You are on page 1of 4

‫قصة‪" :‬صروف الدهر"‬

‫فجأة هبّت رياح قوية أزالت الغُبار عن جرح غائر ُمذمل‪ ،‬لم تٓطله العافية بعد‪ ،‬لم تنجلي آثاره‬
‫المغطاة جل أعضائها‪ ،‬كدمات قوية على جسمها الهزيل‪ ،‬تحكي قصة ال ِعراك مع مرضها الّذي‬
‫أردفها كال ّٓنور الذابل يومها وسط الحشود وبين أدرع البشر فقدت وعيها وحماسها معا‪ ،‬فمنذ‬
‫خريف العام الماضي ومرضها يتفاقم مع شحوب جسدها وهلك سائر أطرافها بعد كل حصة‬
‫عالج‪ ،‬وعقب كل سفر إلى العاصمة "الرباط" حيث تتلقى عالجها كل شهر‪ ,‬تخسر عالمات‬
‫جمالها وتخور قِواها‪...‬‬

‫ّللا‪ ،‬تتأبط دراع زوجها كأ ّٓنه القوة بعينها‪،‬‬


‫كان اإلثنين موعدها مع الطبيب بمستشفى بن عبد ّ‬
‫الجسام التي صادفتهم منذ العشرين‬
‫معيلها وسند محنتها‪ ،‬لم يخن عهد الوصال رغم األحداث ِ‬
‫سنة من زواجهما‪ ،‬خليل روحها‪ ،‬رجل تجاوز الخمسون عاما‪ ،‬اختارته لسماحته‪ ،‬ولين قلبه‪،‬‬
‫المداري لخاطرها‪ ،‬يخشى جرحها بكلمة‪ ،‬يعتري وجهه وقار مع ضياء وهاج‪ ،‬كأن المولى‬
‫عز وجل صبّ فيه طمأنينة سلبت فؤادها‪ ،‬لحيته اشتعلت شيبا‪ ،‬ويداه أصابهم البهاق‪ ،‬ليس‬
‫بالطويل وال بالقصير‪ ،‬يملك حسا فكاهيا غريبا حتى في األوقات الصعبة‪ ،‬رغم تعرضه لوخز‬
‫إبرة األنسولين يوميا‪ ،‬يحارب بروحه المرحة‪...‬‬

‫كل تفاصيل المكان كانت توحي بالسكينة‪ ،‬لكن ضجير لعب األطفال أفسد متعة الخالة "رحمة"‬
‫بالجو المؤنس‪ ،‬أثارت غضبها أصوات من الخارج‪ ،‬ه ّمت لفتح نافذة غرفتها الدافئة‪ ،‬فتسلل‬
‫عبيق البرد إلى الداخل‪ ،‬أسرعت إلغالقها وهي تقاوم خصالت شعرها المغطاة باألبيض‬
‫تتطاير‪ ،‬لتلمح سفيان وعامر أوالد أخو زوجها "محمد"‪( ،‬جيرانها)‪ ،‬فهي مزرعة كبيرة أخد‬
‫كل أخ منهما قطعته وبنا منزال‪..‬‬

‫يلعبا حول المنزل بصخب كبير!‬

‫نادت عليهما‪:‬‬

‫‪-‬سفيان‪ ،‬تعال يا ابني تأخد خبزك المكسو بالسكر‬

‫‪-‬حاضر "ماما رحمة"‬


‫حنو‬
‫"ماما رحمة" في عتاب وراءه ّ‬ ‫أسرع الصبي في مرح ليأخد أحب الخبز لقلبه من‬
‫قامت تحذرهم‬

‫‪ -‬اسمع‪ ،‬العبا بهدوء‪ ،‬وابتعدا عن المنزل قليال‪ ،‬كي ال تفسدا الورود‪ ،‬أو تتسخ الجدران لقدر‬
‫ّللا‪..‬‬
‫ّ‬

‫‪ -‬في انسياب تام‪ ،‬وطاعة كاملة أومأ برأسهما‪ ،‬وانصرفا في هدوء‪ ،‬ألنهما يخافا من سخطها‬
‫ويعرفانه إن تعلق األمر بزهورها المنسقة‪ ،‬أو جدرانها المصبغة باألزرق السماوي المفضل‬
‫لديها‪ ،‬كل يوم تكون في موعد غرامي رفقة تفاصيل بيتها الجبلي المحدق بأبهج األلوان‪ ،‬تحسبه‬
‫لوحة فنية متقنة‪ ،‬كانت تصب الحياة في أركنتها‪ ،‬امرأة الخمسون سنة مالمحها فتية لم ينل منها‬
‫الدهر قط‪ ،‬قصيرة كزهراتها‪ ،‬ممتلئة القوام تحرص على إرتداء المنديل األحمر المخطط‬
‫باألبيض رمز منطقة ال ّ‬
‫شمال حيث تقطن‪ ،‬وقبعة عامرة الورود مختلفة األلوان الزاهية‪ ،‬رشيقة‬
‫مرات تحرص على ذلك حد‬
‫الحركة ال يهدأ لها جفن حتى ترتب بيتها بطريقة تفوق اإلتقان‪ّ ،‬‬
‫الهوس‪ ..‬فبعدما استنفدت ج ّل ذخيرتهما في الحرب ضد عدو العقم‪ ،‬احتلهما عدوا ً آخر‪ .‬باشر‬
‫الطبيب فحصها قبل خضوعها لدورة الكيماوي‪ ،‬وبوجه بشوش يعلوه األمل قال‪:‬‬

‫‪-‬يبدو أن صحة القلب جيدة يا حجة "رحمة"‪ ،‬هل لدالل السيد أحمد يد في ذلك؟؟‪.‬‬

‫ردّ الزوج قائال‪:‬‬

‫‪-‬طبعا! فمن يكنس البيت‪ ،‬ويجلي الصحون‪ ،‬ويحضّر األكل‪ ،...‬غيري‪ .‬أصبحت ربة بيت يا‬
‫دكتور‪.‬‬

‫حنو الزوج على زوجته‪ ،‬أما الدكتور أُعجب‬


‫تعالت ضحكات الممرضات مع همسات عن ّ‬
‫بالرابط القوي بين الزوجين‪ .‬ليسألهما‪:‬‬

‫‪-‬أين أبناؤكما؟‪ ،‬أ لم تخبرهم بمرض السيدة رحمة؟!‪.‬‬

‫درفت رحمة ٓعبرات حامية للخراب العارم الذي يتخلل روحها والجرح الغائر المنطوي في‬
‫قلبها‪ ،‬شدّ الزوج على يدها وأشاح وجهه عنها يمنع دمعه من االنهيار‪ ،‬ث ّم مسح دمعها يتمتم‪:‬‬
‫سمح‪ ،‬اللّين الذي‬
‫لك أنني ابنتك الحنون التي سترعاك‪ ،‬وابنك ال ّ‬
‫‪-‬ما كان عهدنا هكذا!‪ ،‬ألم أقل ِ‬
‫سيحملك وقت الهوان؟!‪ ،‬بل صدقيني أنا أفضل منهما حتى وإن كانا ل ُ‬
‫شغال عنا ولكان حالنا‬
‫آخر همهما‪.‬‬

‫‪-‬أ ليس حالنا هكذا أفضل؟!‬

‫مرة في التخفيف عنها‪.‬‬


‫الحت على ثغرها ابتسامة الرضا‪ ،‬فقد نجح السيّد أحمد مثل كل ّ‬

‫الود والرحمة‪ ،‬ليخبر مريضته أ ّنه حان وقت دخولها غرفة العالج‪ .‬اطمئن‬
‫قطع الطبيب حبل ّ‬
‫عليها‪ ،‬ث ّم خرج يجلس في مقعد االنتظار‪ .‬يحسب الساعات دونها ليال دامسا‪ ،‬قطعت حبل أفكاره‬
‫مكالمة من أخيه "محمد" من القرية يسأل عن حاله وحال زوجته بعد غيابهما عن المنزل أكثر‬
‫من أسبوع‪.‬‬

‫أجاب في امتنان‪:‬‬

‫‪-‬الحمد ّّلل‪ ،‬أعتقد أن رحمة أحسن حال من قبل‪ ،‬قال الطبيب أن جسمها يستجيب مع العالج‪،‬‬
‫وقد ال نحتاج إلجراء العملية التي تحدث عنها‪.‬‬

‫‪-‬أخي‪ ،‬سررت بهذه المستجدات‪ ،‬وماذا عن صحتك أنتٓ ؟؟ أدري أنك مهمال إياها‪ ،‬لكن أرجوك‬
‫ّللا‪.‬‬
‫أخي البذ من زيارة الطبيب فقد تزداد حالتك سواءا ال قدر ّ‬

‫غرس أحمد رأسه بين يديه وبصوت متردد طمئن أخيه‬

‫ّللا‪.‬‬
‫‪-‬ال تقلق يا حسن‪ ،‬سأفعل حين تفرغ رحمة من عالجها‪ .‬لن يصيبني أي مكروه بإذن ّ‬

‫أنهى االتصال‪ ،‬ليجد حوله يعج بالممرضات قرابة الغرفة التي تقطنها زوجته‪ ،‬سرت البرودة‬
‫في جسده‪ ،‬وتسارعت دقات قلبه‪،‬‬

‫‪-‬دكتور‪ .‬ماذا يحدث‪ ،‬أين زوجتي؟؟‬

‫في ارتباك وقلق قال الطبيب‪:‬‬

‫‪-‬التهبت ساقها اليمنى‪ ،‬ولألسف نضطر لقطعها‪.‬‬


‫‪-‬سيدي زوجتك قوية ستصارع مرضها‪ ،‬محنة وستمضي‪.‬‬

‫هكذا مسح على كتفه مبتعدا بالسرير نحو غرفة العمليات‪.‬‬

‫طفق يحملق في آسى دون جدوى‪...‬‬

‫ساقها التي كانت تحملها لمزاولة أنشطتها المختلفة‪ُ ،‬حرمت منها‪ ،‬كأن قطعة من قلبها أُزيلت‪،‬‬
‫وهشيم واسع ع ّما روحها‪ .‬مرضها اللعين سرق من ثغرها البسمة‪ ،‬أصبحت مالمحها تعبّر عن‬
‫الضعف والهوان‪ ،‬عيناها ذابلتان‪ ،‬جسم هزيل ال يقوى على الحركة‪ ،‬سبب إعاقة شاملة‬
‫ألحالمها لمنبع السعادة ودافع النهوض‪ ،‬فبين ليلة وضحاها وجدت نفسها تخوض معركة شرسة‬
‫مع مرضها‪ ،‬أضحت في ساحة القتال‪ ،‬تقاوم كل الضربات التي تتوالى عليها‪.‬‬

‫في تأثر بليغ واصلت الصحفية الحوار بآخر سؤال‬

‫‪ -‬طيب‪ ،‬سيد أحمد‪ ،‬ما سر عالقتك المميزة بالمرحومة التي ألهمت الكثيرين‪ ،‬وأحيت جدور‬
‫العالقة الزوجية؟‬

‫‪-‬حقيقة‪ ،‬دائما ما كنت أستحضر "أن األمانٓ أعلى منزلةً من ال ُحب‪ ،‬وأعظم هدايا الحياة أن تمن َح‬
‫أحدهم الطمأنينة"‬

‫ّللا‪ ،‬قطعت على نفسي وعدا أال أخلف ميثاق الوصال‪ ،‬وال أخون‬
‫فمنذ علمنا بمرضها رحمها ّ‬
‫عهد الرحمة والمودّة بيننا‬

You might also like