Professional Documents
Culture Documents
صروف الدهر
صروف الدهر
فجأة هبّت رياح قوية أزالت الغُبار عن جرح غائر ُمذمل ،لم تٓطله العافية بعد ،لم تنجلي آثاره
المغطاة جل أعضائها ،كدمات قوية على جسمها الهزيل ،تحكي قصة ال ِعراك مع مرضها الّذي
أردفها كال ّٓنور الذابل يومها وسط الحشود وبين أدرع البشر فقدت وعيها وحماسها معا ،فمنذ
خريف العام الماضي ومرضها يتفاقم مع شحوب جسدها وهلك سائر أطرافها بعد كل حصة
عالج ،وعقب كل سفر إلى العاصمة "الرباط" حيث تتلقى عالجها كل شهر ,تخسر عالمات
جمالها وتخور قِواها...
كل تفاصيل المكان كانت توحي بالسكينة ،لكن ضجير لعب األطفال أفسد متعة الخالة "رحمة"
بالجو المؤنس ،أثارت غضبها أصوات من الخارج ،ه ّمت لفتح نافذة غرفتها الدافئة ،فتسلل
عبيق البرد إلى الداخل ،أسرعت إلغالقها وهي تقاوم خصالت شعرها المغطاة باألبيض
تتطاير ،لتلمح سفيان وعامر أوالد أخو زوجها "محمد"( ،جيرانها) ،فهي مزرعة كبيرة أخد
كل أخ منهما قطعته وبنا منزال..
نادت عليهما:
-اسمع ،العبا بهدوء ،وابتعدا عن المنزل قليال ،كي ال تفسدا الورود ،أو تتسخ الجدران لقدر
ّللا..
ّ
-في انسياب تام ،وطاعة كاملة أومأ برأسهما ،وانصرفا في هدوء ،ألنهما يخافا من سخطها
ويعرفانه إن تعلق األمر بزهورها المنسقة ،أو جدرانها المصبغة باألزرق السماوي المفضل
لديها ،كل يوم تكون في موعد غرامي رفقة تفاصيل بيتها الجبلي المحدق بأبهج األلوان ،تحسبه
لوحة فنية متقنة ،كانت تصب الحياة في أركنتها ،امرأة الخمسون سنة مالمحها فتية لم ينل منها
الدهر قط ،قصيرة كزهراتها ،ممتلئة القوام تحرص على إرتداء المنديل األحمر المخطط
باألبيض رمز منطقة ال ّ
شمال حيث تقطن ،وقبعة عامرة الورود مختلفة األلوان الزاهية ،رشيقة
مرات تحرص على ذلك حد
الحركة ال يهدأ لها جفن حتى ترتب بيتها بطريقة تفوق اإلتقانّ ،
الهوس ..فبعدما استنفدت ج ّل ذخيرتهما في الحرب ضد عدو العقم ،احتلهما عدوا ً آخر .باشر
الطبيب فحصها قبل خضوعها لدورة الكيماوي ،وبوجه بشوش يعلوه األمل قال:
-يبدو أن صحة القلب جيدة يا حجة "رحمة" ،هل لدالل السيد أحمد يد في ذلك؟؟.
-طبعا! فمن يكنس البيت ،ويجلي الصحون ،ويحضّر األكل ،...غيري .أصبحت ربة بيت يا
دكتور.
درفت رحمة ٓعبرات حامية للخراب العارم الذي يتخلل روحها والجرح الغائر المنطوي في
قلبها ،شدّ الزوج على يدها وأشاح وجهه عنها يمنع دمعه من االنهيار ،ث ّم مسح دمعها يتمتم:
سمح ،اللّين الذي
لك أنني ابنتك الحنون التي سترعاك ،وابنك ال ّ
-ما كان عهدنا هكذا! ،ألم أقل ِ
سيحملك وقت الهوان؟! ،بل صدقيني أنا أفضل منهما حتى وإن كانا ل ُ
شغال عنا ولكان حالنا
آخر همهما.
الود والرحمة ،ليخبر مريضته أ ّنه حان وقت دخولها غرفة العالج .اطمئن
قطع الطبيب حبل ّ
عليها ،ث ّم خرج يجلس في مقعد االنتظار .يحسب الساعات دونها ليال دامسا ،قطعت حبل أفكاره
مكالمة من أخيه "محمد" من القرية يسأل عن حاله وحال زوجته بعد غيابهما عن المنزل أكثر
من أسبوع.
أجاب في امتنان:
-الحمد ّّلل ،أعتقد أن رحمة أحسن حال من قبل ،قال الطبيب أن جسمها يستجيب مع العالج،
وقد ال نحتاج إلجراء العملية التي تحدث عنها.
-أخي ،سررت بهذه المستجدات ،وماذا عن صحتك أنتٓ ؟؟ أدري أنك مهمال إياها ،لكن أرجوك
ّللا.
أخي البذ من زيارة الطبيب فقد تزداد حالتك سواءا ال قدر ّ
ّللا.
-ال تقلق يا حسن ،سأفعل حين تفرغ رحمة من عالجها .لن يصيبني أي مكروه بإذن ّ
أنهى االتصال ،ليجد حوله يعج بالممرضات قرابة الغرفة التي تقطنها زوجته ،سرت البرودة
في جسده ،وتسارعت دقات قلبه،
ساقها التي كانت تحملها لمزاولة أنشطتها المختلفةُ ،حرمت منها ،كأن قطعة من قلبها أُزيلت،
وهشيم واسع ع ّما روحها .مرضها اللعين سرق من ثغرها البسمة ،أصبحت مالمحها تعبّر عن
الضعف والهوان ،عيناها ذابلتان ،جسم هزيل ال يقوى على الحركة ،سبب إعاقة شاملة
ألحالمها لمنبع السعادة ودافع النهوض ،فبين ليلة وضحاها وجدت نفسها تخوض معركة شرسة
مع مرضها ،أضحت في ساحة القتال ،تقاوم كل الضربات التي تتوالى عليها.
-طيب ،سيد أحمد ،ما سر عالقتك المميزة بالمرحومة التي ألهمت الكثيرين ،وأحيت جدور
العالقة الزوجية؟
-حقيقة ،دائما ما كنت أستحضر "أن األمانٓ أعلى منزلةً من ال ُحب ،وأعظم هدايا الحياة أن تمن َح
أحدهم الطمأنينة"
ّللا ،قطعت على نفسي وعدا أال أخلف ميثاق الوصال ،وال أخون
فمنذ علمنا بمرضها رحمها ّ
عهد الرحمة والمودّة بيننا