You are on page 1of 294

‫الكتاب الفلسفي‬

‫خالص جلبي‬
‫الفصل األول‬
‫المدخل‬
‫التعريف بالفلسفة‬
‫الفلسفة بحر ليس كالبحار يجد راكبه الخوف على الشواطيء وكل األمان‬
‫في لجة المحيط العميقة (قصة اإليمان ـ نديم الجسر)‬
‫الفلسفة هي األرض التي ال اسم لها معرضة للهجوم من التيولوجيا والعلم‬
‫من الجانبين (برتراند راسل)‬
‫من أراد أن يرتاح فليعتقد ومن أراد أن يعرف الحقيقة فليسأل‬
‫(فردريك نيتشه)‬

‫‪2‬‬
‫فهرس المواضيع‬
‫الفصل األول‬
‫ـ التعريف بالفلسفة‪.‬‬
‫ـ ماهي الفلسفة؟ اللوغوس‪.‬‬
‫ـ فلسفة الكالم‪.‬‬
‫ـ كيف تعرف الفيلسوف؟‬
‫ـ رعب الفلسفة‪.‬‬
‫ـ متى يقال ألحد فيلسوف؟‬
‫ـ قانون العودة للطفولة‪.‬‬
‫ـ حافظوا على الطفولة‪ :‬الطفل فيلسوف‪.‬‬
‫ـ خرائط برمجة اإلنسان‪.‬‬
‫ـ العالقة الجدلية بين العلم والفلسفة‪.‬‬
‫ـ جنكيزخان والفيلسوف‪.‬‬
‫ـ حياة الفالسفة وحياة التجار‪.‬‬
‫ـ جدلية السياسي والفيلسوف‪.‬‬
‫ـ الفيلسوف في مواجهة الموت‪.‬‬
‫ـ األسئلة الفلسفية العظمى‪.‬‬

‫الفصل الثاني ـ فلسفات شتى‪.‬‬


‫ـ في فلسفة الموت‬
‫ـ الفلسفة الكونية ـ المجاهيل واألبعاد‪.‬‬
‫ـ فلسفة العلوم (االبستمولوجيا)‪.‬‬
‫ـ فلسفة الطيف واالستقطاب‪.‬‬
‫ـ فلسفة الوجود والمصير‪.‬‬
‫ـ المغزى الفلسفي النتشار اإليدز‪.‬‬
‫ـ االستنساخ البشري بين العلم والفلسفة واألخالق‪.‬‬
‫ـ حوار الطب والفلسفة‪.‬‬
‫ـ الصراع بين العلم والدين والفلسفة‪.‬‬
‫ـ األيمان بين العلم والفلسفة والقرآن‪.‬‬
‫ـ فلسفة التعبير‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ـ فلسفة الثورة واالنقالب‪.‬‬
‫ـ فلسفة الدعاء‪.‬‬
‫ـ فلسفة المالبس‪.‬‬
‫ـ فلسفة الفيزياء الحديثة‪.‬‬
‫ـ فلسفة اللغة‪.‬‬
‫ـ لغات التعلم الثالث‪.‬‬
‫ـ فلسفة الهجرة‪.‬‬
‫ـ فلسفة الحق والواجب‪.‬‬
‫ـ فلسفة السرطان‪.‬‬

‫الفصل الثالث ـ الفالسفة‬


‫ـ زاوية سقراط المعرفية‪.‬‬
‫ـ قصة إعدام سقراط‪.‬‬
‫ـ كهف أفالطون‪.‬‬
‫ـ قانون التناسب عند أفالطون‪.‬‬
‫ـ الحقيقة بين أفالطون وأرسطو‪.‬‬
‫ـ ثغرة في قلعة أرسطو الفكرية‪.‬‬
‫ـ سر الفيلسوف بيثاغورس‪.‬‬
‫ـ هرقليطس وقانون الصيرورة‪.‬‬
‫ـ مغامرات العقل وأخطاء الفالسفة‪.‬‬
‫ـ تبحر الفالسفة‪.‬‬
‫ـ الفيلسوف الفارابي‪.‬‬
‫ـ العباقرة الثالث ‪ :‬نظام الملك والخيام وحسن الصباح‪.‬‬
‫ـ فولتير‪.‬‬
‫ـ غرامشي والهيمنة الثقافية‪.‬‬
‫ـ جون لوك ورسالته في التسامح‪.‬‬
‫ـ مالتوس رسالة في التشاؤم‪.‬‬
‫ـ كافكا ـ حين يتحول اإلنسان إلى حشرة‪.‬‬
‫ـ ظروف والدة العبقريات‪.‬‬
‫ـ فالسفة على طريق المعرفة‪.‬‬
‫ـ فيساليوس الطبيب الفيلسوف‪.‬‬
‫ـ جان مسلييه ـ الكاهن الملحد وكتابه عن العهد الجديد‪.‬‬
‫ـ ابن خلدون والمقدمة‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ـ ابن رشد وفصل المقال‪.‬‬
‫ـ باسكال‪.‬‬
‫ـ وداعا للفلسفة‪.‬‬
‫ـ ديكارت مقلوبا ـ ‪1‬‬
‫ـ ديكارت مقلوبا ـ ‪2‬‬
‫ـ هل مات ديكارت مسموما؟‬
‫ـ ديكارت واألبحاث العصبية الحديثة‪.‬‬
‫ـ سبينوزا ورسالته في تحسين الفهم‪.‬‬
‫ـ من سقراط وسبينوزا إلى ابن رشد وجيوردانو برونو‪.‬‬
‫ـ قانون سبينوزا في القراءة ـ لذة الفهم‪.‬‬
‫ـ ايمانويل كانط ورسالته في نقد العقل الخالص‪.‬‬
‫ـ ماكسويل أبو الكهرطيسية‪.‬‬
‫ـ إيبيكتيتوس‪.‬‬
‫ـ الثنائية والديموقراطية‪.‬‬
‫ـ الملك آشوكا فيلسوف الرحمة‪.‬‬
‫ـ رهان باسكال على اآلخرة‪.‬‬
‫ـ دينار شوبنهاور‪.‬‬
‫ـ ايراسموس‪.‬‬
‫ـ فتجنشتاين والفلسفة الوضعية المنطقية‪.‬‬
‫ـ سارتر والوجودية‪.‬‬
‫ـ مالك بن نبي وسلسلة مشكالت الحضارة‪.‬‬
‫ـ هايزنبرج الفيلسوف الفيزيائي ومبدأ االرتياب‪.‬‬
‫ـ ويل ديورانت وقصة الحضارة‪.‬‬
‫ـ أبو حيان التوحيدي في اإلمتاع والمؤانسة‪.‬‬
‫ـ محنة ابن المقفع ـ محنة المثقف‪.‬‬
‫ـ أبو حامد الغزالي واإلحياء والمنقذ من الضالل‪.‬‬
‫ـ تولستوي‪.‬‬
‫ـ باقر الصدر‪.‬‬
‫ـ عبد الرحمن بدوي‪.‬‬
‫ـ علي الوردي ووعاظ السالطين‪.‬‬
‫ـ النيهوم ومحنة ثقافة مزورة‪.‬‬
‫ـ البليهي‪.‬‬
‫ـ جودت سعيد داعية الالعنف‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ما هي الفلسفة؟ اللوغوس‬
‫هجم علي رجل قبل يومين فعلق بي أشد من البعوض والذباب‪ ،‬وكلما فتحت له بابا من المعرفة‬
‫قال ما فائدة هذه؟ وبالتالي فإن كل البناء المعرفي الذي تعب فيه الفالسفة هو تضييع للوقت‪،‬‬
‫وتهديدا للدين‪ ،‬وتشويشا للعقل‪ ،‬فتحملت الرجل على أمل كسر مغاليق عقله وتكشيرة دماغه‪،‬‬
‫بأقفال أشد من أقفال خزائن قارون‪ ،‬وإن مفاتح لتنوء بالعصبة أولي القوة؟‬
‫وأعتبر أن أعظم نصر نحققه هو االنتصار على بالدة العقل؟‬
‫لماذا تسبب الفلسفة الصداع للبعض؛ بل هي في عين أناس خطر هدام‪ ،‬أو أنها هذرمة ومضيعة‬
‫للوقت‪ ،‬وال عالقة لها بالحياة؟ لماذا يستخدم الناس استخفافا كلمة ال تتفلسف أو هذا جدل‬
‫بيزنطي؟‬
‫إذا أردت معرفة الفيلسوف فإليك بالمفتاح؟ فمن رأيتهم يقرؤون بنهم ال يشبعون‪ ،‬على جنوبهم‬
‫وظهورهم وقعودا وقياما‪ ،‬ولو في مصعد‪ ،‬أو على االنتظار في بنك‪ ،‬فاعرف أنه دخل محراب‬
‫الفلسفة‪.‬‬
‫ومن رأيت فيه براءة الطفولة‪ ،‬وحس االندهاش‪ ،‬وروح الفضول لمعرفة كل شيء‪ ،‬فاعلم أنه‬
‫اقترب من محبة الفلسفة‪.‬‬
‫إذا ما هي الفلسفة؟‬
‫يبدو أنه ال يوجد اتفاق حولها؟‬
‫وعلى كل حال فقد أعلن (كارل ماركس) موت الفلسفة‪.‬‬
‫ولكن اإليطالي (غرامشي) قال أن كل واحد منا فيلسوف‪ ،‬ولكن بطريقته الخاصة‪ .‬وفي يوم‬
‫اعتبر (أفالطون) أن العالم سيكون بخير لو حكمه الفالسفة‪ ،‬ولكن (روبرت دال) في كتابه‬
‫(الديمقراطية ونقادها) يعتبر أن هذا مستحيل وطوباوي ونظري‪.‬‬
‫وبعض الفالسفة يرون أن كل المعرفة سطحية‪ ،‬وغير يقينية‪ ،‬مثل الفيلسوف البريطاني(بركلي)‬
‫وال يوجد معنى ألي شيء‪ .‬فدماغنا هو الذي يحدد العالم!‬
‫أما (برتراند راسل) فقد وصف الفلسفة أنها تلك المنطقة التي ال اسم لها‪ ،‬بين التيولوجيا‬
‫والعلم‪ ،‬مكشوفة للهجوم من الطرفين؛ وبقدر وضوح ويقينية أجوبة الدين‪ ،‬بقدر إدخال الفلسفة‬
‫الشك لمحتوى كل شيء بما فيه الدين‪.‬‬
‫وفي يوم تناقشت امرأة مع زوجها فقالت‪ :‬أليست الفلسفة ببساطة هي ما يفعله الفالسفة؟‬
‫أجابها زوجها‪ :‬إنه تعريف تحليلي عصري نموذجي للفلسفة‪.‬‬
‫قالت الزوجة‪ :‬كل الفالسفة رجال أليس كذلك؟‬
‫انتفض الزوج مرعوبا وقال‪ :‬ال أعلم لست فيلسوف ‪ً.‬ا‬
‫قالت الزوجة‪ :‬إذا أنت بكل تأكيد لست فيلسوفًا؟‬
‫قال الرجل لست متأكدا ولم أفكر فيه ويبدو أنك تعرفين ما هي الفلسفة إذن؟‬
‫قالت الزوجة‪ :‬على قدر معرفتي فإن الفلسفة هي التفكير بالتفكير؟‬
‫قال الزوج‪ :‬ولماذا تعتقدين بذلك؟‬
‫قالت الزوجة‪ :‬حسنًا فكر في أي شيء يحيط بك‪ ،‬ولو كان سعر أتفه شيء؛ فأنت تفكر فيما تفكر‬
‫فيه‪ ،‬وكيف تتصرف حياله؟‬

‫‪6‬‬
‫قال الزوج‪ :‬معك حق إنه تحري األشياء بدقة ولم أكن أفكر باألمر هكذا من قبل؟ قالت الزوجة‪:‬‬
‫بالطبع ال ‪ ...‬ولكنها بداية على كل حال؟‬
‫ويقول (كارل ياسبرز) الفيلسوف األلماني الوجودي‪ :‬يبدو أن محور تاريخ العالم يمر في القرن‬
‫الخامس قبل الميالد باستيقاظ الروح اإلنسانية‪ ،‬وهي فترة تمتد بين ‪ 200‬و‪ 800‬قبل الميالد‬
‫حيث انبثقت معظم التعاليم الروحية‪ ،‬مثل كونفوشيوس وال و تسي في الصين‪ ،‬واألوبانيشاد‬
‫وبوذا في الهند‪ ،‬وزرادشت في فارس‪ ،‬والعهد القديم التوراة في فلسطين‪ ،‬وهوميروس ومعظم‬
‫الفالسفة والتراجيديون في اليونان‪.‬‬
‫وربما كان تاليس أول فيلسوف يوناني إن لم يكن أول فيلسوف إنساني؟‬
‫ويبدو أن هذه الحقبة‪ ،‬أي القرن السادس قبل الميالد‪ ،‬التي يسميها ديورانت (القفزة أو الطفرة‬
‫الروحية) كانت مفعمة بالحيوية ونشاط الفكر‪ ،‬وهناك إجماع بشكل عام على هذه البداية‪ ،‬ولكن‬
‫لماذا انبثقت في اليونان تحديدا مع القرن السادس قبل الميالد مع تاليس!‬
‫وفي كتاب الفلسفة للمبتدئين يقول (ريشارد أوزبورن ‪ )Richard Osborn‬أن اليونان في‬
‫القرن السادس قبل الميالد تحولت عبر البحار إلى مركز تجاري ناشط‪ ،‬بعد طرد التحدي‬
‫الفارسي‪ ،‬والنجاة من العبودية الشرقية‪ ،‬فتطور العقل أمام صدمة الطغيان؛ فأنتج خيرة العقول‪،‬‬
‫وبنيت الديمقراطية‪ ،‬وطَّو روا لغة تحدد المفاهيم‪ ،‬ومخروا عباب البحار‪ ،‬ونمت الفنون الدرامية‪،‬‬
‫وسيطرت مفاهيم من نوع القانون والضرورة أكثر من الفوضى والعبث‪ ،‬وورثوا الحضارة‬
‫المينوية من كريت‪ ،‬وأخذوا علم الهندسة من مصر‪ ،‬وعلم التنجيم والتقويم من آسيا الصغرى‪.‬‬
‫وليس هذا كله يقينا؛ أن يكون عنصرا حاسما في سر انبثاق العقل في تلك األرض الصخرية‪.‬‬
‫فهل يمكن أن نفهم لماذا ولد العقل (اللوجوس ‪ )LOGOS‬عندهم؟‬
‫ربما عندنا جواب وربما ال ‪..‬‬
‫ولكن األكيد أن التخلص من الطغيان الفارسي والتحرر وانطالق العقل جعل اللوجوس يعمل بكل‬
‫طاقته؛ فولدت الفلسفة من رحم الثنائي (العقل) و (الحرية)‪ ،‬كما تولد الكائنات من البويضة‬
‫والحيوان المنوي في رحم امرأة مخصبة ‪..‬‬
‫ويتعجب المرء اليوم من الفارق بين يونان اليوم وأثينا القديمة؛ فاليونان مع عام ‪ 2010‬م‬
‫مريض اليورو قد أشرفت الدولة فيه على اإلفالس‪ ،‬ويعتبره الجرمان الرجل المريض على‬
‫البوسفور األوربي؟ كما كانت دولة العصملية في يوم‪ ،‬ويحك األلمان ذقونهم ورؤوسهم‪ ،‬كيف‬
‫ينقذوا مقر الفلسفة القديم‪ ،‬الذي أصبح مكانا للفساد والرشوة والهبوط العقلي واالنحطاط‬
‫الخلقي ‪ ..‬وكان آخر اقتراح فرض الوصاية االقتصادية على اليونان‪ ،‬فجماعة أرسطو الجدد‬
‫تدينوا وغرقوا في الدين ثم عرف أن المبلغ الذي صرحوا عنه هو ثلث المبلغ المقترض!‬
‫وتلك األيام نداولها بين الناس‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫فلسفة الكالم‬
‫في عام ‪ 1825‬اعتلى عرش روسيا القيصر (نيكوال األول) وبعــد فــترة قصــيرة حــدثت انتفاضــة‬
‫ضده قادها مجموعة من األحرار مطالبين بتحديث البلــد وأن المصــانع وبنيــة الحكومــة يجب أن‬
‫تغير فيحدث فيها ما يماثلها من تحسينات تمت في أوربا الغربية‪ .‬سحق القيصر االنتفاضة بدون‬
‫رحمــة وحكم على خمســة من قــادة التمــرد باإلعــدام‪ .‬وكــان من بينهم رجــل اســمه (كونــدراتيج‬
‫ريلييف) الذي وقف تحت حبل المشنقة ينتظـر مصـيره‪ .‬ثم حـدثت واقعـة نـادرة سـجلها التـاريخ‬
‫حيث أن الرجل ويبدو أن كان ثقيل البنيــة لم يحملـه الحبــل الـذي ينهي حياتــه بــل انقطــع فهــوى‬
‫الرجل إلى األرض بشدة‪ .‬قام الرجل من سقطته وصاح بــأعلى صــوته‪ :‬أي بلــد هــذا الــذي نعيش‬
‫فيه الذي ال يتقن فيه صناعة أي شيء حتى حبال المشانق‪ .‬وكانت التقاليد في تلك األيام تمضي‬
‫أن من يشنق فينجو بانقطاع الحبل يعتبر نوع من رحمة هللا الخفية عليــه فينجــو من المــوت وال‬
‫يعاد شنقه بل يصدر في حقه قرار العفو‪ .‬وعندما وصلت األخبار إلى القصر الملكي كان القيصــر‬
‫في طريقه إلمضاء خطاب العفــو عنــه إال أنــه اســتدرك فقــال مــاذا فعــل صــاحبنا عنــدما نجــا من‬
‫الموت؟ قال الرسول ‪ :‬لقد قال يا سيدي بــالحرف الواحــد‪( :‬انظــروا أيهــا النــاس كيــف ال يحســن‬
‫الناس عملهم في روسيا حتى الحبال ال يحسنون جــدلها) قــال القيصــر لــه مــا أراد ومــزق قــرار‬
‫العفو ثم كتب بشنقه حتى الموت‪ .‬وفي اليوم التالي اقتيد (ريلييف) مرة ثانيــة إلى حبــل المشــنقة‬
‫الذي جدل جيدا ولم يخيب ظن الجالدين فترنح في الحبل حتى أسلم الروح ولم ينقطع الحبل هـذه‬
‫المرة تحت ثقله‪ .‬إن جملة واحدة من فم الرجل لم يضبط نفسه فيها كلفته حياتــه‪ .‬وعنــدما يقــول‬
‫الرسول (ص) إن أحدكم ليتكلم الكلمة ال يلقي لهــا بــاال يهــوي بهــا ســبعين خريفــا في جهنم ‪ .‬أو‬
‫الحديث الذي يحذر من ســقطات اللســان فيقــول الصــحابي وهــل نحن موآخــذون بمــا نقــول كــان‬
‫جوابه عليه أفضل الصالة السالم وهــل يكب النــاس في النــار على وجههم إال حصــائد ألســنتهم‪.‬‬
‫وصاحبنا الروسي لو امسك لسانه أثناء هذه الوقعة العجيبة لكان قــرار الرحمــة من القيصــر في‬
‫طريقه إليه‪ .‬ولكن القنبلة التي خرجت من فمه على شــكل كلمــات أوردتــه ريب المنــون‪ .‬إن هــذه‬
‫القصة تعطينا الدرس أن الكلمــات كطلقــات المســدس إذا خــرجت ال يمكن إعادتهــا من جديــد إلى‬
‫فوهة السبطانة وحجرة النار‪ .‬وهي كما يقول المثل الصــيني‪( :‬هي ملــك لــك قبــل أن تخــرج فــإذا‬
‫خرجت ملكتك هي)‪ .‬ويمضي (روبرت جرين) صــاحب كتــاب (القــوة) إلى صــياغة فلســفة الكالم‬
‫بأن يعلم نفسه قاعدة ذهبية في الحياة أن يقول (دوم ـًا أقــل من الالزم) وأن‪ ( :‬على المــرء أن ال‬
‫يكثر كالمه من أجل التأثير في الناس فكلما كثرت كلمـات اإلنسـان هبـط مسـتواه حـتى لـو كـانت‬
‫الكلمــات بســيطة‪ .‬والرجــال المقلــون في كالمهم يــؤثرون أفضــل ويبــدون أكــثر ســيطرة على‬
‫األوضــاع)‪ .‬ويــذكر مثًال من عــام ‪ 454‬قبــل الميالد عن القائــد العســكري الرومــاني (جــنيوس‬
‫مارسيوس) المشهور باسم (كوريوالن) أنه كان قائدا حربيًا المعًا تكونت حوله هالة ضخمة من‬
‫األساطير وكيف قهر أعداء روما‪ .‬هذا الرجل تطورت أموره أن جاء إلى روما يوم ـًا ورشــح كي‬
‫يصبح سناتور في مجلس روما األعلى وعندما ظهر أمام الناس للمــرة األولى وقــد علت وجهــه‬
‫ندبات الحروب والمعارك تأثر النا س من كلماته إلى درجة البكاء‪ ،‬ولكنه مع الوقت بـدأ لسـانه‬
‫يفضحه أكثر من ســيفه‪ .‬وعنــدما وقــف أمــام النــاس يتحــدث ثانيــة تحــدث النــاس ولكن أمســكوا‬
‫أنفسهم عن الخوض فيه لتاريخه المجيد في حماية روما‪ .‬ولكنه بعد ذلك ومــع كــثرة كالمــه كــثر‬
‫سقطه وانكشفت عوراته الشخصية أكثر فثار عليه النــاس وفي النهايــة عنــدما أهــان من حولــه‬
‫حكم على الرجل باإلعدام لوال تدخل البعض من المتنفذين الــذين حولــوا الحكم الى النفي المؤبــد‬
‫من روما‪ .‬إن كثرة الكالم ينسي بعضه بعضًا وإن بعض الكلمات أشــد تــأثيرًا من جــروح الحســام‬
‫المهند ومن كثر كالمه كثر سقطه وخــير الكالم ماقــل ودل ونفــع والمــرء مختــبيء تحت لســانه‪.‬‬
‫وقولوا للناس حسنا ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل خيرا أو ليصمت‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫كيف تعرف الفيلسوف؟‬
‫هناك من يستحق أعظم األلقاب وهي قليلة عليه ومنهم أبو حامد الغزالي فهو سمي‬
‫بحق (حجة اإلسالم) فهو كتب في حياته ‪ 280‬كتابًا يتعجب االنسان من قدرة األنجاز‬
‫مع أنه اعتزل الكتابة عشر سنوات ولم يخرج بعدها اال بكتابه المنقذ من الضالل‬
‫وإحياء علوم الدين كما أنه مات صغيرًا عن ‪ 55‬عامًا فهو ولد عام ‪ 450‬هجرية‬
‫ومات عام ‪ 505‬وكانت في بدايات االجتياح الصليبي للمنطقة‪ .‬ولكن كما يبدو فإن‬
‫هذه ميزة المبدعين العباقرة في قوة األنجاز فيبارك هللا لهم في أوقاتهم والكثيرون‬
‫يسألونني كيف تجد الوقت لتكتب كل هذا وعندي من النشاطات والكتابات ماأكتبه‬
‫لغير هذا المنبر فيكون جوابي إن المشكلة ليست في وجود الوقت بل في االستفادة‬
‫منه‪ .‬وفي كتاب الفلسفة للمبتدئين وهو كتاب كندي جميل باللغة االنكليزية بحيث‬
‫يمسح القاريء بسرعة وبشكل ميسر االتجاهات الفلسفية كلها عبر التاريخ أقول‬
‫وضعوا صورة كاريكاتور كيف تعرف الفيلسوف؟ هو ذلك الشخص الماشي وهو‬
‫يقرأ؟ وأحيانًا يحصل معي هذا وال أزعم لنفسي أنني أصبحت تلميذًا للفالسفة‪.‬‬
‫وأرجع للغزالي فهذا الرجل المبدع مسح الفكر المعاصر له مثل الرادار بحيث‬
‫عرض لكل المدارس الفكرية واالتجاهات التي كانت تسود عصره وكانت أربع‬
‫الفرق الباطنية والفالسفة والمتصوفة وعلماء الكالم‪ .‬يقول أنه كان يستفيد من‬
‫الوقت بعد أن ينتهي من تدريس طالبه فعكف ثالث سنين بحيث مسح الفكر‬
‫المعاصر له كله‪ .‬وفي النهاية قام بحركة فكرية يتعجب منها المرء مثل لو أن مفكرًا‬
‫اطلع على الماركسية ثم وضع في النهاية كتابًا ليس لنقضها بل لشرحها بحيث‬
‫تصبح مرجعًا أكاديميًا لمن يريد االطالع على الفكر الشيوعي‪ .‬قريب من هذا فعل‬
‫األمام الغزالي حينما عرض فكر الفالسفة تحت كتاب (مقاصد الفالسفة) وهذه‬
‫الخطوة تعطينا فكرة أيضًا عن مستوى النضج العقلي والتمكن من العلوم المعاصرة‬
‫وعدم الخوف من الجديد كما يحدث معنا في هذا األيام‪ .‬حتى إذا انتهى من هذا‬
‫العرض قام بهدم البناء على رؤوس أصحابه فكتب (تهافت الفالسفة)‪ .‬في الواقع‬
‫ليس من العدل والقوة أن تعرض فكر الخصم هزيًال مضَّعفًا ثم تقوم بالهجوم عليه‬
‫بل يجب عرضه كما يريده صاحبه تمامًا‪ .‬ويقول الغزالي حتى نرد على فكر ما‬
‫فيجب أن نطلع عليه ليس كما وصل اليه صاحبه فحسب بل يجب أن نزيد عليه‬
‫درجة فنتمكن منه ألبعد الحدود بحيث نعرضه كما لو أراد صاحبه عرضه ثم نقوم‬
‫بإظهار الفساد الذي قام عليه لو كان فاسدًا‪ .‬وفي الواقع فإن العمل العقلي من هذا‬
‫الطراز النتحلى به اليوم بسبب التشدد والتعصب وعدم النضج العقلي بسبب التردي‬
‫العقلي العام الذي نعيشه‪ .‬وشرح المفكر مالك بن نبي الرحلة العقلية لألمام الغزالي‬
‫وقال عنها لقد بدأ جبارًا في خطواته ولكن النهاية التي أنتهى إليها ليست بشيء في‬
‫النهاية الغامضة التي انتهى بها‪ .‬فهو يقول أمام رحلة الشك وكيف حل تناقضاتها‬
‫أنها نور قذفه هللا في القلب عندما شعر أن طريق التصوف يقوم ليس على الحجج‬
‫البرهانية بل (السلوك) وهذا يقوم على تجربة شخصية بحتة وليس حجج عقالنية‬
‫يمكن ان يستفيد منها كل أحد‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫رعب الفلسفة‬
‫تعتبر الفلسفة في نظر البعض مصدر إزعـاج‪ ،‬كمـا أنهـا مصـدر تهديـد للعقيـدة عنـد‬
‫آخرين؟‬
‫والبعض يصــاب بالــدوار مــع تعــاطي عقــار الفلســفة؛ فهي تســحب من تحت أقدامــه‬
‫المسلمات واليقينيات‪.‬‬
‫ولكنهــا بالمقابــل عنــد آخــرين مصــدر متعــة بــدون حــدود‪ ،‬ألنهــا تأخــذه إلى عــوالم‬
‫سحرية‪ ،‬ال تكف عن التجدد وتغيير شكلها الخارجي دوما‪ ،‬مثل عروس تبدل أناقتهــا‬
‫باستمرار‪.‬‬
‫ومن نهض بالعقل في التاريخ هم بضع مئات من أدمغة الفالسفة‪.‬‬
‫وحسب برتراند راسل الفيلسوف البريطاني في كتابــه (النظــرة العلميــة) فــإن عصــر‬
‫النهضة كله يدين إلى مائة دماغ‪ ،‬ولو تم اغتيــالهم أو القضــاء عليهم أو مــاتوا‪ ،‬لمــا‬
‫كان هناك نهضة وناهضون‪.‬‬
‫مع هذا فالفلسفة رحم العلوم‪ ،‬وهي تشبه من جهة شجرة باسقة تضــرب في األرض‬
‫بجذورها‪ ،‬جذعها العلوم‪ ،‬وثمارها التكنولوجيا والصناعات‪.‬‬
‫وهنا نرى جدال بين ثالث؛ الفكر والعلم واألشياء‪.‬‬
‫فال يتقدم العلم بــدون أرضــية راســخة من حريــة الفكــر الفلســفية‪ ،‬ألن الفلســفة فتح‬
‫للعقل على كل أنواع األسئلة المزعجة والمحرجة بدون حدود وخوف‪.‬‬
‫ولم يكن للحضارة اإلسالمية أن تنهض لوال اتصالها بالفكر اليوناني‪ ،‬كمـا قـرّر ذلـك‬
‫عبد الرحمن البدوي في سيرته الذاتية‪.‬‬
‫وهــو كتــاب جــدير بالتأمــل‪ ،‬يشــبه من جهــة كتــاب خــارج الــزمن الدوارد ســعيد‪ ،‬أو‬
‫حفريات في الذاكرة للجابري المغربي‪ ،‬أو قصة اإليمان لنديم الجسر‪.‬‬
‫والكتب القيمة نادرة‪ ،‬ومن ينتبه لها أندر من النادر‪.‬‬
‫ولن ننهض اليوم إذا لم نتصل بالفكر الفلسفي العالمي‪ ،‬وهي مسافة خمسة قرون‪.‬‬
‫والفكــر الفلســفي يجب أخــذه مفصــوال عن التــاريخ االســتعماري وفتوحــات بــوش‬
‫التعيس؛ فالفالسفة والمفكــرون قــوم ال وطن لهم وهم إنســانيون‪ ،‬ربهم واحــد‪ ،‬مثــل‬
‫األنبياء أوالد عالت أمهاتهم شتى‪.‬‬
‫أما نحن فمثلنا مثل من كان جده ملياردير وهو مفلس‪ ،‬فمــا يــزال يتحــدث عن ثــروة‬
‫جده العظيمة‪ ،‬التي لم يبق منها شروى نقير‪.‬‬
‫وهي حجة لن ننهض بها‪ ،‬فضال على أنها مخدرة لنا عن إبصار واقعنا المزري‪.‬‬
‫فهذا تفكير ضار يجب التخلص منه والتخلي عنه‪ ،‬لصالح فكر مفيــد يبــني‪ ،‬وإال كــان‬
‫مثلنا مثل الشيطان الذي مضى إلى طريق الالعودة والالتوبة‪ ،‬ألنه لم يراجع نفســه‪،‬‬
‫ولم يعترف بالخطأ كما خالفه أبونا وأمنا من قبل آدم وحواء فاعترفـا‪ ،‬أمـا الشـيطان‬
‫فقد نسب الخطأ إلى الرب فقال بما أغويتني‪.‬‬
‫وربما كان الفيليبينيون في هذا الجانب أفضل من العــرب‪ ،‬لعــدم وجــود تــاريخ زاهي‬
‫عندهم‪ ،‬فهم يعتمدون على سواعدهم لبناء أنفسهم‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ويعتبر نيتشــه ضــوء بــاهر في الفلســفة‪ ،‬من الــذين بحثــوا عن الحقيقــة بــأي كلفــة‪.‬‬
‫فاعتبر أن من أراد أن يرتاح فليعتقد‪ ،‬ولكن من أراد أن يكــون من حــواريي الحقيقــة‬
‫فليسأل؟‬
‫أما سقراط فيعتبر فلتة عقلية في التاريخ‪ ،‬وأخطأت أثينــا في حقــه فحكمتــه باإلعــدام‬
‫وهي ديمقراطيــة‪ ،‬وهــذا يحكي أن الديمقراطيــة أحيانــا عــوراء عرجــاء جــدعاء‬
‫كسحاء!‬
‫ويرى سقراط أن الفلسفة ال تجيب عن األسئلة؛ بقدر فتح الباب مع اإلجابة على كــل‬
‫سؤال‪ ،‬بسؤالين جديدين‪ ،‬مما يشكل زاوية منفرجة للمعرفة‪ ،‬ال تكف عن االتساع‪.‬‬
‫ومنه فإن الغربيين يعطون لقب فيلسوف لمن يحصل الــدكتوراة في العلــوم‪ ،‬ولكن ال‬
‫ينتبه أحد لهذا اللقب (‪ .)PhD‬ويسمونه دكتور وهو فيلسوف!‬
‫ومع أن ماركس أعلن (موت الفلسفة) إال أنها حية جذعة ال تكـف عن مـد أغصـانها‬
‫في كل حقل معرفي‪.‬‬
‫ورأى برتراند راسل أن الفرق بين الدين والفلسفة والعلم‪ ،‬أن الفلسفة منطقة ال اسم‬
‫لها‪ ،‬تتأرجح بين الثيولوجيا والعلم‪ ،‬ومعرضة للهجوم من الجانبين‪.‬‬
‫فالدين يعطي إجابات نهائية قاطعة‪ ،‬عن قضايا غامضــة غــير قاطعــة‪ ،‬ال جــواب لهــا‬
‫عند العلم‪ ،‬مثــل مــا بعــد المــوت‪ ،‬وانشــراح النفس‪ ،‬ومعــنى الصــالة‪ ،‬وبدايــة الكــون‬
‫ونهايته‪ ،‬وهدف الحياة‪ ،‬والحياة الروحية‪ ،‬وجدلية الفناء والبعث والنشور‪.‬‬
‫أما العلم فهو يهتم بعمليات الكفن والدفن‪ ،‬وتحلل الجثة‪ ،‬والطب الشرعي‪ ،‬والصــمل‬
‫الجيفي (تخشب الجثة بعد الوفاة بساعات)‪.‬‬
‫العلم يبحث في الكيف؟ فكيــف تتشــكل الســحب؟ ومم يتكــون بنــاء الــذرة والمكونــات‬
‫دون الذرية من الكواركز واللبتونات؟ والكود الوراثي في نواة الخلية؟ ولماذا يحدث‬
‫التسونامي من تصدع وصدم صفيحات قشرة األرض ببعض؟‬
‫والعلم يقول أن سبب ملوحة البحر هو كلور الصوديوم‪ ،‬ولكن الفلسفة تقــوم بتعليــل‬
‫ذلك‪ ،‬وال تكف عن التفسير‪ ،‬وتقفز من تفسير آلخر‪ ،‬وتتحرك من تعليل لثاني‪ ،‬فتهب‬
‫حركة دائمة للعقل‪ ،‬ونمو معرفي بآلية الحذف واإلضافة‪.‬‬
‫ويقولون في تعريف الفيلسوف أنه ذلــك النهم للمعرفــة‪ ،‬وال يكــف عن القــراءة ولــو‬
‫في وسط حشد من النــاس‪ ،‬غارقــا في ســحر الكلمــات واألرقــام‪ ،‬يقــرأ قيامــا وقعــودا‬
‫وعلى جنبه‪ ،‬ولو في حافلة ومترو متعلق ذراعــه بقضــيب معــدني في بــاص! أو في‬
‫قبــو األمن السياســي في التحقيــق‪ ،‬وهــو يقــرأ في الــديموغرافيا‪ ،‬أو عن فيلســوف‬
‫التنوير كانط؟‬
‫فمن رأيته على هذه الشــاكلة من النهم المعــرفي؛ فــاعرف أنــه وطــأ بقدمــه محــراب‬
‫الفلسفة‪.‬‬
‫ويقولون أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين؟‬

‫‪11‬‬
‫متى يقال لشخص أنه‬
‫فيلسوف؟‬
‫أرسل لي األخ الرشيد من الرياض يريد أن يعرف شيئا عن الفلسفة؟ ومتى يقال لإلنسان أنه‬
‫فيلسوف؟‬
‫وأرسل لي األخ عبد هللا من الدمام وعمره ‪ 25‬عاما أن عنده "نهم كبير للقراءة و االطالع‬
‫خاصًة ما يتعلق بـالكون و الوجود و عالقة االنسان باإلنسان‪ ،‬وأنه أصبح شغوفا بالمواضيع‬
‫الفلسفية وبدأت أسئلة ضخمة تحلق في أفقه مثل‪( :‬هل هناك حقيقة مطلقة) و(متى يكون فعل‬
‫الصواب شيئًا خاطئًا؟) و (ما هو الصواب؟)‬
‫وكان جوابي عليه " لقد أصبحت فيلسوفًا‪ ،‬فما ذكرت يجعلك تترقى في كماالت النهاية لها‪،‬‬
‫والفرق بين الفيلسوف والنبي‪ ،‬أن الثاني يصبر على ترهات الناس ويمشي في األسواق ويأكل‬
‫الطعام‪ ،‬وكان ربك قديرا‪ ،‬والفلسفة رعب ودخول كهف الشك‪ ،‬حتى الخروج من هذا النفق إلى‬
‫ضوء اليقين‪.‬‬
‫وتعتبر الفلسفة في نظر البعض مصدر إزعاج‪ ،‬وللبعض اآلخر مصدر تهديد للعقيدة؟‬
‫والبعض يصــاب بالــدوار مــع تعــاطي عقــار الفلســفة‪ ،‬فهي تســحب من تحت أقدامــه المســلمات‬
‫واليقينيات‪ ،‬ولكنها عند آخرين مصدر متعة بدون حدود‪ ،‬ألنها تأخذه إلى عوالم سحرية‪ ،‬ال تكف‬
‫عن إدخال الجديد والمفيد إلى العقل‪.‬‬
‫ومن نهض بالعقل في التاريخ هم بضع مئات من أدمغة الفالسفة‪.‬‬
‫وحسب برتراند راسل الفيلسوف البريطاني في كتابه (النظرة العلمية) فــإن عصــر النهضــة كلــه‬
‫يعــود إلى مائــة دمــاغ أو يزيــدون‪ ،‬ولــو تم اغتيــالهم أو القضــاء عليهم لمــا كــان هنــاك نهضــة‬
‫وناهضون‪.‬‬
‫ويمكن النظر إلى الفلسفة أنها رحم العلوم‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إلى عالقة العلم بالفلسفة؛ لقلنــا أن جــذورها الميتافيزيقيــا‪ ،‬وجــذعها فلســفة العلــوم‪،‬‬
‫وثمراتها العلوم من رياضيات وفيزياء وعلم فلك وكيمياء وتاريخ‪.‬‬
‫وال يتقدم العلم بدون أرضية راسخة من حرية الفكر الفلسفية‪ ،‬ألن الفلســفة فتح للعقــل على كــل‬
‫أنواع األسئلة المزعجة والمحرجة بدون حدود وخوف‪.‬‬
‫ولم يكن للحضــارة اإلســالمية أن تنهض‪ ،‬لــوال اتصــالها بــالفكر اليونــاني‪ ،‬كمــا قــرّر ذلــك (عبــد‬
‫الرحمن البدوي) في ســيرته الذاتيــة‪ ،‬ولن ننهض اليــوم إذا لم نتصــل بــالفكر الفلســفي العــالمي‪،‬‬
‫وهي مسافة خمسة قرون‪ .‬ونحن ما زلنا في استراحة المماليــك البرجيــة أيــام الســلطان قالوون‬
‫األلفي قبل ألف سنة‪..‬‬
‫والفكــر الفلســفي يجب أخــذه مفصــوال عن التــاريخ االســتعماري‪ ،‬ويجب رؤيــة أمريكــا بمنظــار‬
‫الفالسفة اإلنسانيون مثــل كــارل بــوبر وويــل ديــورانت و إيراســموس و ســبينوزا وشــوبنهاور‪،‬‬
‫وليس بوش المحارب؛ فالفالسفة والمفكرون أوالد عالت أباهم واحد وثقافــاتهم شــتى‪ ..‬ال وطن‬
‫لهم وهم إنسانيون‪.‬‬
‫أمــا نحن فمأســاتنا كبــيرة وال نعــرف‪ ،‬مثــل من يتحــدث عن جــده المليــاردير وهــو مفلس خــالي‬
‫الوفاض‪ ،‬وهي حجة لن ننهض بها‪ ،‬كما أنها مخدرة لنا عن واقعنا المزري‪.‬‬
‫وهــذا اللــون من التفكــير خطــير وضــار يجب التخلص منــه‪ .‬وربمــا كــان الفلبيــنيون أفضــل من‬
‫العرب‪ ،‬لعدم وجود تاريخ زاهي عندهم؛ فهم يعتمدون على سواعدهم لبناءْ أنفسهم‪.‬‬
‫ويعتبر (نيتشه) ضوء باهر في الفلسفة ممن بحثوا عن الحقيقـة بـأي كلفـة‪ .‬فـاعتبر أن من أراد‬
‫أن يرتاح فليعتقد‪ ،‬ومن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫و(سقراط) يعد فلتة عقلية في التــاريخ‪ ،‬مثــل الطفــرة في البيولوجيــا إلنتــاج كائنــات أعظم رقيــا‪،‬‬
‫وكان كذلك‪ ،‬وأعظم شيء في فلسفته أنه يرى أن الفلسفة ال تجيب عن األسئلة‪ ،‬بقدر فتح الباب‬
‫على أسئلة جديدة‪ ،‬مما يشكل زاوية منفرجة للمعرفة ال تكف عن االتساع‪.‬‬
‫وفي الغرب يعطون لقب فيلسوف لمن يحصل الدكتوراة في العلوم‪ ،‬ولكن ال ينتبه أحد لهذا اللقب‬
‫(‪.)PhD‬‬
‫ومع أن ماركس أعلن موت الفلسفة إال أنها حية جذعـة ال تكـف عن مـد أغصـانها في كـل حقـل‬
‫معرفي‪.‬‬
‫وحسب برتراند راســل عن الفــرق بين الــدين والفلســفة والعلم‪ ،‬أن الفلســفة منطقــة ال اســم لهــا‬
‫تترجرج بين التيولوجيا والعلم ومعرضة للهجوم من الجانبين‪.‬‬
‫والدين يعطي إجابــات نهائيــة قاطعــة‪ ،‬عن قضــايا غامضــة‪ ،‬وغـير قاطعــة وغيبيــة مثــل مــا بعــد‬
‫الموت‪.‬‬
‫أما العلم فهو يهتم بعمليات الكيف‪ ،‬فيجيب عن أسئلة مثــل كيــف تتشــكل الســحب‪ ،‬وبنــاء الــذرة‪،‬‬
‫والكود الوراثي‪ ،‬وسيولة الدم‪ ،‬وعدد الخاليا في الدماغ؟ وأثر البوتاسيوم في حركة القلب؟‬
‫والعلم يقول أن ملوحة البحر هي بسبب كلور الصـوديوم‪ ،‬ولكن الفلسـفة تقـوم بتعليـل ذلـك‪ ،‬وال‬
‫تكف عن التفسير‪ ،‬وتقفز من تفسير آلخر‪ ،‬وتتحرك من تعليل آلخر‪ ،‬فتهب حركــة دائمــة للعقــل‪،‬‬
‫ونمو معرفي بآلية الحذف واإلضافة ‪.‬‬
‫ويقولون في تعريف الفيلسوف أنه ذلك النهم للمعرفة‪ ،‬الــذي تغشــاه روح الطفولــة‪ ،‬وال تفارقــه‬
‫روح الدهشة‪ ،‬وفضــولية الطفــل وحبــه اللعب واإلصــغاء ولــو لفالح جاهــل‪ ،‬مــع نســيان النفس‪،‬‬
‫وتأمل كل قديم بنظرة جديدة؛ فالجدة ال تفارقه‪ ،‬والعجب ال يغادره‪.‬‬
‫وال يكــف عن االطالع والمطالعــة ولــو في وســط حشــد من النــاس‪ ،‬غارقــا في ســحر الكلمــات‬
‫واألرقام‪ ،‬يقرأ قيامــا وقعــودا وعلى جنــوبهم‪ ،‬ولــو في حافلــة ومــترو‪ ،‬أو وهــو ينتظــر دوره في‬
‫البنك على (السرا)‪ ،‬فمن رأيته على هذه الشاكلة‪ ،‬فال تظنن أنه مخبول؟ واعرف أنه وطأ بقدمــه‬
‫محــراب الفلســفة‪ .‬ويــذكر عن آرخميــدس أنــه اســتغرق في بحــر الرياضــيات‪ ،‬فلم ينتبــه لطعــام‬
‫وشراب وفراش وكان يغتسل لمما‪..‬‬
‫ولذا ينصح بالزوجة المثقفة للفيلسوف‪ ،‬تطعمــه وتعتــني بــه‪ ،‬وتنزلــه من حين آلخــر من ســماء‬
‫الحقيقة‪ ،‬إلى ظلم الواقع وفوضاه؟‬
‫وفي القرآن أن الناس في معظمهم‪ ،‬أسوا من الدواب بل هم أضل‪ ،‬ال يشكرون‪ ،‬وال يعلمون‪ ،‬وما‬
‫يؤمن أكثرهم باهلل إال وهم مشركون‪..‬‬
‫وكأين من آية في السموات واألرض يمرون عليها وهم عنها معرضون‪.‬‬
‫أما الفيلسوف فيمر عليها فيتأمل ويكتشف‪ ،‬فهو في رحلة ال تكف عن المتعة‪ ،‬في رحلة‬
‫الوصول إلى هللا الحقيقة النهائية الكاملة‪ ،‬ومن أجل هذا أعدم (سقراط) بالسم‪ ،‬وأحرق (برونو)‬
‫و(هوس) ونفي (ابن رشد) و(أرسطو) وطعن أرخميدس بسيف قصير المع‪ ،‬وقعد على‬
‫الخازوق كامبانيال‪...‬‬

‫‪13‬‬
‫قانون العودة للطفولة‬
‫الطفل يضع األسئلة الضخمة كالجبال‪ ،‬لماذا نولد؟ أين نذهب بعد الموت؟ من أين نأتي إلى هذا‬
‫العالم؟ ويتكلم الطفل بعفوية وال يعرف الخوف إال من أمرين؛ األصوات العالية والسقوط من‬
‫شاهق‪ ،‬ماعداها اليفرق بين العصا والثعبان ووجه أمه وحلمة الثدي والرضاعة‪ ،‬والحجرة‬
‫والجمرة‪ ،‬ويراقب بروح الدهشة والفضول فيتعرف في المحطة والقطار على من حوله من‬
‫اآلباء العابسين‪ ،‬حتى يصاب بعدوى المرض فينكمش وينطفئ‪.‬‬
‫الفلسفة هي تلك الروح الطفولية من التعلم وعدم الكف عن السؤال وبدون خوف؟‬
‫الطفولة تعني النقاء وعدم وجود األحكام األولية وسرعة االلتقاط والذاكرة الرائعة وروح‬
‫الدهشة والفضول والسؤال عن كل شيء؟ من أين نأتي وإلى أين نمضي؟ لماذا يمشي القمر‬
‫معي؟ أين ذهب جدو؟ لقد مات؟ ماما الأريد أن أموت مثل جدو؟‬
‫روح الدهشة والفضول لكل جديد فال يكف عن التعلم بروح متواضعة‪.‬‬
‫وعن اكتشاف العالم من حوله؟ لماذا يسقط المطر؟ لماذا تنتبت الشجر؟ لماذا تتناوب الفصول؟‬
‫من أين أتبنا وإلى أين المصير؟ مامعنى الظلم في العالم ولماذا هو موجود وإلى أين يمضي‬
‫التاريخ؟‬
‫هذه هي الفلسفة وهذا هو الفيلسوف وهذه هي أحد قواعد البناء المعرفي أن يبقى ويعيش‬
‫ويحافظ الفيلسوف على هذه الروح الجدة فال يغتالها التفاهة والروتين‪.‬‬
‫النقاء فال يفترسها الجشع والطمع والقمع؟‬
‫لقد قال ممثل ليبيا في األمم المتحدة في فبراير ‪2011‬م وهو يرى القوم صرعى في الجبل‬
‫األخضر في بالده‪ ،‬قال وهو يقترب من حافة البكاء أال لعنة هللا على السلطة إال لعنة هللا على‬
‫المال‪.‬‬
‫وفي القرآن ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانيه‪.‬‬
‫وهنا نرى هذا المزيج والتعانق المشئوم من السلطة والمال فكل يغذي صاحبه؟‬
‫حين يسقط طاغية تسرع البنوك لتقول كم يمتلك وقبل ذلك هو التقي النقي الطاهر العلم هكذا‬
‫جرت المقادير ونهاية الطواغيت ‪ .‬فكال أخذنا بذنبه كما قال الرب فمنهم من ارسلنا عليه حاصبا‬
‫ومنهم من أغرقنا‪..‬‬
‫ويختم القرآن دوما بهذه القاعدة الذهبية المضاعفة أن الطواغيت اليستفيدون من الدروس قط‬
‫وأن نهايتهم متشابهة؟ فيقولوا نفس الجملة‪ :‬أنا مختلف عن قانون التاريخ؟؟‬
‫وتقول اآلية‪ :‬إن الذين حقت عليهم كلمة ربك اليؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب‬
‫األليم‪..‬‬
‫البناء المعرفي هو ليس حفظا وتقليدا‪ ،‬بل طرح األسئلة وبناء العقل النقدي االستقاللي‪ ،‬وحسب‬
‫ثالثية مالك بن نبي فإن اإلنسان والحضارة يدخالن ثالث مراحل؛ من عبادة األشياء واألشخاص‬
‫قبل الوصول إلى مرحلة عبادة هللا الواحد القهار‪.‬‬
‫كذلك الحضارى تمر في هذه الدورة الرتيبة من بداية الروح صعودا مثل إقالع الطائرات بعزم‬
‫وتصميم لخرق السحب وركوب الغمام‪ ،‬والثانية خط السواء فتحافظ الحضارة على نفسها‪ ،‬ثم‬
‫يأتي الدور الثالث الذي المهرب منه والت حين مناص فتهبط الحضارة بعد أن تفقد آخر‬
‫الطاقات المحتزنة‪ ..‬ويتناسب هذا مع انفالت الغرائز من كل تبخر طاقة روحية‬
‫وهذا يتماشى من طرف آخر مع القانون الثاني في الترموديناميك بمعنى أن هناك دورة لكل شيء‬

‫وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي اإلجالل واإلكرام‬

‫‪14‬‬
‫حافظوا على الطفولة‬
‫الطفل فيلسوف‬
‫الطفل أكبر فيلسوف بروح الدهشة والفضول واالكتشاف والتعلم بدون استكبار ومع‬
‫التقدم في السن يصاب اإلنسان بنكبتين االستكبار وتبخر تلك الروح في التعرف‬
‫على الجديد أو رؤية القديم دوما بعين جديدة‪.‬‬
‫ومن خبرتي عن سر فعالية اإلنسان األلماني هي من تربيته طفال فإن أردت فهم‬
‫مغاليق أسراره فاذهب إلى مفتاح الطفولة ففيها فتح صندوق أسراره‪.‬‬
‫أذكر واقعتين عن طفلين‪ :‬جدية األول بعد عملية زائدة دودية حين سالته هل أكلت‬
‫الشوكوالته (مازحا) أجاب غير مسموح لي بذلك؟‬
‫والثاني عن طفل بطول خمس أشبار حين وقف ينصحني بعدم وضع ابنتي أروى‬
‫في اإلمام في السيارة ؟ قال األطفال غير مسموح لهم بالجلوس في األمام؟‬
‫هذه الوقائع السابقة أثارت في ذهني بعض الذكريات من الوسط األلماني‪ ،‬وطريقة‬
‫المرأة األلمانية في معالجة طفلها اليومي‪ .‬كنت أتأملها وهي تعطيه كل الوقت‪ ،‬تنمي‬
‫عقله بـ (احترام السؤال) وتنمية (الدهشة) واستثارة (روح الفضول) وتشجيع‬
‫(الحوار) وطرد شبح الخوف منه‪ ،‬وجرأة (النقد والنقد المضاد) والتعبير عن وجهة‬
‫النظر أمام المأل بدون وجل أو اضطراب‪ ،‬جنبًا إلى جنب‪ ،‬مع العناية بغذاءه ونظافته‬
‫وحَّم امه اليومي‪ ،‬وتشكيل السلوك عنده في عدم إلقاء شيء على األرض‪ ،‬أو عدم‬
‫إخراج األصوات من فمه أثناء ارتشاف الشوربة أو الشاي‪ ،‬فهي حضارة النظام‬
‫والنظافة والهدوء‪.‬‬
‫وأدركت أن الطفل في مجتمعنا ومن خالل تركه للظروف (ُتَش ِّك له هي) ينبت وقد‬
‫اغتيلت عنده مجموعة من الصفات النفسية اإليجابية لعل أبرزها (روح الدهشة)‬
‫في تأمل العالم‪ ،‬إلنه مع وأد روح الدهشة تتوقف آلية الفضول‪ ،‬فُيقتل النمو وروح‬
‫البحث العلمي عنده دفعة واحدة‪ ،‬وبالتالي لذة (الِج َّدة) في الحياة التي تخلع على‬
‫الحياة معنى وتشحنها باالستمرارية والنمو‪ ،‬وبكسب العادات العقلية الجديدة هذه‬
‫ينشأ ليس على االنطالق وروح المغامرة وحب اكتشاف المجهول‪ ،‬بل على السلبية‬
‫والجمود والخوف والتقليد األعمى‪ .‬وهناك دراسة شيقة قام بها عالم النفس‬
‫السويسري (جان بياجييه‪ )JEAN PIAGET‬عندما قام بدراسته على أوالده‬
‫الثالثة‪ ،‬من خالل دراسة (التطور الروحي الحركي) وارتقاءه مع ارتقاء اإلنسان في‬
‫العمر‪ ،‬ووضع اتجاهًا كامًال بين مدارس علم النفس‪ ،‬التي اجتهدت في فهم المزيد‬
‫عن اآلليات النفسية وعملها عند اإلنسان‪ ،‬وعالقة ذلك في بناء العادات العقلية‪،‬‬
‫ومنها كسب آلية الحوار التي نحن بصددها ‪ .‬ويعتبر جان بياجييه عالم نفس‬
‫سويسري ومؤسس مدرسة علم النفس االرتقائي‪ ،‬وهو اتجاه من خمسة اتجاهات‬
‫بين (مدرسة علم النفس التحليلي ـ وعلماؤه فرويد ويونج) و (المدرسة السلوكية‬

‫‪15‬‬
‫وأبرز روادها سكينر وباندورا) و (مدرسة الجشتالت وتنسب إلى فرتهايمر وكوفكا‬
‫وكوهلر) وأخيرًا االتجاه األخير (مدرسة علم النفس اإلنساني) الذي شق الطريق‬
‫إليه أبراهام ماسلو وفيكتور فرانكل) وينضاف للمدرسة االرتقائية االتجاه المعرفي‬
‫المعروف بـ (الفالسفة الفينومينولوجيون = أي علم الظواهر) وكذلك علماء النفس‬
‫الوجودي بدًء من كيركيجارد وسارتر‪ ،‬ويرتكز االتجاه الوجودي على الفكرة القائلة‬
‫بأن شخصية الفرد تتكون من خالل نضاله الذاتي لتشكيل ذاته الداخلية‪ ،‬إلى أن يجد‬
‫لنفسه في الحياة معنى وقيمة وأسلوبًا يحقق به ذاته‪ ،‬ويراجع في هذا كتاب‬
‫(اإلنسان وعلم النفس) سلسلة عالم المعرفة تأليف عبد الستار إبراهيم ‪.‬ويرى‬
‫(بياجييه) أن (كثيرًا من المفاهيم مثل التفكير والذكاء والوعي والقيم والتوقع) تعود‬
‫إلى (تأثير البيئة على اإلنسان) الذي هو (محكوم بمدى وعيه بها وهو وعي يمر‬
‫في مراحل ارتقائية مختلفة)‪ .‬وحول االرتقاء كتب اريكسون بحثا رائعا عن أزمات‬
‫االرتقاء الثمانية‪ ..‬لعل أهمها بعد الوالدة المراهقة والزواج والعمل والتقاعد قبل‬
‫الموت‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫األفكار البسيطة والنتائج العظيمة‬
‫أبسط األفكار تولد عجيب المعجزات‪ ،‬ومن نظر في الوجود بعين التأمل وصل إلى عجائب‬
‫الخلق‪ ،‬ومعظم الناس تمر على معظم االيات وهم عنها معرضون‪.‬‬

‫ومن نظر في الكون ظن أنها األرض كما فهم ذلك كل من سبقنا قبل انفجار الحداثة واليوم‬
‫نعرف أن األرض (فسفوس) صغير؟‬

‫من هذه األفكار تشقق الصخر بموجات الصوت‪ ،‬وسرعة الضوء من اعتالء شعاع الضوء‪،‬‬
‫وطنين ذبابة يوحي لديكارت الهندسة التحليلة‪ ،‬وتفاحة تسقط فوق رأس نيوتن تقول له معنى‬
‫الجاذبية‪ ،‬وخرطوشة حجر رشيد جاءت بأخبار الكهنة فقاموا من الموت ينشدون تراتيل تعظيم‬
‫الفرعون‪ ،‬وطبع خاتم على صفحة ايقظت فكرة المطبعة عند جوتنبيرغ‪ ،‬وتراقص غطاء‬
‫اإلبريق حركت فكرة ضغط البخار عند بابن‪ ،‬وخرافات بسيطة حركت حروبا عظيمة العتقاد‬
‫هتلر بتفوق عرق على عرق‪ ،‬والرقاصة ماتا هاري انتهت باإلعدام من أجل عشرين ألف مارك‬
‫للجاسوسية األلمانية‪ ،‬كما ماتت بعدها اسمهان بنفس القصة والحكاية والخطايا‪ ،‬وهكذا فدماغ‬
‫اإلنسان صندوق باندورا‪.‬‬

‫علينا أوال تصور المسافات الكونية مقارنة بالسرعات التي نملكها كي نصاب بشعور اإلغماء !!‬

‫ولكن على فرض الكشف عن إمكانية حياٍة على ظهر كوكب‪ ،‬تقاس مسافة بعده عنا بالسنين‬
‫الضوئية؛ فإن التحدي الحالي هو السرعات التي نملكها للوصول الى هذا الكوكب‪ ،‬فنحن في‬
‫الوقت الراهن أسرى هذه السرعات الصبيانية بالنسبة لمسافات الكون‪ ،‬وحين أرسل مسبار‬
‫جاليلو الى كوكب المشتري‪ ،‬جلس العلماء ينتظرون وصوله بفارغ الصبر‪ ،‬بعد أن تم إرساله‬
‫قبل سنوات‪ ،‬وهي مسافة سخيفة‪ ،‬وتقاس بالكيلومترات‪ ،‬فالمشتري يبعد عن الشمس فقط ‪484‬‬
‫مليون ميل‪ ،‬وأبعد الكواكب مثل بلوتو ال يزيد بعده عن الشمس عن ‪ 3,7‬مليار كم؟!‬

‫وهي المسافة التي يقطعها الضوء إليه في فترة (‪ )205,5‬مائتين وخمس دقائق ونصف‬
‫الدقيقة‪ ،‬على اعتبار أن الضوء يقطع في الثانية الواحدة ‪ 300‬ألف كم وفي الدقيقة ‪ 18‬مليون‬
‫كم‪ ،‬أي أن الضوء يقطع نظامنا الشمسي من أقصاه الى أقصاه في فترة ال تزيد ‪ 3,4‬ساعة‪،‬‬
‫ولكن النجم بيكتوريس أو النجم بيجاسوس ‪ 51‬يبعدان في المتوسط حوالي خمسين (ليس‬
‫ساعة ضوئية) بل سنة ضوئية!!‬

‫أي أن البعد هو في حدود خمسين مضروبة في ستة ماليين مليون ميل‪ ،‬أي ‪ 300‬مليون مليون‬
‫ميل‪ ،‬وهو رقم يدفع تصوره على اإلغماء حقا!! ففي مسافات من هذا النوع وبسرعات متوفرة‬
‫لدينا سخيفة‪ ،‬يصبح الوصول الى الكواكب األخرى ضرب من المستحيل‪ ،‬ما لم يطور أحد أمرين‬
‫إما السرعة ذاتها‪ ،‬أو طبيعة التنقل‪ ،‬كما يفكرون بنظرية الثقوب الدودية حيث تطوى المسافات‬
‫كما في قصة المعراج؟‬

‫‪17‬‬
‫فالتحدي في المسافة هو في سرعة الضوء‪ ،‬وإذا استطاع الذكاء اإلنساني أن يصل الى سرعات‬
‫تقفز فوق الحاجز الصوتي؛ فليس األمر كذلك بالحاجز الضوئي‪ ،‬ولكن لنفهم طبيعة هذين‬
‫الحاجزين وماذا يترتب على اختراقهما؟ أي الحاجز الصوتي والحاجز الضوئي؟؟‬

‫كان قياس سرعة الصوت سهًال‪ ،‬ويمكن ألي إنسان أن يعرف كم تبعد عنا السحابة برؤية‬
‫البرق‪ ،‬ثم الزمن الذي يتلوه حتى يصل صوت الرعد‪ ،‬فالصوت يقطع في المتوسط حوالي ‪330‬‬
‫م \ ثانية تزيد وتنقص‪ ،‬حسب طبيعة الوسط الذي تمشي فيه موجات الصوت‪ ،‬وهكذا يمكن‬
‫سماع صوت القطار بوضع األذن على قضبان السكة الحديدية قبل ظهوره‪.‬‬

‫واعتبر كًال من ديكارت ونيوتن أن سرعة الضوء النهائية‪ ،‬في حين اعتبر غاليلو أن هناك‬
‫سرعة للضوء ويمكن معرفتها‪ ،‬ولكنها ذات سرعة هائلة ال يمكن قياسها باإلمكانيات المتاحة‬
‫في زمنه‪.‬‬

‫وعندما أراد قياسها بالمصابيح بمسافة كيلومترات معدودة‪ ،‬عرف أن مثله كمثل من يريد قياس‬
‫سطح األرض بالشبر؟!‬

‫ووصل العالم الدانمركي (رومر) الى قياس سرعة الضوء بوقت مبكر‪ ،‬في أواخر القرن السابع‬
‫عشر‪ ،‬عن طريق الخسوف في أقمار المشتري األربعة (كاليستو وغانيميد وأيوا ويوربا)‪،‬‬
‫مستعمًال االنجاز الجديد الذي طور على يد غاليلو أي التلسكوب‪ ،‬فاعتبر أن سرعة الضوء هي‬
‫في حدود ‪ 185‬ألف ميل \ثا‪ ،‬وهو رقم قريب من الصحة ( ‪ 186000‬ميل في الثانية أو ‪300‬‬
‫ألف كم \ ثانية )‪ ،‬ثم جاءت بعد ذلك طرق مطورة‪ ،‬استطاعت الوصول الى تحديد سرعة الضوء‬
‫على وجه الدقة (طريقة فيزو وطريقة مايكلسون مورلي) حيث حددت السرعة بــ (‪)186.300‬‬
‫ميل \ ثا أو ‪ 299.776‬كم \ ثا على وجه الدقة‪.‬‬

‫وعندما تتجاوز الطائرة سرعة الصوت‪ ،‬تتشكل موجات فوق صوتية هائلة‪ ،‬مما يؤدي الى‬
‫تحطم الطائرة بالذات وزجاج النوافذ‪ ،‬مما جعل مصممي الطائرات يغيرون اللدائن المستخدمة‬
‫في بناء هذا النوع من الطائرات‪.‬‬

‫ولفتت هذه الظاهرة نظر أحد العلماء‪ ،‬حينما الحظ أن هذه الموجات غير المرئية تفعل فعل‬
‫السحر‪ ،‬فتكسر ما هو جلمود كالصخر وأشد المعادن صالبة مثل األلماس‪ ،‬مع أنها ال ترى وال‬
‫يشعر بها‪ ،‬وال تؤذي األنسجة الرخوة‪ ،‬فخطر في باله خاطر عجيب‪ ،‬عن هذه األمواج التي‬
‫تكسر الزجاج والماس والحجر‪ ،‬فُتصِّدع الصخر وُتَش ِّقق الحجر‪ ،‬لماذا ال تستخدم بحذق في‬
‫تفتيت حصيات الكلية‪ ،‬وهي بحص ورمل؟ فتتشقق الحصاة وال تتأذى األنسجة؟! فهداه فكره‬
‫الختراع اآللة في الماء زيادة في التأثير بزيادة سرعة الموجات‪.‬‬

‫فهذه هي الفكرة األساسية في تفتيت حصيات الكلية‪ ،‬ومعظم األجهزة الضخمة قامت على أفكار‬
‫في غاية البساطة‪.‬‬

‫إن تأثير أمواج معينة في تشقيق الحجر‪ ،‬وتصديع الصخر‪ ،‬يقرب إلينا مدلول اآلية أن الجبل‬
‫الصم يتصدع‪ ،‬حينما يتعرض لضرب من األمواج الخاصة‪ ،‬فاآلية يمكن أن نقترب من فهمها‬
‫حتى فيزيائيًا (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية هللا)‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫كما نفهم أيضًا دك الجبل وتفتيته وبقاء أنسجة موسى بدون أذية باستثناء دخوله حالة‬
‫الصدمة‪ ،‬مع سطوع الضوء الرهيب (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا)‪.‬‬

‫أما اختراق الحاجز الضوئي فيعتبر اليوم مستحيًال‪ ،‬فعند زيادة السرعة لتصل الى سرعة‬
‫الضوء‪ ،‬تحصل تغيرات تقلب المفاهيم التقليدية كلها‪ ،‬من خالل أربع نتائج‪ ،‬تنهار عندها‬
‫المعطيات الرياضية الكالسيكية كلها‪ ،‬فيتم استخدام طاقة النهائية‪ ،‬وينضغط الطول الى الصفر‪،‬‬
‫وتزداد كتلة الجسم المتسارع الى الالنهاية‪ ،‬ويتوقف الزمن؟!‬

‫وهذه األفكار تولدت باألصل من النسبية الخاصة‪ ،‬وتشكل ضربًا من التحدي أمام العقل‬
‫اإلنساني‪ ،‬أو بكلمة ثانية استحالة الوصول الى الكواكب المترامية في الفضاء‪ ،‬ألن العمر‬
‫سيضيع بكل بساطة‪ ،‬وسيحتاج االنسان الى ‪ 200‬ألف سنة ليصل الى أقرب كوكب وهو ال‬
‫يعيش منها ‪ 200‬سنة فكيف بمائتي ألف من السنين؟!‬

‫والمركبة (بايونير ‪ )10‬التي أرسلت عام ‪1973‬م تنطلق اآلن خارج المجموعة الشمسية‪،‬‬
‫بسرعة ‪ 54‬ألف كم في الساعة‪ ،‬وستصل أقرب نجم لنا وهو (روس ‪ )248‬الذي يبعد عنا (‬
‫‪ )10,3‬سنة ضوئية بعد ‪ 200‬ألف سنة؟!‬

‫ويا معشر الجن واإلنس إن استطعت أن تنفدوا من أقطار السموات واألرض فانفدوا ال تنفدون‬
‫إال بسلطان‪...‬‬

‫‪19‬‬
‫مثلث الدين والعلم والفلسفة‬
‫في المناقشة التي دارت بين الرجل وزوجته على طاولة الطعام سألت الزوجة‪ :‬أليست الفلسفة‬
‫ببساطة ماذا يفعل الفالسفة؟ قال الزوج‪ :‬ال أعرف لم أصبح بعد فيلسوفًا‪ .‬عقبت الزوجة‪ :‬كل‬
‫الفالسفة كانوا رجاًال أليس كذلك؟ أجاب الرجل‪ :‬أنا لست متأكدًا لم أفكر في هذا النقطة‪ .‬قالت‬
‫الزوجة‪ :‬حسنًا أظن أنك لم تصبح بعد فيلسوفًا‪ .‬ارتبك الرجل قليال وقال‪ :‬آه ‪ .‬إذًا أنت تعرفين ما‬
‫هي الفلسفة حتى تدخلين في معبدها من تشاءين وتطردين ممن ال ترغبين؟‪ .‬قالت الزوجة‪ :‬نعم‬
‫وحسب ما أعرف فإن الفلسفة هي تحديدًا التفكير حول ما تفكر له‪ .‬علق الزوج‪ :‬لماذا تفكرين‬
‫هكذا؟ قالت الزوجة‪ :‬حسنًا لو فكر أحدنا بأي شيء يعرفه حتى لو كان سعر نعل فلسوف يدرك‬
‫أنه يفكر حول ما يفكر فيه‪ .‬أصغى الرجل مليًا إلى قول زوجته الحكيمة وقال‪ :‬أظن أن معك جزًء‬
‫من الحقيقة وحري بالتأمل‪ .‬أجابت الزوجة بابتهاج بالطبع يجب أن تفكر فيما أقول وهي على‬
‫كل حال بداية لمعرفة الفلسفة‪ .‬في الواقع هذه الحوارات وأمثلتها تلقي الضوء على حيرة الناس‬
‫في تعريف الفلسفة فالبعض يراها صداع للرأس‪ .‬وفريق آخر يراها عبثًا وتضييعًا للوقت فإذا‬
‫تغيمت األمور ولم تنتج قال الواحد لآلخر كفاك فلسفة‪ .‬وهناك من يشعر أنها تخرب العقائد وهي‬
‫خطرة على راحة العقول‪ .‬وطائفة ترى فيها أنها تسبح في الخياالت وال عالقة بواقع الناس‪.‬‬
‫وهناك من ينكت وال تخلو النكتة من قسم من الحقيقة عندما يسأل أحدهما اآلخر‪ :‬كيف تعرف‬
‫الفيلسوف بين الناس في الشارع؟ ويكون الجواب‪ :‬عندما ترى رجًال يمشي بين الناس هو‬
‫يحمل كتابًا يقرأه وكأنه ال ينتمي لعالمهم‪ .‬وهناك من يجادل في تاريخ الفلسفة عامة أنها تمثل‬
‫المستحيل وتشوه الذوق ولكن كما يقول بعض الفالسفة‪ :‬إنه خير لك أن تفعل شيئًا من أن ال‬
‫تفعل‪ .‬والفلسفة في الواقع كما يقول الفيلسوف برتراند راسل أنها تلك المنطقة التي ال اسم لها‬
‫بين العلم والدين مكشوفة للهجوم من الجانبين‪ .‬ويختلف الدين عن الفلسفة أنه يعطي إجابة‬
‫جاهزة محددة يقينية في حين أن الفلسفة تبقى تبحث وتثير زوابع الشك بدون توقف‪ .‬وفي كل‬
‫خير وكل منهما يحتاجه الإنسان‪ .‬وفي موقف الإنسان من الموت نرى العلم ال يملك الجواب‪ .‬أما‬
‫الفلسفة فتسبح في فضاءات النهائية بحثًا عن التفسير والمنطقية‪ .‬ولكن الدين يدخل إلى قلب‬
‫الإ نسان اليقين والراحة والقناعة بمعنى الحياة مرتين في الدنيا واآلخرة‪ .‬ولكن لوال زوابع الفكر‬
‫الفلسفية لما نشط الفكر في التاريخ؛ فالفلسفة تمثل جذع شجرة تخرج منها ثمرات العلوم أما‬
‫الجذور القوية الضاربة في عمق التربة فهي الميتافيزيقيا أو الدين ويجب أن تكون في غاية‬
‫الثبات أصلها ثابت في األرض وفرعها في السماء تعطي الثمرات كل حين‪ .‬ومن هنا يجب فهم‬
‫عالقة الدين بالعلم والفلسفة أن كل منهم له ميدانه الخاص به‪ .‬كما ينظر الإنسان أمامه في ثالث‬
‫زوايا فإن نظر تحت قدميه كانت علما فإذا تطلع إلى األفق كانت فلسفة فإذا نظر في السموات‬
‫العلى كانت دينا‪ .‬وصدق الفيلسوف (غرامشي) بأن كل واحد منا عالم قائم بذاته وفيلسوف على‬
‫نحو ما‪ .‬وفيك انطوى العالم األصغر‪ .‬ولكن ماركس أعلن في كتابه (بؤس الفلسفة) أن الفلسفة‬
‫ماتت‪ .‬وينحو النمساوي (لودفيج فيتجنشتاين) فيلسوف الوضعية المنطقية هذا النحو فقد‬
‫ودعها كما فعل الغزالي وارتاح في استراحة الصوفية‪ .‬وهلل في خلقه شئون؟‬

‫‪20‬‬
‫خرائط برمجة اإلنسان‬
‫في آخر عدد من مجلة در شبيجل األلمانية لعام ‪2009‬م ودعت العام بعنوان صارخ في العدد‬
‫‪ " 52‬النزاع األبدي بين اإلسالم والمسيحية"‬
‫(‪ )Islam und Christentum: Der ewige Zwist‬وأضافت من هو الرب األقوى‬
‫للدينين؟‬
‫وهذه البرمجة الذهنية من العداء ليست عقالنية بقدر محتواها السيكولوجي‪ ،‬فكل منا تتشكل‬
‫عنده الخرائط الثقافية‪ ،‬حسب الوسط الذي يولد فيه ويعيش‪..‬‬
‫وصدق المؤرخ توينبي حين افتتح كتابه (مختصر دراسة التاريخ) بهذه الجملة" المؤرخون‬
‫أقرب لشرح آراء الجماعات التي يعيشون في وسطها ويكدحون‪ ،‬منهم إلى تصحيح تلك‬
‫اآلراء"‬
‫ونفس توينبي كان يظن وهو طفل‪ ،‬أن العالم يدور حول جزيرة الضباب (بريطانيا) وأنها عظمى‬
‫منذ أن خلقها هللا‪ ،‬ولم يخطر في باله أنه قبل فترة قصيرة‪ ،‬كان الناس فيها على أتفه األسباب‬
‫يشنقون ويحرقون‪ ،‬وأن مؤسس الديانة الجديدة في بريطانيا باالنشقاق عن روما‪ ،‬كان خلفها‬
‫(هنري الثامن) الذي تزوج ستا ونكح ‪ 16‬وخادن ‪ 160‬وطير رؤوس أربعة أو خمسة من نسائه‬
‫بسبب ودون سبب؟‬
‫وحين نفتح كتاب (كرونولوجيا المرأة) نعرف أن بانكهورست ومن معها قاموا عام ‪ 1912‬م في‬
‫مظاهرة لتصويت المرأة‪ ،‬وأنهن ضربن لست ساعات متواصلة من الشرطة والرعاع‪،‬‬
‫وبعضهن قتل‪ ،‬فهذا هو التاريخ وهذا هو تاريخ البرمجة الثقافية؛ جسر من معاناة على نهر من‬
‫الدموع‪..‬‬
‫ونحن نظن أننا مسلمين بالعقل والمنطق والحجة البالغة‪ ،‬وهي خرافة كبيرة‪ ،‬فنحن نعتنق‬
‫الديانة من الوسط الذي ننشأ فيه‪ ،‬بل نصبح شيعة فنجلد أنفسنا بالسالسل في عاشوراء‪ ،‬أو‬
‫سنة فنقبل الحجر األسود‪ ،‬أو قرامطة فنخطف الحجر األسود إلى البحرين ليبقى هناك ثالثين‬
‫عامًا‪..‬‬
‫فهذه هي قصة البرمجة الثقافية عرفها من عرفها وجهلها من جهلها‪..‬‬
‫يتشكل اإلنسان بشكل جوهري في مرحلة ما قبل المدرسة؛ فيتبرمج في خرائط ذهنية‪ ،‬ال فكاك‬
‫منها وال خالص!!‬
‫وهذه الخرائط هي سجن من أربعة أسوار من (البيولوجيا) و(التاريخ) و(الثقافة) و(الجغرافيا)؛‬
‫المجتمع الفرد بأقوى من صهر الحديد في مصانع الصلب‪ .‬فيخرج منا طائرة ‪A 380‬أو‬ ‫ُ‬ ‫فيشكل‬
‫حاوية قمامات‪.‬‬
‫وهذا يعني أن كثيرًا مما نتصرف يحصل من خالل عالم (الالوعي) الذي كشفه علم النفس‬
‫التحليلي‪ ،‬فاإلنسان مكون من ثالث طبقات منضدة فوق بعضها البعض‪.‬‬
‫في األعلى (ما فوق الوعي ‪ )Super conscious‬وهي جدًا رقيقة‪ ،‬وهي موضع التماع بريق‬
‫األفكار اإلبداعية الفجائية‪.‬‬
‫وطبقة (الوعي) وهي تمثل ‪ %5‬من كياننا النفسي وهي تشبه ضوء المنارة على ساحل المحيط‬
‫‪،‬عندها القدرة في تركيز الضوء في محرق محدد لوقت محدد؛ فإذا انقضت تحولت المنطقة إلى‬
‫ظالم دامس‪..‬‬
‫وتحتها طبقة (الالوعي ‪ )Subconscious‬التي تمثل ‪ % 95‬من سلوكنا!‪ ،‬الذي يمثل المحيط‬
‫الواسع الذي يضم شخصيتنا‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫وفيه أي ما تحت الوعي مستودعات (الخبرات) و(العواطف) و(األخالق) و(العقد النفسية)‪،‬‬
‫ومن ظلماته تتشكل األحالم فنعيش حياتنا الثانية‪.‬‬
‫نحن نقود السيارة‪ ،‬ونشرب فنجان القهوة‪ ،‬ونضرب على الكي بورد‪ ،‬ونزرزر قميصنا برتابة‬
‫آلية‪.‬‬
‫الروتين سيء ورائع بنفس الوقت‪ ،‬ألنه بقدر ما يقتل اإلبداع بقدر ما يريحنا‪.‬‬
‫لو كان إفراز الهورمونات‪ ،‬وخفقان القلب‪ ،‬وإفراز الكلية‪ ،‬وزفير الرئة‪ ،‬مرتبط بالفكر لسقط‬
‫العقل في شباك الطبيعة العمياء‪.‬‬
‫بل وحتى الكالم فيسيطر عليه (الالوعي) مع أنه اكبر تجليات الوعي‪.‬‬
‫نحن حينما نتكلم ال نفكر كيف تمر الكلمات من الدماغ إلى جهاز التصويت‪ ،‬ولو فكرنا في كيف‬
‫نفكر‪ ،‬النقطع كل تفكير‪.‬‬
‫ولو تأملنا جسدنا لرأينا فيه تداخل ثالث مستويات بنفس اللحظة من (اإلرادة) و(نصف اإلرادة)‬
‫و(الال إرادة)؛ فالكلية تنظف على نحو أعمى بدون تفكير‪ ،‬ويمكن أن نحبس أنفاسنا لدقيقة‪،‬‬
‫ولكننا نتميز عن النبات والحيوان‪ ،‬فالنبات ينمو ولكن ال يعرف لماذا ينمو؟ أو كيف ينمو؟ بل‬
‫هو في قبضة قوانين آلية عمياء بالنسبة له‪.‬‬
‫وبالمقابل تعرف القطة كيف تبحث عن طعامها‪ ،‬كما يقفز شوقي القط عندي على ركبتي العامل‬
‫البنغالي حين يحضر له الطعام‪ ،‬ولكنه ال يملك تعليل ملوحة ماء البحر‪.‬‬
‫كما ال يقدم الكلب على االنتحار‪ ،‬ولم نر يوما أن شجرة أضربت عن الطعام وأعلنت الصيام‪،‬‬
‫ولكن اإلنسان يفعل ذلك فيصوم وينتحر معلنا انتصار اإلرادة على الغريزة‪ ،‬وتفوق الوعي على‬
‫اآللية‪.‬‬
‫وهكذا فهناك كيانان رئيسيان يتحكمان بنا‪ ،‬ولكنهما متصالن على شكل طريق أحادي االتجاه في‬
‫الغالب؛ فـ (الوعي) هو الذي يشحن أوًال؛ فإذا تشبع نقل الفكر إلى الالوعي‪.‬‬
‫وهذا التيار من الوعي ـ إلى الالوعي مستمر على مدار الساعة‪ ،‬كما يشحن الدينمو بطارية‬
‫السيارة‪.‬‬
‫ويتدفق تيار المعلومات باتجاه واحد كما في السيالة الكهربية‪ ،‬عندما تمر في محول كهربي من‬
‫قوة ‪ 110‬إلى ‪ 220‬فولت‪.‬‬
‫وما يصل أرض (الالوعي) ينحبس فيه ويتحول إلى قوة تشغيل خفية‪.‬‬
‫وهللا خلقكم وما تعملون‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫العالقة الجدلية بين العلم‬
‫والفلسفة‬
‫العلم الينمو إال في إطار خاص‪ ،‬وفي مناٍخ عقلي مناسب تستنبت بذوره بكل رحمة وحب‪ ،‬وهــذا‬
‫االطــار الفلســفي هــو الــذي يشــكل مرجعيــة العلم في أول الطريــق؛ ليتحــول مــع الــوقت الى‬
‫(االيديولوجيا) التي تخنق تقدمه‪ ،‬مما يحتاج إلى (ابستمولوجيا) جديــدة محــررة‪ ،‬وهكــذا يمشــي‬
‫نظم التاريخ‪ .‬ومن الملفت للنظر أن القوى التي تفجر الطاقات األولى تتحول مع الزمن الى قوى‬
‫معيقــة للتقــدم‪ ،‬وهــذه كــانت مشــكلة االنبيــاء مــع أقــوامهم‪ ،‬فهم كــانوا يصــدقون األنبيــاء الــذين‬
‫سبقوهم‪ ،‬ولكنهم كانوا يكِّذ بون معاصريهم‪.‬‬
‫سيطر الفكر اليوناني لحوالي سبعة عشــر قرنــا وتحــول مــع الــوقت إلى طــاغوت رهيب‪ ،‬وهكــذا‬
‫أحرق أناس من أجل آراء بطليموس في النظـام الشمسـي مـع كـل مظـاهر التصـدع في النظريـة‬
‫وعدم القدرة على التفسير مع الوقت‪ ،‬وسيطرت فكرة (االتوم ـ ‪ )ATOM‬أي الذرة أنها الجــزء‬
‫الذي اليتجزأ‪ ،‬حتى أنهت هذه العقيدة الوثوقية تجربة آالموجوردو في تفجــير الســالح النــووي‪،‬‬
‫وكـان االنعطـاف التـاريخي على يـد رواد الفكـر في العـالم االسـالمي‪ ،‬فهم الـذين أنهـوا سـيطرة‬
‫المنطق (الصوري) لُيدفع العقل باالتجاه القرآني‪ ،‬أي تأمل الواقع (أفال ينظــرون إلى األبــل كيــف‬
‫خلقت) وهكــذا ولــد مبــدأ (التجربــة واالســتقراء) فكــان العقــل االســالمي يلعب الــدور المحــوري‬
‫المفصلي في نقلة العقل االنساني من المرحلـة (االسـطورية) إلى المرحلـة (العلميـة) خالفـا لمـا‬
‫ذهبت اليه الوضعية على يد (أوجست كومت) ثم الوضعية المنطقيــة بعــد ذلــك على يــد (إرنســت‬
‫ماخ) النمسـاوي‪ ،‬اللـذين رأيـا تطـور العقـل االنسـاني يتنقـل من المرحلـة البدائيـة إلى المرحلـة‬
‫الميتافيزيقية الدينية‪ ،‬ليصل إلى المرحلة العلمية الوضعية‪.‬‬
‫صــحيح أن كــومت انتبــه الى القــوانين الـتي تحكم المجتمــع‪ ،‬وبــذلك يكــون قـد تــابع مســيرة ابن‬
‫خلــدون في ادراك قــوانين المجتمعــات‪ ،‬ولكنــه لم ينتبــه وغفــل عن التجلي االســالمي في إطالق‬
‫الشرارة العقلية الكبرى عبر كل التاريخ‪.‬‬
‫وهذه النقلة القرآنية واضحة جدًا من النسق القرآني الــذي ألغى فكــرتي‪ :‬المعجــزة كــدليل مــادي‬
‫للوحي‪ ،‬في الوقت الذي كررها بشكل واضح في عشرات األمكنة لألنبياء اآلخــرين‪ ،‬وهــذا يشــي‬
‫بتدشين عصر جديد‪.‬‬
‫وكذلك فكرة ختم النبوة؛ فالقرآن بهذه الكيفيــة توســط عصــرين وفصــل بين مرحلــتين‪ ،‬فهــو من‬
‫العالم القديم‪ ،‬ولكنه بشر بمولد العقل االستداللي‪ ،‬ودعى الى تثبيته كونه أمرا كسبيا‪.‬‬
‫وهذا يفيدنا أيضًا بأن نفهم القرآن بأنه ليس كتاب فيزياء وكيمياء ورياضيات وطب‪ ،‬بل هو ذلك‬
‫الكتاب الذي يولد المناخ العقلي الذي يفرز كل هذه العلوم‪.‬‬
‫ونفهم من هذا أيضـًا أن عمليـات اللهـاث العتصـار اآليـات السـتخراج الكشـوفات العلميـة منهـا‬
‫منهج خائب في عدة مستويات‪ ،‬فسرعة الضوء كشفها (فيزو) بوسائط فيزيائيــة بحتــة‪ ،‬وبــدون‬
‫نص يرجع اليه‪ ،‬في الوقت الذي يسعى البعض لمحاولة اكتشافه في بعض اآليات‪.‬‬
‫وضمن هذا المناخ الصحي نبت قديما العلم االسالمي‪ ،‬ويمكن أن ينبت مـرة أخـرى ضـمن نفس‬
‫الشروط‪ ،‬وبنفس هذه الدورة التاريخية ارتفع اناس‪.‬‬
‫اسحق نيوتن لم يكن لينقدح في ذهنه قانون الجاذبية النه رأى ســقوط التفاحــة‪ ،‬فجــده لم تحــرك‬
‫فيه أكثر من شهية قضمها‪ ،‬كذلك الحال في (دينيس بابين) الذي رأى في تــراقص غطــاء أبريــق‬
‫الشاي مفاتيح طاقة البخار‪.‬‬
‫ًة‬
‫أمــا ديكــارت الــتي كــانت الذبابــة تطن مزعج ـ بجــانب أذنــه فقــد أوحت لــه بمبــاديء الهندســة‬
‫التحليلية‪ ،‬حيث استطاع بعبقرية أن يمزج علم الجبر بالهندسة‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫وفي الســنة الــتي أعلن فيهــا (كوبرنيكــوس) نظامــه الشمســي الجديــد كــان (فــيزاليوس) يشــق‬
‫الطريق عبر الجسم البشري للمرة األولى في التاريخ األوربي؛ فيدخل عالم (التــابو) أي تشــريح‬
‫الجسد الميت‪ ،‬الذي كان يعتبر مسه بعد الموت حجرا محجورا‪.‬‬
‫وهكذا فحل المعضالت العقلية الكــبرى واالنبثــاق العلمي مرهــون بتغــير المنــاخ العقلي واالطــار‬
‫الفلسفي‪ ،‬الذي ُيمِّك ن الجماعات االنسانية من إعادة النظر في المنظومة المعرفية التي تحملها‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫حياة الفالسفة وحياة التجار‬

‫ذكر لي صديقي موفق عن تاجر في النمسا أنه كان يضارب أحيانًا على صفقة‬
‫تجارية كاملة من حمولة سفينة كبيرة تحمل مادة خام معينة تنطلق من بلد معين قبل‬
‫أن تصل السوق‪ ،‬ويبدو أن المضاربات تتكاثر على هذه الحمولة قبل أن يبدأ تفريغها‬
‫في السوق‪ ،‬والمهم فإن صاحبنا نكب بضربة موجعة وهو يقامر فخسر بضربة واحدة‬
‫مليون دوالر‪ .‬قلت له وكيف كانت أساريره؟ قال قبل ذلك يجب أن تعرف أنه كان‬
‫بعمر الثالثين ولكنه من الضربات المالية تحدب ظهره وضربت فيه السنون‬
‫والمضاربات المالية فوهن منه العظم واشتعل الرأس شيبًا‪ .‬ويذكر ابن خلدون في‬
‫المقدمة قاعدة فيها قدر من الحقيقة أن العلماء في العادة ال يملكون ثروات كبيرة‪ .‬وأنا‬
‫أتذكر عن الفيلسوف (عابد الجابري) من كتابه (حفريات في الذاكرة) أنه كان أمام‬
‫مفرق طريق وهو يفكر لساعة في حديقة ليتخذ قرارًا مصيريًا فإما تابع عمه فكان‬
‫تاجرًا ثريًا وإما شق طريقه إلى العلم ولن يكون حظه بالتأكيد أن يكون من أصحاب‬
‫اليسار‪ .‬مع هذا فلقد قرأت عن حياة الفيزيائي البريطاني (اسحق نيوتن) أنه بجانب‬
‫عمله في إبداع القوانين الرياضية في الفيزياء احترف المضاربة فجنى ثروة كبيرة‪.‬‬
‫ولكنها ليست القاعدة دومًا‪ .‬ويبدو أن قاعدة ابن خلدون لها ما يبررها فكل عمل حتى‬
‫ينمو البد له من متابعة واهتمام مهما يكن صغيرًا وتافهًا فالجراح حتى ينجز عمله‬
‫البد له من الدأب والمتابعة واالنتباه إلى أبسط األمور وأن ال يستخف بالصغائر ألن‬
‫معظم النار من مستصغر الشرر‪ ،‬وقد يقود إهمال تقيح والتهاب بسيط إلى التهاب‬
‫سحايا قاتل كما روى لي طبيب واقعة من هذا النوع‪ .‬وهذا الكالم ينطبق على كل‬
‫الحرف والمهن‪ .‬وأعرف ميكانيكيًا بارعًا غاب عن محله لمدة شهرين وعندما‬
‫راجعت المحل في غيابه كان أخوه الصغير يعمل مكانه وهو متدرب مبتديء ولكنه‬
‫مهتم ففاق وسبق أخاه فاكتشفت أن االهتمام شيء سحري عجيب يرفع صاحبه‬
‫درجات‪ .‬وذكرت لي سيدة قصة عجيبة عن ابنتها أنها شكت من انتفاخ في األنف‬
‫فكانت إذا أرادت تنظيف أنف الطفلة تألمت وتمنعت وخلقت مشكلة وعند مراجعة‬
‫طبيب المع مشهور نظر بشيء من االستخفاف واالستعجال ولم يدقق ووصف‬
‫بسرعة (صادا حيويًا ) جربت العائلة الدواء وكررته بدون فائدة وأرادوا مراجعة‬
‫الطبيب األلمعي‪ .‬كان الطبيب المشهور مشغوًال ولم يولهم انتباهًا كبيرًا‪ .‬قال الزوج‬
‫لزوجته ليس بين يدينا سوى أن نعرض الطفلة على طبيب مقيم مبتديء فهل‬
‫ترضين؟ وافقت على مضض‪ .‬نظرت الطبيبة المقيمة بجدية وإخالص واهتمام إلى‬
‫مشكلة الطفلة فاكتشفت أنها قد أدخلت إلى أنفها قطعة بالستيكية صغيرة فانتزعتها‬
‫فتحررت الطفلة من األلم واالنتفاخ بعد أن خطر في بال األهل أنه بدأ يتشكل ورم في‬
‫أنف الطفلة‪ .‬وشاهدي من هذه القصة أن االهتمام يخلق صاحبه فالتاجر يبحث عن‬
‫الدنانير وقد يصل إليها وطالب العلم يبحث عن معنى في الحياة وقد يصل إليه ولكن‬
‫ما يوصل فعًال هو االهتمام المتواصل وشحذ القريحة وطول الزمن وتراكم الخبرة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫جدلية السياسي والفيلسوف‬
‫لم يكن أكره على قلب (فولتير) من الحرب؛ فهي حسب رأيه " أم الجرائم وأعظم الشرور‪ .‬كل‬
‫دولة تحاول فيها إلباس جريمتها ثوب العدل‪.‬‬
‫إن القتل حرام‪ ،‬وجميع أنواع القتل يعاقب عليها في زمن السلم‪ ،‬أما إذا نفخ في الصور‪ ،‬وأعلنت‬
‫الحرب فيصبح القتل باأللوف مباحًا!"‬
‫و(فولتير) في كتابه (القاموس الفلسفي) يصف الحرب‪":‬يحتاج اإلنسان إلى عشرين سنة كي يبدأ‬
‫نضوج عقله‪ ،‬وثالثة آالف سنة ليكشف القليل عن بنائه‪ ،‬واألبد إلى أن يعرف شيئا عن نفسه‪،‬‬
‫ولكن دقيقة واحدة تكفي لقتله!"‬
‫ويتعجب كيف تنشأ الحروب باألوامر؛ فيهجم فريق على فريق‪ ،‬بدون أن يكون بين أفراد الفريقين‬
‫عداوة شخصية‪ ،‬سوى ما يأمر به الجنراالت المنحوسين من القتل‪.‬‬
‫ولو أن شخصين من الفريقين المتحاربين اجتمعا خارج ساحة الحرب؛ لربما ضِّيف أحدهما‬
‫اآلخر كوبا من القهوة؟ فكيف يحصل ما ال يصدق؟‬
‫أال إن الحرب إفالس أخالقي وجنون وجريمة في ثالث كلمات‪..‬‬
‫وحسب المؤرخ (توينبي) فإن الحرب كانت تسلية الملوك‪ ،‬وأن انهيار الحضارات تتنوع بسبعة‬
‫أسباب‪ ،‬من أبرزها (انتحارية النزعة الحربية) كسبب في إخفاق تقرير المصير‪ ،‬ويذكر نموذج‬
‫(دولة آشور)‪ ،‬التي بقيت تتفقد وتطور باستمرار اآللة الحربية‪ ،‬حتى ماتت (مختنقة في الدرع)‪،‬‬
‫وهو ما سيؤول إليه مصير إسرائيل وأمريكا‪.‬‬
‫وجرت العادة أن نشوة القوة خمر ال فكاك منها‪ .‬ومن سكر لم يعّد األقداح‪ ،‬وحسب (روبرت‬
‫غرين) في كتابه (القوة)‪ ،‬فإنه ليس من شيء أخطر من النصر الذي يدير الرأس‪ ،‬ومن يمسك‬
‫نفسه عند هذا الحد يملك صفة شبه إلهية‪.‬‬
‫وعند نابليون فإن أخطر اللحظات ليست الهزيمة بل النصر‪ .‬وهو ما فعله بسمارك بعد حرب‬
‫‪ 1870‬م فوحد ألمانيا‪ ،‬وبقي عندها بدون تجاوز وحفظ اسمه في التاريخ‪.‬‬
‫وفي يوم كان اإلنسان يصيد السمك وحيوانات الغابة‪ ،‬ولكنه اليوم يذهب للصيد ليس لسد مسغبة‬
‫الجوع بل للتسلية‪ ،‬وهكذا كانت الحرب قديما ملهاة الملوك‪.‬‬
‫وفي الحرب األهلية األمريكية اصحب الجنراالت زوجاتهم (للفرجة) ألنهم لم يكونوا يتصوروا‬
‫أهم في صدد حرب ضروس سوف تلتهم ‪ 600‬ألفًا من األنام‪ ،‬كما ظن حسن نصر هللا‪ ،‬الذي‬
‫خطف اسم هللا لحزبه‪ ،‬أنه لم يكن يتوقع أن يكون رد فعل إسرائيل على خطف جنديين بهذا العنف‬
‫والضراوة‪ .‬كمن يداعب األسد ويطلب منه هزال‪.‬‬
‫وحسب أولمرت وأحمدي ونصر هللا وأشياعهم؛ فالكل انتصر في حرب لبنان‪ ،‬باستثناء لبنان‬
‫الذي تحطم مثل لوح زجاج ضربه شقي بحجر فأصبح شظايا‪.‬‬
‫وقرأت أنا بعد حرب ‪ 1973‬م كتابا بعنوان (المحدال) وتعني (التقصير) باللغة العبرية‪ ،‬كيف‬
‫فوجئت إسرائيل بالهجوم العربي‪ ،‬وهذا هو مصدر قوة إسرائيل‪ ،‬فمن يحكم إسرائيل ليسوا آلهة‪،‬‬
‫بل بشر ممن خلق‪ ،‬تشهد لهم طاولتهم التي عليها يجتمعون‪ ،‬وحولها يتناقشون‪ ،‬ال يبعد أنف أحدهم‬
‫عن اآلخر أكثر من قارورة ماء‪ ،‬وليس مثل القاعات المرعبة للقيادات العربية‪ ،‬المسافة بين الكنبة‬
‫والثانية بقدر عرض غرفة القيادة اإلسرائيلية فال يسمع أحد إال همسا‪.‬‬
‫وهو يشهد أيضا أننا لم نفهم إسرائيل بعد‪ ،‬أنها من الداخل نموذج غربي‪ ،‬في دولة تضم خيرة‬
‫األدمغة‪ ،‬بنظام مالي متطور‪ ،‬ومؤسسات للبحث العلمي‪ ،‬وقدرة عسكرية تذكر باسبرطة العصر‬
‫اليوناني الذهبي‪ ،‬ذات نظام ديموقراطي تذكر بأثينا‪ ،‬ومواطن يؤخذ رأيه في الحرب والسلم‪ ،‬ال‬
‫يخاف على نفسه إذا عَّبر‪ ،‬تسمح لعزمي بشارة أن ينتقدها عالنية في المحطات الفضائية‪ ،‬ولو‬
‫حدث هذا في بلد ثوري عربي‪ ،‬لكان تحقيق منكر ونكير في الفروع األمنية بانتظاره‪ ،‬مع الضرب‬
‫على الوجوه واألدبار‪ ،‬حتى يسبح بحمد الرئيس القائد‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫فهذا هو الفرق بين العرب وإسرائيل‪ ،‬وهذا هو مكمن تفوق إسرائيل لو كانوا يعلمون؟‬
‫وفي الحقيقة ال يمكن تصوير الفرق بين السياسيين والعلماء‪ ،‬كما ظهر بين توقعات حسن نصر‬
‫هللا‪ ،‬وتوقعات الفيزيائي الفيلسوف فيرنر هايزنبرغ عن الحرب الكونية‪ ،‬كما جاء في كتابه‬
‫(الجزء والكل ـ محاورات في مضمار الفيزياء الذرية) في فصل (تصرف األفراد حيال الكارثة‬
‫السياسية)‪.‬‬
‫لقد بلغت دقة تنبؤ (هايزنبرغ ) ما يذكر بالرؤيا الصادقة‪ ،‬والرجل لم يرها في المنام بل بالتحليل‬
‫العلمي‪.‬‬
‫يقول هايزنبرغ إنه فكر بثالث‪ :‬عائلته‪ ،‬ففعل كما فعل من يركب السفينة في مواجهة العاصفة‪،‬‬
‫وهكذا نقل عائلته إلى الجبال استعدادا ليوم القيامة‪ ،‬عندما تنهدم المدن األلمانية‪ ،‬فال يبق حجر‬
‫على حجر‪.‬‬
‫وثانيا‪ :‬أن يزور أصدقائه فلعله لن يجتمع بهم‪.‬‬
‫وثالثا قرار البقاء في العاصفة‪ ،‬وله تفسير لطيف‪ ،‬أنه سيعود لتربية جيل جديد ال عالقة له‬
‫بالحرب والنازية؛ فينشيء القاعدة العلمية الجديدة أللمانيا الحديثة‪ ،‬وهو ما حصل في ظهور‬
‫معاهد (ماكس بالنك) المتفرقة في كل ألمانيا‪.‬‬
‫وحين سأله صديقه انريكو فيرمي إن كان يعتقد بأن الحرب واقعة؟ كان جوابه إنها واقعة ال‬
‫محالة‪ ،‬كما تسبق سحب الخريف الرعد والبرق والمطر‪.‬‬
‫سأله فيرمي‪ :‬ومن تظن انه سينتصر في الحرب؟‬
‫وكان جوابه‪ :‬بالطبع سيربح الحلفاء الحرب‪ ،‬ويخسر هتلر؟‬
‫وكان تعليله‪ :‬يا صديقي فيرمي إن الحرب تكنولوجيا‪ ،‬وال طاقة أللمانيا بخصومها‪.‬‬
‫ثم يعقب برؤية يحسد عليها‪ :‬وهتلر يدرك ذلك‪ ،‬وأتفاءل أن يستوعب الحقيقة‪ ،‬ولكن يا صديقي‬
‫متى كانت الحرب عقالنية؟‬
‫وهتلر ال يختلف عن الجنراالت المعتوهين في شيء ألنه لبس قبعتهم واتشح بردائهم‪.‬‬
‫حسن نصر هللا تفاجأ برد الفعل اإلسرائيلي‪ ،‬والسياسيون العرب فرحون بتساقط قيادات‬
‫إسرائيلية‪ ،‬واللبنانيون خائفون على أنفسهم من ديناصور نما بأسنان الحمة بينهم‪ ،‬ومن ارتهن‬
‫للسالح كان له عبدا‪ ..‬وساء قرينا‪.‬‬
‫فهذا هو الفرق بين السياسي العسكري‪ ،‬والفيلسوف العالم الذي يرى األحداث ويتنبأ بها برؤية‬
‫شبه نبوية‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫الفيلسوف في مواجهة الموت‬
‫عاش (ليون تولستوي) مرتاح البال‪ ،‬وأنشأ عائلة‪ ،‬وأنجب سبعة أوالد‪ ،‬وعند سن الخمسين‬
‫تعرض ألزمة بنيوية حرمته الرقاد‪.‬‬
‫كان سبب موت بعضا ممن حوله ومحاولة اإلجابة عن معنى الموت في الحياة؟‬
‫وكان أول شعور ينتابه حينما يستيقظ صباحا أنه على قيد الحياة‪ ،‬فمع كل ليلة ينام نومة مودع‪،‬‬
‫من هذه الحياة الدنيا الفانية‪ ،‬ثم يكتب أول كلماته‪ ...‬ما زلت أعيش‪ .‬ثم يبدأ نهاه بحمام بارد‬
‫يرتعش منه‪ ،‬ثم يكنس غرفته‪ ،‬ثم يخدم نفسه‪ ،‬ثم يركب فرسه فيطير به إلى الغابة‪.‬‬
‫وكان يقول‪ :‬الطريقة الوحيدة للخالص من البؤس الداخلي أن ترمي نفسك في أحضان العالم‪.‬‬
‫وكما يحصل مع الحيوانات قبل زمن البرد فيكتسي جلدها بفراء ثخين‪ ،‬كذلك تعويض الروح في‬
‫الشيخوخة مقابل اندثار الحواس‪ ،‬فتكتسي بدرع واقية‪ ،‬وتبدأ مرحلة جديدة مقابلة للمراهقة‪،‬‬
‫وهي مرحلة سيكولوجية لم تدرس عند الذكور بعد‪ ،‬وهي واحدة عند الجميع‪ ،‬ولكنها كانت عند‬
‫تولستوي حادة مدمرة‪.‬‬
‫وكان يختم ليلته في محاسبة نفسه‪ ،‬فكان بحق قديسا‪ ،‬فيدون كل شيء فعله‪ ،‬ويحاسب نفسه‬
‫على كل صغيرة وكبيرة عملها في ذلك النهار‪ ،‬ويعترف هلل بأخطائه‪ ،‬ويتوب ويجدد توبته عما‬
‫اقترفته يداه‪ ،‬ويعترف أنه مازال لم يتطهر بعد‪ ،‬وكان أكثر ما يمضه أنه لم يتخلص من ثروته‬
‫كليا‪ ،‬ومال إلى الهرب من البيت الذي يعيش فيه‪ ،‬وكذلك زوجته الدنيوية‪ ،‬وصارت له ثالث‬
‫هربات بين كل واحدة والثانية ‪ 13‬عاما‪ ،‬قبل أن يهرب للمرة األخيرة بدون عودة ويموت في‬
‫محطة نائية‪ ،‬في استابو في ‪ 7‬نوفمبر من عام ‪1910‬م‪ .‬ويرفض مقابلة زوجته التي كانت ترمق‬
‫احتضاره خلف نافذة‪.‬‬
‫وهي تذكر برحلة الغزالي الكتشاف الحقيقة‪ ،‬قبل أن يكتب كتاب إحياء علوم الدين والمنقذ من‬
‫الضالل والموصل إلى ذي العزة والجالل‪.‬‬
‫وكتاب (محمود عزام) عن (فلسفة العلوم) تعرض لهذه اللحظة المزلزلة في نقله عن إفالطون‬
‫" أن النفس ما دامت في هذا العالم متحدة بالجسم‪ ،‬فإنه يمتنع عليها أن تتخلص بصورة كاملة‬
‫من وساطته إلدراك الحقيقة‪ .‬فالجسم هو قيد للنفس وعائق لها عن إدراك الحقيقة المطلقة‪ ،‬من‬
‫حيث أنه بجعل إدراك هذه الحقيقة يمر عبر واسطة هي إدراك الموضوعات المحسوسة‪.‬‬
‫ولكن الفيلسوف ال يقف أمام هذا الواقع موقفا سلبيا‪ ،‬بل هو يسعى جهده لتخليص النفس من‬
‫الجسم‪ ،‬وهو جهد يستمر طوال حياة الفيلسوف‪ ،‬ما دام يسعى إلى معرفة الحقيقة المطلقة‪،‬‬
‫وهذه العملية يدعوها إفالطون تطهير النفس ـ وبتعبير القرآن وأوصاني بالصالة والزكاة ما‬
‫دمت حيا ـ‬
‫ومن هنا فإن أقرب حالة لما يصفه إفالطون‪ ،‬من أجل إدراك الحقيقة‪ ،‬هي الموت‪،‬‬
‫وعلى هذا فإن الفيلسوف ال يهاب الموت‪ ،‬بل ينشده‪ ،‬ألنه اللحظة التي تتخلص فيها نفسه‬
‫بصورة كاملة من قيد الجسد‪ ،‬لتصبح وحدها في مواجهة الحقيقة المطلقة‪ ،‬والفيلسوف بابتعاده‬
‫عن مطالب الجسم‪ ،‬قدر اإلمكان‪ ،‬يمارس الموت في الحياة‪،‬‬
‫وهذا ما جعل الفيلسوف سقراط ال يهرب من الموت‪ ،‬ألنه يجد فيه مناسبة لتحقيق ما كان ينشده‬
‫في حياته‪.‬‬
‫ولذا عقب (ستيفان زيفايج) في كتابه عن تولستوي لما واجه لحظة الموت أنه مات في غرفة‬
‫متواضعة مثل أي فالح روسي في محطة سكك حديدية وليس في قصر منيف في فراش وثير‬
‫عريض ‪ ..‬قال‪ :‬حينذاك عرف هذا الباحث اللجوج الحقيقة ومعنى الحياة‪.‬‬
‫وفي القرآن واعبد ربك حتى يأتيك اليقين‪ ..‬حينما يكون النظر حادا جدا يرى األشياء بوضوح ‪..‬‬
‫فبصرك اليوم حديد‬

‫‪28‬‬
‫األسئلة الفلسفية العظمى‬
‫الموت والحياة‬
‫في منتصف الليل يهدأ النهار؛ ويبدأ السواد في االنحناء وطي الخافقين تحت جناح الظالم‪.‬‬
‫ويستسلم الليل في إغفاءة السحر‪ ،‬ولكن الموت يحلق بجناحين من سواد‪ ،‬والمالئكة تبسط‬
‫أجنحتها البيضاء أو أيديها القابضة‪ ،‬تستقبل روحا صاعدة كامدة أو مستبشرة‪..‬‬
‫كان التلفون من الدكتور عرفان‪ ،‬أن شابا في ميعة الصبا‪ ،‬أحضر إلى اإلسعاف في غيبوبة؛‬
‫ضربة في الرأس‪ ،‬تهشم في األضلع‪ ،‬كسر في الذراع‪ ،‬انصباب في الحشا من دم نازف!‬
‫كلها مؤشرات خطيرة إلى موت محدق‪ ،‬والحفظة يعدون لحفلة جنائزية‪ ،‬وهم يتبادلون‬
‫المعلومات؛ إنه شاب! الموت ال يعرف الشباب من الشيخوخة‪ ،‬فقد دنت الساعة وتدلت‪..‬‬
‫طار األطباء بأجنحة السرعة مع المريض إلى قاعة التصوير الطبقي والسونار‪ ،‬علهم يحددون‬
‫أين يبدؤون‪ ،‬ومن هو األشد خطرا على حياة المريض؟ فكسر عظم الفخذ ليس مثل تقطع‬
‫الطحال وتمزق الكبد‪..‬‬
‫قال الدكتور عرفان‪ :‬وألننا نعمل معا في وحدة جراحة األوعية الدموية؛ حصتنا هي الذراع؛‬
‫فهناك كسر في عظم العضد‪ ،‬مع نزف يرجح إصابة األوعية المرافقة!!‬
‫قلت له أنا قادم‪ ،‬وكنت أقرأ لتوي في كتاب (بيتر فارب) عن (بني اإلنسان ‪)Human Kind‬‬
‫في علم االجتماع واألنثربولوجيا‪..‬‬
‫حين وصلت قاعة العمليات قال لي الجراح المناوب إنه بمجرد فتح البطن دخل المريض من‬
‫جديد في حالة الصدمة؛ فنحن نسعى إلنعاشه قبل التصرف بأي شيء آخر‪..‬‬
‫هذه المرة المسألة تدور حول الحياة أكثر من الطرف‪..‬‬
‫ولمدة نصف ساعة حاول األطباء عبثا إنقاذ هذا الشاب الذي خلفه الحادث المروري أشالء‬
‫ممزعة‪ ،‬الدوبامين ‪ ..‬أدرنالين ‪ ..‬كورتيزون ‪ ..‬مساجات القلب التنفس الصناعي باألنبوب‪..‬‬
‫صدمات القلب الكهربية إلزالة الرجفان‪..‬‬
‫كان الشاب يغرق في مستنقع الموت تدريجيا ومالئكة الموت باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم‪..‬‬
‫ثم أعلن الفريق الطبي حسب البرتوكول المتعارف عليه أن اإلنعاش فشل بعد محاولة نصف‬
‫ساعة؛ فأعلن الحداد‪ ،‬ونفخ في الصور‪ ،‬أن الشاب أعلن ميتا‪ ،‬استعدادا لطي ملفه من قيد‬
‫األحياء‪..‬‬
‫تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن‬
‫عمال وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت‬
‫فارجع البصر هل ترى من فطور‪...‬‬
‫تأملت حدقة الشاب كانت متوسعة بذهول‪ ،‬ال تروي شيئا سوى الموت واالندثار وتوديع أي‬
‫نشاط في الحياة‪..‬‬
‫هنا تذكرت نفس ساعة الموت لزوجتي ليلى سعيد التي فارقتنا قبل سنوات في نفس المشهد في‬
‫مونتريال؛ فماتت في ساعة من نهار‪.‬‬
‫لم تمت من حادث مروري كما مات الشاب بين أيدينا‪ ،‬ولكن من حادث وعائي حيث سكت قلبها‬
‫فجأة عن النطق‪ ،‬ونبضها عن الحديث‪ ،‬وسقطت إلى األرض فما قامت إال للثرى والبلى‪،‬‬
‫وسبحان من أفنى وأحيا‪..‬‬
‫ما هو الموت؟ وما هي الحياة؟؟ قلت لزوجتي حين كانت على قيد الحياة‪ ،‬وأنا أنقل لهم خبر‬
‫صديقي أبو طه‪ ،‬حين مات أمام فناء الفيال‪ ،‬وهو يحاسب العمال اللصوص على سوء العمل؛‬
‫فسقط ولم ينهض!‬

‫‪29‬‬
‫قلت لزوجتي ليس الموت هو العجب بل الحياة‪ ،‬فالموت عودت للصفر والالفعالية والقصور‬
‫الذاتي والتراب‪ ،‬ولكن الحياة هي المعجزة وهي العجب العجاب؟؟‬
‫الكل يعرف هذه الحقيقة‪ ..‬والكل يقف مذهوال أمام حقيقة الموت‪ ..‬فليس من جواب‪..‬‬
‫يقولون العين ال تستطيع أن ترى أو تحدق في شيئين البؤبؤ في الشمس والعقل في الموت‪..‬‬
‫أهم ما في الطفل أنه فيلسوف كبير ال يكف عن الدهشة وروح الفضول ولذا فهو يطرح األسئلة‬
‫الفلسفية الكبرى‪ ،‬ومنها الموت والحياة‪ ،‬من أين جئنا وإلى أين ذهب جدو؟؟ أو أين ذهبت تيتى‬
‫(كناية عن الجدة؟)‪..‬‬
‫دورة الحياة تغلق نفسها في كل مستوى من زنابق الحق وفراشات الحقول وبعوض المستنقع‬
‫ودورة الماء بين األرض والسماء‪ ،‬والحليب ما بين فرث ودم‪ ،‬والنحل تسلك دروب ربها ذلال‬
‫من العريش والجبال فتخرج شرابا مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس‪..‬‬
‫وكذلك دورة الموت والحياة‪ ،‬وما يعمر من معمر وال ينقص من عمره إال في كتاب إن ذلك على‬
‫هللا يسير‪..‬‬
‫جئنا من العدم ونرجع إليه وال نعرف شيئا عن العدم الذي خرجنا منه وال الالنهاية التي تغلفنا‪،‬‬
‫فنحن كل شيء نسبة إلى العدم‪ ،‬ونحن الشيء نسبة إلى الالنهاية التي تحدق فينا وتطوقنا‪،‬‬
‫أليس عجبا إذا أن ال نخشع ونركع ونتوسل ونخضع إلى القوة الخفية الالنهائية التي تملك‬
‫األسرار النهائية للوجود‪ ..‬هكذا قال باسكال في خواطره المشهورة‪ ..‬وهكذا تأملت الشاب‬
‫المسجى على طاولة العمليات وأنا أتأمله من زاوية إنسانية وليس فنية طبية من توقف القلب‬
‫والتنفس والنزف والكسر وتمزق الكبد وتقطع الطحال‪ ..‬كلها آالت قابلة لإلصالح ولكنها في‬
‫النهاية يجول فيها كائن خفي اسمه الحياة‪ ،‬فإذا خرجت هذه النسمة كما أدخلها بارئها رجعت‬
‫إلى المصدر الذي خرجت منه بكل تواضع وهدوء وسالم‪..‬‬
‫ما هي الحياة ؟؟ ما هو الموت ؟؟ هل أجبنا أم يكمن الجواب في وقت ال سبيل للوصول إليه؟‬
‫فكما وصف الرب نفسه أنه نور السموات واألرض‪ ،‬كذلك وصف هللا أنه يملك سر الموت‬
‫والحياة‪ ،‬وإنه يلعب بهما تماما كيفما يشاء فيخرج الميت من الحي‪ ،‬ومخرج الحي من الميت‪،‬‬
‫ونحن نتأمل الظاهرة كل يوم وكأننا ال نبصر‪..‬‬
‫هل سيكشف الغطاء يوما عن عيني‪ ،‬فأبصر ما أبصره إبراهيم فوعي حقيقة الموت‪ ،‬في مشهد‬
‫مادي‪ ،‬من بقايا مقطعة‪ ،‬من أربعة طيور إليه يسعين؟‬
‫أم ذلك الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها بعد قرن؛ فقام الحمار ونهق‪ ،‬فصدق وهو‬
‫يفرك عينيه؟‬
‫وهل سأحظى بلمس ليلى‪ ،‬وهي التي أراها كل ليلة في المنام؛ فأبكي كما بكيت مرارا‪ ،‬وأقول‬
‫أين ذهبت يا حبيبة القلب مبكرة مسرعة‪ ،‬كما استعجل موسى؛ فقال له الرب وما أعجلك عن‬
‫قومك يا موسى قال هم على أثري وعجلت إليك رب لترضي‪..‬‬
‫نعم نحن على أثرك يا ليلى‪ ،‬وأنت استعجلت بروحك الطاهرة إلى الرب الذي اشتاق لك‪ ،‬بعد أن‬
‫انتهيت من رحلة العناء ودخلت النرفانا طاهرة قديسة؛ فأنت تطيرين في الجنة بجناحين من‬
‫قصب‪ ،‬في بيت النصب فيه وال لغوب‪..‬‬
‫ما هو الموت؟؟؟ هكذا يسأل الطفل وليس من جواب ‪...‬‬

‫‪30‬‬
‫فلسفة النبوة والثقافة‬
‫يعتبر (نعوم تشومسكي) أن المثقف هو من حمل الحقيقة في وجه القوة‪ .‬والمثقف حسب المفكر‬
‫البحريني (جابر األنصاري) هو من غادر حقل االختصاص‪ .‬وفي القــرآن من يكتم البينــات يلعنــه‬
‫هللا والمالئكــة والنــاس أجمعين‪ .‬وســر الديموقراطيــة في المعارضــة‪ .‬وال معارضــة بــدون فكــر‬
‫مستقل‪ .‬وال استقاللية في التفكير بدون حرية فكر‪ .‬وال قيمة لحرية التفكير بدون تعبير‪ .‬والتفكير‬
‫بدون تعبير يشبه الكمبيوتر بدون شاشة‪ .‬وخياطو الفكــر العــربي اليــوم موزعــون بين أصــناف؛‬
‫فمنهم من يرى التفكير حراما وخطــيرا‪ .‬ومنهم من يــرى أن ال غبــار على (التفكــير) بحــدود أمــا‬
‫(التعبير) فيجب أن يمر من قناة أمنية أو فقهية على المقاس‪.‬‬
‫وعلى (التعبير) أن ينسجم مع أنغام الجوقة‪ .‬وعلى المفكر أو الكاتب أن يقول قوًال ال يوقظ نائما‬
‫وال يزعج مستيقظًا‪.‬‬
‫وتبقى (فصيلة) شاذة من المفكرين من ترى الحرية على إطالقها‪ .‬فيسمح للجميع بحرية التفكير‬
‫والتعبير والكتابة والنشر واالجتماع والتظاهر وبناء األحزاب بدون أي قيود‪.‬‬
‫ولكن هذه الفصيلة ال تمثل وزنا أو تيارا يعتد بـه في المحيـط الطـامي من الجـاهلين‪ .‬وفي وسـط‬
‫ثقافة تحرص بدأب على إغالق مسام األكسجين عن أي خلية عصبية تفكر‪ .‬فال يسمح للمــواطن‬
‫بفتح فمه إال عند طبيب األسنان فهذا أدعى للسالمة‪.‬‬
‫وحسب (الكواكبي) أن الجماهير يتنازع قيادتهــا العلمــاء والطغــاة‪ .‬فمن جهــل خــاف‪ .‬ومن خــاف‬
‫أصبح جاهزا لالستبداد‪ .‬ومن علم تحرر‪ .‬وفي اإلنجيل تعلموا الحق والحق يحرركم‪.‬‬
‫وهناك أربع نماذج لألنبياء تلقي الضوء على حقيقة المثقف‪ :‬عيسى وموسى ومحمد وســليمان‪.‬‬
‫فأما (عيسى) فهو نموذج المثقف في وجه التراثيين الحرفيين‪.‬‬
‫ومن واجه عيسى كانوا ثالثة الكتبة والفريسيون والصــدوقيون‪ .‬أي جماعــة النصــوص ورجــال‬
‫السلطة ومن ال يؤمن باآلخرة‪.‬‬
‫و(موسى) كان نموذج المثقف في وجه الطغيان‪ .‬فأمره هللا بالتوجه إلى فرعون إنه طغى‪.‬‬
‫وكان (محمد) ص نموذج المثقف في السلطة فقد صنع مجتمعا وبــنى دولــة من األمــيين فعلمهم‬
‫الكتاب والحكمة وزكاهم وإن كانوا من قبل لفي ضالل مبين‪.‬‬
‫وأما (سليمان) فهو يمثل الروح اإلمبراطورية الذي يهــدد بــذبح الهدهــد أو ليعذبنــه أو ليخــرجن‬
‫أقواما من ديارهم وهم صاغرين أو يتمنى أن يوهب ملكًا ال ينبغي ألحد من بعده فيغلــق الطريــق‬
‫على الجميع حتى امتحن فألقي على كرسيه جسدا ثم أناب‪.‬‬
‫وكانت ملكة سبأ التي تعاملت معه نمـوذج السـالم الـذي طـوق التـوتر بحكمـة يمانيـة‪ .‬وأسـلمت‬
‫ليس (لــ) سليمان بل (مع) سليمان (هلل) رب العالمين‪.‬‬
‫والمثقـف في العـالم العـربي اليـوم ثالث أصـناف‪ :‬المثقـف الـوهمي والمهـاجر والحقيقي‪ :‬فأمـا‬
‫المثقف (الوهمي) فله ثالث وظائف‪( :‬التبرير) و (التخدير) و (التزييف)‪ .‬وهم قطيع ضــاري من‬
‫مثقفي السلطة ورفاق الحزب ووعاظ الســالطين‪ .‬مهمتهم قلب الحقــائق أو لبس الحــق بالباطــل‬
‫وهم يعلمون؛ فإذا نطق القائد بتافه من القول اعتبروها من تحف الخلود‪ .‬وإذا ساءت األوضــاع‬
‫إلى الحد األعظم وصفوها بأنها طبيعة التقدم‪ .‬وإذا غصت الشــوارع بالعــاطلين عن العمــل قــالوا‬

‫‪31‬‬
‫إنه االستعمار‪ .‬وإذا انهارت العملة الوطنية إلى عشر معشارها قالوا كل العــالم في نفس األزمــة‪.‬‬
‫فهذه هي مهمة مثقف السلطة الذي يأكل من مائدة السلطان وينشد الشعر في المناسبات البهية‪.‬‬
‫وأما المثقف (المهاجر) فهو على نوعين فإما هاجر إلى (الخارج) باتجاه الديموقراطيات الحرة‬
‫بإقامة وجنسية ولجوء سياسي‪ ،‬وإما هاجر إلى (الداخل) باالنسحاب داخل شرنقة خاصــة تحفــظ‬
‫عليه حياتـه وكرامتـه في ظـروف جفـاف صـحراء الفكـر العربيـة‪ .‬وهي حكمـة تفعلهـا الكائنـات‬
‫للبقاء‪.‬‬
‫ويبقى المثقف (الحقيقي) الذي يرسم مصيره فيقتل بطريقتين‪ :‬فإما تمت تصفيته جسديا وإمـا تم‬
‫اغتيال أفكاره اجتماعيا في لعبة (الصراع الفكري) كما شرحها (مالك بن نبي) في كتاب (شروط‬
‫النهضة)‪.‬‬
‫ومن نجا في الغابة العربية التي تسرح فيها الضواري من رجال األمن وأزالم السلطة عاش مــع‬
‫أغانيه مثل المجنون‪ .‬وهذا يشكل استعصاء في حركة تقدم المجتمع ال بد من كسره ولكن كيف؟‬
‫ويقــوم اإلنســان في الــوطن العــربي أمــام هــذه االســتحالة بثالث حركــات‪ :‬فإمــا انتحــر بمســبحة‬
‫المتصوفة أو كهوف تورا بورا‪.‬‬
‫ومن ركب رأسه فعارك األوضاع انتحر في سجن يضيع فيــه أفضــل ســنوات عمــره‪ .‬وهنــاك من‬
‫ينتحر ليعيش في الماضي الزاهي بـإطالق لحيتـه أو تقصـير ثوبـه ومعهـا تقصـر مداركـه عشـر‬
‫مرات‪.‬‬
‫وهذه الظلمات في العالم يبدو أن حلها واحد من أربع‪ :‬فإما الحل العراقي أي االجتياح الخــارجي‬
‫بعد أن تجمد المجتمع في براد االستبداد‪ .‬وإما االنفجار بحرب أهلية مدمرة‪ .‬وهي وصفة خالص‬
‫دخلتها الكثير من األمم‪ .‬وإما ولدت نفس عظيمــة فولــدت األمــة من جديــد‪ ،‬وإمــا دخــل المجتمــع‬
‫مرحلة تحنط تقصر أو تطول وهي عالمة موت األمم في التاريخ‪ .‬ولكل أمة أجل فإذا جــاء أجلهم‬
‫ال يستأخرون عنه ساعة وال يستقدمون‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫فلسفات شتى‬
‫في ميادين شتى‬

‫‪33‬‬
‫في فلسفة الموت !!‬

‫في ‪ 7‬سبتمبر يوم األربعاء صباحًا كانت زوجتي ليلى سعيد داعية الالعنف على موعد مــع ملــك‬
‫الموت بدون إذن وزيارة وتخطيط وإعالم‪ .‬لم تكن تشكو من شيء‪ .‬كانت تمشي يوميــا أكــثر من‬
‫ساعة مثل الغزال الرشيق‪ .‬في قمة اللياقة البدنيــة والعقليــة واســتيعاب الفكــر العــالمي والعطــاء‬
‫األخالقي والفكري‪ ،‬جسمها بديع‪ ،‬وجمالها قوقازي باهر‪ ،‬وخلقها رفيع‪ ،‬وعطاءها بغير حساب‪،‬‬
‫تخدم كل من حولها‪ ،‬وال تطلب من أحــد خدمــة‪ .‬شخصــيتها طاغيــة‪ ،‬تــذكرني بقصــة (قــرة عين)‬
‫التي وصفها علي الوردي أنها كانت تجمع أربع خصال لو كانت واحــدة في بنــات جنســها لكفى‪:‬‬
‫الفصــاحة والخطابــة‪ ،‬والجمــال البــاهر‪ ،‬والشخصــية الكارزيمائيــة‪ ،‬والــذكاء الالمــع والثقافــة‬
‫العالمية‪.‬‬
‫كل هذا كان في ليلى سعيد وأكثر‪.‬‬
‫كانت نسخة أنثوية عن داعية السالم جودت سعيد‪.‬‬
‫سقطت إلى األرض فجأة فلم تنهض إال إلى فراش الموت‪ ،‬ومضت خفيفــة كمــا كــانت خفيفــة في‬
‫كل حياتها‪ ،‬ولكن الفــراغ الســاحق الــذي تركتــه خلفهــا كــان لنــا ثقبـًا أســودًا يشــفطنا إلى وادي‬
‫الدموع واألحزان‪.‬‬
‫كانت صدمة المــوت مروعـة‪ ،‬وفجــأة اكتشــفنا هـوة غـير متوقعــة بين أقـدامنا تهــددنا كــل حين‪،‬‬
‫واكتشفنا كم الحياة هشة ضعيفة وقصيرة‪ ..‬ألول مرة أحسسنا على نحو جدي بانعدام األمن على‬
‫األرض وأن اآلخــرة خــير وأبقى يــدخلها المؤمنــون بســالم‪ ....‬فال ســالم وال خلــود وال راحــة إال‬
‫هناك‪..‬‬
‫وهنا اكتشفنا القرآن من جديد فكل مظاهر الطبيعة وكل قصـص األنبيـاء وأقـوامهم والصـراعات‬
‫التاريخيــة كلهــا كــانت تحــوم وتخلص وتنتهي بفكــرة العــودة والخلــود ال ريب فيهــا ‪ ..‬كــذلك‬
‫النشور ‪ ..‬كذلك تخرجون‪ ..‬كذلك تبعثون‪..‬‬
‫في الواقع لم يبدأ القرآن في بث أفكاره إال بعد تخليص الضمير وتصفيته من قضــية المــوت قبــل‬
‫أن يبدأ رحلة الحياة‪..‬‬
‫والحزن يأتي من المساحة التي يحتلها العزيز‪ ،‬فقد ال يحزن اإلنسان على أمه الــتي ولدتــه‪ ،‬كمــا‬
‫يحصل في موت صديق عزيز غالي على النفس‪ ..‬فالعالقة الثقافية هي التي تحــدد كثافــة الحــزن‬
‫وعمقه وحدته‪..‬‬
‫والمــوت يبقى مســألة ثقافيــة عاطفيــة‪ ،‬ويــبرز المــوت كجــدار غــير قابــل للخــرق ‪ ..‬غــير قابــل‬
‫للتفســير‪ ...‬ويــأتي الــدين فيعطي العــزاء والجــواب النهــائي المحــدد‪ ،‬أمــا الفلســفة فتســبح في‬
‫الشكوك‪ ،‬أما العلم فال يملك الجواب أصال عن هذه الظاهرة المدمرة والنكبة الماحقة‪..‬‬
‫هنا فهمنا لماذا حافظ الصــحابة على جثــة النــبي ثالثــة أيــام بــدون دفن‪ ،‬مــع أن مســألة الخالفــة‬
‫السياسية كانت قد حسمت؛ فلم يستوعب أصحابه أن هذا الرجل النبيل العظيم الذي عاش للفكر‪،‬‬
‫وأشاع السالم‪ ،‬وعمم وربى على الخلق العــالي‪ ،‬والفضــيلة بــدون حــدود‪ ،‬وأعطى معــنى للحيــاة‬
‫لمن حولـه‪ ،‬كيـف ينتهي هكـذا في قمـة اللياقـة البدينـة والعطـاء في عمـر ‪ 63‬سـنة‪ ،‬وهي نفس‬
‫السن الذي ماتت فيه ليلى سعيد‪ ..‬ونفس الشيء حصل لمدام كـوري حين دهسـت عربـة طائشـة‬
‫زوجها بيير فوضعته لثالث أيام تنظر إليه وهي ال تكاد تصــدق حــتى دفنتــه في الــتراب وغــرقت‬
‫هي في بحــر من الــدموع‪ ..‬وأردت أن أفعــل نفس الشــيء مــع ليلى فأضــعها أمــامي األيــام ذوات‬
‫العدد حتى أستوعب ‪ ..‬حتى أصدق‪ ...‬ولكن حيـل بيننـا وبين مـا أردنـا؛ فـالموت في كنـدا تتلقفـه‬

‫‪34‬‬
‫أيادي المؤسسات‪ ،‬ثم تغسل الجثة بيدي الجاهالت‪ ،‬ثم تدفن في حراسة متشــددين غالظ ربمــا لم‬
‫يكتشــفوا كــوكب الحب بعــد‪ ،‬ولم يمارســوه‪ ،‬ولم يطــأوا عتبــة معبــد الحب بعــد ولم يصــلوا فيــه‬
‫ويخشعوا‪ ،‬وقد أفلح المؤمنون الذين هم في صـالتهم خاشـعون‪ ،‬ربمـا لم يـذوقوا معـنى الرحمـة‬
‫التي بشر بها رسول الرحمة‪ .‬وأنا أعذرهم كما جاء في قصــة رســل أثينــا إلى ملــك الفــرس حين‬
‫طلبوا منهما أن يكونا عبيدا للمولى الفارسي فقالوا لهم مشكلتكم أنكم لم تذوقوا الحرية بعد ولــو‬
‫ذقتم لعرفتم وقـاتلتم عنهـا بأظـافركم وأسـنانكم‪ .‬إن هـذا المعـنى الـذي تقشـعر منـه جلـود الـذين‬
‫يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر هللا هو الــذي كــان الصــوفيون يقولــون عنــه من لم‬
‫يذق لم يعرف‪ .‬فالحب والحرية وفيض السعادة معاني تتدفق ألناس جاهدوا في هللا حق جهاده‪.‬‬
‫موجة األصولية التي زحفت إلى أرض الحريات والضــمانات في كنــدا شــوهت معــاني اإلنســانية‬
‫ومنها عبادة الطقوس حين منعت بناتها من المشاركة في دفنها‪ ،‬بدعوى من أحاديث ما نزل هللا‬
‫بها من سلطان‪ ،‬من ثقافة مشبوهة كتبت في ظروف مشبوهة‪..‬‬
‫وعندها استوعبت لماذا لقن األمام ابن حنبل ابنه خمسة آالف حديث ليقول في النهاية إنها كلهــا‬
‫كذب في كذب من صندوق باندورا للشرور ‪..‬‬
‫لماذا يا أبت؟؟ لماذا كل هذا التعب في الحفظ؟؟ فيجيب األمام حتى تعــرف فــور مطالعــة الحــديث‬
‫أنه من مستودع الشيطان‪..‬‬
‫إنها محنة ثقافة مزورة كما يقول النيهوم‪ ..‬في صلوات جمعــة مصــادرة بيــدي وعــاظ الســالطين‬
‫والمتشــديين الــذين يــدعون بــالهالك والثبــور على تســعة أعشــار الجنس البشــري أو جماعــة‬
‫النائمين في استراحة فقهاء المماليك أيام سعيد جقمق من المماليك البرجية ‪...‬‬
‫لقد سحقت قلوبنا سحقا‪ ،‬واعتصرت في صدورنا عصرا‪ ،‬وانكيت كيا بنار الحب والفقدان‪ ..‬وهذا‬
‫ما ذكرني بصدمة سابقة ليست في شدة الحالية‪ ،‬حينمــا مــات صــديقي أبــو طــه الـذي مــات أمــام‬
‫عيني قرب فيال الجوالن التي بنيتها وطلبت استشارته مع قوم متخلفين في البناء واألداء وكثرة‬
‫الطلب‪ ،‬مما حرك عندي القلم فكانت دموعي مــدادا أســودا‪ ،‬وأفكارهــا ممزوجــة بزفــرات الحــزن‬
‫وآهات التوجع‪ ،‬وأقالمها شظايا من الذكريات ‪..‬‬
‫عندما زارني صـديقي الـوفي ( أبـو طـه ) كـان يمشـي بعـزم ‪ ،‬ويتكلم بقـوة ‪ ،‬يشـع بالحيويـة ‪،‬‬
‫ويفيض بالكلمة والنكتة والتعليق والنقاش ‪ ،‬كان عالمًا كامًال قائمـًا بذاتــه ‪ ،‬ولم يخطــر في بــالي‬
‫أنه خالل ساعات سينهار بشكل كامل ‪ ،‬فيستسلم الى األرض ‪ ،‬وينطفيء حديثه العــذب وتتوقــف‬
‫إشاراته المفعمة بالقوة ‪ ،‬ويغيب عالمه بالكامل ‪ ،‬فيتحول الى قميص تتلقفه يد الثرى ‪ .‬وتــذكرت‬
‫شعر أبي العتاهية ‪:‬‬
‫دب السقام في سفال وعلوا وأراني أموت عضوا فعضــــوا‬
‫ليس تمضي من لحظة بي اال نقَّص تني بمِّر ها فَّي جزوا‬
‫كان أشد ماأحزنني أنه جاء الي بقدميه وقلبـه يخفـق ‪ ،‬وحملتـه جثـة الى أهلـه في صـندوق ‪،‬‬
‫يشيعه قلبي المحطم وعقلي المذهول ودموعي ‪.‬‬
‫أين ذهب ؟ أين هو اآلن ؟ أين اختفى عالمه بالكامل ؟ كنت خالل الطريق أرقب صــندوقه الــذي‬
‫يحمل جثمانه الغالي وأنا بين الحلم والحقيقة ‪ ،‬فالموت هي تلك الظاهرة الــتي تســبح بين اليقين‬
‫والاليقين ‪ ،‬ففيها اليقين من النهاية الحديــة ‪ ،‬الــتي تســلم االنســان الى عــالم الالنهايــة واألبديــة‬
‫والالعودة ‪ ،‬وفيها الاليقين من عدم إمكانية تصديق انهيار عالم بالكامل ‪ ،‬بشكل مطلــق ونهــائي‬
‫وفجائي الى الصفر !!‬
‫ًا‬
‫كان يخيل الي أحيان أنه سيقوم من الصندوق الخشبي ويرفــع عنــه األغطيــة المغلفــة لبدنــه ‪،‬‬
‫ويجلس ‪ ،‬ثم ينظر إلينــا مرتاعـًا مســتغربًا كيــف حصــل أن وضــع هــذه الوضــعة غــير الالئقــة ‪،‬‬
‫فمكانه كرسي داخل السيارة ‪ ،‬ومنامه فراش وثير وليس كفن وتراب ‪ ،‬وطعامه هنيء ‪ ،‬وحياته‬
‫حافلة باللذات والراحة ‪ .‬وفجأة انحدر الى الوحدة والوحشة والغربــة والبعــد الســحيق ‪ .‬لن ينــام‬
‫بعد هذه الليلة في فراشــه ‪ ،‬لن يــرى عائلتــه قــط ‪ ،‬لن يرجــع الى روتين حياتــه الســابق ‪ ،‬انطفــأ‬
‫الشعور وغاب االحساس وودع كل شيء على االطالق في رحلة الرجعة منها ‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫أال رب وجٍه في التراِب عتيِق ويارب حسٍن في التراِب رقيق‬
‫ويارب رأي في التراب ونجدة ويارب رأي في التراب وثيق‬
‫فقل لقريب الدار إنك راحٌل الى منزٍل ناء المحل سحيق‬
‫وما الناس اال هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق‬
‫إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق‬
‫ياالهي ماهذا الموت الـذي كتبتــه علينــا ‪ ،‬أي جــبروت فيــه وقهــر ( وهـو القــاهر فـوق عبــاده‬
‫ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحكم الموت توفته رسلنا وهم اليفرطون ) ‪.‬‬
‫عندما انتابني هذا الشعور ال أدري ماالذي حرك في ذهني فكرة بعث الموتى على يد المســيح‬
‫عليه السالم ‪ ،‬وعندها بكيت وأدركت أن صاحبي قد شبع موتًا ‪ ،‬وجثته تمشي في طريــق التعفن‬
‫والتحلل والتفسخ ‪ ،‬وسوف يهرب منه أقرب الناس إليـه ‪ ،‬ويبقى الـتراب أفضـل سـتر ‪ ،‬وسـالت‬
‫دموعي مجددًا ‪ ،‬فموعدي معه هو في اآلخرة فقط ‪.‬‬
‫بكيت في الواقع على نفسي ‪ ،‬فعمره من عمري وهــو من جيلي وعاصــر نفس األحــداث الــتي‬
‫عشتها ‪ ،‬أما هو فقد انتهى حظه منها ‪ ،‬وُطوي ملفه من سجل األحياء ‪ ،‬وأما أنــا فســألحقه ولــو‬
‫بعد حين ‪.‬‬
‫إدراك الموت ووعيه الحاد‬
‫إن فلسفة إدراك الموت ووعيه الحاد تولدت في الشعور االنساني من معاصرة ومعاينــة فقــد‬
‫الصديق والحـبيب ‪ .‬عنـدما دخلنـا مدينتـه تعجبت من سـهر قـوم حـتى الصـباح البـاكر في غايـة‬
‫السرور والفرح ‪ .‬كان عرسًا حافًال ‪ .‬قلت في نفسي عجبًا لهذه االضداد ‪ .‬وتــذكرت اآليــة ( وأنــه‬
‫أضــحك وأبكى )(‪ )1‬ثم تــداركت ‪ :‬كــل من في هــذا االحتفــال لهم موعــد مثــل موعــد ( أبــو طــه )‬
‫صديقي الوفي ‪ ،‬فكما تمتع وتزوج وعاش وكان على موعد مع الموت ‪ ،‬كذلك كل من يــدب على‬
‫ظهر هذه البسيطة من األحياء هم في حكم الزوال والوجود المؤقت والمعار ‪.‬‬
‫بدأت أنظر الى المارة والناس بغــير العين الســابقة وأخــاطب نفســي ‪ :‬كلكم أشــباح تنتظــرون‬
‫الموت ‪ .‬اسعوا ماتسعون وافرحــوا ماشــئتم ففي النهايــة ســيكون ظــل المــوت البــاكي هــو الــذي‬
‫سيغلفكم ولو بعد حين ‪ .‬إن كل لحظة لنا هي توديع للحياة باتجاه نقطة الموت التي نقترب‬
‫منها ‪ .‬إننا نكبر مع كل لحظة ونقترب من الموت لحظة مقابلة فنصغر بنسبتها ‪.‬‬
‫قانون التغير يمثل الحقيقة األولى في الوجود‬
‫إن الحقيقة األولى في الوجود كما قـال حكيم من الشــرق ‪ ،‬هي قـانون التغــير وعـدم الـدوام‬
‫والزوال ‪ .‬إن كل شيء في الوجود من حيوان الخلد الى الجبل ‪ ،‬ومن الفكرة الى االمبراطورية ‪،‬‬
‫يمر خالل دورة الوجود ذاتها ‪ ،‬أعـني النمـو واالنحالل ثم المـوت ‪ .‬والحيـاة وحـدها هي الشـيء‬
‫المستمر ‪ ،‬وهي دائمًا تسعى الى االفصاح عن نفسها في صور جديدة ‪ .‬والحيــاة جســر ‪ .‬ومن ثم‬
‫فال تبنى البيوت فوق الجسور ‪ ،‬والحياة عملية من عمليات التدفق والجريان ‪ ،‬فمن يتعلــق بأيــة‬
‫صورة من الصور مهما تكن جمال هذه الصورة فسوف يقاسي ‪ ،‬نتيج ـًة لمقاومتــه لهــذا التــدفق‬
‫والجريان ‪ ،‬والحياة واحدة غير منقســمة وإن كــانت أشــكالها المتغــيرة على الـدوام الحصــر لهــا‬
‫وهي قابلة للفناء ‪ .‬وليس هناك في الحقيقة موت وإن كان الموت مصير كل صــورة من الصــور‬
‫الحياة ‪ .‬إن الرحمة وليدة إدراك وحدة الحياة وفهمها ‪ .‬وقد وصفت الرحمة بأنها قانون القوانين‬
‫‪ ،‬وأنها التناسق األبدي ‪ ،‬وأن الذي يشذ عن هذا التناسق سوف يصيبه األلم والمكابدة ‪ ،‬كما أنه‬
‫يؤخر من تنويره وتثقيفه (‪. )2‬‬
‫لحظة الوداع األخيرة‬
‫وخالل ساعات كان صديقي وأخي ُيصلى عليه ثم نودعه الى التراب !! لم يكن مابين حديثه‬
‫العذب واستسالمه الكامل للحفرة وحيـدًا فريـدًا يـذوب عضـوًا فعضـوا ‪ ،‬صـديقه الـتراب والـدود‬
‫والتفسخ الكامل أكثر من ساعات قليلة ‪ .‬وقفت مذهوًال أمام جبروت الموت وضــغطه الســاحق ‪.‬‬
‫وعندما دخلنا المقبرة كان السكون والسالم يطوق عالمًا جديدًا ‪ ،‬قلما ننتبه اليه ‪ ،‬حيث تنــاثرت‬
‫القبور ‪ ،‬وبرزت بعض الحجارة تحمـل رمـوز أصـحابها ‪ ،‬كـانوا مثلنـا تمامـا وعاشـوا بكـل زخم‬

‫‪36‬‬
‫الحياة ‪ .‬نحن اآلن في إذًا في عالم األموات ودنيا المغيبين ‪ .‬كانت فوهات قبور جديدة جائعة تطل‬
‫من بطن األرض ؛ فاغرة فاهها الى مجهول قادم تستعد اللتهامه ‪ .‬تعجبت وسألت لمــاذا ؟ أجــاب‬
‫حفَّار القبور ‪ :‬السيل قادم من طوابير الموتى ويجب أن نستعد الســتقبال زبــائن العــالم اآلخــر !!‬
‫وتذكرت سنوات مضت حينما مات صديقي الشاب في الدمام بعاصفة مروعة من مــرض عضــال‬
‫أفترسه في أقل من شــهر ‪ ،‬عنــدما زرت قــبره بعــد حين كــانت الســاحة مفروشــة بأعــداد جديــدة‬
‫التحصى من زوار العالم اآلخر ‪ .‬مشينا مسافة طويلة وبصعوبة اهتدينا الى مكانه ‪ .‬كان قد دخل‬
‫في عالم النسيان واالهمال ‪ .‬وال أشيء أدعى الى الحزن من النســيان ‪ .‬حــتى األبنــاء اليــزورون‬
‫قبور آبائهم اال في المناسبات ‪ .‬وبقيت أماكنهم فقط في الذاكرة فقط ‪ .‬في بلدتي التي نشأت فيهــا‬
‫تناثرت دموعي في المقبرة وأنا أقرأ جملة ألحــدى قريبــاتي ‪ .‬كــانت في غايــة الحيويــة والجمــال‬
‫والنشــاط ففــارقت الحيــاة على موعــد مبكــر ‪ .‬كــانت الفقــرة تقــول أعــرف أن المكــان اليــدعوك‬
‫واليشجعك للوقوف الطويل ‪ ،‬كل ما أرجوه منك أن تقف لحظــات وتتــذكرني أنــني كنت من عــالم‬
‫األحياء مثلك ‪.‬‬
‫أيها الزائر إلَّي قف عند قبري شوَّي‬
‫واقرأ السبع المثاني رحمة منك إلَّي‬
‫في زمان كنت مثلك أقرأ القرآن حَّي‬
‫عن قريب تبقى مثلي ليس بعد هللا حي‬
‫نحن ُنوِد ع الجثَث الــتراَب ثم ننصــرف ‪ ،‬وعنــدما تحــركت في المكــان كــانت قــدمي تطــأ بقايــا‬
‫البشر من أمثالنا في اعداد التحصى ‪ .‬تذكرت‬
‫رثاء أبي العالء المعري لصاحبه أبي حمزة ‪:‬‬
‫غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك والترنم شــــــــــــاد‬
‫وشبيه صوت النعي إذا قيس بصوت البشير في كل نـاد‬
‫أبكت تلكم الحمامة أم غنـــت على فرع غصنها الميــــــــــاد‬
‫صاح هذي قبورنا تمأل الرحب فأين القبور من عهد عـاد‬
‫خفف الوطء ماأظن أديم األ رض إال من هذه األجـــساد‬
‫وقبيح بنا وإن قدم العــــهد هوان اآلباء واألجـــــــــــــــداد‬
‫سر ان اسطعت في الهواء رويدا ال اختياال على رفات العبــاد‬
‫رَّب لحٍد قد صار لحدا مرارا ضاحٌك من تزاحم االضــــداد‬
‫في طويل األزمان واآلبــــــــاد‬ ‫ودفين على بقايا دفيــــــــــن‬
‫إن حزنًا في ساعة المــــــــوت أضعاف سرور في ساعة الميالد‬
‫ولكن دموع الدنيا كلها لو تدفقت فتحولت الى أنهــار ؛ لن تعيــد الحيــاة لميت واحــد ( أمــواٌت‬
‫غيُر أحياء ومايشعرون أيان يبعثون )(‪. )3‬‬
‫الدهشة والغرابة في ظاهرة الموت ( الفردية ـ الديموقراطية )‪:‬‬
‫يحمل الموت مزيجًا مدهشًا من الغرابة والتناقض والعجائبيــة ‪ .‬في المــوت تــبرز الشخصــانية‬
‫والفردية ‪ .‬فالموت فردي ‪ ،‬فاليوجــد مــوت بالوكالــة والنيابــة ‪ .‬ويعــاني المــوت كــل انســان على‬
‫حدة ‪ .‬ويدخل محنة الفناء مندثرًا وحيدا اليشاركه فيها أحب الناس إليه حتى ولو حاولت‬
‫الزوجــة حــرق نفســها او دفن نفســها معــه ‪ .‬فــالموت ذو اتجــاه واحــد فالرجعــة منــه وال مخــبر‬
‫بماحدث ‪:‬‬
‫ًا‬
‫تفانوا جميع فال مخبـــــر وماتوا جميعا وهذا الخبـــــــر‬
‫تروح وتغدو بنات الثرى وتمحو محاسن تلك الصــــور‬
‫فياسائلي عن أناس مضوا أليس لك فيمن مضى معتبر‬
‫فهو باب ُيفتح فيمتص ويشفط الكائن مثل الثقب األسود باتجاهه ( فاليســتطيعون توصــية وال‬
‫الى أهلهم يرجعون )(‪. )4‬‬

‫‪37‬‬
‫وأعظم ديموقراطيــة تتحقــق على وجــه هــذه األرض هي ديموقراطيــة المــوت ‪ ،‬حيث تــذوب‬
‫الفروق تمامًا ‪ ،‬فالموت اليحابي واليرتشي واليشفع واليفــرق بين الجنســين ‪ ،‬فهــو ديمــوقرطي‬
‫صارم الى أبعد الحدود ‪ .‬وعندما ترتفع األضرحة والنصب والتماثيل لشخص ما فإن هــذا اليغــير‬
‫في واقعه ‪ ،‬أنه يعاني ويذوب ويتفسخ ويتحلل مثــل أي صــعلوك آخــر ‪ ،‬ومن هنــا تســطع حقيقــة‬
‫إيجابية رائعة للموت ‪ ،‬فمع موت الجبارين تتنفس األرض وترتاح ‪:‬‬
‫باتوا على قلل األجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل‬
‫واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم فأودعوا حفرا يابئسما نزلـــــوا‬
‫ناداهم صارخ بعدما قبـــــــــروا أين األسرة والتيجان والحـــــــلل‬
‫أين الوجوه التي كانت منعــمًة من دونها تضرب األستار والكلل‬
‫فأفصح القبر عنهم حين سائلهم تلك الوجوه عليها الدود يقتـتل(‪)5‬‬
‫ومــع مــوت الصــالحين تبكي األرض والســماء عليهم ‪ .‬جــاء في الحــديث الصــحيح ( مســتريٌح‬
‫ومستراٌح منه ‪ .‬قالوا يارسول هللا ماالمستريح وما المستراح منه ؟ قـال العبـد المـؤمن يسـتريح‬
‫من نصــب الــدنيا وأذاهــا الى رحمــة هللا عــز وجــل ‪ .‬والعبــد الفــاجر يســتريح منــه العبــاد والبالد‬
‫والشجر والدواب )(‪)6‬‬
‫الموت ‪ :‬السر األكبر في الحياة‬
‫الحديث عن الموت مزعج وكريه وحافــل بالتناقضــات ‪ ،‬ولكنــه مــع كــل دافــع الهــرب منــه في‬
‫الشعور أو التفكير ؛ قدٌر مطوق لكل البشر ‪ ،‬بل لكــل أنــواع الحيــاة ‪ ،‬فــأوراق الشــجر تتهــاوى ‪،‬‬
‫والنبات يذبل ‪ ،‬والعشب يجف ‪ ،‬والطير والحيوان يضمر ويستسلم ‪ ،‬واالنســان ينهــار في لحظــة‬
‫واحــدة الى الصــفر ‪ ،‬في ظــل مأســاٍة مروعــة ‪ ،‬يقــف فيهــا المــرء مــذهوًال مندهش ـًا محتــارًا في‬
‫التفســير ‪ ،‬التصــدق عينــاه أن هــذا االنســان المليء بالحيويــة والنشــاط ‪ ،‬الــذي يضــج بــالتعبير‬
‫واألفكــار ‪ ،‬المشــحون باآلمــال والرغبــات واألهــداف والــبرامج والعمــل ‪ ،‬الــذي يشــع بــاالنس‬
‫والوجود ؛ قد تم اجتياحه وبشكل كامل ومطلق ‪ ،‬يطوقه جبروت السلبية الكامل ‪ ،‬وظــل الفنــاء ‪،‬‬
‫وعالم االندثار والتحلل والتعفن ‪ ،‬ليرجع الى العدم من حيث خرج منه ‪.‬‬
‫نحن نأتي الى الحياة بغير رغبة وإرادة ووعي منا ‪ ،‬من عمق الظالم ومن حيث الندري من‬
‫العدم ‪ ،‬كذلك نودع الحياة بغير رغبة منا ولكن تحت منظر الوعي الكامل ‪ ،‬المفعم بالمعاناة‬
‫واأللم ‪ ،‬على األقل لمن حول االنسان ممن يحبه ‪ ،‬لنرجع الى جوف العدم الذي سحبنا منه ‪.‬‬

‫أسئلة محيرة في معنى الموت وجدلية الموت والحياة ‪:‬‬


‫إن الفلســفة تجنبت الحــديث عن المــوت ‪ ،‬وفضــلت الحــديث عن الحيــاة ‪ ،‬فالحيــاة وجــود‬
‫وحضور ‪ ،‬وينفع فيها التأمل والكالم ‪ ،‬والمــوت عــدم ‪ ،‬والعــدم ليس فيــه فضــاء للكالم ‪ ،‬فالعــدم‬
‫يعني العدم والسلبية الكاملتين الأكثر وال أقل ؛ ولكن ضغط المــوت الســاحق ‪ ،‬واالنهيــار المريــع‬
‫للوجود االنساني المطلق ؛ يولد في الواقع كل الفلسفة ‪.‬‬
‫فمامعنى الموت ؟؟ ولماذا كان الموت ؟؟ ولماذا نخاف من المـوت ؟؟ ومـاذا خلـف المـوت ؟؟‬
‫ومتى تولد وعي الموت عند االنسان ؟؟ بل لماذا جئنا باألصل من العــدم ‪ ،‬ليــدفع بنــا المــوت في‬
‫النهاية الى عالم األبدية والالنهاية ؟؟ فالذي يموت لن نراه مطلقًا ‪ ،‬فهو ليس مســافرًا ســيعود ‪،‬‬
‫والغائبًا فيظهر ‪ ،‬كــل مــاتبقى منــه ذكرياتــه وبقايــا صــوره الماديــة الميتــة !! كيــف نفهم جدليــة‬
‫الموت والحياة ؟؟ وهل أصل الوجود يقوم على الموت أو الحياة ؟؟ وكيــف نــرى صــورة المــوت‬
‫في الحياة ‪ ،‬والحياة في الموت ؟؟ وكيف يتجلى التناقض المدهش والمحــير بين ســحق الطبيعــة‬
‫للفــرد ‪ ،‬بــدون أي رحمــة وبين المحافظــة على النــوع االنســاني بكــل إصــرار ‪ ،‬على حــد تعبــير‬
‫الفيلسوف شــوبنهاور ( ‪) SCHOEPPENHAUER‬؟؟ وتــدخل الغريــزة الجنســية في هــذه‬
‫اللعبة كأداة مسخرة ‪ ،‬تضحك فيها الطبيعــة على االنســان ‪ ،‬بــإغراٍء مِّلح اليعــرف التوقــف ‪ ،‬من‬
‫أجــل المحافظــة على دفعــات االنجــاب ؛ فمــع ظالل المــوت الكئيبــة ‪ ،‬تنكفيء النفس الى الخلــف‬

‫‪38‬‬
‫والسلبية ‪ ،‬وتزول البهجة وتتوقــف دوافــع الحيــاة األصــلية ‪ ،‬وتستســلم النفس الى كــل مشــاعر‬
‫االحباط والقنوط والشعور بعبثية الحياة ‪.‬‬
‫الفلسفة الوجودية والعبثية ‪:‬‬
‫إن الفلســفة الوجوديــة رأت في المــوت عبثيــة الحيــاة ‪ ،‬فمــا فائــدة كــل زخم الحيــاة ‪ ،‬وروعــة‬
‫عبقرية االنسان المتألقة ؛ إذا كانت نهايتـه كعشـب جـاف وحيـوان أعجم ؟! ويبقى كـل تأمـل في‬
‫ظاهرة الموت حسير عاجز ‪ ،‬فهناك شيئان اليمكن التحديق فيهما الشمس والموت ‪.‬‬
‫لقــد عــبر الفيلســوف البريطــاني برترانــد راســل عن هــذا الشــعور بكلمــات مغموســة بــاأللم‬
‫والقنوط فقال ‪ (( :‬وألن تعجز أي حماسة مشبوبة أو بطولـة أو أي حـدة في التفكـير أو الشـعور‬
‫عن االبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر ‪ ،‬وألن يكون االندثار هو المصير المحتــوم لكــل‬
‫عناء األجيال ولكل التفاني ولكل عبقرية االنسان المتألقة تــألق الشــمس في رابعــة النهــار ‪ ،‬كــل‬
‫هذه األمور إن لم تكن حقًا غير قابلة للجدل فإنهــا مــع ذلــك تقــترب من اليقين الى حــد يســتحيل‬
‫معه على أي فلسفة ترفضه أن يكتب لها البقاء ‪ ،‬وعلى ذلك اليمكن بناء موطن الروح بأمان اال‬
‫في إطار هذه الحقائق وعلى أساس راسخ من القنوط المقيم ))(‪)7‬‬
‫أسباب الخوف من الموت ؟‬
‫ولكن لماذا يخاف االنسان من الموت ؟ هـل هـذا األمـر طـبيعي هنـاك مـايبرره ؟ لقـد انكب علم‬
‫النفس على هذه الظـاهرة فحصـرها في أربـع مخـاوف رئيسـية ‪ ،‬وأمكن اسـتخراج أربعـة أبعـاد‬
‫مستقلة لقلق الموت هي ‪ _ 1 :‬الخوف من المجهول ‪ _ 2‬الخــوف من المعانــاة ‪ _ 3‬الخــوف من‬
‫الوحدة ‪ _ 4‬الخوف من التالشي الشخصي ‪ ،‬واختصر هذه المخاوف الفيلســوف االســالمي ابن‬
‫مسكويه في كتابه تهذيب األعراق وتطهير األخالق في فقرة متألقة على النحو التالي ‪:‬‬
‫خالصة مخاوف الموت عند ابن مسكويه ‪:‬‬
‫يعـد المـوت أعظم غمـوض وأكـبر سـر يواجـه االنسـان ‪ ،‬وبـديهي أن يصـاب االنسـان حيالـه‬
‫بضرب خفي من القلق الممض الذي الحل له ؛ فذكر الفيلسوف ( ابن مسكويه ) ‪ (( :‬أن الخوف‬
‫من الموت ليس يعرض اال لمن اليدري ماالموت على الحقيقـة ؟ أو ألنـه يظن أن بدنـه إذا انحـل‬
‫وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفســه ‪ ،‬بطالن عــدم ودثــور ‪ ،‬وأن العــالم ســيبقى موجــودًا‬
‫وليس هو بموجود فيه ‪ ،‬أو ألنه يظن أن للموت ألمًا عظيمًا غير ألم األمراض التي ربما تقدمتــه‬
‫وأدت إليه وكانت سبب حلوله ‪ ،‬وألنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت ‪ ،‬أو ألنــه متحــير اليــدري‬
‫على أي شيء ُيقدم بعد الموت ‪ ،‬أو ألنه يأسف على مايخلفــه من المــال والقنيــات ‪ :‬وهــذه كلهــا‬
‫ظنون باطلة الحقيقة لها ‪ .‬أما من جهل المــوت ولم يــدر مــاهو على الحقيقــة ؛ فإنــا نــبين لــه أن‬
‫الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آالتهــا وهي األعضــاء الــتي يســمى مجموعهــا‬
‫بدنًا ‪ ،‬كما يترك الصانع استعمال آالته ‪ ،‬وأن النفس جوهر جسماني وليست عرضًا ‪ ،‬وأنها غير‬
‫قابلة للفساد ))(‪)8‬‬
‫حديث موسى مع ملك الموت ‪:‬‬
‫كراهية الموت هذه وعدم الترحيب بها وصلت الى درجــة أن نــبي هللا موســى لم يــرحب بملــك‬
‫الموت ‪ ،‬بل وجه إليه صفعة أطارت عينه ‪ ،‬مما جعل ملك الموت يرجع الى ربه ليقــول ‪ :‬أي رب‬
‫أرسلتني الى عبد اليريد الموت !! حسنًا ماذا يريــد إذًا ؟ إذا كــان يريــد المزيــد من فســحة العمــر‬
‫فالبــاس ولكن ليس للخلــود في هــذه الــدنيا ‪ ،‬فهــذه الحيــاة مركبــة على أســاس الــزوال والتغــير‬
‫والتحلل والفساد ‪ :‬إرجع اليه فقل له ليضع يده على متن ثور فله بكل شعرة سنة ؟!! كان جواب‬
‫موسى ‪ :‬ثم مه ؟ أي ثم ماذا ؟ أي ماالذي سيعقب رحلة العمر الطويلة الجديدة هل تحمل الخلــود‬
‫في تضــاعيفها ؟ أم في النهايــة المــوت واالنــدثار؟ كــان جــواب الملــك واضــحًا صــاعقا ً ‪ :‬ثم‬
‫الموت !! فهو الجـبروت السـاحق المـاحق !! قـام موسـى بمـا قـام بـه علمـاء النفس في تحليـل‬
‫النفس االنســانية وكيــف تمــر بخمس مراحــل في صــراعها تجــاه المــوت قبــل االستســالم إليــه ‪،‬‬
‫فاستسلم فأجاب ‪ :‬فاآلن !! (‪)9‬‬
‫آليات النفس الخفية في مواجهة قبضة الموت ‪:‬‬

‫‪39‬‬
‫بينت الباحثــة ( الــيزابيث كــوبلر روس ) بدراســة مئــات من المرضــى المســنين على فــراش‬
‫الموت ‪ ،‬فالحظت انزالقهم النفسي تجاه حلقة المــوت الــتي تحكم قبضــتها عليهم بالتــدريج ‪ ،‬في‬
‫خمس حقول نفسية ‪ ،‬تبدأ برفض االعتراف بالحقيقة المزلزلة أنه في اتجاهه الى الفناء النهائي‬
‫‪ ،‬وتالشي الشخصية وفساد البدن ( االنكار والعزلة ) لتتطور بعد ذلك الى الغضب وعدم الشعور‬
‫بالعدالة ‪ ،‬فلماذا تم اختياره هــو بالــذات ؟ ( حالــة الغضــب والســخط ) فــإذا تيقن أن الوزر ‪ ،‬بــدأ‬
‫مرحلة المساومة عسى أن يتحرر من القبضة الرهيبة للموت ( مرحلة المساومة ) لينهار بعدها‬
‫في اتجاه االكتئاب كمحاولة للتعبير عن الحزنة واألسى للنفس ( مرحلة االكتئاب ) ليختم النهاية‬
‫باالستسالم والقنـوط وتنحيـة االمـل ‪ ،‬عنـدما يشـعر أن الفائـدة من أي مقاومـة ‪ ،‬فيتقبـل حقيقـة‬
‫الموت بشكل هاديء ‪ ،‬والتقبل الهاديء اليعني السـعادة بـالموت ‪ ،‬ولكنـه يعـني بكـل بسـاطة أن‬
‫الفائدة من المقاومة ‪ ،‬وأن الوقت آٍت للراحة الدائمة (‪ )10‬ولكن في ظلمات االندثار يبرز الــدين‬
‫كأكبر عزاء ‪ ،‬وفي حـديث موسـى عليـه السـالم انعتـاق ضـخم من االكتئـاب والتمـرد والحـزن ‪،‬‬
‫واالستسالم بحب لالرادة االلهية تجاه هذا التحدي الكوني ‪ ،‬وتلمع أسماء فالسفة في هذا السجل‬
‫‪ ،‬على نفس االتجـاه القـرآني الـذي يبـني االيمـان على رفض القنـوط وتنحيـة اليـأس الوجـودي‬
‫( ومن يقنط من رحمة ربه اال الضالين )( إنه الييأس من روح هللا اال القوم الكافرون )(‪)11‬‬
‫رأي الفيلسوف الرواقي ( ابكتيتوس )‬
‫ذهب ابكــتيتوس الى أنــه ليس هنــاك شــر في الكــون (( كمــا أن العالمــة التقــاوم لكي نضــل‬
‫الطريق إليها ‪ ،‬فكذلك ليس هنــاك شــيء شــرير بذاتــه في العــالم ‪ ..‬هــات ماتشــاء وســأحوله الى‬
‫خير ‪ :‬المرض الموت العوز اللوم الكدح من أجل الحياة وستتحول تلك األمور جميعًا بأشارة من‬
‫عصا هرمز الى مزايا (‪ )12‬ماالذي ستصنع من الموت ؟ أي شيء غــير حليــة تــزدان بهــا ‪ ،‬أي‬
‫شيء غير إظهارك من خالل الفعل الذي يتبع إرادة الطبيعة ‪ .‬إن االشياء كافة تخدم قانون الكون‬
‫وتذعن له ‪ ،‬وجسمنا بالمثل يذعن كــذلك للقــانون نفســه في حــاالت المــرض والعافيــة والشــباب‬
‫والشيخوخة ‪ ،‬وفي غمار مروره بكل التغيرات األخــرى المعلنــة ‪ ،‬ومن ثم فإنــه من المعقــول اال‬
‫يكون مايعتمد على ذواتنا ‪ ،‬أي فهمنا الخاص هو المتمرد الوحيد ‪ ،‬ذلك أن الكون قــوي ومتمــيز‬
‫ويقدم لنا األفضل من خالل حكمه لنا في اتحاد مع الكل ‪ ،‬أضف الى ذلك أن المعارضة فضًال عن‬
‫كونها غير معقولة والتقدم شيئًا اال صــراعًا الطائــل وراءه تلقي بنــا في غمــار األلم والحــزن ) ‪.‬‬
‫ويجعــل ابكــتيتوس المســألة ليســت في تحقيــق الالمبــاالة بــل توليــد روح الهــدوء والســكينة‬
‫الـــداخليتين ( ويمكن تحقيـــق هـــذا الهـــدوء وتلـــك الســـكينة من خالل االســـتخدام الصـــحيح‬
‫لالنطباعات ‪ ،‬األمر الذي يتضمن تمييزًا دقيقًا بين األمــور الواقعــة في نطــاق قــدرتنا وتلــك الــتي‬
‫التقع في هذا النطاق ‪ ،‬وتلك مهمة الفلسفة التي تغدو مجردة من القيمة إذا ماكانت تــأمًال نظري ـًا‬
‫محضًا ‪ ،‬منبت الصلة وغير قابل للتطبيق على شؤون الحياة )(‪ . )13‬ويبــدو أن خــوف االنســان‬
‫من الموت هو أشد من ظاهرة الموت بحد ذاتها حسب ابكتيتوس ( ليس الموت شيئًا مفزعًا واال‬
‫لبدا كذلك لسقراط ‪ ،‬لكن الفزع يكمن في مفهومنا عن الموت ‪ ،‬أي أن هذا المفهوم هو المفزع ‪،‬‬
‫فليس الموت أو األلم هو الشيء المخيف وإنما خشية األلم أو الموت ) ولكن هــل يجــدي الفــرار‬
‫من الموت شيئًا ( أسألكم أين يمكنني الهرب من الموت ؟ حددوا لي المكان ؟ أشيروا الى الناس‬
‫الذين يتعين أن أمضي بينهم ‪ ،‬والذين الينقض عليهم الموت ؟! حددوا لي رقيــة تحجبــه ؟ إذا لم‬
‫يكن لــدي شــيء من هــذا فمــا الــذي تريــدون مــني أن أن أصــنعه ؟ ليس بمقــدوري الهــرب من‬
‫الموت ‪ :‬أال ألوذ بالهرب من خشيته ؟ أتراني أموت في خوف وقد أخذتني الرعــدة ) وينظــر الى‬
‫الحياة أنها هبـة من هللا ودورنـا في هـذه الحيـاة اليتجـاوز الممثلين في المسـرح وعنـدما تنتهي‬
‫أدوارنا يجب أن نودع شاكرين هللا الجليل الذي منحنـا فرصـة الوجـود كمـا ينصـرف المـدعوون‬
‫عند انتهاء المأدبة ( إن على المرء أن يفكر في الحياة باعتبارها شيئًا أعارنا هللا إياه لالستخدام‬
‫المؤقت فحسب ‪ ،‬وهي تشبه في هذا مأدبة يحتــل المــرء فيهــا مكانــه المتواضــع ‪ ،‬وحينمــا يقبــل‬
‫الموت فإن علينا أن نسلم أنفسنا لقــدرنا وأن نقــوم حــتى النهايــة بالــدور الــذي عهــد هللا لنــا بــه‬

‫‪40‬‬
‫كأفضــل مانســتطيع ‪ ،‬علينــا أن نغــادر مأدجبــة الحيــاة في هــدوء ولباقــة معــربين عن شــكرنا هلل‬
‫لدعوته لنل للمشاركمة فيها واالعجاب بأعماله )(‪)14‬‬
‫ولكن متى نشعر بالحزن في الموت تمامًا ؟‬
‫نظرية الندسبيرج وقصة جلجميش ‪:‬‬
‫إن الوعي بضــرورة المــوت اليســتيقظ اال من خالل المشــاركة ‪ ،‬ومن خالل الحب الشخصــي‬
‫الذي تصطبغ به هذه التجربة تمامًا ‪ ،‬لقد شكلناه ( نحن ) ذاتًا مشتركة مع الشخص المحتضــر ‪،‬‬
‫ومن خالل تلك ( الذات المشتركة ) ومن خالل القوة النوعية الخاصة لهذا الكيان‬
‫الجديد والشخصي تمامًا نسير نحو الوعي الحي بأننا البـد أن نمــوت ) ولقــد تم اكتشــاف حتميــة‬
‫الموت في أقدم الوثائق المعروفة لنا حول الموت من خالل مثل هذه المشاركة في مــوت صــديق‬
‫نحبه في ملحمة جلجميش (‪)15‬‬
‫الى أين مضيت ياصديقي أبو طه ؟؟‬
‫في هدوء مقبرة صغيرة في حي الميدان في دمشق وقعت عيني على أبيات قصيرة من‬
‫الشعر ‪ :‬دفن الجسم بالثرى ليس بالجسم منتفع‬
‫إنما النــــــفع بالذي كان بالجسم وارتفع‬
‫أصله جوهر نفيــس والى أصله قد رجـع‬
‫الحياة أقوى من الموت ‪ ..‬والحياة أصل الوجود ألنها تتغذى من الحي الذي اليموت ‪ ..‬وتوكــل‬
‫على الحي الـذي اليمـوت ‪ ...‬والحيـاة تتـدفق وتسـتمر في أشـكال النهائيـة ‪ ،‬سـواء أدركناهـا أو‬
‫غابت عنا فهي تعمل وفق قانونها الخاص ‪.‬‬

‫مراجع وهوامش ‪:‬‬


‫(‪ )1‬سورة النجم (‪ ) 2‬الحكماء الثالثة _ أحمد الشنتناوي _ دار النشر أقرأ دار المعارف بمصر رقم ‪123‬‬
‫ص ‪ )3( 105‬سورة النحل (‪ )4‬سورة يس (‪ )5‬تنسب هذه األبيات الى واقعة حدثت في عهد المتوكل حينما اقتحم‬
‫الجند منزل رجل من آل البيت بدعوى أنه يجمع السالح ؛ فرأوه قائمًا يص‹‹لي في ج‹‹وف ال‹‹بيت ؛ فحمل‹‹وه الى دار‬
‫الخالفة ‪ ،‬وكان الخليفة في مجلس أنس وطرب وشراب ‪ ،‬فدعاه الى الشراب فاستعفى ‪ ،‬فقال ل‹‹ه أنش‹‹دني ‪ :‬فأنش‹‹ده‬
‫هذه األبيات في قصيدة أطول فبكى الخليفة وأمر برفع الشراب وصرفه بدون أذى _ يراج‹‹ع في ه‹‹ذا كت‹‹اب أحم‹‹د‬
‫أمين ( ضحى االسالم ) العصر العباسي (‪ )6‬مروي في الصحيحين يراج‹‹ع في ه‹‹ذا كت‹‹اب زاد المس‹‹لم فيم‹‹ا اتف‹‹ق‬
‫عليه البخاري ومسلم للشنقيطي (‪ )7‬كتاب العلم في منظ‹‹وره الجدي‹‹د _ سلس‹‹لة ع‹‹الم المعرف‹‹ة رقم ‪ _ 134‬ت‹‹أليف‬
‫روبرت أغروس وجورج ستانسيو _ ترجمة محمد الخاليلي _ ص ‪ )8( 16‬قلق الموت _ سلسلة عالم المعرفة _‬
‫ع‹‹دد ‪ _ 111‬ت‹‹أليف أحم‹‹د عب‹‹د الخ‹‹الق _ ص ‪ _ 213‬منقول‹‹ة عن كت‹‹اب ته‹‹ذيب األخالق وتطه‹‹ير األع‹‹راق )(‬
‫‪)9‬الحديث مروي في الصحيحين في كتاب زاد المسلم المصدر السابق ونصه أن مل‹‹ك الم‹‹وت عن‹‹دما زار موس‹‹ى‬
‫عليه السالم ( صكه ففقأ عينه !! فرجع الى ربه فقال أي رب أرسلتني الى عبد اليريد الم‹وت ؟! فق‹ال ارج‹ع الي‹ه‬
‫فليضع يده على متن ثور فله بكل ش‹‹عرة س‹‹نة ‪ .‬فق‹‹ال أي رب ثم م‹‹ه ؟ ق‹‹ال ‪ :‬الم‹‹وت ‪ .‬ق‹‹ال ‪ :‬ف‹‹اآلن ‪ .‬فل‹‹و كنت َثَّم‬
‫ألريتكم قبره بجنب الكثيب األحمر )(‪ )10‬االنسان وعلم النفس _ تأليف الدكتور عبد الستار ابراهيم _ سلسلة عالم‬
‫المعرفة ( رقم ‪ _ 86‬ص ‪)11() 161 _ 160‬سورة الحجر ويوسف على التوالي (‪ )12‬حسب االساطير اليونانية‬
‫هرمز هو ابن زيوس وهو اله التجارة والحظ والمس‹‹ابقات الرياض‹‹ية ورس‹‹ول اآلله‹‹ة ومراف‹‹ق األرواح الى ع‹‹الم‬
‫الموتى )( الم‹وت في الفك‹ر الغ‹ربي _ ت‹أليف ج‹اك ش‹ورون _ ترجم‹ة كام‹ل يوس‹ف حس‹ين _ مراجع‹ة وتق‹ديم‬
‫الدكتور إمام عبد الفتاح إمام _ سلسلة ع‹‹الم المعرف‹‹ة رقم ‪ _ 76‬ص ‪ )13( 78‬نفس المصــدر الســابق ص ‪( 77‬‬
‫‪ )14‬نفس المصدر السابق ص ‪ )15( 79‬جلجميش ملك أوروك كان طاغيًا أسرف على الناس بقسوته ح‹‹تى دع‹‹ا‬
‫الناس اآللهة لألنقاذهم فأرسلت اآللهة انكيدو الذي صارعه بشدة ثم تح‹‹وال الى ص‹‹ديقين ‪ ،‬ثم غض‹‹بت اآلله‹‹ة على‬
‫انكيدو فحكمته بالموت وعندما رأى جلجميش صديقه يذوب في الموت بكاه بحرقة ألن‹‹ه أدرك وعي الم‹‹وت تمام‹ًا‬
‫مع موت صديقه ‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الفلسفة الكونية‬
‫المجاهيل واألبعاد‬
‫زميلي رشيد ذكي أريب ال يكف عن السؤال‪ .‬كان الصباح باكرًا منعشًا والروح تستيقظ على نحو‬
‫فعال مع نسمات الصباح‪ ،‬ولم يكن غريبًا أن ذكر القرآن‪ ،‬قرآن الفجر أنه كان مشهودا‪.‬‬
‫سألني بلهفة عن البعد الرابع؟ قال أعرف الطول والعرض واالرتفاع في المستوى الفراغي‪،‬‬
‫ولكنني لم أستوعب وال أستطيع أن أتصور بعًدا رابًعا؟‬
‫قلت له إنه حديث فيزيائي صعب‪ ،‬ولكن القدرة أن نورد أفكاًر ا كبيرة بكلمات صغيرة‪ ،‬أو أن‬
‫نشرح أفكارًا جليلة بكلمات بسيطة‪ ،‬وهذه ميزة للقرآن ألنه يشرح أفكارًا كالجبال ولكنه ميسر‬
‫للذكر فهل من مدكر‪.‬‬
‫قلت له ياعزيزي إن العلم وصل إلى عشرة أبعاد وليس بعدًا رابعًا!‬
‫قال وكيف؟‬
‫قلت له شارحًا‪ :‬نحن نعرف أن الفيزياء تقول لنا بوجود ثالثة أبعاد من الطول والعرض‬
‫واالرتفاع‪ ،‬وعيوننا تدرك هذا على نحو فراغي‪ ،‬وقصتي مع الهندسة الفراغية تذكرني بأيام‬
‫القامشلي حيث ترعرعت‪ ،‬وما زلت أذكر ابن عمي عبدالرزاق رحمه هللا‪ ،‬وكان يسبقني في‬
‫الدراسة بسنتين وكان يسألني مراًر ا ماذا تدرسون في الرياضيات؟ وكنت يومها في الصف‬
‫العاشر‪ ،‬وهو كان في مرحلة ما يسمى (البكالوريا) في الصف الثاني عشر‪.‬‬
‫كنت أجيبه المثلثات!‬
‫كان يقول لم تدرسوا بعد المعقد! ولسوف تدوخ فعًال عندما تدرس الرياضيات الفراغية؟‬
‫كنت أتعجب منه وأقول اشرح لي ماذا تعني الهندسة الفراغية؟‬
‫كان يتنهد ويقول ماذا أشرح لك تصور أنك تفكر وأنت معلق في الهواء! فكنت أشعر بالرهبة‬
‫من هذا العلم‪ ،‬وعندما تقدمت إلى تلك المرحلة كنت أفتش أين مكان الصعوبة التي كان يشرحها‬
‫لي ابن عمي فلم أجدها‪ ،‬ثم اكتشفت أن األمور سهلة لمن يسرها عليه بالجهد والتعب وسهر‬
‫الليالي‪.‬‬
‫وما زلت أتذكر في هذا الصدد أستاذ الفلسفة عندما قرأت كتاب (قصة اإليمان بين العلم‬
‫والفلسفة والقرآن) لنديم الجسر فاعترضتني فقرة فلسفية صعبة؛ فرجعت إلى أستاذ الفلسفة‬
‫طالبا منه التوضيح؟‬
‫نظر إليها وقال‪ :‬بسيطة‪ ...‬ثم بدأ بالشرح‪...‬‬
‫عرفت يومها أنه لم يفهمها وهو يتظاهر بذلك‪ .‬ثم اجتمعت بهذا األستاذ بعد ثالثين سنة ألعرف‬
‫أين وصل في إدراكاته العقلية؛ فعرفت أنه حيث تركته؛ فقلت في نفسي كذلك كنتم من قبلكم فمن‬
‫هللا عليكم‪.‬‬
‫وكثير من الناس مررت معهم بمرحلة عقلية ثم غادرتها‪ ،‬وهذه هي طبيعة أساسية في الفكر أن‬
‫اإلنسان في حالة صيرورة‪.‬‬
‫وفي هذا يذكر عبدالرحمن البدوي في مذكراته أنه كان في حزب مصر الفتاة وبقي يحاسب على‬
‫ماضيه الحزبي مع أنه ودعه منذ نصف قرن‪.‬‬
‫وهكذا فاإلنسان هو يمر في طور بعد طور‪ .‬ونضجا بعد نضج‪.‬‬
‫وأرجع إلى صديقي رشيد قلت له إن آينشتاين استطاع أن يجعل من الزمن بعدًا رابعًا‪ ،‬وكأنه‬
‫امتداد مثل الطول والعرض واالرتفاع‪،‬‬

‫‪42‬‬
‫وآينشتاين وصل إلى بضع معادالت أنيقة صغيرة قلب فيها المفاهيم التقليدية‪ ،‬وسبقه لتلك‬
‫األفكار أناس آخرون ولكن الفضل له في ضغطها في معادالت خفيفة واشتغلت االنفوميديا على‬
‫نفخه جدا ونسيت آخرين‪ ،‬مثل هنري بوانكاريه الفرنساوي‪ ،‬وهي نفس قصة دارون مع المارك‬
‫في قانون البقاء والتطور‪ ،‬وفرانسيس كريك مع روزالنيد في كشف الكود الوراثي‪ ،‬وأديسون‬
‫مع تيسال الصربي في كشف كهرباء التوتر غير الساكنة‪ ،‬وهي قصص عجيبة عن أناس لمعوا‬
‫على ظهر آخرين‪.‬‬
‫ولكن ال تقف رحلة العلم عند هذا فالبعد الخامس هو الحياة‪ ،‬وهنا نقفز عتبة جديدة في الفهم‪،‬‬
‫وهي شيء مختلف عن الفيزياء‪ ،‬وهي ظاهرة مبثوثة في تضاعيف الوجود‪ ،‬وفي كل خلية على‬
‫نحو مجهول‪.‬‬
‫أما البعد السادس فهي الروح اإلنسانية أو ما يطلق عليها القرآن النفس‪ .‬حيث إن الروح عادة‬
‫في القرآن تطلق على شيء مختلف‪ ،‬مثل ويسألونك عن الروح؟ أو آية تنزل المالئكة والروح‪،‬‬
‫أو آية يوم يقوم الروح والمالئكة اليتكلمون‪ .‬مقابل آية وما كان لنفس أن تموت إال بإذن هللا‬
‫كتابا مؤجال‪.‬‬
‫ويبقى البعد السابع هو المجتمع؛ فهي ظاهرة يتميز بها عن تجمع الحيوان المتجمد في وضع ال‬
‫يتغير فيه وكأنه القطار على سكة عنها ال يحيد‪.‬‬
‫مقابل المجتمع اإلنساني القابل للتطور والتقدم‪.‬‬
‫أما البعد الثامن فهو مخطط الجنس البشري في بانوراما كونية وفي حالة تقدمية كمحصلة‬
‫نهائية‪.‬‬
‫كان رشيد يتابع حديثي مذهوال وهو يفهم بعضه ويهز برأسه‪ ،‬ثم يسأل وأين البعد التاسع‬
‫والعاشر؟‬
‫قلت رحلة الكوكب األرضي بما حمل‪ ،‬والوجود كظاهرة محيرة‪.‬‬
‫وفوق كل ذي علم عليم‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫فلسفة العلوم (االبستمولوجيا)‬
‫شاعت هذه الكلمة “االبستمولوجيا” في الفترة األخيرة ومصدرها اللغة اليونانية وهي مكونة‬
‫من كلمتين (‪ )EPISTEME‬ومعناه علم و(‪ )LOGOS‬ومعناها العقل أو النقد فتكون اللفظة‬
‫السابقة تعني علم العلوم أو فلسفة العلم أو عقلنة العلوم‪ ،‬وباستخدامنا لهذا المصطلح نريد أن‬
‫نصل إلى تقرير قضية العلم وخلفيته الفلسفية‪.‬‬
‫إن العلم ال يفهم بدون إطاره الفلسفي والتاريخي‪ ،‬والفلسفة هي تلك الشجرة الضخمة التي‬
‫تؤلف الميتافيزيقيا فيها الجذور العميقة الضاربة في التربة‪ ،‬والعلوم المتفرقة بما فيها الطب‬
‫والهندسة والكيمياء والكوسمولوجيا واالنثروبولوجيا هي فروعها الممتدة في السماء‪.‬‬
‫كما أن هناك عالقة جدلية بين العلم والفلسفة‪ ،‬فالعلم يقوم بقفزات نوعية من حين آلخر منشئًا‬
‫قطيعًة معرفية “ابستمولوجية” مع المستويات العلمية السابقة‪ ،‬كما حدث مع فكر “ابن رشد”‬
‫والفلسفة اليونانية؛ حيث تم الدخول إلى فضاء معرفي جديد‪ ،‬يقوم على منظومة الشك ـ اليقين‪،‬‬
‫والتجربة ـ االستقراء‪.‬‬
‫كذلك الحال في فلسفة “رينيه ديكارت” التي دَّشنت الدخول إلى عصر عقلي جديد‪ ،‬ينطبق هذا‬
‫أيًض ا على فكر “إيمانويل كانط” الذي أرسى في كتابه “نقد العقل الخالص” بناء الميتافيزيقيا‬
‫على الضرورة األخالقية‪ ،‬كما ينطبق على “غاليلو” الذي رأى أن الوجود له لغة خاصة به هي‬
‫لغة الرياضيات‪ ،‬وفي اللحظة التي نفك رموزها نصل إلى الحقيقة النهائية فيها‪.‬‬
‫وأما “اسحاق نيوتن” فقد استطاع في لحظة تجلي روحية أن يقتبس من روح الكون قبًس ا‬
‫يسطر فيه كتابه الموسوم “األسس الرياضية للفلسفة الطبيعية” حيث حرر قوانينه المشهورة‬
‫الثالثة في الميكانيكا‪ ،‬وبنى نظاما في غاية التناسق واالنسجام‪ ،‬واستطاع اكتشاف قانون‬
‫الجاذبية‪ ،‬وكان ذلك عام ‪1687‬م في الوقت الذي كان األتراك العثمانيون ينهزمون أمام أسوار‬
‫فيينا في حملتهم الثالثة‪.‬‬
‫وبقيت هذه المنظومة المعرفية حتى اهتزت األرض من تحتها مرة أخرى‪ ،‬وكان ذلك من خالل‬
‫التراكم المعرفي حيث تولدت النظرية النسبية وميكانيكا الكم‪ ،‬فتم إزالة مفاهيم “كانط” بالزمان‬
‫والمكان القبلي‪ ،‬وإزالة المكان والزمان المطلقين عند نيوتن‪ ،‬وتم دمج الزمان بالمكان فأصبح‬
‫الزمان البعد الرابع‪ ،‬والطاقة بالمادة فأصبحا وجهان لعملة واحدة‪.‬‬
‫وأما ميكانيكا الكم فقد شطبت مفهوم “الحقيقة الموضوعية” و”الحتمية” في القوانين‪ ،‬تلك‬
‫التي وصلت منزلة التقديس في القرن التاسع عشر للميالد‪ ،‬من خالل مبدأ االرتياب الذي جَّاله‬
‫الفيزيائي األلماني “فيرنر هايزنبرغ” والبريطاني “بول ديراك”‪.‬‬
‫العلم ال ينمو إال في إطار خاص‪ ،‬وفي مناٍخ عقلي مناسب تستنبت بذوره بكل رحمة وحب‪ ،‬وهذا‬
‫اإلطار الفلسفي هو الذي يشكل مرجعية العلم في أول الطريق؛ ليتحول مع الوقت إلى‬
‫“اإليديولوجيا” الخانقة لكل تقدم‪ ،‬مما يحتاج إلى “ابستمولوجيا” جديدة محررة‪ ،‬وهكذا يمشي‬
‫نظم التاريخ‪.‬‬
‫سيطر الفكر اليوناني لنحو سبعة عشر قرنا‪ ،‬وتحول مع الوقت إلى طاغوت رهيب‪ ،‬وهكذا‬
‫أحرق أناس من أجل آراء بطليموس في النظام الشمسي مع كل مظاهر التصدع في النظرية‪.‬‬
‫وسيطرت فكرة “اآلتوم ـ ‪ ”ATOM‬أي الذرة أنها الجزء الذي ال يتجزأ‪ ،‬حتى أنهت هذه‬
‫العقيدة الوثوقية تجربة آالمو جوردو في تفجير السالح النووي‪.‬‬
‫وكان االنعطاف التاريخي على يد رواد الفكر في العالم اإلسالمي‪ ،‬فهم الذين أنهوا سيطرة‬
‫المنطق “الصوري” لُيدفع العقل باالتجاه القرآني‪ ،‬أي تأمل الواقع “أفال ينظرون إلى اإلبل كيف‬
‫خلقت” وهكذا ولد مبدأ “التجربة واالستقراء” فكان العقل اإلسالمي يلعب الدور المحوري‬

‫‪44‬‬
‫المفصلي في نقلة العقل االنساني‪ ،‬من المرحلة “األسطورية” إلى المرحلة “العلمية” خالفا لما‬
‫ذهبت إليه الوضعية على يد “أوجست كومت” ثم الوضعية المنطقية بعد ذلك على يد “إرنست‬
‫ماخ” النمساوي‪ ،‬اللذين رأيا تطور العقل اإلنساني يتنقل من المرحلة البدائية إلى المرحلة‬
‫الميتافيزيقية‪ ،‬ليصل إلى المرحلة العلمية الوضعية‪.‬‬
‫صحيح أن “أوجست كومت” انتبه إلى القوانين التي تحكم المجتمع‪ ،‬وبذلك يكون قد تابع‬
‫مسيرة ابن خلدون في إدراك قوانين المجتمعات‪ ،‬ولكنه لم ينتبه وغفل عن التجلي اإلسالمي في‬
‫إطالق الشرارة العقلية الكبرى عبر كل التاريخ‪.‬‬
‫وهذه النقلة القرآنية واضحة جدًا من النسق القرآني الذي ألغى فكرتين‪:‬‬
‫ـ المعجزة كدليل مادي للوحي في الوقت الذي كررها تكراًر ا واضًح ا في عشرات األمكنة لألنبياء‬
‫اآلخرين‪ ،‬وهذا يشي بتدشين عصر جديد‪.‬‬
‫ـ وكذلك فكرة ختم النبوة؛ فالقرآن بهذه الكيفية توسط عصرين وفصل بين مرحلتين‪ ،‬فهو من‬
‫العالم القديم‪ ،‬ولكنه بشر بمولد العقل االستداللي ودعا إلى تثبيته كونه أمًر ا كسبيا‪.‬‬
‫وهذا يفيدنا أيضًا بأن نفهم القرآن بأنه ليس كتاب فيزياء وكيمياء ورياضيات وطب‪ ،‬بل هو ذلك‬
‫الكتاب الذي يولد المناخ العقلي الذي يفرز كل هذه العلوم‪.‬‬
‫ونفهم من هذا أيضًا أن عمليات اللهاث العتصار اآليات الستخراج الكشوفات العلمية منها‬
‫منهج خائب في عدة مستويات؛ فسرعة الضوء كشفها “فيزو” بوسائط فيزيائية بحتة‪ ،‬وبدون‬
‫نصوص مقدسة يرجع إليها‪ ،‬في الوقت الذي يسعى البعض لمحاولة اكتشافه في بعض اآليات!‬
‫وضمن هذا المناخ الصحي نبت قديما العلم اإلسالمي‪ ،‬ويمكن أن ينبت مرة أخرى ضمن نفس‬
‫الشروط‪ ،‬وبنفس هذه الدورة التاريخية ارتفع أناس؛ فإساحق نيوتن لم يكن لينقدح في ذهنه‬
‫قانون الجاذبية ألنه رأى سقوط التفاحة‪ ،‬فجده طيب الذكر لم يحرك فيه منظر سقوط تفاح‬
‫الحقل‪ ،‬أكثر من فاكهة قضمها أو قدمها لحماره!‬
‫كذلك الحال في “دينيس بابين” الذي رأى في تراقص غطاء أبريق الشاي مفاتيح طاقة البخار‪.‬‬
‫وأما ديكارت التي كانت الذبابة تطن مزعجًة بجانب أذنه فقد أوحت له بمبادئ الهندسة‬
‫التحليلية‪ ،‬حيث استطاع بعبقرية أن يمزج علم الجبر بالهندسة‪ .‬وليته فعل نفس الشيء مع‬
‫البعوض المجرم الدموي فاستنبط علًم ا آخر نافعا!‬
‫وفي السنة التي أعلن فيها “كوبرنيكوس” نظامه الشمسي الجديد كان “فيزاليوس” يشق‬
‫الطريق عبر الجسم البشري للمرة األولى في التاريخ األوربي‪ ،‬فيدخل عالم “التابو” أي تشريح‬
‫الجسد الميت الذي كان يعد مسه بعد الموت حجًر ا محجوًر ا‪ .‬وهكذا فحل المعضالت العقلية‬
‫الكبرى واالنبثاق العلمي مرهون بتغير المناخ العقلي واإلطار الفلسفي لروح العصر‪ ،‬الذي‬
‫ُيمِّك ن الجماعات اإلنسانية من إعادة النظر في المنظومة المعرفية التي تحملها‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫فلسفة الطيف واالستقطاب‬
‫أمريكا ليست أم الشرور والباليا والرزايا‪ ،‬وال إسرائيل مصدر األخطار كما أنها ليست التنين‬
‫النووي‪ ،‬بل نحن من هيأ الجو‪ ،‬وغام عليه الفهم فأعشى‪ ،‬وأعطى الفرصة لنمو سرطان من‬
‫حجم الصهيونية‪..،‬‬
‫الصراع العربي اإلسرائيلي هامشي وجانبي ‪ ،‬والصراع العربي العربي هو التناقض األساسي‪،‬‬
‫وحين يجتمع العرب يتفرقون أكثر مما كانوا قبل االجتماع‪ ،‬بسبب على مزمنة اسمها مرض‬
‫الثقة‪.‬‬
‫وحين يتحول العرب إلى نموذج الصين؛ فلن تزيد إسرائيل عن فرموزا الشرق األوسط ‪..‬‬
‫وحكم أمريكا ال ينبع من رئيس أسود أو أبيض‪ ،‬بل ماكينة عاتية‪ ،‬تقوم على المصالح واألموال‬
‫كما كانت روما يوما‪ ،‬تحكمها الثروات واألوليجاركية‪..‬‬
‫ولوال حرب ‪ 91‬ورشق صدام الرياض وتل أبيب بالصواريخ بنفس الوقت بدون أن تدافع‬
‫صهيون عن نفسها بل وكلت المهمة إلى بوش قبيح الذكر رجل المخابرات! لوال ذلك ما فهمنا‬
‫عمق المرض الداخلي؟‬
‫ولوال اقتتال فتح وحماس بكل حماس‪ ،‬ما فهمنا نخرنا وهزالنا الداخلي‪ ،‬واستيعاب أن المشكلة‬
‫من عند أنفسنا‪ ،‬وهي قصة كبيرة شرحها القرآن على لسان الشيطان فقال التلوموني ولوموا‬
‫أنفسكم؟‬
‫ولو خسف هللا األرض بإسرائيل‪ ،‬لما انتهت خالفات العرب؛ فهم في الغي سادرون‪ ،‬وفي‬
‫نزاعاتهم مشتبكون ‪..‬‬
‫والقرآن يقول؛ فهل عسيتم إن توليتم‪ ،‬أن تفسدوا في األرض وتقطعوا أرحامكم؟‬
‫وحين سمعت يوما نبأ إطالق سراح سجناء من فتح‪ ،‬كانوا في أقبية حماس وبالعكس‪ ،‬تذكرت‬
‫قوله تعالى‪ :‬وإن يكونوا أسارى تفادهم وهو محرم عليكم إخراجهم ! أفتؤمنون ببعض الكتاب‬
‫وتكفرون ببعض؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إال خزي في الحياة الدنيا ‪..‬‬
‫وقد أخزانا هللا بما فيه الكفاية فالذل يصب على رؤوسنا مع شروق كل شمس ونحن نظن‬
‫الفصل ربيعا؟‪...‬‬
‫وفي ضوء أفكار من هذا النوع يجب أن نفهم أمريكا والعالم وأنفسنا ‪..‬‬
‫نفهمها خارج لعبة الثنائية والحلول الحدية ‪..‬‬
‫ويذهب القرآن إلى عدم اعتبار الشر شرًا بل قد يكون خيرًا "ال تحسبوه شرا لكم بل هو خير‬
‫لكم" ‪ ..‬وبذلك ينقلب سلم القيم على رأسه ‪..‬‬
‫والكثيرون من األخسرين أعماًال ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون‬
‫صنعا‪.‬‬
‫والمنافقون يفسدون في األرض ويظنوا في أنفسهم أنهم (مصلحون)!‬
‫وطبقات النفس حقيقة كشف اللثام عنها علم النفس التحليلي وسماها (الالشعور‬
‫‪.)Subconscious‬‬
‫وفي الفلسفة حيرت مشكلة الشر العقول‪ ،‬ومعنى هذا الكون المليء بالظلم والظالم واالضطهاد‬
‫والفرار والهجرة وعدم االكتمال؟‬
‫ولكنها مسألة يمكن فهمها ضمن (بانوراما) كونية‪ ،‬وليس ضمن فكرة (الثنائية) فالشر ليس‬
‫شرًا‪ ،‬كما يقول الفيلسوف (ابكتيتوس ‪ 55‬ـ ‪ 135‬م) بل (درجة) في الخير حسب عالقتنا بها‪،‬‬
‫والحياة مائدة عامرة دعانا هللا إليها؛ فإذا انتهت‪ ،‬وجب أن نشكر صاحب الوليمة وننصرف‬
‫شاكرين حامدين ال باكين نادبين‪ .‬وبذلك يصبح الموت الشكل المقابل للحياة‪ ،‬وسبحان الذي بيده‬
‫الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمال‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫وهذه الفكرة تتصل بنظرة (البوذية) عن مفهوم (الصيرورة) أن الحياة حركة فوق جسر‪ ،‬فمن‬
‫أراد الوقوف على الجسر أعاق المرور وعانى‪ .‬فيجب االستسالم إلى السياق الكوني ‪..‬‬
‫وقد نجح الفقهاء في استيعاب هذه المنظومة على أساس الطيف وليس االستقطاب‪ ،‬من خمس‬
‫محطات تواترية بين الحرام مرورا بالمكروه ثم المباح وصوال إلى المستحب وانتهاًء بالواجب‪.‬‬
‫والكهرباء حركة بين السالب والموجب‪ ،‬وليست قرارا عند أحد القطبين المتناقضين؟‬
‫وال تسبح النفس في حركة فّع الة أكثر من السباحة بين قطبي األمل واليأس؛ فال ييأس من روح‬
‫هللا إال القوم الكافرون‪ ،‬واليأمن أهل القرى كثيرا فقد يأتيهم "بأسنا بياتا وهم نائمون" ‪.‬‬
‫والتحرر من قطبي (األمن) و(اليأس) يحرر الحركة من الكسل‪ ،‬والطاقة من العطالة‪ ،‬في حين‬
‫أن االقتراب من أحد القطبين يعدم الحركة تدريجيا‪ ،‬فإذا استولى أحد الشعورين على النفس‬
‫توقفت الحركة ‪..‬‬
‫فهذه رياضيات نفسية‪.‬‬
‫وفي السياسة ذهب (مالك بن نبي) إلى أن الضالل السياسي سببه الوقوع بين ذهاني (الطاهر‬
‫المقدس) و(الدنس الحقير) وأن تعاملنا مع إسرائيل يجب أن ال يكون بين هذين الذهانين فتارة‬
‫هي (دويلة) العصابات وأخرى (التنين) النووي‪ ،‬وإسرائيل ليست هذا وال ذاك ‪..‬‬
‫وفي حرب ‪2006‬م جرت األفعى الصهيونية ذيولها وانصرفت بعد دمار لبنان ‪..‬‬
‫وحين نقع في رهان من هذا النوع نرسل عقولنا إلى إجازة مفتوحة؟‬
‫وكذلك الحال مع أمريكا خارج منظومة ثنائية (أهرمان) إله الشر و(أهرمزدا) إله الخير ‪..‬‬
‫ويجب النظر إلى االحتالل األمريكي من جانب أنه استعمار بغيض‪ .‬ومن جانب أنه خير فهو من‬
‫حطم أصنام النمرود صدام المشنوق صاحب الزمرد والمرجان في قصور السلطان‪.‬‬
‫وبين أن تستِغ ل أو أن ُتستَغل شعرة‪.‬‬
‫والفرق بين الزنا واالغتصاب والزواج أقل من شعرة‪ ،‬فهي ممارسة جنسية على كافة األحوال‪،‬‬
‫ولكن تمارس بين السرية واإلكراه والرضا‪.‬‬
‫وفي يوم احتلت أمريكا اليابان وألمانيا‪ .‬واليوم يحلق اليورو إلى سحب الغمام‪ ،‬وتملك اليابان‬
‫من احتياطي الدوالر أكثر من أمريكا أم الدوالر ‪.‬‬
‫وكان سقراط ينظر إلى ذباب الخيل أنه يهيج الخيل فيطرد عنها الخمول‪ .‬ورأى (توينبي) في‬
‫إسرائيل أنها رحمة من هللا للعرب كي يستيقظوا بالنخس المتواصل والتحدي المستمر‪ ،‬فهي من‬
‫سوف تدفعهم للنهوض‪ ،‬وهي هدية التاريخ من حيث لم يحتسبوا‪ ،‬لنفض كسل التاريخ ‪..‬‬
‫وال تتحول الدودة إلى فراشة بدون معاناة تمزيق السجف فتطير‪.‬‬
‫وال تتم والدة بدون كرب ودماء‪.‬‬
‫وال أطهر من النار تنقية للمعدن من الشوائب ‪..‬‬
‫وخلق هللا اإلنسان في كبد ‪..‬‬

‫‪47‬‬
‫فلسفة الوجود والمصير ؟‬

‫طرح انريكو فيرمي وفرانسيس كريك هذا السؤال‪:‬‬


‫إذا كان الوجود بالضخامة التي صورها كارل ساغان عن كون يضم مائة مليار مجرة في كل‬
‫مجرة مائة مليار نظام شمسي؟ فهل تقتصر الحياة على الكرة األرضية أم أن هناك حياة على‬
‫كواكب أخرى؟‬
‫ولإلجابة على هذا السؤال بشكل علمي‪ ،‬ال بد من االنتقال إلى الكشف عن (الكواكب) وليس‬
‫النجوم؛ فالنجم يشع بالضوء‪ ،‬والكوكب يعكسه كما أشار القرآن إلى الشمس أنها (سراجًا‬
‫وهاجًا) في حين قال عن القمر (وقمرًا منيرًا)‪ ،‬فهناك السراج الذي ينير‪ ،‬والقمر الذي ينار‬
‫ويعكس الضوء‪.‬‬
‫وإذا أمكن االهتداء إلى الكواكب‪ ،‬أمكن معرفة طبيعتها من خالل معرفة تركيب العناصر‬
‫الموجودة على ظهرها‪ ،‬من خالل الطيف اللوني للعناصر التي تتكون منها‪.‬‬
‫وهذه أيضًا تقنية أمكن الوصول إليها من قريب‪ ،‬ومنها يمكن التخمين في وجود حياة من‬
‫عدمها‪ ،‬على ظهر الكوكب المذكور‪ ،‬فضًال عن اكتشاف حضارة على ظهره‪ ،‬ولكن يعتبر رؤية‬
‫كوكب ال يشع بالنور مع شمس وهاجة بجانبه‪ ،‬مثل إضاءة اليرقة بجانب كشاف ضوئي رهيب‪،‬‬
‫ومن بعد مئة كليو متر‪ ،‬كما قارن بذلك العالم الفلكي(روجر انجيل) من جامعة أريزونا‪...‬‬
‫مع هذا فقد حقق الذكاء اإلنساني هذا اإلنجاز‪...‬‬
‫لنرجع إلى تساؤل العالم الذري اإليطالي (إنريكو فيرمي) الذي أدرك ضخامة هذا الكون‪،‬‬
‫وإمكانية وجود حياة فيه‪ ،‬كما وصل إليه العالم البريطاني فيزيائي الكون (دايفيد هيوز)‪ ،‬فاعتبر‬
‫أن مجرتنا تحوي على األقل مائة مليار نجم‪ ،‬ومن كل ‪ 24‬نجمًا هناك واحد على األقل يحوي‬
‫كواكب تتراقص حوله‪ ،‬وهذا يعني حوالي ستين مليار نجم‪.‬‬
‫وحسب تقديراته فهناك احتمال وجود ما ال يقل عن أربعة مليارات نظام شمسي‪ ،‬فيه كواكب‬
‫تدب فيها الحياة‪ ،‬مثل أرضنا الذي نعيش فيها! ولكن المشكلة هي المسافات التي تزداد تباعدا‬
‫بسبب اتساع الكون المستمر‪.‬‬
‫كان العالم الذري انريكو فيرمي يقول (وهو من وصل إلى تركيب أول مفاعل نووي)‪:‬‬
‫يجب أن نرى الكائنات السماوية‪ ،‬ألنه خالل الفترة الطويلة من تدفق الحياة (على أرضنا حوالي‬
‫أربعة مليارات سنة)‪ ،‬ال بد من بزوغ حضارات أخرى في كواكب ثانية‪ ،‬ويجب أن تكون قد‬
‫تطورت إلى درجة بناء حضارات‪ ،‬وغزو الفضاء‪ ،‬واقتحام مجال كوكبنا‪ ،‬ولكن أين هم ولماذا ال‬
‫نراهم؟‬
‫ويجيب على هذا التساؤل فرانسيس كريك (مكتشف الحامض النووي الذي يعتبر من أهم‬
‫اإلنجازات القرن العشرين البيولوجية) يفاجئنا بتصور فكرة (احتمال) أن تكون الحياة على‬
‫األرض هي الشكل الوحيد نقًال عن العالم مايكل هاردت‪:‬‬
‫" عودة للنظر في سؤال فيرمي‪...‬إن عدم وجود أي أثر لهم‪ ،‬إنما يعني ببساطة أننا وحدنا‬
‫الصورة الوحيدة للحياة الراقية في هذه المجرة"‪.‬‬
‫أما القفزة النوعية الجديدة فهي كشف اللثام عن الكواكب للمرة األولى في البحث‬
‫الكوسمولوجي‪ ،‬ويذكرنا كشف الكواكب القريبة في نظامنا الشمسي‪ ،‬عن التخيالت السابقة من‬
‫وجود قنوات في المريخ‪ ،‬فقد أعلن في القرن الماضي (جيوفيني) اإليطالي واألمريكي (لويل)‬
‫عن وجود أقنية في المريخ‪ ،‬وأن هناك نظام تروية متقدمة‪.‬‬
‫ولكن هذا الشيء تم نفيه من خالل إرسال السفن الكونية التي قطعت مراحلها في سنوات‪ ،‬مع‬
‫ذكرى االستقالل األمريكي المائتين‪ ،‬عندما حامت السفينة الكونية (فايكنج ‪ )1‬حول المريخ‪،‬‬

‫‪48‬‬
‫ورست متأخرة عن العيد القومي بـ ‪ 16‬يومًا ولكنها رست بسالم‪ ،‬بعد أن فشل الروس أربع‬
‫مرات‪ ،‬وكانت المفاجأة كبيرة حين عجزت كل المعدات المتطورة‪ ،‬وبكلفة مليار دوالر عن إثبات‬
‫ولو أثر حياة من خلية واحدة؟!‬
‫فلقد ثبت أن الموت البارد األحمر يطوق المريخ‪ ،‬كما طوق في بعثات أخرى كوكب الزهرة‪،‬‬
‫الذي اعتبر رمز الحب فينوس‪ ،‬فتبين أنها أوهامنا حول الكوكب‪ ،‬وأن الكوكب أقرب إلى جهنم‪،‬‬
‫بسبب غليان الحرارة الرهيب‪ ،‬ومطر حامض الكبريت الذي ال يتوقف‪ ،‬ونهار يمتد إلى مائة‬
‫وثمانية عشر يومًا‪ ،‬وليل يغط ‪ 59‬يومًا‪ ،‬ودوران مجنون مقلوب للزهرة خالف كل الكواكب!‬
‫واستمر البحث في الليل المدلهم عن نجوم أخرى عسى أن تفصح عن بعض أسرارها‪ ،‬حتى‬
‫كانت ليلة العاشر من نوفمبر عام ‪1981‬م عندما عقدت الدهشة لسان الفلكي (فيليب هيناريو)‬
‫وهو يراقب نجمًا يبعد ‪ 52‬سنة ضوئية فالحظ خنوس وانطفاء ضوءه‪ ،‬ليعود في اليوم التالي‬
‫سيرته األولى!‬
‫وفكر العالم ما الذي يمكن أن يكون قد حصل في هذا النجم حتى تتغير إضاءته؟ ما لم يكن حاجز‬
‫قد مر أمامه جعل ضوءه أضعف وأبهت؟!‬
‫ولكن هل يعقل أن يكون في مداره كوكب كبير إلى هذه الدرجة؟‬
‫وهل يعقل أن تكون هذه فاتحة تفسير الحلم القديم لعلماء الفلك عن وجود أنظمة شمسية جديدة‬
‫فيها كواكب مثل أرضنا؟‬
‫وما بين ‪1981‬م وعام ‪1995‬م أمكن الوصول إلى تحديد طبيعة الشمس الجديدة التي أخذت اسم‬
‫(بيتا بكتوراس)‪ ،‬وأن هناك كوكبًا بقدر المشتري مرة ونصف‪ ،‬يدور حولها بطريقة في غاية‬
‫الجمال‪ ،‬على مسافة ‪ 3‬مليارات كيلومتر‪ ،‬يكنس فيها – بقوة جاذبيته الرهيبة ‪ -‬كل ذرات الغبار‬
‫والغازات واألتربة والحجارة المكومة وبقايا الحصيد‪ ،‬من عمل النيازك والشهب فهو يجري‬
‫ويخفت ضوءه بين الحين واآلخر‪ ،‬وهو يقوم بعملية (المكنسة المنتظمة) لكل األتربة في‬
‫المنطقة‪( .‬تأمل اآلية الجواري الكنس)‬
‫والجميل في هذا الكشف الذي وصل إليه فريق علمي فرنسي‪ ،‬أنه يشهد لوالدة كواكب جديدة‬
‫مثل أرضنا‪ ،‬فالشمس الجديدة ال يزيد عمرها عن مائتي مليون سنة‪ ،‬مقارنة مع شمسنا التي‬
‫يزيد عمرها عن أربعة مليارات سنة‪.‬‬
‫وفي مؤتمر فلكي في فلورنسا تقدم الفلكي الفيزيائي السويسري (ميشيل ماير) الذي يعمل في‬
‫مركز الرصد السماوي في جينيف بكشف جديد من نفس النوعية عن نجم (بيجا ساوس‪)51-‬‬
‫الذي يدور حوله كوكب في مثل المشتري‪ ،‬ويبعد عنا ‪ 45‬سنة ضوئية!‬
‫وفي عام ‪2007‬م أمكن الوصول إلى الكوكب جليسه ‪ 581‬الذي يبعد ‪ 20.5‬سنة ضوئية‪...‬‬
‫ويبقى السؤال كيف استطاع الذكاء اإلنساني معرفة دوران كوكب مظلم بجانب التماع شمس‬
‫باهرة تفقأ العين بتوقدها‬

‫‪49‬‬
‫فلسفة األلم‬
‫األلم جيد ومفيد ومنه بدأت الحياة حملته أمه كرهـًا ووضـعته كرهـًا‪ .‬األلم جيـد خاصـة المعنـوي‬
‫ولوال تلك الليلة الرهيبة التي قذف فيها غاندي من القطار ألنه سمح لنفسه أن يركب في الدرجة‬
‫األولى مع البيض لما عرف معـنى االضـطهاد العنصـري‪ .‬وفي تلـك الليلـة تحديـدًا كمـا يـذكر في‬
‫كتابــه (تجــاربي مــع الحقيقــة) فتح عينــه على معــنى اضــطهاد اإلنســان وتحــول المجتمــع الى‬
‫فرعـوني في شـرائح وشـيع يـذيق بعضـهم بـأس بعض‪ .‬وفي تلـك الليلـة ولـد مبـدأ (الالعنـف )‬
‫و(الساتيا جراها= حب الحقيقة)‪ .‬األلم مفيد ألنه ينبه أن هناك خلًال في الجسم فــالقولنج الكلــوي‬
‫جرس إنذار أن هناك حصاة معيقة للتــدفق البــولي وأن جهــاز التنقيــة في البــدن معــرض برمتــه‬
‫لالنهيــار لــذا كــانت محطــات اإلنــذار في الجســم من الحــرارة واأللم مفيــدة أن هنــاك خلــل يجب‬
‫معالجته تمامـًا كمـا هـو الحـال من األنـوار الحمـراء الـتي تلتمـع عنـدما تصـاب فرامـل السـيارة‬
‫بالعطب أو التآكل وهي في الجسم األلم‪ .‬وعند حصول االلتهاب في أي مكان يعرف األطباء تمامًا‬
‫أن هناك أربع مؤشرات تفيد بذلك فالمكــان (ينتفخ) و(يــؤلم) و(يحمــر) و(يســخن)‪ .‬أي أن هنــاك‬
‫أربع أنوار حمراء وليس واحد كمؤشرات لحصول الخلل فتبــارك هللا رب العــالمين الــذي أحســن‬
‫كل شيء خلقه وبدأ خلق اإلنسان من طين‪ .‬مكان االلتهاب يسخن والجلد فوقــه يحمــر واالنتفــاخ‬
‫يقود إلى اختناق األعصاب في المنطقة وهي بدورها تحرض األلم فهذه هي آلية حدوث األلم أنه‬
‫اختنــاق أعصــاب المنطقــة باالحتقــان االلتهــابي‪ .‬ولكن أعجب األلم هــو (الصــداع) فالــدماغ ذلــك‬
‫الكمبيوتر الحساس يتأثر بأقل المسببات ألنه بني في غاية الدقة‪ .‬وهنـاك كمـا يقـول األطبـاء ‪99‬‬
‫سببًا للصداع‪ .‬إذا كان ألم (التهــاب المــرارة) ينتشــر في أعلى منطقــة البطن األيمن وينتشــر الى‬
‫الكتــف األيمن‪ ،‬وقـولنج حصــاة الكليــة يــنزل من الظهــر والخاصــرة إلى األســفل حــتى األعضــاء‬
‫التناسلية‪ ،‬وألم احتشاء القلب يمتد إلى الصدر حتى الكتف األيسر وأحيان ـًا الفــك فــإن ألم الــدماغ‬
‫هو الصداع‪ .‬األلم في الجسم مفيــد كجــرس إنــذار خــاص لالنتبــاه إليــه ومعالجتــه‪ ،‬والصــداع في‬
‫الرأس هو ألم الـدماغ بمائـة سـبب وبأقـل المؤشـرات الداخليـة من نقص السـكر أو اإلمسـاك أو‬
‫ارتفاع الضغط الدموي‪ .‬ولكن ألم الروح واختناقها من نوع مختلف ولقد خلقنا اإلنسان في كبــد‪.‬‬
‫األلم المعنوي محرض جيد ألنه يفتح العين على مأساة الحياة وأنها أحيانًا تراجيديا كاملة‪ .‬ولقــد‬
‫قرأت كتاب (آخر الراحلين) أو (اكتشاف أمريكا ـ مسألة اآلخر) فبكيت من فرط التأثر واآلن بين‬
‫يدي كتاب جديد هـو (تـذكرة ذهـاب وإيـاب الى الجحيم) جعلـني أرتجـف من هـول المعانـاة الـتي‬
‫تعرض لها مجموعة من الناس دخلت السجن عشرين سنة مثل أصحاب الكهــف بــدون نــور في‬
‫قبور حقيقية‪ ،‬والفرق أن هؤالء ناموا‪ ،‬أما هنا فكانوا بكامل وعيهم وشربوا كأس المعاناة حتى‬
‫الثمالــة‪ .‬وأنــا أجــد أعظم اللــذات في مطالعــة كتــاب جديــد ولقــد جعلت لنفســي عــادة أنصــح بهــا‬
‫القاريء وهي اصطحابه كتاب مسلي أو أكثر في كل رحلـة فال يضــيع الـوقت إال في المفيــد وكن‬
‫عالما أو متعلما أو محبا للعلم والتكن الرابعة فتهلك‪ .‬أقول إن المعانــاة هي الــتي تخلــق اإلنســان‬
‫وإن اإلنسان في ظروف المعاناة والمحنة يتشكل تشكًال خاصًا أقرب إلى الحديــد الــذي يــذوب في‬
‫النار ابتغاء حلية أو متاع فأما الزبد فيذهب جفاء وأما مــا ينفــع النــاس فيمكث في األرض كــذلك‬
‫يضرب هللا األمثال‪ .‬النار تصــفي المعــدن من الشــوائب والمحنــة تطهــر قلب اإلنســان من غــرور‬
‫العالم ولذلك كانت المعاناة والمحنة قانونا أبديًا أم حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم ال‬
‫يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن هللا الذين كذبوا وليعلمن الصادقين‪ .‬ولكن كل المفاجــأة‬
‫أن االبتالء هو ليس في السجن ومصادرة الحرية أو التعرض للضغط النفســي باالضـطهاد فهــذه‬
‫تستنفر الطاقة للمواجهة‪ .‬هل تعلمون ما هو أعظم االبتالء؟ إنه بالمــال والنعمــة والخــير الوفــير‬
‫(ونبلوكم بالخير والشر فتنة وإلينا ترجعون) فهذا قلب جديد لمفهوم األلم والمحنة واالبتالء‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫فلسفة الكذب‬
‫يقول فرانسيس بيكون‪(:‬إن خلط الكذب بالصدق مثل خلط الذهب بالفضة قد يسهل استعماله‬
‫ولكنه يحط من قيمته‪ .‬ألن هذه السبل الملتوية تشبه سير األفعى فتسير سفال على بطنها وليست‬
‫سوية على أقدامها)‪.‬‬
‫والقرآن نعى هذا األسلوب على أهل الكتاب أنهم (يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم‬
‫يعلمون) وهو من أشد أساليب الكذب خفاًء ‪ .‬والكذب ليس واحدًا بل عشرة‪ .‬ويعرف باختصار أنه‬
‫إخبار متعمد بخالف الواقع‪ .‬لذلك تعددت صوره بين من يتزلف لألقوياء فيمدحهم (‪ )1‬بما ليس‬
‫فيهم ولذلك جاء الحديث‪ :‬جثوا في وجوه المداحين التراب‪ .‬وهذا لون من الكذب‪ .‬وهناك الخفيف‬
‫(‪ ) 2‬وهو كثير االنتشار بين الناس عندما يدعي البعض ماليس فيهم وهو المبالغة ولذلك ربط‬
‫القرآن بين الكذب والمبالغة بلفظ إن هللا اليهدي من هو مسرف كذاب‪ .‬ويروى في هذا قصة‬
‫جحا عندما زعم أنه بنى مسجدا طوله ‪ 20‬كم وكان قد حذره صديقه من ذلك فقال اسعل أو‬
‫اعطس إذا سمعت مبالغاتي فلما ذكر الرقم اعترت صاحبه نوبة حساسية رهيبة وعطاس‬
‫متالحق وبدأ في السعال حتى كاد أن يختنق‪ ،‬فالتفت القوم الى جحا وقالوا له وكم عرضه؟ قال‬
‫متر واحد صاح الجمهور بصوت واحد لقد ضَّيقته ياجحا‪ .‬التفت جحا الى صديقه الذي كان يلملم‬
‫بقية سعاله وقال هناك من ضيق علي‪ .‬وهناك الكذب السياسي (‪ )3‬وهو الذي نعرفه عن‬
‫االذاعات الغربية مثل (بي بي سي) فهي صادقة تمامًا ولكن مثل األعور أو شبه العمى بمعنى‬
‫أنها تذكر التافه وتخفي المهم وتعظم الصغير وتصغر الكبير وهو ماسماه المفكر األمريكي‬
‫(نعوم تشومسكي) فبركة االعالم فيكفي أن يذكروا خبرا صغيرا يكررونه حتى يتحول الى‬
‫طوفان نوح‪ .‬ومن هذا النوع تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان الذي اتفق معظم علماء االمة أنه‬
‫اليصب في النهاية مع مصلحة المسلمين تحت اآلية (والتسبوا الذين يدعون من دون هللا‬
‫فيسبوا هللا عدوا بغير علم) والناس التستوعب لعبة الصراع الفكري التي كتب عنها مالك بن‬
‫نبي مطوًال وهكذا هرع اإلعالم الغربي في غير نزاهة أوموضوعية أو حياد فكرر الخبر وضخم‬
‫بحيث أصبحت صورتنا في العالم الترضي‪ .‬فهذا كذب متعمد ولكن اليظهر منه الكذب‪ .‬ويروى‬
‫عن عمر ر أنه كان يقول اللهم أشكو اليك ضعف التقي وقوة الفاجر‪ .‬و(‪ )4‬هناك المزج الخبيث‬
‫بين الحقيقة والكذب واالقتصار على بعض الحقيقة فتظهر نصف الحقيقة وهي ليست حقيقة كما‬
‫لو استخدم أحدهم نصف آية مثل (التقربوا الصالة) أو ( يد هللا مغلولة) أو (إن هللا فقير) فال‬
‫يمكن معرفة الحقيقة مالم يكمل صاحبها (وأنتم سكارى) أو (غلت أيديهم بما قالوا) أو (ونحن‬
‫أغنياء سنكتب ماقالوا وقتلهم األنبياء بغير حق)‪ .‬وهناك لون خطير من الكذب(‪ )5‬عندما يتلون‬
‫الناس في أخالقهم فيظهرون خالف مايبطنون وهو (النفاق) وهم عناصر خطيرة مدمرة مثل‬
‫الجراثيم في الجسم ولذا كان مصيرهم في الدرك األسفل من النار‪ .‬وهناك (‪ )6‬عادة إخالف‬
‫الوعد وهو النفاق العملي وهي أخالق سيئة وكثيرة االنتشار بيننا وبكل أسف فاأللمان أفضل‬
‫منا بكثير في هذه األخالقية‪ .‬وهناك التكتم (‪ )7‬على األخبار والكذب للتعمية عليها وهو ديدن‬
‫السياسيون وووصف أحدهم السفير أنه رجل شريف يكذب لمصلحة بالده‪ .‬وهناك االفتخار‬
‫واالنتفاج(‪ )8‬وهللا اليحب كل مختال فخور‪ .‬ولعل أشنع صور الكذب هي شهادة الزور (‪ )9‬التي‬
‫قرنت بالشرك باهلل‪ .‬واالفتراء (‪ )10‬التي هي اختراع قصة ال أصل لها‪ .‬وإن هللا اليحب كل‬
‫مسرف كذاب‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫جنكيزخان والفيلسوف‬

‫كان هدف الطاغية المزيد من الحياة لمزيد من سفك الدماء وإبادة الشعوب‬
‫وتوسيع أمالكه والمزيد من التمتع بالحظايا ولذائذ الحياة إن اإلنسان‬
‫لظلوم كفار‪ .‬وعندما وصل الفيلسوف الصيني من أقصى الصين إلى‬
‫أفغانستان الحالية ارتجت مفاصله من مناظر اإلعدامات في معسكر‬
‫جنكيزخان‪ .‬كان السؤال األول الذي وجهه إليه كيف تستطيع أن تمد في‬
‫حياتي فال تجعل للموت علي سلطانًا؟ أجابه الفيلسوف بدون مجاملة‬
‫وبشيء من التلطف في العبارات‪:‬أيها الخان العظيم أما الموت فال أحد له‬
‫سلطان عليه وأما أن أعدك بمد عمرك فهذا ليس بمقدوري ولكنني‬
‫أستطيع أن أدلك أن تعيش على نحو صحي سليم فتستمتع بالصحة‬
‫والعافية وما قسم هللا لك من عمر‪ .‬امتعضت أسارير الجبار فقد كان يتوقع‬
‫جوابًا غير هذا‪ .‬أنهى الحديث من فوره وأرسله إلى خيمته المخصصة‪.‬‬
‫وفي مقابلة الحقة توجه الطاغية إلى سؤال الفيلسوف عن شيء آخر ال‬
‫عالقة له بالموت والحياة بل ألوانًا مختلفة من المعرفة وكان شغوفًا‬
‫بمعرفة الجديد بقدر شغفه بألوان القتل‪ .‬إن ظاهرة اإلعصار المغولي لم‬
‫تدرس بما فيها الكفاية حتى اآلن خاصة أن نصيبنا كان مترعًا منها كأسًا‬
‫دهاقًا من العذاب‪ .‬وعندما يذكر المؤرخ ابن األثير عن االجتياح المغولي‬
‫للمعمورة في أيامه يقول إننا لم نعهد هذا االنسياح في األرض ولم نسمع‬
‫به من قبل في كل فتوحات القواد العسكريين مثل االسكندر أو قورش‬
‫وهؤالء فتحوا من الممالك في سنة واحدة ما يحير من اتساعه‪ .‬ولم ينتبه‬
‫ابن األثير إلى التقنية العسكرية التي استعملها التتار فهم لم يخضعوا‬
‫األرض لجبروتهم ألنهم كانوا قساة وسفاكي دماء بل بفعل أساليب‬
‫طوروها لفترة طويلة حتى تمكنوا من ناصيتها وبدأوا بتطبيقها على‬
‫الشعوب التي ساقها القدر تحت نصلهم المرهف‪ .‬ومن المصادر األلمانية‬
‫عرفت أن تطويرًا مهمًا أحدثوه في طرائق القتال وهي الفرق المحمولة‬
‫كما فعل النازيون الحقًا بحمل وحدات عسكرية كاملة على ظهر المدرعات‪.‬‬
‫وذكر بعض المؤرخين هذا الشيء ولكن كخصال فردية عند الجندي‬
‫المغولي من التحمل والجلد وليس كتكتيك عسكري مطور وبالطبع لن‬
‫نتوقع من مؤرخ قرون أوسطي أن يصل إلى مثل هذا االنتباه ولعل ابن‬
‫خلدون يمثل شذوذًا على القاعدة ألنه ينتبه إلى القواعد اللوجستية في‬
‫تحرك الجيوش الكبيرة عندما يكِّذ ب خبرًا أورده أحد المفسرين أن جيش‬

‫‪52‬‬
‫موسى في التيه كان ‪ 600‬ألف مقاتل فقال (ال يعقل) أن يحارب جيش ال‬
‫يعرف طرفه ماذا يحدث في الطرف اآلخر من هزيمة أو نصر‪ .‬وبالطبع‬
‫فإن هتلر استطاع أن يدفع بعملية برباروسا إلى روسيا بخمسة ماليين‬
‫جندي ولكن بعد أن تطورت وسائل االتصاالت ‪ .‬وعند المغول بدأ حمل‬
‫الفرق العسكرية على ظهور الخيل مثل مدرعات هتلر من مستوى القرن‬
‫الثالث عشر‪ .‬ولكن سر جنكيزخان أنه استطاع أن يجمع هذه الذئاب‬
‫البشرية للمطاردة دفعة واحدة‪ .‬فكان غضبًا وألمًا ألمم قاست ما قاست‬
‫ودفع المسلمون النصيب األوفى من هذا األلم األكبر وكذلك أخذ ربك إذا‬
‫أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫فلسفة الزلزال ؟‬
‫عند الساعة ‪ 5‬و ‪ 28‬دقيقة من صباح ‪ 26‬ديسمبر ‪2003‬م زلزلت األرض زلزالها في مدينة بــام‬
‫اإليرانية فانتهت حياة أكثر من ثالثين ألف إنسان تحت األنقاض مع أن قوة الزلــزال لم تــزد عن‬
‫‪ 6,3‬وهي بعرف الجيولوجيين متوسطة القوة‪ .‬وال يستبعد أن يأتي إنسان خرافي فيقول إن أهــل‬
‫بام (روافض) رفضهم هللا فعاقبهم‪ .‬ولكن قبــل ســنوات اهــتزت األرض في تركيــا فقتــل فيهــا من‬
‫المسلمين (السـنة) عشـرين ألـف‪ .‬وبعـد زلـزال بـام توجـه الزلـزال إلى أقصـى األرض فضـرب‬
‫جزيرة (بالي) في أندنوسـيا ثم قفـز إلى غـرب األرض فضـرب مدينـة (مكسـيكو سـيتي)‪ .‬وخالل‬
‫الشهر الفــائت لوحــده اهــتزت األرض أكــثر من ‪ 200‬مــرة منهــا عشــر مــرات بقــوة تجــاوزت ‪6‬‬
‫ريختر‪ .‬وفي عام ‪1992‬م ضرب الزلزال (القاهرة) فخــرت األبنيــة الضــعيفة ونجت القويــة‪ .‬ومــا‬
‫حدث (للشــيعة) في إيــران و(الســنة) في تركيــا والقــاهرة حــدث (للمســيحيين) في مدينــة (ســان‬
‫فرانسيســكو) عــام ‪ 1906‬فــارتجت األرض وأصــبحت المدينــة كومــة أشــباح‪ .‬وفي عــام ‪1995‬‬
‫ضرب الزلزال مدينة (كوبي) اليابانية وهم ليسوا شيعة وال سنة وال مسلمين وال مسيحيين‪ .‬ولم‬
‫يفرق الزلزال في ضربته بين عقائد الناس بقدر خضوعهم جميعا لقانون واحد‪.‬‬
‫وعندما تجتاح الكوليرا بلدا فبسبب القذارة‪ .‬وفي عام ‪ 1905‬كان يموت من أهل مدينة هامبورج‬
‫األلمانية كل يوم ألف مريض بالكوليرا‪ .‬وعندما ينفجر الطاعون في الهند فبسبب عبادة الجرذان‬
‫وكنيسة (أياصوفيا) التي حولها محمد الفاتح ظلما إلى مسجد أنهى بناءها عام ‪ 537‬م مهندسان‬
‫عبقريان هما (انتيميوس) و(ازيدوريس) بكلفة مليار جنيه إنجليزي وحسبا حساب الزالزل قبل‬
‫كل شيء‪ .‬وكان الناس في أيامهم إذا بنوا زادوا في الحجارة فجعلوها أثقل وأقسى أما هما ففعال‬
‫العكس باالنتباه إلى أن ما يصمد في الزالزل ليس الثقل بل الدينامية والخفة وهكذا بنيت‬
‫الكنيسة من مواد خفيفة فنجت‪ .‬وقام المهندس التركي (أحمد جقمق) عام ‪ 1992‬من جامعة‬
‫برنستون بدراسة تحمل أياصوفيا للزالزل فوضع أجهزة حساسة في كل البناء ثم قام بإدخال‬
‫المعلومات إلى الكمبيوتر ثم أجرى اختبار تخيلي فيما لو تعرضت المنطقة لزلزال مخيف من‬
‫عيار ‪ 7.5‬ريختر فكانت النتيجة صمود البناء‪ .‬و في أغسطس عام ‪ 1999‬جاء وقت االختبار‬
‫الفعلي فاهتز كل شيء بما فيها أياصوفيا وهلك آالف الناس تحت األنقاض أما (أياصوفيا) فلم‬
‫يسقط منها حجر ولم يتصدع فيها جدار ويبدو أنها ستعيش ألف سنة أخرى‪.‬‬
‫وهكذا فالزلزال ال دين له وهو غـير حـزبي وغـير متحـيز ويضـرب الجميـع وفـق قـانون يعرفـه‬
‫العلماء في تصدع الصفيحات القارية واصطدامها ببعض‪ .‬وحيث يغضب ينفجر‪ .‬ولن تجد لســنة‬
‫هللا تبديال ولن تجد لسنة هللا تحويال‪.‬‬
‫ومنذ القديم يذهب الناس في تفسير الزالزل مذاهب شتى‪ .‬ونحن نعلم اليوم أننا نسكن فوق فرن‬
‫يقذف بحممه بين الحين واآلخر‪ .‬وليس بيننا وبين باطن التنور إال قشرة رقيقة من األرض ومــا‬
‫تحتنا نار تتلظى والزلزال‪.‬‬
‫وفي اليوم الواحد تهتز األرض أكــثر من ‪ 27‬مــرة في أمــاكن شــتى‪ .‬وفي الســنة تــرتج أكــثر من‬
‫عشرة آالف مرة بقوة ‪ 4‬ريختر منها عشرين هزة (رئيسية) ومائة (قويــة) وآالف (المتوســطة)‬
‫وعشرات اآلالف من التي ال يشعر بها الناس‪ .‬ومــا زاد عن ثمانيــة ريخــتر فيحــدث مــرة في كــل‬
‫عام‪ .‬وقبل ‪ 75‬ألف سنة انفجر بركــان كراكــاتو في أندنوســيا فأهلــك معظم البشــر ولم يبــق على‬
‫ظهر األرض أكثر من بضعة آالف تابعوا رحلة الجنس البشري‪.‬‬
‫وهناك تصدعات ومسارات للزالزل معروفــة مثــل صــدع انــدرياس والبحــر األحمــر‪ .‬والخســائر‬
‫تحدث بضعف المباني اكــثر من قـوة الزلـزال كمــا يحــدث في المــرض فانهيــار الجهــاز المنــاعي‬

‫‪54‬‬
‫يؤهب للمرض أكثر من قوة الجرثوم‪ .‬وسبب سماع الناس بالزلزال هو المكان واإلصابات‪ .‬وفي‬
‫‪ 5‬ديسمبر ‪ 2003‬ضرب الزلزال جزر الكوماندورسكي بقوة ‪ 6,6‬ريختر ولكن لم يسمع أحد‪.‬‬
‫وقد يستفيد العلماء في يوم فيوظفوا هذه الطاقة الفلكية من قوة الزلــزال فيفجــروا الــبراكين في‬
‫أماكن معينة من قشرة األرض كما تفعل المرأة مع الطنجرة البخارية بالتنفيس فيستخدموها كما‬
‫حدث مع الطاقة النووية والبخارية فسارت القطارات وأمكن لمفاعل نووي تزويد مدينة بالطاقــة‬
‫لمدة عام‪ .‬وفي يوم كانت الكهرباء صواعق تحرق المباني وتقتل الناس واليوم حبست الكهرباء‬
‫في سلك وال نستغني عنها لحظة‪.‬‬
‫وهناك أفكار جريئة عن استخدام السـالح النـووي ليس للحـرب بـل في جراحـة المنـاخ‪ .‬ويمكن‬
‫بتفجيرات نووية مدروسة إذابة القطب الشمالي وقلب كامل منـاخ سـيبريا وشـمال كنـدا فتصـبح‬
‫حدائق ذات بهجة للناظرين‪.‬‬
‫وهكذا فالظواهر الكونية قد تكون مصدر رعب لألميين فيعبـدوا الحجـر والبشـر أحيـاء وأمواتـا‪.‬‬
‫وقد يفكر عبقري في شوك الحدائق فيستخرج منه نظاما جديــدا لألحذيــة فتشــد بشــريط يتشــابك‬
‫فيه سطح خشن مع ناعم بدون خيطان‪.‬‬
‫وبركان فيزوف انفجر ليس ألن أهل بومـبي كـانوا فجـرة فأهـل رومـا كـانوا أفجـر فلم يالمسـهم‬
‫واستمروا يعربدون‪ .‬فيجب فتح العقل على فهم سنن حدوث األشياء وإال كنا نكذب على هللا‪.‬‬
‫وينقل لنا التاريخ وقائع مثيرة ففي أيام (نور الدين الزنكي) احتدمت الحــروب واشــتدت الــزالزل‬
‫وهبطت الكنيسة في إنطاكية على رأس أثناسيوس بطريق األرثــوذكس وقساوســته وهم يــؤدون‬
‫القداس فــاعتبر الكاثوليــك ذلــك معجــزة إلهيــة‪ .‬ولكن الــزالزل ضــربت يومهــا الجميــع مســلمين‬
‫وصليبيين‪ .‬من حلب حتى طرابلس‪.‬‬
‫وفي عام ‪1755‬م من صباح أول نوفمبر احتشد الناس في الكنائس في لشبونة بكامل زينتهم في‬
‫عيد (كل القديسين) فاهتزت األرض وفي ست دقائق تهدمت ثالثون كنيســة وألــف مــنزل ومــات‬
‫تحت األنقاض خمس عشرة ألف إنسان وجرح مثلهم في واحدة من أجمل عواصم العالم يومها‪.‬‬
‫وبدأ الناس يحاولون تفسير ما حدث فأما (ماال جريــدا) وهــو أحــد اليســوعيين فقــال أن الزلــزال‬
‫كان عقابا من هللا على الرذيلة التي استشرت في لشـبونة‪ .‬ولكن الزلـزال قضـى على القساوسـة‬
‫المتبتلين والراهبات المتفانيات في الخدمة ووفر ألد أعداء اليسوعيين كما يقــول المــؤرخ (ويــل‬
‫ديورانت)‪.‬‬
‫أما أهل المغرب فهللوا للحدث يومها واعتبروه انتقامـًا إلهيـًا من محــاكم التفــتيش في البرتغــال‪،‬‬
‫ولكن الزلزال لم يعف عن المغرب فكَّم ل طريقه إلى الرباط فهدم المسجد األعظم فيهــا فخــر على‬
‫رؤوس الناس وهم يصلون‪.‬‬
‫أما (البروتستانت) فقالوا إن هذه الكارثة هي استنكار السماء لجرائم الكاثوليــك ضــد اإلنســانية‪.‬‬
‫وأعلن (وليم روبرتون) أن مذبحة لشبونة "أبرزت عظمة هللا في أبهى صورها" ولكن الجواب‬
‫عن هــذا التفســير جــاء بعــد ‪ 18‬يومــا حيث زلــزلت األرض زلزالهــا على الحافــة األخــرى من‬
‫األطلنطي فقتل في مدينة (بوسطن) اكثر من خمسة عشر ألفًا من (البروتستانت)‪.‬‬
‫وحتى فولتير وقف مــذهوًال أمــام فظاعــة الحــدث ولكنــه استشــاط غضــبا من ســخف التفســيرات‬
‫وكتب يقول في ذروة الحزن‪ ":‬أي جريمة ارتكب هؤالء األطفال الذين اغتــالهم الزلـزال وســالت‬
‫دماؤهم وهم في أحضان أمهاتهم؟ وهل كانت رذائل لندن أو باريس أقــل من رذائــل لشــبونة؟ و‬
‫مع ذلك دمرت لشبونة وباريس ترقص‪.‬‬
‫أما جان جاك روسو فاعتبر أن ما تعاني اإلنسانية من علــل وشــرور هــو نتيجــة ألخطــاء البشــر‬
‫وإن زلزال لشبونة هو عقاب عادل لإلنسان لتخليه عن الحياة الطبيعية وإقامتــه في المــدن ولــو‬
‫أن الناس التزموا الحياة البسيطة في مساكن متواضعة لما حصل كل هذا الدمار‪.‬‬
‫وفي العصور الوسطى كان البابا الكسندر الســادس يعــاني من التهــاب مفاصــل الزهــري ولكنــه‬
‫كان يعزي سبب مرضه إلى تعكر مزاج المريخ ونحن نعـرف أن الزهـري ينتشـر بالزنـا‪ .‬وكـانت‬
‫الكنيسة يومها تبيع تذاكر لدخول الجنة وتعالج السعال الديكي بلبن الحمير‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫إن خطورة العقل الخوارقي أنه يعطل كل جهد بشري‪ ،‬والعقل العــربي اليــوم مغتــال بســموم من‬
‫التصور الخوارقي لألشــياء والفهم المقلــوب للتــاريخ‪ .‬وحينمــا ســقطت المركبــة (كولومبيــا) في‬
‫منطقة اسمها فلسطين في أمريكا حسبها العرب انتصارا للالنتفاضة‪ .‬وعندما زحف األمريكيــون‬
‫على بغداد في ربيع ‪2003‬م ثار الغبار فاعتبر البعض أن هللا يقاتل بجانب صدام‪ .‬وعنـدما انفجـر‬
‫شالينجر مكوك الفضاء اعتبره البعض عقوبة إلهية‪ .‬ونظر األمريكيون إلى الحدث أنه خطأ فــني‬
‫وأرسلوا بعده العشرات‪ .‬وفي يناير ‪ 2004‬أرسل المكــوك الفضــائي األمــريكي روفــر صــورا من‬
‫المريخ‪ .‬فمن يبني عقله على العلم يبني لنفسه بيتا في المريخ‪ ،‬ومن يبنيه على الخرافة ينحبس‬
‫في خانة المجهول والتخلف ومــرض القــراد الــذي يضــرب النحــل فيقص أجنحتهــا فال تطــير وال‬
‫تجني الرحيق‪ .‬وال يبقى قفيرا وال عسال‪ .‬ومن يمشي على رأسه يخسر رأسه ورجليه معًا‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫المغزى الفلسفي‬
‫النتشار مرض اإليدز‬
‫في عام ‪ 1981‬ميالدي تم اإلعالن رسميًا عن والدة مرض جديد في العالم لم يكن معروفًا من‬
‫قبل وأخترع له أسم يناسب ظاهرته الخطيرة = مرض نقص لمناعة الكسبي ويجمع الحروف‬
‫األولى من كلمات المرض باللغة الالتينية تمت تسمية هذا المولود الجديد (اإليدز) )‪AIDS (1‬‬
‫يشلك هذا المرض اليوم تحدًا قاسيًا مزدوجًا للجنس البشري تحديًا في وجه التقنية الطبية‬
‫وتحديًا ألخالقيات وضمير الجنس البشري فكم أنه ما زال يقتل المئات يوميًا ويصيب الماليين‬
‫ويهدد دوًال بأكملها كما في القارة السوداء أفريقيا فإنه يطرح تساؤًال فلسفيًا مزدوجًا بنفس‬
‫الوقت ‪:‬لماذا تولد أمراض لم تكن معروفة من ذي قبل وما معنى انفجار بعض األمراض‬
‫التاريخية في أوساط االنحراف الخلقي كما هو في مرض اإلفرنجي سابقًا وفي الوقت الذي يغير‬
‫مرض اإليدز من طبيعته فيبدأ بانتقال واالنتشار عبر الهواء وليس فقط التماس الجنسي أو‬
‫تلوث الدم فإن البشرية مهددة بطاعون نوعي جديد في ظل عدم وجود لقاح أو دواء نوعي لهذا‬
‫المرض حتى اآلن وال نريد في هذا البحث السريع الذي كتب عنه أطنان الورق ومئات اآلالف‬
‫من الكتب أن نزيد في حقنة الذعر والفزع كما يجب أال نصاب بالغرور والحمق واالستخفاف‬
‫فمرض اإلفرنجي في التاريخ استمر أكثر من أربعة قرون يحصد األرواح ويعاني منه البشر إال‬
‫أن القفزة العلمية والطبية التي حققها اإلنسان في الوقت الحاضر تعطينا ضوءًا من التفاؤل في‬
‫عدة اتجاهات وسرعة الكشف عن هوية المرض وتطور تقانات جديدة في مستوى البحث‬
‫الخلوي والجيني بل رب ضارة نافعة فقد تكون لعنة اإليدز الجديدة الطريق لفتح الباب وكشف‬
‫اللغز عن أسرار السرطان فطالما كان فتك مرض اإليدز في مستوى نواة الخلية ولتركيب‬
‫الجيني فإن االنطالق للتخلص من المرض والقضاء عليه هي في تطوير تقنية فهم الجينات‬
‫وكيف تعمل وحقل السرطان هو هنا فقط يحقق الجنس البشري إذًا الحلم القديم ويضرب‬
‫عصفورين بحجر واحد أي القضاء على السرطان هو هنا فقط يحقق الجنس البشري إذًا الحلم‬
‫القديم ويضرب عصفورين بحجر واحد أي القضاء على السرطان جنبًا إلى جنب مع الكشف عن‬
‫سر فتك اإليدز مع هذا يبقى الجدل الفلسفي أن المزيد من كشف العالم ال يعني تقلص هامش‬
‫المجهول بأتساع حقل المعلوم بل أن المزيد من المعرفة تكشف أضعاف أضعاف حقل الجهل‬
‫عندما يعلم اإلنسان فإنه في الواقع يعلم كم هو جاهل بقدر أكبر من كم هو يعلم ويقود هذا‬
‫بالتالي إلى معنى أخالقي رفيع في التواضع كما تنزل أغصان الشجرة الثقيلة المحملة بثمار‬
‫المعرفة إلى األرض خشوعًا وسجودًا للخالق العظيم‪.‬‬
‫إذا كان اإلعالن عن والدة اإليدز في تاريخ الجنس البشري كان في عام ‪ 1981‬ميالدي فإن‬
‫ملفات التاريخ تنقل لنا قصة مثيرة في أعراض مرض جنسي آخر في عام ‪ 1493‬ميالدي أي‬
‫قبل خمسة قرون من آن عرف هذا المرض بالزهري (السيفلس ‪ )2( )SYPHILIS‬أو‬
‫اإلفرنجي بإعتابر مصدره الغربي (اإلفرنجي)‪.‬‬
‫ًا‬
‫كانت بداية المرض مرتبطة بواقعة عسكرية تافهة تتكرر كثير في ميادين القتال في أوروبا‬
‫حيث تحرك الملك الفرنسي كارل الثامن في محاولة لالستيالء على مدينة (نيابل) في إيطاليا‬
‫بجيش يضم خليطًا متنافرًا من المرتزقة (أسبان وهولنديون وألمان‪....‬الخ) قوامه ثالثون ألف‬
‫جندي وفي مؤخرة الجيش تم ضم خمسمائة امرأة لحاجة الجيش الجنسية ويروي لنا التاريخ‬
‫أن هذه الحملة التي مارست المتعة الجنسية بغير حدود في رحلتها في األراضي اإليطالية لم‬

‫‪57‬‬
‫تنته إلى وكان هذا المرض قد ولد بانفجار مروع يحمله الجنود المرتزقة حيث مشوا إلى البالد‬
‫التي خرجوا منها وبعد خمس سنوات من هذه الحملة أي في عام ‪1498‬م قضى الملك كارل‬
‫الثامن نحبه عن عمر يناهز (‪ )28‬الثامنة والعشرين بهذا المرض الجديد (الزهري) وابتدأت‬
‫بعدها رحلة معاناة رهيبة لهذا المرض الذي لم يترك شريحة اجتماعية إال وأصابها بشكل‬
‫متفاوت في ظل انعدام العناية الصحية ومعرفة كيفية انتشار األمراض وتخلف الطب كل هذا‬
‫مترافق مع اإلباحية الجنسية جنبًا على جنب فحيث العربدة والخيانة الزوجية تفشي المرض‬
‫وحيث النظافة األخالقية والعائالت المتماسك عف عنها وابتعد وبقي المرض يقوم بهجمات‬
‫منتظمة طوال أربعة قرون فأصيب به بعض الباباوات مثل الكسندر السادس ويوليوس الثاني‬
‫وليو العاشر ونظرًا النتقاله عبر المشيمة فقاد إلى تحوالت تاريخية كما هو في ملك بريطانيا‬
‫هنري الثامن الذي فقدت زوجته أربعة أطفال من الذكور فعزم على الزواج من امرأة أخرى‬
‫وهو ما لم تسمح به الكنيسة الكاثوليكية فقام بنقل المذهب البروتستانتي إلى بريطانيا فكان‬
‫مرض اإلفرنجي خلف التحول الديني في بريطانيا بل والقاعدة الصناعية لما بعد على ما حرره‬
‫فيلسوف االجتماع (ماكس فيبر) الذي ربط بين االنطالقة الصناعية في أوروبا وانتشار المذهب‬
‫البروتستانتي في كتابه (روح الرأسمالية واألخالق البروتستانتية) باعتبار وجود مقومات‬
‫عقلية خاصة في الوسط البروتستانتي من رح المبادرة والروح العملية وتقدير العمل والكسب‬
‫فاألمراض إذًا وانتشارها تصنع التاريخ أحيانًا كما نرى في هذا المثل الذي بين أيدينا وإذا كان‬
‫مرض اإلفرنجي ينتقل في الرحم عبر المشيمة فيؤدي إلى اإلسقاطات فموت األجنة فإنه يفعل ال‬
‫أقل من ذلك في حاالت أخرى حيث ال يموت الجنين ولكنه يحمل المرض بصورة خفية في‬
‫الدماغ لينفجر بشكل ال حق وبعد عشرات السنوات وال يستبعد أن جنون الفيلسوف األلماني‬
‫(نيتشه) صاحب كتاب (هكذا تكلم ذرادشت) وصاحب مبدأ العود األبدي حمل من أمه هذا‬
‫المرض ليفجر عليه من خالل تدمير دماغه في وقت ال حق وإننا نحزن عندما نسمع عن صمم‬
‫الموسيقار بيتهوفن بسبب إصابته أيضًا بهذا المرض وعشرات شتى من المفكرين والرسامين‬
‫والمبدعين والفالسفة كلهم أصابهم المرض فدمرهم أو أقعدهم من مثل الرسام ريتل والشاعر‬
‫هيانه والفيلسوف أبراسموس (صاحب المدرسة اإلنسانية) وزوال وفالوبرت وأصاب ملوكًا من‬
‫مثل فرانس األول ملك فرنسا وكريستيان السابع ملك الدانمرك وقيصر روسيا إيفان الرهيب‬
‫بنفس الوقت الذي نتألم فيه الموت فيلسوف الحداثة الفرنسي (ميشيل فوكو) الذي قضى نحبه‬
‫في وقت مبكر عن عمر ال يتجاوز الخمسين بمرض اإليدز‪.‬‬
‫بين عامي ‪1493‬م و‪1928‬م مضت أكثر من أربعة قرون قبل التمكن من كشف اللثام عن طبيعة‬
‫المرض والسيطرة عليه وتم استخدام عشرات األدوية بدون فائدة تذكر ولم يترك من شيء‬
‫معقول أو غير معقول إال واستخدم ووجدوا أن أفضل طريقة لتفسير المرض هو اتهام الهواء‬
‫أو النجوم واألبراج حتى تمت القفزة النوعية العلمية مع مطلع القرن العشرين سواء في‬
‫التشخيص أو العالج ونظرًا ألن جرثومة المرض تنتقل عن طريق الشرايين فإنها ال تترك‬
‫جهازًا نبيًال إلى وتعطبه فهي تعمل الصمغ (شبيه الورم) في الدماغ والنخر في العظام فتسبب‬
‫الجنون العام في األول واآلالم الليلية المبرحة في الثاني والتقرحات في األعضاء التناسلية إلى‬
‫سلسلة من اإلصابات المنوعة واالضطرابات الوظيفية إلى درجة أن سقوط الشعر وبثرات‬
‫العنق والوجه هي التي طورت المالبس الخاصة في قصر فرساي بين الطبقة النبيلة التي كانت‬
‫تغطي الرأس بالشعر المستعار أو القبعة العالية‪.‬‬
‫في عامي ‪ 1904‬ميالدي و‪ 1906‬م حصل تطوران رائعان بالتتالي على يد كل من العالم النباتي‬
‫(فريتز شاودين) و(فاسرمان) حيث كشف األول عن المتسبب في أحداث المرض والثاني‬
‫استطاع أن يضبط بتفاعالت خاصة للدم عن إصابة اإلنسان السابقة وحمله للمرض حيث‬
‫ظهرت جرثومة المرض تحت المجهر كأنها الخيط الطويل الملتوي أو األفعى هشة ضعيفة‬
‫ولكنها خبيثة ممرضة (اللولبية الشاحبة) (‪ )3‬وبتفاعل (واسرمان) ( ‪ )4‬أصبح التفاعل‬
‫اإليجابي يعني الفضيحة الجنسية لحامله وممارسة الحرام‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫وفي ميدان العالج حصلت ثالث تطورات رائعة األولى دشنتها العالم (باول ايلريش) حيث قام‬
‫بما يزيد عن (‪ )600‬ستمائة تجربة على األصبغة التي وصل إلى مركب في المحاولة (‪)606‬‬
‫السادسة بعد الستمائة تقضي كما تفعل (الرصاصة) على المرض واكتشف الطبيب (يوليوس‬
‫فاجنر) النمساوي ظاهرة ملفتة للنظر بتراجع ظاهرة المرض مع تعرض المريض لحرارة عالية‬
‫فإذا أصيب المريض بمرض جانبي مختلف أخر وارتفعت درجة حرارة المريض فإنه يعاني من‬
‫المرض الالحق مثل التهاب الرئة ولكنه يتعافي ويتحسن من مرض الزهري (اإلفرنجي)‬
‫فانقدحت في ذهنه فكرة جريئة مفادها إشعال وقود صناعي داخل الجسم بإحداث نوبات حرارية‬
‫متالحقة مثل تعريض المريض لمرض (المالريا) مثًال فالمالريا تقوم بنوبات حرارية مجنونة‬
‫في البدن فلعلها بهذا الحريق الداخلي أن تحرق مرض األفرنجي الفظيع فإذا تعافى من‬
‫األفرنجي أمكن معالجة المالريا بمواد (الكينا) بعد ذلك‪.‬‬
‫لقد نال الدكتور فاجنر جائزة نوبل فيما بعد على أبحاثه الجريئة هذه قبل أن يصل (فلمنغ) إلى‬
‫الضربة النهائية والخاتمة التي طوت صفحة مرض الزهري ودفعه واحدة باكتشاف المضاد‬
‫الحيوي الذي هو (عفن) وهكذا سلط فلمنع (العفن) على (العفن) فنجا (البدن) وهي قصة شيقة‬
‫في محاولة اإلنسان الدائبة للقضاء على المرض ولكن قصة اإليدز هي فصل نوعي جديد في‬
‫تطور اآلليات األمراضية فجرثومة المرض هنا هي أدنى طبقات الناصر األمراضية أي‬
‫(الفيروسات) (‪.)5‬‬
‫مرض اإليدز هذه المرة يقوم بخطة استراتيجية مختلفة فهو أيضًا من قبائل الفيروسات‬
‫العدوانية ولكنه في غاية الخبث والدهاء ويقترب من معضلة مرض (السرطان) الذي يشلك‬
‫التحدي العظيم أمام كفاح اإلنسان ضد األمراض ففيروس مرض اإليدز ال يدخل الجسم أو بعض‬
‫األنسجة ليفرز سمومه كما يحصل في اللصوص والمجرمين حينما يسطون على المحالت أو‬
‫البنوك ال إنه يفضل أن يدخل إلى غرفة العمليات الرئيسية ومفاتيح التشغيل الكبرى فيتحول إلى‬
‫أحد العاملين فيها ال تختلف عنهم بلباس أو تصرف ليدخل بل هدوء وبدون أن ينتبه أحد إلى‬
‫خريطة اإلنتاج الكبرى من المعلومات ما يفسد كل البرمجة بل تتحول البرمجة إلى إنتاج أمثاله‬
‫فيروس اإليدز يدخل إلى الخريطة الجينية داخل نواة الخلية فيقطع فيها ليجلس داخلها بحيث‬
‫تنتج الكرموسومات مثيله وباستمرار فالجسم يعيد توليد وتكاثر نفسه وطرد الغريب عنه‬
‫وفيروس اإليدز لم يعد غريبًا بل من أهل البيت وقطعة من التركيب العائلي فمرحبًا بمثل هذه‬
‫العالقة المشؤومة؟!‪ ...‬إذًا التحدي التقني اليوم ليس بالقليل وال غرابة أن يمضي عن الكشف‬
‫عن الفيروس كل هذا الوقت وال عالج نوعي وال لقاح له‪.‬‬
‫نحن ال نعرف لماذا أصيب هذا الفيروس البريء بالجنون أو ما يشبه المرض اإلندونيسي‬
‫(األموك الوف ـ ‪ )6( )AMOKLAUF‬وما زال فريق العلماء ال يملك الجواب عن هذا‬
‫السؤال الذي يحمل الطابع الفلسفي في الحقيقة لماذا انفجر مرض الزهري سابقًا ومرض اإليدز‬
‫ال حقًا وبالطبع يذهب البعض أما إلى اتهام القرود البريئة أو حتى ا لخابر السرية التي تشرف‬
‫عليها وكاالت االستخبارات العالمية بأنه كما نرى في أفالم الخيال العلمي حيث يتم استنبات‬
‫جراثيم بعينها وبظروف ما تتسرب إلى الخارج وتحدث الكارثة وبسبب ضغط الثقافة الغربية‬
‫التي تمارس اإلباحية الجنسية وانتشار ثقافة العري والتبذل األخالقي وانهيار مؤسسة العائلة‬
‫وانتشار ظاهرة اللواط إلى درجة أن تصل إلى ‪60‬ـ‪ %70‬من الناس في مدينة أمريكية تمارس‬
‫هذا الشذوذ وتعكف عليه بل وتقوم بالمظاهرات االستعراضية في تبريره وجعله عاديًا إلى‬
‫درجة أن يعلن عام ‪1973‬م في مؤتمر لعلماء النفس أن الشذوذ الجنسي واللواط لم يعد عيبًا أو‬
‫انحرافا خلقيًا أو مرضًا نفسيًا بل هو أمر عادي أقول أن كل هذا الضغط حاول وال يزال وتحت‬
‫الستار بدعوى العلم أن هذا المرض ال عالقة بالشذوذ الجنسي وانحرافاته‪.‬‬
‫لو تأملنا حدوث المرض أي مرض معروف هذه المرة لوجدنا أن سبب تفشيه هو اختالل العالقة‬
‫(الوسط ـ الجرثوم) فانهيار المناعة أو استفحال الجرثوم هو الذي يكسر هذا التوازن ويقود إلى‬
‫الكارثة ويبدو أن فيروس اإليدز ال يخرج عن هذه القاعدة‪ ،‬فكما تم تدريب (اللولبية الشاحبة)‬

‫‪59‬‬
‫سابقًا في أوساط الزنى المتتالية بالتشجيع والتدريب المستمرين إلى حد اإلفراط مكن الجرثوم‬
‫من تسليح نفسه وتقوية آثره وتعلم طرق فنية جديدة لالنتشار فأن فيروس اإليدز ال يشذ عن‬
‫هذه القاعدة وهو يعشعش في الغشاء المخاطي في أماكن الغائط بشكل مستمر لينتقل من شر‬
‫إلى شرج بعملية اللواط المستمرة التي دشنها على ما ذكر أحد رجال السيتوارت ـ ‪Stewart‬‬
‫الطاقم في خطوط الطيران الكندية الذي كان يبدل أخدانه أكثر من تبديل قمصانه وبالطبع فإن‬
‫المرض اآلن بعد انتشاره في وسط جماعة الشذوذ الجنسي ليمشي بطرق شتى إال أنه ما زال‬
‫الرفيق المالزم ألوساط االنحراف الجنسي‪.‬‬
‫وبين الحين واآلخر يتم االعتراف بأن هذا المرض ساق دليًال جديدًا على معنى العفة األخالقية‬
‫واألمانة الزوجية والترابط العائلي على رغم أنف الذين يريدون أن تشيع الفاحشة‪.‬‬
‫لقد ساقتني هذه الظاهرة إلى القيام بدراسة موسعة فكتبت كتاًب بما يزيد على ‪ 400‬صفحة‬
‫شرحت فيه قسمه الطبي ولكنني تأملته في جوانبه األخالقية والفلسفية والدرس العظيم الذي‬
‫يؤخذ منه ولفت نظري أن القرآن الكريم ذكر قصة لوط في (‪ )14‬أربعة عشر موضعًا منها‬
‫بعض األماكن وصلت إلى ما يزيد على (‪ )15‬خمس عشرة آية في حين أن الزنى ذكر في أربعة‬
‫مواضع فقط ثالثة منها مدمجة مع معان أخرى ولفت نظري أن نقطة الصراع األساسية في‬
‫قصة لوط خالفًا لقصص األنبياء األخرى كانت تصب فقط في االنحراف الجنسي فقضية هذا‬
‫النوع يعطيها القرآن كل هذا الحجم ال تفهم فقط في إطارها الزمني والموضعي ثم النهاية‬
‫المرعبة لعملية جراحية كونية كبرى باستئصال ورم اجتماعي برمته لينجو أفراد يهربون على‬
‫وجوههم وال يلتفت (حتى التفاتًا) إلى ورائه لما يحدث يجعلنا نفهم البعد األخالقي العظيم في‬
‫تفجر أمراضًا من هذا النوع‪( .‬سنريهم آياتنا في اآلفاق وف أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)‪.‬‬

‫الهوامش والمراجع‪:‬‬
‫(‪ )1‬كلمة اإليدز ‪ AIDS‬باللغة الالتينية هي مجموع أربع كلمات (‪Acauired Immune Defiency‬‬
‫‪)Syndrome‬‬
‫(‪ )2‬مرض الزهري (‪ )Syphilis‬يقال أن مصدره يعود إلى أسطورة يوناينة مفادها أن إله الشمس مارس‬
‫الفاحشة مع راعية لقطيع الخنازير أسمها (سيفلوس) فمنها جاء االسم؟!‬
‫(‪ )3‬اللولبية الشاحبة (‪ )Treponema Pallidum‬هي كائن جرثومي أعلى من فصيلة الباكتريا حيث وجد‬
‫أن العناصر األمراضية تندرج من الفيروسات وتنهي بالكائنات العليا من الفطور والحشرات‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفاعل واسرمان وباألصح فاسرمان حيث يلفظ حرف ‪ W‬األلمانية هكذا (‪ )Wassenmaun‬ولفظة‬
‫فاسر تعني باأللمانية الماء وهكذا يصبح أسم العالم (رجل الماء) وما زال ساري المفعول حتى‬
‫اليوم بشيء من العديل‪.‬‬
‫(‪ )5‬الفيروسات أو الحمات الراشحة هي تلك الكائنات الدقيقة التي ال ترى إال تحت المجهر اإللكتروني‬
‫وكبره بعشرات اآلالف من المرات وتسبب أنواعًا مختلفة من األمراض مثل الحصبة والنكاف‬
‫وشلل األطفال والرشح والتهاب الكبد واإليدز‪.‬‬
‫(‪ )6‬المرض اإلندونيسي ـ األموك الوف (‪ )Amok Lauf‬عندما يعمد أحد الناس إلى قتل مجموعة من‬
‫الناس بدون سابق إنذار فيقتحم مدرسة أو جامعة ليقتل مجموعة من أطفال أو مجموعة نساء كما‬
‫حدث في جامعة مونتريال في كندا في تلك المذبحة الجماعية التي تعرضت لها الفتيات فبل عدة‬
‫سنوات‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫االستنساخ البشري‬
‫مثلث العلم والفلسفة واألخالق‬
‫في نوفمبر ‪2001‬م حصل ما كان متوقعًا فقد تم اإلعالن في أمريكا عن الوصول وللمرة األولى‬
‫إلى خاليا بشرية بواسطة االستنساخ الجسدي‪ .‬وحسب تصريحات الطبيب اإليطالي (سيفرينو‬
‫انتينوري) فنحن نتوقع رؤية أول إنسان يأتي إلى العالم مع صيف عام ‪ 2002‬م بغير طريقة‬
‫اإلنجاب التقليدية‪ .‬هذه المرة سيتم اإلنجاب خالفًا لما حصل للكائنات منذ ‪ 530‬مليون سنة‬
‫وينفك التكاثر عن الجنس‪ .‬ولكن لماذا كان االستنساخ اإلنساني موضوعًا في غاية الخطورة؟‬
‫في الواقع عندما أعلن (إيان ويلموت) من (أدنبرة) في (اسكتلندا) عام ‪1997‬م عن مجيء‬
‫النعجة (دوللي) للعالم بالطريقة الجديدة كان إعالنًا ثوريًا في ثالث اتجاهات العالم والفلسفة‬
‫واألخالق‪ :‬أوًال بخرق قانون الطبيعة بقانون جديد‪ .‬وثانيًا أن الطريق إلى االستنساخ اإلنساني‬
‫أصبح قاب قوسين أو أدنى والمسألة ال تعدو عن كونها وقتًا‪ ،‬فطالما كان اإلنسان في كيانه‬
‫البيولوجي من عالم المخلوقات فلن يشكل شذوذا وينطبق عليه ما ينطبق على النعاج والفئران‬
‫والقطط‪ .‬وثالثًا وهو األهم والثوري أن يد اإلنسان كانت تبحث في الطبيعة فامتدت لكشف‬
‫قوانين المادة أما هذه المرة فلقد دخلت إلى اإلنسان نفسه في عمق تركيبه وسر خلقه‪ .‬كان‬
‫اإلنسان يبحث خارج نفسه فانقلب ليكتشف ذاته‪.‬‬
‫لقد كان القرن السابق قرن تفكيك كل شيء؛ من الذرة إلى المجرة‪ ،‬ومن أعقد الكائنات‬
‫إلى أبسط التراكيب العضوية‪ ،‬ومن بدء الزمن إلى مصير الكون‪ .‬وهكذا تم تفكيك الذرة إلى ما‬
‫تحت البناء الذري ليصل العلم إلى الكواركز واللبتونات‪ ،‬ووصل (أحمد زويل) إلى الفمتو ثانية‬
‫في أجزاء خيالية من تفكيك وحدات الزمن‪ ،‬وفكك (ماكس بالنك) وحدات الطاقة إلى رزمات‬
‫شبه النهائية بميكانيكا الكم‪ ،‬ووصل (آينشتاين) إلى تجميد الزمن من خالل سرعة الضوء‪.‬‬
‫ووصل (كريج فنتر) إلى غاية التشريح اإلنساني بفك الجينوم الوراثي‪ ،‬ومع الضربة الجديدة تم‬
‫الدخول إلى سر الخلق مما جعل مجلة (صورة العلم) األلمانية تسمي هذا التطور الجديد (يوم‬
‫الخلق الثامن)‪ .‬وفي التاريخ عرفنا عمر األرض أنه ‪ 4.6‬مليار سنة‪ ،‬وبدء نشأة الحياة قبل ‪3.8‬‬
‫مليار عامًا‪ ،‬وكيف انفجر الكون قبل ‪ 15‬مليار سنة في انفجار عظيم بعد أن لم يكن شيئًا‬
‫مذكورا‪ ،‬وتشكل بعد االنفجار كل ما نعرف من مادة وطاقة وزمان ومكان وقوانين‪.‬‬
‫مع اإلعالن الجديد وصلت يد العلم إلى االستنساخ اإلنساني على صورة خاليا وليس‬
‫أمامها سوى قفزة صغيرة للوصول إلى إنسان جديد مستحدث‪ ،‬كما حدث للنعجة (دوللي) التي‬
‫جاءت من ثالث أمهات بغير أب واحد‪،‬من خلية تقنص المادة الوراثية من نواتها‪ ،‬وبويضة‬
‫تفرغ من مادتها الوراثية‪ ،‬ثم يدمج الناتجان تحت شحنة كهربية موافقة وتوضع البويضة‬
‫الجديدة في رحم نعجة ثالثة فتبدأ رحلتها كما بدأنا أول خلق نعيده‪ .‬وعند هذه النقطة تم إماطة‬
‫اللثام عن أجمل أسرار البيولوجيا‪ ،‬والعلم ينمو بهذه الطريقة من المراقبة والحذف واإلضافة‬
‫والتراكم المعرفي‪ ،‬وكثير من األمور تم الوصول إليها كناتج ثانوي من مراقبة ظاهرة لشيء‬
‫مختلف‪ ،‬والفياجرا اكتشف أثرها في معالجة العنة وكانت باألصل مخصصة لمرضى القلب‪ ،‬وفي‬
‫قصة االستنساخ التي بين أيدينا تم الكشف عن الرحلة التطورية وأسرارها عند الجنين‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫إن الخلية سواء كانت ملقحة بالطريق العادي أو االستنساخي تتكاثر على شكل سلسلة‬
‫هندسية‪ 1 :‬ـ ‪ 2‬ـ ‪ 4‬ـ ‪ . 8‬فإذا أمسكنا بالخلية الملقحة العادية عند االنقسام الثالث عند الرقم ‪8‬‬
‫فيمكن المحافظة على متابعة رحلة التخلق بخلية واحدة فقط‪ ،‬وحفظ الخاليا السبع الباقية في‬
‫سائل اآلزوت في درجة حرارة ‪ 160‬تحت الصفر‪ ،‬بحيث يمكن المحافظة على هذه الخاليا السبع‬
‫المثاني في رحلة تقترب من األبدية حتى عشرة آالف سنة‪ ،‬كما يمكن استدعاءها للحياة في أي‬
‫لحظة حالما تودع الكفن الجليدي إلى ربيع الحياة ودفئها‪ .‬وهذه الطريقة من إمكانية تكرار إنتاج‬
‫نسخ أصلية من الكائن الذي خرج للحياة هي االستنساخ الجنسي‪ .‬أما رحلة التكاثر فهي تمر‬
‫طبقًا عن طبق خلقا من بعد خلق في ظلمات ثالث‪ .‬وعند اليوم السادس من التلقيح تتكور الخاليا‬
‫مشكلة كيسًا ينتأ في طرف منه مجموعة متراكبة من الخاليا في ‪ 140‬خلية‪ .‬وحتى اليوم ‪ 16‬ال‬
‫تتمايز الخاليا وتتمتع بصفتين مدهشتين‪ :‬األولى أنها خاليا خالدة‪ ،‬وأنها متشابهة وغير‬
‫متخصصة فال تعرف خلية عن خلية‪ ،‬ثم يحصل االنقالب العظيم‪ .‬حيث تبدأ وتحت تأثير سر‬
‫مغيب في التحول وكأنهم فريق مسرحي متشابه بدأ كل منه في التنكر بمالبس جديدة من ملك‬
‫وخادم وجندي‪ .‬كذلك تفعل الخاليا تحت وحي خفي ومن خالل لغة كيمياوية لم يحط الطب حتى‬
‫اليوم بأسرارها‪ .‬عند اليوم ‪ 16‬تتشكل ثالث طبقات من الخاليا‪:‬الخارجية تشكل الدماغ والجلد‬
‫والحواس والغدد العرقية‪ ،‬والطبقة الوسطى تكون العضالت والعظام‪ ،‬والطبقة السفلية تظهر‬
‫الرئتين والكبد والمعثكلة واألمعاء‪ .‬كل قد علم صالته وتسبيحه‪ .‬كل بقدر وسرعة محسوبة‬
‫وتكاثر مدروس وكل خلية تذهب لتأخذ موضعها مع بقية الخاليا في سيمفونية مدهشة‬
‫وموسيقة عذبة‪.‬‬
‫إن ميزة الخاليا قبل التميز أنها تتكاثر بدون موت ربما بسبب إشباعها بخميرة‬
‫(التيلوميراز) التي تحافظ على (الكروموسوم) من اإلهتراء‪ ،‬وعكسه يحصل مع التميز وتقدم‬
‫السن‪ ،‬فالموت هو برمجة جينية من خالل تآكل نهايات الكروموسوم في نواة الخلية‪ .‬ويعمل‬
‫الباحثون على إماطة اللثام عن هذا اإلنزيم من أجل إطالة الحياة‪.‬‬
‫والقرآن الكريم ذكر هذا التتابع في رحلة التطور من "(نطفة) في قرار مكين ثم خلقنا‬
‫النطفة (علقة) فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما" (كلها‬
‫بمترادفات سريعة من حرف الفاء) وبعدها تأتي المرحلة الحاسمة بتعبير "(ثم) أنشأناه خلقًا‬
‫آخر‪ .‬فتبارك هللا أحسن الخالقي"ن‪ .‬وهذا يعني أن رحلة الخلق التطورية (وخلقكم أطورا) تمر‬
‫في مرحلة بيولوجية (غير إنسانية) لتقفز بشكل نوعي الحقًا إلى التميز اإلنساني‪ ،‬وهو اإلشكال‬
‫الذي يقع فيه بين من يخلط بين (الحياة) العادية ومرحلة (الروح) اإلنسانية‪ .‬أو بتعبير الحديث‬
‫( ثم ينفخ فيه الروح)‪ .‬وهو ما دعا الفيلسوف األسترالي (بيتر سنجر) إلى فهم الحياة أنها حياة‬
‫الفهم اإلنسانية‪ .‬أكثر من كونها مجموعات خلوية ال تزيد عن حياة النباتات‪ ،‬وهو الذي يطلق‬
‫على حالة موت الدماغ‪ .‬هذه القفزة النوعية هي التي تميز اإلنسان بـ (النشأة اآلخرة)‪.‬‬
‫ومن أجمل ما اكتشف العلم في رحلة الخاليا الجذعية أنها تتحول على نحو ساحر‬
‫وبسر مغلق إلى ‪ 210‬نوعًا من األنسجة تضم ‪ 70‬مليون مليون خلية في نواة كل خلية ‪23‬‬
‫زوجًا من الكروموسومات تضم ثالث مليارات حمض نووي‪ ،‬ويتم أخذ نسخ (كوبي) من مائة‬
‫ألف من الجينات ويزيدون بمعدل ‪ 500‬بليون نسخة في الثانية الواحدة بدون خطأ واحد‪.‬‬
‫وتتكاثر الخاليا على نحو مذهل وبتنسيق مشترك بين كل خاليا الجسم‪ ،‬فالكل يعرف الكل‪ ،‬كما‬
‫وصف هللا المالئكة وما منا إال له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون‪ .‬فالخاليا‬
‫العصبية مثًال تتكاثر بمعدل ‪ 400‬خلية في الثانية الواحدة أو ‪ 24‬ألفا في الدقيقة لتصل في‬
‫النهاية إلى أكثر من مائة مليار خلية عصبية تعمل كما واحدا في قبضة متناسقة‪ .‬ولقد حاول‬
‫العالم (جيمس طومسون) من جامعة (فيسكونسين) لمدة ‪ 17‬عامًا اكتشاف هذه الكيمياء‬
‫السحرية التي تقلب الخاليا الجذعية المتشابهة إلى متخصصة بحيث يندفع سرب ليشكل الكبد‪،‬‬
‫أو يختار فريق تكوين عضلة القلب‪ ،‬أو تنفرد جماعة بتشكيل الدماغ‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫إنه يمكن االستفادة من نفس التقنية لشفاء العديد من األمراض؛ فتؤخذ مجموعة من‬
‫الخاليا الجذعية ثم مخاطبتها بإطعامها بمادة تشتهيها تقنعها بالمضي في إنتاج خاليا عضلة‬
‫قلبية فتؤخذ وتزرع في قلب معتل فينشط من اعتالل‪ .‬أو مريض باركنسون فيتوقف عن‬
‫االرتجاج‪ ،‬أو مريض سكري فيتحرر من العفن‪ ،‬بل وحتى يمكن للمشلولين أن ينهضوا بزرع‬
‫أماكن اإلصابة بخاليا عصبية تأخذ وظيفة الخاليا التالفة‪ .‬إنها فتح جبار في عالم الطب‬
‫والشفاء‪ .‬ولكن المشكلة أن هناك من يريد فرملة مسيرة العلم أحيانا باسم الدين باقتالع‬
‫نصوص من سياق مجراها وتوظيفها ضد العلم‪.‬‬
‫وهكذا تم االستفادة من تقنية االستنساخ الجسدي كما شرح (خوزيه سيبيلي) من معهد‬
‫(التكنولوجيا المتقدمة للخاليا ‪ )ACT‬من (ماساشوست) عندما فاجأ جمهور الصحفيين أنه‬
‫أخذ خلية كشطها من باطن فمه ثم قام بانتزاع المادة الوراثية منها ثم حقنها في بويضة مفرغة‬
‫من مادتها الوراثية سابقًا بذلك حتى (إيان ويلموت) فتجربته كانت عام ‪96‬م ولكن (الصدمة‬
‫البيولوجية) كانت للمأل حينما أخبرهم أنه كسر الحواجز بين األنواع فزرعها في بويضة بقرة‪.‬‬
‫ويذكر (عبد المحسن صالح) في كتابه (التنبؤ العلمي ومستقبل اإلنسان) ما هو أفظع من هذا‬
‫حينما دمجت المادة الوراثية لفأر مع اإلنسان وكانت النتيجة لصالح فأر الحقل حينما قرض‬
‫الكروموسومات البشرية فذاب اإلنسان وبقي الفأر‪.‬‬
‫إن البعض يظن أنه يمكن فرملة العلم بقذفه بالهرطقة والمروق كما فعلت الكنيسة من‬
‫قبل فأحدثت شرخًا لم يلتئم حتى اليوم وجندت كل النصوص واألدلة العقلية والنقلية لهرطقة‬
‫جاليلو وحرق جيوردانو برونو واختفاء ديكارت إلى الظل وأن يكتب سبينوزا كتبه بما يشبه‬
‫األحاجي‪.‬‬
‫عندما ولدت (لويزا براون) كأول طفلة أنابيب ارتج العالم وظنوا أن السموات انشقت‬
‫واليوم يركض اآلباء لتطبيق هذه الطريقة بكل توسل‪ .‬وعندما تقدم (كارل جيراسي) بمانعات‬
‫الحمل ذعر الناس من دخول آخر الزمان وأن النساء يمكن أن تمارس الحرام وهي ال تخشى‬
‫الحبل‪ ،‬واليوم تتناول النساء مانعات الحمل أكثر من حبوب األسبرين‪ .‬وهناك من يجند‬
‫النصوص فيعتبر أن االستنساخ هو تبديل لخلق هللا‪ ،‬واآلية تتكلم عن موضوع مختلف ال عالقة‬
‫له باالستنساخ من قريب أو بعيد‪ ،‬كما حارب الكثيرون سنوات طويلة ضد استخدام مكبرات‬
‫الصوت في اآلذان ألنه ليس صوتًا حيًا واليوم يرفع اآلذان في كل العالم اإلسالمي بمكبرات‬
‫الصوت‪ .‬وعندما نزل (أرمسترونج) على سطح القمر وضع الناس أصابعهم في آذانهم‬
‫واستغشوا ثيابهم وقالوا كيف يمكن أن نفهم ماذا حدث؟ وهناك من يطبق ثقب آذان األنعام عند‬
‫أهل الجاهلية أنه يشبه االستنساخ (فليبتكن آذان األنعام وليغيرن خلق هللا) وما يحدث هنا هو‬
‫تقليد مكرر لما يحدث في الطبيعة وضمن سنة هللا في خلقه‪ ،‬ومن علم النبات نعلم أن الزارع‬
‫يأخذ فسيلة من شجرة ويزرعها في مكان آخر فتكرر إنتاج نفسها‪.‬‬
‫إن اختالط اإللهي بالبشري مشكلة كبيرة وعندما يذكر القرآن أربعة نماذج من البشر‬
‫ويجعل (من يشاء عقيمًا) فيجب أن نفهم ما هي (المشيئة اإللهية)؟ وعندما ذكر القرآن أنه‬
‫(يؤتي الملك من يشاء) فيجب أن نستوعب أن الغرب اليوم و(بسنة هللا االجتماعية) ينزع‬
‫كلينتون من السلطة و يضع بوش مكانه وفق االنتخابات الشعبية‪ .‬فهكذا يجب أن نفهم حقل‬
‫اإلرادة اإللهية وحقل العمل اإلنساني‪ .‬ونحن عندما نسخر قوانين الوجود في مسارات جديدة‬
‫نقوم بالوظيفة التي منحنا هللا أصًال أي الوكالة عنه باالستخالف في األرض (وإذ قال ربك‬
‫للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة)‪ .‬ويجب أن نستوعب أن الكون لم ينته خلقه بعد (يزيد في‬
‫الخلق ما يشاء) وأن االستنساخ هو في إطار (ويخلق ماال تعلمون)‪ .‬وعندما يطير الحديد في‬
‫الهواء فليس خرقًا لقانون الجاذبية بل تطبيق لقانون مركب جديد من الجاذبية والطيران وهكذا‬
‫يحلق الطير والطيارة في الهواء (والطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إال الرحمن)‪.‬‬
‫والسؤال المحوري أن نعلم ما هي طبيعة العلم؟ إن العلم يتعامل مع الوجود وفق تسخير‬
‫سنن هللا لمن يعلم سواء كان مؤمنا أم ملحدا وكال نمد هؤالء وهؤالء من عطاء ربك وما كان‬

‫‪63‬‬
‫عطاء ربك محظورا‪ .‬وهو ذو طبيعة تقدمية ال يعرف التراجع أو التعب‪ ،‬بل يقوم على الشغف‬
‫والعشق‪ ،‬وال يقدم استقالته قط وال يعرف الشيخوخة فحياته في شباب دائم‪ .‬ويحكمه ناظم‬
‫أخالقي داخلي بآلية خاصة يصحح حركته على الدوام‪ ،‬من خالل قانون أن الزبد يذهب جفاء‬
‫وما ينفع الناس يمكث في األرض‪ .‬وإذا حورب العلم في أرض فإنه يهرب منه‪ ،‬ولكنه يسلك‬
‫سبل ربه ذلال قنوات وأنفاق تحت األرض حتى ينبجس لجينا رقراقا في تربة أخرى ذات‬
‫استعداد‪ .‬وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫حوار الطب والفلسفة‬

‫عندما شكت زوجة الطبيب من الصداع المستمر أشار عليها بتناول بعض المسكنات ‪ ،‬واألطباء‬
‫في العادة أقل الناس اهتمامًا بعائالتهم صحيًا ‪ ،‬وإذا أصبحوا مرضى كانوا عمومًا من الن‹‹وع غ‹‹ير‬
‫المريح ‪ ،‬وإذا أصيب أحدهم بنوبة سعال ظن أنه سرطان رئ‹‹وي ‪ ،‬أو إذا ع‹‹انى من عس‹‹رة هض‹‹م‬
‫شك على الفور بقرحة متقدمة أو ورم مستفحل ‪ ،‬فدماغهم يجري بسرعة نحو أشد األمراض فتك‹‹ًا‬
‫وسوءًا ‪ ،‬وأكثرها قتامة وشؤمًا ‪ ،‬والغرابة فهم ينامون على موت دم‹‹اغ في العناي‹‹ة المش‹‹ددة ‪ ،‬أو‬
‫ينهضون في ظلمات اللي‹‹ل على كارث‹‹ة جراحي‹‹ة من وراء ح‹‹ادث م‹‹روري ‪ ،‬أو طلق‹ة ( خ‹‹ردق )‬
‫ثقبت العين ودمرت ال‹دماغ وق‹‹ذفت بص‹‹احبها إلى س‹كرات الم‹وت ‪ ،‬أو يس‹تيقظون على م‹ريض‬
‫يحشرج من احتشاء قلب ؟!! والذي حدث م‹ع زوج‹ة الط‹بيب أنه‹ا اس‹تمرت تش‹كو من الص‹‹داع‬
‫الذي يكاد يفج‹‹ر رأس‹‹ها ‪ ،‬ثم الح‹ظ الج‹‹راح على زوجت‹‹ه أنه‹‹ا ب‹‹دأت تتغ‹‹ير في تص‹‹رفاتها ‪ ،‬فلق‹د‬
‫أصبحت أكثر عدواني‹‹ة فهي تغض‹‹ب م‹‹ع ك‹‹ل تص‹‹رف ‪ ،‬كم‹‹ا اتس‹‹مت تص‹‹رفاتها بالغراب‹‹ة َفَطب‹‹ق‬
‫( السلطة ) كان مترعًا بالملح وبشكل يومي ‪ ،‬فصرخ الزوج في وجهها ‪ :‬الشك أنك جننت وهناك‬
‫شيء ما في رأسك ؟؟ وعندما استلقت الزوجة تحت جهاز التص‹‹وير الطبقي المح‹‹وري ( ‪CT -‬‬
‫‪ ) SCAN‬أظهرت الصورة ورمًا متقدمًا في الفص الدماغي الجبهي المسؤول عن الشخص‹‹ية ‪،‬‬
‫الذي كلفها فيما بعد شلل األطراف األربعة ‪.‬‬

‫فك لغز الجينات البشرية ( مشروع ‪ ) HGP‬ومغزاه التاريخي‬


‫والسؤال ماهو السبب عى وجه التحديد الذي كان خلف التحول السرطاني عن‹‹د ه‹‹ذه الس‹‹يدة‬
‫الشابة ؟ إننا كأطباء النملك الرد على هذا النقط‹‹ة !! وه‹‹ذا يفتح الب‹‹اب على فلس‹‹فة الطب ‪ ،‬فلم‹‹اذا‬
‫تتم‹‹رد الخالي‹‹ا على النظ‹‹ام الع‹‹ام ‪ ،‬فتعلن ث‹‹ورة على التناس‹‹ق الخل‹‹وي في الب‹‹دن ‪ ،‬ولم‹‹اذا تنفج‹‹ر‬
‫أمراٌض بعينها بين الحين واآلخر على النحو الذي عرض في الفيلم األخير ( االنفج‹‹ار الفيروس‹‹ي‬
‫_ ‪ )1() OUTBREAK‬ب‹‹ل م‹‹اهي حكم‹‹ة الم‹‹رض والمعان‹‹اة في ه‹‹ذا الوج‹‹ود ؟!! لم‹‹اذا كن‹‹ا‬
‫مط‹‹وقين ب‹‹المرض والعج‹‹ز والش‹‹يخوخة ؟؟!! ‪ .‬واآلن وال‹‹ذي يجع‹‹ل الخالي‹‹ا تغ‹‹ير س‹‹يرتها في‬
‫السرطان فتتحول من خلية عادية إلى خلية ورمية حمي‹‹دة أو خبيث‹‹ة ؟! اليوج‹‹د عن‹‹د الطب إجاب‹‹ة‬
‫واضحة ومحددة ‪ ،‬إذ لو كانت االجاب‹ة موج‹ودة لس‹ار االتج‹اه في طري‹ق العالج ‪ ،‬وه‹ذا التح‹دي‬
‫مض‹‹اعف الوج‹ه فاليع‹ني قه‹ر بعض األم‹راض أن المعرك‹ة انتهت معه‹ا إلى األب‹د ‪ ،‬ب‹ل هن‹اك‬
‫إمكانية أن تغير طبيعتها فتقوم بهجمة جديدة كما هو الحال اآلن مع بعض الزمر الجرثومي‹‹ة ال‹‹تي‬
‫كانت طيعة فيما سبق ‪ ،‬فأصبحت جسورة معندة تعيث في البدن الفساد ‪ ،‬والطب يتفاءل الي‹‹وم أن‹‹ه‬
‫بعد مشروع ( فك لغز الجينات البشرية _ ‪ )HUMAN GENOM PROJECT‬أن‹‹ه ق‹‹د‬
‫يصل إلى االجابة على بعض األسئلة المفتوحة حتى اآلن ‪ ،‬ونظرًا إلن الكروموسومات الموج‹‹ودة‬
‫داخل نواة الخلية التي يبلغ عددها ‪ 23‬زوجًا تحوي حوالي ثالثة مليارات من الجينات (‪)2‬فإن ف‹‹ك‬
‫الشيفرة قد يتطلب مسيرة عقد أو عقدين من السنوات القادمة ‪ ،‬والعمل اليوم ق‹‹ائم على س‹‹اق وق‹‹دم‬
‫في هذا المشروع الذي هو أعظم من مشروع ( ناسا ) الرتي‹‹اد الفض‹‹اء ‪ ،‬وبفهم الش‹‹يفرة الوراثي‹‹ة‬
‫سوف نشق الطريق الشياء في غاية الخطورة أبرزها المسؤولية الفعلي‹‹ة للجين‹‹ات ووظائفه‹‹ا على‬
‫وجه الدقة ‪ ،‬بل وربما أيضًا السر خلف حياتنا القص‹‹يرة ‪ ،‬ففي ال‹‹وقت ال‹‹ذي ينض‹‹ج في‹‹ه االنس‹‹ان‬
‫تتخطفه يد الموت ‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫هل ي‹اترى أن الجين‹ات ُب رمجت بحيث أنه‹ا تحق‹ق انقس‹امًا خلوي‹ًا مح‹دودًا يق‹ف بع‹د ع‹دد‬
‫معين ؟؟ ثم كيف يعمل االستقالب في الجسم ‪ ،‬فبدننا ينمو وينه‹‹دم في اللحظ‹‹ة الواح‹‹دة ‪ ،‬وتم‹‹وت‬
‫الماليين من الخالي‹‹ا م‹‹ع ك‹‹ل ثاني‹‹ة ‪ ،‬ولكن الجس‹‹م يق‹‹وم بعملي‹‹ة ال‹‹ترميم ال‹‹تي اليخطؤه‹‹ا ‪ ،‬إال أن‬
‫محصلة عملية الهدم _ البناء تمشي مع الزمن ضد الجسم بحيث تسلمنا هذه العملية في النهاية إلى‬
‫يد الموت ‪.‬‬
‫إن الجدلية في هذا الحقل هو أن الكشف العلمي عن أمر يقود ليس إلى تقلص المجهول بل‬
‫زيادته وبشكل تسارعي ‪ ،‬فنحن عرفنا في مرحلة أن الدم س‹‹ائل متج‹‹انس أحم‹‹ر الل‹‹ون يمش‹‹ي في‬
‫العروق ‪ ،‬دون أن نتبين لماذا كان الدم أحم‹‹رًا ؟ ب‹‹ل لم‹‹اذا ك‹‹ان الحليب أبيض‹ًا والس‹‹ائل الم‹‹راري‬
‫ذهبيٍا والبول أصفرًا والغائط بني اللون ؟ ثم اكتشفنا أنه يحوي كائنات محددة هي الكري‹ات الحم‹ر‬
‫والبيض والصفيحات الدموية ‪ ،‬وحتى الكري‹‹ات البيض‹‹اء فص‹‹ائل وأن‹‹واع ‪ ،‬ثم اكتش‹‹فنا أن الكري‹‹ة‬
‫الحمراء التي تشبه رغيف الخبز ‪ ،‬تقوم برحلة في مسارات الب‹دن تبل‹غ ‪ 1500‬دورة يومي‹ًا ولم‹دة‬
‫أربعة أشهر ( ‪ 712‬يومًا ) تقطع فيها مايشبه رحلة ماجالن في دوران الكرة األرضية ‪ ،‬ويتخرب‬
‫يوميًا ‪ 240‬مليار كرية ؛ ليتجدد بدًال عنها نفس الرقم ‪ ،‬بل وقد تصعد الطاقة االنتاجية الى ‪8 _ 7‬‬
‫أض‹‹عاف في األزم‹‹ات (‪ )3‬ثم اكتش‹‹فنا أن ت‹‹ركيب الكري‹‹ة الحم‹‹راء يش‹‹به الخرس‹‹انات المس‹‹لحة ؛‬
‫فالهيموغلوبين ( البناء البروتي‹ني ال‹داخلي ) مس‹لح ب‹ذرة حدي‹د ؟! ثم اكتش‹فنا أن ال‹دم يق‹وم على‬
‫توازن دقيق بين التخثر والتميع في آليات رهيبة لحفظ توازن الجسم ‪ ،‬ضمن مجموعة ضخمة من‬
‫آليات التوازن ‪ ،‬كما في التوازن القلوي _ الحامضي ‪ ،‬والتوازن السكري والهورموني والمع‹‹دني‬
‫والحروري والمائي و( التصنيع واالستهالك ) ‪ .‬وعند دراسة العوام‹‹ل ال‹‹تي ت‹‹ؤثر في تخ‹‹ثر ال‹‹دم‬
‫تالحقت االكتشافات وتم إماطة اللثام عن عوامل تجاوزت العشرة عددًا ‪ ،‬وهك‹‹ذا فم‹‹ع ك‹‹ل دخ‹‹ول‬
‫إلى مستوى جديد نرى أن الفضاء يتسع بشكل اليخطر على قلب بشر ‪ ،‬فم‹‹ع ك‹‹ل حرك‹‹ة اكتش‹‹اف‬
‫نكتشف جهلنا بدون حدود ‪ ،‬وإن كنا نزداد علما ‪ ،‬فهذه هي جدلية الوجود والقانون المسيطر‬

‫‪.‬االنسان موكب من االشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة‪:‬‬


‫تحت ضغط هذه األفك‹ار س‹طر ج‹راح األوعي‹ة المش‹هور ( الكس‹يس كاري‹ل ) تأمالت‹ه في‬
‫كتابه ( االنسان ذلك المجهول ) ‪ (( :‬هناك تف‹‹وت عجيب بين عل‹‹وم الجم‹‹اد وعل‹‹وم الحي‹‹اة فعل‹‹وم‬
‫الفلك والميكانيكا والطبيعة تقوم على آراء يمكن التعبير عنها بسداد وفصاحة باللغة الحسابية ‪ ،‬بيد‬
‫أن موقف علوم الحياة يختلف عن ذلك كل االختالف حتى ليبدو كأن أولئك ال‹ذين يدرس‹ون الحي‹اة‬
‫قد ضلوا طريقهم في غاب متشابك األش‹‹جار أو أنهم في قلب دغ‹ل س‹‹حري التك‹‹ف أش‹‹جاره ال‹‹تي‬
‫الع‹‹داد له‹‹ا عن تغي‹‹ير أماكنه‹‹ا وأحجامه‹‹ا ‪ ،‬فهم يرزح‹‹ون تحت عبء أك‹‹داس من الحق‹‹ائق ال‹‹تي‬
‫يستطيعون أن يصفوها ولكنهم يعجزون عن تعريفها أو تحديدها في معادالت جبرية ))(‪)4‬‬
‫وإذا أمكن شق الطريق في العلوم المادية من خالل نموذج ( فرانس‹‹يس بيك‹‹ون وديك‹‹ارت )‬
‫للسيطرة على الطبيعة ‪ ،‬فإن البيولوجيا تمثل تح‹‹ديًا بالغ‹ًا ‪ ،‬في حين يمث‹‹ل علم النفس قف‹‹زة نوعي‹‹ة‬
‫وبعدًا جديدًا ‪ ،‬يقول كاريل ( وبتعلمنا سر تركيب المادة وخواصها استطعنا الظفر بالس‹‹يادة تقريب ‹ًا‬
‫على كل شيء موجود على ظهر البسيطة فيما عدا انفسنا ) (‪ ، )5‬وعن‹دما يمض‹ي كاري‹ل لوض‹ع‬
‫تعريف عن االنسان فإنه يقول ( االنسان الحقيقي اليزيد عن كونه رس‹‹ما بياني‹‹ا يتك‹‹ون من رس‹‹وم‬
‫بيانية أخرى أنشأتها فنون ك‹‹ل علم فه‹‹و في ال‹‹وقت نفس‹‹ه ( الجث‹‹ة ) ال‹‹تي ش‹‹رحها ال‹‹بيولوجيون و‬
‫( الش‹‹عور ) ال‹‹ذي الحظ‹‹ه علم‹‹اء النفس وكب‹‹ار معلمي الحي‹‹اة الروحي‹‹ة ‪ ،‬و ( الشخص‹‹ية ) ال‹‹تي‬
‫أظهره‹‹ا التأم‹‹ل الب‹‹اطني لك‹‹ل انس‹‹ان أنه‹‹ا كامن‹‹ة في أعم‹‹اق ذات‹‹ه ‪ ،‬وه‹‹و أي االنس‹‹ان ( الم‹‹واد‬
‫الكيمياوي‹‹ة ) ال‹‹تي تؤل‹‹ف االنس‹‹جة وأخالط أجس‹‹امنا وه‹‹و تل‹‹ك ( الجمه‹‹رة المدهش‹‹ة من الخالي‹‹ا‬
‫والعصارات المغذية التي درس الفيزيولوجيون قوانينها العضوية )(‪ )6‬ويصل كاري‹‹ل في النهاي‹‹ة‬
‫إلى تقرير هذه الواقعة ( وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهودًا جبارا لكي يعرف نفس‹‹ه ولكن‬
‫بالرغم من أننا نملك كنزا من المالحظة التي كدسها العلم‹‹اء والفالس‹‹فة والش‹‹عراء وكب‹‹ار العلم‹‹اء‬

‫‪66‬‬
‫الروحانيين في جميع األزم‹ان فإنن‹ا نس‹تطيع أن نفهم ج‹وانب معين‹ة فق‹ط من أنفس‹نا ‪ ،‬أنن‹ا النفهم‬
‫االنسان ككل إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة وحتى هذه األجزاء ابتدعتها وسائلنا فكل‬
‫واحد منا مكون من موكب من األشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة )(‪. )7‬‬

‫أخطاء قاتلة تترصد المضي في التخصص المنفرد ‪:‬‬


‫وإذا كانت البيولوجيا بمثل هذا التعقيد فإن التخصص والش‹‹ك يفي‹‹د في اكتش‹‹اف األعم‹‹اق ‪،‬‬
‫ولكن مشكلته أنه يضيع حاسة االتجاه التاريخي‹‹ة فالتخص‹‹ص الط‹‹بي س‹‹الح ذو ح‹‹دين ‪ ،‬ب‹‹ل ح‹‹تى‬
‫تقسيم المعارف إلى درجة فقد الصلة ببعضها ‪ ،‬فيحصل نوع من ( التشريح _ ‪) ANATOMY‬‬
‫المعرفي لجملة المعارف ‪ ،‬والتشريح في الواقع هو عمل على جثة ميتة ‪ ،‬أو رؤية البعوضة تحت‬
‫المجه‹‹ر المك‹‹بر حيث ن‹‹رى تركيبه‹‹ا وأجهزته‹‹ا ‪ ،‬ولكنن‹‹ا لن ن‹‹رى مطلق‹‹ا كي‹‹ف تحف‹‹ر في جل‹‹دنا‬
‫بنصلها ؟ وكيف تمص الدم وكيف نصاب بعد دقائق بنوبة فظيعة من جك الجلد ؟!!‬
‫إن التخصص الطبي ينمي المعارف ويسرعها في اتج‹‹اه عمقي ش‹‹اقولي ولكن في‹‹ه ثغرت‹‹ان‬
‫قاتلتان ‪ ،‬األولى ‪ :‬خطورة االستغراق االختصاصي حيث يمثل نزوًال في نفق يشبه ( قمع الزيت )‬
‫كبير المدخل والفوهة ‪ ،‬ولكنه يمشي إلى العمق بشكل لولبي يزداد ض‹‹يقه بش‹‹كل مت‹‹درج ‪ ،‬ليص‹‹ل‬
‫في النهاية إلى ثقب أعمى ‪ ،‬مما قد يحيل العلم _ أي علم _ في النهاي‹‹ة إلى االمتص‹‹اص واالن‹‹دثار‬
‫داخل هذا الثقب األسود ‪ ،‬فيفقد صلته مع باقي الفروع العلمية ‪ ،‬أي االنفكاك عن الواقع والحياة ‪.‬‬
‫إن العضوية تعلمنا الدرس الكبير في تفاهم األعضاء وتجانس الخاليا ‪ ،‬فالجهاز الهضمي عن‹‹دما‬
‫يضطرب يترك بصماته في اضطراب نظام السوائل واألمالح في الجسم ‪ ،‬وينتهي بجفاف الفم أو‬
‫ظهور البثور والقرحات في الفم ويتكلل كل هذا بالصداع المزعج ‪ ،‬فاألعض‹‹اء التتص‹‹رف بش‹‹كل‬
‫منفرد بل بتفاعل وثيق بين بعضها بعضا ‪ ،‬بحيث أن كل خلية أو جهاز يعمل في مس‹‹توى وظيفت‹‹ه‬
‫ولكن بش‹‹‹كل م‹‹‹ؤثر ومت‹‹‹أثر ‪ ،‬وك‹‹‹ذلك أم‹‹‹راض الجس‹‹‹م فاليمكن فهم ( ال‹‹‹ورم ال‹‹‹دموي _‬
‫‪ ) ANEURYSM‬بمعزل عن وظائف الكبد ‪ ،‬وال ارتفاع الضغط بغ‹‹ير معرف‹‹ة وض‹‹ع الكلي‹‹ة ‪،‬‬
‫والح‹‹دوث ال‹‹دمامل وك‹‹ثرة األك‹‹ل م‹‹ع انهي‹‹ار وزن الجس‹‹م المتواص‹‹ل ب‹‹دون االنتب‹‹اه إلى الترب‹‹ة‬
‫السكرية ‪ ،‬فالجسم ومعه النفس تعم‹‹ل كوح‹‹دة متكامل‹‹ة ‪ ،‬وه‹‹ذا يع‹‹ني أن العلم يجب أن يعم‹‹ل مث‹‹ل‬
‫حياك‹‹ة ( الك‹‹نزة أو القم‹‹اش ) أي ب‹‹الطول والع‹‹رض ‪ ،‬ب‹‹العمق والس‹‹طح ‪ ،‬بالمس‹‹توى الش‹‹اقولي‬
‫واألفقي ‪ .‬وهذه النقطة هامة في تعامل األطباء بين بعضهم بعض‹‹ا ‪ ،‬فيعام‹‹ل الجس‹‹م البش‹‹ري ليس‬
‫كمساحة مجردة من الجلد ‪ ،‬أو عظم منفرد ‪ ،‬أو عضلة تائهة ‪ ،‬أو جهاز هضم مستقل معل‹‹ق في‬
‫الهواء ؟! ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬تفكك شبكة المعرفة االنس‹‹انية ‪ ،‬فالبيولوجي‹‹ا هي حقيق‹‹ة ممزوج‹‹ة من مجموع‹‹ة حق‹‹ائق‬
‫متشابكة ‪ ،‬وطي‹‹ف ع‹‹ريض من الكيان‹‹ات المتفرق‹‹ة ‪ ،‬وخلفي‹‹ة االنس‹‹ان ليس‹‹ت جه‹‹ازا عض‹‹ليا ‪ ،‬أو‬
‫مجموعة من األربطة واألوتار ‪ ،‬أو شريانا ينبض ووريدا يضخ الدم ‪ ،‬بل هو كي‹ان انس‹اني ‪ ،‬ه‹و‬
‫شبكة ثقافية متنوعة ومعق‹دة ؛ بين كون‹ه رب عائل‹ة ومهن‹ة موظ‹ف وذو اهتمام‹ات رياض‹ية أو‬
‫محصور في مناخ جغرافي محدود وبيئ‹‹ة ثقافي‹‹ة بعينه‹‹ا ‪ ،‬فكم‹‹ا يجب أن نلم ونش‹‹د ون‹‹وتر الش‹‹بكة‬
‫الطبية بالربط بين فروعها للوص‹‹ول إلى ت‹راكم مع‹رفي والوص‹‹ول إلى ( نظ‹ام وح‹دة المعرف‹‹ة )‬
‫وفهم أفض‹‹ل للبيولوجي‹‹ا ‪ ،‬ك‹‹ذلك يجب مس‹‹ح االنس‹‹ان بين البيولوجي‹‹ا والس‹‹يكولوجيا والت‹‹اريخ‬
‫والجغرافيا والعرق واللون والجنس والدين والثقافة للوصول إلى تعام‹‹ل أفض‹‹ل مع‹‹ه ‪ ،‬والعلم ه‹‹و‬
‫ذلك التوافق بين النظام العقلي والنظام الك‹وني ‪ ،‬ويش‹كل العلم كم‹ًا ت‹راكمي ليق‹ود في النهاي‹ة إلى‬
‫وحدة المعرفة ‪ ،‬التي سأفرد لها بحثا مستقًال في مقالة خاصة ‪ .‬يقول الط‹‹بيب المفك‹‹ر محم‹‹د كام‹‹ل‬
‫حسين في كتابه ( وحدة المعرفة ) ‪ (( :‬في الكون نظام وفي العق‹‹ل نظ‹‹ام ‪ ،‬والمعرف‹‹ة هي مطابق‹‹ة‬
‫هذين النظامين ‪ ،‬والنظامان من معدن واحد ‪ ،‬والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه ‪ ،‬ول‹‹ولم‬
‫يكونا متشابهين الستحالت المعرفة ‪ ،‬ولولم تكن المطابقة بينهما ممكنة م‹‹اعلم أح‹‹د ش‹‹يئًا ‪ ،‬وتش‹‹ابه‬
‫النظامين الكوني والعقلي ليس فرضًا يحتاج إلى برهان بل هو جوهر إمكان المعرفة ‪ ،‬ومن أنكره‬

‫‪67‬‬
‫فقد أنكر المعرفة كلها ‪ ،‬وهذا االنكار خطأ يدل عليه ماحقق العق‹‹ل من ق‹‹درٍة على التحكم في كث‹‹ير‬
‫من األمور الطبيعية ‪ ،‬ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك لو أن النظامين كانا مختلفين )(‪)8‬‬
‫فلسفة العلوم ( االبستمولوجيا ‪: ) EPISTEMOLOGY‬‬
‫شاعت هذه الكلم‹‹ة ( االبس‹‹تمولوجيا ) في الف‹‹ترة األخ‹‹يرة ومص‹‹درها اللغ‹‹ة اليوناني‹‹ة وهي‬
‫مكونة من كلمتين ( ‪ )EPISTEME‬ومعناه علم و ( ‪ ) LOGOS‬ومعناها علم أو نقد(‪ )9‬فتكون‬
‫اللفظة السابقة تعني علم العلوم أو فلس‹‹فة العلم ‪ ،‬وباس‹‹تخدامنا له‹‹ذا المص‹‹طلح نري‹‹د أن نص‹‹ل إلى‬
‫تقرير قضية العلم وخلفيته‹ا الفلس‹فية واالض‹اءات الجانبي‹ة في ه‹ذا الموض‹‹وع بم‹ا في‹ه مص‹‹طلح‬
‫أسلمة المعارف التي يعكف عليه بعض الدارسين في بعض المعاهد االسالمية ‪.‬‬
‫إن العلم اليفهم بدون إطاره الفلسفي والتاريخي ‪ ،‬والفلس‹‹فة هي تل‹‹ك الش‹‹جرة الض‹‹خمة ال‹‹تي‬
‫تؤلف الميتافيزيقيا فيه‹ا الج‹ذور العميق‹ة الض‹‹اربة في الترب‹ة ‪ ،‬والعل‹وم المتفرق‹‹ة بم‹ا فيه‹ا الطب‬
‫فروعها الممتدة في السماء ‪ ،‬كما أن هناك عالقة جدلي‹‹ة بين العلم والفلس‹‹فة ‪ ،‬ف‹‹العلم يق‹‹وم بقف‹‹زات‬
‫نوعية من حين آلخر منشئًا قطيعًة معرفية ( ابستمولوجية ) مع المستويات العلمي‹‹ة الس‹‹ابقة ‪ ،‬كم‹‹ا‬
‫حدث مع فكر ( ابن رشد) والفلسفة اليونانية ؛ حيث تم الدخول إلى فضاء معرفي جديد يقوم على‬
‫منظومة الشك _ اليقين ‪ ،‬والتجربة _ االستقراء ‪ ،‬وكذلك الحال في فلسفة ( ديكارت ) التي دشنت‬
‫الدخول إلى عصر عقلي جديد ‪ ،‬ينطبق هذا أيضا على فكر ( كانت ) الذي أرس‹ى في كتاب‹ه ( نق‹د‬
‫العقل الخالص ) بناء الميتافيزيقيا على الض‹‹رورة األخالقي‹‹ة ‪ ،‬كم‹‹ا ينطب‹‹ق على ( غ‹‹اليلو ) ال‹‹ذي‬
‫رأى أن الوجود له لغة خاصة به هي لغة الرياضيات وفي اللحظ‹ة ال‹تي نف‹ك رموزه‹ا نص‹ل إلى‬
‫الحقيقة النهائية فيها ‪ ،‬وأم‹‹ا ( اس‹‹حق ني‹‹وتن ) فق‹‹د اس‹‹تطاع في لحظ‹‹ة تجلي روحي‹‹ة أن يقبس من‬
‫روح الكون قبسا يسطر في‹‹ه كتاب‹‹ه الموس‹‹وم ( األس‹‹س الرياض‹‹ية للفلس‹‹فة الطبيعي‹‹ة ) حيث ح‹‹رر‬
‫قوانينه المشهورة الثالث‹‹ة وب‹‹نى نظام‹‹ا في غاي‹‹ة التناس‹‹ق واالنس‹‹جام ‪ ،‬واس‹‹تطاع اكتش‹‹اف ق‹‹انون‬
‫الجاذبية وكان ذلك عام ‪1687‬م في الوقت الذي كان األتراك العثمانيون ينهزمون أمام أسوار فيينا‬
‫‪ .‬وبقيت هذه المنظومة المعرفية حتى اهتزت األرض من تحتها مرة اخرى ‪ ،‬وكان ذلك من خالل‬
‫التراكم المعرفي حيث تولدت النظرية النسبية وميكانيكا الكم ‪ ،‬فتم إزالة مفاهيم ( كانت ) بالزم‹‹ان‬
‫والمكان القبلي ‪ ،‬وإزالة المكان والزمان المطلقين عند ني‹‹وتن ‪ ،‬وتم دمج الزم‹‹ان بالمك‹‹ان فأص‹‹بح‬
‫الزمان البعد الرابع ‪ ،‬والطاقة بالمادة فأصبحا وجهان لعملة واحدة ‪ .‬وأما ميكانيكا الكم فقد ش‹‹طبت‬
‫مفهوم ( الحقيقة الموضوعية ) و( الحتمية ) في القوانين ‪ ،‬تل‹‹ك ال‹‹تي وص‹‹لت منزل‹‹ة التق‹‹ديس في‬
‫القرن التاسع عشر للميالد ‪ ،‬من خالل مبدأ االرتياب الذي جَّاله الفيزيائي هايزنبرغ ‪.‬‬

‫العالقة الجدلية بين العلم والفلسفة ‪:‬‬


‫العلم الينم‹‹و إال في إط‹‹ار خ‹‹اص ‪ ،‬وفي من‹‹اٍخ عقلي مناس‹‹ب تس‹‹تنبت ب‹‹ذوره بك‹‹ل رحم‹‹ة‬
‫وحب ‪ ،‬وهذا االطار الفلسفي هو الذي يشكل مرجعية العلم في أول الطريق ؛ ليتح‹‹ول م‹‹ع ال‹‹وقت‬
‫الى ( االيديولوجيا ) التي تخنق تقدمه ‪ ،‬مما يحت‹‹اج إلى ( ابس‹‹تمولوجيا ) جدي‹‹دة مح‹‹ررة ‪ ،‬وهك‹‹ذا‬
‫يمشي نظم التاريخ ‪ ،‬ومن الملفت للنظر أن القوى التي تفج‹‹ر الطاق‹‹ات األولى تتح‹‹ول م‹‹ع ال‹‹زمن‬
‫الى قوى معيقة للتقدم ‪ ،‬وهذه كانت مشكلة االنبياء مع أقوامهم ‪ ،‬فهم كانوا يصدقون األنبي‹اء ال‹ذين‬
‫سبقوهم ‪ ،‬ولكنهم كانوا يكِّذ بون معاصريهم ‪.‬‬
‫سيطر الفكر اليوناني لح‹والي س‹بعة عش‹ر قرن‹ا وتح‹ول م‹ع ال‹وقت إلى ط‹اغوت رهيب ‪،‬‬
‫وهك‹‹ذا أح‹‹رق أن‹‹اس من أج‹‹ل آراء بطليم‹‹وس في النظ‹‹ام الشمس‹‹ي م‹‹ع ك‹‹ل مظ‹‹اهر التص‹‹دع في‬
‫النظرية وعدم القدرة على التفسير مع الوقت ‪ ،‬وسيطرت فك‹‹رة ( االت‹‹وم _ ‪ ) ATOM‬أي ال‹‹ذرة‬
‫أنها الجزء الذي اليتجزأ ‪ ،‬حتى أنهت هذه العقيدة الوثوقية تجربة آالموجوردو في تفج‹‹ير الس‹‹الح‬
‫النووي ‪ ،‬وكان االنعطاف الت‹‹اريخي على ي‹‹د رواد الفك‹‹ر في الع‹‹الم االس‹‹المي ‪ ،‬فهم ال‹‹ذين أنه‹‹وا‬
‫سيطرة المنطق ( الصوري ) لُيدفع العقل باالتجاه الق‹‹رآني ‪ ،‬أي تأم‹‹ل الواق‹‹ع ( أفال ينظ‹‹رون إلى‬
‫األبل كيف خلقت ) وهكذا ولد مب‹‹دأ ( التجرب‹‹ة واالس‹‹تقراء ) فك‹‹ان العق‹‹ل االس‹‹المي يلعب ال‹‹دور‬

‫‪68‬‬
‫المحوري المفصلي في نقلة العقل االنساني من المرحلة ( االس‹‹طورية ) إلى المرحل‹‹ة ( العلمي‹‹ة )‬
‫خالفا لما ذهبت اليه الوضعية على يد ( أوجست كومت ) ثم الوضعية المنطقية بعد ذلك على يد (‬
‫إرنس‹‹ت م‹‹اخ ) النمس‹‹اوي ‪ ،‬الل‹‹ذين رأي‹‹ا تط‹‹ور العق‹‹ل االنس‹‹اني يتنق‹‹ل من المرحل‹‹ة البدائي‹‹ة إلى‬
‫المرحلة الميتافيزيقية الدينية ليصل إلى المرحلة العلمي‹‹ة الوض‹‹عية ‪ ،‬ص‹‹حيح أن ك‹‹ومت انتب‹‹ه الى‬
‫القوانين التي تحكم المجتمع ‪ ،‬وبذلك يكون قد تابع مسيرة ابن خلدون في ادراك قوانين المجتمعات‬
‫‪ ،‬ولكنه لم ينتبه وغفل عن التجلي االسالمي في إطالق الشرارة العقلية الكبرى عبر كل الت‹‹اريخ ‪،‬‬
‫وهذه النقلة القرآنية واض‹حة ج‹دًا من النس‹ق الق‹رآني (‪ )10‬ال‹ذي ألغى فك‹رتي ‪ :‬المعج‹زة ك‹دليل‬
‫مادي للوحي في الوقت الذي كررها بشكل واضح في عشرات األمكن‹ة لألنبي‹اء اآلخ‹رين ‪ ،‬وه‹ذا‬
‫يشي بتدشين عصر جديد ‪ ،‬وكذلك فكرة ختم النبوة ‪ ،‬فالقرآن بهذه الكيفية توسط عص‹‹رين وفص‹‹ل‬
‫بين مرحلتين ‪ ،‬فهو من العالم القديم ولكن‹‹ه بش‹‹ر بمول‹‹د العق‹ل االس‹‹تداللي ودعى الى تثبيت‹‹ه كون‹‹ه‬
‫أمرا كسبيا ‪ ،‬وهذا يفيدنا أيضًا بأن نفهم القرآن بأنه ليس كتاب فيزياء وكيمياء ورياضيات وطب ‪،‬‬
‫بل هو ذلك الكتاب الذي يولد المناخ العقلي الذي يف‹رز ك‹ل ه‹ذه العل‹وم ‪ ،‬ونفهم من ه‹ذا أيض‹ًا أن‬
‫عمليات اللهاث العتصار اآليات الستخراج الكشوفات العلمية منها منهج خائب في عدة مستويات‬
‫‪ ،‬فسرعة الضوء كشفها ( فيزو ) بوس‹‹ائط فيزيائي‹‹ة بحت‹‹ة ‪ ،‬وب‹‹دون نص يرج‹‹ع الي‹‹ه ‪ ،‬في ال‹‹وقت‬
‫الذي يسعى البعض لمحاولة اكتشافه في بعض اآليات ‪ ،‬وض‹‹من ه‹ذا المن‹اخ الص‹‹حي نبت ق‹‹ديما‬
‫العلم االسالمي ‪ ،‬ويمكن أن ينبت مرة أخرى ضمن نفس الشروط ‪ ،‬وبنفس هذه ال‹‹دورة التاريخي‹‹ة‬
‫ارتفع اناس ‪ ،‬فاسحق نيوتن لم يكن لينقدح في ذهنه قانون الجاذبية النه رأى سقوط التفاحة ‪ ،‬فجده‬
‫لم تحرك فيه أكثر من شهية قض‹‹مها ‪ ،‬ك‹‹ذلك الح‹‹ال في ( دي‹‹نيس ب‹‹ابين ) ال‹‹ذي رأى في ت‹‹راقص‬
‫غطاء أبريق الشاي مفاتيح طاقة البخار ‪ ،‬وأما ديك‹‹ارت ال‹‹تي ك‹‹انت الذباب‹‹ة تطن مزعج‹ًة بج‹‹انب‬
‫أذنه فقد أوحت له بمباديء الهندسة التحليلية ‪ ،‬حيث استطاع بعبقرية أن يمزج علم الجبر بالهندسة‬
‫‪ ،‬وفي السنة ال‹‹تي أعلن فيه‹‹ا ( كوبرنيك‹‹وس ) نظام‹‹ه الشمس‹‹ي الجدي‹‹د ك‹‹ان ( ف‹‹يزاليوس ) يش‹‹ق‬
‫الطريق عبر الجسم البشري للمرة األولى في التاريخ األوربي ‪ ،‬فيدخل عالم ( التابو ) أي تش‹‹ريح‬
‫الجسد الميت الذي كان يعتبر مسه بعد الموت حجرا محجورا ‪.‬‬
‫فح‹‹ل المعض‹‹الت العقلي‹‹ة الك‹‹برى واالنبث‹‹اق العلمي مره‹‹ون بتغ‹‹ير المن‹‹اخ العقلي واالط‹‹ار‬
‫الفلسفي ‪ ،‬الذي ُيمِّك ن الجماعات االنس‹انية من إع‹ادة النظ‹ر في المنظوم‹ة المعرفي‹ة ال‹تي تحمله‹ا‬
‫يقع األطباء والجراحون منهم بوجه خاص في خطأ مميت ‪ ،‬حينما يتعاملون م‹‹ع الجس‹‹د االنس‹‹اني‬
‫كقطعة قم‹اش أو ماس‹ورة مي‹اه ‪ ،‬قطع‹ة غي‹ار أو ص‹‹امولة تف‹ك ‪ ،‬ب‹رغي ي‹ركب أو قطع‹ة زائ‹دة‬
‫تستؤصل ‪ ،‬حينم‹‹ا يفترس‹‹هم ال‹‹روتين وتقت‹‹اتهم التفاه‹‹ة ‪ ،‬حينم‹‹ا تس‹‹يطر عليهم العبثي‹‹ة أو تغش‹‹اهم‬
‫سحابة السطحية ‪ ،‬حينما اليخشعون حينما يكشفون الغطاء عن الجمجمجة ‪ ،‬ويحدقون في انسيابية‬
‫الدم ‪ ،‬حينما يمرون اله‹‹ون على الَنظم الرائ‹‹ع والس‹‹حر الم‹‹دهش ال‹‹ذي يتج‹‹دد م‹‹ع ك‹‹ل لحظ‹‹ة في‬
‫عجائب الخلق ‪ ،‬بين دم ينساب بكل لطف في مسارات تصل عشرات األل‹‹وف من الكيلوم‹‹ترات ‪،‬‬
‫في مرور حاشد أعقد من أكبر عاص‹‹مة في الع‹‹الم ‪ ،‬ب‹‹دون ش‹‹رطي واح‹‹د ينظم الم‹‹رور ‪ ،‬وب‹‹دون‬
‫زمامير وأص‹‹وات ص‹‹اخبة ‪ ،‬ماكين‹‹ات بيولوجي‹‹ة تحم‹‹ل العم‹‹ل ال‹‹ذاتي والص‹‹يانة الذاتي‹‹ة والخل‹‹ق‬
‫المتج‹‹دد بنفس ال‹‹وقت ‪ ،‬ف‹‹إذا ارتفعت األص‹‹وات واللغ‹‹ط في ناحي‹‹ة دل على انتف‹‹اخ الش‹‹ريان (‬
‫‪ ) MACHINARY MURMER‬ذل‹‹ك الش‹‹ريان الحكيم ال‹‹ذي يحم‹‹ل من االحساس‹‹ات ال‹‹تي‬
‫النفهمها ؛ فإذا تدفق الدم منه بجرح ‪ ،‬أوعز لجنود النراهم في سد الثغرة وإحكام الثقب ‪ ،‬واستنجد‬
‫بالعضالت لتشد أزره في المحنة ‪ ،‬فإذا بنهاية الشريان قد التوت على نفسها فأنق‹‹ذت مملك‹‹ة الب‹‹دن‬
‫بكاملها من االنزالق نحو الموت ‪ .‬ه‹ذا التع‹انق وااللتف‹اف والمرافق‹ة والص‹حبة ال‹تي التك‹ف بين‬
‫الشريان والوريد وكأنهما العشيقان الولهانان ‪ ،‬والحبيبان المغرمان ‪ ،‬فهما اليصبران لحظة واحدة‬
‫عن البعد والف‹‹راق ‪ ،‬فعطش‹‹هما وولعهم‹‹ا ببعض‹‹هما ب‹‹دون ح‹‹دود ‪ ،‬الش‹‹ريان ال‹‹ذي ي‹‹ذكر بالرج‹‹ل‬
‫بقساوته وهشاشته بنفس الوقت ‪ ،‬والوريد اللطي‹ف ال‹ذي تح‹رض رؤيت‹ه ذك‹رى األن‹ثى بنعومته‹ا‬
‫وطاقتها في التحمل كونها خزان الرحمة ‪ .‬هذا الطي‹‹ف العجيب من األل‹‹وان في الجس‹‹م وكأن‹‹ه في‬
‫مهرجان كوني يلمع في أفقه س‹‹حابة مظلل‹‹ة بق‹‹وس ق‹‹زح ‪ ،‬بين الل‹‹ون الش‹‹رياني األحم‹‹ر الق‹‹اني ‪،‬‬

‫‪69‬‬
‫والسائل الكبدي ال‹‹ذهبي ‪ ،‬وخالص‹‹ة الحويص‹‹ل الم‹‹راري األخض‹‹ر ‪،‬والب‹‹ول األص‹‹فر ‪ ،‬والحليب‬
‫واللمف األبيض ‪ ،‬وفي نهاية الطيف من حيث بدأنا من األوعية ‪ ،‬اللون األزرق الوريدي ‪ ،‬وك‹‹أن‬
‫ساحة األوعية هي اللون األبيض الذي يجمع عصير االلوان الكاملة ‪ .‬ثم هذا المزيج من الم‹‹ذاقات‬
‫بين عصارة المعدة الحامضة ‪ ،‬وسوائل األمع‹اء القلوي‹ة ‪ ،‬وحالوة الس‹كر في س‹ائل ال‹دماغ ال‹ذي‬
‫يسبح في‹ه وكأن‹ه م‹ربى الفراول‹ة ‪ ،‬والم‹رارة المنف‹رة المتدفق‹ة من النظ‹ام الكب‹دي ‪ .‬ه‹ذا التش‹ابك‬
‫المحير بين النظم االلكتروني في الدماغ ‪ ،‬والسيالة الكهربية في القلب ‪ ،‬والتنظيم الهورم‹‹وني بين‬
‫الغدة النخامية في قاعدة الجمجمجم‹ة والكظ‹ر ف‹وق الكلي‹ة والغ‹دد التناس‹لية ‪ ،‬والتناس‹ق العض‹لي‬
‫العظمي العصبي ‪.‬‬
‫أين األرادة بل أين الروح ؟؟ كيف يفكر االنسان ؟ كيف يتذكر على وجه الدقة ؟ أين هي ملك‹‹ة‬
‫التخيل ؟ كيف تعمل النورونات العصبية وعددها حوالي مائة مليار خلي‹‹ة كوح‹‹دة متناس‹‹قة وكك‹‹ل‬
‫مشترك ؟؟‬
‫إن هذا الجسم هو الخزان األكبر للحكمة والفلسفة ‪ ،‬وهو المعلم الناضج لدروس التأمل والعبرة‬
‫‪ ،‬وهو المزرع‹‹ة الخص‹‹بة الس‹‹تنبات وتولي‹‹د الومض‹‹ات الفكري‹‹ة التحليقي‹‹ة المجلي‹‹ة ‪ ،‬وه‹‹و الملهم‬
‫ألفكار ثورية رائدة تقلب المفاهيم الطبية بين الحين واآلخ‹‹ر ‪ ،‬كم‹‹ا ح‹‹دث م‹‹ع جراح‹‹ة ال‹‹يزاروف‬
‫الذي عالج العظم بكسره ‪ ،‬ونحن النعرف عن العظام اال أنها تحتاج للتجبير ‪ ،‬بسبب فك‹‹رة ملهم‹‹ة‬
‫في تسخير آليات النمو لغرض التطويل وإصالح التشوهات ‪ ،‬كل ل‹‹زاد ال‹‹ذي نحتاج‹‹ه ه‹‹و المزي‹‹د‬
‫من الصبر والخش‹وع والتق‹وى في تام‹ل ظ‹اهرة الحي‹اة وكي‹ف تتكلم بلس‹انها الخ‹اص فهي أعظم‬
‫فيلسوف أنتجته الحياة حتى اليوم ‪.‬‬

‫مراجع وهوامش ‪:‬‬


‫(‪ ) 1‬في هذا الفيلم تم عرض انتشار فيروس دموس قاتل انتشر من قرد جلب من الخارج وكان الفيروس قد‬
‫غير طبيعته فبدأ ينتشر عبر الهواء مثل فيروس الرشح العادي (‪ )2‬داخل نواة الخلية توجد أشكال خيطية تص‹‹طبغ‬
‫باأللوان بشدة سميت الصبغيات أو الكروموزوم‹‹ات وع‹‹ددها ‪ 23‬زوج‹ًا يعت‹‹بر ال‹زوج األخ‹ير منه‹‹ا مس‹ؤوًال عن‬
‫التكوين الجنسي ذكرًا أو أنثى والواحدة منها حبل أو سلم ذو طول مخيف وطرف أو جانب الس‹‹لم مك‹‹ون من قط‹‹ع‬
‫متراكبة فوق بعضها وكأنها التمر في شجرة النخيل والعدد االجمالي لحب البلح ه‹‹ذا ح‹والي ثالث‹‹ة ملي‹‹ارات وك‹‹ل‬
‫مجموعة منها مسؤولة عن تشكيل شيء في جسدنا سواء الطول أولون العين أو الزمرة الدموية وهك‹‹ذا (‪ )3‬الطب‬
‫محراب االيمان للمؤلف ص ‪ 123‬دار الكتب العربية (‪ )4‬االنسان ذلك المجهول ‪ -‬الكسيس كاريل ‪ -‬تعريب شفيق‬
‫أسعد فريد ‪ -‬مكتبة المعارف بيروت الطبعة الثالثة ‪ - 1980 -‬ص ‪)5( 15‬نفس المصدر السابق ص ‪ )6( 16‬نفس‬
‫المصدر السابق ص ‪ )7( 16‬نفس المصدر السابق ص ‪ )8( 17‬وح‹دة المعرف‹ة _ محم‹د كام‹ل حس‹ين _ مكتب‹ة‬
‫النهضة المصرية _ ص ‪ )9( 1‬مدخل إلى فلسفة العلوم _ محمد عزام _ دار طالس ص ‪ )10( 10‬يراجع في هذا‬
‫كتاب تجديد التفكير الديني لمحمد اقبال فصل الثقافة االسالمية ‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫فلسفة الخطأ الطبي بين المريض‬
‫والمرض والطبيب‬
‫ال ي ستطيع المرء تقدير عمل اآلخرين حتى يصبح الشخص في مكان اآلخر‪ .‬وال يفهم معاناة‬
‫المريض حتى يدخل الطبيب يومًا المشفى على صورة مريض‪ .‬واألفضل أن يدخل نكرة مجهولة‬
‫مثل الكثير من األرقام التي تدخل المستشفى‪ .‬وفي عدد خاص من مجلة در شبيجل األلمانية كان‬
‫عنوان الغالف "المشافي التي ال روح لها"‪ .‬وفي فيلم (الدكتور) حاولت هوليوود أن تصور‬
‫هذا المأزق عندما أصيب جراح الصدر بسرطان في الحنجرة وكان عليه الخضوع ألنواع شتى‬
‫من الفحوصات واالنتظارات والتعرض لألشعة قبل حفلة العمل الجراحي‪ .‬وفي يوم اجتمع في‬
‫غرفة االنتظار بمريضة شابة مصابة بورم دماغي خبيث وتخضع للعالج باألشعة القاتلة للخاليا‬
‫السرطانية‪ .‬وكان الطبيب يعرف أن الورم إذا بدأ باالنتشار فلن ينفع فيه شيء سوى محاولة‬
‫ترويضه إلى أجل مسمى‪ .‬وعندما سألته الشابة بعد أن عرفت أنه طبيب وجراح صدر‪ :‬ماذا‬
‫يتوقع لها من فرص حياة؟ لم يكن أمامه سوى الكذب بدون مبرر‪ .‬وعندما اكتشفت خدعته كان‬
‫إحباطها هائًال وخيبة أملها قاسية‪ .‬وفي النهاية تعلم منها الحكمة بأن يستسلم للقدر وأن طيور‬
‫الحقل تخاف من الفَّز اعة ولكن اإلنسان لو فتح يديه لها لجاءت فالتقمت الحب من يده وكل ما‬
‫عليه أن ينعم بالسالم الداخلي فسالت دموعه حينما قرأ وصيتها األخيرة قبل موتها‪ .‬والمهم فإن‬
‫الطبيب عندما يدخل المشفى ويتعرض الختالط يتعجب من حدوثه ويتضايق من سوء العمل‬
‫ولكنه ال يراه بنفس الحجم عندما يتعرض له المريض‪ .‬وفي المثل الكردي أن بائعة اللبن ال‬
‫تقول عن لبنها قط أنه حامض‪ .‬ولو قالت ما باعته قط‪ .‬وفي اجتماع أصغيت لعدد من األطباء‬
‫حول فلسفتهم لالختالط الجراحي أو الطبي عموما‪ .‬فأما األول فقال إن هذا معروف ومتوقع‬
‫ومكتوب في المراجع الطبية‪ .‬فلماذا إذا تعرض له الطبيب يتضايق؟ وإذا أصيب به المريض‬
‫ورفع شكوى تضايق األطباء؟ وقال الثاني‪ :‬إنه قضاء وقدر حدث ويجب بلع الموضوع‬
‫وتجاهله‪ ،‬وقال الثالث‪ :‬ال بل يجب أن يبلغ األمر لمن حدث االختالط على يديه ليس من أجل‬
‫التشهير به‪ .‬بل من أجل أن يعرف أن االختالط حدث فيراجع نفسه‪ ،‬ويستفيد من الدرس فيضغط‬
‫االختالطات إلى حدودها الدنيا‪ .‬وروى لي طبيب اختص في الجراحة في ألمانيا أن طفال راجعه‬
‫في اإلسعاف من فتق مختنق‪ ،‬وكان عليه رد الفتق والطفل معلقا في الهواء ورأسه لألسفل‪ .‬قبل‬
‫أن تكبر المشكلة ويزداد االختالط اختالطًا‪ .‬فقام بإجراء الطريقة المعهودة إلرجاع الفتق بقلب‬
‫الطفل معلقا إلى األسفل ثم ضغط المكان حتى تعود محتويات البطن للداخل ثم إدخل الطفل‬
‫المشفى فورا تمهيدا إلجراء عملية إصالح الفتق‪ .‬والذي حصل أن الطفل كاد أن يخسر أحد‬
‫خصيتيه ولكن رئيس القسم أحضر الطبيب المذكور وأراه رأي العين نتيجة الخشونة في عمله‪.‬‬
‫وهذا التصرف في الغرب ليس من أجل تحطيم معنويات اإلنسان بل من أجل رفع مستوى أداءه‪،‬‬
‫ولكننا في العالم العربي نمارس التحطيم النفسي بين مطرقة التحقيق القاسي وسندان الدفاع‬
‫بالباطل ولو كان الموقف خطئا وبذلك تبقى األوضاع بدون تحسين وتطوير‪ .‬إن موضوع‬
‫االختالطات في الغرب ال يعتبروه قضاء وقدرا بل هو أحد ثالثة فإما كان متعمدا فهو جريمة كما‬
‫حدث في فلم كولمبو حينما وضعت خيطان قابلة للذوبان في عملية استبدال صمام قلب‪ .‬أو‬
‫إهمال وهذا يجب أن يساءل فيه الطبيب حتى يتعلم اليقظة ألن حياة العباد بين يديه‪ .‬وإن حدثت‬
‫بكل ظروف الحيطة فيجب أن نستوعب درسا قاسيا أن ما حدث خطأ فني يجب الكشف عنه‪،‬‬
‫وبدون عمليات النقد والمراجعة لن تدخل آليات تصحيح الخطأ‪ .‬ولكن المشكلة أن من يحقق‬

‫‪71‬‬
‫يريد االنتقام والطبيب يخشى من ضياع وظيفته وسمعته وبين هذا وذاك يتفرق دم المريض بين‬
‫القبائل‪.‬‬

‫فلسفة النجاح والفشل في‬


‫العمل الطبي‬
‫عندما دخل السيد رياض أستاذ الجامعة إلى غرفتي أثارتني معلوماته عن الحشرات فطلبت منــه‬
‫إطالعي على عالم البعوض خاصة‪ .‬فأحضر لي الرجل شرائح لقراءتها تحت المجهــر‪ .‬وأنــا منــذ‬
‫زمن بعيد أمني النفس باقتناء مجهرا أدرس فيه العالم السفلي وتلسكوبا أقـرأ فيـه عـالم النجـوم‬
‫العلـوي‪ .‬ولم يكن أسـتاذ الجامعـة يتصـور أن المـوت أقـرب إليـه من شـراك نعلـه‪ .‬فـدخل غرفـة‬
‫العمليات لسبب تافه وكــان المقــرر أن تجــرى لــه عمليــة منظــار للركبــة‪ .‬ففــارق الحيــاة قبــل أن‬
‫يلمسه مبضع الجراح‪ .‬إن فشل أي عملية جراحية عند المريض هي قدر الجراحــة والجــراحين‪.‬‬
‫وهناك نسبة فشل في أي عملية مهما صغرت وبنسب مئوية محددة‪ .‬عرفها من عرفها وجهلهــا‬
‫من جهلها‪ .‬وكل طبيب يحترم نفسه يسلم بها‪ .‬وليست موضـعا للشـماتة أو التعجب‪ .‬فقـد يضـحك‬
‫طــبيب على زميلــه في (اختالط ‪ )Complication‬فيقــع في اختالط أبشــع منــه ومن عمليــة‬
‫أبســط‪ .‬فعلى المــرء أال يكــبر كلماتــه ويتعلم التواضــع وإن هللا ال يحب من كــان مختــاال فخــورا‪.‬‬
‫والسؤال عن سبب فشــل أي عمليــة يبقى فلســفيا أتمــنى أن أجــد اإلجابــة عليــه يومـًا بنعم أو ال‬
‫وبكلمة محددة‪ .‬فال يمكن البت وبشكل قطعي ونهائي إلى سبب بعينه لفشل أي عمليــة جراحيــة‪.‬‬
‫ويحزر األطبــاء ويخمنــون ويقولــون إنــه أقــرب أن يكــون الســبب هــذا أو ذاك‪ .‬ولكن أي شــيء‬
‫يحدث في هذا الكون تتضافر فيه مجموعة معقدة من العناصر لتوليده‪ .‬بمــا فيهــا (المضــاعفات)‬
‫الكريهة‪ .‬وخالل عملي الطويل في جراحــة األوعيــة الدمويــة أجــريت من العمليــات بقــدر الشــعر‬
‫الذي سقط من رأســي فال أعــدها وتبلــغ اآلالف ولم يخطــر في بــالي المراهنــة على ســبب محــدد‬
‫وعلى نحو قطعي أنه خلف فشل عملية ما؟ وال يعني هذا أننــا فــوق النقــد ودون الخطــأ بــل نحن‬
‫عباد هللا الضعفاء الذين نجتهد فنصيب ونخطيء‪ .‬ومن اجتهد فاخطــأ فلــه أجــر ومن أصــاب فلــه‬
‫أجران‪ .‬ولكن ال توجد أية ضمانة لنجاح أي عملية جراحية ســواء في جراحــة األوعيــة الدمويــة‬
‫أو أي جراحة أخرى وعنــد أي مــريض وبيــد أي جــراح‪ .‬والعــبرة أن يكتب هللا العافيــة للمــريض‬
‫على يد أي طبيب‪ .‬فهذا هو لب التوحيد‪ .‬فاهلل هو الذي يشفي‪ .‬وإذا مرضت فهو يشفين‪ .‬ويســخر‬
‫لشــفاء المــريض من يشــاء من عبــاده رحمــة من لدنــه‪ .‬وفي الفشــل يجب إجــراء المزيــد من‬
‫المحاوالت لوجود المزيد من عناصر التحدي الغامضة‪ .‬وقــد يكتب هللا النجــاح أو الفشــل بأبســط‬
‫سبب‪ .‬وهذا من جملة العبر في استيالء النقص على جملة البشر‪ .‬وجراحة األوعية الدموية مثًال‬
‫تجــرى بعيــون مجهريــة تحت المكــبرات وتلج عالمــا دقيقــا يمشــي فيــه الجــراح على الصــراط‬
‫المستقيم‪ .‬إن قصرت القطبة الجراحية نزف المريض وإن زادت انسد الوعاء فانهار العمــل على‬
‫الطرفين‪.‬ومن يزعم لنفسه أنه ســيمارس الطب بــدون مضــاعفات فال يزيــد عن واحــد من ثالث‪:‬‬
‫إما أنه دجال ال يعي ما يقول‪ .‬أو أنه طبيب ال يمارس الطب‪ .‬فالعمــل الطــبي والمضــاعفات تــزداد‬
‫طردا مع كم العمل‪ .‬وإما إنه يزعم أنه إله فــوق الخطــأ‪ .‬ومن يقــل منهم إنــه إلــه من دونــه فــذلك‬
‫نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين‪ .‬والجراح األمريكي المشــهور كــولي قــال عن عمليــات القلب‬
‫األولى التي أجراها كانت مليئة باالختالطــات‪ .‬ثم تناقصــت وبقي تــواتر االختالطــات في الحــدود‬
‫المتعارف عليها دوليًا‪ .‬وأول عملية زرع قلب أجراها الجراح كريستيان برنارد مات مريضه بعد‬
‫‪ 18‬يوما من العملية‪ .‬موعظة وذكرى للعالمين‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫الصراع بين العلم والدين والفلسفة‬

‫ـ لم يواجه اإليمان باهلل ورسله وكتبه واليوم اآلخر تحديا مثل الوقت الحاضر‪ ،‬المتدينون‬
‫منحسرون ورجال الفلسفة يضحكون وأهل المخابر العلمية إذا مروا بهم يتغامزون‪.‬‬
‫ـ نشأت آلهة شتى من العلم والفلسفة في الوقت الذي انزوى الدين في جحر‬
‫اإليديولوجية‪ .‬وانحشر البابا في كيلومترات قليلة في الفاتيكان‪ .‬ومهمة شيخ األزهر‬
‫لعن الثورات ودعم الحكام العسكريين‪.‬‬
‫ـ لم يعاني العالم منذ زمن األنبياء حتى اليوم مايعانيه من الجفاف الروحي وعبادة‬
‫آمون العجل الذهبي‪.‬‬
‫إنها قصة جحا قيمة اإلنسان من ذهبه‪ .‬فمن مأل جحره بالذهب رفع علما يناسب‬
‫المقدار وقد يكذب!‬
‫ـ في الوقت الذي يتحول الدين إلى علم يصبح عالميا فال يختلف الناس حولهما‪ .‬كما‬
‫في حبة اإلسبرين وأشعة رونتجن وجراحات الكولون وخياطة الجروح بالبرولين‪.‬‬
‫هل يختلف جراح صيني عن صربي في فتح البطن الجراحي‪ ،‬أم هل يتوانى الطبيب‬
‫األلماني عن السعودي في استخدام الطنين المغناطيسي (‪ )MRI‬والتصوير الطبقي‬
‫المحوري (‪)CT-Scan‬‬
‫ـ مهمة هذا الكتاب محاولة صياغة معادلة تشبه معادلة آينشتاين بين الطاقة والمادة‬
‫أنهما وجهان لحقيقة واحدة‪ ،‬أو أن المادة طاقة مكثفة‪ ،‬أو أن أحدهما يقود تلقائيا‬
‫لآلخر‪ .‬كذلك نريد من هذه الدراسة تحويل الدين إلى علم والعلم إلى دين‪ .‬وطبيعة‬
‫المهمة كما نرى أن نجعل من باحث الذرة السجود لرب العالمين بخشوع‪،‬‬
‫ومكتشفات الكود الوراثي في نواة الخلية بثالث مليارات من األحماض النووية أن‬
‫يسبح العظيم الغفار‪.‬‬
‫ـ هدف اإلديان واحد هو االهتداء إلى المطلق ومعنى الكون والوجود ونظامه‪،‬‬
‫ولعلها خطوط تماس حول دائرة واحدة مليئة باأللغاز والقدسية والمعنى‪ .‬وبذا‬
‫يتوقف الصراع عند هذه الحافة ونردد مع القرآن أن الذين آمنوا والذين هادوا‬
‫والصابئين والنصارى والبوذيين والزرادشتيين والكنوفوشوسيين من آمن باهلل‬
‫واليوم اآلخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم وال خوف عليهم وال هم يحزنون‪.‬‬
‫ـ الدين يحرر اإلنسان من أعظم شعورين ساحقين بالتوقف في الزمن ونعضل‬
‫الحركة‪ .‬الحزن شد للماضي‪ .‬والخوف توقف عن اقتحام المستقبل‪ ،‬وبالتحرر من‬
‫هذين الشعورين تتحرر النفس بطالقة وتسبح عبر الزمن الممتد بدون سالسل‪.‬‬
‫هذا ماقالته اآلية وكرره األنجيل أنه يرفع عنه إصرهم واألغالل التي كانت عليهم‪.‬‬
‫ويكررها المسيح إن نيري خفيف‪.‬‬
‫ـ الدين بوصلة أخالقية اليمكن للفرد أن يعيش بدونها‪ ،‬والمؤسسة الدينية ماكينة‬
‫رعب اخترعها رجال الدين باسماء شتى من محاكم التفتيش والسنهدرين واألزهر‬

‫‪73‬‬
‫لتأييد الطغيان‪ ،‬وهو ماجمعت بينهما اآلية القرانية عن لعن الجبت والطاغوت‪:‬‬
‫الطاغوت هو الطاغية وعسكره‪ ،‬والجبت هو رجل الدين بطربوش وعمامة ولفة‬
‫وشروال وجالبية وقلنسوة وقفطان ومبخرة‪ .‬يرسلون الجنود إلى المقابر ويمألون‬
‫الجيوب بالدراهم‪.‬‬
‫ـ حين حطم المسيح عليه السالم موائد الصيارفة وأعشاش بيت الحمام في معبد‬
‫القدس صرخ فيهم الويل لكم حولت معبد هللا إلى ماخور! أيها القادة العميان إنكم‬
‫كالقبور من خارج مطلي بالبياض ومن الداخل تملؤه النجاسات والعظام النخرة‪.‬‬
‫كذلك حال المؤسسة الدينية من أي دين كانت‪.‬‬
‫ـ أمراض أهل الكتاب واحدة سواء يعبدون الصليب أو يحجون للكعبة أو يهزون‬
‫رؤوسهم بجنب حائط المبكى أو يقرعون الصنج ويلبسون األصفر في السا بالتيبت‪.‬‬
‫ولم يكن هلل أوالد أحباء من النصارى أو اليهود أو المسلمين أو البوذيين‪ ،‬بل يعذب‬
‫الجميع بذنوبهم وأخطائهم واقترافاتهم‪.‬‬
‫كان ذلك في الكتاب مسطورا‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫اإليمان‬
‫بين الفلسفة والعلم والقرآن‬
‫من أجمـل الكتب الـتي قرأتهـا في صـباي عنـدما كنت طالبـًا في الصـف العاشـر هـذا‬
‫الكتاب (قصة اإليمان بين الفلسفة والعلم والقرآن) وأنصح به كـل مبتــدئ بــالقراءة‪،‬‬
‫أو من اطلع ففاته هذا الكتاب‪ ،‬وحبــذا لــو أعيــدت طباعتــه بنســخة شــعبية رخيصــة‪،‬‬
‫وهو مشروع يجب أن يقوم به من تيسرت له الحياة الدنيا فأفاض‪ ،‬أن يطبــع ذخــائر‬
‫الكتب‪ ،‬سواء من تراثنا أو التراث العالمي أيا كان مصــدر الكتــاب‪ ،‬ومنــه مثال كتــاب‬
‫طبائع االستبداد للكواكبي الذي طبع قبل مائة عــام‪ ،‬ولم يســتفيد منــه مائــة شــخص‪،‬‬
‫ويأكله العت على الرفوف‪ ،‬مثل أي بذرة ألقيت في صحراء ال ضرع فيها وال زرع‪.‬‬
‫وحين قرأت هذا الكتاب يومهــا تمتعت بقــراءة الجــانب العلمي‪ ،‬ولم يكن علّي وقتهــا‬
‫سهًال الجانب الفلسفي؛ فلجأت إلى أستاذ لي يدرسني الفلسفة؛ فبــدأ يشــرح لطالبــه‪،‬‬
‫وهو يتظاهر بأنه فهم األمر‪ ،‬وأحاط به علما‪ ،‬ولو علمـني يومهـا أن نصـف العلم أن‬
‫يقول اإلنسان ال أعلم ألعطــاني درة من درر الحكم‪ ،‬ولكن هــذه هي الثقافــة العربيــة‬
‫العقيمــة‪ ،‬حــتى يــأذن هللا بــبزوغ الشــمس من مشــرقها‪ ،‬بعــد أن غــيرت إحــداثياتها‬
‫فأشــرقت من الغــرب‪ ،‬بمــا يحقــق شــروط قيــام الســاعة على العــرب المناكيــد‪ ،‬أن‬
‫حضــارتهم بــارت‪ ،‬وجيوشــهم هلكت‪ ،‬وثقــافتهم تتســكع بمصــابيح عالء الــدين في‬
‫ظلمات العصور الوسطى!‬
‫وحاليا هو موسم افتتاح المعارض‪ ،‬وحين أقارن بين معرض الكتاب في فرانكفورت‬
‫وبــرلين وبين معــارض القــاهرة والريــاض أصــاب بــالرعب من احتالل الكتب ذات‬
‫األعقاب المذهبة‪ ،‬قد أعيــد طباعتهــا من الــبيهقي والنســائي واألحــوذي والحصــفكي‬
‫واالسفراييني والجاعلي والفاعلي والتسخيري والقرطبي والطبطبي؟‬
‫يجب أن نعود أنفسنا عادة حميدة‪ ،‬هي تكــرار قــراءة الكتب الجيــدة؛ فهي أفضــل من‬
‫قراءة الكثير من الكتب التافهة‪ ،‬وهذا ينطبق على األفالم‪ ،‬وحين أشاهد بعض األفالم‬
‫المقرفة‪ ،‬أستغفر ربي على إضاعة الــوقت‪ ،‬وأتعجب من ســخف هوليــوود في إنفــاق‬
‫األموال‪ ،‬على مثل هذه التفاهات والقذارات في تلويث الذاكرة‪.‬‬
‫وأنــا شخصــيًا أقــرأ بعض الكتب أكــثر من مــرة‪ ،‬وبعض الكتب الهامــة والتأسيســية‬
‫قرأتها أكثر من عشر مرات‪ ،‬مثــل كتــاب (تجديــد التفكــير الــديني) للفيلســوف محمــد‬
‫إقبــال‪ ،‬أو كتــاب (العلم في منظــوره الجديــد) تــأليف (جــورج ستانســيو وروبــرت‬
‫آغــروس) وهــو من كتب سلســلة عــالم المعرفــة‪ ،‬أو (قصــة الفلســفة) تــأليف (ويــل‬
‫ديورانت) وهو مؤرخ أمريكي‪ ،‬أو (تحليــل النفس والخلــق) لعــالم النفس البريطــاني‬
‫(هادفيلد) الذي كتبه قبل أكثر من سبعين سنة‪ ،‬ومازال يزال يتمتع بصالبة األلماس‪.‬‬
‫بل و(مقدمة ابن خلدون) التي تحلق فوق القارات والعصور‪ ،‬مخترقة وحدة الــزمن؛‬
‫فقد كتبها صاحبها عام ‪ 1406‬ميالدية‪ ،‬أي أصبح لهــا ســتة قـرون ويزيــد‪ ،‬ومــا زال‬
‫يلتمع بلمعان يضاهي أشعة كوكب الشعرى اليمانية‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫ومازلت أتذكر المفكر (عبــد الحليم أبــو شــقة) صــاحب الكتــاب الموســوعي (تحريــر‬
‫المرأة في عصر الرسالة) وهو كتاب اشتغل عليه صــاحبه أكــثر من عشــر ســنوات‪،‬‬
‫وكان يزورني كثيرًا في ألمانيا وهو مصطحب معه كتب الصحاح في الحديث‪ ،‬يــدخل‬
‫بطونها ويتأمل األحاديث الواردة في قضية المـرأة‪ .‬وكـان يقـول رحمـه هللا أن مـيزة‬
‫كتابي هي أن القارئ سوف يجد ما يريده من الحديث مباشرة‪ ،‬وكــان يســألني دومــا‬
‫بحرقة عن الرحلـة العقليـة الـتي قطعتهـا؟ أنهـا تجربـة يجب االســتفادة منهـا ويجب‬
‫تسجيلها؟ وكان يقول أريد أن أعرف ما هي الكتب التي تحــدث يقظــة عقليــة؟ وهــل‬
‫يمكن تسمية هذه الكتب؟ بحيث نختصر العناء لمن يريد خوض هذه الصحراء‪ ،‬وهل‬
‫يمكن تسمية هذه الكتب على نحو محدد‪ ،‬فنختصــر رحلــة تكــوين العقــل الى ســنوات‬
‫قليلة عند الشاب العربي؟‬
‫وفي الواقع فإن سؤاله كان حيويا جدا‪ ،‬وهو مــا دفعــني أن أفكــر بهــدوء فــأقول فعال‬
‫لماذا يتميز إنسان عن غــيره؟ وكتــاب عن كتــاب؟ فهنــاك من كتب الكثــير‪ ،‬ولكنــه لم‬
‫يفعل شيئًا للفكر‪ ،‬وهو حال معظم الكتاب في عالم العربــان‪ ،‬ومن يكتب في السياســة‬
‫أكثر من رمال الربع الخالي والصحراء الجزائرية حتى تندوف‪ ،‬ولكنهــا تفاهــة فـوق‬
‫التفاهات‪ ،‬تقرب البعيد‪ ،‬وتعظم الصغير‪ ،‬وتنفخ األمير‪ ،‬وتكذب على المواطن‪.‬‬
‫وهناك من كتب رسالة قصيرة أو بضع كتب‪ ،‬ولكنـه تـرك خلفـه زلـزاًال عقليـًا‪ .‬ممـا‬
‫جعلني أعلن عن أكاديمية السلم والعلم في ثبج البحر األخضــر اإللكــتروني‪ ،‬وأدِّش ن‬
‫مشروعين األول في (قوانين البناء المعرفي) والثاني في ماهيــة الكتب الــتي (تقــدح‬
‫زناد الوعي) فزادت عن ‪ 200‬كتابا والرقم في ازدياد‪ ،‬ولكن ال أظن أنها ستزيد عن‬
‫‪ 500‬كتاب بالمتوسط؟‬
‫والفيلسوف (سبينوزا) لم يترك خلفه أكثر من أربعة كتب‪ ،‬ولكن المؤرخ (ديورانت)‬
‫يقول عنه ‪ :‬كان خيرا لنابليون من كل فتوحاته؛ أن يكتب أربعــة كتب؛ فينفــع النــاس‬
‫أكثر من القتل في ثلوج سيبيريا حول موسكو وليتوانيا‪ ،‬ولكن كل ميسر لما خلق لــه‬
‫فهذا مفكر وهذا مدفعي؟‬
‫وزوجتي أمسكت بكتاب (علم نفس النجاح) لـ (براين تريسي) فلم تتركه حتى‬
‫أنهته‪ ،‬وهو ما حدث سابقا مع كتاب (كود دافنشي) الذي أثار السؤال حول حقيقة‬
‫المسيح؟ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم‪...‬‬

‫‪76‬‬
‫فال يلومّن إال نفسه؟‬
‫فلسفة جديدة‬
‫جاء في الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر عن النــبي ص فيمــا يرويــه عن‬
‫ربه تبارك وتعالى وهو موجود في مختصر صحيح مسلم للحافظ المنــذري‬
‫تحقيق األلباني ص ‪ 483‬حديث رقم ‪ 1828‬مــا يلي وهــو حــديث جــامع في‬
‫عشر فقرات تلتمع مثل اللآلليء‪:‬‬
‫‪ ‬يا عبادي‪ :‬إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فال‬
‫تظالموا‪.‬‬
‫‪ ‬يا عبادي‪ :‬كلكم ضال إال من هديته فاستهدوني أهدكم‪.‬‬
‫‪ ‬يا عبادي‪ :‬كلكم جائع إال من أطعمته فاستطعموني أطعمكم‪.‬‬
‫‪ ‬يا عبادي‪ :‬كلكم عار إال من كسوته فاستكسوني أكسكم‪.‬‬
‫‪ ‬يا عبادي‪ :‬إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا‪.‬‬
‫فاستغفروني أغفر لكم‪.‬‬
‫‪ ‬ياعبادي‪ :‬إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي‬
‫فتنفعوني‪.‬‬
‫‪ ‬يا عبادي‪ :‬لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب‬
‫رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا‪.‬‬
‫‪ ‬يا عبادي‪ :‬لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على افجر قلب‬
‫رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا‪.‬‬
‫‪ ‬يا عبادي‪ :‬لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد‬
‫واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي‬
‫إال كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر‪.‬‬
‫‪ ‬يا عبادي‪ :‬إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد‬
‫خيرا فليحمد هللا عّز وجّل ومن وجد غير ذلك فال يلومّن إال نفسه‪.‬‬
‫كان أبو إدريس الخوالني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه‪.‬‬
‫وما يدفعني إلى سرد هذا الحديث فكرة التمعت في ذهني أن أفعل ما‬
‫فعله النووي فهذا الرجل جمع أربعين حديثا اشتهرت باسمه‪ .‬وهي‬
‫رياض الصالحين‪ .‬وسببها أن الرجل انتقى جملة من األحاديث‬
‫واعتبرها أحاديث حيوية‪ .‬وفي نيتي أن أفعل مثله في جمع كتلة حرجة‬

‫‪77‬‬
‫من األحاديث أراها لزماننا حيوية وتناسب مشاكلنا العصرية ويمكن‬
‫شرحها بشكل مختصر ومضغوط‪ .‬وأهمية هذا الحديث هو إن يتعلم‬
‫اإلنسان في حياته قاعدة صارمة أن ال يلوم أحدا مهما حدث معه من‬
‫مشاكل‪ .‬ليس ألن اآلخرين ال دخل لهم فيما يقع علينا من أضرار‬
‫وإصابات بل ألن التفكير بهذا االتجاه غير مجدي‪ .‬فعندما يلقي اللوم‬
‫على اآلخرين نرتاح نحن ولكنه يبعدنا عن حل المشكلة تماما‪ .‬فطالما‬
‫لم يراجع اإلنسان نفسه فيما يحدث له ال يقوم بإجراء التصحيح على ما‬
‫وقع وهي مشكلة العرب السياسية اليوم‪ .‬فهم يلقون اللوم على أمريكا‬
‫وإسرائيل في مشاكلهم حتى لو اختلف الرجل مع زوجته في البيت‪.‬‬
‫ونحن متأكدون أن الخالفات العائلية ال تخلقها أمريكا وإسرائيل بل هي‬
‫من صنع أيدينا "قل هو من عند أنفسكم" ‪ .‬ولكن إلقاء اللوم على‬
‫اآلخرين يخلق عندنا آلية خاطئة تماما بحرمان أنفسنا من تشكيل حاسة‬
‫النقد الذاتي‪ .‬وبدون هذه الحاسة ال نرى أخطاءنا‪ .‬وإذا كان هللا قد‬
‫أعطانا عيونا لنبصر بها فعين النقد تكشف طريقنا الذي نمشي فيه‬
‫فنتفادى الوقوع مجددا في األخطاء أما الحرمان من عين النقد فإننا‬
‫نتحول إلى حمير حقيقيين بل ما هو أسوء فنكرر األخطاء طالما يقوم‬
‫بها غيرنا ونحن ال يد لنا فيما يقع‪ .‬وهذا الحديث الرائع بين أيدينا‬
‫يؤصل لمفهوم أن يتدرب اإلنسان على نحو صارم أن ال يلوم أحدا مهما‬
‫حصل ليس ألن اآلخر لم يشترك بل ألنه غير مفيد والحقل المنتج هو‬
‫مراجعة النفس‪ .‬ولو قام الطرفان بنفس اآللية فلن تبق أخطاء ولكن‬
‫عندما يفعلها طرف تكون نصف المشكلة قد حلت‪ .‬إنها أحاديث حيوية‬
‫يجب جمعها في كراسات وكتابتها وتعليقها أمام أعيننا حتى تنغرس في‬
‫الالوعي فتفرز السلوك القويم‪ .‬وإن هللا ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما‬
‫بأنفسهم‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫فلسفة التعبير‬
‫لماذا اليجـد الـرأي أحيانـًا طريقـه الى الحريـة ؟ ولمـاذا تنحبس بعض اآلراء في طريقهـا الى‬
‫التعبير عن نفسها ؟ هل إلنها تلجم بفعل خارجي ؟ أم إلنها تمارس االنتحــار الــداخلي ؟ أم إلنهــا‬
‫تحمل مقتلها الذاتي فال تخرج الى التعبير ؟ إلنه ليس هناك مايستحق التعبير عنه ‪ ،‬بعجز داخلي‬
‫‪ ،‬أو اختناق في المعنى ‪ ،‬أو كساح في االتصال ‪ ،‬أو مخاطر األذية لآلخرين ‍؟!‬
‫يتذمر الكثير أن الرأي اليجد طريقه الى حرية التعبير ‪ ،‬وهو قول يصدق فيه بعض الحقيقة ‪،‬‬
‫واليحمل في بطنه الحقيقة وكل الحقيقة ؛ فليس كل تعبير تنقصه الحرية أو يحتاج للحرية ‪ ،‬فأن‬
‫تقول ‪ :‬أريد أن اشتري خبزا ‪ ،‬أو أنجز عمًال بجدية ودقة وأمانة اليحتــاج إلذن ســفر أو تأشــيرة‬
‫خروج ؛ إلن مفتاح السر هو في الكلمة وجدليتها الخاصة وحركة المعنى في أحشائها ‪ ،‬والكلمة‬
‫بدورها في أصلها وبحد ذاتها بريئة ؛ إلنهــا لفــظ ميت وتصــويت بــدون مــدلول ‪ ،‬واللفــظ اليشــع‬
‫بالمعنى ‪ ،‬بــل يعكس المعــنى ‪ ،‬فــالمعنى شــمس يتــألق في ملكــوت الفكــر ‪ ،‬واللفــظ قمــر يســتقبل‬
‫المعنى ويتجسد في تابوت البايولوجيا ‪ ،‬بين الحنجرة والحلق واألضراس ؛ فنحن الذين نشــحن‬
‫تضاعيف اللفظ بالمعنى ‪.‬‬

‫جدلية اللفظ والمعنى‬


‫اعتبر الفيلسوف أبو حامد الغزالي ‪ :‬أن من أراد توليد المعاني من األلفاظ فقــد ضــاع وهلــك‬
‫وكان مثله كمن يريد التوجه الى المغرب فيوليه ظهره متجهًا الى المشـرق ‪ ،‬ومن قـرر المعـاني‬
‫أوًال ثم أتبع المعاني األلفاظ ‪ ،‬أي بعد أن تولدت الفكرة في ملكــوت الـذهن ‪ ،‬تعمــد آلـة التصــويت‬
‫والقلم في تشكيلها اللفظي والكتابي (‪)1‬‬
‫وانتبـه ابن خلـدون في مقدمتـه الى هـذه المشـكلة الخطـيرة ‪ ،‬عنـد تعرضـه لبنـاء االسـلوب‬
‫الــتربوي التعليمي على ثالث مراحــل ‪ ،‬وهي من أبــدع كتاباتــه الفكريــة ؛ فنصــح باالحتمــاء الى‬
‫فضاء الفكر عنــد الســقوط في حجب األلفــاظ ‪ ،‬مثــل ســقوط الفريســة في نســيج العنكبــوت ‪ ،‬في‬
‫شغب الجدال وحمى المناقشات المتوترة الصوتية ‪ ،‬عندما يتوقف العقل عن العمل ‪ ،‬وتبدأ ثخانة‬
‫الحبال الصوتية وعمق طبقة الصوت ‪ ،‬في تنزيل الحجج وتأكيد البراهين !!‬
‫المعنى هو الذي يسعى الرتداء قميصه من اللفظ أو الكتابــة ‪ ،‬فالوجــود للمعــنى بــدون تجســد‬
‫من قميص خارجي ‪ ،‬ولكن المعنى هو الروح الدينامية الداخليــة ‪ ،‬واللفــظ هــو الجســد الخــارجي‬
‫بكل مالبساته ‪ ،‬فهذه هي جدلية اللفظ والمعنى ‪ ،‬وإشكالية اللغة والواقع ‪.‬‬
‫جاء في المقدمــة عن حقيقــة جوهريــة في التعلم عن العالقــة الجدليــة بين اللفــظ والمعــنى‪:‬‬
‫( معرفة األلفاظ وداللتها على المعاني الذهنية تردها من مشــافهة الرســوم بالكتــاب ومشــافهة‬
‫اللسان بالخطاب ؛ فالبــد أيهــا المتعلم من مجاوزتــك هــذه الحجب كلهــا الى الفكــر في مطلوبــك ؛‬
‫فأوًال داللة الكتابة المرسومة على األلفاظ المعقولة وهي أخفها ‪ ،‬ثم داللة األلفاظ المعقولــة على‬
‫المعاني المطلوبة ‪ ،‬ثم القوانين في ترتيب المعاني ‪ ...‬ثم تلك المعاني مجــردة في الفكــر ‪ ..‬وليس‬
‫كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ‪ ،‬واليقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة ‪ ،‬بل ربمـا وقـف‬
‫الذهن في حجب األلفاظ بالمناقشات ‪ ،‬أو عثر في اشتراك األدلة بشغب الجدال والشبهات ‪ ،‬وقعد‬

‫‪79‬‬
‫عن تحصيل المطلوب ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة اال قليل ممن هــداه هللا ‪ ،‬فــإذا ابتليت بمثــل‬
‫ذلك ‪ ،‬وعرض لـك ارتبــاك في فهمــك ‪ ،‬أو تشــغيب بالشــبهات في ذهنــك ‪ ،‬فـاطرح ذلـك ‪ ،‬وانتبــذ‬
‫حجب األلفاظ وعوائق الشبهات ‪ ،‬واترك الصناعي جملــة واخلص الى فضــاء الفكــر الطــبيعي ‪،‬‬
‫الذي فطرت عليه ‪ ،‬وسرح نظرك فيه للغوص علىمرامك منــه ‪ ...‬فــإذا فعلت ذلــك أشــرقت عليــك‬
‫أنوار الفتح من هللا بالظفر بمطلوبك ‪ ...‬وحينئذ فارجع به الى القوالب وصــورها ؛ فأفرغــه فيهــا‬
‫ووفــه حقــه من القــانون الصــناعي ‪ ،‬ثم اكســه صــور األلفــاظ ‪ ،‬وأبــرزه الى عــالم الخطــاب‬
‫والمشافهة‪ ،‬وثيق العرى صحيح البنيان )(‪)2‬‬

‫األفكار الميتة والقاتلة‬


‫ليس كل تعبير أو رأي أو فكرة يخدم الحرية ‪ ،‬فهنــاك من األفكــار الميت والقاتــل ‪ .‬كمــا انتبــه‬
‫الىذلك المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) (‪)3‬‬
‫الميت الذي فاحت رائحته بعد أن شبعت الجيفـة موتـًا ‪ .‬والقاتـل الـذي يتحـرك بـآراء تفـوح‬
‫بالغدر والتآمر وعدم الثقة والعنف ‪ ،‬وجـرت العـادة أن أهـل كـل بلـدة لهم مقـبرة يودعـون فيهـا‬
‫الجثث الميتة احترامًا لها وللناس ؛ فأفضل ستر للجثة هجوعها تحت الــتراب ‪ ،‬ولكن الكثــير من‬
‫آراءنا تموت فال تودع الى المقابر ‪ ،‬بل تترك تفــوح منهــا رائحــة المــوت المــؤذي ‪ ،‬وتبقى جثثـًا‬
‫تتكيء على المنسأة ‪ ،‬حتى تأتي دابة األرض التاريخية ‪ ،‬فتأكــل منهــا ؛ فتســقط الجثــة ؛ فيكــون‬
‫لسقوطها دوي عظيم ‪.‬‬
‫ليس كــل تعبــير أو رأي يــدفع بالحيويــة في مفاصــل الحريــة ؛ فهنــاك من اآلراء مايغتــال‬
‫الحرية ‪ .‬مع هذا يجب أن نحافظ على الرأي الخطر ونمنع فعله ‪ ،‬في جدلية حرية اآلراء وفرملة‬
‫األفعال الضارة ‪ ،‬وإن كان الرأي بذاته فعًال من نوع خاص ‪.‬‬
‫بالحفاظ على الفكر ومنحه نسمة الحياة قد نعِّدله إن كان ضارًا ‪ ،‬أو نستفيد منه إن كان جيدًا‬
‫‪ ،‬ومن يدري قد يكون فيه كل الخير ‪ ،‬ألن االنسان عدو مايجهل !!‬

‫جدلية االختالف والتعبير‬


‫دشن فولتير عصر التنوير بقولته المشهورة في جدال المختلفين ‪ :‬مع كل اختالفي وتناقضي‬
‫معك في الرأي فأنا مستعد أن أموت ليس من أجل رأيك ‪ ،‬ولو كنت اعتقد سخفه ‪ ،‬ولكن من أجل‬
‫تمكينــك من التعبــير عن رأيــك (‪ )4‬وهي المقولــة الــتي تفــاخر بهــا ( الكســندر هيج ) الجــنرال‬
‫األمريكي رئيس حلف الناتو السابق ‪ ،‬عند جدار برلين قبل سقوطه المدوي ‪ ،‬في تعبير تــاريخي‬
‫أن خنـق األفكــار مهمــا طــال ‪ ،‬فهــو كالمــاء اللين العنيــد ‪ ،‬ســيجد لـه في النهايــة طريقـًا للتعبــير‬
‫واالنبجاس وشــق الصــخر القاســي ‪ ،‬وإن من الحجــارة لمــا يشــقق فيخــرج منــه المــاء‪ .‬دشــنت‬
‫افتتاحية القرن السابع عشر بنار عمت األفق ‪ ،‬بحرق المفكر اإليطالي ( جيوردانــو برونــو )(‪)5‬‬
‫على نار هادئة ‪ ،‬تعبيرًا عن الشهادة لحرية الفكر أكثر من الفكر بذاتــه ‪ ،‬كمــا ذكــر ذلــك المــؤرخ‬
‫األمريكي ( ويل ديورانت ) فلم يكن خلف برونو مدرسة فكرية ‪ ،‬أو منظومــة معرفيــة متكاملـة ‪،‬‬
‫أو اخــتراق معــرفي مزلــزل من نــوع فلــك كوبرنيكــوس ‪ ،‬أو بايولوجيــا دارون ‪ ،‬أو ميكانيكــا‬
‫غاليلو ‪ ،‬أو رياضيات ديكارت ‪ ،‬أو فلسفة ايمانويل كانت ‪ ،‬أو فلســفة التــاريخ وقــانون التنــاقض‬
‫الفلسفي عند هيجل ‪.‬‬

‫حرية الفكر وفكر الحرية‬


‫كان موت برونو من أجل التعبير أكثر من محتوى التعبير ‪ ،‬وهـذا تأسـيس معـرفي مهم ‪،‬‬
‫وهو ماأعلنه االسالم كمنعطف مصيري في تــاريخ الفكــر االنســاني ‪ ،‬عنــدما ســمح للمختلــف أن‬
‫يبقى على قيد الحياة ‪ ،‬فلم يؤســس لقتــل االنســان من أجــل مايعتقــده ‪ ،‬ومن شــاء فليــؤمن ومن‬
‫شاء فليكفر ‪ ،‬واعتبر الكون مبنيًا على التعددية ‪ ،‬ومبرمجًا على االختالف ‪ ،‬ولو شاء ربك لجعل‬

‫‪80‬‬
‫الناس امة واحدة ‪ ،‬فهو لذلك خلقهم ‪ ،‬إلن صالح الكون وجمالــه بــالتنوع والتعدديــة ‪ ،‬فهــذا هــو‬
‫السر المخفي ‪ ،‬في والدة النظام من التعقيد ‪ ،‬والوحدة من التنوع ‪.‬‬
‫هذه الجدلية المحيرة بين الحرية والرأي ‪ ،‬أي حرية الرأي ‪ ،‬والرأي الحر ‪ ،‬بل ورأي الحرية‬
‫وفلسفتها ‪ ،‬تتعانق في منظومة ثالثية ‪ ،‬في أكبر تحدي فكري اجتماعي ‪ ،‬يبرمج أســلوب العيش‬
‫المشترك ‪ ،‬وطريقة التقاء النشاط االنساني ‪.‬‬
‫ولكن لماذا يشعر البعض بأن الرأي اليجد حريته في التعبير ‪ ،‬وبالمقابل يشــعر البعض أن من‬
‫الواجب تكميم األفواه ‪ ،‬ولجم بعض اآلراء ‪ ،‬وتطويقها ومنع انتشارها ‪ ،‬وتسريبها ضمن أنفــاق‬
‫محكمة وأسالك مطوقــة ‪ ،‬حمايــة لهــا ومنهــا ‪ ،‬من انفجــار الصــواعق الكهربيــة ‪ ،‬وقطــع التيــار‬
‫الكهربي االجتماعي ؟!‬
‫هذه الجدلية المشعة والمعقدة والمحيرة بآن واحد بين الحريــة والــرأي ‪ ،‬الحريــة الــتي تريــد‬
‫لبس المعطف المناسب من الرأي ‪ ،‬والرأي الذي يريد شــق طريقــه الى أرض الحريــة ‪ ،‬بوســيلة‬
‫الحرية المنظمة وليس الفوضى ‪ ،‬تحتاج الى تفكيك خاص ‪ ،‬أعقد وأخطر بكثير من تفكيك األلغام‬
‫األرضية ‪.‬‬

‫من يملك الحقيقة المطلقة ؟‬


‫ليس كل رأي يصدق في قول الحقيقة ‪ ،‬أو يرومها ‪ ،‬أو يزعم قنص الحقيقــة الحقيقيــة‬
‫النهائيــة المطلقــة ‪ ،‬أو يحتكــر الوصــاية على الحقيقــة ‪ ،‬أو يخــدم الحقيقــة ‪ ،‬وليس لجم كــل رأي‬
‫يخدم الفكر ‪.‬‬
‫وإمكانية اإلمساك بهذا التوازن الخفي والدقيق بين الكلمة ‪ ،‬ومسـؤولية نطقهـا ‪ ،‬أو كتابتهـا‬
‫وإذاعتها وتبليغها ونشرها ‪ ،‬هي فلسفة الوجود والبقاء والحوار والنمو االجتماعي ‪.‬‬

‫بين أن تأسر وتؤسر كلمة‬


‫الكلمة كما قال الفيلسوف الصيني ‪ :‬ملك لك قبل أن تنطقهــا ‪ ،‬فــإذا نطقتهــا ملكتــك هي ‪ ،‬فلم‬
‫يكن عبثًا ان امتأل ثراثنا بأمثلة من نوع ‪ :‬خير الكالم ماقل ودل ‪ ،‬وأفضله بيانا ال الطويــل الممــل‬
‫أو القصير المخل ‪ ،‬وكثرة الكالم ينسي بعضـه بعضـا ‪ ،‬ومن كـثر كالمـه كـثر سـقطه‪ ،‬وهـل ُيكُّب‬
‫الناس في النار على وجوههم اال حصائد ألسنتهم ؟ فهذه آليات هامة للخطاب وتفكيكه ‪.‬‬
‫ولبناء الجسر العقالني كان البد من تبني فكرتين جوهريتين ‪ :‬الحقيقة النســبية وتعــدد وجــوه‬
‫األجوبة على الحقيقة ‪ ،‬فمع إدراك نسبية االقتراب واالبتعاد عن الحقيقــة ‪ ،‬يتشــكل تلقائي ـًا خلــق‬
‫التعلم والحوار والنقد الذاتي واالعتراف باآلخر والتواضــع ‪ ،‬وفتح طريقــة آدم ‪ :‬ربي إني ظلمت‬
‫نفسي ؛ باالعتراف بإمكانية الوقوع في الخطــأ واالنحــراف ‪ ،‬فــأعظم النفــوس عنــدها االســتعداد‬
‫الرتكاب أفظع الرذائل ‪ ،‬استعدادها ألكبر الفضائل ‪ ،‬كما قال الفيلسوف الفرنسي ديكارت (‪)6‬‬

‫آليات التوازن النفسية االجتماعية‬


‫والحوار معناه تلقائيًا الحفاظ على اآلخر والتكامل معــه من خالل آليــة الصــيانة االجتماعيــة‬
‫الذاتية ‪ ،‬كما انتبه الى ذلك عالم النفس التحليلي ( آدلر يونج ) الذي أبصر بآليات التــوازن تحكم‬
‫الوجود بكل قطاعاته ‪ ،‬فالفيزيولوجيا تعدل أخالط البدن ؛ فُتَعدل القلوية بالحموضــة وبــالعكس ‪،‬‬
‫وانخفاض تدفق الدم الى الدماغ باالغماء ‪ ،‬في آلية ذكية لحماية المخ من االحتشــاء ‪ ،‬فالســقوط‬
‫الى االرض يوازن مستوى القلب مع الدماغ وتدفق الدم المضمون ‪ ،‬والنفس تقــع في العصــاب‬
‫عنــدما تميــل الى تشــكيل النمــوذج األحــادي بين ( االنطــواء ) و ( االنبســاط ) بين االنفكــاك عن‬
‫الواقــع في األول ‪ ،‬واالنفصــال عن الــداخل في الثــاني ‪ ،‬وتقــوم آليــات النفس الذاتيــة بتصــحيح‬
‫المسار ‪ ،‬وتمرض الحضارات أيضًا باالنكفاء أحــادي الرؤيــة ‪ ،‬كمــا ذهب الى ذلــك ( يــونج ) في‬

‫‪81‬‬
‫تحليلــه مــرض الحضــارة الغربيــة ‪ ،‬عنــدما راهنت على الرفاهيــة الماديــة مقدمــة على حســاب‬
‫الصحة النفسية (‪. )7‬‬
‫ونريد بسرعة أن نشير إلى أنهــا قــوة غــير عاديــة للحضــارة الغربيــة ‪ ،‬عنــدما تقــوم خالياهــا‬
‫الداخليــة ‪ ،‬الممثلــة بعلمــاء النفس واالجتمــاع من داخلهــا في انتقادهــا وتحليلهــا ‪ ،‬فهي ليســت‬
‫حضــارة ماديــة كمــا يــزعم البعض ‪ ،‬ليرتــاحوا من خالل قصــة حصــرم الثعلب لتعــويض مــركب‬
‫النقص ‪ ،‬أو أنهــا ركبت من كرتــون كمــا يتصــور آخــرون ‪ ،‬فكــل حضــارة تقــوم وتعيش على‬
‫مجموعة من القيم ‪ ،‬والتخرج أو تشذ الحضارة الغربية اليوم عن هـذا القــانون ‪ ،‬كمــا اننــا لســنا‬
‫في وضــع حضــارة كمــا يتصــور البعض من خالل طــرح النقيضــين ؛ أننــا في حضــارة روحيــة ‪،‬‬
‫والغرب في حالة حضارة مادية ؟! وهو تصور مغلوط على الجانبين ‪ ،‬فالحضارة الغرب ماديــة‪،‬‬
‫كما النملك نحن حضارة روحية تحلق في السماء وتهوم على أجنحــة المالئكــة ‪ ،‬فنحن باالصــح‬
‫اليوم خارج إطار الحضارة ‪ ،‬قد ودعناها منذ قرون مع أسطر ابن خلدون األخيرة ‪ ،‬كما في مثــل‬
‫القطار الذي شبهته فيما سبق ‪ ،‬فنحن نعيش حالة قطار تعرض لحــادث تــاريخي فــارتمى خــارج‬
‫القضبان ‪ ،‬وتعرض ركابه لكارثة مروعــة تاريخيــة ؛ فهم اآلن بــدأوا يســتوعبون حجم اإلصــابة‬
‫وهولها ‪ ،‬كما أن القطار لم يركب بعد على قضبانه ويسـتأنف مسيرته ‪ ،‬بل إن البعض يذهب الى‬
‫درجة أن األمــة هي في حالــة ســرطان مــدنف الفائــدة تــرجى من أي عالج فيهــا ‪ ،‬بمــا فيهــا كــل‬
‫مقاالتنا التحليلية التي نكتبها ‪ ،‬وهي صورة كئيبة سوداء مأساوية تــدعو الى اليــأس ‪ ،‬ويمضــي‬
‫البعض أكثر من هذا عندما يفترضـون أنهـا قـد مـاتت وشـبعت موتـا كمـا صـرح لي بـذلك كـاتب‬
‫مرموق ‪.‬‬
‫آلية التوازن التي أشــار إليهــا المحلــل النفســي يــونج تنطبــق أيضـًا على الحــوار االجتمــاعي‬
‫والتوازن هنــا ‪ ،‬وآليــات التعــديل فيــه بين الكلمــة ونطقهــا والحــوار وشــروطه ‪ ،‬فالحموضــة في‬
‫الجسم التلغي القلوية بل تعدلها ‪ ،‬وهي تزيد من الحموضة في األماكن التي تكثر فيها الجراثيم ‪،‬‬
‫كمــا في المعــدة المســتقبل األول للطعــام ‪ ،‬والمهبــل عنــد المــرأة الفوهــة المباشــرة بعــد الوســط‬
‫الخارجي ‪ ،‬في حين تمتعت األمعاء والرحم بعدها بالقلوية ‪ ،‬كذلك آليات الحوار والخطاب ‪ ،‬يعني‬
‫بالتعديل وليس اإللغاء ‪ ،‬وعندما تنطلق الحركة ليس الىالتعديل ؛ بـل همهـا األكـبر اإللغـاء فإنهـا‬
‫تلغي نفســها ‪ ،‬وتنتهي رحلتهــا قبــل أن تبــدأها ‪ ،‬وهي حكمــة أدق من دبيب النمــل على صــفاة‬
‫ســوداء في الليــل البهيم ‪ ،‬وهي الحكمــة القريبــة المحجوبــة الــتي اليتفطن لهــا اآلحــاد أو دعنــا‬
‫نتفاءل العشرات من الخليقة ‪.‬‬

‫الشوق الخالد الى البحث عن الحقيقة‬


‫لو خيرنا بين أمرين مفصليين محوريين ‪ :‬بين امتالك الحقيقة النهائية ‪ ،‬والشــوق الخالــد الى‬
‫البحث عنها ‪ ،‬كما قال فيلسوف التنوير األلماني ( ليسنج )(‪ )8‬من القرن الثامن عشــر ‪ ،‬لــوجب‬
‫أن نجثو خاشعين نمد اليد باتجاه الخيار الثاني ‪ ،‬ألن الحقيقة النهائية والمطلقة والشمولية ‪ ،‬لن‬
‫يملكها أحد أو يحيط بها كائن ‪ ،‬بل هي هلل وحده ‪ ،‬األول اآلخر ‪ ،‬الظاهر البــاطن ‪ ،‬األزلي األبــدي‬
‫السرمدي ‪ ،‬الذي التأخذه سنة والنوم ‪ ،‬وهو بكل شيء عليم ‪ ،‬وأحــاط بكــل شــيء علمــا ‪ ،‬ويعلم‬
‫السر وأخفى ‪ .‬ويعلم خائنة األعين وماتخفي الصدور ‪.‬‬
‫إذا كنا نسبح بين الالنهايتين ‪ ،‬بين العدم الذي خرجنا منه ‪ ،‬والعدم الــذي نرجــع إليــه ‪ ،‬بين‬
‫العالم الصغير الذي يتضاءل فال تعرف نهايته ‪ ،‬وبين العالم الكبير من األفالك الذي يتسع ويمتــد‬
‫فاليحيط العقل بنهايته ‪.‬‬

‫السباحة بين الالنهاية والعدم‬


‫إذا كنا في اللحظة الواحدة كما يقول الفيلسوف الفرنسي ( باسكال ) نسبح بين النهــايتين (‬
‫‪ )9‬النحيط بهما واليطوقهما تصورنا واليصــل الى حافتيهمــا مــداركنا ‪ ،‬فنحن الشــيء إذا قورنــا‬
‫بالالنهاية التي تغمرنا ‪ ،‬ونحن كل شيء الى العدم الذي خرجنا منه ‪ ،‬عندما لم نكن شيئًا مذكورا‬

‫‪82‬‬
‫‪ ،‬فنحن وفي اللحظة الواحدة كل شيء وعدم ‪ ،‬في تناقض السبيل الى معرفة كنهــه أو فــك لغــزه‬
‫أو مسح طلسمه ‪.‬‬
‫إن هذا يدفعنا الى استنشاق كل لحظــة حيــاة ؛ لفهم وفــك لغــز أي جزئيــة من أســرار الحيــاة ‪،‬‬
‫حــتى المــوت المزلــزل يتحــول الى تجربــة أخــيرة كمــا كــانت تصــرح بــذلك األمــيرة األلمانيــة‬
‫(شارلوتنبرج) في حواراتها مع الفيلسوف األلمــاني (اليبنتس) في مواجهــة الـذات مــع صــاعقة‬
‫االندثار المؤقت باتجاه رحلة الخلود‪ ،‬فلم تعد تخاف من الموت ألنه سيكون الكاشــف األخــير عن‬
‫البصيرة ألدراك ما عجزت عن إدراكه في الحياة مع كل رحلة الفلسفة‪ ،‬ألن الحياة والموت أكــبر‬
‫من الفلسفة وحواراتها‪ ،‬فالموت هو اليقين الذي تنكشف عنده البصيرة؛ والبصر يومها حاد جدًا‬
‫يخترق السجف‪ ،‬فبصرك اليوم حديد ‪.‬‬
‫ال إدانة وال تزكية‬
‫هذه الكلمات التريد إدانة طرف على حساب تزكية آخر ‪ ،‬أو مجاملة وجود على حساب إهمال‬
‫وتنكر وجود مقابل ‪ ،‬بل هي محاولة سبر واستنطاق آلية الكلمة وتعبيرها ‪ ،‬في محاولة تأســيس‬
‫العقالنية ‪ ،‬وحرية الرأي المبنية على االعتراف باآلخر ‪ ،‬وحماية وجوده ‪ ،‬باعتبار أن المحافظة‬
‫على اآلخر هي محافظة على الذات ‪ ،‬وتدمير اآلخر هي تدمير للذات ‪ ،‬مثل عمل الرافعة تمامــًا ‪،‬‬
‫فــاإلخالل بــالتوازن يرفــع طرف ـًا على حســاب تهميش وتحييــد وعــزل وإلغــاء وتصــفية الطــرف‬
‫اآلخر ‪ ،‬فكان البد من إذن من حوار عقالني ‪ ،‬لتأســيس وتدشــين عقليــة وأرضــية جديــدة للبنــاء‬
‫االجتماعي المستقبلي ‪.‬‬
‫االعتراف بالتعددية‬
‫مع تأسيس فكرة النسبية في إدراك الحقيقة ‪ ،‬ومبدأ الحوار ‪ ،‬واالعتراف بالتعددية ‪ ،‬وإلغــاء‬
‫االحتكار والوصاية األخالقية على الحقيقة ‪ ،‬ونبذ العنف جملة وتفصيال ‪ ،‬وكل مــايقرب إليــه من‬
‫قول وعمل ‪ ،‬وتبني مقولة ماأراه حقًا ويحتمل الخطأ ‪ ،‬وماتراه أنت خطأ ويحتمل الصواب ( ‪)10‬‬
‫يفضي الى الجدلية الفكرية الخصبة وجو التزاوج والتحـرر من العنـة والعقم الفكـريين ‪ ،‬وبدايـة‬
‫تأسيس مناخ يسمح للجميع بالتعبير والوجود والنمو المتبادل ‪ ،‬وسنشد عضــدك بأخيــك ونجعــل‬
‫لكما سلطانا ‪.‬‬
‫لم يطلب الرسول ص أذنــا من قــريش بتبليــغ أفكــاره ‪ ،‬كمــا لم يكن حريصــا على إيــذاءهم ‪،‬‬
‫وكان موضـع ثقتهم الى آخـر لحظـة ‪ ،‬عنـدما تـرك عليـا (ر) في فراشـه كي يعيـد األمانـات الى‬
‫أصحابها ‪ ،‬وكانت تعرف عنه قريش كما صرح أبوسفيان بذلك الى هرقل ‪ ،‬عندما كان في سفره‬
‫الى بالد الشام ‪ ،‬أنه اليغدر واليكذب ويحافظ علىالعهود والمواثيق ويتمتع بأخالقية عاليــة فــوق‬
‫الشبهات ‪.‬‬

‫وصفة سحرية‪ :‬تخلص من العنف تتحرر من الخوف !!‬


‫الخوف يأتي في العادة من تبني العنف وماقرب إليه من قــول وعمــل ‪ ،‬في آليــة معقــدة ‪،‬‬
‫فــالعنف يبحث عن الســرية الــتي تشــكل وســطه المالئم الســتنبات جراثيمــه ‪ ،‬والســرية بــدورها‬
‫تتعــانق مــع العنــف في زواج غــير شــرعي ؛ فــالعنف يحب الســرية ويبحث عنهــا ويخلقهــا ‪،‬‬
‫والسرية تغلف العنف وتـؤمن لـه الســتر والحمايــة والتحــريض واالعـداد ‪ ،‬في تركيبــة مرضــية‬
‫مشؤومة انفجارية مؤذية ‪.‬‬
‫يخطيء بدون حدود من يتصور طبيعة وجذور المرض السياسية غير الثقافيــة ‪ ،‬وينســى في‬
‫غمرة األحداث وحمى الوسط أن السياسي هو حفيد المثقف ‪.‬‬
‫ِّظ‬
‫السياســي يلمــع تحت الضــوء في العــادة ولكن المثقــف الينتبــه إليــه أحــد ‪ ،‬وهــو المن ر‬
‫والمؤسس للفكر السائد وكل ذيوله واختالطاته ‪.‬‬
‫قول الحق وحرية الرأي مصطلحان يتصالن بثقافتين ‪ ،‬ولكنهمــا يصــبان في النهايــة في نفس‬
‫الخانة ‪ .‬كلمة قول الحق والصدع به مصطلح نبوي ‪ ،‬وحرية الرأي مصـطلح غـربي طغى وسـاد‬
‫في وسطنا الثقافي اليوم ‪ ،‬ونحن تحت تأثير وضغط ساحق لفكرة ‪ ،‬مؤداهــا أن الحــق معــروف ‪،‬‬

‫‪83‬‬
‫ولكن الصدع به صعب ومكلف إن لم يكن مستحيًال ‪ ،‬ولكن مامدى صمود هــذا المفهــوم للتحليــل‬
‫والتفكيك ؟‬
‫هل عندنا ما يستحق حرية التفوه به ؟‬
‫هل عندنا رأي ولكن النملك الحرية للتفوه به ؟ ومشكلتنا بالتالي هي مشكلة وعي متفوق‬
‫ممتاز اليجد قاعدته من الحرية ؟! أم أن نفس الحريــة ومادتهــا من نفس الــوعي ومســؤوليته ؟‬
‫أي أننا الحرية لنا ألنه ليس عندنا مايستحق أن نتفوه به ؟ طالما كــان التفــوه معنــاه قتــل اآلخــر‬
‫وتصفيته وإزالته من الوجود ‪ ،‬نزع ماله وسلطانه أو روحه ! وهذا ليس برأي والبحق ‪ ،‬فلهــذا‬
‫الحرية لنا ‪ ،‬إلننا بإلغاء اآلخر ألغينا أنفسنا ‪ ،‬بآلية اإلعدام واإللغاء المتبادلين ‪.‬‬
‫يمكن أن ننظر الى المشكلة ورؤية الحق في ضوء جديــد ‪ .‬هــل يمكن أن نــرى الحــق في حــل‬
‫المشكالت وليس خلقها ؟! هل يمكن أن نتصــور أن نتقــدم بحــل اليخســر أحــد فيــه شــيئًا ويــربح‬
‫الجميع ؟ أم أن التصور يقوم على إيذاء اآلخر وتطهير األرض من شره واعتباره خبيث ـًا نجس ـًا‬
‫شريرًا ؟!‬
‫عندما ضرب هللا مثل األمم السابقة في القرآن كان يهدف تقريب األمثلة الى أذهاننا ‪ ،‬وعندما‬
‫تكلم عن إرم ذات العمــاد الــتي لم يخلــق مثلهــا في البالد ‪ ،‬كــان يعــني العصــر الــذي ســادت فيــه‬
‫وشمخت ثم مالت فهوت ‪ .‬وإن مايحدث اآلن من االتحاد االوربي لم يحــدث لــه نظــير في تــاريخ‬
‫الجنس البشري حتى اآلن ‪ ،‬فهو خلق جديد وتطور حديث سلمي يربح فيه الجميع واليخسر أحد‬
‫شيئًا ‪.‬‬
‫إن المطالبة بالديموقراطية قد تحمل في طياتها بعض الخســائر لبعض األطــراف ‪ ،‬فقــد يكــون‬
‫من الحكمة أن نبدأ بمستوى اليخسر فيه أحد شيئًا المال والزعامة والأرض وإنما يربح الجميــع‬
‫ويزدادون قوة ‪ ،‬بحيث نمهد لألمن االجتماعي بترسيخ خطوات الحقة واعدة ومبشرة اكثر ‪.‬‬
‫إن التاريخ يقدم لنا أحداثًا عجيبة ‪ ،‬فعندما تعاون العرب في عام ‪ 1973‬تزلــزل العــالم واعــتز‬
‫العرب وغال بترولهم ‪ ،‬وعندما تنازع بلدان عربيــان تصــدع العــالم كلـه ولم يلـتئم بعــد ‪ ،‬وخســر‬
‫العرب وربح اآلخرون كل شيء ‪ ،‬وليس عندهم خوف اال أن يكــون ســببا ليقظــة العــرب ‪ .‬فكــان‬
‫البد لنا من طرح أفكار نقية معقمة راسخة مفكــر فيهــا كثــيرا ‪ ،‬ألن الوضــع يقتضــي طــرح رؤى‬
‫جديدة والتبشير بالدخول الى حالة األمن العربي ‪.‬‬

‫إلغاء ثالث بثالث‬


‫أخطر ثالث أمراض تتعرض لها كل ثقافة مثل إشعاعات الكون الضارة هي‪ :‬الخوف‬
‫والخرافة واإلكراه والنزاعات في السياسة والدين والفكر‪.‬‬
‫وجاء الدين ليحرر اإلنسان من الخوف والحزن فالذين قالوا ربنا هللا ثم استقاموا تتنزل عليهم‬
‫المالئكة إال تخافوا وال تحزنوا ولكن ماهي طريقة االستقامة؟‬
‫لقد استفدت من زوجتي الراحلة القديسة ليلى سعيد تكرارها لهذه الجملة‪:‬‬
‫تحرر من ثالث بثالث‪ :‬التحرر من العنف يحرر من الخوف‪ ،‬وتأكيد مفهوم السننية يحرر من‬
‫الخرافة‪ ،‬واإليمان بال إكراه في الدين يحرر من المنازعات‪.‬‬
‫ينبغي أن تعترف كل األطراف ولو باحتمالية حدوث الخطأ ‪ ،‬وهذا ينسحب على المثقف أكثر من‬
‫السياسي ‪ .‬المثقف ينبغي أن تكون عنده قدرة مراجعة النفس واعتماد آلية النقد الذاتي وتحرير‬
‫التوبة ‪ .‬إن األمر يحتاج الى حذق شديد‪ ،‬ولكن الطب الجسدي يقدم امثلة عظيمة للطب النفسي‪.‬‬
‫إن الفكرة األساسية األولى التي ينبغي أن ننطلق منها‪ ،‬أن نتعاون على كشف الحل بدون‬
‫خسارة أحد‪ ،‬فهذا الذي يقول هللا عنه وتواصوا بالحق‪.‬‬
‫إن كشفًا صاعقًا من هذا النوع يريح ويربح منه الجميع؛ فالحق ليس أن تأخذ من األول لتعطيه‬
‫لآلخر‪ ،‬ولكن أن تدل الجميع على شيء نافع‪.‬‬
‫ويظن البعض ان قول الحق صعب ولكنه في الواقع سهل‪ ،‬بشرط أن نفهم طبيعة الحق‪ ،‬فالحق‬
‫اليريد قتل أحد‪ ،‬أو إيذاء أحد‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫وهو تصور انقالبي في العالقات ‪.‬‬

‫جدلية الحق والباطل‬


‫كما يظن البعض أن الحق يجب أن يقتل الباطل‪ ،‬ولكن النحتاج لتوليد الحق أن نقتل الباطل‪ ،‬كما‬
‫النحتاج لشفاء المرض بقتل المريض‪ ،‬فمجيء الحق يؤذن بزوال الباطل‪ ،‬وقل جاء ومايبديء‬
‫الباطل ومايعيد‪ ،‬وعند مجيء الحق يزهق الباطل تلقائيًا‪.‬‬
‫إذا حضر الحق مات الباطل موتًا طبيعيًا‪ ،‬بموت الفكرة الباطلة مع بقاء صاحبها على قيد الحياة‪،‬‬
‫كما يتعافى المريض‪ ،‬ويبقى على قيد الحياة‪ ،‬وقد تخلص من المرض ونشط من عقال‪.‬‬
‫وهادفيلد عالم النفس في كتابه تحليل النفس والخلق أشار إلى فكرة خالقة أنه ليس من تصرف‬
‫خاطيء؟ بل هو التصرف الصحيح ولكن في المكان والزمان غير المناسب فهذه أعظم حكمة؟؟‬
‫كما البد من التفكير في الحق كثيرا‪ ،‬إلنه يمكن قوله حينما يتشكل االنسان من عجينته‬
‫فاليخاف‪ ،‬والحق اليحرض آليات الخوف عند أحد‪ ،‬ويمكن قوله في كل مكان وزمان‪ ،‬وكذلك‬
‫حرية الرأي؛ فاالنسان حينما يكون عنده رأي ينفع الجميع واليضر أحدًا‪ ،‬يكتسب حرية حركته‬
‫آليًا؟!‬
‫ونحن ال أفكار عندنا من هذه النوعية‪ ،‬ولو أمتلكنا ثقافة من هذا النوع لنشرنا أفكارنا في كل‬
‫مكان؛ إلن الرأي والحق والحل غير الخاسر يمكن قوله‪ ،‬فال يمكن اعتقاله ومصادرة حريته‬
‫ويمكن نطقه‪.‬‬
‫أما الممنوع فهو السب والدعوة الى القتل‪ ،‬وهذا مايجب أن نتجنبه‪ ،‬ولو سمح به؟!‬
‫وأذكر أنني اجتمعت بالعريان في أمريكا وقال كنا نود استضافتك ولو تحصن بأفكاري التي‬
‫أنادي بها من الالعنف أو العلم والسلم كما هي عنوان زاويتي لكان بين أهله‪ ،‬ولكن شاء هللا له‬
‫االمتحان حتى يطهر من أفكار العنف وقد اليطهر ويخرج من محبسه وهو أكثر كراهية‬
‫لألمريكيين؟؟ ولذا كتبت فيما أذكر في االنفرادية التي حبسني فيها البعثيون هذه الجملة‪ :‬كل من‬
‫دخل السجن خرج‪ .‬وليس كل من خرج سلم‪ .‬رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق‬
‫واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا‪..‬‬
‫وأعترف أنني وفي حبستي الثالثة هذه‪ ،‬أنني خرجت ولكن لم تتبين األمور أمامي بعد‪ ،‬حتى‬
‫حبست الحبسة الطويلة عام ‪ 1973‬م‪ ،‬في غرفة تتسع لشخصين فزربنا فيها عشرة اشخاص؟‬
‫وكانت جيدة‪ ،‬وكان جودت سعيد رفيقي في السجن فكان نعم المعين‪ ،‬ألنني خرجت فبصري‬
‫حديد‪ ،‬وتكونت عندي نظرية الكفاح السلمي‪ ،‬فنحن وغاندي وعبد الغفور خان والدالي الما‬
‫ومارتن لوثر كينج ومالكوم إكس وسقراط وعيسى واألنبياء والفالسفة في خندق واحد فنحن‬
‫للرب شاكرون وبحمده الهجون‪..‬‬
‫فالبد من فهم هذ االموضوع بعمق‪ ،‬ووضوح مبين‪ ،‬وبشكل معقم من الطمع في سلب أحد شيئًا‬
‫مما يملك‪ ،‬ويتصل هذا الموضوع الدعوة الى منع القتال بين المسلمين‪ ،‬حيث اليوجد الرشد‪،‬‬
‫وإنما الجميع يسبح في ثقافة الغي ومشرب بمفاهيم العنف‪ ،‬وهنا اليفضل غي على غي‪ ،‬وإنما‬
‫يفضل رشد على رشد‪.‬‬
‫فهذه هي طرف من أسرار الرأي وحريته‪ ،‬فنحن الذين نأسر الرأي‪ ،‬ونحن الذين نطلق سراحه‬
‫بما كسبت أيدينا ‪.‬‬

‫هوامش ومراجع ‪:‬‬


‫‪85‬‬
‫(‪ )1‬المستصفى من األصول ـ أبو حامد الغزالي ـ المجلد الثاني ص ‪ )2( 21‬المقدمة البن خلدون ـ الفصل التاسع‬
‫والعشرون ـ في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته ص ‪ 533‬والفقرة من ص ‪ 535‬و ‪ )3( 536‬يراجع‬
‫في هذا كتاب ( مشكلة األفكار في العالم االس‹‹المي ) لمال‹‹ك بن ن‹‹بي ـ ترجم‹‹ة محم‹‹د عب‹‹د العظيم علي ـ نش‹‹ر دار‬
‫الفكر ص ‪ 197‬ويرى مالك أن األفكار الميتة نتيجة تركة ثقافية لم تصف ‪ ،‬والقاتل‹‹ة نتيج‹‹ة تقلي‹‹د أعمى (‪ )4‬قص‹‹ة‬
‫الفلسفة ـ تأليف ويل دي‹ورانت ـ ترجم‹ة محم‹د المشعش‹ع ـ فص‹ل فولت‹ير (‪ )5‬تم ح‹رق المفك‹ر جيوردان‹و برون‹و‬
‫وعمره ‪ 52‬سنة في ‪ 17‬فبراير من عام ‪ 1600‬م في ساحة عامة في روما بسبب آراءه التي ترى الكون مثًال أك‹‹بر‬
‫من مجرتنا في امتداد النهائي ‪ُ .‬أحرق بأمر من محاكم التفتيش واليوم أقيم تمثال لحرية الفكر في مكان حرق‹‹ه بع‹‹د‬
‫ق‹‹رون يراج‹‹ع في ه‹‹ذا المص‹‹در األلم‹‹اني ( كروني‹‹ك‪ )DER MENSCHHEIT CHRONIK‬عن ت‹‹اريخ‬
‫االنسانية ص ‪ )6( 454‬المقال على المنهج أو المنهج إلحكام قيادة العق‹‹ل والبحث عن الحقيق‹‹ة في العل‹‹وم ـ ريني‹‹ه‬
‫ديكارت ـ نشر وترجمة فواز المالح ومحمود الصالح ص ‪ )7( 22‬كتاب العبقرية ( تاريخ الفكرة ) تأليف بنيلوبي‬
‫مري ـ ترجمة محمد عبد الواحد محمد ـ سلسلة عالم المعرفة رقم ‪ 208‬الفصل ‪ 12‬ـ يراجع البحث الممت‹ع ـ ال‹ذي‬
‫كتبه انتوني ستور عن العبقرية والتحليل النفسي ص ‪ )8( 312‬جاءت هذه الفقرة في مقدمة كتاب األمراض القلبية‬
‫تأليف مدني الخيمي االس‹تاذ الم‹درس في جامع‹ة دمش‹ق س‹ابقًا (‪ )9‬يراج‹ع في ه‹ذا كت‹اب قص‹ة الحض‹ارة لوي‹ل‬
‫ديورانت عن باسكال وكذلك الكتاب الشيق الذي كتب‹‹ه نجيب البل‹‹دي فق‹‹رة الالنهايت‹‹ان المش‹‹هورة ‪ ،‬وهي من أب‹‹دع‬
‫ماكتب في النثر الفرنسي (‪ )10‬بحثت هذه الفكرة بشكل موسع في كتابي النقد الذاتي ‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫فلسفة التفسير‬
‫منذ أمد بعيد أتمنى أن أكتب حول الفيلسوف (إيراسموس) من روتردام‪ ،‬وهو من رواد الفلسفة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وكان تقيا‪ .‬وهو في ثقافتنا العربية مجهول‪ ،‬والمجاهيل أكثر من رمال عالج عند قوم‬
‫أميين‪ ،‬ودعوا القراءة منذ أيام ابن خلدون‪ ،‬وتحولوا في عصر الفضائيات إلى إنسان الكهوف‬
‫الذي يتعلم مشافهة ويفهم بالصورة‪ ،‬فبئسما يفعلون‪.‬‬
‫وإيراسموس كان يتكلم كمن له سلطان‪ ،‬وهو كالم يشبه ما جاء في القرآن بلغة هولندية‪.‬‬
‫والفالسفة أوالد عالت‪ ،‬أمهاتهم شتى وأبوهم واحد‪ ،‬وهم من الذين أنعم هللا عليهم‪ ،‬يعيشون في‬
‫غمرة سعادة ال توصف‪ ،‬وروح دهشة طفولية ال تفارقهم‪ ،‬واليوم ينفتح العالم كله على بعض‬
‫استجابة لنداء إبراهيم الخليل‪.‬‬
‫وحسب مالك بن نبي المفكر الجزائري فإن " من يدخل العصر وهو غير محيط بإضافات‬
‫المعرفة اإلنسانية سوف ينال السخرية"‪ ،‬بمعنى أن (الزهراوي) لو تقدم إلى مؤتمر في جراحة‬
‫األوعية الدموية هذه األيام‪ ،‬وتحدث عن طريقته في معالجة األنورزما (أمهات الدم) فلربما اعتبر‬
‫كالمه في أحسن األحوال مسليًا‪ ،‬ولسوف يكون المستمعون بين مبتسم ومتضايق؛ ولكن لن يحمل‬
‫أحد كالمه على محمل الجد‪.‬‬
‫وفي زمن الزهراوي كانت معالجة أمهات الدم (انتفاخات الشرايين) تعالج باالنتباه إلى عدم‬
‫(بطها) أي ثقبها ـ على حد كالمه ـ كونها تنزف حتى الموت‪ ،‬ونصح بربطها بخيوط من‬
‫الحرير‪ ،‬وهو كالم صحيح في وقته‪ ،‬قبل اختراع الشرايين الصناعية من الداكرون والجورتكس‬
‫والتفلون‪.‬‬
‫ولكن تطور هذا اللون من الجراحة وصل حاليا إلى مستوى (الال جراحة)؛ وهو من أعجب‬
‫انقالبات الطب‪ ،‬فتعالج بدون فتح الجسم‪ ،‬بثقب بسيط يدخل منه إلى المكان‪ ،‬وحتى بطريقة جديدة‬
‫اسمها النوتس يتم الدخول إلى أي مكان من خالل الفتحات الطبيعية في الجسم من فم ومهبل‬
‫وشرج وأحليل وأنف‪ ،‬والكلمة النوتس هي مجموعة الحروف األولى التي تقول الدخول عبر‬
‫الفوهات الطبيعية إلى الجسم؛ فيوضع داخل الشريان المنفوخ والمهدد باالنفجار شبك معلق‬
‫بخطافات‪.‬‬
‫ونحن هنا لسنا بصدد استعراض تاريخ الجراحة بل بصدد بحث العولمة‪.‬‬
‫وإذا كان هذا الكالم يصلح للجراحة‪ ،‬فهو ينطبق على كتب التفسير‪ ،‬فال يمكن إضاءة القرآن بآراء‬
‫رجال عاشوا في القرن الثالث الهجري‪ ،‬كما ال يمكن فتح جمجمة مريض اليوم بأدوات فرعونية‪.‬‬
‫وهذا ليس انتقاصًا من قدر ابن كثير‪ ،‬وال نفخا بالجراح سيم كورت من كيل‪ ،‬ولو بعث ابن كثير‬
‫لفعل هذا وبدل كتابه وأعلن تاريخيته أي أنه انتهت صالحيته‪ ،‬ولكننا لألسف ما زلنا نستهلك‬
‫أدوية فاتت صالحيتها مخالفين لكل علوم الصيدلة والدواء‪.‬‬
‫كان ابن كثير في عصره رائدًا‪ ،‬واليوم عظاما في التراث‪ ،‬ومن يريد أن يبني ثقافة جديدة عليه أن‬
‫يكون رائدا من روح العصر‪.‬‬
‫فال يمكن بناء ثقافة إسالمية معاصرة بتفسير ابن كثير‪ ،‬بل البد من اإلسراع بتشكيل ثقافة إسالمية‬
‫معاصرة تعتمد العلوم اإلنسانية المساعدة‪.‬‬
‫ومثال على ذلك أنه اليمكن فك سر سد ذي القرنين بدون معرفة تاريخية مقارنة وهل كان‬
‫قورش؟ ألن االسكندر مات فاجرا سكيرا غارقا في دن من الخمرة المعتقة؟ كذلك بحث‬
‫أركيولوجي عن مكان سد هائل من الحديد والنحاس؛ "قال آتوني أفرغ عليه قطرا" وهي‬
‫الصناعة المتطورة التي قام بها سليمان‪ ،‬بعد أن الن الحديد في القرن الثامن قبل الميالد لداوود‪.‬‬
‫وأنا أفكر منذ زمن بعيد للتفرغ لمشروع من هذا النوع في وضع تفسير يعتمد العلوم اإلنسانية‬
‫المساعدة‪ ،‬وكنت مع األستاذ هشام علي حافظ على وشك البدء بالمشروع‪ ،‬لوال أن خطفته يد‬

‫‪87‬‬
‫الموت‪ ،‬كما فعلت مع أعز إنسان على قلبي زوجتي ليلى سعيد؛ فتقطعت ذراعي ضربة واحدة‪،‬‬
‫حتى يأذن هللا بمدي بثماني أيد مثل راقصة المعبد الهندية‪.‬‬
‫وابن تيمية كان متمردا على أفكار عصره‪ ،‬وسابقا لفكر زمانه‪ ،‬وُض ِر ب من أجل أفكاره‪ ،‬وطارت‬
‫عمامته‪ ،‬وهو يساق بالقوة من المنبر للتعزير‪ ،‬ولو بعث في أيامنا لضرب من جديد وبالرصاص‪،‬‬
‫هذه المرة على يد من ينشر كتبه ويعيد طباعتها‪ ،‬بعد أن يتبرأ منها؟‬
‫واألنبياء ضربوا واتهموا بالسحر والشعر والكذب والجنون والكهانة بنفس اآللية النفسية‪.‬‬
‫والعولمة هي اتجاه القرآن‪ ،‬ونداء األنبياء‪ ،‬ومصير اإلنسانية‪ ،‬ونهاية الرحلة األنثروبولوجية‪،‬‬
‫وهي حركة الكون‪.‬‬
‫وكل خطاب القرآن كان معنونا للناس أو المؤمنين وليس في القرآن آية واحدة من النتن القومي؟ ‪:‬‬
‫يا بني آدم ‪ .‬يا أيها الناس‪ .‬يا أيها الذين آمنوا‪ .‬ولم يكن الخطاب قوميا أو عنصريا أو جنسيا‬
‫مخصصا للذكور؛ بل المؤمنين والمؤمنات‪ ،‬وضرب هللا المثل بامرأة فرعون ومريم نماذج التقى‬
‫والهدى‪.‬‬
‫ًا‬
‫واعتبر القرآن أن هللا خلق اإلنسان من ذكر وأنثى وجعلهم شعوب وقبائل ليتعارفوا وليس ليتقاتلوا‪.‬‬
‫وعندما تحرك اإلنسان األول من شرق أفريقيا قبل ‪ 200‬ألف سنة وهو اإلنسان الثقافي‪ ،‬ولعله آدم‬
‫المقصود‪ ،‬وصل إلى الشرق األوسط قبل ‪ 65‬ألف سنة‪ ،‬وتابع سيره عبر أوربا‪ ،‬وانتهى قبل ‪12‬‬
‫ألف سنة في األمريكيتين‪ ،‬ورحلته هذه كانت على األقدام‪ ،‬وكان التواصل مستمرًا ومنقطعًا على‬
‫شكل كوانتوم بشري‪ ،‬عندما كانت الوحدات الحضارية تنشأ‪ ،‬وال تعرف عن بعضها شيئًا كما في‬
‫حضارة الصين واإلنكا‪.‬‬
‫والعولمة حركة كونية مثل تساقط الورق في الخريف‪ ،‬واخضرار األرض في الربيع‪ ،‬أو البرد‬
‫في الشتاء‪.‬‬
‫وكما في الرياضيات في علم (التفاضل والتكامل) فإن (البيولوجيا) تتكامل من خالل عمل ضفيرة‬
‫من األجهزة‪ ،‬كذلك يتكامل البشر في المجتمع من خالل تنوع االختصاصات‪ ،‬وكذلك تتكامل‬
‫المجتمعات فتنفتح على بعضها البعض‪ .. .‬وهللا يعلم وانتم ال تعلمون‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫فلسفة الثورة واالنقالب‬
‫كل حصان قابل للــترويض اال الحصــان العســكري فإنــه يجمح براكبــه فيــدق عنقــه هكــذا جــاءت‬
‫أخبار االنقالبات ووقائع التاريخ‪.‬‬
‫هذا المرض أصيب به كــل فصــائل المنطقــة من قومــيين واســالميين؛ فأمــا القوميــون فقــد التهم‬
‫بعضهم بعضًا كما تلتهم أنثر العنكبوت ذكرها في يوم الزفاف؟‬
‫حدث هذا عندما أصبحت السلطة والسالح في أيديهم‪..‬‬
‫كان ذلك في الكتاب مسطورا‪.‬‬
‫وبلغ األمر بالبعثيين العبثيين أن حكموا قائديهم الروحيين (عفلق) و (البيطار) بالشـنق والخنـق‬
‫والفشكة والخنجر؛ فأما عفلق فنجا وهرب‪ ،‬ولحقوا صالح البيطار في باريس فقتلــوه في رابعــة‬
‫النهار بطلقة في الجمجمة فما أقال؟‬
‫ولحقــوا العطــار الـزعيم اإلسـالمي في آخن من ألمانيــا فنجــا وقتلـوا زوجتــه بســبع طلقــات وهم‬
‫يهتفون فوق الجثة الممزعة‪ ،‬ثم سافروا إلى أرض األندلس الــرطيب فاغتــالوا الصــباغ الخطيب‬
‫الحمصي بفشكة في القذال فما تنفس بعدها؟‬
‫وكانت الحلقة الداخلية االنقالبية لمحزنة ‪ 8‬آذار ـ مارس المشئومة في سوريا من خمس حلقات‬
‫مثل قشر البصل‪ ،‬ففتكت كل حلقـة بـالتي فوقهـا‪ ،‬وطـار أبـو عبـدو الجحش ـ عفـوا هكـذا يعرفـه‬
‫الشعب السوريـ ومات متعفنا في النهايـة صـالح جديـد العقـل اليسـاري المـدبر في سـجن المـزة‬
‫العسكري وهو يلعن اليوم اليوم الذي ولدته أمه‪،‬‬
‫وأما رئيس االســتخبارات عبــد الكــريم الجنــدي الــذي كــان إذا اشــتهى امــرأة في أبــو رمانــة من‬
‫عاصمة األمويين أتته في ساعة بيد الحشاشين‪ ،‬حتى نحره رئيس القراصنة أو انتحر‪.‬‬
‫ومررت أنا على قبره في السلمية وقد استسلم لرقدة القبر وفوق قبره مكتوب وال تحسبن الــذين‬
‫قتلوا في سبيل هللا أمواتا فهززت رأسي وقلت في سبيل هللا أم الحزب والشيطان؟‬
‫وفي عدن تقاتل الرفاق في ليلة نحس مستمر فذبح الرفاق الرفاق وخــرج بعضــهم مثــل قصــص‬
‫العراب وآل كابوني يزحف من صالة اإلعدامات مثل الزواحف البرية؟‬
‫وأما حسن البنـا مؤسـس (األخـوان المسـلمين) فقـد قضـى نحبـه عنـدما انفجـر بـه لغم (التنظيم‬
‫الخاص) الذي صنعه على عينه؛ فلم يكن مصرعه سوى رد فعل عــادي على مقتــل النقراشــي و‬
‫(يداك أوكتا وفوك نفخ)‪.‬‬
‫حينما يعزم الجناح المدني على القفز الى السلطة على ظهر الحصان العسكري يرى األخــير أنــه‬
‫وضع دمه على كفه في هذه المغامرة الكبرى فهـو اولى بثمـرة السـلطة‪ ،‬وإذا قـامر فريـق ثـاني‬
‫فسولت له نفسه االنقضاض على الذئب األول كان جاهزًا بالمرصاد لسفك الدم؟‬
‫وهكذا فالقتل وسفك الدماء شرط أساسي الستتباب األمن في نظر االنقالبيين ؟‬
‫وعندما فشل هتلر في انقالبه عام ‪ 1923‬م وجلس في الســجن انكب على تــأليف كتابــه الشــهير‬
‫(كفاحي ‪ )MEIN KAMPF‬الذي يبــاع بوقاحــة في دار العبيكــان؟ وفيــه وصــل الى القناعــة‬
‫الكاملة أن الوصول الى السلطة في ألمانيا يجب أن يكــون بــالطريق الــديموقراطي‪ ،‬وهكــذا جــاء‬
‫هتلر الى السلطة عام ‪1933‬م‪.‬‬
‫وعندما سقطت في يده تفاحة السلطة الناضــجة أقســم لــه الجيش البروســي ذو التقاليــد العريقــة‬
‫على الوالء ‪ ،‬ولكن (رووم ‪ )RUHEM‬قائد المليشـيات العسـكرية لم يسـتوعب هـذه الحقيقـة‪،‬‬
‫ولما تمرد قام هتلر بتصفيته‪ ،‬فقتله بيده فما تاب وأناب؟‬
‫فهذه هي حكمة العسكريين األولى التي يجب تالوتها بخشوع من كتاب ميكافيللي (األمير)‪:‬‬

‫‪89‬‬
‫على الحاكم أن يكون ماكرًا كالثعلب دمويًا كالنمر وعليه أن يقتل بدون تردد كما حــذق بن شــقي‬
‫في تونس هذا الدور لمدة ربع قرن؟‬
‫أما ماوقع في ايران فلم يكن انقالبا عسكريا دشنه ضباط مغامرون على ظهور الدبابات في جنح‬
‫الظالم بين ظهراني أمة نائمة بـل كـانت (ثـورة) وهـو مـاتكرر في ‪ 14‬ينـاير ‪2011‬م في تـونس‬
‫بدون ماللي وآيات هللا؟‬
‫هناك حقيقة لم يستوعبها العرب حتى اليوم أن الزلزال االيراني كان (ثورة ســلمية) ولم يفرقــوا‬
‫بين (الثورة االيرانية) و (االنقالب العسكري العـربي) وسـال لعـاب البعض وتلمـظ لقلب أنظمـة‬
‫الحكم بالســالح‪ ،‬وهــو مــالم تفعلــه الثــورة في ايــران‪ ،‬إلن الجيش االيــراني تفَّك ك‪ ،‬ولم يتــدخل‬
‫وتهــاوت المؤسســة العســكرية وشــعر الجــنراالت الســتمائة الــذين ربــاهم الشــاه على عينــه أن‬
‫السيطرة على الجيش أفلتت من أيديهم‪،‬‬
‫هذه المظاهر الشاذة لفتت نظر شــبابنا ولم يســتوعبوا ماحــدث وكــانوا يقولــون لي تأمــل ضــرب‬
‫الرصاص؟!‬
‫ولكن هل يمكن الناس تمكن العنف من مفاصــل تفكــيرهم أن يســتوعبوا هـذه الحقيقــة؟ لعلـه من‬
‫األســهل أن تقطــع أنــوفهم بالمنشــار وبــدون تخــدير عن اســتيعاب حــدثًا ضــخمًا من هــذا النــوع‬
‫والحجم؟‬
‫مع هذا فإن األمر المحــزن في (الســر) الـذي اســتخدمه الخميــني ورأى فيــه (تكتيكـًا ناجحـًا) لم‬
‫يدركه حتى الخميني نفسه أنه (قانون) يمكن تعميمه وتطبيقه حتى في حربه مـع العـراق‪ ،‬وهـذا‬
‫مايفسر نجاح الثورة المدهش ضد الشاه ونكستها الشنيعة في الحرب بعد ذلــك‪ ،‬فــالثورة عنــدما‬
‫دخلت ميدان الحرب خرجت من الساحة الــتي نجحت فيهــا الى الحقــل الــذي الســيطرة لهــا عليــه‬
‫وتملك أمريكا كل السيطرة فيه؛ فكانت تهدد أوربا في أوقــات ســوء التفــاهم هــل أوقــف الحــرب؟‬
‫فالسالح المتطور كانت تمد به ثالثون دولة لحرب تقول هل من مزيد في ثماني ســنوات عجــاف‬
‫يأكلن ماقــدمت لهن من مليــون شــاب و‪ 400‬مليــار دوالر وبمــا هــو أطــول من الحــرب العالميــة‬
‫الثانية‪،‬‬
‫درس الثورة السلمي استخدمه التوانسة وحققت النجاح بسواعدها العارية‪ ،‬ولربما غــيرت هــذه‬
‫االستراتيجية العالم كله‪ ،‬كما فعل غاندي مع مسيرة الملح؟ ولكن فكرة (الالعنف) لم نفهمها بعد‬
‫وهللا غالب على امره ولكن اكثر الناس اليعلمون‪.‬‬
‫نحن في كالمنا هنا نريد أن نتخلص من أية حساسية ونحن نحِّل ل الحــدث وننظــر اليــه في بعــده‬
‫االنساني الذي يخضع لسنة هللا في خلقه بعيدا عن السنة والشيعة‪.‬‬
‫وحاليا ضاعت الثورة في بطن الدولة والتهمها الماللي بوجبة دسمة‪ ،‬وما حدث في تونس يمكن‬
‫أن يضيع في بطن الحوت العسكري؟‬
‫وكل مانكتب القيمة له ومايغير األمم هو المعاناة فقط ولو جاءتهم كل آية حــتى يــذوقوا العــذاب‬
‫األليم‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫فلسفة الدعاء‬
‫سألني حسن الكوردستاني فقال‪ :‬اذا كان كل الكون يسير بقوانين وسنن ثابتة وصارمة‪ ،‬فما‬
‫الجدوى من األدعية؟‬
‫والجواب أنه يجب فهم القوانين؟ ثم فهم ماهو الدعاء؟ وثالثًا عالقة الدعاء بسنن الكون‪.‬‬
‫فأما سنن هللا فلن تجد لسنة هللا تبديال ‪ ..‬ولن تجد لسنة هللا تحويال‪ ..‬البتغيير مجراها‪ ،‬وال‬
‫برفعها‪ ،‬ووضع بديل جديد عنها؟‬
‫نحن هنا أمام معادلة من ثالث مجاهيل؟ الجهد والدعاء والعالقة بينهما‪ ،‬فكيف نفهم هذا المركب‬
‫الذي آمن به المتقون‪ ،‬وكفر به الملحدون؟‬
‫في أمريكا وألمانيا قلما يستخدمون الدعاء في حياتهم اليومية‪ ،‬لسيطرتهم على سنن مجريات‬
‫األمور‪ ،‬وهامشية المجهول في حياتهم‪ ،‬وإذا حدث فدعوا فهو حين اليأس إذا هم فيه مبلسون؟‬
‫وعندنا وبفعل هول مساحة المجهول ندعو كثيرا‪ ،‬ولو في موعد وإنجاز معاملة؟ فنقول إن شاء‬
‫هللا ويعني لن تحدث إن شاء هللا؟ وتصب على رؤوسنا المصائب بقدر األدعية؟ فكسلنا وتثاقلنا‬
‫يمحق بركة كل دعاء مع أن اإلله يقول ادعوني استجب لكم؟‬
‫أّم ن يجب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء األرض أأله مع هللا قليال ماتذكرون؟‬
‫فنحن ندعو فال يستجيب الرب الدعاء‪ ،‬أما األلمان واليابانيون فال يدعون وينجزون أكثر منا‬
‫كثيرا‪ ،‬ونحن من الداعين على مدار الساعة؟‬
‫فأين الخلل؟ وهللا يقول وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني‬
‫فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون‪.‬‬
‫الرب يقول ادعوني استجب لكم؟ ولكنه يستجيب بطريقته الخاصة؛ فهو يستجيب لليابانيين‬
‫والطليان واأللمان بدون دعاء‪ ،‬وال يستجيب ألدعيتنا العدوانية بهالك تسعة أعشار الجنس‬
‫البشري ونحن المسلمين؟‬
‫فهل هناك ربان في العالم؟‬
‫كما استنكر يوسف المحبوس فقال‪ :‬ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم هللا الواحد‬
‫القهار؟‬
‫علينا أن نفهم إذن أن الجهد اليأتي في موضع الدعاء‪ ،‬كما أن الدعاء اليشتغل في مكان الجهد‪،‬‬
‫ولكن ال بد منه في ظلمات النرى فيها نورا؟‬
‫ولكن كيف؟؟‬
‫إذا كان الكون يقوم على السنن‪ ،‬والعقل يتفاعل معها ليكون العلم‪ ،‬والتسخير هو السنة التي‬
‫تحكم الوجود‪ ،‬فأين موضع الدعاء في تشكيل ثقافة اإلنسان المسلم؟ والدعاء مخ العبادة؟‪...‬‬
‫لإلجابة على هذا السؤال الذي يشغل بال المؤمنين‪ ،‬وتندر عليه خروتشوف‪ ،‬الذي أطاح به‬
‫الرفاق في مكتب الحزب السياسي الذي حكم االتحاد السوفيتي فيما مضى؛ فقال أن الدعاء لم‬
‫ينفع أحدًا؟‬
‫كما سخر منه فرانسيس بيكون حين قيل له أن هللا استجاب دعاء المؤمنين في لحظات غرق‬
‫السفن؟ كان جوابه ولكن كم عدد الذين لم يستجب لهم؟‬
‫وأنا شخصيا كتبت كتابا كامال في نقد العقل المسلم‪ ،‬ووقفت أمام هذا الموضوع لتجليته بين‬
‫رغبة المؤمنين وسخرية الملحدين‪ ،‬ففتح هللا لي روزنة في فهم آلية أو ما سميته (ميكانيكية‬
‫الدعاء)؛ فاإلنسان يسبح في اللحظة الواحدة بين عالم الشهادة والغيب‪ ،‬وهللا وصف نفسه بأنه‬
‫(عالم الغيب والشهادة)‪..‬‬
‫ولتقريب المفهوم نقول أن الجهد الواعي يقابل عالم الشهادة‪ ،‬والـــــدعــاء يقابـــل عالم الغيب‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫والوجود بالنسبة هلل سبحانه وتعالى هو عالم شهادة‪ ،‬أي ال يعزب عن ربك من مثقال ذرة في‬
‫السموات واألرض وال أصغر من ذلك وال أكبر إال في كتاب مبين‪.‬‬
‫أما العالم بالنسبة لنا فهو عالمان‪ :‬عالم شهادة وعالم غيب‪.‬‬
‫الغيب هو في الواقع ثالثة غيوب‪:‬‬
‫الغيب هو المستقبل الذي ال نعرفه‬
‫(لو كنت أعلم الغيب الستكثرت من الخير وما مسني السوء)‪..‬‬
‫كذلك الغيب هي أحداث الماضي التي مرت وال سبيل لنا إلى معرفتها‬
‫(تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت وال قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة‬
‫للمتقين)‪...‬‬
‫كذلك فالغيب ثالثا هو حوادث الحاضر التي ال يعلمها اإلنسان‪ ،‬ولو كانت أمام عينيه‪ ،‬وهو ال‬
‫يدرك حقيقتها بالضبط‪ ،‬كما غاب عن الجن الذين كانوا بخدمة النبي سليمان عليه السالم أنه لم‬
‫يكن إال جثة‪:‬‬
‫(فلما خّر تبنت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين)‪.‬‬
‫إذن يمكن تعريف الغيب على نحو ثالثي‪:‬‬
‫أن الغيب هو ما غاب عنا فلم ندركه أيًا كان في مستوى الزمان أوالمكان‪.‬‬
‫وجمعت هذه المعاني الثالث هذه اآلية الرائعة (وعنده مفاتح الغيب ال يعلمها إال هو‪ ،‬ويعلم ما‬
‫في البر والبحر‪ ،‬وما تسقط من ورقة إال يعلمها‪ ،‬وال حبة في ظلمات األرض‪ ،‬وال رطب وال‬
‫يابس إال في كتاب مبين)‬
‫فهذه اإلحاطة الشاملة هلل سبحانه وتعالى مالك مفاتيح هذه األسرار هو كل الغيب وأكثر منه‪،‬‬
‫فهو الذي يعلم السر وأخفى من السر؟‬
‫ثم إن عالم الغيب والشهادة في حالة ديناميكية وليس استاتيكية‪ ،‬أي أن هناك تغير في المقادير‬
‫والعالقات‪.‬‬
‫فمثال بإمكاننا اليوم أن نرى العظام تحت اللحم بواسطة أشعة رونتجن‪ ،‬كما يمكن لنا أن نحيط‬
‫بمقادير إنتاج الهورمونات في الوقت الحاضر‪ ،‬أي أصبحت لنا عيون جديدة‪ ،‬وهكذا كَّبر عالم‬
‫الشهادة أمام أعيننا‪ ،‬فما كان من عالم الغيب قديمًا أصبح من عالم الشهادة حديثًا‪.‬‬
‫ولكن الوجود بنفس الوقت هو في حالة تمدد وكبر وزيادة (يزيد في الخلق ما يشاء) وهذا يعني‬
‫بكلمة أدق أن معرفتنا تبقى محدودة‪ ،‬مهما تعمقت وامتدت‪.‬‬
‫وتتمثل هذه المعرفة في أرقام محدودة أمام الكون الالمتناهي‪.‬‬
‫ونحن نعرف أن نسبة الرقم إلى الالمتناهي تساوي الصفر في عالم الرياضيات‪ ،‬وأفضل نظرية‬
‫للمعرفة تلك التي تغطي المواجهة تمامًا‪.‬‬
‫إن الوجود الذي نعيش فيه‪ ،‬فيه حركة تداخل الليل والنهار‪ ،‬والظالم والنور‪ ،‬المعرفة والجهل‪،‬‬
‫الشهادة والغيب‪.‬‬
‫والتغطية العلمية هي التي تتناول كافة السطوح والمجاالت والحقول المعرفية‪ ،‬فعالم الشهادة‬
‫يواجه بالجهد الواعي‪،‬أما عالم الغيب فهو افتقار وانكسار إلى هللا الخالق بارئ اإلنسان من‬
‫العدم‪ ،‬فيقابل بالدعاء‪ ،‬للصلة بمنبع الوجود‪.‬‬
‫الدعاء بكلمة أدق هو لنا أكثر من كونه هلل!‬
‫ًال‬
‫وهكذا ففي اللحظة الواحدة يتأرجح اإلنسان بين عالمي الشهادة والغيب‪ ،‬أو أو عالم الغيب ثم‬
‫الشهادة‪ ،‬ولتكون المواجهة صحيحة كان البد من المزج الدائم بين العمل الواعي والدعاء‪.‬‬
‫وكذلك تدخل عملية النقد الذاتي ضمن هذا اإلطار األخالقي‪ ،‬فكما أنه حاسة وعي لمطاردة‬
‫األخطاء‪ ،‬كذلك هي التفات إلى الداخل للتطهير‪.‬‬
‫وبالتالي التوجه بالدعاء إلى هللا بوضع الذنوب‪ ،‬والتثبيت على الطريق‪ ،‬والنمو في اإلكتمال‬
‫اإلنساني‪ ،‬وتذكير اإلنسان نفسه دومًا أن الخطأ له أقرب من حبل الوريد‪..‬‬
‫الدعاء إذن هو المواجهة العلمية لورطة الوجود كلها‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫والدعاء تواضع سقراط في اكتشاف مساحة جهله‪.‬‬
‫والدعاء هو يقظة الروح في اكتشاف أعماق الذات‪.‬‬
‫وهي معاني يعرفها من ذاقها وينكرها من ران على قلبه فهو عن الحكمة محجوب مع دنوها‬
‫وقربها‪..‬‬
‫كال بل ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون ‪ ...‬كال إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‪..‬‬
‫وفي عيادة الدكتور حداد وهو يتكلم عن توازنات الجسم عند األنثى بكالم جدا متوازن‪ ،‬كنت أقرأ‬
‫على الجدار دعاء خاشعا لم يفلت مني إال أن طبعته فأنقل بعضا منه كي يجعله القارئ على‬
‫الجدار مثل الدكتور الحداد الفنان‪.‬‬
‫إذا أعطى هللا المال أن ال يسلب السعادة‪.‬‬
‫وبنت أوناسيس صاحب إمبراطورية ناقالت النفط اليوناني في النهاية انتحرت‪.‬‬
‫وإذا أعطى القوة أن ال يأخذ العقل‪..‬‬
‫فالجبارون يتحولوا إلى مجانين‪..‬تأملوا جنراالت الحرب؟؟‬
‫وإذا أعطى النجاح أن ال يأخذ التواضع‪..‬‬
‫فالمتفوقون متغطرسون تأملوا بعضا من األلمان واليابانيين‪..‬‬
‫وإذا أعطى الرب التواضع أن ال يأخذ الكرامة‪..‬‬
‫وهو توازن أدق من االوستروجين والبروجسترون‪..‬‬
‫رب علمني أن أحب الناس كما أحب نفسي‪ ..‬وعلمني أن أحاسب نفسي كما أحاسب الناس‪...‬‬
‫رب ساعدني على قول الحق في وجه األقوياء‪ ...‬وان ال أقول الباطل ألكسب تصفيق الضعفاء‪...‬‬
‫وال تدعني أصاب بالغرور مع النجاح‪..‬‬
‫وال أصاب باليأس إذا فشلت‪..‬‬
‫وأن أتذكر دوما أبدا أن تجارب الفشل مقدمات النجاح بإذن هللا‪..‬‬
‫وأن أتعلم أن التسامح أكبر مراتب القوة‪...‬‬
‫واالنتقام أول منازل الضعف‪..‬‬
‫يا رب إذا جردتني من المال فاترك لي الزهد والتقوى ‪...‬‬
‫وإذا فقدت النجاح فابق لي األمل‪..‬‬
‫وإذا جردتني نعمة الصحة فابق لي اإليمان يا رب العزة والجالل‪..‬‬
‫شكرا لك دكتور حداد يا من يهب األمل للمرضى والفكر ألمثالي من المتعبين‪...‬‬

‫‪93‬‬
‫لحظات اإللهام الفلسفية‬
‫هذا عنوان كتاب كامل لجاك بيرج ينصح بقراءته‪ ،‬لمعرفة أن التاريخ يدين برمته إلى عدد قليل‬
‫من المفكرين الذين غيروا التاريخ‪ ،‬ولكن البد من نسق يستعد ألفكارهم‪ ،‬وإال كان مصيرهم مثل‬
‫ابن رشد والتربة اإلسالمية القاحلة‪.‬‬
‫العالم يقوم على التغير فهذا هو قانون هرقليطس الرابع في الصيرورة‪ ،‬وال توضع قدم مرتين‬
‫في نفس النهر‪.‬‬
‫وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام‪.‬‬
‫ونحن من يكتب نشبه الماء من جهة‪ ،‬فإذا انحبس في مكان انبجس ينابيع في أماكن شتى‪،‬‬
‫والكثير يحاول احتكارنا‪ ،‬بدون أمان ممن سيحتكر‪ ،‬أن ال يمح أثرك بجرة قلم ومكالمة تلفونية‪،‬‬
‫لذا كان تتبع أثر أولئك المبدعين القديسين رائع ال ينس‪.‬‬
‫ومن فتح هللا عليه في تاريخ مغامرات األفكار كثيرون‪ ،‬وهناك من جاءهم وميض عجيب‪،‬‬
‫فأوحى إليهم بأفكار‪ ،‬غيرت التفكير االنساني‪ ،‬وتركت بصمات عملهم في أثر ال يمحى‪ ،‬وهم‬
‫عينة من تيار من العلماء‪ ،‬وصل معظمهم الى أفكار وقوانين جديدة‪ ،‬تحت تأثير وميض‬
‫العبقرية‪ ،‬في لحظة مباركة‪.‬‬
‫مثل سقوط التفاحة عند (اسحق نيوتن) التي أوحت له بفكرة الجاذبية‪ ،‬وكان أبوه يأكلها أو‬
‫يطعمها الحمار‪.‬‬
‫وتراقص غطاء أبريق الشاي‪ ،‬الذي يغلي أوحت للعالم (دينيس بابان) بفكرة ضغط البخار‪ ،‬فتم‬
‫استخدامه قبل مائتي سنة‪ ،‬وسيرت على القضبان القطارات‪ ،‬تحت تأثير ضغط الماء المغلي‬
‫المحبوس‪ ،‬وكان كل الناس يرون تراقص غطاء أبريق الماء الذي يغلي‪ ،‬فلم يفهموا منه سوى‬
‫همهمة ودمدمة‪ ،‬وعليهم أن يقوموا فينزلوا اإلبريق عن النار‪.‬‬
‫أما (أرخميدس ) فقد جاءته الفكرة في حوض الماء‪ ،‬عندما انزاح الماء عن جسمه فأوحت له‬
‫تلك اللحظة بقانون الطفو النوعي‪ ،‬والوزن النوعي للذهب‪ ،‬فركض من الحمام عاريا يصيح‬
‫اوريكا اوريكا أي وجدتها وجدتها‪ .‬ويعني أنه عثر على الحل والتفسير لذهب تاج الملك‪ ،‬هل هو‬
‫ذهب حقيقي أم مغشوش؟‬
‫ومن قانون أرخميدس في الطفو‪ ،‬تمشي اليوم سفن الحديد العمالقة‪ ،‬في المحيطات وكأنها‬
‫األعالم‪.‬‬
‫وفكرة اختراع ماكينة الطباعة جاءت لـ (يوهان جوتنبرغ) وكأنها أشعة شمس نافذة‪ ،‬تقول له‬
‫ماذا يفعل؟ وكانت قبله فكرة بسيطة‪ ،‬من أي خاتم عليه نقش‪ ،‬يكفي أن يكبر سطح الخاتم الى‬
‫صفحة‪ ،‬ويوضع عليه حبر‪ ،‬ويطبع فوق صفحة ورق‪.‬‬
‫وهذه الفكرة البسيطة لو انقدحت وطبقت في العصر العباسي ألراحت نساخ الورق في بغداد‬
‫بشكل خرافي‪ ،‬ولكن وميض العبقرية يحتاج الى وسط وذكاء ومال وحظ وتراكم معرفي في‬
‫خمس اليعلمهن إال هللا‪.‬‬
‫أما (ابن خلدون ) فقد انتبه الى قوانين االجتماع‪ ،‬خالل هدأة من الفكر‪ ،‬استمرت خمسة أشهر‪،‬‬
‫في حياته الصاخبة‪ ،‬التي استمرت ‪ 75‬سنة بين تونس واألندلس ومصر‪ ،‬ولوال هذه األشهر‬
‫المباركة في (قلعة عريف ) لما وصل الى أيدينا هذا اإلنتاج الفذ‪ ،‬الذي وصفه صاحبه بالحكم‬
‫القريبة المحجوبة‪ ،‬التي جاءته على نحو مفاجئ‪ ،‬ال يكاد يتفطن لها إال اآلحاد من الخليقة‪..‬‬
‫أما (شامبليون) الذي فك أسرار اللغة الهيروغليفية‪ ،‬فجاءته أيضًا في ليلة ليالء‪ ،‬بعد جهد‬
‫مكثف ألكثر من ‪ 14‬سنة من العمل الدؤوب‪ ،‬ثم التمعت في لحظة واحدة من وميض العبقرية‪،‬‬
‫فخر على األرض مغشيا عليه‪ ،‬ألن الفراعنة وكهنتهم خرجوا عليه دفعة واحدة‪ ،‬يتحدثون‬
‫يروون له حياة كاملة‪ ،‬كانت ميتة مغيبة‪ ،‬في ضمير العدم لمدة ثالثة آالف سنة ويزيد‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫أما (آينشتاين) فقد ولدت في ذهنه (النظرية النسبية)‪ ،‬وهو يتصور نفسه معتليًا شعاعًا من‬
‫الضوء‪ ،‬وخيل إليه في لحظة‪ ،‬أنه ثابت‪ ،‬فقال بثبات سرعة الضوء‪ ،‬ومن أسرار الضوء ولدت‬
‫النظرية النسبية الخاصة بكل تطبيقاتها‪ ،‬ومنها تفجير الذرة والسالح النووي‪ .‬وهللا نور‬
‫السموات واألرض ليس كمثله شيء وهو السميع العليم‪.‬‬
‫أما (أوجست كيكول) فقد فهم (حلقة البنزين) في الكيمياء العضوية‪ ،‬بمنام خرج عليه ثعبان‬
‫بفحيح‪ ،‬قام بالتقام ذيله‪.‬‬
‫وفي ليلة تاريخية وصل الفيلسوف (رينيه ديكارت) عام ‪ 1630‬م جنوب مدينة أولم في ألمانيا‪،‬‬
‫الى منهجه التحليلي المشهور فكتب ( المقال على المنهج) وحرب الثالثين عاما الضروس‪،‬‬
‫تأكل األخضر واليابس في األرض األلمانية‪ ،‬ووصف تلك الليلة أن دماغه كاد أن يحترق‪..‬‬
‫أما (باسكال ) فقد خرج بأجمل نظرياته‪ ،‬في ليلة محمومة‪ ،‬كاد أن يغشى عليه من األلم فكتب‬
‫(الخواطر)‪.‬‬
‫وفي غابات األمازون كان (الفرد راسل واالس) يهذي من الحمى بعد لسع البعوض‪ ،‬وفي‬
‫ضرامها انقدحت نظرية (انتخاب األنواع)‪.‬‬
‫مشكلة العبقرية أن كل واحد منا‪ ،‬يمكن أن تنقدح عنده‪ ،‬ويصل إليها‪ ،‬ولكننا وبطريقة ما نطفئ‬
‫هذا النور الفطري فينا‪ ،‬فيعيش أحدنا في ظلمات ليس بخارج منها‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫فلسفة المالبس‬
‫أرسل لي أحدهم يقول أنه في أحد المناطق من دولة خليجية محافظة‬
‫كان هنالك حفل ختامي في إحدى المدارس للبنات واجتمعت األمهات والمسئوالت والطالبات‬
‫وكان حشدًا هائًال‪ ،‬ومن ضمن البرامج التي ُقّد مت في هذا االحتفال الرائع فقرة بعنوان‪(:‬ملكة‬
‫جمال العالم(‬
‫وعجبت األمهات وذهلت الطالبات من هذا الشيء الذي ال يكاد يصّدق في أملكة جمال العالم‬
‫وفي أظهرنا؟ ؟ معقولة؟ وأصبح الجميع في ذهول وحيص بيص كما ُيقال ‪..‬وفجأة خرجت طفلة‬
‫في الحادية عشرة من عمرها تقريبًا وقد لبست الحجاب كامًال ولم يظهر منها شيء‪ ،‬قد احتجبت‬
‫حجابًا كله أسود وغطت يديها وقدميها وعينيها وكل شيء من جسمها ‪.‬لقد كانت فقرة مدهشة‬
‫أتعرفون ماذا حصل ؟؟ لقد ذرفت دموع األمهات‪ ،‬وابتهجت قلوب الطالبات ورحن في غمرة من‬
‫الفرح والسرور يصفقن ويكبرن‪ :‬إنها ملكة جمال العالم الحقيقية؟؟‬
‫وهذه القصة تقول أن من يغطي المرأة كامًال أو يعريها تمامًا ينطلقان من نفس القاعدة النفسية في‬
‫الصراع على جسد المرأة‪.‬‬
‫ورسمت فتاة أعرفها في يوم ثالث عشرة صورة المرأة من الغطاء األسود الفاحم الكامل إلى‬
‫العري التام الناصع على درجات‪ ،‬فظهر التوسط عين العقل‪ ،‬وقابل التشدد صنوه في الزاوية‬
‫المقابلة‪.‬‬
‫ونشرت مجلة الشبيجل األلمانية موديل جديد للمالبس ملفت للنظر‪ ،‬فقد تنقبت امرأة وغطت‬
‫يديها وكشفت بقية جسمها عاريا يلمع مثل الموزة المقشرة‪ ،‬وهذا يقول أن العري الكامل يقابل‬
‫الالعري الكامل‪ ،‬والجسد اإلنساني مصمم على غير طريقة الفاجرين أو المتشددين‪ ،‬وال يخطر‬
‫في بال أحد لماذا يمد الكلب لسانه؟ ألنه غير مزود بالغدد العرقية‪ ،‬وجسمنا فيه مليون مكِّيف‬
‫من الغدد العرقية التي ال نحتاج فيها أن نمد ألسنتنا طول الوقت كالكالب‪ .‬بل نغير ألبستنا بما‬
‫يناسب المناخ‪.‬‬
‫واللباس من العادات وليس من العقائد‪ ،‬ولكن هناك من يقول بني اإلسالم على ست‪ :‬شهادة أن‬
‫ال إله إال هللا وسادسها غطاء الرأس؟ ونفس الكالم ينطبق على إطالق اللحية‪ ،‬فهناك من يرى‬
‫أن من حلق لحيته فقد حلق دينه فأصبح فاسقًا‪ ،‬ولكن الشعر ليس مكرمة‪ ،‬وال حلقه إهانة‪ ،‬وال‬
‫سقوطه عارا وشنارًا‪ ،‬ولو كان كذلك لما نبت بأشد من األدغال في أمكنة القذارة‪ .‬ولما لمعت‬
‫صلعة سقراط بأشد من مرآة تحت ضوء الشمس‪.‬‬
‫ومنذ أن خرج اإلنسان من الغابة طور لباسه وفق ثالث منحنيات‪ :‬المناخ والثقافة والجمال‪،‬‬
‫ومن عاش في اإلسكيمو ال يكشف شيئا‪ ،‬ومن عاش في الغابة كشف كل شيء‪ ،‬والنساء في‬
‫القبائل البدائية يمشين متدليات الثدي بدون إغراء جنسي‪ .‬ومن أراد أن يتعلم أناقة اللباس‬
‫فليقلد الطيور‪ ،‬وهي مالحظة لفتت نظري حينما كنت في حديقة الحيوان في القاهرة‪ ،‬والقرآن‬
‫يطلق على اللباس كلمة التنزيل مثل الوحي‪ :‬يا بني آدم قد (أنزلنا) عليكم لباسًا‪ ،‬ثم يفيض في‬
‫شرح معنى اللباس في ثالث كلمات‪ :‬يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير‪ .‬فهنا يقوم‬
‫اللباس أوال بدور الجلد المتبدل لإلنسان‪ ،‬فالقطط والدببة ال تخلع معاطفها قط‪ ،‬واإلنسان يبدل‬
‫ثيابه بالغدو واآلصال ومع كل خروج ودخول‪ ،‬والثقافة التي تتبرج فيها المرأة هي مثل التي‬
‫تبالغ في تغطيتها فكالهما يندفع من ال شعور جنسي‪ ،‬والمرأة ال عالقة لها باالثنين‪ ،‬فهي التي‬
‫يجب أن تقرر ما ذا تلبس وتخلع‪ .‬واللباس له تأثير نفسي فمن لبس المرقع شعر بالرثاء لنفسه‪،‬‬
‫ومن لبس المالبس الرياضية نشط من عقال‪ ،‬ومن لبس التبان استعد للمصارعة‪ ،‬ومن ارتدى‬
‫مالبس العمليات الجراحية استعد بالمبضع والملقط‪ ،‬ومن أراد السباحة خلع إال القليل‪ .‬ونحن‬

‫‪96‬‬
‫نخلع كل مالبسنا في الحمام‪ ،‬ونرتدي كل مالبسنا حينما نغادر المنزل‪ ،‬كله تحت مفهوم العورة‪،‬‬
‫وفي القرآن أن من بلغ الحلم يجب أن يستأذن حين نخلع مالبسنا من الظهيرة ومن بعد العشاء‬
‫وقبل صالة الفجر في ثالث عورات‪ ،‬ومن خرج عاريا على الناس كان واحدا من اثنين إما‬
‫أرخميدس أو مجنون؟ ومودة ملكة الجمال هي الجنون الثالث غطت أم خلعت؟‬

‫‪97‬‬
‫فلسفة الفيزياء الحديثة‬
‫الكون المتعدد المتمدد‬
‫( جيل جديد من التلسكوبات وضحت مصير العالم ـ سيمتد الكون ويتوسع إلى األبد ـ‬
‫النجوم التزيد عن نيران ملتمعة في مملكة للظالم تشكل أكثر من ‪ %90‬من الوجود‬
‫أطلق عليها المادة المعتمة ـ الباحثون يدعون إلى ثورة كوبرنيكوس ثانية في علم‬
‫الفلك ـ هل كوننا واحد من مجموعة أكوان فال يعود يسمي يونيفيرس بل ملتيفيرس‬
‫(‪)Universe - Multiverse‬‬

‫خرج (ستيفن هوكينج) العالم (المشلول) على الناس بنظرية عجيبة بكتاب رفع صاحبه إلى‬
‫مرتبة نيوتن وآينشتاين ؟ إنه كتاب قصة قصيرة للزمن ‪..‬‬
‫وقال هوكينج عن نهاية العالم أنه قادم ال محالة! وستكون نهايته في أحد اثنين من‬
‫السيناريوهات؛ فإما أن ينهار الزمان والمكان والمادة في بطن ثقب أسود‪ ،‬يلتهم كل إحداثيات‬
‫عالمنا‪ ،‬وإما أن ينقلب على نفسه في انكماش عظيم‪ ،‬كما بدأ رحلته في انفجار عظيم‪ ،‬وكما‬
‫بدأنا أول خلق نعيده؟؟‬
‫ولكن يبدو أن تنبؤات عبقري كامبريدج لم (تزبط!) فقد أخطأ حساباته كما هو في معظم األحيان‬
‫مع المنجمين‪ ،‬فحسب التقارير التي تسربت‪ ،‬بواسطة القياسات من النجوم المنفجرة‪ ،‬والعالمات‬
‫الراديوية الكونية‪ ،‬ألغت فكرة نهاية العالم‪ ،‬وان الكون سوف يستمر في تمدده وتوسعه إلى‬
‫األبدية‪..‬‬
‫وقصة عمر الكون وبدايته ونهايته كانت وما زالت مسألة فلسفية كسرت رؤوس كل المفكرين‬
‫والفالسفة أجمعين‪ ،‬وهي دوما تظهر أن تركيب الكون أعمق مما نتصور‪ ،‬وأن األرض جميعا‬
‫قبضته يوم القيامة والسموات‪..‬‬
‫وهكذا فبدال من االنهيار؛ سيكون مصيره التوسع والتمطط وعلى نحو أسرع‪ ،‬وكأنه بالون‬
‫تنفخه قوة عاتية تدفعه للكبر يوما بعد يوم‪..‬‬
‫ويقول الفلكي االسترالي (براين شميدت) من جامعة كنبره في أوستراليا (‪Brian‬‬
‫‪) Schmidt‬؛ كانت مشاعري بين الخوف والمفاجأة أن يكذبني القوم؟ حين وصلت إلى نتيجة‬
‫قياساتي؟‬
‫وهدأت خواطر الرجل عندما جاءت تأكيدات العلماء إلى ما ذهب إليه فارتاح أن يجلل بالعار في‬
‫الوسط العلمي‪ ،‬وبذلك قلب الشاب الباحث مفاهيمنا عن مصير الكون في ضربة واحدة‪..‬‬
‫ونشرت مجلة العلم أبحاثه‪ ،‬واعتبرت أنها تفردا في هذه النتائج‪..‬‬
‫وعلق الكوسمولوجي األمريكي (آالن جوث) على ذلك أنها تبدو دوما مثل األلغاز غير القابلة‬
‫للحل‪ ..‬فحلت‪..‬‬
‫كانت القياسات هذه حجر األساس للكوسمولوجيا الحديثة‪ ،‬وتم الوصول إلى هذا بواسطة‬
‫التلسكوبات العمالقة‪ ،‬والساتاليت األوربي للمراقبة‪ ،‬وهكذا أمكن إنارة عمق الكون‪ ،‬وقصة‬
‫الخلق اإللهي واإلجابة على األسئلة الثالث العظمى؛‬
‫ماذا كان في البدء بعد أن لم يكن فكان؟ ثم كم عمر الكون؟ ومم يتكون عالمنا؟‬

‫‪98‬‬
‫إنها أسئلة شكلت تحديا أمام أجيال من العلماء‪ ،‬وكلما تعمقوا في األسرار أكثر كلما زادت‬
‫األسرار في مواجهتهم‪..‬‬
‫وتعود هذه القصة إلى منتصف القرن العشرين‪ ،‬حين نصب أدوين هبل مرصده بالومار على‬
‫جبل في كاليفورنيا‪ ،‬عام ‪1952‬م فرصد السماء ووصل إلى كشفين خطيرين‪ ،‬قلبا مفاهيم‬
‫الكوسمولوجيا؛ أن مجرتنا ليست الوحيدة‪ ،‬وأن الكون يتمدد‪ ،‬وكان هذا بواسطة ظاهرة‬
‫الزحزحة الحمراء‪..‬‬
‫ظاهرة الزحزحة الحمراء‪:‬‬
‫وتعود فكرة تغير اللون إلى ظاهرة فيزيائية كشفها النمساوي كريستيان دوبلر(‪،)Doppler‬‬
‫فشرح كيف يمكن لألذن أن تميز قدوم القطار واقترابه إلى المحطة من ابتعاده؟‬
‫قال هي بكل بساطة بواسطة الموجات‪ ،‬فإما تضخمت وتراكبت أو خفت وتباعدت‪ ،‬وكان هذا‬
‫فتحا مبينا مثل اكتشاف أشعة رونتجن في فحص العظام وهي مخبأة في اللحم‪.‬‬
‫ومن ظاهرة دوبلر أمكن صناعة السونار لكشف سفن في قيعان المحيطات مثل التيتانيك‪ ،‬إلى‬
‫التشوهات الخلقية للجنين وهو في بطن أمه‪ ،‬أو عندنا في فن األوعية الدموية فنميز اختناقا‬
‫وتضيقا في الوعاء‪ ،‬من سعة وعرطلة باالنورزما‪..‬‬
‫ولكن هذه الظاهرة الصوتية أمكن نقلها لعالم الضوء وتطبيقها في عالم السدم‪ ..‬فالضوء مثل‬
‫الصوت محمول على موجات‪ ،‬ولكن الضوء ليس متجانسا مثل الصوت بل هو عصير كوكتيل‬
‫من األلوان وخارج األلوان في تسعة موجات؟ فأصغرها موجة ما فوق البنفسجية وهي ال ترى‬
‫ألنها فوق حافة الضوء ويحترز منها بلبس النظارات‪ ،‬وأطولها الحمراء وما تحتها وفيها وهج‬
‫من الحرارة وهي سالح الثعابين الكتشاف الضحايا وجنود بوش واألبالسة أجمعين في‬
‫الحروب‪.‬‬
‫لقد كشف هللا عن عين أدوين هبل ليرى أن موجات الضوء القادمة من عالم السدم طويلة‬
‫متطاولة أي تأخذ اللون األحمر بسبب تباعد السدم عن بعض وانتفاخ الكون وهرولة المجرات‬
‫في سباق بعيد في فرار ليس منه وزر‪ ..‬وكان هذا الفتح بداية الدخول لفهم الكون ومتى بدأ‬
‫والوصول إلى نظرية االنفجار العظيم والبحث عن مصيره‪.‬‬
‫ويقول ريشارد فيست (‪ )Richard West‬من المرقاب األوربي الجنوبي (‪ )ESO‬إننا نقتفي‬
‫أثرا عظيما والسؤال لماذا أخذ الكون شكله الحالي؟ كما أن هناك غوامض أخرى عن المادة‬
‫المعتمة في الكون والتي تشكل معظم بناء الكون؟‬
‫تلسكوب هابل‬
‫ويعود الفضل إلى هذا الكشف المبين مرة أخرى لهابل الذي أطلق تلسكوب باسمه إلى السموات‬
‫العلى بكلفة ‪ 1.5‬مليار دوالر‪ ،‬أضيف لها بعد ثالث سنوات مليار أخر حين اعتلى رواد الفضاء‬
‫عنان السماء من جديد لتصليح أنتينات االستقبال الضعيفة‪..‬‬
‫إن تلسكوبات أريزونا وجزر هاواي ومرقاب تشيلي جيدة ولكنها ال تقارن مع تلسكوب هابل أو‬
‫كوب‪ ،‬فاألول نظر بحدة إلى عمق ‪ 12‬مليار سنة ضوئية‪ ،‬وهذا يعني أنه يرى الكون كيف كان‬
‫قبل ‪ 12‬مليار سنة؟؟‬
‫ويأتي بعده تلسكوب الهائل في تشيلي الذي نصب في صحراء أتاكاما حيث الجو صاحيا في‬
‫‪ 350‬يوما في السنة‪ ،‬وهو مركب من أربع قطع‪ ،‬كل واحدة فيها مرايا بقطر ‪ 8‬متر مشبوكة مع‬
‫بعض‪ ،‬ويهم يعملون على المزيد من صقلها في ذلك االرتفاع الهائل على علو ‪ 2600‬متر فوق‬
‫سطح البحر حيث قطع رأس الجبل من أجل وضع التلسكوب الرباعي فوقه‪ ،‬ويتفاءلون أن يروا‬
‫قريبا سطح القمر بواسطته‪ .‬ومن يعمل عليه غير مرتبط بالعين المجردة بل بالمسح الكمبيوتري‬
‫وشاشات تعمل أفضل من العين البشرية فال يمسها نصب وال لغوب‪..‬‬
‫ومع تلسكوب هابل أمكن رؤية ‪ %90‬من الكون‪ ،‬وبواسطة تلسكوب كوب في عمق ‪900‬كم في‬
‫الفضاء أمكن قراءة اإلشعاع األساسي الصادر من بقايا االنفجار العظيم‪..‬‬
‫اإلشعاع األساسي في الكون‬

‫‪99‬‬
‫وتعود قصة كشف بقايا االنفجار العظيم إلى اثنين من مهندسي شركة بل الذين رصدوا صوتا‬
‫خافتا يأتي من كل أرجاء السماء‪ ،‬وهذا البث العجيب أمكن معرفته وتحديده وانه بحرارة ‪3.5‬‬
‫فوق الصفر المطلق‪ ،‬ونال كل من أرنو بنزياس وروبرت ويلسون صديقه جائزة نوبل عليها‪..‬‬
‫واليوم يقول العلماء قوال عجيبا عن موضوع تمدد الكون بأن الكون انفجر وتوسع بسرعة‬
‫تفوق سرعة الضوء‪ ،‬وهو ما يشكل خرقا للنظرية النسبية التي تقول إنه ال يوجد ما هو أسرع‬
‫من الضوء‪ ،‬ويجيب على هذا العالم الروسي (اندريه ديمتريفيتش لينده) أن هذا حدث ألنها‬
‫السرعة التي تشكل بها الكون قبل وجود إحداثيات الكون من الزمان والمكان والسرعات فهي‬
‫من خلقت العالم الحقا!! وهو أشبه بقول السحرة‪ ..‬لقد وصل العالم لينده لهذا قبل كشوفات‬
‫التلسكوب كوب‪.‬‬
‫الروسي (اندريه ديمتريفيتش لينده) ونظرية التمدد الفوضوي (‪Chaotic Inflation‬‬
‫ويروي لينده عن نفسه ما يذكر بالفيلسوف اإلسالمي أبو حامد الغزالي حين امتنع عليه الطعام‬
‫والشراب فكاد أن يهلك‪ ،‬وهو ما حصل لصاحبنا حتى خرج على الناس بنظرية التمدد الفوضوي‬
‫(‪ .)Chaotic Inflation‬صاح بزوجته وهي أيضا عالمة فيزياء كما صرخ يوم أرخميدس؛‬
‫اآلن عرفت كيف خلق هللا العالم‪..‬‬

‫‪100‬‬
‫فلسفة اللغة‬
‫المنطوقة والمكتوبة والسيميائية‬
‫أرسل لي األخ (أحمد المسقطي) وهو يعقب على فكرة السالم التي أنادي بها انطالقًا من مبدأ‬
‫(ابن آدم) الذي شرحته ست آيات من سورة المائدة فقال‪:‬‬
‫"إن مبدأ ابن آدم يمثل صراعًا بين الحق والباطل أو بين الباطل والباطل‪ .‬على أربع أشكال‪:‬‬
‫ـ األول‪ :‬لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك ألقتلك إني أخاف هللا رب العالمين‪.‬‬
‫فهذا الرادع هو الخوف من هللا‪.‬‬
‫ـ والثاني‪ :‬لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك ألقتلك ألني أخافك‪ .‬فهنا الرادع‬
‫الخوف من اآلخر وبطشه!‬
‫ـ والثالث‪ :‬لئن بسطت إلي يدك لتقتلني أنا باسط يدي إليك ألقتلك‪ .‬فهذا هو رادع التهديد‪.‬‬
‫ـ والرابع‪ :‬ال أنا باسط يدي إليك ألقتلك وال أنت بباسط يدك لتقتلني ألننا نخاف دمار كالنا ـ‬
‫مذهب العقالنية ـ فهذا الرادع هو الخوف من الدمار‪ .‬فأما رادع الخوف من هللا؛ فال يمكن‬
‫تعويضه أو تبديله برادع الخوف من الدمار لضمان سالم العالم‪ ،‬فهل رادع الخوف من الدمار‬
‫وحده كافيًا إلنهاء الحروب ليحل السالم في العالم؟ أم السالم باإلسالم الذي هو السالم الحقيقي؟‬
‫هل هذا الكالم طوباوي مثالي غير واقعي؟ لنر؟؟‬
‫لقد تأملت كلمات األخ الكريم‪ ،‬وخطرت لي خواطر في الموضوع‪ ،‬وهو أن أسلوب التفكير‪،‬‬
‫وكيفية تناول الموضوع‪ ،‬يرجع إلى نوع معين من أساليب الفهم والفكر‪.‬‬
‫فكما أن هناك لغة للتفاهم بين الناس‪ ،‬كذلك هناك لغة خاصة لهذا الحقل‪ ،‬ولكننا لم نبتكر بعد‬
‫كلمة جديدة لهذا الكشف الجديد‪.‬‬
‫وهناك لغة فكرية هي ليست كلمات وحروف ونطق‪ ،‬وإنما إدراكات وأحكام وقواعد للوجود‬
‫ولكيفية نقل التصورات‪.‬‬
‫وال حرج أن نتعاون لفهم هذا الكشف‪ ،‬ثم إلعطاء اسمًا لهذا الكشف‪.‬‬
‫هناك ثالث مراحل لإلنسان أثناء تكونه الفكري‬
‫ـ (األولى) هي مرحلة نقل األفكار بواسطة السلوك وتصرف اإلنسان‪.‬‬
‫ـ (الثانية) مرحلة نقل األفكار بواسطة الكالم باللغة الصوتية‪.‬‬
‫ـ (الثالثة) مرحلة تلقي األفكار بواسطة الكتاب والقراءة‪.‬‬
‫ـ فأما المرحلة األولى فتبدأ من وقت الوالدة مباشرة‪ ،‬بواسطة المعاملة والجو المحيط منها‪،‬‬
‫مثل تعلم الطفل قضاء حاجاته بواسطة البكاء‪.‬‬
‫وتحدث عن ذلك (مالك بن نبي) في قاعة المحاضرات في جامعة دمشق بعد هزيمة يونيو ‪67‬م‪،‬‬
‫وأن هذا كان يعكس تصرفات الزعماء السياسيين الحقًا في طريقتهم لحل المشاكل‪ ،‬وهو ما‬
‫فعله العرب في الهزيمة حين ظنوا أن الصراخ والبكاء للعالم سوف يحل مشكلتهم‪.‬‬
‫ثم يتعلم الطفل اللغة الثانية بواسطة سحنة الوجوه‪ ،‬وتقطيب الوجه‪ ،‬واالبتسام واألصوات‬
‫الغاضبة‪ ،‬أو األصوات الراضية‪ ،‬بصرف النظر عن اللغة التي يتكلم بها اإلنسان‪.‬‬
‫ونحن عموما ومن هذه اللغة التي تعلمناها في الطفولة‪ ،‬نعلم أن المتكلم غاضب‪ ،‬وإن كنا ال‬
‫نعرف لغته التي يتكلم بها روسي أن صيني أم فرنسي أوشركسي؟‪.‬‬
‫والطفل يمتص القيم والمواقف المرضية أو المغضبة‪ ،‬ومعنى العيب والحرام والعورة من‬
‫موقف الناس منها وتفاعلهم تجاهها‪.‬‬
‫والطفل دائم التطلع إلى وجوه القوم المحيطين به‪ ،‬ليمتص أو يتعرف على السلوك المقبول أو‬
‫الشائن والمرفوض‪ ،‬من أصوات الرضا والرفض وسحنة الوجه‪ ،‬بصرف النظر عن نوع‬

‫‪101‬‬
‫الحروف المستخدمة عربية كانت أو إيطالية؛ فإذا تصرف الطفل أي تصرف التفت ونظر إلى‬
‫هذه الذي يمكن أن نسميه (اللغة السلوكية)‪ ،‬أو الفهم من المسلك والتصرف‪ ،‬ال بواسطة اللغة‪،‬‬
‫بل ال بد من ابتكار اسم جديد لهذا األسلوب من التلقي غير اللغة‪ .‬ألن اللغة تحدث بأسلوب‬
‫معين‪ ،‬وإلى اآلن ال يوجد مصطلح مرضي لهذا الموضوع‪.‬‬
‫البعض يسميه (ابستمولوجيا) أو نظام الفكر‪ ،‬وبعضهم يسميه (اللغونة) ويمكن أن نسميه‬
‫(اللغة التحتية) ‪ ،‬أو األسلوب العميق وغير المباشر في نقل المفاهيم عن طريق القيم واإليحاء‪.‬‬
‫والمفاهيم التي تنتقل بواسطة هذه الوسيلة‪ ،‬يكون إعطاءها وتقبلها عفويا مباشرا‪ ،‬غير واعي‪،‬‬
‫ال من قبل المعطي وال من قبل اآلخذ‪.‬‬
‫وكثيرا ما ننكر أننا نحن الذين أعطينا هذا السلوك أو التصرف مثل الكذب واالنفعال والغضب‬
‫واالنهيار أمام المصائب والسرقة‪ ،‬فال الطفل يعرف بدقة كيف أخذ السلوك وال نحن نتذكر كيف‬
‫نقلناه له؟‬
‫وهذا يدفعنا أن نضع هذه المرحلة تحت المجهر‪ ،‬تحت عنوان حديث الرسول ص (كل مولود‬
‫يولد على الفطرة) فأي فطرة هذه؟‬
‫إن هذه الفكرة فجرت الحنين في قلب الغزالي قديما ليكتشفها؛ فغاب في غيبته الكبرى في رحلة‬
‫عشر سنوات‪.‬‬
‫وهذه المرحلة تكون في الطفل قبل أن ينطق‪ ،‬خالل السنتين أو الثالث األولى من عمره‪،‬‬
‫وإضاءة هذه المرحلة لها أهمية بالغة‪ ،‬والناس ال يلتفتون إلى هذه المرحلة‪ ،‬وال يعدونها شيئا‬
‫بارزًا في حياة الناس؛ ألنها غير مالحظة وغير مهمة‪ ،‬وهي أكثر من مهمة وتأسيسية‪ ،‬ومنها‬
‫يتشكل اإلنسان طبقا عن طبق‪.‬‬
‫هذه اللغة من عالم الالوعي هي التي تقود الناس في ‪ %95‬من التصرفات‪ ،‬وال أحد منا يشذ‬
‫عن هذه القاعدة‪.‬‬
‫وهذا يدخلنا على إدراك شيء جديد هو متيافيزيقا التاريخ؛ فلو كان األمر بيد (بيايزيد) الذي‬
‫كان يجهز جيشا عام ‪1402‬م تعداده نصف مليون جندي الجتياح أوربا لفعل‪ ،‬ولكنه فوجي‬
‫بتيمورلنك يقفز على ظهره في معركة أنقرة‪ ،‬ويأخذه أسيرًا مع زوجته‪ ،‬ويموت قهرا في‬
‫األصفاد‪ ،‬ألن الجنين األوربي كان يولد آنذاك؛ فأنقذه تيمورلنك من حيث ال يريد‪.‬‬
‫و حصل نفس الشيء مع موسى الذي جاء إلى قصر فرعون في التابوت‪ ،‬ويعلق القرآن فيقول‪:‬‬
‫وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني‪ ،‬وليكون لهم عدوا وحزنا‪ ،‬ويصبح نواة تدميٍر‬
‫لفرعون وقومه وما كانوا يعرشون‪ .‬وحين نطق بوش في حربه على العراق أنه يقود حملة‬
‫صليبية فهو يذكرنا باآلية التي تشير إلى هذا العالم الخفي العميق من (السيمياء) ولو نشار‬
‫ألريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول‪ ،‬فظهر ذلك من سقطات كلماته وهو ال‬
‫يشعر‪ ،‬وكما يقول فرويد أن الالشعور ينز بعبارات يسهل التقاطها للواعي‪ ،‬وتغيب عن الساهي‪،‬‬
‫فالالوعي يفرز نفسه مثل العرق من الجلد‪ ،‬وكل ما يحتاجه أجهزة التقاط كاشفة ومترجمة‪ ،‬لما‬
‫يعتلج في المشاعر الخفية حتى عن صاحبها‪..‬‬

‫‪102‬‬
‫أهم مراحل تكوين الطفل عقليا‪:‬‬
‫أو لغات التعلم الثالث‬
‫يظن االنسان أنه يتعلم اللغة من المدرسة‪ ،‬ويظن أن نقل األفكار والمعرفة تتم‬
‫بالكلمة المطبوعة‪ ،‬ونقول عن االنسان أنه أمِّي من اليحسن توقيع اسمه‪،‬‬
‫والمسلمات الثالث كلها خاطئة؛ فاللغة يتعلمها الطفل بالسماع قبل كتابة حرف‬
‫واحد‪ ،‬وهي الطريقة المثلى لتعلم لغة جديدة‪ .‬وهناك قبل اتقان اللغة سماعيًا مرحلة‬
‫أعمق وأهم وهي لغة التنطق بل يتعلمها الطفل من سيما الوجوه ‪ .‬فاللغة كما نرى‬
‫تتدرج في ثالث مراحل ‪ ،‬باختراق ثالث حواجز ‪ ،‬تركبها طبقًا عن طبق؛ فطبقة‬
‫اللغة العميقة تتقن باالشارات وتعبيرات القسمات بدون حرف واحد‪ .‬والطبقة الثانية‬
‫المنطوقة أقرب الى السطح وتتقن من البيت والبيئة بالتصويت الذي يعتلى متن‬
‫الفيزياء وموجات المادة‪ .‬أما الطبقة السطحية الظاهرة فتتم عن طريق المدرسة‬
‫بإتقان رسم الحرف والكلمة ونظام الخطاب بواسطة الكتابة المقروءة‪ .‬اللغة األولى‬
‫تشكيلية والثانية تركيبية فوق األولى والثالثة عائمة سطحية ظاهرة يراها الجميع ‪.‬‬
‫األولى تفرز السلوك وتشكل العواطف العميقة‪ .‬ألن الكلمات مربوطة بالعواطف‪،‬‬
‫والثانية تبني عالمًا جديدًا يعتمد الصوت والحنجرة واأللفاظ‪ ،‬أما الثالثة فهي حقل‬
‫الخالف االنساني إلنها سطحية عائمة تتملص وتتفلت بعنف وقوة والتعبر تمامًا‬
‫واليتفق الناس حولها‪ .‬والبد من تفكيك الكلمات وإدراك نظم الخطاب وكتب‬
‫فيلسوف الحداثة الفرنسي (ميشيل فوكو) كتابًا كامًال بعنوان (نظام الخطاب) وقبله‬
‫كتب الجاحظ كتابه الالمع (البيان والتبيين) من أصل أربع كتب تعتبر أجود كاتب‬
‫في اللسان العربي القديم‪( ،‬مثل الكامل للمبرد واألمالي للقالي)‪ .‬وحول نظام الخطاب‬
‫والكلمات المكتوبة يتصارع البشر‪ ،‬فيما يعرف بمشكلة النصوص‪ ،‬كونها مكتوبة‬
‫بالكلمة المقروءة‪ .‬وال تعتبر ( لغة المدرسة) أكثر من نهاية المطاف في رحلة اللغة‬
‫بثالث عتبات‪ ،‬طبقًا فوق طبق‪ .‬ومنح االنسان قدرة نقل األفكار فيزيائيًا بالصوت‪،‬‬
‫ولقن الطفل الكالم؛ فاللغة سماعية‪ ،‬وتعلم اللغة عند الطفل يعتمد األذن قبل رؤية‬
‫حرف واحد‪ ،‬ويبقى تعريفنا لألمي قاصرًا‪ ،‬فالذي اليجيد الكتابة يكون قد مخر عباب‬
‫أوقيانوس اللغة ( سيميائيًا ) وبالصوت‪ .‬هناك (لغة فكرية) ليس لها اسم وال يلتفت‬
‫إليها الناس‪ ،‬وهي أهم مراحل تكوين الطفل عقليًا‪ ،‬يبدأ الطفل فيها رحلة تكوينه‬
‫العقلي‪ ،‬لغة ال تعتمد الصوت وال الرسم‪ ،‬الالنطق والالكتابة‪ ،‬بل عمل (السيمياء)‬
‫وااليحاء‪ ،‬أو في تعبير القرآن (فلعرفتهم بسيماهم) ثم يضيف (ولتعرفنهم في لحن‬
‫القول)؟!‪ .‬فاللغة تشتغل هنا ليس من (الموجة األساسية) للقول بل من ( اللحن‬
‫الجانبي ) فقد يقول أحدهم (السالم عليكم) وكلماته وتعبيرات وجهه تقول ليتني لم‬
‫أرك ولم أجتمع بك‪ .‬فهنا يتشكل نوع جديد من (المعرفة) في (سيماء الوجوه)‬
‫و(اللحن اإلضافي)‪ .‬في ذبذبة الصوت‪ ،‬وإفرازات السلوك المتناقضة‪ .‬نحن هنا أمام‬
‫حاجزين عجيبين لعالم الكلمات السحري‪ .‬هناك لغتان أضافيتان غير المنطوقة‬

‫‪103‬‬
‫المتعارف عليها‪ ،‬وغير المكتوبة التي يتنازع البشر حول تفسير نصوصها‪ .‬وفي‬
‫حرب الخليج األخيرة لم تحل األزمة باستنطاق النصوص‪ ،‬كما لم تقد المؤتمرات‬
‫التي انعقدت في كال الجانبين الى أي انفراج‪ ،‬والذي حلها في النهاية (بيزنطة)‬
‫بدون نصوص‪ ،‬ولحاجة في نفس يعقوب قضاها‪ .‬ومازال نص االنسحاب االسرائيلي‬
‫من األراضي العربية المحتلة بالقوة مفتوح لعالم كامل من التأويل بإضافة حرف‬
‫واحد فقط‪ ،‬هل االنسحاب من أراضي (عربية) أو من األراضي (العربية)‪ .‬حرف‬
‫( الـ ) العجيب هذا في النص االنكليزي ( ‪ )THE‬قلب ظهر المجن وفتح الباب‬
‫لتفسيرات النهائية‪ ،‬وأوجد عالمًا كامًال‪ ،‬في شهادة صاعقة عن مشكلة (استنطاق‬
‫النصوص)‪ .‬نحن نعرف أن أول صراع في االسالم تم فيه استدعاء النصوص‪ ،‬ولم‬
‫يكن الذي رفع المصاحف على رؤوس الرماح بأنزه الطرفين وأتقاهما‪ .‬وغضبت‬
‫عائشة (ر) عندما سمعت كلمة التحية من اليهود وهم يدخلون مجلس رسول هللا‬
‫(ص)‪ ،‬وغضب هارون الرشيد من التحية وإطراءه بالعدل حينما قالوا له (حكمت‬
‫فقسطت)؟! والسبب هو (لحن القول) فاليهود لفظوا (السالم) بابتالع حرف الالم‬
‫خفية فأصبحت اللفظة (السام) بمعنى الموت ‪ ،‬فردت عليهم ابنة الصديق الذكية‬
‫بانفعال‪ :‬وعليكم (السام واللعنة) فقال المعلم األكبر (ص) لقد رددت عليهم بقولي‬
‫(وعليكم) فكان الجواب يغطي كل االحتماالت بذكاء وخلق وافتراض حسن النية‬
‫باآلخرين‪ .‬وهذه هي لعبة اللغة كما يقول الفيلسوف النمساوي (فتجنشتاين)‪ .‬أما‬
‫المرأة البرمكية التي حيت هارون الرشيد قالت له تمدحه (حكمت فقسطت) ؟!‬
‫بإسقاط حرف (األلف) فتحولت الكلمة من (أقسطت) الى (قسطت) من العدل إلى‬
‫الظلم ؟! إن هللا يحب المقسطين بمعنى العادلين‪ ،‬ولكنه يحكم على القاسطين أنهم‬
‫كانوا لجهنم حطبا ؟!(وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا)‪ .‬والفرق هائل بين (السام‬
‫والسالم) وبين (المقسطين والقاسطين) إنها لعبة خطرة تراهن على لحن القول‪.‬‬
‫وتبقى اللفظة بريئة فنحن من يشحنها بالمعنى‪ ،‬أو نفرغها ونعيد تعبئتها من جديد‪،‬‬
‫في آلية تجري في كل لغة انسانية‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫فلسفة الهجرة‬
‫اجتمعت بصديقي أبو محمد وهو يعمل في إصالح الحدائق فأخبرني عن عزمه على مغادرة‬
‫الوطن إلى أمريكا بعد أن انتظر التأشيرة ثماني سنوات‪ .‬أحزنني بعض الشيء وصوله إلى هذا‬
‫القرار ولكن هل هي مشكلة هذا الرجل فقط؟ أم هي أزمة وطن واختناق ثقافة بعد أن تحول‬
‫الوطن إلى طائرة مخطوفة والمواطن إلى رهينة والمستقبل إلى نفق مسدود؟‬

‫المشكلة في الذين تركوا الوطن ليست واحدة بل ثالث‪ :‬فالذين ذهبوا إلى الغرب أصبحت‬
‫حياتهم ال تعرف الهدوء فقد دخلت الزوبعة إلى حياتهم إلى أجل غير مسمى‪ .‬ولعلها ستبقى‬
‫ترافقهم مثل الحمى المالطية حتى نزع الروح‪ .‬ويقول المثل الشركسي‪ :‬من يخسر وطنه يخسر‬
‫كل شيء‪ .‬حتى يجد وطنا جديدا لن يكون وطنا‪ .‬وعندما عرض على (فيرنر هايزنبرغ) الدماغ‬
‫الفيزيائي صاحب نظرية االرتياب في ميكانيكا الكم الهجرة إلى أمريكا كان جوابه‪ :‬إنه قرار‬
‫يجب أن يحسم في عمر مبكر‪ .‬فمن نشأ في ثقافة بعينها حتى عمر معين تصبح تلك البيئة له‬
‫أكثر األوساط تأثرا منها وتأثيرا فيها‪ .‬كان جوابه‪ :‬سأرجع إلى ألمانيا حتى إذا انهدمت المدن‬
‫األلمانية قمت بتربية جيل ما بعد الكارثة‪ .‬وهو الذي حصل عندما دشن معهد ماكس بالنك في‬
‫فروع ال نهاية لها من العلوم‪.‬‬

‫والمشكلة الثانية أن من هاجر واحتك بالحضارات األخرى يصل إلى وضع ال يحسد عليه‪ ،‬فلم‬
‫يعد الشرق يعجبه وال الغرب يسعده فهو نفسيًا في األرض التي ال اسم لها‪ .‬ومن أجمل ما قرأت‬
‫نقال عن مهاجر ألماني ما معناه أن الذي يرى وطنه جميال فهو ال يفهم الحياة‪ ،‬ومن شعر‬
‫بالغربة في الهجرة فهو غير ناضج‪ ،‬ولكن من شعر بالغربة في كل العالم فهو المواطن الصالح‪.‬‬
‫يقصد بهذا إن وجودنا في األرض كله يقوم على التوقيت واإلعارة وأننا البشر من التراب وإليه‬
‫نعود‪ .‬وهذا يقرب إلى وعينا صدى تلك الجملة العميقة التي نطقها المسيح عليه السالم‪ :‬مملكتي‬
‫ليست من هذا العالم‪.‬‬
‫إنهم يعيشون العالم السفلي وحلمهم معلق في عالم لم يولد بعد‪.‬‬

‫إنه قرار مصيري ولكنه يبقى معاناة أفضل من المعاناة في وطن تحول إلى سجن كبير بدون أمل‬
‫في اإلفراج مثل حكم اإلعدام المؤجل‪.‬‬

‫ومازلت أتذكر يوم ‪ 13‬يناير ‪ 1975‬م وأنا في طريقي مهاجرا إلى ألمانيا الغربية‪ .‬عندما نشبت‬
‫معركة حامية الوطيس بين اثنين من الركاب على المقاعد‪ .‬وفي الليلة األخيرة قبل مغادرة البالد‬
‫كانت ليلة الفندق مرعبة بين قرقعة الصنادل الخشبية وصراخ مغنية مجنونة قد استولت على‬
‫حواس صاحب الفندق فسهر على صوتها حتى مطلع الفجر‪.‬‬

‫وعندما تجاوزت الحدود خررت هلل ساجدًا على نعمة الحرية‪ .‬وكانت هذه آخر ذكرياتي من العالم‬
‫العربي فودعت حضارة الصخب والفوضى والخوف وتلوث الحواس رؤية وسماعًا وشمًا‪.‬‬
‫وهبطت مطار نورمبرغ األلماني ألستقبل حضارة النظافة والنظام واألمن‪.‬‬

‫ويعتبر قرار الهجرة ثالثًا من أصعب وأخطر القرارات في حياة اإلنسان ولعله يكون طريق‬
‫باتجاه واحد‪ .‬ومشكلة الغرباء أنهم يبقون غرباء لفترة طويلة وقد تدوم هذه الغربة مدى الحياة‪.‬‬
‫وعلى من يتخذ قرار الهجرة أن يتذكر ثالث أمور‪ :‬أنه قرار ال يتعلق به وحده بل ذريته من‬
‫بعده‪ .‬ثانيًا أنه قد يكون هجرة بغير عودة‪ .‬وثالثا ليتذكر قول الفيلسوف ديكارت أن من يكثر‬
‫التنقل يصبح غريبا في بلده‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫وأرجع إلى صديقي أبو محمد قلت له ما دافعك إلى الهجرة‪ .‬قال لي أمورنا تمشي إلى الخلف‬
‫وحياتي انتهت وأنا أريد مستقبال ألوالدي‪.‬‬
‫الهجرة ظاهرة كونية مثل الوحي فكما أوحى هللا إلى أنبياءه روحًا من أمره‪ ،‬كذلك أوحى إلى‬
‫(النحل) أن اتخذي من الجبال بيوتا‪ .‬وأوحى إلى (أم موسى) أن أرضعيه‪ .‬كل بطريقته الخاصة‪.‬‬
‫وال يهاجر اإلنسان فقط بل سمك السلمون والنحل والطيور والفراشات‪ .‬ويهاجر الرجل والمرأة‬
‫إلى عش جديد لتوليد عائلة جديدة‪ .‬فهذا قانون وجودي‪.‬‬
‫الطيور تهاجر تبحث عن الحب‪ .‬وسمك السلمون يهاجر في ملحمة رائعة من نهر فرايزر في‬
‫كندا ليقطع رحلة عشرة آالف كيلومتر حتى المحيط‪ .‬وتغادر الفراشات (الملكة) شمال أمريكا‬
‫لتصل إلى أمريكا الجنوبية فتتبدل خلقا من بعد خلق‪ .‬ولكن هجرة اإلنسان غير هجرة السمك‬
‫والطيور فهي حركة ثقافية‪.‬‬
‫وحسب فيلسوف التنوير األلماني (كانت) فقد كانت الهجرات تأريخًا لالضطهاد السياسي‪ ،‬من‬
‫خالل االنشقاق المتتابع في الجماعات اإلنسانية‪ ،‬وبذلك زحف اإلنسان في األرض من شرق‬
‫أفريقيا حتى جنوب أمريكا في رحلة امتدت على مدار ‪ 200‬ألف سنة‪ .‬فكان االضطهاد في طرف‬
‫منه خيرا في انتشار اإلنسان في األرض‪ .‬ونعرف اليوم أن هجرات الجنس البشري عبرت‬
‫مضيق بهرنجر قبل ‪ 12‬ألف سنة وتابعت زحفها حتى مضيق ماجالن وأرض النار‪.‬‬
‫وحسب المؤرخ البريطاني (توينبي) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) فالهجرة صيروة تنطبق‬
‫أيضًا على األنبياء من خالل قانون (االعتزال والعودة)‪ .‬وبذلك هاجرت البوذية من نيبال في‬
‫الهند واستقرت في الصين‪ .‬وتركت المسيحية فلسطين وزحفت إلى روما‪.‬‬
‫وفي مسيرة (ماوتسي تونج) ـ إن صدقت األسطورة ـ مشى معه مائة ألف من أتباعه إلى شمال‬
‫الصين ما عرف بـ (المسيرة الكبرى)‪ ،‬بعد أن اجتاز عشرات األنهار وسبع سالسل من قمم‬
‫الجبال لينشيء جمهوريته األولى في ينان بأربعة آالف إنسان‪ .‬بعد أن قتل أكثرهم على يد‬
‫الكومنتانغ‪.‬‬
‫والسؤال ما الذي يدفع اإلنسان إلى الهجرة فيترك مراتع الطفولة وأحب األماكن إلى قلبه كما‬
‫وصف ذلك الرسول ص وهو يجبر على مغادرة مكة عندما ائتمروا على قتله وتفريق دمه بين‬
‫القبائل؟‬
‫إن شعور الفراق األبدي الذي استولى على (هرقل) كان حزينا وهو يغادر دمشق بعد الفتح‬
‫اإلسالمي ويقول‪" :‬وداعا يا دمشق ‪ ..‬وداعًا ال لقاء بعده" وهي نفس الجملة التي يكررها‬
‫اليوم فارين اللجوء السياسي من بالد الشام إلى األرجنتين والدومينيكان والسويد‪ .‬قد يحمل‬
‫نعش أحدهم إلى الوطن كما حصل مع نزار قباني فيدفن فيه‪ .‬ولكنه لم يعد وطنا للحياة بحال‪.‬‬
‫فهو وطن األحياء األموات‪ .‬والموتى فيه يدفنون‪.‬‬

‫لماذا قال إبراهيم عليه السالم هذه الجملة إني مهاجر إلى ربي؟‬
‫يعتبر إبراهيم عليه السالم المهاجر األكبر فهو الذي ترك بالد الرافدين ووفرة المياه وخضرة‬
‫النيل ليأوي إلى أرض غير ذي زرع عند بيته المحرم‪ .‬فالصحاري مع الحرية أطيب من‬
‫االستبداد مع الجنان‪ .‬وهناك أقام القواعد من البيت في بيئة صعبة هو وإسماعيل ربنا تقبل منا‪.‬‬
‫وهناك دعا أن ال يجعل في ذريته من يعبد األوثان‪ .‬كان هذا بعد النقاش المرير مع النمرود في‬
‫العراق الذي زعم أنه يحيي ويميت‪ ،‬وبعد نجاته من النار فكانت بردا وسالمًا عليه‪ ،‬وبعد أن‬
‫واجه فرعون مصر الذي طمع في زوجته الجميلة سارا‪ .‬ترك كل ذلك خلف ظهره ليأمن على‬
‫ذريته في أرض غير ذي زرع‪ ،‬ألن أعظم زرع هو اإلنسان في مناخ الحرية‪ .‬ومع الديكتاتورية‬
‫ال أمان وال ضمان ألي شيء‪ .‬وفي جو االستبداد تقتل الحياة قتال‪.‬‬
‫وهاجر فتية أهل الكهف فرارا من االضطهاد السياسي ومعهم كلبهم‪ ،‬فبيئة مدمرة من هذا النوع‬
‫ال تطيقها الكالب‪ .‬وفر موسى عليه السالم بدوره من جو الحضارة الفرعونية المقيت التي اعتاد‬
‫أهلها أكل البصل والثوم مع اإلهانة واإلذالل إلى صحراء مدين ليتزوج هناك ويعيش‪ ،‬ولم يرجع‬

‫‪106‬‬
‫إلى مصر إال برسالة‪ ،‬ولم يكن له أن يعيش قط في بلد يرفع القبور ألشخاص فانين على هيئة‬
‫أهرامات تناطح السحاب في مناخ ميت مميت من الديكتاتورية‪.‬‬
‫من يهاجر في العادة رغبة هم زبدة القوم وأكثرهم فعالية؛ فيتبخرون إلى سماء الرأسمالية مثل‬
‫الماء‪ ،‬ويبقى في األسفل مثل طحل القهوة من كتب عليه الشقاء والبالء والغباء‪.‬‬
‫وجرت العادة أن أكبر الهجرات جاءت بأفضل النتائج؛ فمع طوفان نوح تطهرت األرض فلم يبق‬
‫من الكافرين ديارا‪ ،‬ومع هجرة كولمبس تقرر مصير الغرب‪ ،‬وانقلبت محاور التاريخ‪ ،‬وانتقلت‬
‫الحضارة من المتوسط إلى األطلنطي‪.‬‬
‫سنة هللا في خلقه وهلك هنالك المبطلون‪...‬‬

‫‪107‬‬
‫فلسفة الحق والواجب‬

‫لعل أكبر خرافة تعلمناها في تربيتنا السياسية شعار (الحقوق تؤخذ وال تعطى)‪ ،‬وفي الحقيقة‬
‫فالحقوق ال تؤخذ وال تعطى‪ ،‬وإنما هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب‪.‬‬
‫فمن يقوم بواجبه ينال حقوقه‪ ،‬إن لم يكن في األرض فستنزل من السماء عطاًء غير مجذوذ‪.‬‬
‫لنحاول تفكيك هذه الفكرة؟‬
‫هناك (قانون اجتماعي) يربط بين العالقات الشخصية‪ ،‬وشبكة العالقات االجتماعية‪ .‬وفكرة‬
‫المركزية والالمركزية التي طورتها المجتمعات الغربية هي ثمرة نضج تلك المجتمعات‪.‬‬
‫وكل تضخم في جانب الفرد يعني تورمًا غير صحي على حساب شبكة العالقات االجتماعية‪.‬‬
‫وبقدر نمو الفردية بقدر اضمحالل الروح االجتماعية‪.‬‬
‫ونحن نعرف في علم األورام أن السرطان حينما يكبر يقضي في النهاية على نفسه والبدن مع ‪ً.‬ا‬
‫وحينما ترفع صور األفراد شاهقات في بلد فهو يعني من طرف آخر إلغاء بقية األمة‪ .‬كما‬
‫حصل مع صدام حينما جاءت نتيجة التصويت له مائة بالمائة‪ ،‬وقبل السقوط الكبرياء‪.‬‬
‫فسقط وصدم وشنق‪ ..‬فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‪.‬‬
‫ونقطة خالف اإلسالم مع المسيحية هي في نفي صفة األلوهية عن شخصية المسيح ليجلس‬
‫على كرسي بين البشر‪.‬‬
‫ومن الغريب أن فكرة األقانيم والتثليث في المسيحية اعتنقتها السياسة في مناطق كثيرة من‬
‫كوريا الشمالية حتى كوبا‪.‬‬
‫إن حرص اإلسالم على تحريم الصور لم يكن من أجل صورة الهوية الشخصية أو صور‬
‫الديجتال في االنترنيت‪ ،‬بل من أجل نزع القداسة عن الصور‪.‬‬
‫وهذا الفهم كتب عنه ابن رشد عن سر العالقة بين العلة والنص في عنوان (فصل المقال فيما‬
‫بين الشريعة والحكمة من االتصال)‪ ،‬فعوقب بحرمانه من دخول المسجد للصالة هو وابنه في‬
‫قرطبة عندما هاج عليه الرعاع‪.‬‬
‫وعندما يستلب الفهم من عقولنا نحافظ على الطقوس‪ ،‬وننسى روح اإلسالم‪ .‬تمامًا كما واجه‬
‫الصدوقيون والكتبة والفريسيون عيسى بن مريم؛ فكانوا يسألون عن الشبث والنعنع والكمون‬
‫وينسون الناموس األكبر‪ ،‬ويسألون عن البعوضة وينسون الجمل‪.‬‬
‫هناك عالقة صارمة بين فكرتي‪( :‬الحقوق) و (الواجبات)؛ فالواجب هو (حق) من جانب‪ ،‬وهو‬
‫(واجب) من الوجه اآلخر‪ ،‬تمامًا مثل وجهي العملة‪ .‬إن أية (معاملة) هي واجب للموظف‬
‫يؤديها‪ ،‬في الوقت التي هي حق لمن يستفيد منها‪.‬‬
‫الموظف يرى من حقه أن يعالج بشكل جيد أثناء مراجعة المستشفى‪ ،‬في الوقت الذي يعتبر هذا‬
‫واجبًا للطبيب يؤديه‪ ،‬وهكذا تصبح (العملة االجتماعية) تدور بين (حق ـ واجب) في كافة‬
‫شرايين الخدمة االجتماعية‪.‬‬
‫هذه العملة يجب أن ال تَّز ور‪ ،‬وحسب قواعد االقتصاد يعتبر المجتمع معه (فائض) في العملة‬
‫عندما يملك فائض من عملة (الواجبات)‪ .‬نحن إذا أمام ثالث معادالت اجتماعية‪:‬‬
‫(‪ )1‬األولى (الواجبات أكبر من الحقوق)‪.‬‬

‫(‪ )2‬الثانية حينما تتعادل الواجبات والحقوق‪ .‬واجبات = حقوق‪.‬‬


‫‪ 3‬ـ الثالثة حينما تزيد الحقوق عن الواجبات أو(الواجبات أقل من الحقوق)‪.‬‬
‫األولى‪ :‬عند تحقق فائض الواجبات عن الحقوق‪ ،‬وهي ترمز إلى مجتمع متفوق حضاريًا‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫الثانية‪ :‬تساوي الحقوق والواجبات‪ ،‬وهي تعطي فكرة عن مجتمع متوازن‪ ،‬أما عندما تتفوق‬
‫حركة المطالبة بالحقوق في المجتمع عن تأدية الواجبات اليومية‪ ،‬فإن المجتمع يبدأ في‬
‫االنهيار‪.‬‬
‫ويترتب على القانون الذي ذكرناه قانون اجتماعي آخر هو‪ :‬عدم المطالبة بالحقوق‪ ،‬أو بكلمة‬
‫أدق تعميق اتجاه القيام بالواجب‪ ،‬ألن المجتمع الذي تعلم أن يقوم بواجباته سوف تنشق السماء‬
‫وتتنزل عليه حقوقه‪.‬‬
‫ومعظم أبناءنا الذين يذهبون إلى الغرب ال يفهمون (سر الفعالية) فيه‪ .‬ويحصل ما سماه (مالك‬
‫بن نبي) االرتماء في (مزابل الحضارة) أو االنزواء في (مقابر الحضارة)‪.‬‬
‫ويعني بكالمه رؤية الحضارة الغربية من ثقبين‪:‬الفساد األخالقي‪ ،‬واألجواء المهنية!‬
‫والحضارة ليست هذا وال ذاك‪ ،‬كما أنها لم تخلق في هذه األمكنة‪.‬‬
‫كان مالك يريد فهم الحضارة ككائن عضوي مترابط و"الشروط النفسية واالجتماعية" التي‬
‫توِّلد هذه الفعالية‪.‬‬
‫وهذه الفكرة حلت عندي إشكالية مهمة لماذا يتصرف من اختص في الغرب بعد عودته‪ ،‬بصورة‬
‫غير التي كان يتصرف بها هناك؟ فال يحافظ على الموعد‪ ،‬وال يتقيد بإشارات المرور‪ ،‬أو يعتقد‬
‫بالخرافة إلى أخمص قدميه ولو كان مهنيًا بارعًا‪.‬‬
‫والمجتمع األلماني الذي عشت فيه تسع سنوات وأتقنت لغته يعتبر من قمم مجتمعات العالم‪،‬‬
‫فألمانيا هي صيدلية العالم‪ ،‬وأرض الفالسفة‪ ،‬ومكان الموسيقيين المبدعين‪ ،‬وأرض حملة‬
‫جوائز نوبل‪.‬‬
‫بنفس الوقت هي محرقة آوشفيتز‪ ،‬وأرض الهولوكوست‪ ،‬ومستنقع العنصرية‪ ،‬ومزبلة كبيرة‬
‫لكل اإلباحيات الجنسية‪ ،‬وما لفت نظري عندهم (أخالقيات العمل) فاإلنسان األلماني قد يخمر‬
‫في الليل ويعربد جنسيًا‪ ،‬ولكنه في صباح اليوم التالي ال يتأخر في حضوره للعمل؛ فالعمل عنده‬
‫مقدس‪.‬‬
‫إن عندهم من الفائض في العملة االجتماعية (الواجب) ما يجعل أمراضهم مسيطٌر عليها‪،‬‬
‫وقوتهم من معرفتهم بطبيعة هذه األمراض‪ ،‬واالنتباه الدائم لها‪ ،‬ومراقبتها ونشر فضائح‬
‫الشخصيات السياسية‪ ،‬فيما لو تورط باختالس ولو القليل‪ ،‬أو قصر عن دفع ضريبته من خالل‬
‫أداة نقد اجتماعية حادة‪ .‬ومن الغريب أن مفاهيم الحقوق والواجبات متناثرة في تراثنا‪ ،‬ولكننا‬
‫نقرأ النصوص بعيون الموتى‪.‬‬
‫ذكر ص في يوم أنه سيكون أثرة فقال الصحابة ماذا نفعل يا رسول هللا؟ قال (ص) أدوا الذي‬
‫عليكم وسلوا هللا الذي لكم‪.‬‬
‫يقول الراوي لقد بلغ بنا أن أحدنا لو وقع من يده سوط فرسه ما طلبه من أحد ونزل فالتقطه‪.‬‬
‫فهذه هي فلسفة الحق والواجب‪..‬‬

‫‪109‬‬
‫فلسفة السرطان‬
‫هل يمكن للمجتمع أن يتسرطن فيقضي نحبه ‪ ،‬كما يقضي سرطان المعدة على المريض ؟ هل‬
‫يمكن للخاليا االجتماعية أن تصاب بـ ( الخبث ) في تصرفاتها كما تفعل الخاليا السرطانية‬
‫المدمرة في الجسم ؟ هل هناك مظاهر اجتماعية توحي بمثل هذا التحول المدمر ؟ هل هناك‬
‫أجهزة للتشخيص المبكر في هذه التحوالت الخبيثة ؟ هل تطورت األبحاث االجتماعية بما فيه‬
‫الكفاية فطورت المعالجة ( االجتماعية الكيمياوية والشعاعية والجينية ) ‪.‬‬
‫البد من تعريف السرطان البيولوجي لالقتراب من المفهوم االجتماعي ؟؟‬
‫السرطان هو إعالن التمرد العام على نظام الجسم ‪ ،‬وهو في صورة ثانية ( الخلل الوظيفي‬
‫الزماني المكاني ) ‪ ،‬فالخلية المجنونة تتكاثر بدون هدف إال عربدتها الخاصة ‪ ،‬وهي تترك‬
‫مكانها لتحتل مكان خاصًا بآخرين ‪ ،‬وهي تنمو بسرعتها الخاصة مثل نشاز اللحن في عزف‬
‫سيمفونية بديعة متكاسكة النغمات ‪.‬‬
‫من كانت مهمته البناء يتجه للتدمير ‪ ،‬والخاليا المخصصة لجمال الوجه تتحول إلى فقاعات‬
‫ورمية سوداء بشعة ‪ ،‬وخاليا األمعاء تترك مكانها فتنزل ضيفًا غير مرحب فيه ‪ ،‬في الكبد‬
‫والرئة ‪ ،‬وخاليا الجلد تستقر في الدماغ ‪.‬‬
‫ضياع المجتمعات يحدث بنفس الطريقة ؛ فالسرطان االجتماعي يأكلها عندما تضيع‬
‫المسؤوليات ‪ ،‬ويشذ الناس على القانون ‪.‬‬
‫إن كثرة الخاليا بال معنى هادف ‪ ،‬يجعل البدن فاقدًا لهدف الحياة بال معنى ‪ ،‬وجرت القاعدة أن‬
‫الذي يفقد هدفه في الحياة حل به الفناء ‪ ،‬إلنه أصبح معادًال للفناء ‪ ،‬أو هو يسير نحو الفناء‬
‫إلنه فقد مبرر الحياة ‪ ،‬فالسرطان هو تعبير عن فقد مبرر الحياة ؛ بفقد هدف الحياة ‪.‬‬
‫المرض االجتماعي يحدث بمحاولة الفرد ( االنتهازي ) أن ( يتورم ) على حساب الجماعة ؛‬
‫فينقلب إلى ( قارض اجتماعي ) يقضم الشبكة االجتماعية !! أو خلية سرطانية تفترس األنسجة‬
‫الحية ‪.‬‬
‫كما يصاب الفرد بالمرض فإن الجماعات لها أمراضها ( النوعية ) ‪.‬‬
‫يشكل المرض وحدة عضوية خاصة به ‪ ،‬ذات شخصية متكاملة ‪ ،‬سواء الزكام أو السرطان ‪،‬‬
‫كذلك الحال في األمراض االجتماعية فالجعبة مليئة ؛ من ( عدم احترام القانون ) و( تجاوز‬
‫إشارات المرور ) و ( كراهية النظام واالنضباط ) و ( السطحية في معالجة األمور ) و ( عدم‬
‫رؤية المشاكل قبل وقوعها بل االصطدام بها بعد ذلك مثل العميان !! ) و ( نمو الفردية إلى‬
‫درجة االنتفاخ ) و ( النطق بال مسؤولية ) و ( عدم احترام اآلخرين ) و ( التسيب الوظيفي ) و‬
‫( والالفعالية ) و ( البيروقرطية غير المنتجة ) و ( عدم تقدير الوقت ) و ( ضعف الذوق‬
‫الجمالي ) و ( غياب الروح العملية ) و ( انطفاء روح المبادرة ) و ( عدم الشعور بالحرج من‬
‫سرقة المال العام ) و ( تجنيد جيوش موازية ) لحراسة الشخصيات السياسية ‪ .‬أمراض تعشش‬
‫في جلد النظام كما تمأل البراغيث فروة الثعلب المسكين ‪.‬‬
‫وتبقى مجموعة خطيرة للغاية تساهم في تقويض البنيان االجتماعي يأتي في قمتها ( الرشوة )‬
‫و ( المحسوبية ) و ( والوساطة ) واختصرها القرآن بالثالثي ‪ (:‬واليقبل منها شفاعة ) و‬
‫( واليؤخذ منها عدل ) فيتعفن كامل الجهاز البيروقراطي بدون أمل في رحمة هللا ‪.‬‬
‫يمكن القول باختصار ‪ :‬تتم معرفة قوة مجتمع من ضعفه ‪ ،‬بمدى سيطرة العالقات الشخصية‬
‫من قوة نفاذ القانون ‪ .‬حين يتضخم األفراد ينكمش القانون ‪ ،‬إلن الوجودين متزاحمين في‬
‫الوعاء االجتماعي ‪.‬‬
‫النمو الورمي لألفراد هو في العادة مؤشر على بداية مرض الجماعات ‪ .‬ويظن أولئك‬
‫( المغامرون ) أنهم يحسنون صنعًا ‪ ،‬وأنهم ( شطار ) يعرفون كيف ( تؤكل الكتف ) ‪ ،‬ولكن‬

‫‪110‬‬
‫السرطان حينما ينمو ‪ ،‬أول مايفعله ‪ ،‬أنه يقضي على الجسم الذي أمده بأسباب الحياة ‪ ،‬فيكون‬
‫مثله كمثل القرد سيء الذكر في قصة كليلة ودمنة ‪ ،‬حين نشر غصن الشجرة الذي يجلس فوقه‬
‫!! ‪ .‬وبذلك يدمر الورم نفسه من حيث اليشعر ‪ ،‬حين يدمر مصادر وجوده ‪ ،‬فيهوي والبدن إلى‬
‫فراش الموت ‪ ،‬في حماقة أشد من غالم الجاحظ ‪.‬‬
‫سأل الجاحظ غالمًا فقال له ياغالم ‪ :‬أيرضيك أن يكون لك مائة ألف دينار وتكون أحمقًا ‪ ،‬قال ال‬
‫وهللا ياعماه ‪ ،‬قال له الجاحظ ‪ :‬ويلك ياغالم إنها فرصة العمر ؟ قال ياعماه ‪ُ :‬أضِّيع الدنانير‬
‫وأبقى أحمقًا مدى الحياة !!‬
‫يجب أن نعلم أنه كما يموت األفراد ‪ ،‬تموت الجماعات ‪ ،‬وتدول الدول ‪ ،‬وتفنى األمم ‪ ،‬وتنقرض‬
‫الحضارات فـ ( لكل أمة أجل ) ومن خالل السرطان النوعي الخاص بكل مستوى ‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫الفالسفة‬

‫‪112‬‬
‫زاوية سقراط المعرفية‬

‫في عام ‪ 399‬قبل الميالد تم تقديم رجل عجوز يناهز عمره الســبعين عام ـًا إلى المحكمــة في‬
‫أثينا‪ ،‬بتهمتي الهرطقة وإفساد الشبيبة‪ ،‬وتم الحكم عليه باإلعدام‪.‬‬
‫وكانت طريقة تنفيذ حكم اإلعدام بجرعة سم الشوكران‪.‬‬
‫كان هذا المجرم؛ هو الــذي ســيعرفه كــل العــالم الحقــا باســم الفيلســوف والفلتــة العقليــة وطفــرة‬
‫التفكير (سقراط)!!‬
‫استقبل سقراط الموت بشــجاعة‪ ،‬وتجــرع الســم بهــدوء‪ ،‬وهـو يشــرح أفكــاره لطالبـه المتحلقين‬
‫حوله‪ ،‬وفي مآقيهم الدموع‪ ،‬حتى آخر لحظة من حياته‪ ،‬وبذلك كان صادقات مع نفســه ومــع من‬
‫حوله بتلقي العلم من المهد حتى الحد‪.‬‬
‫وأعترف أنا شخصيا أن هذه القوة النفسية والشجاعة األدبية‪ ،‬حتى في لحظات المــوت‪ ،‬هي من‬
‫صفات النفس المطمئنة بمن فيهم أناس ال نصـفهم بـأنهم مسـلمين‪ ،‬فـإذا كـان الفيلسـوف محمـد‬
‫إقبال قال في مواجهة أنا غير خائف فأنا مسلم‪ ،‬فإن (تشي غيفارا) استقبل الموت بهــدوء بــالغ‪،‬‬
‫في الوقت الذي كانت ترتجف يد الجندي المصوب سالحه باتجاه غيفارا!!‬
‫فخاطبه األخير لماذا أنت مضطرب إنك تقتل إنسانا فحسب!!‬
‫أو حين واجه الموت تولستوي في محطة استرابو أن قــال؛ وأخــيرا أمــوت كمــا يمــوت أي فالح‬
‫روسي!‬
‫أما سقراط فكان الشيء األخير الذي أوصى به توفية دينــه‪ ،‬كأنــه يتلــو القــرآن؛ من بعــد وصــية‬
‫يوصي بها أو دين!‬
‫وعندما بكت زوجته قائلة إنهم يقتلونك ولكنك بريء؟!‬
‫كان جوابه‪ :‬وهل يسرك أن ُأعدم مدانًا؟‬
‫والسؤال الذي يطرح نفســه عن طبيعــة التهمــة الخطــيرة الــتي فعلهــا ســقراط‪ ،‬بحيث اعتــبرت‬
‫جريمة في نظر المجتمع األثيني‪ ،‬مما دفع األكثرية للتصويت بإعدام ألمع دماغ في المجتمع؟‬
‫ينقل لنــا التـاريخ الفلســفي أن ســقراط كــان يعتمــد آليــة فكريــة انتبهت لهــا مــدارس علم النفس‬
‫متأخرًا في نشر المعرفة‪ ،‬وهي طريقة اســتفاد بهــا من والدتــه الـتي كــانت تعمــل قابلـة؛ فلم يكن‬
‫يطرح أجوبة‪ ،‬بل يحرك األسئلة فيهدم المسلمات‪ .‬التي ال تزيد عن أوهام في كثــير من األحيــان‪.‬‬
‫مثل رجل الدين والحكم المطلق وألوهية البشر والقدر والرزق‪.‬‬
‫وكان سقراط في نقاشه يؤكد على حقيقة واحدة‪ ،‬هي التي جعلت عرافـة معبـد دلفي تصـفه بأنـه‬
‫أكثر الناس حكمة‪.‬‬
‫كان سقراط يرى أن هناك شيئًا واحدًا يمكن التأكد منه هو (جهله)‪.‬‬
‫وفي هذه الكلمة تتحرر ثالث بنى فكرية ضخمة‪:‬‬
‫ـ أخالقية التواضع الودود الذي كان يتمتع به سقراط‪.‬‬
‫ـ والثانية‪ :‬قدح زنــاد الشــرارة المعرفيــة‪ ،‬ألن من يعــرف أنــه ال يعــرف‪ ،‬يضــع رجلـه في طريــق‬
‫المعرفة‪.‬‬
‫ـ والثالثة‪ :‬أننا محاطون بكون ال نهائي من المعرفة‪.‬‬
‫كان سقراط يحرر طريقة خاصــة إلى المعرفــة في أســلوبه التعليمي بين الســؤال والجــواب‪ ،‬فال‬
‫يعطي جوابًا واضحًا عن أي شيء‪ ،‬في الوقت الذي يصوغ سؤاًال في غاية الدقة‪ ،‬فكــان الجــواب‬
‫يولد تدريجيا من فم اآلخر كما تفعل المرأة في إنزال محصول الحمل‪.‬‬
‫والوالدة هنا هي لألفكار‪.‬‬
‫بهذه الطريقة التعليمية بين السفسطائية والشك‪ ،‬والتمحيص الدءوب عن الحقيقة يولد اليقين‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫وبهذه الطريقة صدم سقراط عقائد أهل أثينا؛ فنادى بالتوحيد‪ ،‬وأنكر تعدد اآللهة‪ ،‬ونقل المعركــة‬
‫الفلسفية من ميدان الطبيعة إلى الميدان األخالقي‪ .‬فمشكلة اإلنسان الكبرى هي في عالقته بأخيه‬
‫اإلنسان أكثر من عالقته بالطبيعة‪ ،‬وفيها يكمن التحدي األعظم‪.‬‬
‫ومنها حَّر ر مبدأه األخالقي‪ ،‬بعدم مكافحة الشــر بالشــر‪ ،‬وأنــه خــير لنــا أن نتحمــل الظلم‪ ،‬من أن‬
‫نمارسه‪ ،‬وأن التغيير االجتماعي ينطلق مع ممارسة الــواجب أكــثر من المطالبــة بــالحقوق‪ ،‬وأن‬
‫البحث عن الحقيقة يجب أن يكون نهم اإلنسان األول‪.‬‬
‫هذا الذي دعا سقراط لتجرع كأس الســم‪ ،‬وعــدم لجوئــه إلى الفــرار حينمــا أتيحت لــه الفرصــة‪،‬‬
‫فمات شهيد أفكاره‪ ،‬ليقينه أن األفكــار الجيــدة تنمــو بــالموت في ســبيلها‪ ،‬كمــا يحصــل مــع طمــر‬
‫البذرة في باطن األرض‪.‬‬
‫قد يموت صاحبها أما األفكار فتدخل المطلق والخلود‪.‬‬
‫لم يكن سقراط مرتاحًا في حياته الزوجية‪ ،‬فكــان يقــول لمن يســأله عن الـزواج‪ :‬تــزوج ألنــك إن‬
‫اجتمعت بالمرأة الصالحة كنت سعيدًا‪ ،‬وإن لم يكن كذلك أصبحت فيلسوفًا‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫قصة إعدام سقراط‬
‫كان سقراط فلتة عقلية وبالتعبير الطبي (طفرة)‪ .‬مع هذا فقد حكمت أثينا الديموقراطية بإعدام‬
‫سقراط عام ‪ 399‬ق‪ .‬ب‪ .‬والسؤال ما هو هذا الجرم الكبير الذي حكم على العقل الكبير أن ينطفئ‬
‫في أثينا؟ مع هذا فليس هناك من طريقة لتخليد األفكار مثل الموت في سبيلها‪ .‬و(عبد الناصر)‬
‫بإعدام (سيد قطب) نشر فكره أكثر من ألف دار نشر بحماقة تزيد عن حماقة أشعب وهبنقة معا‪.‬‬
‫واليوم تنتقل (القاعدة الصلبة الواعية) التي بشر بها قطب في كتاب (معالم في الطريق) إلى‬
‫كهوف تورا بورا‪ .‬وهذا يحكي قصر نظر السياسيين‪ .‬ولو عاش سيد قطب حتى اليوم لكان شيخا‬
‫طاعنا في السن تستقبله بعض المحطات الفضائية للحوار معه أو أن يتكلم عن تاريخه في‬
‫برنامج من نوع بال حدود‪ .‬وبذلك أفاده عبد الناصر من حيث أراد التخلص منه فجعله حي الذكر‬
‫يطبع كتابه (في ظالل القرآن) المرة بعد المرة فهذه هي ميزة (الشهيد)‪ .‬وأثينا بإعدامها سقراط‬
‫خلدت ذكره إلى يوم الدين‪ .‬وهذه هي الشهادة‪ .‬ألنها تخلع عليه الحياة فال ينال منه الموت‪،‬‬
‫ويبقى ملتمعًا مثل الشعرى اليمانية في أفق اإلنسانية‪ .‬ومن الضروري اإلحاطة بظروف إعدام‬
‫هذا الرجل‪ ،‬فقد عاشت أثينا القديمة فترة من الزمن تنعم بنوع من الحكم الديموقراطي السيادة‬
‫فيه لعامة أبناءها ولكن ما كادت المدينة العريقة تنهزم في حربها مع إسبارطة حتى انتكست‬
‫فيها الديموقراطية‪ ،‬فقد أعاد اإلسبرطيون فلول األرستقراطية األثينية إلى الحكم فنكلوا‬
‫بالديموقراطيين وحكموا على الكثير منهم باإلعدام دون مقاضاة أو محاكمة‪ .‬كان عصرًا أسودًا‬
‫لف أثينا بظالمه‪ .‬ولكن الخالص كان في الطريق فقد عاد (تراسبيولوس) بعدد قليل من أتباعه‬
‫فانضم إليه أنصار الديموقراطية واضطر اإلسبرطيون أن يمِّك نوهم من حكم البالد ولكن ما إن‬
‫مضت خمسة أعوام وحل عام ‪ 399‬قبل الميالد حتى اقترف هؤالء ما رأت فيه األجيال الالحقة‬
‫وصمة عار في جبين الديموقراطية األثينية ال يمكن أن ينساها التاريخ‪ .‬كانت ثروة البالد في‬
‫هبوط‪ ،‬فراح كثيرون يبحثون عن كبش فداء يوجهون إليه اللوم‪ ،‬وكان الشعور سائدًا بأن‬
‫الفضائل اهتزت‪ ،‬وكان المسئولون عن ذلك في نظرهم فئة من المعلمين ذوي األفكار الجديدة‬
‫يتقدمهم معلم يعمل نحاتًا يقال له (سقراط)‪ .‬والحقيقة أن سقراط لم يترك كتبًا تحمل آراءه وإنما‬
‫نقلها إلينا تلميذه (أفالطون)‪ .‬ولم يكن لسقراط من عمل سوى التجول في شوارع أثينا مغريًا‬
‫الناس بالجدل والمناقشة‪ ،‬دافعًا إياهم عن طريق السؤال والجواب إلى البحث عن المعرفة‬
‫الحقيقية والفضيلة‪ ،‬ولكي ينهض بتلك الرسالة كان البد من التشكيك في كثير من األفكار‬
‫السائدة‪ ،‬وهكذا أثار سخط عدد من الناس عليه فاتهموه بالمروق الديني وإفساد الشباب‪ .‬وقدم‬
‫الفيلسوف إلى المحاكمة‪ ،‬وكانت محكمة غريبة تتكون من ‪ 565‬قاضيًا كان اختيارهم من العوام‬
‫بالقرعة العمياء أي بحبات الفول كما كانت عادة األثينيين في اختيار موظفيهم‪ ،‬وهكذا فقد كانوا‬
‫خليطًا من بائع متجول ومتسكع عربيد وقصاب وصياد سمك ومرابي‪ .‬وعندما فرغ المدعي من‬
‫تالوة اتهامه نهض سقراط وقال‪ :‬أيها األثينيون لقد عشت شهمًا شجاعًا فثبت للعدو في ساحة‬
‫القتال ولم أترك مكاني خوف الموت‪ ،‬وما أراني اليوم وقد تقدمت بي السن مستطيعًا أن أهبط‬
‫عن ذلك المقام في الشجاعة فأتخلى عن رسالتي التي ألهمتني إياها السماء على لسان كاهنة‬
‫الوحي في معبد دلفي‪ ،‬والتي تهيب بي أن ُأَبِّص ر الناس بأنفسهم‪ ،‬فإذا كان ذلك التبصير هو ما‬
‫تسمونه إفسادًا للشباب األثيني؟ أال إذن فاعلموا أيها القضاة أنكم إن أخليتم سبيلي في هذه‬
‫الساعة فإني عائد من فوري إلى ما كنت عليه من طلب الحكمة وتعليمها مهما يكن منكم بعد‬
‫ذلك في شأني من رأي أو قضاء‪ .‬وهنا علت همهمة القضاة وأظهروا غضبهم واستنكارهم‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد مضى سقراط بكلماته التي ال تعرف التردد وإباءه الذي ال يقبل المهانة فقال‪ :‬ال‬
‫تحسبوا دفاعي هذا عن نفسي خوفا عليها بل خوفا عليكم أنتم يا أهل أثينا األحباء فإني أخشى‬
‫أن تفقدوا بفقدي رجًال ال يعوض‪ ،‬وليس له بينكم نظير‪ ،‬فإنكم وحق اآللهة لن تجدوا من بعدي‬
‫أحدًا يبصركم بعوراتكم ويغمز جانبكم لتركضوا كالجياد السوابق إلى غايات الخير والفضيلة‬

‫‪115‬‬
‫واإلحسان‪ ،‬وال يرخي لكم العنان لتركضوا في مهاوي الفتنة والضالل‪ ،‬بجوادين من انتكاس‬
‫العقل واختالط الفهم‪ ،‬ذلك االختالط الوبيل الذي دأبتم عليه" وازداد ضجيج القضاة وأحس‬
‫رئيسهم بالخطر الذي تتعرض له حياة الفيلسوف من مثل هذه اللهجة الحادة فقال له‪ :‬أليس من‬
‫األفضل لك أن تكسب عطف المحكمة بدًال من أن تتحداها بهذا الزهو والشموخ؟ فأجابه سقراط‪:‬‬
‫وما ذا تريدني أن أقول أيها الرئيس؟ أتريدني حقًا أن أترضاكم يا أهل أثينا بالمديح والثناء‬
‫الكاذب وأن أرضي غروركم بالتوسل والبكاء وأحضر زوجتي وأوالدي أمامكم لترأفوا بحالهم‬
‫وتنقذوهم من اليتم والترمل‪ .‬إني لو فعلت ذلك لكنت أخذت بالعواطف الرخيصة دون إقناعكم‬
‫بالعقل‪ ،‬ومعنى ذلك التغرير بكم ورشوتكم وخداعكم وإفساد أخالقكم‪ .‬واآلن أيها القضاة احكموا‬
‫بما شئتم فذلك شأنكم أنتم واعلموا أن نفوسكم هي التي في كفة الميزان ال نفسي فاحرصوا على‬
‫العدل والحق فهو خير لكم وأجدى عليكم وإني مستريح إلى ما بصرتكم به من عاقبة فارعوا‬
‫أنفسكم بما تتوخون من العدل أيها القضاة‪.‬‬
‫وعندما سأل كبير القضاة سقراط عن أي العقوبات يظن أنها يستحقها؟ وكان هذا السؤال مما‬
‫جرت بع عادة القضاء‪ .‬أجاب مبتسما‪ :‬إن أليق حكم تصدرونه علي أن تحكموا لي بأن أطعم‬
‫وأكسى على نفقة الدولة بقية عمري اعترافًا منكم بما أسديت ألثينا وأهلها من الخير وما‬
‫بصرتهم به من الحق والعدل‪.‬‬
‫وصدر الحكم على سقراط باإلعدام‪ .‬وأودع السجن حتى يحين وقت التنفيذ‪ .‬في تلك األثناء تسلل‬
‫إليه ذات ليلة تلميذه الشاب (كريتون) وهمس في أذنه‪ :‬لقد أعددنا كل شيء للهرب ورشونا‬
‫الحارس وأعددنا الشراع والمال والمأوى في (تساليا) فهيا بنا يا أستاذي إلى الحرية‪ .‬فتطلع‬
‫إليه سقراط طويال ثم قال‪ :‬كال يا كريتون لن أهرب من الموت‪ .‬إني ال أستطيع أن أتخلى عن‬
‫المبادئ التي ناديت بها عمري كله‪ .‬ال لشيء إال ألن نازلة توشك أن تحيق بي‪ .‬بل إني يا‬
‫كريتون أرى هذه المبادئ الغالية التي ناديت بها ودعوت إليها وعشتها حتى اليوم جديرة بذلك‬
‫الثمن الذي أوشك أن أبذله هذا النهار في سبيل تحقيقها وإعالء كلمتها‪ .‬أجل ياكريتو ليست‬
‫الحياة نفسها شيء وإما أن نحيا حياة الخير والحق والعدل فذلك هو كل شيء‪.‬‬
‫وفي ذلك اليوم حمل إليه الحارس كأس السم فتجرعه سقراط بكل شجاعة المؤمن بمبدئه فلم‬
‫يخف الموت ألنه كان على يقين من أن الخلود في انتظاره‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫كهف أفالطون‬
‫قام عالم االجتماع الفرنسي (أوجست كومت) بدراسة الظاهرة االجتماعيــة‬
‫لفهم ما هو المجتمع؟‬
‫وماهو القانون الذي يخضع له أثناء حركة تغيره؟‬
‫يعتبر المجتمع اإلنساني مغايرًا لمجتمع النمل والنحل؛ فهو مجتمــع تــتراكم‬
‫فيه التغيرات‪ ،‬وتدفعه للتطور بدون توقف‪ ،‬ويعتـبر فيـه األفـراد المبـدعون‬
‫شـرارة التغـير األولى‪ ،‬ولكن أفكـارهم ال تعـني شـيئًا مطلقـًا‪ ،‬مـا لم تتبناهـا‬
‫وتتفاعل معها شريحة من القيادة تزداد قاعدتها مع األيام‪.‬‬
‫ويــرى مالــك بن نــبي أن مــابين والدة األفكــار وانتشــارها فــترة (حضــانة‬
‫‪ )INCUBATION - PERIOD‬تمامــا مثــل بدايــة األمــراض قبــل‬
‫انــدالعها‪ ،‬فهــو يــرى أن الحضــارة اإلســالمية ذات فــترة حضــانة قصــيرة‬
‫للغايــة‪ ،‬فلم يكن بين الفكــرة وهيمنتهــا االجتماعيــة فاص ـًال طــويًال‪ ،‬خالف ـًا‬
‫لألفكار المسيحية التي ضربت في عمق الزمن قرونًا طويلة‪ ،‬قبل أن تنبثق‬
‫حضارتها‪ .‬ولكل ثمن مابين الحفاظ على النصوص وتحريفها‪.‬‬
‫إن قانون التغيير اجتماعي يقوم على تغيــير نظــام األفكــار قبــل كــل شــيء‪،‬‬
‫فإذا غير فرد ما بنفسه ال يتغــير مابــه على وجــه الضــرورة‪ ،‬ولنقــل بكلمــة‬
‫أدق ال يتغير ماله عالقة بالتركيب االجتمــاعي‪ ،‬بــل قــد يحصــل العكس على‬
‫المستوى الفردي‪ ،‬فالتصريح باآلراء الخطيرة تكون أحيانا حماقــة وقاتلــة‪،‬‬
‫والمجاهرة بمخالفة ما اعتـاده المجتمـع مـع كـل انحرافـه؛ يجعـل المجتمـع‬
‫يصب العذاب على هذا الفرد النشاز صبا‪.‬‬
‫ومحمد ص اعتبر منحرفا (حنيفا أي مائال عن الصــراط المســتقيم؟)؛ فعلى‬
‫سقراط تجرع السم ولو كان فيلسوفًا حكيمـا‪ ،‬ويجب أن يحــرق برونـو حيـا‬
‫على نار هادئة فيشـوى مثـل أي فـروج! ألنـه سـمح لعقلـه بهـامش حركـة‬
‫تخــالف رأي القطيــع‪ ،‬وعلى جــان لــوك أن يفــر من بريطانيــا الى هولنــدا‬
‫ويختفي من الوجــه! وعلى (رينيــه ديكــارت) أن يكــرر قولتــه المشــهورة‬
‫عاش سعيدًا من بقي في الظل‪ ،‬وأن يخر غاليلو على ركبتيه أمام المطارنة‬
‫فيعترف أنه أحمق مأفون‪.‬‬
‫ولكن يبدو أن قدر التغيير ال يبدأ إال من األفكار ومن األفراد‪ ،‬من المبــدعين‬
‫المتميزين (االنفجاريين) مثل اليورانيوم االجتماعي المشــع‪ ،‬الــذين غــيروا‬
‫عندهم الخرائط الذهنية االجتماعية‪ ،‬وقاموا بممارسـة (نقـد) الفكـر السـائد‬
‫وخرجوا من رحم التقليد‪ ،‬وكهف الظالم العقلي الى هواء الحقيقة الصحي‪،‬‬
‫وشــمس المعرفــة المتــألق؛ فــإذا حملت نخبــة هــذا الفكــر‪ ،‬ونمت من خالل‬

‫‪117‬‬
‫قــانون محنــة تصــهرها‪ ،‬وتخــرج الخبث من تضــاعيفها‪ ،‬وتلحم أطرافهــا‪،‬‬
‫تتحول مع الوقت الى (كتلة حرجة) تغــير طبيعــة المجتمــع‪ ،‬بعــد مكثهــا في‬
‫وسط الحضانة الى حين‪.‬‬
‫وسقراط الذي دفع حياته ثمنًا ألفكاره‪ ،‬تبعــه شــاب أخــذ اســمه في التــاريخ‬
‫بجــانب ســقراط مؤرخـًا وشــارحًا ألفكــاره هــو أفالطــون؛ فســقراط لم يكتب‬
‫عشــرة أســطر‪ ،‬ولكنــه تــرك خلفــه أكــثر من عشــرة مــدارس فكريــة‪ ،‬ليس‬
‫آخرهــا (أكاديميــة) أفالطــون و(مدرســة) أرســطو والكلبــيين والرواقــيين‬
‫واالبيقوريين‪.‬‬
‫كان سقراط فلتة عقلية مدهشة‪ ،‬ونبتت أفكـاره بعـد موتـه في تيـار عقالني‬
‫إنساني لم يتوقف عن التأثير‪ ،‬حتى وأنا أكتب عنه بعد مــرور ‪ 2400‬عام ـًا‬
‫على موته‪ ،‬وأقوم بتأسيس أكاديمية العلم والسلم على ثبج البحــر األخضــر‬
‫اإللكتروني‪.‬‬
‫يقول أفالطون تلميذ سقراط ‪:‬‬
‫أعجب ما يحصل لمن يمـارس القطيعـة المعرفيـة‪ ،‬ويخـرج من ظالم كهـف‬
‫التقليــد الى شــمس المعرفــة‪ ،‬ويتحــرر من وهم امتالك الحقيقــة الحقيقيــة‬
‫النهائية‪ ،‬يشبه رجًال مر في ثالث حاالت‪:‬‬
‫من هو داخل الكهف ال يبصر إال من خالل حركة الظالل‪ ،‬ويرى سجين هذا‬
‫الكهف أن ما يراه هو الحقيقة النهائية وسواها ليس بحقيقة‪.‬‬
‫فإذا أنعتق ورأى الكــون بمنظــار جديــد‪ ،‬يعــرف الفــرق بين الظالم والنــور‪،‬‬
‫وهو حس وتألق خاص ال يعرفه إال من خاضه وعاناه وانبهر منه البصــر‪،‬‬
‫وشهدت له العاقبة‪ ،‬ولكن المأساة أن من يعود ليشرح لهم ما رأى وعاين؛‬
‫يفاجئ بالظالم الدامس يعمي عينيـه؛ فيتهم بـالجنون‪ ،‬ويطـالب بقفـل فمـه‪،‬‬
‫ويصبح أحمقًا أشد من قبل‍؟!‬
‫لذا يردد الحكماء في مجتمعات المصحات العقلية هذه؛ أنه يجب أن يقولــوا‬
‫قوال ال يوقظ نائما وال يزعج مستيقظا حتى يستمر المجتمع في سيمفونية‬
‫الشخير العام‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫قانون التناسب عند أفالطون‬

‫جــاء في كتــاب القــوانين ألفالطــون ص ‪ 691‬قــانون التناســب ونصــه أن‬


‫من ‪ ":‬ارتكب إثمًا ضد قوانين التناسب فأعطى شيئا كبيرا للغاية إلى شيء‬
‫صغير للغاية ليتولى حمله مثل تزويــد ســفينة صــغيرة للغايــة بشــراع كبــير‬
‫للغاية‪ .‬وإعطاء وجبات ضخمة للغاية لجسم صغير للغاية‪ .‬وإضفاء سلطات‬
‫واسعة للغاية على نفس صغيرة للغاية‪ .‬لو تم ذلك لكانت النتيجة وباال تاما‪.‬‬
‫ففي صـورة الحمـق يسـرع الجسـم الّبِط ن صـوب المـرض‪ .‬في حين ينـدفع‬
‫المتغطرس صوب الفجور الذي يغذيه الحمق" ؟!‬
‫وهــذا القــانون يــذكر بمبــدأ الكاريكــاتير فهــو ال يزيــد عن خلــل في عالقــة‬
‫النسب‪ ،‬كما في تضخيم األنــف أو الــذقن واللحيــة؛ فيظهــر الوجــه كمــا هــو‬
‫معروف‪ ،‬ولكن مع التشوه الذي يدفع إلى االبتسامة‪.‬‬
‫وهو أسلوب تعتمده المجالت‪ ،‬بل هو باب ال يمكن ألي مجلة أو جريـدة‪ ،‬إال‬
‫أن يظهر بين صفحاتها كتعبير بسيط موحي مباشر بدون كلمات كثيرة‪.‬‬
‫ويســتخدم الكاريكــاتير عــادة للهجــوم على أخطــاء السياســيين بــروح من‬
‫الفكاهة والتضخيم‪.‬‬
‫أما في عالم الغابة السياسة‪ ،‬حين ينتفخ الحــاكم إلى القــدر األعظم‪ ،‬يتحــول‬
‫المجتمع إلى عالم من الكاريكــاتير‪ ،‬كمــا رأينــا في كيم ايــل ســونج الصــغير‬
‫حاكم كوريا الشمالية‪.‬‬
‫وبالمناسبة فهو مرض ال يخص كوريا بل يمكن أن يتعرض له أي مجتمــع‬
‫وليس هناك أحد محصن ضده بمصل خاص‪.‬‬
‫ويعرف في علم النفس بالنرجسية‪.‬‬
‫وأي نظام يمكن أن يقع في مخالبه‪ ،‬ولو تظاهر بأنه شعبي؛ فالحياة تتعامل‬
‫مع الحقائق وليس الشعارات‪.‬‬
‫ومن أدعى أنــه ســيد الحكمــاء وأعظم األطبــاء والجــراحين‪ ،‬لن يشــهد لــه‬
‫بالجدارة في الفن سوى العمليات الرائدة التي ينجزها بنجاح‪.‬‬
‫والمؤرخ توينبي يذكر هذا القانون في كتابه مختصر دراسة التاريخ كــدليل‬
‫ألسباب إخفاق تقرير المصير في سلم الحضارات‪ ،‬والرجل يختصر انقضاء‬
‫األجل عند الحضارات في سبع أسباب رئيسية هي‪:‬‬
‫ـ عبادة الذات الفانية كما حدث مع صدام حينما هوى‪.‬‬
‫ـ أو التوكل على نظام أكــل عليــه الــدهر وشــرب كمــا في إيــديولوجيا البعث‬
‫القومية‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫ـ أو تكنولوجيــا فــات وقتهــا كمــا في عالقــة االنــترنيت بصــناديق البريــد‬
‫القديمــة‪ ،‬الــتي مــا زال رجــال المخــابرات في الــدول الثوريــة يعتمــدونها‬
‫للتجسس على المواطنين‪ ،‬ما يذكرنا بساحرات العصور الوســطى‪ ،‬تحــاول‬
‫صيد األطباق الطائرة بالمكانس ؟؟ أال ساء ما يزرون؟‬
‫ـ أو التورط في آليـة المحاكـاة وانطفــاء روح اإلبـداع كمـا في الحــديث عن‬
‫الديمقراطية بدون معرفة أنها وعي قبل صناديق االنتخابــات‪ ،‬وفي الــدول‬
‫الثورية تجرى االنتخابات زورا وبهتانا على شكل كاريكــاتير ال يضــحك لــه‬
‫أحد‪.‬‬
‫وصدام انُتخب في خريف ‪2002‬م بنسبة ‪.%100‬‬
‫ـ ومن أسباب االنهيار اعتماد أساليب جديدة تحمل أفكارا قديمة‪.‬‬
‫ـ أو الوقوع في أسر خمر النصر ونشوة تحقيق اإلنجازات العظمى‪.‬‬
‫ولكن توينبي يرى أن النزعة الحربية تبقى من أعظم الجوائح التي تقضــي‬
‫على الحضارات‪ ،‬وهو مصير يهدد أمريكا الحالية‪.‬‬
‫وعندما يمرض اإلنسان ال يستوعب واليعترف أنه مريض حتى يقــع أســير‬
‫الفــراش‪ .‬وهنــاك من شــرحنا لــه عمليــة الفســتوال في الفشــل الكلــوي فلم‬
‫يستوعب وهرب ومات‪.‬‬
‫وحين يقع المرض سريريا عندها تكون الحالة متأخرة واإلنذار خطيرا‪.‬‬
‫ودرهم وقاية خير من قنطار عالج‪.‬‬
‫وهكذا فلب الحكمة هي التناسب‪ ،‬والمدير السيء هــو من قــرب المنــافقين‬
‫وابعد المخلصين الناصحين‪.‬‬
‫ويروى عن جحــا كيــف وقــع في هــذا الخطــأ القاتــل من الخلــل في النســب؛‬
‫فأصبح مهزلة بين أصدقائه فقد كان حريصــا على لفت نظــر النــاس فيبــالغ‬
‫في أمثاله فنصحه صديقه أن ينتبه وإال أعطاه إشارة من سعال أو نحنحة‪.‬‬
‫وفي يــوم قــال للنــاس أنــه بــنى مســجدا طولــه ‪ 25‬كم فلمــا تنحنح صــديقه‬
‫بشدة‪ ،‬سأله الناس وكم كان عرضه قال جحا وهو ينظــر إلى صــديقه كــان‪:‬‬
‫مترا واحدا!!‬

‫‪120‬‬
‫الحقيقة بين أفالطون وأرسطو‬
‫إن أفالطون عزيز علي ولكن الحقيقة أغلى على قلبي‪.‬‬
‫هذا ما قاله أرسطو الذي كان تلميذا في (أكاديمية) أفالطون في أثينا‪ ،‬ولكنه استقل‬
‫بفكره عنه‪.‬‬
‫يعتبر دماغ أرسطو من أعظم األدمغة الالمعة‪ ،‬التي عرفها الجنس البشري على مر‬
‫العصور‪ ،‬غزارة في اإلنتاج‪ ،‬وإبداعًا في العطاء‪ ،‬وصقال للمعرفة‪ ،‬وتنظيما لها‪،‬‬
‫ومؤسسا ألشياء في غاية األهمية‪ ،‬كما هو الحال في المقوالت العشرة لتحديد أي‬
‫شيء إطالقًا (المادة ـ النوعية ـ الكمية ـ العالقة ـ الزمان ـ المكان ـ الوضع ـ الحالة ـ‬
‫الفعل ـ التأثير)‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد كانت بعض أفكاره من أعظم اإلعاقات العقلية في رحلة مغامرات العقل‬
‫اإلنساني‪ ،‬كما في (المنطق الصوري) أمام (المنطق االستقرائي) بل قادت هي‬
‫وأفكار بطليموس الى كوارث عقلية واجتماعية واضطهاد العلماء‪.‬‬
‫وهذا يعلمنا أن ال نسلم عقولنا ألي كان أرسطو أو غيره‪.‬‬
‫ويعلق عالم االجتماع العراقي (الوردي) في كتابه (مهزلة العقل البشري) على‬
‫منطق أرسطو الثالثي‪( :‬كل انسان فان ‪ .‬سقراط انسان‪ .‬سقراط فان)‪.‬‬
‫أن بعض تطبيقات هذا الكالم يقود الى كارثة حقيقة‪ ،‬حينما تكون نقطة االنطالق‬
‫خطأ‪ ،‬كما لو قلنا أن الصعود الى السماء مستحيل‪ .‬وبالتالي فإن الطيارة التي تطير‬
‫في السماء خرافة‪ ،‬والصاروخ الذي يصل إلى المريخ بدعة؟‬
‫والتقرير األولي يحمل في بطنه كل المشاكل‪.‬‬
‫وحينما اطلعت على الفلسفة‪ ،‬خطر في بالي مشروع جريء‪ ،‬وهو أن الناس تنظر‬
‫الى الفالسفة في التاريخ‪ ،‬بمنظار مزدوج من الشك أو األحجية‪ ،‬ولكن الفلسفة‬
‫ليست ضالال وال ألغازا وال أحاجي بل هي أم العلوم وجذع شجرتها‪ ،‬ورحم المعرفة‪،‬‬
‫وبهجة الفهم ولذته‪ ،‬كما قال سبينوزا الفيلسوف الهولندي منذ القرن السابع عشر‪.‬‬
‫إنها متعة عقلية‪ ،‬وتحرير إلرادة اإلنسان‪ ،‬وصقل عقله تجاه المعضالت‪ ،‬وإجابات‬
‫رائعة عن تساؤالت مزعجة‪ ،‬كما أنها رفع لإلنسان الى مستوى اإلنسان‪ ،‬أن يصبح‬
‫كائنا رائعًا‪ ،‬فوق أن يأكل ويشرب؛ بل ويفكر‪.‬‬
‫والفلسفة بهذا ترد اإلنسان الى إنسانيته حينما تميزه بالتفكير‪.‬‬
‫وهذا المشروع اشتغل عليه عبد الرحمن بدوي الفيلسوف المصري وأبدع فيه‪،‬‬
‫ولكن مشكلته أنه تراث ضخم ال يقرأه إال الصابرون النادرون‪ ،‬وما نحتاجه هو ذلك‬
‫التراث الفلسفي السهل بحيث ننشر ثقافة فلسفية شعبية‪ .‬وهو ما قاله الوردي عن‬
‫وظيفة السفسطائيين‪ ،‬أنهم كانوا أشبه برواد تعميم وتبسيط العلوم وجعلها شعبية‬
‫لعامة الناس في أثينا يومها‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫وحين يصبح العلم نسقا اجتماعيا يتغير المجتمع‪ ،‬أما إذا كان العلم والفلسفة‬
‫محصورة في نخبة منعزلة‪ ،‬فال ينهض المجتمع بل وتتعرض النخبة لالنقراض بعد‬
‫االضطهاد‪.‬‬
‫وأوربا حاليا تعيش بركة هذا االنفتاح العقلي والنسق االجتماعي الذي يعمم‬
‫المعرفة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على خرافية العقلية العربية تلك التي أرسلها لي شخص معتبر عن‬
‫طفل من كازاخستان أو أرمينيا ال أدري؟ وقد ظهرت آيات قرآنية منقوشة على‬
‫سيقانه؟ وال أدري لماذا سيقانه بالتحديد؟‬
‫قال الرجل (الفهمان) من فلسطين وقد أرسل لي الصور‪ ،‬إنه كلما انمحت اآليات‬
‫خرجت من جديد أحاديث من الصحاح التسعة؟ أو السبع المثاني والقرآن العظيم‪،‬‬
‫وسموه الطفل المعجزة‪...‬‬
‫فهذا هو الفرق بين تعشيش الخرافة وسريان النسق المعرفي في المجتمع؟‬
‫وانتبه إلى معنى (الجامع) في االسالم الكاتب الليبي (النيهوم) حينا قال إن الجامع‬
‫هي من كلمة جامع لكل شيء‪ ،‬ونحن نعلم أن عائشة رضي هللا عنها رأت رقص‬
‫الحبشة بالحراب في فناء المسجد من خلف كتف رسول هللا ص‪ ،‬كما كان المسجد‬
‫مكان عقد األلوية للقيادات العسكرية‪.‬‬
‫وفكر أرسطو يفيد حينما نستعرض تاريخ مغامرات العقل االنساني‪ ،‬فهذا الرجل ولد‬
‫في ستاجيرا عام ‪ 384‬قبل الميالد‪ ،‬أي أننا اليوم نتكلم عنه بعد موته بألفي‬
‫وثالثمائة عام‪ ،‬وهذا يعطي االنطباع عن أثر هذا اإلنسان في الفكر االنساني‪.‬‬
‫وفي إجازتي الفائتة اجتمعت بكتاب عبد الرحمن بدوي في ثالث مجلدات عنه‬
‫فاشتريته بفرح‪ ،‬من اجل التعرف عليه أكثر‪ ،‬وفي مكتبتي معظم مؤلفاته التسعين‪.‬‬
‫كان أرسطو معاصرًا لفترة حكم االسكندر األكبر‪ ،‬وعمل مدرسًا خصوصيًا له‪ ،‬وهذا‬
‫ما جعله يدفع الثمن الحقًا‪ ،‬حينما ثارت أثينا ضد مكدونيا‪ ،‬حيث يحكم خلفاء‬
‫االسكندر‪ .‬وأهم ما تركه أرسطو كان في السياسة ودراسة الطبيعة‪ ،‬وكان يحب‬
‫التنقل والتعرف بدون ملل‪ ،‬ويعيش طفال يحمل روح الدهشة والفضول واالستغراب‬
‫والمعرفة‪.‬‬
‫وهو الذي ابتكر طريقة الحوار في الهواء الطلق مع النقاش‪ ،‬مما جعل أتباعه‬
‫يأخذون اسم المشاءين‪ ،‬مثل الرواقيين الحقًا (‪ )Stoicism‬الذين كانوا يمشون في‬
‫األروقة ويتبادلون أعظم األفكار الفلسفية وأعقدها‪.‬‬
‫وعلم اإلنسان ما لم يعلم وكان فضل هللا علينا عظيما‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫كيف فتح المدفع‬
‫ثغرة في قلعة أرسطو الفكرية؟‬
‫كان المدفع هو الذي فتح ثغرة في قلعة أرسطوطاليس الفكرية‪ ،‬ولكن كيف؟‬
‫جاء الفتح من فوهة المدفع؟!! فمع أن كل متأمل يرى سير القذيفة على نحو منحن‪،‬‬
‫ولكن أرسطو (الدماغ األكبر ) كان يرى أن سرعة األجسام عند السقوط تتزايد ألنها‬
‫تتحرك في (شوق) إلى موقعها الطبيعي المنخفض!!‬
‫وأن الجسم يلتمس سعادته (كذا) بالسقوط عموديا إلى األرض؛ حنى جاء (نيكولو‬
‫تارتاجيا) وهو اسم مستعار ومعناه (المتلعثم)؛ فأصدر كتابه المترجم (عام ‪1543‬م)‬
‫عن أرخميدس‪ ،‬وأن مسار األجسام في األوساط يعتمد قوانين نوعية‪ ،‬وهي التي‬
‫دفعت أرخميدس يومها أن يقفز عاريا‪ ،‬بعد أن تعرت له الحقيقة ويصيح أوريكا‪..‬‬
‫أوريكا أي وجدتها وجدتها‪ ..‬حينما استوعب قانون طفو األجسام في السوائل‪.‬‬
‫ولم تكن هذه الخطيئة الوحيدة في فكر أرسطو‪ ،‬بل ساهم في منطقه الصوري في‬
‫تأخير الفكر اإلنساني ألفي سنة‪ ،‬قبل والدة المنهج االستقرائي التجريبي‪ ،‬الذي‬
‫دشنه علماء المسلمين من روح القرآن التي حثت على تأمل الكون والتاريخ‬
‫وأحداث األمم واألنبياء والسير في األرض لنفهم كيف بدأ هللا الخلق؟؟‬
‫وفي هذا العام ‪1543‬م أصدر (كوبرنيكوس) كتابه عن دوران األرض والشمس؛‬
‫فزلزلت الكنيسة وارتاعت‪ ،‬ويصف المؤرخ (ديورانت) هذا العام بأنه عام العجائب‪،‬‬
‫ألنه تم خرق (التابو) في الفلك والجغرافيا والجسم اإلنساني‪ ،‬ففي نفس هذه الفترة‬
‫مسحت جغرافيا األرض على نحو جديد‪ ،‬بعد إبحار ماجالن عام ‪ 1519‬ودورانه‬
‫حول األرض‪.‬‬
‫وبعد (كوبرنيكوس) تحولت األرض إلى ذرة تافهة في المحيط الكوني‪.‬‬
‫وقام (فيزاليوس) بخرق حرمة الجسم فبدأ في تشريحه‪ ،‬حتى طاردته الكنيسة‪،‬‬
‫فهرب إلى أسبانيا‪ ،‬وهناك قام بضربته العبقرية في إنقاذ ولي العهد (كارلوس) من‬
‫نزف في الدماغ‪ ،‬حين ثقب الجمجمة‪ ،‬فاتهمته الكنيسة من جديد‪ ،‬بأنه حليف‬
‫للشيطان‪ ،‬فهرب مرة أخرى من أسبانيا‪.‬‬
‫والعبقريات ال تولد هكذا‪..‬‬
‫ولعل سرها كما رواه (جيمس بيرك) صاحب كتاب (عندما تغير العالم) أن نوياته‬
‫األولى كانت من نشاط علماء متبتلين‪ ،‬جازفوا بحياتهم ضد البابوية‪ ،‬ومحارق‬
‫محاكم التفتيش‪ ،‬مثل و(مارين ميرسين) الذي قام بنشاط خطير عام ‪1630‬م‪ ،‬حين‬

‫‪123‬‬
‫بدأ يعقد جلسات سرية مرتين أسبوعيا‪ ،‬الستقطاب األدمغة في أوربا‪ ،‬وفي مجلسه‬
‫ذاك وصل (ديكارت) إلى منهجه في الهندسة التحليلية مع طنين ذبابة؟!‬
‫وكما يقول (مالك بن نبي) أن تفاحة نيوتن عند (جده) أي جد نيوتن‪ ،‬لم تزد عن‬
‫قضمات من فاكهة ممتعة تتحول في النهاية إلى روث؟ كما كان يفعل الملك (هنري‬
‫الثامن) وهو يقتل ستة من زوجاته بقطع الرأس بالساطور والبلطة؟؟‬
‫أما نيوتن فعاش في ظروف متخمرة‪ ،‬قدحها نشاط حميم في أوربا‪ ،‬وتيار متدفق من‬
‫العبقريات‪ ،‬بدأت تأخذ التأثير العكسي المتبادل‪ ،‬وهكذا ولدت العبقريات‪ ،‬وعلى نحو‬
‫متدفق متسلسل؛ ففي عام ‪ 1615‬م يكتشف كبلر قانونه الثالث في الفلك‪ ،‬أن‬
‫الكواكب تتهادى في الفلك األعلى في مواقع تتراوح بين (مربع) السرعة‪ ،‬و(مكعب)‬
‫بعدها‪ ،‬من تأمله كيف كان تجار الخمور يقيسون حجم البراميل بعصا مائلة‪.‬‬
‫وفي عام ‪1628‬م يكتشف (وليم هارفي) الدورة الدموية‪.‬‬
‫وفي عام ‪1632‬م يضع (جاليلو) كتابه المزلزل عن دوران األرض والشمس‪،‬‬
‫ومعها تسقط ورقة التوت عن عورة الكنيسة‪ ،‬بعد أن دخلت القرن السابع عشر‬
‫بمشاعل مخيفة من محرقة (جيوردانو برونو)‪ ،‬الذي خالف الكنيسة بوجود عوالم‬
‫النهائية‪ ،‬فهي من آيات هللا في السموات واألرض‪ ،‬وما بث فيهما من دابة‪ ،‬وهو‬
‫على جمعهم إذا يشاء قدير‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1637‬م يضع (رينيه ديكارت) (المقال على المنهج)‪ ،‬وبهذا يعتبر من‬
‫البناة النظريين للحضارة الحالية العقالنية‪.‬‬
‫وفي عام ‪1648‬م يقوم (توريشللي) الطلياني بقياس الضغط الجوي‪.‬‬
‫وفي عام ‪1661‬م يشق (بويل) طريقه إلى الكيمياء الحديثة‪ ،‬وبذلك ينتهي العصر‬
‫اليوناني ونظرية القرون الوسطى‪ ،‬في فهم الكون على أساس من العناصر األربعة‪:‬‬
‫(التراب والماء والهواء والنار)؛ لينتهي الموضوع مع (ديمتري مندلييف) الروسي‬
‫في وضع تصنيفه (الدوري) الرائع عن العناصر المعدنية‪.‬‬
‫أما (أوجست كيكول) فقد جاءته تلك اللحظة من وميض العبقرية في فهم الكيمياء‬
‫العضوية وترابط ذرات الفحم على شكل أفعى تلتقم ذيلها‪ ،‬وكان مناما صادقا فتح‬
‫الطريق لتأسيس علم جديد‪.‬‬
‫ويقول الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه (النظرة العلمية) أن خالصة‬
‫النهضة األوربية وعصر النهضة يدين لمائة دماغ ال يزيد‪ ،‬ولو تم اغتيالهم‬
‫واصطيادهم على أيد مخابرات الكنيسة‪ ،‬لما كان هناك نهضة وناهضون؟‬
‫ونحن في العالم العربي اليوم نعيش هذا العصر‪ ،‬عصر المماليك البرجية أيام سعيد‬
‫جقمق المملوكي تحت أسماء من حكام عرب يعيدون دورة التاريخ مقلوبة للخلف‪،‬‬
‫من ظلمات ومخابرات العصور الوسطى‪ ،‬بما تحمل من تعصب واضطهاد وتثبيط‬
‫لكل نشاط عقلي إبداعي‪..‬‬
‫وهذا يذكر بكتاب االعترافات الخطير الذي وضعه الكاهن (جان مسلييه) الذي‬
‫يستحق مقالة خاصة به‪ ،‬وحين قرأ أهالي األبرشية وصيته؛ نبشوا قبره‪ ،‬ولعنوه‪،‬‬
‫ونشروا عظامه‪ ،‬وتبرئوا منه‪ ،‬بعد أن خدم الكنيسة ثالثين عامًا‪ ،‬بكل صدق‬
‫وإخالص‪ ،‬كما ذكر في وصيته‪ ،‬معترفا بأنه كفر بالبابا والكنيسة والصليب‬

‫‪124‬‬
‫والتثليث‪ ،‬ولم يتجرأ حتى (فولتير) المعروف بسالطة لسانه‪ ،‬وسخريته من رجال‬
‫الكنيسة ودينها‪ ،‬على نشر كامل الوصية‪ ،‬بل اقتطف مقاطع من وصيته‪ ،‬فيها من‬
‫الوهج والطاقة ما تتحمله عقول القراء دون أن تحترق‪...‬‬
‫وهكذا فأوربا الحالية لم تولد هكذا ولم تتخلص من قبضة مارد الفاتيكان بسهولة‪..‬‬
‫وقام (دين كيث سايمنتن) في كتابه (العبقرية واإلبداع والقيادة) بدراسة جدية‬
‫معمقة لكل العناصر المتعلقة بظروف والدة العبقريات‪ ،‬وهو يذِّك ر بكتاب (المسائل)‬
‫للكاهن الفرنسي (مارين ميرسين) الذي وضعه حول البحث العلمي‪ ،‬وانه يقوم على‬
‫ثالث قواعد‪:‬‬
‫ـ رفض كل ما يتعلق بسلطة سابقة‪.‬‬
‫ـ اعتماد المالحظة المباشرة والتجربة‪.‬‬
‫ـ وصياغة النتائج على شكل رياضي‪.‬‬
‫قام سايمنتن بدراسته على نمط منفرد مثل‪ :‬الدراسة العلمية لعباقرة التاريخ‬
‫عموما‪ ،‬واألسالف والمورثات واألجيال‪ ،‬والشخصية والطابع‪ ،‬والتعليم‪ ،‬واإلنتاجية‬
‫والنفوذ‪ ،‬والعمر واإلنجاز‪ ،‬والجماليات والكاريزما‪ ،‬وروح العصر‪ ،‬والعنف‬
‫السياسي وتثبيط البحث العلمي‪ ،‬وقوانين القياس التاريخية‪.‬‬
‫والرجل وصل إلى نتائج مثيرة حقا وينصح باإلطالع عليه‪ ،‬وأنا قرأته أكثر من‬
‫مرة‪ ،‬على قاعدة قراءة الكتاب الجيد أكثر من مرة‪ ،‬عوضا عن قراءة أبحاث تافهة‪،‬‬
‫تأتي مع بحر االنترنت في زبد يضر بالعقل ويضيع الوقت ويؤذي العين ويلوث‬
‫الذاكرة‪ ,‬أو محطات فضائية تعتمد التهويش والتضليل في النقاش من سياسيين‬
‫تافهين يجيدون الصراخ والسباب والتخوين والمراء ونفخ األبواق لألمراء والقادة‬
‫العميان في البالد العربية‪..‬‬
‫وقد نهينا عن المراء‪ ،‬فمن ترك المراء وهو محق بنى هللا له ربضا في الجنة‪ ،‬ولكن‬
‫بيننا وبين ريح الجنة عرض مسافة مجرة األندروميدا ‪ 150‬ألف سنة ضوئية‪...‬‬

‫‪125‬‬
‫سر الفيلسوف فيثاغورس‬
‫كان هذا قبل ‪ 2500‬سنة في عام ‪ 509‬قبل الميالد ‪ ،‬حيث ترتفع نبات فول (الفافا) والربيع‬
‫األخضر يبتسم ‪ .‬الطبيعة قد ازدانت تلبس أزهى ثيابها تحتفل بالعرس الكوني ‪ .‬بجانب حقل‬
‫الطبيعة األخضر كانت الطبيعة االنسانية ترسم معالم صورة وحشية بالدم بريشة من سالح‬
‫الفوالذ ‪ .‬مجموعة من الناس المتعصبين ‪ ،‬محمرة أحداقهم ‪ ،‬عال الزبد أشداقهم والسباب ‪ ،‬تطوق‬
‫على حافة البساط األخضر رجًال طاعنًا في السن ‪ ،‬وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا ‪ ،‬يلتقط‬
‫أنفاسه ‪ ،‬قد ارتسمت على مالمح وجهه قدر استقبال الموت ‪ .‬كان باستطاعة العجوز االفالت من‬
‫قبضة الرعاع الغاضبين ‪ ،‬بالتسلل الى بطن حقل الفول األخضر ‪ ،‬ولكن المفاجأة انه بقي متسمرًا‬
‫يستقبل الغاضبين وأسلحتهم المشرعة مع رسل الموت ‪ .‬أحاطت المجموعة المجرمة بالعجوز‬
‫الواهن ولم تشفع له سنواته الثمانون بالنجاة من منجل الموت يحصد أجله ‪ .‬تدافعت إليه األيادي‬
‫باألذى ‪ ،‬وااللسنة بالسوء ‪ ،‬واالسلحة بالطعنات تترى حتى أسلم الرمق األخير ‪ .‬قتل الرجل بنفس‬
‫غلطة الشاعر المتنبي ؛ فعندما اعترضت طريقه مجموعة من العيارين فر منهم وأعطاهم ظهره‬
‫؛ فناداه غالمه ‪ :‬ألست أنت القائل ‪ :‬الليل والخيل والبيداء تعرفني ‪ ...‬والسيف والرمح والقرطاس‬
‫والقلم ؟؟ قال له ياغالم ويحك قتلتني وقتلت نفسك ؛ فرجع إليهم فكر عليهم فقتلوه ‪ ،‬وهكذا كانت‬
‫نهاية الفيلسوف العظيم ( فيثاغورس ‪ ) PYTHAGORAS‬فهو كان قد حَّر م على اتباعه أكل‬
‫الفول أو االقتراب من حقله ‪ ،‬في سر دفين جره معه الى القبر ‪ ،‬حتى كشف العلم عن معنى هذا‬
‫السر بعد مرور ألفين وخمسمائة عام ‪.‬‬

‫الوثبة الروحية في العصر المحوري‬


‫الفيلسوف البريطاني ( برتراند راسل ) يعتبر فيثاغورس ( واحدًا من أهم الرجال الذين عاشوا‬
‫في أي وقت من األوقات )(‪ )1‬واعتبر الحجة المؤرخ ( جون آرنولد توينبي ) أن الجنس البشري‬
‫ُأتحف بين عامي ( ‪ 600‬ـ ‪ ) 480‬قبل الميالد ‪ ،‬في فترة زمنية التتجاوز المائة والعشرين من‬
‫السنين بظهور خمسة عبقريات انسانية متميزة ‪ ،‬على يد خمسة من عظماء التاريخ ‪ ،‬في تعاقب‬
‫مدهش يكاد سنا برقه يذهب باألبصار ‪ ،‬فظهر في ايران ( زرواستر ) زرادشت ‪ ،‬وظهر في‬
‫ظلمات األسر البابلي ( أشعيا الثاني ) الذي اكتحلت عيناه برؤية المك العظيم ( قورش ) المؤسس‬
‫األول للدولة الفارسية ‪،‬الذي أطلق اليهود من معسكرات االعتقال في بابل ‪ ،‬وذكره التاريخ أنه‬
‫كان من أعظم الناس خلقًا وعدًال ‪ ،‬بقدر امتداد مملكته من الهند الى قفقاسيا والسودان ‪ ،‬واليستبعد‬
‫أن يكون هو المعني ( بذي القرنين ) على ماذهب اليه العالم الهندي وزير المعارف األسبق ( أبو‬
‫الكالم آزاد ) وكان الثالث ( بوذا ) الذي سطع من سفوح أعلى قمم العالم ( جبال هيمااليا ) فعند‬
‫البرد والهدوء العجيب وصل المعلم الى حالة ( النيرفانا ) أي ذلك الهدوء الذي اليعكره حزن أو‬
‫غضب أو لغو ‪ ،‬والسعادة الغامرة التي اليستلبها تكدير ‪ ،‬والدائمة التي اليقف في طريق تدفقها‬
‫شيء ‪ .‬وفي الصين ظهر ( كونفوشيوس ) من أصغر وأضعف واليات الصين بتعاليمه ؛ ليبني‬
‫كل األخالقيات الصينية الالحقة ‪ ،‬فكما كانت كل عظمة خلق االنسان من ساللة من ماء مهين ‪،‬‬
‫كذلك كان كونفوشيوس من الشرائح االجتماعية التي عانت وتعذبت وبكت كما لم يعاني أحد ‪،‬‬
‫وكان الخامس العظيم الفيلسوف ( فيثاغورس ) ‪ .‬ومن المحتم أن أحدًا منهم لم يجتمع باآلخر ‪،‬‬
‫وإن كانت تأثيراتهم الحضارية انعكست كل منهما على األخرى ‪ .‬وبسبب أهمية المعاصرة لهؤالء‬
‫الحكماء الخمسة ‪ ،‬فقد أطلق الفيلسوف األلماني ( كارل ياسبرز ) على الفترة التي تنتظم حياتهم ‪:‬‬
‫( العصر المحوري ‪ ،‬أي العصر الذي تمفصل عليه تاريخ البشرية فقد كان ظهورهم في حقيقة‬
‫األمر منعطفًا هامًا ‪ ،‬من حيث أنهم استمروا في التأثير على البشرية الى يوم الناس هذا ‪ ،‬ومن‬

‫‪126‬‬
‫حيث أنهم يستمرون في التأثير في األحفاد ‪ ،‬بالمثل الذي قدموه ‪ ،‬حتى ولو أن حكمتهم فقدت‬
‫قيمتها كوصايا ‪ ،‬ولو أن تعاليمهم فقدت أهميتها كقانون إيمان )(‪)2‬‬

‫جنون التعصب وقتل المفكرين‬


‫في عام ‪ 399‬قبل الميالد أدانت اثينا الفيلسوف سقراط وأعدمته ‪ ،‬بدفعه لتجرع سم الشوكران ‪،‬‬
‫وفي عام ‪ 509‬قبل الميالد سقط الفيلسوف والمصلح الديني فيثاغورس قتيًال على يد الرعاع في‬
‫جنوب إيطاليا ‪ ،‬وفي القرن الثاني بعد الميالد سقطت عالمة الفلك والرياضيات ( هيباتيا‬
‫‪ ) HYPATIA‬صريعة بنفس التهمة ‪ ،‬على يد المتعصبين ‪ ،‬ويرتبط استشهادها بتدمير مكتبة‬
‫االسكندرية بعد تأسيسها بسبعة قرون (‪ )3‬التي جمعت يومها نصف مليون مؤلف في أعظم عمل‬
‫علمي يجمع كل معارف الجنس البشري يومها الفيلسوف ( فيثاغورس ) عاش تاريخًا حافًال‬
‫مشردًا غريبًا هائمًا على وجهه في اآلفاق ‪ ،‬يلهمنا نحن الذين غادرنا الوطن بكثير من األفكار ‪،‬‬
‫بعد أن كفر بالديكتاتورية في بلده من حكم ( بوليكريتس الطاغية ‪ )4() POLYCRATES‬ولم‬
‫يرجع الى وطنه قط ؛ فالوطن ليس حيث ولد االنسان ؛ بل حيث يمكن العيش مع حياة الفكر‬
‫والتعبير ‪ ،‬مذكرًا بقصة أصحاب الكهف ‪ ،‬تلك المجموعة الجريئة من الشباب ‪ ،‬التي رأت حل‬
‫المشكلة ليس في قتل الطاغية ‪ ،‬بل رفض طاعته والدخول في منظومته الفكرية ‪ ،‬واختيار‬
‫مغادرة الوطن على كل حبه ‪ ،‬بحثًا عن وطن جديد ‪ ،‬اليعتقل فيه المرء على الساعة‪ ،‬أو آخر‬
‫يطرد منه على اللحظة ‪.‬‬

‫فلسفة رفض الطاعة‬


‫فلسفة ( رفض الطاعة ) وممارسة ( العصيان المشروع ) وباصرار الى درجة الموت في‬
‫سبيل الفكرة وعدم التراجع عنها ‪ ،‬بنفس اصرار عدم كراهية الخصم أو محاولة التفكير بقتله أو‬
‫ايذاءه ‪ ،‬هي الوصفة السحرية التي تقدم بها االنبياء ( التطعه واسجد واقترب ) فبقدر شحنة‬
‫العصيان السلمي ‪ ،‬وبقدر ممارسة رفض الطاعة ‪ ،‬بقدر شحنة الروح في السجود ‪ ،‬واالقتراب في‬
‫المسافة من رب السموات واألرض ‪ .‬هذه الفلسفة تحدث عنها فيلسوف الحق مات شابًا يافعًا في‬
‫منتصف القرن السادس عشر هو ( اتيين البواسييه ) الذي عاصر الفيلسوف ( ميشيل مونتيني )‬
‫عام ‪ 1562‬م في ظروف اضطهاد دينية مرعبة ومذابح مروعة ‪ ،‬من نموذج مذبحة (‬
‫الهوجونوت ‪ ) HUGENOTT‬المسيحيين البروتستانت من أتباع كالفن ( المعترضون‬
‫علىالكنيسة) في باريس عندما أغلقت أبواب باريس ‪ ،‬وتم االجهاز على االآلف منهم في ذكرى‬
‫القديس ( بارتولوميوس ‪)5() BARTHOLOMAEUS‬‬

‫مقالة البواسييه عن العبودية المختارة‬


‫كتب البواسييه مقالة مزلزلة بعنوان ( العبودية المختارة )(‪ )6‬استفاد فيها من آراء فيثاغورس ‪،‬‬
‫والفكر النبوي واالصالحي الفلسفي عبر التاريخ ‪ ،‬ولم ينشر الفيلسوف ( مونتيني ) مقالته‬
‫المذكورة وتبرأ منها الجميع ‪ ،‬وبقيت في ذمة التاريخ لمدة ‪ 263‬سنة حتى ظهرت بالصورة‬
‫الكاملة عام ‪ 1835‬م ‪ ،‬ولكنها تحت قاعدة ( انفجار السوبونوفا ) لم تصل الى اللغة العربية اال بعد‬
‫مرور ‪ 150‬سنة أخرى ‪ ،‬وهو اليوم تترجم ويهتم بها المفكرون ويعتبرونها من أجمل ماكتب في‬
‫الفكر السياسي االجتماعي ‪.‬‬
‫اشتهر عن الفيلسوف قوله عن الغربة ‪ ( :‬نحن في هذا العالم غرباء والجسم هو مقبرة الروح ‪،‬‬
‫ومع ذلك فال يجوز ألحد منا أن يلتمس الفرار باالنتحار إلننا ملك هللا وحده وهو راعينا ‪ ،‬ومالم‬
‫تشأ لنا إرادته الفرار فالحق لنا في تهيئته ألنفسنا بأنفسنا )(‪)7‬‬
‫حكم الطاغية ألهمت المفكر ( إمام عبد الفتاح إمام ) أن يكتب في سلسلة عالم المعرفة كتابًا‬
‫يتناول هذه الظاهرة عبر التاريخ (‪ . )8‬نحن ندين بهذا المصطلح ( المستبد أو الطاغية‬

‫‪127‬‬
‫‪ )9() TYRANT‬للفكر اليوناني ‪ ،‬الذي عانى من هذه الظاهرة االجتماعية الخانقة للروح‬
‫االنسانية على شكلية خارجي وداخلي ‪ ،‬في صورة االجتياح الفارسي والتسلط الداخلي ( صقلية‬
‫كنموذج شهير) ‪.‬‬

‫ظروف والدة العبقرية اليونانية‬


‫االجتياح الفارسي كان بمثابة الزناد الذي قدح شعلة الفلسفة اليونانية ‪ .‬كان زحف ( كزركسيس‬
‫) الفارسي في القرن الخامس قبل الميالد بركة على الفكر االنساني ‪ ،‬وكان حريق هيروشيما‬
‫مشعًال للسالم االنساني ‪ ،‬في تناقض يفسر خروج الخير من رحم الشر ‪ ،‬ووالدة الحياة من الموت‬
‫( يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ) ‪ .‬واليوم يظهر خروج بني اسرائيل مرة‬
‫جديدة الى مسرح التاريخ كحدث كوني مثير ‪ ،‬يؤكد في شهادة صاعقة معنى تفسخ الجسم‬
‫العربي ‪.‬‬
‫من التحدي الفارسي ولدت العبقرية اليونانية ‪ ،‬ومن رماد هيروشيما بني السالم العالمي الهش ‪،‬‬
‫خلقًا من بعد خلق ‪ ،‬وطبقًا عن طبق ‪ .‬ومن اقتحام بوابة الشرق على يد العبرانيين الجدد ‪ ،‬النشاء‬
‫مصرف جديد ‪ ،‬محمي بمؤسسات البحث العلمي والصواريخ النووية ‪ ،‬وكل ثقل التحدي الغربي‬
‫‪ ،‬في حرب صليبية بدون صليب ورهبان ‪ ،‬يسخر التاريخ على طريقته ويفاجئنا بالعجيب غير‬
‫المتوقع ‪.‬‬
‫ولد من رحم العبقرية اليونانية سلسلة من الفالسفة قبل سقراط ‪ ،‬من نموذج ( تاليس‬
‫‪ ) THALES‬و ( زينون ‪ ) ZENON‬و ( هيراقليطس ‪ ) HERACLITUS‬و ( فيثاغورس‬
‫‪ )PYTHAGORAS‬و( امبيدوكليس ‪ ) EMPEDOCLES‬و ( اناكسيماندر‬
‫‪ )10() ANAXIMANDER‬الذين حاولوا فهم الوجود ووضع اليد على العلة األولى ‪ .‬سلسلة‬
‫الفالسفة اليونانيين قبل سقراط حاولت استنطاق الكون ليبوح بأسراره ‪ ،‬وتركت لنا الفلسفة‬
‫اليونانية تراثًا كبيرًا مازال يؤثر في الفكر االنساني حتى اليوم ‪.‬‬

‫الحقيقة عند فيلسوف التنوير لسنغ‬


‫الحقيقة تشكل دائرة عنيدة مستعصية ‪ ،‬مليئة بالتحدي أمام العقل االنساني ‪ ،‬وأفضل طريقة‬
‫لتطويقها ‪ ،‬واالقتراب منها ‪ ،‬ومحاولة وضع اليد على أسرارها ‪ ،‬هي من خالل الدوران حولها ‪،‬‬
‫وإرسال أشعة الفكر على شكل خطي تماس ‪ ،‬ينطلقان من خارج الدائرة ‪ ،‬من نقطة على شكل‬
‫شعاعين يلمسان حافة الدائرة من الخارج ‪ ،‬من نقاط النهائية تدور حول دائرة الحقيقة ‪ ،‬أو بكلمة‬
‫أدق ( كرة الحقيقة ) ‪ .‬يمكن للعقل االنساني أن يمر في نقاط النهائية ‪ ،‬في حركة تحويمه‬
‫الالنهائية ‪ ،‬مطوقًا ضارعًا جاثيًا على ركبتيه بخشوع مستنطقًا رموز الحقيقة ‪ .‬كل مانستطيع أن‬
‫نقوله أن الحقيقة نسبية ومرنة ونقترب ونبتعد منها بمسافة بقدر بذل الجهد ومراجعة آليات النقد‬
‫الذاتي والشحن المعرفي واالتصال بالواقع كمرجع نهائي لها ‪ .‬لم يكن عبثًا أن دفعنا القرآن للبحث‬
‫عنها في سطور ( األرض ) من خالل ( آلية السير )‬
‫إن هذا جعل فيلسوف التنوير لسنغ من القرن الثامن عشر يرى أن وضع اليد على الحقيقة‬
‫النهائية عبث وجهد محال ‪ ،‬حتى لو خيل الينا ذلك ‪.‬‬
‫تفكير من هذا النوع انقالبي وهو الذي وسم عصور التنوير ‪ .‬كل مانستطيع الحلم به هو‬
‫المحاولة الدؤوبة للوصول اليها ومعها الخطأ لزام لنا ‪ .‬كل ماعدا ذلك تعصب وانحباس في مربع‬
‫الزمن ‪ ،‬وغرق في الجهل ‪ ،‬وإيقاف حركة التطور الحتمية ‪ ،‬وبرمجة الحروب الداخلية‬
‫واغتصاب الرأي اآلخر ‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫مراجع وهوامش ‪:‬‬
‫(‪ )1‬الثورات العلمية العظمى في القرن العشرين ـ انطوان بطرس ـ شركة المطبوعات‬
‫للتوزيع والنشر ـ ص ‪ )2( 455‬آرنولد توينبي ـ تاريخ البشرية ـ نقله الى العربية الدكتور نقوال‬
‫زيادة ـ الجزء األول ـ األهلية للنشر والتوزيع ـ ص ‪ )3( ) 230‬الكون ـ كارل ساغان ـ ترجمة‬
‫نافع أيوب لّبس ص ‪ 34 :‬ـ سلسلة عالم المعرفة رقم ‪ )4( 178‬الفلسفة للمبتدئين باللغة االنكليزية‬
‫‪PHILOSOPHY FOR BEGINNER - BY RICHARD OSBORNE -‬‬
‫‪WRITERS AND READERS PUBLISHING , NY , ILLUSTRATED BY‬‬
‫)‪ RALPH EDNEY - PAGE 6 (5‬كتاب ( ‪ ) CHRONIC‬باللغة األلمانية ص ‪436‬‬
‫وجرت هذه المذبحة في ليلتي ‪ 23‬و ‪ 24‬من شهر أغسطس لعام ‪ 1572‬م حيث أغلقت أبواب‬
‫باريس وتم تعليم بيوت الهوجنوت ليًال ثم مهاجمتمهم وذبحهم وعائالتهم والقاء جثثهم في نهر‬
‫السين ‪ .‬كان ذلك بإيعاز من كاترين دي مديتشي ( ‪ )KATHARINA DE MEDICI‬أم الملك‬
‫هنري الثاني وخلدها الروائي ميشال زيفاكو بقصته ( باردليان )(‪ )6‬مقالة العبودية المختارة بقلم‬
‫اتيين البواسييه ترجمة مصطفى صفوان وتقديم بقلم جودت سعيد تطبع حاليًا في دمشق (‪)7‬‬
‫فيثاغورس ـ تأليف الدكتور مصطفى غالب ـ منشورات دار مكتبة الهالل ـ بيروت ـ في سبيل‬
‫موسوعة فلسفية ـ ص‪ )8(14:‬سلسلة عالم المعرفة رقم ‪ 183‬مارس ‪ )9( 1994‬راجع قاموس‬
‫المورد طبعة ‪ 1999‬ص ‪ 1003‬ولفظة تير ‪ TYR‬هي اله الحرب في الميثيولوجيا االسكندنافية‬
‫(‪ )10‬الموسوعية الفلسفية المختصرة ـ نقلها عن االنكليزية ‪ :‬فؤاد كامل ‪ +‬جالل العشري ‪ +‬عبد‬
‫الرشيد صادق ـ دار القلم ـ بيروت ـ ص ‪. 304‬‬

‫‪129‬‬
‫هرقليطس وقانون الصيرورة‬
‫الحرب هي أم كل األشياء‪ .‬و لن يضع المرء قدمه في نهر واحد مرتين‪ .‬والكون يقوم على‬
‫الصراع الذي ينتهي باالتحاد والتناغم‪ .‬وهناك صيرورة متدفقة في الكون‪ .‬وكل يوم هو في‬
‫شان‪ .‬هذا ما قاله الفيلسوف اليوناني هيرقليطس الذي عاصر قبل موته أحداثًا جسامًا انتهت‬
‫على حد السيف‪ .‬فقبل أن يموت بسنتين قام الملك الفارسي كزركسيس باجتياح بابل بعد حدوث‬
‫تمرد فيها ليدمرها تدميرا ومعها تمثال اإلله مردوك الذي كان يتعبده البابليون‪ .‬وقبل ذلك‬
‫بثماني سنوات شهد حملة الملك الفارسي داريوس عام ‪ 490‬قبل الميالد على بالد اإلغريق التي‬
‫انتهت بمعركة ماراثون وهزيمة داريوس وقبل أن يموت شهد االستعدادات الضخمة لحملة‬
‫جديدة على بالد اإلغريق‪ .‬وفي عام موته ‪ 480‬قبل الميالد شهد الزحف األعظم على بالد‬
‫اليونان التي انتهت مرة أخرى بهزيمة منكرة في معركة سالميس البحرية‪ .‬والرجل كان يعيش‬
‫في آلسيا الصغرى تركيا الحالية في مدينة إفسوس ولعله رأى مرور الجيوش الفارسية في‬
‫مدينته‪ .‬وأهم ما تركه الرجل من أفكار هي أن الكون يقوم على دورة طبيعية‪ .‬وتحكمه قوتان‪:‬‬
‫الحب والكفاح‪ .‬وكل شيء ينشأ من هذا التنافس‪ .‬وما نراه من تباين األشياء ترجع في النهاية‬
‫إلى هذا الصراع الذي يوحد األضداد في النهاية‪ .‬وكان يرى أن الكون يقوم على صيرورة‬
‫متدفقة فال يبقى شيء كما كان حتى ولو وضع اإلنسان قدمه في النهر فلن يكون هذا النهر هو‬
‫هو كما كان قبل لحظة‪ .‬وهو محق من هذا الجانب أن التدفق الكوني يقوم على تداخل المتغير‬
‫والثابت‪ .‬كما أن مبدأ التدافع أساسي في الوجود‪ .‬وجاء ذكر هذا في القرآن مرتين‪ :‬ولوال دفع‬
‫هللا الناس بعضهم ببعض لفسدت األرض ولكن هللا ذو فضل على العالمين‪ .‬ولكن ليس معنى هذا‬
‫أن تندلع الحروب‪ .‬وال يعني التدافع القتل بحال‪ .‬ولكن الرجل عاش في زمن سيطرت عليه‬
‫الحروب بدون توقف وكان الفكر اليوناني في مأزق يومها لو اجتاح الفرس بالد اإلغريق‪.‬‬
‫ويذهب البعض إلى أن نجاة بالد اليونان من االحتالل الفارسي مهد الطريق لنشوء عبقرية بالد‬
‫اإلغريق التي أينعت بأدمغة مثل سقراط وأرسطو‪ .‬فال يمكن ألي إبداع أن يأخذ طريقه وسط‬
‫اإلكراه‪ .‬ومنه يقول هيراقليطس إن الحرب تحدد مصائر الناس أن يكون سادة أو عبيدا‪ .‬وهو‬
‫محق بهذا‪ .‬فقد عاش الرجل في ظروف مرعبة من جدل التاريخ‪ .‬وفكرة الرجل جوهرية لفهم‬
‫حركة التاريخ على ساقين أنه يتحرك بدون توقف وأنه يتحسن بدون توقف‪ .‬ولقد عني القرآن‬
‫بهذا الموضوع فاعتبر أن األصل في الدين أنه ال يقوم على اإلكراه‪ .‬وانتبه لهذا المؤرخ‬
‫البريطاني توينبي فاعتبر أن اإلسالم جاء بشيء عجيب للعالم عندما سمح للمخالف أن يبقى‬
‫على قيد الحياة‪ .‬ولم يكن هذا المبدأ من التسامح الفكري قائمًا في العالم يومها‪ .‬لم يفهم‬
‫هيراقليطس من الناس جديًا وكان حريصا على تعتيم عباراته ربما ألنه كان من عائلة‬
‫ارستقراطية فترفع عن الناس العوام واعتبرهم جهلة ال يستوعبون (اللوجوس) أي العقل وأن‬
‫ثالث آفات تطفيء النار العقلية‪ :‬النوم والغباء والرذيلة‪ .‬من المهم أن نستوعب أن الفكر‬
‫اإلنساني يتطور وال يقف عند فيلسوف واالكتشافات العقلية الرائعة التي وصلوا إليها في عالم‬
‫اللوجوس ال تنتهي واليوم بعد النزاع الفظيع بين الروس واألمريكيين في سباق الفضاء‬
‫يطبقون مبدأ هيرقليطس فتتحد األضداد من جديد لينطلقوا بمشروع عمالق لبناء محطة فضاء‬
‫عالمية عام ‪ 2006‬للميالد وهللا غالب على أمره ولكن أكثر الناس ال يعلمون‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫لحظة أرخميدس‬
‫"من فضلك ال تفسد دوائري ‪"?Noli,turbare circulos meos‬‬
‫هكذا خاطب ارخميدس الجندي الروماني الذي اقتحم بيته في زحمة الفوضى وقرقعة السالح‪،‬‬
‫بعد أن سقطت سيراكوزة‪ ،‬عاصمة صقلية تحت الهجوم الروماني‪ ،‬في الحروب البونية الثانية‪،‬‬
‫حين اختارت صقلية أن تقف إلى جانب قرطاجنة في الحرب المصيرية مع روما؛ فخسرت‬
‫حريتها ودمرت قرطاج؟‬
‫كان جواب الجندي الروماني طعنة بالسيف أزهقت أنفاس العالم‪..‬‬
‫هكذا تقول األسطورة!! ولكن الحقيقة يبدو أنها كانت من نوع مختلف‪ ..‬فأرخميدس كان ضالعاً ‬
‫في المقاومة العسكرية‪ ،‬يسحق القوات الرومانية بمنجنيقات هائلة‪ ،‬ويلقي بالكماشات العمالقة‬
‫فتقضم مراكبهم‪ ،‬أو يرسل أشعة الشمس المركزة فيحرق سفنهم‪ ،‬وبذلك كان يقاتل أفضل من‬
‫فرق عسكرية مدربة‪.‬‬
‫وسيف الجندي الروماني حين أصاب مقتله كان بالنسبة لروما الرأس المطلوب‪.‬‬
‫ومن قصص الحرب العالمية الثانية الخفية نعرف؛ أن من فجر السالح الذري فوق رؤوس‬
‫اليابانيين‪ ،‬لم يكن العسكر بقدر العلماء‪...‬‬
‫وهذا هي قصة المأساة التاريخية بين العسكر والعلماء والبساطر واألدمغة‪..‬‬
‫وفي مشرقنا العربي ابتلينا بهذا الطاعون‪ ،‬حين حكمت األحذية العسكرية الحياة المدنية؛ فبارت‬
‫األمة وهلكت‪ ،‬وفسدت الحياة برمتها‪ ،‬فلم يعد يعمل شيئ في البنية التحتية إال بالوساطة أو‬
‫الرشوة أو الدعارة وتدخل رجل المخابرات‪.‬؟‪.‬‬
‫عاش أرخميدس في القرن الثالث قبل الميالد‪ ،‬في وسط المعارك البونية التي كانت صورة‬
‫الحروب العالمية في العالم القديم‪ ،‬تدور رحاها في حوض البحر األبيض المتوسط‪ ،‬بين الشرق‬
‫والغرب‪ ،‬في ثالث دورات عجاف‪ ،‬عاشها ثالث أجيال‪ ،‬كل واحدة أشد هوال من التي قبلها‪،‬‬
‫وختمت بتدمير قرطاجنة بعد معركة زاما ‪ 164‬قبل الميالد‪ ،‬وفرار هانيبال إلى أنتوخيوس الثالث‬
‫في سوريا الحالية ثم انتحاره فيها‪ ،‬وحرق مدينة قرطاجة وحرثها حتى األساس‪ ،‬وقتل أكثر من‬
‫‪ 400‬ألف من سكانها‪ ،‬وأخذ خمسين ألفا هم ما تبقى منهم عبيدا إلى روما‪..‬‬
‫في هذه الحروب الضروس كان حظ صقلية سيئا‪ ،‬ومعها قدر العالم الجليل (أرخميدس) فقد‬
‫كانت صقلية في الطرف المهزوم‪ ،‬فخسرت الرهان ودمرت واحتلت والحقت بروما‪..‬‬
‫ترك لنا أرخميدس روعات من الكشوفات العلمية؛ فهو من فتح الطريق لرياضيات التفاضل‬
‫والتكامل‪ ،‬وهو من وضع لعبة لألطفال اسمها (ستوماشيون) من ‪ 14‬قطعة‪ ،‬تنقسم إلى مربعات‬
‫النهاية لها في علم االحتماالت‪ ،‬لم يفكها إال أربعة علماء عام ‪2003‬م بعد عمل ‪6‬أسابيع وتبين‬
‫أنها ‪ 17152‬احتماال‪.‬‬
‫وهو الذي أوصل الرياضيات إلى ما بعد الفاصلة‪ ،‬في حساب مساحة الدائرة ما عرف بالـ (بي‬
‫‪.)3.14‬‬
‫وهو الذي اكتشف قانون الرافعات‪..‬‬
‫ويقال أنه أنزل سفينة (سيراكوزيا) التي كانت تزن ‪ 4000‬طنا بروافع يحركها بأصابعه؟! كأنها‬
‫الجان‪.‬‬
‫وهو الذي كشف عن قانون (الكثافة النوعية) وقانون اإلزاحة؛ فكشف سر نقاوة تاج الملك‪ ،‬هل‬
‫كان ذهبا أو مغشوشا؟ فخرج من الحمام في لحظة تجلي العبقرية عاريا يصرخ (أوريكا ‪..‬‬
‫أويريكا‪ ..‬أي وجدتها وجدتها؟)‪ .‬وهو الذي تكلم عن قانون الجاذبية بطريقته الخاصة‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫وهو الذي تصور الكون أنه مكون من ذرات تبلغ عشرة مرفوعة إلى القوة ‪ ،63‬ولم يكن في‬
‫عصره من يتصور رقما أكبر من عشرة آالف كان يطلق عليه (الميراد)‪ ،‬فدفع أرخميدس‬
‫األرقام الى الالنهاية‪.‬‬
‫وبلغ من ثقته بقوة قانون الرافعة أن قال؛ أعطوني نقطة ارتكاز في أي مكان‪ ،‬وأنا سأحرك لكم‬
‫الكرة األرضية؟‬
‫بكل أسف ضاعت كتب الرجل‪ ،‬ولم يبق منها إال أقل القليل مما نقله العرب‪ ،‬وفي عام ‪2007‬م تم‬
‫اإلعالن من المعهد الفني في بالتيمور في أمريكا‪ ،‬بواسطة اثنين من علماء الخطوط هما (ريفيل‬
‫نيتس و وليام نول) أن المخطوطة التي عثر عليها في باريس عند عائلة باعتها بالمزاد‬
‫العلني للملياردير جيفري بيزوس بمبلغ ‪ 2.2‬مليون دوالر مؤسس األمازون مكتبة االنترنت‪،‬‬
‫أنها درست المخطوطة وفكت آخر أسرارها‪.‬‬
‫وبذلك بقي اسم أرخمديس أكثر من روما وقرطاج والحروب البونية‪ ،‬فهذا مصير العلماء‪ ،‬وتلك‬
‫مآل السياسة وأهلها‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫(مغامرات العقل اإلنساني‬
‫وأخطاء الفالسفة)‬
‫أرسطو (الدماغ األول) واألكبر رأى أن مركز التفكير هو القلب‪ ،‬وأن الدائرة أفضل شكل‬
‫للدوران‪ ،‬وأن أفضل مناهج العقل هو (المنطق الصوري)‪ ،‬وأن العبودية قدر إنساني؛ فأخطأ أربع‬
‫مرات في (البيولوجيا) و(الكوسمولوجيا) و(مناهج التفكير) و(االجتماع االنساني)‪.‬‬
‫ففي (الطب) علمنا أن مركز التفكير ليس القلب‪ ،‬فهي ال تزيد عن عضلة صماء‪ ،‬وبعمليات زرع‬
‫القلب لم نالحظ أي تغيير في الشخصية أو التفكير‪ ،‬فثبت بطالن رأي صاحب (العقل األول)‬
‫بطريقة تجريبية بحتة‪.‬‬
‫وثبت (فلكيًا) أنه ليس أفضل حركات الدوران كماًال هي الدائرية‪ ،‬إذا لكانت حركة األفالك‬
‫والكواكب كذلك‪ ،‬وتبين فلكيًا أن أفضلها للدوران هي القطع الناقص االهليلجي‪ ،‬بما فيها حركة‬
‫اإللكترون حول البروتون في الذرة‪ ،‬كما أثبت ذلك العالم (سومر فيلد) الفيزيائي عام ‪1948‬م‪.‬‬
‫والفرق بين (الدائرة) و(القطع الناقص) يمكن فهمه بقطع عمود بشكل زاوية قائمة‪ ،‬أو على نحو‬
‫مائل‪ ،‬فالقطع األول هو الدائرة‪ ،‬والثاني هو الشكل األهليلجي‪.‬‬
‫ولم يتقدم الفكر اإلنساني وعلم االجتماع؛ اال بالخروج من أقنية التفكير الخانقة والمسدودة‪ ،‬التي‬
‫شادها أرسطو بطريقة المنطق (الصورية) باعتماد (االستنباط ‪ )Deduction‬من خالل تدشين‬
‫(المنهج االستقرائي ‪.)Induction‬‬
‫وبقي الفكر اإلنساني معطًال مشلوال ألفي عام‪ ،‬حتى ساد مثل السوء‪ ،‬حين يقول الناس‪ ،‬عن عقم‬
‫أي محاولة للفهم والتفاهم بكلمة (الجدل البيزنطي)‪ ،‬أو عقم الفلسفة عموما بكلمة (ال تتفلسف؟!)‪.‬‬
‫والفرق بين المنهجين هائل‪ ،‬يقترب األول فيه من الحقيقة بتطبيق القاعدة من فوق لتحت‪ ،‬أما‬
‫االستقرائي فبالعكس‪ ،‬ويجمع المالحظات من الواقع‪ ،‬ليشتق منها قانونا عاما‪ ،‬قابًال للنمو‪.‬‬
‫وبالطريقة األولى قاد االفتراض الخاطيء من بداية خاطئة إلى نتائج كارثية‪ ،‬وبالثانية أمكن‬
‫وضع قوانين (االحتماالت)‪ ،‬الذي صاغه األلماني (غاوس ‪ ،)Gauss‬من خالل اعتماد منهج‬
‫ديكارت في الهندسة التحليلية‪ ،‬ورسم المخططات البيانية‪.‬‬
‫والقرآن لفت النظر إلى (الواقع)‪ ،‬بالنظر إلى األرض كيف سطحت‪ ،‬وإلى الجبال كيف نصبت‪،‬‬
‫واإلبل كيف خلقت‪ ،‬وأن صحة الكتاب ستظهر من خالل آيات اآلفاق واألنفس‪.‬‬
‫وعند (محمد إقبال) الفيلسوف الهندي‪ ،‬تعتبر كًال من (الطبيعة) و(التاريخ) مصادر أساسية‬
‫للمعرفة‪.‬‬
‫وهو ما عاش عليه المسلمون وأهل الكتاب عموما‪ ،‬حين فكوا النصوص الدينية عن الواقع‬
‫والطبيعة والتاريخ‪.‬‬
‫وحين يتعطل العقل عن فهم مصادر الحقيقة‪ ،‬ال تفيده أية حقيقة‪ ،‬فساعة يكون مثل الكلب أن تحمل‬
‫عليه يلهث‪ ،‬أو تتركه تتركه‪ ،‬وساعة مثل الحمار يحمل أسفارا‪.‬‬
‫والكفر واإليمان هنا أصبحا مدارهما حول استخدام العقل لفهم مصادر المعرفة‪ ،‬أو تعطيل تلك‬
‫الحواس‪ ..‬فيمرون على اآليات وهم عنها معرضون‪..‬‬
‫صم بكم عمي فهم ال يعقلون‪..‬‬
‫وهكذا يتحرر العقل من المسلمات‪ ،‬ويرتكن إلى الواقع‪ ،‬فهو أصدق من كل نص كتب عنه مهما‬
‫كان مصدره‪ ،‬ألنه النص األساسي الذي ال يقبل التحريف والتغيير‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫كذلك فإن (العبودية) ليست خطأ كرموسوميًا؛ كما تصور أرسطو‪ ،‬بل قدرًا يتشكل من خالل‬
‫ثقافة إنسانية مريضة‪.‬‬
‫ولم تتحرر البشرية من أسر العبودية بالنصوص‪ ،‬بل بالتطور التاريخي‪.‬‬
‫وحسب (توينبي) المؤرخ البريطاني فإن اآللة الصناعية قادت تلقائيا إلى التخلص من اآللة‬
‫العضلية‪ ،‬فهذا هو قدر التطور التاريخي‪.‬‬
‫واإلسالم قاد إلى التعديلين األخيرين فساهم في تطوير حركة التاريخ‪ ،‬من خالل دفع العقل الى‬
‫مسارب منهجية جديدة في العودة الى الواقع ‪ ،‬ومن خالل تدشين الخطوات األولى لتجفيف‬
‫مستنقعات الرق ‪.‬‬
‫وما حصل تاريخيا أن المسلمين مشوا بعكس اتجاه القرآن ‪ ،‬وأصيبوا بعدوى المناخ الموبوء؛‬
‫فحافظوا على أسواق النخاسة ‪ ،‬فكسب السبق االنساني غيرهم بإعالنه تحرير العبيد‪ ،‬كما فعلت‬
‫كل من بريطانيا عام ‪ ،1833‬لتخوض أمريكا بعدها بثالثين سنة حربا أهلية ضروسا كلفت ‪600‬‬
‫ألف قتيل إلطالق العبيد‪.‬‬
‫ولم يصبح األسود بشرا سويا حتى الخمسينات مع ثورة (روزا باركس) و(مارتن لوثر كينج)‬
‫باعتماد الحركة السلمية والعصيان في خمسينات القرن العشرين‪.‬‬
‫وقرأت للوردي عالم االجتماع العراقي أنه أيام حكم األشراف في مكة‪ ،‬جاء توجيه من الباب‬
‫العالي ـ تحت ضغط بريطاني ـ في إلغاء الرق‪ ،‬فشن الجمهور مظاهرة صاخبة‪ ،‬أن هذا مخالف‬
‫للشريعة‪ .‬وكأن الشريعة جاءت لتكريس العبودية‪..‬‬
‫وهذا يحكي أن النصوص يمكن أن تستخدم ضد النصوص‪ ،‬وبتعبير النيهوم إسالم ضد اإلسالم‪.‬‬

‫مركز التفكير ليس القلب‬


‫مركز التفكير نعرف اليوم أنه في الدماغ ‪ ،‬ولو زرعنا قلبًا النسان التتغير شخصيته ‪ ،‬ولو‬
‫أجرينا جراحة على الدماغ ‪ ،‬باستئصال الفص الجبهي عند آخر ‪ ،‬اختلت شخصيته واضطربت ‪.‬‬
‫ليست الدائرة الشكل الكامل لحركة الكواكب كما تصورها ارسطو وبطليموس ؛ في كارثة‬
‫عقلية من هذا النوع اختنق التقدم العلمي ‪ ،‬ودشنت أكبر خرافة في تاريخ الجنس البشري ‪ ،‬بأن‬
‫مركز العالم كرتنا األرضية ‪ ،‬كلفت أرسطو كلمات ‪ ،‬ولكن ( جيوردانو برونو ) أحرق بسببها‬
‫بالنار ذات الوقود ‪ ،‬إذ هم عليها قعود ‪ ،‬ولم يشق علم الفلك الطريق الى فضاء معرفي جديد بكل‬
‫إنجازاته التي نعاصرها ؛ لوال الخطوات المتواضعة ‪ ،‬في ضربات حاسمة لفكر من النوع دشنه (‬
‫المفكر األول ) ‪ ،‬في شهادة صاعقة عن جدلية يجب أن نفهمها في حركة التاريخ والفكر ‪ ،‬أن‬
‫الفكر يتقدم بالخطأ والتصحيح والحذف واالضافة ‪ ،‬فليس أحد فوق الخطأ أو دون النقد ‪ ،‬وطبيعة‬
‫العلم تقدمية ‪ ،‬وماأنجزه ارسطو في يومه كان ثوريًا ولكنه أصبح الحقًا مكبًال معيقًا للفكر ‪.‬‬

‫اخفاق تقرير المصير كمؤشر لتحلل الحضارة‬


‫اعتبر المؤرخ البريطاني ( توينبي ) أن سبعة أمراض قاتلة ترتهن المصير االنساني ‪،‬‬
‫وتورط االنسان في مرض ( إخفاق تقرير المصير) ‪ ،‬لعلها كلها تصب في صور مختلفة للوثنية‬
‫‪ ،‬من عبادة ( الذات الفانية ) و ( عبادة تكنولوجيا ) سبقها الزمن أو ( اسلوب تجاوزه التاريخ ) أو‬
‫( نشوة النصر ) والوقوف عندها بعد أن انطفأ لونها وغابت ريحتها وعفنت ‪ .‬يبدو أن حاسة الشم‬
‫تعمل بطريقة عجيبة ‪ ،‬فاألنف يعتاد على أقبح الروائح أذا استمر في الشم لفترة دقيقتين ‪ .‬وحاسة‬
‫الشم التاريخية تؤدي نفس الدور ‪ ،‬عندما يتجمد العقل في مربع االعتياد وااللفة ‪ ،‬وهو أحد‬
‫امتدادات مرض ( اآلبائية ) إنا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون ‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫لماذا كان الجدل البيزنطي عقيمًا ؟‬
‫تقدم ( يوهان كبللر ) بتفسير حركة الكواكب حول الشمس بالشكل االهليلجي ‪ ،‬كما تقدم‬
‫سومرفيلد برسم نفس الحركة لدوران االلكترون حول نواة الذرة ‪ ،‬ولم يكن العلم ليتقدم لوال كسر‬
‫شرنقة المنطق الصوري االرسطاطالي البيزنطي العقيم ‪ ،‬بفتح طريق ( سريع ) جديد للعقل من‬
‫خالل المنهج االستقرائي ‪ ،‬وهو توجه قرآني عمومًا ‪ ،‬كما أشار الى ذلك اقبال في كتابه ( تجديد‬
‫التفكير الديني ) ‪.‬‬

‫المنهج الصوري الرسطو يجمد العقل ؟‬


‫المنهج االرسطاطالي يوِّر ط في أخطاء قاتلة ‪ ،‬باعتماد مقدمات قد تكون كلها مبنية على‬
‫سيقان من صلصال من فَّخ ار ‪ ،‬فهو يضع مقدمة عريضة من فوق ليتقدم الى نتائج فرعية صغيرة‬
‫الى تحت ‪ ،‬كله منطلقًا من القواعد النظرية ‪ ،‬التي يمكن النقاش فيها بدون نتيجة الى يوم يبعثون ‪،‬‬
‫مما جعله موضع سخرية ‪ ،‬بأنه اسلوب عقيم غير منتج ‪ ،‬وأخذ اسم ( النقاش البيزنطي ) هل‬
‫الدجاجة من البيضة ؟ أم البيضة من الدجاجة ؟ وماهو جنس المالئكة هل هم ذكور أم أناث ؟ إن‬
‫النقاش في مواضيع من هذا النوع التتقدم بأنتاج الحلول ؛ اال بإلغاء كل الحلول ‪.‬‬

‫طبيعة المنهج االستقرائي‬


‫المنهج االستقرائي يمشي بطريقة مقلوبة من الواقع الى العقل ‪ ،‬ويمتاز بأنه يتطور ‪ ،‬من‬
‫خالل بنية ثورية نامية متدفقة ‪ ،‬من خالل تطوير ونمو القانون ؛ فمن جمع الوقائع يتولد تفسير‬
‫يجمع حركتها ‪ ،‬ويعلل آلياتها الخفية ‪ ،‬ولكن هذا يمشي في زاوية منفرجة ‪ ،‬بحيث إذا تعضل‬
‫تفسير ظاهرة التنتظم مع هذا المحتوى ‪ ،‬يتولد تفسير أو قامون أعظم جدلية في لضم خيط كل‬
‫هذه الظاهرات ‪.‬‬
‫ًا‬
‫المنهج االستنباطي يمشي في زاوية حادة لالسفل ‪ ،‬يزداد ضيق مع التقدم بالحركة العقلية‬
‫والمنهج االستقرائي يمشي باتحاه معاكس ‪ ،‬الغرابة أن حصلت أكبر قفزة عقلية في تاريخ‬
‫مغامرات العقل االنساني ‪ ،‬من خالل تطوير هذه الطريقة من التفكير ‪ ،‬منذ أيام فرانسيس بيكون‬
‫وديكارت ‪.‬‬
‫عالم النفس السلوكي ( ف ‪ .‬ب ‪ .‬سكينر ‪ )1() F.B. SKINNER‬اعتبر أن فيثاغورس أو‬
‫تاليس لو حضرا وجلسا في قاعات محاضرات طلبة الجامعة ‪ ،‬لن يعجزا عن متابعة النقاش‬
‫واالشتراك فيه ‪ ،‬ولكن ( فيثاغورس ) سيصاب بالذهول أين وصل علم ( الكوسمولوجيا‬
‫‪ ) COSMOLOGY‬الذي كان أول من أعطاه اسمه ‪ ،‬وأراد أن يصل الى جوهر ( التناغم‬
‫الكوني ‪ ) HARMONY‬من خالل عالقة العدد بالموسيقى (‪)2‬‬

‫القفزة الفلكية لعلوم الطبيعة‬


‫أرسطو سُيعقد لسانه وهو يصغي الى خرافاته في مركز التفكير أنه القلب ‪ ،‬ليرى عالقة‬
‫الفكر بالدماغ ‪ ،‬وعدد الجينات ( ‪ )3() 3195‬التي كشفت حتى اآلن في الدماغ ‪ ،‬مقابل ‪297‬‬
‫لالمعاء والمريء ‪ 76‬والقلب ‪ ، 1195‬وأن القلب اليزيد عن عضلة محترمة صبورة في ضخ‬
‫الدم ‪ ،‬وأن مركز التفكير ليس في الكبد وال في القلب ‪ ،‬وأن الدماغ يشكل مركز التفكير من خالل‬
‫المادة الرمادية في الدماغ ‪ ،‬تحوي مايزيد عن مائة مليار بطارية متوهجة ‪ .‬سيتعجب أبو النظرية‬
‫الفيزيائية ( ديموقريطس ‪ ) DEMOCRITUS‬أين وصلت محطة األبحاث في الفيزياء النووية‬

‫‪135‬‬
‫‪ ،‬بعد أن تم سبر نواة الذرة والكشف عن ( دزينة ) من مواد دون ذرية من ( الكوارك‬
‫واللبتونات ) من خالل ميكروسكوبات المادة ( المسرعات ) بأنفاق تحت األرض تصل الى‬
‫عشرات الكيلومترات (‪ ) 4‬اما افالطون مؤسس ( االكاديمية ) فسيرى نفسه اليفقه تمامًا كيف‬
‫نشأت مؤسسات عمالقة من نموذج ( الجينوم البشري ‪ ) H.G.P‬بكلفة ثالثة مليارات دوالر ‪ ،‬أو‬
‫مشروع ( جريج فنتر ‪ ) CRAIG VENTER‬عن فك الشيفرة الوراثية لكل المخلوقات قاطبة‬
‫وأرشفتها ‪ ،‬من الفيروس والنبات ‪ ،‬مرورًا بالسمك المخطط والجرذان ‪ ،‬وانتهاًء بالشمبانزي‬
‫واالنسان ‪ ،‬في مكتبة لم يحلم بها كل فالسفة اليونان مجتمعين ‪ ،‬واألخير يحاول حاليًا في قفزة‬
‫علمية جريئة أن يركب خلية حية مخبريًا ‪.‬‬
‫لماذا لم تتطور العلوم االنسانية بنفس الزخم ؟‬
‫عالم النفس السلوكي ( سكينر ) يحاول تفسير هذا التناقض ‪ ،‬بين التطور الفلكي الخرافي لعلوم‬
‫الطبيعة ‪ ،‬مقابل النمو القزم للعلوم االنسانية !! هل هو في الطبيعة المعقدة والعنيدة للعلوم‬
‫االنسانية الحافلة باالسرار ؟ أم أنه اخطأ في توجهه ؟ فبدل تسليط بؤرة االهتمام الى داخل‬
‫االنسان ‪ ،‬اندفع محوره خارج االنسان الى الطبيعة ! أم أن األمر متوقف على تطوير األدوات‬
‫المعرفية ؛ فكل علم يتطلب أدوات خاصة به نوعية ؟ ومانمى حتى اآلن في الفيزياء‬
‫والكوسمولوجيا والفيزيولوجيا وأبحاث الجينات ‪ ،‬هو بكل بساطة توفر هائل في أدوات سبر هذا‬
‫الحقل المعرفي ‪ ،‬فال يمكن فتح جمجمة اليوم بأدوات فرعونية ‪ ،‬واليمكن دراسة اآلثار‬
‫االركيولوجية بدون االعتماد على تقنية الكربون ‪ 14‬الذي يحدد أعمار األشياء ‪ ،‬واليمكن إصالح‬
‫شريان بدون مالقط ناعمة ومواد صناعية من مادة ( الجورتكس ‪ )5()GORE-TEX‬واليمكن‬
‫رؤية السماء بالعين المجردة بعد تطور التلسكوبات ‪ ،‬فلم تعد العين الجديدة حسيرة بل اخترقت‬
‫سجف الفضاء الى مسافة مليون سنة ضوئية ‪.‬‬
‫سكينر لم يقدم إجابة قاطعة واضحة ‪.‬‬
‫استقرار الفيلسوف في كريتون لتصبح مركز اشعاع ثقافي‬
‫ترك فيثاغورس مجموعة من المحرمات كان يمارسها مع تالمذته في مدرسته التي أنشأها في‬
‫( كريتون ) جنوب إيطاليا ‪ ،‬بعد رحلة التطواف المديدة في اآلفاق ‪ ،‬ليحط عصا الترحال ويبدأ‬
‫في االشعاع الثقافي في بيئة جديدة بدون سوابق ‪ ،‬وفي وداع الرجعة فيها من ( ساموس ) مدينته‬
‫التي ولد فيها وترعرع ‪ ،‬على حذر من الناس والنظام السياسي ‪ ،‬باعتبار تجاربه السابقة مع‬
‫الديكتاتوريات في اليونان ‪ ،‬معتمدًا فقرة حكيمة من االنجيل ‪ :‬هاآنذا أرسكم في وسط مجموعة من‬
‫الذئاب ؛ فكونوا حكماء كالحيات بسطاء كالحمام ؟ نحن نعرف بساطة الحمامة ونعرف الغدر‬
‫واألذى من الحية ‪ .‬نحن لم ننتبه الى صبرها المرعب كأنها ميتة لساعات بانتظار الفريسة ‪.....‬‬
‫ولكن االضطرابات الحقت الفيلسوف الى موطنه الجديد ‪.‬‬
‫فيثاغورس كان يوصي أن اليبوح االنسان بأفكاره اال في صورتين ‪ :‬شفهية ولمن يثق به من‬
‫القليلين من حوله ‪ ...‬بكل أسف طبق هذا المبدأ بصرامة فحرمنا من مؤلفات نبكي على تحصيلها ‪.‬‬
‫كل ماحدث أن تالمذته بعده نقلوا أفكاره فسجلها مؤرخ من نموذج ( اكسنوفون‬
‫‪. )XENOPHON‬‬

‫مراجع وهوامش ‪:‬‬


‫(‪ )1‬يراجع كتاب ( تكنولوجيا السلوك االنساني ) تأليف عالم النفس األمريكي ف ‪ .‬ب ‪ .‬سكينر ـ سلسلة عالم‬
‫المعرفة (‪ )2‬يراجع كتاب الثورات العلمية في القرن العشرين ـ تأليف انطوان بطرس ـ شركة المطبوعات للنشر‬
‫(‪ )3‬مجلة الشبيجل األلمانية عدد ‪ 37‬عام ‪ 1998‬م ص ‪ ) )4( 273‬معهد سرن ‪ CERN‬في سويسرا يمتد بنفق‬
‫تحت األرض بطول ‪ 23‬كيلومتر (‪ )5‬مادة صناعية من مادة ( عديدات االتيلين رباعية الفلور‬
‫‪ ) polytetraflurethyline‬ويرمز لها بـ (‪ )PTFE‬وتستخدم في تعويض الشرايين التالفة وكانت معضلة هائلة‬
‫لالطباء في االستعاضة عن الشرايين الكبيرة قبل اكتشاف هذه المادة ‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫تبحر الفلسفة‬
‫هل يمثل افالطون فكر سقراط ؟‬
‫نفس الشيء حصل مع ( سقراط ) فلم يترك أثرًا سوى ماسجله تلميذه افالطون في كتابه (‬
‫المحــاورات ) أو اآلخــر ( آخــر أيــام ســقراط )(‪ )1‬وفي رأي عــالم االجتمــاع العــراقي ( علي‬
‫الــوردي ) أن افالطــون اليمثــل فكــر ســقراط بحــال ‪ ،‬وهــو أقــرب الى قصــة معاويــة بعــد الحكم‬
‫الراشــدي ‪ ،‬فهــو اســتغل اســم ســقراط كي يضــرب الديموقراطيــة واتجــاه ( السفســطة ‪THE‬‬
‫‪ ) SOPHISTS‬الــذي نجح في ضــرب ســمعته أنــه نمــوذج للتفكــير العقيم ‪ ،‬والكالم الفــارغ ‪،‬‬
‫والتالعب بالحجج ولم يكن كذلك ‪.‬‬
‫هل اتجاه السفسطة سيء حقًا ؟‬
‫( بروتاجوراس ‪ ) PROTAGORAS‬و ( ثراسي ماخوس ‪) THRASYMACHUS‬‬
‫قطبــا اتجــاه ( السفســطة ) طرحــا مجموعــة من األفكــار االنســانية قضــت عليهمــا ( االكاديميــة )‬
‫االفالطونية جملة وتفصيًال ولطخت سمعتها أنها نمـوذج التالعب بـالحجج في ترسـيخ ( المـراء )‬
‫مدرسة السفسطة امتازت بامور من ‪ :‬اعتماد الحقيقة النسبية ‪ ،‬وأن العدل صيرورة اجتماعيــة بين‬
‫تنازع المصالح كمــا رآهــا ( مونتســكيو ) المشــرع الفرنســي في التــوازن بين ( الصــد والموازنــة‬
‫‪ ) CHECK & BALANCE‬وإنكار عبادة األوثان األغريقية ‪ ،‬وأن االنسان مقياس كل شيء‬
‫؛ فانتقـل حـل المشـكلة االجتماعيـة من السـماء االفالطونيـة وعـالم ( المثـل والفيض ) الى الواقـع‬
‫االجتمـاعي الى األرض ‪ ،‬وأن الحقيقـة االجتماعيـة غـير الرياضـية ‪ ،‬وأن الشـك مبـدأ اليقين ممـا‬
‫يجعلهم ( حنفاء ) العصر اليوناني قبل إشعاع فكر ســقراط على الحيــاة اليونانيــة ‪ ،‬وقــاموا بــأربع‬
‫تطبيقات عملية هامة ‪ :‬من (‪ )1‬تبسيط العلوم و(‪ )2‬تدشين مهنة المحاماة و(‪ )3‬بناء الديموقراطية‬
‫و أخيرًا (‪ )4‬إتقان فن السياسة العملية ‪.‬‬
‫رأي برجسون يدعم اتجاه السفسطة‬
‫يقوي برجسون اتجاه السفسطة بقوله ‪ ( :‬إن المنطق الرياضي عاجز عن إدراك مافي الحقيقة‬
‫من صيرورة دافقة ‪ ،‬وحركــة غائيــة ؛ فهــو يجــزيء الحقيقــة الى أجــزاء متنــاثرة ‪ ،‬أو يحِّللهــا الى‬
‫عناصرها األولية ‪ ،‬وبهذا يفقدها نغمـة الترابـط والتكامـل الكامنـة فيهـا )(‪ )2‬ديكـارت فيلسـوف‬
‫التنوير الفرنسي كان يردد ‪ ( :‬عاش سعيدًا من بقي في الظل ) والحقته الكنيســة الى ثلــوج الســويد‬
‫في بالط الملكة كرستينا فسممته بالزرنيخ ‪ .‬وحين ق ـَّد م ابن طفيــل ( ابن رشــد ) الى مجلس الملــك‬
‫الموحدي ( أبو يعقوب ) سأله عن بعض األمور فتظاهر بأنه من الجاهلين ‪ .‬التظاهر بــ ( الهبـل )‬
‫مفيد أحيانًا في مجتمع خانق اليسمح بـالتفكير ‪ .‬لعـل هـذا هـو منشـأ فكـرة قديمـة كنت اسـمعها في‬
‫الوسط الذي نشأت فيــه ممن حــولي يكررونهــا ‪ ،‬عنــدما كنت يافعـًا وأصــابني داء عشــق المعرفــة‬
‫واالســتزادة منهــا ؟ من يقــرأ كثــيرًا ُيَّج ن ؟ ليس من العبث أن القــرآن يــذكر في أكــثر من مــرة أن‬
‫رسوله ليس بمجنون ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن والمجنون )(‪. )3‬‬
‫مصيبة سيطرة الفكر الدوغمائي‬
‫كوبرنيكوس اكتحلت عيناه بكتابه عن دوران األرض قبل موته بساعة بعد أن اجل طباعــة‬
‫الكتاب ثالثين سنة ‪ .‬ابن تيميــة ضــرب بالنعــال على المنــبر فطــارت عمامتــه ‪ ،‬وأخــذ الى قاضــي‬
‫المالكية للتعزير ‪ ،‬كما وصف ( ابن بطوطــة ) المعركــة الــتي رآهــا في مســجد في دمشــق ‪ ،‬وهــو‬
‫يتعجب من هذا الجنون ‪ ،‬فسجل مالحظته عنه بعنوان ( قصــة لوثــة فقيــه ) ‪ .‬الفيلســوف اســبينوزا‬
‫من أعمدة التنوير في القرن السابع عشر للميالد التجأ الى هولندا واتهم بالزندقة ‪ ،‬وأنه يكتب كتابًا‬

‫‪137‬‬
‫يثبت فيه االلحاد وعدم وجود هللا ‪ ،‬وكتبت فيه الطائفة اليهودية قرار لعنة اليبقى واليذر ‪ ،‬لكل من‬
‫يتعامل معه ‪ ،‬أو يقترب منه لمسافة أربع أذرع زيادة في التحديد ‪.‬‬
‫هذا الحذر الشديد كان من سمات العصر ضد روح العلم ؛ فالتيار الدوغمائي المسيطر كان ضد‬
‫حرية الفكر وتبحر الفلسفة ‪.‬‬
‫سقراط تجرع سم الشوكران ‪ ،‬وفيثاغورس ذبح ‪ ،‬وهيباتيـا ضـربت حـتى المـوت ‪ ،‬وسـبنوزا‬
‫طعن في رقبته ‪ ،‬واالمام ابن حنبل عذب قريبًا من الموت ‪ ،‬واالمــام مالــك جلــد ‪ ،‬وديكــارت وأبــو‬
‫حنيفة كالهما سمم ‪ ،‬وجيوردانو برونو أنهى حياته على النار ذات الوقود ‪ ،‬إذ هم عليها قعود ‪.‬‬
‫عندما تشارك المرأة البحث العلمي !‬
‫فيثاغورس بقي لمدة ثالثين عامًا يتجول في األرض ويمأل جعبته من العلم خارج أرض اليونــان‬
‫وسيطرة الطغيان ؛ فاستفاد من علماء الفلك في بابل ‪ ،‬وأنصت باهتمام الى كهنة مصــر ومســتوى‬
‫علمهم في الهندسة والطب ‪ ،‬وتشرب التصوف من حكماء الهند ‪ ،‬وعشــق جمــال ســوريا وأســرار‬
‫الصحراء في جزيرة العرب ‪ ،‬وكان كما وصفه هيرقليطس أكثر الباحثين مثــابرة ودأب ـًا ‪ ،‬وحينمــا‬
‫حط عصا الترحال أخيرًا في ( كريتون ) في جنوب إيطاليا ‪ ،‬ودع بالده بدون أمل العودة ‪ ،‬أســس‬
‫مدرسة انتسب إليها الذكور واالناث على حد سواء ‪ .‬وصــفت النســاء الــتي تخــرجت من مدرســته‬
‫بأنهن أعلى نموذج في األنوثة أخرجته بالد اليونان في جميع العصور ‪.‬‬
‫عالقة الرياضيات بالموسيقى‬
‫اعتمدت مدرسة فيثاغورس العدد مفتاحًا لفهم الوجــود ؛ فــالكون كلــه مكتــوب بلغــة األرقــام ‪،‬‬
‫وأجمل اكتشافاته في العدد عالقة الرياضيات بالموسيقى ‪ .‬شد فيثاغورس أذنه في ســوق الحــدادين‬
‫الى تباين النغمات ؛ فنقلها الى الوتر والقيثارة ‪ .‬لقد الحظ أن طول الوتر له عالقة بالنغم ‪ ،‬ويمكن‬
‫بالتالي وضع مجموعة من األوتار بأطوال مختلفة لنحصل على أنغــام تنوعــة تطربنــا ‪ .‬إن فلســفة‬
‫الرقم هنا تدخل بشكل أساسي في منح الوتر نغمه المميز ؛ فيمكن أن نداعب األوتار لنخرج أنغامًا‬
‫متتابعــة تحــيي الــروح ‪ .‬ربــط فيثــاغورس بين الفيزيــاء والنفس ؛ فــدخل الى الــروح عن طريــق‬
‫الموسيقى ‪ ،‬وعالج مرضاه بالموسيقى ‪ ،‬وهي اليوم طريقة مطبقة في معالجة المرضى النفسيين ‪.‬‬
‫التعدد والتوحد في العالم‬
‫رأى الفيلسوف ( طاليس ) الذي بزغت الفلسفة اليونانية في عصره قبل مرحلة الثالثي (‬
‫ســقراط ـ ـ افالطــون ـ ـ أرســطو ) أن التعــدد في العــالم خلفــه توحــد ‪ ،‬وهي الفكــرة الــتي ســحرت‬
‫جيوردانو برونو الحقًا في جدلية الوحدة والتعدد ‪ ،‬وأن التعــدد يخفي خلفــه توحــدًا منســجمًا ‪ .‬رأى‬
‫طاليس أم مصدر األشياء وأصلها المـاء ‪ .‬ورأى ( هـيرقليطس ) أن النـار مصـدر العـالم ‪ ،‬وذهب‬
‫فيثاغورس الى سر العالم في الرقم ‪ ،‬ومضى ( ديموقريطس وبامينيدس & ‪DEMOCRITUS‬‬
‫‪ ) PARMENIDES‬أن الكون مركب من ذرات صـلبة التخـترق ومتحركـة وهي أصـل بنـاء‬
‫الكون ‪ ،‬وعندما نقطع التفاحة فهذا يعود الى وجود الفراغات بين الذرات وبدونها النستطيع تقطيع‬
‫األشياء ‪ .‬وأيقن ( امبيــدوكليس ‪ ) EMPEDOCLES‬أن العــالم مكــون من اربعــة عناصــر هي‬
‫الماء والتراب والنار والهواء ‪ ،‬كما أن أمزجــة البــدن مكونــة من أربعــة أخالط ‪ ،‬هي الــدم والبلغم‬
‫والصفراء والسوداء ‪ ،‬في حركة تقديس للــرقم أربعــة ‪ ،‬وذهب في تأكيــد نظريتــه الى الــدخول في‬
‫بركان ( اتنا ‪ ) ETNA‬شخصيًا ليتفحم فاليبقى منه سوى نعله ‪.‬‬
‫لغة الطبيعة الرياضيات واألرقام حسب غاليلو ؟‬
‫في العصر الحديث رأى ( غاليلو ) أن الطبيعة كلها مكتوبة بلغة معادالت ‪ ،‬وحلم ديكارت في‬
‫في تحويل يقين العلوم الرياضيات الى العلـوم األخــرى ‪ ،‬بمــا فيهــا فهم النفس االنســانية ‪ ،‬وحــاول‬
‫آينشتاين في مدى عشرين سنة أن يدمج قوانين الكون في قانون توحيــدي ‪ ،‬ويســعى اليــوم الــدماغ‬
‫البريطــاني النابغــة ( ســتيفن هــوكنج ) أن يــدمج قــوى الكــون األساســية الخمســة ( الكهربــاء ـ ـ‬
‫المغنــاطيس ـ ـ الجاذبيــة ـ ـ قــوى النــواة القويــة والضــعيفة ) في قــوة واحــدة أساســية ‪ ،‬كــانت هي‬

‫‪138‬‬
‫المسيطرة على الكون بعد االنفجار العظيم ‪ ،‬ويحاول هوكنج اليوم دمج أعظم علمين هما ( النسبية‬
‫) و( ميكانيكا الكم ) في قانون واحد يفسر به الوجود ‪.‬‬
‫تعاليم فيثاغورس‬
‫فيثاغورس وضع في مدرسته مباديء صارمة للترببية الروحية بدًء من طي المرء لفراشه بعد‬
‫قيامه من نومه ‪ ،‬مرورا باالنقطاع عن تناول أكــل اللحــوم ‪ ،‬وانتهــاًء بأشــياء اعتــبرت اعتباطيــة ‪،‬‬
‫غير قابلة للتفسير ‪ ،‬منها عدم الجلوس على رطل ‪ ،‬وعدم لمس الــديك األبيض ‪ ،‬وعــدم األكــل من‬
‫رغيف كامل ‪ ،‬أوعدم األكل من الفول األخضر أو ( دخول حقله ) بتاتًا ‪ .‬األخــير فعلــه الفيلســوف‬
‫التزامًا بمبادئه مضحيًا بنفسه لذلك ‪.‬‬
‫علم الجينات الحديث أماط اللثام بعد مرور ‪ 2500‬عامًا عن هـذا السـر ؛ ليعـترف للفيلسـوف‬
‫بصحة الرأي ‪.‬‬
‫جزيرة سردينيا في الربيع‬
‫في سردينيا مع تفتح أزهار الربيع الجميل ونمو نبات الفول األخضر ‪ ،‬تستيقظ الطبيعة كلها اال‬
‫االنسان ؛ فيالحظ خموًال غير عادي ‪ ،‬وكسًال بين الطالب ‪ ،‬ووهنًا غير قابل للتفسير ‪ ،‬ونــوع من‬
‫الوخم والعجز عند الناس ‪ ،‬يصــل الى حــد تبــول الــدم ‪ ،‬ومــوت البعض مــع آالم بطنيــة صــاعقة ‪.‬‬
‫تحذير الفيلسوف فيثاغورس الناس من أكل الفول لم يكن عبثًا ‪.‬‬
‫جاءت بعثة علمية (‪ )4‬تدرس بنية أهالي سردينيا النقية وراثيًا لتكتشف شيئًا مذهًال ‪ %30 .‬من‬
‫الناس يحملون جينات مرضية تسبب فقر الدم المنجلي ( ‪) SICKEL-CELL - ANAEMIA‬‬
‫وهو مرض تعطب فيه الكريات الحمر ‪ ،‬وتأخذ شكل منجل الحصاد ‪ ،‬في صورة مذبحة للكريــات‬
‫الحمر وماحوت ‪ ،‬لتضعف بنيتها وتهش ‪ ،‬وتتفجر من أسباب منوعة منها الحساسية من أكل مــادة‬
‫الفول األخضر ‪.‬‬
‫لقد تبين أن سبب تحلل الدم ‪ ،‬بتصدع بناء الكرية الحمراء ‪ ،‬من انهيار ( سقالة التأســيس ) في‬
‫بناية الكرية الحمراء ‪ ،‬سببه خلل في موضع واحـد من خارطـة ‪ 574‬حمض أميـني تشـكل كامـل‬
‫خريطة الهيموغلوبين ‪ ،‬العمود الفقري للكرية ‪ ،‬وعرف أن هذا التحلل في الخريطة سببه الجينات‬
‫التي تهندس الوراثة في نواة الخلية ‪.‬‬
‫بعد ‪ 2500‬سنة من مصرع الفيلسوف فيثاغورس يكشف العلم اللثام عن سر الخطر في أكــل‬
‫الفول عند بعض الناس ‪ .‬الفرق بين رؤيا الفيلسوف ورؤية العلم ‪ ،‬أنه رأى الظاهرة فحَّللهــا بشــكل‬
‫عام وحَّذ ر ‪ ،‬وهو مايعرفه علم النفس بظاهرة ( الجشتالت ‪ ) GESTALT‬أما العلم فإنه عرفهــا‬
‫على وجــه التحديــد ‪ ،‬وهــو في الطريــق اآلن ربمــا خالل العقــود القادمــة للســيطرة عليهــا نهائيـًا ‪،‬‬
‫وستعلمن نبأه بعد حين ‪.‬‬
‫اليعني أن كل مارآه الفيلسوف صحيحًا ‪ ،‬والكل ماتنبأ به صادقًا ‪ ،‬ولكنها اآلليات الخفية خلف‬
‫المحرم والممنوع ‪ ،‬فاليأتي من فــراغ ‪ ،‬ثم يتقــدم عــبر الــزمن ؛ فيــدخل عليــه التحريــف والجمــود‬
‫والتكلس االيديولوجي ‪ ،‬فاليكاد يعرف االنســان أصــول األشــياء ‪ ،‬ومن أين جــاءت ؟؟ وفي قصــة‬
‫هذا الفيلسوف الرائد عظة عن معنى هذه اآللية الخفية ‪.‬‬
‫مراجع وهوامش ‪:‬‬
‫(‪ )1‬راجع كتابي محاورات افالطون ‪ ،‬نشر ( لجنة التأليف والترجمة والنشر ) القاهرة ـ ترجم‪OO‬ة زكي نجيب‬
‫محمود ـ وكتاب آخر أيام سقراط ـ نقله الى العربية أحمد الشيباني ـ نشر دار الكت‪O‬اب الع‪OO‬ربي (‪ )2‬مهزل‪OO‬ة العق‪O‬ل‬
‫البشري ـ علي الوردي ـ دار كوفان للنشر ـ ص ‪ )3( 165‬س‪OO‬ورة الط‪OO‬ور (‪ )4‬تراج‪OO‬ع القص‪OO‬ة في كت‪OO‬اب التنب‪OO‬ؤ‬
‫الوراثي سلسلة عالم المعرفة ‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫الفيلسوف الفارابي‬

‫جاء في كتاب وفيات األعيان البن خلكان أن الفارابي لما ورد على سيف‬
‫الدولة وكان مجلسه مجلس الفضالء في جميع المعارف فأدخل عليه وهو‬
‫بزي األتراك وكان ذلك زيه دائمًا فوقف فقال له سيف الدولة‪ :‬اقعد‪ .‬فقال‬
‫حيث أنا أم حيث أنت؟ فقال حيث أنت‪ .‬فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى‬
‫مسند سيف الدولة وزاجمه فيه حتى أخرجه عنه‪ .‬وكان على رأس سيف‬
‫الدولة مماليك وله معهم لسان خاص يسارهم به قل أن يعرفه أحد‪ .‬فقال‬
‫لهم بذلك اللسان‪ :‬إن هذا الشيء أخرق قد أساء األدب وإني مسائله عن‬
‫أشياء فإن أفلح في اإلجابة فاتركوه وإن لم يوف به فعليكم به‪ .‬وكان هذا‬
‫يعني القتل في عيون الحرس‪ .‬فخاطبه أبو نصر الفارابي بنفس اللسان‬
‫قائًال أيها األمير ال تعجل واصبر فإن األمور بعواقبها فتعجب سيف الدولة‬
‫منه وقال له وهل تحسن هذا اللسان؟ فقال أيها األمير ليس هذا اللسان‬
‫وحسب بل أحسن أكثر من سبعين لسانًا‪ .‬فعظم في عين األمير‪ .‬ثم إن‬
‫الفارابي أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن‪ .‬فلم يزل‬
‫كالمه يعلو وال يعلى عليهم وكالمهم ينزل ويسفل حتى صمت الكل وبقي‬
‫يتكلم وحده‪ .‬عند ذلك خشع القوم والتفتوا إلى أوراقهم فبدأوا يكتبون ما‬
‫يقوله لهم فصرفهم سيف الدولة وخال به‪ .‬فقال له هل أحضر لك الطعام؟‬
‫قال ال حاجة لي به‪ .‬قال فهل تشرب قال ال‪ .‬قال فهل تسمع فأعطيك مالذ‬
‫من األنغام؟ قال نعم‪ .‬فأمر سيف الدولة بإحضار الفتيان فحضر كل ماهر‬
‫في هذه الصناعة بأنواع المالهي‪ .‬فلم يحرك أحد منهم آلته إال وعابه أبو‬
‫نصر الفارابي وقال له أخطأت‪ .‬فقال له سيف الدولة‪ :‬وهل تحسن في هذه‬
‫الصناعة أيضًا؟ فقال نعم‪ .‬ثم أخرج من وسطه خريطة فيها عيدان فقام‬
‫وركبها ثم لعب بها فخرجت موجة من األلحان أطربت القوم وهيجتهم‬
‫فضحك كل من في المجلس‪ .‬ثم فكها وركبها تركيبا آخر وضرب بها نغما‬
‫شجيًا فلم يبق أحد في المجلس إال وبكى‪ .‬ثم فكها وغير فيها وضرب من‬
‫األنغام الشيء الجديد والمرخي فنام كل من في المجلس فقام أبو نصر‬
‫الفارابي فجمع أغراضه وانصرف والقوم غاطون في النوم بمن فيهم‬
‫الحرس وكأنه الشبح‪ .‬أروي هذه الواقعة من تاريخنا اإلسالمي حتى نعرف‬
‫ذروة العبقرية التي وصلها بعض العلماء‪ .‬مع هذا فالرجل انعزل بجانب‬
‫النهر في بقية حياته وكان يعيش من أربع دراهم يصرفها عليه األمير‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫العباقرة الثالث‬

‫في ليلة األحد ‪ 11‬ذي القعدة ‪ 571‬هـ ‪ 1176‬م كان القائد صالح الدين‬
‫األيوبي على موعد مع رسل الموت من الحشاشين‪ ،‬فبينما كان في خيمة‬
‫األمير الكردي (جاولي األسدي) قائد أركانه وهما يستعرضان الخرائط‬
‫الحربية ضد الصليبيين اقتحم الخيمة شاب مفتول العضالت وكأنه جني‬
‫لخفة حركته يلمع في يمناه خنجر هوى به على رأس صالح الدين‪ .‬ولكنه‬
‫كان محظوظًا فقد صدم النصل المسموم الزردية من الحديد التي تغطي‬
‫رأسه فأدرك المجرم أنه أخطأ هدفه فقام بتوجيه طعنة إلى الخد فجرحه‬
‫وانقض الضباط األكراد على الرجل فقتلوه‪ .‬وخالل لحظات كان ثالثة من‬
‫الشبان يتدافعون إلى الخباء بنفس الطريقة من التدريب المتقن على القتل‬
‫المنظم فقتلوا العديد من الجنود والضباط قبل أن يقعوا صرعى في محاولة‬
‫االغتيال المدبرة بغاية الدهاء والجرأة‪.‬‬
‫وينطق التاريخ مرة أخرى عن دور الصدف في صناعة التاريخ فلو مات‬
‫صالح الدين في تلك المحاولة لما تم تحرير القدس ولم تكن لتقع وقعة‬
‫حطين عام ‪1187‬م ‪ .‬ولو مات بريجينيف الزعيم الروسي وكان شيخًا‬
‫مدنفًا لما تم اجتياح أفغانستان عام ‪1980‬م ‪ .‬ولما انخرط الشباب‬
‫اإلسالمي في مقاومة الروس في حرب أمريكية وهم يظنون أنهم يقاتلون‬
‫في سبيل هللا‪ .‬ولما تحولت أفغانستان إلى بؤرة لتصدير العنف لكل العالم‪.‬‬
‫ولما ولد ابن الدن ليضرب أبراج نيويورك‪ .‬ولكن ليقضي هللا أمرا كان‬
‫مفعوال‪.‬‬
‫جرت محاولة اغتيال صالح الدين األيوبي في إعزاز القريبة من حلب‬
‫وحاكم المدينة (كمشتكين) يتصل بريموند الثالث حاكم طرابلس الصليبي‬
‫وشيخ الجبل (سنان راشد الدين) للتخلص من صالح الدين األيوبي‪.‬‬
‫ولم تكن هذه المحاولة األولى من نوعها التي يتعرض لها صالح الدين فقد‬
‫ذكر ( قدري قلعجي) واقعة شكك فيها عندما استطاع الفدائي (حسن‬
‫األكرمي) التمكن من الدخول إلى مخدع صالح الدين في القاهرة وترك‬
‫قرب وسادته خنجرًا مسلوًال مغموسًا بالدم مع الكلمات التالية‪" :‬اعلم أيها‬
‫السلطان المغتصب إنك وإن أقفلت األبواب ووضعت الحرس‪ ،‬ال تستطيع‬

‫‪141‬‬
‫أن تنجو من انتقام اإلسماعيلية‪ .‬أراك قد بلغت القحة واستبديت دون أن‬
‫تحسب حسابًا لشيخ الجبل اإلسماعيلي الذي يقف لك بالمرصاد‪ ،‬ولو أردنا‬
‫قتلك الليلة لفعلنا ولكن عفونا عنك لعلك تقًد ر ذلك‪ ،‬وإننا ننذرك لتصلح من‬
‫سيرتك وتعيد الحق المغتصب إلى ذويه‪ ،‬وال تحاول أن تعرف من أنا فذلك‬
‫صعب عليك وبعيد عنك بعد السماء عن األرض‪ ،‬إذ قد أكون أخاك أو‬
‫خادمك أو حارسك أو زوجك وأنت ال تدري ‪ ..‬والسالم"‬
‫والكالم الذي جاء في الرسالة يجب فهمه ضمن البانوراما التاريخية فأن‬
‫يعيد صالح الدين الحق إلى ذويه يعني إعادة الخالفة الفاطمية التي أنهاها‬
‫في مصر بعد حكم دام قرنين من الزمن‪ ،‬ليعيدها إلى خليفة العباسي اليزيد‬
‫عن ظل شبح زائل وسلطان يذوب بأسرع من اآليس كريم في صيف الهب‬
‫من األحداث‪.‬‬
‫إن اللغة اإلنكليزية ما زالت تحمل الرنبن المرعب لكلمة االغتيال (أساسين‬
‫ـ ‪ )Assassination‬وهي كلمة مشتقة من عندنا من حفالت الرعب والدم‬
‫التي مارستها طائفة اإلسماعيليين في القرنين الثاني والثالث عشر للميالد‬
‫من خالل حركات سرية من مثل تنظيم الحشاشين الذي وصفه (قدري‬
‫القلعجي) بأنه تحول خالل "مائة سنة إلى عصابة سرية فريدة من نوعها‬
‫في التاريخ مدربة على القتل المنظم‪ .‬وال هم لها أو غاية سوى االغتيال‬
‫وبث الذعر ونشر اإلشاعات المخيفة"‪ .‬حتى كانت نهايتها كما تنتهي كل‬
‫فكرة باالنتحار الداخلي وتتحول إلى طائفة (‪)Cult‬تعيش في ذاكرة‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫إن تاريخنا مليء بالفظاعات والدماء وثقافة االضطهاد ونشوء الحركات‬
‫السرية المسلحة ولم تكن فرق (الحشاشة) الوحيدة فقد سبقها للقتل‬
‫المنظم المروع جماعة (الخوارج) في ظاهرة تحتاج أن توضع للتشريح‬
‫التاريخي هذه األيام والعالم اإلسالمي يعاد بناؤه بعد أحداث سبتمبر‪.‬‬
‫إن قراءة التاريخ مفيدة جدا وهي تعطي وعيًا خاصًا بالدراسة المقارنة‬
‫وحقًال خصبًا لفهم اإلنسان وتنشؤ المجتمع وأمراض الثقافة‪.‬‬
‫إن كل حدث هو في عالقة جدلية بين الماضي والحاضر فهو نتيجة لما‬
‫كان قبله كما هو سبب لما سيأتي بعده‪ .‬وهذا القانون في جدلية األحداث‬
‫وترابطها تجعلنا نستوعب أمراض مجتمعاتنا الحالية أنها تركة ثقيلة من‬
‫أيام الحشاشين والخوارج‪ .‬وعندما وقعت مذبحة حماة عام ‪1982‬م فقتل‬
‫فيها عشرين ألفا أو يزيدون فهي تدين إلى ذلك التاريخ من الكراهية‬
‫العميقة المتبادلة بين الطوائف منذ أيام الحشاشين‪ .‬وفي الوقت الذي‬
‫استطاع صالح الدين استيعاب الحشاشين وتوظيفهم للهدف األسمى‬

‫‪142‬‬
‫بتحرير المنطقة من الصليبيين غصنا نحن في مستنقع دموي حتى‬
‫الذقون‪.‬‬
‫وهناك من يظن أن (الحشاشين) أصبحوا في ذمة التاريخ وأن (الخوارج)‬
‫أصبحوا في بطون الكتب‪ .‬ولكن حركات اإلسالم السياسي أحيت مذهب‬
‫الخوارج تحت كلمة الجهاد بدون جهاد‪ .‬واليوم تنتعش عظام (أبي حمزة‬
‫الخارجي) في قبره فقد أحيا شباب الجزائر وأفغانستان ومناطق شتى من‬
‫العالم اإلسالمي مذهبه بكل قوة‪ .‬كما أن الحشاشين استبدلوا قلعة‬
‫(آالموت) في جبال مازندان بجبال خوست ‪ .‬والتاريخ كما يقول (نيشته)‬
‫يحكمه قانون العود األبدي‪.‬‬
‫في عام ‪ 1070‬م اجتمع ثالثة من العباقرة في جامعة (نيسابور) ضمتهم‬
‫غرفة واحدة فيها يأكلون وينامون ويتدارسون هم (عمر الخيام) و( نظام‬
‫الملك) و( الحسن الصباح)‪ .‬وكان الثالث أشدهم دهاًء ‪ .‬وفي يوم قال‬
‫الحسن الصباح لرفيقيه‪ :‬يا شباب يبدو أننا في طريقنا للوزارة فماذا‬
‫تقولون أن نتفق أن من وقعت في حضنه تفاحة السلطة أذاق رفيقيه شيئًا‬
‫من حالوتها‪ .‬قال اآلخران اتفقنا‪ .‬وكان اتفاقا ترتبت عليه لعنة للمنطقة‪.‬‬
‫وتقول لنا األيام أن مصير الثالثة كان متباينًا فأما (نظام الملك) فقد قفز‬
‫إلى كرسي الوزارة عند مغامر قفز بالحصان العسكري على رقبة الخليفة‬
‫العباسي وأمسك بالحكم هو السلجوقي (ألب أرسالن)‪ .‬وأما (عمر الخيام)‬
‫فقد انصرف لشعره وخمره وفلسفته العدمية التي أطبقت عليه من ظلمات‬
‫الوضع العربي في تلك األيام‪ .‬بعد أن أًم ن على معيشته بـ ‪ 600‬دينار‬
‫شهري خصصها له القصر الملكي‪ .‬أما الثالث (حسن الصباح) فكان‬
‫طموحه غير محدود‪ .‬وحاول منافسة زميله (نظام الملك) على كرسي‬
‫الوزارة فاحتدم صراع مصيري بين الرجلين كاد الصباح أن يدفع عنقه‬
‫ثمنا له ففر لينشيء تنظيما فوالذيًا سريا بعد اتصاله باإلسماعيليين‬
‫والتدرب على أيديهم‪ .‬واستطاع الوصول إلى شيخ الجبل وهو (عبد هللا بن‬
‫عطاش) الذي أعطاه أسرار الجماعة وأموال اإلسماعيلية‪ .‬وقام بعدها‬
‫بتطوير العمل على نحو عبقري‪ ،‬حيث رأى أن العمل السري المسلح ال‬
‫يحتاج لجيوش كثيرة بل عناصر قليلة حسنة التدريب شديدة الوالء إلى حد‬
‫العبادة وبتنظيم خاص غير قابل لالختراق ينتشر مثل انتشار السرطان‪.‬‬
‫وبعدد محدود من صغار الشبان الذين يتم غسل أدمغتهم بالتعصب‬
‫والحشيش‪ .‬وكان الرجل قد اكتشف مادة (الحشيش) في مصر فرأى فيها‬
‫فرصة ممتازة للشباب حيث يتم سقيهم بالحشيش حتى الخدر اللذيذ ثم‬
‫إدخالهم عالمًا خاصًا يذكر بالجنة من األنهار والفاكهة والحور العين‬

‫‪143‬‬
‫يطوف عليهم الغلمان كأنهم لؤلؤ مكنون‪ .‬فإذا استيقظوا أوكلت لهم‬
‫المهمات االنتحارية‪ .‬وكانت عناصر (التنظيم) على ثالث طبقات (الدعاة)‬
‫وهم القادة الحزبيين‪ .‬ثم طبقة (الرفاق) وهم المشرفون على تنفيذ‬
‫االغتياالت وفي القاعدة القذائف االنتحارية (الفدائيون) من الشباب‬
‫المدربين على الموت في سبيل شيخ الجبل‪ .‬وعندما حاصر (ملكشاه)‬
‫السلجوقي أحد قالع اإلسماعيلين أرسل الحسن الصباح مجموعة من‬
‫الفدائيين أغمدت الخنجر في صدر صديق األمس نظام الملك‪ .‬ودشنت هذه‬
‫الجريمة كما يقول القلعجي "عهدًا جديدًا في تاريخ الشعوب اإلسالمية ظل‬
‫االغتيال فيه سالحًا سياسيًا طوال مائة عام‪ .‬وبقي الحسن بن الصباح أكثر‬
‫من عشرين سنة في حصنه (آالموت ) عش النسر "ينظم الدعوة ويؤلف‬
‫الكتب ويدرب الجيوش ويعلم الشبان ويحيك المؤامرات ويرسل الفدائيين‬
‫لقتل األمراء والوزراء والحكام من خصوم اإلسماعيليين بالخنجر‬
‫المسموم"‪ .‬ومات عام ‪ 1124‬وخلفه (كيابزرد حميد) وعندما تعرضوا‬
‫لالضطهاد في إيران لجأوا إلى سوريا فأنشأوا تنظيما أشد ترويعا وإرهابا‪.‬‬
‫على يد شيخ الجبل الثالث سنان في قلعة مصياف‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫فولتير‬
‫وفلسفة التعبير‬
‫في عام ‪ 1761‬م كان الفيلسوف الفرنسي (فولتير) ملتجئًا إلى مدينة (فيرني) السويســرية‪ ،‬بعــد‬
‫أن نجا بجلده من الملك فردريك األلماني‪ ،‬ومنعه الملك الفرنسي من دخول األراضــي الفرنســية‪.‬‬
‫وحتى يكون بمنأى من بطش االثنين فقد استراح هنــاك؛ فــإن طاردتــه االســتخبارات البرويســية‬
‫هرب إلى فرنسا‪ ،‬وإن طالته الجواسيس الفرنسية هرب إلى ألمانيا‪.‬‬
‫وكان في مدينة (تولوز) الفرنسية القريبة رجل يدعى (جان كــاالس) بروتســتانتي المــذهب ولــه‬
‫بنت اعتنقت الكثلكة‪ .‬وفي يوم شنق ابنه نفسه بسبب اإلحباط في سوق العمل‪ .‬وكان رجال الدين‬
‫الكاثوليك يتمتعون بسلطة مطلقة في المدينـة‪ ،‬وال يسـمح ألي بروتسـتانتي في تولـوز أن يكـون‬
‫محاميًا أو طبيبًا صيدليا أو بقاًال أو بائع كتب أو طّباعًا‪ .‬وُم ِنع الكاثوليك من استخدام أي خادم أو‬
‫كاتب بروتســتانتي‪ .‬وفي يــوم ُح ِكم على امــرأة بغرامــة قــدرها ثالثــة آالف فرنــك ألنهــا اســتعانت‬
‫بقابلة بروتستانتية‪ .‬ما يعادل الشيعة للسنة عندنا أو بالعكس‪.‬‬
‫ويقول (ويل ديورانت) صاحب كتاب (قصــة الفلســفة) أن القــوانين كــانت تقضــي في تلــك األيــام‬
‫"بأن يوضع جثمان المنتحر منكسًا عاريًا على حاجز من العيدان المشبكة ووجهــه إلى األســفل‬
‫ويسحب بهذه الطريقة عبر الشوارع وبعدئذ يعلق على المشنقة"؟‬
‫ولكي يتجنب المدعو (كاالس) هذه الفضيحة فقد حاول بكل سبيل ممكن أن يخــرج بوثيقــة تقــول‬
‫أن ابنه مات ميتة طبيعية‪ .‬ولكن إشاعة رهيبة انتشرت في البلد تقــول إن الولــد لم يشــنق نفســه‬
‫بل إن جان كاالس قتل ابنه حتى يحول بينه وبين اعتناقــه الكاثوليكيــة كمــا فعلت أختــه من قبــل‪.‬‬
‫فألقي القبض على الرجل وبدأوا في تعذيبه حتى مات‪ .‬وهربت عائلته إلى فيرني لتقص الفاجعــة‬
‫على فولتير‪ .‬ومن منفاه أطلق الرجل صيحته المعروفة" "اسحقوا العار"‪.‬‬
‫لعل فولتير من القالئل الذين قضوا حياتهم في المنفى من أجل أفكــارهم وكتب ‪ 99‬كتاب ـًا وعــاش‬
‫حتى سن ‪ 83‬وسجن في الباستيل مرتين وضربه األوغاد بتوصية جيدة من النبيل (دي روهان)‬
‫أن يشبعوه ضربًا دون رأسه فقد يخرج منه يوما شيئا عظيمًا؟‬
‫وهرب إلى بريطانيا خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين‪.‬‬
‫وهو أول من اعتبر أن التــاريخ ليس ســير الحــروب والملــوك بــل مغــامرات العقــل‪ ،‬وأن تاريخــا‬
‫تسحب منه الفلسفة والفن ال يبق من شيء يسمى تاريخا‪ .‬وأن التاريخ لن يقــف على قدميــه مــا‬
‫لم نبعد عنه الالهوت‪.‬‬
‫وهو نفس المسار الذي سلكه ابن خلدون من قبل‪ .‬ولم يرجع إلى باريس الـتي ولـد فيهـا إال قبـل‬
‫موته بقليل‪ ،‬وعندما جاءه القس ليسمع اعترافــه ســأله فولتــير عمن أرســله فقــال‪ :‬هللا ؟ فســأله‬
‫فولتير أن يقدم أوراق اعتماده من هللا فولى ولم يعقب؟‬
‫وعند لحظة الموت جاءه قس ثاني رفض تقـديم الغفـران لـه مـا لم يوقـع على اعترافـه وإيمانـه‬
‫الكاثوليكي إيمانا راسخًا فطرده وسجل الكلمات التالية" أموت على عبادة هللا ومحبــة أصــدقائي‬
‫وكراهية أعدائي ومقــتي للخرافــات واألســاطير الدخيلــة على الــدين" ووقــع هــذا البيــان في ‪28‬‬
‫فبراير من عام ‪1778‬م‪.‬‬
‫إن العصر الذي عاش فيه (فولتير) كان يسجل تباينًا في الحريات على طرفي بحــر المــانش وفي‬
‫فترة السنوات الثالث التي قضاها هناك الحظ الفرق فوصف بريطانيا "بأن فيها شــعب لــه آراؤه‬
‫الخاصة وحريته المميزة‪ .‬شعب أصلح دينه وشنق مليكه وأنشـأ برلمانـًا أقـوى من أي حـاكم في‬

‫‪145‬‬
‫أوربا وال وجود فيه للباستيل وفيه ثالثون مذهبا دينيا بدون قس واحد"‪ .‬وأعجب جــدا بالحركــة‬
‫الدينية السالمية الكويكرز‪ .‬وفي رسالة نشرها فولتير عن (أسئلة زاباتــا) وكــان المــدعو راهبـًا‬
‫سمح لعقله بمناقشة المسلمات فقال عندما يختلـف مجلسـان فيلعن أحـدهما اآلخـر فمن نصـدق؟‬
‫وعندما فشــل في الحصــول على جــواب بســيط بــدأ الرجــل يــدعو إلى هللا على نحــو بســيط فكــان‬
‫جزاؤه أن أحرق حيا عام ‪1631‬م‪.‬‬
‫ومنه اعتبر فولتير أن "أن أول كــاهن كــان أول محتــال قابــل أول أحمــق" وعنــدما وقــع زلــزال‬
‫لشبونة فانهدمت الكنائس على رؤوس الناس فمات في ســاعتين ثالثــون ألف ـًا من النــاس ســخر‬
‫من التفسيرات التي قدمت بأنها انتقاما من هللا ضد الكاثوليك‪ .‬وظهر صدق كالمــه حينمــا ضــرب‬
‫الزلزال الجامع المنصور في طنجة في المغرب وأكمل طريقه إلى حافة االطلنطي األخــرى فهــدم‬
‫مدينة بوسطن بزلزال أشد على رؤوس البوريتانيين‪ .‬في الوقت الذي كـان النـاس في المـراقص‬
‫في باريس يلعبون‪.‬‬
‫وعندما اندلعت حرب السنوات السـبع بعـد زلـزال لشـبونة صـب فولتـير كـل جهـده ضـد الحـرب‬
‫ووصفها بأنها " أم الجرائم وأعظم الشرور وكل دولة تحاول إلباس جريمتهــا ثــوب العدالــة‪ .‬إن‬
‫القتل حرام وجميع أنواع القتل يعاقب عليها القانون زمن السلم‪ .‬أما إذا نفخ في الصــور وأعلنت‬
‫الحرب فيصبح القتل باأللوف مباحًا"‪ .‬وهــو يقــول في ختــام مقــال لــه عن اإلنســان في قاموســه‬
‫الفلسفي"يحتاج اإلنسان إلى عشرين سنة كي يبلغ أشده منذ كان جنينا في بطن أمه فحيوانًا في‬
‫طفولته وشابًا حين نضوج عقلـه‪ ،‬وثالثـة آالف ســنة ليكشــف القليــل عن جنســه‪ ،‬واألبــد إلى أن‬
‫يعرف شيئًا عن نفسه‪ .‬ولكن دقيقة واحدة تكفي لقتله"‬
‫والــذي يجعلــني أنفض الغبــار عن التــاريخ لنســتعيد ذكــرى رجــل قضــى حياتــه من أجــل (حريــة‬
‫التعبير) وأطلق شعاره المعــروف "إنــني مســتعد أن أمــوت من اجــل أن أدعـك تتكلم بحريــة مــع‬
‫مخالفتي الكاملة لما تقول‪ ،‬ولكن السؤال من سيعطي الحريات؟ ولمن؟ وما هي الحريات؟‬
‫ولفك هذه اإلشكالية يجب إحياء مبدأ فولتير الثالثي الذي يعد إنجازًا هائًال في تاريخ اإلنسان‬
‫والرأي‪ .‬وهو مكون من ثالث فقرات‪:‬‬
‫ـ تقول األولى أن المسألة ال تدور حول الصواب والخطأ ألن هذا محتم لكل واحد منا‪.‬‬
‫ـ وفولتير حينما يطلق حرية التعبير بدون حدود يخلق مناخ الحوار الذي يعدل الخطأ وينضج‬
‫الصواب‪.‬‬
‫ـ وفي الفقرة الثالثة منه يقول فولتير أنه سيدافع عن رأي اآلخر حتى لو كان خطأ محضًا ليس‬
‫دفاعًا عن الخطأ بل دفاعًا عن التعبير‪ ،‬ألن الخطأ يحق له أن يعيش‪ .‬فهذا الذي أطلقه فولتير في‬
‫أوربا كان له أثر هائل في نشوء حق التعبير واالجتماع عليه والتظاهر سلميًا‪.‬‬
‫وهذا يوصلنا إلى حل إشكالية كبيرة وهي أن حق التعبير مرتبط بواجب التعبير‪ .‬فما هو حق‬
‫لطرف واجب على الطرف المقابل‪ .‬وإذا كان الحاكم يمنع الناس من التعبير والتظاهر فألنهم‬
‫يمنعونه من الوجود‪ .‬وهناك من يتمنى موت حاكم عربي ولكنه ينسى في غمرة هذه الشهوة أن‬
‫تمني الموت لآلخر هو في الواقع تمني الموت لنفسه‪ ،‬ألن مشكلة األمة ليست معلقة بموت‬
‫وحياة وفرد وعندما نتمنى الموت لآلخرين تنقل عدواها إلينا فنموت نحن أيضًا‪.‬‬
‫وعندما ينتخب الحاكم مائة بالمائة فإنه يعني أن األمة أصبحت صفرا بالمائة‪ .‬وعلى هذه‬
‫المقدار تنكمش األمة فمن ينتخب ‪ %99‬فهو يعني أن األمة أصبحت واحد بالمائة‪ .‬وعندما‬
‫تعلق صور الزعماء إلى الدرجة المقززة فهو يعني أن الزعيم التهم األمة‪ .‬وهي تنتظر دورها‬
‫اللتهامه‪ .‬وذرية بعضها من بعض‪ .‬وثقافة مريضة تعيد إنتاج نفسها‪ .‬وتبقى المسألة ترواح في‬
‫مكانها بين محتار وغاضب ويائس وحاقد ‪ .‬كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫الفيلسوف غرامشي‬
‫والهيمنة الثقافية‬
‫قضى الفيلسوف اإليطالي أنتونيو غرامشي (‪ )Antonio Gramsci‬الذي عاش قليال ‪ 38‬سنة‬
‫(‪ )1937 -1891‬معظم حياته في سجون الفاشية‪ .‬ولكنه ترك إرثًا ثقافيا ما زال الجدل يدور‬
‫حوله‪ .‬وكانت فكرته الرئيسية تدور حول هيمنة الثقافة‪ .‬والثقافة عديدة المراكز ومنوعة‬
‫التأثيرات بدء من المدرسة ومرورا بالمؤسسة الدينية وانتهاء بدوائر المال واإلعالم‪ .‬ولم‬
‫يعرفه الناس إال بعد موته بربع قرن عام ‪ 1960‬أما أعماله الفكرية فلم تطبع إال عام ‪1975‬م‪.‬‬
‫واعتقد الرجل بالوحدة العضوية للحياة االجتماعية وخرافة الحتمية االقتصادية‪ .‬وكان يقول إن‬
‫الفعالية التاريخية تدور حول فكرة واحدة هي الهيمنة‪ .‬والهيمنة شيء مختلف عن السيطرة‪.‬‬
‫ويذكر الفيلسوف البريطاني أن الطاقة هي القوة المركزية في الفيزياء‪ .‬وأن السلطان هو القوة‬
‫المركزية في المجتمع‪ .‬ويتخذ صورا شتى ويمكن أن يتحول من شكل آلخر كما في طاقة‬
‫الكهرباء‪ .‬التي قد تنقلب إلى الطاقة الحركية أو الحرارة والبرودة فيعمل البراد و تشع الحرارة‪.‬‬
‫وفي القرآن عرض لمظهرين للقوة هما المال والنفوذ "ما أغنى عني ماليه هلك عني‬
‫سلطانيه"‪ .‬وهنا يتفق غرامشي ويختلف عن راسل‪ ,‬فهو يرى أن القوة المركزية في المجتمع‬
‫هي قوة الثقافة أكثر من السلطة‪ .‬ويقرأ القاريء أفكارنا ممزقة في كثير من األحيان‪ .‬ويعلم‬
‫الرقيب أنه إن لم يقطع قطع رزقه‪ .‬وأوربا تعذبت كثيرا حتى استطاعت أن تتحرر من سطوة‬
‫المؤسسة الدينية‪ .‬وهذه المؤسسة عصب غليظ يمتد في كل جسم األمة‪ .‬وسبب قوة تأثيرها أن‬
‫الواعظ أو القديس أو الكاردينال والبابا والمفتي حينما يقول فهو ينقل عن الرب‪ .‬وهل هناك من‬
‫أحمق أو مجنون مستعد لمواجهة الرب شخصيا‪ .‬ولذا كانت المؤسسة الدينية على امتداد‬
‫التاريخ في حالة تفاهم مع السلطة السياسية فكل يغذي اآلخر ويحافظ عليه‪ .‬ويرى (غرامشي)‬
‫أن الطبقة الحاكمة تنظم وتدير المجتمع من خالل هذه القوة الثقافية التي تحسن التعامل معها‪.‬‬
‫وفي يوم عوقب غاليلو أشد العقاب وهو الشيخ المسن ليس ألنه خالف الكتاب المقدس ولكن‬
‫لتفسيرات قال بها رجال الكنيسة‪ .‬وفي الوقت الذي تتحول تفسيرات الناس إلى نصوص منزلة‬
‫تصبح اللعبة خطيرة‪ .‬وهناك من التفسيرات والتقاليد ما تصبح بقوة أعظم نص نزل من السماء‬
‫وهو لم ينزل من السماء بل قال به الناس وهي أشياء كثيرة‪ .‬ولكن ال أحد يتجرأ فيلمس‬
‫الموضوع وإال احترق غير مأسوف عليه‪ .‬كما حصل مع الثعلب والبومة حينما اعتبر حيوانات‬
‫الغابة أن البومة سيدة الحكماء وأنها إلهة ألنها ترى في الليل فقال ثعلب ولكن هل ترى في‬
‫النهار مثل الليل فقالوا له أيها الفاسق وهل يسأل أحد مثل هذا ثم إن أهل الغابة نصبوها زعيما‬
‫مدى الحياة وبدأوا بالهتاف بحياتها وهي تمشي بهم وال تبصر حتى قادتهم إلى حتفهم‪.‬‬
‫والتفسيرات البشرية عندما تقود إلى الكوارث يجب إعادة النظر فيها‪ .‬والنتيجة التي خرج بها‬
‫غرامشي أن الفرد ليس أمامه إال الرقص في المربع البورجوازي‪ .‬وأن الطبقة المسيطرة القائدة‬
‫تحاول إقناع بقية الطبقات بقيمها الفكرية‪ .‬وهو بهذا مهد الطريق لدور الثقافة كقيمة مركزية‬
‫في تحليل اللحظة التاريخية واألشياء التي تم تجاهلها سابقا من دور المفكرين والذكاء‬
‫والشعور العام والثقافة الشعبية أعاد إحياؤها بل وتسريب فكرة الفردية من جديد إلى عمل‬
‫التاريخ‪ .‬فهذا هو الواقع وهكذا تعمل قوانينه ويجب فهمه والتعامل معه بموجب قوانينه‬
‫الموضوعية‪ .‬وهللا يعلم وأنتم ال تعلمون‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫جان لوك‬
‫ورسالته في التسامح الديني‬
‫في عام ‪ 1649‬م طار رأس الملك (تشارلز األول)‪ ،‬وولدت الجمهورية في بريطانيا‬
‫على يد كرومويل‪.‬‬
‫وكان أهم شيء فعله العسكري كرومويل هو شق الطريق إلى (التسامح الديني)‪.‬‬
‫وإذا كانت عظام كرومويل قد أصبحت في المزبلة‪ ،‬بعد نبشها على يد تشارلز‬
‫الثاني‪ ،‬ولكن بريطانيا لم تعد قط لعصر الحكم المطلق‪.‬‬
‫وهذا يقول أن العالم العربي يعيش سياسيا عام ‪ 1649‬ميالدية!‬
‫والفضل في عمل كرومويل يعود إلى فيلسوف مشهور هو (جون لوك)‪ ،‬هرب إلى‬
‫هولندا في جو (التعصب الديني)‪.‬‬
‫ويقول عنه المؤرخ (ويل ديورانت) إنه عندما رجع في والية وليم الثالث عام‬
‫‪1689‬م إلى بريطانيا‪ ،‬وكان يناهز الستين‪ ،‬إال أنه وفي سنة واحدة دفع للطباعة‬
‫ثالث كتاب‪ ،‬جعلت منه أحد نجوم الفكر في التاريخ‪.‬‬
‫كان األول بعنوان ( بحثان عن الحكومة) رفض فيه الحق اإللهي للملوك‪ ،‬وقال‬
‫بنظرية فصل السلطات‪ ،‬وأرسى فيها قواعد الديموقراطية السياسية‪.‬‬
‫واآلخران هما‪(:‬رسالة عن التسامح الديني) و(مقال في الفهم اإلنساني)‪.‬‬
‫وكما حَّلل صديقه (نيوتن) الضوء‪ ،‬فقد قام لوك بتحليل النفس اإلنسانية والعمل‬
‫السياسي‪.‬‬
‫ويقول لوك عن (التسامح الديني)‪ :‬أنه يجب أن ينتقل من التسامح بين أبناء الدين‬
‫الواحد‪ ،‬إلى التسامح بين أبناء الديانات المختلفة‪ ،‬فأين آذان الشيعة والسنة لسماع‬
‫مثل هذا الكالم؟‬
‫قال الرجل‪ " :‬يجب أن ال نستبعد إنسانًا أيا كان عمله أو وظيفته ألنه وثني أو مسلم‬
‫أو يهودي"‪.‬‬
‫وأثرت أفكار (جان لوك) في تفجير الثورة الفرنسية و"إعالن حقوق اإلنسان"؛ بل‬
‫وإلى أمريكا الجنوبية فقد تأثر (سيمون بوليفار) بفكره‪ ،‬وحرر خمس دول من‬
‫االستعمار األسباني؛ هي كولومبيا وفنزويال واألكوادور وبوليفيا وبيرو بين عامي‬
‫‪ 1819‬و‪ 1825‬م‪.‬‬
‫وهكذا ترك لوك آثاره على جو التنوير والتسامح الديني في أوربا؛ فأخرج‬
‫(إيمانويل كانط) كتابه (نحو السالم الدائم) وظهر (ايرازموس) بالنزعة اإلنسانية‬
‫من روتردام‪.‬‬
‫إن أكبر نكبة تحيق بالفكر هي التشدد‪ ،‬ألنه يعمل ضد قوانين الطبيعة التي تقوم على‬
‫التوازن؛ فالكون ركب على العدل الذي هو قمة التوازن؛ فزيادة البوتاسيوم أو‬
‫نقصه في الدم‪ ،‬يقود إلى توقف القلب باالسترخاء أو االنقباض‪.‬‬
‫وزيادة النحاس في الجسم يقود إلى تشمع الكبد بمرض ويلسون‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫والكهرباء جيدة عندما ترفع الناس في المصاعد‪ ،‬ولكنها قاتلة إذا نزلت من السماء‬
‫على شكل صاعقة‪.‬‬
‫وأفضل حالة للطاقة هي االعتدال‪ ،‬والماء جيد إذا حبس خلف السد‪ ،‬وهو مدمر إذا‬
‫جاء على شكل الطوفان‪.‬‬
‫وعضالت الجسم فسيولوجيا هي في حالة توتر بين االنقباض واالنبساط‪.‬‬
‫وال يولد الطفل من رحم أمه بدون التقلص واالرتخاء‪.‬‬
‫والخوف من العقارب والمخابرات ضروري للحفاظ على الحياة‪ ،‬ولكن زيادتها تدفع‬
‫صاحبها إلى الرهاب والجنون‪.‬‬
‫والفلسفة الصينية تقوم على مبدأ تبادل السلبية واإليجابية‪ ،‬ويسمونها الين واليانغ‪.‬‬
‫وأفضل شيء في المجتمع هو العدل‪.‬‬
‫وخير حالة تعيشها النفس هي الصحة النفسية بتوازن الغرائز‪.‬‬
‫والوسط الذهبي لكل فضيلة هو وسط بين رذيلتين؛ فالشجاعة وسط بين الخوف‬
‫والتهور‪ .‬والكرم رائع إذا جاء بين حدي البخل واإلسراف‪.‬‬
‫ومبدأ الثنائية خطأ فليست األمور أسودا أو أبيضا‪ ،‬ومنها تعاملنا مع إسرائيل بين‬
‫حدي االستحالة والسهولة؛ فإما أنها دويلة العصابات أو أنها التنين النووي؟‬
‫وال يخرج (التدين) عن هذا القانون‪ ،‬والتشدد هو ضد قوانين الحياة‪ ،‬ويدمر نفسه‬
‫ومن حوله‪.‬‬
‫والفكر اإلسالمي المعاصر ابتلي بهذه الوباء؛ فهو ينتشر ويضرب األدمغة مثل‬
‫الحمى السحائية‪.‬‬
‫والتدين يشبه الملح في الطعام‪ ،‬وبدون التدين في الحياة تنقلب الحياة إلى عبث ال‬
‫معنى لها‪ ،‬وبقدر حاجة البدن الضرورية للملح بقدر تسممه إذا زادت الجرعة‪ .‬فهذه‬
‫هي جدلية التدين والتعصب‪.‬‬
‫إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة أعطى للحياة معنى‪ ،‬ونشر الرحمة والحب والسالم‪.‬‬
‫وإذا زادت الجرعة انقلب الوعي إلى تعصب ال يرحم‪.‬‬
‫وهذا كان مغزى رسالة لوك في التسامح الديني‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫فيلسوف التشاؤم مالتوس‬
‫عندما كان (نابليون بونابرت) ينزل ضربته بالمماليك عند سفح الهرم‪ ،‬عام ‪1798‬م ظهر في‬
‫نفس العام بحث بسيط‪ ،‬لقس مغمور في بريطانيا‪ ،‬اسمه (توماس مالتوس ‪ 1766‬ـ ‪) 1834‬‬
‫بعنوان بريء (مقالة في تزايد السكان وأثر ذلك على مستقبل نمو المجتمع)‪ ،‬وعندما بدأ الناس‬
‫يتناقلون هذه المقالة أصيبوا بالذعر‪ ،‬وأحدثت ضجة كبيرة بين الناس؛ فهي ذكرت أن تكاثر‬
‫السكان يمشي وفق سلسة هندسية أي ‪ 2‬ـ ‪ 4‬ـ ‪ 8‬ـ ‪ 16‬ـ ‪ 32‬ـ ‪ 64‬وهكذا‪ ،‬في مقابل أن زيادة‬
‫الغذاء يمشي وفق سلسلة عددية أي ‪ 1‬ـ ‪ 2‬ـ ‪ 3‬ـ ‪ 4‬ـ ‪ 5‬ـ ‪ 6‬وهكذا ففي الوقت الذي يصل عدد‬
‫الناس الى ‪ 64‬لن يوجد من الطعام اال ما يكفي ستة أشخاص؟!!‬
‫وهو بكلمة ثانية إنذار بالمجاعة‪...‬‬
‫وصف مالتوس الوضع أنه خطير‪ ،‬والبد من ضبط النسل‪ ،‬إذا أردنا تفادي المجاعة‪ ،‬وذهب‬
‫آخرون ممن تحمسوا آلرائه الى نشر منع الحمل‪ ،‬ولم تكن مانعات الحمل الكيمياوية متوفرة في‬
‫األسواق يومها؛ فهي لم تعرف حتى ستينات القرن المنصرم‪.‬‬
‫وممن عاصر مالتوس اقتصادي إنكليزي مشهور هو (دافيد ريكاردو)‪ ،‬الذي تأثر بآراء‬
‫مالتوس‪ ،‬وطرح فكرته حول (القانون الحديدي لألجور) الذي ينص على أن زيادة العمال‬
‫يرخص الأجور‪ ،‬الى الحد الذي يطعمهم ويسقيهم؛ فهذا هو الثمن الطبيعي للعمل‪.‬‬
‫كل من داروين وكارل ماركس‪ ،‬األول في نظريته حول االنتخاب‬ ‫كذلك تأثر من مالتوس ٌ‬
‫الطبيعي‪ ،‬والثاني في االقتصاد‪ ،‬الذي صاغ قانونه حول فائض القيمة‪ ،‬أي أن العامل يأخذ من‬
‫األجر ما يناسب عمله‪ ،‬ولكن الرأسمالي هو المفسد المستغل‪ ،‬الذي يضيف فوق السلعة ما يشاء‬
‫من ربح‪ ،‬فيدخله في جيبه وينتفخ‪ ،‬ويبقى جيب العامل المنتج ضامرا شاحبا‪ ،‬فيزداد الفقراء‬
‫فقرا‪ ،‬واألغنياء غنى‪ ،‬وينفلق المجتمع إلى شرائح مستضعفة ومستكبرة‪ ،‬وهذا هو السبب أن‬
‫الشيوعيين نادوا بتأميم ملكية وسائل اإلنتاج‪ ،‬ألنها مصدر سرقة العامل الفقير المسكين‪ ،‬وهو‬
‫كالم جيد لو طبقه الشيوعيون‪ ،‬ونهاية الشيوعية جاءت من إكراه اإلنسان‪.‬‬
‫وصديقنا مالتوس أحدث ضجة مروعة‪ ،‬تركت بصماتها على الفكر االقتصادي السياسي حتى‬
‫اليوم‪ ،‬ثم جاءت المفاجآت من حيث ال يحتسب‪ ،‬ومن طرفين‪ :‬فمن جهة صارت األمم المرفهة‬
‫مهددة باالنقراض‪ ،‬ومن جهة ازداد اإلنتاج‪ ،‬الى المقدار الذي كان التجار يحرقون المنتجات‪،‬‬
‫حرصًا على ثبات األسعار؟!‬
‫وهو أمر ذكره المفكر مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة‪.‬‬
‫مع هذا فقد ازداد النسل االنساني‪ ،‬بما ال يخطر على بال مالتوس‪ ،‬ولم تحصد الحروب‪ ،‬كما‬
‫اقترح البعض كطريقة لحد النسل‪ ،‬اال أرقامًا هزيلة أمام األرحام التي تدفع األجنة الى العالم؛‬
‫ونحن نعرف اليوم أنه مع كل شروق شمس يولد ‪ 270‬ألف انسان‪ ،‬ومع كل غروب شمس تبتلع‬
‫المقابر ‪ 140‬ألف انسان؛ فيزداد الجنس البشري مقدار ‪ 130‬ألفًا كل ‪ 24‬ساعة‪ ،‬وفي أيام‬
‫مالتوس كان عدد الجنس البشري حوالي المليار‪ ،‬ولكن الرقم قفز بعد ‪ 130‬سنة الى مليارين‪،‬‬
‫ليصبح عام ‪1960‬م ثالثة مليارات‪ ،‬ليقفز بعد ‪ 15‬سنة عام ‪ 1975‬م الى أربعة مليارات‪ ،‬لندخل‬
‫القرن ‪ 21‬بأكثر من ستة مليارات‪.‬‬
‫وهذا يفيد في أمرين‪ :‬أن الواقع يعمل بطريقته الخاصة‪ ،‬وأن مالتوس كان قصير النظر من‬
‫الكاذبين‪ ،‬وان الزبد يذهب جفاء‪ ،‬وما ينفع الناس يمكث في األرض ‪ ،‬وماتت الشيوعية والنازية‬
‫والبعثية والقومية والفاشية‪ .‬ومضى مثل األولين‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫الفيلسوف كافكا‬
‫عاش (كافكا) في براغ في جو مشحون بالكراهية‪ ،‬حيث اختلفت األعراق واألديان‪،‬‬
‫فكان كل عرق يحتقر العرق اآلخر‪ ،‬وال يثق به‪ ،‬ويكرهه‪ ،‬ويخاف منه‪ ،‬كما ذكرت‬
‫ذلك المتخصصة في الجرمانيات (ايرمجارد فاجنر ) وكان هذا الجو الذي سبق‬
‫الحرب العالمية األولى‪ ،‬عندما وقف اليهود وبشكل عجيب إلى الجانب األلماني‪ ،‬ولم‬
‫يكن يخطر في بالهم‪ ،‬أن النازية سوف تعشش وتفرخ في أحضان األلمان‪ .‬وصدر‬
‫كتاب كافكا التحول قبل الحرب العالمية األولى بفترة قصيرة‪.‬‬
‫ومن أجل البقاء فقد حرص والد كافكا‪ ،‬على تدريس أفراد عائلته كل شيء باللغة‬
‫األلمانية‪ ،‬بدل التشيكية خوف االضطهاد‪ ،‬الذي رآه كافكا عيانًا‪ ،‬حرقا للكتب في‬
‫الساحات العامة‪ ،‬ما يذكر بذلك الهوس من محاكم تفتيش العصور الوسطى‪،‬‬
‫ومطاردة الساحرات‪ ،‬وحرق القطط والكالب‪ ،‬ومعالجة السعال الديكي بلبن الحمير‪،‬‬
‫وطرد الطاعون بجلد الناس أنفسهم في البراري‪ ،‬أو الدعاء من أجل تبدل مزاج‬
‫المريخ‪.‬‬
‫أما في المستوى الشخصي فكان كافكا حساسا جدا لألصوات العالية والجنس الذي‬
‫كان يسميه مرض الغرائز‪ .‬مع هذا فقد أحب ميلينا سينسكا‪ ،‬التي منحته الحب‬
‫الحقيقي‪ ،‬وبكل أسف كانت متزوجة‪ ،‬وهكذا تعيش الكثير من النساء‪ ،‬في طالق‬
‫صامت‪ ،‬فتحب بدون زواج‪ ،‬وتتزوج بدون حب‪ ،‬كان ذلك في الكتاب مسطورا‪.‬‬
‫وكان مصيرها الموت في معسكرات االعتقال‪ ،‬وكذلك كان مصير أخواته الثالث في‬
‫محارق النازية‪.‬‬
‫أما هو فبعد أن استهلكته األفكار التي كان يصفها‪ ":‬نحن بحاجة إلى كتب تحزننا‬
‫كثيرا‪ ،‬كموت شخص نحبه أكثر من أنفسنا‪ ،‬حتى يجسد الكتاب فصول البحر‬
‫المتجمد داخلنا" وهو الشعور الذي ما زال يستولي علي أنا شخصيا بعد خسارة‬
‫أعز إنسان علي زوجتي ليلى سعيد داعية الالعنف‪ .‬التي اقتلعت قلوبنا من صدورنا‬
‫بعد موتها فهي من منحتني كؤوس الحب دهاقا‪.‬‬
‫وبعد عام ‪ 1918‬حرمت كتب كافكا‪ ،‬سواء (التحول) أو (المحاكمة) حيث تسيطر‬
‫بيروقراطيات مخيفة على أقدار الناس‪ ،‬وتفصل األحكام على شهية المخابرات‪ ،‬كما‬
‫يحصل في األنظمة الثورية العربية الحالية‪ .‬وكانت الكتب تحرق ويسميها يومها‬
‫عمدة مدينة براغ إنها داللة طيبة على (الوعي الوطني)‪.‬‬
‫وفي أمريكا حصلت واقعة عجيبة من إصدار حكم باإلعدام على (كيرك بلودزورث)‬
‫بتهمة قتل (دون هاملتون) عام ‪1984‬م‪ ،‬وكانت كل من الشرطة و‪ 24‬محلفا ونائبان‬
‫عامان كلهم مخطيء‪ ،‬ولم ينقذ رقبته من اإلعدام بغرفة الغاز إال تطور فحص‬
‫الحامض النووي‪ ،‬والرجل حاليا يقود حملة في أمريكا إللغاء حكم اإلعدام‪ ،‬أما عندنا‬
‫فمازالت غرف اإلعدام شغالة‪ ،‬تعدم باسماء شتى‪ .‬افتراء على هللا‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫وفي ليلة خنق ‪ 19‬أخ للسلطان العثماني‪ ،‬بفتوى من مشيخة الديار العثماني‪ ،‬وبآية‬
‫قرآنية‪ ،‬بأن الفتنة أشد من القتل‪ ،‬فيقتل األخوة حتى ال تقع الفتنة‪ ،‬والقتل رأس كل‬
‫خطيئة وفتنة‪ ،‬وهي المدخل الوجودي ألول سؤال طرحته المالئكة عن معنى خلق‬
‫اإلنسان‪ ":‬أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟؟"‬
‫عالج كافكا ظروف االضطهاد بالفكاهة‪ ،‬واعتبر شارلي شابلن نموذجا جيدا في هذا‪،‬‬
‫عن اآللية والروتين‪ ،‬التي تقتل اإلبداع عند اإلنسان‪ ،‬واعتبرها نوعا من الكارتيه‬
‫النفسية من أجل البقاء‪.‬‬
‫بعد إصدار كتاب التحول بسنتين‪ ،‬بدأ كافكا يسعل ويبصق الدماء‪ ،‬فقد هبط على‬
‫صدره السل الرئوي‪ ،‬وانتقل في سبع سنين إلى العديد من المصحات بدون فائدة‪،‬‬
‫ومات بعمر األربعين‪ ،‬فقد كان يرى العالم بشفافية ووضوح هائلين‪ ،‬جعلته ال يتحمل‬
‫الحياة‪ ،‬فأجبره المرض على االستقالة من الحياة‪.‬‬
‫لم يعش كافكا ليرى األنظمة الشمولية من النازية والشيوعية‪ ،‬فقد أراحه السل من‬
‫هذا المنظر ووفر أوجاعه‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫ظروف والدة العبقريات‬
‫أو منهج الشك واليقين بين الغزالي وديكارت‬

‫في الظروف التاريخية الصعبة زمن الحروب الصــليبية بين انهيــار سياســي مطبــق‪،‬‬
‫وتفسخ أخالقي‪ ،‬وأعاصير فكرية مزمجرة‪ ،‬وقوى خارجية تحــاول االنقضــاض على‬
‫الفريسة‪ ،‬سواء الزحف الصليبي من الغرب‪ ،‬أو المغولي من الشرق‪ ،‬الــذي مهــد لــه‬
‫االضــعاف الصــليبي وليكــون أكــثر دمويــة وأفظــع تــدميرا‪ ،‬ولــدت عبقريــة اســالمية‬
‫مازالت تحظى بالدراســة واالهتمــام حــتى اليــوم‪ ،‬هــو (أبــو حامــد الغــزالي) ولم تكن‬
‫العبقرية الوحيدة المنفردة ففي عصر (سنجر) السلجوقي الــذي حكم ‪ 41‬ســنة وهــو‬
‫حفيد ألب أرسالن بطل معركة مالذكرد‪ ،‬ظهرت عبقريات شتى مثــل الزمخشــري في‬
‫التفسير‪ ،‬والطغرائي صاحب المية العرب‪ ،‬والحريــري صــاحب المقامــات‪ ،‬والشــاعر‬
‫فريد الدين العطار‪ ،‬وصاحب الرباعيات المشهور عمــر الخيــام‪ ،‬كــذلك ترجمــة كليلــة‬
‫ودمنة التي وضعها نصر هللا بن حميد‪ .‬وبالنسبة لصاحب كتاب (علوم إحياء الــدين)‬
‫فقــد كــانت صــدمته كبــيرة من هشاشــة وانهيــار أخالقيــة العــالم االســالمي وزلزلتــه‬
‫الفكرية؛ فاستنفر نفسه لمحاولة دراسة أبعاد األزمة‪ ،‬وهو نفس الشيء الذي تحدث‬
‫فيه المستشرق جب عنـدما كتب عن صـالح الـدين وأخالقيتـه المتمـيزة‪ ،‬أن الشـيء‬
‫الــذي يحتــاج العمــل فيــه على رأس قائمــة األولويــات هــو تــرميم أخالقيــات العــالم‬
‫االسالمي بمعــول السياســة‪ ،‬فقــد أدرك الرجــل أن الــتردي العقلي الخلقي هــو خلفيــة‬
‫كارثة االنهيار السياسي‪ ،‬ويبدو أن هناك جو خاص تتفجر فيــه العبقريــات‪ ،‬ففي جــو‬
‫التحــدي الــذهبي عنــد نقطــة التــوتر المالئم تولــد اإلمكانيــات الحبيســة؛ فتنبجس‬
‫العبقريــات ومعهــا الحلــول‪ .‬ولقــد قــام (بــتريم ســوروكين ‪ )SOROKIN‬بدراســة‬
‫(العالقــة) بين (روح) العصــر وبــزوغ (العبقريــات) ونوعيتهــا في دراســة قيمــة‬
‫بعنــوان(الــديناميات الثقافيــة واالجتماعيــة ‪SOCIAL AND CULTURAL‬‬
‫‪ )DYNAMICS‬في دراســة تغطي ‪ 2440‬عامــًا تبــدأ من عــام ‪ 540‬قبــل الميالد‬
‫حتى عام ‪ 1900‬م ليكتشف نوعًا من الحركــة البندوليــة في تــواتر ظهــور (نــوعين)‬
‫من أنماط المبدعين أو نظامين ايــديولوجيين كبــيرين‪ ،‬بين النــوع الحســي المــادي (‬
‫‪ ) SENSATE‬والمثـــالي التصـــوري ( ‪ ) IDEATIONAL‬حيث تتبـــادل القيم‬
‫قطبيتهـا أو حركتهـا ومحورهـا وتمركزهـا‪ ،‬بين نظـام (مـادي) زمـاني حتمي فـردي‬
‫نفعي‪ ،‬وبين آخــر ( مثــالي) أزلي الحتمي اجتمــاعي مــع أخالقيــات حب ‪ .‬إن دراســة‬
‫(سوروكين) التي عرضها الكاتب (دين كيث سايمنتون) في كتابه (العبقرية والقيادة‬
‫واإلبداع) الذي ترجم إلى العربية ونشر ضمن سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬والتي بذل فيها‬
‫جهدًا خارقًا من الدراسة التاريخيــة التشــكل نهائيــات في فهم عالقــة العصــر بــبزوغ‬
‫المبدعين ونوعيتهم‪ ،‬فالتاريخ عصي على كل تفسير نهائي‪ ،‬ولكن الشيء األكيــد أن‬
‫اإلمام الغزالي شكل تمردًا خاصـًا على طبيعــة العصــر الــذي ولــد فيــه‪ ،‬فقــد روع من‬
‫ظــاهرة االنهيــار السياســي والتحلــل الخلقي والزلــزة العقليــة في العــالم االســالمي‪،‬‬

‫‪153‬‬
‫فانزلق الى الشك الذي أطبق عليــه وحاصــره‪ ،‬الى درجــة أنــه كــاد أن يمــوت عنــدما‬
‫غلفت سحب الشك سماءه اعقلي فانعقل لســانه وتــوقفت شــهيته عن ذوق الطعــام‪،‬‬
‫وبذلوا له الطب ولكن األطباء قالوا بومها عنـه إنـه أمـر ال يرتفـع بالعقـاقير بـل هـو‬
‫شيء تسرب إلى الروح وال أمل في أي عالج؟ ورحلة الشك عند الغزالي كــانت على‬
‫ماييبدو زورقًا للوصول الى شاطيء اليقين‪ ،‬وهذا التوجــه أو الرحلــة من الشــك إلى‬
‫اليقين تركت بصماتها على الفكر األوربي الحقًا‪ ،‬كمـا انتبـه الى ذلـك (نـديم الجسـر)‬
‫صاحب كتاب (قصة االيمان بين الفلســفة والعلم واإليمــان) بالمقارنــة الــتي قــام بهــا‬
‫بين (منهج الشك) عند الغزالي وديكارت‪ ،‬فاألخير عندما توصل الى مبدأه المشــهور‬
‫(أنا أفكر أنا موجود) لم يــأت من فـراغ‪ ،‬وهي خالصــة فلســفية بديعـة ســوف أســعى‬
‫لشرحها في وقت آخر‪ ،‬فالرجل كاد أن يكرر كلمات الغزالي في قضية أهمية وضـوح‬
‫األفكــار لقبولهــا‪ ،‬والننكــر أن ديكــارت قــام بتطــوير منهج الشــك الى نظــام منهجي‬
‫تحليلي رباعي‪ ،‬شكل القاعدة النظرية مــع جهــود فالســفة آخــرين إلى بنــاء األســس‬
‫النظريــة للعقالنيــة األوربيــة الحاليــة أو مايســمى بالمعاصــرة أو الحداثــة‪ .‬فــديكارت‬
‫وكوكبة من الفالســفة اآلخــرين مثــل كانــط وســبينوزا وشــوبنهاور وغوتــة ونيشــته‬
‫وفولتير هم البناة النظريون الفعليون للحضارة الغربية‪.‬‬

‫م‬

‫‪154‬‬
‫فالسفة على طريق المعرفة‬
‫كان المدفع هو الذي فتح ثغرة في قلعة أرسطوطاليس الفكرية‪ ،‬ولكن كيف؟‬
‫جاء الفتح من فوهة المدفع؟!! فمع أن كل متأمل يرى سير القذيفة على نحو منحن‪ ،‬ولكن‬
‫أرسطو (الدماغ األكبر) كان يرى أن سرعة األجسام عند السقوط تتزايد ألنها تتحرك في‬
‫(شوق) إلى موقعها الطبيعي المنخفض!!‬
‫وأن الجسم يلتمس سعادته (كذا) بالسقوط عموديا إلى األرض؛ حنى جاء (نيكولو تارتاجيا)‬
‫وهو اسم مستعار ومعناه (المتلعثم)؛ فأصدر كتابه المترجم (عام ‪1543‬م) عن أرخميدس‪ ،‬وأن‬
‫مسار األجسام في األوساط يعتمد قوانين نوعية‪ ،‬وهي التي دفعت أرخميدس يومها أن يقفز‬
‫عاريا‪ ،‬بعد أن تعرت له الحقيقة ويصيح اوريكا‪ ..‬اوريكا أي وجدتها وجدتها‪ ..‬حينما استوعب‬
‫قانون طفو األجسام في السوائل‪.‬‬
‫ولم تكن هذه الخطيئة الوحيدة في فكر أرسطو‪ ،‬بل ساهم في منطقه الصوري في تأخير الفكر‬
‫اإلنساني ألفي سنة‪ ،‬قبل والدة المنهج االستقرائي التجريبي‪ ،‬الذي دشنه علماء المسلمين من‬
‫روح القرآن التي حثت على تأمل الكون والتاريخ وأحداث األمم واألنبياء والسير في األرض‬
‫لنفهم كيف بدأ هللا الخلق‬
‫قل سيروا في األرض فانظروا كيف بدأ هللا الخلق ثم هللا ينشئ النشأة اآلخرة‬
‫وفي هذا العام ‪1543‬م أصدر (كوبرنيكوس) كتابه عن دوران األرض والشمس؛ فزلزلت‬
‫الكنيسة وارتاعت‪ ،‬ويصف المؤرخ (ديورانت) هذا العام بأنه عام العجائب‪ ،‬ألنه تم خرق‬
‫(التابو) في الفلك والجغرافيا والجسم اإلنساني‪ ،‬ففي نفس هذه الفترة مسحت جغرافيا األرض‬
‫على نحو جديد‪ ،‬بعد إبحار ماجالن عام ‪ 1519‬ودورانه حول األرض‪.‬‬
‫وبعد (كوبرنيكوس) تحولت األرض إلى ذرة تافهة في المحيط الكوني‪.‬‬
‫وقام (فيزاليوس ) بخرق حرمة الجسم فبدأ في تشريحه‪ ،‬حتى طاردته الكنيسة‪ ،‬فهرب إلى‬
‫أسبانيا‪ ،‬وهناك قام بضربته العبقرية في إنقاذ ولي العهد (كارلوس) من نزف في الدماغ‪ ،‬حين‬
‫ثقب الجمجمة‪ ،‬فاتهمته الكنيسة من جديد‪ ،‬بأنه حليف للشيطان‪ ،‬فهرب مرة أخرى من أسبانيا‪.‬‬
‫والعبقريات ال تولد هكذا‪..‬‬
‫ولعل سرها كما رواه (جيمس بيرك) صاحب كتاب (عندما تغير العالم) أن نوياته األولى كانت‬
‫من نشاط علماء متبتلين‪ ،‬جازفوا بحياتهم ضد البابوية‪ ،‬ومحارق محاكم التفتيش‪ ،‬مثل و(مارين‬
‫ميرسين) الذي قام بنشاط خطير عام ‪1630‬م‪ ،‬حين بدأ يعقد جلسات سرية مرتين أسبوعيا‪،‬‬
‫الستقطاب األدمغة في أوربا‪ ،‬وفي مجلسه ذاك وصل (ديكارت) إلى منهجه في الهندسة‬
‫التحليلية مع طنين ذبابة؟!‬
‫وكما يقول (مالك بن نبي) أن تفاحة نيوتن عند (جده) أي جد نيوتن‪ ،‬لم تزد عن قضمات من‬
‫فاكهة ممتعة تتحول في النهاية إلى روث؟ كما كان يفعل الملك (هنري الثامن) وهو يقتل ستة‬
‫من زوجاته بقطع الرأس بالساطور والبلطة؟؟‬
‫أما نيوتن فعاش في ظروف متخمرة‪ ،‬قدحها نشاط حميم في أوربا‪ ،‬وتيار متدفق من العبقريات‪،‬‬
‫بدأت تأخذ التأثير العكسي المتبادل‪ ،‬وهكذا ولدت العبقريات‪ ،‬وعلى نحو متدفق متسلسل؛ ففي‬
‫عام ‪ 1615‬م يكتشف كبلر قانونه الثالث في الفلك‪ ،‬أن الكواكب تتهادى في الفلك األعلى في‬
‫مواقع تتراوح بين (مربع) السرعة‪ ،‬و(مكعب) بعدها‪ ،‬من تأمله كيف كان تجار الخمور يقيسون‬
‫حجم البراميل بعصا مائلة‪.‬‬
‫وفي عام ‪1628‬م يكتشف (وليم هارفي) الدورة الدموية‪.‬‬
‫وفي عام ‪1632‬م يضع (جاليلو) كتابه المزلزل عن دوران األرض والشمس‪ ،‬ومعها تسقط‬
‫ورقة التوت عن عورة الكنيسة‪ ،‬بعد أن دخلت القرن السابع عشر بمشاعل مخيفة من محرقة‬

‫‪155‬‬
‫(جيوردانو برونو )‪ ،‬الذي خالف الكنيسة بوجود عوالم النهائية‪ ،‬فهي من آيات هللا في السموات‬
‫واألرض‪ ،‬وما بث فيهما من دابة‪ ،‬وهو على جمعهم إذا يشاء قدير‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1637‬م يضع (رينيه ديكارت) (المقال على المنهج)‪ ،‬وبهذا يعتبر من البناة النظريين‬
‫للحضارة الحالية العقالنية‪.‬‬
‫وفي عام ‪1648‬م يقوم (توريشللي) الطلياني بقياس الضغط الجوي‪.‬‬
‫وفي عام ‪1661‬م يشق (بويل ) طريقه إلى الكيمياء الحديثة‪ ،‬وبذلك ينتهي العصر اليوناني‬
‫ونظرية القرون الوسطى‪ ،‬في فهم الكون على أساس من العناصر األربعة‪( :‬التراب والماء‬
‫والهواء والنار)؛ لينتهي الموضوع مع (ديمتري مندلييف) الروسي في وضع تصنيفه‬
‫(الدوري) الرائع عن العناصر المعدنية‪.‬‬
‫أما (أوجست كيكول ) فقد جاءته تلك اللحظة من وميض العبقرية في فهم الكيمياء العضوية‬
‫وترابط ذرات الفحم على شكل أفعى تلتقم ذيلها‪ ،‬وكان مناما صادقا فتح الطريق لتأسيس علم‬
‫جديد‪.‬‬
‫ويقول الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه (النظرة العلمية) أن خالصة النهضة‬
‫األوربية وعصر النهضة يدين لمائة دماغ ال يزيد‪ ،‬ولو تم اغتيالهم واصطيادهم على أيد‬
‫مخابرات الكنيسة‪ ،‬لما كان هناك نهضة وناهضون؟‬
‫ونحن في العالم العربي اليوم نعيش هذا العصر‪ ،‬عصر المماليك البرجية أيام سعيد جقمق‬
‫المملوكي تحت أسماء من حكام عرب يعيدون دورة التاريخ مقلوبة للخلف‪ ،‬من ظلمات‬
‫ومخابرات العصور الوسطى‪ ،‬بما تحمل من تعصب واضطهاد وتثبيط لكل نشاط عقلي إبداعي‪..‬‬
‫وهذا يذكر بكتاب االعترافات الخطير الذي وضعه الكاهن (جان مسلييه) الذي يستحق مقالة‬
‫خاصة به‪ ،‬وحين قرأ أهالي األبرشية وصيته؛ نبشوا قبره‪ ،‬ولعنوه‪ ،‬ونشروا عظامه‪ ،‬وتبرئوا‬
‫منه‪ ،‬بعد أن خدم الكنيسة ثالثين عامًا‪ ،‬بكل صدق وإخالص‪ ،‬كما ذكر في وصيته‪ ،‬معترفا بأنه‬
‫كفر بالبابا والكنيسة والصليب والتثليث‪ ،‬ولم يتجرأ حتى (فولتير) المعروف بسالطة لسانه‪،‬‬
‫وسخريته من رجال الكنيسة ودينها‪ ،‬على نشر كامل الوصية‪ ،‬بل اقتطف مقاطع من وصيته‪،‬‬
‫فيها من الوهج والطاقة ما تتحمله عقول القراء دون أن تحترق‪...‬‬
‫وهكذا فأوربا الحالية لم تولد هكذا ولم تتخلص من قبضة مارد الفاتيكان بسهولة وفكر أرسطو‪..‬‬
‫وقام (دين كيث سايمنتن) في كتابه (العبقرية واإلبداع والقيادة) بدراسة جدية معمقة لكل‬
‫العناصر المتعلقة بظروف والدة العبقريات‪ ،‬وهو يذِّك ر بكتاب (المسائل) للكاهن الفرنسي‬
‫(مارين ميرسين ) الذي وضعه حول البحث العلمي‪ ،‬وانه يقوم على ثالث قواعد‪:‬‬
‫ـ رفض كل ما يتعلق بسلطة سابقة‪.‬‬
‫ـ اعتماد المالحظة المباشرة والتجربة‪.‬‬
‫ـ وصياغة النتائج على شكل رياضي‪.‬‬
‫قام سايمنتن بدراسته على نمط منفرد مثل‪ :‬الدراسة العلمية لعباقرة التاريخ عموما‪ ،‬واألسالف‬
‫والمورثات واألجيال‪ ،‬والشخصية والطابع‪ ،‬والتعليم‪ ،‬واإلنتاجية والنفوذ‪ ،‬والعمر واإلنجاز‪،‬‬
‫والجماليات والكاريزما‪ ،‬وروح العصر‪ ،‬والعنف السياسي وتثبيط البحث العلمي‪ ،‬وقوانين‬
‫القياس التاريخية‪.‬‬
‫والرجل وصل إلى نتائج مثيرة حقا وينصح باإلطالع عليه‪ ،‬وأنا قرأته أكثر من مرة‪ ،‬على‬
‫قاعدة قراءة الكتاب الجيد أكثر من مرة‪ ،‬عوضا عن قراءة أبحاث تافهة‪ ،‬تأتي مع بحر االنترنت‬
‫في زبد يضر بالعقل ويضيع الوقت ويؤذي العين ويلوث الذاكرة‪ ,‬أو محطات فضائية تعتمد‬
‫التهويش والتضليل في النقاش من سياسيين تافهين يجيدون الصراخ والسباب والتخوين‬
‫والمراء ونفخ األبواق لألمراء والقادة العميان في البالد العربية‪..‬‬
‫وقد نهينا عن المراء‪ ،‬فمن ترك المراء وهو محق بنى هللا له ربضا في الجنة‪ ،‬ولكن بيننا وبين‬
‫ريح الجنة عرض مسافة مجرة األندروميدا ‪ 150‬ألف سنة ضوئية‪...‬‬

‫‪156‬‬
‫الفيلسوف والطبيب فيساليوس؟!‬
‫من ال يقرأ التاريخ يدفع فاتورة أخطاءه مع الفوائد مركبة‪ ،‬وحين انبثق الوعي في أوربا تحرر‬
‫العقل بالورق‪ ،‬كما يقول المؤرخ ويلز‪ ،‬ولم يكن يصدق اإلنسان دخول أوربا عصور التنوير لوال‬
‫مائة عقل أو يزيدون‪.‬‬
‫ومن هذه القصص الممتعة قصة الطبيب اإليطالي (فيساليوس) الذي شق الطريق إلى المحرم‬
‫بتشريح جثة اإلنسان‪ ،‬وضرب ضربته مع كوبرنيكوس وماجالن ودارون‪ ،‬فكال منهم خرق‬
‫المحرم في زاوية‪ ،‬فأما كوبرنيكوس فقد قلب تصور الكون‪ ،‬ومعه سقط عرش البابا وصولجانه‪.‬‬
‫وأما ماجالن فدار دورته األرضية؛ فكتب مع كولومبس عصر األطلنطي‪ ،‬وحبس العرب في‬
‫قمقم المتوسط‪.‬‬
‫وأما دارون فقلب قصة الخليقة‪ ،‬فخرت قبة الكنيسة‪ ،‬حتى اعترفت به بعد قرن ونصف وبعد‬
‫طول عذاب ومماحكة‪..‬‬
‫لذا كانت قراءة التاريخ مفيدة ومنها قصة هذا الطبيب المبدع‪..‬‬
‫ومما يروى أنه أثناء زيارة الطبيب االيطالي (فيساليوس ‪ )Visalius‬المولع بالتشريح‪ ،‬بالط‬
‫الملك االسباني فيليب الثاني‪ ،‬في مطلع القرن السادس عشر (‪ 1562‬م) أن ولي العهد الوحيد‬
‫(الدون كارلوس) أصيب بصدمة في رأسه من جراء سقوط من حصان أدخلته في غيبوبة؟!‬
‫استدعي فيساليوس لالستشارة؟ فنصح بعمل مرعب تخلخلت له مفاصل الملك والحاشية !!‬
‫قال فيزاليوس‪ :‬أيها الملك ليس أمامنا إلنقاذ حياة ولي العهد إال ثقب رأسه بواسطة (سفود) حاد‬
‫مسخن لدرجة االحمرار‪ُ ،‬يحفر به رأس ولي؟!!‬
‫عندما استشار الملك من حوله‪ ،‬أجمعت اآلراء على أن ما يقوله هو الجنون بعينه وال أقل من‬
‫ذلك‪ ،‬وإن كسر الجمجمة مثل (البطيخة) سوف يقود ولي العهد إلى الموت على وجه التأكيد‪،‬‬
‫وهمس البعض في أذن الملك‪ :‬إنه مجرم وليس طبيبًا‪ ،‬ولعل في قتله راحة للعباد هللا من هذا‬
‫الهرطيق‪ ،‬الذي يزعم أن ما حدث لولي العهد ال عالقة له بالشياطين والجن وتعكر مزاج‬
‫المريخ؟!‬
‫كان فيساليوس قد انتقد الطبيب اليوناني (جالينوس) الذي استحالت آراؤه إلى نصوص مقدسة‬
‫ال تقبل النقاش‪ ،‬وكان ومن خالل التشريح الميداني للبشر والحيوانات‪ ،‬قد وجه ضربة علمية‬
‫تهدم مزاعم جالينوس بتقوس عظام الفخذ‪ ،‬فهال أطباء ايطاليا ما قاله هذا الفتى المتهور‪،‬‬
‫فأرادوا ترميم ما قاله جالينوس واعتبار كالمه صحيحًا‪ ،‬بأن الذي حصل (تغير) طرأ على طبيعة‬
‫اإلنسان التشريحية‪ ،‬أما كالم جالينوس فيبقى صحيحًا غير قابل للنقض‪ ،‬وكيف يدخل الخطأ‬
‫على عقل رجل مثل جالينوس؟ أو يفوته مثل هذا اإلدراك؟‬
‫فقال من دافع عن رأي جالينوس أنه كان محقًا‪ ،‬ولكن الذي قلب طبيعة عظام الفخذين من‬
‫التقوس إلى االستقامة هو ارتداء األوربيين للسراويل الضيقة ؟!‬
‫وهذه مشكلة عقلية قديمة‪ ،‬وهي نفس الحجة التي ساقها فرعون لموسى حينما شرح له فكر‬
‫التوحيد؛ فتعجب فرعون من ذلك وقال‪ :‬هل يعقل أن تفهم أنت هذا الشيء ويفوت هذا الذين‬
‫سبقونا (فما بال القرون األولى؟)‪..‬‬
‫ويعلق المؤرخ (ويل ديورانت) على هذه الواقعة بأن (فيساليوس) وقع في موجة مدمرة من‬
‫السوداوية؛ فقام بحرق موسوعته الطبية‪ ،‬التي كان يقوم بتأليفها حينذاك حول كتاب الرازي‬
‫المشهور في الطب (المنصوري) وهو كتاب في عشر مجلدات‪:‬‬

‫‪157‬‬
‫جاء في كتاب قصة الحضارة‪( :‬وفي عاصفة من خيبة األمل في موقف هؤالء الرجال‪ ،‬أحرق‬
‫فيساليوس مجلدًا ضخمًا من كتاب التعليقات‪ ،‬وتفسيرًا لألجزاء العشرة التي يتألف منها كتاب‬
‫الرازي المنصوري وهو موسوعة في الطب)‪.‬‬
‫وأمام ضغط رجال الدين والمتملقين من حوله مالت نفس الملك فيليب إلى االنتظار والترقب‪،‬‬
‫وارتاح إلى نصيحة الكهنة وأطباء البالط في العالج‪ ،‬وابتدأ نشاط جم في االتصال بالجن‬
‫والشياطين‪ ،‬ومشت جموع غفيرة في مظاهرات صاخبة وهي تعوي وتضرب نفسها بالسالسل‪،‬‬
‫وهرعت فرقة ثالثة وهي تقرب األضاحي للقديسة المعروفة في (بلد الوليد‬
‫‪ )VALADWALID‬مدينة الملك األموي القديمة‪ ،‬التي تحولت إلى مزار لقديسين وقديسات‬
‫بأسماء النهاية لها‪.‬‬
‫ولكن حالة ولي العهد ازدادت سوءًا‪ ،‬مع ارتفاع موجة تعذيب النفس والضرب بالسوط كطريقة‬
‫للتطهير ودفع األرواح الشريرة‪ ،‬وأشرف الفتى على الهالك‪ ،‬ووضعت على الجرح التمائم وآثار‬
‫القديسين‪ ،‬وجلد األتقياء أنفسهم توسًال إلى السماء أن تشفيه بمعجزة‪ ،‬ولكن هذا لم يجد فتيًال‪..‬‬
‫كان الملك عاقًال فاستدعى الطبيب (فيزاليوس) الذي أصر مرة أخرى على ثقب الجمجمة‬
‫كمخرج وحيد إلنقاذ حياة ولي العهد‪.‬‬
‫وتقول المصادر العلمية أن "فيساليوس أصر على فتح الجمجمة‪ ،‬وتمت العملية في جو كبير‬
‫من التكتم والسرية‪ ،‬وتم ثقب الرأس؛ فتدفقت إلى الخارج دماء سوداء وكثير من الصديد‪،‬‬
‫وسحب منها كمية كبيرة من القيح‪ ،‬وما لبث األمير أن تماثل للشفاء وهبطت حرارته‪ ،‬وبعد‬
‫إجراء العملية بثمانية أيام سار فيليب في موكب مهيب لتقديم الشكر هلل"‪..‬‬
‫نحن نضحك اليوم من الواقعة ولكن بالط الملك وعقالء القوم يومها لم يكونوا يضحكون؟؟‬
‫ويروي التاريخ أن األطباء األسبان رتبوا للطبيب فيساليوس مكيدة‪ ،‬عندما قام بإنقاذ امرأة‬
‫تعسرت والدتها؛ فكادت أن تموت‪ ،‬فلما بقر البطن بشق السكين األول كادت أن تهلك لساعتها‪،‬‬
‫فالعمليات كانت تجرى بدون تخدير سوى ضرب الرأس إلدخال المريض في غيبوبة أو اإلمساك‬
‫به أو تجريعه كمية كبيرة من الخمور‪ ،‬ولكن السيدة الحامل رجعت إلى الحياة بالضربة الثانية‪،‬‬
‫وتم استخراج الجنين على وجه السرعة‪ ،‬وإعادة خياطة البطن على جسم أقرب إلى الموت من‬
‫الحياة‪.‬‬
‫صعقت اسبانيا لجرأة وتهور هذا الجراح وتطوع الزمالء الُح َّس اد فوشوا به؛ فسارعت محاكم‬
‫التفتيش االسبانية الرهيبة بإلقاء القبض عليه‪ ،‬بدعوى أنه مشحون بقوى الشياطين‪ ،‬ولم يشفع‬
‫له إال إنقاذ (الدون كارلوس) ولي العهد ونجاة األميرة من مخاض قاتل‪ ،‬ولكنهم اشترطوا عليه‬
‫مغادرة البلد بدون عودة وتوبة نصوح في القدس عند قبر المسيح‪ ،‬وبعد عودته من المقدس‬
‫تحطمت سفينته وسقط في العراء عند الزاوية الجنوبية الغربية من اليونان‪ ،‬ومات هذا الجراح‬
‫النطاسي عن عمر يناهز الخمسين مذؤوما مدحورا مذموما مخذوال‪..‬‬

‫‪158‬‬
‫قصة جان مسلييه‬
‫الكاهن الملحد وعهده الجديد‬
‫يذكر المؤرخ األمريكي (ويل ديورانت) في كتابه قصة الحضارة حكاية مثيرة عن أجواء الخوف‬
‫من (التعبير) في أوربــا عن القس ( جــان مســلييه ‪ 1678‬ـ ‪ 1733‬م ) راعي أبرشــية (أتربيــني)‬
‫في شمبانيا الذي كان في كل عام (يمنح الفقراء كل مايتبقى من راتبه بعــد تســديد نفقــات حياتــه‬
‫المعتدلــة البعيــدة عن االســراف والتبــذير) ولكنــه عــاش أزمــة فكريــة حــادة بقيت فيهــا أفكــاره‬
‫محبوسة في زنزانة الجمجمة طوال حياته في حالة خوف وترقب أن يفتضح أمره ويقــرأ النــاس‬
‫ماكتب‪ ،‬وعندما مات (بعد ثالثين عامًا من حياة هادئة مثالية في وظيفة الراعي قضى نحبه وهو‬
‫في الخامسة والخمسـين موصـيًا بكـل مايملـك ألهـالي األبرشـية) فدفنـه أهـل القريـة بكـل إجالل‬
‫وتعظيم أنــه التقي تاركـًا خلفــه مذكراتــه في ثالث نســخ من مخطوطــة بعنــوان (عهــدي الجديــد)‬
‫وعندما بدأ الناس يطلعون على ماجاء في أوراقه أصيبوا بزلزال وبــدأوا في صــب اللعنــات على‬
‫رأس ذلك الشقي الخائن كيف استطاع أن يتكتم على آراءه طيلــة ثالثــة عقــود‪ .‬وكــل التســاؤالت‬
‫الخطيرة التي تتطلب الحل لنظام األفكار المسيطر في عصره قام (مسلييه) باستعراضه بأســلوب‬
‫شيق وعرضها في صـفحات مطولـة فلم يـترك مسـألة عويصـة أو وضـعًا غـير منطقي للكنيسـة‬
‫والعرف السائد اال وتعرض له في نقد اليعرف الرحمة‪ ،‬ولكنها أسطر كتبها بينه وبين نفســه في‬
‫هدوء الليل في غيبة عن عيون الفضــوليين والجواســيس والــرقيب؛ فلم ُيطلــع عليهــا كــائن قــط‬
‫حتى الموت‪ ،‬مع اعتذار شـديد ألهـل القريـة أنـه كتم آراءه عنهم كـل تلـك الفـترة؛ فلم يكن يومـًا‬
‫معتقــدًا بمــا كــان يمارســه من طقــوس و (توســل اليهم في المخطوطــة أن يغفــروا لــه أنــه خــدم‬
‫الخطيئة واألهواء طوال مقامه بينهم) فقد تقلد عمله ليس طمعًا في المال بل امتثاًال لما أمره بــه‬
‫أبويه؟ ومن الطرافـة ذكــر بعض نفثــات هـذا الرجــل الـذي أطلـق العنــان لـ (حريــة التفكــير) في‬
‫الوقت الذي حبس كل (مجاري التعبير) عنده طوال حياته لنعرف مصير األفكــار المحبوســة عن‬
‫(التعبير)‪ .‬ومما كتب‪(:‬لن أضحي بعقلي إلنه وحــده يمكنــني من التميــيز بين الخــير والشــر وبين‬
‫الحق والضالل‪ .‬لن أتخلى عن الخبرة إلنها مرشد وهاد أفضــل بكثــير من الخيــال أو من ســلطان‬
‫المرشدين‪ .‬لن أرتاب في حواسي ولست أتجاهل أنها يمكن أحيانًا أن تؤدي بي الى الخطأ ولكني‬
‫من جهــة أخــرى أدرك أنهــا لن تضــللني دائمـًا‪ .‬إن حواســي تكفي لتصــحيح األحكــام والقــرارات‬
‫المتسرعة التي ملت الى اتخاذها)‪ .‬لقد كانت كتابات (مسلييه) في مقاييس عصره أكثر الكتابــات‬
‫إيغاًال في مخالفة السائد والمسيطر من األفكار لذا لم يتجرأ (فولتير) نفســه اال على نشــر أجــزاء‬
‫منها ورأى فيها شيئًا من التطرف حــاول تعديلــه‪ ،‬ومن الواضــح أن مســلييه كــان قــد وصــل الى‬
‫الالعــودة مــع الكنيســة والمســيحية‪ .‬وعنــدما يتحــدث عن الحــروب الدينيــة في أوربــا يقــول ‪:‬‬
‫(زعزعت الخالفات الدينية أركان االمبراطوريات وأدت الى الثورات وخربت أوربــا بأســرها ولم‬
‫يكن من الميســور إخمــاد هــذه النزاعــات الحقــيرة حــتى في أنهــار من الــدماء‪ .‬إن األنصــار‬
‫المتحمسين لدين يدعو الى البر واالحسان والتــآلف أثبتــوا أنهم أشــد ضــراوة وقســاوة من أكلــة‬
‫لحوم البشر أو المتوحشين)‪ .‬ليصل في نهاية اطروحته الى أن (الناس أشقياء لمجرد أنهم جهلة‬
‫وهم جهلة إلن كل شيء يتآمر على الحيلولة بينهم وبين االستنارة وهم أشرار لمجرد أن عقلهم‬
‫لم يتطور بدرجة كافية‪ .‬وبعد أن ذكر جان مسلييه ماسلف يختم عهده الجديد بعبارة يتحدى فيهــا‬
‫كل الذين يمقتونه ويصبون عليه اللعنات (دعهم يفكروا أو يحكموا ويقولوا ويفعلــوا مايريــدون‪.‬‬
‫لن أعبأ بهم كثيرا‪ .‬بل اني اليوم لم أعد أعبأ كثيرا بما يحدث في العالم ؟)‪ .‬ويعلق ديــورانت على‬
‫صدق وصراحة هذا الرجل غير المعهودة على هذا النسق من العبارات الصاعقة ( هل وجد ثمة‬

‫‪159‬‬
‫عهد أو ميثاق مثل هذا في تاريخ البشرية جمعــاء؟ يعيش منســيا ال ذكــر لــه في قريــة قــد ترتعــد‬
‫فيها كل النفوس رعبا وهلعا اال نفسه هو لمجــرد االطالع على أفكــاره الخفيــة ولهــذا لم يتحــدث‬
‫بمثل هذه الحرية اال لمخطوطته؟)‪ .‬وقام ( فولتير ) بنشر أجزاء من كتاب الكاهن (مســلييه) كمــا‬
‫أن (ديدرو) و (دي هولباخ) قدما خالصة لــه عــام ‪ 1772‬م تحت عنــوان (رجاحــة عقــل الكــاهن‬
‫مسلييه) ولكن النص الكامل للكتاب لم يطبع اال بعد ‪ 130‬سنة من موت صاحبه في عــام ‪1864‬‬
‫م والمخطوط اليوم محفوظ في المكتبة الوطنية في باريس ‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫فلسفة ابن خلدون االجتماعية‬
‫ال يمكن فهم األحداث بدون ( صيرورتها التاريخية ) وترابطها الزمني‪ ،‬ومنها صيرورة‬
‫الحضارة اإلسالمية ؟‬
‫وما يحدث ال يشذ عن القانون التاريخي‪ ،‬في العالقة الجدلية بين األحداث ‪ ،‬فكل حدث هو نتيجة‬
‫لما قبله ‪ ،‬وهو وبنفس الوقت سبب لما سيأتي بعده‪ .‬وبذلك يصبح الشريط التاريخي مثل الفيلم‬
‫فال يمكن فهمه من خالل إيقافه عند لقطة بعينها‪ ،‬بل البد من استعراض الفيلم التاريخي‪ ،‬حتى‬
‫يمكن إدراك المغزى التاريخي لجملة األحداث كلها‪.‬‬
‫هذا الفهم (الحركي) هو الذي أوحى لعالم االجتماع الفرنسي (أوجست كومت) في دراسته‬
‫للمجتمع على (وضعيتين) كوضع جامد استاتيكي (تشريحي ‪ ،)ANATOMICAL‬والمجتمع‬
‫كوضع متغير متحرك (ديناميكي)‪ .‬وفي الطب نعرف هذه الحقيقة أي الجسد كوضع ثابت‬
‫(تشريحي)‪.‬‬
‫وهو ما يفعله األطباء المبتدئون في التعرف على تشريح البدن‪ ،‬في قاعات تشريح الموتى‪،‬‬
‫وهو منظر جعلني وأنا أواجهه لجثة امرأة عارية بيضاء مستسلمة لمبضع المشرح بدون‬
‫مقاومة وحس‪ ،‬جعلني أبكي طوال الطرق من القاعة حتى المتحف الحربي القريب من جامعة‬
‫دمشق‪ ،‬وأقول خالص كانت امرأة عاشت كما عشت‪ ،‬وهاهي شيء للقطع والتشريح واالهتراء‬
‫حتى ال يبقى منه شيء في النهاية‪ ،‬سوى العظام البالية لتلقى في مكان مجهول‪.‬‬
‫أحصاه هللا ونسوه وهللا على كل شيء حفيظ‪..‬‬
‫نحن نعرف الجسد كعالقة أشياء ثابتة بدون حركة‪ .‬والجسد هنا هامد ميت والحياة شيء آخر‬
‫متقلب متغير‪.‬‬
‫نحن نعرف الجسم في العادة من خالل حقيقة أخرى ذات منعرجين‪:‬‬
‫الحركة الدائمة المنظورة الحاضرة كما في علم الفسيولوجيا (علم الغرائز) ووضع متغير عبر‬
‫الزمن أيضًا في اتجاهين‪( :‬نمو) عند الجنين أو (نكس وتراجع) في (الباثولوجيا‬
‫‪ )PATHOLOGY‬ما يعرف بعلم التشريح المرضي‪ .‬وهو ما يتطابق مع خريف العمر الذي‬
‫أعيشه حاليا بكل امتالء‪.‬‬
‫ويعرف الطب هذين بمصطلحين (النمو واالنتعاش ‪ )REGENERATION‬و (التراجع‬
‫والنكس ‪ ) DEGENERATION‬واستخدم القرآن هذا المصطلح األخير على طريقته (ومن‬
‫نعمره ننكسه في الخلق أفال يعقلون ؟)‬
‫في نهاية القرن الثامن الهجري (الموافق لنهاية القرن الرابع عشر الميالدي) وفي قلعة منعزلة‬
‫في أقصى المغرب العربي‪ ،‬جلس رجل غريب األطوار سياسي داهية مخضرم‪ ،‬سلقته األحداث‬
‫الجسام وأنضجته عظائم األمور‪ ،‬محلق التفكير جم النشاط ‪ ،‬يسطر بحثًا في التاريخ‪ ،‬غريب‬
‫العنوان (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من‬
‫ذوي السلطان األكبر) يخلص فيه إلى نتيجة لم تخطر على بال أحد من قبل‪ ،‬فقد استطاع أن‬
‫يحلق بعقله عبر القرون‪ ،‬فيصل إلى فهم حركة التاريخ‪ ،‬ويكتب نعوة الحضارة اإلسالمية بهذه‬
‫الكلمات القليلة‪:‬‬
‫(وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب‪ ،‬لكن على نسبته ومقدار عمرانه‪ .‬وكأنما‬
‫نادى لسان الكون في العالم بالخمول واالنقباض‪ ،‬فبادر باإلجابة‪ ،‬وهللا وارث األرض ومن‬

‫‪161‬‬
‫عليها‪ ،‬وإذا تبدلت األحوال جملًة‪ ،‬فكأنما تبدل الخلق من أصله‪ ،‬وتحول العالم بأسره‪ ،‬وكأنه‬
‫خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث)‪ ..‬هذا الرجل هو ابن خلدون التونسي‪.‬‬
‫وتنبع أهمية ما كتبه ابن خلدون أنه كان يتمتع بحس (قانوني ‪ -‬سنني) مرهف‪ ،‬فهو يحاول فهم‬
‫علل األشياء‪ ،‬ويدخل إلى بطن األحداث‪ ،‬ليكتشف القانون الذي يسيطر على توجيه األحداث‬
‫فيقول‪:‬‬
‫(فالتاريخ في ظاهره ال يزيد على أخبار عن األيام‪ ،‬وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات‬
‫ومباديها دقيق‪ ،‬وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق)‬
‫هذا االكتشاف المدهش الذي توصل إليه ابن خلدون يعتبر انقالبيًا ونوعيًا في تاريخ الفكر كله‪،‬‬
‫فهو نزل إلى الحوض التاريخي‪ ،‬يقرأ األحداث ويحاول فهمها‪ ،‬ليس كقطع ممزقة‪ ،‬ونثارات‬
‫مرمية‪ ،‬وحوادث ال يجمعها خيط ‪ ،‬أو ينتظمها قانون‪ ،‬بل كواقع بشري يخضع لـ (سنة هللا) في‬
‫خلقه‪ ،‬فاكتشف قانون قيام الدول وموتها‪ ،‬كما حَّلق إلى مرتفع شاهق‪ ،‬فلمح بومضة عين‬
‫انتهاء مسيرة الحضارة اإلسالمية‪.‬‬
‫وأهمية هذه الفكرة أنه بذلك أدخل (الفهم السنني) إلى مجال التاريخ‪ ،‬فال غرابة أن اعتبر‬
‫المؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي عمل ابن خلدون التاريخي ـ والعلماء يقدرون بعضهم ـ‬
‫بأنه (أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي مكان أو زمان ‪IT IS THE BEST -‬‬
‫‪WORK OF ITS KIND THAT IS CREATED BY ANY MIND IN‬‬
‫‪.) ANY TIME OR PLACE‬‬
‫أو أن يعتبره (فلنت) كما جاء في كتاب (تجديد التفكير الديني) لمحمد إقبال‪( :‬إن أفالطون‬
‫وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء البن خلدون‪ ،‬وكل من عداهم غير جديرين حتى بأن يذكروا‬
‫إلى جانبه)‪.‬‬
‫ولعل من أعظم اكتشافات ابن خلدون انتباهه الى قانون قيام الدول وسقوطها‪ ،‬ومع أنه انتبه‬
‫الى فكرة الحضارة‪ ،‬وكان من األوائل الذين انتبهوا لهذا المفهوم‪ ،‬ولكن (األدوات المعرفية) لم‬
‫تكن في عصره تمكنه أو تمنحه قدرة الوصول الى فهم من مستوى هذه العتبة‪ ،‬حتى جاء جيل‬
‫جديد من العلماء من نموذج (توينبي وشبنجلر وويلز) فكشفوا النقاب عن مستوى جديد من‬
‫فهم الوجود اإلنساني في مستوى الحضارة‪.‬‬
‫وهو ما دفع (مالك بن نبي) أن يسطر مجموعة كتبه بسلسة مشكالت الحضارة‪.‬‬
‫وأجمل ما في فكر ابن خلدون هو استفادته وربطه هذا الفكر السنني المحلق بالقرآن‪ ،‬في‬
‫محاولة مزج العلم باإليمان كممارسة عادية‪ ،‬وهي التي أشكلت وحيرت الكاتب القومي (ساطع‬
‫الحصري) الذي رأى في هذا المزج‪ ،‬أنها كانت من طبيعة العصر المملوء بالخرافة والتخلف في‬
‫عصره ‪ ،‬فاعتذر عن ابن خلدون بالنيابة أنه استخدم اآلية القرآنية مما يخجل ابن خلدون‪.‬‬
‫امتلك ابن خلدون من قدرة التحليق ما يخترق به القرون ليقنص قوانين عجيبة مثيرة‪ .‬وكانت‬
‫الحجب تسقط أمام عينيه فجأة ليغرق من حين آلخر بشعور من النشوة الحالمة في المغزى‬
‫الالنهائي لألشياء‪ ،‬على حد تعبير الفيلسوف البريطاني كولن ولسن في كتابه (االنسان وقواه‬
‫الخفية ‪:)THE OCCULT‬‬
‫" إن الدين والنزعة الصوفية والسحر تنبع كلها من نفس اإلحساس األساسي إزاء الكون‪:‬‬
‫إحساس مفاجئ بـ (المعنى) الذي يستطيع الناس أحيانًا أن يلتقطوه مصادفة‪ ،‬مثلما قد يلتقط‬
‫مذياعك محطة مجهولة دون قصد‪ ،‬والشعراء يشعرون بأننا مفصولون عن المعنى بحائط من‬
‫الرصاص‪ ،‬وأننا أحيانًا‪ ،‬نستطيع أن ندرك أن الحائط يبدو وكأنه قد اختفى‪ ،‬وأننا فجأة مغمورون‬
‫بالمغزى الالنهائي لألشياء"‪.....‬‬

‫‪162‬‬
‫عقاب الفيلسوف ابن رشد‬
‫ومعركة العقاب‬

‫حتى يمكن فهم أين يقف العلم اليوم البد من معرفة كيفية بدئه ؟ فكل علم له بداءات أوليــة ‪،‬‬
‫وتشكالت جنينية ‪ .‬كل حدٍث هو نتيجٌة لما قبله وهو بنفس الوقت سبٌب لما سيأتي بعده ‪ ،‬فهنــاك‬
‫عالقة جدلية بين األحداث ‪ ،‬وهناك ترابط محكم بين الوقائع ‪.‬‬
‫بينما كنت أتأمل جدران قصور غرناطــة في رحالتي المتكــررة إلى اســبانيا لفت نظــري‬
‫تكرر عبارة ( الغالب إال هللا ) منقوشة في الجدران بشكل واضح مكــرر اليضــل في قراءتهــا أي‬
‫قاريء للغة العربية ‪ ،‬فسرح بي الخيال في محاولة ( استنطاق ) لهذا النص وخلفيته المعِّبرة ‪.‬‬
‫إنهم يرون أنهم ُيهزمــون ولكن ( وللتعــويض ) في وجــه خصــومهم الــذين قهــروهم وبقــوا في‬
‫أرضهم القرون الطوال ‪ ،‬يجب أن يقولوا إن الذي يهزمهم ليس خصمهم بل ( هللا ) الذي الطاقــة‬
‫إلحد به والقدرة ‪ .‬إذن كان حًال نفسيا ً مريحـًا ‪ ،‬ولكن هـذا الـترنح كـان قبـل الهزيمـة النهائيـة ‪،‬‬
‫والطرد من شبه الجزيرة اإليبرية ‪ ،‬وإبادة من بقي فيه رائحة من بقيتهم ‪.‬‬
‫كل هذا بدأت قصته بشكل مبكر أبكر بكثير مما يرويه الحجر الميت الــذي كنت أقــرأ فيــه بقايــا‬
‫هذه الكلمات ( الغالب إال هللا ) ‪.‬‬
‫وبينما كنت مع صديقي المقيم في إسبانيا من عقود نمر بالسيارة بجنب مدينة ( رويال ثيوداد‬
‫‪( ROYAL CIUDAD‬سألته عن المدينة متجاهًال هل تعرف عن تاريخها شيئا ً فأجــاب‬
‫بالنفي قلت له التذكر عالقتها بالتاريخ أبدا ً ؟؟ فكرر بالنفي ‪ ،‬فكرت في نفسي ‪ :‬إننــا أمــة ُنكبت‬
‫مرة أخرى إلنها التعرف أفظع شيء مَّر عليها !! ‪.‬‬
‫قلت له إن المؤرخ محمد عبد هللا عنان كتب موسوعة كاملة عن تاريخ المسلمين في الجزيرة‬
‫‪ ،‬وجاء بنفسه إلى هذا المكان قريبًا من هذه المدينة ونبش في أرضها ‪ ،‬بــل واكتشــف في بعض‬
‫الحفـر بقايـا ( رؤوس رمـاح وأنصـال ) من آثـار أخطـر معركـة تمت في هـذا المكـان في عـام‬
‫‪ 1212‬م الموافق ‪ 609‬هـ ‪.‬‬
‫ولكن مالنا وللقصة اآلن ‪ .‬دعنا النستبق األحــداث ‪ ،‬ولنكشــف اللثــام عن صــفحة ســوداء من‬
‫النكبة العلميــة في تاريخنــا ‪ ،‬بــل وفي تــاريخ الجنس البشــري لنســتعرض رحالت العلم والتفتح‬
‫الذهني المترافقة بالمعاناة والعذاب ‪.‬‬
‫في قرار لعن العالم المسلم والطبيب النطاسي أبي الوليد ( ابن رشد ) ملهم النهضة اإلنســانية‬
‫الحالية ؛ ذكر صاحب كتاب ( الذيل والتكملة ) ابن عبد الملك نص اإلدانــة الكامــل ‪ ،‬ســننقل منــه‬
‫بعض الفقرات لمقارنتها بنصوص إدانة أخرى ‪ ،‬وأحكام مرعبة تاريخية رهيبة تالية في مسيرة‬
‫نهضة العقل اإلنساني على مــدار رحلــة الجنس البشــري في بقــاع منوعــة ‪ ،‬وثقافــات متباينــة ‪،‬‬
‫وأديان شتى ‪ ،‬في محاولة إلمساك وفهم سنة هللا التي تتكرر والتخيب في المســتوى اإلنســاني ‪،‬‬
‫مستوى قانون األحداث النفسية االجتماعية في معركة الخرافة والعلم ‪ (( :‬وقد كــان في ســالف‬
‫الدهر قوم ‪ ،‬خاضوا في بحور األوهام ‪ ...‬فخلــدوا في العــالم صــحفًا ‪ ،‬مالهــا من خالق ‪ ،‬مســودة‬
‫المعــاني واألوراق ‪ ..‬يوهمــون أن العقــل ميزانهــا ‪ ،‬والحــق برهانهــا ‪ ...‬ونشــأ منهم شــياطين‬
‫يخادعون هللا والـذين آمنـوا ‪ ...‬فكـانوا أضـر عليهـا من أهـل الكتـاب ‪ ...‬وهـؤالء قصـارى همهم‬
‫الغمومة والتخييل ‪ ،‬وبث عقاربهم في اآلفــاق ‪ ..‬فاحــذروا _ وفقكم هللا _ هــذه الشــرذمة حــذركم‬
‫من السموم السارية في األبدان ‪ .‬ومن ُعثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب‬

‫‪163‬‬
‫أربابـه ‪ ،‬وإليهـا يكـون مـآل مؤلفـه وقارئـه ‪ ...‬وهللا تعـالى يطهـر من دنس الملحـدين أصـقاعكم‬
‫ويكتب في صحف األبرار تضافركم على الحق واجتماعكم ‪ ،‬إنه منعم كريم )) ؟؟!! ‪.‬‬
‫هذا كان مصير الفيلسوف المبدع الذي اسـتفادت منـه أوربـا أكـثر من العـالم اإلسـالمي ‪ ،‬ففي‬
‫الوقت الذي أطلق فيها شرارة العقل المفكر ‪ ،‬كان هذا الصك يحكي لنا حرق كتبه أينما وجدت !!‬
‫‪ .‬وبذا أعدمت مؤلفاته من أمثال ( شروحات أرسطو ) و( تهافت التهافت ) و (فصل المقال فيمــا‬
‫بين الشريعة والحكمة من االتصال ) ‪ .‬وهي اليوم كتب نادرة اليستفيد منها أحد ‪ ،‬كما لم يســتفد‬
‫منها أحد سابقًا ( باستثناء الغرب !! ) ‪.‬‬
‫كان مصير ابن رشد أفضل حظًا من غيره إلنه لم يحرق حيا ً ‪ ،‬بل اكتفي بنفيه إلى ( الليسانة‬
‫) ليقضي فيها مـاتبقى من أيـام شـيخوخته ‪ ،‬إلنـه ألقي هنـاك معـزوًال منبـوذًا مـدحورًا وهـو في‬
‫السبعين من عمره ‪ ،‬ولم يعش بعدها إال سنوات قليلة ‪.‬‬
‫كان ذلك التاريخ المشؤوم عام ‪ 591‬هـ الموافق ‪ 1194‬م حيث مات المفكر المبــدع بعــدها في‬
‫عام ‪1198‬م أي مع خاتمة القرن الثاني عشر الميالدي ونهاية القرن السادس الهجري ‪.‬‬
‫ولكن األمة التي تفعل بمفكريها هذه الفعلة هل تبقى بدون عقاب ؟؟ لنســمع إذن خــبر التــاريخ‬
‫عن معركة ( الِع قاب ) ؟! ‪.‬‬
‫بعد موت الفيلسوف العظيم بأربعة عشر عامًا نكبت ( اليتيمة واأليتام ) على حد تعبير الخليفــة‬
‫الموحدي ( المنصور ) الذي وصـف األنـدلس وأهلهـا بهـا ‪ ،‬وأوصـى بهم على فـراش المـوت ‪،‬‬
‫بنكبة عسكرية لم يقم لهم قائمة بعدها‪ .‬كان ذلك في معركة ( الُعقاب ) في يــوم االثــنين الخــامس‬
‫عشر من صفر سنة ‪609‬هـ ( ليلة ‪16‬يوليو سنة ‪1212‬م ) ‪.‬‬
‫وكما كانت معركة ( الزالقة ) هي ( الفرملة التاريخية ) للسقوط األندلسي عندما جاء الخليفــة‬
‫المرابطي ( يوسف بن تاشفين ) في عام ‪1086‬م ( ‪ 479‬هـ ) لينقـذ األنـدلس المنهـار بعـد فـترة‬
‫حكم الطوائف التي دامت ثمانين عامًا ( من عام ‪399‬هـ حتى عام ‪479‬هـ ) فإن معركــة العقــاب‬
‫هذه كانت بداية النهاية لالندلس ‪.‬‬
‫وحتى يمكن أن نعي الوضع التاريخي المكــرب للمســلمين في ذلــك الــوقت واآلثــار المأســاوية‬
‫لتلك المعركة ‪ ،‬وإللقاء الضوء على هذه الفترة من الظالم الفكري وضيق األفق والتعصب الــذي‬
‫انتهى في صورة مأساة ابن رشد فإننا ننقل عن المؤرخ محمد عبد هللا عنــان مــايلي ‪ (( :‬وأمــا‬
‫في التواريخ اإلسالمية فإنها تعــرف بموقعــة الُعقــاب ‪ ،‬من مفردهـا َعقبــة ‪ ،‬وذلـك فيمــا يــرجح‬
‫لوقوعهــا بين الــربى والتالل المانعــة ‪ ،‬وليس بمعــنى المعاقبــة على الــذنب ‪ ،‬وإن كــان بعض‬
‫الكتاب والشعراء قـد نسـبوا إليهـا مثـل هـذا المعـنى ‪ ،‬في معـرض التلـويح بغضـب هللا وعقابـه‬
‫للموحدين ‪ ،‬إلنهم حادوا عن جادته ‪ ،‬وبغوا وتجبروا ‪ ،‬واعتمدوا على كثرتهم ولم يعتمدوا على‬
‫عونــه ‪ .‬ومن المســلم أن خســائر المســلمين في معركــة العقــاب كــانت فادحــة جــدًا ‪ .‬والروايــات‬
‫اإلسالمية تجمع كلها على أن الجيش الموحدي قد هلك معظمه ‪ .‬ويصف صــاحب الحلــل الوشــية‬
‫المعركة بالهزيمة العظمى التي فني فيها أهل المغرب األندلس ‪.‬‬
‫وقــد أســفرت هزيمــة العقــاب الســاحقة عن أفــدح وأروع اآلثــار الــتي يمكن تصــورها ‪ ،‬ســواء‬
‫بالنسبة لألندلس أو المغرب أو الدولة الموحدية ‪ .‬فأما بالنسبة لألندلس فقد قضت هذه الهزيمــة‬
‫نهائيًا على سمعة الموحدين العسكرية في شبه الجزيرة ‪ ،‬وتحطم ذلك الدرع الذي كانت تســبغه‬
‫الجيــوش الموحديــة ‪ ،‬القادمــة من وراء البحــر ‪ ،‬على األنــدلس وعلى دولــة اإلســالم بهــا ‪.‬‬
‫وتضعضع سلطان الحكم الموحدي باألندلس ‪ ،‬وأخذت األندلس من ذلك الحين تنحــدر إلى بــراثن‬
‫الفوضى الطاحنة ‪ ،‬وانتثرت غير بعيد إلى أحزاب وشيع جديدة ‪ ،‬قامت لتضرب بعضــها بعضــا ً‪،‬‬
‫ولتبدأ عهدًا جديدا ً من المعــارك االنتحاريــة الصــغيرة الــتي النهايــة لهــا ‪ ،‬والــتي تــذكرنا بعهــد‬
‫الطوائف ‪ ،‬وضمن ذلك النصر الباهر الــذي أحرزتــه الجيــوش النصــرانية المتحالفــة في هضــاب‬
‫تولوسا ‪ ،‬السبانيا النصرانية تفوقها السياسي والعسكري في شبه الجزيرة ‪ ،‬وفتح الباب واسعًا‬
‫لغزو االسترداد ( ‪ ) LA RECONQUISTA‬النصراني المنظم ‪ ،‬الذي ســوف يســتمر من‬
‫ذلك الحين في اجتناء ثمــاره ‪ ،‬بــانتزاع القواعـد األندلســية ‪ ،‬واقتطــاع أشــالء األنـدلس الكــبرى‬

‫‪164‬‬
‫بصورة متتابعة ‪ ،‬وفي فترات قصيرة مذهلــة‪ .‬وقــد تــردد هــذا الفــزع الــذي ســرى إلى األنــدلس‬
‫يومئــذ ‪ ،‬وماكــان يفــوح لهــا من شــبح الفنــاء ‪ ،‬من جــراء كارثــة العقــاب ‪ ،‬واضــحًا في األدب‬
‫والشعر فمن ذلك ماقاله أبو إسحق إبراهيم بن الدباغ االشبيلي ‪:‬‬
‫كأنك قد وقفت لدى الحساب‬ ‫وقائلة أراك تطل تفكــــــرا‬
‫غدا سببا لمعركــــة العقــــــــاب‬ ‫فقلت لها أفكر في عقــــاب‬
‫وقد دخل البال من كل باب‬ ‫فما في أرض أندلس مقام‬
‫ويلخص لنا صاحب الروض المعطار أثر الهزيمة في الدولة الموحديــة بقولــه‪ :‬وكــانت هــذه‬
‫الوقيعة أول وهن دخل على الموحدين ‪ ،‬فلم تقم بعد ذلك إلهل المغرب قائمة )) ‪.‬‬
‫وإذا كانت هذه عقوبة من عاقب ابن رشد ‪ ،‬أو كــانت عقوبــة ابن رشــد لهــذه األوضــاع الــتي‬
‫تمشي في طريق االحتضار فإن المحصلة النهائية واحدة ‪ ،‬وهي نتيجة بائسة بكل مقيــاس إلمــة‬
‫تعامل الفكر المشرق هذه المعاملة ‪ ،‬وهي مؤشر خطير لتوقف الحياة العقلية ‪ ،‬أو انحدار مخطط‬
‫الحضارة بصورة عامة إلن الحضارة هي حياة العقل قبل كل شيء ‪.‬‬
‫وقد انتبه المفكر الجزائري ( ماك بن نـبي ) إلى هـذه الوقفـة التاريخيـة المفصـلية فـاعتبر أن‬
‫الحضارة اإلسالمية توقفت لتفرز بعد ذلك اإلنســان المتخلــف عن ركب الحضــارة ‪ ،‬العــاجز عن‬
‫حل مشاكله ‪ ،‬الذي يتوقف عنده الزمن ( بــدون ســرعة النســبية !! ) كمــا توقـف عنــد أصــحاب‬
‫الكهف بدون رسالة أصــحاب الكهــف ‪ .‬فــاعتبره إنســان ( مابعــد الموحــدين ) أي إنســان مابعــد‬
‫مصيبة معركة العقاب‪ .‬ولم يتوقف معاقبة أهل قرطبــة الــذين يصــفهم ( الفيلســوف العــالم التقي‬
‫ابن رشد ) بأن من أعظم المواقف الصعبة التي مرت عليه عندما أراد الصالة في أحــد المســاجد‬
‫هو وابنه فقام عليه الغوغاء وأخرجوه وابنه من المسجد ومنعوهما من الصالة ‪ ،‬قال عنها إنهـا‬
‫كانت من أصعب اللحظات التي مـرت عليـه في حياتـه ‪ .‬والغرابـة فـإذا كـان الخـوارج قـديمًا قـد‬
‫أخرجوا اإلمام علي من اإلسالم وكفروه واستباحوا دمه ‪ .‬ثم سفكوا دمه من أجل االختالف معــه‬
‫في وجهة النظر ‪ .‬فإن هذا المشهد قد يتكرر تاريخيا ً في صـور شـتى في إطـار التعصـب وعـدم‬
‫التسامح‪ .‬كان عقاب أهل قرطبة مخيفــا ً بــل عقــاب أهــل األنــدلس جميعــا ً فقــد ســقطت بعــد ذلــك‬
‫( بالنثيا في عام ‪ 1236‬م وهي العاصمة الشرقية لألندلس ) ثم سقطت قرطبة بنفســها في عــام‬
‫‪ 1238‬م بعد عامين من سقوط بالنثيا أي بعد موت ابن رشد بأربعين سنة ( ولعل الــذين طــردوه‬
‫من المسجد رأوا طردهم جميعًا هذه المرة ) إلن عادة االسبان جرت على تحويل كــل مســجد إلى‬
‫كنيسة فور دخولهم أي بلدة إسالمية ‪ .‬ثم تكلل االنهيار بعد ذلك بسـقوط مدينـة اشـبيلية في عـام‬
‫‪ 1248‬م ‪ .‬وبــذلك ســقط الجنــاح الغــربي للعــالم اإلســالمي بتمامــه ‪ ،‬ليتبعــه بعــد عشــر ســنوات‬
‫بالضبط سقوط الجناح الشرقي للعالم اإلسالمي أعني بغداد على يد هوالكــو عــام ‪1258‬م وهكــذا‬
‫سقطا جناحا العالم اإلسالمي في ظل الظروف والمناخات العقليــة الســائدة تلــك الــتي دشــنت نفي‬
‫وتعذيب ابن رشد في شيخوخته ‪ .‬وليسطر العالمة ابن خلدون بعدها مالحظته الالمعة بأن مناخًا‬
‫جديدًا يسيطر على العالم اإلسالمي أعني ( االنهيار والســقوط أو تفســخ الحضــارة اإلســالمية )‬
‫حينما أشار بقوله وكأن لسان الكون نادى بالخمول فاستجاب‪ .‬إن الكثيرين من باحثي المعجزات‬
‫العلمية في اآليات القرآنية أعيــوا أنفســهم في محاولـة اكتشــاف ( االكتشــاف العلمي ) من اآليــة‬
‫القرآنية ‪ ،‬في الوقت الذي لم نسمع شيئا ً عن ذلك قبل ( االكتشـاف العلمي ) ‪ .‬وهـذا ليس توجـه‬
‫القرآن بحال ‪ ،‬بل إن القرآن وضع لنفسه توجها ً خاصًا وهوعدم االستجابة لمطـالب المشـركين‬
‫في إنزال المعجزات وورد هذا في عشرات اآليات القرآنية ( وهو بحث فكري بـنيوي سـنفرد لـه‬
‫مقالــة خاصــة ) ‪ ،‬القــرآن أراد بــاألحرى إيجــاد ( المنــاخ العقلي ) الــذي يكتشــف آفــاق العلم‬
‫واإلنجــازات العلميــة بــدون حــدود إلن الكــون كلــه آيــات ‪ .‬الكهربــاء والجاذبيــة وميكانيكــا الكم‬
‫والنسبية والحرارة والجيولوجيا واالنثروبولوجيـا كلهـا فضـاءات معرفـة وآيـات )‪ .‬هـذا المنـاخ‬
‫العقلي الذي كــان يكتشــفه ابن رشــد أضــاء في مكــان آخــر وشــق طريقــه بصــعوبة بالغــة‪ .‬في ‪4‬‬
‫نوفمبر من عام ‪ 1415‬م جاء المصلح الديني ( جان هــوس ) وهــو من تشيكوســالفاكيا الحاليــة‬
‫إلى مدينة ُك نستانس الواقعة على الحدود النمســاوية السويســرية لُيعــرض على المجمــع الــديني‬

‫‪165‬‬
‫المنعقد هناك ولُيستجوب بسبب نقده المتواصل للكنيسة ‪ ،‬خاصة في تصرفات الرهبان الماليــة ‪،‬‬
‫وبيع صكوك الغفـران ‪ ،‬وجمـع ثـروات الحـرام ( تأمـل اآليـة ‪ :‬إن كثـيرًا من األحبـار والرهبـان‬
‫ليــأكلون أمــوال النــاس بالباطــل ويصــدون عن ســبيل هللا والــذين يكــنزون الــذهب والفضــة‬
‫والينفقونها في ســبيل هللا فبشــرهم بعــذاب أليم ) ‪ ،‬وقـد أغـراه الملـك األلمــاني ( سيجيســموند )‬
‫بالحضور مــع توفــير الحمايــة لــه إال أنــه اعتقــل ثم قــدم للمحاكمــة بتهمــة الهرطقــة ‪ ،‬واتهم في‬
‫المحاكمة بكتاباته في ثالثين موضعًا منها تدينه بالكفر والزندقــة والمــروق عن الــدين ‪ ،‬وأعطي‬
‫مهلــة للــتراجع عن آراءه ‪ ،‬وعنــدما اعــترض على ذلــك وبأنــه مــؤمن وأن األمــر اليخــرج عن‬
‫تأويالت سيئة ألقواله حكم عليه بالحرق حيًا ونفذ الحكم في نفس اليوم حيث وضــع على منصــة‬
‫خشبية أمام المتفرجين تأكله النيران‪ .‬وهذا الحــرق أو ألغــاء اإلنســان من الوجــود ألفكــاره فقــط‬
‫كانت رحلة رهيبة اثناء بدء الحركة العقلية في أوربــا ‪ ،‬حيث تعــرض جيوردانــو برونــو بــدوره‬
‫في السابع عشر من شباط \ فبراير عام ‪1600‬م للحرق أيضًا من أجل أفكاره ولم يتراجع‪ .‬واآلن‬
‫إذا كنا قد رسمنا بانوراما تاريخية الولئك الــذين يشــقون الطريــق إلى الحريــة الفكريــة والمنــاخ‬
‫العقلي الجديد الذي سوف يشق الطريق للحضارة يبقى أن نختم البحث بقرار اللعنة الذي صــدر‬
‫أيضًا ضد اسبينوزا المفكر الهولندي الذي كتب في حياته كلها أربع كتب فقط منهــا ( رســالة في‬
‫الالهوت والسياسة ) و ( رسالة في تحسين العقل ) وكما يذكر صاحب كتاب ( قصة الفلسفة )‬
‫ويل ديورانت ‪ ،‬أنه لم يتجرأ على نشر كتابه األخــير ( األخالق مؤيــدًة بالــدليل الهندســي ) الــذي‬
‫فرغ من كتابته عام ‪1665‬م فبقي عنده حتى الموت ‪ ،‬وعندما جاءتــه المنيــة وعمــره ‪44‬عامـًا ‪،‬‬
‫بعد أن افترس السل صدره ‪ ،‬سلم مفتاح غرفتــه لصــاحب الـبيت مــع نســخة كتابــه ( األخالق )‬
‫للطباعة الذي حفظ لحسن الحظ ‪.‬‬
‫يقول قرار اللعنة ‪ (( :‬بقرار المالئكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصــب دعاءنــا على‬
‫باروخ اسبينوزا ‪ ..‬وليكن مغضوبًا وملعونا ‪ ،‬نهارا وليال وفي نومه وصبحه ‪ ،‬ملعونا في ذهابــه‬
‫وإيابه ‪ ،‬وخروجه ودخولــه ‪ ،‬ونرجــو هللا أن اليشــمله بعفــوه أبــدا ‪ ،‬وأن يــنزل عليــه غضــب هللا‬
‫وسخطه دائما ‪ ..‬وأن اليتحدث معه أحدا بكلمة ‪ ،‬أو يتصل به كتابة ‪ ،‬وأن اليقدم له أحد مســاعدة‬
‫أو معروفا ‪ ،‬وأن اليعيش معه أحد تحت سقف واحدة ‪ ،‬وأن اليقترب منه أحد على مسافة أربعــة‬
‫أذرع ‪ ،‬وأن اليقرأ أحد شيئا جرى به قلمه أو أماله لسانه )) ‪.‬‬
‫بالطبع نحن نتذكر قرار مقاطعة قريش للرسول ( ص ) ‪ ،‬كما أن القــرآن يــذكرنا بــأن إبــراهيم‬
‫كان أقوى من النار إلنه اعتمد الحجة الدامغــة الــتي تبهت ( وتلــك حجتنــا آتيناهــا إبــراهيم على‬
‫قومه ) ‪ ،‬لذا فإن حريق العلماء في أوربا أيضًا لم ينفع إلنهم اعتمدوا سالح إبراهيم‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫المشكلة االنسانية وحلها‬
‫عند باسكال‬

‫لماذا يشعر االنسان بالملل ؟ ولماذا يكافحه باللهو والتس‹‹لية ؟ وه‹‹ل الله‹‹و واللغ‹‹و يكس‹‹ران حلق‹‹ة‬
‫الضجر والسآمة حقًا ؟ بل لماذا ارتبط الشعور بالملل مع الوح‹دة واالنف‹راد ؟ لم‹اذا ش‹كلت قض‹‹ية‬
‫العدالة المشكلة االنسانية العظمى حتى اليوم واستعصت على الحل ؟! م‹‹امعنى الثنائي‹‹ة المش‹‹حونة‬
‫بالتن‹‹اقض المح‹‹يرة في االنس‹‹ان ‪ ،‬بين قط‹‹بي الش‹‹يطان والمالك ‪ ،‬والم‹‹وت والحي‹‹اة ‪ ،‬والح‹‹زن‬
‫والحب ‪ ،‬والشقاء والسرور ‪ ،‬والالنهائي‹‹ة والع‹‹دم ؟ لم‹‹اذا اليت‹‹دفق ب‹‹رد اليقين الى ص‹‹در االنس‹‹ان‬
‫ويبقى على سطح المعلومات ؟ أين ينبوع السعادة الذي يغتسل فيه االنسان فيولد من جديد مكتش‹‹فًا‬
‫( المعنى ) في الحياة ؟؟‬
‫باختصار هل هناك حل للمشكلة االنسانية ؟ وهل استطعنا فهم االنسان ؟ أو على األق‹‹ل وض‹‹عنا‬
‫قدمنا في طريق فهمه ؟‬
‫هذه المسائل الفلسفية الض‹‹خمة المليئ‹ة بالتح‹دي أغ‹رت الفيلس‹وف الفرنس‹ي ( بل‹يز باس‹كال )(‬
‫‪ ) BLAISE - PASCAL‬فتص‹‹دى لمواجهته‹‹ا في محاول‹‹ة لالمس‹‹اك بمف‹‹اتيح الفهم الك‹‹برى‬
‫لالنسان ‪ ،‬وهي تروي لنا قصة طريفًة من روائع مغامرات العقل االنساني في القرن السابع عشر‬
‫للميالد ‪ ،‬يقوم بها انسان مثقل باألمراض ‪ ،‬يكاد دماغه يتفجر من الص‹‹داع ‪ ،‬فيح‹‹ل أعق‹‹د المس‹‹ائل‬
‫الهندسية ‪ ،‬في فك لغز المنحنى الهندسي الدحروجي وهو يئن تحت وطأت‹‹ه (‪ )1‬ويتل‹‹وى ك‹‹األفعى‬
‫من آالم األمعاء التقرحية ‪ ،‬ويقترب من الشلل النصفي الس‹‹فلي فيمش‹‹ي على عك‹‹ازتين ‪ ،‬واليعم‹‹ر‬
‫في النهاية أكثر من ( ‪ ) 39‬تسٍع وثالثين عامًا ( ‪ 1662 _ 1623‬م ) في شهادة واضحة أن العمر‬
‫في إنجازاته وليس في طوله ‪ ،‬وأن الزمن ه‹و ح‹ال النفس وليس دورة الفل‹ك كم‹ا يش‹ير الى ذل‹ك‬
‫الفيلسوف المسلم محمد إقبال في كتاباته (‪)2‬‬
‫ظاهرة محيرة عند المفكرين ‪:‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫أجسام نحيلة يعضها المرض حين ‪ ،‬وتفترسها العلل طور آخر ‪ ،‬وتقضي عليه‹‹ا األم‹‹راض في‬
‫سن مبكرة ‪ ،‬أشبه بآلة اسُتهلكت بكثافة المتناهية فطواها الموت بسرعة ‪ .‬نفوس عظيمة ‪ ،‬وأدمغ‹‹ة‬
‫متوقدة ‪ .‬عيون تلتمع بالذكاء والنباهة ‪ ،‬ومسلك طاهر ونظاف‹‹ة أخالقي‹‹ة ‪ ،‬ومواق‹‹ف تش‹‹ع بالحكم‹‹ة‬
‫والتصرف المح‹‹ير ال‹‹ذي اليخط‹‹ر على ب‹‹ال ‪ ،‬فعن‹‹دما تق‹‹دم اليه‹‹ود الى عيس‹‹ى علي‹‹ه الس‹‹الم وهم‬
‫يدفعون أمامهم الزانية كان حرصهم أشد على اإليقاع به عند السلطات الرومانية من إقامة الح‹‹د ‪،‬‬
‫كما يروي القصة أبو األعلى المودودي(‪ )3‬ألنه س‹‹يكون بين مطرق‹‹ة الس‹‹نهدرين وس‹‹نديان الحكم‬
‫الروماني ‪ ،‬إن تأخر في النطق ب‹الحكم اعُت بر هرطيق‹ًا ‪ ،‬وإن نف‹ذ الحكم أص‹بح ق‹اتًال أو محرض‹ًا‬
‫على القتل في نظر التشريع الروماني ‪ .‬كان جوابه عليه الس‹‹الم عجيب‹ًا غ‹‹ير متوق‹‹ع هادئ‹ًا عميق‹ًا‬
‫( من كان منكم بال خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر ) وانقشع جمهور الفقهاء المزورين عن رأسه ‪.‬‬
‫فالسفة وعلماء عليلون ؟؟!!‬
‫ظاهرة ملفتة للنظر تصدمنا بين الحين واآلخر ونحن نقرأ للمفكرين والفالسفة ‪ ،‬ف‹‹نرى التح‹‹دي‬
‫المخيف في إعاقة مرض وسيطرة علة ‪ ،‬أطلقت كوامن طاقة غير معقولة في الت‹‹اريخ ‪ ،‬بين ظالم‬
‫الرؤية في عمى أبو العالء المعري ‪ ،‬وموت س‹‹بينوزا المبك‹‹ر عن ‪ 42‬عام‹ًا بس‹ٍل رئ‹‹وي اف‹‹ترس‬

‫‪167‬‬
‫رئتيه ‪ ،‬ولكنه ترك من خلفه أربع كتب مازالت تهز الفك‹‹ر االنس‹‹اني ح‹‹تى ه‹‹ذه اللحظ‹‹ة ‪ ،‬وتعت‹‹بر‬
‫محطات عقلي‹‹ة لك‹‹ل من دخ‹‹ل االوقي‹‹انوس العقلي لمعرف‹‹ة مغ‹‹امرات الفك‹‹ر االنس‹‹اني الض‹‹خمة ‪.‬‬
‫والتقرح المعوي الممض عند باسكال ‪ ،‬وجن‹‹ون نيتش‹‹ه بم‹‹رض االف‹‹رنجي ال‹‹ذي اس‹‹تلب دماغ‹ه ‪،‬‬
‫وشلل هاينه الشاعر األلماني ‪ ،‬ويصل المرض الى ذروته عن‹‹د ( س‹‹تيفن ه‹‹وكينج )( ‪STEVEN‬‬
‫‪ ) HOWKING‬الفيزيائي الكوني البريطاني الذي صعد عنده الشلل الى أطرافه األربعة ورقبته‬
‫‪ ،‬فهو مش‹‹لول األط‹‹راف األربع‹‹ة ‪ ،‬مرب‹‹وط الى عرب‹‹ة مع‹‹اق يس‹‹تطيع تحري‹‹ك أص‹‹بعين من ي‹‹ده‬
‫اليس‹‹‹رى ‪ ،‬ويتنفس بثقب ص‹‹‹ناعي في الرغ‹‹‹امى ‪ ،‬ويتكلم ع‹‹‹بر كم‹‹‹بيوتر مرب‹‹‹وط الى حلق‹‹‹ه ‪،‬‬
‫باختصار هو دماغ فقط ولكنه يعتبر حاليًا نيوتن الق‹رن العش‹رين ب‹االختراق العلمي ال‹ذي ق‹ام ب‹ه‬
‫عندما طرح كتابه ( قصة قصير للزمان )( ‪ ) A BRIEF HITORY OF TIME‬الذي‬
‫أثار ضجة كبيرة في األوساط العلمية (‪. )4‬‬
‫ظاهرة التحدي ‪:‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫يبدو أن التحدي يشكل قانون وجودي ‪ ،‬فهو يستوفز الطاقات لتشكل حلقة حركية ‪ ،‬فالفكر أطل‹‹ق‬
‫باسكال ‪ ،‬والهم الفكري ق‹اده الى الم‹رض العض‹وي ‪ ،‬فمظم قرح‹ات الجه‹از الهض‹مي تن‹دلع من‬
‫تربة نفسية ‪ ،‬وهذا بدوره وَّلد شرط التحدي ‪ ،‬الذي قاد الى مزيد من االنتاج في حلق‹‹ة تص‹‹اعدية ‪،‬‬
‫واليعني هذا أن كل مبدع أو مفكر يجب أن يكون مريض ‹ًا ‪ ،‬ولكن البدان‹‹ة والش‹‹راهة في األك‹‹ل لم‬
‫تكن في يوم من األيام صفة المبدعين ‪ ،‬الذين يحمل‹ون هم‹ًا فكري‹ًا يتج‹اوز مع‹دتهم ‪ ،‬ذل‹ك أن الهم‬
‫الفكري يحرم في الغالب أو يقلل شهية التمتع بالطعام واإلقبال على مايتقاتل ويتزاحم علي‹‹ه الن‹‹اس‬
‫من المقتنيات ‪ ،‬ويحدد االندفاع باتجاه هذا المتاع الرخيص ‪ ،‬وتفيدنا العضوية بآلي‹‹ة هام‹‹ة في ه‹‹ذا‬
‫الصدد وهي أن الطعام يوجه الدم الى الجهاز الهضمي ‪ ،‬مما يخفف دورانه في الدماغ ‪ ،‬فهو يق‹‹ود‬
‫آليًا الى تباطيء عمليات التفكير وإعمال العقل والعكس بالعكس ‪ ،‬وهي ظاهرة فيزيولوجية يش‹‹عر‬
‫بها كل واحد منا بعد وجبة ثقيلة ‪ ،‬من ميل للكسل واالسترخاء ‪ ،‬ويظهر عكسها في الصيام أو قل‹‹ة‬
‫الطعام من صفاء الذهن وحدة القريحة وتألق الفكر ‪.‬‬
‫تحدي الظروف بما فيه‹ا الم‹رض والعاه‹ات تطل‹ق طاق‹‹ة االنس‹ان بش‹كل تعويض‹‹ي ‪ ،‬وتح‹دي‬
‫الظروف التاريخية تستنهض المجتمع ‪ ،‬وتحدي البيئة يحرك الجموع البش‹‹رية باتج‹‹اه الحض‹‹ارة ‪،‬‬
‫كما اعتبر المؤرخ البريطاني توينبي عندما رأى في وج‹‹ود اس‹‹رائيل في المنطق‹‹ة العربي‹‹ة منخس‬
‫حضاري وتحدي يدفع للمواجهة وتقرير المصير ‪.‬‬
‫تواتر االنسان بين الملل واللهو ‪:‬‬
‫حلَّل الفيلسوف الفرنسي باسكال مشكلة الضجر واللهو بشكل مدهش فكتب يقول ‪ (( :‬انظر الى‬
‫برنامج رجل ثري أو امرأة موسرة تجده حافًال كل يوم بمختلف األشغال والمواعيد وأل‹‹وان الله‹‹و‬
‫المتصل من صيد ورياضة ومقابلة أص‹‹دقاء إلى زي‹‹ارة الن‹‹دوات وحض‹‹ور ال‹‹والئم ‪ ،‬فالص‹‹يد من‬
‫جدي‹‹د ‪ ،‬فن‹‹دوة جدي‹‹دة ‪ ،‬فمق‹‹ابالت العم‹‹ل أو األص‹‹دقاء ‪ ،‬فموائ‹‹د الميس‹‹ر أو محاف‹‹ل ال‹‹رقص أو‬
‫كالهما ‪ ،‬وانظر الى برنامج حاكم أو وزير فيومه كامل الف‹‹راغ في‹‹ه ‪ ،‬والن‹‹اس من حول‹‹ه مكلف‹‹ون‬
‫بالمساهمة في ش‹غل أوقات‹ه ‪ ،‬وإن توق‹ف التي‹ار لحظ‹ة وت‹رك الرج‹ل أعمال‹ه أو أغل‹ق باب‹ه على‬
‫الزوار ‪ ،‬وإن أسرع الى الريف طالب‹ًا الراح‹‹ة واله‹‹دوء ‪ ،‬لم‹‹ا بقي في الري‹‹ف ط‹‹ويًال ‪ ،‬وس‹‹رعان‬
‫مايعود الى المدينة ‪ ،‬أما إن ُاض‹‹طر الى ت‹‹رك األعم‹‹ال أو اع‹‹تزال الوظيف‹‹ة أو العيش في الري‹‹ف‬
‫بمفرده ‪ ،‬لضاق بالحياة ذرعًا وحل به الضجر )(‪ )5‬ليصل في النهاية الى تقري‹‹ر ارتب‹‹اط الض‹‹جر‬
‫باللهو (( اللهو إذًا مرتبط بالضجر أشد االرتباط )) فاالنسان من أجل أن يهرب من الس‹‹آمة ُيه‹‹رع‬
‫الى اللهو ‪ ،‬ولكن اللهو بدوره يوصله الى الملل ‪ ،‬وهذا ب‹‹دوره ليس ل‹‹ه مخ‹‹رج إال ب‹‹اللهو ‪ ،‬فهن‹‹اك‬
‫تواتر وتناوب مابين ( اللهو _ الملل _ اللهو _ الملل ) وهكذا في تتابع نفسي هندسي مث‹ل ت‹ركيب‬
‫األحماض األمينية في الكروموسوم الخلوي ‪ .‬ولكن هذا يقودنا الى تفكيك نفسي جديد لمعرفة لماذا‬
‫يصاب االنسان أصًال بالسآمة والملل‬
‫تفكيك نفسي لظاهرة الملل ‪:‬‬

‫‪168‬‬
‫يرينا التحليل اليومي أن الوحدة وكثاف‹‹ة الش‹‹عور به‹‹ا هي ال‹‹تي تق‹‹ود الى المل‹‹ل ‪ ،‬ولكن ماعالق‹‹ة‬
‫الضجر بالوحدة ؟ هي في الواقع وليدة مواجهة الذات ‪ ،‬وهذا يعطينا توضيحات في غاي‹‹ة األهمي‹‹ة‬
‫لتناذر ( متالزمة )( ‪ ) SYNDROM‬يوم األحد عند الغربيين ‪ ،‬فأثناء إقامتي الطويلة في ألماني‹‹ا‬
‫تعجبت من مالحظة مزدوجة ‪ :‬أولها كراهية يوم االث‹‹نين ال‹‹ذي ه‹‹و بداي‹‹ة العم‹‹ل ‪ ،‬وتقابل‹‹ه س‹‹اعة‬
‫النشوة وتجرع كؤوس الخمرة ‪ ،‬عصر يوم الجمعة ساعة فراق الواجب والعمل المنه‹‹ك ‪ ،‬فتحِّم ر‬
‫األعناق والوجوه وتنطلق خبايا النفوس وأسرار البيوت ‪ ،‬بين باكي حظ‹‹ه وفاش‹‹ي أس‹‹راره ‪ ،‬عن‹‹د‬
‫غربي اليحرص على االقتراب منه أحد ‪ ،‬في حركة تدشين القط‹‹ط االجتماعي‹‹ة الجدي‹‹دة ‪ .‬وثانيه‹‹ا‬
‫كآبة يوم األحد خاصة بعد الظهر ‪ ،‬فترى الوجوه كالحة عابسة تفيض نك‹‹دا وتنغيص‹ًا ‪ ،‬في أعجب‬
‫تناقض اجتماعي بين رغد العيش وأمان البيوت وغياب طمأنين‹ة القل‹وب ‪ .‬لم أع‹رف الس‹ر خل‹ف‬
‫ذلك اال متأخرًا ‪ ،‬من خالل هذا التحليل ( الباسكالي ) ‪.‬‬
‫ألم مواجهة الذات التي تعيش حالة االغتراب الداخلي ‪:‬‬
‫إن قساوة العمل االسبوعي في بلدان شمال أوربا يجعلهم يقدسون عطلة نهاية االس‹‹بوع ‪ ،‬ولكنهم‬
‫منفردين كقطط اجتماعية ‪ ،‬كل لنفسه ‪ ،‬فالعطلة بهذه الصورة تحولت الى عملية مواجه‹‹ة لل‹‹ذات ‪،‬‬
‫عندما تتخوى النفس من الداخل ‪ ،‬تتفرغ وتتقعر وتفقر داخليًا ‪ .‬ويدخل االنسان الحالة النفسية التي‬
‫وصفها المفكر االسالمي علي شريعتي ( حالة االغتراب الداخلي) ‪.‬‬
‫ه‹‹ذه المواجه‹‹ة مؤلم‹‹ة وتق‹‹ود الى الش‹‹عور ب‹‹البؤس والحق‹‹ارة والش‹‹قاء ‪ ،‬في حين ك‹‹ان العم‹‹ل‬
‫االسبوعي عملية خ‹روج وش‹رود من ال‹ذات ‪ ،‬أي عملي‹ة نس‹يان م‹ؤقت لل‹ذات ‪ ،‬ومن هن‹ا ي‹درج‬
‫باسكال العمل تحت ظاهرة اللهو ‪ ،‬ألنه ي‹‹ؤدي نفس وظيف‹‹ة اله‹‹رب من ال‹‹ذات وع‹‹دم مواجهته‹‹ا ‪،‬‬
‫وتفيد اآلية في نفس االتجاه ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب وله‹‹و وزين‹‹ة وتف‹‹اخر بينكم وتك‹‹اثر في‬
‫األموال واألوالد ) ‪.‬‬
‫هذا هو السر في محاولة ه‹‹رب االنس‹‹ان بع‹‹د انته‹‹اء العم‹‹ل الى ن‹‹وع جدي‹‹د من العم‹‹ل ه‹‹و له‹‹و‬
‫وتسلية ‪ ،‬ولكن الواقع إن الصيد والقمار ولعب الكرة والمباريات الرياضية كله‹‹ا من ص‹‹نف عم‹‹ل‬
‫جديد قد يكون أشد إرهاقًا وأعظم مجهودا ‪ ،‬ولكنه يفترق عن العمل األساسي باندماج االنسان في‹‹ه‬
‫وبمتعة أكثر ‪ ،‬فالصيد هو مطاردة وتعب مثلها مثل أي نش‹‹اط آخ‹‹ر من أنش‹‹طة العم‹‹ل ال‹‹ذي نق‹‹وم‬
‫ب‹‹ه ‪ ،‬وتس‹‹عى منظوم‹‹ة الفك‹‹ر الغ‹‹ربي الي‹‹وم الى تحوي‹‹ل العم‹‹ل الى متع‹‹ة مث‹‹ل لعب المباري‹‹ات‬
‫والصيد ‪ ،‬من خالل بناء الديموقراطية في حق‹‹ل العم‹‹ل ‪ ،‬أي جع‹‹ل العم‹‹ل أيض‹ًا ض‹‹ربًا من الله‹‹و‬
‫طالما كان اللهو ممتعًا ‪ ،‬ولكن كال العمل والله‹و عملي‹ة تق‹وم في عمقه‹ا على اله‹روب من ال‹ذات‬
‫وعدم مواجهتها ‪ ،‬ألن الذات فارغ‹‹ة لم ت‹‹درك مع‹‹نى الحي‹‹اة ولم تح‹‹ل جدلي‹‹ة المش‹‹كلة االنس‹‹انية ‪،‬‬
‫فيرى االنسان نفسه على هذه المرآة الشقية ‪.‬‬
‫لماذا كان السجن مؤلمًا مخيفًا ؟‬
‫فالذات فارغة لم تحل الجدلية األصلية للوجود ومواجهتها يسبب األلم والش‹‹قاء ‪ ،‬ل‹‹ذا ك‹‹انت ألعن‬
‫أنواع السجون االفرادية ‪ ،‬والسجن بحد ذاته يسبب العذاب ليس ألن‹‹ه مص‹‹ادرة للحري‹‹ة فق‹‹ط ‪ ،‬ب‹‹ل‬
‫ألن االنسان يك‹‹ف عن ال‹‹ذهول الخ‹‹ارجي ‪ ،‬وال‹‹ذوبان في أح‹‹داث يومي‹‹ة روتيني‹‹ة تافه‹‹ة متالحق‹‹ة‬
‫تختص‹‹ر الحي‹‹اة الى أش‹‹ياء وحاجي‹‹ات وغ‹‹ذاء ومت‹‹ع رخيص‹‹ة ‪ ،‬وتخ‹‹تزل الوج‹‹ود االنس‹‹اني الى‬
‫ترانزستور حيواني منكمش ضامر اليتلقى إش‹‹عاعات الوج‹‹ود العظيم ‪ ،‬في الس‹‹جن يواج‹‹ه ال‹‹ذات‬
‫بدون أقنعة ويواجه خيار الهروب من الذات أو التأمل واالعتكاف ‪ ،‬كل أمتعة االنشغال الخ‹‹ارجي‬
‫توقفت عن تحويل انتباه االنسان ‪ ،‬وسقط االنسان في حفرة اليأس العميقة يشاهد عالمًا جديدًا ألول‬
‫مرة ‪ .‬السجن االنفرادي يعتبر ذروة المعاناة أو قمة النشوة لصنفين مختلفين للغاية من طينة البش‹‹ر‬
‫‪ .‬بين من يحدق في ذات شقية ‪ ،‬ومن يعشق التأمل واالعتك‹‹اف واكتش‹‹اف الع‹‹الم ال‹‹داخلي الغ‹‹ني ‪.‬‬
‫الوحدة مشعر النضج واالقتراب من هللا ‪ .‬على كل حال سيغادر االنسان هذا العالم وحيدا وسيدخل‬
‫اآلخرة الينفعه في معاناة الخالص األخيرة أحد ‪ ،‬يوم يفر المرء من أخي‹‹ه وأم‹‹ه وأبي‹‹ه وص‹‹احبته‬
‫وبنيه لكل امريء يومئذ شأن يغنيه ‪ .‬النفس التي ستفاجيء للم‹‹رة األولى بمواجه‹‹ة ال‹‹ذات س‹‹تكون‬
‫من نوع مزلزل وتجربة‬

‫‪169‬‬
‫تحدث للمرة األولى ‪ .‬السجن االنفرادي يقود االنسان الى الجنون أو الحكمة ‪ ،‬ألنه يحبسه مع ذات‹‹ه‬
‫ضمن أربع جدران ‪ .‬من الغ‹ريب أن ه‹ذا الع‹زل وه‹ذه المواجه‹ة المفروض‹‹ة لالعتك‹اف ‪ ،‬وه‹ذه‬
‫المواجهة األليمة للذات فيها قمة العذاب لمعظم الناس ‪ ،‬وفيها غاية المتعة ألفراد قالئل من الجنس‬
‫البشري ‪ ،‬ولجوا هذا العالم الخفي ‪ ،‬وعرف‹‹وا مس‹‹اراته الداخلي‹‹ة بن‹‹ور خ‹‹اص ‪ ،‬فه‹‹ذا القب‹‹و عمي‹‹ق‬
‫حالك الظالم ‪ ،‬اليضاء تمامًا اال بمشاعل جهنم يوم يبعثون ‪ ،‬ولكن ه‹‹ذا الص‹‹نف تخص‹‹بت عن‹‹دهم‬
‫الذات وتحولت الى جنة خفية داخلية بطول التفقد والتعهد والسماد الروحي ‪.‬‬
‫الثنائية المتناقضة ‪ :‬الالنهايتان‬
‫كذلك يطرح باسكال في رؤيته لالنسان فكرة الالنهايت‹‹ان في ثنائي‹‹ة تحم‹‹ل التن‹‹اقض والح‹‹ل له‹‹ا‬
‫حتى على يد الفلسفة ‪ .‬ويعتبر ماكتب باسكال في هذا الصدد من أجم‹ل م‹اكتب في الن‹ثر الفرنس‹ي‬
‫في سلسلة من الكلمات المتألقة مثل إضاءة النجوم ‪ ،‬ألنها تدفقت من خاليا عصبية متوقدة الى أبعد‬
‫الحدود ‪ ،‬قد ذاقت االستنارة الداخلية ‪ .‬كما روى هو بالذات عن تجربته الروحية التي ح‹‹دثت مع‹‹ه‬
‫في نوفمبر من عام ‪ 1654‬م ‪ .‬لنتأمل هذه الفقرات وهي يروي الج‹‹دل االنس‹‹اني المستعص‹‹ي على‬
‫الحل في مذكراته ( الخ‹‹واطر )( ‪ ) PENSEES‬ال‹‹تي لم ت‹‹رى الن‹‹ور بش‹‹كل كام‹‹ل اال بع‹‹د ‪289‬‬
‫عامًا ؟! ‪ (( :‬إن الصمت األبدي الذي يلف هذا الفض‹اء الالنه‹ائي يخيف‹ني ‪ ،‬ولكن هن‹اك النهائي‹ة‬
‫أخرى وتلك هي النهائية صغر الذرة وقبولها النظري لالنقسام قبوًال الحد له ‪ ،‬فمهما كانت ض‹‹آلة‬
‫الحد األدنى الذي نختزل به أي شيء فإننا النملك اال االعتقاد بأنه هو أيضًا له أجزاء أصغر منه ‪،‬‬
‫وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود والدقيق غير المحدود ‪.‬‬
‫إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه ‪ ،‬وإذا أدرك أنه معلق بين هاويتي الالنهاية والعدم‬
‫ارتعد فرقًا ‪ ،‬وبات أميل الى تأمل هذه العجائب في صمت منه الى ارتيادها بغرور ‪.‬‬
‫من االنسان في الطبيعة بعد كل شيء ؟ إنه الع‹‹دم إذا قيس بغ‹‹ير المح‹‹دود ‪ ،‬وه‹‹و ك‹‹ل ش‹‹يء إذا‬
‫قيس بالعدم ‪ ،‬إنه وسط بين العدم والكل ‪ ،‬وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين ‪ ،‬فنهاية األش‹‹ياء‬
‫وبدايتها أو أصلها يلفهما سر السبيل الى استكناهه ‪ ،‬وهو ع‹‹اجز عن رؤي‹‹ة الع‹‹دم ال‹‹ذي أخ‹‹ذ من‹‹ه‬
‫والالنهائي الذي يغمره )(‪)6‬‬
‫َّأل‬
‫يرى باسكال بهذا العرض ا خ‹‹اذ أن االنس‹‹ان ليس مرك‹‹ز الك‹‹ون كم‹‹ا رآه الفيلس‹‹وف اليون‹‹اني‬
‫أرسطو ‪ ،‬بل هو في وسط الكون ‪ ،‬في حالة فقدان توازن ‪ ،‬وعجز مطلق عن الفهم ‪ ،‬معلق‹ًا ب‹‹أفظع‬
‫من ألعاب البهلوان على حافة غ‹‹ير مرئي‹‹ة بين الك‹‹ل والع‹‹دم ‪ ،‬بين النهايت‹‹ان في أي اتج‹‹اه س‹‹ار ‪،‬‬
‫باتجاه الكبير العالم العلوي ‪ ،‬أو باتجاه األس‹فل الى الع‹الم األص‹غر ‪ ،‬ه‹و ع‹اجز عن إدراك الع‹دم‬
‫ال‹‹ذي خ‹‹رج من‹‹ه وق‹‹رر مص‹‹يره ‪ ،‬وه‹‹و أعج‹‹ز عن إدراك الع‹‹دم ال‹‹ذي يمش‹‹ي باتجاه‹‹ه م‹‹دفوعًا‬
‫بجبروت اليقاوم ‪ ،‬نحو مصير أبدي يختفي فيه كلية من مس‹‹رح الحي‹‹اة ‪ .‬بين النهايت‹‹ان تطوقان‹‹ه ‪،‬‬
‫كما هو اليوم في علمي النسبية وميكانيكا الكم ‪ ،‬الذي يصعد فيه األول الى الملكوت الفسيح الجب‹‹ار‬
‫‪ ،‬ويهبط الثاني الى العالم األصغر الذي يسبح هللا بطريقته الخاص‹‹ة ‪ .‬ولكن االنس‹‹ان حينم‹‹ا يق‹‹ارن‬
‫نفسه يصاب بالذهول ‪ ،‬فهو الى الالنهاية الشيء وعدم وص‹‹فر ‪ ،‬ولكن‹‹ه مقارن‹ًا الى الع‹‹دم يتح‹‹ول‬
‫الى كل شيء دفعة واحدة ؟! فهو يسبح في اللحظة الواح‹‹دة بين الع‹‹دم والالنهاي‹‹ة في ض‹‹ربة غ‹ير‬
‫موفقة وفي ثنائي‹‹ة تناقض‹‹ية مح‹‹يرة ‪ .‬ع‹‹دم وك‹‹ل ش‹‹يء بنفس ال‹‹وقت بنفس اللحظ‹‹ة ‪ .‬ه‹‹ذا ماجع‹‹ل‬
‫باسكال وهو يقطف هذه الحقيقة الكونية يصاب بالدوار فيسقط مغشيًا عليه ‪.‬‬
‫الثنائية التناقضية المحيرة في طريق مسدود ‪:‬‬
‫تظهر هذه الثنائية المحيرة في طبيعة االنس‹‹ان م‹‹رة أخ‹‹رى على ش‹‹كل تن‹‹اقض مح‹‹ير مزل‹‹زل في‬
‫حاالته النفسية الديناميكية ‪ (( :‬وطبيعة االنسان التي يم‹تزج فيه‹ا المالك ب‹الوحش امتزاج‹ا ش‹ديدا‬
‫تكرر التناقض بين العقل والجسد وتذكرنا بالكمير الذي زعمت االساطير اليوناني‹‹ة أن‹‹ه ع‹‹نزة له‹‹ا‬
‫رأس أسد وذيل ثعبان ‪ ...‬يالهذا االنسان من كم‹‹ير !! يال‹‹ه من بدع‹ة ووحش وفوض‹‹ى ‪ ،‬وتن‹‹اقض‬
‫ومعج‹‹زة ‪ ،‬ه‹‹ذا الحكم في ك‹‹ل ش‹‹يء ‪ ،‬ونم‹‹وذج الغب‹‹اء في األرض ‪ ،‬مس‹‹تودع الح‹‹ق ‪ ،‬وبالوع‹‹ة‬
‫الضالل والشك ‪ ،‬مفخرة الكون ونفايته ‪ ،‬فمنذا الذي يحل لن‹‹ا ه‹‹ذا اللغ‹‹ز المعق‹‹د ؟؟ ))(‪ )7‬وُيظه‹‹ر‬
‫الموت هذه الجدلية الرهيبة ‪ ،‬ففي لحظة واحدة ينهار االنسان من قمة الوجود في النط‹‹ق والتعب‹‹ير‬

‫‪170‬‬
‫والحب واألم‹‹اني والحلم الجمي‹‹ل والعيش الرغي‹‹د والحي‹‹اة البهيج‹‹ة والن‹‹ور ‪ ،‬كل‹‹ه ينه‹‹ار وبخبط‹‹ة‬
‫واحدة ‪ ،‬الى السلبية الكاملة واالستسالم المطلق والدمار الساحق والظالم المطبق ‪.‬‬
‫الهروب من الفلسفة وعجزها عن التفسير ‪:‬‬
‫كذلك تظهر هذه الثنائية التي التمل‹ك ح‹تى الفلس‹فة االجاب‹ة عليه‹ا في تفس‹ير الش‹قاء والحب‹ور‬
‫االنسانيين ‪ (( :‬وشقاء االنسان لغز آخ‹‹ر ‪ ،‬فلم ش‹‹قي الك‹‹ون ه‹‹ذا الش‹‹قاء الطوي‹‹ل لينجب نوع‹‹ا من‬
‫الخليقة شديد الهشاشة في سعادته ‪ ،‬كثير التعرض لأللم في ك‹‹ل عص‹‹ب ‪ ،‬وللح‹‹زن في ك‹‹ل حب ‪،‬‬
‫وللموت في كل حياة ؟؟ ))‬
‫إن كلمات باسكال تحلق الى األفق االنساني في المعاناة واكتشاف الذات ودفع الحياة في العق‹‹ل ‪،‬‬
‫فهذه المعاني التوجد في قاموس الفلسفة الجاف وتعبيرات العقل الباردة ‪ ،‬إنها هن‹‹ا تعب‹‹يرات مليئ‹‹ة‬
‫بالحيوية ونبض الحياة وزخمها الرائع ‪.‬‬
‫وتبرز الثنائية في صورة أخ‹‹رى بين الطبيع‹‹ة كي‹‹ف تتص‹‹رف واالنس‹‹ان الض‹‹عيف في مواجه‹‹ة‬
‫جبروتها الذي اليرد ‪ (( :‬مع ذلك فإن جالل االنسان عظيم في معرفته أن‹‹ه ش‹‹قي ‪ ...‬مااالنس‹‹ان اال‬
‫قصبة وهي أوهى مافي الطبيعة ‪ ،‬ولكنه قصبة مفكرة ‪ ،‬والكون كله الحاجة ألن يتسلح كي يسحقه‬
‫فنفخة بخار أو قطرة ماء تكفي لقتله ‪ ،‬ولكنه بعد أن يسحقه الكون اليزال أنبل من هذا الذي يقتله ‪،‬‬
‫ألنه يعرف أنه مفارق الحياة ‪ ،‬أما الكون فال يعرف شيئًا عن انتصاره على االنسان ))‬
‫زحزحة األفكار من حقل الى آخر لحل مشكلة االنسان األساسية ‪:‬‬
‫في نوع من هذه المتحارجات في عالقة اللهو بالضجر ‪ ،‬وثنائي‹‹ة االنس‹‹ان المبني‹‹ة على التن‹‹اقض‬
‫الذي اليمكن توحيده ‪ ،‬وفكرة العدالة األرضية التي يستحيل إقامتها ‪ ،‬واليقين الذي يعج‹‹ز االنس‹‹ان‬
‫عن قنصه ‪ ،‬وسعادة االنسان التي اليمكن تحقيقها بدون فهم االنسان ‪ .‬ح‹‹اول باس‹‹كال الغ‹‹وص في‬
‫بعد نوعي جديد لفهم المشكلة االنسانية في ج‹‹ذورها في محاول‹‹ة لح‹‹ل تراكيبه‹‹ا الخفي‹‹ة واكتش‹‹اف‬
‫معادالتها المجهول‹ة وه‹و الرياض‹‹ي ال‹ذي ط‹ور حس‹اب التفاض‹‹ل والتكام‹ل ‪ ،‬ودش‹ن رياض‹‹يات‬
‫االحتم‹االت ‪ ،‬وفهم مب‹دأ الض‹‹غط الج‹وي ‪ ،‬ليض‹‹ع في النهاي‹ة مب‹دأ ض‹‹غط الس‹وائل ‪ ،‬ال‹ذي مكن‬
‫المهندسين الحقًا فتح قناة الس‹‹ويس وبنام‹‹ا ‪ ،‬بع‹‹د أن ك‹‹ان المهندس‹‹ون يرتعب‹‹ون من إمكاني‹‹ة عل‹‹و‬
‫مستوى بحر على آخر ‪ .‬قام باسكال بنقل الرهان الرياضي الى مس‹توى النفس وتقري‹ر المص‹ير ‪،‬‬
‫ليس باستخدام المنطق الفلسفي ‪ ،‬فقد نفض ي‹ده منه‹ا بع‹د أن رأى كالل أدواته‹ا المعرفي‹ة في ح‹ل‬
‫المشكلة االنسانية ‪ .‬وكان باسكال على موعد مع ليلة مزلزلة في نوفمبر من عام ‪ 1654‬م ‪.‬‬
‫الليلة المزلزلة في نوفمبر من عام ‪ 1654‬م ‪:‬‬
‫حدث هذا قبل أن يم‹وت بثم‹اني س‹نوات ‪ ،‬حيث زل‹زلت قناعات‹ه كله‹ا ووص‹ل معه‹ا الى اليقين‬
‫والفرح والدخول الى حل مشكلة االنسان ‪ .‬في هذه الليلة بكى فيها بمرارة حتى س‹‹الت دموع‹ه الى‬
‫األرض ‪ ،‬وتطهرت روحه وشعر بالمقدس ‪ ،‬فخرجت كلمات التجرب‹‹ة الروحي‹‹ة مه‹‹زوزة مقطع‹‹ة‬
‫متناثرة الترابط بينها تضيء بمعاني شتى من الطهارة والف‹‹رح والس‹‹عادة ‪ .‬ك‹‹انت تس‹‹جيال تجرب‹‹ة‬
‫دينية خارقة وتعبيرا عن حالة صوفية متدفقة حارة ‪ ،‬في تل‹‹ك الليل‹‹ة عن‹‹د الس‹‹حر حيث يه‹‹دأ اللي‹‹ل‬
‫حدث التجلي ‪ ،‬وكأن نارًا اشتعلت في رأس باسكال فاتقدت روحه بن‹‹ور خ‹‹اص فك‹‹انت أول كلم‹‹ة‬
‫كتبها ‪ :‬نار ‪ .‬كانت نارا أحرقت الش‹‹كوك وال‹‹ذنوب ومعه‹‹ا الثنائي‹‹ة في ض‹‹ربة موفق‹ة واح‹‹دة ‪ .‬ثم‬
‫خرجت بقية الكلمات ممزقة مبعثرة هي خالصات لمذاقات روحية ‪ ،‬أكثر منه‹‹ا جمًُّال مع‹‹برة عم‹‹ا‬
‫خالجه من أفكار ‪ ،‬واستفتح تجربته الروحية بنداء خ‹اص الى ‪ ..‬ال‹ه اب‹راهيم واس‹ماعيل واس‹حاق‬
‫ويعقوب ‪ ..‬ال إله الفالسفة والعلماء ‪ ..‬إن باس‹‹كال اكتش‹‹ف ثالث عظم‹‹ات ك‹‹ل واح‹‹دة تنفص‹‹ل عن‬
‫األخرى بالنهاية في المسافة ‪ :‬المادة والعقل والمحبة ‪ ،‬األولى للقادة واألغنياء ‪ ،‬والثاني‹ة للفالس‹فة‬
‫والعلماء ‪ ،‬والثالثة للقديسين واألولياء ‪ .. ،‬إن حل اللغز االنساني والثنائية المحيرة ستكون بالرتب‹‹ة‬
‫الثالثة في كفاح مضني للوصول الى تحقيقها ‪.‬‬
‫ينقل عن باسكال قوله ‪ :‬صنفان من الناس فقط يصح أن نس‹‹ميهم عقالء وهم ال‹‹ذين يخ‹‹دمون هللا‬
‫جاهدين ألنهم يعرفونه ‪ ،‬والذين يجدون في البحث عنه ألنهم اليعرفونه )(‪)8‬‬

‫‪171‬‬
‫مراجع وهوامش ‪:‬‬
‫( ‪ ) 1‬راجع في هذا كتاب ( باسكال ) نوابغ الفكر الغربي _ بقلم الدكتور نجيب بلدي _ دار المعارف بمصر _ ص ‪ 45 _ 44‬ويمكن تعريف المنحنى الدحروجي‬
‫أنه ‪ ( :‬المنحنى الذي تأخذه نقطة على محيط دائرة في دورانها حول خط مستقيم دون انزالق ) وجاء في الكتاب أن باسكال فوجيء ذات ليلة بوجع شديد في ضرس له منع‬
‫النوم عنه والراحة ‪ .‬فاتخذ ذلك الوجع مناسبة لدراسة موضوع رياضي من أصعب الموضوعات ك‹ان ق‹د أعص‹اه البحث في‹ه في الماض‹ي ‪ ،‬وق‹د أعم‹ل باس‹كال فك‹ره في‬
‫الموضوع حتى زالت آالم ضرسه وانتهى من دراسة الموضوع ولما ينته الليل ‪ ،‬ويبدو أن الصداع زال تحت تأثير إفراز مادة االن‹‹دومورفين ( ‪) ENDOMORPHIN‬‬
‫التي تعتمدها طريقة إزالة الصداع بالوخز باالبر الصينية ‪ ،‬التي ُعرف أنها تحرض إفراز مادة االندومورفين من داخل ال‹دماغ فت‹ؤدي الى النش‹وة وزوال اآلالم فهي إب‹رة‬
‫مسكنة داخلية ‪ ،‬وفي فترة النشوة الروحية واالنشراح الصدري والتألق العقلي يبدو أن الدماغ يفرز مواد منوعة لم يهتد الطب بعد الى تص‹‹نيفها تمام ‹ًا (‪ )2‬يراج‹‹ع في ه‹‹ذا‬
‫كتاب تجديد التفكير الديني _ محمد إقبال _ لجنة التأليف والترجمة والنشر _ ترجمة عباس محمد _ فصل البرهان الفلسفي على ظه‹‹ور التجرب‹‹ة الديني‹‹ة _ ص ‪ 60‬عن‹‹دما‬
‫يقول ‪ ( :‬وباختصار الزمان هو كما نشعر به ال كما نفكر فيه أو نحسبه )(‪ )3‬يراجع في هذا كتاب ( تفسير سورة النور ) للكاتب االسالمي أبو األعلى المودودي رحم‹‹ه هللا‬
‫في أحكام الزنا عند أهل الكتاب (‪ )4‬موجز في تاريخ الزمن _ من االنفج‹ار العظيم الى الثق‹وب الس‹وداء _ ترجم‹ة عب‹د هللا حي‹در _ الناش‹ر أكاديمي‹ا _ والكت‹اب ل‹ه ع‹دة‬
‫ترجمات (‪ )5‬نوابغ الفكر الغربي _ باسكال _ نفس المصدر السابق فقرة أولى _ ص ‪ 128‬بحث المشكلة االنسانية (‪ )6‬قصة الحضارة _ وي‹‹ل دي‹‹ورانت _ الج‹‹زء ‪_ 31‬‬
‫ص ‪ )7( 100‬نفس المصدر السابق ص ‪ )8( 102‬قصة االيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن _ نديم الجسر _ توزيع دار العربية _ ص ‪. 132‬‬

‫وداعًا للفلسفة‬
‫المشكلة االنسانية وحلها عند‬
‫باسكال (‪)2‬‬
‫عندما شرع ( سنوفرو ) الجد األعلى من األسرة الفرعونية الرابعة في منتصف األلف الثالثـة‬
‫قبل الميالد في حملة بناء االهرامات ‪ُ ،‬أصــيبت مشــاريعه بكارثــة محبطــة ‪ ،‬انهــار فيهــا االهــرام‬
‫األول بالكامل ‪ ،‬وبدأ الثاني في التشقق ‪ ،‬مما حمل مهندسي االهرامات من الفراعنة االوائــل الى‬
‫إمالة زاوية انتصاب الهرم ‪ ،‬فخرج هرم سنوفرو الثالث منبطح ـًا ملتصــقًا الى األرض خائف ـًا من‬
‫االنتصاب ‪ .‬هذه البداية المخيبة لآلمال وضعت التحدي أمام الجيل التــالي ‪ ،‬ممــا جعــل الفرعــون‬
‫( خوفو ) يقوم بدراسة مطولة استغرقت عشر سنوات ‪ ،‬في استقصاء هندسي وتجارب ميدانيــة‬
‫مــع االدمغــة العلميــة المحيطــة بــه ‪ ،‬من جامعــة هليوبــوليس المدينــة المقدســة قبــل االنطالق‬

‫‪172‬‬
‫بمشروع جبار يستغرق عشرين عامًا بقدرة عضلية بحتة ؛ بدون عجالت ‪ ،‬بدون حديــد ‪ ،‬بــدون‬
‫حصان ‪ ،‬بدون بكرات رفع ‪ .‬فكلها تقنيات تم اكتشافها الحقًا ؛ فاالهرام بني بالســواعد واالدمغــة‬
‫والحجارة فقط ‪ ...‬واالرادة الحضارية ‪.‬‬
‫كان أعظم تحدي في بناء الهرم هو في استواء القاعدة فكيف يمكن أن يجلس الهــرم على خــط‬
‫األفق تمامًا ؟ لقد توصل المهندسون الفراعنة الى طريقــة حفــر مكعبــات في األرض على امتــداد‬
‫مساحة قاعدة الهرم ‪ ،‬ثم وصلوا بينها بممرات ثم مألوها بالماء وحيث كان خط الماء في حافته‬
‫العلوية في كل مكعبات الماء اعتبر خط السواء األفقي الذي ستجلس عليه قاعدة الهرم ‪.‬‬
‫الحكم القريبة المحجوبة ‪:‬‬
‫هذه الفكرة في اتصال سويات الماء بين أحواض مختلفــة هي لب قـانون األواني المســتطرقة‬
‫أو قانون ضغط السوائل الذي اعتصر باسكال دماغه لفهمــه ثم صــبه على شــكل قـانون رياضــي‬
‫يدرس اليوم في الجامعات في ديناميكا ضغط السوائل ‪.‬‬
‫هذه الفكرة الصغيرة كانت المفتاح للتغلب على وهم أسطوري من ارتفاع مســتوى بحــر على‬
‫آخر ‪ ،‬وفكرة قناة السويس لوصل البحر المتوسط بالبحر األحمــر شــغلت بــال االنســان منــذ أيــام‬
‫الفراعنة ‪ ،‬لالقتصاد في دروة كاملــة لاللتفــاف حــول القــارة األفريقيــة ‪ ،‬وكــان هنــاك خــوف من‬
‫ارتفاع منسوب المياه في البحر األبيض عنه في األحمر مما يؤدي _ في حال فتح البحرين على‬
‫بعض _ الى غرق مصر الكامل ‪ .‬وفكرة باســكال في ضــغط الســوائل أدخلت الى العقــل االنســاني‬
‫فهمًا جديدًا في استواء حد السوائل في مستوى واحد بين األحـواض المتصـلة ‪ ،‬فـإذا كـان مـرج‬
‫البحرين يلتقيان ‪ ،‬فهناك برزخ غير منظــور اليجعــل أحــد البحــرين يطغى على اآلخــر ‪ ،‬فبينهمــا‬
‫برزخ اليبغيان ‪.‬‬
‫التخلص من ضغط مسلمات األفكار السابقة ‪:‬‬
‫كان باسكال عالمًا تجريبيًا قبل أن يكون فيلسوفًا روحانيًا يمزج التصوف بالفلسفة في عصــير‬
‫روحي جديد نادر كان مزاجه كافورا ‪ ،‬والذي قاده الى وضع قانون عام لضغط السوائل هو فكرة‬
‫الخالء في أنبوب الزئبق ‪ ،‬وكان هذا صدمة للفكر التقليدي السائد ‪ ،‬الذي كان يؤمن بأن الطبيعة‬
‫تكره الخالء ‪ ،‬ولكن تجربة ( توريشلي ) في إيطاليا قادت الى زلزلــة هــذا المفهــوم ‪ ،‬فــإذا مليء‬
‫أنبوب مفتــوح أحــد الطــرفين بــالزئبق ‪ ،‬ثم وضــع على حــوض مملــوء بــالزئبق ‪ ،‬نــزل مســتوى‬
‫الزئبــق في عمــود الزجــاج الى مســتوى معين واســتقر عنــده ‪ ،‬تارك ـًا خالًء في أعلى االنبــوب ‪.‬‬
‫وتكرررن هذه الظاهرة مع كل تجربة ‪ .‬وكان هذا يحتاج الى تفسير ولم يكن عند توريشلي الــذي‬
‫كان أول من انتبه الى هذه الظاهرة ‪ .‬عمــد باســكال الى إعــادة التجربــة في مســتويات شــتى بين‬
‫البحر والجبل والسهل ‪ ،‬واستخدم سوائل منوعة فعمد الى المــاء والكحــول والــزيت فكــانت هــذه‬
‫الظاهرة تعيد نفسها بشكل رتيب صامد ‪ .‬لقد سكر باسكال بالنشوة وهو يتعامل مع الطبيعــة لغــة‬
‫الخلق األساسية ‪ ،‬التي تنطق بصدق وصرامة ‪ ،‬بدون تحريف وتزوير ومحاباة ‪ ،‬فهي أعظم من‬
‫كل نص َك تب عنها ‪ ،‬من أي جهة كانت مصدره ‪ ،‬لقد الحــظ أن مســتوى الســائل الــزئبقي يرتفــع‬
‫أكثر مايكون عند سطح البحر وكان ارتفاع عمود مادة الزئبـق ‪ 76‬سـم ويقـل هـذا مـع االرتفـاع‬
‫علوًا ‪ .‬من هذه المالحظة وصل باسكال الى فكرة ( البارومتر ) قياس الضــغط الجــوي الــذي قــاد‬
‫الى سلسلة اكتشافات وتطبيقات علمية الحقــة ليس أقلهــا في ميــدان الطب في معالجــة الحــروق‬
‫والغانغرين الغازي في غـرف مرفوعـة الضــغط عاليــة التركــيز في االكســجين ( ‪HYPER -‬‬
‫‪) BARIC - OXYGEN - CHAMBER‬‬
‫تحليلية ديكارت و( حدسية ) باسكال ‪:‬‬
‫إن العصر الذي عاش فيه باسكال وديكارت وليبنتز واسبينوزا في القرن الســابع عشــر للميالد‬
‫كان بداية تدشين عصر العقل النهضوي في أوربا ‪ ،‬وكان أبرز مافي هذا الفكر كســر المســلمات‬
‫العقلية السائدة ‪ ،‬التي تحولت الى أغالٍل بثقل حجر الرحى ‪ ،‬فهي الى االذقان فهم مقمحون ‪ .‬مع‬
‫هذا كان باسكال نســيجًا فكريـًا لوحــده ‪ .‬كــان يشــترك مــع ديكــارت في مســتوى العمــق الفلســفي‬
‫واســـتخدام الرياضـــيات للمنطـــق الفلســـفي ‪ ،‬كمـــا أشـــار الى ذلـــك في كتابـــه الخـــواطر (‬

‫‪173‬‬
‫‪ ) PENSEES‬وأثنى على ديكارت ‪ ،‬ولكن التشابه بين الرجلين كان في الواقــع ســطحيًا ‪ .‬ففي‬
‫الــوقت الــذي كــان ديكــارت تحليلي ـًا كــان باســكال ( حدســيًا ) أقــرب الى مدرســة الجشــتالت (‬
‫‪ ) GESTALT‬وفي الوقت الذي كان ديكارت يحاول تدشين فكر شــمولي ســنني يســتخدم فيــه‬
‫أداًة معرفيــة لتطبيقهــا بشــكل وجــودي في حقــول معرفيــة شــتى ‪ ،‬كــان باســكال يــرى تعقيــدًا‬
‫وخصوصية قائمة بذاتها في كل حقٍل معرفي ‪ .‬وهو ماأكدته مدرسة علم النفس الســلوكي ‪ .‬وفي‬
‫الوقت الذي كـان عقـل ديكـارت ينفـر من التجربـة وجوهـا واليميـل الى الحقـل التجريـبي ؛ كـان‬
‫باسكال يعشق الحقيقة العلمية التجريبية ‪ ،‬كما حصل مع اختراعه اآللة الحاسبة وهو لم يتجاوز‬
‫العشرين من العمر ‪ ،‬وبقي لمدة عشر سنوات وهو يشتغل في تطويرها ‪ ،‬وتعتبر مقدمة لتطــوير‬
‫نظام الكمبيوتر ‪ .‬فإذا قرأ االنسان في برامج الكمبيوتر اليوم كلمة باسكال (‪ ) PASCAL‬عليــه‬
‫أن يتذكر ذلك العبقري ‪ ،‬الذي عاش في منتصف القرن السابع عشر للميالد ‪ ،‬وأنجز ماأنجز ولم‬
‫يعمر أكثر من تسع وثالثين سنة ‪ .‬وفي الوقت الذي عاش ديكارت عصره فلم يلتفت الى السياق‬
‫التاريخي ‪ ،‬كان باسكال مهتمًا بــالعلم وقــدره التــاريخي وتــاريخ العلــوم ‪ ،‬فعنــدما وصــل الى فهم‬
‫الضغط الجوي كان قد اطلع على كل ماأنجزه العقل البشري في هذا الصــدد منــذ أيــام أرخميــدس‬
‫حتى عصره ‪.‬‬
‫جاء في كتاب نوابغ الفكر الغربي تأليف نجيب بلدي ‪ (( :‬إن لباسكال أسلوبًا خاص ـًا في البحث‬
‫والتفكير والتعبير وقد رأينا بسكال في العلم صاحب نظرة كاشفة ‪ ،‬اليفرض على العلم وأقســامه‬
‫نظامًا سابقًا ‪ ،‬إنما يخلص الى ذلك النظام بعد الكشف عن الطبيعة الخاصة للعلم ولكل قســم منــه‬
‫على حدة وبفضل ذلك الكشف ذاته ‪ ،‬والشك عندنا أن منهج باسكال في الفلسفة والدين كمنهجه‬
‫في العلوم ‪ ،‬عبارة عن حدس وكشف الاستدالل وتنظيم اســتداللي لألفكــار ‪ ،‬وأخص ماتمتــاز بــه‬
‫النظرة الكاشفة القاؤها الضوء كامًال على الموضوع المدروس ‪ ،‬وربما كــان أخص مايمتــاز بــه‬
‫التعبير عن تلك النظرة الكاشفة في كمالها وتمامها هو التعبير بالخواطر البتحرير كتــاب منســق‬
‫كل التنسيق )(*)‬
‫مفهوم الجشتالت في كتاب ( الخواطر )( ‪:) PENSEES‬‬
‫كانت أفكار ( الخواطر ) عند باسكال مثل لمعان الــبرق الحــارق الخــارق تضــيء الوجــود في‬
‫لحظــة واحــدة ‪ ،‬ويــذكرنا هــذا بكتــاب ( الخــاطرات ) لجمــال الــدين األفغــاني ‪ ،‬وكتــاب هكــذا تكلم‬
‫زرادشت للفيلسوف األلماني ( نيتشه ) وهـذه الومضــات الفكريــة هي أحــد اتجاهـات علم النفس‬
‫المعروفة بالجشتالت ‪ ،‬وكلمة ( ‪ ) GESTALT‬تعني باأللماني االطار الكبير أو النسق الشامل‬
‫أو النظر الكلي أو التشكل والشكل العام المباشـر ‪ ،‬حيث يصـل العقـل لفهم وضـٍع بـدون االنتقـال‬
‫التدريجي التحليلي لفهم الواقعــة ‪ ،‬وهــو كمــا نــرى أحــد نزعــات عمــل الــدماغ االنســاني ‪ .‬هــذه‬
‫النظرة ( الحدسية ) الكشفية الفجائية والشاملة مثل لمع البرق هي التي قادته الى كشــف قـانون‬
‫االحتماالت ‪ ،‬عندما رأى المقامرين فسأله صديقه عن احتماالت الربح والخسارة ؟ فأجاب فــورًا‬
‫وبعفوية ناطقًا بقانون رياضــي مــدهش مــازال يعتمــد حــتى اليــوم في عــالم الرياضــيات لمشــكلة‬
‫الصدفة في الكون وهو القانون الذي يقول ( إن حظ الصدفة من االعتبــار يــزداد وينقص بنســبة‬
‫معكوسة مع عدد االمكانيات المتكافئة المتزاحمة ) وهذا الــتركيب العقلي عنــده هــو الــذي جعلــه‬
‫يزحزح بنقلة فجائية نوعية فكرة الرهان من مستوى قــانون االحتمــاالت الرياضــي الى المصــير‬
‫االنساني ‪.‬‬
‫الرهان الرياضي والمصير االنساني ‪:‬‬
‫وهي فكرة التخلو من الطرافة وهو يرى أن فكرة اإليمان بــاليوم اآلخــر تبقى أفضــل حــتى من‬
‫الناحية البراغماتية المحضة ‪ ،‬في ضوء قــانون االحتمــاالت حيث يبقى أمــام االنســان خيــاران ‪،‬‬
‫يــترتب على األول الفــوز بكــل شــيء ‪ ،‬في حين أن عكســه اليعرضــه ألي خســارة ‪ ،‬وهي نفس‬
‫الفكرة التي نظمها أبو العالء المعري شعرًا ‪:‬‬
‫قال الطبيب والمنجم كالهــــما التحشر األجساد قلت إليكــــما‬
‫إن صح قولكما فلست بخاسر وإن صح قولي فالخسار عليكما‬

‫‪174‬‬
‫طهرت ثوبي للصالة وقبله طهٌر فأين الطهر من جســــــــــديكما‬
‫ويعلق صاحب كتاب الموت في الفكر الغربي ( جاك شورون ) على ذلك بقوله ‪ (( :‬وإنما نظرته‬
‫الى الرهان نظرة براجماتية محضة ‪ .‬إن وزنه للمخــاطر والتركــيز على مــاهو أكــثر نفعــا ‪ ،‬على‬
‫مايجلب الميزة الكبرى في إطار طمأنينة النفس والسعادة الالمتناهية )‬
‫علوم النفس والمجتمع هي العلوم المركزية ‪:‬‬
‫ولكن رحلة باسكال لم تقف عند العلم بل حـاول فهم المشـكالت االنسـانية في ضـوء الفلسـفة ‪،‬‬
‫والعلوم المادية جيدة إذا وضعت في إطارها الصــحيح ‪ ،‬كمــا أنهــا التتولــد اال في منــاخ خــاص ‪،‬‬
‫فهنــاك عالقــة جدليــة بين التكنولوجيــا والقاعــدة العلميــة والمنــاخ الفكــري ‪ ،‬أي عــالم األشــياء‬
‫واألشــخاص واألفكــار على حــد تعبــير المفكــر الجزائــري ( مالـك بن نــبي ) أو كمــا يقــول المثــل‬
‫األمريكي ‪ ( :‬األشخاص التافهون يتكلمون في األشياء ويحرصون على امتالكها ‪ .‬والســطحيون‬
‫يروقهم الحديث عن اآلخرين ‪ .‬الالمعون والنــابهون هم الــذين يعنــون بــالعلم ويتــذوقون األفكــار‬
‫وينعمون بنشوة الروح ) فإذا أردت أن تعرف نفسك أو جليسك فانظر كيف تقضــي وقتــك ومــاذا‬
‫يفعــل بــالفراغ ؟ والكتشــاف الــذات تبقى الوحــدة أفضــل مشــعر على التــذوي والتخــوي والتقعــر‬
‫الــداخلي من غنــاه وخصــبه وحيويتــه ‪ .‬علــوم الكوســمولوجيا والفيزيــاء النوويــة والبيولوجيــا‬
‫والمناخ والبيئة والطب والنبات كلها جيدة ‪ ،‬ولكن العلوم المركزية هي علم النفس والمجتمع ‪.‬‬
‫جدلية التكنولوجيا _ القاعدة العلمية _ حرية الفكر ‪:‬‬
‫االنتاج التكنولوجي اليـأتي من فـراغ بـل البـد لـه من قاعـدة علميـة ‪ ،‬واسـتواء هـذه القاعـدة‬
‫بدورها يتطلب مناخًا عقليًا خاصًا ‪ .‬والقــرآن في هــذا الصــدد يجب أن يفهم ليس على أنــه كتــاب‬
‫طب وكشوف علمية ‪ ،‬بل هو الكتاب الذي دشن المناخ العقلي لتوليد كل هذه العلوم ‪.‬‬
‫وفي ضوء هذه الفكرة فإن فالسفة عصر التنوير من أمثال ديكارت وكانت وباســكال وهيجــل‬
‫دشنوا البناء النظري للحضارة الغربية الحالية ‪ .‬ومهما حاولنا شراء التكنولوجيا المتطــورة من‬
‫الغرب فإننا سنبقى نلهث بدون توقف ؛ مــالم ننتج القاعـدة الـتي تولـد ( األشــياء التكنولوجيــة )‬
‫وهي قاعدة علمية ‪ .‬ولكن هذه القاعدة بدورها تحتاج الى مناخ فكري خـاص ‪ .‬من أبـرز صـفات‬
‫هذا المناخ حريــة الفكــر ‪ ،‬فـالفكر الغــربي اليــوم يبحث بــدون ( تــابو) بــدًء من الدراســة النقديــة‬
‫للكتاب المقدس وانتهاء بالجنس كظاهرة انسانية وليس كأداة تجارية رخيصة ‪ .‬وفي جامعة مك‬
‫‪ -‬جيل ( ‪ ) Mc. GIL‬في مونتريال يدرس الطالب أنظمة الحكم في العالم ‪ ،‬حيث تخضــع النظم‬
‫الديكتاتورية السياسية الى دراسة مخبريــة ‪ ،‬كمــا يــدرس األطبــاء الباكتريــا وتفريخهــا وتمكنهــا‬
‫واستفحال مرضها ‪ ،‬كذلك العثور على الترياق المناسب لســمومها ‪ ،‬ليس لتصــديرها الى الــدول‬
‫البئيسة المبتلية بهذه السرطانات ‪ ،‬بل لالحتفاظ بها في األدراج السرية للمؤسسات العســكرية ‪،‬‬
‫كمــا رأينــا في فــيروس الموتابــا في فيلم االنفجــار الفيروســي (‪ ) OUTBREAK‬فالسياســة‬
‫علم ‪ ،‬والجنس علم ‪ ،‬وعالقة االيمـان بـالعلم أيضـًا علم ‪ ،‬وفي اللحظـة الـتي نوحـد فيهـا طـرفي‬
‫معادلة العلم وااليمان ‪ ،‬كما وحــد آينشــتاين المــادة والطاقــة فســوف تحــل أعظم مشــكلة واجهت‬
‫العقل االنساني حتى اليوم ‪.‬‬
‫سحر الشكل الهندسي في األرقام عند باسكال ‪:‬‬
‫كان باسكال يدشن عصر النهضة العقلي بطريقة مختلفة ‪ ،‬ففي الوقت الـذي حـاول ديكـارت أن‬
‫يقلب الهندسـة الى أرقـام ‪ ،‬فـإن باسـكال اسـتولى عليـه روح الجمـال في رشـاقة الهندسـة َفَفِهم‬
‫األرقام من خالل تراكيب هندسية ‪ ،‬كما في اكتشافه المثلث الحسابي ( فاألعداد تتركب فيما بينها‬
‫وتنتظم عنده في أشكال هندسية يمكن تحديد خصائصها كما هو األمر عند فيثاغورس وفي تقدم‬
‫باسكال من نظام عددي الى نظام عددي آخر ينتقل أيضًا من شكل هندسي الى شكل هندسي آخــر‬
‫‪ ،‬واليرجع أبدًا الى العبـارات الرمزيـة العامـة الـتي نجـدها في الجـبر وال الى التركيبـات العقليـة‬
‫الخيالية التي نجدها عند ديكارت ‪ .‬إنه يرجع دائمًا وأبدًا الى نظرة فنية كاشفة )(*)‬
‫القطيع فيه ‪ 400‬رأس من الغنم ‪:‬‬

‫‪175‬‬
‫ومن هذه الروح ( الحدسية ) الـتي تتـذوق الجمـال المباشـر في العالقـات الخفيـة بين األرقـام‬
‫والشكل الهندسي يروى عن باسكال أنه كان في الريف مع أصدقاءه ‪ ،‬وإذ مر بجانبهم قطيع من‬
‫الغنم فنظر الى شكله الهندسي بسرعة فائقة ثم نطق بعدد األغنام التي تسرح في المرج ‪ .‬وكــان‬
‫الرقم كما توقعه اربعمائة رأس من الغنم !!‬
‫موقفه الفلسفي من الرياضيات ‪:‬‬
‫ومن هذا الفهم الرياضي في عالقات األرقام واألشكال الهندســية الفنيــة ‪ ،‬وصــل الى كشــف هــام‬
‫آخــر في العالقــات الرياضــية ‪ ،‬ســيخرج منــه بعــد ذلــك بخالصــة فلســفية في قضــية الالنهــايتين‬
‫وجدلية االنسان ‪ ،‬أمــا في المســتوى الرياضــي فوصــل الى مبــدأ يقــول إن بين المــراتب العدديــة‬
‫اختالفًا النستطيع أن نقول عنه اال أنه المتناهي ‪ ،‬وشرع بعد ذلك في كتابة سفر صغير ظهــر لــه‬
‫عام ‪ 1654‬م في نفس العام الذي صدر له المثلث الحسابي ‪ ،‬الذي رأى فيه األرقــام على أشــكال‬
‫هندسية ( هناك مبدأ ينص على أن مقدارًا متصًال اليكبر إن أضفنا له مقدارًا أي ـًا كــان من مرتبــة‬
‫هندسية فوقه ‪ ،‬فاليمكن جمع النقــاط الى الخطــوط ‪ ،‬وال الخطــوط الى المســاحات ‪ ،‬وال هــذه الى‬
‫الحجوم ‪ ،‬أو بتعبير آخر الحســاب للجــذور أمــام المربعــات ‪ ،‬وال للمربعــات أمــام المكعبــات ‪ ،‬وال‬
‫لهذه أمام مربعات المربعات ‪ ،‬فأمام الكميات العليا علينا أن نهمــل الكميــات الــدنيا كمــا لــو كــانت‬
‫عدمًا مطلقًا )(*) هذا الفهم الرياضي قاده الى معالجــة المشــكلة االنســانية الكــبرى ‪ ،‬في خمســة‬
‫اسقاطات ‪ :‬مفهوم العدالة _ اليقين _ السعادة _ اللهو _ العلم أو مفهوم الالنهايتان ؛ فإذا كــانت‬
‫هناك خنــادق يتعــذر اختراقهــا أو القفــز من فوقهــا في الرياضــيات ‪ ،‬أو تشــكل الفضــاءات بينهــا‬
‫مسافات النهائية فهي نفس الشيء في مستوى النفس االنسانية والمجتمع ‪.‬‬
‫مشكلة العدالة االنسانية أو العدل الكوني ‪:‬‬
‫تمثل العدالة األرضية أكبر التناقضات االنسانية عند باسكال ؛ فكما في مشكلة الرياضيات بعدم‬
‫إمكانية إضافة الخطوط الى النقاط وال السـطوح الى الحجـوم ‪ ،‬فهـو في مشـكلة العدالـة الكونيـة‬
‫يقيمها على جدلية ثالثية بين االنفعال والخيال والعقل ( فالخوف نفور وابتعاد عن أشياء اليلــزم‬
‫دائمًا االبتعاد عنها وهو يحثنا على قبول ماتمليه علينا السلطات الخارجيــة العنيفــة دون تــردد ‪،‬‬
‫والخوف يصور سيادة تلك السلطات على النفس ‪ .‬وأثر الخوف واضح كل الوضوح لــو توطــدت‬
‫سلطته بالعادة )(*) فالدولة بنيت على احتكار العنف ‪ ،‬وبواسطة العنــف تم لجم النــاس بــالرعب‬
‫فاعتادوا النظام ‪ ،‬فأساس الدولة هو عنف وخوف ‪ ،‬عنف خارجي وخوف داخلي ‪ ،‬واليظهر هذا‬
‫العنف والخوف اال في مواجهات فجائيــة ‪ ،‬والــذي يعطي االســتمرارية لهــذا الوضــع هــو اعتيــاد‬
‫الناس أكثر منه قناعتهم بهذا النظام ‪ ،‬فيبقى النظام مع العنف أفضل من الفوضــى مــع الخــوف ‪.‬‬
‫وهنا يمسك باسكال بعنق هذه المتحارجة العجيبة ‪ .‬الدولة وفــق تأســيس النظــام الــداخلي تحــرم‬
‫القتل وتعاقب عليه وتعتــبره رأس الكبــائر وأعظم الجــرائم ‪ .‬ولكن نفس الدولــة تــأمر بالقتــل في‬
‫الحروب والثورات ‪ ،‬وتشجع عليه وتكافيء ‪ ،‬وتعتــبر أَّن من ُيقتــل من طرفهــا شــهيد ‪ ،‬وأَّن من‬
‫ُيقتل من الطرف اآلخر مجرم ‪ .‬في عالقة معكوسة في الدولة المقابلة ‪ .‬فالشهيد هناك مجرم هنا‬
‫والعكس بالعكس ‪.‬‬
‫عالقة الشهيد _ المجرم ‪:‬‬
‫فعالقة ( الشهيد _ المجرم ) تقوم الدولة بتأسيسها مع فقدان كل قاعدة أخالقية وعقالنية لها‬
‫‪ .‬وعندما تحدث الحــروب يتم قتــل االنســان بكــل ســهولة بــاألوامر ‪ ،‬حــتى أن الجيــوش تســتخدم‬
‫سالحًا خاصًا الستمرار المجزرة ‪ ،‬بحيث أن الذي الَيْقِتل ُيقتل ‪ ،‬كما صور ذلك الكاتب األمريكي (‬
‫ارنست همنغواي ) في قصته الدرامية المؤثرة ( وداعًا أيها السالح ) ‪.‬‬
‫لو اجتمع القاتل والمقتول خارج المعركة لتحادثا وضَّيف الواحد اآلخر فنجانًا من القهوة ‪ ،‬فال‬
‫توجد عداوة بينهما ‪ ،‬ولكن في الحرب يقتل االنسان أخيه االنسان باألمر فقــط مــع عــدم معرفتــه‬
‫سلفًا فضًال عن وجود عداوة أو حقـد سـابق ‪ .‬فالقتـل يتم على الجغرافيـا أو الهويـة الشخصـية ‪.‬‬
‫على الجغرافيا في الحروب االقليمية فُيقتل من هو وراء النهر أو خلف الجبــل الـذي يفــترق عنـا‬
‫ويبعد بخط سياسي وهمي ( والذي حطمه العلم اليوم بنظام االتصــاالت كمــا في أجهــزة الــدش )‬

‫‪176‬‬
‫وُيقتل على الهوية في الحروب األهلية عندما نعتبر أن من ولد من عرق أو لغة أو لهجة أو دين‬
‫أو مذهب أو طائفة أو عائلة أو حزب مختلف عنا ‪ ،‬يمثل اآلخر ‪ ،‬يجوز لنا أن نسفك دمه ونطهر‬
‫األرض من نجسه وجنسه وهرطقته بكل راحة ضمير ؛‬
‫العدالة في طريقها الى نفق مسدود في جدلية محيرة ‪:‬‬
‫كأَّن العدالة إذًا في طريقها الى نفق مسدود ؟!‬
‫يـرى باسـكال أن االنسـان في جدليـة الطريـق الى حلهـا ‪ ،‬وهـو شـقي ألنـه اليلقى حكمـًا عـادًال‬
‫ويرضخ للظلم ‪ ،‬ولكنه بنفس الوقت عظيم ألنه اليرضى بالظلم ويبحث عن العدالة الحقة ويؤمن‬
‫بإمكانية العثور عليها ‪ ،‬فاالنسانية في جدلية محــيرة وفي وضــع غــير قابــل للحــل ‪ ،‬وينتقــل من‬
‫موقف الى ضده ‪ ،‬اليرضى بالواحد وال اآلخــر ‪ ،‬اليرضــى بــالظلم وهــو واقــع ‪ ،‬ويــؤمن بالعدالــة‬
‫وهي غــير متحققــة والواقعــة ‪ ،‬حركــة جدليــة في النفس تخضــع لمنطــق زئبقي غــريب اليمكن‬
‫االمساك به ‪ ،‬فال أمل إذًا في العدالة ‪ ،‬كما المفر من شبح حقيقة العدالة ووجودها ‪ ،‬وهذا الخيال‬
‫خفي على الجمهور وهو يقين عند المفكرين ‪ .‬ويؤدي نظم ـًا من التفكــير على هــذه الشــاكلة الى‬
‫شيء عجيب ونتيجة هامة خطيرة ؛ وهي إن االنسان يبحث بكل قواه عن عدالة حقة فاليجدها ‪،‬‬
‫ولكنه يبقى باحثًا عنها المرة بعد المرة على الرغم من فشله ‪ ،‬يؤمن بها ويعجــز عن تحقيقهــا ‪،‬‬
‫يحلم بها واليمكنه االمساك بها ‪ ،‬يسبح في الخيال مـع جمهوريـة افالطـون والدولـة الراشـدية ‪،‬‬
‫ولكنه يصطدم في الواقع بالدولة االموية البيزنطية ‪ ،‬يفكر في الخيال في عمر وعلي ( ر) ولكنه‬
‫يفاجىء بيزيد وفرعون وتيطس ‪ ...‬فهل هناك من مخرج لهذه الجدلية المحيرة‬
‫دنيا الرياضيات والفلسفة والنفس ‪:‬‬
‫إذا كان االنسان في وســط هـذا العــالم يســبح بين العــدم والالنهايــة ‪ ،‬فهــو كــل شــيء إذا قيس‬
‫بالعــدم ‪ ،‬وهـو صــفر والشــيء إذا قيس بالالنهايــة ‪ ،‬عـاجز عن إدراك العــدم الـذي خــرج منــه ‪،‬‬
‫والعــدم الـذي يــدفع الى التالشــي داخلـه مثــل الثقب األسـود ‪ ،‬تحت ضــغط قـوة جبــارة اليفهمهــا‬
‫والطاقة له بها ‪ .‬وإذا كان العلم والعقل اليفيدنا بالبرهنة على الزمان والمكان والفــرق بين الحلم‬
‫والحقيقة ‪ ،‬ولماذا كانت األبعاد ثالثية ولم تكن عشرة كما هي في نظرية األوتار الفائقــة اليــوم ‪،‬‬
‫بعد أن دشنت النسبية األبعاد األربعة ‪ ،‬ودشن البريطاني توينبي في التاريخ البعــد الســادس بعــد‬
‫البعد السيكولوجي الخامس ‪ .‬وإذا كان العقل ليس عنده الجـواب لمـاذا كـانت األعـداد النهائيـة ؟‬
‫ولماذا كان تصورنا لحافة الكون النهائية ؟ ولماذا كان هللا يمثل المطلــق الالنهــائي األول اآلخــر‬
‫الظاهر الباطن في ‪ 99‬اسم من أسماءه الحسنى ؟ ولمــاذا كــان العقــل اليــبرهن على عــدم وجــود‬
‫عددين مربعين أحــدهما ضــعف اآلخــر ؟ فـإن نفس القفــزة النوعيــة من الالمتناهيــات تدشــن في‬
‫ثالث عــوالم ‪ :‬المــادة _ العقــل _ النفس ‪ .‬الــتي تمثــل قــوة الحب في األخــيرة منهــا أعظم قــوى‬
‫الوجود ‪.‬‬
‫قانون العظمات الثالث ( المادة _ الفلسفة _ الحب )‪:‬‬
‫مهما كانت المادة عظيمة فالعقل أعظم منها ‪ ،‬ألنه يمثل قفزة نوعية ‪ ،‬ولكن النفس تمثل البعــد‬
‫الجديــد في منطقــه الخــاص ‪ .‬والنــاس في هــذه المــراتب ثالث شــرائح ‪ :‬الشــريحة األولى تملــك‬
‫األشياء والقوة المادية مثل القادة واألغنياء ‪ ،‬والثانية هم العلمـاء والفالسـفة ويتمتعـون بتـدفق‬
‫العقل والسباحة في العلم ‪ ،‬والشــريحة الثالثــة هم أصــحاب الطيــف الــروحي ‪ .‬وبين كــل شــريحة‬
‫وأخرى فضاء المتناهي ‪ ،‬مثل الفضاء الوجودي في العدم والالنهاية واالنسان بينهمــا ‪ ،‬فحيثمــا‬
‫توجه االنسان الى الفضاء الخارجي أو الذرة أصيب بالــدوار من مســافة النهائيــة يطــل عليهــا ‪،‬‬
‫كما يحدث شعور الدوار بالنظر من مرتفع شاهق ‪ .‬ونظرًا ألن حل الجدل االنساني لم تقترب فيــه‬
‫الفلسفة من جدار الحل ‪ ،‬فيجب أن نبحث في اتجاه آخر ‪.‬‬
‫لتوديع الجدار الفلسفي ‪:‬‬
‫يرى باسكال أن أعظم عقبتين تواجه االنسان الختراق الجدار الفلســفي ‪ ،‬ليودعهــا الى فضــاء‬
‫يمكن حل الجدل االنسـاني فيـه هي الشـهوة والكبريـاء ‪ ،‬فمـع الشـهوة تتعرقـل لحظـة النهـوض‬
‫االنساني باالندفاع خلف اللذات والمال ‪ ،‬وبالرذيلة الثانية يدخل االنسان منعــرج الشــيطان الــذي‬

‫‪177‬‬
‫الرجعة منه والتوبة ؛ فاالنسان سقط بالحرص ‪ ،‬والشيطان هوى بالكبر عندما تصور نفسه أنــه‬
‫أفضل من غيره ‪.‬‬
‫حديث الروح ‪:‬‬
‫عندما نفهم االنسان أنه مركب من ثنائيـة ‪ ،‬فكلمـة االنسـان تـدل داللـة واقعيـة تاريخيـة على‬
‫وجود طبيعتين أو حالتين بكلمة أدق ‪ ،‬ألنه يمتنع التضاد في الحالة الواحدة ‪ ،‬فالبد من اكتشــاف‬
‫الوحدة االنسانية في هذا التضاد ‪ .‬محاولة باسكال كانت في اكتشاف هذه الوحدة االنسانية النقاذ‬
‫االنســـان من التضـــاد والثنائيـــة ‪ ،‬الـــتي لم تســـتطع الفلســـفة حلهـــا منـــذ المدرســـة الرواقيـــة‬
‫واالبيقورية ‪ ،‬وانتهاء بفلسفة مونتيني والُش َّك اك في زمنه ‪ ،‬لقد وجد الحــل في صــورة أشــخاص‬
‫بشر مشوا على األرض هم من صنف آخر غير صنف القادة واألغنياء والفالســفة هم األنبيــاء ‪،‬‬
‫فحسب باسكال كان نهج األنبياء هو المنهج الذي حل الجدل ووحد االنسان وكسر الثنائية والغى‬
‫التضاد ‪ ،‬وكان الدواء والبلسم واالكسير في هذه الوصفة السحرية ‪ :‬الحب ‪.‬‬
‫في أجمل أغاني أم كلثوم ( قصيدة حديث الروح ) لشاعر االسالم محمد إقبال عنــدما ينشــد في‬
‫هجوع الليل األخير يبكي ويناجي هللا في الوحدة والخلوة يشكو إليه من حــال المســلمين ‪ ،‬يقــول‬
‫إقبال إن الوحيد من كائنـات السـماء ‪ ،‬الـذي مـيز صـوت نجـواه بسـرعة ؛ كـان رضـوان خـازن‬
‫الجنان ‪ ،‬عندما قال ‪ :‬إنني أعرف هذا الصوت فمنذ زمن بعيــد كــان أبــواه عنــدي في الجنــة ‪ .‬إن‬
‫صوته الحزين يذكرني بصوت أبيه وأمه عندما سجدا هلل معــترفين بــذنوبهما ‪ ،‬فـدخال إطــار حــل‬
‫المشكلة االنسانية باالعتراف بظلم النفس وليس بإلقاء اللوم على اآلخرين بما فيهم الشــيطان ‪،‬‬
‫كاشفين ومكتشفين حقيقة وجودهما أن مشاكل االنسان هي من داخلــه وليس العــالم الخــارجي ‪.‬‬
‫ربنا إننا ظلمنا أنفسنا ‪ .‬بهذا االعتراف أصبح االنسان أفضل من المالئكة فسجدت لــه ‪ ،‬وهي في‬
‫العادة التسجد اال لرب العالمين ‪.‬‬
‫مالحظة ماجاء بين قوسين (*) منقول من كتاب نوابغ افكر الغربي لمؤلفه نجيب بلدي ‪.‬‬

‫جان جاك روسو‬


‫في اللحظة التي ولد فيها الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) عام ‪1712‬م في جنيف‪ ،‬كانت‬
‫أمه في محنة كبيرة‪ ،‬تنزف على نحو خطير‪ .‬ونحن األطباء نعرف هذه الظاهرة جيدا‪ ،‬عندما‬
‫يعجز الرحم عن التقلص بعد الوضع‪ ،‬وال نجاة منها إال باستئصال الرحم كله أحيانا‪..‬‬
‫وقصة الوالدة معجزة إلهية‪ ،‬فلوال تقلص الرحم واسترخائه ما نزل الجنين‪ ،‬ولوال االنقباض‬
‫لماتت كل امرأة تلد‪..‬‬
‫وفي أنفسكم أفال تبصرون‪.‬‬
‫والمهم فإن أم الفيلسوف روسو في ظروف فرنسا البائسة من التخلف الطبي والفقر ماتت بعد‬
‫ساعة من والدة الفيلسوف‪ ،‬أما أبوه فكان منفيًا من المدينة‪ ،‬وهكذا تعلم الفلسفة من المعاناة‪.‬‬
‫"ولد الناس أحرارًا ولكنهم يرزحون في األغالل في كل مكان"‪.‬‬
‫بهذه الجملة اشتهر هذا الرجل‪ ،‬مع أن معظم ماجاء به سبقه إليه كثيرون؟‬

‫‪178‬‬
‫وفي الواقع لمع هذا الرجل للطبيعة الحامية التي تميز بها‪ ،‬والكم الهائل من األفكار الثورية التي‬
‫قذفها الى ساحة الفكر‪ ،‬فهو يرى أن مايغير االنسان هي األفكار االجتماعية والنفسية‪ ،‬أكثر من‬
‫الفيزياء والكيمياء أو قوانين البيولوجيا‪.‬‬
‫ومعظم تراثه الذي تركه صب في مجاري االجتماع والسياسة واالنثروبولوجيا والتربية والدين؛‬
‫فهو كتب في السياسة بعنوان (مقالة في أصل الظلم) عام ‪ 1755‬م‪ ،‬وفي التربية (أميل) عام‬
‫‪1762‬م وهو من أجمل ما كتب في تربية الطفل‪ ،‬وفي علم االجتماع (العقد االجتماعي) الذي‬
‫ذكر فيه " أن القانون هو ماسطر على القلوب أكثر منه ماكتب على الصفحات" وهو يشهد‬
‫لالنتخابات التي تحدث في العالم العربي وكلها تزويرا وغشا وكذبا وزورا‪ ،‬ذلك أن رصيد‬
‫الديموقراطية ليس الصناديق بل وعي الجماهير‪.‬‬
‫كما كتب مذكراته الشخصية‪ ،‬وهي بحق ممتعة بعنوان (االعترافات)‪ ،‬وأنا شخصيا تمتعت‬
‫بقراءتها‪.‬‬
‫ونقل عنه عالم النفس السلوكي (سكينر) بإعجاب فكرته عن توليد السلوك عند الطفل‪ ،‬وهي‬
‫تقنية الداية أي القابلة في الوالدة‪ ،‬فمن المهم للطفل أن نجعله يتصرف كما يريد‪ ،‬دون أن يدري‬
‫أنه يعمل مانريد‪.‬‬
‫كما تلد المرأة في الوالدة بكبسها ولكن بتوجيه القابلة‪.‬‬
‫وفي بداية حياته التمع اسمه مع المفكرين الفرنسيين المهمين مثل (فولتير) و(ديدرو) صاحب‬
‫الموسوعة و(كالمبير) ولكنه احتلف بآراءه عنهم شيئًا فشيئًا‪ ،‬من خالل بعض األفكار التي رأوا‬
‫فيها تطرفًا غير مقبول؛ مثل قوله أن المدنية سيئة‪.‬‬
‫وعندما سئل أي االثنين كان له الدور األكبر في تقدم االنسانية العلوم أم الفنون؟ كان جوابه‬
‫كالهما عمل على تخريب االنسان‪ .‬ولذلك دعا الى العودة الى الطبيعة‪.‬‬
‫وأجمل آراءه كانت في التربية حين نصح األمهات بااللتصاق الجيد بأبناءهن‪ ،‬وأن يعيش الطفل‬
‫في حضن أمه الى فترة طويلة‪ ،‬فيكسب الرحمة والحنان واحترام الحياة والثقة بالعالم‬
‫والمستقبل‪ ،‬وشهد لهذا دراسات إيريكسون في علم النفس االرتقائي وأزمات التطور الثمانية‪.‬‬
‫ومن أشد آراءه تطرفًا ماتبنته النظريات الفوضوية والشيوعية في نقض بنيان الدولة ألنها‬
‫سبب كل فساد‪ ،‬والفوضوية هي حكم الجماعة بدون دولة وليست فوضى كما ترجمت خطأ‪،‬‬
‫واألولى أن يقال مجتمع الالدولة كما دعا إلى ذلك تولستوي‪..‬‬
‫وعندما عثر على صبي (أفيرون) الوحشي من الغابة عام ‪1799‬م وكان غالمًا قد أهمل وترك‬
‫للغابة يعيش فيها‪ ،‬استطاع أن ينجو من الموت‪ ،‬وخرج قويًا كالحيونات‪ ،‬اليعرف البرد والمطر‬
‫والمرض‪ ،‬قال عنه روسو انظروا الى الطبيعة كيف تفعل باالنسان‪ ،‬وانظروا الى الحضارة ماذا‬
‫تفعل باالنسان؟ حين تسلب منه كل مقاومة عضوية‪ ،‬وكل نور فطري‪ ،‬وليس منها سوى إفساد‬
‫االنسان‪ ،‬وتلويث البيئة‪ ،‬وإشعال الحروب‪ ،‬وإفساد الصحة العامة‪.‬‬
‫وفي الواقع فإن كالمه قسم منه صحيح‪ ،‬ولكن والدة المجتمع لم تكن برغبة من االنسان بقدر‬
‫الضرورة لذلك كما قرر ابن خلدون‪ ،‬ونحن في النهاية كائنات اجتماعية‪ ،‬ولوال المجتمع‬
‫الفرنسي ماتطور روسو نفسه وال نطق الفرنسية وكتب؟ ولم يكن عمل االنبياء والمصلحين في‬
‫التاريخ يهدف الى تدمير المجتمعات بقدر الرقي بها‪..‬وهنا التحدي األعظم‪.‬‬
‫وفي الحديث المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم‪ ،‬خير من الذي اليخالطهم وال يصبر‬
‫على أذاهم‪..‬‬
‫ولد روسو عام ‪ 1712‬م في مطلع القرن الثامن عشر في مدينة جنيف بسويسرا‪ ،‬ولم يكن ذلك‬
‫الرجل الملتزم بعائلة وحياة مستقرة‪ ،‬بل عاش حياة بوهيمية ذكرها بالتفصيل في كتابه‬
‫(االعترافات) فعاشر الكثيرات وجاءه العديد من األوالد غير الشرعيين‪ ،‬وبقي يتنقل من حضن‬
‫امرأة ألخرى‪ ،‬وأنجب من األولى (تيريز ليفاسير) خمسة أبناء غير شرعيين‪ ،‬أودعهم جميعًا‬
‫مالجيء األطفال‪ ،‬ومات في نهاية حياته مكتئبًا حزينًا بسبب نفور الناس من افكاره‪ ،‬واالضطهاد‬
‫السياسي‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫وكان مماته عام ‪ 1778‬قبل اندالع الثورة بـ ‪ 11‬عاما ففاته هذا الفصل الممتع‪ ،‬والمقصة تهوي‬
‫على الرؤوس فتطير؛ فقد عاد المجتمع الفرنسي إلى الطبيعة كما أراد؟؟‪..‬‬

‫‪180‬‬
‫فرانسيس بيكون‬
‫( يجب أن نقذف بجميع نظريات القرون الوسطى بعيدًا‪،‬كذلك الجدل والحوار‬
‫والنظريات‪ ،‬التي تحتاج إلى إقامة البرهان وننساها‪ .‬ويجب على الفلسفة كي تجدد‬
‫نفسها‪ ،‬أن تبدأ مرة ثانية بقلم جديد ولوح نظيف وعقل مغسول مطهر‪ ،‬لذلك تكون‬
‫الخطوة األولى في الفلسفة هي تطهير العقل وتنقيته‪ ،‬وكأننا عدنا أطفاًال صغارا‬
‫أبرياء من األفكار واألحكام المسبقة‪ .‬إن مشكلة المنطق األولى هي تتبع مصادر هذه‬
‫األخطاء وسدها)‬
‫هذه األقوال هي لفيلسوف بريطاني عاش ‪ 65‬سنة‪ ،‬بين ‪ 1561‬و ‪ 1626‬م‪ ،‬ولكن‬
‫بصماته مازال لها األثر على الفكر اإلنساني حتى اليوم‪ ،‬هو (فرانسيس بيكون)‪.‬‬
‫ويجب أن نفرق هذا عن جبل آخر من العلم هو (روجر بيكون) استفتح عصر التنوير‬
‫سميه فرانسيس بقرون‪.‬‬
‫ويعلق المؤرخ األمريكي (ديورانت) على أثره في الفكر‪ ،‬أنه شق طريقًا جديدًا في‬
‫الفلسفة‪ ،‬بعد أرسطو‪ ،‬تعتمد الجانب العملي التجريبي‪.‬‬
‫وتشبه قصة هذا الفيلسوف البريطاني‪ ،‬حياة (ابن خلدون) فقد جمع بين الفلسفة‬
‫والسياسة‪ ،‬وهي خلطة صعبة إال على من يسرها هللا عليه‪.‬‬
‫وارتقى في المناصب الحكومية‪ ،‬حتى أصبح رئيس وزراء‪ ،‬في عهد جيمس األول‪،‬‬
‫ولكن السياسة حصان جموح غير قابل للترويض؛ فقد جلبت لنفسه المتاعب‬
‫والحساد؛ فكادوا له كيدا ورموه في غيابة السجن‪.‬‬
‫وفي نهاية حياته ذاق مرارة الفقر بعد نعمة الغنى‪ ،‬ولكنه عكف على إنتاج أفضل‬
‫شيء للبشر‪ ،‬أي الخالصات الفكرية‪ ،‬في عدة كتب أهمها كان كتاب‪(:‬البحث الجديد ـ‬
‫أورغانون نوفا ‪ )Organon Nova‬الذي وصف فيه أوهام العقل‪.‬‬
‫واختصرها في أربعة‪( :‬أوهام القبيلة) و(الكهف) و(السوق) و(المسرح)‪.‬‬
‫فأما أوهام (القبيلة) فهي مشكلة عقل االنسان‪ ،‬أنه مرآة مقعرة‪ ،‬على نحو ما‪ ،‬بمعنى‬
‫أنه يرى األشياء في ضوء الهوى والتقاليد التي نشأ فيها‪.‬‬
‫أما أوهام (الكهف) فهي شخصية‪ ،‬كما وصفها (أفالطون)‪ ،‬أن أحدنا يسكن في كهف‬
‫من التصورات‪ ،‬وإن النور الذي يأتي من الخارج يترك ظالله على جدران الكهف؛‬
‫فال نرى الحقيقة إال بعمل عقلي مجرد‪ ،‬وهيهات أن نصل الى الحقيقة‪.‬‬
‫وتحت ضغط هذه الفكرة وصل الفيلسوف (بيركلي) الى اعتبار أن العالم وهم؛ ألن ما‬
‫نراه ال يمثل العالم‪ ،‬بقدر الكاميرا العقلية التي نحملها داخل رؤوسنا‪.‬‬
‫أما أوهام (السوق) فهي التي تنشأ من عالم المال واألعمال‪ ،‬واجتماع الناس وتأثيرهم‬
‫بعضهم ببعض‪ ،‬ومن هنا اعتبر القرآن أن أكثر الناس ال يعقلون‪ ،‬ألن الميديا تعلب‬
‫دورها في إنشاء هذيان الجماهير‪ .‬وانهيار األسواق المالية ال يتبع قواعد موضوعية‪،‬‬
‫بقدر جموح العواطف‪ ،‬وتخوفات البشر‪ ،‬وأوهامهم حول األشياء‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫والواقع إن الديموقراطية جيدة‪ ،‬عندما يوجد الوعي‪ ،‬وإال أصبحت مهزلة؟! ومجالس‬
‫الشعب في جمهوريات الخوف والبطالة‪ ،‬ال تزيد عن مجالس قرود‪ ،‬ورصيد‬
‫الديموقراطية يبقى وعي األمة قبل الصناديق‪.‬‬
‫وأما أوهام (المسرح) فهي التي انتقلت إلينا من الفالسفة والمفكرين‪ ،‬أي تلك األفكار‬
‫التي نتلقاها بدون تمحيص‪.‬‬
‫ولذلك فإن (بيكون) اقترح علينا‪ ،‬أن نتحلى بالعقل النقدي أكثر من النقلي‪ ،‬كي نؤسس‬
‫لمعرفة سليمة‪.‬‬
‫والقرآن نعى جدا على إتباع اآلباء فقال‪:‬‬
‫(أولو كان آباؤهم ال يعقلون شيئًا وال يهتدون)‪.‬‬
‫بقي بيكون نشيطًا أليامه األخيرة‪ ،‬وعندما كان في طريقه لزيارة أحدهم خطرت له‬
‫فكرة عن حفظ الدجاج أو اللحم عموما؛ فكم من الوقت يحتفظ الثلج بلحم الدجاج بدون‬
‫فساد؟؟‬
‫وعندما سارع الى تطبيق التجربة على نفسه؛ انتابته عرواء ومرض ومات‪ ،‬غالبا من‬
‫التهاب رئوي حاد‪ ،‬في وقت لم تكن الصادات الحيوية موجودة‪ ،‬ولم يكن يعمر إال‬
‫القليلون النادرون‪.‬‬
‫هكذا مات سبينوزا عن عمر ‪ 42‬سنة بالتهاب صدر‪ ،‬وجن نيتشه بالتهاب الدماغ‬
‫الصمغي بعمر الخمسين‪ ،‬وقضى صالح الدين وهو كهل بالتهاب الطريق‬
‫الصفراوي‪ ،‬وأما اإلمام الشافعي فمات من البواسير‪ ،‬وهي اليوم تحل بعملية بسيطة‪..‬‬
‫وأوصى بيكون أن يكتب على قبره‪:‬‬
‫( أترك روحي الى هللا‪ ،‬وأما جسدي فأمره الى المجهول‪ ،‬وأما اسمي فأبقيه لألجيال‬
‫القادمة واإلنسانية جميعًا)‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫ديكارت مقلوبًا (‪)1‬‬
‫( أنا موجود أنا أفكر )‬
‫( بحث ظاهرة األنا في مؤتمر العلوم العصبية )‬
‫مع نهاية القرن الخامس الهجري عانى العالم االســالمي من إعصــارين مــدمرين ‪ ،‬األول كــان‬
‫في االنحطــاط األخالقي والسياســي ‪ ،‬كنتيجــة محتومــة لالنقالب األمــوي القــديم ‪ ،‬والثــاني من‬
‫تطويـٍق محكم ‪ ،‬بين مطرقــة المغــول وســنديان الصــليبيين ‪ .‬هــذان اإلعصــاران كــانت خلفيتهمــا‬
‫ثقافية بالدرجة األولى ‪ .‬فالجهاز المناعي الفكري وخطوط الدفاع العقلية كانت قــد انهــارت خط ـًا‬
‫بعــد خــط وخنــدقًا خلــف خنــدق ‪ .‬حــتى اختتم القــرن الســابع ومعــه انطفــأت الــروح الحضــارية‬
‫االسالمية ‪ ،‬الموافق لمنتصف القرن الثالث عشر للميالد ‪ ،‬عندما انهارا جناحا العــالم االســالمي‬
‫في فــترة عقـٍد من الــزمن (‪ )1‬وحصــل االنقالب الكــوني وبــدأت الحضــارة تكتب من اليســار الى‬
‫اليمين ‪ ،‬واستخدم الحصـان العـربي لغـزو ونهب العـالم الجديـد في االمريكيـتين ‪ .‬وُح بس العـالم‬
‫العربي خلف مضيق بحر الظلمات في زنزانة البحر المتوسط ‪.‬‬
‫أزمة العقل المسلم في القرن الخامس الهجري ‪:‬‬
‫في هذه الظروف المكربة صدم العقل االسالمي الى أعمق أعماقه في سؤال ملح ‪ :‬ماالــذي قــاد‬
‫الى الكارثة ؟؟‬
‫وقف االمام أبو حامد الغزالي ليقوم بأهم عملين عقليين ماســحين ‪ ،‬فيمــا يشــبه جهــاز الــرادار‬
‫العقلي ‪ ،‬في البحث بين االنقاض ‪ ،‬كما يفعل الباحثون عن الصندوق األسود عند تحطم الطائرات‬
‫‪ .‬في بحث الخلــل األخالقي ‪ ،‬وخلفيــة االعصــار العقلي ‪ ،‬فاســتنفر نفســه لدراســة أربعــة تيــارات‬
‫فكرية عاصفة كانت تجتاح العالم االسالمي وقتها ‪ :‬الفلسفة اليونانيــة وتيــارات الباطنيــة وفــرق‬
‫المتكلمين واالتجاه الصوفي ‪.‬‬
‫كان ضغط المصيبة ماحقًا ســاحقًا ‪ ،‬بحيث انضــغط عقــل الغــزالي فانحــدر الى الشــك ‪ .‬والشــك‬
‫دائرة مروعة وكأنها الثقب األسود الشفاط ‪ ،‬وهذا الذي حصل مع الغزالي ‪.‬‬
‫ومع تراكم سحب ( الشك ) اسودت معــالم الطــرق العقليــة ‪ ،‬وتســرب الشــك الى كــل المنافـذ ‪،‬‬
‫وفي النهاية استولى الشك بالكامل على عقل الغزالي وطوقه بإحكام ‪ ،‬حتى وصل الى الشك بكــل‬
‫شيء حوله ‪ ،‬وتسربت عفونة الشك الى المــدارك العقليــة االساســية مثــل البــديهيات االساســية‪.‬‬
‫تساءل الغزالي ‪ :‬إذا كان المنام كله ضربًا من الوهم ؟ فلماذا التكون الحياة كلها ضــربًا أكــبر في‬
‫الخيال السقيم ؟؟ يقول الغزالي‪ ((:‬فتوقفت النفس في جواب ذلك قليًال ‪ ،‬وأيدت إشكالها بالمنام ‪،‬‬
‫وقالت ‪ :‬أما تراك تعتقد في النوم أمورًا ‪ ،‬وتتخيل أحواًال ‪ ،‬وتعتقد لها ثباتًا واستقرارًا ‪ ،‬والتشــك‬
‫في تلك الحالة فيها ‪ ،‬ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيالتك ومعتقداتك أصل وطائــل ؟ فبم‬
‫تأمن أن يكون جميع ماتعتقده في يقظتك بحس أو عقل هــو حــق باالضــافة الى حالتــك الــتي أنت‬
‫فيها ؟ لكن يمكن أن تطـرأ عليـك حالـة تكـون نسـبتها الى يقظتـك ‪ ،‬كنسـبة يقظتـك الى منامـك ‪،‬‬
‫وتكون يقظتك نومًا باالضافة اليهــا ! فــإذا وردت تلــك الحالــة تيقنت أن جميــع مــاتوهمت بعقلــك‬
‫خياالت الحاصل لها )(‪)2‬‬
‫محنة الغزالي الروحية ‪:‬‬
‫وتطورت الصدمة العقلية الروحية عنــد الغــزالي الى أن أدخلتــه المــرض فــارتمى في الســرير‬
‫وكــاد أن يهلـك ‪ ،‬ويــروي تجربتــه الروحيــة الفكريــة بشــكل مــؤثر (( فلم أزل أتــردد بين تجــاذب‬
‫شهوات الدنيا ودواعي اآلخرة قريبًا من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين واربعمائــة ‪،‬‬
‫وفي هذا الشهر جاوز األمر حد االختيار الى االضطرار ‪ ،‬إذ أقفل هللا على لساني حتى اعتقل عن‬
‫التدريس ‪ ،‬فكنت أجاهد نفسي أن ادرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفــة الي ‪ ،‬فكــان الينطــق‬

‫‪183‬‬
‫لساني بكلمة واحدة وال استطيعها البتة ‪ ،‬حتى أورثت هــذه العقلــة في اللســان حزنــا في القلب ‪،‬‬
‫بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب ‪ ،‬فكان الينساغ لي ثريد ‪ ،‬والتنهضم لي لقمــة ؛‬
‫وتعدى الى ضعف القوى ‪ ،‬حتى قطع االطباء طمعهم في العالج وقالوا ‪ ( :‬هذا أمــر نــزل بــالقلب‬
‫ومنه سرى الى المزاج ‪ ،‬فالسبيل اليه بالعالج ‪ ،‬اال بأن يتروح السر عن الهم الملم )(‪)3‬‬
‫االنهدام العقلي الكبير على يد الغزالي ‪:‬‬
‫بقدر مابدأ الغزالي خطواتــه العقليــة األولى بجــبروت في تأســيس المعرفــة عنــدما أســس مبــدأ‬
‫اليقين في العلــوم (‪ )4‬بحيث التــتزعزع المعرفــة العقليــة حــتى لــو بــرهن على عكســها بتحويــل‬
‫الحجر الى ذهب والعصي الى ثعابين ‪ ،‬فالمعرفــة العقليــة هي أعمــق وأبقى ‪ ،‬والــذي تــرك كامــل‬
‫بصماته على العقل األوربي ؛ بقدر ماانتهى الغزالي نفســه ؛ عنــدما ســطر قلمــه كتــاب ( تهــافت‬
‫الفالسفة ) في نهاية رحلته الى حالـة فـراغ كاملـة باالنتحــار الصــوفي ‪ ،‬ممــا اضــطر ابن رشــد‬
‫الحقًا ؛ أن يتدخل بعملية فكرية جراحيــة اســعافية لعقــل مســلم منتحــر بــنزف داخلي ‪ ،‬قــد انهــار‬
‫صاحبها بفعل النزف الفكري الى حالــة الصــدمة غــير قابلــة الــتراجع ( ‪IRREVERSIBLE‬‬
‫‪ ) SHOCK‬فيكتب في الــوقت الضــائع للمبــاراة كتابــه ( تهــافت التهــافت )(‪ . )5‬لــذا لم يســتفد‬
‫العــالم االســالمي من كتابــات ابن رشــد شــيئًا ‪ ،‬بــل هي موضــع شــبهة وشــك فهــو من الــتراث‬
‫المحترق ‪.‬‬
‫ديكارت والمقال على المنهج ‪:‬‬
‫في الوقت الذي كان العالم االسالمي يضع عقله على الرف ‪ ،‬ويتوقف الزمن عنده على ضــرب‬
‫صــنج الصــوفية ‪ ،‬ويشــخر في أحالم ورديــة على قصــص ألــف ليلــة وليلــة ‪ ،‬كــانت بــذور منهج‬
‫الغــزالي في التأســيس المعــرفي من خالل مبــدأ الشــك يثمــر ثمراتــه في جنــوب ألمانيــا بطريقــة‬
‫مختلفة‪ .‬يقول ديكارت عن نفسه أن الثلج والـبرد اضــطره الى قضــاء الشــتاء في جنــوب ألمانيـا‬
‫قريبًا من مدينة أولم ( ‪ . ) ULM‬كان رينيه ديكارت من نبتات التنــوير العقلي الجديــد ‪ ،‬الــذي‬
‫امتد من شمال إيطاليا الى كل أوربا من الشعلة التي قدح زنادها البن رشد ‪.‬‬
‫يقول ديكارت أنــه التجــأ الى هـذه المكــان وهـو فـارغ البــال من الهم والحــزن والهــوى ‪ .‬كــان‬
‫الشيء الــذي يحتــل كــل ملكاتــه العقليــة هــو إمكانيــة الوصــول الى الوثاقــة واليقين في العلــوم ‪،‬‬
‫فديكارت كان قد ودع الفكر القديم وفقد ثقته به فكتب ‪:‬‬
‫(( العقل هو أحسن االشياء توزعًا بين الناس إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية ‪ ،‬حتى الذين‬
‫اليسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره ‪ ،‬ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم‬
‫منه ‪ .‬ويشهد هذا بأن قوة االصابة في الحكم التي تسمى العقل أو النطق تتساوى بين كل الناس‬
‫بالفطرة ‪ ،‬وكذلك يشهد بأن اختالف آرائنا التنشأ من أن البعض أعقل من البعض اآلخر ‪ ،‬وإنمــا‬
‫ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة ‪ ،‬ألنه اليكفي أن يكون للمرء عقل بـل المهم هـو أن‬
‫يحسن استخدامه ‪ ،‬وإن أكبر النفوس لمستعدة ألكبر الرذائل مثل استعدادها ألكبر الفضائل )(‪)6‬‬
‫المنهج الديكارتي ‪ :‬أنا أفكر ‪ ..‬أنا موجود ‪:‬‬
‫استولى الشك على كيان ديكارت كامًال فبـدأ يتنفس الشـك ويعيش فيـه ‪ ،‬ويقـول أن تلـك الليلـة‬
‫شعر وكأن دماغــه _ من شــدة التفكــير _ يوشــك على االنفجــار ‪ ،‬ثم انقــدح امامــه فجــأة المنهج‬
‫الجديد ‪ ،‬الذي عرف بالمنهج التحليلي الديكارتي ‪ ،‬الذي لنا عودة تفصيلية اليه اثناء الغوص في‬
‫بحر الفلسفة ‪ .‬قال ديكارت إنني عندما أشك أفكر ؛ حتى لوشككت في كل شيء ؛ بمافيه وجودي‬
‫بالذات ‪ ،‬حتى لو زالت الدنيا كلها ‪ ،‬فإن شيئًا اليزول واليتزحزح وهو انني أشك ؛ أي إنني أفكــر‬
‫وإذا كنت أفكر فهناك حقيقة أنـني موجـود على صـورة من الصـور ولكنـني موجـود ‪ .‬فهـذه هي‬
‫الحقيقة الراسخة الوحيدة التي يمكن أن استند اليها في كل عمليات التفكير ‪.‬‬
‫هذه الحقيقة الراسخة مهدت الطريق لعصـر التنـوير في أوربـا واعتـبرت الفلسـفة الديكارتيـة‬
‫أحــد المفاصــل الجوهريــة الــتي قــامت عليهــا الفلســفة األوربيــة الحديثــة ‪ ،‬باعتبــار أن ديكــارت‬
‫وعشرات من أمثاله كانوا البناة النظريون للعصر الحديث بكل انجازاته ‪ ،‬ألنــه مــع حركــة العقــل‬
‫تم تدشين حرية التفكير ‪ ،‬ومع حرية التفكير انطلقت االبحاث العلمية بدون حدود ‪ ،‬ومنهــا نبعت‬

‫‪184‬‬
‫التكنولوجيــا الحديثــة والنظم السياســية أي الليبراليــة االقتصــادية والديموقراطيــة السياســية ‪،‬‬
‫فهــؤالء المفكــرون العظــام هم الــذين حلــوا أعظم مشــاكل الجنس البشــري ؛ في عالقــة الســلطة‬
‫بالمواطن ‪ ،‬ونقل السلطة السلمي ‪ ،‬وبناء مناخ الحرية الفكرية الكامل بدون أي خــوف أو تــابو‪.‬‬
‫ولكن مؤتمر جمعية العلوم العصبية ( ‪) SOCIETY FOR NEUROSCIENCES‬‬
‫الذي ضم مايزيد عن عشرين ألف عالم ‪ ،‬اجتمعوا في مدينة سانت دييغو في مقاطعة كاليفورنيــا‬
‫من نهاية العام الماضي ‪ ،‬خرج ببعض النتائج التي بدأت تهز األقدام تحت نظرية ديكارت ‪.‬‬
‫مؤتمر ( سان دييجو ) يثير بحث المشكلة الفلسفية من جديد ‪:‬‬
‫في نوفمـــبر من العـــام الفـــائت اجتمـــع كٌم ضـــخم من أطبـــاء العصـــبية والمعلومـــاتيين (‬
‫‪ ) INFORMATIKER‬وعلماء النفس والفالسفة ومشــرحو الــدماغ وبيولوجيــو الكيميــاء‬
‫العصبية ‪ ،‬يريدون حل المعضلة القديمة للفلسفة ‪ :‬ماهو الوعي االنســاني ؟ لقــد حــاولوا اقتحــام‬
‫الدماغ لفهم أسراره الدفينة ‪ .‬ولكن من أجل فهم ماذا يعني الكيان ( أنا ) كان عليهم تجاوز عقبة‬
‫كؤود غير قابلة لالختراق على مايبــدو حــتى االن وهي ‪ :‬دور المشــاعر واالحاســيس وعالقتهــا‬
‫بالعقل والفكر ؟!‬
‫إن الثورة العقلية التي بدأها ديكارت مع عام ‪ 1644‬م عندما أطلق مقولته الفلســفية الشــهيرة‬
‫( أنا أفكر أنا موجود)( ‪ ) COGITO, ERGO SUM‬كان قد وضع أحد األحجار األساسية‬
‫في الفلسفة الحديثـة ‪ ،‬فأمـا الـروح والعقـل والـوعي فإنهـا تخص الكنيسـة ‪ ،‬وأمـا البـدن فيمكن‬
‫اقتحام التابو فيه وتعريضه للتشريح ‪ ،‬وهكذا أوجد النظريــة الثنائيــة في أن في االنســان كيانــان‬
‫يسبحان جنبا الى جنب الروح والبدن في ثنائية متالزمة غير مفهومة ‪ .‬ولكن كمــا تفعــل الثــورة‬
‫مع ابناءها فيبدو أن هذه الثورة العقلية تهدد بأكل ابناءها الـذين دشــنوها على حــد تعبــير مجلـة‬
‫الشبيجل األلمانية (‪ )7‬فاالتجاه بدأ ينعكس اآلن ليس البحث في البدن بل في الروح ‪ .‬فكيف نفهم‬
‫الذات ؟ كيف نعرف من نحن ؟‬
‫كل السر على مايبدو يربض تحت عظم الجمجمة ‪ ،‬في المادة المخية الــتي تضــم مائــة مليــار‬
‫خلية عصبية ‪ ،‬في تعقيد اليقاربه شيء في الكون ‪.‬‬
‫فكرة مفاتيح الدارات العصبية ‪:‬‬
‫يبــدو أن فهم الــدماغ يمشــي في اتجــاهين األول ‪ :‬هــو المزيــد من فــك أســراره ســواء المنــاطق‬
‫التشريحية أو أثر الكيمياء في التصرفات أو مركز اللغة ‪ ،‬واالتجاه الثاني هـو اســتحالة االحاطــة‬
‫بكامل الدارات العصبية الموجوة في دماغنا ‪ ،‬فالخاليا العصبية التي تصل الى مائــة مليــار خليــة‬
‫تتضافر فيما بينها بشبكة مخيفة من االرتباطات ‪ ،‬بحيث أنها تشكل دارات اليمكن االحاطة بهــا ‪،‬‬
‫ولعل رقم ( الجوجول )( ‪ ) GOGOL‬الذي يتحدثون عنه ‪ ،‬والذي هو عشرة قــوة مائــة ‪ ،‬هــو‬
‫رقم تقريبي ال أكثر للدارات العصبية الموجودة في دماغنا والتي تشكل تركيبنا ‪.‬‬
‫مقارنة بين تركيب الكروموسوم والدارات العصبية في الدماغ ‪:‬‬
‫لفهم التعقيــد المخيــف في دماغنــا يستحســن نقــل ذلــك الى المقارنــة مــع أعقــد التركيبــات‬
‫البيولوجية المسؤولة عن الوراثة في كياننا والــتي تبلــغ حــوال ثالثــة مليــارات جين ؛ الحــامض‬
‫النووي ‪.‬‬
‫إن تــركيب الحــامض النــووي يبقى في غايــة البســاطة مــع تــركيب ضــفيرة النورونــات ‪.‬‬
‫فالحامض النووي يتشكل من تتابع ألحماض أمينيــة أربعــة هي االدنين والســيتوزين والغــوانين‬
‫والثيمين ‪ ،‬ويرمزلها بالحروف ( ت _ س _ غ _ أ ) وهذه الحروف األربعــة تشــكل لغــة الخلــق‬
‫البيولوجيـة ‪ ،‬ويمكن لهـا أن تتـالى على غـير نظـام مثـل ( أ ‪ -‬أ _ أ _ ت ) أو ( ت _ س _ غ _‬
‫غ ) وهكذا واجتماع عدد ينقص أو يزيد من هذا التتابع لهذه الحروف يسمى ( جين )( ‪) GEN‬‬
‫وهــو المســؤول عن بنــاء عضــوي معين في البــدن ‪ ،‬مثــل االنســولين الــذي يحــرق الســكر أو‬
‫هورمون الغدة الدرقية الذي يشعل الفعالية في البدن ولكن الدارات العصبية هي حروف مبعــثرة‬
‫تبني ارتباطات عشوائية النهاية لها ‪ ،‬وهي ليست عشوائية ‪ ،‬بل كل دارة تولد معلومة أو لعلهــا‬

‫‪185‬‬
‫تفرز عاطفة ‪ ،‬أو تحث على شعور ما ؟ ويكفي أن نعلم أن كل جزيئات الوجود التزيد عن عشرة‬
‫قوة ‪ ، 88‬وبذلك تكون االرتباطات في دماغنا أعقد وأعظم شيء في الوجود (‪.)8‬‬
‫موضعة الوعي والمراكز العصبية ‪:‬‬
‫هذا الفهم للدارات العصبية يفتح الباب على انقالب نوعي في فهم أماكن االصــابات العصــبية ‪،‬‬
‫فاليعني خراب مكان بعينه أنه هو المسؤول عن الوظيفة الضائعة ‪ ،‬تمامًا كما في توقف السيارة‬
‫عن السير لنضوب البنزين فنظن أنها بسبب تعطل المحرك ‪ ،‬وهي االبحاث التي تقــدم النفســاني‬
‫البريطـاني ( ريتشـارد جريجـوري ) في نظريـة جديـدة لمواضـع الوظـائف ومعـنى الـوعي عنـد‬
‫االنسان ‪ .‬وشرح ذلك في مقال مبني على األصول ضد التموضع ويضــرب لــذلك مثًال (( إنــه من‬
‫المستحيل تقدير آثار إصـابة نوعيـة دون معرفـة كيفيـة تشـغيل أجـزاء الـدماغ مجتمعـة ولنأخـذ‬
‫مثًال ‪ :‬حالــة ماكينــة مجهولــة نحــاول فهم طريقــة تشــغيلها وذلــك بواســطة فــك قطعهــا بشــكل‬
‫اصطفائي واحدة تلو األخرى ‪ ،‬فإذا نزعنا منها جــزًء معينــا مثًال خــزان الوقــود فتــوقفت اآللــة ‪،‬‬
‫حينئذ يمكننا بشكل ساذج أن نستنتج ‪ ،‬إذا لم نكن قد رأينا ســيارة من قبــل ‪ ،‬بــأن آليــة الــدفع في‬
‫هذه الماكينة هي الخزان ‪ .‬ويبدي جريجوري المالحظة القائلة بأن المشكلة التنطرح فيما لو كنـا‬
‫نعرف اآلليات المعقدة للمحركات االنفجارية ‪ ،‬ونحن في حالة الدماغ لسنا في هــذا الموقــف ؛ إذ‬
‫أننا النملك نظرية وطيدة عن التشغيل الطبيعي للدماغ ‪ ،‬ولذلك فإن تأويالت المعطيات المســتمدة‬
‫من االصابات العصبية الدماغية يمسي عسيرًا )(‪)9‬‬
‫الغابة الدماغية والتيه العلمي ‪:‬‬
‫عجز المشــرحون عن التحقــق الفعلي من المراكــز العصــبية ومكــان الــوعي واالرادة ‪ ،‬واحتــار‬
‫علماء النفس في تفسير أحالم التحقق وظواهر الباراسيكولوجيا ‪ ،‬ولم يفهم تمام ـًا كيــف تتحــول‬
‫موجات الكهرباء الى ألوان بعينها مترجمة في الدماغ ‪ .‬لم يفهم تمامًا آليــة ترابــط المشــاعر مــع‬
‫األفكــار فيبــدو أن هنــاك نــوع من الترابــط المحكم يضــيع مــع تــدمير بعض الممــرات العصــبية ‪.‬‬
‫تخلخل البناء النظري الـذي وضـعه ديكـارت سـابقًا في ثنائيـة الـروح والبـدن ‪ ،‬فهنـاك نـوع من‬
‫الضفيرة المحكمة بين النفس والجسد ‪ ،‬فالروح تتنفس من خالل البدن والعكس صــحيح ‪ .‬ولغــز‬
‫العقل والوعي مازال قائمًا ‪.‬‬

‫مراجع وهوامش ‪:‬‬


‫(‪ ) 1‬من التصادف الغريب والمحزن لمصير العالم االسالمي أن جناحيه قطعا في فترة عقد من السنين ‪ ،‬فسقط‬
‫كما يسقط الطير بال جناحان ‪ .‬سقطت اشبيلية في االندلس في عام ‪ 1248‬م بيد االسبان ودم‹‹رت بغ‹‹داد ب‹‹المحراث‬
‫المغولي الهابط من الشرق في عام ‪ 1256‬م (‪ )2‬كتاب ( المنق‹‹ذ من الض‹‹الل والموص‹‹ل الى ذي الع‹‹زة والجالل )‬
‫أبو حامد الغزالي _ حققه جميل صليبا وكامل عياد _ دار االندلس _ ص ‪ )3( 85‬نفس المصدر السابق ص ‪136‬‬
‫(‪ ) 4‬تأمل تعبيرات الغزالي المدهشة في التأسيس المعرفي ( فالبد من طلب حقيقة العلم ماهي ؟ فظه‹‹ر لي أن العلم‬
‫اليقيني هو الذي ينكشف في‹ه المعل‹وم انكش‹افًا اليبقى مع‹ه ريب واليقارن‹ه إمك‹ان ال‹وهم والغل‹ط ‪ ،‬واليتس‹ع القلب‬
‫لتقدير ذلك ‪ ،‬بل األمان من الخطأ ينبغي أن يك‹‹ون مقارن‹ًا لليقين مقارن‹ًة ل‹و تح‹دي بإظه‹‹ار بطالن‹‹ه مثًال من يقلب‬
‫الحجر ذهبا والعصا ثعبانًا لم يورث ذلك شكًا وإنكارًا ‪ ،‬فإني إذا علمت أن العش‹رة أك‹ثر من الثالث‹ة ؛ فل‹و ق‹ال لي‬
‫قائل ‪ :‬ال ‪ ،‬بل الثالثة أكبر من العشرة ؛ بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانًا وقلبها وشاهدت ذلك منه ‪ ،‬لم أشك بسببه‬
‫في معرفتي ‪ ،‬ولم يحصل لي منه اال التعجب من كيفي‹‹ة قدرت‹‹ه علي‹‹ه ! أم‹‹ا الش‹ك فيم‹‹ا علمت‹‹ه فال ) نفس المص‹در‬
‫السابق ص ‪ )5( 82‬يراجع في هذا كتاب ( تكوين العقل العربي ) للمفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري _‬
‫مركز دراسات الوحدة العربية _ مثًال فصل العقل المستقيل في الثقافة العربية االسالمية (‪ )6‬مق‹‹ال على المنهج _‬
‫رينيه ديكارت _ ترجمة محمود الخضيري _ الناشر دار الكاتب العربي للطباعة والنش‹‹ر _ ص ‪ )7( 110‬مجل‹‹ة‬
‫الشبيجل األلماني‹ة الع‹دد ‪ 1996 16‬م _ البحث عن ال‹ذات ص ‪ )8( 190‬كت‹اب اللغ‹ة والفك‹ر _ ت‹أليف تش‹ارلز‬
‫فورست _ ترجمة محمود سيد رصاص _ الفصل األول ص ‪ )9( 6‬نفس المصدر السابق ص ‪. 216‬‬

‫‪186‬‬
‫ديكارت مقلوبًا (‪)2‬‬
‫( أنا موجود‪ ...‬أنا أفكر )‬
‫المعلومات الجديدة من مؤتمر العلوم العصبية حول اكتشاف ( األنا )‬

‫‪SOCIETY‬‬ ‫( بمناســـــــبة انعقـــــــاد مـــــــؤتمر العلـــــــوم العصـــــــبية ( ‪FOR‬‬


‫‪ ) NEUROSCIENCES‬في مدينـــة ســـان دييغـــو ( ‪ ) SAN DIEGO‬في مقاطعـــة‬
‫كاليفورنيــا األمريكيــة ‪ ،‬في نوفمــبر من العــام ‪ 1995‬م في ذكــرى تأسيســها قبــل ربــع قـرن من‬
‫الزمــان ‪ ،‬احتشــدت مظــاهرة ضــخمة من العلمــاء زاد عــددها عن عشــرين ألــف عــالم في شــتى‬
‫ميـــادين العلـــوم العصـــبية ‪ :‬من الـــذين يعملـــون في تشـــريح الـــدماغ ( ‪)ANATOMY‬‬
‫وفسيولوجيا االعصاب ‪ ،‬وجراحة المخ ‪ ،‬وأبحاث الخاليا العصبية ‪ ،‬وعلماء النفس ‪ ،‬والفالسفة‬
‫‪ ،‬وكيميــاء الــدماغ ‪ ،‬والمخــدرين ‪ ،‬والمعنــيين بالمخــدرات والمــدمنين والجريمــة ‪ ،‬وجماعــات‬
‫التنـــــويم المغناطيســـــي ‪ ،‬والمعتقـــــدين بالباراســـــيكولوجيا ‪ ،‬وأطبـــــاء النفس العصـــــبي (‬
‫‪ ، ) PSYCHONEUROLOGY‬أطبــــاء الصــــحة النفســــية ‪ ،‬وعلمــــاء الكمــــبيوتر ‪،‬‬
‫والمعلومــاتيين ‪ .‬كــانت عنــاوين االبحــاث فقــط ( ‪ ) ABSTRACTS‬تضــم ثالث مجلــدات‬
‫ضخمة ‪ .‬كان هدف االجتماع هو محاولة حل المشكلة الفلسفية القديمة في اكتشاف الذات ؟! من‬
‫يكون أنـا ؟ مـاهو الـوعي والالوعي ؟ مـاهو التفكـير ؟ وكـان أطـرف ماجـاء في المـؤتمر بعض‬
‫االختراقات المعرفية الجديدة التي قدمها بعض العلماء مثل ( بنيــامين ليــبيت)(‪BENJAMIN‬‬
‫‪ )LIBET‬الذي يعمل في فسيولوجيا االعصاب ‪ ،‬من جامعة كاليفورنيا في ســان فرانسيســكو ‪،‬‬
‫حول ظاهرة غياب الوعي عن الحاضر ‪ ،‬فالوعي يتــأخر دومـًا عن اللحظــة الراهنــة بــأجزاء من‬
‫الثانية ‪ ،‬فهو يلهث للحاق بنبض الزمن عبثًا ‪ ،‬فنحن عمليـًا خــارج الــزمن الفعلي ؟ ومنهــا الــتي‬
‫قدمها الدكتور ( انتونيــو داماســيو )( ‪ ) ANTONIO DAMASIO‬من جامعــة (إيــوا)(‬
‫‪ ) IOWA‬حول فهم جديد لجدلية العواطف والعقل ‪ ،‬في تقسيم مثــير للعواطــف االنســانية فيمــا‬
‫يشبه طيف الضوء ‪ ،‬فكمــا يتجمــع طيــف الضــوء األبيض من ســبعة ألــوان في حزمــة واحــدة ‪،‬‬
‫حولته الى اللون األبيض الذي نشعر به ‪ ،‬كذلك انبثقت تصرفات االنســان من حزم ـٍة من خمســة‬
‫عواطف هي ‪ :‬الحزن والسرور ‪ ،‬الخوف والغضب ‪ ،‬واالشمئزاز ‪ ،‬ليصل في النهاية الى دراسة‬
‫ميدانية مثيرة ‪ ،‬في تطبيق مقياس خاص على قيــاس العواطــف ونبض العقــل ونظم األفكــار عن‬
‫طريق فحص مادي لتعرق الجلد ) ‪.‬‬
‫حادثة المريض ايليوت ( ‪:) EIIIOT‬‬
‫كان الصداع الذي استولى على المريض مبرحًا ‪ ،‬اليفارقه ليل نهار ممــا اضــطره الى مراجعــة‬
‫طبيب االعصاب الدكتور ( انتونيو داماسيو ) الذي اكتشـف عنـده ورم في المنطقـة الجبهيـة من‬
‫الدماغ ‪.‬‬
‫كان المريض السيد ( ايليوت ) ذو وظيفة محترمــة ‪ ،‬في حيــاة زوجيــة مريحــة ‪ ،‬وفي عالقــات‬
‫ممتازة مع زمالءه وجيرانــه ‪ ،‬وباستشــارة جــراحي األعصــاب تم التــداخل الجــراحي الستئصــال‬
‫ورم سليم في الفص الجبهي الدماغي ‪ .‬تمت العملية بســالم ورجــع المــريض الى بيتــه معافـًا ‪...‬‬
‫ولكن‬
‫تناقض الذكاء والتصرفات ‪:‬‬
‫بعد العملية الجراحية بفترة قصيرة بدأت شخصية السيد ايليوت بالتغير تــدريجيًا ‪ ،‬كمــا هي في‬
‫حادثة عامل الطرق ( فينياس جــاج ) الــذي اخــترق جمجمتــه قضــيب الحديــد (‪ )1‬الــتي عرضــنا‬
‫قصته فيما سبق ‪ ،‬مريضنا الجديد ولى ظهره لزمالئه وعاف أقرباءه ‪ .‬خسر وظيفته ‪ .‬بدأ يــدخل‬

‫‪187‬‬
‫في مضاربات مالية خطيرة أودت به الى حافــة االفالس ‪ .‬انهــدمت عائلتــه وفارقتــه زوجتــه ‪ .‬لم‬
‫يعد يستيقظ مبكرًا وتحول الى رجل بدون طموح ‪ .‬لم يعد يدقق في المواعيد والزمن وتحــول الى‬
‫كم فوضوي ‪.‬‬
‫يقول الدكتور ( داماسيو ) ‪ :‬الشيء الذي لفت نظري في هذا المريض والذي حرضــني للبحث‬
‫العلمي ‪ ،‬هو أن ذكـاءه لم يضـطرب فبقيت المحاكمـة العقليـة صـافية دقيقـة ‪ ،‬لم تخنـه ذاكرتـه ‪.‬‬
‫كــانت فحوصــات الـذكاء عنــده ( ‪ ) I Q‬عاديــة ‪ ،‬وتــذكر الكلمــات واألرقـام على مــايرام ‪ .‬قـدرة‬
‫المحاكمـة كمـا هي ‪ .‬بـل حـتى منظـره األنيـق وروحـه الفكاهيـة لم يخسـرها ‪ .‬مـع كـل هـذا فـإن‬
‫المريض ( ايليوت ) أصبح عاجزًا في أن يترك لوحده ليحل مشاكله اليومية منفردًا ‪.‬‬
‫وكان السؤال ماالذي أوصل المريض الى حافة االنهيار هذه ؟ وأي خلل ترتب بعد هذه العملية‬
‫الجراحية التي لم تستخرج سوى ورمًا حميدًا تخلص منه المــريض في الظــاهر ؟ مــاهي نوعيــة‬
‫االتصاالت العصبية التي تدمرت من جراح االستئصال الجراحي ؟‬
‫هذه الحادثة دفعت الدكتور ( داماسيو ) أن يكرس عشرين سنة من العمل الشاق في األبحاث‬
‫العصبية قبـل أن يتقـدم ببعض النتـائج المتماسـكة في مـؤتمر جمعيـة العلـوم العصـبية في سـان‬
‫دييغو في خريف العام المنصرم ‪.‬‬
‫ولكن قبل عرض نتائج الدكتور داماسيو عندنا رحلة مثــيرة في دراســة الــوعي عنــد االنســان‬
‫أماط العلم اللثام عن طرف منها ‪.‬‬
‫عصر اكتشاف الذات ‪:‬‬
‫اهتم االنســان بشــغف في اكتشــاف العــالم الخــارجي ونســي نفســه ‪ ،‬ربمــا بســبب الصــعوبة‬
‫النوعية ‪ ،‬أو ربما لشدة قربها من الذات ‪ ،‬فكيف تريد الذات دراسة نفسها بدون إطاللة خارجيــة‬
‫‪ ،‬ولكن وعي الذات في الحقيقة هو أرفع أنواع الوعي ‪.‬‬
‫هذه الحقيقة انتبـه لهـا العلمـاء ممـا جعـل الـرئيس األمـريكي السـابق بـوش يعلن عن افتتـاح‬
‫( عقد ) اكتشاف الدماغ االنساني ‪ .‬واليوم اليسعى العلماء فقط الكتشاف الكوارك في الــذرة (‪)2‬‬
‫والخفايا ميكانيكا الكم ‪ ،‬أو والدة النجــوم في المجــرات ‪ ،‬بــل يغطســون باتجــاه العــالم الــداخلي ‪،‬‬
‫والنزول على سطح الكوكب الجديد ‪ :‬رأس االنسان ‪.‬‬
‫األبحـاث العصـبية اليـوم هي من أكـثر األبحـاث إثـارًة وسـريًة بـأعتى من األبحـاث النوويـة ‪،‬‬
‫وارتياد الفضاء ‪ ،‬وسبر المحيطات ‪ ،‬وفلق البروتون ‪.‬‬
‫بين الفرينولوجيا وبيولوجيا الجزيئات ‪:‬‬
‫وإذا كانت االثارة العلمية التي أثارها مجموعة من العلمــاء في القــرن التاســع عشــر عن زعم‬
‫فهم االنســان بمجــرد تأمــل وقيــاس القحــف ‪ ،‬والــتي أخــذت اســم الفرينولوجيــا ‪ ،‬فــإن علمــاء‬
‫(بيولوجيا الجزيئات ) يعلوهم هذا الشعور اليوم ‪ ،‬ولكن األيام تعلمنا كل يوم ‪ ،‬أن كــل النظريــات‬
‫التي تريد تطويق فهم االنسان تتهاوى تحت قدميه ‪.‬‬
‫تجربة القيصر فردريك الثاني في االمساك بالروح ‪:‬‬
‫بل إن محاولة فهم الكيان المعنوي عنــد االنســان قديمــة قـدم االنســان ممــا ينقــل لنــا التــاريخ‬
‫بعض القصص المثيرة عن الملك فريدريك الثاني الذي أغلق الحجرة تمامًا على محكــوم عليهم‬
‫باالعدام ‪ ،‬ثم حاول بعد موت الضحية ‪ ،‬أن يفتح بحذر وبطء كوًة في الجدار ‪ ،‬ليرى ماذا يتسرب‬
‫منها ؟ هل ثمة آخر خاص غير البدن الذي عانق الموت ‪.‬‬
‫تجربة عالم النفس مكدوجل بوزن الروح ‪:‬‬
‫بل إن عالم النفس األمريكي ( دانكان مكدوجل )(‪ ) DUNCAN MacDOUGALL‬قام‬
‫بتجربٍة مثيرة أكثر ‪ ،‬عندما راقب المحتضرين في سكرات الموت ‪ ،‬فقام بحملهم الى موازين في‬
‫غاية الدقة ‪ ،‬تفرق بين الغرامات ‪ ،‬فوصــل الى نتيجــة مفادهــا ‪ :‬أن المــوتى الــذين يودعــون الى‬
‫العالم اآلخر ‪ ،‬يخسرون من وزنهم في المتوسط بين ‪ 42 _ 10‬غرامًا ‪ ،‬داللًة على أن شيئًا مــا‬
‫ولو بهذا القدر البسيط يودع الجسم ‪ .‬فإذا علمنا عالقة الطاقة بالمادة من خالل معادلة آينشــتاين‬
‫‪ ،‬التي تقول بأن المادة والطاقة هما وجهان لحقيقة واحــدة ‪ ،‬وكــانت الــروح ثمــة طاقــة مــا فــإن‬

‫‪188‬‬
‫الطاقــة المتســربة رهيبــة للغايــة ‪ ،‬ألن الطاقــة هي تحــول المــادة مضــروبة في ســرعة الضــوء‬
‫المضاعفة ‪ ،‬أي قوة تسعين مليار ‪ .‬هذا إذا صدقت هذه المزاعم وصمدت للحقيقة ‪ ،‬ألن مكدوجل‬
‫أردف بأن وزن الكالب لم يتغير في تجاربه ‪ ،‬قبل وبعد الموت ‪ ،‬ومــزاعم مكــدوجل حــتى اآلن لم‬
‫تكذب تمامًا (‪. )3‬‬
‫مالحظات طريفة حول عمل الوعي ‪:‬‬
‫ومن النقــاط الــتي أثــيرت في المــؤتمر هي آليــات عمــل الــوعي وكيفيــة عملــه ؟ فلقــد تم رصــد‬
‫مجموعة من المالحظات الملفتة للنظر ‪:‬‬
‫‪ _ 1‬لقد لوحـظ أوًال ‪ :‬أن إمكانيـة االسـتيعاب في الـوعي محـدودة ‪ ،‬فبإمكـان الـوعي أن يلتقـط‬
‫سبعة وحدات من المعلومات في الوقت الواحد التزيد ‪.‬‬
‫‪ _ 2‬ثانيًا ‪ :‬يعمل الوعي ببطء شديد إذا قورن مــع أجهــزة الكمــبيوتر ‪ ،‬فال يســتطيع التميــيز بين‬
‫أكثر من أربعين حدثًا في الثانية الواحدة ‪ .‬في حين أن أجهزة الكمبيوتر العادية تعمل بطاقة تزيد‬
‫عن هذا بماليين المرات في كمية المعلومات ‪ .‬فالوعي مقارنة بالكمبيوتر يبدو جهازًا ســخيفًا !!‬
‫ولكن هل هو كذلك ؟‬
‫‪ _ 3‬ثالثًا ‪ :‬مع كل تركيز الوعي فإن الدماغ اليشتغل بكل طاقته ‪ ،‬بل يستخدم في المتوســط فقــط‬
‫واحد بالمائة من خالياه العصبية ‪ .‬لماذا ياترى ؟!!‬
‫رابعًا ‪ :‬يعمل الوعي ببالدة وتراخي ملفت للنظر ‪ ،‬فهو يعرج خلـف الـزمن الهثـًا متصـببًا عرقـًا‬
‫بدون قدرة اللحاق به ‪ .‬إنه خلف الزمن دومًا بحوالي ثلث الثانية ‪ .‬وهذا يدخلنا الى أبحــاث عــالم‬
‫النفس األمريكي ( برايان تريسي ) الذي لفت النظر الى كيفية عمل العقل االنساني ‪ ،‬في كتابه (‬
‫أسس علم نفس النجاح )(‪)4‬‬
‫نظرية ( براين تريسي ) في كيفية عمل الدماغ ‪:‬‬
‫يرى عالم النفس األمريكي أن أفضل مايكون عمل العقل عندما يكون مرتخيًا ؛ فالمسمار حــتى‬
‫تدخله الحائط يجب أن تضربه بالمطرقة بقوة وتوجيه ؛ حــتى تقتحم بالمســمار صــالبة الحائــط ‪.‬‬
‫في حين أن الدماغ اليعمل بنفس الطريقة ؛ فعنــد االنفعــال يهــتز عملــه ‪ ،‬وخــير االوســاط لعمــل‬
‫الدماغ االنساني هي أن يعمل بهدوء وحب ‪.‬‬
‫قشرة الدماغ تســيطر على العمليــات العقليــة وتأخــذ الوقــود من الــدماغ الســفلي والمتوســط ‪.‬‬
‫الدماغ السفلي هو دماغ التماسيح الرهيبة ‪ ،‬لتأدية األعمال التي تشبه في قساوتها ســماكة جلــد‬
‫التماسيح ‪ .‬والدماغ المتوسط مركز الزالزل والبراكين العاطفية ‪ ،‬وهي مثل طاقــة البخــار فيمكن‬
‫إدخالها في مرجــل العقــل كي تــؤدي دورهــا على خــير وجــه ‪ .‬ولكن تســرب الطاقــة من مفاصــل‬
‫ماكينة التفكير البارد التحليلي العقالني يقــود الى االنفجــارات المروعــة وتــأرجح عمــل الماكينــة‬
‫العقلية إذا صح التعبير ‪.‬‬
‫يضطرب االنســان عنــدما ينفعــل ؛ فـترتجف أصــابعه ‪ ،‬ويجــف عرقـه ينحبس بولـه ‪ ،‬ويرتفــع‬
‫الضغط عنده ‪ ،‬يصاب باالمساك وتجف عصــارة المعــدة وتبــدأ بــالتقرح ‪ ،‬ويصــب االدرنــالين في‬
‫الدم مدرارا ‪.‬‬
‫كل هذا يتولد في جو االنفعال ‪ ،‬واالهم من هذا هو اضطراب التفكير المتوازن ‪ ،‬وهذا هـو قسـم‬
‫من تفسير المنازعات االنسانية ‪ ،‬ألن مشاعر الخنازير والتماسيح وصراع الغابة َيمســح ودفعــة‬
‫واحدة ؛ كل قشرة الدماغ وتطورها الذي استغرق ماليين السنين ‪ ،‬لنرتد وننهار دفعًة واحدًة من‬
‫االنسانية ؛ الى قعر خندق الحيوانية البئيس ‪.‬‬
‫لقد خلقنا االنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين ‪.‬‬
‫يجب أن نضع أمام مكتبنا هذه الحكمة دومًا ‪ (( :‬يجب ضبط النفس في انفجار بركان الغضب ‪،‬‬
‫وعند اشتعال نار االنفعال ‪ ،‬في كسرة الحزن ‪ ،‬وانهيار الخوف ‪ ،‬وعند اشتداد ضباب الشهوة ))‬
‫‪.‬‬
‫اكتشاف عجيب ‪ :‬سحرية العدد سبعة‬

‫‪189‬‬
‫لقد استطاع العالم األمريكي (جورج ميللر )( ‪ ) GEORGE MILLER‬عام ‪1956‬م ‪ ،‬أن‬
‫يفك طلسمًا آخر من كيفية عمل الدماغ والوعي االنساني ‪ ،‬إنه القانون الســباعي ؛ فطريقــة فهم‬
‫االنســان تعتمــد على نــوع من النظم المعين الســباعي ‪ :‬إذا بلغت الكلمــة ســبعة حــروف التقطهــا‬
‫الوعي برشاقة وســاقها الى ســاحات االدراك ؛ وعنــد تجاوزهـا فـوق ســبعة حــروف ُاضــطر الى‬
‫تهجئتها وتقسـيمها من جديـد ‪ ،‬فـالوعي يلتقـط الكلمـة كقطعـة واحـدة ‪ ،‬تقـذف في فـرن الـوعي‬
‫لهضمها ‪ .‬نفس الشيء ينطبق على فهم مجموعـة أو حزمــة الكلمــات ‪ ،‬حيث تقفــز الى مســتوى‬
‫المغزى المحدد ‪ ،‬في إطار السبع كلمات ‪ ،‬فـإذا تجـاوز المعـنى الكلمـات السـبع ُاضـطر الفهم من‬
‫جديد الى تقسيم الكلمــات ‪ .‬ويبــدو أن كــل اللغــات االنســانية المنطوقــة تعتمــد مثــل هــذه القاعــدة‬
‫السحرية السباعية ‪ ،‬وتعرف بطريقة ( شان كينج )( ‪. ) CHUNKING‬‬
‫نفس الشيء ينطبق على المحادثات التلفونية في األرقام ( من هنا اعتمــدت األرقــام التلفونيــة‬
‫كسبعة أرقام كحد أقصى ) كذلك في اللغط وتمييز االصوات من أي شخص تصدر ؛ كلها يفككها‬
‫ويتعامل معها الوعي بنفس الطريقة ‪ ،‬وتحويلها الى أفكار او صور ذهنية ‪.‬‬
‫كوانتم الوعي ( ميكانيكا الكم في إطار العمل العقلي ) ‪:‬‬
‫هذه الظاهرة من محدودية الوعي بقيت الى فترة قريبة غير مالحظة ‪ ،‬بسبب التقلب الدائم بين‬
‫حقول التأثير ‪ ،‬بل حتى التدفق الدائم لتيار الوعي وانقالبه المســتمر يمشــي ببطء ملفت للنظــر ‪.‬‬
‫فــ ( نوافذ الوقت ) إذا صح التعبير التي يعمل عليها الوعي تبلغ حوالي ثالثين ميلي ثانيــة ( أي‬
‫ثالثين جزًء من األلف من الثانية ) والوعي يتعامل مــع وحــدات الــزمن بهــذه القســمة ‪ ،‬حيث تم‬
‫التأكــد من ذلــك بتطبيقهــا على بشــر متطــوعين لمثــل هــذه التجــارب ‪ .‬فــ ( تكــة الســاعة ) مثًال‬
‫يستطيع الوعي أن يفرق بينها وبين التي بعدها ‪ ،‬حتى إذا انضــغطت وحــدة الــزمن الى عشــرين‬
‫ميلي ثانيــة ‪ ،‬أي إذا تســارعت حركــة تتــالي نظم الصــوت ‪ ،‬بين الصــوت والــذي بعــده ‪ .‬بمعــنى‬
‫الفاصل بين الوحدتين ‪ ،‬امكن للدماغ استيعاب ماياتيه ‪ ،‬ويكل اذا تجاوز هذا المقدار ‪.‬‬
‫ويقفز عمل الوعي الى مايشبه قوانين الكــوانتم ( ميكانيكــا الكم ) حيث يمكن للعقــل االنســاني‬
‫أن يستقبل العالم الخارجي أذا تلقى وحدات الصوت هي موسيقى أو شعر ‪ ،‬قصــائد أو أهــازيج ‪،‬‬
‫أفكار أو تجليات روحية ؛ فيما إذا خضعت لقـانون الثالث ثـواني ‪ .‬فكمـا يقـوم الكـون كمـا فهمـه‬
‫العــالم األلمــاني ( مــاكس بالنــك ) على االنفصــال على صــورة وحــدات ‪ ،‬كمــا في كومــة حبــات‬
‫القمح ؛ فعند النظر إليها تبدو كأنها كومة متصلة ‪ ،‬فإذا اقترب االنســان منهــا أدرك أنهــا مكونــة‬
‫من حبات منفصلة ‪ .‬هكذا أيضًا يتعامل الوعي ‪ .‬وإذا كان قانون الكم لماكس‬
‫بالنك له وحدة رياضية ؛ فقد تم كشفها اآلن في مستوى الوعي ‪ ،‬فوحدة الفهم ‪ 30‬ميلي ثانية ‪،‬‬
‫والفرق بين النبضتين الصوتيتين ‪ 20‬ميلي ثانيــة ‪ ،‬ولكن وحــدة الفهم يجب أن تكــون في حــدود‬
‫ثالث ثواني ‪.‬‬
‫ُا‬
‫فإذا تجـاوزت الجملـة أو الحركـة الصـوتية هـذه الحبسـة الزمنيـة ‪ ،‬ضـطر العقـل من جديـد الى‬
‫تجزئتها وفق قانون الثواني الثالث ‪.‬‬
‫الوعي محبوس في زنزانة الماضي بدون أي أمل في النجاة ‪:‬‬
‫ومن األفكار التي جاءت في المؤتمر عن الــوعي والــتي هــزت وعي الحاضــرين ‪ ،‬هي جدليــة‬
‫الــوعي والالوعي ‪ ،‬وغطس المعلومــات في الالوعي قبــل انبثاقــه الى الــوعي ‪ ،‬فقــد اســتطاع‬
‫( بنيامين ليبيت )( ‪ ) BENJAMIN LIBET‬الباحث في فسيولوجيا االعصاب من جامعة‬
‫كاليفورنيــا في ســان فرانسيســكو ‪ ،‬من فتح عاصــفة من االثــارة حــول ظــاهرة مــايعرف االن بــ‬
‫( فترة الحضــانة ) بين الفكــر والعمــل وبشــكل معكــوس ‪ .‬وتم كــل هــذا من خالل تطــوير تقنيــات‬
‫جديدة من مالمسة قشرة المخ مباشرة بواسطة مسابر خاصة ‪ ،‬ودراســة الــزمن بين التحــريض‬
‫أو تلقي التحريض ‪ ،‬بمعنى البدء بإشارة التفكير ‪ ،‬فالذي يقوم بالتجربــة يبــدأ الفعــل ولكن الفعــل‬
‫اليبدأ فورًا ‪ ،‬بل يغطس في عالم آخر ُيعالج فيـه ويتفاعـل قبـل أن يطـل برأسـه في عـالم الـوعي‬
‫ليلحق باألمر ‪ ،‬كما أن العكس صحيح فعنــدما تمس اليــد النتلقى األثــر في الــدماغ اال بعــد مــرور‬
‫أجزاء من الثانية ‪ ،‬تتراوح بين ثلث ونصف ثانية ‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫هذه التجارب أثارت عاصفة فلسفية ‪ ،‬فاالنسان يبدو وفق هذا المنظــور خــارج الــزمن تمام ـًا ‪،‬‬
‫ويعلق تشارلز فورست على ذلك بقوله ‪ (( :‬وقــد يكــون التأويــل الممكن لهــذا االكتشــاف هــو أن‬
‫العصبونات المسؤولة عن االدراك الواعي تتواجد في مكان آخر غير قشرة الدماغ ‪ ،‬وقد تعكس‬
‫فــترة الحضــانة للتنبيــه القشــري في تجربــة واعيــة التشــارك بين الــوعي والتعقيــد العصــبي‬
‫الفيزيولوجي )(‪)5‬‬
‫تسخير علم النفس للدعاية ( تمرير المعلومات مباشرة الى الالوعي )‪:‬‬
‫وتــبرز هنــا حكمــة ملفتــة للنظــر في جدليــة العلم والضــمير ممــا جعلت الفيلســوف األلمــاني‬
‫( ايمانويل كــانت ) أن يطلب من تالميــذه أن ينقشــوا على قــبره من بعــده هــذه العبــارة ‪ :‬شــيئان‬
‫يمآلن صــدري باالعجــاب ‪ :‬الســماء المرصــعة بــالنجوم فــوق رأســي ‪ ،‬والقــانون االخالقي في‬
‫صدري ) ؛ فــ ( كوانتم الــوعي ) تم اســتخدامه في التالعب بعقــول النــاس ‪ ،‬كمــا هــو الحــال في‬
‫الديموقراطية الغربية ‪ ،‬التي يمكن وصفها بأنها أقل االشياء ســوًء في العــالم ‪ ،‬فظــاهرة التمثيــل‬
‫النيـابي تخضــع لجــبروت المؤسســات الماليــة ‪ ،‬ممــا التجعــل التمثيــل صــحيحًا تمامـًا ‪ ،‬وبــالطبع‬
‫اليمكن مقارنة هذا باوضاع دول شتى من العالم التي التعرف نظام نقل السلطة الســلمي بالكامــل‬
‫ولم تسمع به ‪ ،‬ولعل أجمل مافي الديموقراطية هي هشاشتها وإمكانيــة نقــدها من داخلهــا ‪ ،‬كمــا‬
‫فعل نعوم تشومسكي في كتابه المزلزل ( ردع الديموقراطية ) ‪ .‬كذلك حصل مع نظريــة الكــوانتم‬
‫في الـوعي ‪ ،‬فعنــدما يمكن في التلفزيــون تمريــر كميــة من المعلومــات السياســية أو التجاريــة ‪،‬‬
‫ولكن بسرعة ُم تحكم فيها بحيث تراهن على بطء ( الوعي ) في االستيعاب فإن هــذه المعلومــات‬
‫ترى بالعين وتسمع باالذن ‪ ،‬ولكنها عمليًا الترى والتسمع ‪ ،‬آلنها تسربت عبر منافــذ الالوعي ‪،‬‬
‫ويبقى االنســان يتــذكرها وكأنــه رآهــا فعًال ‪ ،‬بســبب تــدفقها المباشــر الى مخــزن الالوعي في‬
‫الذاكرة ‪ ،‬وهكــذا يمكن التالعب باالنســان من خالل تســخير العلم ؟!! ولقــد تم الكشــف عن هــذه‬
‫الحيــل وفـاحت رائحتهــا اليــة الســطح ‪ ،‬ولكن يـاترى كم من هـذه الحيــل العلميــة تســتخدم اليــوم‬
‫للتالعب باالنسان تحت اسم العلم والتقدم ؟!!‬
‫بنتاجون ( خماسي ) األخالق عند داماسيو ‪:‬‬
‫انطلق داماسيو من محاولة الوصول الى منابع المشاعر األساســية ؛ فــاعتبر أن هنــاك خمســة‬
‫مشاعر تشكل حزمة وجودنا العــاطفي بالكامــل ‪ ،‬فكمــا كــانت األلــوان الثالثــة ‪ :‬األزرق واألحمــر‬
‫واألصفر ‪ ،‬هي التي تكون بقية األلوان ‪ ،‬كذلك فإن تحليل أي موقف عاطفي يرجع الى طيٍف من‬
‫ألوان شتى من المشاعر ‪ .‬ولكن قاعــدتها هي مــزيج معقــد من خمسـٍة من المشــاعر القاعديــة ‪،‬‬
‫فإما الحزمة الخماسية للمشاعر فهي ‪ :‬السرور والحزن ‪ ،‬الغضب والخــوف واالشــمئزاز ‪ ،‬هــذه‬
‫واحدة ومضى داماسيو في تدعيم نظريته الى أن الجســم والــدماغ همــا في حــوار ودي اليعــرف‬
‫التوقف واالنقطاع ‪ ،‬آناء الليل وأطراف النهار ؛ في تســبيحة متواصــلة ‪ ،‬ليصــل في النهايــة الى‬
‫تعليل ماأصاب مريضه ايليوت ‪.‬‬
‫إن الذي حدث هو انقطاع ( كابــل ) التواصــل العــاطفي العقلي ‪ ،‬فكمــا كــان للماكينــة ( جــير )‬
‫التعشــيق مــع عمــود الحركــة ‪ ،‬كــذلك لعب الفص الجبهي في الــدماغ هــذا الــدور ‪ ،‬في جدليــة‬
‫المشاعر والتفكير المنظم التحليلي ‪ .‬إن دامسيو بهذا الطرح يزعم أنه وصــل الى تحديــد الــوعي‬
‫وآلية عمله عند االنسان ‪ ،‬لذلك فهو يرى أن طرح ديكارت السابق هو خــاطيء ‪ .‬داماســيو بهــذا‬
‫الطرح يضع يده على مفاتيح جديدة في فهم آلية عمل الوعي والدماغ ‪.‬‬
‫بين ديكارت وداماسيو ‪ :‬أنا أفكر ‪ ..‬أنا موجود ؟! أنا موجود أنا أفكر ‪:‬‬
‫في إحدى التجليــات الروحيــة كــاد دمــاغ ديكــارت أن يحــترق وهــو يتعــذب في ظلمــات الشــك‬
‫الحالكة ‪ .‬وهو يقول كما قال الغزالي سابقًا ‪ :‬ليس هناك من شيء يمكن أن يســتقر أو يقــف على‬
‫قدميه ‪ .‬إلنني أشك في كل شيء ‪ .‬لم يعد هناك شيء لم أعد أشك بــه ‪ ،‬فكــل ماتعلمنــاه بــني على‬
‫التقليد ال أكثر ‪.‬‬
‫ثم أنقدح نور في هذا الظالم ‪ ،‬بدأ يكبر وينير رحلة العقل المضنية ‪ ،‬وشعر ديكارت بالتماسك‬
‫بعد هذا الدوار العقلي ‪ .‬نعم إنني أشك في كل شيء ‪ ،‬ولكن هناك شــيء ال أشــك فيــه وهــو أنــني‬

‫‪191‬‬
‫أشك ؟!! فإنا إذًا أفكر ألن الشك تفكــير ‪ ،‬وإذا كنت أفكــر فهنــاك حقيقــة موجــودة والشــك ‪ ،‬وهي‬
‫حقيقة عقلية بالدرجة األولى ‪ ،‬فأنا موجود على صورة من الصور ‪ ....‬أنا أفكر ‪ ..‬إذًا أنا موجــود‬
‫‪ ...‬هذه هي الحقيقة الديكارتية ‪ ،‬التي كانت إحدى مصابيح التنوير في النهضة األوربية ‪ .‬وكانت‬
‫قبسًا من وهج عقلية الغزالي ‪ ،‬الذي سار بنفس الخطــوات ‪ ،‬ولكن نهايــة ديكــارت كــانت نهضــة‬
‫عقلية ‪ ،‬في حين أن نهاية الغــزالي كــانت انتحــارًا صــوفيًا على ضــرب صــنج الحضــرة ‪ ،‬عنــدما‬
‫يدخل االنسان تلك النشوة الروحية ويتم اغتيال عقله بالكامــل ‪ ،‬ومصــادرة كــل إمكانيــة تفكــير ‪،‬‬
‫تحت ثالث شـــعارات ‪ :‬من قـــال لشـــيخه ال لم يفلح ؟!! والمريـــد بين الشـــيخين كـــالمرأة بين‬
‫الرجلين ‪ ،‬والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل ؟!!‬
‫يزعم داماسيو إن ديكارت يجب أن يقلب اآلن رأسًا على عقب ‪ ،‬ألن مركز الوعي هو في تلــك‬
‫الجدلية التي يبدأ الدماغ رحلتها ‪ ،‬فمــع ( وجــود الــدماغ ) أمكن للــروح أن تتنفس ‪ ،‬فالبــدن هــو‬
‫تجلي الروح وتعبيرها وطريقة تنفسها في جدلية وضفيرة التقبل االنفصام ‪.‬‬
‫أراد داماسيو أن يكتب في األول كتابًا بعنوان خطأ ديكارت ولكنه بعد مؤتمر سان دييغــو بدلــه‬
‫الى عنوان ‪ :‬ديكارت مقلوبًا ‪ ..‬أنا موجود ‪ ...‬انا أفكر ؟!!‬

‫مراجع وهوامش ‪:‬‬


‫(‪ )1‬تراجع مقالتي رقم ‪ 96‬التي نشرت في جريدة الرياض _ العدد ‪ 10251‬تــاريخ ‪18‬يوليــو ‪ 1996‬م‬
‫الموافق ‪ 3‬ربيع أول ‪ 1417‬ه (‪ )2‬يعتبر الكوارك حتى اآلن من أصغر الجزيئـات دون الذريـة فالـذرة تتكـون من‬
‫نواة فيها بروتون ذو شحنة إيجابية والكترون سـابح حولـه بشـحنة سـلبية ‪ ،‬ونعـرف اليـوم أن نفس الـبروتون‬
‫مكون من ثالثة من الكوارك ولكن هل هذه نهاية الرحلة ؟ أم انها بدون نهاية باتجاه العالم األصغر ‪ ،‬وهي كذلك‬
‫بدون نهاية باتجاه العالم األكبر عالم المجرات ‪ ،‬أي أننا مطوقين بالالنهايتين من فــوق ومن تحت ؟! (‪ )3‬وردت‬
‫هذه األخبار في مجلة الشبيجل األلمانية عدد ‪ 16‬عام ‪ 1996‬م ص ‪ )4( 192‬كتاب ( أســس علم نفس النجــاح )‬
‫براين تريسي _ ترجمة الدكتور عبد اللطيف خياط وهو كتاب صغير ولكنه في غاية الدسامة في علم النفس مثل‬
‫كتاب ( علم النفس واالخالق ) لهادفيلد الذي ُك تب قبل أكثر من نصف قرن ولكن فيه كٌم ضــخم من العلم النفســي‬
‫الذي مازال يتمتع بصالبة حتى اليوم (‪ )5‬الدماغ والفكر _ تشارلز فورســت _ ترجمـة محمـود ســيد رصـاص _‬
‫مطبعة الصباح _ دمشق _ ص ‪. 232‬‬

‫‪192‬‬
‫هل مات ديكارت مسمومًا ؟‬
‫بمناسية مــرور ‪ 400‬اربعمائــة ســنة على والدة فيلســوف التنــوير الفرنســي (رينيــه ديكــارت)(‬
‫‪ )RENE DESCARTES‬الذي اعتمــد آليــات الشــك لتمحيص الحقيقــة‪ ،‬وألقى في القــارة‬
‫االوربية بذور النهضة العقلية‪ ،‬تقدم صحفي وطبيب ألماني هــو (آيكــه بيس ‪ 54‬عامــا)(‪EIKE‬‬
‫‪ )PIES 54‬بتحقيق هز فيه األوساط االكاديمية‪ ،‬يزعم فيه أن الفيلســوف ديكــارت لم يمت من‬
‫بــرد الســويد بالتهــاب رئــوي؛ بــل بــالحري مســمومًا بجريم ـٍة مــدبرة‪ ،‬تم ترتيبهــا بين مبعــوث‬
‫الفاتيكان الذي كان يقوم بمهمـة إقنـاع ملكـة السـويد بـترك المـذهب البروتسـتاني والتحـول الى‬
‫الكثلكـــة‪ ،‬وبين منافســـين لـــديكارت داخـــل البالط الملكي يعملـــون في حقـــل الفيلولوجيـــا (‬
‫‪. )1()PHILOLOGY‬‬
‫وهي تذكر بقصة حديثة نشرتها قناة الديسكفري العلمية عن طبيب أســنان ســويدي أمــاط اللثــام‬
‫عن الطريقة التي أنتهى فيها نابليون مسموما أيضا بالرزرنيخ‪ ،‬وعلى يد أقــرب النــاس إليــه في‬
‫جزيرة هيالنا‪ ،‬بعد أن نفحه خمسة ماليين فرنك!!‬
‫عرف ذلك يقينا أثناء نقل جثمان نــابليون من المقــبرة بعــد ‪ 14‬عامــا فكــان كمــا هــو وكأنــه دفن‬
‫البارحــة فظن القــوم أنهــا معجــزة للقــديس نــابليون‪ ،‬ولكن الطــبيب الســويدي ومن خالل بقايــا‬
‫خصالت شعر الجنرال عند محبيــه عـرف أنــه مــات مســموما وبالتــدريج بــالزرنيخ مــع جرعـات‬
‫الخمر‪.‬‬
‫ولعل نهاية األسكندر الذي مات شابا كانت قريبا من هذه الطريقة‪.‬‬
‫ولكن الــذي مــات بالســم علنــا كــان ســقراط حين حكمت عليــه ديموقراطيــة أثينــا بتجــرع ســم‬
‫الشوكران!!‬
‫ويقال عن تمسيم أبو حنيفة والحســن بن علي واألمــام العــادل عمــر بن عبــد العزيــز أنهم أنهــوا‬
‫حياتهم أيضا موتا بالسم غيلة‪..‬‬
‫ولد الفيلســوف ديكــارت في (الهي) وهي بلـدة صــغيرة في منطقــة التــورين (‪)TOURAINE‬‬
‫بفرنســـا عـــام ‪1596‬م (‪ )2‬وفي عـــام ‪ 1650‬م اختتمت حياتـــه عنـــدما أعلنت ملكـــة الســـويد‬
‫(كريستينا)(‪ )CHRISTINE‬نبأ وفاته بالتهاب رئوي حاد عن عمر يناهز ‪ 54‬عامًا‪.‬‬
‫ترك ديكارت خلفه أثرًا مزلزًال ومازال في مفاصل العقل االنساني الجمعي؛ فديكارت يعتبر اليــوم‬
‫محطة عقلية لكل من يرتاد حقل الفلسفة‪ ،‬أو يريد التعرف على التحوالت العقليــة الكــبرى فيهــا‪،‬‬
‫وكل من جاء بعده ممارسًا للفكر؛ البد أن يتأثر بالطريقة التي طرحها بشكل أو بآخر‪ ،‬فيعتبر أهم‬
‫ماكتب الفيلسوف سبينوزا من بقايا بصمات ديكارت عليــه‪ ،‬فرســالته في (تحســين العقــل) ينحــو‬
‫منحى ديكارت في كتاب (المقال على المنهج) كما أن رسالته الهامة الثانيــة عنــدما أراد أن يفهم‬
‫األخالق بشكل هندســي (األخالق مؤيــدة بالبرهــان الهندســي) هي من آثــار ديكــارت في فهم كــل‬
‫شيء في الكون بشكل ميكانيكي‪.‬‬

‫ما الذي أثار شبهة موت ديكارت مسمومًا بالزرنيخ؟‬


‫كان مفتـاح هـذه القصـة الخطـاب الـذي تبادلـه اثـنين من االطبـاء فأمـا األول فهـو طـبيب البالط‬
‫السويدي‪ ،‬الدكتور (يوهان فان فوللن)(‪ )JOHANN VAN WULLEN‬الذي عاصــر‬
‫لحظات ديكارت األخيرة وتطور مرضه في األيام األولى من شهر فــبراير شــباط من عــام ‪1650‬‬
‫للميالد‪ ،‬في استوكهولم عاصمة السويد‪ ،‬وأما الطبيب الثاني الذي ُعنِّو ن له الخطاب ولم يتسلمه‬
‫قط فهو طبيب عاش في القــرن الســابع عشــر‪ ،‬وهــو جــد بعيــد للــدكتور (آيكــه بيس) الــذي أثــار‬

‫‪193‬‬
‫الموضــوع اليــوم في مدينــة فوبرتــال (‪ )WUPPERTAL‬األلمانيــة‪ ،‬وكــان يومهــا الطــبيب‬
‫الخاص لألمير (يوهان موريتس فون ناساو ‪ -‬زيجن)( ‪JOHANN MORITZ VON‬‬
‫‪. )NASSAU - SIEGEN‬‬
‫هذه الوثيقة البريئة !! وقعت في يد الـدكتور والصـحفي (بيس) والـتي كـانت نائمـة في أرشـيف‬
‫جامعة (ليدن من هولندا)(‪ )LEIDEN‬كل تلك القرون؟!!‬
‫ولكن لماذا اسـتقرت في هولنـدا ولم تصـل ليـد الـدكتور (ويليم بيس)( ‪)WILLEM PIES‬‬
‫الجد األعلى للدكتور (آيكه بيس) المقيم حاليًا في فوبرتال ؟!!‬
‫كانت الرسالة وثيقة مريبة عن وصف حال فيلسوف التنوير ديكــارت وهـو في ســكرات المــوت‪،‬‬
‫فالدكتور السويدي الذي كان يسجل يوميات انهيــار صــحة الفيلســوف بــأعراض الُتخفي مظــاهر‬
‫التسمم بالزرنيخ‪ ،‬مثل البـول المـدمى واللعـاب المسـود الغزيـر ودوران العيـنين التائـه ونوعيـة‬
‫تقطع التنفس‪ ،‬المشير للتسمم الحاد بالزرنيخ‪ ،‬كما أن ديكارت نفسه ارتعب من جو المكائد الــتي‬
‫هرب منها طول حياته فلحقته الى السويد‪.‬‬
‫ويبدو أنه أدرك أنه وقع في المصـيدة‪ ،‬فطلب بعض األدويـة الـتي تحـرض عنـده االقيـاءات‪ ،‬كي‬
‫يتخلص من السم اللعين‪ ،‬ولكن يبدو أن جرعة أخرى لحقته في اليوم الثــامن من كربــه فألحقتــه‬
‫بالقبر‪.‬‬
‫الدكتور (آيكه بيس) فتح البــاب الى قصـٍة مثــيرة من القصــص البوليســية التاريخيــة‪ ،‬فبمقارنــة‬
‫الخطاب المرسل من طبيب آلخر‪ ،‬وباستعراض مظاهر المرض التي بــدات مــع اليــوم الثــاني من‬
‫شهر شباط فبراير من عام ‪ 1650‬م والتي أنهت حياة الفيلسوف ديكــارت في اليــوم ‪ 11‬منــه في‬
‫الساعة الرابعة صباحًا‪ ،‬افترض أن جرعة السم األولى أعطيت له مع جرعة النوم‪ ،‬وأما الثانيــة‬
‫فكانت للقضاء المبرم عليه في اليوم الثامن‪.‬‬
‫ويبقى إلثبــات هــذه الفرضــية االجراميــة التاريخيــة الوصــول الى المتبقي من عظــام الفيلســوف‬
‫لفحصها عن طريق الطب الشرعي‪ ،‬فسم الزرنيخ يبقى في العظام فال يــزول‪ ،‬ويمكن التاكــد منــه‬
‫بفحص الجمجمة مثًال‪.‬‬

‫ماالذي قاد ديكارت الى السويد ليالقي حتفه فيها!!‬


‫في خريــف عــام ‪ 1649‬م أرســلت ملكــة الســويد كريســتينا (ابنــة الملــك جوســتاف أدولــف)(‬
‫‪ )GUSTAV ADOLF‬ضــابط كبــير برتبــة أدمــيرال الى الفيلســوف المتــواري في هولنــدا‬
‫والذي كان ُيروى عنه دومًا المثل‪:‬‬
‫(عاش سعيدًا من توارى في الظل وأمعن في االختفاء عن األنظار) تطلب منــه المثــول إليهــا الى‬
‫استوكهولم لتتعلم على يديه (فن التفكير الصحيح)؟!‬
‫كان ديكارت يومها يعيش في هولندا متواريًا‪ ،‬يغير بيته أربع وعشرين مرة في أقل من عشرين‬
‫عامًا‪ ،‬قد سمع بأهوال محاكم التفتيش والمصــير الــذي تعــرض لــه الفيلســوف والعــالم األيطــالي‬
‫(جاليلو)‪ ،‬كما أن حرق جيوردانو برونو الذي ُدِّشن به القرن السابع عشــر حين أحــرق حي ـًا في‬
‫ساحة عامة في روما‪ ،‬في عام ‪ 1600‬للميالد‪ ،‬عن عمر يناهز ‪ 52‬سنة بعد ســجن وإذالل لفــترة‬
‫ثماني سنوات؛ جعلت ديكارت يلجــأ الى هولنــدا الــتي انتشــر فيهــا روح التســامح الــديني‪ ،‬فكــان‬
‫يسافر الى فرنسا بين حين آلخر لتدبير أموره المالية‪ ،‬ليعــود الى هولنــدا يعيش حياتــه الخاصــة‬
‫بعيدًا عن الناس في صحراء اجتماعية‪ ،‬ولكن في جنة فلسفية‪.‬‬
‫وفي هذه الدوحة الفلسفية كان يقطف ثمرات يانعة للفكر االنســاني‪ ،‬وفيهــا أنضــج معظم أفكــاره‬
‫فكتب معظم مؤلفاته بما فيها أعظم كتاب له‪ ،‬الذي اشــتهر بــه وهــو (المقــال على المنهج) الــذي‬
‫أرسى فيه القواعد األساسية للوصول الى الحقيقة في العلوم‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫الشك أداة معرفية للوصول الى اليقين !!‬
‫كان ديكارت يطمح الى الوصــول الى الوثاقــة واليقين الــتي تتمتــع بصــالبتها الرياضــيات‪ ،‬بحيث‬
‫يؤسس بقية العلــوم على هــذه القاعــدة من اليقين‪ ،‬وكــان كتابــه (المقــال على المنهج) في إطــار‬
‫توليد اليقين من أرضية الشك ‪.‬‬
‫كان الشك الذي استولى على عقل ديكارت كبيرا رهيبا‪ ،‬بحيث قاده الى قطيعة معرفية مع عقليــة‬
‫العصور الوسطى؛ فشَّطب دفعة واحدة اآلراء المسيطرة في المجتمع‪.‬‬
‫وشق الطريق الى اعتماد المحاكمة العقلية سبيًال للفهم أكثر من اآلراء المســيطرة‪ ،‬فليس هنــاك‬
‫من وسيلة لقتل العقل مثل التقليد واتباع آراء اآلباء‪ ،‬كما نعى ذلك القرآن على كفار قــريش (إنــا‬
‫وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) ومضى به الشك كما حصل مع اإلمــام الغــزالي‬
‫سابقًا‪ ،‬حينما اهتزت عنده حتى الضروريات والمحسوسات‪.‬‬
‫كان يخاطب نفسه إذا كان كل الشعور موجودًا في المنام واليزيد المنام أن يكــون وهم ـًا كــامًال!!‬
‫فماالذي يضمن لي أن التكون الحياة برمتها نوعًًا من الوهم الخادع على صورة منام كبير؟!‬
‫وإذا كانت الحواس تخدع‪ ،‬والمعرفة تاتي عن طريق الحواس‪ ،‬فكيــف يتــأتى لي أن أصــدق هــذه‬
‫المعلومــات المتدفقــة الى عقلي وطريقهــا هـو الحــواس؟! اســتمرت رحلـة الشــك حــتى مــرض‬
‫الغــزالي؛ فكــاد أن يهلــك كمــا روى في كتابــه المنقــذ من الضــالل‪ ،‬وأمــا ديكــارت فلم يمت ولكن‬
‫دماغه كاد أن ينفجر في ليلٍة حاســمة غَّي رت مجــرى حياتــه بالكامــل‪ ،‬في شــتاء قاســي‪ ،‬وحــرب‬
‫الثالثين عامًا الطاحنة تزهق أرواح الناس على األرض األلمانية‪.‬‬

‫ليلة ديكارت التاريخية‪:‬‬


‫ابتــدأت حــرب الثالثين عام ـًا الدينيــة على األرض األلمانيــة في عــام ‪1618‬م‪ ،‬ولم تنتــه إال عــام‬
‫‪1648‬م‪ ،‬بعد ثالثة عقوٍد كاملة قتــل فيهــا الماليين من النــاس من كال الجــانبين والمــذهبين‪ ،‬من‬
‫البروتســتانت والكاثوليــك‪ ،‬وعم الخــراب‪ ،‬وانتشــرت المجاعــة‪ ،‬وتحــولت ألمانيــا الى أنقــاض‬
‫اشتركت فيها جيــوش شــتى من كــل القــارة األوربيــة‪ ،‬ولم ُت ترك فظاعــة اال ارتكبت‪ ،‬على عــادة‬
‫الحروب األهلية‪.‬‬
‫ولكن أشـد من عـانى يومهـا‪ ،‬كـان الشـعب األلمـاني الـذي مـات منـه ذبحـًا قرابـة السـتة ماليين‬
‫ونصف‪ ،‬من أصل تعداد سكان يصل الى عشــرين مليونـًا فقــط‪ ،‬ممــا اضــطر الكنيســة يومهــا الى‬
‫استصدار قرار اشتهر بقرار نورمبرغ‪ ،‬أباحت فيه تعدد الزواج استنادًا الى قصص العهد القديم‪،‬‬
‫لتعوض النسل المنقرض‪ ،‬ولم تنتعش ألمانيا اال بعد مرور ثمانين عامًا (‪.)3‬‬
‫ويصاب االنسان بالعجب الى حد االنبهار‪ ،‬كيف تولدت أفكار المنهج عند ديكارت في جو حــروٍب‬
‫أهلية واضطرابات من هذا الحجم؟‬
‫ففي هذا الجو الجهنمي العجيب يروي ديكارت قصة عجيبـة؛ عنـدما أجبرتـه الثلـوج والـبرد الى‬
‫االحتماء طيلة الشتاء الى غرفة دافئة‪ ،‬اليعكره فيه هوى والهم او حزن‪ ،‬حــتى كــانت ليلــة عمــد‬
‫فيها الى التفكـير؛ فكـاد دماغـه ان يحـترق من وهج التفكـير (كمـا يـروي)(‪ )4‬ثم جـاءه مايشـبه‬
‫الـوحي من التفكــير بحيث انفتحت أمــام بصــيرته الطريقــة الجديــدة في قيــادة العقــل الى األحكــام‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫إن ديكارت عندما شك في كل شيء وصل الى طـرح هـذا السـؤال‪ :‬إذا كنت أشـك في كـل شـيء‪،‬‬
‫فهل هناك شيء ولو كان وحيدًا منفردًا ال أشك فيه يقينًا؟ كانت اللمعــة العجيبــة الـتي التمعت في‬
‫ذهنه‪ :‬نعم قد أشك في كل شيء‪ ،‬ولكن الشيء الذي ال أشــك فيــه يقينـًا هــو أنــني أشــك‪ ،‬والشــك‬
‫تفكير‪ ،‬فهناك إذن حقيقة أساسية هي أنـني أفكـر ألنـني أشـك‪ ،‬وعنـدما أفكـر فأنـا موجـود‪ ،‬على‬
‫صورة من الصور‪ ،‬أي أن هناك حقيقة لوجودي على شـكٍل من األشـكال‪ ،‬فحقيقـة التفكـير تعـني‬
‫أني موجود على صورة من الصور‪.‬‬
‫ومن هنا أطلق ديكارت عبارته التاريخية‪ :‬أنا أفكر أنا موجود‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫هذه الفاتحة المدهشة في نقلٍة عقلية بسيطة‪ ،‬ولكنها في مثل ثقل الجبال‪ ،‬هي الــتي ســاقته فيمــا‬
‫بعــد الى تأســيس الفكــر المنهجي التحليلي الالحــق‪ ،‬الــذي اشــتهر بــه‪ ،‬عنــدما أرســى المربعــات‬
‫الفكرية األربعة المعروفة ‪:‬‬
‫ـ ال أقبل شيئًا مالم يكن في غاية الوضوح‬
‫ـ كل قضية مركبة تحلل الى عناصرها األولية‬
‫ـ بعد حل العناصر البسيطة يعاد تركيب القضية‬
‫ـ تجرى عمليات النقد الذاتي واالختبار للتأكد من كافة مراحل العمليات العقلية إلحكام ضبطها‪.‬‬

‫طنين الذبابة وانبثاق الهندسة التحليلية‪:‬‬


‫في ضاحية باريس عمد مفكر الهوتي هو (مــارين ميرســين)( ‪()MARIN MERSENNE‬‬
‫‪ )5‬في مطلع القرن السابع عشر‪ ،‬الى عمٍل لم ينتبــه لــه أحــد‪ ،‬ولكنــه كــان مثــل الزلــزال للعقليــة‬
‫األوربية‪ ،‬حيث كان يعمد الى عقد اجتماعين اسبوعين يعقد فيها خيوط االتصــال بين أهــل الفكــر‬
‫الحر في أوربا‪.‬‬
‫وفي مجلسه العلمي المتواضع اجتمعت خــيرة العقــول األوربيــة الحــرة في ذلـك الـوقت‪ ،‬لتنتشــر‬
‫منها موجات التنوير بدون توقف‪.‬‬
‫هذا العمل كان مثــل تحركــات القــارات الجيولـوجي‪ ،‬ويعــني للمفكــرين أمًال الينضــب في إمكانيــة‬
‫تحسين التفكير االنساني‪.‬‬
‫كان ديكارت اليكف دماغه عن العمل في كل مكان‪ ،‬وعندما أزعجه طنين الذبابة بــدأ في التفكــير‬
‫عن احتماالت وجودها‪ ،‬فقاده هذا التفكير الى وضع قواعد المخطط البياني والهندسة التحليليــة‪،‬‬
‫التي أصبحت أحد أعمدة الرياضيات حتى وقتنا الحالي‪.‬‬
‫يقول جاك بيرج صاحب كتاب (عندما تغير العالم)‪:‬‬
‫(ومن الطريف والمثير أيضًا أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء االجتماعات الــتي كــانت تعقــد‬
‫في صومعة الراهب ميرسين مرتين اسبوعيا‪ ،‬لتسهم اسهامًا مهمًا في التفسير الرياضي لتسيير‬
‫الكون‪ ،‬فجَّر تها مجرد مالحظات شخصية‪ ،‬فقد سمع ديكارت طنين ذبابــة تطــير في المكــان الــذي‬
‫كان يعقد فيه االجتماع‪.‬‬
‫أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة؛ فتصور موقعها البد أن يكون تحت نقطة يتقــاطع عنــدها في‬
‫زوايا قائمة خطان‪ ،‬أحدهما خارج من االتجاه الجانبي‪ ،‬واآلخر من أسفل‪.‬‬
‫هذان المحــوران يعطيــان محــورين إحــداثيين لتحديــد موقــع الذبابــة في أي وقت‪ ،‬ويمكن قيــاس‬
‫بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد‪ ،‬وهذا النظام الجديد لألحــداث الرياضــي‬
‫هو مانسميه اليوم بالخط البياني)(‪)6‬‬

‫جمجمة ديكارت وعظامه الناقصة‪:‬‬


‫حتى يثبت الدكتور والصحفي (آيكه بيس) مزاعمه حــول تســمم ديكــارت قــام برحلــة بحث حــول‬
‫بقايا عظام الفيلسوف بعد مرور ثالثة قـرون ونصـف على بالهـا؛ فتـبين لـه أن عظامـه وصـلت‬
‫ناقصة الى فرنسا بعد دفنه في السويد عشية وفاته‪ ،‬حيث تم استخراجها من جديد ودفنهــا عــام‬
‫‪1666‬م مرة أخرى في كنيسة القديس جرمان دي بري‪ ،‬ولم ُينتبه الى أن الهيكــل غــير كامــل اال‬
‫بعد فتح التابوت عام ‪1819‬م‪ ،‬ولم تصل الجمجمة لتوضع في المتحف االنســاني في بــاريس اال‬
‫في عام ‪1878‬م ‪.‬‬
‫يقول الدكتور بيس عندما وضـعت يـدي على جمجمـة الفيلسـوف أردت أن أغـامر فـأقوم بكحت‬
‫العظام وأخذ عينة منه لكشف آثار الجريمة‪ ،‬فالزرنيخ المعــدني التخيب آثــاره في الكشــف عنهــا‬
‫ولو بعد قرون‪ ،‬ولكن جرأتي خانتي في مشهد من هذا النوع !!‬
‫وأمــا تتمــة قصــة الرســالة َفُع رف أن الملكــة كريســتينا قــامت بحملــة سياســية إلعالن مــوت‬
‫الفيلسوف‪ ،‬أن سببه كان التهاب رئوي صاعق ‪ ،‬وعندما علمت بأمر رســلة طــبيب البالط قــامت‬

‫‪196‬‬
‫بمصــادرتها‪ ،‬وأحيلت الى األرشــيف الملكي‪ ،‬ليكشــف النقــاب عنهــا بعــد تطــاول القــرون‪ ،‬في‬
‫أرشيف جامعة ليدن التي حفظْت الوثيقة ‪.‬‬

‫التصفية الجسدية ألهل الفكر‪:‬‬


‫جرت العادة في العصور الوسطى أن يتم التخلص من مقلقي النوم العام(كذا؟)‪ ،‬فأي فكرة تطــرح‬
‫يجب أن التوقظ نائمًا والتزعج مستيقظًا‪ ،‬فــإذا انتشــرت الفكــرة اعتــبر صــاحبها من المفســدين‪،‬‬
‫فالتهمة التي وجهت لموسى عليه السالم أنه (يظهر في األرض الفساد)‪...‬‬
‫أتذر موسى وقومه ليفسدوا في األرض ويذرك وإلهتك؟؟‬
‫وكانت العادة تجرى بعزلهم عن فكر المجتمع في ثالث صور‪ ،‬فإما النفي أو الســجن أو التصــفية‬
‫الجسدية (ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر هللا)‪.‬‬
‫وينطبق على صاحب الفكر قانون الدجاجــة المجروحــة‪ ،‬فعنــدما تكتشــف الــدجاجات أن إحــداهن‬
‫مجروحة ؛ ُتهرع إليها فتنقر مكان الجرح النازف حتى الموت‪ ،‬ولكن القــدر التــاريخي يبــدو أنــه‬
‫يسير في مسرى آخر‪ ،‬في غير هذه الصورة القاتمة‪ ،‬بل إن التغير االجتماعي يحدث ضمن دورة‬
‫مختلفة‪ ،‬ترسي في النهاية لصالح الفكر التغييري األصــلح‪ ،‬ضــمن جــبروت القــانون االلهي بــأن‬
‫الزبد يذهب جفاًء وماينفع الناس يمكث في األرض‪.‬‬
‫ودفاع المجتمع عن أفكاره مــبرٌر في قســم منهــا واال تعــرض المجتمــع لهــزات النهايــة لهــا مــع‬
‫نزوات البشر بدون نهاية‪ ،‬ولكن صمود وأحقية الفكر التغييري هو الــذي يعطيــه طاقــة الصــمود‬
‫والتحدي والصبر حتى تجاوز معصــرة المحنــة والتطهــر من خاللهــا‪ ،‬ونقــل المجتمــع الى عتبــة‬
‫جديدة أكثر تقدمية‪.‬‬
‫وأيًا كانت صحة قصة تسميم ديكـارت فالتصـفية الجسـدية ألهـل الفكـر ليسـت جديـدة ‪ ،‬حـتى إن‬
‫القرآن عندما أشار الى نفي الصلب عن المســيح كــان ـ في تقــديري ـ ينطلــق من خلفيــة أهم من‬
‫كونه مـات على الصـليب أو ُقتـل بطـرق أخـرى‪ ،‬فـالقرآن يشـير الى أن كثـيرًا من األنبيـاء قتـل‪،‬‬
‫وليست جديدًا محاولة صلب أحد األنبياء (وقتلهم األنبياء بغير حق)‪.‬‬
‫في تقديري كانت حركة القرآن لنفي قصة الصلب وصوًال الى تحييــد العقيــدة الــتي قــامت عليهــا‬
‫قضية الصلب‪ :‬أي التثليث وألوهية المسـيح‪ ،‬أكـثر منهـا لنفي الطريقـة الـتي قتـل فيهـا ‪ ،‬بسـبب‬
‫ارتباط العقيدة بطريقة القتل ‪.‬‬

‫مفهوم الإكراه في الدين‪:‬‬


‫إن القرآن حينما طرح شعار (ال إكراه في الدين) أراد منها تحييـد الجسـد في لعبـة الصـراع‬
‫الفكري‪ ،‬وهذا المفهوم ينبثـق عنـه ثالث مفـاهيم خطـيرة مـازال الجنس البشـري يعس من أجـل‬
‫تحقيقها‪ ،‬ولم يصل الى ذلك حتى اآلن الى بعضها اال بشق األنفس‪.‬‬
‫هذه المفاهيم الثالثة هي بالتتالي‪:‬‬
‫(‪ )1‬ـ أوًال‪ :‬تحييد العرق‪ ،‬وبذلك يتوقف الصراع العرقي وتزول العنصرية من العالم‪.‬‬
‫(‪ )2‬ـ ثانيًا‪ :‬كما يصب تحييد الجسد في مفاهيم العنف والالعنف فيتوقف إكراه االنسـان وتعذيبـه‬
‫من أجــل معتقداتــه‪ ،‬فاليقتــل االنســان من أجــل أفكــاره‪ ،‬بــل بمــا جنت يــداه‪ ،‬والقــرآن مشــى في‬
‫اتجاهين في مواجهة هذه المشكلة االنسانية التاريخية؛‬
‫فهو أوًال‪ :‬أعلن من جهته توقف االكراه في العالم‪ ،‬بكل صوره‪ ،‬فكلمة (ال إكراه في الدين) كلمــة‬
‫جامعة شاملة لكل المعتقدات والمباديء واألديان‪ ،‬فنفى كـل صـور الضـغط واالكـراه وضـمن أي‬
‫دين أو مبدأ ‪.‬‬
‫ومن هــذا النبــع النمــير نكتشــف بــؤس الفقــه حين دشــن مشــروعية قتــل المرتــد أي من يغــير‬
‫معتقداته‪ ،‬على الرغم من عدم وجــود نص واحــد في القــرآن يفيــد هــذا الحكم الشــنيع‪ ،‬فمن أراد‬
‫دخول اإلسالم ثم الخروج منه عليه أن يخرج بدون رٍأس؟؟ ومن أراد صناعة الســيارات عملهــا‬
‫تمشي لألمام فقط‪ ،‬فإذا دخلت الكاراج وأرادت الخروج انحشرت فما غادرته أبد الدهر؟؟‬

‫‪197‬‬
‫رفع األكراه هو في اعتناق مبدأ أو تركه‪ ،‬دخوًال وخروجًا‪ ،‬وكان هذا االعالن ـ وهو أمــر مثــير ـ‬
‫أنه جاء من طرف واحد‪ ،‬وليس في صور اتفاقيات متعددة الجوانب؟‬
‫وهذا يفسر قسما ً من سـر انتشـار االسـالم في العـالم وانسـياحه حـتى هـذه اللحظـة في ضـمائر‬
‫البشر جميعًا‪.‬‬
‫وهو ثانيًا‪ :‬ترك الهامش أمام (التظاهر) بالتراجع عن المبدأ في حــال التعــرض لالكــراه (اال من‬
‫أكره وقلبه مطمئن بااليمان) كلــه في محاولــة لتحييــد الجســد عنــد اختالف اآلراء والعقائــد‪ ،‬من‬
‫أجل الوصول الى مجتمع انساني حـر التفكـير خـالي من كـل صـور االضـطهاد والضـغط المـادي‬
‫واألدبي‪ ،‬فال تســتخدم أي صــورة من صــور الضــغط الدخــال النــاس بــالقوة في أي مبــدأ‪ ،‬أو‬
‫إخراجهم من أي دين بالقوة‪ ،‬في كال االتجاهين‪ ،‬دخوًال وخروجًا‪.‬‬
‫والعنف المادي ضمن هذه البانوراما هو تلـك الوسـيلة الـتي تحتكرهـا الدولـة لتحييـد كـل صـور‬
‫االكراه على االنسان ضمن المجتمع كي يعيش آمنًا‪ ،‬والجهاد بمعنى استخدام اآللة المسلحة هــو‬
‫لرفع الظلم عن االنسان أينما كان‪ ،‬والظلم من أي جهة انطلق حتى لـو قـام بهــا مســلم‪ ،‬من أجــل‬
‫إيقاف عملية إخــراج النــاس من ديــارهم وعقائـدهم بــالقوة المســلحة‪ ،‬فهي دعـوة ألقامــة حلـف‬
‫عالمي لرفع الظلم عن االنسان أمميًا‪ ،‬وبذلك يتحول العالم االسالمي تحت هــذا المفهــوم وضــمن‬
‫هذه الصورة الى مكان يهرب اليه الالجئون السياسيون كل مكان وليس العكس‪.‬‬
‫ومن عجيب تفكير اإلصوليين أنهم يقولوا نعم هناك حرية اعتقاد وال إكراه ولكن هذا في الدخول‬
‫أما الخروج فال؟!! بدون أي مستند من النص‪..‬‬
‫وكله تأويل فاسد ضد العقل والمنطق والتاريخ واإلنسانية والتطور الدافع للتقدم اإلنساني ‪..‬‬
‫(‪ )3‬ـ ثالثًا‪ :‬كذلك يدخل ضمن تحييد الجسد حل جذري لمشكلة المرأة‪ ،‬كما يتحسن وضــع المــراة‬
‫في العالم‪ ،‬فوضــع المــرأة غــير مــريح في الشــرق والغــرب على حــد ســواء‪ ،‬وعنــدما يتم تحييــد‬
‫الجسد من خالل الجنس‪ ،‬تتوقف المساومة على جسد المراة‪ ،‬الــتي أخــذت طــابع المراهنــة على‬
‫الجنس‪ ،‬ونسيان انها انسان كامل وروح متميزة‪.‬‬

‫مفهوم تحييد الجسد في الصراع الفكري‪:‬‬


‫لعل ديكارت لو بعث في أيامنـا الحاليـة كـان سـيتمتع بوضـع اوربـا وكيـف أينعت الثمـرات الـتي‬
‫وضعها هو وجيل الفالسفة من القــرن الســابع عشــر‪ ،‬ومــا وصــلت إليــه في الخالفــات الفكريــة‪،‬‬
‫فاالنسان في الغرب اليعذب من أجل أفكاره‪ ،‬واليقتل من أجل معتقداته تركـًا أو اعتقـادًا وتحـوًال‪،‬‬
‫كما أن األرض األروربية أصبحت إن شئنا أم أبينا ملجًأ للفارين السياسيين‪ ،‬الــذين يبحثــون عن‬
‫نجاة لجلودهم من محاكم تفتيش القــرن العشــرين‪ ،‬فالمســعري الســعودي حمتــه بريطانيــا وحين‬
‫تدخلت السياسة فطيرته لكوبا وترينيدياد تدخل القضاء البريطــاني فأعــاده لضــباب لنــدن‪ ،‬كــذلك‬
‫الحال مع الغنوشي والبيانوني في اسكتلنده وويلز‪.‬‬
‫كذلك الحال مع البيطار البعثي والحوراني االشتراكي الذي آوتهما فرنسا‪ ،‬والعطار الــذي يقضــي‬
‫بقيــة أيامــه في ســالم في آخن من حيث انطلقت الحمالت الصــليبية على الشــرق األوســط في‬
‫القرون الوسطى‪ ،‬عظة للغافلين وآية للمتوسمين‪..‬‬
‫كــذلك حققت الحضــارة الصــناعية مــاهو أهم من انتــاج الســيارات والطيــارات من نقــل الســلطة‬
‫السلمي‪ ،‬وتدخل أوربا اآلن تحوًال مـذهًال لم يعرفـه الجنس البشـري من قبـل وهـو االتحـاد بغـير‬
‫طريقة نابوليون أو هتلر‪ ،‬فلم تعد ألمانيا فــوق الجميــع بــل مثــل الجميــع‪ ،‬ولم يعــد توحيــد أوربــا‬
‫بمدرعات غودريان ومدفعية نابليون بــل باتفــاق المونتــان إلنتــاج الحديــد المشــترك في الوحــدة‬
‫االقتصادية‪.‬‬
‫وحكام أوربا يجتمعون ليتحدوا بدون اجتياح أحد لآلخر‪ ،‬وبدون أن يخسر أحد زعامة أو ماًال أو‬
‫أرضًا‪.‬‬
‫واليعــني هــذا أن نهايــة الرحلــة االنســانية ســوف تختم على طريقــة فوكويامــا بالديموقراطيــة‬
‫السياسية والليبرالية االقتصادية الغربيــة‪ ،‬فاالنســان الغــربي حقــق الرفاهيــة واألمن االجتمــاعي‬

‫‪198‬‬
‫ولكنه لم ينجح في الطمأنينة الروحية بعد‪ ،‬أما نحن في عالم األطراف والمحيــط؛ فال رفــاهيم وال‬
‫أمنا‪ ،‬بل رحلة الجوع والخوف والتيه والهولوكوست إلى قرون طويلة‪ ،‬وذرارينا الين يولــودون‬
‫في السرق المنكوب ليس أمامهم إال المجهول واالنفجارات والمذابح األهليه والحروب الطائفيــة‬
‫وحكم البعث والعبث‪ ،‬ومؤامرات النصرانية والناصرية والشـيع والتشـيع والوقـوف في ختنـادق‬
‫الزمن متجمدين عند خالفات طواها الزمن ونجترها دواء فات وقته وأصبح سما‪...‬‬
‫والرحلة طويلة أمامنا لنتعلم‪ ،‬ولكننا لن نخرج عن خط التحول التاريخي بحال‪ ،‬إنما هي المسافة‬
‫الزمنية قرونا بين ذلك طويلة‪..‬‬

‫الفرق بين سم ديكارت وسم سقراط‪:‬‬


‫إن قتل أو اغتيال أو نفي أو سجن المفكرين ليس جديدًا‪ ،‬فهي طبيعـة فكـر مهـزوم‪ ،‬يقـاوم خطـر‬
‫تالشيه بآليات التصفية وااللغاء للفكر اآلخر‪.‬‬
‫إن عدم فتح الحوار هو اعتراف مبطن بهزيمة فكرية من أول الطريق‪.‬‬
‫إن الفرق بين موت ديكارت وسقراط أن األول ُج ِّر ع السم سرًا وغدرًا‪ ،‬والثاني َج َر ع السم طوعًا‬
‫ورغبة بدون خوف من الموت‪ ،‬وبدون محاولة فـرار‪ ،‬فـالخوف من المــوت ليس لـه مــبرر عنــد‬
‫سقرا ‪ ،‬ولكن الخوف هو من ارتكاب الخطأ ‪.‬‬
‫يرى سقراط أن الموت اليدعو الى الخوف مطلقًا‪ ،‬فهو أحد حالتين‪ :‬إما نــوم أبــدي بــدون أحالم؟‬
‫أو نقلـة الى حيـاة جديـدة‪ ،‬وهي فرحـة كـبرى باالنتقـال الى حالـة تطوريـة أكـثر تقدميـة في كـل‬
‫مستوى‪ ،‬ففي كال الحالتين اليوجد مبرر للخوف من الموت (‪...)7‬‬
‫وعندما شهقت زوجته باكية وهو يتجرع قدح السم صرخت ودموعها ملء وجنتيها‪ :‬إنك تمـوت‬
‫ظلمًا وعدوانًا وأنت من أنبل الناس‪ ،‬فما هــذه الحيــاة المحكومــة بالتناقضــات‪ ،‬المشــبعة بــالظلم‪،‬‬
‫إنهم يقتلونك بغير إدانة واضحة! قال لها يخفف أحزانها‪ :‬أيرضيك أن يحكم علي بالموت مــدانًا؟‬
‫واال فماجدوى أهل الفكر في تمليح الجنس البشري‪.‬‬
‫هناك جدل محير في مصرع أهل الفكر‪ ،‬ولكن يبدو أن هناك آلية مهمة الستنبات األفكار‪ ،‬فالنبتة‬
‫التخــرج من األرض بــدون دفن الحبــة فيهــا‪ ،‬ونحن نحــزن على أصــدقائنا بعمــق حين نخســرهم‬
‫بالموت الى األبد‪ ،‬والشهداء يبقـون أحيـاء بأفكـارهم الـتي طرحوهـا وشـهدوا على صـدقهم لهـا‬
‫بموتهم من أجلها‪.‬‬

‫هوامش ومراجع‪:‬‬
‫(‪ )1‬تم نشر الخبر في مقال مطول في مجلة الشبيجل األلمانية في قسمها الثق‹‹افي‪ ،‬وأش‹‹ارت المجل‹‹ة الم‹‹ذكورة الى‬
‫طبع كتاب في هذا الصدد للدكتور (آيكه بيس) ال‹ذي وض‹ع ل‹ه عنوان‹ًا (حادث‹‹ة قت‹‹ل الفيلس‹وف ديك‹‹ارت) ـ مجل‹ة‬
‫الشبيجل العدد ‪ 32‬عام ‪ 1996‬م ص ‪ ، 160‬وتم تكرار القصة مرة أخرى في الشبيجل العدد ‪ 46‬ع‹ام ‪2009‬م ص‬
‫‪ 160‬وعلم الفيلولوجيا هو العلم الذي يعني بتحقيق اللغة والنصوص اللغوية‪ ،‬وكان ديكارت يعت‹‹بر عملهم مض‹‹يعة‬
‫للوقت يومها قبل تطور وثورة علم االلسنيات الحديثة (‪ )2‬قصة الحضارة ـ ويل ديورانت ـ الجزء ‪ 30‬ـ ص ‪321‬‬
‫(‪ )3‬يراجع بالتفصيل عن كارثة الحرب هذه كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت (‪ )4‬كتاب المق‹‹ال على المنهج ـ‬
‫ترجمة محمود محمد الخضيري ـ دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة‪ ،‬ويعد هذا الكتاب من روائ‹‹ع الن‹‹ثر‬
‫الفرنسي‪ ،‬وقوته هي من بساطته وسحر األدب الذي يغلف كلمات‹ه (‪ )5‬يراج‹ع كت‹اب عن‹دما تغ‹ير الع‹الم ـ ت‹أليف‬
‫جيمس بيرك ـ ترجمة ليلى الجبالي ـ عالم المعرفة رقم ‪ 185‬ـ ص ‪ )6( 196‬نفس المصدر السابق ص ‪)7( 201‬‬
‫(الموت في الفكر الغربي ـ تأليف جاك شورون ـ ترجمة كامل يوسف حسين ـ سلسلة ع‹‹الم المعرف‹‹ة رقم ‪ 76‬ص‬
‫‪)48‬‬

‫‪199‬‬
‫ديكارت‬
‫واألبحاث العصبية الحديثة‬

‫لعل الظروف التي نعيشها هذه األيام تذكر بمحنة العقل المسلم في القرن السابع الهجــري‪ ،‬وهــو‬
‫العنوان الذي كتبه محمد كامل حســين بعنــوان (المســلم الحــزين في القــرن العشــرين)؟؟ وكــانت‬
‫البداية مع نهاية القرن الخامس الهجــري حين عــانى العــالم اإلســالمي من إعصــارين مــدمرين‪،‬‬
‫األول كان في االنحطاط األخالقي والسياسي‪ ،‬كنتيجة محتومة لالنقالب األمــوي القــديم‪ .‬والثــاني‬
‫من تطويٍق محكم‪ ،‬بين مطرقة المغول وسنديان الصليبيين‪.‬‬
‫هذان اإلعصاران كانت خلفيتهمــا ثقافيــة بالدرجــة األولى؛ فالجهــاز المنــاعي الفكــري‪ ،‬وخطــوط‬
‫الدفاع العقلية‪ ،‬كانت قد انهارت خطًا بعد خط وخنــدقًا خلــف خنــدق‪ ،‬حــتى اختتم القــرن الســابع‪،‬‬
‫ومعه انطفأت الروح الحضارية اإلسالمية‪ ،‬الموافق لمنتصف القرن الثالث عشر للميالد‪ ،‬عنــدما‬
‫انهــار جناحــا العــالم اإلســالمي في فـترة عقـٍد من الـزمن (‪ ،)1‬وحصـل االنقالب الكــوني وبــدأت‬
‫الحضارة تكتب من اليسار الى اليمين‪ ،‬واستخدم الحصان العربي لغــزو ونهب العــالم الجديــد في‬
‫األمريكيتين‪ ،‬وُح بس العالم العربي خلف مضيق بحر الظلمات في زنزانة البحر المتوسط‪.‬‬
‫أزمة العقل المسلم في القرن الخامس الهجري‪:‬‬
‫في هذه الظروف الصعبة صدم العقل اإلسالمي الى أعمق أعماقــه في ســؤال ملح‪ :‬مــا الــذي قــاد‬
‫الى الكارثة؟‬
‫وقف اإلمام أبو حامد الغـزالي ليقـوم بـأهم عملين عقلـيين ماسـحين‪ ،‬فيمـا يشـبه جهـاز الـرادار‬
‫العقلي‪ ،‬في البحث بين األنقاض‪ ،‬كما يفعل الباحثون عن الصندوق األسود عند تحطم الطائرات‪،‬‬
‫في بحث الخلل األخالقي‪ ،‬وخلفية اإلعصار العقلي؛ فاستنفر نفسه لدراسة أربعــة تيــارات فكريــة‬
‫عاصـفة؛ كـانت تجتـاح العـالم اإلسـالمي وقتهـا‪ :‬الفلسـفة اليونانيـة‪ ،‬وتيـارات الباطنيـة‪ ،‬وفـرق‬
‫المتكلمين‪ ،‬واالتجاه الصوفي‪.‬‬
‫كان ضغط المصيبة ماحقًا ساحقًا‪ ،‬بحيث انضغط عقل الغزالي فانحدر الى الشك؟! والشــك دائــرة‬
‫مروعة‪ ،‬وكأنها الثقب األسود الشفاط‪ ،‬وهذا الذي حصل مع الغزالي‪.‬‬
‫ومع تراكم سحب (الشك) اسـودت معـالم الطـرق العقليـة‪ ،‬وتسـرب الشـك الى كـل المنافـذ‪ ،‬وفي‬
‫النهاية استولى الشك بالكامل‪ ،‬على عقل الغــزالي‪ ،‬وطوقـه بإحكــام‪ ،‬حــتى وصــل الى الشــك بكــل‬
‫شيء حوله‪ ،‬وتسربت عفونة الشك الى المدارك العقلية األساسية‪ ،‬مثل (البديهيات)؟!‬
‫تساءل الغزالي‪ :‬إذا كان المنام كله ضربًا من الوهم؟ فلماذا ال تكون الحياة كلهــا ضــربًا أكــبر في‬
‫الخيال السقيم؟‬
‫يقول الغزالي‪:‬‬
‫(فتوقفت النفس في جواب ذلك قليًال‪ ،‬وأيدت إشكالها بالمنام‪ ،‬وقالت‪ :‬أمــا تــراك تعتقــد في النــوم‬
‫أمورًا‪ ،‬وتتخيل أحواًال‪ ،‬تعتقد لها ثباتـًا واســتقرارًا‪ ،‬وال تشــك في تلـك الحالـة فيهــا‪ ،‬ثم تســتيقظ؛‬
‫فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيالتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تـأمن أن يكـون جميـع مـا تعتقـده‬
‫في يقظتك بحس أو عقل هو حق باإلضافة الى حالتك التي أنت فيهــا؟ لكن يمكن أن تطــرأ عليــك‬
‫حالة تكون نسبتها الى يقظتك‪ ،‬كنسبة يقظتك الى منامك‪ ،‬وتكــون يقظتــك نومـًا باإلضــافة إليهــا!‬
‫فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خياالت ال حاصل لها )(‪)2‬‬
‫محنة الغزالي الروحية‪:‬‬
‫وتطورت الصدمة العقلية الروحيـة عنـد الغـزالي‪ ،‬الى أن أدخلتـه المـرض‪ ،‬فـارتمى في السـرير‬
‫وكاد أن يهلك‪ ،‬ويروي تجربته الروحية الفكرية بشكل مؤثر‪:‬‬

‫‪200‬‬
‫(فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الـدنيا ودواعي اآلخـرة‪ ،‬قريبـًا من سـتة أشـهر‪ ،‬أولهـا رجب‬
‫سنة ثمان وثمانين وأربعمائة‪ ،‬وفي هذا الشهر جاوز األمر حد االختيار الى االضــطرار‪ ،‬إذ أقفــل‬
‫هللا على لساني‪ ،‬حتى اعتقـل عن التـدريس‪ ،‬فكنت أجاهـد نفسـي أن ادرس يومـا واحـدا‪ ،‬تطييبـا‬
‫لقلوب المختلفة إلي‪ ،‬فكان ال ينطق لساني بكلمة واحدة‪ ،‬وال أستطيعها البتــة‪ ،‬حــتى أورثت هــذه‬
‫العقلة في اللسان حزنــا في القلب‪ ،‬بطلت معــه قــوة الهضــم ومــراءة الطعــام والشــراب‪ ،‬فكــان ال‬
‫ينساغ لي ثريد‪ ،‬وال تنهضم لي لقمة؛ وتعدى الى ضعف القــوى‪ ،‬حــتى قطــع األطبــاء طمعهم في‬
‫العالج وقالوا‪( :‬هذا أمر نزل بــالقلب ومنــه ســرى الى المــزاج‪ ،‬فال ســبيل إليــه بــالعالج‪ ،‬إال بــأن‬
‫يتروح السر عن الهم الملم )(‪)3‬‬
‫االنهدام العقلي الكبير على يد الغزالي‪:‬‬
‫بقدر ما بدأ الغزالي خطواتـه العقليـة األولى بجـبروت‪ ،‬في تأسـيس المعرفـة عنـدما أسـس مبـدأ‬
‫اليقين في العلوم (‪ )4‬بحيث ال تتزعزع المعرفـة العقليـة حـتى لـو بـرهن على عكسـها‪ ،‬بتحويـل‬
‫الحجر الى ذهب‪ ،‬والعصي الى ثعابين‪ ،‬فالمعرفة العقلية هي أعمق وأبقى‪ ،‬وهو ما ترك بصماته‬
‫على العقل األوربي؛ بقدر ما انتهى الغزالي نفسه؛ عندما سطر قلمه كتاب (تهافت الفالسفة) في‬
‫نهاية رحلته‪ ،‬الى حالة فراغ كاملة باالنتحار الصـوفي‪ ،‬ممـا اضـطر ابن رشـد الحقـًا؛ أن يتـدخل‬
‫بعملية فكرية جراحية إسعافية لعقل مسلم منتحر بنزف داخلي‪ ،‬قد انهــار صــاحبها بفعــل الــنزف‬
‫الفكري الى حالة الصدمة غير قابلة التراجع (‪ )IRREVERSIBLE SHOCK‬فيكتب في‬
‫الوقت الضائع للمباراة كتابه (تهافت التهافت)(‪.)5‬‬
‫لذا لم يستفد العالم اإلسالمي من كتابات ابن رشد شيئًا‪ ،‬بــل هي موضــع شــبهة وشــك‪ ،‬فهــو من‬
‫التراث المحترق‪.‬‬
‫ديكارت والمقال على المنهج‪:‬‬
‫في الوقت الذي كان العالم اإلسالمي يضع عقله على الـرف‪ ،‬ويتوقـف الـزمن عنـده على ضـرب‬
‫صنج الصوفية‪ ،‬ويشخر في أحالم وردية على قصص ألف ليلة وليلة‪ ،‬كانت بذور منهج الغزالي‬
‫في التأسيس المعرفي من خالل مبدأ الشك‪ ،‬يثمر ثمراته في جنوب ألمانيا بطريقة مختلفة!!‬
‫يقول ديكارت عن نفسه أن الثلج والبرد اضطره الى قضاء الشــتاء في جنــوب ألمانيــا قريب ـًا من‬
‫مدينة أولم ( ‪ ، ) ULM‬وهو المكان الذي تعلمت فيه أنا شخصيا اللغة األلمانية في قرية الفالح‬
‫الصغير األزرق(‪)Blaubeuern‬‬
‫كان رينيه ديكارت من نبتات التنوير العقلي الجديد‪ ،‬الذي امتد من شـمال إيطاليـا الى كـل أوربـا‬
‫من الشعلة التي قدح زنادها البن رشد‪.‬‬
‫يقول ديكارت أنه التجأ الى هذه المكان وهو فارغ البال من الهم والحزن والهوى‪.‬‬
‫كان الشيء الذي يحتل كل ملكاته العقلية هو إمكانيــة الوصــول الى الوثاقــة واليقين في العلــوم‪،‬‬
‫فديكارت كان قد ودع الفكر القديم وفقد ثقتــه بــه فكتب‪( :‬العقــل هــو أحســن األشــياء توزعـًا بين‬
‫الناس‪ ،‬إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية‪ ،‬حتى الذين ال يســهل عليهم أن يقنعــوا بحظهم من‬
‫شيء غيره‪ ،‬ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه ‪.‬‬
‫ويشهد هذا بــأن قــوة اإلصــابة في الحكم الــتي تســمى العقــل أو النطــق تتســاوى بين كــل النــاس‬
‫بالفطرة‪ ،‬وكذلك يشهد بأن اختالف آرائنا ال تنشأ من أن البعض أعقــل من البعض اآلخــر‪ ،‬وإنمــا‬
‫ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة‪ ،‬ألنه ال يكفي أن يكون للمرء عقل‪ ،‬بل المهم هو أن‬
‫يحســن اســتخدامه‪ ،‬وإن أكــبر النفــوس لمســتعدة الرتكــاب أفظــع الرذائــل مثــل اســتعدادها ألكــبر‬
‫الفضائل)(‪)6‬‬
‫المنهج الديكارتي‪ :‬أنا أفكر ‪ ..‬أنا موجود ‪:‬‬
‫استولى الشك على كيان ديكـارت كـامًال؛ فبـدأ يتنفس الشـك ويعيش فيـه‪ ،‬ويقـول أن تلـك الليلـة‬
‫شعر وكأن دماغه ـ من شدة التفكير ـ يوشك على االنفجار‪ ،‬ثم انقدح إمامه فجأة المنهج الجديد‪،‬‬
‫الذي عرف بالمنهج التحليلي الديكارتي‪ ،‬أثناء الغوص في بحر الفلسفة‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫قال ديكارت إنني عندما أشك أفكر؛ حتى لو شككت في كل شيء؛ بما فيه وجــودي بالـذات‪ ،‬حــتى‬
‫لو زالت الدنيا كلها‪ ،‬فإن شيئًا ال يزول وال يــتزحزح وهــو إنــني أشــك؛ أي إنــني أفكــر‪ ،‬وإذا كنت‬
‫أفكر؛ فهناك حقيقة أنــني موجــود على صــورة من الصــور ولكنــني موجــود؛ فهــذه هي الحقيقــة‬
‫الراسخة الوحيدة التي يمكن أن استند إليها في كل عمليات التفكير‪.‬‬
‫هذه الحقيقة الراسخة مهدت الطريق لعصر التنوير في أوربا‪ ،‬واعتبرت الفلسفة الديكارتية أحــد‬
‫المفاصل الجوهرية‪ ،‬التي قامت عليها الفلسفة األوربية الحديثة‪ ،‬باعتبـار أن ديكـارت وعشـرات‬
‫من أمثاله‪ ،‬كانوا البناة النظريــون للعصــر الحــديث بكــل انجازاتــه‪ ،‬فمــع حركــة العقــل تم تدشــين‬
‫حرية التفكير‪ ،‬ومع حرية التفكير انطلقت األبحاث العلمية بدون حدود‪ ،‬ومنها نبعت التكنولوجيــا‬
‫الحديثة‪ ،‬والنظم السياسية أي الليبرالية االقتصادية‪ ،‬والديمقراطية السياسية‪ ،‬فهؤالء المفكرون‬
‫العظام هم الذين حلوا أعظم مشاكل الجنس البشري؛ وليس كما زعم صاحب الكتــاب األخضــر؟؟‬
‫في عالقة السلطة بالمواطن‪ ،‬ونقل السلطة السلمي‪ ،‬وبناء مناخ الحرية الفكرية الكامل بدون أي‬
‫خوف أو تابو‪.‬‬
‫‪SOCIETY‬‬ ‫مــــــع هــــــذا فــــــإن مــــــؤتمر جمعيــــــة العلــــــوم العصــــــبية (‪FOR‬‬
‫‪ )NEUROSCIENCES‬الــذي ضــم مــا يزيــد عن عشــرين ألــف عــالم‪ ،‬اجتمعــوا في مدينــة‬
‫سانت دييغو في مقاطعة كاليفورنيا عام ‪1996‬م خرج ببعض النتائج التي بدأت تهز األقدام تحت‬
‫نظرية ديكارت(‪)7‬‬
‫مؤتمر ( سان دييجو ) يثير بحث المشكلة الفلسفية من جديد ‪:‬‬
‫في هــــذا المــــؤتمر الهــــام اجتمــــع كٌم ضــــخم من أطبــــاء العصــــبية والمعلومــــاتيين (‬
‫‪ )INFORMATIKER‬وعلماء النفس والفالســفة ومشــرحو الــدماغ وبيولوجيــو الكيميــاء‬
‫العصبية‪ ،‬يريدون حل المعضلة القديمة للفلسفة‪:‬‬
‫ما هو الوعي اإلنساني؟‬
‫لقد حاولوا اقتحام الدماغ لفهم أسراره الدفينة‪ ،‬ولكن من أجل فهم مــاذا يعــني الكيــان (أنــا) كــان‬
‫عليهم تجاوز عقبــة كــؤود غــير قابلــة لالخــتراق على مــا يبــدو حــتى اآلن وهي‪ :‬دور المشــاعر‬
‫واألحاسيس وعالقتها بالعقل والفكر؟!‬
‫إن الثورة العقلية التي بدأها ديكارت مع عـام ‪ 1644‬م عنـدما أطلـق مقولتـه الفلسـفية الشـهيرة‬
‫(أنا أفكر أنا موجود)(‪ )COGITO, ERGO SUM‬كان قد وضع أحد األحجــار األساســية‬
‫في الفلسفة الحديثة فأما الروح والعقل والوعي فإنها تخص الكنيسة‪ ،‬وأما البدن فيمكن اقتحــام‬
‫التابو فيه وتعريضه للتشريح‪.‬‬
‫وهكذا أوجد النظرية الثنائية في أن في اإلنسان كيانان يســبحان جنبــا الى جنب‪ ،‬الــروح والبــدن‬
‫في ثنائية متالزمة غير مفهومة‪.‬‬
‫ولكن كما تفعل الثورة مع أبناءها فيبدو أن هذه الثورة العقلية تهدد بأكل أبناءها الذين دشنوها‪،‬‬
‫فاالتجاه بدأ ينعكس اآلن ليس البحث في البدن بل في الروح‪.‬‬
‫فكيف نفهم الذات؟ كيف نعرف من نحن؟‬
‫كل السر على ما يبدو يربض تحت عظم الجمجمة‪ ،‬في المادة المخية التي تضم مائة مليار خليــة‬
‫عصبية‪ ،‬في تعقيد ال يقاربه شيء في الكون‪.‬‬
‫فكرة مفاتيح الدارات العصبية‪:‬‬
‫يبدو أن فهم الدماغ يمشي في اتجاهين‪:‬‬
‫ـ األول‪ :‬هو المزيد من فك أسراره‪ ،‬سواء المناطق التشريحية أو أثر الكيمياء في التصــرفات أو‬
‫مركز اللغة‪.‬‬
‫ـ واالتجاه الثاني‪ :‬هو استحالة اإلحاطة بكامل الدارات العصــبية الموجــودة في دماغنــا؛ فالخاليــا‬
‫العصبية التي تصل الى مائــة مليــار خليــة‪ ،‬تتضــافر فيمــا بينهــا بشــبكة مخيفــة من االرتباطــات‪،‬‬
‫بحيث أنهــا تشــكل دارات ال يمكن اإلحاطــة بهــا‪ ،‬ولعــل رقم (الجوجــول)(‪ )GOGOL‬الــذي‬

‫‪202‬‬
‫اصطنعوه في االنترنت‪ ،‬والذي هو عشرة قوة مائة‪ ،‬هــو رقم تقريــبي ال أكــثر للــدارات العصــبية‬
‫الموجودة في دماغنا والتي تشكل تركيبنا‪.‬‬
‫مقارنة بين تركيب الكروموسوم والدارات العصبية في الدماغ‪:‬‬
‫لفهم التعقيد المخيف في دماغنا‪ ،‬يستحسن نقل ذلك الى المقارنة مع أعقد التركيبات البيولوجيــة‬
‫المسؤولة عن الوراثة في كياننا‪ ،‬والتي تبلغ حوالي ثالثة مليارات من األحماض النووية ‪.‬‬
‫إن تركيب الحامض النووي يبقى في غاية البســاطة بالمقارنــة مــع تــركيب ضــفيرة النورونــات؛‬
‫فالحامض النووي يتشكل من تتابع ألحماض أمينيــة أربعــة هي االدنين والســيتوزين والغــوانين‬
‫والثيمين‪ ،‬ويرمز لها بالحروف‬
‫(‪ )A-C-T-G‬وهذه الحروف األربعة تشكل لغة الخلق البيولوجية‪.‬‬
‫ويمكن لها أن تتالى على غير نظام مثل (أ ‪ -‬أ ـ أ ـ ت) أو (ت ـ س ـ غ ـ غ) وهكذا‪...‬‬
‫وباجتماع عدد ينقص أو يزيد من هذا التتابع‪ ،‬لهذه الحروف يسمى (جين)‬
‫(‪ )GEN‬وهو المسئول عن بناء عضوي معين في البدن‪ ،‬مثل األنسولين الــذي يحــرق الســكر‪،‬‬
‫أو التيروكسين هورمون الغدة الدرقية‪ ،‬الذي يشعل الفعالية في البدن‪.‬‬
‫ولكن الدارات العصبية هي حروف مبعثرة‪ ،‬تبني ارتباطات عشــوائية النهايــة لهــا‪ ،‬وهي ليســت‬
‫عشوائية‪ ،‬بل كل دارة تولد معلومة‪ ،‬أو لعلها تفرز عاطفة‪ ،‬أو تحث على شعور ما؟‬
‫ويكفي أن نعلم أن كل جزيئات الوجود ال تزيد عن عشرة قوة ‪ ،88‬وبــذلك تكــون االرتباطــات في‬
‫دماغنا أعقد وأعظم شيء في الوجود (‪.)8‬‬
‫موضعة الوعي والمراكز العصبية‪:‬‬
‫هذا الفهم للدارات العصبية يفتح الباب على انقالب نوعي في فهم أماكن اإلصابات العصبية‪ ،‬فال‬
‫يعني خراب مكان بعينه أنه هو المسئول عن الوظيفــة الضــائعة‪ ،‬تمامـًا كمــا في توقــف الســيارة‬
‫عن السير لنضوب البنزين فنظن أنها بسبب تعطل المحرك؟‬
‫وهي األبحــاث الــتي تقــدم بهــا النفســاني البريطــاني (ريتشــارد جريجــوري) في نظريــة جديــدة‬
‫لمواضع الوظائف‪ ،‬ومعنى الوعي عند اإلنسان‪.‬‬
‫وشرح ذلك في مقال مبني على األصول ضد التموضع‪ ،‬ويضرب لذلك مثًال‪:‬‬
‫(إنه من المستحيل تقدير آثار إصابة نوعيـة دون معرفـة كيفيـة تشـغيل أجـزاء الـدماغ مجتمعـة‬
‫ولنأخذ مثًال‪ :‬حالة ماكينة مجهولة نحاول فهم طريقة تشغيلها وذلـك بواسـطة فـك قطعهـا بشـكل‬
‫اصطفائي واحدة تلو األخرى‪ ،‬فـإذا نزعنــا منهــا جــزًء معينــا مثًال خــزان الوقـود فتــوقفت اآللـة‪،‬‬
‫حينئذ يمكننا بشكل ساذج أن نستنتج‪ ،‬إذا لم نكن قد رأينا سيارة من قبل‪ ،‬بأن آلية الدفع في هــذه‬
‫الماكينة هي الخزان‪.‬‬
‫ويبدي جريجوري المالحظة القائلة‪ ،‬بأن المشكلة ال تطرح فيمـا لـو كنـا نعـرف اآلليـات المعقـدة‬
‫للمحركــات االنفجاريــة‪ ،‬ونحن في حالــة الــدماغ لســنا في هــذا الموقــف؛ إذ أننــا ال نملــك نظريــة‬
‫وطيدة عن التشـغيل الطـبيعي للـدماغ‪ ،‬ولـذلك فـإن تـأويالت المعطيـات المسـتمدة من اإلصـابات‬
‫العصبية الدماغية يمسي عسيرًا)(‪)9‬‬
‫الغابة الدماغية والتيه العلمي‪:‬‬
‫عجــز المشــرحون عن التحقــق الفعلي من المراكــز العصــبية ومكــان الــوعي واإلرادة‪ ،‬واحتــار‬
‫علماء النفس في تفسير أحالم التحقق وظواهر الباراســيكولوجيا‪ ،‬ولم يفهم تمام ـًا كيــف تتحــول‬
‫موجات الكهرباء الى ألوان بعينها مترجمة في الدماغ‪.‬‬
‫لم يفهم تمامًا آلية ترابط المشاعر مع األفكار؛ فيبدو أن هناك نوع من الترابط المحكم يضيع مــع‬
‫تدمير بعض الممرات العصبية‪.‬‬
‫تخلخل البناء النظـري الـذي وضـعه ديكـارت سـابقًا في ثنائيـة الـروح والبـدن‪ ،‬فهنـاك نـوع من‬
‫الضفيرة المحكمة بين النفس والجسد‪ ،‬فالروح تتنفس من خالل البدن والعكس صحيح‪.‬‬
‫ولغز العقل والوعي مازال قائمًا‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫مراجع وهوامش‪:‬‬
‫(‪ )1‬من التصادف الغريب والمحزن لمصير العالم اإلسالمي أن جناحيه قطعا في فترة عقد من السنين‪ ،‬فسقط كما‬
‫يسقط الطير بال جناح‹‹ان‪ .‬س‹‹قطت اش‹‹بيلية في األن‹‹دلس في ع‹‹ام ‪ 1248‬م بي‹‹د األس‹‹بان ودم‹‹رت بغ‹‹داد ب‹‹المحراث‬
‫المغولي الهابط من الشرق في عام ‪ 1256‬م (‪ )2‬كتاب (المنقذ من الضالل والموصل الى ذي العزة والجالل) أب‹‹و‬
‫حامد الغزالي ـ حققه جميل صليبا وكامل عياد ـ دار األندلس ـ ص ‪ )3( 85‬نفس المصدر الس‹‹ابق ص ‪)4( 136‬‬
‫تأمل تعب‹يرات الغ‹زالي المدهش‹ة في التأس‹يس المع‹رفي (فالب‹د من طلب حقيق‹ة العلم م‹ا هي؟ فظه‹ر لي أن العلم‬
‫اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا ال يبقى مع‹‹ه ريب وال يقارن‹‹ه إمك‹‹ان ال‹‹وهم والغل‹‹ط‪ ،‬وال يتس‹‹ع القلب‬
‫لتقدير ذلك‪ ،‬بل األمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارن ‹ًا لليقين مقارن ‹ًة‪ ،‬ل‹‹و تح‹‹دي بإظه‹‹ار بطالن‹‹ه مثًال من يقلب‬
‫الحجر ذهبا‪ ،‬والعصا ثعبانًا‪ ،‬لم يورث ذلك شكًا وإنكارًا‪ ،‬فإني إذا علمت أن العشرة أك‹‹ثر من الثالث‹‹ة؛ فل‹‹و ق‹‹ال لي‬
‫قائل‪ :‬ال‪ ،‬بل الثالثة أكبر من العشرة؛ بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانًا وقلبها وشاهدت ذلك منه‪ ،‬لم أشك بسببه في‬
‫معرفتي‪ ،‬ولم يحصل لي منه إال التعجب من كيفية قدرته عليه! أما الشك فيما علمته فال) نفس المصدر السابق ص‬
‫‪ )5( 82‬يراجع في هذا كتاب (تك‹وين العق‹ل الع‹ربي) للمفك‹ر المغ‹ربي ال‹دكتور محم‹د عاب‹د الج‹ابري ـ مرك‹ز‬
‫دراسات الوحدة العربية ـ مثًال فصل العقل المستقيل في الثقافة العربي‹‹ة اإلس‹المية (‪ )6‬مق‹ال على المنهج ـ ريني‹‹ه‬
‫ديكارت ـ ترجمة محمود الخضيري ـ الناشر دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ـ ص ‪ )7( 110‬مجلة الش‹‹بيجل‬
‫األلمانية العدد ‪ 1996 16‬م ـ البحث عن الذات ص ‪ )8( 190‬كت‹‹اب اللغ‹‹ة والفك‹‹ر ـ ت‹‹أليف تش‹‹ارلز فورس‹‹ت ـ‬
‫ترجمة محمود سيد رصاص ـ الفصل األول ص ‪ )9( 6‬نفس المصدر السابق ص ‪.216‬‬

‫‪204‬‬
‫سبينوزا‬
‫ورسالته حول تحسين العقل‬
‫في أول كتابه (رسالة في تحسين العقل) يذهب الفيلسوف (باروخ سبينوزا) أن الناس يركضون‬
‫بأشد من ضباح الخيل‪ ،‬وتهافت الفراش على النار‪ ،‬على ثالث مصادر‪ ،‬أنها أكيدة‪ ،‬ويقينية‪،‬‬
‫ومضمونة‪ ،‬لسعادة ال تعرف النفاد هي‪( :‬المال ـ الشهرة ـ الشهوة)‪.‬‬
‫ولكنها ال تزيد عن سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ‪..‬‬
‫ثم يمضي فيلسوف التنوير في شرح األفكار الثالثة‪ .‬أن الشهوة مرض والمال يزول والشهرة‬
‫تتكسر فأين إذن السعادة الدائمة والشاملة الغامرة؟‬
‫وما كتب الرجل في حياته لم تتجاوز أربعة كتب‪ ،‬ومات عن عمر ‪ 42‬سنة‪ ،‬منفوثا بالسل‪ ،‬بعد‬
‫طعنة سكين في رقبته من المتعصبين‪ ،‬أنه يريد إثبات عدم وجود هللا ؟‬
‫والرجل كان تقيا نقيا زاهدا‪ ،‬عميق التصوف‪ ،‬بحرًا في الفلسفة‪ ،‬قال عنه ديورانت‪ :‬أن نابليون‪،‬‬
‫كان أنفع له من كل الفتوحات العسكرية‪ ،‬لو ألف أو قرأ طرفا مما كتب الرجل‪ ،‬ولكن العسكريين‬
‫في العادة‪ ،‬في جّلهم‪ ،‬مغامرين متهورين‪ ،‬ضحلي الثقافة‪ ،‬عظيمي التأثير في حياة الناس‪ ،‬بكل‬
‫أسف ‪..‬‬
‫فهذه هي سخرية التاريخ‪...‬‬
‫وكلفت سبينوزا أفكاره أن ُيلعن كل من اقترب منه أربعة أذرع‪ ،‬أو أكل معه‪ ،‬أو شرب‪ ،‬أو نام‬
‫معه تحت سقف واحد‪ ،‬أو قدم له يد المعونة في دواء وغذاء‪.‬‬
‫ولكن كتاباته تبقى محطة لكل من ارتاد مغامرات العقل اإلنساني عبر العصور‪.‬‬
‫وفي مطلع البحث يقول أن السعادة يجب أن تحقق ثالث أمور‪:‬‬
‫أن تكون أكيدة (حقيقية) غامرة‪ ،‬بهيجة‪ ،‬تقلب الحياة قلبا‪ ،‬وتضعها باتجاه على سكة‪ ،‬تاركة‬
‫بصماتها على التصرفات؛ فالسعادة نور داخلي قبل كل شيء‪.‬‬
‫وان تكون (مستمرة) متدفقة ال تعرف التوقف والكبح والمحدودية‪.‬‬
‫وأن تكون (شاملة) تغطي الحياة وما حوت‪ ،‬والمشاعر وما أخفت‪.‬‬
‫ولتعرفنهم في سيماهم ولحن القول ‪..‬‬
‫أولئك النجباء السعداء ‪..‬‬
‫وبالطبع فإن سعادة من هذا النوع ال يصل إليها إال ثلة من األولين وقليل من اآلخرين؛ ويسميها‬
‫علم النفس الحديث (تحقيق الذات ‪)Self actualization‬؛ فالنفس تبقى في توتر ثالثي‪ ،‬قبل‬
‫الهدوء والراحة؛ فتنتقل كما يقول الغزالي في كتابه (معارج القدس في مدارج معرفة النفس)‪،‬‬
‫من النفس (األّم ارة بالسوء)‪ ،‬إلى (النفس اللوامة)‪ ،‬إلى (النفس المطمئنة)‪ ،‬التي تدخل الجنة‬
‫قبل دخولها ‪..‬‬
‫يقول سبينوزا يظن البعض أن الثروة تخلق السعادة‪ ،‬وهي جزء من الحقيقة‪ ،‬وليست كل‬
‫الحقيقة‪ ،‬فنحن في الدنيا نركب زورقا باتجاه هدف‪ ،‬وحاجات الحياة ال بد منها‪ ،‬ولكن هناك من‬
‫يريد البقاء في الزورق‪ ،‬أو بناء قصر فوق قنطرة يعبرها‪ ،‬كما يقول بوذا‪ ،‬وكل األلم يأتي من‬
‫عدم إدراك هذه الحقيقة‪ ،‬والعمى فيها يضيع لب التنوير‪.‬‬
‫ويلتقي هنا مع الحديث الذي يقول‪ :‬ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح‬
‫وتركها ‪.‬‬
‫فليس أغنى من (كريستينا) بنت (أوناسيس) إمبراطور ناقالت البترول اليوناني (‪،)Tycoon‬‬
‫الذي تزوج (جاكلين كيندي )‪ ،‬وجعلها تنفق كل نصف نهار‪ ،‬خمسين ألف دوالر لشراء المالبس‬
‫علها تشبع؟‬
‫فلم تشبع ؟؟‬

‫‪205‬‬
‫وماتت ابنته (كريستينا) وريثة ثروته‪ ،‬التي فاقت ثروة قارون‪،‬انتحارا وقهرا وغمًا‪ .‬وجربت‬
‫أكثر من زيجة ففشلت‪ ،‬وطردت ذكور النحل‪ ،‬المتراكمين حولها من أجل ثروتها‪ ،‬أخيرا من‬
‫حياتها‪ ،‬وانتفخت بالسمنة والملل فلم يغن عنها شيئا‪ ،‬وماتت في أبأس حال‪.‬‬
‫وفي يناير من عام ‪ 2010‬م أعلن عن موتى (كيسي جونسون) حفيدة إمبراطور الشركة‬
‫الدوائية‪ ،‬وابنة الرجل الذي اشترى نادي نيويورك الرياض بـ ‪ 630‬مليون دوالر‪ ،‬وتقول الفتاة‬
‫قبل موتها ليس من ثمة تعاسة أعظم من ملك ثروة ليس لها نفاد‪.‬‬
‫والقرآن يقول ولو بسط هللا الرزق لعباده لبغوا في األرض ولكن ينزل بقدر ‪..‬‬
‫وكل مات بطريقته‪ .‬سما‪ ،‬أو بالرصاص ‪ ..‬شنقا ‪ ..‬أو خنقا ‪..‬أو سقوطا من شاهق؟‬
‫ولو كان المال (شرفا ) لكان قارون سيد األنبياء‪ ،‬فخسف هللا به وبداره األرض‪ ،‬فما كان له من‬
‫فئة ينصرونه من دون هللا‪ ،‬وما كان منتصرا‪.‬‬
‫ويظن البعض أن (الشهرة) سبب للسعادة‪ ،‬ولو كان ذلك صحيحا‪ ،‬لكانت (مارلين مونرو)‬
‫الممثلة األمريكية‪ ،‬الشهيرة الجميلة‪ ،‬صاحبة الحسن والدالل واإلغراء‪ ،‬سيدة السعداء‪ ،‬ولكنها‬
‫أنهت حياتها باالنتحار ؟!‬
‫ولو كان (النفوذ) سببا للسعادة لما أنهى وزير المالية الفرنسي (فوكيه) زمن الملك لويس‬
‫الرابع عشر‪ ،‬الملقب بملك الشمس‪ ،‬حياته في زنزانة انفرادية‪ ،‬في جبال األلب ‪..‬‬
‫أو العديد من الوزراء‪ ،‬والمسئولين الكبار‪ ،‬وهم يرتعدون فرقا كل حياتهم في المنصب‪ ،‬وخارج‬
‫المنصب !‪.‬‬
‫ويروى عن (نيكيتا خروتشوف) أن ما أبقى رأسه فوق كتفيه‪ ،‬أنه تحول إلى (مهرج) في‬
‫حفالت ستالين‪ ،‬فكان الطاغية يصب على رأسه الفودكا‪ ،‬ويضحك ملء شدقيه ‪..‬‬
‫ويظن البعض أن (اللذة ) هي السعادة‪ ،‬ومنه دعا الفيلسوف اليوناني (أبيقور) إلى اغتراف‬
‫اللذات في الحياة‪ ،‬وينقل عنه قوله‪ ،‬عندما يحضر الموت فلن نكون موجودين‪ ،‬فلم الخوف من‬
‫زائر مرعب لن نتالقى معا؟‬
‫ومن أثينا خرج الفالسفة (الكلبيون)‪ ،‬الذين دعوا الناس من أجل الراحة أن يقلدوا أخالق‬
‫الكالب‪ .‬وهي ليست مزحة؟‬
‫وأكبر نموذج في اغتراف اللذات‪ ،‬شاعر الجاهلية (طرفة بن العبد) و(عمر الخيام) اللذين رأيا‬
‫في الحياة‪ ،‬تلك الفترة القصيرة‪ ،‬التي هي أقصر‪ ،‬من أن نقصرها بالترهات‪ ،‬فيجب ملء كأسها‬
‫بالملذات دهاقا‪ .‬ولكن الملذات (مشكلة) من جهتين؛ فاإلفراط في تعاطي الكحول‪ ،‬يقود لتشمع‬
‫الكبد‪ ،‬واإلفراط في الجنس‪ ،‬يقود إلى األمراض التناسلية‪ ،‬أو البرود الجنسي عكس مقصوده‪.‬‬
‫وأعظم اللذات‪ ،‬عندما تأتي في وضع اإلشباع؛ سواء الماء مع شدة العطش‪ ،‬أو الطعام مع فرط‬
‫الجوع‪ ،‬أو االتصال الجنسي بحرمان مناسب‪.‬‬
‫ويرى عالم النفس البريطاني (هدفيلد) أنه البد من التفريق بين ثالث‪ :‬السرور والسعادة واللذة؛‬
‫فاللذة هي ممارسة الغريزة بدون بعد أخالقي‪ ،‬وهو أمر نشترك فيه مع الحيوانات‪.‬‬
‫أما السرور فهو ممارسة متعة الغريزة‪ ،‬ضمن إطارها المعنوي األخالقي‪ .‬ولكن السعادة هي‬
‫عملية التوازن في إشباع الغرائز‪ ،‬وهو يصل بكالمه هذا إلى فتح علمي؛ فيمكن لفالحة أو‬
‫بدوية تعيش في خيمة‪ ،‬أن تكون في سعادة يحسدها عليها أكبر مسئول في أكبر وزارة‪ ،‬ال‬
‫ينقصه المال والخدم والحشم والنفوذ والشهرة‪.‬‬
‫وكرسي الحكم أعظم لذة‪ ،‬فهو كرسي اإلعدام‪ ،‬ال ينجو منه في العادة أحد‪ ،‬تفوق حالوته كل‬
‫لذة‪ ،‬خاصة في إمبراطوريات الدول الثورية‪ ،‬التي تحولت إلى جملوكيات ‪..‬‬
‫ويروى عن بعض الصوفية‪ ،‬قولهم‪" :‬لو علم الملوك بما نحن فيه من السعادة لقاتلونا عليها‬
‫بالسيوف ؟‪ .‬ووصف هللا عباده الصالحين أنهم محصنون ضد‪ :‬الخوف والحزن‪ .‬ومن تخلص‬
‫من الحزن وصل إلى السعادة ‪ ..‬ومن نجا من الخوف ذاق راحة البال عطاء غير مجذوذ‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫من سقراط وسبينوزا‬
‫إلى ابن رشد وجيوردانو برونو‬
‫مغامرات العقل اإلنساني‬
‫"بقرار المالئكة وحكم القديسين نِّح رم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ سبينوزا ‪..‬‬
‫وليكن مغضوبًا وملعونا‪ ،‬نهارا وليال‪ ،‬وفي نومه وصبحه‪ ،‬ملعونا في ذهابه وإيابه‪ ،‬وخروجه‬
‫ودخوله‪ ،‬ونرجو هللا أن ال يشمله بعفوه أبدا‪ ،‬وأن ينزل عليه غضب هللا وسخطه دائما ‪..‬‬
‫ونسأل هللا أن يخلص أولي الطاعة منكم وينقذهم‪ ،‬وأن ال يتحدث معه أحدا بكلمة‪ ،‬أو يتصل به‬
‫كتابة‪ ،‬وأن ال يقدم له أحد مساعدة أو معروفا‪ ،‬وأن ال يعيش معه أحد تحت سقف واحدة‪ ،‬وأن ال‬
‫يقترب منه أحد على مسافة أربعة أذرع‪ ،‬وأن ال يقرأ أحد شيئا جرى به قلمه أو أماله لسانه"‬
‫نص اللعنة هذا لم يصب على رأس شقي‪ ،‬بل على فيلسوف يعتبر من أعمدة التنوير العقالني‬
‫في القرن السابع عشر‪ ،‬الذي تعتبر كتاباته التي لم تتجاوز أربعة كتب‪ ،‬أحد المحطات العقلية‬
‫الرئيسية‪ ،‬في رحلة اكتشاف مسيرة العقل اإلنساني‪ ،‬ومغامراته العقلية الضخمة الختراق‬
‫المجهول في فضاءات معرفية شتى‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 399‬قبل الميالد تم تقديم رجل عجوز يناهز السبعين عامًا‪ ،‬الى المحكمة في أثينا‬
‫بتهمتي الهرطقة وإفساد الشبيبة‪ ،‬وتم الحكم عليه باإلعدام من أجل آراءه‪ ،‬بجرعة سم‬
‫الشوكران‪.‬‬
‫كان هذا المجرم (سقراط) واستقبل الموت وتجرع السم وهو يشرح أفكاره لطالبه المتحلقين‬
‫حوله حتى اللحظة األخيرة‪ ،‬وهم يحبسون دموعهم وزفراتهم‪ ،‬في مشهد تناقض كوني من هذا‬
‫الحجم!‬
‫والتهمة الخطيرة التي وجهت لسقراط‪ ،‬اعتبرت جريمة في نظر المجتمع األثيني‪ ،‬فصوت‬
‫باألكثرية إلعدام ألمع دماغ في المجتمع‪.‬‬
‫وهذا يحكي بؤس الديمقراطية أحيانا‪ ،‬إذا أصبحت في يد الغوغاء‪ ،‬ولو اعتمد نظام التصويت في‬
‫العالم العربي فمن سيفوز في مقاعد مجالس القرود ـ عفوا مجالس الشعب ـ هم الغوغاء‪،‬‬
‫وبذلك تحكمنا ليس الديمقراطية بل الموبائية (من الموب ‪ .. )MOB‬أي حكم القطيع‬
‫أن سقراط كان يرى أن هناك شيئًا واحدًا فقط يمكن التأكد منه هو‪ :‬جهله؛ ألن من يعرف أنه ال‬
‫يعرف ‪ ،‬يكون قد وضع رجله في أول طريق المعرفة‪ ،‬لتصحيح ما عنده‪ ،‬واالستزادة المعرفية‬
‫مما ليس عنده‪ ،‬في كون يعج بالمعرفة‪ ،‬ووجود النهائي يستحيل على النضوب المعرفي‪.‬‬
‫وفيها حَّر ر مبدأه األخالقي‪ ،‬الذي استفادت منه مدارس شتى في التاريخ في تأسيس العالقات‬
‫اإلنسانية‪ ،‬بعدم مكافحة الشر بالشر‪ ،‬كما جاء في اإلنجيل والقرآن والزبور‪..‬‬
‫الحق أقول لكم ال تقاوموا الشر وادفعوا بالتي هي أحسن‬
‫وأنه خير لنا أن نتحمل الظلم من أن نمارسه‪ ،‬وأن التغيير االجتماعي ينطلق من ممارسة‬
‫الواجب‪ ،‬أكثر من المطالبة بالحقوق‪ ،‬وأن االلتزام األخالقي هو الناظم المحوري في الحركة‬
‫االجتماعية‪ ،‬وأن البحث عن الحقيقة يجب أن يشكل نهم االنسان األول‪ ،‬بغض النظر عن الجانب‬
‫النفعي فيه‪ ،‬في تشكيل عقل نقدي ال يعرف التقاعد أو االستقالة‪ ،‬في رحلة الكشف عن الحقيقة‬
‫‪.....‬‬
‫هذه هي أفكار الرجل الخطيرة التي بموجبها أعدمته أثينا في أكبر حماقة تاريخية ‪.‬‬
‫أما قرار لعنة سبينوزا فكان في منتصف القرن السابع عشر للميالد‪ ،‬ولكن قرارًا مشابه صدر‬
‫ًا‬
‫في حق دماغ إسالمي متألق‪ ،‬هو ابن رشد‪ ،‬في نهاية القرن الثاني عشر للميالد‪ ،‬ولم تشفع له‬
‫شيخوخته أن يلقى تحت اإلقامة الجبرية‪ ،‬منفيًا في قرية الليسانة اليهودية‪ ،‬ليموت بعدها حزينا‬

‫‪207‬‬
‫كسير القلب‪ ،‬ال يستفيد منه العالم اإلسالمي حتى هذه اللحظة‪ ،‬فهو مازال على القائمة السوداء‪،‬‬
‫مطلوب رأسه للعدالة بدون عدالة‪.‬‬
‫وتم تدشين األيام األولى من عام ‪ 1600‬ميالدي بحريق مروع ارتجفت منه مفاصل المفكرين‬
‫في أوربا‪ ،‬عندما ُأْح ِر ق المفكر اإليطالي ( جيوردانو برونو) حيًا في ساحة عامة‪.‬‬
‫ومرت األيام وتتالت القرون فتم رد االعتبار لسبينوزا‪ ،‬ونحت تمثال لسقراط يحدق بوداعة في‬
‫حماقة التاريخ‪ ،‬واحتفل بذكرى ابن رشد في قرطبة عل يد األسبان؟ ونصب تمثال تذكاري‬
‫لجيوردانو برونو فيلسوف حرية الرأي‪ ،‬في نفس الساحة التي شوي فيها حيًا‪( ،‬بالثا دي ال‬
‫فويرا)؟‬
‫فهذه أربعة أمثلة ألربعة مفكرين من أربعة أديان‪ .‬في نظم تاريخي ينبض بنفس الوتيرة‪،‬‬
‫ويالقي نفس المصير‪ ،‬بحماقة بشرية ال تعرف الحدود‪ ،‬ومتى كان للحماقة دواء‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫قانون سبينوزا في القراءة‬
‫لذة الفهم!!‬
‫تكون القراءة أوال مثل عمال المقالع شقاء ونصب وعذاب وعرق‪ ،‬مثل تعبيد الطرق حصى‬
‫ورمال وجبال ووديان وصعود وتعب‪ ،‬ثم تلين الكلمة تدريجيا والنضج عمقا وشموال‪ ،‬ثم يصل‬
‫اإلنسان مرحلة الفلسفة لذة الفهم‪ ،‬وتحصل بعد جهد عشرات السنوات‪ ،‬فإذا وصلها من كدح ال‬
‫يرحمه الموت ألن عينيه أبصرت الحقائق فأصبح حديد؛ فيجب أن تودع عالم الغموض‬
‫والضبابية‪ ،‬والذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا‪ ،‬إلى دنيا التألق والنور والوعي وال يخافون‬
‫وال يحزنون وال يقلقون وال يهتمون وال يفقرون وال يموتون إال الموتة األولى‪..‬‬
‫يجب أن تقرأ كما يقول سبينوزا حتى تصل إلى لذة الفهم‪ ،‬وهي عند الصوفية تلك الحالة الروحية‬
‫من المتعة التي يشعر بها عباده المؤمنون من إبصار الحقيقة واالقتراب من نور الهداية؛ فينشرح‬
‫الصدر فويل للقاسية قلوبهم من ذكر هللا‪.‬‬
‫وهناك عدة مبادئ لخبراء الكتب في الصيد واالكتشاف‪،‬هواية وحرفة‪،‬لالستدالل على أماكن توليد‬
‫اإلنتاج المعرفي والوصول إليه‪ ،‬وهنا قد ينفعنا قانون ابن خلدون في القراءة الثالثية وقانون ابن‬
‫سينا في تشبع الدماغ وحل المعضالت في النوم‪ ...‬أليس عجيبا؟‬
‫وأذكر من جلستي يوما عند أبو عبد الرحمن أن ذكرت له الكاهن مسلييه وعهده الجديد‪ ،‬وكيف‬
‫كتب أمورا في حياته‪ ،‬مخالفا الكنيسة تماما ومعتقدات المسيحيين العامة‪ ،‬فقال لي صديقي هل‬
‫يمكن أن تريني المكان في أي كتاب هو؟ فقمت وأحضرت له كتاب قصة الحضارة في مجلسه‬
‫من نفس مكتبته‪ ،‬وأطلعته على النص الذي يذكر قصة هذا الكاهن الجريء الصادق الذي كتم‬
‫إيمانه‪ ،‬ولقد كتبت عنه مقالة لم ننشر فيها كل أفكار الرجل‪ ،‬وه نفس قصة فولتير معه‪ ،‬فقد تردد‬
‫في نشر كامل وثيقة الكاهن لشدة كثافتها وعدم تحمل الوسط لها‪.‬‬
‫وأذكر من جلسة صباحية وأنا في مجلس األطباء أنني قرأت بحثا ممتازا عن االستنساخ الجسدي‬
‫فاستوعبته وتمكنت منه‪ ،‬وأعرف تماما أنني حين أتشبع بالبحث إلى درجة الكفاية فاض البحث‬
‫مني في صور شتى‪ ،‬بما فيها الصور األدبية!‬
‫ومنها قصتي مع الدكتور برمدا الذي كان يدرسنا مادة النسائية في كلية الطب‪ ،‬فسمعت منه بحث‬
‫استهواني جدا عن الجنين والتروية الدموية عنده؛ فنقشت في دماغي نقشا‪ ،‬ولم أكرر قراءتها بعد‬
‫ذلك‪ ،‬ولما جاء السؤال في االمتحان كنت اعتمد كلية على ذاكرتي التي مر عليها الشهور ذوات‬
‫العدد‪ ،‬وأبدعت فيها‪ ،‬وكنت أكتب وكان لوحة مفتوحة أمامي‪ ،‬أنقل منها ما أشاء من معلومات‪.‬‬
‫وهي نفس قصتي مع مؤتمر بريوني في الكفاءة مع الديكتاتورين ناصر وتيتو‪.‬‬
‫وال أنسى تلك الحالة من االتقاد العقلي بعد فحص البكالوريا؛ فقد بلغ بي الجهد مبلغه؛ فبقيت نائما‬
‫على ظهري صيفا لمدة شهر‪ ،‬نقاهة من فرط التعب والمذاكرة‪ ،‬ولكن عقلي كان مثل قصة كابتن‬
‫فيوتشر‪ ،‬فقرأت كتاب المواريث لرواس قلعجي في يوم واحد‪ ،‬وهو علم صعب فانحفر في‬
‫الذاكرة‪ ،‬وما زلت أتذكر منه القصة الحمارية ودينار من ورثة ‪ 600‬دينار وقصة اإلمام علي من‬
‫المواريث مع من سأله عن حصة المرأة وكيف يتغير بالعول!‪.‬‬
‫أما كتاب عندما تغير العالم فقد التقطت منه بلذة وفهم الموضعية المنطقية ألرنست ماخ‪ ،‬وقصة‬
‫اكتشاف قانون بندول الساعة مع غاليلو في مجلس الكاهن ميرسين‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫وما زلت أذكر مؤتمر برلين عام ‪1975‬وأنا منهمك في اكتشاف قوانين ديكارت في التحليل‬
‫الهندسي‪ ،‬وكيف أن كتابه المقال على المنهج تركني مسحورا حتى اآلن‪ .‬أما كتابي آخر الراحلين‬
‫لمحي الدين سليق‪ ،‬عن مأساة إبادة شعب قفقاسي‪ ،‬ومسألة اآلخر عن إبادة شعوب األمريكيتين‬
‫لتزفيتان تودوروف فقد بقيت في حالة الصدمة أياما طويلة‪.‬‬
‫وأعظم منه تلك الساعة من الغطس المعرفي مع روح سبينوزا‪ ،‬في كتابه رسالة في تحسين العقل‬
‫التي بدأتها باللغة األلمانية‪ ،‬وهو يطرح األسئلة الثالث أي السعادة الشاملة التي ال تغور وال‬
‫تتوقف وال تنقطع عند حافة؟ اللذة فاجرة والشهوة مدمرة والمال مفسد والشهرة تقود إلى الدمار‬
‫ولو بعد حين؟ إذا أين السعادة التي تمتد فال تنقطع وتشمل فال تترك إال الظالل؟ إنها ساعات من‬
‫أجمل ساعات العمر وأكثرها بركة‪.‬‬
‫كذلك أذكر ذلك االنسياح والسباحة في كتاب عبد الستار إبراهيم مع مدارس علم النفس‪ ،‬أو ذلك‬
‫الخوف والترقب مع كتاب اإلنسان يبحث عن المعنى لفيكتور فرانكل‪ ،‬أو ذلك التألق في فهم‬
‫وظيفة المسجد عند النيهوم‪ ،‬ووظيفة خطبة الجمعة المتوقفة حاليا ـ حسب رأيه ـ ‪ ،‬أو تحليل‬
‫الوردي عن الصراع االجتماعي ولماذا يرفض المجتمع التغيير‪ ،‬أو كانط ولما يجب رسم خطة‬
‫للسالم األبدي؟‬
‫وال زلت أتذكر أوراقي في المنفردة حيث سجنت في كركون الشيخ حسن‪ ،‬وهناك تعرفت على‬
‫الجالد طحطوح الذي حصد عذابات الناس‪ ،‬فكتبت ما فتح هللا علي من ‪ 34‬رسالة رائعة صودرت‬
‫بأكملها حين الفرج‪ ،‬فاستفدت من الدرس‪ ،‬وهربت أوراقي حين جاءنا اعتقال آخر أشد مرارة عام‬
‫م‪ 1973‬فتبت أصول كتابي الطب محراب لإليمان في جزئه الثاني‪ ،‬وهو اآلن موسوعة ستطبعها‬
‫مؤسسة عبيكان‪.‬‬
‫إنها أيم مليئة باأللم والكدح والكبد‪ ،‬ولكنها رحلة صعود الروح نحو المقدس‪ ،‬كما وضع الغزالي‬
‫كتابه؛ معارج القدس في مدارج معرفة النفس‪.‬‬
‫هذه العتبة من لذة الفهم تقرب معنى الجنة وأنسها‪ ،‬ووحشة الحياة الدنيا واضطرابها‪ ،‬وأنها ليست‬
‫مكانا أمنا بحال‪ .‬فنحن نمرض ونضعف أو نشيخ ونهزل أو نسرق ونعتقل ‪ ..‬حتى نرجع الى هللا‬
‫فينبئنا بما كنا نعمل‪ ..‬قد خسر الذين كذبوا بلقاء هللا وكانوا بآياته يجحدون‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫حريق جيوردانو برونو‬
‫يضيء مدخل القرن السابع عشر‬

‫فرد في مواجهة مجتمع‬


‫(جرد الرجل من ثيابه ثم ربط لسانه وأحكم وثاقه وشــد الى خــازوق من الحديــد فـوق ركــام من‬
‫الحطب وأحرق حيـًا على مشـهد من جمـع غفـير متعـظ) هكـذا وصـف المـؤرخ األمـريكي (ويـل‬
‫ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) نهاية حياة مفكر‪.‬‬
‫كان ذلك قبل أربعة قــرون في عــام ‪ 1600‬م وفي يــوم موعــود من شــهر فــبراير القــارس وقــف‬
‫جمهور محتشد فاغر الفم خائف‪ ،‬وهو يعاين مصير من سمح لعقلــه بــالتفكير ولســانه بــالتعبير‪.‬‬
‫وكان رهط من قضاة محكمة التفــتيش يراقبــون ســير العمليــة بدقــة‪ ،‬وهم يشــمون رائحــة اللحم‬
‫المشوي‪ ،‬وتمتليء آذانهم بأنات االنسان المحــترق‪ ،‬يصــطلون بالنــار ذات الوقـود‪ ،‬إذ هم عليهــا‬
‫قعود‪ ،‬وهم على مايفعلون شهود‪ ،‬بإحراق رجل بتهمة االرتداد عن المسيحية‪.‬‬
‫كــان المكــان رومــا‪ ،‬وكــان اليــوم ‪ 17‬فــبراير‪ ،‬وكــان من أصــدر الحكم هيئــة قضــاة من محكمــة‬
‫التفتيش‪ ،‬وكان المتهم فيلسوف يقال له(جيوردانو برونو ‪.) GIORDANO BRUNO‬‬
‫وفي يوم السبت ‪ 19‬فــبراير من عــام ‪ 1600‬م صــدرت صــحيفة ( آفــيزي دي رومــا ‪AVVISI‬‬
‫‪ ) DI ROMA‬بهذا الخبر ‪(( :‬يوم الخميس صباحًا تم إحراق راهب دومينيكاني مجــرم من‬
‫(نوال) حيًا‪ ،‬الذي أحطناكم علمًا عنه فيما سبق من نشرات جريدتنا‪ ،‬إنــه هرطيــق عنيــد للغايــة ‪،‬‬
‫اختلق العديد من اآلراء على هواه ضــد عقائــدنا‪ ،‬وخاصــة ضــد مــريم العــذراء والقديســين‪ .‬هــذا‬
‫الخبيث اختار بإصراره الموت الزؤام‪ ،‬وكان يقول أنني أمــوت شــهيدًا وأمــوت ســعيدًا ولســوف‬
‫تصعد روحي من ألسنة النار علوًا الى الجنة‪ .‬ولكنه اآلن سيعلم هــل نطــق بالحقيقــة وأي منقلب‬
‫انقلب ؟ )‬
‫وبعد ‪ 289‬عامًا في ‪ 9‬يوليو عام ‪ 1889‬م أقيم نصب في نفس مكان الحـرق أعطي اسـم (كـامبو‬
‫دي فيوري ‪ )CAMPO DEI FIORI‬ويعني باللغة االيطالية (معسكر النار) تخليدًا لحرية‬
‫الفكر التي أطلقها الفيلسوف‪ ،‬بعد صراع مرير بين الكنيسة وحركة من أتباعــه رأت فيــه شــهيدًا‬
‫للعلم وحريــة الــرأي‪ .‬ومن الملفت للنظــر أن وقــائع محاكمــات هــذا الرجــل المتعــددة اختفت كمــا‬
‫دخلت يد التزوير الى بعضها الى درجة التشكيك في إحــراق الرجــل‪ ،‬كمــا أشــار الى ذلــك الكــاتب‬
‫األلمــاني ( يــوخن كيرشــهوف ‪ )JOCHEN KIRCHHOFF‬اســتاذ الفلســفة في جامعــة‬
‫همبولدت (‪ )HUMBOLDT‬في برلين في كتابه عن برونو‪ ،‬والوثيقة الوحيــدة الــتي ظهــرت‬
‫للنور احتاجت قريب من ثالث قرون حتى اطلع عليها الناس في عام ‪1889‬م‪.‬‬
‫كانت هذه الوثيقة تحكي زيارة جمعية (اخوان النبي يوحنا مقطوع الرأس) حيث تم إخبــارهم في‬
‫الساعة الثانية صباحًا أن هناك حفلة إعدام في اليوم التــالي ســتنفذ في رجــل عــاثر الحــظ ‪ .‬وفي‬
‫الساعة السادسة مساًء اجتمع نفر من رجال التلقين واالستتابة مع القسيس المعاون في كنيســة‬
‫القديسة (سان اورزوال ‪ )SAN ORSOLA‬ثم ذهبوا الى الســجن في بــرج (نونــا ‪)NONA‬‬
‫وأدوا هناك الصلوات المعتادة للمحكوم باالعدام (جيوردانو برونو ابن المتوفى جيوفاني برونو)‬
‫وهو أخ منشق عن الكنيسة من (نوال) وهرطيق مكابر عنيد‪.‬‬
‫جاء في الوثيقة‪(:‬لقد وعظه األخوة بكل حب‪ ،‬وناشده بالتوبة والتــبرء من آراءه اثنــان من آبــاء‬
‫الدومينيكان‪ ،‬واثنان من الجزويت‪ ،‬واثنان من الكنيسة الجديدة‪ ،‬وكذلك اثنان من كنيسة القديس‬
‫(هيرونيموس ‪ .)HIERONYMUS‬وأظهروا له بحماس كبير واطالع واســع خطــأه الكبــير‪،‬‬

‫‪211‬‬
‫ولكنــه أصــر على موقفــه حــتى النهايــة‪ ،‬واســتمر ســادرًا في حماقاتــه‪ ،‬ولــوى عنقــه واســتكبر‬
‫استكبارا‪ ،‬ولم يزده دعائنا اال فرارا‪ ،‬وأضاع رشده بآالف األخطاء)‬
‫نعم ‪ ..‬لم يلين وال مرة واحــدة‪ .‬أخــيرًا اقتــاده حــرس المحكمــة الى مكــان الحريــق؛ فخلعــوا عنــه‬
‫مالبسه‪ ،‬وأوثقوه الى عمـود غليـظ ‪ ،‬وأحرقـوه حيـًا! واثنـاء هـذا وفي كـل الـوقت كـان أخوتنـا‬
‫يرافقونه وهم يترنمون باألناشيد الدينية‪ ،‬وكان رجال االســتتابة حــتى الرمــق األخــير يحــاولون‬
‫عبث ـًا أن يثنــوه عن موقفــه ويكســروا جــدار عنــاده بــدون جــدوى‪ ،‬حــتى س ـَّلم روحــه البائســة‬
‫المشؤومة الى بارئها‪.‬‬
‫احتفلت الكنيسة بعد الحريق في ذلك العام كعيد للمسيحية في انتصارها على الهراطقــة وتطهــير‬
‫األرض منهم‪ ،‬وكان حريق (برونــو) استعراضـًا رائعـًا لجــبروت الكنيســة وقســوة أحكامهــا ضــد‬
‫المرتدين‪ ،‬كما كان هذا الدرس المؤلم عظة وعبرة لمن تســول لــه نفســه االرتــداد عن عقيــدتها‪.‬‬
‫وكان قد اجتمع خمسون من كبار الكرادلة لهذا االحتفـال البهيج بحـرق (ملـك الهراطقـة!) الـذي‬
‫ساح في نصف أوربا ينشر زندقته‪ ،‬واجتمع معهم قطيع بشــري هائــل يتمتــع برؤيــة النــار تلتهم‬
‫جسد هذا (المجرم) حسب تعبيرهم ‪.‬‬
‫يروي شهود عيان أن عالمات التعذيب كانت واضــحة على برونــو قبــل الحريــق ‪((:‬كــان ممتقــع‬
‫اللون شاحبًا قد بدا عليــه الهــزال بســبب الــنزيف المتكــرر‪ ،‬الــذي تعــرض لــه تحت آلــة التعــذيب‬
‫الجهنمية المعروفة في ذلك العصر‪ .‬كانت يداه متدليتان بدون حيــاة‪ ،‬وكــانت مفاصــله مخلوعــة‪،‬‬
‫وعندما (شبحوه ) على آلة الموت كانت اآلثــار باديــة عليــه في منــاطق انقلــع عنهــا اللحم فبــان‬
‫العظم)‪.‬‬
‫إن المرء ال يحتاج الى االغراق في التخيــل لتصــور هـذه المســرحية المقبضــة للـروح والفصــل‬
‫المظلم والمخجل من تاريخ إجرام الكنيسة ومحاكم التفتيش‪.‬‬
‫وبعد ‪ 400‬عامًا في ‪ 17‬فبراير من مدخل األلفيـة الثالثـة عـام ‪ 2000‬م احتشـد جمـع غفـير هـذه‬
‫المرة في المكان على شكل مظاهرة ألعادة احياء ذكرى هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينــة‬
‫يسعى يواجه الكنيسة وكل الفكر الظالمي‪.‬‬
‫إن مــا حــدث لم يكن واقعــة فريــدة شــاذة في أوربــا‪ ،‬بــل كــانت ظــاهرة اجتماعيــة متكــررة‪ ،‬يكــاد‬
‫اليصدقها االنسان لوال رواية التاريخ‪ .‬من هنا كانت قراءة التاريخ مهمة لمعرفة تطور المجتمــع‬
‫االنســاني‪ ،‬وأن عصــر الظلمــات العــربي الحــالي الــذي نســتحم في مســتنقعه الى شــحوم اآلذان‪،‬‬
‫ويطوقنا كالقـدر المنحـوس‪ ،‬ونحن نسـتقبل األلفيـة الثالثـة‪ ،‬ليس جديـدًا في تـاريخ االنسـان‪ .‬إن‬
‫محاكم التفتيش انتقل موضعها بعكس حركة الشمس من الغرب لتتوطن في الشــرق مثــل انتقــال‬
‫األمراض‪ ،‬واندثرت من المركز لكنها مازالت ناشطة في األطراف ‪.‬‬
‫لقد غربت عند الغرب شمس هذه المآسي‪ ،‬ولكن شمسها مازالت تســطع عنــدنا بأشــد قوتهــا في‬
‫دلوكها ومايزال أمامنا الطويل من مسيرة العذاب حتى نصل غسق الليــل؛ فمازلنــا نعيش عصــر‬
‫محاكم التفتيش قد احتجزنا في مربع الزمن عند العام ‪ 1420‬ميالدي وليس الهجــري في تخلــف‬
‫خمسة قرون كاملة‪.‬‬
‫إن القرآن ذكر نموذجين لوقوف رجل واحد في وجه الطوفان يفكر باســتقاللية ويتحــدى القطيــع‬
‫االنساني المتواطيء على الخطأ بغير علم وال هدى وال كتاب منير‪.‬‬
‫إن القرآن بنى فلسفته كلها على (المسؤولية الفردية) والحساب يوم القيامــة فــردي وكلهم آتيــه‬
‫يوم القيامة فردا (لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) فلو جَّن كل النــاس فصــفقوا وأَّلهــوا‬
‫فردًا منهم فليس مبررًا أن ينساق الفــرد مــع القطيــع الضــال‪ ،‬ولـو أنحــرف كــل النــاس فيجب أن‬
‫يعــتزلهم الفــرد ومايعبــدون من دون هللا‪ .‬وعنــدما شــعر بعض الفتيــان أن الحيــاة تســممت في‬
‫مجتمعهم آثروا أن ينهوا حياتهم سعيدين في كهف بارد مظلم بعيدًا عن مجتمع تحـول الى قطيـع‬
‫هائم على وجهه يطيع ســاداته وكــبراءه فأضــلوه الســبيال‪ .‬وهــذا مافعلــه برونــو مــع كــل الفــرق‬
‫واألحزاب التي تواطأت على الخطأ فآثر الموت على الضالل‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫إن الجنس البشري يتقدم ببطء ومعاناة بفضل هذه النماذج االنسانية المتألقة كمنــارات فبهــداهم‬
‫اقتده‪.‬‬
‫ذكر القرآن نموذج رجل سورة ياســين حين أدلى بشــهادته متحــديًا كــل المخــاوف ولم يحــدد لنــا‬
‫القرآن أن نهايته كانت القتل سوى أنه خوطب ( قيل ادخل الجنة قــال يــاليت قــومي يعلمــون بمــا‬
‫غفـر لي ربي)‪ .‬وذكـر نموذجـا ثانيـا وقـف أمـام كـل ضـغط الحضـارة الفرعونيـة ليعـترض على‬
‫محاولة قتل موســى (عليــه الســالم) آلراءه؛ فاليقتــل االنســان من أجــل آراءه مهمــا كــانت ولكن‬
‫يعاقب على فعل ضار فعله‪ ،‬وموسى لم يفعل أكثر من مواجهة حضــارة مريضــة بأفكــار صــحية‪.‬‬
‫ويعقب القرآن على مصيره ( فوقاه هللا سيئآت مامكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب)‪.‬‬
‫وتعيد مجلة ( در شبيجل ‪ )DER SPIEGEL‬األلمانيــة فتح ملــف هــذا الرجــل الــذي لم تــبرد‬
‫حوله بعد ألسنة اللهب تحت عنوان (تحالف غير مقدس)‪ ،‬وتعني عمق االشــكالية الــتي طرحهــا‬
‫في وجــه الكنيســة والعلم مع ـًا‪ ،‬بتصــوره كون ـًا النهائي ـًا يعج بالحيــاة‪ .‬وفي الــوقت الــذي أعــادت‬
‫الكنيسة االعتبار لغاليلو عام ‪ 1992‬م فإن هذا الرجل (العاصــفة) لم تعيــد الكنيســة تأهيلــه حــتى‬
‫اليوم‪ .‬كما أن كتبــه كــانت على رأس قائمــة الكتب المحظــورة وبقيت ممنوعــة النشــر والتــداول‬
‫بقرار كنسي لفترة ‪ 362‬عامًا من عام ‪ 1603‬حتى رفع عنها الحظر عام ‪1965‬م!‪.‬‬
‫يــروي لنــا التــاريخ أن حــرق النســاء كــان أكــثر من الرجــال في التــاريخ األوربي‪ ،‬وحســب‬
‫االحصائيات التي ذكرتها مجلة الشبيجل األلمانية قفز الرقم الى خانة فلكية بحرق مليون انســان‬
‫معظمهن نســاء بتهمــة الســحر‪ ،‬ومن هــؤالء ( جــان دارك ‪ ) JEANNE d,Arc‬الــتي تمت‬
‫محاكمتها بين ‪ 21‬فبراير و‪ 30‬مايو من عام ‪ 1431‬م من (محكمة التفتيش) االنكليزية بحضــور‬
‫ستين من القضاة ورجال الدين‪ ،‬وتضمنت التهمة مااليقل عن ‪ 70‬نقطـة‪ ،‬منهـا مزاولـة السـحر‪،‬‬
‫وعدم قبول حكم البابا فليس لها من قاض اال هللا‪ ،‬والـ ( الجرأة ) من فتاة في التاسعة عشــر من‬
‫العم‍ر!‬
‫كانت جان دارك تؤكد للمحكمة إيمانها العميق بالخالق والمسيحية‪ ،‬ولكن كل هذا لم يشــفع لهــا‪،‬‬
‫وفي ‪ 7‬يوليو تم حرقها على قيد الحياة‪ ،‬وتنبأ كاتب انجليزي مرمــوق بحكم التــاريخ باكيـًا فقــال‬
‫(قضــي علينــا لقــد أحرقنــا قديســة)‪ ،‬وبعــد ‪ 464‬عام ـًا في عــام ‪ 1920‬م اعتــبر البابــا (بينــدكت‬
‫الخامس عشر) جان دارك قديسة‪.‬‬

‫ثمن حرية الرأي‬


‫اليمكن واليعقل أن يواجه فرد مجتمعًا وفي أخطر أفكــاره مــالم يكن واحــدًا من اثــنين مجنــون أو‬
‫قــديس‪ ،‬وهمــا عــل كــل حــال قطبــان متقاربــان بين الجنــون والعبقريــة‪ ،‬ولم يكن غريبـًا أن اتهم‬
‫االنبياء أنهم مجانين‪ ،‬عندما وقفوا فرادى عَّز ل في وجه كل التيــار االجتمــاعي المعــاكس‪ ،‬وهــذا‬
‫مافعله الفيلسوف االيطالي (جيوردانو برونو) بالضبط في مطلع القرن السابع عشر‪ ،‬ولكنه دفع‬
‫الثمن غاليًا من حياته‪ ،‬ولم يكن هناك مفر‪ ،‬وهـذه هي حركـة التقـدم في التـاريخ‪ ،‬فلم تكن أوربـا‬
‫لتتقدم اال على جسر من حرية الفكر فوق طوفان عارم من الظالمية والتعصب والخرافة‪ .‬حريق‬
‫(برونو) هو يوم الفرقان بين عهدين في أوربا فمن حمم ألسنة اللهب ولــدت أوربــا خلق ـًا جديــدًا‬
‫ونشأة مستحدثة‪ ،‬فمن طينه صارت جوهرا‪ ،‬ومن رماد برونو شيد كونـا آخـرا‪ ،‬وكـل مـاننعم بـه‬
‫اليوم من ثورة (االنفوميديا‪ ()INFOMEDIA‬المعلومات واالتصاالت واالعالم ) هو من ذلــك‬
‫الحريق الهائل الذي رَّو ع العالم‪ ،‬وفتح الطريق للعقالنية وتوديع الفكر الكنسي الى غير رجعة‪.‬‬
‫ولد برونو عام ‪ 1548‬م في (نوال ‪ )NOLA‬على بعد ‪ 16‬ميًال من (نابولي) وفي عــام ‪ 1572‬م‬
‫رسم في دير الدومينيكان كاهنًا‪ ،‬ولكنه اثناء مكثه في الدير كان قد التهم المكتبة بمــا حــوت من‬
‫مؤلفـات عربيـة مترجمـة الى الالتينيـة وتـأثر بـابن رشـد وابن سـينا والفيلسـوف اليهـودي ابن‬
‫جابيرول وسحر بافالطون والفلسفة اليونانيـة وافتتن بمـذهب ديمـوقريطس الـذري الـذي تابعـه‬

‫‪213‬‬
‫ابيقور‪ ،‬وفي عام ‪ 1576‬م كان قد تسربت الشكوك الى قلبه بما فيه الكفاية فخلــع بعــد ‪ 11‬عام ـًا‬
‫لبــاس الرهبنــة واختفى عن األنظــار‪ ،‬بعــد أن أعلن شــكوكه في فكــرة الوهيــة المســيح والتثليث‬
‫والقربان والتجسد ( فكيف يمكن أن يكــون هنــاك ثالثــة آلهــة في واحــد) و(كيــف يتحــول الخمــر‬
‫والخبز الى جسد المسيح ودمه؟) كمــا أعلن ثورتــه على الفكــر السكوالســتي (المدرســي) وفكــر‬
‫أرسطو‪.‬‬
‫إن ثورة برونو الفكرية سبقت (فولتــير) بقــرنين وهــذا قــدر كثــير من المفكــرين الــذين يســبقون‬
‫أفكــار عصــرهم‪ .‬بعــد ذلــك تــابع برونــو ولفــترة ‪ 16‬عامـًا تجــواًال في أوربــا اليعــرف االســتقرار‬
‫والراحة لعقل متمرد على العصر يطرح اسئلة مزعجة ويثير تساؤالت عن قضايا جذرية‪ .‬فانتقل‬
‫الى (البندقية) ثم (بادوا ‪ )PADUA‬في ايطاليا‪ ،‬ثم عبر االلب الى سويســرا وحــاول أن يتقــرب‬
‫من المدرسة (الكالفينية) فكان مثله كالمستجير من الرمضاء بالنــار ونــار التعصــب واحــدة عنــد‬
‫الفــريقين‪ ،‬وحالمــا فتح فمــه بالنقــد تم القــاء القبض على من طبــع أفكــاره ومثــل أمــام محكمــة‬
‫الكنيسة؛ فهـرب من هنـاك الى فرنسـا عـام ‪ 1581‬م طمعـًا بظـل عـابر من التسـامح الـديني بين‬
‫الكاثوليــك والبروتســتانت‪ ،‬وأعجب بــه الملــك الفرنســي هــنري الثــالث لمعرفتــه بطــرق تقويــة‬
‫الذاكرة‪ ،‬ثم غادر فرنسـا بعـد عـامين في ‪ 1582‬وهـو يصـف الوسـط الفكـري‪(:‬سـترون فوضـى‬
‫مشوشــة ونتف ـًا من النشــالين‪ ،‬وألوان ـًا من الزيــف والخــداع‪ ،‬ومغــامرات األوغــاد‪،‬والقــرارات‬
‫الحمقاء‪ ،‬واآلمال المشلولة‪ ،‬والصدقات الشحيحة‪ ،‬والرجــال المخنــثين‪ ،‬والســرطانات الروحيــة‪،‬‬
‫واألفكار الهزيلة‪ ،‬وحب الذهب في كل مكان) ثم وَّقع على روايته الكوميديــة الـتي حملت عنــوان‬
‫(حامل المشعل) والتي ضمنها هذه األلفاظ الناريــة ‪( :‬برونــو المتخــرج من اكاديميــة االزعــاج)‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1583‬تخلص منه هنري الثالث فأوصى به لسفيره في لندن حيث اجتمع برونو هنــاك‬
‫بـألمع عقـول العصـر من أمثـال (ارلي ليسـتر) و (ادمونـد سبنسـر) و (جبراييـل هـارفي) وكـان‬
‫اجتماعه مع الملكة اليزابيث األولى لعنة عليه إلنها كانت من النقاط الــتي أخــذتها عليــه محكمــة‬
‫التفتيش باالتصال بالهراطقة (الكفــار) البروتســتانت‪ .‬وعنــدما غــادر بريطانيــا كــان تعليقــه على‬
‫نظــام التعليم في جامعــة اوكســفورد أنــه‪(:‬أرملــة التعليم الصــحيح وأنــه ‪:‬مجموعــة من الجهــل‬
‫المتحذلق العنيد امتزجت بفظاظة خرقاء يمكن أن ينفد معها صبر أيــوب)‪ .‬وفي عــام ‪ 1585‬قفــل‬
‫راجعًا الى فرنسا فحاضر في السوربون ولكن أنصار أرسطو كانوا له بالمرصاد فتابع رحيله في‬
‫هذا الجــو الخــانق الى المانيــا عســى أن يجــد فيهــا متنفسـًا‪ .‬وبين (مــاربورج ‪)MARBURG‬‬
‫وجامعة لوثر في (ويتنبرغ ‪ )WITTENBERG‬قضى عامين ولكن الهوت رجال االصالح لم‬
‫يتفق معهم مما جعله يهرب من جديد الى (براغ) عاصمة جمهورية التشيك الحديثة‪ ،‬ولكنــه مــع‬
‫تدريسه في جامعة (هلمستد ‪ )HELMSTEDT‬في برونزويك فاحت آراءه الخطيرة من جديد‬
‫فاتهمه رئيس الكنيسة اللوثرية بالتجديف و (أصدر قــرارًا بحرمانــه من الكنيســة) ممــا اضــطره‬
‫الى حزم حقائبه من جديد واللجوء الى فرانكفورت وزيوريخ عام ‪ 1591‬قبل اعتقاله في ايطاليـا‬
‫بعام واحد‪ .‬ثم شده الحنين الى جو إيطاليا الدافيء ومراتع الطفولة ولكي يأمن على نفسه اختــار‬
‫( البندقية) الـتي اشـتهرت بحمايـة المـارقين على الكنيسـة واختـار رجًال من عائلـة عريقـة هـو‬
‫(جيوفاني موسنيجو ‪ )GIOVANNI MOCENIGO‬الذي كان يريد منه تعلم طرق تقوية‬
‫الذاكرة وكانت سمعة برونو أنه مليء باالسرار والتجارب‪ ،‬ولكن المضيف أراد تبرئــة ذمتــه من‬
‫األفكار الخطيرة التي كانت تتناثر من شدق هذا الفيلسوف الثرثار قليــل الحــذر فــاعترف لكاهنــه‬
‫بذلك‪ ،‬فأوصاه بتبليغ محكمة التفتيش عنه‪ ،‬فهذه أمــور اليســكت عنهــا ويجب التقــرب بدمــه الى‬
‫هللا‪ ،‬وكانت محكمة التفتيش قد أصدرت مرسومًا بألقاء القبض عليه بأن يؤخــذ ( موجــودًا ) من‬
‫الحدود‪ .‬وفي ‪ 23‬مايو ‪ 1592‬تم القــاء القبض عليــه‪ ،‬وبين عــامي ‪ 1592‬و‪ 1600‬م حقــق معــه‬
‫العديد من المرات وكانت محكمة التفــتيش حريصــة أن تهملــه لفــترات طويلــة لتحطيم معنوياتــه‬
‫واذالله ولم يسمح له بالورق والقلم اال بعد ستة سنوات من اعتقاله وفي دفاعه عن نفســه كــان‬
‫يؤكد أن لجنة التحقيق تتعمد اصطياده بجمل منتقاة بعناية منتزعــة من ســياقها في حــرص على‬
‫إدانته‪ ،‬وقبل بسذاجة بأنه يرضى مايحكم به البابا‪ ،‬ولكن (كليمنت الثــامن ) البابــا وقتهــا وهيئــة‬

‫‪214‬‬
‫محكمة التفتيش ادانته بثماني جمل من الهرطقة الخالصة التي هي معلومة من أصول المسيحية‬
‫بالضرورة واليتجادل عليها اثنان‪ ،‬وأخيرًا أمر البابا بالفصل في موضوعه فاستدعاه المحققــون‬
‫في ‪ 8‬فبراير من عام ‪ 1600‬م ووعظوه من جديد أن يبدي الندم ويتوب توبــة خالصــة ويــتراجع‬
‫عن آراءه الضاللية الضارة فقد كانت ثمانية أعــوام من االذالل والتحقيــق كافيــة للــتراجع! وأنــه‬
‫ارتضى حكم البابا وأن البابا اعتبره مارقًا وأن المتهم مازال مصرا على هرطقته سائرًا في غيــه‬
‫عنيدا مكابرًا ومن ثم صدر الحكم بإحالته الى المحكمة المدنية الى حاكم رومــا ‪( ...‬الحاضــر هنــا‬
‫ليقرر العقوبة التي تستحقها ولو أننا نرجو جادين أن يخفف من صــرامة القــوانين بالنســبة لمــا‬
‫تعانيه من آالم واال يكون جزاؤك االعدام أو بتر األعضــاء) كمــا جــاء في كتــاب قصــة الحضــارة‬
‫لديورانت‪.‬‬
‫وَّقع على الحكم في النهاية ثمانية كرادلة وكانت بالحرق حيًا ‪ .‬وبعد تسعة أيام نفذ الحكم ‪ .‬برنــو‬
‫وهو يستقبل الموت كان يرى الوجود‪(:‬إنها وحدة تسحرني فأنا بقوة هذه الوحــدة حــر ولــو كنت‬
‫مستعبدا‪ ،‬سعيد في غمرة الحزن‪ ،‬غني في حمأة الفقر‪ ،‬حي حــتى في المــوت‪ ..‬إني وأنــا خاضــع‬
‫لهذا القانون وبرغم أني أقاسي أجد العزاء في التحقق أن شر الجزء يصــبح غــير ذي معــنى في‬
‫المشهد العام للكل ‪ ...‬ومن ثم تكون معرفة الوحــدة األســمى هي هــدف العلم والفلســفة) وعنــدما‬
‫تلى مجلس الكرادلة عليــه الحكم قــذف في وجههم عبارتــه المشــهورة‪ (:‬ربمــا كنتم يــامن نطقتم‬
‫الحكم بإعدامي أشد جزعًا وخشية مني أنا الذي تلقيته)‪.‬‬
‫يشكل ( برونو) جسرًا بين بواكير النهضة العقلية في أوربا التي أطلقها أناس متمردون‬
‫من نموذج (روجر بيكون ‪ )1293 - 1210‬وتكللت في النهاية باالنفتــاح العلمي وبنــاء المنهج‬
‫العقلي النقدي كما جاء في قانون تأسيس (الجمعية الملكية العلمية) في بريطانيا‪ .‬أما بيكون فقــد‬
‫كانت حياته كما وصفها المؤرخ البريطاني (ويلز ‪ ) H.G. WELLS‬في كتابه (معــالم تــاريخ‬
‫االنسانية)‪(:‬كانت حياة بيكون مأساة ذهنية) ‪ ،‬ولكن ألمع ماعرف به الرجل عندما شَّهر بأسباب‬
‫أربعة للجهـل دفـع ثمنهـا سـجنًا طـويًال ‪ (:‬احـترام السـلطة‪ ،‬والعـرف والعـادة‪ ،‬وروح الجمهـور‬
‫الجاهل‪ ،‬وماعليه ميولنا من عدم قابلية للتعلم تتسـم بـالغرور والكبريـاء‪ ،‬فلـو تغلب النـاس على‬
‫هذه وحدها النفتح أمــامهم عــالم من القــوة)‪ .‬ولم يضــع رمــاد برونــو ســدى فقــد ســاهم في دفــع‬
‫الروح األوربية الجدية ونطالع عن تأسيس الجمعية الملكية العلمية بلنــدن الــذي صــدر بمــوجب‬
‫مرســوم ملكي من شــارل الثــاني عــام ‪ 1662‬م ‪ ،‬وتبــني المنهج العلمي الــذي ينص على ســبعة‬
‫فقرات ‪ 1:‬ـ اال يفترض أي فرض الضرورة له ‪ 2.‬ـ أال يقبل أي خبر أو بيان من غير تحقيقــه ‪3.‬‬
‫ـ أن تختبر كل األشياء بأشد قدرة مستطاعة ‪ 4 .‬ـ أال يحتفظ بأي أسرار ‪ 5 .‬ـ أال يحــاول أحــد أي‬
‫احتكار ‪ 6 .‬ـ وأن يقدم االنسان خير مالديه في تواضع ووضوح ‪ 7 .‬ـ وأال يخدم أية غاية أخــرى‬
‫غير المعرفة ‪.‬‬
‫ينــاقش اســتاذ الفلســفة (كيرشــهوف ‪ ) KIRCHHOFF‬في مقالــة نشــرتها ( مجلــة‬
‫الشبيجل األلمانية عدد ‪ 7‬من عام ‪ )2000‬سبب إصرار الكنيسة على إحراقــه ليصــل الى بللــورة‬
‫عدة نقاط جديرة بالذكر في ذكرى حرقه بعد أربعــة قـرون وأهمهــا أن الكنيســة أعـادت االعتبــار‬
‫لغاليلو عام ‪ 1992‬في الحين الذي لم يتزحزح موقفها من برونو العتبار جوهري هو أنه تنــاول‬
‫قضية عقائدية تمس صلب المسيحية‪ ،‬والتهاون فيها يعني تبخر كل العقيدة التي عملت الكنيســة‬
‫على ترســيخها عــبر القــرون من (الوهيــة المســيح)‪ ،‬وأنــه أرســل لألرض للفــداء على شــكل‬
‫(ناسوت)‪ .‬مع عدم وجود نص واحد يــتيم في كــل األناجيــل األربعــة يفيــد بفكــرة األقــانيم الثالثــة‬
‫فضًال عن ألوهية المسيح بذلك‪ .‬كـل مـاذكره االنجيـل كمـا يقـول المـؤرخ ( ويلـز) كـان تعليمـات‬
‫بسيطة يشار له بكلمة( معلم) ‪ .‬في الوقت الــذي تتحــول فيــه الكنيســة الى كهنــوت ثقيــل بألبســة‬
‫خاصــة وتدشــين طبقــة رجــال دين لم يــات بهــا دين‪ ،‬ورهبانيــة ابتــدعوها ماكتبهــا هللا عليهم‪،‬‬
‫وعزوبية ضد الطبيعة تؤدي الى تعفن خلقي وشـذوذ في النظـرة الى المـرأة أنهـا مصـدر الفتنـة‬
‫والشـــيطان ‪ ،‬ويجلس البابـــا في ســـدته من تعيينـــه حـــتى الممـــات في شـــيخوخة مســـتفحلة‪.‬‬
‫ويستعرض المؤرخ األمريكي (ديــورانت) هــذه المشــكلة على النحــو التــالي‪ :‬إن برونــو رأى أن‬

‫‪215‬‬
‫العالم النهائي وأن النجوم شــموس تتحــرك وأن الفضــاء والــزمن والحركــة كلهــا أمــور نســبية‪،‬‬
‫وربما كانت هناك كواكب كثيرة تسكنها كائنات ذكية فهل مات المسيح من أجلهم كذلك؟‪.‬‬
‫اليمكن فهم جريمة إحراق (برونو) بدون فهم الجو الذي عاش فيه من بطش الكنيسة ومحاكم‬
‫التفتيش والقبض على الماليين على الشبهة‪ ،‬ووضعهم تحت أدوات تعذيب جهنمية لالعتراف‬
‫في وسائل معترف بها مبررة قانونيًا‪ .‬وهو مانعيشه نحن اليوم في العالم العربي من تعريض‬
‫كان‬ ‫االنسان للتعذيب مما يجعلنا نوقن أننا نعيش عصر محاكم التفتيش بأسماء جديدة ‪.‬‬
‫قطع االلسنة وارد وعندما تقدم أحد المحكومين بالحرق بالرحمة به بقتله قبل الحرق من الملك‬
‫االسباني (فيليب) الذي كان يشهد حفلة حرق العشرات من الهراطقة في بلدة ( الوليد) رفض‬
‫طلبه وهلل له الجمهور أنه حاكم تقي التاخذه في هللا لومة الئم!‬

‫إن عصر برونو كان كارثة بكل معنى الكلمة فالطاعون يعصف ويفرغ مدنًا باكملها من ســكانها‪،‬‬
‫والحــروب األهليةالدينيــة على أشــدها‪ ،‬فــبين عــامي (‪ 1562‬ـ ‪ ) 1598‬عصــفت بفرنســا ثمــاني‬
‫حروب دينية بين البروتستانت والكاثوليك وفي عام ‪ 1572‬م احتفــل الكاثوليــك الفرنســيين بعيــد‬
‫القديس ( برتولوميوس ‪ )BARTHOLOMAEUS‬بتقديم ثالثين ألف من القرابين البشرية‬
‫من خصومهم الهيجونوت (الفبروتســتانت) ذبح منهم فقــط في بــاريس ثالثــة آالف بينهم أطفــال‬
‫رضع ونساء وألقيت بجثثهم في نهر السين‪ .‬إن تاريخ المذابح الدينيـة فظيـع ولقـد تعامـل أتبـاع‬
‫األديان وفرق الكنائس في التاريخ بماهو أشد من الهمج والمتوحشين وكــأنهم أتبــاع الشــياطين‬
‫وليس االنبياء‪ .‬عندما يقارن (ويل ديورانت) المؤرخ بطش رومــا بالمســيحيين وبطش الكنيســة‬
‫بالمرتدين يعتبر أن روما كانت أرحم مع أن التاريخ شهد لروما أنها كــانت فاتح ـًا اليــرحم‪( .‬وإذا‬
‫وازنا بين اضطهاد المســيحيين للضــالين في أوربــا من عـام ‪ 1227‬الى ‪ 1492‬م وبين اضـطهاد‬
‫الرومان للمسيحيين في الثالثة قرون األولى بعد المسيح حكمنا من فورنا بــأن هــذا أخــف وطــأة‬
‫وأكثر رحمة من ذلــك ‪ ...‬ونحكم عليهــا بأنهــا أشــنع الوصــمات في ســجل البشــرية كلــه‪ ،‬وبأنهــا‬
‫تكشف عن وحشية النعرف لها نظيرًا عند أي وحش من الوحوش)‬

‫تاريخ الكنيسة ومحاكم التفتيش ‪...‬إن ماحدث في تاريخ الكنيسة اليمكن السكوت عنه بحال ‪ .‬إنه‬
‫عار كبير الذي حدث ‪ .‬كيف يمكن أن تتم انتهاكات صارخة لحقوق االنسان ‪ ،‬على هــذه الصــورة‬
‫من الوحشية باسم الدين وحفــظ العقيــدة ؟ كيــف يمكن لالنســان أن يســكت عن هــذه األلــوان من‬
‫ممارسة العنف في صورة حروب دينية تشــن ومحــاكم تفــتيش تصــب العــذاب على البشــر باســم‬
‫االيمــان ؟ إن مافعلتــه محــاكم تفــتيش العصــور الوســطة كــان التمهيــد الفعلي لقيــام أنظمــة‬
‫(توتاليتاريــة ‪ )TOTALITARISM‬في القــرن العشــرين وأنظمتهــا القمعيــة من نمــوذج‬
‫(الجســـتابو ‪ )GESTAPO‬النـــازي و جهـــاز االســـتخبارات الـ (‪ ) .K.G.B‬الشـــيوعي و (‬
‫‪ )STASI‬استخبارات ألمانيا الشرقية السابقة قبل انهيار النظام الشيوعي‪.‬‬
‫هذا اإلعالن المثير لم ينطق به خصم للكنيسة ‪ .‬لم يصــرح بــه شــيخ األزهــر ‪ .‬لم يقــل بــه ملحــد‬
‫غــربي أو شــرقي معــادي للمســيحية والكثلكــة ‪ .‬هــذا التصــريح العجيب قــال بــه رأس الكنيســة‬
‫الكاثوليكية ‪ ،‬البابــا البولــوني ( كــارول فويتــايال ‪ ) KAROL WOJTYLA‬يوحنــا بــولس‬
‫الثــاني ( ‪ ) PAUL II‬هكــذا صــرح واعــترف البابــا الجديــد في عــام ‪ 1994‬م ‪ :‬على الكنيســة‬
‫وبمبادرة ذاتية اســتعدادًا لــدخول القــرن الجديــد أن تعيــد فحص الزوايــا المظلمــة من تاريخهــا ‪،‬‬
‫وتقيمها على ضوء البشارة النبوية وأعمال األنبياء ( ‪. ) EVANGELIUM‬‬
‫محاكم التفتيش (‪ )INQUISITION‬أسسها البابا (انوسنس الرابـع ‪) INNOZENZ IV‬‬
‫عام ‪ 1252‬م وبقيت تعمل لمدة خمسة قرون ‪ ،‬أرسلت خاللها الى المحرقة مليون امــرأة ‪ ،‬منهــا‬
‫والــدة الفلكي المشــهور (كبلــر ‪ )KEPPLER‬الــذي أنقــذها بإعجوبــة‪ ،‬ويوصــل الفيلســوف‬
‫الفرنسي (فولتير) أرقام من ماتوا تحت اآللة الجهنمية لتعذيب محاكم التفتيش بعشرة ماليين‪.‬‬
‫كم بلغت كثرة الضحايا؟‬

‫‪216‬‬
‫قدر أمين محكمة التفتيش بين عامي ‪ 1889‬و‪( 1801‬خوان ليورنت) بــأن عــدد الضــحايا الــذين‬
‫أحرقــوا بين عــامي (‪ 1480‬ـ ‪ )1488‬قــدر بـ ‪ 31912‬أنســان وأن من وضــعت عليــه عقوبــات‬
‫صارمة بلغوا (ا‪ )291494‬شخصًا ‪ .‬ولم يقف األمر عند االعدامات والعقوبات بــل خلقت محــاكم‬
‫التفتيش جوًا من الرعب اليطاق‪ .‬يقول ديورانت (والتصور االحصــائيات أي ـًا كــانت الفــزع الــذي‬
‫عــاش فيــه العقــل االســباني في تلــك األيــام والليــالي‪ .‬فقــد كــان الرجــال والنســاء حــتى في ســتر‬
‫منازلهم‪ ،‬أن يرقبــوا كــل كلمــة يتلفظــون بهــا حــتى اليـؤدي بهم نقــد عـارض الى ســجن محكمــة‬
‫التفتيش ‪ .‬لقد كان ضغطًا عقليًا النظير له في التاريخ) ‪.‬‬
‫لقد نجحت محاكم التفتيش من تطهير المجتمع من الرأي المخالف وبناء رأي أحـادي تمامـًا كمـا‬
‫في بناء الطرق السريعة باتجاه واحد الرجعة فيه‪ .‬ولكن هل تبني الشركات السيارات بدون قدرة‬
‫رجوع الى الخلف بحيث تنحشر في الكاراج فإذا دخلت لم تخرج‪ .‬كذلك كــان مصــير اســبانيا فقــد‬
‫دلفت الى البوابة الخلفية ألوربا وهبطت الى الحضيض‪ .‬يعقب ديورانت على ماحــدث من جــرائم‬
‫محاكم التفتيش‪( :‬ولكنهـا تبـدت لنـا اآلن أكـبر جريمـة التغتفـر من الجـرائم التاريخيـة‪ .‬ذلـك إلن‬
‫عقيدة سائدة التنازع عدو مهلك للعقل االنساني)‬
‫إن برونو كان شهيد (حرية الفكر) أكثر من بناءه فلسفة منهجية متماســكة‪ ،‬وإذا كــان المقصــود‬
‫بالفلســفة الرؤيــة الهادئــة المنظمــة لالشــياء (وفق ـًا لعالقاتهــا وأهميتهــا النســبية والقــدرة على‬
‫االحاطة بكل الجوانب والتسامح مع كل وجهات النظر المختلفة فإن برونو على هــذا االســاس لم‬
‫يكن فيلسوفًا) ‪.‬‬
‫وجه برونو نقدًا الذعًا للكنيسة والفكر السائد ولم يتورع عن اســتخدام الفــاٍظ اســتفزازية للغايــة‬
‫عن نظام التلقين السائد في زمنه من حجم (حاولوا أن تكونوا حميرا أيها الرجال‪ ..‬حتى تســيروا‬
‫الى المكانة الــتي اليمكن بلوغهــا بالمعرفــة والجهــد بــل بالتقليــد والتلقين) ولكنــه لم يــدرك أنــه‬
‫سابق لعصره بقرون‪ ،‬أو أنه بكلمة ادق يشــق الطريــق الى والدة أوربــا جديــدة عنــدها قــدرة ان‬
‫تنتقد حكوماتها كما فعلت أمريكا مع رئيسها (كلينتون) عندما شاهد الماليين في امريكــا والعــالم‬
‫كيف شد القضاء أعظم شخصـية سياسـية للمسـاءلة والمحاسـبة‪ ،‬وأنـه التوجـد شخصـية مهمـا‬
‫كانت قوية خارج النقد ودون الخطأ‪ ،‬فلم يعد الحكام آلهة اليسأل أحدهم عمــا يفعــل وهم يســألون‬
‫كل من تحتهم من العبيـد‪ ،‬وقفـز بـذلك الغـرب الى نصـف التوحيـد عنـدما حطم أوثـان السياسـة‪،‬‬
‫وفعلت مجلة (الشبيجل) مع نفس العدد نفس الشيء الذي ظهرت فيه قصــة برونــو وهي تصــف‬
‫الحكومة األلمانية بأن ألمانيا أصبحت ( في بالد الكذب ‪) IM LANDE DER LUEGEN‬‬
‫بــدون أن يخــاف المحــرر على أصــابعه أن تهشــم قبــل تحطيم جمجمتــه‪ ،‬وعلى صــفحة الغالف‬
‫الرئيسية رسوم كاريكاتورية لستة من أعظم أدمغة المانيا السياسية ومعهم المستشــار األلمــاني‬
‫(كول) الذي أنجز أعظم األعمال عملقة في تاريخ المانيا الحديثة من توحيد أوربا واأللمانيتين‪.‬‬
‫إذا كانت الكنيسة قد سارعت الى تبني نظرية االنفجار العظيم كـ (موديــل) إلمكانيــة خلـق الكــون‬
‫وهو اسـتعجال متهـور‪ ،‬فقـد فعلت سـابقًا مايشـبهه في تبنيهـا نظريـة بطليمـوس حـول مركزيـة‬
‫األرض حتى بطلت‪ ،‬وهي تعيد اليوم حماقـة األمس‪ ،‬ولكن أفكـار برونـو تتجـاوز هـذه وتفـرض‬
‫تحديًا مزدوجًا للالهوت وعلم الكوسمولوجيا‪ ،‬وبعد مرور أربعة قرون على افكاره مازالت تحلق‬
‫فوق كل ما حققه العلم‪ ،‬إن برونو لم يكن عالم مخبر تجريبي‪ ،‬وكان بــاألحرى فيلســوف عميــق‬
‫نظري يشطح بأفكاره الى مدى لم يصله العلم بعد‪ ،‬في رؤيـة شـمولية للكـون أنـه النهـائي ويعج‬
‫بالحيــاة وينســجم في وحــدة خلــف كــل التناقضــات والتنــوع‪ ،‬ممــا يجعــل اليــوم كًال من الكنيســة‬
‫وعلماء الكوسمولوجيا يتحدون ضده في (حلف غير مقدس) على حــد تعبــير (كيرشــهوف) كمــا‬
‫جاء في عنوان مقالة الشبيجل‪ ،‬بعد أن تبين أن السـماء التبث خبرهـا تبثيثـًا حـول كائنـات ذكيـة‬
‫تحدث أخبارها‪ ،‬وأن الكون أقــرب ان يكــون مقــبرة ميتــة اليســمع منهــا ركــزا‪ .‬ولكن هــل عــرف‬
‫العلماء كل شيء؟‬
‫بعــد ‪ 19‬عام ـًا من حــرق برونــو عــام ‪ 1619‬م تجــرأ مفكــران آخــران بــالتعبير عن آرائهم همــا‬
‫( فانيني) و(كمبانيال) فأما الثاني فقد ألقي في السجن ‪ 27‬سنة وعذب اثنتي عشرة مرة (اســتمر‬

‫‪217‬‬
‫التعذيب في إحداها اربعين ساعة متواصلة) وأما األول فقد ‪ (:‬ســلم الى الجالد وهـو في قميصــه‬
‫وحبل المشنقة حــول عنقــه‪ ،‬حــامًال فـوق كتفيــه إعالنـًا يقــول(ملحــد دنس كلمــة هللا) واقتيــد الى‬
‫كنيسة القــديس ســتيفن ليجثــو على ركبتيــه طلبـًا للغفــران من هللا والملـك والعدالـة عن تجديفــه‬
‫وإلحاده‪ .‬يقول المؤرخ ديورانت أنــه ‪ :‬قبض عليــه في ‪ 2‬أغســطس ‪ 1618‬م بــأمر الملــك وليس‬
‫الكنيسة بعد وشاية عليه أنه يسخر من ( التجسيد) ويعـارض فكـرة (وجـود إلـه بشـري) فسـيق‬
‫الى ميدان سالين في تولوز في فرنســا وشــد الى خــازوق مقــام هنــاك ثم قطــع لســانه وشــنق ثم‬
‫حرق جسمه وترك الرماد تذروه الرياح ‪.‬‬
‫هذا هو ثمن الحرية على مايبدو ‪.‬‬
‫بعد ذلك خنس العلماء وكتموا آراءهم الى حين فكان يردد (ديكــارت(‪ :‬عــاش ســعيدًا من بقي في‬
‫الظل‪ ،‬وكتب (سبينوزا) كتبه األربعة على نحو مبهم نجد صعوبة في قراءتها حتى اليوم بعــد أن‬
‫هرب الى هولندا‪ ،‬وخر (جاليليو) على ركبتيه جاثمًا خاشعًا معترفًا أنه أحمق مأفون وأن ما قاله‬
‫إفك افتراه وأنه منكرًا من القـول وزورا وأنـه يسـحب مـا قالـه جملـة وتفصـيال‪ ،‬حـتى كـان يـوم‬
‫الزلزلة في الثورة الفرنسية والثوار يــرددون شــعار فولتــير اشــنقوا آخــر إقطــاعي بأمعــاء آخــر‬
‫قسيس‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫(إيمانويل كانط)‬
‫فيلسوف التنوير‬
‫شيئان يمالن قلبي دومًا باإلعجاب المتزايد والخشوع وهو شعور ال يفارقني كلما أطلت‬
‫التفكير‪":‬السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون األخالقي في داخلي‪ .‬إنني أراهما‬
‫أمامي مباشرة وهما يثيران فّي المرة بعد المرة الوعي بوجودي‪.‬‬
‫اشتهر الفيلسوف كانت بهذه الفقرة وكتبت على نصبه في مدينته (كونيجسبرغ‬
‫‪ )Koenigsberg‬التي ولد فيها وعاش ولم يبارحها حتى مات ولم يتزوج وانقطع للعلم في‬
‫دأب ومتابعة جعل أهل البلدة يضبطون ساعاتهم على (نزهة الفيلسوف)‪.‬‬
‫ولم تضطرب ساعات أهل البلدة إال مرة واحدة عندما غرق الفيلسوف في كتاب (ايميلي) عن‬
‫التربية االستقاللية التي صدرت عن الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو)‪.‬‬
‫وهذه الفقرة جاءت في الفلسفة األخالقية في الفصل األخير من كتابه (نقد العقل العملي‬
‫‪ ) Kritik der praktischenVernunft‬فهو يرى الحاجة لإليمان واألخالق ولو لم يكن‬
‫في المقدور البرهنة عليهما تجريبيا أو عقليًا‪ .‬فكما كان في السماء قانون أعلى وجب أن يكون‬
‫في النفوس قانون يضاهيه سموا ورفعة‪ .‬وهذا مغزى البحث الذي كرسه عن الميتافيزيقيا بأنه‬
‫يجب أن تضاهي الفيزياء في الدقة والوثوق حول األخالق واإلرادة والسالم‪.‬‬
‫وحسب (محمد كامل حسين) في كتابه (وحدة المعرفة)‪ :‬فإن "في الكون نظام وفي العقل نظام‪.‬‬
‫والنظامان من معدن واحد‪ .‬والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه‪ .‬ولو لم يكونا‬
‫متشابهين الستحالت المعرفة‪ .‬ولو لم تكن المطابقة ممكنة ما علم أحد شيئًا‪ .‬وتشابه النظامين‬
‫الكوني والعقلي ليس فرضا يحتاج إلى البرهنة بل هو جوهر إمكان المعرفة‪ .‬ومن أنكره فقد‬
‫أنكر المعرفة"‬
‫وحسب (الغزالي) في كتابه (المستصفى في أصول الفقه) عن مراتب الوجود أن العلم هو‬
‫االنعكاس الموضوعي للعالم الخارجي على الذهن في أربع مراتب من الرؤية إلى اإلدراك إلى‬
‫النطق بها فكتابتها‪ .‬والكتابة هي أضعف أشكال العلم قاطبة مع أنها وسيلة التواصل ووعاء‬
‫الحفظ‪ .‬وهي نفس النتيجة التي خلص إليها علم البرمجة العصبية اللغوية(‪NLP=Neuro-‬‬
‫‪.)languisticProgramming‬‬
‫وعند هذه النقطة فهم (كانت) المقوالت الضرورية (‪ )CategoricalImperative‬أي تلك‬
‫األحكام (القبلية ) المزروعة في أدمغتنا (‪ )A priori knowledge‬قبل تحصيل أي معرفة‬
‫وعلى قاعدتها نحصل المفاهيم‪.‬‬
‫وحسب (سبينوزا) الفيلسوف الهولندي في كتابه (األخالق مؤيدة بالدليل الهندسي) فأنه يمكن‬
‫البرهنة على األخالق مثل (النقط الرياضية والسطوح واألشكال)‪.‬‬
‫وهذه الخالصة وصل إليها الفيلسوف (كانت) في مشروعه (للنقد والتنوير) فنقد كل شيء بما‬
‫فيه (العقل الذي ينقد) و(ملكة النقد) و(النقد الديني من منظور عقلي) وهو الذي جعل القيصر‬
‫األلماني يحرم عليه التكلم في قضية الدين مطلقا‪ .‬وكان ذلك عقب ترحيبه بالثورة الفرنسية عام‬
‫‪1789‬م حينما نقلت له صور الرعب والرؤوس المتطايرة على المقصلة فقال‪" :‬إن كل هذه‬
‫الفظاعات ال تقترب بشي من استمرار الطغيان‪ .‬بكلمة مختصرة افتتح (كانت) عصر (النقد)‪.‬‬
‫ومشروع النقد مزعج فال أبغض على النفس من االنتقاد وال تسكر النفس بخمر كالثناء‪ .‬وقام‬
‫(كانت) بعمل دؤوب بإنجاز سلسلة من كتب النقد منذ أن أصبح أستاذًا للفلسفة في جامعة‬
‫(البرتوس ‪ .)Albertus- University‬وقام بتطويق األسئلة الكبرى التي شغلته منذ الصبا‪:‬‬
‫من أين يأتينا اليقين في معارفنا؟ أال يوجد نظام في النفس كما كان في السماء نظام؟ بحيث أن‬

‫‪219‬‬
‫خرق هذا النظام ال يدع مجاًال للمتشددين الدوغمائيين أي حظ في التأثير على الرأي العام‬
‫وخطفه‪ .‬وأخيرًا أين يمكن العثور على نقاط ثابتة في الطبيعة؟‬
‫وعلى الرغم من طبيعة التعقيد في كتابة (كانت) كما وصفها المؤرخ (ويل‬
‫ديورانت) فقال علينا أن نخالف القاعدة المعروفة فنقرأ عمن كتب عنه قبل أن نقرأ ما كتبه هو‬
‫بالذات‪ .‬فبعد أن "أجهز (بركلي) على المادة ومحاها من صفة الوجود‪ .‬جاء (هيوم) فسارع‬
‫بتدمير العقل والدين‪ .‬ولم يقنع بذلك بل اقترح أيضًا تدمير العلم بحل فكرة القانون‪ .‬وانهار العقل‬
‫كما انهارت المادة ولم يبق منهما شيء"؟‬
‫ويقول المؤرخ (ديورانت) في كتابه (قصة الفلسفة ص ‪ )322‬أن "الفلسفة وجدت نفسها‬
‫وسط أنقاض خربة قوضتها بنفسها" فجاء (كانت) وقرأ في عام ‪1775‬م الترجمة األلمانية‬
‫لكتب (ديفيد هيوم) فأيقظته من سباته العقائدي كما ذكر وشرع في تأسيس فلسفة جديدة ينقذ‬
‫فيها األخالق والعقل‪.‬‬
‫ويقول (ديورانت) إن كل "الفلسفات لم تكن سوى تطور سطحي يتدفق تحته تيار (كانت)‬
‫الفلسفي القوي الثابت‪ .‬وال تزال فلسفة كانت حتى يومنا هذا قاعدة لكل فلسفة"‪ .‬ويعلق‬
‫(ريشارد أوزبورن ) في كتابه (الفلسفة للمبتدئين) أن كانت لو لم يكن موجودا لخلق هللا كانت‬
‫آخرا؟‬
‫وعندما صدر كتابه (نقد العقل الخالص ‪ )Kritik der reinen Vernunft‬عام ‪1781‬م‬
‫وكان عمره آنذاك ‪ 57‬سنة بعد صمت استمر عشر سنوات قوبل بتحفظ شديد ولكنه قام في‬
‫الواقع بتثوير كل المفاهيم المعروفة حول الزمان والمكان والمادة وحرية اإلرادة ووجود الخالق‬
‫فقال إن الجزم بهذه المفاهيم األربع بكلمة نعم أو ال تعتبر مصيدة عقلية(‪.)Denkfalle‬‬
‫وأجمل ما وصل إليه هو ما كشفت عنه ميكانكيا الكم ومبدأ االرتياب بعد أكثر من قرن كما جاء‬
‫في كتاب (العلم في منظوره الجديد) عن دراسة (لمالحظ) قبل دراسة (المالحظة)‪.‬‬
‫ومبدأ االرتياب الذي وصل إليه (فيرنر هايزنبرغ) يعبر عن المشكلة على نحو فيزيائي وليس‬
‫فلسفي كما وصل إليها كانت قبل ‪ 200‬سنة أن المراقب إذا دخل إلى حقل التجربة أدخل الخلل‬
‫إليها‪ .‬وبكل اقتراب من مالحظة الشيء نفسد مراقبة الشيء ولذا كانت المعرفة الموضوعية‬
‫وهم والحتمية خرافة‪.‬‬
‫واحتفلت ألمانيا في ‪ 12‬فبراير ‪2004‬م بمناسبة مرور ‪ 200‬سنة على وفاة فيلسوف النقد‬
‫والتنوير (إيمانويل كانت)‪ .‬كما صدر العديد من الكتب عنه‪ .‬وخصصت مجلة در شبيجل األلمانية‬
‫صفحة الغالف في عددها األول من عام ‪2004‬م عنه‪ .‬مع بحث فلسفي تاريخي ومقابلة مع‬
‫(مانفريد جاير ‪ )Manfred Geier‬المتخصص في سيرته الذاتية الذي وصفه "كلما قرأت‬
‫(كانت) أكثر أحببته اكثر وزاد من تقديري له"‬
‫واعتبرت المجلة أن المظاهرات التي انطلقت في شوارع ألمانيا ضد حرب العراق هي تأكيد‬
‫على األفكار التي نادى بها في كتابه (نحو السالم األبدي ‪ )Zum ewigen Frieden‬بأن‬
‫الدول تشبه األشخاص في الصراعات‪ .‬وأن الحل هو في مؤسسة عالمية تفض النزاعات بين‬
‫الدول كما هو الحال بين األفراد‪ .‬فكان مبشرا بوالدة األمم المتحدة‪.‬‬
‫مع هذا فعندما سئل الطلبة عنه في المدرسة التي تحمل اسمه في برلين (شبانداو ‪)Spandau‬‬
‫اختلفت أجوبة الطلبة فمنهم من لم يسمع به؟ وقال ثاني أظنه كان فيلسوفا؟ وقال أحسنهم‬
‫طريقة لقد سمعت بفكرته عن المقوالت‪ .‬أما مدير أحد المدارس الخاصة التي تحمل اسم‬
‫الفيلسوف في (برلين ـ شتيجلتس ‪ )Steglitz‬التي خصصت لالحتفال بفكر كانت فقد أبدى أسفه‬
‫لوفاة الفيلسوف فقال‪ :‬أحقًا مات ايمانويل كانت؟‬
‫وهذا يدل على أن الفيلسوف الذي يلمع اسمه في وسط يغادر وسطه إلى حيث التربة الخصبة‬
‫لفكره‪ .‬واأللمان ليسوا استثناء من هذه القاعدة‪ .‬وال يعني أنه ال يوجد من يحمل رايته من بعده‪.‬‬
‫والفيلسوف (يورغن هابر ماز) أو (جاك دريدا) يدعيان وصال بالرجل‪ .‬وابن رشد كَّفره وزنَّدقه‬
‫أهل قرطبة وطردوه من المسجد الجامع ليرحل فكره إلى (بادوا) في إيطاليا فينشيء تياره‬

‫‪220‬‬
‫الخاص في مكان مختلف الثقافة واللغة والدين‪ .‬ولتدمر قرطبة تدميرا فال يبق واحد مسلم‬
‫يصلي في المسجد الجامع؟ والسبب هو الفكرة ومناخها‪ .‬وابن رشد لم يكن صالحًا لمناخ‬
‫التعصب القاتل‪ .‬والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث ال يخرج إال نكدا‪.‬‬
‫بقي أن نقول في النهاية أن كلمة (التنوير ‪ ) Aufklaerung‬لم تأت في أهم مؤلف لكانت ولم‬
‫تكن كتابا بل مقالة نشرها في مجلة برلين الشهرية حينما وجه إليه سؤال عن معنى بركة‬
‫الكنيسة في عقد النكاح‪ .‬وكان جواب الفيلسوف هو إعالن نهاية الوصاية على العقل من أي‬
‫مصدر‪ .‬وفي الحديث من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر‪ .‬وترك الحديث‬
‫لفهمنا أن يشتغل أن من لم يجتهد ليس له أجر ولو أصاب؟ (يتبع)‬

‫عصر التنوير‬
‫يعتبر القرن السابع عشر والثامن عشر من أجمل عصور أوربا عندما بزغت كمية من األدمغة‬
‫النابهة والالمعة والتي طرحت على نحو جريء تصور جديد للعالم بحيث حققت قطيعة معرفية‬
‫مع روح العصور الوسطى وظالميتها وتعصبها‪ .‬وهذا كان باتفاق جميع المؤرخين ومن تلك‬
‫األدمغة المتوقدة العبقرية كان فولتير الذي اشتهر بمقولته في مشكلة االعتقاد والتعبير‪(:‬قد‬
‫اختلف معك في رأيك تمتمًا ولكنني مستعد أن اموت من أجل أن تدعك تعبر عن رأيك) هذا‬
‫الشعار الذي أطلقه فيلسوف التنوير (فرنسوا ماريه أروبه) الذي اشتهر باسم (فولتير) مازال‬
‫أفضل حلة تزدان بها ديموقراطيات الغرب‪ .‬ويعتبر باالضافة الى صيحتين آخرتين األول هو ضد‬
‫التعصب الديني ودعوة للتسامح‪ .‬أما الثانية فهي تذكرنا بالقرآن الكريم الذي يتكلم عن األحبار‬
‫والرهبان وأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل وأنهم يكنزون الذهب والفضة‪ .‬ولقد بلغت أموال‬
‫الكنيسة يومها شيئًا خرافيًا ولم تنشأ ثورة مارتن لوثر من فراغ بل بسبب ميداني أكثر منه‬
‫صراعًا تيولوجيا عقائديًا على قضايا الهوتية عندما أبصر كيف تجمع الكنيسة المال الحرام‬
‫ألصدار صكوك الغفران من اجل جمع األموال لبناء الكنائس وتزيينها فاعتبرهم أنهم أقرب‬
‫للوثنيين بتصرفهم هذا‪ .‬وقامت القيامة بين الكاثوليك والبروتستانت‪ .‬ونشبت حروب رهيبة‬
‫أخطرها حرب الثالثين عامًا التي أمتدت من عام ‪ 1618‬حتى ‪ 1648‬ومات فيها من الشعب‬
‫األلماني ثلثه وانكمش عدد السكان من عشرين مليونا الى ‪ 13,5‬مليون في الحروب العالمية‬
‫في ذلك الوقت‪ .‬كان فولتير الذعًا في نقده ومنذ شبابه كلفه هذا الكثير فقد ألقي القبض عليه‬
‫ونام في سجن الباستيل لمدة سنة ثم انتقد أحد النبالء فألقي القبض عليه مرة اخرى‪ .‬بعدها‬
‫هرب الى بريطانيا فتأثر جدًا بالوضع السياسي في بريطانيا ومعنى أن يأمن االنسان على نفسه‬
‫فاليعتقل بالظن بسبب تقرير كاذب أدلى به جاسوس للسلطة‪ .‬وكتب أفضل كتبه في (رسائل‬
‫فلسفية) وكان يمثل عقل التنوير حيثما تعرض للمشكلة السياسية‪ .‬واستقر بعض الوقت في‬
‫ألمانيا لمدة عامين حيث رحب به ملك بروسيا المشهور (فريدريك) بين عامي ‪ 1750‬و‪1752‬‬
‫ولكن شهر العسل لم يدم أكثر من سنتين‪ .‬وكما يقال تدفأ بنار المسؤولين ولكن حذار من‬
‫االقتراب فتحترق‪ .‬ثم قصد سويسرا ولكن لم يريحوه أيضًا وشعر أنهم يريدون القبض عليه‬
‫أيضًا فوجد أن أفضل مايعمله أن يكون قريبًا من الحدودين مثل قصة الحدود التي مثلها دريد‬
‫اللحام أي أنه سكن في سويسرا ولكن بقرب الحدود الفرنسية فإذا طلب من أي جهة هرب الى‬
‫الطرف المقابل‪ .‬وكان فولتير الذع اللسان حاضر البديهة حاد الذكاء سريع البديهة وغزير‬
‫االنتاج يذكر بابن تيمية والفيلسوف برتراند راسل الذي كان يكتب كل يوم ‪ 3000‬كلمة أي ستة‬
‫مرات مثل عمودي اليومي‪ .‬وترك فولتير خلفه أكثر من ‪ 30‬ألف صفحة من الكتابات وبقي المعًا‬
‫في أوربا لستين عامًا حيث برز اسمه وعمره ‪ 24‬سنة ويعتبر دماغ الثورة الفرنسية الذي‬
‫رفدها باألفكار الثورية ولكن من محتوى عقالني وليس مثل روسو الذي كان مشحونًا بالعاطفة‪.‬‬
‫كما أنه كان منوع الشخصية بين نظم الشعر وكتابة المقالة والقصة القصيرة والرواية ومن‬
‫أجمل كتبه (عادات الشعوب) التي فتح فيها الطريق لفهم الشعوب بفكرتين أساسيتين‪ :‬أن أوربا‬

‫‪221‬‬
‫ليست مركز العالم وأن هناك من يستفاد منه من شعوب األرض وهي نظرة انسانية رائعة‪.‬‬
‫وثانيًا أن رواية الثقافة أجدى للناس من قصص الملوك وحروبهم أي أن التاريخ السياسي هو‬
‫اكثر الصور تشويها واختزاال لحقيقة شعب ما‪ .‬وبعد موته أكرمته الثورة الفرنسية عام ‪1778‬‬
‫بأن أخرجت رفاته ودفنت في باريس في مقبرة العظماء‪ .‬أما هو فكان يدرك في حياته أن هللا هو‬
‫الذي يحاسب في النهاية وليست الكنيسة‪.‬‬

‫كيف ولد عصر التنوير‬


‫في الوقت الذي كان العالم اإلسالمي يضع عقله على الـرف‪ ،‬ويتوقـف الـزمن عنـده على ضـرب‬
‫صنج الصوفية‪ ،‬ويشخر في أحالم وردية على قصص ألف ليلة وليلة‪ ،‬كانت بذور منهج الغزالي‬
‫في التأسيس المعرفي من خالل مبدأ الشك يثمر ثمراته في جنوب ألمانيا بطريقة مختلفــة‪ .‬يقــول‬
‫ديكارت عن نفسه أن الثلج والبرد اضطره الى قضاء الشتاء في جنوب ألمانيــا قريب ـًا من مدينــة‬
‫أولم (‪ .)ULM‬كــان رينيــه ديكــارت من نبتــات التنــوير العقلي الجديــد‪ ،‬الــذي امتــد من شــمال‬
‫إيطاليا إلى كل أوربا من الشعلة التي قدح زنادهـا البن رشــد‪ .‬يقــول ديكــارت أنــه التجــأ إلى هـذه‬
‫المكان وهو فارغ البال من الهم والحزن والهوى‪ .‬كان الشيء الذي يحتل كل ملكاته العقلية هــو‬
‫إمكانية الوصول إلى الثقة واليقين في العلوم‪ ،‬فديكارت كان قد ودع الفكر القــديم وفقــد ثقتــه بــه‬
‫فكتب في (المقال على المنهج)‪(:‬العقل هو أحسن األشياء توزعًا بين الناس إذ يعتقد كل فرد أنــه‬
‫أوتي منه الكفاية‪ ،‬وليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منــه ‪ .‬ويشــهد هــذا بــأن قــوة‬
‫األصابة في الحكم التي تسمى العقل تتساوى بين كل الناس بالفطرة‪ ،‬وكذلك يشــهد بــأن اختالف‬
‫آرائنا ال تنشأ من أن البعض أعقل من البعض اآلخر‪ ،‬وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طــرق‬
‫مختلفة‪ ،‬ألنه ال يكفي أن يكون للمرء عقل بل المهم هو أن يحسن استخدامه‪ ،‬وإن أكبر النفــوس‬
‫لمستعدة ألكبر الرذائل مثل استعدادها ألكبر الفضائل)‪ .‬اسـتولى الشـك على كيـان ديكـارت كـامًال‬
‫فبدأ يتنفس الشك ويعيش فيه‪ ،‬ويقول أن تلك الليلة شعر وكــأن دماغـه من شــدة التفكــير يوشــك‬
‫على االنفجار‪ ،‬ثم انقدح أمامه فجأة المنهج الجديد الذي عرف بالمنهج التحليلي الديكارتي‪ .‬قــال‬
‫ديكارت إنني عندما أشك أفكر ؛ حتى لو شككت في كل شيء بما فيه وجــودي بالــذات‪ ،‬حــتى لــو‬
‫زالت الدنيا كلها‪ ،‬فإن شيئًا ال يزول وال يتزحزح وهو أنني أشــك؛ أي إنــني أفكــر وإذا كنت أفكــر‬
‫فهناك حقيقة أنني موجود على صورة من الصور ولكنني موجـود‪ .‬فهـذه هي الحقيقـة الراسـخة‬
‫الوحيدة التي يمكن أن استند إليها في كل عمليات التفكير‪ .‬هذه الحقيقة الراسخة مهدت الطريــق‬
‫لعصر التنوير في أوربا واعتبرت الفلسفة الديكارتية أحد المفاصل الجوهرية الـتي قـامت عليهـا‬
‫الفلسفة األوربية الحديثة باعتبار أن ديكارت وعشرات من أمثاله كانوا البناة النظريــون للعصــر‬
‫الحديث بكل إنجازاته‪ ،‬ألنه مع حركة العقل تم تدشين حرية التفكير‪ ،‬ومع حريــة التفكــير انطلقت‬
‫األبحــاث العلميــة بــدون حــدود‪ ،‬ومنهــا نبعت التكنولوجيــا الحديثــة والنظم السياســية‪ .‬فهــؤالء‬
‫المفكــرون العظــام هم الـذين حلـوا أعظم مشــاكل الجنس البشــري وبنــاء منــاخ الحريــة الفكريــة‬
‫الكامل بدون خوف‪.‬‬
‫اسحقوا العار ـ فولتير‬
‫نحن اليوم في العالم العربي مع معاهد التحنيط والتجميد العقلي‪ ،‬فال تزيد العقل إال خموال وسباتا‬
‫وشخيرا عميقا‪ ،‬وهيهات لمن فَّك ر وقَّدر فُقتل كيف قدر؟ وال الروح إال نكسا وتعسا‪ ،‬وال تغير‬
‫أمورنا إال نحو األسوء‪ ،‬كما هو واقع العالم اإلسالمي الذي يعيش عام ‪2010‬م متجمدا عند عام‬
‫‪ 1431‬ميالدي‪ ،‬قبل عصر الثورة الفرنسية أيام المملوك سعيد جقموق من عصر المماليك‬
‫الشراكسة؟‬
‫أي قبل عصر فولتير ولذا كان من المفيد استعراض ذلك الزمن الموحش حيث عاش أحدب‬
‫نوتردام ومدينة الشحاذين ومذابح الشيعة والسنة والعرب والكرد والبربر واألمازيغ ونواكشوط‬
‫وبوليساريو وفرعون مسن يذكر برمسيس الثاني؟‬

‫‪222‬‬
‫إنه زمن العار الكامل والخزي المهين والعذاب األمثل؟‬
‫لماذا أطلق فولتير هذا الشعار ‪ :‬اسحقوا العار‬
‫أنه الشعار الذي أطلقه فولتير في ظلمات الصراع المذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت‪.‬‬
‫ويصلح قانونا لما يجري في العراق مذكرا بما كان يجري في العصور المظلمة في أوربا‪ ،‬من‬
‫محاكم تفتيش أرسلت إلى المحارق مليون امرأة بتهمة السحر‪ ،‬حسب إفادة فيلسوف التنوير‬
‫الفرنسي (فولتير)؛ بحيث يمكن أن نقول بثقة أننا نعيش العام ‪ 1431‬ميالدي‪ ،‬وليس عام‬
‫‪2010‬م‪.‬‬
‫وفي تلك األيام كان يكتب فيه شاب صغير هو (أتيين دي البواسييه) كتابه (العبودية المختارة)‬
‫بحيث أن الفيلسوف الشكاك (مونتانييه) نشره على حذر وخجل وباختصار‪ ،‬ولم ير النور في‬
‫المطابع الفرنسية إال بعد ‪ 137‬سنة‪ ،‬أما في العالم العربي فوصل إلى بعض القراء بعد ‪427‬‬
‫عامًا‪ ،‬ونشرنا مقالته مع عدد من أبحاثي حول سيكولوجية الطغيان‪ ،‬مع تعليق لجودت سعيد‪،‬‬
‫وشيء من شعر النثر للراحل هشام علي حافظ في كتاب أخذ اسم (فقد المناعة ضد االستبداد)‪.‬‬
‫وقصة الشيعة والسنة في العراق‪ ،‬أو العلويين والسنة في سوريا‪ ،‬الذين يسميهم البعض‬
‫بحرص وإصرار بالنصيرين‪ ،‬هي الصورة القديمة لصراع البروتستانت والكاثوليك في العصور‬
‫الوسطى‪ ،‬مما يجعلنا نفهم أننا نراوح في العصور الوسطى‪ ،‬ظلمات بعضها فوق بعض‪ ،‬حيث‬
‫توج التعصب في فرنسا مذبحة القديس (بارتولوميوس)‪ ،‬حيث أغلقت باريس‪ ،‬ووضعت‬
‫عالمات على بيوت البروتستانت المنكوبين‪ ،‬وعند الساعة الثالثة من فجر يوم ‪ 24‬أوجست من‬
‫عام ‪1572‬م دقت أجراس الكنائس‪ ،‬إيذانا بالذبح باسم الروح القدس واالبن واآلب‪.‬‬
‫وينقل (ديورانت) المؤرخ في كتابه (قصة الحضارة) فصال دمويا بشعا عن تلك الليلة‪ ،‬وأنا‬
‫شخصيا قرأت في طفولتي موسوعة (باردليان) للروائي النمساوي زفايج عن تلك المذبحة؛ فلم‬
‫أستوعب تماما روح الخالفات‪ ،‬حتى رأيتها بين الشيعة والسنة في العراق‪ ،‬وسوريا مهددة‬
‫بنفس المصير بين العلويين والسنة‪ ،‬على الرغم من محاولة إنكار كل واحد‪ ،‬لوجود مرض من‬
‫هذه البشاعة‪ ،‬مثل السيدة المصابة بسرطان ثدي‪ ،‬وتزعم أنه انتفاخ الحليب‪ ،‬وليس من رضاعة‬
‫وال حمل بل سرطان مريبا قاتال‪.‬‬
‫ومما جاء في كتاب قصة الفلسفة عن فولتير‪ ،‬الذي كان فارا من ثالث دول ألمانيا القديمة‬
‫واسمها بروسيا‪ ،‬تحت حكم فردريك‪ ،‬وفرنسا تحت سطوة آل البوربون‪ ،‬وسويسرا‪ ،‬هاجعا في‬
‫مدينة (فيرني) على الحدود الفرنسية‪ ،‬فإن طلب رأسه من أي فريق هرب لآلخر‪ ،‬ولم يكن هناك‬
‫تعاون أمني كما هو الحال في أيامنا هذه‪ ،‬حينما سلمت أمريكا (عرار) الكندي إلى الرفاق في‬
‫سوريا‪ ،‬عن طريق البوابة الخلفية األردنية‪ ،‬فأشبعوه ضربا‪ ،‬قبل أن يدفنه السوريون في‬
‫مدافن تحت األرض أتقنوا صنعها وتحسينها باستمرار‪.‬‬
‫وفي عام ‪1761‬م جاءت عائلة فرنسية فارة من مدينة (تولوز) إلى فولتير بسبب عجيب؛‬
‫فالكاثوليك في تولوز كانوا يتمتعون بسلطة خرافية‪ ،‬قد أغلقوا الطريق في وجه أي منصب أو‬
‫عمل في وجه البروتستانت‪ ،‬فلم يكن مسموحا ألي بروتستانتي أن يصبح محاميا أو طبيبا‪،‬‬
‫صيدليا أو موظفا‪ ،‬بقاال أو بائع كتب!‬
‫وعندما استعانت سيدة كاثوليكية بقابلة بروتسانتية في الوالدة فرضت عليها المحكمة غرامة‬
‫تنوء بثقلها الجبال‪.‬‬
‫وحدث أن كانت هناك عائلة بروتستانتية تعيش في المدينة من رجل اسمه (جون كاالس)‬
‫وعنده بنت وشاب‪ ،‬فأما الفتاة فتحت الخوف والضغط قامت باعتناق الكثلكة‪ ،‬والتبرؤ من كالفن‬
‫ومارتن لوثر وزونجلي‪.‬‬
‫وأما الشاب فكان أمام أقفال فرص العمل في وجهه عطاال بطاال‪ ،‬فلما ضاقت السبل في وجهه‬
‫ركبه الكمد والحزن وقام بشنق نفسه في ظرف نفسي غامض‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫وجرت قوانين الكنيسة أن يرتب للمنتحر موكبا ذليال‪ ،‬يقوم على تعرية جسم المنتحر منكسا‬
‫الرأس إلى األسفل‪ ،‬على حاجز من العيدان المشبكة الناتئة‪ ،‬ثم يطاف بالجثة نكاال‪ ،‬وفي النهاية‬
‫تجر الجثة العارية وتعلق على حبل المشنقة‪.‬‬
‫وأمام هذه المصيبة حاول الوالد المنكوب القول أنه مات موتة طبيعية‪ ،‬تجنبا للفضيحة والعار‪،‬‬
‫وشم جواسيس الكنيسة المنتشرين في كل مكان الخبر‪ ،‬مثل وباء األنظمة الثورية وجهازها‬
‫االستخباراتي‪ ،‬فجروا األب للتحقيق‪ ،‬وقالوا له إنك أنت الشقي خلف انتحار ابنك‪.‬‬
‫وتحت التعذيب اعترف األب المسكين‪ ،‬كما يفعل المواطن العربي في أقبية المخابرات الثورية‬
‫هذه األيام‪ ،‬فاعترف بأنه شقي‪ ،‬وأنه من دفع ابنه لالنتحار‪ ،‬وأنه كان يريد سد الطريق أمام‬
‫ابنته التي أنار هللا قلبها لنور الكثلكة‪ ،‬بعد أن تخلصت من دين الفسق والتحريف البروتستانتي‪.‬‬
‫وتحت التعذيب مات األب المسكين فلحق ابنه إلى دار السالم والعدالة عند مليك مقتدر‪ .‬وخافت‬
‫بقية العائلة فهربت إلى عند فولتير في مدينته القريبة فرني فأخبروه بالخبر‪ ،‬فجن جنونه‬
‫وأطلق صرخته اسحقوا العار‪.‬‬
‫وضبط شاب اسمه (البار) اتهم أنه شوه الصليب فعذب حتى الموت‪ ،‬فاعترف‪ ،‬فقطع رأسه‬
‫وجعل جسمه طعما للنيران‪ ،‬أمام تكبير وتهليل الجماهير‪ ،‬أنه هذا عين التقوى ونبع الخالص‬
‫من الفاسدين‪.‬‬
‫ومن الملفت للنظر أن هذا الشاب أحرق جسده مع كتاب فولتير (الموسوعة الفلسفية) وهو‬
‫كتاب حديث فيه من السخرية بالكنيسة وإنارة العقل الشيء الكثير‪ .‬واألوربيون ال يقرأون مثل‬
‫هذه الكتب ألنها لم يعد لها دور‪ ،‬أما نحن فعلينا أن نقرأ التجربة كاملة حتى الثمالة‪ ،‬ألننا في‬
‫العالم العربي نعيش زمن الخوف والتيه والتعصب المذهبي‪ ،‬وما يسمى الصحوة اإلسالمية‪ ،‬ال‬
‫تزيد عن موجة من السكر األصولي تغتال العقل وكل ما قرب إليه من قول وعمل‪.‬‬
‫وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب هللا شديد‪.‬‬
‫وعذاب هللا هو جاهز لكل من خالف سننه‪ ،‬من أدخل يده في النار أو خالف قواننيه االجتماعية‬
‫بالتعصب‪ .‬فيرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يجعلهم شيعا ويذيق بعضهم‬
‫بأس بعض‪.‬‬
‫انظر كيف نصرف اآليات لعلهم يفقهون‪..‬‬

‫‪224‬‬
‫الفيزيائي والفيلسوف مكسويل‬
‫أبو الكهرباء والمغناطيس (الكهرطيسية)‬
‫شغل بال العلماء منذ قديم الزمان أمور جوهرية مثل ما هي طبيعة الكون؟ ما هي‬
‫طبيعة القوانين التي تسود الوجود؟ وما مقدار الصدفة أو العشوائية فيها؟ أو ما‬
‫هي الطاقة األساسية؟ و ما نوع القوة الجوهرية التي تسود العالم؟‬
‫وشيئًا فشيئًا تقدم العلم‪ ،‬وتحول قسم من عالم الغيب الى عالم شهادة‪.‬‬
‫فنحن لم نكن نعلم أن الدم الذي يتجول في عروقنا براحة وفساحة يدور في أنابيب‬
‫طولها (‪ )Km 100000‬مائة ألف كيلومتر‪ ،‬في دورة ال تعرف التوقف إال بالموت‪.‬‬
‫أو أن المليمتر المكعب الواحد من الدم‪ ،‬فيه خمسة ماليين كرية حمراء‪ ،‬تعيش‬
‫أربعة أشهر‪ ،‬قبل أن تدفن في مقبرة الطحال‪ .‬وأن كل كرية فيها تركيب من ‪574‬‬
‫حمض أميني تحمل األكسجين‪ ،‬وأن هذه السقالة من األحماض تدعمها ذرة حديد‪،‬‬
‫مثل األسمنت المسلح نقصه يقود لفقر الدم!‬
‫وأن داخل هذه األنابيب‪ ،‬تسبح مادة حمراء‪ ،‬تضم خليطًا من الخاليا من حمراء‬
‫وبيضاء وصفيحات‪ ،‬ويبلغ تعداد الحمراء في القطرة الواحدة ما يزيد عن خمسة‬
‫ماليين كرية‪.‬‬
‫ولو جمعنا كريات الدم الحمراء التي يبلغ قطر الواحدة سبعة ميكرونات (واحد من‬
‫ألف من المليمتر) فوق بعضها البعض‪ ،‬لوصلنا الى القمر ويزيد‪.‬‬
‫ونحن لم نكن نعلم أن جسمنا يأخذ خمسمائة بليون نسخة‪ ،‬من الكود الوراثي‪،‬‬
‫الموجود بمقدار ثالث مليارات حرف‪ ،‬مودع بطريقة سرية في كل نواة خلية‪ ،‬من‬
‫‪ 70‬ألف مليار خلية في الجسم‪ ،‬لبناء البدن بدون خطأ واحد!!‬
‫كما أننا لم نكن نعلم طبيعة القوى األساسية في هذا الوجود‪ ،‬حتى تم االهتداء‬
‫تدريجيًا إلى أنها خمس قوة‪ :‬الكهربائية والمغناطيس والجاذبية وقوى النواة القوية‬
‫والضعيفة‪.‬‬
‫وبذل آينشتاين جهدًا خرافيًا في سنوات عمره األخيرة‪ ،‬في جهد زاد عن ربع قرن‪،‬‬
‫للوصول الى قانون توحيدي واحد‪ ،‬يضم كل طاقات الكون الخمسة‪ ،‬ولكنه عجز‪،‬‬
‫واعترف بذلك‪.‬‬
‫ولكن الفيزيائي البريطاني (ماكسويل ‪ )Maxwell‬نجح فيما عجز عنه اآلخرون‪.‬‬
‫ويعتبره البعض أنه من أعظم الفيزيائيين الذين جاؤوا بين نيوتن وآينشتاين‪ .‬فاألول‬
‫أسس الفيزياء التقليدية‪ ،‬والثاني جاء بالنسبية محطما القوانين التقليدية‪ ،‬أما‬
‫االختراق المعرفي الذي حققه ماكسويل فهي مالحظاته عن األثر المتبادل بين‬
‫المغناطيس والكهرباء‪.‬‬
‫وكان حلمه مثل كل العلماء النوابغ‪ ،‬فهم العديد من الظواهر تحت قانون واحد‪.‬‬
‫واليوم يقول العلماء بشيء غريب‪ ،‬هو أن هذه القوى الخمسة كانت بعد فترة‬
‫االنفجار العظيم قوة واحدة موحدة‪ ،‬ثم انشطرت الى خمس قوى معروفة!‬

‫‪225‬‬
‫ونظرية االنفجار العظيم (‪ )Big Bang Theory‬تقول أن الكون كان بعد أن لم‬
‫يكن موجودا‪ .‬وحدث هذا قبل ‪ 13,7‬مليار سنة‪.‬‬
‫وكان الوجود كله (حيث لم يكن كان؟) مضغوطًا في حيز أقل من بروتون واحد‪،‬‬
‫وفي أقل من سكستليون من الثانية انفجر‪ ،‬والسكستليون هو رقم عشرة مرفوع الى‬
‫‪.36‬‬
‫وبعد ذلك بدأ الكون في الوالدة والتشكل‪ ،‬فظهرت نويات الذرات‪ ،‬ثم تشكلت الذرات‬
‫المختلفة‪ ،‬ثم تشكلت كل المجرات‪.‬‬
‫وهذا الكالم ال يمكن أن يفهم إال في ضوء المفهوم الميتافيزيقي‪ ،‬وهنا يلتحم العلم‬
‫والدين كما لم يلتحما قط! أن العالم خلق من العدم‪.‬‬
‫ألن النظرية تقول أنه لم يكن من قبل (طاقة) أو (مادة) أو (زمان) أو (مكان) أو أية‬
‫(قوانين) ثم بدأ كل شيء يتشكل الحقًا؛ فانبثقت الطاقة‪ ،‬وبدأت القوانين في العمل‪،‬‬
‫وتشكلت المادة‪ ،‬وتحرك الزمن‪ ،‬واحتلت المادة الحيز‪ ،‬مثل فيلم سينمائي كان واقفا‬
‫فتحرك!!‬
‫ومكسو يل اهتدى الى دمج قوانين الكهرباء بالمغناطيس تحت أربعة معادالت‪،‬‬
‫وبذلك انضغطت قوى الوجود الى أربعة منها الكهرطيسية بعد أن كانت خمسة‪.‬‬
‫وحاول كل من فينبرج وعبد السالم في دمج الجاذبية بقوى النواة الضعيفة وهي‬
‫قوى االنحالل‪.‬‬
‫واألهم أنه ترتب عليها نتائج عملية‪ ،‬حيث أمكن وفي كال االتجاهين توليد موجات‬
‫كهرطيسية‪ ،‬وفهم ظواهر كونية على أساس الموجات الكهرطيسية‪ .‬ومما عرف أن‬
‫الموجات الكهرطيسية تسري بسرعة الضوء أي ‪ 300‬ألف كيلومتر في الثانية‬
‫الواحدة‪.‬‬
‫وهذا يجعلنا نفهم أثر هذا االكتشاف في التطبيقات اليومية مثل االتصاالت التلفونية‪،‬‬
‫والموبايل واالنترنت‪ ،‬وبث القنوات الفضائية التي تحمل على ظهر موجات‬
‫كهرطيسية بسرعة الضوء‪ ،‬وهي السرعة الخارقة في الكون وال سرعة فوقها حتى‬
‫اآلن‪ .‬على األقل حتى اآلن‪.‬‬
‫وبذلك نتكلم مع الناس في أقصى المعمورة‪ ،‬بل والتعامل المالي فكل العالم أصبح‬
‫ديجتال‪ ،‬وكارثة الرهن العقاري األمريكي ضربت العالم تحت هذا األثر‪ ،‬وحين تقتل‬
‫ندى آغا سلطان في طهران فهناك اليو توب يبثها في أرجاء المعمورة ويراها‬
‫الرئيس األمريكي األسود أوباما وكأنه جالس بين الماللي وحرس الثورة!‬
‫إن العالم أصبح ديجتال أليس األمر مفزعا وجميال وموحدا؟‬
‫يبقى أن نقول أن المحزن في قصة مكسو يل أنه ولد في عصر لم يكن متقدما طبيًا‪،‬‬
‫فمات عن عمر ‪ 48‬سنة بالسرطان فلم يعمر طويًال‪.‬‬
‫وسبحان الحي الذي ال يموت فتوكل عليه‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫ابكتيتوس فيلسوف الخير‬
‫"ليس في العالم شر ‪ !..‬هات لي أي شيء وسوف أحوله لك بعصا هرمز إلى خير !‪ ..‬ـ وهرمز‬
‫في األساطير اليونانية هو إله الحظ والرحالت والقمار ـ‬
‫سم لي ما تشاء ؟ العوز ؟ الفقر ؟ المرض؟ بل حتى الموت ؟ إن نظرة بسيطة إلى عمق المسألة‬
‫تظهر لك جانب الخير فيه!‬
‫إن الحياة يا أصدقائي مائدة عامرة بأطيب الطعام؛ يقدمها رجل خير عظيم؛ فــإذا انقضــى األجــل‪،‬‬
‫وانتهت الحفلة علينا أن نغادرها؛ ونحن نشكر من دعا وعزم وأطعم بكل سرور‪.‬‬
‫إن األلم يأتي من عدم االنسجام واالندماج مع هذه الحقائق الكبيرة‪ .‬فإذا أردنــا ألنفســنا أن نســعد‬
‫فعلينا أن نستسلم لهذه الحقيقة الراسخة بيقين"‬
‫يعد ابكتيتوس أهم فالسفة المدرسة الرواقية‪ .‬ولد عبـدا‪ ،‬ومـات حـرا‪ ،‬وطـرد مـع فالسـفة رومـا‬
‫المشـاغبين‪ ،‬في القـرن الثـاني الميالدي‪ ،‬في لحظـة غضـب إمـبراطور حـانق‪ ،‬يكـره أهـل الفكـر‬
‫والثقافة‪ ،‬كما يفر أهل الفكــر من جمهوريــات الخــوف والفقــر والبطالــة‪ ،‬فــنراهم في الدياســبورا‬
‫يبدعون فكرا وقوال وكتابة‪ ،‬وينشرون فكرهم في مواقع إلكترونية‪ ،‬بعد أن كسر العلم الجغرافيــا‬
‫فلم يبق حدود‪ ،‬وأصبح البشر في كل مكان خارج قبضة الديكتاتوريات‪ ،‬عباد هللا إخوانا‪.‬‬
‫ومدرسة الرواقية هي تلك الطريقة في فهم الحياة وتبادل األفكار في (األروقــة)؛ حيث يتم تبــادل‬
‫األفكار في الهواء الطلق‪ ،‬مشيا على األقدام‪ ،‬وهي طريقة محببة إلى قلــبي‪ ،‬أفعلهــا كــل يــوم مــع‬
‫من أحب المشي والتحدث بحرية‪ .‬والكثير من مفــاهيمي جــاءت من تلــك اللحظــات الســنية‪ .‬مثــل‬
‫برق في ظلمات من اإلحباط العربي‪ .‬وهذا هو عمل الفلسفة‪.‬‬
‫ولعل أهم أفكار فيلسوف التنوير (إيمانويل كانط) جاءته من (نزهة الفيلسوف) حيث كان النــاس‬
‫في كوينيجسبرغ يربطون ساعاتهم على ساعة الفيلســوف الــتي مــا كــانت تخطيء بعــد الظهــر‪،‬‬
‫يرافقه خادمه المخلص (المبيه)‪ ،‬ومن هذه الخطوات المباركات ولد كتابه (نقد العقل الخــالص)‪،‬‬
‫ومن توسالت خادمه المبيه ولد كتاب (نقد العقل العملي)‪.‬‬
‫وابكتيتوس كان عبدا‪ ،‬ولكن الفلسفة حررته‪ ،‬والرجــل يقــول إن الفلســفة إذا انقطعت عن الحيــاة‬
‫لم تعد فلسفة‪ ،‬بل وجب أن تحرر اإلنسان من ضغوطات الحياة وظلمها وتناقضها‪ ،‬فتقدم تفسيرا‬
‫وراحة؛ وإال كيف سنفسر طوابير القتلى في العراق وراوندا والبوسنة؟ كما رواها لي صــديقي‬
‫سالم البوسني في مونتريال‪ ،‬الذي هرب من تيتو‪ ،‬ثم لحقه ابن أختــه بعــد ثالثين ســنة هربــا من‬
‫الصرب!‬
‫وإذا كــان ابكــتيتوس علمــا في التفــاؤل‪ ،‬فــإن الفلســفة بــؤس عنــد مــاركس وتشــاؤم عنــد‬
‫(شوبنهاور)؛ فالطبيعــة تســحق الفــرد وال تأبــه‪ ،‬في الـوقت الـذي تحافـظ على النــوع بكــل عنــاد‬
‫وإصرار‪.‬‬
‫ومشكلة الشر والخير أعيت عباس العقاد‪ ،‬ومن قبل ابن سينا كيف يفهم العالم؟ فخرجوا بنظرية‬
‫(ملح العــالم) وفي اللحظــة الــتي تختلــط علينــا فيهــا األمــور يجب فهم الشــر والحــرب والمــرض‬
‫والموت (ملحا) في تجديد الحياة‪ ،‬فلوال الشر ما عرفنا الخير‪ .‬وكما كان الملح لوحده ســما‪ ،‬فــإذا‬
‫فككنا مركبه عرفنا أنه كلور وصوديوم؛ يعتبر كال منهما لوحده سما زعافا‪ ،‬كذلك كـان الشـر في‬
‫العالم حين ينفرد أو يختلط‪ .،‬وهكذا يجب فهم العــالم وتحملــه‪ ،‬لحين دخــول عــالم آخــر ليس فيــه‬
‫هذه التناقض‪ ،‬كما قال القرآن " الظلم اليوم"‬
‫وعند هذه النقطة يسعفنا (محمد كامل حسين) في كتابه (وحدة المعرفــة) أن هنــاك ثالث أخطــاء‬
‫رئيسية في التفكــير عن (العلــة) و(الســببية) و(الثنائيــة)‪ ،‬يعتــبر كال منهم خطــأ قــاتال معيقــا في‬

‫‪227‬‬
‫التفكير‪ ،‬و(الثنائية) تشكل ضالال مبينا‪ ،‬فوجب رؤية العالم على شــكل طيــف متــدرج‪ ،‬كــل درجــة‬
‫في سلمه تعتبر خيرا في حد ذاتها‪ ،‬ولعلها شرا لما قبلها أو بعدها‪.‬‬
‫و حسب التحدي األرسطي أن الغضب جيد إذا جاء في مكانه شر إذا اختلف‪ .‬وحسب عالم النفس‬
‫(هدفيلد) "أن االندفاعات إن جاءت في موضــعها كــانت خــيرا‪ ،‬فــإذا اختلفت كــانت شــرا" فليس‬
‫هناك من شر خالص بذاته‪ ،‬ولكنها فضيلة في غير مكانها‪ .‬كما يقــول الشــاعر العــربي أن وضــع‬
‫السيف في موضع الندى مثل عكسه‪.‬‬
‫وهذه المسألة وضع لها الفالسفة منذ زمن بعيد قانون الوســط الــذهبي‪ ،‬أن الفضــيلة هي وســط‬
‫بين رذيلتين؛ فوجب فهم العالم على هذه الشــاكلة‪ ،‬مثــل الشــجاعة بين التهــور والجبن‪ ،‬والكــرم‬
‫بين البخل والتبذير‪ ،‬والعفة بين الجمود والشره‪ .‬وهكذا‪.‬‬
‫ومنبع الخطأ أننا نجعل من أنفسنا محور العالم‪ ،‬مثل قولنا أن الجو حار‪ ،‬ألن درجة حرارة الجــو‬
‫أصبحت ثالثين‪ ،‬والطيور تتمتع بدرجة حرارة أربعين‪ .‬ودماغنا يحترق إذا وصل لدرجــة حــرارة‬
‫اثنين وأربعين‪ ،‬فوجب خفض حرارة الرأس بكل سبيل ممكن‪ ،‬بما فيها وضع الثلج مباشرة على‬
‫الرأس‪ ،‬وهي إزعاج كبير للطيور؟‬
‫وكذلك في البرودة حين تنزل إلى الصفر‪ .‬وفي كندا يكون الجو ربيعا حين تصبح درجة الحرارة‬
‫صفرا عند الناس‪ ،‬فيستبشرون بنزول الثلج‪.‬‬
‫وكالفن أنزل درجة الحرارة إلى ‪ 273,15‬تحت الصفر‪ ،‬وسماها الصفر المطلق‪.‬‬
‫وصل إلى ذلك رياضيا وليس تجريبيا‪ ،‬إلن كل جزيء للمـادة يجمـد عن الحركـة في هـذا الصـفر‬
‫الذي ما بعده صفر‪.‬‬
‫أما الحرارة فال يعرف لها حدودا؛ فهي على سطح الشمس ســتة آالف درجــة وفي باطنهــا تقفــز‬
‫إلى مليــون‪ ،‬وهــو مــا فعلــه األشــرار من النــاس حين أشــعلوا القنبلــة الهيدروجينيــة على وجــه‬
‫األرض بحرارة باطن الشمس؛ أو هكذا خيل إلينا‪ ،‬فلوال قنبلة هيروشيما لم يولد السالم العالمي‪،‬‬
‫ولوال األشرار من رجال البنتاغون؛ أو هكذا يخيل إلينا؛ ماكتبنا مقاالتنا في االنترنت‪ ،‬وأرسلناها‬
‫بومض البصر أو هو أقرب إلى مراكز نشرها‪.‬‬
‫وفلســفة القــرآن تحيــل إلى أفكــار من هــذا النــوع فتقــول عن الكــوارث االجتماعيــة أحيانــا "‬
‫التحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم"‪.‬‬
‫فوجب االنتفاع من هذه الفلسفة كي تصبح الحياة مقبولة ومتحملة وإال فمقابلها الحيرة واأللم‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫الثنائية والديموقراطية من منظور الفيلسوف‬
‫ابكتيتوس‬
‫"ليس هناك من شر في العالم‪ .‬هات لي أي شيء وسوف أحوله لك بعصا هرمز إلى خير‪ .‬كل ما‬
‫في العالم خير بما فيه الفقر والمرض والعوز واأللم والموت" هذا ما قاله الفيلسوف الرواقي‬
‫في القرن الثاني للميالد‪ .‬ويمكن تطبيق هذا القانون على كل شيء بما فيه االحتالل األمريكي‬
‫للعراق‪.‬‬
‫تدخل المنطقة الحقبة األمريكية وينقسم الناس إلى فريقين من يرى في أمريكا استعمار جديد‬
‫ومن يرى أنها فاتحة الديموقراطية‪ .‬وهذه الرؤيا (الحدية) ضارة ألنها تنبعث من خطأ منهجي‬
‫أن األلوان ليس فيها سوى أبيض وأسود‪ .‬وأن الكون مركب على الثنائية‪ .‬أو عندما نقول عن‬
‫الشيء أنه حار وبارد وساكن ومتحرك وحامض وقلوي‪ .‬فنمارس خطأ علميا من حيث ال ندري‪.‬‬
‫ومنبع الخطأ يأتي من تصور أنفسنا مركزًا للقياس ومحورًا للكون‪ .‬ولم يقع العلم في خطأ أفدح‬
‫من تصوره أن األرض مركز العالم وكل من حولها يدور في حلقات دائرية مكتملة كما تصور‬
‫ذلك أرسطو أن الدائرة صورة الكمال‪ .‬حتى تبين أن رؤية بطليموس ال تزيد عن وهم وأن‬
‫األرض ليست مركز الكون وأن الدوران ليس على شكل دائرة بل على شكل أهليلجي بما فيها‬
‫دوران اإللكترون حول البروتون في قلب الذرة كما كشفها (سومر فيلد)‪ .‬وما ينطبق على الفلك‬
‫يصح على الفيزياء والضوء ليس أسودا وأبيضا بل هو طيف متدرج من األلوان بين األحمر‬
‫واألزرق استطاع نيوتن تحليله بموشور زجاجي‪ .‬كما أن الحار والبارد ال يزيد عن الدرجات‬
‫التي نشعر بها ودرجة الحرارة ‪ 42‬خطيرة على دماغنا ويجب تنزيلها ولو بمغطس ثلج ولكنها‬
‫عادية عند الطيور‪ .‬وتسبح األسماك بدرجة حرارة قريبة من التجمد فال تشعر بالقشعريرة‪.‬‬
‫ونحن نرتعش بسبب تقلص العضالت المتكرر تحريرا للطاقة والدفء‪ .‬ونعرف اليوم أن درجة‬
‫التجمد صفر هي نزول متواضع لدرجة الحرارة والناس في كندا يبنون فنادق مؤقتة من الثلج‬
‫فإذا جاء الربيع ذابت؟ واستطاع كالفن أن يصل إلى تحديد درجة البرودة القصوى نزوًال حتى‬
‫‪ 273,15‬تحت الصفر درجة تجمد الماء‪ .‬أما ارتفاع الحرارة فلم يمكن تحديدها وهي على سطح‬
‫الشمس ‪ 6000‬ستة آالف درجة وفي باطنها بضعة ماليين‪.‬‬
‫وما انطبق في الفيزياء ينطبق على الكيمياء والساكن والمتحرك فالحموضة ال تزيد عن درجة‬
‫تركيز أيونات الهدروجين في الوسط‪ .‬واإللكترون يطير في غمامة حول قلب النواة بسرعة‬
‫تقترب من سرعة الضوء‪ .‬وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع هللا الذي‬
‫أتقن كل شيء‪.‬‬
‫ويمكن نقل هذا القانون إلى عالم الفكر حينما تقسم األشياء إلى صواب وخطأ وخير وشر‪ .‬فكما‬
‫توزعت درجة الحرارة على شكل طيف وليس على شكل استقطاب حدي وان االنتقال من الحار‬
‫إلى البارد وبالعكس هو انتقال في (الدرجة) وليس في (الحقيقة) فيمكن فهم الوجود على هذه‬
‫الصورة‪ .‬والشر ليس قيمة موضوعية كما يرى عالم النفس (هادفيلد) في كتابه (علم النفس‬
‫واألخالق)بل (وظيفة خاطئة)‪ .‬والوظيفة (الشريرة) "هي استعمال اندفاع (خّير) في وقت‬
‫خاطيء في مكان خاطيء نحو غاية خاطئة"‪.‬‬
‫ويذهب القرآن إلى عدم اعتبار الشر شرًا بل قد يكون خير "ال تحسبوه شرا لكم بل هو خير‬
‫ًا‬
‫لكم" كما أن الكثيرين من األخسرين أعماًال الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون‬

‫‪229‬‬
‫أنهم يحسنون صنعا‪ .‬كما أن المنافقين حينما يخاطبون أنهم يفسدون في األرض يقولون إنما‬
‫نحن (مصلحون)؟ أال إنهم هم المفسدون ولكن ال يشعرون‪ .‬وكلمة (ال يشعرون) حقيقة اكتشفها‬
‫على النفس التحليلي وسماها (الالشعور ‪.)Subconcious‬‬
‫وفي الفلسفة حيرت مشكلة الشر العقول ومعنى بناء هذا الكون المليء بالظلم وعدم االكتمال‪.‬‬
‫ولكنها مسألة يمكن فهمها ضمن (بانوراما) كونية وليس ضمن فكرة (الثنائية)‪ .‬فالشر ليس‬
‫شرًا كما يقول الفيلسوف (ابكتيتوس ‪ 135 -55‬م) الرواقي الذي كان ال يرى في العالم شرا‬
‫مطلقًا بل درجة في الخير حسب عالقتنا به بما فيه الموت‪ .‬فهذه الحياة مائدة عامرة دعانا هللا‬
‫إليها فإذا انتهت وجب أن نشكر صاحب الوليمة وننصرف شاكرين حامدين ال باكين نادبين‪.‬‬
‫وهذه الفكرة تتصل بنظرة (البوذية) عن مفهوم (الصيرورة) وأن الحياة حركة فوق جسر ومن‬
‫أراد الوقوف على الجسر وقف ضد تدفق مجرى الحياة وعانى‪ .‬واستيعاب الصيرورة هو الذي‬
‫يخلص من المعاناة‪ .‬فيجب االستسالم إلى السياق الكوني إن أردنا الوصول إلى السعادة الشاملة‬
‫بدون نقص الممتدة بدون انقطاع (النيرفانا)‪.‬‬
‫وقد نجح الفقهاء في استيعاب هذه المنظومة على أساس الطيف وليس االستقطاب وتوليد‬
‫أحكامهم وفق حركة ضمن طيف في خمس محطات تواترية بين أقصى الحرام مرورا بالمكروه‬
‫ثم المباح وصوال إلى المستحب وانتهاًء بالواجب‪ .‬وهي حركة جدا موفقة أكثر من جعل األحكام‬
‫تتذبذب على نحو ثنائي بين الحالل والحرام كما تتصدر العناوين بعض الكتب (الحالل والحرام‬
‫في اإلسالم)‪.‬‬
‫والكهرباء هي حركة بين السالب والموجب وليست قرارا عند قطب فبأي آالء ربكما تكذبان؟‬
‫وال تسبح النفس في حركة فّع الة أكثر من السباحة بين قطبي األمل واليأس‪ .‬وال أدعى لتمثيل‬
‫هذه الفكرة من رجل مطارد من جماعة تريد القبض عليه‪ .‬فأفضل ركض له هو وقوعه تحت‬
‫تأثير نفسي بين الطمع بالنجاة والخوف من الوقوع في أيديهم‪ .‬وتتوقف حركته طردا مع‬
‫االقتراب من أحد قطبي اليأس واألمن‪ .‬وهي محطتان ذكرهما القرآن أنه ال ييأس من روح هللا‬
‫إال القوم الكافرون‪ .‬وأن (ال يأمن) أهل القرى أن يأتيهم "بأسنا بياتا وهم نائمون"‪ .‬فالتحرر من‬
‫قطبي (األمن) و(اليأس) هو الذي يفجر الحركة من أفضل ينابيعها طاقة‪ .‬واالقتراب من أحد‬
‫القطبين يعدم الحركة تدريجيا‪ .‬فإذا استولى أحد الشعورين كفت الحركة عن التولد‪ .‬فهي‬
‫رياضيات نفسية‪.‬‬
‫وفي تحليل سياسي قام به (مالك بن نبي) في عالم األفكار فذهب إلى أن الضالل السياسي سببه‬
‫الوقوع في ذهان (االستحالة) و(السهولة) واألشياء في طبيعتها ليست كذلك بل تسبح في طيف‬
‫من الممكن والصعب والمستحيل‪.‬‬
‫واالستحالة تعني أن ال فائدة من بذل الجهد‪ .‬ولكن الكثير مما نظنه مستحيال هو صعب ال أكثر‬
‫وهو يتطلب بذل الجهد المكافيء‪ .‬كما أن بعض األمور المستحيلة تتحول إلى ممكنة مع الزمن‬
‫كما في نقل الصوت والصورة بالقوة الكهرطيسية‪ .‬وحين نقع في رهان الزهد بالموجود والحلم‬
‫بالمستحيل نرسل عقولنا معطلة إلى إجازة مفتوحة؟‬
‫وموقف العرب من إسرائيل هو من هذا القبيل فإما كانت إسرائيل (دويلة عصابات) وإما (التنين‬
‫النووي) يقذف بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر ويل يومئذ للمكذبين؟ وهي ليست ذلك وال تلك؟‬
‫وكذلك الحال مع الديناصور األمريكي‪ .‬ويمكن فهم الزلزال األمريكي خارج منظومة زرادشت‬
‫بين (أهرمان) إله الشر و(أهرمزدا) إله الخير للخالص من األوهام العقلية األربع لتحرير‬
‫اإلنسان كما قرر فرانسيس بيكون‪ :‬أوهام الكهف والقبيلة والمسرح والسوق‪.‬‬
‫يجب النظر إلى االحتالل األمريكي من جانب أنه استعمار بغيض‪ .‬ومن جانب أنه خير حطم‬
‫أصنام النمرود‪ .‬وبين أن تستِغ ل أو أن ُتستَغ ل شعرة‪ .‬والفرق بين الزنا واالغتصاب والزواج أقل‬
‫من شعرة فهي ممارسة جنسية على كافة األحوال ولكن تمارس بين السرية والرضا واإلكراه‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫وفي يوم احتلت أمريكا اليابان وألمانيا‪ .‬وروى لي الفيلسوف فيندوف من مدينة آخن في ألمانيا‬
‫كيف جاع األلمان بعد الحرب فأكلوا لحاء الشجر وطبخوا أعشاب األرض ولم يكن يملك أحدهم‬
‫في جيبه مارك واحد ولم تبق عملة يتداولها الناس ثالث سنين‪.‬‬
‫واليوم يحلق اليورو إلى سحب الغمام وتملك اليابان أضخم احتياطي من الدوالر ‪ 462‬مليار‬
‫مقابل ‪ 80‬مليار تملكها أمريكا كما أوردته مجلة در شبيجل األلمانية‪.‬‬
‫وكان سقراط ينظر إلى ذباب الخيل أنه يهيجها فيطرد عنها الخمول‪ .‬ورأى (توينبي) المؤرخ‬
‫البريطاني مصيبة إسرائيل أنها رحمة للعرب كي تخلق عندهم تحدي النهوض‪ .‬وال تتحول‬
‫الدودة إلى فراشة بدون معاناة تمزيق السجف فتطير‪ .‬وال تتم والدة بدون كرب ودماء‪ .‬وال‬
‫أطهر من النار لتنقية المعدن من الشوائب‪ .‬ولقد خلقنا اإلنسان في كبد‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫قصة الملك الفيلسوف آشوكا‬
‫يبدو إن الهند على ما يبدو خزان روحي فمنها خرج غاندي وجماعة الدعوة والتبيلغ وقبـل هـذا‬
‫الملك الفيلسوف آشوكا‪ ،‬وهناك تمثل وإفراز لكل مبدأ حســب طبيعــة المنطقــة‪ ،‬والصــحراء ليس‬
‫فيها ياسمين وزنبق بل شوك حاد وأثل وخمط وشيء من سدر قليل‪ .‬وكذلك األفكــار والــدعوات‪،‬‬
‫وعندما يسلم الياباني فلن يكون مثل إسالم رجل من راوندا‪ ،‬وهذا ليس ميزة لهذا أو عيبــا لــذلك‬
‫ولكنها طبيعة المنطقة وكيف تخلق الناس‪ ،‬وفي الحديث تجدون الناس معادن مثل معادن الذهب‬
‫والفضة‪ .‬وفي الهند حصلت معجــزة انقالب الملـك آشــوكا من مجــرم إلى قـديس‪ .‬ففي عـام ‪273‬‬
‫قبل الميالد اعتلى عرش الهند الملــك (آشــوكا فارذانــا) وكــانت مملكــة عريضــة تضــم كــل الهنــد‬
‫الحالية ماعدا مناطق التاميل في الجنوب باإلضافة إلى بلوشستان وأفغانستان‪ .‬وكان ملكًا جبــارًا‬
‫يحكم بالحديد والنار‪ ،‬ومما فعله أن بنى سجنًا رهيبًا شـمال العاصـمة أطلـق عليـه النـاس (جحيم‬
‫آشوكا)‪ ،‬وكانت تعاليمه أن من دخله ال يخرج منه حيًا‪ .‬وفي يوم أخبره السجان أن راهب ـًا بوذي ـًا‬
‫ألقي في القدر المغلي فلم يصب بأذى ـ هكذا تقــول األســطورة ـ فهــرع اإلمــبراطور ليطلــع على‬
‫أمر الراهب فوجد ذلك حقيقة فلما أراد االنصراف منعه السجان بقوله تعليماتك يا سيدي ننفــذها‬
‫حرفيًا فمن دخل خرج ميتًا ولن تشذ أنت عن القانون‪ .‬نظر آشوكا إلى السجان بعجب وغضب ثم‬
‫أمر أن يلقى في القدر المغلي فمات مسلوقًا مثل الدجاج‪ .‬تقول الرواية أن الملك رجع إلى قصـره‬
‫وهو يفكر بعجائب تصريفات األحداث فلم ينم ولم يخرج عليه الصـبح إال والرجـل قـد انقلب على‬
‫عقبيه وسيطرت عليه الرحمــة للعبــاد‪ .‬فــأمر بهــدم ســجن الجحيم‪ ،‬ثم أصــدر أوامــره بــالكف عن‬
‫الحرب بتاتًا‪ ،‬وبدأ في حملة بناء المــدارس والمشــافي بمــا فيهــا مستشــفيات للحيوانــات‪ .‬وهكــذا‬
‫كفت طبول الحرب عن القرع ونطق القانون كما يقول المؤرخ (ديورانت)‪ .‬واعتنق مبدأ الطريق‬
‫ذو الحكم الثمانيــة‪(:‬اآلراء القويمــة واألهــداف الصــحيحة والقــول الســديد واألفعــال الصــالحة‬
‫والمعيشة الصحية والمجهود المكافئ والذاكرة بتركيز والتأمل الباطني) وهي مراحل تــؤدي إلى‬
‫التنوير الكامل‪ .‬وبدأ يعيش ببساطة وبنى ‪ 48‬ألــف مركــز ثقــافي وأرســل اعتــذارا عجيبـًا لقبيلــة‬
‫(كالنجا) عن سلبهم وأعاد إليهم أراضيهم وعوضهم عن خسائرهم ‪ .‬لم يصــدق النــاس عيــونهم‬
‫هــل يمكن أن يتحــول اإلنســان إلى مالك‪ .‬في الواقــع كــان آشــوكا قــد أنقلب جــذريًا وآمن بالســلم‬
‫وسيلة لحل المشاكل بين البشر وكف عن شـن أيـة غـارة أو حـرب مـع الجـيران أو داخـل بلـده‪.‬‬
‫وبدًال عن ذلك بدأ بنشر تعاليم الرحمة وأوصى موظفيه أن يعاملوا الناس بالحب والمرحمة وأنه‬
‫يعاملوهم مثل أبناءهم‪ .‬فترك ذكراه العطرة في التاريخ وانتشرت البوذية بفضــله من ســيالن إلى‬
‫اليابان شـاهدًا على أثـر السياسـة في المـذاهب‪ .‬وهللا أنـزل الحديـد فيـه بـأس شـديد‪ .‬ومن الهنـد‬
‫نروي قصة الشـيخ (المـالنبوري) من جماعـة الـدعوة والتبليـغ أنـه بلغـه يومـًا خـبرا عن رجـل‬
‫ارتكب المحرمات ومارس الفسوق وعكف على الخمرة‪ .‬قال لمن حوله لقد ألهمني هللا أن أزوره‬
‫وأكسبه إلى فريق الصالحين فماذا أنتم فاعلون؟ قال من حوله‪ :‬نخــاف الرجــل على أنفســنا‪ .‬فمــا‬
‫زال يسألهم واحدا واحدًا والكل متخوف وممــانع‪ .‬فلمــا يــأس منهم قـال إني ذاهب فـاتبعوني‪ .‬فلم‬
‫وصل إليه قال له اخرج معنا‪ .‬قال بشرط‪ .‬قال مـا هـو؟ قـال خمـرتي ال أفارقهـا وأنـا حامـل منهـا‬
‫عبوتين‪ .‬قال له‪ :‬قد قبلنا شرطك‪ .‬ولكن لنا نحن شرط؟ قال و ما هــو؟ قــال أن تــأتي إلى المســجد‬
‫وتترك أوعية الخمر في دورة الميــاه‪ .‬قـال قـد قبلت‪ .‬فلمــا جــاء الرجــل اســتقبلوه بحب وتــرحيب‬
‫وأكرموه جدا فخجل من نفسه فلمــا ســمع الكالم انقلب الرجــل وتــاب‪ .‬ومن قواعــدهم الجوهريــة‬

‫‪232‬‬
‫ستة أمور‪ :‬التوحيد‪ ،‬والصالة مــع الخشــوع‪ ،‬والعلم مــع الـذكر‪ ،‬والتواضــع‪ ،‬وإكــرام المســلمين‪،‬‬
‫وإخالص النية‪ .‬وينقل عن العالم (المالنبوري) أن الرجل التائب بعد ذلك قام في ظلمة الليل فبكى‬
‫وسالت دموعه كالميازيب؛ فوقف خلفه الشيخ وهو يقول‪ :‬إن رحمة هللا مركزة فوق الرجل فلعل‬
‫القليل أن يصيبني منه‪ ،‬وهذا القليــل ليس بالقليــل‪ .‬فهــذه هي أخالق العلمــاء من الرحمــة والحب‬
‫واإلنسانية‪ .‬إنهم أمل الجنس البشري فبهداهم اقتده‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫رهان باسكال‬
‫قال (باسكال) يخاطب رجال دهريا كما جاء في القــرآن " وقــالوا مــا هي إال حياتنــا الــدنيا نمــوت‬
‫ونحيا وما يهلكنــا إال الــدهر" إن كــان المــوت نهايــة الجميــع وختــام كــل شــيء فلن نختلــف عن‬
‫بعضنا في شيء‪ .‬أنت من ال يؤمن بالنشور وأنا من يعتقد جازما بها‪ .‬ولكن إن هناك شيء فإنــك‬
‫تقــامر بكــل مصــيرك‪ .‬ولــذا كــان من األعقــل واألضــمن أن تــراهن على كال النهــايتين‪ .‬وفي‬
‫الرياضيات من راهن على كـل االحتمـاالت المتوقعـة كـان حكيمـا ذكيـا‪ ،‬ومن راهن على احتمـال‬
‫واحد كان من المقامرين في كازينو يضــم الكثــير من المحتــالين‪ .‬ونهايتــه إلى إفالس‪ .‬ومــا قالــه‬
‫الفيلسوف الفرنسي فلسفة قاله أبو العالء شعرا‪:‬‬
‫ال تحشر األجساد قلت إليـكما‬ ‫قال الطبيب والمنجم كالهما‬

‫وإن صح قولي فالخسار عليكما‬ ‫إن صح قولكما فلست بخاسر‬

‫طهرت بردي للصالة وقبله طهر فأين الطهر من جسديكما‬


‫وال يظهر الفرق بين (العلم) و(الدين) و(الفلسفة) كما يظهر في هذه النقطة‪ ،‬فأما العلم فليس‬
‫عنده نفي وإثبات‪ ،‬وال يستطيع البرهنة على عالم آخر إال ما وصل إليه بالقياس واالختبار‪ .‬وأما‬
‫الفلسفة فهي تحرك األسئلة خلف األسئلة وهي منطقة مكشوفة ومعرضة للهجوم من العلم‬
‫والثيولوجيا كما يقول (برتراند راسل) الفيلسوف البريطاني‪ .‬وأما الدين ففيه العزاء‪ .‬وطرق‬
‫سيد قطب في كتابه (مشاهد القيامة في القرآن) فكرة اليوم اآلخر وقال إن ينابيع هذه الفكرة‬
‫تأتي من ثالث‪ :‬تحقيق العدالة ومعنى الوجود وفكرة الغيب‪ .‬فالقرآن يقول إنه لم يخلقنا عبثا‪.‬‬
‫ويوم القيامة توضع الموازين القسط ولو كان مثقال حبة من خردل‪ .‬والكون ليس كرة أرضية‬
‫بل عالم ابتدأ قبل ‪ 15‬مليار سنة بانفجار عظيم وهو يمضي إلى اجل مسمى‪ .‬وفي كثير من‬
‫األحيان تروادني هذه الفكرة كما راودت الكثير عن موت بشر مجرمين في عزة وشقاق مثل‬
‫ستالين وصدام وآخر من شكلهما أزواج فمهما حوسبوا وعوقبوا فإن العدالة األرضية تبقى‬
‫عاجزة‪ .‬وهنا نحن أمام أحد احتمالين‪ :‬فكرة القيامة والعدل الكامل أو فكرة العبثية‪ .‬وخلق هللا‬
‫السموات واألرض بالحق وإليه ترجعون‪ .‬وربما كانت الثقافة الفرعونية من أكثر الثقافات التي‬
‫تركت خلفها الرسوم والنقوش في شرح العالم اآلخر‪ ،‬ولكن األهرامات قامت لتخليد بشر فانين‬
‫فانحرفت الحضارة ومرضت ثم اندثرت وال يوجد مصري واحد اليوم ينطق اللغة الهيروغليفية‪،‬‬
‫ويوم القيامة لن يفرق بين فرعون وديكتاتور وفالح وعامل بل كلهم يأتيه فردا بعد أن أدى‬
‫دوره في مسرحية الوجود‪ .‬ويوم القيامة ال تجزي نفس عن نفس شيئا وال يقبل منها عدل وال‬
‫تنفعها شفاعة إال من أذن له الرحمن وقال صوابا والمسئولية فردية‪ .‬وهذا شيء مهم أن ال‬
‫يقفو اإلنسان ما ليس له به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئوال‪ .‬وينقل‬
‫عن سقراط قوله أن الموت يعني له واحدا من اثنين فإما كان نوما بدون أحالم أو يوم جديد‬
‫وخلق مستأنف في بعد مختلف‪ .‬والكون الذي نعيش فيه ال تنقضي عجائبه‪ ،‬وذهب البروفيسور‬
‫(يا أوئي ‪ )Yaoi‬من جامعة لوند في اليابان في تفسيره الختفاء السفن والطائرات في مثلث‬
‫الموت في المحيط الهادي جنوب اليابان والمقابل لمثلث برمودا في المحيط األطلنطي أنه انتقال‬
‫من بعد إلى بعد مختلف مثل انتقال الصوت والصورة من المادة المرئية المسموعة إلى هزات‬
‫السلكية بمعنى أن من يختفي ينتقل إلى بعد جديد النراه وال نلمسه ولكنه كون خفي موازي‪.‬‬
‫وبالطبع فإن هذا الكالم اليوافقه عليه معظم العلماء ولكن العلم تدفق دوما بين الشكل والغرابة‬
‫والبحث‪ .‬ونضع الموازين القسط ليوم القيامة وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا‬
‫حاسبين‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫شوبنهاور ‪ :‬العالم إرادة وفكرة‬
‫جاء في كتاب (قصة الفلسفة) للكاتب األمريكي (ويــل ديــورانت) ـ وهــو كتــاب جــدير بــاالطالع ـ‬
‫يتحدث فيه عن الفيلسوف األلماني (آرثر شوبنهاور) ص ‪" 394‬أنه جرت عــادة الفيلســوف أن‬
‫يتناول طعام غدائه في مطعم يتردد عليه اإلنجليز‪ ،‬وكـان يضـع دينـارًا ذهبيـًا على مائـدة الطعـام‬
‫أمامه في كل مرة قبل تناول طعامه‪ ،‬ويعيده إلى جيبه بعد انتهاء كل وجبة‪ ،‬فســأله خــادم المطعم‬
‫يوما بفضول عن هذا التصرف فأجابه شوبنهور‪ :‬أنه قد أخذ على نفسه عهدا بإلقاء هذا الــدينار‬
‫الذهبي في صندوق الفقــراء في أول مــرة يســمع فيهــا الضــباط يتحــدثون في شــيء آخــر ســوى‬
‫الحــديث عن الخيــل والنســاء والكالب‪ .‬وهــو يعيــده إلى جيبــه ألنهم ال حــديث لهم ســوى هــذه‬
‫األمور"‪.‬‬
‫وأنا شخصيا أتعجب من أناس كيف يضيعون أوقاتهم في التوافه‪ ،‬واإلنسان كمعادلة ال يزيد عن‬
‫"لحظات الجهد الواعي المبذولة عبر الزمن"‪.‬‬
‫والقرآن يتحدث عن الذين "جاهدوا في هللا حق جهــاده"‪ ،‬والجهــاد في هللا هــو مجاهــدة النفس‬
‫الكتشاف العالم‪.‬‬
‫وحسب (شوبنهور) فإن الفيلسوف هو الذي يحافــظ على روح الطفولــة من الدهشــة واكتشــاف‬
‫العالم‪.‬‬
‫وحفظت عن (مالك بن نبي) فقرة جميلة تقول‪" :‬يصعب على الشعب الثرثـار التنبـه لوقـع أقـدام‬
‫الوقت الهارب"‪.‬‬
‫ويوجه إلي كثيرا نفس السؤال‪ :‬كيف توفق بين الطب والفكر ومن أين تــأتي بــالوقت؟ والجــواب‬
‫إنه ليس الوقت بل االستفادة من الوقت‪ ،‬وأنا كتبت هــذه المقالــة بينمــا كــانت مســاعدتي تحضــر‬
‫المريض في قاعة العمليات فال أضيع الوقت بما فيه وقت االنتظار‪.‬‬
‫والغزالي عاش ‪ 55‬سنة ولكنه ترك ‪ 280‬كتابا يقال وأعظم كتبــه المنقــذ من الضــالل والموصــل‬
‫إلى ذي العزة والجالل‪.‬‬
‫وكان راسـل يكتب كـل يـوم حـتى عمـر التسـعين ثالثـة آالف كلمـة‪ ،‬ورأيتـه أنـا مـرة في منـامي‬
‫ففرحت وأطلعني على بعض كتبــه‪ ،‬ومــا زلت أبحث عن كتابــه في أبجــديات النســبية‪ ،‬أمــا كتــاب‬
‫ذكرياته الشخصية فهو تناول فاكهة وأبا‪.‬‬
‫والحياة قصيرة كما يقول شوبنهاور‪ ،‬ولكن الحقيقة بعيدة األثر وحياتها أطــول‪ ،‬ومشــكلة الــوقت‬
‫أنه رأسمال واحد متوفر للجميع‪ ،‬وما كان عطاء ربك محظورا‪ ،‬ويفضــل هللا بعضــهم على بعض‬
‫بكيفية استخدام الوقت‪ ،‬فمنهم من بنى نفسه به‪ ،‬ومنهم من أضاعه فأصبح مفلسا‪ ،‬خســر الــدنيا‬
‫واآلخرة ذلك هو الخسران المبين‪.‬‬
‫وحسب الفيلسوف (محمد إقبال) فإن الزمن ليس دورة الفلك بل حالة النفس‪ ،‬وقد يقــرأ اإلنســان‬
‫عشرات الكتب تسلية‪ ،‬وقد يقرأ قصة أو كتابا فيخرج منه وقد تغير‪.‬‬
‫والقرآن كتاب حجمه ليس بالكبير ولكنه قلب محاور التاريخ وما زال‪.‬‬
‫وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيال‪.‬‬
‫والفلسفة كما يقول شوبنهاور ليست قراءة الكتب بل تأمل الحياة‪ ،‬وهو من أجل ذلك وضع كتابه‬
‫في عام ‪1844‬م بعنوان (العالم إرادة وفكرة) ولكن بكل أســف فلم يبــاع إال بنســخ معــدودة وبعــد‬
‫‪ 16‬سنة من إصدار الكتاب أخبر الناشر الفيلسوف المحبط أن جزًء من كتابــه ســوف يبــاع تالفــا‬
‫فيســتخدم لحــزم البضــائع ولــف ســندويش الفالفــل؟ فالكتــاب لم يلفت النظــر ولم يبــاع؟ وفلســفة‬
‫شوبنهاور في الكتاب جميلة‪ ،‬فهو يرى أن ال نعَّر ض عقولنا باستمرار لتدفق أفكار غيرنــا‪ ،‬ألنــه‬
‫يحصر أفكارنا ويكبح انطالقها‪ ،‬ويؤدي في النهاية إلى شل قوة التفكير عندنا‪.‬‬
‫ولقد كتب دورانت في كتابه قصة الفلسفة فصــال جميال عن شــوبنهاور وكتابــه ينصــح بــاالطالع‬
‫عليه‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫ومن الخطر أن نقرأ عن موضوع قبل أن نكون قد فكرنا فيه بأنفسنا‪ ،‬وأنا اذكــر ذلــك من نفســي‬
‫حين تعلمت الطب‪ ،‬وهو أمر اكتشفته بنفسي‪ ،‬ربما من البناء الفلســفي عنــدي‪ ،‬فنقلت الفكــر إلى‬
‫عالم البيولوجيــا‪ ،‬واألطبــاء أوالد مهنــة اليختلــف فيــه جــراح عن ســائق شــاحنة إال ربمــا بلــون‬
‫المالبس أزرق وأبيض؟‬
‫كنت اطرح السؤال وأبحث عن المريض؟ ثم أرجع فأقرأ المصادر‪ ،‬فتعلمت وبنيت الكثير‪.‬‬
‫وفي جراحة األوعية الدموية وضعت أيضا ألف سؤال وجواب‪ ،‬وهي طريقة جيدة لتدريب العقــل‬
‫على شحنه بالمعلومات‪.‬‬
‫وحسب شوبنهاور فنحن عندما نقرأ لغيرنا يكون غيرنا يفكر لنا‪ ،‬وهو أمــر يجب أن نطبقــه على‬
‫نفس أفكار الفيلسوف‪.‬‬
‫نطبق هذا خاصة على أحكامه السيئة ســواء في مســحة التشــاؤم الــتي تغمــر مؤلفاتــه‪ ،‬ولم يكن‬
‫الوحيد بل كان طــابع العصــر‪ ،‬ويشــبهه في هــذا (بــيرون) البريطــاني و(هيــني) األلمــاني و (دي‬
‫موسي) الفرنسي و(ليوباردي) اإليطالي و(بوشكين) الروسي‪ ،‬بل وحتى الموســيقيين من أمثــال‬
‫(شوبرت) و(شوبان) و(بيتهوفن)؛ فالعصر كله كان حطاما يبابا خرابا بعد حروب نــابليون ووأد‬
‫الثورة الفرنسية وعودة اإلقطاعية والحكم الملكي من آل بوربون في فرنسا‪.‬‬
‫ولكن كما يقول نيتشه التفــاؤل ســطحية والتشــاؤم عالمــة انحطــاط‪ ،‬والخــير في والدة األمــل من‬
‫رحم المعاناة‪ ،‬وكذلك كان عصر الكالسيك الرائع‪ ،‬ولنا الويل اليــوم من رقاصــات الفضــائيات في‬
‫مظاهر انحطاط عربي عارم‪.‬‬
‫أو في نظراته عن (المرأة) المستقاة من تجارب غير سارة مع والدتــه الـتي كــان يزورهـا قليال‪،‬‬
‫وعندما ألقت بــه من على الــدرج‪ ،‬ودعهــا في الســنوات الـ ‪ 24‬األخــيرة من حياتهــا؛ فلم يتقــابال‬
‫حتى مات وماتت‪.‬‬
‫وهو يقول‪ :‬إن أول نصيحة نوجهها هي االستفادة من خبرة الحياة وتجاربها قبــل الكتب‪ ،‬وثانيــا‬
‫مطالعة الكتب نفسها قبل مطالعة ما كتب حولها‪ ،‬وهي حكمة بالغة‪ ،‬وأن نقرأ مــا كتب المؤلفــون‬
‫قبل قراءة ما كتب النقاد والمعلقون‪ ،‬إذا ال يمكن تلقي األفكار الفلسفية إال من المــؤلفين أنفســهم‬
‫من محرابهم ومكان عبادتهم وتألقهم‪.‬‬
‫لــذلك ينبغي على كــل من يشــتغل بالفلســفة أن يبحث عن معلميهــا الخالــدين في معبــد إنتــاجهم‬
‫ومؤلفاتهم‪ ،‬وإن كتابا واحدا من عبقري يساوي ألفا من كتب المعلقين‪.‬‬
‫وهو ما فعله المؤرخ ديورانت حينما عكــف على كتــاب العــالم إرادة وفكــرة فوصــفه بأنــه ســهل‬
‫ممتنــع ليس في اضــطراب وغمــوض مــا كتبــه (هيجــل) أو مــا فعــل (ســبينوزا) بربــط األفكــار‬
‫بالهندسة‪ ،‬أو تعقيد المصطلحات الموجودة في كتابات (إيمانويل كانط)‪.‬‬

‫الفيلسوف اإلنساني (ايراسموس)‬


‫‪236‬‬
‫ما يزال سر عصر النهضة في أوربا محيرا فما الذي يوقظ األمم من سبات الجهالة؟ وأذكر أنه‬
‫جاءني في يوم رسالة من صاحب موسوعة (تحرير المرأة في عصر الرسالة) عبد الحليم أبو‬
‫شقة سؤاًال محددًا‪ :‬ما الذي يعين على إيقاظ الوعي عند اإلنسان؟ وما هي الكتب التي تساهم في‬
‫ذلك؟ ومنذ ذلك الوقت وأنا أنصح كل مهتم بالمعرفة أن يضع في بيته مائة إلى مائتين كتابا ال‬
‫يزيد تعتبر حجر الكبريت في إيقاد زناد المعرفة‪ .‬واعترف أنا شخصيًا أنني نشأت من أبوين‬
‫شبه أميين‪ ،‬ولم يكن في بيتنا كتابا واحدا‪ ،‬وال أعرف من أين جاءني الشغف بالكتب فال‬
‫يغادرني الكتاب حيثما حللت ورحلت كما قال الفيلسوف اإلنساني (ايراسموس)‪" :‬إن بيتي هو‬
‫المكان الذي توجد فيه مكتبتي"؟ مع هذا فكتب الفلسفة تستطيع أن تصف عصر التنوير (‬
‫‪ ) Renaissance‬الذي بدأ في منتصف القرن الخامس عشر وما زالت أمواجه تكبر وتتدافع‬
‫حتى اليوم وكل طوفان الحداثة هو من ذلك البركان الذي تفجر من شمال إيطاليا ليغطي كل‬
‫القارة األوربية ثم العالم‪ ،‬بأنه جمع ما اليقل عن عشرة مزايا على شكل حلقة كل طرف يؤثر في‬
‫اآلخر على نحو متبادل عكوس‪ .‬فقد نشأ شيء اسمه (الفلسفة السياسية) في محاولة اكتشاف‬
‫قوانين اللعبة السياسية مثلها في أوضح صورة كتاب (األمير) لمكيافيللي‪ .‬وظهرت بدايات‬
‫(االتجاه اإلنساني) الذي ال يعبأ بالقومية وقام بنقد النصوص الدينية ظهر هذا واضحا عند‬
‫إيراسموس وتوماس مور‪ .‬وتقدمت الفنون التكنولوجية سواء في التعدين أو التنجيم أو نظام‬
‫السقاية‪ .‬وكانت أوربا ال تعرف الحمامات وتقتل الساحرات والقطط في الساحات العامة وتعالج‬
‫السعال الديكي بلبن الحمير‪ .‬وولدت المطبعة على دهشة من أوربا على يد (جوتنبرغ) ومع‬
‫الطباعة والورق تحرر عقل اإلنسان كما يقول المؤرخ البريطاني (هـ ‪ .‬ج ‪ .‬ويلز) في كتابه‬
‫(معالم تاريخ اإلنسانية)‪ .‬وبدأت عملية إحياء الدراسات الكالسيكية في اآلداب والفنون‬
‫والفلسفة‪ .‬وألول مرة بدأ تداول أرسطو وسقراط وسينيكا وايبيكتيتوس بعد العصر األغريقي ـ‬
‫الروماني ولكن بنسخة معدلة‪ .‬وألول مرة تبدأ العلوم في االنتعاش والتقدم على كل الجبهات في‬
‫الطب أو الفلك أو الجغرافيا أو الكيمياء وعلم النفس والتاريخ‪ .‬فالمخترع (ليوناردو) يتنبأ‬
‫بأشياء كالخيال من الطيارة والغواصة‪ .‬وتتحول معرفة السماء من (علم التنجيم) إلى (علم‬
‫الفلك)‪ .‬وكما يقول المؤرخ األمريكي (ويل ديورانت) في سفر كتابه (قصة الحضارة) الذي كتبه‬
‫أن عام ‪ 1543‬كان عام العجائب ففيه تم خرق السماء والجسم واألرض؛ فرسمت األرض‬
‫بجغرافيا جديدة ولم يبق مكان لبحر الظلمات‪ ،‬وألول مرة دار (مجالن) حول األرض الكروية‬
‫بعد أن كانت شيء نظري متنازع عليه‪ .‬وقلب (كوبرنيكوس) المفهوم الكنسي حول األرض التي‬
‫يدور حولها كل شيء وتحولت إلى كوكب تافه في مجرة عمالقة في نظام شمسي النهاية ال‬
‫حدوده‪ ،‬كما عبر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي باسكال‪" :‬نحن نأتي من العدم ونطوق‬
‫بالالنهائي‪ ،‬وال نعرف شيئا عن العدم الذي خرجنا منه كما ال نعرف شيئا عن الالنهائي الذي‬
‫يغلفنا‪ ،‬كما أننا نمضي في النهاية إلى العدم من حيث خرجنا فال نبق شيئا مذكورا‪ .‬وإذا نظرنا‬
‫إلى أنفسنا في اللحظة الواحدة؛ فنحن كل شيء مقارنة بالعدم الذي خرجنا منه‪ ،‬ولكننا عدما‬
‫بالنسبة للالنهائي الذي يطوقنا‪ ،‬وهكذا فنحن نسبح في اللحظة الواحدة بين العدم والالنهائية‬
‫بدون إدراك للطرفين وفهم للحافتين)‪ .‬ودخل (فيزاليوس) بجرأة إلى تشريح الجسم بعد أن كان‬
‫تشريحه حجرا محجورا‪ ،‬وعرفنا أن البدن آلة فيزيولوجية تعمل بقوانين مثل أي آلة مع فارق‬
‫التعقيد‪ ،‬وبذلك دخل العلم إلى آلية األمراض ومعالجتها على نحو انقالبي فتحرر الطب من‬
‫الخرافة والسحر والشعوذة‪ .‬وغادر علم (الخيميا) ليصبح علم الكيمياء الحديث‪ .‬وكان العصر‬
‫عصر المغامرات واالكتشاف ففي عام ‪1492‬م كان (عبد هللا الصغير) يسلم مفاتيح غرناطة‬
‫وتتحد أسبانيا وينطلق (كولمبس) في رحلة إلى المجهول بأغرب من ارتياد المريخ هذه األيام‬
‫وأعجب ما فيه هي فكرة الوصول إلى الشرق من الغرب‪ ،‬مثل من يريد أن يدل على أذنه الشمال‬
‫باليد اليمنى‪ .‬والذي دفع لهذا الضغط العثماني الذي قطع طريق التجارة إلى الشرق فأصبحت‬

‫‪237‬‬
‫أسبانيا والبرتغال وظهرهما إلى المحيط ومنه جاء الخير فأما البرتغال ففضلت تطويق العالم‬
‫اإلسالمي تسلال بجانب الواطيء األفريقية التي بدأها األمير (هنري المالح) عام ‪1418‬م وأما‬
‫(كولمبس) فقد ضرب ضربته التاريخي فنقل الحضارة كلها من حوض المتوسط إلى األطلنطي‬
‫ووضع يد الغرب على أراضي أكبر من سطح القمر‪ .‬ولكن أهم ما حصل على اإلطالق كان‬
‫اإلصالح الديني الذي جاء منه الفتح المبين‪ .‬ومن سبق مارتن لوثر كان اإلنساني (ايراسموس)‬
‫الذي كتب عام ‪1517‬م إلى صديقه الكردينال يورك‪":‬في هذا الجزء من العالم أخشى أن هناك‬
‫ثورة عظيمة توشك على الوقوع" وفي أقل من شهرين وقعت ثورة مارتن لوثر‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫الفيلسوف لودفيك فيتجنشتاين‬
‫ليس هناك من رجل اختلف حوله الناس مثل الفيلسوف النمساوي فيتجنشتاين‪ .‬وبقدر ما كان‬
‫عبقريا في تأسيس فلسفة جديدة بقدر هدمه لنفس الفلسفة التي بدأها‪ .‬من خالل عملين األول‬
‫ظهر في رسالته التي أخرجها وهو في المعتقل تحت عنوان (رسالة منطقية فلسفية) وختم‬
‫حياته بنقد ذاتي قاسي تراجع فيها عن الفلسفة الوضعية المنطقية التي أسسها بعنوان (بحوث‬
‫فلسفية) وكتابين مشتقين من لونين (األزرق) و(البني)؟ وال أعرف حقيقة سبب التسمية‪.‬‬
‫وعاش الرجل ‪ 62‬سنة ومات بالسرطان بعد أن تفرغ للبحث عام ‪1947‬م على أمل أن يصقل‬
‫نظريته الجديدة ويهدم ما بدأ به حياته من أفكار ولكن السرطان قضى عليه عام ‪1951‬م‪ .‬ولم‬
‫ينتج في حياته إال هذا الكتاب اليتيم ولكن أعماله النقدية األخرى ظهرت بعد وفاته وهو ينقض‬
‫نفسه بنفسه وهو ما يذكر بقول نيشته "أصل نفسك حربا ال هوادة فيها وال تهتم بالخسائر‬
‫واألرباح فهذا من شأن الحقيقة ال من شأنك أنت‪ .‬وإذا أردت الراحة فاعتقد وإن أردت أن تكون‬
‫من حواريي الحقيقة فاسأل" والفرق بين الفلسفة والعلم والدين أن الدين مريح بأجوبته‬
‫القاطعة والنهائية والعلم يجيب عن كيف؟ والفلسفة مزعجة ألنها كما تعلمنا من سقراط أنها‬
‫تكشفنا أننا ال نعرف دومًا وأن اإلجابة على كل سؤال يفتح الطريق لسؤالين جديدين‪ .‬وقد‬
‫يتقاطع كل من الدين والعلم والفلسفة عند نقطة ولكن مثل تقاطع المستقيمات في الرياضيات‪.‬‬
‫فلكل محور عمله‪ .‬وما بقي للتداول هو كتابه األول الذي صدر في المعتقل اإليطالي عام ‪1919‬م‬
‫وعمره ‪ 30‬سنة‪ .‬وتشبه تجربته من جانب تجربة أبو حامد الغزالي حيث مسح الفكر المعاصر‬
‫لينته في أرض التصوف‪ .‬وفي كتابه رسالة منطقية فلسفية تناول نظرية المعرفة ومباديء‬
‫الفيزياء ومشكالت علم األخالق ليروي تجربته الصوفية وهو في ساحات القتال على الجبهة‬
‫النمساوية اإليطالية‪ .‬حيث اشترك كجندي في المدفعية ثم وقع في األسر في جبهة التيرول عام‬
‫‪1918‬م حتى خشي الفيلسوف البريطاني برتراند راسل المعجب فيه أنه قد مات‪ .‬وعمل الرجالن‬
‫فترة سوية‪ .‬ولكن البحث الذي ظهر للنور والذي نشر في حوليات الفلسفة هز األوساط الفلسفية‬
‫وما زال حتى اليوم على الرغم من نبذ صاحبه الفلسفة وراء ظهره‪ .‬فمن يريد أن يتابع‬
‫الفيلسوف عليه أن يطلق الفلسفة ألنها تضعنا أمام األشياء وعلينا أن نعود إلى اللغة البسيطة‬
‫لفهم األشياء عند استعمالها وليس بما نضيف عليها من معاني‪ .‬ويعتبر فيتجنشتاين إنسان‬
‫عملي عمل في عشرات الوظائف والمهن بين هندسة الطيران وعلم الرياضيات والعمل‬
‫الجامعي والفلسفة وجندي محارب وأسير في المعتقل ومدرس صارم وبستاني في دير‬
‫ومهندس معماري وممرض وباحث في المعمل‪ .‬ولم يكن يهمه أن يترك منصب أستاذ الجامعة‬
‫ليشتغل بوابا أو ممرضا في مشفى‪ .‬ومن وجهة نظره فإن القضية المحورية ومشكلة المشاكل‬
‫هي عالقة اللغة بالعالم‪ .‬واستخدم لها مثل طنين الذبابة في الزجاجة أي تلك التي تخرج الذبابة‬
‫من حيرتها عبر عنق الزجاجة إلى الفضاء الفسيح‪ .‬واعتبر الفيلسوف مور أن رسالته كانت‬
‫ومضة من العبقرية‪ .‬أما راسل فاعتبر عمله مغامرة عقلية كبرى مدعاة لإلثارة ولكنه للقاريء‬
‫العادي مجموعة من األلغاز فقد كتب بطريقة مكثفة جدا‪ .‬وتأثر فتجنشتاين جدًا بآراء تولستوي‬
‫فقام بتوزيع ثروته الطائلة التي ورثها على أصدقائه وأقربائه وارتاح من عناء الثروة فهي‬
‫بنظره عبء على الفيلسوف وأن من يعمل بالفكر عليه أن يتخفف من هموم الدنيا‪ .‬وهي‬
‫وصية صعبة جدا‪ .‬وعندما جاء غني إلى المسيح فسأله النصيحة قال تخلص من مالك واتبعني‬
‫فانصرف الرجل وفي عينيه الحزن فالتفت المسيح إلى الحواريين وقال الحق أقول لكم إن دخول‬
‫غني إلى ملكوت السموات أصعب من دخول حبل السفينة في ثقب اإلبرة‪ .‬وفي وقت سافر‬
‫فيتجنشتاين إلى روسيا فحاولوا إقناعه بالبقاء هناك فرفض ثم ذهب إلى النرويج فبنى كوخا‬
‫بنفسه وبقي فيه لمدة عام في التأمل‪ .‬وأعظم ما في فلسفة فيتجنشتاين تفكيكه لعمل اللغة وأن‬

‫‪239‬‬
‫اللغة في أحسن أحوالها تصور الواقع ولكن ليس من واقعة مرتبطة بأخرى بأي وسيلة من‬
‫الوسائل وهذا يعني أن اللغة وهم ولعل أفضل ما فيها أنها قناة تواصل ولكن من خالل‬
‫االستعمال‪ .‬والكلمة ال تحمل المعنى ونحن من يشحنها‪ .‬وأفضل مبدأ هو (التحقق) من الكلمات‬
‫وهو ببساطة الرجوع إلى الواقع‪ .‬وظن أنه حل كل المشاكل الفلسفية‪ .‬وأراد بناء لغة من الدقة‬
‫أن تضع كل شيء في نصابه تماما‪ .‬فاللغة ال تزيد عن لعبة؟ ومنه اعتبر الرجل مؤسسًا‬
‫للفلسفة الوضعية المنطقية‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر‬
‫بين عامي ‪ 1852‬و‪ 1947‬م رّح لت فرنسا إلى غوايانا الفرنسية في أمريكا الجنوبية ‪ 70‬ألف‬
‫معتقل مات ثلثاهم في جزر جهنمية‪ .‬حيث تطلق صواريخ ارتياد الفضاء األوربية حاليًا‪ .‬وتبدأ‬
‫القصة من نابليون الثالث صاحب النكبة الفرنسية عام ‪ 1870‬الذي قادته إليه زوجته المغناج‬
‫يوجينا ‪ .‬ففي هذا العام خسرت فرنسا الحرب ضد بسمارك‪ ،‬وتم تتويج اإلمبراطور األلماني في‬
‫فرساي‪ .‬وخسرت فرنسا ‪ 135‬ألف قتيل‪ .‬ودمرت العائلة المالكة بعدها وقامت الجمهورية‬
‫الثالثة‪ .‬وحديثنا ليس عن نابليون التعيس وزوجته يوجينا الحمقاء‪ ،‬بل عن سجن رهيب لم‬
‫يسمع به العالم إال بعد مرور أكثر من ثمانين سنة على إنشائه‪ .‬كان فيها القضاء الفرنسي‬
‫يمارس عمله أقرب إلى الجريمة من العدالة‪ ،‬فيلقي القبض على من سرق دراجة ووجبة طعام‪،‬‬
‫ثم يجمعهم في طوابير‪ ،‬على وجبتين في السنة‪ ،‬ويرحلهم إلى سان مرتين‪ ،‬الميناء الفرنسي‬
‫الشمالي‪ ،‬ثم يزربون زربا في ناقالت المحيط لمدة عشرين يوما‪ ،‬حتى تنتهي بهم الرحلة على‬
‫شاطيء غوايانا الفرنسية في أمريكا الجنوبية‪ ،‬وغالبا ما كانت إقامتهم دائمة ولو كان حبسهم‬
‫محدودا‪ .‬وهو يذكر بقصة الكونت مونت كريستو فمن دخل السجن نسي‪ ،‬وهناك تصفد أقدامهم‬
‫ويجبرون على األعمال الشاقة‪ .‬يلسعهم البعوض‪ ،‬وتعضهم الثعابين الخطيرة‪ ،‬وتقرصهم‬
‫العناكب السامة‪ .‬ومن عصا فله العصا؛ فيلقى المتمرد في االنفرادية لمدة ستة أشهر‪ .‬وإذا أظهر‬
‫عدم االنضباط ولم يحترم الشرطي زادت عقوبته على شكل تصاعدي‪ .‬ومن حاول الهرب فضبط‬
‫زادت مدت حبسه سنتان فإن عاد زيدت إلى خمس سنوات‪ .‬فإن أظهر صالبة نقل إلى واحد من‬
‫ثالث جزر قريبة من غوايانا وبالتدرج‪ ،‬حتى يصل إلى جزيرة أطلق عليها جزيرة الشيطان‪.‬‬
‫هكذا سماها من استطاع الفرار فحمل رسومات فنان محبوس هناك حبس بسبب تزويره بعض‬
‫اللوحات؟ وهناك من ضرب الرقم القياسي في مكثه في االنفرادية‪ ،‬وأنا شخصيا ذقتها وال أتمنى‬
‫ألحد دخولها‪ ،‬هو (بول بورساك) الذي بقي فيها ‪ 11‬سنة متواصلة‪ ،‬فلما خرج لم يطق الحياة‬
‫فألقى نفسه في النهر وانتحر‪ .‬وكان الفرار من الجزيرة بين خطرين عظيمين المحيط الغادر‬
‫والغابات القاتلة‪ .‬ومن خلفهم المقصلة التي نقلت من فرنسا إلى هذه الجزر الجهنمية‪ .‬وفي‬
‫النهاية نجح اثنان في الفرار ونقلوا الخبر للعالم فارتج رجا ومثلته هوليود فيلما وعرضته قناة‬
‫الديسكفري‪ .‬وكان آخر حبيس غادرها عام ‪ ،1947‬وأغلقت جهنم أبوابها‪ ،‬بعد أن التهمت عظام‬
‫وأحالم عشرات اآلالف‪ .‬واليوم هي منصة إطالق صواريخ وشاطئ تنزه وعبرة للسائحين‪ .‬إن‬
‫في ذلك آليات للمتوسمين‪.‬‬
‫ومن أهم الشخصيات التي حبست هناك ضابط فرنسي يهودي هو (دريفوس ‪ )Dreyfus‬اتهم‬
‫بالجاسوسية ظلمًا‪ ،‬ثم نفي للجزيرة فوضع في جزيرة الشيطان‪ ،‬وبعد حين صفدت أقدامه أيضًا‪،‬‬
‫ويومها قام المثقفون الفرنسيون بحملة مكثفة ضد هذا الفعل الشنيع على رأسهم األديب ( إيميل‬
‫زوال) الذي حرك الموضوع بمقالة بعنوان (إنني أتهم ‪ ،)J accuse‬حتى أطلق سراحه بعد عدة‬
‫سنين‪ ،‬واعتذر وزير الحربية الفرنسية في البرلمان وهو يصر على نواجذه ثم أعيد االعتبار‬
‫للرجل‪ .‬وزار حفيده محبس جده الحقا عبرة ألولي األبصار‪.‬‬
‫وقصته تشبه ما جاء في القرآن عن (بشير بن أبيرق) اليهودي الذي اتهمه بعض األنصار‬
‫ظلما بعد أن سرقوا درعا‪ ،‬فلما حامت حولهم الشبهة‪ ،‬ألقوه في بيت اليهودي‪ ،‬ثم جاءوا النبي‬
‫يطلبون أن يبرئهم علنا‪ ،‬فجاء القرآن يعاتب النبي كيف يكون للخائنين خصيما؟ ثم برأ القرآن‬
‫ساحة اليهودي في ثماني آيات من سورة النساء في قصته(‪ 105‬ـ ‪ " )113‬ومن يكسب خطيئة‬
‫أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا"‪.‬‬
‫ومن قصة دريفوس شق المثقفون الفرنسيون الطريق إلى عالم حر يواجهون به آلة الدولة‬
‫القمعية‪ .‬وتقول المؤرخة األمريكية (فينيتا داتا ‪ )Venita Datta‬أن المثقفين الفرنسيين بهذا‬
‫العمل لنصرة حقوق اإلنسان خدموا المثال الثقافي في كل العالم وليس فرنسا لوحدها‪ ،‬ومن سن‬

‫‪241‬‬
‫سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة‪ ،‬أما عندنا فقد كرسنا الظلم‬
‫والديكتاتورية في إجازة مفتوحة‪.‬‬
‫وفي ‪ 15‬أبريل ‪2005‬م احتفلت فرنسا بمولد الفيلسوف الوجودي (سارتر) وأعيد رماده من‬
‫المحرقة كما يقال؛ فالرجل كان بين محب واله ومبغض تالف‪ ،‬وعقدت عشرات الندوات‬
‫وطبعت أعماله مجددا‪.‬‬
‫فمن هو جان بول سارتر؟‬
‫عاش سارتر ‪ 75‬سنة مثل ابن خلدون (‪ 1905‬ـ ‪1980‬م) في ثالثة أثالث‪ ،‬وكما قسم ابن‬
‫خلدون حياته بين األندلس والمغرب ومصر كل بربع قرن‪ ،‬كذلك تنوعت حياة سارتر بين‬
‫ماركسي متعصب‪ ،‬إلى أسير في يد النازيين‪ ،‬ثم فيلسوف الحرية والقطيعة التامة مع الشيوعية‪،‬‬
‫ليشق طريقه وحيدا مثل أبو ذر الغفاري‪ ،‬مع صديقته سيمون دي بوفوار‪ ،‬ووصف الرجل بأنه‬
‫كان من أكثر فالسفة القرن العشرين غزارة في اإلنتاج‪ ،‬وكان يكتب كل يوم ‪ 6‬ساعات‪ ،‬وكتب‬
‫حتى عمي‪ ،‬وناضل حتى مات‪ ،‬ولم ينشر كل ما كتب‪ ،‬ومما نشر كان كتابه (الوجودية تعني‬
‫اإلنسانية) في أكتوبر ‪1945‬م فأحدث صدى هائًال‪ ،‬ومما كتب ‪ 700‬صفحة في الوجود والعدم‪،‬‬
‫و‪ 2000‬صفحة في طبعة خفيفة الورق بروايات شتى‪ ،‬وكتب ‪ 1300‬صفحة في نقد العقل‬
‫الجدلي‪ ،‬مذكرا بعمل (كانط) في نقد العقل الخالص والعملي‪ ،‬وكتب ‪ 3000‬صفحة في دراسة‬
‫فلوبير عن (أحمق العائلة)‪ ،‬وبين عامي ‪ 1943‬و ‪1953‬م كتب ‪ 4‬تحليالت فلسفية‪ ،‬وثالث‬
‫روايات‪ ،‬وتحليل أدبي مطول و‪ 6‬قطع مسرحية‪ ،‬عرضت باإلضافة إلى إخراج فيلمين‪،‬‬
‫وتأسيس المجلة المشهورة (مجلة العصور الحديثة) الشهرية‪ ،‬فهو كما يقولون ينتسب إلى‬
‫الفالسفة العمالقة‪ ،‬أو بتعبير (برنارد هنري ليفي) ديناصورات الفلسفة‪ .‬أما في الوقت الراهن‬
‫فإن المثقفين الفرنسيين في حالة تيه كما وصفهم الفيلسوف (بيير بوردو) ويعزي هذا إلى‬
‫العولمة التي أدخلت البرد إلى كل وبر ومدر‪ .‬وأن الثقافة الفرنسية تعيش أزمة بنيوية عميقة‪.‬‬
‫وكما وصف ابن خلدون بأنه كان فقيها شاعرا مؤرخا قاضيا وعالم اجتماع بل من مؤسسيه‪،‬‬
‫فقد كان سارتر حوضًا معرفيا فكان فيلسوفا رومانسيا وروائيا وكاتبا وصحفيا وفنانا ومخرجا‬
‫مسرحيا بل و(محرضًا ‪ )Agitator‬جماهيريا‪ ،‬كلها جمعها في شخص واحد‪ ،‬وقبل وبعد ذلك‬
‫ثائرا لم يعرف الراحة حتى مماته‪.‬‬
‫كان سارتر مزيجًا عجيبا للناس يتأملونه بين اإلعجاب والدهشة والرعب والكراهية‪ ،‬وكما‬
‫وصف (راسل) الفلسفة بأنها المنطقة التي ال اسم لها تهاجم من العلم والتيولوجيا معا‪ ،‬فقد‬
‫كانت الفلسفة الوجودية عند سارتر موضع هجوم األغلبية‪ ،‬وكان مكروها ممقوتا موصوفا‬
‫باإللحاد‪ ،‬وكان الناس يتحاشونه حين يدخل مقهاه المفضل والدائم (الفلور) في سانت جيرمان‬
‫في باريس‪ ،‬وتعرض لعمليتين إرهابيتين من إلقاء القنابل عليه ولكنه نجا‪.‬‬
‫ولكن الشعب الفرنسي كله متحمس له اليوم‪ ،‬كما يقول روبرت غرين إن األموات واآللهة ال‬
‫تحسد‪ ،‬وقامت المكتبة الوطنية الفرنسية بدًء من ‪ 15‬أبريل بتكريس ذكريات الرجل وأعماله‬
‫حسب مراحل حياته بما فيها بعض المخطوطات التي لم تنشر‪ ،‬كما ظهر إلى الضوء أيضا‬
‫تقارير جاسوسة حسناء نامت في فراشه كلفها الروس بنقل كل شيء عنه مع أنه كان نعم‬
‫القرين والمؤيد‪ ،‬وكانت أخبارًا موجعة‪ .‬ومن النصوص (التابو) التي تعرض ما كتب بعنوان‬
‫(العاهرة الشريفة)‪ ،‬وهو يذكر بدفاع القرآن عن النسوة التي تمارس البغاء باإلكراه "ومن‬
‫يكرههن فإن هللا من بعد إكراههن غفور رحيم"‪.‬‬
‫ال شك أن الرجل كان عبقريا وشاهدًا لعصره‪ ،‬كما يطلب هللا من المؤمنين أن يكونوا شهداء‬
‫على الناس‪ ،‬والشهادة هي الحضورالواعي فال يمكن أن يؤتى بشاهد غافل لمحكمة رفيعة‬
‫المستوى للبت في قضية خطيرة‪ .‬ويحمل سارتر كل عيوب وتناقضات عصره بما فيها رائحة‬
‫اإللحاد‪ ،‬وبقي الثائر (األبدي) لحرية األفراد والشعوب‪ ،‬ومشت كتبه في كل أسواق العالم‪،‬‬
‫واحتفلت به أمريكا‪ ،‬وأصبحت إيطاليا بلده الثاني‪ ،‬ورأى فيه الكثير من شعوب العالم الثالث‬
‫الناطق باسم المستضعفين‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫وعندما مات الرجل عام ‪1980‬م كان شيخًا واهنًا منهكًا‪ ،‬بعيون منطفئة‪ ،‬وفم بدون أضراس‪،‬‬
‫غير قادر على الكتابة والقراءة ـ ربما بفرط التدخين والكحول وتناول األمفتامين؟ ـ وكان يسبح‬
‫في شفق المغيب العقلي‪ ،‬وأحيانا يرجع إلى الوعي فيأمل أن ينهض من الرماد كما في قصة‬
‫طائر الفينيكس‪ ،‬وهي من جملة تناقضاته‪ ،‬وربما من أجمل ما فعل مع صديقه وعدوه لمدة‬
‫ثالثين سنة (اندريه جلوكسمان) في التدخل عند الرئيس الفرنسي (فاليري جيسكار ديستان) في‬
‫منح اللجوء السياسي لفيتناميي القوارب‪ ،‬أو بتعبيره (آوسشفيتز على ظهر الماء) وهو اسم‬
‫معسكر النازي في بولونيا‪ ،‬وهو بهذا برهن على أن الفلسفة "أن تعيش المعاناة مع الناس‬
‫وليس انتظار نهاية التاريخ على شكل جنة فلسفية"‪.‬‬
‫كان سارتر (ظاهرة‪ ) Phenomen‬فلم ينافسه في المقعد األول فيلسوف أو كاتب أو روائي‪،‬‬
‫وكانت كلماته أسلحة فتاكة‪ ،‬كما وصف ديورانت فولتير أنه كان يصرع خصمه بضربة من كلمة‬
‫بدون رحمة‪ ،‬ولم يكن يردعه أن يهان أو يتعرض لألذى أو اإلذالل‪ ،‬فقد كان روحًا وأسطورة‬
‫ظهر ذلك في حركة ‪1968‬م وسار في جنازته خمسين ألفا أو يزيدون‪ ،‬ودفن في مقبرة‬
‫العظماء في (مون بارناس ‪ .) Monparnasse‬ثم بدا من بعد ذلك وكأنه نسي وضاع في‬
‫ملفات اإلهمال‪ ،‬ولكن األمم العظيمة ال تفرط في رجال الفكر ولو أثاروا أعظم زوابع الجدل‪ ،‬فهنا‬
‫هي الحياة وليست ديكتاتورية العربان‪ .‬ومع موته ودع عالم الفلسفة الوجودية ليبدأ رحلة‬
‫الفلسفة البنيوية (‪)Structureliasm‬‬
‫وهناك حاليا أكثر من ‪ 15‬مؤتمر حول الرجل في فرنسا لوحدها‪ ،‬في باريس وأميان وليون‪،‬‬
‫ولمدة أسبوعين‪ ،‬وفي أسبانيا وإيطاليا‪ ،‬وخصصت إذاعة (الثقافة الفرنسية) النخبوية أسبوعين‬
‫لبث كامل أعمال الرجل للتعريف به‪ ،‬أما دار النشر (جالليمارد ‪ )Gallimard‬فقد طبعت كل‬
‫أعماله من جديد‪ ،‬ويقول الفيلسوف ليفي "يجب أن تعاد قراءة أعمال الرجل كلها"‪ .‬ويعتبر‬
‫حاليا بمثابة فيلسوف القرن العشرين مثل ما كان هوجو وفولتير وإيميل زوال في القرن التاسع‬
‫عشر‪.‬‬
‫وألن عقل الرجل كان نقديا ولم يكن نقليا فقد سافر في كل المعمورة‪ ،‬ورأى اإلنجاز الشيوعي‬
‫ميدانيا‪ ،‬وتحمس له في البدء ودعا إلى تقليده‪ ،‬مما قاد إلى كارثة في باريس حينما حاول‬
‫الرفاق إقامة ما يشبه الكومونة الشيوعية‪ ،‬مما حولها إلى مصح عقلي للجريمة‪ ،‬واألمم تنمو‬
‫بتجارب الحذف واإلضافة‪ .‬وممن اجتمع بهم كان رئيس عصابة البادر ماينهوف األلمانية‬
‫اندرياس‪ ،‬وكتب في الدفاع عن زعماء حمر هم من طبقة المجرمين اليوم مثل بول بوت‬
‫وستالين وكاسترو‪ ،‬ولكن بعد ربيع براغ كانت قاصمة الظهر فودع الشيوعية قبل أن تنطفئ‬
‫شمعتها بثالث عقود‪.‬‬
‫ولكن ما هي الوجودية حصرًا؟ إنها في الواقع نزعة أو اتجاه ظهر في تاريخ الفلسفة وال‬
‫تخص سارتر‪ ،‬ويمكن أن نميز فيها أربع مالمح رئيسية كما أشارت إلى ذلك الموسوعة‬
‫الفلسفية‪ :‬فهي أوال (‪ )1‬عداء للنظر المجرد الذي يطمس ما في الحيلة الفعلية من حاالت‬
‫التباين وعدم االضطراد‪ ،‬وأحيانًا تتخذ شكل التحليل الذاتي العميق كما في (الخواطر) لبسكال أو‬
‫(االعترافات) ألوغستين أو حتى (الخطرات) لجمال الدين األفغاني ولذا فالدعوى أن المنهج‬
‫الرياضي منهج كامل للمعرفة يمشي بسيقان من خشب‪ .‬وهذا يدخلنا إلى المفهوم الكوانتي‬
‫للحياة‪ ،‬ولذا نقل سارتر الفلسفة إلى الشارع وكان في جلسته في مقهاه (الورد) في سانت‬
‫جيرمان في باريس يتبادل اآلراء مع القهوة والسيكار‪ ،‬ويثير الزوابع مع صديقته سيمون دي‬
‫بوفوار‪ .‬كما كان كانط يفعل في مجلسه على الغداء اليومي الذي يمتد إلى العشاء‪ ،‬والفلسفة إن‬
‫لم يكن لها عالقة بالحياة فهي ميتة ومميتة‪ .‬ولذا عنون ماركس كتابه في الرسالة التي أرسلها‬
‫لصديقه (بؤس الفلسفة)‬

‫‪243‬‬
‫(‪ )2‬هناك تقارب بين عمل الفيلسوف والروائي أو الكاتب المسرحي وهو ما شاهدناه من تنوع‬
‫المواهب سواء كان عند سارتر أو ابن خلدون‪ ،‬ولذا فالفلسفة الوجودية تتحيز للجانب الع‪OO‬املي‬
‫وتعارض (كانط) بتق‪OO‬ديم العق‪OO‬ل العملي على النظ‪OO‬ري كم‪OO‬ا كتب كان‪OO‬ط عن ( نق‪OO‬د العق‪OO‬ل العملي)‪.‬‬
‫وفي الق‪OO‬رآن ك‪OO‬ان دلي‪OO‬ل إب‪OO‬راهيم دوم‪OO‬ا على فس‪OO‬اد عب‪OO‬ادة األص‪OO‬نام من منط‪OO‬ق براغم‪OO‬اتي "ه‪OO‬ل‬
‫ينفعونكم أو يضرون؟"‬
‫(‪ )3‬الفكر الوجودي عميق التدين كما ظهر ذلك عند الفيلسوف الدنماركي كيركيجارد‪ ،‬وليس‬
‫بالضروة أن يكون على شكل إلحاد صريح كما تبدى ذلك عند سارتر‪ ،‬ولم يكن بحاجة له‪،‬‬
‫ولكنها حرية الفكر ـ كما خسر القصيمي السعودي أيضًا‪ ،‬الذي بقي على أفكاره حتى مرض‬
‫موته ـ فتعرض للهجوم من المسيحيين والشيوعيين‪ ،‬ألنه كفر بالكنيسة وستالين معًا‪ ،‬وبقيت‬
‫كتبه على القائمة السوداء في محظورات الكنيسة قبل أن يرفع عنها الحظر في الستينات‪ .‬مع‬
‫هذا فالنغمة اإللحادية هي تعبير عميق ديني من وجه عميق يخفى على الكثيرين فهو تمرد على‬
‫الطقوس وتعلق بالروح‪ ،‬وتختلف عن االتجاهات األنجلوسكسونية التجريبية في رفض‬
‫االتجاهات الدينية عموما‪ ،‬وكامو الذي أخذ جائزة نوبل أعانته رواية الطاعون التي تنم عن‬
‫"مشكلة القداسة حين تصطبغ باإللحاد"‪ ،‬وعندما أعلن نيتشه موت اإلله فهو كان يعني‬
‫الكنيسة‪ ،‬ولكنه في أعماقه كان من أشد المؤمنين‪ ،‬ولذا كان ينصح من حوله" إذا أردت أن‬
‫ترتاح فاعتقد‪ ،‬وإذا أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل؟" وهذا هو الجدل العميق بين‬
‫اإليمان والمؤسسة الدينية‪ ،‬كما هو الحال بين المنشق الكاثوليكي (هانس كونج) والبابا‪.‬‬
‫(‪ )4‬وأكثر من ذلك فقد انطلق (كيركيجارد) ليضع فلسفة جديدة لالهوت إصالحي‪ ،‬وهي تصحيح‬
‫لنزعة هيجل الجدلية وتأويلها للفكر الديني‪ ،‬ولنا أن نقول أن الفالسفة المحترفين سيجدون‬
‫دوما النماذج المعدلة للفكر الوجودي كما اكتشف ذلك (فتجنشتاين ‪)Wittgenstein‬‬
‫النمساوي في اعترافات أوغسطين‪ ،‬أو كتابات تولستوي أو تأثير الوجودية على الالهوت في‬
‫مؤلفات مثل رودلف بلتمان وبول تلتش‪.‬‬
‫مع هذا ونحن في صدد الوجودية يأتي نقد سارتر كما نقد غيره فليس من أحد فوق الخطأ أو‬
‫دون النقد‪ ،‬أنه كيف يمكن لكاتب حر مهمته األولى مقاومة التسلط على نحو راديكالي‪ ،‬أن‬
‫يتحول إلى قاض‪ ،‬فيخسر أهم أصدقائه (البرت كامو ‪ ) Albert Camus‬الحساس والذي نال‬
‫جائزة نوبل ألعماله‪.‬‬
‫هذه الشيزوفرينيا (الفصام) أو التناقض بين العبقرية والجنون هي ميزة سارتر‪ ،‬فقد كان قطب‬
‫مغناطيسي امتص كل نقائص وعيوب عصره وعاش في حربين عالميتين وشاهد خداع‬
‫الشيوعية وعاصر بدايات انهيارها‪ ،‬ولم تكن تناقضاته ببساطة مراحل مختلفة من حياته‪ ،‬بل‬
‫كان تدفقا مزدوجا معيبا مربادا كالكوز مجخيا‪ ،‬وهذا (االنشقاق) في شخصيته جعلت منه‬
‫الشخص المرغوب المرفوض‪ .‬إنه التقط ببساطة تناقضات المحيط وانعكس كل هذا على نحو‬
‫حاد في خالصة مركزة من شخصية مرهفة شديدة الحساسة‪.‬‬
‫إن هذا المزاج الفرنسي عموما من العودة األبدية إلى االحباطات والهزائم واألوهام يمثل لعنة‬
‫للفكر‪ ،‬وقد أثقل هذا إنتاج المثقفين الفرنسيين‪ ،‬مثل انهيار الشيوعية‪ ،‬وحركة العمال‪،‬‬
‫وتمردات الطلبة‪ ،‬ولذا كما يقال (رومين اليك ‪ )Romain Leick‬من مجلة المرآة األلمانية (‬
‫‪2005 | 14‬م | ص ‪ )166‬فإن مستقبل المثقفين الفرنسيين يبدو مشوشًا‪.‬‬
‫ومما ينقل األخير عن (ريجي ديبري ‪ )Regis Debray‬الذي رافق (تشي غيفارا) في حمالته‬
‫في غابات بوليفيا‪ ،‬وأصبح الحقًا مستشارا للرئيس (فرنسوا ميتران) أنها نهاية الرحلة الثقافية‬
‫في فرنسا ويرمز لها بحرفين‪.)Intellictuel Terminal=I.T (:‬‬
‫إن أبطال الفكر يرون رسالتهم كحكماء في المجتمع يواجهون األقوياء باسم المستضعفين‬
‫ليقولوا في وجوههم الحقيقة‪ ،‬ويكافحوا خونة المجتمع (المنافقون) فيقولوا لهم في أنفسهم‬
‫قوال بليغا‪ ،‬ولكن هذا يحتاج إلى تيارات اجتماعية‪ ،‬وصراعا ضاريا‪ ،‬حين يقومون بالتحليل‬
‫والوعظ في وسط يحقق صدى هائال لكلماتهم التي تتحول إلى كيانات حية‪ ،‬أما المثقفون‬

‫‪244‬‬
‫الفرنسيون كما يقول (بوردو) فهم يمشون على غير هدى بدون بوصة وخرائط ويعانون من‬
‫أزمة مستحكمة‪ .‬ولم يبق أمام المثقفون سوى االنسحاب للعمل في مؤسسات أو العمل‬
‫األكاديمي في دوائر حكومية في أرض قفراء من اإلبداع ‪ .‬أما خليفة سارتر من (ديناصورات)‬
‫الفالسفة من حجم سبينوزا وكانط من الموسوعيين فال أثر لهم في األفق‪.‬‬
‫قال سارتر عن نفسه‪ :‬لقد فوجئت بالشهرة وكان صديقي الكراهية من الجميع‪ ،‬أما الشهرة التي‬
‫أصابتني فهي أشبه بالصدفة‪ .‬لقد مات الرجل (القصير) كما كان يسميه رفاقه في المدرسة‪،‬‬
‫الذي كان موضع الكراهية‪ ،‬ولكن الشيء أبغض على النفس من النقد وال تسكر النفس بخمر‬
‫كالثناء‪ .‬واطلب من يقول لك الحقيقة ال من يفرحك‪ ،‬فهذه يقوم بها المهرجون وقصور الطغاة‬
‫عامرة بهم‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫مالك بن نبي ومشكالت الحضارة‬
‫يعتبر المفكر الجزائري (مالك بن نبي) طرازًا غير تقليدي من مفكري المسلمين المعاصرين‪،‬‬
‫وفكر الرجل وكتاباته انتشرت في الشرق أكثر من المغرب‪ ،‬ويعتبر (جودت سعيد) السوري من‬
‫أهم تالمذته المشرقين‪ ،‬وقد أكون أنا أيضًا ممن استفاد من كتابات الرجل‪ ،‬حينما زارنا في‬
‫دمشق فالزمته شهرا كامًال‪ ،‬وسافرت معه إلى بيروت‪ ،‬وكان يتابع نشر كتابه (دور المسلم في‬
‫عالم االقتصاد)‪.‬‬
‫ومما أسر إلي أيضا وأنا بجانبه في طريق السفر إلى بيروت‪ ،‬أن مدحه لعبد الناصر في كتبه‬
‫كانت زلة منه‪ ،‬وبتعبيره كان صنما ال يضر وال ينفع‪ ،‬وهذه كانت من مقاتل كتاباته؛ فقد‬
‫انصرفنا عنها لفترة طويلة‪ ،‬بسبب حساسيتنا من الطاغية الناصري‪ ،‬فقد كنا نرى بطش عبد‬
‫الناصر وبناء ديناصورات المخابرات والحبوس والفلق وزوار الفجر‪ ،‬في الوقت الذي كان مالك‬
‫بن نبي يمدحه بكلمات‪ ،‬يظن أنها ستقربه زلفا إلى الطاغية‪ .‬وأنا أعرف هذا التكتيك النفسي فهم‬
‫أي الكتاب يأخذون عبارة من مسئول أو أمير أو متنفذ أو قائدا يزعم الربوبية وامتالكه حلول‬
‫الجنس البشري بكتاب أخضر وأصفر وأحمر‪ ،‬ثم ينفخون في الجملة من المعاني التي لم تخطر‬
‫في بال القائد النكبة‪ ،‬كما هو الحال مع بن نبي والعجل الناصري؟‬
‫وكان الرجل شديد الوسوسة يرى رجال المخابرات عن اليمين والشمائل وفي المنام وحيثما‬
‫تلفت‪ ،‬وكان يغلق باب بيته بالعديد من األقفال خوفا منهم‪ ،‬واألقفال لن تغني عنهم شيئا‪ ،‬ولو‬
‫كانت أقفال خزائن قارون‪.‬‬
‫لكن الرجل أي مالك بن نبي الجزائري كان مسلم القلب مهتم بنهضة المسلمين‪ ،‬اطلع على‬
‫إضافات المعرفة اإلنسانية من العلوم الحديثة‪ ،‬وهو الذي عرفنا بتوينبي وويلز وديورانت‬
‫والعديد من مفكري الغرب الفطاحل‪.‬‬
‫ذكر بن نبي في كتابه األفروـ آسيوية "أن إنسانًا يجهل إضافات القرن العشرين للمعرفة‬
‫اإلنسانية ال يدخل بين الناس إال ويجلب السخرية على نفسه"‪.‬‬
‫وكان من ناحية المهنة مهندسا كهربائيًا‪ ،‬إال أنه مارس حرفة الفكر أكثر من مهنة الكهرباء‪.‬‬
‫كما هو الحال معي والطب فأنا عشرة بالمائة مني جراح أوعية والباقي للفكر والكتابة‪،‬‬
‫وسخرت الطب للعلوم اإلنسانية كما فعل (هربرت سبنسر) بربط علوم البيولوجيا إلى علم‬
‫االجتماع‪ ،‬أو هكذا أزعم؟‬
‫عاش بن نبي فترة االستعمار الفرنسي‪ ،‬وأحزنه تخلف المسلمين‪ ،‬وشارك في النضال‬
‫السياسي‪ ،‬ودخل مصر الجئًا سياسيًا‪ ،‬وكتب قسمًا من كتبه باللغة الفرنسية التي كان يتقنها‪،‬‬
‫وكان يعرف الحضارة الغربية كخبير وليس كسائح‪ ،‬وزوجته األولى كانت فرنسية مسلمة‬
‫عاشت معه المعركة الفكرية وهموم المطاردة والتنقل‪ ،‬وماتت وتمنيت أنه أعطانا فكرة عنها‬
‫ولكن في كتابه عن القرن العشرين لم يشر لها بأكثر من عبارات محدودة ولم ينجب منها على‬
‫ما يبدو‪.‬‬
‫وبعد فترة االستقالل الجزائري عين وزيرا للتربية لفترة‪ ،‬ولم ينتشر فكر هذا الرجل على أهميته‬
‫إال قليًال‪ ،‬وكتاب مثل (طبائع االستبداد ومصارع االستعباد) للكواكبي الحلبي‪ ،‬موجود في كل‬
‫مكتبة‪ ،‬بقدر وجود االستبداد السياسي في كل قطر عربي‪ ،‬مما يدل على أن أعظم الكتب ال‬
‫يستفيد منها الحمار الذي يحمل على ظهره أسفارًا‪.‬‬
‫وأمة العربان حاليا أمة الغربان أمة أمية ال تقرأ وال تكتب بل تحملق في دجاجلة الفضائيات‬
‫ببالهة والمغنيات بأجسادهن؟؟ والكتب التي تطبع على جالل قدرها ألف نسخة ؟؟‬
‫وأهم خمسة أفكار طرحها الرجل هي‪:‬‬
‫ـ فكرة (عالقة الحق بالواجب)‬
‫ـ و (المعرفة التاريخية)‬

‫‪246‬‬
‫ـ و(نهاية القوة)‬
‫ـ و(عالم األشخاص واألفكار واألشياء )‬
‫ـ و(القابلية لالستعمار)‪.‬‬
‫فهو يرى أن من يقوم بواجبه تنشق له السماء ويأتيه حقه‪ ،‬فالحقوق ال تؤخذ وال تعطى‪ ،‬بل‬
‫هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب‪ ،‬وهو أول ما علمه النبي ص أتباعه‪ ،‬وكانوا رضوان هللا‬
‫عليهم يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع‪.‬‬
‫وأن الحركات السياسية ضللت الشعوب بمنطق سقيم بالمطالبة بالحقوق‪ ،‬وأن ثالث معادالت‬
‫تحكم عالقات الواجبات والحقوق‪ ،‬ففي التساوي يحافظ المجتمع على خط السواء‪ ،‬وفي حال‬
‫فائض الواجبات يحلق ويصعد‪ ،‬وعندما تزداد وتيرة المطالبة بالحقوق يكب المجتمع على وجهه‬
‫في ليل التاريخ؟‬
‫وعن (المعرفة التاريخية) حلل بن نبي حركة المجتمع اإلسالمي‪ ،‬أنه في دورة ذات أربع‬
‫مراحل‪ :‬الروح والعقل والغريزة واالنبعاث‪.‬‬
‫وانه توقف مع معركة صفين عام ‪ 32‬هـ فكانت أعظم من معركة عسكرية‪ ،‬حيث تزحزح مفهوم‬
‫القيم في المجتمع اإلسالمي كما عبر عنها (عقيل ابن أبي طالب) أن صالته خلف علي أقوم‬
‫لدينه‪ ،‬وان تعاونه مع معاوية أنفع لمعاشه‪ ،‬وكان هذا إيذانا بانشقاق الضمير اإلسالمي بين‬
‫الواقع والمثال‪ ،‬وكل ذيول هذه الكارثة ما زلنا نعاني منها حتى اليوم بتعانق الجبت والطاغوت‬
‫(المفتي الديني والطاغية السياسي)‬
‫قال بن نبي ثم كانت(لحظة) ابن خلدون حيث انكسر مخطط الحضارة اإلسالمية حتى انطفأت‪.‬‬
‫ولذا فهو كتب كل شيء وفسر كل شيء في نقطة االنبعاث الحضارية‪ ،‬بما فيها الغناء‬
‫والموسيقى‪ ،‬حينما سئل عن الحرام والحالل فيها فقال‪ :‬أنا أنظر للمسألة من زاوية الحضارة؛‬
‫فحين تنحط الحضارة تخرج نغما سقيما‪ ،‬وحين تنهض الروح يخرج اللحن أعذب ما يكون‪.‬‬
‫وفي هذه النقطة اشتبك مع األصوليين الذين ينفون سمة الحضارة عن أي مجتمع ما لم يكن‬
‫إسالميًا‪ ،‬وهو ما تورط فيه (سيد قطب) حينما خرج بكتاب له بعنوان نحو حضارة إسالمية؟ ثم‬
‫غير العنوان إلى نحو مجتمع إسالمي‪ ،‬وقال في تبرير التغيير إن كلمة إسالمي تعني تلقائيا‬
‫الحضارة‪ ،‬مما دفع مالك بن نبي للتعليق عليها‪ :‬أنها آليات غير ذكية للتعويض النفسي‪.‬‬
‫أما نهاية القوة فقد وصل التاريخ اإلنساني مع السالح النووي أن القوة ألغت القوة‪ ،‬وأن عالم‬
‫الكبار يضحك على عالم الصغار فيبيعه سالحا انتهى وقته (‪ )expired‬مثل األدوية الفاسدة؛‬
‫فيبيعه بباهظ الثمن ويأكل السحت بال أخالقية‪.‬‬
‫ولذا فالعالم اليوم شريحتان؛ من طلق القوة وهو يملكها‪ ،‬ومن يتلمظ لها وال يملكها‪ ،‬ويحل‬
‫مشاكله بالقوة في عجز أخالقي مبين‪ ،‬وهي شريعة المتخلفين‪ ،‬كما حلت مشكلة الحوثيين في‬
‫اليمن‪..‬‬
‫الحرب هي أسلوب المتخلفين في حل المشاكل‪ ،‬أو تأديب المتخلفين‪ ،‬أو شريعة بوش نصف‬
‫المعتوه ربع المجنون ثلث العصابي‪..‬‬
‫تأمل وجهه فقط لتقرأ سيماء الجنون‪..‬‬
‫أما عالم األشخاص واألفكار فقصة حزب هللا خير مثال‪ ،‬عن مجتمع طفولي يعبد الشخصيات‪،‬‬
‫والطفل يمر بهذه المراحل قبل النضج‪ ،‬والعالم العربي يسبح في وثنية من هذا النوع‪..‬‬
‫أما القابلية لالستعمار فهي مرض انحطاط حضاري يستجلب العدو الخارجي وقدوم أمريكا إلى‬
‫العراق خير نموذج‪ ،‬والسؤال هو ليس لماذا جاءت؟ بل لماذا يجب أن تأتي؟ كما تنحط النسور‬
‫على الجيف؟؟‬
‫والبلد الطيب يخرج نباته والذي خبث ال يخرج إال نكدا‪..‬‬

‫‪247‬‬
‫الفيلسوف والفيزيائي هايزنبيرج‬
‫في شهر أغسطس آب من عام ‪ 1939‬م سافر الفيزيائي األلماني (فيرنر هايزنبرغ) إلى أمريكا‬
‫ليلتقي بصديقه ( انريكو فيرمي ) ‪.‬‬
‫األول فيزيائي فيلسوف ‪ ،‬طَّو ر مع زميله البريطاني ( بول ديراك ) ميكانيكا الكم‪ ،‬وانفرد‬
‫بتأسيس مبدأ فلسفي فيزيائي بتدشين مبدأ االرتياب أو الاليقين في حركة اإللكترون‪.‬‬
‫وفيرمي يعتبر أول من بنى مفاعل نووي في تاريخ العلم عام ‪ 1942‬م‪ ،‬عندما هتف لروزفلت‬
‫(رسا المالح اإليطالي على األرض الجديدة) ‪.‬‬
‫كان سفر هايزنبرغ لسبب غريب‪ ،‬وحديثه مع فيرمي أدعى للعجب‪ ،‬سَّج له في كتاب فيزيائي‬
‫وليس سياسي (الكل والجزء ـ محاورات في الفيزياء الذرية)‪ .‬في فصل تصرف األفراد حيال‬
‫الكارثة السياسية‪.‬وصف هايزنبرغ شعوره على النحو التالي‪ :‬كيف يتصرف اإلنسان في‬
‫العاصفة؟‬
‫أول شيء إيجاد مكان آمن لعائلتي‪ ،‬في جبال بافاريا‪ ،‬عندما تنهدم المدن األلمانية بقنابل‬
‫الحرب‪ ،‬والشيء الثاني توديع أصدقائي الذين أحب‪ ،‬فقد ال نجتمع وتطوينا لجة الموت! يعقب‬
‫فيرمي متسائال؟ الحرب قادمة إذًا؟‬
‫يجيب‪ :‬إنها سحب قاتمة أراها قادمة عبر األفق‪ ،‬والذين يعلمون مشفقون منها ويعلمون أنها‬
‫الحق‪.‬‬
‫يسأل فيرمي‪ :‬أتوقع أن تبقى في أمريكا فهي فرصتك للنجاة؟‬
‫يجيب هايزنبرغ‪ :‬سأعود العتبارين؛ بناء جيل جديد من الشباب األلمان العلماء بعد أن تضع‬
‫الحرب أوزارها‪ ،‬ثم إن اإلنسان وفي سن محددة‪ ،‬ينشأ أفضل ما يكون في حوض ثقافي بعينه‪،‬‬
‫شكل قدره‪ ،‬يكون أعظم ما يؤثر فيه أو يتأثر منه‪ ،‬وقد تجاوزت هذه السن‪ ،‬لربما كان علي أن‬
‫أغادر ألمانيا قبل عشر سنوات‪ ،‬لقد تأخر الوقت كثيرًا اآلن‪.‬‬
‫يسأل فيرمي‪ :‬طالما كانت الحرب واقعة‪ ،‬هل تعتقد أن النازي سينتصر فيها؟‬
‫يجيب هايزنبرغ بهدوء‪ :‬سيهزم األلمان بسبب بسيط‪ ،‬أن الحرب تدار اليوم بالتكنولوجيا‪،‬‬
‫وألمانيا ليس لها طاقة الحلفاء تكنولوجيًا؟‬
‫ثم يختم حديثه بهذه العبارة‪ :‬وهتلر يعلم هذه الحقيقة ‪...‬‬
‫ولكن يا صديقي انريكو متى كانت الحرب عقالنية ؟‬
‫الحرب جريمة وجنون وإفالس أخالقي أيا كان شاعلها ومحرضها وممونها؟‬
‫تقوم على إيذاء أو أفناء اآلخر‪ ،‬ومع هذا فاإلنسان يمارسها؟!‬
‫والحرب تقوم على تحطيم إرادة اآلخر‪ ،‬حسب مقولة منظر الحرب الضابط األلماني‬
‫(كالوسفيتز)‪( :‬أنها استمرار للسياسة بوسائل جديدة ‪ ،‬تهدف في النهاية الى تطويع إرادة‬
‫الخصم إلرادتنا)؟ ولكنها تبرمج لجولة جديدة من الصراع ‪ ،‬هي أشد هوًال وأعظم نكرًا‪ ،‬ومع‬
‫ذلك يتدافع البشر الى مذبحها كالمسحورين‪.‬‬
‫والحرب تقوم على إلغاء المبادرة البشرية‪ ،‬واالستقالل الفردي‪ ،‬وكل ضروب الوعي والحرية‬
‫واإلرادة‪ ،‬محولة قطيع األفراد‪ ،‬تحت هلوسة جماعية‪ ،‬إلى كتلة لحمية منضدة‪ ،‬على شكل‬
‫مطرقة‪ ،‬بيد واحدة‪ ،‬محرومة من النقد والمراجعة والتشكيك؟ جاهزة للهرس والسحق‪ ،‬تعمل‬
‫بقوانين الفيزياء‪ ،‬استلب منها آخر شعاع من العقل ‪ ،‬تطيع بدون تفكير‪ ،‬وتقتل بدون تردد‪ ،‬من‬
‫تعرف وال تعرف‪ ،‬طاعة لألوامر‪ ،‬تحت مقولة (نفذ ثم اعترض)‪.‬‬
‫الحرب ليست عمًال عفويًا طائشًا الإراديًا‪ ،‬بل يدخلها اإلنسان بكامل وعيه‪ ،‬يخطط لها ويبرمج‪،‬‬

‫‪248‬‬
‫يستعد لها وينفق‪ ،‬ثم يدخلها فيمارس القتل‪ ،‬في صورة جنون‪ ،‬يمارسها بشر خارج المصحات‬
‫العقلية‪.‬‬
‫طَّو ر (فرتز هابر) الكيميائي األلماني في ظروف الحرب العالمية األولى ثالث أفكار‪ :‬استخراج‬
‫البروتين من نشادر الهواء‪ ،‬وأمالح الذهب من ماء البحر‪ ،‬ولكن أهمها كانت صناعة الغازات‬
‫السامة؛ فهو أبوها‪.‬‬
‫وخرج بنفسه يراقب تطبيقها الميداني‪ ،‬في سحب الموت الصفراء من الكلور وغاز الخردل‪،‬‬
‫تزحف فوق خنادق الجنود‪ ،‬إلى حلوقهم فيختنقون‪ ،‬وعيونهم فيعمون‪ ،‬وأعصابهم فيشلون‪.‬‬
‫في نفس الفترة خرجت داعية سالم مميزة هي (بيرتا فون سوتنر) فُم نعت من الخطابة‪ ،‬وفي‬
‫بيتها حجرت‪ ،‬وحصل ما توقعت؛ فجنراالت الحرب الذين توقعوا للحرب أن تنتهي في خمسة‬
‫أسابيع على أبعد تقدير‪ ،‬استمرت خمس سنوات ‪ ،‬مألت قبور األرض بماليين الشباب‪ ،‬وفي‬
‫معركة السوم لوحدها وخالل ستة أشهر ‪ ،‬مات ( ‪ ) 1250000‬مليون ومائتين وخمسين ألفًا‬
‫بين بريطاني وفرنسي وألماني‪ ،‬حصدت الرشاشات األلمانية في أحدى الوجبات الدسمة‪ ،‬في‬
‫مدى ‪ 12‬ساعة ‪ 56 ،‬ألفًا من خيرة أبناء بريطانيا‪ ،‬انتقاهم الجنرال (كيتشنر) على عينه‪ ،‬ولم‬
‫يكونوا من أبناء المستعمرات ‪.‬‬
‫وكرر الحمقى من اإليرانيين والعراقيين قصص خنادق الحرب العالمية األولى عام ‪ 1916‬م بعد‬
‫سبعين سنة ‪ ،‬في معارك كربالء والقادسية ‪ ،‬في ثماني سنوات عجاف‪ ،‬دامت أطول من الحرب‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬بكلفة فاقت ‪ 400‬مليار دوالر‪ ،‬وبقرابين بشرية وصلت المليون‪.‬‬
‫كانت الحرب فيما مضى تؤدي دورها كمؤسسة‪ ،‬إلى أن أصبحت كائنًا خرافيًا‪ ،‬كما لو رأينا‬
‫إنسانا ‪ ،‬بطول ‪ 200‬متر ‪ ،‬ووزن ‪ 400‬طن ‪ ،‬يدب في احد أزقة المدينة ‪ ،‬مثل قصص جوليفر؟‬
‫إن مؤسسة الحرب ماتت‪ ،‬على الرغم من اختالجات نزعها األخير في مناطق المتخلفين في‬
‫العالم وتصعد اليوم أمم بدون أي سالح وحروب تحري ‪ ،‬كما في اليابان وألمانيا‪ ،‬وتنهار أمم‬
‫تملك كل السالح بدون أي هجوم خارجي‪ ،‬مثل االتحاد السوفيتي‪.‬‬
‫ولكن عالم الكبار يريدنا أن نبقى ألطول فترة‪ ،‬مخدرين تحت أثر سحر ملك الجان‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫ديورانت المؤرخ والفيلسوف‬

‫تمنيت عندما كنت أقرأ البداية والنهاية البن كثير أو تاريخ ابن األثير في عملهم‬
‫الموسوعي أن لو تابعهم أحد فكتب وفصل في مجلدات كبيرة استعرض فيها التاريخ‬
‫اإلنساني كما فعلوا‪ .‬وهم في الحقيقة وبالنسبة إلمكانية عصرهم من بعد الشقة‬
‫وتباعد المسافات وخطر السفر وعدم توفر المراجع يتعجب المرء من غزارة‬
‫إنتاجهم‪ .‬ولكن ما فعله (ويل ديورانت) شيء مذهل وهو يروي عن نفسه أنه بدء‬
‫بما سماها (بيضة الذهب) فقد كتب في الفلسفة قبل التاريخ وكنا محظوظين بميوله‬
‫الفلسفية ألنه كتب التاريخ بعد ذلك على قدر كبير من النضج وبهذه األدوات‬
‫الممتازة من المعرفة الموسعة‪ .‬يقول ديورانت إن كتابه (قصة الفلسفة) القى رواجًا‬
‫غير عادي مما در عليه من الربح الشيء الكثير بحيث وفر له من سبل المعيشة أن‬
‫اليكدح في تحصيلها‪ .‬لجأ ديورانت إلى الريف األمريكي الهاديء فاعتكف لمدة‬
‫نصف قرن إلنتاج كتابه الضخم (قصة الحضارة) وحسبما ذكر عن نفسه فإنه كان‬
‫يقرأ خمسة آالف كتاب قبل أن يكتب مجلدًا واحدًا وبالمناسبة فقد كتب ‪ 42‬مجلدًا‬
‫عن الحضارة ومن المحزن أنه انتهى عند عصر الثورة الفرنسية ولم يتابع ألنه‬
‫شعر أنه لم يعد يستطيع أن يتابع أكثر من ذلك لضخامة المهمة وتشعبها وهي‬
‫خسارة كبيرة من رجل استوعب العمل التاريخي ونضج فيها وعسى أن يسخر هللا‬
‫للمستقبل إنسانًا يستطيع أن ينجز هذه المهمة‪ .‬وعندما كنت عند صديقي صالح قال‬
‫لي إنني أستمتع بما تكتب ولكن (البيوغرافي) أي سير حياة الشخصيات الهامة‬
‫أصبحت من أكثر الكتب المباعة في السوق األجنبية فاعترفت له بذلك وهو في‬
‫الواقع لفت نظري إلى هذا الجانب الحيوي ومازلت أتذكر نفسي وأنا شاب يافع أن‬
‫عددًا من الرجال أثر في على نحو كبير وخلع على تصرفاتي تغيرا ملحوظًا فوعدته‬
‫بالكتابة في هذا الموضع وسأحاول من حين آلخر استعراض حياة بعد الرجال‬
‫الهامين على األقل في جانبه الحيوي الذي يفيد القاريء‪ .‬كتب التاريخ تمتاز بأنها‬
‫تكتب على نحو مختلف فمثل الكاتب البريطاني (ويلز) قام بجهد خارق ومضغوط‬
‫الستعراض كل التاريخ بدء من الخاليا الوحيدة على األرض إلى اإلنسان وكل ذلك‬
‫في أربعة مجلدات وهو جيد ألنه يعطي تصورًا عامًا (بانوراما) عن كل رحلة‬
‫الحياة‪ .‬أما المؤرخ (توينبي) فقد حرص في دراسة موسعة استغرقت أيضًا قريبًا‬
‫من نصف قرن أن يفهم ظاهرة الحضارة ومن هنا كان كتابه هامًا في التحليل‬
‫التاريخي وإدراك قوانين حركته‪ ،‬وأما كتاب قصة الحضارة لديورانت فهو سرد‬
‫طويل مع تحليل ممتع فجمع بين فضيلتي سرد األحداث والتعليق الفلسفي ومحاولة‬
‫إنصاف كل حضارة وهو قام بعشرات الزيارات قبل أن يكتب سطرًا واحدًا مما‬
‫يذكرنا بجهود علماءنا األسبقين‪ .‬وإن اإلنسان ليتعجب من هذا الجهد العمالق الذي‬

‫‪250‬‬
‫قام به فرد واحد ولكن العمل العبقري يتكون في دماغ واحد‪ .‬إن متعة القراءة في‬
‫هذا الكتاب الموثق والمترجم إلى العربية بغير حدود ويجب لكل طالب للثقافة أن‬
‫يضع له برنامجًا خاصًا في حياته لقراءته كله وهو أقل ما يفعله أمام من جمعه‬
‫وكتبه‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫أبو حيان التوحيدي‬
‫أرسلت لي قارئة متتبعة أفكارها عن الفنان وذكـرت في نهايـة كالمهـا أفكـارا تـدعو للحـزن عن‬
‫أبي الحيان التوحيدي‪ .‬فأما الفنان عمومًا فقد تحدث عنه لورنس داريل فقد وصفه بهذه العبارة‪:‬‬
‫"ال يستطيع أي إنسان أن يمتلك الفنان"‪ .‬وتقول األخت أن لورنس داريل هذا فشلت كل زيجاتــه‬
‫وعاش أكثر من ثالثين سنة في قرية صغيرة منعزلة في جنوب فرنسا‪ ،‬اسمها "ســومير"‪ .‬وقــد‬
‫مات هذا األديب الذي ُيعتبر من أكبر أدبــاء العــالم المعاصــرين وحيــدًا وغريبـًا‪ .‬وكــان يقــول عن‬
‫نفسه‪" :‬إن حياتي رتيبة ولكن الرتابة هي ما تفرضه الكتابة على كــل صــاحب قلم وبســبب هــذه‬
‫الرتابة هربت زوجاتي األربــع‪ .‬وتركنــني وحيــدًا فلم يكن في اســتطاعة إحــداهن أن تتحمــل هــذه‬
‫الحياة الرتيبة المملة"‪ .‬وتضيف األخت فتقول أن داريل تعّو د قبل سنوات بعيــدة من رحيلــه على‬
‫برنامج يومي ال يتغيرفهو يستيقظ في الرابعة والنصــف صــباحًا وفي الخامســة يمــارس رياضــة‬
‫اليوغا الهندية المعروفـة مـدة سـاعة وهي تشـبه صـالة الصـبح عنـدنا‪ .‬وكـان يقـول إن اليوغـا‬
‫تساعده كثيرًا على التخفيف من مرض الربو الذي ظل يعانيه حتى نهاية حياته‪ .‬وتضيف الكاتبة‬
‫فتقول أن هناك سؤال لطالما حار فيه البـاحثون‪ :‬هـل هـو قـدٌر أن يعيش المبـدع الحقيقي وحيـدًا‬
‫ومنعزًال وفريدًا ومتوحدًا مع نفسه؟ ولإلجابة على هذا الســؤال تضــيف القارئــة فتقــول يبــدو أن‬
‫أكثر األدباء والعلماء والمخترعين كانوا منصرفين للبحث والعمل‪ ،‬ولم تكن لهم حياة خاصة‪ ،‬أو‬
‫صداقات عميقة‪ ،‬إّال في ما ندر‪ .‬وأنا شخصيا زرت المفكر إبــراهيم محمــود في مدينــة القامشــلي‬
‫السورية وسألت عنه فلم يعرف جيرانه منزله فلما دخلنا بيته المتواضع واجهتنا مكتبــة متخمــة‬
‫في غرفة بسيطة يتوسطها مائدة متواضعة للكتابة‪ .‬قلنــا لــه لم يعرفــك جيرانــك؟ قــال معــارفي ال‬
‫يزيدون عن عشرة اشخاص وأصدقائي الكتب ومعــارفي من يقــرأ لي ويراســلني‪ .‬وأكــثر النــاس‬
‫زهدا في العالم أهله ومن حوله‪ .‬ويعيش الكــاتب أو المفكــر على ســحر الغيــاب وهالــة الغمــوض‬
‫والكثير من المفكرين عنــدما يعيشــون من النــاس يصــبحون عــاديين‪ .‬وفي النهايــة تــذكر األخت‬
‫شيئا عن أبي حيـان التوحيـدي فقـد بـدأ كتابـه "رسـالة الصـداقة والصـديق"‪ ،‬في بدايـة شـبابه‬
‫وأنهاه في أواخر حياته‪ .‬وفيه يقول‪" :‬قبل كل شيء‪ ،‬ينبغي أن نثق بأنه ال صديق وال من يتشبه‬
‫بالصديق"‪ .‬وقد اعتزل في بيته‪ ،‬ورفض مجالسة الناس‪ .‬وقال حين عاتبوه لعزلته‪ :‬لقد صــحبت‬
‫الناس أربعين سنة‪ ،‬فما رأيتهم غفـروا لي ذنبـًا‪ ،‬وال سـتروا لي عيبـًا‪ ،‬وال حفظـوا لي غيبـًا‪ ،‬وال‬
‫أقالوا عثرة‪ ،‬وال رحموا لي عبرة‪ ،‬وال قبلوا مني عذرة‪ ،‬وال فّك وني من أســرة‪ ،‬وال جــبروا مــني‬
‫كسرة‪ ،‬وال بذلوا لي نصرة‪ ،‬ورأيت الشغل بهم تضييعًا للحياة‪ ،‬وتباعــدًا عن هللا تعــالى‪ ،‬وتجُّر عـًا‬
‫للغيظ مع الســاعات‪ ،‬وتســليطًا للهــوى في الهنــات بعــد الهنــات"‪.‬وبــالطبع‪ ،‬مــا دفــع التوحيــدي‪،‬‬
‫لتأليف هذا الكتاب‪ ،‬إحساسه بالخيبة والمرارة‪ ،‬وتنُّك ر أقرب النـاس لـه‪ .‬وهـذا مـا دفعـه إلحـراق‬
‫كتبه في أواخر حياته‪ ،‬قائًال لمن المه على ذلك‪" :‬كيف أتركها ُألنــاس جــاورتهم عشــرين ســنة‪،‬‬
‫فما صَّح لي من أحدهم وداد؟"‪ .‬وهــذا الكالم هــو وحي تجربــة خاصــة بالرجــل ال تصــلح للتعميم‬
‫وأفضل الصداقات ما جاءت في المشاركة في محنة عارمة مشتركة‪ .‬وقد تكون نظرة "أيوحيــان‬
‫التوحيدي" تشاؤمية إلى أبعد حد‪ .‬فلو خليت لخربت كما يقولــون‪ .‬لكن تبقى حقيقــة واحــدة‪ ،‬هي‬
‫أن معظم المبدعين يشكون من عدم الوفاء واإلخالص والحب الحقيقي‪ .‬والنكـران أيضـًا‪ .‬قـدرهم‬
‫أن يبدعوا في كل المجـاالت وأن يتعـذبوا بوحـدتهم وأن نسـتمتع نحن في مـا بعـد بهـذا العـذاب‪.‬‬
‫وهذا الكالم فيــه قــدر من الحقيقــة وليس كــل الحقيقــة‪ .‬واألخالء يومئــذ بعضــهم لبعض عــدو إال‬
‫المتقين‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫لماذا قتل ابن المقفع؟‬
‫يروي الجاحظ في كتابه (الحيوان) ‪(:‬أن أبا أيوب المورياني وزير المنصور بينا هــو جــالس في‬
‫أمره ونهيه إذ أتاه رسول أبي جعفر المنصور فامتقع لونه وطارت عصافير رأسه‪ ،‬وذعر ذعــرًا‬
‫نقض حبوته واستطار فؤاده فتعجبنا من حاله‪ ،‬وقلنا له‪ :‬إنك قريب المنزلــة فلم ذهب بــك الــذعر‬
‫واستفزعك الوجل؟ قال سأضرب لكم مثًال من أمثال الناس) يمضي بعــدها الجاحــظ فــيروي عنــه‬
‫قصة (البازي والديك) فيتهم األول الديك أنــه قليــل الوفــاء‪ ،‬فبعــد احتضــان بيضــته وإطعامــه من‬
‫األكف صار اليدنو منه أحد اال وارتعب وطار يمينًا وشماًال‪ ،‬أما (البازي) فهــو يقنص الصــيد من‬
‫الجو فيحضــره لســيده‪ .‬قــال الــديك‪ :‬ولكنــك هــل الحظت أن من يشــوى على الســفافيد هم الديكــة‬
‫وليسوا الصـقور (إنـك لـو رأيت من الـبزاة في سـفافيدهم مـارأيت من الـديوك لكنت أنفـر مـني)‬
‫يلتفت الوزير المورياني الى الجاحظ وأصحابه معقبًا‪( :‬لـو علمتم مـاأعلم لم تتعجبـوا من خـوفي‬
‫مع ماترون من تمكن حالي)‪ .‬كانت نهاية الوزير بحد السيف ولم يكن مصيره استثناًء فقد تتــابع‬
‫مسلســل قتــل الــوزراء بشــكل درامي بــئيس في العصــر العباســي‪ ،‬فكــل من وزراء الســفاح‬
‫والمنصور والمهــدي والرشــيد والمــأمون انتهت حيــاتهم بحــد الســيف قتًال‪ ،‬بــدًء من أبــو ســلمة‬
‫الخالل وانتهاء بالفضل بن سهل‪ ،‬ويـروي (التنـوخي) قصـة الـوزير والقـرد والقـَّر اد على شـكل‬
‫مضحك‪ ،‬فقــد اجتمــع النــاس في شــارع ببغــداد والقـَّر اد يقــول للقــرد‪ :‬هــل تريــد أن تكــون بــرازًا‬
‫فيوميء القرد برأسه نعم‪ ،‬فيكرر القراد هل تريد أن تكون عطارًا فيرد برأسه نعم‪ ،‬فمازال يكــرر‬
‫عليه طرفًا من الصنائع وهو يهــز برأســه نعم‪ ،‬حــتى إذا ذكــر الــوزير انجفــل فقــال‪ :‬ال ‪ .‬ويصــيح‬
‫ويعدو بين يدي القراد فيضحك الناس‪.‬‬
‫من المفيد للمـرء التشـبع بـالوعي التـاريخي وأن يحـاول تصـور الجـو الـذي عـاش فيـه النـاس‬
‫فوضعنا المأساوي الحالي لم يولد من رحم التاريخ من الشيء‪.‬‬
‫إن قصة (المورياني) هي عينة من ذلك الجو الذي عاشه الناس في العصر العباسي الذي دشــنه‬
‫(ابراهيم اإلمام) بتوجيه تعليماته ألبي مسلم الخراساني على الشكل التالي‪( :‬إن استطعت االتــدع‬
‫بخراسان أحد يتكلم العربية اال قتلته فافعل‪ ،‬وإيما غالم بلغ خمسة أشبار تتهمــه فاقتلــه‪ ،‬وعليــك‬
‫بمضر فإنهم العدو القريب الدار فأبد خضراءهم والتدع على األرض منهم ديارا)‪.‬‬
‫يروي لنا التاريخ أن جو التجسس (الوشاية) وقتل النـاس على الشـبهة بالزندقـة بسـبب عـداوة‬
‫شخصية كان أمرًا يوميًا كما حصل لدماغ فذ خسرناه هو (ابن المقفع) ‪.‬‬
‫جو الرعب الذي عاصره الجاحظ وابن المقفع مع تأسيس الدولــة العباســية الــتي جــاءت إلقامــة‬
‫العدل ينعكس في بعض الروايات‪ ،‬ويؤكد قاعدة أن من أخذ السيف بالســيف يهلــك‪ .‬وأن االنقالب‬
‫العباسي لم يزد األمور اال بؤسًا‪ ،‬وعن طريق المنهاج النبوي االبعدًا‪.‬‬
‫سئل (العتابي) لماذا التتقرب بأدبك الى السلطان؟ فيكون جوابه‪(:‬إلني رأيتــه يعطي عشــرة آالف‬
‫في غير شيء‪ ،‬ويرمي من السور في غــير شــيء‪ ،‬وال أدري أي الــرجلين أكــون؟) ‪ .‬أن العتــابي‬
‫كان أعقل من عشرة وزراء‪.‬‬
‫أما (المفضل الضبي) فيدعوه رسول المهدي فيظن أنه المـوت‪ ،‬فيتطهـر ويلبس ثـوبين ويسـتعد‬
‫للنطــع والســيف‪ ،‬فاليعــرف مــانوع الوشــاية الــتي وصــلت الخليفــة‪ .‬ولكن مفاجــأة ســعيدة كــانت‬
‫بانتظاره‪ ،‬فالمهدي كان في مزاج جيد‪ ،‬فســأله عن أفضــل بيت قالتــه العــرب في الفخــر! لم يهــدأ‬
‫روعـه تمامـًا فقـد يكـون اسـتدراجًا‪ ،‬ولكن تتـابع االسـئلة عن الشـعر طمأنتـه أن ليس في األمـر‬
‫مكيدة‪ ،‬فلما سأله في النهايــة إن كــان بحاجــة لشــيء‪ .‬قــال نعم إنــه الــدين قــد ركبــني‪ .‬فيــأمر لــه‬
‫الخليفة بثالثين ألف درهم‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫إننا أمام مثقفين مفلسين وخلفاء يملكون الرقاب واألموال‪.‬‬
‫ولم تكن نهاية المثقف (الفضيل بن عمران) سعيدة على هذه الشاكلة فقد وشي به الى المنصور‬
‫أنه يعبث بغالمه جعفر‪ ،‬وكان الفضيل كاتب ابنه جعفر‪ ،‬والكاتب كان مثقف العصر يومها قد اخذ‬
‫من كل علم بطرف‪ .‬أرسل المنصور اثنين من الزبانية وأوصاهما بحــرص أن يقتلــوه ولــو تعلــق‬
‫بالغمام‪ .‬ويتدخل شخص فيصف الفضيل أنه (رجل عفيف دين) وأنــه (أبــرأ النــاس ممــا رمي بــه‬
‫وقد تعجلت ياأمير المؤمنين) فيرسل المنصور يعزز بثــالث قــائًال لــه‪ :‬لــك عشــرة آالف درهم إن‬
‫أنقذته فامض بخطابي بحقن دمه‪ .‬ولكن الرسول يصل وقد سفح دمه ولم يجف دمــه بعــد‪ .‬رجــع‬
‫الرسول مكسوفًا الى الخليفـة أن السـيف سـبق العـذل‪ .‬يلتفت المنصـور الى مـواله سـويد قـائًال‪:‬‬
‫ماتقول ألمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بال جرم والجناية؟ قــال ســويد‪ :‬هــو امــير‬
‫المؤمنين يفعل مايشاء وهو أعلم بمـا يصـنع‪ .‬يغضـب المنصـور ويقـول أنـا أسـألك في الخاصـة‬
‫وأنت تجيبني في العامة‪ ..‬خذوه من رجله فألقوه في نهر دجلة‪.‬‬
‫إن إعــادة النظــر في تاريخنــا الكتشــافه حقيقتــه من جديــد ضــروريًا الخراجــه من خانــة‬
‫القدسية‪ ،‬واعطاءه حقنة تواضع أنه بشــري مختلــط بمظــاهر الضــعف والقصــور وملطخ أحيانـًا‬
‫بالدم‪ ،‬وأننا مازلنا نرضع من نفس الثقافـة العباسـية بفـارق ألـف سـنة‪ ،‬وجراثيمهـا اإلمراضـية‬
‫تضرب مفاصل ثقافتنا بألم ‪.‬‬
‫وفي الــوقت الــذي كــان المغــني (ابــراهيم الموصــللي) يأخــذ من الرشــيد ‪ 200‬ألــف دينــار‬
‫مايعادل ميزانية دولة في تلك األيام‪ ،‬ويترك المنصور في خزائنه ‪ 14‬مليون دينار و‪ 600‬مليـون‬
‫درهم يفرقها المهدي بين النــاس ســوى مــاجبي في عصــره‪ ،‬كــان الشــاعر أبــو العتاهيــة يســجل‬
‫منظرًا مختلفًا لحياة الناس الغارقين في البؤس‪:‬‬
‫نصائح متواليــــــــــة‬ ‫من مبلغ عني اإلمام‬
‫إني أرى األسعـــار أسعار الرعية غاليـــة‬
‫وأرى الضرورة فاشية‬ ‫وأرى المكاسب نزرة‬
‫ئحة تمر وغاديـــــة‬ ‫وأرى غموم الدهر را‬
‫في البيوت الخاليـــة‬ ‫وأرى اليتامى واألرامل‬
‫ت ضعاف عاليــــــة‪....‬‬ ‫يشكون مجهدة بأصوا‬
‫في هذا الجو لمع ابن المقفع وترك لنا أفضل كتبه (كليلة ودمنة) الــتي جمعهــا من ثقافــات‬
‫شتى وأضاف اليها من عنده‪ ،‬وصبها في قالب بديع من إشــراق العبــارة وعمــق المعــنى‪ ،‬وكــان‬
‫يوصف أنه إذا ازدحمت المعاني في صدره توقف عن الكتابة لينتقي أفضل الكلمــات فيصــبها في‬
‫رشاقة هندسية كالبناء كل كلمة لبنة تتماسك مع األخرى‪.‬‬
‫ابن المقفع اشــتهر بكتابــه (كليلــة ودمنــة) ولم يشــتهر بكتابــه اآلخــر ( رســالة الصــحابة)‬
‫ويجمعهما هدف واحـد هـو مسـؤولية المثقـف في نقـد األوضـاع‪ .‬إن الكتـاب الثـاني اليقصـد بـه‬
‫صحابة رسول هللا ص بل بطانة الحاكم قدمه الى المنصور بكثير من المدح والحذر يطرح عليــه‬
‫خطة اصالحية متكاملة أمام الفساد العام‪ ،‬وتدل الرسالة على عبقرية مبكرة‪ ،‬نــاقش فيهــا أخطــر‬
‫أربع مسائل‪ :‬المؤسسة العسكرية (الجند) وفوضى القضاء وفساد البطانــة واالصــالح الــزراعي‬
‫(الخراج)‪ ،‬واقترح الصالح الجيش ســتة أمــور‪ :‬أن يتم تــربيتهم ليس على الطاعــة المطلقــة بــل‬
‫المشروطة في طاعة هللا فإن كانت معصية هلل فالطاعة للحاكم‪ ،‬واليعقل أن يقول أحد القــواد أنــه‬
‫لــو أمرنــا الخليفــة أن نســتدبر القبلــة في الصــالة لقلنــا ســمعنا وأطعنــا‪ ،‬فهنــا لم تعــد المؤسســة‬
‫العسكرية اسالمية بحال‪ .‬وطرح فكــرة فصــل الجنــد عن ادارة الشــؤون الماليــة فســوف تشــترى‬
‫ذممهم‪ ،‬وإلن ( والية الخراج مفسدة للمقاتلة)‪ ،‬وأشـار بمراعـاة الكفايـة في القيـادة فتسـلم على‬
‫أساس الكفاءة وليس على أساس القبلية أو الوالء‪ .‬ورأى تثقيف الجند فاليكــون الجنــدي في يــد‬
‫الخليفــة بوقـًا أو عصــا‪ .‬ونصــح بــدفع رواتبهم بــدون تــأخير‪ .‬وأوصــى بتفقــد أحــوالهم أكــثر من‬
‫الطاعة وامرهم بقتل الناس‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫كان كتاب (رسالة الصحابة) انذارًا للمنصور بوجود أدمغة واعية في المجتمع مقلقة‬
‫للنوم العام‪ ،‬ولكن الكتاب الالحق (كليلة ودمنة) كان يتكلم بلغة الطيور وحيوانات الغابة ويحمل‬
‫رسالة التوعية السياسية بعدما أصيب المجتمع بالعي والخرس‪ ،‬ثم جاءت القشة التي قصمت‬
‫ظهر البعير‪ ،‬عندما ظن عم المنصور أنه وصل الى شاطيء السالمة بكتاب األمان الذي وضع‬
‫صيغته القانونية ابن المقفع بأدبه الرائع‪ ،‬بأنه إذا أخل بشروط األمان فقتل عمه تكون زوجاته‬
‫طوالق وعبيده أحرار وليس له بيعة في أعناق الناس‪ .‬وظن ابن المقفع ان الحبر الكثيف‬
‫والورق الجيد والعبارات المنتقاة بعناية ستكون حماية من الغدر فأخطأ ودفع حياته ومن كتب‬
‫له ثمنًا لذلك‪ .‬في عصر يقوم على الغدر والقتل ومازال يلون سياستنا حتى اليوم‪ .‬وإذا علمنا أن‬
‫ابن المقفع قتل وهو دون األربعين أدركنا عظم الفجيعة في حرمان األمة من أدمغة ناضجة كان‬
‫يمكن أن ترسم مصيرا مختلفًا لألمة‪ .‬يربط الفيلسوف (برتراند راسل) بين قيام النهضة العقلية‬
‫في أوربا وحفنة من األدمغة المتميزة‪ ،‬ويقول لو تم اغتيال أصحابها لما كانت نهضة‪.‬‬
‫والمنصور وأمثاله قاموا بهذه المهمة على احسن وجه‪.‬‬

‫محنة المثقف‬
‫في مطلع مايو ‪ 2011‬م تزامنت ثالث وقائع؛ األولى في مصرع ابن الدن في إسالم أبــاد فشــرب‬
‫من نفس الكأس التي سقاها اآلخرين دهاقا‪.‬‬
‫وكانت الثورة العربية الكبرى حريقا يأكل مفاصل ثالث أنظمة في ضربة واحدة مالها من فـواق‪،‬‬
‫في ليبيا حيث المهرج بثوبه الفلكلوري وعباراته المضحكة بأفعال مرسـومة بالـدم القـاني‪ ،‬وفي‬
‫اليمن حيث الثعلب المراوغ يكافح لحظات فنائه األخير‪ ،‬وفي سوريا حيث كشر األسد عن أنيابــه‬
‫الكبيرة‪.‬‬
‫أما الحدث الثــالث فكــان اعتقــال رئيس تحريــر أكــثر الجرائــد انتشــارا في المغــرب هي المســاء‪،‬‬
‫فخدمــه خصــومه ونفعــوه من حيث أرادوا ضــره‪ ،‬ورفعــوا من قــدره أكــثر ممــا يفعــل لنفســه أي‬
‫حريص‪ ،‬بحماقة معروفة في الخصومات السياسية‪ ،‬وهكذا تحول رشــيد النيــني إلى بطــل قــومي‬
‫تأخذ كلماته صدقها من كفاحه السلمي في التعبير‪.‬‬
‫وفي هذا وعن محنة المثقف ينقل (حسين مروة) في كتابه (تراثنــا كيــف نعرفـه) محنــة المثقــف‬
‫( عبد الحميد الكاتب) أنه حين فر مع (مروان بن محمد) آخر خلفاء بني أمية أن مروان قال له‪:‬‬
‫(انج بنفسك يا عبد الحميد‪ ،‬فإنهم إن قتلوني خسرني أهلي وحــدهم‪ ،‬وإن قتلــوك خســرك العــرب‬
‫جميعًا)‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫كان على مروان أن يقول سوف تخسرك اإلنســانية‪ ،‬ألن خســارة المثقــف كمــا جــاء في الحــديث‬
‫مناحة تبكي فيها حيتان الماء وطيور السماء‪ .‬وليس غريبــا أن تــذكر اآليــة أن الظــالمين التبكي‬
‫عليهم السماء وال األرض وماكانوا منظرين‪.‬‬
‫أما مصير الخليفة األموي (مروان) فكـانت بالسـيف في قريـة بوصـير في مصـر‪ ،‬وأمـا المثقـف‬
‫(عبد الحميد) فاختفى لفــترة عنــد (ابن المقفــع) ولكن عيــون الجواســيس العباســية كــانت خلفــه‬
‫ففاجأت الرجلين في بيت ابن المقفع وهتف الجنــد أيكم عبــد الحميــد فليتقــدم؟ فــوجيء الجنــد أن‬
‫االثنين قفزا معًا كل يقول عن نفسه أنه عبد الحميد! أما ابن المقفع فكــان يريــد أن يفــدي ضــيفه‬
‫بنفسه‪ ،‬وأما الكاتب عبد الحميد فخشي أن يفرط في صــاحبه ويســارع اليــه الزبانيــة‪ .‬تقــدم عبــد‬
‫الحميد لرجال السلطة فقال‪ ( :‬ترفقوا بنا فإنا كًال منـا لـه عالمـات‪ ،‬فوكلـوا بنـا بعضـكم ويمضـي‬
‫البعض اآلخر ويذكر تلك العالمات لمن وجهكم ففعلوا وأخذ عبد الحميد)‪.‬‬
‫وفي كتــاب (وفيــات األعيــان) لـ (ابن خلكــان) يــذكر نهايــة المثقــف عبــد الحميــد أن أبــا العبــاس‬
‫السفاح الخليفة العباسي دفعه الى صــاحب شــرطته (فكــان يحمي لــه طســتًا بالنــار ويضــعه على‬
‫رأسه حتى مات) ويصفه ابن خلكان أنه‪(:‬يضرب به المثل في البالغة حــتى قيــل فتحت الرســائل‬
‫بعبد الحميد وختمت بابن العميد‪ .‬وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم واألدب أمامًا) ‪.‬‬
‫أما مصير (ابن المقفع) فتأخر بعض الشيء ولكنه قتل بأشنع من الكاتب عبد الحميد‪ .‬يقول (ابن‬
‫خلكان) أنه لما ألقي عليه القبض والي البصرة قال له (أنشدك هللا أيهــا األمــير في نفســي‪ .‬فقــال‬
‫أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد‪ ،‬وأمر بتنــور فســجر‪ ،‬ثم أمــر بــابن المقفــع فقطعت‬
‫أطرافه عضوًا عضوَا‪ ،‬وهو يلقيها في التنور‪ ،‬وهو ينظر‪ ،‬حتى أتى على جميع جسده‪ ،‬ثم اطبــق‬
‫عليه التنور‪ ،‬وقال ليس علي في المثلة بك حرج إلنك زنديق وقد أفسدت الناس)‪.‬‬
‫يقول بعض الصيادين ان األفعى عندما تقترب من فريستها تصـاب بـالرعب فال تتحـرك فتبتلعهـا‬
‫لقمة سائغة‪ .‬وأعرف من غابات ألمانيــا أن الغــزال يصــاب بصــدمة الضــوء ليًال فاليــبرح وحــتى‬
‫اليعمل السائق الحادث عليه أن يطفيء النــور فيفــر الغــزال‪ .‬وأمــام شــحنة رعب من هــذا النــوع‬
‫الذي تنقله قصص التاريخ‪ ،‬أو مانراه أحيانًا في المنطقة العربيــة يصــلح تفســيرًا لحالــة الخــرس‬
‫المطبــق للمجتمــع‪ ،‬فاالنســان يتلقى الجرعــة القصــوى من الــرعب أســلمته الى حالــة الرهــاب‬
‫المرضية‪ ،‬وقتلت المعارضة اجتثاثا‪.‬‬
‫راهن (عبد هللا بن المقفـع) على التغيـير العقلي فحـاول القيـام بمسـؤولية المثقـف في التوعيـة‪،‬‬
‫وحاول في (رسالة الصحابة) أن يتناول أهم أربع نقاط في االصالح االجتماعي‪.‬‬
‫كانت األولى في إصالح المؤسسة العسكرية‪ ،‬وناقش في الثانية مسألة (القضاء) أن يرجع فيهــا‬
‫الى المصلحة العامة والعدل وعدم مراعاة القياس الشكلي فمتى (رؤيت العدالة في غير القيــاس‬
‫يجب أن نضحي بالقياس) ويأتي ابن المقفع بمثال على ذلــك انــك لــو ســألت أحــدهم أتــأمرني أن‬
‫أصدق فال أكذب كذبة واحدة أبـدًا لكـان جـوابهم نعم‪ ،‬ولكن مـاذا تقولـون لـو أن رجًال هاربـًا من‬
‫قبضة ظالم وسألني عن مكانه وأنا أعرف مخبأه هل أدل عليه والتزم الصدق؟ ليصل في النهاية‬
‫باقتراح ما يشبه فكــرة الهيئــة التشــريعية لتقــنين القــوانين وتعميمهــا في الدولــة ويقــرر (أحمــد‬
‫أمين) في كتابه (ضحى اإلسالم) أنه (رأي له قيمته ووجاهتــه وهــو يتفــق في كثــير من نواحيــه‬
‫واآلراء الحديثة في التشريع‪ ،‬ولو عمل به المسلمون لكان له أثر كبــير في الحالــة االجتماعيــة)‬
‫ولم تذهب دعوة ابن المقفع سدى فلعل كتاب (الخراج) الذي وضعه اإلمام الحنفي (أبو يوســف)‬
‫الحقًا لتنظيم أوضاع األراضي كان من وحي فكرة ابن المقفع‪ ،‬بفارق أن ابن المقفع كان ينطلق‬
‫من تحليل عقالني بحت‪.‬‬
‫وأمــا الفكــرة الثالثــة الــتي عالجهــا فكــانت شــريحة (البطانــة) وأهميــة انتقــاء هــذه النخبــة وهي‬
‫ماعناها بعنوان الكتاب‪ ،‬فكلمة (الصــحابة) قصــد بهــا الحاشــية الـتي تحيــط بالحــاكم وتدفعــه الى‬
‫اتخاذ القرارات الخطيرة‪ ،‬فيقــرر بكــل أســف أن (الخليفــة يقــرب أوغـاد النــاس وســفلتهم فهــرب‬
‫الخيــار من التقــرب للــوالة) ويــروي أن من أتى الى دار الخالفــة أيــام الســفاح أبــوا أن يــزوروا‬
‫الخليفة لما يعلمون من بطانته وسوء سـيرتهم‪ .‬وذكـر أنـه (مارأينـا من أعجوبـة قـط أعجب من‬

‫‪256‬‬
‫هــذه الصــحابة ممن ال ينتهي إلى أدب ذي نباهــة‪ ،‬وال حســب معــروف‪ ،‬ثم هــو مســخوط الــرأي‬
‫مشهور بالفجور) ليصـل إلى نصـح الخليفـة أن ال يقـرب إليـه إال (رجًال أتى بمكرمـة عظيمـة أو‬
‫رجال له من الشرف وجودة الرأي والعمل ما يؤهله‪ ،‬أو رجال فقيها مصلحا ينتفع الناس بفقهــه)‬
‫ويقرر في عمل هذه النخبة‪ ،‬أنه (يجب أن يعين لكل منهم اختصاص في عمل اليتعداه) ما يسمى‬
‫بالتكنوقراط في أيامنا‪.‬‬
‫ويذكرنا هـذا الكالم مـع ماوصـف (عبـد الـرحمن الكواكـبي) في كتابـه (طبـائع االسـتبداد) طبقـة‬
‫الحاشية هذه أن تكون‪:‬‬
‫(النسبة بينهم في المراتب بالطريقــة المعكوســة‪ ،‬وهي أن يكــون أســفلهم طباعـًا أعالهم وظيفــة‬
‫وقربًا)‪.‬‬
‫ويصل ابن المقفع في البند الرابع من رسالته إلى فكرة اإلصـالح الـزراعي (الخــراج) أن تمســح‬
‫بشكل جيد مع التدوين الدقيق والضريبة المناسبة‪ ،‬ولكنــه اعــترف أنهــا مســألة ليســت بالســهلة‬
‫أمام خيانة مستفحلة‪.‬‬
‫يبدو أن رسالة الصحابة البن المقفع لم ترو غليلــه فاســتعان بــأدوات األدب لينتج معجــزة أدبيــة‬
‫رائعة كانت فكرة في أفالم الكرتون التي نراها عند األطفال اليوم‪ ،‬فـإذا لم ينطــق النــاس فلتنطــق‬
‫الحيوانــات‪ ،‬وإذا أصــاب البشــر الخــرس فال بــأس من إرســال األفكــار على لســان القــرد والغيلم‬
‫والببر والجرذ والسنور‪ ،‬وهكذا بدأ كتابة كليلة ودمنة‪ ،‬وذكر في مقدمتها أهدافًا أربعة‪:‬‬
‫أن يسارع الى قراءتـه أهـل الهـزل من الشـبان‪ ،‬وإظهـار خيـاالت الحيوانـات بصـنوف األصـباغ‬
‫واأللوان ليكون أنسا لقلوب الملوك‪ ،‬والثالث أن يكثر استنسـاخه فال يبطـل أو يخلـق على مـرور‬
‫األيام‪ ،‬أما الغرض الرابع فقد أخفاه واحتفــظ بــه لنفســه تحت عبــارة غامضــة (والغــرض الرابــع‬
‫وهو األقصى وذلك مخصوص بالفيلسوف)‪.‬‬
‫ويعقب احمد أمين على هذا الغــرض الخطــير (والظــاهر أن هـذا الغــرض يمكن تلخيصــه في أنــه‬
‫النصح للخلفاء حتى ال يحيدوا عن طريق الصواب‪ ،‬وتفتيح أعين الرعية حــتى يعرفــوا الظلم من‬
‫العدل‪ ،‬فيطالبوا بتحقيق العدل‪ .‬ولم يوضحه ألن في إيضاحه خطرًا عليه من المنصور ولعل هــذه‬
‫النزعة كانت من األسباب في االيعاز بقتله)‪.‬‬
‫يبدو أن كتاب (كليلة ودمنة) قتل صاحبه ولم يشفع لصاحبه نبــل أخالقــه والســعة علمــه وال أنــه‬
‫من المع الشخصيات في األدب العربي‪.‬‬
‫شعر الخليفة المنصور أن شخصيات من هـذا النـوع غـير مــرحب بهــا‪ ،‬فهــو يريــد عبيــدا وليس‬
‫مفكرين أحرارا ‪.‬‬
‫إنه يريد أدوات لالستخدام وليس إرادات لقيادة جماعية‪.‬‬
‫يصف من عاصر ابن المقفع مثل (محمد بن سالم) (سمعت مشايخنا يقولون‪ :‬لم يكن للعرب بعد‬
‫الصــحابة أذكى من الخليــل بن احمــد وال أجمــع‪ ،‬وال كــان في العجم أذكى من ابن المقفــع وال‬
‫أجمع)‪.‬‬
‫ويصـــفه الجاحـــظ‪(:‬كـــان جـــوادا فارســـا جميال) ويعجب النـــاس بأدبـــه فيســـألونه من أدبـــك؟‬
‫فيقول( نفسي إذا رأيت من غيري حسنا أتيته وإن رأيت قبيحا أبيته)‪.‬‬
‫كتاب كليلة ودمنة كان رسالة من ابن المقفع للمنصور فتسلمها بأمانــة ورد عليهــا‪ ،‬فــأوعز إلى‬
‫أحد أدواته المدعو (سفيان بن معاوية) وهو يعلم حقده عليه فيلقي عليــه القبض قــائًال‪( :‬يــا ابن‬
‫الزنديقة لأدخلنك نار الدنيا قبــل اآلخــرة) وهـو يعلم أن تهمــة الزندقـة ليس فيهــا اســتتابة‪ ،‬وهي‬
‫تهمة ال يخرج منها صاحبها إال مع خروج الروح‪.‬‬
‫إن األمة خسرت الكثير من هذه الكنــوز في جــو االســتبداد فــالمقفع قتــل وعمــره ‪ 36‬ســنة شــأن‬
‫العباقرة‪ ،‬ولكنه ترك بصمات عمله على كل األدب العالمي‪ .‬ونكاد ننسى اليــوم أنــه قتــل من اجــل‬
‫أفكاره ومن قتله‪.‬‬
‫أما ابن المقفع فيلتمع كأشد كوكب دري في السماء إضاءًة‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫يذكر (مكيافيلي) صاحب كتاب (األمير) عن الفــرق بين الدولــة العثمانيــة والفرنســية‪ ،‬أن األولى‬
‫صعب قهرها سهل االحتفاظ فيها بعــد كســرها‪ ،‬أمــا الدولــة الفرنســية فســهل كســرها في البدايــة‬
‫صعب االحتفاظ فيها بعد ذلك‪ .‬ويكشف السر عن ذلك عن طبيعة الحاكم واألمة والعالقــة بينهمــا‪،‬‬
‫أن األمة التركية غنم على رأسه راعي منفرد فإذا قتلت الـراعي وضــعت يــدك على غنم ال تملـك‬
‫حوال وال طوال‪ ،‬أما األمة الفرنسية فهي مجموعة رعيان متشاكسون على رأســهم أحــد الرعــاة‪،‬‬
‫فإذا تغلبت على راعي وقعت في مصيدة الرعيان بأيــديهم عصــي كثــيرة فتعــاوروا عليــك ضــربا‬
‫باليمين!!‬

‫‪258‬‬
‫أبو حامد اإلمام الغزالي‬
‫سمي بحق (حجة اإلسالم) فهو كتب في حياته ‪ 280‬كتابًا يتعجب االنسان من قدرة األنجاز مع‬
‫أنه اعتزل الكتابة عشر سنوات ولم يخرج بعدها اال بكتابه المنقذ من الضالل وإحياء علوم‬
‫الدين كما أنه مات صغيرًا عن ‪ 55‬عامًا فهو ولد عام ‪ 450‬هجرية ومات عام ‪ 505‬وكانت في‬
‫بدايات االجتياح الصليبي للمنطقة‪ .‬ولكن كما يبدو فإن هذه ميزة المبدعين العباقرة في قوة‬
‫األنجاز فيبارك هللا لهم في أوقاتهم والكثيرون يسألونني كيف تجد الوقت لتكتب كل هذا وعندي‬
‫من النشاطات والكتابات ماأكتبه لغير هذا المنبر فيكون جوابي إن المشكلة ليست في وجود‬
‫الوقت بل في االستفادة منه‪ .‬وفي كتاب الفلسفة للمبتدئين وهو كتاب كندي جميل باللغة‬
‫االنكليزية بحيث يمسح القاريء بسرعة وبشكل ميسر االتجاهات الفلسفية كلها عبر التاريخ‬
‫أقول وضعوا صورة كاريكاتور كيف تعرف الفيلسوف؟ هو ذلك الشخص الماشي وهو يقرأ؟‬
‫وأحيانًا يحصل معي هذا وال أزعم لنفسي أنني أصبحت تلميذًا للفالسفة‪ .‬وأرجع للغزالي فهذا‬
‫الرجل المبدع مسح الفكر المعاصر له مثل الرادار بحيث عرض لكل المدارس الفكرية‬
‫واالتجاهات التي كانت تسود عصره وكانت أربع الفرق الباطنية والفالسفة والمتصوفة وعلماء‬
‫الكالم‪ .‬يقول أنه كان يستفيد من الوقت بعد أن ينتهي من تدريس طالبه فعكف ثالث سنين بحيث‬
‫مسح الفكر المعاصر له كله‪ .‬وفي النهاية قام بحركة فكرية يتعجب منها المرء مثل لو أن مفكرًا‬
‫اطلع على الماركسية ثم وضع في النهاية كتابًا ليس لنقضها بل لشرحها بحيث تصبح مرجعًا‬
‫أكاديميًا لمن يريد االطالع على الفكر الشيوعي‪ .‬قريب من هذا فعل األمام الغزالي حينما عرض‬
‫فكر الفالسفة تحت كتاب (مقاصد الفالسفة) وهذه الخطوة تعطينا فكرة أيضًا عن مستوى‬
‫النضج العقلي والتمكن من العلوم المعاصرة وعدم الخوف من الجديد كما يحدث معنا في هذا‬
‫األيام‪ .‬حتى إذا انتهى من هذا العرض قام بهدم البناء على رؤوس أصحابه فكتب (تهافت‬
‫الفالسفة)‪ .‬في الواقع ليس من العدل والقوة أن تعرض فكر الخصم هزيًال مضَّعفًا ثم تقوم‬
‫بالهجوم عليه بل يجب عرضه كما يريده صاحبه تمامًا‪ .‬ويقول الغزالي حتى نرد على فكر ما‬
‫فيجب أن نطلع عليه ليس كما وصل اليه صاحبه فحسب بل يجب أن نزيد عليه درجة فنتمكن‬
‫منه ألبعد الحدود بحيث نعرضه كما لو أراد صاحبه عرضه ثم نقوم بإظهار الفساد الذي قام‬
‫عليه لو كان فاسدًا‪ .‬وفي الواقع فإن العمل العقلي من هذا الطراز النتحلى به اليوم بسبب التشدد‬
‫والتعصب وعدم النضج العقلي بسبب التردي العقلي العام الذي نعيشه‪ .‬وشرح المفكر مالك بن‬
‫نبي الرحلة العقلية لألمام الغزالي وقال عنها لقد بدأ جبارًا في خطواته ولكن النهاية التي‬
‫أنتهى إليها ليست بشيء في النهاية الغامضة التي انتهى بها‪ .‬فهو يقول أمام رحلة الشك وكيف‬
‫حل تناقضاتها أنها نور قذفه هللا في القلب عندما شعر أن طريق التصوف يقوم ليس على‬
‫الحجج البرهانية بل (السلوك) وهذا يقوم على تجربة شخصية بحتة وليس حجج عقالنية يمكن‬
‫ان يستفيد منها كل أحد‪.‬‬

‫المنقذ من الضالل‬
‫هناك من الكتب مايجب أن يقرأ عشر مرات‪ .‬ومنها كتاب (المنقذ من الضالل والموصل الى ذي‬
‫العزة والجالل ) لحجة االسالم (أبي حامد الغزالي)‪ .‬وهناك من الكتب مايندم االنسان على‬
‫قراءتها‪ .‬ولذلك جعلت مجلة (المجلة) في أحد زواياها عنوان فرعي مثير (كتاب ليتني لم اقرأه)‬
‫أي أن الفائدة التي يجنيها االنسان من التعرف على الكتاب ان اليعود الى قراءته‪ .‬وكنت مع‬
‫بناتي الثالثة في مونتريال في كندا فقلت يابنات أحب أن أعزمكن اليوم على عشاء صيني فما‬

‫‪259‬‬
‫رأيكن؟ بالطبع كان عرضًا مغريًا لطالبات مرهقات بالدراسة يتنفسن الصعداء ويبدلن الجو‬
‫وينعمن بصحبة أب يغدق عليهن من الحب والمال وحديث الفكر‪ .‬صحن بصوت واحد موافقات‪.‬‬
‫ولكن المطعم الذي دخلناه كان أفضل مافيه أننا أقسمنا أن النعود إليه‪ .‬وكتاب (المنقذ من‬
‫الضالل) هو من الكتب التأسيسية وهو يوضع جنبًا الى جنب مع كتاب الفيلسوف الفرنسي‬
‫(رينيه ديكارت) (المقال على المنهج) ويبدو ان األخير استفاد من األول على نحو ما أو كما‬
‫كتب (نديم الجسر) في كتابه (قصة اإليمان بين الفلسفة والعلم والقرآن) في فصل (التقاء‬
‫العباقرة) وهو من أجمل فصول الكتاب أنه يحدث أحيانًا من تقاطع المعلومات أو الوصول الى‬
‫عتبة عقلية عند اثنين مشيا نفس المراحل العقلية فوصال الى نفس الفضاء المعرفي‪ .‬وأشار‬
‫سيمون كيث صاحب كتاب(العبقرية والقيادة واإلبداع) الى هذه الظاهرة وهي أن انجازًا رائعًا‬
‫يتم أحيانًا من رجلين اليعرف كل واحد شيئًا عن إنجاز اآلخر كما حدث مع كل من الفيلسوف‬
‫األلماني (ليبنتز) والفيزيائي البريطاني (اسحق نيوتن) اللذين وصال في وقت متقارب الى‬
‫تطوير رياضيات (التفاضل والتكامل)‪ .‬وهو مادعا (اسحق عظيموف) الى نقل هذا المفهوم الى‬
‫وجود البشر في مجرات أو نظم شمسية أخرى فتوقع أن تكون هناك العديد من الحضارات التي‬
‫مشت مثلما مشينا ولكن الحضارات التي وصلت الى مستوى العصر الذري تبقى معدودة‪ .‬أجمل‬
‫مافي كتاب (المنقذ من الضالل) هي روايته بشكل جميل للرحلة العقلية التي قطعها فهو كان في‬
‫شك مطبق حتى وصل في النهاية الى شك مدمر بحيث شّك في كل شيء حتى برجله التي يمشي‬
‫بها وجسمه الذي يتغذى به‪ .‬قال عندما وصلت الى الشك في كل شيء أصبت بالمرض لم أعد‬
‫أستطيع أن أمضع الطعام أو أن أشرب السوائل‪ .‬وأصبح وضعه الصحي في خطر وخاف عليه‬
‫األطباء‪ .‬المهم أن الرجل بعد أن دخل الى ظلمات الشك قال كنت أريد أن أبحث عن شيء يقيني‬
‫بحيث أن أحدهم لو قال لي أن العشرة أقل من الثالثة والدليل على ذلك أنني اقلب العصا ثعبانًا‬
‫والحجر ذهبًا ماخامرني الشك أبدًا فأين مثل هذا العلم اليقيني؟ إن رحلة الغزالي تشبه نفس‬
‫األزمة العقلية التي دخلها ديكارت بعده بأكثر من خمسة قرون حيث شك في كل شيء‪ .‬ثم قال قد‬
‫أشك في كل شيء ولكن الشيء الوحيد الذي الأشك فيه هو أنني أشك‪ .‬ومعنى أنني أشك أنني‬
‫أفكر وهذا يعني أنني موجود‪ .‬ومنها انطلقت فلسفة الحداثة كلها تحت هاتين المقولتين أنا أفكر‬
‫أنا موجود‪.‬‬

‫قصة أبو حامد الغزالي مع العيارين‬


‫عاش اإلمام أبو حامد الغزالي ‪ 55‬سنة وألف ‪ 180‬كتابًا واعتزل الحياة في آخر حياته بضع‬
‫سنين وخرج بكتابه المشهور المنقذ من الضالل وكتاب اإلحياء ويقصد به تجديد الفكر الديني‪.‬‬
‫والفترة التي عاشها اإلمام الغزالي كانت مزلزلة في تاريخ المنطقة فإذا أخذنا األرقام بين موته‬
‫وحياته عرفنا أنه ولد عاد ‪ 450‬هجرية ومات عام ‪ 505‬هـ وهو حسب التاريخ الميالدي يناسب‬
‫الوقت الذي كانت الدولة العباسية تترنح في سكرات الموت والضغط الصليبي قادم من الغرب‪.‬‬
‫وهو يشبه وضع العرب من جانب ويختلف من جانب‪ .‬فالضغط تغير والعرب لم يعودوا سباقين‬
‫في اإلنتاج المعرفي‪ .‬والصليبيون الفقراء الذين كانوا ينحدرون من غابات أوربا على شكل‬
‫عصابات مفلسة تعيش في عالم من الخرافة وتبيع الكنيسة مقاعد وهمية في الجنة مقابل جعال‬
‫من المال تغيرت اليوم ولم يعد يحكم أوربا طغاة أو رجل أمي من طراز ريتشارد قلب األسد بل‬
‫يكمن التحدي اليوم أن العالم كله سقط في يد الغرب غنيمة رائعة ومعه كل المال تقريبا‬
‫ومؤسسات البحث العلمي والقوة الحربية المتفوقة المعتمدة بدورها على تكنولوجيا متفوقة‬
‫وعلم هائل‪ .‬فالعالم كما نرى انقلب رأسا على عقب واليوم تكتب الحضارة ليس في الزمن‬
‫العباسي بخط من اليمين إلى الشمال بل تكتب في الزمن األمريكي وبخط من الشمال إلى اليمين‬
‫مقلوبا يصاب فيه العرب بالدوار وهم يقرأون الخط بعين حوالء‪ .‬وهم مجبرون على قراءته‬

‫‪260‬‬
‫وتفسيره ألن مصيرهم بين سطوره‪ .‬وفي الوقت الذي عاشه اإلمام الغزالي كان العلم يقوم على‬
‫الحفظ وفي يوم كان الغزالي في طريقه من بلد إلى آخر لتلقي العلم فاعترضهم العيارون من‬
‫قطاع الطرق فأخذوا كل متاعهم ومعها مخالة له أي كيس فيها كتبه الهامة التي يتعلم منها‬
‫فاقترب من رئيس العيارين فصاح به ويلك ال تقترب وإال هلكت وكان قد ظن أنه يريد مقاومته‬
‫قال له ناشدتك هللا إال أرجعت لي مخالتي قال وهل فيها جواهر؟ قال بل أغلى فهي كتبي النفيسة‬
‫التي أتعلم منها‪ .‬فضحك رئيس األشقياء على ظهر فرسه وقال له وأنت اآلن تسمي نفسك عالمًا‬
‫فإذا أخذنا منك كتبك أصبحت من الجاهلين‪ .‬يقول الغزالي لقد علمني رئيس العيارين حكمة‬
‫غيرت حياتي فقد أرجع لي كتبي ومعها حكمة اعظم‪ .‬يقول وعند عودتي إلى بغداد شرعت في‬
‫حفظ كل الكتب التي أقرأ فيها فإذا اعترضني العيارون لم يسحب مني علمي وكان هذا أول‬
‫طريقي للعلم‪ .‬ولكن اليوم يخرج أكثر من ثالثين ألف ورقة بحث في العالم يوميا ويمكن نسخ ما‬
‫كتبته أنا شخصيا في عشر سنين بعشر دقائق على قرص كمبيوتري فأين عيونكم يا نساخ‬
‫بغداد‪.‬‬

‫قصة اختفاء أبي حامد الغزالي؟‬


‫قالت زوجتي زدني من أخبار الرجل؟ تذكرت قصة حيران والشيخ في كتاب نديم الجسر (قصة‬
‫اإليمان بين العلم والفلسفة والقرآن)؟‬
‫قلت عاش الرجل في القرن الخامس الهجري في وقت صعب‪ ،‬ومنطقة الشرق األوسط تعصر‬
‫بين فكي الصليبيين والمغول؟‬
‫هل هي صدمة األوضاع؟ هل هو فعال فقط الشك الفلسفي كما يرويه في كتابه المنقذ من‬
‫الضالل؟ هل هي حالة النرفانا بتعبير الهنود؟‬
‫يقول الرجل كما جاء في السيرة عن سيد األنام الرسول العدنان ص أنه ُح ِّبب إليه الخالء؟ أنه‬
‫كان يقدم رجال ويؤخر أخرى في قرار الرحيل واالختفاء؟ ويصف حالته من الشك أنه وصل إلى‬
‫حالة اليذوق فيها طعاما وشرابا‪ ،‬فاحتار في وضعه األطباء؟ وقالوا هو أمر الطاقة لنا فيه‪،‬‬
‫وأمره بين يدي الكبير المتعال؟‬
‫يقول أبو حامد الغزالي كنت أدرس في المدرسة النظامية لمئات الطلبة ثم اعتراني الشك في كل‬
‫شيء؟ وكانت مدراس العصر في أيامه تتراوح بين أربع اتجاهات هي الباطنية والمتكلمة‬
‫والفالسفة والصوفيين‪.‬‬
‫قال فعزمت على مسح تيارات العصر (أحِّو ل كلماته إلى مانتكلم به حاليا؟) فقعدت ثالث سنين‬
‫إذا فرغت من تدريس الطلبة تفرغت لسبر غور هذه األفكار‪.‬‬
‫يقول إنه وصل بسرعة لتفنيد آراء المتكلمة والباطنية‪ ،‬أما الفالسفة فغصت فيها أكثر حتى‬
‫وصلت إلى منتهى قولهم وآرائهم؟ وعلمت أنه الينبغي الرد على فرقة وفكرة قبل الوصول إلى‬
‫قرار عمقها‪ ،‬بل والزيادة فيها كأنه من أتباعها ومريديها‪ ،‬حينها ينضج الرد‪.‬‬
‫وبهذه الطريقة أخرج لنا كتابه تهافت الفالسفة‪ ،‬الذي جاء الرد عليه الحقا من أبي الوليد ابن‬
‫رشد من غصن األندلس الرطيب في تهافت التهافت‪ .‬وحين وصل إلى بوابة التصوف أدرك أن‬
‫األمر مختلف؛ فهنا العمل ليس عقالنيا بل نوع من التدريب الروحاني‪ ،‬وأمام هذه البوابة وقف‬
‫حائرا مترددا‪ ،‬وبقي على هذه الحالة طويال حتى عزم واتخذ قرار الهجرة واالختفاء من وجه‬
‫الناس والخالئق‪.‬‬
‫قلت لزوجتي أشرح لها؟ هنا النعلم ماذا حدث مع الرجل بالضبط ألنه غاب عشر سنين عددا؟‬
‫أين كان يعيش؟ كيف كان يعيش؟ كيف كان يقضي وقته؟‬

‫‪261‬‬
‫ال أحد يعلم ولم يقل هو شيئا؟ وهو يذكرني بقصص مشابهة مثل غار حراء للنبي المصطفى‬
‫ص فأسال نفسي كيف كان يقضي وقته؟ إنه مكان وعر ممن طلع بنفسه ورآه‪ ،‬كان يأخذ‬
‫مايكفيه من الطعام ويتحنث ويفكر؟‬
‫إنها لحظات تاريخية تخلص فيها النفس من مشاغل الحياة اليومية؟ نحن نميل للنوم؟ أما هم‬
‫فكانوا يقظين يرمقون الكون بعين حالمة يبحثون عن أسئلة ممضة؟ مامعنى الوجود؟ مامعنى‬
‫وجودنا؟ كيف نعرف هللا ونصل إليه؟ هل من خالق؟ مامعنى الموت وهل من شيء بعد الموت؟‬
‫كيف يعمل الكون؟ ماهي قوانين الوجود؟ ماهو مجرى التاريخ ومعناه؟ هل نحن كائنات رماها‬
‫القدر أم وعي ومصير وإرادة‪ ،‬وعشرات األسئلة الرديفة تحتاج ألجابة‪ ،‬ومن النوع المقنع؟‬
‫إن إبراهيم مر في نفس األزمة الوجودية كما حصل مع تولستوي الحقا مع فارق النهاية؛ فأما‬
‫إبراهيم فاطمأن قلبه‪ ،‬أما تولتسوي فبقي في الحيرة الينام حتى لحظة الموت في محطة الشمال؟‬
‫يذكر الرب في سورة األنعام تلك المناجاة الجميلة وهو يبحث عن الرب في النجم والقمر‬
‫والشمس‪ ،‬ثم يقول إني وجهت وجهي للذي فطر السموات واألرض؟ كذلك نرى تلك المناجاة‬
‫وهو يريد معرفة سر الموت والحياة والنشور؛ فيأتيه الجواب على نحو عملي في الطير‬
‫يصرهن إليه ثم يجعل على كل جبل منهم جزء فيدعهن فيأتينه سعيا؟‬
‫إنها رحلة جميلة أليس كذلك؟‬
‫هكذا بقي أبو حامد الغزالي عشر سنوات مختفيا ال أحد يعلم على وجه التحديد أين قضاها؟‬
‫البعض يقول كان يعمل خادما في المسجد األموي يكنس الجامع ثم يأوي إلى المنارة فيقبع فيها‬
‫بقية الوقت يتأمل؟‬
‫البعض روى عنه حتى رده في مجلس مناظرة لسؤال مفحم فتدخل فأنقذ الموقف؛ فلما بحث‬
‫عنه القوم اختفى من جديد؟‬
‫البعض يقولون أنهم رأوه في المسجد األقصى؟‬
‫كيف كان يعيش بدون مال ونفقة عقدا من الزمن؟ من كان يطعمه؟ النعلم ؟؟ كل مانعلمه أنه‬
‫خرج من غاره الخفي؛ فطلع علينا بأجمل كتابين (إحياء علوم الدين) في ثالث مجلدات قرأتها‬
‫أنا بشغف فاستفدت منها وبعضها انتقدت‪ ،‬وكتاب (المنقذ من الضالل والموصل إلى ذي العزة‬
‫والجالل)‪ ..‬فيجب قراءته جنبا إلى جنب مع كتاب رينيه ديكارت في كتابه الشهير الذي جرى له‬
‫ما يشبه ماحدث للغزالي في رحلة الشك إلى ميناء اليقين (المقال على المنهج)‪...‬‬

‫مخالة أبو حامد الغزالي والكمبيوتر‬


‫عاش اإلمام أبو حامد الغزالي ‪ 55‬سنة‪ ،‬وألف ‪ 180‬كتاباً‪ ،‬واعتزل الحياة في آخر حياته بضع‬
‫سنين‪ ،‬ويقال كانت عشرة‪ ،‬ال نعرف أين ساح فيها بالضبط‪ ،‬وهناك من قال أنه رآه في بيت‬
‫المقدس‪ ،‬أو معتزال في منارة دمشق‪ ،‬أو معلقا في دائرة علم‪ ،‬ليذهلوا من اإلجابة‪ ،‬ثم ليهرب؛‬
‫حين يشتبهوا به أنه الغزالي المشهور‪ ،‬فيطويه الغيب مجددا‪.‬‬
‫ومنهم من يقول أنه رآه يكنس المسجد األموي‪ ،‬وال أحد يعرف على وجه الدقة‪ ،‬أين وماذا‬
‫وكيف قضى فترة العزلة؟ ولو عرفنا الستفدنا‪.‬‬
‫ولكن المهم أنه خرج علينا بعد الرحلة بكتابه المشهور (المنقذ من الضالل والموصل إلى ذي‬
‫العزة والجالل) ثم كتاب (اإلحياء) ويقصد به تجديد الفكر الديني‪.‬‬
‫والفترة التي عاشها اإلمام الغزالي كانت مزلزلة في تاريخ المنطقة؛ فإذا أخذنا األرقام بين موته‬
‫وحياته‪ ،‬عرفنا أنه ولد عاد ‪ 450‬هجرية‪ ،‬ومات عام ‪ 505‬هـ‪ ،‬وهو حسب التاريخ الميالدي‪،‬‬
‫يناسب الوقت الذي كانت الدولة العباسية‪ ،‬تترنح في سكرات الموت‪ ،‬والضغط الصليبي قادم من‬
‫الغرب‪ .‬والزحف المغولي بدأ من أقصى الشرق مثل حصادة تحصد األخضر واليابس‪ ..‬في‬

‫‪262‬‬
‫حشود مخيفة وغيوم هائلة من الجراد البشري الجائع‪ ،‬وقطعان من ذئاب قراقورم من‬
‫منغوليا‪...‬‬
‫وهو يشبه وضع العرب من جانب‪ ،‬ويختلف من جانب؛ فالضغط تغير‪ ،‬والعرب لم يعودوا‬
‫سباقين في اإلنتاج المعرفي‪ ،‬كما كانوا أيام الغزالي‪ ،‬بل مفلسين معرفيا‪.‬‬
‫والصليبيون الفقراء‪ ،‬الذين كانوا ينحدرون من غابات أوربا‪ ،‬من قبائل التيوتون والغال‪ ،‬على‬
‫شكل عصابات مفلسة‪ ،‬كانت تعيش في عالم من الخرافة‪ ،‬وتبيع الكنيسة مقاعد وهمية في‬
‫الجنة‪ ،‬مقابل جعال من المال‪ ،‬تغيرت اليوم‪ ،‬ولم يعد يحكم أوربا طغاة‪ ،‬أو يقودهم رجل أمي من‬
‫طراز ريتشارد قلب األسد‪ ،‬بل يكمن التحدي اليوم‪ ،‬أن العالم كله سقط في يد الغرب غنيمة رائعة‬
‫ومعه كل المال تقريبا ومؤسسات البحث العلمي والقوة الحربية المتفوقة المعتمدة بدورها على‬
‫تكنولوجيا متفوقة وعلم هائل‪ .‬فالعالم كما نرى انقلب رأسا على عقب‪ ،‬واليوم تكتب الحضارة‬
‫ليس كما في الزمن العباسي‪ ،‬بخط من اليمين إلى الشمال‪ ،‬بل تكتب في الزمن األمريكي‪ ،‬وبخط‬
‫من الشمال إلى اليمين‪ ،‬مقلوبا يصاب فيه العرب بالدوار‪ ،‬وهم يقرأون الخط بعين حوالء‪ .‬وهم‬
‫مجبرون على قراءته وتفسيره‪ ،‬ألن مصيرهم بين سطوره‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي عاشه اإلمام الغزالي كان العلم يقوم على الحفظ‪ ،‬وفي يوم كان الغزالي في‬
‫طريقه من بلد إلى آخر‪ ،‬لتلقي العلم فاعترضه العيارون من قطاع الطرق‪ ،‬فأخذوا كل متاعهم‪،‬‬
‫ومعها مخالة له‪ ،‬أي كيس فيها كتبه الهامة‪ ،‬التي يتعلم منها‪ ،‬فاقترب من رئيس العيارين‬
‫يناشده المخالة‪ ،‬فصاح به‪ :‬ويلك ال تقترب وإال هلكت؟!‬
‫قال له ناشدتك هللا إال أرجعت لي مخالتي؟! قال وهل فيها جواهر؟ قال بل أغلى فهي كتبي‬
‫النفيسة‪ ،‬التي أتعلم منها‪ .‬فضحك رئيس األشقياء منه وقال‪ :‬وأنت تسمي نفسك عالمًا؟ فإذا‬
‫أخذنا منك كتبك أصبحت من الجاهلين؟!‬
‫يقول الغزالي لقد علمني رئيس العيارين حكمة غيرت حياتي‪ ،‬فقد أرجع لي كتبي ومعها حكمة‬
‫أعظم‪.‬‬
‫يقول وعند عودتي إلى بغداد‪ ،‬شرعت في حفظ كل الكتب التي أقرأ فيها‪ ،‬فإذا اعترضني‬
‫العيارون لم يسحب مني علمي‪ ،‬وكان هذا أول طريقي للعلم‪.‬‬
‫ولكن اليوم يخرج أكثر من ثالثين ألف ورقة بحث في العالم يوميا‪ ،‬ويمكن نسخ ما كتبته أنا‬
‫شخصيا في عشر سنين بعشر دقائق‪ ،‬على قرص كمبيوتري فأين عيونكم يا نساخ بغداد وأين‬
‫أنت يا غزالي لترى مصير حفظك؟؟‬

‫مزج التصوف بالفلسفة‬


‫التصوف وهو توجه الوجود له في المملكة تقريا إال من الوافدين إليها من الخارج‪ .‬وهي طرق‬
‫منتشرة كثيرا في تركيا والسودان والمغرب والهند‪ .‬وفي الواقع فإن هذا ليس علمًا أكثر منه‬
‫سلوكًا يقوم على نوع محدد من التربية‪ .‬وجماعة التبليغ في الهند هي من هذا النوع الذي يؤمن‬
‫أنه يجب الحرص على تربية الفرد المسلم تربية روحانية ولهم في هذا طقوس وشعارات‬
‫وأعمال ونشاطهم بين الرجال والنساء ويسمون أتباعهم من النساء بالمستورات‪ .‬وأصل فرق‬
‫التصوف التي قامت في العالم اإلسالمي أنها جاءت كردة فعل على االنهيار الخلقي بعد التردي‬
‫السياسي واشتهرت في العصر العباسي ولهم شخصيات وكتب وفرق وأنظمة‪ .‬وكان العمود‬
‫الفقري في الدولة العثمانية فرقة (البكتاشية) من المتصوفة الذين مزجوا التربية الروحية مع‬
‫الفن العسكري وكانوا هم بدايات الجيش االنكشاري‪ .‬كذلك كان عمر المختار في ليبيا من فرقة‬
‫السنوسية في ليبيا‪ .‬كذلك فإن هزيمة غوردن البريطاني في السودان كانت على يد الفرق‬
‫المهدية واستطاع (التعايشي) بعدها أن يؤسس دولة إسالمية مستقلة ويمكن قراءة القصة‬
‫بالتفصيل في كتاب جرجي زيدان عن الشخصيات الهامة‪ .‬ولكنها لم تعمر طويًال حيث جاءت‬

‫‪263‬‬
‫بريطانيا بسالح الماشين جن أي الرشاش فحصدت المهديين حصدا فلم يصمدوا أمام اجتياحها‬
‫للسودان وسقطت في االحتالل‪ .‬وما أريد أن أقوله أن التصوف قام باألصل من أجل وضع‬
‫القاعدة الخلقية عند الفرد المسلم بحيث يحقق االنضباط الداخلي من التقوى‪ .‬ولكن مشكلة‬
‫التصوف هي في الجانب العقالني فهم قوم ال يرحبون كثيرا بالنقد أو الجدل العقلي ويجب أن‬
‫يعطي المريد الطاعة المطلقة للشيخ تحت شعار (المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي‬
‫المغسل) و (من قال لشيخه ال لم يفلح) أو أن (المريد بين الشيخين كالمرأة بين الرجلين)‪.‬‬
‫والمهم فقد استمررت بالشرح لألخ الذي سأل عن وجهة نظري في التصوف فأنا قرأت فيه‬
‫واطلعت كما أعرف بعضًا من فرقها واختلطت برجالها ورأيت حفالت الذكر والرقص فيها‪ .‬فقلت‬
‫له إن أفضل ما يمكن تحصيله هو مزج التصوف بالفلسفة بمعنى أن نبني الجانب العقالني‬
‫والروحي عند الفرد‪ .‬فالجانب العقالني يحرره من التبعية لألشخاص وهي مصيبة إذا وقع‬
‫اإلنسان في شركها ولعل االستبداد السياسي هو صورة مشابهة من االنصياع للقائد الملهم‬
‫والزعيم الذي ال يخطئ كما تفعل فرق المتصوفة ولذلك فإن األمام ابن تيميه أعلن عليهم الحرب‬
‫ألنه وجدهم يؤسسون للخرافة واالستبداد السياسي وتعظيم الرجال المخالف للتوحيد‪ .‬ومن هنا‬
‫كان العمل العقالني جيدًا محررًا يطلق طاقة اإلنسان بحيث يستقل وينمو مستفيدًا من كل الناس‬
‫وكل الخبرات‪ .‬ولكن الجانب الروحي شيء أساسي وهو حاجة لكل منا ولعل بعضنا مرت عليه‬
‫نسمات جميلة رائعة من الهدوء الروحي واالستسالم لقدر هللا والشعور باالمتالء الداخلي‪ .‬وأنا‬
‫أعرف أناس من هذا النوع كما تحدث الكاتب األمريكي (كولن ولسن) عن الجوانب الخفية من‬
‫قدرات اإلنسان حيث تقرأ في وجههم التقوى أو الهدوء أو االرتياح للتعامل معهم ويعرف‬
‫هؤالء الناس من عيونهم حيث ترى قوى روحية وإطاللة مدهشة من عالم الروح كما يقول‬
‫علماء النفس أن العينين هما مرآة الروح فإذا أردت أن تعرف اإلنسان فاقرأ ذلك في عينيه‬
‫وكتب أرسطو كتابًا كامًال بعنوان (سر األسرار) عن علم الفراسة وهناك قول اتقوا فراسة‬
‫المؤمن فإنه ينظر بنور هللا‪.‬‬

‫مقاتل التصوف‬
‫تطليق العقل واالستسالم ألرادة الشيخ هما مقاتل التصوف‪ .‬فباألول يودع االنسان‬
‫عقله وينزعه من داخل القحف ويسلمه بالبريد المسجل والممتاز الى يد الشيخ‪.‬‬
‫وبالثاني يتحول الى أداة يلعب بها الشيخ كما يحلو له تحت زعم التربية الروحية‬
‫للوصول الى هللا‪ .‬وال أخطر على االنسان من خسارة عقله أو إرادته فكيف إذا‬
‫اجتمع االمران‪ .‬إنه أكبر من كارثة مدمرة‪ .‬مازلت أتذكر مدير المدرسة التي كنت‬
‫أدرس فيها وهو يشرح لي بسخط عن مخالفاتهم الشرعية‪ .‬وانا اشتغلت بالتدريس‬
‫فترة من حياتي للمرحلة الثانوية واالعدادية ودَّر ست تقريبًا كل المواد وكان شيئًا‬
‫جميًال ولكن شقاوة الطلبة عرفتها جيدًا كيف إذا مر بهم االستاذ يتغامزون ويحبون‬
‫أن يدمروا شخصيته بألوان شتى من التعليقات‪ .‬وهكذا فالتحدي في التدريس ليس‬
‫أنك تتقن مادة بل كيف تنقلها للطلبة وكيف تنال احترامهم‪ .‬وكان االساتذة الجبارون‬
‫يفوزون بقصب السبق بكل أسف عندما يروضوهم على الطاعة ولكن يقتلون فيهم‬
‫حب العلم بغير رجعة وعندما أتذكر حياتي الدراسية الأتذكر مدرسًا واحدًا غرس فّي‬
‫حب العلم وعشقه وال أدري تمامًا من أين جاءني حب االطالع وهذا له حديثه‬
‫الخاص‪ .‬يقول شيوخ التربية بالءات ثالث أوًال يجب أن (ال) يتردد المريد بين‬
‫شيخين إلن المريد بين الشيخين كالمرأة بين الرجلين فيجب أن يخلص قياده لشيخ‬

‫‪264‬‬
‫واحد أحد معصوم‪ .‬ويقولون يجب على المريد أن اليناقش ويعترض فمن قال‬
‫لشيخه (ال) لم يفلح‪ .‬تمامًا كما في الجيوش العربية حينما يعلمون الجندي الوصية‬
‫األولى واألعظم (نفذ ثم اعترض)! باهلل عليكم لو أمر الجندي بقتل انسان فما فائدة‬
‫االعتراض بعدها هل ستعيد الحياة للقتيل؟ ويقول شيوخ المتصوفة أنه يجب على‬
‫المريد أن (ال) يشاغب بعقله فيجب أن يسلم قياده للشيخ مثل (الميت بين يدي‬
‫المغسل) والسر في هذا انهم يرون أن الوصول الى هللا طريق شائك مزدحم‬
‫بالرغبات فيجب أن يطلق الدنيا التي هي دار الغرور وينيب الى دار القرار اآلخرة‬
‫ويمسك بيد الشيخ مثل األعمى وهي نصف الحقيقة وليست كل الحقيقة‪ .‬إن هذه‬
‫الالءات الثالث خطيرة كونها تحذف عقل االنسان وإرادته فتسلمهما لقيادة شخص‬
‫واحد‪ .‬ومن هنا نفهم عمل الحشاشين في العصور الوسطى وقصصهم طريفة فهم‬
‫كانوا يتدربون بهذه الطرق بحيث يبعثهم شيخ الجبل للقيام بعمليات اغتيال منظمة‬
‫مما نشروا الرعب في كل المنطقة وفي كل التاريخ وحملت الكلمة االنكليزية حتى‬
‫اليوم كلمة(أسيسنيشين ‪ )ASSASSINATION‬التي تعني االغتيال‪ .‬وعندما يتحول‬
‫شيخ الطريقة الى مدرب متواضع بأن يقول للمريد إن في قدرتي أن أدلك على‬
‫طرائق جيدة للتزكية الروحية وبإمكانك أن تستفيد من غيري وما أعلمك قد يحمل‬
‫كل الخطأ فتأكد مما أعلمك والتقف ماليس لك به علم‪ .‬أقول أن تربية من هذا النوع‬
‫تخلق العقل الحر والخلق السامي وبذلك يصبح التصوف علمًا‪ .‬في الواقع كل أمر‬
‫فيه جوانب ضارة وجيدة ولكن كيف يمكن التفريق بينهما‪ .‬من هنا كان من‬
‫الضروري أن نكتب كل يوم للقاريء مايستفيد منه واال يجب أن النكتب‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫تولستوي واألزمة الوجودية‬
‫كان األديب الروسي الكبير "ليو تولستوي" يملك كل ما يشتهي‪ ،‬فهو لم‬
‫يكن يشتهي شيئًا في الواقع؟ وقال عن نفسه يومًا في مرحلة ما من حياته‬
‫قبل أن يمر بأزمته الوجودية إنه "في قمة السعادة المطلقة"!‬
‫كان يفيض حيوية وقوة‪ ،‬وبإمكانه أن يرفع رجًال بيد واحدة‪ ،‬وينطلق على‬
‫حصانه إلى الغابة كل صباح‪ ،‬بعد حمام بارد‪ .‬يكنس غرفته بيده‪ ،‬وتسحره‬
‫الموسيقى‪ ،‬وتعيد إلى نفسه العذوبة والصفاء‪ ،‬إلى درجة أن ينفجر‬
‫بالبكاء‪ ،‬فيهرب ليخفي نفسه‪ ،‬فهي قد استلبت أسراره وفضحت مشاعره‬
‫الحساسة‪ .‬كان يجسد الطبيعة حساسية وشفافية ورقة‪ ،‬ويعيش في قمة‬
‫الشهرة‪ ،‬ويكتب قصصه الخالدات‪.‬‬
‫أنجب من زوجته التي يحب ‪ 13‬ولدًا‪ ،‬وعاش ثريًا إقطاعيًا قبل أن يتخلى‬
‫عن كل ثروته وعائلته وزوجته‪ ،‬في هرباته ثالث مرات‪.‬‬
‫وأنجز سلسلة من الكتب حملته إلى القمة األدبية العالمية‪ ،‬في مسلسل‬
‫بهي من روائع األدب‪( :‬الحرب والسالم‪ ،‬أّنا كارنينا‪ ،‬البعث‪ ،‬لحن كرويتز‪،‬‬
‫الجثة الحية‪ ،‬السيرة الذاتية‪ ،‬النور وسط الظالم‪ ،‬الحاج مراد‪ ،‬بعد حفلة‬
‫الرقص‪ ،‬كورني فاسيليف‪ ،‬قاضي الحياة‪ ،‬االعترافات)‪.‬‬
‫ومن أعجب كتبه "السيرة الذاتية"‪ ،‬فقد جرت العادة أن العظماء يكتبونها‬
‫في نهاية حياتهم أما هو فقد كتبها في مطلع حياته على صورة مقلوبة‪،‬‬
‫وكأنه ضمن النهاية‪ ،‬حتى كانت المفاجأة‪.‬‬
‫أما كتابه "الحرب والسالم" الذي ال يخلو منه بيت مثقف وظهر على‬
‫شاشة السينما‪ ،‬فقد كتبه في سبع سنوات‪ ،‬بلغ كل جزء منه ألف صفحة‪،‬‬
‫أما التعليقات والهوامش فقد مألت صناديق لوحدها‪.‬‬
‫كذلك هي صفة العمل اإلبداعي‪.‬‬
‫فما الذي دهى تولستوي وقلب حياته حين مر بأزمة وجودية؟!‬
‫كانت نقطة التحول في حياة تولستوي فارقة‪ ،‬فقد صدمته حقيقة الموت‬
‫ففتح عينيه على الثقب األسود يشفطه بدون رحمة‪.‬‬
‫وكما تقول الفلسفة‪ ،‬حقيقتان ال يمكن التحديق فيهما‪ :‬الشمس والموت‪..‬‬

‫‪266‬‬
‫وهو ما فعله تولستوي بالضبط؛ ففتح عينيه على هذه الحقيقة‪ ،‬التي‬
‫تتكسر عندها كل األفكار والعزائم‪.‬‬
‫وهو ما أصابني أنا شخصيًا؛ فما زلت منه أترنح‪ ،‬حينما خسرت زوجتي‬
‫داعية الالعنف ليلى سعيد‪ .‬فلم أكن أعرف وأتصور أنه يمكن لإلنسان أن‬
‫يتألم بهذا المقدار بدون تعذيب‪..‬‬
‫وهنا أدرك جانبا جديدا للجحيم‪..‬‬
‫كانت نقطة التحول في حياة تولستوي‪ ،‬هي تلك الليلة التي لم يطق فيها‬
‫النوم‪ ،‬وبقي كذلك حتى مات بعمر ‪ 83‬سنة‪ ،‬وهو يقرأ كل مصادر المعرفة‬
‫عسى أن يجد فيها العزاء‪.‬‬
‫وحولته هذه الحقيقة التي واجهت كل فيلسوف؛ فعبر عنها بطريقة‬
‫مختلفة‪ ،‬كما فعل باسكال مع خواطره حول "الالنهايتين"‪..‬‬
‫قال باسكال ‪" :‬إن الصمت األبدي يخيفني؛ فال أعرف ما هو العدم الذي‬
‫جئت منه‪ ،‬وأنا إليه عائد‪ .‬إنني في اللحظة الواحدة كل شيء إلى العدم‬
‫الذي جئت منه‪ ،‬كما أنني لست شيئًا أمام الالنهاية التي تطوقني وأدلف‬
‫إليها‪ ،‬فال سبيل إلى معرفة كنه بداية األشياء ونهايتها‪ ،‬فهل هناك شيء‬
‫أشد وحشة من هذا؟ إنني مقدم على الالنهاية وال أعرف عنها شيئًا؟"‬
‫وكذلك فعل تولستوي حينما انقلبت حياته‪ ،‬قبل أن يدخل منعرج باسكال؛‬
‫فيدلف إلى الالنهاية كما يدلف إليها كل يوم مع كل غروب شمس ‪ 140‬ألفا‬
‫من األنام!‬
‫كان تولستوي يقوم باالعترافات‪ ،‬ويسجلها كل ليلة‪ ،‬مثل أعظم القديسين‪.‬‬
‫وفي كل صباح يلمس جلده ليتأكد هل هو ميت أم حي؟‬
‫ثم يكتب أول فقرة من مذكراته‪ :‬ما زلت حيًا؟‬
‫وفي مواجهة الموت وما يحمله‪ ،‬ارتج تولستوي‪ ،‬وبقي هاربًا مشردًا ال‬
‫تعرف روحه القرار‪ ،‬حتى ودع كل حياته وثروته‪ ،‬وهرب من بيته ثالث‬
‫مرات‪ ،‬بفترة ‪ 13‬سنة بين كل مرة وأخرى‪ ،‬حتى مات وحيدًا شريدًا في‬
‫محطة "استابو" في ‪ 7‬نوفمبر ‪.1910‬‬
‫ومن أعجب األمور أن تولستوي بكل سموه األخالقي‪ ،‬عاصر رجًال عربيدًا‬
‫سكيرًا متحلًال أخالقيًا‪ ،‬هو "راسبوتين" الذي اخترق العائلة الملكية‪،‬‬
‫والطبقة المخملية في المجتمع الروسي‪ ،‬فكان الرجالن شاهدين على نهاية‬
‫حقبة‪ ،‬وبدء حقبة جديدة في التاريخ الروسي‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫باقر الصدر وفلسفتنا‬
‫باقر الصدر فيلسوف عمالق‪ ،‬وفقيه عصري ‪ ،‬ومفسر موضوعي‪ ،‬ومناضل سياسي‪ ،‬وجبل من‬
‫جبال العلم ‪ ،‬رحمه هللا وأخته أم الهدى في الصالحين‪ .‬فقد تم اعتقالهم بيد الطاغية‪ ،‬ثم سلمت‬
‫جثثهم بعد ثالث أيام محترقة مقطعة منتوفة اللحية‪ ،‬كعادة الطغاة منذ أيام سراكوزة‪.‬‬
‫كانت أول معرفتنا بهذا العالم النحرير ليست شخصيا‪ ،‬بل تالفيف دماغه‪ ،‬ومواجهة عقله المنظم‪،‬‬
‫واطالعه الموسوعي في سلسلة من الكتب؛ فلسفتنا واقتصادنا ومشروع بنك الربوي‪ ،‬وقيل‬
‫مجتمعنا ولم أطلع على الكتاب‪ ،‬ثم كتابه الرائع في مشروع لم يكمله عن التفسير الموضوعي‬
‫للقرآن‪ ،‬وهو مشروع يطمح له كل عالم‪ ،‬في إرساء قواعد تفسير عصري سهل المفتاح جم الفائدة‬
‫تستخدم فيه العلوم اإلنسانية المساعدة‪ ،‬تماما كما في الجراحات الحديثة؛ فال يمكن فتح جمجمة‬
‫الستئصال ورم دموي من نوع الهيمانجيوما (‪ )Hemangioma‬بأدوات فرعونية‪ ،‬أو مالقط‬
‫الرازي وحقن ابن سينا وفحص السكر بتذوق البول؟‪ ،‬كذلك ال يمكن استيعاب القرآن بتفسير‬
‫الطباطبائي وابن كثير والبيضاوي وابن ثعلبة؟ وهو مشروع كان يحفر فيه باقر الصدر كما فعل‬
‫(هوارد كارتر) قبل الوصول إلى المقبرة الملكية لتوت عنخ آمون‪.‬‬
‫ويعتبر الصدر مدرسة يرجع إليها كل باحث في الفكر اإلسالمي المعاصر من السنة كان أو‬
‫الشيعة‪ ،‬وكان يحسب في المقاومة ضد االستبداد السياسي‪ ،‬قبل أن يرسخ االستبداد الديني‪ ،‬وال‬
‫أعتقد أنه كان سيفرح بما آلت إليه الثورة اإليرانية؛ فهو كان من أشد مناصريها‪ ،‬وجرب حظه في‬
‫االنقالب السياسي في العراق على الطريقة الخمينية‪ ،‬بفارق عدم استخدام أسلوبها السلمي‪ ،‬وعدم‬
‫االنتباه إلى فارق الثقافة الجماهيرية بين إيران والعراق‪ ،‬كما تختلط نسب الحرارة والغازات بين‬
‫األرض والمريخ‪ ،‬ونحن نعرف أن سطح المريخ برد زمهرير ستين تحت الصفر‪ ،‬عابق بغاز‬
‫الفحم ‪ %95‬يحتاج لمن يمشي فوق سطحه حمل أسطوانة أكسجين مثل الغاطس في عمق المياه‪.‬‬
‫كتب باقر الصدر بحماس وإطالع في الفقه‪ ،‬مثلما كتب في الفلسفة واالقتصاد‪ ،‬وأسس مدرسة‬
‫فكرية مازالت تنمو وتترعرع حتى اليوم‪ ،‬وخلد بدمه أفكاره‪ ،‬وهو أخطر ما باألفكار‪ ،‬فليس هناك‬
‫من مقتل لألفكار حين يحول رصيدها من الواقع والحقيقة‪ ،‬إلى الشخصانية والصراع السياسي‪.‬‬
‫لقد كنت في زيارة لصديقي المسقطي حين وقع تحت يدي منشور سري وجهه الصدر للمقاومة‬
‫في العراق‪ ،‬وكنت أقرأ له من قبل أن الطاغية ال يهمه صحابي وتابعي وشيعي وسني‪ ،‬بقدر‬
‫المنصب خالدا مخلدا فيه؟‬
‫ولكن اطالعي على ما كتب قبل أن يذهب إلى مصرعه‪ ،‬أنه بدأ يفكر في المقاومة المسلحة‪،‬‬
‫ويحرض عليها وينظم لها‪ ،‬كانت مفاجأة لي‪ ،‬جعلني أدرك أن مشكلة التغيير االجتماعي‬
‫والسياسي‪ ،‬قد تفوت على الفقيه والفيلسوف وتحتاج إلى فقه جديد‪.‬‬
‫وكان سيقتل على كل حال‪ ،‬ولكن شتان بين نهاية متمرد ونبي؟ فقد قتل يوحنا المعمدان من أجل‬
‫الكلمة وليس من أجل تمرد مسلح‪.‬‬
‫لقد تمنيت للصدر أن يكون قد استفاد من الثورة اإليرانية‪ ،‬التي اعتمدت المقاومة السلمية‪ ،‬قبل أن‬
‫تنزلق إلى الحرب المجنونة‪ ،‬وهو تناقض فات عقلية الخميني‪ ،‬الذي نجح في إسقاط طاغوت‬
‫بدون سالح‪ ،‬ثم تلمظ للسالح فدخل حربا أتونا‪ ،‬دامت أكثر من الحرب العالمية الثانية‪ ،‬في ثماني‬
‫سنوات عجاف‪ ،‬مازالت تأكل السنوات السمان في إيران حتى اليوم‪ ،‬ووقعت الدولة في قبضة‬
‫الماللي‪ ،‬وما زالت بانتظار ثورة ثقافية‪ ،‬وكان بإمكان الصدر أن يمهد لهذا بالعقالنية التي كان‬
‫يحملها‪ ،‬ولكن لم ينجح الصدر وال شريعتي‪.‬‬
‫إن مسألة اليقظة العقلية شاقة‪ ،‬فليس مثل الوعي نورا وليس مثل درب الوعي مشقة‪ .‬ودرب‬
‫العنف رحب يسلكه الكثيرون ويقود للهالك‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫وفي قناعتي فإن العالم اإلسالمي في معظمه سيخوض حروبا إقليمية‪ ،‬ومخاضات من النزاع‬
‫الطائفي والمذهبي‪ ،‬وقد تمسك األصولية باألوضاع وندخل قرنا من الظالم قبل أن يولد العقل‬
‫اإلنساني‪ ،‬وندخل رحلة التنوير إلى المستقبل‪ ،‬كما حصل في أوربا‪ ،‬حين تم تدمير الكنيسة‬
‫واإلقطاع‪ ،‬وولدت قوة رأسمال المال والعمال والصحافة والبرلمان وحرية التعبير ولو كانت‬
‫كفرا؛ فالعبرة ليست في الكفر‪ ،‬بل في حرية التعبير‪ ،‬فهذا هو األساس‪ ،‬وهو الذي أطلقه فولتير في‬
‫شعاره؛ أنا مستعد أن أموت من أجل أن تعبر ولو كان ما تقول أعتقد بفساده تماما‪.‬‬
‫إن الصدر أطلق العقالنية‪ ،‬ثم تورط في المذهبية والعنف‪ ،‬فكانت كوابح أمام انتشار فكره نصف‬
‫اإلنساني‪.‬‬
‫وليس على األعرج حرج‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫عبد الرحمن بدوي‬
‫من أعظم المآسي التي تبتلى بها األمة الجهل بكتابات المبدعين من أبناءهــا وأتــذكر‬
‫أنه ضمني مجلس في يوم مع رجل ظننته من أفقه الناس وتعجبت أنــه لم يطلـع بعـد‬
‫على مقدمة (ابن خلدون) وأنا شخصيًا مــازلت أ تمتــع بقراءتهــا حــتى اليــوم بســبب‬
‫انتباهه واكتشــافه قــوانين مدهشــة في االجتمــاع االنســاني وفي قنــاعتي أن مشــكلة‬
‫العالم العربي اجتماعية بالدرجة األولى بمعنى تنظيم النشاط االنساني المشترك ولــو‬
‫تأملنا الفرد بحد ذاته ماكان عليه من غبار ولكن المشكلة هي في تنظيم نشــاطه مــع‬
‫أخيه االنسان‪ .‬ويدخل تحت هذا مشــاكل الــدول العربيــة بين بعضــها البعض‪ .‬وأعــود‬
‫الى كتابات البدوي فأنا منذ فـترة طويلـة هــالني إنتاجـه الغزيــر واطالعـه الواســعين‬
‫فهو كتب كتابه األول عن نيتشه وأنا لم أولد بعد ولكنني والحق يقال اكتشفت الرجل‬
‫اكتشافًا جديدًا في سيرته الذاتية وعرفت طرفًا من أسرار نبوغــه وتحســرت أنــني لم‬
‫أطلع على كل كتبه ولم أقرأ كل ماجرى به قلمه‪ .‬وعرفت من سيرته الذاتية أنــه كتب‬
‫أربــع مجلــدات عن (ايمانويــل كــانت) الفيلســوف األلمــاني وكنت أتمــنى لــو حظيت‬
‫بدراسة موسعة عن هذا الفيلسـوف الـذي يعتـبر من محطـات التنـوير العقلي لعصـر‬
‫النهضة األوربية‪ .‬وأهم من هذا أنني اكتشفت أن الرجل لم يكن أكاديميًا انخــرط فقــط‬
‫في الدراسات النظرية المجردة بل عانى وفارق الوطن كما جاء في تعبــيره المحــزن‬
‫(الغيبة الكبرى) ممـا ذكـرني بأفكـار الشـيعة عن غيبـة األمــام والرجـل سـني ولكنـه‬
‫عندما يستخدم هذا المصطلح فإنه يعني فراقه للبيئة التي خرج منها الى غير عــودة‬
‫كما حصل مع األمام الشيعي االثني عشر فإنه غاب الى غير رجعة في السرداب كمــا‬
‫تذكر روايتهم القصة‪ .‬كما أن كتابه عن ســيرته الذاتيــة تفتح عيوننــا على مشــروعه‬
‫الفكري مع فترة الظالم السياســي الــذي عاشــه فــانكب بشــغف على التــأليف فــأنجز‬
‫على مــاروى قرابــة ‪ 120‬كتاب ـًا في ثالث اتجاهــات األول في تأصــيل فلســفي جديــد‬
‫والثــاني في محاولــة ترجمــة ينــابيع الثقافــة الغربيــة والثــالث في تعريــف القــاريء‬
‫العربي بالفلسفة اإلسالمية وإبداعاتها‪ .‬ولـه رأي اليخلـو من وجاهـة حيث يعتـبر أن‬
‫النهضة الحضارية التي حققها العرب كانت بعد االحتكاك بالفكر اليوناني وهو يعــني‬
‫االزدهـار العلمي وترجمــة العلـوم وصــياغتها في قـالب عـربي اســالمي ثم اإلضــافة‬
‫إليها‪ .‬وهو يرى أنه اليمكن أن تحدث نهضة عقلية اليوم مــالم نمشــي بنفس الخطــة‬
‫باالنفتاح على الفكر العالمي طالما كان انسانيًا ومن أجل هــذه الفكــرة الــتي اســتولت‬
‫عليه بشكل مبكر فإنه وضع لنفسه خطة ثالثية كما ذكرنا‪ .‬ومن األشــياء المثــيرة في‬
‫مذكرات هذا الرجل الذي انكببت على قراءته لمدة شهر كامــل بشــغف ومتعــة بــدون‬
‫حدود أنه يؤرخ لحقبة سياسية عاشها في مصر وهي أيام اليعرفهــا اال الجيــل الــذي‬
‫انكوى بنارها كما اليخلو كتابه من مسحة حزن وشعور مرير باألخفاق في األوضاع‬
‫العربية وتمنيت له أن يكون قد تزوج وهو مالم يفعله‪ .‬إنه كتاب رائع وصاحبه دماغ‬
‫نادر‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫الوردي عالم االجتماع العراقي‬
‫منذ فترة طويلة وأنا أفكر في كتابة عمود في حق هذا الرجل العمالق أو مقالة‪ ،‬ويستحق الرجــل‬
‫أكثر من بحث بل رسالة خاصة به‪ ،‬رحمه هللا وجعله في الصالحين‪.‬‬
‫كان أول تعرفي على الرجل عن طريق السيدة الفاضلة هيــام ملقي‪ ،‬حيث قــرأت نســخة مصــورة‬
‫في جــزئين لكتابــه عن (منطــق ابن خلــدون)؛ فأســرني منطقــه‪ ،‬فوجدتــه من الســهل الممتنــع‪،‬‬
‫ونصحت من حولي بقراءته‪ ،‬وكنت أتذوق أفكاره مثل طبق من الفاكهة‪.‬‬
‫ثم عثرت على كنوزه الفكرية كالعادة في مكتبة صديقي (إبراهيم البليهي) صياد الكتب واألفكار‬
‫والرجال‪ ،‬واألخير نسيج لوحده يحتــاج أن تكتب فيــه مقالــة‪ ،‬وال تخلــو جلســة معــه من متعــة أو‬
‫فكرة‪ ،‬فهو يعلمك ما تجهله ويذكرك ما نسيته‪ ،‬وهـؤالء النـاس هم أعظم ثـروة معنويـة في هـذه‬
‫الحياة الدنيا الفانية المتداعية المتالشية‪.‬‬
‫والذي أثار في ذهني الحديث عن الوردي هو ما أرســله لي الفاضــل عبــد العزيــز من ســياتل من‬
‫أمريكا‪ ،‬سرد فيه بعضا من أفكاره وكتبه‪ ،‬وأنــا شخصــيا أول مــا اســتفدت من كتابــه (منطــق ابن‬
‫خلدون) وكان قد أخذ درجة الدكتوارة في أمريكا على هذه األطروحة‪ ،‬ولقــد اســتفدت منهــا أيمــا‬
‫فائـدة‪ ،‬وكـان هـو من قـرب إلي الفـرق بين المنطـق الالسـتقرائي والصـوري عنـد ابن خلـدون‪،‬‬
‫وكيف أن فكــر أرســطو بقي عقبــة في وجــه التقــدم اإلنســاني ألفين من الســنين‪ ،‬ولــوال المنطــق‬
‫الخلدوني االستقرائي ما تقــدمت العلــوم وســقت الطريــق للنهضــة‪ ،‬وابن خلــدون لم يســتفد منــه‬
‫العالم اإلسالمي حتى اليوم‪ ،‬ولم يطور ما بدأه الرجل‪ ،‬ولو عرفنا أنه كان من أوائل من أشار إلى‬
‫فكرة االنتخاب الطبيعي والتطور لتعجبنا‪ ،‬وهذه هي حال األمة التي تفقد رشدها‪.‬‬
‫بعد كتابه (منطق ابن خلدون) الذي قرأتــه بشــغف ونهم في إجــازتي في الجــوالن فلم أكن أطيــق‬
‫بعدا عنه حتى أنهيته‪ ،‬وبالطبع كالعادة امتأل باأللوان والتشطيب والتعليــق وكتابــة فقــرات هامــة‬
‫منه مع أرقام الصفحات في الصفحات األولى من الكتاب‪ ،‬وهي خصلة استفدت منهــا من الشــيخ‬
‫جودت سعيد حينما كنا معتقلين لصالح المخابرات العامة البعثية عام ‪1973‬م‪ .‬فقرأنــا الكثــير في‬
‫سجن دام ‪ 250‬يوما‪ ،‬وسبحان الباقي‪.‬‬
‫بعــد كتــاب ابن خلــدون اطلعت على كتابيــه (مهزلــة العقــل البشــري) و(وعــاظ الســالطين) ومن‬
‫الكتابين استفدت العديد من األفكار ومن أهمها أنه اليعول كثيرا على من يدعي الحــق والمثاليــة‬
‫وقال التصدقوه‪ ،‬ويقول أن العقـل عنـد اإلنسـان عضـو للبقـاء مثـل نـاب األفعى ودرع السـلحفاة‬
‫وســاق النعامــة‪ ،‬وأن آخــر مــا يبحث فيــه هــو الحــق والعــدل؟؟ هكــذا يقــول‪ ..‬وفي كتابــه وعــاظ‬
‫السالطين أورد الرجل أيضا فكرة مزلزلة أننــا لــو عاصــرنا النــبي فلن نحــزر تمامــا أين ســيكون‬
‫موقفنا منه‪ ،‬إلنه كان ضعيفا مخذوال مطاردا‪ ،‬وهو لن يكون في صورته المثالية كمــا نحملــه لــه‬
‫اليوم‪.‬‬
‫وفي نهاية ما قرأت للرجل وأخذ مني عمل ستة أشهر هــو مجلداتــه الســت الشــهيرة عن تــاريخ‬
‫العراق الحديث فاســتمتعت بهــا جــدا‪ ،‬وتحــدث في معــرض حديثــه في استفاضــة عن الماســونية‬
‫والبهائية ومحمد علي باشا والوهابية الرتباطها بالتاريخ العراقي‪ ،‬وفي آخر كتابه تحدث بشــكل‬
‫موضـوعي مسـتفيض ربمـا في حـدود ‪ 100‬صـفحة عن نشـأة المملكـة العربيـة السـعودية وفي‬
‫موضوعية وحياد ممتازين‪ ،‬مما أتاح لي رؤية الصورة الواقعية لألحداث‪.‬‬
‫عمر الودري حتى التسعين ومات مريضا في غير بلده ولم يمش في جنازتــه تســعين‪ ،‬خوفــا من‬
‫فرعــون وملئــه أن يفتنهم‪ ،‬وإن فرعــون لعــال في األرض وإنــه لمن المفســدين‪ ،‬كمــا رأينــا في‬
‫تهاوي صنم صدام الذي حكم باإلعدام وهو قليل عليه‪ ،‬ويوم القيامة الظلم اليوم‪...‬‬

‫‪271‬‬
‫الصادق النيهوم الليبي‬
‫يتعجب المرء حين يسمع أفكارا إنسانية من ضابط انقالبي‪ ،‬كما حدثنا القذافي من األمم المتحدة‬
‫عن حق الفيتو ومجلس الرعب ـ عفوا مجلس األمن ـ أو حين يسمع منه إنسانية الحج‪ ،‬وأن البيت‬
‫حرام للناس جميعا القانع والمعتر‪.‬‬
‫ولكن من يتتبع أفكار الصادق النيهوم الليبي يعرف المصدر‪ .‬وأن الضابط االنقالبي يقتبس منه‬
‫حذو القذة للقذة مع أن األخير ودع جمهورية الخوف والبطالة وصحراء المختار مبكرا‪ ،‬بعد أن‬
‫ترك خلفه سلسلة من الكتب جديرة بالقراءة‪ ،‬قبل أن يموت صغيرا في عمر ‪ 58‬سنة‪ ،‬مثل (محنة‬
‫ثقافة مزورة) و (إسالم ضد اإلسالم) و(قرود ‪ ..‬قرود)‪.‬‬
‫وأعتبر أن أسلوب النيهوم في الكتابة مدرسة‪ ،‬يجب أن يمر فيها أي كاتب عربي‪ ،‬يريد دخول لعبة‬
‫اللغة‪ ،‬كما يقول الفيلسوف النمساوي فتجنشتاين‪ .‬كما حصل مع كتابات (أرنست همنغواي)‬
‫األميركي الذي ابتدع أسلوب الكتابة القصيرة‪.‬‬
‫وفي قناعتي فإن الكاتب العربي حتى اليوم ما زال يميل إلى أسلوب اإلنشاء المطول والسجع‬
‫الفارغ‪ ،‬إلى درجة أن عالم االجتماع العراقي علي الوردي دعا إلى ثورة فعلية في طريقة الكتابة‬
‫في العالم العربي يتخفف فيها العقل العربي من أثقال النحو والصرف‪.‬‬
‫وحقيقة أنا شخصيا كنت أتعجب من أفكار (الكواكبي الحلبي)‪ ،‬في كتابه (طبائع االستبداد‬
‫ومصارع االستعباد)‪ ،‬وكيف يمكن لحلب أن تنتج في القرن التاسع عشر‪ ،‬مفاهيم لم تتعمم في‬
‫عواصم العالم العربي حتى القرن الواحد والعشرين! حتى عرفت المصدر‪ ،‬فلوال فكر الثورة‬
‫الفرنسية من فولتير وديدرو وروسو وأتيين دي البواسييه ومونتانييه‪ ،‬لما أمكن لهذا الحلبي عفوا‬
‫أن يشم رائحة المعاصرة‪ .‬ومن يتنقل في حلب يعرف طبيعة االستحكامات العقلية الموجودة فيها‪.‬‬
‫وكان السبب في هذا تنقل الرجل واحتكاكه بالفكر الثوري الذي كان يتسرب عبر مسامات ضيقة‬
‫جدا من الجواسيس العصملية‪.‬‬
‫وصديقنا االنقالبي القذافي الذي يشبه كاسترو في كوبا وانقالب ثكنة مونكادو‪ ،‬حسب الرواية‬
‫األسطورة التي تكرر على أسماع الناس في الجزيرة المنكوبة بالطاعون العائلي! مازال يحكم هو‬
‫وذراريه مثل أتيال من الهون‪ ،‬وكاتبغا من الساللة األليخانية‪ ،‬مقلدا أسر التشن والمغول في حكم‬
‫الصين من القرن الثالث عشر‪ ،‬باسم مستحدث من اللجان الثورية‪.‬‬
‫واألسماء ال تعني الحقائق‪ ،‬وفي القرآن أن األسماء ليس لها رصيد من الواقع والحقائق!‬
‫إن هي إال أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل هللا بها من سلطان‪.‬‬
‫كما في تعبير النيهوم عن التزييف؛ فيكسب القاموس كلمة ويخسر الواقع حقيقة‪.‬‬
‫ونرجع إلى الفكرة التي طرحها العقيد االنقالبي عن الظلم الموجود في العالم‪ ،‬بمصادرة إرادة‬
‫العالم وتعضيل وتعطيل والدة العالم بحق النقض (الفيتو)‪ ،‬هي فكرة سليمة يجب أن نعترف له‬
‫فيها إن نقلها عن النيهوم ولكنه خلط عمال صالحا وآخر سيئا‪.‬‬
‫أو بتعبير القرآن لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‪.‬‬
‫فإذا كان مصير العالم أصبح في يد خمس دول ال يبلغ تعداد سكان أربعة منها عدد سكان الهند‪،‬‬
‫فإن مصير ليبيا كله مصادر بيد رهط من اآللهة اليسبقونهم بالقول وهم بأمرهم يعملون‪.‬‬
‫أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب األبيض واألخضر!‬
‫إن المتتبع لمسرحية الممرضات البلغاريات ولوكربي‪ ،‬ومقهى البيل في برلين عام ‪1986‬م‪،‬‬
‫والطائرة الفرنسية يوتا المنسوفة فوق النيجر عام ‪ ،1989‬وحفالت الدم في ليبيا‪ ،‬يتشكك جدا في‬
‫مصداقية الطرح ويكرر ما قاله القرآن كبر مقتا عند هللا أن تقولوا ماال تفعلون‪.‬‬
‫أو هي كما جاء في لعبة معاوية مع علي ر في معركة صفين عن مطالبته بدم عثمان؛ هي كلمات‬
‫حق أريد بها باطل‪ ،‬وكذلك هي كلمات العقيد االنقالبي‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫ولذا اعتبر النادي الدولي‪ ،‬كلمات االنقالبي استراحة ترفيهية ظريفة للتنكيت‪ ،‬قام بها انقالبي‬
‫خطف وقت األمم كما خطف ليبيا مثل ارتهان طائرة بيد قراصنة؛ فتكلم بدل ثالث أمم‪ ،‬ولم‬
‫يأخذوه مأخذ الجد‪ ،‬إال مجموعة من مجانين العالم العربي‪ ،‬وهم أكثر من رمال الربع الخالي‪.‬‬
‫ونقتبس من فقرات الطبيب الفلسطيني الذي سقط في فخ القذافي في قصة الممرضات قال‪:‬‬
‫كنا نعذب عرايا أنا والممرضات في غرفة واحدة‪ ،‬ينظر بعضنا إلى بعض مكشوفي العورات قد‬
‫ألجمنا الرعب والعرق‪ ،‬وأضاف‪ :‬إنني أخجل أن أقول لكم ما فعلوه بنا‪ ،‬ولكن اثنين من الجالدين‬
‫سوف أتتبعهم قضائيا ولو التحفوا السماء وافترشوا الغبراء وآلخر يوم في حياتي‪.‬‬
‫وبتعبير النيهوم؛ هل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟‬

‫‪273‬‬
‫الفيلسوف إبراهيم البليهي‬
‫في هذه الدنيا الفانية التي هي ليست دار أمان بحال‪ ،‬أرسل هللا لي أناسا من ضمير الغيب‪ ،‬هم‬
‫من ثرواتي المعنوية في هذه الدنيا المتالشية‪ ،‬وأمانة في عنقي قبل أن يخطفني الموت‪ ،‬علي‬
‫أن أسجل مالحظاتي عن أناس يبعثون األمل في نهضة األمة‪ ،‬ويقظة العقل من سبات‪.‬‬
‫من هؤالء الفيلسوف إبراهيم البليهي‪ ،‬الذي يذكرني بذي العقل الجبار إبراهيم النظام‪.‬‬
‫البليهي عقله آلة جبارة في نظام الفكر؛ فبهداهم اقتده‪..‬‬
‫إنه األمل في ظلمات اإلحباط‪ ،‬ونور الوعي في دياجير التعصب والعبث والفساد‪.‬‬
‫عقل مستنير‪ ،‬وموظف نظيف‪ ،‬وصائد كتب محترف‪ ،‬ومفكر عالمي الثقافة بجدارة‪ ،‬ومخترق‬
‫آلفاق جديدة مثيرة في المعرفة‪ ،‬بل وصاقل مفاهيم ومصطلحات جديدة في الفكر‪ ،‬وناقد صارم ال‬
‫يرحم لكل صنوف التخلف والكسل والفوضى والعبثية‪..‬‬
‫وقبل ذلك امتالكه تلك الوصفة السحرية في الجمع بين (التقوى) و(الوعي)‪ ،‬وهي ما حيرت‬
‫عمر بن الخطاب ر حين كان يقول‪ :‬اللهم إني أشكو إليك ضعف التقي وقوة الفاجر‪.‬‬
‫وهي الوصفة التي يكررها القرآن في الجمع بين الوظائف النفسية والفنية إلتقان األعمال؛‬
‫النبي انه ناصح أمين‪ ،‬وموسى القوي األمين‪ ،‬وعفريت من الجن يحضر عرش ملكة سبأ‪.‬‬
‫القوة هي تحقيق الشروط الفنية‪ ،‬واألمانة هي تحقيق الشروط النفسية‪.‬‬
‫وإبراهيم البليهي هو من ذلك الصنف النادر‪ ،‬الذي يجمع بين الخلق والتقوى والوعي‪ ،‬في‬
‫مزيج يذكر بالنبوة في وقت ليس فيه نبوة بعد ختم النبوة‪.‬‬
‫ولكن كيف بدأت رحلة تعرفي على هذا الكنز اإلنساني‪.‬‬
‫بدأت من جلسة عادية في قسم السكن في المشفى التخصصي في القصيم‪..‬‬
‫كلمتان ولكنهما من جغرافيا للفكر مختلفة‪..‬‬
‫األدوات المعرفية‪ ..‬تماما مثل لو سمعت جراحة النوتيس الحديثة؟ أو الكواركز من‬
‫الفيزياء النووية؟ أو إنسان نياندرتال من األنثروبولوجيا؟‬
‫كلمتان ولكن توحي بالرحلة المعرفية ومغامرات الفكر‪ ،‬والفضاء الذي يسبح فيه العقل‪..‬‬
‫األدوات المعرفية ‪..‬‬
‫هاتان الكلمتان طرقتا أذني في جلسة ضمت عشرين شخصا كلهم بلباس الغترة والعقال‪ ،‬ما‬
‫ذكرني بطيور البطريق‪ ،‬فال يميز أحد عن آخر‪ ،‬وكبير عن صغير‪.‬‬
‫ما يميز فقط لحن القول‪ ،‬والمفردات المستعملة‪ ،‬وطبيعة اللغة المعرفية؟‬
‫في تلك الجلسة سمعت للكل وكنت متميزا عنهم بلباسي الخاص اإلفرنجي؟ حتى فرغ القوم من‬
‫الكالم‪ ،‬فعزلت بسرعة شخصين‪ ،‬وسألت كال عن اسمه؟ كان الثاني الفيلسوف إبراهيم البليهي‬
‫الذي شابه القوم في لباسه فلم يتميز‪ ،‬وتحدث فتميز‪..‬‬
‫والمرء مختبئ تحت لسانه كما يقال‪..‬‬
‫ثم زرته في منزله فصرخت أكتب الفلسفة في القصيم؟‬
‫كانت مكتبة زاخرة باأللوان واألحجام من الكتب فعرفت أين يقيم عقل البليهي‪ ،‬واكتشفت المكان‬
‫الذي ينبض فيه قلبه بصدق‪.‬‬
‫المكتبة هي عقل اإلنسان الممتد‪ ،‬فإن دخلت منزال عرفت أين يعيش صاحبه؟‬
‫أوال‪ :‬هل يوجد مكتبة في البيت أم ال؟ فإن لم توجد مكتبة فاعلم أن صاحب البيت عنده معدة‬
‫ولكن بدون عقل‪ ،‬مثل أي كائن رخوي؟‬

‫‪274‬‬
‫عفوا من التعبير ولكنها حقيقة‪..‬‬
‫فإذا رأيت العناية الفائقة للكريستال والبلور والثريات والسجاد والتحف ولكن بدون كتب؛ فاعلم‬
‫أن صاحب البيت يعيش كما وصف القرآن‪ ،‬وجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة‪ ،‬ومعارج عليها‬
‫يظهرون‪ ،‬ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون‪ ،‬وزخرفا‪ ،‬وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا‬
‫واآلخرة عند ربك للمتقين‪ .‬ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين‪ .‬وإنهم‬
‫ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون؟‬
‫هذه واحدة والثانية اليعني ازدحام الكتب‪ ،‬وامتالء الرفوف تحليقا في التفكير وانعتاقا من‬
‫التقليد‪ ،‬بل قد يكون صاحبه أسير الكتب العتيقة والفكر القديم وهو ال يشعر‪ ،‬فمن مأل بيته بكتب‬
‫السحر تحول إلى ساحر‪ ،‬ومن مأل رفوفه بكتب النحل والنمل تحول إلى نحال وبقال وعتال‪.‬‬
‫وآية ذلك كما حدث معي حين زرت رجال قد ازدانت مكتبته باألعقاب المذهبة؛ من كتب النسفي‬
‫والحصفكي واالسفراييني والبندكي والطباطبائي وابن الجوزي والجوزية‪.‬‬
‫قال لي ما رأيك في مكتبتي؟ قلت له المسئول مؤتمن‪ ،‬ولكن أنت أخ فاضل تتحمل نقدي‬
‫وكالمي‪ ،‬فأنت طبيب وجراح وتعلمت ليس طب (الزهراوي) وعلم الفصادة وأسطورة الشمم‬
‫والحجامة‪ ،‬بل فن جراحة العظام من بوهلر وكيتشنر وإندر‪ ،‬واللقاحات ضد البوليو من سالك‬
‫وسابين‪ .‬وهوية جراثيم السل من كوخ ولقاح عضاض الكالب المسعورة من باستور‪ .‬وجراحة‬
‫األوعية الدموية من ليريش ودبغي وفولمر‪ ،‬وجراحة القلب من كولي وكريستيان برنارد‪.‬‬
‫والبطن والدرق من كوخ وساوربروخ‪ ،‬وجراحة المناظير من سيم كورت‪ ،‬واألشعة والسونار‬
‫من رونتجن األلماني وتيسلر الصربي ودوبلر النمساوي‪.‬‬
‫متوقفين في الزمن‬
‫وهذا ليس إنقاص قدر لهم ولكنهم قوم عاشوا زمنهم‪ ،‬ونحن نعيش خارج زمننا في الفضاء‬
‫الموحش‪ ،‬خارج المركبة الفضائية العالمية معرضين ألشعة الكون القاتلة؟‬
‫والمشكلة مزدوجة؛ فنحن متوقفين في الزمن بأقل مما كان عليه النظام وابن سينا وابن الهيثم‬
‫والفارابي‪ ،‬ولم نصنع العالم الحديث أو نشترك في صناعته‪ .‬لذا فنحن مترنحون ال نفهم العالم‬
‫المعاصر مثل الجن األزرق بألف وجه كما جاء في أسفار السندباد البحري؟‬
‫ومن يملك مخابر البحث‪ ،‬ومؤسسات العلم‪ ،‬والصواريخ النووية‪ ،‬ومصارف المال‪ ،‬ومسح‬
‫قيعان البحار‪ ،‬وخرائط القطب الجنوبي حيث ال حياة‪ ،‬وبنى له بيتا على سطح القمر‪ ،‬وأرسل‬
‫الباثفايندر إلى سطح المريخ حيث ال أوكسجين‪ ،‬هو الغرب وليس العالم اإلسالمي‪.‬‬
‫وكل ثمانية قروش ونصف من أصل تسعة هي في جيب الرأسماليين الغربيين‪ ،‬وامتدادهم‬
‫للصين واليابان والشرق األقصى‪.‬‬
‫والعالم كله تحول إلى ديجتال قلبه النابض نيويورك‪ ،‬فإذا أصيب بصدمة الرهن العقاري من‬
‫عقارب العقارات بسم زعاف‪ ،‬انتقل الشلل ألطراف العالم بأجمعه‪ ،‬فتخسر أمريكا ‪ 598‬ألف‬
‫وظيفة‪ ،‬ويتبخر من أيدي الكويتيين البلد الترانزستور ‪ 31‬مليار دوالر‪ ،‬وأما األمارات فالرقم‬
‫يدور حول التريلوينات‪.‬‬
‫هذه المعلومات وأدق منها وأعمق كلها تسمعها في مجلس البليهي‪ ،‬فال لغو وال تأثيما‪..‬‬
‫صياد الكتب‬
‫إنني أعترف أنني تعرفت على بيت (صياد الكتب) على العديد من المؤلفين والمفكرين‪،‬‬
‫وبعضهم كان جديدا علي من الكتب‪ ،‬وبعض الكتب كانت جديدة علي لمؤلفين كنت اتتبع كتاباتهم‬
‫بشغف‪.‬‬
‫في بيت البليهي قضمت كتب النيهوم قضما والتهاما مثل آيس كريم في صيف قائظ‪ ،‬وكنت قد‬
‫تعرفت على أول كتاب له عند الشيخ الموسى في حلب‪ ،‬في مسجد الفرقان‪ ،‬فأتيت على الكتاب‬
‫في جلسة واحدة‪ ،‬مثل غريق يخبط في كل جنب للنجاة‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫وقد فتح علي من بعض أفكاره شقوقا في سد يأجوج ومأجوج الفكري‪ ،‬وذكرني بمالك بن نبي‬
‫وجودت سعيد‪ ،‬وهم شيوخي وأساتذتي‪ ،‬ولكن بن نبي يتفوق على النيهوم انه صاحب مدرسة‪،‬‬
‫أما النيهوم فهو صاحب لمعات‪ ،‬وهي لمعات رائعة من برق ورعد في ليل الفكر في العالم‬
‫العربي‪.‬‬
‫عند البليهي تعرفت على المزيد من (محنة ثقافة مزورة) و(إسالم ضد اإلسالم) للنيهوم‪ ،‬وعلى‬
‫حسين كامل في (وحدة المعرفة) و(المختارات)‪ ،‬و(بيجلز) في (شيفرة نظام الطبيعة)‪ ،‬ووايتهد‬
‫في (مغامرات الفكر)‪ ،‬والوردي في (طبيعة الشخصية اإلنسانية) و(وعاظ السالطين) و(خوارق‬
‫الالشعور)‪ ،‬و(النظرة العلمية) و (صور من الذاكرة) لبرتراند راسل‪ ،‬و(اإلنسان يبحث عن‬
‫المعنى) لفيكتور فرانكل‪.‬‬
‫خليط رائع من علوم شتى‬
‫اجتمعت بخليط رائع من علوم شتى في مكتبته التي ال تكف عن االتساع فأكلت غرفتين ثم‬
‫التهمت الطابق العلوي فغرق بينها في غرفة نومه‪ ،‬وأنا أحاول على غفلة منه التعرف على‬
‫كتب جديدة مثل الدرر في محيط لجي‪ ،‬أغافله حين يخرج كعادته في إكرام الضيف بالكالم‬
‫والفكر والتمر والقهوة والشاي المعدة بعناية‪ ،‬ألنه ال يريد أن تكون الزيارة لكتبه بل له ومعه‬
‫الحق في هذا‪ .‬فتعرفت على كتب في النسبية وعلم النفس وميكانيكا الكم وفلسفة التاريخ‬
‫والفيزياء النووية والجغرافيا المعاصرة وعلم السياسة والجيوبوليتيك وعلم االجتماع وعالم‬
‫المرأة والجنس والطاقة والليزر والكشوفات وموت الحضارات؛ فأنا أدين له وأعترف بأنه كان‬
‫من مصادر الطاقة لدي ومزودي ورافعي في العلم بهذا االطالع الذي كنت في أمس الحاجة له‬
‫في بيئة تقتل العلم قتال‪..‬‬
‫كنت خارجا من صالة العشاء وأنا أتحدث لطبيب متخصص في الجهاز الهضمي من فرنسا‪ ،‬هل‬
‫اطلعت على كتابة توينبي في التاريخ؟ أجاب‪ :‬ال قلت معقبا وبشيء من التسرع‪ :‬إنها كارثة؟‬
‫نظر إلي وضحك حتى كاد أن يسقط؟ إنها كارثة لك وليس لي؟‬
‫استدركت قولي فقلت‪ :‬نعم معك حق؟‬
‫وقلت في نفسي لقد غلبت يا خالص في نادي الجهالء؟‬
‫البليهي إذا سمع بكتاب جديد‪ ،‬أو فيلسوف محدث‪ ،‬أو كتاب صدر ال يعرفه‪ ،‬فتح للسمع أذنيه‪،‬‬
‫وللقلب أبوابه‪ ،‬فهو رجل يقدر أهل العلم‪ ،‬ويعرف مقامته‪ ،‬وال يخاف من منافستهم‪ ،‬بل يؤدي‬
‫لكل ذي حق حقه‪ .‬ويعرف العميقين من السطحيين والعلماء الفحول من المتطفلين؟‬
‫قصة الكاهن (جان مسلييه)‬
‫كنت يوما أتحدث عن قصة الكاهن (جان مسلييه) من كتاب سفر الحضارة لديورانت؟ قال هل‬
‫تعلم في أي مجلد هو وأين القصة؟ ثم أشار إلى أحد زوايا مكتبته الضخمة إن كامل الموسوعة‬
‫هناك‪ ،‬وحين بدأت عيني تزوغان في الرفوف المزدحمة لملياردير الفكر والكتب‪ ،‬وقع عيني‬
‫على كتاب (ويليام شيللر) عن النازية الكتاب األخضر بأربع مجلدات‪ ،‬قلت‪ :‬إنه عندك قال نعم‬
‫وقرأته؟‬
‫أحضرت الجزء الذي يتحدث فيه الكاهن مسلييه وكيف نشر فولتير بحذر عهده الجديد وكان‬
‫الرجل راعيا ألبرشية طول عمره‪ ،‬سخيا على الفقراء‪ ،‬يقوم بأعمال الكنيسة على خير وجه‪،‬‬
‫فلما مات كان قد كتب في حدود ثالثين صفحة وصيته‪ ،‬فلما قرأ الناس وصيته ذهلوا من كفره‬
‫العجيب بالصليب والمصلبة والبابا والكرادلة‪ ،‬فنبشوا قبره ولعنوه وتبرؤوا منه‪ ،‬حتى فولتير لم‬
‫ينشر كامل إلحاد الرجل في البابا والكنيسة‪.‬‬
‫حين قرأت عليهم طرفا من الوصية نظر البليهي إلى ابنه الذكي النبيه عمر وقال‪ :‬انظر عمك‬
‫جلبي كيف يحفظ الكتب؟ قلت له إنه االهتمام‪..‬‬
‫وكان البليهي قد كتب مقالة ممتازة عن عبقرية االهتمام‪ ،‬وأنا واظبت على االحتفاظ بأرشيف‬
‫خاص له‪ ،‬تحمل مقاالته األصلية التي نشرت في جريدة الرياض‪ ،‬وما زالت عندي بورقها القديم‬

‫‪276‬‬
‫األصفر‪ ،‬وكنا نتناوب في نفس صفحة (حروف وأفكار) من الجريدة‪ ،‬فيكتب كل منا مقالة واحدة‬
‫في أسبوعين‪ ،‬وكانت جريدة الرياض كريمة معي فكنت أكتب أحيانا مقالة بأكثر من ‪4000‬‬
‫أربعة آالف كلمة‪ ،‬تمأل صفحة كاملة من الجريدة‪ ،‬ولكنها موثقة جدا‪ ،‬متعوب عليها جدا‪ ،‬معتنى‬
‫بها جدا‪ ،‬مدققة جدا‪ ،‬بالكاد فيها أخطاء‪ ،‬ومعها المراجع والهوامش فما زلت أعتز بذلك اإلنتاج‬
‫حتى اليوم‪ .‬وكل مقالة كانت ورقة بحث حقيقية‪..‬‬
‫حتى انفصلنا وما زال هو يكتب بنفس الوتيرة والعمق والدقة والتوثيق‪..‬‬
‫ليس هذا فقط بل كنت أغزو مكتبته وهو يغزو مكتبتي‪ ،‬ومع أنه الشحيح في إعارة الكتب فقد‬
‫كان يمدني بطاقة ال تنفد من المعين المعرفي‪ ،‬بل كنا أحيانا نتسابق على كتاب ال نعرف كيف‬
‫نحصله؟ حتى يهيئ هللا لنا نحن االثنين من يأتينا به‪ ،‬فإن كانت نسخة واحدة عملنا منها أكثر‬
‫من كوبي كما جرى معنا في كتاب كلود برنارد في (الطب التجريبي) الذي بقينا نطارده عشرين‬
‫عاما‪ ،‬حتى حصل لي الكتاب صديق تشادي سرا من مكتبة اإلسكندرية وعلى شكل كوبي‪.‬‬
‫قصة ابن حنبل والخباز‬
‫وما فعله البليهي معي حين أدخلني عالم الصحافة في جريدة الرياض وراءها قصة عجيبة‪،‬‬
‫تقول وما تشاءون إال أن يشاء هللا‪ ،‬فقد انهمكت في الطب في عسير‪ ،‬حتى تعسرت علينا‬
‫األمور‪ ،‬فآثرت الرحيل من هناك وفي الحلق غصة‪ ،‬ولم أعلم أن قصتي مع القصيم مثل قصة‬
‫ابن حنبل والخباز‪ ،‬فقد أراد يوما النوم في مسجد وهو على سفر‪ ،‬فمنعه خادم المسجد من‬
‫المكث‪ ،‬وأمسك بتالبيبه يجره خارج المسجد؛ فمر رجل خباز وآواه‪ ،‬والحظ ابن حنبل ورع‬
‫الرجل وتقواه وكثرة دعائه‪.‬‬
‫قال الرجل لقد استجاب هللا لكل دعوة دعوتها إال واحدة؟‬
‫قال ابن حنبل وما هي؟‬
‫قال أن أتعرف على ابن حنبل؟‬
‫قال أنا ابن حنبل!‬
‫نظر الخباز بعينين مغرورقتين بالدموع‪ ،‬وقال‪ :‬لقد جرك الرب جرا بيد الخادم إلي ليستجيب‬
‫دعائي؟؟‬
‫وأنا جرني هللا جرا من الجنوب إلى القصيم؛ ألنه سيصنعني على عينه في الصحافة‪ ،‬ومن‬
‫الرياض انتقلت للشرق األوسط ومنحت جائزة أفضل مقالة في العالم العربي عام ‪1997‬م‪.‬‬
‫وكانت القصيم لي غار حراء حيث تخمرت وتعبت على األبحاث‪ ،‬وكان ابتعاد ملهمتي ليلى سعيد‬
‫يدفعني إلى االعتكاف؛ فكنت راهب علم‪ ،‬فأكرمني هللا بفراق ليلى حمل بعير من العلم‪ ،‬حتى‬
‫اختارها هللا إلى جواره بعد اللقاء بقليل‪ ،‬وكنا في هجرة إلى كندا‪ ،‬فهاجرت نهائيا هذا العالم؛ فأنا‬
‫بعدها في صحراء بدون بوصلة وماء وزاد وخريطة‪..‬‬
‫عمل ابن طفيل الفيلسوف مع ابن رشد‬
‫وكان البليهي صاحب الفضل في نفض مواهبي وتسخيرها للصحافة في المملكة‪ ،‬فأنا أعترف له‬
‫بذلك‪ ،‬وهو يذكرني بعمل ابن طفيل الفيلسوف مع ابن رشد حين قدمه للملك الموحدي؛ فكانت‬
‫فاتحة تعميم أفكاره قبل المحنة الكبرى وموت ابن رشد كسيفا منفيا في قرية يهودية إمعانا في‬
‫إذالله؟ ودفن فكر النهضة مع طيات وظلمات التعصب والجهل‪ ،‬فانبجست ينابيعه الحقا في‬
‫بادوا في إيطاليا‪ ،‬ودفنت قرطبة اإلسالمية وإلى األبد عقابا ألهل المدينة الذي عاقبوا ابن رشد‪.‬‬
‫البليهي قاريء نهم‪ ،‬يعرف الكتاب ومؤلفه وسيرته ودار نشره وتاريخه وعدد الطبعات وأنواع‬
‫الترجمات وأفضلها من أسوأها؟‬
‫إنه تاجر ألماس وذهب الكتاب وويل للمطففين‪..‬‬
‫ال مجاملة على حساب الحقيقة‬

‫‪277‬‬
‫دخل عليه أحدهم يوما كأنه يريد خطبة ابنة البليهي البنه‪ ،‬وعائلة البليهي من كرام عائالت‬
‫القصيم‪ ،‬فنظر الثري في المكتبة‪ ،‬ثم ضرب كفا على كف وقال يا حسرتاه عليك ماذا فعلت‬
‫بنفسك؟‬
‫لم يجامله البليهي مع أنه جاء في مشروع خطبة؟‬
‫والبليهي ال يجامل وال يجرح‪ ،‬بل هو في غاية التهذيب واإلكرام‪ ،‬ولكن ليس على حساب‬
‫الحقيقة!!‬
‫قال له البليهي لهذا الثري المتخم بالمال بل أنا حزين عليك؟؟‬
‫وهو ما يذكرني بقول نوح لقومه إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فستعلمون من‬
‫يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم؟‬
‫إن البليهي منظم ألبعد الحدود في مكتبته‪ ،‬ال يضعها حسب الحجوم والمقاييس كما أفعل أنا‪ ،‬بل‬
‫يفعل ما هو أفضل‪ ،‬مثل تنظيم المكتبات التي تحرص على عرض وبيع كتبها‪ ،‬كل كتاب في‬
‫زاويته المخصصة‪ ،‬فأهل التاريخ مع جماعتهم‪ ،‬والفلسفة في حزبهم‪ ،‬والجغرافيا في زاويتهم‪،‬‬
‫فإذا جلست في مكتبة البليهي والفالسفة يحدقون بك من كل جانب شعرت أن نسمة عليلة من‬
‫أرواحهم تهب عليك فتنقل األرواح إلى بالد األفراح‪..‬‬
‫والجلسة مع البليهي يجب أن يتبع المرء فيها تكتيكا محفزا كي ينطلق البليهي في الحديث ألنه‬
‫من النوع المقل في الحديث‪ ،‬ومن كثر كالمه كثر غلطه‪.‬‬
‫أو هو عند الفالسفة بحر يتدفق وموج يتالطم في نسمات منعشة والبليهي منهم‪.‬‬
‫ومن أجمل ما فيها تصيده لألفكار وتطويرها ولو بيد غيره‪ ،‬كما هو الحال في نهمه للمعرفة أيا‬
‫كان مصدرها؟‬
‫توليد مقالة موت األمم؟‬
‫كنا يوما نتبادل الحديث فتطرقت لفكرة موت األمم فأنصت بخشوع وقد انقدحت عيناه بنور إلهي‬
‫وقال أرجوك اكتب هذه المقالة ووسعها‪ ،‬وكانت جلسة مباركة تلك الليلة‪ ،‬ألن المالئكة حفتنا‬
‫وذكرنا هللا فيمن عنده‪ ،‬وتولدت عندي مقالة ـ وبفضله ـ من أجمل ما كتبت ومازلت أطورها عن‬
‫موت األمم‪ ،‬كون اآلية القرآنية تتحدث أحيانا عن موت األفراد مثل وجاءت سكرة الموت‬
‫بالحق‪ ،‬أو من مثل وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت‬
‫توفته رسلنا وهم ال يفرطون‪ ،‬فالحديث هنا عن الموت الفردي‪.‬‬
‫ولكن من الغريب أن هناك آيات تتحدث عن موت األمم " لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم ال‬
‫يستقدمون ساعة واليستاخرون"؟‬
‫فلما بدأت في شرحها ذهل البليهي‪ ،‬ودفعني دفعا إلنتاجها؛ فالمقالة يعود فضل إنتاجها إلى‬
‫تشجيعه وليست الوحيدة‪ ،‬فهو من شحنني أيضا بالروح السالمية‪ ،‬ذلك أن الالعنف هو الصورة‬
‫المقابلة لوالدة العقل االستداللي‪.‬‬
‫وأنا أستشيره حتى في قضاياي الشخصية فال يضن وال يبخل فهو نعم الصديق الوفي‪..‬‬
‫البليهي فلتة وطفرة في عالم الفكر‬
‫يعتبر البليهي فلتة وطفرة في عالم الفكر والصحافة والكتابة‪ ،‬فهو شق الطريق إلى مفاهيم‬
‫مقلقة مزعجة ولكنها مثيرة محرضة؟ مثل تأسيس علم الجهل وبنية التخلف‪ ،‬ولكن عنده من‬
‫المقاالت المحلقة الكثير مثل وباء العنف‪ ،‬وكان سباقا لما يحدث في المنطقة‪ ،‬ومنها مقالته في‬
‫(عبقرية االهتمام) أو مقالته الساحرة حول (هالة الغياب وسحر الغموض)‪.‬‬
‫وقد دفعني تجاهل هذه القاعدة إلى خسارة أقرب الناس إلي‪ ،‬فاألمر كما نرى جد وليس بالهزل‪..‬‬
‫ومن الصفات النفسية الرائعة التي تدل على عمق إيمانه تعامله مع الموت فقد زلزلت مرتين‬
‫األولى مع موت صديقي أبو طه والثانية مع أحب الناس إلي رفيقة عمري ليلى سعيد وأنا أمسك‬
‫برأسي فال أصدق؟؟‬

‫‪278‬‬
‫كان يقول لي دوما وبلهجة حريصة وصارمة إنها حقيقة حقيقية كونية أننا رحالة في هذا العالم‬
‫المتفاني فلنستقبل الموت بشجاعة فورب السماء واألرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون‪.‬‬
‫ومن قصص زهد الرجل وعفافه قصص ال تنتهي‪ ،‬وكلها آية في نظافة هذا الرجل وزهده‬
‫وتقواه وورعه‪.‬‬
‫وهو غير حريص على استعراض عضالته األخالقية‪ ،‬بطرا و رئاء الناس‪ ،‬بل يطمع أن يحفظها‬
‫صدقة مخفية علها تنفع يوم الحساب‪.‬‬
‫فأين عيون الناس المتلمظة للمناصب والمال؟‬
‫إنها قصص البليهي تذكر بالجيل الصالح من الحواريين والصديقين‪.‬‬
‫أما الرجل في منصبه كرئيس عام بلديات القصيم‪ ،‬حيث األراضي والثراء‪ ،‬فقد ابتنى الرجل‬
‫لنفسه بيتا‪ ،‬بناه له ابن عمه دينا بالتقسيط‪ ،‬وليس في قدرته أن يشتري سيارة البنه‪..‬‬
‫وفي عمله حول القصيم الصحراوية إلى جنات بهجة للناظرين‪ ،‬وكان يفكر في تحويل المملكة‬
‫إلى غابة مدهامة‪ ،‬ولكنه حورب في شجره جهال وضالال فقطع الكثير الكثير‪..‬‬
‫إنه زاهد في الدنيا متصوف بدون صوف وصوفية ومشيخة‪ ،‬بل جمع بين الفلسفة والتصوف‪،‬‬
‫وفي تقديري هي أعظم وصفة خالص لإلنسان في هذا الدنيا فيمسك التبر في يده وكأنه تراب‪.‬‬
‫ويبقى السؤال المهم في النهاية؟‬
‫كيف أمكن له أن ينعتق من بيئة مغلقة إلى عالم الفكر الرحيب؟‬
‫وجوابي هو من علم الفضاء؟ فحتى تنطلق المركبة الفضائية يجب أن يكون اختراقها للحاجز‬
‫السماوي بطاقة غير عادية‪ ،‬وبسرعة غير عادية‪ ،‬فإذا تحررت من جاذبية األرض رأت‬
‫الملكوت‪ ،‬وسبحت بيسر في الطبقة العلوية‪ ،‬وكذلك البليهي فقد كان عليه أن ينخلع وينعتق من‬
‫البيئة الجاذبة بأشد من قانون نيوتن للحجارة الثقيلة‪ ،‬وبطاقة غير عادية‪.‬‬
‫والبليهي بتوديعه البيئة‪ ،‬تحول كائنا آخر‪ ،‬ومن ترابه شادت الثقافة كونا آخرا‪.‬‬
‫كما حصل معي أنا في القامشلي‪ ،‬حيث ترعرعت؛ فكان أقاربي يأتون إلي ويقولون حذار من‬
‫القراءة واالطالع‪ ،‬فهو يضربك بمس من الجنون‪.‬‬
‫لقد سمعنا عن أناس انشغلوا بالكتاب ففقدوا عقولهم؟‬

‫‪279‬‬
‫جودت سعيد‬
‫داعية الالعنف السوري‬
‫سيرته وأفكاره وشخصيته‬
‫وقلت أنت تدرس أختيك تفسير القرآن؟ وكان هذا ونحن نركب الباص العمومي سوية في‬
‫دمشق عام ‪ 1965‬قبل دخول سوريا ظلمات البعث‪ .‬فالتفت إلي وقال أتعجب من هذا؟ لقد‬
‫درستهم القرآن مرتين حتى اآلن‪ .‬وبعد مصاهرتي معه عرفت نوعية زوجتي ليلى سعيد وأختها‬
‫سعدية سعيد وقدمت كتابي النقد الذاتي للشخصيات الثالث جودت وليلى وسعدية وهم بشر‬
‫مميزون ندر مثيلهم‪ .‬قلت في تقديم الكتاب إلى أخي المفكر جودت سعيد فهو الذي غرس‬
‫النبتات األولى لهذا االتجاه عندي‪ .‬وإلى زوجتي ليلى سعيد التي كان لها الفضل في توفير مناخ‬
‫حماية هذه النبتات الضعيفة حتى كبرت وأثمرت‪ .‬وإلى األخت سعدية سعيد التي أسهمت في‬
‫إحياء الجدل العقلي‪ .‬واآلن سعدية تعيش في الجوالن‪ .‬وزوجتي ليلى سعيد تتنقل معي بين كندا‬
‫والسعودية وسوريا‪ .‬وأما جودت فهو في ظل النظام الشمولي في البلد الثوري حتى يأذن هللا‬
‫بأجله كما حصل في العراق‪.‬‬
‫وأذكر أنني رأيته يومًا وهو منطلق وكأنه ينحدر من صبب وهو في تركيز واستغراق ال أنساه‬
‫وحضور لشيء ال أعرفه ولكن عرفته بعد ذلك عندما يهتم‪ .‬فهو يعيش للفكر وكما جاء في‬
‫وصف الفيلسوف كيف تعرفه؟ وكان الجواب أنه يمشي وهو يقرأ‪.‬‬
‫وجودت سعيد من النوع الذي يقرأ قيامًا وقعودا وعلى جنوبهم وعلى ظهورهم‪ .‬وفي معتقل‬
‫الحلبوني الذي اعتقلنا فيه لصالح المخابرات العامة في دمشق الفرع ‪ 273‬في أبريل ‪1973‬م‬
‫قرأ الشيخ فتاوى ابن تيمية الكاملة وهي حوالي أربعين مجلدا وأشياء أخرى كنا نلتقطها من‬
‫أوراق ممزقة وبقايا جرائد وكنا محرومين منها ومن أي زيارة‪ .‬ومنها العهد القديم الذي كان‬
‫مرميًا مهمًال ممزقا في زاوية فأعاد الشيخ ترميمه وترقيعه ثم بدأ بقراءته وهو مستلق على‬
‫ظهره حتى أنهاه وهو أكثر من ألف صفحة‪ .‬وله طريقة في القراءة فريدة فهو يقرأ كل شيء‬
‫بتمعن ومتعة ثم يستخلص الفقرات التي تنال إعجابه فيجعلها في أول الكتاب المقروء وعندما‬
‫ينتهي من الكتاب يضع في نهايته أنه قرأه بتاريخ كذا وكذا‪ .‬وهي طريقة استفدت بها منه فأضع‬
‫في الصفحات األولى الدرر التي التقطتها وأنا أغوص في عمق الكتاب ثم أرجع إليها فكأن‬
‫الكتاب عندي بأهم أفكاره من وجهة نظري‪.‬‬
‫ترددت كثيرا أن أكتب في هذا الموض‹‹وع ألن‹‹ني ص‹‹هر ج‹‹ودت س‹‹عيد غان‹‹دي الع‹‹رب في ال‹‹وقت‬
‫الحاضر‪ .‬ولكنني أعتبر نفسي أفضل من يعرف‹‹ه أو هك‹‹ذا أزعم لنفس‹‹ي‪ .‬فقراب‹‹تي بالرج‹‹ل قرابت‹‹ان‬
‫المصاهرة والمتابعة فيما ذهب إلي‹‹ه فأن‹‹ا أق‹‹ول م‹‹ا يق‹‹ول وعلى مذهب‹‹ه في (الالعن‹‹ف أو المقاوم‹‹ة‬
‫المدنية السلمية)‪.‬‬
‫ويعود تعرفي على الرجل إلى عام ‪ 1965‬ميالدي عندما حضرت إلى دمشق وكانت عالماتي‬
‫تخولني دخول كلية الطب فقد كنت األول في محافظة الحسكة يومها فانتسبت إليها‪ .‬ومع وضع‬
‫رجلي في دمشق قمت بمسح راداري للوسط الفكري الدمشقي وأحببت دمشق وما زلت فهي‬
‫مدينة عريقة وفيها تنوع ال مثيل له في كل سوريا من المشارب والنحل واألفكار واألحزاب‪.‬‬
‫ولو عس اإلنسان في هذه المدينة األشهر الطوال ما انتهى من اكتشافها فهي مدينة تاريخية‬
‫عجيبة وتوالى على حكمها قدر كبير من الطواغيت فلم يبق منهم أحدا‪.‬‬
‫وأثناء المسح تعرفت على معظم تيارات الفكر الدينية وغير الدينية في العاصمة القديمة‪ .‬وفي‬
‫اإلطار اإلسالمي تعرفت على تيارات شتى منها الحزبية التنظيمية أو الصوفية أو المشايخية‬
‫التقليدية فحضرت على دروس الشيخ (عبد الوهاب دبس وزيت) رحمه هللا‪ .‬وكان يدرس الفقه‬

‫‪280‬‬
‫الحنفي في كتاب (مراقي الفالح شرح نور اإليضاح)‪ .‬وكذلك تعرفت على الشيخ (سعيد‬
‫البرهاني) وكان مريضًا رحمه هللا تعالى يومها‪ .‬كما حضرت درسًا واحدًا لواعظ السلطة أحمد‬
‫كفتارو فنمت فيه وأنا غير آسف على ذلك‪ .‬وتعرفت على نشاط جامع (زيد بن ثابت) الذي كان‬
‫يعج بتالميذ الشيخ (عبد الكريم الرفاعي) رحمهم هللا أجمعين‪ .‬ولكن دروس (جودت سعيد) في‬
‫جامع (المرابط) في دمشق كانت مميزة ولها نكهة مختلفة عن االتجاه التقليدي‪ .‬وكان يلقي‬
‫الدروس بالتعاون مع الدكتور (أمين المصري) رحمه هللا تعالى الذي اجتمعت به في ألمانيا‬
‫الحقًا وحضر كي يجري عملية بروستاتا في سويسرا فكانت منيته في البعد والغربة‪ .‬وكان‬
‫الشيخ أمين المصري يحدثنا عن شخصيات صحابية من السيرة وكان له طريقة إلقاء مميزة‬
‫وما زلت أذكر خطبة له في مسجد الجامعة السورية حينما تحدث عن روح المغامرة عند‬
‫الصحابة وما زلت أذكر أفكار الخطبة وكلماته وطريقة إلقائه وكأنها نقش على لوح من رخام‬
‫الذاكرة‪.‬‬
‫وفي محاضرات أو دروس جودت لفت نظري عنده توجها مختلفا وبحثا عقالنيا واستقاًء من‬
‫مصادر غير ما سمعناه من تيار التقليد الذي كنا أقرب إليه وكان عمري يومها في حدود ‪19‬‬
‫سنة‪ .‬وكنت أفكر في أن أتتلمذ على يد الشيخ سعيد الطنطاوي وكنت ممن يؤمن بالصحبة‬
‫وعندما ذهبنا أنا وياسين آغا الصيدلي إلى بيته كان قد فارق دمشق إلى غير رجعة‪ .‬ولم اجتمع‬
‫به إال الحقًا في مكة وهو شخصية ممتعة‪.‬‬
‫في دروس جودت كانت األوضاع ساخنة في سوريا بعد مجيء حزب البعث إلى السلطة وبداية‬
‫حملة اضطهاد لالتجاه الديني الذي انتقد وصوله إلى السلطة وبدأ مناجزته‪ .‬وبعد وصولي بأقل‬
‫من سنة كنت أدخل سجن المزة العسكري لمدة ‪ 39‬يومًا وهي ثالث أضعاف المدة التي قضيتها‬
‫في مخابرات القامشلي العسكرية قبل عام من تاريخه‪ .‬وكان ذلك عام ‪ 1963‬م في ربيع السنة‬
‫قبل امتحانات الثانوية (البكالوريا) بشهرين وأنا استعد للقفزة الجامعية فتم اعتقالي بسبب‬
‫أحداث مدينة حماة احترازيًا وزربنا أنا وثالثين شخصًا في قبو المخابرات العسكرية وكنت آخر‬
‫من خرج في الليلة ‪ 14‬من االعتقال قبل دخول امتحان الثانوية العامة بـ ‪ 43‬يومًا‪ .‬مع هذا‬
‫حضرت نفسي لالمتحان فيما تبق من الوقت ونجحت بتفوق ودخلت كلية الطب‪ .‬وكانت أيام‬
‫االعتقاالت في ذلك الزمن نزهة لما حدث بعد ذلك‪ .‬وهو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من‬
‫فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف اآليات‬
‫لعلهم يفقهون‪ .‬وكذب به قومك وهو الحق قلت لست عليكم بوكيل؟‬
‫وأما سبب دخولي المعتقل في سجن المزة العسكري للمرة الثانية وهي واحدة من أصل أربع‬
‫اعتقاالت تعرضت لها في ظل نظام البعث بين عامي ‪1963‬م و‪1973‬م أي أنني وعيت وأنا في‬
‫أقبية البعث وغادرت سوريا من سجون البعث‪ .‬وكان سبب اعتقالي في المرة الثانية أحداث‬
‫مسجد األموي واعتقل جودت يومها ولكن لم نجتمع سوية وإنما اجتمعنا بشاب اسمه (مروان‬
‫الخياط) كان معنا في نفس المهجع في سجن المزة العسكري فنقل لنا طرفا من أفكار جودت‬
‫بإعجاب‪ .‬وما زلت أتذكر قراءة الخياط لسورة العنكبوت "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا‬
‫آمنا وهم ال يفتنون"‪ .‬واليوم بعد مرور كل هذا الوقت ما زالت سوريا ترزح تحت الديكتاتورية‬
‫البعثية ويدخل جيل جديد االعتقاالت بسبب دخولهم االنترنيت حتى يأذن هللا بالفرج‪ .‬كما حصل‬
‫مع عبد الرحمن شفيق الشاغوري ابن سعدية أخت الشيخ فقد دخل السجن بسبب قراءته‬
‫لمقاالت للمعارضة وأرسلها لبعض من يعرف‪ .‬ودخل السجن بتاريخ ‪ 23‬فبراير شباط ‪2003‬م‬
‫وما زال رهن االعتقال حتى كتابة هذه األسطر في ‪ 26‬أبريل ‪2004‬م‪.‬‬
‫ويومها في عام ‪1964‬م اشتركنا في مظاهرة دعا لها أناس لم نعرفهم فوقعنا في الفخ وال‬
‫يستبعد أن تكون السلطة قد فعلت ذلك استدراجا للمغفلين وترويعا للمعارضة التي كانت تقف في‬
‫الشارع يومها‪ ،‬قبل قتل األمة ودخولها السبات الشتوي في البراد البعثي لمدة أربع عقود‪ .‬وهذا‬
‫الذي حصل معنا فقد كان فخًا لن نحن الفئران البشرية وكانوا يسمحون لمن يدخل المسجد‬
‫األموي ويلقون القبض على من يخرج‪ .‬عندها شعرت أنني وقعت في المصيدة وال خالص؟‬

‫‪281‬‬
‫واقتحم البعثيون مسجد األموي يومها (عام ‪ )1964‬بالرصاص والعربات العسكرية وقتل أناس‬
‫وتكومنا فوق بعض في صحن المسجد مثل تلة من أجساد البشر والكل يحتمي بالكل مثل‬
‫الفئران المذعورة من فرقعة الرصاص‪ .‬وكان مما فعله البعثيون يومها أن قتلوا ضابطًا حمصيًا‬
‫ورموا جثته أمام عتبة المسجد األموي وانهالوا علينا بالضرب فكنا نعدي وكأننا كما قال القرآن‬
‫"كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة" أي حمر وحشية تهرب من مطاردة األسد ونحن كنا‬
‫كذلك مع نظام األسد اإلجرامي‪.‬‬
‫وما زلت أتذكر والبشر يقفزون أمام رجل يلوح بمسدسين في يديه فإذا وصلوا إلى باب المسجد‬
‫األموي قفزوا فوق العتبة‪ .‬ونظرا ألن جثة الضابط الحمصي كانت ممددة أمام العتبة تماما فكان‬
‫الجميع يقفز فيطأ الجثة‪ .‬فعلوا ذلك تنكيًال بنا‪ .‬أن يهرس بعضنا البعض‪ .‬وكانت الواقعة في أيام‬
‫رمضان فلما قفزت أدركت في اللحظة األخيرة أنني سأطأ الرجل بقدمي فقفزت بأشد وأبعد‬
‫فنجوت من دهسه عليهم من هللا ما يستحقون‪ .‬وفي النهاية حشرونا في المسكية وهي آخر‬
‫سوق الحميدية قبل دخول األموي قرابة خمسة آالف شخص في مساحة ال تتسع ألكثر من‬
‫مائتي شخص وكان بين يدي شاب صغير دمشقي يكاد يختنق فحملته بيدي ورفعته ليستنشق‬
‫الهواء فال يختنق ومر أمامنا ضابط علوي فكان يدخن وينفث دخان سيجارته في وجوهنا زيادة‬
‫في اإلغاظة ألننا كنا في الشهر الفضيل‪.‬‬
‫إنها وقائع انحفرت في الذاكرة وال أنساها‪ .‬وعندما حملونا في السيارات العسكرية لفت نظري‬
‫تدفق الحياة بشكل عادي في الشوارع وكأن شيئا لم يحدث‪ .‬ثم إنهم هددونا باإلعدام ولكن لم‬
‫أصدقهم‪ .‬وفي النهاية أفرغت السيارات حمولتها أمام سجن المزة العسكري بين صفين من‬
‫الجنود يضربوننا عن اليمين والشمال‪ .‬حتى إذا دخلنا السجن حشرونا في مهاجع كبيرة على‬
‫شكل ممر في النصف ومصاطب عالية على الجانبين وكان جالد درزي يضرب من يحشر أمامه‬
‫في المنتصف بحزام جلدي(وضربنا الدرزي والعلوي والسني) وضربني في إحدى الليالي‬
‫(شاوي) أي بدوي من ريف دير الزور أو البوكمال ال أعرف تماما بكابل من سلك كهربي على‬
‫رأسي فما زلت أتذكر طعم األلم حتى اليوم‪ .‬وكانت الضربة على قفاي فأصاب القذال ونجاني هللا‬
‫من نزف دماغي؟ وكان الجالد الدرزي قد ضرب من الناس العدد الكبير وقد تعرق وتعب من‬
‫شدة إيذائه للناس؛ فلما دخلت قفزت إلى المصطبة فنجوت ولم يالحظني وإال أصبحت كالرميم‪.‬‬
‫ثم تابع المسلسل قصته لفترة ‪ 39‬يوما بالنسبة لي حتى أفرج عني من سجن المزة الرهيب‬
‫بأسواره العالية وجدرانه الكئيبة‪ .‬وما زلت أذكر ليلة الدخول األولى إلى سجن المزة العسكري‬
‫وأنا محبط ألنني أدخل السجن ألمر تورطت فيه وفي تلك الليلة جاءنا أبو عبدو أي (أمين‬
‫الحافظ) الذي فتك به الرفاق فهرب من األسد الذي حكمه باإلعدام إلى المجرم صدام حتى كانت‬
‫كارثة العراق في ربيع ‪2003‬م وكلها نتائج طبيعية لنبتة البعث الخبيثة‪ .‬نظر أبو عبدو واشتهر‬
‫يومها بلفظ أبو عبد الجحش في الزاوية وكنا قريب من ثمانين شخصا قال من هؤالء؟ قالوا له‪:‬‬
‫طالب جامعة قال‪ :‬إنهم يتحملوا العذاب اضربوهم جيدا‪ .‬ولم يقصر الشباب فينا‪ .‬فتقدم الجالد‬
‫الدرزي العمالق فبدأ في نتف لحية طالب شريعة فلسطيني‪ .‬وكان هو الذي يستقبل أفواج‬
‫القادمين ويضربهم ضربا مبرحا‪ .‬والجالدون ال دين لهم فقد جلدنا الدرزي والعلوي والسني‬
‫والكل في الجريمة سواء‪.‬‬
‫أثناء هذا تعرض جودت ألكثر من اعتقال في فترة البعث الظالمية‪ ،‬ولكن ما أذكره أنني أتيته‬
‫يوما بعد الظهر وكان يتحدث مع الشباب عن شعر محمد إقبال في جامع المرابط‪ .‬وكان الشباب‬
‫مسحورين به‪ .‬ومن جملة قصص السحر ما حدث حينما دعانا لرفقته إلى دوما وهي ضاحية‬
‫قريبة من دمشق فجلسنا في المسجد بعد صالة العصر وكان من دعانا رجل من بيت الطنطاوي‬
‫ثم طلب منا الحديث فتحدثت أنا من مواعظ المتصوفة عن اليوم اآلخر وكنت متأثرا يومها بشعر‬
‫ومواعظ الصالحين من المتصوفة‪ .‬ثم تحدث شاب جامعي كان يدرس الجيولوجيا فيما اذكر هو‬
‫معاوية برزنجي وأظنه أصبح في أمريكا اآلن فتحدث عن بعض أفكار مالك بن نبي فجاءت‬
‫الشيخ جودت حالة من النشوة بدأ يتمايل منها ويقول هللا ‪ ...‬هللا ‪ ..‬وأنا نظرت فيما حولي مثل‬

‫‪282‬‬
‫الخجول من بضاعتي المزجاة وقلت في نفسي ال شك أن معاوية برزنجي هذا بحر من العلم ال‬
‫قرار له؟؟‬
‫وفي يوم استمعنا له في الجامع األموي ويبدو أن أحد عناصر المخابرات كان من الحضور‬
‫وكان جودت يشرح له كما كان يشرح للجمهور‪ .‬وجودت يعتبر أن السرية خرافة لذا فهو يعبر‬
‫عن أفكاره على طريقة المسيح ما أقوله لكم في اآلذان نادوا به من على السطوح وما أقوله لكم‬
‫في السر قولوه في العلن وهل يوقد المكيال ويوضع تحت الطاولة أم يوضع فوق ليستنير به‬
‫الناس‪.‬‬
‫ومن يحدث جودت على أساس أنها أخبار من األسرار يقول له جودت بشكل صادم ال تحدثني‬
‫عن شيء من األسرار وأن سئلت عنه سوف أقوله فلن أخفي شيئا لو سألتني المخابرات عنه‬
‫فليس عندي أسرار فكانوا يتعجبون منه؟‪.‬‬
‫وفي يوم بعد حديث الجمعة في األموي ذهبنا معه في مجموعة إلى منزله فالتفت إلينا وقال ال‬
‫شك أنكم جياع وليس عندي الشيء الكثير لكم ثم قدم لنا خبزا وطماطم فكانت أشهى من الكباب‬
‫الحلبي‪ .‬والكباب الحلبي يعتبر من أطيب أطعمة السوريين‪.‬‬
‫وفي يوم قلت له بعد درس المرابط وكان يعطي درسه بعد العصر فقلت له أريد أن أزورك قال‬
‫إن بيتي بعيد؟ قلت له سأرافقك ولو إلى رأس الجبل؟ وهذا الذي كان فالرجل ذهب إلى رأس‬
‫الجبل فبنى له عشا فيه‪.‬‬
‫وفي الطريق إلى المنزل كان يركز على أفكار (مالك بن نبي) عن صناعة البشر‪ .‬ومما أذكره‬
‫قوله إن شخصية مثل (حسن البنا) يجب أن ال تمر هكذا بل لها سر صناعة ويمكن تكرار ذلك‪.‬‬
‫ومن أمسك بسر الشيء أعاد تصنيعه‪.‬‬
‫وأعترف اليوم أن هذا الفن بعيد المنال سهل التعبير عنه‪ .‬كمن يتحدث عن تركيب الكولسترول‬
‫وهو لم يسمع بعد بالكيمياء الحيوية‪ .‬واليوم يقول (جون واتسون) الذي اكتشف تركيب المادة‬
‫الوراثية في الستينات والتي انتهت بكشف الجينوم البشري كله مع مطلع القرن الواحد‬
‫والعشرون‪ .‬يقول واتسون " أننا نحتاج إلى ‪ 300‬سنة لفهم ما اكتشفناه؟ فكيف باإلنسان الذي‬
‫يريد جودت تصنيعه؟‬
‫والجينوم البشري ال يزيد عن التركيب المادي وليس النفسي أو االجتماعي؟ بسبب تعقيد‬
‫الموضوع النهائي ودخول عناصر النهائية في اللعبة‪.‬‬
‫وفيما يتعلق بقبول اآلخر فجودت متسامح وأذكر في جلسة له وهي الدرس الشهري عنده في‬
‫أعلى الجبل في عشه في قاسيون ويحضره عشرات الشباب مرة واحدة كل خميس مساًء من‬
‫مطلع كل شهر لتبادل األفكار‪ ،‬وجاء (محمد شحرور) صاحب كتاب (القرآن والكتاب قراءة‬
‫معاصرة) الذي أثار ضجة يومها وكان شحرور كالعادة يدخن بنهم ويتابع ارتشاف فناجين‬
‫القهوة التركية طالبا لها باستمرار‪ ،‬وحصلت بينه وبين بعض الحضور مواجهات‪ ،‬وكان الكل‬
‫ينظر باتجاه جودت ليعقب عليه؛ فأجاب بجملة ال أنساها‪ :‬له الحق في أن يكتب تخيالته ولي‬
‫الحق أن أرفض تخيالته فوضع شحرور يده على رأسه منحنيًا وقال‪ :‬إنني أقبل هذا‪ .‬والشاهد‬
‫أن الشيخ على مذهب أن الخطأ يحق له أن يعيش‪ .‬فكيف بغير الخطأ؟‬
‫ولكن هذه الجدلية هامة ألننا معشر البشر مركبين على ارتكاب الخطأ والنسيان وربنا التؤاخذنا‬
‫إن نسينا أو أخطأنا‪ .‬وجودت لم يصوب شحرور كما لم يخطئه وطرح مبدأ الحياة للجميع‪ .‬ألن‬
‫من يقتل اآلخرين يفتح الباب لقتل نفسه‪ .‬ومن يسمح لآلخرين بالعيش يسمح لنفسه بالوجود‪.‬‬
‫كان شحرور في تلك الجلسة وهو يرتشف قهوته وينفث في وجهنا الدخاخين وينفض طلبته‬
‫كتفه من آثر دخان السجائر تماما مثل تالمذة الصوفية مع الشيخ وكان بين الحين واآلخر‬
‫يطالب بإيقاف المسجلة ألنه سيقول كالما خطيرا‪ .‬وكان الموقف ينجلي أن الكالم عادي‪ .‬ولكن‬
‫جو الرعب شل كل العقول بمن فيهم عقالء القوم‪.‬‬
‫جودت يكبرني بـ ‪ 14‬سنة ويوم أصبحت صهره كان عمري ‪ 24‬سنة وعمره ‪ 38‬سنة في أتم‬
‫نضجه وكان صبورا علي ولم يكن منفرا‪ .‬ولو كان فظا غليظ القلب ما استفدت منه بشيء‪ .‬ومن‬

‫‪283‬‬
‫أجمل لحظات التبادل الفكري بيننا عندما شرح لي فكرة من كتاب وجهة العالم اإلسالمي لمالك‬
‫بن نبي وهي فكرة انقالبية حقًا عن هزيمة الجيش العثماني في معركة أنقرة أمام تيمورلنك‬
‫الذي حما الحضارة الغربية من الهجوم التركي وأعاق زحف بيازيد الثاني إلى أوربا‪ .‬وكانت‬
‫هزيمة العثمانيين ساحقة في معركة أنقرة عام ‪1402‬م‪ .‬وهناك كتاب من سلسلة كتب األلف‬
‫األولى التي طبعت في مصر واحد يشير إلى أهم سبع معارك حولت التاريخ ويعتبر أن هذه‬
‫واحدة منها‪ .‬ويذكرها مالك بن نبي تحت مغزى عمى التاريخ أن التاريخ ليس أعمى بل تظهر‬
‫نتائجه ولو بعد آالف السنين ومنها التي ذكرها المؤرخ توينبي عن تدمير حضارات االنكا‬
‫واالستجابة المتأخرة‪ .‬وسمعنا بمجيء اليخاندرو توليدو إلى حكم البيرو كأول هندي‪ .‬كما أن‬
‫أسبانيا لم تبق تحكم بل انسحبت من أمريكا الالتينينة ورجعت قوة هامشية في القارة األوربية‬
‫وأصيبت بلعنة الذهب المنهوب‪ .‬ولكن أكثر ما يحزن المرء تدمير حضارات أمريكا الجنوبية فهم‬
‫نسخ باهتة من البرتغال وأسبانيا وال أحد يعلم ماذا يجلب المستقبل من ردات فعل حضارية ولو‬
‫عبر القرون‪.‬‬
‫ومن أبرز ما يلفت النظر في شخصية المفكر جودت سعيد أنه عاشق للعلم خبير بالكلمات‬
‫واألفكار ولقد عكف على تفكيك وفهم فكر محمد آركون قرابة ثماني سنوات‪ .‬وفي مونتريال في‬
‫كندا رأيته وقد عكف على كتاب العقالنية العملية لبوردو وهو كتاب اطلعت عليه ولكنه سيء‬
‫الترجمة وصعب الوضع إال أن جودت يعجبه هذا النمط من الكتب تحديدا‪.‬‬
‫والمشهور عن الكتاب الفرنسيين أنهم يتقصدون الضبابية والتصعيب في كتاباتهم حتى ينالوا‬
‫الشهرة أكثر‪ .‬ولكن هذا ال يجعلني استخف بعقلي وما زلنا نقرأ لنفس الكتاب الفرنسيين ولم‬
‫يقرأ أحد باسكال من كتابه الخواطر إال وشعر بالكهرباء تتمشى تحت الجلد من القشعريرة وهو‬
‫ما أحسست به وأنا أقرأ له فكرته في النهايتين‪.‬‬
‫وعندما نصحني جودت بقراءة آركون وكنت قد اطلعت على بعض مما كتب وتراوحت بين‬
‫ترجمات سيئة وأخرى التخلو من الفائدة ولكن ال تقارن باألدب الكالسيكي مثل باسكال الذي‬
‫ذكرته أو سبينوزا فطلبت منه طالما أنه عكف كل هذا الوقت على فهم الرجل أن يضع كتابا في‬
‫‪ 150‬صفحة يختصر فيها أفكار الرجل للشباب ولكنه لم يفعل حتى اآلن ولعله يرى أن طريق‬
‫العلم ليس سريعا أو قصيرا‪ .‬وهلل في خلقه شئون‪.‬‬
‫وجودت قرأ كتب مالك بن نبي كلها‪ .‬كما أنه قرأ بعضها ربما أكثر من عشرين مرة مثل كتاب‬
‫(شروط النهضة) و(األفريقية اآلسيوية) ودرّس ه لآلخرين عشرات المرات‪ .‬وفي يوم عندما‬
‫كان مالك بن نبي في دمشق عام ‪ 1971‬ورأى جودت وهو يعتمر العقال على رأسه تعجب من‬
‫لباس جودت فقال له إنني على ما ذكرت في كتابك الفالني عن المعمم بالطربوش أن الحضارة‬
‫دخلت من رجليه ولكن لم تصل رأسه بعد‪ .‬وجودت في هذه القضايا مختلف عنه في الفكر‬
‫فبقدر اهتمامه بالعلم بقدر عدم إلمامه بالتقنيات الحديثة أو االهتمام بها‪ .‬وهو في قرائته للكتب‬
‫على طريقة أن الكتاب الجيد يقرأ أكثر من مرة وهو خير من قراءة الكثير من الكتب التافهة‬
‫السطحية‪ .‬والرجل كنز ولكنه أنشط في النطق والتعبير والخطابة منه في الكتابة‪ .‬وسبحان‬
‫مقسم القدرات ولذا فيجب حفظ صوته وما نطق به من المحاضرات لألجيال القادمة‪.‬‬
‫ومن خبرتي في الناس هناك المبدع في الكتابة ولكنه إن نطق لم يكن ذلك المبدع ولكن قلمه إن‬
‫سال كان كموج البحر والعكس بالعكس‪ .‬ويجب الحذر من أصحاب الحناجر وهم كثيرون‪ .‬أما‬
‫الوعاظ الجدد من المشعوذين فهم أكثر من جنادب الليل‪.‬‬
‫ونمو األفكار عنده يرويها هو شخصيًا أن بعضهم يسأله عن األفكار فيقول كبروا كما يكبر‬
‫األوالد وهي فكرة يعيدها تحت قوله تعالى والراسخون في العلم‪ .‬فهناك علم ورسوخ في العلم‬
‫وبينهما درجات‪ .‬والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إال أولو‬
‫األلباب‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫مع هذا فجودت يصدم المتكلمين أحيانًا ببعض األفكار التي يقولون لم نسمع بها في آبائنا‬
‫األولين‪ .‬مثل فكرة قتل المرتد أنها تخالف أصًال عظيمًا من القرآن (ال إكراه في الدين قد تبين‬
‫الرشد من الغي) أو فكرة (الالعنف)‪.‬‬
‫وهناك فكرة يجب التنويه بها وهي أن السامع الذي يتابعه قد يصاب بالملل ويقول إنها أفكار‬
‫سمعناها منه وال جديد‪ .‬ولكن قاعدة (كبروا) تعني أن األفكار مثل النبتات تكبر مع الزمن‪ .‬وهو‬
‫كالم يكرره على مسامع البعض فال يفهموا منه سوى أن أوالده كبروا وليس األفكار؟ ‪.‬‬
‫وقصة تكرار األفكار تؤكد مغزى التكرار في القرآن‪ .‬الذي يتناول القصص دوما من زاوية‬
‫جديدة‪ .‬أو بتعبير سيد قطب أن القصة تصب كل مرة بما يتناسق مع جو السورة‪ .‬والرجل ينمو‬
‫وفكرته في قضية ما تزداد رسوخا وتمكنا مثل الشجرة التي تضرب بجذورها في التربة‬
‫وتنهض فوق األرض فتثمر من كل فاكهة زوجان‪.‬‬
‫وخالل معرفتي الطويلة به فترة تزيد عن ثالثين سنة أعرف عنه كما أصف المبدع بيتهوفن‬
‫الموسيقار األلماني أنه يبدع من حين آلخر سيمفونية فكرية جديدة فهو يوّلد األفكار ويصقلها‬
‫دوما‪ .‬وهو في كل فكرة يرسخها ويصقلها فتلمع بأشد وهو أمر ال يتفطن له المتابع عن كثب‬
‫من تالمذته فيكتب عنه ما يشاء وال يعرف في أي حقبة يعيشها جودت وال يستوعب أن جودت‬
‫يتطور ويكبر باستمرار ويطور طروحاته بدون توقف بسبب العقلية النقدية المنفتحة على العلم‬
‫والعالم‪.‬‬
‫ومعظم من حوله يذكر بالصحابة الكثر الذين لم يكونوا يفقهون على الرسول ص كثيرا وهم‬
‫الذين تنازعوا بعد موته وهم الذين ضاعت من أيديهم وفي عصرهم الخالفة الراشدية واستطاع‬
‫الفريق األموي االنتهازي أن يغير مسرى التاريخ العربي من راشدي إلى بيزنطي‪.‬‬
‫وأذكر سيدة فاضلة تدرس المواد العلمية في الثانويات في دمشق وتكاد ال تضيع محاضرة‬
‫لجودت وإذا اجتمعت به وضعت المسجلة أو بدأت بكتابة ما يقول بخط يدها ولكنها عندما‬
‫حضرت االنتخابات المزورة ذهبت إلى صناديق التزوير وكتبت نعم وعندما ناقشها ابن أخت‬
‫جودت سعدية وهو عبد الرحمن الشاغوري الذي ألقي القبض عليه وأودع السجن من أجل‬
‫دخوله على مواقع المعارضة في االنترنيت عندما سألها عن رأيها في انتخاب الطاغية قالت إنه‬
‫أصلح الموجود؟ وبذلك أثبت عبود وعيا سياسيا ال يقارن مع مدرسة العلوم والتلميذة المتابعة‪.‬‬
‫وصحابة من هذا النوع هم الذين انتخبوا معاوية وابن معاوية وذرية معاوية من بعد وضاع‬
‫ميراث النبوة بين قبائل العربان‪ .‬ويقال أن معاوية كان من كتبة الوحي كما هو الحال في‬
‫مدرسة العلوم التي تكتب وحي جودت ولم تستفد منه شيئًا‪ .‬وسقراط لم يكتب شيئا‪ .‬مع كل‬
‫الحكمة التي نطقها‪.‬‬
‫وعندما حصل لي االقتراب من جودت أكثر كان يمكن أن يحصل بيننا نفور ولكن الرجل فيه‬
‫ميزة أنه ال يصدم أحدا أو يجرح مشاعره بل يعمد إلى تطبيق عملي لآلية أنه يتقبل عنهم احسن‬
‫ما عملوا ويتجاوز عن سيآتهم‪ .‬وفي قناعتي أنه تكتيك ذكي وناجح‪ .‬فمثًال إذا اجتمع بشخص‬
‫أشار إلى العلم بشكل عابر أثنى عليه واقتطف بعضًا مما ذكر وأخذ يفتق ويعمق في نفس‬
‫االتجاه وصاحب الفكرة لم يقل بهذا ولم يقصد ذلك‪ .‬ونحن كنا نفعل نفس الشيء حينما نخاطب‬
‫الجمهور بعد الصالة وكانت عادة نتبعها في بعض المساجد فنأخذ شاهدا مما ذكره اإلمام ثم‬
‫نقوم بشرح فكرتنا وليس فكرته‪.‬‬
‫وإذا اجتمع الشيخ مثال بالشيعة فهو يعرف هوى قلوبهم فيأخذ فقرات مما قالته فاطمة الزهراء‬
‫أو مما ورد في نهج البالغة ثم يقوم بشرح فكرته من خالل كلمات الشيعة‪ .‬وهو تكتيك جيد‬
‫ويبني الصداقات ويبعد العداوات فيظن الشيعة انه منهم‪ .‬ويظن المسيحيون أنهم أخطأوا‬
‫طريقهم فالرجل يعرف اإلنجيل أكثر منهم‪ .‬وهكذا فهو ينمي الجانب اإليجابي عند كل إنسان‬
‫وطرف‪ .‬وفي مرة أرسل تحية لعبد الحميد سليمان ألنه أشار بكلمة للمقاومة السلمية‪ .‬وفي مرة‬
‫أرسل تحية الدوارد سعيد وثالثة للخاتمي‪ .‬ومرة أثنى بحرارة على الشيخ ياسين ألنه قال إن‬
‫خالفه من الفلسطينيين داخليا سيحله بطريقة ابن آدم فلن يبسط يده بالقتل فاعتبرها الشيخ أنها‬

‫‪285‬‬
‫فتح الفتوح‪ .‬ونحن نعلم أن المنظمات المسلحة تحت أمرة الشيخ ياسين تؤمن بالقتل سبيال‬
‫لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر‪.‬‬
‫وهذا ال يعني أن الرجل اليخطيء أو أنه نبي مرسل بل نشير بنفس طريقته وإليها نحاكمه إي‬
‫أن نتقبل عنه أفضل ما عمل ونتجاوز عن سيآته‪ .‬فنشير إلى الجوانب اإليجابية عنده والتكتيك‬
‫السليم الذي يسلكه فال يجرح شعور أحد ويكسب عداوته وهو أمر سهل لمن ارتكب هذه‬
‫الحماقة وهم كثر‪.‬‬
‫وإن كنت أخالفه في قضية هنا فهي عدم دخوله في اإلجابة المباشرة على أي سؤال ومحاولة‬
‫التهرب وعدم إقحام نفسه في القضايا المباشرة‪ .‬ففي يوم كنا في قرية كودنة وهي قرية قريبة‬
‫من بير عجم حيث يسكن الشيخ في الجوالن السوري وكنا مجموعة من الناس معه فتقدم رجل‬
‫بالسؤال إليه عن رأيه في قناة الجزيرة القطرية وكانت قد فتحت منذ وقت قريب فالتفت إلي‬
‫يشجعني على إجابته وقمت أنا بشرح مبسط ومباشر عن القناة ولكن الرجل لم يكن يريد أن‬
‫يسمع إال منه؟ فقام الدكتور عمار وهو من حوران بمحاولة ثانية‪ .‬ولكن الرجل كان أصما إال‬
‫عن الشيخ؟ فلما لم يكن بد من اإلجابة بدأ الشيخ يحدثه عن نظريات توينبي في التاريخ‬
‫والتحدي واالستجابة وفوكو في الفلسفة وشيء من هذا القبيل‪ .‬فكانت إجابته فيها كل شيء إال‬
‫الجواب‪ .‬فلما خرجنا من الجلسة قلت له أظن أن الرجل كان من حقه أن يسمع منك شيئًا فلم‬
‫يسمع ولم تجبه فضحك الدكتور عمار وقال إنك تفهم الشيخ‪.‬‬
‫وأنا لطول عشرتي له أعرف فيه هذا‪ .‬وفي قناعتي أنها طريقة قد تنفع عند السياسيين ولكن‬
‫أصحاب الفكر يجب أن يواجهوا القضايا مباشرة‪ .‬وربما ألنني جراحًا ونحن نستخدم المبضع‬
‫لتوجيهه مباشرة إلى مكان اآلفة قد اعتدنا مواجهة الطواريء والقضايا الخطيرة أما أهل‬
‫السياسة فهم قد يجيبون ولكن ال تأخذ منهم حقا أو باطًال كما يقولون‪ .‬وأنا شخصيا ال أسمع‬
‫كثيرا للسياسيين وال آبه لهم وال أفتح القنوات الفضائية العربية كثيرا لسخفها وسطحيتها أنها‬
‫ال تمسك بحقائق األشياء‪ .‬وتضيع الوقت تحت غبار كثيف من األلفاظ المنمقة كون العقل العربي‬
‫يعشق الكلمات‪ .‬وربما أفضل ما أراه في التلفزيون هو قناة الديسكفري ألنها علم‪ .‬والعلم آخر ما‬
‫يتكلم به السياسيون؟‬
‫مع هذا فلكل رجل اجتهاده ولعل جودت سعيد يرى أن الكناية أفضل من اإلفصاح وأن الترميز‬
‫خير من القول المباشر وأن هذا أرفق بالنفوس البشرية وهي في قسم منه ليس بصحيح‪.‬‬
‫وأذكر أنني في يوم كنت أريد رأيه في قضية مع زميل لنا في العمل وكانت زوجته هالة رحمها‬
‫هللا تمشي معنا فسمع حتى النهاية ولم يجب بحرف فقالت له أجب الرجل عما سأل فأجابها‬
‫بشيء من الحدة أجيبيه أنت إذن ولم آخذ منه جوابًا‪.‬‬
‫ويجب أن أسجل للرجل تركيبته النفسية ألنني اعتقلت معه وكان الشيخ قد اعتقل قبل ذلك مرات‬
‫وكان اعتقالنا لصالح المخابرات العامة في الحلبوني في دمشق في قصر كان للشيخ الحسني‬
‫رئيس جمهورية سابق فأصبح وكرا للمخابرات ومكانا للتعذيب وقضينا فيها ‪ 250‬يومًا حسوما‬
‫ورأينا فيه من األهوال ما يحتاج إلى كتابة قصة كاملة عنه‪ .‬وكان اعتقالنا عندما كنا في زيارة‬
‫إلى مدينة السلمية فتطوع (الشباب الطيبة؟!) من المخبرين السريين في كتابة تقرير في حقنا‪.‬‬
‫وكانت أحداث الدستور عام ‪1973‬م (مولعة) في مدينة حمص حيث كان األسد قد برمج دستورا‬
‫فصله على مقاسه وعارضه الناس في ذلك فامتألت السجون بالمعتقلين كالعادة‪ .‬وكان نصيبنا‬
‫أننا اعتقلنا (على الريحة) بدون أي ذنب جنيناه أو فعل قمنا به‪ .‬فهجموا علينا في منزل خالد‬
‫حسون الذي كنا في ضيافته واعتقلت والشيخ جودت وإمام البلد الشيخ عبد هللا الشغلي ورأيت‬
‫بعيني من صفع الشيخ جودت صفعة أليمة في مركز فرع المخابرات في السلمية تركت أثرا‬
‫أحمرًا على خده‪ .‬وكان عنصر المخابرات الضارب يدخن السجائر بعصبية وأصابعه ترتعش‬
‫خوف الموت‪.‬‬
‫ثم قادونا إلى حماة فدمشق تحت جنح الظالم‪ .‬والتفت يومها إلى الشيخ الشغلي وقلت له بلغني‬
‫عنك إنك تمنيت في يوم أن تكون (قربة) لشرب الماء بقربه فها أنت بقرب الشيخ جودت فترة‬

‫‪286‬‬
‫طويلة فافرح بها فقد بلغت منيتك؟ فبلع الشيخ الشغلي رحمه هللا تعالى ريقه بصعوبة ولم يتابع‬
‫الحديث ولم ينطق بكلمة‪ .‬وفي النهاية رست بنا الرحلة في دمشق فقادونا إلى سجن المزة‬
‫العسكري الرهيب فكان غاصا ممتلئًا بالزوار ولم يكن لنا فيه مكان فأرجعونا إلى الحلبوني فرع‬
‫المخابرات العامة‪ .‬والحلبوني حارة في دمشق تكثر فيها المكتبات وبجانب الفرع السجن يوجد‬
‫مسجد وال يصدق أحد أنه بين األهالي تجري كل هذه الفظاعات‪ .‬فال يسمع صوت المعذبين في‬
‫ظالم الليل إال قليال؟ وفي الصباح الباكر اقتادونا إلى قسم المخابرات العامة في منطقة أخرى‬
‫حيث أشرف على ضربنا وتعذيبنا نحن االثنين أنا وجودت (عدنان الدباغ) وزير الداخلية‬
‫ورئيس المخابرات العامة وهو حلبي األصل‪ .‬وسمعت أنه مات الحقًا بسرطان الرئة مختنقا في‬
‫سكرات الموت والمالئكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون‪ .‬وكان‬
‫الطاغية قد أرسله إلى لندن للعالج بسبب خدماته ومنها أنه حمله على أكتافه حين زار حلب‪.‬‬
‫والطاغية ال يحكم بيده بل هؤالء األمساخ من القردة والخنازير وعبد الطاغوت‪ .‬وفي حفلة‬
‫التعذيب كسروا أسناني ضربا (بالبوكس) وبقيت شهرا ال أقوى على المشي على قدمي‪ .‬وكانت‬
‫أيام هينة قبل كارثة تدمر‪ .‬ورحمنا هللا بأن عجل لنا العذاب وأوحى إلي أن أخرج من السجن‬
‫الكبير الوطن قبل الزلزال بفترة قصيرة‪ .‬وكان مثل الوحي يأتيني ويقول يا خالص غادر البلد‪..‬‬
‫وما زلت أذكر ليلة وأنا أتوجه في ظلمة الليل على سطح البيت الذي كنت مستأجرا فيه في حي‬
‫الشيخ محي الدين العربي وأنا أدعو هللا في هدأة الليل ربنا ال تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا‬
‫برحمتك من القوم الكافرين واستجاب هللا دعائي فخرجت منها وأنا أقول كما قال موسى فخرج‬
‫منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين الذي ذهب إلى مدين يسعى وأنا سعيت إلى‬
‫ألمانيا ثم كندا وغسلت يدي من السجن الكبير والحمد هلل وله المنة والفضل‪ .‬وهذه وقائع يجب‬
‫روايتها وقراءتها على أوالدنا ليعرفوا ما ذا حصل لنا فمن لم يعرف التاريخ يدفع الثمن مع‬
‫فوائده المركبة‪ .‬كما حصل معنا ولو أن آباءنا كانوا أكثر وعيا وقطعوا الطريق على‬
‫الديكتاتورية البعثية لما نبتت كأنها شجرة في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين‪.‬‬
‫المهم فقد لبثنا في السجن ‪ 250‬يومًا حفرت آثارها على رخام الذاكرة بقلم ال يزول‪ .‬كانت‬
‫الليالي واأليام تمر ونحن نحفر كل يوم على الجدار خطًا حتى نعرف السنين والحساب وكم‬
‫مضى علينا فيه‪ .‬وكانت أياما وليالى طويلة ممضة ضيقة‪ .‬جزا هللا المجرم األسد ما يستحقه‬
‫مما فعل بالناس إلى يوم القيامة‪ .‬والرجل وضع رأسه في القبر وولى ملعونا غير مأسوف عليه‬
‫ولكن كما يقول القرآن إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في‬
‫إمام مبين‪ .‬حتى خرجنا ولعنة هللا على القوم الظالمين‪.‬‬
‫يذكر جيفري ال نج في كتابه (حتى المالئكة تسأل؟) أنه كان طفال يخرج مع أبيه للصيد فسأله‬
‫ذات يوم ضباب هل تعتقد بالجنة والنار فصمت طويال حتى ظن أنه لم يسمع السؤال ثم أمسك‬
‫أنفاسه والتفت إلى ابنه وقال‪ :‬أما الجنة فلم أرها وال يمكن أن أقول لك شيئا عنها‪ .‬ولكن جهنم‬
‫لها مواضع كثيرة‪ .‬والبعث في سوريا حول سوريا إلى جهنم كاملة‪ .‬بدرجاتها التسع وأبوابها‬
‫السبع من فروع المخابرات وفي أسفلها سقر وما أدراك ما سقر؟ وكلها بعبقرية وتخطيط يعجز‬
‫إبليس أن يفعل مثله؟‬
‫وأعود إلى جودت سعيد فالرجل كان في مطلع حياته السياسية صداميا وكان يهاجم البعث علنا‬
‫بشعاراتهم ورسالتهم الخالدة الغامضة وهو اآلن أكثر تسامحا وأقل صداما‪ .‬وكلفه هذا عندما‬
‫عاد من مصر إلى سوريا أن يطرد من مدرسة إلى مدرسة حتى وقع يوسف زعين وكان رئيس‬
‫الوزراء فيما أذكر على قرار فصله من التعليم وقد مات المذكور سجينًا أسيفا مريضا فقد فتك‬
‫الرفاق بعضهم ببعض كالغيالن‪ .‬عليهم من هللا ما يستحقون جميعًا‪.‬‬
‫إنها فترة سيئة تلك التي ولدنا فيها‪ .‬فهل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟‬
‫والشيخ اآلن يفيض من قلبه حب الناس جميعا بكل اتجاهاتهم ويحاضر في نوادي مختلفة من‬
‫المتدينين وغيرهم في المساجد والكنائس والنوادي األدبية والمراكز الثقافية في بلد كممت فيه‬

‫‪287‬‬
‫األفواه وانتشر الرعب وخرست األصوات فال تسمع إال همسا وماتت األمة في قبر اشتراكي‬
‫حتى حين‪.‬‬
‫ويتعجب المرء من بقاء الشيخ في السجن االشتراكي فلم يغادره؟ ولعل تفسير ذلك أن الرجل‬
‫كسب شيئا من الحصانة األخالقية أعطته قدرا من المناعة في بلد يعج بالوباء والغالء والغباء‬
‫واإلجرام والديكتاتورية‪ .‬ومنهج الرجل حبب فيه الناس وقلل األعداء وهو يكرر مقولة أنا أقول‬
‫ما يستفيد منه الكل وال يخسر أحد شيئا من ملك أو زعامة أو جاه أو مكانة أو نفوذ‪ .‬وفي طرف‬
‫منها سذاجة وإال لماذا "جعل هللا لكل نبي عدوا من المجرمين"؟؟ وجودت يزعم أنه سيجعل‬
‫الحاكم يثق به أكثر مما يثق بحرسه الخاص إلنه لن يغدر وسيطبق هذا من طرف واحد‪.‬‬
‫وبالطبع هذا سذاجة فالحاكم ال يريد هذا الصنف من الناس ولن يثق به يوما ألن هذا الصنف‬
‫يعني نهايته وقطع رقبته‪ .‬واليوم يعتقل عسكر بورما داعية السالم أوانج سن سو كاي ويقتلون‬
‫أتباعها فهل يثقون بهم ليقتلوهم ؟؟‬
‫كذلك لم أكن أرتاح إلى ظهوره مع أناس باعوا أنفسهم للشيطان وجندوا أقالمهم للطاغية‬
‫وبكوا على قبره وزعموا أن أوالده في حواصل طير خضر في الجنة؟ ولكنه مجتهد في هذا وال‬
‫أوافقه فيما ذهب إليه‪ .‬وهو ال يحمل في قلبه غال ألحد‪ .‬كذلك فإن التلفزيون المحلي هو في‬
‫خدمة الحزب والرفاق ولم يرحب به كثيرا في المرات المعدودة التي ظهر فيها‪ .‬فالفكر مصادر‬
‫والرأي مختوم عليه وليس على الناس إال التصفيق مثل القرود في المظاهرات إلى األبد إلى‬
‫األبد ونفديك بالروح بالدم يا أبو الجماجم؟؟ ومن يبقى في بلد األموات هذا فال يلومن إال نفسه؟‬
‫إال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم‬
‫أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا‪.‬‬
‫لقد وصل الوضع إلى الحافة الحرجة والظلم إلى عنان السماء وقتلت األمة قتال وبيع الضمير‬
‫في سوق العهر وتحول الوطن إلى سجن كبير بأسوار عالية ومات الضمير حتى حين‪.‬‬
‫ومما حدث معه في لقائه مع جريدة يعطي فكرة عما يحدث في الجرائد المؤممة في سوريا فقد‬
‫جاءه من أراد أن يجري معه لقاء صحفي فلما نشر المقابلة لم يكن فيها سوى اسم الشيخ وكل‬
‫ما جاء في المقالة والمقابلة كان من نسج خيال (الرفيق) الحزبي فاصّفر وجه الشيخ عندما‬
‫سمع الخبر ولم يقوم بأي مقابلة بعدها فهذه هي جرائد الحزب الثوري‪.‬‬
‫وأعود إلى واقعة السجن مع الشيخ ألنها كانت رحلة مفعمة بالعذاب واقترب فيها الشيخ من‬
‫الموت‪ .‬وهو مصاب بقرحة معدة فلم يكن يقدم له إال أسؤا الطعام‪ .‬واستطعت بعد وساطة أن‬
‫أحضره إلى غرفتنا وبدأت بتغذيته بالشيء المناسب لمعدته فبدأ في التحسن بعد أن استحال إلى‬
‫شبح أصفر‪ .‬كان الشيخ عفيفا زاهدا جريئا صبورا وقد قام في ظل هذه الظروف الجهنمية في‬
‫تفسير القرآن ألهل الغرفة التي كانت تضمنا ونحن نسمع أصوات المعذبين والمجلودين الذين‬
‫كان ينكل بهم في الساحة العامة حيث كان الشيخ الحسني يجلس بحانب نافورة البركة في وسط‬
‫الدار فيرتشف فنجان قهوته وكان الجالدون يرشون المضروبين بالماء من النافورة الجميلة ثم‬
‫يبدأون بسلخ جلودهم‪ .‬والمحققون ثالثة علوي وديري ودرزي‪ .‬وكلهم من أوالد الريف‬
‫واألقليات‪ .‬وكان أشهر الجالدين شامي اسمه أبو طالل روى لي بعدها عبد الكريم خوجة من‬
‫شباب حزب التحرير وكان قد اعتقل في نفس الفرع خمس سنوات أن المذكور ضرب بالنار في‬
‫حانة ليلية وتيبست ساقه بعدها عليه من هللا ما يستحق‪ .‬وكان فيما يروي لنا جودت أنه يتمنى‬
‫أن لو قام شخص بدراسة تاريخ هؤالء المجرمين وكيف انتهت حياة كل واحد‪ .‬كما حصل مع‬
‫مجرم ليمان طرة في مصر حمزة البسيوني‪.‬‬
‫وكنا في غرفة صغيرة محشورين عشرة أشخاص ولم استطع أن أمد قدمي فيها إال أياما‬
‫معدودات‪ .‬وعندما خرجت من الحبس تعبت بعد مشي دقائق قليلة‪.‬‬
‫ومما استفدت منه في ذلك اللقاء الطويل بلورة مشكلة السرية والعنف عنده وقمنا بمناقشات‬
‫مطولة قمت بتسجيل بعضها وتهريبها إلى خارج السجن‪ .‬وكان معنا في السجن في تلك‬
‫الظروف مجموعة من الشباب الحلبيين الذين تجرأوا فكتبوا على الجدران ألوانا من اعتراضهم‬

‫‪288‬‬
‫السياسي فتم إلقاء القبض عليهم وكانوا شبابا جميلين أوالد نعمة فأصبح السجن والعذاب‬
‫مأواهم‪ .‬وفي تلك المناقشات قمت أنا بكتابة الجزء الثاني من كتابي الطب محراب اإليمان‬
‫وكتبت مقدمة تقول لقد خلقنا اإلنسان في كبد إشارة مني إلى أيام البؤس تلك‪ .‬أما الشيخ حفظه‬
‫هللا فقد كتب كتابه (العمل قدرة وإرادة) في تحليل وحدة العمل الصحيح وأن ما ينقص العالم‬
‫اإلسالمي ليس الحماس بل الوعي‪ .‬وفي نهاية كالمي هذا سوف يجد القاريء خالصة ألهم آراء‬
‫الشيخ وقد طلبت منه أن يفيد بها القاريء أثناء لقائي به في مدينة مونتريال الكندية خريف‬
‫عام ‪2003‬م‪ .‬والمناقشات التي كانت تحدث كنا نقوم بكتابتها سرية ونهربها بطرق خاصة عبر‬
‫المالبس وكتبتها زوجتي في نسخة خاصة خارج السجن‪ .‬وطول فترة السجن لم نتلق زيارة‬
‫واحدة ولكن سمح لنا في الفترة األخيرة بإدخال بعض الكتب وشيئا من الطعام‪ .‬وكانت األمور‬
‫وردية في تلك األيام‪ .‬وهي التي تقول أن حالة العرب أنهم في ظل استعمار بغيض وسرطان‬
‫داخلي وهو ادهى وأمر من أي احتالل خارجي‪ .‬وهو يروي علة العرب الداخلية وكان الشيخ‬
‫يؤكد على المعنى القرآني قل هو من عند أنفسكم وبما كسبتم أيديكم‪.‬‬
‫استطعنا في فترة السجن من بلورة فكرة العمل السلمي والمقاومة المدنية ولو أن العمل‬
‫اإلسالمي آمن بهذا األسلوب لوفر الكثير بما فيها الصدام مع أمريكا وكارثة سبتمبر ‪2001‬م‬
‫التي نقلت الصراع من الداخل إلى الخارج إلى اإلطار الدولي‪ .‬ولكن الكالم النظري شيء وقانون‬
‫التاريخ شيء مختلف‪ .‬واألمم تتعلم بالعذاب أكثر من الوعظ‪ .‬وباللكمات أكثر من الكلمات؟‬
‫وفي يوم اجتمعت بزميلي الدكتور حسن نصري والرجل مستقر في ألمانيا وعنده عيادة في‬
‫مدينة آخن‪ .‬وكنت في منزله في مدينة كيفلر في الشمال الغربي من ألمانيا قبل انتقاله آلخن‬
‫فقال لي ولم تكن أحداث سبتمبر قد وقعت‪ :‬كيف استطاع جودت برؤيا اختراقية ان يبلور‬
‫نظريته حول الالعنف والمقاومة السلمية قبل األحداث بثالثين سنة‪ .‬وأظن أن العجب معه قد‬
‫أصبح أضعافا بعد أحداث سبتمبر ‪2001‬م‪.‬‬
‫وأذكر أننا كنا في السجن وحرب تشرين قد وقعت فكتبنا لعدنان الدباغ أن يخرجنا من السجن‬
‫ويستفيد من إمكانياتي كطبيب فإذا انقضت الحرب أعادني إلى السجن ولكنه كان مشغوال بتمجيد‬
‫ربه في القصر الجمهوري‪ .‬ويومها كتبت ال للتنظيم ‪ ..‬ال للسرية ‪ ..‬ال للعنف‪ .‬وخرجنا برؤية‬
‫واضحة في مشكلة العنف في العمل اإلسالمي الذي تكلل الحقا عام ‪ 1982‬م بكتابي حول النقد‬
‫الذاتي للحركات اإلسالمية الذي أثار ضجة حين صدوره‪.‬‬
‫في الستينات كان الشيخ يتحدى البعثيين ويحاضر في المساجد وكان ذلك مسموحا به على نحو‬
‫غامض‪ .‬وكان يقول كفرت بآلهتكم الوحدة والحرية واالشتراكية الثالوث المقدس عندكم‪ .‬وكان‬
‫يلقى عليه القبض ثم يطلق‪ .‬وكان وما زال يؤمن بالمقاومة السلمية ألنها إحياء للضمير وتخلي‬
‫عن السالح والعضالت‪ .‬وهذه الفكرة نمت عنده حتى أصبحت شجرة يستظل تحتها أناس‬
‫كثيرون‪ .‬وهي جيدة من الناحية البراغماتية وتحافظ على حياة من يدخل الصراع البشري‪ .‬ولكن‬
‫القليل فهم عليه واألندر من اتبعه على مذهبه ومن تابعه فترة ثم تعرض للمضايقات والعذابات‬
‫تخلى عنه في مرحلة الحقة‪ .‬ومضى الرجل لوحده تقريبا حتى اليوم وليس عنده حزب أو تيار‬
‫أو تجمع بل يشبه أبو ذر الغفاري يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده‪ .‬وكلماته حتى اآلن‬
‫ليس لها صدى وإن كان البعض بدأ بمغازلتنا بعد مجيء الجبار األمريكي ليس إيمانا بالسالم بل‬
‫خوفا من العصا األمريكية المسلطة فوق الرؤوس‪.‬‬
‫ومن خالل النقاش الطويل في مشكلة العنف والالعنف وصلت أخيرا إلى القناعة التي بدأت‬
‫أجمع أطرافها واحبك خيوطها أن عالم السالم والكفاح السلمي قارة مميزة‪ .‬وهذا واضح في‬
‫كتابات األستاذ جودت ومقاالته ألنه يرى أن العمل السلمي والعنفي يشبه عمل العضالت‬
‫والدماغ‪ .‬فال يستويان مثال‪ .‬وأن قوة العقل هي األعظم عند اإلنسان‪ .‬وان استخدام السالح‬
‫توديع للعقل وارتهان آللة السالح‪ .‬وأن الديموقراطية شرطها األساسي إلغاء العنف‪ .‬فال يمكن‬
‫أن تجتمع الديموقراطية والعنف إال إذا اتحد الماء مع النار؟‬

‫‪289‬‬
‫هكذا تبلورت المسألة عندي أن السالم أو الكفاح السلمي قارة مختلفة عن كل ما اعتاد العرب‬
‫والمسلمون عليه بل والعالم على فهمه فهو أسلوب األنبياء في تحري اإلنسان من عالقات‬
‫القوة‪.‬‬
‫جودت سعيد يعيش أفكاره وينسجم مع ما يقول وال يأبه لما يتنازع عليه الناس من مسكن جميل‬
‫وفراش وثير وطعام لذيذ ودخل كبير وسيارة فارهة بل يعيش على أبسط شيء ولن يترك خلفه‬
‫ثروات وعقارات وأسهم وسيارات بل أفكار وكتب ومحاضرات "وروح تسري من أمرنا" لمن‬
‫كان عنده قدرة التقاط الموجة‪.‬‬
‫إنه يعيش بعشرة رياالت في الشهر ويرقع ثوبه ويخصف نعله وأحيانا يربطه باألسالك ويلبس‬
‫القليل ويعتمر (القلبغ) الشركسي الذي يذكرك بأنه من أهل الكهف ويحلب بقرته ويربي نحله‬
‫في هضبة الجوالن فيعطي أهله أكثر الدخل ويعيش على األقل القليل وهو دخل متواضع‪.‬‬
‫وباختصار إنه يعيش فقيرا بيده وبإرادته‪ .‬وكان يمكن أن يأخذ عقدا مرفهًا من السعوديين‬
‫الذين ألحوا عليه بالقدوم ولكنه قال لي لو ذهبت إلى هناك لما نموت ووصلت إلى ما وصلت‬
‫إليه من تخوم الفكر الحالية‪ .‬هكذا يقول وال أذهب إلى هذا وال أوافقه عليه‪ .‬ألنني حاليا أعيش‬
‫في السعودية وصلتي مع العالم وليس مع المحنطين‪.‬‬
‫جودت سعيد كأنه ليس من أهل الدنيا وأبرز ما فيه حبه للعلم بدون حدود‪ .‬يركب دراجة قديمة‬
‫وبيته غرفتان متواضعتان إحداها مليئة بالكتب‪ .‬وإذا لقي الناس أكرمهم وهش في وجوههم‪.‬‬
‫وإذا تحدثوا عن العقارات واألموال أمسك‪ .‬وعندما كتب لمجلة المجلة وسألوا عن حسابه ولم‬
‫يكن له حساب استغنى عن تلقي المكافأة المالية حتى تدخل على الخط أحدهم فقال إن الرجل‬
‫يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون ويحتاج للدواء وتذكرة السفر فدفعوا له بعد مرور أكثر‬
‫من سنة وكتب لهم بذلك سنة كاملة بدون مكافآت على مقاالته‪ .‬واشار عبد العزيز الخميس‬
‫رئيس تحرير مجلة المجلة يومها إلى ذلك‪.‬‬
‫جودت سعيد إن تحدث الناس باألفكار اشترك‪ .‬وإن تحدثوا عن طعام ومتاع حول الحديث إلى‬
‫التاريخ والفلسفة وإال سكت وامتنع عن الكالم‪ .‬فدماغه مبرمج على موجة األفكار فقط‪ .‬مثل‬
‫الراديو الذي ال يفتح إال على موجة محددة‪ .‬فال احب على قلبه من الفكر والعلماء‪ .‬وال أبغض‬
‫إليه من الهذرمة وتضييع الوقت والحديث في اللباس والعقارات واألموال والتافه من األمور‪.‬‬
‫ولم أجده إال قارئًا أو متحدثًا‪ .‬وعنده قدرة أن يتحدث عشر ساعات متواصلة بدون شرب قدح‬
‫ماء‪ .‬وفي يوم أخذته إلى منطقة الصبورة في دمشق من أجل شراء قطعة أرض وبناء بيت‬
‫فيها ثم التفت ألجد الرجل وقد وضع أختيه بجانبه وهو يشرح لهما كتاب شروط النهضة‪.‬‬
‫وعرفت يومها أنه يجب أن ال يستشار في أمور الدنيا ألنه ليس من أهل الدنيا‪.‬‬
‫وسوف يغادر جودت هذا العالم فيذكره التاريخ مثل سبينوزا وايرازمس من الفالسفة‬
‫اإلنسانيين‪ .‬وهاجمه الكثير ولكنه يقابل السيئة بالحسنة‪ .‬ولربما يكتشف فكره بعد موته بقرن أو‬
‫قرنين لقد كان هنا رجل عظيم يذكرك بعظمة هللا والكون أن اجتمعت به وتحدث إليك‪.‬‬
‫وأثناء اجتماعي به في مونتريال المدينة الكندية في خريف عام ‪2003‬م قلت له ربما نفيد‬
‫القاري لو شرحت لنا باختصار عن كتبك وفلسفتك ونظرتك لمستقبل العالم اإلسالمي فكتب لي‬
‫بعض أوراق وهو كعادته ال يراسله أحد إال أجابه ومن مشى إليه أتاه هرولة وما نطق أحد إال‬
‫أصغى إليه بدقة وباهتمام وكأنه طفل وهي سمة الفيلسوف اإلنسان عندما يحمل روح الدهشة‬
‫وحب االستطالع ويريد معرفة كل شيء‪.‬‬
‫ًا‬
‫لقد بلغ الشيخ من العمر مع كتابة هذه األسطر ‪ 73‬عام ولكنه ما زال نشيط على الرغم من‬
‫عملية على المعدة أراحته من القرحة بعد اختالط‪ .‬وهو يعيش أقرب للطبيعة قليل الطعام كثير‬
‫الوعظ نشيط في الحديث يستيقظ كل يوم قبل الفجر فيكتب ويقرأ في كراسات كثيرة يحملها‬
‫وكان كتاب العقلية العملية لبوردو الفيلسوف الفرنسي أنيسه في مونتريال ويقول عنه أنه يحفر‬
‫في النفسية االجتماعية ويكشف عن قوانين التحكم‪.‬‬
‫واليكم ما كتب الشيخ في مونتريال‪:‬‬

‫‪290‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫سألني الدكتور خالص جلبي أن أكتب له خالصة ما كتبت في‬
‫محاولتي في الحديث عن مشكلة المسلمين‪.‬‬
‫فأقول ولدت عام‪ 1931‬ميالدية في قرية تبعد عن دمشق نحو ‪ 80‬كم جنوب غرب سوريا‬
‫الحالية‪ .‬وفي شباط فبراير عام ‪ 1946‬خرجت من سوريا بسيارة للمسافرين من دمشق إلى‬
‫حيفا ومنها إلى القاهرة بالقطار ولم تكن صنعت ما يسمى اآلن بإسرائيل من قبل الغرب‬
‫ومؤسسة األمم المتحدة وبقيت في القاهرة عشر سنوات وشهدت األحداث من اغتيال النقراشي‬
‫واغتيال حسن البنا ومحنة فلسطين عام ‪ 48‬ثم ثورة محمد نجيب ثم عبد الناصر وشهدت‬
‫العدوان الثالثي عام ‪ 56‬كما كنت هناك حين اعدم عبد القادر عودة وأصحابه ثم غادرت القاهرة‬
‫وأنا أحن إلى ذكريات القاهرة واأليام التي قضيتها في دار الكتب المصرية وأنا أحمل في نفسي‬
‫هّم مشكلة العالم اإلسالمي وفي سوريا كنت في األحداث التي حدثت عام ‪ 1965‬وبعدها مباشرة‬
‫أحسست بدافع ال يمكن مقاومته بضرورة أن أكتب (مذهب ابن آدم األول) أو مشكلة العنف في‬
‫العمل اإلسالمي وطبع الكتاب ألول مرة في دمشق عام ‪ 1966‬كتبته بعجلة خشية أن أضيع في‬
‫األحداث من غير أن أكون بينت موقفي من أسلوب العمل اإلسالمي وخاصة بعد أن شهدت‬
‫األحداث التي حدثت في مصر وتمنيت أن أساهم في تجنيب سوريا من مثل ما حدث في مصر‬
‫من النزاعات الدموية المؤلمة وما حدث عندنا بعد ذلك كان أسوأ‪ .‬وكنت كتبت في ذلك الوقت‬
‫في كتاب مذهب ابن آدم األول أو مشكلة العنف في العمل اإلسالمي تحت عنوان داخلي‬
‫سبب اإللحاح‬
‫"والذي يجعلني شديد الحرص واإللحاح في هذا الموضوع هو ما أتوقعه في العقود القادمة من‬
‫إمكان اشتداد الصراع وتضخم النزاع وزيادة عجز المسلمين وتضاعف ُعقدهم وعجزهم عن‬
‫مواجهتها‪ .‬فعلى الدعاة إلى هللا أن يتبصروا للمسلمين فإن األيام القادمة ستكون أعنف عليهم‬
‫من األيام الماضية إال إذا جددنا الدعوة على أساس سنة األنبياء في دخولهم حلبة الصراع‬
‫وزادهم (ربنا هللا) وما علينا إال البالغ المبين"‬
‫هذا الكالم من الصفحة ‪ 210‬من كتاب مذهب ابن آدم األول أو مشكلة العنف في العمل اإلسالمي‬
‫الطبعة الخامسة عام ‪ 1993‬واآلن بعد طبع الكتاب للمرة األول مضى ‪ 37‬عاما أي نحو أربعة‬
‫عقود وصارت المواجهة مع العمل اإلسالمي مشكلة عالمية بعد (‪ 2001 )9-11‬وانفجار‬
‫المشكلة اإلسالمية إلى مستوى عالمي لما قلت قبل أربعة عقود (ما أتوقعه في العقود القادمة‬
‫من إمكان اشتداد الصراع وزيادة عجز المسلمين ‪..‬الخ) إن ما حدث من هذه التوقعات أكبر مما‬
‫كان يمكن توقعه ولكنني أتوقع اآلن أننا في آخر النفق المظلم وأننا سنخرج من ظالم الماضي‬
‫إلى فجر أعمال ومواجهات سلمية جاءت إرهاصاتها في ثورة إيران السلمي الذي هز العالم‬
‫وإن كان األسلوب الذي مارسه الخميني كان تكتيكا وليس استراتيجية إال أن إعالن تركيا أننا‬
‫(سنستشير الشعب في رأيه) في السماح للقوات األمريكية بالمرور من تركيا إلى العراق شيء‬
‫جديد في العالم اإلسالمي‪ .‬وأنا اآلن أتوقع أن يتعاظم األسلوب اإليراني ليصل إلى مستوى‬
‫(سنستشير الشعب وال نفرض عليه وصايتنا) كما وصلت إليه تركيا‪ .‬واألتراك أول من كفر‬
‫باإلسالم وكأنهم أول من عاد من المسلمين إلى أن الشورى للشعب أول عودة منذ معاوية ليعم‬
‫هذا األسلوب في العالم اإلسالمي في العقود القادمة‪ .‬وأنا موقن بذلك وأقول للذين سيشهدون‬
‫العقود القادمة إن هذا التوجه طريق ذو اتجاه واحد فقط وأنا أزيد في الجعل ونرجو النقص في‬
‫األجل إنه حتما قادم ولم ينطفئ هذا النور‪.‬‬
‫وموضوع مذهب ابن آدم األول كبر حجمه عندي حيث حاولت أن أكتب حول مذهب ابن آدم بعد‬
‫الكتاب األول كتابا ثانيا حول نفس الموضوع بعنوان "كن كابن آدم" كتبته بعد ثالثة عقود من‬
‫الكتاب األول‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫واآلن أرى أنه لم يبق في العالم إال مذهبان مذهب من يريد حل المشكالت بـ (ألقتلنك) ومذهب‬
‫من يقول (لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك ألقتلك إني أخاف هللا رب‬
‫العالمين) وأنا أفهم اآلن من كلمة أبن آدم الذي رفض الدخول إلى الصراع الجسدي تحقق علم‬
‫هللا في اإلنسان من أنه سيقضي اإلنسان على الفساد في األرض وسيقضي على سفك الدماء؛‬
‫بل سيصل اإلنسان إلى درجة أن يتذكر ما سفك من الدماء مخجال أن يتحدث عنه وال يلوث‬
‫لسانه كمن يأكل لم أخيه ميتا فكرهتموه‪ .‬تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم وال‬
‫تسألون عما كانوا يعملون‪.‬‬
‫إن الحوار الذي جرى بين ابني آدم هو الحوار بين قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها إن‬
‫التزكية تمكث في األرض وإن التدسية تذهب جفاء‪ .‬وكل يوم تطلع فيه الشمس والبشر يتقدمون‬
‫ليحققوا موقف ابن آدم الذي رفض أن يدافع عن نفسه كأنه يقول إن هللا نفخ في من روحه‬
‫وجعلني أفهم األمور بعواقبها ولن أتراجع إلى ملة شريعة الغاب والناب ولن استخدم يدي في‬
‫التعامل مع روح هللا في اإلنسان الذي جعل اإلنسان في أحسن تقويم ولن أقبل أن أعود إلى‬
‫أسفل سافلين‪ .‬ورأينا كيف تطور هذا االتجاه حيث االتحاد األوربي الذي كان جنينا فولد حديثا‬
‫فألغوا حكم اإلعدام‪ .‬ألن آيات األفاق واألنفس التي هي مرجع القرآن فرض عليهم أن يلغوا حكم‬
‫اإلعدام على اإلنسان‪ .‬وهم يتحدون اآلن من غير أن يرسلوا جيوشا للفتح وإنما يضعون‬
‫شروطا لقبول الذين يقدمون الطلبات لالنضمام إليهم‪ .‬وهذا خلق جديد لم يسبق له مثيل في‬
‫التاريخ‪ .‬ويمكن أن يكون نواة لوحدة عالمية مبنية على العدل‪ .‬وقد يرتفع إلى مستوى اإلحسان‪.‬‬
‫إن البدء من العدل كلمة السواء وقابل أن يتحول إلى اإلحسان الذي يحول النفوس األمارة‬
‫بالسوء إلى النفوس المطمئنة والقلوب السقيمة إلى القلوب السليمة التي ليس فيها غل‪.‬‬
‫واإلنسان صناعة وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها‪ .‬والعامل المؤثر فيهما قانون الحق‬
‫والباطل الذي يذهب فيه الزبد جفاء ويمكث في األرض ما ينفع الناس‪ .‬وهذا هو قانون النسخ‬
‫دائما‪ .‬والذي يقوم بالنسخ هو األنفع للناس جميعا‪ .‬وكأن ابن آدم يقول ألخيه أنا صار عندي‬
‫روح هللا العقل الذي يفهم العواقب أرفض العودة إلى استخدام العضالت في التأثير على الجهاز‬
‫العصبي في اإلنسان ومن غير جهد كبير صار يمكن فهمه اآلن‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1972‬طبعت كتابي الثاني كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) حاولت إعراب هذه الجملة‬
‫القرآنية على أساس قواعد النحو في اللغة العربية من أن في هذه اآلية فعلين وفاعلين‬
‫ومفعولين‪ .‬الفعالن هما يغير ويغير والفاعالن الفاعل ليغير األول هو هللا تعالى الذي يخلق‬
‫النتائج من األسباب يخلق النعم الصحة الجسدية والصحة النفسية والفاعل الثاني هم األقوام‬
‫ومفعولهم ما باألنفس البشرية بالقدرة على ربط األسباب بالنتائج‪ .‬هذه هي المعرفة والعلم الذي‬
‫يمكن إعطاؤه لإلنسان فيغير ما بنفسه بمعرفة أسباب الصحة والمرض الذي يطرأ على اإلنسان‬
‫على جسده وعلى نفسه وفي هذا الكتاب حاولت أن أبين أن مصيره صار بيده ألن تغيير ما‬
‫باألنفس وظيفة اإلنسان وفعله ووظيفة هللا وفعله هو خلق النتائج حين يغير الناس ما بأنفسهم‬
‫وعمل هللا في هذا تابع لعمل اإلنسان‪ .‬ويقول هللا أنا ال أغير ما بكم من نعمة أو نقمة حتى تغيروا‬
‫أنتم ما بأنفسكم؟ ولكن وضعنا نحن في العالم اإلسالمي نقول أنت الذي تفعل كل شيء ونحن ال‬
‫دخل لنا فيه‪ .‬ولكن هللا لن يغير سننه ألنها ثابتة لن تجد لسنة هللا تبديال ولن تجد لسنة هللا‬
‫تحويال‪ .‬وكأن الناس ال يكشفون سنن هللا وال يقبلونها إال إذا ذاقوا العذاب األليم (ولنذيقنهم من‬
‫العذاب األدنى دون العذاب األكبر لعلهم يرجعون) إن الذين عطلوا عقولهم (ال يؤمنون ولو‬
‫جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب األليم)‬
‫واألوربيون بعد أن ذاقوا العذابات األليمة في حروب دينية وحروب قومية وحروب عالمية‬
‫غيروا ما بأنفسهم من االستعالء واالستكبار فقبلوا أن يغيروا أساليبهم وقبلوا كلمة السواء‬
‫فأصبحوا بنعمة سنن هللا إخوانا ال فضل ألحد على أحد‪ .‬ونحن العرب والمسلمون علينا أن ال‬
‫نتبلد وأن ال تأخذنا العزة باهلل باإلثم ونقبل أن نغير ما بأنفسنا لنخرج من هذا التمزق والتدابر‬
‫واستعداء بعضنا على بعض كما في حرب الخليج األولى والثانية‪ .‬وجاءت األدهى الثالثة‬

‫‪292‬‬
‫باحتالل العراق ونحن ال نشم رائحة التوجه إلى التعاون فضال عن االتحاد مثل االتحاد األوربي‪.‬‬
‫وإنني ألدعو جميع عقالء األمة إلى أن يدعوا بدون أن يجرمنا شنآن قوم على أن ال نعدل‬
‫فنسارع إلى الدعوة إلى مثل هذا االتحاد الذي لم ينزل من السماء وإنما تولد في األرض‪ .‬من‬
‫العناء والعذاب والخسائر في األنفس واألموال‪ .‬وأن نقول إن ما يرينا هللا من آيات في االتحاد‬
‫األوربي من غير أن يخسر أحد شيئا ويربح الجميع أفضل عند هللا ورسوله وعند المؤمنين‬
‫وعند عقالء الناس أجمعين مما نحن عليه وأن نسارع باإلعالن بالفم المآلن وباليقين الثابت‬
‫من أن هناك بديال عما نحن عليه من الهوان والذلة والمسكنة والتدابير وشماتة بعضنا ببعض‬
‫بديال يحدث أمامنا ومن جيراننا وليس من الغيب وفي كوكب آخر‪ .‬يحلون مشكالتهم بكلمة‬
‫السواء بالعدل واإلحسان من غير أن يخسر أحد شيئا ويربح الجميع ال يخسر أرضا وال ماال وال‬
‫مكانة بل سيزداد الجميع ربحا في كل مجاالت الحياة ويقر لنا بذلك اآلخرون ويفرح بذلك‬
‫المستضعفون وال يمكن للمستكبرين أن يفعلوا شيئا ويعترفون بأننا صرنا نسمع ونعقل وأننا‬
‫بلغنا الرشد بالبدء بهذا العمل الذي ينبغي فورا أن نبدأ به‪ .‬فإذا غيرنا ما بأنفسنا من أن طبيعة‬
‫النفس اإلنسانية تعطي باإلقناع ما ال تعطيه باإلكراه فستنفتح لنا أبواب نظنها موصدة وأساليب‬
‫لإلصالح ماله من نفاذ وقد تهيأت النفوس لمثل هذا العمل فعلينا أن نكون من السابقين األولين‬
‫ونكون من الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا وعند ذلك سيأتي نصر هللا‬
‫والفتح المبين الذي يفرح به المؤمنون وكانوا أحق بها وأهلها‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1980‬كتبت كتاب (العمل قدرة وإرادة)‬
‫أردت أن أبين فيه أن العمل اإلنساني من زوجين قدرة وإرادة‪ .‬إن حركة اإلنسان ليست كحركة‬
‫األفالك ذو اتجاه واحد وإنما قدرة وإرادة وسيلة وغاية‪ .‬وحاولت أن أبين أن لنا إرادة ولكن‬
‫نجهل الوسائل‪ .‬وضربت المثل باألم والتي وهبها هللا الرحمة في حب مولودها لسنا في حاجة‬
‫أن نعلمها ذلك ولكن علينا أن نعلمها كيف تستطيع أن تهب مولودها الصحة الجسمية والصحة‬
‫النفسية‪ .‬فعلى قدر علمها تحقق صنع الجسم السليم والقلب السليم من الغل‪ .‬وهذا الواجب على‬
‫األم هو الواجب على األمة اآلن لنجعل عمل األمة ناجحة في تحقيق إرادتها‪ .‬وذلك ال يكون إال‬
‫بأن نعرف ماذا حدث في العالم وكيف تعلم اإلنسان تسخير المادة فصنع المحركات اآللية التي‬
‫أراحت الناس وحملتهم في أرجاء األرض وفي الفضاء‪ .‬وتعلم الناس علم صحة األجساد فطالت‬
‫األعمار وقلت اآلالم وبقى على اإلنسان أن يعلم سنن األنفس وتزكيتها وليرشد استخدام‬
‫اإلنسان وأن هذا الجانب هو األهم وهو ما يحتاج إليه المسلمون ليتعلموه فيلموا شملهم‬
‫الممزق ويستعينوا بسنة هللا في الذين سبقونا فنتقبل أحسن ما علموا ونتجاوز عن سيئاتهم‪.‬‬
‫ولما ننظر كيف بدأ الخلق نعمل أن العمل خلق من زوجين لكل مخلوق ولكن نعلم أيضا أنا خلقنا‬
‫من نفس واحدة وجعل منها زوجها وبث منهما رجاال كثيرا ونساء كذلك خلق من القدرة اإلرادة‬
‫وخلق منهما ذرية كثيرة ليكونوا خلفاء هللا في األرض ليقيموا العدل واإلحسان‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1987‬كتبت كتاب( إقرأ وربك األكرم) وكان هدفي من هذا الكتاب أن أرفع من قيمة‬
‫العلم والعقل وال يمكن أن ترتفع قيمة اإلنسان إال بالعقل والعلم فأردت تعريف العلم والعقل وكان‬
‫هذا هاجسي حيث اإلنسان بعقله يكون إنسان وليس بجسده (فأنت بالعقل ال بالجسم إنسان)‬
‫واإلنسان يولد وال يعلم شيئا ولكن عنده قدرة أن يتعلم ويعقل‪ .‬وهو ال يولد وعنده علم وعقل‬
‫وإنما يولد وعنده رأسمال عظيم جدا هو الفهم والقدرة على الفهم‪ .‬وفي سفر األمثال (أنا الفهم‬
‫لي القدرة)‪ .‬وحين بدأت أدير في ذهني تعريف العلم والعقل وتذكرت أن اإلنسان يولد بدون علم‬
‫وعقل وإنما يتعلم ويصير يعقل بعد ذلك وال يتم التعلم إال بالقراءة ألن العلم بالقراءة صار للعلم‬
‫وجود خارج عقل اإلنسان‪ .‬أي أن المعلومات التي يحصلها اإلنسان يمكن أن ينقلها من ذهنه‬
‫ويضعها في الكلمات‪ .‬ثم تعلم اإلنسان أن يضع الكلمات على الورق ككتابة فصار للعلم وجود‬
‫وبقاء وحفظ خارج دماغ اإلنسان الذي يعود إلى التراب‪.‬‬
‫إن تقنية القراءة أكبر وأعظم تقنية وصل إليها اإلنسان وكيفية وصول اإلنسان إلى هذه التقنية‬
‫معروفة في التاريخ ألن التاريخ صار له وجود حين صار له وجود باالنتقال إلى الورق إلى‬

‫‪293‬‬
‫الرمز بالحروف الهجائية التي كثير من هذه الحروف في أول كثير من سور القرآن ألم حم‬
‫عسق فحبس اإلنسان العلم في هذه الحروف ولم يكن عجيبا أن يكون أول كلمة في آخر رسالة‬
‫كلمة (إقرأ) دون سائر الكلمات حتى اسم هللا جاء بعد كلمة إقرأ باسم ربك وألن حصول اإلنسان‬
‫على العلم ارتبط بالقراءة ولن يكون ألمي مكان بعد ما أوحي إلى اإلنسان األمي فمن هنا مرة‬
‫أخرى دليل على ختم النبوات لتكون هذه الرسالة رسالة التي حملها األمي ولم يدع أنه من‬
‫عنده‪ .‬وختم النبوة انتقال إلى عهد جديد إلى نوع جديد من التلقي عن هللا ال يمكن أن ينكره عقل‬
‫إنسان إال إذا أنكر قبل ذلك عقله وقوة الفهم عند اإلنسان وذلك حين صار بهذا الكتاب الذي‬
‫اشتق اسمه من القراءة وهو القرآن حيث جاء في القرآن مرجعية القرآن حين قال القرآن‬
‫(سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي أنفسهم حتى يتبين له أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل‬
‫شيء شهيد) حين صار مصدر المعرفة من آيات هللا في اآلفاق واألنفس وكل من تمكن من‬
‫استخدام اآلفاق واالنفس بمردود أعلى (خير وأبقى) فقد جاء بجديد ينسخ ما قبله (ما ننسخ من‬
‫آية أو ننسها نأت بخير منها)‬
‫فمن هنا غيرت اسم كتابي إلى اسم أقرأ وربك األكرم‬
‫وتركت كلمة العلم والعقل كأسماء للكتاب مع أن الذي دفعني لكتابة الكتاب هو إعطاء تعريف‬
‫للعلم والعقل وشعرت بأن القراءة بها نحصل علم األولين ولكن إضافة شيء جديد لعلم األولين‬
‫يكون في التعامل األفضل مع الواقع (آيات األفاق واألنفس) واآلية البرهان والدليل والحجة‪.‬‬
‫والقرآن يعتبر اآليات والبراهين واألدلة والحجج هي العواقب النافعة (كذلك يضرب هللا الحق‬
‫والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في األرض كذلك يضرب هللا األمثال)‬
‫الرعد ‪17‬‬
‫ومراتب الوجود خمسة ‪-1‬وجود الشيء في ذاته كالشمس والبرق ‪ -2‬وجود صورة ذهنية في‬
‫عقل اإلنسان ‪-3‬ثم تحول هذه الصورة الذهنية إلى كالم ينطق به اإلنسان ‪-4‬ثم تحول هذا الكالم‬
‫المنطوق به بالفم إلى كلمات مكتوبة على الورق ‪-5‬وهذه كلها كانت سنن وقوانين لم يكن لها‬
‫وجود مادي فيزيائي فتحولت هذه السنن إلى هذه األمور األربعة السابقة وهناك سنن لم يتجسد‬
‫بعد في الوجود المادي والمراتب األربعة السابقة كل واحدة منها أقل داللة مما قبلها فالكتابة ‪4‬‬
‫أقل داللة من الكالم المنطوق‪ 3‬والكالم المنطوق أقل داللة من الصورة الذهنية التي في دماغ‬
‫اإلنسان ‪4‬والصورة الذهنية أقل داللة من الوجود الخارجي كالشمس والبرق وقد كان فهم‬
‫الناس لحركة الشمس خطأ وكان من الصعب أن يتحول إلى ذهن اإلنسان أن األرض هي التي‬
‫تدور حول الشمس فمن هنا كان ال إكراه في الدين ال إكراه في الصور الذهنية ألن تغيير الصور‬
‫الذهنية باإلقناع باألدلة وليس فرضها بالقوة‪.‬‬
‫وتعريف العلم والعقل دليله (التنبؤ؟) والتسخير التنبوء بمعرفة سنن حركة الشموس والكواكب‬
‫واألقمار وأن لها سننا تتكرر‪ .‬والتسخير مثل تسخير البرق والكهرباء وكشف قوانين المرض‬
‫لجسد اإلنسان‪ .‬فمن كشف ما ينفع الناس في التنبوء والتسخير فهذا هو العلم من أدوات الكتابة‬
‫الورق والقلم إلى تغيير اإلنسان إلى أحسن تقويم‪ .‬فمن استطاع أن يبتكر وسائل لتزكية األنفس‬
‫البشرية بزمن أقل ومردود أكثر فسيبقى هذا الكشف وينسخ األقل مردودا واألقل بقاء حتى يأتي‬
‫ما هو خير وأبقى آخر‪ .‬فلهذا لما صار معرفة الحق والباطل هو األنفع للناس يمكث في األرض‬
‫والزبد الذي ال ينفع أو يضر يذهب جفاء ولهذا إبراهيم سأل قومه عن األصنام هل ينفعونكم أو‬
‫يضرون كان جوابهم بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون‪.‬‬
‫وكل جهدي ينصب على هذا لتوضيحه بالسير في األرض والنظر كيف بدأ الخلق وبرؤية آيات‬
‫هللا في اآلفاق واألنفس حتى يتبين الحق من الباطل وأن الحق له البقاء والدوام والباطل له‬
‫الزوال والفناء‪ .‬وهذا الفهم نور وطمأنينة للنفس وسالم للقلب‪ .‬وهذا سيعم العالم‪ .‬ألن كل شيء‬
‫يصير علما يصير عالميا‪ .‬هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله‪.‬‬
‫على هذا نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن شاء هللا من اآلمنين سبحان ربك رب العزة عما‬
‫يصفون وسالم على المرسلين والحمد هلل رب العالمين آمي‬

‫‪294‬‬

You might also like