٖم لِلعبِي ِد‪[ ﴾٢٩‬ق‪ ،]29 :‬وقال‬
‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫َّ َّ َ َ ُ‬
‫ٱلل ل يلِف ٱل ِميعاد‪[ ﴾٩‬آل عمران‪.]9 :‬‬ ‫تعالى ﴿إِن‬
‫هل سيغفر هللا لبعض أهل الكبائر دون بعض؟ هذه محاباة‪ ،‬وهللا ال يحابي‪،‬‬
‫ولكنه يجازي كل إنسان بما يستحقه‪.‬‬
‫ال شك أن النقطة األولى هي السليمة والموافقة لكتاب هللا سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫وقد تكلم اإلمام زيد بن علي في هذا الموضوع كالما وافيا شافيا في كتابه (اإليمان)‬
‫ننصح بمطالعته لمزيد من المعرفة‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ۡ‬ ‫َّ َ ُ‬ ‫َ َ َّ َّ َ َ ُ ْ َ‬
‫ار لهم‬ ‫ٱلِين شقوا ف ِف ٱنل ِ‬ ‫وقد يستدل بعض المضلين بقوله تعالى ‪﴿ :‬فأما‬
‫ُّ َ َّ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ َ َ ُ‬ ‫َٰ َ َ َ َ َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫َ َ‬
‫ت ٱلسمٰوٰت َوٱلۡرض إِل ما شاءَ َربكۚ إِن‬ ‫ِين فِيها ما دام ِ‬ ‫فِيها زفِري ‪َ ٞ‬وش ِهيق‪ ١٠٦‬خ ِل‬
‫َّ َ َ َّ ‪ُ ُ ّ ٞ‬‬
‫َربك فعال ل َِما ي ِريد‪[ ﴾١٠٧‬هود‪ ]107-106 :‬على أن االستثن�اء دليل على أن هناك خروج‬
‫﴿۞وأَ َّما َّٱلِينَ‬
‫َ‬ ‫ألهل الكبائر من النار‪ ،‬ولكنهم يتجاهلون اآلية التي بعدها والتي تقول‬
‫ۡ َ ُ َّ َ َ ٓ َ َ ُّ َ َ َ ًٓ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ٰ َ ٰ ُ‬ ‫ۡ َ َّ َ ٰ َ َ َ َ َ‬ ‫ُ ُ ْ َ‬
‫ت ٱلسموت وٱلۡرض إِل ما شاء ربكۖ عطاء‬ ‫س ِعدوا ف ِف ٱلن ِة خ ِلِين فِيها ما دام ِ‬
‫ۡ ُ‬‫َۡ َ‬‫َ‬
‫ي مذوذٖ‪[ ﴾١٠٨‬هود‪ ،]108 :‬فما دام االستثن�اء هناك يعني الخروج من النار فاالستثن�اء‬ ‫غ‬
‫هنا يعني الخروج من الجنة!!‪ ،‬وهذا ماال يقول به مسلم‪ ،‬وهذه اآليات ليست دليال‬
‫على الخروج من النار ومن يريد االستزادة فعليه مراجعة تفسيرها من كتاب التيسير‬
‫في التفسير للمولى السيد المجاهد بدر الدين الحوثي رضوان هللا عليه‪.‬‬
‫وحول هذا الموضوع أيضا يقول الشهيد القائد‪:‬‬
‫َ َّ َ َ َ ْ‬
‫ِين كف ُروا﴾ [فاطر‪ ]36 :‬وكأنه فقط أولئك‬ ‫«نحن هنا نسمع في هـذه اآليات ﴿وٱل‬
‫الكافرون أما نحن من قد أسلمنا ‪-‬ولو انطلقنا في أعمال كأعمال الكافرين‪ -‬فإنن�ا‬
‫بعيدون عن هذا التهديد وعن هذا الوعيد‪ .‬هل هذا صحيح أم ال؟ ليس صحيحا أنه‬
‫فقط من يحملون اسم كافر هم وحدهم من سيعذبون؛ ألن الكافر ال يعذب على‬
‫اسمه‪ ،‬ألن اسمه كافر! يعذب على أعماله أعمال يعملها‪ :‬إعراض عن دين هللا‪ ،‬صد‬
‫عن سبي�ل هللا‪ ،‬عمل في سبي�ل الطاغوت‪.‬‬
‫أو لم يكن في المسلمين من كانت أعمالهم أسوأ من أعمال أولئك الكافرين؟‬
‫بلى هناك في المسلمين من يظلم‪ ،‬في المسلمين من يصد عن سبي�ل هللا‪ ،‬في‬
‫المسلمين من يقتل القائمين بالقسط من عباد هللا‪ .‬فهل أن هللا سبحانه وتعالى‬
‫إنما يعذب أولئك على أعمالهم ألن اسمهم كافرين؟!‪.‬‬
‫أما أنت متى حملت اسم إسالم فلن تعذب؟ سيصبح الحال حينئ�ذ يصبح‬
‫اإلسالم عبارة عن رخصة للمجرمين‪ ،‬أنت تريد أن تحصل على ترخيص لترتكب كل‬
‫ً‬
‫الجرائم ثم ال تعذب؟ إذا قل‪[ :‬ال إله إال هللا محمد رسول هللا]‪ .‬يصبح اإلسالم هكذا‪،‬‬
‫ويصبح الكافرون كل واحد منهم أحمق‪ .‬أنت لم تسلم ألنك ال تريد أن تبتعد عن هذه‬

‫‪228‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫ً‬
‫األعمال التي أنت عليها‪ .‬أسلم إذا وبإمكانك أن تستمر عليها‪ ،‬ثم عندما تقدم في‬
‫يوم القيامة سيشفع لك محمد‪ ،‬وتدخل الجنة!‪ .‬يصبح اإلسالم حينئ�ذ وسيلة أمن‬
‫للمجرمين‪ ،‬وبطاقة ترخيص للمجرمين‪.‬‬
‫فبدال من أن تكون مجرما‪ ،‬تتهدد بهذا التهديد الشديد‪ ،‬ويواجهك المسلمون‬
‫باالحتقار‪ ،‬ويواجهونك بسيوفهم في الدني�ا‪ ،‬كن مجرما محترما‪ ،‬اسلم لتكن مجرما‬
‫محترما‪.‬‬
‫أليس هذا هو إسالم من يقولون بأن الشفاعة ألهل الكبائر؟! اإلنسان هو‬
‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اإلنسان‪ ،‬رغباته‪ ،‬شهواته‪ ،‬مطامعه‪ ،‬هو هو‪ ،‬سواء كان يهوديا‪ ،‬أو نصراني�ا‪ ،‬أو وثني�ا كافرا‪،‬‬
‫ً‬
‫أو مسلما‪.‬‬
‫انظر إلى واقع الناس في هذه الدني�ا اآلن‪ ،‬في هذا الزمان‪ ،‬أليس البشر فيها‬
‫من طوائف كثيرة؟ اليهودي والنصراني‪ ،‬والوثني‪ ،‬والمسلم‪ ،‬والمسلمون باختالف‬
‫طوائفهم؟ انظر إلى واقعهم كناس رغباتهم واحدة‪ ،‬شهواتهم واحدة‪ ،‬مطامعهم‬
‫واحدة‪ ،‬اإلنسان هو اإلنسان‪ ،‬الجرائم التي تنطلق منك وأنت كافر هي نفسها إذا ما‬
‫سرت وراء شهواتك هي نفسها التي ستنطلق منك وأنت مسلم‪ ،‬تنطلق من اليهودي‪،‬‬
‫والنصراني بشكل واحد سواء‪.‬‬
‫ً‬
‫إذا فلماذا مجرمون يعذبون‪ ،‬ومجرمون ال يعذبون؛ ألنهم يحملون أسماء مختلفة!‬
‫هل هناك بين هللا وبين أحد قرابة؟ أو هللا سبحانه وتعالى يداهن أحدا‪ ،‬أو يكيل‬
‫بمكيالين‪ ،‬كما نقول عن أمريكا؟ الناس هنا يقولون عن أمريكا‪ :‬أنها تكيل بمكيالين‪.‬‬
‫إذا ما انطلق اإلسرائيلي ليقتل الفلسطيني ال تلتفت إليه‪ ،‬وال تدين�ه‪ ،‬وإذا ما‬
‫اتجه الفلسطيني ليقاوم ويدافع عن نفسه المحتل ألرضه قالوا‪ :‬إرهابي‪ .‬قالوا‪ :‬هذا‬
‫كيل بمكيالين‪ .‬لماذا ال تعاملهم سواء على األقل؟ فتقول‪ :‬هذا عنف‪ ،‬وهذا عنف‪،‬‬
‫وهذا إرهاب‪ ،‬وهذا إرهاب‪.‬‬
‫حينئ�ذ ستصبح القضية هكذا‪ :‬أن هللا سيكيل مع الناس بمكيالين‪ ،‬فمجرمون‬
‫ينطلقون في شتى الجرائم‪ ،‬وكبارها‪ ،‬يظلمون عباد هللا‪ ،‬ويصدون عن سبي�ل هللا‪ ،‬ويحرفون‬
‫دين�ه‪ ،‬وينشرون الفساد في أرضه‪ ،‬ويهتكون أعراض عباده ثم سيشفع لهم محمد‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬
‫الكافر ماذا يعمل إذا؟! هل هناك نوع آخر لدى الكافر؟ إنما يعمل هكذا عندما‬
‫نقول‪ :‬إن الزنا محرم‪ ،‬هو محرم‪ ،‬لكن لماذا يعذب عليه الكافر وال يعذب عليه من‬
‫اقترفه ممن يحمل اسم إسالم؟ أليست عملية واحدة؟ وجريمة واحدة عند اليهودي‪،‬‬
‫والنصراني‪ ،‬والكافر والمسلم؟ هي فاحشة‪ .‬الظلم هو نفسه‪ .‬ليس هناك نوع من‬
‫الظلم ال يمكن أن يصدر من الكافر‪ ،‬أو ال يمكن أن يصدر من المسلم‪ ،‬األعمال واحدة‬
‫التي نريد أن نفهمها‪ :‬أن الناس كل الناس على اختالف العناوين اتجاهاتهم واحدة‪،‬‬
‫وجرائمهم‪ ،‬ومطامعهم‪ ،‬وشهواتهم‪ ،‬ومقاصدهم واحدة‪ ..‬فلماذا ناس يعذبون وناس‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ال يعذبون على جرائمهم؟ يصبح الدين حينئ�ذ بدال من أن يكون دين�ا للحياة‪ ،‬بدال‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫من أن يكون دين�ا لمكافحة الجريمة‪ ،‬بدال من أن يكون دين�ا كما قال هللا عنه‪ :‬ليزكي‬
‫النفوس‪ ،‬ليطهرها يصبح عبارة عن رخصة لكل من يريد أن يستمر في إجرامه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فبدال من أن تبقى مستحقا للعذاب الشديد‪ ،‬أسلم‪ .‬واإلسالم مجرد قول‪ ،‬ثم ابق‬
‫على أعمالك! وحينئ�ذ ال جهنم‪ ،‬وحينئ�ذ ستدخل الجنة مع المؤمنين‪ ،‬وسيشفع لك‬
‫محمد (صلوات هللا عليه وعلى آله)!!‪ .‬ألم يصبح اإلسالم حينئ�ذ عبارة عن رخصة؟‬
‫ً‬ ‫ً ً‬
‫ألم يصبح دين�ا بدال من أن يكافح الجريمة يشجع عليها؟ بدال من أن يخوف النفوس؛‬
‫يؤمن تلك النفوس لتغرق في مستنقع‬ ‫ليزكيها‪ ،‬ليطهرها بتشريعاته وهديه‪ ،‬هو من ِّ‬
‫الرذيلة والجريمة؟!‪.‬‬
‫ً‬
‫فعال سيصبح الدين هكذا؛ ولهذا هللا سبحانه وتعالى في القرآن تحدث عن بني‬
‫ً‬
‫إسرائي�ل بأن كثيرا من جرائمهم بما فيها قتل األنبي�اء‪ ،‬وبيع الدين‪ ،‬وبما فيها استحالل‬
‫َ ‪ٞ‬‬ ‫ُّّۡ‬ ‫َۡ‬ ‫َ‬
‫ۡ َ َ َ‬
‫ِي َۧن سبِيل﴾ [آل عمران‪ ]75 :‬قال‬ ‫أموال اآلخرين عندما يقولون‪﴿ :‬ليس علينا ِف ٱلم ِ ‍‬
‫عن ما يدفعهم إلى ذلك هو‪ :‬أنهم يعتقدون أن النار ال تمسهم إال أياما معدودة‪ .‬أي‪:‬‬
‫أن هذه العقيدة تشجع على الجريمة‪ ،‬وتعمل على أن تغرق النفوس في مستنقع‬
‫ۡ‬‫ۡ ُ َ ٰ َ َ َّ ُ‬
‫ۖ‬ ‫ۡ َ ُ ْ َ َ َ َّ َ َّ ُ َّ ٓ َ َّ ٗ َّ‬ ‫َ ٰ َ َ َّ ُ‬
‫ت وغرهم ِف‬ ‫الجريمة والرذيلة ﴿ذل ِك بِأنهم قالوا لن تمسنا ٱنلار إِل أياما معدود ٖ‬
‫ۡ َُ َ‬ ‫َّ َ ُ ْ َ‬
‫تون‪[ ﴾٢٤‬آل عمران‪ ]24 :‬ألم يعلل بأن عقيدة بهذه هي وراء الجريمة‪،‬‬ ‫دِينِ ِهم ما كنوا يف‬
‫وهي عقيدة تدفعك إلى اإلجرام‪.‬‬
‫ۡ َُ َ‬ ‫َّ َ ُ ْ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ َّ ُ‬ ‫ً‬
‫هم ما كنوا يفتون‪[ ﴾٢٤‬آل‬ ‫إذا‪ ،‬فليست من دين هللا لهذا قال‪﴿ :‬وغرهم ِف دِينِ ِ‬

‫‪230‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫عمران‪ ]24 :‬خدعوا أنفسهم بالكذب‪ ،‬وفعال ال تزال عقيدة قائمة عند اليهود إلى اآلن‪.‬‬
‫بعض الناس قد يسأل هل يرى اليهود أنهم إلى النار؟ يرى أن النار لن تمسه إال‬
‫أياما معدودة‪ ،‬فكل ما يعمله [شارون] لو رأى نفسه مجرما‪ ،‬لو رأى نفسه مستحقا أن‬
‫يدخل النار‪ ،‬فهو عندما يدخلها قد يبقى فقط سبعة أيام مقابل سبعة آالف سنة هي‬
‫عمر الدني�ا‪ ،‬أو على أكثر قول لديهم سيبقى الواحد منهم أربعين يوما في جهنم على‬
‫عدد األيام التي عبدوا فيها العجل‪ ،‬ويخرج‪ ،‬وحينئ�ذ ال يكترث بما يرتكب في الدني�ا‪.‬‬
‫هي العقيدة التي كانت وراء ظلمنا نحن المسلمين من داخل المسلمين أنفسهم‬
‫على أيدي الجبابرة من الطواغيت‪ ،‬الخلفاء‪ ،‬الملوك‪ ،‬والحكام‪ ،‬والرؤساء‪ ،‬والسالطين‬
‫بمختلف العصور‪ ،‬وهناك من علماء السوء من يؤمنهم أن محمدا (صلوات هللا وسالمه‬
‫عليه وعلى آله) سيشفع لهم مهما كانوا مجرمين‪ ،‬فينطلقون لظلم الناس لتسفك‬
‫دماؤهم‪ ،‬وينطلقون للصد عن دين هللا‪ ،‬وينطلقون فيه وهم آمنون من جهنم‪ ،‬أنهم لن‬
‫يدخلواجهنم‪.‬‬
‫واليهودي يرى أنه سيدخل جهنم وسيبقى أياما معدودة‪ ،‬وأما صاحبن�ا فإنه يرى أنه‬
‫ۡ ُ َ‬
‫ود ٰ ٖ ۖ‬ ‫َ َ َ َّ َ َّ ُ َّ ٓ َ َّ ٗ َّ‬
‫ت﴾ [آل عمران‪.]24 :‬‬ ‫ار إِل أياما معد‬ ‫لن تمسه النار إطالقا‪ .‬اليهود قالوا‪﴿ :‬لن تمسنا ٱنل‬
‫أما نحن المسلمون فقناهم في هذا القول‪ ،‬فقلنا‪ :‬وال أياما معدودة‪ ،‬وال لحظة‬
‫واحدة‪ ،‬سيأخذ بي�دك محمد ويمنحك وسام الشرف‪ ،‬شفاعته‪ ،‬فتدخل مع أولئك‬
‫المؤمنين الجنة!‪ .‬أليس هذا قول أبعد من قول اليهود؟ أليست عقيدة أسوأ من‬
‫عقيدة اليهود؟ هي نفسها وراء ظلم الكثير من الخلفاء والملوك‪ ،‬والرؤساء في كل‬
‫عصر من العصور‪ ،‬هناك من أمنهم‪.‬‬
‫القرآن الكريم تنزلت كثير من آياته في مكة‪ ،‬وعندما تسمع كلمة‪[ :‬كفر] وكلمة‪:‬‬
‫[شرك] فألن من في الساحة وهو يخاطبهم‪ ،‬ويعمل على أن ينقلهم من الوضعية‬
‫التي هم فيها‪ ،‬هم مشركون‪ ،‬كافرون‪ ،‬فتأتي العبارات على هذا النحو‪ ،‬وألن هللا يريد‬
‫من عباده ‪ -‬وهو الشيء البديهي لو فهمناه ‪ -‬أنه عندما ترون هذا الوعيد الشديد‬
‫ً‬
‫ألولئك فهل تفترضون أنن�ا نريد أن ننقلهم من اسم ليحملوا اسما آخر‪ ،‬ثم ليبقوا على‬
‫ما هم عليه‪ ،‬وحينئ�ذ فال يعذبون؟!‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫بداية الطريق‬

‫أنت اسمع عندما ترى اآليات الكثيرة تتهدد الكافر‪ ،‬انظر لماذا الكافر؟ هل ألن‬
‫اسمه كافر [ك ا ف ر]؟ أم ألنه على حالة هي تحول بين�ه وبين أن يتقبل هدى هللا؟‬
‫لماذا المشرك؟ ولماذا تلك الهجمة الشديدة على أشخاص يعبدون أحجارا وهم‬
‫يعلمون‪ ،‬وهللا يعلم‪ ،‬ورسوله يعلم أن تلك الحجر ال تستطيع أن تعارض هللا‪ ،‬وال أن‬
‫تكون ندا هلل‪ ،‬وال أن تكون كفؤا هلل‪ ،‬وال أن تن�ازع هللا في ملكه‪ ،‬لماذا هذه الهجمة؟‪.‬‬
‫ألن هذا الشخص الذي يعبدها وال يؤمن باهلل كإله واحد‪ ،‬هو نفسه لن يكون لديه‬
‫ً‬
‫قابلية أن يتقبل هدي هللا‪ ،‬سيبقى معرضا عن تقبل هدي هللا‪ ...‬الشرك لهذا‪.‬‬
‫ً‬
‫إضافة إلى أنه قول باطل‪ ،‬تأثيره على صاحبه أنه إذا أنا لست مؤمنا بوحداني�ة‬
‫هللا‪ ،‬فلن أؤمن برسوله‪ ،‬ولن أؤمن بكتابه‪ ،‬وحينئ�ذ يكون واقعي أنني معرض عن‬
‫هدي هللا‪ ،‬بل سينطلق ذلك المشرك إلى ميادين القتال للصد عن سبي�ل هللا‪.‬‬
‫فالمشكلة األساسية في الشرك بالنسبة لصاحبها‪ :‬هو أنه على وضعية تجعله‬
‫ً‬
‫معرضا عن هدي هللا‪ ،‬وصادا عن سبيله‪ .‬فهل اإلعراض عن دين هللا وهديه‪ ،‬والصد‬
‫عن سبيله غير مسموح هنا ومسموح هنا؟ هو نفسه يصدر ممن يحمل اسم إسالم‪.‬‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ‬
‫ام ُن ٓوا ْ إ َّن َكثرياٗ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أليس كذلك؟ الكثيرون يصدون عن سبي�ل هللا ﴿۞يأيها ٱلِين ء‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫َۡ‬ ‫ّ‬
‫ان﴾ [التوبة‪ ]34 :‬أليسوا علماء دين؟ أم مشركون؟ علماء دين‪،‬‬ ‫ار َ وٱلرهب ِ‬
‫َ‬
‫ۡٱلحب ِ‬ ‫م َِن‬
‫َّ‬ ‫َ َ ُ ُّ َ َ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡم َو ٰ َل َّ‬ ‫ََ ُ ُ َ‬
‫يل ٱللِۗ﴾ [التوبة‪.]34 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ن‬‫ع‬ ‫ون‬‫د‬ ‫ص‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫ط‬
‫ِ‬ ‫اس بِٱل َبٰ‬
‫ِ‬ ‫ٱنل‬ ‫أ‬ ‫ون‬ ‫﴿لأكل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ َ َ َ ْ‬
‫ِين كف ُروا﴾‬ ‫فأولئك الذين يقولون‪[ :‬هذا تهديد للكافرين الحظ هو يقول‪﴿ :‬وٱل‬
‫ِي﴾‪ ،‬نحن لسنا كفارا وال مشركين] طيب ما الذي تغير لدين�ا؟‬ ‫ويقول‪﴿ :‬وال ْ ُم ْشك ْ َ‬
‫ِ‬
‫أنت تعتبر أن مجرد تغيير االسم هو كل شيء؟! إن هللا ينظر إلى األعمال‪ ،‬وليس إلى‬
‫مجرد األسماء‪ ،‬ينظر إلى األعمال‪ ،‬وينظر إلى القلوب‪ .‬نقول‪ :‬هؤالء الكافرون ما هي‬
‫المشكلة لديهم؟ ألنهم هكذا‪ :‬صادون عن سبي�ل هللا‪.‬‬
‫ولهذا تعرض القرآن الكريم ‪ -‬عندما تت�أملوا آياته ‪ -‬تعرض بالتفصيل ألعمال‬
‫ۡ ُ َ َّ َ َ‬ ‫َّ َ َ ُ‬
‫ٱلزك ٰوة﴾ [فصلت‪ ]7 :‬ألم يقل في‬ ‫ِين ل يؤتون‬ ‫المشركين‪ ،‬ألم يقل في بعضها‪﴿ :‬ٱل‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُّ َ َ‬
‫يل ٱللِ﴾ [األعراف‪ ]45 :‬؟ ألم يقل في بعضها أنهم‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ن‬‫ع‬ ‫بعضها أنهم ﴿يصدون‬

‫‪232‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫َُٰ ُ َ‬


‫يل ٱلطٰغ ِ‬
‫وت﴾ [النساء‪]76 :‬؟ هو يتعرض بالتفصيل ألعمال الكافرين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫س‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ون‬ ‫﴿يقتِل‬
‫وألعمال المشركين‪ ،‬وأنها هي األعمال الممقوتة‪.‬‬
‫وإنما مسألة الشرك هي نفسها وراء أن يكونوا على هذه الحالة‪ ،‬فيتوجه الكالم‬
‫كثيرا إلى الشرك ليقلعه من نفوسهم‪ ،‬لتصبح تلك النفوس قابلة ألن تهتدي بهدي‬
‫هللا‪ ،‬وألن تبتعد عن الصد عن سبيله‪ ،‬وألن تلتزم بدين�ه‪ ،‬فيقلع الشرك من قلوبهم‪،‬‬
‫يقلع الشرك من أذهانهم‪ ،‬وتقاليدهم وأفكارهم‪ ،‬آلثاره؛ ألنه معلوم عن هللا سبحانه‬
‫وتعالى أنه ال تضره معصية من عصاه‪ ،‬وال تنفعه طاعة من أطاعه‪ ،‬وكل هديه يتوجه‬
‫إلين�ا نحن؛ ألنن�ا نحن المحتاجون إليه‪ ،‬يتوجه إلى أنفسنا‪ ،‬وألن كل عمل باطل هو‬
‫فساد علين�ا نحن‪ ،‬هو ضد مصالحنا نحن‪.‬‬
‫فعندما يأتي ليتحدث عن الشرك والكفر‪ ،‬ليس ألنه أصبح يخاف من ذلك‬
‫الصنم‪ ،‬أو أنه إذا تجمع اآلالف حول ذلك الصنم سين�ازعه هذا الصنم في ملكه؛‬
‫إنما ليبعد هؤالء عن عقيدة جعلتهم يبتعدون عن هدي هللا‪ ،‬وجعلتهم ينطلقون‬
‫في الصد عن سبيله‪ ،‬وجعلتهم بعيدين عن التخلق باألخالق التي أراد أن يتخلق بها‬
‫عباده الذين يسيرون على هديه‪.‬‬
‫ً‬
‫إذا فكل من صد عن سبي�ل هللا‪ ،‬كل من ابتعد عن دين هللا‪ ،‬كل من أعرض عن‬
‫هدي هللا‪ ،‬وإن كان يحمل اسم مسلم‪ ،‬حكمه حكم أولئك‪ .‬وهذه قضية مفروغ منها‬
‫في القرآن الكريم؛ مفروغ منها؛ ألنه من غير الطبيعي‪ ،‬ومن غير المقبول أن تفترض‬
‫أن المسألة إنما هي مجرد تغيير اسم‪ ،‬فتقول‪ :‬أولئك فقط ألن اسمهم [كافرين] أما‬
‫مؤمنين من‬‫نحن فلو انطلقنا في نفس األعمال التي تصدر منهم فإنن�ا قد أصبحنا ّ‬
‫عذاب هللا‪ ،‬هذا شيء غير طبيعي‪.‬‬
‫ً‬
‫هللا البشر كلهم عبي�ده‪ ،‬وهو رب العالمين جميعا‪ ،‬ولن يكيل بمكيالين معهم‪ ،‬لن‬
‫يعذب هذا المجرم على أعمال هي نفسها التي ال يعذب عليها شخصا آخر صدرت‬
‫منه‪ ،‬وحالته وموقفه حالة هذا الشخص اآلخر‪ .‬ال يمكن‪ ،‬إال إذا كان هناك توبة‪.‬‬
‫والتوبة ألم يتوجه األمر بالتوبة إلى المسلمين؟ لماذا التوبة؟ لو أن المسألة‬
‫هكذا مفروغ منها أن الكالم كله حول الكافرين حول المشركين أما نحن فقد أسلمنا‬

‫‪233‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬
‫لما كنا بحاجة إلى توبة إذا فلماذا التوبة؟ التوبة ال بد منها؛ ألنك أنت أيها المسلم‬
‫فيما لو اقترفت عمال من أعمال أولئك ستعذب فهذه هي التوبة تب‪.‬‬
‫والتوبة معناها‪ :‬اإلقالع عن المعصية‪ ،‬الرجوع إلى هللا‪ ،‬الندم على ما صدر من‬
‫اإلنسان من تقصير‪ ،‬من تفريط في جنب هللا‪ ،‬من تقصير في األعمال التي ترضي‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ما حدث منه من معاصي ال بد أن يتوب منها‪ ،‬وإذا لم يتب فال‬
‫فرق بين�ه وبين ذلك الشخص اآلخر‪.‬‬
‫ألم يقل عن المنافقين‪ :‬أنهم في الدرك األسفل من النار؟ وال تصدقوا أن‬
‫المنافقين هم كلهم من يبطن الكفر ويظهر اإلسالم‪ .‬بل إن في المنافقين من ذكر‬
‫هللا عنهم بأنهم في واقعهم معترفون‪ ،‬مؤمنون كإيمان أي واحد منا بأن هللا هو رب‬
‫العالمين‪ ،‬وهو اإلله وحده‪ ،‬وأن القرآن من عنده‪ ،‬وأن محمدا رسوله (صلوات هللا‬
‫ۡ ُ َ ‪ُُ َُ ٞ‬‬ ‫ۡ‬‫ۡ ُ َ ٰ ُ َ َ ُ َ َّ َ َ َ‬ ‫َۡ‬‫َ‬
‫ورة تن ّبِئهم ب ِ َما‬ ‫نل علي ِهم س‬ ‫عليه وعلى آله) ألم يقل هو‪﴿ :‬يذ ُر ٱلمن ِفقون أن ت‬
‫ُُ‬
‫ۡم ۚ﴾ [التوبة‪ ]64 :‬ألم يقل هكذا؟‪ .‬يعلمون أن القرآن منزل من عند هللا بل هم‬ ‫ِف قلوب ِ ِه‬
‫يخافون؛ ألنهم يعلمون أن هللا عليم بذات الصدور‪ ،‬فهو يعلم ما يسرونه في أنفسهم‬
‫فيخافون أن تتنزل سورة تفضحهم‪ ،‬أي هم مؤمنون بالقرآن أنه من عند هللا‪ ،‬ومؤمنون‬
‫بأن هذا الرجل هو رسول هللا (صلوات هللا عليه وعلى آله)‪ ،‬الذي يتنزل عليه القرآن‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُم َنٰفق َ‬
‫ني ف َّ‬ ‫َّ‬
‫ار﴾ [النساء‪.]145 :‬‬
‫ِ‬ ‫ٱنل‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫س‬ ‫ٱل‬ ‫كِ‬‫ر‬ ‫ٱدل‬ ‫ِ‬ ‫ومع هذا قال هللا عنهم‪﴿ :‬إِن ٱل ِ ِ‬
‫قد يكون هناك فئة‪ ،‬فئة قليلة من المنافقين هم من قد يقال عنهم أنهم في‬
‫واقعهم مبطنون للكفر‪ ،‬أي هم غير مؤمنين باهلل‪ ،‬وال مؤمنين بكتابه‪ ،‬وال مؤمنين‬
‫برسوله‪ ،‬إنما ألجأتهم الظروف إلى أن يتلونوا خوفا على أنفسهم‪ ،‬هذه النوعية من‬
‫المنافقين إنما تكون في فترات محدودة‪ ،‬في الفترة التي تكون الغلبة فيها لجانب‬
‫اإلسالم‪ ،‬لجانب الحق فيرى الكفار أنفسهم مضطرين إلى أن يتمظهروا باإلسالم من‬
‫أجل أن يأمنوا على أنفسهم وأموالهم‪.‬‬
‫لكن تجد المنافقين هم من كانوا كثيرين في المدين�ة‪ ،‬وهم من أهل المدين�ة‪،‬‬
‫ومن غير أهل المدين�ة‪ ،‬وهم من قال عنهم أنهم مذبذبين ال إلى هؤالء وال إلى هؤالء‪..‬‬
‫فال هم مع المؤمنين وال هم كفار مع الكافرين‪ .‬هم يتلونون يظهر نفسه للكافرين‬

‫‪234‬‬
‫السلا مهيلع تيبلا لهأ‬

‫وكأنه معهم‪ ،‬ومتى ما كانت الغلبة للمسلمين أظهر نفسه أنه معهم وتملق لهم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬‫َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُم َنٰفق َ‬
‫ني ف َّ‬ ‫َّ‬
‫ار﴾‬
‫ِ‬ ‫ٱنل‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫س‬‫ٱل‬ ‫كِ‬‫ر‬ ‫ٱدل‬ ‫وأظهر أنه واحد منهم‪ ،‬يقول عنهم‪﴿ :‬إِن ٱل ِ ِ ِ‬
‫[النساء‪ ]145 :‬بل وجدنا القرآن الكريم يتوعد بالعذاب الشديد‪ ،‬بالعذاب العظيم لمن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قتل مؤمنا متعمدا‪ ،‬يتوعد بالخلود في النار لمن لم يلتزم بحدود هللا في المواريث‬
‫ً‬
‫في [سورة النساء] يتوعد‪ ،‬والمواريث تخاطب من؟ أليست خطابا للمسلمين؟‬
‫يتوعد بالعذاب‪ ،‬والخلود في جهنم لمن ال يقف عند حدود هللا ويلتزم بما حدده هللا‬
‫سبحانه وتعالى في قضية المواريث وحدها خلي عنك أشياء كثيرة أخرى‪.‬‬
‫هل من المعقول أن يكون الصد عن دين هللا مسموح لإلنسان الذي يحمل‬
‫اسم إسالم؟ وهل معقول أن يكون اإلعراض عن هدي هللا مسموح لمن يحمل اسم‬
‫إسالم؟ ستصبح كلمة‪[ :‬ال إله إال هللا محمد رسول هللا] عبارة عن بطاقة تضعها في‬
‫جيبك‪ ،‬ثم تنطلق إلى أسوأ مما كان عليه المشركون والكافرون في أعمالهم‪.‬‬
‫وحينئ�ذ سيكون هذا الدين رخصة لظلم الناس‪ ،‬ورخصة لتدنيس النفوس‬
‫تنطلق أنت لتضل عباد هللا‪ ،‬من الذي سمح لك بهذا؟ هو الدين‪ ،‬هو الذي أمنني‪ ،‬ألن‬
‫بإمكاني أن أنطلق في مجال كهذا ثم لن أعذب ولن أخلد في جهنم‪ ،‬بل لن تمسني‬
‫النار إطالقا‪ .‬وهذا ما ال يجوز على هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وعندما تقرأ في بعض التفاسير فيقول لك‪ :‬هذه اآليات هي تتحدث عن‬
‫كافرين‪ ،‬هي تتحدث عن مشركين فهي آيات تعني أولئك‪ ،‬أما نحن فال‪ ،‬نحن حملنا‬
‫اسم إسالم وسيشفع لنا رسول هللا فاعرف أن هذا غرور‪ ،‬وأن هذا خداع‪ ،‬وسيكون‬
‫َ َ ُ‬
‫ۡم ِف دِينِ ِهم‬
‫﴿وغ َّره‬ ‫واقع من يعتقدون هذه العقيدة كما حكى هللا عن بني إسرائي�ل‪:‬‬
‫ۡ َُ َ‬ ‫َّ َ ُ ْ َ‬
‫ما كنوا يفتون‪[ ﴾٢٤‬آل عمران‪ .]24 :‬هذه افتراءات افتروها أناس سابقون وقدموها لنا‬
‫ونحن قبلناها منهم‪ ،‬وبالطبع ال ينفق شيء من الباطل إال إذا ما حمل اسم [دين]‬
‫وقدم إلين�ا باسم [دين] فيقال‪ :‬عن رسول هللا (صلوات هللا عليه وعلى آله)‪ ،‬قال‬
‫رسول هللا (صلوات هللا عليه وعلى آله)! ويكون ذلك الحديث في بطون المجاميع‬
‫الحديثي�ة التي يعتبرونها هي مجاميع السنة‪ ،‬ألم يقدم الباطل باسم دين؟ هكذا‬
‫ۡ َُ َ‬‫َّ َ ُ ْ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫تون‪.﴾٢٤‬‬ ‫ۡم ِف دِينِ ِهم ما كنوا يف‬ ‫﴿وغ َّره‬

‫‪235‬‬
‫بداية الطريق‬

‫وكما أسلفنا‪ :‬أن القرآن تحدث عن جهنم‪ ،‬ووصفها بشتى األوصاف وكذلك‬
‫تحدث عمن داخل جهنم سواء كان يحمل اسم [مسلم]‪ ،‬أو يحمل اسم [يهودي‪ ،‬أو‬
‫نصراني‪ ،‬أو مشرك]‪ .‬أو كيفما كان” (((‪.‬‬
‫***‬

‫((( دروس من هدي القرآن الكريم‪ ،‬سلسلة دروس معرفة هللا‪« ،‬معرفة هللا ‪ -‬وعده ووعيده ‪ -‬الدرس الخامس‬
‫عشر‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫باتكلا ةثروو ‪،‬ةيرشع ينثالاو ةنسلا نيب نآرقلا‬

‫القرآن بين السنة واالثني عشرية‪ ،‬وورثة الكتاب‬


‫القرآن الكريم هو دستور األمة وهو أغلى ما يملكه المسلمون‪ ،‬وهو منهج حياة‪،‬‬
‫تبي�انا لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين‪ ،‬ومشكلة األمة مع القرآن أنها تؤمن به‬
‫ولكنها ال تطبقه‪ ،‬وبدال من أن تبرمج المذاهب أرشيفها المذهبي على أساس القرآن‪،‬‬
‫أصبح أرباب المذاهب ينتصرون لمذاهبهم ويستشهدون بالقرآن على ما يعزز‬
‫نظرتهم المذهبي�ة وبطريقة فيها تعسف واضح للنص القرآني‪ ،‬وتحريف واضح‬
‫لمفاهيمه‪.‬‬
‫ولم يقتصر استهداف المنحرفين من أبن�اء األمة على تحريف مفاهيم القرآن‪،‬‬
‫بل وصل األمر إلى محاوالت بائسة الستهداف النص القرآني من خالل الروايات‬
‫المكذوبة الموجودة في كتب السنة واالثني عشرية على السواء‪ ،‬وال يوجد مسلم‬
‫سليم اإليمان سواء كان سني�ا أو شيعيا يشك في حفظ هللا لكتابه‪ ،‬وأن القرآن‬
‫الموجود في المساجد هو نفسه المنزل على قلب نبين�ا محمد صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم‪ ،‬ولكن واقع الجدل السني الشيعي حول قضية القرآن واالتهام المتب�ادل بين‬
‫الطرفين حول زيادة القرآن ونقصانه شغلت الساحة اإلسالمية‪ ،‬وال تكاد تقرأ كتابا‬
‫وهابي�ا إال ويذكر بأن الشيعة االثني عشرية تقول بتحريف القرآن ونقصانه‪ ،‬وأن ثمة‬
‫قرآنا آخر يؤمن به الشيعة هو مصحف فاطمة‪ ،‬ولكن الشيعة في نفس الوقت يردون‬
‫ويبرئون ساحتهم من هذه التهمة‪ ،‬ويدفعون تهم الوهابي�ة بنفس التهمة ويقولون‪:‬‬
‫إن َمن يقول بتحريف القرآن هم أهل السنة وليس نحن‪ ،‬بدليل ما هو موجود في‬
‫كتبهم‪ ،‬وهكذا تعيش األمة اإلسالمية حالة من الصراع والتعصب بين الطرفين‬
‫دون ميل لالعتراف أو التن�ازل من أحد الطرفين‪ ،‬والحق أنن�ا قد عانين�ا في مساجدنا‬
‫من افتراءات الوهابي�ة وادعاءاتهم الزائفة في هذه القضية‪ ،‬وعندما بدأت أستمع إلى‬
‫التراشق بين الطرفين قررت أن أبحث عن مصداقية كل طرف‪ ،‬والحق أنني تفاجأت‬
‫عندما وجدت روايات كثيرة في كتب أهل السنة تشير بطريقة غير مباشرة إلى أنه‬
‫حصل نوع من التغيير في القرآن‪ ،‬وأنه ليس كما أنزل ابت�داء على نبين�ا محمد (÷)‪،‬‬
‫وكذلك الحاصل في كتب غالة االثني عشرية وبشكل أشد مما هو موجود لدى أهل‬

‫‪237‬‬
‫بداية الطريق‬

‫السنة‪ ،‬ثم الحق الذي ال لبس فيه أن الكتب المربوطة بورثة الكتاب من أهل بيت‬
‫رسول هللا هي الكتب الوحيدة التي خلت من مثل هذه الروايات‪ ،‬مما يدلك على‬
‫سالمة مأخذهم وطهر منابعهم ولو كابر المكابرون‪.‬‬

‫روايات تحريف القر�آن في كتب �أهل ال�سنة‬


‫سبق أن ذكرت أن روايات أهل السنة ال تصرح تصريحا لفظيا بتحريف وزيادة‬
‫ونقصان القرآن وإن صرحت معنى‪ ،‬بعكس روايات غالة الشيعة االثني عشرية‪ ،‬لكن‬
‫ً‬
‫المتحررين من كال المذهبين بل إن كل مسلم غيور ‪-‬سواء كان سني�ا أو اثني عشريا‬
‫أو ًأيا كان‪ -‬يقطع يقين�ا بأن القرآن لم يتب�دل ولم يتحرف ولم ينقص أو يزد منه حرف‬
‫واحد‪ ،‬وما وجد في روايات السنة واالثني عشرية من محاولة إثب�ات نقصه أو زيادته‬
‫بقي في أوهام الضالين ولم يكن واقعا في نسخة واحدة من نسخ القرآن في يوم من‬
‫األيام‪ ،‬وهذه الروايات تدل داللة قاطعة على غثائي�ة وحشوية جمع الحديث عند‬
‫الطرفين‪ ،‬وتدلل داللة قاطعة على صفاء المنبع التي يستقي منه أتب�اع المشروع‬
‫القرآني‪ ،‬بعيدا عن الدس والحشو الذي يعاني منه الفريقان‪ ،‬وهنا نذكر بعض‬
‫النماذج وقطرات من مطرات مما ورد في كتب أهل السنة‪:‬‬
‫ـ روى البخاري في صحيحه كتاب الحدود‪ ،‬او كتاب المحاربين من اهل الكفر‬
‫والردة‪ :‬باب رجم الحبلى من الزنا في حديث طويل عن ابن عباس نذكر منه هذا‬
‫ً‬
‫المقطع عن عمر بن الخطاب أنه قال وهو على المنبر‪“ :‬إن هللا بعث محمدا بالحق‪،‬‬
‫وأنزل عليه الكتاب‪ ،‬فكان مما أنزل هللا (آية الرجم)‪ ،‬فقرأناها وعقلناها ووعين�اها‪،‬‬
‫رجم رسول هللا (÷) ورجمنا بعده‪ ،‬فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل‪:‬‬
‫وهللا ما نجد آية الرجم في كتاب هللا‪.”..‬‬
‫وال أظن أن أحدا من المسلمين يعتقد أن ثمة آية اسمها آية الرجم‪ ،‬وهذه اآلية‬
‫(((‬
‫المزعومة هي “الشيخ والشيخة إذا زني�ا فارجموهما البت�ة»‬
‫وفي موطأ اإلمام مالك “الشيخ والشيخة فارجموهما البت�ة» فإنا قد قرأناها»(((‪.‬‬
‫((( ابن ماجه باب الرجم كتاب الحدود حديث رقم ‪.2553‬‬
‫((( الموطأ ‪42 /3‬كتاب الحدود‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫باتكلا ةثروو ‪،‬ةيرشع ينثالاو ةنسلا نيب نآرقلا‬

‫وفي نفس الحديث المروي في صحيح البخاري “ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من‬
‫ْ‬
‫كتاب هللا أن “ال ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم»(((‪.‬‬
‫والحديث المروي عن عائشة أنها قالت‪ :‬كان فيما أنزل من القرآن “عشر رضعات‬
‫معلومات” فتوفي رسول (÷) وهن فيما يقرأ من القرآن(((‪.‬‬
‫وفي صحيح ابن ماجه‪ :‬أن عائشة قالت‪“ :‬نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير‬
‫عشرا‪ ،‬ولقد كانت في صحيفة تحت سريري‪ ،‬فلما مات رسول هللا (÷) تشاغلنا‬
‫بموته فدخل داجن فأكلها”(((‪.‬‬
‫وروى مسلم في صحيحه أن أبا موسى األشعري بعث إلى قراء أهل البصرة وكانوا‬
‫ثالثمائة رجل فقال فيما قال لهم‪ :‬وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة‬
‫ببراءة فأنسيتها‪ ،‬غير أني حفظت منها “لو كان البن آدم واديان من مال البتغى واديا‬
‫ثالثا وال يمأل جوف ابن آدم إال التراب”‪ ،‬وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات‬
‫َ ٰٓ َ ُّ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ُ َ َ َ َ‬
‫ۡ َُ َ‬
‫فأنسيتها‪ ،‬غير أني حفظت منها ﴿يأيها ٱلِين ءامنوا ل ِم تقولون ما ل تفعلون‪﴾٢‬‬
‫[الصف‪ ]2 :‬فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة(((‪.‬‬
‫ـ أخرج البخاري في صحيحه عن علقمة قال‪ :‬قدمت الشام فصليت ركعتين ثم‬
‫قلت‪ :‬اللهم يسر لي جليسا صالحا‪ ،‬فأتيت قوما فجلست إليهم‪ ،‬فإذا شيخ قد جاء‬
‫حتى جلس إلى جنبي قلت‪ :‬من هذا؟ قالوا‪ :‬أبوالدرداء‪ ،‬قلت‪ :‬إني دعوت هللا أن ييسر‬
‫لي جليسا صالحا فيسرك لي‪ ،‬قال‪ :‬ممن أنت؟ فقلت‪ :‬من أهل الكوفة‪ ،‬قال‪ :‬أوليس‬
‫عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوسادة والمطهرة‪ ،‬وفيكم الذي أجاره هللا من‬
‫الشيطان على لسان نبي�ه (÷)؟ أوليس فيكم صاحب سر النبي (÷) الذي ال‬
‫ۡ َ َ‬ ‫َ َّ‬
‫ۡغ َ ٰ‬
‫ش‪[ ﴾١‬الليل‪]1 :‬‬ ‫ٱل ِل إِذا ي‬ ‫يعلم السر أحد غيره‪ ،‬ثم قال‪ :‬كيف يقرأ عبد هللا ﴿و‬
‫فقرأت عليه {واليل إذا يغشيى والنهار إذا تجلى والذكر واألنثى} قال‪ :‬وهللا لقد‬

‫((( البخاري ـ كتاب الحدود ‪ ،‬او كتاب المحاربين من اهل الكفر والردة ـ باب رجم الحبلى من الزنا‪.‬‬
‫((( صحيح مسلم كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات‪.‬‬
‫((( ابن ماجه كتاب الرضاع باب رضاع الكبير حديث ‪.1944‬‬
‫((( صحيح مسلم كتاب الزكاة باب لو أن البن آدم واديين البتغى واديا ثالثا‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫بداية الطريق‬

‫أقرأنيها رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم من فيه إلى في‪.‬‬
‫(((‬

‫وفي رواية قال‪{ :‬والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر واألثنى} قال‪:‬‬
‫(((‬
‫أقرأنيها النبي (÷) فاه إلى في فما زال هؤالء حتى كادوا يردوني‬
‫هذه الروايات تفيد بأن القرآن الذي عندنا ينقصه كثير من اآليات‪ ،‬وأنه كما في‬
‫الرواية اآلخيرة قد زيد فيه كلمة “وما خلق” على حد زعمهم‪.‬‬
‫وروى أحمد بن حنب�ل في مسنده عن أبي بن كعب آية‪{ :‬وما تفرق الذين أوتوا‬
‫الكتاب إال من بعد ما جاءتهم البين�ة‪ ،‬إن الدين عند هللا الحنيفية غير المشركة وال‬
‫اليهودية وال النصراني�ة ومن يفعل خيرا فلن يكفره}(((‪.‬‬
‫وفي مسند أحمد عن أبي بن كعب قال‪« :‬كم تقرأون سورة األحزاب؟ قال‪:‬‬
‫بضعا وسبعين آية‪ .‬قال‪ :‬لقد قرأتها مع رسول هللا (÷) مثل البقرة أو أكثر‪ ،‬وإن‬
‫فيها آية الرجم»(((‪.‬‬
‫لم أكن أتصور بأن هذا الكم من الروايات ‪-‬رغم أنها غيض من فيض‪ -‬متواجد‬
‫في كتب أهل السنة‪ ،‬وقد تفاجأت كثيرا بهذه الروايات‪ ،‬وكان المتوقع أن تجد هذه‬
‫الروايات رفضا قطعيا من قبل أهل السنة والجماعة أنفسهم‪ ،‬ولكن التقديس‬
‫المبالغ فيه للصحيحين بالذات منعهم من انتقاد ورفض هذه الروايات حفاظا على‬
‫ماء وجه الصحيحين‪ ،‬ولو كان على حساب القرآن والدين واإلسالم‪ ،‬وقد واجهت‬
‫كثيرا من اإلخوة السنيين بهذه الحقيقة فوجدت أن هناك ميال لتبرير مثل هذه‬
‫الروايات باسم نسخ التالوة!!‬
‫وال داعي لالسترسال في الرد على هذه الدعوى؛ ألن بعض الروايات تكذب تلك‬
‫الروايات‪ ،‬من ذلك الرواية المنسوبة لعائشة من أن رسول هللا توفي وهن فيما يقرأ‬
‫من القرآن‪ ،‬فهل هناك نسخ بعد وفاة الرسول صلى هللا عليه وآله وسلم؟ ثم إن بعض‬
‫تلك الروايات تثبت أن في القرآن زيادة لفظة “وما خلق”‪ ،‬إال إذا كان هناك تبرير أخر‬
‫((( صحيح البخاري ـ كتاب المناقب فضائل عمار وعبد هللا بن مسعود‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري كتاب المناقب باب مناقب عبد هللا بن مسعود‪.‬‬
‫((( مسند أحمد ‪.132 /5‬‬
‫((( المصدر السابق‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫باتكلا ةثروو ‪،‬ةيرشع ينثالاو ةنسلا نيب نآرقلا‬

‫باسم (إضافة تالوة) بدال من (نسخ التالوة)؟! لكن أئمة أهل البيت المتقدمين‬
‫عليهم السالم أنكروا نسخ التالوة‪ ،‬وأجادوا في الرد على هذه المسألة‪ ،‬والمالحظ أن‬
‫جميع هذه الروايات روايات آحادية‪ ،‬والقرآن جاء إلين�ا متواترا بل فوق التواتر بمراحل‪،‬‬
‫كما يالحظ ركاكة وضعف هذه اآليات المزعومة مقارنة بقوة وروعة وبالغة آيات‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ويالحظ أيضا قول كثير من الفقهاء من أهل السنة والمتأثرين بهم‬
‫أنها آيات نسخت تالوة وبقيت حكما‪ ،‬أو نسخت تالوة وحكما‪ ،‬رغم أن كثيرا من‬
‫هذه اآليات المزعومة ال تن�اقش أحكاما ال من بعيد وال من قريب‪ ،‬الخالصة أن هذه‬
‫ٌّ‬
‫وحري بالمسلم الخائف‬ ‫الروايات وضعت لتشكيك المسلمين بأغلى ما يملكون‪،‬‬
‫على دين�ه أن يرفضها حفاظا على دين�ه‪.‬‬

‫روايات تحريف القر�آن في كتب ال�شيعة االثني ع�شرية‬


‫الروايات من هذا القبي�ل عند غالة االثني عشرية موجودة بكثرة‪ ،‬ولنكون‬
‫صادقين لن نغفل كذلك عن جانب كبير من علمائهم ومفكريهم الذين يرفضون هذه‬
‫الروايات رفضا قاطعا‪ ،‬وهذا توجه سليم منهم ولكنه ال يبرئ كتبهم من المساءلة‪ ،‬بل‬
‫يجدر بالشيعي االثني عشري الصادق في تشيعه أن يتخذ موقفا جادا ورافضا لهذه‬
‫الروايات وسنقتصر على إحدى الروايات‬
‫ـ يورد الشيخ محمد باقر المجلسي في (مرآة العقول في شرح أخبار الرسول)‬
‫‪ 525 /12‬ـ ‪ ،526‬نشر دار الكتب اإلسالمية طهران» ما رووه عن أبي عبد هللا عليه‬
‫السالم أنه قال‪“ :‬إن القرآن الذي جاء به جبريل عليه السالم إلى محمد (÷)‬
‫سبعة عشر ألف آية”‪ ،‬ويعلق على هذه الرواية بقوله‪“ :‬موثق”‪.‬‬
‫كما تالحظ فالروايات من هذا القبي�ل موجودة بكثرة مخيفة في كتب إخوانن�ا من‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫االثني عشرية‪ ،‬بل وقد تبنى صحتها والدفاع عنها مجموعة من غالتهم المتقدمين‪،‬‬
‫وال ننسى جهود المعتدلين منهم ‪-‬وهم الكثرة الغالبة‪ -‬الرافضين لهذه الروايات‬
‫وبالذات الخط الثوري‪ ،‬تاركين حمى التقليد المتجذرة في كثير من علمائهم‬
‫وأتب�اعهم‪ ،‬نسأل هللا لنا ولهم الهداية والتوفيق وإنا هلل وإنا إليه راجعون‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫بداية الطريق‬

‫�أهل البيت عليهم ال�سالم والقر�آن‬

‫الر�سي‪:‬‬
‫مقتطفات من مديح القر�آن ال�صغير للإمام القا�سم ّ‬
‫ّ‬
‫“الحمد هلل الذي جعل الهدى فيما نزل من كتابه مكمال ونزل برحمته للعباد منه‬
‫بي�انا كريما مفصال‪ ،‬فيه لمن استغنى به أغنى الغنى‪ ،‬ولمن اجتنى ثمرات هداه أكرم‬
‫ُْ‬
‫مجتنى‪ ...،‬نور أعين القلوب المبصرة‪ ،‬وحياة ألباب النفوس المطهرة‪ِ ،‬إلف فكر كل‬
‫حكيم‪ ،‬وسكن نفس كل كريم‪ ،‬وقصص األنب�اء الصادقة‪ ،‬ونب�أ األمثال المتحققة‪،‬‬
‫ويقين حيرة أولي األلباب‪ ،‬وخير ما صحب من األصحاب‪ ،‬سر أسرار الحكمة‪ ،‬ومفتاح‬
‫كل نجاة ورحمة‪ ،‬قول أرحم الراحمين‪ ،‬وتنزيل رب العالمين‪ ،‬نزل به الروح األمين‪ُ ،‬‬
‫فأي‬
‫ُم ِنزل سبحانه وأي نازل وتنزيل‪ ،‬لقد جل سبحانه وتنزيله عن كل تمثي�ل وطهر وتقدس‬
‫إذ وليه بنفسه‪ ،‬ونزل به روح قدسه‪ ،‬عن قذف الشياطين وأكاذيبها‪ ،‬وافتراء مردة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اآلدميين وأالعيبها‪ ،‬فأحكم عن خطل الوهن والتداحض‪ ،‬وأكرم عن زلل االختالف‬
‫والتن�اقض‪.(((”...‬‬

‫و�صية الإمام القا�سم بالقر�آن‪:‬‬


‫«فعلى كتاب ربكم ‪-‬هداكم هللا‪ -‬فاقتصروا به‪ ،‬فهو ذو العبرة فاعتبروا به‪ ،‬ففيه‬
‫نوافع العلم‪ ،‬وجوامع الكلم التي يستدل بقليلها على كثير من ملتبس قال وقيل‪،‬‬
‫َ‬
‫ويستشفى من علمها بتفسير أدنى ما فيها من دليل‪ ،‬فسبي�ل قصده فاسلكوا‪ ،‬وبه‬
‫ما بقيتم فتمسكوا‪ ،‬فهو ذروة الذرى‪ ،‬وبصر من ال يرى‪ ،‬وعروة هللا الوثقى‪ ،‬وروح من‬
‫فرضه‪ ،‬فال َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يوصل‬ ‫وأحكم به في العباد‬ ‫أرواح الهدى‪ ،‬سماوي أحله هللا برحمته أرضه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫(((‬
‫إلى الخيرات أبدا إال به‪ ،‬وال تكشف الظلمات إال بثواقب ش ُه ِبه‪»...‬‬

‫كالم الإمام القا�سم في حفظ اهلل لكتابه الكريم‪:‬‬


‫َ‬ ‫ٌ‬
‫فيضيع‬ ‫“وهو فكتاب هللا المحفوظ الذي لم َي ِض ْع منه بمن هللا قط آية‪،‬‬

‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام القاسم ّ‬


‫الرسي ‪.31/2‬‬
‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام القاسم الرسي ‪.33/2‬‬

‫‪242‬‬
‫باتكلا ةثروو ‪،‬ةيرشع ينثالاو ةنسلا نيب نآرقلا‬

‫نور وبي�ان وهداية‪ ،‬وكيف يذهب منه شيء أو يضيع؟! أو يتوهم‬ ‫بضياعها من هللا ٌ‬
‫ۡ َ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ ُ َّ َ َ َ‬
‫ۡومۢا بعد‬ ‫ضل ق‬ ‫أن هللا سبحانه له مضيع‪ ،‬بعد قوله تب�ارك وتعالى‪﴿ :‬وما كن ٱلل ِل ِ‬
‫ش ٍء َعلِ ٌ‬ ‫ۡ َ َّ ُ َ ّ َ َ ُ َّ َ َّ ُ َ َّ َّ َ ُ ّ َ‬ ‫ۡ‬
‫يم‪[ ﴾١١٥‬التوبة‪ ... ]115 :‬وبعد‬ ‫ۡ‬ ‫ت يب ِي لهم ما يتقونۚ إِن ٱلل بِك ِل‬ ‫إِذ َه َدى ٰ ُهم ح ٰ‬
‫ۡ َ َّ َّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َۡ‬‫ۡ َ َّ‬‫ۡ َ ٗ َ‬ ‫َُ ّ َ ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫م يذكرون‪[ ﴾١٢٦‬األنعام‪:‬‬ ‫ت لِقو ٖ‬ ‫صرٰط َربِك مست ِقيما ۗ قد فصلنا ٱٓأۡلي ٰ ِ‬ ‫﴿وهٰذا ِ‬ ‫قوله‪:‬‬
‫‪]126‬؟ فكيف يصح أن يذهب منه شيء وهو صراط هللا المستقيم‪ ،‬وتبي�انه لكل شيء‪،‬‬
‫ۡه ِدي ل َِّلت ِ َ‬ ‫َۡ َ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ان‬ ‫ء‬‫ر‬ ‫ق‬ ‫ففيه لعباده هدى وتقويم‪ ،‬وفيه ما يقول سبحانه‪﴿ :‬إِن هٰذا ٱل‬
‫ۡ‬ ‫َ‬
‫أق َو ُم﴾ [اإلسراء‪ ،]9 :‬فهل بقي ألحد من بعده عذر أو متلوم؟! وكيف يصدق مفتر على هللا‬
‫َ َ َّ َ َ‬
‫ص َر ٰ ِط‬ ‫﴿وأن هٰذا ِ‬ ‫في ضياعه‪ ،‬وقد أمر هللا تب�ارك وتعالى عباده باتب�اعه‪ ،‬فقال فيه‪:‬‬
‫َّ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ۡ َ ٗ َ َّ ُ ُ َ َ َ َّ ُ ْ ُّ ُ َ َ َ َ َّ َ ُ َ َ‬ ‫ُ‬
‫ۡم َوصىٰكم ب ِ ِهۦ‬ ‫ۡم عن سبِيلِ ِهۚۦ ذٰلِك‬ ‫مست ِقيما فٱتبِعوه ۖ ول تتبِعوا ٱلسبل فتفرق بِك‬
‫َّ‬ ‫َ َ َّ ُ َ َّ ُ َ‬
‫ۡم تتقون‪[ ﴾١٥٣‬األنعام‪ ]153 :‬؟‪ ...‬فياسبحان هللا!! أما يسمعون لقول هللا‪﴿ :‬إِنا‬ ‫لعلك‬
‫ۡ َُ ُ ‪ٞ‬‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫ۡ ُ َ َّ َ ّ‬ ‫َ‬
‫ۡرءَان‬ ‫لا ٱذلِك َر ِإَونا ُلۥ لحٰ ِفظون‪[ ﴾٩‬الحجر‪ ،]9 :‬وقوله سبحانه‪﴿ :‬بل هو ق‬ ‫نن نز‬
‫ۢ‬ ‫ۡ ُ‬
‫ۡ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ‪ٞ‬‬
‫وظ‪[ ﴾٢٢‬البروج‪. ”]22-21 :‬‬
‫(((‬
‫ِميد‪ِ ٢١‬ف لو ٖح مف ِ‬

‫كالم الإمام الهادي يحيى بن الح�سين في حفظ اهلل كتابه‪:‬‬


‫“وكيف يذهب من القرآن قليل أو كثير وهو حجيج الواحد اللطيف الخبير‪،‬‬
‫ومنع من كل شان من الشان‪ ،‬فيا ويل‬ ‫وفيه فرائضه على الخلق سبحانه‪ ،‬فقد حفظ ُ‬
‫ۡ َ ‪ٞ َّ ٞ‬‬ ‫ۡ َُ ُ‬ ‫َ‬
‫ميد‪ِ ٢١‬ف‬ ‫ِ‬ ‫ان‬ ‫ء‬‫ر‬ ‫ق‬ ‫من قال بنقصان الفرقان‪ ،‬أما سمع قول الواحد الرحمن‪﴿ :‬بل هو‬
‫ُۡ‬‫ۡ َّ‬ ‫َ‬
‫وظ‪[ ﴾٢٢‬البروج‪ ،]22-21 :‬فأخبر أن القرآن عنده محفوظ له جل جالله وفيه ما‬ ‫لو ٖح مف ۢ ِ‬
‫َ ‪ٞ‬‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫ۡ َٰ ُ ۢ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َّ ُ َ َ ٰ ٌ َ ‪َ َّ ٞ‬‬
‫زنيل‬‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ۦ‬‫ۖ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ل‬ ‫ط‬
‫ِ‬ ‫ب‬‫ٱل‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِي‬ ‫ت‬‫أ‬ ‫ي‬ ‫كتب ع ِزيز‪ ٤١‬ل‬ ‫يقول‪ِ﴿ :‬إَونهۥ ل ِ‬
‫ۡ َ َّ َُ‬ ‫ۡ‬
‫ۡ ُ َّ َ ّ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬
‫ّ‬
‫لا ٱذلِكر ِإَونا لۥ‬ ‫يم حِي ٖد‪[ ﴾٤٢‬فصلت‪ ،]42-41 :‬ويقول سبحانه‪﴿ :‬إِنا نن نز‬ ‫ك ٍ‬
‫مِن ح ِ‬
‫َ َ ُ َ‬
‫لحٰ ِفظون‪[ ﴾٩‬الحجر‪.(((”]9 :‬‬

‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام القاسم الرسي (ع) ‪.18-16/2‬‬


‫((( مجموع كتب ورسائل اإلمام الهادي يحيى بن الحسين (ع) ص‪.463‬‬

‫‪243‬‬
‫بداية الطريق‬

‫كالم ال�شهيد القائد حول عظمة القر�آن الكريم‬


‫“تجد من عظمة القرآن الكريم والقضية العجيب�ة فيه؛ رغم أنه مجلد واحد‪،‬‬
‫كتاب واحد يغطي الحياة‪ ،‬كتاب هو للسموات واألرض‪ ،‬وللدني�ا واآلخرة‪ ،‬والصفحة‬
‫الواحدة فيه كم تجد فيها من علوم‪ ،‬ولهذا اإلمام علي يتحدث عن انبهاره هو بالقرآن‬
‫فيذكر بأنه “بحر ال يدرك قعره وعيون ال ينضبها الماتحون وال يشبع منه العلماء وال‬
‫َ‬
‫يخلق على كثرة الترداد”‪.‬‬
‫ال تجد هذه في أي كتابات أخرى ألي إنسان مهما كان مهما كانت قدراته‬
‫البالغية‪ ،‬ومهما كانت سعة تجاربه في الحياة أن يصل إلى ما يداني هذا المستوى‪،‬‬
‫قد يكون كمثل ‪ -‬بالنسبة للبشر ‪ -‬أعلى اإلمام علي (صلوات هللا عليه) بعد رسول‬
‫ً‬
‫هللا (صلوات هللا عليه وعلى آله) عندما تأتي إلى فقرات من كالمه تجد فيه فعال‬
‫من هذا الزخم في المعلومات؛ لكن ذلك إنما هو أثر للقرآن الكريم‪ ،‬أثر من آثار القرآن‬
‫الكريم في نفسية اإلمام علي‪ ،‬في شخصيت�ه‪ ،‬أثر من آثار اإلهتداء به في مظاهر‬
‫الحياة‪ ،‬وقد تجد تلك الحالة التي كان يتمتع بها اإلمام علي‪ ،‬والصفة الهامة مفقودة‬
‫ً‬
‫عند الكثير منا على الرغم من توفر الكتابات ال أعتقد أن اإلمام عليا كان لديه مكتب�ة‪،‬‬
‫ً‬
‫وال دوالب واحد يكون فيه مجموعة كتب‪ ،‬وتجده شخصا لديه معلومات واسعة‬
‫ً‬
‫جدا‪ ،‬ولديه رؤية تقييمية للحياة وللناس بشكل عجيب‪.‬‬
‫هذه الحالة مفقودة لدين�ا ونحن من لدين�ا مكتب�ات‪ :‬علوم في السياسة‪،‬‬
‫واإلجتماع‪ ،‬واإلقتصاد‪ ،‬والفقه‪ ،‬والحديث‪ ،‬واألصول‪ ،‬والتفسير‪ ،....‬وكم؟! صفر‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ال نملك شيئ�ا حقيقة‪ ،‬ال نملك شيئ�ا‪ ،‬ليس لدين�ا ما يصح أن يقال له شيء بالنسبة‬
‫ً‬
‫لما ينبغي أن يكون الناس عليه‪ ،‬ولهذا كانت خسارة كبيرة جدا جاءت هذه اآلية‬
‫ۡ ُ َ َ َّ‬ ‫ۡ َٰ َ َ‬ ‫َۡ ُ‬‫َّ َ َ‬
‫ب يتلون ُهۥ حق‬ ‫كت‬‫ِين ءَاتينٰه ُم ٱل ِ‬
‫تنص عليها عندما قال هللا سبحانه وتعالـى‪﴿ :‬ٱل‬
‫َ ُ ْ َ ٰٓ َ ُ ُ َ ٰ ُ َ‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬‫ُۡ‬ ‫ََ َ‬ ‫ۡ ُ َ‬ ‫َ َ ٓ ُ ْ َ ٰٓ َ ُ‬
‫سون‪[ ﴾١٢١‬البقرة‪]121 :‬‬ ‫ت ِلوت ِ ِهۦ أولئِك يؤمِنون ب ِ ِه ۗۦ ومن يكفر ب ِ ِهۦ فأولئِك هم ٱلخ ِ‬
‫ۡ َٰ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ْ َ ٰٓ َ ُ‬
‫العبارة هذه ﴿فأولئِك هم ٱلخ ِسون‪. ”﴾١٢١‬‬
‫(((‬

‫((( الدرس السابع من دروس رمضان للشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫باتكلا ةثروو ‪،‬ةيرشع ينثالاو ةنسلا نيب نآرقلا‬

‫كالم ال�سيد القائد عبدالملك الحوثي عن القر�آن الكريم‪:‬‬


‫ـان ُه َو َت َع َالى» في كتابه الكريم‪ :‬ب ْسم هللاِ َّ‬
‫الر ْحمن َّ‬
‫الر ِح ِيم‬
‫ُ ْ َ َ‬
‫“يقول هللا «سبح‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ب ۛ فِيهۛ ه ٗدى لِل ُمتق َ‬
‫ۡي َ‬ ‫َ‬ ‫ك َتٰ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬ ‫ٓ‬
‫ني‪[ ﴾٢‬البقرة‪ ،]2-1 :‬البرنامج الذي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب ل َر‬ ‫﴿ال ٓم‪ ١‬ذٰل ِك ٱل ِ‬
‫يعود إليه المتقون‪ ،‬والمرجع الثقافي والفكري الذي ينطلقون من خالله في هذه‬
‫الحياة‪ ،‬في أعمالهم‪ ،‬في مواقفهم‪ ،‬في التزاماتهم‪ ،‬في والءاتهم‪ ،‬برنامج حياتهم‬
‫ُُ‬ ‫ِّ‬
‫يأخذونه من أين؟ هل من المفكر الفالني‪ ،‬هناك رؤى في الدني�ا‪ ،‬هناك نظم حياة‬
‫في الدني�ا‪ ،‬هناك الكثير من أبن�اء البشر يعتمدون في مسيرة حياتهم‪ ،‬في اتجاهاتهم‬
‫ِّ‬
‫بكلها على رؤية لفيلسوف معين‪ ،‬أو مفكر معين‪ ،‬كل اتجاهات الناس في هذه الحياة‬
‫ِّ‬
‫لها مدارسها‪ ،‬لها مفكروها‪ ،‬لها المفلسفون لها‪ ،‬ينطلقون من خاللها معتمدين لها‬
‫في هذه الحياة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫َ َ َ‬
‫«س ْب َحـان ُه َوت َعالى»‪ ،‬يمثل‬
‫المتقون اعتمادهم باألساس هو على كتاب هللا ُ‬
‫بشكل رئيسي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫القرآن الكريم المرجعية والوثيقة األساسية التي يعتمدون عليها‬
‫ك َتٰ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬
‫ب‬ ‫وبهذا تتحقق التقوى‪ ،‬ال يمكن أن تتحقق التقوى إال بهذا‪ ،‬فاهلل يقول‪﴿ :‬ذٰل ِك ٱل ِ‬
‫ك َتٰ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬ ‫ۡ ُ َّ َ‬ ‫ُٗ ّ‬ ‫ۡي َ‬ ‫َ‬
‫ب﴾‪ :‬هذه إشارة إلى علو شأن‬ ‫ب ۛ فِي ِهۛ هدى لِلمت ِقني‪[ ﴾٢‬البقرة‪﴿ ،]2 :‬ذٰل ِك ٱل ِ‬ ‫ل َر‬
‫َ َ‬ ‫ً‬
‫القرآن‪ ،‬في المعاني والبي�ان والبديع تستخدم اإلشارة للبعيد أحيانا‪﴿ ،‬ذٰل ِك﴾‪ ،‬وبهذا‬
‫ك َتٰ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ‬
‫ب﴾‪ ،‬اإلشارة إلى القرآن الكريم في علو شأنه من جوانب‬ ‫األسلوب‪﴿ ،‬ذٰل ِك ٱل ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ً‬
‫«س ْب َحـان ُه َوت َعالى»‪ ،‬فله هذه العظمة وهذه األهمية‬ ‫أول‪ :‬أنه كتاب هللا ُ‬ ‫متعددة‪،‬‬
‫َّ‬
‫وهذه القيمة‪ ،‬لكونه كتاب هداية‪ ،‬كتاب عظيم‪ ،‬أنه من هللا‪ ،‬كلماته‪ ،‬هديه‪ ،‬ضمنه‬
‫وضمنه‬ ‫ضمنه توجيهاته الرحيمة والحكيمة والهادية والنافعة والمفيدة‪َّ ،‬‬ ‫من علمه‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أيضا الحقائق التي ال ريب فيها‪ ،‬وال شك فيها‪ ،‬وال ريب أبدا‪ ،‬وال قلق أبدا‪ ،‬وال شك‬
‫َ َ َ‬
‫«س ْب َحـان ُه َوت َعالى»‪ ،‬وفي‬ ‫نهائي�ا في أن القرآن كتاب هللا بحروفه ومضمونه‪ ،‬كلماته ُ‬ ‫ً‬
‫تجليا لرحمته فيما َّ‬ ‫أيضا ً‬‫ً‬ ‫أنه َّ‬
‫ضمنه‬ ‫ضمن هذا الكتاب من علمه‪ ،‬من حكمته‪ ،‬وجعله‬
‫وفيما فيه” (((‪.‬‬

‫((( محاضرة القرآن المنهل الصافي لتحقيق التقوى‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫بداية الطريق‬

‫يحق لكل مسلم أن يفتخر بكتب قرناء القرآن أئمة أهل البيت عليهم السالم‪ ،‬التي‬
‫دائما تتحفنا بمواقفها القوية تجاه كل عقيدة فاسدة تمس مقدسات المسلمين‪،‬‬
‫َ‬
‫كلماتهم في ذلك‪ ،‬مما يدل تماما على أنهم أولى المناهج بصفاء‬
‫ِ‬ ‫وقد قرأت قبل قليل‬
‫اإلسالم‪ ،‬نسأل هللا أن يجعلنا من المتمسكين بدين�ه وأن يجنبن�ا العقائد الهدامة‪.‬‬
‫***‬

‫‪246‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫السنة النبوية‬
‫“ليس لديكم علم جرح وتعديل”‪“ ،‬ال يمكن ان نثق بما رواه أئمتكم”‪.‬‬
‫كلمات طالما تتكرر على السنة دعاة الوهابي�ة‪ ،‬وافتتن كثير من الشباب بهذه‬
‫ً‬
‫الكلمات‪ ،‬وأذكر يوما أن أحد الوهابي�ة أطلق في أذني هذه الكلمات‪ ،‬فقلت له‪ :‬إن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الطبيب ال يمكن أن يعطي في حال من األحوال عقارا طبي�ا لألصحاء‪ ،‬وسينصرف‬
‫عقاره نحو المريض المحتاج له ليخرجه من وعكته الصحية التي يمر بها‪ ،‬وبمعنى‬
‫آخر أن الحاجة هي أم االختراع‪ ،‬والمشكلة أن أهل السنة لم تكن لتعوزهم الحاجة لو‬
‫تركوا العناد وتحركوا بعد ورثة الكتاب‪ ،‬لكن االنحراف هو ما دفعهم للحلول الترقيعية‬
‫والمعالجات القاصرة جدا والمليئ�ة بالضالل واالنحراف‪ ،‬ولتوضيح المسألة أكثر‪،‬‬
‫محرف‬ ‫على سبي�ل المثال عندما أصيبت اوروبا في العصور الوسطى بكهنوت ديني َّ‬
‫حرم عليهم وأبعدهم عن كل مقومات النهوض‪ ،‬أوصلت الحاجة المثقفين الغربيين‬ ‫َّ‬
‫إلى القيام بثورة وااللتجاء إلى حضن العلماني�ة على ما فيها من كوارث ومصائب‪،‬‬
‫ً‬
‫وعندما حاول العلمانيون تطبيق نظرياتهم في البلدان اإلسالمية فشلوا فشال‬
‫ً‬
‫ذريعا؛ ألن اإلسالم غير المسيحية‪ ،‬فاإلسالم يحمل جميع مقومات النهوض المادية‬
‫ً‬ ‫والمعنوية‪ ،‬والمشكلة ليست في اإلسالم ْ‬
‫ولكن في المسلمين أنفسهم‪ ،‬وكان لزاما‬
‫على المتغربين أن يدركوا خصوصيات المجتمعات المسلمة قبل أن يلقوا بتجربتهم‬
‫َ‬ ‫َُٓ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ى﴾ [غافر‪ ]29 :‬كانت سبب�ا أساسيا‬ ‫ۡم إ ِ َّل َما ٓ أ َر ٰ‬
‫ُ‬
‫عليها‪ ،‬وهذه النظرة الفرعوني�ة ﴿ما أ ِريك‬
‫ِّ‬
‫واسباب القرب من هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫في البعد عن الحق‬
‫نعود إلى موضوعنا؛ فكما قلت إن الحاجة هي أم االختراع‪ ،‬وعند استقراء تاريخ‬
‫ً‬ ‫الحديث والجرح والتعديل أو ما يعرف بعلم الرجال‪ ،‬فإنه لم ُيبتكر ُ‬
‫ويخترع جزافا‬
‫ً‬
‫عند أهل السنة‪ ،‬بل كان ابتكاره ضرورة حتمية ومعالجة ترقيعية وتلفيقية في البيئ�ة‬
‫السني�ة لسببين هامين وخطيرين أال وهما‪ :‬البعد عن سنة هللا في الهداية فاهلل‬
‫يهيئ للناس أعالما يبينون لهم القرآن‪ ،‬ويعالجون المستجدات وظروف المرحلة‪،‬‬
‫ويبينون سنة الرسول العملية؛ ألنهم الهداة بأمر هللا‪ ،‬والسبب اآلخر الذي دفع أهل‬
‫السنة القتحام ما يسمى بعلم الجرح والتعديل‪ :‬الجمع العشوائي والغثائي الذي‬

‫‪247‬‬
‫بداية الطريق‬

‫أصيب به أهل السنة في بداية جمعهم الحديث‪ ،‬دون مراعاة ألي شرط في بداية‬
‫األمر‪ ،‬وإليك األرقام والحقائق التالية‪:‬‬
‫خرج منها في صحيحه أربعة‬‫كان البخاري يحفظ مائة ألف حديث صحيح!!! َّ‬
‫آالف حديث بدون المكرر (حفظ مائة الف حديث صحيح ومائتي الف حديث غير‬
‫صحيح) ‪( 201/2‬من هدي الساري مقدمة فتح الباري) وانظر جميع الكتب التي‬
‫تحدثت عن البخاري وروى ابن حجر في مقدمة فتح الباري ص‪ 4‬أن أبا علي الغساني‬
‫خرجت الصحيح من ستمائة ألف حديث‪.‬‬ ‫روى عنه أنه قال‪ّ :‬‬

‫ترى ما الذي اختزل المائة ألف حديث صحيح إلى أربعة آالف حديث من دون‬
‫المكرر وهي مجموع االحاديث في “صحيح” البخاري؟ ال بد أن الجمع االبت�دائي كان‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫عشوائي�ا وغثائي�ا جدا‪.‬‬
‫أما أبو زرعة فقد قال فيه الحافظ أبو بكر محمد الرازي‪ :‬لم يكن في هذه األمة‬
‫أحفظ من أبي زرعة‪ ،‬وكان يحفظ سبعمائة ألف حديث‪ ،‬وكان يحفظ مائة وأربعين‬
‫ً‬
‫ألفا في التفسير والقراءات(((‪.‬‬
‫وقال الحافظ يحيى بن منده‪ :‬وبلغني بإسناد هو لي مسموع أن أبا زرعة قال‪:‬‬
‫أنا أحفظ ستمائة الف حديث صحيح واربعة عشرالف حديث اسناد في التفسير‬
‫والقراءات)(((‪.‬‬
‫وقال أحمد بن حنب�ل (صح من الحديث سبعمائة ألف وكسر)(((‪.‬‬
‫ولو تساءلنا أين ذهبت هذه اآلالف المؤلفة من األحاديث لما وجدنا غير جوابين‪:‬‬
‫إما أن سنة رسول هللا ضاعت‪ ،‬وهذا مستحيل‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أو أن الجمع االبت�دائي كان عشوائي�ا وغثائي�ا جدا‪ ،‬وإن سميت أحاديث صحيحة‪.‬‬
‫ً‬
‫وستزداد عجبا عندما تعلم أن مجموع األحاديث الصحيحة وغير الصحيحة‬

‫((( راجع (أبو زرعه الرازي) الدكتور‪ /‬سعدي الهاشمي ‪207/1‬عن تهذيب الكمال‪.‬‬
‫((( المصدرالسابق وراجع تاريخ ابن كثير‪.37/11‬‬
‫((( تدريب الرواي ‪ - 50/1‬تهذيب التهذيب ‪.30/7‬‬

‫‪248‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫ً‬
‫عند أهل السنة ال تبلغ “خمسين ألفا “ بدون تكرار‪ ،‬ذكر ذلك السيوطي في تدريب‬
‫الراوي ‪ ،100 /1‬بل إن األحاديث المصححة في هذا العصر ال تصل إلى عشرة آالف‬
‫حديث قد تزيد أو تنقص بحسب اجتهاد المحدث‪ ،‬وإذا حسبن�ا الفارق الكبير‬
‫فستبلغ عدد األحاديث الصحيحة حسب تعبيرهم التي اندرست وضاعت ما‬
‫ً‬
‫يقارب ستمائة وتسعون ألفا!!! وعلى افتراض أن الخمسين ألف حديث صحيحة‬
‫فسيكون الفارق ستمائة وخمسون ألف حديث صحيح ضائع!!! واألعجب من ذلك‬
‫أن المحدث الكبير أبو زرعة الرازي ذكر أن أحاديث رسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫ُ‬
‫وسلم ال تحصى(((!!‬
‫بينما يقول اإلمام النووي في التقريب ص‪( 3‬الصواب أنه لم يفت األصول‬
‫الخمسة إال اليسير)!!!!‬
‫ُ‬
‫أما صحيح مسلم فقد نقل عنه أنه صنف مسنده من ثالثمائة ألف حديث‬
‫مسموعة‪ ،‬أما عدد أحاديث كتابه فأربعة آالف حديث دون المكرر أضواء على‬
‫الصحيحين ص‪ ،30‬أما أبو داوود فقد صنف سنن�ه من بين خمسمائة ألف حديث‪،‬‬
‫قال أبكر بن داسة‪ :‬سمعت أبا داوود يقول‪ :‬كتبت عن رسول هللا خمسمائة ألف‬
‫حديث انتخبت منه ما ضمنت�ه هذا الكتاب ‪-‬جمعت فيه أربعة آالف وثمانمائة‬
‫(((‬
‫حديث‪ -‬ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه‪.‬‬
‫أما موطأ اإلمام مالك فقد نقل السيوطي في تنوير الحوالك‪ ،‬وانظر كذلك شرح‬
‫الزرقاني على الموطأ ص‪ 11‬عن القاضي أبي بكر ابن العربي أن الموطأ هو األصل‬
‫ً‬
‫األول‪ ،‬والبخاري هو األصل الثاني‪ ،‬وأن مالكا روى مائة ألف حديث اختار منها في‬
‫الموطأ عشرة آالف حديث‪ ،‬ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة (السنة العملية)‬
‫حتى رجعت إلى خمسمائة حديث أي الحديث المسند‪ ،‬ورواية ابن الهباب‪ :‬ثم‬
‫لم يزل يعرضه على الكتاب والسنة ويختبرها باآلثار واألخبار حتى رجعت إلى‬
‫خمسمائة حديث‪ ،‬وغيرهم من علماء الحديث عند أهل السنة الذين كانوا يحفظون‬
‫مئات اآلالف من األحاديث!!‪.‬‬
‫((( اإلصابة ‪ ،1/1‬توضيح األفكار للصنعاني ص ‪.43‬‬
‫ً‬
‫((( أضواء على الصحيحين ص‪ 317‬نقال عن معالم السنن للخطابي ‪ 806/1‬تذكرة الحفاظ ‪.599/2‬‬

‫‪249‬‬
‫بداية الطريق‬

‫من خالل األرقام الخيالية السابقة يتبين لك أن الرواية في المجتمع السني كانت‬
‫ً‬
‫سوقا كبيرة لكل من هب ودب‪ ،‬وكانت على درجة عالية من الغثائي�ة والعشوائي�ة‪،‬‬
‫إزاء هذا الوضع المزري دعت الضرورة أهل السنة إلى اعتماد أساليب اقتصرت على‬
‫ً‬
‫تنقيح وتصحيح اإلسناد غالبا دون المتن‪ ،‬وعلى ما في هذا الطريقة من انتقادات‬
‫ً‬
‫سنوافيك بها الحقا لم يستطع أهل السنة تصحيح حتى المصحح في الوقت الحالي‬
‫النعدام األساليب السليمة في التصحيح‪.‬‬

‫الجمع الع�شوائي وعالقة ال�سنة بالتبيين للقر�آن‬


‫على العكس تماما ً من أهل السنة كان أتب�اع أعالم الهداية من أهل البيت‬
‫عليهم السالم يفهمون سنة هللا في الهداية في أنه يهيئ للناس أعالما في كل مرحلة‬
‫يبينون للناس القرآن‪ ،‬ومعالجات ومستجدات المرحلة‪ ،‬ويبينون سنة رسول هللا‬
‫العملية‪ ،‬ولذلك كانت منابعهم صافية‪ ،‬ومضوا من القناة التي أمرهم هللا باتب�اعها‪،‬‬
‫فلم يضطرهم ذلك إلى تقحم علم الرجال واصطالحاته التي ما زال كثير منها خارج‬
‫نطاق التطبيق عند أهل الحديث انفسهم إال في مجال الرد‪ ،‬ولذلك لم يحصل‬
‫عندهم التضخم والحشو الزائد من األحاديث التي صرفتهم عن كتاب هللا‪ ،‬وأصبح‬
‫ً‬
‫مثن�اة كمثن�اة أهل الكتاب كما سنوافيك الحقا‪.‬‬
‫يتشدق الوهابي�ة بالصحاح الستة وبالذات البخاري ومسلم‪ ،‬وعندما تسألهم‬
‫هل أمرنا هللا باتب�اع هذه الكتب ال يملك أي جواب‪ ،‬وإنما يقول ال بد من السنة‬
‫ألن القرآن بحاجة إلى مبين‪ ،‬وقد تتفاجأ أكثر عندما يتضح لك أن روايات أسباب‬
‫النزول والتفسير بالمأثور الموجود لدى أهل السنة محكوم عليه بعدم الصحة من‬
‫خال من اإلسناد إال ما ندر‪ ،‬وقد فشلت محاوالت لبعضهم مثل‬
‫محدثيهم هم‪ ،‬وأنه ٍ‬
‫(الدر المنثور في التفسير بالمأثور) للسيوطي‪ ،‬حيث حاول فيها تفسير القرآن‬
‫الكريم بالحديث النبوي الشريف‪ ،‬لكنه لم يجد إال القليل القليل عن رسول هللا‪،‬‬
‫وروايات متعارضة‪ ،‬ثم عاد إلى التفسير بأقوال الصحابة والتابعين كالضحاك وابن‬
‫عباس وعكرمة‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫وقد تتفاجأ أكثر عندما تطلب منهم تبيين�ا روائي�ا لسورة واحدة أوسورتين من‬
‫‪250‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫القرآن بإسناد صحيح فال تجد منهم جوابا‪ ،‬وبذلك يتضح لك أن كتبهم ِّ‬
‫تغرد في‬
‫معظمها خارج سرب القرآن‪ ،‬وأن تمسكهم بها بحجة أنها مبين�ة للقرآن باطل‪ ،‬وليس‬
‫أمامهم إال الطريق التي وضحها لهم هللا ورسوله في معرفة سنة هللا في الهداية‪.‬‬
‫وفي الواقع ال يوجد تفسير عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم بالطريقة‬
‫التفسيرية المعروفة إال أقل القليل‪ ،‬كتفسير للنص‪ ،‬لكنه كان هو صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم في حركته كلها تفسيرا وتبيين�ا‪ ،‬وتوجيهاته كلها تفسير وتبيين‪.‬‬
‫هل كان رسول هللا يفسر لنا السورة من أولها إلى آخرها بالتفسير المعروف‪:‬‬
‫َ َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ۡ َ َ‬ ‫َ َّ‬
‫ل‪﴾٢‬‬‫ار إِذا تَ َّ ٰ‬
‫ِ‬
‫َ َّ َ‬
‫ه‬ ‫ٱنل‬‫﴿و‬ ‫األرض‪،‬‬ ‫غطى‬ ‫إذا‬ ‫الليل‬ ‫‪:‬‬ ‫أي‬ ‫‪]1‬‬ ‫[الليل‪:‬‬ ‫‪﴾١‬‬‫ش‬‫ٰ‬ ‫غ‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ذ‬‫﴿و ِ ِ‬
‫إ‬ ‫ل‬‫ٱل‬
‫[الليل‪ ]2 :‬أي جعلناه كذا‪ ...‬إلخ؟ هل كان خطابه عبارة عن تفسير على النمط المعروف؟‬
‫يفسر لنا القرآن آية آية؟ هل يوجد أصال كتاب تفسير لرسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم بطريقة التفسير المعروفة؟ ال شك أن النبي األكرم ينطق بالقرآن‪ ،‬يبين‬
‫لألمة ماذا يريد القرآن‪ ،‬وكيف يريد القرآن أن تكون‪ ،‬ألم يكن عمله هكذا؟ وهذه هي‬
‫الطريقة المطلوبة‪.‬‬
‫عندما يقولون رسول هللا هو مفسر‪ ،‬هو مبين‪ ،‬بالتأكيد هو مبين هذا شيء ال‬
‫شك فيه‪ ،‬لكن ما هو البي�ان؟ البي�ان ال يقتصر فقط على مجرد أن يقول‪« :‬هذه اآلية‬
‫تعني كذا»! البي�ان أيضا في حركته في الحياة‪ ،‬هو قرآن يتحرك‪ ،‬حركته كلها هي‬
‫تجسيد للقرآن لما يهدي إليه القرآن‪.‬‬
‫فالبي�ان يأتي عن طريق الكالم‪ ،‬وعن طريق الحركة‪ ،‬وعن طريق أشياء كثيرة‬
‫ً‬
‫جدا‪ ،‬عن طريق مواقف يتبن�اها على نحو معين هي عبارة عن بي�ان؛ وبهذا يكون بي�انه‬
‫هو حركته في أداء الرسالة‪.‬‬
‫ً‬
‫إذا فسنت�ه هي حركته في الحياة‪ ،‬وأسلوبه الذي كان يسير عليه في الحياة‪،‬‬
‫وبي�انه للقرآن هو هذا‪.‬‬
‫من الذي كتب هذا البي�ان؟ الجانب الكبير من البي�ان جانب غير مكتوب‪ ،‬ال‬
‫يمكن ألحد أن يرصد حركة رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم ويحللها‬
‫التحليل الكامل‪.‬‬
‫‪251‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬
‫فمثال من خالل سلوك معين له يتجلى مبدأ معين هو مما أرشد إليه القرآن‪،‬‬
‫مثلما تحرك لمواجهة الروم في تبوك دون أن يستعين بأي طرف آخر‪ ،‬أن يتحرك في‬
‫كل حروبه ضد المشركين‪ ،‬وضد الروم دون أن يستعين بأطراف أخرى‪.‬‬
‫ليس معنى ذلك عدم قدرته على إقامة عالقات مع دول أخرى فيستعين بها‪ ،‬بل‬
‫ألنه يعتقد أنه ال بد من بن�اء أمة قوية تعتمد على نفسها واثقة بربها‪ ،‬لو يفتح المجال‬
‫باالعتماد على اآلخرين ستكون نقطة ضعف رهيب�ة في بن�اء األمة‪.‬‬
‫فعندما يتحرك على هذا األساس‪ ،‬هو يبين‪ ،‬هذا هو الجانب الذي ال يوجد فيه‬
‫روايات‪ ،‬ال يوجد فيه أحاديث‪ :‬حدثن�ا فالن أن رسول هللا لم يعمل كذا؛ ألنه أراد كذا‬
‫كذا كذا‪...‬إلخ؛ ألن هذا الموضوع يحتاج إلى تحليل‪ ،‬ال يوجد روايات تحليلية‪..‬‬
‫ً‬
‫ممكن أن يروي لنا الرواة أنه حشد الناس وكانوا ثالثين ألفا‪ ،‬وتحركوا إلى تبوك‪،‬‬
‫وتبوك تبعد عن المدين�ة وهي في تخوم الشام‪ ...‬إلخ‪ .‬وانتهى الموضوع‪ ،‬لكن لماذا‬
‫كان هكذا في قيادته؟ لماذا كان هكذا في حركته؟ ال يوجد فيها روايات‪.‬‬
‫هذا هو الجانب المهم‪ ،‬والجانب الكبير‪ ،‬وهذا هو البي�ان‪ ،‬مثل هذا أين يمكن أن‬
‫ُيكتب؟‪ ،‬ال يمكن أن يكتب في ذهني�ة رواة الحديث أو كل صحابي‪ ،‬بالتأكيد سيكتب‬
‫في ذهني�ة اإلمام علي‪ ،‬الشخص الذي يمكن أن يقوم بدور كهذا هو اإلمام علي‪ ،‬هو‬
‫الذي سيعرف‪ ،‬وهو مؤهل من هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬ومؤهل لتربي�ة رسول هللا له‪،‬‬
‫ً‬
‫سيعرف حركة رسول هللا‪ ،‬فهو إذا من سيعرف سنة رسول هللا؛ ألن السنة ليست‬
‫موضوع روايات‪ ،‬هو يعرف كيف كان يبين رسول هللا (صلوات هللا عليه وعلى‬
‫آله) القرآن‪ ،‬وما هو بي�انه للقرآن‪ ،‬فسنة رسول هللا صلوات هللا عليه وعلى آله هي‬
‫طريقته في حركته الرسالية‪ ،‬القضية ليست قضية تفسير‪ ،‬ولمن يفهم القضية‬
‫بهذا الشكل‪ :‬مسألة شروح وروايات وأشياء من هذه‪ :‬أين هي شروح القرآن التي‬
‫َۡ ََ َُ‬ ‫ُ َّ َّ َ َ‬
‫أرفقها هللا بالقرآن؟ ألم يقل هللا سبحانه وتعالى‪﴿ :‬ثم إِن علينا بيانهۥ‪[ ﴾١٩‬القيامة‪:‬‬
‫َ َ‬
‫‪ ]19‬ألم يكن باإلمكان أن يرفق به ﴿ب َيان ُهۥ﴾ فيعمل مجلدين آخرين شرح بي�ان القرآن؟‬
‫لقد بين�ه‪ ،‬عليه بي�انه‪ ،‬وبطريقته‪ ،‬عليه بي�انه هو‪ ،‬بي�انه مرتبط بالحياة‪ ،‬وبي�انه مرتبط‬
‫بمن يكمله‪ ،‬بمن يختصه سواء على يد رسول هللا‪ ،‬أو على يد اإلمام علي من بعده‪ ،‬أو‬

‫‪252‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫ً‬
‫أي شخص آخر يقوم مقامه‪ ،‬لن يكون بي�انه أبدا بطريقة تفسيرية‪ ،‬مثل‪ :‬الزمخشري‬
‫أو الطبري أو أي مفسر آخر لن يكون بالطريقة هذه؛ هذا بي�ان محدود‪ ،‬هو يتعامل‬
‫ً‬
‫مع اللغة أساسا‪ ،‬يتعامل مع اللغة‪ :‬النص ومعناه في اللغة‪ ،‬يستعين بقواميس‪.‬‬
‫َۡ‬ ‫َ َ‬
‫لكن بي�انه كهدى‪ ،‬بي�انه مرتبط بحركة في الحياة‪ ،‬مرتبط باختصاص إلهي‪﴿ .‬علينا‬
‫ۡ ُ َّ‬ ‫َ َ َ َّ َ‬ ‫َۡ َ‬
‫ۡل ُه َد ٰ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َب َيانَ ُ‬
‫يل﴾‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ٱلس‬ ‫د‬‫ص‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫ٱلل‬ ‫ع‬‫﴿و‬ ‫‪]12‬‬ ‫[الليل‪:‬‬ ‫‪﴾١٢‬‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ا‬‫ن‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫﴿إ‬ ‫قال‪:‬‬ ‫كما‬ ‫ۥ‪﴾١٩‬‬ ‫ه‬
‫َ‬
‫[النحل‪ ]9 :‬يقول‪ :‬هذه هي َعل َّي‪ ،‬ال تشغلوا أنفسكم أنتم بها‪ ،‬تنطلقون أنتم تتن�اولونها‬
‫ستتيهون وتضيعون‪.‬‬
‫عندما انطلق الناس هم‪ :‬كل واحد يريد أن يبين لنفسه هو‪ ،‬تمزقوا وتفرقوا‪،‬‬
‫انتهوا إلى غرائب‪ ،‬إلى ضالل رهيب انعكس علين�ا‪ .‬ألم ينعكس علين�ا؟ أصبحنا أحط‬
‫األمم‪ ،‬أمة أصبحت النسبة إليها ُس َّبة في العالم‪.‬‬
‫ۡ َٰ ٗ ّ ُ ّ‬ ‫ك َتٰ َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َۡ َ َ‬ ‫﴿ونَ َّ‬
‫تجد في مقابل قول هللا سبحانه وتعالى‪َ :‬‬
‫ِك‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬‫ن‬‫ي‬ ‫ِب‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫ز‬
‫ً‬ ‫ۡ‬‫َ‬
‫شءٖ﴾ [النحل‪ ]89 :‬من يقول مثال‪ :‬ال بأس تبي�انا لكل شيء‪ ،‬لكن لم نجده ذكر الصالة‬
‫بالتفصيل في كيفيتها وعدد ركعاتها‪ .‬ألسنا نسمع هذه؟ نقول له‪ :‬تعال ننظر إلى‬
‫ِّ‬
‫االنطالقة األخرى التي لم تقم على أساس هدي القرآن‪ :‬ألم يصل رسول هللا (صلوات‬
‫هللا عليه وعلى آله)؟ قل لي كيف قدم المسلمون هذه الصالة‪ ،‬يوم انطلقوا هم‪ .‬ألم‬
‫يقدموها لنا بأشكال متعددة ومختلفة؟ بعض الناس يرفع‪ ،‬وبعضهم يضم أعلى‬
‫صدره‪ ،‬وبعضهم يضم وسط صدره‪ ،‬وبعضهم يعمل كذا‪ ،‬وبعضهم يعمل كذا‪ ،‬و‬
‫‪ ...‬إلخ أليست منوعة؟ ألم يصبح التطبيق الذي عمله الرسول (صلوات هللا عليه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وعلى آله) ضائعا؟ أصبح ضائعا فعال‪ ،‬ضاع من خالل ما بين أيدي المسلمين‪ ،‬وكل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نموذجا معين�ا‪ .‬أليس معنى هذا أنه في المجموع جهل التطبيق الحقيقي؟‬ ‫فئة قدمت‬
‫الممارسة الحقيقية للدين الذي أداها رسول هللا صلوات هللا عليه وعلى آله بما‬
‫فيها أذانه‪ ،‬اآلذان نفسه بعض الناس يقول‪ :‬الصالة خير من النوم‪ ،‬وبعضهم يكبر‬
‫أربع مرات‪ ،‬وبعضهم يقولون‪ :‬حي على خير العمل‪ ..‬وهو كان يؤذن على مسامعهم‪،‬‬
‫واألذان من أوضح الواضحات‪ ،‬واختلفوا في تقديمه لنا؟‬
‫لكن هداية القرآن هي كانت ‪-‬وال تزال‪ -‬بالشكل الذي ال يصبح شيء من هذه‬

‫‪253‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬ ‫التطبيقات محط إشكال‪ ،‬وال ً‬


‫غائب�ا‪ ،‬لو تمسكت األمة باإلمام علي مثال‪ ،‬وسارت‬
‫بمسيرة اإلمام علي‪ ،‬أليس اإلمام علي يعرف كيف كان يصلي رسول هللا (صلوات‬
‫هللا عليه وعلى آله)؟ ألن يكون أداء اإلمام علي لصالته‪ ،‬وصيامه‪ ،‬وحجه‪ ،‬وكل‬
‫عباداته‪ ،‬وكل مواقفه‪ ،‬هي التطبيق نفسه الذي قام به الرسول (صلوات هللا عليه‬
‫ً‬
‫وعلى آله)؟ إذا ألن يكون موقف اإلمام علي هو التبي�ان الواضح للتطبيق؟ فتمشي‬
‫ََ‬
‫العلم‬ ‫األمة على طريقة واحدة‪ .‬من تبي�ان القرآن الكريم‪ ،‬من التبي�ان أنه يهدي إلى‬
‫الذي هو أعلم بالمسيرة التي كان عليها النبي (صلوات هللا عليه وعلى آله) فتسير‬
‫األمة على منهج واحد‪ ،‬وطريقة واحدة في الصالة‪ ،‬وفي الحج‪ ،‬وفي العبادات‪ ،‬وفي‬
‫المواقف‪ ،‬ألن تكون الصورة عن الدين يوم طبقه رسول هللا (صلوات هللا عليه‬
‫وعلى آله) أبين من الصورة التي المسلمون عليها اآلن؟ أليس هناك اختالفات في‬
‫كل قضية؟ أي‪ :‬المسالة من حيث هي ليست ِّبين�ة! أليس معناها هكذا؟ وإذا كان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اآلذان الذي كان يؤذن به كل يوم عدة مرات جهرا لم يعد ِّبين�ا عند المسلمين‪ ،‬بعض‬
‫الناس يقول‪ :‬هللا أكبر أربع مرات‪ ،‬وبعضهم يحذفون حي على خير العمل‪ ،‬وبعضهم‬
‫يأتي بالتثويب بدل‪ ،‬وبعضهم يقولون‪ :‬حي على خير العمل‪ ،‬وهو أذان واحد!‬
‫أي‪ :‬أن من التبيين القرآني‪ ،‬ما يهدي إليه القرآن بالنسبة ألعالم دين هللا؛‬
‫فيكونون هم وسيلة تبيين‪ ،‬هم أنفسهم‪ ،‬ولن يكونوا عبارة عن رقم آخر‪ ،‬تبيين في‬
‫إطار القرآن الكريم‪.‬‬
‫عندما نسمع‪ :‬لكن كم عدد ركعات كذا؟ نقول‪ :‬القرآن في تبيين�ه يرشد إلى‬
‫علي‪ ،‬وعلي سيبين لك الصالة التي صالها رسول هللا (صلوات هللا عليه وعلى آله)‬
‫نمش على هذا البي�ان‪ ،‬ما الذي حصل؟‬‫وانتهى الموضوع‪ .‬أليس هذا بي�ان؟ لكن لم ِ‬
‫ألم يحصل اختالف؟ وحصل تضييع للتطبيق؟ ضاع التطبيق الذي قام به رسول هللا‬
‫في حياته في وسط الضجة هذه‪.‬‬
‫فالمالحظ أن هللا لم يذكر سنة النبي أو رواياته أو الحديث النبوي في القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ألن االمتداد الطبيعي لرسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم والمعبر عن‬
‫رسول هللا ليست كتب الحديث‪ ،‬وإنما القرآن وورثت�ه الحقيقيين‪ ،‬ولذلك يذكر هللا‬

‫‪254‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫في القرآن الكريم أن االمتداد الطبيعي لرسول هللا هم رجال وليس مرويات‪ ،‬قال‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬‫َۡ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ٓ ْ َ ُ ْ َّ َ َ ُ ْ َّ ُ َ ُ‬
‫﴿يأيها ٱلِين ءَامنوا أ ِطيعوا ٱلل َوأ ِطيعوا ٱلرسول َوأو ِل ٱلم ِر مِنكم ۖ﴾‬ ‫تعالى‪ٰٓ :‬‬
‫ۡ َ َ‬ ‫ۡ َ َ‬
‫َۡ‬ ‫ۡٱل ِ َ َ َّ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كتٰب ٱلِين ٱصطفينا مِن عِبادِناۖ﴾ (سورة فاطر ‪ -‬من‬ ‫ۡو َرثنا‬ ‫(سورة النساء ‪ -‬من اآلية ‪﴿ ،)59‬ث َّم أ‬
‫ۡمر‪ٞ‬‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ َ َُٓ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َّ َ ٓ َ َ ُ ‪َ ّ ُ َ ٞ‬‬
‫ِك قو ٍم ها ٍد‪( ﴾٧‬سورة الرعد ‪ -‬من اآلية ‪ِ﴿ ،)7‬إَوذا جاءهم أ‬ ‫ۡنت من َ ِذر ۖ ول ِ‬ ‫اآلية ‪﴿ ،)23‬إِنما أ‬
‫َ‬
‫ۡم ل َعل َمهُ‬ ‫ُۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ ُّ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َۡ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫م َِن ٱلم ِن أ ِو ٱلو ِف أذاعوا ب ِ ِهۖۦ ولو ردوه إِل ٱلرسو ِل ِإَول أو ِل ٱلم ِر مِنه‬
‫ْ‬ ‫ٰٓ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ُۡ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ۡ َ‬
‫ۡم ۗ ﴾ (سورة النساء ‪ -‬من اآلية ‪ ،)38‬كما تالحظون ال توجد آية واحدة‬ ‫ِين يستۢنبِ ُطون ُهۥ مِنه‬ ‫ٱل‬
‫تقول‪ :‬أطيعوا سنة رسول هللا أو رواياته‪ ،‬وال يعني ذلك إنكارا لسنة رسول هللا‪ ،‬أو‬
‫إنكارا لوجود مرويات عنه‪ ،‬وإنما المراد بكالمنا هو أن األقدر على فهم سنة رسول هللا‬
‫هم الورثة الحقيقيون للقرآن الكريم‪.‬‬

‫هل دعا ر�سول اهلل �إلى الإكثار من الرواية عنه �أم ال؟‬
‫ألن هللا سبحانه وتعالى قد وضع للناس سنة في الهداية أراد من الناس أن‬
‫يتحركوا وأن يقتدوا بأعالمه الذين يهيئهم في كل مرحلة‪ ،‬وألن الرسول كان يعلم بأن‬
‫الناس سيتخذون قنوات أخرى يدعون أنها من رسول هللا؛ فقد نهى رسول هللا عن‬
‫الرواية عنه حتى ال تتشكل قنوات للهداية غير ما أراده هللا ورسوله‪ ،‬وإال فما فائدة‬
‫قول الرسول «كتاب هللا وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نب�أني أنهما لن يفترقا‬
‫حتى يردا علي الحوض»‪ ،‬والعجيب أن روايات النهي موجودة في كتب أهل السنة‬
‫وإليك الحقائق التالية‪:‬‬
‫من يقارن بين األحاديث التي رويت في كتب أئمة أهل البيت عليهم السالم‪ ،‬وما‬
‫هو موجود في كتب أهل السنة واالثني عشرية‪ ،‬سيالحظ قلة المرويات الحديثي�ة‬
‫في كتب قرناء القرآن‪ ،‬مقارنة بالحشو الزائد عند كل من أهل السنة واالثني عشرية‪،‬‬
‫وهذه إحدى النقاط المثارة والشبه التي افتتن بها بعض التابعين ألئمة أهل البيت‪،‬‬
‫َ ّ‬
‫رغم أن واقع كتب قرناء القرآن ما كان إال ثمرة اتب�اع أمر النبي صلى هللا عليه وعلى آله‬
‫ً‬
‫وسلم‪ ،‬واستمرارا لعمل الصحابة‪ ،‬وإليك األدلة على ذلك‪:‬‬
‫روى أحمد ومسلم والدارمي والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال‪:‬‬

‫‪255‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬
‫قال رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪“ :‬ال تكتبوا عني شيئ�ا سوى القرآن‪،‬‬
‫فمن كتب عني غير القرآن فليمحه”‪.‬‬
‫وأخرج الدارمي عن أبي سعيد كذلك أنهم استأذنوا النبي صلى هللا عليه وعلى‬
‫آله وسلم أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫النبي صلى‬ ‫وفي رواية الترمذي عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال‪ :‬استأذنا‬
‫هللا عليه وعلى آله وسلم في الكتابة فلم يأذن لنا(((‪.‬‬
‫ومن مراسيل ابن أبي مليكة‪ :‬أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال‪“ :‬إنكم‬
‫تحدثون عن رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم أحاديث تختلفون فيها‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والناس بعدكم أشد اختالفا‪ ،‬فال تحدثوا عن رسول هللا شيئ�ا‪ ،‬فمن سألكم فقولوا‪:‬‬
‫بينن�ا وبينكم كتاب هللا‪ ،‬فاستحلوا حالله وحرموا حرامه”(((‪.‬‬
‫وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في المدخل عن عروة أن عمر أراد‬
‫أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول هللا في ذلك ‪-‬ورواية البيهقي فاستشار‪-‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فأشاروا عليه أن يكتبها‪ ،‬فطفق عمر يستخير هللا شهرا‪ ،‬ثم أصبح يوما وقد عزم هللا‬
‫ً‬ ‫له‪ ،‬فقال‪ :‬إني أريد أن أكتب السنن‪ ،‬وإني ذكرت ً‬
‫قوما كانوا قبلكم كتبوا كتب�ا فانكبوا‬
‫ً‬
‫عليها وتركوا كتاب هللا‪ ،‬وإني ‪-‬وهللا‪ -‬ال أشوب كتاب هللا بشيء أبداورواية البيهقي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫(ال ألبس كتاب هللا ابدا) وعن عبد هللا بن يسار قال‪ :‬سمعت عليا يخطب يقول‪:‬‬
‫أعزم على كل من عنده كتاب إال رجع فمحاه‪ ،‬فإنما هلك الناس حين تتبعوا أحاديث‬
‫علمائهم وتركوا كتاب ربهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وعن األسود بن هالل قال‪ :‬أتي عبد هللا بن مسعود بصحيفة فيها حديث‪ ،‬فدعا‬
‫ً‬
‫بماء فمحاها ثم غسلها‪ ،‬ثم أمر بها فأحرقت‪ ،‬ثم قال أذكر هللا رجال عن أحد إال أعلمني‬
‫ٍ‬
‫هند لبلغتها‪ ،‬بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نب�ذوا كتاب‬
‫به‪ ،‬وهللا لو أعلم أنها بدير ٍ‬
‫هللا وراء ظهورهم كأنهم ال يعلمون!‬

‫((( ‪91/2‬طبعة الهند‪.‬‬


‫((( ‪ 3/1‬تذكرة الحفاظ للذهبي‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫َ‬
‫الكتابين؛ (جامع بي�ان العلم وفضله)‬ ‫وهناك غير ذلك أخبار كثيرة ُي َ‬
‫رجع إليها في‬
‫البن عبد البر‪ ،‬و(تقيي�د العلم) للبغدادي‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬
‫روى ابن سعد في الطبقات (‪ )140/5‬والبغدادي في تقيي�د العلم ص ‪ 52‬عن عبد‬
‫يملي علي أحاديث فقال‪ :‬إن األحاديث‬ ‫هللا بن العالء قال‪ :‬سألت القاسم بن محمد أن ّ‬
‫ْ‬
‫كثرت على عهد عمر بن الخطاب‪ ،‬فأنشد َ‬
‫الناس أن يأتوه بها‪ ،‬فلما أتوه بها أمر بتحريقها‪،‬‬
‫ثم قال‪“ :‬مثن�اة كمثن�اة أهل الكتاب”! قال فمنعني القاسم بن محمد يومئذ ان أكتب‬
‫حديث�ا‪.‬‬
‫ً ً‬
‫وقد عقد الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه هللا فصال قيما في التعادل‬
‫والترجيح بين روايات النهي وروايات الرخصة‪ ،‬نأتي به هنا ليكون مقطع الحق في‬
‫هذا األمر‪ ،‬قال رحمه هللا‪:‬‬
‫“إن أصح ما ورد في المنع من كتابة الحديث ما رواه أحمد في مسنده ومسلم‬
‫ً‬
‫في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا‪:‬‬
‫ً‬
‫«ال تكتبوا عني شيئ�ا إال القرآن فمن كتب غير القرآن فليمحه»‪.‬‬
‫ً‬
‫وإن أصح ما ورد في اإلذن حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا‬
‫«أكتبوا ألبي شاة» وهو ال يعارض حديث أبي سعيد وما في معناه‪ ،‬على قاعدتن�ا‬
‫التي مدارها على أن نهيه صلى هللا عليه وعلى آله وسلم عن كتابة حديث�ه مراد به أال‬
‫ً ً‬ ‫ُ‬
‫تتخذ دين�ا عاما كالقرآن‪ ،‬وذلك أن ما أمر بكتابت�ه ألبي شاة هو خطبة خطبها صلى هللا‬
‫َُ ُ‬
‫عليه وعلى آله وسلم يوم فتح مكة موضوعها تحريم مكة ولق َطة الحرم‪ ،‬وهذا من‬
‫وصرح به في‬‫صرح به يوم الفتح ّ‬ ‫بي�انه صلى هللا عليه وعلى آله وسلم للقرآن الذي ّ‬
‫صرح البخاري‬ ‫حجة الوداع وأمر بتبليغه‪ ،‬فهو خاص مستثنى من النهي العام‪ .‬وقد ّ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫في باب اللقطة من صحيحه بأن أبا شاة اليمني طلب أن تكتب له الخطبة المذكورة‬
‫فأمر صلى هللا عليه وعلى آله وسلم بإجابة طلبه‪ ،‬وليس من باب فتح المجال لرواية‬
‫هب ّ‬
‫ودب؛ ألن هللا بين لنا سنت�ه في الهداية”‪ ((( .‬إنتهى‪.‬‬ ‫الحديث لكل من ّ‬

‫((( من كتاب أضواء على الصحيحين بتصرف كبير ص ‪.48 - 46‬‬

‫‪257‬‬
‫بداية الطريق‬

‫و�سائل ت�صحيح الحديث عند �أهل ال�سنة‬


‫الوسيلة الوحيدة لتصحيح الحديث عند أهل السنة والجماعة هو فحص‬
‫ً‬
‫وتمحيص أحوال الرواة‪ ،‬وال عليهم بعد ذلك من متن الحديث غالبا‪.‬‬

‫عيوب منهج �أهل ال�سنة في الت�صحيح‬


‫ً‬
‫أخطاء جسيمة منها‪:‬‬ ‫االقتصار على نقد السند دون المتن أثمر‬

‫أوال‪ :‬الحكم على أحاديث بالصحة رغم معارضتها لكتاب اهلل‬

‫واالمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها‪:‬‬


‫‪ -‬حديث االغراء بالمعاصي (الرسالة المنقذة ‪ )72-71‬روى مسلم في صحيحه‬
‫(‪ 2106/4‬برقم ‪ )2749‬عن النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم أنه قال‪“ :‬لو لم‬
‫تذنبوا لذهب هللا بكم وجاء بقوم آخرين يذنبون‪ ”...‬الخبر‪ ،‬وهو يسمع كتاب هللا‬
‫ۡ ُ َّ َ َ ُ ُ ٓ ْ‬ ‫َُۡ‬ ‫ۡ َ ً َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ َ َّ ْ َ‬
‫ۡ َ‬
‫يكم ثم ل يكونوا‬ ‫ۡوما غ‬ ‫ۡوا يستب ِدل ق‬ ‫بخالف ذلك في قوله عز وجل‪ِ﴿ :‬إَون تتول‬
‫ۡ َُّ‬ ‫ْ‬
‫ۡ َ ُ َ َّ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ۡ َٰ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ٰ‬
‫أمثلكم‪[ ﴾٣٨‬محمد‪ ... ]38 :‬وقوله في قصة هود‪﴿ :‬ويقو ِم ٱستغ ِفروا ربكم ثم‬
‫ۡ ُ ُ ً َ ُ ُ‬ ‫ۡ َ ٗ َ‬ ‫ۡ ُ ّ‬ ‫َّ ٓ َ َ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ُ ُ ْ َ‬
‫ۡم﴾ [هود‪ ]52 :‬إلى‬ ‫ۡم ق َّوة إ ِ ٰل ق َّوت ِك‬‫ارا َوي ِزدك‬ ‫ۡر ِس ِل ٱلس َماءَ عليكم مِدر‬‫توب ٓوا إِل ِه ي‬
‫ۡ ُ َّ‬ ‫ۡ َ‬‫ۡ ََ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ۡ ُ ٓ َ‬ ‫ۡ ُ ُ َّ ٓ ُ‬ ‫َۡ‬‫ۡ َ‬
‫َ َ َ َّ ْ َ َ‬
‫ۡوا فقد أبلغتكم ما أر ِسلت ب ِ ِهۦ إِلكم ۚ ويستخلِف ر ِب‬
‫ۡ‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬فإِن تول‬
‫َُۡ‬ ‫َ ً َ‬
‫ۡم﴾ [هود‪.]57 :‬‬‫يك‬ ‫ۡوما غ‬ ‫ق‬
‫حديث خلق السماوات واألرض في سبعة أيام‪:‬‬
‫الذي رواه مسلم في صحيحه كتاب صفات المنافقين باب ابت�داء الخلق‬
‫برقم ‪ 2789‬عن أبي هريرة انظر كتابن�ا هذا موضوع (بعض الصحابة يأخذ عن مخبر‬
‫وينسب للنبي) والمعلوم بأدلة القرآن أن هللا خلق السماوات واألرض في ستة أيام‬
‫وهذا ال يحتاج إلى توضيح‪.‬‬
‫‪ -‬روى البخاري (فتح ‪ )152 - 151/3‬ومسلم (‪« )642 - 638/2‬عن عبد هللا بن‬
‫عمر وعن عمر بن الخطاب عن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪“ :‬إن الميت‬
‫ََ َ‬
‫﴿ول ت ِز ُر‬ ‫يعذب ببكاء أهله عليه”‪ .‬وكما تعلم فالحديث معارض لقوله تعالى‪:‬‬

‫‪258‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ ُ‬
‫ۡ‬ ‫َ َ ‪ٞ‬‬
‫ى﴾ [األنعام‪ ]164 :‬إذ كيف يعذب الميت بما لم يعمله وليس من آثار‬ ‫ٰ‬
‫ازرة ِوزر أخر ۚ‬‫و ِ‬
‫ُ‬
‫ۡ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ۡ َ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عمله‪ ،‬وهللا سبحانه وتعالى يقول‪﴿ :‬ول تزون إِل ما كنتم تعملون‪[ ﴾٥٤‬يس‪:‬‬

‫‪.]54‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬روى البخاري في صحيحه‪ :‬أن أبا لهب يخفف عنه كل يوم إثنين ألنه أعتق جاريت�ه‬
‫ً‬
‫معارض لقوله‬ ‫فرحا بمولد رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ ،‬وهذا ِ‬
‫ۡ ُ َ ُ َ‬‫َۡ َ ُ ََ ُ‬ ‫َ َ َ ُ َ َّ ُ َ‬
‫ُُۡ‬ ‫َ‬
‫تعالى‪﴿ :‬خ ٰ ِلِين فِيها ل يفف عنهم ٱلعذاب ول هم ينظرون‪[ ﴾١٦٢‬البقرة‪]162 :‬‬
‫ً‬ ‫ۡ ُم َّتق َ‬ ‫َّ َ َ َ َ َّ ُ َّ ُ‬
‫وقو ِله تعالى‪﴿ :‬إِنما يتقبل ٱلل م َِن ٱل ِ‬
‫ّ‬
‫ني‪[ ﴾٢٧‬المائدة‪ ،]27 :‬ولعل قائال يقول‪:‬‬
‫ّ‬
‫إن أبا لهب مخصص ومستثنى من ذلك‪ ،‬فيا سبحان هللا! أيستثنى أبو لهب وهو‬
‫رأس الكفر‪ ،‬وال يستثنى غيره ممن هم دونه؟! ناهيك عن أن هذا االدعاء يفتح‬
‫المجال لتخصيص كتاب هللا المحكم بأحاديث ظني�ة‪ ،‬فيكون حجة لكل من أتى‬
‫برواية مخالفة للقرآن ليقول إن هذه الرواية أو تلك تستثني وتخصص ما نصت‬
‫عليه آيات هللا في كتابه الكريم‪.‬‬
‫‪ -‬حديث سحر النبي والذي ذكرناه في فصل سابق بعنوان نبين�ا محمد وروايات‬
‫أهل السنة‪.‬‬
‫‪ -‬حديث «ولد الزنا شر الثالثة» ذكرناه في فصل (بعض الصحابة ينقلون آخر‬
‫َ‬ ‫ۡ َ ُ‬
‫ۡ‬ ‫ََ َ ُ َ َ ‪ٞ‬‬ ‫ً‬
‫ى﴾‬ ‫ٰ‬
‫ازرة ِوزر أخر ۚ‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ز‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫﴿و‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫لقوله‬ ‫معارض‬ ‫وهو‬ ‫)‪،‬‬‫أحيانا‬ ‫الحديث‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[األنعام‪.]164 :‬‬
‫‪ -‬حديث أبي ذر الغفاري‪“ :‬من شهد أن ال إله إال هللا وأن محمد رسول هللا دخل‬
‫الجنة وإن زنى وإن سرق” الذي ذكرناه في فصل (األحاديث المتن�اقضة) وهو‬
‫ُُۡ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ َ َ َ َّ َ ً‬ ‫َ َّ َ َ َ‬
‫ِين ل يدعون مع ٱللِ إِلٰها ءَاخ َر َول يقتلون‬ ‫معارض لقوله تعالى‪﴿ :‬وٱل‬
‫ۡ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬‫َۡ ّ َ َ ُ َ َ َ َ‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ َّ َ َّ َ َّ ُ َّ‬
‫ۡزنونۚ َومن يفعل ذٰل ِك يلق أثاما‪ ٦٨‬يضٰعف‬ ‫ٱلل إِل بِٱل ِق ول ي‬ ‫ٱنلفس ٱل ِت حرم‬ ‫َّ‬
‫ُ َ ً‬ ‫ۡ ُ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َۡ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ل فِي ِهۦ مهانا‪[ ﴾٦٩‬الفرقان‪ ،]69-68 :‬ولم يقل هللا يدخل‬‫ۡ‬ ‫ۡو َم ٱل ِقيٰ َم ِة َويخ‬‫ُل ٱلعذاب ي‬
‫الجنة وإن زنى وإن سرق!!!!‬

‫‪259‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ثانيــا‪ :‬الحكــم علــى أحاديــث بالصحــة رغــم معارضتهــا للقوانيــن العلميــة‬


‫الثابتــة والواقــع العلمــي المعــاش‪.‬‬
‫نذكر لذلك أمثلة منها‪:‬‬
‫روى البخاري (كتاب بدء الخلق باب صفة الشمس والقمر) ومسلم وبعض السنن‬
‫والمساني�د والتفسير بالمأثور عن أبي ذر قال رسول هللا ألبي ذر حين غربت الشمس‪:‬‬
‫أتدري أين تذهب؟ قلت‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش‬
‫فتستأذن فيؤذن لها‪ ،‬ويوشك أن تسجد فال يقبل‪ ،‬فتستأذن فال يؤذن لها فيقال لها‬
‫ۡ ََ‬ ‫ۡ ُ َ‬
‫ۡ‬ ‫َ َّ‬
‫﴿وٱلشمس ت ِري ل ُِمستق ّ ٖر‬ ‫ارجعي من حيث شئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫َّ َ‬
‫لهاۚ﴾ [يس‪( .]38 :‬المصادر في الحاشية)‬
‫كما تالحظ فالحديث يبين أن الشمس تغرب كلية عن األرض‪ ،‬وتغيب عنها‬
‫تحت العرش‪ ،‬مع أن الشمس ال تغيب إال عن نصف الكرة االرضية وتظهر على‬
‫ٱنل َه َ‬ ‫ۡ َ َ َ َّ َ َ ُ َ‬
‫ك ّو ُر َّ‬ ‫ُ َ ّ ُ َّ‬
‫ار‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ار‬
‫ِ‬ ‫ه‬‫ٱنل‬ ‫ع‬ ‫ل‬‫ٱل‬ ‫النصف اآلخر نتيجة كرويتها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يك ِور‬
‫ۡ‬‫َ َ َّ‬
‫ٱل ِلۖ﴾ [الزمر‪ ،]5 :‬وال يمكن أن يحصل هذا التكوير إال إذا كانت األرض كروية‪،‬‬ ‫ع‬
‫ً‬
‫والمعلوم أن هذه حقيقة علمية ال يمكن تكذيبها أبدا‪.‬‬
‫وروى أحمد في مسنده حديث�ا ًحكم له علماء الحديث بالصحة‪ ،‬ورواه كذلك في‬
‫مجمع الزوائد وأبو يعلى والطبراني‪ ،‬عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى هللا‬
‫عليه وعلى آله وسلم قال‪“ :‬صدق أمية في شئ من شعره‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫والنســــر لألخرى وليـــت مرصدي‬ ‫ٌ‬
‫وثـــور تحـــت رجـــل يمين�ه‬ ‫زحـــل‬
‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ :‬صدق وقال‪:‬‬
‫حمـــراء يصبـــح لونهـــا يتـــــورد‬ ‫والشـــمس تطلـــع كل آخـــر ليلـــة‬
‫إال معذبـــة وإال تجــــــلد"‬ ‫تاتـــي فمـــا تطلع لنـــا في رســـلها‬
‫ُ َ‬
‫ولما اعت ِرض عليه في قوله‪“ :‬إال معذبة وإال تجلد”‪ ،‬قال ابن عباس‪ :‬والذي‬
‫نفسي بي�ده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك‪ ،‬فيقولون‪ :‬لها‬
‫اطلعي اطلعي! فتقول‪ :‬ال أطلع على قوم يعبدونني من دون هللا فيأتيها‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫ً‬
‫‪ -‬روى الشيخان ‪-‬واللفظ لمسلم‪ -‬عن أنس بن مالك «أن رجال قال‪ :‬متى تقوم‬
‫ً‬
‫الساعة؟ قال‪ :‬فسكت رسول هللا هنيهة‪ ،‬ثم نظر إلى غالم بين يديه من أزد‬
‫ْ‬
‫شنوأة‪ ،‬فقال‪ :‬إن ُع ِّم َر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة‪ ،‬قال أنس‪ :‬ذاك‬
‫الغالم من أترابي يومئذ” ‪ ،‬وقد مات أنس في سنة ‪ 93‬هجرية على المشهور‪ ،‬وهو‬
‫ِترب ‪-‬أي في سن‪ -‬الغالم الذي قال النبي إنه ال يدركه الهرم حتى تقوم الساعة‪،‬‬
‫وبذلك يكون قيام الساعة قبل انقضاء القرن األول الهجري كما نص الحديث!‬
‫فما قول علماء أهل السنة في هذا الحديث صحيح اإلسناد على طريقتهم؟ لعل‬
‫بعضهم ينبري فيقول‪ :‬وما يدريك لعل هذا الغالم لم يدركه الهرم إلى اآلن!(((‪.‬‬
‫‪ -‬روى ابن القيم في بدائع الفوائد ‪ 449/2‬والحاكم وصححه والبيهقي في االسماء‬
‫والصفات وغيرهم عن ابن عباس‪ :‬أول ما خلق هللا من شيء القلم ثم خلق النون‬
‫‪-‬الحوت‪ -‬فكبس األرض على ظهر النون‪.‬‬
‫ً‬
‫يقول اإلمام القاسم الرسي معلقا على من يقول إن االرض على ظهر حوت‪:‬‬
‫“وقال حشو هذه األمة المختلف الذي ال يفقه وال يتصرف‪ :‬قرار األرض زعموا على‬
‫ظهر حوت! ونعتوا حوتها في ذلك بألوان من النعوت‪ ،‬وأشبه هذه األقوال عندنا‬
‫ً‬ ‫بالحق وأقرب ما قيل بها من الصدق أن يكون ما تحت األرض ً‬
‫خالء منفهقا وهواء من‬
‫ً‬
‫األهوية منخفقا‪.(((”..‬‬
‫وألهمية العرض على كتاب هللا يقول اإلمام زيد بن علي عليه السالم في‬
‫الرسالة المدني�ة عندما سأله بعض أصحابه عن األحاديث المختلف فيها (اعلم‬
‫يرحمك هللا أنه ما ذهب نبي من بين أمته إال وقد أثبت هللا حججه عليهم؛ لئال‬
‫تضيع حجج هللا وبين�اته‪ ،‬فما كان من بدعة وضاللة فإنما هو من الحدث الذي كان‬
‫من بعده‪ ،‬وأنه ُيكذب على األنبي�اء صلوات هللا عليهم وسالمه‪ ،‬وقد قال رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪“ :‬اعرضوا الحديث ‪-‬إذا سمعتموه‪ -‬على القرآن؛ فما‬
‫كان من القرآن فهو عني وأنا قلته‪ ،‬وما لم يكن على القرآن فليس عني ولم أقله وأنا‬
‫برئ منه‪..”.‬انتهى ‪.‬‬

‫((( اضواء على الصحيحين بتصرف ص ‪.228‬‬


‫((( مجموع اإلمام القاسم عليه السالم‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫بداية الطريق‬

‫وهذا الحديث قاعدة عامة عند قرناء القرآن‪ ،‬رواه اإلمام الهادي في شرح معاني‬
‫السنة‪ ،‬ولمزيد من التوضيح اقرأ مجمع الفوائد للسيد العالمة مجد الدين المؤيدي‪،‬‬
‫وتحرير األفكار للسيد العالمة بدر الدين الحوثي‪.‬‬
‫الرسي عليه السالم‪“ :‬وإن سنة رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫ويقول اإلمام القاسم ّ‬
‫وعلى آله وسلم ما كان لها ذكر في القرآن ومعنى» مجموع االمام القاسم‬

‫ثانيا ‪ :‬رواية األحايث المتناقضة‬

‫نذكر األمثلة التالية‪:‬‬


‫‪ -‬روى البخاري ومسلم والترمذي عن عباده بن الصامت قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ :‬من شهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأن‬
‫ً‬
‫محمدا عبده ورسوله‪ ،‬وأن عيسى عبد هللا ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح‬
‫منه‪ ،‬والجنة والنار حق حرم‪ ،‬هللا عليه النار) البخاري ‪/3‬ص ‪ 1267‬رقم الحديث‬
‫‪ 3252‬مسلم ‪/1‬ص‪ 58‬رقم الحديث ‪ ، 29‬وروى البخاري ‪ 2192/5‬رقم الحديث‬
‫‪ 5489‬ومسلم ‪ 95-94/1‬رقم الحديث ‪ 94‬عن أبي ذر عن النبي صلى هللا عليه‬
‫وعلى آله وسلم قال‪“ :‬أما أخي جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك ال يشرك‬
‫ً‬
‫باهلل تعالى شيئ�ا دخل الجنة” قلت‪ :‬وإن زنى وإن سرق؟ قال‪“ :‬وإن زنى وإن‬
‫سرق”‪ ،‬قلت‪ :‬وإن زنى وإن سرق؟ قال‪“ :‬وإن زنى وإن سرق”‪ ،‬ثم قال في الرابعة‪:‬‬
‫“على رغم أنف أبي ذر”‪.‬‬
‫‪ -‬ورووا نقيض هذه األحاديث عن حذيفة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وعلى آله وسلم‪“ :‬ال يدخل الجنة قتات‪( :‬البخاري ‪ 2250/5‬رقم الحديث ‪)5709‬‬
‫ومسلم ‪ ، 101/1‬وعن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله‬
‫ّ‬
‫وسلم‪ :‬من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا ًمخلدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ًفيها أبدا‪ ،‬ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خالدا مخلدا فيها أبدا‪ ”..‬البخاري ‪ 2179/5‬رقم الحديث ‪ 5442‬ومسلم ‪103/1‬‬
‫رقم الحديث ‪.109‬‬

‫‪262‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫‪ -‬روى البخاري ‪ 2536/6‬رقم الحديث ‪ 6523‬ومسلم ‪ 111/1‬عن ابن مسعود قال‪:‬‬


‫قيل يا رسول هللا‪ :‬أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال صلى هللا عليه وعلى آله‬
‫وسلم‪“ :‬من أحسن في اإلسالم لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية‪ ،‬ومن أساء في‬
‫ُ‬
‫اإلسالم أخذ باألول واآلخر”‪.‬‬
‫‪ -‬وروى مسلم ‪ 2119/4‬عن أبي موسى عن النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫“ال يموت رجل مسلم إال أدخل هللا مكانه من النار يهوديا أو نصراني�ا”‪ ،‬وما روى‬
‫البخاري عن بأي هريرة قال رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪“ :‬كل أمتي‬
‫يدخل الجنة إال من أبى”‪ ،‬قيل ومن يأبى يا رسول هللا؟ قال‪“ :‬من أطاعني دخل‬
‫الجنة ومن عصاني فقد أبى”‪.‬‬
‫‪ -‬وروى أبو داود ‪ 468/4‬رقم الحديث ‪ 4278‬عن أبي موسى عن رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وعلى آله وسلم‪ :‬أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في اآلخرة‪،‬‬
‫عذابها في الدني�ا الفتن والزالزل والقتل”‪ .‬انظر إلى هذا التن�اقض الكبير بين هذه‬
‫االحاديث ولك الحكم بعد هذا‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬إضفاء القداسة الزائدة على الصحابة‪.‬‬

‫االعتماد على النقد الظاهري لسلوك الفرد ال يكفي في تكوين صورة صحيحة‬
‫عن األشخاص؛ ألنه من الصعب الخوض في بواطن الشخص واالطالع على‬
‫المستور الذي ال يعلمه اال هللا‪ ،‬والمواقف هي أفضل طريق يتم من خاللها معرفة‬
‫معادن الرجال ومدى مصداقيتهم‪ ،‬وإذا كان هللا قد أخبر محمدا صلى هللا عليه وعلى‬
‫آله وسلم أن هناك مجموعة من المنافقين في مجتمع المدين�ة ال يعلمهم الرسول‪:‬‬
‫َۡ َ َ َُ ْ ََ َّ َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َ‬ ‫ُ َٰ ُ َ‬ ‫َۡ‬ ‫َۡ ُ‬
‫اق ل‬ ‫ِف‬ ‫ٱنل‬ ‫ع‬ ‫وا‬ ‫د‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫ين‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫م‬‫ٱل‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫أ‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ونۖ َ‬
‫و‬ ‫ق‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫اب‬ ‫ۡع َ‬
‫ر‬ ‫ٱل‬ ‫كم ّم َ‬
‫ِن‬
‫َ َّ َ‬
‫ۡن حول‬‫﴿ومِم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ۡ ُ َّ ُ َ ُّ َ َ َ َ‬ ‫ۡ َ ُ َ ّ ُ ُ َّ َّ َ‬ ‫ۡ َُُ‬ ‫ۡ ُ َ‬‫َ‬ ‫ۡ‬‫ۡ َُُ‬
‫َ‬
‫اب ع ِظي ٖم‪[ ﴾١٠١‬التوبة‪،]101 :‬‬‫ي ثم يردون إ ِ ٰل عذ ٍ‬ ‫تعلمهم ۖ نن نعلمهم ۚ سنع ِذبهم مرت ِ‬
‫فتأمل كيف أن كمال النبي البشري لم يسعفه في معرفة طبائع ونفوس بعض أبن�اء‬
‫مجتمعه من المنافقين المردة‪ ،‬ومن ناحية أخرى فإن الصحابة يتفاوتون في الضبط‬
‫والعدالة واإلدراك‪ ،‬كما أنهم خاضعون لمنهج الجرح والتعديل وليسوا معفيين من‬
‫ذلك‪ ،‬وعندما حكم أهل السنة على الصحابة بالعدالة المطلقة‪ ،‬وتم إعفاؤهم من‬
‫‪263‬‬
‫بداية الطريق‬

‫الخضوع لمقاييس الجرح والتعديل واعتماد جميعهم كمرجعية لألمة ‪-‬على ما في‬
‫ً‬
‫تعريفهم للصحابي من توسع كبير يشمل من رأى رسول هللا ولو للحظة ما دام مظهرا‬
‫إسالمه‪ -‬كان لذلك كله ٌ‬
‫آثار سلبي�ة على الرواية في اإلسالم‪ ،‬نذكر هذه اآلثار السيئ�ة‬
‫ً‬
‫نقال عن أضواء على الصحيحين باختصار شديد وتصرف‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -1‬بعض الصحابة ينقلون آخر الحديث أحيانا‬

‫عن أبي حسان األعرج‪ :‬أن رجلين دخال على عائشة فقاال‪ :‬إن أبا هريرة يحدث‬
‫ً‬
‫عن رسول هللا‪« :‬إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار”‪ ،‬فطارت شفقا‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدث بهذا؟ إنما قال رسول هللا‪: :‬كان‬
‫﴿ما ٓ أَ َص َ‬
‫اب مِن‬
‫َ‬
‫أهل الجاهلية يقولون‪ :‬إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار”‪ ،‬ثم قرأت‪:‬‬
‫ۡ ََ َ ٓ‬
‫ۡ َ َّ‬ ‫َٰ ّ َ‬ ‫ۡ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ٓ َ ُ‬ ‫َۡ‬ ‫ُّمص َ‬
‫بأها ۚ﴾ [الحديد‪.(((]22 :‬‬ ‫ب مِن قب ِل أن ن‬
‫ٖ‬ ‫ِت‬ ‫ك‬ ‫ف‬ ‫ل‬
‫ِ ِ‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫نف‬ ‫أ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ۡرض‬
‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫يب ٖة ِف‬ ‫ِ‬
‫روى الحاكم في المستدرك في كتاب العتق بإسناده عن عروة ابن الزبير أنه قال‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بلغ عائشة أن أبا هريرة يقول‪ :‬إن رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم قال‪:‬‬
‫إلي من أن أعتق ولد الزنا)”‪ ،‬وأن رسول هللا‬ ‫أحب َّ‬ ‫“لئن أمتع بسوط في سبي�ل هللا ّ‬
‫قال‪“ :‬ولد الزنا شر الثالثة”‪ ،‬و”إن الميت يعذب ببكاء الحي” فقالت عائشة‪ :‬رحم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هللا أبا هريرة‪ ،‬أساء سمعا فأساء إصابة؛ أما قوله “لئن أمتع بسوط‪ ”..‬إنها لما نزلت‬
‫َََُۡ‬ ‫َٓ َ‬
‫ۡ َٰ َ َ‬ ‫ََۡ َ‬ ‫َۡ َ‬ ‫ََ‬
‫﴿فل ٱقتح َم ٱلعق َبة‪َ ١١‬وما أدرىك ما ٱلعقبة‪[ ﴾١٢‬البلد‪ ]12-11 :‬قيل يا رسول هللا ما‬
‫عندنا ما نعتق‪ ،‬إال أن أحدنا له جارية سوداء تخدمه وتنعى عليه‪ ،‬فلو أمرناهن فزنين‬
‫فجئن باألوالد فاعتقناهم‪ ،‬فقال رسول هللا‪“ :‬لئن امتع بسوط في سبي�ل هللا‪،”..‬‬
‫وأما قوله‪“ :‬ولد الزنا شر الثالثة”‪ ،‬فلم يكن الحديث على هذا‪ ،‬إنما كان رجل من‬
‫المنافقين يؤذي رسول هللا فقال‪“ :‬ومن يعذرني من فالن؟” قيل‪ :‬يا رسول هللا مع‬
‫ََ َ ُ َ َ ‪ٞ‬‬
‫ازرة‬
‫ما به ُولد زنا‪ ،‬فقال رسول هللا‪“ :‬هو شر الثالثة”‪ ،‬وهللاُ عز وجل يقول ﴿ول ت ِزر و ِ‬
‫ۡ َ‬‫ۡ َ‬
‫ِوزر أخر ٰ ۚ‬
‫ى﴾ [األنعام‪.((( ]164 :‬‬

‫((( الحديد‪ - 22‬تأويل مختلف الحديث ص ‪.127-126‬‬


‫((( المستدرك ‪ 215/2‬وصححه‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫ً‬
‫حدث ابن الجوزي‪ :‬أن الزبير ابن العوام سمع صحابي�ا يحدث عن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ ،‬فاستمع إليه حتى قضى حديث�ه‪ ،‬فقال له‪ :‬أنت‬
‫سمعت هذا من رسول هللا؟ فقال الرجل‪ :‬نعم‪ ،‬فقال الزبير‪ :‬هذا وأشباهه مما‬
‫يمنعانني أن أتحدث عن النبي‪ ،‬قد ‪-‬لعمري‪ -‬سمعت هذا من رسول هللا وأنا يومئذ‬
‫َ‬
‫حاضر‪ ،‬ولكن رسول هللا ابت�دأ بهذا الحديث فحدثن�اه عن رجل من أهل الكتاب حديث�ا‬
‫َ‬
‫كر الرجل الذي هو من أهل الكتاب‪،‬‬
‫وذ ِ‬ ‫انقضاء صدر الحديث ِ‬
‫ِ‬ ‫يومئذ‪ ،‬فجئت�ه أنت بعد‬
‫َ‬
‫فظننت أنه من حديث رسول هللا(((‪.‬‬
‫كما تالحظ فهذان نموذجان من صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله‬
‫وسلم؛ أحدهما يلقب عند أهل السنة براوية اإلسالم وهو أبو هريرة‪ ،‬ينقل آخر‬
‫الحديث عن رسول هللا‪ ،‬فينقلب المعنى إلى غير المراد‪َ ،‬من الذي يضمن لنا أن‬
‫ُ‬
‫هناك أحاديث أخرى نقلت بنفس الطريقة؟ وأن هناك صحابة آخرين دخلوا في‬
‫نفس الخطأ؟ سؤال ال تستطيع طرق التصحيح عند أهل السنة اإلجابة عليه‪.‬‬

‫رب وينسب للنيب‪.‬‬


‫‪ -2‬بعض الصحابة يأخذ عن مخ ٍ‬

‫قال بشر بن سعيد‪ :‬اتقوا هللا وتحفظوا من الحديث‪ ،‬فوهللا لقد رأيتن�ا نجالس‬
‫أبا هريرة فيحدث عن رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم ويحدثن�ا عن كعب‬
‫األحبار‪ ،‬ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول هللا عن كعب‬
‫(((‬
‫وحديث كعب عن رسول صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪.‬‬
‫ً‬
‫وليت أحدا يدلنا على هؤالء الذين كانوا مع بشر بن سعيد وما أسماؤهم؟ فربما‬
‫وصلت إلين�ا مروياتهم وهي عن كعب‪.‬‬
‫يقول ابن قتيب�ة في أبي هريرة‪ :‬وكان مع هذ يقول‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وعلى آله وسلم كذا‪ ،‬وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه(((‪.‬‬
‫روى أحمد عن أبي هريرة‪“ :‬إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم‪ ،‬حتى إذا‬
‫((( دفع شبه التشبي�ه ص ‪.38‬‬
‫((( البداية والنهاية ‪ ،109/4‬سير اعالم النبلاء ‪.606/2‬‬
‫((( تأويل مختلف الحديث ص ‪.50‬‬

‫‪265‬‬
‫بداية الطريق‬

‫كادوا يرون شعاع الشمس‪ ”..‬قال ابن كثير‪“ :‬لعل أبا هريرة تلقاه من كعب األحبار‪،‬‬
‫ً‬
‫فإنه كثيرا ما يجالسه ويحدثه‪ ،‬فحدث به أبو هريرة‪ ،‬فتوهم بعض الرواة عنه أنه‬
‫مرفوع فرفعه‪.((( ”..‬‬
‫ِّ‬
‫قال يزيد ابن هارون‪ :‬سمعت شعبة يقول‪“ :‬أبو هريرة كان يدلس‪ ،‬أي يروي ما‬
‫سمعه من كعب وما سمعه من رسول هللا وال يميز هذا من هذا”‪ .‬رواه ابن عساكر‪،‬‬
‫انظر علوم مصطلح الحديث صبحى الصالح(((‪.‬‬
‫قال رشيد رضا حين تكلم عن كعب األحبار ووهب بن منب�ه‪ :‬وما يدرين�ا أن تلك‬
‫الروايات المرفوعة أو الموقوفة ترجع إليهما‪ ،‬فإن الصحابة لم يكونوا يذكرون ما‬
‫يسمع بعضهم من بعض ومن التابعين على سبي�ل الرواية والنقل‪ ،‬بل يذكرونه من‬
‫ً‬
‫عزو غالبا‪ ،‬وكثير من التابعين كذلك‪ ،‬بل أكثر ما روي عن أبي هريرة من األحاديث‬
‫غير ٍ‬
‫المرفوعة لم يسمعه منه صلى هللا عليه وعلى آله وسلم(((‪.‬‬
‫المرفوعة الغريب ِ�ة المتون‬
‫ِ‬ ‫وقال‪ :‬وأنا ال آمن أن يكون بعض أحاديث أبي هريرة‬
‫(((‬
‫التي لم يصرح فيها بالسماع‪ ،‬مما رواه كعب األحبار؛ فقد صرحوا أنه روى عنه‪.‬‬
‫روى مسلم عن أبي هريرة‪ :‬أخذ رسول هللا بي�دي فقال‪“ :‬خلق هللا التربة يوم السبت‪،‬‬
‫وخلق فيها الجبال يوم األحد وخلق الشجر يوم اإلثنين وخلق المكروه يوم الثالثاء وخلق‬
‫النور يوم األربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة في‬
‫آخر الخلق من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل”(((‪.‬‬
‫وقد قدح أئمة الحديث في هذا الحديث‪ .‬قال البخاري‪ :‬الصحيح أنه موقوف‬
‫على كعب االحبار‪ (((.‬ومع أن هذا الحديث من كعب األحبار إال أن أبا هريرة ينسبه‬
‫ً‬
‫إلى النبي‪ ،‬ويؤكد ذلك بقوله‪ :‬أخذ رسول هللا بي�دي!! ونحن نعلم يقين�ا أن هللا خلق‬
‫السموات واالرض في ستة أيام وليس في سبعة أيام كما تحكيه هذه الرواية‪.‬‬
‫((( تفسير ابن كثير ‪.111/3‬‬
‫((( البداية والنهاية ‪ ،109/4‬وهناك رواية قريب�ة منها في سير اعالم النبلاء ‪.608/2‬‬
‫((( مجلة المنار ‪.97/19‬‬
‫((( مجلة المنار ‪.342 /27‬‬
‫((( كتاب صفات المنافقين باب ابت�داء الخلق‪.‬‬
‫((( تفسير سورة االخالص البن تيمية ص ‪.16‬‬

‫‪266‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫وعن أبي هريرة قال‪ :‬سمعت رسول هللا يحكي عن موسى على المنبر قال‪:‬‬
‫“وقع في نفس موسى هل ين�ام هللا؟ فأرسل هللا تعالى إليه ملكا ّ‬
‫فأرقه ثالثا‪ ،‬وأعطاه‬
‫قارورتين؛ في كل ٍيد قارورة‪ ،‬وأمره أن يحتفظ بهما‪ ،‬فجعل ين�ام وتكاد يداه تلتقيان‪،‬‬
‫ثم يستيقظ فيحبس إحدى القارورتين عن األخرى‪ ،‬حتى نام نومة فأصفقت يداه‬
‫فانكسرت القارورتان”‪.‬‬
‫قال ابن كثير‪ :‬والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع‪ ،‬بل من اإلسرائيليات‬
‫ُّ‬
‫(((‬
‫المنكرة‪ ،‬فإن موسى عليه السالم أجل من أن يجوز على هللا سبحانه وتعالى النوم‪..‬‬
‫من هنا نعلم كيف دخلت أحاديث التشبي�ه والتجسيم واإلسرائيليات إلى كتب‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫‪ -3‬بعض الصحابة يخطئون في النقل‬

‫عن مطرف قال‪ :‬قال لي عمران بن حصين‪ :‬أي مطرف‪ ،‬وهللاِ إن كنت ألرى أني‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لو شئت حدثت عن نبي هللا يومين متت�ابعين ال أعيد حديث�ا‪ ،‬ثم لقد زادني بطئا عن‬
‫ً‬
‫ذلك وكراهية له‪ ،‬أن رجال من أصحاب محمد أو من بعض أصحاب محمد شهدت‬
‫كما شهدوا وسمعت كما سمعوا‪ ،‬يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون‪ ،‬ولقد علمت‬
‫ُ‬
‫يشبه لي كما ش ِّبه لهم‪.(((..‬‬
‫أنهم ال يألون عن الخير‪ ،‬فأخاف أن َّ‬

‫وقال زيد بن ثابت‪ :‬لعل كل شيء حدثتكم به ليس كما حدثتكم(((‪.‬‬


‫أخرج أحمد عن عائشة أنه بلغها أن ابن عمر يحدث عن أبي�ه عمر بن الخطاب‬
‫أن رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم قال‪“ :‬الميت يعذب ببكاء أهله عليه”‪،‬‬
‫فقالت يرحم هللا عمر وابن عمر فو هللا ما هما بكاذبين وال مكذبين وال متزيدين‪ ،‬إنما‬
‫مر بهم وهم يبكون عليه فقال‪ :‬إنهم ليبكون‬ ‫قال ذلك رسول هللا في رجل من اليهود ّ‬
‫(((‬
‫عليه‪ ،‬وإن هللا عز وجل ليعذبه في قبره‪.‬‬

‫((( تفسير ابن كثير ‪.568/3‬‬


‫((( مسند احمد ‪ ،599/5‬مجمع الزوائد ‪ ،1141/1‬تأويل مختلف الحديث ‪.40‬‬
‫((( جامع بي�ان العلم ‪.65/1‬‬
‫((( ‪ ،281/6‬سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي ‪.19-18/4‬‬

‫‪267‬‬
‫بداية الطريق‬

‫َ‬ ‫كما تشاهد أن َ‬


‫عدم ضبط الحديث واإلخالل بمعناه كان يقع فيه كثير من‬
‫الصحابة‪ ،‬فما الذي يمنع بعد ذلك أن يكون هناك أحاديث مختلة ومعكوسة؟‬
‫َمن يضمن لنا ذلك؟ واللوم يقع في البداية على أصحاب نظرية العدالة المطلقة‬
‫للصحابة‪.‬‬

‫‪ -4‬صحابة مشكوك في روايتهم‬

‫روي عن أبي حنيفة أنه قال‪ :‬أقلد جميع الصحابة‪ ،‬وال أستجيز خالفهم برأي‪ ،‬إال‬
‫ثالثة نفر؛ أنس بن مالك‪ ،‬أبو هريرة‪ ،‬سمرة‪ ،‬فقيل له في ذلك فقال‪ :‬أما أنس فاختلط‬
‫في آخر عمره‪ ،‬وكان ُيستفتى فيفتي من عقله‪ ،‬وأنا ال أقلد عقله‪ ،‬وأما ابو هريرة‬
‫فكان يروي كل ما سمع من غير أن يت�أمل في المعنى‪ ،‬ومن غير أن يعرف الناسخ‬
‫والمنسوخ(((‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُروي أن الشافعي َّ‬
‫أسر إلى الربيع أن ال تقبل شهادة أربعة من الصحابة وهم‪:‬‬
‫معاوية‪ ،‬عمرو بن العاص‪ ،‬المغيرة‪ ،‬زياد(((‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫قال عمر بن الخطاب ألبي هريرة‪ :‬لتتركن الحديث عن رسول هللا أو أل لحقنك‬
‫بأرض دوس(((‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫(((‬
‫وأرسل عثمان يقول ألبي هريرة‪ :‬لقد أكثرت‪ ،‬لتنتهين أو أل لحقنك بجبال دوس‬
‫(وكان أبو هريرة يقول‪ :‬حدثني خليلي‪ ..‬ورأيت خليلي‪ ..‬وقال لي خليلي رسول هللا‪،..‬‬
‫ً‬
‫فبلغ عليا ذلك فقال له‪ :‬متى كان النبي خليلك يا أبا هريرة؟ قال ابن قتيب�ة‪ :‬وكان علي‬
‫َ‬
‫سيئ الرأي فيه(((‪.‬‬
‫ً‬
‫وقال إبراهيم النخعي إمام العراق‪ ،‬وقيل عنه‪ :‬إنه كان صيرفيا في الحديث‪ :‬كان‬
‫أصحابن�ا يدعون من حديث أبي هريرة‪ ،‬وعنه قال‪ :‬ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي‬

‫((( مرآة االصول مال خسرو الحنفي‪ ،‬ابو شامة الشافعي في مختصر المأمل ص ‪.32-31‬‬
‫((( تاريخ الطبري‪ ،‬ابن االثير‪ ،‬ابن عساكر ‪.379/2‬‬
‫((( ابن عساكر ‪ 239/5‬رقم ‪ 4885‬من كنز العمال‪ ،‬البداية والنهاية ‪ ،106/4‬سير اعالم النبلاء ‪.600/2‬‬
‫((( المحدث الفاصل الرامهر مرزي ص ‪.)554‬‬
‫((( تأويل مختلف الحديث ‪.41‬‬

‫‪268‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫هريرة‪ ،‬وعن األعمش قال‪ :‬كان إبراهيم صحيح الحديث‪ ،‬فكنت إذا سمعت الحديث‬
‫ً‬
‫أتيت�ه فعرضته عليه‪ ،‬فأتيت�ه يوما بأحاديث أبي صالح عن أبي هريرة فقال‪ :‬دعني من‬
‫ً‬
‫أبي هريرة‪ ،‬إنهم كانوا يتركون كثيرا من أحاديث�ه(((‪.‬‬
‫بل إن المجتمع في عهد أبي هريرة ظهر فيه من ُيكذب أبا هريرة‪ ،‬كمثل ما أشرنا‬
‫إليه من مقالة اإلمام علي عليه السالم وعمر وعثمان وغيرهم فيه‪ ،‬وما كان باعتراف‬
‫أبي هريرة بنفسه؛ روى مسلم عن ابن رزين قال‪ :‬خرج علين�ا أبو هريرة فضرب بي�ده‬
‫(((‬
‫على جبهته فقال‪ :‬إنكم تقولون إني أكذب على رسول هللا لتهتدوا وأضل‪..‬‬
‫ً‬
‫وال شك أن شك جميع هؤالء الناس في رواية أبي هريرة في محلها‪ ،‬خصوصا‬
‫إذا علمت أن معظم روايات التشبي�ه والتجسيم وانتقاص األنبي�اء وغيرها من‬
‫اإلسرائيليات رويت عن طريق أبي هريرة‪ ،‬وكل هذه االختالالت ال يمكن حلها عبر‬
‫منهج أهل السنة في التصحيح‪.‬‬

‫‪ -5‬صحابة يروون عن أهل الكتاب‬

‫قال ابن حجر عن عبد هللا بن عمرو بن العاص‪ :‬أنه قد ظفر في الشام بحمل‬
‫جمل من كتب أهل الكتاب‪ ،‬فكان ينظر فيها ويحدث منها‪ ،‬فتجنب األخذ عنه لذلك‬
‫كثير من أئمة التابعين(((‪.‬‬
‫وقال ابن كثير في مقدمة تفسيره‪ :‬إن عبدهللا بن عمرو أصاب يوم اليرموك زاملتين‬
‫من كتب أهل الكتاب‪ ،‬فكان يحدث منهما‪ ،‬وقال ابن كثير عن الحديث الذي رواه‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫البيهقي في بن�اء الكعبة عن عبد هللا بن عمرو بن العاص مرفوعا‪ :‬إن األشبه أن يكون‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫موقوفا على عبد هللا بن عمرو‪ ،‬ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من‬
‫كالم أهل الكتاب‪.‬‬
‫إن «الباحث المتثبت والناقد البصير ال ينكر أن الكثير من اإلسرائيليات دخلت‬
‫اإلسالم عن طريق أهل الكتاب الذين أسلموا‪ ،‬وكذلك ال ينكر أثرها السيئ في كتب‬
‫((( سير اعالم النبلاء ‪ ،602/2‬البداية والنهاية ‪ 109/4‬العلل ومعرفة الرجال احمد بن حنب�ل ‪.428/1‬‬
‫((( مسلم ‪.75/2‬‬
‫((( فتح الباري ‪.167/1‬‬

‫‪269‬‬
‫بداية الطريق‬

‫(((‬ ‫العلوم وأفكار العوام من المسلمين‪ ،‬وما ّ‬


‫جرته على اإلسالم من طعون أعدائه”‬
‫“تأمل إلى هذا الخلل الكبير في منهج أهل السنة في التصحيح؛ كيف أدى إلى‬
‫دخول الكثير من العقائد الفاسدة والروايات الغريب�ة‪ ،‬والتي أصبحت فيما بعد ثقافة‬
‫َّ‬
‫عامة لجماهير المسلمين في عصرنا‪ ،‬وال نملك إال أن نقول اللهم انا نسألك الثب�ات‬
‫والعون والهداية ألمة اإلسالم‪ ،‬وال حول وال قوة اال باهلل العلي العظيم”(((‪.‬‬

‫الجرح والتعديل و�أثره ال�سلبي على �أخالقيات اهل ال�سنة ال�سلفية‬


‫أي علم مربوط بالقرآن يكون له أثر إيجابي في نفوس وسلوك أتب�اعه؛ ألن القرآن‬
‫َ‬
‫ۡ‬ ‫ُۡ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه أقوم﴾ [اإلسراء‪ ،]9 :‬بينما‬ ‫ۡه ِدي ل َِّلت ِ َ‬
‫َۡ َ َ‬
‫ي‬ ‫ان‬ ‫ء‬‫ر‬ ‫ق‬‫ٱل‬ ‫ا‬
‫َّ َ ٰ َ‬
‫ذ‬ ‫ّ‬
‫يقوم النفوس ويهذبها‪﴿ :‬إِن ه‬
‫ِ‬
‫هكذا تصنع ثقافة الجرح والتعديل بنفوس مريديها‪ :‬تحت عنوان عندما تتحول‬
‫ً‬
‫المساجد إلى أسواق لعبد الرزاق الجمل أحد طالب مركز دماج سابقا‪:‬‬
‫صحيفة البالغ العدد ‪ 616‬يقول فيه‪“ :‬تحت شعار الجرح والتعديل واألمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر تتحول كثير من المساجد إلى أسواق بل إلى أقبح في‬
‫بعض األحيان‪ ،‬هذا الكالم ال عالقة له بالمبالغات ال من قريب وال من بعيد‪ ،‬كل ما‬
‫عليك فعله لتصديق هذا هو استعراض شريط او شريطين ليحيى بن علي الحجوري‬
‫القائم على مركز الوادعي في دماج ‪-‬قائد سلفي‪ -‬ستسمع في ساعة ما لم تسمعه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫في سوق عنس في ساعات‪ ،‬و ِلتت�أكد أكثر دعنا نستعرض شريطا واحدا من هذه‬
‫األشرطة التي بلغت ثالثمائة شريط في ظرف ثالث سنين‪ ،‬أي بمعدل شريط في‬
‫كل أربعة أيام‪ ،‬وكله من هذا الضرب أشرطة سوقية مجردة عن الرد العلمي واألخالق‪،‬‬
‫إضافة إلى ما فيها من إساءة للدين والخلق وللحياء العام‪ ،‬رغم أنها تمأل المكتب�ات‬
‫والتسجيالت التابعة لهم وتذاع بمكبرات وسماعات خارجية لغرض اإلغاضة‬
‫للمخالفين ال غير‪.‬‬
‫إن الديمقراطية وحرية الرأي ال تعنى التعري عن الحياء وال تعنى الدوشنة‪،‬‬

‫((( دفاع عن السنة ص‪.82‬‬


‫ً‬
‫((( انتهى من كتاب وركبت السفين�ة ص ‪ 225-209‬نقال عن اضواء على السنة المحمدية‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫ً‬
‫على أنهم ال يؤمنون بالديمقراطية ويرونها كفرا ُمخرجا من الملة‪ ،‬وال يؤمنون أيضا‬
‫تأت من جهتهم‪ ،‬ونحن قبل أن نقدم‬‫بوجهات النظر األخرى ولو كانت صحيحة ما لم ِ‬
‫ً‬
‫هذا للناس‪ ،‬نعرضه أيضا كشكوى للجهات المختصة التي ربما كانت على علم‬
‫ً‬
‫مسبق بما يجرى؛ لتضع حدا لهذا العبث الديني الذي ربما ستنسين�ا عواقبه منافع‬
‫قاعدة “فرق تسد”‪.‬‬
‫الشريط الذي سنستعرضه يحمل عنوان الرد على عمرو خالد (أحد دعاة‬
‫الوهابي�ة)‪ ،‬وقد ركزت في الشريط على الجانب اللفظي‪ ،‬فقد قال الحجوري عن‬
‫عمرو خالد‪)1( :‬سفيه رويبض العب كرة (‪)2‬داعي اإلجرام (‪)3‬ضائع من الضائعين‬
‫(‪)4‬عقالني فلسفي ال كتاب وال سنة (‪)6‬مغازل من المغازلين (‪)7‬ضائع فاسق (‪)8‬‬
‫جويهل فسيق (‪)9‬هل هو من اإلسالم في سرد أو رد (‪)10‬يدعو إلى اإلجرام والفتن�ة‬
‫والفساد والخنا والريب�ة (‪)11‬من فسقة الدعاة الذين ال يعبؤون بالدين (‪)12‬ال يرفع‬
‫ً‬
‫بالدين رأسا (‪)13‬ال تفرق بين�ه وبين النصراني حليق فسيق (‪)14‬صورته مألت الدني�ا‬
‫عمرو خالد أعزك هللا (‪)15‬صورته صورة شيطان على إنسي (‪)16‬إبليس الثاني يدافع‬
‫عن إبليس األول (‪)17‬يا فويسق بعضهم يحضرون من أجل البن�ات (‪)18‬أنت أيضا‬
‫داع إلى االختالط والخنا‬‫تجمع هؤالء للمتعة (‪)19‬من دعاة أبواب جهنم (‪)20‬هذا ٍ‬
‫والفساد والزنا والمغازالت (‪)21‬أما قلب عمرو خالد فنجس (‪)22‬ما عندك علم أنت‬
‫تعلم الناس الفساد والمغازالت (‪)23‬يدعو إلى المجون والخنا والميوعة والفساد‬
‫(‪)24‬مسرحي ممثل لعاب ضائع يحب الضياع والضائعين (‪)25‬ولد بار إلسرائي�ل‬
‫(‪)26‬أخزاه هللا (‪)27‬أنت بال حياء (‪)28‬أسهر هللا جلدك وجلد سهير البابلي (‪)29‬‬
‫يقف أمام النساء (‪)30‬يبتغي سنة الجاهلية وأفعال المشركين (‪)31‬من أبن�اء اليهود‬
‫والنصارى البررة بهم (‪)32‬داعية إسالمي إلى المصمصة! (‪)33‬فاجر‪.‬‬
‫هذا شريط واحد من جملة أشرطة‪ ،‬لقد جمعت من عشرة أشرطة أكثر من‬
‫ً‬
‫أربعمائة لفظة‪ ،‬كل لفظة أقبح من األخرى‪ ،‬ولو استعرضت عشرين شريطا لكانت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ألفية أو قاموسا‪ ،‬ولعلي أخرجها في قاموسين‪ :‬األول نمد به إرشيف المكتب�ة العامة‬
‫في سوق قات شميلة أو عنس‪ ،‬والثاني مختصر كقاموس جيب‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ّ‬
‫سؤال‪ :‬أين تلقى الحجوري العلم؟ هل هذا هو الجرح والتعديل الذي تفتخرون‬
‫به وأنه الذي يميزكم عن غيركم؟‪.‬‬
‫إن مركز دماج يعج بثلاثة آالف شخص‪ ،‬وكلهم يتلقون العلم على يد هذا‬
‫الجراح‪ ،‬هل سنرى ثالثة آالف داعية أم ثالثة آالف سباب؟ سؤال نطلب اإلجابة‬
‫عنه من جهة االختصاص‪ ،‬ولعلنا إن سنحت الفرصة نستعرض بقية األشرطة في‬
‫حلقات قادمة‪ ...‬انتهى‬
‫كما تالحظ؛ هذا نموذج من نماذج علماء الحديث‪ ،‬فما بالك بطالب العلم! وهل‬
‫الدين يرضى بمثل هذه األخالق السيئ�ة؟‬

‫حقائق و�أرقام ت�ؤكد ما ذهبنا �إليه‬


‫ً‬
‫رويت اآلثار الصحيحة في النهي عن كتابة الحديث إال ما كان منها بي�انا للقرآن‪،‬‬
‫وكانت األخبار الوثيقة قد ترادفت بأن صحابت�ه قد استمعوا إلى هذا النهي‪ .‬وإليك‬
‫هذه األرقام والحقائق عن مقدار روايات كبار الصحابة عن رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وعلى آله وسلم‪.‬‬
‫‪ -1‬أحاديث زيد بن ثابت األنصاري‪:‬‬
‫ً‬
‫شهد أحد والمشاهد كلها‪ ،‬روى عن رسول هللا حديث�ا واحدا(((‪.‬‬
‫‪ -2‬أحاديث عبد الرحمن بن عوف‪:‬‬
‫ً‬
‫روى خمسة وستين حديث�ا(((‪.‬‬
‫‪ -3‬أحاديث الزبير بن العوام‪:‬‬
‫ُروي أنه كان رابع أربعة او خامس خمسة في اإلسالم‪ُ ،‬روي له ثماني�ة وثالثون‬
‫ً‬
‫حديث�ا(((‪.‬‬

‫((( أسماء الصحابة الرواه ص ‪.450‬‬


‫((( اسماء الصحابة الرواة ص ‪.72‬‬
‫((( اسماء الصحابة ص ‪.95‬‬

‫‪272‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫‪ -4‬أحاديث طلحة بن عبي�د هللا‪:‬‬


‫ً‬
‫أسلم في بداية الدعوة‪ ،‬وصلنا منه ثماني�ة وثالثون حديث�ا(((‪.‬‬
‫‪-5‬أحاديث أبي ذر الغفاري‪:‬‬
‫أول من جهر بالحق‪ ،‬عاش مع النبي ثالثة وعشرين سنة‪ ،‬ووصل إلين�ا منه مائت�ان‬
‫ً‬
‫وواحد وثمانون حديث�ا‪.‬‬
‫‪ -6‬أحاديث سلمان الفارسي‪:‬‬
‫ً‬
‫وما أدراك ما سلمان الفارسي! يكفيه فخرا أن رسول هللا صلى هللا عليه وعلى‬
‫ً‬
‫آله وسلم قال فيه‪« :‬سلمان منا أهل البيت”‪ ،‬وصلنا عنه ستون حديث�ا(((‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪-7‬أحاديث أ َب ّي بن كعب‪.‬‬
‫ً‬
‫شهد بدرا والمشاهد كلها‪ ،‬وصلنا من روايت�ه مائة وأربعة وستون حديث�ا(((‪.‬‬
‫‪-8‬أحاديث عثمان بن عفان‪:‬‬
‫أسلم عثمان في بداية الدعوة‪ ،‬وروى له البخاري تسعة أحاديث‪ ،‬ومسلم خمسة‬
‫ً‬
‫أحاديث‪ ،‬وصلنا عنه مائة وستة وأربعون حديث�ا(((‪.‬‬
‫‪-9‬أحاديث ابي بكر‪:‬‬
‫ً‬
‫لم يبلغنا عنه غير مائة واثنين واربعين حديث�ا((( وتجد الفارق الهائل بين احاديث‬
‫ابي هريرة التي بلغت خمسة االف وثالثمائة واربعة وسبعين خالل سنتين فقط‬
‫وبين احاديث ابي بكر‪.‬‬

‫((( انظر كتاب اسماء الصحابة الرواة ص ‪.95‬‬


‫((( اسماء الصحابة الرواة ص ‪.74‬‬
‫((( االصابة ‪ ،16/1‬سير اعالم النبلاء ‪.389/1‬‬
‫((( اسماء الصحابة الرواة ص ‪.56‬‬
‫((( اسماء الصحابة الرواة ص ‪.57‬‬

‫‪273‬‬
‫بداية الطريق‬

‫‪-10‬احاديث عمر بن الخطاب‪:‬‬


‫لم يصح من األحاديث التي رواها غير حوالي خمسين حديث�ا(((‪.‬‬
‫وكثير من الصحابة الذين لم يؤثر عنهم إال اليسير من األحاديث‬

‫�أهل البيت وكتبهم‬


‫كتب قرناء القرآن من أئمة أهل البيت الحديثي�ة خرجت من منابع صافية‪ ،‬ومع‬
‫ذلك نحن ال نخرج في تقييمها عن سنة هللا في الهداية‪ ،‬وكذلك نخضعها لقاعدة‬
‫العرض على القرآن‪.‬‬
‫قال اإلمام المرتضى بن اإلمام الهادي‪“ :‬وما كان من الحديث مما رواه اسالفنا‬
‫‪-‬أبا فأب عن ّ‬ ‫ً‬
‫علي عليه السالم عن النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ -‬فنحن‬
‫نحتج به‪ ،‬وما كان مما رواه الثقات من أصحاب رسول صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‬
‫قبلناه وأخذناه وأنفذناه»‪.‬‬
‫أما موقعه من رواياتهم فلهم المساني�د الطيب�ة لعل أبرزها‪:‬‬

‫م�سند الإمام زيد بن علي عليه ال�سالم‬


‫يعتبر أصح وأول مصنف حديثي في تاريخ اإلسالم‪ ،‬ورواته تلك السلسلة‬
‫الوجود في غير كتب أهل البيت عليهم السالم؛ عن زيد حليف‬‫ِ‬ ‫الذهبي�ة العزيزة‬
‫القرآن‪ ،‬عن علي زين العابدين السجاد‪ ،‬عن الحسين سبط رسول هللا‪ ،‬عن علي باب‬
‫مدين�ة علم رسول هللا‪ ،‬عن رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪.‬‬
‫ورغم أنها سلسلة ذهبي�ة‪ ،‬لكن ال زال قرناء القرآن يعتقدون أن الكتاب الوحيد‬
‫ً‬
‫الذي ال يأتي�ه الباطل من بين يديه وال من خلفه هو كتاب هللا فقط‪ ،‬أذكر يوما أن أحد‬
‫السلفيين أخبرني بلغة السخرية أن الذي قدم مسند اإلمام زيد لألمة واحد فقط‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫هو أبو خالد الواسطي‪ ،‬ومن العجب ‪-‬وما عشت أراك الدهر عجبا‪ -‬أنهم يقولون‬

‫((( انظر اسماء الصحابة الرواة‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫ً‬
‫بأن الذي قدم مسند االمام زيد لألمة هو واحد من بين ثالثمائة وثمانين تقريب�ا من‬
‫طالبه وأبن�ائه و أقاربه‪.‬‬
‫ً‬
‫ابو خالد لم يبق إال وحده يروى مسند اإلمام زيد‪ ،‬فال ضير في ذلك‪ ،‬خصوصا‬
‫أنهم خرجوا من معركة قتالية بين جيشين غير متكافئين‪ ،‬واحتمال القتل واإلفناء‬
‫ألصحابه وارد‪ ،‬مع أن األحاديث في المسند مروية بطرق أخرى في كتب أهل البيت‬
‫ً‬
‫عليهم السالم‪ ،‬بل إن أهل البيت جميعا تلقوه بالقبول‪ ،‬ولكن قل لي بربك أين ذهب‬
‫الـ(تسعون ألفا) الذين سمعوا من البخاري ولم يبق إال واحد‪ ،‬وماتوا جميعا وال‬
‫معركة هناك؟ فأي األمرين أدعى لالستغراب والعجب؟!‬

‫ما رواه الإمام القا�سم الر�سي عليه ال�سالم‪ ،‬ت �سنة ‪ 246‬هـ‬
‫روى األحاديث في كتاب الفرائض والسنن‪ ،‬وكتاب المناسك‪ ،‬وكتاب صالة‬
‫اليوم والليلة‪ ،‬وكتاب مسائل جهشيار‪ ،‬وكتاب مسائل الكالري‪ ،‬وكتاب مسائل‬
‫النيروسي‪ ،‬وما رواه في مجموعة الشريف في أصول الدين‪ ،‬وهي روايات ممزوجة‬
‫بغيرها من المسائل الفقهية والعقائدية‪.‬‬

‫ما رواه الإمام الهادي عليه ال�سالم‬


‫روى األحاديث في كتاب األحكام‪ ،‬وكتاب المنتخب والفنون‪ ،‬والمجموعة‬
‫الفاخرة‪ ،‬وهي روايات ممزوجة بغيرها من المسائل الفقهية والعقائدية‪ُ ،‬‬
‫وجل‬
‫أحاديث اإلمام الهادي لم يصرح فيها باإلسناد‪ ،‬وال يعنى ذلك أنها منقطعة بل هي‬
‫مسندة بأصح األساني�د وإن لم يصرح بذلك‪ ،‬والدليل على ذلك ما يقوله عليه السالم‬
‫في كتابه األحكام ‪« :519/2‬إن آل محمد صلى هللا عليه وعلى آله وسلم ال يختلفون‪،‬‬
‫ً‬
‫إال من جهة التفريط‪ ،‬فمن فرط منهم في علم أهل بيت�ه أبا فأبا حتى ينتهى إلى علي‬
‫بن ابي طالب عليه السالم والنبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ ،‬وشارك العامة‬
‫في أقاويلها واتب�اعهم في شيء من تأويلها‪ ،‬لزمه االختالف‪ ،‬وال سيما إذا لم يكن‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ذا نظر وتمييز‪ ،‬ورد ما َو َرد عليه إلى الكتاب‪ ،‬ورد كل متشابه إلى المحكم‪ ،‬فأما من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان منهم مقتبسا من آبائه أبا فأبا حتى ينتهي إلى األصل غير ناظر في قول غيرهم‬

‫‪275‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬
‫وال ملتفت إلى رأي سواهم‪ ،‬وكان مع ذلك فهما مميزا حامال لما يأتي�ه على الكتاب‬
‫ً‬
‫والسنة المجمع عليها والعقل الذي ركبه هللا حجة فيه‪ ،‬وكان راجعا في جميع أمره‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫إلى الكتاب ورد المتشابه منه إلى المحكم فذلك ال يضل أبدا وال يخالف الحق أصال”‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫مرويات اإلمام الهادي عليه السالم المرسلة مسلسلة‬
‫ِ‬ ‫وهذا دليل واضح على أن‬
‫بآبائه الطاهرين عليهم السالم‪.‬‬

‫�أمالي �أحمد بن عي�سى‬


‫وهو من أئمة أهل البيت العظماء وكان عالما وفقيها وعابدا وقد جمع مجموعة‬
‫من الرايات النبوية في كتاب سمي باألمالي‪.‬‬

‫�أمالي الإمام �أبي طالب‬


‫“وهو عليه السالم ال يروي الحديث إال بعد تأكده من صحته أو حسنه بدليل‬
‫ً‬
‫ما ذكره في كتابه «شرح البالغ المدرك”‪ ،‬بعد أن أورد أخبارا من طريق العامة قال‪:‬‬
‫واعلم أنه دعانا إلى ذكر هذه األخبار بنقل العامة ‪-‬وإن كان قد نقلها عندنا من نثق‬
‫بهم من أئمتن�ا عليهم السالم إلى رسول هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم ومشائخ‬
‫أهل العدل والتوحيد‪ُ -‬‬
‫إنكار فقهائهم حجج العقول والرجوع إليها في متشابه القرآن‬
‫واألخبار(((‪ ...‬قال عنه أبو طاهر‪ :‬كان من أمثل أهل البيت‪ ،‬ومن المحمودين في صناعة‬
‫ً‬
‫الحديث وغيره من األصول والفروع(((‪ ،‬وقال ابن حجر‪ :‬كان إماما على مذهب زيد بن‬
‫ً‬
‫علي‪ ،‬وكان فاضال غزير العلم مكثرا‪ ،‬عارفا ًباألدب وطريقة الحديث(((‪ ...‬انتهى”(((‪.‬‬
‫وما رواه أيضا اإلمام الناصر األطروش في البساط وغيرها من الكتب‪.‬‬

‫البخاري وم�سلم‬
‫وبعد أن استعرضنا بعض كتب أهل البيت عليهم السالم‪ ،‬نسلط الضوء على‬

‫((( شرح البالغ المدرك ‪.54‬‬


‫((( لسان الميزان ‪.248/6‬‬
‫((( لسان الميزان ‪.248/6‬‬
‫((( تيسير المطالب في امالي ابي طالب ص ‪.30‬‬

‫‪276‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫“صحيح” البخاري ومسلم كأصح كتابين بعد كتاب هللا عند أهل السنة‪ ،‬وستعلم‬
‫أن تلك الهالة والقداسة التي وضعوها لـ»صحيح” البخاري ومسلم ما هي إال قعقعة‬
‫من غير من مطر وجعجعة من غير طحين‪.‬‬
‫ُ ِّ‬
‫“صحيح” البخاري قدم لألمة عن طريق شخص واحد من طالب البخاري‬
‫ً‬
‫وهو الفربري الذي قال إن من حمل “صحيح” البخاري من طالبه تسعون ألفا ماتوا‬
‫جميعا‪ ،‬ولم يبق غيره لينقل “صحيح” البخاري لألمة‪ ،‬وانظر إن شئت مقدمة فتح‬
‫الباري شرح “صحيح” البخاري‪.‬‬

‫على �شرط البخاري وم�سلم‬


‫ترى ما هو هذا الشرط الذي لطالما سمعناه وما علمناه‪ ،‬وستتفاجأ عندما تعلم‬
‫أنه ليس هناك شرط أصال! يقول النووي‪ :‬إن المراد بقولهم “على شرطهما” أن‬
‫يكون رجال إسناده في كتابيهما؛ ألنه ليس لهما شرط في كتابيهما وال في غيرهما‪،‬‬
‫كما حكاه عنه السيد محمد بن ابراهيم الوزير في التنقيح(((‪.‬‬
‫“‪ ..‬وقال الحازمي ‪-‬في شروط األئمة الخمسة تحت هذا العنوان‪“ :‬باب في‬
‫إبطال من زعم أن شرط البخاري إخراج الحديث عن عدلين وهلم جر إلى أن يتصل‬
‫الخبر بالنبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم”‪-‬قال‪ :‬إن هذا حكم من لم ُي ْم ِعن الغوص‬
‫في خبايا الصحيح‪ ،‬ولو استقرأ الكتاب حق االستقراء لوجد جملة من الكتاب ناقضة‬
‫إخراج الحديث عن عدلين‬ ‫ُ‬ ‫عليه دعواه‪ ،‬وأما قول الحاكم‪ :‬إن اختي َ�ار البخاري ومسلم‬
‫ً‬
‫إلى النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ ،‬فهذا غير صحيح طردا وعكسا‪ ،‬بل لو‬
‫ُ‬
‫عكس القضية وحكم كان أسلم له‪ ،‬وقد صرح بنحو ما قلت َمن هو أمكن منه في‬
‫الحديث‪ ،‬وهو أبو حاتم محمد بن حبان البستي‪ ،‬فقد قال‪ :‬فأما األخبار‪ ،‬فإنها كلها‬
‫أخبار اآلحاد؛ ألنه ليس يوجد عن النبي صلى هللا عليه وعلى آله وسلم ٌ‬
‫خبر من رواية‬
‫عدلين روى أحدهما عن عدلين وكل واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي إلى رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وعلى آله وسلم‪ ،‬فلما استحال هذا وبطل ثبت أن األخبار كلها‬
‫أخبار اآلحاد‪ ،‬ومن اشترط ذلك فقد عمد إلى ترك السنن كلها؛ لعدم وجود السنن إال‬
‫((( انظر توضيح األفكار لمعاني تنقيح االنظار ‪ 88/1‬البن االمير الصنعاني) (الرسالة المنقذة ‪ 18-17‬بتصرف)‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫بداية الطريق‬

‫من رواية اآلحاد‪ ...‬انتهى كالم ابن حبان‪ ،‬و من سبر مطالع األخبار عرف أن ما ذكره‬
‫ابن حبان أقرب إلى الصواب”(((‪.‬‬

‫ا�ستدراك على البخاري وم�سلم‬


‫قال النووي في شرح مسلم‪ :‬استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث‬
‫ّ‬
‫أخل بشرطيهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه‪.‬‬
‫وقد ألف الحافظ الدار قطني في بي�ان ذلك كتابه المسمى “االستدراكات‬
‫والتتبع”‪ ،‬وذلك في مائتي حديث مما في الكتابين‪ ،‬وألبي مسعود الدمشقي صاحب‬
‫«األطراف” استدراك عليهما‪ ،‬وكذا ألبي علي الغساني في كتابه “تقيي�د المهمل”‪،‬‬
‫وقال في أول شرح مسلم‪ :‬وما يقوله الناس إن من روى له الشيخان فقد جاوز‬
‫القنطرة‪ ،‬هذا من التجوه وال يقوى(((‪.‬‬
‫قال رزين العبدري في مقدمة جامعه ما لفظه‪ :‬وأكثر أحاديث الموطأ لفظها‬
‫لفظ اإلرسال‪ ،‬وفي البخاري من المرسالت جمل‪.‬‬
‫قال محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري في حق البخاري‪“ :‬ومن يقربه فال‬
‫يقربن�ا”(((‪ ،‬وقال فيه‪« :‬من ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه؛‬
‫فانه ال يحضر مجلسه إال من كان على مثل مذهبه”(((‪.‬‬
‫وإن أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي وأبا زرعة تركا حديث�ه؛ لما كتب إليهما‬
‫محمد بن يحيى بذلك بعد أن سمعا منه(((‪.‬‬
‫ودلس البخاري عبد هللا بن صالح رغم أن له مناكير(((‪.‬‬
‫قال ابن الصالح في مقدمته‪ :‬احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم؛‬

‫ً‬
‫((( ص ‪ 31‬نقال عن كتاب اضواء على السنة المحمدية‪.‬‬
‫((( اضواء ‪.313‬‬
‫((( سير اعالم النبلاء ‪.273/12‬‬
‫((( سير اعالم النبلاء ‪.456/12‬‬
‫((( سير اعالم النبلاء ‪.462/12‬‬
‫((( انظر (الميزان ‪.)47/2‬‬

‫‪278‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫كعكرمة مولى ابن عباس وكإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي وعمر بن مرزوق‬
‫وغيرهم‪ ،‬واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم‪ ،‬وهكذا فعل‬
‫أبو داوود السجستاني‪ .‬انظر علوم الحديث البن الصالح ص ‪ 107‬بتحقيق عتر‪.‬‬
‫ً‬
‫وحكوا أن مسلما لما وضع كتابه “الصحيح” عرضه على أبي زرعه الرازي‪ ،‬فأنكر‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫عليه وتغيظ‪ ،‬وقال سميت�ه “الصحيح” فجعلته ُسلما ألهل البدع وغيرهم(((‪.‬‬
‫واعتمد البخاري على أهل التدليس مثل حميد بن أبي ثابت‪ ،‬وزكريا بن أبي زائدة‬
‫وغيرهما(((‪.‬‬
‫واعتمد على مجاهيل مثل الحسين بن الحسن بن بشر‪ ،‬والحكم بن عبد هللا‪،‬‬
‫جهلهم أبو حاتم‬‫وعبد هللا بن الحسين القنطري‪ ،‬ومحمد بن الحكم المروزي‪ّ ،‬‬
‫الرازي(((‪.‬‬
‫َّ‬
‫واعتمد على بعض المتكلم فيهم مثل مروان بن الحكم وعمران بن حطان(((‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ ُ ِّ‬
‫عدد الذين تكلم عنهم بحق وباطل ممن اعتمدهم البخاري ‪ 355‬رجال‪ ،‬والذين‬
‫ً‬ ‫ُ َ َ َّ‬
‫المتكلم فيهم ‪ 75‬رجال‪ ،‬والمجاهيل المختلف فيهم وفي تعيينهم ‪148‬‬ ‫علق لهم من‬
‫ً (((‬
‫رجال‪.‬‬
‫و”قال النووي في كتابه شرح صحيح مسلم (‪ :)16/1‬قال أبو عبد هللا الحاكم‬
‫النيسابوري في كتابه “المدخل إلى معرفة المستدرك”‪ :‬عدد من أخرج له البخاري‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في الجامع الصحيح ولم يخرج له مسلم [يريد أن مسلما استضعفهم] ‪ 434‬شيخا‪،‬‬
‫وعدد من احتج بهم مسلم في المسند الصحيح ولم يحتج بهم البخاري في الجامع‬
‫ً‬
‫الصحيح [يريد أن البخاري استضعفهم] ‪ 625‬شيخا‪ ،‬ومثله ذكره ابن حجر في مقدمة‬
‫فتح الباري ص ‪ 403‬وما بعدها” الرسالة المنقذة ‪.40‬‬

‫((( انظر اضواء على السنة المحمدية ص ‪ 309‬البي ريه وقد عزاه إلى كتاب شروط االئمة الخمسة للحازمي‬
‫وشرحها (‪. )63-60‬‬
‫((( مقدمة فتح الباري ص ‪.485‬‬
‫((( مقدمة الفتح ‪.487- 485‬‬
‫((( مقدمة فتح الباري ‪.)488- 485‬‬
‫((( انظر (هدي الساري‪ ،‬مقدمة فتح الباري ص ‪ 403‬وما بعدها)‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫بداية الطريق‬

‫مالحظات �أخيرة‬
‫تطاول أهل الحديث في نقدهم لإلرسال‪ ،‬ثم ال تراهم إال على ذلك عاكفين وفي‬
‫طريقه واقفين‪ ،‬فإن علوم الحديث التي هي عندهم أصوله وكتب الجرح والتعديل‬
‫(((‬
‫التي هي قاعدته ال ترى فيها عن المشائخ مسندا إال الشاذ الشارد والقليل النادر‪.‬‬
‫اغتفار اإلرسال من الصحابي والتشديد على غيرهم بدون أي وجه حق للتفريق‬
‫في ذلك‪ ،‬قال البراء بن عازب‪ :‬ما كل الحديث سمعناه من رسول هللا‪ ،‬كان يحدثن�ا‬
‫أصحابن�ا عنه‪ ،‬كانت تشغلنا رعاية اإلبل‪ .‬قال محمد زهو في كتابه (الحديث‬
‫والمحدثون) ص ‪ 158‬رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ورواه الحاكم‪ ...‬قال‬
‫الحاكم‪ :‬صحيح على شرطهما ولم يخرجاه وأقره الذهبي‪.‬‬
‫إذا تعلق الجرح والنقد بشخصية مؤثرة‪ ،‬جرحها يسبب انهدام جانب كبير في‬
‫علم الرواية يتم اغتفار ذلك والقفز فوق جميع نظرياتهم وقواعدهم الحديثي�ه‪ ،‬من‬
‫ذلك قول يحيى بن معين‪ :‬لو ارتد عبد الرزاق ما تركنا حديث�ه(((‪ ،‬وقول الذهبي عن‬
‫ُ‬
‫عبد هللا بن أبي داوود السجستاني‪ :‬إنه ثقة‪ ،‬رغم أنه نقل عنه ما يقتضي الكفر‪ ،‬وهو‬
‫قول ابن أبي داوود في حديث الطير‪ :‬إن صح حديث الطير ّ‬
‫فنبوة النبي باطل(((‪،‬‬
‫فاعتذر له الذهبي بقوله‪ :‬إنما هو كذاب في لهجته‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد جاء بها الذهبي تفسيرا لقول أبي داوود السجستاني في ولده عبد هللا‪:‬‬
‫َ‬ ‫ً ُ‬
‫كذاب‪ ،‬فقال الذهبي متأوال‪ :‬قلت لعل قول أبي�ه فيه إن صح أراد الكذب في لهجته!!‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ال في الحديث(((‪ ،‬وال يخفاك أن دفاع الذهبي عنه ألنه يمثل ركنا كبيرا لو انهد النهد‬
‫ٌ‬
‫جانب كبير من علم الرواية(((‪.‬‬ ‫معه‬
‫وقال السيد محمد بن إبراهيم الوزير ‪-‬رغم انتصاره الشديد ألهل الحديث في‬
‫كتابه (نخبة الفكر) التي استدرك بها على نخبة ابن حجر‪ ،‬لما حكى قول من يقبل‬

‫((( الرسالة المنقذة بتصرف ص ‪.16‬‬


‫((( ميزان االعتدال ‪.128/2‬‬
‫((( سير اعالم النبلاء ‪.232/13‬‬
‫((( سير اعالم النبلاء ‪ ،231/13‬تذكرة الحفاظ ‪ 772/2‬برقم ‪.768‬‬
‫((( الرسالة المنقذة بتصرف ص ‪.42‬‬

‫‪280‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫رواية كافر التأويل كالمشبهة والقدرية والمرجئة وفاسق التأويل واحتج له بقوله‪:‬‬
‫“وما يلزم من ردهم من تعطيل علم الحديث واألثر كما يعلم ذلك من بحث عن‬
‫رجال الصحيحين‪ ،‬مع بلوغ الجهد في تنقية رواتهما”‪ -‬قال ابن الوزير‪“ :‬ولعمري ما‬
‫علين�ا من بأس إن كان علم الحديث يتعطل باجتن�اب الكذب على هللا وعلى رسوله‪،‬‬
‫ً‬
‫وليت شعري أي فائدة أو فضيلة إذا يكثر به‪ ،‬إذا كان هللا عز وجل أخذ علين�ا الميث�اق‬
‫أن ال نقول على هللا إال الحق‪ ،‬وحرم علين�ا أن نقول على هللا ما ال نعلم؟ وقال عز‬
‫ً‬
‫وجل في الحجة التي آتاها إبراهيم على قومه وفيما آتى ابراهيم ونوحا وذريتهما من‬
‫ۡ ُ ْ َ‬ ‫ۡ َ َ َ ٗ َّ‬ ‫ۡ َّ‬‫ۡ َ َ ٰٓ ُ َ ٓ َ َ‬ ‫ُۡ‬ ‫َ َ‬
‫ۡوما ليسوا بِها‬ ‫هؤلءِ فقد َوكنا بِها ق‬ ‫الكتاب والحكم والنبوة‪﴿ :‬فإِن يكفر بِها‬
‫ين‪[ ﴾٨٩‬األنعام‪ .]89 :‬وهل كالم الذهبي وابن الوزير إال كقول القائل‪ :‬إني إن لم‬ ‫ب َك ٰ ِفر َ‬
‫ِ ِ‬
‫أكذب لم أستطع أن أقول‪ ،‬وإن لم أقل لم يؤثر عني شيء! هللا المستعان ‪.‬‬
‫(((‬

‫لم ي�سلم من �أ�صحاب الحديث الأئمة الأربعة عند �أهل ال�سنة‪.‬‬


‫عن الوليد بن مسلم قال‪ :‬قال لي مالك بن أنس‪ُ :‬أيذكر أبو حنيفة ببلدكم؟ قلت‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬قال‪ :‬ما ينبغي لبلدكم أن يسكن(((‪.‬‬
‫ً‬
‫(((‬
‫وعن سفيان قال‪ :‬استت�اب أصحاب أبي حنيفة أبا حنيفة مرتين أو ثالثا‬
‫يقول ابن عبد البر‪ :‬وممن طعن عليه وجرحه محمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬فقال‬
‫في كتابه الضعفاء والمتروكين‪ :‬أبو حنيفة النعماني‪ ،..‬قال نعيم بن حماد‪ ..‬سمعنا‬
‫سفيان الثوري يقول‪ :‬استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين‪ ،‬وقال نعيم الفزاري‪ :‬كنت‬
‫عند سفيان ابن عيين�ه فجاء نعي أبي حنيفة فقال‪ :‬كان يهدم اإلسالم عروة عروة‪ ،‬وما‬
‫ولد في اإلسالم مولود شر منه‪ ،‬هذا ما ذكره البخاري(((‪.‬‬
‫ً‬
‫قال ابن عبد البر‪ :‬وتكلم في مالك أيضا‪ ..‬عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد الرحمن‬
‫بن زيد بن أسلم و‪ ..‬وتحامل عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء‬

‫((( الرسالة المنقذة بتصرف ص ‪.44-42‬‬


‫((( العلل ومعرفة الرجال‪ :‬احمد بن حنب�ل ‪ 547/2‬تحقيق وصي هللا عباس وصحح اسناده‪.‬‬
‫((( العلل ومعرفة الرجال وصححه وصي هللا عباس ‪.239/3‬‬
‫((( االنتقاء ص ‪.150‬‬

‫‪281‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ً‬
‫من رأيه حسدا لموضع إمامته‪ ،‬وعابه قوم في إنكاره المسح على الخفين في الحضر‬
‫ُ‬
‫والسفر‪ ،‬وفي كالمه في علي وعثمان‪ ،‬وفي فتي�اه بإتي�ان النساء في األعجاز(((‪.‬‬
‫قال يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل عن الشافعي‪( :‬ليس بثقة)‪.‬‬
‫(((‬

‫ْ‬
‫يسلم من لسان المحدثين كبار أئمة أهل السنة وال حتى المحدثون‬ ‫وبالجملة لم‬
‫أنفسهم‪ ،‬ولو أنهم طبقوا قواعدهم حق التطبيق لما سلم من جرحهم إال النادر‬
‫الشارد‪ ،‬ولما وصل إلين�ا شيء من الحديث‪.‬‬

‫اعترافات مت�أخرة‬
‫ً‬
‫االعتراف بالحق فضيلة‪ ،‬ورحم هللا امرءا عرف قدر نفسه‪ ،‬لن تجد حجة على‬
‫أهل الحديث أشد من حجتهم على أنفسهم‪ ،‬وإليك هذه االعترافات المتاخرة‪.‬‬
‫قال الذهبي‪ :‬وأما المحدثون فغالبهم ال يفهمون‪ ،‬وال همة لهم في معرفة الحديث‬
‫ً‬
‫وال في التدين به‪ ..‬معذور سفيان الثوري فيما يقول‪ :‬لو كان الحديث خيرا لذهب كما‬
‫مخلوط صحيحه بواهيه أنت ال تفليه‬
‫ٍ‬ ‫ذهب الخير‪ ،‬صدق وهللا‪ ،‬وأي خير في حديث‬
‫وال تبحث عن ناقليه وال تدين هللا تعالى به‪ ...‬يا هللا خلونا فقد بقين�ا ضحكة ألولي‬
‫العقول ينظرون إلين�ا ويقولون هؤالء هم أهل الحديث(((‪.‬‬
‫قال ابن الجوزي‪ :‬ولوال أني ال أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم‬
‫(((‬
‫وما خلطوا ما يعتبروا به‪ ،‬ولكنه ال يخفى على المحقق حاله‪.‬‬
‫ً‬
‫وقال شعبة‪ :‬كنت إذا رايت رجال من أهل الحديث يجيئني أفرح به‪ ،‬فصرت‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫أبغض َّ‬
‫إلي من أن أرى واحدا منهم‪.‬‬ ‫اليوم وليس‬
‫وكان يقول‪ :‬إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر هللا وعن الصالة‪ ،‬فهل أنتم‬
‫منتهون؟‬

‫((( جامع بي�ان العلم ‪.1115/2‬‬


‫((( جامع بي�ان العلم ‪.1114/2‬‬
‫((( بي�ان زغل العلم ص ‪.11-6‬‬
‫((( صيد الخاطر ص ‪.168 - 167‬‬

‫‪282‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫وقال ألصحاب الحديث‪ :‬قوموا عني‪ ،‬مجالسة اليهود والنصارى أحب َّ‬
‫إلي من‬
‫(((‬
‫مجالستكم‪ ،‬إنكم لتصدون عن ذكر هللا وعن الصالة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقال عمرو بن الحارث‪ :‬ما رأيت علما أشرف وال أهال أسخف من أهل الحديث‪.‬‬
‫ونظر سفيان إلى بعض أصحاب الحديث فقال‪ :‬أنتم سخنة عين‪ ،‬لو أدركنا‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ألوجعنا ضربا‪.‬‬ ‫وإياكم عمر بن الخطاب‬
‫َّ‬
‫وقال سفيان الثوري‪ :‬إنا في هذا الحديث منذ ستين سنة‪ ،‬وددت أني خرجت‬
‫ً‬
‫كفافا ال َّ‬
‫علي وال لي‪.‬‬ ‫منه‬
‫ً‬
‫وقال مضيرة الضبي‪ :‬وهللا لنأا أشد خوفا منهم ‪-‬يعني أصحاب الحديث‪ -‬من‬
‫الفساق(((‪.‬‬

‫ال�سنة النبوية عند االثني ع�شرية‬


‫ً‬
‫أما رواية أحاديث النبي في كتب االثني عشرية‪ ،‬فهي أسوأ حاال بكثير مما هو‬
‫عند أهل السنة‪ ،‬والفارق أنهم يتقبلون النقد العلمي السليم لكتبهم وال يحيطونها‬
‫بهالة من القداسة كما يعمل أهل السنة‪ ،‬ولذلك لم أعمد في كتابي هذا التفصيل في‬
‫ً‬
‫هذا الموضوع‪ ،‬ولكن سأذكر نقاطا مهمة‪:‬‬
‫ذكر الطوسي في مقدمة كتابه (تهذيب األحكام) وهو من كبار علماء االثني‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫“ذاكرني بعض األصدقاء أبره هللا ممن أوجب حقه علين�ا بأحاديث أصحابن�ا‬ ‫عشرية‪:‬‬
‫أيدهم هللا ورحم السلف منهم‪ ،‬وما وقع فيها من االختالف والتب�اين والمنافاة‬
‫والتضاد‪ ،‬حتى ال يكاد يتفق خبر إال وبإزائه ما يضاده وال يسلم حديث إال وفي مقابله‬
‫ما ين�افيه‪ ،‬حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبن�ا»‪.‬‬
‫ويقول دلدار علي االثن�ا عشري في أساس األصول ص‪ : 51‬إن األحاديث المأثورة‬
‫عن األئمة مختلفة جدا‪ ،‬ال يكاد يوجد حديث إال وبإزائه ما يضاده‪ ،‬حتى صار ذلك‬
‫ً‬
‫سبب�ا لرجوع بعض الناقصين عن اعتقاد الحق‪.‬‬
‫((( الجامع الخالق الراوي وآداب السامع‪ ،‬الخطيب البغدادي‪ ،‬تحقيق الدكتور محمود الطحان ‪.217/2‬‬
‫((( جميع هذه االخبار منقولة من جامع بي�ان العلم الجزء الثاني‪ .‬ذيل االمالي‪ ،‬ابن علي القال ص ‪.105‬‬

‫‪283‬‬
‫بداية الطريق‬

‫والحق أن الكتب والمراجع االثني عشرية مليئ�ة باألحاديث الخرافية التي‬


‫تخالف القرآن والعقل السليم‪ ،‬واذا كان علماء الحديث قد وضعوا نظريات وقواعد‬
‫ً‬
‫لم يستطيعوا تطبيقها‪ ،‬فإن بعض غالة علماء االثني عشرية قد وضعوا شروطا‬
‫للتصحيح تضحك منها الثكالى‪ ،‬ولوال خوف اإلطالة لذكرنا ّ‬
‫وفصلنا‪ ،‬ولكن نكتفي‬
‫بهذا القدر‪.‬‬

‫وختاما‬
‫هذا الكتاب ما هو إال بداية لطريق طويلة أسأل هللا أن ال تخرج عن الهدى الذي‬
‫ال بد أن نتحرك على أساسه‪ ،‬ولمن يريد الحق والهدى اإللهي في هذا العصر بأكمل‬
‫وأجمل بي�ان‪ ،‬فعليه بدروس ومحاضرات الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي‬
‫رضوان هللا عليه‪ ،‬ودروس ومحاضرات السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي‬
‫يحفظه هللا‪ ،‬فهم أعالم الهدى وورثة الكتاب في هذا العصر‪ ،‬واألمة ّ‬
‫بأمس الحاجة‬
‫إلى أن تتلقى هدى هللا عن طريقهم‪.‬‬
‫وفي األخير أسأل هللا أن يجمع األمة اإلسالمية على القرآن وأعالمه‪ ،‬وأن ينفع‬
‫بهذا الكتاب المستضعفين في مشارق األرض ومغاربها‪ ،‬يا رب العالمين‪.‬‬
‫تم بحمد هللا‬
‫***‬

‫‪284‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫المحتويات‬
‫المقدمة ‪3.....................................................................................‬‬

‫البداية‪5.......................................................................................‬‬
‫وفي الطريق‪8. ............................................................ :‬‬

‫العقيدة في الله سبحانه ‪10..................................................................‬‬


‫عقيدة الوهابية في اهلل �سبحانه وتعالى ‪10. ..................................‬‬
‫روايات الت�شبيه والتج�سيم الموجودة في كتب االثني ع�شرية‪19. ....................‬‬
‫عقيدة قرناء القر�آن في اهلل ‪20. .........................................‬‬
‫مناق�شة الوهابية في الت�شبيه والتج�سيم ‪27. ..................................‬‬
‫‪ -3‬االبتعاد عن الثقلين و االختراق اليهودي ‪27. ................................‬‬
‫الجهل بلغة العرب والروا�سب الجاهلية‪28. ................................... :‬‬
‫�أ) المجاز في القر�آن‪28. .................................................... :‬‬
‫ب) المجاز في كتب الوهابية ‪30. .............................................‬‬
‫الوهابيون يت�أولون ولكن ‪31. .............................................. :..‬‬
‫‪ -2‬ف�ساد القلب و�ضعف خا�صية التدبر والتعقل لديهم‪32. ..................... :‬‬
‫قرناء القر�آن والتعقل‪33. ...................................................:‬‬

‫مناق�شة الوهابية في بع�ض الآيات ‪34. ......................................‬‬


‫كالم الإمام زيد في تف�سير هذه الآية‪37. ....................................‬‬
‫كالم الإمام القا�سم الر�سي عليه ال�سالم في معر�ض رده على الم�شبهة‪38. ............. :‬‬

‫العدل اإللهي ‪45..............................................................................‬‬


‫العدل الإلهي في منظور �أهل البيت عليهم ال�سالم ‪49. ...........................‬‬
‫تف�صيل م�س�ألة العدل الإلهي من منظور قرناء القرءان عليهم ال�سالم ‪61. ..............‬‬

‫‪285‬‬
‫بداية الطريق‬

‫المجبرة القدرية ‪62. .................................................‬‬


‫نحن مجبورون في هذا ‪63. ..................................................‬‬
‫هنا إرادتنا حرة‪46.................................................................................................... :‬‬

‫مناظرة ‪69.............................................................................................‬‬

‫النبوة واألنبياء ‪70............................................................................‬‬


‫عقيدة الوهابية في الأنبياء ‪70. ..........................................‬‬
‫ر�سول من ر�سل اهلل يفق�أ عين ملك الموت ‪72. .................................‬‬
‫�سباق مو�سى والحجر‪74. ................................................‬‬

‫نبينا محمد (÷) وبع�ض روايات �أهل ال�سنة ‪76. .............................‬‬


‫الأكذوبة الأولى‪ :‬ما ذبح على الن�صب‪ ،‬و�سب من الي�ستحق‪76. .................. .‬‬
‫الأكذوبة الثانية ‪ :‬البول قائما‪77. .......................................... .‬‬
‫) يُ�سحر ‪78. ................................‬‬ ‫الأكذوبة الثالثة ‪ :‬ر�سول اهلل (÷‬
‫الأكذوبة الرابعة‪ :‬النبي يقتل ن�ساء و�أطفال الم�شركين‪78. .....................‬‬
‫الأكذوبة الخام�سة �أن النبي ي�أمر بقتل الأ�سرى‪79. .............................‬‬
‫الأكذوبة ال�ساد�سة ‪ :‬زواج النبي الأكرم من عائ�شة وهي طفلة ‪80. ...............‬‬

‫روايات م�سيئة للأنبياء في كتب االثني ع�شرية ‪80. .............................‬‬


‫عقيدة قرناء القر�آن في الأنبياء عليهم ال�سالم ‪83. .............................‬‬
‫ق�صة يو�سف عليه ال�سالم‪85. ............................................... :‬‬

‫أهل البيت عليهم السالم ‪90.................................................................‬‬


‫�سنة اهلل في الهداية‪90. .................................................... :‬‬
‫معايير اختيار القائد الأعلى ‪93. .............................................‬‬
‫اال�صطفاء تكريم للب�شرية ‪96. ...............................................‬‬

‫‪286‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫دوائر اال�صطفاء ‪99. ..................................................‬‬


‫(كتاب اهلل و�سنتي) �أم (كتاب اهلل وعترتي) ‪104...............................‬‬
‫مناظرة‪105. .............................................................. :‬‬
‫م�صادر حديث كتاب اهلل وعترتي‪108. ....................................... :‬‬
‫داللة الحديث‪110. ........................................................ :‬‬

‫من هم �أهل البيت في روايات �أهل ال�سنة ‪110.................................‬‬


‫‪� )1‬أهل البيت في �آية التطهير‪110. .......................................... :‬‬
‫‪� )2‬أهل البيت في �آية المباهلة‪112. .......................................... :‬‬
‫‪� )3‬أهل البيت في �آية المودة‪113. ............................................ :‬‬
‫(االنتماء �إلـى الر�سول من قبل الأم) ‪411...................................................................‬‬

‫خاتمــــة‪117. ...............................................................‬‬
‫تنبيه‪( :‬خا�ص ب�أهل النحو) ‪021. .............................................‬‬

‫�أهل البيت عند �أهل ال�سنة والجماعة ‪122....................................‬‬


‫كالم ابن تيمية عن �إجتباء �آل الر�سل ‪123...................................‬‬
‫‪ -‬ابن تيمية الوجه الآخر ‪126. ...............................................‬‬
‫المجتهد عبد الرحمن ابن ملجم قاتل االمام علي‪128. ..........................‬‬

‫غالة االثني ع�شرية‪ ..‬و�أهل البيت عليهم ال�سالم ‪132...........................‬‬


‫جواب الحائري‪331................................................................................. :‬‬
‫(‪ )1‬تف�ضيل االئمة االثني ع�شر على االنبياء عليهم ال�سالم‪134. ............... :‬‬
‫(‪ )2‬ع�صمة الأئمة االثني ع�شر ‪134. ..........................................‬‬
‫(‪� )3‬أ�شباح الأئمة خارج نطاق الزمان والمكان ‪134. .............................‬‬
‫الغلو في �صفات الأئمة‪135. ............................................. :‬‬
‫ّ‬ ‫(‪)4‬‬

‫عدالة ال�صحابة ‪137..................................................‬‬


‫ال�صدمة ‪137. ...............................................................‬‬

‫الحدث الأول ‪� -‬سرية �أ�سامة بن زيد‪139................................... -‬‬


‫مناق�شة الن�صو�ص‪140. ..................................................... :‬‬

‫‪287‬‬
‫بداية الطريق‬

‫الحدث الثاني‪ -‬رزية الخمي�س ‪141....................................... -‬‬


‫* النص األول‪141........................................................................................ :‬‬
‫* النص الثاني‪141.......................................................................................:‬‬
‫* النص الثالث‪141.......................................................................................:‬‬
‫* النص الرابع‪142....................................................................................... :‬‬
‫* النص األخري‪241...................................................................................... :‬‬
‫مناق�شة الن�صو�ص‪241. ..................................................... :‬‬

‫الحدث الثالث‪� -‬سقيفة بني �ساعدة ‪145.................................... -‬‬


‫ق�صة ال�سقيفة‪541. ........................................................ :‬‬

‫مواقف المعار�ضة الثابت والمتحول ‪150.....................................‬‬


‫‪ -1‬المعار�ضة الأن�صارية‪051. ................................................:‬‬
‫‪-2‬اعترا�ض �أهل البيت وبع�ض ال�صحابة ‪153. ................................. :‬‬
‫‪-3‬دور العبا�س‪ ،‬ومحاولة الحكم ك�سر تحالف جبهة الحق‪751. .................. :‬‬
‫‪ -4‬دور فاطمة الزهراء‪158. ................................................. :‬‬
‫موقف فاطمة عليها ال�سالم من البيعة‪951. ................................... :‬‬
‫وت�ستمر معاناة الإمام‪261. .................................................. :‬‬
‫وفاة فاطمة الزهراء عليها ال�سالم ‪164. .......................................‬‬
‫موقف المجتمع في مكة والمدينة ‪166. .......................................‬‬
‫مواقف بني ها�شم ‪170. ......................................................‬‬
‫ابن عبا�س في حواره مع عمر‪071. ........................................... :‬‬

‫الإمام علي بن �أبي طالب‪ :‬الثابت والمتحوالت ‪174..............................‬‬


‫مناق�شة �إ�ضافية لن�صو�ص ال�سقيفة وبع�ض نتائجها ‪176............................‬‬
‫‪ -‬بيعة �أبي بكر كانت فلتة‪671. .............................................. :‬‬
‫الأن�صار كانوا �أول من دفع ثمن التفريط‪871. ................................. :‬‬
‫ا�ستكمال مناق�شة ن�صو�ص ال�سقيفة‪871. ......................................:‬‬
‫‪ -‬الها�شميون‪081. ...........................................................:‬‬
‫العبا�س والإمام‪281. ........................................................ :‬‬
‫متى ظهرت بوادر التخلي؟ ‪183. ...............................................‬‬

‫‪288‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫الالمباالة والب�ساطة وخطورتها ‪185. .........................................‬‬


‫هل يمكن �أن ي�ضل �صحابة تربوا على يد نبي اهلل؟ ‪781. ........................‬‬
‫حري�صا على هداية الأمة‪881. .................... .‬‬
‫ً‬ ‫النبي في �آخر �أيامه ال يزال‬

‫بعد الإنحراف في ال�سقيفة ‪190...........................................‬‬


‫معاوية بن �أبي �سفيان‪192...............................................‬‬
‫�أما عن االبن البار يزيد بن معاوية ‪197.....................................‬‬
‫منجزات المجتهد يزيد بن معاوية!!!‪197. .....................................‬‬
‫وقعة الحرة‪198. ............................................................‬‬

‫هل هذه االختالفات ثـمرة بغي �أم �سوء فهم ‪199...............................‬‬


‫«الر�ؤية القرءانية في تقييم ال�صحابة» ‪200..................................‬‬
‫مقدمة ال بد منها‪002. ...................................................... :‬‬
‫هل ِغيرتهم دينية �أم �سيا�سية؟ ‪002. ..........................................‬‬
‫�أن�صار اهلل ومنهجيتهم القر�آنية‪102. ......................................... :‬‬
‫الوهابية يخافون من قراءة التاريخ‪202. ..................................... :‬‬
‫التف�سير الخاطئ ومعاداة التاريخ‪302. ....................................... :‬‬
‫منهجية �صكوك الغفران‪302. ............................................... :‬‬
‫التلقي الع�شوائي للدين ونتائجه‪402. ........................................ :‬‬
‫معنى ال�صحبة ودالالتها‪402. ............................................... .‬‬
‫هل يمكن �أن ينقلب ال�صحابة؟‪502. .......................................... .‬‬
‫من هو ال�صحابي وما هو حكمه عند الوهابية‪702. ............................. :‬‬
‫�أفت�ؤمنون ببع�ض الكتاب وتكفرون ببع�ض ‪208. ................................‬‬
‫ازدواجية المعايير‪012. .................................................... :‬‬
‫افتراء الوهابية على ال�سيد بدر الدين رحمة اهلل عليه‪412. ................... :‬‬
‫مالحظة مهمة فيما يتعلق ب�صاحبه في الغار ‪214. .............................‬‬
‫فيما يتعلق بن�ساء النبي �صلى اهلل عليه و�آله الطاهرين‪512. ................... :‬‬
‫التلميح بالطالق بشكل تهديدي‪612...................................................... .‬‬

‫‪289‬‬
‫بداية الطريق‬

‫ال�صحابة عند �أئمة �أهل البيت (ر�ؤية قر�آنية)‪218..............................‬‬


‫الإمام الهادي يحيى بن الح�سين تـ ‪ 289‬هـ‪219. ................................. :‬‬
‫الإمام المرت�ضى محمد بن الهادي تـ ‪ 310‬هـ‪219. ............................... :‬‬

‫العمل عن الإيمان (الإرجاء) ‪222.....................................‬‬


‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ف�صل‬
‫�أمثلة لروايات الإرجاء عند�أهل ال�سنة واالثني ع�شرية ‪223. ....................‬‬

‫القرآن بين السنة واالثني عشرية‪ ،‬وورثة الكتاب ‪237..................................‬‬


‫روايات تحريف القر�آن في كتب �أهل ال�سنة‪238................................‬‬
‫روايات تحريف القر�آن في كتب ال�شيعة االثني ع�شرية‪241........................‬‬
‫�أهل البيت عليهم ال�سالم والقر�آن ‪242......................................‬‬
‫الر�سي‪242. .................. :‬‬
‫مقتطفات من مديح القر�آن ال�صغير للإمام القا�سم ّ‬
‫و�صية الإمام القا�سم بالقر�آن‪242. ........................................... :‬‬
‫كالم الإمام القا�سم في حفظ اهلل لكتابه الكريم‪242. .......................... :‬‬
‫كالم الإمام الهادي يحيى بن الح�سين في حفظ اهلل كتابه‪243. ................. :‬‬
‫كالم ال�شهيد القائد حول عظمة القر�آن الكريم‪244. ............................‬‬
‫كالم ال�سيد القائد عبدالملك الحوثي عن القر�آن الكريم‪245. .................. :‬‬

‫السنة النبوية ‪247...........................................................................‬‬


‫الجمع الع�شوائي وعالقة ال�سنة بالتبيين للقر�آن ‪250.............................‬‬
‫هل دعا ر�سول اهلل �إلى الإكثار من الرواية عنه �أم ال؟‪255. .......................‬‬
‫و�سائل ت�صحيح الحديث عند �أهل ال�سنة‪258. ..................................‬‬
‫عيوب منهج �أهل ال�سنة في الت�صحيح‪258. .....................................‬‬
‫أوال‪ :‬الحكم على أحاديث بالصحة رغم معارضتها لكتاب اهلل ‪258................‬‬
‫ثانيــا‪ :‬الحكــم علــى أحاديــث بالصحــة رغــم معارضتهــا للقوانيــن العلميــة‬
‫الثابتة والواقع العلمي المعاش‪260..............................................................‬‬
‫ثانيا ‪ :‬رواية األحايث المتناقضة ‪262........................................................‬‬
‫الصحابة‪263...........................................‬‬
‫ً‬ ‫ثالثا ‪ :‬إضفاء القداسة الزائدة على‬
‫‪ -1‬بعض الصحابة ينقلون آخر الحديث أحيانا ‪462......................................‬‬
‫رب وينسب للنيب‪562.....................................‬‬ ‫‪ -2‬بعض الصحابة يأخذ عن مخ ٍ‬

‫‪290‬‬
‫ةيوبنلا ةنسلا‬

‫‪ -3‬بعض الصحابة يخطئون في النقل ‪267..................................................‬‬


‫‪ -4‬صحابة مشكوك في روايتهم‪268.........................................................‬‬
‫‪ -5‬صحابة يروون عن أهل الكتاب ‪269.....................................................‬‬
‫الجرح والتعديل و�أثره ال�سلبي على �أخالقيات اهل ال�سنة ال�سلفية ‪270. ..........‬‬
‫حقائق و�أرقام ت�ؤكد ما ذهبنا �إليه ‪272. ........................................‬‬

‫�أهل البيت وكتبهم ‪274.................................................‬‬


‫م�سند الإمام زيد بن علي عليه ال�سالم ‪274. ....................................‬‬
‫ما رواه الإمام القا�سم الر�سي عليه ال�سالم‪ ،‬ت �سنة ‪ 246‬هـ ‪275. ....................‬‬
‫ما رواه الإمام الهادي عليه ال�سالم ‪275. ........................................‬‬
‫�أمالي �أحمد بن عي�سى‪276. ...................................................‬‬
‫�أمالي الإمام �أبي طالب‪276. ...................................................‬‬
‫البخاري وم�سلم ‪276. ........................................................‬‬
‫على �شرط البخاري وم�سلم ‪277. ..............................................‬‬
‫ا�ستدراك على البخاري وم�سلم‪278. ...........................................‬‬
‫مالحظات �أخيرة ‪280. .......................................................‬‬
‫لم ي�سلم من �أ�صحاب الحديث الأئمة الأربعة عند �أهل ال�سنة‪281. .............. .‬‬
‫اعترافات مت�أخرة ‪282. ......................................................‬‬

‫ال�سنة النبوية عند االثني ع�شرية ‪283......................................‬‬


‫وختاما ‪284. ................................................................‬‬

‫‪291‬‬

You might also like