You are on page 1of 262

‫‪MERIT EL THAQAFEYYA‬‬

‫فبراير ‪2023‬‬ ‫العدد ‪50‬‬ ‫كتاب أدبي غير دوري‬ ‫تصدر عن دار ميريت للنشر‬

‫التفسير التاريخي‬ ‫المجتمع المدني‬ ‫قراءات في مجموعة‬


‫لتنوع التركيب‬ ‫في مرمى نيران‬ ‫«ست زوايا للصالة»‬
‫الوراثي في مصر‬ ‫الديكتاتوريات العتيقة!!‬ ‫ألميرة بدوي‬

‫االختالفات بين مصاحف األمصار في عهد عثمان‬

‫المجتمع‬
‫المدني‪..‬‬
‫شريك في‬
‫التنمية‬
‫أم بديل‬
‫للدولة؟‬
‫‪M‬‬ ‫‪E‬‬ ‫‪R‬‬ ‫‪I‬‬ ‫‪T‬‬ ‫‪E‬‬ ‫‪L‬‬ ‫‪T‬‬ ‫‪H‬‬ ‫‪A‬‬ ‫‪Q‬‬ ‫‪A‬‬ ‫‪F‬‬ ‫‪E‬‬ ‫‪Y‬‬ ‫‪Y‬‬ ‫‪A‬‬

‫‪2023‬‬
‫العدد‬
‫دوري‬
‫غير‬
‫أدبي‬
‫كتاب‬
‫للنشر‬
‫دار ميريت‬
‫تصدر عن‬

‫فبراير‬
‫‪50‬‬
‫قواعد النشر يف «ميريت الثقافية» ‪:‬‬
‫تنحاز «ميريت الثقافية» للكتابة اإلبداعية والثقافية الجادة‪ ،‬التي تعبر عن فكر ورسالة التنوير‪ ،‬ويسعدها أن تقبل املساهمات األدبية والثقافية‬
‫وفق املتطلبات اآلتية ‪:‬‬
‫أن تكون املادة املرسلة مخصصة حصر ًيا لـ «ميريت الثقافية»‪ ،‬ومل يسبق نشرها بأي وسيلة نشر أخرى‪.‬‬
‫ترسل املادة مكتوبة ومصححة عىل برنامج «وورد» ‪ ،Word‬وال تُقبل األوراق املطبوعة‪ ،‬أو امللفات بصيغ أخرى (مثل ‪.)PDF‬‬
‫املجلة غير ملزمة بتقديم تفسير عن عدم النشر‪ ،‬وميعاد النشر يخضع ألولويات املجلة وأسبقية إرسال املواد‪.‬‬
‫ترتيب املقاالت وأسماء ال ُكتَّاب يخضع العتبارات فنية خالصة‪ ،‬وليس له عالقة عىل اإلطالق بأهمية املبدعين‪ ،‬واملجلة تعتز بكل ُكتَّابها وقرائها‪.‬‬
‫إهداء من‬

‫القاهرة ‪ ،‬مصر‬
‫أحمد اللبَّـاد‬

‫أسسها سمير درويش‬


‫املدير العام‪ :‬محمد هاشم‬

‫املاكيت الرئيسي والتصميم‬


‫التنفيذ الفني ‪ :‬إسالم يونس‬

‫‪email: miritmag@gmail.com‬‬
‫مدير التحرير ‪ :‬سارة اإلسكافي‬

‫املواد املنشورة باملجلة تعبر عن آراء ُكتَّابها‪،‬‬


‫وال تعبر بالضرورة عن رأي القائمين عليها‪.‬‬
‫وصدر العدد األول ىف يناير ‪2019‬‬
‫رئيس التحرير ‪ :‬سمير درويش‬

‫املراسالت ‪ :‬دار ميريت للنشر ‪ ٣٢ ،‬شارع صبري أبو علم ‪،‬‬


‫نائب رئيس التحرير ‪ :‬عادل سميح‬
‫المحــــــ‬
‫افتتاحية‬
‫التشويه املمنهج‪ ..‬املجتمع املدني يف مرمى نيران الديكتاتوريات العتيقة | رئيس التحرير‬ ‫‪4‬‬

‫إبداع ومبدعون‬

‫الدكتور شوقي ضيف والثقافة الشعبية | د‪.‬نادية هناوي‬ ‫رؤى نقدية ‪8 :‬‬
‫املؤثرات األجنبية يف مسرح صالح عبد الصبور | د‪.‬ناصر أحمد سنه‬ ‫‪15‬‬
‫التفرد السردي يف قصيدة الشعر الحديث | أشرف عبد املنعم‬ ‫‪21‬‬
‫التربية والنمو الذهني عند الطفل لجان بياجيه | املطك ميلود‬ ‫‪26‬‬
‫سيميائيات “املتعة اليقظة” عند عبد الفتاح كليطو | حمادة محمد‬ ‫‪34‬‬

‫قصائد | صالح فائق‬‫شعر ‪40 :‬‬


‫‪ 44‬حبيبي يخبئ حض ًنا | سمر الشين‬ ‫‪ 42‬جَ ناحات هاربة | مؤمن سمير‬

‫‪ 46‬قصيدتان | ريهام عزيز الدين‬ ‫‪ 45‬حمى | صليحة نعيجة‬

‫تتهجى شوكها | خيرة مباركي‬‫ّ‬ ‫‪ 48‬خمسة نصوص | عبد الخالق كيطان ‪50‬‬

‫سيِّد | عيل حسن‬


‫أم َ‬ ‫‪52‬‬ ‫قصة‪:‬‬

‫طعام وموسيقى للرجال الجوف | أحمد بوقري‬ ‫‪64‬‬ ‫أنشودة بمداد أحمر | نادية توفيق‬ ‫‪58‬‬
‫ُشبهات الغياب | محمد حسن‬ ‫‪72‬‬ ‫مَغيب وبقايا فجر | أحمد غانم عبد الجليل‬ ‫‪66‬‬
‫بحر يبحث عن بائه | رجاء عمار‬ ‫‪76‬‬ ‫املفتاح | صالح أمهاوش‬ ‫‪74‬‬
‫(قراءات في مجموعة “ست زوايا للصالة” ألميرة بدوي)‬ ‫نون النسوة ‪:‬‬
‫بنية املوروث الشعبي يف ست زوايا للصالة | د‪.‬أحمد الصغير‬ ‫‪78‬‬
‫جماليات األركيولوجيا والغرائبية يف ست زوايا للصالة | د‪.‬محمد سليم شوشة‬ ‫‪84‬‬
‫السرد املتواطئ مع الحكاية يف ست زوايا للصالة | الطيب خالدي‬ ‫‪88‬‬
‫تجديد الخطاب‬
‫املعالجة الغيبية التي واجه بها الرواة العنف الديني للخوارج | عصام الزهيري‬ ‫‪96‬‬
‫لجنة عثمان لجمع املصحف‪ ..‬والقراءات العشر | أسماء زكي‬ ‫‪101‬‬
‫االختالفات بين مصاحف األمصار يف عهد عثمان | ميسون الشوابكة‬ ‫‪106‬‬
‫ـــتويات‬
‫حول العالم‬

‫التفسير التاريخي ألشكال تنوع التركيب الوراثي يف مصر | شوماركا كيتا‪ -‬ت‪ :‬منى كامل‬ ‫‪112‬‬
‫األمسية الجميلة | ألبرتو مورافيا‪ -‬ت‪ :‬أسماء موسى عثمان‬ ‫‪130‬‬
‫قصائد | فيليب لوكس‪ -‬ت‪ :‬أحمد بن قريش‬ ‫‪136‬‬

‫الملف الثقافي ‪( :‬المجتمع المدني في مرمى نيران الديكتاتوريات)‬

‫بين املجتمع املدني وسلطة الدولة | د‪.‬سامية سالم‬ ‫‪140‬‬


‫منظمات املجتمع املدني والثقافة‪ ..‬الجمعيات الفلسفية العربية نموذجً ا | د‪.‬ماهر عبد املحسن‬ ‫‪146‬‬
‫املجتمع املدني‪ ..‬شريك يف التنمية أم بديل للدولة؟ | د‪.‬كمال املصري‬ ‫‪156‬‬

‫لوحة الغالف والرسوم الداخلية املصاحبة ملواد‬ ‫التنمية السياسية وأثرها يف املجتمع املدني | د‪.‬ياسر عاشور إسماعيل‬ ‫‪164‬‬
‫باب «إبداع ومبدعون» للفنانة السورية سارة‬
‫الشباب واملجتمع املدني | د‪.‬قاسم محبشي‬ ‫‪174‬‬
‫ش َّما (‪)... -1975‬‬

‫ثقافات وفنون ‪:‬‬

‫منى الشــيمي‪ :‬كان لليهود وجود يف مصر‪ ،‬مثلما كان يف كل مكان يف العامل‪ ،‬ليس بالشــكل املكرس له يف‬ ‫حوار‪184 :‬‬
‫الرسوم املصاحبة ملواد باب «نون النسوة» للفنانة‬ ‫املحكية الصهيونية! | حاورها‪ :‬سمير درويش‬
‫املصرية آية الفالح (‪)... -1986‬‬
‫أضوء عيل تاريخ مطبعة بوالق | د‪.‬خالد عزب‬ ‫تاريــخ‪191 :‬‬
‫أحمس وطرد الهكســوس | د‪.‬عيل عفيفي عيل غازي‬ ‫مصريــات‪200 :‬‬
‫ال تولد قبيحً ا‪ ..‬فلسفة القبح‪ ،‬ثنائية الجميلة والوحش | أسماء عبد العزيز مصطفى‬ ‫رأي‪213 :‬‬
‫اإلبداع الفني ونظريات التحليل النفســي | مينا ناصف‬ ‫علــم نفس‪221 :‬‬
‫الصور الفوتوغرافية يف بدايات األبواب‪،‬‬ ‫إحداث األثر اإلشــهاري يف ســلوك املستهلك | يوسف بن اسعيد الفع‬ ‫فنون‪229 :‬‬
‫ويف ظهر الغالف للفوتوغرايف اإليراني‬
‫عباس عطار (‪)2018 -1944‬‬ ‫املرددات النسائية املغربية‪ :‬مظهر من مظاهر التصوف | جرية حاجي‬ ‫‪237‬‬
‫حلول آخر للجســد يف رواية «هي عصاي» لفتحي اســماعيل | سهير السمان‬ ‫كتب‪245 :‬‬
‫غياب الديمقراطية‪ ،‬والعقل املدني املتأخر | عبد الجبار الغراز‬ ‫‪249‬‬
‫ميريت يف رواية «إخناتون ونفرتيتي الكنعانية» | إلهام الشرع‬ ‫‪254‬‬
‫‪4‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫من مصلحة أي حاكم أن تكون لديه‬ ‫افتتاحية‬


‫مؤسسات معارضة قوية‪ :‬أحزاب ونقابات‬
‫وبرلمانات وإعالم ومؤسسات مجتمع‬
‫مدني‪ :‬قانونية وحقوقية‪ ،‬فمن ناحية تضع‬
‫هذه المؤسسات صو ًرا حقيقية لألوضاع‬
‫الداخلية أمام متخذ القرار‪ ،‬بحيث ال يكون‬
‫سمير درويش‬
‫كل ما يسمعه هو اإلشادة بقراراته‪،‬‬ ‫رئيس التحرير‬
‫والتغني بقدراته الخارقة وإنجازاته‬
‫َّ‬
‫متنف ًسا‬ ‫ِّ‬
‫تشك ُل‬ ‫الفارقة‪ ،‬ومن ناحية أخرى‬ ‫التشويه‬
‫الممنهج‪..‬‬
‫للناس يستطيعون التعبير من خالله عن‬
‫مظالمهم في األطر المشروعة‪ ،‬ألن الكبت‬
‫المتواصل يؤدي إلى االنفجار‪ ،‬أو قد يؤدي‬
‫المجتمع المدني في مرمى‬
‫إلى حاالت متطرفة من المعارضة‪ ..‬وال أظن‬
‫أن أي حاكم يريد أن يصل إلى هذه النقطة!‬ ‫نيران الديكتاتوريات العتيقة‬

‫تلك الديمقراطيات‪ -‬أن توجه تهمة ما لرئيس‬ ‫شيء يكرهه أي ديكتاتور هو‬
‫أكثر‬
‫الدولة –أو لرئيس الوزراء يف الدول البرملانية‪-‬‬ ‫املؤسسات الرقابية التي من صميم‬
‫وهو يف منصبه‪ ،‬واألمثلة كثيرة وعىل رأسها‬ ‫عملها مراقبة أداء السلطة التنفيذية‪،‬‬
‫اتهام الرئيس األمريكي بيل كلينتون يف قضية‬ ‫وعىل رأسها الرئيس نفسه‪،‬‬
‫تحرش‪ ،‬وتكوين لجنة تحقيق بسلطة مطلقة‪،‬‬ ‫األداء املايل واإلداري‪ ،‬واألخالقي‬
‫لدرجة أن كلينتون اضطر –يف النهاية‪ -‬أن‬ ‫يف بعض الدول‪ ،‬ألن «السلطة‬
‫يعترف بالجرم ويطلب السماح‪ .‬وبالطبع لو‬ ‫املطلقة مفسدة مطلقة» كما قال السياسي‬
‫حاكما لدولة ديكتاتورية عامل‬‫ً‬ ‫كان كلينتون‬ ‫البريطاني اللورد أكتون يف القرن الثامن‬
‫ثالثية مل يكن أي شيء من هذا سيحدث!‬ ‫عشر‪ .‬لهذا فالديمقراطيات الراسخة تقوم‬
‫املؤسسات القوية هي التي تحمي الدولة‬ ‫عىل مبدأ الفصل بين السلطات‪ ،‬حتى يستطيع‬
‫واملجتمع ضد رغبة الح َّكام يف التغول‬ ‫(البرملان) أن يقوم بدوره يف املحاسبة‬
‫واستغالل السلطة والبطش باملعارضين‪ ،‬واملثل‬ ‫والتشريع‪ ،‬ويقوم القضاء بالفصل يف‬
‫القريب لذلك ما حدث يف أمريكا منذ عامين‬ ‫املنازعات بحرية كاملة دون إمالءات من أحد‪،‬‬
‫فقط حين أظهرت نتائج االنتخابات تقدم‬ ‫ودون أن يعمل القاضي حسا ًبا ملن عينه‪،‬‬
‫املرشح الديمقراطي جو بايدن عىل خصمه‬ ‫ومن يستطيع –بالتايل‪ -‬فصله من عمله‪..‬‬
‫(الرئيس) الجمهوري دونالد ترامب بفارق‬ ‫ولكي تقوم األجهزة الرقابية بعملها دون‬
‫بسيط‪ ،‬أراد ترامب أن يعطل جلسة الكونجرس‬ ‫خوف يف مراقبة كل املؤسسات يف الدولة‬
‫التي ستصدق عىل نتائج االنتخابات‪ ..‬فلم‬ ‫دون استثناء واحد‪ ..‬لذلك فمن الشائع –يف‬
‫‪5‬‬
‫افتتاحية‬

‫–مثل‪ -‬سجن‬ ‫يجب أال تضيع‪ ،‬لذلك يستسهل ً‬ ‫حرض أنصاره فاقتحموا‬ ‫يستطع‪ ،‬لدرجة أنه َّ‬
‫املعارضين ألنهم قوة مع ِّوقة‪ ،‬ويرى أن (موت)‬ ‫مبنى الكابيتول‪ ،‬يوم ‪ 6‬يناير ‪ ،2021‬أثناء‬
‫مواطن يف قسم شرطة نتيجة ممارسة العنف‬ ‫الجلسة املشتركة‪ :‬الشيوخ والنواب‪ ،‬لفرز‬
‫الشرطي‪ ،‬أو (موت) سجين ألنه مل تتوفر‬ ‫األصوات االنتخابية ومناقشة الطعون‪ ،‬فأثاروا‬
‫له الرعاية الطبية‪ ..‬إلخ‪ ،‬أعمال ثانوية جانبية‬ ‫الذعر وهرب النواب من الجلسة‪ ،‬لكن قوات‬
‫صغيرة يجب أال تعطل مسيرته‪ ،‬بينما العامل‬ ‫األمن تدخلت وأنهت االقتحام‪ ،‬وعاد النواب‬
‫كله يعمل كي ال ُيظلم بريء‪ ،‬وال تحبس حرية‬ ‫واستكملوا جلستهم –بقيادة نائب الرئيس‬
‫إنسان مل يرتكب خطأً‪ ،‬بل إن القاعدة يف العامل‬ ‫الجمهوري‪ -‬وأعلنوا فوز املرشح الديمقراطي‪.‬‬
‫املتحضر هي أن «براءة مائة متهم‪ ،‬أهون من‬ ‫مع وجود كل هذه املؤسسات الرسمية ومبدأ‬
‫سجن بريء واحد»!‬ ‫الفصل بين السلطات الذي تقره الدساتير‬
‫العقبة الكبرى التي تقابلها منظمات العمل‬ ‫الحقيقية‪ ،‬ال ( ُكتُب) الدساتير املركونة عىل‬
‫املدني يف الدول الديكتاتورية أنها يف مرمى‬ ‫الرفوف‪ ،‬ابتكرت النظم الديمقراطية مؤسسات‬
‫نيران السلطات السياسية وذيولها‪ ،‬يف‬ ‫العمل املدني‪ ،‬التي مهمتها مراقبة أداء الحكومة‬
‫اإلعالم والصحافة والبرملان –املستأنس غالبًا‬ ‫للتأكد من عدم تغولها‪ ،‬ففيها مؤسسات‬
‫واملصنوع صناعة‪ -‬بغرض إسكاتها‪ ،‬عىل‬ ‫حقوقية تتأكد من احترام بنود القانون يف‬
‫ً‬
‫أصل‪،‬‬ ‫قاعدة أن املواطن عندها ليس له حقوق‬ ‫حاالت القبض عىل املواطنين‪ ،‬والتأكد من‬
‫فهو إ َّما فوض «الزعيم امللهم»‪ ،‬أو شارك –أو‬ ‫توجيه تهم واقعية لهم‪ ،‬وتمكينهم من الحصول‬
‫مل يشارك يف الحقيقة‪ -‬يف انتخابات شكلية‬ ‫عىل حقوقهم القانونية يف فترات االحتجاز‪،‬‬
‫جاءت بـ»الزعيم امللهم»‪ ،‬ويف الحالتين انتهى‬ ‫وهناك مكاتب محاماة تتطوع للدفاع عن‬
‫دوره‪ ،‬وعليه أن يشكر الظروف التي تبقيه‬ ‫املقبوض عليهم دون أتعاب‪ ،‬وجماعات ضغط‬
‫حيًّا‪ .‬الديكتاتور وأذنابه ال يكتفون بـ»عرقلة»‬ ‫سياسية تستخدم كل اإلمكانيات املتاحة‬
‫تحركات هذه املنظمات‪ ،‬لكنهم يوجهون لها‬ ‫للضغط عىل الحكومات داخليًّا وخارجيًّا‪،‬‬
‫اتهامات «العمالة» و»التمويل من الخارج»‬ ‫جنبًا إىل جنب مع األحزاب والنقابات املهنية‬
‫و»زعزعة أركان الن ُُّظم» و»إشاعة الفوضى»‪ .‬ال‬ ‫والجمعيات الخيرية‪ ،‬والجماعات الدينية‪،‬‬
‫أقول إن (كل) املكاتب التي تعمل يف هذا املجال‬ ‫واملؤسسات غير الربحية‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫منزهة عن الغرض‪ ،‬لكنني أقول إن االتهامات‬ ‫وألن هذه املؤسسات تؤدي أعمالها تط ُّو ًعا‬
‫تكون جزافية غالبًا‪ ،‬وتأخذ العاطل يف الباطل‪،‬‬ ‫دون أجر‪ ،‬فهي تحصل عىل (معونات) من‬
‫وأن معظم العاملين فيها ال يسلمون من البطش‬ ‫مؤسسات دولية تهتم بهذه األعمال‪ ،‬بالضبط‬
‫إن (نشفوا مخهم) ومل يذعنوا لتوجهات‬ ‫كما تحصل الحكومات عىل معونات من‬
‫النظام‪ ،‬أو إن حاولوا الوقوف يف وجه الظلم‪.‬‬ ‫دول ومؤسسات دولية‪ ،‬ال ت َُر ُّد‪ ،‬بخالف‬
‫األنظمة الديكتاتورية –يف الغالب‪( -‬تعيِّن)‬ ‫القروض ذات الفائدة املنخفضة التي تهدف‬
‫موظفين تابعين لها ليقوموا بهذه األدوار‪:‬‬ ‫إىل إصالحيات اقتصادية يف الدول الفقيرة‪ ،‬أو‬
‫منظمات حقوق إنسان ولجان مراجعة موقف‬ ‫مواجهة الكوارث واألزمات واألوبئة‪.‬‬
‫السجناء‪ ..‬وهي نكتة سمجة يف الحقيقة‪،‬‬ ‫يجب أن أشير هنا إىل أن الديكتاور الذي يكره‬
‫ألن هؤالء املوظفين ال يفعلون سوى إصدار‬ ‫املؤسسات الرقابية‪ ،‬وعىل رأسها منظمات‬
‫بيانات تتغنى بالحريات املتاحة يف الدول‬ ‫املجتمع املدني‪ ،‬قد ال يكون فاس ًدا بالضرورة‪،‬‬
‫املخنوقة‪ ،‬وبيانات أخرى (نح ِّقر) من شأن‬ ‫لكنه –يف بعض الحاالت‪ -‬يتصور أنها تعطل‬
‫البيانات الدولية التي ترصد حال الحريات يف‬ ‫خططه التي يراها عبقرية وسابقة لزمانها‪،‬‬
‫هذه الدولة أو تلك‪ ،‬وال تنسى أن تذ ِّكر هذه‬ ‫ألن التقيد بالقوانين والدساتير –يف رأيه‪-‬‬
‫املنظمات الدولية بـ»سجن أبو غريب»‪ ،‬أو‬ ‫سيضيع عليه ‪-‬وعىل الدولة التي يمسك بكل‬
‫«جورج فلويد» املواطن األمريكي امللون الذي‬ ‫فرصا‪ ،‬يرى –مفر ًدا‪ -‬أنها‬ ‫ً‬ ‫مفاتيحها يف يده‪-‬‬
‫‪6‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫طب ًعا إن خلصت النوايا وتوفرت الشفافية‪،‬‬ ‫قتله شرطي بالضغط عىل رقبته‪ ،‬أو ترديد‬
‫وإن مل يكن الخارجون عىل القانون هم أنفسهم‬ ‫مقولة منسوبة لرئيس وزراء بريطاني أسبق‬
‫املنوط بهم تنفيذه وحمايته! غير أن املجتمعات‬ ‫«حين يتعلق األمر باألمن القومي ال تحدثني‬
‫الهشة يف الدول املقموعة تحتاج إىل املساعدة‬ ‫عن حقوق اإلنسان»! وكأن حاالت الظلم‬
‫ممن يفهمون يف القانون وآليات تنفيذه‪ ،‬وال‬ ‫املتفرقة العشوائية التي يتم محاسبة املسئول‬
‫وح َّجاب املحاكم‪.‬‬ ‫عنها سري ًعا‪ ،‬تتساوى بالظلم املمنهج الدائم‪،‬‬
‫يخافون من الشرطيين ُ‬
‫يف النهاية‪ ..‬من مصلحة أي حاكم أن تكون‬ ‫الذي تسبب يف (كره) املواطن للمحاكم وأقسام‬
‫لديه مؤسسات معارضة قوية‪ :‬أحزاب ونقابات‬ ‫الشرطة‪ ،‬وكأن الظلم هناك يبرر الظلم هنا!‬
‫وبرملانات وإعالم ومؤسسات مجتمع مدني‪،‬‬ ‫لكن أسوأ ما تتعرض له منظمات املجتمع‬
‫املدني يف الديكتاتوريات العتيقة –من وجهة‬
‫قانونية وحقوقية‪ ،‬فمن ناحية تضع هذه‬
‫نظري‪ -‬هو تقنين االضطهاد‪ ،‬أي أن توعز‬
‫صورا حقيقية لألوضاع الداخلية‬ ‫ً‬ ‫املؤسسات‬
‫السلطات الحاكمة واملتحكمة لبرملاناتها التابعة‬
‫أمام متخذ القرار‪ ،‬بحيث ال يكون كل ما يسمعه‬ ‫أن تسن قوانين تقيد حركتها‪ ،‬وتج ِّرم أي فعل‬
‫هو اإلشادة بقراراته‪ ،‬والتغني بقدراته الخارقة‬ ‫تقوم به‪ .‬هذا الشكل من أشكال االضطهاد‬
‫وإنجازاته الفارقة‪ ،‬ومن ناحية أخرى تش ِّك ُل‬ ‫هو األسوأ من بين األشكال واملمارسات‬
‫متنف ًَّسا للناس يستطيعون التعبير من خاللها‬ ‫األخرى‪ ،‬مثل التشويه اإلعالمي‪ ،‬أو االستهداف‬
‫عن مظاملهم يف األطر املشروعة‪ ،‬ألن الكبت‬ ‫الشرطي‪ ،‬ألن األصل أن تجد هذه املؤسسات‬
‫املتواصل يؤدي إىل االنفجار يف وقت ما لن‬ ‫مساحات واسعة لحركتها‪ ،‬فهي –يف األساس‪-‬‬
‫يكون يف صالح السلطات بحال‪ ،‬أو قد يؤدي‬ ‫تساعد الدول عىل إقرار العدل‪ ،‬وكشف أي‬
‫إىل حاالت متطرفة من املعارضة‪ ،‬إن توفر‬ ‫خروقات للقانون تحدث عىل أي مستوى‪،‬‬
‫األمان للمعارض أو توفرت النية التي تغذيها‬ ‫فالسلطات تخدم شعوبها كما تقول! التناغم‬
‫موروثات دينية و َق َبلية‪ ،‬وال أظن أن أي حاكم‬ ‫–إن حدث‪ -‬يصب يف مصلحة الحكومات‬
‫يريد أن يصل إىل هذه النقطة التي سيدفع‬ ‫الشفافة التي ال تتسامح مع موظفيها‬
‫ثمنها غاليًا‪ ،‬ليس هو وحده‪ ،‬بل إن األوطان‬ ‫الخارجين عن القانون‪ ،‬الذين يستخدمون‬
‫نفسها تعاني من (دمار) تلك االنفجارات‬ ‫السلطات املخولة لهم إلرهاب الناس والتنكيل‬
‫اللحظية لسنين طوال‪.‬‬ ‫بهم‪ ،‬وهو يحدث –بنسب قد ال تكون فائقة‪-‬‬
‫يف حوار مع صديق أستاذ علوم سياسية قال‬ ‫يف الدول الديمقراطية‪ ،‬لكن الديكتاتوريات يف‬
‫كاف لتستمع إىل‬‫الغالب ال يكون لديها وقت ٍ‬
‫يل إن املفكرين الفرنسيين الذين كانوا يؤيدون‬
‫الثورة ودفعوا نحوها‪ ،‬تراجعوا بعد ذلك‬ ‫املظامل وتحاسب الظاملين!‬
‫الديكتاتوريات ال تفهم أن تقوية املجتمع املدني‬
‫وأعلنوا ندمهم‪ ،‬فالثورات ليست الحل األمثل‬
‫يرفع عن كاهلها أعباء كثيرة‪ ،‬ألن املجتمعات‬
‫ملشكالت املجتمعات بالنظر إىل ما تخلِّفه من‬
‫القوية لديها القدرة عىل التعامل مع األزمات‬
‫فوضى‪ ،‬ومن تراجع اقتصادي‪ ،‬ودمار وحرق‬ ‫بشكل آيل‪ ،‬فهي كفيلة ً‬
‫–مثل‪ -‬بمواجهة‬
‫وقتل‪ ..‬إلخ‪ .‬اتفقت معه يف مبدأ أن التغير‬ ‫جشع التجار وغالء األسعار بتنظيم حمالت‬
‫السلمي هو األفضل عىل اإلطالق‪ ،‬لكن أدواته‬ ‫مقاطعة مؤثرة‪ ،‬وتستطيع أن توصل صوتها‬
‫ال تتوفر أمام جميع الشعوب بنفس القدر‪ ،‬أو‬ ‫للسلطات التي قد ال تكون عىل دراية باألزمة‪،‬‬
‫قد ال تتوفر عىل اإلطالق يف الديكتاتوريات‬ ‫بشكل سلمي‪ ،‬وقوتها تكون عامل ردع ذاتي‬
‫املزمنة‪ ،‬وال تجد الشعوب أمامها أي أمل لتغيير‬ ‫للخارجين عن القانون والذين يستغلون‬
‫مثل‪ ،‬أو فترات محددة‬ ‫هادي‪ ،‬بانتخابات نزيهة ً‬ ‫السلطة بشكل جائر‪ ..‬كل تلك األشكال السلمية‬
‫للحكم‪ ،‬أو مواد دستورية تحترمها األطراف‬ ‫وغيرها تساعد األجهزة الرسمية عىل القيام‬
‫جميعها‪ ،‬لذلك ال تجد أمامها سوى الغضب‬ ‫بدورها يف الرقابة والتنفيذ بشكل أسلس‪ ،‬هذا‬
‫إبداع‬
‫ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬
‫الشعر‬
‫القصة‬
‫‪8‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫د‪.‬نادية هناوي‬
‫(العراق)‬

‫الدكتور شوقي ضيف‬


‫والثقافة الشعبية‬

‫في العصر العباسي األول لم يعد الشعر مقصو ًرا على األصول العربية‪،‬‬
‫بل صار ينظمه الموالي‪ ،‬وكان الكثير من المتكلمين من الطبقات الشعبية‪.‬‬
‫وظل الشعر في العصر العباسي األول تتجسد فيه ثقافة الشعب من‬
‫أبناء الطبقة العامة‪ ،‬كما كان شعر المديح يستغل في الخصومات‬
‫السياسية‪ ،‬ال كما كان ُيعتقد من أنه مخصص للطبقة العليا‪ .‬ومن األدلة‬
‫على تحول الشعر إلى الطابع الشعبي هو ليونة عباراته وسهولة ألفاظه‬
‫وصعود شعر الخمريات على األلسنة‪ .‬وع َّد د‪.‬ضيف الشاعر أبا نواس‬
‫شخصية شعبية منذ عصره وإلى اليوم‪.‬‬

‫منهج واحد بعينه‪.‬‬ ‫سهل عىل الناقد أن يخلص ملنهج واحد‬ ‫ً‬
‫وتظل املنهجية هي امليزان الذي به ينجو الناقد من‬
‫الشطح والشطط‪ ،‬وما كان لنقدنا األدبي الحديث أن‬
‫السيما يف زمننا املعاصر الذي كثرت فيه‬
‫املنهجيات‪ ،‬إىل الدرجة التي صار ممكنًا‬
‫ليس‬
‫مؤسسا لنواة الحداثة النقدية لوال أنه أسس‬
‫ً‬ ‫يكون‬ ‫منهجا ثم يغادره‬
‫ً‬ ‫معها للناقد أن يعتمد‬
‫لنفسه قاعدة منهجية عىل يد الرعيل األول من نقاد‬ ‫ليختار غيره‪ ،‬وقد يجمع بين منهجين أو‬
‫األدب‪ ،‬ويعد الدكتور شوقي ضيف واح ًدا منهم؛‬ ‫أكثر داخل دراسة واحدة‪ ،‬وقد ال يلتزم‬
‫فكان ً‬
‫مثال للناقد املتوازن‪ ،‬ال يتساهل وال يتحامل‪،‬‬ ‫ً‬
‫أصل‪.‬‬ ‫بمنهج‬
‫بل يتحرى الحقيقة متوخيًا العلمية‪.‬‬ ‫وما أكثر هذا األخير الذي يسمي نفسه ناق ًدا ثقافيًّا‬
‫وكثيرة هي الجهود التي بذلها الدكتور شوقي‬ ‫وليس له من مردود عىل النقد العربي سوى مردود‬
‫ضيف يف خدمة أدبنا العربي بقديمه وحديثه‪ ،‬ولقد‬ ‫كمي ال إضافة علمية فيه وال جِ َّدة نوعية‪ .‬وإذ‬
‫ً‬
‫طويل قطع خالله‬ ‫كان مشواره مع هذا األدب‬ ‫ال نصادف اليوم ناق ًدا أخلص ملنهج واحد طوال‬
‫مسافات مهمة وغير يسيرة مهدت السبل للباحثين‬ ‫حياته‪ ،‬فألن املواكبة للمستجد من املنهجيات غدت‬
‫أن يسلكوها من بعده غير وجلين‪ ،‬وأن يسيروا‬ ‫أمرا واجبًا؛ ناهيك عن أن النصوص األدبية عربية‬ ‫ً‬
‫نظرا لخبرة شوقي ضيف‬ ‫عىل هديها غير هيَّابين‪ً .‬‬ ‫وأجنبية صارت من التنوع والتبدل ما يجعل لكل‬
‫بتاريخ األدب ونصاعة منهجه االجتماعي وحسه‬ ‫نص طبيعته يف التأثير يف طرق تناوله بهذا القدر أو‬
‫األدبي وسالسة أسلوبه‪ ،‬الذي يجمع العمق بالدقة‪،‬‬ ‫ذلك‪ ،‬ومن ثم يقتضي من الناقد التسلح بأكثر من‬
‫‪9‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫كبيرا‪ ،‬يجدر بنا أن نستذكره وننوه بقيمة إنجازاته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫والنابع من موهبة أصيلة هيَّأت له ذائقة مهذبة‬
‫وإذا كان د‪.‬طه حسين قد أرسى أساسيات املنهج‬ ‫صنعت منه ناق ًدا أدبيًّا مرموقًا‪.‬‬
‫يجسر املسافة بين التاريخ بمفهومه‬ ‫ِّ‬ ‫التاريخي؛ كي‬ ‫وكان المتالكه املوسوعية واملنهجية‪ ،‬أن صارت‬
‫التقليدي الذي عرفه النقاد اآلخرون مثل الرافعي‬ ‫آراؤه موضوعية وتحرياته علمية‪ ،‬وهو ينقب يف‬
‫والزيات والعقاد‪ ..‬وسواهم‪ ،‬وبين التاريخ بمفهومه‬ ‫كتب األقدمين األدبية‪ ،‬أو يمحص أخبار املؤرخين‬
‫الحداثي الفرنسي‪ ،‬فإن د‪.‬شوقي ضيف تلقف‬ ‫وأقوال الرواة‪ ،‬معتم ًدا عىل ما لديه من ملكة لغوية‬
‫املنهج االجتماعي أداة مهمة تعينه عىل سبر أغوار‬ ‫وسعة معرفية وبعد نظر فكري‪.‬‬
‫األدب العربي بعصوره املختلفة‪ .‬فكان ال يبتدئ‬ ‫وألن آلراء د‪.‬شوقي ضيف ‪-‬وهو يحلل الظواهر‬
‫بدراسة أي عصر أدبي إال بعد أن يضع فرشة‬ ‫ويرصد قضايا األدب‪ -‬بعدين‪ :‬معريف وموضوعي‪.‬‬
‫غنية ألوضاع املجتمع العربي يف ذلك العصر من‬ ‫غدا واح ًدا من مؤسسي الحداثة النقدية يف العامل‬
‫النواحي الحياتية املختلفة‪ :‬سياسية وعقلية وعلمية‬ ‫متقدما الجيل الذي عاصره‪ ،‬وعدته‬ ‫ً‬ ‫العربي‪،‬‬
‫وأخالقية‪ ،‬ومل يترك شاردة وال واردة ذكرها‬ ‫التحديثية تتمثل يف املنهجية االجتماعية التي‬
‫ومر بها‪،‬‬
‫األقدمون عن طبيعة ذلك املجتمع إال َّ‬ ‫استوعب مفاهيمها وأخلص يف تطبيقها عىل األدب‬
‫كما كان كثير االهتمام بالربط بين البيئة واألدب‪،‬‬ ‫العربي بمختلف عصوره وبيئاته‪ ،‬راب ًطا بمنطقية‬
‫حريصا عىل تتبع املؤثرات املجتمعية وما تسفر عنه‬ ‫ً‬ ‫وعلمية األسباب بالنتائج والجزئيات بالكليات‪.‬‬
‫من مظاهر شعرية أو نثرية‪ ،‬وما تتركه من أبعاد‬ ‫فكان الحذق واملنعة هما السمتان اللتان صبغتا‬
‫ً‬
‫متوصل‬ ‫جمالية وموضوعية عىل الشعراء واألدباء‪،‬‬ ‫مؤلفاته النقدية بصبغة ثقافية وفكرية‪ ،‬وهو ما‬
‫‪-‬يف كثير من األحيان‪ -‬إىل تحديد مسارات مدارس‬ ‫جعلها محط اهتمام الباحثين‪ ،‬تجذب أنظارهم‬
‫أدبية‪ ،‬وربما تشييد مذاهب أو اتجاهات فنية معينة‪.‬‬ ‫نحوها بجديتها البناءة وتنويرية ما فيها من‬
‫يسيرا بالطبع رصد كل ما ُكتب يف تراثنا‬ ‫ً‬ ‫وليس‬ ‫استقراءات واستخالصات وكشوفات اتسمت‬
‫يسيرا‬
‫ً‬ ‫القديم إىل قيام النهضة األدبية‪ ،‬وكذلك ليس‬ ‫بالتوسعة واالمتداد‪.‬‬
‫التصدي ملا فيه من ظواهر أدبية واجتماعية‪ ،‬ولكن‬ ‫وما كان لشوقي ضيف أن يكون بهذه السعة‬
‫الدكتور شوقي ضيف وقف عىل بعض من ذلك‬ ‫الفكرية واملوسوعية العلمية لوال أن الحقيقة كانت‬
‫وبمساقات جديدة مل يسبق فرزها وال الخوض‬ ‫مطلبه واملنهجية االجتماعية وسيلته‪ ،‬فواظب بجدية‬
‫يف مسالكها‪ .‬ويف مقدمتها مسألة الطوابع األدبية‬ ‫حتى أغدق عىل النقد العربي ثرا ًء بحثيًّا وعطا ًء نقد ًّيا‬
‫الرسمية والشعبية‪ ،‬والفرز بينها يف األدب العربي‪،‬‬
‫ونقدها نق ًدا‬
‫اجتماعيًّا من‬
‫خالل ربطها‬
‫بالواقع الحياتي‬
‫آنذاك‪ ،‬وما‬
‫فيه من قضايا‬
‫مجتمعية‬
‫وظواهر فنية‪،‬‬
‫عزز تحليله‬
‫إياها بما كان‬
‫يستشهد به من‬
‫أبيات شعرية‬
‫وأخبار تاريخية‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وإذا كانت للمنهجية االجتماعية أن تصل بالناقد‬ ‫وبسبب ما يف مؤلفاته من العلمية واألهمية نالت‬
‫إىل هذه التحصيالت العلمية‪ ،‬فان الجدة التي كان‬ ‫شهرة بين الدارسين‪ ،‬فكثر طبعها حتى فاقت‬
‫عليها د‪.‬شوقي ضيف جعلته يصل إىل استقراءات‬ ‫أرقام طبعاتها املعتاد يف املؤلفات العربية‪ .‬وتوزعت‬
‫سابقة لعصرها‪ ،‬وأعني بذلك ما قدمه من‬ ‫ميادين مؤلفاته بين الدراسات القرآنية والكتب‬
‫حفريات معرفية يف مسائل ذات أنساق‬ ‫النقدية التي دارت حول شعراء قدماء ومحدثين‪،‬‬
‫اجتماعية مبطنة وبعيدة عن أعين الباحثين‬ ‫ومسائل تتعلق بالبحث والبالغة‪.‬‬
‫آنذاك‪ ،‬وهي اليوم تشكل مدار الدراسات‬ ‫ومن األمثلة الدالة عىل دقة شوقي ضيف املنهجية‬
‫الثقافية التي أساسها التداخل يف‬ ‫يف تتبع الظواهر االجتماعية ومدى أثرها يف‬
‫التخصصات وتعدد املنهجيات‪.‬‬ ‫مسارات األدب‪ ،‬كتابه (تاريخ األدب العربي)‬
‫وأول تلك الحفريات ما وجده شوقي‬ ‫بأجزائه األربعة‪ ،‬ومنها الجزء الثالث املعنون‬
‫ضيف من انفتاح كبير شهده‬ ‫(العصر العباسي الثاني) الذي فرغ من تأليفه العام‬
‫العصر العباسي‪ ،‬وبسببه تمازجت‬ ‫‪ ،1974‬وفيه درس شعر هذا العصر ونثره‪ ،‬بعد أن‬
‫الثقافات وتعمق اإلحساس بدور‬ ‫مهد بدراسة ضافية يف بيئة ذلك العصر مستقرئًا‬
‫الشعر يف الحياة واختلطت‬ ‫الواقع السياسي للدولة العباسية وحال الطبقات‬
‫الثقافة العربية بالثقافات‬ ‫االجتماعية فيها‪.‬‬
‫األجنبية‪ ،‬وانمحت األبعاد‬ ‫ومما رصده يف هذه الدراسة التحول الخطير يف‬
‫والفوارق بين الفكر العربي‬ ‫تاريخ الدولة العباسية املتمثل يف استيالء الترك‬
‫الخالص والفكر األجنبي‪ ،‬ولكن‬ ‫عىل مقاليد الحكم‪ ،‬فلم تعد هذه الدولة تعتمد عىل‬
‫من دون خضوع أو إذابة‪،‬‬ ‫الفرس‪ ،‬بل «عىل الترك الذين صاروا يبايعون‬
‫كما تغلغلت الثقافة الشعبية يف‬ ‫الخليفة ويعزلونه‪ ،‬وتحول السلطان إليهم فقتلوا‬
‫الثقافة الرسمية‪ ،‬وانتشرت بين‬ ‫املتوكل وعينوا ابنه املنتصر‪ ،‬ثم املعتمد والقاهر‬
‫جميع أفراد األمة‪ .‬ومل تعد‬ ‫واملستكفي‪ ،‬الذي خلعه معز الدولة البويهي ونهب‬
‫الثقافة لتعلو عىل إفهام العامة‪،‬‬ ‫داره وسمل عينيه» (تاريخ األدب العربي‪ ،‬العصر‬
‫بل صارت تصل إليهم من‬ ‫العباسي الثاني‪ ،‬دار املعارف بمصر‪ ،‬ط‪ ،2‬ص‪.)10‬‬
‫أيضا‪،‬‬
‫ومما تسبب يف تدهور الخالفة العباسية ً‬
‫د‪.‬شوقي ضيف ود‪.‬حسين نصار‬ ‫ما كان عليه الخلفاء أنفسهم من انغماس يف اللهو‬
‫والترف واإلقبال‬
‫عىل كل متاع مادي‪،‬‬
‫من بناء قصور‬
‫باذخة إىل معيشة‬
‫باذخة بوسائل‬
‫النعيم‪ ،‬فشاع‬
‫الفساد واالختالس‬
‫يف مرافق الدولة‪،‬‬
‫وعم الترف الطبقة‬
‫املتنفذة العليا‪ ،‬بينما‬
‫عم البؤس والحرمان‬
‫والشقاء الطبقة‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫أسهل الطرق وأيسرها‪ ،‬وضرب د‪.‬شوقي ضيف‬


‫املثل بالجاحظ الذي كان معبِّ ًرا يف كتابيه (البيان‬
‫والتبيين) و(الحيوان) عن هذه الثقافة بأسلوب‬
‫عذب يق ِّربها من الطبقة الوسطى من املثقفين‪،‬‬
‫وكذلك يجعلها مفهومة بالنسبة إىل إفهام‬
‫الطبقة الشعبية من دون أي عسر أو مشقة‪،‬‬
‫كما يف مسائل أرسطو والنظريات العقلية‪.‬‬

‫الثقافة الشعبية‬
‫أوىل الدكتور شوقي ضيف ‪-‬وبخالف‬
‫كثير من املستشرقين‪ -‬الجانب‬
‫فقسم‬
‫كبيرا‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫اهتماما‬
‫ً‬ ‫االقتصادي‬
‫املجتمع العباسي إىل طبقات عليا‬
‫ووسطى ودنيا‪ .‬فأما العليا فتضم‬
‫الكتاب واألدباء املقربين من السلطة‬
‫السياسية‪ ،‬وتضم الطبقة الوسطى‬
‫الشعراء ومعهم املغنون‪ ،‬بينما‬
‫أدخل األدباء املكدين يف الطبقة‬
‫الدنيا‪ ،‬الذين هم خليط من‬
‫املتظاهرين بالنسك‪ ،‬ومن‬
‫هم امتداد لصعاليك الجاهلية‬
‫ولصوصها الذين كانت لهم‬
‫أيضا مروءة الفرسان‪.‬‬
‫واهتم الدكتور ضيف بالطبقة‬
‫األخيرة التي هي شعبية‪ ،‬لكنها‬
‫كانت ذات تأثير كبير يف الطبقتين‬
‫األخريين‪ .‬ومما ساعد يف قوتها‪:‬‬
‫‪ -1‬سياسة البذخ التي كان من‬
‫نتائجها نفاذ ما يف خزائن الدولة من‬
‫أموال‪ ،‬فنقل عن الخليفة املستعين‬
‫«أنه مات ويف خزائن الدولة نحو‬
‫نصف مليون دينار‪ ،‬عىل حين كان يف‬
‫خزائن أمه مليون دينار كاملة‪ ،‬وكانت‬
‫أم املعتز أكثر منها جش ًعا‪ ،‬وأن الترك طلبوا‬
‫منه خمسين ألفًا قبل قتله فلم يجدها يف خزائن‬
‫الدولة‪ ،‬ففزع إليها يطلب منها أن تقرضه هذا‬
‫املبلغ حتى يفدى نفسه به من القتل‪ ،‬فأنكرت‬
‫د‪.‬شوقي ضيف‬
‫أن يكون عندها مال‪ ،‬وخلع ابنها وقتل بعد أيام‬
‫لصا‬
‫بن شيرزاد‪ ،‬كان أعطى األمان ًّ‬ ‫من األمثلة الدالة على دقة شوقي ضيف‬
‫فات ًكا هو حمدي يف عهد الخليفة‬
‫المنهجية في تتبع الظواهر االجتماعية‬
‫املتقي‪ ،‬واشترط عليه أن يدفع له‬
‫شهر ًّيا خمسة عشر ألف دينار مقابل‬ ‫ومدى أثرها في مسارات األدب‪ ،‬كتابه‬
‫أن يكبس هو بيوت الناس باملشاعل‬
‫(تاريخ األدب العربي) بأجزائه األربعة‪،‬‬
‫والشموع‪ ،‬وينهب ما يريد من األموال‬
‫والجواهر (ينظر‪ :‬العصر العباسي‬ ‫ومنها الجزء الثالث المعنون (العصر‬
‫الثاني‪ ،‬ص‪ .)25‬ونقل د‪.‬شوقي ضيف‬
‫العباسي الثاني) الذي فرغ من تأليفه‬
‫الخبر عن ابن تغري بردى‪ ،‬مبينًا أن‬
‫هذا اللص هو الذي ُس ِّمي عند العامة يف‬ ‫العام ‪ ،1974‬وفيه درس شعر هذا‬
‫سالف األعصار أحمد الدنف‪ ،‬وقصته‬
‫العصر ونثره‪ ،‬بعد أن مهد بدراسة‬
‫يف ألف ليلة وليلة مشهورة‪.‬‬
‫‪ -4‬الثورات الشعبية العارمة التي‬ ‫ً‬
‫مستقرئا‬ ‫ضافية في بيئة ذلك العصر‬
‫استنزفت موارد الدولة وجعلت الخالفة‬
‫الواقع السياسي للدولة العباسية وحال‬
‫العباسية تضعف‪ ،‬ومنها ثورتان‬
‫كبيرتان هما ثورة الزنج التي دامت‬ ‫الطبقات االجتماعية فيها‪.‬‬
‫عاما‪ ،‬وثورة القرامطة‪.‬‬
‫أربعة عشر ً‬
‫‪ -5‬ما كان للمرأة من ثقافة دينية‬
‫جعلتها ذات دور فاعل‪ ،‬واملثال هو‬
‫قهرمانة أم املقتدر «واسمها ثمل‪ ،‬كانت‬
‫تجلس يف سنة ‪306‬هـ لسماع املظامل والحكم بين‬ ‫وصادر أموالها حاجبه صالح بن وصيف‪ ..‬وملا‬
‫املتظاملين‪ ،‬ويجلس معها القضاة والعلماء‪ ،‬واختلف‬ ‫رأى وصيف يف خزانتها مليونا من الدنانير قال‪:‬‬
‫الفقهاء حينئذ يف جواز والية املرأة للقضاء‪ ،‬وأجاز‬ ‫قبحها اهلل‪ ،‬عرضت ابنها للقتل يف خمسين ألف‬
‫ذلك الطبري‪ ،‬وهي فتوى تدل عىل ما بلغته املرأة‬ ‫دينار يدفعها رواتب للجيش» (العصر العباسي‬
‫من التعمق يف الفقه وعلم الشريعة بهذا العصر»‬ ‫الثاني‪ ،‬ص‪.)24 -23‬‬
‫(العصر العباسي الثاني‪ ،‬ص‪.)128‬‬ ‫‪ -2‬هيمنة الجواري والوصيفات ذوات األصول‬
‫وكانت لهذه العوامل‬ ‫التركية والرومية عىل الخزائن‪ ،‬والالئي كن يتفنن‬
‫ثمار كثيرة ساعدت يف‬ ‫يف اللعب بألباب الرجال‪ ،‬ومنهن شغب أم املقتدر‬
‫قوة الثقافة الشعبية‪،‬‬ ‫التي كانت تمسك بيدها زمام األمر والنهي يف‬
‫ومن أهمها أن العلم‬ ‫الدولة‪ ،‬وأثرت «حتى كان دخلها يف العام غالت‬
‫والثقافة صارا‬ ‫ضياعها مليون دينار‪ ،‬وكان املقتدر متالفًا فأنفق‬
‫شعبيين‪ ،‬وأن الشعر‬ ‫أموال الدولة عىل النساء وأهداهن جواهرها وتحفها‬
‫ً‬
‫موصول‬ ‫العربي ظل‬ ‫النفيسة‪ ،‬من ذلك إهداؤه الدرة اليتيمة التي ظل‬
‫بالشعب‪ ،‬ولكن بروح‬ ‫ً‬
‫طوال‪ ..‬وكانت زنتها‬ ‫آباؤه يحتفظون بها حقبًا‬
‫جماعية طغت عىل‬ ‫ثالثة مثاقيل‪ ..‬وكأن كل ذلك وقع يف يد معتوه‪،‬‬
‫الروح القبلية‪ .‬وقلما‬ ‫وشمال» (العصر العباسي الثاني‬‫ً‬ ‫فهو ينثره يمينًا‬
‫نبغ شاعر ينتمي إىل‬ ‫ص‪.)24‬‬
‫الطبقة األرستقراطية‪،‬‬ ‫‪ -3‬فساد الحكام والوالة الذين كانوا يستغلون‬
‫بل جمهور الشعراء‬ ‫مناصبهم ألغراض شخصية‪ ،‬ومنهم حاكم بغداد‬
‫‪13‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫الشعبيين الذين عرفوا به الحمدوني إسماعيل‬ ‫كانوا من الطبقة العامة‪ ،‬وحتى من عاش من‬
‫بن إبراهيم وجحظة والخبز أرزي وأبو عبد اهلل‬ ‫الشعراء حول موائد الخلفاء ويف قصورهم فإنه ظل‬
‫اليعقوبي‪.‬‬ ‫موصول بروح الشعب‪ ،‬يتغنى بالخليفة وبما ينشر‬ ‫ً‬
‫وقد تحدث الجاحظ عنهم يف مطالع كتابه (البخالء)‪،‬‬ ‫من العدالة التي ال تصلح حياة الرعية بدونها‪ ،‬كما‬
‫كما صور البيهقي أعمالهم ونوادرهم بوصفهم‬ ‫َّص ًل بالشعب ً‬
‫أيضا‪،‬‬ ‫كان شعر الحماسة واملجون مت ِ‬
‫جماعات من املتسولين اتخذوا من التحامق حرفة‬ ‫ُيلقى عىل العامة من وحي حياتها‪ ،‬وما يسرى فيها‬
‫أموال‪ ،‬مثل أبو فرعون الساسي وأبو‬ ‫ً‬ ‫درت عليهم‬ ‫من شظف وضنك (ينظر‪ :‬تاريخ األدب العربي‪،‬‬
‫املخفف وأبو الشمقمق‪ ،‬الذي كان ينظم الشعر‬ ‫العصر العباسي الثاني‪ ،‬ص‪.)500 -499‬‬
‫مصورا فقر‬‫ً‬ ‫عفو الخاطر فيدور عىل ألسنة الغلمان‬ ‫وبهذا االستنتاج األخير يكون الدكتور شوقي‬
‫الشعب وسخطه وسوء حظه‪.‬‬ ‫ضيف قد أسقط فرضية التكسب التي ع َّدها‬
‫ومثله الشاعر البصري الخبز أرزي‪ ،‬وكان أميًّا‬ ‫املستشرقون ظاهرة يف الشعر العباسي‪ ،‬نافيًا أن‬
‫ال يقرأ وال يكتب‪ ،‬ومع ذلك كان شعره يدور عىل‬ ‫يكون الشعراء متملقين للسلطات السياسية‪ ،‬ورد‬
‫كل لسان والشباب والصبية ينشدونه‪ .‬وتأسف‬ ‫كذلك عىل القائلين إن كثرة شعراء املديح تعني‬
‫الدكتور ضيف أن الثعالبي أعرض عن كثير من‬ ‫أنه شعر قصور وخلفاء ووزراء‪ ،‬وأكد العكس‪،‬‬
‫شعر الخبز أرزي يف كتابه اليتيمة «وبذلك فوت عىل‬ ‫فالشعراء امل َّداحون مل يكونوا منفصلين عن‬
‫جليل كان يمكن أن يضيفه‬ ‫ً‬ ‫نفسه ً‬
‫عمل أدبيًّا ونقد ًّيا‬ ‫شعوبهم‪ ،‬بل كانوا يحملون يف صدورهم أحاسيس‬
‫لكتابة‪ ،‬وال ينقص منه‪ ،‬بل لعله يرفعه درجات‪ .‬وإذ‬ ‫الشعب ومشاعره‪.‬‬
‫يحتوي شعره عىل مادة شعبية‪ ،‬فكان األجدى أن‬
‫والهتمام الدكتور شوقي ضيف بالثقافة الشعبية‬
‫يعرضها كاملة حتى نعرف مدى ما حدث من تطور‬
‫راح يتتبع شعراءها الشعبيين الذين ‪-‬عىل كثرتهم‪-‬‬
‫يف اللغة الشعبية البصرية بالقياس إىل الفصحى‪،‬‬
‫مل يصل إلينا من أشعارهم سوى القليل‪ .‬وهو ما‬
‫سواء يف جوانبها اللغوية أو األسلوبية» (العصر‬
‫أمرا طبيعيًّا لكونهم مثلوا حياة الشعب‬ ‫عده د‪.‬ضيف ً‬
‫العباسي الثاني‪ ،‬ص‪.)510 -509‬‬
‫التعسة «ومن املؤكد أن ُج َّل ما ينظمون ضاع‬
‫واهتمامه بالثقافة الشعبية جعله يقف عند لغة‬
‫ألنهم‪ ..‬ال يهمهم تسجيل ما ينظمونه» (العصر‬
‫الشعر العربي؛ أهي فصحى خالصة أم أن لها‬
‫العباسي الثاني‪ ،‬ص‪ .)500‬وأكثر الذي وصل إلينا‬
‫طوابع شعبية؟ وألَّف كتا ًبا عن لغة الشعر عنوانه‬
‫من الشعر الشعبي هو شعر الكدية‪ ،‬ومن الشعراء‬
‫(الشعر وطوابعه الشعبية عىل مر العصور) نُشر‬
‫عام ‪،1977‬‬
‫ويف هذا الكتاب‬
‫وضحت نزعة‬ ‫ْ‬
‫الدكتور شوقي‬
‫ضيف النقدية‬
‫يف السير‬
‫عىل املنهج‬
‫االجتماعي‬
‫بمفهومه‬
‫الديستايل‬
‫واملاركسي‪.‬‬
‫وهو ما أوصله‬
‫إىل مسائل‬
‫‪14‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫األمر بحال الشعر النبطي اليوم‪ ،‬والذي ينظم به‬ ‫كانت وقتذاك تعد ‪-‬وما زالت‪ -‬جديدة عىل نقدنا‬
‫شعراء الجزيرة جميعهم بلغة نبطية واحدة‪.‬‬ ‫األدبي‪ ،‬ليكون من أوائل املهتمين بالدراسات‬
‫وقد تتبع د‪.‬شوقي ضيف الطوابع الشعبية يف‬ ‫الثقافية‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫العصر اإلسالمي‪ ،‬فوجد أن املجاهدين نظموا‬ ‫‪ -1‬تأكيده أن شعراء العربية مل يكونوا بمعزل عن‬
‫أشعارهم بال عناية بتجويدها أو تنقيحها لف ًظا وال‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫شعوبهم‪ ،‬وكذلك الشعراء العرب يف عصرنا ً‬
‫معنى‪ ،‬ثم جاءت األحزاب السياسية فمال الشعر إىل‬ ‫ومن ينعم النظر يف تاريخ الشعر العربي فـ»سيجد‬
‫مل بشعوبهم من أوقات‬ ‫دائما ما أ َّ‬
‫شعراءه يصورون ً‬
‫الهجاء وإنزال القبح والثلب بالخصوم‪ ،‬حتى صار‬
‫للهجاء تأثير يف نفوس الناس‪ ،‬وغدا فن النقائض‬ ‫رخاء ومن أوقات شدة مهما اختلفت األزمان‬
‫والحقب» (الشعر وطوابعه الشعبية‪ ،‬ص‪ .)5‬ولهذا‬
‫«ملهاة الشعب‪ ..‬يقضون به أوقات الفراغ‪ ،‬وإذا‬
‫السبب ذاع الشعر عىل األلسنة من أقصى مشرق‬
‫كانت أثينا تعنى باملسرح فإن الفن الذي عنيت‬
‫الوطن العربي إىل أقصى مغربه‪.‬‬
‫به البصرة والكوفة هو النقائض يف سوقي املربد‬
‫‪ -2‬ابتداعه ملفهوم (الطوابع الشعبية) التي حددها‬
‫والكناسة‪ ،‬فكان الناس يتحلقون حول الشاعرين‬ ‫بأنها ما ينعكس يف الشعر من «دواخل شعوبه‬
‫وكثيرا‬
‫ً‬ ‫املتناقضين للفرجة عليهما وللهو والتسلية‪..‬‬ ‫وأفئدتها يف مختلف العصور‪ ..‬يصور حياتها‬
‫ما يفضي الجمهور إىل التصفيق حين يعجبه بيت‪..‬‬ ‫وآمالها وآالمها‪ ،‬سواء يف عصور االبتهاج أو يف‬
‫وقد يفضي إىل الصفير والصياح» (الشعر وطوابعه‬ ‫عصور االبتئاس‪ ،‬وكان هذا التصوير عىل أتمه يف‬
‫الشعبية‪ ،‬ص‪.)41‬‬ ‫العصرين الجاهيل واإلسالمي» (الشعر وطوابعه‬
‫وانقسمت طوابع الغزل الشعبية إىل غزل عفيف‬ ‫الشعبية ص‪.)5‬‬
‫بدوي وغزل صريح حضري‪ ،‬واستعملت فيهما‬ ‫‪ -3‬رفضه آراء بعض املستشرقين من قبيل قولهم‬
‫األوزان السهلة الخفيفة‪ .‬وشاع الغناء يف املدينة‬ ‫مزيجا من لهجات‬‫ً‬ ‫إن اللغة يف العصر الجاهيل كانت‬
‫ومكة والكوفة‪ ،‬وع َّد الدكتور شوقي ضيف داري‬ ‫أهل نجد وحجاز‪ ،‬كونها «أقوال ال يدعمها دليل‪،‬‬
‫جميلة يف املدينة وابن رامين يف الكوفة بمثابة‬ ‫وقد أرادوا بها ان يناقضوا اشد املناقضة ما ذهب‬
‫مسارح كبيرة يف عصرنا‪.‬‬ ‫إليه علماؤها القدماء من أنها كانت لهجة قريش‬
‫مقصورا‬
‫ً‬ ‫ويف العصر العباسي األول مل يعد الشعر‬ ‫سادت يف الجزيرة» (الشعر وطوابعه الشعبية‪،‬‬
‫عىل األصول العربية‪ ،‬بل صار ينظمه املوايل‪ ،‬وكان‬ ‫ص‪ ،)7‬ودليله أن زعامة قريش السياسية هي‬
‫الكثير من املتكلمين من الطبقات الشعبية‪ .‬وظل‬ ‫فضل عن كونها قدوة‬ ‫ً‬ ‫التي هيأت للغتها السيادة‪،‬‬
‫الشعر يف العصر العباسي األول تتجسد فيه ثقافة‬ ‫روحية واقتصادية‪ ،‬ولهذا صارت لهجتها هي اللغة‬
‫األدبية العامة يف العصر الجاهيل‪ .‬ومما أتاح للشعر‬
‫الشعب من أبناء الطبقة العامة‪ ،‬كما كان شعر‬
‫االنتشار هو أنه ما إن ُينشد حتى تُذاع شهرته‬
‫املديح يستغل يف الخصومات السياسية‪ ،‬ال كما كان‬
‫وتطير بين القبائل‪.‬‬
‫ُيعتقد من أنه مخصص للطبقة العليا‪ .‬ومن األدلة‬
‫‪ -4‬اهتمامه بدور النساء يف سيادة لهجة قريش‬
‫عىل تحول الشعر إىل الطابع الشعبي هو ليونة‬ ‫يف الشعر‪ ،‬بما كن يؤلفنه من أشعار يف األعياد‬
‫عباراته وسهولة ألفاظه وصعود شعر الخمريات‬ ‫واألعراس والحروب واألسواق والحكومات‬
‫عىل األلسنة‪ .‬وع َّد د‪.‬ضيف الشاعر أبا نواس‬ ‫الشعرية‪.‬‬
‫شخصية شعبية منذ عصره وإىل اليوم‪( .‬الشعر‬ ‫‪ -5‬تقسيمه الطوابع الشعبية إىل جماعية وفردية‪،‬‬
‫وطوابعه الشعبية‪ ،‬ص‪ .)85‬أما يف األندلس فشاعت‬ ‫ومثال األوىل الشواعر من األمهات وهن يرقصن‬
‫املوشحات ذات الخاتمة العامية‪ ..‬هذا إىل جانب‬ ‫أطفالهن‪ ،‬ومثال الثانية شعراء الحداء وشعراء‬
‫طوابع شعبية أخرى ظهرت يف عصر الدويالت‬ ‫شرا والسليك بن‬‫الصعاليك كالشنفرى وتأبط َّ‬
‫واإلمارات‬ ‫السلكة وعروة بن الورد‪ .‬وشبَّه د‪.‬شوقي ضيف‬
‫‪15‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫د‪.‬ناصر أحمد سنه‬

‫المؤثرات األجنبية‪..‬في‬
‫أعمال «صالح عبد الصبور»‬
‫المسرحية‬

‫مع تفاوت نسبي‪ ..‬لم يكن إليوت ولوركا وبودلير وريكله وكافكا‪..‬‬
‫فقط من تأثر بهم عبد الصبور‪ ،‬لكنه انشغل بآخرين كنيرودا ووايتمان‬
‫وماياكوفسكي وناظم حكمت وكازانزاكيس‪ ،‬وبوشكين‪ .‬فقد أعمل فكره‬
‫في أعمالهم‪ ،‬وأبدى اهتمامه بهم عبر مساحات من صحف ومجالت‬
‫مصرية‪ ،‬قبل أن يقوم بجمع بعض مقاالته في‪« :‬أصوات العصر»‪ ،‬أو‬
‫«رحلة على الورق»‪ ،‬أو «حتى نقهر الموت» أو «كتابة على وجه الريح»‪.‬‬
‫ومن بين عديد من «أصوات العصر» المسرحية والشعرية واألدبية‪..‬‬
‫اختار عبد الصبور صوت األديب الروسي الكبير أنطون تشيخوف رائد‬
‫القصة القصيرة المعاصرة كـ»نموذج لصوت أحبه من أصوات عصره‪.‬‬

‫مواءمة للدراما ِمنه إىل الغناء؛ ألنَّه يح ِم ُل إمكانات‬ ‫استطاع «صالح عبد الصبور» املوازنة‬ ‫هل‬
‫خصبة لبِناء األعمال املسرح َيّة»‪ .‬لذا فقد حقق عبد‬ ‫ِ‬ ‫بين ثقافته الذاتية وبين «تأثره»‬
‫الصبور نقلة نوعية يف مجال املسرح الشعري‬ ‫برموز األدب األجنبي؟ وكيف اكتسب‬
‫بعد جيل الرواد أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي‪،‬‬ ‫«املرونة» الستثمار تقنيات القوالب‬
‫وعيل أحمد باكثير‪ ،‬وعزيز أباظة‪ ،‬وعبد الرحمن‬ ‫الغربية ملوضوعات عربية ضمن إبداعه يف املسرح‬
‫صهره‬ ‫الشرقاوى» كما صاغ سبيكته املتميزة عبر َ‬ ‫الشعري؟‬
‫موهبته وخبرته وثقافته العربية مع عناصر التراث‬ ‫يعد «صالح عبد الصبور» (‪ )1981 -1931‬واح ًدا‬
‫األدبي اإلنساني‪.‬‬ ‫من رواد الشعر الحر ومن ِّظريه‪ ،‬وعالمة من‬
‫عالمات التحديث الشعري‪ ،‬وحاديه‪ .‬كتب الدراما‬
‫تأثره بالشاعر اإلنجليزي‬ ‫الشعرية بعد أن خاض غمار هذا النمط الشعري‬
‫«ت‪ .‬س‪ .‬إليوت»‬ ‫«الجديد» الذي مهد له الطريق لترك بصماته عيل‬
‫أن الشعر الجديد‬ ‫الدراما الشعرية‪ .‬ويرى كثيرون َّ‬
‫احتل الشاعر والكاتب املسرحي اإلنجليزي توماس‬ ‫«ولِ َد يف أحضانِ املسرح‪ ،‬وهو أكثر‬
‫واملعاصر قد ُ‬
‫ستيرنز إليوت «ت‪ .‬س‪ .‬إليوت» (‪)T.S. Eliot‬‬
‫(‪ )1965 -1888‬الحائز عىل جائزة نوبل يف اآلداب‬
‫عام ‪ ،1948‬مكانة كبيرة ليس فقط يف وجدان وفكر‬
‫صالح عبد الصبور‪ ،‬بل لدي كثير من الشعراء‬
‫واألدباء العرب‪ .‬يقول عبد الصبور‪« :‬إن ظالل‬
‫قراءاته األويل تالشت عن ذاكرته الجمالية ومل تبق‬
‫سوى ظالل اليوت العظيم»‪ .‬ويكمن سر عظمته‬
‫تلك أنه‪« :‬جمع بين الطابع الروحي السلبي لعاملنا‬
‫املعاصر‪ ،‬وبين الطابع الروحي اإليجابي للعامل‬
‫شاعرا شغوفًا بفكرة الزمن‪ /‬التاريخ‪/‬‬‫ً‬ ‫القديم‪ ..‬كان‬
‫املوروث األدبي‪ ،‬فأدمج املاضي والحاضر يف رمزية‬
‫تكشف عن قيم اجتماعية وإنسانية عميقة»‪ .‬ويف‬
‫«حل للصراع بين القديم والحديث»‪ ،‬لذا‬ ‫ٌّ‬ ‫هذا الدمج‬
‫فقد استعان به عبد الصبور إلعادة قراءة التراث‬
‫والشعر العربي القديم بقدر أوسع مما فعله إليوت‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ولعل انجذابه لطريقة إليوت يعود لتك «النزعة‬
‫الصوفية التأملية ورنة الحزن العميق إىل جانب‬
‫العمق الفلسفي‪ ،‬وإحكام الصنعة‪ ،‬وتجويد األداء»‪.‬‬
‫قاسما مشتر ًكا يف آثار عبد الصبور‪،‬‬
‫ً‬ ‫وبات هذا‬
‫يقول‪« :‬حين توقفت عند الشاعر ت‪ .‬س‪ .‬إليوت يف‬
‫مطلع شبابي مل تجذبني أفكاره أول األمر بقدر ما‬
‫استوقفتني جسارته اللغوية‪ ،‬فقد كنا نحن ناشئة‬
‫الشعراء نحرص عىل أن تكون لغتنا منتقاة منضدة‬

‫صالح عبد الصبور‬


‫‪17‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫تخلو من أي كلمة فيها شبه‬


‫العامية أو االستعمال‬
‫الدارج»‪ .‬وقد حاول عبد‬
‫الصبور أن يتجاسر‬
‫بالخروج عىل القاموس‬
‫الشعري العربي منذ‬
‫ديوانه األول «الناس يف‬
‫بالدي» (‪ .)1956‬وشهدت‬
‫قصائده مثل (الحزن)‪،‬‬
‫و(شنق زهران)‪ ،‬و(امللك‬
‫لك) والقصيدة التي تحمل‬
‫خروجا عىل‬
‫ً‬ ‫اسم الديوان‬
‫عمود اللغة الشعرية‪،‬‬
‫وتناولت مواضيع من‬
‫الحياة اليومية بلغة‬
‫بسيطة متداولة‪ ،‬يقول يف‬
‫فيديريكو غارثيا لوركا‬ ‫شارل بودلير‬ ‫ت‪ .‬س‪ .‬إليوت‬
‫قصيدة (الحزن)‪:‬‬
‫يا صاحبي إني حزين‬
‫طلع الصباح فما ابتسمت ومل ينر وجهي الصباح‬
‫(الحزن)‪:‬‬ ‫وخرجت من جوف املدينة أطلب الرزق املتاح‬
‫وغمست يف ماء القناعة خبز أيامي الكفاف‬
‫حزن تمدد يف املدينة‪،‬‬
‫ورجعت بعد الظهر يف جيبي قروش‬
‫كاللص يف جوف السكينة‪،‬‬
‫فشربت شا ًيا يف الطريق‪،‬‬
‫كاألفعوان بال فحيح‪..‬‬ ‫ورتقت نعىل‬
‫صورة شعرية فيها أصداء من تشبيه إليوت للمساء‬ ‫ولعبت بالنرد املوزع بين كفى والصديق‬
‫يف قصيدته «أغنية حب ألفريد جي‪ .‬بروفروك»‪:‬‬ ‫قل ساعة أو ساعتين‪،‬‬
‫فلنذهب سو ًّيا‪ ،‬أنا وأنت‪،‬‬ ‫قل عشرة أو عشرتين‬
‫عندما يتمدد املساء عىل السماء‪،‬‬ ‫وضحكت من أسطورة حمقاء رددها الصديق‬
‫كتمدد مريض مخدر عىل منضدة‪..‬‬ ‫ودموع شحاذ صفيق‪..‬‬
‫ويقول عبد الصبور يف قصيدة (لحن) من ديوان‬ ‫مل يمر هذا التجاسر اللغوي بسالم‪ ،‬فقد صدم‬
‫(الناس يف بالدي)‪:‬‬ ‫الذوق األدبي آنذاك‪ .‬فدار حوله حديث كثير‪،‬‬
‫وتهكم بعض األصدقاء والنقاد من مفردات‬
‫أميرا‬
‫جارتي‪ ..‬لست ً‬ ‫كـ»الشاي‪ ،‬والنعل املرتوق»‪ .‬ثم توالت بصمات‬
‫ال‪ ،‬ولست املضحك املمراح‬ ‫إليوت العميقة يف دواوين عبد الصبور الالحقة‬
‫يف قصر األمير‪.‬‬ ‫عىل مستوى املعاني واألخيلة والرؤى والتفاعل‬
‫ويف هذا اقتباس‪ /‬تناص لقول إليوت يف قصيدته‬ ‫واالنفعال املزاجي الشعري‪ .‬ومن ثم استقر هذا‬
‫«أغنية حب الفريد جي‪ .‬بروفروك»‪:‬‬ ‫كثيرا من‬
‫ً‬ ‫التماهى يف غير ما تكلف أو تصنع‪ .‬ولعل‬
‫ال‪ ..‬لست أنا األمير «هاملت»‬ ‫األخيلة الشعرية نبع إىل حد ما من تشابه التجربة‬
‫وال قصدت أن أكون‪..‬‬ ‫واألمزجة الشعرية‪ .‬يقول عبد الصبور يف قصيدة‬
‫‪18‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫حلقات ممتدة يفيد منها الحق عن سابق ومتعلم من‬ ‫«مأساة الحالج»‪ ،‬و»جريمة قتل يف‬
‫معلم»‪.‬‬ ‫الكاتدرائية»‬
‫ويؤكد أنه عندما كتب مسرحية «مأساة الحالج»‬
‫كان له تصوره الشخصي‪ ،‬فقضيتها املطروحة‬ ‫أخرج صالح عبد الصبور مسرحيته األوىل‬
‫هي خالصه الشخصي‪ ،‬ودور الفنان يف املجتمع‪:‬‬ ‫الحلج» عام (‪ ،)1964‬يف الوقت الذي كان‬ ‫َّ‬ ‫«مأساة‬
‫«فقد كنت أعاني حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر‬ ‫مشغول فيه بقراءة إليوت والكتابة عنه بعمق‪ .‬ويف‬ ‫ً‬
‫ازدحاما‬
‫ً‬ ‫عصرنا‪ ،‬وازدحمت األسئلة يف خاطري‬ ‫هذا املضمار تبرز مقالته املنشورة يف مجلة روز‬
‫مضطر ًبا‪ ،‬وكنت اسأل نفسي السؤال الذي سأله‬ ‫اليوسف بتاريخ ‪ 16‬يناير ‪ ،1961‬وما نشره من‬
‫الحالج لنفسه‪ :‬ماذا أفعل؟ وكانت إجابة الحالج‪:‬‬ ‫مختارات يف فهم الشعر ونقده بقلم إليوت (مجلة‬
‫هي أن يتكلم‪ ..‬ويموت‪ ،‬وكان عذاب الحالج طرفًا‬ ‫«املجلة» عدد مايو ‪ ،)1963‬ومقالته «سكت الصوت‬
‫لعذاب املفكرين وحيرتهم يف معظم املجتمعات‬ ‫الصارخ يف البرية» (جريدة األهرام عدد ‪ 22‬يناير‬
‫الحديثة‪ ،‬وكانت مسرحيتي هذه معبرة عن اإليمان‬ ‫‪ ،)1965‬ومقالته‪« :‬قراءة جديدة لشعر إليوت»‬
‫العظيم الذي بقى يل نقيًّا ال تشوبه شائبة‪ ،‬وهو‬ ‫(مجلة «املجلة» عدد يونيو ‪ .)1964‬ويشار إىل أنه‬
‫اإليمان بالكلمة»‪ .‬ف ِم ْن خال ِل ما سبقَ يتبين َّ‬
‫أن‬ ‫يف عام ‪ 1964‬قام بترجمة مسرحية «حفل كوكتيل»‬
‫مسرح عبد الصبور حذا حذو جيل الرواد يف‬ ‫إلليوت‪ ،‬ويف العام نفسه قام بترجمة مسرحية‬
‫املسرح الشعري العربي عبر توظيف املوضوعات‬ ‫«جريمة قتل يف الكاتدرائية» ‪Murder in the‬‬
‫َ‬
‫إسقاطها عىل الواقع املعيش يف‬ ‫التاريخية‪ ،‬وأحيانًا‬ ‫أيضا‪ .‬وق َّدمهما إىل‬
‫‪ )1935( cathedral‬إلليوت ً‬
‫تلك ِ‬
‫الحقبة‪.‬‬ ‫«سلسلة املسرح العاملي» الكويتية (العددان‪،148 :‬‬
‫‪ 149‬عىل التوايل)‪ .‬لكنهما مل تصدرا إال بعد وفاته‬
‫تأثره بـ»لوركا»‪ ،‬و»بودلير» وآخرين‬ ‫يوضح استمرارية تعلُّقه بهذا‬ ‫ِّ‬ ‫سنة ‪ .1981‬ولع َّل هذا‬
‫«الصوت الصارخ يف البرية»‪ ،‬و»األرض الخراب»‪.‬‬
‫اقترن اسم عبد الصبور بالشاعر والكاتب املسرحي‬ ‫ولقد كثر حديث النقاد يف املقارنة بين مسرحية‬
‫والرسام واملوسيقي اإلسباني فيديريكو غارثيا‬ ‫عبد الصبور‪( :‬مأساة الحالج)‪ ،‬وبين مسرحية‬
‫لوركا (‪-1898( )Federico García Lorca‬‬ ‫إليوت‪( :‬جريمة قتل يف الكاتدرائية) حيث يبدو أن‬
‫‪ )1936‬خالل تقديم املسرح املصري يف ستينات‬ ‫«فكرتهما األساس واحدة‪ ،‬وبطلهما واحد»‪ .‬لذا‬
‫القرن املاضي مسرحية لوركا‪« :‬يرما»‪ .‬إذ اقتضي‬ ‫يري البعض منهم خليل سمعان‪ ،‬وأحمد العشري‪،‬‬
‫عرضها صياغة‬ ‫وجمال التالوي‪ ،‬وعبد الحميد إبراهيم الصلة‬
‫األجزاء املغناة‬ ‫الع َملين املسرحيين‪ .‬ويف املقابل نجد‬ ‫الوثيقة بين َ‬
‫شعرا‪ ،‬فكان‬
‫ً‬ ‫منها‬ ‫َمن ينفي (كـ»لويس ترمين») أي تأثير وتأثر بين‬
‫هذا من نصيب‬ ‫املسرحيتين‪ ،‬عيل أساس أن مسرحية عبد الصبور‬
‫عبد الصبور‪.‬‬ ‫تدور يف إطار دنيوي بينما مسرحية إليوت تدور يف‬
‫وتجيل تأثره‬ ‫إطار كوني‪ .‬ويوجد بين الفريقين كـ(عيسي بالطة)‬
‫بلوركا يف عدة‬ ‫يقف موقفًا وس ًطا يف هذا الجدال النقدي‪ .‬بينما‬
‫مسرحيات لعبد‬ ‫يقول عبد الصبور‪« :‬أنه ليس فز ًعا لهذه املقارنة‬
‫الصبور مثل‪:‬‬ ‫النقدية التي تصل إىل حد االتهام بالسرقة»‪ .‬ويبرر‬
‫«األميرة تنتظر»‬ ‫هذا التشابه بين املسرحيتين باالستناد إىل نظرية‬
‫(‪ ،)1969‬و»لييل‬ ‫ً‬
‫رجل‬ ‫إليوت (التراث‪ ،‬واملوهبة الفردية) ويقول‪« :‬إن‬
‫واملجنون»‬ ‫مثىل قرأ نظرية إليوت يف املوروث األدبي ال بد أنه‬
‫(‪ ،)1971‬و»بعد أن‬ ‫قد نقد هذه الحساسية املريضة‪ ،‬فليس التراث إال‬
‫‪19‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫ولعل املصادر األجنبية املتنوعة لقراءات عبد‬ ‫يموت امللك» (‪ .)1973‬ففي تلك املسرحيات تشابهت‬
‫الصبور املُعمقة‪ ،‬وكتاباته النثرية وتواريخ نشرها‪،‬‬ ‫إيل حد كبير املوضوعات والتيمات املسرحية فيما‬
‫تُظهر بجالء ما ترسب منها يف فكره‪ ،‬ومناخه‬ ‫بينهما‪ .‬كما استفاد صالح من منجزات الشعر‬
‫الثقايف‪ ،‬ووجدانه الشاعري‪ ،‬مما يتيح مقارنة أعماله‬ ‫الرمزي الفرنسي واألملاني عند بودلير‪ ،‬وريلكه‪.‬‬
‫بما اشتهر عند من تأثر بهم‪ ،‬وقرأ لهم‪ ،‬وكتب‬ ‫كذلك تأثر صالح بكتابات كافكا السوداوية‪،‬‬
‫عنهم‪ .‬ويرى كثيرون من النقاد أن عبد الصبور‬ ‫كما ذكر بتذييل مسرحيته «مسافر ليل»‪ .‬فضلً‬
‫مل يهرب من عامله املعاصر إىل أحضان اتجاهات‪/‬‬ ‫عن تأثره بالكاتب اإليطايل «لويجي بيرانديللو»‪،‬‬
‫مذاهب أدبية أجنبية‪ ،‬كما فعل آخرون‪ ..‬فرادى‬ ‫ويتضح ذلك يف مسرحيتي «لييل واملجنون»‬
‫ومدارس شعرية‪ .‬بل حقق توازنًا متمي ًزا بين ثقافته‬ ‫و»األميرة تنتظر» حيث تتجيل فكرة املسرح داخل‬
‫العربية وثقافة رموز شعر وأدب عاملي وإنساني‪.‬‬ ‫املسرح‪.‬‬
‫ومع تفاوت نسبي‪ ..‬مل يكن إليوت ولوركا‬
‫محطات يف مسيرة حياة‬ ‫وبودلير وريكله وكافكا‪ ..‬فقط من تأثر بهم عبد‬
‫صالح عبد الصبور‬ ‫الصبور‪ .‬لكنه انشغل بآخرين كنيرودا ووايتمان‬
‫ولد محمد صالح الدين عبد الصبور يوسف‬ ‫وماياكوفسكي وناظم حكمت وكازانزاكيس‬
‫الحواتكى (‪ 3‬مايو ‪ 14 -1931‬أغسطس ‪)1981‬‬ ‫وبوشكين‪ .‬فقد أعمل فكره يف أعمالهم‪ ،‬وأبدى‬
‫بمدينة الزقازيق‪ .‬والتحق عام‪ 1947‬بقسم اللغة‬ ‫اهتمامه بهم عبر مساحات من صحف مصرية‬
‫العربية‪ /‬كلية اآلداب‪ /‬جامعة القاهرة‪ .‬وتتلمذ‬ ‫كاألهرام واألخبار‪ ،‬ومجالت روز اليوسف وصباح‬
‫عيل يد الشيخ أمين الخويل الذي ضمه إىل جماعة‬ ‫الخير‪ ..‬وغيرها‪ ،‬قبل أن يقوم بجمع بعض مقاالته‬
‫(األمناء) التي ك َّونها‪ ،‬ثم إىل (الجمعية األدبية)‬ ‫يف‪« :‬أصوات العصر»‪ ،‬أو «رحلة عىل الورق»‪ ،‬أو‬
‫التي ورثت مهام الجماعة األوىل‪ .‬كان للجماعتين‬ ‫«حتى نقهر املوت» أو «كتابة عىل وجه الريح»‪.‬‬
‫تأثير كبير عىل حركة اإلبداع األدبي والنقدي يف‬ ‫ومن بين عديد من «أصوات العصر» املسرحية‬
‫مصر‪ .‬وعىل مقهى الطلبة يف الزقازيق تعرف عىل‬ ‫والشعرية واألدبية‪ ..‬اختار عبد الصبور صوت‬
‫أصدقاء الشباب مرسى جميل عزيز واملطرب عبد‬ ‫األديب الروسي الكبير أنطون تشيخوف رائد‬
‫الحليم حافظ‪ .‬وطلب منه عبد الحليم أغنية يتقدم‬ ‫القصة القصيرة املعاصرة كـ»نموذج لصوت أحبه‬
‫بها لإلذاعة ويلحنها له كمال الطويل فكانت قصيدة‬ ‫من أصوات عصره‪.‬‬
‫«لقاء»‪ .‬وبعد‬
‫تخرجه عام‬
‫‪ 1951‬عين‬
‫مدرسا يف‬
‫ً‬
‫املعاهد الثانوية‬
‫بينما استغرقته‬
‫هواياته‬
‫األدبية‪ .‬وعمل‬
‫بالصحافة‬
‫وبوزارة الثقافة‪،‬‬
‫وكان آخر‬
‫منصب تقلده‬
‫هو رئاسة‬
‫عام ‪ 1964‬ترجم صالح عبد الصبور‬
‫مسرحية "حفل كوكتيل" إلليوت‪ ،‬وفي‬
‫العام نفسه ترجم مسرحية "جريمة‬
‫قتل في الكاتدرائية" ‪Murder in‬‬
‫‪ )1935( the cathedral‬إلليوت ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وقدمهما إلى "سلسلة المسرح العالمي"‬
‫َّ‬
‫الكويتية (العددان‪ 149 ،148 :‬على‬
‫التوالي)‪ .‬لكنهما لم تصدرا إال بعد‬
‫ولعل هذا ِّ‬
‫يوضح‬ ‫َّ‬ ‫وفاته سنة ‪.1981‬‬
‫استمرارية تعلُّقه بهذا "الصوت الصارخ‬
‫عيسي بالطة‬
‫في البرية"‪ ،‬و"األرض الخراب"‪.‬‬

‫الشعر‪ ،‬وأصوات العصر‪ ،‬وماذا يبقى منهم للتاريخ‪،‬‬ ‫الهيئة املصرية العامة للكتاب‪ .‬كما ساهم يف تأسيس‬
‫ورحلة الضمير املصري‪ ،‬وحتى نقهر املوت‪ ،‬وقراءة‬ ‫مجلة «فصول» للنقد األدبي‪.‬‬
‫جديدة لشعرنا القديم‪ ،‬ورحلة عىل الورق‪.‬‬ ‫وبدأ نشر أشعاره يف الصحف وذاع صيته بعد‬
‫كما حصل عيل عدة جوائز‪ :‬جائزة الدولة‬ ‫قصيدته «شنق زهران» وصدور ديوانه األول‬
‫الناس يف بالدي ‪ ،1957‬بالشعر الحديث‪ /‬الشعر‬
‫التشجيعية عن مسرحيته الشعرية (مأساة الحالج)‬
‫أنظار القراء‬
‫َ‬ ‫الحر‪ /‬شعر التفعيلة‪ .‬واستلفتت‬
‫عام ‪ .1966‬وبعد وفاته بعام (أي يف عام ‪..)1982‬‬ ‫والنقاد فيه فراد ُة الصور واستخدام املفردات‬
‫حصل عىل جائزة الدولة التقديرية يف اآلداب‪،‬‬ ‫اليومية الشائعة‪ ،‬وثنائية السخرية واملأساة‪،‬‬
‫والدكتوراة الفخرية يف اآلداب من جامعة املنيا‪،‬‬ ‫وامتزاج الحس النقدي والفلسفي بموقف اجتماعي‬
‫والدكتوراة الفخرية من جامعة بغداد‪.‬‬ ‫واضح‪ .‬كما كرسه كرائد بين رواد هذا الشعر مع‬
‫ويف الختام‪ :‬الذاكرة العربية يف غالبها ذاكرة‬ ‫نازك املالئكة‪ ،‬وبدر شاكر السياب‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬
‫مسرحا شعر ًّيا‪،‬‬ ‫شعرا‪..‬‬ ‫شعرية‪ ،‬كما أن املسرح بدأ‬ ‫ومؤلفات عبد الصبور املسرحية الشعرية هي‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ثم ُكتب له شعر مسرحي‪ ،‬ثم غلب أعماله النثر‪.‬‬ ‫مأساة الحالج ‪ ،1964‬واألميرة تنتظر ‪،1969‬‬
‫ومسافر ليل ‪ ،1968‬وليىل واملجنون ‪ ،1971‬وبعد‬
‫وإذا كانت الحركة النقدية والصحافة األدبية قد‬
‫أن يموت امللك ‪ .1973‬ومن أعماله الشعرية‪:‬‬
‫وناثرا‪ ،‬وكاتبًا‬
‫ً‬ ‫شاعرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫احتفت بصالح عبد الصبور‬ ‫أقول لكم ‪ ،1961‬وتأمالت يف زمن جريح ‪،1970‬‬
‫صحفيًّا‪ ،‬لكن تجربته الرائدة يف مسرحه الشعري‪،‬‬ ‫وأحالم الفارس القديم ‪ ،1964‬وشجر الليل ‪،1973‬‬
‫وروافدها العاملية مل تزل يف حاجة ملزيد من إلقاء‬ ‫واإلبحار يف الذاكرة ‪ .1977‬ومن مؤلفاته النثرية‪:‬‬
‫الضوء عليها‬ ‫عىل مشارف الخمسين‪ ،‬وتبقي الكلمة‪ ،‬وحياتي يف‬
‫‪21‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫أشرف عبد المنعم‬

‫التفرد السردي في قصيدة‬


‫الشعر الحديث‪ ..‬قراءة‬
‫في نص «رسائل طائشة»‬
‫للشاعر نادي حافظ‬
‫يجب على القارئ أال يكون شديد الرفض لقراءة الصورة في قصيدة‬
‫(نثرية) في مقارنتها بالصورة في شكل تقليدي‪ ،‬فاالختيار البارع‬
‫لعناصر الصورة وتفاصيلها في نص نادي حافظ‪ ،‬من رسائل أنيقة‬
‫وعناوين عشوائية والوردة التي في النهر تقتل بجمالها الحبيبة الذائبة‪،‬‬
‫وما حمل كل ذلك من اإليحاءات الفنية‪ ،‬هو الذي جنبها خطر الوقوع في‬
‫المجاز‪ ،‬دون تحطيم للترابط المنطقي لهذه العناصر‪ ،‬وهي من سمات‬
‫التصوير عامة في شعره‪ ،‬كما تبدى في نصوص الديوان األخرى على‬
‫أغلبها‪ ،‬ففيها من الصور ما تجنب المجاز‪ ،‬لكنه كذلك بريء من التقريرية‪.‬‬

‫ناعما‪،‬‬
‫ً‬ ‫سألتك باهلل كن‬ ‫بول فاليري‪ :‬إن اآللهة تمنحنا البيت‬‫يقول‬
‫إذا ما المست حرويف غدا‬ ‫األول من الشعر‪ ،‬ولكن علينا نحن أن‬
‫تذكر وأنت تمر عليها‪،‬‬ ‫نصنع البيت الثاني‪ .‬فإذا كانت شاعرية‬
‫عذاب الحروف لكي تولدا‬ ‫خروجا‬
‫ً‬ ‫شاعر ما ‪-‬ونادي حافظ ليس‬
‫من هنا تجد هذه الورقة أن اإلنجاز األساس يف‬ ‫عىل هذا التعميم‪ -‬هي موهبة وهبتها‬
‫نص (رسائل طائشة) للشاعر (نادي حافظ)‪ ،‬إنما‬ ‫له قوة ما ‪-‬أ ًّيا كان االختالف حول‬
‫خاصا‬
‫ًّ‬ ‫يكمن يف اشتغاله عىل هذا النص ليفتح در ًبا‬ ‫ماهيتها‪ ،-‬فإنها ما يمكن أن يحدث املغايرة ومن ثم‬
‫به من خاللها‪ ،‬وهو ما سوف تحاول هذه الورقة‬ ‫التمايز‪ ،‬فالتميز هو مدى ما يبذله الشاعر وحده كي‬
‫بحثه‪.‬‬ ‫يصنع قصيدته التي تهب ما ليس موجو ًدا وجو ًدا‪،‬‬
‫(رسائل طائشة) هي القصيدة التي ختم بها (نادي‬ ‫وذلك ‪-‬بالطبع‪ -‬ال يتم بال معاناة‪ ،‬فالذي يتم بال‬
‫(كرسي شاغر) الصادر عن دار‬
‫ٌ‬ ‫حافظ) ديوانه‬ ‫معاناة الشاعر يمكن أن يتم بدونه هو ذاته‪ .‬هذه‬
‫مسعى سنة (‪2011‬م)‪ ،‬وهو الديوان الذي ضم عد ًدا‬ ‫شاعرا مثل نزار قباني إىل الطلب‬ ‫ً‬ ‫املعاناة التي دفعت‬
‫من النصوص النثرية وأخرى من شعر التفعيلة‪.‬‬ ‫ً‬
‫من القارئ أن يكون سهل يف استقبالها حين يقول‪:‬‬
‫ومن يعرف نادي ال يغيب عنه أن ترتيب النصوص‬
‫داخل الديوان ال يأتي إال لقصدية قد صادفت‬
‫استجابة من كاتب هذه األسطر حينما وجد مالمح‬
‫غير مألوفة ‪-‬بالنسبة له عىل األقل‪ -‬تشكل هذا‬
‫النص الطائش‪.‬‬
‫ورغم املوقف الذي يكاد أن يكون إيديولوجيًّا يل‬
‫من قصيدة النثر بعامتها‪ ،‬فإن املوقف مل ِ‬
‫ينف‬
‫عندي انتماء هذه النصوص لفن إبداعي راقٍ ‪ ،‬قد‬
‫ُيختلف حول تصنيفه ولكن ال خالف حول أصالته‬
‫وجدارته باملدارسة‪.‬‬
‫وما تزعمه هذه القراءة من مالمح غير مألوفة‬
‫لنص (رسائل طائشة) يتبدى فيما حاول الشاعر‬
‫نحته من خالل هذا النص للسرد الشعري‪ .‬والسرد‬
‫عموما ليس آلي ًة حافظي ًة طريف ًة‪ ،‬فاملالمح‬
‫ً‬ ‫الشعري‬
‫القصصية يف الشعر عىل امتداد تاريخه موجودة‬
‫ويسهل االستدالل عليها من قصص امرئ القيس‬
‫وعنترة وربما قبلهما‪ ،‬ولكن الدرب الذي سلكه‬
‫حافظ فيه هو ما يجعل له األصالة يف هذا الجانب‪،‬‬
‫وهو ما سوف تحاول القراءة تبينه فيما يأتي‪:‬‬
‫هذا النص الذي يصنف ‪-‬تب ًعا ملا أراد مبدعه وأعلن‬
‫عنه‪ -‬إىل فن (قصيدة) النثر‪ ،‬ولكن العناصر‬
‫البنيوية به تتجه نحو التماهي مع عدد من الفنون‬
‫األخرى منها الرواية أو املتوالية القصصية‪ ،‬ومنها‬
‫كذلك املسرح ومنها الفن التشكييل‪ .‬واالستفادة من‬
‫الفنون األخرى كالرواية هو من التكنيكات الفنية‬
‫املستخدمة للتعبير عن تعدد األبعاد يف الرؤية‬
‫الشعرية الحديثة عىل ما يرى عشري زايد(‪.)1‬‬
‫وتبدأ خصوصية القص يف هذا النص من وجود‬
‫را ٍو علي ٍم يمسك بالنص‪ ،‬هو الذات الشاعرة عىل‬
‫أول يف املقطع‬ ‫األرجح‪ ،‬هذا الراوي يتوجه بسرده ً‬
‫األول إىل مخاطب سردي بضمير املتكلم‪ ،‬وحينما‬
‫يكون املخاطب السردي بضمير املتكلم‪ ،‬فإن ذلك‬
‫يعني أنه شخصية صريحة حاضرة يف السرد ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫وإذا ما حاولنا البحث عن ماهية هذا املخاطب‬


‫السردي‪ ،‬فإنه يمكن االطمئنان إىل أنه هو الشاعر‬
‫ذاته‪ ،‬فاملقطع األول الذي يبدأ به النص يكاد يكون‬
‫مونولوجا داخليًّا بين الذات الشاعرة وبين نفسها‪:‬‬ ‫ً‬
‫(‪)1‬‬
‫عندما تصحو من نو ِمكَ‬

‫نادي حافظ‬
‫‪23‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫ستج ُد رسال ًة أنيق ًة‬


‫يف صندوق البريد‬
‫شخص ال تعرفه‬ ‫ٍ‬ ‫من‬
‫ٍ‬
‫خميس‬ ‫اعتاد ك َّل‬‫َ‬
‫يبعث واحد ًة لحبيبته‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫ٍ‬
‫سنوات‬ ‫التي اختفت قبل‬
‫لكنَّه‬
‫ظ َّل يتاب ُع رسائ َله يف‬
‫مواعيدها‬
‫عناوين عشوائي ٍة‬ ‫َ‬ ‫عىل‬
‫أن تصلها‬ ‫عىل أم ِل ْ‬
‫واحد ٌة‬
‫يموت ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ْ‬ ‫أن‬‫قبل ْ‬‫َ‬
‫هنا يقدم الراوي العليم يف‬
‫سرد محايث ‪-‬أي أن ما‬
‫نزار قباني‬ ‫بول فاليري‬ ‫أحمد شوقي‬ ‫يخبر به مخاطبه يتزامن‬
‫مع تعرف املخاطب عليه‪-‬‬
‫فيقدم له‪ /‬لنا جز ًءا من لوحة مبعثرة أو يسلط‬
‫بين عناصره‪ .‬فيتوجه السرد نحو هذا القارئ‬
‫الضوء (التبئير الروائي) عىل ركن من املسرح‪ ،‬نجد‬
‫املفترض‪ ،‬وتتم إنارة جانب آخر من املسرح‪ ،‬أو‬ ‫فيه صندوق بريد‪ ،‬رسائل مجهولة ملحبوبة من‬
‫تجميع جزء ثان من اللوحة املتشظية ‪-‬عم ًدا‪-‬‬ ‫يف استمر لسنوات يف إرسالها‪ ،‬وكل أمله‬ ‫حبيب و ٍّ‬
‫أمام القارئ‪ ،‬وإن كانت متكاملة يف وعي الشاعر‪،‬‬ ‫أن تصلها إحداها قبل أن يموت‪ ،‬وهو يرسلها عىل‬
‫فيفصح الراوي هنا عن املبرر الذي دفع هذا‬ ‫غير هدى‪ ،‬لذا فهي طائشة‪ ،‬مل تصب املحبوبة‪ ،‬لكنها‬
‫العاشق الطائش إىل توجيه رسائله‪:‬‬ ‫أحدثت (دوشات) لدى شخوص لن يتم الكشف‬
‫العاشق‬
‫ُ‬ ‫الرج ُل‬ ‫عنهم دفع ًة واحدةً‪ ،‬وإنما يقدمهم النص يف حبكة‬
‫ٍ‬
‫لسنوات‬ ‫الذي ظ َّل‬ ‫بوليسية‪ ،‬ولكنها ال تفقدنا الرغبة يف تتمتها‪ ،‬بل ويف‬
‫برسائل طائش ٍة‬ ‫َ‬ ‫يبعث‬
‫ُ‬ ‫إعادة قراءة النص مرة ومرةً‪ ،‬ربما كان هذا ملا للغة‬
‫أسبوع‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ك َّل‬ ‫الشعرية من خصوصية وجاذبية يف ذاتها‪.‬‬
‫مل يكن انطوائيًّا‬ ‫أما وقد استفاق املخاطب ملا يود الراوي تبيينه له‪،‬‬
‫أو كار ًها للحياة‬ ‫وأصبح معه عىل الخط ذاته من املعرفة واالتصال‪،‬‬
‫حتَّى ال ُيج ِّر َب عواط َفه‬ ‫داع إذن لتوجيه العناية له وحده‪ ،‬وليتوجه‬ ‫فال ٍ‬
‫عىل امرأ ٍة أخرى‬ ‫السرد يف املقطع الثاني من خالل آلية االرتداد‬
‫لكنَّه‬ ‫‪ Flashback‬إىل قارئ ضمني‪ ،‬من املفترض أن‬
‫السماح من حبيبت ِه‬
‫َ‬ ‫يطلب‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫َ‬ ‫أيضا عىل درجة من التهيؤ لتلقي عامل‬ ‫يكون هو ً‬
‫يحب بع َدها‬ ‫َّ‬ ‫بأن‬ ‫غريب بأدوات غريبة عن بناء القصيدة التقليدية؛‬
‫تكون حبيبتُه الجديد ُة‬ ‫َ‬ ‫بأن‬
‫ويع ُدها ْ‬ ‫ليزيل ما يمكن أن يشكاله من حواجز بينه وبين‬
‫نسخ ًة منها‬ ‫التماهي مع تجليات الذات الشاعرة كمخاطب‬
‫«طبق األصل»‪.‬‬ ‫سردي يف املقطع األول‪.‬‬
‫وفيها يظهر جزء مهم من فحوى الرسالة‪ ،‬وهي‬ ‫نوع من الوحدة العميقة‬ ‫من هنا يتحقق لهذا النص ٌ‬
‫يقدم الراوي العليم في سرد محايث‬
‫‪-‬أي أن ما يخبر به مخاطبه يتزامن مع‬
‫تعرف المخاطب عليه‪ -‬فيقدم له‪ /‬لنا‬
‫جزءا من لوحة مبعثرة أو يسلط الضوء‬
‫ً‬
‫(التبئير الروائي) على ركن من المسرح‪،‬‬
‫نجد فيه صندوق بريد‪ ،‬رسائل مجهولة‬
‫وفي استمر لسنوات‬
‫ٍّ‬ ‫لمحبوبة من حبيب‬
‫في إرسالها‪ ،‬وكل أمله أن تصلها‬
‫إحداها قبل أن يموت‪ ،‬وهو يرسلها‬
‫على غير هدى‪ ،‬لذا فهي طائشة!‬
‫علي عشري زايد‬

‫وبعد أن قدم النص السردي الشخوص‬


‫الرئيسة املتمثلة يف كل من‪ :‬ذات الشاعر‬
‫كمخاطب سردي‪ ،‬والرجل العاشق‪،‬‬ ‫أن الحبيب مستعد ألن يحب أخرى عىل أن تكون‬
‫والحبيبة الغائبة‪ ،‬شرع النص يف تتمة املشهد‪ ،‬فال‬
‫نسخة منها؛ أي أنه ليس عىل استعداد ألن يحب‬
‫بد هنا من اإلتيان عىل ذكر الشخصيات الثانوية‬
‫بعدها أب ًدا‪ .‬فما بال هذه الحبيبة؟ وهل هي تستحق‬
‫التي كان من الضروري جمعها جم ًعا‪ ،‬فجاءت‬
‫أن يتبتل بها؟‬
‫ممثل ًة يف النساء الالتي تلقفن رسالة العاشق بكثير‬
‫الحبيب ُة الغائب ُة‬
‫من األحالم واألمنيات‪:‬‬
‫ليست خائن ًة كما يتخيلون‬ ‫ْ‬
‫العاشق‬
‫ُ‬ ‫ما من رسال ٍة أرسلها‬
‫الحب‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫راحت ضحية‬ ‫ْ‬ ‫بلْ ر َّبما‬
‫ووقعت يف ي ِد امرأ ٍة‬‫ْ‬
‫َّإل ورق َّْت لحال ِه‬ ‫ويقالُ إنَّها كانت تمشي‬ ‫ُ‬
‫نفسها‬‫وتمن َّْت يف ِ‬ ‫عىل جانبِ النهر‬
‫لو فيها شب ٌه من حبيبت ِه‪.‬‬ ‫و َمل َح ْت ورد ًة يف املا ِء‬
‫وكذا سعاة البريد الذين ظنوا بالعاشق الظنون‪،‬‬ ‫ثت نفسها‪:‬‬ ‫فح َّد ْ‬
‫آخر مشهد من‬‫ولكنهم قدموا للقارئ الضمني َ‬ ‫«هذه الورد ُة لحبيبي»‬
‫الصورة؛ فمن خاللهم يكتشف مدى تأنق الرجل‬ ‫وحين ه َّم ْت بقط ِفها‬ ‫َ‬
‫العاشق يف رسالته واهتمامه بها‪.‬‬ ‫كائنات املاءِ‬
‫ُ‬ ‫جذبتها‬
‫سعا ُة البري ِد‬ ‫تخرج أب ًدا‪.‬‬‫ْ‬ ‫ومل‬
‫يعرفون العاشقَ‬
‫َ‬ ‫ال‬ ‫يف هذا املشهد ُيضاء ركن آخر من مسرح األحداث‪،‬‬
‫وال حبيبتَه‬ ‫وتنضم قطعة أخرى إىل اللوحة التي قلنا عنها إنها‬
‫بلْ ويظنونه مراهقًا خائبًا‬ ‫متشظية‪ ،‬هذه الحبيبة مل يغيبها عن حبيبها سوى‬
‫أن ُيخفوا إعجا َبهم‬ ‫دون ْ‬‫َ‬ ‫املوت الذي باغتها ألنها ذابت فيه أكثر‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫تحفظ الريح وال الرمل وعى‬ ‫بخط ِه الجمي ِل‬


‫مل تزل ليىل بعيني طفل ًة‬ ‫وأناق ِة الرسائ ِل‬
‫مل تزد عن أمس إال إصبعا‬ ‫الروائح املثيرة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ذات‬
‫وأحسب أنه يجب عىل القارئ أال يكون شديد‬ ‫من خالل هذا العرض قد يكون نادي حافظ محققًا‬
‫الرفض لقراءة الصورة يف قصيدة (نثرية) يف‬ ‫لنوع من الوحدة؛ ال عىل مستوى املشاعر والفكر‬
‫مقارنتها بالصورة يف شكل تقليدي‪ ،‬فاالختيار‬ ‫فحسب‪ ،‬ولكن من خالل وحدة األدوات والتكنيكات‬
‫البارع لعناصر الصورة وتفاصيلها يف نص نادي‪،‬‬ ‫السردية املستخدمة بأبعادها املتعددة التي قدمت‬
‫من رسائل أنيقة وعناوين عشوائية والوردة التي‬ ‫مشاهد مرتبة عىل نحو أنتجت تراب ًطا ‪-‬بشكل ما‪-‬‬
‫يف النهر تقتل بجمالها الحيبة الذائبة‪ ،‬وما حمل كل‬ ‫كان له أن يحدث لو أنها رتبت بشكل آخر‪.‬‬
‫ذلك من اإليحاءات الفنية‪ ،‬هو الذي جنبها خطر‬ ‫لكن هذا ال يعني أن املالمح السردية قدمت بلغة‬
‫الوقوع يف املجاز‪ ،‬دون تحطيم للترابط املنطقي لهذه‬ ‫نثرية‪ ،‬بل إنها لغة بكر تحارب االبتذال اليومي‪،‬‬
‫العناصر‪ ،‬وهي من سمات التصوير عامة يف شعر‬ ‫فاستخدام (نسخة منها بالكربون) ً‬
‫مثل‪ ،‬التي‬
‫نادي‪ ،‬كما تبدى يف نصوص الديوان األخرى عىل‬ ‫وردت يف املقطع الثاني‪ ،‬ليس من باب التشبيه الذي‬
‫أغلبها‪ ،‬ففيها من الصور ما تجنب املجاز‪ ،‬لكنه كذلك‬ ‫يوظف يف االستخدام اليومي‪ ،‬وإنما لإلعالن عن‬
‫بريء من التقريرية‪.‬‬ ‫استحالة أن يحب بعدها‪.‬‬
‫ليس معنى ذلك أن شاعرنا يسعى لتجاوز النوع‬ ‫إن الخيال املوظف هنا هو من النوع الذي ال يقف‬
‫بتقاربه مع فن الرواية‪ ،‬وهو‪ ،‬حتى يف موسيقاه‪،‬‬ ‫عند مالمح العامل كما هو يف الواقع‪ ،‬بل إنه يحول‬
‫بعيد عن هذا‪ ،‬بل أحسبه يحاول أن يحتفظ للشعر‬ ‫هذا الواقع إىل عامل شعري تحكمه قوانينه الخاصة‬
‫بخصوصيته ويعيد له ما سلبته املوسيقى منه‪،‬‬ ‫اعتما ًدا عىل صور غير مجازية بالطبع‪ ،‬وال غامضة!‬
‫حين يستخدم الشكل النثري متخليًا عن أشكال‬ ‫ولكنها صور مشعة باإليحاءات عىل نحو ما نجد‬
‫املوسيقى املوروثة بعامتها‪ ،‬ساعيًا لتحقيق ذلك من‬ ‫يف قول (شوقي) يف مسرحية (مجنون ليىل) حين‬
‫خالل نحت سرد شعري مغاير لكثير مما أُ ُلف من‬ ‫يقول عىل لسان (قيس) مخاطبًا جبل التوباد‪:‬‬
‫أشكاله يف شعرنا‬
‫فيك ناغينا الهوى يف مهده‬
‫ورضعناه فكنت املرضعا‬
‫الهوامش‪:‬‬
‫وعىل سفحك عشنا زمنًا‬
‫‪ -1‬عيل عشري زايد‪ ،‬عن بناء القصيدة العربية‬ ‫ورعينا غنم األهل معا‬
‫الحديثة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة دار العلوم‪ ،‬ط ‪،1979 ،2‬‬ ‫وحدونا الشمس يف مغربها‬
‫ص‪.300‬‬ ‫وبكرنا فسبقنا املطلعا‬
‫‪ -2‬انظر‪ ،‬مرسل العجمي‪ ،‬السرديات مقدمة نظرية‬ ‫هذه الربوة كانت ملعبًا‬
‫ومقتربات تطبيقية‪ ،‬الكويت‪ ،‬مكتبة آفاق‪،2011 ،‬‬ ‫لشبابينا وكانت مرتعا‬
‫ص‪ 68‬وما بعدها‪.‬‬ ‫كم بنينا من حصاها أرب ًعا‬
‫‪ -3‬نادي حافظ‪ ،‬كرسي شاغر‪ ،‬الكويت‪ ،‬دار مسعى‬ ‫وانثنينا فمحونا األربعا‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،2011 ،‬ص‪.59‬‬ ‫وخططنا يف نقى الرمل فلم‬
‫‪26‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫المطك ميلود‬
‫(المغرب)‬

‫التربية والنمو الذهني‬


‫عند الطفل ‪ ..‬لجان بياجيه‬
‫قراءة ثانية في ترجمة الكتاب‬
‫لمحمد الحبيب بلكوش‬
‫شكلت أبحاث ج‪ .‬بياجيه مساهم ًة هامة ومتميزة في مجال علم النفس‬
‫التربوي‪ ،‬وكذلك خزا ًنا ال ينضب‪ ،‬بحيث إن أبحاثه المتعلقة بتطور‬
‫الذكاءات وتكون العقل واكتساب األدوات الذهنية والمفاهيم ومراحل‬
‫النمو العقلي وبناء الشخصية وتشكل القيم األخالقية‪ ..‬وغيرها‪ ،‬لتعد‬
‫بحق إسهامات ذات مكانة متميزة في الفكر العلمي المعاصر‪ ،‬إذ بفضلها‬
‫تتحقق غايات العمل التربوي‪ .‬فالعلوم السيكولوجية واالجتماعية‬
‫تسبران أغوار الكائن البشري البيولوجية والنفسية واالنفعالية‪ ،‬وكذا‬
‫مراحل نموها وقوانينها وتفاعالتها مع المحيط االجتماعي والثقافي‪،‬‬
‫ومنه فالدراسات النفسية لها دور فعال في العملية التربوية لما لها من‬
‫انعكاس ايجابي على تنمية القدرات الذهنية للطفل وتحسين مهاراته‪.‬‬

‫مع الزمن ويختلف عما كان ً‬


‫قبل‪.‬‬ ‫تمهيد‬
‫فدراسة هذا العلم تجعلنا نعي ملراحل نمو األطفال‬
‫والعوامل املساهمة يف تكوينهم عقليًّا وجسد ًّيا‪،‬‬ ‫أهمية التربية والنمو الذهني لدى الطفل‬
‫تظهر‬

‫وكذا التغيرات التي قد تواجههم‪ ،‬فنختار الصحيحة‬ ‫لجان بياجيه يف مدى اكتساب معلومات‬
‫واملفضلة لدينا‪ ،‬ونتجنب السلوكيات الخاطئة غير‬ ‫ومعارف حول طبيعة الطفل يف عالقته‬
‫مرغوبة لنا‪ ،‬ويكون ذلك من خالل عملية مراقبة‬ ‫باملحيط‪ ،‬وذلك من خالل تتبع املراحل‬
‫سلوكاتهم‪ ،‬وتوجيهها نحو الوجهة الصحيحة‪ .‬كما‬ ‫التي يمر بها والتطورات التي تحدث معه‪،‬‬
‫كمعايير نمو الجسم‪ ،‬فجسم األطفال يختلف‬
‫تساعد عىل تقييم السلوك والذات بهدف تنمية قدرات‬
‫عن أجسام املراهقين‪ ،‬ومعيار العقل والفكر‬
‫األطفال ومواهبهم‪ ،‬ومعرفة مواطن النقص التي‬
‫كذلك يختلف بسبب مرور اإلنسان بمراحل مختلفة‬
‫ُيعانون منها من خالل الرعاية بكل جوانبها‪ ،‬وتساعد‬
‫للتعلم واكتساب املعرفة‪ ،‬فالعقل كذلك ينمو ويتطور‬
‫املدرسين واملربين يف املدرسة‪ .‬ومؤلفي الكتب‬
‫‪27‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫تشير العبارة الثانية‪ ،‬املحصورة بين هاللين‪ ،‬إىل‬ ‫املدرسية ملختلف املراحل‪ ،‬بوضع مقررات تعليمية‬
‫تلخيص العبارة األوىل‪ ،‬أي أن الكتاب يتناول بالدرس‬ ‫تناسب الحجم العقيل لكل مرحلة يمر بها الطفل؛ ألن‬
‫والتحليل التطور الذهني للطفل عبر املراحل العمرية‪،‬‬ ‫األطفال ليس لديهم قدرة عىل استيعاب معلومات‬
‫يسميه املترجم بعلم النفس التكويني‪.‬‬ ‫كثيرة ومتعددة‪ ،‬فقد تكون معقدة وغير مفهومة‬
‫بالنسبة لديهم‪ .‬مساعدة جميع الفئات العمرية لتسهيل‬
‫صيرورة الكتاب والعنوان‬ ‫الصعوبات التعليمية التي تواجه هذه الفئات كالتخلف‬
‫فضل عن أمور أخرى قد‬‫ً‬ ‫التعليمي أو الدراسي‪،‬‬
‫عنوان الكتاب ‪LE Développement mental de‬‬
‫تواجه هذه الفئات مثل املشاكل النفسية كاالكتئاب‪،‬‬
‫‪ l’enfant‬لصاحبه جان بياجيه وهو يف األصل‪،‬‬
‫وعدم القدرة عىل التعلم بسبب بعض املشكالت‬
‫عبارة عن مقاالت ومحاضرات لجان بياجيه نشرت‬
‫والسلوكيات الناجمة عن اختالالت نفسية وعقلية‪.‬‬
‫يف مجلة ‪ Juventus helvética‬مقرها بمدينة زيورخ‬
‫بسويسرا سنة ‪ ،1940‬ثم أعيد كتابتها وتنقيحها يف‬ ‫مداخل الكتاب‬
‫شكل دراسة‪ ،‬باإلضافة إىل خمس دراسات أخرى‬
‫نشرت مجموعة يف كتاب جامع سمي “ست دراسات‬ ‫عنوان الترجمة‪ :‬التربية والنمو الذهني لدى الطفل‬
‫يف علم النفس” ‪Six études de psychologie‬‬ ‫(دراسات يف علم النفس التكويني)‬
‫سنة ‪ 1964‬بباريس من دار الطبع والنشر ‪denoel‬‬ ‫ونصا مواز ًيا‬
‫ًّ‬ ‫يشكل العنوان عتبة من عتبات النص‬
‫‪.gonthier editions‬‬ ‫حامل لداللة مكثفة يتضمن العمل اإلبداعي بأكمله‪،‬‬ ‫ً‬
‫الدراسة األوىل‪:‬‬ ‫فهو عالمة تحيل عىل مجموعة من العالمات سواء‬
‫‪“ -Le développement mental chez l’enfant‬‬ ‫داخل النص أو خارجه‪ ،‬له عدة وظائف أهمها‪ :‬التعيين‬
‫‪l’année 1943.‬‬ ‫وامليتالغة واإلشهار‪..‬‬
‫الدراسة الثانية‬ ‫إذا كان العنوان جز ًءا ال يتجزأ من النص‪ ،‬فإنه يف‬
‫‪- La pensée du jeune enfant » l’année 1964.‬‬ ‫اسما للكتاب ويثير العديد من األسئلة‬ ‫األساس يحمل ً‬
‫الدراسة الثالثة‬ ‫التي تجعل منه مكونًا غير منفصل عن باقي مكونات‬
‫‪- Le langage et la pensée du point de vue‬‬ ‫النص‪ ،‬حيث يبتغي القصدية وينتفي معيار االعتباطية‬
‫‪génétique » l’année 1954.‬‬ ‫يف اختيار التسمية ليصبح العنوان هو املحور الذي‬
‫الدراسة الرابعة‬ ‫يتوالد ويعيد نفسه وفق تمثالت وسياقات نصية‬
‫‪- Le rôle de la notion d’équilibre dans l’ex-‬‬ ‫تؤكد طبيعة التعالقات التي تربط العنوان بنصه‬
‫‪plication en psychologie” l’année 1959.‬‬ ‫والنص بعنوانه‪.‬‬
‫الدراسة الخامسة‬ ‫من هذه الزاوية يتخذ العنوان‪( :‬التربية والنمو الذهني‬
‫‪- Genèse et structure en psychologie de‬‬ ‫لدى الطفل) (دراسات يف علم النفس التكويني) لنفسه‬
‫‪l’intelligence l’année 1965.‬‬ ‫أول عتبة نلج من خاللها عوامل النص الذي يتكون من‬
‫ومنه يتضح أن الكتاب الذي بين أيدينا يمثل الدراسة‬ ‫عبارتين‪:‬‬
‫األوىل من الكتاب‪ ،‬مترجمة إىل العربية من طرف‬ ‫األوىل‪ :‬مركب اسمي مكون من مصطلحين هما‬
‫األستاذ محمد الحبيب بلكوش بعنوان‪« :‬التربية‬ ‫التربية ومصطلح النمو الذهني عند الطفل‪.‬‬
‫والنمو الذهني لدى الطفل»‪ ،‬مذيلة بعنوان صغير‪:‬‬ ‫الثانية‪ :‬مركب اسمي محصور بين هاللين مكون من‬
‫دراسات يف علم النفس التكويني‪ ،‬ويتضح أن املترجم‬ ‫مصطلحين هما دراسات وعلم النفس التكويني‪.‬‬
‫أضاف إىل العنوان مصطلح التربية‪ ،‬وعبارة علم‬ ‫تشير العبارة األوىل إىل ارتباط نموالطفل بالتربية‪،‬‬
‫النفس التكويني‪ ،‬وكأنه خالصة للعنوان وتكثيف له‪.‬‬ ‫وهي عالقة تسهم يف التطور املعريف للطفل وتختلف‬
‫املؤلف‪:‬‬ ‫حسب املراحل العمرية‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫‪ .)107،1997‬والجدير بالذكر أن نظرية بياجيهه‬ ‫اإلسم الكامل‪ :‬جان ويليام فريتز بياجيه ‪Jean‬‬
‫قد تمت بدرجة رئيسية بنا ًء عىل نتائج املالحظات‬ ‫‪.William Fritz Piaget‬‬
‫والدراسات اإلمبريقية التي قام بها بياجيهه مع‬ ‫ولد جان بياجيهه يف نيوشاتل بسويسرا يف التاسع‬
‫أيضا اعتمد يف دراساته عىل‬ ‫زوجته وأطفالها الثالث‪ً .‬‬ ‫من أغسطس ‪1896‬م‪ ،‬وكان نبي ًها منذ الصغر‪،‬‬
‫الطريقة العيادية أو اإلكلينيكية (يعقوب‪.)1980 ،16 ،‬‬ ‫كبيرا بعلم‬
‫ً‬ ‫اهتماما‬
‫ً‬ ‫مبكرا‪ ،‬وأظهر‬
‫ً‬ ‫وظهرت عبقريته‬
‫وقد تويف بياجيهه يف أواخر سبتمبر‪ ،1980‬بعد أن‬ ‫األحياء‪ .‬وقد عين وهو يف السادسة عشر من عمره‬
‫ساهم بدراساته الواسعة واألصيلة‪ ،‬وترك مجموعة‬ ‫مديرا ملتحف التاريخ الطبيعي يف جنيف‪ .‬ثم درس‬ ‫ً‬
‫من املؤلفات والكتب واملقاالت عن النمو املعريف عند‬ ‫التاريخ الطبيعي يف جامعة نيوشاتل‪ .‬ونشر يف‬
‫األطفال (حمدان‪.)1997 ،109 ،‬‬ ‫عام ‪1916‬م بحثه األول‪ ،‬ثم نال درجة الدكتوراة‬
‫املترجم‪:‬‬ ‫يف التاريخ الطبيعي وهو يف الحادية والعشرين من‬
‫محمد الحبيب بلكوش‪ ،‬أستاذ ومترجم مغربي‪،‬‬ ‫عمره‪ .‬ثم ح َّول اهتمامه وطاقته إىل دراسة تطور‬
‫له مجموعة من املقاالت والدراسات يف العديد من‬ ‫الفكر عند األطفال ونموه‪ .‬وقرأ يف فلسفة املعرفة‬
‫الصحف واملجالت الوطنية واألجنبية‪ ،‬صدرت‬ ‫بتوسع وبدأ يفكر باهتمام شديد يف عامل املعرفة‪،‬‬
‫له ترجمة لكتاب «التوجهات الجديدة للتربية (‪le‬‬ ‫وخاصة فيما يتعلق بكيفية اكتساب املعرفة والتعلم‬
‫‪ )mouvement de l’Éducation nouvelle‬لجان‬ ‫عند البشر‪ .‬واعتقد أن النمو املعريف يرتكز عىل‬
‫بياجيه الصادر عن دار النشر «دار توبقال»‪.‬‬ ‫الجوانب البيولوجية والسلوكية ولهذا تحول إىل‬
‫مجال علم النفس‪ .‬وعمل بياجيهه بعد تخرجه يف‬
‫الكتاب‪:‬‬
‫مختبر بينيه ‪ Binet‬الختبارات الذكاء يف باريس‬
‫من الحجم املتوسط‪ ،‬عدد صفحاته ‪ 120‬صفحة‪ ،‬وقد‬
‫لعدة سنوات‪ ،‬حيث خبر األطفال وقدراتهم الذكائية‬
‫عمل املترجم عىل تقسيمه إىل مقدمة‪ ،‬وقائمة خاصة‬
‫املختلفة‪ ،‬وتمرس يف تطوير اختباراتها‪ ،‬كما الحظ‬
‫باملصطلحات التقنية‪ ،‬بينهما فصالن يحمل كل واحد‬
‫الفروق الفردية يف إجابات األطفال عىل أسئلة القدرات‬
‫منهما عنوانًا‪.‬‬
‫الذكائية نتيجة تنوع مراحلهم العمرية‪ .‬ويف هذه‬
‫‪ -‬املقدمة جاءت يف ‪ 5‬صفحات تمتد من الصفحة ‪5‬‬
‫الفترة بدأت أفكار بياجيهه الواسعة االنتشار هذه‬
‫إىل الصفحة ‪.10‬‬
‫األيام تتبلور ألطرها النظرية الحالية‪ .‬بعد ذلك انتقل‬
‫‪ -‬الفصل األول معنون بـ”مراحل النمو الذهني لدى‬ ‫بياجيهه من معمل بينيه إىل معمل جان روسو يف‬
‫الطفل” يمتد من الصفحة ‪ 11‬إىل الصفحة ‪.88‬‬ ‫جنيف بسويسرا‪ ،‬حيث تمكن من متابعة أبحاثه‬
‫العيادية مع‬
‫األطفال يف‬
‫مجال الذكاء‬
‫والقدرات‬
‫اإلدراكية‪،‬‬
‫ومن تطوير‬
‫نظريته يف علم‬
‫النفس املعريف‬
‫إىل حدودها‬
‫النهائية‬
‫املتداولة اآلن‬
‫(حمدان‪،‬‬
‫‪-108‬‬
‫‪29‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫الذهنية لكل إنسان‪ ،‬وتمكينه من املعارف واملهارات‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني معنون بـ”الزمن والنمو الذهني لدى‬
‫عنصرا يتفاعل مع محيطه بشكل‬ ‫ً‬ ‫والقيم التي تجعله‬ ‫الطفل” يمتد من الصفحة ‪ 89‬إىل الصفحة ‪.114‬‬
‫ومساهما يف إغناء مجتمعه‪.‬‬
‫ً‬ ‫إيجابي‬ ‫‪ -‬مسرد املصطلحات التقنية املستعملة تمتد من‬
‫وقد خلص املترجم من خالل هذه النقط إىل أن تحقق‬ ‫الصفحة ‪ 115‬إىل الصفحة ‪.119‬‬
‫العمل التربوي يستند إىل العلوم السيكولوجية‬ ‫والكتاب صادر عن دار النشر الفنك‪ ،‬مطبعة النجاح‬
‫واالجتماعية لكونها تسبر أغوار الكائن البشري‬ ‫الجديدة الرباط ‪ 1993‬دون ذكر الطبعة‪ ،‬أصفر‬
‫البيولوجية والنفسية واالنفعالية ومراحل نموها‬ ‫الغالف‪.‬‬
‫وقوانينها وتفاعالتها مع املحيط االجتماعي والثقايف‪،‬‬
‫ومنه فالدراسات النفسية لها دور ف َّعال يف العملية‬ ‫منهجية الكتاب‬
‫التربوية ملا لها من انعكاس ايجابي عىل تنمية القدرات‬
‫الذهنية للطفل وتحسين مهاراته‪.‬‬ ‫اعتمد املؤلف يف مجمل الكتاب املنهج التجريبي‪،‬‬
‫هذا وتشكل أعمال جان بياجيه مساهمة متميزة يف‬ ‫ويؤكد ذلك بقوله‪ :‬سننطلق من الفعل الشامل‬
‫مجال علم النفس التربوي‪ ،‬وكذلك خ َّزانًا ال ينضب‪،‬‬ ‫االجتماعي والفردي يف آن واحد‪ ،‬ثم نحلل بعد ذلك‬
‫بحيث إن أبحاثه يف مجاالت تطور الذكاء وتكون‬ ‫الجوانب العقلية واالنفعالية من هذا النمو‪ ،‬باإلضافة‬
‫العقل واكتساب األدوات الذهنية واملفاهيم ومراحل‬ ‫إىل املنهج االستنباطي من خالل طرح القضية وتتبع‬
‫النمو العقيل وبناء الشخصية والقيم األخالقية تعد‬ ‫أجزائها للوصول إىل نتائج الفرضية التي انطق منها‬
‫إسهامات ذات مكانة متميزة يف الفكر العاملي املعاصر‪.‬‬ ‫املؤلف يف البداية‪.‬‬

‫التوازن بين النموالعضوي والنموالذهني‬ ‫محتوى الكتاب‬


‫يبدأ النمو الذهني عند الطفل منذ الوالدة وينتهي يف‬ ‫املقدمة‪:‬‬
‫سن الرشد‪ ،‬ويمكن مقارنته بالنمو العضوي ألنه‬ ‫تناول املترجم خاللها مجموعة من القضايا املتضمنة‬
‫أساسا يف السير نحو التوازن‪ ،‬فكما ينمو‬
‫ً‬ ‫يتمثل‬ ‫للتعلم يف عالقتها بالتربية‪ ،‬ويمكن تلخيص ما جاء يف‬
‫الجسم ويتطور إىل أن يصل إىل مستوى ما يتميز‬ ‫املقدمة من خالل مجموعة من النقط أهمها‪:‬‬
‫باكتمال النمو ونضج األعضاء‪ ،‬كذلك يمكننا اعتبار‬ ‫‪ -‬دور املؤسسات التربوية (قبل سن الدراسة) يف‬
‫الحياة النفسية عىل انها تطور نحو شكل من التوازن‬ ‫تنمية القدرات الذهنية واالنفعالية للطفل‪ ،‬وانعكاس‬
‫النهائي الذي يمثله ذهن اإلنسان الراشد‪.‬‬ ‫ً‬
‫مستقبل‪.‬‬ ‫ذلك عليه‬
‫إن الشكل النهائي للتوازن الذي يصل إليه النمو‬ ‫‪ -‬حماية األطفال وتوفير الشروط الالزمة لضمان‬
‫العضوي يكون أكثر سكونًا من ذلك الذي يسير‬ ‫نمو سليم‪ ،‬عقليًّا ونفسيًّا وانفعاليًّا‪.‬‬
‫نحوه النمو العقيل‪ ،‬إال أنه يكون أقل استقرارا‪ ،‬بحيث‬ ‫‪ -‬العناية باملؤطر واملربي داخل املؤسسات التربوية‪،‬‬
‫يبلغ النمو العضوي مرحلة ما ثم يتراجع يف تنازل‬ ‫وذلك بتكوينه وتحسين خبراته وتجديد معارفه‪،‬‬
‫ارتدادي يؤدي إىل الشيخوخة‪ ،‬بما يف ذلك الحواس‬ ‫الشيء الذي سيرفع من قيمته وسيزيد من فعالية‬
‫كالسمع والبصر‪ ..‬التي تحكمها نفس القاعدة‪ ،‬يف‬ ‫العمل التربوي‪.‬‬
‫حين نجد الوظائف املرتبطة بالعقل كالذكاء والقدرات‬ ‫‪ -‬دور الدولة يف النهوض بالتعليم باعتباره بوابة‬
‫الذهنية والتفكير فإنها تسير عكس ذلك‪ ،‬حيث تسير‬ ‫التنمية والقاطرة نحو التقدم عىل جميع األصعدة‪،‬‬
‫نحو توازن متحرك يكون قا ًّرا عند البعض وعند‬ ‫مستحضرا مستوى التعليم النظامي وواقع التعليم‬ ‫ً‬
‫البعض اآلخر يكون متحر ًكا‪ ،‬ويف تطور مستمر‪ ،‬ومن‬ ‫باملغرب واآلفاق‪.‬‬
‫مميزاته أنه ال يعرف التقهقر واالرتداد خالف ملا هو‬ ‫‪ -‬اعتبار الهدف من التربية والتعلم‪ ،‬يتجاوز الكتابة‬
‫عضوي‪.‬‬ ‫والقراءة‪ ،‬إذ يعد من األسس الضرورية لنمو الوظائف‬
‫‪30‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫يبدأ الطفل يف اكتشاف العامل والتعرف عىل محيطه‬ ‫سيحاول املؤلف من خالل هذا الكتاب رصد نمو‬
‫من خالل الحواس والحركات‪ ،‬ففي هذه املرحلة نجد‬ ‫الطفل واملراهق انطالقًا من مفهوم التوازن‪ ،‬وذلك‬
‫الطفل يرجع كل شيء إىل نفسه ليصل يف األخير‬ ‫بالتمييز بين وجهين متكاملين لسيرورة هذا التوازن‪:‬‬
‫إىل تحديد ذاته عمليًّا كعنصر أو جسد من ضمن‬ ‫‪ -1‬البنيات املتغيرة التي تحدد اإلشكال والحاالت‬
‫العناصر أو األجساد األخرى‪ ،‬يف عامل قام هو بنفسه‬ ‫املتتالية للتوازن‪.‬‬
‫ببنائه تدريجيًّا وأصبح يحس به كعامل خارجي‬ ‫‪ -2‬الوظيفة الثابتة التي تضمن املرور من أية حالة‬
‫بالنسبة لذاته‪ .‬وتتميز هذه املرحلة بما يسميه ج‪.‬‬ ‫معينة إىل املستوى املوايل‪.‬‬
‫بياجيه بالتكامل والتفاعل بين الذكاء والعامل أو الحياة‬ ‫عند مقارنة الطفل بالراشد نجد نوعين من السلوكات‬
‫عبر ثالث مراحل‪:‬‬ ‫والتصرفات تطبع هذا الطفل‪ ،‬فهو من جهة يتصرف‬
‫‪ -‬مرحلة االرتكاسات‪ ،‬ويقصد بها التناسقات الحسية‬ ‫مثل إنسان عاقل وراشد عندما تماثل ردود أفعاله‬
‫والحركية املركبة وراثيًّا واملتطابقة مع ميوالت‬ ‫واهتماماته الراشدين‪ ،‬ومن جهة ثانية تكشف لنا‬
‫غريزية كالتغدية‪ ،‬إال أنها تحتاج تدريبًا وممارسة‬ ‫هذه املقارنة عن اختالفات كبيرة ‪-‬يف حالة اللعب أو‬
‫حتى تكتمل أدوارها‪ً ،‬‬
‫مثل طريقة الرضاعة يف‬ ‫يف طريقة التفكير واألنا املفرط‪ -‬فيظهر الطفل عىل‬
‫األسابيع األوىل تختلف عن طريقة الرضاعة عند‬ ‫طبيعته التي تميزه عن الراشد‪.‬‬
‫نهاية السنة األوىل‪.‬‬ ‫يعتبر املؤلف هذين النوعين من السلوك طبيعيين يف‬
‫تمثل مختلف التداريب االرتكاسية إشارات أولية عىل‬ ‫مستوى معين‪ ،‬فمن الزاوية الوظيفية‪ ،‬فإنه توجد‬
‫االستيعاب الذهني لدى الطفل يف األشهر األوىل من‬ ‫وظائف ثابتة مشتركة بين كل األعمار كوظيفتي‬
‫والدته‪.‬‬ ‫االهتمام والتفسير الناتجة عن الدوافع العامة للسلوك‬
‫‪ -‬مرحلة تنظيم الحواس والعادات والتي تبدأ من‬ ‫والتفكير‪ .‬إال أنها تختلف بشكل كبير من مرحلة عقلية‬
‫خالل اندماج تلك التداريب االرتكاسية مع عادات‬ ‫أشكال مختلفة حسب درجة النمو‬ ‫ً‬ ‫إىل أخرى وتأخذ‬
‫وإدراكات حسية منظمة‪ ،‬بمعنى أنها ستكون منطلقًا‬ ‫الذهني‪.‬‬
‫لسلوكات جديدة يتم اكتسابها من خالل التجربة‪،‬‬ ‫وإىل جانب الوظائف الثابتة يوجب املؤلف تمييز‬
‫فاالمتصاص املنظم لألصبع وحركة الرأس تجاه‬ ‫تتطورا تدريجيًّا وتشكل‬ ‫البنيات املتغيرة باعتبارها‬
‫ً‬
‫مصدر الصوت وبداية االبتسام والتقاط كل ما يقدم‬ ‫متتالية للتوازن‪ ،‬وبذلك تكون هي التي تجسد‬
‫له‪ ..‬وغير ذلك‪ ،‬كلها سلوكات تدخل ضمن هذه‬ ‫اختالفات أو تعارضات مستوى من السلوك مع‬
‫دورا أساسيًّا يف النموالحسي‬ ‫املرحلة التي تلعب ً‬ ‫مستوى آخر‪ ،‬انطالقًا من السلوكات األولية للرضيع‬
‫متقدما من أشكال االستعاب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وشكل‬ ‫الحركي‪،‬‬ ‫وإىل حدود املراهقة‪ ،‬أي هي األشكال التنظيمية‬
‫‪ -‬مرحلة الذكاء الحسي‪ -‬الحركي‪ :‬يظهر الذكاء‬ ‫للنشاط العقيل يف جانبيه الحركي‪ -‬الذهني‪ ،‬والعاطفي‬
‫العميل قبل اللغة أي قبل التفكير الداخيل الذي يتطلب‬ ‫الوجداني يف بعديه الفردي والجماعي‪.‬‬
‫استعمال عالمات لفظية‪ ،‬إذ إنه عوض استعمال‬
‫الكلمات يستعمل الطفل الحركات وردود الفعل‪.‬‬ ‫مراحل النمو الذهني لدى الطفل‬
‫تتميز هذه املرحلة بأربع صيرورات جوهرية تعتبر‬
‫مقوالت عملية محضة وهي‪:‬‬ ‫حدد بياجيه أربع مراحل رئيسية للنمو العقيل‬
‫‪ -1‬بناء مقوالت الشيء‪.‬‬ ‫واملعريف عند الطفل من حيث املعامل والحدود‬
‫‪ -2‬املجال‪ ،‬املرتبط ببناء األشياء‪ ،‬مجاالت فمية‬ ‫والخصائص‪ ،‬وبدرجة عالية من الدقة والوضوح‪.‬‬
‫سمعية بصرية ملسية‪.‬‬ ‫وهذه املراحل هي‪:‬‬
‫‪ -3‬السببية‪ ،‬هي الرابط بين النتيجة التجريبية والفعل‬ ‫ً‬
‫أول‪ -‬مرحلة الوليد الرضيع‪:‬‬
‫الذي أدى إليها‪.‬‬ ‫وتسمى املرحلة الحسية‪ -‬الحركية‪ .‬وتستمر منذ‬
‫‪ -4‬الزمن‪ ،‬السلسلة الزمنية تكون موازية للسببية‪.‬‬ ‫الوالدة حتى نهاية السنة الثانية من العمر‪ ،‬حيث‬
‫‪31‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫إن تطور القابلية لالنفعال خالل السنتين االولتين‬


‫يعطي عىل العموم صورة مماثلة تقريبًا للصورة التي‬
‫تمكننا دراسة الوظائف الحركية واملعرفية من إقامتها‪،‬‬
‫إذ إنه يوجد ً‬
‫فعل توا ٍز بين الحياة االنفعالية والحياة‬
‫العقلية‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬مرحلة الطفولة الصغرى (من سنتين إىل‬
‫سبع سنوات)‬
‫يسميها البعض باملرحلة الحسية‪ ،‬وهي مرحلة مكملة‬
‫للمرحلة السابقة‪ ،‬تضاف إليها بعض الوضعيات‬
‫واإلدراكات املكتسبة الجديدة أهمها اللغة‪ ،‬حيث‬
‫قادرا بفضل اللغة عىل إعادة بناء أفعاله‬
‫يصبح الطفل ً‬
‫السابقة من خالل وصفها‪ ،‬أو التنبؤ باألفعال القادمة‬
‫من خالل التمثل اللفظي‪ ،‬وتنتج عنه ثالث نتائج‬
‫أساسية للنموالذهني‪:‬‬
‫‪ -1‬إمكانية التواصل بين األفراد‪ ،‬أي البعد االجتماعي‬
‫جان بياجيه‬ ‫محمد الحبيب بلكوش‬
‫لألفعال من خالل االنتقال من التمركز حول الذات‬
‫الالواعية إىل التكيف وفق قوانين التوازن املماثلة التي‬
‫املستوى الحسي‪ -‬الحركي إىل مستوى التفكير‪ ،‬وذلك‬ ‫أصبحت واعية يف ذهن الطفل‪ ،‬يسميها ج‪ .‬بياجيه‬
‫نتيجة التأثير املزدوج للغة والتنشئة االجتماعية‪.‬‬ ‫بالطابع االجتماعي للفعل‪.‬‬
‫ج‪ -‬الحدس‪:‬‬ ‫‪ -2‬استبطان الكالم‪ ،‬أي ظهور التفكير نفسه الذي‬
‫يعطي ج‪ .‬بياجيه للحدس أهمية كبيرة باعتباره مع ًطى‬ ‫يجدد دعامته يف اللغة الداخلية (يتكلم الطفل مع‬
‫أساس متعلقًا بالفعل‪ ،‬ويؤكد بياجيه عىل أن ما يميز‬ ‫نفسه) ونظام العالقات‪ ،‬فهذا التحول يف حد ذاته هو‬
‫تطوير لعملية التفكير وتحول من ذكاء حسي‪ -‬حركي‬
‫الحدس عند الطفل هو افتقاره للحجج والبراهين‬
‫إىل تفكير إدراكي‪ ،‬وذلك بفعل تأثير اللغة والتنشئة‬
‫وعجزه عن تبرير سلوكه وتصرفه‪ ،‬وهذا ناتج عن‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫الخصائص االجتماعية للسلوك خالل هذه السن‪،‬‬
‫‪ -3‬استبطان الفعل‪ ،‬أي كفعل مدرك عقليًّا وليس فقط‬
‫وتمركز الطفل حول ذاته الشيء الذي يجعله ال يميز‬
‫كفعل مدرك حسيًّا‪ -‬حركيًّا كما كان من قبل‪ ،‬وما‬
‫بين وجهة نظره الشخصية ووجهة نظر الغير‪.‬‬
‫ينطبق عىل التفكير ينطبق كذلك عىل السلوك واألفعال‪،‬‬
‫وتتميز هذه املرحلة بتواجد حالتين تميز الطفل يف‬ ‫حيث يبدأ الطفل عىل إدماج املعطيات يف أناه ونشاطه‪،‬‬
‫هذه املرحلة‪:‬‬ ‫مما يجعل هذا االستعاب املتمركز حول الذات يميز‬
‫‪ -1‬الذكاء العميل املحض‪.‬‬ ‫بدايات التفكير لدى الطفل وكذا تكيفه االجتماعي‪.‬‬
‫‪ -2‬حالة التفكير الذي يهدف إىل املعرفة عىل املستوى‬ ‫خصائص مرحلة الطفولة الصغرى‪:‬‬
‫التجريبي‪.‬‬ ‫أ‪ -‬الطابع االجتماعي للفعل‪:‬‬
‫متقدما عىل مستوى الفعل أكثر مما هو‬
‫ً‬ ‫فالطفل يكون‬ ‫تتضح أهميته بظهور اللغة التي تسهل عملية‬
‫عليه يف مستوى الكالم‪.‬‬ ‫نظرا لتمركز‬
‫التواصل‪ ،‬وإن كان ذلك بشكل جزئي‪ً ،‬‬
‫د‪ -‬الحياة االنفعالية‪:‬‬ ‫الطفل حول ذاته بشكل ال شعوري وعدم التمييز بين‬
‫تتميز هذه الخاصية بتطورها عن املرحلة السابقة من‬ ‫األنا والعامل الخارجي‪.‬‬
‫خالل ثالثة جوانب‪:‬‬ ‫ب‪ -‬تكوين التفكير‪:‬‬
‫‪ –1‬املشاعر املتبادلة بين األفراد املرتبطة بالتكييف‬ ‫انطالقًا من التغيرات العامة للفعل يتحول الذكاء من‬
‫‪32‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫القاعدة التي تربط األطفال فيما بينهم أو تلك التي‬ ‫االجتماعي لألفعال‪.‬‬
‫تجمع الطفل بالراشد كالشعور بالعدل‪ ،‬إذ يشكل‬ ‫‪ –2‬ظهور املشاعر األخالقية الحدسية الناشئة عن‬
‫شعورا متمي ًزا بين األطفال األصدقاء‪ ،‬ويؤثر عىل‬
‫ً‬ ‫العالقات بين األشخاص الراشدين واألطفال‪.‬‬
‫عالقاتهم بالراشدين إىل حد أنه يغير عالقات األطفال‬ ‫‪ –3‬ضبط االهتمامات والقيم التي تكون مرتبطة بتلك‬
‫بآبائهم يف غالب األحيان‪.‬‬ ‫عموما‪.‬‬
‫ً‬ ‫املنتمية للتفكير الحدسي‬
‫هـ‪ -‬اإلرادة‪:‬‬ ‫ثال ًثا‪ :‬مرحلة الطفولة (‪ 7‬سنوات‪ 12 -‬سنة)‬
‫إن تطور الضوابط التي تتحكم يف النزوات يجعلها‬ ‫حاسما بالنسبة للنمو‬
‫ً‬ ‫تشكل هذه املرحلة منعطفًا‬
‫(الضوابط) تحقق توازنها النهائي ومنه تخلق لنا‬ ‫الذهني يسميها العديد من علماء النفس واالجتماع‬
‫اإلرادة‪ ،‬فهي املعادل الوجداني الحقيقي لعمليات‬ ‫نظرا لطبيعة الطفل يف هذه املرحلة‬ ‫باملرحلة الحسية‪ً ،‬‬
‫العقل‪ ،‬وتتحقق وظيفتها عن طريق النشاط الفاعل‬ ‫وما تتضمنه‪ ،‬سواء يف جانبه العقيل الذكائي أو‬
‫للمشاعر األخالقية‪.‬‬ ‫االنفعايل العاطفي يف عالقة طفل بوسطه املجتمعي‪.‬‬
‫راب ًعا‪ :‬مرحلة املراهقة‪:‬‬ ‫تتميز هذه املرحلة بمجموعة من الخصائص‪:‬‬
‫تعد هذه املرحلة من أصعب املراحل لكونها تتسم‬ ‫أ– تقدم السلوك وتكيفه االجتماعي‪:‬‬
‫ببعض االضطرابات املؤقتة يف التوازن‪ ،‬مما يعطيها‬ ‫من خالل الحوار االجتماعي يف مستوى اللغة‬
‫صبغة انفعالية مميزة بشكل كبير لهذه املرحلة‪،‬‬ ‫والتفكير وكذلك العالقات التي يبنيها الطفل مع‬
‫عىل أن هذا ال يمنع أنه بالرغم من هذه املظاهر فإن‬ ‫محيطه يف جانبه السلوكي والفعيل‪.‬‬
‫املكتسبات الخاصة التي تتحقق يف هذه املرحلة تضمن‬ ‫ب– تقدم التفكير‪:‬‬
‫للتفكير توازنًا أرقى من الذي تحقق خالل املراحل‬ ‫حين تبدأ أشكال السببية وتصور العامل املتمركزة‬
‫العمرية السابقة من حياة الطفل‪ ،‬ومنه فإن أهم‬ ‫أشكال جديدة للتفسير‬‫ً‬ ‫حول الذات يف الزوال‪ ،‬فإن‬
‫الخصائص التي تتميز به هذه املرحلة‪:‬‬ ‫تبرز نتيجة لذلك‪ ،‬وتكون منبثقة عن سابقتها‪ ،‬إما‬
‫التفكير وعملياته‪:‬‬ ‫لتعزيزها أو تصحيحها يف حالة السلوكات الخاطئة‪.‬‬
‫إذا كان الطفل قبل هذه املرحلة يفكر بشكل ملموس‬ ‫ج‪ -‬العمليات العقلية‪:‬‬
‫يف القضايا التي تواجهه وبالقدر الذي يطرح فيه‬ ‫إذا كان الحدس يمثل الشكل األعىل للتوازن الذي‬
‫الواقع تدريجيًّا هذه القضايا‪ ،‬فإن املراهق باملقابل‬ ‫يصل إليه التفكير الخاص بالطفولة‪ ،‬فإن ما يقابله‬
‫يهتم بالقضايا غير اآلنية التي ال عالقة لها بالواقع‬ ‫عىل مستوى التفكير الالحق عن سن السابعة هو‬
‫املعيش اليومي‪ ،‬أو التي تتوقع بشكل ساذج أحوال‬ ‫العمليات‪ ،‬أي بناء العمليات‪ ،‬وتختلف هذه العمليات‬
‫العامل املستقبلية املتوهمة يف الغالب‪.‬‬ ‫بحسب تنوع مجالها‪ ،‬فهناك عمليات منطقية كربط‬
‫مظاهر الحياة االنفعالية للشخصية داخل العامل‬ ‫املقدمات بالنتائج‪ ،‬وهناك عمليات جبرية (الضرب‪،‬‬
‫االجتماعي للراشدين‪:‬‬ ‫القسمة‪ )..‬وهناك عمليات هندسية وأخرى زمنية‪..‬‬
‫تتأكد الحياة االنفعالية للمراهق من خالل االكتساب‬ ‫إلخ‪.‬‬
‫املزدوج للشخصية (العقيل والوجداني) وإدماجها‬ ‫د‪ -‬الوجدان (اإلرادة واملشاعر األخالقية)‪:‬‬
‫داخل مجتمع األشخاص الراشدين‪ ،‬ويتحقق هدا‬ ‫تكمن أهميتها يف فهم التحوالت العميقة التي تحدث‬
‫االندماج عن طريق التفكير‪ ،‬بل عن طريق الخيال‪ ،‬ما‬ ‫عىل املستوى االنفعايل لدى الطفل خالل هذه املرحلة‬
‫دام هدا النوع من التفكير يبتعد أحيانًا عن الواقع كما‬ ‫من خالل عالقته باآلخرين‪ ،‬سواء بين الطفل وأقرانه‬
‫سبق ذكر ذلك‪.‬‬ ‫أو بينه وبين الراشدين‪ ،‬كالشعور باالحترام املتبادل‬
‫الذي يوجد يف كل صداقة تقوم عىل التقدير‪ ،‬يؤدي يف‬
‫خاتمة‬ ‫األخير إىل تنظيم جديد للقيم األخالقية‪ ،‬ويفضي إىل‬
‫استقالل ذاتي نسبي للضمير األخالقي لدى الفرد‪،‬‬
‫إن املراحل التي تطرق لها بياجيه يف نظريته‪ ،‬ومن‬ ‫فالتحوالت الوجدانية املرتبطة بالقواعد‪ ،‬سواء منها‬
‫‪33‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫والعلمية التي تتقدم بشكل متواصل ومطرد يف عامل‬ ‫خالل التجارب والدراسات التي أجراها‪ ،‬يستهدف‬
‫دائم التغيير والتجديد‪ ،‬هذا التوافق التربوي هوأنبل‬ ‫من ورائها استخدام أفضل الوسائل التربوية التي‬
‫غاية للتربويين عىل مدى العصور‪.‬‬ ‫يمكن التعامل بها مع األطفال‪ ،‬واتضح ذلك عن طريق‬
‫ومنه شكلت أبحاث ج‪ .‬بياجيه مساهمة هامة ومتميزة‬ ‫فهم املرحلة العمرية للطفل واملعلومات التربوية التي‬
‫يف مجال علم النفس التربوي‪ ،‬وكذلك خزانًا ال ينضب‬ ‫ً‬
‫فمثل ال يمكن لنا أن نعلم األطفال يف عمر‬ ‫تناسبها‪،‬‬
‫بحيث إن أبحاثه املتعلقة بتطور الذكاءات وتكون العقل‬ ‫من ‪ 10 : 3‬سنوات املفاهيم املجردة مثل الصدق أو‬
‫واكتساب األدوات الذهنية واملفاهيم ومراحل النمو‬ ‫األمانة أو الحرية‪ ..‬وغيرها من املفاهيم املجردة‪ ،‬ألنها‬
‫العقيل وبناء الشخصية وتشكل القيم األخالقية‪..‬‬ ‫تتجاوز قدراته اإلدراكية‪ ،‬ويف املقابل يمكن استخدام‬
‫وغيرها‪ ،‬لتعد بحق إسهامات ذات مكانة متميزة‬ ‫أساليب تربوية تالئم قدراته العقلية والحسية‬
‫يف الفكر العلمي املعاصر‪ ،‬إذ بفضلها تتحقق غايات‬ ‫ومفاهيم تحاكي عمره مثل استخدام القصص أو‬
‫العمل التربوي‪ .‬فالعلوم السيكولوجية واالجتماعية‬ ‫الحكايات املصورة أو التوجيهات التربوية املباشرة‬
‫تسبران أغوار الكائن البشري البيولوجية والنفسية‬ ‫ألمثلة محسوسة يف حياة الطفل‪ ،‬وبالتايل فان األمر‬
‫واالنفعالية‪ ،‬وكذا مراحل نموها وقوانينها وتفاعالتها‬ ‫يتطلب من التربويين والقائمين عىل العملية التربوية‬
‫مع املحيط االجتماعي والثقايف‪ ،‬ومنه فالدراسات‬ ‫‪-‬إذا أرادوا النجاح يف تحقيق األهداف التربوية‬
‫النفسية لها دور فعال يف العملية التربوية ملا لها من‬ ‫املبتغاة‪ -‬تطبيق مبادئ هذه النظرية‪ ،‬أن يولوا أمرين‬
‫انعكاس ايجابي عىل تنمية القدرات الذهنية للطفل‬ ‫جل اهتمامهم هما‪ :‬عمر الطفل‪ ،‬وطبيعة املادة التربوية‬
‫وتحسين مهاراته‪.‬‬ ‫التي يريدون نقلها له‪ ،‬فإذا كان هناك تناسب طردي‬
‫لهذا يبدوأن الهدف من التربية والتكوين يتجاوز‬ ‫ً‬
‫وقابل للتطبيق‪،‬‬ ‫واضحا‬
‫ً‬ ‫بينهما يكون الهدف التربوي‬
‫الكتابة والقراءة فقط‪ ،‬إذ تعد الدراسات النفسية‬ ‫بما يعطي نتيجة تربوية ملموسة‪ ،‬وهو بالتأكيد‬
‫واالجتماعية من األسس الضرورية لنموالوظائف‬ ‫يصب يف خدمة الهدف العام من العملية التربوية التي‬
‫الذهنية لكل إنسان‪ ،‬وتمكينه من املعارف واملهارات‬ ‫يسعى جميع التربويين ‪-‬ويحرصون أشد الحرص‪-‬‬
‫عنصرا يتفاعل مع محيطه بشكل‬ ‫ً‬ ‫والقيم التي تجعله‬ ‫عىل نقلها بأساليب علمية حديثة ومناسبة لألجيال‬
‫إيجابي‪ ،‬ومساهمًا يف إغناء مجتمعه‬ ‫الالحقة‪ ،‬مواكب ًة لطبيعة العصر واملرحلة الحضارية‬

‫‪ -8‬نفسه‪ ،‬ص‪.17‬‬ ‫الهوامش‪:‬‬


‫‪ -9‬نفسه‪ ،‬ص‪.18‬‬
‫‪ -10‬نفسه‪ ،‬ص‪.22‬‬ ‫‪ -1‬عبد الفتاح الحجمري‪ ،‬عتبات النص‪ :‬النص‬
‫‪ -11‬نفسه‪ ،‬ص‪.28‬‬ ‫والداللة‪ ،‬منشورات الرابطة الدار البيضاء ط ‪/1‬‬
‫‪ -12‬نفسه‪ ،‬ص‪.31‬‬ ‫‪.1996‬‬
‫‪ -13‬نفسه‪ ،‬ص‪.40‬‬ ‫‪2- http://www.fondationjeanpiaget.ch/‬‬
‫‪ -14‬نفسه‪ ،‬ص‪.41-40‬‬ ‫‪3- https://ar.wikipedia.org`/piageat‬‬
‫‪ -15‬نفسه‪ ،‬ص ‪.51‬‬ ‫‪ -4‬جان بياجيه‪ ،‬التربية والنمو الذهني لدى الطفل‬
‫‪ -16‬نفسه‪ ،‬ص‪.73 -70‬‬ ‫(دراسات يف علم النفس التكويني) ترجمة محمد‬
‫‪ -17‬نفسه‪ ،‬ص‪.72‬‬ ‫الحبيب بلكوش‪ ،‬دار النشر الفنك‪ ،‬مطبعة النجاح‬
‫‪ -18‬نفسه‪ ،‬ص‪.74‬‬ ‫الجديدة‪ ،‬الرباط ‪ ،1993‬ص‪.28‬‬
‫‪ -19‬نفسه‪ ،‬ص‪.77 -76‬‬ ‫‪ -5‬نفسه‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫‪ -20‬نفسه‪ ،‬ص‪.81‬‬ ‫‪ -6‬نفسه‪ ،‬ص‪.12‬‬
‫‪ -21‬نفسه‪ ،‬ص‪.84‬‬ ‫‪ -7‬نفسه‪ ،‬ص‪.1‬‬
‫‪34‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫حمادة محمد‬
‫(المغرب)‬

‫سيميائيات‬
‫«المتعة اليقظة»‪..‬‬
‫عند عبد الفتاح كليطو‬
‫لقد ظل البعد الفكري والثقافي حاض ًرا وبقوة‪ ،‬غير أن البعد المفاهيمي‬
‫غائب بشكل واضح‪ ،‬بينما تظل المتعة اليقظة موج ًها كتاب ًّيا وقرائ ًّيا في‬
‫كتاب‪ ،‬في الممارسة النقدية عند كليطو‪ ،‬ولعل هذا البعد الفكري المتعدد‬
‫هو ما مكَّن كليطو من صياغة ونحت مفاهيم مضمرة تتناسب وطبيعة‬
‫الخطاب السردي‪ ،‬فقد مكنته الخلفية الفكرية‪ ،‬التي استند إليها في‬
‫قراءته‪ ،‬من وضع تجريد صوري للمفاهيم واألدوات لكن بشكل مضمر‪،‬‬
‫حيث ال يجد القارئ خطاطات أو ترسيمات تتميز بالتجريج‪ ،‬لكن النفس‬
‫السردي في النقد ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬يحفظ للفاعلية النقدية حيويتها‬
‫وقوتها المعنوية‪.‬‬

‫عىل بقائها كنظام‪.‬‬ ‫العمل النقدي لعبد الفتاح كليطو ضمن ما‬
‫لهذا يعتبر املساس بهذا النسق ‪-‬أقصد العمود‬ ‫يسمى بالنقد األدبي وتحليل أنظمة السرد‬ ‫يندرج‬
‫مسا بأمن الذات العربية‬
‫الشعري أو الخروج عنه‪ًّ -‬‬ ‫القديم‪ ،‬ذلك أنه يتعرض ملوضوع شائك‬
‫واستقرارها‪ ،‬وعىل أساس هذا الفهم فقد خلخل‬ ‫وهو قضية املؤلف يف الثقافة العربية‬
‫مترجم كليلة ودمنة وكذلك كتاب املقامة بنظام‬ ‫وعالقته الجدلية بالقارئ‪ ،‬وخاصة يف شق‬
‫الشعر وأمنه عندما خلخل تمثالته حول «املؤلف»‬ ‫التلقي‪ ،‬إذ عىل امتداد تاريخ اإلبداع العربي‬
‫يف الثقافة العربية‪ ،‬وهدم نسق األوهام واألساطير‬ ‫يسعى املبدعون العرب إىل إبعاد كل كتاب مؤلفه‬
‫املؤسسة ألنصار الشعر‪.‬‬ ‫مجهول‪.‬‬
‫أفضل استعمال كلمة «املتعة اليقظة» يف التعاطي‬ ‫تلتقي مركزية الذات العربية بالدوال الهامشية‬
‫مع مؤلفات عبد الفتاح كليطو‪ ،‬للداللة عىل تفرد‬ ‫خاصا‬
‫ًّ‬ ‫نظاما‬
‫ً‬ ‫للكتابة السردية يف كون منها يؤسس‬
‫املمارسة النقدية عنده يف تعاطيها مع التراث‬ ‫به‪ ،‬فالثقافة العربية تؤسس لنظام من التمثالت‬
‫السردي القديم‪ ،‬الشك أن قارئ املقال سيلمس‬ ‫واألفكار والحقائق حول الذات الشاعرة‪ ،‬أو «األنا‬
‫تقار ًبا بين عبد الفتاح كليطو وبين سميائيين كبار‬ ‫الشاعرة»‪ ،‬وحول اآلخر‪ ،‬كما أشار إىل ذلك عبد‬
‫أمثال محمد مفتاح وعبد اللطيف محفوظ وعبد‬ ‫اهلل الغذامي يف كتابه النقد الثقايف‪ ،‬وتحافظ الثقافة‬
‫اهلل بريمي‪ ،‬فهؤالء يؤكدون عىل ضرورة اتخاذ‬ ‫العربية من خالل مركزية الشاعر وثقافة الشعر‬
‫‪35‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫الحيطة والحذر من الرموز‬


‫والعالمات سواء اللغوية‬
‫أو غير اللغوية من خالل‬
‫مساءلتها وتفكيكها‪ ،‬فهي‬
‫أدوات لحجب املعنى‬
‫وستره أكثر مما هي‬
‫وسائل وآليات للكشف‬
‫عنه والبوح به‪ .‬لهذا‬
‫يتطلب من القارئ سبر‬
‫أغوارها وتبيان جانبها‬
‫الباطني وجورها املستور‪.‬‬
‫انكب عبد الفتاح كليطو‬
‫عىل نقد األشكال السردية‬
‫القديمة يف جانبها الثقايف‬
‫والبنيوي‪ ،‬وهي تعني‬
‫عبد الفتاح كليطو‬ ‫عبد اهلل الغذامي‬ ‫محمد مفتاح‬ ‫عنده الوعي بأنظمة‬
‫الثقافة الهامشية يف‬
‫مقابل الثقافة املركزية التي تعتبر الكتابة السردية‬
‫واملقتول «يمليه االحتراس والخوف من املقايضة‬ ‫وعيًا مش َّو ًها وزائفًا ومقلو ًبا‪ ،‬بل هي تبرير فكري‬
‫واالضطهاد»‪.‬‬ ‫هامشي للطبقات االجتماعية الفقيرة وللحيلة‬
‫هذا الخوف واالضطهاد حسب الناقد عبد التفاح‬ ‫وأشكال االنحراف السائدة يف املجتمع‪ .‬فكيف‬
‫كليطو راجع إىل أن املكتوب عكس الشفوي‪ ،‬فالكتابة‬ ‫اشتغلت ثقافة الهامش يف حقل األدب العربي؟‬
‫تعتبر حجة عىل صاحبها‪ ،‬وقد تؤدي به إىل الهالك‬
‫إذا فهمت بطريقة غير صحيحة‪ ،‬غير أن اهتمام‬ ‫عبد الفتاح كليطو وإشكالية الهامش يف‬
‫الناقد كليطو بتلقي الكتابة السردية القديمة راجع‬
‫قراءة السرد العربي‬
‫جازما أنه لن يضيف شيئًا‬
‫ً‬ ‫باألساس إىل أنه يعتقد‬
‫إن هو تحدث يف الكتابة الشعرية‪ ،‬ألن الشعر‬ ‫يعتبر فعل القراءة فعل مشاركة؛ أي تفاعل‪،‬‬
‫بالنسبة له قد قيل فيه الكثير والكثير‪ ،‬لذلك يمم‬ ‫وهي فعل يسبق الكتابة‪« ،‬عىل اعتبار أن الشيء‬
‫وجهه صوب السرد القديم باعتباره يؤدي وظيفة‬ ‫األساسي يف كل عمل أدبي هو التفاعل وبينه‬
‫الطبقة الهامشية‪ ،‬وهي وظيفة ثقافية وسياسية‬ ‫وبين متلقيه(‪ ،»)1‬إن شرط التفاعل إذن هو أساس‬
‫مثل وجدت‬ ‫قبل كل شيء‪ ،‬وظيفة ثقافية‪ :‬فاملقامة ً‬ ‫العالقة بين املنطوق واملكتوب‪ ،‬بين املتلقي وبين‬
‫للدفاع عن طبقة أو عن مجموعة معينة يف املجتمع‪،‬‬ ‫الكاتب‪ ،‬ولعل الجاحظ فطن إىل هذه النقطة املهمة‬
‫عكس الثقافة العاملة‪ ،‬وهي ثقافة الشعر املوجه‬ ‫عىل مستوى التلقي‪ ،‬لذلك حرص عىل إدخال‬
‫للمركز؛ كمدح األمراء وعلية القوم‪ ،‬كما أن للكتابة‬ ‫عنصر املتعة إىل متنه املقروء‪ ،‬غير أنه حسب الناقد‬
‫السردية وظيفة معرفية وهو ما نجد يف كتاب‬ ‫عبد الفتاح كليطو؛ العالقة بين املؤلف والقارئ‬
‫الجاحظ من خالل التعريف بنسق البخالء وأنساق‬ ‫مبنية عىل العداوة‪ ،‬يقول كليطو يف هذا اإلطار‪ :‬إذا‬
‫اشتغالهم ورؤيتهم للعامل‪.‬‬ ‫سلمنا بأن القارئ عدو‪ ،‬فالنتيجة الحتمية أن كل‬
‫أما الثقافة العاملة؛ أي ثقافة الشعراء يف عالقتها‬ ‫كاتب يف وضعية شهرزاد‪ ،‬وكل قارئ يف وضعية‬
‫بهذه الثنائية؛ مركز وهامش‪ ،‬فهي تتموضع يف‬ ‫شهريار(‪ .»)2‬هذا الصراع بين القطبين‪ ،‬بين القاتل‬
‫‪36‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫أبان عبد الفتاح كليطو عن النوايا املبيتة للثقافة‬ ‫وضعية املركز‪ ،‬وظيفتها األساسية هي سياسية أكثر‬
‫العاملة‪ ،‬ثقافة الشاعر‪ ،‬وهدم نسق الكتابة السردية‬ ‫منها معرفية أو أدبية‪.‬‬
‫التي بنيت عىل التهميش واإلقصاء والشك‪ ،‬حيث رأت‬ ‫تتأسس إذن هذه املسلمة عىل فرضية مفادها أن‬
‫يف املركز كل قيم النبل والكمال‪ ،‬وكل القيم املحمودة‬ ‫الكتابة كظاهرة اجتماعية تؤسس للهامش وللمركز‪،‬‬
‫بينما رأت أن اآلخر (الهامش) الشعبي والتشتت‬ ‫وتظهر فيها الحدود بين ثقافة الهامش وثقافة‬
‫وكتاباته ال ترقى للقراءة وتتضمن كل القيم السلبية‪.‬‬ ‫املركز‪ .‬عىل اعتبار أن أي «منظومة لغوية ما (الشيء‬
‫الذي يعني ليس فقط مفرداتها بل نحوها وتراكيبها)‬
‫املتعة والقراءة عند عبد الفتاح كليطو‬ ‫تؤثر يف طريقة رؤية أهلها للعامل‪ ،‬ويف كيفية‬
‫مفصلتهم له‪ ،‬وبالتايل يف طريقة تفكيرهم(‪.»)3‬‬
‫انتقل كيلطو بالنقد األدبي العربي ‪-‬واملغربي‬ ‫لقد كانت الكتابة الشعرية مسخرة لخدمة الثقافة‬
‫خصوصا‪ -‬من طابعه املفاهيمي إىل طابعه السردي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫العاملة عىل مستويين‪:‬‬
‫وسجل حول السرد العربي مالحظات دقيقة‪ ،‬حيث‬ ‫األول‪ :‬هو إنتاج ثقافة غير شعبية أو هامشية تخدم‬
‫الحظ املفارقة الكبيرة بين األنا واآلخر خاصة يف‬ ‫مصالح النخبة املثقفة‪.‬‬
‫موضوع «الترجمة» كما هو مجسد يف واقع الثقافة‬ ‫الثاني‪ :‬كان ينظر فيها إىل السرد بما هو مركز‬
‫العربية القديمة‪ ،‬وبين التراتبية السياسية بين‬ ‫إلنتاج ثقافة شعبية هامشية موازية‪ ،‬تنتج مؤلفين‬
‫املكتوب والشفوي‪ ،‬ورأى أن الثقافة العربية القديمة‬ ‫منبوذين اجتماعيًّا وثقافيًّا‪.‬‬
‫ال يمكن أن يعاد إحياؤها إال من خالل تحقيق مبدأ‬ ‫األمر الذي تنبه له كاتبو املقامات ومترجمو كلية‬
‫املجاورة بينها وبين الثقافة الغربية‪ ،‬فقارن بين‬ ‫ودمنة الذين فطنوا إىل خطر الكتابة العاملة التي تبتلع‬
‫«املعري ودانتي»‪.‬‬ ‫لغة الهامش‪ ،‬واالبتالع هنا بما هو سيطرة لغة عىل‬
‫يقول عبد الفتاح كليطو‪« :‬قبل بضع سنوات‪ ،‬قد‬ ‫لغة أخرى‪ ،‬هذا االبتالع هو ثقايف بالدرجة األوىل‪،‬‬
‫طلب مني‪ ،‬يف إطار نشاط موسيقي نظم يف مدينة‬ ‫لهذا حرص عبد الفتاح كليطو عند حديثه عن قضية‬
‫ستراسبورغ الفرنسية‪ ،‬أن أقدم مقامات الهمذاني‬ ‫املؤلف والكتابة ‪-‬خاصة السردية القديمة‪ -‬أن يثبت‬
‫لجمهور يتكون من فرنسيين خاصة‪ .‬اعتقدت يف‬ ‫وراء مفهوم االرتياب مفهوم البنية الفوقية‪ ،‬التي‬
‫ومريحا‪ :‬يكفي أن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سهل‬ ‫البداية أن األمر سيكون‬ ‫تعني الكل الثقايف وليس الثقافة العاملة فقط‪ .‬لذلك‬
‫أتحدث عن الكدية التي تشكل املوضوع الرئيس‬ ‫نجد أصحاب املقامة الهامشيين رفضوا التحول‬
‫للمقامات‪ ،‬وأن أبدي مالحظات عامة حول السجع‬ ‫فكرا‬
‫إىل آلة إلنتاج فكر الثقافة العاملة باعتباره ً‬
‫واملحسنات البديعية‪ .‬عىل كل حال لن يحاسبني‬ ‫استيالبيًّا‪ ،‬فأنتجوا بدلها ثقافة شعبية داخل النسق‬
‫أحد‪ ،‬فالجمهور الذي سأخاطبه يجهل ً‬
‫جهل تا ًّما فن‬ ‫الثقايف العربي كلفت بإنتاج األدب الشعبي‪ ،‬كما‬
‫املقامات‪ ،‬بل األدب العربي برمته‪ .‬إنه جمهور هين‪:‬‬ ‫رفضت أن تتحول إىل قصائد تافهة أو إىل دواوين‬
‫ألقي محاضرة تنتهي بتصفيق مهذب‪ ،‬ثم يذهب‬ ‫شعرية تزداد اعتدا ًدا بالنفس وبالثقافة العاملة كلما‬
‫كل واحد يف حال سبيله‪ ..‬فقد ثبت يف ذهني أنه‬ ‫اقتربت من السلطة أو علية القوم‪.‬‬
‫من الواجب إثبات قرابة ما بين الهمذاني ومؤلفين‬ ‫لقد توج املسار املعريف للمؤلف يف الثقافة العربية‬
‫أوربيين(‪.»)4‬‬ ‫‪-‬حسب كليطو‪ -‬باكتشاف سموم الثقافة العربية‪،‬‬
‫إعادة التوازن املختل يف جانب القراءة التي تهتم‬ ‫التي كانت تعتبر فعل الكتابة والتأليف ش ًّكا‬
‫بالشعر وتهمش النثر هو ما يشكل أهمية عند‬ ‫وارتيا ًبا متجس ًدا يف أفكار الثقافة العاملة‪ ،‬فأدرك أن‬
‫الباحث عبد الفتاح كليطو‪ ،‬الذي يجب عليه أن يتحمل‬ ‫طابع التأليف ‪-‬خاصة يف السرد‪ -‬ليس علميًّا بل‬
‫مسؤولية وواجب إعادة التفكير يف السرد العربي‬ ‫إيديولوجيًّا‪ ،‬ويشتد الضغط عىل الكتابة خاصة يف‬
‫القديم وإعادة السرد إىل املركز‪ ،‬وذلك من أجل‬ ‫فروع القص والحكاية املكتوبة واملقامات‪ ،‬وتخف‬
‫اإلسهام فيما يسميه عبد الفتاح كليطو خلق املتعة‬ ‫وطأته يف الخطب والرسائل الديوانية أو غيرها‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫رؤى نقدية‬

‫خصوصا‪،‬‬
‫ً‬ ‫املتعة السردية يف النقد العربي واملغربي‬ ‫اليقظة‪ ،‬وقراءة السرد القديم يف مرآة اآلخر الغربي‬
‫فالناقد مل يتحدث عن املفاهيم والنظريات بل استثمر‬ ‫بناء عىل مبدأ التجاور‪.‬‬
‫املفهوم يف جوهره‪ ،‬فأوضح أن املتعة كامنة يف‬ ‫إذن فالثقافة الغربية حسب كليطو أسست لعالقات‬
‫ثقافة الهامش (السرد القديم) ويف الثقافة العاملة‬ ‫عىل القراءة غير متكافئة مع الشرق‪ ،‬وهذه العالقات‬
‫(ثقافة النخبة‪ ،‬مما يبين أن الناقد عىل اطالع كبير‬ ‫قائمة عىل التفوق وال تقبل االختالف‪ ،‬وقد حاول‬
‫بالنظريات واملناهج النقدية ‪،‬ويمكن أن نجمل ما‬ ‫الناقد كليطو أن يعيد التوازن إىل هذه العالقات‬
‫توصلت له يف النقاط التالية‪:‬‬ ‫الثقافية عن طريق املجاورة‪ ،‬يقول كليطو‪ :‬إن أنجح‬
‫‪ -‬إعادة االعتبار للسرد القديم من طرف باعتباره‬ ‫وسيلة لتقديم مقامات الهمذاني هي مقارنتها‬
‫عنصرا مه ًّما يف فهم الثقافة العربية‪ ،‬وذلك بالجمع‬ ‫ً‬ ‫بالرواية التشردية (أو التسكعية) التي ازدهرت‬
‫بين العناصر السيميائية والبنيوية والتفكيكية وفق‬ ‫يف إسبانيا خالل القرنين السادس عشر والسابع‬
‫استراتيجية تأويلية‪ ،‬إذ ينظر كليطو إىل النص‬ ‫عشر(‪.»)5‬‬
‫السردي عىل أنه بنية ثقافية مكونة من عناصر‬ ‫إن الطابع الشفوي للسرد جعل منه لغة محصورة‬
‫متداخلة وثنائيات متضادة‪ ،‬يجب تحليلها وتفكيكها‬ ‫دائما اإلبقاء عىل‬
‫محليًّا‪ ،‬وقد حاولت الثقافة العاملة ً‬
‫وإعادة ترتيبها وفق التأويل بالصور واستعمال‬ ‫السرد العربي القديم شفو ًّيا‪ ،‬وهي التي كانت وراء‬
‫النص‪.‬‬ ‫اختيار كتابته بالسجع والجناس كما يف مقامات‬
‫‪ -‬تجاوز كليطو الطروحات الغربية وخاصة اللسانية‬ ‫الهمذاني‪ ،‬كي ال يسهل ترجمته‪ ،‬بل قصد تعقيد‬
‫التي تؤكد عىل مبدأ األدبية إىل االنفتاح عىل التيارات‬ ‫عملية الترجمة ونهوض السرد العربي القديم كلغة‬
‫الغربية بأنواعها املتعددة‪ ،‬والتطلع إىل آفاق أرحب‪،‬‬ ‫تداولية عىل املستوى العاملي والعربي‪ ،‬كما ال ننسى‬
‫إذ أصبح معه التناص بمثابة استراتيجية قائمة عىل‬ ‫أن مبدأ التطور غير املكافئ بين الشرق والغرب قد‬
‫التفاعل والتداخل املنهجي‪ .‬إذ يعتبر التناص رؤيا‬ ‫استهدف ابتالع املثاقفة واألدب العربي بصفة عامة‪،‬‬
‫للعامل يعبر بها الشاعر عن أرائه ومواقفه‪.‬‬ ‫فإنه مع عصر التطور الرقمي والحضاري سيكون‬
‫‪ -‬حققت استراتيجية املتعة يف التحليل السيميائي‬ ‫السرد العربي القديم عرضة لالبتالع من قبل الثقافة‬
‫تراكما نوعيًّا من حيث اإلجراءات‬
‫ً‬ ‫للناقد كليطو‬ ‫الغربية التي تغزو نظرياتها املناهج العربية‪.‬‬
‫النقدية والتشاكالت النصية‪ ،‬فالعالقة بين املمارسة‬ ‫وخالصة األمر أننا نلمس شمولية املمارسة النقدية‬
‫النقدية واملرجع هي عالقة موسعة ومتداخلة تقوم‬ ‫عند الناقد عبد الفتاح كليطو؛ الذي ال يكشف عن‬
‫عىل التفاعل‪ ،‬وتعمل عىل تذويب املسافة بين النقد‬ ‫مفاهيمه أو مرجعيته النقدية يف كونه أسس نظرية‬
‫كممارسة‬
‫واعية من جهة‬
‫وبين النظريات‬
‫واملفاهيم النقدية‪.‬‬
‫‪ -‬لقد جعل‬
‫كليطو كل‬
‫عناصر تحليل‬
‫الخطاب‬
‫السردي‪،‬‬
‫أو باألصح‬
‫استراتيجية‬
‫التأويل‪ ،‬مها ًدا‬
‫إلدراك كليات‬
‫‪38‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫مضمرة تتناسب وطبيعة الخطاب السردي‪ ،‬فقد‬ ‫النصوص السردية‪ ،‬بهدف تدشين نظرية شمولية‬
‫مكنته الخلفية الفكرية‪ ،‬التي استند إليها يف قراءته‪،‬‬ ‫تراهن عىل هاجس املتعة اليقظة يف التعامل مع النص‬
‫من وضع تجريد صوري للمفاهيم واألدوات لكن‬ ‫السردي القديم‪.‬‬
‫بشكل مضمر‪ ،‬حيث ال يجد القارئ خطاطات أو‬ ‫‪ -‬تطعيم الدرس النقدي يف مجال تحليل الخطاب‬
‫ترسيمات تتميز بالتجريج‪ ،‬لكن النفس السردي‬ ‫السردي القديم بآليات ومفاهيم جديدة تتجاوز‬
‫يف النقد ‪-‬يف الوقت نفسه‪ -‬يحفظ للفاعلية النقدية‬ ‫النقص الحاد الذي كان يعرفه تحليل الخطاب‬
‫حيويتها وقوتها املعنوية‪.‬‬ ‫السردي‪ ،‬من خالل جعل التشاكل واملتلقي واملؤلف‬
‫لقد حاول كليطو أن يوضح لنا األسس‬ ‫واستعمال النص‪ ،‬والتأويل بالصور‪ ،‬كلها مقومات‬
‫االبستمولوجية التي اعتمد عليها يف تحليل الخطاب‬ ‫نقدية قابلة لالنصهار والتداخل وفق مبدأ االنسجام‬
‫السردي‪ ،‬لهذا أراد أن يضبط املفهوم املركزي‬ ‫النقدي والثقايف‪ ،‬وضمن أفق الرؤية الشمولية‪.‬‬
‫واملشترك بين هذه النظريات‪ ،‬فوجد ما يتعذر تنظيره‬ ‫‪ -‬بهذه الرؤية‪ ،‬تنقل استراتيجية املتعة يف السردي‬
‫ينبغي سرده‪.‬‬ ‫من منظومة فكرية تعبر الكتابة السردية الهامشية‪،‬‬
‫‪ -‬إن استحضار سيرورة السرد والكتابة السردية‬ ‫إىل منظومة قائمة عىل التداخل املنهجي واملعريف‪،‬‬
‫القديمة مكن كليطو من إيجاد مسوغ لفرضيته وذلك‬ ‫ملفوفًا بطابع ممتع‪ ،‬والتي من خاللها يكشف كليطو‬
‫بتتبع سيرورة املتعة يف السرد‪.‬‬ ‫عن مكونات النص السردي‪ ،‬وبها يصير مقرو ًءا‪،‬‬
‫‪ -‬من خالل ما سبق يمكن أن نستنتج أن البناء‬ ‫ويفسر بها باعتبارها استراتيجية محكمة‪.‬‬
‫الهيكيل للممارسة النقدية يتجىل يف مستويين‬ ‫‪ -‬لقد لحظنا أن استراتيجية املتعة قائمة عىل‬
‫مستويات هي كاآلتي‪:‬‬ ‫التعدد يف الرؤيا ويف الزاوية‪ ،‬مفتوحة عىل مجموعة‬
‫أول‪ :‬املستوى التحديدي‪ ،‬يطرح فيه كليطو املناهج‬ ‫ً‬ ‫اإلمكانات واالحتماالت‪ ،‬ويعني أنها منفتحة عىل‬
‫املتعددة‪ ،‬ويبلور بالتدرج وجهة نظر خاصة به ولكن‬ ‫النسبي‪ ،‬وال تسمح باملطلق وهذا راجع إىل كونها‪:‬‬
‫بشكل مضمر‪ ،‬ليعتمدها منطلقًا يف التحليل التطبيقي‬ ‫أول‪ :‬استراتيجية سيميائيات املتعة وليدة ظرفية‬ ‫ً‬
‫للسرد العربي القديم‪.‬‬ ‫تاريخية عرف فيها النقد تنو ًعا عىل مستوى املرجعية‬
‫ثان ًيا‪ :‬املستوى التحلييل‪ ،‬يعالج فيه قضايا شائكة يف‬ ‫واملفهوم‪ ،‬ومن هنا فهي رؤية خارجية وداخلية‬
‫الثقافة العربية‪ ،‬قصد إنتاج معرفة أولية بالخطاب‬ ‫للنص ومتسقة مع نظامها الفكري املتعدد‪ ،‬وكنتيجة‬
‫السردي‪ ،‬وبتناولها بتفكيك بنائها املنطقي وداللتها‬ ‫منطقية لهذا فإنها سوف تكون موضوعية بكيفية أو‬
‫الثقافية‬ ‫بأخرى‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬تسعى استراتيجية سميائيات املتعة لعكس‬
‫املراجع‪:‬‬ ‫نفسها يف النص السردي‪ ،‬فإنها تقتنع بحضور‬
‫التفاعل واالنسجام‪ ،‬إضافة إىل ما تؤديه القصدية‬
‫‪ -1‬فولفغانغ إيزر‪ ،‬فعل القراءة‪ -‬نظرية جمالية التجاوب‬ ‫من غرض يف تحديد طبيعة الخطاب السردي‪.‬‬
‫(يف األدب) ترجمة حميد لحميداني والجاليل الكدية‪،‬‬
‫منشورات مكتبة املناهل‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،1987 .‬ص‪.12‬‬ ‫تحليل الخطاب السردي‪ :‬الخلفية‬
‫‪ -2‬عبد الفتاح كليطو‪ ،‬األدب واالرتياب‪ ،‬دار توبقال‬ ‫املعرفية واملنهجية‬
‫للنشر‪ ،‬الدار البيضاء املغرب‪ ،‬ط‪ ،2013 ،2‬ص‪.10‬‬
‫نقل عن الجابري‪ ،‬خصوصية العالقة بين‬ ‫‪ -3‬آدم شاف ً‬ ‫حاضرا وبقوة‪ ،‬غير‬
‫ً‬ ‫لقد ظل البعد الفكري والثقايف‬
‫الفكر واللغة يف الثقافة العربية‪ ،‬مجلة دراسات عربية‬ ‫أن البعد املفاهيمي غائب بشكل واضح‪ ،‬بينما تظل‬
‫العدد ‪ ،6‬السنة ‪ ،18‬أبريل ‪ ،1982‬ص‪.21‬‬
‫‪ -4‬عبد الفتاح كليطو‪ ،‬لن تتكلم لغتي‪ ،‬دار الطليعة‬ ‫املتعة اليقظة موج ًها كتابيًّا وقرائيًّا يف كتاب‪ ،‬يف‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت ط‪ ،2002 ،1‬ص‪.11‬‬ ‫املمارسة النقدية عند كليطو‪ ،‬ولعل هذا البعد الفكري‬
‫‪ -5‬نفسه‪.‬‬ ‫املتعدد هو ما م َّكن كليطو من صياغة ونحت مفاهيم‬
‫‪40‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫صالح فائق‬
‫(العراق‪ -‬الفلبين)‬

‫قصائد‬

‫مثل‪ ،‬عىل بلب ٍل يغر ُد‪ ،‬وعىل مشاهد‬ ‫ً‬ ‫أثر حريقٍ كبي ٍر عىل وجهي‪ ،‬ربما‬ ‫يف طريقي إىل ملجأ آخر‪ ،‬تفاجئني‬
‫كثيرة من حياتي‪ ،‬منها واح ٌد من‬ ‫هذا ما بقي من منامي ليلة أمس‬ ‫جدران عالية تبدو كبقايا قلع ٍة‬ ‫ٌ‬
‫مساء أمس‪ :‬امرا ٌة بدينة تقف أمام‬ ‫محاصرا‪ ،‬مع‬
‫ً‬ ‫حين وجدتني‬ ‫وتحوم فوقها لقالق‪ .‬بعد مسافة‬ ‫ُ‬
‫تمثال للملكة فكتوريا وتسخر‬ ‫آخرين‬ ‫قطارا‬
‫ً‬ ‫يحيط‬ ‫ً‬
‫هائل‬ ‫ًا‬
‫ق‬ ‫حري‬ ‫ُ‬
‫أصادف‬
‫منها‪ ،‬فتر ُّد عليها امللكة بشتائم‬ ‫مسرح قديم‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫من حريقٍ يف‬ ‫يف عرباته عمال منجم للفحم‬
‫تنسحب البدينة وتعدو‬
‫ُ‬ ‫رهيب ٍة‪،‬‬ ‫األبواب مقفلة‪ ،‬كذا الشبابيك‬ ‫الحجري‪ ،‬يحاولون الخروج من‬
‫مبتعدة عن املكان ناسية حقيبتها‬ ‫الخارج حش ٌد‬
‫ِ‬ ‫والنوافذ‪ ،‬ويف‬ ‫أحب ان أساعدهم لكنها‬ ‫النوافذ‪ُّ ،‬‬
‫أقترب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اليدوية فوق مصطبة‪.‬‬ ‫يرقص‬
‫ُ‬ ‫مبتهجا وبعضهم‬
‫ً‬ ‫يصفق‬
‫ُ‬ ‫خرجت‬
‫ُ‬ ‫مهمة صعبة لكه ٍل مثيل‪:‬‬
‫وأعثر عىل مال فيها‬
‫ُ‬ ‫ألتقطتها‬ ‫أو يغني‪.‬‬ ‫ألبحث عن مكانٍ‬ ‫َ‬ ‫هار ًبا من بيتي‬
‫يكفيني لشهرين يف لندن‬ ‫***‬ ‫أنام فيه بعد أن احت َّل مظل ُّي َ‬
‫ون‬ ‫ُ‬
‫تلتفت امللكة‪ ،‬تومئ يل وهي‬‫ُ‬ ‫يحيريني بخل الشمس معي‬ ‫بلدتي وقت الفجر‪.‬‬
‫أحب‬
‫تبتسم‪ .‬لكني رغم ذلك‪ُّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫تقدم ضياءها وحرارتها إىل‬ ‫***‬
‫النبيذ املعتق‪.‬‬ ‫مزارع الكروم البعيدة‪ ،‬وحاملا‬ ‫منذ الفجر أبحث عن همزة يتيمة‬
‫***‬ ‫َ‬
‫ألحصل عىل حصتي‬ ‫أجلس‬
‫ُ‬ ‫سقطت من إحدى قصائدي‪.‬‬
‫دون ضباب هذا الشتاء لنجمعه يف‬ ‫منهما‪ ،‬تدف ُع إحدى الغيوم نحوي‪،‬‬ ‫***‬
‫أكياس ونبيعه إىل جزر بعيدة‪ ،‬كما‬ ‫فتظللني‪.‬‬ ‫أتطل ُع إىل املحيط‬
‫أيضا بال‬
‫فعلنا يف شتاءات سابقة‪ً .‬‬ ‫أعو ُد إىل البيت دون أن أحصل‬ ‫ماؤ ُه قليل‪ ،‬بال سفن‬
‫أصدقاء جد ًدا كي نمرن أصابعنا‬ ‫يحتاجه ظهري وأطرايف‬ ‫ُ‬ ‫عىل ما‬ ‫وهناك عجو ٌز يمشي فيه‬ ‫َ‬
‫بمصافحات فنكف عن حمل‬ ‫األخرى‪.‬‬ ‫حامل عىل ظهر ِه غيمة صغيرة‬ ‫ً‬
‫مناديل من حانات الضواحي‪،‬‬ ‫***‬ ‫***‬
‫لعازيف بيانو‪ ،‬تعلموا العزف يف‬ ‫أحب النبي َذ املعتَّق‪ .‬أفضلُه‪،‬‬‫أنا ُّ‬ ‫شاهدت يف املرآة‬ ‫ُ‬ ‫صباحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫اليوم‪،‬‬
‫‪41‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعر‬

‫طير ِه الورقي الذي‪ ،‬من رفرفة‬ ‫وإياك أن‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫صنارتك‪،‬‬ ‫ً‬
‫حامل‬ ‫البحر‬ ‫سجون قديمة‪.‬‬
‫جانبي ِه‪ ،‬أظن ُه يتمت ُع بمشاهد‬ ‫يحاضر عن الذئاب‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬ ‫تسمع من‬ ‫***‬
‫ٍ‬
‫طائرات‬ ‫خائف من‬ ‫ٌ‬ ‫مدينة‪ .‬الطف ُل‬ ‫تنشغل بتجميل تمثال لزوجتك‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لتكن مقدس ًة أسماء مخدرات‬ ‫ْ‬
‫لست‬
‫ُ‬ ‫تناور هنا‪ .‬أنا‬ ‫ُ‬ ‫حربية‬ ‫بدأت ذاكرتك تصرخُ يف طريقٍ ‪،‬‬ ‫إذا ْ‬ ‫الخشخاش‪ ،‬الشابو‪ ،‬الكوكايين‪،‬‬
‫كنت مع جحافل‬ ‫أخاف‪ُ :‬‬ ‫ُ‬ ‫مثله‪ ،‬ال‬ ‫انظر حولك‪ ،‬فهناك رؤوس أسماك‬ ‫ْ‬ ‫ومشروبات مثل الجن‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الحشيش‬
‫يعيق‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫فلحين‪ :‬دفعنا جبل كان‬ ‫َّ‬ ‫حين ترى‬ ‫تنح جانبًا‪َ ،‬‬ ‫الويسكي‪ ،‬الفودكا‪ ،‬النبيذ والعرق كبيرة‪َّ ،‬‬
‫وتعلمت‪ ،‬وهذا سبب‬ ‫ُ‬ ‫لقاء كلمتين‬ ‫عيونها تتحرك‪.‬‬ ‫استسلمت إلحداها مرة‬ ‫ُ‬ ‫العراقي‪.‬‬
‫آخر لشجاعتي‪ ،‬من شغيل يف‬ ‫***‬ ‫أخرى والليل يلهث خارج غرفتي‪،‬‬
‫غرس أقالٍم يف وديانٍ ‪ ،‬لسنوات‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يف‬‫ما أريد ُه‪ ،‬أرغب ُه‪ ،‬موجو ٌد َّ‬ ‫وقت أطلب من امرأ ٍة مغرية‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫وبال أمل‪.‬‬ ‫اطلب اي شيء حتى من أمي‬ ‫ُ‬ ‫ال‬ ‫وصلت إىل كشوفات جديدة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫***‬ ‫ٍ‬
‫قميص أو جريدة قديمة‬ ‫ٍ‬ ‫مثل‬ ‫شاعرا سعي ًدا أفضل‬ ‫ً‬ ‫منها أن‬
‫عجيب ٌة جالسة أمامي هي جدول‬ ‫أقف اآلن عن َد‬ ‫عطوف‪ُ :‬‬ ‫ٌ‬ ‫ث َّم إنني‬ ‫من شاع ٍر حزي ٍن أو كئيبٍ ‪ ،‬وأه ُّم‬
‫هرب اليوم من سج ِن قلعة‪-‬‬ ‫هضبةٍ‬ ‫من احتضانِ مدفأ ٍة يف هذا البردِ‬
‫قاموس صمتي مملو ٌء بفراغاتٍ‬ ‫اليوم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وصل‬ ‫مريض‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ألرح ُب بنه ٍر‬ ‫ِّ‬ ‫وكأنها أمك الغائبة منذ سنين‪.‬‬
‫يف أحدها هذا الجدول‪ ،‬ويف آخر‬ ‫الجئًا‬ ‫***‬
‫ينتظرون حول مائدة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫موتى‬ ‫من إحدى القارات!‬ ‫قبل مهرجاني هذا‪ ،‬ويف طريقي‬
‫عشاؤهم أجزاء من سحابة!‬ ‫***‬ ‫عمال للبي ِع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫رأيت‬
‫ُ‬ ‫إىل البيت‪،‬‬
‫***‬ ‫أوان رغبات كبيرة‪ .‬أتقل َّ ُب‬ ‫فات ُ‬ ‫َ‬ ‫ممسوسا يقتلُ‬ ‫ً‬ ‫فتذكرت شعبًا‬ ‫ُ‬
‫اضطجعت فإني أبدو‪ ،‬من‬ ‫ُ‬ ‫إذا‬ ‫يف فراشي وأر ِّدد هذا‪ .‬ال يفي ُد‬ ‫مرت‬‫مل ًكا شا ًّبا بال سبب‪ .‬فجأة ْ‬
‫مستطيل‪ ،‬لكن ال أحد‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رجل‬ ‫بعيد‪،‬‬ ‫أصلك وأخطاءك‬ ‫َ‬ ‫تمحص‬ ‫َ‬ ‫أن‬ ‫أسراب طيو ٍر بدينة وبلُحى‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يعرف ما يف أعماقي‪ :‬أزقة عراقية‬ ‫ُ‬ ‫مهرجين‬
‫َ‬ ‫عيشك مع‬ ‫َ‬ ‫لتفهم سبب‬ ‫َ‬ ‫أخفيت‬
‫ُ‬ ‫صدري‪،‬‬ ‫فتح‬ ‫إىل‬ ‫اسرعت‬
‫ُ‬
‫قديمة‪ .‬مهمتي يف هذه األيام مللمة‬ ‫طردوك من‬ ‫َ‬ ‫وصعاليك ألعوام‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فيه كالرينتي ورسال ًة من صديقٍ‬
‫آهات شعبي‪ ،‬من كل البلدان‪ ،‬يف‬ ‫مدينة بعد مدينة ويف ك ِّل مر ٍة‬ ‫لحاف ل ُه‬ ‫ٍ‬ ‫مات يرجوني شراء‬
‫حقيب ٍة‪ ،‬وقراءة قصائدي ألطفال‬ ‫وقفت خارج األسوار لتهنى َء‬ ‫َ‬ ‫وملعقة‪.‬‬
‫وتزين‬
‫ُ‬ ‫مزاج رائع‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مأوى وأنا يف‬ ‫نفسك‪:‬‬‫َ‬ ‫***‬
‫رأسي خرزات مندائيين يختبئون‪،‬‬ ‫مسرح‬
‫ٍ‬ ‫تجدك عىل‬ ‫َ‬ ‫ترف ُع بصرك‪،‬‬ ‫أكتب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كلماتي غير مرئية وأنا‬
‫منذ أعوام‪ ،‬يف أعماق معجم‪.‬‬ ‫َ‬
‫هناك‬ ‫وليس‬ ‫َ‬ ‫ومفتوح‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مدر ٍج‬ ‫َّ‬ ‫أسمعها وسط هذه الغرفة فإذا هي‬
‫***‬ ‫غيرك‪.‬‬ ‫كثير من‬ ‫ٌ‬ ‫من فم امراتي النائمة‪.‬‬
‫أصل إىل‬ ‫َ‬ ‫أتخطى قبرات قريتي كي‬ ‫***‬ ‫ماضي يف هذه الكلمات‪ .‬قبل أيام‬ ‫َّ‬
‫تنتحب وسط أملحي ِط وهي‬ ‫ُ‬ ‫سفين ٍة‬ ‫تنام املدين ُة أمشي عىل‬ ‫ُ‬ ‫حين‬ ‫هضبة‪،‬‬ ‫إىل‬ ‫ليرافقني‬ ‫ًا‬
‫ذ‬ ‫قنف‬ ‫رجوت‬ ‫ُ‬
‫أجلس فيها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أذهب إليها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فارغة‪.‬‬ ‫بيوت وأبنية‪ ،‬باحثًا عن‬ ‫ٍ‬ ‫سطوح‬
‫ِ‬ ‫خائف وإنما ال أذهب‬ ‫ٌ‬ ‫ليس الأني‬
‫وألحظ األفق من هناك‬ ‫ُ‬ ‫فتصمت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫غيوما‬
‫ً‬ ‫هناك أرى‬ ‫َ‬ ‫هوا ٍء نقي‪ .‬من‬ ‫بعي ًدا بال رفيق‪ .‬ظيل ال يكفيني‪:‬‬
‫يشب ُه ابتسامة أمي‪.‬‬ ‫عزلتي محصنة بجدا ٍر من هواء‪ ،‬جالسة يف حدائق‪ ،‬وعند أزق ٍة‬
‫***‬ ‫ٍ‬
‫تأمالت‬ ‫رومانية الطراز غارق ٌة يف‬ ‫يلعب‬‫ُ‬ ‫ومن ثقبٍ فيه أشاهد ثعلبًا‬
‫فراش داىفء‬ ‫ٌ‬ ‫كل ما أحتاج ُه اآلن‬ ‫بدل أن تتعل َّ َم التلويح‬ ‫الهوتية‪َ ،‬‬ ‫مع أيتا ٍم‪ ،‬وغرا ًبا مشنوقًا يتدىل‬
‫قضيت يومي أجم ُع مفاتيح‬ ‫ُ‬ ‫ألسرابِ طيو ٍر تهاجر‪.‬‬ ‫من ربطة عنق‪.‬‬
‫مبعثرة‬ ‫***‬ ‫***‬
‫سقطت‪ ،‬ليلة أمس‪ ،‬من مجر ٍة‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ص‬ ‫يمكنني‪ ،‬يف هذا العمر‪ ،‬تق ُّم َ‬ ‫مهموم فان‬ ‫ٌ‬ ‫أيها الرجل‪ ،‬إذا أنت‬
‫ساعدني كلبي بلسان ِه الطويل‬ ‫يسحب‪ ،‬بقلقٍ ‪ ،‬خيط‬ ‫ُ‬ ‫حال طف ٍل‬ ‫اذهب إىل‬ ‫ْ‬ ‫ستمر يف بط ٍء‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫أيامك‬
‫‪42‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫مؤمن سمير‬

‫َجناحات هاربة‬

‫ماش وال راكض‪،‬‬‫صرت ورقة شجر ال تثير انتباه ٍ‬ ‫ُ‬ ‫العائ ُد من الحرب‬
‫روح ِه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫منتصرا عىل ظالم‬
‫ً‬ ‫ا‬ ‫درويشً‬ ‫كان‬ ‫لو‬ ‫حتى‬
‫بعينين تضيئان‪..‬‬ ‫أمشي ب ِظ ِّل‬
‫ْ‬
‫وأنعي أبي برقبتي‬
‫غيو ٌم عىل نافذة القطار‬ ‫ملَّا تدور خلف ك ِل طيفٍ‬
‫هارب‪..‬‬
‫ليست مجرد ذراع مقطوعة‬ ‫لك َّن جلدي يخذلني‬
‫إنها رائح ٌة كانت تتمشى يف جسدها‬ ‫كلما يمر الظالم عبره‬
‫وتحفر القنوات والترع‬ ‫يصحو يف صندوقه‬
‫الشمس ب َد َّق ِة إصبع‪..‬‬
‫َ‬ ‫وتصطا ُد‬ ‫يعبر‬
‫َ‬ ‫ويس ُّد النوافذ كي‬
‫ليست مجرد سجادة‬ ‫بسالم‪..‬‬
‫حضن بليغ‬
‫ٌ‬ ‫إنها‬ ‫يفتح القلوب عىل مصراعيها‬ ‫ُ‬
‫تلحفت به األميرة‬ ‫بشرط أن تُد َفن مفاتيح القلوب‬
‫بعد الفخ األخير‪..‬‬ ‫يف أي نظر ٍة زائغة‪..‬‬
‫لسنا مجرد ُد َمى‬
‫نحن ِظ ٌ‬
‫الل‬ ‫ُ‬ ‫عند حافة الكوب‬
‫نحن حكايات‪..‬‬ ‫ُ‬
‫ٌ‬
‫درويش َج َّوال‪،‬‬ ‫البعض عن شمس التبريزي إن ُه‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫قال‬
‫هوا ُء ُشرفتنا الجديدة‬ ‫ينطق بجمل غامضة وأحيانًا هرطوقيه‪ ..‬هذا البعض‬ ‫ُ‬
‫عيني تلمعان فجأة وجسدي‬ ‫َّ‬ ‫األقل هو الذي جعل‬
‫رما ُد زهورِك‬ ‫تنسرب‬
‫ُ‬ ‫ُيستثار‪ ..‬يبدو أن الهرطقة تملك جناحات‬
‫رما ُد الصورة الكاذبة‬ ‫وميضا‪ ،‬يجم ُع بين رقة املالك وعزيمة‬
‫ً‬ ‫يل فأغدو‬‫إ َّ‬
‫رما ُد أبي‬ ‫الشيطان‪ ..‬بينما األكثرية ملَّا قالت إن شمس هو‬
‫رما ُد التلويحة األخيرة‬ ‫يف إال قلبي‪ ،‬وبعدها‬ ‫حامل النور والبهاء مل يرتعش َّ‬
‫‪43‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعر‬

‫رما ُد الصوت املختبئ تحت الشجرة‬


‫رما ُد الطائر املخنوق يف الحكاية‬
‫رما ُد الشبح‬
‫الج َّدة‬
‫رما ُد صناديق َ‬
‫رما ُد ضحك ٍة تتجولُ يف املمرات‬
‫رما ُد الحضن الوحيد‬
‫رما ُد الحروب‬
‫رما ُد ُس َّكر ٍة يف كوبٍ ميت‬
‫بين ِظ ٍّل ِ‬
‫وظل‪..‬‬ ‫رما ٌد يذوي َ‬

‫تع ُّقل‬
‫كلما يجئ اللي ُل لحيِّنا‬
‫أفتح الباب‬
‫ال ُ‬
‫إذ ربما تقرر املالئكة‬
‫أن تهرب من املراقبة‬
‫فتلهث وتفيق من الحكمة‬
‫جوار صناديقي‪..‬‬
‫أو حتى أن تتلصص‬
‫عيل قلبي‬
‫قتلت ِظاليل‬
‫ُ‬ ‫كعادتها منذ‬
‫وصرت هوا ًء‬
‫ُ‬
‫أخ ُّف من األحالم‪..‬‬‫َ‬
‫‪44‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫سمر الشين‬

‫حبيبي يخبئ حض ًنا‬

‫صباحا‬
‫ً‬ ‫إنَّها الثانية‬
‫بالجوع‬
‫ِ‬ ‫أشعر‬
‫ُ‬
‫وحبيبي يخبئ يف فم ِه قبل ًة طيب ًة‬
‫‪-‬أعرف مذاقها جي ًدا‪-‬‬
‫شهي‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫ويف دوالب ِه خوخٌ‬
‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫هذه األيام يقرصني الجوع بالليل‬
‫واملسافة ‪-‬حتى أصل ملوعدنا القادم‪ -‬بعيدة‪.‬‬
‫إنَّني اآلن جائع ٌة‪ ،‬وخائف ٌة‬
‫وحبيبي يخبئ خلف صوت ِه بيتًا‪ ،‬وجيشً ا‬
‫بدك يا غصن البان‪ ،‬جوه عيوني بخبيكي‪،‬‬ ‫“لو ِ‬
‫واغزل ل ِك من نور الشمس‪ ،‬إسواره وحطا بايديكي»‬
‫صوت ُه وهو يغني‪ ،‬يا قوة اهلل!!‬
‫ليبارك البستان الذي زرعه صوته‬ ‫َ‬ ‫لو أنَّه يأتي إ َّ‬
‫يل؛‬
‫يل!‬
‫ال‪..‬‬
‫ليبقَ حبيبي مكانه‬
‫سأحمل الحديقة كلها‪ ،‬وأذهب إليه‬
‫أفرط عىل مه ٍل‪ ،‬زهورها يف ِحجره‪.‬‬
‫إنَّني اآلن جائع ٌة‪ ،‬وخائف ٌة‪،‬‬
‫و»بردانة»‬
‫وحبيبي يخبئ خلف معطفه حضنًا‬
‫الطرق كلها عار َّية‬
‫وتشعر بالبر ِد‬
‫حين أص ُل إلي ِه؛ ستسبقنِي ‪-‬بنت الكلب‪ -‬وترتدي ِه‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعر‬

‫صليحة نعيجة‬
‫(الجزائر)‬

‫حمى‬

‫ملاذا أبرمج رحلة للبكاء‬ ‫أسير حافية القلب إال من الحلم‬


‫أم ثمة حج املقلتين‬ ‫أقتفى سر األبواب‬
‫وطقوس العابرين‬ ‫أرسم بيدي خرائطه‬
‫الوافدين لصدر الربوة‬ ‫وأؤرخ لرحلة بعيدة األنفاس إال منى‪..‬‬
‫من تراني أعانق عند سفح الفكرة‬ ‫أدغدغ سفري األول‬
‫وأنا أجهش بالبكاء؟‬ ‫مهد البدايات‬
‫من تراني أتهجى حروفه ألصطاد أمل اللحظة األوىل‬ ‫منحى اإللياذة‬
‫وأرنو لرونق املدينة‬ ‫أمحو أعباء الخوف من وعورة التضاريس‬
‫تودعها قرون‬ ‫أعبد الطريق إىل األخاديد الوعرة‬
‫تأبى‬ ‫أزرع بتالت فرح عىل أديم‬
‫ينام عىل ضوء الفكرة‬
‫املوت‬
‫وحلم اإلياب‪.‬‬
‫فما أدراك باالنتحار؟‬
‫املوانئ انتظرت عزوف املطارات‬
‫أمتطى الحلم بعد أربعين سنة‬
‫لالنتقام من وجه العابثين بفرح الخطى‬
‫أستسلم لرعونة املوقف‬
‫وأنا‬
‫تحبس أنفاسي‬ ‫يا أنا‪ ..‬نورسة ال تعترف بالهزائم‬
‫اختنق كلما أبصرت «الحمراء» تدنو‬ ‫وال تستسلم للبيارق‪.‬‬
‫أختنق‬
‫ال أمنع نفسي من البكاء‬ ‫كنت وحدي‬
‫وكيف يل أن أمتنع‬ ‫عىل قراطيس الطفلة أقرأ‬
‫لن أحرمني من النكوص إىل لحظة خالدة‪.‬‬ ‫وأتوق لعمر بعيد‬
‫ربما هو ما تبقى يل‬ ‫يعيد مجد اللحظة‬
‫ألعبر شاطىء الفكرة بأمان‬ ‫عىل صدرها‬
‫الدمع وقود الرحلة‪..‬‬
‫إنها دموع الفرح‬ ‫وزفرة تشق الصدر بالنحيب‬
‫‪46‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫ريهام عزيز الدين‬

‫قصيدتان‬

‫اقتالعها رائقة‬
‫ُ‬ ‫ورؤوس بأعي ٍن ت َّم‬ ‫ٍ‬ ‫أرجل‪،‬‬ ‫‪ -1‬أسورتان من ذهب‬
‫نقضي اليوم بأكمله نلوكُ تاريخَ‬ ‫للت ِّو‪.‬‬
‫العجين‬ ‫ُّ‬
‫تمتلئ العربة‪ ،‬ينسل الجمي ُع‬ ‫ُ‬ ‫شاب تشي به ُسمر ُة الجنوب‬ ‫ٌ‬
‫متأخرا عىل ما َعلِقَ‬ ‫السالم‬ ‫صوف ُيعا ُد نسجها آالف أُلقي‬ ‫ٍ‬ ‫كقطع ِة‬ ‫النظر إىل هاتفه دونًا عن‬ ‫َ‬ ‫يختلس‬
‫ُ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫منِّي وأخي عىل جدران البيت‬ ‫املرات‬ ‫الطريق‬
‫دون أن تستحيل إىل معطف يقي يف السادسة مسا ًء‪ ،‬تستقب ُل أمي‬ ‫ٍ‬ ‫الشوق ُيدير‬
‫ُ‬ ‫حين يستب ُّد به‬
‫ال ِقبلة لتُخبر اهلل بك ِّل شيء‬ ‫برد قلبِه‪.‬‬ ‫أح َدهم َ‬ ‫بصوت قلبه املحترق‬ ‫ِ‬ ‫الكاسيت‬
‫يف السادسة وخمس دقائق‪،‬‬ ‫« ِي ِه ِمك يف إيه»‬
‫أتح َّولُ إىل أسورتين من ذهبٍ‬ ‫يف نهاية الطواف‬ ‫الع َرب ُة التي تحملُنا جمي ًعا‬ ‫َ‬
‫أص ُل إىل بيت أمي‬ ‫يف‬ ‫ُها‬‫ق‬ ‫إحرا‬ ‫سيتم‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫ة‬ ‫خشبي‬ ‫كصلبانٍ‬
‫يستقران حول معص ِمها‬
‫أن صالتَها قد‬ ‫الصوت َّ‬ ‫يخبرها‬ ‫األرضى ت َّم تحويله إىل‬ ‫الطابق‬
‫ُ‬ ‫املحط ِة التالية‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫استُجيبت‬ ‫معدني‬
‫ٍّ‬ ‫خشبي ذي قُف ٍل‬ ‫ٍّ‬ ‫صندوقٍ‬ ‫تتأرجح بين ي َدي السائقِ‬ ‫ُ‬
‫بإمكانها َم ِ‬ ‫صدئ مكتوب عليه «يا رب»‬ ‫الطريق‬ ‫ِ‬
‫وتعرجات‬
‫نحي بال ُكليَّة للغيب‬
‫والغياب‪.‬‬ ‫أتع ُثر يف ورق ٍة بحجم اليد‪:‬‬ ‫ومسيح ض َّل الطريقَ إىل جِ ِ‬
‫ذع‬ ‫ٍ‬
‫تستعير‬ ‫دوما أن‬ ‫اليوم عن حاجتِها‬ ‫َ‬ ‫تعلن البلدي ُة‬ ‫النّخل ِة عله يج ُد ما فقد‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫كما ُيمكنها ً‬
‫لتتكئ عليه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫عمودي الفقري‬ ‫ليمر ساد ٌة ُجدد‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫لتعبيد الطريق‬ ‫طفل ٌة َف َق َدت ُد َّبها املُفض َّل للت ِّو‬
‫يف ك ِّل مر ٍة تأتي بلدي ُة الحي‬ ‫أرج ِل الجالسين عن‬ ‫تبحث بين ُ‬ ‫ُ‬
‫وحش ‪ -2‬فلنطهو بداية جديدة‬ ‫ٍ‬ ‫ينسكب سائ ٌل أسو ُد من ف ِم‬ ‫ُ‬ ‫سا َقي والدها الطويلتين‬
‫ذات‬ ‫مض ُغ مسارا ِتنا املُتعرج ِة َ‬ ‫َي ِ‬ ‫تعو ُد بخيبة‪.‬‬
‫العام الجدي ُد تُوصد‬ ‫ُ‬ ‫قبل أن يبدأ‬ ‫فتا ٌة لها عينان بلونِ السبانخ تؤك ُد طفولة‬
‫تنهرنا من‬ ‫ُ‬ ‫املطبخ جي ًدا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫باب‬
‫أمي َ‬ ‫محاوالت الهرب األوىل‪،‬‬ ‫للصوت أنَّها يف الطريق إليه‬
‫الدخول‬ ‫ما َت َبقى من آثا ِر أحذيتِنا عىل‬ ‫قد يتطلَّب ذلك ساع ًة أو عامين‪.‬‬
‫ِ‬
‫حبات‬ ‫سبع‬
‫َ‬ ‫تخبرنا أنها وضعت‬ ‫ُ‬ ‫يتعرف أح ُدنا فيه عىل‬ ‫َّ‬ ‫طريقٍ لن‬
‫فو ٍل عاري ًة عىل الطاولة‬ ‫اآلخ ِر بع َد اليوم‪.‬‬ ‫نمر عىل صناديقَ ُزجاجية ُ‬
‫تقف‬ ‫ُّ‬
‫قبل اليوم الرابع‪.‬‬ ‫يجب االقتراب َ‬ ‫ُ‬ ‫ال‬ ‫م‬
‫َّ‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ٍ‬ ‫كع‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫رائح‬ ‫البيت‬ ‫من‬ ‫تفوح‬
‫ُ‬ ‫عاريات‬ ‫ء‬
‫ٌ‬ ‫نسا‬ ‫بها‬
‫يف بداية العام الجديد‪،‬‬ ‫صباح ُعم ٍر طازج‬ ‫ِ‬ ‫َخب ُزه يف‬ ‫تخفيضا‬
‫ً‬ ‫أن ثمة‬ ‫املارة َّ‬‫خبرن َّ‬ ‫َ‬ ‫ُي‬
‫الحبات يف إنا ٍء‬ ‫ِ‬ ‫مالبس اإلحرا ِم البيضاء تستقبلُني أمي بنظر ٍة معتادة من تطهو لنا أمي‬ ‫ِ‬ ‫هائل عىل‬ ‫ً‬
‫الغضبِ تستحي ُل سري ًعا إىل محب ٍة يتس ُع لكافة وجوه العائلة الغائبة‬ ‫ِجال بال‬‫بينما يتخشَّ ُب بها ر ٌ‬
‫‪47‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعر‬

‫مع إىل أخبا ِر السماء‬ ‫الس َ‬‫تس َتر ُِق َّ‬


‫ٍّ‬ ‫ِ‬
‫ث َّم تعو ُد لتُنب َِت يف معدة ُكل منَّا‬
‫شجر ًة عمالقة‪،‬‬
‫نعود إليها‬
‫َ‬ ‫دوما أن‬ ‫ُيمكننا ً‬
‫لنستكين‪.‬‬
‫أستم ُع إليها بقداسة يوم األحد‬
‫بتوقيت أن نبدو‬ ‫ِ‬ ‫صباحا‬
‫ً‬ ‫التاسعة‬
‫مؤمنين‬
‫أتحسس بطني برِفق‬ ‫ُ‬
‫أتخي ُل أ َّو َل أبنائي‪،‬‬
‫ابتعلت‬
‫ُ‬ ‫يغفو هانئًا أسفل شجر ٍة‬
‫حبا ِتها للت ِّو‬
‫فاتحا ذراعيه لتلقي الوحي من‬ ‫ً‬
‫عيني َج ِّد ٍة أحبتُه من ُذ أزمنة‪.‬‬
‫ُ‬
‫أقف‪،‬‬
‫بصمت ك َّل ما ُيمكن أن ينمو‬ ‫ٍ‬ ‫أرق ُُب‬
‫بيننا‪:‬‬
‫الغياب املُؤطر بحضو ِر الحكايا‬ ‫ُ‬
‫بخف ٍة من بين ثنايا فم أمي‬ ‫أمررها ِ‬
‫القاضية حين تُخبرنا‪:‬‬ ‫تفوح من املطبخ رائح ُة خب ٍز‬‫ُ‬
‫املحش ِّو برائح ِة الخبز الساخن‪،‬‬
‫حبات الفول السبع املُعلَّقة حول‬ ‫حبات الفو ِل السبع العارية‬ ‫ُ‬ ‫ساخنٍ‪،‬‬
‫ُ‬
‫ُعنقي لتُخبرني أنَّي أستطيع‬ ‫ِ‬
‫طقوس‬ ‫انتهت للت ِّو من ِتالو ِة‬ ‫محب ٌة ُمتعبة وأم ٌل ال يشيخ بعودة‬
‫الخطو نحو العامل ُمح َّملة بيقي ٍن‬ ‫ال ُعزلة‬ ‫َمن ال يلتفت‬
‫َ‬
‫أخبئُه بعناية أسفل عمودي‬ ‫يتدىل ِمن ُس َّرتها حب ٌل ِ‬
‫س ّر ٌّي‬ ‫نتأرجح يف الصباح بين عاد ِة‬
‫ُ‬
‫الفقري‬ ‫التهامها واحد ًة بعد األخرى‬ ‫ُ‬ ‫احتساء القهوة الروتينية وبين‬
‫ومحب ٌة ُممتد ٌة َن َبتَت يف رحمي من ُذ‬ ‫سيصن ُع ُسل َّ ًما شفافًا تصع ُد عليه‬ ‫تلقف ما صنعتُه الوالدة‬ ‫ِ‬
‫عشرين سنة‪.‬‬ ‫أحالمنا ُالتعبة من العام الفائت‬ ‫ُ‬ ‫األمر بالضرب ِة‬ ‫َ‬ ‫تحسم‬
‫ُ‬ ‫غير أنَّها‬
‫‪48‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫عبد الخالق كيطان‬


‫(العراق‪ -‬سيدني)*‬

‫خمسة نصوص‬

‫والطابور الطويل من النمل‬ ‫أمراء الرماد‬


‫تلقت صفعة الفأس بحبور‬
‫نظرت إىل األسفل‬ ‫أغلقوا األبواب وأوصدوا الشبابيك‬
‫إليه‬ ‫هذا هواء ساخن‬
‫ورثته يف أعماقها‪.‬‬ ‫واملزيد من الذئاب الجائعة تتحرى‬
‫سينقطع النسل‬
‫ميناء ال تصله السفن‬ ‫وسوف ترى األرض جرداء‬
‫وإذ ينسحب البحر إىل حيث متاهته الشخصية‬
‫افاجئك بقبلة فال تبتسمين‬ ‫يخلع األمراء التيجان من عىل رؤوس ملوكهم‬
‫أحوطك بذراعي فتتملصين‬ ‫ملوكهم عراة‬
‫أهوي عليك بقصيدتي فتطيلين الصمت‬ ‫نساؤهم من رخام‬
‫أنت غير النساء إذن‬ ‫والقصور خاوية‬
‫ال يفرحك حتى املزاح‬ ‫كل ما بنيناه رماد‬
‫تفرين إىل تفسير األحالم‬
‫وتعبدين مدفأة‬ ‫أغنية من أجل غصن‬
‫ويف أيام نادرة‬
‫يصلني منك طائر حكيم‬ ‫ال تنكسر الشجرة إال بفأس‬
‫يضع تحت قدمي ورقتك ويطير‬ ‫هل تنكسر؟‬
‫يطير‪ ..‬فيختفي‪..‬‬ ‫*‬
‫الورقة ذاتها تحترق بعد ليلتين‪.‬‬ ‫من ماذا قدت الفأس؟‬
‫من حجر؟‬
‫مدينة الرجال‬ ‫أو من جحود؟‬
‫*‬
‫رجال منخورون يغذون الخطى يف صباح باكر‬ ‫والشجرة‪..‬‬
‫كانت هنالك أنواع من الطيور تغرد‬ ‫الشجرة التي أعزف بين قدميها‪،‬‬
‫البرد شديد‬ ‫يدميها فراق العشب‬
‫‪49‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعر‬

‫وبقايا أمطار الليلة شائكة‬


‫وحده عاد إىل املنزل‬
‫مل يفعل شيئًا سوى ارتشاف املزيد من البيرة‬
‫الشمس تجري‪ ..‬بخجل واضح‪ ..‬وترسم فوق اكتاف‬
‫الرجال حنوها‪..‬‬
‫ال نساء يف هذه املدينة‬
‫ال أطفال‬
‫سكارى الليلة املاضية يلوكون الطين‬
‫ً‬
‫أصل‪.‬‬ ‫واملقامرون نفضوا جيوبهم املخروقة‬
‫يسكر‬
‫ويسكر‬
‫والنهار بطيء مثل زوجة متعبة‪.‬‬

‫مصباحا بال ضوء‬


‫ً‬ ‫خمسون‬
‫في الشارع الموصل إلى البحر‬
‫مصباحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫احترق خمسون‬
‫حلَّت العتمة القاهرة‬
‫حتى يخيل للمرء أن البحر يقذف بموجاته إلى‬
‫الشارع‬
‫موجات سود يخرج منها صوت يشبه الفحيح‪.‬‬
‫فرت الخالئق من الذعر‬ ‫َّ‬
‫وبقيت أعمدة المصابيح بال رؤوس‬
‫كأنها جنود جرى إعدامهم بسبب الخيانة‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫خيرة مباركي‬
‫(تونس)‬

‫تتهجى شوكها‬
‫ّ‬

‫ب ُعشب ِه‬ ‫جيج‬


‫الض ِ‬ ‫اليوم وأنا عىل حاف ِة ّ‬
‫الغض أباطرة متم ِّردون‬ ‫ِّ‬ ‫صو َب أفُقٍ قدي ٍم‬ ‫َيدف ُعنِي عنُقي ْ‬
‫يفترسون الجوع ويرمونَه‬ ‫ص‪..‬‬ ‫تقن براع َة الق ْن ِ‬ ‫ال ُي ُ‬
‫مع النظريات القديمة‪..‬‬ ‫س م ْرآتي‪:‬‬‫ِ‬ ‫ته ِم ُ‬
‫وما خلت الخذالن ينازع مواسم‬ ‫أت من نبو َءاتي‬ ‫أنت‪ ،‬وما خبَّ ِ‬ ‫يا ِ‬
‫الوفا َء‪..‬‬ ‫املنهو َب ِة‬
‫أتُراها مالمح ُهم الطازجة‬ ‫الضو ِء‬
‫يا يقيني يف زوبعة َّ‬
‫تستنسخ‬ ‫فوضاك وحيدةً‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫تتعاظمين يف‬
‫َ‬
‫جمل ناقصة ألحالم ممنوعة‬ ‫ً‬ ‫خارج‬
‫َ‬ ‫مين ما تناثر‬ ‫ِ‬
‫ليتك تُلمل َ‬
‫من الصرف؟!‬ ‫القسمة‪..‬‬
‫هؤالء الكبار يصغُرون‪..‬‬ ‫ِ‬
‫العرش!‬ ‫وأنت املوسوم ُة بفخامة‬
‫يكابرون‪ ..‬يصغرون‪..‬‬
‫تبيض الليايل يف مالمحهم‪..‬‬ ‫ُّ‬ ‫صرت أحلم باألراجيح‬ ‫ُ‬
‫ويصغرون‪..‬‬ ‫كاملوج تقرعه خطايا الطقوس‪..‬‬
‫ويف النوافذ املعلَّق ِة‬ ‫الشعر‬
‫َ‬ ‫أحب‬
‫عدت ُّ‬ ‫ما ُ‬
‫أبراج بالستيكيَّة‬ ‫ٍ‬ ‫عىل‬ ‫ميراث القبيل ِة‬
‫ُ‬ ‫حين تعاقد‬
‫الخطى‪..‬‬
‫حيل بإتقان ُ‬ ‫يغزلون ال ّر َ‬ ‫دفاتر هتكت تاريخَ‬
‫َ‬ ‫مع‬
‫ون ك َّل العطايا‬ ‫يرم َ‬ ‫ُ‬ ‫صالحيَّتِها‪..‬‬
‫خلف أجسا ٍد معتمة‪..‬‬
‫يتراشق‬
‫ُ‬ ‫شعرا‬
‫ً‬ ‫أحب‬
‫عدت ُّ‬
‫ما ُ‬
‫‪51‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫شعر‬

‫الشعر‪..‬‬
‫َ‬ ‫أحب‬
‫أع ْد ُّ‬ ‫مل ُ‬ ‫كم أجا ُدوا االختباء يف مرا ِتعنا‬
‫وما عادت قوافيه املُتخَ مة‬ ‫الل!‬ ‫أحالم العي ِد ُز ً‬ ‫َ‬ ‫و ُكنَّا ن ُ‬
‫ُلهمهم‬
‫باملالح ِم املتهادئة أليفتي‪..‬‬ ‫الصامت يف ه َّزة‬ ‫َ‬ ‫مل نعهد ُعر َيهم‬
‫فكم يل َز ُم ُه من بح ٍر ينعي صفا َء‬ ‫الحس‪..‬‬
‫ِّ‬
‫َقصائ ِد ِه؟!‬ ‫سجي ِل‬‫ك ُّل أصواتهم عابثة يف ِّ‬
‫هل سيف ِق ُد بوصل َت ُه يف ُز ْمر ِة‬ ‫أقنع ٍة‬
‫االتجاهات؟‬ ‫تتساقط عىل جدا ٍر يتهاوى‬
‫يهمسنا جلي ًدا‬ ‫ضجيج‬ ‫محض‬ ‫للسكُونِ ‪..‬‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫يح يف غياب املطر‬ ‫ِ‬
‫فيا لهيبة ال ِّر ِ‬
‫مضار ًعا‬
‫الصب‬
‫ِّ‬ ‫املوج وانهما ِر‬
‫ِ‬ ‫يف رقص‬
‫يخض ُب اللَّحظات املوؤود َة بالظ ِّل‬ ‫ِّ‬
‫يف عبث الخناجر والحناجرِ!‬
‫يف عيونِ قصيدة‪..‬‬
‫ويا لراحة الورد حين يخلع‬
‫األثير‬
‫َ‬ ‫تراقص‬‫ُ‬ ‫وضوع زهر ٍة‬ ‫ُ‬ ‫أشواكه‬
‫بالس ِّر‬ ‫أبابيل مع اخضرا ِر‬
‫االعتذار غنيم ًة واهي ًة‬ ‫ُ‬ ‫ُي ْرديها‬ ‫همزة وص ٍل فقدت أواصرها‬
‫تهب شوكها للعابرين‪..‬‬ ‫لكنَّها ال ُ‬ ‫راعشة طائشة عىل غصن وا ٍه!‬
‫الغائر وتض ِّم ُده!‬ ‫َ‬ ‫رحها‬ ‫تتهجى ُج َ‬ ‫َّ‬
‫فال تُبايعوا‬ ‫فهل أتموسق مع مع ُزوفاتي‬
‫النكران‬ ‫القديمة‬
‫بالورد‬ ‫شعرا جدي ًدا؟‬
‫ً‬ ‫أم أكتبها‬
‫‪52‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫علي حسن‬

‫س ِّيد‬
‫أم َ‬

‫بلغت ناصية حارتنا مخضبًا بدماء تفيض من‬ ‫سنوات ال أعرف عددها منذ خاصمت دمنهور‬
‫جبهتي دون توقف؛ حاولت كتم الدم بكف يدي‪،‬‬ ‫وبيت «أم َسيِّد»‪ .‬سكان حي «الب ِْر َكة» يسمونها «أم‬
‫بينما يقف صديقي الوحيد «عاطف» أمامي مذهول‪ً،‬‬ ‫َسيِّد الداية» رغم أن أختي «زينب» تكبره بخمس‬
‫ً‬
‫منديل محالو ًّيا‬ ‫انتبه بعد برهة فأخرج من جيبه‬ ‫سنوات‪ ،‬وتكبرني بعشرة‪ ،‬وهي ساعدها األيمن‬
‫وضعه عىل جبهتي ً‬
‫قائل‪« :‬مبروك يا عيل‪ ..‬أنت‬ ‫أيضا يف توليد نساء «الب ِْر َكة»‪ ،‬ختان‬ ‫وأحيانًا األيسر ً‬
‫نجحت! جبت تمانين يف املية! طب يا ابن الداية!»‪.‬‬ ‫بناتهن‪ ،‬تزويجهن‪ ،‬إجهاضهن وسترهن إذا لزم‬
‫طويل‪ ،‬ربما لساعات! فكيف أخبر‬ ‫ً‬ ‫ضربني الوجوم‬ ‫األمر!‬
‫«أم سيد» بنتيجتي؟ لن تدعني أدرس الطب؟‬ ‫«ه َّج» إىل اإلسكندرية بعد رسوبه‬ ‫أما «السيد» فقد َ‬
‫كمن أمسكه‬ ‫يف املساء؛ دخلت عليها ُم ِ‬
‫طأطئًا الرأس‪َ ،‬‬ ‫يف «البكالوريا»‪ ،‬هناك تطوع يف القوات البحرية‪،‬‬
‫متلصصا عىل زوجاتهم!‬ ‫ً‬ ‫الجيران‬ ‫ومل نره سوى مرة يتيمة‪ ،‬جاء ليستكشف أحوالنا‪،‬‬
‫قبضت «أم سيد» عىل علبة سجائرها وسحبت‬ ‫أو باألحرى كي يتشاجر مع أمه‪ ،‬ثم يسب لسانها‬
‫تماما ركنًا بعيد‬
‫ً‬ ‫سيجارة؛ بصقت بصقة أصابت‬ ‫البذيء وغلظة قلبها‪ ،‬وبعد لحظات َح َّن «السيد» إىل‬
‫يل! بطلة العامل يف النشان‬ ‫عنها‪ ،‬لكنه األقرب إ َّ‬ ‫الهروب ثاني ًة!‬
‫والشتيمة‪ ،‬مسحت شفتيها بطرف جلبابها ثم قالت‪:‬‬ ‫«السيد» باب الشقة عىل مصراعيه بضربة قدم‬ ‫َّ‬ ‫فتح‬
‫تعال يا خايب يا ابن الخايب‪ ،‬لحد كده كفياك تعليم!‬ ‫جبارة؛ قاف ًزا عىل درجات سلم خشبي ُمهترئ!‬
‫مل أستطع التنفس‪ ،‬كأن نعيقها أجبر هواء غرفتها‬ ‫بينما جناحي الباب يقتربان ويتباعدان كاملروحة‬
‫ساقي تنصهران‪ ،‬جسدي كله تحول‬ ‫َّ‬ ‫عىل الفرار!‬ ‫من شدة رفسته‪ ،‬الحقته أمه بصراخها الجشع‪:‬‬
‫إىل كتلة من ثلج‪ ،‬أذابها جو ملتهب خانق! تهشمت‬ ‫«سيب يل علبة سجايرك يا ابن الكلب!» فسمعنا يف‬
‫قادرا عىل الصمود أمام جبروت‬ ‫ً‬ ‫أعصابي فلم أعد‬ ‫الطابق الثالث سبابه عند باب الشارع!‬
‫دائما‪ ،‬انتبهت إليها فجأة تقول يف تح ٍد‬ ‫امرأة تصرخ ً‬ ‫آثرت حينها االنزواء بعي ًدا عنها؛ دون أن أفارق‬ ‫ُ‬
‫جبار‪:‬‬ ‫حجرتها‪ ،‬حيث يجلس املذياع عىل الرف يف شموخ‬
‫‪ -‬عايز تبقى دكتور يا ابن الكلب؟ بعيد عن‬ ‫ووقار بعي ًدا عن أيدينا! كنت انتظر نتيجتي يف‬
‫شنبك! أنا دكتورة يا عرص من غير شهادات وال‬ ‫امتحان «البكالوريا» التي ُت َبثُّ عبر أثير اإلذاعة‬
‫مصاريف!‬ ‫املصرية!‬
‫‪ -‬يامه‪ ..‬خليني أكمل َعالمي أبوس رجلك‪.‬‬ ‫اقتربت من الراديو معتم ًدا عىل الحائط املتآكل‪،‬‬
‫المك بشقاك يا شحط‪ ،‬مش بشقايا‬ ‫‪ -‬يفتح اهلل‪َ ..‬ع َ‬ ‫مصغيًا إىل صوت املُذيع يردد أرقام جلوس‬
‫وحياة أمك!‬ ‫الناجحين يف التوجيهية‪ ،‬لكنها يف ملح البصر رشقت‬
‫‪ -‬منين يامه؟‬ ‫قُبقابها يف جبهتي‪ ،‬فانخلع قلبي! انقضاضها مفاجئ‬
‫ص‪« ..‬أنا ال طايقاك وال طايقه‬ ‫‪ -‬اشتغل يا جِ ِع ّر! ُب ْ‬ ‫دائما‪ ،‬ولوال هجمتُها ما فارقت املذياع فا ًّرا‬ ‫وشرس ً‬
‫وش اليل جابك‪ ،‬غور!»‪.‬‬ ‫أنا اآلخر!‬
‫‪53‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫يف ليلة شتوية باردة‪ ،‬داخل محطة سيدي جابر‪،‬‬ ‫مرتان يف يوم واحد؛ مالت العجوز املترهلة‪ ،‬مكتنزة‬
‫املغطاة بأسقف عالية‪ ،‬ومع هذا مل نستطع االحتماء‬ ‫الشحم‪ ،‬سميكة اللحم‪ ،‬نحو قبقابها‪ ،‬التقطته وقذفته‬
‫من املطر! لقد تمكن رجال الشرطة من إلقاء القبض‬ ‫يف غمضة عين‪ ،‬بكل ما يف يمينها من قوة‪ ،‬مدعوم ًة‬
‫عىل كل املشردين داخلها! كيف استوعب «البوكس»‬ ‫بغيرة منقطعة النظير وحق ٍد ناد ٍر لن تعثر عىل‬
‫الضيق هؤالء املشردين من البشر؟‬ ‫مثليهما داخل كيان أم!‬
‫أغلب املدن والقرى استقبلتني فاتحة ذراعيها كي‬ ‫هجوما‬
‫ً‬ ‫بارعة يف الغدر واقتناصه؛ إال أني مل أتوقع‬
‫عيني ويستريح عىل أرصفتها‬ ‫َّ‬ ‫أغمض يف كنفها‬ ‫بالغت يف قسوتها‬ ‫ْ‬ ‫كالبرق يف هذا التوقيت أب ًدا مهما‬
‫الرحبة جسدي املنهك‪ ،‬ساعات من نهار شديد‬ ‫وشذوذها! عبر القبقاب املسافة التي تفصل بيننا‬
‫الحرارة أو ليل بالغ البرودة!‬ ‫كالصاروخ‪ ،‬رشق يف أنفي وفمي! مل أشعر إال‬
‫مل أر تفاصيل وجهي قط‪ ،‬وهل مثيل يحتاج إىل‬ ‫بصوت ينفجر مني كامرأة تعاني آالم املخاض! أمل‬
‫استرجاع تفاصيل وجهه؟ أو يرغب يف حساب أيام‬ ‫وصراخ أفضيان إىل غيبوبة مل أفق منها إال بعد‬
‫أو شهور وسنوات ربما مرت عليه؟ استشعر فقط‬ ‫وقت طوي ٍل ال أعرف مقداره‪ ،‬حينئذ وجدت جارتنا‬ ‫ٍ‬
‫شعر رأسي الذي استطال‪ ،‬أفزعني حين وجدته‬ ‫الطيبة «سكينة» تحتضن رأسي داخل صدرها يف‬
‫متشابك مع لحيتي‪ ،‬امتزجا فطغى‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫مجدول ملب ًدا!‬ ‫حنان بالغ!»‪.‬‬
‫ك ٌل عىل اآلخر! جسدي النحيف أمسى تربة خصبة‬ ‫جارتنا وحيدة‪ ،‬ال زوج لها أو ولد‪ ،‬تركت‬
‫يرتع فيها القمل والبراغيث‪ ،‬استوطنته فطريات‬ ‫اإلسكندرية واستأجرت غرفة يف الطابق األرضي‬
‫شرسة! كيف تحولت بشرتي إىل سواد ُمغطى‬ ‫دائما‬
‫عند «أم سيد»‪ .‬أطفال «البِركة» يحاولون ً‬
‫بطبقات من الطين املقزز بعد بياض ونعومة؟‬ ‫داع‪ ،‬هم يعلمون عشقها لإلسكندرية‬ ‫إثارتها دون ٍ‬
‫االنتقال من مدينة إىل أخرى مل ينت ِه؛ لكني أحسست‬ ‫رغم رحيلها عنها‪ ،‬يسبونها‪« :‬إسكندرية وسخة»‬
‫باأللفة يف كفر الزيات! تحدي ًدا عند محالج القطن‪،‬‬ ‫ثم يفرون‪ ،‬ومن بعيد يقذفونها بالحجارة! تثأر‬
‫التي تحتل أطراف البلدة‪ ،‬حيث الدفء والهدوء‬ ‫هي ملدينتها فتسبهم‪« :‬الوسخة هي بلدكم يا والد‬
‫والنوم العميق!‬ ‫الكلب!»‪.‬‬
‫اهتماما ُيذكر؛ فقضاء ليلة شتوية‬ ‫ً‬ ‫مل أعر الغطاء‬ ‫تأملت خالتي «سكينة»؛ عيناها‪ ،‬قسمات وجهها‪،‬‬
‫باردة‪ ،‬ترقد فيها منكمشً ا‪ ،‬كفيل بأن يجعلك‬ ‫أمومتها‪ ،‬تمنيت تقبيل يدها القابضة عىل البن‪ ،‬تكتم‬
‫تستيقظ متلحفًا بطانية ربما تكون جديدة ذات وبر‪،‬‬ ‫به جرحي النازف‪ ،‬بعد أن أ َب ْت «أم سيد» منحها‬
‫تستمتع تحتها بليل دافئ حامل!‬ ‫قليل من ُبنِّها‪« :‬وأنا أشرب إيه؟»‪.‬‬ ‫ً‬
‫ونهارا أثناء هجرتي من‬ ‫ً‬ ‫بطانيتي تصاحبني ً‬
‫ليل‬ ‫هت يف هذه اللحظة إىل استحالة البقاء مع هذه‬ ‫انت َب ُ‬
‫مدينة إىل أخرى‪ ،‬بل قل من دولة إىل أخرى! فكل‬ ‫توكأت عىل كتف خالتي «سكينة» النحيف‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫املرأة؛‬
‫مدينة يف مصر تختلف يف عاداتها وطبائع أهلها عن‬ ‫نهضت معتم ًدا عىل الحائط رأفة بجسدها النحيل‪،‬‬
‫غيرها من املدن‪ ،‬كأنها دولة قائمة بذاتها!‬ ‫بعيني قبلة شكر عىل جبهة «خالتي سكينة»‬ ‫َّ‬ ‫مانحا‬
‫ً‬
‫سنوات مرت؛ مؤكد أنها سنوات طويلة‪ ،‬فما مر عيلَّ‬ ‫التي استقبلتها بدمعة منهزمة‪ ،‬دفعتني كي أقاوم‬
‫يستحيل أن يكون بضع شهو ٍر أب ًدا! تغيرات فجة‬ ‫َ‬ ‫األمل وصعوبة الهبوط عىل السالمل الخشبية‬
‫أصابت األشياء من حويل‪ ،‬كأنما القيامة ضربت‬ ‫العتيقة‪ ،‬وخرجت من الحارة بعد سقوط ونهوض‪،‬‬
‫األمكنة واألزمنة والبشر!‬ ‫عازما أال أعود إىل هذا البيت أب ًدا!‬
‫ً‬
‫شهورا بين قضبان‬
‫ً‬ ‫أسيح يف األرض‪ ،‬أقضي‬ ‫اتخذت من محطات السكك الحديدية مأوى ومالذًا‪،‬‬
‫القطارات والعربات واألرصفة‪ ،‬ثم أعود إىل مدينتي‬ ‫أنتقل من دمنهور إىل املنصورة‪ ،‬أتوجه بعدها إىل‬
‫الفاضلة «كفر الزيات» حيث األجران واسعة‪،‬‬ ‫طنطا‪ ،‬أغادر بعد أيام إىل كفر الدوار‪ ،‬أعود من‬
‫األقطان بيضاء ناصعة‪ ،‬أجولتها ضخمة دافئة!‬ ‫ِ‬
‫أمض يف‬ ‫بركة السبع إىل إيتاي البارود‪ ،‬بينما مل‬
‫جلست يف البداية عىل رصيف قريب من أحد‬ ‫طويل‪ ،‬رجعت سري ًعا إىل طنطا!‬ ‫ً‬ ‫أبي حمص وقتًا‬
‫‪54‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫يل الغفير بكوب شاي أو‬ ‫النزوح عنه! ثم يأتي إ َّ‬ ‫املحالج‪ ،‬ثم زحفت تدريجيًّا نحو البوابة ُمتلحفًا‬
‫سندوتش فول‪ ،‬ثم أعود يف املساء إىل أجولة القطن‪،‬‬ ‫بطانيتي‪ ،‬حتى سمح يل رجل األمن بقضاء ليلتي‬
‫ألغوص يف نوم عميق!‬ ‫فوق جواالت القطن!‬
‫أثار ريبتي فتاة تحتل الرصيف عىل الناحية املقابلة‪،‬‬ ‫استلقي بين األجولة؛ ما سر كل هذا الدفء؟ كيف‬
‫دائما!‬
‫ليس لديها بطانية عىل كتفيها! تنظر ناحيتي ً‬ ‫أنام لساعات رغم سطوع الشمس وحرارتها‬
‫ماذا تريد هذه املعتوهة؟‬ ‫الالفحة؟‬
‫كنت أثناء النهار أطيل النظر إليها‪ ،‬وكانت جريئة‪،‬‬ ‫نزيل لهذا الفندق املجاني أثناء موسم‬ ‫ً‬ ‫أصبحت‬
‫تتعمد أن ترسل يل بعض الرسائل بعينيها‪ ،‬فأشعر‬ ‫جمع األقطان‪ ،‬بعد ستة أشهر تقريبًا يصبح املحلج‬
‫بالخجل‪ ،‬وأحاول أن أدفن رأسي بين ركبتي! حتى‬ ‫خاو ًيا من القطن! يغمر الحزن قلبي‪ ،‬يدفعني الخواء‬
‫شعرت بالضيق منها‪ ،‬فرميتها بحجارة كانت قريبة‬ ‫كتفي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫والخالء إىل الرحيل! أضع بطانيتي عىل‬
‫مني‪.‬‬ ‫أنطلق ُمستكشفًا األماكن‪ ،‬فال أعثر عىل لين القطن‬
‫ضحكت املجنونة! ثم لوحت يل بيدها كأنني مسافر‬ ‫أو دفء املحالج!‬
‫إىل بلد بعيد!‬ ‫يف العام املاضي‪ ،‬وتحدي ًدا يف سبتمبر‪ ،‬جرفني‬
‫بصقت عليها؛ حاولت أن أجد حجارة أخرى قريبة‬ ‫الحنين نحو املحالج واألقطان!‬
‫من يدي فلم أجد غير حفنة من تراب‪ ،‬فقبضت‬ ‫كنت يومها عىل رصيف محطة طنطا! عند الظهيرة‬
‫عىل التراب بيميني ثم قذفت بها نحو الفتاة يف‬ ‫تزاحم الطالب أمام أبواب عربات القطار املتجه‬
‫هواء ساكن ال يتحرك! سخرت مني‪ ،‬لوحت بكفيها‬ ‫إىل كفر الزيات‪ ،‬وشاهدت الطالبات يحتضن‬
‫مرة أخرى‪ ،‬لكني مل أسمح لها أب ًدا أن تشاركني‬ ‫داخل صدورهن كتبًا وكراسات! أيقنت حينها بدء‬
‫أيضا انقضاء النصف األول من شهر‬ ‫الدراسة‪ً ،‬‬
‫سبتمبر! ألن أبناء الوجه البحري والدلتا يتأخرون‬
‫أسبوعين دون بقية طالب الجمهورية ليشاركوا يف‬
‫جمع القطن املصري طويل التيلة!‬
‫ال تستهجن فطنتي‪ ..‬وال تستشعر القلق تجاهي!‬
‫أنا لست مجنونًا أو مصا ًبا بمرض نفسي‪ ،‬وال‬
‫تنتظر سماع عبارات مبهمة مني! ما أنا إال حطام‬
‫رج ٍل محب ٍط‪ ،‬ال يكترث باألشياء! مهموم‪ ،‬مهزوم‪ ،‬ال‬
‫أنتظر سوى املوت أو القيامة أيهما أقرب!‬
‫بلغ القطار مدينتي األثيرة؛ اجتاز طوفان من البشر‬
‫بوابة املحطة‪ ،‬بينما آثرت العبور إىل املحلج عبر‬
‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫فتحة كبيرة يف سور املحطة‪ ،‬فهو ال يبعد‬
‫عن هذه الفجوة أو املحطة ذاتها! كم كان الخواجة‬
‫اليوناني صاحب املحلج شديد الذكاء حين تخير‬
‫عظيما بجوار قطار البضائع‪ ،‬وسعى المتالك‬ ‫ً‬ ‫موق ًعا‬
‫مساحات شاسعة منها!‬
‫مرت أيام وأنا بين رصيف املحلج وبين الجرن‬
‫املكتظ بأجولة القطن! أقضي ساعات النهار عىل‬
‫الرصيف تحت آشعة الشمس وحرارتها التي تجبر‬
‫الحشرات املقيتة التي استباحت جسدي عىل الفرار‪،‬‬
‫ثم ألتقط بأظافري ما تشبث منها بجسدي ورفض‬
‫‪55‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫ورميته نحوها‪ ،‬لكنه تبعثر قبل أن يتجاوز حدود‬ ‫رصيفي أو تفسد عيلَّ خلوتي!‬
‫عاودت ضحكاتها البلهاء‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫رميتي وارتد إىل وجهي!‬ ‫افتراش الرصيف حكمة يف األمسيات الحارة! لكن‬
‫تمادت يف سماجتها‪ ،‬رأيتها بنصف عي ٍن تكاد تكون‬ ‫قائل‪« :‬خش يا «عيل» عشان أقفل‬ ‫الحارس أزعجني ً‬
‫شبحا‬
‫ً‬ ‫زائغة‪ ،‬ترسل قبلة يف الهواء! بعدها توهمت‬ ‫البوابة!»‪.‬‬
‫ويسارا قبل أن ينطلق‬ ‫ً‬ ‫مهلهل يلتفت يمينًا‬‫ً‬ ‫جلبابه‬ ‫رمقته بنظر ٍة حادة‪ ،‬مل أجبه؛ أوليته ظهري دافنًا‬
‫قاط ًعا الطريق نحوي!‬ ‫وجهي يف التراب املتراكم بجوار السور‪ ،‬ثم رجوت‬
‫يف طرفة عين؛ ألفيتها فوق رأسي‪ ،‬تُبا ِعد بين‬ ‫النوم أن يخلصني من هذا السمج!‬
‫ساقيها و»تشلح» جلبابها املمزق‪ ،‬لتبول!‬ ‫يف الصباح أيقظني دفء غريب‪ ،‬جسدي مبتَلْ‬
‫ال أعرف ملاذا عضوها األنثوي كان مصبوغًا‬ ‫موسما‬
‫ً‬ ‫كأنني تبولت أثناء النوم‪ ،‬والصيف ليس‬
‫باملكروكروم األحمر وتهتكاته وجروحه تلونتا‬ ‫عيني فإذا ببطانية تغطي جسدي‬ ‫َّ‬ ‫لهذا الفعل! فتحت‬
‫بزرقة الجنتيانا؟‬ ‫كله‪ ،‬وتحجب عني ضوء الشمس!‬
‫ظللت مستلقيًا جوار السور‪ ،‬غريزتي ساكنة مل‬ ‫بطانية جديدة‪ ،‬أذكرها جي ًدا؛ منذ أيام توقفت‬
‫تتحرك‪ ،‬فأنا مذبوح الرغبة يف النساء! مل تراودني‬ ‫سيارة بجوار جارتي النائمة عىل الرصيف املقابل‪،‬‬
‫يوما نحوهن شهوة‪ ،‬منذ َرشقَ قبقابها يف جبهتي‪،‬‬ ‫نزلت امرأة تحمل يف يديها بطانية‪ ،‬أفردتها بهدوء‬
‫ً‬
‫ربما؟ لست أدري!‬ ‫عىل جسد الفتاة‪ ،‬ثم عادت إىل سيارتها واختفت‬
‫جلست عىل األرض‬ ‫تاركة ثوبها ينسدل كما شاء‪،‬‬ ‫كاملالئكة!‬
‫ْ‬
‫املبتلة‪ ،‬مرددة يف صوت ُيس ِمع كل من يرغب يف‬ ‫رفست البطانية بقدمي‪ ،‬فسمعت ضحكاتها‪ ،‬تلك‬
‫االستماع‪:‬‬ ‫الساكنة أمامي‪ ،‬فقبضت عىل حفنة من التراب‬
‫‪ -‬أمينة‪ ،‬اسمي أمينة‪ ،‬إزيك؟‬
‫‪ -‬نعم يا أختي؟‬
‫‪ -‬إزيك؟‬
‫‪ -‬حلو‪ ..‬عايزه إيه؟‬
‫‪ -‬عايزه أقعد معاك عىل رصيف واحد!‬
‫مل تمهلنِي فرصة لالختيار! تمددت عىل رصيفي‪.‬‬
‫إبطي يف لحظات!‬
‫َّ‬ ‫تكورت تحت‬
‫صارت «أمينة» بعد ليلة واحدة كالشمس وعوادم‬
‫السيارات وبصق املارة يف النهار‪ ،‬كالقم ِر والنجو ِم‬
‫وشبابِ يستتر يف املساء بعاملنا‪ ،‬تُفزِعنا همساته‪،‬‬
‫نتسمر يف األرض حين تضربنا ضحكاته املكتومة!‬
‫يقتلنا الرعب عندما يحتد النزاع بينهم حول اقتسام‬
‫جرعات املخدر‪ ،‬يطلقها يف أوردته‪ ،‬طلقات تُرعشه‪،‬‬
‫ينصرف بعدها منتشيًا أو يسقط مغشيًا عليه!‬
‫يف صباح يوم عجيب‪ ،‬ليس حا ًّرا أو بار ًدا‪،‬‬
‫استيقظت ألول مرة يف حياتي منتشيًا راغبًا يف‬
‫ممارسة الجنس! كانت أمينة بجواري‪ ،‬مستلقية عىل‬
‫وجهها‪ ،‬وساقيها منفرجتين رغم ضيق الرصيف‪،‬‬
‫تنبعث من خاللهما رائحة عفنة تغمر أنفي! لكنها‬
‫مثيرة إىل حد بعيد! ربما حرارة جسدها والتصاقه‬
‫‪56‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫شبرا فارغًا‪ ،‬يسمح لجسدينا باالنصهار بين‬ ‫ً‬ ‫بجسدي أحيا رغبة ظننت أنها ماتت‪ .‬همست يف‬
‫األجولة يف انحصار كامل لألرض واألبدان‬ ‫أذنيها راجيًا أن تمارس الجنس معي‪.‬‬
‫واألنفاس!‬ ‫اعتقدت أنها ال تزال نائمة‪ ،‬ويسهل اقتناص متعتي‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬الدورة مجاتش من كام شهر! عبارة قالتها وهي‬ ‫أثناء غيبوبتها!‬
‫ما زالت مستلقية‪ ،‬نصف جسدها فوق شقي األيمن‪،‬‬ ‫صعقتني حين رفعت رأسها نحوي قائل ًة‪« :‬عىل‬
‫غائرا داخل جوا ِل قطن ضخم!‬‫ً‬ ‫ونصفه اآلخر‬ ‫جثتي‪ ..‬يف الحالل بس يا عيل»‪.‬‬
‫وضعت يدي فوق بطنها املتكورة قائلة‪ :‬ابنك بيلعب‬ ‫ْ‬ ‫مل أجد أمامي ما ألوذ به‪ ،‬فجأة‪ ..‬انفجرت داخيل كل‬
‫يف بطني يا شقي!‬ ‫يدي عىل مصدر األمل‬ ‫قبضت بكلتا َّ‬
‫ُ‬ ‫براكين الرغبة!‬
‫مل أكترث بما قالته؛ نهضت تار ًكا كل جسدها يسقط‬ ‫قائل‪ :‬تمام يا بنت الكلب‪ ..‬نتجوز!‬ ‫والنشوة ً‬
‫عىل األرض‪ ،‬وخرجت منتشيًا كاإلسكندر األكبر‪،‬‬ ‫‪ -‬قويل جوزتك نفسي‪.‬‬
‫ئمت أثناء الدراسة من‬ ‫الذي َم َّل انتصاراته َ‬
‫وس ُ‬ ‫جوزتك نفسي‪.‬‬ ‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫ترديد بطوالته!‬ ‫أنت مراتي!‬‫قبلت! كده خالص‪ِ ..‬‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫أصبح الجرن هضبة رمادية ضخمة‪ ،‬تراكمت‬ ‫قبضت عىل يديها بعنف‪ ،‬توجهت بها نحو بوابة‬
‫عىل أرضيته أعداد ال حصر لها من أجولة القطن‬ ‫املحلج؛ كان عندها رجالن منتفخان كأنهما «جواال‬
‫العمالقة‪ ،‬إىل الحد الذي مل تجد أمطار يناير فراغًا‬ ‫قطن» مل يعترض أحدهما طريقي‪ ،‬لكنهما سأال‬
‫تسلكه كي تروي األرض الظامئة منذ شهور!‬ ‫«أمينة»‪ :‬راحه فين يا بت؟‬
‫قائل‪ :‬أنا طالع البلد‪ ..‬رزقي ورزقك‬ ‫تلحفت بطانيتي ً‬ ‫مل تنطق! جذبتني من البطانية؛ بطانيتها التي‬
‫عىل اهلل!‬ ‫وضعتها عيلَّ لتسترني بها أثناء الليل! فضربت‬
‫طعاما وجنيهات تمنحنا‬
‫ً‬ ‫مجبورا‪ ،‬أحمل‬
‫ً‬ ‫رجعت‬ ‫يدها بقبضتي وقلت للحارسين يف عصبية‪ :‬دي‬
‫أياما دون حراك! الحظت أن الجرن تغير‪،‬‬ ‫الشبع ً‬ ‫مراتي!‬
‫ليس كما تركته يف الصباح تحت املطر! الهضبة‬ ‫‪ -‬مراتك يا ابن الكلب‪ ،‬لك نفس تتجوز وتنام مع‬
‫قليل! وخزني املشهد يف‬ ‫الرمادية الضخمة تآكلت ً‬ ‫نسوان؟ ماشي‪ُ ..‬خش يا شيخ عيل!‬
‫صدري‪ ،‬لكني نسيت األمل حين سمعت «أمينة»‬ ‫بين أجولة القطن تذوقت ألول مرة لحم النساء‪،‬‬
‫تقول‪:‬‬ ‫دائما! أجولته هذه الليلة صارت‬ ‫القطن يسترنا ً‬
‫الضهر وسألت عليا الغفر!‬ ‫‪ -‬أمي جات ُ‬ ‫حصنًا مني ًعا يحول بين نشوتي وتأوهات زوجتي‬
‫‪ -‬قالت إيه؟‬ ‫وبين عيون وآذان كل البشر!‬
‫‪ -‬قالت‪« :‬حد شاف بنتي «أمينة الهبله» يا والد‬ ‫يف «الصباحية» خرجت من بين أجولة القطن‬
‫الحالل؟»‬ ‫منتشيًا‪ ،‬ال أحمل بطانيتي عىل كتفي! شمس سبتمبر‬
‫‪ -‬وبعدين؟‬ ‫اليوم رقيقة لينة عىل غير عادتها‪ ،‬تبعث الدفء‬
‫‪ -‬الغفير كرشها‪ .‬وبعديها حط الراديو تاني عىل‬ ‫واألمل دون تأفف أو ضجر!‬
‫ودانه!‬ ‫توالت الليال بأنسها وجمالها‪ ،‬يأتينا الطعام‬
‫مل أعر األمر انتبا ًها‪ ،‬وأقسمت عىل قضاء ليلتي يف‬ ‫والشراب من غفر املحلج والطيبين من البشر‪،‬‬
‫األكل والجنس؛ أذعنت «أمينة» لرغبتنا التي اشتعلت‬ ‫أرغمها أحيانًا عىل ممارسة الجنس مرات يف النهار‬
‫داخلنا فجأة! «شلحت» أمينة ثم استلقت عىل ظهرها‬ ‫والليل‪ ،‬ال تتأفف رغم إجهادها أو حيضها! ربما‬
‫مبتهجة متوهجة!‬ ‫تشتاق إىل الحياة مثيل! نحن عىل األرض منذ خلق‬
‫انقضت ساعات بين املتعة والنشوة والنوم اللذيذ‪،‬‬ ‫اهلل األرض!‬
‫استيقظنا فجأة عىل أصوات مل نعتد عليها يف‬ ‫استيقظنا صباح يوم غائم؛ كانت وقتئذ أجولة‬
‫الساعات األوىل من الفجر! فخرجت استكشف‬ ‫القطن منتفخة ومكتظة! ليس عىل أرض املحلج‬
‫األمر‪.‬‬ ‫اختلست مع أمينة‬
‫ُ‬ ‫مساحة لت ََح ُّمل املزيد‪ ،‬وربما‬
‫‪57‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫اهتماما! ثبتوا األجولة‬


‫ً‬ ‫يلتفت أح ٌد إلينا أو يعيرنا‬ ‫طويل من سيارات النقل‬ ‫ً‬ ‫شاهدت عن قرب ِ‬
‫سر ًبا‬
‫يف سيارتهم بالحبال قبل انطالقها مسرعة‪ ،‬بعدها‬ ‫الضخمة‪ ،‬تتتابع الواحدة تلو األخرى‪ ،‬كل سيارة‬
‫تماما‪ ،‬صحراء جرداء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ألفينا ساحة املحلج خاوية‬ ‫يأتي دورها‪ ،‬تتحرك ناحية جبال القطن‪ ،‬تقف‬
‫وسراب حقيقي‪ ،‬لكن مياهه آسن عفن!‬ ‫ساكنة حتى يفرغ الرجال من رفع أجولة القطن‬
‫خرجنا ناحية املحطة‪ ،‬يغطي الطين جسدينا والطمي‬ ‫عليها! يصعد بعضهم أعىل السيارة‪ ،‬تخترق‬
‫وجهينا‪ ،‬إحساس باليتم قاتل‪ ،‬سقوط مد ٍّو يف‬ ‫خطاطيفهم األجولة‪ ،‬يعيدون ترتيبها وتثبيتها‪ ،‬ثم‬
‫أرضا‬
‫فراغ كوني سحيق‪ ،‬كأن األرض مل تعد ً‬ ‫تنطلق السيارة خارج املحلج!‬
‫صالحة للحياة‪ ،‬بيد أن املحطة بقطاراتها الفاخرة‬ ‫حال بيني وبين حصر أعداد السيارات الواقفة‪ُ ،‬بعد‬
‫واملسافرين جمي ًعا مل تضربهم القيامة بعد!‬ ‫املسافة وسطوع الشمس بعد ليلة ممطرة! بينما‬
‫تشبث الجنين برحم أمينة‪ ،‬أثقلها‪ ،‬حتى بدأ‬ ‫رأيت الرجال ينتشرون كخلية نحل تعمل يف صمت‬
‫يطرق بابه الوحيد إىل الدنيا! بينما نحن نسير‬ ‫ونشاط مذهل!‬
‫كاملسحورين نحو مدينتنا األثيرة «كفر الزيات»‬ ‫حملت أمينة كل ما لدينا من طعام‪ ،‬وسارت خلفي‪،‬‬
‫وتحدي ًدا عند سور املحلج! جلسنا عىل رصيفه‪،‬‬ ‫انتقلنا بعي ًدا‪ ،‬إىل الناحية األخرى من املحلج‪ ،‬جبال‬
‫فشلنا يف التسلل إىل الجرن‪ ،‬أمسك الحراس بنا‪،‬‬ ‫يوما بعد يوم‪ ،‬ونحن نرصد كل ساعة‬ ‫القطن تتآكل ً‬
‫ثار أحدهم فنزع عني بطانيتي‪ ،‬دفعني بعي ًدا عن‬ ‫انحسار أجولة القطن‪ ،‬فينخلع قلبي وتبكي أمينة يف‬
‫حرقة وقهر!‬
‫البوابة!‬
‫يف صباح أحد األيام‪ ،‬انهمرت السماء باألمطار عىل‬
‫هويت عىل قدم‬ ‫ُ‬ ‫صرخت أمينة من آالم املخاض‪،‬‬
‫أجولة القطن القليلة‪ ،‬انكشفت أرض املحلج‪ ،‬فتحولت‬
‫أحدهم أقبلها‪ ،‬فلم يج ِد معهم توسل أو رجاء!‬ ‫ٍ‬
‫وبرك من طين! مل‬ ‫طبقة التراب السميكة إىل أوحال‬
‫سقطت أمينة عىل األرض؛ مل أجد غير بطانيتي‪،‬‬
‫يعد أمام سيارة النقل الوحيدة سوى عدد يسير من‬
‫فرشتها تحت «زوجتي»‪ ،‬جرجرتها حتى وصلت إىل‬
‫الشكائر لن تستغرق مع املطر ساعة واحدة!‬
‫الجانب اآلخر من املحلج‪.‬‬
‫أخذ الرجال ينزعون األجولة من أرض املحلج‪،‬‬
‫تخيرت أضعف نقطة أسفل السور؛ جزء تشبع‬ ‫هرولت مع أمينة نختبئ خلف شكارة بعيدة‪،‬‬ ‫بينما‬
‫ُ‬
‫تماما‪ ،‬ضربته‬ ‫ً‬ ‫بالرطوبة وماء املطر حتى تآكل‬ ‫ثم خلف األبعد فاألبعد‪ ،‬حتى حجبتنا عنهم آخر‬
‫بزاوية حديدية ثقيلة عثرت عليها داخل أكوام‬ ‫شكارة قطن‪ ،‬رأيتها صغيرة ج ًدا‪ ،‬ننتفض خلفها فال‬
‫القمامة املتراكمة بمحاذاة السور!‬ ‫تسترنا! لست أدري أكنا ننتفض ضعفًا وخوفًا‪ ،‬أم‬
‫طويل أمام ضرباتي الضعيفة‬ ‫ً‬ ‫مل يصمد السور‬ ‫نرتعد من شدة الصقيع وبرودة أسمالنا التي بللها‬
‫املتتابعة؛ صنعت فجوة يف السور‪ ،‬الح من خاللها‬ ‫املطر؟‬
‫بوابة املحلج والغفر بظهورهم عند أقصى اليمين‪،‬‬ ‫رفع األعداء آخر نوارة قطن نستتر خلفها! مل يكن‬
‫أكملت الفتحة ليتثنى سحب زوجتي من خاللها‪،‬‬ ‫سهل عىل «أمينة» أن تتنازل عن جدار بيتها اللين‬ ‫ً‬
‫كانت قد تنبهت ملا يدور حولها‪ ،‬وتتأوه بصوت‬ ‫الذي طاملا راودها حلم أن يأتيها املخاض عنده‬
‫خافت!‬ ‫وتضع وليدها تحته! تشبثت أمينة بأظافرها يف‬
‫يف لحظات بلغت بها نهاية الجرن؛ عند زاويته‬ ‫الجوال‪ ،‬وعضت عليه بنواجذها!‬
‫البعيدة عن أعين الغفر والناس‪ .‬غرست حولها‬ ‫الرجال اعتراهم الذهول‪ ،‬تسمروا يف أماكنهم‪ ،‬مل‬
‫ُشجيرات قطن قوية‪ ،‬ثم جعلت من بطانيتي سقفًا‬ ‫يفهموا شيئًا‪ ،‬لكنهم حاولوا إبعادها‪ ،‬ظنًّا منهم أنها‬
‫متينًا يسترها! لحظات وبدأ مولودنا السعيد ينطح‬ ‫مخبولة‪ ،‬أمسك أحدهم بقدميها وانتزعها انتزا ًعا‪،‬‬
‫صراخ‪ ،‬كأنه ت ََم َّه َل حتى‬
‫ٍ‬ ‫الباب برأسه‪ ،‬منطلقًا دون‬ ‫فسقطت عىل األرض!‬
‫أنصب له عامله الجديد! سميناه «السيد»‪ ،‬أخذته‬ ‫ُ‬ ‫رأيت ألول مرة أمينة كأنها شجيرة قطن تنبت من‬
‫«أمه» يف صدرها وراحت يف نوم عميق!‬ ‫كثيرا‪ ،‬مل‬
‫ً‬ ‫جديد يف أرض املحلج! احتضنتها‪ ،‬بكينا‬
‫‪58‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫نادية توفيق‬

‫أنشودة بمداد أحمر*‬

‫أحالتني إىل كائن متعدد األلسنة وموحدها‪ .‬صارت‬ ‫القلب ينبض‬


‫املدينة بألسنة ملخبطة وأصبحت أنا الكائن الغريب‪.‬‬
‫حتى أنهم حاولوا ختمي كي ال يضيعونني‪ .‬أنقذني‬ ‫قليل يف الطرقات املعوجة‪ .‬كل شيء‬‫تجولت ً‬
‫صديق من إثم الختم وأعادني إىل حظيرة البشر‪.‬‬ ‫يوصلك إىل ذات البقعة‪ .‬مل أتعب من املشي قدر‬
‫ما زال البشر يأتون من كل الشقوق والحفر‬ ‫تعبي من اإلصرار عىل الوصول إىل ذات البقعة‪،‬‬
‫وكأنها النداهة‪ .‬اخترت االستسالم‪ .‬شعرت بخدر‬
‫يصعدون ويرتفعون قاصدين قبلتهم الوحيدة‪.‬‬
‫قوي يلفني حين دخلت امليدان الفسيح‪ .‬وتذكرت‬
‫ميدان املدينة‪ .‬السماء مزدانة بالكاميرات؛ فوجي‬
‫نبوءة األجداد وأدعية أولياء اهلل الصالحين‬
‫وكانون وكوداك‪ .‬املوبايالت تحلق حولنا؛‬
‫وأنشودة الوطن مصر التي تتحدث عن نفسها‪.‬‬
‫سامسونج وبالكبيري ونوكيا واألوحد آبل‪.‬‬
‫عاودني الحنين إىل أزمنة عشتها‪ ،‬إىل دروب‬
‫الشاشات تضيء وتنطفيء يف رقصة أبدية حول‬
‫فرار ونداءات خالص وجمرات تطهير‪ .‬عاودني‬
‫رأسي‪ ،‬تسكرني بمداد أسود من نبيذ قرون‬
‫الحنين إىل صدور َر ْخصة وأصوات عذبة وعيون‬
‫ماضية‪ .‬أشعر بحرارة الداتا الصاخبة املتوهجة يف‬
‫ناعسة‪ .‬عاودني حنين جارف إىل غرفة امليالد وإىل‬
‫السماء‪ .‬صور وتويتات ومقاطع فيديو ونغمات‬ ‫روائح طهي أصلية‪ .‬تبدت يل النداهة كما تصفها‬
‫جيتار وروائح ذرة مشوي وبطاطا نيئة وبارود‬ ‫إيالما وشبقًا‪.‬‬ ‫العجائز‪ .‬كانت شهية مخيفة تنطق‬
‫ً‬
‫معبأ يف ذرات بخار ماء يتجمع بتؤدة كي يشكل‬ ‫االستسالم لها مؤمل بعذوبة‪ ،‬بيقين اليائس أن‬
‫َف ْج ًرا بال صوت‪.‬‬ ‫مخدره سيحميه من اإلحساس وليس من الويل‪.‬‬
‫ينادي أحدهم للصالة‪ .‬تتجمع الصفوف يف سرعة‬ ‫تعودت عيناي عىل األلوان املتداخلة‪ .‬خيل إ َّ‬
‫يل أن‬
‫وتتحول قرقعة األحذية والصنادل والشباشب‬ ‫أحدهم ينادي اسمي‪ .‬اسم قبع كامنًا يف غياهب‬
‫الزاحفة فوق األسفلت الحمول إىل أكف ضارعة‬ ‫أدغال التاريخ‪ .‬املنادي صوت بال وجه‪ .‬يتقدم‬
‫يف همهمة متسامية‪ .‬مل أكن أعرف يل مكانًا وسط‬ ‫فيلما تاريخيًّا؟‬‫الصوت مخترقًا الجموع‪ .‬أيصورون ً‬
‫الصفوف‪ .‬لكنني تتبعت األكف الضارعة فوجدت‬ ‫الكاميرات يف كل مكان‪ .‬والصوت األليف ما زال‬
‫يل ركنًا غير بعيد عن القلب‪ .‬كفاي بدآ بالذوبان‬ ‫ينادي‪ .‬ال أدري بم أجيب‪ .‬أخاف أن أكون بطل لقطة‬
‫سري ًعا تحت وطأة الدموع التي بدأت تتجمع حولنا‬ ‫ساخرة‪ .‬املوبايالت مشرعة أسلحتها األثيرية‪ .‬يف‬
‫كقطرات املطر‪ ،‬فتحولنا إىل أجنة تسبح يف الرحم أو‬ ‫دقائق وأصبح أضحوكة الشهر‪ .‬تشبثت براحلتي‬
‫إىل كائنات بزعانف من نور أو إىل كائنات رخوة بال‬ ‫ومفاتيحي وسترتي كي أظل يف موقعي‪ .‬الصوت‬
‫صدف‪.‬‬ ‫بال وجه ما زال يناديني‪ .‬هذه املرة ال ينطق اسمي‪.‬‬
‫يف الزحام تسمع صوت مغ ٍّن يأتيك مختل ًطا‬ ‫بل ال ينطق‪ .‬هو ينشد أو يناجي أو يصيل‪ .‬مل أفهم‬
‫باألدعية التي ال تتوقف‪.‬‬ ‫اللغة‪ .‬ما عدت أفهم لغة املدينة‪ .‬سياحتي يف األرض‬
‫‪59‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫النوم‪ ،‬أعطي املاء والدواء أحيانًا‪ .‬كانت «إيزيس»‪،‬‬ ‫امليدان‬


‫وهذا كان اسمها يف ذهني‪ ،‬تحرس املكان كل يوم‪.‬‬
‫أشعر بوجودها وإن مل تكن موجودة‪ .‬أحيانًا تحدث‬ ‫سا يف تلك الظهيرة‪ .‬انشغلت‬ ‫كان امليدان مك َّد ً‬
‫محاوالت اقتحام من بعض املغامرين واملتسكعين‬ ‫بتدوينتي اليومية‪ .‬تعليقات قرائي تشعرني أن‬
‫والوحيدين يف قلب الليل‪ .‬كان يتم التصدي لها مع‬ ‫كلماتي تطرق عىل أبواب موصدة فتفتحها‪ .‬الوطن‬
‫إحداث أقل قدر ممكن من الجلبة‪ .‬ويقتصر دوري‬ ‫كله يفتح قلبه للشمس والهواء‪ .‬بادرتني عجوز‬
‫ساعتها عىل تهدئة الداخل وطمأنة املعتصمين‪.‬‬ ‫بالكالم كي أعينها عىل فتح زجاجة مياه‪ .‬جلست‬
‫يف طريق العودة للبيت اصطحبتني «إيزيس»‪ .‬اتفقنا‬ ‫بجواري تحدثني عن الوطن زمان‪ .‬العجوز تفخر‬
‫عىل شراء طعام وأغطية وبعض املواد الطبية‪ .‬كان‬ ‫بأمجاد أسرتها‪ .‬مل تبخل بمشاركة الوطن لحظاته‬
‫دائما‪ ،‬من جيبها ومن التبرعات‬‫متوفرا معها ً‬
‫ً‬ ‫املال‬ ‫الحاسمة كما نفعل اآلن‪ .‬استمعت إىل كلماتها‬
‫داخل وخارج امليدان‪ .‬نحن نكسب أرضية يف‬ ‫املشبعة بروائح مل آلفها‪ .‬أعرف أنني خارج جلدي‬
‫يوما بعد يوم‪ .‬سألتها عن دراستها‬ ‫الشارع تتسع ً‬ ‫يف هذه اللحظة‪ .‬أعرف أنني يف مساحة حلم تحدها‬
‫العليا‪ .‬تحضر رسالة ماجستير عن حقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫أجساد بشر ال أعرفهم يف واقعي‪ .‬لكنني أعرفهم يف‬
‫تفخر بإنجازاتها مع أهل النوبة وأقباط املنيا وأرامل‬ ‫حلمي‪.‬‬
‫الزواج الصيفي‪ .‬كانت متحمسة‪ ،‬مزاجية‪ ،‬عدوانية‬ ‫أصبح يل رفقاء‪ ،‬كرفقاء السالح‪ .‬نواجه ظلم‬
‫عند االستفزاز‪ ،‬ورقيقة عند املزاح‪ .‬أحيانًا أشعر‬ ‫العامل عىل نغمات جيتار‪ .‬نتحلق حوله كمجموعة‬
‫بعجزي عن مجاراتها يف حماسها‪ .‬كنت أشعر بثقل‬ ‫بشرية تستعيد بدائيتها البكر وتحلم ببدايات‬
‫سنوات عمري الثالث والثالثين‪.‬‬ ‫الع َلم كشارة ودرع‪ .‬غيري كان‬ ‫قديمة‪ .‬كنت ألتحف َ‬
‫تعبيرا عن الحب أو الشبق‪ .‬ومل‬‫ً‬ ‫مل تكن القبلة األوىل‬ ‫َ‬
‫العلم كان غالبًا‬‫يرتدي كوفية النضال التقليدية‪َ .‬‬
‫تكن إذعانًا مني لوطأة حرمان يغلف جسدي الذي‬ ‫عىل مالبسنا وحول معاصمنا وداخل نن عيوننا‪.‬‬
‫يخترق حاجز الزمن الذكوري بتؤدة‪ .‬كانت قبلة‬ ‫أو هكذا كنت أرى‪ .‬الفتيات يضعن يف شعورهن‬
‫خوف ورعب من اآلتي‪ .‬يف لحظة كانت األجساد‬ ‫الع َلم‬
‫املسدلة وأغطية شعورهن املزركشة ألوان َ‬
‫الجريحة تنهمر علينا كسيل ال يتوقف‪ .‬تحملها‬ ‫الثالثة‪ .‬يطلين بها أظافرهن‪ .‬يضعنه عىل شاشات‬
‫الدراجات النارية وعربات اإلسعاف‪ .‬كنت أعاون‬ ‫هواتفهن‪ .‬كنت سعي ًدا باالمتداد خارج وجودي‬
‫يف تخييط الجروح وإيقاف النزيف‪ .‬مل أكن أعرف‬ ‫الذكوري يف مساحة نتساوى فيها ونساهم دون‬
‫كيف أؤدي ً‬
‫عمل مل أتدرب عليه‪ .‬لكنها اللحظة‬ ‫تمييز كروموزومي‪ .‬تعرفت عىل فتاة يف أواخر‬
‫الفاصلة بين الحياة واملوت‪ .‬ال وقت للتريث وفتح‬ ‫العشرينات يف إحدى أمسيات املبيت يف امليدان‪.‬‬
‫كتاب القواعد‪ .‬فاجأتني قبلتها ومل أشعر بمتعة قدر‬ ‫كانت فاتنة بمالمحها املصرية اإليزيسية وشعرها‬
‫شعوري بأنني أحميها‪ ،‬هي التي مل تكن تخاف‬ ‫األسود املتماوج بال مبالغة وال حياء‪ .‬كانت تمر‬
‫من أشباح املوت التي تحلق فوق رؤوسنا‪ .‬طالت‬ ‫بين الناس تلبي حاجاتهم من املاء والسندويشات‪.‬‬
‫القبلة بما يكفي كي تمتزج بطعم اآله والدموع‪ ،‬كي‬ ‫أعجبت بحيويتها وثباتها‪ .‬مل تكن تخاف حين‬
‫أشعر برجولتي تتدفق كالنهر بين يديها‪« .‬نهير»‪،‬‬ ‫تسمع جلبة أو يصرخ أحدهم بالعثور عىل سالح‬
‫«إيزيسي» السمراء فردت جناحيها وجذبتني إىل‬ ‫أو عند سماع طلقات‪ .‬كانت تهدئ روع ساكني‬
‫عاملها ومل أكن أدري أنني أغادر حياتي القديمة‪.‬‬ ‫امليدان‪ .‬يف الليلة التي تعرفت عليها فيها كنت قد‬
‫عندما كنت طالبًا جامعيًّا‪ ،‬كنت أعيش حياة هادئة‬ ‫انخرطت بشكل كامل مع مجموعة الحماية‪ .‬مل أكن‬
‫منظمة تتعامد فيها ساعات املذاكرة الطويلة مع‬ ‫قو ًّيا لكنني كنت يق ًظا‪ .‬كنت أحمي كتلة أجساد‬
‫سويعات القراءة والجري يف النادي وبعض سهرات‬ ‫انتظارا لبزوغ الشمس‪ .‬حدود‬ ‫ً‬ ‫لجأت إىل هذه البقعة‬
‫املوسيقى العربية‪ .‬كنت أحب السينما األوروبية‬ ‫األمل كانت هي حدود امليدان‪ .‬كنت أمر يف املنطقة‬
‫واآلسيوية وأسعى لعزل نفسي عن هراء هوليوود‪.‬‬ ‫املخصصة يل أراقب النائمين‪ ،‬أُطمئن من جافاه‬
‫‪60‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫خارج حدود امليدان كانت كافية ملعاودة الشعور‬ ‫كنت عينة نادرة لكائن يف طريقه لالنقراض‪ .‬كائن‬
‫باالختناق واألمل‪ .‬كنت أتحرك بالتاكسي ألن البلد‬ ‫قول لـ»سوفوكليس» أو‬ ‫من املمكن أن يقتبس ً‬
‫كان يرتع فيه اإلجرام‪ .‬أخاف عىل «نهير» ألنها‬ ‫«الرافعي» أو «نجيب محفوظ»‪ ،‬ويحب «الرواية‬
‫كانت كثيرة الحركة والتنقل‪ .‬مل تكن تخبرني بأنها‬ ‫الجديدة» رغم انتهاء عزها‪ .‬أحب الكالسيكيات‬
‫ستغادر امليدان إال بعد أن تكون قد غادرته بالفعل‪.‬‬ ‫الحديثة وموسيقى «باخ» و»موتسارت» وبريلودات‬
‫كنت أشعر بالحيرة والعجز وأؤكد لنفسي أنها ال‬ ‫«شوبان» وأطرب للطقاطيق القديمة ولكل تراث‬
‫تحتاج إىل رجل مثيل ال تثق يف مشاركته الرأي‪،‬‬ ‫«أم كلثوم» قبل الحقبة الستينية‪ .‬مل يكن غريبًا أن‬
‫لكنني كنت أعاود التمسح عىل عتباتها كمؤمن‬ ‫تقتصر صداقاتي عىل كائنات مل يصبها عطب القرن‬
‫مخلص‪ .‬كانت تلتقي رفاقها من الثوار‪ .‬كان اللقب‬ ‫كثيرا ومل يزيدوا عن أصابع اليد‬ ‫ً‬ ‫الواحد والعشرين‬
‫طازجا متجد ًدا بعد رقاد سنين يف حضن تاريخ مل‬ ‫ً‬ ‫الواحدة‪.‬‬
‫يتفق أحد عىل روايته‪ .‬تحب التواجد وسط زمرة‬ ‫طموحا وال طما ًعا‪ .‬الركون إىل ميراث‬
‫ً‬ ‫مل أكن‬
‫الرفاق‪ :‬يساريون نشأوا يف أحضان خيبة األمل‬ ‫أسرة متغلغلة يف البرجوازية املصرية كان أحد‬
‫التي أورثتها الجالسنوست والبيروسترويكا‪،‬‬ ‫ميزات حياتي‪ .‬بعد التخرج تفرغت إلدارة صيدلية‬
‫أناركيون يؤمنون بقدرة الفرد عىل قهر الدولة‬ ‫صغيرة يف حي تائه عىل خريطة العاصمة املترعة‬
‫وصول إىل الحرية املطلقة‪ ،‬طلبة‬ ‫ً‬ ‫وزعزعة أركانها‬ ‫باألركان الصغيرة املخفية‪ .‬كانت تضمني حيطانها‬
‫صبة‬ ‫جامعة أمريكية خرجوا من تربة ُمخَ َ ّ‬ ‫وعىل مكتبي وضعت اسطوانات موسيقى أجددها‬
‫بثقافة العامل الجديد‪ ،‬اشتراكيون يجلسون‬ ‫أسبوعيًّا‪ ،‬ويف كل مرة تثير شهية السخرية لدى‬
‫عىل الحياد ما بين كفاح الطبقات الكادحة‬ ‫مساعدي «مسعود»‪ .‬كانت سخرية رائقة‪ ،‬بل وكان‬
‫ومقصلة رأس املال‪ ،‬دعاة تحرر من كل‬ ‫يترجم مزاجي وفق نوعية املوسيقى التي أحملها‬
‫القيم املتوارثة املتحفية‪ ،‬طلبة جامعة دخلوا‬ ‫إىل الصيدلية‪« .‬باخ» جدية‪« ،‬منيرة املهدية» روقان‪،‬‬
‫السياسة من باب الاليكات والشير عىل‬ ‫«أم كلثوم» عشق‪« ،‬كاميالري» غرام‪ ،‬أما «محمد‬
‫الفيسبوك‪ .‬مل أكن واح ًدا منهم‪ ،‬لكنني‬ ‫شية فيه‪.‬‬‫منير» و»عبد الحليم» فمزاج وطني ال ِ‬
‫حضرت بعض اجتماعاتهم بدعوة من‬ ‫كنت مصر ًّيا حتى النخاع‪ ،‬رغم أنني خريج‬
‫«نهير»‪« .‬نهير» نفسها كانت تنتمي إىل أفكارها‬ ‫مدارس فرنسية وأحمل وصمتها يف نظر العامة‬
‫فقط‪ ،‬تنتصر لحقوق اإلنسان وتتعصب للمرأة‬ ‫التي تشكك يف رجولة خريجيها‪ .‬الجيل القديم‬
‫والطفل وتكره كل من يرتدي ز ًّيا رسميًّا‪.‬‬ ‫من عائلتي كان يتحدث املصرية الفرنكوفونية‪.‬‬
‫«عشت يف أوروبا وأمريكا فترات طويلة مكنتش‬ ‫والجيل الجديد هاجر معظمه إىل بالد الفرنكوفونية‬
‫بشوف عسكري إال ملا يحصل حادث‪ .‬هنا العساكر‬ ‫واألنجلوساكسونية‪ .‬دفتر تلفوني يحمل كود معظم‬
‫أكتر من املواطنين»‪.‬‬ ‫مثقل بحنين ألحباب كثر‪ .‬وعليه‬ ‫ً‬ ‫دول الغرب‪ .‬كنت‬
‫كانت تميل إىل األناركيين وتعتقد أن العامل سيكون‬ ‫وجدت يل وطنًا يف قلب امليدان وحضنًا لدى «نهير»‬
‫أفضل من دون حكومات‪ .‬ألن الحكومة امتداد‬ ‫التي بدأت أنطق اسمها يف خيايل بعدما كنت أسميها‬
‫للسلطة األبوية التي ترفضها من أساسها‪ .‬تتحدث‬ ‫«إيزيس»‪.‬‬
‫قليل عن أسرتها‪ .‬أمها تعمل يف هيئة املعونة‬ ‫ً‬ ‫كان امليدان وطنًا وسكنًا ومالذًا‪ .‬أتجول بين‬
‫األمريكية وأبوها أستاذ جامعة يف أمريكا‪ .‬وهي‬ ‫ساكنيه كأنني أتجول داخل طرقات مدينة صغيرة‬
‫اختارت البقاء يف القاهرة لتشارك يف التغيير‪.‬‬ ‫فردوسا دون أن تدري‪.‬‬ ‫ً‬ ‫انعزلت عن العامل فصارت‬
‫أحببت فيها حماسها ملستقبل مصر الذي ُيصاغ‬ ‫الج ْور والظلم والدمار‪ .‬صحيح أن‬ ‫ألنها انعزلت عن َ‬
‫بأيدي نخبتها‪ .‬مل أشعر باالنتماء لتلك النخبة‪ ،‬فقط‬ ‫ِ‬
‫العامل الخارجي كان يرسل علينا ح َم َمه من وقت‬
‫للميدان ولحالة اللُحمة البشرية التي تربطني بكل‬ ‫آلخر‪ .‬لكن الحدود الفاصلة بين ميداننا وعاملهم‬
‫من فيه عىل اختالف طبيعتهم‪.‬‬ ‫كانت واضحة املعامل‪ ،‬لدرجة أن بضع خطوات‬
‫‪61‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫بتوصيلها إىل مكان ما‪.‬‬ ‫عالقتي بـ»نهير» كانت جز ًءا من عالقتي بالثورة‬
‫كانت ليلة باردة وكنت أنتظرها يف الركن املعتاد‪.‬‬ ‫وامليدان‪ .‬كنت أحبها ألنها كانت جز ًءا من كل‬
‫أحاول غربلة ما ُيقال عبر مكبرات الصوت يف‬ ‫ما يحدث‪ .‬أمر عىل الناس‪ ،‬أطالع وجوههم‪ ،‬أقرأ‬
‫امليدان‪ .‬كنا عىل حافة العامل‪ .‬والعامل يتفرج بانتظار‬ ‫مخاوفهم‪ ،‬أتدثر بآمالهم وأنا أحمل «نهير» كتميمة‬
‫نهاية قد تنتزع منه التصفيق أو اآلهات‪ .‬رفيق‬ ‫حماية‪ .‬أنتظرها يف املكان املعتاد‪ .‬أنتظر يف صبر‬
‫ميداني امللتحي الذي يحرص عىل دعوة الجميع‬ ‫دائما ما يكون لديها‬
‫وإخالص‪ .‬وعندما تحضر ً‬
‫للصالة عند كل آذان قال إنه يتوجس من مصير‬ ‫مهمة جاهزة للطلب‪ :‬توزيع بطاطين‪ ،‬املساعدة يف‬
‫معتصمي ميدان السماء‪ .‬هززت رأسي ً‬
‫قائل‬ ‫حمل معدات الصوت‪ ،‬توزيع بيانات ومنشورات‪،‬‬
‫«مستحيل»‪ .‬بعض رفاق «نهير» يف اجتماع لييل‬ ‫نقل مواد طبية وأدوية للمستشفى‪ .‬وأحيانًا تأمرني‬
‫أمس أكدوا أن مطلبهم الذي لن يفاوضوا عليه‬
‫هو رحيل رأس النظام‪ .‬دار جدل طويل حول من‬
‫يحل محله‪ .‬كانت «نهير» متحمسة ومعها آخرون‬
‫للمصري املغترب‪ .‬رجل السالم وصوت الضمير‪.‬‬
‫أنصت إليهم جمي ًعا وقد بدأت أشعر بغصة قلق‪.‬‬
‫لست قارئًا جي ًدا للمشهد السياسي الدويل‪.‬‬
‫لكنني كنت قارئ صحف‪ .‬أستقي زادي اليومي‬
‫من الوعي السياسي من أعمدة نجوم الصحافة‪.‬‬
‫أقرأ للجميع وأغربل وأفند وأقارن لتخير سبيل‬
‫لفكري‪ .‬لكنني كنت أكتفي بالفرجة يف نهاية اليوم‪.‬‬
‫«نهير» ورفاقها يبدون متحركين أكثر مني‪.‬‬
‫يتفاعلون‪ ،‬ولو بطباعة شعار أو عبارة عىل تي‬
‫شيرت يرتدونه ويحرصون عىل تصويره أمام‬
‫العامل الذي يشاهدنا عىل مدار الساعة‪.‬‬
‫طال االنتظار تلك الليلة‪ .‬خاصة مع استحالة‬
‫التواصل بغير طريق تويتر‪ .‬كانت «نهير» ترسل‬
‫تغريداتها وتدويناتها عبر أرقام خصصها جوجل‬
‫ملساعدة الشعب الثائر‪ .‬كنت عاج ًزا عن التواصل‬
‫معها واقعيًّا وافتراضيًّا‪ .‬كانت مشغولة بعيدة‬
‫متباعدة مهمومة عصبية‪ .‬أحتاج إىل فترة تأمل‪،‬‬
‫لكن هذا ترف وسط العيون املتعبة والسأم وفقدان‬
‫البوصلة‪ .‬أتحدث عن نفسي‪ .‬أحاول اإلنصات إىل‬
‫خطباء امليدان ألستمد مد ًدا من أصوات تدعو إىل‬
‫الصمود‪ ،‬تتغنى بحب الوطن‪ ،‬توقظ فينا مواتًا دام‬
‫عقو ًدا‪ .‬شيء ما يتخلق داخلنا أو باألحرى يوقظ‬
‫من سبات مائة عام؛ أو ربما كنت أستدعي عاملًا من‬
‫وغربت‬‫شرقت َّ‬ ‫الروائح املعتقة بإرث عائلتي التي َّ‬
‫وظلت تحتفظ بروح مصرية ال أراها إال بين جنبات‬
‫ظل له عىل األرض بين‬ ‫بيت بنيته يف قلبي ومل أجد ًّ‬
‫الناس‪ .‬كان الخطيب شا ًّبا يف مثل عمري‪ ،‬يمسك‬
‫‪62‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫فهم ما يجري وهو يف الشطر الثاني الجالس أمام‬ ‫بميكروفونين ويدعو الناس إىل البقاء والتمسك‬
‫شاشات التلفزيون‪ .‬واكتشفت أنني أريد أن أفهم‬ ‫باألرض‪.‬‬
‫مثله رغم أنني من بتوع التحرير‪ .‬قال الرجل‪:‬‬ ‫«العامل كله بيتفرج عىل روعتكم‪ .‬أنتم بتكتبوا‬
‫«لو عاوزين مبارك يمشي‪ ،‬احنا كمان عايزينه‬ ‫التاريخ دلوقت‪ .‬بتاخدوا زمام األمور بأيديكم‪.‬‬
‫يمشي النهاردة قبل بكرة‪ .‬بس مين يبقى كبير البلد‬ ‫قطعوا االتصاالت بس لسة العامل شايفكم»‪.‬‬
‫يا هندسة؟ معلش احنا مش متعلمين زيكو والزمنا‬ ‫نعم‪ ،‬العامل يشاهدنا بال شك‪ .‬قناة الجزيرة تضع‬
‫كبير»‪.‬‬ ‫وكثيرا‬
‫ً‬ ‫علينا عينًا حارسة راعية تنقل ما يجري‪.‬‬
‫جاريته يف منطقه‪:‬‬ ‫ما قابلت مراسليها ومصوريها هنا وهناك يف‬
‫«كل بلد محتاجة إدارة ممكن نسميها الكبير بتاعها‪.‬‬ ‫امليدان‪« .‬نهير» تعرف منهم العديدين‪ .‬لديها صديقة‬
‫بتكون مجموعة مؤسسات وأفراد بيديروا بشكل‬ ‫مقربة من بينهم‪ .‬امرأة لطيفة دقيقة الجسد‪،‬‬
‫جماعي حسب القانون»‪.‬‬ ‫متوقدة العينين‪ .‬تتحدث بإيجابية كبيرة عن ميداننا‬
‫رد عيلَّ السائق ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫وثورتنا‪ .‬تحدثت إليها وإىل غيرها مرات عديدة‪.‬‬
‫«مختلفناش‪ .‬يعني أنتوا بتوع التحرير عندكم‬ ‫يتابع «نهير» نصف مليون شخص عىل تويتر‪.‬‬
‫اإلدارة دي جاهزة تستلم من مبارك؟»‪.‬‬ ‫تنشر أخبار امليدان عىل مدار الساعة‪.‬‬
‫مل أجد السؤال مستفزًّا قدر ما وجدته غير منطقي‪:‬‬ ‫صباحا‪ :‬الروح املعنوية مرتفعة ج ًّدا يف امليدان‪ .‬كل‬ ‫ً‬
‫«احنا مش ساسة‪ .‬احنا الشعب‪ .‬عايزين‬ ‫حاجة جديدة حتى املوسيقى واألغاني‪.‬‬
‫نوصل ملرحلة اإلدارة طب ًعا‪ ،‬بس احنا حاليًا‬ ‫ظهرا‪ :‬كل اليل يقدر ييجي ومعاه بطاطين وشاش‬ ‫ً‬
‫لسة متخلصناش من النظام الحايل‪ .‬الزم نهد‬ ‫وميكروكروم وكحول مطهر‪ .‬كل املداخل مؤمنة‪.‬‬
‫األول عشان نبني عىل نضافة ونوصل لإلدارة‬ ‫مسا ًء‪:‬‬
‫الديمقراطية للدولة»‪.‬‬ ‫‪We will not bend under the iron grip of the‬‬
‫السائق مل يستوعب كالمي‪ ،‬ويا للغرابة أحسست‬ ‫‪regime. No internet blackout will stop the‬‬
‫مثله أن هناك حلقة مفقودة‪ .‬ليس يف ثورتنا النبيلة‬ ‫‪#egyrevolution‬‬
‫بحد ذاتها‪ ،‬بل يف مدى تواصلها عىل أرض الواقع‪.‬‬ ‫مل أعد أستطيع متابعة ما تكتب بسبب قطع‬
‫ميادين التحرير بحاجة لالنتقال داخل البيوت‪ .‬لدينا‬ ‫االتصاالت‪ .‬أعود وحي ًدا يف تاكسي إىل البيت‪ .‬الذعر‬
‫بدائل عديدة ملبارك وكلها قادرة عىل إدارة انتقالية‬ ‫يف الشوارع من السطو املسلح يجعل الناس غير‬
‫ناجحة للبالد‪ .‬لدينا طاقات تولدت من قلب ثورة‬ ‫آمنين‪ .‬هل نزعنا األمان من قلب مصر أم نزعنا‬
‫اللوتس‪ .‬لدينا صحوة قوية للروح املصرية تستطيع‬ ‫الغطاء عن قلب غير آمن؟‬
‫بناء دولة عىل أسس حضارية‪.‬‬ ‫سائق التاكسي الذي قادني إىل البيت وحي ًدا‬
‫شاركت اليوم رفقاء خيمتي‪ ،‬نبيل الفنان التشكييل‬ ‫سألني‪« :‬أنت من بتوع التحرير؟»‪.‬‬
‫طالب الدكتوراة وكريم ابن الجامعة األمريكية‬ ‫مل أعد أعرف تحدي ًدا‪ ،‬وكي أكون صادقًا أجبته‪:‬‬
‫وسيد املهندس السكندري وسامح رفيق الكفاح‬ ‫«تقدر تعتبرني ُمرا ِقب»‪.‬‬
‫الصيديل‪ ،‬مقاطع من «طبائع االستبداد»‪ ،‬وأحب أن‬ ‫مل يستوعب السائق إجابتي ودارت بيننا مناقشة‬
‫أختم بها هنا‪:‬‬ ‫دونتها تلك الليلة تحت عنوان‪« :‬إنت من بتوع‬
‫[وإني أقتصر عىل بعض الكالم فيما يتعلق باملبحث‬ ‫التحرير؟»‪.‬‬
‫األخير منها فقط‪ ،‬أعني مبحث السعي يف رفع‬ ‫هل تنقسم مصر اآلن إىل شطرين؟ ميادين الحرية‬
‫االستبداد فأقول‪:‬‬ ‫والبيوت املترقبة؟ وهل هما شطران متساويان؟ يف‬
‫(‪ )١‬األمة التي ال يشعر كلها أو أكثرها بآالم‬ ‫القدرة أم املقدار؟‬
‫االستبداد ال تستحق الحرية‪.‬‬ ‫دار السؤال برأسي وبرأس سائق تاكسي أقلني‬
‫(‪ )٢‬االستبداد ال يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين‬ ‫من ميدان التحرير إىل البيت‪ .‬كان السائق يحاول‬
‫‪63‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫يف العامل االفتراضي بسرعة أكبر من العامل‬ ‫والتدرج‪.‬‬


‫الواقعي‪.‬‬ ‫(‪ )٣‬يجب قبل مقاومة االستبداد تهيئة ماذا يستبدل‬
‫تماما‪ .‬كنت قد‬ ‫ً‬ ‫يف النهار كانت األحوال مختلفة‬ ‫به االستبداد‪.‬‬
‫قلصت مواعيد فتح الصيدلية بناء عىل نصائح‬ ‫هذه قواعد رفع االستبداد وهي قواعد تبعد آمال‬
‫العائلة‪ ،‬خاصة بعد التخريب الذي أصاب شركة‬ ‫األسراء‪ ،‬وتسر املستبدين‪ ،‬ألن ظاهرها يؤمنهم‬
‫يملكها ابن عمي يف مصر الجديدة‪ .‬اقتحم اللصوص‬ ‫عىل استبدادهم‪ .‬ولهذا أذ ِّكر املستبدين بما أنذرهم‬
‫به الفياري ال يفرحن املستبد بعظيم قوته ومزيد‬
‫والبلطجية مقر الشركة وسرقوا أجهزة الكمبيوتر‪.‬‬
‫احتياطه فكم من جبار عنيد َج ْن َد ُل ُه مظلوم صغير‪،‬‬
‫أما كل ما ال يمكن سرقته فقد تعرض للتحطيم‬
‫وإني أقول‪ :‬كم من جبار قهار أخذه هلل عزيز‬
‫والتدمير‪ .‬ابن عمي أصيب بحالة استدعت نقله‬ ‫منتقم]‪.‬‬
‫للمستشفى وقد أمضيت ساعة معه هناك‪ .‬كان‬ ‫علقت «نهير» عىل تدوينتي بعد نشرها بدقائق‪:‬‬
‫األطباء مستاءين مما يجري‪ .‬ويؤكدون أنه لوال‬ ‫سائق التاكسي هيفهم بتوع التحرير ملا يالقي‬
‫شركة األمن لكانت املستشفى تعرضت للهجوم‬ ‫نفسه مل يعد مضطر لغمز عسكري املرور بحاجة‬
‫والنهب مرات عديدة‪ .‬كثير منهم أصبح يحمل‬ ‫عشان يفوت له‪ .‬وملا يقدر يروح املرور يجدد‬
‫السالح كي يحمي نفسه‪.‬‬ ‫الرخصة ويدفع الرسوم بس من غير رشاوى‪ .‬ملا‬
‫عدا عن ترداد «حسبي اهلل ونعم الوكيل» من وقت‬ ‫والده يروحوا املدرسة الحكومي ويتعلموا بجد من‬
‫آلخر‪ ،‬التزم ابن عمي «حازم» الصمت‪« .‬دينا»‬ ‫غير دروس خصوصية‪ .‬كل مصر هتفهم يف يوم‬
‫زوجته كانت صامتة هي األخرى تكسو مالمحها‬ ‫قريب ج ًّدا إيه اليل عايزينه بتوع التحرير‪.‬‬
‫تعبيرات املرارة‪ .‬استغرق األمر مني بعض الوقت‬ ‫وكان ردي‪:‬‬
‫لقد قلت لسائق التاكسي تقريبًا مثلما تفضلت به‪.‬‬
‫حتى اكتشفت أن كليهما يلوماني عىل ما حدث‪.‬‬
‫وشكرا عىل مرورك‪.‬‬
‫ً‬
‫خرجت من املستشفى عائ ًدا إىل الصيدلية وأنا‬
‫كنت أشعر أن ما يربطني بها أعمق من حالة إعجاب‬
‫أشعر بحيرة كبيرة‪ .‬هل أبقى يف البيت الليلة أم‬
‫أو حب أو حتى شهوة‪ ،‬من جانبي عىل األقل‪ ،‬بل هو‬
‫أعود إىل امليدان؟‬ ‫رفقة سالح بين رجل وامرأة تتعدى مجرد العالقة‬
‫ربما تحدد إجابتي عن هذا السؤال موقعي من‬ ‫العادية اليومية‪.‬‬
‫التاريخ‪ .‬ربما كان عيلَّ أن أتريث‪ .‬ربما كان عيلَّ أن‬ ‫مدونتي تجتذب عد ًدا ال بأس به من القراء‪ ،‬خاصة‬
‫أندفع‪ .‬كالهما خيار وأحالهما‪ ،‬أيكون ُم ًّرا؟‬ ‫بعد ربطها بحساب تويتر‪ ،‬وبعد أن نشرت «نهير»‬
‫‪------‬‬ ‫عىل حسابها العديد من روابط تدويناتي‪ ،‬ودعت‬
‫* فصل من رواية قيد الكتابة يحمل االسم نفسه‪.‬‬ ‫متابعيها لقراءة ما أدون‪ .‬كنا نتمدد بطريقة مذهلة‬
‫‪64‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫أحمد بوقري‬
‫(السعودية)‬

‫طعام وموسيقى للرجال الجوف‬

‫‪ -‬هل توصلت إىل أسما ِء من تدعو يا صاح؟‬ ‫يف ظهيرة خريفية جلس الكاتب الكبير عىل أريكته‬
‫ساهما‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال لها‬ ‫يرتشف من كأس النبيذ املوضوع عىل يمينه رشفات‬
‫‪ -‬أريد أن أدعو ستة معروفين من أكاديمي هذه املدينة‬ ‫بطيئة‪ ،‬ويقرأ قصيدة إليوت «الرجال الجوف» بتمعن‪،‬‬
‫وست ًة أخر من تكنوقراطيها وعليك أنت أن تختاري ست ًة‬ ‫ٍ‬
‫حبات من اللوز املدخن‪.‬‬ ‫وبين فينة وأخرى يلتقم‬
‫من أديباتها‪.‬‬ ‫قليل‪ ..‬طرق كأسه بأصبعه‪ ..‬فرنت نغمة‬ ‫سرح ً‬
‫ألقت زوجته نظرة سريعة فاحصة عىل الصالون الذي‬ ‫موسيقية ذائبة‪ ،‬فالتمعت عيناه‪ ،‬ثم نادى زوجته‬
‫يجلسان فيه وقالت جذل ًة‪:‬‬ ‫املستغرقة يف إعداد طعام الغداء‪ ،‬وعندما جاءت قال لها‪:‬‬
‫‪ -‬أين يجلس هؤالء وهؤالء والرهط اآلخر من األديبات؟‬ ‫‪ -‬أفكر بدعوة ره ٍط من أكاديمي وتكنوقراطي هذه‬
‫هؤالء حشد من الدببة السمان سيضيق بهم املكان!‬ ‫املدينة‪ ،‬ورهط آخر من أديباتها‪.‬‬
‫أعدا املكان م ًعا‪..‬‬ ‫‪ -‬فكرة جيدة‪ ،‬عىل األقل تخرج من عزلتك الباردة‪.‬‬
‫ومهندسا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بدا الصالون رائقًا‬ ‫جسورا منقطع ًة مل تلتئم منذ وطئت أديم‬
‫ً‬ ‫‪ -‬وأمد‬
‫وضعا ثالث كنبات عريضة تكفي ك ٍل منهما ستة من‬ ‫هذه البلدة الغامضة‪ ..‬مملكة األحالم املجهضة! ماذا‬
‫األنفس‪ ،‬تشكلت كحرف ‪.U‬‬ ‫تقترحين؟‬
‫ومقابلهما كنبتان أخريان يجلس عليهما الكاتب الكبير‬ ‫‪ -‬فكر أنت يف األمر ودعني أجهز لك الغداء‪ ،‬ثم نناقش‬
‫وامرأته‪.‬‬ ‫األمر بروي ٍة الحقًا‪.‬‬
‫وانكشف املشهد كأنه مسرح صغير شحيح اإلضاءة‪،‬‬ ‫استغرق من جديد يف قراءة القصيدة اإلليوتية وتمتم‪:‬‬
‫تتوارى خلفه طاولة طعام أعدت بعناية ووضعت عىل‬ ‫“هذه هي األرض امليتة‬
‫سطحها عشرون من األطباق املذهبة وكؤوس الشراب‬ ‫هذه هي أرض الصبار‬
‫الكريستالية‪ ،‬ترتمي بقرب كل طب ٍق املالعق والسكاكين‬ ‫ها هي ذي صور الحجر‬
‫والشوكات ملفوف ًة داخل مناديل ملونة‪.‬‬ ‫تُر َفع‪ ،‬ها هي تتلقى‬
‫وهكذا عندما حان موعد األمسية تزيأ الكاتب ببدلة‬ ‫ابتهال ي ِد رج ٍل ميت‬
‫سموكن بال كرافت‪ ..‬وامرأته تزيأت بفستانٍ بنفسجي‬ ‫تحت تأللؤ نج ٍم يخبو‪.‬‬
‫كشف عن ذراعيها البضين وأعىل منابت نهديها‪.‬‬ ‫أهكذا هي الحال‬
‫وجلسا كالهما عىل كرسيه يف انتظار قرع جرس الباب‪.‬‬ ‫يف ملكوت املوت اآلخر‬
‫يف السابعة جاء األكاديميون السمان فانحشروا جمي ًعا‬ ‫تصحو وحي ًدا‬
‫عىل الكنبة اليمنى‪.‬‬ ‫يف تلك الساعة حين نكون‬
‫أما التكنوقراط فقد بدوا رفيعي القوام جاءوا يف‬ ‫نرتجف برق ٍة‬
‫تماما يف الساعة السابعة والنصف‪..‬‬ ‫موعدهم ً‬ ‫الشفاه التي كانت لتقبل‬
‫وانحشروا يف الكنبة اليسرى‪.‬‬ ‫تؤلف صلوات لحج ٍر مكسور”‪.‬‬
‫وعندما وصل األديبات يف الثامنة فقد أخذن مجلسهن‬ ‫‪...‬‬
‫يف الكنبة الوسطى وسط صيحاتهن وضحكاتهن‬ ‫بعد الغداء استأنفا حديث األمسية املقترحة وقد‬
‫واهتزازات أجسادهن وترحيبات وغمزات الحاضرين‪.‬‬ ‫أصابهما خدر لذيذ‪ ،‬فقالت له امرأته وهي تعبث يف‬
‫‪...‬‬ ‫تليفونها باحث ًة عن موسيقى خفيفة تليق باللحظة‪:‬‬
‫‪65‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫قالت األديبة السمينة‪:‬‬ ‫دارت األقداح والهمسات والثرثرات الخافتة‪.‬‬


‫‪ -‬آاااه‪ ،‬اكتشفت اليوم أن زوجي عىل عالقة عاطفية‬ ‫وتضوع املكان بموسيقى ناعمة تأتي عىل استحياءٍ‬
‫بفتاة رشيقة تصغرني بأعوا ٍم عديدة‪ ،‬قلت له طلقني‬ ‫صاعد ًة هابطة من رك ٍن بعيد ال ُيرى‪.‬‬
‫وسترى كم عدد الرجال الجوف الذين ينتظرونني عند‬ ‫رحب الكاتب الكبير بضيوفه ورفع كأسه‪:‬‬
‫الباب»!‬ ‫‪Cheers -‬‬
‫قالت التي بقربها‪:‬‬ ‫وبدأت األحاديث الجانبية‪.‬‬
‫‪ -‬اليوم أنهيت روايتي الجديدة الضخمة التي هي سيرة‬ ‫ِ‬
‫كالصمت ال معنى له‪..‬‬ ‫كانت إما‬
‫ذاتية عن خياناتي لكل أزواجي السابقين‪ ..‬آه من هؤالء‬ ‫ٍ‬
‫أو كأصوات عالية مجففة‪.‬‬
‫الجوف يخوننا وال يريدون لنا خيانتهم!‬ ‫ٍ‬
‫كضحكات متقطعة متهكمة‪.‬‬ ‫أو‬
‫ومل تنته حكاياتهن عن الخيانات الزوجية يف كل‬ ‫وحده الكاتب الكبير كانت ابتسامته‬
‫أحاديثهن حين قاطعهن الكاتب الكبير‪:‬‬ ‫تحكي صوتًا آتيًا من األعماق‪..‬‬
‫‪ -‬قبل أن نذهب للعشاء سألقي عليكم هذا املقطع من‬ ‫ممس ًكا بقصائد اليوت يف قبضة يده اليمنى‪..‬‬
‫قصيدة اليوت‪:‬‬ ‫محش ًّوا قلبه بالفرح املحزون‬
‫“نحن الرجالُ الجوف‬ ‫ممعنًا النظر فيما تقوله الكنبات‬
‫نحن الرجالُ املحشوون‬ ‫والجدران‬
‫منحنون م ًعا‬ ‫تنتقل أذنه اليمنى نحو كنبة األكاديميين املحشوة عن‬
‫خوذ ٌة محشو ٌة بالتبن‪ .‬واحسرتاه!‬ ‫آخرها‬
‫أصواتنا املُ َجففة‪ ،‬عندما‬ ‫يأتيه حديث محشو بالقش‪:‬‬
‫‪ -‬اليوم أوصيت لجنة املناقشة بمنح الدكتوراة للطالب‬
‫نهمس م ًعا‪،‬‬
‫الذي استشهد بنصف كتابي النقدي القديم يف رسالته‬
‫صامتة وبال معنى‬
‫النقدية الطموحة‪ ..‬وشعرت باالمتنان بقدرته الفذة عىل‬
‫ٍ‬
‫يابس‬ ‫ريح يف عشبٍ‬ ‫مثل ٍ‬
‫سرقتي دون أن أعلم‪ ،‬ثم علمت‪.‬‬
‫زجاج مكسو ٍر‬
‫ٍ‬ ‫أو أقدا ِم جرذانٍ عىل‬
‫قال أحدهم‪.‬‬
‫يف قبونا الجاف‬
‫ويسمع حين يرد عليه زميله الجالس بقربه‪« :‬سأشجع‬
‫شبح بال لون‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫شك ٌل بال صورة‪،‬‬ ‫كل طالبي عىل االقتداء وممارسة سرقة كتبك الفذة‬
‫قو ٌة مشلولة‪ ،‬إيماء ٌة بال حركة”‬ ‫يا صديقي كي أتمكن من أن أوصي بمنحهم درجة‬
‫‪ -‬ربما تكون هي أفضل املقبالت لطعامنا الخايل من‬ ‫أيضا»‪.‬‬
‫الدكتوراة ً‬
‫الدسم هذه الليلة‪.‬‬ ‫وحين أدار الكاتب الكبير أذنه اليسرى نحو كنبة‬
‫وتقدمهم نحو املائدة مرحبًا بهم من جديد‪.‬‬ ‫التكنوقراط سمع حديثًا خافتًا محش ًّوا بالتراب‪.‬‬
‫‪...‬‬ ‫‪ -‬أرسيت اليوم مناقصة الجسر البحري عىل املقاول‬
‫عندما حانت ساعة مغادرتهم طلب الكاتب الكبير أن‬ ‫(س) عندما جاءتني توصيات ُعليا‪ ،‬بالرغم من عدم‬
‫يتخلص األكاديميون السمان من أرديتهم اللحمية‪،‬‬ ‫كفاءته ونقص القوى العاملة لديه وخبرته القصيرة‪.‬‬
‫ومن التكنوقراط أن ينزعوا جلودهم عن عظامهم‪ ..‬أما‬ ‫صاح زميله الذي كان بقربه‪:‬‬
‫األديبات فعليهن أن يتركن آهاتهن مسكوبة كاللبن عند‬ ‫‪ -‬أنا اليوم يف تقريري الهندسي وضعت الخطأ عىل ثقل‬
‫أقدامهن‪.‬‬ ‫حمولة الشاحنات التي دفنت بسائقيها تحت الكوبري‬
‫ثم طلب املصعد للرجال الجوف الذين بدوا أمامه تلك‬ ‫الطويل املنهار‪ ،‬وشطبت صيغة الخطأ الفني اآليلة إىل‬
‫اللحظة هياكل عظمية مرتجفة‪ ،‬وحشرهم جمي ًعا يف‬ ‫ٍ‬
‫بجهات‬ ‫املقاول الذي بناه حين عرفت أن له عالقة قرابة‬
‫بدل من الضغط عىل الـ‬ ‫جوفه ضاغ ًطا عىل زر ‪ً Sky‬‬ ‫عليا‪.‬‬
‫‪.Ground‬‬ ‫مبتسما بكلتي أذنيه‬ ‫ً‬ ‫اعتدل رأس الكاتب الكبير وتوجه‬
‫أما النساء فهرولن بأرجلهن فزعات إىل األسفل عبر‬ ‫إىل كنبة األديبات الوسطى فسمع حديثًا محش ًّوا‬
‫السالمل‪ ،‬وآهاتهن ورائحة آباطهن تتصبب عند أقدامهن‪.‬‬ ‫باآلهات‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫أحمد غانم عبد الجليل‬


‫(العراق)‬

‫َمغيب وبقايا فجر‬

‫كل مرة تفوح بعبق دفء اللمسة األوىل‪ ،‬قطرات من‬ ‫هي‪:‬‬
‫صاف تتسلل إىل رضاب شفتيها املخضبتين‬ ‫ٍ‬ ‫ندى‬ ‫دخلنا بهو الفندق نتصنع ذات اللهفة التي كانت‬
‫بذات لون طالء الشفاه الذي جذبني لونه منذ‬ ‫تغمرنا عند بدء عالقتنا ونتكتم عليها أمام الناس‪،‬‬
‫أن رأيتها‪ ،‬كان شائ ًعا ج ًّدا بين الفتيات يف ذلك‬ ‫بل نخفيها عن أنفسنا لو استطعنا‪ ،‬نتبادل االبتسام‬
‫الحين‪ ،‬فقد كانت تضعه بطلة إحدى املسلسالت‬ ‫الخفي عن العيون مهما بلغ قربها ومتابعتها‬
‫املدبلجة التي بدأت قناة التلفاز الوطني الثانية بثها‬ ‫تصرفاتنا‪.‬‬
‫عىل مدى أشهر حتى صار ذلك اللون يحمل اسم‬ ‫لحد اآلن نحاول أن نبقى عىل عهدنا يف خلوات‬
‫لدي األبهى‬ ‫املمثلة ساطعة الجمال‪ ،‬إال أنها ظلت َّ‬ ‫العشق‪ ،‬من خاللها نتشبث باملاضي الذي يبدو لنا‬
‫من نساء األرض كافة‪ ،‬كانت تظنني أبالغ‪ ،‬أو أنه‬ ‫جد بعيد‪ ،‬رغم ذلك نحاول التغافل عن مداه ولو‬
‫من ثنايا أبيات الشعر التي كنت أحفظها بمجرد أن‬ ‫بأبسط اإليماءات والهمسات واللمسات‪ ..‬إال أن‬
‫أقرأها عدة مرات عىل األكثر‪ ،‬وأحاول محاكاتها يف‬ ‫عيني أحدنا تبقيان مرآة لآلخر‪ ،‬ال تحسن الخداع‬
‫خواطري بال جدوى‪.‬‬ ‫أب ًدا‪ ،‬وال يف أدق التفاصيل‪ ،‬مهما غشاها توق شهوة‬
‫قليل فبدت طيَّات اللحاف بيننا مثل‬ ‫انزحت عنها ً‬ ‫الشايين النهمين إىل جسدي بعضهما بحرارة‬
‫تل يفصلنا عن بعضنا‪ ،‬تل صغير لكنه يأخذ بالعلو‬ ‫شمس ال يتبدد ضياؤها‪ ،‬بل يزيد اتقا ًدا كلما أوشك‬
‫شيئًا فشيئا‪ ،‬لقا ًء بعد آخر‪ ،‬يتزاحف نحونا‪ ،‬يقلب‬ ‫شفق املغيب‪.‬‬
‫كل منا عىل جنبه‪ ،‬مرة أعطيها وجهي فتوليني‬ ‫ٌّ‬ ‫دوما‬
‫صرت بين ذراعيه بالصورة التي يرغبها ً‬ ‫ُ‬
‫لتنشيه لذتها منذ القبلة األوىل‪ ..‬عيناه تتنقالن مع‬
‫ظهرها‪ ،‬وأخرى بالعكس‪ ،‬وكأننا نواصل لعبة‬
‫يدي وأصابعي املتقافزة نحوه‪ ،‬تتسلل إىل‬ ‫حركة َّ‬
‫أي منا متى يشد ومتى‬ ‫جذب الحبل دون أن يتعلم ٌّ‬ ‫أضلع صدره العاري‪ ،‬كما لو أنه تحرر من ثيابه‬
‫يتوجب عليه أن يرخي‪ ،‬كما لو كنا نتحدى أنفسنا‬
‫بمجرد عبورنا عتبة الغرفة‪.‬‬
‫من خالل تحدي أحدنا اآلخر‪ ،‬يصعب علينا حتى‬
‫بصوت مسموع‬ ‫ٍ‬ ‫الشرح ومحاولة الفهم والتفهم‬ ‫***‬
‫دون أن تستدرج أحاديثنا زوابع الغضب وزمجرة‬ ‫هو‪:‬‬
‫خصاما ال‬
‫ً‬ ‫الصياح وتراشق االتهام‪ ،‬فننوي‬ ‫كل شيء يشي بتره ٍل اجتهِدنا أن نلقي عبء زمنه‬
‫نستطيع إطالة أمده‪ ،‬وقد نتحفز النفصال ال نقوى‬ ‫عنا بعض الوقت‪ ،‬ترهل يف كل شيء فينا ومن‬
‫أن نحقق أ ًّيا من قسوة وعوده الصارخة فينا‪ ،‬فال‬ ‫حولنا‪ ،‬ال يف عنفوان جسدينا فحسب‪ ،‬هجست‬
‫ريح‬
‫نكاد نشرع بالبعد حتى يعاودنا الحنين مثل ٍ‬ ‫دبيبه يعاود أصابعي لدى مالمسة صدرها‪،‬‬
‫ال نود أن نسلم من عصفها حتى نلملم أجنحتنا‬ ‫تحتويني بالكامل دقات قلبها‪ ،‬ألق عينيها‪ ،‬وعذوبة‬
‫املجهدة ببن أحضانٍ تغور عميقًا يف نبض العروق‪،‬‬ ‫صوتها املنتزع خجلها من بكارته لتوه‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫دوما‪ ،‬إنه سوف يعود إ َّ‬


‫يل‬ ‫كي يبقى رهاني الرابح ً‬ ‫وأوهمت نفسي‬
‫ُ‬ ‫وتحامقت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حنقت‬
‫ُ‬ ‫كابرت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ومهما‬
‫بعنفوان الوجد يف أوله‪ ،‬فأهبه أكثر مما يتوق إليه‪،‬‬ ‫بعشق أخريات‪.‬‬
‫كما لو أنه غادرني منذ زمن وعاد ليجدني أشهى‬ ‫***‬
‫توهجا‬
‫ً‬ ‫مما كنت‪ ،‬ومضي السنوات مل يزدني إال‬
‫يستفز فحولته أكثر وأكثر‪.‬‬ ‫هي‪:‬‬
‫كنت أشعر بجسد كل من رافق يف ثناياه وخلجاته‬
‫***‬ ‫مسترسلة الشهوات بال أن ينالها شيء من وهن‪،‬‬
‫هو‪:‬‬ ‫وإن تفنن باصطناع البراءة والطهر‪ ،‬وصرخ وراوغ‬
‫بدأت أشعر‬
‫ُ‬ ‫سنة تلو أخرى‪ ،‬بل حينًا بعد حين‪،‬‬ ‫وظل يردد يف حنق األطفال أنه مل يلمس امرأة‬
‫أردت السيطرة عىل كل شيء‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بقيدك يحز حياتي‪،‬‬ ‫غيري منذ أن ضمت قلبينا لجة عشق ال يستنفده‬
‫وعزيل عن الجميع‪ ،‬رغم أنك كنت تعلمين جي ًدا‬ ‫العمر مهما تعددت عقوده‪.‬‬
‫منذ البداية مدى تعلقي بأهيل وعمق مسؤوليتي‬ ‫ال أفطن إىل ذلك فحسب‪ ،‬إنما عمر عشيقته‪ ،‬مدى‬
‫نحوهم بعد وفاة والدي يف الحرب‪ ،‬وقد كان رأس‬ ‫إثارتها وقدرتها عىل اإلغواء‪ ،‬مواصفات جسدها‬
‫املال الذي بدأت به من استحقاقات الشهيد يف‬ ‫وقوة تشبث ذراعيها به‪ ..‬لو أخبرته بشيء مما‬
‫بلد ظل ينتثر رجاله يوميًّا مثل رمال الصحراء‬ ‫أثق بيقين حقيقته ذات يقيني أني أنثى‪ ،‬ال أكذوبة‬
‫عىل طول جبهات القتال‪ ،‬أخبرتك ومل تمانعي‪ ،‬بل‬ ‫سارحة يف فضاء الخيال‪ ،‬لوجد ما يؤكد أن ظنوني‬
‫وجدت أنهم خط‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تصنعت املوافقة والحماس‪ ،‬وملَّا‬ ‫مجرد وسوسة حمقاء تعربد يف ذهن امرأة غيورة‬
‫استدرت نحوي كي‬‫ِ‬ ‫أحمر ال أسمح بتجاوزه أب ًدا‬ ‫مستعدة لشحذ أسنة العراك يف أي وقت تحت وابل‬
‫ٍ‬
‫تجعليني خاض ًعا لك بأي شكل كان‪ ،‬وآه من امرأة‬ ‫كدت أنطق اسمها‬ ‫من الوهم‪ ،‬وهم ال أكثر‪ ،‬مع ذلك ُ‬
‫تخطط الستمالك رجل‪ ،‬خاصة وإن وثقت من مدى‬ ‫وهو يحتضنني بانفعال لهفة مبالغ فيها‪ ،‬عرفت أنها‬
‫وكنت بدوري أنثر عليك األموال‪ ،‬دون‬ ‫ُ‬ ‫عشقه لها‪،‬‬ ‫وسيلته إلخفاء عالقاته الشهوانية‪ ،‬ال أريد أن أقول‬
‫طلب منك‪ ،‬فقد كنت أريد أن أطرق باب كل وسيلة‬ ‫غرامية ألني واثقة كل الثقة أنه مل يغرم بامرأة‬
‫إلسعادك‪ ،‬أن أجعلك أميرة تتميز بسطوة داللها‬ ‫غيري‪ ،‬وهذه الثقة هي ما جعلتنا نبقى م ًعا لحد اآلن‬
‫عرفت ومل أعرف من النساء‪ ،‬بكل ما‬ ‫ُ‬ ‫عن كل من‬ ‫رغم كل شيء‪.‬‬
‫يمتلكن من جاذبية ال أملك منها مالذًا وأنا يف أوج‬ ‫بدا أمامي كالطفل الذي يحاول مداراة فعلة من‬
‫ضيقي منك ومن جنونك املستطير واملهدد بحرقنا‬ ‫أفعاله العبثية عن والدته‪ ،‬وليس لها سوى غض‬
‫م ًعا‪ ،‬دونما اهتمام بما يمكن أن نفقد وال يمكننا أن‬ ‫البصر ومراقبة تصرفاته لتعرف نهاية تجربته‬
‫نحظى بفرصة إيجاده فيما بعد‪.‬‬ ‫الشقية‪ ،‬فأنا أعرفه أكثر مما يعرف نفسه‪ ،‬مهما‬
‫بدوري كنت استمتع بإغاظتك بما تعلمينه عني‬ ‫اعتقد أن مراوغته ستتمكن من خداعي‪.‬‬
‫من مغامرات مع حسانٍ ال يمتلكن ُعشر سحرك‬ ‫مل تكن تصغرني بالعمر‪ ،‬بل ربما هي أكبر مني‪،‬‬
‫ما أن أملسك فتتفتت صخور غيظي‪ ،‬من ِك ومن كل‬ ‫وال هي أجمل وال أكثر إغوا ًء‪ ،‬ربما فقط ألنها عرفت‬
‫امرأة مل تفلح بمحق دالل طيفك داخيل‪ ،‬يف وديانك‬ ‫كيف تداعب حس اإلثارة لديه‪ ،‬مرضي ًة غروره‪،‬‬
‫السحيقة‪ ،‬وأنا يف أشد حاالت الولع‪ ،‬ولع ال أريد‬ ‫أيضا‪.‬‬
‫ومستنزفة جيوبه ً‬
‫لشيء أو سبب أن يستلبه مني ما طال بي الوقت‬ ‫نعم هو مغفل‪ ،‬شأنه شأن أكثر الرجال مهما‬
‫كنت مع عشيقتي قبل‬ ‫بين خفق أنفاسك‪ ،‬حتى لو ُ‬ ‫تصنعوا التعقل والحكمة‪ ،‬لكنه يف نفس الوقت تاجر‬
‫ذلك بساعات‪.‬‬ ‫ذكي اعتاد أال يعطي أكثر مما يأخذ‪ ،‬مهما تم َيزت‬
‫نعم‪ ،‬أنا متأكد أنك تعرفين بأمر كل خياناتي لك‪،‬‬ ‫البضاعة يف ناظريه عن األخريات‪ ،‬ومهما ظن إنه‬
‫لكن ما مل تدركيه‪ ،‬وال أظنك اهتممت بتتبع مصدر‬ ‫سيتمكن من نبذي واستبدال شغف الشباب بدفق‬
‫معلوماتك بدقة‪ ،‬أنني من كان يهمس لعصافيرك بما‬ ‫ول ٍع جديد‪ ،‬يكتشف بعد حين أنه ال يستطيع ذلك‪،‬‬
‫‪68‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫أود أن يصلك من أخبار عني‪.‬‬


‫لوصفت نزقي بالجنون‪ ،‬أو بالعجرفة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عرفت‬ ‫لو‬
‫تعلمت ممارسة شتى األالعيب‬ ‫ُ‬ ‫والغرور‪ ،‬بعد أن‬
‫ومختلف الح َيل من الدنيا وأنا أعاركها للهرب‬
‫من فخ بؤس اليتم الذي احتواني وأنا مراهق‬
‫دون السابعة عشرة من عمري‪ ،‬بالكاد أستطيع‬
‫تدبر عبء املساومة عند شراء مالبسي ولوازمي‬
‫الشخصية‪ ،‬ألصير فجأة‪ ،‬بفضل التضحية‬
‫تاجرا حذقًا‬
‫ً‬ ‫(املباركة) من أجل أرض الوطن‪،‬‬ ‫َ‬
‫بسرعة مل يكن ألحد تصورها‪ ،‬وال حتى أنا‪.‬‬
‫كنت أخاطر بتدمير حياتي بأسرها‪ ،‬وربما كل ما‬ ‫ُ‬
‫حققت ليتحول إىل حطام ال ِق َبل يل أن أمللم أشالءه‪،‬‬
‫من ناحية أخرى كانت تداخلني متعة خبيثة تستبق‬
‫مكر الشيطان‪ ،‬وأنا أستقرئ تعبير الخذالن يف‬
‫مالمح وجهك ونظرات عينيك‪ ،‬فيما أجتهد أال‬
‫هوس يبدو كما لو أنه يهنئني ويقرع‬ ‫ٍ‬ ‫أتوقف عن‬
‫كؤوس لذة انتصاري عىل غطرسة األنثى داخلك‪،‬‬
‫أقوى أسلحة وهم امتالكي‪ ،‬ذخيرتك التي ال تنفد‬
‫منك أبدأ‪.‬‬
‫قدرا (شغوفًا) من االمتنان‬ ‫كل قبلة كانت تتضمن ً‬
‫لعدم انسياقك وراء عتَه نزواتي فتسارعين بشن‬
‫كل حرب ادخرتها ضدي من قبل‪ ،‬وأنا أصر أال‬
‫يكون لك أي شأن بتفاصيل أعمايل‪ ،‬من حقك فقط‬
‫أن تحصيل عىل املبالغ التي أحددها أنا من املكاسب‬
‫لتنشغيل بمتعة الشراء والسفر وقضاء أجمل‬
‫األوقات برفقة صديقاتك الالتي ظللن يحسدنك‬
‫عىل عشقي واهتمامي بتلبية كل طلباتك‪ ،‬ومن قبل‬
‫حتى أن تبدئي بالتغنج وسوق املزيد من الدالل‬
‫لتنفيذها دون تأخير‪ِ ،‬‬
‫إياك إنكار ذلك‪ ،‬وإياك أن‬
‫تتصوري كرم الهبات ذاك كان وسيلتي لخوض‬
‫تلك املغامرات دون أن أشعر بأي ذنب‪ ،‬أو لشراء‬
‫سكوتك عىل خياناتي بحقك وحق عمر من العشق‬
‫والجنون‪ ،‬عندئ ٍذ سنكون مثيرين لالشمئزاز ج ًّدا‪،‬‬
‫ونحن لسنا كذلك بالتأكيد‪.‬‬
‫ً‬
‫أكرر امتناني ألنك أكثر تعقل مني يف كثير من‬
‫األمور‪ ،‬ال بد يل من االعتراف بذلك دون مكابرة‪،‬‬
‫أيضا من اعترايف‬‫ولو بيني وبين نفسي‪ ،‬وال بد ً‬
‫ببقايا املراهق داخيل‪ ،‬املراهق الذي مل يغادرني منذ‬
‫أن سعيت لنبذه عن عاملي ألسبر أغوار الرجولة‬
‫‪69‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫ومشاقها بال مقدمات‪ ،‬بال دليل يشير يل أي اتجاه‬


‫أسلك‪ ،‬يف البداية عىل األقل‪ ،‬تطوحت بين مجاهل‬
‫كثيرة حتى أدركت الطريق الذي يوصلني إىل‬
‫مبتغاي‪ ،‬فيما كان انجذابي إليك يف تزايد مستمر‪،‬‬
‫أكثر من انجذاب أي رجل تجاه امرأة‪ ،‬عاطفة قوية‬
‫مشحونة بحرمان أدركتِه جي ًدا وتلقفته بحنكة‬
‫أنثى خبيرة بمواطن ضعف الرجال التي يحاولون‬
‫مداراتها عن الجميع ما استطاعوا‪ ،‬وال أدري كيف‬
‫حدست تلك البراءة املطلة من عينيك الساحرتين‬‫ْ‬
‫سر أزمتي‪ ،‬نعم أزمة ظلت ترافقني لحد اآلن‪،‬‬
‫وربما ستبقى حتى نهاية العمر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫خبرت كيف تتعاملين معي بصبر وتؤدة‪ ،‬وإن مل‬ ‫ِ‬
‫تنجحي يف كبح جماحي كلما التقيت بواحدة أتأهب‬
‫لوداعها من قبل أن أنالها‪ ،‬أو أن شيئًا مني يفعل‬
‫ذلك‪ ،‬يتمرد عىل جنوحي ألجلك‪ ،‬يرفض ويصيح‬
‫محت ًّدا ضد طيش ال ينتهي‪ ،‬شيئًا فشيئًا أغدو أكثر‬
‫توقًا للهروع إليك‪ ،‬والتهاوي بين ذراعيك املعتادتين‬
‫أن تتحسسا حتى ما مل أنتبه إليه من مواجع‪،‬‬
‫تربتان عليها مهدهدتين وهج الجمر يف أوصايل‪،‬‬
‫بلفح من نار حربنا األوىل دون‬ ‫ٍ‬ ‫وكأنني ممسوس‬
‫سواها‪ ،‬تلتها حروب عدة‪ ،‬استغللتها قدر استطاعتي‬
‫من أجل تعويض خسراني القديم واملتجدد‬
‫الستقرار عاملي الذي كان‪.‬‬
‫هذرا أريد به‬
‫لعلك تسخرين من كل هذا وتجدينه ً‬ ‫ِ‬
‫إيجاد األعذار لكل شطحة (نسائية) تأخذني منك‬
‫وهياما‪ ،‬ولعل‬
‫ً‬ ‫جنوحا‬
‫ً‬ ‫لتعود وتلقيني نحوك أكثر‬
‫أيضا ما قد يمتص بعض ثورات غضبك من كل‬ ‫هذا ً‬
‫حماقاتي‪ ،‬عبر كل تنهد وآهة شبق تطلقينها فتسري‬
‫بين أضلعي كما لو أني أتنفس الحياة من جديد يف‬
‫ثناياك‪ ،‬لكنك‪ ،‬ورغم كل شيء‪ ،‬تواصلين البحث عن‬
‫عبق األخرى يف أنفاسي الالهثة والتي ال ترضى أن‬
‫شغف يظل يغور‬ ‫ٍ‬ ‫تستكين حتى بعد أن ننتهي من‬
‫يف روحي‪ ،‬يرقب يف صمت كل أنثى يتسنى يل‬
‫االقتراب أو التقرب منها فتوقظ شبق املراهق داخيل‬
‫من جديد‪.‬‬
‫***‬
‫هي‪:‬‬
‫دوما تبحث عما‬
‫آه ما أكثر مكرك يا حبيبي‪ً ،‬‬
‫‪70‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫بعدد األجساد التي استملكتها نزواتك العابرة‪ ،‬وملَّا‬ ‫ارتكبت أشنع األخطاء‪،‬‬
‫َ‬ ‫يسعدك ويبهجك‪ ،‬وإن‬
‫فاجأتني بأنك قد سجلت بيتنا باسمي شهقت دون‬ ‫تجادل وتناقش وتفسر وتحلل حتى تصل إىل‬
‫أن أتمالك شيئًا من قدرتي عىل الكتمان‪ ،‬ليس عن‬ ‫أفضل تبرير مناسب‪ ،‬مثل سياسيي بالدنا‪ ،‬ولو أنك‬
‫ظننت‪ ،‬بل عن توجس أكثر من اقتراب‬ ‫َ‬ ‫فرح كما‬‫ٍ‬ ‫رغبت بخوض االنتخابات لفزت بأكثر األصوات‪،‬‬
‫هجرانك يل‪ ،‬وهذه املرة ستكون الحاسمة خالل كل‬ ‫دون اللجوء إىل التزوير‪ ،‬وربما معك كل عشيقاتك‬
‫عاما‪.‬‬
‫ما جمعنا ألكثر من عشرين ً‬ ‫أيضا‪ ،‬توزع عليهن كراسي أعضاء‬ ‫الحسناوات ً‬
‫عمر طويل من العشق والجنون انصهر يف ثنايا‬ ‫املجلس السابقين‪ ،‬لكنك كعادتك‪ ،‬تحب أن تبقى‬
‫ووافقت بال‬
‫ُ‬ ‫مالمحنا‪ ،‬منذ أن عرض عيلَّ الزواج‬ ‫قاب ًعا يف الخفاء لتتم صفقاتك بمنأى عن العيون‪،‬‬
‫تلكؤ تتصنع الفتيات دالله عادة‪ ،‬فقد تجاوزنا مثل‬ ‫ومثلها العالقات التي تعرف كيف تنهيها كما‬
‫تلك املواقف التمثيلية واملثيرة للسخرية‪ ،‬وكل منَّا‬ ‫بدأتها‪ ،‬بذات الحسابات الدقيقة واملهارات التجارية‬
‫كان يعرف مدى حاجة الثاني إليه‪ ،‬كما مل أكن‬ ‫التي تتقنها وتتفنن بها من أجل إتمام صفقات‬
‫أشعر أني أتعرى أمامه وعيناه تنتشيان برذاذ أنوثة‬ ‫ثرائك املتشعبة‪.‬‬
‫مل يمسسها رجل قبله‪ ،‬فأترك يديه وقبالته ترتشف‬ ‫أعرف أنك تخبئ عني حجم أعمالك التجارية ومدى‬
‫من فوح عذوبته ما إن نجد مكانًا يحجبنا عن الدنيا‬ ‫أحسن إخفاء دهشتي أمام‬‫ُ‬ ‫اتساعها يف الخارج‪ ،‬كما‬
‫ولو لعدة دقائق‪ ،‬دون أن أخلع شيئًا من ثيابي‪ ،‬وال‬ ‫أي كان وهو يخبرني عن هذه الصفقة وتلك من‬ ‫ٍّ‬
‫أن أتوجس مما يمكن أن يخالجه الظن نحوي‪.‬‬ ‫التي تعقدها شركتك‪ ،‬ضمن مجموعة شركات ذات‬
‫وكنت لك منذ أن جمعتنا ذات النظرات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت يل‬ ‫َ‬ ‫فروع يف العديد من دول العامل‪ ،‬دون أن أثور عليك‬
‫كما لو أننا عرفنا وخبرنا مشاعر وأفكار بعضنا‬ ‫أو حتى أسألك عن سبب عدم إعالمي بضخامة‬
‫داع للمداراة غير املجدية‬ ‫منذ الصغر وما عاد من ٍ‬ ‫فعلت ألغرقتَني يف موج مراوغتك‬
‫ُ‬ ‫مشاريعك‪ ،‬ولو‬
‫تطلعت إىل ملعان عينيك حتى حدست‬ ‫ُ‬ ‫بشيء‪ ،‬فما إن‬ ‫لصحت بعلو صوتك العاصف‬ ‫َ‬ ‫التي أخبرها جي ًدا‪،‬‬
‫حب‬
‫ما يخفيان كما لو أني أبصر ما أدركني من ٍّ‬ ‫أنك كلَّمتني عن سعيك الحثيث باستمرار لتأسيس‬
‫وصدقت كل كلمة‬ ‫ُ‬ ‫يوما‪،‬‬
‫مل أحسب أن أحظى بمثله ً‬ ‫عمل يف الخارج‪ ،‬بعي ًدا عن االضطراب الذي تشهده‬
‫تقولها بثقة من يذكر حقيقة مؤكدة ال تقبل الشك‪،‬‬ ‫البالد عىل الدوام‪ ،‬الظروف املتقلبة والضرب من‬
‫أنك مل تكن تفكر يف االرتباط قبل أن تراني وتتعرف‬ ‫تحت الحزام لصالح من يمتلك عالقات ومصالح‬
‫عيلَّ‪ ،‬وال بعد عشر سنوات‪.‬‬ ‫أكثر مع ذوي النفوذ األقوى من الساسة‪ ..‬لكنك‬
‫كنت يف بداية طريق حصولك عىل الثروة‬ ‫حينئ ٍذ َ‬ ‫أخبرتني أن لديك بعض االستثمارات هنا وهناك‪،‬‬
‫التي قررت انتزاعها ولو كانت بين أنياب الذئاب‬ ‫وليس أنك صرت شري ًكا يف مشاريع كبرى تعبر‬
‫من تجار الحروب التي استلبت إحداها والدك منك‪،‬‬ ‫البالد واملحيطات‪.‬‬
‫كثيرا صخب انفعالك وإصرارك عىل خوض‬ ‫ً‬ ‫أحببت‬ ‫شعرت بطعنة خنجر الخذالن تنسل إىل عروقي‬ ‫ُ‬
‫غمار دنيا املال مهما واجهت وغلبتك املعارك‪،‬‬ ‫أكثر من أي فترة خيانة مضت‪ ،‬وأني لن أبرأ من‬
‫حفزني تحديك الشرس أكثر لكي أكون معك يف‬ ‫براثن ُس ِّمه أب ًدا‪ ،‬فاألمر مل يكن صفعة توجهها يل‬
‫خضم جوالتك وغزواتك‪ ،‬وألكون أنا من أوىل‬ ‫خيانة من خياناتك وعيلَّ تحمل آالمها حتى تنتهي‬
‫غنائمك‪ ،‬متحدية بدوري مطالب األهل يف توفير‬ ‫من دنسها باحتفالية شبق جموح تقيمها بين‬
‫أفضل مستوى يليق بابنتهم‪ ،‬عىل غرار ما يق ًدم‬ ‫أحضاني‪ ،‬إنما هو إقدام عىل جريمة كبرى تعد لها‬
‫للفتيات األخريات من األصدقاء واألقارب‪.‬‬ ‫بعناية‪ ،‬وبال مباالة أن أعلم بمخططك يف أي وقت‪،‬‬
‫جبت معه كل تعرج دروبه‪ ،‬محتملة تعلقه‬ ‫ُ‬ ‫وكأنك تل ِّوح يل بسيف التحدي من بعيد وأنت تهتف‬
‫(املرضي) بوالدته وأشقائه الذين ظلوا بمثابة الخط‬ ‫يف أذني أنه ال يمكنني فعل شيء ألغيِر من أي قرار‬
‫األحمر بالنسبة يل‪ ،‬فال مجال أمامي لتخطيه بأي‬ ‫تتخذه أو هدف تعتزم تحقيقه‪ ،‬وأني سأواصل‬
‫تعذرت بمستقبل أبنائنا‬ ‫ُ‬ ‫حا ٍل من األحوال‪ ،‬وإن‬ ‫سبر أغوار الصمت كما فعلت بدل املرة مرات‪،‬‬
‫‪71‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫املشاكسة لرتابة حياة يسعيان بكل ما يواتيهما من‬ ‫واحتياجاتهم امللحة‪ ،‬ال بطلبات زوجة عانت يف‬
‫حنكة وقدرة عىل املخاتلة إىل الحفاظ عىل سالمة‬ ‫سبيل عشقها الكثير ومن حقها الحصول عىل‬
‫مسارها‪ ،‬أمام أبنائهما واألصدقاء عىل األقل‪،‬‬ ‫حظيت‬
‫َ‬ ‫التعويض املناسب بعد (فورة) الغنى التي‬
‫مقتنصين اللذة الحقيقية يف غرفة فندق تعود‬ ‫بأسرع مما كنت أتوقع‪.‬‬
‫جدرانها بهما إىل وهج الشباب‪ ،‬كما لو كانا يف‬ ‫ابنتان وولد‪ ،‬ما بين املرحلة الثانوية والجامعية‪،‬‬
‫تماما‪ ،‬اعتراف يطلب الغفران دون‬ ‫غرفة االعتراف‬ ‫إحدى البنتين معقود قرانها من ابن أحد رجال املال‬
‫ً‬
‫النطق بكلمة‪ ،‬مع ذلك ال ينتظر أي منهما هبة البداية‬ ‫والسلطة‪ ،‬زواج تقليدي مل تمانعه ما إن فرضه‬
‫بصفحة بيضاء خالية من الذنوب واآلثام‪ ،‬ويف ذات‬ ‫عليها والدها الحبيب‪ ،‬مما أثار سخطي بقدر ما‬
‫الوقت يتخ َّوف كل منهما فقدان آخر خيط يربطهما‬ ‫انتابني من فرح‪ ،‬مثل كل تباين وتذبذب يف املشاعر‬
‫أخذ يجتاحني بوتير ٍة متصاعدة حتى صار الحب‬
‫من جدائل غزلتها السنون عىل مهل ما بين عشقٍ‬
‫بالنسبة يل أقرب إىل أحجية شديدة التعقيد وعسيرة‬
‫عمل عىل مراوغة دبيبه ثقيل الوطء‪ ،‬وبوتير ٍة‬ ‫وجفاء ً‬
‫الحل‪.‬‬
‫متزايدة‪ ،‬عبر ثنايا العقود‪.‬‬
‫ليستقرا يف الخارج‪ ،‬كما‬
‫َّ‬ ‫سيسافران بعد الزواج‬
‫ركبت إىل جانبه يف سيارته الفارهة التي أخذت‬ ‫ْ‬ ‫خطط والده‪ ،‬كي يباشر ابن الثراء والسلطة املدلل‬
‫تسير بسرعة يف شوارع املدينة‪ ،‬بينما ضياء‬ ‫املهربة أمام أعين الجميع‬
‫أعماله ويدير ثروته َ‬
‫الفجر ينساب يف األفق ويتدانى منهما مع دوران‬ ‫املتفقين عىل التغاضي (املهاب) فيما بينهم‪ ،‬بما يف‬
‫العجالت‪ ،‬كما لو كانا يف مهمة مل يكن من سبيل‬ ‫دوما‪،‬‬
‫ذلك وسائل اإلعالم املتحرية كشف الفساد ً‬
‫لتأجيلها حتى حلول النهار‪.‬‬ ‫وبالتأكيد زوجي (املخلص) لديه نصيب من تلك‬
‫هجست أنه يمكن أن يتوقف بالسيارة يف أي مكان‬ ‫ْ‬ ‫األعمال املتخفية بين ركام بالدنا‪ ،‬ولعله ينوي‬
‫ليجبرها عىل النزول‪ ،‬كما لو أنه التقط عاهرة‬ ‫اللحاق بهما ما إن يتخلص من وجودي (الحميم)‬
‫من الشارع‪ ،‬يخبرها أنه قد انتهى منها ولألبد‪،‬‬ ‫يف حياته‪ ،‬لكن إن فعل شيئًا مثل هذا ح ًّقا فهو‬
‫ً‬
‫مستقبل‪ ،‬كما أنه‬ ‫فال يرغب بوجودها يف حياته‬ ‫بالتأكيد مل يعرفني بعد‪.‬‬
‫سيستبدلها بامرأة أخرى‪ ،‬شابة فاتنة‪ ،‬وتصغرها‬ ‫***‬
‫عاما أو أكثر‪ ،‬واألهم من هذا لن تخطط‬ ‫بعشرين ً‬
‫لسرقته بأساليب إبليس لتقيم مشاريعها الخاصة‬ ‫خرجا من الفندق الذي اعتادا اإلقامة فيه مدة شوق‬
‫أحدهما لآلخر‪ ،‬كنوع من التجديد إلثارة الحماس‬
‫من وراء ظهره بحجة تأمين مستقبلها الذي تزداد‬
‫والشبق املحتجبين خلف زحام الحياة وضغوط‬
‫مخاوفها بشأنه مع تمدد كل تجعيد يف قسمات‬
‫العمل وصخب األبناء‪ ،‬رغم مغادرتهم مرحلة‬
‫وجهها‪ ،‬قبل أن تسارع بمحوه عبر وخز خفيف‬
‫الطفولة‪ ،‬وتقلب املزاج‪ ..‬عسى أن تنجح مثل تلك‬
‫ومتتابع من إبرة (البوتوكس)‪.‬‬
‫املغامرات الغريبة عن الجدية البادية عىل ك ٍّل منهما‬
‫لكن أ ًّيا من هذيان توجسها مل يحدث‪ ،‬فقط راحت‬ ‫يف إعادتهما إىل ألق البدايات‪ ،‬ولو لحين من الوقت‪،‬‬
‫السيارة تمرق من شارع آلخر حتى وصال بيتهما‪،‬‬ ‫تحت وقع شهوانية يفتقد جموحها‪ ،‬إال ً‬
‫قليل‪،‬‬
‫همس لها عند عتية الباب الداخيل وهو يفتحه‪،‬‬ ‫فراشهما الوثير‪ ،‬خاصة عندما يكون يف غمار إحدى‬
‫بابتسامة بدت لها جد متصنعة‪ ،‬أنهما سيعاودان‬ ‫مغامراته الخاصة بمنأى عنها‪.‬‬
‫لعب دور العاشقين السريين يف أقرب فرصة‪،‬‬ ‫فعل كعاشقين يتسلالن خفية عن األعين‬ ‫يبدوان ً‬
‫فأومأت برأسها إشارة املوافقة يف حياء عروس أول‬ ‫التي تترصدهما طول الوقت‪ ،‬ويف كل مكان‪ ،‬كي‬
‫ليلة الزفاف‪ ،‬بينما سطع يف عينيها ملعان خبره جي ًدا‬ ‫تعثر عليهما متلبسين بعريهما دون وهبهما فرصة‬
‫عندما تحضر ألم ٍر ليس له أن يكشف سره إال إن‬ ‫لإلنكار أو الهروب من لعنة املواجهة‪ ،‬شيء من‬
‫شاءت له بذلك‪.‬‬ ‫الجنون املضحك يصران عىل التمسك بشقاوته‬
‫‪72‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫محمد حسن‬
‫(العراق)‬

‫ُ‬
‫شبهات الغياب‬

‫جبينها املعروق بطرف كم ردائها الفضفاض‪،‬‬ ‫قبل أن تنتهي من لف جسدها بردائها املنزيل‬
‫دنت منه بحذر بالغ‪ ،‬عىل أمل أن تظفر منه بنظرة‬ ‫وتغادر حجرة النوم حانت منها التفاتة مفاجئة‬
‫قصيرة‪ ،‬أن تتأمله لجزء من الثانية عن قرب‪،‬‬ ‫لضوء الشمس املتدفق من خالل زجاج النافذة‪،‬‬
‫أن تستجيل ما ج َّد عىل جبينه املخدد أو‬ ‫فتراءى لها ظله يتمايل عىل وقع هزات طرف‬
‫ما حل بخديه الزاهيتان‪ ،‬إال أنه أجهض‬ ‫الستارة املزهرة‪ ،‬اندفعت نحوه كالتيار خافقة‬
‫محاولتها برمشة عين وتوارى بجزء من‬ ‫القلب متأججة املشاعر لتعانقه وتلتحم به لكنه تبدد‬
‫الثانية بين أقواس الفراغ‪ ،‬ذلك ما جعل‬ ‫بسرعة البرق‪ ،‬وتالشى يف متاهة العدم‪ ،‬استولت‬
‫سنونوة قلبها تهفو وراء بقاياه تطارده‬ ‫عليها حيرة وشده شديدين‪ ،‬وهي ال تنفك تجيل‬
‫بكل جوارحها‪ ،‬لكن يف اللحظة التي‬ ‫عينيها املرتابتين متنقلة بهما من جهة إىل أخرى‬
‫تكهنت فيها أنها توشك أن تستخلص‬ ‫بينما فزع املفاجأة يكاد يشل عقلها‪ ،‬ويجمد دمها يف‬
‫رواسبه من الهواء‪ ،‬تبخر كنفخة دخان‬ ‫شرايينها‪ ،‬لبثت للحظة متحيرة ال تدري ماذا تفعل‬
‫يف ريح عاصف‪ ،‬توقفت منقبضة الصدر‬ ‫صمت وترد ٍد طويلين وجدت نفسها‬ ‫ٍ‬ ‫أو تقول‪ ،‬بعد‬
‫شاحبة الوجه وجلة الهيئة زائغة العقل‬ ‫تخرج من عقال اللحظة وارباكاتها‪ ،‬حين تخطت‬
‫والنظر‪ ،‬شاردة الفكر ألقصى درجات‬ ‫املوقف وثابت إىل نفسها‪ ،‬هبت فزعة نحو إحدى‬
‫الشرود‪ ،‬ترين عليها لحظات صمت طويل‪،‬‬ ‫الزوايا‪ ،‬فتشت عن بقاياه‪ ،‬بحثت وراء لوح الباب‬
‫قبل أن تتفجر يف داخلها رغبة مجهولة‬ ‫املوارب‪ ،‬نبشت أدراج خزانة الثياب‪ ،‬فتشت أرفف‬
‫املصدر تحملها عىل الصراخ‪ ،‬تصرخ من فورها‬ ‫خزانة الكتب بحثًا عن رائحته‪ ،‬جابت أروقة املنزل‪،‬‬
‫بأمل وحرقة‪ ،‬غير أن صرختها تعلَّقت يف حبال‬ ‫استطلعت شرفاته الجانبية‪ ،‬ذرعت حجرات البيت‬
‫حنجرتها‪ ،‬تقف ثانية لتلتقط أنفاسها وتحاول أن‬ ‫العليا ودلفت ملخزن املتروكات املنزلية‪ ،‬ملَّا فشلت‬
‫تستفهم ما يجري‪ ،‬لكنها سرعان ما تضطرب‬ ‫محاوالتها بالعثور عليه هبطت السلم من جديد‬
‫ويساورها الشك بفقدان صوتها‪ ،‬فتسارع‬ ‫مكسورة الخاطر نادبة حظها العاثر بأمل وحسرة‬
‫لتبديد شكوكها بقول‪:‬‬ ‫وحزن‪ ،‬حتى فاجأها ظله الناحل يدخل من شق‬
‫‪ -‬آآآآآآآآآآآآآآآآ‪.‬‬ ‫ستارة نافذة حجرة املعيشة‪ ،‬تلبثت لوهلة حابسة‬
‫تتنصت بكامل حواسها لترددات‬ ‫انفاسها مبطئة من خطواتها متهجية اسمه بصوتها‬
‫صوتها املنحبس‪ ،‬تشبك يديها حول‬ ‫الضعيف حرفًا حرفًا‪ ،‬قبل أن يسكتها تردد صوت‬
‫رأسها‪ ،‬ترتقي السلم بوجه شاحب‬ ‫عيار ناري دوى يف الجوار‪ ،‬تلفتت خائفة يمنة‬
‫وعينين ساهمتين‪ ،‬تقف لثانية تطالع ما‬ ‫ويسرة‪ ،‬ثم خطت لعدة خطوات وتوقفت‪ ،‬لتجفف‬
‫‪73‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫يجري من حولها‪ ،‬تعود للتجول بين غرف البيت‪،‬‬


‫تدور وتدور كتائهة مخبولة‪ ،‬مرة مرتين وثالث‪،‬‬
‫لكن خطواتها تضيع عىل مفارش األرضيات‪ ،‬بينما‬
‫الساعة الجدارية تدق دقاتها الست صدى ضربات‬
‫أميالها الكسىل يستثير حنق كلب الجارة املسنة‬
‫القابع يف ظل الجدار ليباشر نباحه املتقطع‪ ،‬تمتد‬
‫يدها املترددة لتزيح الستارة املشجرة‪ ،‬تلصق‬
‫وجهها بلوح زجاج النافذة الزجاجي‪ ،‬ترهف السمع‬
‫للحظة‪ ،‬تتناهى لها تغاريد العصافير املرفرفة فوق‬
‫أوراق شجرة نارنج وارفة‪ ،‬وسرب حمام يختال‬
‫فوق سطوح املباني‪ ،‬تستطلع بعينين قلقتين ما‬
‫يجري يف الخارج‪ ،‬تلمح من الجانب اآلخر عصبة‬
‫صبية يطاردون كرة ملونة‪ ،‬تتبعهم بأنظارها للحظة‬ ‫ِ‬
‫وهم يتسابقون عىل تقاذفها‪ ،‬ترد الستارة وتهبط‬
‫وهي خائرة القوى مضعضعة الجسد‪ ،‬ترى ظالله‪،‬‬
‫تصعد للطبقة الثانية‪ ،‬تهب وراءه كاملسعورة‪ ،‬تأخذ‬
‫درجات السلم قف ًزا‪ :‬درجتين‪ ،‬درجتين‪ ،‬لكنها ما إن‬
‫تبلغ نهايته حتى تُباغت ببريقه يهبط‪ ،‬تهبط يف أثره‬
‫بأقصى سرعة‪ ،‬إال أنه يفعل العكس ويطير نحو‬
‫األعىل‪ ،‬تتعثر وتكاد تسقط من أعىل السلم‪ ،‬تعود‬
‫لتتدارك األمر يف اللحظة األخيرة مستعيدة توازنها‬
‫فتجري بال اتجاه‪ ،‬تعدو وتعدو وتلف حول نفسها‪،‬‬
‫تدور وتدور دون أن تتخلص من دوامة هبوطه‬
‫وصعوده‪ ،‬أو تخاطف ظالله‪ ،‬حتى تتقطع أنفاسها‬
‫وتسقط مغشيًا عليها من شدة التعب واإلعياء‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫صالح أمهاوش‬
‫(المغرب)‬

‫المفتاح‬

‫كرة أخرى بروية‪ ،‬أجامله علَّه يقبل مجاملتي‬ ‫َّ‬ ‫يف ظلمة الليل الحالكة‪ ،‬حيث ال صوت يعلو فوق‬
‫ويجعلني أخلد إىل النوم بسالم‪ ،‬يبدو أن األمر‬ ‫صوت الصمت الرهيب‪ ،‬تبدو الشوارع خالية من‬
‫صار جِ ًّدا‪ ،‬فدخول املفتاح يف الثقب كان بداية‬ ‫س حي‪ ،‬وأنا أجول بينها عائ ًدا إىل منزيل‪،‬‬ ‫كل ن َف ٍ‬
‫صرت أتخيلُه اآلن تباشير‬ ‫ُ‬ ‫طبيعية ملساره املعهود‪،‬‬ ‫إىل قبوي الصغير الذي ال أرتاح إال فيه بعد يوم‬
‫خالص تلوح يف األفق‪ ،‬إذ لو كان الغلط يف اختياره‬ ‫مثق ٍل برتابة هذه الحياة‪ ،‬يتملكني غضب شديد ال‬
‫ألبى االنصياع مذ المس سطح القفل النحاسي‪،‬‬ ‫أدري ما علته‪ ،‬حتمية عيش يوم كامل وسط الزحام‬
‫لكن تمنُّعه عن الدوران وعن فتح الباب بدا غريبًا‬ ‫والضغوط تالزمني وتلتصق بي أيما التصاق‪،‬‬
‫ففكرت بطريقة األجداد‬‫ُ‬ ‫يل‪ ،‬أخرجته من الثقب‬ ‫غضب جاء نتيجة ركام من العالقات املبتذلة واملليئة‬
‫دهنه بالزيت عربونًا للمحبة التي يكنها للقفل‪،‬‬ ‫بالنفاق والتصنع‪ .‬ما إن بدا بيتي من بعيد حتى‬
‫هكذا علمتني الحكايات‪ ،‬هذا الدهن سيسهل عملية‬ ‫وسارعت معه أصابعي تبحث عن‬ ‫ْ‬ ‫سارعت الخطى‬‫ُ‬
‫الدوران‪ ،‬لكن أنى يل بالزيت يف هذا الليل البهيم‪ ،‬عىل‬ ‫ممزوجا ببرودة‬
‫ً‬ ‫خالصا لها من برد الجو‬
‫ً‬ ‫املفاتيح‬
‫حين غرة أفرزت لعابي ودلقته عىل أسنان املفتاح‬ ‫التيه‪ ،‬فالبيت ملجئي اآلمن والدائم من سطوة‬
‫أعدت املحاولة بإصرار‬ ‫ُ‬ ‫وصرت أمسده كاألبله‪ ،‬ثم‬ ‫الحياة‪ .‬أخرجت مفاتيحي باضطراب فأدخلت‬
‫حماسي هذه املرة‪ ،‬دخل مجد ًدا حتى استقر‪ ،‬الحت‬ ‫الخاص باملنزل يف ثقب القفل‪ ،‬ترتجف يداي بشدة‬
‫من شفتي ابتسامة تشي بنص ٍر بطويل يف وسط‬ ‫تفصد العرق من ثناياها كأني مصاب بالحمى‪،‬‬ ‫َّ‬
‫هذا الزخم من الخيبات‪ ،‬أدرته نحو اليمين مخطئًا‪،‬‬ ‫تغلبت عىل نفسي بعدما جاريتها ملدة ليست‬
‫قبل أن أديره نحو اليسار بثقة بالغة‪ ،‬تحرك ً‬
‫قليل‬ ‫بالطويلة‪ ،‬عاندني الثقب يف البداية بعض الشيء‬
‫ثم انكبس ال يريد أن يتزحزح قيد أنملة‪ ،‬أحسست‬ ‫أخيرا حتى‬
‫ً‬ ‫وهو يمعن يف تعذيبي أكثر‪ ،‬دخل املفتاح‬
‫ٍ‬
‫بعنف ال‬ ‫بفرط من الغضب هذه املرة‪ ،‬فشرعت أديره‬ ‫ٍ‬ ‫استقر يف القاع بهدوء‪ ،‬أدرتُه ببط ٍء ُيهيَّأ للرائي من‬
‫أبايل معها بالضجيج الذي سأخلفه حويل‪ ،‬مل أشعر‬ ‫بعيد أنني أريد مفاجأة ضيف بالداخل‪ ،‬لكن املفتاح‬
‫خرجت خاللها‬ ‫ْ‬ ‫حينها إال بقبضتي تخبط الباب بقوة‪،‬‬ ‫مل ي ُدر! ظننته يشاكسني كعادة املفاتيح تُشعر اآلخر‬
‫دمعة يتيمة من عينِ َي اليمنى تمتح ضعفًا ملصيري‬ ‫بسطوتها وسلطتها يف كشف أغوار البيوت‪ ،‬هي‬
‫غرقت‬
‫ُ‬ ‫هذه الليلة‪ ،‬هل سأبيت يف الشارع كالشريد؟‬ ‫التي يحق لها أن تتسلطن يف حضرة كل األشياء‬
‫يف خيايل ووجهي مس َن ٌد إىل الباب الحديدي اللعين‬ ‫املحيطة بنا‪ ،‬طالت املشاكسة أكثر مما ينبغي بصورة‬
‫انبعث ضو ٌء‬
‫َ‬ ‫بعيني املغمضتين‪ ،‬فتحتُهما ً‬
‫قليل‪،‬‬ ‫بدأت أقاتل املفتاح وأرغمه عىل‬
‫ُ‬ ‫أزعجتني ج ًّدا‪،‬‬
‫استفقت من هول الصدمة ا ّمحت فيها‬ ‫ُ‬ ‫من الداخل‪،‬‬ ‫الدوران‪ ،‬وهو ال يبايل‪ ،‬يمعن يف أنفته‪ ،‬أديره يمنة‬
‫دمعتي ال أدري أين اختفت‪ ،‬تتسارع األحداث يف‬ ‫ويسرة بال جدوى!‬
‫ذهني أحلل ما يحدث‪ ،‬أريد أن أفكر بسرعة ألفهم ما‬ ‫نيام ال أريد أن يفيق‬ ‫الظالم اشتد حلكة‪ ،‬الجيران ٌ‬
‫يجري‪ ،‬قدمان تحثان الخطى نحوي‪ ،‬يرتفع الصوت‬ ‫أحدهم عىل صداع الباب كأنني لص غريب داهم‬
‫رجعت بخفة بضع خطوات إىل الوراء‬ ‫ُ‬ ‫شيئًا فشيئًا‪،‬‬ ‫يوما يفَّ‪ ،‬أدير املفتاح‬
‫الحي‪ ،‬أتصنع هدو ًءا مل أعهده ً‬
‫‪75‬‬
‫إبداع ومبدعون‬
‫قصــة‬

‫حتى أحصل عىل صورة شاملة‪ ،‬أدرت وجهي إىل‬


‫اليسار أرى با ًبا يشبه بابي‪ ،‬بل هو بابي نفسه!‬
‫إنني أطرق باب جاري الثمل لوقت ال أدري كم طال‪،‬‬
‫جار مل تزره البسمة مطلقًا‪ ،‬أو عىل األقل مذ قدمت‬ ‫ٌ‬
‫إىل هذا الحي لزيد من عامين‪ ،‬أنا يف غنى عن هذا‬ ‫ِ‬
‫أجني منه سوى املشاكل‪ ،‬اختلطت‬ ‫َ‬ ‫الشجار الذي لن‬
‫لدي مشاعر الفرح بأنني لن أبيت يف العراء ومشاعر‬ ‫َّ‬
‫يوما‬
‫ً‬ ‫البشاشة‬ ‫تتسرب‬ ‫مل‬ ‫رجل‬ ‫مواجهة‬ ‫من‬ ‫القلق‬
‫إىل وجهه العبوس‪ ،‬بخفة انتقلت إىل بابي الذي‬
‫أخطأتُه برعونة منذ الوهلة األوىل‪ ،‬ال أدري‬
‫كيف مل تشتد أواصر املحبة بيننا‬
‫أدخلت املفتاح‬
‫ُ‬ ‫طيلة هذه الشهور‪،‬‬
‫بسرعة ثم أدرته بهدوء ال أريد‬
‫أن أكشف نفسي لجاري‬
‫املخبول‪ ،‬انفتح الباب فأغلقته‬
‫أسندت ظهري عليه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ورائي ثم‬
‫انفتح باب يف املقابل‪ ،‬خرج الجار‬
‫امللعون وهو ُيتمتم بكلمات مل أتبينها‬
‫جي ًدا لكن ال يبدو‪ ،‬أب ًدا‪ ،‬أنها لطيفة‪ ،‬كأنه‬
‫كثيرا حتى‬
‫ً‬ ‫يتوعد أح ًدا‪ ،‬يتوعدني! مل يلبث‬
‫وحر أنفاسه يمأل املكان‪ ،‬فأغلق‬ ‫ُّ‬ ‫دخل بيته‬
‫بعدها الباب بعنف‪ ،‬لعله ظن أنه يتوهم من‬
‫لست أدري‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فرط الثمالة أو‬
‫مرت األيام بعد تلك الحادثة الغريبة‪ ،‬وكلما‬
‫صاد َف ْت عيناي الوجه املكفهر لجاري‪ ،‬أراه‬
‫بنظرات غريبة ال أعتقد أنه هو‬ ‫ٍ‬ ‫يرمقني‬
‫نفسه يعرف كنهها‪ ،‬فأتمادى يف تجاهله‪،‬‬
‫وصرت من تلك الليلة أعرف باب بيته‬ ‫ُ‬
‫باب صار مميزا عن كل‬ ‫أكثر من نفسي‪ٌ ،‬‬
‫األبواب األخرى أكثر من ذي قبل‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫رجاء عمار‬
‫(تونس)‬

‫بحر يبحث عن بائه‬


‫اِتجه البحر نحو بيت الصياد‪ ،‬ودلف عبر النافذة‬ ‫قلم البحر أمواجه ونتف أسماكه وأزال طحالبه‪ ،‬ثم‬
‫املفتوحة‪ ،‬واختبأ تحت السرير‪.‬‬ ‫عدا نحو املركب وعراه من صياده‪.‬‬
‫ذبح الصياد املركب‪ ،‬بعد أن سمع النوارس الجائعة‬ ‫حضن البحر املركب الذي انتظر الغرق نشوة‪،‬‬
‫تلعنه‪ ،‬وتلقي اللوم عىل األخشاب الفاجرة التي ما‬ ‫لكن البحر عجز عن فض حلمه‪ ،‬وبقي م ُّده مرتخيًا‬
‫حافظت عىل صدأ مساميرها‪ ،‬فهجرها البحر ورحل‬ ‫كحزمة بقدونس وحيدة ممددة عىل عربة الجزر‬
‫من أعماقه‪ ،‬وفارق أصدقاء كان يسبغ عليهم ثماره‪.‬‬ ‫الذي مل‪ ،‬فتوقف عن إنعاشها‪ ،‬وأقسم عىل مقاطعة‬
‫قطع الصياد جثة املركب‪ ،‬وصنع من أوصالها‬ ‫االنتصاب‪ ،‬والبحث عن عمل إداري يمنحه كرسيًّا‬
‫طاول ًة وكرسيًّا مل يكتمل نمو ساقه الرابعة‪،‬‬ ‫وطاولة‪.‬‬
‫داهم رجال الشرطة املكان‪ ،‬وهجموا عىل الصياد‬ ‫وىل البحر هار ًبا‪ ،‬وسقط عىل ركبتي زبده عند‬
‫وكبلوا يديه وقادوه إىل السجن بتهمة سرقة‬ ‫ً‬
‫مشغول بالبحث عن علكة‬ ‫الشاطئ‪ ،‬الذي كان‬
‫علكة السحابة‪ ،‬واستعمالها كغشاء يحتاجه العقل‬ ‫سقطت من فم سحابة‪.‬‬
‫السترجاع شبكته التي مزقتها زعانف التفكير‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬
‫وجد البحر العلكة‪ ،‬تردد قليل‪ ..‬أيعيدها إىل السحابة‬
‫حوكم وعوقب رأسه بالقطع وتم‬ ‫التي ذاع صيتها يف السماء بعد أن‬
‫العفو عن الجسد‪.‬‬ ‫شفت القمر من عقمه وغدا له‬
‫ً‬
‫هالل‪ ،‬وخلصت‬ ‫يف كل شهر‬
‫عاد جسد الصياد مقطوع‬
‫الشمس من برودها‪،‬‬
‫الرأس إىل املنزل ليتم ما بدأه‪،‬‬
‫فأصبحت تتمايل‬
‫وتمكن الكرسي من الوقوف‬
‫شبقًا وتضحي‬
‫بعد أن غدا الجسد رجله‬
‫رغبة كاوية ومع‬
‫الرابعة‪.‬‬
‫كل غروب‬
‫خرج البحر من مخبئه‪،‬‬ ‫تمسي‬
‫وكاد يطلب من املكنسة‬ ‫عروسا؟ أم‬
‫ً‬
‫الواقفة أن تقرص‬ ‫يعود إىل‬
‫لحم ُجفائه ليتيقن‬ ‫املركب‪ ،‬ويهديه‬
‫أن أمنيته تحققت‪،‬‬ ‫العلكة فينشغل‬
‫لكنه‪ ،‬هدأ وتمدد‬ ‫بمضغها وال‬
‫عىل الفراش‪ ،‬سيموت‬ ‫يفضحه فتلوك‬
‫باكرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ليصحو غ ًدا‬ ‫الجبال ُسمعته؟‬
‫ويذهب إىل السوق‬ ‫أم‪..‬‬
‫لبيع الطاولة‬ ‫اِختطف الشاطئ‬
‫والكرسي‪ ،‬ويشتري‬ ‫العلكة من بين‬
‫تذكرة ليسافر نحو‬ ‫أصابع البحر وطرده‬
‫السماء‪ ..‬سيطرق قلب‬ ‫آمرا إياه باالنحسار عن‬ ‫ً‬
‫السحابة‪.‬‬ ‫رمله‪.‬‬
‫نون‬
‫النسـوة‬
‫(قراءات في المجموعة القصصية‬
‫"ست زوايا للصالة" ألميرة بدوي)‬
‫‪78‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫د‪.‬أحمد الصغير‬
‫(‪)1‬‬

‫بنية الموروث الشعبي‬


‫في قصص أميرة بدوي‬
‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫ست زوايا للصالة‬
‫الكاتبة أميرة بدوي(‪ )2‬من الكاتبات‬

‫تعد‬
‫الالتي يحفرن بعمق يف التراث الشعبي‬
‫موظفة حكاياته وأغانيه وطقوسه‬
‫الشعبية املختلفة‪ .‬تجىل ذلك من خالل‬
‫مجموعتها القصصية الجديدة (ست‬
‫زوايا للصالة‪ /‬دار العين‪ ،‬القاهرة‪ .)2020 ،‬حيث‬
‫جاءت هذه املجموعة يف اثنتي عشرة قصة بد ًءا من‬
‫(البومة‪ ،‬العرسة‪ ،‬النعش‪ ،‬الخضر‪ ،‬البرص‪ ،‬النداهة‪،‬‬
‫القط‪ ،‬الديك‪ ،‬الغولة‪ ،‬الكف‪ ،‬الويل‪ ،‬اإلبريق)‪ .‬فكل‬
‫عنوان من العناوين السابقة يحمل موروثه الخاص‬
‫به‪ ،‬مثل املوروث األسطوري‪ ،‬الديني‪ ،‬الشعبي‪..‬‬
‫إلخ‪ .‬ألن بدوي تحاول قراءة العامل من منظور‬
‫األسطورة وأشكالها املختلفة لدى البسطاء والعامة‬
‫الذين يمثلون الهامش‪ ،‬ولكنهم هم املتن الحقيقي‬
‫الذي يخلق الحياة‪.‬‬

‫صورة املوروث‬
‫تعتمد الكاتبة عىل استدعاء أشكال املورث‬
‫الشعبي يف نصوصها القصصية بشكل‬
‫‪79‬‬
‫نون النسوة‬

‫الفت‪ ،‬فمن امللحوظ استدعاء األسطورة‪ ،‬والنص‬


‫القرآني‪ ،‬والحكايات الشعبية‪ ،‬واألغاني‪ ،‬والطقوس‬
‫التراثية من العادات والتقاليد والثقافات الريفية‬
‫املختلفة‪ ،‬حيث تدور القصص يف فضاء القرية‬
‫املصرية بعاداتها وتقاليدها وطقوسها املوروثة‬
‫منذ آالف السنين‪ ،‬مما يشي بأن الكاتبة تحفر يف‬
‫بنية املهمل واملهمش يف الريف املصري‪ ،‬عىل الرغم‬
‫من الحضور الجيل للتقاليد يف املعتقد القروي‬
‫لطبيعة الخلق الذين يعيشون يف الريف‪ ،‬ومدى‬
‫تمسكهم بذلك املوروث القديم يف معالجة قضاياهم‬
‫اليومية‪ .‬ويف ظني أن املوروث هو الجدار اآلمن‬
‫الذي يلجأ إليه اإلنسان يف أي مكان وزمان طبقًا‬
‫للطبيعة البشرية التي تقدس كل ما هو قديم‪.‬‬
‫جيرار جينيت‬
‫حيث «يعتبر املوروث الشعبي جز ًءا مه ًّما من‬
‫تاريخ وثقافة الشعوب‪ ،‬فهو الوعاء الذي تستمد‬
‫فرضها اهلل عىل جميع البشر يف األديان السماوية‪.‬‬
‫منها عقيدتها وتقاليدها وقيمها األصيلة ولغتها‬
‫أيضا لدى القرويين‬ ‫طقسا ثقافيًّا ً‬
‫ً‬ ‫كما تمثل الصالة‬
‫وأفكارها وممارستها وأسلوب حياتها الذي يعبر‬
‫للخالص من اآلالم والهموم‪ .‬ومن ث َّم يصبح‬
‫عن ثقافتها وهويتها الوطنية‪ ،‬وجسر التواصل‬
‫العنوان عتبة مؤسسة من عتبات النص‪ ،‬ألنها تمثل‬
‫بين األجيال‪ ،‬وإحدى الركائز األساسية يف عملية‬
‫بنية محيطة بالنص الكيل «ست زوايا للصالة»‪،‬‬
‫التنمية والتطوير والبناء‪ ،‬واملك ِّون األساس يف‬
‫أيضا بالنص املحيط الذي يتناول عنوان‬‫وتعرف ً‬ ‫صياغة الشخصية»(‪ .)3‬وقد طرحت معاجم اللغة‬
‫الكتاب‪ ،‬اسم املؤلف‪ ،‬لون الغالف‪ ،‬دار النشر‪،‬‬
‫«موروث اسم‬ ‫مفاهيم متعددة للموروث بشكل عام َ‬
‫اإلهداء‪ ،‬وكل ما يحيط بالنص من عالمات نصية‪،‬‬
‫اث‪،‬‬
‫ير َ‬ ‫وث‪ :‬الَّ ِذي ت ََر َك امل ِ َ‬
‫الج ُّد الْ َ ْو ُر ُ‬
‫مفعول من ور َِث‪َ ،‬‬
‫تسهم بشكل أو بآخر يف عملية القراءة والتفاعل مع‬
‫العا ِئ َل ِة‪َ :‬ما ت ََو َار َث ْت ُه ِم ْن إ ِْر ٍث مجموعة من‬
‫ات َ‬ ‫َم ْو ُرو َث ُ‬
‫بنى النص املختلفة‪ ،‬ويحدد جيرار جينيت مفهوم‬
‫العادات واألعراف ُينظر إليها كسوابق تش ِّكل الجزء‬
‫العتبات فيقول‪« :‬العتبات هي مجموع تلك النصوص‬
‫األساسي املؤ ِّثر عىل الحاضر‪ ،‬خصائص موروثة‪:‬‬ ‫َّ‬
‫التي تحيط بالنص أو جزء منه‪ ،‬تكون مفصولة عنه‪،‬‬
‫(األحياء) سمات طبيعيَّة تنتقل من الوالدين إىل‬
‫مثل عنوان الكتاب‪ ،‬وعناوين الفصول‪ ،‬والفقرات‬
‫كالصلع ولون العين»(‪،)4‬‬ ‫َّ‬ ‫ال ُّذر َّية بواسطة الجينات‬
‫الداخلة يف املناص (كل ما يحيط بالنص)»(‪ .)5‬وعليه‪،‬‬
‫ومن ثم فإن طبيعة املوروث الشعبي تحدي ًدا تشير‬
‫فإن عتبات الفضاء النصي‪ ،‬هي بمثابة املفاتيح‪،‬‬
‫إىل تلك الطقوس والعادات والثقافات والتقاليد التي‬
‫واملؤشرات الداللية التي تساعد املتلقي عىل فهم‬
‫توارثها الخلف عن السلف‪.‬‬
‫النص‪ ،‬ومدى تأثيره عىل جمهور القراء؛ ألن «النص‬
‫املحيط‪ ،‬هو كل ما يدور بفلك النص من مصاحبات‪،‬‬ ‫بنية العنوان‬
‫من اسم الكاتب‪ ،‬العنوان‪ ،‬العنوان الفرعي‪ ،‬اإلهداء‪،‬‬
‫االستهالل‪ ،‬أي كل ما يتعلق باملظهر الخارجي‬ ‫نصا محي ًطا بالنص الكيل‬
‫يعد العنوان ًّ‬
‫لكتاب‪ ،‬كالصورة املصاحبة‪ ،‬للغالف‪ ،‬كلمة‬ ‫داخل العمل األدبي‪ ،‬حيث نالحظ عنوان‬
‫الناشر»(‪ ،)6‬فتصبح هذه العتبات بمثابة العالمات‬ ‫ً‬
‫محمل‬ ‫املجموعة «ست زوايا للصالة»‬
‫اإلشارية األوىل التي تأخذ بيد املتلقي للدخول يف‬ ‫بدالالت املعتقد وأن الصالة هي صورة‬
‫عوامل النص الداخلية‪ ،‬وكأنها حافز نصي يمثل‬ ‫ذلك املعتقد‪ ،‬فهي الفريضة السماوية التي‬
‫‪80‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الفكرة الغامضة يف البداية‪ ،‬حتى يصل املتلقي عن‬


‫طريقها إىل املعنى العميق الذي يكمن خلف هذه‬
‫العتبات القصيرة املختزلة‪ .‬فالعنوان إذن هو «ما‬
‫يحيط بالكتاب من سياج أويل‪ ،‬وعتبات بصرية‬
‫ولغوية»(‪ )7‬ويبدو النص املوازي‪ /‬الغالف‪ ،‬العنوان‪،‬‬
‫اإلهداء «نو ًعا من النظير النصي الذي يمثل التعايل‬
‫العنوان‬
‫ُ‬ ‫النصي باملعنى العام»(‪ ،)8‬ومن ث َّم أصبح‬
‫مؤشرا خارجيًّا يمكن‬
‫ً‬ ‫يف البناء القصصي‬
‫الولوج من خالله إىل قراءة النص الداخيل‪.‬‬
‫فيشتمل عنوان املدونة التي نحن بصدد‬
‫مقاربتها عىل ثالث مفردات (ست زوايا‬
‫للصالة)‪ ،‬يتشكل العامل من خالل هذه‬
‫الدوال اللغوية التي تحمل طاب ًعا طقوسيًّا‬
‫مورو ًثا‪ ،‬فالعدد ستة يشير إىل األساطير‬
‫والخيال والرغبة يف الوصول إىل أقصى‬
‫العامل لتحقيق الهدف «يرمز هذا الرقم‬
‫(‪ )6‬إىل األسطورة‪ .‬وبما أن كوكب فينس‬
‫يحكم هذا الرقم‪ ،‬فهو يدل عىل االنسجام‪،‬‬
‫والتوازن‪ ،‬والصدق‪ ،‬والحب‪ ،‬والحقيقة‪.‬‬
‫يكشف لنا الرقم ستة عن الحلول‪ ،‬واملعنى‬
‫الروحي للرقم ستة هو «التنوير»‪ ،‬وعىل وجه‬
‫التحديد «إضاءة «طريقنا يف املسائل التي‬
‫تتطلب التوازن الروحي والعقيل‪ .‬كما يحثنا هذا‬
‫الرقم عىل إظهار املسامحة واالختيار بوعي»(‪،)9‬‬
‫فاألسطورة التي يحملها العدد (‪ )6‬هي باب‬
‫من أبواب التنوير الروحي يف العامل‪ .‬كما تعبر‬
‫األشكال السداسية عىل طبيعة الفن اإلسالمي‬
‫واألرابيسك والتعاشيق التراثية وغيرها‪ .‬فالعالقة‬
‫بين الستة والصالة هي أن الصالة باب من‬
‫أيضا‪ ،‬فهي تغسل الروح بقوتها‬ ‫أبواب التنوير ً‬
‫أيضا بنية العناوين الداخلية‬ ‫وقدسيتها‪ .‬ونالحظ ً‬
‫للقصص من منظور سيميائي؛ أن كل عنوان‬
‫يمثل إشارة مركزية يف بنية القصة مثل (البومة‪،‬‬
‫الخضر‪ ،‬الويل‪ ،‬الكشف والغولة‪ ،‬العرسة‪ ،‬البرص)‪.‬‬

‫صورة البومة يف املوروث‬


‫فالبومة يف الثقافة الشعبية تشير إىل التشاؤم‬
‫والحزن واالكتئاب والفقد والضياع‪ ،‬حيث توارثت‬
‫‪81‬‬
‫نون النسوة‬

‫أسطورة العرسة‬ ‫األجيال الجديدة عىل مر التاريخ هذه الدالالت‬


‫الشعبية التي تضرب يف عمق التاريخ الكوني لحياة‬
‫إن بدوي تعري ثقافة القرية املوروثة التي قيدتها‬ ‫البومة‪ .‬كما ُيضرب بها املثل يف التشاؤم (زي‬
‫عبر أزمنة مختلفة‪ ،‬فالقرية تعالج قضايا الحاضر‬ ‫البومة)‪ ،‬وقد ربطت الكاتبة بين العنوان وحكاية‬
‫بأفكار ماضوية دموية‪ .‬ونالحظ كذلك يف قصة‬ ‫القصة‪ ،‬فالحدث الرئيس يف القصة هو انتشار‬
‫طقسا ريفيًّا بامتياز‬
‫ً‬ ‫العرسة‪ ،‬حيث تمثل العرسة‬ ‫الشائعات داخل املجتمع القروي بشكل واسع‬
‫يلجأ لألسطورة والخرافات الشعبية من أجل تبرير‬ ‫قرارا يكلفه‬
‫ً‬ ‫وتصديقها‪ ،‬بل يمكن أن يتخذ املرء‬
‫ما يحدث‪ ،‬فتقول يف صدر القصة «الغرباء‪ ،‬يوم‬ ‫جراء تصديقه للمعتقد الشعبي‬ ‫ً‬
‫–مثل‪َّ -‬‬ ‫الكثير حياته‬
‫السبت قليلو البخت‪ ،‬بخطوة واحدة عىل أعتاب‬ ‫األسطوري أو الخيايل‪ ،‬يف ظل غياب العقالنية‬
‫البلدة يعرفون أن النور قد حل‪ ،‬غيطان غلة‪ ،‬قرص‬ ‫وتوسع الرجعية وانفالت األفكار الظالمية التي‬
‫شمس‪ ،‬فطير مشلتت‪ ،‬والكحل ممزوج بالفلفل‬ ‫تقتل العقالنية منتصرة لجبروتها القديم‪ .‬فتقول‬
‫والزيتون‪ ،‬بركاتك يا سيدي خالد‪ ،‬البلدة بأكملها‬ ‫الذات الساردة «حسين مل يكن يريد قتل سنية‬
‫تدق األهوان‪ ،‬والغرباء يصطفون عىل جفنها يف‬ ‫أخته التوأم‪ ،‬لكنها وضعت وجهه يف الوحل‪ ،‬مل‬
‫شارع طويل يصل إىل مقام الشيح ويلتف حول‬ ‫يعد له وجه من األساس‪ ،‬أكله الناس بأعينهم‪،‬‬
‫الجبانة‪ ،‬يعرضون الغوايش والحناطير البالستيكية‪،‬‬ ‫أخته األرملة يف عز شبابها‪« ،‬لهطة القشطة»‬
‫الحمص والحالوة والطراطير‪ ،‬يصطفون كغيرهم‬ ‫رفضت الرجوع إىل بيت أبيها‪ ،‬وقالت إنها ستربي‬
‫من أبناء البلدة باألكواز امللونة أمام أواني النابت‬ ‫صغيرتها يف بيتها»(‪ .)10‬تطرح الكاتبة يف املقطع‬
‫الكبيرة‪ ،‬يشربون الشاي األحمر وسط الذاكرين‬ ‫السابق صورة البومة‪ /‬العار يف ثقافة القرية التي‬
‫والزوار»(‪.)12‬‬ ‫تروج ملثل هذه العادات‪ ،‬وقتل الضحية التي تحاول‬
‫مواجهة جبروت الواقع وقسوته باستمرارها‬
‫النعش‪ /‬الخرافة الشعبية‬ ‫أيضا‬
‫يف العمل من أجل ابنتها الصغيرة‪ ،‬وتقول ً‬
‫همسا يدور حول أخته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫«باألمس سمع حسين‬
‫ويف قصة النعش تقول الساردة‪« :‬يف عز الصيف‪،‬‬ ‫همسة تؤكد أنها امرأة َع َز َبة‪ ،‬كيف يتركها أخوها‬
‫انطفأت نقرة الظهيرة عىل خرطوم جدتنا‪ ،‬وجلسنا‬ ‫هكذا‪ ،‬وهمسة تؤكد أنها ابنة ليل‪ ،‬تستقبل الرجال‬
‫أمام البيوت عىل حصائر من البالستيك‪ ،‬نشرب‬ ‫يف الظالم‪ ،‬عندما تنام ابنتها ويهدأ نقيق الضفادع‪،‬‬
‫زمرا أرجلهم أعرض من‬‫الشاي‪ ،‬عندما جاؤوا ً‬ ‫تسكن أعين القمر‪ ،‬اقترب حسين من سيدنا‪ ،‬وبكى‬
‫الحطب‪ ،‬وفوق رؤوسهم‪ ،‬البوم‪ ،‬بدو كوحوش‬ ‫بين يديه‪ ،‬يطلب السماح والتخلص من هذا الحمل‪،‬‬
‫لها رأسين تمشي عىل أربع‪ ،‬تعفر الهواء وتحيل‬ ‫كيف ينظر الناس يف وجهه‪ ،‬كيف يستأمنونه‬
‫الزهور ترا ًبا‪ ..‬إن هناك وحشً ا حط عىل بالدهم‪،‬‬ ‫عىل أبنائهم يف املدرسة‪ ،‬ال يريد وصمة‬
‫سلعوة‪ ،‬تزحف فتطير التراب من تحتها وتدخل‬ ‫العار هذه‪ ،‬يقول لسيدنا إنه سيربي‬
‫البيوت والقبور‪ ،‬قالت امرأة‪ :‬إنها ليست سلعوة‪ ،‬بل‬ ‫الصغيرة‪ ،‬لن يجعلها تشعر بالفضيحة‪،‬‬
‫نجم سقط من السماء‪ ،‬داخله وحش برأس طويل‪،‬‬ ‫أرجوك يا سيدنا‪ ،‬اقبل الكفن‪ ،‬ربنا ما‬
‫سوطا ويضربه يف الطين فيسود األرض‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يمسك‬ ‫يرضاش بالفضيحة»(‪ ،)11‬ترصد الكاتبة‬
‫ويجلد ظهور الرجال‪ ،‬البنات قالت إنها أمنا الغولة‬ ‫صورة حسين األخ الذي راح يردد‬
‫والنساء قالت إنها أم قويق»(‪ .)13‬يطرح املشهد‬ ‫الهمسات الخائنة التي تلوك ألسنتها‬
‫السابق صورة السلعوة وأمنا الغولة وأم قويق‪،‬‬ ‫ً‬
‫محاول مشاورة‬ ‫سيرة أخته سنية‪،‬‬
‫فتمثل صورة الحكاية الخرافية يف املوروث الشعبي‬ ‫الشيخ‪ /‬سيدنا لقتل أخته وغسل عاره‬
‫لدى أهل القرى‪ ،‬حيث تحاول الكاتبة أميرة بدوي‬ ‫دون التأكد من حقيقة األمر‪.‬‬
‫مقاومة الخرافة املتوطنة يف رحم القرى املصرية‬
‫‪82‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫عىل فعل املقاومة‪ ،‬والبحث عن الحقيقة يف مواجهة‬ ‫من جهة‪ ،‬وتعرية الزيف االجتماعي الذي سيطر عىل‬
‫الزيف‪ ،‬فتتخذ من الخضر عليه السالم تقنية فنية‬ ‫كبيرا من الزمن‪،‬‬
‫ً‬ ‫ردحا‬
‫األدمغة الريفية والشعبية ُ‬
‫للدخول لعامل الغيب وهي شخصية مركزية يف‬ ‫وال يزال يسيطر حتى وقتنا الراهن‪ .‬إن مثل هذه‬
‫املوروث الشعبي‪ ،‬حيث أشارت القصة إليه بشكل‬ ‫الخرافات تشي بصورة الواقع الشعبي املتناقض‬
‫واضح «وتبدأ مواويل الضفادع تنادي عىل نبيها‬ ‫الذي يستخدم كل ما تطرحه الحداثة من تقدم يف‬
‫مواجهة عقول تعيش يف جوهر الخرافات والشعوذة‬
‫الخضر‪ ،‬وتبتهل مع آذان الفجر حتى يعود إىل‬
‫والخوف والغيب الذي ال ينتهي‪.‬‬
‫األرض التي خرج منها‪ ،‬وقد تأتي نساء القرية‬
‫وبناتها لتلحس جلد الضفادع فتفك عقدة اللسان‬ ‫شخصية الخضر (عليه السالم)‬
‫وتعلو الزغاريد بالفرح والسحر‪ ،‬أما األطفال‬
‫فيرون إذا ما ملسوا جلدها مقاعدهم يف الجنة أو يف‬ ‫تطرح أميرة بدوي يف مجموعتها القصصية صورة‬
‫النار»(‪ ،)15‬فتحاول الكاتبة أن تصور لنا من خالل‬ ‫النبي الخضر عليه السالم من خالل الصورة‬
‫الخيال السردي صورة الضفادع التي تغني وتبتهل‬ ‫الذهنية املرتبطة بالخرافات والحكايات عند العامة‬
‫تناصا قرآنيًّا بين الخضر‬
‫ًّ‬ ‫والبسطاء‪ ،‬وقد صنعت‬
‫لربها منادية عىل نبيها الخضر‪ ،‬الشخصية املباركة‬
‫يف الحكاية القرآنية‪ ،‬بين موسى والخضر يف سورة‬
‫التي تأتي باملعجزات وتعلم الغيب‪ .‬تجىل ذلك‬
‫الكهف‪ ،‬وبين الخضر يف القصة التي جاءت بعنوان‬
‫الحس الصويف واألسطوري يف قصص بدوي من‬
‫(الخضر) فتقول الذات الساردة‪« :‬يجدل الحبال‬
‫خالل لغة تحكي بصوت أهل الريف عن معتقداتهم‬ ‫عاما‬
‫كل عشية‪ ،‬ويحرس قضبان القطار‪ ،‬عشرون ً‬
‫ومحبتهم ورؤيتهم التي ال يقبلون النقاش حولها‪.‬‬ ‫يقرفص بين الحبال‪ ،‬واملقاطف‪ ،‬يكتفها‪ ،‬يالعبها‪،‬‬
‫فتكشف عن صورة املوروثات ومدى أثرها يف‬ ‫ويغير من صورتها‪ ،‬من ليف نخلة عالية إىل خلخال‬
‫القرية املصرية‪ ،‬بل تسهم يف تحريك الواقع بشكل‬ ‫يف قدم بهيمة‪ ،‬ومقطف يسبخ األرض ويحش‬
‫خفي‬ ‫ثمرات الكرنب»(‪ .)14‬تعتمد الكاتبة يف قصة الخضر‬

‫‪ -7‬محمد بنيس‪ :‬الشعر العربي الحديث (بنياته‬ ‫الهوامش‪:‬‬


‫وإبداالتها) ج (‪ ،)1‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬ط (‪ ،2001 ،)3‬ص‪.188‬‬ ‫‪ -1‬ناقد وأكاديمي مصري‪ ،‬أستاذ األدب العربي‬
‫‪ -8‬جيرار جينيت‪ :‬مدخل إىل جامع النص‪ ،‬ترجمة‬ ‫كلية اآلداب‪ ،‬جامعة الوادي الجديد‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫عبد الرحمن أيوب‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار‬ ‫‪ -2‬أميرة بدوي‪ ،‬كاتبة ومترجمة مصرية حصلت‬
‫البيضاء‪ ،‬ط (‪ ،1986 ،)2‬ص‪.91‬‬ ‫عىل جائزة ساويرس يف القصة القصيرة عن‬
‫‪https://www.lahamag.com/ -9‬‬ ‫مجموعتها ست زوايا للصالة‪ ،‬ورشحت لجائزة‬
‫‪D%B5%AE%D8%D8%B4%D8%-454/article‬‬ ‫الشيخ زايد‪.‬‬
‫‪%A7%D8%88%D9%_83%AA%D9%8A%D8%9‬‬ ‫‪https://www.albayan.ae/five-senses/ -3‬‬
‫‪A7%D8%82%D9%B1%D8%A3%D8%84%D9‬‬ ‫‪1.2070088-06-05-2014/heritage‬‬
‫‪85%D9%‬‬ ‫‪https://www.almaany.com/ar/dict/ -4‬‬
‫‪ -10‬أميرة بدوي‪ :‬ست زوايا للصالة‪ ،‬ص‪.12‬‬ ‫‪D%88%D9%B1%D8%88%D9%85%ar-ar/%D9‬‬
‫‪ -11‬السابق‪ ،‬ص‪.12‬‬ ‫‪/AB%8‬‬
‫‪ -12‬السابق‪ ،‬ص‪.19‬‬ ‫‪ -5‬عبد الحق بلعابد‪ :‬عتبات (جيرار جينيت من‬
‫‪ -13‬السابق‪ ،‬ص‪.26‬‬
‫‪ -14‬السابق‪ ،‬ص‪.33‬‬ ‫النص إىل املناص)‪ ،‬الدار العربية للعلوم‪ ،‬ناشرون‪،‬‬
‫‪ -15‬السابق‪ ،‬ص‪.34‬‬ ‫منشورات االختالف‪ ،‬بيروت‪ ،2008 ،‬ص‪.30‬‬
‫‪ -6‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.48‬‬
‫‪83‬‬
‫نون النسوة‬
‫‪84‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫د‪.‬محمد سليم شوشة‬

‫ست زوايا للصالة‪ ..‬جماليات‬


‫األركيولوجيا والغرائبية‬
‫في القصة القصيرة‬

‫تطور القصة املصرية فتبدأ من حيث انتهى إليه‬ ‫يستطيع أي نقد أدبي منشغل باإلبداع‬

‫ال‬
‫السابقون‪ ،‬وتتمثل املحددات والقيم الثقافية الحاكمة‬ ‫األدبي للكتاب املصريين الشباب‬
‫ملرحلتها التي تبدع فيها‪ ،‬وهي مسألة مهمة‪ ،‬فهذا‬ ‫أن يتجاوز أسماء مهمة كشف عن‬
‫الجيل الجديد امتلك حساسية خاصة تجاه ما‬ ‫خصوصيتها وتميزها من العمل األول‪ ،‬ومن بين‬
‫يتوجب من عالقة بين الواقع‬ ‫هذه األسماء تحضر أميرة‬
‫والفنتازيا وكذلك حساسية‬ ‫بدوي يف قلب املشهد اإلبداعي‬
‫خاصة عن الطبيعة الرمزية‬ ‫يف مصر عبر مجموعتها‬
‫للنص األدبي وأهمية أن يتجاوز‬ ‫القصصية ست زوايا للصالة‬
‫السمت الواقعي التقليدي وأن‬ ‫التي وصلت إىل القائمة‬
‫تتجىل فيه إمكانات تأويلية‬ ‫الطويلة يف جائزة الشيخ زايد‬
‫تجعله يتجاوز املباشرة وينفتح‬ ‫فرع شباب الكتاب‪ ،‬والحقيقة‬
‫عىل احتماالت تأويلية وتفسيرية‬ ‫هي واحدة من املجموعات‬
‫تجعله متعدد األبعاد والقراءات‪.‬‬ ‫القصصية املهمة والثرية‬
‫ومن هنا كان كثير منهم يلجأ‬ ‫الكاشفة عن قدر خصوصية‬
‫إىل اإلبداع تحت مظلة الكتابة‬ ‫صوت أميرة بدوي السردي‬
‫التاريخية أو التاريخ بانفتاحه‬ ‫وقدر جديتها وقدر موهبتها‪،‬‬
‫وهو ما يجعل التاريخ يف‬ ‫وثراء لغتها واستيعابها ملراحل‬
‫‪85‬‬
‫نون النسوة‬

‫مباشر إىل ما تجن وتخفي يف أعماقها من نقيض‬ ‫هذه الحال وسي ًطا وليس مجرد حالة من الرصد‬
‫ذلك كله من العنف والوحشية والجهل والرجعية‬ ‫املرتهن بالزمن القديم املعني أو بمرحلة معينة‪ ،‬بل‬
‫والخرافة‪.‬‬ ‫يكون أقرب للوسيلة منه إىل الغاية‪ ،‬فال تقتصر‬
‫يف القصة األوىل (البومة) حيث يقتل األخ أخته‬ ‫قراءة التاريخ أو مقاربته سرد ًّيا يف هذه النماذج‬
‫تتجىل ذروة هذه الوحشية وتتجىل ذروة الصدمة‪،‬‬ ‫الجديدة الثرية عىل املاضي بل تمتد إىل الحاضر‬
‫وتتجىل نقطة التقاء املتناقضات‪ ،‬ونقطة التقاء‬ ‫وإىل املستقبل كذلك‪ ،‬بل إن الرؤية اإلسقاطية أو غير‬
‫الوحشية والبدائية مع الحضارة عبر أكثر من بؤرة‬ ‫املباشرة املرتبطة بالحاضر واملستقبل غالبًا ما تكون‬
‫كاشفة أو عبر أكثر من مظهر أو تج ٍّل إبداعي‪،‬‬ ‫هي الداللة املركزية أو الغاية األساسية‪.‬‬
‫فقطاع الطرق لهم قوانينهم ونظامهم ومحكمتهم‬ ‫يف نمط آخر من التجديد كان االلتجاء إىل الفنتازيا‬
‫ونظامهم الصارم‪ ،‬والحقيقة أن هذه الصرامة‬ ‫والغرائبية ليس لذاتهما فقط‪ ،‬أو باألحرى ليس ملا‬
‫وذاك التنظيم املبالغ فيه من التحضر واالحترام‬ ‫ينتج عنهما من جماليات خاصة أو ملا لتكوينهما‬
‫والتقديس لكبيرهم أو لكبرائهم يف املجلس هو نسق‬ ‫من أثر عىل املتلقي‪ ،‬ولكن كذلك وربما يكون هو‬
‫األهم ألن الفنتازيا والغرائبية قد يمثالن أو يشكالن‬
‫سبيل مختلفة ومهمة لقراءة النفس اإلنسانية أو‬ ‫ً‬
‫الوعي بما فيها من التناقضات والغرائب وما يف‬
‫أعماق العقل البشري من معارف أسطورية وخرافية‬
‫متجذرة‪ ،‬فهذه السبيل من تجاوز الواقعية بنمطها‬
‫الحريف والتقليدي إنما هو باألساس نوع‬
‫من العودة إىل الطبيعة الفنتازية والغرائبية‬
‫األصيلة والقديمة يف اإلنسان‪ .‬إنه أمر‬
‫أقرب للعودة إىل البدائية الحقيقية التي‬
‫تتوارى وراء قشرة الحضارة أو وراء ما‬
‫يتبدى من مظاهر التنظيم واملدنية‪،‬‬
‫فهذا النمط أو النوع من السرد‬
‫الباحث عن الخرافة والعجائبية‬
‫والفنتازيا وحفرياتها كلها‬
‫وأنساقها املستقرة يف أعماق‬
‫املجتمع ويف أعماق طبقات‬
‫الالوعي اإلنساني هو يف‬
‫األصل قراءة مختلفة لإلنسان‬
‫الذي تتجذر فيه البدائية والوحشية والجهل‪ ،‬وتأكيد‬
‫من هذا السرد عىل الطبيعة البدائية والوحشية يف‬
‫اإلنسان‪ .‬والحقيقة أنها سبيل مختلفة وثرية وطريق‬
‫فيها قدر كبير من الذكاء وربما هناك عوامل كثيرة‬
‫دافعة يف اتجاهها أو جعلتها حتميًّا يف هذه املرحلة‬
‫التي هيمنت فيها الصورة املتحضرة أو املصطنعة‬
‫من التكنولوجيا والعلم والتطور‪ ،‬فكان هذا االرتداد‬
‫نم ًطا من رد الفعل العكسي أو الفعل املضاد عىل‬
‫هيمنة الحضارة الزائفة التي تؤشر بشكل غير‬
‫‪86‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫إنما غرضه األساسي بالنسبة للخطاب السردي‬ ‫إيحائي ساخر‪ ،‬ألن هذه الحضارة املصطنعة هي‬
‫هي محاولة مقاربة الذات اإلنسانية يف تركيبها‬ ‫يف النهاية ملك لقطاع طرق ومجتمع تهيمن عليه‬
‫مغرما بقراءة نفسه‬ ‫ً‬ ‫وتعقيدها‪ ،‬فكأن هذا الجيل صار‬ ‫الرجعية والخرافة والعنف والظلم فيبيحون لألخ‬
‫مرة أخرى أو مرة جديدة عبر هذا التراث القديم من‬ ‫أن يقتل أخته‪ ،‬ويف قلب هذه القصة أو تفاصيلها‬
‫السحر والخرافة والعجائبية أو الفنتازيا الطبيعية‬ ‫نظاما آخر من التنظيم لكنه‬‫ً‬ ‫تستحضر نسقًا أو‬
‫أو غير املصطنعة‪ .‬وغير مصطنعة هنا نعني بها أن‬ ‫ذا طبيعة روحية وهو يشير إىل التنظيم الديني أو‬
‫وجذورا حقيقة يف الحياة‪،‬‬
‫ً‬ ‫جذورا من الواقع‬
‫ً‬ ‫لها‬ ‫التقدم الروحي عبر رصد عالمات اإليمان والخوف‬
‫مثل عن الخيال العلمي‪ ،‬ومعنى‬ ‫بمعنى أنها تختلف ً‬ ‫والصالة والتطهر لدى هذا األخ القاتل‪ .‬وهكذا‬
‫االصطناع هنا مختلف عن فكرة التخييل األدبي‪،‬‬ ‫فإن النظامين الحضاريين االجتماعي والديني‬
‫فال ينفي كون هذه التكوينات العجائبية أو الغرائبية‬ ‫بصرامتهما واكتمالهما يصبحان عاجزين أمام‬
‫وراءها جذور وأصول من الواقع أن هناك صنعة‬ ‫هذا الغباء املتجذر وتلك البدائية أو الوحشية التي‬
‫أدبية أو تركيبًا تخييليًّا معينًا يتمثل يف التوظيف‬ ‫جعلته يف النهاية يقتلها وإن كان متعلقًا بها أو‬
‫والدمج بينها وبين العناصر األخرى للخطاب‪.‬‬ ‫محبًّا لها منذ طفولتهما‪ ،‬وكانت هذه اإلشارات من‬
‫تشكل قصص املجموعة دوائر متنوعة وغير تقليدية‬ ‫املاضي بينهما لها هي األخرى أهميتها الكبيرة يف‬
‫للصراع‪ ،‬فمرة يكون الصراع والعنف بدافع العار‬ ‫بنية الحكاية وكذلك دورها يف الخطاب السردي‬
‫أو األبعاد واالعتبارات االجتماعية ومرة يكون‬ ‫ألنها شكلت نسقًا من العاطفة املتوارية وأكدت‬
‫بدافع الغريزة واالحتياجات الجسدية والبيولوجية‪،‬‬ ‫عىل الطبيعة املنافقة أو املخادعة لإلنسان الذي‬
‫ومرة يكون بدافع جماعي ونوعي‪ ،‬أو يتأسس‬ ‫تتغلب الهمجية والتكبر لديه عىل البراءة والذكريات‬
‫عىل كراهية جماعة ألخرى تختلف عنها‪ ،‬كراهية‬ ‫الجميلة‪ ،‬حيث مل تمنعه هذه العاطفة وتلك املحبة‬
‫األغراب أو الوافدين‪ ،‬والحقيقة أن كل هذه األنماط‬ ‫ألخته من قتلها ومل تمنعه من االستجابة لغروره‬
‫من الصراع تعود إىل النقطة األساسية املرتبطة‬ ‫وما يعرف بالسمعة أو بالعار وغيرها من أشكال‬
‫بمقاربة الوحشية والبدائية املتجذرة يف اإلنسان‪،‬‬ ‫االتهام للمرأة التي ليس تحت مظلة رجل‪.‬‬
‫والعودة إىل مقاربة هذا األصل الكامن والخفي‪،‬‬ ‫يف القصة الثانية (العرسة) تتجىل هذه الوحشية‬
‫ولهذا نجد أن الخطاب أجاد يف رسم صورة وحشية‬ ‫وحسما عبر أفعال‬
‫ً‬ ‫والبدائية بصورة أكثر جال ًء‬
‫طريفة وغرائبية لألغراب الوافدين‪ .‬يف نوع من‬ ‫ً‬
‫مقابل ومحار ًبا‬ ‫سحر وأعمال سفلية تشكل نسقًا‬
‫التكريس لثنائية الذات والذات املضادة‪ ،‬الذات‬ ‫للجمال أو للحضارة‪ ،‬فال تمثل األنثى البطلة يف هذه‬
‫املتحضرة والذات البدائية‪ ،‬األنا واآلخر‪ ،‬أو ثنائية‬ ‫نموذجا فرد ًّيا‪ ،‬بل هي رمز ملتع الحضارة‬ ‫ً‬ ‫القصة‬
‫املستقر والوافد الغريب‪ .‬فيتجىل ذلك يف هذه القصة‬ ‫وفوائدها أو جمالها وما تمنح من لذة‪ ،‬ولهذا اقترنت‬
‫زمرا‪ ،‬أرجلهم‬‫التي عنوانها (النعش)‪ :‬عندما جاءوا ً‬ ‫هذه العروس الريفية الفاتنة بأدوات التحضر من‬
‫أعرض من الحطب‪ ،‬وفوق رؤوسهم البوم‪ .‬بدوا‬ ‫التجمل أو الزينة واملالبس وفنون الرقص والغناء‬
‫كوحوش لها رأسان‪ ،‬تمشي عىل أربع‪ ،‬تعفر الهواء‬ ‫واالحتفاء أو الطابع االحتفايل الدال عىل النزوع‬
‫وتحيل الزهور ترا ًبا‪ .‬فنجد أن خطاب القصة قد‬ ‫األصيل يف اإلنسان نحو الحضارة واصطناع‬
‫أسس وكرس لنمطين متقابلين من البداية‪ ،‬ويمثل‬ ‫البهجة أو تشكيل متعته املوازية لجمال الطبيعة‬
‫التقاءهما نقطة الذروة التي يتفجر منها العنف أو‬ ‫املهملة أو البدائية‪ ،‬ولكن هذا النمط املتحضر املتمثل‬
‫الصراع والتنازع املشوق‪ ،‬فيلتقط الجميع األسلحة‬ ‫يف العروس يصطدم بأعمال السحر وطقوس اإليذاء‬
‫وأدوات الحرب املتاحة يف قرية ريفية‪ ،‬وهنا يلمح‬ ‫عبر األعمال السفلية والرغبة يف طمس الجمال‪،‬‬
‫الخطاب القصصي إىل أمر مهم وهو حال التساوي‬ ‫مما يؤشر إىل مشاعر الحقد والكراهية والعنف‬
‫بين الطرفين وقت االقتتال‪ ،‬فكأن العنف قد ردم‬ ‫الكامن يف األعماق‪ .‬وهكذا فإن الغرائبية أو الفنتازيا‬
‫الفجوة والهوة الحضارية بين الفريقين ومل يكن‬ ‫والعودة إىل هذه الحفريات واملكونات االجتماعية‬
‫‪87‬‬
‫نون النسوة‬

‫دائما‪ ،‬وبرغم ذلك يبقى اإلنسان عني ًدا بحسب‬


‫منه ً‬ ‫هناك فارق بينهما‪ .‬عىل أنه من جماليات هذه القصة‬
‫رؤية القص ومنطقه‪ ،‬فيظل النموذج اإلنساني‬ ‫أنها تسبح يف مساحة أكثر رحابة من الفنتازيا‬
‫املسرود عنه يف هذه القصص متمس ًكا باملقاومة‬ ‫حرية التخييل‪ ،‬وتنطوي عىل تحوالت جوهرية من‬
‫والصمود ومواجهة الخطر‪ ،‬وباحثًا عن التحقق‬ ‫حال إىل أخرى‪ ،‬فنجد عىل سبيل التمثيل التحول يف‬
‫والقوة سواء بالسبيل البدائية بأن يحارب الثعبان‬ ‫مشهد البداية من لحظات استقبال املساء الصيفي‬
‫الضخم بكل ما يملك من أسلحة بدائية أو بأفكار‬ ‫يف جلسة الهواء بعد ترطيب املكان باملاء واالستعداد‬
‫كحفر خندق أو بالحيل والعلم والتحقق كما يف‬ ‫للسهرة الجميلة فتتحول بعدها مباشرة إىل هذا‬
‫قصص أخرى يكون فيها السبيل إىل القوة بالدراسة‬ ‫الوافد الذي يعكر الصورة الحضارية ومشاهدها‬
‫واملقاومة ومحاولة الوصول إىل منصب‪ .‬ليتشكل‬ ‫رأسا لعقب‬
‫الحاضرة واملتوقعة وتنقلب القرية ً‬
‫لدينا سرد مهم وكاشف وثري عىل مستوى لغته‬ ‫وتنخرط يف حرب وقتال يشارك فيه الجميع حتى‬
‫وتتناغم عناصره كلها مع بعضها وبخاصة يف اللغة‬ ‫األطفال‪ ،‬وهو ما يؤكد أن القص إنما كان يشكل‬
‫التي تتجاوب مع الطاقات التخييلية وروح الفنتازيا‬ ‫عابرا‪ ،‬ذلك ألنه صراع وجود‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أصيل وليس‬ ‫صرا ًعا‬
‫والعجائبية وتستجيب لوثباتهما الرشيقة يف فضاء‬ ‫أقرب لصراع الحيوانات يف الغابة أو صراع البقاء‬
‫املعنى‪ ،‬وليتشكل سرد سريايل دال ومحمل بأسئلة‬ ‫الذي يقع بين كائنات الغابة وحيواناتها‪.‬‬
‫كثيرة وقضايا مختلفة‪ ،‬ولذا فهو جدير بالدراسة‬ ‫ومن الطريف يف قصص هذه املجموعة أنها عبر‬
‫والقراءة والبحث‬ ‫الفنتازيا والغرائبية قد تماست وملست نقاط التقاء‬
‫اإلنسانية بجذور الحيوانية املتأصلة فيهم‪ ،‬وربطت‬
‫بين اإلنساني والحيواني عىل نحو يتسم باإليحاء‬
‫وغير املباشرة والبعد عن النزعة اإلنشائية‪ ،‬بل كل‬
‫هذا مما يمكن أن يستشفه القارئ أو يصل إليه‬
‫عبر التأويل وإعمال العقل وتأمل البنية الدرامية‬
‫ومسار األحداث وعالمات الخطاب القصصي كافة‪،‬‬
‫حضورا طاغيًا ألسماء الحيوانات‬ ‫ً‬ ‫ولذلك فإن هناك‬
‫وأفعالها‪ ،‬ما بين طيور وحشرات وزواحف وغيرها‬
‫وكلها تلتقي يف مساحة من العنف أو الوحشية‬
‫أحيانًا‪ ،‬والحقيقة أنها بقدر ما تبدو كاشفة عن‬
‫الوحشية الكامنة لدى اإلنسان فهي كذلك كاشفة‬
‫عن الطبيعة اإلنسانية املهددة بشكل دائم أو‬
‫املعرضة للخطر يف كل األوقات‪ ،‬وبرغم الحضارة‬
‫التي يبدو اإلنسان غارقًا فيها لكنه يظل‬
‫ً‬
‫ومحاطا‬ ‫ومعرضا للخطر‬
‫ً‬ ‫مهد ًدا‬
‫بمصادر الخوف يف كل وقت‬
‫ويف كل حركة‪ .‬وهكذا تتم‬
‫مقاربة املوت عىل نحو‬
‫مختلف يف قصص هذه‬
‫املجموعة‪ ،‬حيث يبدو‬
‫ساكنًا داخل اإلنسان من‬
‫يوم ميالده ويبدو قريبًا‬
‫‪88‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الطيب خالدي‬
‫(الجزائر)‬

‫السرد المتواطئ مع الحكاية‬


‫في ست زوايا للصالة‬
‫إذ نالحظ أن العمل القصصي يستحضر الواقع‬ ‫بيت الحكايات‬
‫بتيار السرد‪ ،‬والخيال عن طريق استحضار عوامل‬
‫خيالية تنبض بالحياة فتجعل القارئ يريد البحث‬ ‫بنا النصوص نحو عوامل تختزل الحكايات‬

‫تسافر‬
‫عن هذا القالب الخيايل الذي يحرك العملية السردية‬ ‫التي تأهل العامل‪ ،‬فتدعونا إىل املشاركة‬
‫فيدفع بها نحو األمام‪.‬‬ ‫يف فعاليات الحكايات‪ /‬العوامل التي تضم‬
‫ربما يحيلنا الحديث إىل القول بأن عوامل البشر‬ ‫قط ًعا متنوعة تتحد فيما بينها لتشكل بنية‬
‫مبنية عىل العجائب وعىل أسطرة األشياء وجعلها‬ ‫نصية مثيرة ال تلبث أن تتحول إىل ذاكرة‬
‫قوالب تقتحم الخيال لتصنع منه عجينة تتشكل‬ ‫تشمل التاريخ والجغرافيا وامليتافريقا‬
‫بمقاسات مختلفة‪ ،‬فاإلنسان دائما يحاول أن‬ ‫املتمترسة بينهما‪ ،‬ذاكرة سوف تستدرج‬
‫يربط كل ما يحيط به بعامل األسطورة‪ ،‬أو حتى‬ ‫دوما صوب البحث عن جوهر الحياة (تراه‬ ‫القارئ ً‬
‫عند تذكره ملختلف الحكايات يربطها بهذه العوامل‬ ‫أيضا جوهر الحكاية وبعض من عرضها؟)‪.‬‬ ‫ً‬
‫الخيالية‪ ،‬ربما طبيعة البناء العام للفكر اإلنساني‬ ‫النصوص التي تتلو األحاديث والحكايات بألسنة‬
‫مبني عىل إتقان السرد الذي يلتف حوله الحكي‪،‬‬ ‫دوما وتمضي عىل عقود‬ ‫متعددة تكون جذابة ً‬
‫فلهذا نجد اإلنسان يسعى إىل مثل هذه النصوص‪،‬‬ ‫دوما‬
‫الخلود‪ ،‬هي تفتح أفقًا يجعل القارئ يحاول ً‬
‫ويتوق إىل الدخول يف عواملها‪ ،‬ومن هنا نقول بأن‬ ‫البحث عن امليكانيزمات الخفية والضرورية الالزمة‬
‫املجموعة القصصية «ست زوايا للصالة» عامل‬ ‫للدخول إىل عوامل الحكايات‪ ،‬فكلما ربطت ذاكرتي‬
‫القاصة من خالله الذهاب بنا‬
‫َّ‬ ‫أسطوري استطاعت‬ ‫بنصوص أخرى كلما تذكرت أن مفعولها األساسي‬
‫يف قارب مصري عىل نهر أسطوري قد يكون النيل‬ ‫قائم عىل الحكايات‪.‬‬
‫املتخيل‪ ،‬أو نهر ستيكس الذي يف اإلنيادة ويف رحلة‬ ‫إذن الحكاية زمرة من السرد قوامها الهيمنة عىل‬
‫تماما‪ :‬مشتعل‬
‫ً‬ ‫دانتي أليغيري‪ ..‬نهر يشبه الكتابة‬ ‫الحيثيات وبسط يف طريقة الكالم‪ ،‬واملجموعة‬
‫وال يحرق‪..‬‬ ‫القصصية املعنونة بست زوايا للصالة عاملها مبني‬
‫لقد تجولت بنا الكاتبة يف مدن وأرياف باذخة؛‬ ‫عىل ثنائية الواقع والخيال‪ ،‬األسطوري والعجائبي‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫نون النسوة‬

‫يف عامل تضمن العجائب واألساطير بلسان واحد‬


‫وبطرق مختلفة يف السرد‪ ،‬فنالحظ أن نصوص‬
‫املجموعة املثيرة لالنتباه والفضول األدبي مبنية‬
‫عىل فكرة الدوران املؤنث ‪-‬أليس شكل حكايات‬
‫شهرزاد دائر ًّيا أم أنني أخطئ يف التقدير؟‪ -‬لعملية‬
‫الحكي‪ ،‬فكل قصة مستقلة عن األخرى ويف قالب‬
‫مختلف لكن القاسم املشترك بينهم هو السرد‪ ،‬فهذه‬
‫الطريقة جعلت املجموعة القصصية تسير وفق‬
‫معلم متعامد ومتجانس‪ ،‬عموده األساسي السرد‪،‬‬
‫ومحوره هو القصص املختلفة التي تبثها يف ال‬
‫وعينا الحياة‪ ،‬وتدركها قلوب الكتاب بال عناء‪.‬‬
‫نقف عىل مقطع من الحكاية واملعنون بـ»العرسة»‪،‬‬
‫يقول‪ »:‬الغرباء‪ ،‬يوم السبت‪ ،‬قليلو البخت‪ ،‬بخطوة‬
‫واحدة عىل أعتاب البلدة يعرفون أن النور قد حل‪،‬‬
‫غيطان غلة‪ ،‬قرص شمس‪ ،‬فطير مشلتت‪ ،‬والكحل‬
‫دانتي أليجري‬ ‫جابرييل جارثيا ماركيز‬ ‫ممزوج بالفلفل والزيتون‪ »..‬ص‪.19‬‬
‫القاصة الواقع املصري واملجتمع الذي‬
‫َّ‬ ‫تصور لنا‬
‫يؤمن بفكرة األسطورة‪ ،‬فيجعل من كل حكاية‬
‫رقم ستة‪ ..‬حكاية خلْق‪ ،‬وخلْق حكاية‬ ‫وجهة هو موليها‪ ،‬فيأخذ من كل يوم حكاية ومن‬
‫النصوص التي تتداخل فيما بينها تساهم يف بناء‬ ‫كل زمن أسطورة‪ ،‬يف الحقيقة هي تصور لنا‬
‫دوما موضوع للخلق‬ ‫العقلية الجامعة التي تهيمن عىل املجتمع املصري‬
‫سيرورة األحداث‪ ..‬ولكنها ً‬
‫كما هي الحال يف كل مسار طبيعي‪.‬‬ ‫الذي يجعل من بقايا الحكايات واألساطير عاملًا‬
‫يف النصوص املقدسة أن الخلق تم يف ستة أيام‪ ،‬وال‬ ‫مه ًّما ومهيمنًا‪ ،‬فيبني منه وت ًدا يؤم فيه جميع‬
‫يهم الحجم الحقيقي للرقم ستة‪ ،‬ألننا نعلم مبدئيًّا‬ ‫الناس عىل منبر واحد‪ ،‬شأنه يف ذلك شأن الساحر‬
‫يوما عند رب الحكايات بمقدار ألف يوم مما‬ ‫بأن ً‬ ‫أو العجوز الذي يستطيع بكالمه املبهم أن يجمع‬
‫ًّ‬
‫يعد السرد‪ ،‬ليكون الرقم دال ميتافور ًّيا ال تعيينًا‪.‬‬ ‫أكثر عدد ممكن من البشر‪ ،‬هنا استطاعت القاصة‬
‫هي ستة برقاص القلب وعىل مؤشرات الروح التي‬ ‫أميرة بدوي أن تجعل من بيتها موطنًا للحكايات‪،‬‬
‫هي الحارس الوحيد املوثوق فيه ملعبد الداللة‪..‬‬ ‫تقص عىل مسامعهم مختلف القصص‪ ،‬ربما‬
‫دائما عن قارئ يقف‬ ‫وألن النصوص املتنوعة تبحث ً‬ ‫طريقة سردها مميزة ومشبعة بالتفاصيل‪ ،‬فجعلت‬
‫أمامها ليساهم يف إعادة بنائها من جديد‪ ،‬فإنه هو‬ ‫حكاياتها تسير عىل وتيرة منتظمة‪ ،‬فتدفع بالواقع‬
‫مبتكرا بعيونه ست زوايا‬ ‫ً‬ ‫نفسه الذي سوف يقف‬ ‫الحكائي نحو عوامل أفضل‪.‬‬
‫للصالة الداللية الفنية‪ ،‬وقفة تحمل بين طياتها‬ ‫حينما نتأمل العبارة التالية «الغرباء‪ ،‬يوم السبت‪،‬‬
‫ست زوايا للحكي‪ ،‬ذلك ألن هذا املشروع مبني عىل‬ ‫قليلو البخت» نتصور واقع املجتمع الذي ينفر من‬
‫طريقة الحكي وطبيعة السرد الذي يتيح للقارئ‬ ‫الغريب ألنه يحمل تيمة العدو‪ ،‬الخيال والشخص‬
‫املجال للغوص يف هذه النصوص‪.‬‬ ‫غير املرغوب فيه‪ ،‬يف الحقيقة هي تصور لنا ثقافة‬
‫نتأمل جي ًدا قول أميرة بدوي‪« :‬بعد صالة املغرب‬ ‫املجتمع املصري املشتت بين واقع ثقايف منها وعامل‬
‫عاد إىل البيت‪ ،‬استقبلته أمه بقطعة مخ غارقة يف‬ ‫أسطوري خرايف مهيمن‪ ،‬فاأليام بالنسبة لهم غير‬
‫امللح والكمون‪ ،‬ملفوفة يف رغيف من القمح األبيض‪،‬‬ ‫متشابهة تخضع لعقلية املجتمع وطريقة تفكيرهم‪.‬‬
‫‪90‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وجد عمه يمسك بريموت التليفزيون‪ ،‬يجلس يف‬


‫املندرة مرتد ًيا الصديري والكلسون‪ ،‬شعر بالشبع‪،‬‬
‫ويف الغرفة أتاه زعيق سريرهما النحاسي‪»..‬‬
‫ص‪.62‬‬
‫هذه القطعة تصور لنا واقع املجتمع املصري‬
‫املحكوم بعادات وتقاليد‪ ،‬فراحت القاصة أميرة‬
‫ً‬
‫خيوطا سردية عن طريق تبنيها‬ ‫بدوي تنسج‬
‫لطريقة العيش غير املنتظم داخل منظومة مجتمعية‬
‫تقدس األسطورة والعامل العجائبي‪ ،‬فاستطاعت أن‬
‫تشخص املجتمع املصري بطرق سردية مختلفة‪.‬‬
‫إن اإلسقاط العام الذي تثيره هذه املجموعة‬
‫القصصية هي تصوير العامل الذي يحيط بالعقلية‬
‫العربية‪ ،‬فيجعلها ال تدرك حقيقة األشياء إال وراء‬
‫كل ما هو غير طبيعي‪ ،‬ذلك ألن األشياء الطبيعية‬
‫مشكوك يف أمرها فهي عرضة للكذب‪ ،‬وعدم‬
‫التصديق‪ ،‬يف حين أن كل ما هو غريب وغير‬
‫واقعي جدير باالنتباه ولفت النظر‪ ،‬ربما هنا تحاول‬
‫القاصة أن تقول شيئًا‪ ،‬لكنها عاجزة عن ذلك‪،‬‬
‫فجعلت من املجموعة القصصية لسانها الثاني الذي‬
‫يقول كل شيء لكنه عاجز عن أخذ أي شيء‪.‬‬

‫محراب الصالة وغرف الحكايات‬


‫املحراب مثل الكتاب‪ ،‬هو غرفة مفتوحة عىل العامل‬
‫من إحدى الجهات‪.‬‬
‫ال ندري تحقيقًا هل هو غرفة مفتوحة غلقت ألجل‬
‫الصالة‪ ،‬أم غرفة مغلقة فتحت ألجل ولوج املعنى‪.‬‬
‫من الجهة املقابلة‪ ،‬سوف نجد بأن الغرف عادة ما‬
‫تكون حمالة أوجه‪ ،‬أو حتى تكون شيئًا مثل تذاكر‬
‫لدخول بيوت منعزلة‪ ،‬فهذه الغرف املختلفة داخل‬
‫ست زوايا للصالة سوف تسيِّر فكرة السرد يقينًا‪.‬‬
‫كيف ذلك؟ من زاوية أن كل غرفة تحمل يف داخلها‬
‫حكايات مختلفة تريد من خاللها أن تجمع عد ًدا ال‬
‫منتهيًا من القراء عىل شاكلة شهرزاد يف موائدها‬
‫املختلفة‪.‬‬
‫الغرف املحيطة بهذه املجموعة القصصية تحمل‬
‫العديد من الحكايات لكنها بصيغ مختلفة جوهرها‬
‫األساسي هو السرد غير املنتظم‪ ،‬ذلك ألن طريقة‬
‫الحكي هي البوابة نحو بناء سردي محكم‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫نون النسوة‬
‫اإلسقاط العام الذي تثيره هذه‬
‫المجموعة القصصية هي تصوير‬
‫العالم الذي يحيط بالعقلية العربية‪،‬‬
‫فيجعلها ال تدرك حقيقة األشياء إال‬
‫وراء كل ما هو غير طبيعي‪ ،‬ذلك ألن‬
‫األشياء الطبيعية مشكوك في أمرها‬
‫فهي عرضة للكذب‪ ،‬وعدم التصديق‪،‬‬
‫في حين أن كل ما هو غريب وغير‬
‫واقعي جدير باالنتباه ولفت النظر‪،‬‬
‫ربما هنا تحاول القاصة أن تقول‬
‫شي ًئا‪ ،‬لكنها عاجزة عن ذلك‬

‫ثنائية األسطوري والخرايف‪ ،‬فستكون هذه الغرف‬ ‫نتأمل قول أميرة بدوي‪« :‬سارت وسط أشجار‬
‫حمالة أوجه ظاهرها الحكي وباطنها تعدد الثقافات‬ ‫الكافور والبوص املتناثرة عىل جسر الكعكة‪،‬‬
‫وطريقة تنظيم الحياة وفق معايير مبنية عىل خطى‬ ‫تمسك بحبل يشنق حمارها‪ ،‬ويف يدها رضيع‬
‫أسطورية عجائبية‪.‬‬ ‫ملفوف كأوراق الكرنب‪ .‬ظلها يتحسس البيوت‬
‫واألخصاص‪ ،‬يتخطى النهر املردوم‪ ،‬يتموج مع‬
‫موطن الحكايات‬ ‫الجسر رغم ظلمات الساقية‪ »..‬ص‪.81‬‬
‫القاصة إىل واقع الغولة يف هذا املجتمع‪،‬‬
‫َّ‬ ‫تشير‬
‫استثمرت القاصة عوامل األسطورة واملخيال‬ ‫حين تجعل من كل األشياء قفازة يف يد الغولة‪،‬‬
‫العربي يف بناء مجموعتها القصصية والتي عمدت‬ ‫هنا نالحظ أن هذه الفكرة مؤنثة للعقول وسارية‬
‫من خاللها إىل توظيف املوروث بشتى أنواعه‪،‬‬ ‫املفعول يف مثل هذه املجتمعات‪ ،‬فالتيمة الغالبة‬
‫إذ صورت لنا املجتمع املصري الذي يؤمن بمثل‬ ‫وسط هذا املجتمع هو اإليمان العميق بالقدرات‬
‫هذه الحكايات‪ ،‬فيضحي من أجلها ويجعلها قوام‬ ‫الخارقة التي تسير وفق قدرات ميتافيزقية‪،‬‬
‫الحياة‪ ،‬فال غرابة أن نقول بأن القاصة أميرة بدوي‬ ‫تشكلت وفق قوالب مختلفة وطغت عىل التفكير‬
‫استطاعت بناء مجموعة قصصية مستوحاة من‬ ‫العام‪ ،‬سنقول بأن جوهر الحكاية هو تصوير‬
‫واقع غلب عليه الطابع الخرايف الذي استحوذ عىل‬ ‫بانورامي ملا هو مهيمن عىل الواقع‪ ،‬فأضحى‬
‫جل تفكيره‪ ،‬ولعل هذا التشبع باملوروث القديم‬ ‫سبيل ملعرفة الحقيقة التي تختزل داخل حكايات‬‫ً‬
‫راجع إىل طبيعة املجتمع من جهة وطريقة تفكيره‬ ‫مختلفة‪ ،‬ولربما ستكون هذه الحكايات هي نفسها‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬وألن املرويات جعلت من نفسها‬ ‫طريقة التفكير‪ ،‬ألنهما وجهتان لعملية واحدة‪ ،‬فمتى‬
‫صالحا لكل األزمة‪ ،‬فطغت عىل الشعب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ميثاقًا‬ ‫سيطر التفكير األسطوري يف تقديسه لكل ما هو‬
‫ً‬
‫وجعلت من مقوماتها مبدأ أساسيًّا يف الحياة‪.‬‬ ‫غير طبيعي إال وعكس لنا ميالد حياة مبنية عىل‬
‫‪93‬‬
‫نون النسوة‬

‫استطاعت أن تصور واق ًعا مصر ًّيا بامتياز‪ ،‬فقدمت‬ ‫استطاعت القاصة أميرة بدوي أن تستثمر معطيات‬
‫لنا مجموعة من النصوص بعناوين مختلفة منها‬ ‫الواقع املصري املبني عىل الثنائية‪ ،‬وألن الوجود يف‬
‫البومة‪ ،‬القط‪ ،‬الديك‪ ،‬الغولة‪ ..‬كلها إيحاءات مباشرة‬ ‫الحقيقة يؤمن بهذه الفكرة‪ ،‬ذلك أن كل شيء يقابله‬
‫إىل كل ما هو خرايف أو أسطوري‪ ،‬ومن منظور‬ ‫الثاني من جنسه ونوعه‪ ،‬غير أن املخيال العربي قد‬
‫الرؤية اإلنسانية كلها صور ملسميات تقشعر لها‬ ‫تبنى فكرة الثنائية واستطاع بواسطتها إنشاء عامل‬
‫النفوس‪ ،‬وتكرهها ألنها تجلب لها الشؤم والكسل‬ ‫خرايف يؤمن بفكرة التيه وسط ظالل الخرافات‪ ،‬هذا‬
‫والعنف‪ ،‬يف الحقيقة هي أفكار ترسبت يف الذاكرة‬ ‫ما جعل القاصة أميرة بدوي تستثمر هذه املعطيات‬
‫الفردية والجماعية‪ .‬وصعب اقتالعها أو التخلص‬ ‫وتستثمر القاموس األسطوري يف تصوير عاملها‪.‬‬
‫منها فتجردت يف عمق املجتمع وأصبحت طريقة‬ ‫عندما نتأمل قول أميرة بدوي‪« :‬يف شرع قطاع‬
‫مميزة يف التفكير ويف السلوك وحتى يف طريقة‬ ‫الطرق‪ ،‬القتل يف األشهر الحرم‪ ،‬سيدي عبد‬
‫العيش‪.‬‬ ‫الرحمان‪ ،‬رئيس املجلس قضى بذلك‪ ،‬وأمره سيف‬
‫إن تمظهرات الجانب األسطوري داخل املجتمع‬ ‫عىل رقابنا جمي ًعا‪ ،‬كل أسبوع ينعقد مجلس قطاع‬
‫يعبر عن طريقة تفكير مجتمع يسير وفق منحى‬ ‫الطرق‪ ،‬يجلس سيدنا عىل دكة يف املنتصف‪»..‬‬
‫مستورد ال أساس له من الصحة‪ ،‬غير أن هذه‬ ‫ص‪.11‬‬
‫الظاهرة قد انتشرت يف املجتمع وأخذت حظها من‬ ‫هذا املقطع القصصي تصور فيه فكرة مجتمع يؤمن‬
‫تفكير الجمهور‪ ،‬ربما من هذا املنبر تريد القاصة‬ ‫بما هو خرايف وأسطوري‪ ،‬إذ نالحظ أنها قد جعلت‬
‫عموما وإىل املجتمع املصري‬
‫ً‬ ‫إيصال فكرة إىل القراء‬ ‫من األشهر الحرم من ًعا لكل أشكال القتل‪ ،‬لكنها‬
‫خصوصا ترغب من خالله تغيير طريقة العيش‬ ‫ً‬ ‫مل تفسر سبب املنع إال أنها اكتفت بقولها األشهر‬
‫ونمط التفكير الذي جعل اإلنسان يدور يف حلقة‬ ‫الحرم‪.‬‬
‫مفرعة ظاهرها منمق وباطنها خا ٍل من الحقيقة‪.‬‬ ‫استطاعت القاصة أن تدخل عمق املجتمع فتصور‬
‫أرادت القاصة أن تقدم رؤية حول مجتمعها الذي‬ ‫ما كان يؤمن به‪ ،‬وما كان يفعله وكل هذه األشياء‬
‫تغطيه األساطير والخرافات والحكايات الشعبية‪ ،‬إذ‬ ‫مربوطة بواقع يحتضن الخرافات واألساطير‬
‫جعلها املجتمع ركيزة أساسية‪.‬‬ ‫واملرويات‪ ،‬يؤمن بها ويسير عىل دربها‪ ،‬يف الحقيقة‬
‫هو خطاب يصور طبيعة العالقة املوجودة بين‬
‫مفاتيح نهائية‬ ‫أساسا عىل ضرورة‬ ‫ً‬ ‫األفراد واملجتمع‪ ،‬واملبني‬
‫احترام هذه املرويات‪ .‬وال عجب أن نجد طبيعة‬
‫سوف نجد كل مصل متبتل إىل آلهة السرد املولعة‬ ‫املجتمعات العربية التي تؤمن بهذه األفكار‬
‫بالتالعب والجمال الذي يقطر من الحكايات يدعو‬ ‫فاستحوذت عىل طبائعها وغلبت عليها‪ ،‬فأضحى‬
‫جهة ما لتمام الحكاية‪ ،‬والحكاية تتم ويتم بناؤها‬ ‫املجتمع يسير عىل مذاهبها ويفرض كل ما هو‬
‫حتى حينما ال تكتمل‪ .‬وهذه صالة أوىل مستجابة‬ ‫خارج عن أثرها وقوانينها‪.‬‬
‫للقاصة‪.‬‬ ‫أيضا‬
‫طبيعة البشر قابلة للتغيير وسلوكهم قابل ً‬
‫وسوف نجد املوقف املتشابك من امليتافيزيقا يتحول‬ ‫للتغيير‪ ،‬لكن نمط الحياة فرض نفسه فجعل‬
‫بفعل الفن إىل مخارج اضطرارية لحبسات املعنى‬ ‫طبيعة هؤالء البشر وسلوكهم خاض ًعا لنمطية‬
‫وملعضالته‪.‬‬ ‫معتادة‪ ،‬ربما فرضية اإليمان العميق بهذه املرويات‬
‫كيف ذلك؟‬ ‫كبيرا من تفكيرهم‬ ‫ً‬ ‫واملوروثات الشعبية أخذت حي ًزا‬
‫دوما نتساءل داخل بيت السرد‪ :‬هل نصور‬ ‫إننا ً‬ ‫ووجودهم فأرهقتهم ومنعتهم من التصدي لكل‬
‫كل هذه امليتافيزيقيات كما هي ماثلة للمؤمنين بها‬ ‫ما هو أمامها‪ ،‬ومن ثم أضحى الفكر اإلنساني‬
‫فنكون قد ساهمنا يف نشر الخرافة؟ أم نتعامل‬ ‫خرافيًّا بامتياز ال يستطيع تفسير أي شيء‪ .‬إال‬
‫معها كما كان القرن الثامن عشر والقرن التاسع‬ ‫إذا ربطه بهذا أو ذاك‪ ،‬ومن ثم نالحظ أن القاصة‬
‫‪94‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الكبير يف تحويله إىل عالمة أدبية هامة وهامة ج ًّدا‬ ‫عشر يفعالن؛ مع اإليمان بالخرافة الذي يسكن‬
‫تفسدنا اليوم يف البت يف مسألة شديدة الحرج‪ :‬هل‬ ‫قلوب الناس القدامى وقلوب قلييل الحظ من العلم‬
‫نصور الخرافات الشعبية داعمين ما فيها من ظالم؟‬ ‫واملنطق؟‬
‫ام نقف عىل مسافة نقدية تهكمية مرتابة منها؟)‪.‬‬ ‫ستفعل قاصتنا املبدعة يف كتابها هذا ما فعله‬
‫سيكون بيان األمر فيما فعلته القاصة البديعة يف‬ ‫كبيرا‬
‫ً‬ ‫غابرييل غارسيا ماركيز حينما ابتكر مصىل‬
‫مجموعتها الجميلة املغرية باالتهام دفعة واحدة ثم‬ ‫اسمه ماكوندو؛ فقد غلب الفن عىل العلم‪ ،‬ورمى‬
‫طورا بعد طور‪ :‬وضع كل هذه الحياة املتشابكة بكل‬ ‫ً‬ ‫بكل ما يعتمل يف قلوب العجائز من تخاريف‪ ،‬ولكنه‬
‫تعقيدها داخل بيت سردي تخيييل‪ .‬التصوير يقول‬ ‫أحاطها بهالة فنية تجعلنا نسير عىل الجمر دون‬
‫الحقيقة والتخييل ينبه إىل أن الواقع غير الحقيقة‬ ‫احتراق‪ ،‬ندرك الشرارة دون أن تكون نهاية اإلدراك‬
‫وأن الحقيقة هي حقيقة أدبية فقط‪ .‬وأن كل تشابه‬ ‫هي نهايتنا بالضرورة‪.‬‬
‫بين السرد والواقع هو من باب التخييل فقط‪ .‬وما‬ ‫وحده األدب يستطيع أن يشعرك بما يف الجمر من‬
‫أدراك ما التخييل!‬ ‫أوار‪.‬‬
‫تماما يف زاوية هامة ج ًّدا‬
‫ً‬ ‫وهذا دعاء ثانٍ مستجاب‬ ‫كذلك فعل الشعراء القدامى الذين أخذتهم فتنة‬
‫من زوايا الصالة الست‪ ،‬زاوية تتسع حتى تشمل‬ ‫ً‬
‫شرطا‬ ‫الحلم بزيارة جهنم‪ .‬املكان اآلخر الذي يقف‬
‫األيام الستة‪ ،‬التفكير والتأمل لتمام خلق الكون‬ ‫واضحا يمكن أن‬
‫ً‬ ‫لفهم جوهر الجنة‪ .‬ال مفهوم‬
‫السردي‪.‬‬ ‫نستخرجه من الجنة دون العبور بجهنم‪ ،‬ولهذا تنبه‬
‫آمنا بالسرد‬ ‫القدامى إىل ابتكار نهر ستيكس (ولفيرجيل الفضل‬

‫‪.18 :2010‬‬ ‫‪ -7‬جماليات املكان‪ ،‬غاستون‬ ‫الهوامش‪:‬‬


‫‪ -14‬م‪.‬ن‪.20 :‬‬ ‫باشالر‪ ،‬ت‪.‬غالب هلسا‪ ،‬املؤسسة‬
‫‪ -15‬م‪.‬ن‪.19 :‬‬ ‫الجامعية للدراسات والنشر‬ ‫‪ -1‬سطوة املكان وشعرية القص‬
‫‪ -16‬م‪.‬ن‪.21 :‬‬ ‫والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ط‪.7 :1984 ،‬‬ ‫يف رواية ذاكرة الجسد‪ ،‬دراسة يف‬
‫‪ -17‬م‪.‬ن‪.9 :‬‬ ‫‪ -8‬البناء الفني يف الرواية العربية يف‬ ‫تقنيات السرد‪ ،‬األخضر السايح‪،‬‬
‫‪ -18‬م‪.‬ن‪.9 :‬‬ ‫العراق (بناء السرد)‪ ،‬شجاع مسلم‬ ‫عامل الكتب الحديثة‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ -19‬م‪.‬ن‪.9 :‬‬ ‫العاني‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪،‬‬ ‫‪.3 :2011‬‬
‫‪ -20‬م‪.‬ن‪.12 :‬‬ ‫بغداد‪ ،‬د‪.‬ط‪.343 :1994 ،‬‬ ‫‪ -2‬مدخل جديد يف الفلسفة‪ ،‬عبد‬
‫‪ -21‬م‪.‬ن‪.22 :‬‬ ‫‪ -9‬الفضاء الروائي عند جبرا‬ ‫الرحمن بدوي‪ ،‬الكويت‪.196 :1975 ،‬‬
‫‪ -22‬م‪.‬ن‪.17 :‬‬ ‫إبراهيم جبرا‪ ،‬إبراهيم جنداري‪ ،‬دار‬ ‫‪ -3‬حساسية النص القصصي‪،‬‬
‫‪ -23‬م‪.‬ن‪.11 :‬‬ ‫الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬بغداد‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫قراءة يف مجموعة «حياة سابقة»‬
‫‪ -24‬م‪.‬ن‪.156 :‬‬ ‫‪.237 :2001‬‬ ‫لعيل القاسمي‪ ،‬فيصل غازي‬
‫‪ -25‬م‪.‬ن‪.159 :‬‬ ‫‪ -10‬حساسية النص القصصي‪:‬‬ ‫النعيمي‪ ،‬الدار العربية للعلوم‬
‫‪ -26‬م‪.‬ن‪.161 :‬‬ ‫‪.77‬‬ ‫ناشرون‪ ،‬ط‪.76 :2012 ،1‬‬
‫‪ -27‬م‪.‬ن‪.208 :‬‬ ‫‪ -11‬جماليات التشكيل الروائي‪،‬‬ ‫‪ -4‬حساسية النص القصصي‪.64 :‬‬
‫‪ -28‬م‪.‬ن‪.236 :‬‬ ‫د‪.‬محمد صابر عبيدة‪ ،‬د‪.‬سوسن‬ ‫‪ -5‬التحوالت النفسية يف الشخصية‬
‫‪ -29‬م‪.‬ن‪.13 :‬‬ ‫البياتي‪ ،‬دار الحوار للنشر‪ ،‬الالذقية‪،‬‬ ‫الروائية عند عبد الرحمن منيف‪،‬‬
‫‪ -30‬م‪.‬ن‪.173 :‬‬ ‫ط‪.231 :2008 ،1‬‬ ‫د‪.‬إياد جوهر‪ ،‬دار املعتز‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ -31‬م‪.‬ن‪.163 :‬‬ ‫‪ -12‬كتابة املكان بعيد عنه‪ ،‬خليل‬ ‫‪.176 :2016‬‬
‫‪ -32‬م‪.‬ن‪.209 :‬‬ ‫النعيمي‪ ،‬مجلة األقالم‪ ،‬ع ‪،1998 ،2‬‬ ‫‪ -6‬الزمان يف الفكر الديني‬
‫‪ -33‬م‪.‬ن‪.214 :‬‬ ‫‪.40‬‬ ‫والفلسفي القديم‪ ،‬د‪.‬حسام الدين‬
‫‪ -34‬م‪.‬ن‪.214 :‬‬ ‫‪ -13‬رواية بروكلين هايتس‪ ،‬ميرال‬ ‫األلوسي‪ ،‬املؤسسة العربية‬
‫‪ -35‬م‪.‬ن‪.215 :‬‬ ‫الطحاوي‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.49 :1‬‬
‫تجديد‬
‫الخطاب‬
‫عنف الخوارج الديني‬
‫عثمان وجمع المصحف‬
‫االختالفات بين مصاحف‬
‫‪96‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫عصام الزهيري‬

‫المعالجة الغيبية‬
‫التي واجه بها الرواة‬
‫العنف الديني للخوارج‬

‫الثالثة العجيبة السائرة‪ -‬تختفي‬ ‫التاريخية يعطي يف نفس الوقت‬ ‫“ذو الثدية”‪“ ..‬شيطان‬ ‫‪..‬‬
‫“المخدج”‬
‫اختفاء يشبه التالشي يف‬ ‫تص ُّو ًرا للوتيرة القصصية‬ ‫الردهة”‪ ..‬شخصية‬
‫املدونات التاريخية األقدم التي‬ ‫املتسلسلة التي انطلقت عىل‬ ‫واحدة مثلثة األلقاب‬
‫تعود مروياتها إىل القرن الثاني‬ ‫أساسها تلك الشخصية الشيطانية‬ ‫تداول ذكرها يف أخبار‬
‫الهجري‪ .‬فال أثر لها إطالقًا يف‬ ‫الصامتة من حفريات روائية‬ ‫الرواة والقصاصين‬
‫املدونات ذات األسبقية الزمنية‬ ‫بدائية أو مبدئية‪ ،‬ثم الطريقة‬ ‫يف تاريخ صدر‬
‫ككتاب «اإلمامة والسياسة»‬ ‫التي تأكد بها املكون األسطوري‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وتناولوها‬
‫لإلمام الفقيه املح ِّدث «أبي محمد‬ ‫وامللمح الخيايل املتعلق بها‬ ‫بالتضخيم وبالتفنن‬
‫عبد اهلل بن مسلم بن قتيبة»‬ ‫واملرتبط بالدور الذي لعبته‬ ‫يف رسم تفاصيل‬
‫(تويف سنة ‪270‬هـ)‪ ،‬ومدونة‬ ‫والوظيفة التي أدتها فوق خشبة‬ ‫مالمحها ِ‬
‫الخلقية املعيبة‬
‫«األخبار الطوال» ملؤلفه النحوي‬ ‫مسرح القص الغيبي لألحداث‪.‬‬ ‫وإضفاء الهاالت الغيبية واملعاني‬
‫والعامل والراوية «أبو حنيفة‬ ‫الشاهد املهم عىل ذلك أن شخصية‬ ‫األسطورية لتلك التفاصيل‪.‬‬
‫الدينوري» (تويف سنة ‪ 282‬هـ)‪.‬‬ ‫«املخدج» ‪-‬بأسمائه الواقعية‬ ‫غير أن تعقب ظهور الشخصية‬
‫مصدرا تاريخيًّا آخر يعود‬
‫ً‬ ‫لكن‬ ‫املختلفة املنسوبة له وبألقابه‬ ‫وتراكم أخبارها يف املدونات‬
‫‪97‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫اقطعوا يده املخدجة‪ ،‬وآتوني بها‪،‬‬ ‫برنسا‬


‫ً‬ ‫بالليل‪ ،‬وقد كنت كسوته‬ ‫زمنيًّا لنفس الفترة‪ ،‬وهو «تاريخ‬
‫فلما أتي بها أخذها ثم رفعها‪،‬‬ ‫فلقيته من الغد‪ ،‬فسألته‪ :‬هل كان‬ ‫األمم وامللوك» لإلمام العالمة‬
‫وقال‪ :‬واهلل ما كذبت وال ُكذبت»‪.‬‬ ‫خرج مع الناس الذين خرجوا إىل‬ ‫«أبي جعفر محمد بن جرير‬
‫ال يلحق بخبر «املخدج» كما ورد‬ ‫حروراء (مع الخوارج)؟ فقال‪:‬‬ ‫الطبري» (تويف سنة ‪310‬هـ)‪،‬‬
‫بتمامه يف مدونة «الطبري» أي‬ ‫خرجت أريدهم حتى إذا بلغت إىل‬ ‫ربما يجعلنا نضع أيدينا عىل‬
‫ظالل تنأى بشخصية «نافع» عن‬ ‫بني سعد‪ ،‬لقيتني صبيان فنزعوا‬ ‫واحدة من الحفريات الواقعية‬
‫واقعه‪ ،‬فهو رجل يتسم بعالمة‬ ‫سالحي‪ ،‬وتلعبوا بي‪ ،‬فرجعت‬ ‫األوىل لشخصية املخدج‪ ،‬وتمكننا‬
‫تشوه يف عضده أو ذراعه اللحمية‬ ‫حتى إذا كان الحول أو نحوه‬ ‫من التأريخ للمراحل األوىل من‬
‫املدالة كما لو كانت بال عظم‪،‬‬ ‫خرج أهل النهر (يقصد النهروان‬ ‫انطالق تطورها الخرايف‪.‬‬
‫وهو معنى أنه «مخدج»‪ .‬يشير‬ ‫أيضا) وسار ع ٌّ‬
‫يل‬ ‫وهم الخوارج ً‬ ‫يف تاريخ اإلمام «الطبري» تظهر‬
‫يل بن أبي طالب»‬ ‫إليه الخليفة «ع ٌّ‬ ‫إليهم‪ ،‬فلم أخرج معه وخرج‬ ‫الشخصية يف ثنايا خبر مطول‪،‬‬
‫بصفته املعروفة كمؤيد لجماعة‬ ‫أخي أبو عبد اهلل‪ .‬قال‪ :‬فأخبرني‬ ‫تماما‪.‬‬ ‫ملرة وحيدة وبشكل عابر‬
‫ً‬
‫الخوارج‪ ،‬ويبحث أصحابه عن‬ ‫أبو عبد اهلل أن عليًّا سار إليهم‬ ‫يف الخبر الذي ينقله «الطبري» عن‬
‫جثته بين القتىل ويبشروه بنهايته‬ ‫حتى إذا كان بحذاءهم عىل شط‬ ‫«عمارة األسدي» يقول عىل لسان‬
‫بطريقة ال تخرج بالخبر عن‬ ‫النهروان أرسل إليهم يناشدهم‬ ‫«أبومريم»‪:‬‬
‫سرده الواقعي بشكل يحسم‬ ‫اهلل ويأمرهم أن يرجعوا‪ ،‬فلم‬ ‫“وكان ع ٌّ‬
‫يل يحدثنا قبل ذلك‬
‫دليل من دالئل اإلعجاز أو‬ ‫كونه ً‬
‫تزل رسله تختلف إليهم‪ ،‬حتى‬ ‫قوما يخرجون من اإلسالم‬ ‫أن ً‬
‫نبأ من أنباء الغيب‪.‬‬
‫قتلوا رسوله‪ ،‬فلما رأى ذلك نهض‬ ‫يمرقون من الدين كما يمرق‬
‫يل” كان يعرف بطبيعة‬ ‫اإلمام «ع ٌّ‬
‫إليهم فقاتلهم حتى فرغ منهم‪ ،‬ثم‬ ‫السهم من الرمية‪ ،‬عالمتهم رجل‬
‫الحال ‪-‬مثل غيره من أهل‬
‫أمر أصحابه أن يلتمسوا املخدج‪،‬‬ ‫مخدج اليد‪ .‬قال‪ :‬وسمعت ذلك‬
‫زمنه‪ -‬الكثير من سير وشخوص‬
‫فالتمسوه‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬ما‬ ‫مرارا كثيرة‪ .‬قال‪ :‬وسمعه‬‫ً‬ ‫منه‬
‫الخوارج وجماعاتهم التي بدأت‬
‫نجده‪ .‬حتى قال بعضهم‪ :‬ال‪ ،‬ما‬ ‫أيضا‪ ،‬حتى رأيته‬ ‫«نافع املخدج» ً‬
‫يف التشكل منذ عهد الخليفة‬
‫هو فيهم‪ .‬ثم إنه جاء رجل فبشَّ ره‬ ‫يتكره طعامه من كثرة ما سمعه‬
‫الثاني «عمر بن الخطاب»‪ ،‬وقد‬
‫وقال‪ :‬يا أمير املؤمنين‪ ،‬قد وجدته‬ ‫يقول‪ ،‬وكان «نافع» معنا يصيل‬
‫مثَّل حكمه مع حكم الخليفة األول‬
‫«أبو بكر» طريقًا سياسيًّا للحكم‬ ‫تحت قتيلين يف ساقية‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫يف املسجد بالنهار ويبيت فيه‬
‫ينأى عن سياق الصراع القبيل‬
‫املوروث بين فروع السيادة‬
‫القبلية يف قريش التي مثلها‬
‫األمويون والهاشميون‪ .‬وقد‬
‫تلقب الخوارج يف ميادين الفتوح‬
‫(الجهادية) خالل حكم «عمر»‬
‫بلقب الق َُّراء‪ ،‬وهم من انتشرت‬
‫جماعاتهم يف األمصار فيما بعد‬
‫عىل عهد الخليفة الثالث «عثمان»‬
‫‪-‬وشاركوا يف وقائع حصاره‬
‫ومقتله‪ -‬متمددين عبر واليات‬
‫الدولة العربية املتوسعة‪« .‬أبو‬
‫مريم» الراوي عن «عيلٍّ” يعرف‬
‫‪98‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫املزيد‪.‬‬ ‫الحرب‪ ،‬وال مع النهي الديني‬ ‫يل”‪ -‬تلك‬ ‫‪-‬بالطبع كما يعرف «ع ٌّ‬
‫يف صحيح «مسلم» يرد النص‬ ‫املشدد عن املُثلة (أي التمثيل‬ ‫السيرة التاريخية لنمو جماعات‬
‫التايل من حديث الخوارج وفيه‬ ‫بأجساد القتىل يف ساحات‬ ‫الخوارج التي يظهر عىل خلفيتها‬
‫عن املخدج‪« :‬آية ذلك أن فيهم‬ ‫املعارك)‪ .‬لوال ذلك ما أثار الخبر‬ ‫تأييد «نافع املخدج» لهم‪.‬‬
‫رجل له عضد ليس لها ذراع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يف حد ذاته ش ًّكا قو ًّيا‪.‬‬ ‫الخبر منذ بدايته يكاد يجعلنا‬
‫عىل رأس عضده مثل حلمة‬ ‫غير أن ما يبدو أن خبر املخدج‬ ‫نميل إىل النظر لنبوءة «عيلٍّ”‬
‫الثدي‪ ،‬عليه شعرات بيض»‪.‬‬ ‫أثاره مل يكن محض شك‪ ،‬لكنه‬ ‫بخصوص املخدج كما لو كانت‬
‫ويضيف الخبر أن «عليًّا» بعد‬ ‫استثار خيال الرواة عىل نحو‬ ‫نبوءة من نبوات الشؤم التي‬
‫مقتل الخوارج يف النهروان قال‪:‬‬ ‫تجسم يف عشرات األخبار‬ ‫تحقق نفسها بنفسها‪ ،‬ألن “نافع”‬
‫«التمسوا فيهم املخدج‪ ،‬فالتمسوه‬ ‫واملرويات واألحاديث األخرى‪،‬‬ ‫من كثرة ما سمع الكالم عن‬
‫يل بنفسه‬ ‫فلم يجدوه‪ ،‬فقام ع ٌّ‬ ‫وحملتها مدونات التاريخ‬ ‫نفسه عىل فم “عيلٍّ” صار “يتكره‬
‫ناسا بعضهم إىل بعض‬ ‫حتى أتى ً‬ ‫والحديث م ًعا لتكسو األحداث‬ ‫طعامه» أي يضيق بعيشه‪ .‬عىل‬
‫(قتىل)‪ ،‬فقال‪ :‬أخرجوهم‪ ،‬فوجدوه‬ ‫بتفاصيل غرائبية أكثر‪ ،‬وتمنح‬ ‫ذلك يبرزه الخبر قريبًا للغاية‬
‫مما ييل األرض‪ ،‬فكبَّر ثم قال‪:‬‬ ‫املخدج لقبيه اآلخرين امللغزين‪،‬‬ ‫من هيئة «عبيط القرية»‪ ،‬وهو‬
‫صدق اهلل وبلَّغ رسوله‪ .‬قال‪:‬‬ ‫من جهة القبح والتشوه الصريح‪،‬‬ ‫ما يتضح يف تسلله خفية إىل‬
‫فقام إليه عبيدة السلماني فقال‪:‬‬ ‫ومن جهة االنتساب املقطوع به‬ ‫الخوارج للقتال معهم‪ ،‬يف موازاة‬
‫يا أمير املؤمنين واهلل الذي ال إله‬ ‫للنبوءات الغيبية‪.‬‬ ‫أخيه الذي يقاتل يف صف «عيلٍّ”‪،‬‬
‫إال هو لسمعت هذا من رسول‬ ‫بعي ًدا عن العيون حتى ال يتلعب به‬
‫اهلل‪ ،‬إني واهلل الذي ال إله إال هو‪،‬‬
‫ذو الثدية شيطانٌ للردهة‬ ‫الصبيان‪ .‬وحتى نهاية الخبر مع‬
‫فاستحلفه ثال ًثا وهو يحلف له أنه‬ ‫كلمات «عيلٍّ”‪ :‬ال كذبت وال ُكذبت‪،‬‬
‫يف كتاب «البداية والنهاية»‬
‫سمعه من رسول اهلل»‪.‬‬ ‫ال يمكن القطع بيقين إن كانت‬
‫يورد اإلمام الحافظ «أبي الفداء‬
‫اإلشارة من طرف خفي لشأن‬
‫ويف كتاب الخوارج يقول «الهيثم‬ ‫إسماعيل بن كثير الدمشقي»‬
‫غيبي يكمن يف الخبر أم ال‪.‬‬
‫بن عدي»‪« :‬إن عليًّا خرج يف طلب‬ ‫(ت ‪774‬هـ) عشرات األخبار‬
‫باختصار ال يوجد يف رواية‬
‫ذي الثدية‪ ،‬فوجده «الرياني» يف‬ ‫ونصوص الحديث املتدفقة من‬
‫«أبو مريم» ما يدفع للذهاب أبعد‬
‫حفرة عىل جانب النهر يف أربعين‬ ‫طرق ومصادر مختلفة وتضيف‬
‫من أن املقصود بأن الخليفة‬
‫«ال ُيك ِّذب»‬
‫شيئًا سوى‬
‫فراسة الخليفة‬
‫وتوقعه‪ .‬ولوال‬
‫تناول الخبر‬
‫لفعل مستغرب‬
‫هو األمر بقطع‬
‫يد «نافع»‬
‫املخدجة‪ ،‬وهو‬
‫سلوك ال يتفق‬
‫مع تقاليد‬
‫الفروسية‬
‫وقوانين‬
‫قتيل‪ ،‬قال‪ :‬فلما‬‫أو خمسين ً‬
‫في كتاب "البداية والنهاية" ال يعلل‬
‫استخرج نظر إىل عضده فإذا لحم‬
‫"ابن كثير" تضارب أقوال "عائشة"‬ ‫مجتمع عىل منكبه كثدي امرأة له‬
‫في أخبار "المخدج" المتناسلة‬ ‫حلمة عليها شعرات سود‪ ،‬فإذا‬
‫ُمدت امتدت حتى تحاذي يده‬
‫"علي"‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫بالخصومة بينها وبين‬ ‫ثم تنزل فتعود إىل منكبه كثدي‬
‫خصوصا وأن خب ًرا منها ينسب لها‬ ‫املرأة»‪.‬‬
‫ً‬
‫وتقول رواية أخرى يف صفته‪:‬‬
‫الدهشة واالستنكار أمام تلك األخبار‪.‬‬ ‫رجل من عرنة‬ ‫ً‬ ‫«كان ذو الثدية‬
‫ويقول "ابن كثير" إن "عائشة"‬ ‫من بجيلة‪ ،‬وكان أسود شديد‬
‫السواد‪ ،‬له ريح منتنة معروف‬
‫استغربت حديث الخوارج وال سيما‬ ‫يف العسكر‪ ،‬وكان يرافقنا قبل‬
‫حديث ذي الثدية‪ ،‬لكنه يعلل ذلك‬ ‫ذلك وينازلنا وننازله»‪ .‬ويف خبر‬
‫«مسلم» من طريق آخر أن النبي‬
‫بأن "عائشة" كانت تجهل خبره‪،‬‬ ‫قال‪« :‬فيهم رجل أسود مخدج‬
‫فلما سألت عنه فيما بعد تيقنته!‬ ‫اليد يف يده شعرات سود‪ ،‬إن‬
‫كان فيهم فقد قتلتم شر الناس‪،‬‬
‫وإن مل يكن فيهم فقد قتلتم خير‬
‫الناس»!‬
‫وتقول األخبار بألفاظ أخرى إن‬
‫اهلل ذا الثدية فقال‪ :‬شيطان الردهة‬ ‫مثل ثدي املرأة عليها شعرات مثل‬ ‫املخدج‪« :‬أسود إحدى يديه طي‬
‫كراعي الخيل يحتذره رجل من‬ ‫شعرات تكون عىل ذنب اليربوع”‪،‬‬ ‫شاة أو حلمة ثدي»‪ .‬ومن طريق‬
‫بجيلة يقال له األشهب أو ابن‬ ‫ويضيف لـ”عيلٍّ” أنه قال‪“ :‬إن‬ ‫أخرى‪« :‬يخرج قوم فيهم رجل‬
‫األشهب عالبة يف قوم ظلمة»‪.‬‬ ‫مودن اليد أو متدون اليد أو‬
‫خلييل (النبي) أخبرني أن قائد‬
‫مخدج اليد»! ومن طريق ثالثة‪:‬‬
‫ويف حديث آخر يتحول «شيطان‬ ‫هؤالء (!) رجل مخدج اليد عىل‬
‫«له حلمة كحلمة ثدي املرأة‪ ،‬حوله‬
‫الردهة» إىل كائن شبه أسطوري‬ ‫حلمة ثديه شعرات كأنهن ذنب‬
‫سبع هلبات»‪ ،‬والهلبات هي النتف‬
‫وإن ظهر فيه ‪-‬ألول مرة‪ -‬عىل‬ ‫اليربوع»! وليس هذا اإلتقان يف‬
‫الغليظة من الشعر‪ ،‬ومن هذا‬
‫هيئة حسنة متخشعة وهو‬ ‫الوصف هو كل ما هنالك لكن‬ ‫أيضا‪« :‬فكبَّر ع ٌّ‬
‫يل فقال‪ :‬اهلل‬ ‫الخبر ً‬
‫يصيل بواد من الوديان‪ ،‬وعندما‬ ‫خبرا آخر ينسب لـ»عيلٍّ” قوله‪:‬‬
‫ً‬ ‫أكبر! صدق اهلل ورسوله‪ .‬وإنه‬
‫يصل خبره للنبي يأمر «أبوبكر»‬ ‫“إن خلييل أخبرني بثالثة إخوة‬ ‫قوسا فأخذها بيده فجعل‬ ‫ملتقلد‬
‫ً‬
‫و»عمر» بالذهاب لقتله! غير أن‬ ‫من الجن هذا –املخدج‪ -‬أكبرهم‪،‬‬ ‫يطعن بها يف مخدجته‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫كل منهما يعود بتحرج من قتل‬ ‫ًّ‬ ‫والثاني له جمع كثير‪ ،‬والثالث فيه‬ ‫صدق اهلل ورسوله‪ .‬وكبَّر الناس‬
‫مسلم مص ٍّل مستغرق يف صالته!‬ ‫ضعف»!‬ ‫حين رأوه واستبشروا‪ ،‬وذهب‬
‫وعندئذ يأمر النبي «عليًّا” بقتله‪،‬‬ ‫كل ما سبق عىل غزارته ومبالغته‬ ‫عنهم ما كانوا يجدونه»‪.‬‬
‫ويذهب «ع ٌّ‬
‫يل” لكنه ال يراه!‬ ‫هو بخالف األخبار التي يتحول‬ ‫وينسب خبر إىل «عيلٍّ” أنه بكى‬
‫يف خبر آخر ينسب لـ»عائشة»‬ ‫فيها املخدج إىل «شيطان الردهة»‪،‬‬ ‫حين مل يعثر عىل جثة املخدج يف‬
‫أنها عندما بلغها أن «عليًّا» قتل‬ ‫ومنها خبر ينسب إىل «سعد بن‬ ‫البداية‪ ،‬ويقول خبر أنه‪“ :‬حبشي‬
‫الخوارج يف النهروان قالت‪:‬‬ ‫أبي وقاص» أنه قال‪« :‬ذكر رسول‬ ‫عليه ثدي قد طبق إحدى يديه‬
‫‪100‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫هو االلتزام الذي أوجزه شعارهم‬ ‫للعثور عىل جثمان الخارجي‬ ‫يل بن أبي طالب شيطان‬ ‫«قتل ع ٌّ‬
‫األكثر محورية وشمولية‪« :‬تحكيم‬ ‫املقتول لغرض ديني سياسي‬ ‫الردهة»! ويذكر «البيهقي» يف‬
‫كتاب اهلل»‪ .‬وبدا ذلك يف نظر‬ ‫هو إدانة الخوارج بالبرهان‬ ‫خبرا آخر‬‫«دالئل الخيرات» ً‬
‫أهل زمنهم توج ًها تقو ًّيا وإيمانيًّا‬ ‫النصي ومن طريق الوحي‬ ‫غريبًا عن «عائشة» جاء فيه أنها‬
‫يعكس تمس ًكا أصوليًّا حرفيًّا‬ ‫واإلعجاز النبوي‪ .‬متجهين بذلك‬ ‫سألت «مسروق»‪« :‬عندك علم‬
‫بنصوص القرآن‪ .‬ورغم أن‬ ‫إلشباع حاجة لدى أهل زمانهم‬ ‫عن ذي الثدية الذي أصابه ع ٌّ‬
‫يل‬
‫تحكيم القرآن مطلب مستحيل يف‬ ‫ومن تالهم‪ ،‬هي الحاجة للشفاء‬ ‫يف الحرورية؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قالت‪:‬‬
‫شموليته الخوارجية من الوجهة‬ ‫من حيرة دينية وقلق معذب‬ ‫فاكتب يل بشهادة من شهدهم‪.‬‬
‫العملية التطبيقية‪ ،‬لكنه ظهر‬ ‫استشعروهما تجاه الخوارج‪.‬‬ ‫فلما رجع «مسروق» للكوفة كتب‬
‫للمسلمين عىل وجه خطير كما‬ ‫فالخوارج مل يفتنوا الناس إال‬ ‫رجل قالوا إنهم‬ ‫ً‬ ‫شهادة سبعين‬
‫لو كان ناب ًعا من التعلُّق املستقيم‬ ‫بمظاهر إيمانهم والتزامهم الديني‬ ‫شهدوه‪ .‬فلما عاد سألته‪« :‬أكل‬
‫بكتاب اهلل‪ ،‬ومن قوة اإليمان الذي‬ ‫واستعدادهم للموت يف سبيل اهلل‬ ‫هؤالء عاينوه؟ قلت‪ :‬لقد سألتهم‬
‫يعتمل يف نفوس أصحابه‪.‬‬ ‫وتحكيم شريعته‪ .‬والعثور عىل‬ ‫فأخبروني بأن كلهم قد عاينوه‪،‬‬
‫هذا االنطباع املغلوط عن إيمان‬ ‫جثمان املخدج حسب ما تص ِّور‬ ‫فقالت‪ :‬لعن اهلل فالنًا فإنه كتب‬
‫الخوارج وتمسكهم بالقرآن هو‬ ‫الروايات مل يكن غير دليل نبوئي‬ ‫يل أنه أصابهم بنيل مصر ثم‬ ‫إ َّ‬
‫أشخاصا لهم‬ ‫ما جر عىل الدوام‬ ‫عىل صحة موقف قتال الخوارج‬ ‫أرخت عينيها فبكت‪ .‬فلما سكتت‬
‫ً‬ ‫(وقد ظل «ع ٌّ‬
‫يل” يرفض قتالهم‬ ‫عبرتها قالت رحم اهلل عليًّا لقد‬
‫ما لشخصية «نافع املخدج»‬
‫للحظة األخيرة حتى أُجبر عليه)‪.‬‬ ‫كان عىل الحق»!‬
‫من بساطة ذهنية وواقعية إىل‬
‫ولطمأنة ضمائر الناس “تجاه‬
‫االلتحاق بهم والقتال العنيف‬
‫بين صفوفهم‪ .‬وهذا االنطباع‬
‫ما كانوا يجدونه” حسب ما‬ ‫ما وراء المخدج‬
‫يقول خبر‪ ،‬وما وجد الناس مل‬
‫الساذج املغلوط سوف نصل‬ ‫يف كتاب «البداية والنهاية» ال‬
‫يكن بالطبع غير الريبة يف صحة‬
‫إليه ال محالة كلما اجتهدنا يف‬ ‫يعلل «ابن كثير» تضارب أقوال‬
‫موقفهم من الخوارج‪.‬‬
‫تغييب السياق الواقعي التاريخي‬ ‫كل ما تف ِّرعه األخبار من أوصاف‬ ‫«عائشة» يف أخبار «املخدج»‬
‫(الدنيوي) للصراع القبيل بين‬ ‫وشهود وإشهاد وشهادات‬ ‫املتناسلة بالخصومة بينها وبين‬
‫األمويين والهاشميين عىل سلطة‬ ‫متواترة عن أنباء ذي الثدية يذهب‬ ‫خبرا منها‬
‫خصوصا وأن ً‬‫ً‬ ‫«عيلٍّ”‪،‬‬
‫الحكم والخالفة‪ ،‬وهو الصراع‬ ‫يف اتجاه التأكيد عىل أن من قُتلوا‬ ‫ينسب لها الدهشة واالستنكار‬
‫الذي ورث الخوارج ‪-‬من زمن‬ ‫من الخوارج هم ‪-‬وبعكس الظاهر‬ ‫أمام تلك األخبار‪ .‬ويقول «ابن‬
‫الخليفتين «أبوبكر» و»عمر»‪-‬‬ ‫منهم‪« -‬شر الناس»‪ ،‬وأنهم ليسوا‬ ‫كثير» إن «عائشة» استغربت‬
‫موقفًا منه يرفض إمارة األمويين‬ ‫‪-‬كما يظنون ويظن الناس‪ -‬خير‬ ‫حديث الخوارج وال سيما حديث‬
‫والهاشميين م ًعا‪ .‬وال يفيد يف‬ ‫الناس إيمانًا وال أكثرهم تمس ًكا‬ ‫ذي الثدية‪ ،‬لكنه يعلل ذلك بأن‬
‫تبديد هذا االنطباع الديني الوهمي‬ ‫بكتاب اهلل‪.‬‬ ‫«عائشة» كانت تجهل خبره‪ ،‬فلما‬
‫عن الخوارج كل هذا التراكم‬ ‫التزام الخوارج بالعبادات‬ ‫سألت عنه فيما بعد تيقنته!‬
‫املتسلسل من املعالجات الخبرية‬ ‫وبأوامر ونواهي القرآن ورغبتهم‬ ‫أيضا هذا‬
‫يبرر «ابن كثير» ً‬
‫الغيبية التي عالج بها الرواة‬ ‫الالمحدودة ‪-‬والالمحددة كذلك‪-‬‬ ‫الفيض املتراكم من أحاديث‬
‫التدله الديني الساذج لشخص‬ ‫يف تحكيم القرآن يف كل ما يشتجر‬ ‫الرواة عن املخدج ‪-‬األسطورة‬
‫مثل «نافع املخدج» بهم‪ ،‬وتقريبًا‬ ‫بين املسلمين من خالفات كبيرة‬ ‫مثلثة األلقاب‪ -‬بأنها من «دالالت‬
‫عىل طريقة داوني بالتي كانت هي‬ ‫أو صغيرة ويف كل ما ينشأ بينهم‬ ‫النبوة»‪ .‬لكن الظاهر أن الرواة‬
‫الداء‬ ‫من عالقات دينية أو دنيوية‪ ،‬كان‬ ‫جمي ًعا أعطوا أهمية قصوى‬
‫‪101‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫أسماء زكي‬

‫لجنة عثمان بن َّ‬


‫عفان‬
‫لجمع المصحف‬
‫والقراءات العشر‬
‫عدد المصاحف‬ ‫أعضاء اللجنة عند مجرد نسخ‬ ‫يف مقال سابق كيف‬

‫استعرضت‬
‫القرآن الذي جمعه «زيد بن ثابت»‬ ‫تم جمع القرآن يف عهد‬
‫اختلف القدماء يف عدد املصاحف‬
‫وقت خالفة أبي بكر؟ أم امتد‬ ‫الخليفة عثمان بن عفان‪،‬‬
‫التي تم نسخها وإرسالها إىل‬
‫دورهم ملا بعد ذلك من إرسال‬ ‫وأعضاء اللجنة الذين قام‬
‫األمصار‪ ،‬فمنهم من قال ثمانية مثل‬
‫للمصاحف املنسوخة لألمصار‬ ‫هو باختيارهم واملنهج‬
‫ابن الجزري (‪833 /1429‬هـ)‪،‬‬
‫املختلفة وتعليم أهلها قراءة القرآن‪،‬‬ ‫الذي وضعه لهم لنسخ‬
‫الذي يرى أن عثمان قام بتوزيعها‬
‫ومن ثم القراءات التي نقرأ عليها‬ ‫املصاحف التي قاموا‬
‫عىل النحو اآلتي‪ :‬مصحف للبصرة‪،‬‬
‫ومصحف إىل الكوفة‪ ،‬ومصحف‬ ‫القرآن اليوم؟‬ ‫بإرسالها لألمصار‪.‬‬
‫ُ‬
‫إىل الشام‪ ،‬وترك مصحفًا باملدينة‪،‬‬ ‫للتعامل مع هذا السؤال يلزمني‬ ‫وكانت هذه اللجنة‬
‫وأمسك لنفسه مصحفًا الذي يقال‬ ‫أول أن أستعرض من هم أصحاب‬ ‫ً‬ ‫مكونة من زيد بن ثابت‬
‫له املصحف اإلمام‪ ،‬ووجه بمصحف‬ ‫القراءات العشر التي تم اختيارهم‬ ‫األنصاري (ت‪665‬م‪45 /‬هـ)‬
‫إىل مكة‪ ،‬ومصحف إىل اليمن‪،‬‬ ‫من قبل القدماء عىل أنها القراءات‬ ‫رئيسا لها‪ ،‬وعضوية كل من عبد‬
‫ً‬
‫ومصحف إىل البحرين‪ .‬ويرى أبو‬ ‫تواترا‪ ،‬فمن هم أصحاب هذه‬‫ً‬ ‫األكثر‬ ‫اهلل بن الزبير (ت‪692‬م‪73 /‬هـ)‪،‬‬
‫عمرو الداني (‪1053‬م‪444 /‬هـ)‬ ‫القراءات‪ ،‬وعن من أخذوا قراءاتهم‪،‬‬ ‫سعيد بن العاص (ت‪679‬م‪/‬‬
‫إنها أربع نسخ‪ :‬مصحف للكوفة‪،‬‬ ‫وهل هناك صلة بينهم وبين أعضاء‬ ‫‪59‬هـ)‪ ،‬وعبد الرحمن بن الحارث‬
‫وآخر إىل البصرة‪ ،‬وثالثًا إىل الشام‪،‬‬ ‫اللجنة التي كونها عثمان لنسخ‬ ‫(ت‪45 /663‬هـ)‪ .‬ويف هذا املقال‬
‫وترك واح ًدا عنده‪ .‬ويرى ابن حجر‬ ‫املصاحف؟‬ ‫أتناول سؤال‪ :‬هل توقف دور‬
‫‪102‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫(‪770‬م‪154 /‬هـ)‪ :‬ذكر الداني أن‬ ‫‪120‬هـ)‪ :‬وتصل سلسلة سند‬ ‫(‪1448‬م‪852 /‬هـ) أنها خمس‬
‫رجال أبي عمرو «جماعة من أهل‬ ‫ابن كثير إىل عبد اهلل بن السائب‬ ‫نسخ‪ ،‬وهذا ما قرره السيوطي‬
‫الحجاز ومن أهل البصرة ومن‬ ‫املخزومي صاحب النبي (ص)‪،‬‬ ‫أيضا (‪1505‬م‪911 /‬هـ) يف‬ ‫ً‬
‫أهل مكة» (‪ )8‬وقد أخذ هؤالء‬ ‫ومجاهد بن جبر أبو الحجاج موىل‬ ‫اإلتقان‪ .‬ويميل عبد الفتاح القاضي‬
‫الرجال عن الصحابة‪ ،‬مثل «إمام‬ ‫قيس بن السائب‪ ،‬ودرباس موىل‬ ‫(‪1982‬م‪1403 /‬هـ) إىل االعتقاد‬
‫املدينة املنورة أبو جعفر يزيد بن‬ ‫أبي‬
‫ابن عباس‪ ،‬وأخذ عبد اهلل عن ٍّ‬ ‫بأنها كانت ست مصاحف‪ ،‬الكويف‪،‬‬
‫القعقاع املخزومي املدني قرأ عليه‬ ‫نفسه‪ ،‬وأخذ مجاهد ودرباس عن‬ ‫البصري‪ ،‬الشامي‪ ،‬املكي‪ ،‬املدني‬
‫ً‬
‫جليل‬ ‫نافع‪ ،‬وكان أبو جعفر تابعيًّا‬ ‫بي وزيد بن ثابت‬ ‫ابن عباس عن أُ ٍّ‬ ‫العام واملدني الخاص الذي احتفظ‬
‫صالحا‪ ..‬قرأ أبو جعفر عىل كثير‬ ‫ً‬ ‫عن النبي (ص)‪( .‬التيسير يف‬ ‫به عثمان لنفسه‪.‬‬
‫من الصحابة منهم أبو هريرة وأبي‬ ‫عرضا‬
‫ً‬ ‫القراءات‪ )8 ،‬أخذ القراءة‬ ‫وقد أرسل عثمان مع كل مصحف‬
‫بن كعب‪ ،‬وقرأ عىل ابن عباس‪ ،‬عىل‬ ‫عن عبد اهلل بن السائب ومجاهد‬ ‫لهذه األمصار حاف ًظا يثق به ليعلم‬
‫وأبي عىل‬
‫زيد بن ثابت‪ ،‬وقرأ زيد ٌّ‬ ‫بن جبر‪ .‬عبد اهلل بن السائب روى‬ ‫ويقرئ أهل هذه األمصار قراءة‬
‫رسول اهلل ىلص اهلل عليه وسلم»‬ ‫أبي بن كعب‬ ‫عرضا عن ٍّ‬ ‫ً‬ ‫القراءة‬ ‫القرآن يف الجامع‪ .‬فمكث زيد بن‬
‫(الباز‪.)70 ،‬‬ ‫وعمر بن الخطاب‪ ،‬وعرض عليه‬ ‫ثابت كي ُيقريء الناس شفاهة يف‬
‫تعود سلسلة سند أبي عمرو إىل‬ ‫مجاهد بن جبر وعبد اهلل بن كثير‪.‬‬ ‫مسجد املدينة‪ ،‬وعبد اهلل بن السائب‬
‫زيد بن ثابت وأبي بن كعب‪.‬‬ ‫(ابن مجاهد‪)22 ،‬‬ ‫مع املصحف املكي‪ ،‬وبعث املغيرة‬
‫قراءة ابن عامر الشامي (‪736‬م‪/‬‬ ‫تعود قراءة ابن كثير املكي إىل اثنين‬ ‫بن شهاب إىل الشام‪ ،‬وأبا عبد‬
‫‪118‬هـ)‪ :‬إمام أهل الشام يف‬ ‫من الصحابة هما زيد بن ثابت‪،‬‬ ‫الرحمن السلمي إىل الكوفة‪ ،‬وعامر‬
‫عرضا عن أبي‬ ‫ً‬ ‫القراءة‪« .‬أخذ القراءة‬ ‫وأُبي بن كعب‪.‬‬ ‫بن قيس إىل البصرة‪.‬‬
‫الدرداء‪ ،‬وعن املغيرة بن أبي هشام‬ ‫قراءة أبي عمرو البصري‬
‫رواة القراءات العشرة‬
‫وصلتهم بلجنة عثمان‬
‫بقراء القراءات العشر املتواترة‬
‫نبدأ َّ‬
‫وصلة سندهم بلجنة عثمان‪:‬‬
‫قراءة نافع املدني (‪785‬م‪/‬‬
‫‪169‬هـ)‪ :‬رجال نافع الذين يصلونه‬
‫بالصحابة هم ‪ 5‬من تابعي املدينة‬
‫أخذوا القراءة عن أبي هريرة‬
‫أبي بن كعب عن‬ ‫وابن عباس عن ٍّ‬
‫النبي (ص)‪« .‬وقرأ عليه طائفة من‬
‫القراء‪ ،‬منهم عثمان بن سعيد امللقب‬
‫بـ”ورش املصري” وعيسى بن‬
‫مينا امللقب بـ”قالون»‪( .‬ابن مجاهد‪،‬‬
‫‪)25‬‬
‫إذن قراءة نافع املدني براويه ورش‬
‫الصحابي أُبي بن‬
‫ِّ‬ ‫وقالون تعود إىل‬
‫كعب‪.‬‬
‫قراءة ابن كثير املكي (‪737‬م‪/‬‬
‫‪103‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫بكر إىل عيل بن أبي طالب وعبد اهلل‬ ‫أهل الكوفة يف القراءة‪ ،‬أخذ القراءة‬ ‫صاحب عثمان بن عفان‪ ،‬وقيل‬
‫بن مسعود‪.‬‬ ‫عرضا عن زر بن حبيش الذي‬ ‫ً‬ ‫عرض عىل عثمان نفسه وقيل غير‬
‫قراءة حمزة بن حبيب الكويف‬ ‫عرضا عن عبد اهلل‬
‫ً‬ ‫أخذ القراءة‬ ‫ذلك» (ابن مجاهد‪ .)21 ،‬رجال ابن‬
‫(‪772‬م‪156 /‬هـ)‪ :‬ولد سنة ‪80‬‬ ‫بن مسعود وعثمان بن عفان‬ ‫عامر‪ :‬ورجال ابن عامر أبو الدرداء‬
‫هجرية «وإليه صارت اإلمامة يف‬ ‫وعيل بن أبي طالب‪ .‬وأخذ عن أبي‬ ‫عويمر بن عامر صاحب الرسول‬
‫القراءة بعد عاصم واألعمش‪ ،‬وهو‬ ‫عبد الرحمن السلمي الذي أخذ‬ ‫(ص) واملغيرة بن أبي شهاب‬
‫الذي صار أكثر أهل الكوفة إىل‬ ‫عرضا عن عثمان وعيل‪.‬‬‫ً‬ ‫القراءة‬ ‫املخزومي‪ ،‬وأخذ أبو الدرداء عن‬
‫قراءته‪ ..‬أخذ القراءة عن سليمان‬ ‫أيضا عن سعد بن إياس‬ ‫وأخذ ً‬ ‫النبي (ص) وأخذ املغيرة عن عثمان‬
‫األعمش‪ ،‬وحمران بن أعين ومحمد‬ ‫الشيباني الذي أدرك زمن النبوة‬ ‫بن عفان عن النبي (ص)‪( .‬أبو‬
‫بن عبد الرحمن بن ليىل‪ ،‬وغيرهم»‬ ‫لكنه مل ير الرسول (ص) ولكنه‬ ‫عمرو الداني‪ ،‬التيسير يف القراءات‬
‫(ابن مجاهد‪ .)24 ،‬ويذكر الداني‬ ‫عرض عىل عبد اهلل بن مسعود‪.‬‬ ‫‪ .)9‬اختلف يف تاريخ والدته‪ ،‬قيل‬
‫أيضا أنه أخذ القراءة عن يحيى بن‬ ‫ً‬ ‫حفصا بقراءة‬
‫ً‬ ‫وكان عاصم ُيقرئ‬ ‫سنة ‪ 8‬هجرية وقيل سنة ‪21‬‬
‫وثاب الذي أخذ عن أصحاب عبد‬ ‫عيل بن أبي طالب التي يرويها من‬ ‫هجرية‪ .‬أخذ عن أبي الدرداء املتويف‬
‫اهلل بن مسعود مثل علقمة بن قيس‬ ‫ويقرئ أبا‬ ‫طريق أبي عبد الرحمن‪ُ ،‬‬ ‫سنة ‪ 32‬هجرية‪ ،‬واملغيرة بن أبي‬
‫وزر بن حبيش وأبي عبد الرحمن‬ ‫بكر بن عياش بقراءة ابن مسعود‬ ‫هشام املتويف سنة ‪ 91‬هجرية‪.‬‬
‫السلمي‪ ،‬وكلهم أخذوا عن عبد اهلل‬ ‫التي يرويها من طريق زر بن‬ ‫تعود سلسلة سند قراءة ابن‬
‫بن مسعود عن النبي ىلص اهلل عليه‬ ‫حبيش‪( .‬سير أعالم النبالء للحافظ‬ ‫عامر يف نهايتها إىل أبي الدرداء‬
‫وسلم‪( .‬الداني‪)9 ،‬‬ ‫الذهبي‪ /‬عاصم بن أبي النجود)‬ ‫األنصاري‪.‬‬
‫تنتهي سلسلة سند قراءة حمزة‬ ‫تعود قراءة عاصم يف سلسلة‬ ‫قراءة عاصم بن أبي النجود‬
‫الكويف إىل عبد اهلل بن مسعود‪.‬‬ ‫سندها سواء برواية حفص أو أبو‬ ‫الكويف (‪744‬م‪127 /‬هـ)‪ :‬إمام‬
‫قراءة الكسائي (‪805‬م‪189 /‬هـ)‪:‬‬
‫عيل بن حمزة الكسائي الذي‬
‫انتهت له إمامة القراءة بالكوفة‬
‫بعد حمزة الكويف‪ .‬أخذ القراءة عن‬
‫حمزة الكويف وابن أبي ليىل وأبي‬
‫بكر بن عياش كما ذكر ابن مجاهد‬
‫يف كتابه‪ .‬ويذكر الذهبي يف كتابه‬
‫«معرفة القراء الكبار» أن أبا بكر بن‬
‫عياش «قرأ القرآن ثالث مرات عىل‬
‫عاصم»‪ ،‬الذي أخذ بدوره عن عبد‬
‫اهلل بن مسعود كما ذكر سابقًا‪.‬‬
‫إذن تعود قراءة الكسائي يف أصلها‬
‫إىل عبد اهلل بن مسعود‪.‬‬
‫قراءة أبي جعفر املدني (‪747‬م‪/‬‬
‫‪130‬هـ)‪ :‬هو يزيد بن القعقاع أبو‬
‫التوزيع الجغرايف‬
‫جعفر املدني‪ ،‬ولد سنة ‪ 35‬هجرية‬
‫للقراءات القرآنية‬
‫وانتهت إليه قراءة الناس باملدينة‪.‬‬
‫يف العامل اإلسالمي‬
‫قرأ عىل مواله عبد اهلل بن عياش بن‬
‫أيضا‬
‫أبي ربيعة املخزومي‪ ،‬وقرأ ً‬
‫‪104‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫أي القراءات سادت في‬ ‫وقرأوه عىل الرسول (ص) هم‪:‬‬ ‫عىل أبي هريرة وعبد اهلل بن عباس‬
‫العالم اإلسالمي؟‬ ‫عثمان بن عفان‪ ،‬عيل بن أبي طالب‪،‬‬ ‫اللذين قرآ عىل أبي بن كعب‪ ،‬وقرآ‬
‫أبي بن كعب األنصاري‪ ،‬عبد اهلل بن‬ ‫ُّ‬ ‫أيضا عىل زيد بن ثابت (الذهبي‪/1 ،‬‬ ‫ً‬
‫أكثر الروايات املنتشرة يف املشرق‬ ‫مسعود‪ ،‬زيد بن ثابت األنصاري‪،‬‬ ‫‪.)172‬‬
‫اإلسالمي هي رواية حفص عن‬ ‫أبو موسى األشعري اليماني‪ ،‬وأبو‬ ‫تعود سلسلة سند قراءة أبي جعفر‬
‫عاصم‪ ،‬حيث يقرأ بها جميع أهل‬ ‫الدرداء األنصاري‪ .‬مل يكن منهم‬ ‫إىل أبي بن كعب وزيد بن ثابت‪.‬‬
‫املشرق والعراق ومصر‪ ،‬وتنتشر‬ ‫أحد يف لجنة نسخ املصاحف سوى‬ ‫قراءة يعقوب الحضرمي (‪821‬م‪/‬‬
‫أيضا رواية الدوري عن أبي عمرو‬ ‫ً‬ ‫زيد بن ثابت‪ ،‬ومع ذلك كان قرار‬ ‫‪205‬هـ)‪ :‬هو يعقوب بن إسحاق‬
‫يف الصومال والسودان وتشاد‬ ‫عثمان وتوصيته للجنة بأعضائها‬ ‫بن يزيد الحضرمي البصري اإلمام‬
‫ونيجيريا وأواسط أفريقيا‪.‬‬ ‫القراء العشرة‪ ،‬ولد بعد‬
‫التاسع يف َّ‬
‫الثالثة اآلخرين القرشيين أنهم إذا‬
‫بينما نجد أكثر القراءات املنتشرة يف‬ ‫سنة ‪ 130‬هجرية‪ .‬أخذ القراءة‬
‫اختلفوا يف قراءة مع زيد فليكتبوها‬
‫املغرب اإلسالمي هي قراءة اإلمام‬ ‫عرضا عن جماعة منهم سالم بن‬ ‫ً‬
‫بلسان قريش‪ ،‬فهكذا أُنزل القرآن‪.‬‬
‫نافع بالروايتين‪ :‬رواية قالون‪،‬‬ ‫سليمان املزني‪ ،‬ومهدي بن ميمون‪،‬‬
‫ومن هؤالء السبعة نجد اسم «أبي‬
‫ورواية ورش‪ .‬حيث نرى رواية‬ ‫وقرأ عىل شهاب بن شرنقة قراءة‬
‫بن كعب» وقد ورد أربع مرات‬ ‫أبي األسود الدؤيل عن عيل بن أبي‬
‫قالون هي القراءة الرسمية يف ليبيا‪،‬‬
‫أيضا‪ .‬ونرى‬‫ويقرأ بها أهل تونس ً‬ ‫يف سالسل السند للقراء العشرة‪،‬‬ ‫طالب‪ ،‬وقراءته عىل أبي األشهب عن‬
‫رواية ورش مقرو ًءا بها يف بالد‬ ‫وكذلك «عبد اهلل بن مسعود» إليه‬ ‫أبي رجاء عن أبي موسى األشعري‬
‫املغرب العربي (الجزائر واملغرب‬ ‫تعود أربع قراءات‪ ،‬و»زيد بن‬ ‫يف غاية العلو‪ .‬وقرأ أبو موسى عىل‬
‫وموريتانيا)‪ ،‬ويف غرب أفريقيا‬ ‫ثابت» ترجع إليه ثالث قراءات‪،‬‬ ‫الرسول (ص)‪( .‬الطويل‪)96 ،‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ً‬ ‫و»عيل بن أبي طالب» تعود إليه‬ ‫تنتهي سلسلة سند يعقوب إىل‬
‫يتضح مما سبق أن القراءات التي‬ ‫قراءتين‪ ،‬وقراءة واحدة ترجع‬ ‫عيل بن أبي طالب وأبي موسى‬
‫تصدرت املشهد؛ سواء ما يقرأ بها‬ ‫إىل أبي الدرداء ومثلها ترجع إىل‬ ‫األشعري‪.‬‬
‫اليوم أو ما اتفق عليها ابن مجاهد‬ ‫أبي موسى األشعري‪ ،‬أخذًا يف‬ ‫قراءة خلف بن هشام (‪844‬م‪/‬‬
‫وابن الجزري‪ ،‬ال ترجع يف أصلها‬ ‫االعتبار أن بعض القراء تعود‬ ‫‪229‬هـ)‪ :‬هو خلف بن هشام‬
‫إىل أي من أعضاء اللجنة التي‬ ‫أصول قراءاتهم لصحابيين من هذه‬ ‫البزار‪ ،‬البغدادي‪ ،‬ولد سنة ‪150‬‬
‫شكلها عثمان باستثناء زيد بن ثابت‬ ‫األسماء يف الوقت نفسه‪.‬‬ ‫هجرية‪ ،‬وهو املتمم للقراء العشرة‬
‫باعتباره‬
‫راو ًيا عن‬
‫حمزة الكويف‬
‫الذي تعود‬
‫سلسلة‬
‫سنده إىل‬
‫عبد اهلل بن‬
‫مسعود‪.‬‬
‫بحسب‬
‫أبو الحافظ‬
‫الذهبي فإن‬
‫الذين حفظوا‬
‫القرآن‬
‫األنصاري‪ .‬بل وبالرغم من أن عبد‬
‫مرشحا بار ًزا‬
‫ً‬ ‫اهلل بن مسعود كان‬
‫الذين حفظوا القرآن وقرأوه على الرسول‬ ‫يتوقع أن يكون من أعضاء اللجنة‬
‫هم‪ :‬عثمان بن عفان‪ ،‬علي بن أبي‬ ‫هو وأبي بن كعب‪ ،‬ولكن لسبب ال‬
‫يعلمه إال عثمان مل يدخلوا اللجنة‪،‬‬
‫أبي بن كعب األنصاري‪ ،‬عبد اهلل‬
‫طالب‪ُّ ،‬‬ ‫لكن أثرهم يف حفظ القرآن شفاهة‬
‫بن مسعود‪ ،‬زيد بن ثابت األنصاري‪ ،‬أبو‬ ‫كان أكبر‪ ،‬وإليهم يعود الفضل يف‬
‫القراءات التي انتشرت وخاصة عبد‬
‫موسى األشعري اليماني‪ ،‬وأبو الدرداء‬ ‫اهلل بن مسعود الذي عرض عليه‬
‫األنصاري‪ .‬لم يكن منهم أحد في لجنة‬ ‫«زر بن حبيش» معلم عاصم بن‬
‫أبي النجود الكويف صاحب القراءة‬
‫نسخ المصاحف سوى زيد بن ثابت‪ ،‬ومع‬ ‫األكثر شهرة بين املسلمين اليوم‪.‬‬
‫ذلك كان قرار عثمان وتوصيته للجنة‬ ‫يبقى السؤال الذي طرحته للتناول‬
‫يف هذا املقال‪ :‬أين دور أعضاء‬
‫بأعضائها الثالثة اآلخرين القرشيين‬ ‫لجنة عثمان الثالثة (عبد الرحمن‬
‫أنهم إذا اختلفوا في قراءة مع زيد‬ ‫بن الحارث‪ ،‬عبد اهلل بن الزبير‬
‫(ت‪692‬م‪73 /‬هـ)‪ ،‬سعيد بن‬
‫فليكتبوها بلسان قريش!‬ ‫العاص (ت‪679‬م‪59 /‬هـ) يف‬
‫انتشار قراءات املصحف الذي قاموا‬
‫بنسخه؟ ملاذا ال يعود ألي منهم‬
‫سند أي قراءة من القراءات العشر‬
‫املتواترة؟ بدون إجابة‪ .‬برغم صغر‬
‫حفظا وكتابة‪ ،‬املطلب الرابع‪ ،‬نشر‬ ‫المراجع‪:‬‬ ‫أعمار هؤالء الفتية وقتها‪ ،‬مقارنة‬
‫عثمان بن عفان املصاحف يف‬ ‫‪ -‬معرفة القراء الكبار عىل‬ ‫بعمر باقي الصحابة الذين أسهموا‬
‫األمصار‪ ،‬املكتبة الشاملة الحديثة‪.‬‬ ‫الطبقات واألعصار‪ ،‬محمد بن‬ ‫يف تثبيت القراءات العشر املتواترة‬
‫أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي‬ ‫التي تم التوافق عليها يف ذلك الوقت‬
‫الرابط‪:‬‬
‫أبو عبد اهلل‪.‬‬ ‫وقدرتهم عىل الحفظ‪ ،‬إال أن دورهم‬
‫‪https://al-maktaba.org/‬‬ ‫‪https://tinyurl.com/bdh-‬‬ ‫اقتصر فقط عىل نسخ املصحف‪،‬‬
‫‪book/11131/64p4‬‬ ‫‪2d5bk‬‬ ‫وبقي األثر األكبر والدائم لباقي‬
‫‪ -‬محمد عباس الباز‪ ،‬مباحث يف‬ ‫الصحابة‪ ،‬ولألسماء السبعة التي‬
‫‪ -‬كتاب مدخل يف علوم القراءات‪،‬‬
‫علم القراءات مع بيان أصول‬ ‫ذكرتها سابقًا وعىل رأسهم «عبد‬
‫السيد رزق الطويل‪ .‬الرابط‪:‬‬ ‫رواية حفص‪ -‬شجرة إسناد‬ ‫اهلل بن مسعود» ابن قبيلة هذيل‪،‬‬
‫‪https://al-maktaba.org/‬‬ ‫اإلمام أبي جعفر املدني‪ ،‬املكتبة‬ ‫و”أُبي بن كعب» األنصاري‪ ،‬ويليهم‬
‫الشاملة الحديثة‪ .‬الرابط‪:‬‬
‫‪book/8633/85p8‬‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫«زيد بن ثابت» األنصاري ً‬
‫‪https://al-maktaba.org/‬‬
‫‪ -‬أبو عمرو الداني‪ ،‬التيسير يف‬ ‫‪book/32476/62p4‬‬ ‫الذي قرر عثمان أال يأخذ بقراءته‬
‫‪ -‬ص‪ ،96‬كتاب مدخل يف علوم‬ ‫عند االختالف‪ ،‬ألن القرآن مل‬
‫القراءات السبع‪.‬‬
‫القراءات‪ ،‬يعقوب الحضرمي‪،‬‬ ‫ينزل بلسانه هو وإنما نزل بلسان‬
‫‪ -‬ابن مجاهد‪ ،‬السبعة البن‬ ‫املكتبة الشاملة الحديثة‪.‬‬ ‫قريش‪ .‬وهو أمر ما زال يحتاج إىل‬
‫مجاهد‪.‬‬ ‫‪ -‬ص‪ ،49‬جمع القرآن الكريم‬ ‫مزيد من البحث‬
‫‪106‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫ميسون الشوابكة‬
‫(فلسطين‪ /‬أمريكا)‬

‫االختالفات بين مصاحف‬


‫األمصار في عهد الخليفة‬
‫عثمان بن عفان‬

‫املوحد للقرآن» كما ُعل ِّ ُ‬


‫مت‪ ،‬لكنها‬ ‫العربية تروي قصة الهجرة‪،‬‬ ‫اإلسالمي الذي ولدت‬
‫يف الحقيقة كانت اختالفًا يف رسم‬
‫الكلمات‪ ،‬زيادة حروف‪ ،‬اختالف‬
‫وقصة آل ياسر و‪ ..‬إلخ‪ .‬األكثر‬
‫تأثيرا من وجهة نظري لترسيخ‬ ‫ً‬
‫وترعرعت يف كنفه‪،‬‬
‫مبني عىل الوحدانية؛‬ ‫الدين‬
‫كلمة باإلضافة إىل اختالف لفظها‪.‬‬ ‫هذه «الحقيقة» هو التوجيه من‬ ‫اهلل واحد والنص‬
‫فوجئت ألن هذا ما كنا نصف به‬ ‫معلمي التربية الدينية يف كل‬ ‫القرآني واحد‪ .‬أُنزل‬
‫التحريف يف اإلنجيل والتوراة‪.‬‬ ‫عام من مراحل التعليم إىل آخر‬ ‫ور ْس ُمه‬
‫القرآن عربيًّا َ‬
‫وهنا كان من املستحسن أو‬ ‫املرحلة الثانوية‪ .‬ففي كل مرحلة‬ ‫لقنه املالك جبريل عليه السالم‬
‫األسلم هو تفادي هذه املعرفة؛‬ ‫كانت هذه الجزئية ال بد أن تُذكر‬ ‫للرسول ىلص اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫فإن للتوغل بها رعب ووحدة‬ ‫كمقدمة دائمة لتثبيت فكرة أن هذا‬ ‫واختبره يف حفظه مرة كل عام‪،‬‬
‫أشبه بالتيه يف صحراء متجمدة‪،‬‬ ‫املصحف ثابت مل ولن يتغير عبر‬ ‫ثم إنه اختبره مرتين يف العام‬
‫وألننا ال نستطيع الرجوع عن‬ ‫الزمن‪ .‬فكرة مريحة‪ ،‬ال جدال‪.‬‬ ‫األخير له عىل هذه األرض‪ .‬هكذا‬
‫املعرفة سيكون شغلنا الشاغل‬ ‫عقود مرت منذ ذلك الوقت‪ ،‬عندما‬ ‫تعلمت‪.‬‬
‫ُ‬
‫كيف لنا الجمع بين جديد املعرفة‬ ‫فوجئت بحقيقة القراءات السبعة‪،‬‬ ‫مسلسالت وأفالم الكرتون‬
‫واإليمان املزروع فينا منذ‬ ‫وكانت أول عهدي بأن للقرآن‬ ‫اإلسالمية ومسلسالت وأفالم‬
‫الوالدة‪ .‬وتكون ردة الفعل األمثل‪،‬‬ ‫أوجه مختلفة يف اللفظ‪ ،‬والتي‬ ‫مثل فيلم الرسالة وغيرها‪،‬‬
‫إن استطعت‪ ،‬ردم هذا االتجاه‬ ‫ظننتها تسهيل يف لفظ «الرسم‬ ‫نصوص مسرحية يف منهاج اللغة‬
‫‪107‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫االختالف بين مصحف الشام‬ ‫األنصاري (زيد بن ثابت‪ ،‬عبد‬ ‫من املعرفة والتركيز عىل «جميل‬
‫واملصاحف األخرى (يونس ‪22‬‬ ‫اهلل بن الزبير‪ ،‬سعيد بن العاص‪،‬‬ ‫اإلسالم» املعتدل الذي تعودته‪.‬‬
‫ىىسركم)‪ ،‬يف مصحف الشام‬ ‫وعبد الرحمن بن الحارث بن‬ ‫وها أنا أغوص يف دراسة‬
‫قُرأت (ينشركم) واملصاحف‬ ‫هشام)‪ .‬أو لدرجة اإلرهاق‬ ‫ِ‬
‫ملصاحف الخليفة عثمان بن‬
‫األخرى قرأت (يسيركم)‪ .‬خمسة‬ ‫املذكورة صراح ًة يف كتب السلف‬ ‫عفان رضي اهلل عنه وأرضاه‬
‫أسنان راء كاف ميم‪ .‬كما أن‬ ‫إبان هذا املجهود الجبار الذي قد‬ ‫(‪47‬ق‪.‬ه‪35 -‬ه = ‪656 -576‬م)‪،‬‬
‫الرحىم ال تعرف إن كانت‬ ‫ال نستوعب عظمته من إنجاز‪،‬‬ ‫درب معرف ٍة َ‬
‫آخر‬ ‫وأنا موقنة أنه ُ‬
‫الرحيم أو الرجيم اال بالتنقيط‪،‬‬ ‫لتعودنا املصاحف الورقية سهلة‬ ‫موجب لسرعة الردم‪ .‬فكيف‬ ‫ٌ‬
‫أو اجتها ًدا من سياق النص‪.‬‬ ‫الحمل‪ ،‬أو النسخ اإللكترونية‬ ‫ستتم مصالحة ما تعلمت منذ‬
‫التنقيط –إذًا‪ -‬هو ما يجعل هناك‬ ‫سهلة البحث‪.‬‬ ‫صغري عن رسم القران املُ َن َّزل‬
‫اختالف‪ .‬والتنقيط أحدثه أبو‬ ‫أيضا التنويه‬‫أظن أنه موجِ ٌب هنا ً‬ ‫وما أقرأه اآلن عن جمع املصحف‬
‫األسود الدؤيل (م‪٦٨٨ -٦٠٣‬م‬ ‫بأن اللغة العربية يف هذا العهد‬ ‫ونسخه‪ ،‬فكيف ال تكون كل‬
‫= ‪ ١٦‬ق‪.‬ه‪٦٩ -‬ه) بأمر من اإلمام‬ ‫مل تكن لغة مكتوبة‪ ،‬بل لغة‬ ‫نسخة مطابقة لألخرى؟ بل إننا‬
‫عىل بن أبي طالب رضي اهلل عنه‪،‬‬ ‫محكية «لهجة»‪ ،‬وأننا يمكن‬ ‫نجد يف هذه املصاحف األوىل‪،‬‬
‫والخليل بن أحمد بن عمرو بن‬ ‫تشبيه كتابتها اليوم بحديث‬ ‫التي كتبت بهدف توحيد املسلمين‬
‫تميم الفراهيدي األزدي اليحمدي‬ ‫عهدنا بالرسائل التلفونية قبل‬ ‫عىل قرآن واحد‪ ،‬اختالفات كثيرة‬
‫(‪٧٨٦-٧١٨‬م = ‪١٧٠ -١٠٠‬ه)‪.‬‬ ‫وجود الكيبورد العربي‪ .‬كتبنا‬ ‫تزداد حسب كم من املصاحف‬
‫أيضا‪،‬‬
‫التنقيط مل يكن موح ًدا ً‬ ‫الكالم العربي بحروف إنجليزية‬ ‫كانوا‪.‬‬
‫مثل تكتب (ف) والفاء‬‫القاف ً‬ ‫«عربيزي»‪ .‬وهذا ما حصل عندما‬ ‫قيل كانوا أربعة مصاحف‪،‬‬
‫تكون النقطة تحتها وليست‬ ‫ُكتب القرآن الكريم‪ ،‬استخدمت‬ ‫خمسة‪ ،‬ستة‪ ،‬سبعة وقيل‬
‫فوقها‪ ،‬وهذا االختالف قائم إىل‬ ‫حروف اللغة السريانية النبطية‬ ‫ثمانية؛ وأجمع املؤرخون عىل‬
‫يومنا هذا‪ .‬شيوخ الدين يرجعون‬ ‫(الخط املائل) ذات الخمسة عشر‬ ‫أربع مصاحف (املدينة‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫هذه االختالفات لكون القرآن أنزل‬ ‫حرفًا املستخدمة من عرب البتراء‬ ‫الكوفة‪ ،‬والبصرة) ومصحف مكة‬
‫يقرون بأن‬ ‫عىل سبعة أحرف‪ ،‬وال ُّ‬ ‫شمال الجزيرة العربية؛ للتعبير‬ ‫إن قالوا خمسة‪ .‬سألحق الئحة‬
‫للعامل البشري يف التدوين قصور‬ ‫عن ما حفظ يف الصدور من‬ ‫لألربعة وأربعين اختالفًا يف‬
‫موجب للتنقيح والتعديل‪ .‬وما‬ ‫القرآن؛ والغريب أنه مل يستخدم‬ ‫هذه املصاحف‪ .‬يجدر بالذكر أن‬
‫زلنا ال نستقر عىل عدد القراءات‬ ‫الخط الثمودي ذي الحروف‬ ‫املصاحف املنسوخة كلها مكتوبة‬
‫إن كانوا سبعة‪ ،‬عشرة‪ ،‬أربع‬ ‫املتفرقة املحتوي عىل ‪ ٢٨‬حرفًا‪،‬‬ ‫عىل الورق الكاغد‪ ،‬إال املصحف‬
‫عشرة أو أربعين أو ما ال نهاية‪.‬‬ ‫املنتشر آنذاك يف وسط الجزيرة‬ ‫الذي خص به عثمان بن عفان‬
‫فهناك أربع عشرة قراءة رسمية‬ ‫العربية حيث مكة واملدينة‪ .‬وقد‬ ‫نفسه (املصحف اإلمام)‪ ،‬فقد‬
‫معتمدة يف يومنا هذا‪ .‬بينما ذكر‬ ‫تعود بعض االختالفات لبدائية‬ ‫قيل‪ :‬إنه كتب عىل رق الغزال‪.‬‬
‫أبو القاسم الهذيل (‪٤٦٥ -٤٠٣‬ه)‬ ‫الكتابة وتشابه بعض الحروف‬ ‫هذه املعلومات مما كتبه َمن‬
‫أنه أخذ من ‪ ١٤٥٩‬طريقة ليحدد‬ ‫السريانية يف الرسم لغير‬ ‫عاصر هذه املخطوطات من‬
‫خمسين قراءة مختلفة للقرآن‪.‬‬ ‫متقنيها‪ ،‬فمن ال ُكتَّاب األربعة مل‬ ‫علماء اإلسالم املشهود لهم مثل‬
‫أما فيما يخص اختالفات‬ ‫يوصف أح ٌد بأنه متقن للسريانية‬ ‫السجستاني‪ ،‬فهذه املصاحف ال‬
‫املصاحف األوىل فهذا جدول‬ ‫والعبرية باإلضافة للعربية‪ ،‬إال‬ ‫وجود لها يف عصرنا الحايل‪.‬‬
‫ألربعة وأربعين اختالفًا يف خمسة‬ ‫زيد بن ثابت‪.‬‬ ‫أسباب هذه االختالفات يف الرسم‪،‬‬
‫من املصاحف كما سجلها لنا‬ ‫وال ننسى أن الكتابات األوىل‬ ‫قد تعود ألن الكتبة مختلفون‪:‬‬
‫كتاب املصاحف للسجستاني‪.‬‬ ‫مل تكن منقوطة‪ ،‬وهذا يظهر يف‬ ‫ثالث قرشيين وزيد بن ثابت‬
‫‪108‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫اختالف مصاحف األمصار الخمسة‬


‫مصحف‬ ‫مصحف‬ ‫مصحف‬
‫مصحف الشام‬ ‫مصحف مكة‬ ‫اسم السورة‬
‫البصرة‬ ‫الكوفة‬ ‫املدينة‬
‫قالوا اتخذ‬ ‫وقالوا اتخذ‬ ‫وقالوا اتخذ‬ ‫وقالوا اتخذ‬ ‫وفالوا اتخذ‬ ‫البقرة ‪116‬‬ ‫‪1‬‬
‫وأوصى‬ ‫ووصى‬ ‫ووصى‬ ‫ووصى‬ ‫وأوصى‬ ‫البقرة ‪132‬‬ ‫‪2‬‬
‫آل عمران‬
‫سارعوا‬ ‫وسارعوا‬ ‫وسارعوا‬ ‫وسارعوا‬ ‫سارعوا‬ ‫‪3‬‬
‫‪133‬‬
‫والزبر‬ ‫والزبر‬ ‫والزبر‬ ‫آل عمران‬
‫وبالزبر وبالكتاب‬ ‫والزبر والكتاب‬ ‫‪4‬‬
‫والكتاب‬ ‫والكتاب‬ ‫والكتاب‬ ‫‪184‬‬
‫إال قليال‬ ‫إال قليل‬ ‫إال قليل‬ ‫إال قليل‬ ‫إال قليل‬ ‫النساء ‪66‬‬ ‫‪5‬‬
‫يقول الذين‬ ‫يقول الذين‬ ‫يقول الذين‬ ‫يقول الذين‬ ‫يقول الذين‬ ‫املائدة ‪53‬‬ ‫‪6‬‬
‫من يرتدد‬ ‫من يرتد‬ ‫من يرتد‬ ‫من يرتد‬ ‫من يرتدد‬ ‫املائدة ‪54‬‬ ‫‪7‬‬
‫ولدار‬ ‫وللدار‬ ‫وللدار‬ ‫وللدار‬ ‫وللدار‬ ‫األنعام ‪32‬‬ ‫‪8‬‬
‫لئن أنجيتنا‬ ‫لئن أنجيتنا‬ ‫لئن أنجينا‬ ‫لئن أنجيتنا‬ ‫لئن أنجيتنا‬ ‫األنعام ‪63‬‬ ‫‪9‬‬
‫شركائهم‬ ‫شركاؤهم‬ ‫شركاؤهم‬ ‫شركاؤهم‬ ‫شركاؤهم‬ ‫األنعام ‪137‬‬ ‫‪10‬‬
‫يتذكرون‬ ‫تذكرون‬ ‫تذكرون‬ ‫تذكرون‬ ‫تذكرون‬ ‫األعراف ‪3‬‬ ‫‪11‬‬
‫وما كنا‬ ‫وما كنا‬ ‫وما كنا‬
‫ما كنا لنهتدي‬ ‫وما كنا لنهتدي‬ ‫األعراف ‪43‬‬ ‫‪12‬‬
‫لنهتدي‬ ‫لنهتدي‬ ‫لنهتدي‬
‫وقال املأل‬ ‫قال املأل‬ ‫قال املأل‬ ‫قال املأل‬ ‫قال املأل‬ ‫‪ 13‬األعراف ‪75‬‬
‫وإذ أنجاكم‬ ‫وإذ أنجينكم‬ ‫وإذ أنجينكم‬ ‫وإذ أنجينكم‬ ‫وإذ أنجينكم‬ ‫‪ 14‬األعراف ‪141‬‬
‫تجري من‬
‫تجري تحتها‬ ‫تجري تحتها‬ ‫تجري تحتها‬ ‫تجري تحتها‬ ‫التوبة ‪100‬‬ ‫‪15‬‬
‫تحتها‬
‫الذين اتخذوا‬ ‫والذين اتخذوا والذين اتخذوا‬ ‫والذين اتخذوا‬ ‫‪ 16‬التوبة ‪ 107‬الذين اتخذوا‬
‫ينشركم‬ ‫يسيركم‬ ‫يسيركم‬ ‫يسيركم‬ ‫يسيركم‬ ‫‪ 17‬يونس ‪22‬‬
‫قال سبحان‬ ‫قل سبحان‬ ‫قل سبحان‬ ‫قال سبحان‬ ‫‪ 18‬اإلسراء ‪ 93‬قل سبحان‬
‫خيرا منهما‬ ‫خيرا منها‬ ‫خيرا منها‬ ‫خيرا منهما‬ ‫خيرا منهما‬ ‫‪ 19‬الكهف ‪36‬‬
‫ما مكني‬ ‫ما مكني‬ ‫ما مكني‬ ‫ما مكنني‬ ‫ما مكني‬ ‫‪ 20‬الكهف ‪95‬‬
‫قل ربي‬ ‫قل ربي‬ ‫قال ربي‬ ‫قل ربي‬ ‫قل ربي‬ ‫األنبياء ‪4‬‬ ‫‪21‬‬
‫أومل ير الذين‬ ‫أومل ير الذين أومل ير الذين‬ ‫أمل ير الذين‬ ‫‪ 22‬األنبياء ‪ 30‬أومل ير الذين‬
‫سيقولون هلل‬ ‫سيقولون هلل سيقولون اهلل‬ ‫سيقولون هلل‬ ‫‪ 23‬املؤمنون ‪ 87‬سيقولون هلل‬
‫سيقولون هلل‬ ‫سيقولون هلل سيقولون اهلل‬ ‫سيقولون هلل‬ ‫‪ 24‬املؤمنون ‪ 89‬سيقولون هلل‬
‫قال كم لبثتم‬ ‫قل كم لبثتم قال كم لبثتم‬ ‫قال كم لبثتم‬ ‫‪ 25‬املؤمنون ‪ 112‬قال كم لبثتم‬
‫‪109‬‬
‫تجديد الخطاب‬

‫قال إن لبثتم‬ ‫قال إن لبثتم‬ ‫قال إن لبثتم قال إن لبثتم قل إن لبثتم‬ ‫املؤمنون ‪114‬‬ ‫‪26‬‬
‫ونزل امللئكة‬ ‫ونزل امللئكة‬ ‫ونزل امللئكة وننزل امللئكة ونزل امللئكة‬ ‫الفرقان ‪25‬‬ ‫‪27‬‬
‫فتوكل‬ ‫وتوكل‬ ‫وتوكل‬ ‫وتوكل‬ ‫فتوكل‬ ‫الشعراء ‪217‬‬ ‫‪28‬‬
‫ليأتيني‬ ‫ليأتيني‬ ‫ليأتيني‬ ‫ليأتينني‬ ‫ليأتيني‬ ‫النمل ‪21‬‬ ‫‪29‬‬
‫وقال موسى‬ ‫وقال موسى‬ ‫وقال موسى قال موسى وقال موسى‬ ‫القصص ‪37‬‬ ‫‪30‬‬
‫وما عملته‬ ‫وما عملته‬ ‫وما عملت‬ ‫وما عملته‬ ‫وما عملته‬ ‫يس ‪35‬‬ ‫‪31‬‬
‫تأمرونني‬ ‫تأمروني‬ ‫تأمروني‬ ‫تأمروني‬ ‫تأمروني‬ ‫الزمر ‪64‬‬ ‫‪32‬‬
‫أشد منكم‬ ‫أشد منهم‬ ‫أشد منهم‬ ‫أشد منهم‬ ‫أشد منهم‬ ‫غافر ‪21‬‬ ‫‪33‬‬
‫وأن يظهر‬ ‫أو أن يظهر‬ ‫وأن يظهر‬ ‫وأن يظهر‬ ‫وأن يظهر‬ ‫غافر ‪26‬‬ ‫‪34‬‬
‫بما كسبت‬ ‫فبما كسبت‬ ‫فبما كسبت فبما كسبت‬ ‫بما كسبت‬ ‫الشورى ‪30‬‬ ‫‪35‬‬
‫يعبادي‬ ‫يعباد‬ ‫يعباد‬ ‫يعباد‬ ‫يعبادي‬ ‫الزخرف ‪68‬‬ ‫‪36‬‬
‫ما تشتهيه‬ ‫ما تشتهي‬ ‫ما تشتهي‬ ‫ما تشتهي‬ ‫ما تشتهيه‬ ‫الزخرف ‪71‬‬ ‫‪37‬‬
‫حسنا‬ ‫حسنا‬ ‫أحسنا‬ ‫حسنا‬ ‫حسنا‬ ‫األحقاف ‪15‬‬ ‫‪38‬‬
‫أن تأتيهم‬ ‫أن تأتيهم‬ ‫أن تأتهم‬ ‫أن تأتهم‬ ‫أن تأتيهم‬ ‫محمد ‪18‬‬ ‫‪39‬‬
‫ذا العصف‬ ‫ذو العصف‬ ‫ذو العصف ذو العصف ذو العصف‬ ‫الرحمن ‪12‬‬ ‫‪40‬‬
‫ذو الجلل‬ ‫ذي الجلل‬ ‫ذي الجلل‬ ‫ذي الجلل‬ ‫ذي الجلل‬ ‫الرحمن ‪78‬‬ ‫‪41‬‬
‫وكل وعد اهلل‬ ‫وكال وعد اهلل‬ ‫وكال وعد اهلل وكال وعد اهلل وكال وعد اهلل‬ ‫الحديد ‪10‬‬ ‫‪42‬‬
‫الغني‬ ‫هو الغني‬ ‫هو الغني‬ ‫هو الغني‬ ‫الغني‬ ‫الحديد ‪24‬‬ ‫‪43‬‬
‫فال يخاف‬ ‫وال يخاف‬ ‫وال يخاف‬ ‫وال يخاف‬ ‫فال يخاف‬ ‫الشمس ‪15‬‬ ‫‪44‬‬
‫‪19‬‬ ‫‪19‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪16‬‬

‫أقدم مخطوطة ُوجدت لليوم هي‬ ‫املصاحف اتفاقًا تا ًّما‪.‬‬ ‫مصحف املدينة زاد بـ‪ 16‬موقع‪،‬‬
‫مخطوطة صنعاء؛ والختالفها‪،‬‬ ‫***‬ ‫وغير الواو ل فاء يف مكانين‪.‬‬
‫يطعن فيها رجال الدين ملا نشأنا‬ ‫بعد هذه الدراسة املقارنة‪،‬‬ ‫مصحف مكة زاد بـ‪ 18‬موقع‬
‫عليه من إبطال العقل فيما يخص‬ ‫أستنتج أن القراءت كانت نتيجة‬ ‫فقط‪.‬‬
‫املقدسات؛ بالرغم مما يمثله‬ ‫حتمية لالختالفات يف النسخ‪،‬‬ ‫مصحف الكوفة زاد بـ‪ 13‬موقع‬
‫إيجادها ودراستها من أهمية يف‬ ‫أكثر من كون القرآن أنزل عىل‬ ‫فقط‪.‬‬
‫تقريبها من النص القرآني املنزل‪.‬‬ ‫سبعة أحرف‪ .‬أجدني متشوقة‬ ‫مصحف البصرة زاد بـ‪ 19‬موقع‬
‫ً‬
‫مستقبل أرى أنني سأتتبع هذا‬ ‫للتدقيق يف هذه االختالفات‪،‬‬ ‫فقط‪.‬‬
‫الخيط من املعرفة إىل نهايته رغم‬ ‫إليجاد األقدم منها‪ ،‬ومن أخذ‬ ‫مصحف الشام زاد بـ‪ 19‬موقع‪،‬‬
‫الخسائر‪ ،‬وأرجو أن أجد كثيرين‬ ‫عن األخر؛ علَّني أص ُل ً‬
‫يوما إىل‬ ‫وغير حرف عن حرف باء ‪8‬‬
‫عىل هذا الطريق‬ ‫املخطوطة األقرب لعهد الرسالة‪.‬‬ ‫مواقع‪ .‬ومل يتفق أي من هذه‬
‫‪110‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫شما‬
‫لوحة للفنانة السورية سارة َ ّ‬
‫حول العالم‬
‫التفسير التاريخي ألشكال تنوع‬
‫التركيب الوراثي في مصر‬
‫األمسية الجميلة | ألبرتو مورافيا‬
‫قصائد | فيليب لوكس‬
‫‪112‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫شوماركا كيتا‬

‫التفسير التاريخي ألشكال‬


‫تنوع التركيب الوراثي‬
‫(‪)p49a,f TaqI RFLP‬‬
‫للكروموسوم ‪ Y‬في مصر‪:‬‬
‫دراسة استقصائية ألدلة متعددة‬
‫ترجمة وتقديم ‪:‬‬

‫منى كامل‬

‫للجينوم البشري بجامعة‬ ‫املجلة األمريكية لعلم األحياء‬ ‫مقدمة المترجم‬


‫هوارد وقسم األنثروبولوجيا‬ ‫البشري ‪The American‬‬
‫يف معهد سميثسونيان‪.‬‬ ‫‪Journal of Human‬‬ ‫ترجمة لدراسة‬
‫هذه‬

‫كما أنه عضو يف األكاديمية‬ ‫‪ Biology‬عام ‪. 2005‬‬


‫(*)‬ ‫عنوانها «التفسير‬
‫األمريكية للطب وطب‬ ‫ومؤلف هذه الدراسة هو‬ ‫التاريخي‬
‫األسنان التنموي‪ ،‬والجمعية‬ ‫الدكتور شوماركا عمر‬ ‫ألشكال تنوع‬
‫األمريكية لتقدم العلوم‬ ‫يحيى كيتا‪ ،‬الطبيب وعامل‬ ‫التركيب الوراثي‬
‫‪ ،AAAS‬والرابطة األمريكية‬ ‫األنثروبولوجيا الحيوية‬ ‫‪p49a,f TaqI RFLP‬‬
‫لألنثروبولوجيا ‪،AAA‬‬ ‫والثقافية األمريكي من أصل‬ ‫للكروموسوم ‪ Y‬يف مصر‪:‬‬
‫والجمعية األمريكية لعلماء‬ ‫أفريقي‪ .‬شوماركا كيتا هو‬ ‫دراسة استقصائية ألدلة‬
‫األنثروبولوجيا الفيزيائية‪،‬‬ ‫عضو يف املركز الوطني‬ ‫متعددة»‪ ،‬التي ن ِ‬
‫ُش َرت يف‬
‫‪113‬‬
‫حول العالم‬

‫كل ذلك‪ .‬باختصار‪ ،‬كانت‬ ‫والجمعية امللكية األفريقية‪،‬‬


‫مصرية»(**)‪ .‬وفيما ييل نص‬ ‫وغيرها من املنظمات‬
‫الدراسة املترجمة‪:‬‬ ‫العاملية األخرى‪ .‬ترتكز‬
‫اهتمامات «كيتا» وأبحاثه‬
‫المستخلص‬ ‫عىل التنوع البيولوجي‬
‫البشري ومناقشة املفاهيم‬
‫قامت هذه الدراسة بفحص‬ ‫الخاطئة حول «العرق»‬
‫ودراسة العوامل املحتملة‬ ‫والتنوع البشري عىل أساس‬
‫التي أثرت يف التنوع املكاني‬ ‫«العرق»‪ ،‬باإلضافة إىل‬
‫للتركيب الوراثي ‪p49a,f‬‬ ‫دراسة علم الوراثة واللغة‬
‫‪ TaqI‬للكروموسوم ‪ Y‬يف‬ ‫واألنثروبولوجيا يف شعوب‬
‫مصر‪ .‬وقد هدفت هذه‬ ‫شوماركا كيتا‬ ‫أفريقيا األصلية‪ ،‬مثل‬
‫الدراسة إىل النظر يف‬ ‫أصول املصريين واألمازيغ‬
‫تفسيرات تلك النتائج التي‬ ‫الوراثية والحمض النووي‬
‫والسودانيين وغيرهم‪.‬‬
‫تؤكد عىل التدفق الجيني‬ ‫للمصريين‪ ،‬وتباينت النتائج‬
‫وتعد هذه الدراسة إحدى‬
‫عبر الحمالت العسكرية‬ ‫أيضا؛ منها ما أكد أن القدماء‬
‫ً‬ ‫املحاوالت لإلجابة عىل‬
‫داخل ممر النيل خالل عصر‬ ‫املصريين أقرب إىل سكان‬ ‫السؤال الذي أثار الكثير من‬
‫األسرات‪ .‬ولقد افترض أن‬ ‫منطقة البحر املتوسط‪ ،‬بينما‬ ‫الجدل يف أوساط العلماء‬
‫األنماط الحالية للمتغيرات‬ ‫أكدت دراسات أخرى أن‬ ‫والباحثين منذ أوائل القرن‬
‫األكثر شيو ًعا ‪ V‬و‪ XI‬و‬ ‫املصريين ينحدرون من‬ ‫التاسع عشر وحتى اآلن‪،‬‬
‫ً‬
‫ارتباطا رئيسيًّا‬ ‫‪ IV‬مرتبطة‬ ‫أصول أفريقية‪ ،‬وأكدت‬ ‫أال وهو‪ :‬من أين انحدر‬
‫باإلجراءات السياسية للمملكة‬ ‫مجموعة ثالثة أن املصريين‬ ‫املصريون القدماء؟ فعىل مدار‬
‫الوسطى واململكة الحديثة يف‬ ‫القدماء كانوا خلي ًطا من‬ ‫أكثر من قرنين‪ ،‬اشتعلت‬
‫النوبة‪ ،‬بما يف ذلك االستعمار‬ ‫عدة أجناس؛ مما يصل بنا‬ ‫الخالفات حول األصول‬
‫االستيطاني من حين آلخر‪،‬‬ ‫إىل نتيجة مفادها أن مصر‬ ‫العرقية للقدماء املصريين‪،‬‬
‫وغزو مصر من قبل مملكة‬ ‫هي جزء من األمة العربية‪،‬‬ ‫للوقوف عىل أصل بناة‬
‫كوش (يف النوبة العليا‬ ‫وجزء من العامل اإلسالمي‪،‬‬ ‫هذه الحضارة العريقة‪.‬‬
‫وشمال السودان)‪ ،‬التي نتج‬ ‫تنتمي لقارة أفريقيا وال غنى‬ ‫وال تزال األسئلة مطروحة‬
‫عنها بداية األسرة الخامسة‬ ‫لها عن امتدادها األسيوي‪.‬‬ ‫حتى اآلن‪ :‬هل املصريين‬
‫والعشرين‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن‬ ‫وهذا ما لخصته العاملة‬ ‫القدماء «بيض» أم «سود»؟‬
‫توليفة األدلة املأخوذة‬ ‫األمريكية املتخصصة يف علم‬ ‫هل هم من نسل «حام» أم‬
‫من علم اآلثار‪ ،‬واللغويات‬ ‫املصريات‪ ،‬باربرا ميرتس‪،‬‬ ‫«سام»‪ ،‬ولدي النبي نوح‬
‫التاريخية‪ ،‬والنصوص‪،‬‬ ‫يف كتابها «األرض الحمراء‪،‬‬ ‫عليه السالم؟ هل هم أقرب‬
‫وتوزيع األنماط الفردانية‬ ‫األرض السوداء‪ :‬الحياة‬ ‫لسكان منطقة البحر املتوسط‬
‫الجينية خارج مصر‪ ،‬وبعض‬ ‫اليومية يف مصر القديمة»‪:‬‬ ‫أم لسكان أفريقيا؟ ومع‬
‫االعتبارات الديموغرافية‪،‬‬ ‫«مل تكن الحضارة املصرية‬ ‫التطورات الهائلة يف مجايل‬
‫دعما أكبر لترسيخ‬ ‫تقدم ً‬ ‫متوسطية أو أفريقية‪،‬‬ ‫علم الوراثة والتحليل الجيني‪،‬‬
‫التوزيعات املرصودة‬ ‫سامية أو حامية‪ ،‬سوداء أو‬ ‫تعددت الدراسات التي‬
‫لألنماط الفردانية الجينية‬ ‫بيضاء‪ ،‬بل كانت خلي ًطا من‬ ‫تعتمد عىل تحليل الخصائص‬
‫‪114‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫لقد أجرى لوكوت وميرسييه‬ ‫موضو ًعا رئيسيًّا يف العديد‬ ‫انتشارا‬


‫ً‬ ‫‪ V‬و‪ XI‬و‪ IV‬األكثر‬
‫‪Lucotte and Mercier‬‬ ‫من الدراسات األخيرة‪ .‬إن‬ ‫قبل عصر الدولة الوسطى‪.‬‬
‫(‪ )2003a‬دراسة‪،‬‬ ‫استخدام األدلة التاريخية‪،‬‬ ‫ويفترض أن نمط التنوع‬ ‫ُ‬
‫مستخدمين البيانات‬ ‫بما فيها نماذج األدلة القائمة‬ ‫لهذه املتغيرات يف وادي‬
‫التاريخية لتفسير النمط‬ ‫عىل الوقائع التاريخية‪،‬‬ ‫النيل املصري كان إىل حد‬
‫الجيني يف الفضاء الخطي‬ ‫لشرح الشكل الحايل للتنوع‬ ‫كبير نتاج األحداث السكانية‬
‫لوادي النيل‪ .‬وافترض‬ ‫الجيني يعني النظر يف عدة‬ ‫التي حدثت يف أواخر العصر‬
‫الباحثان أنه من املرجح‬ ‫سيناريوهات بديلة‪ ،‬وبالتايل‬ ‫الجليدي (البليستوسيني)‬
‫أن يكون تباين الصفات‬ ‫تقديم تفسيرات مختلفة‪.‬‬ ‫إىل منتصف العصر الحديث‬
‫الوراثية ثنائي االتجاه‬ ‫ومن املرجح أن إهمال‬ ‫[الهولوسيني] خالل حكم‬
‫بين شمال مصر وجنوبها‬ ‫استخدام منهج استدالل‬ ‫األسرة األوىل‪ ،‬واستمر‬
‫لألنماط الفرادانية ‪ V‬و ‪XI‬‬ ‫قوي‪ ،‬أي عدم التفكير يف‬ ‫من خالل الهجرات ثنائية‬
‫و ‪ IV‬لتعدد أشكال أطوال‬ ‫فرضيات بديلة‪ ،‬سوف يؤدي‬ ‫االتجاه واألحداث البينية‬
‫الشدفة الحصرية (‪)RFLP‬‬ ‫إىل إضعاف برنامج البحث‪.‬‬ ‫املستمرة عىل نطاق أصغر‪.‬‬
‫للتركيب الوراثي (‪p49a,f‬‬ ‫ال يرتبط تقديم تفسيرات‬ ‫يجب أن يؤخذ يف االعتبار‬
‫‪ )TaqI‬يف الكروموسوم ‪Y‬‬ ‫تاريخية كمحور اهتمام‬ ‫التكرار األعىل للمتغير (‪)V‬‬
‫(كما هو موضح يف الجدول‬ ‫رئيسي باألنثروبولوجيا‬ ‫يف أثيوبيا عنه يف النوبة أو‬
‫ً‬
‫ارتباطا أساسيًّا‬ ‫‪« )1‬مرتب ًطا»‬ ‫الحيوية الحالية‪ ،‬والتي عاد ًة‬ ‫مصر العليا (جنوب مصر)‬
‫بحمالت عسكرية محددة‬ ‫ما تقوم بدراسة املجموعات‬ ‫يف أي مناقشة بشأن التنوع‬
‫حدثت خالل عصر اململكة‬ ‫السكانية وفحصها بواسطة‬ ‫البيولوجي يف وادي النيل‪.‬‬
‫الوسطى وما بعدها‪ ،‬وذلك‬ ‫اختبار الفرضيات اإلحصائية‬
‫أيضا كرينجز‬ ‫ما افترضه ً‬ ‫لتقييم أوجه التباين والتشابه‬ ‫متن الدراسة‬
‫وآخرون ‪.Krings et al‬‬ ‫السكانية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن‬ ‫لقد استخدم علماء‬
‫(‪ )1999‬حول متغيرات‬ ‫العديد من التفسيرات املقدمة‬ ‫األنثروبولوجيا الحيوية‬
‫الحمض النووي للميتوكندريا‬ ‫يف علم األحياء السكاني‬ ‫وعلماء الوراثة باستمرار إما‬
‫(‪ .)mtDNA‬كان الحدثان‬ ‫لنتائج جينية معينة تتضمن‬ ‫«التاريخ» أو ما يمكن تسميته‬
‫ِض‬
‫التاريخيان اللذان اف ُتر َ‬ ‫إىل حد كبير كتابة شكل من‬ ‫التخصصات التاريخية (عىل‬
‫أنهما السبب يف حدوث‬ ‫أشكال السرد التاريخي‪.‬‬ ‫سبيل املثال‪ ،‬علم اآلثار وعلم‬
‫اللغويات التاريخية‬
‫الجدول رقم (‪ :)1‬ملخص األنماط الفردانية للتركيب الوراثي (‪p49a,f TaqI‬‬ ‫وعلم املناخ) للمساعدة‬
‫‪ )RFLP‬للكروموسوم ‪ Y‬األكثر شيو ًعا يف املناطق املصرية(‪:)1‬‬ ‫يف تفسير أنماط التباين‬
‫األنماط الفردانية ونسبتها املئوية‬ ‫املنطقة (عدد العينات)‬ ‫الجيني السكاني‪ ،‬أو‬
‫‪XV‬‬ ‫‪XI‬‬ ‫‪VIII‬‬ ‫‪VII‬‬ ‫‪XI‬‬ ‫‪V‬‬ ‫‪IV‬‬ ‫حتى تعهدوا بـ»تدوين»‬
‫‪6,8‬‬ ‫‪3,7‬‬ ‫‪10,5‬‬ ‫‪8,6 11,7 51,9 1,2‬‬ ‫شمال مصر (‪)162‬‬ ‫شكل من أشكال‬
‫‪6,1‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪3,0‬‬ ‫جنوب مصر (‪4,6 28,8 24,2 27,3 )66‬‬ ‫التاريخ باستخدام‬
‫البيانات البيولوجية‬
‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪2,2‬‬ ‫النوبة السفىل (‪2,2 30,4 17,4 39,1 )46‬‬
‫دليل رئيسيًّا‪.‬‬‫بوصفها ً‬
‫‪.)2002( From Lucotte and Mercier -1‬‬ ‫أيضا‬
‫وكانت الهجرة ً‬
‫‪115‬‬
‫حول العالم‬

‫قصص سردية بديلة تفسر‬ ‫الباحثان لوكوت وميرسييه‬ ‫التباين يف الصفات الوراثية‬
‫البيانات املتاحة كما هي‬ ‫(‪ .)2003a‬سوف يتم فحص‬ ‫األبوية لهذه املتغيرات بين‬
‫مفهومة حاليًا‪.‬‬ ‫هذه املسألة بثالث طرق‪)1 :‬‬ ‫سكان شمال مصر وجنوبها‬
‫فحص التسميات املستخدمة‬ ‫هما‪ )1 :‬الحمالت العسكرية‬
‫النمط الفرداني‪:‬‬ ‫لوصف األنماط الفردانية‪،‬‬ ‫املصرية ضد النوبة السفىل‬
‫انتماءاته وتسمياته‬ ‫والتي قد تستخدم لإلشارة‬ ‫أو استعمارها أو كليهما‬
‫إىل أصولها الجغرافية أو‬ ‫خالل حكم اململكتين‬
‫وتوزيعاته‬ ‫العرقية؛ و‪ )2‬النظر يف‬ ‫الوسطى والحديثة ً‬
‫(أول‪،‬‬
‫تنتقل األنماط الفردانية‬ ‫مجموعة من األدلة ذات‬ ‫األسرة الثانية عشرة‪ ،‬التي‬
‫للتعدد الشكيل ‪TaqI‬‬ ‫الصلة بفهم التباين املكاني‬ ‫امتد حكمها تقريبًا يف الفترة‬
‫للكروموسوم ‪ ،Y‬املحددة‬ ‫املحتمل للنمط الفرداني يف‬ ‫من ‪ 1991‬إىل ‪ 1785‬ق‪.‬م‪،.‬‬
‫وادي النيل قبل عصر اململكة‬ ‫واألسرة الثامنة عشرة‪ ،‬التي‬
‫باألرقام الالتينية‪ ،‬وراثيًّا‬
‫الوسطى؛ و‪ )3‬دمج األدلة‬ ‫بدأ حكمها حوايل عام ‪1490‬‬
‫من خالل الذكور فقط‪،‬‬
‫من األنواع األخرى لواسمات‬ ‫ق‪.‬م‪ .‬عىل التوايل)؛ و‪ )2‬الغزو‬
‫وليس من املعلوم أو املعتقد‬
‫الكروموسوم ‪ ،Y‬وتحدي ًدا‬ ‫الكوشي ملصر‪ ،‬الذي نتج‬
‫حتى اآلن تأثرها بالعالقة‬
‫تلك التي تحدد األنساب‬ ‫عنه نشأة األسرة الخامسة‬
‫مع الكروموسوم ‪ .X‬تُعرف‬
‫بواسطة الواسمات مزدوجة‬ ‫والعشرين (امتد حكمها‬
‫هذه املتغيرات بتعدد أشكال‬
‫األليلية (‪Hammer and‬‬ ‫تقريبًا بين عامي ‪ 730‬إىل‬
‫أطوال الشدفة الحصرية‬
‫‪ .)2002 ,Zegura‬إن طريقة‬ ‫‪ 655‬ق‪.‬م‪.).‬‬
‫املوجودة عىل الجزء غير‬
‫جمع العينات الجديرة بالثناء‬ ‫ووصفت نتائج الهجرات‬
‫املتحد من الكروموسوم ‪.Y‬‬ ‫التي استخدمها لوكوت‬ ‫بأنها ذات معدل تكرار‬
‫وقد ُح ِّد َد تعدد أشكال أطوال‬ ‫وميرسييه (‪ )2003a‬تجعل‬ ‫منخفض فيما يتعلق‬
‫الشدفة الحصرية بواسطة‬ ‫هذا العرض ممكنًا‪ .‬وسوف‬ ‫باملتغيرات األخرى املكتشفة؛‬
‫االختبار الدقيق املوصوف‬ ‫نناقش هنا كيف أن األحداث‬ ‫وارتبط وجود النمطين‬
‫يف دراسة انجو وآخرون‪.‬‬ ‫العسكرية املحددة التي‬ ‫الفردانيين ‪ XII‬و ‪ XV‬يف‬
‫‪ .)1986( Ngo et al‬ولقد‬ ‫ذكرها لوكوت وميرسييه‬ ‫مصر‪ ،‬اللذين ُوج َدت أعىل‬
‫ظهرت بعض األنماط الفردية‬ ‫(‪ )2003a‬قد ساهمت يف‬ ‫تكرارات لهما يف أوروبا‬
‫للتعدد الشكيل ‪ TaqI‬أكثر من‬ ‫ظهور األنماط األساسية‬ ‫(‪,Lucotte and Loirat‬‬
‫مرة‪ ،‬وبالتايل قد تكون هناك‬ ‫املرصودة‪ ،‬ولكنها مل تكن‬ ‫‪ ،)1999‬بالعالقات املتداخلة‬
‫حاجة إىل معلومات أخرى‬ ‫األسباب الوحيدة أو حتى‬ ‫خالل فترات الحقة‪.‬‬
‫من أجل الفهم التام للعالقات‬ ‫األسباب الرئيسية لظهورها‪.‬‬ ‫تهدف هذه الورقة البحثية إىل‬
‫السكانية‪.‬‬ ‫أيضا يف‬
‫كما سيتم النظر ً‬ ‫توسيع دائرة املناقشة حول‬
‫ُيقترح أن يكون انتشار‬ ‫األدلة املأخوذة من اللغويات‬ ‫أسباب األنماط املرصودة‬
‫النمط الفرداني والتنوع يف‬ ‫التاريخية وعلم اآلثار‬ ‫يف مصر للمتغيرات األكثر‬
‫املناطق القريبة من مصر‪،‬‬ ‫وعلم الوراثة‪ .‬وسيكون‬ ‫شيو ًعا (‪ V‬و ‪ XI‬و ‪)IV‬‬
‫أو املجموعات العرقية التي‬ ‫املنهج املتبع يف هذه الورقة‬ ‫بالنسبة لتعدد أشكال أطوال‬
‫نشأت فيها عىل مر التاريخ‬ ‫البحثية هو فحص تاريخ‬ ‫الشدفة الحصرية (‪)RFLP‬‬
‫أو كليهما م ًعا‪ ،‬عوامل مفيدة‬ ‫مصر القديمة من وجهات‬ ‫للتركيب الوراثي (‪p49a,f‬‬
‫يف تقييم اتجاهات التدفق‬ ‫نظر متعددة من أجل وضع‬ ‫‪ )TaqI‬كما توصل لها‬
‫‪116‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الجدول رقم (‪2‬أ)‪ :‬تكرارات األنماط الفردانية للتركيب الوراثي (‪ )p49a,f TaqI‬للكروموسوم ‪Y‬‬ ‫الجيني (‪Lucotte and‬‬
‫يف بلدان مختارة من أفريقيا والشرق األدنى‪ ،‬وف ًقا للبيانات الواردة يف دراسات منشورة‪:‬‬ ‫‪ .)2003a, b ,Mercier‬هذا‬
‫ألنه ُيفترض‬
‫األنماط الفردانية ونسبتها املئوية‬ ‫عموما أن مكان‬
‫البلد (العدد)‬ ‫ً‬
‫‪XV‬‬ ‫‪XII‬‬ ‫‪VIII‬‬ ‫‪VII‬‬ ‫‪XI‬‬ ‫‪V‬‬ ‫‪IV‬‬ ‫تواجد التكرار‬
‫‪5,5 2,2‬‬ ‫‪7,3‬‬ ‫‪6,6‬‬ ‫‪18,9‬‬ ‫‪39,4 13,9‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مصر (‪)274‬‬ ‫األعىل يف السمات‬
‫‪1,9‬‬ ‫‪5,6‬‬ ‫‪31,5 20,4‬‬ ‫‪7,4‬‬ ‫‪16,7‬‬ ‫‪3,7‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫لبنان (‪)54‬‬
‫الوراثية هو‬
‫‪4,3‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪46,4‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪5,8‬‬ ‫‪15,9‬‬ ‫‪1,4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫فلسطين (‪)69‬‬
‫املصدر املحتمل‬
‫‪0,7‬‬ ‫‪1,4‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪20,1 )3(6,4‬‬ ‫‪7,2‬‬ ‫‪1,4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫العراق (‪)139‬‬
‫لها‪ ،‬عىل الرغم‬
‫‪1,9‬‬ ‫‪3,8‬‬ ‫‪7,7‬‬ ‫‪9,6‬‬ ‫‪21,2‬‬ ‫‪40,4‬‬ ‫‪7,7‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مصر (‪)52‬‬
‫من أن هذ‬
‫‪0‬‬ ‫‪13,2‬‬ ‫‪5,3‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪10,5‬‬ ‫‪44,7‬‬ ‫‪7,9‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫ليبيا (‪)38‬‬
‫الفرضية ليست‬
‫‪5‬‬ ‫‪4,2‬‬ ‫‪7,1‬‬ ‫‪1,4‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪56,7‬‬ ‫‪8,5‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫الجزائر (‪)141‬‬
‫‪2,7‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪2,7‬‬ ‫‪4,1‬‬ ‫‪5,5‬‬ ‫‪53,4‬‬ ‫‪0‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫تونس (‪)73‬‬
‫دائما‪.‬‬
‫صحيحة ً‬
‫‪10,8 0,98‬‬ ‫‪7,8‬‬ ‫‪4,9‬‬ ‫‪8,8‬‬ ‫‪57,8 0,98‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫املغرب (‪)102‬‬
‫إال أنه ال يسعنا‬
‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪8‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫موريتانيا (‪)25‬‬ ‫املبالغة يف تقدير‬
‫‪4,2‬‬ ‫‪7,1‬‬ ‫‪6,3‬‬ ‫‪3,2‬‬ ‫‪7,7‬‬ ‫‪55‬‬ ‫شمال الصحراء الكبرى (مجمعة) (‪4,4 )4()505‬‬ ‫أهمية استخدام‬
‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪16,9‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪26,1‬‬ ‫‪45,8‬‬ ‫‪0‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫إثيوبيا (مجمعة) (‪)142‬‬ ‫خطوط مختلفة‬
‫من األدلة‪ ،‬بما‬
‫يف ذلك البيانات‬
‫الجدول رقم (‪2‬ب)‪ :‬تكرارات األنماط الفردانية للتركيب الوراثي (‪ )p49a,f TaqI‬للكروموسوم ‪ Y‬من مجموعات سكانية أكثر تقيي ًدا يف‬ ‫السكانية املقارنة‬
‫مناطق القرن األفريقي واملدن األفريقية يف شمال الصحراء الكبرى والشرق األدنى‪ ،‬وف ًقا للبيانات الواردة يف دراسات منشورة‪:‬‬ ‫عند توفرها‪ .‬وتم‬
‫األنماط الفردانية ونسبتها املئوية‬ ‫تجميع وحساب‬
‫‪XV‬‬ ‫‪XII‬‬ ‫‪VIII‬‬ ‫‪VII‬‬ ‫‪XI‬‬ ‫‪V‬‬ ‫‪IV‬‬ ‫املجموعات السكانية (عدد‬ ‫معدل تكرار‬
‫العينات)‬ ‫النمط الفرداني‬
‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪26,3‬‬ ‫‪60,5‬‬ ‫‪0‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫جماعة الفالشا (‪)38‬‬ ‫من الدراسات‬
‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪23,1‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪25,9‬‬ ‫‪40,4 20‬‬ ‫أثيوبيون‪ ،‬غير جماعة الفالشا‬
‫(‪)5‬‬
‫(‪)104‬‬
‫السابقة يف‬
‫‪0‬‬ ‫‪4,1 6,8‬‬ ‫‪1,4‬‬ ‫‪2,8‬‬ ‫‪68,9 1,4‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫األمازيغ (املغرب) (‪)74‬‬ ‫الجداول (‪)1‬‬
‫‪2,1 4,2 34,1 19,9‬‬ ‫‪6,8‬‬ ‫‪18,6 8,4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫يهود «السفارديم» (‪)381‬‬ ‫و(‪2‬أ) و(‪2‬ب)‪.‬‬
‫‪1,8‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪78,6‬‬ ‫‪7,1‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪8,9‬‬ ‫‪1,8‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫اليهود «الشرقيون» (‪)56‬‬ ‫وتُشكل هذه‬
‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪85,1‬‬ ‫‪7,4‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪7,4‬‬ ‫‪0‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫يهود «الشرق األدنى» (‪)27‬‬ ‫البيانات املجمعة‬
‫‪10,9‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪24,6 22,7 )7(15,2‬‬ ‫‪3,1‬‬ ‫‪0‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫يهود األشكناز (‪)256‬‬ ‫حجر األساس‬
‫لهذه الورقة‬
‫‪.)2002a( From Lucotte and Mercier -1‬‬
‫‪.)2003b( Lucotte and Mercier -2‬‬
‫البحثية‪.‬‬
‫‪;)2003( .al-Zahery et al -3‬‬ ‫إن املتغيرات‬
‫تم توثيق النمط الفرداني ‪ XI‬هنا من أليلين مزدوجين‬ ‫األكثر شيو ًعا‬
‫‪.)2000( .Lucotte et al -4‬‬ ‫التي تم‬
‫‪.)1999( Lucotte and Smets -5‬‬ ‫اكتشافها يف‬
‫‪.)1996( .Lucotte et al -6‬‬
‫‪ -7‬عادة ما يكون النمط الفرداني ‪ XI‬يف املجموعات املمزوجة مع األوروبيين الشماليين منتميًا‬
‫دراسات مختلفة‬
‫للمجموعة الفردانية ‪R1‬؛ ويف أفريقيا‪ ،‬عاد ًة ما يرتبط بـاملجموعة الفردانية ‪,.al-Zahery et al( E‬‬ ‫أجريت عن‬
‫‪.)2003‬‬ ‫مصر مجتمعة‬
‫‪117‬‬
‫حول العالم‬

‫‪ .)1999 ,and Smets‬هذا‬ ‫معدل انتشار له حتى اآلن‬ ‫ومرتبة تنازليًّا بحسب عدد‬
‫يتناقض مع فكرة كونهم‬ ‫يف نتائج عينات مأخوذة‬ ‫التكرارات هي‪ V :‬و‪ XI‬و‬
‫منحدرين من نسل ذكور‬ ‫من مجموعات سكانية‬ ‫‪ IV‬و‪ VII‬و‪ VIII‬و‪ XV‬و‪XII‬‬
‫من يهود الشرق األدنى‬ ‫محددة‪ ،‬أال وهي‪ :‬جماعة‬ ‫(كما هو موضح يف الجدول‬
‫املهاجرين‪.‬‬ ‫الفالشا األثيوبية (‪)٪60,5‬‬ ‫‪2‬أ)‪ .‬ينخفض تكرار النمط‬
‫بالنظر إىل هذه النتائج‪،‬‬ ‫واألمازيغ املغربيون‬ ‫الفرداني ‪ ،V‬الذي أطلق عليه‬
‫فمن األكثر دقة تسمية‬ ‫(‪ .)٪68,9‬بينما كان تكرار‬ ‫لوكوت وميرسييه (‪)2003a‬‬
‫النمط الفرداني ‪ V‬بـ»القرن‬ ‫النمط الفرداني ‪ V‬أقل بكثير‬ ‫الصفة «عربي»‪ ،‬من مصر‬
‫األفريقي وشمال الصحراء‬ ‫يف الشرق األدنى‪ ،‬وينخفض‬ ‫السفىل (شمال مصر) إىل‬
‫الكبرى» (أو ببساطة‬ ‫كلما اتجهنا من الغرب (لبنان‬ ‫النوبة السفىل (أقصى جنوب‬
‫األفريقي)‪ ،‬وليس «العربي»؛‬ ‫‪ )٪16,7‬نحو الشرق (العراق‬ ‫مصر)‪ ،‬وهكذا هو الحال‬
‫ألنه متأصل يف السكان‬ ‫‪( )٪7,2‬كما هو موضح يف‬ ‫أيضا بالنسبة للمتغيرات‬
‫ً‬
‫األصليين ألفريقيا‪ .‬بينما‬ ‫الجدول ‪ 2‬أ)‪ .‬وبناء عىل ذلك‪،‬‬ ‫‪ VII‬و‪ VIII‬و‪ XV‬و‪XII‬‬
‫قدم املتحدثون األوائل للغة‬ ‫تعتبر إطالق تسمية «عربي»‬ ‫ونظرا للطبيعة‬
‫ً‬ ‫(الجدول ‪.)1‬‬
‫العربية‪ ،‬وهي لغة سامية‪،‬‬ ‫عىل النمط الفرداني ‪ V‬مضللة‬ ‫التاريخية لدراسة لوكوت‬
‫إىل أفريقيا من الشرق‬ ‫وغير دقيقة‪ ،‬ألنها تشير‬ ‫وميرسييه (‪،)2003a‬‬
‫األدنى‪ .‬وباستخدام املنطق‬ ‫إىل أصل خارج أفريقيا ال‬ ‫يشير مصطلح «عربي» إىل‬
‫نفسه املُ َطبَّق عىل جماعة‬ ‫تدعمه األدلة‪ .‬يف الواقع‪ ،‬أُطلق‬ ‫أصل جنوب غربي أسيوي‬
‫الفالشا‪ ،‬فإن األفارقة‬ ‫لوكوت وآخرون (‪،1993‬‬ ‫للمتغير ‪ .V‬يف املقابل‪ ،‬سجل‬
‫الذين يعيشون يف شمال‬ ‫ص‪869‬؛ ‪ ،1996‬ص‪)469‬‬ ‫النمطان الفردانيين ‪ XI‬و‪،IV‬‬
‫الصحراء الكبرى هم يف املقام‬ ‫عىل هذا املتغير تسمية بديلة‬ ‫اللذان يشيران إىل الصفة‬
‫األول من املتحدثين باللغة‬ ‫هي «أفريقي»‪ ،‬ويف دراسة‬ ‫«الجنوبي»‪ ،‬والنمط ‪ IV‬الذي‬
‫العربية بسبب تحول اللغة‪،‬‬ ‫أخرى أسموه «أمازيغي»‬ ‫يشير إىل التصنيف «جنوب‬
‫ال االستعمار االستيطاني‪،‬‬ ‫(‪,2001 ,.Lucotte et al‬‬ ‫الصحراء الكبرى››‪ ،‬أقل‬
‫حيث إن التكرارات العالية‬ ‫‪ .)887 .p‬واألمر الالفت‬ ‫تكرارات لها يف شمال مصر‪،‬‬
‫للنمطين ‪ VII‬و‪ VIII‬تميز‬ ‫للنظر أن هؤالء الباحثين‬ ‫ولكنها تزداد يف جنوب مصر‬
‫بشكل جماعي الشعوب‬ ‫أنفسهم ورفاقهم جادلوا‬ ‫والنوبة السفىل؛ وال توجد أية‬
‫األصلية الناطقة بالعربية يف‬ ‫نظرا ألن‬
‫بطريقة مقنعة أنه ً‬ ‫فروق ذات داللة إحصائية‬
‫الشرق األدنى‪ ،‬وكذلك اليهود‬ ‫جماعة الفالشا («اليهود‬ ‫يف التكرارات بين املنطقتين‬
‫(الجدول ‪ 2‬أ‪ ،‬ب) (‪Lucotte‬‬ ‫السود» يف إثيوبيا) لديهم‬ ‫األخيرتين لألنماط الفردانية‬
‫‪2003b; ,and Mercier‬‬ ‫معدل تكرار عا ٍل من األنماط‬ ‫موضع الدراسة (‪Lucotte‬‬
‫‪;2003 ,.al-Zahery et al‬‬ ‫الفردانية ‪ V‬و ‪ XI‬ومل يتم‬ ‫‪.)2003a ,and Mercier‬‬
‫‪,1993 ,.Lucotte et al‬‬ ‫العثور (حتى اآلن) عىل أي‬ ‫لقد ُعثِ َر عىل تكرارات مرتفعة‬
‫‪Santichiara- ;1996‬‬ ‫تكرارات للنمطين ‪ VII‬و‪،VIII‬‬ ‫للغاية للنمط الفرداني ‪V‬‬
‫‪,.Benerecetti et al‬‬ ‫فإن هذا ُي ْظهِر أنهم «بكل‬ ‫يف بلدان شمال الصحراء‬
‫‪ .)1993‬ولذلك‪ ،‬من املهم‬ ‫وضوح من أصل أفريقي»‪،‬‬ ‫الكبرى وموريتانيا (بمتوسط‬
‫تحديد األصل الجغرايف‬ ‫وأنهم قد اعتنقوا اليهودية‬ ‫جماعي ‪ )٪55‬ويف إثيوبيا‬
‫الحيوي للنمط الفرداني ‪V‬‬ ‫(‪,Lucotte and Mercier‬‬ ‫(متوسط ‪ ٪45,8‬للمجموعات‬
‫للسكان خالل هذه املناقشة‪.‬‬ ‫‪Lucotte ;669 .2003b, p‬‬ ‫املذكورة)‪ .‬وظهر أعىل‬
‫‪118‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الفرعية ذات التكرار العاىل‪،‬‬ ‫ويوجد املزيد من األدلة عىل‬


‫املحددة بواسطة الطفرات‬ ‫يتم تفسير‬ ‫كروموسوم ‪ Y‬من منظور‬
‫‪ M180 /PN1/M2‬يف‬ ‫الجغرافيا العرقية حول‬
‫الدراسات األخرى‬ ‫األصل األفريقي التاريخي‬
‫الدول األفريقية يف جنوب‬
‫الصحراء الكبرى‪ ،‬و‬ ‫على أنها تظهر‬ ‫الحيوي للنمط الفرداني ‪.V‬‬
‫‪ 215/M35‬يف شمال وشرق‬ ‫استمرارية مكانية‬ ‫وعىل الرغم من عدم تقييمها‬
‫أفريقيا (‪,.Underhill et al‬‬ ‫يف دراسة لوكوت وميرسييه‬
‫في وجود السكان‬
‫‪see also ;50 .p ,2001‬‬ ‫(‪ )2003a‬لسوء الحظ‪،‬‬
‫المصريين األحياء‬ ‫إال أن العالمات األليلية‬
‫‪.)2002 ,.Cruciani et al‬‬
‫ومن األهمية بمكان أن‬ ‫مع سكان الشرق‬ ‫املزدوجة تحدد الفروع‬
‫يشير الكالد أو العائلة ‪PN2‬‬ ‫األدنى‪ ،‬وهو أمر‬ ‫الحيوية [أو «الكالد» وتعني‬
‫إىل أن العديد من السكان‬ ‫ساللة وحيدة األصل]‬
‫مستغربا‪،‬‬
‫ً‬ ‫لم يكن‬
‫األفارقة الذين لديهم بنية‬ ‫(‪,Hammer and Zegura‬‬
‫ولكن هذا على ما‬ ‫‪ )2002‬التي قد ترتبط مع‬
‫بيولوجية متنوعة (تشمل‪:‬‬
‫ألوان البشرة‪ ،‬وشكل الوجه‪،‬‬ ‫يبدو بسبب التدفق‬ ‫املتغيرات للتركيب الوراثي‬
‫وبنية الجسم‪ ،‬وشكل الشعر)‬ ‫الجيني إلى السكان‬ ‫‪( TaqI p49a, f‬عىل سبيل‬
‫قديما‬ ‫ً‬
‫أصل أبو ًّيا‬ ‫يتشاركون‬ ‫املثال‪,.al-Zahery et al،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مسبقا‬ ‫الموجودين‬ ‫‪Semino, personal ;2003‬‬
‫مشتر ًكا مع بعضهم البعض‪،‬‬
‫في وادي النيل‪،‬‬ ‫‪.)communication‬‬
‫قبل أن يتشاركوا النسب‬
‫مع مجموعات من مناطق‬ ‫وليس االستعمار‬ ‫ويتم إيجاد هذه العالمات‬
‫يف الجزء غير املتحد من‬
‫أخرى أكثر تشاب ًها مع‬ ‫االستيطاني‬
‫الكروموسوم ‪ ،Y‬وتنتقل‬
‫بعضهم البعض من الناحية‬ ‫للسكان المصريين‬ ‫وراثيًّا عبر سالالت الذكور‪.‬‬
‫التشريحية‪.‬‬
‫البدائيين من آسيا‬ ‫ويرتبط النمط الفرداني ‪V‬‬
‫تتداخل جغرافية هذه‬
‫الصغرى!‬ ‫مع الفئة ‪( 215/M35‬أو‬
‫األنماط الفردانية والسالالت‬
‫‪ ،)M35 /215‬مثلما هو‬
‫املرتبطة بها بشكل ملحوظ‬
‫الحال مع النمط الفرداني‬
‫مع التوزيعات املكانية للغات‬
‫‪( XI‬يف أفريقيا)‪ ،‬كما يرتبط‬
‫معينة‪ ،‬ومن املفترض أن‬
‫النمط الفرداني ‪ IV‬مع الفئة‬
‫يكون لهذا التداخل تضمينات‬
‫‪ ،M180/PN1/M2‬وكالهما‬
‫عىل أنماط تباين ‪ Y‬يف وادي‬ ‫ينتميان إىل الساللة ‪YAP/‬‬
‫النيل املصري‪ .‬وقد ترتبط‬ ‫‪/M145YAP/ M145‬‬
‫بيانات النمطين الفردانيين ‪V‬‬ ‫‪ .M213‬إن هذه السالالت‬
‫و‪ XI‬بالنطاق املكاني للشعبة‬ ‫التي تُدرج يف أفريقيا ضمن‬
‫اللغوية األفروآسيوية‪،‬‬ ‫األنماط الفردانية ‪ V‬و ‪ XI‬و‬
‫والتي يشير التفسير الحذر‬ ‫‪ IV‬ارتبطت سو ًّيا بواسطة‬
‫لألدلة إىل ترجيح نشأتها‬ ‫طفرة انتقالية‪« :‬وباألخص‪،‬‬
‫يف أفريقيا ووجود تاريخها‬ ‫إن انتقال املجموعة ‪..PN2‬‬
‫األصيل فيها؛ يف حين يوجد‬ ‫كريستوفر إريت‬ ‫ُي َو ِّحد اثنين من الكالدات‬
‫‪119‬‬
‫حول العالم‬

‫عضو واحد فقط (سامي) يف‬


‫جنوب غرب آسيا (الشرق‬
‫األدنى) (‪;1975 ,Bender‬‬
‫‪,1966 ,Greenberg‬‬
‫‪;1974 ,Fleming ;1973‬‬
‫‪;1998 ,1981 ,Diakonoff‬‬
‫‪,Blench ;1987 ,Ruhlen‬‬
‫‪;1997 ,Nichols ;1993‬‬
‫‪,1995 ,1984 ,Ehret‬‬
‫‪ .)2000‬ويتوافق التفسير‬
‫املكاني والزماني الذي قدمه‬
‫أندرهيل وآخرون (‪،2001‬‬
‫ص‪ )51‬عن الساللة ‪/PN2‬‬
‫‪ M35‬مع النطاق األساسي‬
‫للدول األفروأسيوية (أي‬
‫ً‬
‫شمال إىل‬ ‫من شرق أفريقيا‬
‫فريد ويندورف‬ ‫فرنان بروديل‬ ‫باربرا ميرتس‬ ‫مصر وغر ًبا إىل موريتانيا)‪،‬‬
‫حيث قالوا‪« :‬نحن نقترح‬
‫‪communication‬؛ ومن ُثم‬ ‫املوجود عىل الكالد الفرعي‪،‬‬ ‫أن السكان ذات الكالد‬
‫ال توجد أية مشكلة جغرافية‬ ‫بشكل ملحوظ يف غرب‬ ‫الفرعي للساللة األفريقية‬
‫ووسط أفريقيا‪ ،‬وأفريقيا شبه تتعلق بالقرب من الصحراء‪.‬‬ ‫‪/M213/YAP/M145‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬ظهرت‬ ‫االستوائية لدى املتحدثين‬ ‫‪ PN2‬قد توسعت وانتشرت‬
‫أعىل تكرارات للنمط الفرداني‬ ‫بلغات النيجر والكونغو‬ ‫يف جنوب وشرق البحر‬
‫‪ XI‬يف بالد القرن األفريقي‬ ‫(عائلة اللغات الكردفانية)‪،‬‬ ‫األبيض املتوسط يف نهاية‬
‫ووادي النيل‪ ،‬كما أن له أصل‬ ‫أيضا بمعدل‬
‫كما يوجد ً‬ ‫العصر الجليدي»‪( .‬تشير‬
‫أفريقي يف هذه املنطقة‪ .‬نشأ‬ ‫تكرار ملحوظ يف مجموعة‬ ‫كلمة «جنوب» هنا إىل شمال‬
‫واحدة عىل األقل من متحدثي هذا النمط الفرداني بشكل‬ ‫أيضا‪:‬‬‫أفريقيا)‪ .‬وأضافوا ً‬
‫مستقل عدة مرات يف مناطق‬ ‫اللغات النيلية الصحراوية‪:‬‬ ‫«لقد توسع سكان العصر‬
‫مختلفة‪ ،‬كما اتضح من خالل‬ ‫النوبيون‪ ،‬وبعض الناطقين‬ ‫الحجري املتوسط الذين‬
‫انتمائه إىل سالالت محددة‬ ‫باللغة األفروآسيوية‪،‬‬ ‫يحملون سالالت املجموعة‬
‫بواسطة عالمات أليلية‬ ‫وسكان صعيد مصر‪ ،‬الذين‬ ‫الثالثة مع الطفرة ‪/M35‬‬
‫مزدوجة متباينة (عىل سبيل‬ ‫لديهم فروع محولة لغو ًّيا‬ ‫شمال من جنوب‬ ‫ً‬ ‫‪M215‬‬
‫املثال‪,.al-Zahery et al ،‬‬ ‫إىل اللغات األفروآسيوية‬ ‫الصحراء الكبرى إىل شمال‬
‫‪,.Passarino et al ;2003‬‬ ‫(املصرية القديمة‪ /‬اللغة‬ ‫أفريقيا وبالد املشرق»‬
‫ويعتقد ‪Semino, personal ;2001‬‬ ‫القبطية إىل السامية)‪ُ .‬‬ ‫(‪,2001 ,.Underhill et al‬‬
‫‪.)communication‬‬ ‫أن اللغات الرئيسية الثالث‬ ‫‪see also Bosch ;55 .p‬‬
‫ألفريقيا قد نشأت يف أفريقيا إن أية قراءة نقدية متعمقة‬ ‫‪,Bar-Yosef ;2001 ,.et al‬‬
‫للبيانات املقدمة يف الدراسات‬ ‫فوق االستوائية ‪,Blench‬‬ ‫‪.)1987‬‬
‫املنشورة ستعزز هذه النتائج‬ ‫‪Ehret, personal ;1993‬‬ ‫يوجد النمط الفرداني ‪،IV‬‬
‫‪120‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫املتعلقة بالكروموسوم ‪،Y‬‬


‫عىل الرغم من أن صغر‬
‫العينات يف أغلب األحيان‬
‫وعدم تغطيتها لكل املناطق‪،‬‬
‫وذلك ألسباب مفهومة‬
‫بالتأكيد‪ .‬وتستند املناقشة‬
‫التالية إىل البيانات الواردة‬
‫يف الدراسات ‪Lucotte and‬‬
‫‪Lucotte ;1999 ,Smets‬‬
‫‪2003a,b; ,and Mercier‬‬
‫‪,2000 ,.Lucotte et al‬‬
‫‪Underhill et ;2001‬‬
‫‪Nebel et ;2001 ,.al‬‬
‫‪Manni et ;2002 ,.al‬‬
‫‪,.Luis et al ;2002 ,.al‬‬
‫‪,.Cruciani et al ;2004‬‬
‫‪and Semino et ;2004‬‬
‫‪ .2004 ,2002 ,.al‬ويرتكز‬
‫االهتمام الرئيسي هنا عىل‬
‫تقييم البيانات املقدمة من‬
‫أجل فهم التكرارات األصلية‬
‫املحتملة‪ ،‬أو تلك املوجودة‬
‫يف أعماق زمنية مختلفة‪ ،‬من‬
‫أجل فهم تفسيرات مختلفة‬
‫للتاريخ‪ ،‬واستعارة وجهة‬
‫نظر املؤرخ بروديل (‪.)1982‬‬
‫لقد ُوجِ َد أن حالة األجداد‬
‫من الكالد الفرعي ‪( M35‬أو‬
‫‪ )M35/215‬موجودة فقط‬
‫كما توجد سالالت أخرى من‬ ‫(البربر)‪ .‬كما ُوجِ َدت الطفرة‬ ‫يف شرق أفريقيا‪ ،‬بما فيها‬
‫الكالد الفرعي ‪M35/215‬‬ ‫أيضا يف بالد املشرق‬
‫‪ً M78‬‬ ‫دول القرن األفريقي‪ .‬كما‬
‫مثل ‪ .M123‬ويف مصر‪،‬‬ ‫ومنطقة بحر إيجة‪ /‬البلقان‪،‬‬ ‫أن الطفرتين الرئيسيتين‬
‫ارتبط النمطان الفردانيان ‪VII‬‬ ‫ومع مرور الوقت‪ ،‬ظهر‬ ‫يف هذا الكالد الفرعي هما‬
‫و ‪VIII‬مع املجموعة الفردانية‬ ‫االختالف يف هذه الساللة‬ ‫الطفرة ‪( M78‬املوجودة‬
‫‪ ،J‬وهي املجموعة السائدة‬ ‫كما اتضح بواسطة عالمات‬ ‫يف دول القرن األفريقي‬
‫يف الشرق األدني األصيل‬ ‫أخرى؛ وليس من الواضح‬ ‫ومصر واملغرب العربي)‬
‫(‪;2003 ,.al-Zahery et al‬‬ ‫مدى ظهور هذا االختالف‬ ‫والطفرة ‪( M81‬املوجودة يف‬
‫‪،)2004 ,.Semino et al‬‬ ‫األخير قبل انتقال الساللة‬ ‫املغرب العربي‪ ،‬عىل األغلب‬
‫كما أن له تكرارات مرتفعة‬ ‫مع املهاجرين من أفريقيا‪.‬‬ ‫بين املتحدثين األمازيغ‬
‫‪121‬‬
‫حول العالم‬

‫الفالشا) أعىل منها يف صعيد‬ ‫وأوروبا يف أوقات مختلفة‬ ‫يف بعض العينات املُجمعة‬
‫مصر‪ .‬وبغض النظر عن‬ ‫يف مصر عبر تاريخ ما بعد‬ ‫من شمال مصر (مثال‪:‬‬
‫التكرارات املنخفضة بشكل‬ ‫اململكة الوسطى‪ .‬بشكل عام‪،‬‬ ‫‪ .)2004 ,.Luis et al‬ويتم‬
‫ملحوظ لألنماط الفردانية‬ ‫من املتوقع أن يكون تنوع‬ ‫تفسير الدراسات األخرى‬
‫األخرى‪ ،‬والهجرات املحتملة‬ ‫السالالت غير األفريقية أكبر‬ ‫عىل أنها تظهر استمرارية‬
‫املرتبطة بها (‪Lucotte and‬‬ ‫يف شمال مصر بشكل عام‪،‬‬ ‫مكانية يف وجود السكان‬
‫‪ ،)2003a ,Mercier‬ما هي‬ ‫أيضا‬
‫ولكن ربما كانت هناك ً‬ ‫املصريين األحياء مع سكان‬
‫العالقات املتداخلة األخرى‬ ‫أماكن انتقائية لالستقرار يف‬ ‫الشرق األدنى‪ ،‬وهو أمر‬
‫التي قد تساعد يف تفسير‬ ‫صعيد مصر‪.‬‬ ‫مل يكن مستغر ًبا‪ ،‬ولكن‬
‫توزيعات األنماط ‪ V‬و‪ XI‬و‬ ‫هذا عىل ما يبدو بسبب‬
‫‪ IV‬و‪ VII‬و‪ VIII‬يف أفريقيا‬ ‫المناقشة‬ ‫التدفق الجيني إىل السكان‬
‫وجنوب غرب آسيا (الشرق‬ ‫املوجودين مسبقًا يف وادي‬
‫األدنى)؟ ما هي تكراراتهم‬ ‫يبدو أن االنتشار الواسع‬ ‫النيل‪ ،‬وليس االستعمار‬
‫قبل عصر الدولة الوسطى يف‬ ‫للنمط الفرداني ‪ V‬يف أثيوبيا‪،‬‬ ‫االستيطاني للسكان‬
‫وادي النيل املصري‪ ،‬وما هي‬ ‫يف أقصى جنوب مصر‪،‬‬ ‫املصريين البدائيين من آسيا‬
‫األحداث التي ربما ساعدت‬ ‫وحده يشير إىل أن الحركات‬ ‫الصغرى (أنظر البيانات‬
‫ويفترض أن‬ ‫يف تشكيلها؟ ُ‬ ‫املرتبطة بالحمالت العسكرية‬ ‫املقدمة عن الكروموسوم‬
‫حركات الهجرة والعالقات‬ ‫االستعمارية املصرية خالل‬ ‫‪ Y‬يف دراسة ماني ‪،2003‬‬
‫املتبادلة هي اآلليات الرئيسية‬ ‫حكم األسرتين الثانية‬ ‫والدراسة السالف ذكرها)‪.‬‬
‫التي تفسر أشكال النمط‬ ‫عشرة والثامنة عشرة‬ ‫ويربط التدفق الجيني‬
‫الفرداني‪ ،‬وأن مدى انتشارها‬ ‫ليست بالضرورة تفسيرات‬ ‫بين املجتمعات السكانية‬
‫يحدد مصادرها الجغرافية‬ ‫كافية لظهور التكرارات يف‬ ‫واملناطق والوحدات العرقية‬
‫األكثر محدودية‪ ،‬بافتراض‬ ‫منطقة النوبة السفىل (والتي‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬وبالتايل يمنح‬
‫الحد األدنى من أحداث‬ ‫هي إحصائيًّا نفسها يف‬ ‫أسالفًا «جديدة»‪ .‬استقر‬
‫نشأتها أو توسعها أو‬ ‫صعيد مصر)؛ حيث نجد‬ ‫سكان وأفراد من اليسير‬
‫انقراضها غير املعتادة‪.‬‬ ‫التكرارات األثيوبية (وجماعة‬ ‫توثيقهم من الشرق األدنى‬
‫يتطابق توزيع‬
‫النمط الفرداني‬
‫‪ V‬وانتشاره‬
‫الواسع (وكذلك‬
‫النمط ‪ XI‬األقل‬
‫منه؛ يف وادي‬
‫النيل بصفة‬
‫أساسية)‬
‫ومتحدثي اللغات‬
‫األفروآسيوية‬
‫يف أفريقيا مع‬
‫جغرافية نطاق‬
‫بلدان القرن‬
‫‪122‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وانقسامها يف البيئة املتقلبة‬ ‫رطوبة والصالحة للسكن يف‬ ‫األفريقي شمال الصحراء‬
‫للصحراء الكبري خالل‬ ‫أواخر العصر البليستوسيني‬ ‫الكبرى‪ .‬وقد يفسر انتشار‬
‫العصر الهولوسيني‪ ،‬حيث‬ ‫(العصر الجليدي) وأوائل‬ ‫الشعب اللغوية والجينات‬ ‫ُ‬
‫يمكن تصور الواحات كنوع‬ ‫العصر الهولوسيني (العصر‬ ‫التصور املتعلق بالهجرة‬
‫من املالجئ التي تدعم‬ ‫الحديث)‪ ،‬بعد فترة طويلة‬ ‫املنظمة لألقارب (‪,Fix‬‬
‫املجموعات السكانية الذين‬ ‫من الغياب لألشخاص‬ ‫‪ ،)1999‬مع تأثير املؤسس‬
‫تفاعلوا مع بعضهم من‬ ‫الذين عاشروا فترة طويلة‬ ‫يف بعض الحاالت (عىل سبيل‬
‫وقت آلخر‪ ،‬ربما يف املراكز‬ ‫من الجفاف ‪Wendorf‬‬ ‫املثال‪ ،‬التكرار املرتفع لدى‬
‫االحتفالية مثل حوض نبتة‬ ‫‪;1980 ,and Schild‬‬ ‫األمازيغ املغاربة)‪.‬‬
‫باليا (‪,.Wendorf et al‬‬ ‫‪,Ehret ;1988 ,Hassan‬‬ ‫ويف وادي النيل‪ ،‬من املحتمل‬
‫‪ ،)2001‬واتخاذهم القرارات‬ ‫‪,Midant-Reynes ;1993‬‬ ‫أن النمط الفرداني ‪( V‬و ‪)XI‬‬
‫بشأن العالقات الجماعية‬ ‫‪Wendorf et ;2000‬‬ ‫قد تأسس عىل يد متحدثي‬
‫والزواج التباديل‪ .‬يصف هذا‬ ‫‪ .)2001 ,.al‬مل يكن من‬ ‫اللغات األفروآسيوية األوائل‪،‬‬
‫املوقف حالة املجموعة شبه‬ ‫املرجح أن يكون األشخاص‬ ‫الذين تشير مفرداتهم املعاد‬
‫املستقرة يف ظل الضغط‬ ‫الذين انجذبوا لالستقرار‬ ‫بنائها يف ضوء األدلة املتاحة‬
‫البيئي‪ ،‬مما قد يتسبب يف‬ ‫يف الصحراء متجانسين‬ ‫إىل أنهم كانوا صيادين ومن‬
‫االختيار واالنجراف‪ :‬يمكن‬ ‫بيولوجيًّا أو لغو ًّيا‪ ،‬إذا‬ ‫مستخدمي النباتات بكثافة‪،‬‬
‫نمذجة الصحراء كمعالج‬ ‫كان من املمكن استخدام‬ ‫وليسوا من منتجي الغذاء‬
‫(وملزيد من املناقشة حول‬
‫تطوري ومضخة للمجموعات‬ ‫الحاضر اإلثنوغرايف لعمل‬
‫إعادة البناء الثقايف من اللغة‪،‬‬
‫السكانية التي فقدت بمرور‬ ‫مقارنة‪ ،‬وكذلك نتائج البحث‬
‫أنظر‪,1988 ,1984 ,Ehret :‬‬
‫الوقت معظم أفرادها‪ ،‬والتي‬ ‫يف اللغويات التاريخية‪.‬‬
‫‪;1993 ,Blench ;2000‬‬
‫ساهمت قطاعاتهم الفرعية‬ ‫فمن اليسير تصور تفاعل‬
‫‪.)2004 ,.Ehret et al‬‬
‫بشكل كبير يف املناطق‬ ‫تاريخي ديناميكي يتكون من‬
‫من املثير لالهتمام أن نمط‬
‫املحيطة بالصحراء (‪,Keita‬‬ ‫اندماج املجموعات السكانية‬
‫الكفاف هذا يميز موق ًعا‬
‫محد ًدا من وادي الكوبانية‬
‫يف جنوب مصر خالل أواخر‬
‫العصر الحجري القديم‬
‫(‪)1993 ,Wetterstrom‬‬
‫وما بعدها من مواقع خالل‬
‫الفترة اإلبيباليوليتة‪ .‬من‬
‫املحتمل أن متحدثي اللغات‬
‫األفروآسيوية األوائل‪ ،‬إىل‬
‫جانب املتحدثين باللغات‬
‫النيلية الصحراوية‪ ،‬قد قدموا‬
‫إىل منطقة الصحراء املبكرة‬
‫األقل جفافًا (أنظر أدناه)‪.‬‬
‫لقد تم االستقرار يف‬
‫الصحراء الشرقية األكثر‬
‫‪123‬‬
‫حول العالم‬

‫بين ‪ 3650-3900‬ق‪.‬م‪.).‬‬ ‫ق‪.‬م‪.)1988 ,Hassan( .‬‬ ‫‪ .)1990‬وسوف يشرح‬


‫ويوجد دليل جيد عىل‬ ‫كما توجد أدلة عىل الثقافة‬ ‫نموذج التشتت والتطور‬
‫وجود منطقة تداخل ثقايف‪،‬‬ ‫املشتركة بين السودان‬ ‫للمجموعات السكانية شبه‬
‫وبالتايل هناك أساس للتفاعل‬ ‫ومصر يف العصر الحجري‬ ‫املستقرة هذا جوانب الثقافة‬
‫االجتماعي (‪,Wilkinson‬‬ ‫الحديث (‪.)1996 ,Kroeper‬‬ ‫وعلم األحياء‪ ،‬لكن دراسات‬
‫‪,after Hoffman ,1999‬‬ ‫كان من املمكن أن يؤدي‬ ‫املحاكاة هي التي ستساعد يف‬
‫‪1982‬؛ واستشهاد بأدلة من‬ ‫النمو السكاني بعد العصر‬ ‫تحسين متغيراته‪.‬‬
‫‪,Williams ;1984 ,Needler‬‬ ‫الحجري الحديث‪ /‬ما قبل‬ ‫لقد أدت الهجرة من‬
‫‪.)1996,Adams ;1986‬‬ ‫األسرات إىل استقرار جيني‬ ‫الصحراء نتيجة موجات‬
‫وهنا نجد إشارة تنبيه‬ ‫نسبي‪ ،‬وذلك وفقًا الستقراء‬ ‫الجفاف‪ ،‬التي انتشرت‬
‫بالنسبة لشمال مصر‪ .‬فإذا‬ ‫أنماط االستيطان (‪,Butzer‬‬ ‫خالل منتصف العصر‬
‫كان السكان األصليون يف‬ ‫‪)1976‬؛ حيث يقدر عدد‬ ‫الهولوسيني‪ ،‬إىل قدوم‬
‫شمال مصر خالل العصر‬ ‫سكان مصر يف نهاية عصر‬ ‫مجموعات سكانية أو ثقافات‬
‫الحجري الحديث‪ /‬ما قبل‬ ‫ما قبل األسرات بأكثر من‬ ‫متعددة أو كلتيهما إىل وادي‬
‫األسرات لديهم تكرارات‬ ‫‪ 800,000‬نسمة (‪,Butzer‬‬ ‫النيل (‪;1988 ,Hassan‬‬
‫مرتفعة نسبيًّا للنمطين‬ ‫‪ ،)1976‬ولكنهم مل يتوزعوا‬ ‫‪;1992 ,Kobusiewicz‬‬
‫الفردانيين ‪ VII‬و ‪(VIII‬من‬ ‫بالتساوي عىل طول وادي‬ ‫‪,Wendorf and Schild‬‬
‫مصادر الشرق األدنى)‪ ،‬إذن‬ ‫النيل‪ ،‬بل تمركز معظمهم يف‬ ‫‪,.Wendorf et al ;1980‬‬
‫من املمكن أن تكون الهجرة‬ ‫مناطق املستوطنات املهمة‪.‬‬ ‫‪Kobusiewicz ;2001‬‬
‫قد جلبت بالفعل املزيد من‬ ‫ثم استمر نمو عدد السكان‬ ‫ويظهر‬‫‪)2004 ,.et al‬؛ ُ‬
‫النمطين الفردانين ‪ V‬و‪XI‬‬ ‫املصريين‪ ،‬وليس من املحتمل‬ ‫عصر ما قبل األسرات يف‬
‫من مصادر يف الصحراء‬ ‫أن يكون لتوغالت بضعة‬ ‫صعيد مصر وأواخر العصر‬
‫الكبرى يف أواخر العصر‬ ‫آالف من الجنود تأثير قابل‬ ‫الحجري الحديث يف شمال‬
‫الحجري الحديث يف الشمال‪،‬‬ ‫لالسترجاع‪ ،‬ما مل تكن‬ ‫واضحا مع‬
‫ً‬ ‫مصر تقار ًبا‬
‫أو حتى عن طريق الهجرة‬ ‫هناك بعض الجهود املنهجية‬ ‫سكان الصحراء الكبرى‪.‬‬
‫من صعيد مصر‪ .‬ولقد‬ ‫املدفوعة بسياسات محددة‬ ‫ومن الجدير بالذكر أن‬
‫أوضح املصريون القدماء أن‬ ‫لتعزيز التدفق الجيني‪ ،‬إال أنه‬ ‫األدلة األثرية تشير إىل‬
‫ملكهم نعرمر [يشتهر باسم‬ ‫ال يوجد يف الواقع أي دليل‬ ‫توقف للنشاط البشري يف‬
‫«نارمر»]‪ ،‬موحد القطرين‬ ‫عىل ذلك‪.‬‬ ‫وادي النيل املصري بين‬
‫(وهو إما امللك األخير يف‬ ‫كما حدثت تفاعالت بين‬ ‫عامي ‪6000 -10,000‬‬
‫عصر ما قبل األسرات‪،‬‬ ‫النوبة ومصر (والصحراء‬ ‫ق‪.‬م‪,Midant-Reynes( .‬‬
‫أو أول ملك من األسرة‬ ‫أيضا) يف الفترة‬
‫الكبرى ً‬ ‫‪ ،)2000‬مما قد يعني أن‬
‫األوىل)‪ ،‬كان من جنوب‬ ‫املمتدة بين ‪3000 -4000‬‬ ‫بعض املجموعات السكانية‬
‫مصر واتجه من الجنوب إىل‬ ‫ق‪.‬م‪ .‬تقريبًا‪ .‬وتمت مشاركة‬ ‫قد هاجرت إىل الصحراء (ثم‬
‫الشمال بصحبة الجيوش‬ ‫بعض عناصر الحضارة‬ ‫عودة بعض أحفادهم الحقًا)‪.‬‬
‫املنتصرة (‪,Gardiner‬‬ ‫املادية يف املرحلة التي ُيطلق‬ ‫وقد ُوجدت زيادة ملحوظة‬
‫‪;1988 ,Hassan ;1961‬‬ ‫عليها حضارة نقادة األوىل‬ ‫يف مواقد الرعاة يف وادي‬
‫‪ ،)1999 ,Wilkinson‬عىل‬ ‫بين املجموعة النوبية ‪A‬‬ ‫النيل التي يرجع تاريخها إىل‬
‫الرغم أن هذا «التوحيد» ربما‬ ‫وجنوب مصر (يف الفترة‬ ‫الفترة بين ‪4000-5000‬‬
‫‪124‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الجدير باملالحظة أن اسم «تا هذا هو الحال بالنسبة لحكام‬ ‫مل يتضمن حملة عسكرية‪.‬‬
‫األسرة الحادية عشرة الذين‬ ‫اسما يطلق عىل‬
‫سيتي» كان ً‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬استنا ًدا إىل األدلة‬
‫جعلوا نشأة اململكة الوسطى‬ ‫مقاطعة يف صعيد مصر يف‬ ‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫األثرية‪ ،‬ال يزال‬
‫ممكنة‪ ،‬والذين قام ملوكهم‬ ‫أقصى الجنوب وورد ذكره‬ ‫أن ثقافة ما قبل األسرات‬
‫أيضا بالهجوم‬ ‫الفراعنة الحقًا ً‬ ‫يف السجالت التاريخية يف‬ ‫الجنوبية‪ ،‬وهي أساس عصر‬
‫عىل النوبة (كما ذكر لوكوت‬ ‫أوقات الحقة (‪,Gardiner‬‬ ‫األسرات الحاكمة يف مصر‪،‬‬
‫وميرسييه‪،)a 2003 ،‬‬ ‫‪ .)1961‬وقد واصلت مصر‬ ‫شمال بحلول‬ ‫ً‬ ‫قد تحركت‬
‫وأنشأوا حصونًا هناك‪ .‬ومع‬ ‫نشاطها يف منطقة النوبة يف‬ ‫نهاية فترة ما قبل األسرات‬
‫وقت الحق من حكم األسرة ذلك‪ ،‬مل تكن حصون اململكة‬ ‫(‪ ،)1994 ,Bard‬بغض النظر‬
‫األوىل (‪ ;1999 ,Wilkinson‬الوسطى تحتوي عىل أعداد‬ ‫عن عدد املهاجرين‪.‬‬
‫كبيرة من السكان (‪,Trigger‬‬ ‫‪ .)1961 ,Emery‬ولكن‬ ‫من املمكن أن التكرارات‬
‫‪ ،)1976‬وبالتايل من املرجح‬ ‫هناك رواية مختلفة قائمة‬ ‫الحالية للنمطين الفردانيين‬
‫أن تأثيرها ضئيل عىل إجمايل‬ ‫عىل تفسير مختلف للوثائق‬ ‫‪ VII‬و‪ ،VIII‬بشكل رئيسي‪،‬‬
‫السكان وسماتهم‪.‬‬ ‫التي تشير إىل هزيمة النوبة‬ ‫تعكس الحركات خالل‬
‫أما اململكة املصرية الحديثة‬ ‫عىل يد ملوك األسرة األوىل‬ ‫العصر اإلسالمي (مقابل‬
‫املصرية‪ ،‬حيث أوضحت هذه (التي بدأت منذ األسرة‬ ‫العصر الحجري الحديث)‬
‫السابعة عشر عىل يد‬ ‫الرواية أن هؤالء الحكام‬ ‫وتأثيرات تعدد الزوجات‬
‫املصريين القادمين من‬ ‫كانوا يدافعون عن حلفائهم‬ ‫(‪;1996 ,.Salem et al‬‬
‫جنوب مصر الذين طردوا‬ ‫النوبيين الذين ساعدوهم‬ ‫‪،)2002 ,.Nebel et al‬‬
‫الهكسوس من مصر)‪ ،‬فقد‬ ‫يف توحيد مصر وحمايتها‬ ‫وكذلك بعض تأثيرات سكان‬
‫غزت النوبة السفىل والعليا‬ ‫من الهجمات الخارجية من‬ ‫الشرق األدنى الذين استقروا‬
‫واستعمرتها بشكل ف َّعال‬ ‫نوبيين آخرين (‪,Trigger‬‬ ‫يف الدلتا يف أوقات مختلفة يف‬
‫وتوسعت داخل األراضي‬ ‫‪ ;1976‬وملزيد من املعلومات‬ ‫مصر القديمة (‪,Gardiner‬‬
‫النوبية حتى الشالل الرابع‬ ‫عن فرضية التدخل النوبي‬ ‫‪ ،)1961‬وحتى يف العصور‬
‫عاما‪ .‬وكان هناك‬ ‫املباشر يف صعيد مصر‪ ،‬أنظر ملدة ‪ً 500‬‬ ‫الحديثة وباألخص يف العصر‬
‫تمصير للنخب النوبية وهو‬ ‫أيضا ‪.)1986 ,Williams‬‬ ‫ً‬ ‫االستعماري نتيجة األحداث‬
‫وخالل عصر حكم األسرات‪ ،‬االتجاه الذي امتد الحقًا إىل‬ ‫السياسية‪ .‬وهكذا‪ ،‬من غير‬
‫العامة‪ ،‬حتى أن املصريين‬ ‫تم ضم النوبيين باستمرار‬ ‫املرجح أن سكان شمال‬
‫استقروا يف أعماق النوبة‬ ‫كمرتزقة إىل الجيوش‬ ‫مصر الجامع متعدد الثقافات‬
‫العليا (وسط السودان)‬ ‫املصرية‪ ،‬وأحيانًا ملحاربة‬ ‫يمثلون السكان األصليين‬
‫النوبيين اآلخرين (‪)1976 ,Trigger( ,Trigger‬؛ كما‬ ‫األساسيين يف العصور‬
‫جاء بعض النوبيين أو تم‬ ‫‪ .)1976‬أي أنه كان هناك‬ ‫القديمة‪.‬‬
‫إحضارهم إىل صعيد مصر‪.‬‬ ‫اتصال دائم مع النوبيين‪،‬‬ ‫قام ملوك مصر من‬
‫وعىل عكس طول فترة‬ ‫خاصة يف صعيد مصر‪.‬‬ ‫األسرة األوىل بالغزو‬
‫استعمار الدولة املصرية‬ ‫ويف أوقات الحقة‪ ،‬ساهم‬ ‫السياسي (وربما االقتالع‬
‫الحديثة للنوبة‪ ،‬امتدت‬ ‫امللوك أو القادة الجنوبيون‪،‬‬ ‫أو االستيعاب الثقايف)‬
‫السيطرة النوبية عىل مصر‬ ‫مع الجيوش الجنوبية‬ ‫للمجموعة ‪ A‬التي قامت‬
‫وأحيانًا املرتزقة النوبيين‪ ،‬يف ألقل من ‪ 100‬عام‪ ،‬ومل يكن‬ ‫عليها مملكة تاسيتي النوبية‬
‫استعادة مصر لوحدتها؛ كان هناك برنامج لالستعمار‬ ‫(‪ .)1999 ,Wilkinson‬ومن‬
‫‪125‬‬
‫حول العالم‬

‫ما)‪ ،‬ومشاركة النوبة املحتملة‬ ‫أسس فيه املهاجرون قبل‬ ‫االستيطاني‪ .‬وبالنظر إىل‬
‫يف بناء الدولة املصرية ثم‬ ‫العصر الحجري الحديث‬ ‫اإلجراءات املصرية مقابل‬
‫االستيعاب السياسي لها‬ ‫من ذوي النمط الفرداني‬ ‫إجراءات النوبيين‪ ،‬فإن‬
‫الحقًا خالل حكم األسرة‬ ‫‪ V‬املجموعات السكانية ما‬ ‫املثير للدهشة هو مدى‬
‫األوىل‪ ،‬والتفاعالت املستمرة‬ ‫قبل وبعد السامية يف بالد‬ ‫صغر النسبة املئوية للنمط‬
‫قبل عصر الدولة الوسطى‪،‬‬ ‫الشام‪ ،‬والتي برز نسل‬ ‫الفرداني ‪ V‬يف النوبة‪ ،‬يف‬
‫ظروفًا مواتية للتواصل‬ ‫هذه املجموعات السكانية‬ ‫مقابل النمطين الفردانيين‬
‫االجتماعي والتدفق الجيني‬ ‫من الساميين عبر التحول‬ ‫‪ IV‬و‪ XI‬يف جنوب مصر‬
‫املستمر بين الجانبين‪.‬‬ ‫اللغوي للسكان ذوي النمطين‬ ‫(أنظر الجدول رقم ‪ ،)1‬إذا‬
‫وهذا من شأنه أن يخلق‬ ‫الفردانيين ‪ VII‬و‪VIII‬؛ وتحدث‬ ‫كان ُينظر إىل هذه األحداث‬
‫أو يعزز تشاب ًها أساسيًّا‬ ‫املجتمع الزراعي منهم باللغة‬ ‫العسكرية وحدها عىل أنها‬
‫كان موجو ًدا عىل األرجح‬ ‫السامية املشتركة (‪)CS‬‬ ‫السبب وراء املالمح الجينية‬
‫يف بداية ما قبل األسرات‬ ‫املتأخرة (‪,Diakonoff‬‬ ‫التي ال تزال موجودة يف هذه‬
‫بين الجماعات العرقية‬ ‫‪ .)1998‬بينما اتجه غر ًبا‬ ‫املنطقة اإلقليمية‪.‬‬
‫اللغوية واملتميزة سياسيًّا يف‬ ‫متحدثو اللغة األمازيغية‬ ‫ومع تبني وجهة نظر‬
‫البداية‪ .‬وتشير األدلة إىل أن‬ ‫األوائل من سكان شمال‬ ‫طويلة وتركيبية‪ ،‬فإن‬
‫بعض النوبيين قد أصبحوا‬ ‫الصحراء الكبرى يف هذا‬ ‫أحد السيناريوهات‬
‫مصريين‪ ،‬والعكس صحيح‬ ‫النموذج‪.‬‬ ‫املقنعة هو اآلتي‪ :‬أصبح‬
‫أيضا‪ .‬بالنظر إىل كل هذا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ويف وقت الحق‪ ،‬أدت‬ ‫السكان الناطقون باللغات‬
‫فإن الهجرات العسكرية‬ ‫الهجرات املناخية يف منتصف‬ ‫األفروآسيوية‪ ،‬الذين يمكن‬
‫الالحقة التي اقترحها لوكوت‬ ‫العصر الهولوسيني إىل‬ ‫استنتاج أنهم يمتلكون يف‬
‫وميرسييه (‪ )a 2003‬كانت‬ ‫إنشاء مستوطنة كبيرة يف‬ ‫الغالب‪ ،‬ولكن ليس فقط‪،‬‬
‫ستعزز بشكل معتدل املظهر‬ ‫وادي النيل يف صعيد مصر‬ ‫النمط الفرداني ‪( V‬و ‪،)XI‬‬
‫الجيني الراسخ‪ ،‬لكنها مل تكن‬ ‫والنوبة‪ ،‬ولكن بشكل أقل يف‬ ‫ومتحدثو اللغات النيلية‬
‫السبب الرئيسي لها‪.‬‬ ‫شمال مصر‪ ،‬عىل يد سكان‬ ‫الصحراوية (الذين يمثلون‬
‫إن هذا التفسير مدعوم‬ ‫الصحراء الكبرى متنوعين‬ ‫بشكل رئيسي النمطين ‪ IV‬و‬
‫بالقوة التفسيرية ألشكال‬ ‫من ذوي األنماط الفردانية‬ ‫‪ )XI‬مستقرين يف الصحراء‬
‫املتغيرات الخاصة بالحمض‬ ‫‪ IV‬و‪ XI‬و‪ .V‬واندمج هؤالء‬ ‫الشرقية ووادي النيل بعد‬
‫النووي للميتوكندريا‬ ‫السكان مع شعوب وادي‬ ‫العصر الجليدي‪ .‬كما كان‬
‫(‪ )mtDNA‬التي قدمها‬ ‫النيل األصليين‪ ،‬كما فعل‬ ‫وادي النيل املصري خاليًا‬
‫كرينجز وآخرون (‪،)1999‬‬ ‫سكان الشرق األدنى ذوي‬ ‫من السكان لسبب ما خالل‬
‫أيضا هذه‬ ‫الذين اعتبروا ً‬ ‫النمطين الفردانيين ‪ VII‬و‬ ‫الفترة ‪6000 -10,000‬‬
‫الغزوات العسكرية مجرد‬ ‫أيضا النمط ‪V‬‬ ‫‪ ،VIII‬وربما ً‬ ‫ق‪.‬م‪.‬؛ ومن املحتمل أن بعض‬
‫تفسيرات أولية لتوزيع‬ ‫بعض الشيء‪ .‬ومع النمو‬ ‫الناس قد ذهبوا إىل الصحراء‬
‫املتغيرات بين الشمال‬ ‫السكاني‪ ،‬أصبحت املالمح‬ ‫الكبرى بينما ذهب آخرون‬
‫والجنوب والتي وصفوها‬ ‫الجينية ثابتة‪ .‬لقد هيأت‬ ‫إىل الشام‪ .‬وربما تشير‬
‫جغرافيًّا لإلشارة إىل أصل‬ ‫عدة عوامل كالقرب املكاني‬ ‫بداية هذه الفترة‪ ،‬أو عىل‬
‫(نشأتها)‪ .‬وتتناسب تواريخ‬ ‫بين النوبة وجنوب مصر‬ ‫مقربة منها (‪,Bar-Yosef‬‬
‫االندماج املحسوبة مع نموذج‬ ‫(والثقافة املشتركة إىل حد‬ ‫‪ ،)1987‬إىل الوقت الذي‬
‫‪126‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الحيوي للسكان يف وادي‬ ‫كما ال يوجد أي دليل عىل‬ ‫التشتت والتطور للمجموعات‬
‫ويفترض أن أحداث‬ ‫النيل‪ُ .‬‬ ‫أن أي امرأة ترافق الجيوش‬ ‫السكانية شبه املستقرة يف‬
‫االستقرار املبكرة يف وادي‬ ‫الذكورية كانت ستبقى يف‬ ‫الصحراء الكبرى‪ ،‬والذي‬
‫النيل والتفاعالت خالل‬ ‫األراضي األجنبية للقيام‬ ‫ال يحاول تفسير األصل‬
‫بمساهمات جينية‪.‬‬ ‫الجغرايف النهائي لجميع‬
‫عصر األسرة األوىل‪ ،‬والنمو‬
‫ويف الختام‪ ،‬إن حركات‬ ‫التنوعات الجينية‪ .‬والجدير‬
‫السكاني املستمر‪ ،‬كان لها‬
‫السكان يف أواخر العصر‬ ‫بالذكر أنه ال يوجد أي‬
‫عىل األرجح دور كبير يف‬ ‫البليستوسيني‪ ،‬وأوائل‬ ‫دليل فني أو نصي يشير‬
‫إنشاء السمات الوراثية‬ ‫العصر الهولوسيني‬ ‫إىل أن النساء املصريات أو‬
‫لألنماط الفرانية للتركيب‬ ‫ومنتصفه‪ ،‬وخالل حكم‬ ‫النوبيات قد شكلن جز ًءا‬
‫الوراثي ‪p49a,f TaqI Y‬‬ ‫األسرة األوىل التي يمكن‬ ‫مه ًّما من جيوش مجتمعاتهن‬
‫يف وادي النيل‪ ،‬مثلما فعلت‬ ‫أن تكون مرتبطة بالتشتت‬ ‫(‪Baines, personal‬‬
‫األحداث يف اململكة الوسطى‬ ‫اللغوي‪ ،‬وموجات الجفاف‪،‬‬ ‫‪)communication‬؛ حتى‬
‫واالستقرار يف وادي‬ ‫وإن فعلن‪ ،‬ليس من املحتمل‬
‫وما بعدها‪ .‬من وجهة النظر‬
‫النيل‪ ،‬عىل التوايل‪ ،‬وكذلك‬ ‫أنهن كن ستسمحن ألنفسهن‬
‫هذه‪ ،‬مل تكن هذه األحداث‬
‫أنماط التزاوج‪ ،‬والتفاعالت‬ ‫بالحمل واإلنجاب من األعداء‬
‫الالحقة‪ ،‬حتى وإن ساهمت‬ ‫االجتماعية بخالف الحرب‪،‬‬ ‫إىل الدرجة التي تفسر‬
‫نو ًعا ما‪ ،‬هي املحددات‬ ‫وتأثيرات النزاعات بين‬ ‫األنماط املرصودة‪ .‬وال يمكن‬
‫األساسية لألشكال التي‬ ‫املمالك والدول‪ ،‬يجب دمجها‬ ‫أيضا افتراض أنهن تركن‬ ‫ً‬
‫لوحظت يف الوقت الحايل‬ ‫جمي ًعا يف مناقشات التاريخ‬ ‫أطفالهن يف دول أجنبية‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪* S.O.Y. Keita, History in the Interpretation of the Pattern of p49a,f TaqI RFLP Y-Chromosome‬‬
‫‪Variation in Egypt: A Consideration of Multiple Lines of Evidence, American Journal Of Human‬‬
‫‪Biology, 17: 559–567, 2005.‬‬
‫‪** Barbara Mertz, Red Land, Black Land: Daily Life in Ancient Egypt, Harper Collins, 2nd edition,‬‬
‫‪2011, p. 20.‬‬

‫المراجع والمصادر‪:‬‬
‫‪Adams B. 1996. Elite graves at Hierakonpolis. In: Spencer J, editor. Aspects of early Egypt. Lon-‬‬
‫‪don: British Museum Press. p 1–15.‬‬
‫‪al-Zahery N, Semino O, Benuzzi G, Magri C, Passarino G, Torroni A, Santachiara-Benerecetti, AS.‬‬
‫‪2003. Y chromosome and mtDNA polymorphisms in Iraq, a crossroad of the early human dispersal‬‬
‫‪and of post- Neolithic migrations. Mol Phylogenet Evol 28:458– 472.‬‬
‫‪Bard K. 1994. From farmers to pharaohs. Mortuary evidence for the rise of complex society. Edin-‬‬
‫‪burgh: Edinburgh University Press.‬‬
127
‫حول العالم‬

Bar-Yosef O. 1987. Pleistocene connexions between African and southwest Asia. Afr Archaeol Rev
5:29–30.
Bender L. 1975. Omotic: a new Afro-Asiatic language family. Carbondale: University Museum,
Southern Illinois University.
Blench R. 1993. Recent developments in African language classifications and their implications for
prehistory. In: Shaw T, Sinclair P, Andah B, Okpoko A, editors. The archaeology of archaeology:
food, metal and towns. New York: Routledge. p 126–137.
Bosch E, Calafell F, Comas D, Oefner P, Underhill PA, Bertranpetit J. 2001. High-resolution
analysis of human Y-chromosome variation shows a sharp discon- tinuity and limited gene flow
between northwestern Africa and the Iberian Peninsula. Am J Hum Genet 68:1019–1029.
Butzer KW. 1976. Early hydraulic civilization in Egypt. Chicago: University of Chicago
Braudel F. 1982. On history [translated by Sarah Matthews]. Chicago: University of Chicago.
Cruciani F, Santolamazza P, Shen P, Macaulay V, Moral P, Olckers A, Modiano D, Holmes S,
Destro-Bisol G, Coia V, Wallace D, Oefner P, Torroni A, Cavalli-Sfrorza L, Scozzari R, Underhill P.
2002. A back migration from Asia to sub-Saharan Africa is supported by high-resolution analysis
of human Y-chromosome haplotypes. Am J Hum Genet 70:1197–1214.
Cruciani F, La Fratta R, Santolamazza P, Sellitto D, Pascone R, Moral P, Watson F, Guida V, Co-
lomb EB, Zaharova B, Lavinha J, Vona G, Aman R, Cali F, Akar N, Richards M, Torroni A, Novel-
letto A, Scozzari R. 2004. Phylogeographic analysis of haplogroup E3b (E-215) Y chromosomes
reveals multiple migratory events within and out of Africa. Am J Hum Genet 74:1014–1022.
Diakonoff (Diakonov) IM. 1981. Earliest Semites in Asia. Altorient Forsch 8:23–74.
Diakonoff (Diakonov) IM. 1998. The earliest Semitic society. Linguistic data. J Semit Stud 4:209–
219.
Ehret C. 1984. Historical/linguistic evidence for early African food production. In: Clark JD, Brandt
S, editors. From hunters to farmers. Berkeley: University of California Press. p 26–36.
Ehret C. 1988. Language change and the correlates of language and ethnic shift. Antiquity 62:564–
574.
Ehret C. 1993. Nilosaharans and the Saharo-Sudanese Neolithic. In: Shaw T, Sinclair P, Andah
B, Okpoko A, editors. The archaeology of Africa: food, metal, and towns. London: Routledge. p
104–125.
Ehret C. 1995. Reconstructing proto-Afroasiatic (proto- Afrasian): vowels, tone, consonants and
vocabulary. University of California publications in linguistics, 126. Berkeley: University of Califor-
nia Press.
Ehret C. 2000. Language and history. In: Heine B, Nurse D, editors. African languages, an intro-
duction. Cambridge: Cambridge University Press. p 272–297.
Ehret C, Keita SOY, Newman P. 2004. The origins of Afroasiatic. Science 306:1680.
Emery WB. 1961. Archaic Egypt. London: Penguin.
Fix A. 1999. Migration and colonization in human microevolution. Cambridge: Cambridge University
Press.
Fleming H. 1974. Omotic as an Afroasiatic family. Stud Afr Linguist [Suppl] 5:81–94.
Gardiner A. 1961. Egypt of the Pharaohs. Oxford: Oxford University Press.
Greenberg J. 1966. The languages of Africa. Bloomington: Indiana University Press.
Greenberg JH. 1973. African languages. In: Skinner EP, editor. Peoples and cultures of Africa.
Garden City: Doubleday Natural History Press. p 34–58.
128
50 ‫العـدد‬
٢٠٢3 ‫فبراير‬

Hammer M, Zegura S. 2002. The human Y chromosome haplogroup tree: nomenclature and phy-
logeography of its major divisions. Annu Rev Anthropol 31:303– 321.
Hassan F. 1988. The predynastic of Egypt. J World Prehist 2:135–185.
Hoffman M. 1982. The predynastic of Hierakonpolis, and interim report. Egyptian studies publica-
tion no. 1. Giza and Macomb, IL: Cairo University Herbarium and Western Illinois University.
Keita SOY. 1990. Studies of ancient crania from north- ern Africa. Am J Phys Anthropol 83:35–48.
Kobusiewicz M. 1992. Neolithic and predynastic development in the Egyptian Nile Valley. In: Klees
F, Kuper R, editors. New light on the northeast African past. Cologne: Heinrich-Barth Institut. p
207–218.
Kobusiewicz M, Kabacinski J, Schild R, Irish JD. 2004. Discovery of the first Neolithic cemetery in
Egypt’s western desert. Antiquity 78:566–578.
Krings M, Salem AH, Bauer K, Geisert H, Malek AK, Chaix L, Simon C, et al. 1999. MtDNA anal-
ysis of Nile River Valley populations: a genetic corridor or a barrier to migration? Am J Hum Genet
64:1166–1176.
Kroeper K. 1996. Minshat Abu Omar—burials with palettes. In: Spencer J, editor. Aspects of early
Egypt. London: British Museum Press. p 70–91.
Lucotte G, Loirat F. 1999. Y-chromosome DNA haplo- type 15 in Europe. Hum Biol 71:431–437.
Lucotte G, Mercier G. 2003a. Y-chromosome haplotypes in Egypt. Am J Phys Anthropol 121:63–
66.
Lucotte G, Mercier G. 2003b. Y chromosome DNA haplotypes in Jews: comparisons with Leba-
nese and Palestinians. Genet Test 7:67–71.
Lucotte G, Smets P. 1999. Origins of Falasha Jews stu- died by haplotypes of Y chromosome.
Hum Biol 71:989–993.
Lucotte G, Smets P, Ruffie J. 1993. Y-chromosome-specific haplotype diversity in Ashkenazic and
Sephardic Jews. Hum Biol 65:835–840.
Lucotte G, David F, Berriche S. 1996. Haplotype VIII of the Y chromosome is the ancestral haplo-
type in Jews. Hum Biol 68:467–471.
Lucotte G, Aouizerate A, Berriche S. 2000. Y-chromo- some DNA haplotypes in North African
populations. Hum Biol 72:473–480.
Lucotte G, Gerard N, Mercier G. 2001. North African genes in Iberia studied by Y-chromosome
DNA haplo- type V. Hum Immunol 62:885–888.
Luis JR, Rowold DJ, Regueiro M, Caeiro C, Cinnoglu C, et al. 2004. The Levant versus the Horn of
Africa: evidence for bidirectional corridors of human migrations. Am J Hum Genet 74:532–544.
Manni F, Leonardi P, Barakat A, Rouba H, Heyer E, Klintshcar J, McElreavey K, Quintana-Murci
L. 2002. Y chromosome analysis in Egypt suggests a genetic regional continuity in northeastern
Africa. Hum Biol 74:645–658
Midant-Reynes B. 2000. The prehistory of Egypt, from the first Egyptians to the first pharaohs.
Oxford: Blackwell. Nebel A, Landau-Tasserot E, Filon D, Oppenheim A, Faerman M. 2002. Ge-
netic evidence for the expansion of Arabian tribes into the southern Levant and North Africa. Am J
Hum Genet 70:1594–1596.
Needler W. 1984. Predynastic and archaic Egypt in the Brooklyn Museum. Brooklyn: Brooklyn
Museum.
Ngo KY, Vergnaud G, Johnsson C, Lucotte G, Weissenbach J. 1986. A DNA probe detecting multi-
ple haplotypes of the human Y chromosome. Am J Hum Genet 38:407–418.
129
‫حول العالم‬

Nichols J. 1997. Modeling ancient population structures and movement in linguistics. Annu Rev
Anthropol 26:359–384.
Passarino G, Semino O, Magri C, al-Zahery N, Benuzzi G, Quintana-Murci L, Andellnovic S,
Bulle-Jakus F, Liu A, Arslan A, Santachiara- Benerecetti AS. 2001. The 49a,f haplotype 11 is a
new marker of the EU19 lineage that traces migra- tions from northern regions of the Black Sea.
Hum Immunol 62:922–932.
Ruhlen M. 1987. A guide to the world’s languages. Volume 1. Classification. Stanford: Stanford
University Press.
Salem A-H, Badr FM, Gaballah MF, Pa¨a¨bo S. 1996. The genetics of traditional living: Y chromo-
somal and mitochondrial lineages in Sinai Peninsula. Am J Hum Genet 59:741–774.
Santichiara-Benerecetti AS, Semino O, Passarino G, Torroni A, Brdicka R, Fellous M, Modiano G.
1993. The common, Near Eastern origin of Ashkenazi and Sephardi Jews supported by Y-chromo-
some similarity. Ann Hum Genet 57:55–64.
Semino O, Santachiara-Benerecetti AS, Falaschi F, Cavalli-Sforza LL, Underhill P. 2002. Ethi-
opians and Khoisan share the deepest clades of the human Y- chromosome phylogeny. Am J
Hum Genet 70:265–268. Semino O, Magri C, Benuzzi G, Lin A, Al-Zahery N, et al. 2004. Origin,
diffusion, and differentiation of Y-chromo- some haplogroups E and J: inferences on the Neolith-
itization of Europe and later migratory events in the Mediterranean area. Am JHum Genet 74:1023–
1034. Trigger B. 1976. Nubia, under the pharaohs. Boulder:
Westview Press.
Underhill PA, Passarino G, Lin AA, Shen P, Lahr MM, Foley RA, Oefner PJ, Cavalli-Sforza LL. The
phylogeography of Y chromosome binary haplotypes and the origins of modern human popula-
tions. Ann Hum Genet 65:43–62.
Wendorf F, Schild R. 1980. Prehistory of the eastern Sahara. New York: Academic Press.
Wendorf F, Schild R, et al. 2001. Holocene settlement of the Egyptian Sahara. Volume I. The ar-
chaeology of Nabta Playa. New York: Plenum Press.
Wetterstrom W. 1993. Foraging and farming in Egypt: the transition from hunting and gathering to
horticulture in the Nile Valley. In: Shaw T, Sinclair P, Andah B, Okapoko A, editors. The archaeolo-
gy of Africa: food, metal and towns. New York: Routlege. p 165–226.
Wilkinson TAH. 1999. Early dynastic Egypt. London: Routledge.
Williams BB. 1986. Excavations between Abu Simbel and the Sudan frontier. The A-group royal
cemetery at Qustul: cemetery L. Chicago: Oriental Institute, University of Chicago.
‫‪130‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫ألبرتو مورافيا‬

‫األمسية الجميلة‬
‫ترجمة‪:‬‬

‫أسماء موسى عثمان‬

‫فيها ُجل حياته‪ ،‬قام بتأليف‬ ‫القصيرة «األمسية‬

‫القصة‬
‫الروايات التي استكشفت‬ ‫الجميلة» نشرت‬
‫النشاط الجنسي الحديث‬ ‫ضمن مجموعة‬
‫واالغتراب االجتماعي‬ ‫قصصية بعنوان‬
‫والوجودية‪ .‬كان لديه نهج‬ ‫«حكايات رومانية»‪،‬‬
‫أخالقي متشدد يركز بشكل‬ ‫كتبها ألبرتو‬
‫أساسي عىل آثام املجتمع‬ ‫مورافيا ونشرت يف‬
‫البرجوازي‪ .‬يعتبر من‬ ‫البداية يف الصحيفة اإليطالية‬
‫أشهر كتاب إيطاليا يف القرن‬ ‫«كورييري ديال سيرا»‪ ،‬وتم‬
‫العشرين‪ ،‬ترجمت أغلب‬ ‫نشرها كمجموعة يف عام‬
‫أعماله إىل عدة لغات عاملية‬ ‫‪ 1954‬من قبل «بومبياني»‪.‬‬
‫وتحولت عدد من رواياته إىل‬ ‫جميع القصص تدور أحداثها‬
‫أفالم سينمائية‪.‬‬ ‫يف روما أو املناطق املحيطة‬
‫بها‪ ،‬خاصة بعد الحرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬وتركز‬
‫القصص عىل عامة الناس يف‬
‫روما‪.‬‬
‫ألبرتو مورافيا كاتب‬
‫وصحفي إيطايل شهير‪ ،‬ولد‬
‫يف روما سنة ‪ 1907‬وتويف‬
‫يف ‪ 26‬سبتمبر سنة ‪1990‬‬
‫يف مدينة روما التي عاش‬
‫‪131‬‬
‫حول العالم‬

‫األمسية الجميلة‬

‫غ ًدا سأتحدث عن ذلك مرة‬ ‫صغير يعرفه‪ ،‬قريب من‬ ‫كم كان عددنا؟ كنا ستة‪،‬‬
‫أخرى‪« .‬يف هذه األثناء‬ ‫امليدان‪ :‬صاحب املطعم كان‬ ‫امرأتان‪ :‬أديل وهي زوجة‬
‫كان ريمو يمزح مع جيما‪،‬‬ ‫صديقه‪ ،‬هناك املرء يتناول‬ ‫أميلكير‪ ،‬وجيما وهى ابنة‬
‫فتاة سمراء جميلة‪ ،‬وأنا‬ ‫طعاما طيبًا حسنًا‪ ،‬وكان‬
‫ً‬ ‫أختهما من مدينة تيرني‪،‬‬
‫وسيريو كنا نعلق عىل آخر‬ ‫أسعارا خاصة‪،‬‬
‫ً‬ ‫سيقدم لنا‬ ‫يف رحلة قصيرة يف روما؛‬
‫أحداث كرة القدم‪ .‬وهكذا‬ ‫كان علينا التفكير مسبقًا‪ :‬ما‬ ‫وأربعة رجال أميلكير‬
‫مشينا عىل طول العديد من‬ ‫الذي يمكن أن يكون جي ًدا يف‬ ‫وريمو وسيرو وأنا‪ .‬يف هذه‬
‫تلك الشوارع اململة التي‬ ‫تلك األحياء السيئة املحيطة‬ ‫األثناء‪ ،‬كان الخطأ األول‬
‫كانت تسمى بأسماء معارك‬ ‫باملحطة؟ إنها أجزاء من روما‬ ‫هو إحضار سيرو الذي‬
‫الوطن‪ :‬كاستلفيداردو‪،‬‬ ‫ال يوجد فيها سوى األجانب‬ ‫بسبب قرحة يف املعدة‪،‬‬
‫كاالتافيمي‪ ،‬باليسترو‪،‬‬ ‫الذين يمرون أو املجندين من‬ ‫يستشيط غضبًا عىل أتفه‬
‫وأخيرا‪ ،‬نجد اثنين‬
‫ً‬ ‫مارساال‪،‬‬ ‫ثكنات ماكاو‪.‬‬ ‫األسباب‪ .‬الخطأ الثاني‬
‫من مصابيح الكرة‪ ،‬مع الفتة‬ ‫لذلك‪ ،‬انطلقنا عىل طول تلك‬ ‫هو االستماع إىل أميلكير‬
‫«حانة أفريقيا»‪ ،‬ذهبنا إىل‬ ‫الشوارع املستقيمة‪ ،‬بين تلك‬ ‫فيما يتعلق باختيار املطعم‪:‬‬
‫الداخل‪ ،‬أدركنا عىل الفور أن‬ ‫املباني الرمادية‪ ،‬بالتحديد‬ ‫بما أنه كان عليه أن يدفع‬
‫الحانة مل تكن بهذه الروعة‪.‬‬ ‫يف شهر يناير الذي يتسم‬ ‫لثالثة أشخاص ومل يرغب يف‬
‫كانت هناك غرفة كبيرة أوىل‬ ‫بالبرد القارس والجفاف‪ .‬ظل‬ ‫اإلنفاق‪ ،‬وأصر‪ ،‬عندما التقينا‬
‫بها طاوالت رخامية لتقديم‬ ‫أميلكير‪ ،‬وهو شخص شره‪،‬‬ ‫يف ساحة ميدان االستقالل‬
‫املشروبات ذات النصف لتر‪،‬‬ ‫يردد‪« :‬آه‪ ،‬أيها الشباب‪،‬‬ ‫يف روما‪ ،‬أن نذهب إىل مطعم‬
‫ثم كانت هناك غرفة ثانية‬ ‫أريد أن أتناول الوجبة‬
‫كبيرة مقسمة إىل جزأين‬ ‫األوىل‪ ..‬هذه املرة أريد أن‬
‫بينهما فاصل‪ :‬عىل جانب‬ ‫آكل وأشرب دون التفكير يف‬
‫يوجد املطبخ‪ ،‬وعىل الجانب‬ ‫الكبد والكىل واملعدة واألمعاء‬
‫اآلخر‪ ،‬يوجد املطعم الفعيل‬ ‫األخرى‪ ..‬سأخبرك ً‬
‫أول يا‬
‫بخمسة أو ستة طاوالت‬ ‫أديل‪ ،‬حتى ال تبدأ بالشكوى‬
‫مع مفارش املائدة‪ .‬بالنسبة‬ ‫املعتادة‪« .‬بالنسبة يل ‪-‬قالت‬
‫لبقية املكان فهناك القذارة‬ ‫أديل‪ ،‬امرأة باردة املشاعر‬
‫املعتادة للمباني املحيطة‬ ‫وحزينة كما هو سمينًا‬
‫باملحطة‪ :‬نشارة الخشب عىل‬ ‫ومبهجا‪ -‬تفضل‪..‬‬
‫ً‬
‫‪132‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫رأيكم‪ ..‬ألست األمر جي ًدا؟»‪.‬‬ ‫ثم خلع صاحب الحانة‬ ‫األرض‪ ،‬والجص املقشر عىل‬
‫نظرنا إىل بعضنا البعض‪،‬‬ ‫سترته البيضاء التي كانت‬ ‫الجدران والكراسي املتهالكة‪،‬‬
‫وأخيرا‪ ،‬عبرنا عن املشاعر‬ ‫ً‬ ‫مغطاة بدقيق حلوى الفطائر‪،‬‬ ‫والطاوالت نفسها‪ ،‬ومفارش‬
‫املشتركة‪ ،‬أجاب سيريو‪:‬‬ ‫طالبًا قائمة الطعام ثم‬ ‫املائدة التي تم إصالحها‪،‬‬
‫«لكي نكون عىل ما يرام‪،‬‬ ‫سأل‪« :‬ماذا يأكل السادة؟»؛‬ ‫ومحفورة ومتسخه‪ .‬لكن‬
‫سنرى‪ ..‬أعتقد اآلن أنني يف‬ ‫ومناقشة الذكريات انتهت‪.‬‬ ‫ما أصابنا قبل كل شيء هو‬
‫مرحاض عام»‪ .‬هذه اإلجابة‬ ‫أخذنا القائمة ورأينا عىل‬ ‫البرد‪ :‬شديد‪ ،‬رطب‪ ،‬يشبه‬
‫مل ترضي أميلكير الذي دخل‬ ‫الفور أنه يوجد القليل من‬ ‫صقيع الكهف لدرجة أن‬
‫يف مناقشة عدوانية ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫األطباق مما يدعو للضحك‪:‬‬ ‫سيرو دخل‪ ،‬وصرخ‪:‬‬
‫املعكرونة الجافة‪ ،‬لحم الضأن «أنت شخص فاسد؛ وتريد‬ ‫«دي أفريقيا ج ًدا!‬
‫توفير املال؛ لديك قرحة‬ ‫أو الدجاج‪ ،‬الجبن والفواكه‪.‬‬ ‫هنا سنصاب بالتهاب‬
‫وال يجب أن تذهب للمطعم‪،‬‬ ‫لكي ال يظهر أميلكير‬ ‫رئوي»‪.‬‬
‫بصورة سيئة أمام أصدقائه وتريد أن تأكل ولكن ال تريد‬ ‫يف الواقع كان الجو بار ًدا‬
‫أن تنفق»‪ ..‬وما إىل ذلك وهلم‬ ‫تشدد مع صاحب الحانة‬ ‫ج ًّدا‪ :‬يف الحانة‪ ،‬جلس شاربو‬
‫جرا‪ .‬يف غضون ذلك‪ ،‬مر‬ ‫قائل‪« :‬ولكن آتينا بأطباق‬ ‫ً‬ ‫الخمر عىل الطاوالت بقبعاتهم‬
‫دائما‬
‫الوقت وكنا‪ ،‬كما يحدث ً‬ ‫حضرتك املميزة‪ ..‬مثل‬ ‫ومعاطفهم وأطواقهم؛‬
‫يف الحانات غير املجهزة‪،‬‬ ‫سباغيتي الالماتريسيانا»‪.‬‬ ‫ويتنفسون‪ ،‬يمكنك رؤية‬
‫نشرب الخمر ونتناول الخبز‬ ‫قال صاحب الحانة‪ :‬حسنًا‪،‬‬ ‫السحابة يف الهواء‪ ،‬كما‬
‫يف الواقع كان لديه سباغيتي ونتحاور يف هذا وذاك‪ .‬كان‬ ‫لو كنا يف الشارع‪ ،‬جلسنا‬
‫الجو بار ًدا ح ًّقا‪ ،‬وكانت‬ ‫الالماتريسيانا وكلنا طلبنا‬ ‫عىل إحدى تلك الطاوالت‪،‬‬
‫املقبالت‪ ،‬معكرونة وهناك من أقدامنا مجمدة ال نشعر بها؛‬ ‫وعىل الفور جاء صاحب‬
‫طلب الدجاج ومن أراد تناول الخمر‪ ،‬إذن‪ ،‬ربما ألنه كان‬ ‫الفندق‪ ،‬وهو رجل ضخم‬
‫مخففًا‪ ،‬كما قال سيريو‪ ،‬كلما‬ ‫املشويات ومن أراد لحم‬ ‫ذو وجه قاتم مر َّبع وعينين‬
‫أخيرا‬
‫ً‬ ‫شربنا أكثر‪ ،‬قل دفئنا‪.‬‬ ‫الضأن املشوي يف الفرن‪.‬‬ ‫سوداوين ساخطتين‪ ،‬سأله‬
‫بالنسبة للحلوى قلنا سنفكر أميلكير أصبح قلقًا‪ ،‬وعاد‬ ‫أميلكير‪ ،‬وكله ابتهاج‪« :‬سيد‬
‫راض‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بعد ذلك بوقت قصير‪،‬‬ ‫يف األمر‪.‬‬ ‫جيوفاني‪ ،‬هل تتذكرني؟»‪،‬‬
‫ليعلن أننا سنأكل قريبًا‪ .‬يف‬ ‫لكن سيريو احتج عىل‬ ‫ولكن اآلخر بدون أن يبتسم‬
‫الواقع‪ ،‬وصل صاحب الحانة‬ ‫أنه يريد الحساء وأكد له‬ ‫«اسمي سيرافينو وليس‬
‫صاحب الحانة أن لديه مرق ووزع املقبالت‪ ،‬نظرنا جمي ًعا‬ ‫جيوفاني‪ ..‬يف الحقيقة‪ ،‬ال‬
‫إىل األطباق‪ :‬يا له من بؤس‪.‬‬ ‫الدجاج‪ .‬ثم سأل كيف نريد‬ ‫أتذكر حضرتك»‪ .‬كان أميلكير‬
‫قطعتان من الخرشوف‪،‬‬ ‫الخمر‪ :‬إذا كان أبيض أو‬ ‫مستا ًء وبدأ يقصفه باألسئلة‪،‬‬
‫شريحة لحم خنزير‪ ،‬سردين‪.‬‬ ‫أحمر‪ ،‬إذا كان جا ًّفا أو به‬ ‫عابسا‪،‬‬
‫ً‬ ‫صاحب الحانة كان‬
‫قال سيريو ألميلكير‪« :‬أعتقد‬ ‫حبيبات سكر‪ .‬قررنا تناول‬ ‫وأخيرا صاح‪:‬‬‫ً‬ ‫غير متأكد‪،‬‬
‫أنك لن تأكل الليلة»‪ .‬بدأنا‬ ‫الفراسكاتي الجاف‪ ،‬وجلب‬ ‫«لكن نعم‪ ..‬حضرتك أتيت إىل‬
‫نأكل لكن الجميع قال إن‬ ‫صاحب الحانة اللترات‬ ‫هنا ليلة رأس السنة‪ ،‬لتأكل‬
‫مالحا‬
‫ً‬ ‫لحم الخنزير كان‬ ‫واألكواب والخبز وأدوات‬ ‫زامبون مع العدس»‪ .‬رد‬
‫لدرجة أنه ال يؤكل‪ .‬قال‬ ‫املائدة امللفوفة يف مناديل‬ ‫أميلكير أنه قضي رأس السنة‬
‫سيريو‪« ،‬لحم الخنزير‬ ‫الطاولة‪ ،‬وذهب إىل املطبخ‪.‬‬ ‫يف املنزل‪ ،‬باختصار‪ ،‬مل‬
‫األفريقي»‪ ،‬حيث بدا أنه‬ ‫سأل أميلكير مطمئنًا‪« :‬ما‬ ‫يتعرفا عىل بعضهما البعض‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫حول العالم‬

‫حضرتك صاحب حانة؟»‪،‬‬ ‫قليل من اللحم»‪.‬‬ ‫محترقة ً‬ ‫يسخر من أميلكير عن قصد‪.‬‬


‫أجاب الرجل‪« :‬وماذا عيلَّ‬ ‫لكن جيما أصرت‪ :‬وقالت‪:‬‬ ‫باختصار‪ ،‬ظلت املقبالت‬
‫أن أفعل؟»‪ .‬قال أميلكير‪:‬‬ ‫«إنها حشرة‪ ..‬انظر‪ ..‬كاملة‬ ‫يف األطباق‪ .‬لحسن الحظ‪،‬‬
‫«أي مهنة أخرى‪ :‬سائق‬ ‫األرجل»‪ .‬ذهب صاحب‬ ‫وصلت السباغيتي‪ ،‬ويخرج‬
‫الترام‪ ،‬الكناس‪ ،‬حانوتى‪،‬‬ ‫الحانة للنظر‪ ،‬ويف الواقع‪،‬‬ ‫منها الدخان ألن الهواء كان‬
‫لكن ليس صاحب الحانة»‪.‬‬ ‫كانت حشرة‪ .‬مع ذلك‪ ،‬أزال‬ ‫شديد البرودة؛ ولكن تبين‬
‫باختصار‪ُ ،‬ولد شجار‪ ،‬لكنه‬ ‫صاحب الحانة الحشرة‬ ‫أنها فاتره تحت األسنان (أي‬
‫فاتر‪ ،‬ألن صاحب الحانة يف‬ ‫قائل‪« :‬كما تعلمين‪،‬‬ ‫بشوكة ً‬ ‫مل تكن ساخنة وال باردة)‪.‬‬
‫كآبة‪ ،‬مل يكن لديه إحساس‪.‬‬ ‫ربما سقطت من املدفأة‪.‬‬ ‫يف هذه األثناء‪ ،‬قام سيريو‪،‬‬
‫ثم خرج الطباخ من املطبخ‬ ‫هذه األشياء تحدث»‪ ..‬ودون‬ ‫كما يفعل‪ ،‬بتقليب الحساء‬
‫بقبعته ودعا السيد وتركنا‪.‬‬ ‫إضافة أي شيء آخر عاد إىل‬ ‫بملعقة‪ ،‬كما لو كان يريد‬
‫صرخ أميلكير للطباخ‪« :‬أيها‬ ‫املطبخ مع إنائه والحشرة‪.‬‬ ‫أن يجد خطأ فيه‪ .‬ثم نادى‬
‫الطباخ‪ ..‬لقد سممتنا»‪ .‬لكن‬ ‫أخيرا قال‬ ‫ً‬ ‫حدقنا يف دهشة‪.‬‬ ‫عىل صاحب الحانة وسأله‬
‫الطاهي مل يرد واستأنفنا‬ ‫أميلكير‪« ،‬أنا جائع» وأكل‬ ‫بجدية‪ :‬هل أنت صياد؟‬
‫نحن القتال مع الضلوع‬ ‫بالشوكة‪ .‬لقد قمنا بتقليده‪،‬‬ ‫أجاب صاحب الحانة أنه مل‬
‫وعظام الدجاج‪ .‬كنا جمي ًعا يف‬ ‫وفعلنا ذلك وكنا نشعر‬ ‫يفهم‪ .‬قال سيريو‪« :‬ألنك‬
‫حالة مزاجية سيئة‪ ،‬وشعرنا‬ ‫باالشمئزاز‪ ،‬فقط قالت جيما‬ ‫يف هذا الحساء أطلقت النار‬
‫بالبرودة أسوأ مما لو كنا‬ ‫إن األمر مقزز ومل تلمس‬ ‫بالتأكيد»‪ .‬رد صاحب الحانة‬
‫يف الهواء الطلق‪ ،‬مع معدة‬ ‫الطبق‪ .‬كان الجو أكثر برودة‬ ‫«ماذا تعني بالقول؟»‪.‬‬
‫ممتلئة بالقمامة املطبوخة‬ ‫من أي وقت مضى‪ ،‬وبعد‬ ‫أجاب سيريو «هذا يعني أن‬
‫بشكل سيئ‪ ،‬واألسوأ هو‬ ‫السباغيتي‪ ،‬ذهبنا جمي ًعا‬ ‫مذاق املرق مثل الدخان»‪.‬‬
‫هضمها‪ ،‬وأراد أميلكير‪ ،‬الذي‬ ‫الستعادة معاطفنا‪ ،‬جلسنا‬ ‫احتج صاحب الحانة بشكل‬
‫كان مدر ًكا لخطئه‪ ،‬تصحيح‬ ‫هكذا عىل الطاولة مرتدين‬ ‫سيئ ً‬
‫قائل‪« :‬أي دخان‪..‬‬
‫الوضع وطلب زجاجتين من‬ ‫معاطفنا‪ .‬عاد صاحب الحانة‬ ‫الدخان يف مرقتي؟ الدخان يف‬
‫النبيذ األحمر للشرب مع‬ ‫ووزع بسرعة أجزاء الدجاج‬ ‫رأس حضرتك»‪ .‬سيريو الذي‬
‫حلوى البانيتون‪.‬‬ ‫ولحم الضأن‪ .‬كان الدجاج‬ ‫كان شاحبًا‪ ،‬رفع صوته‪:‬‬
‫كانت هذه هي األشياء‬ ‫جا ًّفا‪ ،‬دجاج مشوي من‬ ‫«قلت إن طعمها مثل الدخان‬
‫الجيدة الوحيدة يف املساء‪،‬‬ ‫الدرجة الرابعة؛ كان الحمل‬ ‫وعىل حضرتك أن تصدق»‪.‬‬
‫ومل يكن لصاحب الحانة أي‬ ‫كله ضلو ًعا وجل ًدا ودهونًا‪،‬‬ ‫متذمرا‬
‫ً‬ ‫ذهب صاحب الحانة‬
‫ميزة ألن الزجاجات كانت‬ ‫وأيضا تم طهيه يف الصباح‬ ‫ً‬ ‫إىل املطبخ وأعاد القدر ليرينا‬
‫محكمة اإلغالق‪ ،‬وجاءت‬ ‫وتسخينه‪ .‬رفع أميلكير‬ ‫اللحم الذي صنع به املرق‪.‬‬
‫حلوى البانيتون من ميالنو‪.‬‬ ‫الحمل يف الهواء ثم صرخ‬ ‫بينما كان يرينا القدر‪ ،‬صرخ‬
‫شربنا النبيذ الذي كان من‬ ‫بشراسة‪« :‬لكن هذا ال يمكن‬ ‫أحدهم‪« :‬آه‪ ،‬هناك حشرة‬
‫نوع باربيرا املعتق‪ ،‬وأكلنا‬ ‫أن يؤكل‪ .‬أيها املالك‪ ..‬أيها‬ ‫سوداء»‪ .‬التفتنا‪ ،‬كانت‬
‫حلوى البانيتون‪ ،‬فاستدفأنا‬ ‫املالك»‪.‬‬ ‫جيما‪ ،‬ابنة أخت أميلكير‪،‬‬
‫ً‬
‫قليل‪ .‬يف هذه األثناء كانت‬ ‫ها هو صاحب الحانة مرة‬ ‫كانت تشير إىل شيء‬
‫الحانة قد أُفرغت ومل يتبق‬ ‫أخرى‪ ،‬بوجهه الداكن‪،‬‬ ‫أسود بين السباغيتي‪ .‬قال‬
‫شيء سوى مجموعة من‬ ‫فقال له أميلكير‪« :‬لكن‬ ‫صاحب الحانة‪« :‬ال ليست‬
‫الشباب عىل طاولة بجانبنا‪:‬‬ ‫هل تريد أن تخبرني ملاذا‬ ‫حشرة‪ ..‬ستكون قطعة‬
‫‪134‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الغناء‪ ،‬مقل ًدا ريمو‪ ،‬واآلخر‬ ‫الصغيرة وبدأ يغني لها‬ ‫كانوا يلعبون الكوتشينة‪،‬‬
‫أنزل نفسه تحت مفرش‬ ‫ووجهه قريب من وجهها‪،‬‬ ‫وبعد فترة‪ ،‬انضم إليهم‬
‫املائدة‪ ،‬مقل ًدا مواء القطة‪.‬‬ ‫بينما كنا نحن صامتين‬ ‫صاحب الحانة والطاهي‪.‬‬
‫ربما مل يلحظ ريمو أو تعمد‬ ‫خجلين‪ ،‬وننظر إليه‪ .‬كانت‬ ‫ريمو‪ ،‬الذي مل يتوقف عن‬
‫أال يرى شيئًا‪ ،‬لكن يف األغنية‬ ‫جيما تبتسم‪ ،‬وشجعته تلك‬ ‫املزاح مع جيما طوال املساء‪،‬‬
‫الثالثة‪ ،‬حين استمروا يف‬ ‫االبتسامة‪ ،‬وبعد األغنية‬ ‫كان هكذا مفتونًا بالنبيذ‪،‬‬
‫املواء والضحك‪ ،‬قطع ريمو‬ ‫األوىل بدأ األغنية الثانية‪.‬‬ ‫ثم اقترح الغناء‪ .‬كان يفعل‬
‫قائل بكرامة‪« :‬كفى‪ ،‬من‬ ‫ً‬ ‫يف هذه األثناء أولئك عىل‬ ‫دائما‪ ،‬عند تناول الحلو‬ ‫هذا ً‬
‫األفضل أن أتوقف‪ .»..‬لكن‬ ‫الطاولة املجاورة صمتوا‪،‬‬ ‫يف نهاية الوجبة حيث يقدم‬
‫سيريو‪ ،‬الذي ال عالقة له‬ ‫وكانوا ينظرون إلينا‪ .‬ثم‬ ‫نفسه للغناء‪ ،‬وال أقول إنه‬
‫باألمر‪ ،‬قفز فجأة ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫بدأوا يضحكون بين بعضهم‬ ‫مل يغ ِّن جي ًدا‪ ،‬لكن األغاني‬
‫«غ ِّن‪ ..‬ال تقلق بشأن بعض‬ ‫البعض‪ ،‬ثم بدأ أحدهم يف‬ ‫دائما كما هي‪ ،‬وكنا‬ ‫كانت ً‬
‫نعرفها جمي ًعا‪ .‬لكن يف ذلك‬
‫املساء أراد أن يغني لجيما‬
‫التي كانت جديدة ونحن‬
‫فهمنا النية‪ ،‬أخبرناه أن‬
‫أيضا‪ .‬لكن‪ ،‬لكي أفهم‪،‬‬ ‫يغني ً‬
‫ما يعنيه الغناء بالنسبة له؟‬
‫أحتاج إىل وصفه‪ :‬ريمو‬
‫شاب صغير‪ ،‬ذو بشرة‬
‫سمراء ومشرقة‪ ،‬وجبهة‬
‫منخفضة (ضيقة)‪ ،‬وكلها‬
‫تجعيدات سوداء‪ ،‬وعينان‬
‫مغمضتان ومحتقنتان‬
‫بالدم‪ .‬لكن مع هذه البشرة‬
‫الوحشية إىل حد ما‪ ،‬فإن‬
‫ريمو‪ ،‬عندما يغني‪ ،‬ال يكون‬
‫مبتذل‪ ،‬فكل شيء كان‬ ‫ً‬ ‫أب ًدا‬
‫لطيفًا للغاية‪ .‬يأخذ يد الفتاة‪،‬‬
‫ويميل نحوها‪ ،‬ويغمض‬
‫صغيرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫عينيه ويجعل فمه‬
‫ويغني بهدوء بصوت عاطفي‬
‫وناعم وساحر‪ ،‬أغانية كانت‬
‫تنتهي بالقوايف التي تشير‬
‫إىل األمل والقلب والحب‪ ،‬أو‬
‫تلك القوايف التي تشير إيل‬
‫الشغف‪ ،‬الهالك واإلخالص‪.‬‬
‫يف ذلك املساء‪ ،‬كالعادة‪،‬‬
‫أمسك جيما من يدها‬
‫‪135‬‬
‫حول العالم‬

‫عىل رأسه‪ ،‬بجسده كله‪،‬‬ ‫وملاذا؟ نحن يف الحانة‪..‬‬ ‫الجاهلين الوقحين‪ .‬غ ِّن»‪.‬‬
‫يضربه‪ .‬فجأة رأينا أكتاف‬ ‫إنها مكان عام؛ نفعل ما‬ ‫عىل الفور‪ ،‬كما لو كان‬
‫أميلكير العريضة تتدحرج إىل‬ ‫نريد ونحب»‪ .‬رد سيريو‪:‬‬ ‫ينتظر أي إشارة‪ ،‬وقف‬
‫الوراء ثم رأيناه ينهار مثل‬ ‫أيضا نفعل ما نريد‬ ‫«ونحن ً‬ ‫شاب أشقر قصير ذو شعر‬
‫ونحب‪ ،‬ودعنا نقول فقط إنكم صخرة مستلقية‪ .‬األشقر‪،‬‬ ‫مجعد بقميص أحمر‪ ،‬ال‬
‫كمالكم‪ ،‬وجه له ضربة‬ ‫أيها األشخاص الجالسون‬ ‫يتعدي طوله آذان سيريو‪،‬‬
‫حادة يف ذقنه‪ ،‬ويف تلك‬ ‫عىل تلك الطاولة جاهلون‬ ‫ً‬
‫متسائل‪« :‬ومن‬ ‫وواجهه‪،‬‬
‫اللحظة كان أميلكير ملقًى‬ ‫ووقحون»‪.‬‬ ‫سيكون الجاهل والوقح؟»‪،‬‬
‫يف هذه األثناء‪ ،‬نهض صاحب عىل األرض‪ ،‬فوق نشارة‬ ‫سيريو ‪-‬وهو شخص قوي‬
‫الخشب‪ .‬ينتهي األمر كما‬ ‫الحانة والطاهي واثنان‬ ‫وال يخاف من أي شخص‪-‬‬
‫أيضا‪ .‬كان من املفترض أن ينتهي‪:‬‬ ‫آخران واقتربوا منهم ً‬ ‫قال‪« :‬أنتم وليس غيركم»‪.‬‬
‫بأخذ الحراس لألسماء؛‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فقد بقينا جمي ًعا‬ ‫أجاب الرجل‪« :‬أوه نعم؟!‬
‫وبامرأتين تشتكيان‪ .‬أميلكير‬ ‫جالسين عىل طاولتنا‪ .‬قال‬
‫يمسك ذقنه بيده ويكرر أنه‬ ‫االشقر الصغير القصير‪:‬‬
‫فلسا واح ًدا؛ سيريو‬ ‫لن يدفع ً‬ ‫«ولكن من أنت؟ ماذا تريد؟‬
‫وريمو وأنا الذين قمنا بدفع‬ ‫هل يمكننا أن نعرف ماذا‬
‫الفاتورة؛ واملالك يصرخ‬ ‫تريد؟»‪ ،‬يف نفس الوقت‬
‫علينا من املطبخ‪« :‬ماذا أنتم‬ ‫يرفع يده وكأنه يمسك‬
‫فاعلون بهذه الحانة؟ ملاذا‬ ‫سيريو بربطة العنق‪ .‬أجاب‬
‫سيريو‪« :‬أبعد يدك‪ ،‬أبعدها»‪ ،‬ال تبقون يف املنزل‪ .‬عندما‬
‫خرجنا‪ ،‬انفتحت نافذة‪،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬أنفه‬‫واقفًا عىل قدميه ً‬
‫وألقى أحدهم كيس قمامة يف‬ ‫مقابل أنف اآلخر‪ ،‬وضربه‬
‫الشارع أصاب رأس أميلكير‪.‬‬ ‫بيده‪ .‬ثم أمسكه األشقر‬
‫صاح صوت صغير ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫من ياقة سترته‪ ،‬مما جعله‬
‫«أوه‪ ،‬آسف»‪« ،‬كان للقطط»‪.‬‬ ‫ينحني إىل الخلف‪ .‬أطلقت‬
‫كان هناك عدد من القطط‪،‬‬ ‫املرأتان الصراخات‪ ،‬صاح‬
‫متجمعة عىل الطريق‪ ،‬تنتظر‬ ‫ريمو‪« :‬لنذهب‪ ،‬من يهتم؟»‪،‬‬
‫منا املغادرة لالقتراب من‬ ‫لقد كانت لحظة‪ ،‬ثم بشكل‬
‫هذه االكياس‪ ،‬لكن أميلكير‬ ‫غير متوقع‪ ،‬قفز أميلكير‬
‫الذي فقد عقله‪ ،‬مقتنع‪ ،‬لسبب‬ ‫عىل قدميه‪ ،‬وأمسك الصبي‬
‫األشقر من قميصه‪ ،‬ألسفل‪ ،‬ما‪ ،‬أن صاحب الحانة قد‬
‫استهدفه‪ ،‬أراد العودة؛ وكان‬ ‫ألسفل حتى نهاية الغرفة‪،‬‬
‫علينا أن نأخذه بعي ًدا‪ ،‬يمكن‬ ‫وضربه بجنون يف صدره‬
‫القول‪ ،‬بالقوة‪ ،‬بينما كان‬ ‫ودمره‪ .‬اصطدم بصندوق‬
‫يلعن وينظف قبعته من عظام‬ ‫الثلج‪ ،‬فحمى األشقر نفسه‬
‫السمكة‪.‬‬ ‫بذراعه بينما كان أميلكير‬
‫الخالصة كانت تلك األمسية‬
‫هي ما أطلقنا عليها األمسية‬
‫الجميلة‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫فيليب لوكس‬

‫قصائد‬
‫ترجمة‪:‬‬

‫أحمد بن قريش‬
‫(الجزائر)‬

‫لوكس (‪)1955‬‬

‫فيليب‬
‫كاتب وناقد‬
‫بلجيكي‪ ،‬يتعاون‬
‫مع العديد من‬
‫املجالت يف بلجيكا‬
‫وفرنسا وسويسرا‬
‫ولوكسمبورغ‪ .‬شاعر‬
‫االعتدال‪ ،‬متحمس للسفر‪،‬‬
‫سافر إىل الهند وتركيا‬
‫والواليات املتحدة والبرتغال‪.‬‬
‫أصدر أكثر من مائة كتاب‬
‫بين النقد واإلبداع‪ .‬من‬
‫بين أعماله‪ :‬بما أن لشبونة‬
‫تكتب بحروف من دم؛ النهر‬
‫والحزن؛ وجناح الصباح‪.‬‬
‫‪137‬‬
‫حول العالم‬

‫فيليب لوكس‬

‫قصائد‬

‫‪ -2‬ليلة مغلقة (مقتطفات)‬ ‫‪ -1‬أحيا ًنا من الجيد أن نضيع طريقنا‬


‫‪IX‬‬ ‫أحيانًا من الجيد أن نضيع طريقنا عبر الشوارع‬
‫وجهك الهادئ‬ ‫واألزقة‪ ،‬نكون قد نسينا أسماءها‪ ،‬فيعود إلينا ذاك‬
‫الدائر نحو الليل‬ ‫الوجه عىل عتبة ذاك الباب‪ .‬هي الحياة‪ .‬ومن الحزن‬
‫يستأنس‬ ‫أيضا تجاهل هذا املحيا‪.‬‬
‫ً‬
‫بنفسك‬ ‫يف تلك السنين كان الطواف بأكثر دقة من موديانو‪،‬‬
‫خذ سلة الزمان‬ ‫فنشتم واجهات عتيقة‪ ،‬ونستنشق روائح غابرة قرب‬
‫املنفتحة‬ ‫مقاهي مل تعد موجودة‪ .‬لكن األزقة احتفظت بالنكهة‬
‫عىل البحر‬ ‫البطولية وبخطواتنا الهائمة الصغيرة‬

‫‪X‬‬ ‫لقد تركت الجدران والجنان تكتمل يف ضوء الصباح‪.‬‬


‫هل تنوي انتزاع‬
‫‪-‬بقسوة‪-‬‬
‫جئنا دون أن نقول أي شيء لنرتوي من الجمال‪.‬‬
‫األمل‬
‫األيادي والقصائد‪.‬‬
‫الواضع‬
‫همنا الوحيد بالقليل الذي يفتح‪.‬‬
‫عىل الكتف‬
‫سجل القلب البطيء‬ ‫الطفولة‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫‪XI‬‬ ‫مل نعد نعرف شيئًا تقريبًا‪ .‬نقترب‪ .‬كل ما يف األمر‪.‬‬
‫بداخلنا يرتجف القانون‬ ‫الحياء يكمل الباقي‪.‬‬
‫وقد مات بين الظالل‬ ‫أحيانًا يعلو غبار النهار فقط‪ .‬النقوش والظالل‪.‬‬
‫اللسان يأخذ بمجاري‬ ‫وتبقى التالل والجنان تحرس األعماق‪.‬‬
‫املياه معكرة‬ ‫(من ديوانه‪« :‬األزقة تصعد إىل الليل» منشورات‬
‫األصوات‬ ‫هنري ‪)2016‬‬
‫‪138‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫ثمة يتسلق التذكر بالكاد‬ ‫والقلوب‬


‫تعب ثقيل‬ ‫(من ديوانه‪ :‬ليلة مغلقة‪ ،‬منشورات «أزرق الحبر»‬
‫يعرف الضوء مكاننا الصحيح بين رياح الجمر‬ ‫‪)2021‬‬
‫وغبار أسماء‬
‫متهجية عبثًا‬ ‫‪ -3‬المساء‬
‫وكم هي مفتضحة‬
‫ستكون الحفلة يف وقت الحق‪ ..‬و‬ ‫يف املساء‬
‫تؤجج بوادر األمس‬ ‫تبني السماء عشها بالجذم‬
‫الجرح املقبق‬ ‫وجوعنا يخترع مسارات يف القلب بدون سبب‪،‬‬
‫لبلد ضايقته األماسي‬ ‫بالكاد درب أو زخة مطر‬
‫(من ديوانه‪« :‬األوتار املظلمة»‪ ،‬طبعة البتراء‪)2017 ،‬‬ ‫علينا بحياكة األيام للصيف‪ ،‬اللجوء إىل تلك األفراح‬
‫الصغيرة املألوفة وكأنها كنوز مخبأة تحت الحجر‪.‬‬
‫‪ -5‬دع الليل يستضيء أمام عينيك‬ ‫ال افتراض يف الحرارة وال يف تلك االستراحة بشكل‬
‫بهيج عندما يتضخم النهار والقلب ضعيف‪ ..‬ولكن‬
‫دع الليل يستضيء أمام عينيك‬ ‫سنتأسى تحت الشجر‬
‫كما يسبح آخرون يف البحر‬ ‫ملحا أزرقَ نثبته يف قلب الغرابة‬
‫ونخطف من السماء ً‬
‫كتذكار لك‬ ‫ثم نحيا‬
‫دع يديك تغلقان الثمرة‬ ‫(‪)...‬‬
‫املثقلة عىل جفنيك‬ ‫فجأة‪ ،‬بدت تلة‪ ،‬قمم‪ ،‬والنظر يتحاشى كل سوء‬
‫إنه خوخ الهدوء‬ ‫فهم‪ .‬لقد رأيت بأم عينيك شجرة الوحدة هذه‪ ،‬تلسع‬
‫كمن يقبل وج ًها‬ ‫السماء بإبر خضراء تجلدك‪ .‬سوف تعود إىل هنا‬
‫يف الظالم‬ ‫بجيوبك املعبأة كلمات‪ .‬شيء من األسى املرتحل‪ .‬يف‬
‫القلب‪.‬‬
‫دهرا‬
‫لقد انتظرتك ً‬ ‫رياحا من الرغوة‪.‬‬
‫ً‬ ‫يف البعيد يدفع راع أمامه‬
‫كمن ينتظر عىل عتبة باب آخر‬ ‫عن قرب‪ ،‬ترتجف اليد‪.‬‬
‫مفتوح عىل الزهور‬ ‫(من ديوانه‪« :‬لغة التيه الحلوة»‪ ،‬منشورات الرأس‬
‫املقلوب‪)2018 ،‬‬
‫أحيانًا كان املطر يأتي‬
‫ملحاربة عروقي‬ ‫‪ -4‬يتبقى في أعالي النهار بعض من‬
‫أمنيات الطفولة‬
‫أحيانًا القلب‬
‫وقد تركني‬ ‫يتبقى يف أعايل النهار بعض من أمنيات الطفولة‬
‫يعود ليحط بي‬ ‫ملَّا نغطس عند الجرف دون رؤية‬
‫جنوني‬
‫ٍّ‬ ‫بحب‬
‫ٍّ‬ ‫متدفقًا‬ ‫شعلة القبرات وال صبر األعشاب‬
‫منبهرا‬
‫ً‬ ‫ها أنت تشاهد مسا ًء‬ ‫املد الزمني البسيط ورائحة األعياد‬
‫تحت القمر‬ ‫مل تعد تعرفني الجدران ومن الحظيرة‬
‫وتمشي مشيتك‬ ‫ما زلت أعاني من البرد القارس‬
‫بين فروات القمح الصامتة‬ ‫ملَّا يصعد الشتاء حتى سالمل الحزم‬
‫(من ديوانه‪« :‬الشوارع»‪ ،‬طبعة البجعة‪)2020 ،‬‬ ‫عبر أبواب مفتوحة‬
‫الملف‬
‫الثقـافي‬
‫(المجتمع المدني في مرمى‬
‫نيران الديكتاتوريات)‬
‫إعداد‪ :‬د‪.‬سامية سالم‬
‫‪140‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫واملؤسسات التي تنشأ‬ ‫ونشر الثقافة‪ ،‬فينعكس هذا‬ ‫أغلب الدراسات‬

‫تتجه‬
‫بمبادرات أهلية‪ ،‬من خالل‬ ‫عيل مؤسسات الدولة بشكل‬ ‫التي تناقش فكرة‬
‫العمل التطوعي‪ ،‬والتي لها‬ ‫إيجابي‪.‬‬ ‫املجتمع املدني إىل‬
‫طابعها االجتماعي‪ .‬هذه‬ ‫لقد أصبح مفهوم املجتمع‬ ‫تحجيم هذه الفكرة‬
‫املنظمات تعمل يف مجاالت‬ ‫املدني من أهم مفردات‬ ‫إيل حد غير قليل‪،‬‬
‫ثقافية واجتماعية واقتصادية‬ ‫الديمقراطية واإلصالح التي‬ ‫وتتم مناقشة هذه‬
‫وحقوقية متنوعة‪ ،‬وهي يف‬ ‫تتناولها الكتابات وامللتقيات‬ ‫الفكرة من خالل مفهوم‬
‫عملها هذا تحظى باستقالل‬ ‫الفكرية منذ تسعينيات‬ ‫الدولة‪ ،‬باعتبار أن الدولة هى‬
‫نسبي عن املؤسسات‬ ‫القرن العشرين‪ .‬وقد جاء‬ ‫األساس والقوة الغالبة‪.‬‬
‫الرسمية‪ ،‬إال أن هذا‬ ‫مفهوم املجتمع املدني مرتب ًطا‬ ‫ما هي العالقة القائمة بين‬
‫االستقالل ال يمنع التنسيق‬ ‫بمفاهيم أخرى‪ ،‬كالحرية‬ ‫املجتمع املدني والدولة؟ هل‬
‫واملشاركة السياسية وحقوق‬ ‫قامت بعض الدول بإرساء‬
‫اإلنسان واملؤسسات‬ ‫دعائم مؤسسات املجتمع‬
‫والقانون‪.‬‬ ‫املدني بفعل عدم قدرتها عىل‬
‫ويشير مصطلح املجتمع‬ ‫اإليفاء بمتطلبات وحاجيات‬
‫املدني إىل كيانات تطوعية من‬ ‫األفراد واملجتمع؟ وهل‬
‫املنظمات املدنية‪ ،‬واملنظمات‬ ‫املجتمع املدني يتقاسم األعباء‬
‫غير الربحية التي لها وجو ٌد‬ ‫املجتمعية مع الدولة؟ أم أن‬
‫د‪.‬سامية سالم‬ ‫يف الحياة العامة‪ ،‬والتي‬ ‫هذا الكيان نشأ عن ضرورة‬
‫ترتكز عىل اعتبارات أخالقية‪،‬‬ ‫ذاتية فرضتها الكثير من‬
‫أو ثقافية‪،‬‬ ‫املواقف االستبدادية يف بعض‬

‫بين المجتمـــــــــ‬ ‫أو سياسية‪،‬‬


‫أو علمية‪،‬‬
‫أو دينية‪،‬‬
‫الدول التي عجزت عن إقامة‬
‫ممارسات حقيقية لحقوق‬
‫اإلنسان‪.‬‬
‫أو خيرية‪،‬‬ ‫لقد وجد مصطلح املجتمع‬
‫تقوم بإنشاء‬ ‫رواجا يف العقود‬
‫ً‬ ‫املدني‬
‫كيانها الذاتي‪ ،‬وتصوغ‬ ‫األخيرة عىل الصعيد العربي‬
‫مبادئها وأنشطتها‪،‬‬ ‫والعاملي‪ ،‬لكنه نشأ وارتقي‬
‫وتضع قوانينها‪ ،‬أو عقدها‬ ‫بشكل واسع يف البيئة‬
‫االجتماعي الخاص بها‬ ‫الغربية‪ ،‬وأصبح ُيقدم‬
‫واملميز لها‪ .‬فهي مؤسسات‬ ‫عىل أساس أنه مرجعية‬
‫ذاتية‪ ،‬وكيانات مستقلة‬ ‫اجتماعية خارج إطار‬
‫التكوين والعمل‪ ،‬تقوم عىل‬ ‫السلطة‪ .‬وما زال املجتمع‬
‫التطوع‪ ،‬والدفاع عن املصالح‬ ‫املدني يف الوطن العربي‬
‫العامة للمجتمع‪ ،‬وممارسة‬ ‫يحاول التواجد والتفاعل‬
‫الرقابة املجتمعية‪ ،‬أي تقوم‬ ‫والنهوض واملقاومة‪ ،‬وما‬
‫بدور مكمل لدور الدولة‪.‬‬ ‫زالت مؤسساته يف حاجة‬
‫يعرف املجتمع املدني عىل‬ ‫إىل املزيد من الوقت والجهد؛‬
‫أنه مجموعة التنظيمات‬ ‫لتتمكن من رفع الوعي‬
‫‪141‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫املعنية بحقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫والتكامل مع تلك املؤسسات‬


‫ويضم املجتمع املدني يف‬ ‫وذلك من خالل عالقات‬
‫تفسير بعض الفالسفة‬ ‫التعاون واالنسجام فيما‬
‫أمثال هيجل‪ :‬األجهزة‬ ‫بينها‪.‬‬
‫األيديولوجية والتربوية‬ ‫ويظهر العمل التطوعي الذي‬
‫للدولة الحديثة (املدارس‬ ‫يميز طبيعة تلك املنظمات‬
‫والجامعات واملؤسسات‬ ‫والهدف من أدائها الوظيفي‪،‬‬
‫التربوية األخرى) باستثناء‬ ‫والذي يكون يف الهدف‬
‫القضاء والبرملان والحكومة‬ ‫الرئيس منه التعبير عن‬
‫التي تتشكل كأجهزة‬ ‫مصالح األعضاء والغايات‬
‫حكومية تقوم بخدمة السلطة‬ ‫واملثل التي ينشدونها‪ ،‬والتي‬
‫السياسية من حيث هي‬ ‫قد تكون نقابية أو مهنية‪،‬‬
‫سلطة‪.‬‬ ‫كاالتحادات املهنية والعمالية‪،‬‬
‫ويرتكز دور املجتمع املدني‬ ‫والثقافية‪ ،‬كاتحادات األدباء‬
‫يف تنظيم وتفعيل املشاركة‪،‬‬ ‫واملفكرين والجمعيات‬
‫وتعمل مؤسساته عيل‬ ‫الثقافية‪ ،‬أو حقوقية ودفاعية‬
‫مواجهة السياسات التي‬ ‫لجماعات وفئات معينة يف‬
‫تضر بحرية الشعوب‪،‬‬ ‫املجتمع‪ ،‬كالجمعيات املعنية‬
‫وبحقوق اإلنسان‪ ،‬أو تزيد‬ ‫بشئون املرأة واملنظمات‬
‫من معاناتها‪ ،‬ومقاومة‬
‫انتهاكات حقوق‬
‫اإلنسان من‬
‫خالل أنشطة هذه‬
‫املؤسسات‪ ،‬وخلق‬
‫ــــع المدني وسلطة الدولة‬
‫املبادرة الذاتية‪،‬‬
‫والدعوة إىل حرية‬
‫املواطنين يف التعبير والتغيير‬
‫والتفاعل مع مجتمعهم‪،‬‬
‫وتوعيتهم بمفهوم العمل‬
‫السياسي واملشاركة يف بناء‬
‫الدولة‪ ،‬فاملواطن ال بد أن‬
‫يقوم بدور فاعل يف املجتمع‪.‬‬
‫وتوجد مجموعة من‬
‫الوسائل التي تساهم يف‬
‫دعم فكرة املجتمع املدني‪،‬‬
‫وهي‪ :‬القانون‪ :‬هو مجموعة‬
‫من القواعد التي تُساهم يف‬
‫تطبيق كافة األفكار الخاصة‬
‫باملجتمع املدني‪ ،‬من خالل‬
‫‪142‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وكذلك مكافحة البطالة‪،‬‬ ‫مع حكومة مركزية تحافظ‬ ‫توفير نصوص قانونية‬
‫وإعانة الفقراء والتنمية‬ ‫عىل االستخدام الشرعي‬ ‫ترتبط بها‪ ،‬وتمنحها صفة‬
‫البشرية‪ ،‬ويف مجال الرعاية‬ ‫للقوة‪.‬‬ ‫حقيقية‪ ،‬وقابلة للتطبيق‪.‬‬
‫واإلغاثة اإلنسانية والتنمية‬ ‫عرفت‬
‫كما َّ‬ ‫الدستور‪ :‬هو مجموعة من‬
‫الثقافية واالجتماعية‬ ‫موسوعة الروس‪-‬‬ ‫التشريعات التي ترتبط‬
‫واالقتصادية والصحية‬ ‫‪ Larousse‬الفرنسية الدولة‬ ‫ويساهم الدستور‬ ‫بالدول‪ُ ،‬‬
‫والسياسية والرياضية‬ ‫بأنها‪« :‬مجموعة من األفراد‬ ‫املدني بتطبيق األفكار املدنية‬
‫والتراثية والبيئية وحقوق‬ ‫الذين يعيشون عىل أرض‬ ‫بشكل واقعي داخل املجتمع‪.‬‬
‫اإلنسان‪.‬‬ ‫محددة ويخضعون لسلطة‬ ‫مشاركة الشعب‪ :‬هي الوسيلة‬
‫ومع كل هذه الشراكة بين‬ ‫معينة»‪ .‬يف حين رأى العديد‬ ‫التي تؤسس لدور أفراد‬
‫املجتمع املدني والدولة ال‬ ‫من فقهاء القانون الدستوري‬ ‫املجتمع يف اتخاذ القرارات‪،‬‬
‫يجب أن تعلو سلطة فوق‬ ‫أن الدولة‪« :‬كيان إقليمي‬ ‫ومن األمثلة عليها‪ :‬البرملان‪.‬‬
‫سلطة املجتمع املدني إال‬ ‫يمتلك السيادة داخل الحدود‬ ‫أما الدولة‪ ،‬فهي جماعة من‬
‫القانون‪ ،‬فاملجتمع املدني‬ ‫وخارجها‪ ،‬ويحتكر قوى‬ ‫الناس منظمة سياسيًّا تبسط‬
‫يشهد الكثير من الخالفات‬ ‫وأدوات اإلكراه»‪.‬‬ ‫سيطرتها عىل إقليم ما‪ ،‬وال‬
‫التي ال بد منها‪ ،‬والتي‬ ‫ولكي ينطلق املجتمع املدني‬ ‫نجد لها تعريفًا جام ًعا مان ًعا‪،‬‬
‫يحسمها القانون يف إطار من‬ ‫ومؤسساته بدوره يف خدمة‬ ‫فهي مجتمع منظم قائم‬
‫العدالة والسلمية‪.‬‬ ‫الدولة‪ ،‬يجب أن يتحرر‬ ‫عىل أرض محددة يستأثر‬
‫لقد كان تطور مفهوم املجتمع‬ ‫من تبعيتها‪ ،‬فال ينبغي‬ ‫بسلطة عليها إصدار القوانين‬
‫املدني متماهيًا بشكل كبير‬ ‫لها أن تكون مجرد تابع‬ ‫ومعاقبة املخالفين وحماية‬
‫مع التطور الذي عرفه‬ ‫لألنظمة‪ ،‬تنشر ثقافتها‪،‬‬ ‫األفراد‪ ،‬وتعد أقوى النظم‬
‫شكل الدولة‪ ،‬ويكاد ُيجمع‬ ‫وتتحدث باسمها‪ ،‬وتدافع عن‬ ‫واملُؤسسات‪ ،‬وصاحبة الحق‬
‫الباحثون أن التطور البنيوي‬ ‫منهجياتها وأطرها‪ ،‬لكن هذا‬ ‫يف إصدار القوانين‪ ،‬وقيام‬
‫الذي شهده كالهما كان‬ ‫االستقالل عن الدولة الذي‬ ‫السلطة يف أي أُمة أمر بديهي‬
‫بفعل التفاعل املستمر بينهما‬ ‫يجب أن يتميز به املجتمع‬ ‫تتطلبه طبائع األمور‪ ،‬فحيث‬
‫–تعاونًا ومواجه ًة‪ -‬منذ‬ ‫املدني ومؤسساته وأنشطته‬ ‫توجد السلطة يوجد التنظيم‪،‬‬
‫زمن النشوء‪ ..‬إذن‪ ،‬فالعالقة‬ ‫ال يعني عيل اإلطالق نفي‬ ‫وتتوفر عندئ ٍذ نواة الدولة‬
‫بينهما عالقة وظيفية‬ ‫عالقة التأثير والتأثر بينهما‪،‬‬ ‫التي تضمن الحقوق لألفراد‪،‬‬
‫ضرورية ال يمكن أن يؤدي‬ ‫ألن املجاالت بينهما مشتركة‪،‬‬ ‫وتتوىل الدفاع عنهم‪ ،‬وتضمن‬
‫أحد الطرفين دوره الفاعل‬ ‫وبخاصة املجال االجتماعي‪،‬‬ ‫أمن املواطنين ضد األخطار‪.‬‬
‫الذي ينبغي أن يضطلع به يف‬ ‫وشرط النجاح لهما أن يعمال‬ ‫وتقوم شرعية الدولة عيل‬
‫غياب وجود الطرف اآلخر‬ ‫يف سياق تكاميل تشاركي‪.‬‬ ‫قدرتها عيل حماية مجموعة‬
‫وفعاليته كذلك‪ ،‬فاملجتمع‬ ‫والعالقة بين املجتمع املدني‬ ‫من الحقوق الطبيعية‬
‫املدني ُيعد ضرورة للدولة‬ ‫والدولة يتمثل يف تقديم‬ ‫والسياسية‪.‬‬
‫واملجتمع عىل حد سواء‬ ‫الخدمات العامة ورعاية‬ ‫والتعريف األكثر شيو ًعا‬
‫باعتباره يمثل حلقة الوصل‬ ‫املوهوبين واملعاقين‪ ،‬ويف‬ ‫ملفهوم الدولة هو تعريف‬
‫الوظيفي بينهما‪.‬‬ ‫نشر الثقافة ومحو األمية‪،‬‬ ‫املفكر األملاني ماكس فيبر‪-‬‬
‫ويظهر الدور الحقيقي‬ ‫وغيرها من الخدمات التي‬ ‫عرفها‬ ‫‪ ، Max Weber‬فقد َّ‬
‫للمجتمع املدني يف الدول‬ ‫تخص االرتقاء بالوعي‪،‬‬ ‫بأنها منظمة سياسية إلزامية‬
‫‪143‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫الحريصة عىل الحريات‬


‫فقط‪ ،‬ومن الصعوبة بمكان‬
‫أن يكون هناك دور حقيقي‬
‫للمجتمع املدني يف املجتمعات‬
‫املستبدة‪ ،‬أو لدى الدول التي‬
‫تحكمها أنظمة قهرية بعيدة‬
‫عن املمارسات الديمقراطية‪،‬‬
‫حيث إن الدولة يف هذه الحالة‬
‫تخترق مؤسسات املجتمع‬
‫املدني‪ ،‬وال تمكنها من أداء‬
‫دورها الحقيقي‪.‬‬
‫ويمتاز النشاط املدني بحد‬
‫ذاته بسمة التطور‪ ،‬وهذه هي‬
‫سمة خاصة‪ ،‬فهو مرن إىل‬
‫الحد الذي يجعله يأخذ شكله‬
‫هيجل‬ ‫توماس هوبز‬ ‫آدم فرجسون‬ ‫مع شكل التقدم الزمني‬
‫الحاصل يف املكان‪ .‬فالنشاط‬
‫املدني يتبع األحداث املختلفة‬
‫فرجسون) حول تاريخ‬ ‫وتعتبر مسألة تحديد مفهوم‬ ‫عىل الساحة االجتماعية‬
‫املجتمع املدني الصادر‬ ‫املجتمع املدني من مسائل‬ ‫والتأثير السياسي‬
‫سنة ‪ ،1767‬والذي أثار‬ ‫الفلسفة العملية موضو ًعا‪،‬‬ ‫واالقتصادي عىل بلد مجرد‬
‫فيه تساؤالت حول تمركز‬ ‫ومن مسائل الفلسفة النظرية‬ ‫مرحلة تؤدي إىل الدولة‪ ،‬أو‬
‫السلطة السياسية‪ ،‬واعتبر‬ ‫منهجا‪ ،‬فقد انشغل بمفهوم‬ ‫ً‬ ‫قل إنه مرحلة وسطي بين‬
‫أن حركة املجتمع املدني هي‬ ‫املجتمع املدني فالسفة‬ ‫األسرة والدولة‪.‬‬
‫النسق األفضل للدفاع ضد‬ ‫التنوير يف مرحلة مقاومة‬ ‫ويأتي هذا بعكس االتجاه‬
‫مخاطر االستبداد السياسي؛‬ ‫أنظمة الحكم املطلق‪ ،‬ومل‬ ‫الليبرايل الذي يؤكد عيل‬
‫كما فرق (توماس هوبز) بين‬ ‫تحلْ النظرة الفلسفية دون‬ ‫ُ‬ ‫أهمية املجتمع املدني واإلعالء‬
‫الدولة واملجتمع املدني يف‬ ‫إضفاء الطابع السياسي‬ ‫من دوره‪ ،‬ويتخوف هذا‬
‫كتابه حول حقوق اإلنسان‬ ‫عىل هذا املفهوم‪ ،‬إذ جعلوه‬ ‫االتجاه من بعض املمارسات‬
‫الصادر سنة ‪ ،1791‬ودعا‬ ‫ً‬
‫مقابل للدولة االستبدادية‪،‬‬ ‫من جانب السلطة‪ ،‬والتي‬
‫إىل حكومة محددة الوظائف‬ ‫وانتشر تداول هذا املصطلح‬ ‫تلغي يف بعض األحيان‬
‫ومجتمع مدني حر‪.‬‬ ‫يف أوروبا يف القرن السابع‬ ‫املشاركة يف املجتمع املحيل‪،‬‬
‫كما تبلور املفهوم الحديث‬ ‫عشر مع نشوء الديمقراطيات‬ ‫ويف الجمعيات واملؤسسات‬
‫للمجتمع املدني من خالل‬ ‫التي أقيمت عىل أنقاض‬ ‫املدنية والسياسية‪ ،‬وتحذر‬
‫ما كتبه (هيجل) يف مؤلفه‬ ‫األنظمة السياسية التي كان‬ ‫من انعدام املساواة‪ ،‬وتراجع‬
‫(مبادئ فلسفة الحق)‬ ‫يسودها الحكم املطلق‪ ،‬ونفوذ‬ ‫الحريات؛ لذلك يحاول هذا‬
‫الصادر سنة ‪ ،1812‬حيث‬ ‫الكنيسة‪ ،‬وهيمنة اإلقطاع؛‬ ‫االتجاه رفع شأن املجتمع‬
‫أشار فيه إىل أن «املجتمع‬ ‫ويف هذا السياق يأتي كتاب‬ ‫املدني ومنحه الدور الذي‬
‫املدني يقع بين األسرة‬ ‫املفكر االسكتلندي (آدم‬ ‫يستحقه‪.‬‬
‫‪144‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وأن واجب األفراد دوما‬ ‫والدولة‪ ،‬وأنه يتكون من‬


‫الخضوع التام للدولة وحق‬ ‫األفراد والطبقات والجماعات‬
‫الفرد يف الحرية ال يتحقق إال‬ ‫واملؤسسات‪ ،‬وتنتظم كلها‬
‫بقيام الدولة‪.‬‬ ‫داخل القانون املدني»‪.‬‬
‫وترفع هذه النزعة الهيجلية‬ ‫وبرغم أن تناول هيجل‬
‫من شأن الدولة‪ ،‬فترى فيها‬ ‫للدولة من حيث الترتيب بعد‬
‫الجوهر الحقيقي الذي نطمئن‬ ‫املجتمع املدني‪ ،‬إال أنه يعدها‬
‫له جمي ًعا‪ ،‬وتضعها فوق‬ ‫النهاية‪ ،‬وهي يف نفس الوقت‬
‫املجتمع‪ ،‬وتقود إىل إضفاء‬ ‫األساس والبداية‪.‬‬
‫صفة سلبية عىل مفهوم‬ ‫واملجتمع املدني‪ ،‬حسب‬
‫أيضا لصالح‬ ‫املجتمع املدني ً‬ ‫فلسفة هيجل هو الوسيط‪،‬‬
‫تقديس وهيمنة متزايدة‬ ‫وهو اإلنتاج الخاص الذي ال‬
‫ملفهوم الدولة‪.‬‬ ‫ماكس فيبر‬ ‫يمكن أن يولد أو يتطور إال‬
‫وبهذا تكون الدولة عند هيجل‬ ‫والتملك الفردي والصراع‪،‬‬ ‫يف كنف الدولة وبواسطتها‪،‬‬
‫هي الكيان الذي له الكلمة‬ ‫وال يجد الخالص إال يف‬ ‫بحسب تعبيره‪ .‬ومن هنا‬
‫العليا عىل األفراد واملجتمع‬ ‫الدولة حيث الكيان الشامل‪،‬‬ ‫كانت العالقة بين االثنين‬
‫املدني واملؤسسات الدينية‬ ‫فاملجتمع املدني يعد نو ًعا من‬ ‫عالقة تكامل وتعارض يف‬
‫وجميع املؤسسات‪ ،‬وهي‬ ‫الوقت ذاته‪.‬‬
‫التفاعل التلقائي‪ ،‬ويقوم عىل‬
‫النموذج األعىل‪ ،‬واملرتكز‬ ‫وعندما يتناول هيجل املجتمع‬
‫العادات والتقاليد‪ ،‬أما الدولة‬
‫األساسي يف البناء السياسي‬ ‫املدني يقوم بدراسته من‬
‫فهي ذلك التكوين املتسق‬
‫عيل حساب املجتمع املدني‪.‬‬ ‫حيث هو املسافة بين الفرد‬
‫من املؤسسات السياسية‬
‫وتتكون فكرة الدولة عند‬ ‫والدولة‪ .‬وينظر هيجل إيل‬
‫والقانونية‪.‬‬
‫هيجل من ثالث كيانات‪:‬‬ ‫املجتمع املدني باعتباره‬
‫ً‬ ‫وال يؤمن هيجل بأن الدولة‬
‫أول‪ :‬القانون الدستوري‬ ‫مجموع الروابط القانونية‬
‫تقوم عىل التعاقد‪ ،‬فالدولة‬ ‫واالقتصادية التي تنظم‬
‫املنظم للدولة‪ :‬وهو الذي‬
‫يقسم الدولة إىل ثالثة أقسام‬ ‫ال تقوم عىل خيار أعضائها‪.‬‬ ‫عالقات األفراد‪ ،‬وتضمن‬
‫وهي‪ :‬سلطة تشريعية‪،‬‬ ‫ويصف املجتمع املدني عىل‬ ‫التعاون فيما بينهم‪ ،‬وهو‬
‫وسلطة تنفيذية‪ ،‬وسلطة امللك‬ ‫أنه نظام قائم عىل األنانية‬ ‫خطوة من خطوات الوصول‬
‫أي السلطة الحاكمة‪ ،‬وهى‬ ‫البحتة‪ .‬يف حين يقرر بأن‬ ‫إيل الدولة ذاتها‪ ،‬فاملجتمع‬
‫التي لها الهيمنة النهائية عند‬ ‫عالقة الفرد بالدولة مختلف‬ ‫املدني‪ ،‬ال يتم الشعور‬
‫هيجل‪.‬‬ ‫ج ًّدا عن هذه النظرة‪ ،‬فالدولة‬ ‫بوجوده الحقيقي إال يف‬
‫ويرفض هيجل مبدأ فصل‬ ‫عنده هي بمثابة تمثيل للروح‬ ‫الدولة التي تجسد ما هو‬
‫السلطات؛ ألنه مدمر للدولة‬ ‫املطلقة عىل األرض‪ ،‬وال تتم‬ ‫مطلق‪ ،‬أي الحرية والقانون‬
‫‪-‬من وجهة نظره‪ -‬وهذا‬ ‫إنسانية اإلنسان وحياته‬ ‫والغاية التاريخية يف أعظم‬
‫بالطبع يخالف رأى كل من‬ ‫ووجوده الفعيل واألخالقي‬ ‫تجلياتها‪.‬‬
‫يطالب بفصل السلطات‬ ‫إال يف كنفها‪.‬‬ ‫ويظل املجتمع املدني مجتمع‬
‫الثالث؛ ألن هذا من وجهة‬ ‫كما أكد هيجل عىل أن الدولة‬ ‫املصالح الفردية واملشاريع‬
‫نظرهم يضمن الحريات‬ ‫لها من القوة والعظمة ما‬ ‫الخصوصية ‪-‬بحسب رأي‬
‫وكفالة الحقوق‪ ،‬ويخالف‬ ‫يجعلها متعالية عن األفراد‪،‬‬ ‫هيجل‪ -‬أي مجتمع االنقسام‬
‫‪145‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫الدستور والقانون‪.‬‬ ‫ويؤكد عيل دور وحرية‬ ‫أيضا كل من يدعون إىل‬ ‫ً‬
‫وعيل الدولة أن توفر‬ ‫األفراد‪ ،‬وأهمية العمل املدني‬ ‫التمكين لفكرة املجتمع املدني‪،‬‬
‫املوارد لدعم املجتمع املدني‬ ‫والتطوعي‪ ،‬ويصر عىل‬ ‫ويدعون لها‪.‬‬
‫وأنشطته‪ ،‬وتحمي األفراد‬ ‫االستقاللية التامة للمجتمع‬ ‫ثانيًا‪ :‬القانون الدويل‪ :‬وهو‬
‫من الصراعات يف ظل مجتمع‬ ‫املدني‪.‬‬ ‫الذي ينظم ويحكم العالقات‬
‫مدني يدافع عن الحريات‬ ‫وعندما تتنحى مؤسسات‬ ‫بين الدول املستقلة‪.‬‬
‫ضد الهيمنة‪ ،‬ويؤدي مهامه‬ ‫املجتمع املدني عن دورها‬ ‫ثالثًا‪ :‬تاريخ العامل‪ :‬بوصفه‬
‫يف ظل سلطة يتوفر فيها‬ ‫املهم يف تثقيف التنشئة‬ ‫التحقق الفعيل لفكرة الدولة‬
‫األمان‪ ،‬تتعاون معه وتتبادل‬ ‫السياسية‪ ،‬فالتنافس‬ ‫يف العامل الشرقي واليوناني‬
‫الرقابه بينه وبينها‪ ،‬وتدعم‬ ‫السياسي الحاد للقوى‬ ‫والروماني‪.‬‬
‫التطوع من جانب أعضاء‬ ‫السياسية والصراعات‬ ‫وقد ال نجانب الصواب إذا‬
‫املجتمع املدني‪.‬‬ ‫الحزبية والطائفية تكسب‬ ‫قلنا إن هذا التحيز لفكرة‬
‫ويدل التكامل بين الدولة‬ ‫جمهورها ثقافة عصبية‬ ‫يحجم من دور‬ ‫ِّ‬ ‫الدولة‬
‫واملجتمع املدني عىل النضج‬ ‫ترتكز عىل إقصاء اآلخر‪,‬‬ ‫املجتمع املدني ويبرر لعدم‬
‫السياسي‪ ،‬حيث يكون‬ ‫فتكون التنشئة السياسية‬ ‫توفر البيئة الدستورية‬
‫الحوار والتعاون والتواصل‬ ‫قائمة عىل ثقافة العنف‪.‬‬ ‫والتشريعية القانونية‬
‫أهم مكونات هذه العالقة‪،‬‬ ‫وغنى عن البيان أن استقامة‬ ‫والسياسية املالئمة لعمل‬
‫ويكون املتوقع من مؤسسات‬ ‫العالقة بين املجتمع املدني‬ ‫منظمات املجتمع املدني‪،‬‬
‫ومنظمات املجتمع املدني‬ ‫والدولة‪ ،‬ليست يف سيطرة‬ ‫ويؤدي إىل انحسار دور‬
‫‪-‬يف حالة التوافق بينها‬ ‫الدولة عىل املجتمع املدني‪،‬‬ ‫هذه املنظمات‪ ،‬وفرض‬
‫وبين الدولة‪ -‬االرتقاء‬ ‫وال يف إضعاف سيطرتها‬ ‫سيطرة السلطة عىل املجتمع‬
‫والتطور وإيجاد التغيير‬ ‫عليه‪ ،‬ولكن يف الشراكة‬ ‫املدني‪ ،‬مما يكرس لضعف‬
‫املطلوب يف الحياة السياسية‬ ‫بينهما لتتكامل األعمال‬ ‫املشاركة من جانب الجمعيات‬
‫واالجتماعية‪ ،‬وخلق أجواء‬ ‫واملهام؛ لذلك ال بد من‬ ‫واملؤسسات واملنظمات‬
‫الديمقراطية‪ ،‬ومقاومة‬ ‫تبادل الرقابة بين الحكومة‬ ‫املدنية‪ .‬وهذا عىل عكس‬
‫االستبداد‬ ‫واملجتمع املدني يف إطار‬ ‫التصور الليبرايل الذي يحث‬

‫املراجع‪:‬‬
‫‪ -‬د محمد عثمان الخشت‪ :‬املجتمع املدني عند هيجل‪ ،‬دار قباء للنشر والتوزيع‪.2015 ،‬‬
‫‪ -‬توفيق عبد الغني‪ :‬أُسس العلوم السياسية يف ضوء الشريعة اإلسالمية‪ ،‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪1986 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬خالد جاسم إبراهيم‪ :‬الدور الرقابي ملؤسسات املجتمع املدني وأثره يف تنمية املجتمع يف دولة اإلمارات‬
‫العربية‪ ،‬رسالة ماجستير غير منشورة‪ ،‬جامعة الشرق األوسط‪.2013 ،‬‬
‫‪ -‬د‪.‬عثمان الرواف‪ :‬مبادئ علم السياسة‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الثانية‪1421 ،‬هـ‪2001 -‬م‪.‬‬
‫‪ -‬محمد عبد املعز‪ :‬يف النظريات والنظم السياسية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬مناف الحمد‪ :‬الدولة املدنية يف الفكر اإلسالمي املعاصر‪ ،‬مركز حرمون للدراسات املعاصرة‪ ،‬أكتوبر ‪2016‬م‪.‬‬
‫‪- https://www.bipd.org/publications/Articles/1561‬‬
‫‪- https://www.ahewar.org/debat/show.art‬‬
‫‪- https://politicalencyclopedia.org/dictionay‬‬
‫‪- https://idraksy.net/state-and-civil-society‬‬
‫‪146‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الجمعيات الفلسفية‬ ‫هيجل املجتمع‬

‫منظمات المجتمع المدني والثقافة‪..‬‬


‫الجمعيات الفلسفية العربية‬
‫وضع‬
‫عىل مستوى الفكرة‬ ‫املدني يف مكانة‬
‫وسط بين األسرة‬
‫تلعب الجمعيات الفلسفية‪،‬‬ ‫والدولة‪ ،‬فهو أكبر‬
‫كأحد أشكال منظمات‬ ‫من األوىل وأصغر‬
‫دورا ثقافيًّا‬
‫املجتمع املدني‪ً ،‬‬ ‫من األخيرة‪ ،‬غير أنه يف هذه‬
‫مه ًّما يف املجتمع من خالل‬ ‫دورا‬
‫املكانة يمكنه أن يلعب ً‬
‫نشر املعرفة والعمل عىل‬ ‫ممي ًزا يف حياة املواطنين‪.‬‬
‫إعادة تشكيل الوعي‪ .‬وملا‬ ‫وإذا كانت منظمات املجتمع‬
‫كانت املجتمعات العربية‬ ‫املدني‪ ،‬من أحزاب ونقابات‬
‫مأزوما‪ ،‬فقد‬
‫ً‬ ‫تعاني وعيًا‬ ‫وجمعيات‪ ،‬هي كيانات‬
‫جاءت املنطلقات النظرية لهذه‬ ‫اجتماعية يلتف أفرادها‬
‫الجمعيات متسقة مع الهموم‬ ‫حول فكرة نبيلة تجمعهم‬
‫املجتمعية الناجمة عن األمية‬ ‫وال يستهدفون الربح‪ ،‬فإن‬
‫الثقافية والعلمية للمتعلمين‪.‬‬
‫املنتظر من هذه املنظمات أن‬
‫ومن األمور الالفتة أن‬
‫تحقق أحالم الناس التي ال‬
‫القائمين عىل هذه الجمعيات‬
‫تحققها الدولة‪ ،‬وال تقدر عىل‬
‫من املشتغلين بالفلسفة‬
‫تحقيقها األسرة‪.‬‬
‫مؤخرا حجم‬
‫ً‬ ‫قد أدركوا‬
‫وملا كانت الثقافة من‬
‫الفجوة الكبيرة التي بين‬
‫األمور التي ال تنفصل عن‬
‫الفلسفة من ناحية وبين‬
‫حياة اإلنسان االجتماعية‬
‫املجتمع من ناحية أخرى‪.‬‬
‫ليس هذا فحسب‪ ،‬بل إنهم‬ ‫واألخالقية والسياسية‪،‬‬
‫أدركوا مسئوليتهم تجاه هذا‬ ‫لزاما علينا أن نبحث‬
‫فكان ً‬
‫الصدع الذي جعل الفلسفة‬ ‫يف حقيقة العالقة التي بين‬
‫تنكفئ عىل نفسها وتصنع‬ ‫الثقافة واملجتمع املدني‪،‬‬
‫أسوارا حديدية شائكة‬ ‫والتساؤل عن الدور الذي‬
‫ً‬
‫تحول دون تعاطي الرجل‬ ‫يمكن أن تلعبه منظمات‬
‫العادي واألفكار الفلسفية‬ ‫املجتمع املدني يف تثقيف‬
‫ذات الصعوبة املنهجية‬ ‫املواطنين‪.‬‬
‫واملفاهيمية‪.‬‬ ‫ويف هذا املقال سنحاول‬
‫نموذجا‬

‫لهذه األسباب حرصت هذه‬ ‫أن نلقي الضوء عىل طبيعة‬


‫الجمعيات عىل أن تضمن‬ ‫الدور الذي يمكن أن تلعبه‬
‫أهدافها وبرامجها من املبادئ‬ ‫الجمعيات الفلسفية العربية‬
‫واألفكار ما من شأنه أن‬ ‫إزاء الظواهر املجتمعية التي‬
‫يمد جسور التواصل بين‬ ‫يعيشها املواطن العربي يف‬
‫الطرفين‪ ،‬بحيث تتخىل‬ ‫هذا العصر‪ ،‬عىل مستوى‬
‫د‪.‬ماهر‬
‫ً‬

‫الفلسفة عن رؤيتها النخبوية‬ ‫الفكرة وعىل مستوى‬


‫الفوقية‪ ،‬وتنزل إىل املجال‬ ‫املمارسة‪.‬‬ ‫عبد المحسن‬
‫‪147‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫العام يف محاولة لالنخراط يف‬


‫املشكالت اليومية واملساهمة‬
‫يف فهم وتفسير الظواهر‬
‫املستعصية تمهي ًدا لتقديم‬
‫الحل‪.‬‬
‫ويف هذا السياق يقول د‪.‬عمر‬
‫بوساحة رئيس الجمعية‬
‫الجزائرية للدراسات‬
‫الفلسفية‪« :‬إن جمعيته تهدف‬
‫إىل تحسيس املثقف بأهمية‬
‫الفلسفة البالغة يف فهم‬
‫القضايا الراهنة التي تخص‬
‫الجميع‪ ،‬ومحاولة الوصول‬
‫إىل املواطن العادي‪ ،‬مضيفًا‬
‫أن الجمعية تسعى إىل فتح‬
‫سالم الثنيان‬ ‫حسن حنفي‬ ‫أولفين توفلر‬
‫آفاق الحوار املجتمعي متبنية‬
‫الفلسفة كأداة للبحث عن‬
‫حلول لإلشكاليات والظواهر‬
‫الفلسفية األفروآسيوية‪،‬‬ ‫الفلسفي املبهم ليفهمه أكبر‬ ‫املستعصي حلها»‪( .‬جريدة‬
‫املصري اليوم‪/١١ /٣٠ ،‬‬ ‫عدد من الناس‪ ،‬انطالقًا من‬ ‫املوعد اليومي‪/١٢ /١٠ :‬‬
‫‪)٢٠٢٢‬‬ ‫كون كل الناس يتفلسفون»‪.‬‬ ‫‪)٢٠١٦‬‬
‫وتظل الرؤية الحضارية هي‬ ‫(املرجع السابق)‬ ‫ويالحظ أن بوساحة يريد‬
‫الغالبة عىل طرح مراد موهبة‪،‬‬ ‫وبهذا املعنى‪ ،‬يجيب بوساحة‬ ‫دورا يف‬
‫للفلسفة أن تلعب ً‬
‫حيث توجد فجوة حضارية‬ ‫عىل األسئلة التي طرحها‬ ‫تغيير وعي املثقف والرجل‬
‫بين الدول املتخلفة والدول‬ ‫د‪.‬مراد وهبه عندما قال‪:‬‬ ‫العادي عىل السواء‪ ،‬غير‬
‫املتقدمة‪ ،‬ليس ىف اإلمكان‬ ‫«وكانت هذه الظاهرة هي‬ ‫أنه يبدأ من أعىل إىل أسفل‪،‬‬
‫عبورها من غير املرور‬ ‫التي دفعتني إىل تنظيم‬ ‫ربما ألن املثقف لديه ينبغي‬
‫بمرحلتين إحداهما إقرار‬ ‫املؤتمر الدويل الفلسفي‬ ‫أن يقوم بدور الوسيط بين‬
‫سلطان العقل‪ ،‬واألخرى‬ ‫الخامس يف نوفمبر من عام‬ ‫الفيلسوف وبين اإلنسان‬
‫التزام العقل بتغيير الوضع‬ ‫‪ 1983‬تحت عنوان «الفلسفة‬ ‫العادي‪ ،‬من خالل حوار‬
‫القائم لصالح الجماهير‪.‬‬ ‫ورجل الشارع» ىف سياق‬ ‫مجتمعي يشارك فيه الجميع‪.‬‬
‫ويؤكد د‪.‬مصطفى النشار‪،‬‬ ‫اإلجابة عن ثالثة أسئلة‪:‬‬ ‫ويرى أن دور الجمعية أن‬
‫رئيس الجمعية الفلسفية‬ ‫كيف يمكن للفلسفة دفع‬ ‫«تعمل عىل إخراج املحتوى‬
‫املصرية عىل نزول الفلسفة‬ ‫رجل الشارع إىل أن يكون‬ ‫الفكري األكاديمي من أسوار‬
‫من برجها العاجي واختالطها‬ ‫سيد مصيره؟ كيف يمكن‬ ‫الجامعات وإيصاله للمواطن‬
‫بالقضايا املجتمعية‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫للفلسفة إحداث تغيير ذهنية‬ ‫والقارئ البسيط عبر‬
‫«نزلنا بالفعل من أبراجنا‬ ‫رجل الشارع؟ هل يف إمكان‬ ‫مؤلفاتها وندواتها‪ ،‬خاصة‬
‫منذ عام ‪2004‬م يف مصر‪،‬‬ ‫رجل الشارع بعد ذلك أن‬ ‫مع تبنيها أسلوب التبسيط‬
‫وانتشرت هذه الدعوة يف‬ ‫يتفلسف؟»‪( .‬رسالة الجمعية‬ ‫اللغوي وتحاشي التعقيد‬
‫ويكفي أن نستعرض‬ ‫الفلسفة جزء طبيعي من‬ ‫وكنت‬
‫ُ‬ ‫العامل العربي كله‪،‬‬
‫أهداف امليثاق حتى نتبين‬ ‫حياة املجتمعات من دون‬ ‫رائ ًدا للتوجه من دراسة‬
‫إىل أي مدى يبتعد االتحاد‬ ‫حالة ضرورية من الصراع‬ ‫الفلسفة النظرية وتاريخ‬
‫عن املجتمع ويقترب من‬ ‫بمنطق األحادية انطالقًا من‬ ‫الفلسفة إىل دراسة الفلسفة‬
‫االكاديمية‪ ،1« :‬تنسيق جهود‬ ‫تصورات تاريخية تنتمي‬ ‫التطبيقية والتركيز عىل‬
‫الفالسفة اللبنانيين والعرب‬ ‫لسياقات مختلفة‪ .‬فالتنوع‬ ‫معالجة قضايا الواقع من‬
‫لتعزيز مكانة الفلسفة وتنمية‬ ‫واالختالف والتعامل‬ ‫منظور فلسفي»‪( .‬الشخصية‬
‫حضورها يف الجامعات‬ ‫مع التعددية باعتبارها‬ ‫املصرية قادرة عىل إعادة‬
‫واملعاهد واملحافل الثقافية‪.‬‬ ‫مكسبًا ثقافيًّا واجتماعيًّا‬ ‫صناعة التاريخ‪ ،‬أخبار اليوم‪،‬‬
‫‪ ،2‬تنسيق أنشطة املشتغلين‬ ‫عالمة أساسية عىل حيوية‬ ‫‪)٢٠٢١ /١ /١٩‬‬
‫بالفلسفة من اللبنانيين‬ ‫املجتمعات‪ ،‬ويف عصرنا‬ ‫وأهم ما يميز رؤية النشار‬
‫والعرب يف املهجر وتفعيلها‬ ‫الحايل فإن املجتمعات‬ ‫أنه إضافة إىل كونه يتفق‬
‫يف لبنان والعامل العربي‪،3 .‬‬ ‫املحظوظة هي من تجد‬ ‫مع بوساحة ومراد وهبة يف‬
‫طريقها لكل ذلك»‪( .‬مصطفى تنسيق وتبادل الخبرات بين‬ ‫ضرورة أن تندمج الفلسفة‬
‫املشتغلين يف الفلسفة بهدف‬ ‫األنصاري‪ ،‬بعد عقود عىل‬ ‫يف املجتمع‪ ،‬وتُعنى بقضايا‬
‫االرتقاء باملناهج والبرامج‪.‬‬ ‫تحريمها‪ ..‬جمعية فلسفة يف‬ ‫الراهن وهموم اليومي‪،‬‬
‫‪ ،4‬تنشيط فعاليات الجمعيات‬ ‫السعودية‪ ،‬اندبندنت عربية‪،‬‬ ‫فإنه ال يبدأ من املثقف‪ ،‬مثل‬
‫الفلسفية يف لبنان والدول‬ ‫‪)٢٠٢٠ /١١ /١٣‬‬ ‫بوساحة‪ ،‬وال باإلنسان‬
‫العربية‪ ،5 .‬التفاعل مع‬ ‫وال يشذ عن هذا التوجه‬ ‫العادي‪ ،‬مثل وهبة‪ ،‬لكنه يبدأ‬
‫الجمعيات الفكرية والعلمية‬ ‫سوى جمعية «االتحاد‬ ‫من الطفل‪ ،‬فيقول‪« :‬وهناك‬
‫يف دول العامل العربي‪،6 .‬‬ ‫الفلسفي العربي» اللبنانية‪،‬‬ ‫اآلن عالجات بالفلسفة‬
‫تشجيع الدرس الفلسفي يف‬ ‫حيث تركز يف مبادئها‬ ‫ملعظم القضايا املجتمعية‪،‬‬
‫الجامعات واملعاهد واملدارس‬ ‫التأسيسية عىل تشجيع‬ ‫والعامل اآلن يهتم بتدريس‬
‫الدرس الفلسفي يف الجامعات الثانوية‪ ،7 .‬املساهمة يف‬ ‫الفلسفة لألطفال عن طريق‬
‫نشر نصوص الفلسفة تأليفًا‬ ‫واملعاهد واملدارس الثانوية‪،‬‬ ‫تنمية مهارات التفكير‬
‫وترجمة وتحقيقًا للتراث‬ ‫كما يتوجه الخطاب إىل‬ ‫النقدي املُستقل‪ ،‬فالطفل‬
‫املشتغلين بالفلسفة يف لبنان الفلسفي العربي»‪( .‬مركز‬ ‫ُيولد فيلسوفًا‪ ،‬ولهذا علينا‬
‫املعلوماتية القانونية‪ ،‬الجامعة‬ ‫والعامل العربي‪ ،‬ما يعني‬ ‫أن نُعلمه بأال ُيسلم مباشرة‬
‫اللبنانية)‬ ‫غياب البعد املجتمعي عن‬ ‫بالرأي أيا كانت السلطة التي‬
‫وبمناسبة افتتاح «معهد‬ ‫امليثاق التأسيسي لالتحاد‬ ‫تُلقيه إليه‪ :‬األم أو األب أو‬
‫الفلسفة» بتونس عام‬ ‫وتغليب البعد العلمي‬ ‫املدرسة»‪( .‬املرجع السابق)‬
‫صرح د‪.‬فتحي‬ ‫‪٢٠١٩‬م‪َّ ،‬‬ ‫األكاديمي الذي هدفت‬ ‫وبمناسبة إنشاء «جمعية‬
‫الجمعيات العربية األخرى إىل التريكي أحد مؤسسي املعهد‬ ‫الفلسفة» بالسعودية‪ ،‬يؤكد‬
‫باألسباب التي دفعتهم‬ ‫التخفيف من غلوائه لصالح‬ ‫د‪.‬عبد اهلل املطيري رئيس‬
‫إلنشاء هذا املعهد‪ ،‬مستن ًدا‬ ‫املواطن العادي وهمومه‬ ‫مجلس إدارة الجمعية‬
‫إىل تاريخ الفلسفة يف أوروبا‪،‬‬ ‫اليومية التي تتطلب لغة‬ ‫وأبرز مؤسسيها عىل أهمية‬
‫حيث كفت الفلسفة عن أن‬ ‫وجدل خاصين‪ ،‬يتناسبان‬ ‫ً‬ ‫الفلسفة يف املجتمع ودورها‬
‫تكون أ ًّما للعلوم وخرجت من‬ ‫مع حرارة اللحظة وراهنية‬ ‫يف تدعيم التعددية وقبول‬
‫شرنقتها األكاديمية لتشارك‬ ‫املوقف‪.‬‬ ‫االختالف‪ ،‬فيقول‪« :‬واليوم‪،‬‬
‫‪149‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫املجتمعات همومها‪ ،‬وعىل‬


‫النحو نفسه‪ ،‬وعىل غرار‬
‫املعاهد الفلسفية األوروبية‬
‫التي انتشرت يف القرن‬
‫العشرين‪ ،‬يؤكد التريكي‬
‫عىل ضرورة أن يكون هناك‬
‫معهد مهتم بالشأن الفلسفي‬
‫بمعناه االجتماعي الحياتي يف‬
‫تونس‪ ،‬ويف هذا املعنى يقول‪:‬‬
‫«كان ال بد لنا يف تونس‬
‫كبيرا‬
‫ً‬ ‫ازدهارا‬
‫ً‬ ‫التي عرفت‬
‫يف الفكر الفلسفي‪ ،‬أن نك ِّون‬
‫معه ًدا خارج أسوار الجامعة‬
‫حتى تتصل الفلسفة بآلياتها‬
‫ومفاهيمها مع هموم الناس‪.‬‬
‫بذلك لن تموت الفلسفة‪ ،‬ولن‬
‫عبد اهلل المطيري‬ ‫سعيد الالوندي‬
‫تفقد أهميتها من ناحية‪ ،‬ومن‬
‫أكاديمي‪ ،‬واآلخر يتعلق‬ ‫خالل إصداراتها وندواتها‬ ‫ناحية أخرى ستساهم جد ًّيا‬
‫بالفلسفة كممارسة اجتماعية‬ ‫ومؤتمراتها التي سنتحدث‬ ‫يف تنوير العقول ومحاربة‬
‫يتم التعبير عنها مجاز ًّيا‬ ‫عنها بعد قليل‪.‬‬ ‫الجهل والتخلف»‪( .‬عيسى‬
‫بمقولة «حمى التفلسف»‪،‬‬ ‫ويف هذا السياق‪ ،‬ال يمكن‬ ‫جابيل‪ ،‬حفريات‪/٥ /٩ ،‬‬
‫ويف هذا املعنى نقرأ‪« :‬ومنذ‬ ‫أن نغفل «اتحاد الفالسفة‬ ‫‪٢٠١٩‬م)‬
‫انطالق أنشطته‪ ،‬واالتحاد‬ ‫العرب»‪ ،‬وهو منصة‬ ‫ووصف التريكي املعهد‬
‫يسعى نحو تحقيق أهدافه‬ ‫افتراضية تم إطالقها أواخر‬ ‫بأ ّنه «مؤسسة خارج أسوار‬
‫املنشودة‪ ،‬والتي عىل رأسها‬ ‫نوفمبر من العام ‪٢٠١٨‬م‪،‬‬ ‫الجامعة‪ ،‬وفضاء تلتقي فيه‬
‫االرتقاء بالدرس العربي‪ ،‬بكل‬ ‫وانطلقت أوىل أنشطتها‬ ‫كل االتجاهات الفلسفية دون‬
‫ما تحمله الكلمة من معنى‪،‬‬ ‫الفكرية يف أكتوبر من العام‬ ‫استثناء‪ ،‬وكل تداخل وتعاون‬
‫وتبسيط وتعميم الفلسفة»‪.‬‬ ‫‪٢٠٢١‬م‪ ،‬وقد تأخر بدء‬ ‫وحوار بين الفلسفة واآلداب‬
‫ويف البيان األول الذي‬ ‫النشاط ألسباب مل يفصح‬ ‫واإلنسانيات والفنون‬
‫أصدره االتحاد بمناسبة‬ ‫عنها رئيس االتحاد د‪.‬محمد‬ ‫والعلوم والتربية والتعليم‬
‫اليوم العاملي للفلسفة للعام‬ ‫عرفات حجازي يف البيان‬ ‫والتكنولوجيا»‪( .‬املرجع‬
‫ً‬
‫تفصيل‬ ‫‪٢٠٢٢‬م‪ ،‬نجد‬ ‫الثاني لالتحاد‪ .‬وهو جهة‬ ‫السابق)‬
‫أكثر لألهداف من واقع‬ ‫تماما‪ ،‬ليس بجامعة‬‫ً‬ ‫مستقلة‬ ‫وأهم ما يميز وصف‬
‫املمارسة‪ ،‬فنقرأ‪« :‬لقد طرح‬ ‫أو أكاديمية‪ ،‬وال يتبع أي‬ ‫التريكي للمعهد هو ربطة‬
‫اتحاد الفالسفة العرب عديد‬ ‫جامعة أو مركز بحثي‪.‬‬ ‫الفلسفة باآلداب والفنون‬
‫ً‬
‫وصول إىل أهدافه‬ ‫املبادرات‬ ‫وبالرجوع إىل البيان الثاني‬ ‫واإلنسانيات‪ ،‬وهو اتجاه‬
‫السامية التي يسعى إليها‪،‬‬ ‫لالتحاد سنجد أن أهدافه‬ ‫عاملي تسعى املنظمات العربية‬
‫منها‪ :‬مناقشة منزلة الفلسفة‬ ‫تمضي يف مسارين أحدهما‬ ‫الفلسفية لتحقيقه خاصة يف‬
‫يف التعليم الثانوي العربي‪،‬‬ ‫يتعلق بالفلسفة كتخصص‬ ‫الشعر والسينما واملسرح من‬
‫‪150‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الصين‪ ،‬االستشارة الفلسفية‬ ‫واإلصدارات الورقية من‬ ‫ومناقشة منزلة الفلسفة‬


‫وجودة الحياة‪ ،‬قيم الحضارة‬ ‫كتب ومجالت‪ ،‬هذا باإلضافة‬ ‫يف التعليم الجامعي عربيًّا‪،‬‬
‫املصرية القديمة بين‬ ‫إىل االستفادة من وسائل‬ ‫وعقد أول مؤتمر عربي من‬
‫االتصال واالنفصال‪ ،‬الحرية‬ ‫التواصل االجتماعي يف‬ ‫نوعه حول الفلسفة لألطفال‪،‬‬
‫واملسؤولية يف التعامل مع‬ ‫العامل االفتراضي يف عقد‬ ‫ومبادرة تبسيط وتعميم‬
‫وسائل اإلعالم الرقمية‪،‬‬ ‫هذه الفعاليات ونشرها عىل‬ ‫الفلسفة‪ ،‬واتخاذ خطوات‬
‫الفينومينولوجيا والتأويل‪.‬‬ ‫املواقع االجتماعية‪ ،‬خاصة‬ ‫جادة نحو النزول بالفلسفة‬
‫واملالحظ يف هذه الندوات‬ ‫بعد جائحة كورونا التي‬ ‫إىل الشارع العربي‪ ،‬إضافة‬
‫أنها تناولت موضوعات‬ ‫تعتبر منعطفًا مه ًّما يف أنشطة‬ ‫إىل محاور أخرى قيد العمل‪،‬‬
‫تخص املاضي والحاضر‬ ‫هذه الجمعيات‪،‬ألنها خلقت‬ ‫أقل ما ُيقال عنها أنها تسعى‬
‫واملستقبل‪ ،‬وتدور يف سياق‬ ‫شكل جدي ًدا من أشكال‬‫ً‬ ‫لالنتصار للفلسفة ولذويها»‪.‬‬
‫قيم الحق والخير والجمال‪،‬‬ ‫املشاركة املجتمعية من خالل‬
‫كما أنها تتوزع ما بين‬ ‫خصيصا‬
‫ً‬ ‫صممت‬ ‫تطبيقات ُ‬ ‫الجمعيات الفلسفية‬
‫الفلسفي الخالص والفلسفي‬ ‫لتحقيق التواصل عن بعد‬ ‫عىل مستوى املمارسة‬
‫االجتماعي‪ .‬غير أن هذا‬ ‫بين املشتغلين واملهتمين‬
‫األخير‪ ،‬وهو الذي يعنينا يف‬ ‫بالفلسفة‪ ،‬من بلدان الوطن‬ ‫إذا كانت األفكار التأسيسية‬
‫سياق الحديث عن املجتمع‬ ‫العربي جميعها‪ .‬كما أصبح‬ ‫والرؤى الفلسفية هي التي‬
‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫املدني‪ ،‬يشغل حي ًزا أقل‬ ‫نشر هذه الفعاليات نفسها‪،‬‬ ‫يمكن أن تعكس التوجه‬
‫من الشق الفلسفي املعني‬ ‫بكل ما تحمله من محتوى‬ ‫املجتمعي للجمعيات الفلسفية‬
‫بالقضايا األكاديمية‪ ،‬حتى أنه‬ ‫يس ًرا‬
‫فكري واجتماعي‪ُ ،‬م َّ‬ ‫يف السنوات األخيرة‪ ،‬فإن‬
‫يكاد ينحصر يف ندوات ثالث‬ ‫عبر هذه الوسائل التواصلية‬ ‫أنشطة هذه الجمعيات هي‬
‫من الندوات التسع‪ ،‬وهم‪:‬‬ ‫االفتراضية املبتكرة‪.‬‬ ‫التي يمكن أن تكشف لنا‬
‫الفن ودوره يف املجتمع‪،‬‬ ‫وإذا انتقلنا إىل الجمعية‬ ‫حجم الدور الذي يمكن أن‬
‫واالستشارات الفلسفية‬ ‫الفلسفية املصرية‪ ،‬عىل سبيل‬ ‫تلعبه الفلسفة يف الحياة‬
‫وجودة الحياة‪ ،‬والحرية‬ ‫املثال‪ ،‬لنلقى الضوء عىل‬ ‫اليومية للمواطنين‪ .‬ويف هذا‬
‫واملسؤولية يف التعامل مع‬ ‫أنشطتها الثقافية خالل عام‬ ‫السياق‪ ،‬سيقتصر كالمنا‬
‫وسائل اإلعالم الرقمية‪.‬‬ ‫‪٢٠٢٢‬م‪ ،‬فسنجد أنها أقامت‬ ‫عىل بعض أنشطة الجمعيات‬
‫وإذا انتقلنا إىل مجلة الجمعية‬ ‫تسع ندوات‪ ،‬وفقا لبرنامجها‬ ‫الفلسفية خالل عام ‪٢٠٢٢‬م‪،‬‬
‫الفلسفية املصرية سنجد أنها‬ ‫السنوي املنشور عىل‬ ‫حتى يمكننا أن نقف عىل آخر‬
‫خصصت عددها الصادر يف‬ ‫صفحتها بالفيسبوك‪ ،‬ودارت‬ ‫ما وصلت إليه العالقة بين‬
‫‪٢٠٢٢‬م مللف املستقبل‪ ،‬ويف‬ ‫حول املوضوعات التالية‪:‬‬ ‫الفلسفة واملجتمع املدني‪.‬‬
‫مقاله االفتتاحي «الفلسفة‬ ‫تناهي الزمن والفصل بين‬ ‫ومن املالحظ أن اآلليات‬
‫وأسئلة املستقبل» يقول‬ ‫الفيزياء وامليتافيزيقا‪ :‬مدخل‬ ‫التي تعتمد عليها الجمعيات‬
‫د‪.‬مصطفى النشار رئيس‬ ‫إلبستمولوجيا اإلمكان عند‬ ‫الفلسفية العربية‪ ،‬عىل‬
‫الجمعية الفلسفية املصرية‪:‬‬ ‫أبي يعقوب الكندي‪ ،‬الترجمة‬ ‫اختالف توجهاتها‪ ،‬يف‬
‫«كثير من الناس يتصورون‬ ‫الفلسفية‪ :‬إشكاالت وتجارب‬ ‫تحقيق أهدافها العلمية‬
‫أن دور الفلسفة يقتصر عىل‬ ‫فلسفية‪ ،‬التاريخ عند أولفين‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬ال تخرج عن‬
‫التفسير والتبرير ويتناسون‬ ‫توفلر‪ ،‬الفن ودوره يف‬ ‫الفعاليات الثقافية املتمثلة‬
‫أن دورها األكبر هو يف‬ ‫املجتمع‪ ،‬الفلسفة الراهنة يف‬ ‫يف الندوات واملؤتمرات‬
‫‪151‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫التغيير‪ ،‬وليس املقصود‬


‫بالتغيير هنا هو التغيير‬
‫اآلني‪ ،‬فالتغيير يفتح أمام‬
‫الفيلسوف باب التفكير يف‬
‫املستقبل والتنبؤ بما ستؤول‬
‫إليه األمور يف كل مجاالت‬
‫الحياة‪ .‬ومن ثم تكون رؤية‬
‫الفيلسوف رؤية تنبؤية يمكن‬
‫أن يستفيد منها البشر يف كل‬
‫زمان ومكان»‪( .‬املجلد ‪،٣١‬‬
‫العدد‪ ،٣١‬ص‪)٩‬‬
‫وبعد توضيح الدور‬
‫املستقبيل الذي يمكن أن تلعبه‬
‫الفلسفة يستكمل النشار‬
‫رؤيته بتعريف املستقبل‬
‫مفتوحا أمام‬
‫ً‬ ‫باعتباره أفقًا‬
‫محمد عبد اهلل القواسمة‬ ‫فتحي التريكي‬ ‫عمر بوساحة‬
‫إرادة الفعل والتغيير‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫«املستقبل هو مجال املمكن‬
‫أن كال التوجهين يسقطان‬ ‫والثقافية الحقيقية التي‬ ‫ومجال الحرية ومجال‬
‫الحاضر‪ ،‬أو ربما يهربان منه‬ ‫تعكس الهموم الحياتية‬ ‫العزيمة وفرض اإلرادة‬
‫خشية املواجهة!‬ ‫للمواطن العربي‪ ،‬وتظل‬ ‫الفردية لألفراد‪ ،‬وفرض‬
‫اإلرادة الجماعية للشعوب‬
‫وإذا كانت ندوات الجمعية‬ ‫منبرا أكاديميًّا ال يتردد‬
‫ً‬ ‫واملجتمعات التي تريد أن‬
‫ومجلتها الصادرة عام‬ ‫صوته سوى بين املشتغلين‬
‫تتقدم وتحقق استقاللها‬
‫‪٢٠٢٢‬م تغلب عليهم النزعة‬ ‫بالفلسفة فحسب‪.‬‬
‫الذاتي ونموها املستقل»‪.‬‬
‫األكاديمية‪ ،‬فإن مؤتمرها‬ ‫لقد اعتمدت الجمعية‬
‫(املوضع نفسه)‬
‫حول «االستشارة الفلسفية‬ ‫الفلسفية املصرية يف مرحلة‬
‫وبالرغم من تلك النزعة‬
‫والعالج بالفلسفة» الذي‬ ‫سابقة (فترة رئاسة د‪.‬حسن‬ ‫املستقبلية ذات األبعاد‬
‫مقررا له أن ينعقد يف‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫حنفي) عىل املاضي يف‬ ‫السياسية واالجتماعية؛‬
‫ديسمبر من العام نفسه‬ ‫دراستها للحاضر من خالل‬ ‫تظل مقاالت املجلة مرتبطة‬
‫وتأجل‪ ،‬ألسباب غير معلنة‪،‬‬ ‫استدعاء التراث ونقدة‬ ‫بالشكل األكاديمي‪،‬‬
‫لشهر مارس من العام‬ ‫وإعادة بنائه‪ ،‬وها هي اآلن‬ ‫وموضوعاتها متعلقة‬
‫‪٢٠٢٣‬م‪ ،‬كان هو األقرب يف‬ ‫يف عهد د‪.‬النشار تبحث عن‬ ‫بمباحث تقليدية‪ ،‬وإن ارتدت‬
‫موضوعه ملشكالت الحياة‬ ‫الحل يف املستقبل‪ ،‬يف محاولة‬ ‫ثوب املعاصرة‪ ،‬تتقاطع مع‬
‫اليومية واالجتماعية‪ ،‬حيث‬ ‫لتجاوز ثنائية األصالة‬ ‫الفلسفة اليونانية القديمة‬
‫ورد يف ديباجته‪:‬‬ ‫واملعاصرة التي رسختها‬ ‫واإلسالمية الكالمية‬
‫«وتحاول خدمات‬ ‫املشاريع الفكرية العربية‬ ‫والصوفية‪ .‬وهي بهذا املعني‬
‫االستشارات الفلسفية تقديم‬ ‫خالل النصف الثاني من‬ ‫تفتقد جرأة اقتحام الحياة‬
‫العون للذين يبحثون عن‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬والحقيقة‬ ‫السياسية واالجتماعية‬
‫‪152‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫األمومة» واملعني بخبرة‬ ‫عن مجموعة من الفعاليات‬ ‫فهم فلسفي لحياتهم‪ ،‬أو‬
‫األمومة عىل املستوى الفردي‬ ‫والبرامج تستهدف األطفال‬ ‫ملساعدتهم يف حل مشكالت‬
‫واالجتماعي واملؤسساتي من‬ ‫يف مراحل عمرية مختلفة‪،‬‬ ‫اجتماعية أو حتى عقلية‪ ..‬لكن‬
‫منظور فلسفي‪ ،‬ويستحضر‬ ‫كما يستهدف البرنامج‬ ‫الغرض يف النهاية هو البحث‬
‫البرنامج الخبرات املباشرة‬ ‫املعلمين واملعلمات واآلباء‬ ‫عن الخير والحياة الطيبة‬
‫لألمهات إلقامة حالة من‬ ‫واألمهات وذوي االهتمام‪،‬‬ ‫وتجاوز بعض املشكالت‬
‫الحوار بينهن وبين الخبراء‬ ‫وبرنامج «قراءات فلسفية‬ ‫التي قد تعترضنا يف حياتنا‬
‫وأخيرا‬
‫ً‬ ‫يف مجال األمومة‪،‬‬ ‫يف الفكر السعودي» يف‬ ‫وتتعقد داخلنا شيئًا فشيئًا‪،‬‬
‫برنامج دعم الكتابة الفلسفية‪،‬‬ ‫املوسم الثاني‪ ،‬وهو عبارة‬ ‫للدرجة التي تتطلب معها‬
‫وهي مبادرة لتحفيز الكتابة‬ ‫عن ندوات ومحاضرات‬ ‫طرحها عىل غيرنا وطلب‬
‫الفلسفية من مقاالت‬ ‫ودراسات علمية مخصصة‬ ‫املساعدة»‪.‬‬
‫وأبحاث‪ ،‬ونشرها عىل املوقع‬ ‫لدراسة الفكر السعودي‬ ‫ليس هذا فحسب‪ ،‬بل إن‬
‫اإللكتروني للجمعية من‬ ‫املتقدم من منطلقات فلسفية‪،‬‬ ‫دعوة رئيس الجمعية إلنشاء‬
‫خالل استقطاب أسماء دولية‬ ‫وتعقد الجمعية برنامج حلقة‬ ‫مراكز للعالج بالفلسفة‬
‫ومحلية للكتابة‪ .‬وأوضح‬ ‫الرياض الفلسفية «حرف»‬ ‫تعمل عىل أرض الواقع جنبًا‬
‫عضو جمعية الفلسفة‬ ‫الذي يهدف إىل تقديم أوراق‬ ‫إىل جنب العيادات النفسية‬
‫رئيس املركز اإلعالمي سامل‬ ‫فلسفية مختلفة يف جميع‬ ‫ومراكز االستشارات‬
‫الثنيان‪ ،‬أن الفلسفة ليست‬ ‫املجاالت‪ ،‬وتشجيع وجوه‬ ‫االجتماعية‪ ،‬هو ما يعطي‬
‫للنخبة‪ ،‬وإنما هي للجميع‪،‬‬ ‫جديدة عىل الظهور يف‬ ‫نشاط الجمعية األهمية التي‬
‫وأنها تساؤل دائم عن الحياة‬ ‫املجتمع الفلسفي‪.‬‬ ‫ال يمكن إغفالها بصدد الدور‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وهي وريثة‬ ‫وملا للسينما من دور فعال‬ ‫الذي يمكن أن تلعبه يف‬
‫التاريخ البشري‪( .‬جريدة‬ ‫يف املجتمع‪ ،‬ستخصص‬ ‫الحياة االجتماعية والنفسية‪،‬‬
‫اليوم‪٢٠٢٢ /٤ /٢٦ ،‬م)‬ ‫الجمعية برنامج «الفلسفة‬ ‫فالحياة غير املختبرة أو‬
‫وخالفًا للجمعية الفلسفية‬ ‫والسينما» لطرح النظريات‬ ‫غير املفحوصة غير جديرة‬
‫املصرية يالحظ غلبة البعد‬ ‫واألفكار الفلسفية التي تم‬ ‫بأن تُعاش‪ ،‬بنحو ما ورد يف‬
‫االجتماعي والتربوي والفني‬ ‫استحضارها يف األفالم‬ ‫صدر ديباجة املؤتمر‪.‬‬
‫عىل البعد الفلسفي األكاديمي‬ ‫يف جلسات نقاش مع‬ ‫ويف خطة «جمعية الفلسفة»‬
‫يف برنامج نشاط «جمعية‬ ‫متخصصين‪ ،‬وتفتح الجمعية‬ ‫السعودية أعلنت جمعية‬
‫الفلسفة» بالرغم من نشأتها‬ ‫أبواب التعاون والشراكة‬ ‫الفلسفة عن برامجها لعام‬
‫الحديثة التي مل تتجاوز‬ ‫مع الجمعيات املتخصصة‬ ‫‪ ،2022‬والتي تهدف لتمكين‬
‫العامين‪.‬‬ ‫بالسينما واألفالم والجهات‬ ‫املهتمات واملهتمين بالفلسفة‬
‫واألمر نفسه يمكن أن يقال‬ ‫املختصة أو التنظيمية لعقد‬ ‫من املشاركة املجتمعية‬
‫عن اتحاد الفالسفة العرب‪،‬‬ ‫جلسات عرض وحوار‬ ‫يف املجال الفلسفي‪ ،‬وأن‬
‫أيضا‪ ،‬والذي‬ ‫الحديث العهد ً‬ ‫فلسفي حول األعمال‬ ‫محبي الفلسفة واملهتمين‬
‫بدأ نشاطه منذ عامين كذلك‬ ‫السينمائية‪ ،‬ويمثل لقاء‬ ‫بها عىل موعد يف رحلة عبر‬
‫بالجهد الذاتي ملؤسسه‬ ‫مع الوسط السينمائي‬ ‫ستة برامج متنوعة تقيمها‬
‫د‪.‬محمد عرفات حجازي‪،‬‬ ‫السعودي والوسط الفلسفي‬ ‫الجمعية هذا العام‪ ،‬األول‬
‫ووضع ضمن أهدافه االرتقاء‬ ‫يف القضايا املشتركة‪ ،‬كما‬ ‫برنامج «الفيلسوف الصغير»‬
‫بالدرس الفلسفي العربي‪،‬‬ ‫سيقام برنامج «فلسفة‬ ‫يف املوسم الثاني‪ ،‬وهو عبارة‬
‫‪153‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫والخروج بالفلسفة من‬


‫قاعات الدرس األكاديمي إىل‬
‫عموم الجماهير‪ .‬وبالرجوع‬
‫إىل أنشطة االتحاد خالل‬
‫العامين ‪٢٠٢١‬م‪٢٠٢٢ ،‬م‪،‬‬
‫سنجد مجموعة من‬
‫الندوات واللقاءات الحوارية‬
‫االفتراضية دارت حول‬
‫الفلسفة التطبيقية‪ ،‬والبيوت‬
‫أتيقا‪ ،‬والفلسفة كما نتمنى‪،‬‬
‫وتدريس الفلسفة يف املدارس‬
‫الثانوية العربية‪ ،‬وكيف نقرأ‬
‫الفيلم السينمائي‪ ،‬والعمل‬
‫عىل تقديم الفلسفة يف صورة‬
‫مرئية تحت شعار «الفلسفة‬
‫بنكهة سينمائية»‪ ،‬وذلك من‬
‫مصطفى النشار‬ ‫مراد وهبه‬ ‫محمد عرفات حجازي‬
‫خالل إطالق قناة االتحاد‪،‬‬
‫وقناة الفيلسوف الصغير‪.‬‬
‫للطابع األكاديمي واألكثر‬ ‫ويف ديباجة املؤتمر الثاني‬ ‫ولعل أبرز أنشطة االتحاد‬
‫تحف ًظا يف االنخراط يف قضايا‬ ‫نتعرف عىل األسباب التي‬ ‫خالل عام ‪٢٠٢٢‬م هو عقده‬
‫املجتمع‪ ،‬بينما التجمعات‬ ‫دعت النعقاده‪ ،‬ورؤية‬ ‫ملؤتمرين دوليين افتراضيين‪:‬‬
‫حديثه النشأة‪ ،‬مثل «جمعية‬ ‫االتحاد يف ربط الفلسفة‬ ‫أحدهما عقد يف مايو بعنوان‬
‫الفلسفة» السعودية‪ ،‬واتحاد‬ ‫بالسينما فنقرأ‪« :‬صاحب‬ ‫«الفلسفة لألطفال»‪ ،‬والثاني‬
‫الفالسفة العرب‪ ،‬هي األكثر‬ ‫توسيع نطاق املوضوعات‬ ‫عقد يف نوفمبر بعنوان‬
‫ً‬
‫انخراطا يف قضايا املجتمع‬ ‫الفلسفية إدراك أن السينما‬ ‫«السينما والفلسفة»‪ .‬وتطرح‬
‫وهموم الحياة اليومية‪ ،‬مع‬ ‫وغيرها من أشكال وسائل‬ ‫ديباجة املؤتمر األول‬
‫احتفاظها بالسمات األكاديمية‬ ‫اإلعالم والترفيه قد تصبح‬ ‫مجموعة من األسئلة يفترض‬
‫األساسية يف ممارستها‬ ‫أدوات فعالة لنقل األفكار‪.‬‬ ‫أن يجيب عنها املؤتمر‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫ألنشطتها باعتبارها كيانات‬ ‫وكثير من تلك األفكار‬ ‫«كيف يمكننا أن نؤسس‬
‫فلسفية باألساس‪.‬‬ ‫مثير لالهتمام من الناحية‬ ‫فلسفة لألطفال؟ هل تفترض‬
‫الفلسفية‪ ،‬وهي متأصلة يف‬ ‫الفلسفة ضر ًبا من النضج‬
‫الجمعيات الفلسفية‪:‬‬ ‫حياتنا اليومية مثلها مثل‬ ‫العقيل يفتقده الطفل أم ينبغي‬
‫رؤية نقدية‬ ‫الصداقة والحب واملوت‬ ‫أن نقول إن الفلسفة ممارسة‬
‫والهدف واملعنى»‪.‬‬ ‫ال سن لها؟»‪.‬‬
‫مل تسلم الجمعيات الفلسفية‬ ‫ويالحظ أن التجمعات‬ ‫ويف كل األحوال يأتي املؤتمر‬
‫من النقد‪ ،‬خاصة تلك التي‬ ‫الفلسفية ذات التاريخ‬ ‫يف سياق تأكيد اليونسكو عىل‬
‫لها تاريخ طويل يف العمل‬ ‫الطويل يف العمل الثقايف‪،‬‬ ‫أن» الفلسفة حق للجميع»‪،‬‬
‫الثقايف مثل الجمعية الفلسفية‬ ‫مثل الجمعية الفلسفية‬ ‫وتلبية لتوصيتها بتعميم‬
‫املصرية‪ ،‬والجمعية الفلسفية‬ ‫املصرية‪ ،‬هي األكثر ميلً‬ ‫تعليم األطفال التفلسف‪.‬‬
‫تركز جمعية االتحاد الفلسفي العربي‬
‫هؤالء أن هناك جمعية‬ ‫اللبنانية في مبادئها التأسيسية على‬
‫فلسفية بالجزائر تتطلع إىل‬
‫الجمعية الفلسفية املصرية‪،‬‬ ‫تشجيع الدرس الفلسفي في الجامعات‬
‫وأخرى يف لبنان‪ ..‬واألجدى‬ ‫والمعاهد والمدارس الثانوية‪ ،‬كما‬
‫أن يتم التواصل بينها جمي ًعا‪،‬‬
‫لكن السياسة دخلت يف كل‬ ‫يتوجه الخطاب إلى المشتغلين‬
‫شيء فأفسدت أمور الثقافة‬ ‫بالفلسفة في لبنان والعالم العربي‪،‬‬
‫والفلسفة‪ ،‬وأصبحت كل‬
‫جمعية تعمل بمفردها وال‬ ‫ما يعني غياب البعد المجتمعي عن‬
‫تتكلم إال عن قضايا خاصة‬ ‫الميثاق التأسيسي لالتحاد وتغليب‬
‫بها‪ ،‬فال يتحدثون يف مصر‬
‫مثل إال عن أمور فلسفية‬ ‫ً‬ ‫البعد العلمي األكاديمي الذي‬
‫مصرية وكفى!! وكذلك الحال‬ ‫هدفت الجمعيات العربية األخرى إلى‬
‫ىف الجزائر ولبنان»‪( .‬نفسه)‬
‫واملالحظ أن النقد هنا يشمل‬ ‫التخفيف من غلوائه لصالح المواطن‬
‫الجمعيات الفلسفية العربية‬ ‫العادي وهمومه اليومية‪.‬‬
‫جميعها ال الجمعية الفلسفية‬
‫املصرية فحسب‪ ،‬كما ال‬
‫يمكننا أن نغفل أن مقالة‬
‫الالوندي نشرت منذ خمس‬ ‫كما يلفت النظر إىل غياب‬ ‫األردنية‪.‬‬
‫سنوات تغيرت خاللها أمور‬ ‫عنصر الشباب يف أنشطة‬ ‫فينتقد الدكتور سعيد‬
‫كثيرة‪ ،‬وال نظن أن الصورة‬ ‫الجمعية‪ ،‬وغلبة األساتذة‬ ‫الالوندي الجمعية الفلسفية‬
‫السلبية التي قدمها عن‬ ‫من كبار السن‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫املصرية من عدة نواح‪،‬‬
‫الجمعية يمكن أن تنطبق‬ ‫«وكان الفتًا للنظر غياب‬ ‫أبرزها ارتباط الجمعية‬
‫عليها اآلن بكل تفاصيلها‪.‬‬ ‫الشباب‪ ،‬سواء من الباحثين‬ ‫بشخص واحد بحيث يدور‬
‫إضافة إىل ذلك‪ ،‬يالحظ أن‬ ‫أو أساتذة الجامعة الشبان‪.‬‬ ‫الجميع يف فلكه‪ً ،‬‬
‫قائل‪:‬‬
‫نقد الالوندي جاء نتيجة‬ ‫وأقول الحق‪ ،‬لقد شعر ابنى‬ ‫«والالفت للنظر أن الجمعية‬
‫لتجربة شخصية‪ ،‬حضر‬ ‫الطالب الجامعي باغتراب‬ ‫ارتبطت بأحد أساتذة‬
‫خاللها واحدة من أنشطة‬ ‫شديد ألنه وجد نفسه شا ًّبا‬ ‫الفلسفة األفذاذ بحيث يكون‬
‫الجمعية ملرة واحدة فقط‪ ،‬ما‬ ‫بين مجموعة من العواجيز!»‪.‬‬ ‫«هو» األساس يف كل شيء!‬
‫يعني غلبة النزعة الذاتية عىل‬ ‫(املرجع السابق)‬ ‫فهو الذى ينتقد‪ ،‬وهو الذى‬
‫مقاله النقدي‪.‬‬ ‫ومن األمور ذات األهمية‬ ‫يوافق عىل أن يتحدث هذا‬
‫ومقابل النقد الذاتي للالوندي‬ ‫التي ضمنها الالوندي يف‬ ‫األستاذ أو ال يتحدث‪ ،‬وعندما‬
‫نجد نق ًدا أكثر موضوعية‬ ‫نقده للجمعية انكفاؤها حول‬ ‫يتكلم هذا األستاذ يختفى من‬
‫يقدمه د‪.‬محمد عبد اهلل‬ ‫نفسها‪ ،‬بحيث ابتعدت عن‬ ‫بين الحاضرين كما جاء»‪.‬‬
‫القواسمة للجمعية الفلسفية‬ ‫الجمعيات العربية األخرى‬ ‫(سعيد الالوندي‪ ،‬الجمعية‬
‫األردنية‪ .‬وأهم مواضع‬ ‫واهتمت بقضايا ال تخص‬ ‫الفلسفية املصرية‪ ..‬خارج‬
‫النقد التي يلفت القواسمة‬ ‫سوى الشأن املصري‬ ‫الخدمة‪ ،‬جريدة الوطن‪/24 ،‬‬
‫النظر إليها أحادية املوضوع‬ ‫فحسب‪ ،‬فنقرأ‪« :‬ونسي‬ ‫‪)2017 /6‬‬
‫‪155‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫الفلسفية أن تتحول من‬ ‫ُينتظر من جمعية يتضمن‬ ‫الذي تطرحه الجمعية‪،‬‬


‫الدرس األكاديمي إىل الفعل‬ ‫اسمها كلمة فلسفة أن تنوع‬ ‫حيث تتركز مناقشتها حول‬
‫االجتماعي والسياسي‪ ،‬ولن‬ ‫يف املواضيع التي تطرحها‬ ‫املاركسية وأعالمها‪ ،‬مع غلبة‬
‫يتحقق لها ذلك إال إذا صارت‬ ‫يف أعمالها‪ ،‬مع التركيز عىل‬ ‫الفكر النظري عىل الجانب‬
‫الفلسفة جز ًءا من الثقافة‬ ‫ما يساعد عىل كيفية معايشة‬ ‫التطبيقي‪ ،‬واالتجاه نحو‬
‫العامة مثل الرواية والفيلم‬ ‫الحياة وليس عىل فهمها فقط‪.‬‬ ‫املاضي واالبتعاد عن الواقع‬
‫واألغنية واللوحة‪ .‬وينبغي‬ ‫فمن مظاهر معايشة الحياة‬ ‫الذي نعيشه‪ .‬ويف هذا السياق‬
‫أن نعترف بأن املسافة ما‬ ‫مناقشة القضايا املهمة يف‬ ‫يقول‪:‬‬
‫زالت كبيرة بين ما هو كائن‬ ‫واقعنا السياسي واالجتماعي‬ ‫«ال شك أن أحادية املوضوع‬
‫وما ينبغي أن يكون‪ ،‬أي‬ ‫والثقايف واالقتصادي‪،‬‬ ‫الذي تطرحه الجمعية غالبًا‬
‫بين األهداف والغايات التي‬ ‫وتلك القضايا التي تتصل‬ ‫وتركز عليه يف نشاطاتها‬
‫بالكوارث املتالحقة يف البيئة‬ ‫املختلفة يقلص عدد أعضائها‬
‫تضعها الجمعيات الفلسفية‬
‫والتغيرات املتسارعة يف‬ ‫وروادها ويحصرهم يف فئة‬
‫يف مواثيقها املنشئة وبين‬
‫سلوك الناس وأخالقهم»‪.‬‬ ‫معينة‪ .‬كما يقلل من تأثيرها‬
‫ممارستها الفعلية‪.‬‬
‫(املرجع السابق)‬ ‫يف املجتمع بعامة ويف الحياة‬
‫ربما كان االرتباط بالشخص‬
‫ويالحظ أن القواسمة عندما‬ ‫الثقافية خاصة‪ ..‬فليس من‬
‫أو بالفكرة أحد أسباب هذه‬
‫يريد للحياة أن تتحول من‬ ‫تتوجه إليه يف خطابها غير‬
‫الفجوة‪ ،‬ألن العمل االجتماعي‬ ‫الفهم إىل املعايشة‪ ،‬إنما يريد‬ ‫النخبة التي هي يف األصل‬
‫يتطلب االنطالق من الواقع‪،‬‬ ‫يف الوقت نفسه للفلسفة أن‬ ‫متخصصة يف الفلسفة‪.‬‬
‫من داخل الظاهرة اإلنسانية‬ ‫تتحول من مجال النظر إىل‬ ‫فكأنها والحال هذه ال‬
‫كحدث ملموس ال كفكرة‬ ‫مجال العمل‪ ،‬أي أن تكف‬ ‫تخاطب إال ذاتها»‪( .‬د‪.‬محمد‬
‫هائمة أو نظرية تأملية‪ .‬ويف‬ ‫الفلسفة عن أن تدرس نفسها‬ ‫عبد اهلل القواسمة‪ ،‬الجمعية‬
‫كل األحوال‪ ،‬يظل األمل‬ ‫خالصا‪ ،‬وأن‬‫ً‬ ‫فكرا‬
‫بوصفها ً‬ ‫الفلسفية األردنية‪ ،‬جريدة‬
‫معقو ًدا عىل هذه الجمعيات‪،‬‬ ‫تتجه إىل الواقع وتنخرط يف‬ ‫الدستور‪٢٠١٨ /١١ /١٦ ،‬م)‬
‫قديمها وحديثها‪ ،‬يف أخذ‬ ‫مشكالت الحياة اإلنسانية‪.‬‬ ‫ويقترح القواسمة مسارات‬
‫زمام املبادرة نحو إيقاظ‬ ‫والحقيقة أن الفلسفة إذا أريد‬ ‫جديدة للجمعية تجعلها أكثر‬
‫الوعي وحفز اإلرادة تجاه‬ ‫دورا مجتمعيًّا‬
‫لها أن تلعب ً‬ ‫قدرة وحيوية عىل التأثير‬
‫التغيير‬ ‫فينبغي عىل الجمعيات‬ ‫يف املجتمع‪ ،‬فيقول‪« :‬إن ما‬
‫‪156‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫عىل أنها منافس للدولة ال‬ ‫املدني» هو أحد‬

‫المجتمع المدني‪..‬‬
‫شريك في التنمية أم بديل للدولة؟‬
‫«المجتمع‬
‫شريك لها يف تحقيق مصالح‬ ‫املفاهيم «األكثر‬
‫اإلنسان‪ .‬يف الصفحات التالية‬ ‫سخونة» يف‬
‫نتناول ببعض التفصيل‬ ‫مجاالت العلوم‬
‫مفاهيم «املجتمع املدني»‬ ‫االجتماعية التي‬
‫وأهميته والدور الذي يلعبه‬ ‫تمس الحياة‬
‫يف ظل مختلف األنظمة‪.‬‬ ‫السياسية‪،‬‬
‫وبخاصة‬
‫ما هو املجتمع املدني؟‬ ‫يف األنظمة‬
‫الديمقراطية أو حتى التي‬
‫يستشهد «قاموس أكسفورد‬ ‫ت َّدعي الديمقراطية‪ ،‬فقد تجدد‬
‫للفلسفة» بتعريف هيجل‬ ‫االهتمام باملشاركة الشعبية‬
‫املبسط للمجتمع املدني‬ ‫يف الحياة السياسية وبكل‬
‫بأنه «صور من االرتباط‬ ‫صور تأثير الثقافة والقيم‬
‫االجتماعي الوسيط بين‬ ‫واملعتقدات عىل طريقة الحكم‬
‫األسرة والدولة»‪ .‬لكن هذا‬ ‫أو إدارة الدولة‪ .‬ويف اآلونة‬
‫التعريف البسيط يفتقر‬ ‫األخيرة‪ ،‬تزايد االهتمام‬
‫مثل غيره من التعريفات‬ ‫بكيفية مساهمة املجتمع‬
‫إىل التفصيل والتخصيص‪.‬‬ ‫املدني يف حل النزاعات‬
‫وكما هو الحال مع معظم‬ ‫السياسية املحلية بمختلف‬
‫املفاهيم األكاديمية التي‬ ‫أنواعها‪ ،‬كما أدى تزايد‬
‫انتشرت يف العقود األخيرة‪،‬‬ ‫الدور الذي يلعبه للمجتمع‬
‫ال يوجد تعريف متفق‬ ‫املدني يف التنمية إىل تداعي‬
‫عليه ملفهوم املجتمع املدني‬ ‫الفكرة القديمة عن التنمية‬
‫وغيره من املفاهيم ذات‬ ‫التي تكون فيها الدولة هي‬
‫الصلة بالثقافة املدنية ورأس‬ ‫العنصر الفاعل املركزي‬
‫املال االجتماعي‪ ،‬إذ يرى‬ ‫ويكون تطوير البنية التحتية‬
‫معظم الباحثين والنشطاء‬ ‫هو محل االهتمام الرئيس‪،‬‬
‫االجتماعيين والعاملين يف‬ ‫حيث يركز املجتمع املدني‬
‫مجال التنمية أن املجتمع‬ ‫واملنظمات غير الحكومية عىل‬
‫املدني هو «مجموعة من‬ ‫ما يمكن أن نسميه «تنمية‬
‫جماعات املصالح املتنوعة‬ ‫محورها الناس»‪ ،‬وهو ما‬
‫واملنظمات االجتماعية‬ ‫أسهم يف إعادة التنمية إىل‬
‫القوية بما يكفي لتوفير‬ ‫الناس مرة أخرى‪ .‬بيد أن‬
‫بعض االستقاللية والحماية‬ ‫كثيرا ما يتسبب‬
‫ً‬ ‫ذلك كله‬
‫ألفرادها بحيث يستطيعون‬ ‫يف اختالط املفاهيم لدى‬
‫العمل دون خوف من‬ ‫ممثيل الدولة واملدافعين‬
‫استبداد وهيمنة الدولة»‪.‬‬ ‫عن سيادتها حيث ينظرون‬
‫ويف السياق ذاته تعرف‬ ‫إىل املنظمات غير الحكومية‬ ‫د‪.‬كمال المصري*‬
‫‪157‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫‪ -‬يشمل املجتمع املدني‬ ‫عىل أنها تعمل بكفاءة يف‬ ‫املوسوعة البريطانية املجتمع‬
‫األفراد كما يشمل املؤسسات‬ ‫الدولة املدنية‪ ،‬ويف مثل هذه‬ ‫املدني بأنه «شبكة كثيفة‬
‫التي يشاركون فيها‪ ،‬والتي‬ ‫الدولة املدنية تتوافر ثالثة‬ ‫من الجماعات واملجتمعات‬
‫تسمى «منظمات املجتمع‬ ‫مبادئ أساسية هي‪ :‬املشاركة‬ ‫والشبكات والروابط التي‬
‫املدني»‪ ،‬وبالتايل يكتسب‬ ‫والسلطة الدستورية‬ ‫تقف بين الفرد والدولة‬
‫املجتمع املدني قوته من قوة‬ ‫واملسؤولية األخالقية‪ ،‬وهي‬ ‫الحديثة»‪.‬‬
‫وحجم منظمات املجتمع‬ ‫مبادئ توجد يف جميع‬ ‫وبحسب البنك الدويل‬
‫املدني تلك‪.‬‬ ‫املجتمعات املدنية بغض‬ ‫فإن مصطلح «املجتمع‬
‫‪ -‬يؤكد املجتمع املدني‬ ‫النظر عن سياقها الثقايف‪.‬‬ ‫املدني» يشير إىل «طائفة‬
‫بشكل عام عىل أهمية السوق‬ ‫ولكي نقف عىل صورة عامة‬ ‫واسعة من املنظمات تضم‬
‫والدولة الليبرالية يف استقالل‬ ‫واضحة للمجتمع املدني‪،‬‬ ‫جماعات املجتمع واملنظمات‬
‫الحياة االجتماعية‪.‬‬ ‫يمكن تلخيص التعريفات‬ ‫غير الحكومية والنقابات‬
‫‪ -‬تنشط الثقافة املدنية ‪-‬أو‬ ‫السابقة يف الخصائص‬ ‫العمالية ومجموعات السكان‬
‫ثقافة املجتمع املدني‪ -‬عندما‬ ‫التالية‪:‬‬ ‫األصليين واملنظمات الخيرية‬
‫يعتقد معظم الناس أن‬ ‫‪ -‬يتفق جميع املراقبين عىل‬ ‫واملنظمات الدينية والجمعيات‬
‫حكومتهم شرعية وأنه يمكن‬ ‫أن املجتمع املدني يشير إىل‬ ‫املهنية والجمعيات األهلية‬
‫الوثوق بمؤسسات الدولة‬ ‫مشاركة املواطنين العاديين‬ ‫املماثلة»‪ .‬وهي مجموعة‬
‫(وإن مل يمكن الوثوق بقادة‬ ‫الطوعية‪ ،‬وبالتايل ال يشمل‬ ‫واسعة من املنظمات غير‬
‫املؤسسات يف أوقات بعينها)‪.‬‬ ‫السلوك الذي تفرضه الدولة‬ ‫الحكومية غير الهادفة للربح‬
‫‪ -‬رأس املال االجتماعي هو‬ ‫عىل مواطنيها أو تكرههم‬ ‫التي لها حضور يف الحياة‬
‫املعادل البشري لرأس املال‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫العامة‪ ،‬وتعبر عن اهتمامات‬
‫االقتصادي‪ ،‬وهو مورد‬ ‫‪ -‬يرى بعض املراقبين أن‬ ‫ومصالح وقيم أعضائها أو‬
‫غير ملموس يراكمه املجتمع‬ ‫املجتمع املدني يشمل فقط‬ ‫غيرهم‪ ،‬بنا ًء عىل اعتبارات‬
‫املدني ويمكن إنفاقه عندما‬ ‫النشاط السياسي الذي‬ ‫أخالقية أو ثقافية أو سياسية‬
‫يجد املجتمع نفسه يف أزمة‪،‬‬ ‫تنخرط فيه خالل املنظمات‬ ‫أو علمية أو دينية أو خيرية‪.‬‬
‫كما حدث يف معظم دول‬ ‫غير الربحية مثل املنظمات‬ ‫وتقوم منظمات املجتمع‬
‫العامل أثناء أزمة كورونا‪.‬‬ ‫غير الحكومية‪ ،‬بينما يرى‬ ‫املدني بأداء مجموعة متنوعة‬
‫البعض اآلخر أنه يشمل‬ ‫من الخدمات والوظائف‬
‫ملاذا يتخذ املجتمع‬ ‫جميع أشكال املشاركة‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬منها توجيه‬
‫املدني تلك األهمية؟‬ ‫التطوعية‪ ،‬سواء يف القطاع‬ ‫الحكومات إىل مشكالت‬
‫العام أو الخاص‪ ،‬وسواء‬ ‫تمس املواطنين وتثير قلقهم‪،‬‬
‫ال يوجد اتفاق مطلق بين‬ ‫كانت سياسية أو غير‬ ‫ومراقبة سياسات الحكومات‪،‬‬
‫السياسيين عىل أهمية‬ ‫سياسية‪.‬‬ ‫وتشجيع املشاركة السياسية‬
‫املجتمع املدني‪ ،‬فاملاركسيون‬ ‫‪ -‬تتفاوت األدوار التي‬ ‫عىل مستوى املجتمع ككل‪.‬‬
‫مثل يرون أن املجتمع املدني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ينخرط فيها املجتمع املدني‬ ‫وعىل الرغم من غياب‬
‫وباألخص ما يسمى «الثقافة‬ ‫باختالف املجتمع والنظام‬ ‫اإلجماع عىل نظرية وبناء‬
‫املدنية»‪ ،‬يعيق التغيير‬ ‫السياسي واملستوى‬ ‫املجتمع املدني‪ ،‬إال أن‬
‫والتقدم نحو مجتمع أكثر‬ ‫االقتصادي ودرجة املشاركة‬ ‫األدبيات ذات الصلة بعمل‬
‫ً‬
‫عدل وإنصافًا‪ .‬بيد أنه يف‬ ‫السياسية السائدة فيه‪.‬‬ ‫املنظمات املشار إليها تؤكد‬
‫‪158‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫ما يقودنا إىل االعتراف بأن‬ ‫وأصبح من الطبيعي انتقال‬ ‫العقود األخيرة تزايد االتفاق‬
‫العوملة فشلت يف تحقيق‬ ‫خبرات وقيم وقواعد العمل‬ ‫بين التيارات السياسية‬
‫التنمية للجميع‪.‬‬ ‫املجتمعي عبر الدول‪ ،‬كما‬ ‫األخرى عىل أن املجتمع‬
‫لقد أصبحت عواقب العوملة‬ ‫أضحت األفكار واملفاهيم‬ ‫املدني والثقافة املدنية ورأس‬
‫مصدر قلق رئيس للباحثين‬ ‫القادمة من الغرب عىل وجه‬ ‫املال االجتماعي كلها عوامل‬
‫يف مجال التنمية وممارسيها‬ ‫الخصوص تنتشر عىل نطاق‬ ‫مهمة لتعزيز الديمقراطية‬
‫عىل األرض‪ ،‬فقد أدى تزايد‬ ‫واسع بفعل التطور السريع‬ ‫واملساعدة يف حل النزاعات‪.‬‬
‫من يعانون الفقر‪ ،‬وال سيما‬ ‫يف تقنيات االتصال‪ ،‬وكان‬ ‫ولكي نكون منصفين‪ ،‬فإن‬
‫يف العامل الثالث‪ ،‬إىل التشكيك‬ ‫من بين ذلك االهتمام الكبير‬ ‫املناقشات األكاديمية املبكرة‬
‫يف نظريات وسياسات التنمية‬ ‫بمفهوم املجتمع املدني‬ ‫ملفاهيم املجتمع املدني يف‬
‫(املحافظة) التي تركز عىل‬ ‫الوطن العربي كانت سطحية‬
‫كوسيلة (وغاية) للتنمية‬
‫النمو بحثًا عن استراتيجيات‬ ‫كونها ظهرت باألساس يف‬
‫البشرية‪ .‬بيد أن االنفتاح‬
‫إنمائية أفضل‪ .‬ويف ضوء‬ ‫بالد شمولية‪ ،‬لكنها كانت‬
‫الذي تتطلبه العوملة ال يضمن‬
‫ذلك فقد تم دمج مفهوم‬ ‫دائما تشير إىل أن أي‬
‫بالضرورة حدوث النمو وال‬ ‫ً‬
‫«املجتمع املدني»‪ ،‬الذي يركز‬ ‫توسع يف املشاركة املدنية‬
‫عىل مشاركة الناس‪ ،‬يف‬ ‫التوزيع املنصف للدخل‪ .‬بل‬
‫إن البعض يرى أن العوملة‬ ‫مفيد للديمقراطية‪ .‬بيد أن‬
‫استراتيجيات التنمية‪ .‬ذلك‬ ‫الربط البسيط بين املشاركة‬
‫ألن االستراتيجيات املحافظة‬ ‫تُعزز «عدم املساواة» داخل‬
‫البلدان وفيما بينها‪ ،‬وهذا يف‬ ‫والديمقراطية هو طرح يتسم‬
‫يف التنمية تسلط الضوء عىل‬
‫حد ذاته فشل‪ .‬وليس أدل‬ ‫بالسذاجة‪ ،‬فاألمر مل يكن‬
‫استثمار رأسمال كمصدر‬
‫عىل هذا الفشل من الواقع‬ ‫أب ًدا بتلك البساطة‪ ،‬والحالة‬
‫للنمو االقتصادي‪ ،‬بحيث‬
‫الذي يقرر أن الفقر وعدم‬ ‫املصرية بعد ثورة يناير‬
‫يتم احتساب مشاركة الناس‬
‫املساواة ال يزاالن راسخين‬ ‫‪ 2011‬مباشرة مثال واضح‬
‫فقط يف وظائفهم االقتصادية‬
‫لذلك‪ .‬إذن من أين اكتسب‬
‫كعمال ومستهلكين‪ .‬ولتلبية‬ ‫يف جميع أنحاء العامل‪ ،‬وهو‬
‫املجتمع املدني كل تلك‬
‫الحاجة إىل تحقيق النمو‬
‫األهمية يف العقود األخيرة؟‬
‫مع تعزيز مبدأ اإلنصاف‪،‬‬
‫فيما ييل إجابة مقترحة‪.‬‬
‫تحاول بعض استراتيجيات‬
‫التنمية أن تضمن مشاركة‬
‫األفراد ولكن هذا ال يتم إال‬
‫املجتمع املدني‬
‫يف نطاق محدود‪ ،‬فاألفراد‬ ‫والعوملة‬
‫يقدمون الخدمات العامة‬ ‫واستراتيجيات‬
‫دون تدخل يف التخطيط أو‬ ‫التنمية‬
‫السيطرة عىل مسار التنمية‪.‬‬
‫واستجابة لذلك‪ ،‬أضحت‬ ‫مل يكن لهذا االعتراف‬
‫استراتيجيات التنمية يف‬ ‫املتزايد باملجتمع املدني‬
‫اآلونة األخيرة تدعو إىل‬ ‫أن يوجد بدون «العوملة»‪،‬‬
‫«تنمية محورها اإلنسان»‪،‬‬ ‫فعىل املستوى الوظيفي‪،‬‬
‫ولهذا تفضلها معظم املنظمات‬ ‫زادت العوملة من الترابط‬
‫غير الحكومية‪ .‬وهذا التحول‬ ‫بين شعوب العامل املختلفة‪،‬‬
‫‪159‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫من «استراتيجيات التنمية‬


‫املوجهة نحو النمو» إىل‬
‫«استراتيجيات التنمية التي‬
‫تركز عىل الناس» يضمن‬
‫األولوية لتلبية االحتياجات‬
‫األساسية للفقراء‪ ،‬والتي‬
‫تتطلب بدورها أن يخفض‬
‫األغنياء يف العامل استهالكهم‬
‫إىل مستوى يحقق استدامة‬
‫املوارد‪.‬‬
‫تعتبر التنمية البشرية‬
‫جز ًءا ال يتجزأ من اإلطار‬
‫النظري للتنمية التي محورها‬
‫اإلنسان‪ ،‬إذ تؤكد التنمية‬
‫البشرية عىل الحاجة إىل‬
‫االستثمار يف القدرات‬
‫إلدريدج كليفر‬ ‫جوناثان فريدمان‬
‫البشرية‪ ،‬ومن ثم ضمان‬
‫استخدام هذه القدرات‬
‫ً‬
‫شمول‬ ‫فيها نظرية أكثر‬ ‫يف تلك التنمية‪ ،‬باعتباره‬ ‫لصالح الجميع (برنامج‬
‫عن املجتمع املدني‪ ،‬وكان‬ ‫البيئة التي ستضمن املشاركة‬ ‫األمم املتحدة اإلنمائي‪،‬‬
‫محور اهتمامه هو تحديد‬ ‫الفعالة‪ .‬وهكذا تلعب العوملة‬ ‫‪ .)1993‬وتلعب زيادة‬
‫الظروف التي تستبعد الفقراء‬ ‫واستراتيجيات التنمية‬ ‫دورا مه ًّما‪ ،‬ألنه‬
‫املشاركة هنا ً‬
‫من اتخاذ القرار وتمنعهم‬ ‫دورا مه ًّما يف‬
‫الناشئة عنها ً‬ ‫كلما زادت مشاركة الناس‬
‫من الحصول عىل حصة‬ ‫تعزيز املجتمع املدني‪.‬‬ ‫فإن ذلك يساعد عىل تعظيم‬
‫عادلة من موارد املجتمع‪،‬‬ ‫استغالل القدرات البشرية‪،‬‬
‫وتتركز االستراتيجية التي‬ ‫املجتمع املدني‬ ‫وبالتايل فهي وسيلة لزيادة‬
‫اقترحها فريدمان عىل تمكين‬ ‫والديمقراطية‬ ‫مستويات التنمية االجتماعية‬
‫الفقراء ونقل السلطة إىل‬ ‫واالقتصادية (برنامج األمم‬
‫السلطات املحلية التي يجب‬ ‫يعد املجتمع املدني محد ًدا‬ ‫املتحدة اإلنمائي‪.)1993 ،‬‬
‫أن تخضع للمساءلة أمام‬ ‫مه ًّما للطابع العام للتحوالت‬ ‫وتعني زيادة املشاركة هنا‬
‫أغلبية مواطنيها‪ -‬أي الفقراء‬ ‫الديمقراطية وسياسات ما‬ ‫أيضا تمكين الناس أنفسهم‬ ‫ً‬
‫يف مناطق اختصاصهم‬ ‫بعد التحول الديمقراطي‪،‬‬ ‫من الوصول إىل أكبر‬
‫(جوناثان فريدمان‪ ،‬التمكين‪:‬‬ ‫ذلك ألن الوجود املسبق‬ ‫نطاق ممكن من الفرص‬
‫سياسة التنمية البديلة)‪.‬‬ ‫للمجتمع املدني يساعد‬ ‫(برنامج األمم املتحدة‬
‫وتتطلب الديمقراطية‬ ‫كثيرا عىل تسهيل االنتقال‬
‫ً‬ ‫اإلنمائي‪ .)1993 ،‬وبما أن‬
‫باألساس وجود مؤسسات‬ ‫إىل ديمقراطية قابلة للحياة‪.‬‬ ‫املشاركة عامل رئيسي يف‬
‫قوية للمجتمع املدني (مثل‬ ‫وقد شرح جوناثان‬ ‫استراتيجيات التنمية التي‬
‫الصحافة الحرة) وتنوع‬ ‫فريدمان نظرية معيارية عن‬ ‫تركز عىل الناس‪ ،‬فإن املجتمع‬
‫املنظمات غير الحكومية (مثل‬ ‫الديمقراطية الشاملة يستخدم‬ ‫حاسما‬
‫ً‬ ‫دورا‬
‫املدني سيلعب ً‬
‫التنمية البشرية جزء ال يتجزأ من‬
‫هذا التحول وتتشبث‬ ‫اإلطار النظري للتنمية التي محورها‬
‫بزمام السلطة‪ .‬صحيح أن‬
‫الديمقراطية القابلة للحياة‬ ‫اإلنسان‪ ،‬إذ تؤكد على الحاجة إلى‬
‫تتطلب وجود مجتمع مدني‪،‬‬ ‫االستثمار في القدرات البشرية‪،‬‬
‫لكن املجتمع املدني يف حد‬
‫ذاته ال يعني بالضرورة‬ ‫ومن ثم ضمان استخدام هذه‬
‫التحول إىل الديمقراطية‪.‬‬ ‫القدرات لصالح الجميع‪ ،‬وتلعب‬
‫ولكي يكون للمجتمع املدني‬
‫آثارا ديمقراطية‪ ،‬فإنه‬
‫ً‬ ‫مهما‪ ،‬ألنه‬
‫ًّ‬ ‫زيادة المشاركة دو ًرا‬
‫ينبغي عىل منظمات املجتمع‬ ‫كلما زادت مشاركة الناس فإن‬
‫املدني أن تشرع يف إضفاء‬
‫الديمقراطية عىل نفسها‬ ‫ذلك يساعد على تعظيم استغالل‬
‫وعىل ممارساتها وعىل البيئة‬ ‫القدرات البشرية‪ ،‬وبالتالي فهي‬
‫االجتماعية والسياسية األكبر‬
‫التي تعمل فيها‪ .‬عالوة عىل‬ ‫وسيلة لزيادة مستويات التنمية‬
‫ذلك‪ ،‬ال بد من االعتراف‬ ‫االجتماعية واالقتصادية‪.‬‬
‫بأن االنتقال نحو الحكومات‬
‫املنتخبة ديمقراطيًّا ليس بحد‬
‫ذاته ضمانة لتمتع املجتمع‬
‫بمشاركة سياسية أكبر‪،‬‬ ‫عليها تقرير برنامج األمم‬ ‫جماعات البيئة وجماعات‬
‫بل هناك جوانب أخرى من‬ ‫املتحدة اإلنمائي (‪)1993‬‬ ‫مراقبة الشركات التي كان‬
‫الثقافة السياسية ينبغي‬ ‫هي أنه حتى عندما يتمكن‬ ‫لها تأثير كبير يف العديد من‬
‫وضعها يف االعتبار‪ .‬ويشهد‬
‫املواطنون من انتخاب قادتهم‬ ‫البلدان يف العقود األخيرة‬
‫عىل ذلك أنه يف معظم‬
‫يف انتخابات منظمة وحرة‬ ‫بحسب تقرير برنامج األمم‬
‫الديمقراطيات الحديثة نجد‬
‫ونزيهة‪ ،‬فإن املشاركة‬ ‫املتحدة اإلنمائي (‪.)1993‬‬
‫أن الدولة واملجتمع املدني‬
‫نادرا‬
‫ً‬ ‫السياسية الحقيقية‬ ‫ولكن الديمقراطية يمكن‬
‫عىل حد سواء يتسمان‬
‫ما تتحقق‪ .‬ولذلك إذا أردنا‬ ‫أن تصبح مجرد ممارسة‬
‫بالضعف‪ .‬ونتيجة لذلك‪،‬‬
‫لزاما أن يكون املجتمع‬ ‫للناس يف البلدان النامية أن‬ ‫شكلية لالنتخابات الدورية‬
‫كان ً‬
‫شرطا مسبقًا ضرور ًّيا‬ ‫ً‬ ‫املدني‬ ‫يؤثروا يف التنمية‪ ،‬فسوف‬ ‫ما مل تكن هناك مشاركة‬
‫للمجتمع الديمقراطي‪ ،‬ألن‬ ‫يتعين تعميق املمارسات‬ ‫واعية من الناس يف جميع‬
‫املجتمع املدني يدعم القوي‬ ‫الديمقراطية الحقيقية‪.‬‬ ‫مؤسسات املجتمع املدني وما‬
‫الديمقراطية من خالل تعميق‬ ‫هكذا يمكن من خالل املجتمع‬ ‫مل يتم تمكينهم فيها‪ .‬صحيح‬
‫املساءلة السياسية أمام‬ ‫املدني دعم عملية التحول‬ ‫أن االنتخابات ضرورية‪،‬‬
‫املواطنين‪ .‬واملعنى السلبي‬ ‫الديمقراطي بشكل كبير‪،‬‬ ‫ً‬
‫شرطا‬ ‫لكنها بالتأكيد ليست‬
‫لتلك املساءلة هو حماية‬ ‫بيد أن املجتمع املدني قد ال‬ ‫كافيًا لتحقق الديمقراطية‪،‬‬
‫الدولة من الفساد وإساءة‬ ‫دائما يف بدء عملية‬
‫ينجح ً‬ ‫فاملشاركة السياسية‬
‫استخدام السلطة‪ ،‬بينما‬ ‫التحول الديمقراطي‪ ،‬إذ‬ ‫ليست مجرد تصويت يف‬
‫معناها اإليجابي هو أن‬ ‫يمكن للدولة أن تحارب‬ ‫االقتراع‪ .‬النقطة التي يشدد‬
‫‪161‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫كفاح‪ -‬يف جعل الدولة أكثر‬ ‫التي تعالج قضايا املصلحة‬ ‫تستجيب الدولة الحتياجات‬
‫خضو ًعا للمساءلة وأكثر‬ ‫العامة ومجموعات املساعدة‬ ‫ورغبات شعبها‪ .‬ولكن هذا ال‬
‫شمول ملختلف املجموعات‬ ‫ً‬ ‫الذاتية‪ .‬ويمكن هنا أن نعرف‬ ‫ينفي أن زيادة تأثير جماعات‬
‫االجتماعية‪ .‬ولكن تصاعد‬ ‫املنظمات غير الحكومية‪،‬‬ ‫املصالح عىل الدولة عن حده‬
‫انتقاد املنظمات غير الحكومية‬ ‫وفقًا لتقرير برنامج األمم‬ ‫قد يؤدي إىل جمود وتصلب‬
‫للدولة قد يؤدي بالدولة ألن‬ ‫املتحدة اإلنمائي لعام ‪،1993‬‬ ‫شرايين الديمقراطية ً‬
‫بدل من‬
‫تعتبر تلك املنظمات تهدي ًدا‬ ‫بأنها «منظمات تطوعية‬ ‫وجود نظام حكم ديمقراطي‬
‫لشرعيتها‪ .‬وقد يؤدي هذا‬ ‫تعمل مع الناس وغالبًا ما‬ ‫غني نابض بالحياة‪.‬‬
‫أيضا إىل نشوء منافسة‬‫ً‬ ‫تعمل نيابة عنهم»‪ ،‬فهي‬
‫غير صحية بين الدولة‬ ‫منظمات مهنية غير ربحية‬ ‫دور املنظمات غير‬
‫واملنظمات غير الحكومية‬ ‫مستقلة عن الدولة وتقوم‬ ‫الحكومية يف املجتمع‬
‫لكسب ثقة الناس‪ ،‬خاصة‬ ‫بمجموعة من األنشطة‬ ‫املدني‬
‫عىل مستوى املجتمع املحيل‪.‬‬ ‫غرضها تعزيز أهداف‬
‫ولكن ما ينبغي علينا إدراكه‬ ‫التنمية‪ ،‬وتتمتع بالقدرة‬ ‫يعكس التركيز عىل املجتمع‬
‫هنا هو أن املنظمات غير‬ ‫عىل لعب دور وسيط مهم‬ ‫املدني زيادة الوعي بأهمية‬
‫الحكومية يمكن أن تساعد‬ ‫يف الجهود املبذولة لتمكين‬ ‫املؤسسات املحلية يف دعم‬
‫يف تحسين أداء الحكومة‬ ‫الناس وتعزيز مشاركتهم يف‬ ‫التنمية واالضطالع بها‪،‬‬
‫والعكس صحيح‪ ،‬إذ تعمل‬ ‫التنمية‪ .‬ويف العقود الثالثة‬ ‫ولذلك ترى هيئات التنمية‬
‫تلك املنظمات بشكل أفضل‬ ‫األخيرة أصبحت املنظمات‬ ‫الدولية املهتمة بأهداف‬
‫يف ظل حكومات شرعية قوية‬ ‫غير الحكومية قناة لتدفق‬ ‫مثل الحد من الفقر والحكم‬
‫بعكس تلك التي تعمل يف ظل‬ ‫املوارد والتأثير واألفكار من‬ ‫الرشيد‪ ،‬مثل برنامج األمم‬
‫حكومات ضعيفة‪.‬‬ ‫الشعوب إىل الحكومات ومن‬ ‫املتحدة اإلنمائي والبنك‬
‫يركز الدور الثاني للمنظمات‬ ‫الحكومات إىل الشعوب‪.‬‬ ‫الدويل‪ ،‬أنه من املهم تقوية‬
‫غير الحكومية عىل الحاجة‬ ‫باإلضافة إىل ما سبق تلعب‬ ‫املؤسسات املحلية القادرة‬
‫إىل تطوير شراكات مع‬ ‫دورا‬
‫املنظمات غير الحكومية ً‬ ‫عىل العمل بشكل مستقل‬
‫الحكومة يف عملية التنمية‪،‬‬ ‫خاصا يف تنظيم املجتمع‬
‫ًّ‬ ‫لضمان فعالية السياسات‬
‫أي أنها تعمل كمنظمات‬ ‫املدني وعالقته بالدولة‪ ،‬ألنها‬ ‫والبرامج الحكومية‪ .‬وتلك‬
‫وسيطة بين الناس والحكومة‬ ‫تدافع عن املجتمع املدني‬ ‫املؤسسات التي ال تخضع‬
‫وبين املنظمات األهلية‬ ‫كثيرا ما تلعب‬ ‫ً‬ ‫بأكمله‪ ،‬وألنها‬ ‫لسيطرة مباشرة من‬
‫واملؤسسات الحكومية‪.‬‬ ‫دور الوسيط بين منظمات‬ ‫الحكومة والتي تستهدف‬
‫وغالبًا ما تكون املنظمات‬ ‫املجتمع املدني بعضها‬ ‫مجموعة متنوعة (وأحيانًا‬
‫غير الحكومية قادرة عىل‬ ‫البعض وبين هذه املنظمات‬ ‫متناقضة) من أهداف‬
‫جسر الخالفات بين هذه‬ ‫والدولة‪ ،‬حيث تسعى إىل‬ ‫رفاهية جماعة أو أكثر يف‬
‫الكيانات وتوفير روابط‬ ‫جمع األطراف املختلفة م ًعا‬ ‫املجتمع‪ ،‬هي التي تشكل‬
‫فضل عن‬ ‫ً‬ ‫التواصل بينها‪،‬‬ ‫وإعادة تنظيم العالقات فيما‬ ‫لب «املجتمع املدني»‪ .‬ومن‬
‫قدرتها عىل تقديم انتقادات‬ ‫بينها بغرض تحقيق أهداف‬ ‫أمثلة تلك املؤسسات‪:‬‬
‫بناءة لخطط الحكومة لتنمية‬ ‫التنمية‪ .‬وتوضح التجربة‬ ‫الجمعيات غير الحكومية‬
‫املجتمع‪ ،‬وألن املنظمات غير‬ ‫العاملية أن املنظمات غير‬ ‫وتلك غير الهادفة للربح‪،‬‬
‫الحكومية تكون يف الغالب‬ ‫الحكومية قد نجحت ‪-‬بعد‬ ‫واملنظمات غير الرسمية‬
‫‪162‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الباحثين يف هذا املوضوع‪،‬‬ ‫التي يمكن (بل ويجب)‬ ‫قريبة من الناس وجز ًءا من‬
‫تعتبر الدول بطبيعتها هياكل‬ ‫أن يكون لألفراد تأثير‬ ‫املجتمع‪ ،‬فهي تستطيع إحداث‬
‫قسرية تفرض سلطتها‬ ‫حاسم فيها‪ .‬نذكر هنا‬ ‫تغييرات يف تلك الخطط‪ .‬أما‬
‫باإلكراه‪ ،‬ويف بعض األحيان‬ ‫مقولة للناشط والكاتب‬ ‫الدور الثالث الذي تؤديه‬
‫يكون هذا اإلكراه حمي ًدا‬ ‫األمريكي إلدريدج كليفر‬ ‫املنظمات غير الحكومية فهو‬
‫نسبيًّا‪ ،‬مثل قاعدة عدم‬ ‫(زعيم الحقوق املدنية يف‬ ‫معالجة التفاوتات األساسية‬
‫تجاوز السرعة أثناء القيادة‬ ‫الستينيات)‪« :‬إذا مل تكن‬ ‫يف السلطات واملوارد عبر‬
‫ومنع شرب الكحول قبل‬ ‫جز ًءا من الحل‪ ،‬فأنت جزء‬ ‫العمل لصالح مجموعات‬
‫عاما وااللتزام‬ ‫بلوغ سن ‪ً 21‬‬ ‫من املشكلة»‪ ،‬كما توضح‬ ‫معينة والتنسيق للدفاع عن‬
‫بدفع الضرائب يف الوقت‬ ‫نظرية النظم أن أفعال كل‬ ‫مصالح الفقراء والضغط عىل‬
‫املحدد‪ .‬ولكن هذا اإلكراه‬ ‫إنسان تؤثر عىل كل شيء‬ ‫الحكومة لتغيير السياسات‪.‬‬
‫يمكن أن يكون يف بعض‬ ‫وكل شخص غيره‪ ،‬واألهم‬
‫األحيان إكرا ًها قاسيًا كما‬ ‫من ذلك كله هو أنه ال يمكن‬ ‫هل من خارطة طريق‬
‫هو الحال يف معظم النظم‬ ‫أن يتطور املجتمع املدني‬ ‫جديدة؟‬
‫دائما‬
‫ً‬ ‫الشمولية‪ .‬لكن هناك‬ ‫ورأس املال االجتماعي ما مل‬
‫درجة من القوة يف عالقة‬ ‫يشارك األفراد‪ .‬وهناك طرق‬ ‫املجتمع املدني لبنة أساسية‬
‫«الدولة واملجتمع»‪.‬‬ ‫ال حصر لها لتلك املشاركة‬ ‫يف التنمية والتماسك‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن بعض‬ ‫ولكنها تندرج يف فئتين‬ ‫الوطني‪ ،‬ففي بلد ينعم‬
‫الحكومات تحاول تعزيز‬ ‫رئيسيتين نوضحهما بأمثلة‬ ‫بالسالم واالستقرار‪ ،‬يشغل‬
‫املجتمع املدني وحقق بعضها‬ ‫من املجتمع املدني املصري‪.‬‬ ‫املجتمع املدني املساحة التي‬
‫نجاحا يف ذلك‪ .‬ومن ذلك‬ ‫ً‬ ‫أول‪ ،‬يمكن للفرد االنضمام‬ ‫ً‬ ‫ال تشغلها الحكومة وال‬
‫عىل سبيل املثال أن الحكومة‬ ‫إىل منظمة تروج لبعض‬ ‫القطاع الخاص‪ ،‬بينما يف‬
‫البريطانية قد أنشأت‬ ‫جوانب املجتمع املدني‪ ،‬وأحد‬ ‫بلد هش تمزقه الصراعات‬
‫مجموعة متنوعة من مجالس‬ ‫األمثلة عىل مثل هذه املنظمة‬ ‫االقتصادية أو السياسية أو‬
‫املقاطعات و»هيئات املحلفين‬ ‫يف السياق املصري جمعيات‬ ‫االجتماعية‪ ،‬يلعب املجتمع‬
‫املواطنين» يف محاولة‬ ‫العون املباشر مثل «جمعية‬ ‫دورا أكثر أهمية يف‬
‫املدني ً‬
‫لتحفيز املزيد من الناس عىل‬ ‫رسالة» ومستشفيات‬ ‫تقديم الخدمات التي هي يف‬
‫املشاركة النشطة يف الحياة‬ ‫األورام وغيرها‪ .‬ثانيًا‪ ،‬يمكن‬ ‫األصل مسؤولية الدولة‪ ،‬بل‬
‫السياسية‪ .‬كما تستلزم‬ ‫لألفراد التصرف بصفتهم‬ ‫ويمكن أن يضع األساس‬
‫الحكومة الفرنسية الحصول‬ ‫أفراد بدون التزام تنظيمي‬ ‫للمصالحة الوطنية‪ .‬فما الذي‬
‫عىل آراء عدد كبير من‬ ‫معقد‪ ،‬كأن يقوم شخص ما‬ ‫يمكن أن يفعله الجميع لدعم‬
‫العامة قبل املوافقة عىل أي‬ ‫بتويل مسئولية توفير مياه‬ ‫املجتمع املدني؟ يمكننا يف‬
‫مشروع رئيسي جديد قد‬ ‫شرب نظيفة لعدد من املنازل‬ ‫الفقرات التالية رسم إطار‬
‫يؤثر عىل البيئة‪ .‬ويف جنوب‬ ‫يف منطقة محرومة من‬ ‫عام لخارطة طريق جديدة‬
‫أفريقيا تلقت لجنة الحقيقة‬ ‫الخدمات‪.‬‬ ‫تناسب السياق املصري‬
‫واملصالحة (بعد انتهاء‬ ‫ما يمكن للدولة القيام به‪:‬‬ ‫العربي‪:‬‬
‫التمييز العنصري) أدلة من‬ ‫يصعب عىل الدول رعاية‬ ‫ما يمكن لألفراد القيام به‪:‬‬
‫أكثر من ‪ 20‬ألف شخص‬ ‫املجتمع املدني عىل صعيد أو‬ ‫تعد املساعدة يف تطوير‬
‫معظمهم مل يشارك يف أي‬ ‫آخر‪ ،‬فحسبما أشار معظم‬ ‫املجتمع املدني أحد املجاالت‬
‫‪163‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫من املناقشة أعاله هو أن‬ ‫املجتمع عىل املدى الطويل‪،‬‬ ‫عملية سياسية ديمقراطية‬
‫خاصة إذا اندلع الصراع مرة املجتمع املدني يفيد بشكل‬ ‫من قبل‪.‬‬
‫عام يف تعزيز قدرات رأس‬ ‫أخرى‪ .‬ولهذه الغاية‪ ،‬تعمل‬ ‫ما يمكن أن تفعله األطراف‬
‫املال االجتماعي واستدامة‬ ‫األمم املتحدة عىل توسيع‬ ‫األخرى‪:‬‬
‫الديمقراطية والقضاء عىل‬ ‫طرق تعاونها مع املنظمات‬ ‫هنا يظهر مجال مجتمع‬
‫غير الحكومية وغيرها لتعزيز الفقر‪ ،‬كما أنه مفتاح رئيس‬ ‫املنظمات غير الحكومية التي‬
‫يف نجاح التنمية املستدامة‬ ‫املجتمع املدني‪.‬‬ ‫تتناول تطوير املجتمع املدني‬
‫عىل املدى الطويل‪ .‬لذلك ال‬ ‫بطرق جديدة ومبتكرة‪،‬‬
‫ينبغي أن يركز النقاش الدائر‬ ‫خاتمة‬ ‫حيث يتم إنشاء معظم‬
‫حول دور املجتمع املدني‬ ‫يستحق مفهوم املجتمع‬ ‫تلك املنظمات بغرض حل‬
‫واملنظمات غير الحكومية‬ ‫اهتماما جا ًّدا للغاية‬ ‫املدني‬ ‫النزاعات أو تقديم مساعدات‬
‫ً‬
‫من جميع األطراف الفاعلة يف عىل دورها تجاه الدولة‪،‬‬ ‫التنمية أو تقديم اإلغاثة أثناء‬
‫بلدان منطقة الشرق األوسط‪ ،‬بل عىل كيفية تعزيز دور‬ ‫حاالت الطوارئ املعقدة‪ .‬وقد‬
‫املنظمات غير الحكومية يف‬ ‫خاصة بعد انحسار موجة‬ ‫أصبحت معظم املنظمات غير‬
‫الربيع العربي وما نتج عنها استكمال دور الدولة ً‬
‫بدل من‬ ‫الحكومية تدرك أن جز ًءا‬
‫استبدالها أو تحديها يف مجال‬ ‫من تداعيات عىل املستوى‬ ‫من عملها يجب أن يشمل‬
‫التنمية‬ ‫االقتصادي واالجتماعي‪.‬‬ ‫املجتمع املدني‪ ،‬فما مل يحدث‬
‫‪------‬‬ ‫وعىل الرغم من أنه ال‬ ‫ذلك؛ فإن التدريب عىل حل‬
‫* باحث ومترجم يف العلوم‬ ‫يوجد إجماع حول ماهية‬ ‫النزاعات أو املساعدة وحدها‬
‫االجتماعية‪.‬‬ ‫املجتمع املدني‪ ،‬إال أن املؤكد‬ ‫كبيرا يف‬
‫ً‬ ‫لن ُيحدث فرقًا‬

‫املراجع‪:‬‬
‫‪ -‬برنامج األمم املتحدة اإلنمائي‪ :‬تقرير التنمية البشرية لعام ‪.3991‬‬
‫‪ -‬برنامج األمم املتحدة اإلنمائي‪ :‬تقرير التنمية البشرية لعام ‪.4002‬‬
‫‪ -‬جوناثان فريدمان‪ :‬التمكين (سياسة التنمية البديلة)‪ .‬ترجمة‪ :‬ربيع وهبه‪ .‬املركز القومي للترجمة‪.‬‬
‫‪- Blackburn, S. 2005, The Oxford Dictionary of Philosophy, 2nd ed., Oxford University‬‬
‫‪Press, Cambridge.‬‬
‫‪- Encyclopedia Britannica.‬‬
‫‪- Kamrava M. 2000, Politics and Society in the Developing World, 2nd edn, Routledge,‬‬
‫‪London.‬‬
‫‪- The United Nations: Partners in Civil Society (2003) available from http://www.un-‬‬
‫‪.org/en/civilsociety/index.shtml; Internet.‬‬
‫‪164‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وتعينه عىل أداء واجباته‪،‬‬ ‫السياسية يف معناها‬

‫التنمية السياسية وأثرها في المجتمع المدني‬


‫التنمية‬
‫تنمية الفرد خلقيًّا وعلميًّا‬ ‫القريب تعبر عن‬
‫ليصبح له دوره الفعال يف‬ ‫الزيادة والنماء‬
‫املجتمع‪.‬‬ ‫والكثرة واملضاعفة‬
‫كما ترتكز التنمية السياسية‬ ‫يف الخبرات‬
‫عىل التغيير والتطوير قدر‬ ‫والتطبيقات‬
‫اإلمكان يف كافة الجوانب‬ ‫والتجارب اإلدارية‬
‫التي تحتاج إىل ذلك مع‬ ‫سعيًا للتغيير نحو األفضل‬
‫االستمرارية يف العملية‬ ‫واألصلح عىل الصعيد‬
‫التطويرية والتنموية لغاية‬ ‫السياسي‪ ،‬بهدف تطوير‬
‫وصول اإلنسان إىل هدفه‪،‬‬ ‫وتحسين أحوال الناس من‬
‫وألجل تحقيق التنمية ال بد‬ ‫خالل استغالل جميع املوارد‬
‫من الشمولية ويقصد بها أن‬ ‫والطاقات والخبرات املتاحة‬
‫تكون العملية التنموية شاملة‬ ‫لتحقيق أقصى استفادة‬
‫لقدرات اإلنسان املادية‬ ‫منها ووضعها يف مكانها‬
‫واملعنوية مع الحرص عىل‬ ‫الصحيح‪.‬‬
‫التوازن والواقعية‪.‬‬ ‫كما أنها تعبر بمعناها‬
‫ترتبط التنمية السياسية‬ ‫االصطالحي عن زيادة‬
‫املعاصرة بدراسة‬ ‫قدرة األفراد عىل املشاركة‬
‫االستشراق واألنثربولوجيا‬ ‫يف العملية السياسية وصنع‬
‫وعلم االجتماع واإلطار‬ ‫القرارات‪ ،‬والقدرة عىل‬
‫التاريخي والخبرة التاريخية‬ ‫االختيار السليم‪.‬‬
‫واإلطار االجتماعي‬ ‫وترتكز التنمية عىل عدد‬
‫والسياسي والتاريخ الذي‬ ‫من املرتكزات‪ ،‬تتمثل يف‬
‫تطبق فيه‪ ،‬وعىل هذا فإن‬ ‫االستخدام األمثل للموارد‬
‫دراسة نظريات التنمية‬ ‫البشرية‪ ،‬ويشمل ذلك العناية‬
‫السياسية ال بد وأن تكون‬ ‫واالهتمام بالعقول البشرية‪،‬‬
‫يف إطار الفهم الشامل ملفهوم‬ ‫وإعطائها فرصتها لتحقيق‬
‫التنمية واألبعاد املختلفة‬ ‫التنمية يف مختلف املجاالت‪.‬‬
‫له وال تقتصر عىل األبعاد‬ ‫كما تتحقق التنمية بااللتزام‬
‫السياسية فقط‪ ،‬بل تتعرض‬ ‫بأولويات التنمية وهي حفظ‬
‫لجميع األبعاد األخرى التي‬ ‫الضرورات الخمس التي‬
‫تؤثر يف العملية السياسية‬ ‫تشمل النفس‪ ،‬واملال‪ ،‬والدين‪،‬‬
‫من خالل الربط بين التنمية‬ ‫والعقل‪ ،‬والعرض‪ ،‬سعيًا‬
‫السياسية واالقتصادية‬ ‫لتحقيق مبادئ التنمية من‬
‫والثقافية واالجتماعية‬ ‫العدالة‪ ،‬واإلتقان واإلحسان‬
‫لظاهرة أو قضية التنمية‪،‬‬ ‫يف العمل وعدالة توزيع‬
‫د‪.‬ياسر عاشور‬
‫وهذا يعني اإلملام بمختلف‬ ‫الثروات وغيرها من املفاهيم‬
‫األبعاد والجوانب الظاهرة أو‬ ‫التي تكفل لإلنسان حقوقه‬ ‫إسماعيل*‬
‫‪165‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫األخرى‪.‬‬ ‫ومنها ما يتجه إىل أن مسار‬ ‫القضية التنموية‪.‬‬


‫أما يف العامل غير األوروبي‬ ‫التنمية ال بد أن يقتفي أثر‬ ‫وتتعدد التجارب التنموية‬
‫فنجد أن التنمية السياسية‬ ‫التجربة االشتراكية يف‬ ‫يف الدول الغربية وغير‬
‫إذا كانت تصف أسباب‬ ‫االتحاد السوفيتي والصين‬ ‫األوروبية باعتبار مفاهيمها‬
‫التخلف والعوامل التي أدت‬ ‫انطالقًا من معطيات النظرية‬ ‫ومسمياتها‪ ،‬وذلك يختلف‬
‫إىل تأخر هذه الدول‪ ،‬فإنها‬ ‫املاركسية القائمة عىل‬ ‫اختالفًا تا ًّما عن التنمية‬
‫تتحدث عن الحركة الدائرية‬ ‫التخطيط املسبق وامللكية‬ ‫السياسية يف العامل الثالث‬
‫لهذه املجتمعات‪ ،‬حيث إن‬ ‫العامة والحزب السياسي‬ ‫أو الدول النامية أو الدول‬
‫تاريخها يسير يف دوائر‬ ‫الواحد‪.‬‬ ‫ما قبل الصناعية أو الدول‬
‫ً‬
‫ونزول وذلك‬ ‫مغلقة صعو ًدا‬ ‫وهناك اتجاه ثالث يحاول‬ ‫الفقيرة‪.‬‬
‫خالفًا ملا ذكره (أولريش بك)‬ ‫التوفيق بين التراث‬ ‫إن معظم الدراسات العربية‬
‫يف كتابه العامل الجديد حيث‬ ‫اإلسالمي ونظريات‬ ‫يف التنمية السياسية تبرز‬
‫رأى أن الدورات املتكررة‬ ‫التنمية السياسية‪ ،‬فيرى‬ ‫صورة واضحة للكتابات‬
‫يف التاريخ اإلنساني دورات‬ ‫أنه األمثل حيث يجمع بين‬ ‫األوروبية سواء الليبرالية‬
‫حلزونية وليست دائرية‪.‬‬ ‫عنصري امليراث التاريخي‬ ‫أو املاركسية لتصبح تقلي ًدا‬
‫وتقدم نظرية التنمية‬ ‫والخصوصية الحضارية‬ ‫متَّب ًعا لهذه النظريات يف‬
‫السياسية عدة مفاهيم‬ ‫من ناحية ومعطيات العلم‬ ‫مسيرتها للتطور العلمي‬
‫للتعبير عن جوهر وحقيقة‬ ‫الحديث من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫واإلملام باالنفجار املعريف‬
‫ظاهرة التنمية‪ ،‬حيث برزت‬ ‫تنطلق نظريات التنمية‬ ‫وتحقيق التواصل مع‬
‫العديد من املفاهيم للتعبير‬ ‫السياسية من اإليمان بأن‬ ‫التيارات العاملية‪ ،‬لكن لألسف‬
‫عن نفس الحقيقة مثل‬ ‫املجتمعات البشرية تسير يف‬ ‫يحصل ذلك من موقع‬
‫التنمية‪ ،‬التحديث‪ ،‬التطور‪،‬‬ ‫مراحل متتابعة‪ ،‬كل مرحلة‬ ‫املفعول ال الفاعل‪ ،‬املتلقي‬
‫التقدم‪ ،‬التغيير‪ ،‬الرقي‪ ،‬وهذه‬ ‫منها أعىل من السابقة‪ ،‬وذلك‬ ‫املستهلك‪.‬‬
‫جمي ًعا ربما ال تمثل منظومة‬ ‫انطالقًا من اعتبار املجتمع‬ ‫وإذا كان وال بد فينبغي أن‬
‫متكاملة أو نسخة واحدة‬ ‫أنموذجا معيار ًّيا‬
‫ً‬ ‫األوروبي‬ ‫تكون تبعية املصطلح واملجال‬
‫وإنما هي مفاهيم متعددة‬ ‫(بارادايم) للمجتمعات‬ ‫بدل من أن‬ ‫والرؤية التحليلية ً‬
‫ملوضوع واحد‪.‬‬ ‫تكون تبعية سلبية!‬
‫أما تاريخيًّا فإن مفهوم‬ ‫تعددت الكتابات يف التنمية‬
‫التنمية السياسية برز‬ ‫السياسية‪ ،‬فمنها ما يتجه إىل‬
‫بصورة أساسية منذ الحرب‬ ‫أنه تطبيق نماذج مجتمعات‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬حيث مل‬ ‫أوروبا الغربية املتمثلة‬
‫يستعمل هذا املفهوم منذ‬ ‫يف الليبرالية السياسية‬
‫عصر آدم سميث يف الربع‬ ‫والتعددية الحزبية والحرية‬
‫األخير من القرن الثامن عشر‬ ‫االقتصادية‪ ،‬والتركيز عىل‬
‫وحتى الحرب العاملية الثانية‬ ‫البعد السياسي املؤسسي‬
‫إال عىل سبيل االستثناء لهذا‬ ‫لتحقيق النمو من خالل‬
‫املفهوم عىل مستوى عال من‬ ‫هذا النموذج‪ ،‬ويمثل هذا‬
‫االقتصاد ثم انتقل إىل علم‬ ‫االتجاه كتابات (ماكليالن‬
‫السياسة منذ ستينات القرن‬ ‫ودوتش وهانتيجتون)‪،‬‬
‫‪166‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الدولة عىل حساب املجتمع‬ ‫النظرية من الناحية العملية‪،‬‬ ‫املاضي عىل أيدي ليونارد‬
‫والفرد‪ ،‬ومن خالل السيطرة‬ ‫وحيث إن نظريات التنمية‬ ‫بايندر‪ ،‬وجيمس كوملان‪.‬‬
‫عىل النظم السياسية التي‬ ‫السياسية قبلية مستمدة من‬ ‫ُيعرف (لوسيان باي)‬
‫تتسبب بشكل مباشر يف‬ ‫الخبرة األوروبية‪ ،‬تقدم إىل‬ ‫التنمية السياسية‪ :‬بأنها‬
‫تدهور مستويات املعيشة أو‬ ‫املجتمعات غير األوروبية‬ ‫عملية تغيير اجتماعي متعدد‬
‫القمع أو غير ذلك من ألوان‬ ‫إلحداث نقله نوعيه يف‬ ‫الجوانب يساهم يف الوصول‬
‫الخطر الذي يهدد التنمية‬ ‫هذه املجتمعات عن طريق‬ ‫إىل مستوى الدول الصناعية‪.‬‬
‫االجتماعية‪ ،‬مع الوضع يف‬ ‫تحقيق التحديث والتنمية‬ ‫فالتنمية السياسية عنده‬
‫االعتبار أن تضع الدولة‬ ‫السياسية‪ ،‬فإن أهم األبعاد‬ ‫مقدمة للتنمية االقتصادية‪،‬‬
‫مساحة للحوار من خالل‬ ‫العملية يف هذه النظرية هي‬ ‫وهي نمط سياسات‬
‫الندوات أو املحاضرات أو‬ ‫الوسائل‪ ،‬ذلك ألنها البعد‬ ‫املجتمعات الصناعية‪ ،‬وهي‬
‫املؤتمرات أو الخطبة أو‬ ‫الظاهر الذي يمكن تبنيها من‬ ‫تنمية إدارية وقانونية‬
‫الصحف أو وسائل اإلعالم‪،‬‬ ‫قبل النظم السياسية ونقلها‬ ‫وتعبئة ومشاركة جماهيرية‬
‫فتتكامل هذه الوسائل حول‬ ‫أو استيرادها من الدول‬ ‫وبناء ديمقراطية واستقرار‬
‫واحدة وقيمة واحدة وهدف‬ ‫األوروبية‪ ،‬وحينئذ ينبغي‬ ‫وتغيير منظم‪ ،‬وهي جانب‬
‫واحد‪.‬‬ ‫علينا مراعاة البعد االجتماعي‬ ‫من الجوانب املتعددة لعملية‬
‫والطريق األقرب إلحداث‬ ‫ومدى مالءمة هذا النظام‬ ‫التغيير‪.‬‬
‫التغيير الثقايف والتنمية‬ ‫يف مجتمعاتنا وصالحيته‬ ‫أما (جيمس كوملان) فيقدم‬
‫السياسية واألمن املجتمعي‬ ‫بالنسبة لنا وقدرته عىل‬ ‫منظومة ثالثية لتحديد‬
‫ووحدة الكيان عىل مستوى‬ ‫تحقيق نقلة نوعية يف هذه‬ ‫معنى التنمية وهي‪ :‬املنظور‬
‫الثقافة السياسية بعي ًدا عن‬ ‫املجتمعات‪ ،‬ولو إىل املقاصد‬ ‫التاريخي‪ ،‬واملنظور النمطي‪،‬‬
‫الهوى واملصالح الشخصية‬ ‫األوروبية نفسها‪.‬‬ ‫واملنظور التطوري‪ ،‬يف حين‬
‫حيث املصلحة العامة يسعى‬ ‫هذه الوسائل تتمثل يف‪:‬‬ ‫أن (صمويل هنتنجتون)‬
‫إليها الحاكم واملحكوم‪.‬‬ ‫وسائل ثقافية‪ ،‬وسائل‬ ‫يرى النمو السياسي هدف‬
‫يتوصل املجتمع للتنمية‬ ‫مؤسسية‪ ،‬وسائل‬ ‫االستقرار‪ ،‬وهذا ال يتأتى‬
‫املطلوبة من خالل معايير‬ ‫اقتصادية وتكنولوجية‪،‬‬ ‫إال بتأسيس املنظمات‬
‫تتمثل يف معيار التكيف‪،‬‬ ‫ينبغي مراعاتها جمي ًعا‬ ‫واإلجراءات السياسية‬
‫ومن خالله تكون قدرة‬ ‫لتحقيق التنمية السياسية‪.‬‬ ‫وعلمانية الثقافة السياسية‪.‬‬
‫املؤسسة عىل االستقرار‬ ‫أما الوسائل الثقافية التي‬ ‫وملا كانت الوسائل لها البعد‬
‫واالستمرار يف وجه التغيرات‬ ‫ترتكز عليها نظرية التنمية‬ ‫الجوهري يف البناء النظري‬
‫التي تحدث يف املجتمع أو‬ ‫السياسية املعاصرة فتعني‬ ‫لهذه النظريات ويف مدى‬
‫يف بنائها ومعيار التعقيد‬ ‫باعتماد النسق الثقايف‬ ‫مالئمتها للمجتمعات؛ كانت‬
‫بمعنى أن تكون املؤسسة‬ ‫التنموي الفعال كمقدمة‬ ‫الوسيلة هي األداة التي‬
‫متعددة األغراض والوظائف‬ ‫ضرورية للوصول إىل‬ ‫توصل إىل الغاية وتحقق‬
‫متخصصة مقسمة إىل‬ ‫مجتمع الحداثة‪ ،‬والقضاء عىل‬ ‫املضمون وهي الوسيط الذي‬
‫وحدات تقوم بدورها‬ ‫النسق التقليدي الذي يرسم‬ ‫ينقل املسلمات واملفاهيم‬
‫عىل أكمل وجه‪ ،‬ثم معيار‬ ‫الجمود عىل كافة األصعدة‬ ‫إىل أرض الواقع للوصول‬
‫االستقاللية الذاتية بحيث‬ ‫السيما الطابع االستبدادي‬ ‫إىل الغايات واملقاصد‪ ،‬ومن‬
‫تكون املؤسسة مستقلة‬ ‫اإلقطاعي للحد من تضخم‬ ‫هنا فإنها تعد من أهم أبعاد‬
‫‪167‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫بصورة كبيرة يف حركتها‬


‫عن املؤسسات األخرى‪ ،‬مما‬
‫يعطي لها ذاتية خاصة بها‪،‬‬
‫ثم معيار التماسك الذي‬
‫يقصد به مقدار الوحدة‬
‫الداخلية يف املؤسسة نفسها‬
‫وتماسك أعضائها‪ ،‬أي أنه‬
‫يعبر عن االستقرار الهيكيل‬
‫للمؤسسة وتماسكها الداخيل‪،‬‬
‫عىل هذا النحو تكون فكرة‬
‫التميز البنائي والتخصص‬
‫الوظيفي التي يركز عليها‬
‫مفكرو التنمية السياسية‬
‫باعتبارها صياغة حديثة‬
‫ملفهوم الفصل بين السلطات‬
‫أولريش بك‬ ‫أنطونيو جرامشي‬ ‫آدم سميث‬
‫وهو يف ذاته يمثل جوهر‬
‫عملية التحديث‪.‬‬

‫‪ ،)1689‬ثم تواىل عىل دراسته‬ ‫توفير املعينات املؤدية إىل‬ ‫ما املقصود باملجتمع‬
‫ونقده واستقصاء أبعاده‬ ‫تكوين مجتمع حضاري‪،‬‬ ‫املدني؟‬
‫املختلفة عدد من الفالسفة‬ ‫تؤكد عىل ذلك الشواهد‬
‫يف الجاهلية قبل اإلسالم‬
‫وعلماء االجتماع والساسة‬ ‫النصية املتناثرة يف كتب‬
‫كانت القبيلة والعشيرة‬
‫الغربيين مثل هوبز‪ ،‬وروسو‬ ‫التاريخ والسجالت والوثائق‬
‫وسوق عكاظ ودار الندوة‬
‫وهيجل وغيرهم‪ ،‬فكانت‬ ‫الخاصة باألوقاف واملخلفات‬
‫ووظائف السقاية والسدنة‬
‫والدته يف ظل التحول‬ ‫اآلثارية التي توضحها نماذج‬
‫لبيت اهلل يف مكة املكرمة‬
‫الجذري الذي اجتاح أوروبا‬ ‫األبنية التي ُشيِّدت لتكون‬ ‫هي نماذج من املجتمع‬
‫واالنتقال من عصر الظالم‬ ‫محورا ألعمال الوقف من‬‫ً‬ ‫املدني‪ ،‬والجميع واملؤسسات‬
‫إىل عصر الدولة الحديثة‬ ‫املساجد واملدارس ومكاتب‬ ‫والهيئات الحديثة للمجتمع‬
‫والنظام الجديد(‪.)2‬‬ ‫األيتام واألسبلة واآلبار‬ ‫املدني هي امتداد لتنظيمات‬
‫ومع نهاية القرن الثامن‬ ‫والعيون(‪.)1‬‬ ‫القبيلة والقرية‪.‬‬
‫عشر تأكد يف الفكر السياسي‬ ‫أما يف العصر الحديث‪ :‬فلقد‬ ‫وبعد ظهور اإلسالم ظهرت‬
‫الغربي ضرورة تقليص‬ ‫عاد ظهور مصطلح منظمات‬ ‫تطبيقات للمجتمع املدني؛‬
‫هيمنة الدولة لصالح املجتمع‬ ‫املجتمع املدني يف القرنين‬ ‫مثل الوقف‪ .‬ويعد الوقف‬
‫املدني الذي يجب أن يدير‬ ‫السابع عشر والثامن عشر‪،‬‬ ‫خاصية مالزمة للمجتمع‬
‫بنفسه أموره الذاتية وأن ال‬ ‫وربما يكون جون لوك‪ ،‬أول‬ ‫العربي اإلسالمي عبر‬
‫يترك للحكومة إال القليل‪،‬‬ ‫من استخدمه بعد الثورة‬ ‫تاريخه الطويل‪ ،‬وكان بمثابة‬
‫ليشهد القرن التاسع عشر‬ ‫اإلنكليزية ‪ 1688‬يف نصه‬ ‫الطاقة التي دفعت به نحو‬
‫حدوث التحول الثاني يف‬ ‫املشهور (رسالة التسامح‪،‬‬ ‫النماء والتطور من خالل‬
‫‪168‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫عن إشراف الدولة املباشر‪،‬‬ ‫املدني فهو يمثل األفراد‬ ‫مفهوم املجتمع املدني حيث‬
‫فهو يتميز باالستقاللية‬ ‫والهيئات غير الرسمية والتي‬ ‫اعتبر كارل ماركس أن‬
‫والتنظيم التلقائي وروح‬ ‫تسمى يف علم االجتماع‬ ‫املجتمع املدني هو ساحة‬
‫املبادرة الفردية والجماعية‪،‬‬ ‫باملؤسسات الثانوية مثل‬ ‫الصراع الطبقي‪ ،‬ليأتي‬
‫والعمل التطوعي‪ ،‬والحماسة‬ ‫الجمعيات األهلية والنقابات‬ ‫بعد ذلك الظهور األبرز يف‬
‫من أجل خدمة املصلحة‬ ‫العمالية واملهنية وشركات‬ ‫القرن العشرين حين طرح‬
‫العامة‪ ،‬والدفاع عن حقوق‬ ‫األعمال والغرف التجارية‬ ‫جرامشي مسألة املجتمع‬
‫الفئات الضعيفة‪ ،‬ورغم أن‬ ‫والصناعية وما شابهها‬ ‫املدني يف إطار مفهوم جديد‬
‫املجتمع املدني يعىل من شأن‬ ‫من املؤسسات التطوعية‬ ‫فكرته املركزية هي أن‬
‫الفرد إال أنه ليس مجتمع‬ ‫بصفتها عناصر فاعلة يف‬ ‫املجتمع املدني ليس ساحة‬
‫الفردية بل عىل العكس‬ ‫معظم املجاالت التربوية‬ ‫للتنافس االقتصادي بل‬
‫مجتمع التضامن عبر شبكة‬ ‫واالقتصادية والعائلية‬ ‫ساحة للتنافس األيديولوجي‬
‫واسعة من املؤسسات(‪.)4‬‬ ‫والصحية والثقافية والخيرية‬ ‫منطلقًا من التمييز بين‬
‫إن األهمية املتزايدة للمجتمع‬ ‫وغيرها(‪.)3‬‬ ‫السيطرة السياسية والهيمنة‬
‫املدني ونضج مؤسساته‬ ‫فاملجتمع املدني هو نسيج‬ ‫األيديولوجية‪ ،‬وليوافق‬
‫نابعة مما يقوم به من دور‬ ‫متشابه من العالقات التي‬ ‫بدايات التحول يف أوروبا‬
‫أو يعول عليه يف تنظيم‬ ‫تقوم بين أفراده من جهة‪،‬‬ ‫الشرقية الذي انطلق من‬
‫وتفعيل مشاركة الناس يف‬ ‫وبينهم وبين الدولة من جهة‬ ‫بولونيا يف العام ‪ 1982‬عندما‬
‫تقرير مصائرهم ومواجهة‬ ‫أخرى‪ ،‬وهي عالقات تقوم‬ ‫طرحت نقابة التضامن نفسها‬
‫السياسات التي تؤثر يف‬ ‫عىل تبادل املصالح واملنافع‬ ‫باعتبارها أحد التنظيمات‬
‫معيشتهم وتزيد من إفقارهم‪،‬‬ ‫والتعاقد والتراضي والتفاهم‬ ‫للمجتمع املدني‪.‬‬
‫وما يقوم به من دور يف نشر‬ ‫واالختالف والحقوق‬ ‫وقد برزت نتيجة لهذا‬
‫ثقافة خلق املبادرة الذاتية‪،‬‬ ‫والواجبات واملسؤوليات‪،‬‬ ‫التطور ثالثة مفاهيم مختلفة‬
‫ثقافة بناء املؤسسات‪ ،‬ثقافة‬ ‫ومحاسبة الدولة يف كافة‬ ‫ولكنها يف نفس الوقت‬
‫اإلعالء من شأن املواطن‪،‬‬ ‫األوقات التي يستدعي فيها‬ ‫متكاملة وهي‪ -1 :‬املجتمع‪،‬‬
‫والتأكيد عىل إرادة املواطنين‬ ‫األمر محاسبتها‪ ،‬ومن جهة‬ ‫‪ -2‬املجتمع السياسي‪-3 ،‬‬
‫يف الفعل التاريخي وجذبهم‬ ‫إجرائية‪ ،‬فإن هذا النسيج‬ ‫املجتمع املدني‪ .‬أما املجتمع‬
‫إىل ساحة الفعل التاريخي‬ ‫من العالقات يستدعي‪،‬‬ ‫فهو اإلطار األشمل الذي‬
‫واملساهمة بفعالية يف‬ ‫لكي يكون ذا جدوى‪ ،‬أن‬ ‫يحتوي البشر وينظم العالقة‬
‫تحقيق التحوالت الكبرى‬ ‫يتجسد يف مؤسسات طوعية‬ ‫بينهم يف إطار اقتصادي‬
‫للمجتمعات حتى ال تترك‬ ‫اجتماعية واقتصادية وثقافية‬ ‫اجتماعي محدد ويتطور من‬
‫حكرا عىل النخب الحاكمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وحقوقية متعددة تشكل يف‬ ‫خالل عالقة فئاته ببعضها‬
‫ولذلك ويف هذا اإلطار يرى‬ ‫مجموعة القاعدة األساسية‬ ‫وصراعاتها‪ .‬يف حين أن‬
‫املفكر اإليطايل انطونيو‬ ‫التي ترتكز عليها مشروعية‬ ‫املجتمع السياسي هو مجتمع‬
‫جرامشي أن املجتمع‬ ‫الدولة من جهة‪ ،‬ووسيلة‬ ‫الدولة الذي يتكون من‬
‫املدني بهذا املفهوم هو أحد‬ ‫محاسبتها إذا استدعى األمر‬ ‫الدولة وأجهزتها والتنظيمات‬
‫أركان الديمقراطية ويلعب‬ ‫ذلك من جهة أخرى‪ ،‬كما أن‬ ‫واألحزاب السياسية التي‬
‫دورا ها ًّما يف بنائها ودعم‬
‫ً‬ ‫ما يميز املجتمع املدني أنه‬ ‫تسعى للسيطرة عليها أو‬
‫تطورها ‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫مجتمع مستقل إىل حد كبير‬ ‫الضغط عليها‪ .‬أما املجتمع‬
‫‪169‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫نشأة منظمات املجتمع‬


‫املدني يف الوطن‬
‫العربي‬
‫العمل التطوعى العربي منذ‬
‫بداياته وحتى اآلن يتأثر‬
‫مباشرا بالظروف‬
‫ً‬ ‫تأثيرا‬
‫ً‬
‫االجتماعية واالقتصادية‬
‫والسياسية والثقافية‬
‫للمجتمع يف مساره‬
‫التاريخي‪ ،‬وقد توافرت‬
‫العديد من العوامل التي‬
‫كان لها تأثير واضح عىل‬
‫توجهات وأهداف وحجم دور‬
‫العمل يف املراحل التاريخية‬
‫املختلفة‪ ،‬فمن ناحية كان‬
‫صمويل هنتنجتون‬ ‫جيمس كولمان‬ ‫ليونارد بايندر‬
‫للقيم الدينية والروحية يف‬
‫املنطقة العربية‪ ،‬تأثير كبير‬
‫أدى هذا التطور إىل تسليط‬ ‫الجماهير وانتظامها من‬ ‫عىل العمل األهيل‪ ،‬حيث تعتبر‬
‫الضوء عىل هذا القطاع‪ ،‬سواء‬ ‫أجل الحفاظ عىل استقاللها‬ ‫الجمعيات الخيرية ‪-‬وهي‬
‫عىل املستوى االجتماعي أو‬ ‫وهويتها الوطنية ضد‬ ‫أقدم األشكال‪ -‬امتدا ًدا لنظام‬
‫السياسي أو الفكري‪ .‬كما‬ ‫محاوالت الهيمنة الثقافية‬ ‫الزكاة ومفهوم الصدقة‬
‫الجارية الذي تمثل يف الوقف‬
‫ظهرت يف اآلونة األخيرة‬ ‫واالستعمارية‪ ،‬ويف درء‬
‫يف اإلسالم ولنظام العشور‬
‫منظمات دفاعية ‪Advocacy‬‬ ‫مخاطر التحديات الطبيعية‬
‫انعكاسا لقيم‬
‫ً‬ ‫يف املسيحية‪،‬‬
‫تعمل من أجل دعم الحريات‬ ‫وغيرها‪.‬‬
‫التكافل االجتماعي التي‬
‫وحقوق اإلنسان والتحول‬ ‫ولقد تأثر العمل األهيل‬
‫تحض عليها األديان‪ .‬وقد‬
‫الديمقراطي(‪.)6‬‬ ‫أيضا بالتطورات‬‫العربي ً‬ ‫قامت هذه املنظمات الدينية‬
‫االقتصادية والسياسية‬ ‫بدور كبير يف نشر التعليم‬
‫تطور منظمات املجتمع‬ ‫العاملية واإلقليمية واملحلية‪،‬‬ ‫والثقافة الدينية إىل جانب‬
‫املدني يف األلفية‬ ‫بحيث تطور دوره حديثًا‬ ‫تقديم الخدمات واملساعدات‬
‫الثالثة‬ ‫تحت إلحاح مطلب التنمية‪،‬‬ ‫االجتماعية‪.‬‬
‫يف إطار ظروف اقتصادية‬ ‫كما شهد القطاع األهيل‬
‫لقد شهدت العقود األخيرة‬ ‫وسياسية وثقافية غير‬ ‫تطورا أثناء فترات‬ ‫ً‬ ‫العربي‬
‫من القرن العشرين وبداية‬ ‫مواتية‪ ،‬إىل دفع تنظيماته ألن‬ ‫النضال ضد االستعمار‬
‫األلفية الجديدة صحوة‬ ‫إطارا محر ًكا للجماهير‬‫ً‬ ‫تكون‬ ‫األجنبي أو الحروب أو‬
‫ونموا غير مسبوق‬
‫ً‬ ‫ملحوظة‬ ‫للمشاركة يف العملية‬ ‫الكوارث التي شهدتها‬
‫يف تأسيس املنظمات غير‬ ‫التنموية‪ ،‬ولتقديم بعض‬ ‫املنطقة‪ ،‬مما عزز التكاتف‬
‫الحكومية أو ما يطلق عليها‬ ‫بدل من الدولة‪ .‬وقد‬ ‫الخدمات ً‬ ‫الشعبي واستنفار‬
‫‪170‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫واملغرب‪ ،‬حيث يقدر عدد‬ ‫كتزايد عدد السكان وما‬ ‫الجمعيات األهلية العربية‬
‫املنظمات غير الحكومية‬ ‫تفترضه تلك التحوالت‬ ‫التي تمثل العمود الفقري‬
‫وفقًا إىل التقرير الذي‬ ‫من احتياجات جديدة‪،‬‬ ‫للمجتمع املدني‪ ،‬نتيجة‬
‫أصدرته الشبكة العربية‬ ‫فضل عن النمو الحضري‬ ‫ً‬ ‫متغيرات عديدة سياسية‬
‫للمنظمات األهلية عام‬ ‫والتحوالت األخرى التي مل‬ ‫واقتصادية واجتماعية‬
‫‪ 2003‬بـ‪ 230‬ألف منظمة‬ ‫تواكبها تنمية اقتصادية(‪.)8‬‬ ‫بعضها له سمة عاملية‬
‫يف عام ‪.)9(2002‬‬ ‫ثال ًثا‪ :‬الدور الذي لعبته‬ ‫واألخرى محلية‪ ،‬ولذلك يمكن‬
‫لكن هذه التحوالت مل‬ ‫املؤسسات املالية الدولية‬ ‫تحديد ثالث مجموعات من‬
‫تقتصر عىل النمو الكمي‬ ‫والذي تجاوز مجرد‬ ‫العوامل التي أسهمت يف دور‬
‫يف أعداد املنظمات غير‬ ‫الضغط من أجل تطبيق‬ ‫مؤسسات املجتمع املدني يف‬
‫الحكومية‪ ،‬فقد تجاوز ذلك‬ ‫برامج التحرير االقتصادي‬ ‫العمل التنموي‪:‬‬
‫إىل تحول كيفي يتعلق‬ ‫والتكيف الهيكيل‪ ،‬إىل‬ ‫أول‪ :‬السياسات االقتصادية‬ ‫ً‬
‫بأنشطة وفعاليات هذه‬ ‫البحث عن فاعلين جدد‬ ‫التي اتبعتها معظم البلدان‬
‫املنظمات‪ ،‬حيث برز جيل‬ ‫غير حكوميين يتم التعامل‬ ‫العربية منذ منتصف‬
‫من املنظمات الدفاعية‬ ‫معهم‪ .‬وبالفعل اتجهت‬ ‫الثمانينيات والتي تمثلت‬
‫التي تقوم بدور تنويري‬ ‫هذه املؤسسات إىل التعامل‬ ‫يف التحرير االقتصادي‪،‬‬
‫ونشط يف مجال حقوق‬ ‫بشكل مباشر مع املنظمات‬ ‫وتخيل الدولة عن جزء كبير‬
‫اإلنسان واملرأة والطفل‬ ‫غير الحكومية بغية سد‬ ‫من الدور املحوري الذي‬
‫والفئات املهمشة‪ ،‬إىل جانب‬ ‫الفجوة التي تركتها الدولة‬ ‫كانت تشغله اقتصاد ًّيا‬
‫االهتمام بمكافحة الفقر‬ ‫وإنقاذ ضحايا التحرير‬ ‫واجتماعيًّا‪ .‬كما كان وراء‬
‫وتبني منهج جديد للتعامل‬ ‫االقتصادي‪ ،‬كما ال يفوت‬ ‫ذلك تفاعل الضغوط القادمة‬
‫مع هذه املشكلة‪ ،‬يستند إىل‬ ‫يف هذه النقطة اإلشارة‬ ‫من املؤسسات املالية الدولية‬
‫فكرة التمكين وليس مجرد‬ ‫إىل الدور الذي لعبته‬ ‫مع األزمة االقتصادية التي‬
‫تقديم املساعدات الخيرية‪.‬‬ ‫أيضا منظمة األمم املتحدة‬ ‫ً‬ ‫أمسكت بخناق غالبية األنظمة‬
‫كما احتلت قضية مكافحة‬ ‫يف مؤتمراتها املختلفة‬ ‫السياسية العربية‪ ،‬حيث أدت‬
‫البطالة مكانة أساسية يف‬ ‫من خالل تأكيدها عىل‬ ‫سياسات التحرر االقتصادي‬
‫بعض الدول العربية مثل‬ ‫ضرورة مشاركة املنظمات‬ ‫التي اتبعتها معظم الدول‬
‫مصر واألردن واملغرب من‬ ‫غير الحكومية يف صنع‬ ‫العربية غير النفطية إىل‬
‫خالل تركيز املنظمات غير‬ ‫السياسيات وصياغة خطط‬ ‫خفض اإلنفاق العام عىل‬
‫الحكومية يف هذه البلدان‬ ‫التنمية‪.‬‬ ‫الخدمات االجتماعية وبرامج‬
‫عىل التدريب والتأهيل‬ ‫كل هذه املتغيرات مهدت‬ ‫الرفاهية االجتماعية‪ ،‬حيث‬
‫واملشروعات الصغيرة‪.‬‬ ‫الطريق إىل تحوالت جذرية‬ ‫وصلت سياسة التصنيع‬
‫لقد ظهرت أنماط جديدة‬ ‫عىل مستوى الكم والكيف‬ ‫بإحالل الواردات إىل سقفها‪،‬‬
‫من املنظمات هدفت إىل‬ ‫يف أوضاع املنظمات غير‬ ‫وازداد استيراد الغذاء‪،‬‬
‫ملء الفراغ الذي تركته‬ ‫الحكومية العربية‪ ،‬أدت إىل‬ ‫ناهيك عن ارتفاع الديون‬
‫الدولة وخاصة يف‬ ‫تزايد عدد هذه املنظمات‬ ‫الخارجية(‪.)7‬‬
‫مجاالت الصحة والتعليم‬ ‫بنسب كبيرة يف بعض‬ ‫ثان ًيا‪ :‬املتغيرات والتحوالت‬
‫وغيرها من الخدمات‬ ‫األقطار العربية مثل مصر‬ ‫الديموغرافية واالجتماعية‬
‫االجتماعية‪ ،‬وباإلضافة إىل‬ ‫واليمن وتونس والجزائر‬ ‫التي شهدتها تلك البلدان‬
‫‪171‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫إلستراتيجيات الجيل‬ ‫ففي لبنان (‪ )%53.3‬ويف‬ ‫ذلك نشطت منظمات أهلية‬


‫الثالث من املنظمات غير‬ ‫سوريا (‪( )%80‬ما قبل‬ ‫جديدة يف مواجهة ظواهر‬
‫الحكومية‪.‬‬ ‫الحرب االهلية) ويف الكويت‬ ‫اجتماعية سلبية مثل عمالة‬
‫أخيرا يمكن القول إن‬
‫ً‬ ‫(‪ )%78.2‬ويف السودان‬ ‫األطفال وأطفال الشوارع‬
‫النظرة إىل املجتمع املدني‬ ‫(‪ )%70‬يف حين ال تزيد‬ ‫واإلدمان‪ ،‬بل وسعت إىل‬
‫نظرة تعتريها الكثير من‬ ‫املنظمات غير الحكومية‬ ‫وضع هذه القضايا عىل‬
‫الشكوك والريبة خاصة‬ ‫العاملة يف مجال التنمية‬ ‫أجندة الحكومات يف بلدان‬
‫من قبل األنظمة السياسية‬ ‫والتي تتبني فلسفة التمكين‬ ‫مثل مصر والسودان‬
‫يف الوطن العربي‪ ،‬فالسلطة‬ ‫عن ‪.%25‬‬ ‫واملغرب‪ .‬لقد صاحب هذه‬
‫تنظر بريبة وتخوف‬ ‫إن هذا القول يمكن تفسيره‬ ‫التحوالت خطاب سياسي‬
‫شديدين لجهة مصادر‬ ‫بأن العالقة املتوترة بين‬ ‫داعم لهذه املنظمات ودورها‬
‫التمويل واألدوار التي‬ ‫الدولة واملجتمع عىل مر‬ ‫يف التحول االقتصادي‪ ،‬بل‬
‫دورا‬
‫التاريخ قد لعبت ً‬ ‫بدأت إرهاصات بناء شراكة‬
‫تقوم بها هذه املؤسسات‪،‬‬
‫يف تكريس هذا االتجاه‪،‬‬ ‫بين املؤسسات الحكومية‬
‫وقد نعزى ذلك لحداثة‬
‫فالفعل الخيري نشاط ال‬ ‫واملنظمات غير الحكومية‪،‬‬
‫النظم السياسية العربية‬
‫يثير الحكومات وال يؤدي‬ ‫والتي كانت أبرز تجلياتها يف‬
‫الديمقراطية وعدم‬
‫إىل مصادمات مع األنظمة‬ ‫قيام الحكومات بإسناد عديد‬
‫استكمال هذه املؤسسات‬
‫السياسية‪ ،‬كما أنه عىل‬ ‫من املشروعات للمنظمات‬
‫أو عدم قناعة األنظمة‬ ‫صعيد أخر نشاط يصب يف‬ ‫غير الحكومية لتنفيذها ‪.‬‬
‫(‪)10‬‬
‫السياسية يف الوطن‬ ‫صالح استقرار األوضاع‬ ‫ومع كل ما سبق من تطورات‬
‫العربي بأهمية مشاركة‬ ‫القائمة من خالل تسكينها‬ ‫يف نشأة هذه األنماط الجديدة‬
‫املجتمع املدني يف صناعة‬ ‫والحد من قسوتها‪ ،‬عالوة‬ ‫ومجاالت عملها‪ ،‬إال أنها‬
‫ً‬
‫بديل‬ ‫أية قرارات تكون‬ ‫عىل أنه ال يرتبط برؤية‬ ‫ال تمثل توج ًها عا ًّما ولكن‬
‫عن السلطات الرسمية‪،‬‬ ‫نقدية لواقع املجتمع‬ ‫مجرد حاالت أو استثناءات‬
‫علما بأن منظمات املجتمع‬ ‫ً‬ ‫وخريطته الطبقية عىل عكس‬ ‫مل تصل إىل حالة القاعدة‬
‫املدني تعتبر يف الدول‬ ‫الحال يف املنظمات الدفاعية‬ ‫العامة‪ ،‬فما زالت التوجهات‬
‫املتقدمة شري ًكا أساسيًّا يف‬ ‫والحقوقية‪ ،‬وبدرجة أقل‬ ‫الخيرية لهذه املنظمات‬
‫تحقيق التنمية واالستقرار‬ ‫املنظمات التنموية والتي‬ ‫هي الغالبة عىل نشاط‬
‫السياسي بعدما أصبحت‬ ‫تطرح رؤية نقدية للواقع‬ ‫املنظمات األهلية العربية‪،‬‬
‫الدولة غير قادرة عىل‬ ‫وتسعى إلصالح السياق‬ ‫فحوايل نصف املنظمات غير‬
‫اإليفاء باالحتياجات‬ ‫السياسي واملؤسسي‬ ‫الحكومية العربية ما زالت‬
‫األساسية للمواطن‬ ‫الذي تعمل فيه وفقًا‬ ‫تعمل يف األنشطة الخيرية‪،‬‬
‫‪172‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫عضو هيئة التدريس بالجامعة الدولية للعلوم والتكنولوجيا‪.‬‬
‫‪ -1‬د‪.‬يحيى محمود بن جنيد‪ ،‬الوقف‪ ،‬كتاب الرياض‪ ،‬العدد ‪ ،39‬مارس ‪1997‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬محمد عبد الزغير دراسة حول منظمات املجتمع املدني املعنية بالطفولة يف الشرق األوسط وشمال‬
‫أفريقيا سبتمبر ‪2005‬‬
‫‪http://www.megdaf.org‬‬
‫‪ -3‬عبد الغفار شكر‪ ،‬الحوار املتمدن‪ ،‬العدد‪.13 /10 /2004 ،985 :‬‬
‫‪ -4‬د‪.‬الحبيب الجنحاني‪ ،‬املجتمع املدني بين النظرية واملمارسة‪ ،‬مجلة عامل الفكر‪ ،‬تصدر عن املجلس الوطني‬
‫للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬دولة الكويت‪ ،‬العدد الثالث‪ ،‬املجلد السابع والعشرون‪ ،‬يناير‪ /‬مارس‪ 1999 ،‬ص‪.36‬‬
‫‪ -5‬د‪.‬أحمد ثابت‪ ،‬الديمقراطية املصرية عىل مشارف القرن القادم‪ ،‬كتاب املحروسة‪ ،‬مركز املحروسة للبحوث‬
‫والتدريب والنشر القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬يناير ‪ ،1999‬ص‪.20‬‬
‫‪ -6‬عابد الجابري‪ ،‬املجتمع املدني‪ .‬املعنى واملفهوم‪ ،‬منتدى ليبيا لحقوق اإلنسان‪:‬‬
‫‪www.Libyapronm.com‬‬
‫‪ -7‬قرزيز محمود ويحياوي مريم‪ :‬دور املجتمع املدني يف تحقيق التنمية الشاملة يف الجزائر‪ ،‬بين الثبات‬
‫والتغير‪:2008 ،‬‬
‫‪www.univ-chlef.dz/unbc/seminaries‬‬
‫‪ -8‬أماني قنديل‪ ،‬املجتمع املدني يف العامل العربي‪ ،‬دراسة للجمعيات األهلية العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املستقبل‬
‫العربي‪1994 ،‬م‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫‪ -9‬الشبكة العربية للمنظمات األهلية‪ ،‬التقرير السنوي الثالث للمنظمات األهلية العربية‪ ،‬مكافحة الفقر‬
‫والتنمية البشرية‪2003 ،‬م‪ ،‬ص‪.2‬‬
‫‪ -10‬أماني قنديل‪ ،‬املجتمع املدني يف العامل العربي‪ ،‬دراسة للجمعيات األهلية العربية‪ ،‬القاهرة دار املستقبل‬
‫العربي‪ ،1994 ،‬ص‪.19‬‬
‫‪173‬‬
‫الملف الثقـافي‬
‫‪174‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وذلك بسبب عوامل كثيرة من‬ ‫املعروف أن صفة‬

‫الشباب والمجتمع المدني‬


‫من‬
‫بينها انخفاض متوسط عمر‬ ‫الشباب تطلق عىل‬
‫اإلنسان العربي ما بين ‪: 50‬‬ ‫الفئة العمرية التي‬
‫عاما‪ .‬والحروب والنزوح‬ ‫‪ً 60‬‬ ‫تتراوح ما بين عام‬
‫والهجرة والفقر واملرض‪..‬‬ ‫‪ 30 : 14‬من عمر اإلنسان‪،‬‬
‫إلخ‪ .‬وعىل مر العصور كان‬ ‫وبعض علماء نفس النمو‬
‫الشباب هم الطاقة الحيوية‬ ‫يحددها من السن الثامنة‬
‫الخالقة التي تبعث الحياة‬ ‫عشر حتى األربعين وهي‬
‫والقوة واألمل يف الجسد‬ ‫أفضل وأخصب وأجمل‬
‫االجتماعي‪ ،‬وتمده بالدماء‬ ‫مراحل العمر‪ ،‬وبهذا وصف‬
‫الجديدة والعقول الرشيدة‪،‬‬ ‫الشباب بأنه سلطان العمر!‬
‫إذ عليهم تُعقد اآلمال وتتطلع‬ ‫وزهرة العمر‪ ،‬وربيع العمر‪،‬‬
‫األفئدة إىل أفعالكم الطيبة‬ ‫فالشباب هو القوة والجموح‬
‫ومشاريعكم املباركة يف بناء‬ ‫والتدفق والحيوية والنشاط‬
‫املجتمع املدني العربي الجديد‪،‬‬ ‫والطاقة الخالقة واملغامرة‬
‫غير أن ما ينبغي علينا أن‬ ‫والتنافس والتميز والحب‬
‫ندركه اليوم هو أن املستقبل‬ ‫والفرح والبذل والعطاء‪ ،‬ففي‬
‫ال ينتظر أحد‪ ،‬وال يتحقق‬ ‫هذه املرحلة العمرية تتفتح‬
‫باملعجزات أو باألمنيات‪ ،‬بل‬ ‫براعم الشخصية وتتكشف‬
‫هو ما نصنعه نحن هنا واآلن‬ ‫املواهب والقدرات الفردية‬
‫بأيدينا وعقولنا وتعاوننا‪،‬‬ ‫عند اإلنسان َذ َك ًرا كان‬
‫فإذا تركنا هذه اللحظة تمر‬ ‫أم أنثى‪ .‬ويف هذه املرحلة‬
‫بالتخاذل والخذالن والكسل‬ ‫العمرية البالغة األهمية‬
‫والالمباالة فمن املؤكد أن‬ ‫والخطورة يف حياة اإلنسان‬
‫خاسرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫مستقبلنا سيكون‬ ‫يزداد الشعور بالذات واألنا‬
‫وإذا ما جعلنا من هذه اللحظة‬ ‫والهوية الفردية املستقلة‪،‬‬
‫التي نعيشها اآلن لحظة‬ ‫والوعي العميق بالعامل‬
‫فاعلة ونشيطة وزاخرة‬ ‫والحياة واملستقبل‪ ،‬والشباب‬
‫بالحيوية واإلنجاز فال ريب‬ ‫هو أخصب مراحل العمر‬
‫أن املستقبل سيكون أفضل‪،‬‬ ‫الجسدية والعقلية‪ ،‬فهو سن‬
‫فال يحصد املرء إال ما زرعه‬ ‫ظهور العبقريات واالبتكار‬
‫بيده «ومن جد وجد ومن‬ ‫واإلبداعات العلمية واألدبية‬ ‫د‪.‬قاسم محبشي‬
‫زرع حصد»‪« ،‬ومن يزرع‬ ‫والفنية والرياضية‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫(اليمن)‬
‫الرياح يحصد العاصفة»‪،‬‬ ‫وقد اعتدنا عىل ترديد القول‬
‫ومن يزرع الخير والجد‬ ‫بأن (الشباب هم نصف‬
‫والعطاء يحصده! والعمر‬ ‫الحاضر وكل املستقبل)‪ ،‬لكن‬
‫قصير ج ًّدا‪ ،‬فمن غير الجائز‬ ‫اإلحصائيات الرسمية تشير‬
‫إضاعته يف االنتظار‪ ،‬فما مل‬ ‫إىل إن نسبة الشباب العرب‬
‫نفعله اليوم يصعب اللحاق به‬ ‫بين السكان هي أكثر بكثير‪،‬‬
‫‪175‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫ملفهوم املجتمع املدني‪ ،‬كما‬ ‫***‬ ‫غ ًدا‪ ،‬والزمن أغىل وأثمن شيء‬
‫عرفته املوسوعة الحرة «هو‬ ‫ربما كان علينا الحذر حينما‬ ‫يف حياة اإلنسان‪ ،‬إنه الحياة‬
‫كل أنواع األنشطة التطوعية‬ ‫نقارب مفهوم املجتمع‬ ‫عينها‪ ،‬وأي تبذير للوقت‬
‫التي تنظمها الجماعة حول‬ ‫املدني يف سياقنا الثقايف‬ ‫وقديما‬
‫ً‬ ‫هو تبذير للحياة‪.‬‬
‫مصالح وقيم وأهداف‬ ‫العربي اإلسالمي‪ ،‬السيما‬ ‫قال الشاعر «أال ليت الزمان‬
‫مشتركة‪ .‬وتشمل هذه‬ ‫ونحن نعلم أنه مفهوم‬ ‫يوما ال خبرة بما فعل‬ ‫يعود ً‬
‫األنشطة املتنوعة الغاية التي‬ ‫املشيب!‬
‫ولد ونشأ وازدهر‬
‫ينخرط فيها املجتمع املدني‬ ‫لكي يؤثر الشباب والشابات‬
‫واكتسب معانيه املتداولة‬
‫تقديم الخدمات‪ ،‬أو دعم‬ ‫يف مرحلة البناء والعمل‬
‫يف الحضارة األوروبية‬
‫التعليم املستقل‪ ،‬أو التأثير‬ ‫وتطوير النسيج االجتماعي‬
‫الحديثة واملعاصرة‪ ،‬إذ‬
‫عىل السياسات العامة»‪ .‬أو‬ ‫املدني‪ ،‬ال بد من امتالكهم‪/‬‬
‫إن املفاهيم ال توجد يف‬
‫التعريف الذي يصف املجتمع‬ ‫كهن‪ /‬واكتسابهم‪ /‬كهن‪/‬‬
‫فلك األفكار ومدونات‬
‫املدني بـ»مجموعة واسعة‬ ‫املعارف واملهارات والقدرات‬
‫النطاق من املنظمات غير‬ ‫اللغة وحسب‪ ،‬بل هي‬
‫الفكرية والفرص لتلبية‬
‫الحكومية واملنظمات غير‬ ‫كائنات تاريخية شديدة‬
‫احتياجاتهم واحتياجات‬
‫الربحية التي لها وجو ٌد يف‬ ‫االرتباط بسياقاتها‬
‫املجتمع‪ ،‬حيث تبرز‬
‫الحياة العامة‪ ،‬وتنهض بعبء‬ ‫االجتماعية الثقافية‪،‬‬ ‫أهمية استقاللية الشباب‬
‫التعبير عن اهتمامات وقيم‬ ‫والسياق هو كامل الوسط‬ ‫ومسؤولياتهم يف معرفة‬
‫أعضائها أو اآلخرين‪ ،‬استنا ًدا‬ ‫الذي يحيط باملفهوم من‬ ‫حقوق اإلنسان وقواعد‬
‫إىل اعتبارات أخالقية أو‬ ‫جميع جوانبه‪ ،‬ولكل مفهوم‬ ‫القانون واالنفتاح والتوسع‬
‫ثقافية أو سياسية أو علمية‬ ‫مكان وتاريخ ميالد وسياق‬ ‫وتشجيع الحوار بين‬
‫أو دينية أو خيرية‪ ..‬تضم‬ ‫نمو‪ ،‬عالقات ممارسة وفضاء‬ ‫الثقافات‪ ،‬والوصول إىل القيم‬
‫الجماعات املجتمعية املحلية‪،‬‬ ‫تداول ونظام لغة وحساسية‬ ‫اإلنسانية والنزعة اإلنسانية‪،‬‬
‫واملنظمات غير الحكومية‪،‬‬ ‫معنى وحقل تأويل‬ ‫عىل اعتبار أن اإلنسان هو‬
‫والنقابات العمالية‪ ،‬وجماعات‬ ‫وشفرة سيميائية‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫مصدر املعرفة‪ ،‬إللغاء سلطة‬
‫السكان األصليين‪ ،‬واملنظمات‬ ‫واألمر كذلك يصعب االكتفاء‬ ‫الظلم واالستبداد والتمييز‬
‫الخيرية‪ ،‬واملنظمات الدينية‪،‬‬ ‫برصد التعريفات املعجمية‬ ‫والعنصرية بأساليب‬
‫والنقابات املهنية‪ ،‬ومؤسسات‬ ‫حضارية وسلمية ومدنية‬
‫العمل الخيري»‪.‬‬ ‫وإنسانية‪ ،‬تنبني عىل ثقافة‬
‫فكما هو واضح أن تلك‬ ‫التسامح ولغة الحوار‪ ،‬وما‬
‫التعريفات تركز عىل‬ ‫انجذاب الشباب إىل العمل‬
‫وصف املجتمع املدني‬ ‫من داخل تنظيمات املجتمع‬
‫باإلشارة إىل عنصر‬ ‫املدني‪ ،‬واهتمامهم بالفعل‬
‫من عناصره‪( ،‬املنظمات‬ ‫املؤسساتي املجتمعي‪ ،‬إنما‬
‫واملهام)‪ ،‬ولكنها مل تقل لنا‬ ‫هو إيمانهم بدورها القوي‬
‫شيئًا عن ما هو املجتمع‬ ‫واملؤثر يف إحداث التغيير‬
‫املدني يف مضمونه الكيل‬ ‫واإلصالح لتحقيق حرية‬
‫ومعناه العمومي‪ .‬فنحن‬ ‫وكرامة اإلنسان وتطوير‬
‫نزعم أن املجتمع املدني‬ ‫املجتمع وتنمينه»‪.‬‬
‫المجال المدني ال يكون وال ينمو إال‬
‫الحميمية‪ ،‬وعالقات السياسة‬
‫التسلطية‪ ،‬وعالقات السوق‬ ‫بالعمل التطوعي التضامني العضوي‪،‬‬
‫التنافسية الربحية‪ ،‬هنا يمكن‬ ‫بعكس عالقات المجتمع التقليدي‪،‬‬
‫لنا التعرف عن املجتمع املدني‬
‫يف الرحم الحي لتخصيبه‪،‬‬ ‫حيث يكون التضامن ميكانيك ًّيا بحسب‬
‫ولكن هل يمكن للمجتمع‬ ‫عالم االجتماع الفرنسي دوركهايم‪،‬‬
‫املدني أن يتخصب وينمو‬
‫ويولد ويزدهر من ذاته‬ ‫وال يخلو أي مجتمع من وجود قيم‬
‫ولذاته وبدون قوى وشروط‬ ‫التعاون والتضامن المدني األهلي‬
‫فاعلة؟‬
‫بالنظر إىل املسار التاريخ‬ ‫بين أفراده‪ ،‬وفي مجتمعنا العربي‬
‫للمجتمع املدني املفهوم‬ ‫اإلسالمي حثنا ديننا اإلسالمي الحنيف‬
‫والسياق‪ ،‬يمكن لنا الجواب‬
‫عىل هذا السؤال بالنفي‪ ،‬ليس‬ ‫على التعاون والتآزر والتراحم والتشاور‬
‫بمقدور املجتمع املدني أن‬ ‫والتواصي بالصبر‪.‬‬
‫يولد وينمو ويزدهر بدون‬
‫وجود قوة تحميه أو تبيح‬
‫له فرصة الوجود الفاعل‬
‫والديمومة‪ ،‬وهذا هو ما‬ ‫الذات اإلنسانية الفردية‪ ،‬قوة‬ ‫ليس مجرد «مجموعة من‬
‫يقوله لنا جون أهرنبرغ‪ ،‬يف‬ ‫الحب والعالقات الحميمية‪،‬‬ ‫املنظمات املدنية التي ينضم‬
‫كتابه املهم‪ ،‬املجتمع املدني‪:‬‬ ‫يف املجال الخاص‪ ،‬مجال‬ ‫األعضاء إليها بإرادتهم‬
‫التاريخ النقدي للفكرة‪،‬‬ ‫األسرة‪ ،‬مؤسسة القرابة‬ ‫الحرة»‪ ،‬أو التي تهدف إىل‬
‫الذي تتبع صيرورة املفهوم‬ ‫التقليدية األوىل‪ ،‬والقوة‬ ‫تقديم خدمات بدون «غايات‬
‫منذ أفالطون الذي رهن‬ ‫العاقلة والعالقات الضرورية‬ ‫ربحية أو سياسية)»‪ ،‬فمثل‬
‫املجتمع املدني ‪-‬بل واملجتمع‬ ‫للحياة االجتماعية املشتركة‪،‬‬ ‫هذا الفهم يجعلنا نعتقد‬
‫الحميم‪ :‬األسرة‪ -‬إىل املجال‬ ‫املجال العام‪ ،‬مجال السياسة‬ ‫بأن لدينا مجتم ًعا مدنيًّا‬
‫السياسي العام‪ ،‬جمهورية‬ ‫والسلطة‪ ،‬والقوة الغريزية‬ ‫طاملا ونحن نمتلك مثل هذه‬
‫العقل املهيمن‪ ،‬أي الدولة‬ ‫املتعطشة إىل اإلشباع املادي‪،‬‬ ‫املنظمات املنتشرة يف عموم‬
‫املؤسسة الجامعة‪ ،‬وهي‬ ‫املجال االقتصادي‪ ،‬وعالقات‬ ‫مجتمعاتنا العربية‪ ،‬والتي‬
‫الفكرة التي استندت عليها كل‬ ‫السوق حيث املنافسة‬ ‫تعد باآلالف! بل نعتقد بأن‬
‫النظم الشمولية املطلقة فيما‬ ‫والربح واالحتكار‪ ،‬وقوى‬ ‫املجتمع املدني هو أكبر من‬
‫بعد‪ ،‬االشتراكية الستالينية‬ ‫املوهبة واالهتمام‪ ،‬حيث‬ ‫هذا بكثير‪ .‬وهذا ما يدفع إىل‬
‫والنازية والفاشتية‪ ،‬وعىل‬ ‫يجد األفراد فرص التعبير‬ ‫البحث يف تحوالت املفهوم‬
‫خالف أفالطون جاءت‬ ‫عن مقدراتهم وتطلعاتهم‬ ‫وسياقات املعنى‪ .‬أن الفكرة‬
‫نظرية أرسطو إىل املجتمع‬ ‫ومواهبهم واهتماماتهم‬ ‫األساسية يف مقاربة املجتمع‬
‫املدني وتطورت الحقًا‬ ‫الحرة‪ ،‬مجال العالقات املهنية‬ ‫املدني هي تلك التي تنطلق‬
‫عىل أيدي عدد واسع من‬ ‫والحرفية اإلبداعية وغير‬ ‫من النظر إىل املجتمع ككل‬
‫الفالسفة يف العصر الحديث‬ ‫اإلبداعية‪ ،‬املجال املدني‪،‬‬ ‫بوصفه عد ًدا من املجاالت‪،‬‬
‫ومنهم‪ :‬ميكافيليل وجون‬ ‫حيث تختفي عالقات القرابة‬ ‫متناغمة مع قوى واحتياجات‬
‫‪177‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫لوك وروسو وكانط وهيجل‬


‫وماركس وتوكفيل وجون‬
‫رولز وسينيت وحنه آرنت‪..‬‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫ويف الحقيقة مل يظهر املجتمع‬
‫املدني بشكله األنضج إال بعد‬
‫استقالل املجال السياسي‬
‫عن املجال الديني‪ ،‬وهذا‬
‫هو أهم منجزات العلمانية‬
‫الحديثة يف العهد الليبرايل‪ ،‬إذ‬
‫رأت النظريات الليبرالية أن‬
‫نظاما‬
‫ً‬ ‫املجتمع املدني يستلزم‬
‫قانونيًّا يدافع عن حقوق‬
‫امللكية الخاصة‪ ..‬فاملجتمع‬
‫املدني هو «عامل املجتمع‬
‫حنة آرنت‬ ‫جون لوك‬ ‫جون رولز‬
‫الذي يقع خارج املؤسسة‬
‫السياسية واإلدارية للدولة‬
‫وخارج قواعدها املنظمة‬
‫السوق؛ ال يمكن له أن ينمو‬ ‫عالقاتهم مع اآلخرين إذا‬ ‫لالقتصاد‪ ..‬فما يجعل من‬
‫ويزدهر إال يف ظل وجود‬ ‫عدوها غير مهمة لكونها‬ ‫مجتمع ما مجتم ًعا (مدنيًّا)‬
‫هو أنه املوضع الذي ينظم‬
‫دولة املؤسسات املنظمة‬ ‫عالقات ال شخصية‪.‬‬
‫فيه الناس أنفسهم بحرية يف‬
‫بالدستور والقانون‪.‬‬ ‫واملجتمع الحميم عىل عكس‬
‫جماعات وروابط أصغر أو‬
‫وهكذا ورغم تعدد واختالف‬ ‫تأكيدات أصحابه‪ ،‬هو مجتمع‬
‫أكبر يف مستويات متنوعة‬
‫تعاريف املجتمع املدني فإن‬ ‫فظ؛ ألن الحياة املدنية «هي‬
‫بغية الضغط عىل الهيئات‬
‫معظمها يركز عىل مقومات‬ ‫النشاط الذي يحمي الناس‬
‫الرسمية لسلطة الدولة‬
‫أساسية يستند إليها يف‬ ‫بعضا‪ ،‬ويتيح‬
‫ً‬ ‫من بعضهم‬ ‫من أجل تبني سياسات‬
‫وجوده‪ ،‬ويمكن تلخيص أهم‬ ‫لهم مع ذلك أن يتمتعوا‬ ‫منسجمة مع مصالحها»‪،‬‬
‫ركائزها فيما ييل‪:‬‬ ‫برفقة اآلخر‪ ،‬فالعيش مع‬ ‫يقصد تلك الجماعات املدنية‪.‬‬
‫التطوعية‪ :‬وتعني الرغبة‬ ‫الناس ال يستلزم (معرفتهم)‬ ‫ويبين سينيت يف كتابه املهم‬
‫املشتركة ألصحابها بمحض‬ ‫وال يستلزم التأكد من أنهم‬ ‫(سقوط اإلنسان العام)‬
‫إرادتهم الحرة يف ظل تعايش‬ ‫(يعرفونك)‪ ..‬والحياة املدنية‬ ‫الفروق الدقيقة بين املجال‬
‫واقعي مع ظروف املجتمع‬ ‫تنوجد عندما ال يجعل املرء‬ ‫العمومي ومجال الحياة‬
‫املتعين غير مفروضة من‬ ‫من نفسه عبأ عىل اآلخرين»‪.‬‬ ‫العامة (املجتمع املدني)‪،‬‬
‫طرف أي جهة‪.‬‬ ‫وبالخالصة يمكن لنا التأكيد‬ ‫واملجال الشخصي‪ ،‬فاملجتمع‬
‫التنظيم‪ :‬بمعنى أن‬ ‫عىل أن املجتمع املدني بوصفه‬ ‫املدني هو مجتمع الغرباء‪ ،‬إذ‬
‫مؤسسات املجتمع املدني‬ ‫ً‬
‫مجال للحياة العامة املستقلة‬ ‫إن املجتمع الحميمي يجعل‬
‫أنشئت بموجب القوانين‬ ‫عن العالقات السياسية‬ ‫أمرا مستحيل‪ً.‬‬ ‫الحياة املدنية ً‬
‫السائدة يف الدولة‪ ،‬والتي‬ ‫والروابط الشخصية وقيم‬ ‫فالناس ال يستطيعون تطوير‬
‫‪178‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وإبداء املالحظات‪ ،‬والحوار‬ ‫وترسيخ مقومات الهوية‬ ‫تتيح حرية تأسيسها من‬
‫مع الجهات املعنية‪ ،‬واستعمال‬ ‫الوطنية‪ ،‬وما تتميز به من‬ ‫جهة‪ ،‬كما أن نشاطها املدني‬
‫وسائل اإلعالم واالتصال‬ ‫غنى وتنوع‪ ،‬والنهوض‬ ‫يتم وفق قوانينها األساسية‪،‬‬
‫لتوضيح مواقفها‪ ،‬ويمكنها‬ ‫بالفنون‪ ،‬والتشجيع عىل‬ ‫وأنظمتها الداخلية من‬
‫أن تلجأ إىل التظاهر السلمي‬ ‫اإلبداع‪ ،‬وغير ذلك من‬ ‫جهة ثانية‪.‬‬
‫إذا اقتضى األمر ذلك؛ وال‬ ‫املجاالت‪ ،‬دون أن تكون‬ ‫االستقاللية‪ :‬بمعنى امتالك‬
‫يمكنها مطلقًا اللجوء إىل‬ ‫الغاية من وراء ذلك هي‬ ‫شخصية قانونية اعتبارية‬
‫التجارة أو الربح‪ ،‬أو املصلحة العنف‪ ،‬ألن املجتمع املدني‬ ‫تنظم عالقة املنظمة أو‬
‫من املفروض أن يساهم يف‬ ‫الذاتية لألعضاء‪.‬‬ ‫املؤسسة املدنية مع الدولة‬
‫تهذيب السلوك العام‪ ،‬وليس‬ ‫عدم السعي للوصول إىل‬ ‫واملجتمع‪ ،‬عالقة مبنية عىل‬
‫يف ترهيب املجتمع‪ ،‬ويعبئ‬ ‫السلطة‪ :‬ومن هذه الزاوية‬ ‫الشراكة والتعاون‪ ،‬غير أن‬
‫الطاقات لخدمة الصالح العام‪،‬‬ ‫يتميز املجتمع املدني عن‬ ‫عالقات التكامل بين املجتمع‬
‫وال يهيج الناس من أجل‬ ‫األحزاب السياسية التي من‬ ‫املدني والدولة وتخضع‬
‫التخريب‪ ،‬ويعمل عىل نشر‬ ‫طبيعتها أن تعمل للوصول‬ ‫فيها كل العالقات لسيادة‬
‫قيم التضامن والتسامح‪ ،‬وال‬ ‫إىل الحكم؛ أي جمعية من‬ ‫القانون‪ ،‬أما إذا كانت الدولة‬
‫يزرع الحقد والكراهية‪.‬‬ ‫املجتمع املدني ال تتدخل يف‬ ‫تقيد الحريات‪ ،‬وتنهج أسلوب‬
‫كل املجاالت‪ ،‬وإنما تختار أن ويعد الشباب‪ ،‬بحضورهم‬ ‫القمع مع األفراد والجماعات‪،‬‬
‫تقدم خدمات معينة يف مجال ونشاطهم التطوعي‪ ،‬جوهر‬ ‫فإن هيئات املجتمع املدني يف‬
‫محدد‪ ،‬وال تدخل يف املنافسة الحياة املدنية يف املجتمعات‬ ‫هذه الحالة‪ ،‬إن وجدت‪ ،‬تكون‬
‫االنتخابية التي تعني األحزاب املعاصرة‪ ،‬السيما يف عصرنا‬ ‫قوة معارضة‪.‬‬
‫الحديث‪ ،‬بعد ان اتسعت‬ ‫السياسية ومنهج عملهما‬ ‫خدمة الصالح العام‪ :‬إن‬
‫وتعقدت مجاالت الحياة‬ ‫مغايران‪ ،‬فهي تتنافس يف‬ ‫أعمال ومبادرات منظمات‬
‫وعالقاتها املتشابكة «إذ إن‬ ‫االجتهادات والبرامج التي‬ ‫املجتمع املدني ال بد أن تصب‬
‫الحكومات‪ ،‬سواء يف البلدان‬ ‫تهم مختلف مجاالت الشأن‬ ‫يف خدمة الصالح العام‪ ،‬من‬
‫املتقدمة أو النامية‪ ،‬مل تعد‬ ‫العام‪.‬‬ ‫خالل تقديم خدمات لفائدة‬
‫قادرة عىل سد احتياجات‬ ‫عدم اللجوء إىل العنف‪:‬‬ ‫املجتمع‪ ،‬أو بعض الفئات‬
‫تقوم منظمات املجتمع املدني أفرادها ومجتمعاتها‪ ،‬فمع‬ ‫املستهدفة منه‪ ،‬األعمال‬
‫باالحتجاج عىل السياسة التي تعقد الظروف الحياتية‬ ‫االجتماعية التي تستهدف‬
‫ازدادت االحتياجات‬ ‫تتبعها السلطات العمومية‬ ‫الفئات املحتاجة‪ ،‬ورعاية‬
‫االجتماعية وأصبحت يف‬ ‫يف مجال ما‪ ،‬أو يف مواجهة‬ ‫األشخاص املعاقين‪ ،‬وحماية‬
‫تغير مستمر‪ ،‬ولذلك كان ال‬ ‫إحدى الظواهر السلبية يف‬ ‫الطفولة‪ ،‬واالهتمام بقضايا‬
‫بد من وجود جهة أخرى‬ ‫املجتمع‪ ،‬ومن حقها أيضا‬ ‫املرأة والشباب‪ ،‬ومحاربة‬
‫موازية للجهات الحكومية‬ ‫ممارسة الضغوط لتحقيق‬ ‫األمية‪ ،‬والوقاية الصحية‪،‬‬
‫تقوم بملء املجال العام‪،‬‬ ‫فوائد للمجتمع‪ ،‬ومكتسبات‬ ‫والدفاع عن حقوق اإلنسان‪،‬‬
‫وتكمل الدور الذي تقوم به‬ ‫للشرائح االجتماعية التي‬ ‫وتعميم مفاهيمها وثقافتها‪،‬‬
‫تدافع عن مصالحها‪ ،‬فإنها ال الجهات الحكومية يف تلبية‬ ‫ونشر قيم املواطنة‪ ،‬وحماية‬
‫يمكن أن تستعمل يف ذلك إال االحتياجات االجتماعية‪،‬‬ ‫البيئة‪ ،‬واملساهمة يف تنمية‬
‫الوسائل السلمية املتحضرة‪ ،‬ويطلق عىل هذه الجهة‬ ‫الحواضر والقرى‪ ،‬ومحاربة‬
‫«املنظمات األهلية»‪.‬‬ ‫واملتمثلة يف رفع املطالب‪،‬‬ ‫الفقر واإلقصاء االجتماعي‪،‬‬
‫‪179‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫وتجدر اإلشارة إىل إن املجال‬


‫املدني ال يكون وال ينمو إال‬
‫بالعمل التطوعي التضامني‬
‫العضوي‪ ،‬بعكس عالقات‬
‫املجتمع التقليدي‪ ،‬حيث‬
‫يكون التضامن ميكانيكيًّا‬
‫بحسب عامل االجتماع‬
‫الفرنسي دوركهايم‪ ،‬وال‬
‫يخلو أي مجتمع من وجود‬
‫قيم التعاون والتضامن‬
‫املدني األهيل بين أفراده‪،‬‬
‫ويف مجتمعنا العربي‬
‫اإلسالمي حثنا ديننا‬
‫اإلسالمي الحنيف عىل‬
‫التعاون والتآزر والتراحم‬
‫ميكافيللي‬ ‫كارل ماركس‬ ‫فارس بن التارزي‬
‫والتشاور والتواصي‬
‫بالصبر‪ ،‬قال تعاىل «والعصر‬
‫وليس للفرد فيه شخصية‬ ‫بين أعضاء املجتمع‪ ،‬ثم تأتي‬ ‫إن اإلنسان لفي خسر‬
‫حرة ومستقلة‪ ،‬ومن‬ ‫العشيرة والقبيلة‪ ،‬وهي‬ ‫إال الذين آمنوا وعملوا‬
‫ثم يصعب الحديث عن‬ ‫روابط اجتماعية تقليدية تقوم‬ ‫الصالحات وتواصوا بالحق‬
‫عمل مشترك بين أفراد‬ ‫عىل أساس العمل‬ ‫وتواصوا بالصبر» (سورة‬
‫القبيلة‪ ،‬بل هناك تضامن آيل‬ ‫املشترك‪ ،‬لكن التضامن‬ ‫العصر)‪ .‬ويف الحديث‬
‫وتفاعل ميكانيكي تقليدي‪،‬‬ ‫والفاعلية االجتماعية يف‬ ‫الشريف «مثل املؤمنين يف‬
‫هذا النمط من العالقات‬ ‫هذه املؤسسات التقليدية‬ ‫توادهم وتراحمهم كمثل‬
‫والحياة االجتماعية هو نمط‬ ‫االنقسامية هو كما يسميه‬ ‫الجسد الواحد إذا اشتكى منه‬
‫املجتمع ما قبل املجتمع‬ ‫عامل االجتماع الفرنسي‬ ‫عضو تداعى له سائر الجسد‬
‫املدني الحديث‪ ،‬ما قبل‬ ‫دور كهايم «تضامن آيل‬ ‫بالسهر والحمى»‪.‬‬
‫الدولة والسياسة‪ ،‬أما‬ ‫ميكانيكي»‪ ،‬إذ إن الفرد ال‬ ‫كلنا يعرف أن اإلنسان‬
‫املجتمع املدني أو السياسي‬ ‫يختار عائلته وال عشيرة‬ ‫كائن اجتماعي مدني بالفطرة‪،‬‬
‫كما نسعى أن يكون عليه‬ ‫وال قبيلته وال معتقده‬ ‫كما يقول ابن خلدون‪ ،‬إذ هو‬
‫مجتمعنا العربي املعاصر‪،‬‬ ‫وال لغته‪ ،‬بل هي سابقة‬ ‫الكائن الحي الوحيد الذي‬
‫فمن املهم إن يكون للشباب‬ ‫بوجودها عن وجوده‪ ،‬ومن‬ ‫ال يستطيع العيش بمفرده‬
‫دور جوهري يف ترسيخ‬ ‫ثم فهو منت ٍم إليها بغير‬ ‫بمعزل عن الجماعة‪ ،‬فالجنين‬
‫قيم التضامن املدني والعمل‬ ‫إرادته الحرة‪ ،‬بل بالوالدة‬ ‫اإلنساني يهلك خالل بضع‬
‫املشترك بين الشباب‪ ،‬حيث‬ ‫والنسب والقرابة‪ ،‬ورغم‬ ‫ساعات إذا ما تُرك بدون‬
‫تكون الروابط التي تربطهم‬ ‫أن هذه الكيانات الطبيعية‬ ‫رعاية‪ ،‬والعائلة هي اللبنة‬
‫بعضهم ببعض هي روابط‬ ‫البيولوجية مؤسسات‬ ‫األساسية يف تكوين املجتمع‪،‬‬
‫أفقية مدنية عقالنية مشتركة‪،‬‬ ‫اجتماعية تقليدية؛ إال أن‬ ‫إنها مدرسة املشاعر األوىل‬
‫تنبع من رغبة حرية اإلرادة‬ ‫االنتماء إليها ليس اختيار ًّيا‬ ‫وأول نمط للعمل املشترك‬
‫‪180‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وإشباع االهتمامات‬ ‫الوحيد الذي يواجهنا‪ ،‬إذا‬ ‫واالختيار العقالني‪ ،‬التعاون‬


‫والتطلعات‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫فعل ال ً‬
‫قول تنمية‬ ‫أردنا ً‬ ‫والتطوع والتضامن يف‬
‫ال شك أن انخراط الشباب‬ ‫حياتنا املدنية وجعلها‬ ‫شبكات عمل عضوية ليس لها‬
‫والشابات العرب يف مجاالت‬ ‫جديرة بالتسمية والقيمة‬ ‫غايات ربحية أو أيديولوجية‬
‫العمل التطوعي التي تحتاجها‬ ‫واالعتبار‪ ،‬وإذا أردنا بناء‬ ‫ضيقة‪ .‬والعمل التطوعي‬
‫مجتمعاتنا املغلوبة عىل‬ ‫الدولة املدينة الحديثة‪ ،‬دولة‬ ‫املشترك هو الشرط‬
‫أمرها‪ ،‬ومنها‪ :‬الرعاية‬ ‫النظام والقانون‪ ،‬دولة‬ ‫الجوهري لتنمية قيم املجتمع‬
‫االجتماعية والتضامن املدني‬ ‫العدالة واإلنصاف وتكافؤ‬ ‫املدني الذي نصبو إليه‬
‫واالنشطة اإلنسانية املفيدة‬ ‫الفرص‪ .‬إن ضرورة‬ ‫وننشد تنميته‪ ،‬إنه التنظيم‬
‫الهادفة إىل الخير والعدل‬ ‫العمل التطوعي املشترك‬ ‫االجتماعي الذي ينتمي إليه‬
‫والجمال؛ سوف يكون‬ ‫بين الشباب العربي ال تنبع‬ ‫األفراد بإراداتهم الحرة‪،‬‬
‫لها نتائج طيبة عىل املدى‬ ‫فقط من اشتراكهم يف ذات‬ ‫وهو يشغل موق ًعا وس ًطا‬
‫فضل عن نتائجها‬ ‫ً‬ ‫البعيد‪،‬‬ ‫الفئة العمرية‪ ،‬بل من طبيعة‬ ‫بين األسرة مجال الحياة‬
‫املباشرة امللموسة يف حياة‬ ‫تلك املشكالت والهموم‬ ‫الخاصة‪ ،‬والسياسية مجال‬
‫الفاعلين الشباب انفسهم‪.‬‬ ‫والتطلعات واالهتمامات‬ ‫الحياة العامة والرسمية‪،‬‬
‫وبالنظر إىل جوهر العالقة‬ ‫واألحالم واآلمال‬ ‫والسوق مجال تنافس‬
‫والبنية يف النسق املدني‬ ‫التي يتقاسمونها ويعانونها‬ ‫املصالح والربح والخسارة‪.‬‬
‫التي تستند باألساس إىل‬ ‫مع مجتمعاتهم العربية‬ ‫فاملجتمع املدني الذي نسعى‬
‫الحرية الواعية واالختيار‬ ‫التي تفتك بها األزمات‬ ‫إىل تنميته هو نمط مختلف‬
‫العقالني الفردي للنشاط‬ ‫والشرور والتحديات‪ ،‬وهي‬ ‫من التضامن والنشاط‬
‫التطوعي التضامني‪ ،‬يمكن‬ ‫مشكالت وتحديات يستحيل‬ ‫واألهداف والغايات‪ ،‬هنا‬
‫أن العمل التطوعي التضامني‬ ‫مواجهتها إال بتنظيم الجهود‬ ‫يمكن الحديث عن منظمات‬
‫دورا وظيفيًّا‬‫للشباب يؤدي ً‬ ‫املشتركة والتعاون الفعال‪،‬‬ ‫ومؤسسات وروابط‬
‫مه ًّما يف تنمية وتأهيل النوع‬ ‫(واليد الواحدة ال تصفق)‬ ‫وفعاليات مدنية سليمة‬
‫االجتماعي من خالل اآلتي‪:‬‬ ‫ومع الجماعة رحمة‪،‬‬ ‫وصحية وفاعلة‪ ،‬فنحن‬
‫‪ -‬منح الشباب والشابات‬ ‫كما أن النشاط املشترك‬ ‫اخترنا االنتماء إىل جمعيتنا‬
‫فرصة االنخراط يف الحياة‬ ‫بالنسبة للشباب‪ ،‬هو حاجة‬ ‫بإرادتنا الحرة‪ ،‬وال‬
‫االجتماعية وممارسة حياتهم‬ ‫سيكولوجيه وتربوية‪،‬‬ ‫نعير أي أهمية لألصول‬
‫بأنشطة هادفة ومنظمة‬ ‫فالنشاط التعاوني الجماعي‬ ‫القرابية والطائفية‬
‫وخالقة‪ ،‬بما يمكنهم من‬ ‫املشترك بالنسبة للشباب‪،‬‬ ‫والسياسية التقليدية‪ ،‬ألننا‬
‫تصريف طاقاتهم الحيوية‬ ‫يعد فرصة ال تعوض لتنمية‬ ‫نؤمن باملساواة بين الناس‪،‬‬
‫بطرق سلمية مفيدة‪.‬‬ ‫الذات‪ ،‬واكتساب خبرات‬ ‫وأن ال أحد أفضل من‬
‫‪ -‬اكتساب‬ ‫ومهارات ال يمكن الحصول‬ ‫اآلخر بالحقوق األساسية‬
‫الشباب والشابات «شعور‬ ‫عليها يف الكتب‪ ،‬خبرة‬ ‫املطلقة‪ ،‬حق الحياة‪ ،‬وحق‬
‫االنتماء إىل مجتمعهم‪ ،‬وتحمل‬ ‫التعارف والتعاون والتضامن‬ ‫العمل وحق التعبير وحق‬
‫بعض املسؤوليات التي تسهم‬ ‫وتجارب مواجهة املشكالت‬ ‫املواطنة‪ ،‬وتكافؤ الفرص‪،‬‬
‫يف تلبية احتياجات اجتماعية‬ ‫واالنخراط يف املجتمع‪،‬‬ ‫والعمل املشترك بين الشباب‬
‫ملحة‪ ،‬أو خدمة قضية من‬ ‫وتكوين الصداقات والتعبير‬ ‫خيارا من بين خيارات‬ ‫ً‬ ‫ليس‬
‫القضايا التي يعاني منها‬ ‫عن الذات وتنمية القدرات‬ ‫أخرى‪ ،‬بل هو الخيار‬
‫‪181‬‬
‫الملف الثقـافي‬

‫املجتمع‪ ،‬يف إطار عمل جماعي‬


‫منظم”‪.‬‬
‫‪ -‬اكتشاف الشباب والشباب‬
‫ملا يمتلكونه من قدرات‬
‫ومواهب فردية يف ذواتهم‬
‫وعند اقرانهم‪ ،‬وصقلها‬
‫بالنشاط والعمل التطوعي‬
‫املشترك‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية وتأهيل النخب‬
‫القيادية الشابة بتمرسها‬
‫واكسابها الثقافة املدنية‬
‫وقيمها التضامنية السليمة‪.‬‬
‫‪ -‬االستفادة من الكوادر‬
‫البشرية املؤهلة واملدربة‪،‬‬
‫وتسخيرها لخدمة املجتمع‪.‬‬
‫جون أهرنبرغ‬ ‫جان جاك روسو‬ ‫إميل دوركايم‬
‫‪ -‬استقطاب املتطوعين‬
‫من الجنسين‪ ،‬لتدريبهم‬
‫فاالنخراط يف الجمعيات‬ ‫وروح التعاون‪ ،‬وتحقيق‬ ‫وتأهيلهم‪ ،‬ليكونوا جاهزين‬
‫وتقلُّد مهام القيادة فيها أيسر‬ ‫مبدأ األمة والجسد الواحد‪،‬‬ ‫لتنفيذ أي مهام وطنية‬
‫بكثير من واقع األحزاب‬ ‫الذي دعانا اليه رسول‬ ‫يف مسقبل مجتمعاتهم‬
‫السياسية املحكومة بواقع‬ ‫الرحمن صلعم‪.‬‬ ‫القريب‪.‬‬
‫االنضباط التنظيمي‪ ،‬والتي‬ ‫أخيرا‪ ..‬يمكن القول إن‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬إكساب الشباب والشابات‬
‫ً‬
‫قيم اإليثار والغيرية‪ ،‬ونبذ‬
‫التدرج يف سلَّمها‬ ‫ُّ‬ ‫يكون‬ ‫النشاط التطوعي والعمل‬
‫األنانية وإنكار الذات‪ ،‬من‬
‫القيادي أكثر تعقي ًدا‪ .‬ويعتبر‬ ‫املشترك للنشء من الشباب‬
‫خالل وعبر التماس‬
‫والشابات يحقق معنى وهدف التَّارزي‪ ،‬أن ما تمنحه‬
‫واالحتكاك مع اآلخرين‬
‫منظمات املجتمع املدني‬ ‫التنمية املستدامة للمجتمع‪.‬‬
‫من األقران‪ ،‬إذ إن اآلخر هو‬
‫يف ضوء ما تقدم وباالعتماد من فرص تدريبية مه َّمة‬
‫مرآة الذات‪ ،‬والطريق إىل‬
‫موجهة للشَّ باب تجعلهم‬ ‫َّ‬ ‫عليه يمكن االستشهاد‬ ‫معرفة وفهم الذات يمر عبر‬
‫أكثر تح ُّف ًزا لالنخراط‬ ‫بتجربة ورأي شاب تونسي‬ ‫التعرف وفهم اآلخرين‪.‬‬
‫يف العمل الجمعياتي منه‬ ‫وهو يروي تجربة انخراطه‬ ‫‪ -‬وملا كنا نعلم أن اإلنسان‬
‫ألن‬
‫إىل العمل الحزبي؛ َّ‬ ‫بالعمل املدني التطوعي بعد‬ ‫هو كائن أناني بالغريزة؛ فمن‬
‫الثورة التونسية‪ .‬فهذا فارس ما يستهوي الشباب يف‬ ‫املهم والضروري بذل الجهد‬
‫خاصة‬
‫َّ‬ ‫«فضل املجتمع املدني‬ ‫َّ‬ ‫بن التارزي‪ ،‬يقول إنه‬ ‫والعمل يف أن نجعل من‬
‫التحصل عىل إطار‬‫ُّ‬ ‫العمل الجمعياتي عىل الحزبي‪ ،‬هو‬ ‫ذواتنا ومن أشباهنا كائنات‬
‫تكويني يمكنه من املهارات‬ ‫عىل الرغم من أهمية كليهما؛‬ ‫اجتماعية مدنية باالكتساب‬
‫ألن الفضاء الجمعياتي يمنح الالزمة إلدارة ومراقبة‬ ‫َّ‬ ‫والتطبع‪ ،‬وذلك عبر ممارسة‬
‫الشأن العام يف مستوييه‬ ‫هامشً ا أوسع من الحرية‪،‬‬ ‫قيم التعايش والتشارك‬
‫واملحل»‬
‫ِّ‬ ‫الوطني‬ ‫ً‬
‫ومجال أكبر لإلبداع؛‬ ‫والتطوع والتكاتف‬
‫شما‬
‫لوحة للفنانة السورية سارة َ ّ‬
‫ثقافــات‬
‫وفنون‬
‫حوار‬
‫تاريخ‬
‫مصريات‬
‫رأي‬
‫علم نفس‬
‫فنون‬
‫كتب‬
‫‪184‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الجنوب عىل املصريين الذين‬ ‫عاما مل يستطع خاللها أن يبني‬ ‫ً‬ ‫لقاء يل مع أعمال منى‬

‫أول‬
‫يعيشون فيه‪ ،‬فما بالنا باملرأة؟‬ ‫مستشفى تعالج املرضى!‬ ‫الشيمي اإلبداعية كان‬
‫القوانين الصارمة التي فرضتها‬ ‫بعدها قرأت مخطوط روايتها‬ ‫مع روايتها “بحجم‬
‫العادات والتقاليد‪ ،‬وأبت إال أن‬ ‫«وطن الجيب الخلفي»‪ ،‬أليس‬ ‫حبة عنب”‪ ،‬أظنني‬
‫تكون نفسها‪ ،‬واضحة وليست‬ ‫العنوان الفتًا؟ أعتقد أنه الفت كما‬ ‫كتبت عنها وقتها‪ ،‬كنت مأخوذًا‬
‫فاضحة كما تقول يف هذا الحوار‪.‬‬ ‫كان عنوان «بحجم حبة عنب»‪،‬‬ ‫باملقابلة التي صنعتها بين مأساة‬
‫ولدت منى الشيمي عام ‪1968‬‬ ‫فازت روايتها الثانية بجائزة‬ ‫شخصيتها الرئيسية‪ ،‬األم التي‬
‫بمحافظة قنا‪ ،‬تخرخت من كلية‬ ‫(كتارا) كما كنت أتوقع‪ ،‬وقتها‬ ‫تدور عىل املستشفيات ملحاولة‬
‫اآلثار جامعة القاهرة ‪،1990‬‬ ‫مقال عنها مل ينشر يف أي‬‫كتبت ً‬ ‫إنقاذ ابنها من املوت‪ ،‬وبين حالة‬
‫وعملت مدرسة لبعض الوقت‪،‬‬ ‫مكان‪ ،‬ألن الرواية تتعرض لليهود‬ ‫الغليان التي كانت تعيشها مصر‬
‫أصدرت خمس روايات‪ :‬لون‬ ‫ماض سحيق‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يف جزيرة فيلة يف‬ ‫يف أعقاب (ثورة) ‪ 25‬يناير ‪.2011‬‬
‫هارب من قوس قزح ‪،2003‬‬ ‫وألن الجائزة منحتها (قطر) يف‬ ‫أتذكر أن املشهد (األيقونة) الذي‬
‫األراوال ‪ ،2006‬الكفة الراجحة‬ ‫الزمن الذي كان يعتبرها مارقة!‬ ‫سحرني وقتها كان التقاء الشاب‬
‫‪ ،2009‬بحجم حبة عنب ‪،2014‬‬ ‫والنقطتان كفيلتان باملنع! ما علينا‪،‬‬ ‫املريض والرئيس (املخلوع)‬
‫ووطن الجيب الخلفي‪ .‬ولها‬ ‫املهم أن هاتين الروايتين كافيتان‬ ‫حسني مبارك يف املكان نفسه‪،‬‬
‫أربع مجموعات قصصية‪ :‬وإذا‬ ‫–يف رأيي املتواضع‪ -‬لتضعا منى‬ ‫املركز الطبي العاملي‪ ،‬ربما كان‬
‫انهمر الضوء ‪ ،2009‬من خرم‬ ‫الشيمي بين ُكتَّاب الصف األول‬ ‫هذا هو اسمه‪ ،‬ال أذكر‪ ..‬اللقاء بين‬
‫إبرة ‪ ،2009‬رشح الحنين‬ ‫خاصة أنها كاتبة مثقفة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫يف جيلها‪،‬‬ ‫الشاب الذي يحتاج إىل رعاية طبية‬
‫‪ ،2010‬وصليل األساور ‪.2014‬‬ ‫تح َّدت األوضاع التي يفرضها‬ ‫فائقة‪ ،‬والرئيس الذي حكم ثالثين‬

‫منى الشيمي‪:‬‬

‫كان لليهود وجود في مصر‪،‬‬


‫مثلما كان في كل مكان‬
‫في العالم‪ ،‬ليس بالشكل‬
‫المكرس له في‬
‫المحكية الصهيونية!‬
‫‪185‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫حوار‬

‫لقد بدأت بكتابة القصة القصيرة‬ ‫حاورها‪:‬‬ ‫كما أصدرت روايتين لألطفال‬
‫فعل‪ ،‬وأنجزت مجموعة أسميتها‪:‬‬ ‫ً‬ ‫سمير درويش‬ ‫واليافعين‪ :‬املانجو املسحورة‬
‫“غبار الطلع”‪ ،‬فازت قصة منها‬ ‫‪ ،2014‬واألشجار تعود للرقص‬
‫بجائزة ما‪ ،‬وقدمت املجموعة‬ ‫‪ .2014‬كما حصلت عىل عدة‬
‫للنشر يف الهيئة العامة للكتاب‪،‬‬ ‫روايتك األوىل «لون‬ ‫جوائز من مصر (ساويرس‬
‫لكن املسودة ضاعت يف األروقة‪،‬‬ ‫هارب من قوس قزح»‬ ‫ونادي القصة)‪ ،‬وقطر (كتارا)‪،‬‬
‫ومل يكن معي نسخة احتياطية‪،‬‬ ‫صدرت عام ‪ ،2003‬وتلتها‬ ‫واإلمارات العربية املتحدة (دبي‬
‫كنا نكتب أعمالنا عىل كمبيوتر‬ ‫والشارقة)‪.‬‬
‫روايتان «األراوال” ‪2006‬‬
‫عام يف مكتب متخصص‪ ،‬يحذف‬ ‫و”الكفة الراجحة” ‪،2009‬‬
‫أعمالنا بمجرد طباعتها وتسليمها‬
‫لنا‪ ،‬وكان هذا من حسن حظي‪،‬‬
‫قبل أن تصدر مجموعتك‬
‫فلو نشرت لشعرت بالحزن‪ ،‬كنت‬ ‫القصصية األوىل «وإذا‬
‫أتعلم ألف باء الكتابة‪ ،‬أجدها اآلن‬ ‫انهمر الضوء” ‪ ،2009‬كما‬
‫مجرد خربشات‪ ،‬لكنه االندفاع‬ ‫أن ُك َّتا ًبا كثيرين من جيلك‬
‫غير املدروس للنشر‪ .‬ففي‬ ‫بدأوا بكتابة الرواية ومل‬
‫البدايات‪ ،‬ويف بلدتي الصغيرة‬ ‫يهتموا بكتابة القصة‪،‬‬
‫منتشرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أقصى الجنوب‪ ،‬مل يكن‬
‫كما يف القاهرة أو املدن الكبيرة‬
‫عكس األجيال السابقة‬
‫األخرى‪ ،‬املنتديات األدبية‪ ،‬مل‬ ‫التي كانت تكتب‬
‫يكن هناك سوى قصر الثقافة‪،‬‬ ‫القصة بغزارة قبل‬
‫وهو‪ ،‬يف تلك املرحلة‪ ،‬مل يكن‬ ‫أن تتجه لكتابة‬
‫املكان الجيد للتعلم‪ .‬كنت أكتب‬ ‫الرواية‪ ..‬ما‬
‫فحسب‪ ،‬من دون تقييم بالسلب‬ ‫السر يف ذلك؟‬
‫أو اإليجاب‪ ،‬من دون معرفة‬
‫بقواعد القصة‪ .‬أذكر ً‬
‫مثل أننا‬
‫كنا نرسل أعمالنا إىل برنامج‬
‫مع األدباء الشبان‪ ،‬لننتظر‬
‫دورنا‪ ،‬جوار الراديو لنستمع إىل‬
‫مناقشة مقدمته األستاذة “هدى‬
‫العجيمي” مع أحد النقاد‪ ،‬من‬
‫كنا نسمع باسمهم ونقرأ لهم يف‬
‫الجرائد الصادرة من القاهرة‬
‫فقط‪ .‬إذن رواية لون هارب من‬
‫قوس قزج كانت مرحلة تالية‬
‫ملرحلة كتابتي للقصة القصيرة‪.‬‬

‫روايتك الرابعة «بحجم‬


‫حبة عنب» التي صدرت‬
‫‪186‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وكثيرون أرجعوا شهرتها‬ ‫عام ‪ ،2014‬هي التي لفتت‬


‫ونجاحها الواسع لهذا‬ ‫األنظار بقوة إىل إنتاجك‬
‫السبب‪ ..‬أين يف رأيك‬ ‫األدبي‪ ،‬يف رأيك‪ :‬ما الذي‬
‫تنتهي السيرة الذاتية‬ ‫كان مختل ًفا بها تسبب يف‬
‫وتبدأ الرواية؟ بمعنى‬ ‫هذا؟‬
‫آخر‪ :‬ما نصيب الحدث‬ ‫ال أعرف السبب تحدي ًدا‪ ،‬لكن‬
‫الواقعي الذي يستند إليه‬ ‫دعني أفكر بصوت عال‪ :‬ربما‬
‫الكاتب يف البناء الفني‬ ‫لنضجي وقت كتابتها‪ ،‬كان قد‬
‫للعمل األدبي؟‬ ‫مر وقت طويل عىل بدء الكتابة‬
‫وتجاوز مرحلة الخجل يف البوح‪،‬‬
‫الفصل بين الواقعي واملتخيل‬ ‫أو ألن القارئ أخذها عىل اعتبار‬
‫مستحيل‪ ،‬فما أراه واقعي يراه‬ ‫أنها تجربة شخصية‪ ،‬اعترافات‪،‬‬
‫أيضا‪،‬‬ ‫ً‬
‫متخيل‪ ،‬والعكس ً‬ ‫غيري‬ ‫فرديناند دو سوسير‬ ‫وهو نوع أدبي مفضل لدى‬
‫أنا نفسي مل أعد أستطيع وضع‬ ‫قاعدة أعرض من القراء‪ ،‬يتخذون‬
‫ً‬
‫متخيل أثناء‬ ‫يدي عىل ما اعتبرته‬ ‫شيء يف حياتنا‪ ،‬وظل االحتفاء‬ ‫فيه زاوية التلصص‪ ،‬وكثيرون‬
‫كتابتها‪ ،‬ألنه صار‪ ،‬بالكتابة‪،‬‬ ‫بالكفة الراجحة بين قلة يرتادون‬ ‫يشتهون معرفة املحجوب من‬
‫واقعيًّا‪ .‬ثمة عملية أشبه بالعمليات‬ ‫نادي القصة!‬ ‫حياة اآلخرين‪ .‬وربما‪ ،‬وهذا ما‬
‫الكيميائية تحدث أثناء الكتابة‪،‬‬ ‫أرجحه‪ ،‬فوزها بجائزة ساويرس‬
‫هي الذوبان أو االنعجان إن صح‬ ‫كالم كثير قيل حول إن‬ ‫كبار الكتاب‪ ،‬وصعودها إىل‬
‫االشتقاق! الرواية تقدم وعي‬ ‫«بحجم حبة عنب» تعد‬ ‫القائمة الطويلة للبوكر يف آن‬
‫كاتبها بالعامل‪ ،‬ربما الكتابة هي ما‬ ‫سيرة ذاتية صادقة‪،‬‬ ‫واحد! وكلتا الجائزتين مهمتين يف‬
‫ومؤخرا‬
‫ً‬ ‫أوساط الكتاب والقراء‪،‬‬
‫ينتظرون نتيجة كل منهما لقراءة‬
‫األعمال الفائزة‪ .،‬وعىل الرغم من‬
‫أنها الكفة‬
‫الراجحة من‬
‫مطبوعات‬
‫الكتاب‬
‫الفضي‪ ،‬أي‬
‫أنها الرواية‬
‫الفائزة‬
‫يف جائزة‬
‫نادي القصة‬
‫املصري‪،‬‬
‫فإن الجوائز‬
‫األدبية‬
‫درجات ككل‬
‫‪187‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫حوار‬

‫مل يحدث بالفعل! وألن الحقيقة‬


‫سر‪ ،‬قد يحكي اثنان قصة ما‬
‫بطريقة مختلفة‪ ،‬ألن كل منهما‬
‫يضيف إليها من نفسه‪ ،‬ماضيه‬
‫وثقافته ومعتقداته ونظريات‬
‫املؤامرة إن توافرت لديه‪.‬‬
‫ستنعكس عىل الحكي طريقته يف‬
‫التفكير‪ ،‬ما إذا كان استقرائي أم‬
‫استنباطي‪ ..‬إلخ‪ .‬األهم بالنسبة‬
‫يل كان شيئًا آخر‪ ،‬هو ذكر بعض‬
‫األحداث دون غيرها من سيرتي‪،‬‬
‫إلخراجها من الشخصي إىل‬
‫العام‪ .‬تكمن أهمية السير الذاتية‪،‬‬
‫مسبارا يغوص‬
‫ً‬ ‫عندي‪ ،‬يف كونها‬
‫يف التاريخ ليخرج لنا بقطاع طويل‬
‫إسرائيل فينكلستاين‬ ‫إيزابيل الليندي‬ ‫بثينة العيسى‬ ‫منه‪ ،‬ما َش َّك َل حياتي هو نفسه‬
‫ما شكل حيوات كثيرات‪ ،‬السير‬
‫أصبحت تعتمد عىل‬ ‫«عائشة تنزل إىل العامل السفيل»‪..‬‬ ‫الذاتية تأريخ للمجتمع وما مر به‪،‬‬
‫البحث‪ .‬هل (الحقائق)‬ ‫الذاكرة السردية قد تفعل هذا‪،‬‬ ‫وكلما كانت صادقة كلما نجحت‬
‫التاريخية –يف رأيك‪-‬‬ ‫تالصا‪ ،‬فاملحتوى‬
‫ًّ‬ ‫وهو ليس‬ ‫يف فعل هذا‪.‬‬
‫والرؤية يف كل تجربة يختلف‬
‫أفادت البناء الروائي؟‬ ‫ِ‬
‫تمام االختالف عن بقية التجارب‪،‬‬ ‫استقبلت حديث‬ ‫كيف‬
‫أكاد أشك يف وجود حقائق‬ ‫القارئ املتعمق سيلحظ ذلك‬ ‫بعض األدباء والنقاد عن‬
‫تاريخية باملعنى الواضح‬ ‫بسهولة‪ .‬وبعي ًدا عن باوال‪ ،‬قام‬
‫ما يعتقدون أنه (تشابهًا)‬
‫للمصطلح‪ ،‬يف حالة رواية وطن‬ ‫جارثيا ماركيز بكتابة عمل كتبه‬
‫ياسوناري كواباتا قبله‪ :‬ذاكرة‬
‫بين البناء الفني لرواية‬
‫الجيب الخلفي‪ ،‬لدينا بضع آثار‬
‫وضعت محل البحث‪ ،‬وبناء عليه‬ ‫غانياتي الحزينات‪ .‬عىل الرغم‬ ‫«بحجم حبة عنب»‬
‫ثم استنتاج فرضيات‪ .‬كما أن‬ ‫من هذا‪ ،‬فإن الروايتين غير‬ ‫ورواية «باوال» إليزابيل‬
‫التاريخ نفسه مشكوك فيه‪ ،‬بسبب‬ ‫متشابهتين!‬ ‫الليندي‪ ،‬وكلتاهما تروي‬
‫ميول كاتبه‪ ،‬وتوجهاته‪ ،‬والزاوية‪..‬‬ ‫مأساة أم تتابع مرض‬
‫إلخ‪ .‬مل يهمني اعتماد بحثي‬ ‫رواية «وطن الجيب‬
‫ابنها‪ /‬ابنتها؟‬
‫عىل الحقائق‪ ،‬ألنني استخدمتها‬ ‫الخلفي» –التي حصلت‬
‫لتلهمني شخصيات وأحدا ًثا‬ ‫عىل جائزة كتارا‪ -‬فيها‬ ‫ال أنكره‪ ،‬كلتانا تعرضت للتجربة‪،‬‬
‫تساعدني عىل تفسير الحاضر‪،‬‬ ‫جهد بحثي كبير يف تقصي‬ ‫ما املانع؟ تأثرت الكاتبة أوخينا‬
‫وربما التنبؤ باملستقبل بتوظيف‬ ‫ريكو يف روايتها‪muerte :‬‬
‫أصل‪.‬‬‫ً‬ ‫قصة ربما مل تحدث‬
‫التاريخ القديم ملنطقة يف‬ ‫‪ -blanca‬املوت الغض برواية‬
‫الرواية التاريخية من وجهة‬ ‫أسوان‪ ،‬ونماذج كثيرة‬ ‫باوال‪ ،‬تجد الكاتبة بثينة العيسى‬
‫نظري‪ ،‬ليست مرآة للحقيقة‪،‬‬ ‫من الروايات الحديثة‬ ‫أيضا وقد تأثرت بها يف روايتها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪188‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫أو أداة إلعادة بنائها‪ ،‬هي تهتم‬


‫بوضع تصور أو عدة تصورات‬
‫أخرى لها‪ ،‬أو تهشيم فكرة أن‬
‫أصل‪ ،‬فكما قلت لك‬ ‫ً‬ ‫هناك حقيقة‬
‫سابقًا‪“ :‬الحقيقة سر ذهب مع‬
‫من ذهبوا”‪ ،‬وهي بهذا تصنع‬
‫وعيًا آخر للتعامل مع املاضي‪ ،‬أو‬
‫التاريخ الذي تم تقديسه عىل مدار‬
‫الزمن من الجهات املكرسة له‪.‬‬
‫ويف ظني أن مفهوم الرواية‬
‫التاريخية تطور مع الوقت‪،‬‬
‫وبعد أن كان يركز عىل امللوك‬
‫والسالطين صار يركز عىل‬
‫البسطاء‪ ،‬وهي هنا‪ ،‬أعني الرواية‬
‫التاريخية الحديثة‪ ،‬عبارة عن‬
‫سلسلة لربط التاريخ امليلء‬
‫بالفجوات والقصص املقتطعة‬
‫سوا ًء زمنيًّا أو مكانيًّا‪ .‬ويف ظني‬
‫أيضا‪ ،‬أن قيمتها األساسية ال‬ ‫ً‬
‫كثيرا عن قيمة الكتابة يف‬‫ً‬ ‫تختلف‬
‫املجمل‪ :‬طرح التساؤالت لكل ما‬
‫هو مستقر يف أعماقنا وتم توريثه‬
‫من جيل إىل آخر‪ .‬ولنتخذ من‬
‫رواية البشموري للكاتبة سلوى‬
‫مثال‪ ،‬فهي‪ ،‬من وجهة نظري‬ ‫بكر ً‬
‫ال تهتم بحدوتة ثورة البشموريين‬
‫ماض سحيق‪ ،‬بل‬ ‫ٍ‬ ‫التي حدثت يف‬
‫تتخذ تلك القصة وسيلة لنشر‬
‫كثيرا‪ ،‬أال وهي‬
‫ً‬ ‫رؤية أشمل‬
‫محاولة الوصول لصيغة تنهي‬
‫وتتغلب عىل الصراع بين األديان‪.‬‬
‫كذلك وطن الجيب الخلفي‪ ،‬مل‬
‫تكن تهتم بالجالية اليهودية التي‬
‫عاشت يف جزيرة فيلة يف القرن‬
‫الخامس ق‪.‬م‪ .‬بل كانت «الحدوتة»‬
‫مجرد أداة تنبه إىل دور‬
‫الصهيونية يف تزييف التاريخ‪.‬‬

‫يف «وطن الجيب الخلفي»‬


‫‪189‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫حوار‬

‫بجرأة‪ ،‬حتى من الجوانب‬ ‫فينكلستاين‪ ،‬أشهر عامل آثار‬ ‫أيضا إشارات حول دور‬‫ً‬
‫التي مل تكن املرأة تقترب‬ ‫يهودي يف جامعة تل أبيب‪ ،‬من‬ ‫لليهود يف الحضارة‬
‫َح َر َث الجبل جيئ ًة وذها ًبا ونقَّب‬
‫منها‪ ،‬هذه الجرأة طالت‬ ‫املصرية القديمة‪ ..‬أمل‬
‫أعماقه‪.‬‬
‫اللغة ً‬
‫أيضا‪ ،‬واستخدام‬ ‫تفكري وقت الكتابة أن‬
‫يف روايتي وطن الجيب الخلفي‬
‫تحدثت عن جالية يهودية جمعت مفردات مباشرة وموجعة‬ ‫هذا املوضوع من املمكن‬
‫أحيا ًنا‪ ..‬هل تعتقدين –‬ ‫من طول مصر‪ ،‬ووضعت‬ ‫أن يتسبب لك يف إزعاج‬
‫وأنت امرأة جنوبية تحمل‬ ‫يف جزيرة فيلة‪ ،‬مل تقم إال‬
‫كبير‪ ،‬خاصة يف ظل ثقافة‬
‫بالحراسة وصد غارات النوبيين كل ميراث الجنوب‪ -‬أن‬ ‫تتصيد لآلخرين بالحق‬
‫واألثيوبيين‪ ،‬وكانت آنذاك كثيرة‬
‫مساحة الحرية املتاحة‬ ‫عىل الحدود الجنوبية‪ .‬هل هم‬ ‫وبالباطل؟‬
‫بذلك صناع حضارة هكذا؟ كانوا للمرأة الكاتبة أصبحت‬
‫واسعة اآلن كما هي‬ ‫مجرد سكان مثل اآلراميين‬ ‫لدي أي تحفظ‬
‫أول ليس َّ‬‫ً‬
‫عىل اليهود‪ ،‬بل تحفظي عىل‬
‫واملديين واإلغريق‪ ..‬إلخ‪ ،‬ال يهمني بالنسبة للرجل الكاتب؟‬
‫من يتصيد األخطاء‪ .‬يف بحثي عن‬ ‫الصهيونية‪ ،‬كان لليهود وجود‬
‫منحت لنفسي‪ ،‬يف الكتابة‪ ،‬الحرية‬ ‫شخصية صالح الدين األيوبي‬ ‫يف مصر‪ ،‬مثلما كان يف كل مكان‬
‫غير املشروطة‪ ،‬بغض النظر‬ ‫اكتشفت أن إحدى ساقيه كانت‬ ‫يف العامل‪ ،‬ليس بالشكل املكرس‬
‫قرارا‬
‫ً‬ ‫عما س ُأت ََّه ُم به الحقًا‪ ،‬كان‬ ‫عرجاء‪ .‬صالح الدين أعرج! وأن‬ ‫له يف املحكية الصهيونية‪ .‬كانت‬
‫شخصيًّا‪ ،‬الكتابة بصدق أو‬ ‫غضوا الطرف عن هذا‬ ‫املؤخين ُّ‬ ‫مصر دولة كوزموبلوتانية‪،‬‬
‫ال‪ .‬أنت من تقرر عند جلوسك‬ ‫إكراما له! ربما ليس‬
‫ً‬ ‫يف كتاباتهم‬ ‫وليس هناك دليل أثري واحد‬
‫نصا‬‫للتدوين‪ ،‬ما إذا كنت ستكتب ًّ‬ ‫ثمة تعارض بين عرجه وبطولته‬ ‫عىل الخروج الكبير من مصر‪ ،‬بل‬
‫صادقًا أم ستراوغ‪ ،‬وكان سؤايل‬ ‫الخارقة!‬ ‫ليس هناك شقفة صغيرة باقية‬
‫األول لنفسي‪ :‬ما أهمية الكتابة‬ ‫من الهيكل عىل جبل املوريا يف‬
‫غير الصادقة؟ وكانت اإلجابة‪:‬‬ ‫أنت يف طليعة الكاتبات‬ ‫القدس‪ ،‬ما يعني أنه مل يبن هناك‬
‫“ليس ثمة أهمية تذكر”‪ .‬حتى‬ ‫الالتي تناولن الواقع‬ ‫من األساس‪ ،‬وهذا بقول إسرائيل‬
‫إذا اعتبر اآلخرون ما أكتبه قلة‬
‫حياء‪ ،‬وتجاو ًزا‪.‬‬
‫ال يهمني‬
‫سوى القارئ‬
‫الجميل‪ ،‬إذا مل‬
‫يكن موجو ًدا‬
‫اآلن ال بد أنه‬
‫سيولد غ ًدا‪ .‬كلنا‬
‫ذاهبون‪ ،‬وحدها‬
‫الكتابة الباقية‪.‬‬
‫بخصوص‬
‫املفردات‪ ،‬كل‬
‫كلمة لبنة يف‬
‫معجم اللغة‪،‬‬
‫منحت لنفسي‪ ،‬في الكتابة‪،‬‬
‫الحرية غير المشروطة‪ ،‬بغض‬
‫ً‬
‫الحقا‪ ،‬كان‬ ‫ه ُم به‬ ‫النظر عما ُ‬
‫سأ َّت َ‬
‫قرا ًرا شخص ًّيا‪ ،‬الكتابة بصدق‬
‫أو ال‪ .‬أنت من تقرر عند جلوسك‬
‫للتدوين‪ ،‬ما إذا كنت ستكتب‬
‫ً‬
‫صادقا أم ستراوغ‪ ،‬وكان‬ ‫نصا‬
‫ًّ‬
‫سؤالي األول لنفسي‪ :‬ما أهمية‬
‫الكتابة غير الصادقة؟ وكانت‬
‫اإلجابة‪" :‬ليس ثمة أهمية تذكر"‪.‬‬
‫حتى إذا اعتبر اآلخرون ما أكتبه‬
‫قلة حياء‪ ،‬وتجاو ًزا‬

‫عرض ال يفرضونه عند الفوز‪:‬‬ ‫اللغات املختلفة‪ ..‬حدثينا‬ ‫إذا وضعت يف مكانها كانت‬
‫ترجمة العمل‪ .‬وافقت‪ .‬والحقيقة‬ ‫عن تجربتك يف ترجمة‬ ‫إضافة‪ .‬كما قال دس سوسير‪:‬‬
‫عند إرسال الترجمة ملراجعتها‪،‬‬ ‫«كلمة كلب ال تعض»‪ ،‬يف البداية‬
‫تماما‪،‬‬ ‫وألني ال أجيد اإلنجليزية‬
‫«وطن الجيب الخلفي» إىل‬
‫ً‬ ‫تماما كان ثمة صديق يل يف نجع‬
‫ً‬
‫أرسلتها لصديقة تعمل بالترجمة‬ ‫حمادي‪ ،‬اسمه األستاذ مصطفى اإلنجليزية والفرنسية‪..‬‬
‫االحترافية‪ ،‬قيَّمتها بأنها جيدة‪.‬‬ ‫مروان‪ ،‬كنت قد استعنت برأيه يف وما الفرق بين أن يترجم‬
‫لكنني بالتمعن يف سؤالك أظن‬ ‫الكاتب عمله بنفسه أو‬ ‫تقييم مسودة األراوال‪ ،‬قال بعد‬
‫أن الكاتب يستطيع أن يترجم‬
‫القراءة‪“ :‬كتاباتك واضحة وليست يترجمها غيره؟ هل هي‬
‫عمله بأفضل مما لو قام‬
‫مثل‪،‬‬ ‫بترجمته اآلخرون‪ .‬لكنني ً‬ ‫فاضحة”‪ .‬ما زال رأيه يتردد يف (ترجمة) أمينة أم إعادة‬
‫أجد أن صالح علماني استطاع‬ ‫أعماقي‪ .‬ملاذا نخاف من الكلمات؟ كتابة؟‬
‫ومن الوضوح؟‬
‫أال يشعرني أن أعمال ماركيز‬
‫مترجمة‪ ،‬كذلك أبو بكر يوسف‬ ‫ليس يل‪ ،‬عكس الكثير من‬
‫الروائيين أعمال مترجمة‪ .‬هناك‬ ‫صمويل بيكيت صاحب‬
‫مترجم أعمال تشيكوف‪ ،‬استطاع‬
‫بنعومة أن يشعرني أن القصص‬ ‫معلومة خاطئة عني يف صفحة‬ ‫«يف انتظار جودو» كان‬
‫كتبت باللغة العربية‪ .‬لكنني ً‬
‫مثل‬ ‫الويكيبيديا‪ ،‬أنني ترجمت روايتي‬ ‫يعرف عدة لغات‪ ،‬وكان‬
‫مل أستمتع بأعمال فرجينيا والف‬ ‫وطن الجيب الخلفي بنفسي‪ .‬لست‬ ‫يحب الكتابة بالفرنسية‬
‫التي قامت بترجمتها فاطمة‬ ‫من قام بترجمتها‪ ،‬ال أملك حيلة‬
‫ناعوت‪ ،‬بدا يل وكأن ثمة معانٍ‬ ‫لتغيير املعلومات يف هذه الصفحة‪،‬‬
‫رغم أنه أيرلندي ولغته‬
‫كثيرة عجيبة وغير مفهومة‪ ،‬بل‬ ‫وال أعرف كيفية مراسلتهم‪.‬‬ ‫األصلية اإلنجليزية‪ ،‬وكان‬
‫وغير منطقية أحيانًا‬ ‫الرواية فازت بجائزة كتارا‪ ،‬وثمة‬ ‫يترجم بنفسه أعماله إىل‬
‫‪191‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫تاريخ‬

‫أضوء علي تاريخ‬


‫مطبعة بوالق‬ ‫د‪.‬خالد عزب‬

‫جالء الحملة الفرنسية‬

‫بعد‬
‫عن مصر يف سنة‬
‫‪1801‬م‪ ،‬عمت الفوضى‬
‫البالد‪ ،‬حيث ظهر عىل‬
‫املسرح السياسي ثالث‬
‫قوى تتنازع فيما بينها السلطة‪،‬‬
‫فاألتراك من جهة يريدون إعادة‬
‫البالد إىل قبضتهم بعد أن انفلت‬
‫عقدها يف ظل وجود املستعمر‬
‫الفرنسي‪ ،‬واملماليك يرمون إىل‬
‫استعادة سيادتهم التي فقدوها‬
‫بدخول الفرنسيين‪ ،‬ووقف الشعب‬
‫املصري بين هاتين القوتين يريد‬
‫استرداد بالده من يد املغتصبين‪.‬‬
‫استطاع محمد عيل يف نهاية‬
‫حروف الرصاص التي‬ ‫املطاف أن يصعد إىل سدة الحكم‬
‫كانت تستخدم في‬ ‫بعد صراع دام أربع سنوات‪،‬‬
‫المطابع القديمة‬ ‫حيث استطاع أن يوطد أركان‬
‫‪192‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫وأرباب الحرف والصنائع‬ ‫ليحاكي تلك املطبعة‪ ،‬يف حين‬ ‫حكمه بتأييد من الشعب‪ .‬وبدأ‬
‫وجميع األشخاص املتعلقة‬ ‫قال بيرون‪ :‬إن الباشا ملا أنشأ‬ ‫يفكر يف بناء بلد قوي سواء من‬
‫بالفرنساوية يحصل عليهم سوية‬ ‫املدارس املتعددة وجد الحاجة‬ ‫الناحية السياسية أو العسكرية‪،‬‬
‫ما يحصل للعساكر الحربية‪ ،‬وأن‬ ‫إىل مطبعة تنشر ما يحتاج إليه‬ ‫ويف الوقت نفسه يعتمد عىل‬
‫حكام السياسة وأرباب العلوم‬ ‫التالميذ والطالب من الكتب‬ ‫اقتصاد قوي وخلفية حضارية‬
‫والصنائع يصحبون ويأخذون‬ ‫املدرسية‪ ،‬فأنشأ مطبعة يف بوالق‪،‬‬ ‫تمكنه من الحفاظ عىل إنجازاته‪،‬‬
‫معهم األوراق والكتب‪ ،‬ليس التي‬ ‫لكن رأي جيز كان مختلفًا حيث‬ ‫فبدأ يف إنشاء املؤسسات عىل‬
‫تخصهم فقط بل كل ما يرونه‬ ‫متأثرا‬
‫ً‬ ‫قال‪ :‬إن محمد عيل كان‬ ‫النمط األوروبي الحديث‪ ،‬ومن‬
‫ناف ًعا لهم»‪.‬‬ ‫بالتقدم املادي يف أوروبا فرأى‬ ‫بين املشروعات التي احتاج‬
‫فهذا النص صريح يف أن‬ ‫أن تقدم األحوال يف مصر ال‬ ‫إليها يف مسيرته التنموية هي‬
‫الفرنسيين ‪-‬وعىل وجه‬ ‫يأتي إال عن طريق الشعلة التي‬ ‫مطبعة تنشر كل ما يراه مناسبًا‬
‫الخصوص أرباب العلوم‬ ‫نشرت أضواء العلوم واملعارف‬ ‫الستقرار دولته‪.‬‬
‫والصنائع منهم‪ -‬يأخذوا معهم‬ ‫يف أوروبا‪ ،‬وما هذه الشعلة إال‬ ‫بدأ محمد عيل يفكر يف إدخال‬
‫كل ما يريدون‪ ،‬سواء أكان مما‬ ‫فن الطباعة‪ ،‬كما قال إن السبب يف‬ ‫الطباعة إىل مصر منذ عام‬
‫أحضروه معهم من فرنسا أم مما‬ ‫إنشاء املطبعة كان الرغبة يف طبع‬ ‫‪1815‬م‪ ،‬حينما بدأ يفكر يف إنشاء‬
‫نهبوه من نفائس مصر‪ .‬ويؤيد‬ ‫الكتب الشرقية القديمة التي عبث‬ ‫جيش نظامي ُيحكم به سلطته عىل‬
‫هذا أن كتاب «نحو اللغة العربية‬ ‫بها تقادم العهد‪ ،‬فأضاع الزمان‬ ‫البالد‪ .‬إذ كان ال بد لهذا الجيش‬
‫العامية» وهو آخر مطبوعات‬ ‫معظمها وكاد يأتي عىل ما بقى‬ ‫من كتب يتعلم فيها أصول الحرب‬
‫الفرنسيين يف مصر‪ُ ،‬بدئ يف‬ ‫أيضا يعزو إنشاء‬ ‫ً‬
‫مخطوطا منه‪ً ،‬‬ ‫والخطط الحربية‪ ،‬وأنواع األسلحة‬
‫طباعته باملطبعة األهلية بالقلعة‪،‬‬ ‫املطبعة إىل أن محمد عيل ملا أسس‬ ‫املختلفة‪ .‬فما كان من محمد عيل‬
‫ثم أخىل الفرنسيون القاهرة‬ ‫مشروعاته اإلدارية والتجارية‬ ‫إال أن أصدر أوامره بإنشاء‬
‫فاستؤنف طبعه يف نفس املطبعة‬ ‫كان من الضروري أن يوجد‬ ‫مطبعة بوالق يف عام ‪1820‬م‬
‫باإلسكندرية‪ ،‬ولكنه مل يتم طبعه‬ ‫بجانب هذه املصالح واملعامل‬ ‫لطباعة ما يستلزم من كتب‬
‫أيضا‪ ،‬فوقف الطبع عند الصحيفة‬ ‫ً‬ ‫مطبعة تطبع ما يلزم لها من‬ ‫قوانين وتعليمات‪.‬‬
‫‪ 168‬من الكتاب بجالء الفرنسيين‬ ‫السجالت‪.‬‬
‫عن اإلسكندرية‪ ،‬من الثابت –إذن‪-‬‬ ‫التفسيرات املختلفة‬
‫أن الفرنسيين أخذوا مطبعتهم‬ ‫النقد‬ ‫إلنشاء مطبعة بوالق‬
‫إىل اإلسكندرية بعد الجالء عن‬
‫القاهرة‪ ،‬فهل نقلها محمد عيل‬ ‫رجع أصحاب الرأي القائل بأن‬ ‫اختلفت اآلراء والروايات حول‬
‫من اإلسكندرية إىل القاهرة بعد‬ ‫محمد عيل أنشأ مطبعته عىل‬ ‫األسباب التي أدت إىل إنشاء‬
‫(‪)1‬‬
‫عشرين سنة وجددها؟‬ ‫أنقاض مطبعة بونابرت إىل‬ ‫مطبعة بوالق‪ :‬فجورجي زيدان‬
‫أما الرأي القائل بأن محمد عيل‬ ‫املقدمات ً‬
‫بدل من النتائج‪ ،‬فاألدلة‬ ‫قال‪ :‬إن محمد عيل سمع يف مصر‬
‫أنشأ مطبعته محاكا ًة ملطبعة‬ ‫التاريخية كلها تثبت أن إحياء هذه‬ ‫عن مطبعة الحملة الفرنسية‬
‫القسطنطينية التي أنشئت قبل‬ ‫األنقاض مل يحدث‪ ،‬وأن املطبعة‬ ‫ورأى بعض آثارها‪ ،‬فجدد تلك‬
‫ذلك بقرن‪ ،‬وأثمرت ثمرة طيبة‬ ‫تماما عن‬
‫ً‬ ‫املصرية نشأت مستقلة‬ ‫اآلثار وأحياها فيما ُعرف باسم‬
‫يف ميدان العلم واألدب‪ ،‬فنجد أن‬ ‫كل اتصال باملاضي‪ ،‬فالشرط‬ ‫مطبعة بوالق‪ ،‬أما رينو فقال‪ :‬إنه‬
‫محمد عيل قبل مجيئه إىل مصر‬ ‫الحادي عشر من معاهدة جالء‬ ‫أراد أن يقلد مطبعة القسطنطينية‬
‫مل يكن عمله يتصل بالحركة‬ ‫الفرنسيين عن مصر ينص عىل‬ ‫التي أنشئت قبل ذلك بقرن من‬
‫العلمية واألدبية يف القسطنطينية‪،‬‬ ‫أن‪“ :‬جميع حكام السياسة‬ ‫الزمان فأنشأ مطبعة يف بوالق‬
‫‪193‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫تاريخ‬

‫فقد كانت حياته يف ألبانيا حياة‬


‫تاجر همه يف البيع والشراء‪،‬‬
‫وكان أميًّا‪ ،‬فلم تكن معه وسائل‬
‫االتصال بالحياة العلمية واألدبية‬
‫بدار الخالفة‪ .‬هذا الرأي ال يفسر‬
‫إنشاء املطبعة‪ ،‬إذ ال بد من غرض‬
‫يدفع الوايل إىل محاكاة مطبعة‬
‫القسطنطينية‪ ،‬أما التقليد يف ذاته‬
‫فال يمكن أن يكون سببًا منطقيًّا‪،‬‬
‫ذلك أن التقليد ال يمكن أن يستمر‪.‬‬
‫وكما نعرف فإن صاحب هذا‬
‫الرأي هو رينو الذي كان‬
‫من املشتغلين بتاريخ مطبعة‬
‫القسطنطينية‪ ،‬مما سهل عليه‬
‫االعتقاد بأن املطبعة املصرية مل‬
‫تكن إال تقلي ًدا لتلك املطبعة‪ ،‬وال‬
‫محمد علي باشا‬ ‫جوزيف توسان رينو‬ ‫جورجي زيدان‬
‫سيما أن مصر كانت والية تركية‬
‫آنذاك‪.‬‬
‫كان واق ًعا تحت تأثير هذا االتجاه‪،‬‬ ‫مطبعة بوالق بأربع سنوات‪،‬‬ ‫أما عن رأي الدكتور بيرون الذي‬
‫فأراد أن ينتفع باملصدر الذي‬ ‫ثم أنشئت املدرسة التجهيزية‬ ‫ناظرا ملدرسة الطب املصرية‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫أفاض نور العلم عىل الجمهورية‬ ‫الحربية يف قصر العيني سنة‬ ‫بأن املطبعة أنشئت يف أول األمر‬
‫الفرنسية‪ ،‬وقد سبق القول إن‬ ‫‪1825‬م‪ ،‬أي بعد إنشاء املطبعة‬ ‫لسد حاجة املدارس من الكتب‬
‫مجرد التقليد ال يمكن أن يكون‬ ‫بخمس سنوات‪ ،‬ومل تنشأ مدرسة‬ ‫ولطبع الكتب املدرسية‪ ،‬خاصة‬
‫سببًا يف ذاته‪ ،‬ومحمد عيل كان‬ ‫الطب التي عرفها الدكتور بيرون‬ ‫وأن املطبعة قد نشرت الكثير من‬
‫جهل بأحوال أوروبا عنه‬‫ً‬ ‫ال يقل‬ ‫إال يف عام ‪1827‬م‪ ،‬أي بعد إنشاء‬ ‫مؤلفاته ومترجماته‪ ،‬كما كانت‬
‫بأحوال القسطنطينية‪.‬‬ ‫املطبعة بسبع سنوات‪ ،‬فإنشاء‬ ‫تنشر كل ما تحتاجه مدرسته من‬
‫أما الرأي الراجح إلنشاء‬ ‫املطبعة إذن أسبق من إنشاء‬ ‫الكتب وكل ما يؤلف أو يترجم‬
‫املطبعة‪ ،‬هو أن مطبعة بوالق‬ ‫املدارس‪.‬‬ ‫أساتذتها من املؤلفات‪ ،‬ولهذا قال‬
‫مل تنشأ بمفردها مستقلة عن‬ ‫من ناحية أخرى يرى البعض‬ ‫إن املطبعة أنشئت من أول األمر‬
‫بقية مشروعات محمد عيل‪ ،‬بل‬ ‫بأن محمد عيل أراد أن تنال مصر‬ ‫لهذا الغرض‪ ،‬لكن يظهر خطأ هذا‬
‫كانت جز ًءا من مشروع كبير‪،‬‬ ‫قبسا من شعلة الحضارة والرقي‬ ‫ً‬ ‫الرأي بمقارنة بسيطة بين تواريخ‬
‫وكانت كأي مؤسسة أخرى‬ ‫مثلما حدث يف أوروبا‪ ،‬وقد مهد‬ ‫إنشاء أوىل املدارس وتاريخ إنشاء‬
‫من مؤسساته يرجى منها أن‬ ‫جيز لهذا الرأي بأن أورد قول‬ ‫املطبعة‪ .‬إن أول مدرسة أنشأها‬
‫تساهم بإنجاح جانب من ذلك‬ ‫نيكلسون يف كتابه عن تاريخ‬ ‫محمد عيل كانت مدرسة املوسيقى‬
‫املشروع الكبير‪ ،‬فلكي نصل إىل‬ ‫األدب العربي‪ :‬وقع أهل مصر‬ ‫العسكرية وكان تأسيسها يف سنة‬
‫السبب يف إنشاء مطبعة بوالق‬ ‫وسوريا وشمايل أفريقية تحت‬ ‫‪1824‬م‪ ،‬وكانت هذه املدرسة‬
‫يجب أن نتعرض لسياسة‬ ‫تأثير أوروبا منذ قاد نابليون‬ ‫يف غير حاجة إىل كتب تطبع أو‬
‫محمد عيل العليا‪ ،‬التي وضعها‬ ‫حملته عيل مصر يف سنة ‪1798‬م‪،‬‬ ‫مطبعة تنشأ من أجلها‪ ،‬ومع ذلك‬
‫لدولته‪ .‬فالغرض الذي من أجله‬ ‫ثم بنى رأيه عىل أن محمد عيل‬ ‫فقد كان تأسيسها بعد تأسيس‬
‫أول كتاب أصدرته مطبعة بوالق‬
‫هو قاموس للغتين العربية‬
‫واإليطالية من وضع الراهب‬
‫روفائيل‪ .‬ولهذا القاموس‬
‫صفحة للعنوان ذكر في أسفلها‬
‫أن تمام طبعه كان في سنة‬
‫‪1238‬هـ‪ .‬وله صفحة للعنوان‬
‫باللغة اإليطالية ذكر في أسفلها‬
‫أن تمام طبعه كان في سنة‬
‫‪1822‬م‪ ،‬ويستفاد من هذا أن‬
‫أولى إصدارات بوالق تم طبعه في‬
‫سنة ‪1238‬هـ‪1822 /‬م‪.‬‬

‫الكريمة والثانية لويل النعم‬


‫إبراهيم باشا وايل جدة‪ ،‬والثالثة‬ ‫سيأتي ذكرها بعد قليل‪ .‬وثابت‬ ‫أنشئت مطبعة بوالق هي إما أن‬
‫بدفتري املحروسة‪ ،‬وكذلك قسم‬ ‫كذلك من املصادر الرسمية أن‬ ‫تكون لطبع القوانين واللوائح‬
‫القبلية إىل قسمين أحدهما لكتخدا‬ ‫محمد عيل ترك النظام اإلداري‬ ‫واملنشورات اإلدارية التي وضعت‬
‫بك والثاني ألحمد طاهر باشا»(‪.)3‬‬ ‫عىل ما كان عليه أيام املماليك‬ ‫لتنظيم اإلدارة املصرية‪ ،‬أو لطبع‬
‫هذا هو أول ترتيب إداري عمله‬ ‫إىل سنة ‪1826‬م‪ ،‬وأنه مل يبدأ‬ ‫ما يحتاجه الجيش من كتب‬
‫محمد عيل وأول إصالح أتمه يف‬ ‫يف تغيير هذا النظام‪ ،‬ومل يشكل‬ ‫وقوانين لتعليم أفراده من ضباط‬
‫اإلدارة‪ ،‬ويتضح من تاريخه أنه‬ ‫املجالس ومل يدون الدواوين‪ ،‬إال‬ ‫وجنود‪ ،‬أو للغرضين م ًعا‪ .‬وعىل‬
‫بعد إنشاء املطبعة بست سنوات‪،‬‬ ‫يف تلك السنة ‪1826‬م‪ ،‬حيث ورد‬ ‫أي الحالين فقد كانت جز ًءا من‬
‫أي أنه وقت إنشاء مطبعة بوالق‬ ‫يف الوقائع املصرية ما ييل‪:‬‬ ‫مشروع سياسي كبير(‪.)2‬‬
‫مل يكن هناك حاجة إدارية إىل‬ ‫“يف شهر رجب سنة ‪1241‬هـ‪/‬‬ ‫أما فكرة اإلدارة فنجد أنه ينقصها‬
‫إنشاء مطبعة‪ .‬مل يبق إال أن‬ ‫مارس سنة ‪1826‬م أمر ويل‬ ‫األدلة التي تؤيدها‪ ،‬فليس ثابتًا‬
‫السبب يف إنشاء مطبعة بوالق ما‬ ‫النعم أن تقسم األقاليم البحرية‬ ‫من تواريخ محمد عيل أنه كان‬
‫كان محمد عيل ينتظر أن تساهم‬ ‫قسما واألقاليم‬
‫ً‬ ‫إىل أربعة عشر‬ ‫حوايل سنة ‪1820‬م ‪-‬وهو تاريخ‬
‫به املطبعة يف تحقيق مشروعه‬ ‫الصعيدية إىل عشرة أقسام‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬
‫مشتغل باإلدارة‬ ‫إنشاء املطبعة‪-‬‬
‫السياسي الكبير‪ ،‬وكل األدلة‬ ‫قسم األقاليم البحرية إىل ثالث‬ ‫وتنظيمها‪ ،‬وإنما كان يف ذلك‬
‫التاريخية تشير إىل صحة هذا‬ ‫إدارات‪ :‬األوىل خاصة بذاته‬ ‫مشتغل بأشياء أخرى‬‫ً‬ ‫التاريخ‬
‫‪195‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫تاريخ‬

‫كل هذه األشياء‪ ،‬وهو ما يثبت‬


‫صدق الرأي الراجح بأن الجيش‬
‫الجديد كان العامل الوحيد الذي‬
‫دعا إىل إنشاء مطبعة بوالق‪،‬‬
‫وهناك بعض األدلة التاريخية‬
‫نوردها فيما يأتي‪:‬‬
‫أول‪ :‬إن تاريخ تكوين الجيش‬ ‫ً‬
‫هو تاريخ إنشاء املطبعة‪ ،‬ففكرة‬
‫تكوين جيش جديد الحت يف‬
‫ذهن محمد عيل يف سنة ‪1815‬م‪،‬‬
‫وهي السنة التي أرسل فيها بعثة‬
‫من املصريين إىل إيطاليا لتعلم‬
‫فن الطباعة‪ ،‬وأنشئت معسكرات‬
‫أسوان سنة ‪1820‬م‪ ،‬أي يف‬
‫التاريخ الذي أنشئت فيه املطبعة‪،‬‬
‫عىل الجانب اآلخر كان إنشاء‬
‫الجيش الجديد سابقًا إلنشاء‬
‫املطبعة بقليل‪ ،‬مما يدل عىل أن‬
‫إنشاء املطبعة ترتب عىل تكوين‬
‫ذلك النظام الجديد‪ ،‬إذ إن محمد‬
‫عيل مل يكن عنده من املشروعات‬ ‫النسر معد للطباعة بالشكل القديم‬

‫يف ذلك التاريخ إال مسألة الجيش‬


‫يقم فيها محمد عيل بما قام ومل‬ ‫الرأي‪.‬‬
‫وتنظيمه عىل أساس جديد‪.‬‬
‫ُيدخل ما أدخل من املحصوالت‬ ‫مما ال شك فيه أن الجيش كان‬
‫ثان ًيا‪ :‬إن حركة الترجمة يف‬
‫عصر محمد عيل بدأت ‪-‬أول‬ ‫الجديدة إال ضمانًا للجانب‬ ‫محط اهتمام محمد عيل األساسي‬
‫ما بدأت‪ -‬بكتب الفن الحربي‬ ‫االقتصادي‪ ،‬ومل تشذ مطبعة‬ ‫والجوهري‪ ،‬ليضمن بقاء استمرار‬
‫دون سواه‪ ،‬ويؤيد ذلك أن أوىل‬ ‫بوالق عن غيرها من مؤسساته‬ ‫دولته واستقالله عن السلطان‪،‬‬
‫الوثائق الخاصة بترجمة الكتب يف‬ ‫ومستحدثاته املتعددة‪.‬‬ ‫وذلك ال يتم إال بوجود جيش‬
‫ذلك العصر كلها خاصة بترجمة‬ ‫إذن يتضح من هذه اللمحة‬ ‫قوي‪ ،‬ولذا نجد أن كل أعمال‬
‫الكتب الحربية‪ ،‬ففي ‪ 27‬صفر‬ ‫السريعة لتاريخ الجيش املصري‪،‬‬ ‫محمد عيل مهما قلَّت أو عظمت‬
‫سنة ‪1236‬هـ‪ 4 :‬ديسمبر سنة‬ ‫أنه ظهر عند محمد عيل طائفة‬ ‫مل يقم بها إال من أجل الجيش‪،‬‬
‫‪1820‬م يصدر محمد عيل باشا‬ ‫جديدة من الناس يريد أن يدربهم‬ ‫فمعظم مدارسه كانت خاصة‬
‫أمرا للخزينة يقول فيه‪“ :‬وقد‬ ‫ً‬ ‫عىل نظم الجيوش الحديثة‪ ،‬فهو‬ ‫بتعليم الضباط بمختلف طبقاتهم‬
‫أُنعم عىل كتبة املهندسخانة الذين‬ ‫يريد أن ينشر بينهم قوانين هذا‬ ‫وأنواعهم‪ ،‬وحتى املدارس التي‬
‫ترجموا كتاب مجموعة املهندسين‬ ‫النظام الجديد وتعليماته‪ ،‬وما‬ ‫تبدو كأنها ال صلة بينها وبين‬
‫املطبوع من اللغة التركية إىل اللغة‬ ‫يقوم عليه من التمرينات وترتيب‬ ‫الجيش مل ينشئها إال من أجله‪،‬‬
‫ً‬
‫تسهيل للطالبين بمبلغ‬ ‫العربية‬ ‫الصفوف إىل غير ذلك من أمور‬ ‫فمدرستا الطب البشرى والطب‬
‫خمسمائة قرش‪ ،‬فكتب تذكرة إىل‬ ‫العسكرية‪ ،‬ومن ثم كانت الحاجة‬ ‫البيطري مل تنشآ إال لتخريج‬
‫الخزينة لصرفه”‪.‬‬ ‫ملحة إىل إنشاء مطبعة يطبع بها‬ ‫أطباء للجيش‪ ،‬حتى الزراعة مل‬
‫‪196‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫صراحة يف أسفلها‪ ،‬هذا التاريخ‬ ‫يرمي إىل خلق مدنية مصرية‬ ‫ثال ًثا‪ :‬أن أوىل الكتب واملطبوعات‬
‫هو سنة ‪1235‬هـ‪ ،‬وهذا يثبت‬ ‫جديدة تقوم عىل القوة والسيادة‬ ‫التي أصدرتها املطبعة كلها‬
‫أن املطبعة قد أنشئت يف تلك‬ ‫والعلم الحديث‪ ،‬وإىل إحداث ثورة‬ ‫خاصة بالجيش وما يتعلق‬
‫السنة‪ .‬ويوافق أول املحرم من‬ ‫عىل عصور الظالم التي غرقت‬ ‫بعساكره من قوانين وتعليمات‪،‬‬
‫سنة ‪1235‬هـ بالتاريخ امليالدي‬ ‫فيها مصر أثناء حكم املماليك‪،‬‬ ‫فأول ما طبع يف بوالق كان‬
‫‪ 20‬أكتوبر سنة ‪1819‬م ويوافق‬ ‫فكان ال بد من طبع كتب الفن‬ ‫قاموسا للغتين العربية واإليطالية‪،‬‬
‫ً‬
‫آخر ذي الحجة منها ‪ 27‬سبتمبر‬ ‫الحربي والعلوم الحديثة لتحديث‬ ‫ونرجح أن السبب يف طبعه كان‬
‫سنة ‪1820‬م‪ ،‬وعىل ذلك يمكننا‬ ‫البالد‪.‬‬ ‫الحاجة للترجمة‪ ،‬ومعروف أن‬
‫أن نتخذ أواخر سنة ‪1819‬م‪ ،‬من‬ ‫محمد عيل باشا اتجه أول األمر‬
‫‪ 20‬أكتوبر والجزء األول من‬
‫تاريخ إنشاء مطبعة‬ ‫إىل إيطاليا يف إرسال البعثات‪،‬‬
‫سنة ‪1820‬م إىل ‪ 27‬سبتمبر‪،‬‬ ‫بوالق‬ ‫وكانت اللغة اإليطالية أول لغة‬
‫عىل أنها الفترة التي فيها إما بدأ‬ ‫أجنبية تُدرس يف مدارسه‪ ،‬ومن‬
‫اختلف كثير من املؤرخين حول‬ ‫إيطاليا بدأت حركة اقتباس‬
‫أو انتهى إقامة البناء الذي كانت‬ ‫تاريخ إنشاء مطبعة بوالق‪ ،‬لكن‬ ‫الحضارة الغربية‪ ،‬ثم إن طبعه‬
‫فيه مطبعة بوالق‪ .‬عىل أن فكرة‬ ‫مصدرنا األساسي يف هذا التاريخ‬ ‫أعطى رجال املطبعة فرصة تجربة‬
‫املطبعة مل تولد يف هذا التاريخ‪،‬‬ ‫هي اللوحة التذكارية التي علقت‬ ‫نوعي الحروف‪ :‬العربية واألجنبية‬
‫بل إنها سابقة له بكثير‪ ،‬فقد أوفد‬ ‫عىل باب املطبعة وقت إنشائها‪،‬‬ ‫التي زودت بهما املطبعة من أول‬
‫نقوال املسابكي يف بعثة إىل إيطاليا‬ ‫وفيها تاريخ لهذا اإلنشاء(‪،)4‬‬ ‫إنشائها‪.‬‬
‫ليتعلم فن الطباعة يف سنة ‪،1815‬‬ ‫ومل نعثر عىل وثيقة أخرى تقوم‬ ‫رابعا‪ :‬وهو نص صريح يثبت‬ ‫ً‬
‫فإىل هذا التاريخ يرجع التفكير يف‬ ‫مقامها‪ .‬نُقش عىل هذه اللوحة‬ ‫أن تاريخ املطبعة نشأ مرتب ًطا‬
‫إنشاء مطبعة بوالق‪.‬‬ ‫الرخامية ثالثة أبيات من الشعر‪،‬‬ ‫بتاريخ الجيش املصري‪ ،‬فقد‬
‫أما عن تاريخ أول إصدارات‬ ‫ويتضمن الشطر األخير منها‬ ‫ورد يف كتاب رحلة بروكي ما‬
‫املطبعة‪ ،‬فمن الثابت مما تحت‬ ‫بحساب الجمل تاريخً ا نقش‬ ‫يثبت أن هذه الكتب الحربية‬
‫خصيصا للجيوش‬ ‫ً‬ ‫عملت وطبعت‬
‫املصرية الناشئة يف أسوان‪ ،‬وقد‬
‫كان بروكي من أوائل الرحالة‬
‫الذين زاروا مصر يف عهد محمد‬
‫عيل وكتبوا عنها‪.‬‬
‫قال هذا الرحالة يف سياق كالمه‬
‫عما أصدرته املطبعة من الكتب‬
‫ما ترجمته‪« :‬وقد طبع باملطبعة‬
‫تعليمات حربية خاصة بالعساكر‬
‫املصرية التي تتدرب يف الصعيد‪،‬‬
‫وهي تعليمات منقولة من اللغة‬
‫الفرنسية إىل اللغة التركية حتى‬
‫يقرأها الضباط وهم من األتراك»‪.‬‬
‫هذه األدلة تؤيد أن مطبعة بوالق‬
‫مل تنشأ مستقلة بذاتها‪ ،‬وإنما‬
‫المخطط الهندسي للمطبعة األميرية‬
‫كانت جز ًءا من مشروع كبير كان‬
‫‪197‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫تاريخ‬

‫سطر مستقل‪ ،‬فكأن اسم «بوالق»‬ ‫‪-‬تجربة اآلالت والحروف‬ ‫يدينا من الوثائق أن أول كتاب‬
‫ارتبط باملطبعة من أول األمر‪،‬‬ ‫وتوزيع العمال عليها وتدريبهم‬ ‫أصدرته مطبعة بوالق هو قاموس‬
‫ثم نجد أسماء للمطبعة تشبه‬ ‫عىل أعمالهم‪ -‬يف املدة من يناير‬ ‫للغتين العربية واإليطالية من‬
‫هذين االسمين‪ ،‬فبعض السياح‬ ‫سنة ‪ 1822‬إىل أغسطس من نفس‬ ‫وضع الراهب روفائيل‪ .‬ولهذا‬
‫كان يسميها املطبعة األميرية‬ ‫السنة‪ ،‬وبلغ العمل يف املطبعة‬ ‫القاموس صفحة للعنوان ذكر‬
‫‪ Imprimerie Royale‬كما جاء‬ ‫أشده وبدأت يف عملية اإلنتاج يف‬ ‫يف أسفلها أن تمام طبعه كان‬
‫يف مقالة نشرت باملجلة البريطانية‬ ‫املدة من أغسطس إىل ديسمبر‬ ‫يف سنة ‪1238‬هـ‪ .‬وله صفحة‬
‫يف سنة ‪1825‬م‪ .‬لكن نجد أن‬ ‫سنة ‪1822‬م‪.‬‬ ‫للعنوان باللغة اإليطالية ذكر يف‬
‫اسمها يف األوراق الرسمية هو‬ ‫‪ -‬أصدرت أول مطبوعاتها يف‬ ‫أسفلها أن تمام طبعه كان يف سنة‬
‫«مطبعة بوالق”‪ ،‬حيث إننا‬ ‫ديسمبر سنة ‪1822‬م‪.‬‬ ‫‪1822‬م‪ ،‬ويستفاد من هذا أن أوىل‬
‫نجد األمرين الصادرين بشأن‬ ‫إصدارات بوالق تم طبعه يف سنة‬
‫ضم مخزن التجارة القديم إىل‬ ‫اسم املطبعة‬ ‫‪1238‬هـ‪1822 /‬م‪ ،‬والسنتان‬
‫املطبعة وبناء رصيف لوقايتها‬ ‫ال تتداخالن إحداهما يف األخرى‬
‫من فيضان النيل وردت باسم‬ ‫ذُكر أول اسم للمطبعة يف اللوحة‬ ‫إال يف املدة من ‪ 18‬سبتمبر إىل‬
‫«مطبعة بوالق”‪ ،‬فيمكننا إذن أن‬ ‫التذكارية إلنشائها‪ ،‬حث ورد ذكر‬ ‫آخر ديسمبر من سنة ‪1822‬م‪،‬‬
‫نرى أن اسم املطبعة الرسمي هو‬ ‫اسمها «دار الطباعة»‪ ،‬كما ورد يف‬ ‫وعىل ذلك يكون الكتاب قد صدر‬
‫«مطبعة بوالق”‪ ،‬وأن ما ت َُس َّمى‬ ‫البيت الثالث من هذه اللوحة‪:‬‬ ‫يف أثناء هذه املدة التي تبلغ ثالثة‬
‫به من غير ذلك تكون عادة أسماء‬ ‫هاتف سعيد سو يلدي تاريخ‬ ‫أشهر ونصف تقريبًا‪ ،‬وتكون‬
‫واردة يف كتابات غير رسمية‪،‬‬ ‫تامني‬ ‫بالتايل هي تاريخ إصدار املطبعة‬
‫فقد تكون أحيانًا عىل شكل خبر‬ ‫دار الطباعة در بندكي مصدري‬ ‫ألول مطبوعاتها‪.‬‬
‫أو إعالن يف الوقائع املصرية‪،‬‬ ‫أصح(‪.)5‬‬
‫وقد تكون أحيانًا أخرى عىل شكل‬ ‫ثم نجد يف أول مطبوعاتها‪،‬‬ ‫ملخص تواريخ إنشاء‬
‫تأريخ النتهاء طبع كتاب يف آخره‬ ‫وهو القاموس العربي اإليطايل‪،‬‬ ‫مطبعة بوالق‬
‫ويف مقدمته‪ ،‬ويف هذه األحوال‬ ‫أن اسمها يف الجزء العربي من‬
‫غير الرسمية يختلف اسم‬ ‫القاموس «مطبعة صاحب‬ ‫‪ -‬بدأت فكرة إنشاء مطبعة عند‬
‫املطبعة باختالف تفنن الكاتب يف‬ ‫السعادة”‪ ،‬إذ ُكتب يف أسفل‬ ‫محمد عيل باشا يف سنة ‪1815‬م‬
‫كرا يف كل‬ ‫التعبير‪ ،‬إال أننا نجد ِذ ً‬ ‫أوىل صفحات هذا الجزء‪« :‬تم‬ ‫عندما أوفد أول بعثة إىل ميالنو‬
‫األحوال لبوالق ثم يضاف إليها‬ ‫الطبع يف بوالق بمطبعة صاحب‬ ‫لتعلم فن الطباعة‪.‬‬
‫عدة أوصاف تختلف باختالف‬ ‫السعادة”‪ ،‬واسمها يف الجزء‬ ‫‪ -‬تم البدء يف إقامة بناء املطبعة‬
‫تفنن الكاتب يف التعبير‪ ،‬مثال‬ ‫اإليطايل هو “املطبعة األميرية”‪،‬‬ ‫يف سنة ‪1235‬هـ املوافق ‪1820‬م‪،‬‬
‫ذلك «دار الطباعة العامرة الكائنة‬ ‫إذ ُكتب يف أسفل صفحته األوىل‬ ‫يأت شهر ذو الحجة من سنة‬ ‫ومل ِ‬
‫ببوالق مصر املحروسة القاهرة»‪،‬‬ ‫بالخط الكبير كلمة ‪Bolacco‬‬ ‫‪1235‬هـ وشهر سبتمبر من سنة‬
‫كما ورد يف أحد أعداد الوقائع‪،‬‬ ‫ثم تحتها بالخط الصغير ‪Dalla‬‬ ‫‪1820‬م إال وكان البناء قد تم‬
‫أو «مطبعة صاحب السعادة‬ ‫‪ .Stamperia Reale‬ال يهمنا‬ ‫تشييده‪.‬‬
‫ببوالق»‪ ،‬كما جاء يف آخر كتاب‬ ‫يف هذا املقام سوى أن االسم‬ ‫‪ -‬أما تركيب اآلالت ووضعها يف‬
‫«مراح األرواح»‪ ،‬أو كما كتب يف‬ ‫الثابت هو «بوالق”‪ ،‬ففي الجزء‬ ‫أماكنها فقد بدئ فيه يف سبتمبر‬
‫أول عدد من الوقائع املصرية‬ ‫العربي وردت بوالق قبل اسم‬ ‫سنة ‪1821‬م وانتهي منه يف يناير‬
‫«مطبعة صاحب الفتوحات السنية‬ ‫املطبعة‪ ،‬ويف الجزء اإليطايل نجد‬ ‫سنة ‪1822‬م‪.‬‬
‫ببوالق مصر املحمية»‪ ،‬أو «مطبعة‬ ‫كلمة ‪ Bolacco‬بالخط الكبير يف‬ ‫‪ -‬استغرقت فترة التجربة‬
‫‪198‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫مترا‪.‬‬
‫مساحة املطبعة ‪ً 5805‬‬ ‫يطلق عليها «الهيئة العامة‬ ‫صاحب السعادة األبدية والهمة‬
‫(إدخال لخريطة املطبعة)‬ ‫لشئون املطابع األميرية»‪،‬‬ ‫العلية الصفية التي أنشأها ببوالق‬
‫أما الحدود فهي‪:‬‬ ‫وتكون لها شخصية اعتبارية‪،‬‬ ‫مصر املحمية صانها اهلل من‬
‫‪ -‬الحد الشرقي يف شارع املطبعة‬ ‫وتختص بإدارة املطبعة األميرية‬ ‫اآلفات والبلية»‪ ،‬كما جاء يف ختام‬
‫مترا‪.‬‬
‫طوله ‪ً 124‬‬ ‫واملطابع التابعة لها‪ ،‬وجميع‬ ‫قانون نامة السفرية الجديدة‪ ،‬إيل‬
‫‪ -‬الحد الشمايل مخازن البوليس‬ ‫املطابع الحكومية األخرى التي‬ ‫غير ذلك من ضروب التفنن يف‬
‫مترا‪.‬‬
‫طوله ‪ً 95‬‬ ‫تُضم لها بقرار من رئيس‬ ‫التعبير التي يقصد بها تسمية‬
‫‪ -‬الحد الغربي شاطئ النيل طوله‬ ‫الجمهورية‪.‬‬ ‫املطبعة وتعظيم مؤسسها والدعاء‬
‫مترا‪.‬‬
‫‪ً 150‬‬ ‫لها وله(‪.)6‬‬
‫يف سنة ‪1900‬م حدث توسيع‬ ‫موقع املطبعة‬ ‫وعىل ذلك فإن اسمها الرسمي‬
‫هائل يف مكان املطبعة عىل يد‬ ‫التاريخي هو «مطبعة بوالق»‪.‬‬
‫(شييل باشا)‪ ،‬حيث بدأت أعمال‬
‫املوقع القديم‪:‬‬ ‫يف ‪ 18‬يوليو‪1861‬م أدارها نوحي‬
‫ُشيدت مطبعة بوالق يف أول األمر‬ ‫أفندي لحسابه الخاص عندما‬
‫املطبعة تتزايد مما جعل توسيعها‬
‫يف جزء من مساحة الترسانة‬ ‫قرر سعيد باشا غلقها لتعرضه‬
‫وإصالح مبانيها وتحديد‬
‫البحرية يف الجزء املمتد عىل‬ ‫ألزمة مالية‪ .‬يف عام ‪1862‬م‬
‫هندستها عىل الطراز الحديث‬
‫ضفة النيل اليمنى من الشمال‬ ‫أهداها سعيد باشا إىل عبد‬
‫الزما تفاد ًيا لتعطيل األعمال‬
‫ً‬ ‫أمرا‬ ‫ً‬ ‫قليل من‬‫إىل الجنوب إىل الشمال ً‬ ‫الرحمن رشدي فتغير اسمها إىل‬
‫وتلف الكثير من املواد الخام‪،‬‬
‫موقعها املعدل ببوالق‪ ،‬إذن يشمل‬ ‫“مطبعة عبد الرحمن رشدي‬
‫فبلغت مساحة املطبعة ‪10549‬‬
‫هذا الجزء بالترتيب من الشمال‬ ‫ببوالق”‪ ،‬ثم عاد اسمها وتغير‬
‫مترا عدا مخازن البوليس التي‬ ‫ً‬ ‫إىل الجنوب‪ :‬الترسانة (التي بني‬ ‫إىل “املطبعة السنية ببوالق”‬
‫ضمت إىل املطبعة سنة ‪1946‬م‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يف جزء من مساحتها مطبعة‬ ‫أو “مطبعة بوالق السنية”‪،‬‬
‫أيضا أعد محمد أمين بهجت بك‬ ‫ً‬
‫بوالق يف أول األمر)‪ ،‬ثم مصنع‬ ‫وذلك يف عهد الخديوي إسماعيل‪،‬‬
‫املدير السابق للمطابع األميرية‪،‬‬
‫الصوف‪ ،‬ثم نجد الورشة والتي‬ ‫حيث ظلت املطبعة بعيدة عن‬
‫مشرو ًعا واسع النطاق لتوسيع‬
‫أصبحت فيما بعد مدرسة الفنون‬ ‫قبضة الحكومة املصرية‪ .‬يف‬
‫تصميما‬
‫ً‬ ‫نطاق املطبعة‪ ،‬ولذا أعد‬
‫والصناعات‪ ،‬ثم مكان املطبعة بعد‬ ‫عهد الخديوي توفيق تغير‬
‫لبناء مطبعة عىل طراز حديث‬
‫عام ‪1830‬م‪ ،‬ثم نجد الجمرك يف‬ ‫اسمها للمرة الثالثة ليصبح‬
‫وعرض عىل مجلس اإلدارة سنة‬
‫النهاية‪.‬‬ ‫“مطبعة بوالق األميرية”‪،‬‬
‫‪1926‬م‪ ،‬وحال دون تنفيذه عقبات‬
‫وقد ظل هذا التخطيط باقيًا إىل‬ ‫ثم يف عام ‪1903‬م تغير إىل‬
‫مالية‪ ،‬وكانت مصلحة التنظيم‬
‫عام ‪1954‬م حيث بقيت الترسانة‬ ‫“املطبعة األميرية ببوالق”‪،‬‬
‫قد قررت فتح شارع عىل شاطئ‬
‫يف مكانها ويليها مصانع كوك‬ ‫ويف عام ‪1905‬م أصبح اسمها‬
‫النيل األيمن يمر خلف املطبعة‬
‫التي حلت محل مصنع الورق‪،‬‬ ‫“املطبعة األميرية بالقاهرة”‪،‬‬
‫مترا‪ ،‬وقد قرر مجلس‬ ‫بعرض ‪ً 30‬‬ ‫الذي حل بدوره محل مصنع‬ ‫وبعد قيام ثورة يوليو ‪1952‬م‬
‫الوزراء يف سنة ‪1934‬م تعويض‬
‫الصوف سنة ‪1868‬م‪ ،‬ويليها‬ ‫اهتمت حكومة الثورة بضرورة‬
‫املطبعة عن هذه املساحة بضم‬
‫مخازن البوليس التي حلت محل‬ ‫االهتمام باملطبعة األميرية‪ .‬ففي‬
‫مخازن البوليس لها‪ ،‬إال أن هذا‬
‫مدرسة الفنون‪ ،‬ويليها املطبعة‪،‬‬ ‫عهد الرئيس جمال عبد الناصر‬
‫القرار مل ينفذ إال يف سنة ‪1946‬م‪.‬‬
‫أما الجمرك فقد أُضيف إىل املطبعة‬ ‫أنشئت وزارة الصناعة يف عام‬
‫املوقع الحديث‬ ‫سنة ‪1833‬م‪ ،‬ويف سنة ‪1838‬م‬ ‫‪1956‬م‪ ،‬وصدر قرار رئيس‬
‫مترا‬
‫زيدت مساحة املطبعة ‪ً 545‬‬ ‫الجمهورية بإنشاء هيئة عامة‬
‫بعد قيام ثورة يوليو ‪1952‬م‬ ‫من جهة الجنوب‪ ،‬وبذلك أصبحت‬ ‫للمطابع يلحق بوزارة الصناعة‬
‫‪199‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫تاريخ‬

‫والخامات الصناعية‪،‬‬ ‫بماكينات أخرى حديثة ذات‬ ‫وجدت حكومة الثورة ضرورة‬
‫والجزء السفيل من ماكينة‬ ‫سرعات عالية‪ .‬يف عام ‪1958‬م‬ ‫االهتمام باملطبعة األميرية‪.‬‬
‫الروتوغرافور وورش الصيانة‪.‬‬ ‫تم االتفاق عىل إنشاء هذا‬ ‫ففي عهد الرئيس جمال عبد‬
‫‪ -3‬تم تخصيص الدور األول‬ ‫املبنى الجديد للمطابع األميرية‪،‬‬ ‫الناصر أنشئت وزارة الصناعة‬
‫للورش الرئيسية‪.‬‬ ‫وتم تخصيص مساحة قدرها‬ ‫يف عام ‪1956‬م‪ ،‬وصدر قرار‬
‫‪ -4‬تم تخصيص الدور الثاني‬ ‫‪ 30,000‬متر مربع من أرض‬ ‫رئيس الجمهورية بإنشاء هيئة‬
‫لورش الجمع اليدوي واآليل‬ ‫مشتل التنظيم بإمبابة‬ ‫عامة للمطابع تلحق بوزارة‬
‫(اللينوتيب‪ ،‬واإلنترتيب)‪.‬‬ ‫إلقامة مباني املطبعة الجديدة‬ ‫الصناعة يطلق عليها الهيئة‬
‫‪ -5‬تم تخصيص الدور الثالث‬ ‫عليها (املكان الحايل للمطابع‬ ‫العامة لشئون املطابع‬
‫ألقسام التصوير والزنكوغراف‬ ‫األميرية)‪ .‬وقد تم تخطيط‬ ‫األميرية‪ ،‬وتكون لها شخصية‬
‫وماكينة طباعة األوفست‪.‬‬ ‫مبنى الهيئة كما ييل‪:‬‬ ‫اعتبارية‪ .‬وتم التفكير يف إنشاء‬
‫‪ -6‬تم تخصيص الدور الرابع‬ ‫‪ -1‬تم تخصيص البدروم‬ ‫مبنى جديد للمطابع وذلك‬
‫لسبك الحروف وماكينات طباعة‬ ‫ألقسام التصوير‪ ،‬والحزم‪،‬‬ ‫لتلبية جميع طلبات الهيئات‬
‫الحروف املتوسطة والصغيرة‪.‬‬ ‫وإعداد باالت الورق‪.‬‬ ‫واملصالح الحكومية‪ ،‬وكذلك‬
‫‪ -7‬تم تخصيص الدور الخامس‬ ‫‪ -2‬تم تخصيص الدور‬ ‫مسايرة التقدم يف فن الطباعة‬
‫لباقي املكاتب‬ ‫األرضي ملخازن الورق‬ ‫باستبدال املاكينات القديمة‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬رضوان‪ ،‬أبو الفتوح‪ :‬تاريخ مطبعة بوالق‪ ،‬املطبعة األميرية‪.1953 ،‬‬
‫‪ -2‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪ -3‬الوقائع املصرية‪ ،‬العدد ‪ 30‬الصادر يف آخر جمادى األوىل سنة ‪1244‬هـ‪1829 /‬م‪.‬‬
‫سنتيمترا وقد‬
‫ً‬ ‫‪ -4‬هذه اللوحة التذكارية عبارة عن قطعة من الرخام طولها ‪ 110‬سنتيمترات وعرضها ‪55‬‬
‫نقشت بحيث برزت عليها األبيات الشعرية اآلتية باللغة التركية‪:‬‬
‫حاال خديو مصر محمد عيل وزير‬
‫أول نا مدار دولت صاحب املنح‬
‫آثار بي حسابنه ضد أيلدي دخي‬
‫يا بدر دي أشبو مطبعة بي بو يله يرفرح‬
‫هاتف سعيده سو يلدي تاريخ تا متي‬
‫دار الطباعة در هنرك مصدري أصح‬
‫وترجمتها‪« :‬إن خديوي مصر الحايل محمد عيل‪ ،‬فخر الدين والدولة وصاحب املنح العظيمة قد زادت مآثره‬
‫الجليلة التي ال تعد بإنشاء دار الطباعة العامرة وظهرت للجميع بشكلها البهيج البديع‪ ،‬وقد قال الشاعر سعيد‬
‫إن دار الطباعة هي مصدر الفن الصحيح»‪.‬‬
‫‪ -5‬املرجع السابق ص‪.66‬‬
‫‪ -6‬املرجع السابق ص‪.66‬‬
‫‪200‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫أحمس‪..‬‬
‫وطرد الهكسوس‬ ‫د‪.‬علي عفيفي‬
‫علي غازي‬

‫يف املقال األول كيف‬

‫عرفنا‬
‫دورا‬
‫لعب نهر النيل ً‬
‫عظيما يف توحيد‬
‫ً‬
‫مصر‪ .‬ويف املقال‬
‫الثاني تعرفنا عىل‬
‫قصة الطبيب واملهندس‬
‫العبقري املصري إيمحوتب‪،‬‬
‫وكيف فكر يف بناء مقبرة مميزة‬
‫للملك زوسر‪ ،‬فكان الهرم املدرج‪،‬‬
‫لتتطور الفكرة يف املقال الثالث‬
‫إىل الهرم الكامل عىل يدي امللك‬
‫خوفو وخلفائه‪ ،‬ولكن بناء هذه‬
‫األهرامات كلف مصر الكثير‪،‬‬
‫أحمس األول‬ ‫وأجهد اقتصادها ج ًّدا‪ ،‬األمر‬
‫الذي أدى إىل أن تشهد فترة‬
‫من الضعف منذ أواخر األسرة‬
‫الرابعة‪ ،‬وحتى قيام الدولة‬
‫الوسطى‪ ،‬التي شهدت يقظة‬
‫مصرية نو ًعا ما‪ ،‬تبعتها ألول‬
‫مرة يف التاريخ املصري أول‬
‫احتالل أجنبي ملصر‪ ،‬فقد اغتصب‬
‫الهكسوس األرض املصرية‪،‬‬
‫وخضعت مصر ألول مرة لحكم‬
‫أجنبي‪ ،‬فما هي تلك القصة التي‬
‫أدت إىل وجود الهكسوس يف‬
‫‪201‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫مصريات‬

‫تشييد املقابر الهرمية‪ ،‬ولكنها‬ ‫املحاربين العظام‪ ،‬فقاد الجيوش‬ ‫مصر‪ ،‬وما قصة املكافح املصري‬
‫أهراما متواضعة‪ ،‬إذا ما‬
‫ً‬ ‫كانت‬ ‫إىل الجنوب‪ ،‬كما أرسل أسطوله‬ ‫البطل العظيم أحمس؟‬
‫قورنت بأهرام األسرة الرابعة‪،‬‬ ‫يف عدة رحالت متتابعة إىل‬ ‫َخ َل َف الفرعون شبسسكاف أبيه‬
‫فكانت أهرامهم أقل ضخامة‪،‬‬ ‫سواحل فلسطين ولبنان وسوريا؛‬ ‫منكاورع‪ ،‬فأكمل بناء مجموعة‬
‫فبالقرب من هرم زوسر املدرج‬ ‫بل إنه أرسله إىل املناطق الواقعة‬ ‫أبيه الجنائزية‪ ،‬وشيد مقبرة‬
‫أقام الفرعون أوسركاف هرمه‪،‬‬ ‫جنوب البحر األحمر‪ ،‬واملعروفة‬ ‫متواضعة عىل هيئة تابوت حجري‬
‫الذي يشبه أهرامات األسرة‬ ‫ببالد بونت‪ ،‬فأمن حدود مصر‪،‬‬ ‫يف دهشور‪ ،‬وسرعان ما رحل‬
‫مستخدما يف بنائه كتل من‬‫ً‬ ‫الرابعة‬ ‫ودافع عنها‪ ،‬وقاد خلفاؤه حروب‬ ‫دون أن يترك وريثًا للعرش‪،‬‬
‫األحجار الصلبة‪ ،‬فيصل ارتفاعه‬ ‫طويلة مع قبائل الرعاة يف الغرب‪،‬‬ ‫فقامت شقيقته امللكة خنت كاو‬
‫مترا‪ ،‬ويف أبي صير‬ ‫إىل حوايل ‪ً 45‬‬ ‫وقطاع طرق القوافل التجارية يف‬ ‫إس ابنة منكاورع بتصريف مهام‬
‫تتجاور ثالثة أهرامات أخرى يف‬ ‫شبه جزيرة سيناء‪ ،‬فساعدت كل‬ ‫الحكم‪ ،‬كأول ملكة يف تاريخ‬
‫الشمال هرم الفرعون ساحورع‬ ‫هذه األعمال عىل حفظ االستقرار‬ ‫مصر القديمة‪ ،‬وأقامت لنفسها‬
‫مترا‪ ،‬أما‬
‫الذي يبلغ ارتفاعه ‪ً 48‬‬ ‫يف دولة الفراعنة‪ ،‬إال أن ازدياد‬ ‫مقبرة ملكية بجوار هرم أبيها‪،‬‬
‫يف الجنوب فيوجد هرم الفرعون‬ ‫نفوذ كهنة اآللهة‪ ،‬وخاصة كهنة‬ ‫مل يبن مثلها مللكة من ملكات‬
‫نفر إر كا رع أكبر األهرامات‬ ‫اإلله رع‪ ،‬الذي يرمز له املصريون‬ ‫الفراعنة‪ ،‬بعدما خلصت البالد من‬
‫الثالثة‪ ،‬حيث يبلغ ارتفاعه سبعين‬ ‫بقرص الشمس‪ ،‬قد أدى إىل‬ ‫فوضى عدم وجود وريث للعرش‬
‫مترا‪ ،‬وبعي ًدا عن أبي صير شيد‬ ‫ً‬ ‫تكدس ثروات مصر وأموالها بين‬ ‫بزواجها من أكبر كهنة عين‬
‫الفرعون أسيس هرمه غرب‬ ‫جدران املعابد‪ ،‬وخاصة املعابد‬ ‫شمس‪ ،‬وإنجابها للفرعون أوسر‬
‫سقارة‪ ،‬وشيد أوناس هرمه‬ ‫املخصصة لتقديس اإلله رع‪،‬‬ ‫كاف‪ ،‬مؤسس األسرة الخامسة‬
‫جنوب غربي مجموعة زوسر‪.‬‬ ‫فتمتع اإلله رع وكهنته بنفوذ‬ ‫الفرعونية‪.‬‬
‫وحرص الفراعين عىل تأمين‬ ‫عظيم‪ ،‬وثراء غير محدود يف عهد‬ ‫وبتويل أوسر كاف العرش بعد‬
‫مقابرهم من السرقة‪ ،‬وأنزلوا‬ ‫األسرة الخامسة‪ ،‬فقد أصبح رع‬ ‫أمه سليلة فراعين األسرة الرابعة‪،‬‬
‫اللعنات عىل كل من يحاول سرقة‬ ‫رم ًزا للدولة العظيمة املسيطرة‬ ‫بناة األهرام العظام‪ ،‬بدأ حكم‬
‫مقابرهم‪ ،‬فقد دون أحد املصريين‬ ‫عىل كل البالد‪ ،‬والذي يعترف له‬ ‫أسرة فرعونية جديدة هي األسرة‬
‫عىل جدران مقبرته نقش يقول‪:‬‬ ‫الفراعنة بالفضل‪ ،‬ويهبون كهنته‬ ‫الخامسة ‪ 2420 -2560‬ق‪.‬م‪،‬‬
‫«إن الذي يخاف اإلله من القوم‬ ‫العطايا والثروات‪.‬‬ ‫وجلس عىل عرش الفراعنة عدة‬
‫الذين يصعدون إىل الغرب لن‬ ‫وال شك أن زواج امللكة خنت‬ ‫ملوك من أهمهم نفر إر كا رع‬
‫يمس محتويات مقبرتي بأذى‪،‬‬ ‫كاو إس من أحد كهنة اإلله رع‪،‬‬ ‫وأوناس‪ ،‬فورث هؤالء امللوك من‬
‫فأنا مل أغتصب أي شيء من‬ ‫واشتغال أوسركاف أول فراعين‬ ‫فراعنة األسرة الرابعة حضارة‬
‫أي إنسان‪ ،‬ومقبرتي هذه أقمتها‬ ‫األسرة الخامسة لفترة بمعبد عين‬ ‫زاهرة‪ ،‬وبال ًدا متقدمة‪ ،‬تأخذ‬
‫مقابل أجر لكل من عمل يف‬ ‫شمس ككاهن أعىل له قبل توليه‬ ‫موقع الريادة بين بلدان العامل‪،‬‬
‫تشييدها»‪.‬‬ ‫عرش مصر‪ ،‬قد جعل من كهنة‬ ‫كأعظم حضارة عرفتها البشرية‬
‫وخالل حكم األسرة الخامسة‬ ‫املعابد يف طول مصر وعرضها‬ ‫حتى اليوم‪ ،‬فكان عليهم أال يكتفوا‬
‫بدأت سيطرة حكام مصر تأخذ‬ ‫طائفة مميزة تمتلك الكثير من‬ ‫باملحافظة عىل ما حققته بالدهم‬
‫يف الضعف والوهن‪ ،‬فظهرت‬ ‫القوة واألموال‪ ،‬وكثرت معابد‬ ‫من رقي وثراء؛ بل كان عليهم أن‬
‫مجموعة من كهنة املعابد‪،‬‬ ‫اإلله رع‪ ،‬وانتشرت يف كافة أرجاء‬ ‫يعملوا بكل إخالص الستكمال‬
‫امتلكت من ثروات البالد الكثير‪،‬‬ ‫البالد شمالها وجنوبها‪.‬‬ ‫مسيرة تقدمها‪ ،‬واإلضافة إىل‬
‫وازداد نفوذ حكام األقاليم‬ ‫ومع تشييد كل هذه املعابد مل‬ ‫إنجازاتها وثرائها‪.‬‬
‫داخل أقاليمهم‪ ،‬وبدأوا يف تكوين‬ ‫ينس ملوك األسرة الخامسة‬ ‫وكان امللك ساحورع من‬
‫‪202‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الفرعون نفر‬
‫إر كا رع‬

‫هرم الملك‬
‫أوناس‬

‫العاصمة منف إىل الحد الذي‬ ‫أرض وأموال يف عهود خلفاء‬ ‫الثروات‪ ،‬والعمل بعي ًدا عن‬
‫جعل انفصال حكام املقاطعات‬ ‫بيبي األول من فراعنة األسرة‬ ‫إشراف فراعين منف‪.‬‬
‫ميسورا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سهل‬ ‫أمرا‬
‫عن الوحدة ً‬ ‫السادسة‪ ،‬وبدأ عدد الجنود‬ ‫ورحل امللك أوناس آخر فراعين‬
‫فبعدما كان هؤالء الحكام ال‬ ‫املصريين يتناقص شيئًا فشيئًا‬ ‫األسرة الخامسة‪ ،‬بعد أن جلس‬
‫يعينون يف وظائفهم إال بموافقة‬ ‫حتى أنه مل يبق إال هؤالء الغرباء‪،‬‬ ‫عىل عرش مصر ما يقرب من‬
‫الفرعون وأمره‪ ،‬صاروا‬ ‫الذين ال هم لهم سوى جمع‬ ‫عاما‪ ،‬فخلفه امللك تيتي‬ ‫الثالثين ً‬
‫يورثون مقاطعاتهم إىل‬ ‫األموال‪ ،‬واالستفادة من حالة‬ ‫أول فراعين األسرة السادسة‬
‫أبنائهم‪ ،‬وبعدما‬ ‫الفوضى‪ ،‬التي تعيشها مصر‪.‬‬ ‫‪ 2280 -2420‬ق‪.‬م‪ ،‬وظل يف‬
‫وانشغل ملوك األسرة السادسة‬ ‫عاما‪ ،‬ليخلفه‬ ‫الحكم اثنى عشر ً‬
‫بالحفاظ عىل استقالل البالد‪،‬‬ ‫عدة ملوك آخرين من بينهم امللك‬
‫وحمايتها من غارات قبائل‬ ‫بيبي األول‪ ،‬الذي حاول جاه ًدا‬
‫البدو‪ ،‬وغيرها من األخطار‪ ،‬التي‬ ‫أن ُيعيد شيئًا من سطوة الفراعنة‬
‫تهدد أمنها‪ ،‬فخاضوا الحروب‬ ‫وهيبتهم طوال خمسة وعشرين‬
‫يف الخارج‪ ،‬بينما تركوا األحوال‬ ‫عاما من الحكم خاض خاللها‬ ‫ً‬
‫يف الداخل تحت سيطرة حكام‬ ‫املثير من الحروب يف الجنوب‬
‫األقاليم‪ ،‬الذين راحوا يحاولون‬ ‫هرما يف‬ ‫والغرب‪ ،‬وشيد لنفسه ً‬
‫االنفصال بمقاطعاتهم عن‬ ‫منطقة سقارة‪ ،‬وبجواره شيد‬
‫حكومة الفرعون‪.‬‬ ‫بيبي الثاني هرمه بعدما توىل‬
‫ومع تدهور أحوال البالد يف‬ ‫الحكم‪.‬‬
‫عهد األسرة السادسة‪ ،‬وانتهاء‬ ‫ومنذ أن استقدم امللك بيبي األول‬
‫ملوكها بالفرعون بيبي الثاني‪،‬‬ ‫الجنود من البلدان املجاورة؛‬
‫الذي حكم أربعة وتسعين‬ ‫ليستعين بهم يف حروبه مع بدو‬
‫عاما‪ ،‬عانت البالد من الفوضى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الغرب‪ ،‬كثر هؤالء الغرباء يف‬
‫وانهيار حكومة االتحاد يف‬ ‫البالد‪ ،‬وكثر ما يعطى لهم من‬
‫هرم أوسركاف‬
‫‪203‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫مصريات‬

‫الخوف والفزع‪ ،‬ومقاطعات‬ ‫كانوا يسعون إىل الفوز‬


‫الوادي راحت تتقاتل فيما‬ ‫بإحدى املقابر املجاورة‬
‫بينها بعدما انفصلت كل‬ ‫ملقبرة الفرعون؛‬
‫منها عن الوحدة تحت‬ ‫أصبحوا يشيدون‬
‫قيادة حكامها‪ ،‬فكما كان‬ ‫ألنفسهم املقابر‬
‫االتحاد سببًا لتقدم مصر‬ ‫املتسعة يف املقاطعات‪،‬‬
‫ونهضتها‪ ،‬كانت الفرقة‬ ‫ويشيدون حولها‬
‫واالنفصال هما الطريق‬ ‫عدة مقابر أخرى لكبار‬
‫إىل الفوضى واالنهيار‪ ،‬الذي‬ ‫رجالهم وأفراد عائالتهم‪،‬‬
‫أصاب دولة الفراعنة‪ ،‬بناة‬ ‫وبدأت وحدة مصر تتفكك‪،‬‬
‫األهرام العظام‪.‬‬
‫وعاشت مدنها وقراها يف‬
‫وحكمت األسرة التاسعة‬
‫أسوأ األحوال‪ ،‬فمقاطعات‬
‫والعاشرة ‪ 2052 -2242‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫الدلتا تعرضت لغارات قبائل‬
‫من أهناسيا‪ ،‬ببني سويف‪ ،‬وهي‬
‫البدو‪ ،‬التي تنشر يف ربوعها‬
‫الفترة التي يطلق عليها “عصر‬
‫االنتقال األول” أو “العصر‬
‫األهناسي”‪ ،‬وهو العصر الذي‬
‫بدأت منه الثورة االجتماعية‪،‬‬
‫وسادت مصر يف تلك الفترة حالة‬
‫من االضطراب والفوضى‪ ،‬ويعتقد‬
‫البعض أن فترة االضطراب إنما‬
‫وقعت نتيجة لنقص شديد يف‬
‫الفيضان‪ ،‬أو زيادة مفرطة فيه‪،‬‬ ‫أوسركاف‬
‫أدت إىل إغراق األرض‪ ،‬وتلف‬
‫املحاصيل‪ ،‬وبالتايل نقص املوارد‬
‫االقتصادية والغذائية‪ ،‬وإشراف‬
‫البالد عىل املجاعة‪ ،‬وتعطلت‬
‫أعمال اإلنشاءات الضخمة‪،‬‬
‫واألعمال الفنية‪ ،‬وتعرضت‬
‫معظم املقابر واألهرام للسرقة‬
‫يف هذه الفترة‪ ،‬وبعد قرن من‬
‫الفوضى واالضطراب عادت‬
‫مصر إىل الوحدة مرة أخرى‪،‬‬
‫عندما تمكن ملك من الجنوب‬
‫أن يوحد البالد‪ ،‬عرف باسم‬
‫منتوحتب الثاني‪ ،‬الذي بنى‬
‫مقبرته عىل شكل هرم تقلي ًدا‬
‫ملا قام به األجداد يف الدولة‬
‫القديمة‪.‬‬
‫‪204‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫بيبي الثاني‬

‫ولجأ ملوك الدولة الوسطى‬


‫أحمس بن إبانا‬
‫‪ 1776 -2052‬ق‪.‬م‪ .‬إىل توسيع‬
‫رقعة األرض الزراعية‪ ،‬وإقامة‬
‫مشروعات جديدة تخدم الزراعة‬
‫ضعف البالد‪ ،‬واضمحاللها‬ ‫ذلك بما خلف من آيات الفن‬
‫يف املنطقة القريبة من الفيوم‪،‬‬
‫وكبوتها‪.‬‬ ‫الرفيع من نقوش وتماثيل رائعة‬
‫وتمكن ملوك األسرة الثانية عشر‬
‫ً‬
‫فضل‬ ‫لها خصائصها املتميزة‪،‬‬
‫الهكسوس‬ ‫‪ 1786 -1991‬ق‪.‬م‪ .‬األقوياء‬
‫عن مشروعات الري وإصالح‬
‫من إخضاع القبائل النوبية‬
‫األراضي الزراعية يف الفيوم‪ ،‬ما‬
‫يف تلك الفترة تسللت من الشمال‬ ‫املولعة بالحرب‪ ،‬وإثارة القالقل‬
‫عاد عىل البالد بالخير الوفير‪.‬‬ ‫يف العصور السابقة‪ ،‬واتخذوا‬
‫الشرقي أفواج وهجرات متعاقبة‪،‬‬
‫دون مقاومة‪ ،‬استطاعت أن‬ ‫وبانتهاء عصر الدولة الوسطى‪،‬‬ ‫من طيبة عاصمة لهم‪ ،‬وأنشأوا‬
‫تتملك سهول النيل شرق الدلتا‪،‬‬ ‫وما شهد من ازدهار يف كافة‬ ‫سلسلة من القالع بالطوب اللبن‬
‫وسيطرت عىل أرض مصر‬ ‫النواحي‪ ،‬دخلت مصر يف فترة‬ ‫عند الشالل الثاني؛ إلحكام‬
‫الخصبة‪ ،‬فيما بين األسرة الثانية‬ ‫أخرى من الفوضى والتدهور‪،‬‬ ‫السيطرة عىل املالحة النيلية‪،‬‬
‫عشرة التي بدأت حكمها سنة‬ ‫والتفكك واالنقسام‪ ،‬إذ تتابع‬ ‫وترتب عىل ذلك انتعاش االقتصاد‬
‫‪ 1991‬ق‪.‬م‪ .‬بالفرعون أمنمحات‬ ‫ملوك األسرة الثالثة عشرة‬ ‫يف ذلك العصر؛ نتيجة لبسط‬
‫األول‪ ،‬ثم سنوسرت األول الذي‬ ‫‪ 1633 -1768‬ق‪.‬م عىل العرش‬ ‫الفراعين سيطرتهم عىل مناجم‬
‫حكم يف الفترة ‪1928 -1971‬‬ ‫بسرعة مثيرة للدهشة‪ ،‬فكان‬ ‫الذهب‪ ،‬وغيرها من مصادر‬
‫ق‪.‬م‪ ،.‬وشهد عهده زيارة أبو‬ ‫يحكم البالد لضعف هؤالء طائفة‬ ‫الثروات الطبيعية بالنوبة‪ ،‬وعادت‬
‫األنبياء إبراهيم الخليل عليه‬ ‫من كبار رجال الدولة أو الوزراء‬ ‫الحياة املعمارية والفنية مرة‬
‫السالم إىل مصر‪ ،‬ثم تتابع بعده‬ ‫األقوياء‪ ،‬والشك أنه دليل عىل‬ ‫أخرى لالزدهار‪ ،‬ويستدل عىل‬
‫‪205‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫مصريات‬

‫اآلسيويين الذين نجهل أسماءهم‪.‬‬ ‫العبودية‪ ،‬وفرضوا الضرائب عىل‬ ‫ملوك األسرة‪ ،‬وأعقبتها األسرة‬
‫ويف عام ‪ 1674‬ق‪.‬م‪ .‬يبدأ تتابع‬ ‫مصر العليا والسفيل‪ ،‬وانتشر‬ ‫الثالثة عشر‪ ،‬فاستمر تدفق‬
‫حكام الهكسوس يف األسرة‬ ‫الرعب بين املصريين‪.‬‬ ‫الهكسوس عىل مصر حتى نجحوا‬
‫الخامسة عشرة‪ ،‬ملدة مائة وثماني‬ ‫ثم بدأ الهكسوس يتجهون نحو‬ ‫يف السيطرة عىل كل مصر فيما‬
‫سنوات‪ ،‬عندما نجح املصريون‬ ‫االستيالء عىل منف‪ ،‬العاصمة‬ ‫بين عامي ‪ 1570 -1776‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫بقيادة مؤسس الدولة الحديثة يف‬ ‫عاما‬
‫املصرية‪ ،‬ونجحوا بعد ‪ً 46‬‬ ‫بفضل ما بأيديهم من أدوات‬
‫طردهم‪.‬‬ ‫من املقاومة العنيفة من جانب‬ ‫حربية‪ ،‬تطورت عىل ما بيد‬
‫املصريين يف احتاللها عام ‪1674‬‬ ‫املصريين من أسلحة كانت عتيقة‪.‬‬
‫الثورة املصرية‬ ‫ق‪.‬م‪ .‬وقد اختلف املؤرخون يف‬ ‫وعرفهم املصريين باسم‬
‫موطن الهكسوس‪ ،‬فمنهم من‬ ‫حكام البالد األجنبية الجبلية‪،‬‬
‫وقد ظهرت باكورة الثورة‬
‫ذهب إىل أنهم من ساللة آرية كان‬ ‫واشتهروا بالعبارة املصرية‬
‫املصرية بمجرد أن ضعف‬
‫موطنها وسط آسيا‪ ،‬ومنهم من‬ ‫حقاو خسوت التي حرفت إىل‬
‫الهكسوس‪ ،‬إذ انتهز أمراء طيبة‬
‫رأى أنهم أعراب شبه الجزيرة‬ ‫هكسوس‪ ،‬واستقروا يف البداية‬
‫الفرصة‪ ،‬وأشعلوا الثورة‪ ،‬ودخلوا‬
‫العربية‪ ،‬ورأى فريق ثالث أنهم‬ ‫بشرق الدلتا‪ ،‬وبفضل ما دخلوا‬
‫يف سلسلة من املصادمات مع‬
‫من أصل سامي‪ ،‬وأنهم طائفة من‬ ‫به من معدات حربية جديدة مل‬
‫الهكسوس‪ ،‬واندلعت الشرارة‬
‫اليهود‪ ،‬واتجه فريق من أصحاب‬ ‫تكن معروفة من قبل كالعجالت‬
‫األوىل يف عام ‪ 1600‬ق‪.‬م‪ .‬عندما‬
‫هذا الرأي إىل أنهم ربما كانوا‬ ‫الحربية والجياد‪ ،‬بسطوا نفوذهم‬
‫أرسل حاكم طيبة من الهكسوس‬
‫أقرباء لليهود وليسوا يهو ًدا‪.‬‬ ‫وسيطرتهم عىل املناطق الشرقية‬
‫أبو فيس الثالث إىل الفرعون‬
‫ونجح الغزاة الهكسوس يف‬ ‫من الدلتا بعد تفتتت وحدة‬
‫املصري سقنن رع يثيره ويتحداه‬
‫توطيد نفوذهم يف مصر السفىل‬ ‫البالد‪ ،‬وألفوا بها مملكة مستقلة‪،‬‬
‫اتهاما‬
‫ً‬ ‫ليدفعه لقتاله‪ ،‬ملفقًا له‬
‫تحت قيادة مجموعة من األمراء‬ ‫واتخذوا فيها عاصمة جديدة‪،‬‬
‫سخيفًا مؤداه أن أفرس النهر يف‬
‫أطلق عليها املصريون حت وعرت‪،‬‬
‫خوارا بالليل‬
‫ً‬ ‫طيبة تصدر‬
‫التي حرفت إىل هوارة‪ ،‬بالقرب‬
‫يمنعه من النوم‪ ،‬ومن‬
‫سنوسرت‬ ‫من الزقازيق حاليًا‪ .‬وقد حصن‬
‫ثم فقد طلب منه أن‬ ‫األول‬ ‫الهكسوس عاصمتهم الجديدة‬
‫يعمل عىل طردها‬
‫تحصينًا شدي ًدا‪ ،‬وزودوها‬
‫ألنها تقض مضجعه‬
‫بحامية كبيرة العدد‪ ،‬اتقاء لثورات‬
‫ونهارا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ليل‬
‫املصريين من ناحية‪ ،‬واتقاء‬
‫وتؤذي أذنيه‬
‫لهجرات محتملة جديدة تخوفوا‬
‫بضوضائها‪،‬‬
‫أن يقوم بها أقرباؤهم اآلريون‬
‫فقبل التحدي‬
‫أو األموريون‪ .‬واستخدموا‬
‫وخرج عىل‬
‫الخراطيش لتدوين أسماء ملوكهم‬
‫رأس جيش‬
‫كملوك مصر‪ .‬بعدما تغلبوا‬
‫ملحاربة‬
‫عىل حكام املقاطعات واألقاليم‪،‬‬
‫الهكسوس‪،‬‬
‫وأحرقوا املدن بغير رحمة‪،‬‬
‫ودارت‬
‫وقوضوا أرض معابد اآللهة‪،‬‬
‫معركة حامية‬
‫وعاملوا املصرين معاملة قاسية‪،‬‬
‫الوطيس‪،‬‬
‫فذبحوا بعضهم‪ ،‬وساقوا آخرين‬
‫قتل فيها‬
‫مع زوجاتهم وأطفالهم إىل‬
‫‪206‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫سقنن رع‪.‬‬
‫وهكذا كان الفرعون سقنن رع‬
‫أعظم ملوك مصر وأمجدهم‪ ،‬ففي‬
‫عهده بدأ النضال الفعيل لطرد‬
‫الهكسوس من مصر‪ ،‬فكان أول‬
‫من بدأ بمهاجمتهم‪ ،‬ألجل تخليص‬
‫البالد من النير األجنبي الذي‬
‫ظل يثقل عاتقها حقبة طويلة من‬
‫الزمن‪.‬‬
‫وقاد سقنن رع مغامرة جعلته من‬
‫أعظم الشخصيات املصرية بطولة‬
‫يف التاريخ املصري‪ ،‬تلك املغامرة‬
‫التي لقي فيها حتفه يف إحدى‬
‫معاركه مع الهكسوس‪ ،‬كما سبق‬
‫الذكر‪ ،‬إذ جعلت منه فريسة هجمة‬
‫غادرة قام بها أعداؤه‪ ،‬فقد أخذ‬
‫نائما‬
‫عىل حين غرة‪ ،‬عندما كان ً‬
‫يف فراشه‪ ،‬أو ربما تسلل األعداء‬
‫من خلفه وطعنوه بخنجر يف عنقه‬
‫تحت أذنه اليسرى‪ ،‬فكانت ضربة‬
‫مفاجئة مل يقو عىل رفع يديه ليدرأ‬
‫عن نفسه ضرباتهم‪ ،‬التي انهالت‬
‫لوحة تمثل أحمس األول يقاتل الهكسوس في معركة‬
‫عليه من السيوف والعصي والبلط‬
‫عىل وجهه فهشمته وهو ملقًى‬
‫طرد الهكسوس من مصر‬ ‫عىل النوبيين‪ ،‬وأخمد ثورتهم‬ ‫طريحا‪ ،‬ومن املحتمل أنه مات يف‬‫ً‬
‫الوسطى‪ ،‬فأصبحت مصر‬ ‫وأعادهم إىل الطاعة‪ ،‬ثم عاد‬ ‫ساحة القتال‪ ،‬ويدل عىل ذلك أن‬
‫الوسطى والعليا سواء‬ ‫يستأنف جهاده ضد الهكسوس‪،‬‬ ‫عملية التحنيط قد تمت بسرعة‬
‫بسواء تحت سلطان‬ ‫مبحرا يف‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شمال‪،‬‬ ‫فواصل زحفه‬ ‫فائقة‪ ،‬ألن تحنيطه يف مكان القتل‬
‫كاموزا‪ ،‬عىل أن‬ ‫مياه النيل يف عزم وقوة‪ ،‬بجيش‬ ‫كان إجرا ًء مؤقتًا لعدم توافر‬
‫املنية مل تلبث أن‬ ‫كلفحة اللهب‪ ،‬ودارت معركة‪،‬‬ ‫املعدات للذين قاموا بهذه العملية‬
‫عاجلته‪ .‬وهكذا أتم‬ ‫انقض فيها املصريون عىل‬ ‫يف هذا املكان‪.‬‬
‫كاموزا رسالة أبيه‬ ‫الهكسوس كالصقور‪ ،‬وكاألسود‬ ‫وقد أدى ذلك إىل قيام البالد كلها‬
‫واستكمل النضال‬ ‫عىل فريستهم‪ ،‬فهزموهم هزيمة‬ ‫دفعة واحدة يف وجه أولئك الغزاة‪،‬‬
‫ضد الهكسوس‬ ‫منكرة‪ ،‬ودمروا أسوار عاصمتهم‪،‬‬ ‫وخلفه ابنه كاموزا‪ ،‬بتشجيع‬
‫ألجل تحرير أرض‬ ‫أقواما‪ ،‬وأسروا‬‫ً‬ ‫وذبحوا منهم‬ ‫من أمه إيعح حوتب يف الوقت‬
‫الوطن الغايل‪ ،‬مصر‬ ‫آخرين‪ .‬واستطاع امللك كاموزا‬ ‫الذي حاول الهكسوس ضربه‬
‫العزيزة عىل قلب‬ ‫أن يخلص مصر الوسطى وامتد‬ ‫من الخلف بتأليب النوبة عليه‪،‬‬
‫كل مصري‪ ،‬أكل من‬ ‫ملكه حتى األشمونين‪ ،‬بعدما‬ ‫فاضطر إىل أن يدع الحرب يف‬
‫خيرها‪ ،‬وشرب من‬ ‫كتب له نجاح بعيد املدى يف‬ ‫الشمال ويتجه إىل الجنوب‪ ،‬فتغلب‬
‫‪207‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫مصريات‬

‫االستقالل‪ ،‬التي كانت أمجد‬ ‫ماء نيلها‪ ،‬واستظل بسمائها‪ ،‬إىل‬


‫صفحة يف التاريخ املصري‪،‬‬ ‫أن عاجلته املنية يف ساحة القتال‪.‬‬
‫واستخدم األسلحة الحديثة‬
‫مثل‪ :‬العجالت الحربية‪ ،‬وانضم‬ ‫أحمس األول‬
‫إىل الجيش الكثير من شعب‬
‫طيبة‪ ،‬والتف حوله الشعب‪ ،‬فقام‬ ‫أحمس األول ‪ 1550 -1575‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫بتدريبهم بكفاءة حتى أصبحوا‬ ‫محرر مصر‪ ،‬وطارد الهكسوس‬
‫محاربين أقوياء ومهرة‪ ،‬ثم بدأ‬ ‫واآلسيويون‪ ،‬ومؤسس األسرة‬
‫بمحاربة الهكسوس بد ًءا من‬ ‫الثامنة عشر‪ ،‬أعظم األسر‬
‫صعيد مصر‪ ،‬فطارد الهكسوس‬ ‫الحاكمة يف تاريخ مصر‪ ،‬ابن امللك‬
‫حتى وصل إىل عاصمتهم‬ ‫سقنن رع‪ ،‬من امللكة ايعح حوتب‪،‬‬
‫أواريس‪ ،‬بجوار مدينة الزقازيق‬ ‫وأخو امللك كاموزا‪ ،‬آخر ملوك‬
‫الحالية‪ ،‬وهزمهم هناك‪ ،‬وظل‬ ‫األسرة السابعة عشر‪ .‬توىل حكم‬
‫يحاربهم حتى فروا إىل شمال‬ ‫مصر وهو ال يزال شا ًّبا ياف ًعا يف‬
‫الدلتا وهو خلفهم‪ ،‬ثم تعقبهم يف‬ ‫السادسة عشرة من عمره‪ ،‬بعد‬
‫انسحابهم خارج مصر عبر سيناء‬ ‫وفاة والده وأخيه يف الحرب ضد‬
‫حتى قلب فلسطين‪ ،‬وحاصرهم‬ ‫الهكسوس‪ .‬ويعني اسمه ولد‬
‫يف حصن شاروهين‪ ،‬يف الجنوب‬ ‫نظرا الرتباط‬ ‫القمر أي الهالل‪ً ،‬‬
‫الغربي من فلسطين‪ ،‬وفتحها‬ ‫أسمائهم باسم القمر‪ ،‬الذي عبد‬
‫بعد حصار امتد لثالث سنوات‪،‬‬ ‫يف األشمونين بمحافظة املنيا‬
‫ويعتبر أطول حصار من نوعه‬ ‫إىل أن استقرت عائلته يف طيبة‪،‬‬
‫يف التاريخ‪ ،‬وهذا يدل عىل شدة‬ ‫األقصر حاليًا‪ ،‬فيما بعد‪.‬‬
‫مقاومة الهكسوس‪ ،‬وطول صبر‬ ‫وواضح أن املؤرخ املصري القديم‬
‫أحمس‪ .‬وبعد ذلك ظل يتتبعهم‬ ‫مانيتون قد ربط بداية األسرة‬
‫ويطاردهم حتى وصل إىل‬ ‫الثامنة عشرة بامللك أحمس األول‬
‫فينيقيا التي كانت معروفة وقتئ ٍذ‬ ‫وجعله أول فرعون يف الدولة‬
‫باسم زاهي‪ ،‬وفتت شملهم حتى‬ ‫الحديثة‪ ،‬وقد ظهر أحمس يف وقت‬
‫استسلموا‪ ،‬ومل يظهر الهكسوس‬ ‫كانت مصر محتلة من الهكسوس‬
‫بعدها يف التاريخ‪ ,‬وكانت هذه‬ ‫الذين أخضعوا الوجه البحري‪،‬‬
‫املعركة حوايل عام ‪ 1580‬ق‪.‬م‪،.‬‬ ‫وأجزاء من مصر الوسطى‪ ،‬فبدأ‬
‫أي يف السنة الخامسة من توليه‬ ‫عهده بإرسال حمالت عسكرية‬
‫عرش الفراعين‪.‬‬ ‫لطرد الهكسوس‪ ،‬وتطهير أرض‬
‫ومل يرجع أحمس إال بعدما اطمئن‬ ‫مصر من لوثتهم‪ ،‬وإعادة األمن‬
‫إىل أن حدود مصر الشرقية‬ ‫واألمان اللذين اعتاد عليهما‬
‫آمنه منهم ومن هجماتهم بعد‬ ‫دوما‪.‬‬
‫املصريون ً‬
‫القضاء عليهم‪ .‬وبعد طرد‬ ‫خلف أخوه كاموزا‪ ،‬فواصل مهمة‬
‫الهكسوس هاجم أحمس بالد‬ ‫سلفه‪ ،‬فتابع الحروب العظيمة‬
‫النوبة الستردادها مرة أخرى‬ ‫التي نشبت بين املصريين‬
‫إىل اململكة املصرية‪ ،‬التي وصلت‬ ‫والهكسوس‪ ،‬املعروفة بحروب‬
‫ساحورع‬
‫‪208‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫العسكري‪ ،‬يف حماسة تفوق‬ ‫يجرها الخيول‪ ،‬وطور كذلك‬ ‫حدودها جنو ًبا إىل الشالل الثاني‪،‬‬
‫الوصف‪ ،‬وتسلطت عىل عقولهم‬ ‫األسلحة الحربية باستخدام النبال‬ ‫وصورت حمالت أحمس يف‬
‫عوامل الحرب‪ ،‬حتى أن أثرياء‬ ‫املزودة بقطعة حديد عىل األسهم‪.‬‬ ‫مقبرة اثنين من قواده هما أحمس‬
‫القوم‪ ،‬بل وأمراء الدولة‪ ،‬تسابقوا‬ ‫وقد عاصرت عهد أحمس األول‪،‬‬ ‫بن إبانا وأحمس بن نكيب‪ ،‬كما‬
‫يف االنخراط يف الجندية بغية‬ ‫ثورة اجتماعية جارفه هدفت‬ ‫سنرى الحقًا‪.‬‬
‫الحصول عىل األوسمة واأللقاب‪.‬‬ ‫إىل تمجيد الجندية‪ ،‬ذلك أن‬ ‫وهكذا كتب لجهود أحمس نجاح‬
‫ولعل أوضح األمثلة عىل ذلك‪،‬‬ ‫املصريين قد عرفوا وقت ذاك‪،‬‬ ‫بعيد املدى يف تطهير مصر من كل‬
‫هو القائد أحمس بن إبانا‪ ،‬الذي‬ ‫أن الحروب تعود عىل املنتصر‬ ‫أثر لهؤالء الرعاة‪ ،‬ثم قفل راج ًعا‬
‫أبىل بال ًء حسنًا يف حرب التحرير‪،‬‬ ‫بالغنائم الكثيرة‪ ،‬وأن يف ميادينها‬ ‫إىل طيبة متخذًا منها عاصمة‬
‫فنال تقدير مليكه‪ ،‬فأنعم عليه‬ ‫متس ًعا ألعمال البطولة‪ ،‬وأن‬ ‫مؤسسا األسرة‬
‫ً‬ ‫لحكم البالد‪،‬‬
‫بمنحه ذهب الشجاعة‪.‬‬ ‫فرعون كان يعترف بها‪ ،‬ويكافئ‬ ‫الثامنة عشرة عىل ما يقول املؤرخ‬
‫وتوضح لنا السيرة الذاتية‬ ‫عليها‪ ،‬أ ًّيا كانت الطبقة التي ينتمي‬ ‫املصري مانيتون‪ ،‬وكان مح ًّقا يف‬
‫للقائد العسكري أحمس بن إبانا‬ ‫إليها البطل املحارب‪ ،‬ومن ثم‬ ‫ذلك‪ ،‬إذ الواقع أنه يف حكم هذا‬
‫املسطورة بمقبرته بمدينة الكاب‬ ‫فقد سارع أبناء الطبقة الوسطى‬ ‫الفرعون قد طويت صحيفة من‬
‫جنوب شرقي إسنا بمحافظة قنا‬ ‫إىل االلتحاق بالجيش‪ ،‬بعدما‬ ‫تاريخ البالد سيطر عليها عصر‬
‫بعض األضواء عىل حرب أحمس‬ ‫عرفوا أن الجندية ترفع مركزهم‬ ‫استعباد الشعب املصري مدة‬
‫ضد الهكسوس‪ ،‬وحصاره مدينة‬ ‫األدبي‪ ،‬بترقياتهم يف الجيش‪،‬‬ ‫قرن ونصف من الزمان‪ ،‬ثم بدأ‬
‫أواريس‪ ،‬عاصمة الهكسوس‬ ‫وهكذا اندفع املصريون يف التيار‬ ‫فترة جديدة شهدت استقالل‬
‫بالدلتا‪ ،‬والقتال العنيف الذي‬ ‫البالد وطرد الغزاة الغاصبين‬
‫دام عدة سنوات حولها‪ ،‬حتى‬ ‫من أرض الكنانة‪ .‬ومن ثم حق‬
‫تم إخضاعها‪ ،‬ثم حصارهم يف‬ ‫للفرعون العظيم أحمس أن يفخر‬
‫شاروهين آخر قالع الهكسوس‬ ‫بألقابه الخمسة‪ :‬حور القاهر‪،‬‬
‫الحصينة يف جنوب غربي‬ ‫العقاب والصل‪ ،‬الضام األرضيين‪،‬‬
‫فلسطين‪ ،‬ثم متابعتهم حتى‬ ‫ملك الوجه البحري والقبيل‪ ،‬ابن‬
‫زاهي‪ ،‬ثم حمالت أحمس الناجحة‬ ‫الشمس‪.‬‬
‫يف النوبة‪ ،‬وحمالته ضد بعض‬
‫املتمردين عليه من املصريين‪،‬‬
‫منتوحتب‬
‫تمجيد الجندية‬
‫الذين كانوا يتعاونون مع‬ ‫الثاني‬
‫الهكسوس‪ ،‬واستطاع الفرعون‬ ‫وخالل فترة حكم الفرعون‬
‫بعدها استعادة سيادة مصر‬ ‫أحمس‪ ،‬التي بلغت خمسة‬
‫هناك‪ ،‬وإعادة توطيد الحكم‬ ‫عاما‪ ،‬قام‬
‫وعشرين ً‬
‫املصري يف النوبة‪.‬‬ ‫بتطوير الجيش‬
‫والقائد أحمس بن إبانا‬ ‫املصري‪ ،‬فكان أول‬
‫يحكى يف سيرته أن‬ ‫من أدخل عليه‬
‫الفرعون أحمس األول بعد‬ ‫العجالت الحربية‪،‬‬
‫أن قضى عىل اآلسيويين‬ ‫التي كان يستخدمها‬
‫ووصل إىل الشالل الثاني‬ ‫الهكسوس‪ ،‬وكانت‬
‫يف الجنوب؛ ليقضى عىل‬ ‫سبب تفوقهم‬
‫القبائل الصحراوية يف‬ ‫عىل مصر‪ ،‬وكان‬
‫ربط المؤرخ المصري القديم مانيتون‬
‫بداية األسرة الثامنة عشرة بالملك‬ ‫النوبة‪ ،‬ونجح يف القضاء عىل‬
‫معظمهم‪ ،‬قام بحمالت عسكرية‬
‫أحمس األول وجعله أول فرعون في‬
‫أخرى يف شمال فلسطين‬
‫الدولة الحديثة‪ ،‬وقد ظهر أحمس في‬ ‫منتصرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وفينيقيا‪ ،‬حيث عاد‬
‫وقت كانت مصر محتلة من الهكسوس‬ ‫ومعه من األسرى الذين عملوا يف‬
‫املحاجر الجيرية بطره‪.‬‬
‫الذين أخضعوا الوجه البحري‪ ،‬وأجزاء‬
‫من مصر الوسطى‪ ،‬فبدأ عهده بإرسال‬
‫املرأة والتحرير‬
‫حمالت عسكرية لطرد الهكسوس‪،‬‬ ‫كبيرا يف حرب‬
‫ً‬ ‫دورا‬
‫أدت املرأة ً‬
‫التحرير‪ ،‬جعلها تبلغ أوج سلطتها‬
‫وتطهير أرض مصر من لوثتهم‪،‬‬ ‫يف عهد أحمس‪ ،‬وأوىل السيدات‬
‫وإعادة األمن واألمان اللذين اعتاد‬ ‫التي كان لها دور بارز هي تتي‬
‫شيري‪ ،‬أم سقنن رع‪ ،‬وجدة كل‬
‫دوما‬
‫عليهما المصريون ً‬ ‫من كاموزا وأحمس‪ ،‬فكانت أول‬
‫سيدات البيت الالئي شاركن يف‬
‫وبذلك أرسى أحمس األول دعائم‬ ‫ولقبت عىل اآلثار باالبنة امللكية‪،‬‬ ‫تحرير مصر من الهكسوس‪،‬‬
‫ما عرف باسم «العصر الذهبي‬ ‫واألخت امللكية‪ ،‬والزوجة امللكية‪،‬‬ ‫وضربن املثل يف التضحية‬
‫ملصر»‪ ،‬فقد أعاد توحيد البالد‪،‬‬ ‫واألم امللكية‪ ،‬والحاكمة العظيمة‪،‬‬ ‫والفداء‪.‬‬
‫وبدأ عصر التوسعات الخارجية‬ ‫وسيدة األرضيين‪ ،‬األمر الذي‬ ‫وكانت ثاني هؤالء السيدات امللكه‬
‫العظيمة‪ ،‬وبناء اإلمبراطورية‬ ‫يوضح مدى ما تمتعت به املرأة‬ ‫إيعح حوتب التي فاقت مكانة‬
‫املصرية‪ ،‬وبدأ االزدهار‬ ‫من حرية وسلطة‪ ،‬سوف تتعدد‬ ‫أمها تتي شري‪ ،‬فقد كانت تغذي‬
‫واالنتعاش االقتصادي‪ ،‬وقد‬ ‫مظاهرها حينما تصل ذروتها يف‬ ‫الثورة ضد الغزاة‪ ،‬وتحمل لواء‬
‫أيقن املصريون يومئذ ‪-‬مع تغير‬ ‫حكم حتشبسوت الطويل‪ ،‬فيما‬ ‫التحرير‪ ،‬وتعمل عىل خلق روح‬
‫أحوال الشرق‪ -‬ضرورة التوسع‬ ‫بعد‪.‬‬ ‫الوطنية وإذكائها‪ ،‬فسطع اسمها‬
‫الخارجي لتأمين حدود مصر‪،‬‬ ‫يف كل البالد‪.‬‬
‫درسا‬
‫ً‬ ‫فقد كان غزو الهكسوس‬ ‫العصر الذهبي‬ ‫أما ثالثة السيدات العظيمات فهي‬
‫جعلهم يتخلون عن جنوحهم‬ ‫نفرتاري زوج أحمس‪ ،‬فنالت من‬
‫الدائم للسلم‪ ،‬وتولد بداخلهم حب‬ ‫وبعد انتهاء أحمس من حروبه‪،‬‬ ‫الشهرة وذيوع الصيت ما مل يكن‬
‫التوسع وبسط النفوذ‪.‬‬ ‫وطرده األعداء‪ ،‬وتأمينه لحدود‬ ‫لغيرها‪ ،‬فظهرت يف النقوش بنفس‬
‫ولذلك بدأ أحمس األول سلسلة‬ ‫مصر‪ ،‬وجه اهتمامه إىل الشئون‬ ‫حجم امللك واإلله آمون‪ ،‬وهو‬
‫من امللوك العظام املحاربين‪ ،‬الذين‬ ‫الداخلية التي كانت متهدمة خالل‬ ‫دليل عىل سمو مكانتها الخاصة‪.‬‬
‫خرجوا يف حمالت عىل سوريا‬ ‫فترة احتالل الهكسوس‪ ،‬فأصلح‬ ‫خاصة بعدما كانت أول من حملت‬
‫وفلسطين‪ ،‬فأخضعوا املدن‬ ‫نظام الضرائب‪ ،‬وأعاد فتح الطرق‬ ‫لقب زوجة اإلله آمون‪ ،‬كما أصبح‬
‫والدويالت املتمردة‪ ،‬فأصبحت‬ ‫التجارية‪ ،‬وأصلح القنوات املائية‬ ‫لها فيما بعد أهمية سياسية‬
‫طيبة يف ذلك الزمان عاصمة‬ ‫ونظام الري‪ ،‬كما قام بإعادة بناء‬ ‫خطيرة‪ ،‬ومكانة رفيعة‪ ،‬حيث‬
‫العامل القديم‪ ،‬ودخلت الدويالت‬ ‫املعابد التي تحطمت‪ ،‬واتخذ من‬ ‫ظلت ذكراها حية حتى األسرة‬
‫املجاورة تحت السيادة املصرية‪،‬‬ ‫طيبة عاصمة له‪ ،‬وكان آمون هو‬ ‫الحادية والعشرين‪ ،‬وأقيمت لها‬
‫وأرسلت الجزية ملصر‪ ،‬وتمتعت‬ ‫املعبود الرسمي يف عصره‪.‬‬ ‫االحتفاالت كتلك التي تقام لآللهة‪،‬‬
‫‪210‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫التقدم والرقي يف عهده‪ ،‬وتوضح‬ ‫األمن التي عاشت فيها مصر‬ ‫مصر بالحكم الذاتي‪.‬‬
‫الدقة واإلتقان وحسن الذوق يف‬ ‫عىل الصناعة‪ ،‬وخاصة صناعة‬ ‫وأنشأ إمبراطورية عظمى امتدت‬
‫زمنه‪ ،‬وتوضح مدى وجود الذهب‬ ‫كثيرا‪ ،‬وظهرت‬ ‫ً‬ ‫األسلحة‪ ،‬فتطورت‬ ‫من أعايل نهر دجلة والفرات‪،‬‬
‫يف مصر بكثرة وبخاصة النوبة‪،‬‬ ‫أنواع جديدة من األسلحة‪ ،‬ورغم‬ ‫إمبراطورية يف جوهرها دفاعية‬
‫التي كانت أكبر مصدر لهذا املعدن‬ ‫حروب أحمس سواء يف الشمال‬ ‫ليست هجومية؛ ألن غزو‬
‫الكريم‪.‬‬ ‫ضد الهكسوس‪ ،‬أو يف الجنوب‬ ‫الهكسوس ملصر أيقظ الشعور‬
‫بطل‬‫ضد النوبيين‪ ،‬إال أنه كان ً‬ ‫بالخطر عىل الحدود الشرقية‪،‬‬
‫زواج أحمس‬ ‫من أبطال السالم والتعمير‪ ،‬فقام‬ ‫فرأى أحمس األول أن استقرار‬
‫ببناء دور العبادة‪ ،‬وأعيد يف عهده‬ ‫مصر لن يكون إال بتأمين‬
‫تزوج أحمس من نفرتاري‪ ،‬التي‬ ‫فتح املحاجر‪ ،‬واستؤنف العمل‬ ‫حدودها الشمالية الشرقية ببسط‬
‫يعني اسمها الرقيقة الجميلة‪ ،‬التي‬ ‫فيها الستخراج األحجار الالزمة؛‬ ‫السيطرة املصرية عىل األمم التي‬
‫أنجبت له ثالثة أبناء أحدهم هو‬ ‫لبناء املعابد والهياكل‪ ،‬وترميم‬ ‫تجاورها‪ ،‬ورأى أن استقرار ملكه‬
‫خليفته عىل عرش الكنانة أمنحتب‬ ‫ما تعرض منها للتهدم عىل يد‬ ‫يف مصر لن يكون إال باالستيالء‬
‫األول‪ ،‬وقد توىف األول والثاني‬ ‫الهكسوس املخربين‪.‬‬ ‫عىل الشام‪ ،‬وبسط سيطرته عىل‬
‫يف سن صغيرة‪ ،‬وأربعة بنات هم‬ ‫ومنذ السنة الخامسة من حكم‬ ‫ربوعها؛ بل امتدت سيطرته إىل‬
‫مريت آمون‪ ،‬وسات آمون وإياح‬ ‫هذا الفرعون‪ ،‬وهي السنة التي‬ ‫العراق‪.‬‬
‫حتب وست كامس‪.‬‬ ‫مبرما عىل قوة‬ ‫قضى فيها قضا ًء‬ ‫ومل تكن إقامة الهكسوس يف‬
‫ً‬
‫ويعتقد أن ألحمس مقبرتين‬ ‫شمال وجنو ًبا‪ ،‬ال توجد‬ ‫ً‬ ‫أعدائه‬ ‫مصر بغير فوائد‪ ،‬فالتاريخ‬
‫إحداهما يف أبيدوس‪ ،‬وتتكون من‬ ‫أي آثار توضح أي نشاط حربي‬ ‫يسجل لهم إدخالهم أسلحة جديدة‬
‫معبد منحدر‪ ،‬ومقبرة جنائزية‪،‬‬ ‫خارجي أو ثورات داخلية‪ ،‬إىل أن‬ ‫من أدوات الحرب‪ ،‬فوجدت أنواع‬
‫وبقايا هرم‪ ،‬ملحق به معبد‪،‬‬ ‫نصل إىل السنة الثانية والعشرين‬ ‫جديدة من الخناجر والسيوف‬
‫وعرف أنه‬ ‫اكتشفت عام ‪ُ ،1899‬‬ ‫من حكمه‪ ،‬حيث أقام لوحة عظيمة‬ ‫واألسلحة البرونزية واألقواس‬
‫هرمه عام ‪ .1902‬واألخرى يف‬ ‫بمعبد الكرنك تكشف لنا نواح‬ ‫املركبة اآلسيوية‪ ،‬كما تطوروا بفن‬
‫طيبة وقد تعرضت للنهب بواسطة‬ ‫عدة من نشاطه‪ ،‬وما قامت به‬ ‫تحصين املدن‪ ،‬الذي كان يفوق‬
‫اللصوص‪ .‬وقد اكتشفت مومياؤه‬ ‫والدته ايعح حوتب من أعمال‬ ‫ما ألفه املصريون من قبل‪ .‬ولكن‬
‫عام ‪ 1881‬يف خبيئة الدير البحري‬ ‫عظيمة‪ ،‬وعالقتها بجزيرة كريت‬ ‫أثرهم الكبير يتجىل يف إدخال‬
‫مع مومياوات بعض من ملوك‬ ‫وملكها‪ ،‬وما قدمه أحمس لآللهة‪،‬‬ ‫الحصان والعربة التي تجرها‬
‫األسر الثامنة عشرة والتاسعة‬ ‫وبخاصة اإلله آمون‪ ،‬من جليل‬ ‫الجياد‪ ،‬والتي سيبرع املصريون‬
‫عشرة والواحدة والعشرين‪.‬‬ ‫األعمال‪ ،‬مما يكشف لنا عن حالة‬ ‫يف استخدامها يف عصر الدولة‬
‫وقد أقام أحمس لوحة كبيرة يف‬ ‫البالد املادية والصناعية وقتئ ٍذ‪.‬‬ ‫الحديثة‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬ويخوضون‬
‫معبد الكرنك ذكر فيها الكثير من‬ ‫يف محاولة منه إلصالح ما أفسده‬ ‫معاركهم املقبلة مزودين بها‪.‬‬
‫أنشطته‪ ،‬واتساع ملكه وسلطانه‪،‬‬ ‫الدهر من آثار اإلله آمون الذي‬ ‫وعىل يدي أحمس األول تم‬
‫وعالقات مصر بجيرانها‪ ،‬وأشار‬ ‫بزعمه هيأ له النصر عىل األعداء‪،‬‬ ‫إخراج الهكسوس من مصر‪،‬‬
‫إىل الدور الذي قامت به والدته‬ ‫فضل عن أنه كان إله الدولة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫هذا‬ ‫ويف أيامه نعمت البالد بالحرية‪،‬‬
‫امللكة ايعح حوتب يف تجميع‬ ‫وحامي حماها‪ ،‬فأمر بصنع أوانٍ‬ ‫مؤسسا بذلك الدولة الحديثة‪،‬‬
‫ً‬
‫املصريين وتشجيعهم للقضاء‬ ‫جديدة ملعبده بالكرنك‪ ،‬معظمها‬ ‫وأخذ يف تنظيم حكومة البالد‪،‬‬
‫عىل الهكسوس‪ ،‬ودعا أحمس‬ ‫من الفضة واألحجار الغالية‪ ،‬عىل‬ ‫وإصالح ما تخرب فيها خالل‬
‫املصريين لتعظيم أمه؛ لدورها‬ ‫يد مهرة الصناع‪ ،‬تدل عىل مدى‬ ‫حرب االستقالل يف الجزء األكبر‬
‫يف حرب تحرير البالد من‬ ‫ما وصل إليه الفن املصري من‬ ‫من حكمه‪ .‬وانعكست حالة‬
‫‪211‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫مصريات‬

‫مع أحمس األول‪ ،‬وكانت صاحبة‬ ‫عظام الخدين‪ ،‬رقيق الشفتين‪،‬‬ ‫الهكسوس‪ ،‬وتثبيت األوضاع‬
‫نشاط عظيم‪ ،‬وتتابع من بعد ذلك‬ ‫تنطق مالمحه بقوة عزيمته‪،‬‬ ‫الداخلية واستقرارها‪.‬‬
‫ملوك الدولة الحديثة‪ ،‬مؤسسي‬ ‫وشدة بأسه‪ ،‬وخلفه ابنه أمنحتب‬ ‫ويوجد باملتحف املصري إناء من‬
‫اإلمبراطورية املصرية‪ ،‬التي‬ ‫األول‪ .‬بالرغم من أنه كان له أوالد‬ ‫املرمر نقش عليه اسم أحمس‬
‫بلغت أوجها يف عهد رعمسيس‬ ‫كثيرون من زوجاته الكثيرات‪،‬‬ ‫األول‪ ،‬وآخر للزينة من الخزف‬
‫الثاني‪ ،‬الذي أخضع كل الشعوب‪،‬‬ ‫وكانت أكثرهن خصبًا زوجته‬ ‫األزرق‪ ،‬ويوجد عليه صور‬
‫وأرسى قواعد األمن واألمان‬ ‫األوىل وأخته نفرتاري‪ ،‬وكان له‬ ‫فضل عن تمثال صغير‬ ‫ً‬ ‫األسرى‪،‬‬
‫ملصر العظيمة اآلمنة‪.‬‬ ‫ابنه األكبر األمير سابا إيري‪،‬‬ ‫من الحجر الجيري بمتحف تورين‬
‫الذي كان يحمل كل األلقاب‪،‬‬ ‫بإيطاليا‪ ،‬وتمثال شوابتي باملتحف‬
‫يوسف والهكسوس‬ ‫التي تؤهله لوالية العرش‪ ،‬غير‬ ‫البريطاني‪ ،‬والعديد من الجعارين‬
‫أن املنية عاجلته وهو يف صباه‪،‬‬ ‫يف عدد من متاحف العامل‪ ،‬مثل‬
‫جاء الصديق‪ ،‬الكريم بن الكريم‬
‫فأصبح أخوه أمنحتب وريث‬ ‫اللوفر وليدن واملتحف البريطاني‬
‫بن الكريم بن الكريم؛ يوسف بن‬ ‫ً‬
‫العرش من بعده‪ ،‬وكان ال يزال‬ ‫فضل عن البلطة‬ ‫وتورين‪،‬‬
‫يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‪،‬‬
‫صغير السن مل يبلغ مبلغ الرجال؛‬ ‫والخنجر اللذان يرجعان له‪،‬‬
‫عليهم السالم‪ ،‬إىل مصر‪ ،‬وكان‬
‫ليتوىل العرش بنفسه‪ ،‬فأخذت‬ ‫واملعروضان يف متحف األقصر‪.‬‬
‫عاما‪،‬‬
‫عمره حوايل خمسة عشر ً‬
‫نفرتاري زمام الحكم يف يدها‪،‬‬ ‫كما عثر األثريون عىل لوح من‬
‫وقد اشتراه عزيز مصر من تجار‬
‫وأصبحت الوصية عىل العرش‪،‬‬ ‫الحجر الجيري‪ ،‬كان قد كرسه‬
‫الرقيق‪ ،‬ثم ذهب به إىل بيته‪ ،‬وقال‬
‫كما فعلت والدتها ايعح حوتب‬ ‫الفرعون أحمس األول‪ ،‬قاهر‬
‫المرأته «أكرمي مثواه عسى أن‬
‫الهكسوس وطاردهم من مصر‪،‬‬
‫ينفعنا أو نتخذه ول ًدا»‪ ،‬وذلك ملا‬ ‫نفرتاري‬
‫لجدته امللكة تتي شري‪ ،‬وقد‬
‫توسمه فيه من الخير‪ ،‬ولو تأملنا‬
‫زينت قمة هذا األثر بمنظر يبين‬
‫قول الحق سبحانه «وقال الذي‬
‫امللك مؤد ًيا القربان للملكة التي‬
‫اشتراه من مصر» (يوسف‪)21 :‬‬
‫تجلس عىل عرشها‪ .‬أما الجزء‬
‫لوقفنا أمام إعجاز تاريخي للقرآن‬
‫األسفل من اللوح‪ ،‬فيتضمن‬
‫الكريم يف قوله «من مصر» ومل‬
‫نص هيروغليفي حواري بين‬
‫يقل «املصري» الذي اشتراه‪،‬‬
‫أحمس وأخته التي هي زوجته‬
‫ألن من اشتراه يف الحقيقة مل‬
‫نفرتاري‪ ،‬إذ يتحدثان فيما‬
‫يكن مصر ًّيا‪ ،‬ومل يكن من أصل‬
‫صنعا ألجدادهما‪ ،‬وخاصة‬
‫مصري‪ ،‬بل إنه هبط مصر‬
‫جدته وأمه‪ ،‬وعن أنه يود‬
‫يف وقت كان يحكمها فيه‬
‫بناء معبد جنائزي هائل‬
‫الهكسوس‪.‬‬
‫يف أبيدوس من أجل جدته‬
‫ويؤكد صدق األحداث‬
‫تتي شري‪ ،‬بحيث يكون هذا‬
‫التاريخية‪ ،‬تكرار لفظ «ملك»‬
‫عظيما‬
‫ً‬ ‫املعبد‪ ،‬كما قال‪ ،‬معب ًدا‬
‫وليس «فرعون»‪ ،‬مثلما يف‬
‫بن مثله من قبل‪.‬‬
‫مل ُي َ‬
‫قوله تعاىل «وقال امللك‬
‫وقد كان الفرعون‬
‫ائتوني به أستخلصه‬
‫أحمس قوي الجسم‪،‬‬
‫لنفسي» (يوسف‪:‬‬
‫عظيم الكتفين‪ ،‬عريض‬
‫‪ ،)54‬وكان الوضع‬
‫ما بينهما‪ ،‬فاحم‬
‫مختلفًا عندما كان‬
‫الشعر‪ ،‬مجعده‪ ،‬بارز‬
‫‪212‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫أربعين سنه‪ ،‬بينما فترة التيه هنا‬ ‫فرعون موسى‬ ‫الحديث عن كليم اهلل موسى‬
‫تتجاوز القرنين من الزمان‪ .‬كما أن‬ ‫عليه السالم‪ ،‬إذ دعاه ربه «اذهب‬
‫القول إن طرد الهكسوس من مصر‬ ‫اختلفت اآلراء فيمن هو الفرعون‬ ‫إىل فرعون إنه طغى» (طه‪:‬‬
‫هو قصة خروج بني إسرائيل‬ ‫الذي كان ُيعذب بني إسرائيل‪،‬‬
‫‪ ،)24‬ألن فرعون موسى‪ ،‬إما‬
‫يتعارض مع ما جاء يف التوراة‬ ‫فيذبح أبناءهم ويستحي نساءهم‪،‬‬
‫هو رعمسيس الثاني ‪-1290‬‬
‫واإلنجيل والقرآن‪ ،‬فلم يتحدثوا‬ ‫ثم رفض بعد ذلك دعوة موسى‪،‬‬
‫عليه السالم‪ ،‬فأغرقه اهلل يف‬ ‫‪1224‬ق‪.‬م‪ ،‬أو مرنبتاح ‪-1224‬‬
‫أب ًدا عن دخول بني إسرائيل ألرض‬
‫البحر لتجبره وكفره‪ ،‬وما آل‬ ‫‪1214‬ق‪.‬م‪ ،‬وكالهما من أصول‬
‫الكنانة غزاة‪ ،‬أو أن ملوك مصر‬
‫يوما ما كانوا ينتمون إىل اليهود‪،‬‬ ‫إليه أمره من الطغيان والكفر‪،‬‬ ‫فرعونية خالصة من طيبة يف عهد‬
‫ً‬
‫فقد كان دخول بني إسرائيل ملصر‬ ‫وادعاء األلوهية‪ ،‬ويذهب رأي‬ ‫اإلمبراطورية املصرية الثانية‪.‬‬
‫بحثًا عن املأوى والطعام بعدما‬ ‫إىل أن هذا الفرعون هو أحمس‬ ‫أما ملك يوسف عليه السالم فهو‬
‫ضرب الجفاف أرض كنعان‪ ،‬وهو‬ ‫مدعما بأن طرد الهكسوس‬ ‫ً‬ ‫األول‪،‬‬ ‫سوبك حتب ‪1730 -1740‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫ما يؤكد أنه ليست هناك صلة‬ ‫من مصر هو الخروج اليهودي‬ ‫من األسرة الثالثة عشرة‪ ،‬وهناك‬
‫بين الهكسوس واليهود‪ ،‬وذلك‬ ‫منها‪ ،‬وأصحاب هذا الرأي هم‬ ‫اختالف يف أنه عاصر ملكين‪،‬‬
‫ألن اليهود مل يكونوا حينئ ٍذ قد‬ ‫من ذهبوا إىل أن الهكسوس هم‬ ‫فكان هناك من شهد نزوله مصر‪،‬‬
‫استوطنوا فلسطين كقوم لهم‬ ‫اليهود‪ ،‬الذين جاء ذكرهم يف‬ ‫وهو نفر حوتب األول‪ ،‬وكان امللك‬
‫كيان يستطيعون أن يحتلوا دولة‬ ‫التوراة والقرآن الكريم‪ ،‬ولكن‬
‫سوبك حتب هو امللك الذي جعله‬
‫كبرى كمصر‪ ،‬بل أكبر وأعظم دول‬ ‫ما يدحض هذا الرأي أن التوراة‬
‫أمينًا عىل خزائن األرض‪ .‬وهذا‬
‫الشرق األدنى قاطبة‪ .‬ولهذا ليس‬ ‫تجعل إقامة بني إسرائيل يف مصر‬
‫يدل عىل اختالف نوع الحكم يف‬
‫تحرير أرض الكنانة من الهكسوس‬ ‫‪ 430‬سنة‪ ،‬بينما يتفق العلماء عىل‬
‫أن مدة حكم الهكسوس يف مصر‬ ‫العهدين‪ ،‬ويدل داللة واضحة‬
‫تحت ظالل فرسانها املغاوير‬
‫من أمثال سقنن رع‪ ،‬وكاموزا‪،‬‬ ‫ال تتجاوز القرن ونصف القرن‬ ‫عىل أن هبوط يوسف الصديق‪،‬‬
‫وأحمس األول‪ ،‬هو خروج اليهود‬ ‫‪ 1570 -1725‬ق‪.‬م‪ .‬باإلضافة‬ ‫عليه السالم‪ ،‬إىل أرض الكنانة‪،‬‬
‫من مصر بقيادة كليم الرحمن‬ ‫إىل أن التوراة واإلنجيل والقرآن‬ ‫بلد األمن واألمان‪ ،‬كان يف زمن‬
‫موسى‪ ،‬عليه السالم‬ ‫الكريم ينص عىل أن فترة التيه‬ ‫الهكسوس‪.‬‬

‫والعراق‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة األنجلو‬ ‫املصادر واملراجع‪:‬‬


‫املصرية‪.2004 ،‬‬
‫‪ -7‬عبد املنعم عبد الحليم سيد‪ :‬حضارة مصر‬ ‫‪ -1‬أحمد بدوي‪“ :‬أيام الهكسوس”‪ ،‬املجلة التاريخية‬
‫الفرعونية‪ ،‬اإلسكندرية‪ :‬دار املعرفة الجامعية‪.1999 ،‬‬ ‫املصرية‪ ،‬املجلد األول‪ ،‬العددان األول والثاني‪ ،‬مايو‬
‫‪ -8‬محمد بيومي مهران‪ :‬مصر‪ ،‬الجزء الثاني‪ :‬منذ‬ ‫وأكتوبر ‪ ،1948‬ص‪.86 -41‬‬
‫قيام امللكية حتى قيام الدولة الحديثة‪ ،‬اإلسكندرية‪:‬‬ ‫‪ -2‬أسامة حسن‪ :‬مصر الفرعونية‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار‬
‫دار املعرفة الجامعية‪.1996 ،‬‬ ‫األمل للنشر والتوزيع‪.1998 ،‬‬
‫‪ -9‬محمد بيومي مهران‪ :‬مصر‪ ،‬الجزء الثالث‪ :‬منذ‬ ‫‪ -3‬جيمس هنري برستد‪ :‬تاريخ مصر منذ أقدم‬
‫قيام الدولة الحديثة حتى األسرة الحادية والثالثون‪،‬‬ ‫العصور إىل العصر الفارسي‪ ،‬ترجمة حسن كمال‪،‬‬
‫اإلسكندرية‪ :‬دار املعرفة الجامعية‪.1997 ،‬‬ ‫القاهرة‪ :‬مكتبة مدبويل‪.1990 ،‬‬
‫‪ -10‬محمد عيل سعد اهلل‪ :‬يف تاريخ مصر القديمة‪،‬‬ ‫‪ -4‬سليم حسن‪ :‬موسوعة مصر القديمة‪ ،‬الجزء‬
‫اإلسكندرية‪ :‬مركز اإلسكندرية للكتاب‪.2001 ،‬‬ ‫الرابع‪ :‬عهد الهكسوس وتأسيس اإلمبراطورية‪،‬‬
‫‪11- Margaret R. Bunsen: Encyclopedia of‬‬ ‫القاهرة‪ :‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪.2001 ،‬‬
‫‪Ancient Egypt, Revised Edition, U.S.A.:‬‬ ‫‪ -5‬سمير أديب‪ :‬تاريخ وحضارة مصر القديمة‪،‬‬
‫‪Facts on File, 2002.‬‬ ‫القاهرة‪.1997 :‬‬
‫‪ -6‬عبد العزيز صالح‪ :‬الشرق األدنى القديم‪ ،‬مصر‬
‫‪213‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫رأي‬

‫قبيحا‪..‬‬
‫ً‬ ‫ال تولد‬
‫فلسفة القبح‪،‬‬ ‫أسماء عبد‬

‫ثنائية الجميلة‬ ‫العزيز مصطفى‬

‫والوحش‬

‫ما يحدد تعامل الناس معنا طوال‬ ‫«عشت هذه السنين الطويلة وأنا‬ ‫لقد أرسلتني إىل عامل‬

‫«إلهي‪..‬‬
‫الوقت‪ ..‬وال سيما مظهرنا‪.‬‬ ‫أحلم باالنتقام من أفراد املجتمع‬ ‫أشعر فيه بالخجل‬
‫يف هذا املقال لست بصدد الحديث‬ ‫الذين أفلحوا يف أن يجعلوني أكفر‬ ‫الشديد من نفسي‬
‫عن الكاتب الراحل بشخصه وال‬ ‫بكل شيء»‪.‬‬ ‫كلما أبصرتها فوق‬
‫عن القبح كدافع لالنتحار‪ ،‬بل‬ ‫تجلعني تلك الكلمات أتصور أن‬ ‫عيون اآلخرين‪ ،‬أو‬
‫إللقاء الضوء عن «فلسفة القبح»‬ ‫أناسا مل يعرفوا‬
‫يف هذا العامل ً‬ ‫فوق مئات السطوح‬
‫املُتجاهلة يف تراثنا اإلنساني يف‬ ‫أناسا عاشوا‬
‫الحب طول حياتهم‪ً ،‬‬ ‫الالمعة التي مألت‬
‫كثير من الفترات عىل مر العصور‪.‬‬ ‫برودة الجحيم ألنهم مل يتالقوا‬ ‫بها عاملك‪ ،‬ربما عن‬
‫مع اآلخرين‪ ،‬تجعلني أفكر يف‬ ‫عمد لتذلني أكثر‪ ..‬لتشعرني‬
‫ماذا عن القبح؟‬ ‫ثنائيات الجميلة والوحش‪( :‬القبح‬ ‫أكثر بالهوان‪ ..‬إلهي ال أسألك‬
‫مقابل الجمال‪ ،‬الحب مقابل الكره‪،‬‬ ‫عن السبب‪ ،‬فال ريب أنك‬
‫إنه موضوع محرج‪ ،‬مفهوم‬ ‫النُبل مقابل الوضاعة‪ ،‬االحترام‬ ‫تملك سب ًبا وجي ًها لذلك‪ ،‬لكني‬
‫بائس‪ ،‬وبالطبع من الصعب‬ ‫مقابل االنحالل)‪ ،‬لنفهم منها أمل‬ ‫سأسألك‪ :‬هل ح ًّقا قصدت ذلك؟‬
‫تحديده‪ ،‬هل هناك أي اتفاق حول‬ ‫كل شخصية منبوذة لسبب غير‬ ‫هل ح ًقا قصدته(‪)1‬؟‬
‫شخصا ما أو‬
‫ً‬ ‫ما الذي يجعل‬ ‫مبرر‪.‬‬ ‫بهذه الكلمات صور الكاتب‬
‫قبيحا؟ البثور والندوب؟‬
‫ً‬ ‫شيئًا ما‬ ‫حقيقة األمر نحن ال نختار‬ ‫املصري املنتحر رجاء عليش‬
‫أم األنوف املعقوفة والعيون‬ ‫أشكالنا كما الحال مع لون‬ ‫معاناته مع شكله «القبيح» الذي‬
‫الجاحظة؟‬ ‫بشرتنا‪ ،‬نسبنا‪ ،‬ال نختار‬ ‫كان سبب أمله وإقصائه من‬
‫يصور فيكتو هوجو يف قصة‬ ‫طبقتنا االجتماعية وال ظروفنا‬ ‫الجميع‪ ،‬يف سبيل الخالص من‬
‫(أحدب نوتردام) التي تعتبر‬ ‫االقتصادية ‪-‬إىل حد ما‪ -‬ومع‬ ‫تلك املعاناة أطلق رصاصة عىل‬
‫من أشهر روايات الكاتب ثنائية‬ ‫ذلك فإن كل ما سبق هو أساس‬ ‫رأسه تار ًكا رسالة جاء فيها‪:‬‬
‫يعتقد الناس أن المظهر الخارجي‬
‫تعريفات للجمال‪ ،‬وبفضل أعمالهم‬
‫من املمكن إعادة بناء تصور‬ ‫حتمي في الطبيعة البشرية‪ ،‬وليس‬
‫لألفكار الجمالية مع مرور الوقت‪،‬‬ ‫هناك الكثير مما يمكنهم فعله‬
‫لكن هذا مل يحدث مع القبح‪،‬‬
‫حيث تم تعريفه يف معظم األوقات‬ ‫حيال ذلك‪ ،‬بجانب أنه ال يوجد سبب‬
‫عىل أنه نقيض للجمال‪ ،‬ومل‬ ‫حقيقي يجعلنا نعتقد أن األشخاص‬
‫يخصص أي شخص تقريبًا أ ًّيا‬
‫من األطروحات من أي نوع حول‬ ‫الجميلين هم في الواقع أناس‬
‫القبح الذي تم إهماله واختزاله‬ ‫طيبون وأن القبيحين أشرار‪ ،‬ومع‬
‫إىل إشارات عابرة يف األعمال‬
‫الهامشية عبر الزمن‪.‬‬ ‫ذلك تم تكريس ذلك من خالل لغتنا‬
‫حتى اآلن‪ ،‬ال يزال اآلباء يريدون‬ ‫وأدبنا ووسائل اإلعالم والعديد من‬
‫أن يرزقوا بأطفال حسنة املظهر‪،‬‬
‫ال يزال الرجال يريدون الزواج‬ ‫الفالسفة‪ ،‬وثنائيتنا البسيطة التي‬
‫من املرأة الجميلة‪ ،‬ال يزال‬ ‫اختزلنا فيها الصور النمطية للناس‪.‬‬
‫الجمهور يبحث عن نجم الشاشة‬
‫الجذاب‪ ،‬حتى صناعة الجراحة‬
‫التجميلية املزدهرة تؤكد التحيز‬
‫الواضح وتع ُّد اعترافًا اجتماعيًّا‬
‫بأن األشخاص الجميلين أكثر‬ ‫أو ساحرات الهالوين يف الثقافة‬ ‫«الجميلة والوحش» حول الجمال‬
‫ذكا ًء وأكثر جدارة بالثقة‪ ،‬وهو‬ ‫الغربية مع تجاعيدهم املخيفة‬ ‫والقبح‪ ،‬وماهية الجميل وماهية‬
‫ما يعني أن األشخاص القبيحين‬ ‫وأنوفهم املعقوفة واألسنان‬ ‫القبيح‪ ،‬تدور أحداث القصة يف‬
‫ُيفترض أنهم أقل جدارة بالثقة‬
‫الفاسدة‪ ،‬كذلك أفالم ديزني‬ ‫كنيسة (نوتردام) يف باريس‬
‫وأقل ذكا ًء‪ ،‬هذا االستثمار يف‬
‫املقدمة للصغار نجدها تقوم‬ ‫واملنطقة املحيطة بها‪ ،‬عن شخص‬
‫بعض أشكال الطب التجمييل اليوم‬
‫بتحويل سندريال من شخصية‬ ‫لقيط أحدب وقبيح ج ًّدا يدعى‬
‫هو بحد ذاته تيار خفي الضطهاد‬
‫ذات شعر مجعد ومظهر غير‬ ‫(كوازيمودو) بطل الرواية‪ ،‬الذي‬
‫القبح (شفط الدهون‪ ،‬تقويم‬
‫مرغوب إىل جسد نحيف وجمال‬ ‫يقع ضحية رجل الدين (فرولو)‬
‫األسنان‪ ،‬تصغير األنف‪ ..‬إلخ)‪،‬‬
‫نمو صناعة الجراحة التجميلية‬ ‫هوليودي تقليدي كلما ظهرت‬ ‫الذى يظهر بمالمح الجمال يف‬
‫يف مجملها يعزو إىل الخوف‬ ‫سواء يف األفالم أو حتى عىل‬ ‫الخارج ولكنه شرير وخبيث‬
‫العميق والشائع من القبح‪ ،‬بل‬ ‫السجادة الحمراء أو أغلفة‬ ‫وحقود يف داخله‪.‬‬
‫ويعزز النفور منه‪ ،‬من خالل‬ ‫املجالت‪.‬‬ ‫أيضا‪ ،‬يف اليونان القديمة كانت‬‫ً‬
‫الترغيب املتزايد لتغيير مظهر‬ ‫بالتايل فالثقافة التي ُيعبد فيها‬ ‫الصلة بين الجمال والنبل الروحي‬
‫الوجه والجسم من خالل الطب‬ ‫الجمال هي ثقافة الضطهاد القبح‬ ‫مسألة اعتقاد راسخ‪ ،‬لقد كرم‬
‫ومستحضرات التجميل والتغذية‪،‬‬ ‫بحد ذاتها‪ ،‬من الثقافة اليونانية‬ ‫األغريق بشكل صريح الجمال‪،‬‬
‫كل ذلك أتى كنتيجة حتمية‬ ‫إىل وقتنا الحايل‪ ،‬حتى لو كان‬ ‫قاموا بإنشاء املعابد والتماثيل‬
‫لللتدفق املتواصل من صور‬ ‫بدل من التدخل‬ ‫التدخل الجراحي ً‬ ‫آللهة الجمال‪ ،‬كما تم ربط القبح‬
‫الوسائط الجماهيرية اإلعالمية‬ ‫اإللهي هو الحال اليوم‪ ،‬يف كل‬ ‫بالشر والخوف وبالوحوش عىل‬
‫التي تمجد الجمال الجسدي‪ ،‬وهو‬ ‫قرن قدم الفالسفة والفنانون‬ ‫سبيل املثال‪ ،‬الساحرة الشريرة‬
‫‪215‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫رأي‬

‫ما يرجع ذلك إىل ميراث اإلنسانية‬


‫من ثقافة اضطهاد القبح عبر‬
‫العصور‪.‬‬
‫ما بين اليونان القديمة واليوم‬
‫فرق بسيط للغاية‪ ،‬وهو أن‬
‫اليونانيين القدماء مل يشعروا‬
‫بالحرج من التصريح بحقيقة‬
‫أن كل تلك العمليات التجميلية‬
‫هي يف حقيقة األمر نبذ للقبح‪،‬‬
‫أصبح القبح مثل وصمة العار‬
‫عىل سعادة اإلنسان‪ ،‬نفس املنطق‬
‫سا ٍر إىل اآلن لكن بطريقة تجعل‬
‫أمرا صعبًا‪.‬‬
‫التصريح به علنًا ً‬

‫رجاء عليش‬ ‫جورج أورويل‬ ‫آرثر ميللر‬


‫االشمئزاز من القبح‬
‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫هل الحظت أننا اليوم نهتم‬
‫األقوياء أو األصحاء أو جميلو‬ ‫وتحطيم معنوياته‪ ..‬يقف البشر‬ ‫بأمراض السمنة‪ ،‬شخصيًّا أعرف‬
‫الشكل‪ ،‬ذلك ألن الجمال يجعلنا‬ ‫مدهوشين أمام ظاهرة غريبة‬ ‫أعدا ًدا كبيرة من املحيطين ممن‬
‫نميل إىل تأليه الجنس البشري‬ ‫ال يفهمونها‪ ،‬ظاهرة تستفز كل‬ ‫خضعوا لها‪ ،‬صحيح أن الوزن‬
‫عىل شكل تماثيل وآثار‪ ،‬والقبح‬ ‫مشاعر الكراهية يف داخلهم‪ ،‬كل‬ ‫الزائد يضر بصحة اإلنسان‬
‫يستنزف طاقتنا وروحنا مما‬ ‫الثمار املأساوية التي يصبح‬ ‫وبالتايل فاملحافظة عليه أمر‬
‫يجعلنا محبطين بشأن مستقبل‬ ‫القبيح فيها ضحية لها يف نهاية‬ ‫صحي‪ ،‬لكن بالحديث عن األمر‬
‫نوعنا‪ ،‬هل هذا متطرف ً‬
‫قليل؟‬ ‫األمر»(‪.)2‬‬ ‫عىل طريقة اليونانيين القدماء‬
‫ربما‪ ..‬بالتأكيد ال نفضل ذلك‬ ‫من الناحية الفلسفية أستحضر‬ ‫فإن األمر قد يكون مدفو ًعا يف‬
‫لسبب واحد وهو أننا ال نستطيع‬ ‫كلمات نيتشه يف (أفول األصنام)‬ ‫األساس باالشمئزاز من القبح‪،‬‬
‫الحكم عىل الكتاب من غالفه‪.‬‬ ‫حين قال‪« :‬كل شيء قبيح يضعف‬ ‫عندما تقابل هذا النوع من‬
‫يربط نيتشه هذا التحول ملفهوم‬ ‫اإلنسان ويحزنه‪ ،‬ألنه يذكره‬ ‫األشخاص فأنت يف قرارة نفسك‬
‫الجمال من الخارج إىل الداخل‬ ‫بالفساد والعجز والخطر‪ ،‬القبح‬ ‫تشعر بنوع من النفور وحتى‬
‫بذكر الثورة التي أحدثها الكهنة‬ ‫يفقد قوة اإلنسان‪ ،‬عندما يكون‬ ‫الغضب تجاههم‪ ،‬يبدو أنه من‬
‫والفالسفة الذين تحدث عنهم‬ ‫قبيحا يصاب باالكتئاب‪..‬‬
‫ً‬ ‫اإلنسان‬ ‫الخطأ التصريح بمثل هذا األمر‪،‬‬
‫سقراط‪ ،‬رفض سقراط الجمال‬ ‫يفقد إحساسه بالقوة‪ ..‬وتتضاءل‬ ‫ألنه غير أخالقي للغاية لكن هذا‬
‫الجسدي باعتبار أنه سبب‬ ‫إرادته يف السيطرة بسبب القبح»‪،‬‬ ‫يحدث‪.‬‬
‫رئيسي للسعادة‪ ،‬مدعيًا أن العقل‬ ‫ما يطرحه نيتشه أننا نعتبر القبح‬ ‫كتب (رجاء عليش)‪« :‬القبح‬
‫يحب الفضيلة والفضيلة تجلب‬ ‫تهدي ًدا ملجموعتنا البشرية‪ ،‬أو‬ ‫يستفز مشاعر اآلخرين العنيفة‪،‬‬
‫السعادة ‪-‬يبدو أن سقراط نفسه‬ ‫عىل حد كلماته انحالل ملجموعة‬ ‫كل حاستهم النقدية الساخرة‪،‬‬
‫مل يكن عىل قدر من الجمال‪ -‬كان‬ ‫البشر املتفوقين‪ ،‬بالنسبة لنيتشه‪:‬‬ ‫فيوجهونها بضراوة عنيفة ناحية‬
‫لدى نيتشه تفسير ساخر لكل‬ ‫األشخاص املستحقون للتقدير هم‬ ‫اإلنسان القبيح‪ ،‬قاصدين إهانته‬
‫‪216‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫هذا‪« ..‬مع الجدل يتصدر الرعاع»‪.‬‬


‫حسنًا‪ ..‬ما أفضل طريقة لنقد‬
‫انعكاسا عىل‬
‫ً‬ ‫ثقافة تأخذ الجمال‬
‫النبل والسمو الروحي؟ قد يفيد‬
‫تذكر مقولة جورج أورويل‪:‬‬
‫«يف سن الخمسين يصبح لكل‬
‫شخص الوجه الذي يستحقه»‪،‬‬
‫هنا من السهل أن نرى تجريد‬
‫الجمال الجسدي من كل الفضائل‬
‫البديهية التي تتبعه‪ ،‬وإقناع‬
‫الناس بأنه أمر نسبي‪،‬‬
‫لكن هل معنى هذا أن‬
‫ثقافتنا الحالية أقل‬
‫اضطها ًدا للقبح‬
‫من ثقافة اإلغريق؟‬
‫حقيقة األمر‬
‫أننا فقط نتستر‬
‫ونتهرب بادعاء أن‬
‫القبح غير موجود‪،‬‬
‫والتهرب من كوننا‬
‫لسنا لطفاء أو ضحليي‬
‫التفكير‪ ،‬هذا اإلنكار هو‬
‫–بح ٍّد‪ -‬ال يسهم إال بخلق‬
‫نظام قمع جديد بطريقة ما‪.‬‬
‫يف فترة «ما بعد العرقية»‬
‫يشبه وضع القبح وضع‬
‫السود يف املجتمعات الغربية‪،‬‬
‫ألنها نفس الفئة التي تم‬
‫اضطهادها ثم يتم افتراض أو‬
‫ادعاء عدم وجودها باألساس‪،‬‬
‫ومع ذلك قد يكون الوضع‬
‫بالنسبة للقبح أسوأ‪ ،‬بمعنى‬
‫أن القبح مل يتم أخذه بالجدية‬
‫الالزمة لظهورة كفئة اجتماعية‬
‫مارلين مونرو‬ ‫مضطهدة تعاني من القهر‬
‫االجتماعي‪ ،‬ربما يرجع السبب يف‬
‫ذلك إىل عدم وجود جمعية وطنية‬
‫أو رابطة خاصة «للقبيحين»‬
‫تتحرك من أجل التغيير‪ ،‬صحيح‬
‫‪217‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫رأي‬

‫أن كل العلل ال يمكن مقارنتها‬


‫بتلك التي سببتها العنصرية‪ ،‬لكن‬
‫هذا ال يجعلها غير موجودة‪ ،‬فهي‬
‫تقصيك وتقلل فرصك مثلها مثل‬
‫لون بشرتك‪ ،‬يبدأ املظهر ‪-‬مثل‬
‫أي شكل من أشكال التعصب‪-‬‬
‫بالتحيز والصور النمطية‪ ،‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬قد يجد املدير الذي‬
‫يجلس خلف طاولة قانونًا لردعه‬
‫ومعاقبته عندما يقرر أنه سيطرد‬
‫امرأة ألنه ال يحب بشرتها ألن‬
‫بشرتها بنية‪ ،‬لذلك نسميها‬
‫عنصرية‪ ،‬أو إذا قرر طردها ألنها‬
‫أنثى‪ ،‬يسمى هذا التحيز الجنسي‪،‬‬
‫أما إذا طردها ألن بشرتها ملطخة‬
‫مودة االدهم‬ ‫حنين حسام‬ ‫فيكتور هوجو‬
‫بالبثور وجسدها غير جذاب‪..‬‬
‫حسنًا‪ ،‬ال عقوبة قانوية لذلك‪،‬‬
‫كثيرا‪..‬‬
‫ً‬ ‫نحن ال نتحدث عن ذلك‬
‫القبح ليس كالعنصرية‪ ،‬مل يكن‬
‫تكاد تكون «وثنية» يف قيمها‬ ‫األشخاص الجميلين هم يف الواقع‬ ‫هناك قانون إلرسال القبيحين إىل‬
‫‪-‬كثقافة اليونانيين القدماء‪ -‬أي‬ ‫أناس طيبون وأن القبيحون‬ ‫مؤخرة الحافلة كالسود يف أمريكا‬
‫أنه يركز بشكل كبير عىل العرض‬ ‫أشرار‪ ،‬ومع ذلك تم تكريس ذلك‬ ‫أو قوانين الفصل العنصري يف‬
‫التنافسي واإلنجاز الشخصي‪،‬‬ ‫من خالل لغتنا وأدبنا ووسائل‬ ‫جنوب أفريقيا‪ ،‬لكن ‪-‬وبالرغم‬
‫وفكرة أن الجمال الجسدي‬ ‫اإلعالم والعديد من الفالسفة‪،‬‬ ‫منا يف بعض السياقات الدنيوية‪-‬‬
‫هو عالمة خارجية عىل الجمال‬ ‫وثنائيتنا البسيطة التي اختزلنا‬ ‫يذهب النصيب األكبر لجمييل‬
‫األخالقي والقيمة اإلجمالية‪.‬‬ ‫فيها الصور النمطية للناس‪.‬‬ ‫املظهر بغض النظر عن جدارتهم‪.‬‬
‫تحمل الثقافة الوثنية ً‬
‫بطل مثاليًّا‬ ‫إذن‪ :‬ملاذا نتجاهل هذا النوع من‬
‫معينًا ‪-‬أولئك الذين ُو ِهبوا وراثيًّا‬ ‫التمييز؟ ملاذا ال نحب مصارحة‬
‫يف مجاالت الرياضة والذكاء‬ ‫أنفسنا بالتعصب األعمى الذي‬ ‫حان الوقت إللقاء نظرة‬
‫والجمال‪ -‬تنظر هذه الثقافة إىل‬ ‫نحن مذنبون به عىل مر العصور؟‬ ‫عىل القبح يف ظل الجمال‬
‫السمنة عىل أنها ضعف أخالقي‬ ‫جوابي العام هو أنه من الصعب‬
‫وعالمة عىل أنك تنتمي إىل طبقة‬ ‫للغاية مخالفة القيم األساسية‬ ‫عىل مر التاريخ مل يكن من‬
‫اجتماعية أدنى‪ ،‬تركز ثقافتنا‬ ‫لثقافتك وميراثك اإلنساني‪ ،‬حتى‬ ‫الصحيح نو ًعا ما الحديث عن‬
‫الوثنية بشكل كبير عىل الساحة‬ ‫عندما تعلم أن هذا هو الشيء‬ ‫موضوع القبح املُ َ‬
‫همل‪ ،‬ربما‬
‫الرياضية والفن وشاشات وسائل‬ ‫الصحيح الذي يجب القيام به!‬ ‫يعتقد الناس أن املظهر الخارجي‬
‫التواصل االجتماعي‪ ،‬حيث الجمال‬ ‫عىل مدى العقود القليلة املاضية‪،‬‬ ‫حتمي يف الطبيعة البشرية‪ ،‬وليس‬
‫والقوة ونسبة الذكاء‪ ،‬يمكن‬ ‫اندمجت وسائل التواصل‬ ‫هناك الكثير مما يمكنهم فعله‬
‫عرضها بشكل مثير لإلعجاب‪.‬‬ ‫االجتماعي وثقافة الجدارة‬ ‫حيال ذلك‪ ،‬بجانب أنه ال يوجد‬
‫تكمن هذه الروح وراء العديد‬ ‫واملشاهير لتشكيل ثقافة حديثة‬ ‫سبب حقيقي يجعلنا نعتقد أن‬
‫‪218‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫من صور الثقافة االستهالكية‬


‫املقدمة من خالل إعالنات‬
‫األحذية الرياضية وصالة األلعاب‬
‫ً‬
‫أبطال‬ ‫الرياضية‪ ،‬والتي تحمل‬
‫تتجسد فيهم املواهب الجسدية‬
‫والخير األخالقي‪ ،‬اعتقاد معظم‬
‫الناس أن الوجه «الجذاب» يتمتع‬
‫بميزات نظيفة ومتناسقة‪ ،‬بل‬
‫يمكن سهولة التعرف عىل الوجوه‬
‫النموذجية الجميلة وتذكرها أكثر‬
‫من تلك الوجوه غير املنتظمة‬
‫و»غير الجذابة» والقبيحة‪ ،‬إنها‬
‫باختصار «وثنية» الرئيس‬
‫التنفيذي الذي يحب أن يحيط‬
‫به فريق من املوظفين املتميزين‬
‫أصحاب املظهر الجسدي الجميل‪.‬‬
‫وهكذا يبدأ األشخاص الجذابون‬
‫بميزة جسدية جميلة يف النجاح‪،‬‬
‫يتكون عند الشخص الجميل‬
‫بيتي القبيحة‬ ‫شعور االستحقاق والجدارة يف‬
‫ظل هذا امليراث اإلنساني الطويل‬
‫عىل سبيل املثال تعكس مارلين‬ ‫من تأثير «وثنية الجمال»‪ ،‬نجد‬ ‫من عبادة الجمال‪ ،‬لكن بعد ذلك‪،‬‬
‫مونرو تلك الوثنية‪ ،‬فقد تلقفتها‬ ‫أنه تم تثبيتها يف العصر الحديث‬ ‫يطبق الناس جميع أنواع الصور‬
‫الشركات لكي تقدمها للعامل‬ ‫من قبل الثقافة الغربية الرأسمالية‬ ‫النمطية غير املرتبطة عىل نطاق‬
‫بوصفها «األنثى» ال املرأة‪ ،‬نموذج‬ ‫بشكل صريح‪.‬‬ ‫واسع عليهم وتترسخ يف الوعي‬
‫«اإلغراء» ال نموذج التفكير‬ ‫الجمعي زمنًا بعد زمن‪ ،‬حيث‬
‫تماما من‬
‫ً‬ ‫العقالني‪ ،‬هي الضد‬ ‫يتم وصفهم بأنهم جديرون‬
‫هيباثيا‪ ،‬كقيمة معرفية‪ ،‬والضد‬ ‫بالثقة‪ ،‬وكفءون‪ ،‬وودودون‪،‬‬
‫تماما من «املوناليزا» كقيمة‬ ‫ومحبوبون‪ ،‬وذكيون‪ ،‬نرى‬
‫حضارية‪ ،‬واستطاعت الشركات‬ ‫مجالت املوضة التي تتخلل فيها‬
‫وجهات التمويل األمريكية أن‬ ‫مقاالت حول العدالة االجتماعية‬
‫مقياسا للجمال‪،‬‬
‫ً‬ ‫تجعل منها‬ ‫مع الصور املنتشرة للجمال‬
‫مقياسا لطغيان الجسد عىل العقل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫املستحيل‪ ،‬يقول لسان حالهم‬
‫مقياسا لسطوة الحسي عىل‬ ‫ً‬ ‫«نحن نؤمن باملساواة االجتماعية‬
‫أسيرا‬
‫ً‬ ‫العامل‬ ‫فوقع‬ ‫الشعوري‪،‬‬ ‫وتكافؤ الفرص‪ ..‬طاملا أنك جميل‬
‫يف قبضتها‪ ،‬حتي أن كاتبًا مه ًّما‬ ‫املظهر»‪.‬‬
‫‪-‬آرثر ميللر‪ -‬تزوجها‪ ،‬ليعبر هذا‬ ‫عىل العكس من ذلك‪ ،‬يحصل‬
‫الزواج عن خضوع العقل للجسد‪،‬‬ ‫األشخاص القبيحون عىل تسميات‬
‫وعن ما تمثله قيم الشكالنية‬ ‫تماما‪ ،‬هذه نسخة عملية‬ ‫ً‬ ‫معاكسة‬
‫‪219‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫رأي‬

‫عىل تلك القروض‪ ،‬هم األكثر‬


‫ح ًّظا يف عروض الزواج وغيرها‬
‫من اآلثار التمييزية من أقرانهم‬
‫األقل جاذبية‪ ،‬التأثير الكيل لهذه‬
‫التحيزات ممتدة عبر الزمن‪،‬‬
‫أستطيع القول إن الذين تعرضوا‬
‫للتمييز بسبب مظهرهم أكثر من‬
‫الذين تعرضوا للتمييز بسبب‬
‫عرقهم‪ ،‬ألنهم مل يستوفوا املعايير‬
‫االجتماعية املهيمنة للجمال بشك ٍل‬
‫واف‪ ،‬واآلثار كارثية تصل أحيانًا‬‫ٍ‬
‫لالنتحار كما يف حالة رجاء‬
‫عليش‪.‬‬

‫قبيحا‬
‫ً‬ ‫كن‬
‫إن التركيز عىل الجمال الجسدي‬
‫هو أمر سطحي بل وينتج‬
‫سياقات خاطئة وغيرعادلة‬
‫وخطيرة وسخيفة‪ ،‬ومع أن غالبية‬ ‫هيباتيا‬
‫الرسائل يف املجتمع تستمر يف‬
‫الصراخ يف وجوهنا‪« ..‬ال تكن‬
‫قبيحا»‪ ،‬إال أنني سأذكركم‬
‫ً‬
‫بتيارات مضادة بدأت يف الظهور‪،‬‬
‫عىل سبيل املثال مسلسل «بيتي‬
‫القبيحة» التليفزيوني‪ ،‬والذي‬
‫روجت له شبكات انتاج ‪ABC‬‬
‫قبيحا»‪،‬‬
‫ً‬ ‫األميريكية بحملة «كن‬
‫التي تركز عىل احترام الذات‬ ‫من جديد؟‬ ‫من تأثير عيل الحضارة الغربية‬
‫للفتيات والشابات‪ً ،‬‬
‫بدل من‬ ‫بالتايل‪ ،‬يف كثير من األحيان‪،‬‬ ‫يف ترهلها املعريف والفلسفي‬
‫التركيز عىل املظهر الخارجي‪.‬‬ ‫يحصل الجذاب عىل معاملة من‬ ‫والثقايف(‪ ،)3‬حتى يف تطبيقات‬
‫أثارت شعبية املسلسل ‪-‬الذي‬ ‫الدرجة األوىل‪ ،‬معاملة نجوم‬ ‫وسائل التواصل االجتماعي‬
‫ظهر ألول مرة يف عام ‪،2006‬‬ ‫ونجمات هوليود‪ُ ،‬يعرض عليهم‬ ‫الحديثة‪ ،‬نجد أن «مهارة املظهر‬
‫وتم استنساخ نسخة عربية منه‬ ‫مقابالت العمل‪ ،‬ومن املرجح أن‬ ‫الفردية» ‪-‬إذا جاز التعبير‪ -‬هي‬
‫بعنوان «هبة رجل الغراب»‪-‬‬ ‫يتم تعيينهم عند إجراء املقابالت‬ ‫من تجعلك نجم التيك توك أو‬
‫ً‬
‫نقاشا واس ًعا حول ما إذا كان‬ ‫وأكثر عرضة للترقية من األفراد‬ ‫اليوتيوب بال منازع‪ ،‬ف ِّكر يف‬
‫هذا االتجاه ينذر بتسامح أكبر‬ ‫األقل جاذبية‪ ،‬هم أكثر عرضة‬ ‫نجوم التطبيق الشهيرات حنين‬
‫يف املجتمع تجاه غير الجذاب‬ ‫للحصول عىل قروض وأكثر‬ ‫حسام‪ /‬مودة األدهم‪ ..‬وغيرهن‪،‬‬
‫أو القبيح‪ ،‬حثت حملة ‪ABC‬‬ ‫عرضة لتلقي معدالت فائدة أقل‬ ‫أال يعيد ذلك إرث مارلين مونرو‬
‫‪220‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الداخيل‪ ،‬لكن هذا ال يمنع أننا ويف‬ ‫عىل نفس الخطى أتى من شركة‬ ‫قبيحا» النساء والفتيات‬‫ً‬ ‫«كن‬
‫الوهلة األوىل ننجذب له‪ ،‬خاصة‬ ‫فيكتوريا سيكرتز ‪Victoria’s‬‬ ‫عىل «كونهن حقيقيات‪ ،‬وذكيات‪،‬‬
‫بالنسبة للنساء‪.‬‬ ‫‪ ،Secret‬التي أطلقت خطوط‬ ‫ومتحمسات‪ ،‬وكن صادقات مع‬
‫ويف عصرنا هذا حين أصبح‬ ‫إنتاج جديدة ألنواع أجسام أكثر‬ ‫وأيضا‪ ..‬كن قبيحات»‪.‬‬‫ً‬ ‫أنفسهن‪،‬‬
‫التفاعل االفتراضي يطغي عىل‬ ‫تنو ًعا‪ ،‬عندما تكون ‪Victoria’s‬‬ ‫البحث يف ظاهرة «بيتي القبيحة»‬
‫التفاعل وج ًها لوجه‪ ،‬أصبحنا‬ ‫‪ Secret‬يف طليعة الكفاح ضد‬ ‫كسياسة تتبناها بعض الشركات‬
‫أكثر حساسية تجاه املظهر‪ ،‬لذلك‬ ‫املظهر ‪-‬حتى وإن كانت شركة‬ ‫الرأسمالية حاليًا يكشف عن اتجاه‬
‫يبدو أن مفاهيم مثل الجمال‬ ‫رأسمالية يف األساس‪ -‬يصبح‬ ‫‪-‬يسيرعىل استحياء‪ -‬لتحدي‬
‫والقبح تتكون حصر ًّيا من املعايير‬ ‫لدى البقية بعض الحماس للحاق‬ ‫املفاهيم التقليدية للجمال‪ ،‬أعجب‬
‫بالركب‪ ،‬ليس فقط من الشركات‬ ‫به الجماهير ونقاد التلفزيون‬
‫املهيمنة عىل املظهر الجسدي‪،‬‬
‫الكبرى الهادفة للربح فحسب‪ ،‬بل‬ ‫عموما‪ ،‬لقد تم ربطه‬
‫ً‬ ‫واملستهلكون‬
‫املشكلة هنا أننا كائنات متطورة‬
‫حتى من أفراد املجتمع العاديين‪،‬‬ ‫كجزء من تحول أكبر بعي ًدا عن‬
‫ولدينا شخصيات متطورة‪،‬‬
‫ألن املجتمع الذي يحفل بالجمال‬ ‫الكمال غير الواقعي للعارضة‬
‫كيف –إذن‪ -‬ال نزال نحتفظ‬
‫بهذا القدر من الهوس سيتكون‬ ‫الرفيعة واملغطاة بالرش الالمع‬
‫بهذا امليراث اإلنساني الضطهاد‬ ‫داخله سياق اجتماعي يتم فيه‬ ‫وزينة الوجه الكامل‪ ،‬ففي أي‬
‫القبح‪ ،‬فجميعنا نعرف أن قدرنا‬ ‫إلقاء اإلهانة للقبيح ضمنيًّا‪،‬‬ ‫وقت توجد فيه صور أو منتجات‬
‫وتخيالتنا وأحالمنا مثل مظهرنا‪،‬‬ ‫الحل الوحيد هو تغيير القواعد‬ ‫تظهر تنو ًعا يف املظاهر املقبولة؛‬
‫تماما‪ ،‬فقط‬
‫ً‬ ‫ليست متروكة لنا‬ ‫واملمارسات‪ ،‬بل والسياقات‬ ‫هو بحد ذاته أمر إيجابي حتى‬
‫نسعى لتحقيق أقصي استفادة‬ ‫أحيانًا‪ ،‬وإعطاء األشخاص‬ ‫لو مل تكن «بيتي» ما يمكن أن‬
‫منها‪ ،‬لذلك من األفضل أن نعيد‬ ‫فرصهم التي يستحقونها بغض‬ ‫نطلق عليه «القبيح» بأي معيار‬
‫اختبار تلك املعايير من جديد‬ ‫النظر عن مظهرهم‪ ،‬ألن ما‬ ‫موضوعي‪.‬‬
‫يستحقه األشخاص القبيحون هو‬ ‫قبيحا»‬
‫ً‬ ‫لهذا السبب فإن حملة «كن‬
‫الهوامش‪:‬‬ ‫االحترام مثل أي شخص آخر‪.‬‬ ‫ليست حيلة تسويقية منهم فقط‪،‬‬
‫أخيرا‪ ..‬نعرف جمي ًعا أن الحياة‬
‫ً‬ ‫فهي تشجع عىل التحرك بقوة‬
‫قبيحا»‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬رجا عليش‪« :‬ال تولد‬
‫غير عادلة ‪-‬قد تكون جربت‬ ‫يف االتجاه املعاكس ضد إعطاء‬
‫مكتبة مدبويل‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط (‪،)1‬‬ ‫ذلك بالفعل‪ -‬ال يوجد شخص ال‬ ‫أهمية متزايدة للجمال واملظهر‬
‫سنة النشر‪:‬غير معلوم‪.‬‬ ‫يضطهد القبيح بقصد أو بدون‪،‬‬ ‫الجسدي والتمييز عىل أساس‬
‫‪ -2‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.11‬‬ ‫ومهما كان األمر مؤسفًا من‬ ‫املظاهر‪ ،‬ألن السياقات التي تعتمد‬
‫‪ -3‬محمد دوير‪« :‬املوناليزا‬ ‫الناحية األخالقية فإن موقف‬ ‫عىل الجاذبية الشكلية تكرس من‬
‫ومارلين مونرو» مقال عىل جريدة‬ ‫اليونانيين القدماء يأتي إلينا‬ ‫جديد الضطهاد القبح‪ ،‬إنه قرار‬
‫الحوار املتمدين‪ ،‬متاح عىل‪:‬‬ ‫جمي ًعا يف شكل طبيعي مرة‬ ‫واع يتم تطبيقه عىل مستوى‬ ‫ٍ‬
‫‪https//:www.ahewar.‬‬ ‫أخرى ويتم تمريره‪ ،‬نكتشف يف‬ ‫التفاعالت االجتماعية‪ ،‬وعىل ذكر‬
‫‪org/debat/show.art.as-‬‬ ‫بعض األحيان أن جمال الشخص‬ ‫تغيير القواعد واملمارسات فإن‬
‫=‪p?aid711996‬‬ ‫الخارجي يطغي عىل فساده‬ ‫أحد األمثلة اإليجابية كذلك للسير‬
‫‪221‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫علم النفس‬

‫العالج بالفن‬
‫بين الواقع والخيال‪:‬‬ ‫مينا ناصف‬

‫اإلبداع الفني‬
‫ونظريات التحليل‬
‫النفسي‬
‫أسرارا جديدة‬
‫ً‬ ‫اإلبداع عله يكتشف‬ ‫املشحونة انفعاليًّا‪ .‬أما االستبصار؛‬ ‫ً‬
‫قليل يف املقال السابق عن‬

‫تحدثنا‬
‫تساعده عىل معالجة مرضاه؛ فركز‬ ‫وفق نفس الباحث السابق فهو‪:‬‬ ‫العامل الروماني جاكوب‬
‫عىل دراسة وتحليل شخصية‬ ‫«فهم النفس ومعرفة الذات‬ ‫مورينو (‪)1974 -1889‬‬
‫ً‬
‫متأمل يف العديد‬ ‫الفنان املبدع؛‬ ‫والصراعات واالستعدادات وفهم‬ ‫وتجاربه التي بدأها عام‬
‫من األعمال األدبية والشخصيات‬ ‫االنفعاالت‪ ،‬ومعرفة دوافع السلوك‬ ‫‪ 1911‬تقريبًا‪ ،‬ولنا أن‬
‫الفنية‪ ،‬والتي كان من ضمنها‬ ‫والعوامل املؤثرة فيه‪ ،‬ومعرفة‬ ‫نعرف أن «مورينو» مع‬
‫شخصية الفنان التشكييل؛ أحد‬ ‫مصادر االضطراب واملشكالت‪،‬‬ ‫بداية تجاربه النفسفنية؛‬
‫أهم رواد عصر النهضة (ليوناردو‬ ‫وإمكانات حلها»‪ .‬يتضح لنا من‬ ‫التقى بعامل النفس األشهر‬
‫دافنشي)‪ ،‬ولكن جاء هذا كمن‬ ‫التعريفين السابقين مدى تشابك‬ ‫سيجموند فرويد‪ ،‬والذي حاول‬
‫يكمل لوحة مرسومة بالفعل؛‬ ‫هذين املصطلحين؛ فبعد أن أرسى‬ ‫الولوج إىل العالج بالفن من خالل‬
‫أي أن اهتمام «فرويد» بدراسة‬ ‫«فرويد» دعائم منطلقاته الفكرية؛‬ ‫نظرية التحليل النفسي‪ ،‬والتي يف‬
‫شخصية الفنان كان جز ًءا من كل‬ ‫والتي أحدثت نقلة نوعية؛ بل كانت‬ ‫مجملها ومحصلتها النهائية تحقق‬
‫ال العكس‪.‬‬ ‫خطوة فريدة من نوعها يف تاريخ‬ ‫التنفيس االنفعايل واالستبصار‪،‬‬
‫ولكن هذا ال ينفي أنه يف الكثير من‬ ‫علم النفس؛ أصبح بعدها األب‬ ‫وتُظ ُهر فاعلية لعالج املشكالت‬
‫محاضراته ‪-‬أذكر منها محاضرته‬ ‫الكالسيكي لعلم النفس بال منازع‪.‬‬ ‫العصابية(‪ ،)1‬وبحسب (حامد‬
‫الشهيرة عن «الهفوات»‪ -‬جاءت‬ ‫ولذلك أراد «فرويد» تحقيق‬ ‫زهران ‪ )١٩٨٠‬يمكنا تعريف‬
‫أغلب أمثلته عن األدباء والشعراء؛‬ ‫الشمولية يف تناوله لكل ما‬ ‫التنفيس أو التفريغ أو التطهير‬
‫مما يؤكد عىل شيئين؛ األول إدراك‬ ‫يتعلق باإلنسان من خالل نظرية‬ ‫االنفعايل؛ عىل أنه‪ :‬قيام (العميل‪/‬‬
‫«فرويد» ألهمية الفن ودوره‬ ‫التحليل النفسي؛ فعرج إىل دراسة‬ ‫املسترشد)(‪ )2‬بنفسه بتفريغ‬
‫وتأثيره‪ ،‬والثاني أن الفن شغل‬ ‫شخصية الفنان‪ ،‬وجاء ذلك يف‬ ‫الحمولة أو الشحنة االنفعالية‬
‫مساحة كبيرة من تفكير «فرويد»؛‬ ‫سياق محاوالته الدخول إىل عامل‬ ‫من خالل تفريغ املواد والخبرات‬
‫‪222‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫األعىل) بكل ما فيه من ُمثل وقيم‬ ‫عملية التنشئة االجتماعية التي يمر‬ ‫فجاءت املحصلة النهائية قيامه‬
‫مقبولة اجتماعيًّا؛ عىل أن يتم هذا‬ ‫دائما يف حالة‬‫بها‪ ،‬و(األنا األعىل) ً‬ ‫بدراسة شخصية الفنان؛ كنموذج‬
‫التوافق دون تفريط أو إفراط‪.‬‬ ‫نشاط ويقظة وتحفز؛ فهي تظل‬ ‫بشري مغاير يستدل من خالله‬
‫ولكي ُيشبع الفرد منا (الهو)‬ ‫محتفظة بطاقتها االنفعالية وتنتظر‬ ‫عىل كل ما يتعلق باإلبداع‪.‬‬
‫بكل ما بداخله من دوافع فطرية‬ ‫فرصة لالنطالق‪.‬‬ ‫كان الفنان عند «فرويد» هو املرآة‬
‫وبدائية غير مرغوب فيها؛ يلجأ إىل‬ ‫تحدث األزمات واملشاكل نتيجة‬ ‫التي ينظر فيها ليرى من خاللها‬
‫أمور غير سوية سماها «فرويد»‬ ‫عدم توافق (األنا بين الهو واألنا‬ ‫جانبًا جدي ًدا لنظريته النفسية‪.‬‬
‫(ميكانيزمات الدفاع)‪ ،‬وهي حيل‬ ‫األعىل)؛ بمعنى آخر؛ إن التوافق‬ ‫وبعي ًدا عن كون «فرويد» معنيًّا‬
‫نفسية يستخدمها الفرد إلشباع‬ ‫واالتزان يحدث عندما يتوافق‬ ‫بدراسة الفن بشكل قائم بذاته أو‬
‫دوافعه؛ كاإلسقاط والتحويل‬ ‫(األنا بين الهو واألنا األعىل)؛‬ ‫كان هذا جز ًءا من كل؛ فال بد أن‬
‫واإلزاحة والنكوص والتسامي‬ ‫مع األخذ يف االعتبار أن كل‬ ‫قليل لنتعرف عىل ‪-‬ونتأمل‬ ‫نقف ً‬
‫والتقمص‪.‬‬ ‫قوة ال شعورية منهما تريد‬ ‫يف‪ -‬الركائز األساسية ملدرسة‬
‫ما إن دخل «فرويد» ‪-‬ومن بعده‬ ‫جذب (األنا) إليها؛ فهما بطبيعة‬ ‫التحليل النفسي‪ ،‬والتي ترى‬
‫تالميذه‪ -‬إىل عامل الفن عن طريق‬ ‫الحال متناقضان يدور بينها‬ ‫مكونات الشخصية بشكل عام عىل‬
‫نظرية التحليل النفسي؛ حتى‬ ‫صراع ويسببان صرا ًعا لألفراد؛‬ ‫النحو اآلتي‪:‬‬
‫وجدناه يقرر أن منبع اإلبداع‬ ‫فـ(الهو) غرائز جنسية مرفوضة‬ ‫ال ُه َو ‪ :id‬وهو املكان أو املخزن‬
‫هو الالشعور؛ فهو املادة التي‬ ‫ومثل عليا‬
‫(واألنا األعىل) قيم ُ‬ ‫أو املستودع املوجود فيه الغرائز‬
‫تصنع أحالمنا سواء كانت الليلية‬ ‫مرغوبة‪ ،‬وبالتايل (األنا) تعيش‬ ‫البدائية والفطرية خاصة الغرائز‬
‫أو اليقظة‪ ،‬وما بينهما؛ وعىل حد‬ ‫صراعها بينهما من خالل قوة‬ ‫ذات الطبيعة الجنسية‪ ،‬ويوجد‬
‫تعبير د‪.‬مصطفى سويف يف‬ ‫ثالثة هي قوة املجتمع املتمثلة يف‬ ‫أيضا بداخل هذا املستودع‬ ‫ً‬
‫كتابه دراسات نفسية يف اإلبداع‬ ‫ضوابطه التي تفرض وتُقر عىل‬ ‫الحوادث واألحداث واملواقف‬
‫والتلقي‪« :‬فالشعراء يغرقون فيها‬ ‫الفرد نم ًطا محد ًدا من السلوك؛‬ ‫املؤملة‪ ،‬واملعتقدات واألفكار غير‬
‫بعماء شديد ويخرجون منها‬ ‫فيطلب من (األنا) الوصول إىل‬ ‫ُ‬ ‫املقبولة واملرفوضة اجتماعيًّا‪،‬‬
‫برموز يشعرون فيها بلذة جمالية‬ ‫التوافق والتوازن بين متطلبات‬ ‫وسمى فرويد الطاقة الجنسية‬
‫دون إدراك ملعناها الحقيقي»‪.‬‬ ‫(الهو) الجنسية الغريزية الفطرية‬ ‫بـ(الليبيدو)‪.‬‬
‫وعندما تأمل كارل يونج ‪-‬وهو‬ ‫املرفوضة وغير املقبولة‪ ،‬و(األنا‬ ‫األنا ‪ :ego‬يقع بين (الهو واألنا‬
‫أحد أهم تالميذ فرويد‪ -‬أشعار‬ ‫األعىل) وهو ميزان بينهما‪،‬‬
‫إنجيلوس سيليزيوس يف التصوف‬ ‫وكالهما (الهو واألنا األعيل)‬
‫قال‪« :‬إنه ملما يدعو للسخرية أن‬ ‫يريد جذب (األنا) إليه؛ و(األنا)‬
‫نزعم أن مثل هذه األفكار مل تكن‬ ‫هو املسؤول عن الشعور؛ أي‬
‫سوى ناتج للتأمل املشعور به»؛‬ ‫الحياة الشعورية للفرد؛ ومن‬
‫وبنظرة عابرة لهذه املقولة نجد‬ ‫خالل (األنا) يتم التعامل مع‬
‫أن «يونج» يرى أن الشعور ليس‬ ‫مكونات ومعطيات وتفاصيل العامل‬
‫هو املحدد؛ حتى وإن كان جز ًءا‬ ‫الخارجي املحيط بنا؛ أي الحياة‬
‫من كل؛ فالشعور هو األهم النه‬ ‫بكل ما فيها واملجتمع بكل ما فيه‪.‬‬
‫هو املحدد؛ ثم يقرر «يونج» يف‬ ‫األنا األعىل ‪ :SUPER EGO‬وهو‬
‫موضع آخر؛ أن الفن نوع من‬ ‫مكان أو مخزن أو مستودع القيم‬
‫الحافز الفطري‪ ،‬يمسك بالفرد‬ ‫واملثل العليا التي ُيقرها املجتمع‪،‬‬
‫ويجعله آله له (أي يحركه بشكل‬ ‫ويحصل عليها الفرد من خالل‬
‫‪223‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫علم النفس‬

‫آيل)؛ وبالتايل وطبقًا لـ»يونج»‬


‫فالفنان ليس مزو ًدا بحرية اإلرادة؛‬
‫بل هو منزوع اإلرادة أمام هذا‬
‫الحافز الفني (الفطري)؛ وبناء‬
‫عليه يسمح الشخص للفن أن‬
‫يحقق له أغراضه وأهدافه‪ ،‬ولكن‬
‫كي يتم تحقيق هذه املهمة الصعبة؛‬
‫بل شديدة الصعوبة؛ يلجأ الفنان‬
‫ومرغما‪ ،‬وربما مسلوب‬ ‫ً‬ ‫مضط ًّرا‬
‫اإلرادة إىل التضحية بالسعادة‪،‬‬
‫هذه التضحية يكمن يف جوهرها‬
‫جزء من اإلرادة‪ ،‬وكأن «يونج»‬
‫يناقض ما قاله من أن الفنان‬
‫ليس مزو ًدا بحرية اإلرادة‪ .‬عىل‬
‫أية حال يصل بنا «يونج» إىل أن‬
‫الفنان يف سبيل تحقيق أهدافه‬
‫ألفرد أدلر‬ ‫أرتور شوبنهاور‬ ‫أدريان هيل‬
‫قد يضحي بكل شيء من شأنه‬
‫جمعي‪-‬؛ عىل أن القسم الثاني‬ ‫وكل من يقعوا خارج هذا املتوسط‬ ‫جعل الحياة تستوجب وتستأهل‬
‫من الالشعور هو منبع اإلبداع؛‬ ‫يسموا الفئات الخاصة؛ فما قاله‬ ‫وتستحق العيش من وجهة نظر‬
‫فـ(الهو) طبقًا لـ»يونج» ليس فقط‬ ‫«يونج» عن عالقة الفن بالفنان‪،‬‬ ‫الشخص العادي‪ .‬عندما قال‬
‫مخزن الغرائز والدوافع البدائية‬ ‫والذي يضحي بالسعادة‪ ،‬وبأي‬ ‫«يونج» هذه اآلراء مل يكن فرع‬
‫الفطرية الغريزية‪ ،‬لكنه مخزن‬ ‫شيء آخر من أجل العملية الفنية؛‬ ‫علم نفس الفئات الخاصة تبلور‬
‫للتراث الثقايف اإلنساني؛ بكل ما‬ ‫قد يبدو غريبًا؛ بل شديد الغرابة‬ ‫بشكل واضح‪ ،‬هذا الفرع املعني‬
‫فيه من أفكار وصل إليها الفرد‬ ‫بالنسبة للعاديين؛ لكنه سمة‬ ‫بدراسة الفئات الخاصة‪ ،‬والفئات‬
‫من خالل التنشئة االجتماعية‬ ‫رئيسية من سمات الفنانين؛‬ ‫الخاصة يف أبسط تعريفاتها؛ هي‬
‫والخبرات الحياتية وغيرها من‬ ‫وذلك ألن الفنانين فئة من ضمن‬ ‫فئات ال يستطيع املجتمع التعامل‬
‫العوامل األخرى‪ ،‬وهذا املستودع‬ ‫الفئات الخاصة؛ أي أن لهم سمات‬ ‫معها وتلبية احتياجاتها يف حين‬
‫بكل ما فيه من محتويات فكرية‬ ‫وصفات وخصائص خاصة‬ ‫أصحابها قادرون عىل ذلك‪.‬‬
‫اكتسب صفات ومقومات الغرائز‬ ‫ينفردون بها دون غيرهم‪.‬‬ ‫تضم الفئات الخاصة (العباقرة‬
‫الفطرية البدائية؛ من حيث قدرتها‬ ‫وأيضا كي‬
‫ً‬ ‫ولكي ال نوسع األمور‪،‬‬ ‫واملوهبين وشديدي الذكاء وبطيئي‬
‫عىل التأثير يف سلوكيات اإلنسان‬ ‫ال نتركها غامضة دون توضيح؛‬ ‫التعلُّم واملتخلفين) وهم يمثلون‬
‫سلبًا وإيجا ًبا‪ ،‬وبهذا يصبح‬ ‫لنا أن نعرف أن كارل يونج‬ ‫‪ %5‬تقريبًا من أي مجتمع‪ ،‬والفئات‬
‫«الليبيدو» (الطاقة الجنسية) مجرد‬ ‫وألفريد أدلر؛ واللذان يعتبرا أهم‬ ‫الخاصة؛ كل من هم خارج‬
‫عامل واحد ضعيف أمام هذا الكم‬ ‫تالميذ «فرويد»‪ ،‬اختلفا معه مثلما‬ ‫متوسط املنحى االعتدايل‪ ،‬والذي‬
‫الهائل من التراث الثقايف اإلنساني‪،‬‬ ‫اختلف معه جاكوب مورينو؛ فأكد‬ ‫يبدأ من ‪ 120 :90‬درجة‪ ،‬ويف‬
‫وبناء عليه اقترح «يونج» إطالق‬ ‫«يونج» ‪-‬والذي قسم الالشعور‬ ‫بعض الدراسات واملراجع تبدأ‬
‫مسمى الالشعور الجمعي مقابل‬ ‫إىل جزئين أحدهما شخصي‬ ‫من ‪ 115 :85‬درجة‪ .‬وكل من يقع‬
‫الالشعور الفردي عىل منطقة‬ ‫نابع من تجاربنا الشخصية التي‬ ‫داخل هذا املتوسط يسمى عاد ًّيا أو‬
‫أيضا عىل أن‬
‫(الهو)؛ ولكنه أكد ً‬ ‫غمرها الكبت والنسيان‪ ،‬واآلخر‬ ‫عاديين‪.‬‬
‫‪224‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫من مرض السل‪.‬‬ ‫أن «يونج» قال هذه األفكار‬ ‫الجزء الثاني من الالشعور‪ ،‬وهو‬
‫بالرجوع إىل كارل يونج نجده كان‬ ‫واألطروحات عن األشعار؛ أي‬ ‫الخاص باإلبداع‪ ،‬ليس وحده منبع‬
‫مدر ًكا ألهمية الكتابة الدرامية يف‬ ‫عن الكتابة الدرامية تحدي ًدا؛ هذه‬ ‫اإلبداع يف كل الكتابات الفنية عىل‬
‫التفريغ النفسي ويف قدرتها عىل‬ ‫واحدة؛ أخرى أنه عندما أكد عىل‬ ‫السواء؛ بل يف أحد نوعيها؛ فقد‬
‫عالج املرضى؛ كما كان مدر ًكا أن‬ ‫ضرورة إقامة حوار مع العمل‬ ‫قسم «يونج» الكتابة إىل نوعين‪:‬‬
‫إقامة حوار مع العمل الفني بأي‬ ‫الفني وضع الرسم من ضمن‬
‫(‪)3‬‬
‫األول كتابات سيكولوجية‬
‫وسيلة (فنية) سيكون له دالالته‬ ‫األدوات التي تُمكنَا من إقامة هذا‬ ‫يستمدها الشاعر من الشعور‪.‬‬
‫النفسية‪.‬‬ ‫الحوار؛ وجاء ذلك قبل أن يتبلور‬ ‫وال يزيد عمل الشاعر يف هذه‬
‫التأمل يف أفكار «يونج» يصل‬ ‫الفن التشكييل كأحد طرق العالج‬ ‫الكتابات عن كونه توضيحات‬
‫بنا إىل عدة مسارات؛ كما يوضح‬ ‫وتأويالت وتفسيرات ملضمون‬
‫بالفن؛ والذي ظهر عىل يد الفنان‬
‫لنا أن جوهر هذه األفكار كان‬ ‫الشعر‪ ،‬ويندرج تحت هذا النوع‬
‫البريطاني) أدريان هيل) والذي‬
‫معتم ًدا عىل الفن‪ ،‬وخاصة الكتابة‬ ‫من الكتابات كل ما يتناول املجتمع‬
‫اكتشف الفوائد العالجية للرسم‬
‫الدرامية سواء بشكل مباشر كما‬ ‫والبيئة واألسرة والحب والدراما‪.‬‬
‫والتلوين أثناء تواجده باملصحة‬ ‫النوع الثاني كتابات كشفية؛‬
‫يف األشعار؛ أو بشكل غير مباشر‬ ‫النفسية لقضاء فترة نقاهة للتعاىف‬
‫باستخدمها كوسيلة من ضمن‬ ‫وتستمد وجودها من أعماق‬
‫عدة وسائل ‪-‬اقترحها يونج‪-‬‬ ‫النفس البشرية؛ حيث الغوص‬
‫يف إجراء حوار مع العمل الفني‬ ‫يف الالشعور الجمعي‪ ،‬والذي هو‬
‫أيضا إىل‬ ‫أعمق من الالشعور الشخصي؛‬
‫لتحليله؛ كما يصل بنا ً‬
‫فالشاعر يقدم تجربة إبداعية‬
‫قيام «يونج» باستخدام وسائل‬
‫عميقة نجد فيها الرمزية من خالل‬
‫فنية كـ(الرسم‪ -‬الكتابة‪ ..‬إلخ) يف‬
‫الغوص داخله انطالقًا من الغوص‬
‫تحليل العمل الفني الشعري‪.‬‬
‫يف القسم الثاني من الالشعور‬
‫عىل أية حال‪ ،‬وقبل إنهاء هذه‬
‫الجمعي‪ .‬وقد اهتم «يونج» بالنوع‬
‫النقطة أريد توضيح أن الكتابة‬
‫الثاني من الكتابات السيكولوجية‪،‬‬
‫الدرامية رغم أن الكثيرين حاليًا‬
‫وهو النوع الكشفي‪ ،‬وعالقته‬
‫يذكرونها من ضمن فنيات‬
‫بالفنان؛ فعمل «يونج» عىل‬
‫وتقنيات وطرق العالج بالفن‪ ،‬إال‬ ‫مصطفى سويف‬
‫مساعدة الفرد عىل التركيز عىل‬
‫العمل الفني والخيال؛ بحيث إن‬
‫النظر بإمعان شديد وتدقيق أشد‬
‫للعمل الفني يؤدي إىل كشف‬
‫أسراره الداخلية؛ أي أن الغوص‬
‫يف أعماق العمل الفني يؤدي إىل‬
‫كشف خباياه ومكنوناته وأسراره؛‬
‫فإقامة حوار مع العمل الفني‬
‫‪-‬سواء كان هذا الحوار (سماعيًّا‬
‫أم صامتًا أم مكتو ًبا أم‬
‫مرسوما)‪ -‬أمر مهم‬
‫ً‬
‫ج ًّدا‪.‬‬
‫ولنا أن نالحظ‬
‫‪225‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫علم النفس‬

‫أنه‪ ،‬ويف حدود علمي‪ ،‬مل يظهر لها‬


‫أي دراسات علمية داخل مصر‬
‫تبين لنا دورها يف العالج بالفن؛‬
‫فالعالج باملوسيقى واملسرح‬
‫والفن التشكييل رغم قلة الدراسات‬
‫عنها؛ إال أن هناك دراسات علمية‬
‫سواء كانت ماجستير أو دكتوارة‬
‫أو دراسات تجريبية أو شبة‬
‫تجريبية‪ ..‬إلخ نرتكن إليها؛ لنعرف‬
‫من خاللها مدى نجاح هذه الطرق‬
‫يف تحقيق العالج النفسي بالفن؛‬
‫ولكن هذا ال ينفي وجود محاوالت‬
‫جادة؛ كاملحاضرة التي ألقاها‬
‫الدكتور راشد العيسى يف جامعة‬
‫البلقاء يف األردن‪ ،‬وكانت تحت‬
‫سيغموند فرويد‬ ‫حامد عبد السالم زهران‬ ‫جاكوب مورينو‬ ‫بالشعر”‪ ،‬وتحدث‬ ‫عنوان «العالج ِ‬
‫فيها عن تجربة شخصية خاضها‬
‫عموما؛ بتصحيح املعلومة‬ ‫النفس‬ ‫عالج بعض االضطرابات النفسية‬ ‫مع إحدى الطالبات التي كانت‬
‫ً‬
‫أو بتأكيدها‪.‬‬ ‫العميقة؛ عىل أن يتم ذلك دون‬ ‫تعاني من التلعثم؛ فكان عالجه‬
‫عىل أية حال هي دعوة مفتوحة‬ ‫اإلفصاح بأي شكل من األشكال‬ ‫لها حفظ قصيدة من عشرين بيت‬
‫للبدء يف عمل دراسات (علمية)‬ ‫عن أي تفاصيل تخص املتدربين‬ ‫وقراءتها أمام زميالتها‪ .‬محاولة‬
‫الستخدام الكتابة الدرامية يف‬ ‫«العمالء» الذين دربتهم؛ لتكون‬ ‫أخرى قام بها الكاتب املصري‬
‫فتحا‬ ‫محمد سميح‪ ،‬والذي ق َّدم ورشة‬
‫العالج النفسي؛ ليكون ذلك ً‬ ‫هذه النقاط إرهاصات عملية‬
‫علميًّا جدي ًدا لنا‪ ،‬وألي باحث يوفَّق‬ ‫للعالج بالكتابة الدرامية؛ لربما‬ ‫عمل تدريبية يف مدينة اإلسكندرية‬
‫يف ذلك‪.‬‬ ‫يأتي اليوم الذي أقوم فيه بتنفيذ‬ ‫للعالج بالكتابة‪ ،‬كل هذا باإلضافة‬
‫قليل من «يونج»‬ ‫بعد أن خلصنا ً‬ ‫دراسة علمية كاملة عن العالج‬ ‫إىل وجود إرهاصات غربية وعربية‬
‫ً‬
‫واستكمال‬ ‫‪-‬سنذكرها فيما بعد‪-‬‬
‫سأذكر بشكل مقتضب ج ًّدا جز ًءا‬ ‫مستخدما الكتابة الدرامية؛‬
‫ً‬ ‫بالفن‬
‫بسي ًطا من أفكار «أدلر» مؤسس‬ ‫لتصبح أول دراسة مصرية يف هذا‬ ‫ملا ذُكر؛ سأورد كل مالحظاتي‬
‫علم النفس الفردي‪ ،‬والذي هو‬ ‫املجال‪ ،‬أو عىل األقل تكون دراسة‬ ‫التي سجلتها‪ ،‬وكل استنتاجاتي‬
‫أيضا أحد أبرز تالميذ «فرويد»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫من ضمن دراسات أخرى‪ ،‬وذلك‬ ‫التي وصلت إليها من خالل ورش‬
‫أيضا؛ حيث قام‬‫واختلف معه ً‬ ‫يف حال وجود دراسات علمية‬ ‫عمل الكتابة الدرامية‪ ،‬والتي كان‬
‫«أدلر» باستبدال الطاقة الجنسية‬ ‫تناولت دور الكتابة الدرامية يف‬ ‫بعضها يف حقيقة األمر عبارة‬
‫بمركب نقص‪ ،‬واعتقد «ادلر» أن‬ ‫العالج بالفن‪ ،‬وهو ما مل أقابله‬ ‫عن عالج نفسي بالكتابة الدرامية‬
‫هذا املركب هو املفسر الوحيد‬ ‫خالل رحلة بحثي‪ ،‬وبالتايل قيامي‬ ‫لبعض املسترشدين‪ ،‬ونجح هذا‬
‫للسلوكيات‪ ،‬ولكن «ادلر» مل يقدم‬ ‫بذكر هذه املعلومة شيء ضروري‬ ‫الشكل الفني والجنس األدبي يف‬
‫ً‬
‫متصل‬ ‫ً‬
‫مفصل وافيًا‬ ‫شرحا‬
‫ً‬ ‫لنا‬ ‫ُملح؛ لربما يتنبه أحد املشتغلين‬
‫متكامل عن الالشعور‪ ،‬وبالتايل‬ ‫ً‬ ‫بالعالج بالفن أو الباحثين املدققين‬
‫فلسنا معنيين به حاليًا‪.‬‬ ‫أو املتخصصين يف مجال علم‬
‫‪226‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫إنجاز العمل الفني وبين انسحاب‬ ‫كيف يشبع الفنان رغباته املكبوته‬ ‫خالصة القول؛ رغم كل‬
‫(الليبيدو)‪ ،‬ويقول «شيلر» إن‬ ‫من خالل الفن‪ ،‬ومن هذه النقطة‬ ‫االختالفات التي ظهرت بين‬
‫الفن لعب؛ وكما سبق وأشرت‬ ‫تحدي ًدا كانت البداية الحقيقية التي‬ ‫(فرويد ويونج وأدلر) فإنه‬
‫إىل أن «فرويد» صرح بأن الفنان‬ ‫انطلق منها هانز ساكس‪.‬‬ ‫يبقى الالشعور عند ثالثتهما‬
‫يشبع رغباته املكبوتة من خالل‬ ‫ورغم اهتمام «فرويد» باإلبداع؛‬ ‫هو األساس الذي تقوم عليهم‬
‫الفن‪ ،‬ولكنه مل يوضح لنا كيف‬ ‫إال أنه يقرر يف وضوح تام أننا ال‬ ‫نظرياتهم‪.‬‬
‫يحدث ذلك؛ فكان عدم التوضيح‬ ‫يمكنا االطالع عىل طبيعة اإلنتاج‬ ‫ورجو ًعا إىل «فرويد» واإلبداع‬
‫هو نقطة االنطالق الحقيقية‬ ‫الفني من خالل التحليل النفسي‬ ‫الفني؛ وبحسب ما ذكره «سويف»‬
‫لتلميذه وصديقه «هانز ساكس»‪،‬‬ ‫(‪ ،)1932 freud‬وأن حديثه عن‬ ‫يف كتابه دراسات نفسية يف‬
‫والذي وضح العالقة بين الفنان‬ ‫الفنان التشكييل «دافنشي» ليس‬ ‫اإلبداع والتلقي؛ فإننا نجد أن‬
‫والعمل الفني انطالقًا من األسس‬ ‫سوى عرض باثوجرايف(‪ ،)6‬فالفن‬ ‫ووضح‬
‫َّ‬ ‫«فرويد» عندما أظهر‬
‫الفرويدية نفسها‪ ،‬وخلص إىل أن‬ ‫عند «فرويد» هو‪« :‬امليدان األوحد‬ ‫وبيَّن اآلليات التي تساهم يف عملية‬
‫القصيدة الشعرية التي ينظمها‬ ‫يف حضارتنا الذي ما زال يظهر‬ ‫اإلبداع الفني‪ ،‬قرر أن املقومات‬
‫الشاعر (أي الفنان واملبدع والذي‬ ‫فيه اإليمان بالقدرة املطلقة للفكر‪،‬‬ ‫والخصائص والسمات العامة‬
‫ينتمي للفئات الخاصة) ما هي إال‬ ‫ففي الفن وحده ال نزال نرى أن‬ ‫لهذه اآلليات تشترك مع ما يتعلق‬
‫حلم يقظة اجتماعي‪ ،‬ولكن هذا‬ ‫اإلنسان وقد طغت عليه رغباته‬ ‫ويكمن وراء العمليات الذهنية‬
‫القول به تناقض؛ الن هانز ساكس‬ ‫مماثل إلشباع هذه‬‫ً‬ ‫ينتج شيئًا‬ ‫(العقلية) غير املتماثلة واملتطابقة‬
‫نفسه قرر يف بعض كتاباته؛ أن‬ ‫الرغبات»‪( .‬سويف ‪)1999‬‬ ‫يف الظاهر والعلن؛ كاألحالم‬
‫حلم اليقظة ‪-‬وهنا نالحظ تحديده‬ ‫وألن الفنان ‪-‬وهو نفر منت ٍم‬ ‫(الليلية أو اليقظة) والنكتة‬
‫لحلم اليقظة وليس لألحالم‬ ‫للفئات الخاصة‪ -‬من خالل العمل‬ ‫واألعراض العصابية‪sachs( ،‬‬
‫عموما‪ -‬يمتاز بتمركزه حول «أنا»‬‫ً‬ ‫الفني الذي قدمه‪ ،‬والذي يمثل‬ ‫‪ )1942‬وذلك ألن الالشعور لديه؛‬
‫البطل؛ أي صاحب الحلم؛ وذلك‬ ‫إبداعه الشخصي‪ ،‬والذي ضحى‬ ‫كما سبق وأوضحت‪ ،‬هو األساس‬
‫دائما ما تتحق رغباته الخاصة‬ ‫النه ً‬ ‫من أجله بكل ما يستلزم العيش‬ ‫الذي تقوم عليه عملية اإلبداع‬
‫يف األحالم ملنحه اللذة الخالصة‬ ‫من وجهة نظر العاديين؛ يقوم‬ ‫الفني‪.‬‬
‫املباشرة بوصفه صاحب الحلم أي‬ ‫بتقديم هذا العمل الفني للجمهور‪-‬‬ ‫وبعي ًدا عن الدخول يف تفسيرات‬
‫صاحب الرغبة‪ ،‬وبالتايل تتحطم‬ ‫أي يقدمه للعاديين‪ -‬فيستثير‬ ‫«فرويد» لهذه اآلليات‪ ،‬والتي‬
‫فكرة الثنائية التبادلية التي فرضها‬ ‫مشاعرهم بكل ما فيها من‬ ‫‪،‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫التسامي‬ ‫تعتمد يف أساسها عىل‬
‫«ساكس» يف ممارسة الحياة‬ ‫عواطف؛ كما يستثير انفعاالتهم؛‬ ‫وبغض النظر عن أفكار «فرويد»‬
‫عموما توجد‬
‫ً‬ ‫االجتماعية‪ ،‬ولكن‬ ‫وذلك عىل الرغم من أن الفنان‬ ‫السيكولوجية‪ ،‬والتي تقوم عىل‬
‫أحالم يقظة تتم بشكل ثنائي؛ أي‬ ‫عمل فنيًّا ال يزيد عن كونه‬ ‫يقدم ً‬ ‫كبت رغبة الغريزة الجنسية(‪،)5‬‬
‫حلم يقظة متبادل بين طرفين؛‬ ‫خدا ًعا؛ وبالتايل كان التقريب‬ ‫واتخاذ هذا الركائز؛ كمداخل‬
‫وليس بين الشخص ونفسه؛ بل‬ ‫الذي قام به «فرويد» بين الفنان‬ ‫لتفسير طفولة «دافنشي» دعني‬
‫بين شخصين تعرضا لتجارب‬ ‫والعصابي منطقيًّا إىل حد ما‪،‬‬ ‫ألخص لك األمر يف أن «فرويد»‬
‫مشابهة؛ كي تكون اوجه الشبه‬ ‫وليس «فرويد» وحده صاحب هذه‬ ‫يرى أن النبوغ الفني واالستعداد‬
‫النفسي بينهما واضحة‪.‬‬ ‫النظرة؛ فربط شوبنهور بين الفنان‬ ‫لإلنتاج واإلبداع مرتبطان‬
‫حقيقة األمر كان «فرويد» يسير‪،‬‬ ‫واملجنون‪ ،‬وتلك نتيجة منطقية‬ ‫بالتسامي‪.‬‬
‫ويسير خلفه كثيرون‪ ،‬منهم‬ ‫ج ًّدا لنظرة شوبنهور‪ ،‬والتي تعتبر‬ ‫كما قرر «فرويد» يف موضع آخر‬
‫املؤيدون ومنهم املعارضون‪،‬‬ ‫فرارا من الحياة‪ ،‬واإلبداع‬
‫ً‬ ‫الفن‬ ‫أن أعمال الفنان منفذ لرغبته‬
‫ومن هؤالء املعارضين مؤسس‬ ‫عند كارل يونج مربوط بين‬ ‫الجنسية‪ ،‬ولكنه مل يوضح لنا‬
‫‪227‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫علم النفس‬

‫السيكودراما جاكوب مورينو‪،‬‬


‫والذي تشير العديد من املصادر‬
‫إىل أنه التقى «فرويد»‪ ،‬وحضر‬
‫له محاضرات‪ ،‬واختلف معه‬
‫مثلما اختلف (يونج‪ ،‬وأدلر)‪،‬‬
‫وذكر «مورينو» يف سيرته الذاتية‬
‫تفاصيل هذه املقابلة‪ ،‬والتي وفق‬
‫العديد من املصادر قال فيها‪:‬‬
‫«إنه عام ‪ 1912‬حضرت إحدى‬
‫محاضرات فرويد‪ ،‬كان قد أنهى‬
‫تحليل لحلم تخاطري‪ ،‬ومع‬ ‫ً‬ ‫لت ِّوه‬
‫خروج الطالب‪ ،‬انفرد بي من‬
‫بين الحشد وسألني ع َّما كنت‬
‫أفعله‪ .‬أجبت‪ :‬حسنًا‪ ،‬د‪.‬فرويد‪،‬‬
‫أبدأُ من حيث توقفت أنت‪ ..‬تُقابل‬
‫األشخاص يف مكتبك بج ِّوه‬
‫هانز ساكس‬ ‫ليوناردو دافنشي‬ ‫كارل يونج‬
‫املُصطنع‪ .‬أقابلهم يف الشارع ويف‬
‫العالج باملوسيقى كان األسبق‪.‬‬ ‫السابع عشر‪ ،‬وتحدي ًدا عام ‪،1789‬‬ ‫منازلهم‪ ،‬يف أجوائهم الطبيعية‪.‬‬
‫كل هذه النقاط سأتحدث فيها‬ ‫وذلك بحسب مقال غير موقَّع‬ ‫تُحلل أحالمهم‪ .‬أُعطيهم الشجاعة‬
‫يف املقاالت التالية‪ ،‬ولكن وبشكل‬ ‫نشر يف مجلة كولومبيان بعنوان‬ ‫للحلم مرة أخرى‪ .‬تحللهم‬
‫واضح أستطيع القول إن تحديد‬ ‫(املوسيقى طبيًّا) ويف مصادر‬ ‫وتمزقهم‪ .‬أدعهم يمثلون أدوارهم‬
‫تاريخ واضح لبدء العالج بالفن‬ ‫أخرى (املوسيقي فيزيائيًّا) وهذا‬ ‫املتناقضة وأساعدهم بوضع‬
‫يع ُّد در ًبا من دروب الخيال؛ كما‬ ‫باإلضافة إىل املصادر التي تقول‬ ‫األجزاء املشتتة م ًعا مرة أخرى)‪.‬‬
‫سيتضح لنا فيما بعد‪ ،‬ولكننا عىل‬ ‫إن العالج باملوسيقي نشأ يف بالد‬ ‫لن أستند إىل التواريخ التي تدلنا‬
‫أية حال سنحاول‪.‬‬ ‫اإلغريق‪ ،‬ومصادر غيرها تشير‬ ‫عىل أن «مورينو» بدأ تجاربه يف‬
‫نعود مرة آخرى إىل «مورينو»‬ ‫إىل أنه نشأ يف أحضان الحضارة‬ ‫فيينا عام ‪ 1911‬تقريبًا‪ ،‬والتقى‬
‫وسأقوم مباشرة بتحليل كالمه‪،‬‬ ‫اإلسالمية وتحدي ًدا بغداد‪ ،‬وبغداد‬ ‫«فرويد» عام ‪ 1912‬تقريبًا؛‬
‫والذي يتضح من رده عىل‬ ‫وبالد اإلغريق كما نعلم كانتا يف‬ ‫وبالتايل كانت أفكاره يف العالج‬
‫«فرويد» بأنه قد كان بالفعل‬ ‫بعض الحقب الزمنية منارة العلم‬ ‫بالفن أسبق عىل أفكار «فرويد» يف‬
‫بدأ تجاربه سواء بشكل نظري؛‬ ‫أيضا قيام‬‫يف العامل كله‪ ،‬وال نغفل ً‬ ‫البحث داخل شخصية الفنان‪ ،‬أو‬
‫كأفكار وإرهاصات‪ ،‬أو بشكل عميل‬ ‫اإلغريق بأخذ الكثير من العلوم‬ ‫عىل أقل تقدير نستطيع القول إن‬
‫كمشاهدات ومالحظات وتطبيقات‪،‬‬ ‫واملعارف من الحضارة املصرية‬ ‫أفكار «مورينو» ول ُدت بالتزامن‬
‫وذلك قبل أن يقابل «فرويد» بعام‬ ‫القديمة؛ ويتضح ذلك من خالل‬ ‫مع أفكار «فرويد»؛ وذلك ألن‬
‫كامل ‪-‬بحسب املصادر املتاحة‪-‬‬ ‫القول املتداول عىل لسان أفالطون‪:‬‬ ‫التواريخ أحيانًا تكون غير دقيقة‪،‬‬
‫حتي فحوى الحديث الذي دار‬ ‫ما من علم لدينا إال وقد أخذناه من‬ ‫عالوة عىل أنها متقاربة ج ًّدا؛‬
‫بينها يوضح أن «مورينو» ق َّدم‬ ‫مصر‪ .‬كل هذه اإلحاالت تحتاج‬ ‫ناهيك عن أن البحث الدقيق يحيلنا‬
‫أفكارا مغايرة ألفكار «فرويد»‪،‬‬
‫ً‬ ‫لتحقيق وتدقيق وشروحات‪،‬‬ ‫إىل بعض املصادر التي تشير‬
‫وبالتايل ق ًّدم طرقًا عالجية مختلفة‬ ‫ولكننا اآلن وبشكل شبه قاطع‬ ‫إىل أن العالج باملوسيقى كان‬
‫عن طرق «فرويد»‪.‬‬ ‫أمام تاريخ واضح يدلنا عىل أن‬ ‫هو األسبق‪ ،‬وكان ذلك يف القرن‬
‫‪228‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫بالذكر أن «مورينو» تأثر بأفكار‬ ‫حققها «فرويد» آنذاك؛ مما جعل‬ ‫كل هذا يفتح أمامنا باب‬
‫برجسون ‪ Beregson‬عن الوعي‪،‬‬ ‫أفكاره تنتشر وتطير إىل جميع‬ ‫التساؤالت‪ :‬فكيف نضمن بأي‬
‫والتي ترى «أن النفس هي بالضبط‬ ‫البلدان‪ ،‬يضعنا أمام تصور محدد‬ ‫شكل من األشكال عدم تعرف‬
‫قوة تستطيع أن تستمد من ذاتها‬ ‫يتلخص يف أن «مورينو» بشكل أو‬ ‫«مورينو» مسبقًا ‪-‬أي قبل أن‬
‫بآخر ربما يكون اطلع عىل أفكار‬ ‫يلتقي فرويد‪ -‬عىل أفكار «فرويد»‬
‫أكثر مما تحتوي هذه الذات‪،‬‬
‫«فرويد» قبل أن يقابله‪ ،‬ولكننا‬ ‫ليقدم عكسها؟ أم أن ما وصل‬
‫وتستطيع أن تعطي أكثر مما‬ ‫واضحا عىل هذا‬ ‫ال نملك ً‬
‫دليل‬ ‫إليه «مورينو» من أفكار فرويدية‬
‫ً‬
‫تأخذ‪ ،‬وأن تقدم أكثر مما عندها»‪.‬‬ ‫التصور‪.‬‬ ‫كان من باب توارد الخواطر؟ أم‬
‫وبشكل دقيق ومحدد تخبرنا‬ ‫عىل أية حال تخبرنا العديد‬ ‫أنها كانت إرهاصات فكرية وصل‬
‫جميع املصادر بأن «مورينو» قام‬ ‫من املصادر؛ بأن هذه األفكار‬ ‫إليها «مورينو» وتبلورت يف نفس‬
‫عام ‪ 1942‬بتكوين أول جمعية‬ ‫والتدريبات السيكودرامية الخاصة‬ ‫الوقت الذي وصلت فيه أفكار‬
‫للسيكودراما؛ ثم أنشأ عام ‪1949‬‬ ‫بـ»مورينو» بدأت أثناء مشاهدته‬ ‫«فرويد» إىل فيينا‪ ،‬وعندما حضر‬
‫الجمعية األمريكية للعالج الجماعي‬ ‫لألطفال وهم يلعبون يف الحديقة‬ ‫محاضرات «فرويد» قدم ملا هو‬
‫يف فيينا‪ ،‬ووقتها أدرك أهمية اللعب‬ ‫معاكس؟ كلها أسالة ضرورية‬
‫والسيكودراما‪.‬‬
‫يف التواصل مع اآلخرين‪ ،‬والتعبير‬ ‫خاصة يف ظل عدم وجود تأريخ‬
‫وهذا ما سنتعرف عليه يف املقاالت‬ ‫عن الذات؛ بل واكتشاف النفس‬ ‫دقيق للعالج بالفن‪ .‬عىل أية حال‬
‫القادمة؛ كما سنتعرف عىل‬ ‫بكل ما فيها من خبايا‪.‬‬ ‫فإن التأمل يف كالم «مورينو»‬
‫مواضيع أخرى سبق وأشرت إىل‬ ‫ومع الوقت ظهر لنا اللعب كأحدى‬ ‫الذي أورده يف مذكراته‪ ،‬مضافًا‬
‫بعضها يف هذا املقال‬ ‫طرق العالج بالفن‪ ،‬ومن الجدير‬ ‫له عنصر الشهرة الواسعة التي‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬كان مصطلح األمراض العصابية منتشر لفترة طويلة‪ ،‬ولكنه ُهجر بعض الشيء‪ ،‬وحل مكانه مصطلحات أخرى‪ ،‬ويرتبط هذا املصطلح‬
‫بنظرية التحليل النفسي‪ ،‬ولكن عند تشخيص األمراض النفسية يجب التفرقة بين األمراض النفسية (العصابية) وهي اضطرابات نفسية عاطفية‬
‫وجدانية ينتج عنها الحزن والضيق واليأس كالقلق‪ ،‬وبين األمراض العقلية (الذهانية) وهي مرتبطة بالهالوس العقلية واألوهام والضالالت‬
‫كاضطراب ثنائي القطب‪.‬‬
‫‪ -2‬العميل أو املسترشد؛ لقب يطلق عىل الفرد الذي يكون يف دائرة العالج النفسي أو يف الجلسات النفسية اإلرشادية‪.‬‬
‫‪ -3‬علم السيكولوجي أو علم النفس هو العلم الذي يدرس سلوك البشر‪.‬‬
‫‪ -4‬هي إحدى ميكانيزمات الدفاع (حيلة نفسية) وفيها يتم تحويل الطاقة غير املقبولة إىل طاقة مقبولة؛ كأن نفرغ الطاقة الجنسية يف لعب‬
‫الرياضة أو ممارسة املوسيقى‪.‬‬
‫‪ -5‬العقدة تنشأ من الكبت‪ ،‬وتحدي ًدا كبت الرغبة الجنسية‪ ،‬وذلك يبدأ منذ مرحلة الطفولة‪.‬‬
‫‪ -6‬الباثوجرافيا؛ هو علم وصف األمراض‪.‬‬

‫املراجع‪:‬‬
‫‪ -1‬سيجموند فرويد‪ ،‬محاضرات تمهيدية يف التحليل النفسي‪ ،‬ت‪ :‬أحمد عزت راجح‪ ،‬م‪.‬محمد فتحي مكتبة األنجلو املصرية ‪ 1967‬ط‪.3‬‬
‫‪ -2‬الصحة النفسية واإلرشاد النفسي‪ .‬قسم الصحة النفسية‪ ،‬كلية التربية جامعة املنيا ‪.2013‬‬
‫‪ -3‬قراءات يف سيكولوجية الفئات الخاصة‪ .‬قسم الصحة النفسية‪ ،‬كلية التربية جامعة املنيا ‪.2013‬‬
‫‪ -4‬مصطفى سويف‪ ،‬دراسات نفسية يف اإلبداع والتلقي‪ .‬الدار املصرية اللبناينة ‪.2000‬‬
‫أنموذجا‪ .‬مجلة النص املجلد ‪ /9‬العدد‪ )2022( 1 :‬جامعة‬
‫ً‬ ‫‪ -5‬صالي عباس‪ ،‬عالقة املمارسة املسرحية بالعالج النفسي تقنية السيكودراما‬
‫الجياليل ليابس سيدي بلعباس الجزائر‪.‬‬
‫‪ -6‬املجلة املصرية للدرسات النفسية‪ ،‬العدد ‪ 77‬املجلد الثاني والعشرون‪ ،‬اكتوبر ‪ ،2012‬العالج بالفن مفهومه وأسسه وأهدافه وفنياته د‪.‬عبد‬
‫املطلب أمين القريطي أستاذ الصحة النفسية والتربية الخاصة جامعة ‪ 6‬اكتوبر‪.‬‬
‫‪229‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫فنون‬

‫العوامل المساعدة‬
‫على إحداث األثر‬ ‫يوسف بن‬

‫اإلشهاري في‬ ‫اسعيد الفع‬


‫(المغرب)‬

‫سلوك المستهلك‬

‫إقناع املستهلك بشراء املنتوج الذي‬ ‫من ذلك يقوم اإلشهار بإقناع‬ ‫الحديث عن العوامل‬

‫إن‬
‫يعرضه‪.‬‬ ‫املتلقي باستهالك منتوج دون غيره‬ ‫املساهمة يف إحداث األثر‬
‫فاإلشهار يمثل أحد األنماط‬ ‫من املنتوجات املشابهة واملنافسة‬ ‫اإلقناعي يف الخطاب‬
‫التواصلية األساسية لترويج‬ ‫له‪ .‬فاإلشهار هو وسيلة تواصلية‬ ‫اإلشهاري حديث ذو شجون‪،‬‬
‫البضائع والسلع عبر الوسائط‬ ‫وذلك راجع ألهميته يف حياتنا‬
‫تهدف إىل ربط الصلة بين املنتوج‬
‫اإلعالمية الشفهية أو املكتوبة أو‬ ‫اليومية‪ ،‬حيث ال يمكن أن يمر يوم‬
‫املرئية الثابتة أو املتحركة‪ ،‬بأسلوب‬ ‫واملستهلكين‪ ،‬وهو كذلك وسيلة‬ ‫وابل من اإلعالنات‬ ‫دون أن نتلقى ً‬
‫مباشر وصريح يتجه فيه املعلن‬ ‫إقناعيه يرمي من خاللها املنتج‬ ‫املختلفة األشكال واألحجام‪ ،‬وهذا‬
‫(املُ ْشهِر) بإعالنه نحو الزبون‪،‬‬ ‫بسبب احتدام شدة املنافسة‬
‫أو بأسلوب غير صريح قصد‬ ‫بين الشركات واملنتجين ووفرة‬
‫االستمالة واإلغراء العاطفي‪ ،‬وذلك‬ ‫املنتوجات املعروضة للبيع‪ ،‬لهذا‬
‫بتضافر مجموعة من العوامل‬ ‫أصبحت الضرورة ملحة للتعريف‬
‫إلنتاج الوصلة اإلشهارية وجعلها‬ ‫باملنتوجات‪ ،‬وتزويد املتلقي‬
‫قادرة عىل اإلقناع ومن أهمها نجد‪:‬‬ ‫باملعلومات الكافية عنها‪ ،‬ومحاولة‬
‫التكرار‪ :‬أي تكرار اإلشهار عدة‬ ‫إقناعه باستهالك ما يقدم إليه‪،‬‬
‫مرات وإعادة عرضه بكثافة‬ ‫وهذا هو الدور الذي يقوم به‬
‫كي يترسخ يف أذهان املتلقين‪،‬‬ ‫اإلشهار‪ ،‬إذ يقوم بتزويد املتلقي‬
‫وضمان وصوله ألكبر عدد ممكن‬ ‫باملعلومات الكافية عن السلع‬
‫من املشاهدين‪ .‬فاإلشهار الذي‬ ‫والخدمات واألفكار املوجودة يف‬
‫ُيعرض مرة واحدة ُينسى‪ ،‬وبالتايل‬ ‫السوق وكيفية الوصول إليها‬
‫فالتكرار يسعى إىل تثبيت املعلومات‬ ‫وطرق استعمالها وثمنها‪ ،‬بل أكثر‬
‫‪230‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫استعمال املنتوج وبعد االستعمال‬ ‫الذي يلعب دور املوجه الذي يضع‬ ‫يف ذهن املستهلك كي يستحضرها‬
‫والوقوف عند النتائج املرضية‬ ‫الوصلة اإلشهارية يف سياق محدد‪،‬‬ ‫أثناء عملية الشراء‪ ،‬فترسيخ صورة‬
‫للمنتوج يف القضاء عىل املشاكل‬ ‫فاملشهر يلجأ إىل مثيرات يسهل‬ ‫املنتوج يساهم يف إقناع املتلقي‬
‫املطروحة‪.‬‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫إدراكها وفهمها بل وحفظها ً‬ ‫باملنتوج أو الفكرة املعروضة‪.‬‬
‫الصورة‪ :‬آلية من اآلليات ملا لها‬ ‫لذلك ال يتردد يف توظيف كل‬ ‫االستمرار‪ :‬واملقصود أن اإلشهار‬
‫من قوانين بالغية‪ ،‬مما جعلها‬ ‫اإلمكانات‪ .‬وتتميز اللغة اإلشهارية‬ ‫واملستهلكين قائمة دون انقطاع‪،‬‬
‫تخضع لعدة قراءات يجب عىل‬ ‫بمجموعة من الخصائص نذكر‬ ‫لهذا يتم عرضه باستمرار دون‬
‫املشاهد أن يتوفر عىل مفاتيحها‪،‬‬ ‫منها ما يأتي‪ :‬استعمال أسلوب‬ ‫انقطاع‪ ،‬وذلك للحفاظ عىل العالقة‬
‫وهي ذات تأثير يف النفس عن‬ ‫االستفهام‪ ،‬اعتماد الجمل‬ ‫بين املنتوج واملستهلكين‪ ،‬إال أن‬
‫طريق حاسة البصر التي بواسطتها‬ ‫الوصفية‪ ،‬إقحام ألفاظ من لغات‬ ‫عرض املنتوج باستمرار وبنفس‬
‫يدرك الكون يف شقه املادي‬ ‫أجنبية‪ ،‬إقحام ألفاظ متداولة‪،‬‬ ‫النمط سيحدث نو ًعا من امللل‬
‫امللموس‪ ،‬هذا ما يثير يف النفس‬ ‫الروابط املنطقية‪ ،‬استعمال‬ ‫عند املتلقي مما يدفع باملرسل‬
‫الرغبة يف االكتشاف واالستجابة‪،‬‬ ‫الجمل الشرطية‪.‬‬ ‫إىل تجديد طرق العرض‪ ،‬ويغير‬
‫نظرا ألهميتها‬ ‫ويلجأ إليها اإلشهار ً‬ ‫فالخطاب اإلشهاري يعتمد عىل‬ ‫الوصلة اإلشهارية باستمرار كي‬
‫ووظائفها املتعددة ال يسع املجال‬ ‫مجموعة من التقنيات اللغوية‬ ‫ال يشعر املتلقي بالنمطية‪ ،‬لكن‬
‫للتفصيل فيها‪.‬‬ ‫تساعد عىل إثارة املتلقي وجعله‬ ‫من الضروري أن تستمر الوصلة‬
‫الحركة‪ :‬قد تتصل اللغة اللفظية‬ ‫يركز يف مضمون الرسالة‪ ،‬ولفت‬ ‫اإلشهارية ملدة زمنية محددة‬
‫بغير اللفظية ألجل تمرير الرسالة‪،‬‬ ‫انتباهه إىل املكونات األخرى‬ ‫ً‬
‫أمل يف تحقيق اإلقناع وبالتايل‬
‫ً‬
‫فاعل‬ ‫وطاملا أن الحركة باتت حد ًثا‬ ‫املوازية للغة‪ ،‬كاألرقام واألشكال‬ ‫الربح املادي‪ ،‬هذا ما يجعلنا نجد‬
‫يف الخطاب اإلشهاري املرئي‪،‬‬ ‫والرموز؛ مما يجعل الرسالة‬ ‫بعض الوصالت تلعب عىل عنصر‬
‫ومما ال شك فيه أن فشل الخطاب‬ ‫اإلشهارية أكثر إبالغًا‪.‬‬ ‫التشويق؛ أي شد انتباه املتلقي‬
‫اإلشهاري يف كثير من الحاالت يف‬ ‫البرهنة‪« :‬تتوسل بكل‬ ‫إىل ما سيتم عرضه‪ ،‬وذلك بتقديم‬
‫تحقيق أهدافه يرجع يف األساس‬ ‫االستدالالت وتستدعي كل براهين‬ ‫املنتوج عبر مراحل متفرقة‪،‬‬
‫إىل اإلهمال يف التحقيق الدقيق‬ ‫العقل أو الواقع التي تستخدم أداة‬ ‫بدأ بعرضه بشكل غامض دون‬
‫والواضح وعدم التمكن من انتقاء‬ ‫لتوصيل حقيقة وتلقينها‪ .‬البرهنة‬ ‫اإلفصاح عن هويته‪ ،‬مما يجعل‬
‫الخطابات املساعدة أو املصاحبة‬ ‫توجه إىل عقلنا غير الشخصي‬ ‫املتلقي يترقب ما سيعرض‪ ،‬ويثير‬
‫من حركة وصورة وموسيقى‪،‬‬ ‫واملوضوعي»(‪ ،)1‬يعتمد اإلشهار عىل‬ ‫شغف التعرف عىل املنتج‪ ،‬ومثال‬
‫إن للحركة قدرة كبيرة عىل جذب‬ ‫االستدالالت والبراهين املستمدة‬ ‫ذلك ما فعله منتج وصلة منتوج‬
‫االنتباه يف الخطاب اللساني «وإذا‬ ‫من الواقع املعيش‪ ،‬إذ يصور حالة‬ ‫كلوريتس ‪ clorets‬الذي قدم‬
‫ما كانت الحركة معبرة وكاشفة‬ ‫من الحاالت اإلنسانية التي تحتاج‬ ‫أول عىل شكل شخصية‬ ‫املنتوج ً‬
‫عن جوهر الرسالة التي تحملها»‪.‬‬ ‫إىل حل يرضي الفئة املستهدفة‪،‬‬ ‫غامضة‪« ،‬شكون اليل اخفيف‬
‫ومن هنا أصبح االتصال غير‬ ‫فيقدم املنتوج مع تجارب تعتمد عىل‬ ‫ُ‬ ‫اظريف»‪ ،‬ليتم فيما بعد‬ ‫أوماشي ْ‬
‫اللفظي‪Communication non ،‬‬ ‫االستدالل تثبت جودته وفعاليته يف‬ ‫اإلعالن عن املنتوج بعد أيام من‬
‫‪ verbal‬وسيلة اتصالية مصاحبة‬ ‫مقابل منتوجات أخرى‪ .‬ومن أهم‬ ‫ذلك‪ ،‬وبهذا فإنه ال يتم تقديم كل‬
‫للغة الشفهية‪ ،‬يميل املرء إىل‬ ‫التقنيات االستداللية املعتمدة نجد‬ ‫املعلومات دفعة واحدة بل تقسم إىل‬
‫استعمالها لترسيخ بعض املعاني‪.‬‬ ‫املقارنة‪ ،‬سواء بين منتوجين أو‬ ‫مراحل‪ ،‬من أجل استقطاب وإقناع‬
‫وقد جرى «تصنيف االتصال غير‬ ‫أكثر‪ ،‬من أجل إثبات فعالية املنتوج‬ ‫أكبر عدد من املتلقين‪.‬‬
‫اللفظي إىل سبعة أنساق‪ ،‬الروائح‪،‬‬ ‫املعروض يف مقابل املنتوجات‬ ‫اللغة‪ :‬إن أغلب الوصالت‬
‫املالبس‪ ،‬لوازم التجميل‪ ،‬األصوات‬ ‫املنافسة‪ ،‬أو مقارنة بين حالتين قبل‬ ‫اإلشهارية تعتمد عىل النسق اللغوي‬
‫‪231‬‬
‫غير اللفظية‪ ،‬عالمات القرب‬
‫والبعد وكذلك حركة الجسد ولغة‬
‫الزمن(‪.)2‬‬
‫اللوغو‪« :)Le Logo( :‬يشكل‬
‫لونًا من ألوان التواصل‪ ،‬أحرزه‬
‫التطور الحاصل يف علم االتصال‪،‬‬
‫يتألف بناؤه من عناصر شكلية‬
‫ولونية ولسانية وغيرها‪ ،‬جاعلة‬
‫دال‪ ،‬وقد جاء يف تعريف‬ ‫منه خطا ًبا ًّ‬
‫اللوغو أنه‪« :‬عالمة ترمز ملؤسسة‬
‫موح ًدا‬
‫رسما َّ‬ ‫ً‬ ‫أو ملصلحة‪ ،‬تشكل‬
‫يدعى باملونوغرام»‪ ،‬ويف حديثه‬
‫عن الحقول املشكلة للوغو يقول‬
‫الباحث تيسرون سار ج �‪Tisse‬‬
‫‪« rons Serge‬نعثر عىل ثالثة‬
‫حقول فاعلة‪ ،‬حقل معاني بات من‬
‫سعيد بنكراد‬ ‫تيسرون سارج‬ ‫اهتمامات السيميولوجيا‪ ،‬وحقل‬
‫التحوالت الذي يتطلب حضور‬
‫املتلقي‪ ،‬ويستمر عرضها ملدة معينة‬ ‫سرد أحداث‪ ،‬لكن يف طياتها يختبئ‬ ‫العناصر الحسية والعقلية‪ ،‬وكذلك‬
‫جراء الكم‬
‫كي ال يطالها النسيان َّ‬ ‫منتوج لوسيور باعتباره املوضوع‬ ‫حقل االحتواء أي كل أشكال‬
‫الهائل من الرسائل التي يتلقاها‬ ‫الذي يرغب املرسل أن يبلغه‬ ‫كحا ٍو للتمظهرات‬‫اللوغو تعمل َ‬
‫املستهلك بشكل يومي؛ وكي ال يمل‬ ‫للمتلقي‪.‬‬ ‫واملؤثرات»(‪.)3‬‬
‫املستهلك من مشاهدة نفس العرض‬ ‫وبالتايل فالخداع من بين التقنيات‬ ‫الخداع‪ :‬حيث ال يتم عرض املنتوج‬
‫يقوم املرسل بتغيير مشاهد تقديم‬ ‫التي تجعل املرسل يثير املتلقي‬ ‫بشكل مباشر‪ ،‬بل عن طريق خلق‬
‫املنتوج الواحد‪ ،‬إذ يتم تقديم نفس‬ ‫ويشد انتباهه‪ .‬كما يمكن أن‬ ‫جو فرجوي أو مشهد معين‪،‬‬
‫املنتج بطرق مختلفة‪ ،‬الشيء الذي‬ ‫يتجىل الخداع يف محاولة املرسل‬ ‫مما يجعل القارئ يحاول فهم ما‬
‫يساعد عىل إقناع املتلقي وجعله‬ ‫إيهام املتلقي ببعض املعطيات غير‬ ‫يجري‪ ،‬ليكتشف يف األخير أن األمر‬
‫يقبل عىل القيام بفعل الشراء‬ ‫الحقيقية وذلك لتحفيز املستهلك‬ ‫مرتبط بمنتوج أو خدمة معينة‪،‬‬
‫دون ترد‪ ،‬ويمكن التمثيل لهذه‬ ‫عىل القيام بفعل الشراء‪ ،‬وهذا ما‬ ‫حاضرا يف وصلة‬ ‫ً‬ ‫وهذا ما نجده‬
‫االستراتيجية بعروض الخدمات‬ ‫تقوم به شركات االتصاالت فيما‬ ‫منتوج لوسيور‪ ،‬تبدأ الوصلة بسرد‬
‫التي تقدمها شركات الهاتف النقال‬ ‫يتعلق بالتعبئة املضاعفة وغيرها‬ ‫قصة رجل مسن توفيت زوجته‬
‫باملغرب بكل أنواعها‪ ،‬خاصة يف‬ ‫من العروض املرتبطة بهذا الجانب‪.‬‬ ‫ليجد نفسه وحي ًدا‪ ،‬يدخل الرجل‬
‫الفترة األخيرة التي اشتدت فيها‬ ‫وبالتايل فاإلشهار يحدد أهدافه‬ ‫مطبخ بيته ليعد وجبة الغداء‪ ،‬بعد‬
‫حدة املنافسة بينها لكسب أكبر عدد‬ ‫وغاياته مسبقًا‪ ،‬حيث يتم إنتاج‬ ‫ذلك تحضر ابنته فيخبرها أنه‬
‫من املستهلكين‪ ،‬ويتضح هذا جليًّا‬ ‫لوحة إشهارية قادرة عىل بلوغ تلك‬ ‫أعد لها وجبة كانت تعجب أمها‬
‫يف املساحة التي تحتلها الرسائل‬ ‫حاضرا يف‬
‫ً‬ ‫الغايات‪ ،‬وهذا ما نجده‬ ‫فتصاب بالدهشة‪ ،‬ثم تسأله عن‬
‫اإلشهارية الخاصة بهذه الخدمات‪،‬‬ ‫جميع الوصالت‪ ،‬حيث يتم تكرار‬ ‫كيفية تعلمه لكل هذا‪ ،‬فيجيب أنه‬
‫ففي كل لحظة تظهر لنا شركة‬ ‫عرض نفس الوصلة بشكل مكثف‬ ‫كان يديم النظر إىل أمها‪ ،‬كل هذه‬
‫بعرض جديد وأسلوب جديد يف‬ ‫من أجل ترسيخ مضمونها يف ذهن‬ ‫املعطيات تبدو عادية ال تخرج عن‬
‫‪232‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫مميزاته من أجل اإلقناع والدفع‬ ‫من خالل التعريف باملنتوج‪ ،‬تكوين‬ ‫اإلقناع واإلغراء‪ ،‬مما جعل شدة‬
‫باملستهلك إىل القيام بفعل الشراء‪.‬‬ ‫الرغبة يف املنتج وتفضيله عىل‬ ‫املنافسة بين هذه الشركات تزيد‪،‬‬
‫من خالل هذا فاملتلقي له دور يف‬ ‫غيره‪ ،‬تحريك الفكر والفعل تجاه‬ ‫مما يضع املتلقي أمام مواجهة‬
‫إنجاح الوصلة اإلشهارية‪ ،‬لهذا‬ ‫املنتوج»(‪ .)5‬فالغاية من أي رسالة‬ ‫وابل من الرسائل املثيرة والسالبة‬
‫وجب عىل منتج الرسالة اإلشهارية‬ ‫إشهارية هي اإلقناع وال شيء‬ ‫حائرا تائ ًها‬
‫ً‬ ‫للعقول‪ ،‬ليجد نفسه‬
‫أن يحسن صياغتها وإخراجها‬ ‫سواه‪ ،‬أي إقناع املتلقي باستهالك‬ ‫أمام هذا الزخم‪ .‬لكن الرسالة‬
‫يف قالب فني يستطيع أن يشد‬ ‫املنتوج املعروض دون تردد‪،‬‬ ‫األكثر إقنا ًعا هي التي ستتمكن‬
‫انتباه املتلقي ليقوم بالعمليات‬ ‫مع العلم أن هناك مجموعة من‬ ‫من التأثير يف سلوك أكبر عدد من‬
‫التي تمت اإلشارة إليها من قبل‪،‬‬ ‫املنتوجات املتشابهة واملتنافسة فيما‬ ‫املستهلكين‪ ،‬وبالتايل تحقيق الربح‬
‫فالغاية من الرسالة اإلشهارية هي‬ ‫بينها‪ ،‬لهذا يقوم اإلعالن بالتعريف‬ ‫املادي للشركة التي تمثلها‪.‬‬
‫توجيه رغباته وتحديد حاجاته‬ ‫باملنتوج‪ ،‬فدور اإلشهار هو إبالغ‬ ‫يهدف اإلشهار إىل تحقيق مجموعة‬
‫ضمن مجموعة من املمارسات‬ ‫املتلقي باملنتوج املعلن عنه‪ ،‬وذكر‬ ‫من األهداف والغايات التي ال‬
‫تنفصل يف سياقها العام عن‬
‫الهدف األساسي‪ ،‬الذي يتمثل يف‬
‫إقناع املتلقي باستهالك املنتوج‬
‫املعروض دون تردد‪ ،‬سواء‬
‫تعلق األمر بخدمة أو سلعة أو‬
‫أفكار‪« ،‬إن الهدف الرئيسي أو‬
‫األساسي لإلشهار هو تغيير امليول‬
‫واالتجاهات وسلوك املستهلكين‬
‫املحتملين‪ ،‬وبشكل أوضح فإن‬
‫اإلعالن كوسيلة يستخدم لتغيير‬
‫سلوك املستهلكين املحتملين حتى‬
‫ً‬
‫قبول‬ ‫يتصرفوا بطريقة أكثر‬
‫للسلعة‪ .‬أي أن املعلن يحاول أن‬
‫يغري املستهلكين لشراء سلعة من‬
‫خالل استخدام اإلعالن املناسب‪،‬‬
‫وبالتايل توفير اإلقناع املناسب من‬
‫خالل هذا اإلعالن والذي بدونه قد‬
‫ال يتحقق هذا األمر»(‪ .)4‬فاإلشهار‬
‫يهدف إىل التأثير يف املتلقي وتغيير‬
‫مواقفه فيما يتعلق باستهالك بعض‬
‫املنتوجات دون غيرها‪ ،‬وذلك عن‬
‫طريق إغرائه ودغدغة مشاعره‬
‫وأحاسيسه‪ ،‬والعمل عىل تحفيز‬
‫املكبوتات وإيقاظ الرغبات الدفينة‬
‫يف ال شعوره‪« ،‬فدور اإلعالن‬
‫الرئيسي هو إقناع الجمهور‬
‫بالشيء املعلن عنه‪ ،‬ويحدث هذا‬
‫‪233‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫فنون‬

‫االستهالكية غير املحدودة‪،‬‬


‫وبالتايل فاإلشهار هو الذي يقوم‬
‫بتحديد حاجات املتلقي وتوجيه‬
‫رغباته‪ ،‬فهو املتحكم األساسي يف‬
‫االستهالك‪ ،‬إذ ال يمكن للمتلقي‬
‫أن يستهلك دون االعتماد عىل‬
‫الوصالت اإلشهارية‪ ،‬لهذا إن‬
‫اإلشهار يحقق أحالمنا‪ ،‬عن طريق‬
‫املنتوجات التي يعرضها‪ ،‬إذ تعتبر‬
‫بمثابة حلول نهائية لكل املشاكل‬
‫التي يواجهها اإلنسان‪.‬‬
‫وبهذا فاإلشهار ليس عشوائيًّا‬
‫يف بنائه‪ ،‬بل منظم ومحكم يعتمد‬
‫عىل مجموعة من البنيات التي‬
‫تعد أساسية يف عملية اإلقناع‪.‬‬
‫إنه «يتوجه إىل الرغبات الدفينة‬
‫التي ال ترى باللغة املجردة‪ ،‬إنها‬
‫تستدعي وض ًعا تتجسد من خالله‬
‫االستيهامات‪ ،‬لذلك يطلق عليه‬
‫أيضا (اإلشهار اإليحائي)‪ ،‬فهو‬ ‫ً‬
‫يكتفي بالتلميح واإلغراء ووصف‬
‫بفعل الشراء إال باالعتماد عىل‬ ‫أو األفكار املعروضة دون تردد‪،‬‬ ‫الوضعيات التي يمكن أن يتحقق‬
‫اإلشهار‪ ،‬فهذه النظرية تتعامل مع‬ ‫ويمكن إجمال هذه املقومات يف‬ ‫ضمنها املنتج‪ .‬فاملنتج يف هذه‬
‫املتلقي كشخص ليس له القدرة عىل‬ ‫خمس نظريات كالتايل‪:‬‬ ‫الحالة قيمة حياتية وليس مجرد‬
‫االختيار‪ ،‬وبالتايل يقوم اإلشهار‬ ‫نظرية القيمة‪ :‬حيث يقوم‬ ‫مادة لالستهالك»(‪.)6‬‬
‫بتوجيهه إىل املنتوجات التي يحتاج‬ ‫اإلشهار باإلخبار عن منتوج‬ ‫إن عملية اإلقناع التي يهدف‬
‫إليها يف حياته‪ ،‬وذلك بفضل ما‬ ‫جديد أو خدمة مع التركيز عىل‬ ‫إىل تحقيقها الخطاب اإلشهاري‬
‫يستعمله اإلشهار من منبهات‬ ‫قيمة املنتوج يف حد ذاته مع ذكر‬ ‫لن تتأتى له بشكل عرضي‪ ،‬بل‬
‫ومحفزات إلرشاده إىل املنتوج‪،‬‬ ‫مميزاته‪ ،‬دون إغفال استعمال‬ ‫يجب أن تبنى عىل معرفة مسبقة‬
‫والغاية من هذا هو البيع وتحقيق‬ ‫بعض األساليب الفنية التي‬ ‫ومحكمة بكل الظروف املحيطة‬
‫الربح املادي‪ ،‬لهذا نجد التكرار‬ ‫تعطي لإلشهار قيمة مضافة‪،‬‬ ‫باملستهلك ومحيطه‪ ،‬واستثمارها يف‬
‫املتواصل للوصالت اإلشهارية‬ ‫لكن التركيز األساسي يكون عىل‬ ‫بناء وصلة قادرة عىل خلق صدى‬
‫سواء بنفس الصيغة أو بصيغ‬ ‫القيمة الحقيقية للمنتوج أو الخدمة‬ ‫إيجابي يف ذهن املتلقي‪ ،‬وتحريك‬
‫متعددة تروج لنفس املنتوج‪.‬‬ ‫املعروضة‪ ،‬وبالتايل فهذه النظرية‬ ‫عاطفته اتجاه املوضوع املعروض‪،‬‬
‫النظرية السيكولوجية‪:‬‬ ‫تحتفي باملنتوج كقيمة‪ ،‬وبالتايل‬ ‫لهذا «يعتمد اإلشهار يف صياغته‬
‫تتوجه هذه النظرية بدورها إىل‬ ‫يكون الهدف هو إقناع املتلقي‬ ‫وإنتاجه عىل مجموعة من األسس‬
‫املستهلك‪ ،‬لكن مع التركيز عىل‬ ‫بالقيمة الحقيقية للمنتوج‪.‬‬ ‫واملقومات التي تساعده عىل تحقيق‬
‫الجانب الالواعي يف الذات بشكل‬ ‫النظرية السلوكية‪ :‬ترتكز هذه‬ ‫غايته األساس‪ ،‬وهي إقناع املتلقي‬
‫خاص (الرغبات الخفية‪ ،‬الغريزة‪،‬‬ ‫النظرية عىل جعل املستهلك ال يقوم‬ ‫باإلقبال عىل املنتوج أو الخدمة‬
‫‪234‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫للمعلومات الخاصة باملنتوجات‪،‬‬ ‫النظرية االقتصادية‪ :‬تعتمد‬ ‫املكبوتات‪ ،)..،‬كما تتوجه إىل‬
‫عن طريق عرض كل املعطيات‬ ‫عىل املنافسة يف األثمنة‪ ،‬حيث يتم‬ ‫العواطف واملشاعر من أجل إغراء‬
‫الكافية واملقنعة لتحفيز املتلقي‬ ‫تبخيس املقابل املادي مقارنة مع ما‬ ‫املستهلك ليتحول من مقت ٍن بدافع‬
‫عىل القيام بفعل الشراء وتحريك‬ ‫يقدمه املنتوج من فوائد وخدمات‪،‬‬ ‫الحاجة‪ ،‬إىل مقتن بدافع الرغبة‪،‬‬
‫الرغبة يف االستهالك لديه‪ ،‬ومن‬ ‫فكل ما يقدمه املنتوج يف الوصالت‬ ‫وال يتوقف األمر عند هذا الحد‬
‫أجل هذا يسخر اإلشهار كل‬ ‫دائما ال يقدر بثمن»(‪.)7‬‬
‫اإلشهارية ً‬ ‫بل يتحول الشراء إىل هوس‬
‫الوسائل املمكنة التي تساعده‬ ‫استنا ًدا إىل ما سبق فإن اإلشهار‬ ‫سيكولوجي‪.‬‬
‫عىل الوصول إىل هدفه املتمثل‬ ‫يسخر كل اإلمكانات املتاحة إلقناع‬ ‫النظرية االجتماعية‪ :‬تقوم هذه‬
‫يف إقناع املستهلك باإلقبال عىل‬ ‫املتلقي باإلقبال عىل املنتوجات أو‬ ‫النظرية بربط املنتوج بمجموعة‬
‫املنتوجات املعروضة‪ ،‬مما سينتج‬ ‫الخدمات أو األفكار املعروضة‬ ‫من العادات والتقاليد االجتماعية‪،‬‬
‫عنه تحقيق أكبر عدد من املبيعات‬ ‫دون تردد‪ ،‬ألن الغاية من الخطاب‬ ‫وبالتايل فاستهالك املنتوج يصبح‬
‫وتحصيل الربح املادي‪ .‬فاإلشهار‬ ‫اإلشهاري هي إقناع املتلقي‬ ‫بمثابة انتماء اجتماعي أو فكري‪،‬‬
‫عنصر أساسي يف عملية البيع‬ ‫باإلقبال عىل املنتوجات‪ ،‬وبالتايل‬ ‫لهذا يتم تقديم املنتوج يف قالب‬
‫خاصة مع شدة املنافسة بين‬ ‫تحقيق أكبر عدد من املبيعات‪،‬‬ ‫فكري اجتماعي يجعل املتلقي‬
‫املنتوجات‪ ،‬فالوفرة التي يعرفها‬ ‫الشيء الذي سينتج عنه أرباح‬ ‫يستهلك دون أي تردد‪.‬‬
‫السوق تجعل املستهلك تائ ًها‬ ‫للمؤسسة املنتجة وهذا هو هدفه‬ ‫النظرية الجمالية‪ :‬ترتكز‬
‫يصعب عليه االختيار‪ ،‬فيكون‬ ‫األسمى‪.‬‬ ‫باألساس عىل الجانب الفني‬
‫اإلشهار هو املوجه الذي يساعد‬ ‫إن اإلشهار يقوم عىل مجموعة‬ ‫والجمايل يف الرسالة اإلشهارية‪،‬‬
‫املستهلك عىل اختيار منتوج دون‬ ‫من األنشطة التي تهدف‬ ‫سواء تعلق األمر باللغة أو اإلبداع‬
‫غيره من املنتوجات املشابهة‬ ‫إىل إشباع وإرضاء حاجات‬ ‫أو تقنيات التصوير الفني الذي‬
‫له‪ .‬فاملنتوج الذي يتم الترويج‬ ‫ورغبات املستهلك‪ ،‬وذلك من‬ ‫تستعمله الرسالة اإلشهارية‪ ،‬قصد‬
‫له بشكل جيد ويراعي مجموعة‬ ‫خالل تسهيل عملية الوصول‬ ‫إقناع املتلقي‪.‬‬
‫من املقومات التي يجب أن‬
‫يبني عليها اإلشهار خطابه‬
‫يحقق مبيعات أكبر ويضمن‬
‫استمراريته يف السوق‪ ،‬وبالتايل‬ ‫الحاجة إىل‬
‫فاإلشهار هو الذي يجعل املنتوج‬ ‫تحقيق الذات‬
‫يقتحم األسواق ويعطيه قيمة‬
‫أكثر وليس املنتوج يف حد ذاته‪،‬‬ ‫الحاجة إىل تحقيق‬
‫ولتحقيق هذه الغاية ال بد من‬
‫املكانة االجتماعية‬
‫مراعاة الحاجات اإلنسانية‬
‫حسب أهميتها‪ .‬ويف هذا الصدد‬ ‫الحاجة إىل االنتماء‬
‫يمكن االستعانة بمدرج ماسلو‬
‫‪ Maslow‬للحاجات اإلنسانية‬ ‫الحاجة لألمن‬
‫والذي يمكن التمثيل له‬
‫بالشكل اآلتي(‪:)8‬‬
‫هذه الدوافع هي املتحكم‬ ‫حاجات فسيولوجية‪ :‬الحاجة للطعام‪ ،‬والشراب‪ ،‬واملأوى‬
‫األساس يف سلوك‬
‫‪235‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫فنون‬

‫يتم ربط املنتوج بالتقاليد والعادات‬ ‫إقناع املتلقي باإلقبال عىل منتوج‬ ‫املستهلك‪ ،‬وذلك أن كل إنسان ال‬
‫االجتماعية وبالقوة والرشاقة‪..‬‬ ‫بعينه دون غيره من املنتوجات‬ ‫بد أن يحقق مجموعة من الحاجات‬
‫وغيرها من األشياء التي تخرج‬ ‫املشاكلة له واملنافسة له يف السوق‪.‬‬ ‫التي تضمن له استمراريته‬
‫املنتوج من مجرد إشباع لحاجات‬ ‫فمثل عندما نجد رسالة إشهارية‬ ‫ً‬ ‫واستقراره وأمنه ومكانته‬
‫لتزج به يف عوامل ثقافية‪ ،‬حيث‬ ‫تروج ملاء معدني طبيعي محدد‪،‬‬ ‫االجتماعية‪ .‬فاإلحساس بالجوع‬
‫يصير االستهالك بمثابة انتماء‬ ‫فإنها تستند عىل حاجة اإلنسان‬ ‫ً‬
‫مثل هو الذي يحرك الرغبة يف‬
‫اجتماعي أو ثقايف‪.‬‬ ‫إىل املاء باعتباره مكونًا أساسيٍّا‬ ‫األكل‪ ،‬وبالتايل يبحث اإلنسان عن‬
‫إن ترتيب ماسلو للحاجات‬ ‫يف الحياة‪ ،‬فال يمكن أن تستمر‬ ‫مصدر يشبع به جوعه وحاجته‬
‫اإلنسانية مل يكن اعتباطيًّا‪ ،‬بل‬ ‫الحياة دون ماء‪ ،‬كما جاء يف قوله‬ ‫للطعام‪ ،‬وكذلك العطش هو الذي‬
‫جاء حسب أهميتها‪ ،‬ويمكن‬ ‫تعاىل‪« :‬وجعلنا من املاء كل شيء‬ ‫يحرك الرغبة يف شرب املاء‬
‫التعبير عن الحاجات اإلنسانية‬ ‫حي»(‪ ،)9‬فاإلشهار ليس مجرد‬ ‫وغيرها من الحاجات التي تحرك‬
‫بالشكل اآلتي‪:‬‬ ‫إخبار املتلقي بوجود منتوج جديد‬ ‫الرغبة عند اإلنسان يف البحث عن‬
‫فال يمكن ألي شخص أن يصل‬ ‫يف السوق يشبع عطشه‪ ،‬بل يقدم‬ ‫سبل إلشباعها‪ ،‬وهذا ما يستغله‬
‫إىل الكمال‪ ،‬ولكن عامل اإلشهار‬ ‫املنتوج يف قالب فني ساحر‪ ،‬فقد‬ ‫اإلشهار لبناء رسالته من أجل‬
‫يتحقق فيه الكمال‪ ،‬حيث ال‬
‫مشاكل وال صعوبات وال وجود‬
‫للمتاعب واملضايقات يف العوامل‬
‫التي يرسمها اإلشهار‪ ،‬وهذا هو‬
‫ما يجعل اإلشهار أكثر فعالية‬ ‫الكمال‬
‫وإقنا ًعا‪ ،‬فعامل الكمال ال يوجد إال‬
‫يف اإلشهار‪.‬‬
‫تأسيسا عىل ما سبق فإن الخطاب‬ ‫ً‬
‫الكماليات‬
‫اإلشهاري ينبني عىل مجموعة‬
‫من العوامل التي تتدخل يف‬
‫عملية اإلقناع‪ ،‬والتأثير يف نفوس‬ ‫الحاجة إىل االنتماء‬
‫مدروسا‬
‫ً‬ ‫املستهلكين‪ ،‬يكون‬
‫ومخط ًطا له من قبل‪ ،‬وذلك استنا ًدا‬
‫إىل مجموعة من العوامل التي‬ ‫الحاجة إىل االستقرار‬
‫يختلط فيها ما هو ذاتي بما هو‬
‫موضوعي‪ ،‬وكذا عدة دراسات‬
‫الحاجة إىل األمن‬
‫للفئة املستهدفة من أجل تحديد‬
‫الخصائص النفسية واالقتصادية‬
‫لها‪ ،‬من أجل صياغة وصلة‬
‫الحاجة إىل البقاء‬
‫إشهارية قادرة عىل تحقيق‬
‫غايتها املتمثلة يف تغيير سلوك‬
‫املستهلك تجاه الخدمة أو‬ ‫الحاجة إىل الحياة‬
‫املنتج املعروض‪ ،‬وبالتايل‬
‫القيام بفعل الشراء‬
‫‪236‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬محمد الويل‪ ،‬اإلشهار أفيون الشعوب‪ ،‬مجلة عالمات العدد ‪ ،27‬ص‪.9‬‬
‫‪ -2‬خشاب جالل‪ ،‬تجليات املوروث يف الخطاب اإلشهاري‪ ،‬امللتقى الدويل الخامس السمياء والنص األدبي‪ ،‬ص‪34‬‬
‫بتصرف‪.‬‬
‫‪ -3‬خشاب جالل‪ ،‬تجليات املوروث يف الخطاب اإلشهاري‪ ،‬امللتقى الدويل الخامس السمياء والنص األدبي‪ pdf ،‬ص‪.35‬‬
‫‪ -4‬طاهر محسن الغالبي‪ ،‬أحمد شاكر العسكري‪ ،‬اإلعالن‪ :‬مدخل تطبيقي‪ ،‬دار وائل للنشر‪ ،‬طبعة ‪ ،2006 ،2‬ص‪.23‬‬
‫‪ -5‬منال جمال محمود‪ ،‬سميائيات اإلعالن التجاري دراسة ملا نشر يف صحيفتي األهرام واألخبار‪،2008 -2007 ،‬‬
‫األكادمية الحديثة للكتاب الجامعي ‪ ،2010‬ص‪.25‬‬
‫‪ -6‬سعيد بنكراد‪ ،‬الصورة اإلشهارية‪ -‬آليات اإلقناع والداللة‪ ،‬ص‪.52‬‬
‫‪ -7‬حميد لحميداني‪ ،‬مدخل لدراسة اإلشهار‪ ،‬مجلة عالمات العدد ‪ ،18‬ص‪ 79 -76‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ -8‬املؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب املهني‪ ،‬اإلدارة العامة لتطوير وتصميم املناهج‪ ،‬تسويق دراسة السوق ‪151‬‬
‫سوق‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫‪ -9‬سورة األنبياء األية ‪.30‬‬
‫‪237‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫فنون‬

‫المرددات الشفاهية‬
‫النسائية المغربية‪:‬‬ ‫جرية حاجي‬

‫مظهر من مظاهر‬ ‫(المغرب)‬

‫التصوف المغربي‬
‫عىل كل ما يلزم حياة الزهد من‬ ‫األخالق وتعمير الظاهر والباطن‬ ‫تمهيد‪:‬‬
‫األحوال واملقامات وما ينكشف‬ ‫لنيل السعادة األبدية»(‪.)2‬‬
‫للصويف بعد تصفية النفس‬ ‫وللتصوف معنيان كبريان‪:‬‬ ‫موضوع التصوف‬

‫إن‬
‫وتطهيرها من مواجد وأذواق‬ ‫* من الناحية العلمية‪ :‬هو الزهد‬ ‫من املوضوعات الهامة‬
‫ومعارف وما يدرك من معاني‬ ‫وما ينطوي عليه من حياة العبادة‬ ‫كبيرا‬
‫ً‬ ‫التي تتطلب جه ًدا‬
‫القرب اإللهي مما يسميه الصوفية‬ ‫واالنقطاع إىل اهلل تعاىل والعزوف‬ ‫للفصل بين كل ما فيه‬
‫(االتصال باهلل) نتيجة محبته(‪.)3‬‬ ‫عن الدنيا وكل ما هو مطمع للنفس‬ ‫من مصطلحات ومفاهيم‪ ،‬باعتبار‬
‫وللمرأة حضور استثنائي يف الفكر‬ ‫واألخذ بأنواع املجاهدات البدنية‬ ‫حقيقته ذكر ومحبة‪ ،‬وهو بذاته‬
‫الصويف‪ ،‬إن شيخة أو مريدة‪،‬‬ ‫سعيًا إىل االنتشاء واالرتقاء‬ ‫ثمرة كبرى يف املعارف اإلسالمية‬
‫فللحضرة النسائية خصوصية من‬ ‫واالرتياح‪.‬‬ ‫وروح ملجموع حقائق اإلسالم‬
‫حيث ما ينشد فيها من مرددات‪،‬‬ ‫* من الناحية اإلشراقية‪ :‬التي هي‬ ‫طاملا التصوف «علم تعرف به‬
‫ومن أجل التوضيح أكثر فإن‬ ‫التصوف بمعناه الدقيق وتنطوي‬ ‫أحوال تزكية النفوس وتصفية‬
‫البساتين وتحت سموأل األشجار‬ ‫أساسا بالجملة‬
‫ً‬ ‫المرددات تتحدد‬
‫أثناء قيامهن بالنزه خارج‬
‫ضواحي فاس‪.‬‬
‫الموسيقية‪ ،‬تطول بطولها‬
‫وأصل تسمية هذا النمط‬ ‫وتقصر إذا قصرت‪ ،‬وقد تحصر‬
‫بالعروبيات يعزى إىل أصله‬
‫اإلنشادي وهو (الربوعي) الذي‬
‫الجملة الشعرية المرددة كما‬
‫حرف قلبًا إىل (العروبي)(‪.)5‬‬ ‫تحصر الجملة الموسيقية باإليقاع‪،‬‬
‫وسميت بالرباعيات ألنها تعتمد يف‬
‫ً‬
‫أحيانا تصبح المرددة‬ ‫ولكن‬
‫معمارها البنائي مبدئيًّا عىل أربعة‬
‫تماما‬
‫أبيات شعرية كما هو األمر ً‬ ‫العيطية قاصرة على مجاراة‬
‫بالنسبة لرباعيات الخيام‪ ،‬وأحيانًا‬
‫الجملة اللحنية واستيعابها‪،‬‬
‫تتجاوز الرباعيات األشطر األربعة‬
‫عىل عادة املغاربة حيث يضيفون‬ ‫فيضاف إلى المرددات ‪-‬بما‬
‫شطرا يف أخر الرباعي يسمونه‬ ‫ً‬ ‫أنها نص زجلي مغنى‪-‬‬
‫(التذييلة)‪ ،‬لذلك فعروبيات نساء‬
‫فاس أحيانًا تتعدى ثمانية تقاطيع‪،‬‬ ‫عبارات مثل (هانا وأنا‪ ،‬أيلي‪،‬‬
‫أشطارا تفوق العشرة‬
‫ً‬ ‫كما نجد‬
‫أيلي‪ ،‬واهيا واهيا)‪.‬‬
‫وأغلبها ال يتعدى األربعة أشطر ‪.‬‬
‫(‪)6‬‬

‫وتدور موضوعات رباعيات‬


‫نساء فاس حول عواطف النساء‬
‫وأحاسيسهن حيال الرجل أو‬ ‫واصطالحا‪ :‬املرددات هي‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬ ‫املوضوع يقتضي الحديث عن‬
‫الطبيعة‪ ،‬وهذا ال يعني تكريس‬ ‫املأثورات الكالمية التي ترددها‬ ‫املرددات النسائية يف الزوايا‬
‫تنميط هذا الخطاب النسائي‪ ،‬إذ‬ ‫النساء خاصة يف محافل معينة‬ ‫ومقاربة تجليات املرأة واألنوثة يف‬
‫إن جولة يف ديوان عروبيات فاس‬ ‫وبطقوس محددة‪ ،‬وقد تعددت‬ ‫الخطاب الصويف فاعلة ومنفعلة‪،‬‬
‫تشي بغنى وتنوع مواضيعه‪.‬‬ ‫أنماط املرددات الشعبية النسائية‬ ‫وال يتضح ذلك إال بالحديث عن‬
‫تقول إحدى هذه املرددات التي‬ ‫يف املغرب واكتست طابع اإلنشاد‬ ‫مقولة «الحب» باعتبارها قضية‬
‫تقارن املجتمع الفاسي بقبائل‬ ‫أو الغنائية يف مناسبات مختلفة‬ ‫جوهرية يف التصور العرفاني‬
‫عذرة‪:‬‬ ‫كعيد املولد النبوي الشريف وليلة‬ ‫عند الصوفية‪ ،‬مما يدفعنا ملقاربة‬
‫حبيناكم محبة فاس وبني عذرة‬ ‫عاشوراء واألعراس وخرجات‬ ‫هذه املرددات والوقوف عىل‬
‫كيف سمعن لهوى كيف أنو‬ ‫النزهة وغيرها كثير‪.‬‬ ‫بعض أنواعها‪ ،‬وعالقة املمرددات‬
‫مذكور‬ ‫ومن أبرز املرددات النسوية يف‬ ‫الشفاهية النسائية بالزاوية‬
‫فارق فمحبتك قانع بالنظرة‬ ‫املغرب نلفي‪:‬‬ ‫املغربية بالتصوف‪.‬‬
‫ويال نرمق بهاك نغنم كل‬ ‫‪ -1‬العروبيات‪:‬‬
‫سرور(‪.)7‬‬ ‫أيضا الرباعيات‬
‫ويطلق عليها ً‬ ‫‪ -I‬مفهوم املرددات‬
‫‪ -2‬التبراع‪:‬‬ ‫الفاسية‪ ،‬وهي مرددات نسائية‬ ‫الشفاهية النسائية‬
‫يعتبر التبراع من أنماط املرددات‬ ‫خالصة ترددها (العياالت) إما‬ ‫وأنماطها‪:‬‬
‫الشعبية‪ ،‬فهو إبداع نسائي‬ ‫من نظمهن أو محفوظهن(‪.)4‬‬
‫شفهي‪ ،‬تعبر به املرأة الحسانية‬ ‫وارتبط هذا النمط الترديدي بنساء‬ ‫‪ -‬املرددات‪ :‬اسم مفعول من ردد‬
‫عن شعورها إزاء الرجل يف‬ ‫فاس حين يتحلقن أيام الربيع يف‬ ‫الكالم أي أعاده وكرره‪.‬‬
‫‪239‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫فنون‬

‫هيتف)‪.‬‬ ‫ما تكبل لهاته‬ ‫مجتمع البيظان الذي تنتمي اليه‪،‬‬


‫ورغم أن الهيت يدخل ضمن‬ ‫وشكال معاها خيانة‬ ‫ومن طقوس التبراع أن تتواجد‬
‫منظومة الغناء الشعبي اتفاقًا‪،‬‬ ‫وتقول األخرى متذمرة من خوف‬ ‫مجموعة من الفتيات التي تجتمعن‬
‫قائما حول‬ ‫إال أن الخالف يبقى ً‬ ‫البوح‪:‬‬ ‫من أجل السمر‪ ،‬فتبدأ الواحدة‬
‫تحديد املفهوم يف ظل تنوع النمط‪،‬‬ ‫تمر الظروف‬ ‫منهن باإلنشاد يف موضوع أو‬
‫هل هو رقصة أو أغنية يطبعها‬ ‫وتمر أنا ويمر لخوف‬ ‫مغزى معين قد يعنيها وقد يكون‬
‫الترديد الجماعي أم هما م ًعا؟‬ ‫وعليه فاملرأة يف مرددات التبراع‬ ‫غزل‪ ،‬فتطفق‬ ‫عا ًّما‪ ،‬وغالبا ما يكون ً‬
‫فإذا كان الهيث أغنية شعبية‬ ‫تسبيها سلطة التخفي‪ ،‬فهي امرأة‬ ‫الواحدة تلو األخرى يف التبراع‬
‫فرجوية العتمادها عىل الرقص‬ ‫غير معروفة بل (صوت نسائي‬ ‫عىل موت املبدعة وحضور املرددة‬
‫الجماعي‪ ،‬فان اإليقاع املنظم‬ ‫ينتشر عىل مساحة مترامية‬ ‫لهذا النوع من الشعر‪ ،‬وذلك‬
‫لرقصة الهيت إيقاع ترددي «فقوة‬ ‫األطراف من تراب البيظان)‬ ‫لخصوصية السرية والكتمان يف‬
‫النصوص واملرددات املرافقة‬ ‫(‪ )9‬عىل استحياء لسلطة املجتمع‬ ‫ترديد التبراع‪ ،‬والحرص الشديد‬
‫للرقصة وما تحمل من جمالية عىل‬ ‫الصحراوي‪ ،‬الذي تؤطر مجاله‬ ‫عىل عدم تداوله وانتشاره يف‬
‫مستوى األلفاظ تضاهي رمزية‬ ‫جملة من املمنوعات خاصة ما‬ ‫املجتمع الرجايل للحشمة والوقار‪،‬‬
‫ودالالت الحركات التي تختلف ما‬ ‫يتعلق بالنساء(‪.)10‬‬ ‫والرقابة التي تمارسها الطقوس‬
‫بين الرومانسية والتغني بجمال‬ ‫‪ -3‬الهيت‪:‬‬ ‫والطابوهات البدوية بالصحراء‬
‫الطبيعة أو الحبيب أو نصوص‬ ‫يعد فن الهيت من أقدم الفنون‬ ‫التي تخنق حتى الهمس يف صدور‬
‫تاريخية وجهادية وصوفية» ‪،‬‬
‫(‪)12‬‬
‫الشعبية باملغرب‪ ،‬وهو شكل تراثي‬ ‫املرددات والشواعر من النساء(‪،)8‬‬
‫وال تقتصر مرددات الهيت عىل‬ ‫شعبي شفهي تتعالق رقصاته‬ ‫مما يجعل الرمزية واإللغاز تطغي‬
‫الرجال فقط‪ ،‬بل نجد فرقًا نسوية‬ ‫باألداء التعبيري واحتفاليته بفرجة‬ ‫عىل التبراع‪ ،‬مع حرص الناظمات‬
‫محضة تشتهر بفن الهيت من‬ ‫الترديد‪ ،‬فالهيت‪ :‬نداء للمشاركة‬ ‫أال ينسب إليهن ما يقال من‬
‫خالل مرددات تنشد استعدا ًدا‬ ‫رقصا أو تردي ًدا‪ ،‬فحسب الهيت‬‫ً‬ ‫(تبريعات) إال عن طريق ترديده يف‬
‫خصوصا فترة‬ ‫ً‬ ‫ملراحل الزواج‪،‬‬ ‫لفة معاناه (هلم)(‪ ،)11‬وما يزكي‬ ‫مناسبته اللسانية الخاصة‪ ،‬در ًءا‬
‫الحناء‪ ،‬والتي تسمى (طيل)‪،‬‬ ‫هذا املفهوم أننا نجد من الزمات‬ ‫لإلهانة االجتماعية‪ .‬تقول إحداهن‬
‫واملراد به طالء جسد املرأة بالحناء‬ ‫املرددات الهيتية (هيت هيت‪ ،‬هيتف‬ ‫يف تبريعة‪:‬‬
‫رغبة يف الخصوبة‪ .‬وينقسم الهيت‬
‫النسوي من حيت إيقاع املرددات‬
‫إىل‪:‬‬
‫‪ -1‬الهيت شطبي‪ :‬ويتميز بخفة‬
‫إيقاع املرددات وقصر مقاطعها‬
‫ويظهر ذلك من خالل ضابط‬
‫إيقاعه هو‪:‬‬
‫الالواه‪ /‬الالواه‬
‫أووس أووس‪ /‬هووس هووس‬
‫‪ -2‬الهيت ملزوكي‪ :‬يتميز باإليقاع‬
‫الراقص املوجه إلنشاد املرددات‬
‫كقولهن‪:‬‬
‫داوك أخيتي وشكوبك الركية‬ ‫مشاركة النساء المغربيات في المرددات‬
‫خالوع لعجاج تيعمي عينيا‬
‫‪240‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫‪ -3‬الهيت سبيتي‪ :‬وهو مرددات‬


‫تتميز بإيقاعاتها السريعة ج ًّدا‬
‫حتى إنه «يصعب أحيانًا بناء‬
‫مرددات عىل منواله‪ ،‬فيتم نظم‬
‫مرددات قصيرة وبسيطة ذات‬
‫مقطع أو مقطعين فقط»(‪ )13‬ومثاله‪:‬‬
‫أولدي ياه‪ /‬أوليدي ياه‬
‫بيني وبينك باك‪ /‬وأنت ما رماك‬
‫يل بغا يكول يكول‪ /‬عولنا عليه‬
‫أوليدي ياه‪ /‬أوليدي ياه‬
‫كما ينقسم الهيت النسوي من‬
‫حيث جغرافية القول الترديدي‬
‫إىل(‪:)14‬‬
‫‪ -‬الهيت الحسناوي‪ :‬نسبة لقبائل‬
‫بني حسن نواحي سيدي قاسم‪،‬‬
‫العيطة تراث الذاكرة الجماعية‬
‫إيقاع مردداته متوسط‪.‬‬
‫‪ -‬الهيت الغرباوي‪ :‬يتمركز بين‬
‫القنيطرة وسيدي سليمان‪ ،‬تتميز‬
‫إيقاعاته بالسرعة‪ ،‬ويتفرع إىل‬
‫أنواع مختلفة أهمها (سبيتي)‬
‫نسبة إىل سبت دار بلعامري‪.‬‬
‫‪ -‬الهيت الحدادي‪ :‬نسبة لقبيلة‬
‫(الحدادة) جوار املهدية قرب‬
‫مدينة القيطرة حتى تخوم قصبة‬
‫مهدية إحدى قالع السلطان موالي‬
‫إسماعيل العلوي‪ ،‬ويتميز هذا‬
‫النمط بإيقاعه املتوسط والبطيء‪.‬‬
‫‪ -‬الهيت الحياني‪ :‬نسبة إىل‬
‫الحياينة وأوالد جامع‪ ،‬ويسمى‬
‫بالهيت الصامت ألن مردداته ال‬
‫تنشد إال بنقر النساء عىل الدفوف‬
‫العيطة الحوزية‬ ‫(البنادر)‪ ،‬والتعريجة ضرورية‪،‬‬
‫وغالبًا ما يطلق عىل هذه املرددات‬
‫يف مدينة «تيسة» شمال فاس‬
‫وزمور إىل الساقية الحمراء‪ ،‬وتكاد‬ ‫بها قبائل تكنة بمنطقة وادي نون‬
‫بـ»السرابيات»‪.‬‬
‫يف واقعها اليوم أن تكون من‬ ‫وقبائل «عريب» بمحاميد الغزالن‪،‬‬ ‫‪ -4‬الحمايات‪:‬‬
‫خصوصيات مدينة كلميم‪ ،‬حيث‬ ‫وقبيلة دوبالل بطاطا (وتنتشر‬ ‫تعتبر الحمايات من املرددات‬
‫ترتبط بالرجال الزرق)(‪.)15‬‬ ‫بين سكان منطقة واسعة تمتد من‬ ‫الشعبية الحسانية تنشد يف رقصة‬
‫ولعل انتشار رقصة الكدرة هو‬ ‫الحمادة شرقًا عبر إقليم درعة‬ ‫الكدرة‪ ،‬وتكاد هذه الرقصة تختص‬
‫‪241‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫فنون‬

‫فيضاف إىل املرددات ‪-‬بما أنها‬ ‫انتشار الحمايات التي ترافق طقس‬
‫نص زجيل مغنى‪ -‬عبارات مثل‬ ‫الكدرة الذي هو عبارة عن تشكل‬
‫(هانا وأنا‪ ،‬أييل‪ ،‬أييل‪ ،‬واهيا واهيا)‬ ‫دائري من الراقصين واملنشدين‬
‫(‪.)20‬‬ ‫يتوسطها عازف(‪ ،)16‬ويتحلق حولة‬
‫رجال ونساء‪ ،‬وقد تكون الكدرة‬
‫‪ -II‬عالقة املرددات‬ ‫نسائية خالصة‪ ،‬حيث تتوسط‬
‫الشفاهية النسائية‬ ‫النساء عازفة عىل قدر مجلد تسمى‬
‫املغربية بالتصوف‪:‬‬ ‫(النكارة)‪ ،‬وتصاحبها يف ترديد‬
‫الحمايات فتيات‪ ،‬تختار منهن‬
‫تعتبر املرددات الشعبية‪ ،‬وكما‬ ‫راقصة تتوسط حارة الرقص‬
‫أشرت إىل ذلك سابقًا‪ ،‬بنية‬ ‫والتي تسمى (الكارة)‪.‬‬
‫تعبيرية تخضع ملقومات اإلبداع‬ ‫وتتنوع مواضيع مرددات‬
‫الشعبي مما تصوغه الحياة‬ ‫الحمايات بين األذكار واألدعية‬
‫االجتماعية والتجليات الروحية‬ ‫عباس الجراري‬ ‫ووصف الطبيعة‪ ،‬وكلها مواضيع‬
‫والخفقات النفسية‪ ،‬وهي مرددات‬ ‫تتبطن بطابع ديني ذو بعد صويف‪،‬‬
‫يصدرها الشعب إبدا ًعا وممارسة‪،‬‬ ‫حيث يختلف املنطوق عن املفهوم‪،‬‬
‫و»شامة الزاز» وغيرهن كثير‪،‬‬
‫فهو مؤلفها وملحنها‪ ،‬وال ترتبط‬ ‫والتصريح عن التلويح‪ ،‬ومن هذه‬
‫ويطلق عليهن اسم‪ :‬الشيخات أو‬
‫بمبدع معين عدا تجنيس منشدها‪،‬‬ ‫املرددات‪:‬‬
‫العياطات أو اللعابات(‪ ،)18‬وأصل‬
‫كما تتناقلها الذاكرة الشعبية ضمن‬ ‫والنكرة زينه‪ /‬االركصي يا سكينة‬
‫غناء العيطة ترديد أزجالها‪ ،‬إذ‬
‫تالقح بين األجيال شفهيًّا‪ ،‬وهي‬ ‫وال تمشي وتعايل‪ /‬يخيل ليك بوك‬
‫تستثمر املرددات مجمل مدخراتهن‬
‫تنشد بشكل جماعي‪ ،‬منها ما‬ ‫الغايل‬
‫الصوتية دونما هدنة مع النفس‬
‫يختص بوظيفة اجتماعيه معينة‪،‬‬ ‫‪ -5‬العيطة‪:‬‬
‫أو مع حبال الصوت‪ ،‬وباإلصرار‬
‫ومنها ما ينشد يف مناسبات‬ ‫العيطة فن مغربي غنائي قديم‬
‫وأمكنة خاصة‪ ،‬لذا فاملرددات‬ ‫للذهاب عميقًا باتجاه استثمار‬ ‫ازدهر أواخر القرن ‪17‬م وتعنى‬
‫الشعبية‪:‬‬ ‫كامل لحرية الصوت وغجريته ‪.‬‬
‫(‪)19‬‬
‫العيطة‪ :‬النداء يقول عبد الرحمان‬
‫‪ -‬مجهولة الناظم‪ ،‬إال أن هذا ال‬ ‫والعيطة شعر شفوي مل يدون عبر‬ ‫املجدوب‪:‬‬
‫يمنع أن يكون لها مؤلف ولو كان‬ ‫تاريخه‪ ،‬فقد تشكل من ترسبات‬ ‫عيطت عيطة حنينة‪ /‬فيقت من كان‬
‫غير معروف‪.‬‬ ‫األزمنة التي عبرها‪ ،‬وظل يمتلئ‬ ‫نايم‬
‫‪ -‬إبداع يتميز بصفة الجماعية‬ ‫باملعاني الجديدة التي تلحق به‬ ‫فاقوا قلوب ملحنة‪ /‬ونعسو قلوب‬
‫إنشا ًدا وتردي ًدا‪.‬‬ ‫باستمرار‪ ،‬تموسقه اإليقاعات‬ ‫(‪)17‬‬
‫لبهايم‬
‫‪ -‬يتميز بالشيوع واالنتشار ‪.‬‬
‫(‪)21‬‬ ‫املختلفة للعيطة‪.‬‬ ‫والعيطة فن رجايل ونسائي‬
‫‪ -‬تتنوع مواضيعها بين الدنيوي‬ ‫واملالحظ أن هذه املرددات تتحدد‬ ‫لكنها ارتبطت بالنساء أكثر عىل‬
‫والديني والنفسي والروحي‪،‬‬ ‫أساسا بالجملة املوسيقية‪ ،‬تطول‬‫ً‬ ‫رغم وجود أشياخ من الرجال‪،‬‬
‫ومنها ما هو مشرب بنفس صويف‪.‬‬ ‫بطولها وتقصر إذا قصرت‪ ،‬وقد‬ ‫وممن اشتهرت يف فن العيطة‬
‫‪ -‬نصوص زجلية تتسم‬ ‫تحصر الجملة الشعرية املرددة‬ ‫«خربوشة « و»خربوعة» وحادة‬
‫بالشعرية‪.‬‬ ‫كما تحصر الجملة املوسيقية‬ ‫أوعكي و»فاطمة الزحافة»‬
‫ولعل هذه السمة األخيرة تستدعي‬ ‫باإليقاع‪ ،‬ولكن أحيانًا تصبح‬ ‫و»فاطنة بنت الحسين» و»لطيفة‬
‫منا القول‪ :‬إن املرددات منظومات‬ ‫املرددة العيطية قاصرة عىل‬ ‫املخلوفية» و»خديجة البيضاوية»‬
‫زجلية من حيث اللغة «فالزجل‬ ‫مجاراة الجملة اللحنية واستيعابها‪،‬‬ ‫و»الحمونية» و»الحمداوية»‬
‫‪242‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫يف بدايته أغنية شعبية مل تبدأ‬


‫إال حين تم ازدواج اللغة العربية‬
‫يف األندلس النقسامها بين لهجة‬
‫دارجة وأخرى مكتوبة»(‪ ،)22‬واللغة‬
‫الدارجة أو اللهجة أو العربية‬
‫املحكية هي تركيب كالمي ينتمي‬
‫إىل أصل لغوي معين‪ ،‬ويتميز عن‬
‫غيره من مشتقات ذلك األصل‬
‫اللغوي يف النطق واملفردات‬
‫وبعض التراكيب(‪ ،)23‬كل ذلك‬
‫تحدثه سمة اإلعراب ال التفكير‬
‫اللغوي أو شعرية التعبير‪.‬‬
‫لذلك فالتمييز بين الشعر والزجل‬
‫من منظور صفتي الفصاحة‬
‫والعامية فيه نظر‪ ،‬لهذا وجب‬
‫التفكير يف تدقيق التسمية ألن‬
‫عبارة (الشعر الفصيح) ليس‬
‫معناها أن الفصاحة حكر عىل هذا‬
‫النمط الشعري‪ ،‬ففي الزجل كذلك‬
‫أنماط فصيحة‪ ،‬كما أن عبارة‬
‫(الزجل العامي) ال تعني أن‬
‫الشعر الفصيح خال من األلفاظ‬
‫العامية‪ ،‬ولربما يصير من‬
‫العيطة العبدية‬ ‫املالئم الحديث عن شعر معرب‬
‫تهيمن فيه الفصحى مقابل زجل‬
‫غير معرب تهيمن فيه العامية‪ ،‬ما‬
‫بصدق التجربة لكونها وليدة‬ ‫موسيقى بإنشاد هذه املرددات‬ ‫انفكت سمة اإلعراب هي املميزة‬
‫معاناة‪ ،‬ذلك ألن الصويف عاشق‬ ‫وتصويتها(‪ ،)26‬وإىل هذه الخاصية‬ ‫بينهما(‪ ،)24‬فحسب العامية كما‬
‫ينفس عن مشاعره بكلمات تتسم‬ ‫قائل «وسمي‬ ‫أشار «الحموي» ً‬ ‫أشار د‪.‬عباس الجراري «تنطوي‬
‫بالرمزية التي تفرضها طبيعة‬ ‫ً‬
‫زجل ألنه ال يلتذ به‬ ‫هذا الفن‬ ‫بطبيعتها عىل شفافية وفعالية‬
‫ومرونة وحيوية تجعلها قادرة‬
‫املعاني الروحية‪ ،‬فهو ال يعبر‬ ‫وتفهم مقاطع أوزانه حتى يغنى به‬
‫وباستمرار عىل امتصاص املعاني‬
‫بلغة العموم‪ ،‬بل يلجأ إىل لغة‬ ‫ويصوت»(‪.)27‬‬
‫واألفكار الجديدة‪ ،‬واكتساب‬
‫الخصوص‪ ،‬والناظمة الزجالة‬ ‫واملرددات من حيت هي نصوص‬ ‫األلفاظ والتراكيب الوافدة» ‪.‬‬
‫(‪)25‬‬
‫تقرض مردداتها وفق تجربة‬ ‫ً‬
‫زجل‪،‬‬ ‫شعرا‪ ،‬إن مل نقل‬
‫ً‬ ‫منظومة‬ ‫وبناء عليه فاملرددات نصوص‬
‫حياتيه ونفسية شعورية‪ ،‬فالتجربة‬ ‫تلحمها عالقة مباشرة بالتصوف‬ ‫زجلية تمتلك كل مقومات الكتابة‬
‫الصوفية والزجلية مرتبطتان ملا‬ ‫التكاء كليهما عىل العاطفة‬ ‫الشعرية من لغة وتخييل وقصد‬
‫كانت أداة اإلدراك عند الصويف هي‬ ‫والوجدان الروحي‪ ،‬فالنص‬ ‫ومعان وإيقاع‪ ،‬ولعل إيقاعها‬
‫نفسها وسيلة الزجال‪ ،‬فكالهما‬ ‫الصويف مثل النص الزجيل يتميز‬ ‫املنسكن يف مقاطعها النغمية يزداد‬
‫‪243‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫فنون‬

‫تعاملنا مع املرددات الشفاهية‬ ‫مواجهة الحقيقة)‪.‬‬


‫أنها تعتمد عىل السماع‪ ،‬والذي‬ ‫الثانية‪ :‬مرحلة‬
‫له عالقة مباشرة بالقلب ال األذن‬ ‫العقل وهي التي تيل‬
‫التي يكون حظها فقط هو نقل‬ ‫مرحلة الوارد وتنبع‬
‫التكليف من أمر ونهي‪ ،‬بينما‬ ‫منه وتعرف يف لغة‬
‫الصوفية بـ(التلوين‬
‫الذي يتحقق له السمع هو القلب‬
‫والتمكين)‪.‬‬
‫باعتباره محل التكليف من إجابة‬
‫الثالثة‪ :‬هي مرحلة‬
‫أو رفض‪ .‬وقد ورد السماع يف‬ ‫العودة‪ ،‬عودة‬
‫القران الكريم يف اثنين وعشرين‬ ‫الزجالة إىل حالتها‬
‫موض ًعا‪ ،‬كما ورد يف األحاديث‬ ‫العادية بعد والدة‬
‫النبوية الشريفة‪ ،‬قال الرسول‬ ‫املرددة التي أجهدت‬
‫ىلص اهلل عليه وسلم «حسنوا‬ ‫نفسها يف تقويمها‬
‫القرآن بأصواتكم فإن الصوت‬ ‫الداليل واإليقاعي‪،‬‬
‫الحسن يزيد القرآن حسنا»(‪،)29‬‬ ‫ذلك ما يوضح لنا‬
‫وال يقتصر السماع ‪-‬كما أوردنا‬ ‫العالقة الوطيدة‬
‫ذلك‪ -‬عىل القرآن فقط‪ ،‬بل يشمل‬ ‫التي تجمع بين‬
‫األشعار واألناشيد الدينية التي‬ ‫تجربة ناظمة املرددة‬
‫وتجربة الصويف‬
‫فجل‬‫تثير البهجة الروحية‪ .‬لذا ُ‬ ‫باعتبارهما يشتركان‬
‫التعريفات االصطالحية للسماع‬
‫يف املعاناة من‬
‫تدل عىل أنه شعر صويف مغنى‬ ‫أجل تحقيق الغاية‬
‫يراعى فيه امليزان تطريبًا للمحبة‬ ‫والهدف‪ .‬فالغاية‬
‫االلهية‪ ،‬وبذلك فهو عند أهل‬ ‫الفنية عند األوىل‬
‫التصوف تجل للمحبة وانتشاء بها‬ ‫(والدة املرددة)‪،‬‬
‫وتموجد بلذتها‪.‬‬ ‫والغاية الروحية عند الثاني‬
‫وبذلك يكون السماع عند الصوفية‬ ‫(الوصول إىل الحقيقة)‪ ،‬ومالمسة‬ ‫يعتمدان عىل الباطن(‪ ،)28‬عالوة‬
‫وج ًها من أوجه الذكر من خالل‬ ‫لصوفية املرددات النسوية‬ ‫عىل ميل كل من الزجال والصويف‬
‫ترديد أشعار أزجال وبراول‬ ‫الشعبية‪ ،‬يقتضي الدرس منا‪،‬‬ ‫إىل االتحاد بالوجود واالمتزاج به‬
‫يتوسل إلنشادها بالطرب ملا له من‬ ‫تصنيفها إىل‪:‬‬ ‫من خالل لغة الخصوص ال لغة‬
‫‪ -‬مرددات صوفية عامة‪ :‬تنشد يف‬
‫قدرة عىل صيد النفوس وتحويل‬ ‫العموم‪ ،‬لغة اإليحاء والتلويح ال‬
‫فضاءات ومناسبات مختلفة‪ ،‬وقد‬
‫معادنها‪ ،‬وال يتأتى ذلك إال من‬ ‫لغة الوضوح والتصريح‪.‬‬
‫تنشدها املرأة املتصوفة وغيرها‪.‬‬
‫خالل تصويف الطرب وتحويل‬ ‫‪ -‬مرددات صوفية خاصة‪ :‬تنشد‬ ‫فوالدة املرددة عىل جهة ما‪ ،‬هي‬
‫طبوعه ومقاماته من البعد الالهي‬ ‫من قبل املرددات (لفقيرات) يف‬ ‫نص منظوم تعد بمثابة رحلة من‬
‫إىل البعد اإللهي وتندرج املواريد‬ ‫مجالس الذكر بالزوايا‪ ،‬وتكون‬ ‫رحالت الصوفية التي تنبني عىل‬
‫يف النسق العرفاني من السماع‬ ‫أكثر عمقًا للتجربة الصوفية لغ ًة‬ ‫ثالث مراحل‪:‬‬
‫اإللهي إىل السماع الروحاني إىل‬ ‫وحضورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ومعجما‬
‫ً‬ ‫األوىل‪ :‬أن ترد املرددة عىل الزجالة‬
‫السماع الطبيعي‬ ‫ومما يمكن أن نخلص إليه يف‬ ‫عىل هيئة وارد (تهيئة الذات‪،‬‬
‫‪244‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -‬أستاذة باحثة بسلك الدكتوراه مختبر الديداكتيك واللغات والوسائط واملسرح‪ ،‬كلية اآلداب واللغات والفنون‪ ،‬جامعة‬
‫ابن طفيل‪ ،‬القنيطرة‪ ،‬اململكة املغربية‪.‬‬
‫‪ -2‬حقائق التصوف لعبد القادر عيسى‪ ،‬منشورات دار العرفان‪ ،‬حلب سوريا ط‪1431 ،1‬ه‪2010 ،‬م‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ -3‬التصوف‪ ،‬الثورة الروحية يف االسالم‪ ،‬ألبي العال عفيفي‪ ،‬دار املعارف ط‪ ،1963 ،1‬ص‪.104‬‬
‫‪ -4‬رباعيات نساء فاس (العروبيات) ملحمد الفاسي‪ ،‬دار قرطبة الدار البيضاء‪ ،‬ط ‪ ،1986 ،2‬ص‪.2‬‬
‫‪ -5‬مقال إيقاع الحرمان يف رباعيات نساء فاس‪ ،‬إدريس بلمليح‪ ،‬ندوة التراث اللغوي الشفاهي (هوية وتواصل‪ ،‬تنسيق‬
‫مصطفى الشاذيل)‪ ،‬منشورات جامعة محمد الخامس كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬سلسلة ندوات ومناظرات‪ ،‬العدد‬
‫‪ ،25‬الرباط ط ‪ ،2005 ،1‬ص‪.71‬‬
‫‪ -6‬املرجع نفسه الصفحة ‪.7 ،6‬‬
‫‪ -7‬املصدر السابق الصفحة ‪.102‬‬
‫‪ -8‬إثنوغرافية الكالم الشفاهية ومؤثورات القول‪ ،‬الحساني إلبراهيم الحسين‪ ،‬الطبعة ‪ ،2012 ،1‬ص‪.171‬‬
‫‪ -9‬التبراع‪ -‬الشعر النسائي الحساني‪ ،‬املفهوم‪ ،‬السياقة الثقافية‪ ،‬للعالية ماء العينين‪ ،‬منشورات مركز الدراسات‬
‫الصحراوية‪ ،‬دار أبي رقراق للطباعة والنشر‪ ،‬ط ‪ ،2015 ،1‬ص‪.152‬‬
‫‪ -10‬مقال‪ :‬املرأة يف التراث الشفهي‪ ،‬الحساني إلبراهيم الحسين‪ ،‬ندوة من منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫بالرباط سلسلة ندوات ومناظرات‪ ،‬العدد رقم ‪ ،154‬الصفحة ‪.72‬‬
‫‪ -11‬لسان العرب مادة (هيت)‪.4732 –6 :‬‬
‫‪ -12‬أحيدوس مقاربة فنية بين رقصتي الهيت وأحيدوس إلدريس الكرش‪ ،‬منشورات أكسيون ط ‪ ،2014‬ص‪.19‬‬
‫‪ -13‬املرجع السابق نفسه ص‪.20‬‬
‫‪ -14‬جريدة القنطرة العدد ‪ 4‬أبريل ‪ 1995‬ص‪.3‬‬
‫‪ -15‬مقال‪ :‬املمارسات املوسيقية يف األقاليم الصحراوية املغربية لعبد العزيز بن عبد الجليل‪ ،‬مجلة املناهل العدد ص‪.419‬‬
‫‪ -16‬أنظر‪ :‬رقصة الكدرة الطقوس والجسد إلبراهيم الحسني‪ ،‬منشورات املقام تحناوت‪ ،‬ص‪.84‬‬
‫‪ -17‬ديوان عبد رحمن املجدوب ص‪.9‬‬
‫‪ -18‬غناء العيطة الشعر الشفوي واملوسيقى التقليدية يف املغرب لحسن نجمي‪ ،‬دار توبقال للنشر ‪.170 /1‬‬
‫‪ -19‬املرجع نفسه ‪.82 /2‬‬
‫‪ -20‬الغناء الشعبي املغربي أنماط وتجليات لعالل الركوك‪ ،‬ولييل للنشر والتوزيع ط ‪ 2020 /1‬الصفحة ‪.133‬‬
‫‪ -21‬تاريخ األدب األندلسي إلحسان عباس‪ ،‬دار الثقافة بيروت لبنان الطبعة ‪ 1974 /3‬الصفحة ‪.256‬‬
‫‪ -22‬وضع اللغة العربية باملغرب ألمنية إبراهيم‪ ،‬منشورات زاوية الرباط الصفحة ‪.26‬‬
‫‪ -23‬شعرية القصيدة املغربية الحديثة ملحمد بوشتة املطبعة السريعة القنيطرة‪2014 /‬م‪ .‬ص‪.33‬‬
‫‪ -24‬الزجل يف املغرب‪ :‬القصيدة لعباس الجيراري‪ ،‬مطبعة األمنية‪ /‬الرباط ط ‪.33 /1‬‬
‫‪ -25‬أنواع الزجل باملغرب من الغنائية إىل التفاعلية دراسة ونصوص ملحمد الراشق‪ ،‬دار أبي رقراق للطباعة والنشر ط‬
‫‪ 2008 /1‬ص‪.19‬‬
‫‪ -26‬بلوغ األمل يف فن الزجل‪ ،‬أبي بكر حجة األموي‪ ،‬تحقيق حسن القريشي‪ ،‬وزارة الثقافة دمشق سوريا‪ ،‬ط ‪1974 ،1‬‬
‫ص‪.128‬‬
‫‪ -27‬الشعر والتصوف إلبراهيم محمد منصور‪ ،‬دار األمين للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪ 1999 ،1‬ص‪.24‬‬
‫‪ -28‬املرجع نفسه ص‪.52‬‬
‫‪ -29‬صحيح البخاري «كتاب اآلداب»‪.‬‬
‫‪245‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫حلول آخر للجسد‬


‫في رواية «هي عصاي»‬ ‫سهير السمان‬

‫لفتحي اسماعيل‬ ‫(اليمن)‬

‫تطل‪ ،‬حين أقدمت زوجة أخيها‬ ‫قرب املقهى حيث ينام عىل‬ ‫لغة جزلة يأخذنا‬

‫في‬
‫«عزيزة» عىل التآمر للتخلص‬ ‫املصطبة املالصقة له‪ ،‬يسير‬ ‫السرد يف رواية «هي‬
‫من مخيون قبل أن يعود زوجها‬ ‫وسط الحقول بال هدف‪ ،‬ويقعد‬ ‫عصاي» لنجوب عامل‬
‫العمدة «جالل» من الحج‪ ،‬خوفًا‬ ‫متأمل السماء والناس‪ ،‬وحركة‬‫ً‬ ‫«مخيون» وحبيبته‬
‫من أن يتورط يف قتل أخته حين‬ ‫لعب السيجة يف املقهى‪ ،‬تختاره‬ ‫إقبال‪ ،‬بل ونتجول يف القرية‬
‫يعلم بأمر زواجها من رجل‬ ‫إقبال ابنة العمدة من بين جميع‬ ‫التي مل يكن لها اسم طوال‬
‫يحتقره‪ ،‬وال يرقى أن يصاهر‬ ‫الرجال الذين تمنوها‪ ،‬وكانوا‬ ‫أحداث الرواية‪ ،‬بل كانت‬
‫بيت العمدة‪ ،‬فتعمد إىل خادمتها‬ ‫يتلهفون لنظرة منها‪ ،‬ليكون‬ ‫الشخصيات هي عنوان هذه‬
‫حبشية لتطلب منها أن تدس‬ ‫زوجها‪ ،‬فتطلب من قاضي‬ ‫القرية‪ ،‬بعاداتها وسير يومها‬
‫لهما السم يف طعامهما‪ ،‬ولكن‬ ‫القرية أن يعقد قرانها عىل‬ ‫املعتاد‪ ،‬وصفاتها وأحوالها‪.‬‬
‫كان من نصيب إقبال أن تفارق‬ ‫مخيون ويعيش معها يف منزل‬ ‫مخيون شاب يعيش يف القرية‪،‬‬
‫الحياة‪ ،‬ويلحقها مخيون حزنًا‪،‬‬ ‫والدها‪.‬‬ ‫يعاني من عاهة يف رجله ال‬
‫ويدفن تحت النخلة يف أرضها‪.‬‬ ‫ووسط دهشة أهل القرية وعدم‬ ‫يعرف أحد شيئًا عنه‪ ،‬من أين‬
‫ليتحول قبره ‪-‬بعد فترة من‬ ‫تصديقهم ملا أقدمت عليه بنت‬ ‫جاء وكيف أو ما هي حكايته‪،‬‬
‫الزمن‪ -‬إىل مقام يحج إليه أهل‬ ‫العمدة تتواىل األيام األسطورية‬ ‫يحيا مخيون بين الناس‪،‬‬
‫القرية‪.‬‬ ‫بين الحبيبين‪ ،‬ولكنها أيام مل‬ ‫يستيقظ قبل الجميع‪ ،‬يجلس‬
‫األيديولوجي وعالقته بالذات‬
‫املقنَّعة‪.‬‬ ‫هذا الجسد هو المتحدث عن مخيون‬
‫قوة مخيون أظهرت يف تلك‬ ‫الذي ال ينطق‪ ،‬كان في نفس الوقت‬
‫املواجهة قيم الفحولة‪ ،‬كنسق‬
‫ثقايف مقابل شخصيته اإلنسانية‬ ‫مثي ًرا لعنف اآلخرين نحوه ومحط‬
‫الرقيقية‪ ،‬لدرجة أنه ال يأكل‬ ‫الرغبة واالعتداء‪ ،‬وقد يستباح هذا‬
‫لحوم الحيوانات‪ ،‬التي كانت‬
‫عوضا عن البشر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بالنسبة له‬ ‫الجسد فقط لكون صاحبه مختلف‬
‫وعوضا عن أقرب الناس له‬ ‫ً‬ ‫عن اآلخرين "ابن األفاعي أهطل ال‬
‫وهو األب‪ ،‬الذي رفضه منذ‬
‫صغره بسبب عاهته‪.‬‬ ‫ملة له وال أهل‪ ،‬مثله مثل الجدار الذي‬
‫ويبرز الجسد‪ ،‬بوصفه أول‬ ‫يستند إليه"‪( .‬ص‪ )15‬وهو ما حدث‬
‫ٍ‬
‫اشتباك مع‬ ‫عنص ٍر يدخل يف‬
‫الواقع و َيعمل عىل تفكيكه‪ ،‬حين‬ ‫مع مخيون حين حاول بعض شباب‬
‫استخدم الخطاب السردي‬
‫القرية االعتداء عليه‪ ،‬ومحاولة مجاهد‬
‫الجسد كقيمة فنية‪ ،‬بل شكل‬
‫قائما بذاته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نصا ثقافيًّا‬
‫منه ًّ‬ ‫الجزار التحرش به‪.‬‬
‫تعتمل فيه الحياة بكل تفاصيلها‬
‫ونوازعها‪ ،‬وهنا يعاد للجسد‬
‫اعتباره وتحريره يف أفق خطاب‬
‫مستنير‪ ،‬بعد أن كان ينظر‬ ‫فالنص مل يحاكم‪ ،‬بل وضعنا‬ ‫دورا‬
‫ً‬ ‫لقد أدت اللغة يف السرد‬
‫للجسد يف السرديات التقليدية‬ ‫عراة أمام قضية عمى عنها‬ ‫كبيرا يف تعرية النفس البشرية‪،‬‬ ‫ً‬
‫مظلما‬
‫ً‬ ‫من فلسفة وفكر جانبًا‬ ‫الكثير‪ ،‬وهي الحب واإلنسانية‪،‬‬ ‫ومن أول كلمة تط ُّل عينا‬
‫للوجود اإلنساني‪ ،‬وكان‬ ‫قضية الجوهر ال املظهر‪،‬‬ ‫مخيون لتكشف قسوة الحياة‪،‬‬
‫مرتبطا بالخطيئة‪ ،‬والشرور‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الجوهر الذي استحضره‬ ‫بل كانت عيناه بوابة الدخول‬
‫فالتماهي مع الواقع تأتى من‬ ‫أهل القرية بعد موت مخيون‪،‬‬ ‫التي يلج منها القارئ لعامل‬
‫خالل عنصر الجسد‪ ،‬بوصفه‬
‫فجعلوا منه وليًّا من أولياء اهلل‪.‬‬ ‫القرية‪ ،‬وما سيجري فيها من‬
‫ٍ‬
‫اشتباك‬ ‫أول عنص ٍر يدخل يف‬
‫(هي عصاي) عنوان يحمل‬ ‫أحداث‪« ،‬عينان خابيتان وكأن‬
‫مع الواقع ليعمل عىل تفكيكه‪.‬‬
‫دالالته الظاهرة والباطنة‪،‬‬ ‫ستارا من األتربة تغلغل داخل‬ ‫ً‬
‫وللجسد «معانٍ ودالالت أكثر‬
‫ً‬ ‫وربما كان التعبير الظاهر عن‬ ‫البؤبؤين‪ ،‬فلونهما بلون الطين‬
‫«جنسا»‪ .‬كما‬ ‫ً‬ ‫شمول من كونه‬
‫جاء يف تعريف رسول محمد‬ ‫معنى العصا يف تلك املواجهة‬ ‫كثيرا عن لون‬‫ً‬ ‫الجاف‪ ،‬ال يختلف‬
‫رسول يف كتابه (الجسد يف‬ ‫التي حدثت بين العمدة جالل‬ ‫الجلباب املهترئ الذي يرتديه‪،‬‬
‫الرواية اإلماراتية)‪ ،‬فالجسد‬ ‫ومخيون يف مبارزة العصي‪،‬‬ ‫حركة البؤبوئين مضطربة‪،‬‬
‫«كينونة رمزية إيحائية وإشارية‬ ‫حيث أظهرت القوة البدنية‬ ‫تخطان عىل كل عابر»‪( .‬ص‪)7‬‬
‫وعالماتية وأيقونية‪ ،‬تضاف‬ ‫ملخيون‪ ،‬عكس ما كان أهل‬ ‫بهذه اللغة الشعرية يتفجر‬
‫إىل األجسام من خالل تمثيل‬ ‫القرية يرونه يف شخص مثله‪،‬‬ ‫املعنى‪ ،‬فهي توحي وال تصرح‬
‫اإلنسان لها»‪ ،‬أو أنه قيمة‬ ‫عصا تدرك من خاللها األبعاد‬ ‫بالقسوة والجحود الذي جبل‬
‫مضافة إىل واقع األجسام‪.‬‬ ‫الالشعورية‪ ،‬ورؤية املضمر‬ ‫عليه أغلب املحيطين بمخيون‪.‬‬
‫‪247‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫يف ال ُكتَّاب‪ ،‬فتاة بدأت «تتفتح‬ ‫واالعتداء‪ ،‬وقد يستباح هذا‬ ‫فقد ركز سرد (هي عصاي)‬
‫كزهرة‪ ،‬طرح اهلل فاكهته‬ ‫الجسد فقط لكون صاحبه‬ ‫عىل تيمة الجسد حين اختار‬
‫عىل صدرها‪ ،‬تنغز جلبابها‬ ‫مختلف عن اآلخرين «ابن‬ ‫شخصية مثل مخيون مصاب‬
‫كنبقتين تستحثان عينيه عىل‬ ‫األفاعي أهطل ال ملة له وال‬ ‫بإعاقة جسدية‪ ،‬كانت سببًا يف‬
‫النظر‪ ..‬ليمونتين عامرتين‪..‬‬ ‫أهل‪ ،‬مثله مثل الجدار الذي‬ ‫تخيل والده عنه ونبذه ليعيش يف‬
‫نضجتا كرمانتين» (ص‪)29‬‬ ‫يستند إليه»‪( .‬ص‪ )15‬وهو ما‬ ‫اسطبل الحيوانات‪ ،‬هذه اإلعاقة‬
‫«يتراقص صدرها الناهد ومن‬ ‫حدث مع مخيون حين حاول‬ ‫مل تؤثر عىل مشاعره اإلنسانية‬
‫تحت خصرها النحيل يترجرج‬ ‫بعض شباب القرية االعتداء‬ ‫املرهفة وإحساسه العايل بما‬
‫ردفها»‪( .‬ص‪)30‬‬ ‫عليه‪ ،‬ومحاولة مجاهد الجزار‬ ‫حوله‪ ،‬يف حين أن اآلخرين ال‬
‫غيَّبها العمدة أبوها وألزمها‬ ‫التحرش به‪.‬‬ ‫يرون يف جسده سوى معبر عن‬
‫الدار حين بدأ الجسد يعبِّر عن‬ ‫غابت حقيقة مخيون عن أهل‬ ‫الخبل والجنون والتيه‪« .‬ترشق‬
‫أنثى تضج بالجمال‪ ،‬وهذا ما‬ ‫القرية‪ ،‬ولكن كان هناك من‬ ‫عيناه يف مربع اللعبة‪ ،‬تتابع‬
‫رآه مخيون ألول مرة حين‬ ‫يتلصص ويراقب من خلف‬ ‫األحجار وهي تتناوبها األيدي‪..‬‬
‫انكشفت له إقبال‪ ،‬صورة من‬ ‫الجدران‪ ،‬وبعين مختلفة‬ ‫وقد تبدو عىل وجهه حسرة‬
‫السحر مختبئة خلف جدران‬ ‫تستجيل هذا الجسد وتسنطقه‪،‬‬ ‫لهزيمة أحدهم أو تلمع نظرة‬
‫قديمة‪« .‬ال يشبه ما رآه مخيون‬ ‫إنها عين (إقبال)‪.‬‬ ‫انتشاء عند انتصار آخر»‪.‬‬
‫أ ًّيا من معامل القرية‪ ،‬وال ينبئ‬ ‫ويف لغة مواربة يستخدمها‬ ‫«لكن أذنه تلتقط همساتهم‪،‬‬
‫صمت البيت وجدرانه القديمة‬ ‫السرد عند الحديث عن جسد‬ ‫عيناه تحط عىل وجوههم‪،‬‬
‫عن كل هذا السحر الذي‬ ‫األنثى «إقبال»‪ ،‬فيحضر الجسد‬ ‫تتفحص صمت الشفاه وشرود‬
‫يقطنه»‪.‬‬ ‫لغو ًّيا يف الوقت الذي يغيب فيه‬ ‫العيون‪ ،‬تنهداتهم تنساب إىل‬
‫وعبرت رؤية إقبال املظهر‬ ‫فيزيائيًّا يف الثقافة االجتماعية‪،‬‬ ‫جمجمته»‪.‬‬
‫الخارجي ملخيون‪ ،‬فقد كان‬ ‫حين تصل األنثى لالكتمال‬ ‫هذا الجسد هو املتحدث عن‬
‫جسده يعبر عن شيء مل يدركه‬ ‫وتصبح مكمن اإلثارة‪ .‬فكما‬ ‫مخيون الذي ال ينطق‪ ،‬كان‬
‫اآلخرون‪« .‬الغريب مظهره‬ ‫رأى الشيخ «عنتر» جسد‬ ‫مثيرا لعنف‬
‫ً‬ ‫يف نفس الوقت‬
‫يحكي شيئًا وعيناه تحكي‬ ‫«إقبال» حين كانت تدرس عنده‬ ‫اآلخرين نحوه ومحط الرغبة‬
‫أشياء‪ ..‬حركته وارتباكه يعلنان‬
‫سذاجة من ال يدرك صمته‬
‫الوقور‪ ،‬يخبر عن حكمة مل يفه‬
‫بها‪ ،‬تبدو نباهته كنداء بعيد‪،‬‬
‫وسط بعثرة وارتباك حاله»‪.‬‬
‫(ص‪)41‬‬
‫وغزاها ذاك الغريب‪ ،‬وطرد‬
‫الحلم رؤاها القديمة‪ ،‬فما رأته‬
‫إقبال هو ذاتها الطفلة وسنوات‬
‫لهوها األوىل بعد أن غادرها‬
‫الناس ورفقتهم املوحشة‪.‬‬

‫جسد آخر ملخيون‬


‫أضاء وجه الشيخ عنتر عن‬
‫ابتسامة تجمع بين الرضا‬
‫والتعجب»‪( .‬ص‪)127‬‬
‫«توافد عىل املقام أهل البلد‬
‫يطلبون الشفاعة‪ ،‬ويتوسلون‬
‫الرضا ويغدقون بالنذور عىل‬
‫صندوقه»‪.‬‬
‫ربما كان هذا ما أراده كثيرون‬
‫مريحا ملا تمر به‬‫ً‬ ‫تفسيرا‬
‫ً‬ ‫ليجدوا‬
‫أحوال القرية‪ ،‬شيء ما يطمئنهم‬
‫ويخرجهم من فزعهم وحزنهم‬
‫املمتد‪ .‬فإذا كان وجود مخيون‬
‫الطارئ عىل القرية غير مفسر‪،‬‬
‫الناس موته إىل‬
‫ُ‬ ‫فقد ح َّول‬
‫أسطورة دينية‪.‬‬
‫استطاع السرد من خالل‬
‫استخدام تيمة الجسد أن‬
‫رسول محمد رسول‬
‫كثيرا من األبعاد‬‫ً‬ ‫يكشف‬ ‫فتحي إسماعيل‬
‫االجتماعية واملفهوم الثقايف‬
‫يف بيئة تنكر الجسد‪ ،‬وهويته‬ ‫الدنيوي‪ ،‬وعىل املستوى‬ ‫تقويما‬
‫ً‬ ‫مخيون كان تاريخً ا أو‬
‫ومتطلباته‪ ،‬فجميع الشخصيات‬ ‫اآلخروي‪.‬‬ ‫جدي ًدا للقرية يف حياته‪ ،‬التي‬
‫التي تناولها السرد تصارع‬ ‫فحين أصر «العمدة جالل» أخو‬ ‫أصبحت فيما بعد تعرف‬
‫رغبات الجسد‪ ،‬وتعاني من‬ ‫إقبال أن ينتقم من مخيون بعد‬ ‫بقرية الويل مخيون‪ ،‬فقد كان‬
‫الحرمان‪ .‬فجسد َم ْن املعاق‬ ‫معرفته بأمر الزواج‪ ،‬توقف‬ ‫الناس يؤرخون ألحداثهم‬
‫ح ًّقا؟ ومن يستحق أن نطلق‬ ‫يائسا حين رأى جسده هام ًدا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بيوم ظهور مخيون يف القرية‪،‬‬
‫عليه معاقًا؟ معظم شخصيات‬ ‫وعىل شفتيه ابتسامة تح ٍّد‪،‬‬ ‫ويرتقي املخيون حين ترتبط‬
‫الرواية الرئيسية مثلت اإلعاقة‬ ‫ودفن مخيون تحت النخلة‬ ‫به إقبال ليظهر معنى الجسد‬
‫األخالقية التي كشفتها إعاقة‬ ‫يف أرض إقبال‪ ،‬وبقيت روحه‬ ‫املمتلئ بالعطاء والحب رغم‬
‫مخيون‪ ،‬ولكن املجتمع الذي ال‬ ‫تطوف يف أحالم البعض‪ ،‬وخيم‬ ‫إعاقته‪ ،‬مل تنل منه السخرية‬
‫يضع أخطاءه أمام املحاكة‪ ،‬وال‬ ‫عىل القرية حال مل تعدها من‬ ‫ونظرة أهايل القرية الدونية‪ ،‬أو‬
‫يدين أعماله السيئة‪ ،‬يظل يبحث‬ ‫قبل‪ ،‬جعل الناس تفكر يف سر‬ ‫التحرش واالعتداء‪ ،‬بل أظهر ما‬
‫عن خرافة يستند إليها‪ ،‬وقوة‬ ‫ما كان يحدث لهم بعد موت‬ ‫كان مختبئًا حين وجد الحب‪،‬‬
‫غيبية ترفع عنه عواقب الخطايا‪.‬‬ ‫أخيرا‬
‫ً‬ ‫مخيون‪ ،‬ليصرخ أحدهم‬ ‫فكانت الصفعة التي وجهها‬
‫ومل يجدوا سوى أن يجعلوا من‬ ‫بعد صالة الفجر أمام الجميع‬ ‫للغرور والكبر والطمع‪ ،‬حين‬
‫ذلك الغريب أسطورة ليعيدوه‬ ‫أن مخيون ويل من أولياء اهلل‪.‬‬ ‫قبل الزواج بإقبال‪ ،‬ومل يترك‬
‫إىل الحياة‪ ،‬ولكن بجسد آخر‬ ‫«مخيون ويل‪.‬‬ ‫مجال لالنتقام حين اختار أن‬ ‫ً‬
‫مقاما يحج إليه‬‫ً‬ ‫مقدس لينتصب‬ ‫جاءني منذ أيام يف املنام‬ ‫يلتحق بها إىل عاملها‪ .‬ارتقاء‬
‫أهل القرية‬ ‫وأخبرني بذلك‪.‬‬ ‫عىل مستوويين‪ :‬عىل املستوى‬
‫‪249‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫صناعة النخبة بالمغرب‪..‬‬


‫غياب الديمقراطية‪،‬‬ ‫عبد الجبار الغراز‬

‫والعقل المدني المتأخر‬ ‫(المغرب)‬

‫عن تلبية‬
‫احتياجات الناس‬
‫يف مقدمة هذا الكتاب طرح الكاتب‬ ‫ونظرا لقيمته الفكرية واملعرفية‪،‬‬
‫ً‬ ‫سلسلة «دفاتر وجهة‬

‫عن‬
‫حفرا ونبشً ا‬‫تساؤالت اعتبرها ً‬ ‫ولراهنية القضايا التي يطرحها‬ ‫نظر» يف عددها‬
‫يف الحقول االجتماعية‪ ،‬اللتقاط‬ ‫خصوصا يف ظل‬
‫ً‬ ‫ويتناولها‪،‬‬ ‫التاسع‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫إشاراتها املعتملة فيها‪ ،‬محد ًدا‬ ‫الحكومة املغربية الجديدة‪ ،‬فقد‬ ‫‪2006‬؛ صدر للكاتب‬
‫ماهية النخب واالستوزار باملغرب‬ ‫ارتأينا أن نقدمه للقارئ العربي؛‬ ‫والسوسيولوجي املغربي األستاذ‬
‫املعاصر‪ ،‬وطرق تدبير الصراع‬ ‫وذلك من خالل تقديم قراءة شاملة‬ ‫عبد الرحيم العطري كتاب‪« :‬املخزن‬
‫االجتماعي وتحوالته الكبرى‪ .‬وقد‬ ‫له‪ ،‬آملين أن نوفق يف ذلك‪.‬‬ ‫واملال والنسب واملقدس‪ .‬طرق‬
‫استهل الكاتب كتابه‪ ،‬انطالقًا من‬ ‫الوصول إىل القمة»‪ .‬وهو من‬
‫تبنيه ملقاربة سوسيولوجية تسعى‬ ‫الحجم الصغير ويحتوي عىل ‪272‬‬
‫إىل التجذر يف التاريخ‪ ،‬بطرح‬ ‫صفحة‪ ،‬ويشتمل‪ ،‬إىل جانب املقدمة‬
‫تساؤالت سوسيولوجية‪ ،‬استهدفت‬ ‫والخاتمة‪ ،‬عىل ستة فصول‪ ،‬كرس‬
‫ما أسماه هو بـ»استراتيجيات‬ ‫منها الكاتب خمسة (من الفصل‬
‫صناعة النخب باملغرب»؛ تل ُّم ًسا‬ ‫الثاني إىل الفصل السادس) لتحليل‬
‫منه‪ ،‬الطريق ذات املسالك الوعرة‪،‬‬ ‫الحقول التي يعتقد أنها أفرزت لنا‬
‫التي تقود إىل دوائر صنع القرار‬ ‫نخبًا متنوعة؛ أما الفصل األول‬
‫باملغرب املعاصر‪ .‬إنها‪ ،‬بصيغة‬ ‫فقد تم تخصيصه لرصد الطريق‬
‫أخرى‪ ،‬تساؤالت حول آليات‬ ‫املؤدي نحو ما أسماه الكاتب نفسه‬
‫وشروط تك ُّون وانبناء السلطة‬ ‫بـ»قشدة» املجتمع؛ ذلك الطريق‬
‫يف النسق السياسي واملجتمعي‬ ‫الذي يكشف لنا بمغربنا املعاصر‪،‬‬
‫وأيضا‪ ،‬حول املسالك‬ ‫ً‬ ‫املغربي‪،‬‬ ‫يف نظره‪ ،‬سيرورة صناعة النخب‪.‬‬
‫إىل أعىل هرم السلطة‪( .‬ص‪-31‬‬ ‫الظاهرة والخفية‪ ،‬التي تقود ُم َت َتبِّ َعها‬
‫‪)32‬‬ ‫إىل الصعود إىل األعىل‪ ،‬المتالك‬
‫أما يف الفصل الثاني من الكتاب‬ ‫سلطة اتخاذ القرار‪.‬‬
‫املعنون بـ»النخبة الحزبية‪ ..‬املقاولة‬ ‫أما يف الفصل األول املعنون‬
‫السياسية والحراك االجتماعي»‪،‬‬ ‫بـ»صناعة النخبة‪ ..‬الطريق نحو‬
‫فقد حاول الكاتب تسليط الضوء‬ ‫قشدة املجتمع»‪ ،‬فقد سعى الكاتب‬
‫عىل الظاهرة الحزبية يف املغرب‬ ‫إىل إثارة عدد من األسئلة استهدفت‬
‫وطبيعتها‪ ،‬مفك ًكا عناصرها‬ ‫استراتيجيات صناعة النخبة‬
‫الداخلية ومكوناتها وآلية اشتغالها‪.‬‬ ‫باملغرب‪ ،‬وتلمس طريق ومسار‬
‫والظاهرة الحزبية مل تظهر‪ ،‬يف‬ ‫الوصول إىل دوائر صنع القرار‪،‬‬
‫نظره‪ ،‬نتيجة دعم شريحة أو طبقة‬ ‫أيضا آليات وشروط‬ ‫كما استهدفت ً‬
‫اجتماعية‪ ،‬بل أملت ظهورها ظروف‬ ‫تحقق التسلق إىل قمة الهرم‪،‬‬
‫النضال ضد املستعمر والتعبئة من‬ ‫متسائل عن مدى صحة الحديث‬ ‫ً‬
‫أجل التحرر من ربقة االستعمار‪.‬‬ ‫عن «سوسيولوجية ممكنة» دون‬
‫وعليه‪ ،‬فقد أفاد تشريحه‬ ‫تأصيل لحضور هذا العلم‪ ،‬ضمن‬
‫السوسيولوجي لها‪ ،‬بالقول إنها‬ ‫حقول معرفية كثيرة ج ًّدا‪( .‬ص‪)17‬‬
‫قد خرجت من رحم الزوايا؛ لذلك‪،‬‬ ‫وقد حدد‪ ،‬إىل جانب ذلك‪ ،‬ماهية‬
‫فرغم اختراقها للمغرب عمود ًّيا‬ ‫النخب‪ ،‬وذلك من خالل نموذج‬
‫وأفقيًّا‪ ،‬ورغم الحداثة السياسية‪ ،‬مل‬ ‫مشيرا إىل أن النخبة‬ ‫ً‬ ‫االستوزار‪،‬‬
‫يستطع املغرب‪ ،‬يف نظره‪ ،‬التخلص‬ ‫السياسية املغربية ومثيالتها يف‬
‫من العالقات القرابية التي تحكمها‪.‬‬ ‫العامل العربي‪ ،‬كانت تقوم بدور‬
‫فالوصول إىل أعىل الهرم الحزبي‪،‬‬ ‫مزدوج‪ :‬دور «شرعنة وتبرير‬
‫يحتاج‪ ،‬يف نظر الكاتب‪ ،‬إىل بذل‬ ‫األوضاع القائمة وإعادة إنتاج نفس‬
‫تضحيات وعقد تحالفات وافتعال‬ ‫املنظومة املتحكمة فيها»‪ ،‬ودور‬
‫خصومات‪ ،‬وانتهاج نظام تقديم‬ ‫«املعارضة ومناهضة األوضاع‬
‫الهدايا‪ ،‬كآلية وصولية إىل دوائر‬ ‫القائمة مع الدعوة إىل تغيير هذه‬
‫صنع القرار واالستفادة من عطف‬ ‫األخيرة»‪( .‬ص‪ )20 -18‬كما‬
‫املخزن‪( .‬ص‪)74 -35‬‬ ‫أيضا إىل تحديد دور املخزن‬ ‫سعى ً‬
‫ويبقى املشهد الحزبي باملغرب‪،‬‬ ‫(مصطلح يفيد السلطة السياسية‬
‫مفتوحا عىل‬
‫ً‬ ‫يف نظر الكاتب‪ ،‬عاملًا‬ ‫املباشرة للدولة) يف سيرورة إنتاج‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫احتماالت االنحسار؛‬ ‫النخبة املغربية‪ ،‬والذي يتجىل‪،‬‬
‫عندما تنضاف إىل ذلك أزمة الفعل‬ ‫يف نظره‪ ،‬يف تفعيل آلية الرضى‬
‫السياسي الذي يعبر عنه السلوك‬ ‫والعطف املخزني‪ :‬اعتماد وسائل‬
‫االنتخابي للمواطن‪( .‬ص‪)86 -78‬‬ ‫إدماج واحتواء وتطويع ُم َذ ِّو َب ٍة‬
‫لقد اعتمد املخزن املغربي‪ ،‬يف ٍرأي‬ ‫لكل معارضة راديكالية‪ ،‬يف اتجاه‬
‫الكاتب‪ ،‬عىل «التعددية السياسية»‬ ‫صنع معارضة ناعمة ُمت ََح َّك ٍم فيها‪.‬‬
‫كتكتيك من أجل تشجيع االنقسام‬ ‫(ص‪ )30 -27‬مثل املصاهرة مع‬
‫واالنشقاق‪ ،‬وتذويب أي قوة‬ ‫العائالت املغربية الراقية‪ ،‬والعالقات‬
‫محتملة صاعدة تستطيع أن تخلخل‬ ‫الزبونية من أجل التسلق بسرعة‬
‫الحسن الثاني‬
‫‪251‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫لحصد املواقع‪ ،‬وتأكيد الذات نحو‬ ‫السياسي املغربي عافيته‪( .‬ص‪-99‬‬ ‫أركان مشروعيته كسلطة سياسية‬
‫ضمان أقصر الطرق للوصول إىل‬ ‫‪)103‬‬ ‫مركزية‪ .‬وهذا اإلجراء جعل من تلك‬
‫سلطة اتخاذ القرار‪ ،‬واالرتباط‬ ‫وتحت عنوان‪« :‬املجتمع املدني‬ ‫التعددية‪ ،‬يف نظر الكاتب‪ ،‬مجرد‬
‫املصلحي املرتكز عىل نزعة التبرير‬ ‫أول»‪ ،‬الذي يفتتح به الفصل الثالث‬ ‫ً‬ ‫تقطيع أفقي للنخبة الحزبية‪ ،‬من‬
‫والتواطؤ؛ مما يجعل تلك األعطاب‬ ‫املعنون بـ»النخبة املدنية‪ ..‬مجتمع‬ ‫أجل دفع هذه األخيرة‪ ،‬من حيث‬
‫كارثية‪ ،‬تجعل من نخب املجتمع‬ ‫مدني بجينات تقليدية» يرى الكاتب‪،‬‬ ‫تشاء أو ال تشاء‪ ،‬إىل التفاوض‬
‫املغربي مجرد كائنات صدوية‪ ،‬تعيد‬ ‫بأن مفهوم املجتمع املدني‪ ،‬يف‬ ‫مع املخزن عىل اقتسام وتوزيع ما‬
‫إنتاج ما يريده صناع القرار الفعيل‪.‬‬ ‫استعماالته الحالية داخل املجتمع‬ ‫أسماه الكاتب بـ»الكعكة االنتخابية»‬
‫(‪)136 -127‬‬ ‫دائما مع أجهزة‬‫املغربي‪ ،‬يتعارض ً‬ ‫(ص‪)90 -87‬؛ مما جعل مالمح‬
‫أما يف الفصل الرابع املعنون‬ ‫الدولة؛ بحيث يغدو الرهان عنده هو‬ ‫النخبة الحزبية مفتوحة عىل‬
‫بـ»النخبة املثقفة‪ ،‬بحثًا عن‬ ‫«املزيد من املجتمع ضد القليل من‬ ‫مجموعة من أعطاب تفرغ الفعل‬
‫املثقف امللتزم»‪ ،‬فقد قدم فيه‬ ‫الدولة‪ ،‬أو املزيد من املجتمع ضد‬ ‫الحزبي من محتواه املواطناتيي‬
‫الكاتب توصيفًا دقيقًا ملفهوم‬ ‫القليل من السياسة»‪ .‬فال يمكن‪ ،‬عىل‬ ‫والديمقراطي‪ ،‬كالترحال من حزب‬
‫طارحا بذلك إشكالية‬
‫ً‬ ‫املثقف‪،‬‬ ‫مستوى الواقع اإلجرائي‪ ،‬يف رأي‬ ‫إىل آخر وغياب الخط األيديولوجي‬
‫«األنتليجانسيا»‪ ،‬ودور هذه األخيرة‬ ‫الكاتب‪ ،‬إيجاد تمثل تام وواقعي‬ ‫الواضح لألحزاب‪ ،‬والتقدم يف‬
‫االجتماعي يف املجتمع املغربي‪:‬‬ ‫لهذا املعنى يف الفضاء املجتمعي‬ ‫السن املرتبط بزعماء األحزاب‪،‬‬
‫فإذا كانت الوظيفة األساسية‬ ‫املغربي‪ .‬فكل هذه «الهياكل‬ ‫يحول دون ترشيح الشباب‬ ‫الذي ُ‬
‫للمثقف هي إنتاج املعرفة والنقد‬ ‫الجمعوية» وهذه «التنظيمات‬ ‫يف تويل املسؤولية القيادية داخل‬
‫والتطوير‪ ،‬إلنجاح كل مشروع‬ ‫املدنية» ال تعبر‪ ،‬يف الحقيقة‪،‬‬ ‫الحزب‪ ،‬باإلضافة إىل ضعف األداء‬
‫سياسي ومجتمعي‪ ،‬املشكلة‬ ‫عن املعنى املفترض للمجتمع‬ ‫الوظيفي ألعضاء مجلس النواب‬
‫لخاصيات ما يسميه أنطونيو‬ ‫املدني‪ ،‬الذي يتماهى وما نحته‬ ‫واملستشارين وأعضاء املكاتب‬
‫غرامشي باملثقف العضوي‪ ،‬فإنه‬ ‫املثقفون العضويون خالل عصر‬ ‫التنفيذية لألحزاب‪ ،‬بسبب عدم‬
‫يكون ذلك املثقف‪ ،‬يف حالة املغرب‪،‬‬ ‫النهضة واألنوار‪ )115 -104( .‬إن‬ ‫توفرهم عىل شهادات جامعية عليا‬
‫قد تعرض لشتى أنواع ووسائل‬ ‫االنخراط يف املجتمع املدني املغربي‬ ‫يف مساراتهم الدراسية‪ ،‬وتنامي‬
‫التدجين واالحتواء من أجل تسهيل‬ ‫دال‪ ،‬يف نظر الكاتب عبد‬‫ال يكون ًّ‬ ‫األغلبية الصامتة الساخطة عىل‬
‫دمجه يف النسق السياسي العام‪،‬‬ ‫الرحيم العطري‪ ،‬عىل انخراط مسبق‬ ‫الوضع‪ ،‬وغياب الديمقراطية‬
‫وتجفيف منابع كل ثورة مرتقبة‬ ‫يف خيار الحداثة والتحديث‪ ،‬فهناك‪،‬‬ ‫الداخلية‪ ،‬وضعف آليات‬
‫من قبله‪ .‬فقد راهن املخزن‪ ،‬بكل‬ ‫بحسب رأيه‪ ،‬ارتكان للخلفيات‬ ‫االستقطاب‪ ،‬ومحدودية التدخل‬
‫ما انتهي من طرق إدماجية‪ ،‬عىل‬ ‫التقليدية؛ مما يجعل أمر تكوين‬ ‫الحزبي وارتباطه يف الغالب بالفترة‬
‫إنتاج دواجن بشرية تأتمر وتنتهي‬ ‫محكوما بسؤال القرابة‬
‫ً‬ ‫الجمعيات‬ ‫االنتخابية‪ .‬فهذه أعطاب وعوامل‬
‫بما يريده هو‪ .‬وعليه‪ ،‬يرى الكاتب‬ ‫تماما كما هو قائم يف‬‫والعشائرية؛ ً‬ ‫تساعد املخزن يف إنجاحه ملسلسل‬
‫بأن هناك استعداد قبيل لبعض‬ ‫املشهد الحزبي‪( .‬ص‪)119 -116‬‬ ‫تمييع الفعل السياسي الواعد‪،‬‬
‫املثقفين للدخول يف الشبكات‬ ‫ومثلما نجد أعطا ًبا لألحزاب هناك‬ ‫وتجعل املواطن عازفًا عن املشاركة‬
‫املصالحية للمخزن ويف معطف‬ ‫أيضا أعطاب قصوى للمجتمع‬ ‫ً‬ ‫ورافضا بالتايل لفكرة‬
‫ً‬ ‫السياسية‬
‫السلطة‪( .‬ص‪ )156 -145‬فمتابعة‬ ‫املدني التي حددها الكاتب يف‬ ‫االنضواء إىل أي تنظيم حزبي‪.‬‬
‫الكاتب النقدية ملا يجيش به الحقل‬ ‫مجموعة من العناصر كغياب سؤال‬ ‫لكن يبقى سؤال األفق‪ ،‬يف رأي‬
‫السوسيو سياسي املغربي‪ ،‬قادته‬ ‫الديمقراطية‪ ،‬والعقل املدني املتأخر‬ ‫الكاتب‪ ،‬بالرغم من هذه األعطاب‪،‬‬
‫إىل االعتراف بوجود فئات متعددة‬ ‫عن تلبية االحتياجات األساسية‬ ‫مفتوحا يف شقه اإليجابي عىل الزمن‬
‫ً‬
‫من املثقفين‪ :‬مثقف عضوي ملتزم‪،‬‬ ‫للمواطن‪ ،‬والتسلق االجتماعي‬ ‫املختلف الذي يستعيد فيه الزمن‬
‫‪252‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫عموما؛‬
‫ً‬ ‫وإعادة هيكلة الحقل الديني‬ ‫مفهوم إمارة املؤمنين‪ ،‬أو بالنسبة‬ ‫مثقف مزيف انتهازي‪ ،‬ومثقف‬
‫وعبر مد وزارة األوقاف والشؤون‬ ‫لباقي املؤسسات السياسية‬ ‫مستقيل‪ ،‬ومثقف متعال منفصل‬
‫اإلسالمية بإمكانيات مهمة تمكنها‬ ‫واملدنية‪ ،‬والتي ال تتورع‪ ،‬يف رأي‬ ‫كلية عن شجون املجتمع وقضاياه‪.‬‬
‫من تجذير موقعها وخطابها يف كل‬ ‫الكاتب‪ ،‬عن اللجوء إىل الدين من‬ ‫وداخل هذا اإلطار‪ ،‬تمكن الكاتب‪،‬‬
‫املواقع واملظاهر الدينية‪-187( .‬‬ ‫أجل تأكيد االنخراط اإليجابي يف‬ ‫من تحديد أبرز واجهات الفعل‬
‫‪)216‬‬ ‫النسق العام للدولة‪( .‬ص‪-175‬‬ ‫والحضور‪ ،‬التي تعلن من خاللها‬
‫وقد اعتبر الكاتب‪ ،‬يف الفصل‬ ‫‪)176‬‬ ‫النخبة املثقفة باملغرب وجودها‬
‫السادس واألخير من هذا الكتاب‬ ‫وعليه‪ ،‬ويف هذا املستوى من‬ ‫وامتدادها‪ ،‬وممارسة وظيفتها‬
‫املعنون بـ»النخبة العسكرية‪ ،‬سياج‬ ‫التحليل‪ ،‬حاول الكاتب رصد‬ ‫النقدية يف اتجاه التبرير أو املساءلة‬
‫الطابوات وقواعد اللعبة الجديدة»‪،‬‬ ‫جغرافيا الحركة اإلسالمية‬ ‫أو الترف الفكري أو االستقالة‪،‬‬
‫أن املؤسسة العسكرية املغربية‬ ‫باملغرب‪ ،‬عبر تحديد أهم جماعاتها‬ ‫وهي‪ :‬الجامعة والبحث العلمي‬
‫دوما يف صلب التحوالت‬ ‫مندمجة ً‬ ‫ومؤسساتها التي تمنحها الحضور‬ ‫واألحزاب السياسية واملجتمع‬
‫السوسيو سياسية‪ ،‬التي عرفتها‬ ‫واالمتداد املجتمعي‪ .‬فهناك‬ ‫املدني‪ ،‬ودوران املثقف يف فلك‬
‫البالد‪ .‬فقد كانت مساهمة عبر‬ ‫فسيفساء دينية‪ ،‬ويبقى امللك‪،‬‬ ‫السلطة وابتعاد الخطاب عن‬
‫تدخالتها‪ ،‬بشكل أو بآخر‪ ،‬يف‬ ‫يف خضمها وبناء عىل مقتضيات‬ ‫املمارسة وتغريد املثقف خارج‬
‫صناعة أهم القرارات التي حددت‬ ‫الشرعي للدين‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫املمثل‬ ‫الدستور‪،‬‬ ‫السرب‪ ،‬الفوبيا الزائدة التي يقصد‬
‫مالمح النصر العام وتوجيه‬ ‫باملغرب‪ ،‬واملجس َد للسلطة الدينية‬ ‫بها املداهنة والنفاق والتقية‪ ،‬التي‬
‫السياسات‪ .‬فرغم توجيه االنتقادات‬ ‫العليا يف البالد‪ .‬فهذه األخيرة‬ ‫تدمنها فئات واسعة من املثقفين‪.‬‬
‫إليها‪ ،‬إال أنها اعتبرت أحد األركان‬ ‫ُتؤَ ِّم ُن استمرار النسق‪ ،‬بسبب‬ ‫(‪)169 -157‬‬
‫األساسية داخل مربع السلطة‪.‬‬ ‫مشروعيتها التاريخية وتسجيلها‬ ‫ويف الفصل الخامس املعنون‬
‫وبالرغم من كل محاوالت االنقالب‬ ‫الدائم لحضوره يف جميع تفاصيل‬ ‫بـ»النخبة الدينية خالل ‪ 16‬ماي‬
‫التي تورط فيها الجيش‪ ،‬خالل‬ ‫تكريسا للمشروعية‬
‫ً‬ ‫الحياة الدينية‬ ‫ورهانات الترويض واالحتواء»‪،‬‬
‫السبعينيات من القرن املاضي‪ ،‬فإن‬ ‫واحتكارا للسلطة السياسية‬
‫ً‬ ‫الدينية‬ ‫فقد توجه الكاتب بأدوات تحليله‬
‫ذلك كله‪ ،‬بحسب الكاتب‪ ،‬مل يقلص‬ ‫يف املغرب‪.‬‬ ‫السوسيولوجي‪ ،‬نحو الحقل الديني‬
‫من مساحة حضور هذه املؤسسة‬ ‫وما دام الحقل الديني يف املغرب هو‬ ‫ذي اإلشارات والدالالت املفتوحة‪،‬‬
‫داخل النسق السياسي املغربي‪.‬‬ ‫الحقل املركزي يف النسق‪ ،‬تتوزع‬ ‫منذ أحداث ‪ 16‬ماي ‪ ،2003‬بالدار‬
‫فلقد كان للمحاولتين االنقالبيتين‬ ‫منه كل السلط ويتم عبره تصريف‬ ‫البيضاء اإلرهابية‪ ،‬عىل كثير من‬
‫لسنة ‪ 1971‬وسنة ‪ 1972‬أثر‬ ‫مجموعة من القرارات‪ ،‬فال بد من‬ ‫االحتماالت‪ ،‬سواء يف اتجاه الضبط‬
‫واضح يف قرار امللك الراحل الحسن‬ ‫انتهاج الدولة لخيار التحصين ملحو‬ ‫األمني أو االنفالت الذي يعني‪،‬‬
‫الثاني بأن يكون من الضروري‬ ‫أي منافسة محتملة حول حقل‬ ‫بالنسبة للكاتب‪ ،‬املزيد من التفكك‬
‫ربط املؤسسة العسكرية مباشرة‬ ‫املشروعية الدينية؛ بل أكثر من‬ ‫واإلنتاج املتقدم للعنف والعنف‬
‫باملؤسسة امللكية‪ ،‬وأن يتحمل‪ ،‬هو‬ ‫ذلك‪ ،‬فال بد‪ ،‬خصوصا بعد أحداث‬ ‫املضاد‪ .‬فهناك مجموعة من الرموز‬
‫شخصيًّا مباشرة مسؤولية القائد‬ ‫‪ 16‬مايو بالدار البيضاء‪ ،‬من وضع‬ ‫والصراعات تلتهب يف هذا الحقل‪،‬‬
‫األعىل للقوات املسلحة امللكية؛‬ ‫آليات جديدة ال تقف عند حدود‬ ‫وتهفو اىل شرعنة الوجود وتأكيد‬
‫واض ًعا بذلك ح ًّدا نهائيًّا إلمكانية‬ ‫مراقبة املساجد والجمعيات الخيرية‬ ‫الحضور يف صلب كافة األنساق‬
‫تسليم مفاتيح تدبير الشأن‬ ‫فقط‪ ،‬بل تمتد إىل االختراق الكيل‬ ‫املجتمعية‪ .‬ذلك أن الدين يعتبر يف‬
‫العسكري لشخص آخر‪ ،‬مهما أبدى‬ ‫ملختلف تفاصيل املشهد اإلسالمي‪،‬‬ ‫املغرب من أهم قنوات تصريف‬
‫من والء وتفانٍ يف خدمة القصر‪.‬‬ ‫عبر تنشيط حقل إمارة املؤمنين‪،‬‬ ‫السلطة‪ ،‬سواء بالنسبة للمؤسسة‬
‫وبناء عىل ما تم ذكره‪ ،‬يتضح‬ ‫وتشجيع حضور اإلسالم الرسمي‪،‬‬ ‫امللكية التي تؤسس شرعيتها عىل‬
‫‪253‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫للكاتب بأن املؤسسة العسكرية‬


‫باملغرب كانت فاعلة عىل الدوام يف‬
‫مختلف األحداث السياسية التي‬
‫عرفتها البالد‪ ،‬وأنها ما زالت‪،‬‬
‫لحد اآلن‪ ،‬يف نظره‪ ،‬تلعب الدور‬
‫الريادي يف صياغة السيناريوهات‬
‫املمكنة لتدبير حقوق املجتمع‪.‬‬
‫فالجيش باملغرب‪ ،‬كما يف مجموعة‬
‫من الدول العربية‪ ،‬مل يكتف‬
‫بدوره الطبيعي يف حماية السيادة‬
‫الترابية‪ ،‬بل انتقل‪ ،‬بكل ثقله‬
‫الرمزي واملادي‪ ،‬من حدود الوطن‬
‫إىل حدود السياسة والسلطة‪ ،‬بل‬
‫إىل الكثير من الفعاليات املجتمعية‬
‫املدنية كالرياضة والثقافة والعمل‬
‫االجتماعي‪( .‬ص‪)247 -227‬‬
‫محمد السادس بن الحسن‬ ‫عبد الرحيم العطري‬ ‫أنطونيو غرامشي‬
‫فالكاتب مل يكن يتوقع الوصول إىل‬
‫العطب املغربي عبر الطريق املؤدية‬
‫بامللموس‪ ،‬أن العطب يعتور مختلف‬ ‫رأيه‪ ،‬أساسيات مركزية يف مطبخ‬
‫إىل قشدة املجتمع‪ .‬فمن ذات الطريق‬
‫التضاريس املجتمعية‪ .‬وعليه‪،‬‬ ‫صناعة النخب ودوائر صنع القرار‬
‫املؤدية إىل هذه األخيرة‪ ،‬كان‬
‫فالنخب املثقفة ال يمكن‪ ،‬يف رأيه‪،‬‬ ‫السوسيو سياسي باملغرب‪ .‬إال أن‬
‫«البدء ‪-‬كما يقول‪ -‬وكان االنفتاح‬
‫أن تعفي نفسها من أداء مهمتها‬ ‫ما الحظه الكاتب بقوة يف هذا املسار‬ ‫عىل شروط من الرساميل املادية‬
‫امللتهب هو حضور املخزن‪ ،‬كبنية‬ ‫والرمزية التي تعبِّد هذه الطريق‬
‫التاريخية التي تؤكدها مختلف‬
‫وكنظام اختراقي وتوجيهي لكل‬ ‫لسالكيها نحو دوائر صنع القرار»‪.‬‬
‫التجارب اإلنسانية‪ ،‬وال يمكنها أن‬
‫األنساق والنخب املجتمعية وكل‬ ‫وبرفقة نخب وحقول السياسة‬
‫تمنع نفسها من مقاومة كل وسائل‬ ‫الحقول؛ وهو ما يعني‪ ،‬يف رأيه‪ ،‬أن‬ ‫والثقافة والدين والجيش واملجتمع‬
‫القمع واإلغراء‪ ،‬تحصينًا ألدوارها‬ ‫الطريق نحو النخبة يدشنها العطف‬ ‫املدني كان االفتتاح ملرات عديدة‪،‬‬
‫الطليعية‪.‬‬ ‫املخزني واستراتيجياته الخاصة‬ ‫«عىل األعطاب القصوى وعىل‬
‫«فمتى يحدث ذلك؟»‪..‬‬ ‫املتعلقة برهانات اإلدماج والتدجين‪.‬‬ ‫تشوهات الفعل وجنينية املفاهيم‪،‬‬
‫هكذا تساءل الكاتب د‪.‬عبد الرحيم‬ ‫وهكذا‪ ،‬فعندما انتقل الكاتب بسؤاله‬ ‫وعىل مصالح الحراك وصفقات‬
‫العطري بحرقة‪ ،‬يف نهاية هذا‬ ‫النقدي نحو مساحات النخبة‪،‬‬ ‫الوصول السريع إىل الفوق»‪.‬‬
‫راسما من خالل‬ ‫الكتاب الهام‪،‬‬ ‫انكشف له العطب وانفضحت‬ ‫فبرفقة ذات النخب‪ ،‬كان سؤاله‬
‫ً‬
‫أمامه إرهاصات هذا األخير األولية‬ ‫النقدي متوج ًها بالضبط نحو‬
‫منفتحا‬
‫ً‬ ‫إطارا‬
‫طرحه لهذا التساؤل ً‬ ‫وتوضحت له نتائجه الكارثية‪ ،‬من‬ ‫إشكالية االلتحاق بصالونات النخبة‬
‫عىل الراهن املغربي بمختلف أطيافه‪،‬‬
‫تنمية معطوبة واختيارات ال شعبية‬ ‫ونتائج هذا االلتحاق وشروطه ً‬
‫قبل‪.‬‬
‫الذي يدعو القارئ واملتتبع إىل املزيد‬ ‫ودرجات االحتقان املجتمعي‪ ،‬التي‬ ‫فالرضا املخزني‪ً ،‬‬
‫أول‪ ،‬والرساميل‬
‫من التفكير والتأمل يف مختلف‬ ‫مل تعد‪ ،‬يف نظره‪ ،‬تنفع معها تقنيات‬ ‫الرمزية واملادية املفتوحة عىل‬
‫تداعياته املصيرية‪( .‬ص‪-251‬‬ ‫التلقيح والتنويم‪ ،‬وال عمليات‬ ‫األصل النبيل وصفقات املصاهرة‬
‫‪)262‬‬ ‫التجميل والتلميع‪ .‬فكل ذلك يؤكد له‬ ‫وسلطة املقدس‪ ،‬ثانيًا‪ ،‬هي يف‬
‫‪254‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫ميريت في رواية‬
‫«إخناتون ونفرتيتي‬ ‫إلهام الشرع*‬

‫الكنعانية»‬
‫لصبحي فحماوي‬

‫ذكر اسمها يف بعض الخطابات‬ ‫رواية «إخناتون‬

‫صدرت‬
‫الدبلوماسية‪.‬‬ ‫ونفرتيتي الكنعانية» يف‬
‫«إنها جميلة املحيَّا مضيئة‬ ‫فبراير ‪ ٢٠٢٢‬عن الدار‬
‫لقصرها كلما خطت‪ ،‬حبيبة سيد‬ ‫األهلية للطباعة والنشر‬
‫دائما إىل جانب‬
‫القطرين‪ ،‬تقف ً‬ ‫بيروت‪ ،‬عمان‪ .‬وهي‬
‫مليكها إخناتون‪ ،‬كما يجاور نجم‬ ‫قصة حب شهيرة بين‬
‫الشمال الجوزاء عازفة شخشيخة‬ ‫األمير املصري أمنحتب‬
‫سيستروم لآللهة موت‪ ،‬وعازفة‬ ‫الرابع ابن اإلمبراطور أمنحتب‬
‫الهارم لإللهة‪ ،‬حتحور‪ ،‬منشدة‬ ‫الثالث واألميرة الكنعانية «الهام‪-‬‬
‫طروب لباقى اآللهة»(‪.)1‬‬ ‫نيفرتيتي» ابنة رافائيل ملك مملكة‬
‫ومن ألقابها الزوجة امللكية‬ ‫مجدو الكنعانية‪.‬‬
‫العظيمة‪ ،‬والذي اكتسبته بعد أن‬ ‫تعتبر ميريت أتون أو املحبوبة من‬
‫تزوجت بأبيها إخناتون‪ ،‬ويوجد‬ ‫آتون هي االبنة الكبرى إلخناتون‬
‫افتراض آخر أنها اكتسبت هذا‬ ‫من امللكة نفرتيتي‪ ،‬ويعتقد أنها‬
‫االسم لتسلمها مهام ومكانة‬ ‫ولدت يف العام الثاني لحكم‬
‫والدتها نفرتيتي‪ .‬باإلضافة إىل‬ ‫إخناتون‪ ،‬وهي اكثر بنات إخناتون‬
‫لقب «امللكة البيضاء»‪ ،‬حيث‬ ‫وتصويرا يف املعابد‬
‫ً‬ ‫الستة ِذ ً‬
‫كرا‬
‫التمثال املوجود يف أخميم الذي‬ ‫ويف املقابر ويف اآلثار‪ ،‬بل ولقد‬
‫‪255‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫امللك إخناتون من ابنتهما األميرة‬ ‫يضخ الطاقة يف أجسادنا بأشعة‬ ‫ُيع ُّد واح ًدا من القطع الفريدة يف‬
‫«ميريت أتون» وهي أكبر بناته‬ ‫الشمس فيجعلنا نعيش وننمو‪،‬‬ ‫الفن املصري القديم‪ ،‬ويرجع‬
‫الست‪« :‬ميريت أتون التي ولدت‬ ‫وهو الذي يشفينا من األمراض‪،‬‬ ‫السبب إىل أخذها هذا اللون‬
‫يف طيبة قبل االنتقال اىل أخت‬ ‫ويجفف جروحنا‪ ،‬ويبقينا عىل قيد‬ ‫األبيض من أمها نفرتيتي‬
‫أتون‪ ،‬والخمس اللواتي ولدن‬ ‫الحياة»(‪.)3‬‬ ‫الكنعانية‪ ،‬كما وصفت يف رواية‬
‫يف أخت أتون‪ ،‬وهن مكت أتون‪،‬‬ ‫وكان حب إخناتون لنفرتيتي‬ ‫«إخناتون ونيفرتيتي الكنعاية»‬
‫وعنخس أن با أتون‪ ،‬ونفرو أتون‬ ‫ال يشابهه حب‪ ،‬وهو يؤكد ذلك‬ ‫لصبحي فحماوي‪« ،‬كانت تُحادثه‪،‬‬
‫تاشيري‪ ،‬ونفر نفرو رع‪ ،‬وستب‬ ‫بكلماته التي قالها لها يوم موافقة‬ ‫بينما هو األسمر منذهل بجمالها‬
‫إن رع»(‪.)5‬‬ ‫أبيها عىل الزواج من إخناتون‪:‬‬ ‫األبيض‪ ،‬وبرقبتها الطويلة املطوقة‬
‫فذلك الزواج مل يكن اال كمخطط‬ ‫«وهنا نزلت دموع أمنحتب وهو‬ ‫بقالدة من اللؤلؤ‪ ،‬وبعينيها‬
‫من األم امللكة «تيي» التي كانت‬ ‫يقول لها أمام أبويها‪:‬‬ ‫الزرقاوتين الواسعتين كبحيرتين‬
‫تسعى لتوريث العرش ألحد‬ ‫ستكونين الزوجة امللكية‬ ‫رائقتين»(‪.)2‬‬
‫أبنائها وتزويجه من إحدى ذوات‬ ‫امللكة العظمى‬ ‫كان يجمعهما حبهما ألتون‬
‫الدم امللكي‪ ،‬فتقول له‪« :‬التقاليد‬ ‫ولن يكون حب كبير‬ ‫الشمس وسعيهما إلعالن الشمس‬
‫تحتم عليك يا ولدي أن تتزوج من‬ ‫كحب كل منا لآلخر‬ ‫أو رع روح الشمس التي اتفقا‬
‫أختك سات آمون الوريثة امللكية‬ ‫وستبقين جميلة وشابة‬ ‫أن يكون اإلله الحقيقي‪ ،‬إذ‬
‫الكبرى‪ ،‬فيقول لها‪ :‬ولكن نفرتيتي‬ ‫(‪)4‬‬
‫وسعيدة لألبد»‬ ‫إن الشمس هي التي تطعمنا‪،‬‬
‫وحدها هي التي أحب‪ ،‬وأثق فيها‬ ‫فكيف انقلبت يف املشاعر وتبدد‬ ‫وتسقينا وهي التي تحيينا‬
‫(‪)6‬‬
‫يا أمي‪»..‬‬ ‫الحب‪ ،‬يف ظل الظروف السياسية‬ ‫وتميتنا‪ ،‬فلوال الشمس ملا نبت‬
‫نحن نعرف أن إخناتون كان‬ ‫والدينية‪ ،‬رغم قصة الحب التي‬ ‫العشب وملا رعت األبقار‪ ،‬وشربنا‬
‫متزوجا بزوجته امللكة الرئيسة‬
‫ً‬ ‫جمعتهما ووالئهما لبعضهما‪ ،‬إذ‬ ‫اللبن‪ ،‬وال رعت األغنام وحملت‬
‫نفرتيتي التي كانت تشاركه الفكر‬ ‫مل يصمد هذا الحب إال لسنوات‬ ‫وولدت فأكلنا اللحم‪ ،‬وحتى‬
‫يف عبادة اإلله آتون بصفته (القوة‬ ‫معدودة‪ ،‬حيث لحقت الفجيعة‬ ‫املاء نجده يتجمد ويصبح غير‬
‫الحيه التي تحرك قرص الشمس‬ ‫الكبرى بامللكة نفرتيتي‪ ،‬وسارت‬ ‫قابل للشرب بال أشعة الشمس‪،‬‬
‫والكائنات األخرى)‪ ،‬وتظهر معه‬ ‫األمور بشكل مأساوي مد ِّمر‬ ‫وأشعة الشمس هي التي تعطينا‬
‫يف االحتفاالت الدينية وترافقه يف‬ ‫لكال الطرفين‪ ،‬وذلك بعد زواج‬ ‫الصحة والحياة‪ ،‬وهي التي‬
‫كل مشاهداته‪.‬‬ ‫تميتنا‪ ،‬ولذلك هي اإلله ‪-‬حسب‬
‫وقامت أمه امللكة «تيي» بتقديم‬ ‫إخناتون ونيفرتيتي‪ -‬خاص ًة‬
‫زوجة ثانية له تدعى «كيا»؛ والتي‬ ‫وأن أتون رع هو أحد اآللهة‬
‫يرجح أنها والدة توت عنخ أمون‪.‬‬ ‫املصرية‪ ،‬وكذلك شمسو اإلله‬
‫فزواجه كان بذريعة الحفاظ عىل‬ ‫الكنعاني ومثيله اإلله الهندي بدل‬
‫اإلمبراطورية‪ ،‬وبحكم العادات‬ ‫ديانة آمون التقليدية‪ ،‬ولهذا قام‬
‫والتقاليد من ناحية ومن ناحية‬ ‫إخناتون بإنشاء عاصمة جديدة‬
‫أخرى تُحاول أُمه إخباره أن هناك‬ ‫واطلق عليها اسم «أخت أتون»‪،‬‬
‫مؤامرات تُحاك ضده قائلة له‪:‬‬ ‫وأنشأ فيها معابد خاصة بإله‬
‫«وال أخفي عليك أن هناك قوى ال‬ ‫التوحيد‪ ،‬فغيَّر دين آمون إىل دين‬
‫ُيستهان بها تُحاول إزاحتك من‬ ‫أتون إذ يقول إخناتون‪« :‬وأرى‬
‫هذا املوقع»(‪.)7‬‬ ‫أن اإلله أتون الشمس هو قلب‬
‫ومن املنافسين له يف السلطة‬ ‫الشمس‪ ..‬طاقة الشمس‪ ..‬هو الذي‬
‫‪256‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫الفن املصري القديم‪ ،‬ال يملك‬ ‫فلم يجبها وبقي ُيكلم أباه (ربه)‬ ‫أخوه سمنخ كا رع‪ ،‬ويقال‬
‫الزائر سوى النظر إىل سحرها‬ ‫آتون»(‪.)9‬‬ ‫إنه تزوج من ابنة إخناتون‪،‬‬
‫وجمالها الفرعوني‪ ،‬حيث يجدها‬ ‫وتحت ظروف التوهان والضياع‬ ‫وهي ميريت أتون‪ ،‬الذي توىل‬
‫بأبهى زينتها داخل معبدها‬ ‫هذه تم إعالن زواجه من ابنته‪،‬‬ ‫العرش بعده‪ ،‬يناصره القائد آي‬
‫الفرعوني‪ ،‬ويحيط بها الكهنة‪،‬‬ ‫فأصبحت ميريت الزوجة امللكية‬ ‫لتثبيت حكمه‪ ،‬ومل تعترف امللكة‬
‫ويلقبها الجميع بـ(موالتي)‪.‬‬ ‫العظمى‪ ،‬مما جعل نفرتيتي تنهار‬ ‫نفرتيتي بامللك الشاب سمنخ كا‬
‫وقد ارتبط اسم ميريت بآتون‪،‬‬ ‫لهذا الفعل‪ ،‬وتخرج هائمة عىل‬ ‫رع‪ ،‬مما جعله يحاول القضاء‬
‫وهو الدين الذي نادى به والدها‬ ‫وجهها من القصر‪ ،‬هذا ويرجح‬ ‫عليها‪ ،‬ويظهر هذا يف قيامه‬
‫إخناتون‪ ،‬وهذا يدل عىل أن ديانة‬ ‫أن يكون السبب اآلخر لتوهانها‬ ‫بمحو اسم نفرتيتي من قصر‬
‫آتون كانت قوية ولها نصيب كبير‬ ‫وخروجها إىل املجهول هو موت‬ ‫مرو آتون يف مدينة أخت أتون‪،‬‬
‫حتى عىل أعظم ملكات مصر‪ ،‬وما‬ ‫ابنتها وضياع مملكة إخناتون‬ ‫ووضع اسم زوجته ميريت‪،‬‬
‫زال االسم يتردد حتى بعد زوال‬ ‫الجديدة‪ ،‬وبعده عنها‪.‬‬ ‫التي ح َّول اسمها لتكون ميريت‬
‫ديانة آتون وزواجها من عمها‬ ‫كثيرا يف‬
‫ً‬ ‫واسم ميريت يتردد‬ ‫آمون‪ .‬وقد أعاد العاصمة إىل طيبة‬
‫فأصبحت ديانتها آمونية‪ ،‬وهذا‬ ‫حيث أُشتهر‬
‫ُ‬ ‫عصرنا الحايل‪،‬‬ ‫بضغط من كهنة أمون واتَّبع‬
‫بحكم سيطرة ورجوع دين آمون‪،‬‬ ‫االسم يف أماكن مهمة مثل دار‬ ‫نظاما جدي ًدا لتغيير النظام الذي‬ ‫ً‬
‫وما يعزز قيمة االسم الحقًا هو‬ ‫ميريت يف مصر التي تُعد من‬ ‫قام به إخناتون‪ .‬كان سمنخ كا‬
‫تسمية «ميريت بتاح»‪ ،‬وهي أول‬ ‫أشهر دور النشر وتأسست عىل‬ ‫رع‪ ،‬أخ إخناتون الذي شاركه يف‬
‫عاملة مصرية يف علم الخيمياء أو‬ ‫يد محمد هاشم عام ‪ ،١٩٩٨‬حيث‬ ‫الحكم‪ ،‬ربما خالل السنتين أو‬
‫الكيمياء‪ ،‬فأطلق هذا االسم عىل‬ ‫ترجع التسمية نسبة إىل امللكة‬ ‫الثالث سنوات األخيرة من حياة‬
‫إحدى فوهات البركان املوجودة‬ ‫الفرعونية الجميلة‪ ،‬عدا أنه اسم‬ ‫إخناتون‪ .‬وأصبح الفرعون الوحيد‬
‫يف كوكب الزهرة‪.‬‬ ‫مشهور ومتداول بين الناس‪،‬‬ ‫عىل مصر‪.‬‬
‫وقد ك ُثرت االفتراضات بالنسبة‬ ‫وهناك جامعة خاصة يف سوهاج‬ ‫وهكذا تتعدد أسباب زواجه من‬
‫لزواج ميريت من أبيها‪ ،‬فيقول‬ ‫أطلق عليها اسم ميريت‪.‬‬ ‫ابنته ميريت لتصل إىل نفرتيتي‬
‫بعض الباحثين يف تاريخ‬ ‫دائما أهميته‬
‫يكتسب االسم ً‬ ‫نفسها‪ ،‬التي ربما كررت عليه‬
‫الحضارة املصرية إن الزواج كان‬ ‫من خالل ارتباطه بحدث مهم‬ ‫مقولة إنها ال تلد إال البنات‪،‬‬
‫صوري للمحافظة‬ ‫يتم بشكل ُ‬ ‫أو تميزه بكينونته املجردة‪،‬‬ ‫وأنه بحاجة إىل ولد ليكون و َّ‬
‫يل‬
‫عىل نسل العائلة‪ ،‬ويف رأي آخر‬ ‫ونالحظ أن اسم «ميريت» قد‬ ‫يل عهد أبيه‬ ‫عهد‪ ،‬كما كان هو و َّ‬
‫‪-‬حسب الدراسات التاريخية‬ ‫جمع بين السببين‪ :‬األول كونها‬ ‫اإلمبراطور أمنحتب الثالث‪.‬‬
‫للمصطلحات الشائعة يف تلك‬ ‫ابنة إخناتون امللك املصري الذي‬ ‫وبينما االبن إخناتون منشغل‬
‫الفترة‪ -‬أنه «مل يرد حتى اآلن‬ ‫نادى بديانة آتون‪ ،‬أما الثاني‬ ‫بإزالة آثار ديانة آمون‬
‫ىف النصوص املصرية القديمة‬ ‫فهو االهتمام التاريخي بهذه‬ ‫ومفاهيمها‪ ،‬كانت األم تيي تؤَ ِّثر‬
‫ما يثبت زواج األخوة األشقاء‪،‬‬ ‫الشخصية‪ ،‬ف ُأقيم لها منحوتة‬ ‫عليه بكلماتها وحججها إىل أن‬
‫ربما جاء هذا الخلط نتيجة إطالق‬ ‫لجسدها يف مدينة أخميم بسوهاج‬ ‫صار يصمت‪ ،‬وال يتحدث‪ ،‬وال‬
‫املصرى القديم عىل زوجته لفظ‬ ‫مترا‪ ،‬الذي نافس‬ ‫يبلغ طوله‪ً ١٣‬‬ ‫ُيعارض‪ ،‬واستمر حاله الصامت‬
‫‪ ، snt‬بمعنى أخت‪ ،‬وهو لفظ أطلق‬ ‫تمثال «الوطن األم ينادي»‬ ‫هذا إىل أن أقنعته بالزواج من‬
‫أيضا عىل الحبيبة ىف النصوص‬ ‫ً‬ ‫يف روسيا‪ ،‬وتمثال «ميريت»‬ ‫فتاة تدعى «كيا»‪ ،‬فولدت له ابنًا‬
‫املعروفة بأغانى الحب‪ ،‬حيث‬ ‫أتون أو العروسة‪ ،‬مثلما يلقبها‬ ‫اسماه «توت عنخ أتون»(‪ .)8‬علمت‬
‫يتعدى هذا اللفظ ىف الحالتين‬ ‫حيث ُيعتبر تمثالها‬ ‫ُ‬ ‫أهايل أخميم‪،‬‬ ‫نفرتيتي باألمر وذهبت اليه‬
‫السابقتين مفهومه اللفظى إىل‬ ‫من أجمل التماثيل التي جسدها‬ ‫فقالت‪« :‬ضاعت مصر يا إخناتون‪.‬‬
‫‪257‬‬
‫ثقافات وفنون‬
‫كتب‬

‫مفهوم معنى يدل عىل الرابطة‬


‫القوية بين الزوج وزوجته‬
‫والحبيب وحبيبته‪ ،‬كرابطة األخوة‬
‫التى ال يمكن فصلها أو التنصل‬
‫منها‪ ،‬حسبما قال مجدى شاكر‬
‫الخبير األثرى ىف تصريحات‬
‫صحفية سابقة»(‪.)10‬‬
‫ويف اعتقاد آخر ُيرجح أن يكون‬
‫الزواج من دائرة املحارم قد‬
‫فعل‪ ،‬لكن داخل األسرة‬ ‫حصل ً‬
‫امللكية الحاكمة يف مصر‪ ،‬بدليل‬
‫القوانين التي كانت موجودة يف‬
‫تلك الفترة والتي تعتبر أن زواج‬
‫املحارم جريمة ُيعاقب عليها‬
‫القانون‪.‬‬
‫حيرا‬
‫ويبقى زواج املحارم ُم ً‬
‫مجدي شاكر‬ ‫صبحي فحماوي‬ ‫زاهي حواس‬
‫خاصة يف فترة ُحكم إخناتون‬
‫نفرتيتي‪ ،‬وأما ما ظهر من لوحات‬ ‫الكاريكاتير املصري والعربي يف‬ ‫ملصر‪ ،‬ومن املمكن ربط هذا‬
‫االعتقاد عن زواج املحارم؛ ألن‬
‫وتماثيل إخناتون فكان مجرد‬ ‫القرن العشرين وما بعده‪ ،‬وهو‬
‫إخناتون أوجد فنًّا جدي ًدا بأسلوب‬
‫أسلوب فني مميز وعظيم»(‪.)13‬‬ ‫أساس الفن التشكييل السائد‬
‫مميز‪ ،‬ليس كباقي من سبقوه‬
‫ولهذا نستطيع القول إن هذه‬ ‫اليوم‪ ،‬وبذلك يثبت إخناتون أنه‬
‫الحكام‪ ،‬ليعبر به عن الديانة‬ ‫من ُ‬
‫هاجسا لدى‬
‫ً‬ ‫التماثيل شكلت‬ ‫كان قد قفز بالفن املصري قفزات‬
‫الجديدة اآلتونية فيقول «ومن‬
‫الباحثين يف تفسير زواج إخناتون‬ ‫آلالف السنوات‪ ،‬وهذا ما مل‬
‫أجل ذلك كله ال لن أسمح بأن‬
‫من ابنته «ميريت آتون»‪ ،‬لكن‬ ‫يحققه ملك من قبل وال من بعد‪.‬‬
‫تُعمل يل تماثيل مج َّملة‪ ،‬يتملقونني‬
‫كمطلعين عىل مختلف الدراسات‬ ‫ونتيجة لهذا الجدل الكبير يقول‬ ‫بها‪ ،‬فإذا أراد أحد النحاتين أو‬
‫نجد أن االحتمال األكبر أنه أُصيب‬ ‫الدكتور زاهي حواس وزير الدولة‬ ‫املصورين أن يصورني‪ ،‬فأنا‬
‫بلوثة دماغية بسبب وقوف‬ ‫لشئون اآلثار املصرية السابق‬ ‫أفضل وضع تخيالته الفنية‬
‫رجال الدين ضده‪ ،‬مما أدى إىل‬ ‫وشاغل منصب مدير أثار الجيزة‪:‬‬ ‫وليست صورتي الحقيقية» ‪.‬‬
‫(‪)11‬‬

‫انهيار دولته‪ ،‬فأصبح غير قادر‬ ‫«قمت والفريق املصاحب يل يف‬ ‫ولهذا السبب تم تفسير بعض‬
‫عىل التحكم يف قراراته اإلدارية‬ ‫مشروع دراسات املومياوات‬ ‫التماثيل إلخناتون أنه كان مخنَّثًا‬
‫وتالشيها «وازدادت تصرفاته‬ ‫امللكية وعىل رأسهم إخناتون‬ ‫ألن له معامل أنثوية بصدر بارز‬
‫اضطرا ًبا‪ ،‬فغدت أوامره غير‬ ‫بدراسة مستفيضة للحمض‬ ‫وقاعدة عريضة «وال أمانع أن‬
‫القابلة للتنفيذ شبه عشوائية» ‪.‬‬
‫(‪)14‬‬
‫النووي التي أثبتت أن إخناتون‬ ‫يرسمون يل أكتافًا منحدرة أكثر‬
‫وهذه الصدمات املختلفة إلخناتون‬ ‫رجل عادي ال ُيعاني أي عيوب‬ ‫من الواقع‪ ،‬أو رجلين أطول‪ ،‬أو‬
‫شاعرا‬
‫ً‬ ‫ال تُنسينا أنه كان‬ ‫خلقية عىل اإلطالق‪ ،‬ومل يكن‬ ‫لدي‪ ..‬ومؤخرة‬ ‫أقصر مما هي َّ‬
‫ومحبًا لزوجته نيفرتيتي‬ ‫فيلسوفًا ُ‬ ‫يف جسده أي خلل هرموني أو‬ ‫عريضة كمؤخرة أُنثى ليست‬
‫ومخلصا لديانته‬
‫ً‬ ‫الكنعانية‪،‬‬ ‫جيني‪ ،‬وأنه مكتمل الذكورة بدليل‬ ‫رجولية كما هي»(‪ .)12‬وهذا الفن‬
‫اآلتونية ومبادئه اإلنسانية‪،‬‬ ‫أنه أنجب ست أميرات من زوجته‬ ‫اإلخناتوني هو أساس رسم‬
‫‪258‬‬
‫العـدد ‪50‬‬
‫فبراير ‪٢٠٢3‬‬

‫للزواج من ابنته ميريت‪ ،‬ألن مل‬ ‫آتون وترك العاصمة أخيتاتون‬ ‫فكثير ٌة هي التماثيل التي تظهره‬
‫يعد شيء ذو قيمة بالنسبة إليه‬ ‫عائ ًدا إىل طيبة (األقصر اليوم)‪،‬‬ ‫ُيعبر عن حبه لزوجته وبناته‪،‬‬
‫بعد آتون ونيفرتيتي‪.‬‬ ‫وأعلن عودة عقيدة آمون تحت‬ ‫وقمة انتمائه إىل نفرتيتي‪ ،‬وهذا‬
‫يف النهاية تبقى األسرار محيطة‬ ‫ضغط كهنة آمون الذين كانوا ال‬ ‫قد ظهر يف رواية «إخناتون‬
‫بالحضارة املصرية القديمة املليئة‬ ‫يزالون عىل عقيدة اإلله آمون رع‪،‬‬ ‫ونيفرتيتي الكنعانية»‪ ،‬وهو‬
‫باأللغاز‪ ،‬وال يزال الباحثون‬ ‫رافضين ما يقدمه لهم إخناتون‬ ‫يقسم باإليمان بقوله‪« :‬أقسم‬
‫يحاولون كشفها بشتى الوسائل‬ ‫من فكرة اإلله الجديد آتون‪ .‬تحت‬ ‫بقدر ما تسعد امللكة قلبي‪ ،‬هي‬
‫ويحاولون فك رموزها‪ ،‬وخاصة‬ ‫تلك الضغوط وبسبب صغر سنه‬ ‫واطفالها»(‪.)15‬‬
‫تلك التي كانت يف عهد إخناتون‬ ‫فقد غير اسمه من «توت عنخ‬ ‫انشغل امللك إخناتون بفلسفته‬
‫ونفرتيتي‪ ،‬فاآلثار التي تم‬ ‫آتون» إىل توت عنخ آمون‪ .‬وهدم‬ ‫وإصالحاته الدينية وانصرف‬
‫اكتشافها والتي تم تخريبها إما‬ ‫كهنة طيبة آثار إخناتون ومدينته‬ ‫عن السياسة الخارجية وإدارة‬
‫من املعارضين من رجال الدين‬ ‫أخيتاتون‪ ،‬ومحا اسمه من عليها‬ ‫اإلمبراطورية املمتدة حتى أعايل‬
‫يف فترة ُحكم إخناتون أو املهربين‬ ‫وقام بتفكيك معبده الذي أقامه‬ ‫الفرات والنوبة جنو ًبا‪ ،‬فانفصل‬
‫واملخربين يف عصرنا الحايل‪ ،‬ومع‬ ‫آلتون يف طيبة‪ ،‬وهجر الناس‬ ‫الجزء اآلسيوي منها‪ .‬وملا مات‬
‫ذلك تبقى حاضرة بقوة‪ ،‬وذلك‬ ‫عاصمته‪ .‬كل هذه الضغوطات‬ ‫خلفه سمنخ كا رع‪ ،‬الذي حكم‬
‫ألنها كانت حضارة مميزة لها‬ ‫هي التي ل َّوثت عقل إخناتون‪،‬‬ ‫فترة وجيزة‪ ،‬حوايل ‪ 3‬سنوات‪،‬‬
‫تداعياتها وحضورها الضارب‬ ‫وهدمت صرحه الثقايف الفلسفي‬ ‫ثم خلف «سمنخ كا رع» ابن‬
‫بالعمق اإلنساني والحضاري عىل‬ ‫الفني اإلنساني الذي لن يتكرر‪،‬‬ ‫أخيه توت عنخ أمون الذي كان‬
‫كوكب األرض‬ ‫وربما كانت سببًا يف عدم ممانعته‬ ‫صغير السن‪ ،‬وارتد عن عقيدة‬

‫الهوامش‪:‬‬
‫* باحثة دكتوراه‪ ،‬جامعة آل البيت‪ ،‬األردن‪.‬‬
‫‪ -1‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.152‬‬
‫‪ -2‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.155‬‬
‫‪ -3‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.219‬‬
‫‪ -4‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.219‬‬
‫‪ -5‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.219‬‬
‫‪ -6‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.221‬‬
‫‪ -7‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.221‬‬
‫‪ -8‬اليوم السابع‪ ،‬احمد ابراهيم الشريف‪ ،‬السبت ‪ ٢٤‬اغسطس ‪.٢٠١٩‬‬
‫‪ -9‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.41‬‬
‫‪ -10‬زواج املحارم يف مصر القديمة هل تزوج ملوك الفراعنة حقًا بناتهم؟‪،‬اليوم السابع‪ 27-‬سبتمبر ‪2022‬‬
‫الثالثاء‪.‬‬
‫‪ -11‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.190‬‬
‫‪ -12‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.190‬‬
‫‪ -13‬جريدة الشرق األوسط‪ ،‬الخميس ‪ 11‬مايو ‪ ،2014‬العدد‪. 12938‬‬
‫‪ -14‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.225‬‬
‫‪ -15‬إخناتون ونفرتيتي الكنعانية‪ ،‬ص‪.230‬‬
‫إضاءات حول‬
‫ديوان‬
‫«قبالت مستعارة»‬

You might also like