You are on page 1of 1

‫ليس هناك ‪ -‬في الحياة اليومية ‪ -‬مكان أكثر ألفة والتصاًقا بالمعاني اإلنسانية للمرء من المنزل‪ ،‬وقد وصفه

الشاعر "غاستون‬
‫باكالرد" بأنه «أحد أعظم قوى تكامل أفكار اإلنسان وذكرياته وأحالمه»‪.‬‬

‫والمنزل أشمل في معناه من البيت أو المسكن أو الدار ألنه يحوي ذلك وأكثر ليدل على المكان الذي يقيم فيه المرء إقامة طويلة‬
‫أو عابرة‪ .‬وتبدأ عالقة اإلنسان بهذا المكان من خالل المعرفة المرتبطة به‪ ،‬وهناك نوعان من المعرفة التي يكتسبها المرء من‬
‫خالل وجوده في المحيط المكاني وهما‪ :‬معرفة داخلية وأخرى خارجية‪ .‬وحينما نتأمل األماكن التي نزلنا فيها في حياتنا نجدها‬
‫متنوعة‪ ،‬ولكل نوع منها خصائص تنعكس على عالقتنا بالمكان‪ ،‬فعالقتنا بالبيت تختلف عنها مع الشقة المستأجرة أو الفندق أو‬
‫السكن الداخلي أو الغرفة‪ ،‬والبيت الذي عاش فيه المرء طفولته يختلف عن البيت الذي انتقل فيه بعد الزواج أو جاء إليه بعد‬
‫التقاعد‪ .‬وإضافة إلى العمر‪ ،‬فهناك عناصر أخرى كثيرة تؤثر على العالقة بيننا وبين المكان‪ ،‬منها حالة المرء في بداية عالقته‬
‫بالمكان من الناحية المادية والوظيفية واالجتماعية ومن الناحية النفسية‪ .‬ويسجل الدماغ أقوى الذكريات لإلنسان مع المكان‬
‫حينما يوجد أكثر من عنصر مرتبطان بالشخصية‪ ،‬فإذا حصل للمرء حدث معين ورافقه تأثير نفسي بارز‪ ،‬فإن الذاكرة تستعيد‬
‫الحدث مربوًطا على الدوام بالمكان نفسه مهما طال الزمن‪.‬‬

‫ويجد المرء ذاكرته مليئة بالمواقف واألحداث واألفكار‪ ،‬وكلها تأتي في سياق يضع المكان إطاًرا ُيمسك بتلك الذكريات‪.‬‬
‫والمالحظ أن المكان األول الذي سكنه المرء في حياته‪ ،‬وغالًبا ما يكون في طفولته‪ ،‬هو النموذج الذي تتشكل من خالله بقية‬
‫األمكنة‪ .‬ويؤكد فرويد على أن مكان الطفولة هو اإلطار الطبيعي للقصص التي تظهر للمرء في أحالمه مهما بلغ به العمر‪،‬‬
‫ومهما كثرت تجاربه وتعددت خبراته في الحياة‪ .‬ويعود السبب في ذلك إلى أن العالقة بالمكان تضع صيغة للخبرة في الدماغ‪،‬‬
‫وتكون الصيغة األولى ‪ -‬إذا توفرت لها عوامل االستقرار والوعي ‪ -‬هي األكثر رسوًخ ا‪ .‬ومن الطبيعي أن يكون حنين اإلنسان‬
‫لموطنه األول غالًبا على أي موطن آخر‪ ،‬كما عبر عن ذلك الشاعر أبوتمام‪ ،‬في بيته الشهير‪« :‬كم منزل في األرض يألفه‬
‫الفتى‪ ..‬وحنينه أبًدا ألّو ل منزل»‪ .‬وقد كشف عن هذه العالقة بشكل عميق الشاعر بدر شاكر السياب من خالل عالقته بقريته‬
‫جيكور وببساتينه ونخيله‪ ،‬وبأرض العراق بشكل عام‪.‬‬

‫وألهمية المكان في تشكيل رؤيتنا للعالم‪ ،‬فقد الحظ الباحث "ديفيد نوغل"‪ ،‬أن أي أفكار نتخيلها أو قصص نسمعها عن‬
‫اآلخرين‪ ،‬ال نستطيع فهمها إال من خالل تصّو رها في إطار مكاني واضح‪ ،‬وإذا كّنا ال نعرف المكان المشار إليه في القصة‬
‫فإننا في الغالب نشكل مكاًنا مألوًفا لنا ونحشر األحداث فيه‪ .‬ومن خالل هذه الفرضية‪ ،‬فإن فهم كل واحد مّنا لقصة معينة يختلف‬
‫عن فهم اآلخر لها‪ ،‬ألنها تشكلت في صيغ مكانية مختلفة‪.‬‬

‫إن القصص التي ال تظهر فيها معالم للشخصية أو للمكان‪ ،‬تجعل خيالنا يستعيد صورة المكان القديمة المخزنة في الذاكرة‪ ،‬فلو‬
‫كانت القصة جاءت هكذا‪« :‬خرج الرجل الطاعن في السن ممسًك ا بورقة في يده‪ ،‬ثم ما لبث أن عاد وأغلق الباب خلفه»؛ فإن‬
‫استدراج صورة المكان في ذاكرة المتلقي ستجعلنا أمام صور متعددة لها صلة بالمنازل المتصلة بنا روحًيا‪ .‬أما لو كانت القصة‬
‫ذات عناصر محددة‪ ،‬فمن المتوقع أن صورة المكان تكون مجلوبة من الخبرة‪ .‬دعونا نقرأ المقطع التالي المأخوذ من قصة‬
‫"أصدقاء وأقدار" لمؤلفتها ليندا هوغان‪« :‬عندما َطَع َنْت جون كيم ‪ -‬المرأة الكورية التي تقطن في البيت المجاور لنا ‪ -‬زوجها‬
‫الضخم في معدته الممتلئة كان والدي أول من علم باألمر‪ .‬وعندما اصطدمت سيارة البويك بنافذة غرفة نوم سيلفيا سميث كان‬
‫والدي أوَل من حضر هناك‪ ،‬ممسًك ا السيدة سميث بثوب نومها‪ ،‬ويداها السمينتان الشاحبتان تحاوالن تغطية اللفافات في‬
‫شعرها»‪ .‬فكل واحد سيضع مكاًنا بمواصفات معينة لهذا الحدث‪ ،‬ويرسم المكان والشخصيات ويعطيها قيمة أخالقية‪ .‬وبالتركيز‬
‫على عنصر المكان في المقطع السابق‪ ،‬فمن المتوقع أن يكون المكان مأخوًذ ا من البيئة الغربية بسبب وجود عناصر دالة على‬
‫ذلك‪ ،‬ولكن تشكيل هذا المكان يخضع لخبرة كل شخص‪ .‬لكن تفاصيل المكان الدقيقة ستظل غير واضحة‪.‬‬

‫ما سبق يصلح أن يكون تعريًفا نظرًيا عن تأثير المكان في رؤيتنا للعالم‪ ،‬وعن قدرة المكان المسجل في ذاكرتنا على تشكيل‬
‫صورة بقية األمكنة التي نتخيلها‪ ،‬ودور الخبرات السابقة في السيطرة على خيالنا بوضعه في حدود معينة يدور في خانتها‪.‬‬
‫على أن طبيعة المكان نفسه تلعب دوًرا مهًم ا في تشكيل المزاج النفسي والذهني للشخص في لحظة معينة‪ .‬وسيكون من‬
‫المناسب مناقشة عالقتنا مع المكان المفتوح والمكان المغلق وتأثير هذه األمكنة على سلوكنا‪ ،‬وخاصة بعد انتقال الناس من‬
‫القرى واألرياف والصحراء إلى المدن ومدى تكّيف الناس مع الفلل والشوارع واألحياء والعمارات لنتعرف من خالل األمثلة‬
‫على تأثير المكان على الشخصية‪.‬‬

You might also like