You are on page 1of 88

‫إرشاد الطلبة يف فهم علُ ِ‬

‫وم ال ُقرآنِ‬ ‫ُ‬


‫ال َكري‬

‫جزء الثاين‬
‫للصف السادس‬

‫‪1‬‬
‫الرِح ْيم‬
‫الرمح ِن َّ‬ ‫بِس ِم ِ‬
‫هللا َّ‬ ‫ْ‬
‫مق ّدمة‬
‫احلمد هلل الذي هداان هلذا وما كنّا لنهتدي لوال أن هداان هللا‪ ,‬والصالة والسالم على‬
‫حممد وعلى آله وأصحابه األئمة اهلداة‪ ,‬والتابعني هلم إبحسان إىل يوم احلشر والنجاة‪.‬‬ ‫سيّدان ّ‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫يتوسع يف قراءة كتب علوم القرآن‬
‫كل من أراد أن ّ‬ ‫فهذه قواعد أصوليّة جيب على ّ‬
‫معرفتها‪ ,‬ألهنا مق ّدمة ال بد منها للمبتدئني من طالب العلم الشريف‪ ,‬وقد مسيناها " إرشاد‬
‫الطلبة يف فهم علُ ِوم ال ُق ِ‬
‫رآن ال َكري ‪،‬جزء الثاين‪.‬‬ ‫ُ‬
‫"نسأل هللا تعاىل أن ينفع به ‪،‬آمني‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫مجع القرآن وكتابته‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬ترتيبه‪ ،‬أمساء سوره‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬حفظ القرآن وكتابته يف عهد ّ‬
‫الفصل الثاين‪ :‬مجع القرآن وكتابته يف عهد أيب بكر‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬مجع القرآن وكتابته يف عهد عثمان‪.‬‬
‫تدرج فيها‪ ،‬حكم كتابته ابلرسم احلايل‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسم القرآن واملراحل التحسينية اليت ّ‬

‫‪3‬‬
‫متهيد‬
‫تطلق كلمة مجع القرآن ويراد هبا معنيان‪:‬‬

‫املعىن األول‪ :‬حفظه واستظهاره‪ ،‬فهو مجع يف القلوب والصدور‪ .‬وهو هبذا املعىن قد‬
‫ك لِتَ ْع َج َل‬ ‫ِ‬
‫أوتيه رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم قبل اجلميع‪ ،‬قال هللا تعاىل‪ :‬ال ُُتَِّرْك بِِه لسانَ َ‬
‫بِِه (‪ )16‬إِ َّن َعلَْينا َمجْ َعهُ َوقُ ْرآنَهُ (‪ )17‬فَِإذا قَ َرأْانهُ فَاتَّبِ ْع قُ ْرآنَهُ [القيامة‪.]18 - 16 :‬‬

‫املعىن الثاين‪ :‬كتابته كله حروفا وكلمات وآايت وسورا‪ ،‬وهو مجع يف الصحائف‬
‫والسطور‪ ،‬وهو هبذا املعىن قد حدث ثالث مرات‪.‬‬
‫النيب صلّى هللا‬
‫قال احلاكم يف (املستدرك)‪ :‬مجع القرآن ثالث مرات‪ :‬أحدمها حبضرة ّ‬
‫عليه وسلّم ‪ ،‬والثانية حبضرة أيب بكر رضي هللا عنه‪ ،‬واجلمع الثالث يف زمن‬
‫عثمان رضي هللا عنه ‪.‬‬

‫وهذه املرات الثالث‪ ،‬اليت مجع فيها القرآن هبذا املعىن‪ ،‬كانت كيفياهتا خمتلفة‪:‬‬

‫ففي املرة األوىل‪ :‬اقتصر اجلمع على كتابة اآلايت وترتيبها‪ ،‬ووضعها يف مكاهنا اخلاص‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم وتوقيفه‪ ،‬دون أن تكون كل سورة جمموعة‬
‫من سورها‪ ،‬وفق إشارة ّ‬
‫يف صحيفة واحدة‪.‬‬

‫وأما املرة الثانية‪ :‬فقد تع ّدى اجلمع فيها معىن الكتابة فقط؛ إىل مجع اآلايت من كل‬
‫سورة مرتبة يف صحيفة واحدة أو أكثر‪ ،‬وضم تلك الصحف بعضها إىل بعض‪ ،‬ولو مل تكن‬
‫مرتبة السور‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وأما املرة الثالثة‪ :‬فقد كان اجلمع عبارة عن نسخ القرآن وكتابته جمتمعا كله يف‬
‫صحائف‪ ،‬مرتب السور واآلايت‪ ،‬مع كتابة عدد من هذه الصحف‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫الفصل األول‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم ترتيبه‪ -‬أمساء سوره‬
‫حفظ القرآن وكتابته يف عهد ّ‬

‫❖حفظ القرآن يف الصدور‪:‬‬

‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪:‬‬


‫(‪ )1‬حفظ ّ‬
‫يردده أثناء‬ ‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم على حفظ القرآن‪ :‬أنه كان ّ‬ ‫وقد بلغ من حرص ّ‬
‫وجل وتك ّفل له‬ ‫عز ّ‬ ‫نزول الوحي عليه خمافة أن تفوته كلمة أو ينسى حرفا‪ ،‬حىت طمأنه ربّه ّ‬
‫ك لِتَ ْع َج َل‬ ‫ِ‬
‫حبفظه يف صدره وعدم نسيانه بعد مساعه من الوحي‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ال ُُتَِّرْك بِِه لسانَ َ‬
‫بِِه (‪ )16‬إِ َّن َعلَْينا َمجْ َعهُ َوقُ ْرآنَهُ (‪ )17‬فَِإذا قَ َرأْانهُ فَاتَّبِ ْع قُ ْرآنَهُ ُُثَّ إِ َّن َعلَْينا بَيانَهُ [القيامة‪16 :‬‬
‫ك فَال تَْنسى [األعلى‪.]6 :‬‬ ‫‪ .]19 -‬وقال سبحانه‪َ :‬سنُ ْق ِرئُ َ‬

‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم كان ّأول جامع للقرآن يف‬
‫ومن هنا نستطيع أن نعلم أ ّن ّ‬
‫صدره الشريف وسيّد احل ّفاظ‪ ،‬ومرجع الصحابة يف حفظهم للقرآن وفهمهم له‪ ،‬وكان‬
‫حييي ابلقرآن ليله ويزيّن به صالته‪ .‬وكان جربيل يعارضه (يدارسه) إايه يف كل عام مرة يف‬
‫رمضان‪ ،‬وعارضه إايه يف العام األخري مرتني‪.‬‬
‫قالت عائشة وفاطمة رضي هللا عنهما‪ :‬مسعنا رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم يقول‪:‬‬
‫«إ ّن جربيل كان يعارضين القرآن يف كل سنة مرة‪ ،‬وإنه عارضين العام مرتني‪ ،‬وال أراه إال حضر‬
‫أجلي»‬

‫(‪ )2‬حفظ الصحابة للقرآن‪:‬‬


‫وأما الصحابة الذين كان يتنزل الوحي على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم بعلمهم‬
‫ومشاهدهتم‪ ،‬فكان هلم األسوة احلسنة برسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ابإلسراع إىل حفظ‬
‫‪6‬‬
‫منجما على احلفظ كما علمت‪ ،‬وأن األمة العربية قوية‬
‫القرآن ‪ ،‬وقد ساعدهم نزول القرآن ّ‬
‫يعوض ابحلفظ ما فاته ابلقراءة والكتابة‪.‬‬
‫األمي حياول أن ّ‬
‫الذاكرة ابلسجية ‪ ،‬كما أن ّ‬
‫القراء‬
‫ويكفي دليال على ذلك أن الذين قتلوا يف بئر معونة من الصحابة كان يقال هلم ّ‬
‫وكانوا سبعني رجال‪.‬‬

‫❖ كتابة القرآن يف السطور‪:‬‬

‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم حبفظ القرآن يف صدره الشريف ويف صدور‬ ‫مل يكتف ّ‬
‫أجالء‬
‫أصحابه‪ ،‬وإمنا كان أيمر بكتابة ما ينزل من اآلايت يف السطور‪ ،‬و ّاّتذ كتّااب للوحي من ّ‬
‫الصحابة ‪ ،‬تنزل اآلية أو اآلايت‪ ،‬فيأمرهم النيب عليه الصالة والسالم بكتابتها ويرشدهم إىل‬
‫موضعها من سورهتا‪ ،‬وكان بعض الصحابة يكتبون ابتداء من أنفسهم‪ ،‬وكانت كتبوا على‬
‫الرقاع وعظام األضالع واألكتاف‪.‬‬ ‫العسب واللّخاف و ّ‬
‫وروي عن ابن عباس رضي هللا عنه أنه قال‪ :‬كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم إذا‬
‫السورة يف املوضع الذي يذكر‬‫نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب‪ ،‬فقال‪« :‬ضعوا هذا يف ّ‬
‫فيه كذا وكذا»‬
‫يدل على اهتمام رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم بكتابة املصحف وقت نزوله‪:‬‬ ‫ومما ّ‬
‫النبوي‪ ،‬فنهى أصحابه أن يكتبوا ما عدا القرآن‬
‫إفراده هبذه الرعاية‪ ،‬خوف التباسه ابحلديث ّ‬
‫ّأول األمر‪ ،‬ففي صحيح مسلم‪ :‬قال صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬من كتب عين شيئا غري القرآن‬
‫فليتبوأ مقعده من النار»‪.‬‬
‫علي متعمدا ّ‬ ‫فليمحه‪ ،‬وح ّدثوا عين وال حرج‪ ،‬ومن كذب ّ‬
‫وقبض رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم والقرآن حمفوظ يف صدور أصحابه‪ ،‬ومكتوب‬
‫الرقاع وحنوها‪ ،‬وكان اجلمع بني الطريقتني يف عهد النيب املبارك مصداقا لقوله تعاىل‪:‬‬ ‫منثورا بني ّ‬
‫إِ َّان َْحن ُن نََّزلْنَا ال ِّذ ْكَر َوإِ َّان لَهُ َحلافِظُو َن [احلجر‪.]9 :‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ 3 -‬ترتيب آايت القرآن الكري‪:‬‬

‫ترتيب اآلايت يف القرآن على الشكل الذي نراه اليوم يف املصاحف توقيفي عن رسول‬
‫هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وال جمال للرأي واالجتهاد فيه‪ ،‬وقد نقل بعضهم اإلمجاع على ذلك‪،‬‬
‫كشي يف (الربهان)‪.‬‬
‫منهم الزر ّ‬

‫❖واستند اإلمجاع املنقول يف هذا املوضوع إىل نصوص كثرية واثبتة خنتار منها‪:‬‬

‫ما رواه اإلمام أمحد‪ ،‬عن عثمان بن أيب العاص رضي هللا عنه قال‪ :‬كنت جالسا عند‬
‫صوبه‪ُ ،‬ث قال‪« :‬أاتين جربيل فأمرين‬ ‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم إذ شخص ببصره‪ُ ،‬ث ّ‬
‫سان وإِ ِ‬
‫يتاء ِذي الْ ُق ْرىب‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫أن أضع هذه اآلية هذا املوضع من السورة»‪ :‬إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ َأيْ ُم ُر ابلْ َع ْدل َو ْاإل ْح َ‬
‫[النحل‪.]90 :‬‬

‫‪ 4 -‬أمساء سور القرآن وترتيبها‪:‬‬


‫أ‪ -‬أمساء السور‪:‬‬
‫لقد ثبت لنا من نصوص السنة‪ ،‬وانعقاد اإلمجاع أن ترتيب اآلايت يف السورة توقيفي‪،‬‬
‫وهذا جيعلنا جنزم أبن تسمية سور القرآن‪ -‬والبالغ عددها ‪ 114‬سورة‪ -‬توقيفي أيضا‪ ،‬إذ ال‬
‫ميكننا تصور وقوع الرتتيب من رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم إال بعد ذكر اسم السورة‬
‫وُتديد املوضع الذي توضع فيه اآلية‪.‬‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪:‬‬
‫قال ابن عباس رضي هللا عنهما‪ :‬ملا نزلت آخر آية على ّ‬
‫اَّلل ‪[ ..‬البقرة‪ ]281 :‬قال له جربيل‪« :‬اي حممد‪ ،‬ضعها على‬ ‫واتَّ ُقوا ي وماً تُرجعو َن فِ ِيه إِ َىل َِّ‬
‫َ َْ ْ َ ُ‬
‫رأس مثانني ومائيت آية من سورة البقرة» ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم يف بيان فضل أكثر سور القرآن كثرية وبعضها‬ ‫وأحاديث ّ‬
‫اثبت يف كتب الصحاح وغريها؛أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أيب سعيد بن املعلّى‬
‫رضي هللا عنه قال‪ :‬كنت أصلّي يف املسجد فدعاين رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم فلم أجبه‪،‬‬
‫ين َآمنُوا‬ ‫ُث أتيته فقلت‪ :‬اي رسول هللا! إين كنت أصلي‪ .‬فقال‪« :‬أمل يقل هللا تعاىل‪ :‬اي أَيُّها الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ول إِذا َدعا ُك ْم لِما ُْحييِي ُك ْم [األنفال‪ُ .]24 :‬ث قال‪ :‬ألعلّمنك سورة هي‬ ‫َّلل ولِ َّلرس ِ‬
‫ِ ِِ‬
‫استَجيبُوا َّ َ ُ‬ ‫ْ‬
‫أعظم السور يف القرآن قبل أن ّترج من املسجد‪ُ .‬ث أخذ بيدي فلما أراد أن خيرج قلت له‪:‬‬
‫ِ‬ ‫أمل تقل‪ :‬ألعلمنك سورة هي أعظم سورة يف القرآن؟ قال‪ِ ِ ْ :‬‬
‫ني ‪ ...‬هي‬ ‫ب الْعالَم َ‬ ‫احلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ‬
‫السبع املثاين والقرآن العظيم الذي أوتيته»‪.‬‬

‫ب‪ -‬ترتيب السور‪:‬‬


‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم كما أخرب به جربيل‬
‫تواله ّ‬
‫فتوقيفي أيضا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وأما ترتيب السور‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وهو نفس الرتتيب‬
‫عن أمر ربه‪ ،‬وقد علم هذا الرتتيب يف عهد ّ‬
‫املوجود يف مصاحفنا اليوم‪ ،‬وهو ترتيب مصحف عثمان الذي تل ّقاه الصحابة مجيعا ابملوافقة‬
‫والقبول‪.‬‬
‫احلصار‪ :‬ترتيب السور ووضع اآلايت مواضعها إمنا كان ابلوحي‪ ،‬كان رسول‬ ‫قال ابن ّ‬
‫هللا صلّى هللا عليه وسلّم يقول‪ :‬ضعوا آية كذا يف موضع كذا‪ ،‬وقد حصل اليقني من النقل‬
‫املتواتر هبذا الرتتيب من تالوة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬ومما أمجع الصحابة على وضعه‬
‫هكذا يف املصحف‬

‫‪9‬‬
‫الفصل الثاين‬
‫مجع القرآن يف عهد أيب بكر رضي هللا عنه‬

‫إيل أبو بكر‬ ‫أخرج البخاري يف صحيحه‪ :‬أن زيد بن اثبت رضي هللا عنه قال‪ :‬أرسل ّ‬
‫مقتل أهل اليمامة‪ ،‬فإذا عمر بن اخلطاب عنده‪ ،‬قال أبو بكر رضي هللا عنه‪ :‬إ ّن عمر أاتين‬
‫ابلقراء‬
‫يستحر القتل ّ‬ ‫ّ‬ ‫بقراء القرآن‪ ،‬وإين أخشى أن‬
‫استحر يوم اليمامة ّ‬
‫ّ‬ ‫فقال‪ :‬إ ّن القتل قد‬
‫ابملواطن‪ ،‬فيذهب كثري من القرآن‪ ،‬وإين أرى أن أتمر جبمع القرآن‪ .‬قلت لعمر‪ :‬كيف تفعل‬
‫شيئا مل يفعله رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم؟ قال عمر‪ :‬هذا وهللا خري‪ ،‬فلم يزل عمر يراجعين‬
‫حىت شرح هللا صدري لذلك‪ ،‬ورأيت يف ذلك الذي رأى عمر‪ .‬قال زيد‪ :‬قال أبو بكر‪ :‬إنك‬
‫شاب عاقل ال نتهمك‪ ،‬وقد كنت تكتب الوحي لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬فتتبع‬ ‫رجل ّ‬
‫علي مما أمرين به من مجع‬ ‫القرآن فامجعه‪ .‬فو هللا لو كلّفوين نقل جبل من اجلبال ما كان أثقل ّ‬
‫القرآن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف تفعلون شيئا مل يفعله رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم؟ قال‪ :‬هو وهللا‬
‫خري‪ ،‬فلم يزل أبو بكر يراجعين حىت شرح هللا صدري للذي شرح له صدر أيب بكر وعمر‬
‫رضي هللا عنهما‪ .‬فتتبّعت القرآن أمجعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال‪ ،‬حىت وجدت‬
‫ول ِم ْن‬
‫آخر سورة التوبة مع أيب خزمية األنصاري‪ ،‬مل أجدها مع أحد غريه لََق ْد جاءَ ُك ْم َر ُس ٌ‬
‫أَنْ ُف ِس ُك ْم َع ِز ٌيز َعلَْي ِه ما َعنِت ُّْم [التوبة‪ ]128 :‬حىت خامتة براءة‪ ،‬فكانت الصحف عند أيب بكر‬
‫حىت توفاه هللا‪ُ ،‬ث عند عمر حياته‪ُ ،‬ث عند حفصة بنت عمر رضي هللا عنه‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫❖سبب القيام هبذا اجلمع‪:‬‬

‫إ ّن السبب احلامل على هذا العمل الذي أمر به أبو بكر رضي هللا عنه‪ :‬هو ما كان‬
‫من مقتل عدد من ّقراء القرآن وح ّفاظه يف موقعة اليمامة‪ ،‬اليت دارت فيها رحى احلرب بني‬
‫املسلمني وأهل الردة‪ ،‬من أتباع مسيلمة الك ّذاب‪.‬‬

‫❖منهج زيد رضي هللا عنه يف اجلمع‪:‬‬

‫ّأول من مجع القرآن أبو بكر‪ ،‬وكتبه زيد‪ ،‬وكان الناس أيتون زيد بن اثبت‪ ،‬فكان ال يكتب‬
‫آية إال بشاهدي عدل‪.‬‬

‫أن الطريقة يف اجلمع كانت تقوم على أمرين‪:‬‬

‫❖األمر األول‪ :‬معتمده فيما جيمع من آايت‪ ،‬فقد اعتمد رضي هللا عنه على مصدرين‬
‫أيخذ منهما آايت هللا تعاىل‪:‬‬
‫*املصدر األول‪ :‬ما كتب بني يدي رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم من آايت على الرقاع‬
‫وحنوها‪.‬‬
‫*املصدر الثاين‪ :‬ما كان حمفوظا يف صدور الرجال من ّقراء الصحابة وح ّفاظهم‪.‬‬

‫❖األمر الثاين‪ :‬االستيثاق مما جيمع من اآلايت‪ ،‬وقد كان هذا االستيثاق قائما على‬
‫أساسني‪:‬‬
‫‪11‬‬
‫*األساس األول‪ :‬أنه كان رضي هللا عنه ال يقبل شيئا حمفوظا إال إذا ّ‬
‫دعم ابلكتابة‪ ،‬فمن‬
‫جاءه آبية حيفظها مل يثبتها حىت أيتيه هبا هو أو غريه مكتوبة‪.‬‬
‫*األساس الثاين‪ :‬أنه كان ال يقبل ما كان مكتواب إال إذا شهد شاهدان أنه كتب بني يدي‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم على تلك الرقعة هكذا‪.‬‬

‫❖مكان هذه الصحف‪:‬‬


‫لقد استغرق عمل زيد رضي هللا عنه سنة كاملة‪ ،‬وكان االنتهاء أواخر السنة الثانية عشرة‬
‫للهجرة‪ ،‬وما أن انتهى رضي هللا عنه من عمله وأبرز تلك الصحف حىت استقبلها الناس مبا‬
‫تستحق من عناية فائقة‪ ،‬فحفظها أبو بكر رضي هللا عنه عنده بقية حياته‪ُ ،‬ث كانت عند‬
‫خليفته أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه مدة خالفته‪ُ ،‬ث انتقلت إىل دار حفصة‬
‫أم املؤمنني بنت عمر رضي هللا عنهما‪ ،‬عمال بوصية أبيها أمري املؤمنني‪ ،‬حيث مل يكن اخلليفة‬
‫اجلديد معروفا بعد‪ ،‬بل كان األمر شورى بني ستة اختارهم عمر رضي هللا عنه كما هو‬
‫معروف‪.‬‬
‫ُث كانت هذه الصحف مرجعا لعمل عثمان رضي هللا عنه الذي ستعرفه فيما بعد‪.‬‬

‫❖مزااي هذه الصحف‪:‬‬


‫لقد امتازت الصحف اليت مجعها زيد رضي هللا عنه أبمور أمهها‪:‬‬
‫التحري‪ ،‬وأسلم‬
‫أدق وجه من البحث و ّ‬ ‫(‪ )1‬أهنا مجعت القرآن جبميع آايته وسوره‪ ،‬على ّ‬
‫طريقة يف التثبت العلمي‪.‬‬
‫(‪ )2‬أنه اقتصر فيها على ما مل تنسخ تالوته‪ ،‬ولذلك مل يثبت فيها آية الرجم‪ ،‬ألهنا‬
‫نسخت تالوهتا‪.‬‬
‫األمة عليها وتواتر ما فيها‪ ،‬حيث أعلن زيد رضي هللا عنه عمله‬
‫(‪ )3‬أهنا ظفرت إبمجاع ّ‬
‫أقر اجلميع ومل يعرتض أحد‪.‬‬
‫على رءوس األشهاد‪ ،‬والصحابة متوافرون‪ ،‬و ّ‬
‫‪12‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫مجع القرآن على عهد عثمان رضي هللا عنه‬

‫جممل ما ج ّد يف عهد عثمان رضي هللا عنه‪:‬‬


‫أخرج البخاري يف صحيحه عن أنس بن مالك رضي هللا عنه‪ :‬أن حذيفة بن اليمان‬
‫قدم على عثمان‪ ،‬وكان يغازي أهل الشام يف فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق‪ ،‬فأفزع‬
‫حذيفة اختالفهم يف القراءة‪ ،‬فقال حذيفة لعثمان‪ :‬اي أمري املؤمنني! أدرك هذه األمة قبل أن‬
‫خيتلفوا يف الكتاب اختالف اليهود والنصارى‪ ،‬فأرسل عثمان إىل حفصة‪ :‬أن أرسلي إلينا‬
‫نردها إليك‪ ،‬فأرسلت هبا حفصة إىل عثمان‪ ،‬فأمر زيد‬ ‫ابلصحف ننسخها يف املصاحف ُث ّ‬
‫بن اثبت وعبد هللا بن الزبري وسعيد بن العاص وعبد الرمحن بن احلارث بن هشام‪ ،‬فنسخوها‬
‫يف املصاحف‪ ،‬وقال عثمان للرهط القرشيني الثالثة‪ :‬إذا اختلفتم أنتم وزيد بن اثبت يف شيء‬
‫من القرآن فاكتبوه بلسان قريش‪ ،‬فإمنا نزل بلساهنم‪ ،‬ففعلوا حىت إذا نسخوا الصحف يف‬
‫كل أفق مبصحف مما نسخوا‪ ،‬وأمر‬ ‫رد عثمان الصحف إىل حفصة‪ ،‬وأرسل إىل ّ‬ ‫املصاحف ّ‬
‫مبا سواه من القرآن يف كل صحيفة أو مصحف أن حيرق‪.‬‬

‫❖أسباب عمل عثمان رضي هللا عنه‪:‬‬

‫أ‪ -‬من املعلوم أن الفتوحات اإلسالمية أايم عثمان رضي هللا عنه كانت قد اتسعت‪،‬‬
‫وتفرق املسلمون يف البلدان واألمصار‪ ،‬ونبت جيل مسلم جديد حيتاج إىل دراسة القرآن‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وكان أهل كل إقليم أيخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة‪ ،‬الذين تلقوا القرآن عن‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم بلهجاته املختلفة وأحرفه السبعة اليت نزل عليها‪ ،‬وكان من‬
‫الطبيعي أن يوجد بينهم اختالف يف طرق األداء ووجوه القراءة‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫وبسبب تباعد الداير وبعد عهد الناس ابلنبوة‪ ،‬كاد هذا االختالف يف أوجه القراءات‬
‫حيدث بينهم شقاقا ونزاعا‪ ،‬يظهر حني التقاء الناس وخاصة يف املغازي أو املواسم‪ ،‬إذ إن‬
‫األحرف السبعة مل تكن معروفة لدى أهل تلك األمصار‪.‬‬

‫ب‪ -‬وساعد على هذا االختالف وجود عديد من املصاحف اخلاصة‪ -‬إىل جانب تلك‬
‫الصحف اليت وضعت عند حفصة رضي هللا عنها‪ -‬كان بعض الصحابة قد كتبها لنفسه ُث‬
‫أيب بن كعب ومصحف عبد هللا بن مسعود‪،‬‬ ‫اشتهرت بني الناس‪ ،‬ومن أشهرها‪ :‬مصحف ّ‬
‫ولذلك جند أن هذا االختالف والنزاع قد مشل ك ّل األمصار حىت املدينة نفسها‪.‬‬

‫❖قرار عثمان رضي هللا عنه وتنفيذه‪:‬‬

‫توصل إليه مع كبار الصحابة‬


‫وشرع عثمان رضي هللا عنه بتنفيذ هذا القرار الذي ّ‬
‫فألّف جلنة من خرية الصحابة حفظا لكتاب هللا تعاىل وإتقاان له وضبطا‪ ،‬وهم‪ :‬زيد بن اثبت‪،‬‬
‫وعبد هللا بن الزبري‪ ،‬وسعيد بن العاص‪ ،‬وعبد الرمحن بن احلارث بن هشام‪ ،‬رضي هللا عنهم‪،‬‬
‫وعهد إليهم بكتابة املصاحف‪.‬‬

‫وفور ّاّتاذ القرار وتعيني اللجنة اليت كلّفت ابلعمل‪ ،‬أرسل رضي هللا عنه إىل حفصة‬
‫رضي هللا عنها يطلب منها أن ترسل إليه ابلصحف اليت كانت عندها‪ ،‬واليت مجعت على‬
‫عهد أيب بكر رضي هللا عنه‪ ،‬لتكون هي العمدة واملرجع يف استنساخ كتاب هللا تعاىل‪ ،‬إذ‬
‫إهنا مجعت وكتبت على النهج الذي كتب به القرآن بني يدي رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ولقد لبّت حفصة رضي هللا عنها الطلب‪ ،‬طاعة ألمري املؤمنني‪ ،‬ومشاركة يف خدمة‬
‫ابلصحف‪ ،‬واستلمتها اللجنة الرابعية املوقرة‪،‬‬
‫كتاب هللا تعاىل اليت ال تدانيها خدمة‪ ،‬فأرسلت ّ‬
‫وبقيت عندها اإلمام واملرشد‪ ،‬حىت إذا انتهت من عملها‪ ،‬أعيدت الصحف إىل صاحبة احلق‬
‫فيها‪ ،‬وبقيت عندها حىت توفيت‪ ،‬رضي هللا عنها وأرضاها‪.‬‬

‫❖منهج اللجنة يف كتابة النسخ‪:‬‬

‫لقد اتبعت اللجنة الرابعية منهجا يعتمد األسس التالية‪:‬‬


‫‪ 1 -‬أن الصحف اليت كتبت على عهد أيب بكر رضي هللا عنه‪ ،‬واليت قام بكتابتها زيد بن‬
‫اثبت رضي هللا عنه‪ -‬رئيس اللجنة الرابعية‪ -‬هي املرجع واألساس يف استنساخ هذه‬
‫املصاحف‪ .‬وهبذا يعلم أن هذه املصاحف‪ ،‬برتتيبها ورمسها‪ ،‬إمنا كانت على النهج الذي كتب‬
‫به القرآن على عهد رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬ألن زيدا رضي هللا عنه كان أشهر‬
‫الصحابة ضبطا للقرآن وحفظا‪.‬‬

‫‪ 2 -‬أن املعتمد يف الكتابة والرسم‪ ،‬حال اختالف أعضاء اللجنة‪ ،‬إمنا هو طريقة قريش يف‬
‫كتابتها ورمسها‪ ،‬ألن القرآن نزل بلغتها وهلجتها‪،‬واملراد‪ :‬إذا اختلفتم يف الرسم واإلمالء‬
‫واللهجة‪.‬‬

‫ويقروا أنه على النحو الذي قرأ عليه‬


‫‪ 3 -‬ال يكتبون شيئا إال بعد أن يعرض على الصحابة‪ّ ،‬‬
‫استقر يف العرضة األخرية على رسول‬
‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وأنه قرآن حم ّقق‪ ،‬وقد ّ‬
‫هللا صلّى هللا عليه وسلّم ومل ينسخ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫❖مزااي مصاحف عثمان رضي هللا عنه‪:‬‬

‫– ‪ 1‬االقتصار على ما ثبت ابلتواتر من أوجه القراءات‪ ،‬دون ما كانت روايته آحادا‪ ،‬ولذلك‬
‫مل يكتبوا مثل (وكان وراءهم ملك أيخذ كل سفينة صاحلة غصبا) بزايدة كلمة (صاحلة) ألن‬
‫هذه الكلمة مل تتواتر‪.‬‬
‫اخلاصة من تفسريات وشروح أو ذكر‬ ‫‪ 2 -‬جتريدها من كل ما كان يف بعض املصاحف ّ‬
‫أسباب نزول وغري ذلك‪.‬‬
‫يستقر يف العرضة األخرية‪ ،‬كما هو الشأن يف األصل‬ ‫ّ‬ ‫‪ 3 -‬إمهال ما نسخت تالوته ومل‬
‫املعتمد‪ ،‬وهو ما كتبه زيد رضي هللا عنه على عهد أيب بكر رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 4 -‬ترتيب السور واآلايت على الوجه املعروف اآلن‪ ،‬والذي كان بتوقيف من رسول هللا‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬بينما مل تكن صحف أيب بكر رضي هللا عنه مرتبة السور‪ ،‬بل كانت‬
‫مرتبة اآلايت فقط‪.‬‬
‫‪ 5 -‬أن رمسها كان بطريقة جتمع األحرف السبعة اليت نزل عليها القرآن‪ ،‬وتصلح ألوجه‬
‫القراءات املختلفة‪ ،‬وكان يساعد على ذلك أهنا مل تكن مشكولة وال منقوطة‪ ،‬فقوله تعاىل‪:‬‬
‫إِ ْن جاء ُكم ِ‬
‫فاس ٌق بِنَ بٍَإ فَتَ بَ يَّ نُوا [احلجرات‪ ]6 :‬يصلح للقراءتني املتواترتني (فتبينوا) و (فتثبتوا)‪.‬‬ ‫َ ْ‬

‫❖حتريق الصحف واملصاحف املخالفة‪:‬‬

‫وما أن انتهت اللجنة من عملها حىت سارع عثمان رضي هللا عنه إىل األمر بكل مصحف‬
‫أو صحيفة‪ ،‬سوى صحف حفصة رضي هللا عنها‪ ،‬أن جيمع وحيرق دون أن يبقي على شيء‬
‫منه‪ ،‬سواء أكان ذلك يف املدينة أم يف غريها من األمصار‪.‬‬
‫وقد متّ ذلك األمر‪ ،‬ومل يعارض فيه أحد‪ ،‬إال ما كان من عبد هللا بن مسعود رضي‬
‫هللا عنه يف ابدئ األمر‪ُ ،‬ث عاد إىل التزام أمر اخلليفة رضي هللا عنهما‪ .‬وكان الغرض من‬
‫‪16‬‬
‫عز‬
‫اجلادة القومية يف كتاب هللا ّ‬
‫ذلك‪ :‬أن يقطع مادة النزاع‪ ،‬وحيصر اعتماد املسلمني على ّ‬
‫وجل‪.‬‬
‫ّ‬

‫وأما صحف حفصة رضي هللا عنها‪ ،‬فإهنا قد أعيدت إليها بعد ُتقيق الغرض منها‪،‬‬
‫ومل تكن يف مجلة ما أحرق من املصاحف‪ ،‬إذ ال داعي لذلك وال حمذور من بقائها طاملا أهنا‬
‫هي العمدة واألصل وليس بينها وبني ما نسخ كبري اختالف‪ ،‬إال ما كان من ترتيب السور‪،‬‬
‫وذلك أمر ال خوف منه‪.‬‬
‫وبقيت تلك الصحف عند حفصة رضي هللا عنها حىت توفيت‪ ،‬فأخذها مروان بن‬
‫تصرفه‪ :‬إمنا فعلت هذا‪ ،‬ألن ما فيها قد كتب وحفظ‬ ‫احلكم وأحرقها‪ ،‬وقال مدافعا عن ّ‬
‫ابملصحف اإلمام‪ ،‬فخشيت إن طال ابلناس زمان أن يراتب يف شأن هذه الصحف مراتب‪.‬‬

‫❖عدد النسخ ومصريها‪:‬‬


‫لقد اختلف يف عدد النسخ اليت كتبتها اللجنة‪ :‬فقد قيل إهنا مخسة‪ ،‬وقيل إهنا أربعة‪،‬‬
‫وقيل إهنا سبعة‪.‬‬
‫ولقد بقيت إحدى هذه النسخ يف دمشق‪ ،‬مبسجد بين أمية الكبري حىت القرن الثامن‬
‫اهلجري‪ ،‬حيث يقول ابن كثري يف كتابه فضائل القرآن‪ :‬أما الصحف العثمانية األئمة‪،‬‬
‫شرقي املقصورة املعمورة بذكر هللا ‪.‬‬
‫فأشهرها اليوم الذي يف الشام جبامع دمشق عند الركن ّ‬

‫‪17‬‬
‫الرابع‬
‫الفصل ّ‬
‫رسم القرآن واملراحل التحسينية اليت حترج فيها‬
‫‪ 1 -‬الرسم العثماين‪:‬‬
‫لقد اتبعت اللجنة الرابعية يف كتابة املصاحف على عهد عثمان رضي هللا عنه طريقة‬
‫خاصة يف رسم كلمات القرآن وحروفه‪ ،‬اوقد اصطلح العلماء على تسمية الطريقة اليت اتبعتها‬
‫ّ‬
‫هذه اللجنة (رسم املصحف) وكثريا ما ينسبون هذا الرسم إىل عثمان رضي هللا عنه‪ ،‬ألنه‬
‫جرى يف عهده وأبمر منه ومبوافقته‪ ،‬فيقولون‪( :‬الرسم العثماين) وأحياان يقولون (املصحف‬
‫العثماين) ولقد كان هذا الرسم يتصف بصفتني‪:‬‬

‫الصفة األوىل‪ :‬أن له إمالء خاصا به من حيث كيفية كتابة بعض احلروف والكلمات‪،‬‬
‫كاهلمزة مثال يف كتابة (مائة) واألحرف اليائية والواوية كما يف كلمات (الزكوة‪ ،‬والصالة‪،‬‬
‫واحليوة) وما شابه ذلك من احلذف أو الزايدة لبعض احلروف‪ .‬وكان هذا اإلمالء يتفق يف‬
‫مجلته مع الرسم القرشي يف ذلك الوقت‪ ،‬ودليل ذلك قول عثمان رضي هللا عنه للثالثة‬
‫القرشيني‪ :‬إذا اختلفتم أنتم وزيد بن اثبت يف شيء من القرآن‪ ،‬فاكتبوه بلسان قريش‪ ،‬فإمنا‬
‫نزل بلساهنم‪.‬‬

‫ولقد ظهر أثر ذلك عند ما اختلفوا يف كيفية رسم كلمة (التابوت) يف قوله تعاىل‪:‬‬
‫وت فِ ِيه َس ِكينَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم [البقرة‪ ]248 :‬فقد‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫قال َهلُْم نَبِيُّ ُه ْم إِ َّن آيََة ُم ْلكه أَ ْن َأيْتيَ ُك ُم التَّابُ ُ‬
‫َو َ‬
‫قال زيد (التابوة) ابلتاء املربوطة وقالوا (التابوت) ابملبسوطة‪ ،‬فرتافعوا إىل عثمان فقال‪ :‬اكتبوا‬
‫(التابوت) ‪ -‬أي ابملبسوطة‪ -‬فإمنا أنزل القرآن على لسان قريش‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫الصفة الثانية‪ :‬أن هذه املصاحف كان رمسها ّ‬
‫جمردا عن الشكل الذي يوضح إعرابه‪،‬‬
‫وعن النقط الذي مييز األحرف املعجمة (كالزاي‪ ،‬والذال‪ ،‬والغني‪ ،‬واجليم‪ ،‬واخلاء) عن املهملة‬
‫(كالراء‪ ،‬والدال‪ ،‬واحلاء) وغريها‪.‬‬

‫‪ 2 -‬املراحل التحسينية اليت تدرج فيها الرسم‪:‬‬

‫لقد طرأ على الرسم العثماين ُتسينات اقتضتها ظروف ومالبسات‪ ،‬وكانت هذه‬
‫التحسينات على مراحل تدرجيية‪ ،‬حسب الضرورة وإحلاح املقتضيات‪ ،‬وإليك بيان ذلك ‪:‬‬

‫يبني إعراب الكلمات ومينع اللحن فيها‪ :‬فقد علمنا أن الرسم القرآين‬
‫‪ 1 -‬التحسني الذي ّ‬
‫العريب‬
‫يبني إعراب الكلمات نصبا أو رفعا‪ ،‬وجرا أو جزما‪ ،‬وأن ّ‬ ‫كان خاليا عن الشكل الذي ّ‬
‫فطري اللسان‪ -‬أن‬
‫كان بسليقته يهتدي إىل قراءهتا على وجه الصواب‪ ،‬ألنه ال ميكن‪ -‬وهو ّ‬
‫يرفع املفعول وينصب الفاعل‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫ولكن ملا اتّسعت الفتوحات‪ ،‬وأقبل املسلمون غري العرب على تعلم القرآن وقراءته‬
‫واختلط العرب بغريهم وكاد لساهنم أن يستعجم‪ ،‬وفشا اللحن يف اللغة العربية على األلسنة‬
‫وكاد أن يصل إىل القرآن‪ ،‬فخشي املسلمون أن ينتشر ذلك ويكثر وميتد إىل كتاب هللا تعاىل‪،‬‬
‫فيقع التحريف يف أدائه ومعناه‪ ،‬فأسرعوا إىل تدارك األمر قبل أن يستفحل‪ ،‬ووضعوا عالمات‬
‫يعرف هبا إعراب كلماته‪.‬‬
‫وكان السابق هلذا الفضل‪ ،‬واملباشر هلذا التحسني ألول مرة هو أبو األسود الدؤل‬
‫علي رضي هللا عنه‪.‬‬
‫الذي وضع قواعد النحو إبشارة من ّ‬
‫والذي فعله أبو األسود‪ :‬هو أنه جعل عالمات اإلعراب نقطا على أواخر احلروف‬
‫فقد جعل عالمة النصب نقطة فوق احلرف‪ ،‬وعالمة الرفع نقطة وسطه‪ ،‬وعالمة اجلر نقطة‬
‫‪19‬‬
‫ُتته‪ ،‬وعالمة السكون نقطتني‪ .‬وكان السبب املباشر لقيامه هبذا العمل‪ ،‬هو أنه مسع قارائ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عز وجه‬ ‫اَّللَ بَِريءٌ م َن الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫ني َوَر ُسولُهُ بكسر الالم من (رسوله) فقال‪ّ :‬‬ ‫َن َّ‬‫يقرأ قوله تعاىل‪ :‬أ َّ‬
‫هللا أن يربأ من رسوله‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ما ظننت أن أمر الناس آل إىل هذا‪ .‬وكان زايد بن أبيه‪ ،‬قد طلب منه أن يعمل شيئا‬
‫وجل فاستعفاه من ذلك‪ ،‬ولكن ملا مسع ما مسع‪ ،‬رجع‬ ‫عز ّ‬ ‫يكون إماما‪ ،‬ويعرف به كتاب هللا ّ‬
‫إىل زايد وأخربه أنه عازم على فعل ما طلب منه‪ ،‬واستعانه بكاتب يفعل ما يقوله له‪ ،‬وقال‬
‫للكاتب ملا بدأ العمل‪ :‬إذا رأيتين قد فتحت فمي ابحلرف فانقط نقطة فوقه‪ ،‬وإن ضممت‬
‫فمي فانقط بني يدي احلرف‪ ،‬وإن كسرت فاجعل النقطة من ُتت‪ ،‬ففعل ذلك‪.‬‬

‫يبني إعرابه‪،‬‬ ‫‪ 2 -‬التحسني الذي مييز احلروف‪ :‬قد علمنا أن القرآن‪ ،‬كما أنه مل يكن رمسه ّ‬
‫كذلك مل يكن ليميّز حروفه املعجمة من املهملة‪.‬‬
‫ومل يكن العرب ليخطئوا يف قراءته حبكم فطرهتم وسليقتهم‪ ،‬إذ مل يكن من املعقول أن‬
‫ِ‬ ‫يقرأ العريب قوله تعاىل‪ِ ِ ْ :‬‬
‫ني ابستبدال ذال بدل الدال يف لفظ (احلمد) أو‬ ‫احلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ‬
‫ب الْعالَم َ‬
‫كال من الكلمتني ال يصبح هلا معىن هبذه‬ ‫استبدال غني بدل العني يف لفظ (العاملني) ألن ّ‬
‫ك يَ ْوِم‬
‫احلالة يف اللغة العربية‪ .‬وكذلك ال يعقل أن يستبدل حرف الدال يف قوله تعاىل‪ :‬مالِ ِ‬
‫ال ِّدي ِن ابلذال‪ ،‬ألهنا ال تناسب سياق الكالم يف تلك احلالة أيضا‪.‬‬
‫ولكن ما ذكران من دخول األعاجم يف اإلسالم‪ ،‬وإقباهلم على تعلّم القرآن‪ ،‬كان له‬
‫أثر يف خطأ الناس يف القراءة؛ ألن هؤالء ال يعرفون ما هو من العربية وما هو ليس منها‪ ،‬كما‬
‫أهنم قد ال يدركون املعىن ومناسبته للسياق ألول وهلة‪ .‬ولذا سارع املسلمون كما ذكران إىل‬
‫إدخال التحسني على الرسم القرآين‪ ،‬وقد علمنا أن التحسني الذي طرأ إمنا اقتصر فقط على‬
‫بيان إعراب الكلمات‪ ،‬وبقيت احلروف غري مميزة بعضها عن بعض‪ ،‬فرمبا التبس على القارئ‬
‫احلرف املعجم كالذال وغريه‪ ،‬ابحلرف املهمل كالدال وغريه‪ ،‬ولذلك وجد املسلمون أنفسهم‬

‫‪20‬‬
‫مضطرين إىل ُتسني جديد‪ ،‬جيرونه على الرسم القرآين‪ ،‬غري ما قام به أبو األسود مييزون به‬
‫بني احلرف‪ ،‬ليحصنوا كتاب هللا تعاىل من عجمة اللسان‪.‬‬
‫ولقد قام هبذا العمل ألول مرة نصر بن عاصم تلميذ أيب األسود الدؤل‪ ،‬أبمر من‬
‫احلجاج بن يوسف الثقفي‪ ،‬فوضع عالمات متيّز احلروف املشتبهة بعضها عن بعض‪ .‬وكانت‬
‫هذه العالمات نقطا على احلرف‪ ،‬التزم فيها ّأال تزيد عن ثالث نقط يف أي حرف وعندها‬
‫اضطر ألن يستبدل النقط السابق‪ ،‬الذي كان عالمة اإلعراب‪ ،‬بعالمات أخرى‪ ،‬حىت ال‬
‫تلتبس الكلمات‪ ،‬فكان الشكل املعروف اآلن واملتداول‪ ،‬والذي جعل عالمات اإلعراب‬
‫الفتحة والكسرة والضمة والسكون‪.‬‬

‫‪ُ 3 -‬تسينات متعددة ومتالحقة‪ :‬إن ُتسني الرسم القرآين أخذ يتدرج يف أطوار متالحقة‪،‬‬
‫ال ميكن ضبط كل منها بتاريخ دقيق‪ ،‬أو نسبته إىل شخص معني‪ ،‬وعلى كل حال فاملتفق‬
‫عليه‪ :‬أن التحسني قد سار خبطوات متقاربة وسريعة‪ ،‬حىت قارب الكمال على أايم اخلليل‬
‫بن أمحد الفراهيدي‪ ،‬الذي وضع اهلمز والتشديد والروم واإلمشام‪ .‬وما زالت اخلطوات‬
‫التحسينية مطّردة على مر األزمان إىل يومنا هذا‪ ،‬ابتغاء ُتقيق املزيد من ضبط رسم القرآن‬
‫وتسهيل قراءته‪ ،‬فوضعت أمساء السور‪ ،‬وعدد اآلايت‪ ،‬والرموز اليت تشري إىل رءوس اآلية‪،‬‬
‫وعالمات الوقف‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬

‫تبني لك‪ :‬أن التحسينات اليت طرأت على‬ ‫‪ 4 -‬التحسني يف اإلمالء‪ :‬من خالل ما سبق ّ‬
‫الرسم العثماين‪ ،‬إمنا كانت أمورا تتعلّق بكيفية أداء القرآن وتالوته‪ ،‬على النهج الذي نزل به‪،‬‬
‫وقرأه به رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وكذلك أصحابه من بعده رضوان هللا عليهم‪ ،‬حىت‬
‫سلم القرآن من أي ُتريف أو تبديل‪ ،‬ميكن أن يتناول لفظه أو معناه‪ .‬وعليه فالتحسينات‬
‫إمنا تناولت الصفة الثانية من صفات الرسم العثماين‪ ،‬وهي كونه بدون شكل أو نقط‪ ،‬وما‬
‫أشبه ذلك‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫وأما ما يتعلّق ابلصفة األوىل‪ ،‬وهي اإلمالء اخلاص بكتابة الكلمات واحلروف‪ ،‬فهذا‬
‫مما بقي على حاله‪ ،‬ومل يطرأ عليه أي تغيري أو تبديل أو ُتسني أو ُتوير‪ ،‬وظلّت املصاحف‬
‫تكتب على الرسم الذي كتبت به الصحف األوىل‪ ،‬واملصحف العثماين اإلمام‪ .‬وهو املتبع‬
‫يف طباعة املصاحف بدءا ابلطبعة األوىل يف البندقية سنة‪1530‬م‪ُ ،‬ث طبعة برتسبورغ بروسيا‬
‫سنة ‪ 1787‬م‪ُ ،‬ث طبعة اآلستانة سنة ‪ 1877‬م‪ ،‬وما تبع ذلك من آالف الطبعات واألحجام‬
‫‪.‬‬

‫– ‪ 3‬حكم كتابة القرآن ابلرسم احلال‪:‬‬

‫لقد اختلف علماء املسلمني يف حكم كتابة املصحف ابلرسم العثماين‪ ،‬هل هي واجبة‬
‫أم ال؟ وابلتايل‪ :‬هل جتوز كتابته ابلرسم املتعارف اآلن أو ال؟‬
‫الرأي األول‪ :‬فذهب فريق من العلماء إىل أن هذا الرسم‪ ،‬الذي كتب به املصحف‬
‫اإلمام‪ ،‬رسم توقيفي‪ ،‬ال جتوز خمالفته‪ .‬ونسبوا التوقيف فيه إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪،‬‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم كان له كتّاب يكتبون الوحي‪ ،‬وقد كتبوا القرآن‬
‫واستدلوا هلذا‪ :‬أبن ّ‬
‫أقرهم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم على كتابتهم‪ ،‬ومضى عهده والقرآن‬ ‫فعال هبذا الرسم‪ ،‬و ّ‬
‫مكتوب على هذا النحو‪ ،‬مل حيدث فيه تغيري وال تبديل‪ُ .‬ث جاء أبو بكر رضي هللا عنه‪،‬‬
‫الصحف هبذا الرسم‪ُ ،‬ث حذا حذوه عثمان رضي هللا عنه‪ ،‬فاستنسخ‬ ‫فجمع القرآن يف ّ‬
‫أقر الصحابة رضي هللا عنهم عمل أيب بكر وعثمان رضي هللا‬ ‫املصاحف على تلك الكتابة‪ ،‬و ّ‬
‫عنهما‪ُ ،‬ث انتهى األمر إىل التابعني واتبعي التابعني ومن بعدهم‪ ،‬ومل خيالف أحد منهم يف‬
‫هذا الرسم‪ ،‬وعليه فيجب التزامه وال جتوز خمالفته‪.‬‬

‫الرأي الثاين ‪ :‬وذهب فريق آخر إىل أن الرسم العثماين اصطالحي ال توقيفي‪ ،‬فال‬
‫خاص لإلمالء وشاع بينهم‪.‬‬
‫جيب التزامه وال مانع من خمالفته‪ ،‬إذا اصطلح الناس على رسم ّ‬
‫‪22‬‬
‫يدل على وجوب التزام‬‫احتجوا لذلك أبنه‪ :‬مل يرو يف القرآن وال يف السنة وال إمجاع األمة ما ّ‬
‫و ّ‬
‫السنّة دلّت على جواز رمسه أبي وجه سهل‪ ،‬ألن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‬ ‫ذلك‪ ،‬بل ّ‬
‫يبني هلم وجها معيّنا لرمسه‪ ،‬وال هنى أحدا عن كتابته‪ ،‬ولذلك اختلفت‬‫كان أيمر بكتابته‪ ،‬ومل ّ‬
‫خطوط املصاحف اليت كتبها الصحابة ألنفسهم‪.‬‬

‫والرأي الثالث‪ :‬الذي ذهب إليه مجهور العلماء‪ ،‬هو أ ّن الرسم العثماين‬
‫ليس توقيفيا عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬ولكنّه اصطالح ارتضاه عثمان رضي هللا‬
‫عنه‪ ،‬وأمجع عليه الصحابة‪ ،‬وتل ّقته األمة ابلقبول‪ ،‬فيجب التزامه واألخذ به‪ ،‬وال جتوز خمالفته‪.‬‬
‫وهذا الرأي هو املنقول عن األئمة واملذاهب املعتربة‪.‬‬
‫روى أبو عمرو الداين‪ ،‬يف كتابه (املقنع) عن أشهب قال‪ :‬سئل مالك رمحه هللا تعاىل‪:‬‬
‫هل يكتب املصحف على ما أحدثه الناس من اهلجاء؟ فقال‪:‬ال‪ ،‬إال على الكتبة األوىل‪ .‬قال‬
‫أبو عمرو‪ :‬وال خمالف له من علماء األمة‪ .‬ونقل عن اإلمام أمحد رمحه هللا تعاىل أنه قال‪:‬‬
‫ط مصحف عثمان يف واو‪ ،‬أو ألف‪ ،‬أو ايء‪ ،‬أو غري ذلك‪ .‬ونقل عن كتب‬ ‫ُترم خمالفة خ ّ‬
‫فقه الشافعية واحلنفية‪ :‬أنه ينبغي أال يكتب املصحف بغري الرسم العثماين‪ ،‬ألن رمسه سنة‬
‫متبعة‪.‬‬
‫والظاهر أن هذا الرأي هو األرجح من اآلراء‪ ،‬ملا فيه من اعتدال‪ ،‬إىل جانب زايدة‬
‫وجل‪ ،‬واحلفاظ عليه ضمان لصيانة القرآن من التغيري أو التبديل حىت‬
‫عز ّ‬‫احتياط لكتاب هللا ّ‬
‫يف الشكل‪ .‬علما أبن االصطالح اإلمالئي عرضة للتغيري والتبديل‪ ،‬بل إن قواعد اإلمالء يف‬
‫العصر الواحد‪ ،‬قد ّتتلف وجهات النظر فيها وتتفاوت يف بعض الكلمات من بلد آلخر‪،‬‬
‫ط‬
‫فإذا أبيح كتابة القرآن ابالصطالح اإلمالئي لكل عصر‪ّ ،‬أدى ذلك إىل التغيري يف خ ّ‬
‫املصحف من عصر آلخر‪ ،‬وهذا مما يتناىف مع قداسة القرآن وعظمته يف نفوس املؤمنني‪ ،‬ومما‬
‫وجير إىل فتنة أشبه ابلفتنة اليت حدثت‬
‫يؤدي إىل اختالف املسلمني يف كتاب هللا تعاىل‪ّ ،‬‬
‫قد ّ‬
‫أايم عثمان رضي هللا عنه‪ ،‬ومحلته على استنساخ املصاحف‪ .‬وحجة تيسري قراءة القرآن على‬
‫‪23‬‬
‫الدارسني والعامة ال تربّر التغيري الذي ميكن أن يؤدي إىل التهاون يف ُتري الدقة يف كتابة‬
‫القرآن‪ُ ،‬ث جير إىل الفتنة واالختالف‪.‬‬
‫وأخريا ميكننا أن نقول‪ :‬إنه ال أبس مبخالفة الرسم العثماين والكتابة ابإلمالء املتعارف‪،‬‬
‫إذا كنا نكتب آايت القرآن يف جماالت التعليم والتدريس‪ ،‬كأن يكتب على السبورة مثال أو‬
‫على لوح للصغار أو ما إىل ذلك من أشياء‪ ،‬ال يقصد هبا كتابة مصحف أو جزء منه‪ ،‬بل‬
‫املقصود أن يذاكر الطالب هذه اآلايت ويستظهروهنا على الوجه األكمل واألداء الصحيح‪.‬‬
‫وقد نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السالم ما يفيد جواز ما قلناه‪ ،‬والرتخيص فيه‪ ،‬بل‬
‫الدعوة إليه ‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫احملكم واملتشابه واملبهم‬
‫الفصل األول‪ :‬تعريفات‪.‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬اآلايت املتشاهبة واحلكمة منها‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬افتتاحيات السور‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الفصل األول‬
‫تعريفات (احملكم واملتشابه واملبهم)‬
‫متهيد‪:‬‬
‫قال هللا تعاىل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫مات ُه َّن أ ُُّم الْ ِك ِ‬ ‫ك الْ ِك ِ‬ ‫ِ‬
‫ات فَأ ََّما‬
‫ُخُر ُمتَشاهب ٌ‬ ‫تاب َوأ َ‬ ‫آايت ُْحم َك ٌ‬ ‫تاب مْنهُ ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُه َو الَّذي أَنْ َزَل َعلَْي َ‬
‫ين ِيف قُلُوهبِِ ْم َزيْ ٌغ فَيَ تَّبِعُو َن ما تَشابَهَ ِمْنهُ ابْتِغاءَ الْ ِفْت نَ ِة َوابْتِغاءَ َأتْ ِويلِ ِه َوما يَ ْعلَ ُم َأتْ ِويلَهُ إَِّال َّ‬
‫اَّللُ‬ ‫َ‬
‫الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫باب [آل عمران‪:‬‬ ‫الر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم ي ُقولُو َن آمنَّا بِِه ُكلٌّ ِمن ِعْن ِد ربِنا وما ي َّذ َّكر إَِّال أُولُوا ْاألَلْ ِ‬ ‫َو َّ‬
‫َّ َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪.]7‬‬

‫أوال‪ :‬تعريف احملكم‪:‬‬


‫احملكم يف اللغة‪ :‬يستعمل مبعىن املتقن واملمنوع‪ .‬واحملكم يف االصطالح‪ :‬هو الذي‬
‫يدل على معناه بوضوح ال خفاء فيه‪ ،‬أو هو ما ال حيتمل إال وجها واحدا من التأويل ‪ ،‬أو‬
‫ّ‬
‫هو ما كانت داللته راجحة‪ ،‬وهو الظاهر والنص‪.‬‬

‫والظاهر يف اللغة‪ :‬الواضح‪ .‬ويف االصطالح‪ :‬هو الذي ظهر املراد منه بنفسه؛ من‬
‫اَّللُ الْبَ ْي َع َو َحَّرَم ِّ‬
‫الراب [البقرة‪]275 :‬‬ ‫َح َّل َّ‬
‫غري توقّف على أمر خارجي؛ مثل قوله تعاىل‪َ :‬وأ َ‬
‫تدالن على أن البيع حالل والراب حرام دون حاجة إىل قرينة خارجية‪.‬‬ ‫وحرم ّ‬
‫أحل ّ‬
‫فكلمة ّ‬

‫والنص‪ :‬هو ما دل بنفس لفظه وصيغته على املعىن‪ ،‬من غري توقّف على أمر خارجي‪،‬‬
‫اَّللُ الْبَ ْي َع َو َحَّرَم ِّ‬
‫الراب [البقرة‪ .]275 :‬إذ هي نص يف التفرقة بني البيع والراب‪.‬‬ ‫َح َّل َّ‬
‫مثل آية َوأ َ‬

‫‪26‬‬
‫النص أظهر يف داللته‬
‫وهذا املعىن هو املقصود األصلي من سياق اآلية‪ .‬ونستنتج من هذا أ ّن ّ‬
‫النص على الظاهر‪.‬‬
‫نرجح ّ‬ ‫من الظاهر على معناه‪ ،‬وعند التعارض بينهما ّ‬

‫اثنيا‪ :‬تعريف املتشابه‪:‬‬

‫❖املتشابه يف اللغة‪ :‬املتماثل‪ .‬واملتشابه يف االصطالح‪ :‬ما كانت داللته غري واضحة‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬املتشابه ما ال يستقل بنفسه‪ ،‬بل حيتاج إىل بيان‪ ،‬فتارة يبني بكذا‪،‬‬
‫واترة بكذا‪ ،‬حلصول االختالف يف أتويله‪.‬‬

‫❖أنواع املتشابه‪:‬‬
‫املتشابه على ثالثة أضرب (أنواع)‪:‬‬
‫‪ - 1‬ضرب ال سبيل إىل الوقوف عليه‪ ،‬كوقت الساعة‪ ،‬وخروج الدابة وكيفيته‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫‪ - 2‬وضرب لإلنسان سبيل إىل معرفته‪ ،‬كاأللفاظ الغريبة واألحكام الغلقة‪.‬‬
‫خيتص مبعرفة حقيقته بعض الراسخني يف العلم‪،‬‬
‫مرتدد بني األمرين‪ ،‬جيوز أن ّ‬ ‫‪ - 3‬وضرب ّ‬
‫لعلي رضي هللا‬
‫وخيفى على من دوهنم‪ ،‬وهو الضرب املشار إليه بقوله صلّى هللا عليه وسلّم ّ‬
‫عنه‪( :‬اللهم ف ّقهه يف الدين وعلّمه التأويل)‪.‬‬

‫اثلثا‪ :‬تعريف املبهم‪:‬‬


‫❖املبهم يف اللغة‪ :‬املشتبه ‪ ،‬واملبهم اصطالحا‪ :‬ما ال سبيل إىل معرفته إال بتبيني املبهم‬
‫عبارة أو إشارة‪.‬‬

‫❖الفرق بني املتشابه واملبهم‪:‬‬


‫‪ - 1‬املتشابه ما حيتمل أوجها عديدة من التفسري وال سبيل إىل معرفة حقيقته معرفة يقني‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫‪ - 2‬أما املبهم فيمكن معرفة حقيقته‪ ،‬ولكن ال سبيل إىل معرفته إال بتبيني من املبهم عبارة‬
‫أو إشارة‪.‬‬

‫الفصل الثاين‬
‫اآلايت املتشاهبة‪ ،‬واحلكمة منها‬

‫ومنشأ التشابه يعود إىل خفاء مراد الشارع من كالمه‪ ،‬واخلفاء يعود إىل أسباب ثالثة‪:‬‬

‫‪ - 1‬خفاء يف اللفظ‪ ،‬مثل‪ :‬فواتح السور‪ ،‬أو يف املفرد بسبب اشرتاكه بني ع ّدة معان‪ ،‬مثل‬
‫العني‪ :‬أتيت للجارحة‪ ،‬ونبع املاء‪ ،‬والذهب‪ ،‬والفضة‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫السنّة الشريفة وصفا هلل تعاىل أو ألهوال‬ ‫‪ - 2‬خفاء يف املعىن‪ ،‬مثل‪ :‬ما جاء يف القرآن الكري و ّ‬
‫القيامة‪ ،‬أو لنعيم اجلنة‪ ،‬وعذاب النار‪ ،‬فإ ّن العقل البشري ال ميكن أن حييط حبقائق صفات‬
‫اخلالق‪ ،‬وال أبهوال القيامة‪ ،‬وال بنعيم أهل اجلنة وعذاب النار‪ ،‬وكيف السبيل إىل أن حيصل‬
‫حنسه وما مل يكن فينا مثله وال جنسه؟‬ ‫يف نفوسنا صورة ما مل ّ‬
‫وت ِم ْن ظُ ُهوِرها‬
‫س الِْ ُّرب ِأبَ ْن َأتْتُوا الْبُيُ َ‬
‫‪ - 3‬خفاء يف اللفظ واملعىن معا‪ ،‬مثل قول هللا تعاىل‪َ :‬ولَْي َ‬
‫[البقرة‪ ]189 :‬فقد كان العرب يف اجلاهلية إذا أحرموا وأرادوا دخول بيوهتم‪ -‬وكانوا من أهل‬
‫البيوت ال من أهل اخليام‪ -‬نقبوا نقبا يف ظهور بيوهتم يدخلون وخيرجون منه‪ ،‬وإن كانوا من‬
‫وت ِم ْن أَبْو ِاهبا [البقرة‪ .]189 :‬فمنشأ‬ ‫أهل األخبية خرجوا من خلف األخبية‪ ،‬فنزل‪َ :‬وأْتُوا الْبُيُ َ‬
‫اخلفاء يف اللفظ االختصار‪ ،‬كأ ّن املعىن‪ :‬وليس الرب أبن أتتوا البيوت من ظهورها إذا كنتم‬
‫حمرمني‪ .‬ومنشأ اخلفاء يف املعىن‪ :‬أنه ال بد من معرفة عادة العرب يف اجلاهلية‪ ،‬وإال لتع ّذر‬
‫فهمه‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫فقد ظهر لنا أب ّن اخلفاء الراجع إىل السبب األول والثالث مما ميكن إزالته‪ ،‬وفهم املراد‬
‫فيه‪ .‬وما كان اخلفاء فيه راجعا إىل السبب الثاين فذلك مما ال ميكن إزالته‪ ،‬وال سبيل لتعيني‬
‫املراد فيه‪.‬‬
‫فاآلايت املتشاهبة تعود إىل التشابه واخلفاء من جهة املعىن‪.‬‬
‫❖مناذج من اآلايت املتشاهبة‪:‬‬

‫ض ما يَ ُكو ُن ِم ْن َْجنوى‬ ‫السماو ِ‬


‫ات َوما ِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫اَّللَ يَ ْعلَ ُم ما ِيف َّ‬
‫َن َّ‬ ‫قال هللا تعاىل‪ :‬أََملْ تََر أ َّ‬ ‫•‬
‫ثَالثٍَة إَِّال هو رابِعهم وال مخَْس ٍة إَِّال هو ِ‬
‫ساد ُس ُه ْم [اجملادلة‪.]7 :‬‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫َُ ُُ ْ َ‬
‫لكن ال تُب ِ‬ ‫ِ‬ ‫وَْحنن أَقْ ر ِ ِ‬
‫ص ُرو َن [الواقعة‪.]85 :‬‬ ‫ب إِلَْيه مْن ُك ْم َو ْ ْ‬ ‫َ ُ َُ‬ ‫•‬
‫ك ِأب َْعيُنِنا [الطور‪.]48 :‬‬ ‫و ِ‬
‫ك فَِإنَّ َ‬ ‫اصِ ْرب حلُ ْك ِم َربِّ َ‬
‫َ ْ‬ ‫•‬
‫استَوى [طه‪]5 :‬‬‫الر ْمح ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬ ‫وقال سبحانه‪َّ :‬‬ ‫•‬
‫ض إِلهٌ [الزخرف‪]84 :‬‬ ‫ماء إِلهٌ َوِيف ْاأل َْر ِ‬ ‫الس ِ‬ ‫َوُه َو الَّ ِذي ِيف َّ‬ ‫•‬
‫ض ‪[ ..‬األنعام‪.]3 :‬‬ ‫ات َوِيف ْاأل َْر ِ‬‫السماو ِ‬ ‫اَّللُ ِيف َّ‬ ‫‪َ ..‬وُه َو َّ‬ ‫•‬
‫وقال سبحانه‪َ :‬خيافُو َن َرَّهبُْم ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم [النحل‪]50 :‬‬ ‫•‬

‫تلك آايت من املتشابه من جهة املعاين يف القرآن الكري‪ ،‬وال سبيل إىل معرفة حقيقة‬
‫املراد هبا‪.‬‬

‫❖موقف العلماء منها‪:‬‬

‫وللعلماء يف تلك اآلايت وأمثاهلا‪ :‬موقف واحد من حيث االبتداء‪ُ ،‬ث خيتلفون بعد‬
‫ذلك‪:‬‬

‫‪29‬‬
‫‪ - 1‬املوقف املتفق‪ :‬محل اآلايت اليت تشري إىل تعيني جهة هلل تعاىل‪ ،‬أو مكان له سبحانه‪،‬‬
‫احلسي هلل تعاىل‪ ،‬على احملكم من‬ ‫أو تعيني معية حقيقية منه للعباد‪ ،‬أو إثبات النقلة واجمليء ّ‬
‫صريُ [الشورى‪.]11 :‬‬ ‫الس ِميع الْب ِ‬ ‫اآلايت‪ ،‬من مثال احملكم قوله تعاىل‪ :‬لَي ِ ِ ِ‬
‫س َكمثْله َش ْيءٌ َوُه َو َّ ُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬
‫الص َم ُد (‪َ )2‬ملْ يَل ْد َوَملْ يُولَ ْد (‪َ )3‬وَملْ‬
‫اَّللُ َّ‬
‫َح ٌد (‪َّ )1‬‬
‫اَّللُ أ َ‬
‫كما حيمل على قوله سبحانه‪ :‬قُ ْل ُه َو َّ‬
‫َح ٌد [اإلخالص‪.]4 - 1 :‬‬ ‫يَ ُك ْن لَهُ ُك ُفواً أ َ‬
‫‪ - 2‬موضع االختالف بعد ذلك‪:‬‬
‫أ‪ -‬من كان يف خري القرون الثالثة ومن بعدهم بقليل‪ ،‬ويلحق هبم من يقول بقوهلم‬
‫نفوض معاين هذه املتشاهبات إىل‬ ‫(املفوضة)‪ :‬يقولون‪ّ :‬‬ ‫ويسمون السلف أو ّ‬ ‫إىل يومنا هذا‪ّ ،‬‬
‫استَوى [طه‪ ]5 :‬ننزه هللا تعاىل عن‬ ‫الر ْمح ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬
‫هللا تعاىل‪ ،‬فيقولون يف قوله تعاىل‪َّ :‬‬
‫نفوض املراد بذلك إىل هللا تعاىل‪.‬‬ ‫اجللوس واّتاذ حيّز ومكان‪ُ .‬ث ّ‬
‫ب‪ -‬من كان يف أواخر القرن الرابع وما بعد‪ ،‬ويلحق هبم من يقول بقوهلم إىل يومنا‬
‫نؤول معاين هذه املتشاهبات ابالستعانة آبايت‬ ‫(املؤولة)‪ ،‬يقولون‪ّ :‬‬ ‫ويسمون اخللف أو ّ‬ ‫هذا‪ّ ،‬‬
‫أخرى وأساليب البيان‪ ،‬فيقولون يف قوله تعاىل‪:‬‬
‫ننزه هللا تعاىل عن اجللوس و ّاّتاذ حيّز ومكان‪ُ ،‬ث نرى‬ ‫استَوى [طه‪ّ ]5 :‬‬ ‫الر ْمح ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬
‫َّ‬
‫أن املراد هبا إثبات امللك والسلطان التام هلل تعاىل‪ ،‬فإذا ملك أكرب املخلوقات‪ -‬العرش‪-‬‬
‫ملك ما دونه‪.‬‬
‫اجملسمة هلل تعاىل‬‫والذي دفع اخللف إىل هذا التأويل وأمثاله هو اختالط فكرة اليهود ّ‬
‫أبفكار بعض الزائغني من املسلمني‪ ،‬وتعلّق بعض آخر بظواهر النصوص‪ ،‬وفهمها فهما‬
‫مستقال عن غريها‪ ،‬علما أهنا متثّل مجيعها وحدة كاملة‪.‬‬
‫اَّلل ح َّق قَ ْد ِرِه و ْاألَرض َِ‬
‫ضتُهُ‬
‫مجيعاً قَ ْب َ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫قال هللا تعاىل يف حق اليهود وأمثاهلم‪َ :‬وما قَ َد ُروا ََّ َ‬
‫ت بِيَ ِمينِ ِه [الزمر‪.]67 :‬‬ ‫يام ِة َو َّ‬ ‫ِ‬
‫ات َمطْ ِوَّاي ٌ‬
‫السماو ُ‬ ‫يَ ْوَم الْق َ‬
‫ج‪ -‬وذكر اإلمام السيوطي مذهبا اثلثا سوى مذهيب السلف واخللف‪ ،‬وهو مذهب‬
‫وتوسط ابن دقيق العيد فقال‪ :‬إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب مل‬ ‫املتوسطني‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫‪30‬‬
‫ينكر‪ ،‬أو بعيدا توقّفنا عنه‪ ،‬وآمنا مبعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه‪ ،‬وما كان معناه‬
‫من هذه األلفاظ ظاهرا مفهوما من ّتاطب العرب قلنا به من غري توقيف‪ ،‬كما يف قوله‬
‫ب َِّ‬
‫اَّلل (الزمر‪ )56:‬فنحمله على حق هللا تعاىل وما‬ ‫ت ِيف َجْن ِ‬
‫تعاىل‪ :‬اي َح ْسَرتى َعلى ما فَ َّرطْ ُ‬
‫جيب له‪.‬‬

‫‪ - 3‬الفرق بني السلف واخللف‪:‬‬


‫تبني أن السلف واخللف متّفقون على التأويل اإلمجايل يف آايت الصفات املتشاهبة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يفوض السلف معانيها إىل هللا تعاىل‪.‬‬
‫ُث ّ‬
‫أما اخللف فيعمدون إىل أتويلها تفصيال‪ ،‬اعتمادا على النصوص األخرى وبيان لغة‬
‫العرب‪.‬‬
‫‪ - 4‬الرأي الراجح‪:‬‬
‫الرأي الراجح هو رأي السلف‪ ،‬ألدلة منها‪:‬‬
‫‪ - 1‬إن الرسول صلّى هللا عليه وسلّم وصحابته رضوان هللا تعاىل عليهم‪ ،‬وقفوا عند اآلايت‬
‫أبي أتويل قريب أو بعيد‪.‬‬ ‫يؤولوها ّ‬ ‫املتشاهبات‪ ،‬ومل ّ‬
‫احلق‪ ،‬قال هللا تعاىل‪:‬‬ ‫‪ - 2‬إن املتشابه هو ما ال يوقف على املراد منه‪ ،‬فيكون التفويض هو ّ‬
‫ين ِيف قُلُوهبِِ ْم َزيْ ٌغ فَيَ تَّبِعُو َن ما‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫مات ُه َّن أ ُُّم الْ ِك ِ‬ ‫ِ‬
‫ات فَأ ََّما الذ َ‬
‫ُخ ُر ُمتَشاهب ٌ‬
‫تاب َوأ َ‬ ‫آايت ُْحم َك ٌ‬ ‫مْنهُ ٌ‬
‫الر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم يَ ُقولُو َن‬‫تَشابَهَ ِمْنهُ ابْتِغاءَ الْ ِفْت نَ ِة َوابْتِغاءَ َأتْ ِويلِ ِه [آل عمران‪ُ ]7 :‬ث قال‪َ :‬و َّ‬
‫َآمنَّا بِِه ُكلٌّ ِم ْن ِعْن ِد َربِّنا [آل عمران‪.]7 :‬‬
‫والواو يف (والراسخون) البتداء الكالم واستئنافه‪.‬‬
‫‪ - 3‬قال صلّى هللا عليه وسلّم لعائشة رضي هللا تعاىل عنها‪ ... « :‬فإذا رأيت الذين يتّبعون‬
‫ما تشابه منه فأولئك الذين مسّى هللا فاحذروهم ‪» ...‬‬
‫‪ - 4‬أخرج الدارمي عن سليمان بن يسار‪ :‬أن رجال يقال له ابن صبيغ «‪ »1‬قدم املدينة‬
‫املنورة فجعل يسأل عن متشابه القرآن‪ ،‬فأرسل إليه عمر وقد أع ّد له عراجني النخل‪ ،‬فقال‬ ‫ّ‬
‫‪31‬‬
‫دمى رأسه‪ .‬وجاء‬ ‫له‪ :‬من أنت؟ قال‪ :‬أان عبد هللا بن صبيغ‪ ،‬فأخذ عمر عرجوان فضربه حىت ّ‬
‫يف رواية أخرى فضربه حىت ترك يف ظهره دبرة‪ُ ،‬ث تركه حىت برأ‪ُ ،‬ث عاد‪ُ ،‬ث تركه حىت برأ‪،‬‬
‫فدعا به ليعود فقال‪ :‬إن كنت تريد قتلي فاقتلين قتال مجيال‪ ،‬فأذن له أن يعود إىل أرضه‪،‬‬
‫وكتب إىل أيب موسى األشعري أال جيالسه أحد من املسلمني ‪.‬‬
‫صري يف ظهره من الضرب‬ ‫وال ّدبرة بفتحات ثالث هي قرحة الدابة‪ ،‬واملراد هنا أنّه ّ‬
‫جرحا داميا كأنه قرحة يف دابة‪.‬‬
‫يدل على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن‬ ‫ورضي هللا تعاىل عن عمر فإن هذا األثر ّ‬
‫يفتح ابب فتنة بتتبعه متشاهبات القرآن‪ ،‬يكثر الكالم فيها‪ ،‬ويسأل الناس عنها‪ ،‬فأغلقه رضي‬
‫هللا عنه بتأديبه‪.‬‬
‫استَوى‬‫الر ْمح ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬
‫‪ - 5‬سئل مالك‪ -‬وقبله أم سلمة رضي هللا عنها‪ -‬عن قوله تعاىل‪َّ :‬‬
‫امحر وجهه ُث قال‪ :‬االستواء معلوم‪ ،‬والكيف جمهول‪ ،‬والسؤال عن هذا‬ ‫[طه‪ .]5 :‬فغضب و ّ‬
‫بدعة‪ ،‬وأظنك رجل سوء‪ ،‬أخرجوه عين ‪.‬فأخرجوه من املسجد‪ .‬قال الزرقاين‪ :‬يريد رمحه هللا‬
‫تدل عليه األوضاع اللغوية‪ ،‬ولكن هذا الظاهر‬ ‫تعاىل أن االستواء معلوم الظاهر حبسب ما ّ‬
‫غري مراد قطعا‪ ،‬ألنه يستلزم التشبيه احملال على هللا تعاىل ابلدليل القاطع‪ ،‬مثل قوله تعاىل‬
‫س َك ِمثْلِ ِه َش ْيءٌ [الشورى‪.]11 :‬‬
‫لَْي َ‬
‫والكيف جمهول‪ :‬أي تعيني مراد الشارع جمهول لنا ال دليل عندان عليه وال سلطان لنا‬
‫به‪ .‬والسؤال عنه بدعة؛ أي االستفتاء عن تعيني هذا املراد على اعتقاد أنه ما شرعه هللا بدعة‪،‬‬
‫ألنه طريقة يف الدين خمرتعة خمالفة ملا أرشدان إليه الشارع من وجوب تقدي احملكمات وعدم‬
‫اتباع املتشاهبات‪.‬‬
‫وما جزاء املبتدع إال أن يطرد ويبعد عن الناس خوف أن يفتنهم ألنه رجل سوء‪،‬‬
‫وذلك قوله‪ :‬وأظنك رجل سوء‪ ،‬أخرجوه عين‪ .‬انتهى‬

‫‪32‬‬
‫❖احلكمة من ذكر املتشابه‪:‬‬
‫‪ - 1‬رمحة هللا ابإلنسان‪ ،‬فقد أخفى سبحانه وقت الساعة (يوم القيامة) ليبقى الناس يف‬
‫كدح واستعداد‪ ،‬وليبتعدوا عن اخلوف الذي يفتك بنفوسهم‪ ،‬ويقعدهم عن العمل‪.‬‬
‫‪ - 2‬االبتالء واالختبار‪ ،‬يف إميان البشر ابلغيب ثقة خبرب الصادق‪ ،‬ومتيّز املؤمنني املهديني عن‬
‫الكفرة وأهل الزيغ والضالل‪.‬‬
‫‪ - 3‬إقامة الدليل على عجز اإلنسان وجهالته مهما عظم استعداده وغزر علمه‪ ،‬إذا ما‬
‫قورن علمه بعلم هللا تعاىل‪َ :‬وفَ ْو َق ُك ِّل ِذي ِع ْل ٍم َعلِ ٌيم [يوسف‪.]76 :‬‬
‫‪ - 4‬كلما كان التشابه موجودا‪ ،‬كان الوصول إىل احلق أشق‪ ،‬وزايدة املشقة تقتضي زايدة‬
‫األجر والثواب‪.‬‬
‫‪ - 5‬اشتمال القرآن الكري على احملكم واملتشابه‪ ،‬يضطر الناظر فيه إىل البحث عن األدلة‪،‬‬
‫فيخلص الراسخ يف العلم من ظلمة التقليد‪ ،‬ويتميز اخلواص عن العو ّام‪ ،‬وتربز مكانة العقل‬
‫وأمهية إعماله يف فهم آايت كتاب هللا خاصة‪ ،‬ويف فهم دالئل قدرة هللا يف الكون عامة‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫التفسري‬
‫الفصل األول‪ :‬حقيقة التفسري‪ ،‬ونشأته‪ ،‬وتطوره‪.‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬أشهر املفسرين من الصحابة والتابعني‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬أقسام التفسري‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬التعريف أبشهر التفاسري واملفسرين‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫الفصل األول‬
‫حقيقة التفسري ونشأته وتطوره‬

‫❖حقيقته‪:‬‬
‫التفسري لغة‪ :‬اإليضاح والتبيني‬
‫واصطالحا‪ :‬علم يبحث فيه عن القرآن الكري من حيث داللته على مراد هللا تعاىل بقدر‬
‫الطاقة البشرية‪ .‬وقيل‪ :‬علم يبحث فيه عن أحوال الكتاب العزيز من جهة نزوله وسنده وأدائه‬
‫وألفاظه ومعانيه املتعلقة ابأللفاظ واملتعلقة ابألحكام‪.‬‬

‫❖نشأته وتطوره‪:‬‬
‫‪ - 1‬نشأ هذا العلم مع نزول القرآن الكري‪ ،‬فلقد كان القرآن الكري ينزل فتكون منه آايت‬
‫مفسرة‪.‬‬
‫مفصلة‪ ،‬أو كلمات جمملة تفسرها كلمات ّ‬
‫عام إَِّال ما يُْتلى َعلَْي ُك ْم ‪[ ...‬املائدة‪]1 :‬‬ ‫ت لَ ُكم َهبِيمةُ ْاألَنْ ِ‬ ‫ِ‬
‫مثاله‪ :‬قال هللا تعاىل‪ :‬أُحلَّ ْ ْ َ‬
‫اخلِْن ِزي ِر وما أ ُِه َّل لِغَ ِري َِّ‬
‫اَّلل بِِه‪...‬‬ ‫ْ‬ ‫َّم َو َحلْ ُم ْ َ‬ ‫ت َعلَْي ُك ُم الْ َمْي تَةُ َوالد ُ‬‫ُث قال‪ُ :‬حِّرَم ْ‬
‫[املائدة‪.]3 :‬‬
‫مثاله ‪ :‬وقال هللا تعاىل‪ :‬الْقا ِر َعةُ (‪َ )1‬ما الْقا ِر َعةُ (‪َ )2‬وما أ َْدر َاك َما الْقا ِر َعةُ ُث قال‪:‬‬
‫اش الْمب ثُ ِ‬
‫وث [القارعة‪.]4 - 1 :‬‬ ‫َّاس َكالْ َفر ِ َ ْ‬ ‫يَ ْوَم يَ ُكو ُن الن ُ‬
‫وبيان القرآن الكري بعضه بعضا هو أوىل طرق التفسري‪ ،‬ومناذجه كثرية يف كتاب هللا تعاىل‪.‬‬

‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم مبا أوحي‬


‫‪ - 2‬كان القرآن الكري ينزل وفيه إمجال أحياان فيفسره ّ‬
‫إليه من البيان‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫الزكا َة [النساء‪ ]77 :‬لقد تكرر ذكر‬ ‫الصال َة َوآتُوا َّ‬
‫يموا َّ‬ ‫ِ‬
‫مثاله ‪ :‬قال هللا تعاىل‪َ :‬وأَق ُ‬
‫الصالة يف القرآن الكري أكثر من سبعني مرة‪ ،‬ومع ذلك التكرار ال يكتمل عدد الصلوات‬
‫املفروضة وركعاهتا فضال عن كيفية أدائها‪ ،‬فجاء بيان الرسول صلّى هللا عليه وسلّم موضحا‬
‫عدد الصلوات املفروضة وركعاهتا وكيفية أدائها‪ ،‬فقد صلّى أمام الصحابة يوما ُث قال هلم‪:‬‬
‫«صلوا كما رأيتموين أصلي»‪.‬‬
‫‪ - 3‬وحني دخل الناس يف دين هللا أفواجا آخر حياة الرسول صلّى هللا عليه وسلّم وبعدها‪،‬‬
‫ويف هؤالء الداخلني عرب وعجم‪ ،‬علماء ببيان العرب وغري علماء به‪ ،‬وحاجتهم ظاهرة‬
‫إىل معرفة أحكام القرآن الكري ومعانيه‪ ،‬وحكمه ومراميه‪ ،‬وألفاظه ومجله‪ ،‬قام بعض أصحاب‬
‫يفسرون من القرآن الكري ما حيتاج إليه املسلم‪ :‬ابلقرآن‬ ‫رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ّ‬
‫الكري‪ُ ،‬ث بسنة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ُ ،‬ث ببيان أسباب نزول اآلايت والسور‪ ،‬ومبا‬
‫فسروه مبا يوفقهم هللا تعاىل إليه من اجتهاد وفهم ‪ ،‬وما يعرفونه من‬ ‫بلغهم‪ ،‬وإذا احتاج األمر ّ‬
‫بيان العرب‪.‬‬
‫مثال ‪ :‬استعمل عمر رضي هللا تعاىل عنه قدامة بن مظعون على البحرين‪ ،‬فقدم‬
‫اجلارود على عمر فقال‪ :‬إن قدامة شرب فسكر‪ ،‬فقال عمر رضي هللا تعاىل عنه‪ :‬من يشهد‬
‫على ما تقول؟ قال اجلارود‪ :‬أبو هريرة يشهد على ما أقول‪ .‬فقال عمر‪ :‬اي قدامة‪ ،‬إين جالدك‪،‬‬
‫قال‪ :‬وهللا لو شربت‪ -‬كما يقول‪ -‬ما كان لك أن جتلدين‪ ،‬قال عمر ‪:‬ومل؟ قال‪ :‬ألن هللا‬
‫ناح فِيما طَعِ ُموا إِذا َما اتَّ َق ْوا َو َآمنُوا‬ ‫تعاىل يقول‪ :‬لَيس علَى الَّ ِذين آمنُوا وع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫الصاحلات ُج ٌ‬ ‫َ َ ََ‬ ‫ْ َ َ‬
‫وع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫َح َسنُوا [املائدة‪.]93 :‬‬ ‫الصاحلات ُُثَّ اتَّ َق ْوا َو َآمنُوا ُُثَّ اتَّ َق ْوا َوأ ْ‬ ‫ََ‬
‫فأان من الذين آمنوا وعملوا الصاحلات‪ ،‬شهدت مع رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‬
‫بدرا وأحدا واخلندق واملشاهد‪ .‬فقال عمر‪ :‬أال تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس‪ :‬إن هذه‬
‫اآلايت أنزلت عذرا للماضني‪ ،‬وحجة على الباقني‪ ،‬ألن هللا تعاىل يقول‪:‬‬
‫اخلَمر والْمي ِسر و ْاألَنْصاب و ْاأل َْزالم ِرجس ِمن عم ِل الشَّي ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫طان [املائدة‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ ُ ْ ٌ ْ ََ‬ ‫ين َآمنُوا إَّمنَا ْ ْ ُ َ َ ْ ُ َ‬ ‫اي أَيُّ َها الذ َ‬
‫‪. ]90‬قال عمر‪ :‬صدقت‬

‫‪36‬‬
‫تشعبت داير املسلمني‬ ‫‪ - 4‬وجاء بعد أايم الصحابة التابعون رضوان هللا عليهم مجيعا‪ ،‬وقد ّ‬
‫وبعدت أوطاهنم‪ ،‬وفيهم العرب والعجم‪ ،‬وأخذ اللحن يغزو خلسة وجهرة لغة العرب وبياهنم‪،‬‬
‫وحاجة املسلمني يف هذا العهد أشد من حاجة الصحابة إىل معرفة أحكام القرآن الكري‬
‫وحكمه‪.‬‬
‫َحلَْقنا هبِِ ْم ذُِّريَّتَ ُه ْم َوما‬ ‫مثاله‪ :‬قال هللا تعاىل‪ :‬والَّ ِذين آمنُوا واتَّب عْت هم ذُ ِريَّتُهم إبِِ ٍ‬
‫ميان أ ْ‬ ‫َ َ َ َ ََ ُْ ّ ُ ْ‬
‫ناه ْم ِم ْن َع َملِ ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء [الطور‪ ]21 :‬قال سعيد بن جبري التابعي رمحه هللا تعاىل‪ :‬أي‬ ‫أَلَْت ُ‬
‫أحلق هللا تعاىل الذرية آبابئهم يف الدرجات‪ ،‬مع استحقاقهم دون درجات اآلابء يف اجلنة‪،‬‬
‫تكرميا لآلابء وفضال منه سبحانه‪.‬‬

‫‪ُ - 5‬ث جاء بعدهم من جاء من العلماء‪ ،‬وقد ازدادت حاجة املسلمني إىل معرفة أحكام‬
‫السنة‪ ،‬وأقوال‬
‫يفسرون كتاب هللا تعاىل من خالل القرآن و ّ‬ ‫القرآن الكري وحكمه‪ ،‬فقاموا ّ‬
‫الصحابة والتابعني‪ ،‬ومن خالل اللغة ومعانيها‪ ،‬ومن خالل الرأي والنظر‪ ،‬بل ومن خالل‬
‫بعض اإلسرائيليات والنصرانيات أحياان‪.‬‬
‫فدون علم تفسري كتاب هللا تعاىل على‬ ‫ودونت فيه العلوم‪ّ ،‬‬‫حىت جاء دور التدوين‪ّ ،‬‬
‫املذاهب والطرق اليت سيأيت بياهنا عند حبث مذاهب التفسري إن شاء هللا تعاىل‪.‬‬
‫تلك هي نشأة علم التفسري وتطوره حىت جاء دور التدوين‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫الفصل الثاين‬
‫أشهر املفسرين من الصحابة والتابعني‬

‫قال اإلمام السيوطي يف (اإلتقان)‪ :‬اشتهر ابلتفسري من الصحابة عشرة‪:‬‬


‫أيب بن كعب‪ ،‬وزيد بن اثبت‪ ،‬وأبو موسى‬
‫اخللفاء األربعة‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬و ّ‬
‫األشعري‪ ،‬وعبد هللا بن الزبري رضي هللا عنهم‪.‬‬

‫❖أوال‪ :‬أشهر املفسرين من الصحابة‪ :‬رضوان هللا تعاىل عليهم‪:‬‬


‫علي بن أيب طالب رضي هللا عنه‬
‫‪ّ -1‬‬
‫مكانته يف التفسري‪:‬‬
‫مجع رضي هللا تعاىل عنه إىل مهارته يف القضاء والفتوى علمه بكتاب هللا تعاىل وفهم‬
‫وخفي معانيه‪ ،‬فكان أعلم الصحابة مبواقع التنزيل ومعرفة التأويل‪ ،‬روي عن ابن عباس‬
‫أسراره ّ‬
‫علي بن أيب طالب‪.‬‬‫رضي هللا تعاىل عنه أنه قال‪ :‬ما أخذت من تفسري القرآن فعن ّ‬
‫علي رضي هللا تعاىل عنه أنه قال‪ :‬وهللا ما نزلت آية‬
‫وأخرج أبو نعيم يف (احللية) عن ّ‬
‫إال وقد علمت فيم نزلت‪ ،‬وأين نزلت‪ ،‬إن ريب وهب يل قلبا عقوال‪ ،‬ولساان سئوال‪.‬‬
‫وعن أيب الطفيل قال‪ :‬شهدت عليا خيطب وهو يقول‪ :‬سلوين‪ ،‬فو هللا ال تسألوين عن‬
‫شيء إال أخربتكم‪ ،‬وسلوين عن كتاب هللا‪ ،‬فو هللا ما من آية إال وأان أعلم أبليل نزلت أم‬
‫بنهار‪ ،‬أم يف سهل‪ ،‬أم يف جبل‪.‬‬

‫‪ - 2‬عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه‬


‫مكانته يف التفسري‪:‬‬

‫‪38‬‬
‫وعن مسروق قال‪ :‬قال عبد هللا‪ -‬يعين ابن مسعود‪ :-‬والذي ال إله غريه ما نزلت آية‬
‫من كتاب هللا إال وأان أعلم فيم نزلت‪ ،‬وأين نزلت‪ ،‬ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب هللا‬
‫مين تناله املطااي ألتيته ‪.‬‬
‫لعلي رضي هللا تعاىل عنه‪ :‬أخربان عن ابن‬
‫وروى أبو نعيم عن أيب البخرتي‪ :‬قلت ّ‬
‫مسعود؟ قال‪ :‬علم القرآن والسنة وكفى‪.‬‬

‫رواية التفسري عنه‪:‬‬


‫لقد روي عنه يف تفسري القرآن الكري أكثر مما روي عن علي رضي هللا تعاىل عنه؛‬
‫لطول صحبته للرسول صلّى هللا عليه وسلّم ومالزمته له‪ ،‬ودخوله عليه حني ال يدخل عليه‬
‫الناس‪ ،‬وفراغه من أعباء اخلالفة والقضاء‪ ،‬وقيامه على تعليم الناس القرآن والفقه‪ ،‬خاصة‬
‫ابلكوفة حني أرسله عمر رضي هللا تعاىل عنهما إليها‪.‬‬
‫وقد رويت أقواله يف بيان القرآن وتفسريه بطرق عديدة أشهرها ثالث‪:‬‬
‫أ‪ -‬طريق األعمش‪ ،‬عن أيب الضحى‪ ،‬عن مسروق‪ ،‬عن ابن مسعود‪ ،‬وهذه الطريق من أصح‬
‫الطرق وأسلمها‪ ،‬وقد اعتمد عليها البخاري يف صحيحه‪.‬‬
‫ب‪ -‬طريق جماهد‪ ،‬عن أيب معمر‪ ،‬عن ابن مسعود وهذه أيضا طريق صحيحة ال يعرتيها‬
‫الضعف‪ ،‬وقد اعتمد عليها البخاري يف صحيحه أيضا‪.‬‬
‫ج‪ -‬طريق األعمش‪ ،‬عن أيب وائل‪ ،‬عن ابن مسعود‪ ،‬وهذه أيضا طريق صحيحة خيرج البخاري‬
‫منها‪.‬‬

‫‪ - 3‬عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهما‬


‫مكانته يف التفسري‪:‬‬
‫لقد دعا رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم البن عباس أن يف ّقهه هللا تعاىل يف الدين‪،‬‬
‫ويعلمه فهم القرآن وأتويله‪ ،‬فأصابه دعاء رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬ولقد أعطاه هللا‬
‫‪39‬‬
‫لساان سئوال وقلبا عقوال‪ ،‬فكان يسأل أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم عن القرآن‬
‫وما نزل منه‪ ،‬حىت أضحى أعلم الناس ابلقرآن‪.‬‬
‫قال عبد هللا بن مسعود رضي هللا تعاىل عنه‪ :‬نعم ترمجان القرآن عبد هللا بن عباس‪.‬‬
‫وقال عبد هللا بن عمر رضي هللا تعاىل عنهما‪ :‬ابن عباس أعلم الناس مبا أنزل على حممد‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬
‫روى ابن كثري يف اترخيه‪ ،‬عن أيب وائل شقيق بن سلمة‪ :‬خطب ابن عباس وهو على‬
‫ويفسرها‪ ،‬فجعلت أقول‪ :‬ما رأيت وال مسعت كالم‬ ‫املوسم‪ ،‬فافتتح سورة البقرة‪ ،‬فجعل يقرؤها ّ‬
‫رجل مثله‪ ،‬ولو مسعته فارس والروم ألسلمت‪.‬‬
‫قال إسحاق بن راهويه‪ :‬إمنا كان ذلك‪ -‬أي كون ابن عباس أعلم من علم ابلقرآن‪-‬‬
‫أيب بن‬
‫وضم إىل ذلك ما أخذه عن أيب بكر وعمر وعثمان و ّ‬ ‫أنه كان أخذ من علم التفسري‪ّ ،‬‬
‫كعب وغريهم من كبار الصحابة‪ ،‬مع دعاء رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم له أن يعلمه هللا‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫رواية التفسري عنه‪:‬‬


‫لزم ابن عباس رضي هللا تعاىل عنهما رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم سنني قليلة‪،‬‬
‫وأخذ عن كبار أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وطال عمره‪ ،‬حىت أضحى أكثر‬
‫من نقل عنه تفسري القرآن الكري من أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬
‫وقد رويت أقواله يف بيان القرآن الكري وتفسريه‪ ،‬بطرق عديدة أشهرها طرق ثالث‪:‬‬
‫أ‪ -‬طريق معاوية بن صاحل‪ ،‬عن علي بن أيب طلحة‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬وهذه هي أجود الطرق‬
‫عنه‪ ،‬وقد اعتمد عليها البخاري فيما يعلقه عن ابن عباس‪ ،‬وكثريا ما يعتمد عليها ابن جرير‬
‫وغريه‪.‬‬
‫الكويف‪ ،‬عن عطاء بن السائب‪ ،‬وعن سعيد بن جبري‪ ،‬عن ابن‬ ‫ّ‬ ‫ب‪ -‬طريق قيس بن مسلم‬
‫عباس‪ ،‬وهذه طريق صحيحة على شرط الشيخني‪ ،‬وكثريا ما خيرج منها احلاكم يف مستدركه‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫ج‪ -‬طريق ابن إسحاق‪ -‬صاحب السرية‪ -‬عن حممد بن أيب حممد موىل آل زيد بن اثبت‪،‬‬
‫عن عكرمة أو سعيد بن جبري‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬وهذه طريق جيدة وإسنادها حسن‪ ،‬وقد‬
‫أخرج منها ابن جرير وابن أيب حامت كثريا‪.‬‬

‫أيب بن كعب رضي هللا عنه‬


‫‪ّ -4‬‬
‫مكانته يف التفسري‪:‬‬
‫أيب من فم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم بعض القرآن الكري‪ -‬كما ذكران‬ ‫لقد أخذ ّ‬
‫آنفا‪ -‬وأخذ ابقيه عنه قراءة وتعليما مع كرام الصحابة رضوان هللا عليهم‪ ،‬وقد أثىن رسول هللا‬
‫أيب بن كعب»‪.‬‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم على قراءته‪.‬فقال‪« :‬أقرأ أميت ّ‬
‫روى ابن سعد يف طبقاته عنه قوله‪ :‬إان لنقرؤه يف مثان‪ ،‬يعين القرآن الكري‪.‬‬
‫أيب‬
‫القراء من التابعني‪ ،‬أخذ القرآن وتفسريه عنه‪ -‬قال‪ :‬يف ّ‬ ‫وعن زر بن حبيش‪ -‬أحد كبار ّ‬
‫بن كعب ح ّدة‪ ،‬فقلت له يوما‪ :‬اي أاب املنذر‪ ،‬ألن يل من جانبك‪ ،‬فإين إمنا أمتتع منك‪.‬‬
‫وكان رضي هللا تعاىل عنه‪ -‬قبل إسالمه‪ -‬حربا من أحبار اليهود العارفني أبسرار‬
‫الكتب السابقة عن القرآن الكري‪ ،‬وما ورد فيها‪ ،‬وكان يكتب الوحي لرسول هللا صلّى هللا‬
‫عليه وسلّم‪ ،‬وكان أحد مراجع الصحابة والتابعني يف قراءة القرآن الكري‪ ،‬ومعرفة تفسريه كابن‬
‫عباس وغريه‪ ،‬فكان هبذا عارفا أبسباب نزول اآلايت ومواطنها‪ ،‬وكان عمر رضي هللا تعاىل‬
‫عنه يسميه‪ :‬سيد املسلمني‪ ،‬وقد أمره عثمان رضي هللا تعاىل عنه أن جيمع القرآن‪.‬‬

‫رواية التفسري عنه‪:‬‬


‫ذكران أن أبيّا كان يكتب الوحي لرسول صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬فمن البعيد أن يكتب‬
‫آية ُث ال يسأل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم عن معناها‪ ،‬ويعرف سبب نزوهلا وموضعه‪،‬‬
‫لذا فقد كان أحد املكثرين يف تفسري كتاب هللا تعاىل‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫وقد رويت أقواله يف بيان القرآن وتفسريه بطرق عديدة أشهرها طريقان‪:‬‬
‫أيب رضي هللا تعاىل‬
‫أ‪ -‬طريق أيب جعفر الرازي‪ ،‬عن الربيع بن أنس‪ ،‬عن أيب العالية‪ ،‬عن ّ‬
‫أيب نسخة كبرية يف التفسري‪ ،‬يرويها أبو جعفر‬‫عنهم‪ .‬وهذه طريق صحيحة‪ ،‬وقد ورد عن ّ‬
‫أيب‪ ،‬وقد أخرج ابن جرير وابن أيب حامت منها كثريا‪ ،‬وأخرج احلاكم‬
‫الرازي هبذا اإلسناد إىل ّ‬
‫منها أيضا يف مستدركه‪ ،‬واإلمام أمحد يف مسنده‪.‬‬
‫أيب بن كعب‪،‬‬‫ب‪ -‬طريق وكيع عن سفيان‪ ،‬عن عبد هللا بن حممد بن عقيل‪ ،‬عن الطفيل بن ّ‬
‫عن أبيه‪ ،‬وهذه خيرج منها اإلمام أمحد يف مسنده‪ ،‬وهي على شرط احلسن‪.‬‬

‫❖اثنيا‪ :‬أشهر املفسرين من التابعني رمحهم هللا تعاىل‪:‬‬

‫اشتهر عدد كبري من التابعني بتفسري القرآن الكري يف املدينة املنورة‪ ،‬ومكة املكرمة‬
‫أيب بن كعب رضي هللا عنه‪،‬اشتهر منهم‪:‬‬ ‫والعراق‪.‬فمن كان منهم ابملدينة املنورة يع ّدون تالمذة ّ‬
‫أبو العالية‪ ،‬ورفيع بن مهران الرايحي‪ ،‬وحممد بن كعب القرظي‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫ومن كان منهم مبكة املكرمة يع ّدون تالمذة عبد هللا بن عباس رضي هللا تعاىل عنهما‪،‬‬
‫منهم‪ :‬سعيد بن جبري‪ ،‬وجماهد‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬وطاوس بن كيسان اليماين‪ ،‬وعطاء بن أيب رابح‪.‬‬
‫ومن كان منهم ابلعراق يع ّدون تالمذة عبد هللا بن مسعود رضي هللا تعاىل عنه‪ ،‬منهم‪:‬‬
‫علقمة بن قيس‪ ،‬ومسروق بن األجدع‪ ،‬وعامر الشعيب‪.‬‬

‫❖ونقصر حديثنا على ثالثة من التابعني‪ ،‬واحد من أهل مكة املكرمة‪ ،‬وواحد من أهل‬
‫املدينة املنورة‪ ،‬وواحد من أهل العراق‪:‬‬
‫‪ - 1‬سعيد بن جبري رمحه هللا تعاىل‬
‫‪-‬التعريف به‪:‬‬

‫‪42‬‬
‫هو أبو عبد هللا سعيد بن جبري بن هشام األسدي‪ ،‬ولد سنة مخس وأربعني‪ ،‬ومسع‬
‫من مجاعة من أئمة الصحابة‪ ،‬وح ّدث عن ابن عباس‪ ،‬وعدي بن حامت‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وعبد‬
‫هللا بن مغفل‪ ،‬وأيب هريرة‪ ،‬رضي هللا تعاىل عنهم‪.‬‬
‫قرأ القرآن على ابن عباس‪ ،‬وعلى ابن مسعود‪ ،‬وكان فقيها ورعا‪.‬‬
‫كان أسود حبشيا‪ ،‬من موايل بين والبة‪ ،‬أبيض اخلصال‪.‬‬

‫مكانته يف التفسري‪:‬‬
‫قال سفيان الثوري‪ :‬خذوا التفسري من أربعة‪ ،‬من سعيد بن جبري‪ ،‬وجماهد‪ ،‬وعكرمة‪،‬‬
‫الضحاك‪.‬‬
‫و ّ‬
‫أخذ القراءة على ابن عباس عرضا يقرأ عليه القرآن‪ ،‬ومسع منه التفسري‪ ،‬وأكثر روايته‬
‫يف التفسري عنه‪.‬‬
‫عن أشعث بن إسحاق قال‪ :‬كان يقال لسعيد بن جبري‪ :‬جهبذ العلماء‪ .‬وعن ابن‬
‫عباس رضي هللا تعاىل عنهما قال‪ :‬اي أهل الكوفة‪ ،‬تسألوين وفيكم سعيد بن جبري؟!‬

‫‪ - 2‬أبو العالية رمحه هللا تعاىل‬


‫‪-‬التعريف به‪:‬‬
‫النيب‬
‫هو أبو العالية‪ ،‬رفيع بن مهران الرايحي‪ ،‬موالهم‪ .‬أدرك اجلاهلية‪ ،‬وأسلم بعد وفاة ّ‬
‫أيب بن كعب رضي‬
‫علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر و ّ‬ ‫صلّى هللا عليه وسلّم‪ .‬روى عن ّ‬
‫هللا عنهم‪ .‬اتبعي جممع على توثيقه‪ ،‬روى عن أصحاب الكتب الستة مجيعا‪.‬‬
‫‪-‬علمه‪:‬‬
‫حفظ القرآن وأتقنه‪ ،‬وكان عاملا ابلقراءة‪ ،‬قال ابن أيب داود‪ :‬ليس أحد بعد الصحابة‬
‫أعلم ابلقراءة من أيب العالية‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫أيب بن كعب نسخة كبرية يف التفسري‪ ،‬أخرج منها ابن جرير الطربي وابن‬
‫وروى عن ّ‬
‫أيب حامت كثريا منها يف تفسرييهما‪ ،‬كما أخرج منها اإلمام أمحد يف مسنده واحلاكم يف‬
‫مستدركه‪.‬‬

‫‪ - 3‬علقمة بن قيس الكويف رمحه هللا تعاىل‬


‫‪-‬التعريف به‪:‬‬
‫هو علقمة بن قيس بن عبد هللا الكويف‪ ،‬ولد يف حياة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪،‬‬
‫غزا يف سبيل هللا خراسان‪ ،‬وأقام خبوارزم سنتني‪ ،‬ودخل مرو وأقام هبا مدة‪ ،‬ومل يولد له‪.‬‬
‫روى عن عمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعلي‪ ،‬وسعد‪ ،‬وحذيفة‪ ،‬وأيب الدرداء‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وكثريين‬
‫غريهم‪.‬‬
‫‪-‬مكانته يف التفسري‪:‬‬
‫قال رمحه هللا تعاىل‪ :‬كنت رجال قد أعطاين هللا تعاىل حسن الصوت ابلقرآن‪ ،‬وكان‬
‫إيل فأقرأ عليه‪ ،‬فإذا فرغت من قراءيت قال‪ :‬زدان فداك أيب وأمي‪ ،‬فإين‬ ‫ابن مسعود يرسل ّ‬
‫مسعت رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم يقول‪« :‬إن حسن الصوت زينة القرآن»‬
‫قال إبراهيم‪ -‬هو النخعي‪ -‬كان أصحاب عبد هللا الذين يقرءون الناس‪ -‬أي القرآن‪-‬‬
‫ويعلموهنم السنة‪ ،‬ويصدر الناس عن رأيهم ستة‪ :‬علقمة‪ ،‬واألسود‪ ،‬وذكر الباقني‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود رضي هللا تعاىل عنه‪ :‬ال أعلم شيئا إال وعلقمة يعلمه‪،‬‬
‫كان حسن الصوت ابلقرآن‪ ،‬جيد احلفظ‪ ،‬حىت لقد كان يقرؤه أحياان يف ليلة‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫أقسام التفسري‬

‫التفسري ثالثة أقسام‪:‬‬


‫‪ .1‬تفسري ابلرواية‪ ،‬ويسمى التفسري ابملأثور‪.‬‬
‫‪ .2‬وتفسري ابلدراية‪ ،‬ويسمى التفسري ابلرأي‪.‬‬
‫‪ .3‬وتفسري اإلشارة‪ ،‬ويسمى التفسري اإلشاري‪.‬‬
‫ويضيف بعضهم قسما رابعا‪ ،‬وهو تفسري ابطين‪ ،‬ويسمى التفسري الباطين‪.‬‬

‫❖ معىن التفسري ابملأثور‪:‬‬


‫هو تفسري القرآن الكري مبا جاء يف القرآن الكري أو السنة‪ ،‬أو أقوال الصحابة والتابعني‪،‬‬
‫مما ليس منقوال عن أهل الكتابني اليهود والنصارى‪.‬‬

‫❖معىن التفسري ابلرأي‪:‬‬


‫املفسر لكالم العرب‪ ،‬ومعرفة األلفاظ العربية‬
‫هو تفسري القرآن الكري ابالجتهاد بعد معرفة ّ‬
‫ووجوه داللتها‪ ،‬ومعرفة أسباب النزول‪ ،‬والناسخ واملنسوخ‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬

‫أ‪ -‬ما جيوز من التفسري ابلرأي‪:‬‬


‫السنة‪،‬‬
‫هو ما كان موافقا لكالم العرب‪ ،‬ومناحيهم يف القول‪ ،‬مع موافقة الكتاب و ّ‬
‫ومراعاة سائر شروط التفسري؛ من معرفة الناسخ واملنسوخ‪ ،‬وأسباب النزول وغريها‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫• ويستدل جلوازه ابلوجوه التالية‪:‬‬
‫بارٌك لِيَدَّبَّ ُروا آايتِِه‬ ‫تاب أَنْ َزلْناهُ إِلَْي َ‬
‫ك ُم َ‬
‫ِ‬
‫‪ - 1‬إن هللا تعاىل قد أمر بتدبر القرآن فقال تعاىل‪ :‬ك ٌ‬
‫باب [ص‪.]29 :‬‬ ‫ولِي تَ َذ َّكر أُولُوا ْاألَلْ ِ‬
‫ََ َ‬
‫‪ - 2‬إن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم دعا البن عباس رضي هللا عنهما بقوله‪( :‬اللهم فقهه‬
‫يف الدين وعلمه التأويل )‪.‬‬
‫‪ - 3‬إن أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم اختلفوا يف تفسري آايت من القرآن مما مل‬
‫يبني هلم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬فلو كان النظر واالجتهاد حمظورا يف فهم كتاب هللا‬
‫تعاىل من أهله‪ ،‬لكان الصحابة قد وقعوا يف معصية هللا تعاىل‪ ،‬كيف وقد رضي هللا تعاىل‬
‫عنهم وأكرمهم ابلصحبة؟!‬
‫‪ - 4‬إن الناس قد درجوا على تفسري كتاب هللا تعاىل ابالجتهاد والنظر من أايم التدوين إىل‬
‫أايمنا هذه‪ ،‬ولن جتتمع هذه األمة على ضاللة‪.‬‬

‫ب‪ -‬ما ال جيوز من التفسري ابلرأي‪:‬‬


‫وهو ما كان غري جار على قوانني اللغة العربية‪ ،‬وال موافقا لألدلة الشرعية‪ ،‬وال مستوفيا‬
‫لشرائط التفسري اليت ذكرها املفسرون‪.‬‬
‫• ويستدل ملنعه ابلوجوه التالية‪:‬‬
‫‪ - 1‬هنى الرسول صلّى هللا عليه وسلّم عن تفسري القرآن ابلرأي‪،‬قال صلّى هللا عليه وسلّم‪:‬‬
‫«من قال يف القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»‪.‬‬
‫‪ - 2‬خروج ذلك التفسري عن جادة التفسري حني ال يبايل بناسخ ومنسوخ‪ ،‬وأسباب نزول‪،‬‬
‫وأمثال ذلك‪ .‬قال عمر رضي هللا تعاىل عنه‪ :‬ما أخاف على هذه األمة من مؤمن ينهاه إميانه‪،‬‬
‫وال من فاسق ّبني فسقه‪ ،‬ألن الناس ال تثق به‪ ،‬ولكين أخاف عليها رجال قد قرأ القرآن حىت‬
‫أذلقه بلسانه‪ُ ،‬ث أتوله على غري أتويله‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫‪ - 3‬جتنّبه وضع اللغة‪ ،‬فإن اخلروج ابلكلمة أو اجلملة عن املراد هبما تعطيل هلما‪ ،‬والكالم‬
‫إمنا هو إلفهام معان معينة منها‪.‬‬
‫ني ُمْن تَ ِق ُمو َن [السجدة‪ ]22 :‬أي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وذلك مثل تفسري قوله تعاىل‪ :‬إِ َّان م َن الْ ُم ْج ِرم َ‬
‫منتقمون منهم‪ ،‬فإنه تفسري جيايف بيان العرب ونصوص القرآن‪.‬‬
‫َحقاابً [النبأ‪ ]23 :‬أي أزماان ُث‬ ‫وتفسري قوله تعاىل يف حق أهل النار‪ :‬البِثِ ِ‬
‫ني فيها أ ْ‬ ‫َ‬
‫خيرجون منها‪ ،‬مع أن املراد البثني فيها أحقااب بعد أحقاب ال خيرجون منها‪ ،‬كما نقل ذلك‬
‫عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫اَّللُ [البقرة‪ ]282 :‬أي اتقوا هللا فإنه يعلمكم‬ ‫اَّللَ َويُ َعلِّ ُم ُك ُم َّ‬
‫وتفسري قوله تعاىل‪َ :‬واتَّ ُقوا َّ‬
‫دون تعلم‪ ،‬فإن سرد اآلية يفيد اتقوا هللا ويعلمكم هللا ابلقرآن ما ينفعكم يف أمور املال وغريه‪.‬‬
‫أبقوال الصحابة والتابعني‪ ،‬ومن بعدهم من اخلالفني يف األحكام‪ ،‬ومسائل احلالل‬
‫واحلرام‪ ،‬عارفا أبايم الناس وأخبارهم‪ ،‬وله الكتاب املشهور يف (اتريخ األمم وامللوك) وكتاب‬
‫(التفسري) الذي مل يصنّف أحد مثله‪ ،‬وكتاب (هتذيب اآلاثر) مل أر سواه يف معناه إال أنه مل‬
‫يتمه‪ ،‬وكتاب حسن يف القراءات مسّاه (اجلامع) وله يف أصول الفقه وفروعه كتب كثرية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وتفرد مبسائل حفظت عنه‪.‬‬ ‫واختيار من أقاويل الفقهاء‪ّ ،‬‬

‫❖طريقته يف التفسري‪:‬‬
‫• حكم هذا النوع من التفسري‪:‬‬
‫هو تفسري ابطل وإُث كذلك‪ ،‬بل خيشى اخلروج عن اإلسالم ملن اعتقد ذلك‪ ،‬معاذ هللا‪.‬‬
‫ولو أحلق ابلتفسري الباطين ال يع ّد بعيدا‪ ،‬وقد عرفت احلكم يف ذلك التفسري‪.‬‬
‫اللهم إال أن يكون التفسري اإلشاري قائما على االعرتاف مبعاين ظواهر النصوص على ما‬
‫تقتضيه اللغة والنصوص الشرعية األخرى‪ ،‬فاملرجو ّأال يكون أبس وإُث إبذن هللا‪ ،‬ويقرب من‬
‫هذا التفسري ما قاله علماء األصول يف قوله تعاىل‪:‬‬

‫‪47‬‬
‫وف [البقرة‪ ]233 :‬اآلية نص يف وجوب نفقة‬ ‫ِ‬
‫ود لَه ِرْزقُه َّن وكِسوُهتُ َّن ِابلْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َو َعلَى الْ َم ْولُ ُ ُ َ ْ َ‬
‫الزوجة على الزوج‪ ،‬وهي تشري إىل أن الولد ينسب إىل أبيه‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫وقد جعل اإلمام السيوطي شروط قبول التفسري اإلشاري على ما يلي‪:‬‬
‫‪ّ - 1‬أال يتناىف مع ما يظهر من معىن النظم الكري‪.‬‬
‫‪ّ - 2‬أال ي ّدعى أنه املراد وحده دون الظاهر‪.‬‬
‫ني‬‫ِِ‬ ‫‪ّ - 3‬أال يكون أتويال بعيدا سخيفا‪ ،‬كتفسري بعضهم قوله تعاىل‪َ :‬وإِ َّن َّ‬
‫اَّللَ لَ َم َع الْ ُم ْحسن َ‬
‫جبعل كلمة (ملع) فعال ماضيا‪ ،‬وكلمة (احملسنني) مفعوال به‪.‬‬
‫‪ّ - 4‬أال يكون له معارض شرعي أو عقلي‪.‬‬
‫‪ - 5‬أن يكون له شاهد شرعي يؤيده‪.‬‬

‫❖ معىن التفسري الباطن‪:‬‬


‫هو تفسري القرآن الكري على معان خمالفة لظاهر القرآن الكري‪ ،‬مما جيايف معاين الكلمات‬
‫واجلمل يف القرآن الكري‪ ،‬دون دليل أو شبهة من دليل‪.‬‬
‫وهذا جنده ظاهرا يف تفاسري الباطنية الذين رفضوا األخذ بظاهر القرآن‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫للقرآن ظاهر وابطن‪ ،‬واملراد منه‪ :‬ابطنه دون ظاهره‪.‬‬
‫الصال َة أبن املراد ابلصالة هي العهد‬
‫يموا َّ‬ ‫ِ‬
‫ومن أمثلة ضالهلم أتويل قوله تعاىل‪َ :‬وأَق ُ‬
‫املألوف‪ ،‬ومسي صالة ألهنا صلة بني املستجيبني وينب اإلمام‪ ،‬وأتويل الصيام أبنه اإلمساك‬
‫عن كشف السر‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫❖حكم هذا النوع من التفسري‪:‬‬
‫هو تفسري ابطل وإُث‪ ،‬بل فيه اخلروج عن اإلسالم ملن اعتقد ذلك‪ ،‬معاذ هللا‪.‬‬
‫❖ويستدل لبطالنه ابلوجوه التالية‪:‬‬
‫أ‪ -‬إنه تفسري يقوم على عقيدة التحلل من التكاليف الشرعية‪ ،‬والرفض للشرائع واألحكام‬
‫من حيث احلقيقة والواقع‪ .‬ويف هذا نقض بناء الشريعة‪ ،‬وحل عرى اإلسالم‪.‬‬
‫ب‪ -‬فضال عن كونه غريبا عن معاين الكلمات واجلمل يف اللغة العربية‪ .‬ويف ذلك خمالفة‬
‫صرحية لقول هللا تعاىل‪ :‬إِ َّان أَنْ َزلْناهُ قُ ْرآانً َعَربِيًّا لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْع ِقلُو َن [يوسف‪.]2 :‬‬
‫ج‪ -‬إنه جيعل القرآن ملهاة‪ ،‬يفسره كل مفسر مبا شاء له ضالله وهواه‪.‬‬
‫ويفرق مجاعتهم‪ ،‬من جراء فقدان ضوابط تفسري القرآن الكري‪.‬‬ ‫ه ‪ -‬إنه يفك عقد املسلمني‪ّ ،‬‬

‫‪49‬‬
‫الرابع‬
‫الفصل ّ‬
‫التعريف أبشهر التفاسري واملفسرين‪:‬‬
‫‪ - 1‬الطربي ‪ - 2‬الزخمشري ‪ - 3‬الفخر الرازي ‪ - 4‬القرطيب ‪ - 5‬ابن كثري‪ ،‬مع بيان طريقة‬
‫كل منهم‪ ،‬وخصائص تفسريه‪.‬‬

‫‪ - 1‬اإلمام الطربي ‪ 310 - 224‬هـ‬


‫❖التعريف به‪:‬‬
‫هو أبو جعفر حممد بن جرير الطربي من أهايل طربستان‪ ،‬ولد (آبمل) سنة (‪224‬‬
‫ه )‪ ،‬خرج من بلده (آمل) يف الثانية عشرة من عمره يطلب العلم وجيلس إىل املشايخ‪ ،‬وقد‬
‫مسع ابلعراق والشام ومصر عن خلق كثري‪ ،‬واستقر به مقامه بعد ذلك يف بغداد‪.‬‬
‫قال أبو سعيد بن يونس‪ :‬كان فقيها‪ ،‬قدم إىل مصر قدميا سنة ثالث وستني ومائتني‬
‫وكتب هبا‪ ،‬ورجع إىل بغداد وصنّف تصانيف حسنة تدل على سعة علمه‪.‬‬
‫وقال علي بن عبد هللا‪ :‬مكث أربعني سنة يكتب يف كل يوم منها أربعني ورقة‪.‬‬
‫قال ابن جرير يوما ألصحابه‪ :‬أتنشطون لتفسري القرآن! فأجابوا‪ :‬كم يكون قدره؟‬
‫فقال‪ :‬ثالثون ألف ورقة‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا مما يفين األعمار قبل متامه‪،‬فاختصره يف حنو ثالثة آالف‬
‫ورقة‪ .‬وقال اخلطيب البغدادي يف اترخيه‪ :‬أحد العلماء حيكم بقوله‪ ،‬ويرجع إىل رأيه‪ ،‬ملعرفته‬
‫وفضله‪ ،‬وكان قد مجع من العلوم ما مل يشاركه فيه أحد من أهل عصره‪ ،‬وكان حافظا لكتاب‬
‫ابلسنة وطرقها‪،‬‬
‫هللا تعاىل‪ ،‬عارفا ابلقراءات‪ ،‬بصريا ابملعاين‪ ،‬فقيها يف أحكام القرآن‪ ،‬عاملا ّ‬
‫وصحيحها وسقيمها‪ ،‬وانسخها ومنسوخها‪ ،‬عارفا أبقوال الصحابة والتابعني‪ ،‬ومن بعدهم‬
‫من اخلالفني يف األحكام‪ ،‬ومسائل احلالل واحلرام‪ ،‬عارفا أبايم الناس وأخبارهم‪ ،‬وله الكتاب‬
‫املشهور يف (اتريخ األمم وامللوك) وكتاب (التفسري) الذي مل يصنّف أحد مثله‪ ،‬وكتاب‬
‫يتمه‪ ،‬وكتاب حسن يف القراءات مسّاه (اجلامع)‬‫(هتذيب اآلاثر) مل أر سواه يف معناه إال أنه مل ّ‬

‫‪50‬‬
‫وتفرد مبسائل حفظت‬
‫وله يف أصول الفقه وفروعه كتب كثرية‪ ،‬واختيار من أقاويل الفقهاء‪ّ ،‬‬
‫عنه‪.‬‬

‫❖طريقته يف التفسري‪:‬‬
‫أ‪ -‬يفسر القرآن الكري ابملأثور من القرآن الكري‪ ،‬وسنة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪،‬‬
‫وأقوال الصحابة والتابعني‪.‬‬
‫ب‪ -‬يذكر آراء الصحابة ومن بعدهم يف التفسري‪ ،‬واستدالهلم ابللغة‪ ،‬ويستشهد لذلك بكالم‬
‫العرب‪.‬‬
‫يتعرض لتوجيه األقوال‪.‬‬
‫ج‪ -‬إذا تع ّددت أقوال الصحابة والتابعني ّ‬
‫د‪ -‬يعرض للقراءات يف اآلايت‪.‬‬
‫ه ‪ -‬يهتم ابملذاهب النحوية‪ ،‬واألحكام الفقهية‪ ،‬وإمجاع األئمة‪.‬‬
‫ويستنبط األحكام اليت تؤخذ من اآلية‪.‬‬

‫❖خصائص تفسريه‪:‬‬
‫أ‪ -‬أنه تفسري ابملأثور‪ ،‬لذا جنده حيمل بشدة على تفسري اآلايت ابالجتهاد والنظر‪.‬‬
‫ب‪ -‬ينقل يف تفسريه رواايت صحيحة وغري صحيحة أبسانيدها فيخرج بذلك من العهدة‪.‬‬
‫يوجه للرأي الذي يراه من بني اآلراء يف تفسريه‪ ،‬فال يدع القارئ يف حرية من أمره‪ ،‬ال‬
‫ج‪ّ -‬‬
‫يتجه إىل رأي بعينه إذ ال دليل له‪.‬‬

‫❖وفاته‪:‬‬
‫كان عاملا زاهدا ورعا فاضال قواي يف احلق فصيح اللسان‪ ،‬وكانت وفاته يف بغداد وقت‬
‫املغرب عشية يوم األحد ليومني بقيا من شوال سنة (‪ 310‬ه ) وقد جتاوز الثمانني خبمس أو‬
‫ست سنني‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫‪ - 2‬الزخمشري ‪ 538 - 467‬هـ‬
‫‪ - 1‬التعريف به‪:‬‬
‫هو أبو القاسم حممود بن حممد الزخمشري اخلوارزمي‪ ،‬ولد بزخمشر سنة (‪ 467‬ه )‪،‬‬
‫رحل يف طلب العلم إىل خبارى‪ ،‬وقدم بغداد‪ ،‬فسمع من أيب اخلطاب بن البطر‪ ،‬وشيخ‬
‫اإلسالم أيب منصور احلارثي‪ ،‬ومجاعة‪.‬‬
‫كان واسع العلم‪ ،‬كثري الفضل‪ ،‬غاية يف الذكاء‪ ،‬وجودة القرحية‪ ،‬متفننا يف كل علم‪،‬‬
‫عالمة يف األدب والنحو‪ ،‬كان مقطوع‬ ‫معتزليا قواي يف مذهبه‪ ،‬جماهرا به‪ ،‬وداعية إليه‪ ،‬حنفيا‪ّ ،‬‬
‫إحدى رجليه‪ ،‬وقد ذكر هو سبب ذلك‪ ،‬قال‪:‬كنت يف صباي أمسكت عصفورا وربطته‬
‫خبيط يف رجله‪ ،‬فأفلت من يدي فأدركته وقد دخل يف خرق فجذبته فانقطعت رجله يف‬
‫فلما وصلت إىل‬‫اخليط‪ ،‬فتألّمت والديت لذلك‪ ،‬وقالت‪ :‬قطع هللا رجلك كما قطعت رجله‪ّ ،‬‬
‫سن الطلب رحلت إىل خبارى لطلب العلم‪ ،‬فسقطت عن الدابّة فانكسرت رجلي‪ ،‬وعملت‬ ‫ّ‬
‫علي عمال أوجب قطعها‪ .‬وقيل‪ :‬إهنا سقطت من برد شديد أصابه يف بعض أسفاره ببعض‬ ‫ّ‬
‫بالد خوارزم‪.‬‬
‫الكشاف‪ ،‬فل ّقب جار هللا تعاىل‪ ،‬جلواره بيت هللا‬
‫أقام مبكة سنني وفيها أمتّ تفسريه ّ‬
‫احلرام‪.‬‬
‫(الكشاف) يف التفسري‪ ،‬و (الفائق) يف غريب احلديث‪ ،‬و‬ ‫ّ‬ ‫صنّف كثريا من الكتب‪ ،‬منها‪:‬‬
‫(املفصل) يف النحو‪ ،‬و (املستقصى) يف األمثال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(أساس البالغة) و‬

‫‪ - 2‬طريقته يف التفسري‪:‬‬
‫يع ّد (الكشاف) من كتب التفسري ابلرأي‪ -‬مع احنراف إىل االعتزال‪ -‬ويعتمد يف‬
‫تفسريه على لغة العرب وأساليبهم‪ ،‬ويعىن عناية خاصة بعلوم البالغة‪ُ ،‬تقيقا لوجوه إعجاز‬
‫ويؤول آايت التوحيد مبا يوافق طريقة االعتزال اليت انزلق إليها‪.‬‬
‫القرآن الكري‪ّ ،‬‬

‫‪52‬‬
‫‪ - 3‬خصائص تفسريه‪:‬‬
‫خلوه من احلشو والتطويل‪ ،‬وسالمته من القصص واإلسرائيليات الباطلة‪.‬‬ ‫أ‪ّ -‬‬
‫ب‪ -‬اعتماده يف بيان املعاين على لغة العرب وأساليبهم يف البيان‪.‬‬
‫ج‪ -‬سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال واجلواب‪.‬‬

‫‪ - 4‬وفاته‪:‬‬
‫وحني أمتّ إحدى وسبعني سنة من عمره‪ ،‬وبعد عودته من مكة املكرمة‪ ،‬تويف جبرجانية خوارزم‬
‫سنة (‪ 538‬ه )‪.‬‬

‫‪ - 3‬الرازي ‪ 606 - 544‬هـ‬


‫‪ - 1‬التعريف به‪:‬‬
‫هو أبو عبد هللا حممد بن عمر بن احلسني الطربستاين األصل‪ُ ،‬ث الرازي ابن خطيبها‪،‬‬
‫من ذرية أيب بكر الصديق‪ ،‬رضي هللا تعاىل عنه‪ ،‬ولد يف اخلامس والعشرين من رمضان سنة‬
‫الري‪ ،‬اشتغل أوال على والده ضياء الدين عمر‪ُ ،‬ث على الكمال السمناين‪،‬‬ ‫(‪ 544‬ه ) مبدينة ّ‬
‫وعلى اجملد اجليلي‪ ،‬وغريهم‪ ،‬وأتقن علوما كثرية وبرز فيها‪ ،‬وتق ّدم وساد‪ ،‬وقصده الطلبة من‬
‫سائر البالد‪.‬‬
‫كان واعظا له يف الوعظ اليد البيضاء‪ ،‬وكان يلحقه الوجد يف حال الوعظ ويكثر‬
‫البكاء‪ ،‬وكان حيضر مبجلسه مبدينة هراة أرابب املذاهب واملقاالت ويسألونه‪ ،‬وهو جييب كل‬
‫سائل أبحسن إجابة‪ ،‬ورجع بسببه خلق كثري من الطائفة الكرامية وغريهم إىل مذهب أهل‬
‫السنة‪ ،‬فكان يل ّقب هبراة شيخ اإلسالم‪.‬‬
‫ّ‬
‫املفسر املتكلم إمام وقته يف العلوم العقلية‪ ،‬وأحد األئمة يف العلوم‬
‫قال الداودي فيه‪ّ :‬‬
‫الشرعية‪ ،‬صاحب املصنفات املشهورة‪ ،‬والفضائل الغزيرة املذكورة‪ ،‬وأحد املبعوثني على رأس‬
‫املائة السادسة لتجديد الدين‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫وتصانيفه كثرية يف فنون عديدة‪ ،‬منها (التفسري الكبري) و (األربعني يف أصول الدين)‬
‫و (احملصل) و (البيان والتبيني) يف الرد على أهل الزيغ والطغيان‪ ،‬وشرح أمساء هللا احلسىن‪،‬‬
‫وشرح املفصل للزخمشري‪ ،‬ومناقب اإلمام الشافعي‪.‬وغريها‪ ،‬وكل كتبه مفيدة‪.‬‬

‫‪ - 2‬طريقته يف التفسري‪:‬‬
‫يع ّد تفسريه (مفاتيح الغيب) من أعظم تفاسري الرأي وأوسعها‪ ،‬يعىن بربط اآلايت‬
‫والسور بعضها ببعض‪ ،‬ويعىن ابللغة والبيان‪ ،‬ومسائل الفقه‪ ،‬ومييل فيها إىل ترجيح مذهب‬
‫لكن أعظم عنايته مبسائل الكالم واحلكمة‪ ،‬فهو فيها الفارس‬
‫إمامه الشافعي رمحه هللا تعاىل‪ ،‬و ّ‬
‫اجمللّى والعلم الفرد‪ ،‬ويعىن أحياان بنقل أقوال الصحابة والتابعني لتفسري الكلمات‪ ،‬وبيان املراد‬
‫من اآلايت‪.‬‬

‫‪ - 3‬خصائص تفسريه‪:‬‬
‫أ‪ -‬العناية بتفسري الصحابة والتابعني لآلايت أحياان‪.‬‬
‫ب‪ -‬ذكر ما يناسب اآلايت من املوضوعات‪ .‬يقول‪ :‬وهاهنا مسائل‪ُ ،‬ث يوردها مسألة مسألة‪،‬‬
‫وإن كان مثّة اعرتاضات أوردها ُث أجاب عليها‪.‬‬
‫ج‪ -‬العناية بعلوم اللغة من معاين املفردات والبالغة إبجياز كاف‪.‬‬
‫د‪ -‬االقتصاد يف ذكر اإلسرائيليات واحلشو من التفسري‪.‬‬
‫ه ‪ -‬العناية بربط اآلايت والسور بعضها ببعض‪ ،‬وقد ال خيلو األمر يف هذا من التكلف‬
‫أحياان‪.‬‬
‫‪ - 4‬وفاته‪:‬‬
‫كان قد رزق سعادة يف مؤلفاته‪ ،‬وسعادة يف تالمذته‪ ،‬وكان إذا ركب ميشي حوله حنو‬
‫ثالمثائة تلميذ من الفقهاء وغريهم‪.‬تويف رمحه هللا تعاىل مبدينة هراة يوم االثنني يوم عيد الفطر‬
‫سنة (‪ 606‬ه )‪ .‬رمحه هللا تعاىل‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫‪ - 4‬القرطيب املتوىف سنة ‪ 671‬هـ‬
‫‪ - 1‬التعريف به‪:‬‬
‫هو أبو عبد هللا حممد بن أمحد األنصاري اخلزرجي املالكي األندلسي القرطيب‪ ،‬مسع‬
‫من ابن رواج‪ ،‬ومن ابن اجلميزي‪ ،‬وأيب العباس القرطيب شارح صحيح مسلم وغريهم‪ .‬قال‬
‫الداودي‪:‬‬
‫كان من عباد هللا الصاحلني‪ ،‬والعلماء العارفني الورعني الزاهدين يف الدنيا‪ ،‬املشغولني‬
‫توجه وعبادة وتصنيف‪ ،‬مجع يف تفسري‬ ‫مبا يعنيهم من أمور اآلخرة‪ ،‬أوقاته معمورة ما بني ّ‬
‫القرآن الكري كتااب كبريا يف مخسة عشر جملدا مسّاه كتاب «جامع أحكام القرآن واملبني ملا‬
‫أجل التفاسري وأعظمها نفعا‪ ،‬أسقط منه القصص‬ ‫تضمنه من السنة وآي القرآن» وهو من ّ‬
‫والتواريخ‪ ،‬وأثبت عوضها أحكام القرآن‪ ،‬واستنباط األدلة‪ ،‬وذكر القراءات واإلعراب والناسخ‬
‫واملنسوخ‪ ،‬وله شرح األمساء احلسىن يف كتاب يقع يف جملدين مسّاه (الكتاب األسىن يف شرح‬
‫أمساء هللا احلسىن) وكتاب (التذكار يف أفضل األذكار) وضعه على طريقة (البيان) للنووي‪،‬‬
‫لكن هذا أمت منه وأكثر علما‪ ،‬وكتاب (التذكرة يف أحوال املوتى وأمور اآلخرة)‪.‬‬
‫تدل على إمامته‪،‬‬‫متبحر يف العلم‪ ،‬له تصانيف مفيدة ّ‬ ‫وقال الذهيب عنه‪ :‬إمام متقن ّ‬
‫وكثرة اطالعه‪ ،‬ووفور فضله‪.‬‬

‫‪ - 2‬طريقته يف التفسري‪:‬‬
‫أجل كتب التفسري اليت وصلت إلينا وأفضلها‪ ،‬مجع فيه تفسري القرآن‬‫يع ّد تفسريه من ّ‬
‫ابلسنة‪ُ ،‬ث أقوال الصحابة والتابعني‪ ،‬وأقوال العلماء واستنباطهم ملا تدل‬
‫ابلقرآن‪ُ ،‬ث تفسريه ّ‬
‫عليه اآلايت‪ ،‬وعرض ملسائل الفقه ببيان مشرق‪ ،‬وينسب إىل كل فقيه رأيه‪ ،‬ويذكر حجته‪،‬‬
‫يرجح رأاي من آراء من نقل عنهم‪ ،‬إىل جانب ّتريج األحاديث والعناية ابلقراءات‬ ‫وقد ّ‬
‫واللغات واإلعراب‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫‪ - 3‬خصائص تفسريه‪:‬‬
‫قال رمحه هللا تعاىل‪ :‬وشرطي يف هذا الكتاب‪ ،‬إضافة األقوال إىل قائليها‪ ،‬واألحاديث‬
‫إىل مصنفيها‪ ،‬فإنه يقال‪ :‬من بركة العلم أن يضاف القول إىل قائله‪ ،‬وكثريا ما جييء احلديث‬
‫يف كتب الفقه والتفسري مبهما ال يعرف من أخرجه إال من اطلع على كتب احلديث‪ ،‬فيبقى‬
‫من ال خربة له بذلك حائرا ال يعرف الصحيح من السقيم‪ ،‬فال يقبل منه االحتجاج به وال‬
‫خرجه من األئمة األعالم‪ ،‬والثقات املشاهري من علماء‬ ‫االستدالل حىت يضيفه إىل من ّ‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫وأضرب عن كثري من قصص املفسرين وأخبار املؤرخني إال ما ال ب ّد منه وال غىن عنه‬
‫للتبيني‪ ،‬واعتاض عن ذلك بتبيني آي األحكام مبسائل تسفر عن معناها‪ ،‬وترشد الطالب إىل‬
‫كل آية‪ -‬تتضمن حكما أو حكمني فما زاد‪ -‬مسائل تبني فيها ما ُتتوي‬ ‫فضمت ّ‬
‫مقتضاها‪ّ ،‬‬
‫عليه من أسباب النزول والتفسري للغريب‪ ،‬واحلكم‪ ،‬فإن مل تتضمن حكما ذكر ما فيها من‬
‫التفسري والتأويل‪ ،‬وهكذا إىل آخر الكتاب‪.‬‬
‫‪ - 4‬وفاته‪:‬‬
‫كان طارح التكلّف ميشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقيّة‪ .‬وكان مستقرا مبنية بين‬
‫خضيب من الصعيد األدىن‪ ،‬وفيها تويف ليلة االثنني التاسع من شوال سنة إحدى وسبعني‬
‫وستمائة رمحه هللا تعاىل‪.‬‬

‫‪ - 5‬إمساعيل بن كثري ‪ 774 - 701‬هـ‬


‫‪ - 1‬التعريف به‪:‬‬
‫هو أبو الفداء إمساعيل بن عمر بن كثري البصروي الدمشقي‪.‬‬
‫ولد بقرية شرقي بصرى سنة ‪ 701‬ه ‪ُ ،‬ث قدم دمشق وله حنو سبع سنني مع أخيه بعد موت‬
‫وتزوج ابنته‪ ،‬وأقبل على علم احلديث‪،‬‬
‫املزي‪ّ ،‬‬
‫أبيه‪ ،‬وتتلمذ لكثري من العلماء منهم‪ :‬احلافظ ّ‬
‫وأخذ الكثري عن ابن تيمية‪ .‬وقال ابن حبيب فيه‪:‬‬
‫‪56‬‬
‫إمام ذوي التسبيح والتهليل‪ ،‬وزعيم أرابب التأويل‪ -‬التفسري‪ -‬مسع ومجع وصنّف‪،‬‬
‫وأطرب األمساع أبقواله وشنّف‪ ،‬وح ّدث وأفاد‪ ،‬وطارت أوراق فتاويه إىل البالد‪ ،‬واشتهر‬
‫ابلضبط والتحرير‪ ،‬وانتهت إليه رائسة العلم يف التاريخ واحلديث والتفسري‪.‬‬
‫ومفسر ن ّقاد‪.‬‬
‫قال فيه شيخه اإلمام الذهيب (يف املعجم)‪ :‬فقيه متفنّن‪ ،‬وحم ّدث متقن‪ّ ،‬‬
‫املسمى ب «البداية والنهاية»‬
‫صنّف يف صغره كتاب «األحكام على أبواب التنبيه» والتاريخ ّ‬
‫للمزي‪ ،‬وأضاف إليه ما أتخر يف «امليزان» ومسّاه‬ ‫والتفسري‪ ،‬واختصر (هتذيب الكمال) ّ‬
‫«التكميل» وغريها ‪.‬‬
‫‪ - 2‬طريقته يف التفسري‪:‬‬
‫يفسر القرآن الكري بعبارة سهلة وجيزة‪ ،‬وجيمع آايت املوضوع الواحد‪ ،‬وهو يستعني‬ ‫ّ‬
‫على تفسري القرآن ابلقرآن أوال‪ُ ،‬ث يسرد األحاديث املتعلّقة ابآلية منسوبة إىل خمرجيها‪ ،‬وبيان‬
‫درجة كل حديث غالبا‪ -‬إال ما كان يف الصحيحني فال يذكر له درجة ألنه صحيح كله‪ُ -‬ث‬
‫يفسر كلمات اآلايت إال أثناء التفسري‪.‬‬ ‫وقل أن ّ‬
‫يورد أقوال الصحابة‪ ،‬والتابعني أحياان‪ّ ،‬‬
‫‪ - 3‬خصائص تفسريه‪:‬‬
‫أ‪ -‬ال يعىن بتفسري الكلمات مستقلة كما يفعل اإلمام الطربي‪ ،‬بل يذكرها مفسرة أثناء‬
‫تفسريه‪.‬‬
‫ب‪ -‬ال يعرض للقراءات املختلفة أثناء التفسري كذلك‪.‬‬
‫ابلسنة‪ ،‬وأقوال الصحابة والتابعني‪ ،‬وال يستعني أبقوال علماء‬
‫يفسر القرآن ابلقرآن‪ُ ،‬ث ّ‬‫ج‪ّ -‬‬
‫العربية يف تفسريه‪.‬‬
‫د‪ -‬ينسب اآلايت‪ -‬أثناء تفسريه‪ -‬إىل سورها‪ ،‬واألحاديث إىل خمرجيها‪ ،‬ويشري إىل ما كان‬
‫ضعيفا أو منكرا منها‪.‬‬
‫ه ‪ -‬ال يكاد يعرض لإلسرائيليات أثناء تفسريه‪ ،‬فضال عن االستدالل هبا‪ ،‬وتلك مزية له‪.‬‬
‫ويرجح بعض األقوال على بعض أحياان‪ ،‬وقد يعرض لبعض اخلالفات الفقهية إبجياز‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪57‬‬
‫‪ - 4‬وفاته‪:‬‬
‫حجي‪ ... :‬وما أعرف أين اجتمعت به على كثرة‬‫قال فيه تلميذه شهاب الدين بن ّ‬
‫ترددي إليه إال واستفدت منه‪.‬‬
‫وتويف بدمشق يف مخس من شعبان (‪ 772‬ه )‪ ،‬ودفن‬ ‫كف بصره آخر عمره‪ّ ،‬‬ ‫وقد ّ‬
‫الصوفية عند شيخه ابن تيمية‪ ،‬رمحه هللا تعاىل‪.‬‬
‫مبقربة ّ‬

‫‪58‬‬
‫نصوص تطبيقية ونشاطات تعليمية‬

‫‪ .1‬أسباب النزول‪.‬‬
‫‪ .2‬احملكم واملتشابه‪.‬‬
‫‪ .3‬الناسخ واملنسوخ‬
‫‪ .4‬من قصص القرآن‬
‫‪ .5‬من أقسام القرآن‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫أوال‪ -‬أسباب النزول حتويل القبلة‬
‫متهيد‪:‬‬
‫كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم أمر ابستقبال الصخرة من بيت املقدس‪ ،‬فكان‬
‫مبكة يصلّي بني الركنني‪ ،‬فتكون بني يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت املقدس‪ ،‬فلما‬
‫استمر األمر على‬ ‫هاجر إىل املدينة تع ّذر اجلمع بينهما‪ ،‬فأمره هللا ابلتوجه إىل بيت املقدس‪ ،‬و ّ‬
‫يوجه إىل‬ ‫ذلك بضعة عشر شهرا‪ ،‬وكان صلّى هللا عليه وسلّم يكثر الدعاء واالبتهال أن ّ‬
‫ابلتوجه إىل البيت‬ ‫ّ‬ ‫الكعبة‪ ،‬اليت هي قبلة إبراهيم‪ -‬عليه السالم‪ -‬فأجيب إىل ذلك‪ ،‬وأمر‬
‫العتيق‪.‬‬
‫َّاس ما َوَّال ُه ْم َع ْن قِْب لَتِ ِه ُم الَِّيت كانُوا َعلَْيها قُ ْل‬ ‫الس َفهاءُ ِم َن الن ِ‬ ‫ول ُّ‬ ‫قال هللا تعاىل‪َ :‬سيَ ُق ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّلل الْم ْش ِر ُق والْم ْغ ِرب ي ه ِدي من يشاء إِىل ِصر ٍ‬ ‫ِِ‬
‫ك َج َع ْلنا ُك ْم أ َُّم ًة‬ ‫اط ُم ْستَقي ٍم (‪َ )142‬وَكذل َ‬ ‫َ َ ُ َْ َ ْ َ ُ‬ ‫َّ َ‬
‫ِ‬ ‫َو َسطاً لِتَ ُكونُوا ُش َهداءَ َعلَى الن ِ‬
‫ت‬ ‫ول َعلَْي ُك ْم َش ِهيداً َوما َج َع ْلنَا الْقْب لَ َة الَِّيت ُكْن َ‬ ‫الر ُس ُ‬
‫َّاس َويَ ُكو َن َّ‬
‫ين‬ ‫ول ِممَّن ي ْن َقلِب على ع ِقب ي ِه وإِ ْن كانَت لَ َكبِريًة إَِّال علَى الَّ ِ‬
‫ذ‬ ‫َعلَْيها إَِّال لِنَ ْعلَ َم َم ْن يَتَّبِ ُع َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الر ُس َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ‬
‫ف َرِح ٌيم (‪)143‬‬ ‫َّاس لََرُؤ ٌ‬ ‫يع إِميانَ ُك ْم إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ ِابلن ِ‬ ‫اَّلل وما كا َن َّ ِ ِ‬
‫اَّللُ ليُض َ‬ ‫َه َدى َُّ َ‬
‫ك َشطَْر الْ َم ْس ِج ِد‬ ‫الس ِ‬
‫ماء فَلَن ولِّي ن ِ‬
‫َّك قْب لَ ًة تَ ْرضاها فَ َوِّل َو ْج َه َ‬‫َُ َ َ‬ ‫ك ِيف َّ‬ ‫ب َو ْج ِه َ‬ ‫قَ ْد نَرى تَ َقلُّ َ‬
‫احلَ ُّق ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫تاب لَيَ ْعلَ ُمو َن أَنَّهُ ْ‬
‫ين أُوتُوا الْك َ‬ ‫وه ُك ْم َشطَْرهُ َوإ َّن الذ َ‬ ‫ث ما ُكْن تُ ْم فَ َولُّوا ُو ُج َ‬ ‫احلَرِام َو َحْي ُ‬‫ْ‬
‫اَّللُ بِغافِ ٍل َع َّما يَ ْع َملُو َن [البقرة‪.]144 - 142 :‬‬ ‫َرّهبِِ ْم َوَما َّ‬

‫‪ - 1‬شرح املفردات‪:‬‬
‫السفه‪ :‬اخلفة والطيش‪ .‬واملراد هبم‬
‫املستخف ابحلق‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬ ‫السفهاء»‪ :‬مجع سفيه‪ ،‬وهو اجلاهل‬ ‫« ّ‬
‫يف اآلية‪ :‬املنكرون ُتويل القبلة من اليهود واملنافقني واملشركني‪.‬‬
‫«ما ّوالهم»‪ :‬ما صرفهم‪« .‬عن قبلتهم»‪ :‬عن بيت املقدس‪.‬‬
‫«وسطا»‪ :‬عدوال خيارا‪.‬‬
‫املشرفة‪.‬‬
‫«ينقلب على عقبيه»‪ :‬يرتد عن اإلسالم عند ُتويل القبلة إىل الكعبة ّ‬
‫‪60‬‬
‫«لكبرية»‪ :‬لشاقّة وثقيلة على النفوس‪.‬‬
‫توجهكم إىل بيت املقدس‪ ،‬بل يقبله هللا منكم‪.‬‬ ‫«ليضيع إميانكم»‪ :‬صالتكم فرتة ّ‬
‫وتردده املرة بعد املرة‪ ،‬طلبا للوحي‪ ،‬والتجاء إىل هللا تعاىل‪.‬‬
‫ُتوله ّ‬
‫«تقلّب وجهك»‪ّ :‬‬
‫«فول»‪:‬‬
‫«فلنولّينك»‪ :‬لنوجهنّك ولنمكننّك من استقباهلا‪« .‬ترضاها»‪ُ :‬تبّها ومتيل إليها‪ّ .‬‬
‫اصرف‪« .‬شطر املسجد احلرام»‪ :‬انحيته وتلقاءه‪.‬‬

‫‪ - 2‬املعىن اإلمجال‪:‬‬
‫*يف اآلية األوىل ‪:‬خيرب هللا تعاىل مبا سيقوله السفهاء من اليهود وغريهم قبل أن يقولوه‪،‬‬
‫وحكمة هذا اإلخبار ّتفيف أثره على نفوس املؤمنني‪ ،‬بعد أن يفقد حقدهم ونقدهم عنصر‬
‫يردون عليهم‬
‫املفاجأة‪ ،‬فال تضطرب له نفوس املؤمنني وال تقيم له وزان‪ ،‬كما علمهم هللا كيف ّ‬
‫أبن هلل املشرق واملغرب‪ ،‬وأن ال اعرتاض على أحكام هللا‪ ،‬وهو يهدي من يشاء إىل صراط‬
‫مستقيم‪.‬‬

‫وجل أنه جعل هذه األمة خيارا عدوال‪ ،‬وكما هداهم إىل‬
‫عز ّ‬‫*ويف اآلية الثانية‪ :‬خيرب هللا ّ‬
‫أفضل قبلة جعلهم أفضل أمة وأعدل أمة‪ ،‬يشهدون على األمم يوم القيامة‪ ،‬ويشهد عليهم‬
‫رسوهلم صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬

‫*ويف اآلية الثالثة‪ :‬يعلم هللا رسوله‪ ،‬أنه كان يراه وهو يقلّب وجهه يف السماء انتظارا لوحي‬
‫السماء أيمره بتحويل القبلة‪ ،‬فتتحقق رغبة يف خمالفة يهود‪ ،‬وحمبته لقبلة أبيه إبراهيم‪ .‬والذين‬
‫أوتوا الكتاب يعلمون أن هذا حق‪ ،‬وهللا سبحانه مطلع على سرائرهم وعالنيتهم‪.‬‬
‫‪ - 3‬سبب النزول وأمهيته يف تفسري اآلايت‪:‬‬

‫‪61‬‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم صلّى إىل بيت املقدس ستة عشر‬ ‫‪ - 1‬عن الرباء رضي هللا عنه؛ أ ّن ّ‬
‫شهرا أو سبعة عشر شهرا‪ ،‬وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت‪ ،‬وأنه صلّى صالة العصر‪،‬‬
‫فمر على أهل املسجد وهم راكعون‪ .‬قال‪:‬‬ ‫وصلّى معه قوم‪ ،‬فخرج رجل ممن كان صلّى معه‪ّ ،‬‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم قبل م ّكة‪ ،‬فداروا كما هم قبل البيت‪،‬‬ ‫أشهد ابهلل لقد صلّيت مع ّ‬
‫ُتول قبل البيت رجال قتلوا‪ ،‬فلم ندر ما نقول فيهم‪،‬‬ ‫وكان الذي مات على القبلة قبل أن ّ‬
‫ف َرِح ٌيم ‪.‬‬ ‫يع إِميانَ ُك ْم إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ ِابلن ِ‬
‫َّاس لََرُؤ ٌ‬ ‫اَّلل لِي ِ‬
‫فأنزل هللا‪َ :‬وما كا َن َُّ ُ َ‬
‫ض‬

‫‪ - 2‬وعنه رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم صلّى حنو بيت املقدس‬
‫يوجه‬
‫حيب أن ّ‬ ‫ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا‪ ،‬وكان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ّ‬
‫فتوجه حنو الكعبة‪ ،‬وقال‬ ‫إىل الكعبة‪ ،‬فأنزل هللا عز وجل‪ :‬قَ ْد نَرى تَ َقلُّب وج ِهك ِيف َّ ِ‬
‫السماء ّ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫ّ ّ‬
‫ِِ‬
‫السفهاء من الناس وهم اليهود‪ :‬ما ّوالهم عن قبلتهم اليت كانوا عليها‪ :‬قُ ْل ََّّلل الْ َم ْش ِر ُق َوالْ َم ْغ ِر ُ‬
‫ب‬ ‫ّ‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم رجل‪ُ ،‬ث خرج بعد‬ ‫مع‬ ‫ى‬‫ل‬
‫ّ‬ ‫فص‬ ‫اط ُم ْستَ ِقي ٍ‬
‫م‬ ‫ي ه ِدي من يشاء إِىل ِصر ٍ‬
‫ّ‬ ‫َْ َ ْ َ ُ‬
‫فمر على قوم من األنصار يف صالة العصر حنو بيت املقدس‪ ،‬فقال‪ :‬هو يشهد‬ ‫ما صلّى‪ّ ،‬‬
‫فتحرف القوم حىت‬ ‫توجه حنو الكعبة‪ّ ،‬‬ ‫أنه صلّى مع رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم وأنّه ّ‬
‫توجهوا حنو الكعبة ‪.‬‬
‫ّ‬
‫صان من صحيح البخاري يعينان على فهم اآلايت املتق ّدمة من سورة البقرة‪ ،‬ومينعان‬ ‫وهذان النّ ّ‬
‫أي إشكال أو لبس يف تفسريها‪.‬‬ ‫وجود ّ‬

‫‪62‬‬
‫‪ - 4‬األحكام الشرعية‪ ،‬والتوجيهات املستفادة‪:‬‬
‫األحكام الشرعية‪:‬‬ ‫‪.1‬‬
‫‪ - 1‬جواز النسخ‪ ،‬وهو إمجاع األمة‪ ،‬وقد أمجع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ‪.‬‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم صلّى إىل بيت املقدس‪،‬‬ ‫وجواز نسخ السنة ابلقرآن‪ ،‬وذلك أن ّ‬
‫وليس يف ذلك قرآن‪ ،‬فلم يكن احلكم إال ابلسنة الفعلية‪ُ ،‬ث نسخ ذلك ابلقرآن‪.‬‬
‫النيب صلّى هللا‬
‫السلف‪ ،‬معلوم ابلتواتر من عادة ّ‬ ‫‪ - 2‬قبول خرب الواحد‪ ،‬وهو جممع عليه من ّ‬
‫عليه وسلّم يف توجيهه والته ورسله آحادا إىل اآلفاق‪ ،‬ليعلّموا النّاس دينهم‪.‬‬
‫‪ - 3‬فضل هذه األمة املسلمة على غريها من األمم؛ حيث قبلت شهادهتم على من كان‬
‫قبلهم من األمم‪.‬‬
‫ك َشطَْر الْ َم ْس ِج ِد ْ‬
‫احلَرِام الكعبة‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫‪ - 4‬املراد ابملسجد احلرام يف قوله تعاىل‪ :‬فَ َوِّل َو ْج َه َ‬
‫فول وجهك يف الصالة جهة الكعبة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪ - 5‬استقبال القبلة فرض من فروض الصالة‪ ،‬وال بد منه يف صحة الصالة؛‬
‫إال ما جاء يف اخلوف والفزع‪ ،‬ويف صالة النافلة على ال ّدابّة أو السفينة؛ فإن القبلة يف صالة‬
‫توجهت به‪.‬‬ ‫اخلوف جهة أمنه‪ ،‬ويف صالة النافلة على الدابة حيث ّ‬
‫وأمجع العلماء على أ ّن املشاهد للكعبة ال جيزيه إال إصابة عني الكعبة يف صالته‪.‬‬
‫وأما غري املشاهد للكعبة‪ ،‬فذهب الشافعية واحلنابلة إىل أن الواجب قصد اإلصابة مع‬
‫التوجه إىل اجلهة‪.‬‬
‫وذهب احلنفية واملالكية إىل أن الواجب استقبال جهة الكعبة ‪.‬‬
‫رجح القرطيب يف تفسريه ما ذهب إليه احلنفية واملالكية‪ ،‬فقال‪:‬واختلفوا هل فرض‬ ‫وقد ّ‬
‫الغائب استقبال العني‪ ،‬أو اجلهة‪ ،‬فمنهم من قال ابألول‪ .‬قال ابن العريب‪ :‬وهو ضعيف ألنه‬
‫تكليف ما ال يوصل إليه‪ ،‬ومنهم من قال ابجلهة‪ ،‬وهو الصحيح لثالثة أوجه‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنه املمكن الذي يرتبط به التكليف‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ك َشطَْر الْ َم ْس ِج ِد ْ‬
‫احلَرِام يعين من‬ ‫الثاين‪ :‬أنه املأمور به يف القرآن لقوله تعاىل‪ :‬فَ َوِّل‬
‫َو ْج َه َ‬
‫األرض من شرق أو غرب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن العلماء احتجوا ابلصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت»‬

‫ب‪ -‬التوجيهات املستفادة‪:‬‬


‫‪ - 1‬توطني نفس الرسول صلّى هللا عليه وسلّم واملؤمنني به؛ حىت ال يضرهم قول السفهاء‪،‬‬
‫وهم يعرتضون على ُتويل القبلة‪.‬‬
‫الرد على املعرتضني من اليهود واملشركني واملضطربني من املنافقني‪ ،‬عند ُتويل القبلة‪،‬‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫فثم وجه هللا‪ ،‬وهو سبحانه‬
‫وبيان أن اجلهات كلها ملك هلل‪ ،‬وحيثما اجته املسلمون يف صالهتم ّ‬
‫احلق‪ ،‬ويوفقهم إىل اخلري يف مجيع أحواهلم وأحياهنم‪.‬‬
‫يهديهم إىل ّ‬
‫‪ - 3‬خري األمور أوسطها‪ ،‬واملسلمون ميتازون ابلتوسط يف الدين‪ ،‬والتوسط بني األمم‪ ،‬وقبلتهم‬
‫سرة األرض ووسطها‪.‬‬ ‫يف ّ‬
‫‪ - 4‬فضل األمة املسلمة؛ اختارها هللا للشهادة على الناس يف الدنيا‪ ،‬وإلقامة احلجة على‬
‫األمم يوم القيامة‪.‬‬

‫‪ - 5‬علوم القرآن يف اآلايت‪:‬‬


‫‪ - 1‬لآلايت سبب صحيح لنزوهلا‪ ،‬وقد ذكرانه قريبا‪ ،‬وأن املطّلع عليه يفهم اآلايت فهما‬
‫صحيحا‪ ،‬ويعيش األجواء التارخيية للنص‪ ،‬والوقع العظيم لألمر اإلهلي بتحويل القبلة‪ ،‬يف‬
‫نفوس املؤمنني‪ ،‬والشانئني من أعداء اإلسالم واملسلمني‪.‬‬

‫‪ - 2‬اآلايت من سورة البقرة‪ ،‬وهي مدنية ابإلمجاع‪ ،‬أي نزلت بعد اهلجرة‪ ،‬وحادثة ُتويل‬
‫القبلة وقعت ابملدينة بعد ستة عشر أو سبعة عشر شهرا من مهاجره صلّى هللا عليه وسلّم‪،‬‬

‫‪64‬‬
‫كما أن اآلايت صرحية يف الكشف عن جدال أهل الكتاب‪ ،‬واعرتاضات املشركني واملنافقني‪.‬‬
‫تقرر أحكاما تشريعية وتعبدية‪ ،‬وكل ذلك من خصائص القرآن املدين كما تقدم‪.‬‬ ‫وهي ّ‬
‫ف على وزن فعول‪.‬‬ ‫ف َرِح ٌيم ابملد واهلمز يف لََرُؤ ٌ‬ ‫‪ - 3‬القراءات‪ :‬قرأ اجلمهور إِ َّن َّ‬
‫اَّللَ ِابلن ِ‬
‫َّاس لََرُؤ ٌ‬
‫وقرأ الكوفيون وأبو عمرو لرؤف على وزن (فعل) وهي لغة بين أسد‪ ،‬ومنه قول الوليد بن‬
‫الرؤف الرحيم‪.‬‬ ‫عمه ّ‬‫وشر الطّالبني فال تكنه ‪ ...‬يقاتل ّ‬ ‫عقبة‪ّ :‬‬
‫اَّللُ بِغافِ ٍل َع َّما يَ ْع َملُو َن ابلياء يف يعملون‪ ،‬فيكون خطااب ووعيدا‬ ‫وقرأ اجلمهور‪َ :‬وَما َّ‬
‫ألهل الكتاب‪ ،‬وقرأ ابن عامر ومحزة والكسائي عما تعملون ابلتاء‪ ،‬فيكون خطااب ووعيدا‬
‫ألهل الكتاب أو أمة حممد صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬

‫التوجه إىل الكعبة يف‬


‫‪ - 4‬اآلايت حمكمة واضحة‪ ،‬ال خفاء فيها‪ ،‬وتظهر بوضوح اتم حكم ّ‬
‫الصالة‪ ،‬وموقف أهل الضالل من اليهود واملشركني واملنافقني من إحكام األمر‪ ،‬وُتويل التوجه‬
‫من بيت املقدس إىل البيت العتيق‪ ،‬فاآلايت الثالثة حمكمة كلها‪ ،‬وليست من املتشابه يف‬
‫شيء‪.‬‬

‫‪ - 5‬يف اآلايت دليل على وقوع النسخ يف األحكام‪ ،‬وقد ذكران إمجاع العلماء على أن القبلة‬
‫صحح ذلك ابن عبد الرب‪ .‬وقد‬ ‫أول ما نسخ من القرآن‪ ،‬وأهنا نسخت مرة واحدة‪ ،‬كما ّ‬
‫استقر احلكم بعد سبعة عشر شهرا من مهاجره صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬أي‪ :‬بدءا من أول‬
‫الربع الثاين من السنة الثانية للهجرة النبوية‪.‬‬

‫‪ - 6‬أما اإلعجاز يف اآلايت فظاهر كما هو يف مجيع سور القرآن‪ ،‬ومن الصور البالغية يف‬
‫اآلايت الثالثة‪:‬‬
‫ب َعلى َع ِقبَ ْي ِه استعارة متثيلية‪ ،‬إذ مثّل هللا تعاىل من يرتد عن دينه مبن ينقلب على‬‫َ ُ‬
‫‪-‬ي ْن َقلِ‬
‫عقبيه‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫ف َرِح ٌيم من صيغ املبالغة‪ ،‬والرأفة شدة الرمحة‪ ،‬وق ّدم األبلغ مراعاة للفاصلة‪ ،‬وهي امليم‬ ‫‪-‬لََرُؤ ٌ‬
‫اط ُم ْستَ ِقي ٍم‪.‬‬
‫يف قوله ِصر ٍ‬
‫ك أطلق الوجه وأريد به الذات‪ ،‬من قبيل اجملاز املرسل‪ ،‬من ابب إطالق اجلزء‬ ‫‪-‬فَ َوِّل َو ْج َه َ‬
‫وإرادة الكل‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫اثنيا‪ -‬احملكم واملتشابه القرآن وصفات من أنزله‬
‫متهيد‪:‬‬
‫يبدأ هللا تعاىل هذه السورة الكرمية حبرفني من حروف اهلجاء‪ ،‬للتح ّدي واإلعجاز‪ُ ،‬ث‬
‫وجل‬
‫عز ّ‬ ‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وأنّه رسول مهمته البالغ‪ ،‬وهللا ّ‬ ‫يبني سبحانه موقف ّ‬ ‫ّ‬
‫بصفاته اجلليلة وأمسائه احلسىن لن يتخلّى عنه‪ ،‬بل سيحيطه برعايته وحفظه‪ ،‬وهي سنته‬
‫سبحانه وتعاىل يف الدفاع عن رسله‪ ،‬ومن تبعهم من املؤمنني‪.‬‬
‫ك الْ ُق ْرآ َن لِتَ ْشقى (‪ )2‬إَِّال تَ ْذكَِرةً لِ َم ْن َخيْشى (‪ )3‬تَْن ِز ًيال‬
‫قال هللا تعاىل‪ :‬طه (‪ )1‬ما أَنْ َزلْنا َعلَْي َ‬
‫السماو ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫استَوى (‪ )5‬لَهُ ما ِيف َّ‬ ‫الر ْمح ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬
‫ات الْعُلى (‪َّ )4‬‬ ‫ض َو َّ‬ ‫مم َّْن َخلَ َق ْاأل َْر َ‬
‫ض وما ب ي نَ هما وما َُْتت الثَّرى (‪ )6‬وإِ ْن َْجتهر ِابلْ َقوِل فَِإنَّه ي علَم ِ‬
‫َخفى (‪)7‬‬ ‫السَّر َوأ ْ‬
‫َ َْ ْ ُ َْ ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َوما ِيف ْاأل َْر ِ َ َْ ُ َ‬
‫احلُ ْسىن [طه‪.]8 - 1 :‬‬ ‫َمساءُ ْ‬ ‫اَّللُ ال إِلهَ إَِّال ُه َو لَهُ ْاأل ْ‬
‫َّ‬

‫‪ - 1‬شرح املفردات‪:‬‬
‫«طه»‪ :‬من احلروف املقطعة اليت أنزهلا هللا يف أوائل بعض سور القرآن للتحدي واإلعجاز‪.‬‬
‫«لتشقى»‪ :‬لتتعب‪ ،‬بفرط أتسفك على كفرهم‪ ،‬وُتسرك على عدم إمياهنم‪.‬‬
‫«تذكرة»‪ :‬تذكريا وعظة‪.‬‬
‫«استوى»‪ :‬عال وارتفع‪ ،‬وال يعلم البشر كيف ذلك‪ ،‬فاالستواء معلوم والكيف جمهول‪.‬‬
‫«ما ُتت الثرى»‪ :‬ما ُتت الرتاب من شيء‪.‬‬
‫«األمساء احلسىن»‪ :‬الفضلى‪ ،‬لداللتها على الكمال واجلالل‪ ،‬والتعظيم والتقديس‪.‬‬

‫‪ - 2‬املعىن اإلمجال‪:‬‬
‫إن الذي أنزل عليك هذا القرآن املرّكب من هذين احلرفني (طه) وأمثاهلما‪ ،‬والذي‬
‫التحسر‬
‫ّ‬ ‫عجز قومك عن اإلتيان بسورة من مثله‪ ،‬ما أنزله عليك اي حممد لتتعب وتنصب‪ ،‬يف‬
‫على عناد املشركني مبكة‪ ،‬أو يف املبالغة ابلقيام للعبادة والتهجد‪ ،‬وإمنا أنزلناه ليكون تذكريا‬
‫‪67‬‬
‫ملن خياف هللا تعاىل‪ ،‬فيقبل على طاعته وعبادته‪ ،‬متحمال التضحيات يف سبيل إميانه‪ ،‬وهو‬
‫كتاب منزل‪ ،‬يتنزل من عند إله خالق لألرضني والسموات‪ ،‬رمحن الدنيا واآلخرة‪ ،‬استوى‬
‫على عرشه استواء يليق جبنابه العظيم‪ ،‬ومالك ما يف السموات واألرض ومدبرهم‪ ،‬العليم‬
‫ابلسر واجلهر‪ ،‬ال إله يف الوجود غريه‪ ،‬وال معبود حبق سواه‪ ،‬له األمساء الفضلى اليت يعرفه‬
‫العباد هبا‪ ،‬ويعبدونه حق العبادة‪.‬‬

‫‪ - 3‬األحكام والتوجيهات املستفادة‪:‬‬


‫أ‪ -‬األحكام‪:‬‬
‫‪ - 1‬القرآن سبب السعادة ورفع املشقة‪ :‬مل ينزله هللا تعاىل للنّصب والشقاء وإمنا رمحة وتيسريا‬
‫يف الدنيا‪ ،‬ونورا ودليال إىل اجلنة يف اآلخرة‪ ،‬وقد أوضح اإلمام ابن جزي الكليب يف تفسريه‬
‫تورمت قدماه‪،‬‬‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم قام يف الصالة حىت ّ‬ ‫هذا املعىن‪ ،‬فقال‪« :‬قيل إن ّ‬
‫فنزلت اآلية ّتفيفا عنه‪ ،‬فالشقاء على هذا إفراط التعب يف العبادة‪ ،‬وقيل‪ :‬املراد به التأسف‬
‫على كفر الك ّفار‪ ،‬واللفظ عام يف ذلك كله‪ ،‬واملعىن أنه سبحانه نفى عنه مجيع أنواع الشقاء‬
‫يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬ألنه أنزل عليه القرآن الذي هو سبب السعادة»‬
‫‪ - 2‬استواء هللا على العرش‪ :‬من صفات هللا تعاىل اليت نؤمن هبا‪ ،‬من غري تكييف وال تشبيه‬
‫وال متثيل‪ ،‬وتكون السالمة يف التسليم‪ ،‬وقد سئل اإلمام مالك عن االستواء فقال‪ :‬االستواء‬
‫معلوم‪ ،‬والكيفية جمهولة‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪.‬‬
‫مسمى‬
‫‪ - 3‬األمساء احلسىن‪:‬هلل تعاىل األمساء اليت هي أحسن األمساء؛ لداللتها على أحسن ّ‬
‫وأشرف مدلول‪،‬وقد ثبت يف احلديث الصحيح‪« :‬إن هلل تسعة وتسعني امسا‪ ،‬مائة إال واحدا‪،‬‬
‫من أحصاها دخل اجلنة» ‪.‬‬
‫وقد ذكر احلافظ ابن حجر يف «تلخيص احلبري» أنه تتبعها من الكتاب العزيز إىل أن‬
‫حرر منه تسعة وتسعني امسا‪ُ ،‬ث سردها ‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫َمسائِِه َسيُ ْجَزْو َن‬
‫ين يُْل ِح ُدو َن ِيف أ ْ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال تعاىل‪ :‬وَِِّ‬
‫احلُ ْسىن فَ ْادعُوهُ هبا َو َذ ُروا الذ َ‬
‫َمساءُ ْ‬
‫َّلل ْاأل ْ‬ ‫َ‬
‫ما كانُوا يَ ْع َملُو َن [األعراف‪.]180 :‬‬
‫فاملؤمن احلق يدعو هللا تعاىل أبمسائه احلسىن من غري زايدة وال نقص وال تغيري وال‬
‫تبديل‪.‬‬

‫ب‪ -‬التوجيهات املستفادة‪:‬‬


‫‪ - 1‬القرآن سبب السعادة واهلداية‪ ،‬ورفع املشقة واحلرج‪.‬‬
‫‪ - 2‬إثبات نزول الوحي على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ابلقرآن‪ ،‬وتكليفه ابلبالغ املبني‬
‫جلميع الناس‪.‬‬
‫‪ - 3‬تقرير االستواء هلل تعاىل على عرشه من غري تكييف وال تشبيه وال أتويل‪.‬‬
‫عما كان يعرتيه من ُتدي املشركني وإصرارهم على‬ ‫‪ - 4‬تسلية الرسول صلّى هللا عليه وسلّم ّ‬
‫كفرهم‪.‬‬
‫‪ - 5‬عظيم اإلكرام وحسن املعاملة من هللا تعاىل لرسوله صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬
‫‪ - 6‬وصف السموات ابلعلى؛ داللة على عظيم قدرة من خيلق مثلها يف علوها وبعد مرتقاها‪.‬‬
‫رب كل شيء وخالق كل شيء‪ ،‬ال معبود حبق سواه‪.‬‬ ‫‪ - 7‬هللا ّ‬

‫‪ - 4‬علوم القرآن يف اآلايت‪:‬‬


‫‪ - 1‬هي مكية؛ ألهنا من سورة «طه» وهي من السور املكية ابتفاق‪ ،‬ويف خرب إسالم عمر‬
‫بن اخلطاب رضي هللا عنه أنه قرأ مطلعها وأتثّر آبايهتا‪ ،‬فكانت من األسباب املباشرة يف‬
‫إسالمه‪ ،‬ففي سنن الدارقطين عن أنس بن مالك قال‪ :‬خرج عمر متقلّدا بسيف‪ ،‬فقيل له‪:‬‬
‫إن ختنك وأختك قد صبئوا‪ ،‬فأاتمها عمر وعندمها رجل من املهاجرين يقال له‪ :‬خبّاب‪،‬‬
‫وكانوا يقرءون طه فقال‪ :‬أعطوين الكتاب الذي عندكم فأقرؤه‪ ،‬وكان عمر رضي هللا عنه يقرأ‬

‫‪69‬‬
‫الكتب‪ ،‬فقالت له أخته‪:‬إنك رجس وال ميسه إال املطهرون‪ ،‬فقم فاغتسل أو توضأ‪ .‬فقام‬
‫عمر رضي هللا عنه وتوضأ‪ ،‬وأخذ الكتاب‪ ،‬فقرأ طه‪.‬‬
‫وذكر ابن إسحاق القصة مطولة‪ ،‬وفيها أنه ذهب إىل دار األرقم بن أيب األرقم فأعلن‬
‫إسالمه أمام رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬
‫وآايت السورة قصرية شديدة الوقع‪ ،‬تقرر عقيدة األلوهية والرسالة‪ .‬وكل ذلك من‬
‫خصائص القرآن املكي الذي نزل قبل اهلجرة النبوية‪.‬‬

‫‪ - 2‬يف اآلايت من املتشابه‪:‬‬


‫أ‪ -‬طه وهي من األحرف املقطعة ‪ ،‬اليت افتتح هللا هبا سورا من القرآن الكري‪ ،‬وهي من‬
‫املتشابه خلفاء لفظها‪.‬‬
‫الر ْمح ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ‬
‫استَوى وهي من املتشابه من جهة املعىن‪ ،‬إذ ال سبيل للعقل البشري‬ ‫ب‪َّ -‬‬
‫أن حييط حبقيقة االستواء‪ ،‬أو يعرف املراد به‪ ،‬وقد بيّنا أن األحوط يف صفات هللا تعاىل‬
‫التفويض‪.‬‬
‫‪ - 3‬القراءات املوجودة فيها‪:‬‬
‫‪ (-‬طه ) قرأ ابن كثري وابن عامر بفتح الطاء واهلاء‪.‬‬
‫‪-‬وقرأ انفع طه بني الفتح والكسر‪ ،‬وهو إىل الفتح أقرب‪.‬‬
‫‪-‬وقرأ عاصم يف رواية أيب بكر ومحزة والكسائي طه بكسر الطاء واهلاء‪.‬‬
‫‪-‬وقرأ أبو عمرو يف غري رواية عباس طه بفتح الطاء وكسر اهلاء‪.‬‬
‫‪-‬وروى عباس عن أيب عمرو طه بكسر الطاء واهلاء مثل محزة‪.‬‬
‫‪-‬وحفص عن عاصم طه ابلتفخيم ‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫‪ - 5‬اإلعجاز والبالغة‪:‬‬
‫اآلايت الكرمية من أوائل سورة طه يف قمة الفصاحة والبيان العريب‪ ،‬وهي كغريها من‬
‫خاصا‪ ،‬ونغما‬
‫كالم هللا املعجز‪ ،‬ومتتاز هناايهتا هبذه األلف املقصورة اليت جتعل يف األذن جرسا ّ‬
‫ساحرا‪ ،‬ويف السرية النبوية البن إسحاق‪ :‬أن عمر بن اخلطّاب مل ميلك نفسه بعد مساعها أن‬
‫قال‪ :‬ما أحسن هذا الكالم وأكرمه‪.‬‬
‫وفيها من البالغة‪:‬‬
‫‪ .1‬ذهب بعض املفسرين إىل القول أبن معىن طه اي رجل! أو اي حممد! أوطئ األرض‬
‫بقدميك أثناء الصالة‪ ،‬وقد رجحنا أهنا من فواتح السور‪ ،‬وأن املراد منها التنبيه‬
‫والتحدي ابإلعجاز البياين للقرآن الكري‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ض فيها االنتقال من ضمري املتكلم إىل ضمري الغائب‪ ،‬والفائدة‪:‬‬ ‫ِ‬
‫‪ .2‬مم َّْن َخلَ َق ْاأل َْر َ‬
‫أ‪ -‬التفنن يف الكالم وما يعطيه من احلسن والروعة‪.‬‬
‫ب‪ -‬التفخيم أوال يف أَنْ َزلْنا ابإلسناد إىل ضمري الواحد املطاع‪ُ ،‬ث ثىن ابلنسبة إىل‬
‫املختص بصفات العظمة والتمجيد‪ ،‬فضوعفت الفخامة مرتني ‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫احلض على القتال والثبات‬
‫اثلثا‪ -‬الناسخ واملنسوخ ّ‬
‫متهيد‪:‬‬
‫فأقل‪ ،‬وكان‬
‫فرض هللا تعاىل على اجملاهد يف سبيل هللا أن يثبت لعشرة من املشركني ّ‬
‫فلما كثروا خ ّفف هللا عنهم‪،‬‬
‫هذا يف ّأول اإلسالم‪ ،‬واملسلمون عددهم قليل‪ ،‬واملشركون كثري‪ّ ،‬‬
‫فأقل‪.‬‬
‫ففرض هللا على الواحد أن يقف الثنني ّ‬

‫تال إِ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُك ْم ِع ْش ُرو َن صابُِرو َن‬ ‫ني َعلَى الْ ِق ِ‬ ‫قال هللا تعاىل‪ :‬اي أَيُّها النَِّيب ح ِر ِ ِ ِ‬
‫ض الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫َ ُّ َ ّ‬
‫ين َك َف ُروا ِأب ََّهنُْم قَ ْوٌم ال يَ ْف َق ُهو َن*‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫يَ ْغلبُوا مائَتَ ْني َوإ ْن يَ ُك ْن مْن ُك ْم مائَةٌ يَ ْغلبُوا أَلْفاً م َن الذ َ‬
‫ض ْعفاً فَِإ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُكم ِمائَةٌ صابِرةٌ يَ ْغلِبُوا ِمائَتَ ْ ِ‬
‫ني َوإِ ْن‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َن فِ‬
‫َّ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫اَّلل عْن ُكم وعلِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّف َُّ َ ْ َ َ َ‬ ‫ْاآل َن َخف َ‬
‫اَّلل مع َّ ِ‬ ‫ف يَ ْغلِبُوا أَلْ َف ْ ِ‬
‫ني إبِِ ْذ ِن َِّ‬
‫يَ ُك ْن ِمْن ُك ْم أَلْ ٌ‬
‫ين (األنفال‪) 66 – 65 :‬‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫اَّلل َو َُّ َ َ‬

‫‪ - 1‬شرح املفردات‪:‬‬
‫وحضهم على القتال‪.‬‬
‫حرض املؤمنني على القتال»‪ :‬حثّهم ّ‬
‫« ّ‬
‫«أبهنم»‪ :‬بسبب أهنم‪.‬‬
‫«قوم ال يفقهون»‪ :‬ال يدركون حكمة احلرب‪ ،‬ويقاتلون على غري بصرية‪ ،‬أو يقاتلون محيّة‬
‫واتباعا خلطوات الشيطان‪.‬‬

‫‪ - 2‬املعىن اإلمجال‪:‬‬
‫حث املؤمنني حثا شديدا‪ ،‬حىت يقدموا برغبة ونشاط‪ ،‬ويثبتوا يف مواجهة‬ ‫النيب ّ‬
‫اي أيّها ّ‬
‫األعداء‪ ،‬ابذلني نفوسهم رخيصة يف سبيل هللا‪ ،‬وهلم البشارة من هللا أن العشرين الصابرين‬
‫احملتسبني أجرهم عند هللا يغلبون مائتني‪ ،‬وأن املائة الصابرة يغلبون ألفا؛ ألهنم يقاتلون عن‬
‫عقيدة اثبتة ونفس مطمئنة‪ ،‬وأعداؤهم يقاتلون محيّة جاهلية وألغراض شيطانية خبيثة‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫وثبات املسلم أمام عشرة فما دون هي مرتبة العزمية‪ ،‬واملطلب اإلهلي األول‪ُ ،‬ث رخص‬
‫سبحانه للمسلم أن يثبت الثنني‪ ،‬وكان التخفيف اإلهلي يف املطلب الثاين بسبب ضعف‬
‫األبدان وكثرة التكاليف وأعباء اجلهاد يف سبيل هللا‪ ،‬مع مالحظة أنه ال عربة للعدد وال للكثرة‬
‫إذا مل تتوفر القوة املعنوية الناجتة عن جهاد النفس وااللتزام بتعاليم الشرع‪.‬‬

‫‪ - 3‬األحكام الشرعية والتوجيهات املستفادة‪:‬‬


‫أ‪ -‬األحكام الشرعية‪:‬‬
‫النيب صلّى هللا عليه‬
‫‪ - 1‬التحريض على اجلهاد‪ :‬وهو من واجبات القائد‪ ،‬وكان من سنة ّ‬
‫ويذمرهم عليه‪،‬‬
‫يصف جنوده من الصحابة يف مواجهة األعداء‪ ،‬وحيثهم على القتال ّ‬ ‫وسلّم أن ّ‬
‫كما قال ألصحابه يوم بدر‪ ،‬حني أقبل املشركون يف عددهم وعددهم‪:‬‬
‫«قوموا إىل جنة عرضها السموات واألرض»‬
‫‪ - 2‬األمر ابلثبات‪ ،‬والبشارة ابلنصر‪ :‬أوجب هللا على املسلمني يف أول األمر اإلقدام على‬
‫اجلهاد مع العزمية والشجاعة‪ ،‬والصرب واملصابرة‪ ،‬وثبات الفرد املسلم أمام العشرة‪ ،‬وبشرهم‬
‫ابلنصر والغلبة‪ُ ،‬ث نسخ هللا تعاىل األمر‪ ،‬وأبقى البشارة ‪ ،‬وهذه املقابلة‪ -‬وهي الواحد‬
‫ابلعشرة‪ -‬فلم ينقل أن املسلمني صافّوا املشركني عليها قط‪.‬‬
‫‪ - 3‬التخفيف من هللا تعاىل‪ :‬فقد أوجب سبحانه الثبات لرجلني‪ ،‬فخ ّفف عنهم من العدد‪،‬‬
‫ونقص من الصرب بقدر ما خ ّفف عنهم‪ .‬فالثبات أمام أكثر من اثنني رخصة‪ ،‬وأمام اثنني هو‬
‫العزمية احملكمة اليت استقر عليها احلكم‪ ،‬وهذا ما يفيده كالم مالك رمحه هللا عند ما سئل عن‬
‫الرجل يلقى عشرة؟ قال‪ :‬واسع له أن ينصرف إىل معسكره إن مل تكن له قوة على قتاهلم‪.‬‬
‫قال ابن العريب‪ :‬وهذا دليل على أنه جيوز له أن يثبت معهم‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ب‪ -‬التوجيهات املستفادة‪:‬‬
‫‪ - 1‬أمهية الصرب يف ساحات اجلهاد واكتساب النصر‪.‬‬
‫‪ - 2‬ال عربة ابلكثرة العددية يف ميدان احلرب والنزال‪ ،‬بل العربة ابلقوة املعنوية‪ ،‬واإلعداد‬
‫املسبق‪ ،‬واألخذ جبميع الوسائل واألسباب‪.‬‬
‫‪ - 3‬أمهية التوكل على هللا تعاىل وطلب النصر بعد إعداد العدد والعدد‪.‬‬
‫‪ - 4‬الك ّفار ال يؤمنون ابهلل وال ابليوم اآلخر‪ ،‬وال يتخذون األسباب الكاملة املؤدية للنصر‪،‬‬
‫فال حيصدون إال اخلذالن واخليبة يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫‪ - 4‬علوم القرآن الكري يف اآلايت‪:‬‬


‫‪ - 1‬اآلايت مدنية‪،‬ألهنا من سورة األنفال‪ ،‬وهي مدنية ابتفاق‪ ،‬كما أن فيها احلديث واضحا‬
‫عن اجلهاد وأحكامه عامة‪ ،‬وعن غزوة بدر وما وقع قبلها وبعدها من مقدمات ونتائج‪ ،‬فضال‬
‫عما جرى أثناءها‪ ،‬وكل ذلك وقع بعد اهلجرة ابتفاق‪.‬‬
‫‪ - 2‬أسباب النزول‪:‬‬
‫روى البخاري عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪ ،‬قال‪ :‬ملا نزلت إِ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُك ْم ِع ْش ُرو َن‬
‫يفر واحد من عشرة‪،‬‬ ‫صابِرو َن يَ ْغلِبُوا ِمائَتَ ْ ِ‬
‫شق ذلك على املسلمني حني فرض عليهم أال ّ‬ ‫ني ّ‬ ‫ُ‬
‫ض ْعفاً فَِإ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُك ْم‬ ‫اَّلل عْن ُكم وعلِم أ َّ ِ‬
‫َن في ُك ْم َ‬ ‫َّف َُّ َ ْ َ َ َ‬ ‫فجاء التخفيف‪ ،‬فقال تعاىل‪ْ :‬اآل َن َخف َ‬
‫ني [األنفال‪]66 :‬‬ ‫ِمائَةٌ صابِرةٌ يَ ْغلِبُوا ِمائَتَ ْ ِ‬
‫َ‬
‫‪ - 3‬الناسخ واملنسوخ‪:‬‬
‫واملنسوخ يف هاتني اآليتني اآلية رقم (‪ )65‬من سورة األنفال‪ ،‬والناسخ هلا اآلية اليت‬
‫بعدها رقم (‪ ،)66‬وهو من النوع الثاين من أقسام املنسوخ‪ ،‬حيث يرفع هللا احلكم من اآلية‬
‫متلو وهذا اثبت‪ ،‬ملا رواه اإلمام‬ ‫حبكم آية أخرى‪ ،‬وكالمها اثبت يف املصحف اجملمع عليه‪ّ ،‬‬
‫البخاري عن ابن عباس كما قدمناه يف أسباب النزول‪ ،‬والقول ابلنسخ يف هاتني اآليتني هو‬
‫املشهور عن العلماء وأكثر املفسرين ‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫‪ - 4‬القراءات‪:‬‬
‫‪َ 1-‬وإِ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُك ْم ِمائَةٌ [األنفال‪ ]65 :‬فَِإ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُك ْم ِمائَةٌ صابَِرةٌ ‪[ ..‬األنفال‪.]66 :‬‬
‫‪-‬قرأ ابن كثري وانفع وابن عامر إن تكن ‪ ...‬فإن تكن ابلتاء مجيعا‪.‬‬
‫‪-‬وقرأ أبو عمرو فإن تكن منكم مائة صابرة ابلتاء‪ ،‬واألخرى‪ -‬يعين‪:‬‬
‫َوإِ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُك ْم ِمائَةٌ‪ -‬ابلياء‪.‬‬
‫الكسائي احلرفني مجيعا ابلياء‪ .‬وليس عن انفع خالف أهنما ابلتاء إال‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬وقرأ عاصم ومحزة و‬
‫ما رواه خارجة عنه أهنا ابلياء‪.‬‬

‫ض ْعفاً [األنفال‪.]66 :‬‬ ‫ِ‬


‫‪ - 2‬في ُك ْم َ‬
‫‪-‬قرأ ابن كثري وانفع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي (ضعفا) بضم الضاد‪.‬‬
‫‪-‬وقرأ عاصم ومحزة (ضعفا) بفتح الضاد ‪.‬‬

‫‪ - 5‬اإلعجاز والبالغة‪:‬‬
‫اآلية يف القمة من اإلعجاز والفصاحة مع الوضوح التام والعذوبة والسالسة‪ ،‬وهذا ال‬
‫جيتمع إال يف كتاب هللا العزيز وكالمه احلكيم‪ ،‬وفيهما من البالغة‪:‬‬
‫ني وهو إثبات قيد‬ ‫االحتباك يف قوله تعاىل‪ :‬إِ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُكم ِع ْشرو َن صابِرو َن يَ ْغلِبُوا ِمائَتَ ْ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ ُ‬
‫الصرب يف الشرط األول‪ ،‬وحذف نظريه من الشرط الثاين‪ .‬وإثبات صفة الكفر يف اآلية األوىل‪،‬‬
‫وحذفها من الثانية‪ُ ،‬ث ختمت اآلية ابلصابرين للمبالغة يف طلب الصرب‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫رابعا‪ -‬القصة يف القرآن قصة أصحاب الفيل‬
‫متهيد‪:‬‬
‫يذ ّكر هللا تعاىل رسوله صلّى هللا عليه وسلّم حبادثة مشهورة كانت إرهاصا لرسالته‪،‬‬
‫وبني له يف سورة مكية قصرية كيف أهلك هللا أبرهة وفيله وجنوده‪،‬‬ ‫ووقعت يف سنة مولده‪ّ ،‬‬
‫ابلطري األاببيل‪ ،‬وجعل مكرهم وتدبريهم هلدم الكعبة يف ضياع أليم وخسارة فادحة‪.‬‬
‫قال هللا تعاىل‪:‬‬
‫ضلِ ٍيل‬
‫حاب الْ ِف ِيل (‪ )1‬أََملْ َْجي َع ْل َكْي َد ُه ْم ِيف تَ ْ‬
‫َص ِ‬‫ك ِأب ْ‬ ‫بسم هللا الرمحن الرحيم أََملْ تََر َكْي َ‬
‫ف فَ َع َل َربُّ َ‬
‫ف مأْ ُك ٍ‬
‫ول‬ ‫(‪ )2‬وأَرسل َعلَْي ِهم طَْرياً أَاببِيل (‪ )3‬تَرِمي ِهم ِِحبجارٍة ِمن ِس ِج ٍيل (‪ )4‬فَجعلَهم َكع ْ ٍ‬
‫ص َ‬ ‫ََ ُْ َ‬ ‫َ ْ ّ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َََْ ْ‬
‫[الفيل‪.]5 - 1 :‬‬

‫‪ - 1‬شرح املفردات‪:‬‬
‫«أصحاب الفيل»‪ :‬الذين قصدوا ّتريب الكعبة‪ ،‬وهم من أهل احلبشة‪.‬‬
‫«أاببيل»‪ :‬مجاعات متفرقة‪ ،‬بعضها يف إثر بعض‪.‬‬
‫سجيل»‪ :‬طني متحجر‪« .‬عصف»‪ :‬ورق الزرع بعد احلصاد‪ ،‬كالتنب وقشر احلنطة‪.‬‬ ‫« ّ‬

‫‪ - 2‬املعىن اإلمجال‪:‬‬
‫أمل تعلم اي حممد علما يقينا كأنّه مشاهدة العني‪ ،‬ما صنعه هللا القدير أبصحاب الفيل‬
‫الذين قصدوا هدم الكعبة؟! أمل يهلكهم وجيعل مكرهم وسعيهم يف االعتداء على البيت العتيق‬
‫يف ضياع وخسار؟! وسلط عليهم أضعف جنوده‪ ،‬فأرسل الطري تقذفهم حبجارة صغرية من‬
‫طني متحجر‪ّ ،‬ترق ك ّل من أصابته وتقتله‪ ،‬فجعلهم هللا كورق الشجر الذي عصفت به‬
‫الدواب ُث راثته‪.‬‬
‫الريح‪ ،‬أو كالزرع الذي أكلت منه ّ‬

‫‪76‬‬
‫‪ - 3‬األحكام والتوجيهات املستفادة‪:‬‬
‫أ‪ -‬األحكام‪:‬‬
‫‪ - 1‬قدرة هللا تعاىل‪ :‬وحكمته البالغة‪ ،‬يف إهالك األحباش وهم على مقربة من البيت احلرام‪،‬‬
‫كل واحد منها بثالثة أحجار رابنية‪،‬‬‫وظهور قدرته سبحانه يف إرسال الطري مجاعات يقذفهم ّ‬
‫وهشمه‪.‬‬
‫دمره ّ‬ ‫حجران يف رجليه‪ ،‬وحجر يف منقاره‪ ،‬ال يسقط على شيء من جيش أبرهة إال ّ‬
‫‪ - 2‬التوطئة ملبعث الرسول صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬والتأسيس لنبوته‪ :‬قال أبو حيان يف البحر‬
‫احمليط (‪ :)512 /8‬كان صرف ذلك العدد العظيم عام مولده السعيد صلّى هللا عليه وسلّم‬
‫إرهاصا بنبوته‪ ،‬إذ جميء تلك الطيور على الوصف املنقول من خوارق العادات‪ ،‬واملعجزات‬
‫املتقدمة بني أيدي األنبياء عليهم الصالة والسالم‪ ،،‬وقد ضلّل كيدهم‪ ،‬وأهلكهم أبضعف‬
‫جنوده‪ ،‬وهي الطري اليت ليست من عادهتا أهنا تقتل ‪.‬‬
‫‪ - 3‬تكري الكعبة وأتكيد حرمتها‪ :‬لقد صان هللا الكعبة‪ ،‬وصرف عنها أصحاب الفيل‬
‫الذين عزموا على هدمها وحمو أثرها‪ ،‬فظهر التكري اإلهلي لبيته العتيق‪ ،‬وأ ّكد الرسول صلّى‬
‫هللا عليه وسلّم إكرامها وحرمتها‪،‬‬
‫بقوله‪« :‬إن هللا حبس عن مكة الفيل‪ ،‬وسلّط عليها رسوله واملؤمنني‪ ،‬وإنه قد عادت حرمتها‬
‫اليوم كحرمتها ابألمس‪ ،‬أال فليبلّغ الشاهد الغائب» ‪.‬‬
‫‪ - 4‬الفرق بني تع ّدي األحباش على الكعبة مبحاولة هدمها وّتريبها‪ ،‬وتع ّدي قريش إبدخال‬
‫األواثن إليها وحوهلا‪ :‬أن هللا سلّط عذابه على من قصد التخريب ألنه تع ّد على حقوق‬
‫احلجاج بن يوسف الثقفي‪،‬‬ ‫حق هللا تعاىل‪ .‬وأما ّ‬ ‫العباد‪ ،‬أما قريش فكان فعلهم تع ّداي على ّ‬
‫فلم يكن قاصدا ّتريب الكعبة‪ ،‬وإمنا أراد قتل عبد هللا بن الزبري‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫ب‪ -‬التوجيهات املستفادة‪:‬‬
‫فدمرهم‪،‬‬
‫‪ - 1‬االعتبار بقصة أصحاب الفيل الذين قصدوا االعتداء على البيت احلرام ّ‬
‫وجعلهم عظة على مدى الدهر‪.‬‬
‫برد العدو عنهم؛ ليبادروا إىل اإلميان برسالة حممد صلّى هللا عليه‬
‫‪ - 2‬اإلنعام على قريش ّ‬
‫وسلّم‪.‬‬
‫‪ - 3‬عجائب قدرة هللا تعاىل يف االنتقام من أعدائه‪.‬‬
‫‪ - 4‬التأسيس لنبوة حممد صلّى هللا عليه وسلّم بدفع العدو عن الكعبة يف عام مولده امليمون‪.‬‬

‫‪ - 4‬علوم القرآن يف السورة‪:‬‬


‫‪ - 1‬سورة الفيل مكية‪،‬وآايهتا القصار‪ ،‬وموضوعها التذكري بقصة أصحاب الفيل‪ ،‬كل ذلك‬
‫يؤكد أهنا نزلت قبل اهلجرة‪ ،‬وأهنا من السور املتفق على أهنا م ّكية‪.‬‬
‫‪ - 2‬وهي قصة من قصص القرآن اليت أورد فيها أخبارا واقعية من أحوال املاضني لالعتبار‬
‫هبا‪ ،‬وإثبات صدق حممد صلّى هللا عليه وسلّم فيما أخرب به عن ربّه‪ ،‬واهلداية إىل هللا تعاىل‪،‬‬
‫وقد عرض القرآن قصة أصحاب الفيل عرضا موجزا‪ ،‬ولكنّه كاف يف تصوير احلادثة من أوهلا‬
‫إىل منتهاها‪ ،‬مع االحتفاظ ابلنظم البياين املعجز‪ ،‬وُت ّقق مواصفات القصة الفنية‪ :‬من املطلع‬
‫املشوق‪ ،‬إىل التفصيل يف طريقة إهالك أصحاب الفيل‪ ،‬وختمها بتدمريهم عن آخرهم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪ - 3‬القراءات يف السورة‪:‬‬
‫‪َ - 1‬علَْي ِه ْم [الفيل‪.]3 :‬‬
‫‪-‬قرأ محزة ويعقوب‪ ،‬ووافقهما األعمش (عليهم)‪.‬‬
‫‪-‬وقرأ الباقون (عليهم)‪.‬‬
‫‪ - 2‬تَ ْرِمي ِه ْم [الفيل‪.]4 :‬‬
‫‪-‬قرأ يعقوب (ترميهم)‪.‬‬
‫‪-‬قرأ الباقون (ترميهم)‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫‪ - 4‬اإلعجاز والبالغة‪:‬‬
‫اإلعجاز ظاهر يف نظم اآلايت‪ ،‬ويف توافق فواصلها يف احلرف األخري‪ ،‬حرف ل‪،‬‬
‫وفيها من البالغة‪:‬‬
‫ك ‪ ..‬االستفهام تقريري‪ .‬وفيه تعجب‪.‬‬ ‫أ‪ -‬أََملْ تََر َكْي َ‬
‫ف فَ َع َل َربُّ َ‬
‫ك تشريف للنيب صلّى هللا عليه‬
‫ك إشادة بقدرة هللا تعاىل‪ ،‬وكاف اخلطاب يف َربُّ َ‬ ‫ب‪ -‬فَ َع َل َربُّ َ‬
‫وسلّم‪.‬‬
‫ول فيه تشبيه مرسل‪ ،‬إذ ذكرت األداة‪ ،‬وحذف وجه الشبه‬ ‫ف مأْ ُك ٍ‬ ‫ج‪ -‬فَجعلَهم َكع ْ ٍ‬
‫ص َ‬ ‫ََ ُْ َ‬

‫‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫خامسا‬
‫من أقسام القرآن االستدالل على هللا اخلالق املبدع‬

‫ضحاها (‪َ )1‬والْ َق َم ِر إِذا تَالها (‪َ )2‬والنَّها ِر إِذا َج َّالها (‪َ )3‬واللَّْي ِل‬ ‫َّم ِ‬
‫س َو ُ‬ ‫قال هللا تعاىل‪َ :‬والش ْ‬
‫س َوما َس َّواها (‪)7‬‬ ‫ض َوما طَحاها (‪َ )6‬ونَ ْف ٍ‬ ‫ماء َوما بَناها (‪َ )5‬و ْاأل َْر ِ‬ ‫الس ِ‬
‫إِذا يَ ْغشاها (‪َ )4‬و َّ‬
‫خاب َم ْن َد َّساها [الشمس‪- 1 :‬‬ ‫فَأَ ْهلََمها فُ ُج َورها َوتَ ْقواها (‪ )8‬قَ ْد أَفْ لَ َح َم ْن َزَّكاها (‪َ )9‬وقَ ْد َ‬
‫‪.]10‬‬

‫‪ - 1‬شرح املفردات‪:‬‬
‫«والشمس وضحاها»‪ :‬يقسم هللا ابلشمس وضوئها إذا أشرقت صباحا ومت ضياؤها يف وقت‬
‫الضحى‪.‬‬
‫«والقمر إذا تالها»‪ :‬تبعها يف اإلضاءة بعد غروهبا‪.‬‬
‫جالها»‪ :‬أظهر الشمس للراءين‪.‬‬ ‫«والنهار إذا ّ‬
‫«والليل إذا يغشاها»‪ :‬يغطّيها ويسرتها بظلمته‪.‬‬
‫«واألرض وما طحاها»‪ :‬بسطها ووطّأها‪ ،‬وجعلها صاحلة للحياة والعمران والزراعة‪.‬‬
‫سواها»‪ :‬جعلها متناسبة األعضاء‪ ،‬وخلقها سويّة مستقيمة على الفطرة‬ ‫«ونفس وما ّ‬
‫السليمة‪.‬‬
‫عرفها معصيتها وطاعتها‪ ،‬وأفهمها حاهلما‪ ،‬وما فيهما من‬ ‫«فأهلمها فجورها وتقواها»‪ّ :‬‬
‫احلسن والقبح‪.‬‬
‫طهرها ابلطاعة وعمل الرب واصطناع املعروف‪.‬‬ ‫«قد أفلح من زكاها»‪ّ :‬‬
‫«وقد خاب من دساها»‪ :‬خسر من أضلها وأغواها‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫‪ - 2‬املعىن اإلمجال‪:‬‬
‫وحرها يف وقت الضحى‪ ،‬ومها مصدر احلياة‬ ‫يقسم هللا تعاىل ابلشمس وبضوئها ّ‬
‫واحلركة لألحياء؛ كما أقسم ابلقمر الذي يتلو الشمس ويستم ّد نوره ابلليل منها‪ ،‬وابلليل‬
‫والنهار‪ ،‬وابلسماء وما فيها من عوامل مبنية بتقدير وإحكام‪ ،‬وابألرض املنبسطة للنظر مع‬
‫اتمة‪ ،‬وأهلمها الفطرة السوية‪،‬‬‫وسواها ّ‬
‫كرويتها واستقرارها‪ ،‬وابلنفس اليت خلقها إبحكام ّ‬
‫وزودها العقل املميز‪ ،‬ومنحها حرية االختيار‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ - 3‬من املأثور‪:‬‬
‫روى البخاري ومسلم عن جابر رضي هللا عنه‪ ،‬أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم قال ملعاذ‬
‫ضحاها َواللَّْي ِل إِذا‬ ‫َّم ِ‬
‫س َو ُ‬ ‫اس َم َربِّ َ‬
‫ك ْاأل َْعلَى‪َ ،‬والش ْ‬ ‫«هال صليت ب َسبِّ ِح ْ‬
‫رضي هللا عنه‪ّ :‬‬
‫يَ ْغشى»‪.‬‬

‫‪ - 4‬األحكام والتوجيهات املستفادة‪:‬‬


‫أ‪ -‬األحكام‪:‬‬
‫‪ - 1‬يقسم هللا تعاىل بسبعة أشياء من خملوقاته‪ ،‬وهي‪ :‬الشمس والقمر‪ ،‬والنهار‪ ،‬والليل‪،‬‬
‫والسماء‪ ،‬واألرض‪ ،‬والنفس‪ .‬وله سبحانه أن يقسم مبا شاء من خملوقاته‪ ،‬أما العبد املخلوق‬
‫فال يقسم إال ابهلل (من كان حالفا فليحلف ابهلل) وكانت قريش ُتلف آبابئها فقال‪« :‬ال‬
‫ُتلفوا آبابئكم»‬
‫واحلكمة من اإلقسام هبذه األشياء السبعة‪ :‬بيان ما فيها من عجائب الصنعة اإلهلية‬
‫ال ّدالّة على هللا تعاىل وما فيها من منافع للحياة واألحياء‪.‬‬
‫دساها‪ ،‬وقد وردت أقوال التابعني والعلماء يف إسناد‬
‫‪ - 2‬فالح من زّكى نفسه‪ ،‬وخيبة من ّ‬
‫األمر لإلنسان‪ ،‬فقال احلسن البصري وقتادة‪ :‬قد أفلح من زّكى نفسه ومحلها على طاعة‬
‫هللا‪ ،‬وقد خاب من أهلكها ومحلها على معصية هللا‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫وقال ابن قتيبة‪ :‬يريد‪ :‬أفلح من زّكى نفسه‪ ،‬أي‪ :‬منّاها وأعالها ابلطاعة والرب‬
‫والصدقة واصطناع املعروف‪ .‬وقد خاب من دساها‪ ،‬أي نقصها وأخفاها برتك عمل الرب‬
‫وركوب املعاصي‪.‬‬
‫وصححه لثالثة وجوه‪:‬‬ ‫رجح اإلمام ابن القيم هذا الفهم ّ‬ ‫كما ّ‬
‫أ‪ -‬تعليق الفالح على فعل العبد واختياره‪ ،‬كما هي طريقة القرآن‪.‬‬
‫ب‪ -‬إثبات فعل العبد وكسبه‪ ،‬وما يثاب وما يعاقب عليه‪.‬‬
‫دساها؛ فإمنا يزكيها بعد تزكية هللا هلا بتوفيقه وإعانته‪ ،‬وإمنا‬
‫ج‪ -‬إن العبد إذا زّكى نفسه أو ّ‬
‫يدسيها بعد تدسية هللا هلا خبذالنه والتخلية بينه وبني نفسه‪.‬‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪:‬‬
‫‪ - 3‬من أدعية ّ‬
‫عن زيد بن أرقم رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم يقول‪:‬‬
‫«اللهم آت نفسي تقواها‪ ،‬وزّكها أنت خري من زّكاها‪ ،‬أنت وليّها وموالها‪ ،‬اللهم إين أعوذ‬
‫بك من قلب ال خيشع‪ ،‬ومن نفس ال تشبع‪ ،‬وعلم ال ينفع‪ ،‬ودعوة ال يستجاب هلا»‬

‫ب‪ -‬التوجيهات املستفادة‪:‬‬


‫‪ - 1‬بيان مظاهر القدرة اإلهلية يف خلق الشمس والقمر والليل والنهار والسماء واألرض‬
‫والنفس‪.‬‬
‫‪ - 2‬بيان ما يكون من الفالح واخلسران من تزكية النفس وإمهاهلا‪.‬‬
‫‪ - 3‬احلض على األعمال الصاحلة‪ ،‬والتحذير من الشرور واملعاصي‪.‬‬

‫‪ - 5‬علوم القرآن يف اآلايت‪:‬‬


‫‪ - 1‬اآلايت مكية‪،‬ألهنا مطلع سورة الشمس وهي سورة مكية ابتفاق‪ ،‬وآايهتا قصار‪،‬‬
‫وموضوعها ترسيخ العقيدة‪ ،‬وأتكيد الوحدانية‪ ،‬وذكر قصة مثود وطغياهنا ‪ ...‬وكل ذلك من‬
‫خصائص القرآن املكي؛ كما سبق‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫‪ - 2‬القسم‪:‬‬
‫وهو من أساليب القرآن الكري‪ ،‬وصيغته يف هذه اآلايت وردت خمتصرة‪ ،‬ففعل‬
‫وعوض عن الباء ابلواو‪ ،‬واملقسم به فيها هللا تعاىل اخلالق واملخلوق‪ ،‬فأقسم‬‫القسم حمذوف‪ّ ،‬‬
‫سبحانه ابلسماء وابنيها‪ ،‬واألرض وطاحيها‪ ،‬والنفس ومسويها‪.‬‬
‫وجواب القسم‪ :‬قَ ْد أَفْ لَ َح َم ْن َزَّكاها‪ ،‬وقد حسن حذف الالم من اجلواب بسبب‬
‫طول الكالم‪.‬‬
‫أما الغرض من القسم‪ ،‬فهو أتكيد اخلرب‪ ،‬ليكون أوقع يف النفس‪ ،‬وأرجى لالقتناع‬
‫والقبول‪ .‬وبيان أمهية املقسم به وعظمة خلقه وإبداعه‪ ،‬ومنافعه‪ .‬وكل ذلك ظاهر يف آايت‬
‫سورة الشمس‪.‬‬

‫‪ - 3‬القراءات‪:‬‬
‫ضحاها‬
‫س َو ُ‬‫َّم ِ‬
‫‪-‬قوله تعاىل‪َ :‬والش ْ‬
‫ضحاها بفتح أواخر آي هذه السورة‪.‬‬ ‫قرأ ابن كثري وابن عامر وعاصم َو ُ‬
‫ضحاها كسرا‪ ،‬أي إمالة‪ .‬ويفتح تَالها طَحاها‪.‬‬ ‫َّم ِ‬
‫س َو ُ‬ ‫‪-‬وقرأ محزة َوالش ْ‬
‫‪-‬وقرأ انفع أواخر هذه السورة بني الكسر (اإلمالة) والفتح‪.‬‬
‫‪-‬وقرأها اليزيدي عن أيب عمرو بني الفتح والكسر‪.‬‬
‫ضحاها وتَالها َج َّالها ابلكسر (ابإلمالة)‬
‫وقال عباس‪ :‬سألت أاب عمرو‪ ،‬فقرأ َو ُ‬
‫‪ - 4‬اإلعجاز والبالغة‪:‬‬
‫اآلايت ظاهرة اإلعجاز يف شكلها ومضموهنا‪ ،‬ويف أسلوب القسم‪ ،‬وفواصلها‬
‫املوحدة‪ ،‬وإيقاعها املوسيقى املوحد‪ .‬وفيها من البالغة‪:‬‬
‫س والْ َق َم ِر وبني اللَّْي ِل والنَّها ِر وبني فُ ُج َورها وتَ ْقواها طباق‪.‬‬
‫َّم ِ‬
‫‪-‬بني الش ْ‬

‫‪83‬‬
‫‪-‬وبني َوالنَّها ِر إِذا َج َّالها واللَّْي ِل إِذا يَ ْغشاها وبني قَ ْد أَفْ لَ َح َم ْن َزَّكاها وقَ ْد َ‬
‫خاب َم ْن‬
‫َد َّساها مقابلة‪ .‬والطباق واملقابلة من احملسنات البديعية‪.‬‬
‫‪-‬وفيها سجع مرصع‪ ،‬حيث اتفقت الفواصل مراعاة لرءوس اآلايت‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫فهرسات‬
‫صفحة‬ ‫موضوع‬
‫مق ّدمة ‪2 ........................................................................‬‬
‫مجع القرآن وكتابته ‪3 ..............................................................‬‬
‫الفصل األول ‪6.....................................................................................‬‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم ترتيبه‪ -‬أمساء سوره ‪6.................................‬‬
‫حفظ القرآن وكتابته يف عهد ّ‬
‫الفصل الثاين ‪10 ...................................................................................‬‬
‫مجع القرآن يف عهد أيب بكر رضي هللا عنه ‪10 .........................................................‬‬
‫الفصل الثالث ‪13 ..................................................................................‬‬
‫مجع القرآن على عهد عثمان رضي هللا عنه ‪13 ........................................................‬‬
‫الرابع ‪18 ...................................................................................‬‬
‫الفصل ّ‬
‫رسم القرآن واملراحل التحسينية اليت ُترج فيها ‪18 ......................................................‬‬

‫احملكم واملتشابه واملبهم ‪25 ........................................................‬‬


‫الفصل األول ‪26 ...................................................................................‬‬
‫تعريفات (احملكم واملتشابه واملبهم) ‪26 .................................................................‬‬
‫الفصل الثاين ‪28 ...................................................................................‬‬
‫اآلايت املتشاهبة‪ ،‬واحلكمة منها ‪28 ...................................................................‬‬

‫التفسري ‪34 ....................................................................‬‬


‫الفصل األول ‪35 ...................................................................................‬‬
‫حقيقة التفسري ونشأته وتطوره ‪35 ....................................................................‬‬
‫الفصل الثاين ‪38 ...................................................................................‬‬
‫أشهر املفسرين من الصحابة والتابعني ‪38 .............................................................‬‬
‫الفصل الثالث ‪45 ..................................................................................‬‬
‫‪85‬‬
‫أقسام التفسري ‪45 ..................................................................................‬‬
‫الرابع ‪50 ...................................................................................‬‬
‫الفصل ّ‬
‫التعريف أبشهر التفاسري واملفسرين‪50 ............................................................... :‬‬

‫نصوص تطبيقية ونشاطات تعليمية‪59 ............................................‬‬


‫أوال‪ -‬أسباب النزول ُتويل القبلة ‪60 .................................................................‬‬
‫اثنيا‪ -‬احملكم واملتشابه القرآن وصفات من أنزله ‪67 .....................................................‬‬
‫احلض على القتال والثبات ‪72 ..................................................‬‬
‫اثلثا‪ -‬الناسخ واملنسوخ ّ‬
‫رابعا‪ -‬القصة يف القرآن قصة أصحاب الفيل ‪76 .......................................................‬‬
‫خامسا ‪80 ........................................................................................‬‬
‫من أقسام القرآن االستدالل على هللا اخلالق املبدع ‪80 ..................................................‬‬

‫‪86‬‬

You might also like