Professional Documents
Culture Documents
الحادية عشر
الحادية عشر
عرفت في المحاضرة السابقة أنه إذا ُقِّدم المسند إليه على خبره الفعلي كان الحديث
والمعنى عن الفاعل ،ثم إنه ينقسم إلى قسمين :
أوال :أن يكون المراد بالتقديم االختصاص؛ بمعنى ما قام بالفعل إال هذا الفاعل ؛ أي لم
يشاركه فيه أحد ،فإذا قلت :أنا أكرمت زيدا ،وأن>>ا ش>>فعت في حاجت>>ه ،وك>>ان المع>>نى
على إرادة االختصاص ؛ بمعنى لم يقم بهذه األفعال إال أنت .
ثانيا :أن يكون المراد بالتق>>ديم تحقي>ق الحكم وتثبيت>ه:ف>المراد في ه>>ذا المق>>ام أن تحق>>ق
أنه الفاعل ،وتمنع السامع من الش>>ك ،ل>>ذلك تب>دأ ب>>ذكر المس>>ند إلي>ه قب>ل ذك>ر الفع>>ل ،
فتق>>ول :ه>>و يص>>نع المع>>روف ،وه>>و يحاف>>ظ على الص>>الة ،ليس الم>>راد في ه>>ذا قص>>ر
هذه األفعال عليه دون غيره ؛ فإن ذلك مم>ا ال يتوهم>ه عق>ل ؛ وإنم>ا الم>راد تحقي>ق ه>ذا
المعاني للفاعل ،وكان األمر بمثابة أن يشك أحد في صدور هذا األفع>>ال من>>ه ،ف>>أردت
أن تأكي>>دها ل>>ه ،وك>>ان التأكي>>د من جه>>تين ؛ تهيئ>>ة النفس ،وتك>>رار اإلس>>ناد ،كم>>ا بّينت
لك سابقا.
= وفي هذه المحاضرة نتحدث عن أمرين :
األول :وه>و تتم>ة لم>ا س>ابق ،وتأكي>د على أن الش>يء إذا ُمِّه د ل>ه ،وش>وقت النفس إلي>ه
ك >>ان أفخم ل >>ه من أن ُي ذكر دون تمهي >>د ،وتع >>رض إلى ض >>مير الش >>أن والقص >>ة ؛ وه >>ذا
الضمير كما جاء عند ابن السراج ":يطلق عن>>د الكوف>>يين على الض>>مير ال>>ذي لم يتقدم>>ه
م >>ا يع >>ود علي >>ه ،ويس >>ميه البص >>ريون ض >>مير الش >>أن والقص >>ة والح >>ديث ،وال خالف بين
الف>>ريقين في مأخ>>ذ التس>>مية فكالهم>>ا يري>>د ب>>ه ض>>ميرا ال يع>>ود على ش>>يء تق>>دم علي>>ه في
الذكر ،وإنما يعود على الجمل>ة التالي>ة ل>ه .وي>رى البص>ريون أن ض>مير الش>أن إنم>ا يتق>دم
جملة يكون هو كناية عنها ،وتكون هي خبرا عنه".
فقد ذكر عبدالقاهر هذا الحديث يستأنس به على ما ذهب إليه؛ من الشيء إذا ُأبِه َم ثم
ُفِّس ر كان أفخم وأنبل ،وتمكن في النفس فضل تمكن ،يقول الشيخ ":وجملُة األمر
أنه ليس إعالُمك الشيَء بغتًة غفاًل ،مْثَل إعالِم ك له بْع َد التنبيِه عليه والتقدمِة له ،ألَّن
ذلك َيْج ري َم ْج رى تكريِر اِإل عالم في التأكيد واإلحكام .ومن ههنا قالوا :إَّن الشيَء إذا
ُأْض ِم ر ثَّم ُفِّس ر ،كان ذلك أفخَم له ِم ْن أن ُيذَك ر من غير تقدمة إضمار.
وي>>دل على ص>>حة م>>ا قالوه أن>>ا نعلم ض>>رورًة في قول>>ه تع>>الىَ{ :فِإ َّنَه ا َال َتْع َم ى اَأْلْبَص اُر}
[الحج ]46 :فخام> >ًة وش >>رفًا وروع> >ًة ،ال َنج >>د منه >>ا ش >>يئًا في قولن >>ا" :ف >>إن األبص >>اَر ال
َتْع مى" ،وك>ذلك الس>>بيُل أب>>دًا في ك>َّل كالٍم ك>ان في>ه ض>ميُر قص>ة .فقوُله تع>>الىِ{ :إَّنُه َال
ُيْف ِلُح اْلَك اِفُر وَن } [المؤمنونُ ، ]117 :يفي>>د من الق>>وًة في نفِي الَف الِح عِن الك>>افرين ،م>>ا
ل >>و قي >>ل" :إَّن الك >>افرين ال يفلح >>ون" ،لم يس >>تفد ذل >>ك .ولم يكن ذل >>ك ك >>ذلك إال أن >>ك
ُتعلمه إياُه ِم ْن بعِد تقدمٍة وتنبيٍه ،أنَت به في حْك م َمْن بدَأ وأعاَد ووَّطد ،ثم ب>>نى ول>َّو ح ثم
صَّر ح .وال َيخفى مكاُن المزيِة فيما طريقه هذا الطريق".
األمر الثاني :تأكي>د م>ا ذهب>ه إلي>ه الش>يخ من أن تق>ديم المس>ند إلي>ه يقتض>ي تأكي>د الخ>بر
وتحقيق> >>ه ؛ أن> >>ك تج> >>د ه> >>ذا األس> >>لوب ُيس> >>تخدم في المقام> >>ات ال> >>تي تحت> >>اج تاكي> >>د ،
فاستعمال المتكلم له في هذه المقام>>ات دلي>ل على إف>ادة ه>>ذا التق>>ديم التأكي>د؛ومن ه>>ذه
المقامات :
1ـ الكالم الذي سبق فيه إنكار من منكر :تقول :أنت أسأت إلى فالن وأخذت حقه ؛
لمن ينك>>ر ه>>ذا ،ومن>>ه قول>>ه تع>>الى َ ":و ِم ْن َأْه ِل اْلِكَت اِب َمْن ِإْن َتْأَم ْن ُه ِبِق ْنَط اٍر ُيَؤ ِّدِه ِإَلْي َك
ِه ِئ ِل ِب ِه ِإ ِإاَّل ِب ِد ٍر ِإ ِم
َو ْنُه ْم َمْن ْن َتْأَمْن ُه يَنا اَل ُيَؤ ِّد َلْي َك َم ا ُدْم َت َعَلْي َقا ًم ا َذ َك َأَّنُه ْم َق اُلوا َلْيَس
َعَلْيَنا ِفي اُأْلِّمِّييَن َس ِبيٌل َو َيُقوُلوَن َعَلى الَّلِه اْلَك ِذ َب َو ُه ْم َيْع َلُم وَن " ومنه َ ":أَفَتْطَم ُع وَن َأْن
ِم ِد ِه ِم ِم
ُيْؤ ُنوا َلُك ْم َو َقْد َك اَن َفِر يٌق ْنُه ْم َيْسَم ُعوَن َكاَل َم الَّل ُثَّم ُيَح ِّر ُفوَنُه ْن َبْع َم ا َعَق ُل وُه َو ُه ْم
َل وَن " ومن >>ه َ ":أَل ِإَلى اَّل ِذ ي ُأوُت وا َنِص ي ا ِم اْلِكَت اِب ْد َع َن ِإَلى ِكَت اِب الَّل ِه
ُي ْو ًب َن َن ْم َتَر َيْع ُم
ِلَيْح ُك َم َبْيَنُه ْم ُثَّم َيَتَو َّلى َفِر يٌق ِم ْنُه ْم َو ُه ْم ُمْع ِر ُضوَن "
وفي ه>ذا يق>ول عب>دالقاهر ":وَيْش هد ِلم>ا قلن>ا ِم ْن أَّن تق>ديَم المح>َّد ِث عن>ه َيْق تض>ي تأكي>َد
الخ>>بِر وتحقيَق ه ل>>ه ،أَّن ا إذا تَأمْلن>>ا وَج ْد نا ه>>ذا الَّض ْر َب مَن الكالم يجيُء فيم>>ا س>>بَق في>>ه
إنك>>اٌر من ُمْنِك ٍر ،نح >ُو أْن يق>>وَل الرج >ُل" :ليس لي علٌم بال>>ذي تق>>ول" فتق>>وُل ل>>ه" :أنَت
َتْع لم أَّن األمَر على م>>ا َأقوُل ،ولكن>ك َتمي>ل إلى خص>مي" وكق>>ول الن>اس" :ه>>و َيعلُم ذاك
وإْن َأْنَك َر ،وهو َيعلُم الَك ِذ َب فيما قاَل وإْن حل>َف علي>ه" وكقول>>ه تع>>الىَ{ :و َيُقوُل وَن َعَلى
الَّل ِه اْلَك ِذ َب َو ُه ْم َيْع َلُم وَن } [آل عم>>ران ، ]78 ،75 :فه>>ذا من َأْبَيِن ش>>يٍء .وذاَك أَّن
الك>>اذَب ،ال س >َّيما في ال>>ِّدين ،ال َيْع ترف بأن>>ه ك>>اذٌب ،وِإذا لم يع>>ترْف بأن>>ه ك>>اذٌب ،ك>>ان
أْبَعَد ِم ن ذلك أْن يعتِر َف بالِعْلم بأنه كاذٌب "
2ـ أنه يجيء فيما اعترض فيه شٌك ؛ كأن تق>ول لمن ش>>ك في رؤي>ة هالل رمض>ان :أن>ا
رأيت>>ه ،زي>>د أخ>>برني ب>>ه ،دار اإلفت>>اء أعلنت>>ه ...وه>>ذا الن>>وع من الكالم ال ي>>رتقي درج>>ة
اإلنكار.
يقول الشيخ ":أْو َيجيء فيم>ا اع>ترَض في>ه ش>ٌّك ،نح>ُو َأْن يق>وَل الرج>ُل" :كأَّنك ال تعلُم
ما َص نَع فالٌن ولم ُيْبِلْغك" ،فيقوُل " :أنا أعلُم ،ولكني أداريه".
3ـ في مق >>ام التك >>ذيب :من ذل >>ك قول >>ه تع >>الى ِ :إَذا َج اَءَك اْلُم َن اِفُقوَن َق اُلوا َنْش َه ُد ِإَّن َك
َلَر ُس وُل الَّل ِه َو الَّل ُه َيْع َلُم ِإَّن َك َلَر ُس وُلُه َو الَّل ُه َيْش َه ُد ِإَّن اْلُم َن اِفِق يَن َلَك اِذ ُبوَن ( )1اَّتَخ ُذ وا
َأْيَم اَنُه ْم ُج َّنًة َفَص ُّد وا َعْن َس ِبيِل الَّلِه ِإَّنُه ْم َس اَء َما َك اُنوا َيْع َم ُلوَن (َ )2ذِل َك ِب َأَّنُه ْم آَم ُن وا ُثَّم
َكَف ُر وا َفُطِب َع َعَلى ُقُل وِبِه ْم َفُه ْم اَل َيْفَق ُه وَن " ،والش>>اهد في>>ه َ ":و الَّل ُه َيْع َلُم ِإَّن َك َلَر ُس وُلُه
َو الَّلُه َيْش َه ُد ِإَّن اْلُم َناِفِق يَن َلَك اِذ ُبوَن " و" َفُه ْم اَل َيْفَق ُه ون" ،فالمق>ام في ك>ل ه>ذا تك>ذيب ؛
فناسب ذلك تقديم المسند إليه .
وفي ه>>ذا يق>>ول الش>>يخ ":أْو في تك>>ذيِب ُم َّد ٍع كقول >ِه ع >َّز وج >َّلَ{ :و ِإَذا َج اُءوُك ْم َق اُلوا
آَم َّنا َو َقْد َدَخ ُلوا ِباْلُكْف ِر َو ُه ْم َقْد َخ َر ُج وا ِبِه} [المائدة ، ]61 :وذلك أَّن قوَلهم" :آمَّنا"،
دْع وى منهم َأَّنهم لم َيْخ رجوا بالُكْف ر كما َد خلوا به ،فالَم وضُع موضُع تكذيب".
4ـ في ما كان القياس في مثله أال يكون ،بمعنى ما يقتضي العقل والمنطق أنه محال ؛
يقول الشيخ ":كقولِه تعالىَ{ :و اَّتَخ ُذ وا ِم ْن ُدوِنِه آِلَه ًة َّال َيْخ ُلُقوَن َش ْيًئا َو ُه ْم ُيْخ َلُقوَن }
[الفرقان ، ]3 :وذلك أَّن عبادَتهم لها َتْق تضي أْن ال تكوَن مخلوقة.
5ـ ك >>ل خ >>بر ك >>ان على خالف الع >>ادة :نح >>و زي >>د ي >>دعي الص >>الح وه >>و على حال >>ه من
الفس >>اد ،يق >>ول الش >>يخ ":ك >>ذلك في ك >َّل ش >>يٍء ك >>ان خَب رًا على خالِف الع >>ادِة ،وعم >>ا
ُيْس َتغرب من األم> >>ر نح> >>و أن تق> >>ول" :أال َتْع َج ُب من فالن؟ َي َّد عي العظيَم ،وه> >>و َيْع يى
باليسيِر ،وَيْز عُم اّنُه ُش جاٌع ،وهو َيْف َز ع من أدنى شيء".
6ـ مقام الوعد والضمان :منه قول>ه تع>الى ِ ":إَّنا َكَف ْيَن اَك اْلُمْس َتْه ِز ِئيَن " ،ومن>ه أن>ا أقض>ي
ل>>ك حاجت>>ك ،فمث>>ل ه>>ذا يحت>>اج أن ي>>دخل التأكي>>د على المخ>>اطب ؛ يق>>ول الش>>يخ ":
وِم ّم ا َيْح سُن ذلك فيه وَيْك ُثر ،الوعُد والضماُن ،كقوِل الرجل" :أنا ُأعطي>>ك ،أن>>ا َأكفي>>ك،
أنا َأقوُم بهذا األمر" ،وذلك أَّن ِم ن شأِن َمْن َتِعُد ُه وَتْض َمُن له ،أن َيْع ترَض ه الشُّك في تماِم
الوعِد وفي الوفاِء به ،فهو ِم ْن َأْح وج شيٍء إلى الَّتأكيد".
7ـ مقام المدح :ومنه قولنا ":أنت المقدم فينا" ومنه قول زهير:
َفَألنَت َتفري ما َخ َلقَت َو َبعُض ...الَق وِم َيخُلُق ُثَّم ال َيفري
وألنت أشجع من أسامة إذ ...دعى النزال ولّج فى الّذ عر
وفي هذا يقول الشيخ ":وكذلك َيْك ُثر في المدِح ،كقولك" :أنت ُتعطي الجزيَل ،أنَت
َتْق ري في الَم ْح ِل ،أنَت َتجوُد حيَن ال يجود أحد" ،وكما قال:
َفَألنَت َتفري ما َخ َلقَت َو َبعُض ...الَق وِم َيخُلُق ُثَّم ال َيفري
8ـ مقام الفخر :ومنه قول طرفة:
ِق ِد ِة
نحُن في الَم ْش تا ندُعو الَج َف َلى ...ال َتَر ى اآل َب فيَنا َيْنَت ْر
ومنه قول المتنبي :
ِه
أنا الذي نظَر األعمى إلى أدبي ...وأسمعت كلماتي من ب صمٌم
ومنه قوله َص َّلى اُهلل َعَلْيِه َو َس َّلَم َ« :أَنا َس ِّيُد َو َلِد آَد َم َيْو َم اْلِق َياَم ِةَ ،و َأَّو ُل َمْن َيْنَش ُّق َعْنُه
اْلَق ْبُر َ ،و َأَّو ُل َش اِفٍع َو َأَّو ُل ُمَش َّف ٍع » ،وقوله َ« ":أَنا الَّنِبُّي َال َك ِذ ْب َ ،أَنا اْبُن َعْبِد الُم َّطِلْب »
وفي هذا يقول الشيخ ":وذلك أَّن ِم ن شأِن الم>اِد ح أْن َيْم ن>َع الَّس امعيَن مَن الَش َّك فيم>ا
َيمدح به ،ويباعَد ُه م ِم ن الُّش بهة ،وكذلك المفتخر".