You are on page 1of 7

‫المقدمة‬ ‫‪.

1‬‬

‫لئن كان الشعور بالرغبة في العدل واإلحساس به ق ائم في النفس البش رية من ذ أق دم عص ور الت اريخ ‪،‬فإنن ا‬
‫اليوم في أمس الحاج ة إلي ه ألن النفس البش رية حباه ا هللا بحاس ة العدال ة ال تطمئن وال تقتن ع إال بم ا ه و‬
‫عادل‪.‬‬
‫و هو ما ينطب ق على األحك ام ال تي هي من ص نع البش ر أي ًا ك ان نوعه ا أو موض وعها فيس توي أن تك ون‬
‫المنازعة مدنية أو جزائية وحتى يكون الحكم صحيحًا عادًال وبعيدًا عن دائ رة الخط أ الب د للقاض ي من بي ان‬
‫األسباب الكافية والسائغة التي تبرر صدور حكمه في الواقع والقانون على النحو الذي صدر علي ه وإال ك ان‬
‫الحكم معيبًا‪ ،‬فااللتزام بالتسبيب و التعليل ُيعد أحد الركائز األساسية التي تحكم العملية القضائية التي تأخذ بها‬
‫ة‪.‬‬ ‫ول إلى العدال‬ ‫بيل الوص‬ ‫ة في س‬ ‫ة المتقدم‬ ‫ة القانوني‬ ‫ة األنظم‬ ‫كاف‬
‫بإعتبار أن الحق في محاكمة عادلة هو من الحقوق األساسية للفرد‪.‬حتى أن المجتمع الدولي وضع مجموع ة‬
‫متنوعة من األسس والمبادئ لضمان هذا الحق وهي تهدف إلى حماية حق وق األش خاص من ذ لحظ ة القبض‬
‫عليهم وأثناء تقديمهم للمحاكمة وحتى محاكمتهم‪ ،‬و أكد على واجب إحترامها‪ ،‬ألن ع دم إحترامه ا ي ؤدي بن ا‬
‫إلى إنتهاكها بالكامل‪ ،‬وخاصة حق الفرد في محاكمة عادلة ‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن معاهدات حقوق اإلنسان األربع ال تشير صراحة إلى الحق في حكم مسبب أو معل ل ‪،‬إَّال‬
‫أن هذا الحق ُمتأصل في األحكام المتعلقة ” بالمحاكمة العادلة”‪ ،‬حيث أن المادة (‪ )22/2‬من النظام األساس ي‬
‫للمحكمة الجنائية الدولي ة الخاص ة بروان دا والم ادة (‪ )23/2‬من النظ ام األساس ي للمحكم ة الجنائي ة الدولي ة‬
‫الخاصة بيوغسالفيا السابقة تنصان كلتاهما على أن األحكام الصادرة عن هاتين المحكمتين ” يجب أن تك ون‬
‫مرفوقة ب رأي خطي مس بب يمكن أن ي ذيل ب آراء منفص لة أو مخالف ة ” ‪ .‬وتفي د الم ادة (‪ )74/5‬من النظ ام‬
‫األساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن الق رارات الص ادرة عن غرف ة المحاكم ة ” يجب أن تك ون خطي ة وأن‬
‫تتضمن بيانًا كامًال ومسببًا بالنتيجة التي توصلت إليها غرفة المحكمة بشأن األدلة واإلستنتاجات”‪.‬‬
‫و لعل فهم المسألة موضوع الدراسة ال تصح إال باإلتيان على المفاهيم األساسية المكونة لها بدءا بالتسبيب‪.‬‬
‫التسبيب في اللغة العربية مصدر كلمة سبب والسبب هو كل شيء يتوصل به الى غيره‪.‬‬
‫وقد يكون بمعنى الطريق ومنه قوله تعالى ((وآتيناه من كل شيء سببا فاتبع س ببا)) والس بب ه و م ا يوص ل‬
‫الى الشيء فالباب موصل إلى البيت والحبل موصل الى الماء وهكذا ‪،‬ووفقا لهذا الم دلول ف إن أس باب الحكم‬
‫هي ما تسوقه المحكمة من أدلة واقعية وحجج قانونية لحكمها ‪.‬وأما‬
‫في الفقه الوضعي فُيطلق التسبيب على بيان األسباب الواقعية والقانونية التي ق ادت القاض ي إلى الحكم ال ذي‬
‫نطق به‪ ،‬واألسباب الواقعية هي التأكيدات واإلثبات ات ال تي تتص ل ب الواقع في ماديات ه وفيم ا يتعل ق بوج ود‬
‫الواقعة أو عدم وجودها وإسنادها إلى القانون‪.‬أي أن‬
‫التسبيب هو التسجيل الدقيق الكامل للنشاط المبذول من القاضي حتى النطق بالحكم‪ ،‬وهو وسيلة القاض ي في‬
‫التعلي ل على ص حة النت ائج ال تي انتهى إليه ا في منط وق الحكم ال ذي أص دره‪ .‬وأم ا‬
‫المدلول التشريعي للتسبيب‬
‫فلم ُيبينه ال الُمشّر ع التونسي و الالمصري وكذلك الفرنسي ولكنه اكتفى بالنص على وج وب اش تمال الحكم‬
‫على األسباب التي ُبني عليها‪ ،‬فالتسبيب وفقًا لهذا المدلول يع ني بي ان األس باب الواقعي ة والقانوني ة وأس باب‬
‫الرد على الطلبات المهمة والدفوع الجوهرية التي قادت القاضي إلى الحكم الذي انتهى إليه‪.‬‬
‫أما التعليل فيعني التسجيل الدقيق و الكامب النشاط القضائي المبذول من المحكمة حتى النط ق ب الحكم ‪ ،‬ه ذا‬
‫النشاط هو مجموعة مجموعة من األسانيد الواقعية ‪ ،‬المنطقية و القانونية التي إستقام عليه ا ه ذا المنط وق و‬
‫يعود ظهور هذا اللفض أول مرة كمصطلح قانوني و لغ وي إلى فرنس ا و يقص د ب ه تض من الحكم لألس باب‬
‫الضرورية التي‬
‫أدت إلى وجوده‪.‬‬
‫و عليه فإن تسبيب األحكام و القرارات القضائية يعد حقًا لألطراف أو المتقاضين قبل أن يكون واجبًا مهنيًا‬
‫للقاضي و يصنف ضمن المبادئ و القواعد األساسية التي وضعها المشرع لحسن س ير جه از القض اء أو‬
‫العدالة ‪ ,‬و الضمان الحقيقي الذي ُيلجأ إليه لتحقيق األمن القض ائي إض افة إلى المب ادئ األخ رى المتعلق ة‬
‫بحماية الحقوق و الحريات في المجتمع ‪ ,‬فكلما اس تقام التعلي ل و التس بيب ثبت ال دليل على ش رعية الحكم و‬
‫القرار ‪ ,‬وتأكد الهدف الذي يسعى إليه المشرع واألط راف في آن واح د ‪ ,‬وإذا ح اد القاض ي عن التزام ه‬
‫هذا‪ ,‬سواء بالتقصير في تسبيبه لحكمه أو قراره أو شابهما االنعدام أو الغموض ف إن م آل الح ق أو اله دف‬
‫هو الزوال ‪ ,‬و ينصرف عمل القاضي بذلك إلى التعسف و بالتالي انعدام الضمانات التي ُسطرت ل ه ض من‬
‫واجباته المهنية ‪.‬‬
‫و لئن كانت هذه لمحة عن مفهوم التسبيب و التعليل في اللغة و اإلصطالح فإن أهمية ه ذه الض مانة تقتض ي‬
‫العودة إلى أصل تطورها عبر تاريخ أهم النظم القانونية و هو التنظيم الفرنسي ‪ ،‬ذلك أن ه قب ل الق رن الث امن‬
‫عشر لم يكن هناك إلتزام بتعليل األحكام مثال ‪،‬حيث كانت المحاكم خالل الق رن الث الث عش ر ح رة في ذك ر‬
‫األسباب متى و كيفما أرادت ثم تطور األمر فأصبح التعليل فيما بعد عملية الحقة إلصدار الحكم يتم إج راءه‬
‫بطلب من مجلس األطراف ‪.‬‬
‫و لم يظهر التعليل كواجب قانوني في فرنسا إال في القرن الثامن عش ر كم ا س بق و أش رنا ‪ ،‬ليق ع فيم ا بع د‬
‫اإلستقرار على تكريس قاعدة "ضرورة التعليل"بنص المادة ‪ 207‬من الدستور لس نة ‪ 1797‬ال ذي ج اء في ه‬
‫أنه" يجب أن تكون األحكام مسببة كما يجب بيان نصوص القانون المطبقة "‪ .‬لكن يمكن الق ول أن القض اة و‬
‫الفقهاء المسلمين كان لهم السبق في البحث عن أس باب و عل ل األحك ام و أن الفض ل يرج ع له ؤالء في أنهم‬
‫أول من نظر إلى القوانين و األحكام نظرة فلسفية فأمعنوا في بحث عللها و أوغلوا في تمحيص أسبابها ح تى‬
‫أنهم إستنبطوا لذلك علم ا س موه"علم أص ول الفق ه" بالت الي فال غراب ة أن يك ون الس بب أو العل ة منهج ا في‬
‫البحث لديهم و حجة في المجادلة و برهان في اإلقناع ‪.‬‬
‫و عليه يمكن القول أن القضاة المسلمين كان لهم عظيم الفضل في إرساء عديد القواعد القانونية الموض وعية‬
‫منها و اإلجرائية ‪.‬‬
‫أما على مستوى القوانين الوضعية العربية الحديثة فلم يكن نظام تعلي ل األحك ام الجزائي ة قاص را على النظم‬
‫القانونية األوروبية بل ‪ ،‬عرفته هي األخرى فنص علي ه الفص ل‪ 54‬من الدس تور الكوي تي ‪.‬كم ا وق ع إق رار‬
‫نفس القاعدة في قانون اإلجراءات الجزائية اللبناني في الفصل ‪. 323‬‬
‫أما في تونس فقد نص المشروع على تعليل األحكام الجزائية ص راحة بالفص ل ‪ 168‬من مجل ة اإلج راءات‬
‫الجزائية الص ادرة بمقتض ى الق انون ع دد‪ 23‬الم ؤرخ في ‪ 24‬جويلي ة ‪1968‬المتعل ق بإع ادة تنظيم ق انون‬
‫المرافعات الجنائي و الذي نص على ‪:‬‬
‫"يجب أن يذكر بكل حكم؛‬
‫أوال"‪"...‬‬
‫ثانيا"‪"...‬‬
‫ثالثا"‪"...‬‬
‫رابعا" المستندات الواقعية و القانونية و لو في صورة الحكم بالبراءة"‬
‫خامسا" نص الحكم القاضي بالعقاب أو البراءة و النصوص الزجرية الواقع تطبيقها"‪.‬‬
‫أما على المستوى النظري‪ ،‬فإن تعليل األحك ام و تس بيبها ال يق ل أهمي ة عن الض مانات األخ رى ال تي تق وم‬
‫عليها المحاكمة العادلة مثل حق الدفاع ‪ ،‬قرينة البراءة ‪ ،‬المساواة بين الخصوم ‪ ،‬و مبدأ حياد القاضي حتى‬
‫أن هذه الضمانة وق ع التنص يص عليه ا ض من العه د ال دولي الحق وق المدني ة و السياس ية في الم ادة ‪ 66‬و‬
‫اإلتفاقية األوروبية في إطار تنظيم المحكمة األوروبي ة في مادته ا ال‪ 15‬و النظ ام األساس ي لمحكم ة الع دل‬
‫الدولية في مادتها ال‪...56‬‬
‫لكن على الرغم من قوة التكريس القانوني التي حظى بيها هذا المبدأ إال أن الرؤية ال تنفك أن تكون ض بابية‬
‫أحيانا خاصة فيما يتعلق باألحكام المستوجة للتعليل و التسبيب من عدمها! م ع وج ود اإلش ارة إلى األنظم ة‬
‫األنڨلوسكسونية التي لم تأخ ذ به ذا المب دأ كمب دأ دس توري ‪ ،‬ذل ك أنه ا ال تأخ ذ بوجوبي ة التس بيب و التعلي ل‬
‫لألحكام القضائية رابطة ذلك بربح الوقت ‪.‬‬
‫و أما على المس توى التط بيقي‪،‬ف إن لتس بيب و تعلي ل األحك ام الجزائي ة أهمي ة خاص ة‪ ،‬وذل ك على ع دة‬
‫مستويات ‪ ،‬فإذا كان التسبيب مجرد ض مان للتحق ق من قي ام القض اة بواجب اتهم من الناحي ة التنظيمي ة‪ ،‬فإن ه‬
‫يدخل في إط ار مب دأ المالءم ة‪ ،‬مم ا يع د من ص ميم الس لطة التش ريعية‪ ،‬وواق ع األم ر أن جمي ع ض مانات‬
‫المحاكمة المنصفة أو العادلة ‪ ،‬ال دليل على احترامها إال أسباب الحكم التي تكشف عن مدى ال تزام المحكم ة‬
‫بمراعاة هذه الضمانات‪ ،‬فاسباب الحكم هي المرآة الناصعة الجدلي ة ال تي ت بين م دى إتب اع القاض ي القواع د‬
‫واإلجراءات التي نص عليها القانون‪ ،‬ومدى احترامها للضمانات التي أوجبها القانون ‪ ،‬وم دى ُحس ن تط بيق‬
‫المحكمة له ‪ .‬ويحتاج تحرير األحكام الجزائية إلى عناي ة خاص ة‪ ،‬فاألحك ام في ه ذه الم واد يجب أن تب نى‬
‫على الجزم واليقين ال على الحدس والتخمين‪ ،‬فال يصح سندًا لإلدانة أن يذكر القاض ي في حكم ه أن ه ي رجح‬
‫ارتكاب المتهم للجريمة‪ ،‬بل يتعَّين عليه أن يكشف عن يقينه بأن المتهم ارتكب الجريمة‪ ،‬ثم يدّلل على أس باب‬
‫هذا اليقين‪.‬‬
‫و إستنادا على ذلك فإن لتسبيب األحكام وتدعيمها باألسانيد والحجج القانونية الالزم ة أهمي ة عملي ة كب يرة‬
‫بالنسبة للخصوم أطراف الدعوى وأصحاب المصلحة فيها‪ ،‬وبالنسبة للقاضي‪ ،‬والرأي العام‪.‬‬
‫و هو ماسيقع التطرق إليه على التوالي؛‬
‫✓اوال‪ :‬أهمية التسبيب بالنسبة للخصوم‪:‬‬
‫التسبيب و التعليل يوفر القناع ة ل دى أص حاب العالق ة في الحكم الص ادر بحقهم إذ س يتمكن الط رف ال ذي‬
‫خسر دعواه من االطالع على األسباب ال تي حملت المحكم ة على ع دم األخ ذ بدفع ه ودع واه وبي ان الحجج‬
‫القانونية المتبعة في ذلك ‪.‬‬
‫✓ثانيا‪ :‬أهمية التسبيب للرأي العام‪:‬‬
‫من خالل بيان أسباب األحكام يولد لدى ال رأي الع ام أو الش عب االقتن اع باألحك ام ع دالتها على إعتب ار ان‬
‫األحكام الجزائية تصدر من القض اء باس م الش عب ‪ ،‬وبن اء على ذل ك فمن ح ق ال رأي أو الش عب ممارس ة‬
‫رقابته على تلك األحكام والتحقق من صحتها وعدالتها مما يؤدي إلى قناعت ه وحتم ًا تزي د ثقت ه في القض اء‪،‬‬
‫ويعُد إطالع الرأي العام على األسباب وسيلة فعالة لتحقيق مصداقية الحكم الجزائي الصادر باإلدانة وتحقي ق‬
‫أثره في الردع العام‪ ،‬فهذا الردع ال يتحقق إَّال باقتناع الناس جميع ًا بعدال ة ه ذا الحكم‪ ،‬ويتمكن ال رأي الع ام‬
‫من االطالع على األحك ام الجنائي ة من خالل م ا ينش ر في الص حف والمجالت وغيره ا‪ ،‬ل ذلك ف إن نش ر‬
‫األحكام بمسبباتها وحججها يساهم في التوعية والتنوير بمخاطر ومأالت ارتكاب األفعال المجرمة والعقوبات‬
‫التي تترتب عليها‪.‬‬
‫✓ ثالثا‪ :‬أهمية تسبيب الحكم و تعليله بالنسبة للقاضي‪:‬‬
‫أن القاضي بتسبيب حكمه يحصنه ويحمي ه‪ ،‬فه و إن رجح دليًال على آخ ر‪ ،‬أو اقتن ع بطلب‪ ،‬أو أس قط دفع ًا‪،‬‬
‫وجب عليه في جميع الحاالت ذكر األسباب ال تي دفعت ه ل ذلك‪ ،‬أي أن القاض ي ُيحِّل ل كي ف وص ل إلى ه ذه‬
‫النتيجة وال يكون ذلك طبعًا إَّال بعد مناقشة كافة المس ائل ال تي أثاره ا الخص وم أن تأيي دًا أو معارض ة‪ ،‬وأن‬
‫يؤسس حكمه على نصوص من القانون‪ ،‬فالقاضي ال ذي يل تزم بتس بيب األحك ام و تعليله ا ين أى بنفس ه عن‬
‫مخاطر مراجعة أحكامه من المحاكم األعلى درجة في التقاض ي‪ ،‬أو إلغ اء أحكام ه وقرارات ه وإع ادة أوراق‬
‫الدعوى الجنائية النظر فيها من جديد‪ ،‬إضافة إلى أن الواقع في تونس يظهر ان بعض حوادث اإلعت داء على‬
‫بعض القضاة كان دافعها سوء تسبيب بعض األحكام ‪.‬‬
‫و لعل حديثنا هذا عن التسبيب و التعليل لألحكام و خاصة بالنظر لألهمي ة ال تي يكتس بها ه ذا المب دأ ‪ ،‬و من‬
‫باب مزيد دراسته‪ ،‬فإنه لنا شرعية طرح التساؤل التالي؛‬
‫_كيف يمثل تعليل األحكام و تسبيبها ضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة ؟‪.‬‬
‫إن اإلقامة داخل هذا الطرح تقتضي منا دراسة هذا المبدأ من شتى الجوانب ‪،‬ل ذلك س ُيعنى الج زء األول من‬
‫البحث بدراسة دور التعليل و التسبيب في تعزيز الثقة في القضاء(‪)1‬‬ ‫هذا‪.‬‬
‫في حين ُيخصص الجزء الثاني لبيان كيفية أن تعليل األحكام و تسبيبها ضمانة لرقابة محكمة التعقيب (‪.)2‬‬
‫‪ .2‬ا لجزء الثاني ‪:‬تعليل األحكام و تسبيبها ضمانة لممارسة محكمة التعقيب لرقابتها‪:‬‬
‫من البديهي القول أن التعقيب ليس درجة ثالثة من درجات التقاضي‪ ،‬بل هو طعنا غير عادي يوجه ضد‬
‫الحكم الصادر عن قاضي األصل بغية مراقبة حسن تطبيقه للقانون (فرع أول) و في بعض األحيان و‬
‫خاصة في حاالت التعقيب الثاني تنظر محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة في واقع النزاع و ذلك لتوحيد‬
‫اآلراء (فرع ثاني)‬
‫الفرع األول ‪:‬تعليل األحكام و تسبيبها ضمانة لمراقبة حسن تطبيق القانون ‪:‬‬
‫لقد عدد الفصل ‪ 175‬من مجلة المرافعات المدنية و التجارية مداخل الطعن بالتعقيب و حصرها فال يقبل‬
‫الطعن اال اذا توفرت صورة من أسباب الطعن بالتعقيب‪ ،‬و هي مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أو‬
‫تأويله و خرق قواعد االختصاص الحكمي و اإلفراط في السلطة و عدم مراعاة الصيغ الشكلية في‬
‫اإلجراءات أو األحكام و التي رتب القانون على عدم مراعاتها البطالن أو السقوط و تناقض األحكام‬
‫الصادرة بين نفس الخصوم و في ذات الموضوع و السبب و القضاء بغير طلبات الخصوم أو تناقض‬
‫أجزاء الحكم و صدور الحكم على فاقد األهلية دون تمثيله تمثيال صحيحا‪ .‬هنا نالحظ عدم تعرض هذا‬
‫الفصل صراحة لمسألة التعليل و التسبيب‪ ،‬لكن المطعن المتعلق بالخطأ في تطبيق القانون أو تأويله على‬
‫عالقة وطيدة بالتسبيب و التعليل ضرورة أنه على قاضي األصل تبرير اختياره للنص المنطبق على وقائع‬
‫النزاع و هو ما يعرف بالتسبيب كما يجد نفسه مضطرا أحيانا الى تأويل القواعد عند غموضها أو حتى‬
‫سكوتها‪ .‬و هنا قد يصيب قاضي الموضوع و قد يخطأ في ذلك و هو ما يفتح المجال ألطراف النزاع للطعن‬
‫بالتعقيب استنادا على ضعف في التعليل و يسمح لمحكمة التعقيب ببسط رقابتها من هاته الناحية دون‬
‫التعرض ألصل النزاع‪ .‬و هذا يمثل بال شك ضمانة إضافية من ضمانات المحاكمة العادلة‪ .‬كما أن المطعن‬
‫المتعلق باالفراط في السلطة على عالقة بمسألة حسن التسبيب و التعليل الن قاضي األصل عندما تتشكل‬
‫قناعاته يجب أن يحسن تسبيبها و تعليلها حتى ال يرمى باإلفراط في السلطة و يكون ضعف التعليل او غيابه‬
‫سببا جديا لنقض حكمه و هو ما يمثل أيضا ضمانة جيدة للمتقاضين‪.‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬حصر الفصل ‪ 357‬مكرر من مجلة الحقوق العينية حاالت او مداخل الطعن بالتعقيب‬
‫في األحكام الصادرة عن المحكمة العقارية و القاضية بالتسجيل أو الترسيم الناتج عن حكم التسجيل فكانت‬
‫شبيهة بتلك التي وردت بمجلة المرافعات المدنية و التجارية و ال سيما اذا كان الحكم مبنيا على مخالفة‬
‫القانون أو خطأ في تطبيقه أو تأويله و كذلك اذا كان هناك افراط في السلطة‪.‬‬
‫و هما الحالتان اللتان لهما عالقة متينة بتعليل و تسبيب األحكام‪.‬‬
‫أما إذا كان النزاع جزائيا‪ ،‬فإن المشرع اشترط صراحة تعليل الحكم عالوة على تسبيبه و ذلك صلب‬
‫الفصل ‪ 168‬من مجلة اإلجرائات الجزائية حيث نص على أنه‪" :‬يجب أن يذكر بكل حكم ‪ … :‬رابعا‪:‬‬
‫المستندات الواقعية و القانونية ولو في صورة الحكم بالبراءة …" و المستندات الواقعية هي التعليل اما‬
‫المستندات القانونية فهي التسبيب‪ ،‬حيث اشترطها هذا الفصل و بصفة آمرة مما يجعل مخالفتها سببا حقيقيا و‬
‫جديا للطعن بالتعقيب و موجبا للنقض‪ .‬و هذا يمثل ضمانة حقيقية من ضمانات المحاكمة العادلة بالنسبة‬
‫للمتقاضين حيث أن قاضي الموضوع يحرص على التسبيب الجيد و التعليل المستساغ لحكمه حتى ال يكون‬
‫عرضة للنقض من طرف محكمة التعقيب‪.‬‬
‫و لعل هذا التعرض الصريح لمسألة التسبيب و التعليل في مجلة اإلجرائات الجزائية‪ ،‬خالفا لمجلة‬
‫المرافعات المدنية و التجارية و خالفا أيضا لمجلة الحقوق العينية ‪ ،‬يجد تبريره في كون النزاع الجزائي‬
‫يشتمل على عقوبات أشد وطأة و أكثر صرامة من تلك التي نجدها في النزاع المدني‪ ،‬حيث انه من غير‬
‫المعقول أن يصدر مثال حكما بالسجن أو باإلعدام دون أن يكون مسببا تسبيبا جيدا و معلال تعليال كافيا‪ ،‬و‬
‫حتى ال يكون عرضة للنقض و هذا تكريسا و ضمانة لمبادئ المحاكمة العادلة في النزاع الجزائي‪.‬‬
‫من جهة أخرى تعرض القانون عدد ‪ 40‬لسنة ‪ 1972‬و المنظم للمحكمة اإلدارية في فصوله‪ 11‬جديد و‬
‫‪ 12‬و ‪ 13‬و ‪ 13‬ثالثا جديد إلى حاالت نظر المحكمة اإلدارية تعقيبا في األحكام الصادرة عن المحاكم‬
‫العدلية و ذلك في النزاعات الجبائية و النزاعات المتعلقة بالتسجيل بالقائمات االنتخابية لالنتخابات الرئاسية‬
‫و التشريعية و البلدية و كذلك الشأن بالنسبة للنزاعات في مختلف الهيئات المهنية و كذلك في نزاعات اللجان‬
‫المصرفية‪ .‬لكن هذه الفصول سكتت عن تحديد مداخل الطعن بالتعقيب‪.‬‬
‫و في غياب نص تشريعي يعدد مداخل الطعن بالتعقيب‪ ،‬فإن المحكمة اإلدارية قد تكفلت بتحديدها و خاصة‬
‫حالة ضعف التعليل و التسبيب‪ ،‬حيث ما انفكت تذكر للمتقاضين و من ورائهم المحامين بما استقر عليه فقه‬
‫قضائها في خصوص تحديد مدلول تعليل األحكام الذي و خاصة في القرار التعقيبي عدد ‪ 39425‬الصادر‬
‫عن المحكمة اإلدارية و الذي يقتضي "التنصيص على االعتبارات الواقعية و األسباب القانونية التي تم‬
‫على أساسها اتخاذ الحكم او القرار و التي أدت إلى تشكيل قناعة القاضي‪ ،‬و هو يتجاوز بالتالي ايراد‬
‫طلبات الخصوم و أوجه دفاعهم الى تمحيص مستنداتهم و مناقشة أدلتهم و استخالص النتائج منها و‬
‫تطبيق القواعد القانونية عليها حتى يتمكن كل طرف من معرفة ما له و ما عليه "‬
‫و ال يقتضي التعليل الرد على جميع الدفوعات المقدمة الى قاضي األصل بل يكفي فقط الرد على الدفوعات‬
‫الجوهرية حتى يتمكن المتقاضي من االقتناع بوجاهته أو مناقشته قضائيا عند االقتضاء و بصفة تمكن‬
‫قاضي التعقيب من ممارسة رقابته عليه‪ .‬و هذا يمثل بطبيعة الحال ضمانة للمحاكمة العادلة بالنسبة‬
‫للمتقاضين‪.‬‬
‫إن الدوائر التعقيبية لمحكمة التعقيب و الدوائر التعقيبية للمحكمة اإلدارية‪ ،‬تراقب حسن تعليل األحكام و‬
‫تسبيبها من طرف قضاة الموضوع دون التعرض ألصل النزاع‪ ،‬لكن ذلك ال يقصي الدوائر المجتمعة‬
‫لمحكمة التعقيب و الجلسة العامة للمحكمة اإلدارية من فرضية تدخلها في األصل حين يتعلق األمر بحاالت‬
‫تعقيب ثاني أو إذا مثل النزاع جدال فقهيا او فقه قضائيا لوضع حد لذلك الجدل‪.‬‬
‫الفرع الثاني ‪:‬تعليل األحكام و تسبيبها ضمانة لتوحيد اآلراء‪:‬‬
‫اذا تم الطعن بالتعقيب ضد حكم نهائي صادر عن محكمة إستئناف‪ ،‬و تم التمسك بمطعن ضعف التعليل‬
‫و التسبيب‪ ،‬فإن الدائرة التعقيبية المتعهدة تنظر في مدى وجاهة ذلك المطعن و حينها تنقض الحكم و يكون‬
‫نقضها دون إحالة أي كما أن الحكم لم يصدر اصال‪ ،‬أو تنقضه مع اإلحالة إلى المحكمة التي أصدرته إلعادة‬
‫النظر بهيئة جديدة‪ .‬تعيد محكمة االستئناف النظر من جديد في اصل النزاع و تصدر الهيئة الجديدة حكمها‬
‫الذي يكون قابال للطعن بالتعقيب مرة ثانية‪ ،‬و إذا أصرت الهيئة الحكمية الجديدة على نفس الرأي‪ ،‬و إذا تم‬
‫تعقيبه مرة ثانية من أجل نفس السبب و المطعن‪ ،‬فإن النظر يصبح من مشموالت الدوائر المجتمعة لمحكمة‬
‫التعقيب اذا كان النزاع مدنيا أو من أنظار الجلسة العامة للمحكمة اإلدارية اذا تعلق األمر باالختصاص‬
‫التعقيبي للمحكمة اإلدارية‪.‬‬
‫إن الهدف من إحالة الملف على أنظار الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب أو على أنظار الجلسة العامة‬
‫للمحكمة اإلدارية يتمثل في حسم النزاع نهائيا و وضع حد للجدل القائم و من خالل ذلك توحيد اآلراء و‬
‫االجتهادات القضائية‪.‬‬
‫و في هذا اإلطار اقتضى الفصل ‪ 72‬جديد من القانون عدد ‪ 40‬لسنة ‪ 1972‬و المتعلق بالمحكمة‬
‫اإلدارية انه "تقتصر الجلسة العامة اذا ما رفع لديها حكم مطعون فيه على النظر في المطاعن القانونية‬
‫التي سبق التمسك بها لدى حاكم األصل اال اذا كان المطعن المثار ألول مرة أمام التعقيب متعلقا بالنظام‬
‫العام أو كان متعلقا بعيب تسرب الي الحكم المطعون فيه و ال يمكن معرفته اال باالطالع على ذلك الحكم‪.‬‬
‫غير انه يمكن للجلسة العامة‪ ،‬و بإثارة من الطاعن أن تراقب الوجود المادي للوقائع التي انبنى عليها‬
‫الحكم المطعون فيه و تبحث ان كان حاكم األصل قد أعطاها وصفا قانونيا صحيحا "‬
‫لم يستعرض هذا الفصل بصفة صريحة الحاالت التي يمكن بموجبها الطعن بالتعقيب‪ ،‬و اكتفى التعرض‬
‫لضرورة حسن التعليل عبر عبارة "‪ ...‬أن تراقب الوجود المادي للوقائع… " كما أنه أشار الى ضرورة‬
‫التسبيب الجيد من خالل عبارة "‪ ...‬ان كان حاكم األصل قد أعطاها وصفا قانونيا صحيحا"‬
‫في هاته الحالة‪ ،‬ال تكتفي محكمة التعقيب بمجرد مراقبة حسن تطبيق القانون‪ ،‬لتتعداه الى النظر في أصل‬
‫النزاع عبر التثبت من الوجود المادي للوقائع التي انبنى عليها الحكم المطعون فيه اي انها سوف تتثبت من‬
‫أن الحكم معلال تعليال كافيا او خالف ذلك‪ ،‬كما أنها سوف تبحث في ما إذا كان قاضي األصل قد أعطاها‬
‫وصفا قانونيا صحيحا من عدمه‪ ،‬لتتدخل و تضع تسبيبا جديدا ينهي النزاع و الجدل‪.‬‬
‫و قد اتيح للمحكمة اإلدارية ان تفسر التعليل في قرارها التعقيبي الحديث عدد ‪ 312642‬الصادر‬
‫بتاريخ ‪ 25‬جانفي ‪ 2017‬و الذي جاء فيه ما يلي ‪:‬‬
‫"حيث استقر فقه قضاء هذه المحكمة على ان تعليل األحكام يقتضي من المحكمة تفحص كل المطاعن‬
‫المقدمة بعريضة الدعوى ثم الرد عليها أو على الجدي منها و تضمين قرارها جملة األسباب الواقعية و‬
‫القانونية التي أدت إلى تشكيل قناعتها و الي اتخاذ قرارها على أساسها بصورة ال يشوبها القصور أو‬
‫التناقض‪ ،‬و ذلك حتى يتمكن المتقاضي من االقتناع بوجاهته أو مناقشة قرارها قضائيا و على نحو يمكن‬
‫قاضي التعقيب من بسط رقابته عليها"‬
‫نجد في هذا القرار بلورة لمدلول مطعن التعليل و توحيدا لآلراء و االجتهادات القضائية في خصوص‬
‫تعليل األحكام و تسبيبها عبر افصاح المحكمة تعقيبيا على حكمها في أصل النزاع لتكرس بذلك ضمانة من‬
‫ضمانات المحاكمة العادلة‪.‬‬

You might also like