You are on page 1of 24

‫د‪ .

‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬


‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬


‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬
‫أهداف دراسة احملور‪:‬‬
‫تبّي اخلصائص الفنية املميزة لشعر احلماسة (اإليقاع‪ /‬الصورة‪ /‬األساليب‪.)...‬‬
‫* ُن‬
‫* استجالء معاين احلماسة يف هذا الشعر (البطولة ‪/‬الشجاعة‪/‬الثقة ابلنفس‪.)...‬‬
‫* استخالص ال نـمــثنـل والقيم اليت يدعو إليها شعراء احلماسة (قيم حربية‪/‬سياسية‪ /‬دينية‪.)...‬‬
‫* إبداء الرأي يف ذلك‪.‬‬
‫متهيد‪:‬‬
‫فعل َّ‬
‫ضد‬ ‫فعل اإلنسان ابلشعر َّ‬ ‫إلينا يرت ُد شعر احلماسة ِّ‬
‫يؤسس القيم ن ِّ‬
‫ضد الفناء‪ .‬وإذا القصيدةن ٌ‬ ‫وُيلـد َ‬ ‫ن‬
‫ِّ‬
‫كل املرجعيات التارُيية املقيَّدة ‪ -‬وإن انطلق منها‪ -‬لـينحلق يف العامل‬
‫الشاعر فيه َّ‬ ‫شعري يتجاوز‬
‫ٌّ‬ ‫الزمان‪ .‬هو مولود‬
‫ن‬
‫املطلوب وحنن بّي"صفا"‬ ‫ن‬ ‫وعز‬
‫الطالب َّ‬
‫ن‬ ‫ض نعف‬
‫هدى‪َ .‬‬‫جيد عنده ً‬
‫الوجود من علٍ فيأيت بقبسٍ أو ن‬ ‫َ‬ ‫يتبص نر‬
‫عساه َّ‬
‫كأَّنا ِّ‬
‫ترد ند‪:‬‬ ‫النصوص ْفهما وال نفنيها أتويال َّ‬ ‫نقتل‬ ‫النص الشعري املكتوب و"مروة" املرجع يتقاذفنا التـَّطو ن‬
‫َ ً‬ ‫اف فال ن‬
‫حل‬
‫أنت وال يَـ ْر ُ‬
‫حل َ‬‫ـرت ُ‬
‫فْ‬ ‫مال‬
‫يفر اجلَ ُ‬‫كفى نَ َـه ًما لن َّ‬
‫وجوَهًرا ال‬
‫ضب ْ‬ ‫َّلت َمعينًا ال يـَْن ن‬
‫نصوصا معاملَ مث ْ‬
‫ً‬ ‫أعجب هبا‬
‫ْ‬ ‫ظهرت ثغور وسطور‬ ‫ْ‬ ‫إنَّنا كلَّما ْ‬
‫أصبنا منها ث ْغًرا‬
‫وشعر احلماسة رغم كونه يضرب قدميا يف اتريخ الشعر العريب متمنِّع ال ينحصر خاصة أنَّه يف مولده ونشأته‬ ‫يفىن‪ .‬ن‬
‫إسالمي مث بلغ أشدَّه يف القرنّي الثالث والرابع اهلجريَّّْي‪ .‬لك َّن الذي يعنينا يف هذه الورقات هي‬ ‫جاهلي ويف ي ِّ‬
‫فاعه‬
‫ٌّ‬ ‫َ‬
‫مرحلة االكتمال من خالل مناذج أليب متام واملتنيب وابن هانئ األندلسي‪ ،‬وهذا ختطيط العمل‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬شعر احلماسة من خالل َّ‬
‫املدونة النقدية‪.‬‬
‫القسم الثاين‪:‬عالقة شعر احلماسة ابحلروب (الشعر واملرجع) (شعر احلماسة وامللحمة)‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬شعر احلماسة من خالل اإلجراء الشعري ( أبو متام واملتنيب وابن هانئ األندلسي)‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫القسم األول‬
‫املدونة النقديَّة‬
‫احلماسة من خالل َّ‬
‫املدونة النقدية القدمية‪:‬‬
‫‪َّ /1‬‬
‫املدونة النقديَّة القدمية تنرجعنا حْتما إىل مسألة األغراض الشعرية وما كان‬
‫إن دراسة "احلماسة" يف ثنااي َّ‬ ‫َّ‬
‫أن أكثر األغراض اطـِّرادا يف هذه َّ‬
‫املدونة على مستوى‬ ‫فيها من اختالف بّي النقاد‪ .‬وخالصة هذا االختالف َّ‬
‫أن األغراض الثالثة األوىل ميكن أن نختتزل يف واحد‪.‬‬‫الفخر والراثءن واهلجاءن والغزل‪ .‬إال َّ‬
‫املدح و ن‬
‫التصنيف هي ن‬
‫نفسها معاين الفخر والراثء‬ ‫ٍ ِّ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ ٍ ٍ‬
‫فاملعاين املدحية من شجاعة وقوة وكرم وجندة ونسب شريف وعفة وذكاء وحلم هي ن‬
‫ففي املدح تننسب إىل املمدوح ويف الفخر تننسب لألان ويف الراثء تننسب للمرثي مشفوعةً مبا يدل على أن‬
‫معكوس هذه املعاين‬
‫ن‬ ‫املتحدَّث عنه ميِّت من قبيـل‪ :‬كان‪ /...‬فقدان بفقده كيت وكيت‪ ....‬وأما اهلجاء فهو‬
‫ِّ‬
‫املهجو‪ .‬وأما الغزل فمعلوم كونه يـنتَّخذ أحياان مقصودا لذاته وأحياان‬ ‫يذكرها الشاعر استهجاان هلا وحطا من قيمة‬
‫شك يف أن املعاينَ يف الشعر داخل هذه األغراض حتوم حول املنظومة‬ ‫حلية للقصيدة يف مقام الفخر أو املدح‪ .‬وال َّ‬
‫القيمية وجتوس خالل املشرتك اإلنساين استحساان (القيم احملمودة) واستهجاان (القيم املذمومة)‪ِّ .‬‬
‫وبّي أيضا أن‬
‫بعض املعاين األخرى كالشكوى والعتاب واحلكمة واحلماسة مبثوثة يف ثنااي هذه األغراض متلبِّسة هبا ُيدم بعضها‬
‫بعضا‪.‬‬
‫صنَّف غرضا مستقال بذاته يف كتب النقد‪،‬‬ ‫نتبّي كو َن احلماسة مل تن َ‬
‫فصل اخلطاب يف هذا القسم هو أن َّ‬
‫إن َ‬
‫ويف املقابل صنَّفها أصحاب املختارات اباب مستقال يف كتاابهتم كما فعل أبو متَّام يف محاسته وكما ورد يف محاسة‬
‫البصري حيث يقول‪ :‬فما ُوصف به اإلنسا ُن من الشجاعة والشدة يف احلرب والصرب يف مواطنها ُِّسم َي محاسةً‬
‫مقطوعات فيها ٍ‬
‫معان‬ ‫ٍ‬ ‫وبسالةً‪ .‬و ِّ‬
‫املتأم نل يف كتب االختيارات يف ابب احلماسة جيد أن أصحاهبا يتسقَّطون أبياات أو‬
‫محاسية وال يوردون القصيدة كلها‪ .‬فهم يبحثون عن معىن هو احلماسة داخل األغراض مجيعِّها‪.‬‬
‫‪ /2‬الكتاابت احلديثة‪:‬‬
‫ورد يف دائرة املعارف اإلسالمية ما يلي‪:‬‬
‫‪HAMASA: Bravoure, vaillance (Employé de nos jours, en concurrence avec Hamas pour‬‬
‫)" ‪traduire "enthousiasme‬‬
‫‪Al-hamasa:vers sur la bravoure à la guerre.‬‬
‫نتبّي َّ‬
‫أن‬ ‫احلماسة وفق هذا التعريف مرتبطة ابلشجاعة مضموان وابلشعر املتعلق ابحلروب اصطالحا‪ .‬وهنا َّ‬
‫مكون من ِّ‬
‫مكوانت األغراض الشعريَّة‬ ‫بكل‪ .‬فاحلماسةن ِّ‬ ‫ط ٍ‬
‫جزء ٍ‬ ‫ِّ‬
‫الكتاابت النقديَّةَ احلديثة تربط احلماسةَ ابألغراض رب َ‬
‫مدح محاسةً وتدخل يف‬‫كل ٍ‬ ‫كل فخ ٍر محاسة وتدخل يف املدح لكن ليس ُ‬ ‫األخرى‪ :‬تدخل يف الفخر لكن ليس ُ‬
‫اثء محاسة وعلى ذلك نقيس يف كوَّنا قد تدخل يف اهلجاء ولكن ما كل ٍ‬
‫هجاء محاسة‪.‬‬ ‫الراثء وليس كل ر ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬

‫‪2‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫نتبّي أن الشعر احلماسي ظهر أول ما ظهر يف العصر اجلاهلي لِّ َما كان فيه من‬ ‫وبناءً على ما سلف نميكن أن َّ‬
‫أن احلماسة موضوع من‬ ‫نتبّي أيضا َّ‬
‫كتب التاريخ‪ .‬كما نميكن أن َّ‬ ‫يت "أايم العرب" وخلَّدهتا‬ ‫ِّ‬
‫األشعار و ن‬
‫ن‬ ‫حروب نسـم ْ‬
‫أن احلماسةَ على ِّ‬
‫حد تعريفنا‬ ‫وصفوةن القول من خالل ما ذكران َّ‬ ‫اضا شعريَّةً نم ِّ‬
‫تنوعة‪َ .‬‬ ‫مواضيع الشعر وأَّنا تتخلَّ نل أغر ً‬
‫قيم سواءٌ أكانت تلك‬ ‫حوهلا ِّمن ٍ‬‫حيوم ْ‬ ‫تغن ابحلروب ِّم‬
‫وبكل ما ُ‬
‫ِّ ٍ‬ ‫ِّ‬
‫جامع منزوعٌ من ُمتـََع مدد فيه ٍم‬ ‫شعري ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫‪":‬معىن‬
‫احلروب من حيث كوُنُا ظاهرًة مطلقا"‪.‬‬
‫َ‬ ‫الشاعر‬
‫ُ‬ ‫قص َد‬
‫احلروب واقعيةً أم َ‬
‫ُ‬

‫القسم الثاين‬
‫عالقة شعر احلماسة ابحلروب ( النص واملرجع) وعالقته ابمللحمة‬

‫إن احلاجةَ إىل هذا القسم أملْتها دقةن املوضوع املتناول "شعر احلماسة" خاصة أن الكثريين ممن َّ‬
‫عرفوا‬
‫احلماسة قالوا "شعر احلرب" فينصرف اإلدراك العقلي للمسألة إىل ختيُل احلروب والواقع والتاريخ واألحداث‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ بّي الشعر والسرية الذاتية أو التاريخ عدا الوزن الذي انتظمه‪.‬‬ ‫ي ٍ‬
‫فرق‬ ‫اقع فأ ُ‬
‫الشعر مرآةً تعكس الو َ‬
‫ويتحول ن‬
‫َّ‬
‫واحلقيقة ‪-‬يف ما نرى‪َّ -‬‬
‫أن ربط اإلبداع عموما ربطا وثيقا ابلواقع والتاريخ أمر على غاية من اخلطورة ألنَّه يطمس‬
‫غري مقصودة لذاهتا‪.‬‬
‫فعل اإلبداع وينضعف َدفْ َق اللغة وعطاءَها فال تكون إال أداةً واصفةً َ‬
‫َ‬
‫ِّ‬ ‫ِّمن هذا املنطلق نقول َّ‬
‫إن عالقة شعر احلماسة ابملرجع أو الواقع والتاريخ عالقة واصلة هاجرة‪ .‬ولفهمها ال َّ‬
‫بد من‬
‫تناول أطر ٍ‬
‫اف خمتلفة‪:‬‬
‫‪ -‬األوضاعن التارُيية لزمن القول‪.‬‬
‫‪ -‬عالقة الشعر ابلتاريخ (اتصال‪ /‬انفصال)‪.‬‬
‫ْيحذر التلميذ الوقوع يف السرد التارخيي)‪.‬‬
‫توضيحي فل ْ‬
‫ٌّ‬ ‫‪ /1‬األوضاع التارخيية‪َ (:‬د ْوُر هذا العنصر‬
‫دولتهم على منـَعة وقوة جعلتاها‬
‫األمر للعباسيّي وأطاحوا ابلنظام األموي سنة ‪132‬هـ أقاموا ْ‬
‫استتب ن‬
‫َّ‬ ‫لَ َّما‬
‫لكن مل يكن من‬‫سمى العصر الذهيب‪ .‬و ْ‬ ‫يف العصر العباسي األول مركزا للسيطرة على العامل وهي الفرتة اليت تن َّ‬
‫تتحكم اخلالفة ببغداد يف هذه اإلمرباطورية املرتامية األطراف فكان ‪-‬كما يرى املربوك املناعي‪ -‬أ ْن قبِّل‬
‫السهل أن َّ‬
‫بعض األطراف البعيدة من اإلمرباطورية‬
‫تستقل ُ‬
‫َّ‬ ‫العباسيون منذ عهد هارون الرشيد (ت‪193‬هـ ‪ 808 /‬م) أن‬
‫العربية اإلسالمية على أن يبقى هلا – بصورة من الصور‪ -‬عالقةٌ مبركز اخلالفة بغداد" َّ‬
‫فتكونت الدولة األغلبية‬
‫بتونس والطولونية مبصر والطاهرية خبراسان والسامانية مبا وراء النهر‪ .‬ولكن حبلول النصف الثاين من القرن الثالث‬
‫امل االنقسام والتص ُدع الداخلي‬
‫بدأت عو ن‬
‫للهجرة (‪250‬هـ)– وهو العصر الذي يعنينا يف دراستنا للشعراء الثالثة – ْ‬
‫أصبحت‬
‫ْ‬ ‫فتدخل َّقو ناد اجليش يف السياسة املدنيَّة واإلدارة و‬
‫لنشهد فرتة تراجع سياسي قوي‪َّ .‬‬
‫َ‬ ‫يف الظهور واالشتداد‬
‫الت صغرية مل تعد هلا مبركز اخلليفة يف بغداد إال ِّصالت‬ ‫قت الدولة وانقسمت إىل دوي ٍ‬
‫متز ِّ‬
‫سلطةن اخلليفة شكليةً و َّ‬
‫نَ ْ‬ ‫ْ‬
‫‪3‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬
‫حر ِّ‬ ‫ضعيفة‪ .‬وتو ِّ‬
‫األطماع اخلارجية للهجوم على "دار اإلسالم" ْ‬
‫ودحر القوة اليت‬ ‫َ‬ ‫كت‬ ‫اصلت االنقسامات حىت َّ‬
‫اجهات يف الشرق والغرب‪ .‬وكانت هذه الفرتات التارُيية وخاصة‬
‫ت الو ن‬ ‫َّد ْ‬
‫احلروب وتعد َ‬
‫ن‬ ‫دحرْهتم طويال‪ .‬فكثرت‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫أبيات احلماسة يف‬ ‫حلروب عديدة ومواقع خلَّ ْ‬
‫دت انتصاراهتا وانكساراهتا ن‬ ‫مسرحا‬
‫ً‬ ‫اهلجريَّّْي‬
‫القرنّي الثالث والرابع ْ‬
‫دواوين الشعر‪.‬‬
‫‪ /2‬عالقة شعر احلماسة ابلواقع التارخيي (اتصال ‪ /‬انفصال)‪:‬‬
‫ٍ‬
‫وتقلبات‬ ‫قالقل‬
‫قرين َ‬‫اهلجريَّّْي ْ‬
‫شك بكون القرن الثالث والرابع ْ‬
‫املالمح التارُيية اليت ذكرانها تننبئ وال َّ‬
‫ن‬ ‫هذه‬
‫لكل هذه األحداث ولذلك تَ ِّرند يف‬ ‫ِّ‬
‫مصاحبا ِّ‬ ‫وجممع أمثاهلم" فسيكون‬ ‫الشعر "ديوا َن العرب‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫وحروب‪ .‬وما دام ن‬
‫اقع لكن على طريقة الشعر‪ .‬ويف ما يلي ِّذكر لبعض هذه املواقع املذكورة يف أشعار الشعراء الثالثة‬ ‫ثناايه هذه املو ن‬
‫غري التاريخ‪.‬‬ ‫دون اعتبار التسلسل التارُيي َّ‬
‫ألن غايتنا ن‬
‫‪ -‬أبو متَّام‪:‬‬
‫موقعة عمورية‪ 223 :‬هـ يف عهد املعتصم‪.‬وقد احتفل هبا أبو متَّام يف ابئيته املشهورة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫واللعب‬ ‫احلد بني اجل مِّد‬
‫الكتب يف ح مِّده ُّ‬
‫ِّ‬ ‫أنباء من‬
‫السيف أصد ُق ً‬‫ُ‬
‫‪:‬قائدها أبو سعيد الثغري‪ .‬وفيه نظم أبو متَّام قصيدته اليت مطلعها ‪:‬‬‫غزوة القسطنطينية ن‬
‫طار‬ ‫َّ‬ ‫أنت وال ال مِّد ِّ‬
‫خف اهلوى وتولـَّت األو ُ‬ ‫اير‬
‫اير د ُ‬
‫ُ‬ ‫أنت َ‬
‫ال َ‬
‫موقعة أرشق أو يوم أرشق ‪216 :‬هـ وفيه متَّ إمخاد الثورة البابكية‪ .‬وهبذه املناسبة قال أبو متام قصيدته اليت مطلعها‪:‬‬
‫يال‪.‬‬ ‫ختمط ِّ‬
‫وص ِّ‬ ‫وأقر بعد ُّ‬ ‫شر ِّ‬
‫مآل‬ ‫أمور الشرك َّ‬
‫َّ‬ ‫آلت ُ‬‫ْ‬
‫‪ -‬أبو الطيب املتنيب‪:‬‬
‫موقعة احلدث‪ 343 :‬هـ‪ .‬انتصر فيها سيف الدولة على الدُمستق وفيها يقول املتنيب‪:‬‬
‫املكارم‬
‫ُ‬ ‫وأتيت على ق ْدر الكرام‬ ‫ائم‬
‫على ق ْدر أهل العزم أتيت العز ُ‬
‫موقعة خرشنة‪339 :‬هـ وقد نظم فيها املتنيب قصيدتّي‪ :‬أوالمها قبل اهلجوم ومطلعنها‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫وانر يف الع ُد مِّو هلا ُ‬
‫أجيج‬ ‫ٌ‬ ‫يج‬
‫هلذا اليوم بع َد غد أر ُ‬
‫والثانية تسلية لسيف الدولة بعد اهلزمية ومطلعنها‪:‬‬
‫شجعوا‬ ‫إن قاتلوا جبـُنوا أو َّ‬
‫حدثوا ُ‬ ‫غريي أبكثر هذا الناس ينخدعُ‬
‫‪ -‬ابن هانئ‪:‬‬
‫موقعة جماز مسينا‪ 354 :‬هـ وفيها انتصر املعز لدين هللا الفاطمي على الُروم فقال ابن هانئ الميَّته اليت مطلعنها‪:‬‬
‫ول‬
‫وح ُج ُ‬
‫ما تنقضي غـَُرٌر له ُ‬ ‫طويل‬
‫يض يف الفخار ُ‬ ‫يوم عر ٌ‬
‫ٌ‬
‫ابن هانئ املعزَّ لدين هللا القصيدةَ اليت مطلعنها‪:‬‬
‫فتح مصر‪358 :‬هـ أنشد ن‬
‫ع‬
‫يوم من احلشر ْأرَو ُ‬
‫وقد راعين ٌ‬ ‫أسع‬
‫كنت ُ‬
‫أيت بعيين فوق ما ُ‬
‫ر ُ‬

‫‪4‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫استنتاج‪:‬‬
‫من خالل ِّ‬
‫كل ما سبق ميكن أن نصل إىل اعتبار عالقة شعر احلماسة ابملرجع عالقةً نسبيةً نميكن للدارس‬
‫الشعر ذلك يف شيء ألن الذي عليه ال نـم َعـ َّول هو شعرية النص من‬
‫فيها أن يكتفي مبعارف بسيطة جدا ولن يضري َ‬
‫حيث األساليب واملعاين ولو كانت لذة النص من لذة احلدث لكانت املراثي أسوأ القصائد واحلال أن رجال سأل‬
‫تحرق"‪ ،‬فربَ َط َ‬
‫مجال النص بصدق اإلحساس‬ ‫أجود أشعاركم؟ فقال ألننا نقول وأكبادان ت َّ‬
‫أعرابيا"ما ابل املراثي َ‬
‫واالنفعال‪ .‬وهو أمر ال نعدمه أيضا يف احلماسة فالوظيفة التأثريية للغة يف كثري من القصائد ليست وليدة متثل‬
‫احلدث أو ختيله كما وقع يف التاريخ بدافع احلمية بل وليدة قدرة الشاعر على ترمجة ما يعتمل يف الذات الشاعرة‬
‫فأمر تـن ْغنِّينا‬
‫الشاعر شاعرا إال لتميزه يف الشعور َّأما أن يكون ذلك جملرد وجود الشعور عنده ْ‬ ‫ن‬ ‫سم‬
‫من مشاعر‪ .‬ومل ين َّ‬
‫عنه صفتـنه اإلنسانية‪ ،‬وشعوره املتميز ينـ ـْتـ ـئِّ نم فنا وداللة يف هالة من السحر احلالل سحر البيان‪.‬‬
‫أليس يف اعتبار النص وليد املرجع إذن غبنا للنص يف ِّ‬
‫حد ذاته قبل صاحبه؟‬ ‫َ‬
‫فشعر احلروب متصل ابملرجع‬
‫ميكن إذن من الناحية املنهجية أن منيز بّي شعر احلماسة وشعر احلروب‪ .‬ن‬
‫ومدجمان معا كجزء من عملية واحدة"‪ .‬أما شعر احلماسة‬ ‫ٍ‬
‫ومنفصل عنه يف آن‪ .‬فـ ـ ـ ـ ـ ـ"النص والتاريخ منسوجان ُ‬
‫كل‬
‫كل شعر احلروب شعر محاسي وليس ُ‬ ‫كل ما نكتب منعتقا من املرجعية التارُيية لذلك فإن َّ‬
‫شعر احلروب و َّ‬
‫فيضم َ‬
‫ٍ‬
‫حروب‪ .‬وملزيد التدليل على انعتاق النص من املرجع ميكن أن نضبط بعض القصائد اليت مل تكن‬ ‫شعر‬ ‫ٍ‬
‫شعر محاسي َ‬
‫أحداث وهي يف ذات الوقت من شعر احلماسة ومن ذلك مثال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫اقع وال‬
‫وليدة مو َ‬
‫*عند ابن هانئ‪:‬‬
‫‪ -‬قصيدته يف جعفر بن علي األندلسي ومطلعها‪:‬‬
‫الصهيـل تـََهيـُّـبَا‬
‫كتم َن إعال َن َّ‬
‫و ْ‬ ‫سا‬
‫توج َ‬
‫ص َّر آذا ُن اجلياد ُّ‬
‫قد ُ‬
‫‪ -‬يف مدح أيب الفرج الشيباين ومطلعنها ‪:‬‬
‫ندواينم‬ ‫واملرتدي مِّ‬
‫ابلرداء اهلُ ِّ‬ ‫ديين‬
‫الر ِّم‬
‫قـُوال ملُعتقل الرمح ُّ‬
‫‪ -‬يف مدح أيب الفرج أيضا‪:‬‬
‫ض ِّ‬
‫ـب‬ ‫وابألسنـَّة واهلندية الق ُ‬ ‫يض واليَلـَ ِّ‬
‫ب‬ ‫ابلس ِّ‬
‫ابغات البِّـ ِّ‬ ‫حلفت َّ‬
‫ُ‬
‫* عند املتنيب‪:‬‬
‫أحسن ِّفعال منه ابللـِّمَم ِّم‬
‫ُ‬ ‫والسيف‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫حمتشم‬ ‫غري‬
‫ضيف أملَّ برأسي َ‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬قصيدته الفخرية ومطلعها‪:‬‬
‫الفخر بقوله‪:‬‬
‫األصلي َ‬
‫َّ‬ ‫الغرض‬
‫َ‬ ‫وهي اليت يبدأ فيها‬
‫وال القناعةُ ابإلقالل من ِّشيَمي‬ ‫التعلل ابآلمال من َأريب‬
‫ُ‬ ‫ليس‬
‫‪ -‬قصيدته يف مدح سيف الدولة اليت مطلعنها‪:‬‬
‫ِّ‬
‫لسهامه‬ ‫ريب ِّعداهُ ريشـَها‬ ‫ِّ‬
‫فؤاد مرام ِّه تُ ِّم‬
‫أاي راميا يُصمي َ‬

‫‪5‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫‪ -‬قصيدته يف مدح عمر بن سليمان الشرايب ومطلعنها‪:‬‬


‫والدمع منه ُم‬
‫ُ‬ ‫الواشني‬
‫َ‬ ‫ونت ـَّهم‬ ‫أعظم‬
‫والصد ُ‬‫ُّ‬ ‫نرى ِّعظ ـَما ابلبني‬
‫* عند أيب متام‪:‬‬
‫‪ -‬قصيدته يف مدح أيب دلف القاسم العجلي ومطلعنها‪:‬‬
‫ـك أو ي ِّ‬
‫ـكـفا‬ ‫أذكرن ما سلفا فال ت ُكفـَّ َّـن عن شأنيـْ َ َ‬
‫الرسوم فقد ْ‬ ‫َّأما ُّ‬
‫‪ -‬قصيدته يف مدح عياش بن هليعة ومطلعنها‪:‬‬
‫وسا‬
‫ورَّم ابلصرب عقال كان َمألـُ َ‬
‫َ‬ ‫وسا‬
‫أحيا حشاشةَ قلب كان ََمـْلـُ َ‬
‫يذهنب الظ ُن إىل أننا هبذا احلديث إمنا نلغي املرجع ونقصيه فهذا من احملال‪ .‬ولكننا جنعله جزءًا من ٍ‬
‫كل‬ ‫َّ‬ ‫وال‬
‫شعر احلماسة مولودا شعراي‬
‫يذهنب الظن هبذا اإللغاء إىل كوننا جنعل َ‬
‫َّ‬ ‫االهتمام به إال مبقدار‪.‬كما ال‬
‫ن‬ ‫فال يكون‬
‫شعر احلماسة مستقال‬ ‫خالصا نميثِّل أرقى ما وصل إليه اإلبداعن الشعري يف َّ‬
‫املدونة العربية فهذا الظن أيضا قد جيعل َ‬
‫مرة أخرى هو َّ‬
‫أن ما قلناه يف شأن عالقة شعر احلماسة ابملرجع ينطبق‬ ‫لكن الذي نؤكده َّ‬
‫بذاته جنسا فنيا مفارقا‪ .‬و َّ‬
‫متاما على الشعر كله‪.‬‬
‫وأتكيدان على"الكون الشعري" و"حلظة املكاشفة‬
‫َ‬ ‫شعر احلماسة واصال فاصال مع املرجع‬
‫ولعل اعتباران َ‬
‫ِّ‬
‫قائم‬
‫شعر احلماسة جنسا خمصوصا َ‬‫الشعرية" و"تلبمس القيمي ابالنفعايل" أيضا قد ينطوف ابلقارئ بعيدا فيعترب َ‬
‫الذات وما هو جبنس ألننا نتحدَّث عن معىن (احلماسة) داخل أغراض (فخر‪ /‬مدح‪ /‬راثء‪ /‬هجاء) داخل جنس‪.‬‬
‫وقد يكون من وجيه ما يَعت ُد به َم ْن جيعل احلماسةَ جنسا هو تشاهبها و"امللحمة" بل إن هناك من النقاد من يعترب‬
‫الكثري من اجملازفة لعدة أسباب قد ال نتبيَّنها إال ابحلديث‬
‫ن‬ ‫احلماسة يف الشعر العريب ملحمةً عربيةً وهو اعتبار فيه‬
‫عن العالقة بينهما يف عنص ٍر منفصل‪.‬‬

‫عالقة شعر احلماسة جبنس امللحمة‬


‫نقاط االختالف‪:‬‬
‫املتكامل‬
‫ن‬ ‫* امللحمة جنس من الشعر القصصي البطويل الذي مل تعرف العربيةن ً‬
‫شبيها له من حيث البناءن القصصي‬
‫ي لألبيات الشعرية اليت تبلغ اآلالف‪.‬‬
‫احلجم العدد ُ‬
‫ن‬ ‫ومن حيث‬
‫* ختتلف امللحمة عن احلماسة من حيث الشخصيات اليت تسمو فوق املستوى العادي للناس األسوايء وتتصف‬
‫مبا هو من مسات األبطال األسطوريّي ومن مسات اآلهلة أو أنصاف اآلهلة‪.‬‬
‫* الشاعر يف هذا الضرب القصصي ال يتطرق إىل عواطفه ووجدانه فهو شاعر موضوعي يتحدث يف قصته عن‬
‫كل ما ميكن أن ُيلق القصة‪ .‬وعادة ما ينظم قصيدته على وزن واحد‬ ‫بطل معتمدا على خياله وعلى اتريخ قومه و ِّ‬
‫ال ُيرج عنه‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫* ومن ميزات امللحمة أيضا َّ‬


‫أن البطل األصلي فيها شبهن إله أي نصف بشر ونصف إله‪ .‬وجيب أن تكون فيه قوة‬
‫عالية فوق القدرة البشرية ك ـ ـ"رستم" يف " الشاهنامة" و" أشيل" يف اإللياذة"‪.‬‬
‫أقدمها زمنا‪.‬‬
‫* أحداث امللحمة مستوحاة من ماضي احلياة البشرية حبيث تكون أفضل املالحم قيمة َ‬
‫* البعد املكاين يف امللحمة واسع جدا حبيث يشمل العامل نبرَّمته يف بعض األحيان‪ .‬ففي األوديسة مثال تشمل‬
‫امللحمة كل األصقاع املعهودة يف ذلك الزمان‪.‬‬
‫وجوه التشابه‪:‬‬
‫احلماسة‬ ‫معيار املقارنة‬
‫‪ -‬وصف احلروب وسرد أحداث املعارك والتغين ابلبطوالت‬
‫واالنتصارات‪.‬‬
‫‪ -‬التعبري عن القيم احلضارية اليت تنهل منها القصيدة واليت يؤمن هبا‬ ‫املوضوع العام‬
‫الشاعر ويدعو إليها كالشجاعة والبطولة والفروسبة والشدة والصرب‪...‬‬
‫‪ -‬التناول البطويل لألحداث‪ :‬تصوير الزحف وحتقيق النصر‪.‬‬
‫‪ -‬انتقاء اللفظ اجلزل الفخم واإلكثار من استخدام ِّ‬
‫احملسنات البالغية‬
‫األساليب الفنية والعناية الفائقة ابلتصوير حلفز السامع‪ /‬القارئ على استحضار املشهد‬
‫والتفاعل معه‪.‬‬
‫‪ -‬ال ترقى أبيات احلماسة إىل ما يف امللحمة من تكامل البنية الفنية‬
‫وجودة احلبك القصصي لكن هذا ال مينع من متاسك بنائها وتكامله‪.‬‬ ‫البناء‬
‫‪-‬كالمها ِّ‬
‫حيور التاريخ وال ينقله فالشاعر يف احلالتّي ال تشغله مسايرة‬
‫احلدث العابر بقدر ما يشغله نقل احلدث إىل قيمة اثبتة وحتويل‬ ‫املوقف من‬
‫املاضي املنقضي إىل زمن فين مطلق‪.‬‬ ‫التاريخ‬
‫تتجسد فيها اخلصال واملثل العليا جت ُسدا ابلغا‪.‬‬
‫‪ -‬شخصيات منوذجية َّ‬ ‫الشخصيات‬
‫‪ -‬القائد منوذج أو رمز ملرحلة أو عصر أو جيل أو أمة أو عقيدة‪.‬‬

‫قائم الذات له مميزاته اليت متيزه‬


‫جنسا فنيا َ‬
‫إن أول ما ميكن أن نتبينه من خالل ما سبق هو كو نن امللحمة ً‬
‫َّ‬
‫ليتشكل بذاته‪.‬‬ ‫عن بقية األشكال اإلبداعية فنا ومضموان‪ .‬أما شعر احلماسة فلم يَ ْنءَ عن األغراض اليت ورد فيها‬
‫تلونت احلماسة من شاعر إىل آخر ومن زمن‬ ‫متشكل بتش ُكل الغرض داخل جنس هو الشعر‪ .‬وقد َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ومن مثة فهو‬
‫اجلانب املضموين‬
‫َ‬ ‫أن قولنا "معىن شعري"ال يعين مطلقا‬ ‫إىل زمن تل ُوان جعلها معىن شعراي منفتحا‪ .‬وهنا نؤكد َّ‬
‫لوحده معزوال بل يعين املضامّي وتش ُكلَها داخل اخلصائص الفنية‪ .‬وهو أمر ينرجعنا إىل عالقة اللغة ابلفكر من‬

‫‪7‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫منظور فلسفي‪ .‬فاللغة ال توجد مبعزل عن الفكر والفكر ال يوجد مبعزل عن اللغة‪ .‬وجيب أن يكون التلميذ واعيا‬
‫تبّي اجلمالية الكلية للنص ومواطن الضعف فيه‪ .‬وليس ما سنقوم به من‬ ‫يتسىن له ُ‬
‫وعيا واضحا هبذا التالزم حىت َّ‬
‫فصل يف العنصر املوايل سوى عملية إجرائية تعليمية لغاية اإلفهام والتمثل التجسيدي املبسط للمسألة اليت نتناوهلا‪.‬‬
‫‪Ferdinand de‬‬ ‫أما العالقة األصلية للغة ابلفكر فينطبق عليها ما قاله عاملن اللسانيات فردينان دي سوسري‬
‫‪ Saussure‬حول عالقة الدال ابملدلول من كوَّنما كالوجه والقفا للورقة مبعىن أنه ال ميكن الفصل بينهما‪.‬‬

‫القسم الثالث‬

‫اإلجراء الشعري‬

‫اهلجريَّّْي الثالث والرابع أي زمن اكتمال شعر احلماسة خاصة ملا‬


‫مناذج من شعر القرنّي ْ‬
‫يف هذا القسم ن‬
‫مظنـَّة احلروب‪ .‬وسنحاول دراسة بعض هذه النماذج من حيث اإلجراء‬ ‫متيز به هذان القرانن من قالقل تكون ِّ‬
‫َ‬
‫دق التعريف الذي حددانه للمعىن‬ ‫ماص ن‬ ‫ٍ‬ ‫فين ٍ‬ ‫الشعري يف بعدين ٍ‬
‫بعد ٍِّ‬
‫مضموين أي كيفية القول ومضامينه وهو ْ‬ ‫وبعد‬
‫الشعري‪ .‬ولكن ما دام األمر يتعلق أبكثر من شاعر فإن احلديث سيتعلَّق ابملشرتك بينهم واملختلف فنا وداللة‪.‬‬
‫املشرتك بني الشعراء‪:‬‬
‫َ‬ ‫‪/1‬‬
‫‪ 1-1‬املشرتك من حيث اخلصائص الفنية‪:‬‬
‫* اإليقاع اخلارجي‪:‬‬
‫البحر‪ :‬امليل إىل استخدام البحور الشعرية القوية ذات النفس الطويل والنغم املديد من قبيل الكامل والطويل‬
‫والوافر والبسيط ذلك ألن هذه البحور حتتمل عميق املعاين‪ .‬ولكن عند حديثنا عن البحر ال َّ‬
‫بد أن نشري إىل‬
‫أن اختيار البحر سواء أكان عملية واعيةً مقصودة أم كان من جوهر الطبع الشعري كما يرى آخرون فإنه ال‬
‫يتحدد ابحلماسة مبعىن أن الشاعر أوان إنشاء القصيدة إمنا يتمثل الغرض الذي من أجله خلق قصيدته‪ .‬وما‬
‫دامت احلماسة ال متثل غرضا مستقال فإن البحر ينطبق أوال على الغرض الذي هي مبثوثة فيه ولكن يناسب‬
‫املقال املقام ألن املدح والفخر غرضان ينبعان من القوة والبأس تناسبهما احلماسة اليت هي ٍ‬
‫تغن ابلقوة والشدة‬
‫وإذا انسبتهما فقد انسبت البحور اليت وردا فيها‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫الروي‪ :‬ال نبالغ إذا قلنا إن الشعراء الثالثة تغليبا مل يرتكوا حرفا من حروف املعجم مل ينظموا وفقه على تفاوت‬
‫وردت عليها أبيات احلماسة حروف شديدة‬
‫لكن أكثر احلروف اليت ْ‬ ‫كم األبيات والقصائد‪ .‬و َّ‬ ‫بّي احلروف يف ِّ‬
‫كالالم وامليم والدال واهلمزة والقاف لتتناسب قوة املعاين مع جرس الروي‪.‬‬
‫التصريع‪ :‬ال ميكن أن نتحدَّث عن التصريع يف عالقة مباشرة ابحلماسة ألن التصريع يَ ِّس نم القصيدة كلَّها وهي‬
‫كل فإن التصريع ينهض بوظيفتّي داخل القصيدة على حسب ما‬ ‫إما مدح أو راثء أو فخر أو هجاء‪ .‬وعلى ٍ‬
‫عرفه ابن رشيق بكونه‬ ‫ابن رشيق فهو نحي ِّدد جنس اخلطاب أي الشعر وينعلن َّ‬
‫الروي امللتزم يف القصيدة وقد َّ‬ ‫أورد ن‬
‫"مبادرة الشاعر القافي َة ليُعلم يف أول وهلة أنه أخذ يف كالم موزون غري منثور"‪.‬‬
‫ويف شأن اإليقاع اخلارجي ميكن أن نقول إن الشعراء الثالثة كانوا مقلـِّدين ألن نسنَّة الشعر يف زماَّنم ال تعرتف‬
‫القدي ينعترب من ابب‬
‫اخلارجي َ‬
‫َّ‬ ‫الشكل اإليقاعي‬
‫َ‬ ‫مبا نتداوله اليوم من تلوين يف الكتابة الشعرية فاعتمادهم هذا‬
‫اخلضوع لل ُسنـَّة واالستجابة ألفق االنتظار وللذائقة التقبلية‪.‬‬
‫* اإليقاع الداخلي‪:‬‬
‫ونقصد به كل العناصر اإليقاعية الدَّاخليَّة ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬اجلناس‪ :‬كقول أيب متام‪:‬‬
‫ِّ‬
‫واللعب‬ ‫أنباء من الكتب يف ح مِّده احلد بني اجل مِّد‬
‫السيـ ـف أصدق ً‬
‫والريَ ِّ‬
‫ب‬ ‫ِّم‬
‫الشك مِّ‬ ‫توُنن جالءُ‬
‫ُم َّ‬ ‫الصحائف يف‬
‫سود َّ‬
‫الصفائح ال ُ‬
‫بيض َّ‬
‫ُ‬
‫أو قول املتنيب‪:‬‬
‫العظائم)‬
‫ُ‬ ‫صغارها وتصغر يف عني (العظيم) (‬
‫تعظم) يف عني الصغري ُ‬
‫و( ُ‬
‫‪-‬الرتديد ‪ :‬وين َّ‬
‫قس نم إىل ‪:‬‬
‫‪ -‬الرتديد الصويت ‪ :‬وهو تـَكرار حرف‪.‬كقول املتنيب‪:‬‬
‫متالطم‬
‫ُ‬ ‫وموج املنااي حوله‬
‫ُ‬ ‫بناها فأعلى والقنا يقرع القنا‬
‫أو قول ابن هانئ‪:‬‬
‫إن الذي شربوا رحي ٌق سلس ُل‬ ‫الروم من َسكراهتم‬ ‫لن يستفيق ُ‬
‫‪ -‬الرتديد اللفظي وهو تـَكرار كلمة‪ .‬كقول ابن هانئ‪:‬‬
‫املفضول والوجهُ القفا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فالفاضل‬ ‫عُبدا ُن ُع ٍ‬
‫بدان وت ـُ ـ ـبَّ ُع تُـ ـ ـ ـبَّ ٍع‬
‫ُ‬
‫أو قول أيب متام‪:‬‬
‫ِّ‬
‫اخلطب‬ ‫نثر ِّمن‬
‫نظم من الشعر أو ٌ‬ ‫فتْـ ـ ُح الفتوح تعاىل أن حييط به ٌ‬
‫ب‬‫ش ِّ‬‫األرض يف أثواهبا القـُ ُ‬
‫ُ‬ ‫أبواب السماء له وتربز‬ ‫فتـْـ ٌح تفتـَّ ُح ُ‬

‫‪9‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬
‫‪-‬الرتديد الرتكييب‪ :‬وهو تَكرار الرتكيب‪ .‬ومن النقاد من ي ِّ‬
‫سميه املوازنة الرتكيبية‪ .‬وذلك كقول ابن هانئ‪:‬‬ ‫ن‬
‫ات حدي ُد‬
‫وأفواه ُه َّن الزافر ُ‬
‫ُ‬ ‫صواعق‬
‫ُ‬ ‫احلاميات‬
‫ُ‬ ‫فأنفاس ُه َّن‬
‫ُ‬
‫أو قول املتنيب‪:‬‬
‫املكارم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وأتيت على قدر الكرام‬ ‫ائم‬
‫على قدر أهل العزم أتيت العز ُ‬
‫‪ -‬التقسيم‪ :‬وهو زينة إيقاعية يكون هلا ن‬
‫دور التطريب والغنائية‪ .‬ويبدو ذلك يف قول أيب متام‪:‬‬
‫تقب‪ /‬يف هللا مر ِّ‬
‫تغب‪/‬‬ ‫هلل مر ٍ‬ ‫معتصم‪ /‬ابهلل ٍ‬
‫منتقم‪/‬‬ ‫ٍ‬ ‫تدبريُ‬
‫أو قول ابن هانئ‪ :‬أبَين العوايل السمهرية‪ /‬والسيوف املشرفية‪ /‬والعديد األكثر‬
‫أو قول املتنيب‪:‬‬
‫والرب يف شـُغُ ٍل ‪/‬والبحر يف ٍ‬
‫خجل‬ ‫َُّ‬ ‫والروم يف ٍ‬
‫وجل‪/‬‬ ‫ُ‬ ‫فنحن يف ٍ‬
‫جذل ‪/‬‬
‫قوة املعجم‪ :‬سيطرة معجم القوة‪:‬‬
‫معجم احلرب ومعجم املوت وما يتصل هبما من القتل واجلراح والدماء‪.‬‬
‫بطل قاين الذوائب من آين دمٍ سرب‬ ‫يقول أبو متام‪:‬كم بني حيطاُنا من ٍ‬
‫فارس ٍ‬
‫ويقول املتنيب عن قلعة احلدث‪:‬‬
‫اجلماجم‬
‫ُ‬ ‫فلما دان منها سق ْتها‬
‫َّ‬ ‫الغمام الغُُّر قبل نزوله‬
‫ُ‬ ‫سق ْتها‬
‫معجم القوى الطبيعية ‪ :‬اإلعصار – الربق‪ -‬الرعد‪ -‬الرايح‪ -‬السحاب – النار ‪-‬اللهب‪ -‬الدخان‪ -‬املارج‪-‬‬
‫الوقود‪...‬‬
‫اإلعصار‬
‫ُ‬ ‫حيطان قسطنطينة‬ ‫قسطلها على‬
‫يقول أبو متام ‪:‬حىت الْتوى من نقع ْ‬
‫قدت من دون اخلليج ألهلها انرا هلا خلف اخلليج َشر ُار‬ ‫ويقول‪ :‬أو َ‬
‫معجم الوحش‪ :‬أي احليواانت الضارية كالسباع واألنسود والكواسر من الطري‪.‬‬
‫شها مما يشق من الغبار األكدر‬ ‫القشاعم ري َ‬
‫َ‬ ‫يقول ابن هانئ ‪ :‬وكأمنا سلَب‬
‫فليس هلا إال النفوس م ِّ‬
‫صي ُد‬ ‫جوارح‬ ‫كما يقول‪ :‬من الطري إال أُنن‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويقول املتنيب متحداث عن اجلوارح اليت تتغذى ببقااي جثث القتلى الذين أرداهم املمدوح‪:‬‬
‫والقوائم‬
‫ُ‬ ‫لقت أسيافـُهُ‬
‫وقد خـُ ْ‬ ‫ضرها خل ٌق بغري ٍ‬
‫َمالب‬ ‫وما َّ‬
‫إيثار اللفظ اجلزل املصقول القوي‪ :‬ومن ذلك قول أيب متام‪:‬‬
‫رق ـَّت حواشي الدهر فهي متَْرَم ُر وغدا الثرى يف ِّحل ـْـيها َّ‬
‫يتكس ُر‬
‫استخدام احلوشي جماراة للقدامى وإمعاان يف إحداث الشعور ابلقوة والفخامة‪.‬‬
‫املعجم القرآين ‪ :‬ومن ذلك قول أيب متام ‪:‬‬
‫انرا هلا خلف اخلليج َشر ُار‪.‬‬ ‫قدت من دون اخلليج ألهلها‬
‫أو َ‬
‫‪10‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫فر"‪.‬‬
‫صٌ‬ ‫كالقصر كأنه جـِّ ٌ‬
‫ماالت ُ‬ ‫ْ‬ ‫ش َرٍر‬
‫وفيه متثل لقوله تعاىل عن جهنم‪ ":‬إُنا ْترمي ب َ‬
‫اإلعصار‬
‫ُ‬ ‫قسطلها على حيطان قسطنطينة‬ ‫أو قوله‪ :‬حىت الْتوى من نقع ْ‬
‫ص ْبحا‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ضب ًحا فاملُورايت ق ْدحا فاملُغريات ُ‬
‫والعادايت ْ‬ ‫وهو مستوحى من قوله تعاىل عن اخليل العادايت "‬
‫فأثر َن به ن ـَق ـْ ًـعا "‪.‬‬
‫ْ‬
‫ومن ذلك أيضا قول ابن هانئ‪:‬‬
‫لقد ظاهرتـْها ُع َّدةٌ وعدي ُد‪.‬‬ ‫ت‬ ‫ِّ‬
‫املنشآت اليت َس َر ْ‬ ‫َأما واجلواري‬
‫املنشآت يف البحر كاأل ْعالم"‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هو استلهام لقوله تعاىل ‪ ":‬وله اجلواري‬
‫عود‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫الطالعات ُس ُ‬ ‫النجوم‬ ‫كتائب وأن‬ ‫ِّ‬
‫الذارايت‬ ‫الرايح‬ ‫أو قوله‪ :‬وأن‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِّ‬
‫والذارايت ذَ ْرًوا"‪.‬‬ ‫ففيه استلهام لقول هللا عز قائال‪" :‬‬
‫إعصار‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أرض ُه ْم معروشةً فأصاهبا من جيشه‬ ‫وكذلك قوله‪ :‬كانت جـِّناان ُ‬
‫ٍ‬
‫روشات"‪.‬‬ ‫مع‬
‫وغري ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫فهو مأخوذ من قوله تعاىل‪" :‬وهو الذي أنشأ جنات معروشات َ‬
‫* تلوين الصورة وتنويع أساليب إخراجها ‪ :‬وذلك ابعتماد‪:‬‬
‫‪ -‬احلركة ‪ :‬صولة اجليش الذي ينتصر له الشاعر وهجومه وسيطرته على ساحة الوغى وفرار األعداء‪.‬‬
‫يقول أبو متام‪:‬‬
‫أس ٍد يف صدور رجال‬
‫بقلوب ْ‬ ‫أسرى بنو اإلسالم فيه وأ ْد َجلوا‬
‫ْ‬
‫ت إز َار احلرب ابإلسبال‬
‫َأم َر ْ‬ ‫وقهم يف ساعـة‬
‫قد مشَّروا عن ُس ْ‬
‫‪ -‬اللون‪ :‬محرة الدماء‪ .‬يقول املتنيب ‪:‬‬
‫الغمائم‬
‫ُ‬ ‫أي الساقيـ ْـني‬
‫احلدث احلمراءُ تعرف لونـَها وتعلم ُّ‬
‫ُ‬ ‫هل‬
‫اجلماجم‬
‫ُ‬ ‫فلما دان منها سقتها‬ ‫الغر قبل نزوله‬
‫الغمام ُّ‬
‫ُ‬ ‫سقتـْها‬
‫بسنَّة السيف واحلناءُ من دمه ال ُسنَّة الدين واإلسالم َمتضب‬
‫ويقول أبو متام‪ُ :‬‬
‫‪ -‬اإلضاءة‪ :‬مقابالت بّي النور والدُجى والشمس والظالم والضوء والظلمة‪ .‬ويف هذا اإلطار يقول أبو‬
‫متام‪:‬‬
‫ِّ‬
‫شحب‬ ‫وظلمة من دخان يف ضحى‬ ‫ضوءٌ من النار والظلماء عاكفة‬
‫عود‬
‫ور ُ‬‫ابرقات ََجَّةٌ ُ‬
‫ٌ‬ ‫له‬ ‫غمام ُم ْك َف ِّه ٌّر صبريُه‬
‫ويقول ابن هانئ‪ :‬عليها ٌ‬
‫سواد الليل مما تزامح ْه‬
‫ومل ُ‬ ‫َّ‬ ‫مل ضوءُ الصبح مما تغريه‬ ‫ويقول املتنيب‪ :‬فقد َّ‬
‫‪ -‬الصوت‪ :‬جلبة املعركة وقعقعة السالح وقرع القنا ابلقنا‪ .‬حيث يقول أبو متام‪:‬‬
‫مغار‬
‫جلب وث َّـم ُ‬‫جيش له ٌ‬‫ٌ‬ ‫ب وهاهنا‬‫ش ُّ‬
‫انر وغ ـًى تُ َ‬
‫فهناك ُ‬
‫أرض العراق ختُُّوفا‬ ‫رجفت داير ر ٍ‬
‫لزلت ُ‬
‫وتز ْ‬ ‫بيعة‬ ‫ْ ُ‬ ‫ويقول ابن هانئ‪ :‬حىت لقد‬
‫‪11‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫* التلوين واملبالغة يف التصوير‪ :‬غلبة الوظيفة التأثريية اجلمالية املتمثلة يف حتقيق روعة التخييل ومجال الصورة‬
‫حىت وإن كان ذلك على حساب احلقيقة التارُيية‪.‬‬
‫رغبت عن لوُنا وكأن الشمس مل ِّ‬
‫تغب‬ ‫الد َجى ْ‬ ‫جالبيب ُّ‬
‫َ‬ ‫يقول أبو متام‪ :‬حىت كأن‬
‫َ‬
‫اجلو ابرقيت وتكتفي ابلدم اجلاري عن ال مِّد ََي‬‫البالد برو َق مِّ‬
‫ويقول املتنيب‪ :‬تُنسي َ‬
‫كل العناصر املكونة للصورة‪ .‬ويكون هذا االستيفاء يف جمموعة أبيات متتالية‬ ‫استفراغ الصورة‪ :‬ويعين استيفاء ِّ‬
‫حتيط بكل مكوانت الصورة من صوت ولون وحركة‪.‬‬
‫*املزج بني السرد والوصف‪ :‬تعاقب‪/‬مراوحة‪/‬مزاوجة بّي سرد األحداث وسرد األحوال‪ .‬تكامل هذين‬
‫النمطّي يف بناء الصورة الشعرية احلماسية وجتسيدها يف ذهن السامع ‪ /‬القارئ‪.‬‬
‫ومقاطع زمانية ومكانية معربة من سري املعركة وتكثيف طاقتها التعبريية‬ ‫ٍ‬
‫لقطات‬ ‫* التجزئة والتكثيف‪ :‬انتقاء‬
‫َ‬
‫وأشجع‬
‫َ‬ ‫احلماسية‪ .‬يقول ابن األثري عن املتنيب‪" :‬إذا خاض يف وصف معركة كان لسانـُه ْأمضى من نصاهلا‬
‫مقام أفعاهلا"‪.‬‬
‫وقامت أقوالـُه َ‬
‫ْ‬ ‫من أبطاهلا‬
‫*استخدام احلكمة ومزج العاطفة ابلفكر الراجح الرصّي اترة وابخليال املندفع طورا‪ .‬ويف شأن احلكمة ال‬
‫قصائدهم مزجيا بّي الفكر والعاطفة‪.‬وكانت‬ ‫َ‬ ‫ميكن أن نغفل ما كان هلا من دور عند ثالثتهم فقد جعلت‬
‫احلكمة مثبِّتة للحماسة شكليا ومضمونيا‪.‬‬
‫يقول ابن هانئ يف احلكمة‪:‬‬
‫أج َد َرا‬ ‫ِّ ِّ‬
‫ابن سعيه ومن كان أسعى كان ابجملد ْ‬ ‫ومل أجد اإلنسا َن إال َ‬
‫وابهلمة العلياء يرقى إىل العلى فم ـن كان أرقى مهًَّة كان أظهرا‬
‫َّ‬
‫ومل يتقـ ـ َّـدم من يريد أتخرا‬ ‫يتأخر من يريد ُّ‬
‫تقدما‬ ‫ومل ْ‬
‫ويقول املتنيب ‪:‬‬
‫املكارم‬
‫ُ‬ ‫وأتيت على قدر الكرام‬ ‫ائم‬
‫على قدر أهل العزم أتيت العز ُ‬
‫العظائم‬
‫ُ‬ ‫وتصغر يف عني العظيم‬ ‫صغارها‬
‫وتعظم يف عني الصغري ُ‬
‫حتسنب اجملد زقا وقينة فما اجملد إال السيف والفتكة البكر‬
‫َّ‬ ‫كما يقول ‪ :‬وال‬
‫احلد بني اجل مِّد والل ـَّعب‪.‬‬
‫أنباء من الكتب يف ح مِّده ُّ‬
‫ويقول أبو متام‪ :‬السيف أصدق ً‬
‫خيار‬
‫والشر فيه ُ‬
‫ُّ‬ ‫فارضوا به‬ ‫أَجل والقضاءُ ُم َسل ـَّطٌ‬
‫الصرب ُ‬
‫ُ‬ ‫كما يقول ‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫‪ 2-1‬املشرتك املضموين‪:‬‬
‫أبرز املعاين احلماسية‪:‬‬
‫* متجيد القائد (األمري أو الوايل) وتصويره يف صورة‪:‬‬
‫‪ -‬البطل ذي البصرية النافذة والرأي الراجح‪ .‬وذلك كقول املتنيب‪:‬‬
‫هو األول وهي احملل الثاين‬ ‫أي قبل شجاعة الشجعان‬
‫الر ُ‬
‫املسيطر على األحداث وعلى الزمان واملكان سيطرًة تضفي على‬ ‫ن‬ ‫اخلبري بشؤون احلرب والقتال‬
‫ك ن‬ ‫القائد احملنَّ ن‬
‫‪ -‬ن‬
‫القصيدة ذلك النفس البطويل امللحمي‪ .‬ومثال ذلك صورة أيب سعيد الثغري يف قصيدة "خشعوا لصولتك" أليب‬
‫صوره وقد قاد اجليوش فطارت لتعشش كالصقور يف أعايل بلدة درولية وتفرض سيادهتا‪:‬‬ ‫متام حيث َّ‬
‫إعصار‬
‫ُ‬ ‫بقرى َد َرْولِّـيةٍ هلا‬ ‫أجادل‬
‫ُ‬ ‫اجلياد كأُنن‬
‫قدت َ‬ ‫َ‬
‫الردى انئم‪:‬‬
‫الردى و َّ‬
‫ويظهر هذا التمجيد يف صورة سيف الدولة يتحدَّى املوت واقفا كأنه يف جفن َّ‬
‫انئم‬ ‫ٍ‬ ‫وقفت وما يف املوت ٌّ‬
‫الردى وهو ُ‬ ‫لواقف كأنك يف جفن َّ‬ ‫شك‬ ‫َ‬
‫ابسم‬
‫وثغرك ُ‬‫َّاح ُ‬‫متر بك األبطال كلمى هزيــمةً ووجهك وض ٌ‬ ‫ُّ‬
‫* اإلشادة حبركة اجليش ومببادرته ابهلجوم ومباغتة العدو وما يتصف به رجاله من إقدام وبسالة ورابطة جأش يف‬
‫مالقاة العدو ومقارعته واستهانة ابلنفس وحب للموت يف سبيل حتقيق النصر‪.‬‬
‫* اإلشادة ابلنصر‪ :‬ومن ذلك قول أيب متام ‪:‬‬
‫األمصار‬
‫ُ‬ ‫واستبشرت بفتوحك‬
‫ْ‬ ‫األخبار‬
‫ُ‬ ‫حت عن حمضها‬
‫صر ْ‬
‫قد َّ‬
‫أن كان تُـ مِّوج يوم سائر املثل‬
‫اليوم مفتخرا‬ ‫ِّ‬
‫التاج هذا ُ‬
‫أو قول ابن هانئ‪ :‬ليَعقد َ‬
‫فيه الربيعان من فصل الربيع ومن وقائع النصر تشفي من جوى الغلل‬
‫ومن اإلشادة حبركة اجليش قول املتنيب ‪:‬‬
‫متوت اخلوايف حتتها والقوادمُ‬ ‫ضممت جناحيهم على القلب ضمة‬ ‫َ‬
‫* اإلشادة بعُ َّدة احلرب‪ :‬كاإلشادة ابجلياد وسرعتها واندفاعها والتغين بفروسية احملاربّي يقول املتنيب‪:‬‬
‫املطاعم‬
‫ُ‬ ‫كثرت حول الوكور‬
‫وقد ْ‬ ‫كور على الذرى‬ ‫اخليل الو َ‬
‫تدوس بك ُ‬
‫أو اإلشادة ابألساطيل يف املعارك البحرية يف بعض معِّ ِّز ِّ‬
‫ايت ابن هانئ حيث يقول‪:‬‬ ‫ن‬
‫هت أيدي احلُواة األفاعيا‬
‫كما نبَّ ْ‬ ‫ُم َعطـَّـفة األعناق حنو متوُنا‬
‫ص َد ْر َن ومل يشربن غرفا صواداي‬
‫َ‬ ‫املاء شوقا لربده‬
‫إذا ما ورد َن َ‬
‫ويف البيت التايل إشادة ابلنويت يف األسطول نظري اإلشادة ابلفارس يف احلرب الربية‪:‬‬
‫ترى ع ْق َرًاب منها على املاء ماشيا‬ ‫اجملاذيف سرع ًة‬
‫َ‬ ‫إذا أعملوا فيها‬

‫‪13‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫مدح األسلحة (السيوف‪/‬القنا‪/‬الدروع‪/‬األقواس‪ /‬النبال‪/‬املغافر‪/‬اجلواشن) َ‬


‫وم ْد نح ما تدل عليه من سيطرة وسيادة‬ ‫* ُ‬
‫وما نحتدثه من رهبة ورعب يف صفوف األعداء‪.‬‬
‫* الدفاع عن القيم األصيلة العربية واالنتصار للمثل اإلسالمية العليا كقول ابن هانئ‪:‬‬
‫ول‬
‫ملك ملا قال الكرامُ فَـعُ ُ‬
‫ٌ‬ ‫ظالم الدين والدنيا به‬
‫وجال َ‬
‫واملالحظ يف هذا اإلطار أن معىن الكرام ال يتعلق مبا أنلفه من داللة على معكوس البخل بل الكرم مبعىن النفاسة‬
‫لكن هذا ال يعين أيضا عدم حضور معىن الكرم مبعناه األصلي أي اجلود والبذل يف‬‫واالمتناع عن الشبه والنظري‪ ،‬و َّ‬
‫األبيات احلماسية فكثريا ما يستكمل الشعراء صورة املمدوح يف املدح أو الذات يف الفخر أو املرثي يف الراثء‬
‫يستكملوَّنا ابلكرم ليجمع ال نـمتَ َحدَّث عنه صورة الفتوة اليت هي معىن جامع أيضا وذلك كقول أحد الشعراء‪:‬‬
‫ويف قـ َّوة البطش املبيدة للعدا‬ ‫مليك له يف اجملـ ـد جم ٌد ُم َؤثَّ ٌل‬
‫ٌ‬
‫الردى‬
‫هوة َّ‬ ‫وابلبطش يُلقي َّ‬
‫الضد يف َّ‬ ‫فباجلود يلقى ذو اهلدى منه منةً‬
‫وقد ال ُيفى ما يف هذا الربط بّي الكرم والشجاعة من إحالة على كونه منها مبعىن أن الكرم هو أيضا ضرب من‬
‫الشجاعة أي عدم اخلوف من خبِّـ ـ ِّ‬
‫يء الدهر يف الغد‪ .‬ولكن اعتبار الكرم من احلماسة حيتاج إىل تفس ٍري ضرورًة‬ ‫َ‬
‫مبعىن أن جنعل الكرم شجاعة يلقى هبا اإلنسان الدهر وما دامت الشجاعة من احلماسة والكرم شجاعة فهو أيضا‬
‫محاسة‪.‬‬

‫* التهوين من شأن اجليش املعادي‪:‬‬


‫‪ -‬اهلزء بقائد العدو وجبنه ووصف ذلته عند اهلزمية أو األسر‪ .‬يقول املتنيب‪:‬‬
‫الئم‬ ‫الدمستق م ِّ‬
‫أيف كل يوم ذا ُّ‬
‫قفاه على اإلقدام للوجه ُ‬ ‫قد ٌم‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬ختاذل رجاله واندحارهم والسخرية من فرارهم وتشتتهم‪.‬‬
‫‪ -‬التشفي منهم‪ .‬كقول ابن هانئ‪:‬‬
‫فكأمنا صبَّ ْح ـتـَهم تصبيحا‬ ‫تتج ـاوب الدنيا عليهم مأمتا‬
‫كالالبسات على احلداد ُمسوحا‬ ‫ورزء فقيدهم‬
‫لبسوا معايبهم َ‬
‫* تعظيم العدو‪:‬هذا التعظيم ليس مقصودا لذاته إمنا غاية الشاعر إبراز قوة العدو الفائقة عند الوصف إعالءً من‬
‫يش الدمستق يف واقعة احلدث‪:‬‬
‫انتصار املمدوح عليه كوصف املتنيب ج َ‬
‫زمازم‬
‫مخيس بشرق األرض والغرب زحفه ويف أذن اجلـ ـوزاء منه ُ‬ ‫ٌ‬
‫اجم‬ ‫فهم الـ ُحـ َّد َ‬ ‫ِّ‬
‫اث إال الرت ُ‬ ‫جتمـع فيه كـ ـل ل ْسنٍ وأمـة فما تُ ُ‬
‫م‬

‫‪14‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫تنطوي هذه املعاين مجيعها على أبعاد حجاجية ضمنية‪ .‬فالقصيدة احلماسية من هذه الزاوية خطاب‬
‫حجاجي يسوقه الشاعر للذود عن مبدئه واالحتجاج لصحة عقيدته أو مذهبه وعن رموزه من القادة واحلكام‪.‬‬
‫وهي من جهة اثنية أداة فنية للتحريض والتحميس أي ذات بعد وجداين حيث نحي َمل السامع أو القارئ على تبين‬
‫املوقف واالنتماء إىل املذهب مما قد يتجاوز يف كثري من األحيان املقصد التكسيب الزائل إىل الدعوة لقناعة سياسية‬
‫أو دينية‪ .‬ومجلة هذه املعاين يبين من خالهلا الشاعر مجلة من القيم نميكن أن جنملها فيما يلي‪:‬‬
‫ـل والقيم اليت يسعى الشعراء لتثبيتها‬
‫املُـثـ ُ‬
‫‪ -‬قيم حربية‪ :‬هي قيم يعتز هبا العريب منذ العصر اجلاهلي وأبرزها‪:‬‬
‫* البطولة واإلقدام والشجاعة والقوة‪ .‬يقول املتنيب‪:‬‬
‫سوى مهجيت أو كان يل عنده ِّوتْـ ُر‬ ‫إقدام األَتِّـ ِّي َّ‬
‫كأن يل‬ ‫وأقدمت َ م‬ ‫ُ‬
‫* الصرب وقوة الشكيمة ورابطة اجلأش(التمرس ابآلفات) والثبات يف جمالدة العدو‪ .‬يقول املتنيب‪:‬‬
‫الذعر‬ ‫ِّ‬
‫تقول أمات املوت أم ذُعر ُ‬ ‫ابآلفات حىت ترْكتُها‬ ‫ست‬
‫متر ُ‬ ‫َّ‬
‫* احلكمة يف القيادة والتدبري‪.‬‬
‫* املبادرة ابهلجوم ومباغتة العدو‪.‬‬
‫* الدفاع عن احلرمات‪ :‬صون محى املسلمّي من أطماع أعدائهم والذود عن دولة اإلسالم وضمان َمنَعتها‬
‫خصوصا يف التخوم‪( :‬حادثة املرأة اليت صرخت‪":‬وامعتصماه" َّ‬
‫فتجهز يف جيش لنصرة مدينتها)‪.‬‬
‫* العفو عند املقدرة أو احلِّلم‪.‬‬
‫‪ -‬قيم سياسية‪:‬‬
‫* احلنكة وبعد النظر‪.‬‬
‫*حسن التدبري ورجاحة الرأي واحلكمة‪.‬‬
‫*املـَنَعة والسيادة‪.‬‬
‫‪ -‬قيم أخالقية أصيلة‪:‬‬
‫ومنها النخوة والشرف والشهامة والكرم والدفاع عن النفس مما نميكن أن جتمعه لفظة املروءة ألَّنا هي‬
‫وحي ِّقر‬
‫األخرى من األلفاظ اجلامعة اليت ال تدل على مفرد‪ .‬ويف املقابل يستهّي الشاعر ابلقيم السلبية ويستهجنها ن‬
‫من يتَّصف هبا ومنها اخلنوع والتخاذل والفرار والذل‪.‬‬
‫‪ -‬احلميَّة الدينية‪:‬‬
‫* الدفاع عن اإلسالم واملسلمّي‪:‬‬
‫يقول املتنيب ‪:‬‬
‫ولكنَّك التوحي ُد للشرك ُ‬
‫هازم‬ ‫ولست مليكا هازما لنظريه‬
‫َ‬
‫‪15‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫ويقول ابن هانئ‪:‬‬


‫وليس فيما أراه هللاُ من خلل‬ ‫مؤيَّ ٌد ابختيار هللا يصحبه‬
‫* الغرية على الدين أو املذهب والدفاع عنه لكسر شوكة أعداء اإلسالم من املشركّي والطامعّي يف النيل منه‪.‬‬

‫‪ -‬احلميَّة العربية‪ :‬يقول املتنيب‪:‬‬


‫العواصم‬
‫ُ‬ ‫وتفتخر الدنيا به ال‬ ‫تشرف عدان ٌن به ال ربيعة‬
‫َّ‬
‫وتتجلى هذه احلميَّة يف الذود عن قيم العرب ضد متكن بعض األعاجم من مواقع السلطة والنفوذ واهتامهم أبَّنم‬
‫سبب االحنالل والضعف يقول املتنيب‪:‬‬
‫نيام‬
‫ُم ُ‬ ‫مفتَّحة عيوُن ُ‬ ‫أُنم ملوك‬
‫انب غري ُ‬‫أر ُ‬
‫رب ملوكها َع َج ُم‬‫تفلح عُ ٌ‬ ‫إمنا الناس ابمللوك وال‬ ‫ويقول‪:‬‬

‫وتتوجيا لكل ما سبق يف شأن املشرتك بّي الشعراء ميكن أن نقول إَّنم قد غرفوا من معّي واحد‪ .‬ومن اجلدير‬
‫ابلذكر يف هذا اإلطار أن هذه املعاين احلماسية مل تكن حكرا على غرض دون غرض بل توزعت بّي األغراض‬
‫معىن شعراي مبثواث بّي األغراض على التأويل الذي ذهبنا‬
‫وحضرت يف أغلبها لتنهض دليال على كون احلماسة ً‬
‫إليه‪.‬‬
‫وصفوة القول يف أمر املعاين احلماسية اليت يطرقها الشعراء والقيم اليت يسعون إىل تثبيتها أَّنم ُيرجون من الدائرة‬
‫الضيقة للحماسة إىل جمال أوسع متاما كما قال علي النجدي انصف عن أيب متام‪:‬‬
‫الكر مِّ‬
‫والفر واإليقاع ابألقران بل ينظر‬ ‫"وأبو متام إذ خيتار للحماسة ال ينظر إىل معناها الضيق احملسوس من مِّ‬
‫إىل معناها العام وما يتفرع عليها من خصال كالنخوة والصرب على األرزاء واملِّ َحن"‪.‬‬

‫‪/2‬املختلف بني الشعراء‪:‬‬

‫‪ 1-2‬أبو متام ‪ :‬محاسة الصانع املتأنق‪.‬‬


‫* ال َكلـَف ابللفظ اجلزل املصقول والكلمة الصادعة مع ميل إىل احلوشي الغريب‪.‬‬
‫* العناية ابلصور املرَّكبة اليت تنطوي على قدر من البناء العقلي إضافة إىل اخليال اخلالق حيث ميزج بّي الفكر‬
‫والعاطفة يف التصوير كما جيمع بّي الوصف وحسن التعليل‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫* العناية الفائقة ابلعبارة وجعلها مرَّكبة إىل درجة دعت بعض النقاد إىل رميه ابلتعقيد كقول أيب العميثل له‪ :‬لـِّ َم ال‬
‫فرد عليه‪ِّ :‬ملَ ال تفهم ما يُقال‪.‬‬
‫تقول ما يُفهم؟‪َّ .‬‬
‫ف ابإليقاع املتوازن ووسائله يف ذلك متنوعة منها التكثيف من جرس احلروف الشديدة والتكثيف من‬ ‫* ال َكلَ ن‬
‫الرتديد الرتكييب واستخدام رويِّ ّْي يف البيت الواحد إلجياد إيقاع داخلي كقوله‪:‬‬
‫األمصار‬
‫ُ‬ ‫واستبشرت بفتوحك‬
‫ْ‬ ‫األخبار‬
‫ُ‬ ‫حت عن حمضها‬ ‫صر ْ‬
‫قد َّ‬
‫مصرع أيضا يقول فيه‪:‬‬
‫مصرع داخل قصيدة بيتنها األول َّ‬ ‫وهو بيت َّ‬
‫طار‬ ‫َّ‬
‫خف اهلوى وتول ـَّت األو ُ‬ ‫داير‬
‫الداير ُ‬
‫ُ‬ ‫أنت وال‬‫أنت َ‬ ‫ال َ‬
‫ٍ‬
‫يع إيقاع‪.‬‬
‫ع تصر َ‬‫ص ٍر َ‬
‫البيت األو نل ن‬
‫يع ابتداء على عادة الشعراء و ن‬ ‫ص ِّرع تصر َ‬
‫لكن هذا البيت األخري ن‬
‫حمسنات لفظي ًة ومعنويةً مبا فيهما من جناس وطباق ومقابلة كقوله جمنِّسا‪:‬‬‫ٍ‬ ‫* االحتفاء الفائق ابلبديع‬
‫عواص عواصمٍ تصول أبسياف قواضٍ قواضب‬ ‫ٍ‬ ‫ميدون من أيد‬‫ُّ‬
‫وكذلك احتفاؤه ابلصور البيانية كاالستعارة واجملاز‪.‬‬
‫* القدرة اخلالقة على ابتكار املعاين وتوليد الصور واالستعارات وذلك برتكيب أزواج من اللفظ مل ينؤلف اجتماعها‬
‫وهو ما يسميه توفيق بكار عند حديثه عن الشايب"كيمياء اللفظ"‪.‬ولعل هذا ما قصده األستاذ منصف الوهاييب‬
‫مضرب سيفه" أو " َّ‬
‫متشت املنااي‬ ‫ُ‬ ‫عندما قال‪" :‬إن الصورة التمامية خطأ مقصود"‪ .‬ومن أمثلة ذلك قوله"مات‬
‫يف القنا" ‪.‬‬
‫إن توليد املعاين هذا جيعل أاب متام مؤمنا إمياان إبمكانية اإلتيان مبا مل أيت به األوائل‪ .‬أليس القائل‪:‬‬
‫الذواهب‬‫حياضك منه يف العصور َّ‬ ‫ت‬
‫قر ْ‬
‫ُ‬ ‫الشعر أفن ْتهُ ما َ‬
‫ُ‬ ‫فلو كان يفىن‬
‫حائب منه أُتبعت بسحائب‬ ‫صوب العقول إذا انثنت س ـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ولـكنه‬
‫ب فاخر‬ ‫البسها ذو َسـل ـَ ٍ‬
‫ُ‬ ‫لت من شكري يف حلة‬ ‫وهو القائل أيضا‪ :‬ال ز َ‬
‫اعه ك ـ ـم ترك األول لآلخر‬ ‫يقول من تقرع أسـ ـ َ‬

‫‪ 2-2‬املتنيب‪ :‬محاسة املتمرد الطموح‪:‬‬


‫* كثريا ما متتزج احلماسة ابملعاين الفخرية لكنها تربز بوضوح يف املدح ومثال ذلك السيفيات اليت ال ختلو يف كثريها‬
‫من "النفس امللحمي"‪.‬‬
‫* حضور الذات يف محاسته حضورا مركزاي يكشف عن انشغال ابهلم الذايت لتطابقه مع اهلم اجلماعي‪.‬‬
‫* من معاين احلماسة الطموح اجلارف إىل بناء اجملد الذايت ‪:‬‬
‫ت إال ويف نفسها ْأم ُر‪.‬‬
‫وما ثبَـتَ ْ‬ ‫وأشجع مين كل يوم سالميت‬
‫ُ‬
‫السبيل ليكون مثال اإلنسان الفاعل القادر ال املفعول به حيث يقول‪:‬‬
‫َ‬ ‫وهو جمد حيدد له‬

‫‪17‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫فما اجملد إال السيف والفتكة البكر‬ ‫وال حتسنب اجملد زقا وقين ــة‬
‫لك اهلبوات السود والعسكر اجملر‬ ‫وتضريب أعناق امللوك وأن تُرى‬
‫شر‬
‫الع ُ‬
‫تداول سـ ـع املرء أمنله َ‬ ‫وترك ـك يف الدنيا دواي كأمنا‬
‫* من معانيها أيضا التمرد على املوجود ورفض الكائن فهو منوذج اإلنسان املريد املؤمن بفلسفة القوة متاما كإنسان‬
‫اإلنسان األرقى‪.‬وقد ظلت تطارده صورة اجملد ذات البعد احلماسي وهو يراودها عرب من يتصل هبم من‬ ‫ِّ‬ ‫نيتشة‬
‫احلكام واألمراء‪.‬‬
‫* محاسة املتنيب تستحيل يف أحيان كثرية إىل سيل جارف وغضب وحنق ٍ‬
‫وحتد‪:‬‬
‫واحلرب أقْـ َو ُم من ساق على ِّ‬
‫قدم‬ ‫ُ‬ ‫وه اخليل سامه ًة‬
‫كن وجـ ـ َ‬
‫ألتر َّ‬
‫حىت َّ‬
‫كأن هبا ضراب من اللـَّ َـمم‬ ‫فالطعن حيرقها والضرب يقلقها‬
‫جسد ما مل يستطعه يف الواقع بريشته فهو الذي يقول‪:‬‬
‫واملتأمل يف شعره الفخري يرى أنه َّ‬
‫صمم‬
‫وأسعت كلم ــايت من به ُ‬
‫ْ‬ ‫أان الذي نظر األعمى إىل أديب‬
‫والقلم‬
‫ُ‬ ‫والقرطاس‬
‫ُ‬ ‫والرمح‬
‫ُ‬ ‫والسيف‬
‫ُ‬ ‫والليل والبيداءُ تعرفين‬
‫ُ‬ ‫اخليل‬
‫ُ‬
‫لكن الدهر مل ِّ‬
‫ميكنه من قوة السلطان فنفث يف شعره شكواه‪.‬‬ ‫فجم َع إىل قوة السنان قوة البيان َّ‬
‫َ‬
‫* القدرة الفائقة على توليد الصور اعتمادا على امتالك انصية اللغة‪:‬‬
‫وخيتصم‬
‫ُ‬ ‫جراها‬
‫اخللق َّ‬
‫ويسهر ُ‬
‫ُ‬ ‫ملء جفوين عن شواردها‬
‫أانم َ‬
‫ُ‬

‫‪ 3-2‬ابن هانئ‪ :‬محاسة املتشيع املغايل‪.‬‬


‫* استخدام املعجم الكالسيكي وامليل إىل احلوشي املرتوك مع جراين وراء املعاين والصور املألوفة لذلك نشبِّه شعره‬
‫ابلشعر اجلاهلي يف القوة ومتانة السبك‪.‬‬
‫حىت يص مِّفيَه شأ َن ابن الرومي لوال كثرةُ غريبه" كما يقول أمحد‬
‫يتعرض للمعىن َّ‬‫* طول نفـَ ِّسه الشعري ف ـ ـ ـ ـ"هو َّ‬
‫حىت‬
‫أمني‪ .‬ويف شأن الغريب عنده يقول الفتح بن خاقان صاحب مطمح األنفس ‪ ":‬غاص يف طلب الغريب م‬
‫أخرج ُد َّره املكنون وهبرج ابفتنانه يف كل الفنون"‪.‬‬
‫حسن‬
‫ُ‬ ‫قوي البيان كثريُ التمثيل جيِّمد األلفاظ‬
‫* القدرة الفائقة على الوصف‪ :‬يقول فون كرمير األملاين عنه‪ ":‬إنه ُّ‬
‫األنفس‪":‬وأما تشبيهاته فخرق فيها‬
‫َّ‬ ‫الوصف ال يقدر على مسايرته إال القليل"‪ .‬ويقول عنه صاحب مطمح‬
‫املعتاد وما شاء منها اقتاد"‪.‬‬
‫* جزالة اللفظ‪ :‬توصف قصائده أبَّنا أزدية مينية جلزالة ألفاظها‪ .‬وقد أورد أمحد أمني يف كتابه ظهر اإلسالم رأاي‬
‫السبك مليح التأليف حىت إنك لو سعت املصراع األول تكاد حترز‬
‫جز ُل َّ‬
‫لناقد مل يذكر امسه يرى أن شعره‪ْ ":‬‬
‫املصراع الثاين"‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫درك شأوه وال‬


‫* مزج الشعر ابلفكر‪ :‬قال لسان الدين ابن اخلطيب‪ :‬كان ابن هانئ من فحول الشعراء ال يُ ُ‬
‫يُ ُّ‬
‫شق غباره مع املشاركة يف العلوم‪.‬‬
‫* كثرة إطنابه وتفصيله وهذه الظاهرة سبب من أسباب طول ن َفسه يف الشعر‪.‬‬
‫* احلكمة يف شعر ابن هانئ قليلة متفرقة وتكثر يف مراثيه وهي ِّحكم اجتماعية قريبة التناول‪:‬‬
‫ابن سعيه فمن كان أسعى كان ابجملد أجدرا‬ ‫ِّ‬
‫ومل أجد اإلنسا َن إال َ‬
‫* اتصال شعره اتصاال وثيقا ابلدين إذ كانت دعوته فاطمية فكان متأثرا بتعاليمهم متعمدا نشرها بّي قرائه‪ .‬وتعاليم‬
‫الشيعة مبثوثة يف ديوانه‪.‬‬
‫* امتزاج املعاين احلماسية ابلطابع العقائدي املغايل يف التشيع آلل البيت من قبيل فكرة كون النصر وعدا إهليا وكون‬
‫القائد إماما معصوما ينشبَّه ابلرسول املصطفى أو هو"ابن املصطفى"‪.‬وقد جاء يف دائرة املعارف اإلسالمية ابللسان‬
‫الفرنسي وصفه بكثرة االحتفال بفكرة اإلمام والتشيع هلا‪:‬‬
‫‪Le jeune Ibn Hani se distingue par le zèle qu'il manifeste à exalter les mérites des‬‬
‫‪Imames.‬‬

‫ابن هانئ‬
‫ضد من يناوئه‪.‬يقول أمحد خالد‪" :‬اعترب ُ‬
‫* احلماسة عنده انتماء إىل املذهب ودفاع عنه ومحيَّة واحنياز له َّ‬
‫الشر عن دار اإلسالم وميألها عدال وصالحا بعدما ُملئت ظلما‬ ‫ابع منقذا جاء ليذود َّ‬ ‫الفاطمي الر َ‬
‫َّ‬ ‫اخلليفةَ‬
‫وفسادا"‪.‬‬
‫* املعىن احلماسي حيمل آاثر الدعوة املذهبية وين ِّ‬
‫قوي الوظيفة اإلقناعية بكون املعز وجيشه ميثلون احلق اإلهلي يف‬
‫مقارعة دولة الباطل والكفر والضالل‪ .‬وقد تكون دولة الباطل هذه من خمالفيهم املذهبيّي‪.‬‬
‫* من خصائص شعر احلماسة عنده وصف املعارك البحرية واألساطيل مما يندر وجوده يف الشعر العريب كقوله‪:‬‬
‫لقد ظاهرتْــها عُ َّدةٌ َ‬
‫وعدي ُد‬ ‫ت‬ ‫ِّ‬
‫املنشآت اليت َس َر ْ‬ ‫َأما واجلواري‬
‫ود‪.‬‬
‫ُس ُ‬ ‫ِّ‬
‫انضمت عـليه أ ُ‬‫ولكن ما َّ‬‫َّ‬ ‫القباب على املها‬
‫ُ‬ ‫ترجى‬
‫باب كما َ‬‫ق ٌ‬

‫‪19‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫للنقاش‬

‫حمل نقاش‪:‬‬
‫يف ما يلي بعض النقاط اليت جيوز أن تكون َّ‬
‫‪ -‬لو سلَّمنا بكون شعر احلماسة هو شعر احلروب اليت ْ‬
‫وقعت يف التاريخ فعال فكيف نتعامل مع القصائد اليت‬
‫تستحضر ساحات القتال يف املطلق وال حتيل على واقعة خمصوصة أو حرب بعينها؟‬
‫مدى نميكن أن نعترب األحـداث الواقعية والتارُيية صانعةً للحدث الشعري والنص؟‬
‫‪ -‬إىل أي ً‬
‫شعر احلرب الذي يصف احلروب وينشيد ابألبطال ويتوعد األعداء كما‬ ‫َّ‬
‫‪ -‬لو سلمنا بكون شعر احلماسة مثال هو ن‬
‫نص شعري "أسباب نزول" وظروفا موضوعية حربية ولَّدته وهذا من املمتنع‬ ‫لكل ٍ‬ ‫ِّ‬
‫يعرفه البعض النتهينا إىل أن ِّ‬
‫احملال‪ .‬ولعل املتأمل يف شعر احلماسة يرى أنه ميكن أن ُيتلف يف ظروف قوله اختالفا كبريا‪( .‬العودة إىل عنصر‬
‫عالقة الشعر ابملرجع)‪.‬‬
‫كل الشعر انبع من القيمة؟ أو يتداخل مع الوجدان والتك ُسب‪ .‬هذه مسألة حتتاج إىل دراسة نقدية مستقلة‬ ‫‪ -‬هل ُ‬
‫أتملنا اخلطاطة التالية‪:‬‬
‫خاصة إذا َّ‬
‫الشعر‬
‫بعد موضوعي‬ ‫بعد فين‬ ‫بعد ذايت‬

‫القيم واملـثـنـل‬ ‫وجدان‬ ‫تكسب‬


‫ن‬

‫استهجان‬ ‫استحسان‬ ‫كره( هجاء)‬ ‫حب‬


‫هذا التصنيف رغم ما فيه من صر ٍ‬
‫امة قد ال تتناسب مع طبيعة األدب وقابليَّته للتطويع والتأويل جيعل‬ ‫ن‬
‫أيسر به نتبّي إىل أي مدى نميكن أن نعترب شعر احلماسة شعر تثبيت القيم احملمودة‬
‫العمل على املستوى املنهجي َ‬ ‫َ‬
‫واحلط من القيم املذمومة مبعىن أن يكون حمصورا يف البعد املوضوعي القيمي للشعر واحلال أن األبعاد تتداخل‪ .‬فقد‬
‫جند يف القصيدة الواحدة البعد الذايت التكسيب والوجداين والبعد املوضوعي القيمي‪ .‬وقد جند يف بعض القصائد‬
‫دوحه كحال‬
‫غلبةً للبعد التكسيب خاصة يف املدح‪ .‬مث قد جند قصائد يغلب عليها الطابع الوجداين حلب الشاعر مم َ‬
‫املتنيب مع سيف الدولة أو كره املهجو يف حال اهلجاء‪ .‬والقادح على القول يف احلالّي وجداين قد يغلب على‬
‫شعر التغين ابلبطوالت وتثبيت القيم‬
‫شعر احلماسة على أساس كونه َ‬ ‫القصيدة‪ .‬وهذه االعتبارات جتعل تعري َفنا َ‬
‫توجب إعادة النظر يف الدواوين‪.‬‬
‫ن‬ ‫الفاضلة واستهجان القيم املرذولة تعريفا فيه مبالغة‬

‫‪20‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫‪ -‬إىل أي مدى ميكن أن نعقد عالقة بّي امللحمة وشعر احلماسة فالتشابه املوجود يف بعض النقاط ال يعين‬
‫التماثل ألن لكل فن خصائصه (العودة إىل عنصر عالقة شعر احلماسة ابمللحمة تشاهبا واختالفا)‪.‬‬
‫‪ -‬إن عناصر التميز عند الشعراء بعضهم عن بعض ال يعين دائما التميُز اإلجيايب فقد أاثر هذا التميُز أقالم النقاد‬
‫ٍ‬
‫صفحات تناولوا فيها مجلة النقائص واملآخذ اليت رأوا‪ -‬على تباين يف املواقف‪ -‬أَّنا نْحتسب عليهم ال هلم‬ ‫وحربوا‬
‫َّ‬
‫بدليل الفصل الذي عقده الثعاليب يف يتيمة الدهر حول املتنيب مساه "أبو الطيب املتنيب ما له وما عليه"‪ .‬وإذا كنا‬
‫يف عنصر اإلجراء الشعري قد أثبتنا املختلف بّي الشعراء وجعلناه متيُزا فإننا يف هذا القسم ندقق البحث أكثر‬
‫طات وقع فيها الشعراء وقد آخذهم عليها النقاد وسننفرد لكل شاعر س َق ٍ‬
‫طات‬ ‫فنجعل بعض نقاط التميز س َق ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫شكليةً وأخرى مضمونيةً تكون عوان للتلميذ على مناقشة فكرة التميز عند الشعراء إن لزم النقاش فيعلم أن التميُز‬
‫ليس مطلق اإل جيابية بل فيه جوانب سلبية‪ .‬كما ميكن للتلميذ أن يستفيد مما أثبتناه لكل شاعر يف التحليل األديب‬
‫بدي رأيه يف النصوص‬‫الس َقطات ألنه على التلميذ كما أسلفنا أن ين َ‬ ‫ليعلم حدود التميز وحدود جماوزة التميز أي َّ‬
‫انب نقديٍَّة عند شاعر جيب أن يكون يف ما له اتصال ابحلماسة ال‬ ‫أيضا‪ .‬وعلى التلميذ أن يتنبَّه إىل أن إاثرة جو َ‬
‫يف كل الديوان حىت ال ُيرج على املوضوع واألهداف املرسومة لدراسة احملور‪.‬‬

‫أبو الطيب املتنيب‬


‫شكال‪:‬‬
‫محاسية فأجرى حبر الطويل على َع نروض "مفاعيلن" واألصل يف‬ ‫ٍ‬ ‫‪ -‬أغرب املتنيب يف بعض اإليقاع يف ٍ‬
‫أبيات‬ ‫َ‬
‫ِّ‬
‫االستعمال "مفاعل ـُن" فقال مادحا ابلقيم الفاضلة احلماسية‪:‬‬
‫ظرف‬
‫علم ومنطقـُه ُحك ـْ ٌـم وابطنه دين وظاهره ُ‬ ‫ت َف ُّك ُره ٌ‬
‫العروض وأصله "فاعلن" عندما مدح بدرا بن عمار ابحللم والكـرم والتنكيل‬ ‫مل على "فاعالتن" يف َ‬ ‫الر َ‬
‫وقد أخرج َّ‬
‫والعقاب يف بيت واحد‪:‬‬
‫ِّ‬
‫وعقاب‬
‫ُ‬ ‫ثواب‬
‫بدر بن عمار سحاب هط ٌل فيه ٌ‬ ‫َّإمنا ُ‬
‫‪ -‬ويف اللغة ابعد املتنيب يف اإلعراب ومن ذلك قوله لسيف الدولة‪:‬‬
‫مسلول‬
‫ُ‬ ‫سي ُفه دون ِّعرضه‬ ‫ام‬ ‫ليس إالَّك اي ُّ‬
‫علي ُمه ٌ‬
‫فوصل ضمري الـ "ك" بـ إال وأصله أن يفصله فيقول "إال أنت"‪.‬‬ ‫َ‬
‫احلوشي يف املدح ابحلِّلم وهو من املعاين احلماسية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬واستعمل الغريب‬
‫انتبهت َّ‬
‫تومهه ابتشاكا‬ ‫ْ‬ ‫إذا‬ ‫وما أرضى ملقلته ِّحبلم‬
‫مسموع يف الشعر قدميِّه وحديثِّه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫واالبتشاك هو الكذب إال أنه غرين‬

‫‪21‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫مضموان‪:‬‬
‫من َسقـَطاته يف املعاين والصور وقوعه يف املبالغة والغلو إذ يقول يف وصف اخنذال جيش العدو وهزميته وخوفه‪:‬‬
‫رجال‬
‫إذا رأى غي َـر شيء ظنه ُ‬ ‫وضاقت األرض حىت صار هارهبم‬
‫ابخليل يف هلوات الطفل ما سعال‬ ‫كضت‬
‫فبع َده وإىل ذا اليوم لو ر ْ‬
‫جعل هلوات الطفل مضمارا للركض‬
‫العدم ال ينرى ألنه غري موجود‪ .‬وكذلك ن‬
‫فغرين الشيء ال شيءَ أي هو العدم و ن‬
‫إحالة ال حمالة‪.‬‬
‫ملء فؤاد الزمان إحداها‬ ‫مهم‬
‫عت يف فؤادهم ٌ‬ ‫جتم ْ‬
‫مم يقول‪َّ :‬‬ ‫ويف وصفه اهل َ‬
‫فجعل للزمان فؤادا وهو تشبيه بعيد ينأى عن مجاليات االستعارة واجملاز‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضا تعقيد املعىن الذي يبدو يف قوله مادحا ممدوحه ابلرأي وبعد النظر وهو من املعاين احلماسية‪:‬‬
‫أَجع‬
‫جزي بعضه الرأي ُ‬ ‫أقل ٍم‬
‫ُّ‬ ‫فىت ألف جزء رأيه يف زمانه‬‫ً‬

‫أبو متام‬
‫شكال‪:‬‬
‫حسنات عنده تتجاوز اجلانب اجلمايل لتكون أحياان نم ِّنفرة‪ ،‬يقول‬
‫إن حرص أيب متام على اإليقاع جعل امل ِّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ن‬
‫أغرب فيه فأحسن ومنه‬ ‫عنه ابن األثري يف كتابه املثل السائر‪" :‬وقد أكثر أبو متام من التجنيس يف شعره فمنه ما َ‬
‫ما أتى به كريها مستثقال كقوله‪:‬‬
‫من املنية رشقا وابال وصفا‬ ‫ويوم أرشق واهليجاء قد رشقت‬
‫َ‬
‫وله من هذا الغث البارد املتكل ـَّـف شيء كثري"‪.‬‬
‫يب وقد اعرتف هو بذلك صراحة يف شعره‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫يب على أيب متام كثرة تطلـُبه الغر َ‬
‫‪-‬ع َ‬
‫ب‬‫ب يف ُمغ ـْر ِّ‬
‫ـسن ُمغـْ ِّر ٌ‬
‫فأح َ‬‫وأغرب شاعر فيه ْ‬ ‫َ‬ ‫بت خالئقه‬‫غر ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ستكره شعره أحياان حيث يقول‪:‬‬ ‫‪ -‬لكثرة ولعه ابالستعارة والتشبيه يبلغ الغلو واإلحالة فين َ‬
‫ظهر املوعد‬
‫ت ابإلجناز َ‬ ‫وحطم َ‬
‫ْ‬ ‫ت ابملعروف أعناق الورى‬ ‫فَلويْ َ‬
‫ظهر املوعد استعارةٌ قبيحة جدا"‪.‬‬ ‫يقول اآلمدي يف هذا البيت‪ ":‬حطَ َم ابإلجناز َ‬
‫ويقول انقد‪":‬كثريا ما تستوعر اجلملة واللفظ الضطراب الصورة فيأتيها الغريب وأيتيها الغموض"‪.‬‬
‫مضموان‪:‬‬
‫نفسه من كون عديد املعاين مل‬
‫عديد املعاين مطروقة يف الشعر العريب القدي وهذا يتضارب مع ما قاله أبو متام ن‬
‫يطرقها الشعراء القدامى وذلك يف قوله مادحا‪:‬‬

‫‪22‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫البسها ذو َسل ـَ ٍ‬
‫ب فاخر‬ ‫ُ‬ ‫لت من شكري يف ُحل ـَّة‬ ‫ال ز َ‬
‫كم ترك األول لآلخ ــر‬ ‫يقول من تقرع أساعـ ـَـه‬
‫ولكن احلال على غري ذلك‪.‬‬
‫العجز األخري يفرتض أن تكون عديد املعاين جديدة َّ‬
‫فهذا ن‬
‫ومن عجيب التضارب أن أاب متام الذي قال "كم ترك األول لآلخر" نراه يدعو تلميذه البحرتي وي ِّ‬
‫وجهه إىل أن‬ ‫ن‬
‫قص َده وما كرهوه جتنَّبه‪ .‬ولذلك رمبا اعتربه املستشرق غرنباوم قد‬
‫جيعل شعر األولّي منوذجا نحيتذى فما استحسنوه َ‬
‫"قاد حركة رجعية يف الشعر "‪ .‬وإذا كان البعض يرى يف اتباع أيب متام سنن األولّي يف القول الشعري استجابة‬
‫للذائقة التقبلية يف زمانه فإن هذا االعتبار جيعل شعره أقرب للتك ُسب مبعىن أنه يستجيب ملا يطلبه النسق الثقايف‬
‫الرواج والنوال حيث يقول معلنا ذلك خماطبا ممدوحه‪:‬‬
‫قصد َّ‬ ‫ْ‬
‫القول ْنومتَه وقد حكى سوءُ ظن أن ذا حل ـُ ُم‬
‫ض ُ‬ ‫الفعل يقـْ ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬
‫فأيْقظ َ‬
‫(تالزم الشعر والسعر)‪.‬‬
‫يض‬
‫اجلود مات القر ُ‬
‫ويقول أيضا‪ :‬وحياة القريض إحياؤك اجلو َد فإن مات ُ‬
‫ابن هانئ األندلسي‪:‬‬
‫شكال‪:‬‬
‫انس وعقائل‬
‫كوانس وأو ٌ‬
‫وفوارس و ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وقوانس‬
‫ٌ‬ ‫وعوابس‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬اإلغراب يف اإليقاع‪:‬‬
‫يقول عنه املعري إذا مسع شعره‪":‬ما أشبهه إال برحى تطحن قروان"‪.‬‬
‫‪ -‬اإلغراب يف طلب الغريب اللغوي‪:‬نبَّه زاهد علي م ِّ‬
‫قد نم ديوانه إىل ثالثّي كلمة ِّ‬
‫غري متداولة يف معانيها اليت‬ ‫ن‬
‫استعملها هو ومن ذلك استعماله لفظة َّ‬
‫استبد مثال مبعىن وجد خمرجا وحيلة‪:‬‬
‫غري أان ال نراان نستبد‬ ‫كلنا نبشع من كأس الردى‬
‫املهجور استعمالـنه لفظة طخطخوا‪:‬‬
‫َ‬ ‫يب‬
‫ومن أمثلة تطلـُبه الغر َ‬
‫وجليتم عنه العماء وطخطخوا‬
‫ُ‬ ‫رجال أضلوا رائدا فهديتَهم‬
‫ارجحن الشباب‪.‬‬
‫َّ‬ ‫األمر‪/‬‬
‫اطلخم ُ‬
‫َّ‬ ‫وكذلك قوله‬
‫يقول ابن رشيق متحداث عن أهل الشعر‪ ":‬وفرقةٌ أصحاب ٍ‬
‫جلبة وقعقعة بال طائلِّ معىن إال القليل النادر كأيب‬ ‫ُ‬
‫القاسم ابن هانئ"‪.‬‬
‫ت قبل تكون جامع مشلنا"‪.‬‬
‫‪ -‬تعقيد الرتكيب‪ " :‬لو كن َ‬
‫مضموان‪:‬‬
‫‪ -‬املبالغة املفرطة اليت تصل إىل ِّ‬
‫حد "اإلحالة" وهي عند النقاد املبالغة اليت جاوزت َّ‬
‫احلد حىت غدت ممجوجة ال‬
‫يستسيغها الذوق‪ .‬وهذه املبالغة كانت وليدة الغلو الفاطمي من الشيعة اإلمساعيلية حيث تالزمها املغاالة والتطرف‬
‫يف العقائد‪:‬‬
‫‪23‬‬
‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬ ‫املدونة النقديَّة واإلجراء الشعري‬
‫شعر احلماسة بني َّ‬
‫ُ‬

‫ار‬ ‫ِّ‬
‫القه ـ ُ‬
‫فأنت الواح ُد َّ‬
‫فاح ُك ْم َ‬
‫ْ‬ ‫األقدار‬
‫ُ‬ ‫شاءت‬ ‫شئت ال ما‬
‫ما َ‬
‫ار‬
‫أنصارك األنصـ ُ‬
‫ُ‬ ‫وكأنَّـما‬ ‫أنت النب ـي حمم ٌد‬
‫وكأمنا َ‬
‫واألخبار‬
‫ُ‬ ‫بار‬
‫األح ـ ُ‬
‫يف ُك ْتبها ْ‬ ‫شران به‬‫أنت الذي كانت تب ِّم‬‫َ‬
‫واألعمار‬
‫ُ‬ ‫واآلجال‬
‫ُ‬ ‫وانقسمت بك األرزا ُق‬
‫ْ‬ ‫شرفت بك اآلفاق‬
‫‪ -‬غلبة الطابع الشيعي على شعره حيث يقول أمحد أمّي يف كتابه ظهر اإلسالم‪":‬والقارئ لديوانه يرى تعاليم‬
‫الشيعة مبثوثة فيه فهو يضفي على املمدوحني اخللفاء صفة التقديس‪.‬‬
‫‪ -‬إن مبالغته يف االنتماء وغلبة هذه النزعة على شعره تبدو واضحة مؤثرة يف احلكم على شعره‪.‬‬

‫خامتة‪:‬‬
‫املنمقــة ذات اجلرس والظالل وال‬
‫يقول هايديغري‪" :‬إن مهمة الشاعر ال تقف عند حدود بناء األلفاظ َّ‬
‫عند التعبري عن التجربة الذاتية بل نراه يسمو لريتفع ابلفعل الشعري إىل درجة أتسيس الوجود بواسطة‬
‫القول"‪.‬‬

‫‪24‬‬

You might also like