Professional Documents
Culture Documents
جزء الثاين
للصف السادس
1
الرِح ْيم
الرمح ِن َّ بِس ِم ِ
هللا َّ ْ
مق ّدمة
احلمد هلل الذي هداان هلذا وما كنّا لنهتدي لوال أن هداان هللا ,والصالة والسالم على
حممد وعلى آله وأصحابه األئمة اهلداة ,والتابعني هلم إبحسان إىل يوم احلشر والنجاة. سيّدان ّ
أما بعد:
يتوسع يف قراءة كتب علوم القرآن
كل من أراد أن ّ فهذه قواعد أصوليّة جيب على ّ
معرفتها ,ألهنا مق ّدمة ال بد منها للمبتدئني من طالب العلم الشريف ,وقد مسيناها " إرشاد
الطلبة يف فهم علُ ِوم ال ُق ِ
رآن ال َكري ،جزء الثاين. ُ
"نسأل هللا تعاىل أن ينفع به ،آمني.
2
مجع القرآن وكتابته
النيب صلّى هللا عليه وسلّم ،ترتيبه ،أمساء سوره.
الفصل األول :حفظ القرآن وكتابته يف عهد ّ
الفصل الثاين :مجع القرآن وكتابته يف عهد أيب بكر.
الفصل الثالث :مجع القرآن وكتابته يف عهد عثمان.
تدرج فيها ،حكم كتابته ابلرسم احلايل.
الفصل الرابع :رسم القرآن واملراحل التحسينية اليت ّ
3
متهيد
تطلق كلمة مجع القرآن ويراد هبا معنيان:
املعىن األول :حفظه واستظهاره ،فهو مجع يف القلوب والصدور .وهو هبذا املعىن قد
ك لِتَ ْع َج َل ِ
أوتيه رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم قبل اجلميع ،قال هللا تعاىل :ال ُُتَِّرْك بِِه لسانَ َ
بِِه ( )16إِ َّن َعلَْينا َمجْ َعهُ َوقُ ْرآنَهُ ( )17فَِإذا قَ َرأْانهُ فَاتَّبِ ْع قُ ْرآنَهُ [القيامة.]18 - 16 :
املعىن الثاين :كتابته كله حروفا وكلمات وآايت وسورا ،وهو مجع يف الصحائف
والسطور ،وهو هبذا املعىن قد حدث ثالث مرات.
النيب صلّى هللا
قال احلاكم يف (املستدرك) :مجع القرآن ثالث مرات :أحدمها حبضرة ّ
عليه وسلّم ،والثانية حبضرة أيب بكر رضي هللا عنه ،واجلمع الثالث يف زمن
عثمان رضي هللا عنه .
وهذه املرات الثالث ،اليت مجع فيها القرآن هبذا املعىن ،كانت كيفياهتا خمتلفة:
ففي املرة األوىل :اقتصر اجلمع على كتابة اآلايت وترتيبها ،ووضعها يف مكاهنا اخلاص
النيب صلّى هللا عليه وسلّم وتوقيفه ،دون أن تكون كل سورة جمموعة
من سورها ،وفق إشارة ّ
يف صحيفة واحدة.
وأما املرة الثانية :فقد تع ّدى اجلمع فيها معىن الكتابة فقط؛ إىل مجع اآلايت من كل
سورة مرتبة يف صحيفة واحدة أو أكثر ،وضم تلك الصحف بعضها إىل بعض ،ولو مل تكن
مرتبة السور.
4
وأما املرة الثالثة :فقد كان اجلمع عبارة عن نسخ القرآن وكتابته جمتمعا كله يف
صحائف ،مرتب السور واآلايت ،مع كتابة عدد من هذه الصحف.
5
الفصل األول
النيب صلّى هللا عليه وسلّم ترتيبه -أمساء سوره
حفظ القرآن وكتابته يف عهد ّ
النيب صلّى هللا عليه وسلّم كان ّأول جامع للقرآن يف
ومن هنا نستطيع أن نعلم أ ّن ّ
صدره الشريف وسيّد احل ّفاظ ،ومرجع الصحابة يف حفظهم للقرآن وفهمهم له ،وكان
حييي ابلقرآن ليله ويزيّن به صالته .وكان جربيل يعارضه (يدارسه) إايه يف كل عام مرة يف
رمضان ،وعارضه إايه يف العام األخري مرتني.
قالت عائشة وفاطمة رضي هللا عنهما :مسعنا رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم يقول:
«إ ّن جربيل كان يعارضين القرآن يف كل سنة مرة ،وإنه عارضين العام مرتني ،وال أراه إال حضر
أجلي»
النيب صلّى هللا عليه وسلّم حبفظ القرآن يف صدره الشريف ويف صدور مل يكتف ّ
أجالء
أصحابه ،وإمنا كان أيمر بكتابة ما ينزل من اآلايت يف السطور ،و ّاّتذ كتّااب للوحي من ّ
الصحابة ،تنزل اآلية أو اآلايت ،فيأمرهم النيب عليه الصالة والسالم بكتابتها ويرشدهم إىل
موضعها من سورهتا ،وكان بعض الصحابة يكتبون ابتداء من أنفسهم ،وكانت كتبوا على
الرقاع وعظام األضالع واألكتاف. العسب واللّخاف و ّ
وروي عن ابن عباس رضي هللا عنه أنه قال :كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم إذا
السورة يف املوضع الذي يذكرنزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب ،فقال« :ضعوا هذا يف ّ
فيه كذا وكذا»
يدل على اهتمام رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم بكتابة املصحف وقت نزوله: ومما ّ
النبوي ،فنهى أصحابه أن يكتبوا ما عدا القرآن
إفراده هبذه الرعاية ،خوف التباسه ابحلديث ّ
ّأول األمر ،ففي صحيح مسلم :قال صلّى هللا عليه وسلّم« :من كتب عين شيئا غري القرآن
فليتبوأ مقعده من النار».
علي متعمدا ّ فليمحه ،وح ّدثوا عين وال حرج ،ومن كذب ّ
وقبض رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم والقرآن حمفوظ يف صدور أصحابه ،ومكتوب
الرقاع وحنوها ،وكان اجلمع بني الطريقتني يف عهد النيب املبارك مصداقا لقوله تعاىل: منثورا بني ّ
إِ َّان َْحن ُن نََّزلْنَا ال ِّذ ْكَر َوإِ َّان لَهُ َحلافِظُو َن [احلجر.]9 :
7
3 -ترتيب آايت القرآن الكري:
ترتيب اآلايت يف القرآن على الشكل الذي نراه اليوم يف املصاحف توقيفي عن رسول
هللا صلّى هللا عليه وسلّم ،وال جمال للرأي واالجتهاد فيه ،وقد نقل بعضهم اإلمجاع على ذلك،
كشي يف (الربهان).
منهم الزر ّ
❖واستند اإلمجاع املنقول يف هذا املوضوع إىل نصوص كثرية واثبتة خنتار منها:
ما رواه اإلمام أمحد ،عن عثمان بن أيب العاص رضي هللا عنه قال :كنت جالسا عند
صوبهُ ،ث قال« :أاتين جربيل فأمرين رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم إذ شخص ببصرهُ ،ث ّ
سان وإِ ِ
يتاء ِذي الْ ُق ْرىب ِ ِ ِ ِ أن أضع هذه اآلية هذا املوضع من السورة» :إِ َّن َّ
اَّللَ َأيْ ُم ُر ابلْ َع ْدل َو ْاإل ْح َ
[النحل.]90 :
8
النيب صلّى هللا عليه وسلّم يف بيان فضل أكثر سور القرآن كثرية وبعضها وأحاديث ّ
اثبت يف كتب الصحاح وغريها؛أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أيب سعيد بن املعلّى
رضي هللا عنه قال :كنت أصلّي يف املسجد فدعاين رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم فلم أجبه،
ين َآمنُوا ُث أتيته فقلت :اي رسول هللا! إين كنت أصلي .فقال« :أمل يقل هللا تعاىل :اي أَيُّها الَّ ِ
ذ
َ َ
ول إِذا َدعا ُك ْم لِما ُْحييِي ُك ْم [األنفالُ .]24 :ث قال :ألعلّمنك سورة هي َّلل ولِ َّلرس ِ
ِ ِِ
استَجيبُوا َّ َ ُ ْ
أعظم السور يف القرآن قبل أن ّترج من املسجدُ .ث أخذ بيدي فلما أراد أن خيرج قلت له:
ِ أمل تقل :ألعلمنك سورة هي أعظم سورة يف القرآن؟ قالِ ِ ْ :
ني ...هي ب الْعالَم َ احلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ
السبع املثاين والقرآن العظيم الذي أوتيته».
9
الفصل الثاين
مجع القرآن يف عهد أيب بكر رضي هللا عنه
إيل أبو بكر أخرج البخاري يف صحيحه :أن زيد بن اثبت رضي هللا عنه قال :أرسل ّ
مقتل أهل اليمامة ،فإذا عمر بن اخلطاب عنده ،قال أبو بكر رضي هللا عنه :إ ّن عمر أاتين
ابلقراء
يستحر القتل ّ ّ بقراء القرآن ،وإين أخشى أن
استحر يوم اليمامة ّ
ّ فقال :إ ّن القتل قد
ابملواطن ،فيذهب كثري من القرآن ،وإين أرى أن أتمر جبمع القرآن .قلت لعمر :كيف تفعل
شيئا مل يفعله رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم؟ قال عمر :هذا وهللا خري ،فلم يزل عمر يراجعين
حىت شرح هللا صدري لذلك ،ورأيت يف ذلك الذي رأى عمر .قال زيد :قال أبو بكر :إنك
شاب عاقل ال نتهمك ،وقد كنت تكتب الوحي لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ،فتتبع رجل ّ
علي مما أمرين به من مجع القرآن فامجعه .فو هللا لو كلّفوين نقل جبل من اجلبال ما كان أثقل ّ
القرآن.
قلت :كيف تفعلون شيئا مل يفعله رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم؟ قال :هو وهللا
خري ،فلم يزل أبو بكر يراجعين حىت شرح هللا صدري للذي شرح له صدر أيب بكر وعمر
رضي هللا عنهما .فتتبّعت القرآن أمجعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال ،حىت وجدت
ول ِم ْن
آخر سورة التوبة مع أيب خزمية األنصاري ،مل أجدها مع أحد غريه لََق ْد جاءَ ُك ْم َر ُس ٌ
أَنْ ُف ِس ُك ْم َع ِز ٌيز َعلَْي ِه ما َعنِت ُّْم [التوبة ]128 :حىت خامتة براءة ،فكانت الصحف عند أيب بكر
حىت توفاه هللاُ ،ث عند عمر حياتهُ ،ث عند حفصة بنت عمر رضي هللا عنه.
10
❖سبب القيام هبذا اجلمع:
إ ّن السبب احلامل على هذا العمل الذي أمر به أبو بكر رضي هللا عنه :هو ما كان
من مقتل عدد من ّقراء القرآن وح ّفاظه يف موقعة اليمامة ،اليت دارت فيها رحى احلرب بني
املسلمني وأهل الردة ،من أتباع مسيلمة الك ّذاب.
ّأول من مجع القرآن أبو بكر ،وكتبه زيد ،وكان الناس أيتون زيد بن اثبت ،فكان ال يكتب
آية إال بشاهدي عدل.
❖األمر األول :معتمده فيما جيمع من آايت ،فقد اعتمد رضي هللا عنه على مصدرين
أيخذ منهما آايت هللا تعاىل:
*املصدر األول :ما كتب بني يدي رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم من آايت على الرقاع
وحنوها.
*املصدر الثاين :ما كان حمفوظا يف صدور الرجال من ّقراء الصحابة وح ّفاظهم.
❖األمر الثاين :االستيثاق مما جيمع من اآلايت ،وقد كان هذا االستيثاق قائما على
أساسني:
11
*األساس األول :أنه كان رضي هللا عنه ال يقبل شيئا حمفوظا إال إذا ّ
دعم ابلكتابة ،فمن
جاءه آبية حيفظها مل يثبتها حىت أيتيه هبا هو أو غريه مكتوبة.
*األساس الثاين :أنه كان ال يقبل ما كان مكتواب إال إذا شهد شاهدان أنه كتب بني يدي
رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم على تلك الرقعة هكذا.
أ -من املعلوم أن الفتوحات اإلسالمية أايم عثمان رضي هللا عنه كانت قد اتسعت،
وتفرق املسلمون يف البلدان واألمصار ،ونبت جيل مسلم جديد حيتاج إىل دراسة القرآن، ّ
وكان أهل كل إقليم أيخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة ،الذين تلقوا القرآن عن
رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم بلهجاته املختلفة وأحرفه السبعة اليت نزل عليها ،وكان من
الطبيعي أن يوجد بينهم اختالف يف طرق األداء ووجوه القراءة.
13
وبسبب تباعد الداير وبعد عهد الناس ابلنبوة ،كاد هذا االختالف يف أوجه القراءات
حيدث بينهم شقاقا ونزاعا ،يظهر حني التقاء الناس وخاصة يف املغازي أو املواسم ،إذ إن
األحرف السبعة مل تكن معروفة لدى أهل تلك األمصار.
ب -وساعد على هذا االختالف وجود عديد من املصاحف اخلاصة -إىل جانب تلك
الصحف اليت وضعت عند حفصة رضي هللا عنها -كان بعض الصحابة قد كتبها لنفسه ُث
أيب بن كعب ومصحف عبد هللا بن مسعود، اشتهرت بني الناس ،ومن أشهرها :مصحف ّ
ولذلك جند أن هذا االختالف والنزاع قد مشل ك ّل األمصار حىت املدينة نفسها.
وفور ّاّتاذ القرار وتعيني اللجنة اليت كلّفت ابلعمل ،أرسل رضي هللا عنه إىل حفصة
رضي هللا عنها يطلب منها أن ترسل إليه ابلصحف اليت كانت عندها ،واليت مجعت على
عهد أيب بكر رضي هللا عنه ،لتكون هي العمدة واملرجع يف استنساخ كتاب هللا تعاىل ،إذ
إهنا مجعت وكتبت على النهج الذي كتب به القرآن بني يدي رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم.
14
ولقد لبّت حفصة رضي هللا عنها الطلب ،طاعة ألمري املؤمنني ،ومشاركة يف خدمة
ابلصحف ،واستلمتها اللجنة الرابعية املوقرة،
كتاب هللا تعاىل اليت ال تدانيها خدمة ،فأرسلت ّ
وبقيت عندها اإلمام واملرشد ،حىت إذا انتهت من عملها ،أعيدت الصحف إىل صاحبة احلق
فيها ،وبقيت عندها حىت توفيت ،رضي هللا عنها وأرضاها.
2 -أن املعتمد يف الكتابة والرسم ،حال اختالف أعضاء اللجنة ،إمنا هو طريقة قريش يف
كتابتها ورمسها ،ألن القرآن نزل بلغتها وهلجتها،واملراد :إذا اختلفتم يف الرسم واإلمالء
واللهجة.
15
❖مزااي مصاحف عثمان رضي هللا عنه:
– 1االقتصار على ما ثبت ابلتواتر من أوجه القراءات ،دون ما كانت روايته آحادا ،ولذلك
مل يكتبوا مثل (وكان وراءهم ملك أيخذ كل سفينة صاحلة غصبا) بزايدة كلمة (صاحلة) ألن
هذه الكلمة مل تتواتر.
اخلاصة من تفسريات وشروح أو ذكر 2 -جتريدها من كل ما كان يف بعض املصاحف ّ
أسباب نزول وغري ذلك.
يستقر يف العرضة األخرية ،كما هو الشأن يف األصل ّ 3 -إمهال ما نسخت تالوته ومل
املعتمد ،وهو ما كتبه زيد رضي هللا عنه على عهد أيب بكر رضي هللا عنه.
4 -ترتيب السور واآلايت على الوجه املعروف اآلن ،والذي كان بتوقيف من رسول هللا
صلّى هللا عليه وسلّم ،بينما مل تكن صحف أيب بكر رضي هللا عنه مرتبة السور ،بل كانت
مرتبة اآلايت فقط.
5 -أن رمسها كان بطريقة جتمع األحرف السبعة اليت نزل عليها القرآن ،وتصلح ألوجه
القراءات املختلفة ،وكان يساعد على ذلك أهنا مل تكن مشكولة وال منقوطة ،فقوله تعاىل:
إِ ْن جاء ُكم ِ
فاس ٌق بِنَ بٍَإ فَتَ بَ يَّ نُوا [احلجرات ]6 :يصلح للقراءتني املتواترتني (فتبينوا) و (فتثبتوا). َ ْ
وما أن انتهت اللجنة من عملها حىت سارع عثمان رضي هللا عنه إىل األمر بكل مصحف
أو صحيفة ،سوى صحف حفصة رضي هللا عنها ،أن جيمع وحيرق دون أن يبقي على شيء
منه ،سواء أكان ذلك يف املدينة أم يف غريها من األمصار.
وقد متّ ذلك األمر ،ومل يعارض فيه أحد ،إال ما كان من عبد هللا بن مسعود رضي
هللا عنه يف ابدئ األمرُ ،ث عاد إىل التزام أمر اخلليفة رضي هللا عنهما .وكان الغرض من
16
عز
اجلادة القومية يف كتاب هللا ّ
ذلك :أن يقطع مادة النزاع ،وحيصر اعتماد املسلمني على ّ
وجل.
ّ
وأما صحف حفصة رضي هللا عنها ،فإهنا قد أعيدت إليها بعد ُتقيق الغرض منها،
ومل تكن يف مجلة ما أحرق من املصاحف ،إذ ال داعي لذلك وال حمذور من بقائها طاملا أهنا
هي العمدة واألصل وليس بينها وبني ما نسخ كبري اختالف ،إال ما كان من ترتيب السور،
وذلك أمر ال خوف منه.
وبقيت تلك الصحف عند حفصة رضي هللا عنها حىت توفيت ،فأخذها مروان بن
تصرفه :إمنا فعلت هذا ،ألن ما فيها قد كتب وحفظ احلكم وأحرقها ،وقال مدافعا عن ّ
ابملصحف اإلمام ،فخشيت إن طال ابلناس زمان أن يراتب يف شأن هذه الصحف مراتب.
17
الرابع
الفصل ّ
رسم القرآن واملراحل التحسينية اليت حترج فيها
1 -الرسم العثماين:
لقد اتبعت اللجنة الرابعية يف كتابة املصاحف على عهد عثمان رضي هللا عنه طريقة
خاصة يف رسم كلمات القرآن وحروفه ،اوقد اصطلح العلماء على تسمية الطريقة اليت اتبعتها
ّ
هذه اللجنة (رسم املصحف) وكثريا ما ينسبون هذا الرسم إىل عثمان رضي هللا عنه ،ألنه
جرى يف عهده وأبمر منه ومبوافقته ،فيقولون( :الرسم العثماين) وأحياان يقولون (املصحف
العثماين) ولقد كان هذا الرسم يتصف بصفتني:
الصفة األوىل :أن له إمالء خاصا به من حيث كيفية كتابة بعض احلروف والكلمات،
كاهلمزة مثال يف كتابة (مائة) واألحرف اليائية والواوية كما يف كلمات (الزكوة ،والصالة،
واحليوة) وما شابه ذلك من احلذف أو الزايدة لبعض احلروف .وكان هذا اإلمالء يتفق يف
مجلته مع الرسم القرشي يف ذلك الوقت ،ودليل ذلك قول عثمان رضي هللا عنه للثالثة
القرشيني :إذا اختلفتم أنتم وزيد بن اثبت يف شيء من القرآن ،فاكتبوه بلسان قريش ،فإمنا
نزل بلساهنم.
ولقد ظهر أثر ذلك عند ما اختلفوا يف كيفية رسم كلمة (التابوت) يف قوله تعاىل:
وت فِ ِيه َس ِكينَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم [البقرة ]248 :فقد ِ ِِ
قال َهلُْم نَبِيُّ ُه ْم إِ َّن آيََة ُم ْلكه أَ ْن َأيْتيَ ُك ُم التَّابُ ُ
َو َ
قال زيد (التابوة) ابلتاء املربوطة وقالوا (التابوت) ابملبسوطة ،فرتافعوا إىل عثمان فقال :اكتبوا
(التابوت) -أي ابملبسوطة -فإمنا أنزل القرآن على لسان قريش.
18
الصفة الثانية :أن هذه املصاحف كان رمسها ّ
جمردا عن الشكل الذي يوضح إعرابه،
وعن النقط الذي مييز األحرف املعجمة (كالزاي ،والذال ،والغني ،واجليم ،واخلاء) عن املهملة
(كالراء ،والدال ،واحلاء) وغريها.
لقد طرأ على الرسم العثماين ُتسينات اقتضتها ظروف ومالبسات ،وكانت هذه
التحسينات على مراحل تدرجيية ،حسب الضرورة وإحلاح املقتضيات ،وإليك بيان ذلك :
يبني إعراب الكلمات ومينع اللحن فيها :فقد علمنا أن الرسم القرآين
1 -التحسني الذي ّ
العريب
يبني إعراب الكلمات نصبا أو رفعا ،وجرا أو جزما ،وأن ّ كان خاليا عن الشكل الذي ّ
فطري اللسان -أن
كان بسليقته يهتدي إىل قراءهتا على وجه الصواب ،ألنه ال ميكن -وهو ّ
يرفع املفعول وينصب الفاعل ،وغري ذلك.
ولكن ملا اتّسعت الفتوحات ،وأقبل املسلمون غري العرب على تعلم القرآن وقراءته
واختلط العرب بغريهم وكاد لساهنم أن يستعجم ،وفشا اللحن يف اللغة العربية على األلسنة
وكاد أن يصل إىل القرآن ،فخشي املسلمون أن ينتشر ذلك ويكثر وميتد إىل كتاب هللا تعاىل،
فيقع التحريف يف أدائه ومعناه ،فأسرعوا إىل تدارك األمر قبل أن يستفحل ،ووضعوا عالمات
يعرف هبا إعراب كلماته.
وكان السابق هلذا الفضل ،واملباشر هلذا التحسني ألول مرة هو أبو األسود الدؤل
علي رضي هللا عنه.
الذي وضع قواعد النحو إبشارة من ّ
والذي فعله أبو األسود :هو أنه جعل عالمات اإلعراب نقطا على أواخر احلروف
فقد جعل عالمة النصب نقطة فوق احلرف ،وعالمة الرفع نقطة وسطه ،وعالمة اجلر نقطة
19
ُتته ،وعالمة السكون نقطتني .وكان السبب املباشر لقيامه هبذا العمل ،هو أنه مسع قارائ
ِ ِ
عز وجه اَّللَ بَِريءٌ م َن الْ ُم ْش ِرك َ
ني َوَر ُسولُهُ بكسر الالم من (رسوله) فقالّ : َن َّيقرأ قوله تعاىل :أ َّ
هللا أن يربأ من رسوله ،وقال:
ما ظننت أن أمر الناس آل إىل هذا .وكان زايد بن أبيه ،قد طلب منه أن يعمل شيئا
وجل فاستعفاه من ذلك ،ولكن ملا مسع ما مسع ،رجع عز ّ يكون إماما ،ويعرف به كتاب هللا ّ
إىل زايد وأخربه أنه عازم على فعل ما طلب منه ،واستعانه بكاتب يفعل ما يقوله له ،وقال
للكاتب ملا بدأ العمل :إذا رأيتين قد فتحت فمي ابحلرف فانقط نقطة فوقه ،وإن ضممت
فمي فانقط بني يدي احلرف ،وإن كسرت فاجعل النقطة من ُتت ،ففعل ذلك.
يبني إعرابه، 2 -التحسني الذي مييز احلروف :قد علمنا أن القرآن ،كما أنه مل يكن رمسه ّ
كذلك مل يكن ليميّز حروفه املعجمة من املهملة.
ومل يكن العرب ليخطئوا يف قراءته حبكم فطرهتم وسليقتهم ،إذ مل يكن من املعقول أن
ِ يقرأ العريب قوله تعاىلِ ِ ْ :
ني ابستبدال ذال بدل الدال يف لفظ (احلمد) أو احلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ
ب الْعالَم َ
كال من الكلمتني ال يصبح هلا معىن هبذه استبدال غني بدل العني يف لفظ (العاملني) ألن ّ
ك يَ ْوِم
احلالة يف اللغة العربية .وكذلك ال يعقل أن يستبدل حرف الدال يف قوله تعاىل :مالِ ِ
ال ِّدي ِن ابلذال ،ألهنا ال تناسب سياق الكالم يف تلك احلالة أيضا.
ولكن ما ذكران من دخول األعاجم يف اإلسالم ،وإقباهلم على تعلّم القرآن ،كان له
أثر يف خطأ الناس يف القراءة؛ ألن هؤالء ال يعرفون ما هو من العربية وما هو ليس منها ،كما
أهنم قد ال يدركون املعىن ومناسبته للسياق ألول وهلة .ولذا سارع املسلمون كما ذكران إىل
إدخال التحسني على الرسم القرآين ،وقد علمنا أن التحسني الذي طرأ إمنا اقتصر فقط على
بيان إعراب الكلمات ،وبقيت احلروف غري مميزة بعضها عن بعض ،فرمبا التبس على القارئ
احلرف املعجم كالذال وغريه ،ابحلرف املهمل كالدال وغريه ،ولذلك وجد املسلمون أنفسهم
20
مضطرين إىل ُتسني جديد ،جيرونه على الرسم القرآين ،غري ما قام به أبو األسود مييزون به
بني احلرف ،ليحصنوا كتاب هللا تعاىل من عجمة اللسان.
ولقد قام هبذا العمل ألول مرة نصر بن عاصم تلميذ أيب األسود الدؤل ،أبمر من
احلجاج بن يوسف الثقفي ،فوضع عالمات متيّز احلروف املشتبهة بعضها عن بعض .وكانت
هذه العالمات نقطا على احلرف ،التزم فيها ّأال تزيد عن ثالث نقط يف أي حرف وعندها
اضطر ألن يستبدل النقط السابق ،الذي كان عالمة اإلعراب ،بعالمات أخرى ،حىت ال
تلتبس الكلمات ،فكان الشكل املعروف اآلن واملتداول ،والذي جعل عالمات اإلعراب
الفتحة والكسرة والضمة والسكون.
ُ 3 -تسينات متعددة ومتالحقة :إن ُتسني الرسم القرآين أخذ يتدرج يف أطوار متالحقة،
ال ميكن ضبط كل منها بتاريخ دقيق ،أو نسبته إىل شخص معني ،وعلى كل حال فاملتفق
عليه :أن التحسني قد سار خبطوات متقاربة وسريعة ،حىت قارب الكمال على أايم اخلليل
بن أمحد الفراهيدي ،الذي وضع اهلمز والتشديد والروم واإلمشام .وما زالت اخلطوات
التحسينية مطّردة على مر األزمان إىل يومنا هذا ،ابتغاء ُتقيق املزيد من ضبط رسم القرآن
وتسهيل قراءته ،فوضعت أمساء السور ،وعدد اآلايت ،والرموز اليت تشري إىل رءوس اآلية،
وعالمات الوقف ،وغري ذلك.
تبني لك :أن التحسينات اليت طرأت على 4 -التحسني يف اإلمالء :من خالل ما سبق ّ
الرسم العثماين ،إمنا كانت أمورا تتعلّق بكيفية أداء القرآن وتالوته ،على النهج الذي نزل به،
وقرأه به رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ،وكذلك أصحابه من بعده رضوان هللا عليهم ،حىت
سلم القرآن من أي ُتريف أو تبديل ،ميكن أن يتناول لفظه أو معناه .وعليه فالتحسينات
إمنا تناولت الصفة الثانية من صفات الرسم العثماين ،وهي كونه بدون شكل أو نقط ،وما
أشبه ذلك.
21
وأما ما يتعلّق ابلصفة األوىل ،وهي اإلمالء اخلاص بكتابة الكلمات واحلروف ،فهذا
مما بقي على حاله ،ومل يطرأ عليه أي تغيري أو تبديل أو ُتسني أو ُتوير ،وظلّت املصاحف
تكتب على الرسم الذي كتبت به الصحف األوىل ،واملصحف العثماين اإلمام .وهو املتبع
يف طباعة املصاحف بدءا ابلطبعة األوىل يف البندقية سنة1530مُ ،ث طبعة برتسبورغ بروسيا
سنة 1787مُ ،ث طبعة اآلستانة سنة 1877م ،وما تبع ذلك من آالف الطبعات واألحجام
.
لقد اختلف علماء املسلمني يف حكم كتابة املصحف ابلرسم العثماين ،هل هي واجبة
أم ال؟ وابلتايل :هل جتوز كتابته ابلرسم املتعارف اآلن أو ال؟
الرأي األول :فذهب فريق من العلماء إىل أن هذا الرسم ،الذي كتب به املصحف
اإلمام ،رسم توقيفي ،ال جتوز خمالفته .ونسبوا التوقيف فيه إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم،
النيب صلّى هللا عليه وسلّم كان له كتّاب يكتبون الوحي ،وقد كتبوا القرآن
واستدلوا هلذا :أبن ّ
أقرهم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم على كتابتهم ،ومضى عهده والقرآن فعال هبذا الرسم ،و ّ
مكتوب على هذا النحو ،مل حيدث فيه تغيري وال تبديلُ .ث جاء أبو بكر رضي هللا عنه،
الصحف هبذا الرسمُ ،ث حذا حذوه عثمان رضي هللا عنه ،فاستنسخ فجمع القرآن يف ّ
أقر الصحابة رضي هللا عنهم عمل أيب بكر وعثمان رضي هللا املصاحف على تلك الكتابة ،و ّ
عنهماُ ،ث انتهى األمر إىل التابعني واتبعي التابعني ومن بعدهم ،ومل خيالف أحد منهم يف
هذا الرسم ،وعليه فيجب التزامه وال جتوز خمالفته.
الرأي الثاين :وذهب فريق آخر إىل أن الرسم العثماين اصطالحي ال توقيفي ،فال
خاص لإلمالء وشاع بينهم.
جيب التزامه وال مانع من خمالفته ،إذا اصطلح الناس على رسم ّ
22
يدل على وجوب التزاماحتجوا لذلك أبنه :مل يرو يف القرآن وال يف السنة وال إمجاع األمة ما ّ
و ّ
السنّة دلّت على جواز رمسه أبي وجه سهل ،ألن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ذلك ،بل ّ
يبني هلم وجها معيّنا لرمسه ،وال هنى أحدا عن كتابته ،ولذلك اختلفتكان أيمر بكتابته ،ومل ّ
خطوط املصاحف اليت كتبها الصحابة ألنفسهم.
والرأي الثالث :الذي ذهب إليه مجهور العلماء ،هو أ ّن الرسم العثماين
ليس توقيفيا عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ،ولكنّه اصطالح ارتضاه عثمان رضي هللا
عنه ،وأمجع عليه الصحابة ،وتل ّقته األمة ابلقبول ،فيجب التزامه واألخذ به ،وال جتوز خمالفته.
وهذا الرأي هو املنقول عن األئمة واملذاهب املعتربة.
روى أبو عمرو الداين ،يف كتابه (املقنع) عن أشهب قال :سئل مالك رمحه هللا تعاىل:
هل يكتب املصحف على ما أحدثه الناس من اهلجاء؟ فقال:ال ،إال على الكتبة األوىل .قال
أبو عمرو :وال خمالف له من علماء األمة .ونقل عن اإلمام أمحد رمحه هللا تعاىل أنه قال:
ط مصحف عثمان يف واو ،أو ألف ،أو ايء ،أو غري ذلك .ونقل عن كتب ُترم خمالفة خ ّ
فقه الشافعية واحلنفية :أنه ينبغي أال يكتب املصحف بغري الرسم العثماين ،ألن رمسه سنة
متبعة.
والظاهر أن هذا الرأي هو األرجح من اآلراء ،ملا فيه من اعتدال ،إىل جانب زايدة
وجل ،واحلفاظ عليه ضمان لصيانة القرآن من التغيري أو التبديل حىت
عز ّاحتياط لكتاب هللا ّ
يف الشكل .علما أبن االصطالح اإلمالئي عرضة للتغيري والتبديل ،بل إن قواعد اإلمالء يف
العصر الواحد ،قد ّتتلف وجهات النظر فيها وتتفاوت يف بعض الكلمات من بلد آلخر،
ط
فإذا أبيح كتابة القرآن ابالصطالح اإلمالئي لكل عصرّ ،أدى ذلك إىل التغيري يف خ ّ
املصحف من عصر آلخر ،وهذا مما يتناىف مع قداسة القرآن وعظمته يف نفوس املؤمنني ،ومما
وجير إىل فتنة أشبه ابلفتنة اليت حدثت
يؤدي إىل اختالف املسلمني يف كتاب هللا تعاىلّ ،
قد ّ
أايم عثمان رضي هللا عنه ،ومحلته على استنساخ املصاحف .وحجة تيسري قراءة القرآن على
23
الدارسني والعامة ال تربّر التغيري الذي ميكن أن يؤدي إىل التهاون يف ُتري الدقة يف كتابة
القرآنُ ،ث جير إىل الفتنة واالختالف.
وأخريا ميكننا أن نقول :إنه ال أبس مبخالفة الرسم العثماين والكتابة ابإلمالء املتعارف،
إذا كنا نكتب آايت القرآن يف جماالت التعليم والتدريس ،كأن يكتب على السبورة مثال أو
على لوح للصغار أو ما إىل ذلك من أشياء ،ال يقصد هبا كتابة مصحف أو جزء منه ،بل
املقصود أن يذاكر الطالب هذه اآلايت ويستظهروهنا على الوجه األكمل واألداء الصحيح.
وقد نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السالم ما يفيد جواز ما قلناه ،والرتخيص فيه ،بل
الدعوة إليه .
24
احملكم واملتشابه واملبهم
الفصل األول :تعريفات.
الفصل الثاين :اآلايت املتشاهبة واحلكمة منها.
الفصل الثالث :افتتاحيات السور.
25
الفصل األول
تعريفات (احملكم واملتشابه واملبهم)
متهيد:
قال هللا تعاىل:
ِ مات ُه َّن أ ُُّم الْ ِك ِ ك الْ ِك ِ ِ
ات فَأ ََّما
ُخُر ُمتَشاهب ٌ تاب َوأ َ آايت ُْحم َك ٌ تاب مْنهُ ٌ َ ُه َو الَّذي أَنْ َزَل َعلَْي َ
ين ِيف قُلُوهبِِ ْم َزيْ ٌغ فَيَ تَّبِعُو َن ما تَشابَهَ ِمْنهُ ابْتِغاءَ الْ ِفْت نَ ِة َوابْتِغاءَ َأتْ ِويلِ ِه َوما يَ ْعلَ ُم َأتْ ِويلَهُ إَِّال َّ
اَّللُ َ
الَّ ِ
ذ
باب [آل عمران: الر ِاس ُخو َن ِيف الْعِْل ِم ي ُقولُو َن آمنَّا بِِه ُكلٌّ ِمن ِعْن ِد ربِنا وما ي َّذ َّكر إَِّال أُولُوا ْاألَلْ ِ َو َّ
َّ َ َ ُ ْ َ َ
.]7
والظاهر يف اللغة :الواضح .ويف االصطالح :هو الذي ظهر املراد منه بنفسه؛ من
اَّللُ الْبَ ْي َع َو َحَّرَم ِّ
الراب [البقرة]275 : َح َّل َّ
غري توقّف على أمر خارجي؛ مثل قوله تعاىلَ :وأ َ
تدالن على أن البيع حالل والراب حرام دون حاجة إىل قرينة خارجية. وحرم ّ
أحل ّ
فكلمة ّ
والنص :هو ما دل بنفس لفظه وصيغته على املعىن ،من غري توقّف على أمر خارجي،
اَّللُ الْبَ ْي َع َو َحَّرَم ِّ
الراب [البقرة .]275 :إذ هي نص يف التفرقة بني البيع والراب. َح َّل َّ
مثل آية َوأ َ
26
النص أظهر يف داللته
وهذا املعىن هو املقصود األصلي من سياق اآلية .ونستنتج من هذا أ ّن ّ
النص على الظاهر.
نرجح ّ من الظاهر على معناه ،وعند التعارض بينهما ّ
❖املتشابه يف اللغة :املتماثل .واملتشابه يف االصطالح :ما كانت داللته غري واضحة.
وقال بعضهم :املتشابه ما ال يستقل بنفسه ،بل حيتاج إىل بيان ،فتارة يبني بكذا،
واترة بكذا ،حلصول االختالف يف أتويله.
❖أنواع املتشابه:
املتشابه على ثالثة أضرب (أنواع):
- 1ضرب ال سبيل إىل الوقوف عليه ،كوقت الساعة ،وخروج الدابة وكيفيته ،وحنو ذلك.
- 2وضرب لإلنسان سبيل إىل معرفته ،كاأللفاظ الغريبة واألحكام الغلقة.
خيتص مبعرفة حقيقته بعض الراسخني يف العلم،
مرتدد بني األمرين ،جيوز أن ّ - 3وضرب ّ
لعلي رضي هللا
وخيفى على من دوهنم ،وهو الضرب املشار إليه بقوله صلّى هللا عليه وسلّم ّ
عنه( :اللهم ف ّقهه يف الدين وعلّمه التأويل).
الفصل الثاين
اآلايت املتشاهبة ،واحلكمة منها
ومنشأ التشابه يعود إىل خفاء مراد الشارع من كالمه ،واخلفاء يعود إىل أسباب ثالثة:
- 1خفاء يف اللفظ ،مثل :فواتح السور ،أو يف املفرد بسبب اشرتاكه بني ع ّدة معان ،مثل
العني :أتيت للجارحة ،ونبع املاء ،والذهب ،والفضة ،وغري ذلك.
السنّة الشريفة وصفا هلل تعاىل أو ألهوال - 2خفاء يف املعىن ،مثل :ما جاء يف القرآن الكري و ّ
القيامة ،أو لنعيم اجلنة ،وعذاب النار ،فإ ّن العقل البشري ال ميكن أن حييط حبقائق صفات
اخلالق ،وال أبهوال القيامة ،وال بنعيم أهل اجلنة وعذاب النار ،وكيف السبيل إىل أن حيصل
حنسه وما مل يكن فينا مثله وال جنسه؟ يف نفوسنا صورة ما مل ّ
وت ِم ْن ظُ ُهوِرها
س الِْ ُّرب ِأبَ ْن َأتْتُوا الْبُيُ َ
- 3خفاء يف اللفظ واملعىن معا ،مثل قول هللا تعاىلَ :ولَْي َ
[البقرة ]189 :فقد كان العرب يف اجلاهلية إذا أحرموا وأرادوا دخول بيوهتم -وكانوا من أهل
البيوت ال من أهل اخليام -نقبوا نقبا يف ظهور بيوهتم يدخلون وخيرجون منه ،وإن كانوا من
وت ِم ْن أَبْو ِاهبا [البقرة .]189 :فمنشأ أهل األخبية خرجوا من خلف األخبية ،فنزلَ :وأْتُوا الْبُيُ َ
اخلفاء يف اللفظ االختصار ،كأ ّن املعىن :وليس الرب أبن أتتوا البيوت من ظهورها إذا كنتم
حمرمني .ومنشأ اخلفاء يف املعىن :أنه ال بد من معرفة عادة العرب يف اجلاهلية ،وإال لتع ّذر
فهمه.
28
فقد ظهر لنا أب ّن اخلفاء الراجع إىل السبب األول والثالث مما ميكن إزالته ،وفهم املراد
فيه .وما كان اخلفاء فيه راجعا إىل السبب الثاين فذلك مما ال ميكن إزالته ،وال سبيل لتعيني
املراد فيه.
فاآلايت املتشاهبة تعود إىل التشابه واخلفاء من جهة املعىن.
❖مناذج من اآلايت املتشاهبة:
تلك آايت من املتشابه من جهة املعاين يف القرآن الكري ،وال سبيل إىل معرفة حقيقة
املراد هبا.
وللعلماء يف تلك اآلايت وأمثاهلا :موقف واحد من حيث االبتداءُ ،ث خيتلفون بعد
ذلك:
29
- 1املوقف املتفق :محل اآلايت اليت تشري إىل تعيني جهة هلل تعاىل ،أو مكان له سبحانه،
احلسي هلل تعاىل ،على احملكم من أو تعيني معية حقيقية منه للعباد ،أو إثبات النقلة واجمليء ّ
صريُ [الشورى.]11 : الس ِميع الْب ِ اآلايت ،من مثال احملكم قوله تعاىل :لَي ِ ِ ِ
س َكمثْله َش ْيءٌ َوُه َو َّ ُ َ ْ َ
ِ
الص َم ُد (َ )2ملْ يَل ْد َوَملْ يُولَ ْد (َ )3وَملْ
اَّللُ َّ
َح ٌد (َّ )1
اَّللُ أ َ
كما حيمل على قوله سبحانه :قُ ْل ُه َو َّ
َح ٌد [اإلخالص.]4 - 1 : يَ ُك ْن لَهُ ُك ُفواً أ َ
- 2موضع االختالف بعد ذلك:
أ -من كان يف خري القرون الثالثة ومن بعدهم بقليل ،ويلحق هبم من يقول بقوهلم
نفوض معاين هذه املتشاهبات إىل (املفوضة) :يقولونّ : ويسمون السلف أو ّ إىل يومنا هذاّ ،
استَوى [طه ]5 :ننزه هللا تعاىل عن الر ْمح ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ
هللا تعاىل ،فيقولون يف قوله تعاىلَّ :
نفوض املراد بذلك إىل هللا تعاىل. اجللوس واّتاذ حيّز ومكانُ .ث ّ
ب -من كان يف أواخر القرن الرابع وما بعد ،ويلحق هبم من يقول بقوهلم إىل يومنا
نؤول معاين هذه املتشاهبات ابالستعانة آبايت (املؤولة) ،يقولونّ : ويسمون اخللف أو ّ هذاّ ،
أخرى وأساليب البيان ،فيقولون يف قوله تعاىل:
ننزه هللا تعاىل عن اجللوس و ّاّتاذ حيّز ومكانُ ،ث نرى استَوى [طهّ ]5 : الر ْمح ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ
َّ
أن املراد هبا إثبات امللك والسلطان التام هلل تعاىل ،فإذا ملك أكرب املخلوقات -العرش-
ملك ما دونه.
اجملسمة هلل تعاىلوالذي دفع اخللف إىل هذا التأويل وأمثاله هو اختالط فكرة اليهود ّ
أبفكار بعض الزائغني من املسلمني ،وتعلّق بعض آخر بظواهر النصوص ،وفهمها فهما
مستقال عن غريها ،علما أهنا متثّل مجيعها وحدة كاملة.
اَّلل ح َّق قَ ْد ِرِه و ْاألَرض َِ
ضتُهُ
مجيعاً قَ ْب َ َ ْ ُ قال هللا تعاىل يف حق اليهود وأمثاهلمَ :وما قَ َد ُروا ََّ َ
ت بِيَ ِمينِ ِه [الزمر.]67 : يام ِة َو َّ ِ
ات َمطْ ِوَّاي ٌ
السماو ُ يَ ْوَم الْق َ
ج -وذكر اإلمام السيوطي مذهبا اثلثا سوى مذهيب السلف واخللف ،وهو مذهب
وتوسط ابن دقيق العيد فقال :إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب مل املتوسطني ،فقالّ :
30
ينكر ،أو بعيدا توقّفنا عنه ،وآمنا مبعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه ،وما كان معناه
من هذه األلفاظ ظاهرا مفهوما من ّتاطب العرب قلنا به من غري توقيف ،كما يف قوله
ب َِّ
اَّلل (الزمر )56:فنحمله على حق هللا تعاىل وما ت ِيف َجْن ِ
تعاىل :اي َح ْسَرتى َعلى ما فَ َّرطْ ُ
جيب له.
32
❖احلكمة من ذكر املتشابه:
- 1رمحة هللا ابإلنسان ،فقد أخفى سبحانه وقت الساعة (يوم القيامة) ليبقى الناس يف
كدح واستعداد ،وليبتعدوا عن اخلوف الذي يفتك بنفوسهم ،ويقعدهم عن العمل.
- 2االبتالء واالختبار ،يف إميان البشر ابلغيب ثقة خبرب الصادق ،ومتيّز املؤمنني املهديني عن
الكفرة وأهل الزيغ والضالل.
- 3إقامة الدليل على عجز اإلنسان وجهالته مهما عظم استعداده وغزر علمه ،إذا ما
قورن علمه بعلم هللا تعاىلَ :وفَ ْو َق ُك ِّل ِذي ِع ْل ٍم َعلِ ٌيم [يوسف.]76 :
- 4كلما كان التشابه موجودا ،كان الوصول إىل احلق أشق ،وزايدة املشقة تقتضي زايدة
األجر والثواب.
- 5اشتمال القرآن الكري على احملكم واملتشابه ،يضطر الناظر فيه إىل البحث عن األدلة،
فيخلص الراسخ يف العلم من ظلمة التقليد ،ويتميز اخلواص عن العو ّام ،وتربز مكانة العقل
وأمهية إعماله يف فهم آايت كتاب هللا خاصة ،ويف فهم دالئل قدرة هللا يف الكون عامة.
33
التفسري
الفصل األول :حقيقة التفسري ،ونشأته ،وتطوره.
الفصل الثاين :أشهر املفسرين من الصحابة والتابعني.
الفصل الثالث :أقسام التفسري.
الفصل الرابع :التعريف أبشهر التفاسري واملفسرين.
34
الفصل األول
حقيقة التفسري ونشأته وتطوره
❖حقيقته:
التفسري لغة :اإليضاح والتبيني
واصطالحا :علم يبحث فيه عن القرآن الكري من حيث داللته على مراد هللا تعاىل بقدر
الطاقة البشرية .وقيل :علم يبحث فيه عن أحوال الكتاب العزيز من جهة نزوله وسنده وأدائه
وألفاظه ومعانيه املتعلقة ابأللفاظ واملتعلقة ابألحكام.
❖نشأته وتطوره:
- 1نشأ هذا العلم مع نزول القرآن الكري ،فلقد كان القرآن الكري ينزل فتكون منه آايت
مفسرة.
مفصلة ،أو كلمات جمملة تفسرها كلمات ّ
عام إَِّال ما يُْتلى َعلَْي ُك ْم [ ...املائدة]1 : ت لَ ُكم َهبِيمةُ ْاألَنْ ِ ِ
مثاله :قال هللا تعاىل :أُحلَّ ْ ْ َ
اخلِْن ِزي ِر وما أ ُِه َّل لِغَ ِري َِّ
اَّلل بِِه... ْ َّم َو َحلْ ُم ْ َ ت َعلَْي ُك ُم الْ َمْي تَةُ َوالد ُُث قالُ :حِّرَم ْ
[املائدة.]3 :
مثاله :وقال هللا تعاىل :الْقا ِر َعةُ (َ )1ما الْقا ِر َعةُ (َ )2وما أ َْدر َاك َما الْقا ِر َعةُ ُث قال:
اش الْمب ثُ ِ
وث [القارعة.]4 - 1 : َّاس َكالْ َفر ِ َ ْ يَ ْوَم يَ ُكو ُن الن ُ
وبيان القرآن الكري بعضه بعضا هو أوىل طرق التفسري ،ومناذجه كثرية يف كتاب هللا تعاىل.
36
تشعبت داير املسلمني - 4وجاء بعد أايم الصحابة التابعون رضوان هللا عليهم مجيعا ،وقد ّ
وبعدت أوطاهنم ،وفيهم العرب والعجم ،وأخذ اللحن يغزو خلسة وجهرة لغة العرب وبياهنم،
وحاجة املسلمني يف هذا العهد أشد من حاجة الصحابة إىل معرفة أحكام القرآن الكري
وحكمه.
َحلَْقنا هبِِ ْم ذُِّريَّتَ ُه ْم َوما مثاله :قال هللا تعاىل :والَّ ِذين آمنُوا واتَّب عْت هم ذُ ِريَّتُهم إبِِ ٍ
ميان أ ْ َ َ َ َ ََ ُْ ّ ُ ْ
ناه ْم ِم ْن َع َملِ ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء [الطور ]21 :قال سعيد بن جبري التابعي رمحه هللا تعاىل :أي أَلَْت ُ
أحلق هللا تعاىل الذرية آبابئهم يف الدرجات ،مع استحقاقهم دون درجات اآلابء يف اجلنة،
تكرميا لآلابء وفضال منه سبحانه.
ُ - 5ث جاء بعدهم من جاء من العلماء ،وقد ازدادت حاجة املسلمني إىل معرفة أحكام
السنة ،وأقوال
يفسرون كتاب هللا تعاىل من خالل القرآن و ّ القرآن الكري وحكمه ،فقاموا ّ
الصحابة والتابعني ،ومن خالل اللغة ومعانيها ،ومن خالل الرأي والنظر ،بل ومن خالل
بعض اإلسرائيليات والنصرانيات أحياان.
فدون علم تفسري كتاب هللا تعاىل على ودونت فيه العلومّ ،حىت جاء دور التدوينّ ،
املذاهب والطرق اليت سيأيت بياهنا عند حبث مذاهب التفسري إن شاء هللا تعاىل.
تلك هي نشأة علم التفسري وتطوره حىت جاء دور التدوين ،وهللا أعلم.
37
الفصل الثاين
أشهر املفسرين من الصحابة والتابعني
38
وعن مسروق قال :قال عبد هللا -يعين ابن مسعود :-والذي ال إله غريه ما نزلت آية
من كتاب هللا إال وأان أعلم فيم نزلت ،وأين نزلت ،ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب هللا
مين تناله املطااي ألتيته .
لعلي رضي هللا تعاىل عنه :أخربان عن ابن
وروى أبو نعيم عن أيب البخرتي :قلت ّ
مسعود؟ قال :علم القرآن والسنة وكفى.
41
وقد رويت أقواله يف بيان القرآن وتفسريه بطرق عديدة أشهرها طريقان:
أيب رضي هللا تعاىل
أ -طريق أيب جعفر الرازي ،عن الربيع بن أنس ،عن أيب العالية ،عن ّ
أيب نسخة كبرية يف التفسري ،يرويها أبو جعفرعنهم .وهذه طريق صحيحة ،وقد ورد عن ّ
أيب ،وقد أخرج ابن جرير وابن أيب حامت منها كثريا ،وأخرج احلاكم
الرازي هبذا اإلسناد إىل ّ
منها أيضا يف مستدركه ،واإلمام أمحد يف مسنده.
أيب بن كعب،ب -طريق وكيع عن سفيان ،عن عبد هللا بن حممد بن عقيل ،عن الطفيل بن ّ
عن أبيه ،وهذه خيرج منها اإلمام أمحد يف مسنده ،وهي على شرط احلسن.
اشتهر عدد كبري من التابعني بتفسري القرآن الكري يف املدينة املنورة ،ومكة املكرمة
أيب بن كعب رضي هللا عنه،اشتهر منهم: والعراق.فمن كان منهم ابملدينة املنورة يع ّدون تالمذة ّ
أبو العالية ،ورفيع بن مهران الرايحي ،وحممد بن كعب القرظي ،وغريهم.
ومن كان منهم مبكة املكرمة يع ّدون تالمذة عبد هللا بن عباس رضي هللا تعاىل عنهما،
منهم :سعيد بن جبري ،وجماهد ،وعكرمة ،وطاوس بن كيسان اليماين ،وعطاء بن أيب رابح.
ومن كان منهم ابلعراق يع ّدون تالمذة عبد هللا بن مسعود رضي هللا تعاىل عنه ،منهم:
علقمة بن قيس ،ومسروق بن األجدع ،وعامر الشعيب.
❖ونقصر حديثنا على ثالثة من التابعني ،واحد من أهل مكة املكرمة ،وواحد من أهل
املدينة املنورة ،وواحد من أهل العراق:
- 1سعيد بن جبري رمحه هللا تعاىل
-التعريف به:
42
هو أبو عبد هللا سعيد بن جبري بن هشام األسدي ،ولد سنة مخس وأربعني ،ومسع
من مجاعة من أئمة الصحابة ،وح ّدث عن ابن عباس ،وعدي بن حامت ،وابن عمر ،وعبد
هللا بن مغفل ،وأيب هريرة ،رضي هللا تعاىل عنهم.
قرأ القرآن على ابن عباس ،وعلى ابن مسعود ،وكان فقيها ورعا.
كان أسود حبشيا ،من موايل بين والبة ،أبيض اخلصال.
مكانته يف التفسري:
قال سفيان الثوري :خذوا التفسري من أربعة ،من سعيد بن جبري ،وجماهد ،وعكرمة،
الضحاك.
و ّ
أخذ القراءة على ابن عباس عرضا يقرأ عليه القرآن ،ومسع منه التفسري ،وأكثر روايته
يف التفسري عنه.
عن أشعث بن إسحاق قال :كان يقال لسعيد بن جبري :جهبذ العلماء .وعن ابن
عباس رضي هللا تعاىل عنهما قال :اي أهل الكوفة ،تسألوين وفيكم سعيد بن جبري؟!
44
الفصل الثالث
أقسام التفسري
45
• ويستدل جلوازه ابلوجوه التالية:
بارٌك لِيَدَّبَّ ُروا آايتِِه تاب أَنْ َزلْناهُ إِلَْي َ
ك ُم َ
ِ
- 1إن هللا تعاىل قد أمر بتدبر القرآن فقال تعاىل :ك ٌ
باب [ص.]29 : ولِي تَ َذ َّكر أُولُوا ْاألَلْ ِ
ََ َ
- 2إن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم دعا البن عباس رضي هللا عنهما بقوله( :اللهم فقهه
يف الدين وعلمه التأويل ).
- 3إن أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم اختلفوا يف تفسري آايت من القرآن مما مل
يبني هلم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ،فلو كان النظر واالجتهاد حمظورا يف فهم كتاب هللا
تعاىل من أهله ،لكان الصحابة قد وقعوا يف معصية هللا تعاىل ،كيف وقد رضي هللا تعاىل
عنهم وأكرمهم ابلصحبة؟!
- 4إن الناس قد درجوا على تفسري كتاب هللا تعاىل ابالجتهاد والنظر من أايم التدوين إىل
أايمنا هذه ،ولن جتتمع هذه األمة على ضاللة.
❖طريقته يف التفسري:
• حكم هذا النوع من التفسري:
هو تفسري ابطل وإُث كذلك ،بل خيشى اخلروج عن اإلسالم ملن اعتقد ذلك ،معاذ هللا.
ولو أحلق ابلتفسري الباطين ال يع ّد بعيدا ،وقد عرفت احلكم يف ذلك التفسري.
اللهم إال أن يكون التفسري اإلشاري قائما على االعرتاف مبعاين ظواهر النصوص على ما
تقتضيه اللغة والنصوص الشرعية األخرى ،فاملرجو ّأال يكون أبس وإُث إبذن هللا ،ويقرب من
هذا التفسري ما قاله علماء األصول يف قوله تعاىل:
47
وف [البقرة ]233 :اآلية نص يف وجوب نفقة ِ
ود لَه ِرْزقُه َّن وكِسوُهتُ َّن ِابلْمعر ِ
َ ُْ َو َعلَى الْ َم ْولُ ُ ُ َ ْ َ
الزوجة على الزوج ،وهي تشري إىل أن الولد ينسب إىل أبيه ،وهللا أعلم.
وقد جعل اإلمام السيوطي شروط قبول التفسري اإلشاري على ما يلي:
ّ - 1أال يتناىف مع ما يظهر من معىن النظم الكري.
ّ - 2أال ي ّدعى أنه املراد وحده دون الظاهر.
نيِِ ّ - 3أال يكون أتويال بعيدا سخيفا ،كتفسري بعضهم قوله تعاىلَ :وإِ َّن َّ
اَّللَ لَ َم َع الْ ُم ْحسن َ
جبعل كلمة (ملع) فعال ماضيا ،وكلمة (احملسنني) مفعوال به.
ّ - 4أال يكون له معارض شرعي أو عقلي.
- 5أن يكون له شاهد شرعي يؤيده.
48
❖حكم هذا النوع من التفسري:
هو تفسري ابطل وإُث ،بل فيه اخلروج عن اإلسالم ملن اعتقد ذلك ،معاذ هللا.
❖ويستدل لبطالنه ابلوجوه التالية:
أ -إنه تفسري يقوم على عقيدة التحلل من التكاليف الشرعية ،والرفض للشرائع واألحكام
من حيث احلقيقة والواقع .ويف هذا نقض بناء الشريعة ،وحل عرى اإلسالم.
ب -فضال عن كونه غريبا عن معاين الكلمات واجلمل يف اللغة العربية .ويف ذلك خمالفة
صرحية لقول هللا تعاىل :إِ َّان أَنْ َزلْناهُ قُ ْرآانً َعَربِيًّا لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْع ِقلُو َن [يوسف.]2 :
ج -إنه جيعل القرآن ملهاة ،يفسره كل مفسر مبا شاء له ضالله وهواه.
ويفرق مجاعتهم ،من جراء فقدان ضوابط تفسري القرآن الكري. ه -إنه يفك عقد املسلمنيّ ،
49
الرابع
الفصل ّ
التعريف أبشهر التفاسري واملفسرين:
- 1الطربي - 2الزخمشري - 3الفخر الرازي - 4القرطيب - 5ابن كثري ،مع بيان طريقة
كل منهم ،وخصائص تفسريه.
50
وتفرد مبسائل حفظت
وله يف أصول الفقه وفروعه كتب كثرية ،واختيار من أقاويل الفقهاءّ ،
عنه.
❖طريقته يف التفسري:
أ -يفسر القرآن الكري ابملأثور من القرآن الكري ،وسنة رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم،
وأقوال الصحابة والتابعني.
ب -يذكر آراء الصحابة ومن بعدهم يف التفسري ،واستدالهلم ابللغة ،ويستشهد لذلك بكالم
العرب.
يتعرض لتوجيه األقوال.
ج -إذا تع ّددت أقوال الصحابة والتابعني ّ
د -يعرض للقراءات يف اآلايت.
ه -يهتم ابملذاهب النحوية ،واألحكام الفقهية ،وإمجاع األئمة.
ويستنبط األحكام اليت تؤخذ من اآلية.
❖خصائص تفسريه:
أ -أنه تفسري ابملأثور ،لذا جنده حيمل بشدة على تفسري اآلايت ابالجتهاد والنظر.
ب -ينقل يف تفسريه رواايت صحيحة وغري صحيحة أبسانيدها فيخرج بذلك من العهدة.
يوجه للرأي الذي يراه من بني اآلراء يف تفسريه ،فال يدع القارئ يف حرية من أمره ،ال
جّ -
يتجه إىل رأي بعينه إذ ال دليل له.
❖وفاته:
كان عاملا زاهدا ورعا فاضال قواي يف احلق فصيح اللسان ،وكانت وفاته يف بغداد وقت
املغرب عشية يوم األحد ليومني بقيا من شوال سنة ( 310ه ) وقد جتاوز الثمانني خبمس أو
ست سنني.
51
- 2الزخمشري 538 - 467هـ
- 1التعريف به:
هو أبو القاسم حممود بن حممد الزخمشري اخلوارزمي ،ولد بزخمشر سنة ( 467ه )،
رحل يف طلب العلم إىل خبارى ،وقدم بغداد ،فسمع من أيب اخلطاب بن البطر ،وشيخ
اإلسالم أيب منصور احلارثي ،ومجاعة.
كان واسع العلم ،كثري الفضل ،غاية يف الذكاء ،وجودة القرحية ،متفننا يف كل علم،
عالمة يف األدب والنحو ،كان مقطوع معتزليا قواي يف مذهبه ،جماهرا به ،وداعية إليه ،حنفياّ ،
إحدى رجليه ،وقد ذكر هو سبب ذلك ،قال:كنت يف صباي أمسكت عصفورا وربطته
خبيط يف رجله ،فأفلت من يدي فأدركته وقد دخل يف خرق فجذبته فانقطعت رجله يف
فلما وصلت إىلاخليط ،فتألّمت والديت لذلك ،وقالت :قطع هللا رجلك كما قطعت رجلهّ ،
سن الطلب رحلت إىل خبارى لطلب العلم ،فسقطت عن الدابّة فانكسرت رجلي ،وعملت ّ
علي عمال أوجب قطعها .وقيل :إهنا سقطت من برد شديد أصابه يف بعض أسفاره ببعض ّ
بالد خوارزم.
الكشاف ،فل ّقب جار هللا تعاىل ،جلواره بيت هللا
أقام مبكة سنني وفيها أمتّ تفسريه ّ
احلرام.
(الكشاف) يف التفسري ،و (الفائق) يف غريب احلديث ،و ّ صنّف كثريا من الكتب ،منها:
(املفصل) يف النحو ،و (املستقصى) يف األمثال.
ّ (أساس البالغة) و
- 2طريقته يف التفسري:
يع ّد (الكشاف) من كتب التفسري ابلرأي -مع احنراف إىل االعتزال -ويعتمد يف
تفسريه على لغة العرب وأساليبهم ،ويعىن عناية خاصة بعلوم البالغةُ ،تقيقا لوجوه إعجاز
ويؤول آايت التوحيد مبا يوافق طريقة االعتزال اليت انزلق إليها.
القرآن الكريّ ،
52
- 3خصائص تفسريه:
خلوه من احلشو والتطويل ،وسالمته من القصص واإلسرائيليات الباطلة. أّ -
ب -اعتماده يف بيان املعاين على لغة العرب وأساليبهم يف البيان.
ج -سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال واجلواب.
- 4وفاته:
وحني أمتّ إحدى وسبعني سنة من عمره ،وبعد عودته من مكة املكرمة ،تويف جبرجانية خوارزم
سنة ( 538ه ).
- 2طريقته يف التفسري:
يع ّد تفسريه (مفاتيح الغيب) من أعظم تفاسري الرأي وأوسعها ،يعىن بربط اآلايت
والسور بعضها ببعض ،ويعىن ابللغة والبيان ،ومسائل الفقه ،ومييل فيها إىل ترجيح مذهب
لكن أعظم عنايته مبسائل الكالم واحلكمة ،فهو فيها الفارس
إمامه الشافعي رمحه هللا تعاىل ،و ّ
اجمللّى والعلم الفرد ،ويعىن أحياان بنقل أقوال الصحابة والتابعني لتفسري الكلمات ،وبيان املراد
من اآلايت.
- 3خصائص تفسريه:
أ -العناية بتفسري الصحابة والتابعني لآلايت أحياان.
ب -ذكر ما يناسب اآلايت من املوضوعات .يقول :وهاهنا مسائلُ ،ث يوردها مسألة مسألة،
وإن كان مثّة اعرتاضات أوردها ُث أجاب عليها.
ج -العناية بعلوم اللغة من معاين املفردات والبالغة إبجياز كاف.
د -االقتصاد يف ذكر اإلسرائيليات واحلشو من التفسري.
ه -العناية بربط اآلايت والسور بعضها ببعض ،وقد ال خيلو األمر يف هذا من التكلف
أحياان.
- 4وفاته:
كان قد رزق سعادة يف مؤلفاته ،وسعادة يف تالمذته ،وكان إذا ركب ميشي حوله حنو
ثالمثائة تلميذ من الفقهاء وغريهم.تويف رمحه هللا تعاىل مبدينة هراة يوم االثنني يوم عيد الفطر
سنة ( 606ه ) .رمحه هللا تعاىل.
54
- 4القرطيب املتوىف سنة 671هـ
- 1التعريف به:
هو أبو عبد هللا حممد بن أمحد األنصاري اخلزرجي املالكي األندلسي القرطيب ،مسع
من ابن رواج ،ومن ابن اجلميزي ،وأيب العباس القرطيب شارح صحيح مسلم وغريهم .قال
الداودي:
كان من عباد هللا الصاحلني ،والعلماء العارفني الورعني الزاهدين يف الدنيا ،املشغولني
توجه وعبادة وتصنيف ،مجع يف تفسري مبا يعنيهم من أمور اآلخرة ،أوقاته معمورة ما بني ّ
القرآن الكري كتااب كبريا يف مخسة عشر جملدا مسّاه كتاب «جامع أحكام القرآن واملبني ملا
أجل التفاسري وأعظمها نفعا ،أسقط منه القصص تضمنه من السنة وآي القرآن» وهو من ّ
والتواريخ ،وأثبت عوضها أحكام القرآن ،واستنباط األدلة ،وذكر القراءات واإلعراب والناسخ
واملنسوخ ،وله شرح األمساء احلسىن يف كتاب يقع يف جملدين مسّاه (الكتاب األسىن يف شرح
أمساء هللا احلسىن) وكتاب (التذكار يف أفضل األذكار) وضعه على طريقة (البيان) للنووي،
لكن هذا أمت منه وأكثر علما ،وكتاب (التذكرة يف أحوال املوتى وأمور اآلخرة).
تدل على إمامته،متبحر يف العلم ،له تصانيف مفيدة ّ وقال الذهيب عنه :إمام متقن ّ
وكثرة اطالعه ،ووفور فضله.
- 2طريقته يف التفسري:
أجل كتب التفسري اليت وصلت إلينا وأفضلها ،مجع فيه تفسري القرآنيع ّد تفسريه من ّ
ابلسنةُ ،ث أقوال الصحابة والتابعني ،وأقوال العلماء واستنباطهم ملا تدل
ابلقرآنُ ،ث تفسريه ّ
عليه اآلايت ،وعرض ملسائل الفقه ببيان مشرق ،وينسب إىل كل فقيه رأيه ،ويذكر حجته،
يرجح رأاي من آراء من نقل عنهم ،إىل جانب ّتريج األحاديث والعناية ابلقراءات وقد ّ
واللغات واإلعراب.
55
- 3خصائص تفسريه:
قال رمحه هللا تعاىل :وشرطي يف هذا الكتاب ،إضافة األقوال إىل قائليها ،واألحاديث
إىل مصنفيها ،فإنه يقال :من بركة العلم أن يضاف القول إىل قائله ،وكثريا ما جييء احلديث
يف كتب الفقه والتفسري مبهما ال يعرف من أخرجه إال من اطلع على كتب احلديث ،فيبقى
من ال خربة له بذلك حائرا ال يعرف الصحيح من السقيم ،فال يقبل منه االحتجاج به وال
خرجه من األئمة األعالم ،والثقات املشاهري من علماء االستدالل حىت يضيفه إىل من ّ
اإلسالم.
وأضرب عن كثري من قصص املفسرين وأخبار املؤرخني إال ما ال ب ّد منه وال غىن عنه
للتبيني ،واعتاض عن ذلك بتبيني آي األحكام مبسائل تسفر عن معناها ،وترشد الطالب إىل
كل آية -تتضمن حكما أو حكمني فما زاد -مسائل تبني فيها ما ُتتوي فضمت ّ
مقتضاهاّ ،
عليه من أسباب النزول والتفسري للغريب ،واحلكم ،فإن مل تتضمن حكما ذكر ما فيها من
التفسري والتأويل ،وهكذا إىل آخر الكتاب.
- 4وفاته:
كان طارح التكلّف ميشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقيّة .وكان مستقرا مبنية بين
خضيب من الصعيد األدىن ،وفيها تويف ليلة االثنني التاسع من شوال سنة إحدى وسبعني
وستمائة رمحه هللا تعاىل.
57
- 4وفاته:
حجي ... :وما أعرف أين اجتمعت به على كثرةقال فيه تلميذه شهاب الدين بن ّ
ترددي إليه إال واستفدت منه.
وتويف بدمشق يف مخس من شعبان ( 772ه ) ،ودفن كف بصره آخر عمرهّ ، وقد ّ
الصوفية عند شيخه ابن تيمية ،رمحه هللا تعاىل.
مبقربة ّ
58
نصوص تطبيقية ونشاطات تعليمية
.1أسباب النزول.
.2احملكم واملتشابه.
.3الناسخ واملنسوخ
.4من قصص القرآن
.5من أقسام القرآن.
59
أوال -أسباب النزول حتويل القبلة
متهيد:
كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم أمر ابستقبال الصخرة من بيت املقدس ،فكان
مبكة يصلّي بني الركنني ،فتكون بني يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت املقدس ،فلما
استمر األمر على هاجر إىل املدينة تع ّذر اجلمع بينهما ،فأمره هللا ابلتوجه إىل بيت املقدس ،و ّ
يوجه إىل ذلك بضعة عشر شهرا ،وكان صلّى هللا عليه وسلّم يكثر الدعاء واالبتهال أن ّ
ابلتوجه إىل البيت ّ الكعبة ،اليت هي قبلة إبراهيم -عليه السالم -فأجيب إىل ذلك ،وأمر
العتيق.
َّاس ما َوَّال ُه ْم َع ْن قِْب لَتِ ِه ُم الَِّيت كانُوا َعلَْيها قُ ْل الس َفهاءُ ِم َن الن ِ ول ُّ قال هللا تعاىلَ :سيَ ُق ُ
ِ ِ َّلل الْم ْش ِر ُق والْم ْغ ِرب ي ه ِدي من يشاء إِىل ِصر ٍ ِِ
ك َج َع ْلنا ُك ْم أ َُّم ًة اط ُم ْستَقي ٍم (َ )142وَكذل َ َ َ ُ َْ َ ْ َ ُ َّ َ
ِ َو َسطاً لِتَ ُكونُوا ُش َهداءَ َعلَى الن ِ
ت ول َعلَْي ُك ْم َش ِهيداً َوما َج َع ْلنَا الْقْب لَ َة الَِّيت ُكْن َ الر ُس ُ
َّاس َويَ ُكو َن َّ
ين ول ِممَّن ي ْن َقلِب على ع ِقب ي ِه وإِ ْن كانَت لَ َكبِريًة إَِّال علَى الَّ ِ
ذ َعلَْيها إَِّال لِنَ ْعلَ َم َم ْن يَتَّبِ ُع َّ
َ َ َ ْ الر ُس َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ
ف َرِح ٌيم ()143 َّاس لََرُؤ ٌ يع إِميانَ ُك ْم إِ َّن َّ
اَّللَ ِابلن ِ اَّلل وما كا َن َّ ِ ِ
اَّللُ ليُض َ َه َدى َُّ َ
ك َشطَْر الْ َم ْس ِج ِد الس ِ
ماء فَلَن ولِّي ن ِ
َّك قْب لَ ًة تَ ْرضاها فَ َوِّل َو ْج َه ََُ َ َ ك ِيف َّ ب َو ْج ِه َ قَ ْد نَرى تَ َقلُّ َ
احلَ ُّق ِم ْن ِ ِ َّ ِ
تاب لَيَ ْعلَ ُمو َن أَنَّهُ ْ
ين أُوتُوا الْك َ وه ُك ْم َشطَْرهُ َوإ َّن الذ َ ث ما ُكْن تُ ْم فَ َولُّوا ُو ُج َ احلَرِام َو َحْي ُْ
اَّللُ بِغافِ ٍل َع َّما يَ ْع َملُو َن [البقرة.]144 - 142 : َرّهبِِ ْم َوَما َّ
- 1شرح املفردات:
السفه :اخلفة والطيش .واملراد هبم
املستخف ابحلق ،و ّ
ّ السفهاء» :مجع سفيه ،وهو اجلاهل « ّ
يف اآلية :املنكرون ُتويل القبلة من اليهود واملنافقني واملشركني.
«ما ّوالهم» :ما صرفهم« .عن قبلتهم» :عن بيت املقدس.
«وسطا» :عدوال خيارا.
املشرفة.
«ينقلب على عقبيه» :يرتد عن اإلسالم عند ُتويل القبلة إىل الكعبة ّ
60
«لكبرية» :لشاقّة وثقيلة على النفوس.
توجهكم إىل بيت املقدس ،بل يقبله هللا منكم. «ليضيع إميانكم» :صالتكم فرتة ّ
وتردده املرة بعد املرة ،طلبا للوحي ،والتجاء إىل هللا تعاىل.
ُتوله ّ
«تقلّب وجهك»ّ :
«فول»:
«فلنولّينك» :لنوجهنّك ولنمكننّك من استقباهلا« .ترضاها»ُ :تبّها ومتيل إليهاّ .
اصرف« .شطر املسجد احلرام» :انحيته وتلقاءه.
- 2املعىن اإلمجال:
*يف اآلية األوىل :خيرب هللا تعاىل مبا سيقوله السفهاء من اليهود وغريهم قبل أن يقولوه،
وحكمة هذا اإلخبار ّتفيف أثره على نفوس املؤمنني ،بعد أن يفقد حقدهم ونقدهم عنصر
يردون عليهم
املفاجأة ،فال تضطرب له نفوس املؤمنني وال تقيم له وزان ،كما علمهم هللا كيف ّ
أبن هلل املشرق واملغرب ،وأن ال اعرتاض على أحكام هللا ،وهو يهدي من يشاء إىل صراط
مستقيم.
وجل أنه جعل هذه األمة خيارا عدوال ،وكما هداهم إىل
عز ّ*ويف اآلية الثانية :خيرب هللا ّ
أفضل قبلة جعلهم أفضل أمة وأعدل أمة ،يشهدون على األمم يوم القيامة ،ويشهد عليهم
رسوهلم صلّى هللا عليه وسلّم.
*ويف اآلية الثالثة :يعلم هللا رسوله ،أنه كان يراه وهو يقلّب وجهه يف السماء انتظارا لوحي
السماء أيمره بتحويل القبلة ،فتتحقق رغبة يف خمالفة يهود ،وحمبته لقبلة أبيه إبراهيم .والذين
أوتوا الكتاب يعلمون أن هذا حق ،وهللا سبحانه مطلع على سرائرهم وعالنيتهم.
- 3سبب النزول وأمهيته يف تفسري اآلايت:
61
النيب صلّى هللا عليه وسلّم صلّى إىل بيت املقدس ستة عشر - 1عن الرباء رضي هللا عنه؛ أ ّن ّ
شهرا أو سبعة عشر شهرا ،وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ،وأنه صلّى صالة العصر،
فمر على أهل املسجد وهم راكعون .قال: وصلّى معه قوم ،فخرج رجل ممن كان صلّى معهّ ،
النيب صلّى هللا عليه وسلّم قبل م ّكة ،فداروا كما هم قبل البيت، أشهد ابهلل لقد صلّيت مع ّ
ُتول قبل البيت رجال قتلوا ،فلم ندر ما نقول فيهم، وكان الذي مات على القبلة قبل أن ّ
ف َرِح ٌيم . يع إِميانَ ُك ْم إِ َّن َّ
اَّللَ ِابلن ِ
َّاس لََرُؤ ٌ اَّلل لِي ِ
فأنزل هللاَ :وما كا َن َُّ ُ َ
ض
- 2وعنه رضي هللا عنه ،قال :كان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم صلّى حنو بيت املقدس
يوجه
حيب أن ّ ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ،وكان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ّ
فتوجه حنو الكعبة ،وقال إىل الكعبة ،فأنزل هللا عز وجل :قَ ْد نَرى تَ َقلُّب وج ِهك ِيف َّ ِ
السماء ّ َ َْ َ ّ ّ
ِِ
السفهاء من الناس وهم اليهود :ما ّوالهم عن قبلتهم اليت كانوا عليها :قُ ْل ََّّلل الْ َم ْش ِر ُق َوالْ َم ْغ ِر ُ
ب ّ
النيب صلّى هللا عليه وسلّم رجلُ ،ث خرج بعد مع ىل
ّ فص اط ُم ْستَ ِقي ٍ
م ي ه ِدي من يشاء إِىل ِصر ٍ
ّ َْ َ ْ َ ُ
فمر على قوم من األنصار يف صالة العصر حنو بيت املقدس ،فقال :هو يشهد ما صلّىّ ،
فتحرف القوم حىت توجه حنو الكعبةّ ، أنه صلّى مع رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم وأنّه ّ
توجهوا حنو الكعبة .
ّ
صان من صحيح البخاري يعينان على فهم اآلايت املتق ّدمة من سورة البقرة ،ومينعان وهذان النّ ّ
أي إشكال أو لبس يف تفسريها. وجود ّ
62
- 4األحكام الشرعية ،والتوجيهات املستفادة:
األحكام الشرعية: .1
- 1جواز النسخ ،وهو إمجاع األمة ،وقد أمجع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ.
النيب صلّى هللا عليه وسلّم صلّى إىل بيت املقدس، وجواز نسخ السنة ابلقرآن ،وذلك أن ّ
وليس يف ذلك قرآن ،فلم يكن احلكم إال ابلسنة الفعليةُ ،ث نسخ ذلك ابلقرآن.
النيب صلّى هللا
السلف ،معلوم ابلتواتر من عادة ّ - 2قبول خرب الواحد ،وهو جممع عليه من ّ
عليه وسلّم يف توجيهه والته ورسله آحادا إىل اآلفاق ،ليعلّموا النّاس دينهم.
- 3فضل هذه األمة املسلمة على غريها من األمم؛ حيث قبلت شهادهتم على من كان
قبلهم من األمم.
ك َشطَْر الْ َم ْس ِج ِد ْ
احلَرِام الكعبة ،أي: - 4املراد ابملسجد احلرام يف قوله تعاىل :فَ َوِّل َو ْج َه َ
فول وجهك يف الصالة جهة الكعبة. ّ
- 5استقبال القبلة فرض من فروض الصالة ،وال بد منه يف صحة الصالة؛
إال ما جاء يف اخلوف والفزع ،ويف صالة النافلة على ال ّدابّة أو السفينة؛ فإن القبلة يف صالة
توجهت به. اخلوف جهة أمنه ،ويف صالة النافلة على الدابة حيث ّ
وأمجع العلماء على أ ّن املشاهد للكعبة ال جيزيه إال إصابة عني الكعبة يف صالته.
وأما غري املشاهد للكعبة ،فذهب الشافعية واحلنابلة إىل أن الواجب قصد اإلصابة مع
التوجه إىل اجلهة.
وذهب احلنفية واملالكية إىل أن الواجب استقبال جهة الكعبة .
رجح القرطيب يف تفسريه ما ذهب إليه احلنفية واملالكية ،فقال:واختلفوا هل فرض وقد ّ
الغائب استقبال العني ،أو اجلهة ،فمنهم من قال ابألول .قال ابن العريب :وهو ضعيف ألنه
تكليف ما ال يوصل إليه ،ومنهم من قال ابجلهة ،وهو الصحيح لثالثة أوجه:
األول :أنه املمكن الذي يرتبط به التكليف.
63
ك َشطَْر الْ َم ْس ِج ِد ْ
احلَرِام يعين من الثاين :أنه املأمور به يف القرآن لقوله تعاىل :فَ َوِّل
َو ْج َه َ
األرض من شرق أو غرب.
الثالث :أن العلماء احتجوا ابلصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت»
- 2اآلايت من سورة البقرة ،وهي مدنية ابإلمجاع ،أي نزلت بعد اهلجرة ،وحادثة ُتويل
القبلة وقعت ابملدينة بعد ستة عشر أو سبعة عشر شهرا من مهاجره صلّى هللا عليه وسلّم،
64
كما أن اآلايت صرحية يف الكشف عن جدال أهل الكتاب ،واعرتاضات املشركني واملنافقني.
تقرر أحكاما تشريعية وتعبدية ،وكل ذلك من خصائص القرآن املدين كما تقدم. وهي ّ
ف على وزن فعول. ف َرِح ٌيم ابملد واهلمز يف لََرُؤ ٌ - 3القراءات :قرأ اجلمهور إِ َّن َّ
اَّللَ ِابلن ِ
َّاس لََرُؤ ٌ
وقرأ الكوفيون وأبو عمرو لرؤف على وزن (فعل) وهي لغة بين أسد ،ومنه قول الوليد بن
الرؤف الرحيم. عمه ّوشر الطّالبني فال تكنه ...يقاتل ّ عقبةّ :
اَّللُ بِغافِ ٍل َع َّما يَ ْع َملُو َن ابلياء يف يعملون ،فيكون خطااب ووعيدا وقرأ اجلمهورَ :وَما َّ
ألهل الكتاب ،وقرأ ابن عامر ومحزة والكسائي عما تعملون ابلتاء ،فيكون خطااب ووعيدا
ألهل الكتاب أو أمة حممد صلّى هللا عليه وسلّم.
- 5يف اآلايت دليل على وقوع النسخ يف األحكام ،وقد ذكران إمجاع العلماء على أن القبلة
صحح ذلك ابن عبد الرب .وقد أول ما نسخ من القرآن ،وأهنا نسخت مرة واحدة ،كما ّ
استقر احلكم بعد سبعة عشر شهرا من مهاجره صلّى هللا عليه وسلّم ،أي :بدءا من أول
الربع الثاين من السنة الثانية للهجرة النبوية.
- 6أما اإلعجاز يف اآلايت فظاهر كما هو يف مجيع سور القرآن ،ومن الصور البالغية يف
اآلايت الثالثة:
ب َعلى َع ِقبَ ْي ِه استعارة متثيلية ،إذ مثّل هللا تعاىل من يرتد عن دينه مبن ينقلب علىَ ُ
-ي ْن َقلِ
عقبيه.
65
ف َرِح ٌيم من صيغ املبالغة ،والرأفة شدة الرمحة ،وق ّدم األبلغ مراعاة للفاصلة ،وهي امليم -لََرُؤ ٌ
اط ُم ْستَ ِقي ٍم.
يف قوله ِصر ٍ
ك أطلق الوجه وأريد به الذات ،من قبيل اجملاز املرسل ،من ابب إطالق اجلزء -فَ َوِّل َو ْج َه َ
وإرادة الكل.
66
اثنيا -احملكم واملتشابه القرآن وصفات من أنزله
متهيد:
يبدأ هللا تعاىل هذه السورة الكرمية حبرفني من حروف اهلجاء ،للتح ّدي واإلعجازُ ،ث
وجل
عز ّ النيب صلّى هللا عليه وسلّم ،وأنّه رسول مهمته البالغ ،وهللا ّ يبني سبحانه موقف ّ ّ
بصفاته اجلليلة وأمسائه احلسىن لن يتخلّى عنه ،بل سيحيطه برعايته وحفظه ،وهي سنته
سبحانه وتعاىل يف الدفاع عن رسله ،ومن تبعهم من املؤمنني.
ك الْ ُق ْرآ َن لِتَ ْشقى ( )2إَِّال تَ ْذكَِرةً لِ َم ْن َخيْشى ( )3تَْن ِز ًيال
قال هللا تعاىل :طه ( )1ما أَنْ َزلْنا َعلَْي َ
السماو ِ السماو ِ ِ
ات استَوى ( )5لَهُ ما ِيف َّ الر ْمح ُن َعلَى الْ َع ْر ِش ْ
ات الْعُلى (َّ )4 ض َو َّ مم َّْن َخلَ َق ْاأل َْر َ
ض وما ب ي نَ هما وما َُْتت الثَّرى ( )6وإِ ْن َْجتهر ِابلْ َقوِل فَِإنَّه ي علَم ِ
َخفى ()7 السَّر َوأ ْ
َ َْ ْ ُ َْ ُ ّ َ َوما ِيف ْاأل َْر ِ َ َْ ُ َ
احلُ ْسىن [طه.]8 - 1 : َمساءُ ْ اَّللُ ال إِلهَ إَِّال ُه َو لَهُ ْاأل ْ
َّ
- 1شرح املفردات:
«طه» :من احلروف املقطعة اليت أنزهلا هللا يف أوائل بعض سور القرآن للتحدي واإلعجاز.
«لتشقى» :لتتعب ،بفرط أتسفك على كفرهم ،وُتسرك على عدم إمياهنم.
«تذكرة» :تذكريا وعظة.
«استوى» :عال وارتفع ،وال يعلم البشر كيف ذلك ،فاالستواء معلوم والكيف جمهول.
«ما ُتت الثرى» :ما ُتت الرتاب من شيء.
«األمساء احلسىن» :الفضلى ،لداللتها على الكمال واجلالل ،والتعظيم والتقديس.
- 2املعىن اإلمجال:
إن الذي أنزل عليك هذا القرآن املرّكب من هذين احلرفني (طه) وأمثاهلما ،والذي
التحسر
ّ عجز قومك عن اإلتيان بسورة من مثله ،ما أنزله عليك اي حممد لتتعب وتنصب ،يف
على عناد املشركني مبكة ،أو يف املبالغة ابلقيام للعبادة والتهجد ،وإمنا أنزلناه ليكون تذكريا
67
ملن خياف هللا تعاىل ،فيقبل على طاعته وعبادته ،متحمال التضحيات يف سبيل إميانه ،وهو
كتاب منزل ،يتنزل من عند إله خالق لألرضني والسموات ،رمحن الدنيا واآلخرة ،استوى
على عرشه استواء يليق جبنابه العظيم ،ومالك ما يف السموات واألرض ومدبرهم ،العليم
ابلسر واجلهر ،ال إله يف الوجود غريه ،وال معبود حبق سواه ،له األمساء الفضلى اليت يعرفه
العباد هبا ،ويعبدونه حق العبادة.
68
َمسائِِه َسيُ ْجَزْو َن
ين يُْل ِح ُدو َن ِيف أ ْ َّ ِ ِ قال تعاىل :وَِِّ
احلُ ْسىن فَ ْادعُوهُ هبا َو َذ ُروا الذ َ
َمساءُ ْ
َّلل ْاأل ْ َ
ما كانُوا يَ ْع َملُو َن [األعراف.]180 :
فاملؤمن احلق يدعو هللا تعاىل أبمسائه احلسىن من غري زايدة وال نقص وال تغيري وال
تبديل.
69
الكتب ،فقالت له أخته:إنك رجس وال ميسه إال املطهرون ،فقم فاغتسل أو توضأ .فقام
عمر رضي هللا عنه وتوضأ ،وأخذ الكتاب ،فقرأ طه.
وذكر ابن إسحاق القصة مطولة ،وفيها أنه ذهب إىل دار األرقم بن أيب األرقم فأعلن
إسالمه أمام رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم.
وآايت السورة قصرية شديدة الوقع ،تقرر عقيدة األلوهية والرسالة .وكل ذلك من
خصائص القرآن املكي الذي نزل قبل اهلجرة النبوية.
70
- 5اإلعجاز والبالغة:
اآلايت الكرمية من أوائل سورة طه يف قمة الفصاحة والبيان العريب ،وهي كغريها من
خاصا ،ونغما
كالم هللا املعجز ،ومتتاز هناايهتا هبذه األلف املقصورة اليت جتعل يف األذن جرسا ّ
ساحرا ،ويف السرية النبوية البن إسحاق :أن عمر بن اخلطّاب مل ميلك نفسه بعد مساعها أن
قال :ما أحسن هذا الكالم وأكرمه.
وفيها من البالغة:
.1ذهب بعض املفسرين إىل القول أبن معىن طه اي رجل! أو اي حممد! أوطئ األرض
بقدميك أثناء الصالة ،وقد رجحنا أهنا من فواتح السور ،وأن املراد منها التنبيه
والتحدي ابإلعجاز البياين للقرآن الكري ،وهللا أعلم.
ض فيها االنتقال من ضمري املتكلم إىل ضمري الغائب ،والفائدة: ِ
.2مم َّْن َخلَ َق ْاأل َْر َ
أ -التفنن يف الكالم وما يعطيه من احلسن والروعة.
ب -التفخيم أوال يف أَنْ َزلْنا ابإلسناد إىل ضمري الواحد املطاعُ ،ث ثىن ابلنسبة إىل
املختص بصفات العظمة والتمجيد ،فضوعفت الفخامة مرتني .
71
احلض على القتال والثبات
اثلثا -الناسخ واملنسوخ ّ
متهيد:
فأقل ،وكان
فرض هللا تعاىل على اجملاهد يف سبيل هللا أن يثبت لعشرة من املشركني ّ
فلما كثروا خ ّفف هللا عنهم،
هذا يف ّأول اإلسالم ،واملسلمون عددهم قليل ،واملشركون كثريّ ،
فأقل.
ففرض هللا على الواحد أن يقف الثنني ّ
تال إِ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُك ْم ِع ْش ُرو َن صابُِرو َن ني َعلَى الْ ِق ِ قال هللا تعاىل :اي أَيُّها النَِّيب ح ِر ِ ِ ِ
ض الْ ُم ْؤمن َ َ ُّ َ ّ
ين َك َف ُروا ِأب ََّهنُْم قَ ْوٌم ال يَ ْف َق ُهو َن* ِ َّ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
يَ ْغلبُوا مائَتَ ْني َوإ ْن يَ ُك ْن مْن ُك ْم مائَةٌ يَ ْغلبُوا أَلْفاً م َن الذ َ
ض ْعفاً فَِإ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُكم ِمائَةٌ صابِرةٌ يَ ْغلِبُوا ِمائَتَ ْ ِ
ني َوإِ ْن م ك ي َن فِ
َّ أ م اَّلل عْن ُكم وعلِ
َ ْ َ ْ ُ َّف َُّ َ ْ َ َ َ ْاآل َن َخف َ
اَّلل مع َّ ِ ف يَ ْغلِبُوا أَلْ َف ْ ِ
ني إبِِ ْذ ِن َِّ
يَ ُك ْن ِمْن ُك ْم أَلْ ٌ
ين (األنفال) 66 – 65 : الصاب ِر َ اَّلل َو َُّ َ َ
- 1شرح املفردات:
وحضهم على القتال.
حرض املؤمنني على القتال» :حثّهم ّ
« ّ
«أبهنم» :بسبب أهنم.
«قوم ال يفقهون» :ال يدركون حكمة احلرب ،ويقاتلون على غري بصرية ،أو يقاتلون محيّة
واتباعا خلطوات الشيطان.
- 2املعىن اإلمجال:
حث املؤمنني حثا شديدا ،حىت يقدموا برغبة ونشاط ،ويثبتوا يف مواجهة النيب ّ
اي أيّها ّ
األعداء ،ابذلني نفوسهم رخيصة يف سبيل هللا ،وهلم البشارة من هللا أن العشرين الصابرين
احملتسبني أجرهم عند هللا يغلبون مائتني ،وأن املائة الصابرة يغلبون ألفا؛ ألهنم يقاتلون عن
عقيدة اثبتة ونفس مطمئنة ،وأعداؤهم يقاتلون محيّة جاهلية وألغراض شيطانية خبيثة.
72
وثبات املسلم أمام عشرة فما دون هي مرتبة العزمية ،واملطلب اإلهلي األولُ ،ث رخص
سبحانه للمسلم أن يثبت الثنني ،وكان التخفيف اإلهلي يف املطلب الثاين بسبب ضعف
األبدان وكثرة التكاليف وأعباء اجلهاد يف سبيل هللا ،مع مالحظة أنه ال عربة للعدد وال للكثرة
إذا مل تتوفر القوة املعنوية الناجتة عن جهاد النفس وااللتزام بتعاليم الشرع.
73
ب -التوجيهات املستفادة:
- 1أمهية الصرب يف ساحات اجلهاد واكتساب النصر.
- 2ال عربة ابلكثرة العددية يف ميدان احلرب والنزال ،بل العربة ابلقوة املعنوية ،واإلعداد
املسبق ،واألخذ جبميع الوسائل واألسباب.
- 3أمهية التوكل على هللا تعاىل وطلب النصر بعد إعداد العدد والعدد.
- 4الك ّفار ال يؤمنون ابهلل وال ابليوم اآلخر ،وال يتخذون األسباب الكاملة املؤدية للنصر،
فال حيصدون إال اخلذالن واخليبة يف الدنيا واآلخرة.
- 5اإلعجاز والبالغة:
اآلية يف القمة من اإلعجاز والفصاحة مع الوضوح التام والعذوبة والسالسة ،وهذا ال
جيتمع إال يف كتاب هللا العزيز وكالمه احلكيم ،وفيهما من البالغة:
ني وهو إثبات قيد االحتباك يف قوله تعاىل :إِ ْن يَ ُك ْن ِمْن ُكم ِع ْشرو َن صابِرو َن يَ ْغلِبُوا ِمائَتَ ْ ِ
ُ ْ ُ
الصرب يف الشرط األول ،وحذف نظريه من الشرط الثاين .وإثبات صفة الكفر يف اآلية األوىل،
وحذفها من الثانيةُ ،ث ختمت اآلية ابلصابرين للمبالغة يف طلب الصرب.
75
رابعا -القصة يف القرآن قصة أصحاب الفيل
متهيد:
يذ ّكر هللا تعاىل رسوله صلّى هللا عليه وسلّم حبادثة مشهورة كانت إرهاصا لرسالته،
وبني له يف سورة مكية قصرية كيف أهلك هللا أبرهة وفيله وجنوده، ووقعت يف سنة مولدهّ ،
ابلطري األاببيل ،وجعل مكرهم وتدبريهم هلدم الكعبة يف ضياع أليم وخسارة فادحة.
قال هللا تعاىل:
ضلِ ٍيل
حاب الْ ِف ِيل ( )1أََملْ َْجي َع ْل َكْي َد ُه ْم ِيف تَ ْ
َص ِك ِأب ْ بسم هللا الرمحن الرحيم أََملْ تََر َكْي َ
ف فَ َع َل َربُّ َ
ف مأْ ُك ٍ
ول ( )2وأَرسل َعلَْي ِهم طَْرياً أَاببِيل ( )3تَرِمي ِهم ِِحبجارٍة ِمن ِس ِج ٍيل ( )4فَجعلَهم َكع ْ ٍ
ص َ ََ ُْ َ َ ْ ّ ْ ْ َ َََْ ْ
[الفيل.]5 - 1 :
- 1شرح املفردات:
«أصحاب الفيل» :الذين قصدوا ّتريب الكعبة ،وهم من أهل احلبشة.
«أاببيل» :مجاعات متفرقة ،بعضها يف إثر بعض.
سجيل» :طني متحجر« .عصف» :ورق الزرع بعد احلصاد ،كالتنب وقشر احلنطة. « ّ
- 2املعىن اإلمجال:
أمل تعلم اي حممد علما يقينا كأنّه مشاهدة العني ،ما صنعه هللا القدير أبصحاب الفيل
الذين قصدوا هدم الكعبة؟! أمل يهلكهم وجيعل مكرهم وسعيهم يف االعتداء على البيت العتيق
يف ضياع وخسار؟! وسلط عليهم أضعف جنوده ،فأرسل الطري تقذفهم حبجارة صغرية من
طني متحجرّ ،ترق ك ّل من أصابته وتقتله ،فجعلهم هللا كورق الشجر الذي عصفت به
الدواب ُث راثته.
الريح ،أو كالزرع الذي أكلت منه ّ
76
- 3األحكام والتوجيهات املستفادة:
أ -األحكام:
- 1قدرة هللا تعاىل :وحكمته البالغة ،يف إهالك األحباش وهم على مقربة من البيت احلرام،
كل واحد منها بثالثة أحجار رابنية،وظهور قدرته سبحانه يف إرسال الطري مجاعات يقذفهم ّ
وهشمه.
دمره ّ حجران يف رجليه ،وحجر يف منقاره ،ال يسقط على شيء من جيش أبرهة إال ّ
- 2التوطئة ملبعث الرسول صلّى هللا عليه وسلّم ،والتأسيس لنبوته :قال أبو حيان يف البحر
احمليط ( :)512 /8كان صرف ذلك العدد العظيم عام مولده السعيد صلّى هللا عليه وسلّم
إرهاصا بنبوته ،إذ جميء تلك الطيور على الوصف املنقول من خوارق العادات ،واملعجزات
املتقدمة بني أيدي األنبياء عليهم الصالة والسالم ،،وقد ضلّل كيدهم ،وأهلكهم أبضعف
جنوده ،وهي الطري اليت ليست من عادهتا أهنا تقتل .
- 3تكري الكعبة وأتكيد حرمتها :لقد صان هللا الكعبة ،وصرف عنها أصحاب الفيل
الذين عزموا على هدمها وحمو أثرها ،فظهر التكري اإلهلي لبيته العتيق ،وأ ّكد الرسول صلّى
هللا عليه وسلّم إكرامها وحرمتها،
بقوله« :إن هللا حبس عن مكة الفيل ،وسلّط عليها رسوله واملؤمنني ،وإنه قد عادت حرمتها
اليوم كحرمتها ابألمس ،أال فليبلّغ الشاهد الغائب» .
- 4الفرق بني تع ّدي األحباش على الكعبة مبحاولة هدمها وّتريبها ،وتع ّدي قريش إبدخال
األواثن إليها وحوهلا :أن هللا سلّط عذابه على من قصد التخريب ألنه تع ّد على حقوق
احلجاج بن يوسف الثقفي، حق هللا تعاىل .وأما ّ العباد ،أما قريش فكان فعلهم تع ّداي على ّ
فلم يكن قاصدا ّتريب الكعبة ،وإمنا أراد قتل عبد هللا بن الزبري.
77
ب -التوجيهات املستفادة:
فدمرهم،
- 1االعتبار بقصة أصحاب الفيل الذين قصدوا االعتداء على البيت احلرام ّ
وجعلهم عظة على مدى الدهر.
برد العدو عنهم؛ ليبادروا إىل اإلميان برسالة حممد صلّى هللا عليه
- 2اإلنعام على قريش ّ
وسلّم.
- 3عجائب قدرة هللا تعاىل يف االنتقام من أعدائه.
- 4التأسيس لنبوة حممد صلّى هللا عليه وسلّم بدفع العدو عن الكعبة يف عام مولده امليمون.
.
79
خامسا
من أقسام القرآن االستدالل على هللا اخلالق املبدع
ضحاها (َ )1والْ َق َم ِر إِذا تَالها (َ )2والنَّها ِر إِذا َج َّالها (َ )3واللَّْي ِل َّم ِ
س َو ُ قال هللا تعاىلَ :والش ْ
س َوما َس َّواها ()7 ض َوما طَحاها (َ )6ونَ ْف ٍ ماء َوما بَناها (َ )5و ْاأل َْر ِ الس ِ
إِذا يَ ْغشاها (َ )4و َّ
خاب َم ْن َد َّساها [الشمس- 1 : فَأَ ْهلََمها فُ ُج َورها َوتَ ْقواها ( )8قَ ْد أَفْ لَ َح َم ْن َزَّكاها (َ )9وقَ ْد َ
.]10
- 1شرح املفردات:
«والشمس وضحاها» :يقسم هللا ابلشمس وضوئها إذا أشرقت صباحا ومت ضياؤها يف وقت
الضحى.
«والقمر إذا تالها» :تبعها يف اإلضاءة بعد غروهبا.
جالها» :أظهر الشمس للراءين. «والنهار إذا ّ
«والليل إذا يغشاها» :يغطّيها ويسرتها بظلمته.
«واألرض وما طحاها» :بسطها ووطّأها ،وجعلها صاحلة للحياة والعمران والزراعة.
سواها» :جعلها متناسبة األعضاء ،وخلقها سويّة مستقيمة على الفطرة «ونفس وما ّ
السليمة.
عرفها معصيتها وطاعتها ،وأفهمها حاهلما ،وما فيهما من «فأهلمها فجورها وتقواها»ّ :
احلسن والقبح.
طهرها ابلطاعة وعمل الرب واصطناع املعروف. «قد أفلح من زكاها»ّ :
«وقد خاب من دساها» :خسر من أضلها وأغواها.
80
- 2املعىن اإلمجال:
وحرها يف وقت الضحى ،ومها مصدر احلياة يقسم هللا تعاىل ابلشمس وبضوئها ّ
واحلركة لألحياء؛ كما أقسم ابلقمر الذي يتلو الشمس ويستم ّد نوره ابلليل منها ،وابلليل
والنهار ،وابلسماء وما فيها من عوامل مبنية بتقدير وإحكام ،وابألرض املنبسطة للنظر مع
اتمة ،وأهلمها الفطرة السوية،وسواها ّ
كرويتها واستقرارها ،وابلنفس اليت خلقها إبحكام ّ
وزودها العقل املميز ،ومنحها حرية االختيار.
ّ
- 3من املأثور:
روى البخاري ومسلم عن جابر رضي هللا عنه ،أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم قال ملعاذ
ضحاها َواللَّْي ِل إِذا َّم ِ
س َو ُ اس َم َربِّ َ
ك ْاأل َْعلَىَ ،والش ْ «هال صليت ب َسبِّ ِح ْ
رضي هللا عنهّ :
يَ ْغشى».
- 3القراءات:
ضحاها
س َو َُّم ِ
-قوله تعاىلَ :والش ْ
ضحاها بفتح أواخر آي هذه السورة. قرأ ابن كثري وابن عامر وعاصم َو ُ
ضحاها كسرا ،أي إمالة .ويفتح تَالها طَحاها. َّم ِ
س َو ُ -وقرأ محزة َوالش ْ
-وقرأ انفع أواخر هذه السورة بني الكسر (اإلمالة) والفتح.
-وقرأها اليزيدي عن أيب عمرو بني الفتح والكسر.
ضحاها وتَالها َج َّالها ابلكسر (ابإلمالة)
وقال عباس :سألت أاب عمرو ،فقرأ َو ُ
- 4اإلعجاز والبالغة:
اآلايت ظاهرة اإلعجاز يف شكلها ومضموهنا ،ويف أسلوب القسم ،وفواصلها
املوحدة ،وإيقاعها املوسيقى املوحد .وفيها من البالغة:
س والْ َق َم ِر وبني اللَّْي ِل والنَّها ِر وبني فُ ُج َورها وتَ ْقواها طباق.
َّم ِ
-بني الش ْ
83
-وبني َوالنَّها ِر إِذا َج َّالها واللَّْي ِل إِذا يَ ْغشاها وبني قَ ْد أَفْ لَ َح َم ْن َزَّكاها وقَ ْد َ
خاب َم ْن
َد َّساها مقابلة .والطباق واملقابلة من احملسنات البديعية.
-وفيها سجع مرصع ،حيث اتفقت الفواصل مراعاة لرءوس اآلايت.
84
فهرسات
صفحة موضوع
مق ّدمة 2 ........................................................................
مجع القرآن وكتابته 3 ..............................................................
الفصل األول 6.....................................................................................
النيب صلّى هللا عليه وسلّم ترتيبه -أمساء سوره 6.................................
حفظ القرآن وكتابته يف عهد ّ
الفصل الثاين 10 ...................................................................................
مجع القرآن يف عهد أيب بكر رضي هللا عنه 10 .........................................................
الفصل الثالث 13 ..................................................................................
مجع القرآن على عهد عثمان رضي هللا عنه 13 ........................................................
الرابع 18 ...................................................................................
الفصل ّ
رسم القرآن واملراحل التحسينية اليت ُترج فيها 18 ......................................................
86